You are on page 1of 490

‫زاد المعاد‬

‫في هدي خير‬


‫العباد‬
‫للمام العلمة شيخ السلم‬
‫محمد بن أبى بكر الزرعى‬
‫ابن قيم الجوزية‬

‫الجزء الخامس‬

‫‪1‬‬
‫فصل‬
‫في هديه صلى ال عليه وسلم في القضِيَة والن ِكحَة والبُيُوع‬
‫ض من ذلك ذكر التشريع العام وإن كانت أقضيتهُ الخاصةُ تشريعاً عاماً‪ ،‬وإنما‬
‫وليس الغر ُ‬
‫الغرضُ ذكرُ هديه فى الحكومات الجزئية التى فصل بها بينَ الخصوم‪ ،‬وكيف كان هديهُ فى الحكم‬
‫بين الناس‪ ،‬ونذكرُ مع ذلك قضايا مِن أحكامه الكلية‪.‬‬
‫فصل‬
‫ثبت عنه صلى ال عليه وسلم من حديث بهزِ بن حكيم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪(( ،‬أن النبى صلى ال‬
‫ح َبسَ رجلً فى ُتهْمةٍ))‪ .‬قال أحمد وعلى بن المدينى‪ :‬هذا إسناد صحيح‪.‬‬
‫عليه وسلم َ‬
‫ن زياد عنه صلى ال عليه وسلم فى ((أحكامه))‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم سجن‬
‫وذكر اب ُ‬
‫غ َن ْيمَ ًة له‪.‬‬
‫شرْكاً له فى عبد‪ ،‬فوجب عليه استتمام عتقه حتى باع ُ‬
‫ل أعتق ِ‬
‫رج ً‬
‫فصل‬
‫فى حكمه فيمن َقتَلَ عبده‬
‫روى الوزاعى‪ ،‬عن عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جدّه‪ ،‬أن رجلً قتل عبدَه متعّمداً‪،‬‬
‫فجلده النبىّ صلى ال عليه وسلم مائة جلدةً‪ ،‬ونفاه سنةً‪ ،‬وأمره أن يعتِقَ رقب ًة ولم يُقِ ْد ُه به‪.‬‬
‫س ُم َرةَ رضىَ الُّ عنه‪ ،‬عنه صلى ال عليه‬
‫وروى المام أحمد‪ :‬من حديث الحسن‪ ،‬عن َ‬
‫عبْ َدهُ َق َت ْلنَاه)) فإن كان هذا محفوظاً‪ ،‬وقد سمعه منه الحسن‪ ،‬كان قتلُه تعزيزاً إلى‬
‫وسلم‪(( :‬مَنْ َقتَلَ َ‬
‫المام بحسب ما يراه من المصلحة‪.‬‬
‫ل بملزمة غريمه‪ ،‬كما ذكر أبو داود‪ ،‬عن النّضر بن شُميل‪ ،‬عن الهِرماس بن‬
‫وأمرَ رج ً‬
‫ى صلى ال عليه وسلم بغريم لى‪ ،‬فقال لى‪:‬‬
‫حبيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جدّه رضى الُّ عنه قال‪ :‬أتيتُ النب ّ‬
‫ل بِأسِيرك))؟ وروى أبو عبيدٍ‪ ،‬أنه صلى ال‬
‫ن تَ ْفعَ َ‬
‫سهْم ما تُري ُد أ ْ‬
‫((ا ْل َزمْهُ)) ثم قال لى‪(( :‬يا أخا بنى َ‬
‫ت حتى يموت‪.‬‬
‫عليه وسلم أمر بقتل القاتل‪ ،‬وص ْبرِ الصابر‪ .‬قال أبو عبيد‪ :‬أى‪ :‬بحبسه للمو ِ‬
‫سكُ فى السّجْنِ حتى يَموتَ‪.‬‬
‫وذكر عب ُد الرزاق فى ((مصنفه)) عن على‪ :‬يُحبس ال ُممْ ِ‬
‫فصل‬
‫فى حكمه فى المحاربين‬
‫ن الرّعاء‪ ،‬وتركهم حتى ماتُوا جوعاً‬
‫سمْلِ أعينهم‪ ،‬كما سملُوا عي َ‬
‫حَكم بقطع أيدِيهم‪ ،‬وأرجُلهِم‪ ،‬و َ‬
‫وعطشاً كما فعلوا بالرّعاء‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫فصل‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫@فى حكمه بين القاتل وولى المقتول‬
‫ل أخاهُ‪،‬‬
‫ثبت فى ((صحيح مسلم))‪ :‬عنه صلى ال عليه وسلم أن رجلً ادّعى على آخر أنه قت َ‬
‫ح َبكَ))‪ ،‬فلما ولّى‪ ،‬قال‪(( :‬إنْ َق َتلَهُ‪ ،‬فهو ِم ْثلُه))‪ ،‬فرجعَ فقال‪ :‬إنما أخذتُه‬
‫ك صَا ِ‬
‫فاعترف‪ ،‬فقالَ‪(( :‬دُو َن َ‬
‫ح َبكَ))؟ فقال‪ :‬بلى فخلّى‬
‫ك وِإثْم صَا ِ‬
‫بأمرك‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أمَا تُريدُ أَن يَبوءَ بإ ْث ِم َ‬
‫سبيلَه‪.‬‬
‫وفى قوله‪(( :‬فهو مثلُه))‪ ،‬قولن‪ ،‬أحدهما‪ :‬أن القاتل إذا قِيد منه‪ ،‬سقط ما عليه‪ ،‬فصار هو‬
‫والمستفيدُ بمنزلةٍ واحدة‪ ،‬وهو لم يقل‪ :‬إنه بمنزلته قبل القتل‪ ،‬وإنما قال‪(( :‬إن قتله فهو مثلُه))‪ ،‬وهذا‬
‫ق بترك القود‬
‫يقتضى المماثلةَ بعد قتله‪ ،‬فل إشكالَ فى الحديث‪ ،‬وإنما فيه التعريضُ لصاحب الح ّ‬
‫والعفو‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنه إن كان لم يُرد قتلَ أخيه قتلَه به‪ ،‬فهو متعدّ مثله إذ كان القاتل متعدياً بالجناية‪،‬‬
‫والمقتصّ متع ٍد بقتل من لم يتعم ِد القتلَ‪ ،‬ويدلّ على التأويل ما روى المام أحمد فى ((مسنده))‪ :‬من‬
‫حديث أبى هُريرة رضى ال عنه قال‪ُ :‬قتِلَ رجل على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪َ ،‬فرُفِعَ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فدفَعه إلى ولىّ المقتول‪ ،‬فقال القاتِلُ‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬ما أردتُ‬
‫إلى رسو ِ‬
‫خ ْلتَ النّار))‪،‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم للولى‪(( :‬أمَا إنّ ُه إذَا كَانَ صَادِقاً‪ ،‬ثم َق َت ْلتَه َد َ‬
‫قتلَه‪ ،‬فقال رسو ُ‬
‫فخلّى سبيله‪ .‬وفى كتاب ابن حبيب فى هذا الحديث زيادةُ‪ ،‬وهى‪ :‬قال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫((عَمْ ُد يَدٍ‪ ،‬وخَطَأُ َق ْلبٍ))‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه بال َقوَ ِد على من قتل جاريةً‪ ،‬وأنه يُفعَلُ به كما َفعَلَ‬
‫ن على أوضاحٍ لها‪ ،‬أى‪:‬‬
‫ض رأسَ جاري ٍة بينَ حجريْ ِ‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪(( :‬أن يهودياً ر ّ‬
‫ج َريْنِ))‪.‬‬
‫حَ‬‫لّ صلى ال عليه وسلم أن ُيرَضّ رأسُه بين َ‬
‫ع َت َرفَ‪ ،‬فأمر رسولُ ا ِ‬
‫حِلىّ‪ ،‬فأُخِذَ‪ ،‬فا ْ‬
‫ُ‬
‫ل الرجل بالمرأة‪ ،‬وعلى أن الجانىَ يُفعل به كمَا َفعَلَ‪ ،‬وأن‬
‫ل على قت ِ‬
‫ث دلي ٌ‬
‫وفى هذا الحدي ِ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم لم يدفعه إلى أوليائها‪ ،‬ولم‬
‫القتل غيلة ل يُشترط فيه إذنُ الولى‪ ،‬فإنّ رسولَ ا ِ‬
‫يقل‪ :‬إن شِئتُم فاقتلُوه‪ ،‬وإن شئتم فاعفوا عنه‪ ،‬بل قتله حتماً‪ ،‬وهذا مذهبُ مالك‪ ،‬واختيارُ شيخِ السلم‬

‫‪3‬‬
‫ابن تيمية‪ ،‬ومن قال‪ :‬إنه فعل ذلك لِنقض العهد‪ ،‬لم َيصِحّ‪ ،‬فإن ناقض العهد ل تُرضخُ رأسهُ‬
‫بالحجارة‪ ،‬بل يُقتل بالسيف‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيمن ضرب امرأةً حامِلً فَطرحهَا‬
‫جرٍ فقتلتها وما فى‬
‫ن من هُذيل رمت إحداهُما الُخرى بح َ‬
‫فى ((الصحيحين))‪(( :‬أن امرأتي ِ‬
‫عبْ ٍد أَو ولِي َدةٍ فى الجنين‪ ،‬وجعل دِيةَ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم ب ُغ ّرةً‪َ :‬‬
‫بطنها‪ ،‬فقضى فيها رسو ُ‬
‫عصَبة القاتِلةِ))‪ ،‬هكذا فى ((الصحيحين))‪ .‬وفى النسائى‪(( :‬فقضى فى حملها ب ُغرّة‪،‬‬
‫المقتول ِة على َ‬
‫وأن تُقتل بها))‪ ،‬وكذلك قال غيرُه أيضاً‪ :‬إنه قتلها مكانها‪ ،‬والصحيح‪ :‬أنه لم يقتلها لما تقدم‪ .‬وقد‬
‫ى فى ((صحيحه)) عن أبى هريرة رضى ال عنه‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫روى البخار ّ‬
‫ن امرأ ٍة من بنى لَحيان ب ُغ ّرةٍ‪ :‬عبدٍ أو وليدةٍ‪ ،‬ثم إن المرأة التى قضى عليها بالغُرة‬
‫((قضى فى جني ِ‬
‫ل على‬
‫تُوفيت‪ ،‬فقضى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها‪ ،‬وأن العق َ‬
‫عصبتها))‪.‬‬
‫وفى هذا الحكم أن شِب َه العمدِ ل يُوجب القود‪ ،‬وأن العا ِقلَة تحمل ال ُغ ّرةَ تبعًا للدية‪ ،‬وأن العاقلة‬
‫ل معهم‪ ،‬وأن أولدهَا أيضاً ليسوا مِن العاقِلة‪.‬‬
‫هم العصبةُ‪ ،‬وأن زوجَ القاتلة ل يدخُ ُ‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم بالقَسامة فيمن لم يُعرف قا ِتلُه‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم حكم بها بين النصار واليهود‪ ،‬وقال‬
‫ستَحِقّونَ دَ َم صَاحِبكُم))؟ وقال البخارى‪:‬‬
‫حلِفُونَ وتَ ْ‬
‫عبْدِ الرحمن‪(( :‬أتَ ْ‬
‫ح ّيصَ َة و َ‬
‫ح َو ّيصَةَ ومُ َ‬
‫لِ ُ‬
‫ح َبكُم))‪ ،‬فقالوا‪ :‬أمرُ لم نشهده ولم نره‪ ،‬فقال‪َ (( :‬ف ُتبْرئكُم َيهُودُ بَأ ْيمَانِ‬
‫((وتستحقون قَا ِتَلكُم أو صا ِ‬
‫خمْسِينَ))‪ ،‬فَقَالُوا‪ :‬كيف نقبلُ أيمان َقوْمٍ كفار؟ فوداه رسولُ ال صلى ال عليه وسلم من عنده‪.‬‬
‫َ‬
‫وفى لفظ‪ :‬ويُقْسِمُ خمسون منكم على رجل منهم‪ ،‬فيُدْفَ ُع ِب ُر ّمتِهِ إليه))‪.‬‬
‫واختلف لفظُ الحاديث الصحيحة فى محل الدّية‪ ،‬ففى بعضها أنه صلى ال عليه وسلم وداه‬
‫مِن عنده‪ ،‬وفى بعضها وداه من إبل الصدقة‪.‬‬
‫وفى ((سنن أبى داود))‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم ((ألقى ديتَه على اليهود‪ ،‬لنه وُجِدَ‬
‫بينهم))‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وفى ((مصنف عبد الرزاق))‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم ((بدأ بيهود‪ ،‬فأ َبوْا أن يحلِفُوا‪ ،‬فردّ‬
‫القسام َة على النصار‪ ،‬فأبوا أن يحلِفُوا فجعل عَقلَه على يهود))‪.‬‬
‫وفى ((سنن النسائى))‪(( :‬فجعل عقله على اليهود‪ ،‬وأعانهم ببعضِها))‪.‬‬
‫وقد تضمنت هذه الحكومة أموراً‪:‬‬
‫منها‪ :‬الحكمُ بالقَسامة‪ ،‬وأنها مِن دين ال وشرعه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬القتلُ بها لِقوله‪(( :‬فيدفع بُر ّمتِهِ إليه))‪ ،‬وقوله فى لفظ آخر‪(( :‬وتستحِقّونَ دمَ‬
‫ن الولياء فى القسامة‪ ،‬وهو‬
‫صاحبكم))‪ ،‬فظاه ُر القرآن والسنة القتلُ بأيمان الزوج الملعن وأيما ِ‬
‫مذهبُ أهل المدنية‪ ،‬وأما أهلُ العراق‪ ،‬فل يقتلُونَ فى واحد منهما‪ ،‬وأحمدُ يقتل فى القسام ِة دون‬
‫اللعان‪ ،‬والشافعى عكسه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه يبدأ بأيمان المُدّعِينَ فى القَسامة بخلف غيرِها من الدّعاوى‪.‬‬
‫ل الذّمة إذا منعوا حقًا عليهم‪ ،‬انتقضَ عهدُهم لِقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إما‬
‫ومنها‪ :‬أن أه َ‬
‫أن تدوه‪ ،‬وإما أن تأذنُوا بحرب))‪.‬‬
‫خصْهُ‪.‬‬
‫ب إليه‪ ،‬ولم يُشْ ِ‬
‫ومنها‪ :‬أن المدّعىَ عليه إذا َبعُدَ عن مجلس الحكم‪َ ،‬ك َت َ‬
‫ب القاضى وإن لم يُشهد عليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جوا ُز العملِ والحُكم بِكتا ِ‬
‫ومنها‪ :‬القضاء على الغائب‪.‬‬
‫ل من خمسين إذا وُجدوا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل يُكتفى فى القَسامة بأق ّ‬
‫ومنها‪ :‬الحك ُم على أهل الذمة بحكم السلم‪ ،‬وإن لم يتحاكموا إلينا إذا كان الحك ُم بينهم وبينَ‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬وهو الذى أشكل على كثيرٍ من الناس إعطاؤه الدية مِن إبل الصدقةِ‪ ،‬وقد ظنّ‬
‫ل الذمة ل يُعطى من الزكاة‪،‬‬
‫بعضُ الناس أن ذلك مِن سهم الغارمين‪ ،‬وهذا ل يصِح‪ ،‬فإن غارِ َم أه ِ‬
‫وظن بعضُهم أن ذلك مما َفضَل مِن الصدقة عن أهلها‪ ،‬فللمام أن يصرِفه فى المصالح‪ ،‬وهذا‬
‫ض الدية من إبل‬
‫أقربُ مِن الول‪ ،‬وأقربُ منه‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم وداه مِن عنده‪ ،‬واقتر َ‬
‫الصدقة‪ ،‬ويدل عليه‪:‬‬
‫((فواده من عنده)) وأقربُ من هذا ُكلّه أن يُقال‪ :‬لما تح ّملَها النبىّ صلى ال عليه وسلم‬
‫لصلح ذات البين بين الطائفتين‪ ،‬كان حكمُها حك َم القضاء على الغرم لما غرمه لصلح ذاتِ‬
‫البين‪ ،‬ولعل هذا مرادُ من قَال‪ :‬إن قضاها مِن سهم الغارمين‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم لم يأخذ‬

‫‪5‬‬
‫ل له‪ ،‬ولكن جرى إعطا ُء الدية منها مجرى إعطاء الغارم منها‬
‫منها لنفسه شيئاً‪ ،‬فإن الصدقةَ ل تحِ ّ‬
‫لصلح ذات البين‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فكيف تصنعون بقوله ((فجعل عقلَه على اليهود))؟ فيقال‪ :‬هذا مجمل لم يحفظ‬
‫راويه كيفيةَ جعله عليهم‪ ،‬فإنه صلى ال عليه وسلم لما كتب إليهم أن يدوا القتيلَ‪ ،‬أو يأذنوا بحربٍ‪،‬‬
‫كان هذا كاللزام لهم بالدّية‪ ،‬ولكن الذى حفظوا أنهم أنكروا أن يكونوا قتلوا‪ ،‬وحلفوا على ذلك‪ ،‬وأن‬
‫رسولَ ال صلى ال عليه وسلم وداه من عنده‪ ،‬حفِظُوا زيادة على ذلك‪ ،‬فهم أولى بالتقديم‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فكيف تصنعون برواية النسائى‪(( :‬أنه قسمها على اليهود‪ ،‬وأعانهم ببعضها))؟‬
‫قيل‪ :‬هذا ليس بمحفوظ قطعاً‪ ،‬فإن الدية ل تلزم المدّى عليهم بمجرد دعوى أوليا ِء القتيل‪ ،‬بل ل بُد‬
‫ض النبىّ صلى ال عليه‬
‫من إقرار أو بينة‪ ،‬أو أيمان المدعين‪ ،‬ولم يُوجد هنا شىء من ذلك‪ ،‬وقد عر َ‬
‫ن القسامة على المدعين‪ ،‬فَأ َبوْا أن يحلِفُوا‪ ،‬فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى‪.‬‬
‫وسلم أيما َ‬
‫فصل‬
‫فى حُكمه صلى ال عليه وسلم فى أربعةً سقطُوا فى بئر‪ ،‬فتعلّق بعضُهم ببعض‪ ،‬فهلكُوا‬
‫ذكر المام أحمد‪ ،‬والبزار‪ ،‬وغيرُهما‪ ،‬أن قوماً احتفروا بئراً باليمن‪ ،‬فسقط فيها رجلٌ‪ ،‬فتعلّق‬
‫بآخر‪ ،‬الثانى بالثالث‪ ،‬والثالث بالرابع‪ ،‬فسقطُوا جميعاً‪ ،‬فماتُوا‪ ،‬فارتفع أولياؤُهم إلى على بن أبى‬
‫ن حفر البئ َر مِن النّاسِ‪ ،‬وقضى للول بُربع الدية‪ ،‬لنه هلك‬
‫طالب رضى ال عنه‪ ،‬فقال‪ :‬اجمعُوا مَ ْ‬
‫فوقَه ثلثة‪ ،‬وللثانى بُثلثها لنه هلك فوقه اثنان‪ ،‬وللثالث بنصفهما لنه هلك فوقَه واحد‪ ،‬وللرابع‬
‫بالدية تامة‪ ،‬فأَتوا رسولَ ال صلى ال عليه وسلم العا َم المقبلَ‪ ،‬فقصّوا عليه القِصّة‪ ،‬فقال‪ُ (( :‬هوَ مَا‬
‫ق البزار‪.‬‬
‫قضَى َبيْنكُمْ))‪ ،‬هكذا سيا ُ‬
‫ل ال صلى ال‬
‫وسياق أحمد نحوه‪ ،‬وقال‪(( :‬إنهم َأ َبوْا أَن يرضوا بقضاء على‪ ،‬فََأتْوا رسو َ‬
‫عليه وسلم وهو عند مقام إبراهيم عليه السلم‪ ،‬فقصّوا عليه القِصة‪ ،‬فأجازه رسولُ ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا))‪.‬‬
‫فصل‬
‫فيمن تزوج إمرأة أبيه‬
‫روى المام أحمد‪ ،‬والنسائى وغيرُهما‪ :‬عن البراء رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬لقيتُ خالى أبا بُردة‬
‫ل تزوّج امرأة أبيه أن أقتُله‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم إلى رج ٍ‬
‫ومعه الراية‪ ،‬فقال‪(( :‬أرسلنى رسو ُ‬
‫وآخذ ماله))‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وذكر ابن أبى خيثمة فى ((تاريخه))‪ ،‬من حديث معاوية بن قُرة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬رضى‬
‫س بامرأةِ أبيه‪ ،‬فضرب عنقَه‪،‬‬
‫أعْر َ‬ ‫ل ال صلى ال عليه وسلم بعثه إلى رجل‬
‫ال عنه‪ ،‬أن رسو َ‬
‫وخ ّمسَ ماله‪ .‬قال يحيى بن معين‪ :‬هذا حديث صحيح‪.‬‬
‫وفى ((سنن ابن ماجه)) من حديث ابن عباس قال‪ :‬قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ت مَحْرمٍ فَا ْق ُتلُوهُ))‪.‬‬
‫ن وَقَعَ عَلى ذَا ِ‬
‫((مَ ْ‬
‫ل اغتصبَ أختَه على نفسها‪ ،‬فقال‪ :‬احبِسُوهُ‪،‬‬
‫وذكر الجوزجانى‪ ،‬أنه رُفِ َع إلى الحجاجِ رج ٌ‬
‫ب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فسألوا عبد ال بن أبى مطرّف‬
‫وسلوا مَنْ هاهنا من أصحا ِ‬
‫حرَ َم ال ُم ْؤ ِمنِينَ‪َ ،‬فخُطّوا وَسَطَه‬
‫رضى ال عنه‪ ،‬فقال‪ :‬سمعتُ رسول ال يقول‪(( :‬مَنْ تَخَطّى ُ‬
‫بالسّيفِ))‪.‬‬
‫وقد نص أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد‪ ،‬فى رجل تزوّج امرأة أبيه أو بذاتِ محرم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يُقتل‪ ،‬ويُدخل مالُه فى بيت المال‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ل هو الصحيح‪ ،‬وهو مقتضى حكمِ رسو ِ‬
‫وهذا القو ُ‬
‫ع ّزرَ‪،‬‬
‫وقال الشافعى ومالك وأبو حنيفة‪ :‬حدّه ح ّد الزانى‪ ،‬ثم قال أبو حنيفة‪ :‬إن وطئها بعد‪ُ ،‬‬
‫ول حد عليه‪ ،‬وحك ُم رسول ال صلى ال عليه وسلم وقضاؤه أحق وأولى‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حُكمه صلى ال عليه وسلم بقتل من ا ّتهِمَ بأم ولده فلما ظهرت براءتُه‪ ،‬أمسك عنه‬
‫روى ابن أبى خيثمة وابن السكن وغيرُهما من حديث ثابت‪ ،‬عن أنس رضى ال عنه‪ ،‬أن‬
‫ابنَ عمّ ماريةَ كان ُيتّهم بها‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم لعلى بن أبى طالب رضى ال عنه‪:‬‬
‫عنُقَهُ))‪ ،‬فأتا ُه علىّ فإذا هو فى َر ِكىّ يت َبرّدُ فيها‪ ،‬فقال له‬
‫ض ِربْ ُ‬
‫عنْ َد مَا ِريَةَ‪ ،‬فا ْ‬
‫ن وَجَ ْدتَهُ ِ‬
‫((اذْهَبْ فَإ ْ‬
‫ف عنه على‪ ،‬ثم أتى النبىّ‬
‫ب ليس له ذكر‪ ،‬فك ّ‬
‫على‪ :‬اخرج‪ ،‬فناوله يده‪ ،‬فأخرجه‪ ،‬فإذا هو مجبو ٌ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ :‬إنه مجبوب‪ ،‬ماله ذكر‪ .‬وفى لفظ آخر‪ :‬أنه وجده فى نخلة‬
‫يجمع تمراً‪ ،‬وهو ملفوفٌ بخرقة‪ ،‬فلما رأى السيفَ‪ ،‬ارتعد وسقطت الخِرقة‪ ،‬فإذا هو مجبوبٌ ل ذكر‬
‫له‪.‬‬
‫وقد أشكلَ هذا القضا ُء على كثي ٍر من الناس‪ ،‬فطعن بعضُهم فى الحديث‪ ،‬ولكن ليس فى‬
‫إسناده من يتعلّق عليه‪ ،‬وتأوّله بعضُهم على أنه صلى ال عليه وسلم لم يُردْ حقيق َة القتل‪ ،‬إنما أرادَ‬
‫جرَ عن مجيئه إليها‪ .‬قال‪ :‬وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه فى الولد‪:‬‬
‫تخويفَه ليزد ِ‬

‫‪7‬‬
‫ق الولد بينهما))‪ ،‬ولم يرد أن يفعل ذلك‪ ،‬بل قصد استعل َم المر من هذا‬
‫((على بالسّكين حتى أشُ ّ‬
‫القول‪ ،‬ولذلك كان مِن تراجم الئمة على هذا الحديث‪ :‬باب الحاكم يُوهم خلف الحق لِيتوصل به‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم أن يَع ِرفَ الصحابة براءته‪ ،‬وبراءة مارية‪،‬‬
‫إلى معرفة الحق‪ ،‬فأحبّ رسو ُ‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫وعلم أنه إذا عاين السيفَ‪ ،‬كشف عن حقيقة حاله‪ ،‬فجاء المرُ كما قدّره رسو ُ‬
‫وسلم‪.‬‬
‫ن من هذا أن يقال‪ :‬إن النبى صلى ال عليه وسلم أمر عليًا رضى ال عنه بقتله تعزيراً‬
‫وأحس ُ‬
‫لقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده‪ ،‬فلما تبيّن لعلى حقيقة الحال‪ ،‬وأنه برىء من الريبة‪ ،‬كفّ عن‬
‫قتله‪ ،‬واستغنى عن القتل بتبيين الحال‪ ،‬والتعزيرُ بالقتل ليس بلزم كالحدّ‪ ،‬بل هو تاب ٌع للمصلحة‬
‫دائرٌ معها وجوداً وعدماً‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى قضائه صلى ال عليه وسلم فى القتيل يُوجد بينَ قريتين‬
‫روى المام أحمد‪ ،‬وابن أبى شيبة‪ ،‬من حديث أبى سعيد الخدرى رضىَ ال عنه قال‪:‬‬
‫ل بَينَ قريتينِ‪ ،‬فأمر النبىّ صلى ال عليه وسلم فَ َذرَعَ ما بينهما‪ ،‬فوُجِدَ إلى أحدهما أقرب‪،‬‬
‫((وُجدَ قتي ٌ‬
‫علَى أقر ِب ِهمَا))‪.‬وفى ((مصنف عبد‬
‫فكأنى أنظر إلى شِبر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فألقاهُ َ‬
‫الرزاق)) قال عمرُ بن عبد العزيز‪(( :‬قضى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم فيما بلغنا فى القتيل‬
‫حّلفَ المدعون‪،‬‬
‫ن على المدّعى عليهم‪ ،‬فإن َن َكلُوا‪ُ ،‬‬
‫يُوجد بين ظهرانى دِيارِ قومٍ‪ :‬أنّ اليما َ‬
‫ف إذا لم‬
‫واستحقّوا‪ ،‬فإن نكل الفريقانِ‪ ،‬كانت الديةُ نِصفُها على المدّعى عليهم‪ ،‬وبطل النص ُ‬
‫يحلِفُوا))‪.‬‬
‫وقد نص المام أحمد فى رواية المروَزى على القول بمثل رواية أبى سعيد‪ ،‬فقال‪ :‬قلت لبى‬
‫ع ِرفَ القوم‪ .‬قلت‪:‬‬
‫ظلِمَ فيه قوم؟ فقال‪ :‬يُرد عليهم إن ُ‬
‫عبد ال‪ :‬القو ُم إذا أعطوا الشىء‪ ،‬فتبينوا أنه ُ‬
‫فإن لم يُعرفوا؟ قال‪ :‬يُفرّق على مساكين ذلك الموضع‪ ،‬فقلت‪ :‬فما الحُجة فى أن يُفرّق على مساكين‬
‫ن يعنى القرية التى‬
‫ذلك الموضع؟ فقال‪ :‬عمر بنُ الخطاب رضى ال عنه جعل الدي َة على أهل المكا ِ‬
‫ظلِ َم قوم منهم ولم‬
‫وُجِدَ فيها القتيل‪ ،‬فأراه قال‪ :‬كما أن عليهم الدية هكذا يُفرّقُ فيهم‪ ،‬يعنى‪ :‬إذا ُ‬
‫يُعرفوا‪ ،‬فهذا عمر بن الخطاب رضى ال عنه قد قضى بموجب هذا الحديث‪ ،‬وجعل الديةَ على أهل‬
‫المكان الذى وُجِدَ فيه القتيلِ‪ ،‬واحتج به أحمد‪ ،‬وجعل هذا أصلً فى تفريق المال الذى ظُلم فيه أهلُ‬
‫ذلك المكان عليهم إذا لم يُعرفوا بأعيانهم‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ل بمثله‪ ،‬ولم تَجُز‬
‫ح تعيّن القو ُ‬
‫وأما الثر الخر‪ ،‬فمرسل ل تقو ُم بمثله حجة‪ ،‬ولو ص ّ‬
‫مخالفته‪ ،‬ول يُخالف باب الدعاوى‪ ،‬ول باب القسامة‪ ،‬فإنه ليس فيهم َل ْوثٌ ظاهر يُوجب تقديم‬
‫ب المدّعين من وجهين‪ :‬أحدهما‪:‬‬
‫المدعين‪ ،‬فيقدم المدّعى عليهم فى اليمين‪ ،‬فإذا َن َكلُوا‪ ،‬قوىَ جان ُ‬
‫وجو ُد القتيل بين ظهرانيهم‪ .‬والثانى‪ :‬نكولُهم عن براءة ساحتهم باليمن‪ ،‬وهذا يقومُ مقا َم اللوثِ‬
‫حِلفُ المدّعون‪ ،‬ويستحقون‪ ،‬فإذا نكل الفريقانِ كلهما‪ ،‬أورث ذلك شبه ًة مركبة من‬
‫الظاهر‪َ ،‬فيَ ْ‬
‫نكول كُلّ واحد منهما‪ ،‬فلم ينهض ذلك سبباً ليجاب كمال الدية عليهم إذا لم يحلِف غرماؤهم‪ ،‬ول‬
‫إسقاطُها عنهم بالكلية حيث لم يحلِفُوا‪ ،‬فجعلت الدية نصفين‪ ،‬ووجب نصفُها على المدّعى عليهم‬
‫لثبوت الشبهة فى حقهم بترك اليمين‪ ،‬ولم تَجِب عليهم بكمالها‪ ،‬لن خُصومَهم لم يحلِفُوا‪ ،‬فلما كان‬
‫اللوثُ متركبًا من يمين المدعين‪ ،‬ونكول المدّعى عليهم‪ ،‬ولم يتمّ‪ ،‬سقط ما يقابل أيمان المدعين وهو‬
‫النصفُ‪ ،‬ووجب ما يُقابل نكول المدّعى عليهم وهو النصف‪ ،‬وهذا مِن أحسن الحكام وأعدِلها‪،‬‬
‫وبال التوفيق‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى قضائه صلى ال عليه وسلم بتأخير القِصاصِ من الجُرح حتى َينْ َدمِلَ‬
‫ذكر عبد الرزاق فى ((مصنفه)) وغيرُه‪ :‬من حديث ابن جريج‪ ،‬عن عمرو بن شعيب قال‪:‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فى رجل طعن آخر بقرن فى رجله‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪:‬‬
‫((قضى رسو ُ‬
‫ل أن يستقيده‪ ،‬فأقاده النبىّ صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫حكَ))‪ ،‬فأبى الرجل إ ّ‬
‫جرَا ُ‬
‫حتّى َت ْب َرأَ ِ‬
‫أقِدْنى‪ ،‬فقال‪َ (( :‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ت وبرأ صاحبى‪ ،‬فقال النب ّ‬
‫فصحّ المستقا ُد منه‪ ،‬وعرج المستقيد‪ ،‬فقال‪ :‬عرج ُ‬
‫لّ وبطل عَرجك))‪ ،‬ثم أمر رسولُ‬
‫ص ْيتَنى‪ ،‬فَأَبع َدكَ ا ُ‬
‫حكَ َف َع َ‬
‫حتّى َتبْرأَ جِرا ُ‬
‫((أَلَ ْم آ ُم ْركَ أَن ل تَستَقيدَ َ‬
‫عرَجَ أن ل يُستقاد منه حتى يبرأ جرح‬
‫ال صلى ال عليه وسلم من كان به جُرح بعد الرجل الذى َ‬
‫عرَج أو شللَ‪ ،‬فل قود فيه‪ ،‬وهو عقل‪ ،‬ومن‬
‫صاحبه‪ .‬فالجراح على ما بلغ حتى يبرأ‪ ،‬فما كان مِن َ‬
‫استقاد جرحاً‪ ،‬فأصيب المستقادُ منه‪ ،‬فعقل ما فضل من دِيته على جُرح صاحبه له‪.‬‬
‫ث فى ((مسند المام أحمد))‪ .‬من حديث عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جدّه‬
‫قلت‪ :‬الحدي ُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬أقدنى‪ .‬فقال‪:‬‬
‫ل طعن بِ َقرْن فى ُر ْك َبتِهِ فجاء إلى النب ّ‬
‫متصل‪ ((،‬أن رج ً‬
‫حتّى َت ْب َرأَ))‪ ،‬جاء إليه فقال‪ :‬أَقِدْنى‪ .‬فأقاده‪ ،‬ثم جاء إليه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬عرجتُ‪ ،‬فقال‪(( :‬قَدْ‬
‫َ‬
‫ج َتكَ))‪ ،‬ثم نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يُقتصّ‬
‫عرْ َ‬
‫ص ْيتَنى‪ ،‬فََأ ْبعَ َدكَ ال وبَطّلَ َ‬
‫َن َه ْي ُتكَ َف َع َ‬
‫مِن جُرح حتى يبَرأ صاحبه))‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫جرِحَ‪ ،‬فأرا َد أَن يستقيدَ‪ ،‬فنهى‬
‫وفى سنن الدارقطنى‪ :‬عن جابر رضى ال عنه‪(( ،‬أن رجلً ُ‬
‫رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أن يُستقاد مِن الجارح حتى يبرَأ المجروحُ))‪.‬وقد تضمنتَ هذه‬
‫ص مِن الجُرح حتى يسِتق ّر أمرُه‪ ،‬إما باندمالٍ‪ ،‬أو بسِراية مستقرة‪،‬‬
‫الحكومةُ‪ ،‬أنه ل يجوز القتصا ُ‬
‫وأنّ سراية الجناية مضمونة بالقود‪ ،‬وجوازِ القِصاص فى الضربة بالعصا والقَرن ونحوهما‪ ،‬ول‬
‫ناسخ لهذه الحكومة‪ ،‬ول مُعارِضَ لها‪ ،‬والذى نسخ بها تعجيلُ القصاص قبل الندمال ل نفسُ‬
‫القصاص فتأمله‪ ،‬وأن المجنى عليه إذا بادر واقتصّ من الجانى‪ ،‬ثم سرتِ الجناية إلى عُضو من‬
‫أعضائه‪ ،‬أو إلى نفسه بعد القصاص‪ ،‬فالسراي ُة هدر‪.‬وأنه يُكتفى بالقصاص وحدَه دون تعزير‬
‫الجانى وحبسِه‪ ،‬قال عطاء‪ :‬الجروحُ قِصاص‪ ،‬وليس للمام أن يض ِربَه ول يسجِنه‪ ،‬إنما هو‬
‫القصاص‪ ،‬وما كان ربك نسياً‪ ،‬ولو شاء‪ ،‬لمر بالضرب والسجن‪ .‬وقال مالك‪ :‬يُقتص منه بحقّ‬
‫الدمى‪ ،‬ويُعاقب لجرأته‪.‬‬
‫ص يُغنى عن العقوبة الزائدة‪ ،‬فهو كالح ّد إذا أُقيم على المحدود‪ ،‬لم‬
‫والجمهور يقولون‪ :‬القصا ُ‬
‫يحتج معه إلى عقوبة أخرى‪.‬‬
‫والمعاصى ثلثة أنواع‪ :‬نوعٌ عليه حدّ مقدّر‪ ،‬فل يُجمع بينه وبين التعزير‪ .‬ونوعٌ ل‬
‫حدّ فيه‪ ،‬ول كفارة‪ ،‬فهذا يُردع فيه بالتعزير‪ ،‬ونوع فيه كفارة‪ ،‬ول حد فيه‪ ،‬كالوطء فى الحرام‬
‫والصيام‪ ،‬فهل يُجمع فيه بين الكفارة والتعزير؟ على قولين للعلماء‪ ،‬وهما وجهان لصحاب أحمد‪،‬‬
‫والقِصاص يجرى مجرى الحدّ‪ ،‬فل يُجمع بينه وبين التعزير‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى قضائِ ِه صلى ال عليه وسلم بالقِصاصِ فى كسرِ السن‬
‫ت ال ّر َبيّعِ لط َمتْ جَارِية‪ ،‬فكسرت‬
‫فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث أنس‪ ،‬أن ابنة النضر أخ َ‬
‫سنّها‪ ،‬فاختصمُوا إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأمر بالقِصاصِ‪ ،‬فقالت أُمّ ال ّر َبيّعِ‪ :‬يا رسول ال‪،‬‬
‫ِ‬
‫ن َلوْ‬
‫لّ مَ ْ‬
‫عبَادِ ا ِ‬
‫ن مِنْ ِ‬
‫أَيقتص مِن فُلنة‪ ،‬ل وال ل يُ ْقتَصّ منها‪ ،‬فقال النبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إ ّ‬
‫ل َب ّرهُ))‪.‬‬
‫علَى الِّ َ‬
‫أَقْسَمَ َ‬
‫فصل‬
‫فى قضائه صلى ال عليه وسلم فيمن عضّ ي َد رَجُلٍ‪ ،‬فانتزع يده من فيه‪ ،‬فسقطت ثنية العاض‬
‫بإهدارها‬

‫‪10‬‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬أن رجلً عضّ يدَ رجل‪ ،‬فنزع يدَه من فيه‪ ،‬فوقعت ثناياه‪،‬‬
‫ض الفَحْلُ‪ ،‬ل دِيةَ‬
‫فاختصمُوا إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪َ (( :‬يعَضّ أحَ ُدكُم أَخَاهُ كما َيعَ ّ‬
‫َلكَ))‪.‬‬
‫ت هذه الحكومةُ أن مَنْ خلّص نَفَسَه مِن يدِ ظالمٍ له‪َ ،‬ف َتلِ َفتْ نَ ْفسُ الظالم‪ ،‬أو شىءٌ‬
‫وقد تضمّن ْ‬
‫غ ْي ُر مضمون‪.‬‬
‫مِنْ أطرافه أو مَالِ ِه بذلك‪ ،‬فهو هَ ْدرٌ َ‬
‫فصل‬
‫حصَاةٍ أَو عُود‪ ،‬ففقأ‬
‫ل بغير إذنه‪ ،‬فَحذَفَهُ ب َ‬
‫فى قضائه صلى ال عليه وسلم فيمن أطلع فى بيت رجُ ٍ‬
‫عينه‪ ،‬فل شىء عليه‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫@‬
‫ثبت فى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرة رضى ال عنه‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه‬
‫عَليْكَ‬
‫ع ْينَهُ‪ ،‬لَ ْم َيكُنْ َ‬
‫حصَاةٍ‪ ،‬فَفَ َقَأتْ َ‬
‫ك ِب َغ ْيرِ إِذْن‪ ،‬فَحذَ ْفتَهُ‪ِ ،‬ب َ‬
‫عَل ْي َ‬
‫وسلم قال‪َ(( :‬ل ْو أَنّ امرءًا اطّلعَ َ‬
‫جنَاحٌ))‪.‬‬
‫ُ‬
‫ع ْينَهُ‪ ،‬فَلَ دِي َة لَهُ ول ِقصَاصِ))‪.‬‬
‫وفى لفظ فيهما‪(( :‬مَنِ اطّلعَ فى َب ْيتِ َقوْمٍ ِب َغ ْي ِر إ ْذ ِنهِمْ‪ ،‬فَفَ َقؤُوا َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقام إليهِ‬
‫ج ِر النب ّ‬
‫حرٍ فى بعضِ حُ َ‬
‫وفيهما‪(( :‬أن رجلً اطلعَ من جُ ْ‬
‫بمِشْقَصٍ‪ ،‬وجعلَ يختِل ُه لِيطعَنه))‪ ،‬فذهب إلى القول بهذه الحكومة‪ ،‬إلى التى قبلها فقهاءُ الحديث‪،‬‬
‫منهم‪ :‬المامُ أحمد‪ ،‬والشافعى ولم يقل بها أبو حنيفة ومالك‪.‬‬
‫[قضاء متنوع في القتل والدية]‬
‫فصل‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم ((أن الحامِلَ إذا َق َتلَت عمداً ل تُقتل حتى تضَعَ ما فى‬
‫وقضَى رسو ُ‬
‫ل َولَدَهَا))‪ .‬ذكره ابن ماجه فى ((سننه))‪.‬‬
‫بطنها وحتّى ُتكَفّ َ‬
‫وقضى ((أن ل يُقتل الوالدُ بالولَدِ))‪ .‬ذكره النسائى وأحمد‪.‬‬
‫ن بكافر))‪.‬‬
‫وقضى ((أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم‪ ،‬ول يُ ْقتَل مؤمِ ٌ‬
‫ل له قتيل‪ ،‬فأهله َبيْنَ خِي َر َتيْنِ‪ ،‬إما أن يقتلُوا أو يأخذوا العقل‪.‬‬
‫وقضى أن من ُقتِ َ‬
‫وقضى أن فى دية الصابع من اليدين والرّجلين فى كل واحدة عشرًا مِن البل‪ .‬وقضى فى السنان‬
‫س خمسٍ‪.‬وقضى فى‬
‫فى كل سِن بخمسٍ من البل‪ ،‬وأنها كلها سواء‪ ،‬وقضى فى المواضح بخم ٍ‬

‫‪11‬‬
‫ط َعتْ بثلث ديتها‪ ،‬وفى السّنّ‬
‫ستْ بثلث ديتها‪ ،‬وفى اليد الشلء إذا قُ ِ‬
‫طمِ َ‬
‫العين السّادة لمكانها إذا ُ‬
‫عتْ بثلث ديتها‪.‬‬
‫السوداء إذا نُز َ‬
‫ت أرنبتُه بنصف الدية‪.‬‬
‫ع ْ‬
‫ع ُكلّه بالدية كاملة‪ ،‬وإذا جُدِ َ‬
‫وقضى فى النف إذا جُدِ َ‬
‫وقضى فى المأمومة ب ُثلُث الدية‪ ،‬وفى الجائفة بثلثها‪ ،‬وفى ال ُمنَ ّقلَةِ بخمسةَ عشرَ من البل‪.‬‬
‫ض َتيْنِ بالدية‪ ،‬وفى ال ّذ َكرِ بالدية‪ ،‬وفى‬
‫وقضى فى اللسان بالدية‪ ،‬وفى الشفتين بالدية‪ ،‬وفى ال َبيْ َ‬
‫صلْب بالدية‪ ،‬وفى العينين بالدية‪ ،‬وفى إحداهما بنصفها‪ ،‬وفى الرجل الواحدة بنصف الدية‪ ،‬وفى‬
‫ال ّ‬
‫اليد بنصف الدية‪ ،‬وقضى أن الرجل يُقتل بالمرأة‪.‬‬
‫وقضى أن دية الخطأ على العاقلة مائة من البل‪ ،‬واختلفت الرواية عنه فى أسنانها‪،‬‬
‫ن ِب ْنتَ َمخَاضٍ‪،‬‬
‫لثُو َ‬
‫ففى السنن الربعة عنه من حديث عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪(( :‬ثَ َ‬
‫لثُونَ حِقّةً‪ ،‬وعَشَر ُة بنى َلبُونٍ َذ َكرٍ))‪.‬‬
‫ت َلبُون‪ ،‬وثَ َ‬
‫ن ِب ْن َ‬
‫لثُو َ‬
‫وثَ َ‬
‫قال الخطابى‪ :‬ول أعلم أحدًا مِن الفقهاء قال بهذا‪.‬‬
‫ت مَخَاضٍ‪ ،‬وعشرون بنت‬
‫وفيها أيضا من حديث ابن مسعود‪ :‬أنها أخماسٌ‪((:‬عِشرون بن َ‬
‫لَبون‪ ،‬وعشرون ابن مخاض‪ ،‬وعشرون حِقّة‪ ،‬وعِشرونَ جَذَعَة))‪.‬‬
‫خلِفَة‪ ،‬وما‬
‫وقضى فى العمد إذا رضُوا بالدّية ثلثين حِقّة‪ ،‬وثلثين جَذَعة‪ ،‬وأربعين َ‬
‫صُولحوا عليه‪ ،‬فهو لهم‪.‬‬
‫فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى القول بحديث ابن مسعودٍ رضى ال عنهما‪ ،‬وجعل الشافعى‬
‫ومالك بدل ابن مخاض ابن لبون‪ ،‬وليس فى واحد من الحديثين‪.‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم على أهل البل مائة من البل‪ ،‬وعلى أهل البقر مائتى‬
‫وفرضها النب ّ‬
‫حلَلِ مائتى حُلة‪.‬‬
‫بقرة‪ ،‬وعلى أهلِ الشاءِ ألفى شاة‪ ،‬وعلى أهل ال ُ‬
‫وقال عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده رضى ال عنه أنه صلى ال عليه وسلم ((جعلها‬
‫ثمانمائة دينار‪ ،‬أو ثمانمائة آلف درهم))‪.‬‬
‫وذكر أهل السنن الربعة من حديث عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس رضى ال عنهما‪((،‬أن رجلً‬
‫شرَ أَلفاً))‪.‬‬
‫ل النبى صلى ال عليه وسلم ديتَه اثنى ع َ‬
‫ُقتِلَ‪ ،‬فجع َ‬
‫وثبت عن عمر أنه خطب فقال‪ :‬إن البلَ قد غلت‪ ،‬ففرضها على أهلِ الذهب ألفَ دينار‪،‬‬
‫ل البقر مائتى بقرة‪ ،‬وعلى أهل الشا ِء ألفى شاة‪ ،‬وعلى أهل‬
‫وعلى أهل ال َورِقِ عشر ألفاً‪ ،‬وعلى أه ِ‬
‫الحُلل مائتى حلة‪ ،‬وترك دِية أهل الذمة‪ ،‬فلم يرفعها فيما رَفَ َع مِن الدية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ل السنن الربعة عنه صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫وقد روى أه ُ‬
‫صفُ عَقْلِ‬
‫ل ال ِكتَابينِ ِن ْ‬
‫ل أَهْ ِ‬
‫حرّ‪ .‬ولفظ ابن ماجه‪ :‬قضى أن عق َ‬
‫صفُ ِديَةِ ال ُ‬
‫(( ِديَةُ المعَاهَ ِد ِن ْ‬
‫المسلمين‪ ،‬وهم اليهود والنصارى))‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء فى ذلك‪ ،‬فقال مالك‪ :‬ديتهم نصفُ دية المسلمين فى الخطأ والعمد‪ ،‬وقال‬
‫الشافعى‪ :‬ثلثُها فى الخطأ والعمد‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬بل كِدَية المسلم فى الخطأ والعمد‪ .‬وقال المام‬
‫ل دية المسلم فى العمد‪ .‬وعنه فى الخطأ روايتان‪ ،‬إحداهما‪ :‬نصفُ الدية‪ ،‬وهى ظاهر‬
‫أحمد‪ :‬مث ُ‬
‫ع َمرَ جعل‬
‫مذهبه‪ .‬والثانية‪ :‬ثلثها‪ ،‬فأخذ مالك بظاهر حديث عمرو بن شعيب‪ ،‬وأخذ الشافعىّ بأن ُ‬
‫ف الدية‬
‫ضعّ َ‬
‫ث دية المسلم‪ ،‬وأخذ أحمدُ بحديث عمرو إل أنه فى العم ِد َ‬
‫ديته أربعة آلف‪ ،‬وهى ثل ُ‬
‫ضعّفت عليه الدية عقوبة‪،‬‬
‫عقوبة لجل سقوط القصاص‪ ،‬وهكذا عنده مَنْ سقط عنه القصاص‪ُ ،‬‬
‫نص عليه توفيقاً‪ ،‬وأخذ أبو حنيفة بما هو أصلُه من جريان القصاص بينهما‪ ،‬فتتساوى ديتُهما‪.‬‬
‫ل المرأة ِمثْلُ عقل الرجل إلى الثلث من ديتها))‬
‫وقضى صلى ال عليه وسلم ((أن عق َ‬
‫ذكره النسائى‪ .‬فتصير على النصف من ديته‪ ،‬وقَضى بالدية على العاقلة‪ ،‬وبرأ منها الزوج‪ ،‬وولد‬
‫المرأة القاتلة‪.‬‬
‫ل يُودى بقدر ما أَدّى من كتابته دية الحر‪ ،‬وما‬
‫وقضى فى المكاتب أنه إذا ُقتِ َ‬
‫ى بن أبى طالب‪ ،‬وإبراهيم النّخعى‪،‬‬
‫بقى فدية المملوك‪ ،‬قلت‪ :‬يعنى قيمته‪ ،‬وقضى بهذا القضاء عل ّ‬
‫ويُذكر رواية عن أحمد‪ ،‬وقال عمر‪ :‬إذا أَدّى شطرَ كتابته كان غريماً‪ ،‬ول يرجع رقيقاً‪ ،‬وبه قضى‬
‫عبدُ الملك بن مروان‪ .‬وقال ابن مسعود‪ :‬إذا أدّى الثلث‪ ،‬وقال عطاء‪ :‬إذا أدّى ثلثة أرباع الكتابة‪،‬‬
‫ى لم تُجمع المةُ على تركه‪ ،‬ولم يُعلم نسخه‪.‬‬
‫فهو غريم‪ ،‬والمقصود‪ :‬أن هذا القضاء النبو ّ‬
‫عَليْهِ ِدرْهَم)) فل معارضة بينه وبين هذا القضاء‪ ،‬فإنه‬
‫عبْدٌ مَا بَ ِقىَ َ‬
‫وأما حديث ((المكَاتبُ َ‬
‫فى الرق بعد‪ ،‬ول تحصل حريته التامة إل بالداء‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى قضائه صلى ال عليه وسلم على من أقر بالزنى‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ل من أسلم جاء إلى النب ّ‬
‫ثبت فى صحيح البخارى ومسلم أن رج ً‬
‫شهِ َد على نفسه أربعَ مرّاتٍ‪ ،‬فقال‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حتى َ‬
‫فاعترف بالزنى‪ ،‬فأعرض عنه النب ّ‬
‫ص ْنتَ))؟ قَالَ‪ :‬نعم‪ ،‬فأ َم َر بهِ‪َ ،‬فرُجمَ‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم‪َ(( :‬أ ِبكَ جُنونٌ))؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪(( :‬أَحْ َ‬

‫‪13‬‬
‫فى المصلّى‪ ،‬فلمّا أذلَ َقتْهُ الحجارةُ‪ ،‬فرّ فأَ ْد ِركَ‪ ،‬فُرجِم حتى مات‪ ،‬فقال النبى صلى ال عليه وسلم‬
‫ى عليه‪.‬‬
‫خيراً‪ ،‬وصل ّ‬
‫ع ْنكَ))‪ ،‬قال‪ :‬وما بلغك عنى‪ ،‬قال‪َ :‬بَلغَنى أ ّنكَ‬
‫ق مََا َبَلغَنى َ‬
‫وفى لفظ لهما‪ :‬أنه قال‪ :‬له ((أَحَ ّ‬
‫ى صلى ال‬
‫شهِ َد على نفسه أربعَ شهاداتٍ‪ ،‬ثم دعاه النب ّ‬
‫وَ َق ْعتَ بجَا ِريَ ِة بنى فُلَنٍ)) فقال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فَ َ‬
‫ص ْنتَ)) ؛ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ثم أ َم َر بِهِ َفرُجِمَ‪.‬‬
‫ح َ‬
‫جنُونٌ))‪ ،‬قال‪ :‬ل‪ ،‬قَالَ‪(( :‬أ ْ‬
‫عليه وسلم فقال‪(( :‬أ ِبكَ ُ‬
‫وفى لفظ لهما‪ :‬فلما شهد على نفسه أربَعَ شهادات‪ ،‬دعاه النبىّ صلى ال عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫جمُوه))‪.‬وفى لفظ‬
‫ص ْنتَ))؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قالَ‪ :‬اذْ َهبُوا بهِ‪ ،‬فَار ُ‬
‫ح َ‬
‫((أ ِبكَ جنُونٌ)) ؛ قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪(( :‬أَ ْ‬
‫ظ ْرتَ))‪ ،‬قال‪ :‬ل يا‬
‫غ َم ْزتَ‪ ،‬أو نَ َ‬
‫ت أو َ‬
‫للبخارى‪ :‬أن النبى صلى ال عليه وسلم قال‪َ(( :‬لعَّلكَ َق ّب ْل َ‬
‫رسول ال‪ .‬قال‪(( :‬أَ ِن ْك َتهَا)) ل َيكْنى‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪َ ،‬ف ِعنْ َد ذلك أمر برجمه‪.‬‬
‫وفى لفظ لبى داود‪ :‬أنه شَهد على نفسه أربعَ مرات‪ ،‬كُلّ ذلك ُي ْعرِضُ عنه‪ ،‬فَأَقبِل فى‬
‫ك ِم ْنهَا))؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪:‬‬
‫حتّى غَاب ذِلكَ ِم ْنكَ فى ذِل َ‬
‫الخامسة‪ ،‬قال‪َ(( :‬أ ِنكْ َتهَا))؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪َ (( :‬‬
‫ل تَدْرى مَا ال ّزنَى))؟ قال‪:‬‬
‫حلَ ِة والرّشاء فى البئرِ))؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪َ (( :‬فهَ ْ‬
‫ب المِيلُ فى ال ُمكْ ُ‬
‫(( َكمَا يغِي ُ‬
‫ل من امرأته حللً‪ .‬قال‪َ (( :‬فمَا تُري ُد بِهذا ال َقوْلِ))؟ قال‪ :‬أري ُد أن‬
‫نعم أتيتُ منها حراماً ما يأتى الرج ُ‬
‫تطهّرنى قال‪ :‬فَأ َمرَ به َفرُجِمَ‪.‬‬
‫وفى ((السنن))‪ :‬أنه لما وج َد مسّ الحِجارة‪ ،‬قال‪ :‬يا قو ُم رُدّونى إلى رسول ال صلى ال‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فإن قومى قتلونى‪ ،‬وغرّونى من نفسى‪ ،‬وأخبرونى أن رسو َ‬
‫غيرُ قاتلى‪.‬‬
‫ل إنى قد زنيتُ فطهّرنى‪ ،‬وأنه‬
‫وفى ((صحيح مسلم))‪(( :‬فجاءت الغامدية فقالت‪ :‬يا رسولَ ا ّ‬
‫ردّها‪ ،‬فلما كان مِن الغد‪ ،‬قالت‪ :‬يا رسول الِّ ثم َترُدّنى‪ ،‬لعلك أن َترُدّنى كما رددتَ ماعزاً؟ فوال‬
‫حتّى َتلِدى))‪ ،‬فلما ولدت‪ ،‬أتته بالصبىّ فى خِرقة‪ ،‬قالت‪ :‬هذا قد‬
‫إنى لحبلى‪ ،‬قال‪ :‬إمّا لَ‪ ،‬فاذْهبى َ‬
‫طمِيهِ))‪ ،‬فلما فطمته‪ ،‬أتته بالصبىّ فى يده كِسرة خبز‪،‬‬
‫حتّى تَفْ ِ‬
‫ضعِيهِ َ‬
‫ولدتُه‪ ،‬قال‪(( :‬اذْهبى فََأ ْر ِ‬
‫فقالت‪ :‬هذا يا نبىّ ال قد فطمتُه‪ ،‬وقد أكل الطعامَ‪ ،‬فدفع الصبىّ إلى رجل من المسلمين‪ ،‬ثم َأ َمرَ بها‪،‬‬
‫فَحُ ِف َر لها إلى صدرها‪ ،‬وأمر الناسِ فرجموها‪ ،‬فأقبل خال ُد بن الوليدِ بحجرٍ‪ ،‬فرمى رأسها‪ ،‬فانتضحَ‬
‫الدمُ على وجهِ‪ ،‬فسبّها‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬مهْلً يا خَالِدُ َفوَالّذى نَفْسى بيَده‪ ،‬لَقَدْ‬
‫س َلغُ ِفرَ لَهُ)) ثم أمر بها‪ ،‬فصلى عليها‪ ،‬ودُفنت‪.‬وفى ((صحيح‬
‫ب َم ْك ٍ‬
‫ح ُ‬
‫ت َت ْوبَةً َل ْو تَا َبهَا‪ ،‬صَا ِ‬
‫تَا َب ْ‬
‫حصِنْ بنفى عامٍ‪ ،‬وإقامةِ‬
‫البخارى))‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قضى فيمن زنى‪ ،‬ولم يُ ْ‬

‫‪14‬‬
‫لّ إل قضيتَ بيننا بكتابِ ال‪ ،‬فقام‬
‫الحدّ عليه‪.‬وفى ((الصحيحين))‪ :‬أن رجلً قال له‪ :‬أنشُ ُدكَ با ِ‬
‫خصمه‪ ،‬وكان أفقَه مِنه‪ ،‬فقال‪ :‬صَدَقَ اقْضِ بيننا بكتابِ الِّ‪ ،‬وائذن لى‪ ،‬فقال‪((:‬قل)) قال‪ :‬إن ابنى‬
‫كانَ عسيفًا على هذا‪ ،‬فزنى بامرأته‪ ،‬فافتديتُ منه بمائة شاةٍ وخادِم‪ ،‬وإنى سألتُ أهلَ بالعلم‪،‬‬
‫جلْدَ مائ ٍة وتغريبَ عام‪ ،‬وأن على امرأةِ هذا الرجم‪ ،‬فقال‪(( :‬والّذِى نَفْسِى‬
‫فأخبرونى أن على ابنى َ‬
‫جلْدُ مائَ ٍة و َت ٌغرِيبُ عَامٍ‪ ،‬واغْدُ‬
‫عَل ْيكَ‪ ،‬وعلى ا ْب ِنكَ َ‬
‫ن َب ْي َن ُكمَا ِب ِكتَابِ الِّ‪ ،‬المائَةُ والخَادِمُ رَدّ َ‬
‫ضيْ ّ‬
‫ل ْق ِ‬
‫َبيَ ِدهِ َ‬
‫جمَها‪.‬‬
‫ع َترَ َفتْ َفرَ َ‬
‫جمْها))‪ ،‬فا ْ‬
‫ع َترَ َفتْ فَارْ ُ‬
‫علَى ا ْم َرأَةِ هذَا‪ ،‬فاسَْأ ْلهَا‪ ،‬فإن ا ْ‬
‫يا أُنيسُ َ‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) عنه صلىال عليه وسلم‪(( :‬الثّيبُ بالثّيب جلدُ مائ ٍة والرجْمُ‪ ،‬والبِ ْكرُ‬
‫جلْدُ مائَ ٍة وتغريب عام))‪.‬‬
‫بال ِب ْكرِ َ‬
‫فتضمنت هذه القضية رج َم الثيب‪ ،‬وأنه ل يُرجم حتى يُ ِق ّر أربع مراتٍ‪ ،‬وأنه إذا أقر دون‬
‫ض عنه‪ ،‬ويعرض له بعدم تكميل‬
‫الربع‪ ،‬لم يلزم بتكميل نصاب القرار‪ ،‬بل للمام أن ُي ْعرِ َ‬
‫القرار‪.‬وأن إقرارَ زائل العقل بجنون‪ ،‬أو سكر ملغى ل عِبرة به‪ ،‬وكذلك طلق ُه وعِتقُه‪ ،‬وأيمانُه‬
‫ووصيتُه‪.‬‬
‫وأن الحر المحصَن إذا زنى بجارية‪ ،‬فحده الرجم‪ ،‬كما لو زنى بحرة‪.‬‬
‫وأن المام يُستحب له أن يُعرّض للمقر بأن ل يُ ِقرّ‪ ،‬وأنه يجب استفسارُ المقرّ فى محل‬
‫الجمال‪ ،‬لن اليدَ والف َم والعين لما كان استمتاعُها زنى استفسر عنه دفعاً لحتماله‪.‬‬
‫وأن المام له أن يصرح باسم الوطء الخاص به عند الحاجة إليه كالسؤال عن الفعل‪.‬‬
‫وأن الحد ل يجبَ على جاهل بالتحريم‪ ،‬لنه صلى ال عليه وسلم سأله عن حكم الزنى‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أأتيتُ منها حراماً ما يأتى الرجل مِن أهله حللً‪.‬‬
‫طمَه‪ ،‬وأن‬
‫ضعَه وتَف ِ‬
‫وأن الحد ل يُقام على الحامل‪ ،‬وأنها إذا ولدت الصبىّ‪ ،‬أمهَلتْ حتى تُر ِ‬
‫ب عليه أن يبدأ بالرجم‪.‬‬
‫ج ُ‬
‫المرأ َة يُحفَر لها دون الرجل‪ ،‬وأن المام ل ي ِ‬
‫ل المعاصى إذا تابوا‪ ،‬وأنه يُصلّى على من ُقتِلَ فى ح ّد الزنى‪ ،‬وأن المُقِ ّر إذا‬
‫ب أه ِ‬
‫وأنه ل يجوز س ّ‬
‫استقال فى أثناء الحد‪ ،‬وفّر‪ ،‬ترك ولم يتمم عليه الحد‪ ،‬فقيل‪ :‬لنه رجوع‪ .‬وقيل‪ :‬لنه توبة قبل تكميل‬
‫الحد‪ ،‬فل يقام عليه كما لو تاب قبل الشروع فيه‪ ،‬وهذا اختيار شيخنا‪.‬‬
‫وأن الرجل إذا أقرّ أنه زنى بفلنة‪ ،‬لم يُقم عليه حَ ّد مع حد الزنى‪.‬‬
‫وأن ما ُقبِضَ من المال بالصلح الباطلِ باطل يجبُ ردّه‪.‬‬
‫وأن المام له أن يُوكّل فى استيفاء الحد‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫وأن الثيب ل يُجمع عليه بين الجل ِد والرجم‪ ،‬لنه صلى ال عليه وسلم لم يجلد ماعزاً‬
‫جلِدَ المرأة التى أرسله إليها‪ ،‬وهذا قول الجمهور‪ ،‬وحديث عبادة‪:‬‬
‫ول الغامدية‪ ،‬ولم يأمر أنيسًَا أن َي ْ‬
‫جلْدُ مِائَةٍ والرجم منسوخ))‪ .‬فإن هذا كان‬
‫سبِيلً‪ :‬ال ّث ّيبُ بالثّيبِ َ‬
‫لّ َلهُنّ َ‬
‫جعَلَ ا ُ‬
‫((خذُوا عنى قَدْ َ‬
‫فى أول المر عند نزول حد الزانى‪ ،‬ثم رجم ماعزاً والغامدية‪ ،‬ولم يجلدهما‪ ،‬وهذا كان بعد حديث‬
‫عبادة بل شك‪ ،‬وأما حديث جابر فى ((السنن))‪ :‬أن رجلً زنى‪ ،‬فأم َر به النبىّ صلى ال عليه وسلم‬
‫جلِدَ الحَدّ‪ ،‬ثم أق ّر أنه محصَن‪ ،‬فأمر به فرجم‪ .‬فقد قال جابر فى الحديث نفسه‪ :‬إنه لم يعلم بإحصانه‪،‬‬
‫فَ ُ‬
‫فجلد‪ ،‬ثم علم بإحصانه فرجم‪ .‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫وفيه‪ :‬أن الجهل بالعقوبة ل يسقط الحد إذا كان عالماً بالتحريم‪ ،‬فإن ماعزًا لم يعلم أن‬
‫عقوبتَه بالقتل‪ ،‬ولم يُسقط هذا الجهلُ الح ّد عنه‪.‬‬
‫وفيه‪ :‬أنه يجوز للحاكم أن يحكم بالقرار فى مجلسه‪ ،‬وإن لم يسمعه معه‬
‫ع َترَ َفتْ بحضرة‬
‫شاهدان‪ ،‬نص عليه أحمد‪ ،‬فإن النبىّ صلى ال عليه وسلم لم يقل لنيس‪ :‬فإن ا ْ‬
‫شاهدين فارجمها‪.‬‬
‫وأن الحكم إذا كان حقاً محضاً ل لم يشترط الدعوى به عند الحاكم‪.‬‬
‫وأن الح ّد إذا وجب على امرأة‪ ،‬جاز للمام أن يبعث إليها من يُقيمه عليها‪ ،‬ول يحضرها‪،‬‬
‫وترجم النسائى على ذلك‪ :‬صوناً للنساء عن مجلس الحكم‪.‬‬
‫ف على أن هذا حكمُ ال عز وجل إذا تحقق ذلك‪،‬‬
‫حِل ُ‬
‫وأن المام والحاكم والمفتىَ يجوزُ ال َ‬
‫وتيقنه بل ريب‪ ،‬وأنه يجوز التوكيلُ فى إقامة الحدود‪ ،‬وفيه نظر‪ ،‬فإن هذا استناب ُة من النبى صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬وتضمن تغريب المرأة كما يغرب الرجل‪ ،‬لكن يغرب معها محرمُها إن أمكن‪ ،‬وإل‬
‫فل‪ ،‬وقال مالك‪ :‬ول تغريب على النساء‪ ،‬لنهن عورة‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حُكمه صلى ال عليه وسلم على أهلِ الكتاب فى الحدود بحُكم السلم‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫ثبت فى ((الصحيحين)) و ((المسانيد))‪(( :‬أن اليهودَ جاؤوا إلى رسو ِ‬
‫وسلم‪ ،‬فذكروا له أن رجلً مِنهم وامرأةً زنيا‪ ،‬فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَا تَجِدُونَ فى‬
‫جلَدُون‪ ،‬فقال عبدُ ال بن سلم‪ :‬كذبتُم إن فيها الرّجمَ‪،‬‬
‫ال ّتوْرَاةِ فى شَأْن الرّجْمِ))؟ ((قالوا‪ :‬نفضحُهم ويُ ْ‬
‫فََأ َتوْا بالتوارة‪ ،‬فنشرُوها‪ ،‬فوضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرجم‪ ،‬فقرأ ما قبلَها وما بعدَها‪ ،‬فقال له عبدُ‬

‫‪16‬‬
‫ال بنُ سلم‪ :‬ارفَعْ يدَك‪ ،‬فرفع يدَه‪ ،‬فإذا فيها آيةُ الرجم‪ ،‬فقالوا‪ :‬صَدَقَ يا محمد‪ ،‬إن فيها الرجم‪ ،‬فَأ َمرَ‬
‫جمَا))‪.‬‬
‫بهما رسولُ ال صلى ال عليه وسلم َفرُ ِ‬
‫فتضمنت هذه الحكومةُ أن السلم ليس بشرط فى الحصان‪ ،‬وأن الذّمى يُحصّن الذميةَ‪،‬‬
‫ل بذلك اختلفوا فى وجه هذا الحديث‪ ،‬فقال مالك فى غير‬
‫وإلى هذا ذهب أحمدُ والشافعىّ‪ ،‬ومن لم يَقُ ْ‬
‫ك أن‬
‫((الموطأ))‪ :‬لم يكن اليهودُ بأهل ذمة‪ .‬والذى فى ((صحيح البخارى))‪ :‬أنهم أهلُ ذمة‪ ،‬ول ش ّ‬
‫هذا كان بعدَ العهد الذى وقع بين النبىّ صلى ال عليه وسلم وبينهم‪ ،‬ولم يكونوا إذ ذاك حرباً‪ ،‬كيف‬
‫وقد تحاكمُوا إليه‪ ،‬ورضُوا بحكمه؟ وفى بعضِ طُرق الحديث‪ :‬أنهم قالوا‪ :‬اذهبوا بنا إلى هذا النبىّ‪،‬‬
‫سهِم‪ ،‬فأتاهم وحكم بينهم‪ ،‬فهم كانوا‬
‫فإنه بعث بالتخفيف‪ ،‬وفى بعض طرقه‪ :‬أنهم دعوه إلى بيت مِ ْدرَا ِ‬
‫ل عهد وصُلح بل شك‪.‬‬
‫أه َ‬
‫ق القًصة صريحٌ فى ذلك‪ ،‬وهذا‬
‫وقالت طائفة أخرى‪ :‬إنما رجمهم بحُكم التوراة‪ .‬قالوا‪ :‬وسيا ُ‬
‫مما ل يُجدى عليهم شيئاً ألبتة‪ ،‬فإنه حكم بينهم بالحقّ المحضِ‪ ،‬فيجبُ اتباعُه بكلّ حال‪ ،‬فماذا بعد‬
‫الحقّ إل الضلل‪.‬‬
‫وقالت طائفة‪ :‬رجمهما سياسةً‪ ،‬وهذا مِن أقبح القوال‪ ،‬بل رجمهما بحُكم ال الذى ل حُكم‬
‫سِواه‪.‬‬
‫وتضمنت هذه الحكومةُ أن أهل الذّمة إذا تحاكَموا إلينا ل نحكُم بينهم إل بحُكم‬
‫السلم‪.‬‬
‫ن لم يُ ِقرّا‪ ،‬ولم يشهد عليهما‬
‫ل الذمة بعضهم على بعض لن الزانيي ِ‬
‫وتضمنت قبولَ شهادة أه ِ‬
‫ل ال صلى‬
‫المسلمون‪ ،‬فإنهم لم يحضُروا زِناهما‪ ،‬كيف وفى ((السنن)) فى هذه القصة‪ ،‬فدعا رسو ُ‬
‫ال عليه وسلم بالشّهودِ‪ ،‬فجاؤوا أربعة‪ ،‬فشهدوا أنهم رأوا ذكره فى فرجها مِثل المِيل فى المُكحلة‪.‬‬
‫وفى بعض طرق هذا الحديث‪ :‬فجاء أربع ٌة منهم‪ ،‬وفى بعضها‪ :‬فقال لليهود‪(( :‬ا ْئتُونى‬
‫بَِأ ْر َبعَ ٍة ِم ْنكُم))‪.‬‬
‫وتضمنت الكتفاءَ بالرجم‪ ،‬وأن ل يجمع بينَه وبين الجلد‪ ،‬قال ابنُ عباس‪ :‬الرجمُ فى‬
‫ن َلكُمْ‬
‫ل ال ِكتَابِ قَدْ جَا َءكُمْ رَسُولُنا ُي َبيّ ُ‬
‫ص عليه إل غوّاصٌ‪ ،‬وهو قوله تعالى‪{ :‬يَأَهْ َ‬
‫كتاب ال ل يغو ُ‬
‫ن مِنَ ال ِكتَابِ} [المائدة‪ ]15 :‬واستنبطه غير ُه مِن قوله‪{ :‬إنّا َأ ْن َزلْنا ال ّتوْراةَ فيها‬
‫َكثِيراً ِممّا ُك ْنتُم تُخْفُو َ‬
‫سَلمُوا ِللّذِينَ هَادُوا} [المائدة‪ ]44 :‬قال الزهرى في حديثه‪:‬‬
‫ن أَ ْ‬
‫حكُم ِبهَا ال ّن ِبيّونَ الّذِي َ‬
‫ى َونُورٌ يَ ْ‬
‫هُد ً‬

‫‪17‬‬
‫سَلمُوا}‬
‫ن أَ ْ‬
‫حكُم ِبهَا ال ّن ِبيّونَ الّذِي َ‬
‫ى ونُورٌ ي ْ‬
‫فبلغنا أن هذه الية نزلت فيهم‪{ :‬إنّا َأ ْن َز ْلنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُد ً‬
‫ى صلى ال عليه وسلم منهم‪.‬‬
‫[المائدة‪ ]44 :‬كان النب ّ‬
‫الحكم في الزنى واللواطة وشرب الخمر‬
‫فصل‬
‫فى قضائه صلى ال عليه وسلم فى الرجل يزنى بجارية امرأته‬
‫فى ((المسند)) و((السنن)) الربعة‪ :‬من حديث قتادة‪ ،‬عن حبيب بن سالم‪ ،‬أن رجلً يقال له‪:‬‬
‫عبد الرحمن بن جُنين‪ ،‬وقع على جارية امرأته‪َ ،‬فرُفِ َع إلى النعمان بن بشير‪ ،‬وهو أمير على‬
‫ك بقضيةِ رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إن كانت أحلّتها لك‪ ،‬جلدتُك مائة‬
‫الكوفة‪ ،‬فقال‪ :‬لقضينّ في َ‬
‫جلدة‪ ،‬وإن لم تكن أحلتها‪ ،‬رجمتُك بالحجارة‪ ،‬فوجدوه أحلتها له‪ ،‬فجلده مائة‪.‬‬
‫قال الترمذى‪ :‬فى إسنادِ هذا الحديثِ اضطرابٌ‪ ،‬سمعتُ محمداً يعنى البخارىّ يقول‪ :‬لم يسمع‬
‫قتاد ُة مِن حبيب بنِ سالم هذا الحديثَ‪ ،‬إنما رواه عن خالد بن عُرفُطة‪ ،‬وأبو بشر لم يسمعه أيضًا من‬
‫حبيب بن سالم‪ ،‬إنما رواه عن خالد بن عرفطة‪ ،‬وسألت محمداً عنه؟ فقال‪ :‬أنا أنفى هذا الحديثَ‪.‬‬
‫وقال النسائى‪ :‬هو مضطرب‪ ،‬وقال أبو حاتم الرازى‪ :‬خالد ابن عرفطة مجهول‪.‬‬
‫حبّقِ‪ ،‬أن رسولَ الِّ‬
‫سَلمَةَ بن المُ َ‬
‫وفى ((المسند)) و ((السنن))‪ :‬عن َق ِبصَة بن حُريثٍ‪ ،‬عن َ‬
‫صلى ال عليه وسلم قضى فى رجل وقَع على جارية امرأته‪ ،‬إن كان استكرهها‪ ،‬فهى حرّة‪ ،‬وعليه‬
‫لسيدتها مثلُها‪ ،‬وإن كانت طاوعته‪ ،‬فهى له‪ ،‬وعليه لسيدتِها مثلُها‪.‬‬
‫فاختلف الناسُ فى القول بهذا الحكم‪ ،‬فأخذ به أحمد فى ظاهر مذهبه‪ ،‬فإن الحديثَ حسن‪،‬‬
‫وخالد بن عُرفطة قد روى عنه ثقتان‪ :‬قتادة‪ ،‬وأبو بشر‪ ،‬ولم يُعرف فيه قدح‪ ،‬والجهالة ترتفِعُ عنه‬
‫برواية ثقتين‪ ،‬القياسُ وقواع ُد الشريعة يقتضى القولَ بموجب هذه الحكومة‪ ،‬فإن إحلل الزوجة‬
‫شبه ْة تُوجب سقوطَ الحد‪ ،‬ول تُسقِط التعزيزَ‪ ،‬فكانت المائ ُة تعزيزاً‪ ،‬فإذا لم تكن أحلتها‪ ،‬كان زنىً ل‬
‫شبهة فيه‪ ،‬ففيه الرجمُ‪ ،‬فأى شىء فى هذه الحكومة مما يُخالف القياس‪.‬‬
‫سلَمة بن المحبّق‪ :‬فإن صحّ‪ ،‬تعيّن القولُ به ولم يُعدَل عنه‪ ،‬ولكن قال النسائى‪ :‬ل‬
‫وأما حديث َ‬
‫َيصِحّ هذا الحديثُ‪.‬قال أبو داود‪ :‬سمعتُ أحمد بن حنبل يقول‪ :‬الذى رواه عن سلمة بن المحبق شيخٌ‬
‫ل يُعرف‪ ،‬ول يُحدث عنه غيرُ الحسن يعنى قَبيصة بن حريث‪ .‬وقال البخارى فى ((التاريخ))‪:‬‬
‫قَبيصة بن حُريث سمع سلمة بن المحبق‪ ،‬فى حديثه نظر‪ ،‬وقال ابن المنذر‪ :‬ل يثُبتُ خبرُ سلمة بن‬

‫‪18‬‬
‫المحبق‪ ،‬وقال البيهقى‪ :‬وقبيصة ابن حُريث غير معروف‪ ،‬وقال الخطابى‪ :‬هذا حديث منكر‪،‬‬
‫ث ممن سمع‪.‬‬
‫وقبيصة غير معروف‪ ،‬والحجة ل تقوم بمثله‪ ،‬وكان الحسن ل يُبالى أن يروىَ الحدي َ‬
‫ل نزول‬
‫وطائفة أخرى قبلت الحديثَ‪ ،‬ثم اختلفوا فيه‪ ،‬فقالت طائفة‪ :‬منسوخ‪ ،‬وكان هذا قب َ‬
‫الحدود‪.‬‬
‫وقالت طائفة‪ :‬بل وجهه أنه إذا استكرهها‪ ،‬فقد أفسدها على سيدتها‪ ،‬ولم تبق ممن تصلُح لها‪،‬‬
‫ولَحِقَ بها العارُ‪ ،‬وهذا ُم ْثلَ ٌة معنوية‪ ،‬فهى كال ُم ْثلَةِ الحِسية‪ ،‬أو أبلغُ منها‪ ،‬وهو قد تضمن أمرين‪:‬‬
‫إتلفها على سيدتها‪ ،‬والمثلة المعنوية بها‪ ،‬فيلزمه غرامتُها لسيدتها‪ ،‬وتُعتق عليه‪ ،‬وأما إن طاوعته‪،‬‬
‫فقد أفسدها على سيدتها‪ ،‬فتلزمه قيمتُها لها‪ ،‬ويملِكُها لن القيمة قد استحقت عليه‪ ،‬وبمطاوعتِها‬
‫وإرادتِها خرجت عن شُبهة المثلة‪ .‬قالوا‪ :‬ول ُبعْد فى تنزيل التلف المعنوى منزلة التلفِ‬
‫ن المالك وبين النتفاع بمُلكه‪ ،‬ول ريبَ أن جاري َة الزوجة إذا صارت‬
‫الحِسى‪ ،‬إذ كلهما يحولُ بي َ‬
‫موطوءة لزوجها‪ ،‬فإنها ل تبقى لسيدتها كما كانت قبلَ الوطء‪ ،‬فهذا الحك ُم مِن أحسن الحكام‪ ،‬وهو‬
‫موافق للقياس الصولى‪.‬‬
‫ل الحديث‪ ،‬ول تضُ ّر كثرةُ المخالفين له‪ ،‬ولو كانوا‬
‫وبالجملة‪ :‬فالقول به مبنى على قبو ِ‬
‫أضعافَ أضعافهم‪.‬‬
‫فصل‬
‫ولم يثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قضى فى اللواط بشىء‪ ،‬لن هذا لم تكن تعرِفُه‬
‫ل والمَ ْفعُولَ بِهِ))‪.‬‬
‫ت عنه أنه قال‪(( :‬ا ْق ُتلُوا الفَاعِ َ‬
‫العربُ‪ ،‬ولم يُرفع إليه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن ثب َ‬
‫رواه أهل السنن الربعة‪ ،‬وإسناده صحيح‪ ،‬وقال الترمذى‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫وحكم به أبو بكر الصّديق‪ ،‬وكتب به إلى خالد بعد مشاور ِة الصحابة‪ ،‬وكان علىّ أشدّهم فى‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ن القصار‪ :‬وشيخنا‪ :‬أجمعتِ الصحاب ُة على قتله‪ ،‬وإنما اختلفُوا فى كيفية قتله‪ ،‬فقال‬
‫وقال اب ُ‬
‫ى رضى ال عنه‪ :‬يُهدم عليه حائط‪ .‬وقال ابنُ عباس‪:‬‬
‫أبو بكر الصديق‪ :‬يُرمى من شاهق‪ ،‬وقال عل ّ‬
‫ق منهم على قتله‪ ،‬وإن اختلفوا فى كيفيته‪ ،‬وهذا وافق لحُكمه صلى ال‬
‫يُقتلن بالحجارة‪ .‬فهذا اتفا ٌ‬
‫عليه وسلم فيمن وطىء ذات محرم‪ ،‬لن الوطء فى الموضعين ل يُباح للواطىء بحال‪ ،‬ولهذا جمع‬
‫بينهما فى حديث ابن عباس رضى ال عنهما‪ ،‬فإنه روى عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬مَنْ‬

‫‪19‬‬
‫حرَمٍ‪ ،‬فا ْق ُتلُوه))‪،‬‬
‫ت مَ ْ‬
‫عمَلَ قوم لُوطِ فَا ْق ُتلُوهُ))‪ ،‬وروى أيضًا عنه‪(( :‬مَنْ وَقَعَ عَلى ذَا ِ‬
‫وَجَ ْدتّموه َي ْعمَلُ َ‬
‫وفى حديثه أيضاً بالسناد‪(( :‬مَنْ أَتى َبهِيمَةً فَا ْق ُتلُوهُ وا ْق ُتلُوها َمعَهُ))‪.‬‬
‫وهذا الحكم على وفق حكم الشارع‪ ،‬فإن المحرماتِ كلّما تغلّظت‪ ،‬تغلّظت عقوباتُها‪ ،‬ووطءُ‬
‫من ل يُباح بحال أعظمُ جرمًا مِن وطء من يُباح فى بعض الحوال‪ ،‬فيكون حدّه أغلظَ ‪ ،‬وقد نصّ‬
‫أحمدُ فى إحدى الروايتين عنه‪ ،‬أن حُكم من أتى بهيمةً حكْ ُم اللواط سواء‪ ،‬فيُقتل بكل حال‪ ،‬أو يكون‬
‫حدّه ح ّد الزانى‪.‬‬
‫واختلف السلفُ فى ذلك‪ ،‬فقال الحسن‪ :‬حدّه ح ّد الزانى‪ .‬وقال أبو سلمة عنه‪ :‬يقتل بكل حال‪،‬‬
‫وقال الشعبى والنخعى‪ :‬يُعزّر‪ ،‬وبه أخذ الشافعى ومالك وأبو حنيفة وأحمد فى رواية‪ ،‬فإن ابن‬
‫عباس رضى ال عنه أفتى بذلك‪ ،‬وهو راوى الحديث‪.‬‬
‫فصل‬
‫وحكم صلى ال عليه وسلم على من أقرّ بالزّنى بامرأة معينة بح ّد الزنى دون القذف‪ ،‬ففى‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪(( ،‬فأقرّ عنده أنه زنى‬
‫ل أتى النب ّ‬
‫ل بنِ سعد‪ ،‬أن رج ً‬
‫((السنن))‪ :‬من حديث سه ِ‬
‫ت أَنْ تكونَ‬
‫بامرأةٍ سمّاها‪ ،‬فبعثَ رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك‪ ،‬فأنك َر ْ‬
‫زنت‪ ،‬فجلده الح ّد وتركها))‪.‬‬
‫فتضمنت هذه الحكومةُ أمرين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬وجوبُ الح ّد على الرجل‪ ،‬وإن كذّبته المرأة خلفاً لبى حنيفة وأبى يوسف أنه ل‬
‫يُحّد‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أنه ل يجب عليه ح ّد القذف للمرأة‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ل أتى‬
‫وأما ما رواه أبو داود فى ((سننه))‪ :‬من حديث ابن عباس رضى ال عنه‪ ،‬أن رج ً‬ ‫@‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم‪((،‬فأقر أن زنى بامرأ ٍة أربعَ مرات‪ ،‬فجلده مائةَ جلدة وكان بكرا‪ ،‬ثم سأله‬
‫البينةَ على المرأة فقالت‪ :‬كذب وال يا رسول ال‪ ،‬فجلد حد الفرية ثمانين)) ؛ فقال النسائىّ‪ :‬هذا‬
‫حديث منكر‪ .‬انتهى‪ .‬وفى إسناده القاسم بن فياض النبارى الصنعانى‪ ،‬تكلم فيه غير واحد‪ ،‬وقال‬
‫ج به‪.‬‬
‫ابن حبان‪ :‬بطل الحتجا ُ‬
‫فصل‬

‫‪20‬‬
‫حصِنّ فَإنْ‬
‫حكَم فى المة إذا زنت ولم تُحصنْ بالجلد‪ .‬وأما قوله تعالى فى الماء‪{:‬فَإذَا أُ ْ‬
‫وَ‬
‫ت مِنَ العَذَابِ} [النساء‪ ،]25 :‬فهو نص فى أن حدّها‬
‫صنَا ِ‬
‫ح َ‬
‫ف مَا عَلى المُ ْ‬
‫ص ُ‬
‫أ َتيْنَ بِفَاحِشَةٍ َف َعلْيهِنّ ِن ْ‬
‫بعد التزويج نصفُ ح ّد الحرة من الجد‪ ،‬وأما قبل التزويج‪ ،‬فأمرَ بجلدها‪.‬‬
‫وفى هذا الحد قولن‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه الحد‪ ،‬ولكن يختِلفُ الحال قبل التزويج وبعده‪ ،‬فإن للسيد إقامتَه قبله‪ ،‬وأما بعده‪،‬‬
‫فل يُقيمه إل المام‪.‬‬
‫والقول الثانى‪ :‬أن جلدهما قبل الحصان تعزير ل حد‪ ،‬ول يُبطل هذا ما رواه مسلم فى‬
‫جلِدْهَا وَلَ‬
‫((صحيحه))‪ :‬من حديث أبى هريرة رضى ال عنه يرفعُه‪(( :‬إذَا َز َنتْ َأمَ ُة أَحَ ِدكُمْ‪َ ،‬ف ْليَ ْ‬
‫ض ِربْها‬
‫جلِدْهَا َو ْل َي ِبعْها َوَلوْ ِبضَفِير))‪ ،‬وفى لفظ (( َف ْليَ ْ‬
‫ت فى الرّابِعَةِ َف ْليَ ْ‬
‫لثَ َمرّاتٍ‪ ،‬فإِنْ عَا َد ْ‬
‫ُي َع ّيرْها ثَ َ‬
‫كتاب ال))‪.‬‬
‫وفى ((صحيحه)) أيضاً‪ :‬من حديث على رضى ال عنه أنه قال‪َ :‬أيّها الناسُ أقيمُوا على‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم َز َنتْ‪،‬‬
‫ن مِنهن‪ ،‬ومن لم يُحصنْ‪ ،‬فإن أم ًة ِلرَسُو ِ‬
‫ن أحص َ‬
‫أرقائكم الحدّ‪ ،‬مَ ْ‬
‫فأمرنى أن أجلِدَهَا‪ ،‬فإذا هى حديثةُ عهدٍ ِبنِفاس‪ ،‬فخشيتُ إن أنا جلدتُها أن أق ُتلَها‪ ،‬فذكرت ذلك للنبى‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪(( :‬أحسنتَ))‪.‬‬
‫فإن التعزير يدخلُ لفظُ الحد فى لسان الشارع‪ ،‬كما فى قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل‬
‫يُضرَبُ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إل فى ح ّد مِن حدُود ال تعالى))‪.‬‬
‫وقد ثبت التعزيرُ بالزيادة على العشرة جنساً وقدراً فى مواضِع عديدة لم َي ْث ُبتْ نسخُها‪ ،‬ولم‬
‫جمِع الم ُة على خِلفها‪.‬‬
‫تُ ْ‬
‫وعلى كل حال‪ ،‬فل بد أن يُخاِلفَ حالُها بعد الحصان حالها قبله‪ ،‬وإل لم يكن للتقييد فائدة‪،‬‬
‫فإما أن يُقال قبل الحصان‪ :‬ل حدّ عليها‪ ،‬والسنة الصحيح ُة تبطِلُ ذلك‪ ،‬وإما أن يقال‪ :‬حدّها قبل‬
‫الحصان ح ّد الحرة‪ ،‬وبعده نصفه‪ ،‬وهذا باطل قطعًا مخالف لقواعد الشرع وأصوله‪ ،‬وإما أن يُقال‪:‬‬
‫جلدُها قبل الحصان تعزير‪ ،‬وبعده حد‪ ،‬وهذا أقوى‪ ،‬وإما أن يُقال‪ :‬الفتراقُ بين الحالتين فى إقامة‬
‫الحدّ ل فى قدرِه‪ ،‬وأنه فى إحدى الحالتين للسيد‪ ،‬وفى الخرى للمام‪ ،‬وهذا أقربُ ما يُقال‪.‬‬
‫وقد يقال‪ :‬إن تنصيصه على التنصيفِ بعد الحصان لئل يتوهّم متوهم أن بالحصان يزولُ‬
‫التنصيفٌ‪ ،‬ويصيرُ حدها حدّ الحرة‪ ،‬كما أن الح َد زال عن البِكر بالحصان‪ ،‬وانتقل إلى الرجم‪،‬‬

‫‪21‬‬
‫فبقى على التنصيف فى أكمل حالتيها‪ ،‬وهى الحصان تنبيهًا على أنه إذا اكتُ ِفىَ به فيها‪ ،‬ففيما قبل‬
‫الحصان أولى وأحرى‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فى ((مريض زنى ولم يَح َتمِلْ إقامةَ الحد‪،‬‬
‫وقضى رسو ُ‬
‫ب بها ضربةً واحدة))‪.‬‬
‫ش ْمرَاخٍ‪ ،‬فيُضر َ‬
‫بأن يُؤخذ له [عِ ْثكَالٌ] فيه مائة ِ‬
‫فصل‬
‫وحكم رسولُ ال صلى ال عليه وسلم بح ّد القذفِ‪ ،‬لما أنزل الُّ سبحانه براءةَ زوجت ِه مِن‬
‫ن ُأثَانَة‪ .‬قال أبو جعفر النّفيلى‪:‬‬
‫حبُ‬
‫ن بن ثابت‪ ،‬ومِسطَ ُ‬
‫السماء‪ ،‬فجلد رجلين وامرأةً‪ .‬وهما‪ :‬حسا ُ‬
‫ويقولون‪ :‬المرأة حَمنة بنتُ جحش‪.‬‬
‫ل من امرأة‪ ،‬وقتل الصديقُ امرأةً ارتدت‬
‫وحكم فيمن بدل دينه بالقتل‪ ،‬ولم يخص رج ً‬
‫بعد إسلمها يقال لها‪ :‬أم قِرفة‪.‬‬
‫وحكم فى شارب الخمر بضربه بالجري ِد والنّعال‪ ،‬وضربه أربعينَ‪ ،‬وتبعه أبو‬
‫بكر رضى ال عنه على الربعين‪.‬‬
‫وفى ((مصنف عبد الرزاق))‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم ((جلد فى الخمر ثمانين))‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم شيئاً))‪.‬‬
‫وقال ابنُ عباس رضى ال عنه‪(( :‬لم يُو ّقتْ فيها رسو ُ‬
‫وقال على رضى ال عنه‪(( :‬جلد رسول ال صلى ال عليه وسلم فى الخمر أربعين‪ ،‬وأبو‬
‫بكر أربعينَ‪ ،‬وكمّلها عمرُ ثمانيَ‪ ،‬وكُلّ سنة))‪.‬‬
‫وصح عنه صلى ال عليه وسلم أنه أمر بقتله فى الرابعة أو الخامسة‪ .‬واختلف الناسُ‬
‫فى ذلك‪ ،‬فقيل‪ :‬هو منسوخ‪ ،‬وناسخه ((ل َيحِلّ دمُ امرىء مسلمٍ إل بإحدى ثلث))‪ .‬وقل‪ :‬هو محكم‪،‬‬
‫ض بين الخاص والعام‪ ،‬ول سيما إذا لم يُعلم تأخّر العام‪ .‬وقيل‪ :‬ناسخُه حديث عبد ال‬
‫ول تعار َ‬
‫ى به مراراً إلى رسولِ ال صلى ال عليه وسلم فجلده ولم يقتُله‪.‬‬
‫حِمارٍ‪ ،‬فإنه ُأ ِت َ‬
‫وقيل‪ :‬قتله تعزيزٌ بحسب المصلحة‪ ،‬فإذا كثر منه ولم ينهه الحدّ‪ ،‬واستهان به‪ ،‬فللمام قتلُه‬
‫تعزيزاً ل حداً‪ ،‬وقد صحّ عن عبد ال بن عمر رضى ال‪ .‬عنهما أنه قال‪ :‬أئتونى به فى الرابعة‬
‫فعلىّ أن أق ُتلَه لكم‪ ،‬وهو أح ُد رواة المر بالقتل عن النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهم‪ :‬معاويةُ‪ ،‬وأبو‬
‫هريرة‪ ،‬وعبدُ ال ابن عمر‪ ،‬وعبدُ ال بن عمرو‪ ،‬وقَبيصة بن ذؤيب رضى ال عنهم‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫وحديث قبيصة‪ :‬فيه دللة على أن القتلَ ليس بحد‪ ،‬أو أنه منسوخ‪ ،‬فإنه قال فيه‪ :‬فأُتيِ رسولُ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم برجل قد شرب‪ ،‬فجلده‪ ،‬ثم أتى به‪ ،‬فجلده‪ ،‬ثم أتى به فجلده‪ ،‬ورفع القتل‪،‬‬
‫وكانت رخصة‪ .‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تصنعون بالحديث المتفق عليه‪ ،‬عن على رضى ال أنه قال‪ :‬ما كنت لدرى من أقمتُ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم لم يَسُنّ فيه شيئاً‪ ،‬إنما هو شىءُ‬
‫عليه الحدّ إل شاربَ الخمر‪ ،‬فإنّ رسو َ‬
‫سنّه‪.‬‬
‫قلناه نحن‪ .‬لفظ أبى داود‪ .‬ولفظهما‪ :‬فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم مات ولم يَ ُ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم لم يُقَ ّد ْر فيه بقوله تقديراً ل يُزاد عليه‬
‫قيل‪ :‬المرا ُد بذلك أن رسو َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم قد‬
‫شهِ َد أن رسو َ‬
‫ول يُنقص كسائر الحدود‪ ،‬وإل فعلى رضى ال عنه قد َ‬
‫ضرب فيها أربعين‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬إنما هو شىء قلناه نحن‪ ،‬يعنى التقديرَ بثمانين‪ ،‬فإن عم َر رضى ال عنه جمع‬
‫الصحابة رضي ال عنهم واستشارهم‪ ،‬فأشاروا بثمانين‪ ،‬فأمضاها‪ ،‬ثم جلد على فى خلفته أربعين‪،‬‬
‫ب إلىّ‪.‬‬
‫وقال‪ :‬هذا أح ّ‬
‫ومن تأمّل الحاديثَ‪ ،‬رآها تدل على أن الربعينَ حد‪ ،‬والربعون الزائدة عليها تعزيزٌ اتفق‬
‫ك الناسِ‬
‫عليه الصحاب ُة رضى ال عنهم‪ ،‬والقتلُ إما منسوخ‪ ،‬وإما أنه إلى رأى المام بحسب تهال ِ‬
‫فيها واستهانتهم بحدها‪ ،‬فإذا رأى قتلَ واحد لينزجر الباقون‪ ،‬فله ذلك‪ ،‬وقد حلق فيها عمرُ رضى ال‬
‫عنه وغرّب‪ ،‬وهذا من الحكام المتعلقة بالئمة‪ ،‬وبال التوفيق‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى السارق‬
‫قطع سارقاً فى ِمجَنّ قيمته ثلث ُة دراهم‪.‬‬
‫ل من ُربُع دينار‪.‬‬
‫وقضى أنه ل تُقطع فى أق ّ‬
‫ن ذلِك)) ذكره‬
‫طعُوا فِيمَا ُهوَ أَ ْدنَى مِ ْ‬
‫طعُوا فى ُربْعِ دينَارٍ‪ ،‬ول تَقْ َ‬
‫وصح عنه أنه قال‪(( :‬اقْ َ‬
‫المام أحمد رحمه ال‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫لّ عنها‪ :‬لم تكن تقطع يدُ السارق فى عهد رسو ِ‬
‫وقالت عائشة رضىَ ا ُ‬
‫جحَفَةٍ‪ ،‬وكان كلٌ منهما ذا ثمن‪.‬‬
‫وسلم فى أدنى من ثمن المِجَنّ‪ُ ،‬ت ْرسٍ أو َ‬
‫سرِقُ ال َب ْيضَةَ َفتُقْطَع يَ ُدهُ))‪.‬‬
‫حبْلَ َفتُقْطَ ُع يَ ُد ُه ويَ ْ‬
‫سرِقَ ال َ‬
‫ق يَ ْ‬
‫لّ السّارِ َ‬
‫وصح عنه أنه قال‪َ(( :‬لعَنَ ا ُ‬
‫حبْل و َبيْضَةٍ‪ ،‬وقيل‪ :‬هو إخبار بالواقع‪ ،‬أى‪:‬‬
‫ل السفينة‪ ،‬و َب ْيضَة الحديد‪ ،‬وقيل‪ :‬بل كل َ‬
‫فقيل‪ :‬هذا حب ُ‬

‫‪23‬‬
‫إنه يسرق هذا‪ ،‬فيكون سبباً لقطع يده بتدرّجه منه إلى ما هو أكبرُ منه‪ .‬قال العمش‪ :‬كانوا يرونَ‬
‫حبْلُ كانوا يرون أن منه ما يُساوى دراهم‪.‬‬
‫بأنه َبيْضُ الحديد‪ ،‬وال َ‬
‫وحكم فى امرأة كانت تستعيرُ المتاع وتَجْحَدُه بقطع يدها‪.‬‬
‫وقال أحمد رحمه ال‪ :‬بهذه الحكومة ول معارض لها‪.‬‬
‫خ َتلِس‪ ،‬والخائن‪ .‬والمراد‬
‫وحكم صلى ال عليه وسلم بإسقاط القطع عن الم ْنتَهب‪ ،‬والمُ ْ‬
‫بالخائن‪ :‬خائن الوديعة‪.‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‬
‫وأما جاحدُ العارّية‪ ،‬فيدخلُ فى اسم السارق شرعاً‪ ،‬لن النب ّ‬
‫حمّدٍ‬
‫طمَ َة ِب ْنتَ مُ َ‬
‫لما كلّموه فى شأن المستعيرة الجاحدة‪ ،‬قطعها‪ ،‬وقال‪(( :‬والّذِى نَفْسِى بيَ ِد ِه َل ْو أَنّ فَا ِ‬
‫ط ْعتُ يَدَهَا))‪.‬‬
‫ت لَقَ َ‬
‫سرَ َق ْ‬
‫َ‬
‫فإدخاله صلى ال عليه وسلم جاحِد العارّية فى اسم السارق‪ ،‬كإدخاله سائر أنواع المسكر فى‬
‫اسم الخمر‪ ،‬فتأمله‪ ،‬وذلك تعريف للمة بمراد ال من كلمه‪.‬‬
‫وأسقط صلى ال عليه وسلم القطعَ عن سارق ال ّث َم ِر وال َكثَرِ‪ ،‬وحكم أن من أصاب منه شيئاً‬
‫بفمه وهو محتاج‪ ،‬فل شىء عليه‪ ،‬ومن خرج منه بشىء‪ ،‬فعليه غرامة مثليه والعقوبَة‪ ،‬ومن سَرق‬
‫ن فهذا قضاؤه الفصلُ‪ ،‬وحُكمُه العدل‪.‬‬
‫منه شيئاً فى جَرينه وهو بيدره‪ ،‬فعليه القطع إذا بلغ َثمَنَ المج ّ‬
‫وقضى فى الشاة التى تُؤخذ مِن مراتِعها بثمنها مرتين‪ ،‬وضرب نكال‪ ،‬وما أُخِ َذ من عَطَنه‪،‬‬
‫ففيه القطعُ إذا بلغ ثمن المجن‪.‬‬
‫وقضى بقطع سارق رِداء صفوان بن أمية‪ ،‬وهو نائم عليه فى المسجد‪ ،‬فأراد‬
‫ل أَنْ تَ ْأتِينى به))‪.‬‬
‫ل كَانَ َقبْ َ‬
‫ن أن يَهبَه إياه‪ ،‬أو ربيعَه منه‪ ،‬فقال‪(( :‬هَ ّ‬
‫صفوا ُ‬
‫وقطع سارقاً سرق تُرسًا من صُفة النساء فى المسجد‪.‬‬
‫ق َب ْعضُه‬
‫سرَ َ‬
‫ق مِن الخمس‪ .‬وقَالَ‪(( :‬مَالُ الِّ َ‬
‫سرَ َ‬
‫خمُس َ‬
‫و َد َرأَ القطع عن عبد مِن رقيق ال ُ‬
‫َبعْضاً)) رواه ابن ماجه‪.‬‬
‫سرَقَ))؟ قال‪ :‬بلى‬
‫ورُف َع إليه سارق‪ ،‬فاعترف‪ ،‬ولم يُوجد معه متاع‪ ،‬فقال له‪(( :‬مَا إخَالُه َ‬
‫فأعا َد عليه مرتين أو ثلثاً‪ ،‬فأمر به فُقطِع‪.‬‬
‫طعُوهُ‪ ،‬ثُمّ‬
‫سرَقَ))؟ فقال‪ :‬بلى‪ ،‬فقال‪(( :‬اذْ َهبُوا بِهِ فَاقْ َ‬
‫ورفع إليه آخر فقال‪(( :‬مَا إخَالُهُ َ‬
‫ب إلى ال))‪،‬‬
‫سمُوهُ‪ ،‬ثُ ّم أئتُونى بِهِ))‪ ،‬فقطع‪ ،‬ثم أتى به النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال له‪ُ (( :‬ت ْ‬
‫احْ ِ‬
‫عَل ْيكَ))‪.‬‬
‫فقال‪ :‬تبتُ إلى ال‪ ،‬فقال‪(( :‬تابَ الُّ َ‬

‫‪24‬‬
‫عنُقه‪ .‬قال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫وفى الترمذى عنه أن قطع سارقًا وعلق يده فى ُ‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم على من اتّهم رجلً بسرقة‬
‫سرِقَ لهم متاع‪ ،‬فاتّهموه ناسًا مِن الحَاكَة‪،‬‬
‫روى أبو داود‪ :‬عن أزهر بن عبد ال ((أن قوماً ُ‬
‫فأتوا النعمانَ بْن بشيرٍ صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فحبسهم أياماً ثم خلّى سبيلهم‪ ،‬فَأ ُتوْه‬
‫فقالُوا‪ :‬خّل ْيتَ سبيلَهم بغير ضرب ول امتحان‪ ،‬فقال‪ :‬ما شئتُم‪ ،‬إن شئتُم أن أضربَهم‪ ،‬فإن خرجَ‬
‫ح ْك ُمكَ؟ فقال‪:‬‬
‫ت مِن ظهورهم‪ .‬فقالوا‪ :‬هذا ُ‬
‫ل الذى أخذ ُ‬
‫ت مِن ظُهو ِركُم مث َ‬
‫متاعُكم فذاكَ‪ ،‬وإل أخذ ُ‬
‫حكْ ُم رَسُولِه))‪.‬‬
‫حكْمُ الِّ و ُ‬
‫ُ‬
‫فصل‬
‫وقد تضمنت هذه القضيةُ أموراً ‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه ل يقطع فى أقل من ثلث ِة دراهم‪ ،‬أو رُبع دينار‪.‬‬
‫ب الكَبائِر بأنواعهم دونَ أعيانهم‪ ،‬كما َلعَنَ السارِقَ‪،‬‬
‫الثانى‪ :‬جوا ُز لعنِ أصحا ِ‬
‫ولعن آكِل الرّبا وموكلَه‪ ،‬ولعن شاربَ الخمر وعاصِرها‪ ،‬ولعن من عمل عمل قو ِم لوط‪ ،‬ونهى عن‬
‫ض بين المرين‪ ،‬فإن الوصف الذى علق اللعن‬
‫لعن عبد ال حِمار وقد شرب الخمر‪ ،‬ول تعار ُ‬
‫مقتض‪ .‬وأما المعين‪ ،‬فقد يقوم به ما يمنعُ لحوقَ اللعن به مِن حسنات ماحية‪ ،‬أو توبة‪ ،‬أو مصائب‬
‫مكفرة‪ ،‬أو عف ٍو من ال عنه‪ ،‬فتُلعن النواعُ دون العيان‪.‬‬
‫ل والبيضة ل تدعُه حتى تقط َع يده‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الشارة إلى سد الذرائع‪ ،‬فإنه أخبر أن سرقة الحب ِ‬
‫الرابع‪ :‬قطعُ جاحد العارية‪ ،‬وهو سارق شرعاً كما تقدم‪.‬‬
‫ف عليه الغرمُ‪ ،‬وقد نص عليه المام‬
‫ع َ‬
‫الخامس‪ :‬أن من سرق مالً قطع فيه‪ ،‬ضُو ِ‬
‫عفَ عليه الغرم‪ ،‬وقد تقدّم الحك ُم النبوىّ به فى‬
‫أحمد رحمه ال‪ ،‬فقال‪ :‬كل مَنْ سقط عنه القطعُ‪ ،‬ضُو ِ‬
‫صورتين‪ :‬سرق ِة الثمار المعلقة‪ ،‬والشا ِة من المرتع‪.‬‬
‫ع التعزيز مع الغُرم‪ ،‬وفى ذلك الجم ُع بين العقوبتين‪ :‬مالية وبدنية‪.‬‬
‫السادس‪ :‬اجتما ُ‬
‫السابع‪ :‬اعتبارُ الحِرز‪ ،‬فإنه صلى ال عليه وسلم أسقط القطعَ عن سارق الثمار من‬
‫الشجرة‪ ،‬وأوجبه على سارقة من الجرين‪ ،‬وعند أبى حنيفة أن هذا لنقصان ماليته‪ ،‬لسراع الفسادِ‬
‫ل الجمهور أصحّ‪ ،‬فإنه‬
‫إليه‪ ،‬وجعل هذا أصلً فى كل ما نقصت ماليتُه بإسراع الفساد إليه‪ ،‬وقو ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم جعل له ثلثة أحوال‪ :‬حالةً ل شىء فيها‪ ،‬وهو ما إذا أكل منه بفيه‪ ،‬وحال ًة ُي َعزّم‬

‫‪25‬‬
‫مثليه‪ ،‬ويُضرب مِن غير قطع‪ ،‬وهو ما إذا أخذه من شجره وأخرجه‪ ،‬وحال ًة يُقطع فيها‪ ،‬وهو ما إذا‬
‫سرقه مِن بيدره سواء كان قد انتهى جفافُه أو لم ينته‪ ،‬فالعبرةُ للمكان والحرز ل لُيبسه ورطوبته‪،‬‬
‫ويدل عليه أن صلى ال عليه وسلم أسقط القطعَ عن سارق الشاةِ من مرعاها‪ ،‬وأوجبه على سارقها‬
‫مِن عطنها فإنه حرزُها‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬إثبات العقوبات المالية‪ ،‬وفيه عدة سنن ثابتة ل مُعارِضَ لها‪ ،‬وقد‬
‫عمل بها الخلفا ُء الراشدون وغيرُهم مِن الصحابة رضى ال عنهم‪ ،‬وأكث ُر من عمل بها عمر رضى‬
‫ال عنه‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬أن النسان حِرز لثيابه ولفراشه الذى هو نائم عليه أين كان‪ ،‬سواء كان فى المسجد‬
‫أو فى غيره‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬أن المسجد حِرز لما يعتاد وضعُه فيه‪ ،‬فإن النبى صلى ال عليه وسلم قطع مَن‬
‫سرق منه ترساً‪ ،‬وعلى هذا فيُقطع من سرق مِن حصيره وقناديله وبسطه‪ ،‬وهو أح ُد القولين فى‬
‫مذهب أحمد وغيره‪ .‬ومن لم يقطعه‪ ،‬قال‪ :‬له فيها حق‪ ،‬فإن لم يكن فيها حق‪ ،‬قطع كالذمى‪.‬‬
‫الحادى عشر‪ :‬أن المطالبةُ فى المسروقِ شرط فى القطعِ‪ ،‬فلو وهبه إياه‪ ،‬أو باعه قبل‬
‫رفعه إلى المام‪ ،‬سقط عنه القطع‪ ،‬كما صرح به النبى صلى ال عليه وسلم وقال‪(( :‬هَلّ كَانَ َقبْلَ‬
‫أَنْ َت ْأتِينى بِهِ))‪.‬‬
‫الثانى عشر‪ :‬أن ذلك ل يُسقط القطعَ بعد رفعه إلى المام‪ ،‬وكذلك كُلّ حد بلغ‬
‫المام‪ ،‬وثبت عنده ل يجوز إسقاطُه‪ ،‬وفى ((السنن))‪ :‬عنه‪(( :‬إذا َبَل َغتِ الحُدُودُ المَامَ‪َ ،‬فَلعَنَ الُّ‬
‫الشافِ َع والمُشَفّعَ))‪.‬‬
‫ق لم يُقطع‪.‬‬
‫الثالث عشر‪ :‬أن من سرق من شيء له فيه ح ّ‬
‫الرابع عشر‪ :‬أنه ل يقطع إل بالقرار مرتين‪ ،‬أو بشهادةِ شاهدين‪ ،‬لن السارق أقرّ‬
‫عنده مرة‪ ،‬فقال‪(( :‬ما إخالك سرقت))؟ فقال‪ :‬بي‪ ،‬فقطعه حينئذ‪ ،‬ولم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين‪.‬‬
‫الخامس عشر‪ :‬التعريضُ للسارق بعدم القرار‪ ،‬وبالرجوع عنه‪ ،‬وليس هذا‬
‫حُكمَ كل سارق‪ ،‬بل من السّراق من يُقرّ بالعقوبة والتهديد‪ ،‬كما سيأتى إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫السادس عشر‪ :‬أنه يجب على المام حسمُه بعد القطع لئل يتَلفَ‪ .‬وفى‬
‫قوله‪(( :‬احسموه))‪ ،‬دليل على أن مؤنة الحسم ليست على السارق‪.‬‬
‫السابعُ عشر‪ :‬تعليق يد السارق فى عنقه تنكيلً له وبه ليراه غيره‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ب النبى صلى ال عليه‬
‫ب المتهم إذا ظهر منه أمارات الرّيبة‪ ،‬وقد عا َق َ‬
‫الثامن عشر‪ :‬ضر ُ‬
‫وسلم فى تُهمة‪ ،‬وحبس فى تُهمة‪.‬‬
‫ب تخلية المتّهم إذا لم يظهر عنده شىء مما اتّهم به‪ ،‬وأن المتّهِ َم إذا‬
‫التاسع عشر‪ :‬وجو ُ‬
‫ض ِربَ هو مثل ضرب من اتهمه إن أجيب إلى‬
‫رضي بضرب المتُهم‪ ،‬فإن خرج ماله عنده‪ ،‬وإل ُ‬
‫ل عنه‪ ،‬وأخبر أنه قضاء‬
‫ذلك‪ ،‬وهذا ُكلُه مع أمارات الرّيبة‪ ،‬كما قضى به النعمان بن بشير رضى ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫رسول ا ّ‬
‫العشرون‪ :‬ثبوت القصاص فى الضربة بالسوط والعصا ونحوهما‪.‬‬
‫فصل‬
‫طعُوهُ))‪ ،‬ثم جىء‬
‫وقد روى عنه أبو داود‪ :‬أنه أمر بقتل سارقٍ فقالُوا‪ :‬إنما سرق‪ ،‬فقال‪(( :‬اقْ َ‬
‫طعُوهُ))‪ ،‬ثم جىء به فى الثالثة‪ ،‬فأمر بقتله‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫به ثانياً‪ ،‬فأمر بقتله‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنما سرق‪ ،‬فقال ((اقْ َ‬
‫طعُوهُ)) ثم جىء به رابعة‪ ،‬فقال‪(( :‬ا ْق ُتلُوهُ))‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنما سرق‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إنما سرق‪ ،‬فقال‪(( :‬اقْ َ‬
‫طعُوهُ))‪ ،‬فأتى به فى الخامسة‪ ،‬فأمر بقتله‪ ،‬فقتلُوه‪.‬‬
‫((اقْ َ‬
‫ى وغيرُه ل يصححون هذا الحديث‪ .‬قال النسائى‪:‬‬
‫فاختلف الناسُ فى هذه الحكومة‪ :‬فالنسائ ّ‬
‫ث منكَر‪ ،‬ومُصعب بنُ ثابت ليس بالقوى‪ ،‬وغيرُه يُحسنه ويقول‪ :‬هذا حكم خاص بذلك‬
‫هذا حدي ٌ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم مِن المصلحة فى قتله‪ ،‬وطائفة ثالثة تقبلُهُ‪،‬‬
‫الرجل وحدَه‪ ،‬لما علم رسولُ ا ّ‬
‫س مرات قتل فى الخامسة‪ ،‬وممن ذهب إلى هذا المذهب أبو‬
‫وتقول به‪ ،‬وأن السارق إذا سرق خم َ‬
‫مصعب من المالكية‪.‬‬
‫ن على أطراف السارق الربعة‪ .‬وقد روى عبد الرزاق فى‬
‫وفى هذه الحكومة التيا ُ‬
‫((مصنفه))‪ :‬أن النبى صلى ال عليه وسلم ((أتى بعبد سرق‪ ،‬فُأ ِتىَ به أرب َع مرات‪ ،‬فتركه‪ ،‬ثم أتَى‬
‫به الخامسة‪ ،‬فقطع يده‪ ،‬ثم السادسة فقطع رجله‪ ،‬ثم السابعة فقطع يده‪ ،‬ثم الثامنة فقطع رجله))‪.‬‬
‫واختلف الصحابة ومَنْ بعدهم‪ ،‬هل يُوتى على أطرافِه ُكلّها‪ ،‬أم ل؟ على قولين‪ .‬فقال الشافعىّ‬
‫ومالكٌ وأحمدُ فى إحدى روايتيه‪ :‬يُؤتى عليها ُكلّها‪ ،‬وقال أبو حنيفة وأحمد فى رواية ثانية‪ :‬ل يُقطع‬
‫ل منفعة الجنس‪ ،‬أو ذهابُ عضوين‬
‫منه أكثرُ من يد ورجل‪ ،‬وعلى هذا القول‪ ،‬فهل المحذو ُر تعطي ُ‬
‫من شق؟ فيه وجهان ظهر أثرُهما فيما لو كان أقط َع اليد اليُمني فقط‪ ،‬أو أقطعَ الرجل اليسرى فقط‪،‬‬
‫ط َعتْ رجلُه اليسرى فى‬
‫فإن قلنا‪ :‬يُؤتى على أطرافه‪ ،‬لم يؤثر ذلك‪ ،‬وإن قلنا‪ :‬ل يُؤتى عليها‪ ،‬قُ ِ‬
‫الصورة الولى‪ ،‬ويدُه اليمنى فى الثانية على العِلتين‪ ،‬وإن كان أقط َع اليد اليُسرى مع الرجل اليُمنى‬

‫‪27‬‬
‫لم يُقطع على العِلتين‪ ،‬وإن كان أقط َع اليد اليُسرى فقط‪ ،‬لم تقطع يُمناه على العلتين‪ ،‬وفيه نظر‪،‬‬
‫فتأمل‪.‬‬
‫طعَت رجلُه‪،‬‬
‫وهل قطع رجله اليُسرى يبتنى على العلتين؟ فإن عللنا بذهاب منفعة الجنس‪ ،‬قُ ِ‬
‫وإن عللنا بذهاب عضوين مِن شق‪ ،‬لم تُقطع‪.‬‬
‫طعَت رجلُه اليسرى‪ ،‬وإن عللنا‬
‫وإن كان أقط َع اليدين فقط‪ ،‬وعللنا بذهاب منفعة الجنس قُ ِ‬
‫بذهاب عضوين مِن شق‪ ،‬لم تُقطع‪ ،‬هذا طردُ هذه القاعدة‪ .‬وقال صاحب ((المحرر)) فيه‪ :‬تقطع‬
‫يُمنى يديه على الروايتين‪ ،‬وفرق بينها وبين مسألة مقطعوع اليدين‪ ،‬والذى يقال فى الفرق‪ :‬إنه إذا‬
‫طعَت إحدى يديه‪ ،‬انتفع بالخرى فى الكل والشرب‬
‫كان أقط َع الرجلين‪ ،‬فهو كالمُقعد‪ ،‬وإذا قُ ِ‬
‫والوضوء والستجمار وغيره‪ ،‬وإذا كان أقط َع اليدين لم ينتفع إل برجليه‪ ،‬فإذا ذهبت إحداهما‪ ،‬لم‬
‫يمكنه النتفاعُ بالرجل الواحدة بل يد‪ ،‬ومن الفرق أن الي َد الواحدة تنفع مع عدم منفعة المشىء‪،‬‬
‫والرجل الواحدة ل تنف ُع مع عدم منفعة البطش‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى قضائه صلى ال عليه وسلم فيمن سبّه مِن مسلم أو ِذمّى أو ُمعَاهَدٍ‬
‫ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قضى بإهدار دم أ ّم ولد العمى لما قتلَها مولها على‬
‫السبّ‪.‬‬
‫س يوم الفتح إل نفراً ممن كان يُوذيه‬
‫وقتل جماعة من اليهود على سبّه وأذاه‪ ،‬وأمّن النا َ‬
‫ل ورَسُولهُ))‬
‫ب بْنِ الَشرَف‪ ،‬فَِإنّهُ قَ ْد آذى ا ّ‬
‫ويهجوه‪ ،‬وهم أربعة رجال وامرأتان‪ .‬وقال‪(( :‬مَنْ ِل َك ْع ِ‬
‫وأهدر دمه ودم أبى رافع‪.‬‬
‫وقال أبو بكر الصديق رضى الّ عنه لبى برزة السلمى‪ ،‬وقد أراد قتل من سبّه‪ :‬ليس هذا‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ .‬فهذا قضاؤه صلى ال عليه وسلم وقضاءُ خلفائِه مِن‬
‫لحد بعدَ رسولِ ا ّ‬
‫ل من مخالفة هذا الحكم‪.‬‬
‫بعده‪ ،‬ول مخالف لهم من الصحابة‪ ،‬وقد أعاذهم ا ّ‬
‫ى صلى‬
‫ل عنه أن يهوديةً كانت تشتِمُ النب ّ‬
‫وقد روى أبو داود فى ((سننه))‪ :‬عن على رضى ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم دمَها‪.‬‬
‫ال عليه وسلم وتقع فيه‪ ،‬فخنقها رجل حتى ماتت‪ ،‬فأبطلَ رسولُ ا ّ‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ت امرأةُ النبىّ‬
‫ب السير والمغازى عن ابن عباس رضى الّ عنهما قال‪ :‬هج ِ‬
‫وذكر أصحا ُ‬ ‫@‬
‫ن لى ِبهَا))؟ فقال رجل مِن قومها‪ :‬أنا‪ ،‬فنهضَ فقتلها‪ ،‬فأُخ ِب َر النبى‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪(( :‬مَ ْ‬

‫‪28‬‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪(( :‬ل َي ْنتَطِحُ فيها عَنزانِ))‪ .‬وفى ذلك بضعة عشر حديثاً ما بين صحاح‬
‫وحِسان ومشاهير‪ ،‬وهو إجماع الصحابة‪.‬وقد ذكر حرب فى ((مسائله))‪ :‬عن مجاهد قال‪ :‬أتَي عمرُ‬
‫ل عنه‪ :‬من سبّ‬
‫ب النبى صلى ال عليه وسلم فقتله‪ ،‬ثم قال عمر رضي ا ّ‬
‫رضى الّ عنه برجُلِ س ّ‬
‫ل عنهما‪ :‬أيّما‬
‫ل ورسوله‪ ،‬أو سبّ أحداً من النبياء فاقتلُوه‪ .‬ثم قال مجاهد عن ابن عباس رضى ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم وهى‬
‫ل ورسوله‪ ،‬أو سبّ أحدًا من النبياء‪ ،‬فقد ك ّذبَ برسول ا ّ‬
‫مسلم سبّ ا ّ‬
‫لّ أو سبّ أحداً من النبياء‪ ،‬أو جهر‬
‫رِدة‪ ،‬يُستتاب‪ ،‬فإن رجع‪ ،‬وإل ُقتِل‪ ،‬وأيّما ُمعَاهَدٍ عاند‪ ،‬فسبّ ا َ‬
‫به‪ ،‬فقد نقضَ العهد فاقتلوه‪.‬‬
‫ب النبىّ‬
‫ل عنهما أنه م ّر به راهب‪ ،‬فقيل له‪ :‬هذا يس ّ‬
‫وذكر أحمد‪ ،‬عن ابن عمر رضى ا ّ‬
‫ل عنه‪ :‬لو سمعتُه‪ ،‬لقتلته إنا لم نُعطهم الذمة على أن‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال ابنُ عمر رضى ا ّ‬
‫يسبوا نبيّنا‪ .‬والثا ُر عن الصحابة بذلك كثيرة‪ ،‬وحكى غيرُ واحد من الئمة الجماع على قتله‪ .‬قال‬
‫شيخُنا‪ :‬وهو محمول على إجماع الصدر الول من الصحابة والتابعين‪ .‬والمقصود‪ :‬إنما هو ذكر‬
‫حكم النبى صلى ال عليه وسلم وقضائه فيمن سبه‪.‬‬
‫ك لَمْ‬
‫وأما تركه صلى ال عليه وسلم قتل مَن قدح فى عدله بقوله‪(( :‬اعْدِلْ فَإ ّن َ‬
‫سمَةٌ ما ُأرِيدَ بِها‬
‫َتعْدِلْ))‪ ،‬وفى حكمه بقوله‪(( :‬أن كان ابن ع ّمتِك))‪ ،‬وفى قصده بقوله‪(( :‬إن هذهِ قِ ْ‬
‫ك تنهى عن الغى وتستخلى به)) وغير ذلك‪ ،‬فذلك أن‬
‫ل أو فى خلوته بقوله‪(( :‬يَقُولُونَ إ ّن َ‬
‫وَجْهُ ا ّ‬
‫ق له‪ ،‬فله أن يستو ِفيَه‪ ،‬وله أن يترُكه‪ ،‬وليس لمته تركُ استيفاء حقّه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫الح ّ‬
‫وأيضاً فإن هذا كان فى أول المر حيث كان صلى ال عليه وسلم مأموراً بالعف ِو والصفح‪.‬‬
‫س عنه‪ ،‬ولئل‬
‫وأيضاً فإنه كان يعفو عن حقّه لمصلحة التأليف وجم ِع الكلمة‪ ،‬ولئل ُينَ ّفرَ النا َ‬
‫يتحدثوا أنه يقتلُ أصحابه‪ ،‬وكل هذا يختصّ بحياته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيمن سمّه‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪(( :‬أن يهوديةً سمته فى شاة‪ ،‬فأكل منها لُقمة‪ ،‬ثم لفظها‪ ،‬وأكل معه‬
‫بِشر بنُ البراء‪ ،‬فعفا عنها النبىّ صلى ال عليه وسلم ولم يُعاقبها))‪ ،‬هكذا فى ((الصحيحين))‪.‬‬
‫ن البراء‪ ،‬قتلها‬
‫وعند أبى داود‪ :‬أنه أمر بقتلها‪ ،‬فقيل‪ :‬إنه عفا عنها فى حقّه‪ ،‬فلما مات بشر ب ُ‬
‫به‪.‬‬
‫ت به‪ ،‬أُقي َد منه‪.‬‬
‫وفيه دليل على أن من قدّم لغيره طعاماً مسموماً‪ ،‬يعلم به دون آكله‪ ،‬فما َ‬

‫‪29‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الساحر‬
‫س ْيفِ))‪ .‬والصحيح أنه‬
‫ض ْربَةٌ بِال ّ‬
‫ح ِر َ‬
‫فى الترمذى‪ .‬عنه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬حَ ّد السّا ِ‬
‫ب بن عبد الّ‪.‬‬
‫جنْ ُد ِ‬
‫موقوف على ُ‬
‫ل عنه أنه أمر بقتله‪ ،‬وصح عن حفصة رضى الّ عنها‪ ،‬أنها قتلت‬
‫وصح عن عمر رضى ا ّ‬
‫ح َرتْها‪ ،‬فأنكر عليها عثمانُ إذ فعلته دون أمره‪ .‬ورُوى عن عائشة رضى الّ عنها أيضاً‬
‫سَ‬‫مدبّرةً َ‬
‫ن المنذر وغيره‪.‬‬
‫أنها قتلت مدبّرة سحرتها‪ ،‬وروى أنها باعتها‪ ،‬ذكره اب ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم لم يقتُل مَن سحره من اليهود‪ ،‬فأخذ بهذا‬
‫وقد صح أن رسول ا ّ‬
‫الشافعى‪ ،‬وأبو حنيفة رحمهما الّ‪ ،‬وأما مالك‪ ،‬وأحمد رحمهما الّ‪ ،‬فإنهما يقتلنه‪ ،‬ولكن منصوصُ‬
‫أحمد رحمه الّ‪ ،‬أن ساحر أهل الذمة ل يُقتل‪ ،‬واحتج بأن النبىّ صلى ال عليه وسلم لم يقتل لبيد بن‬
‫العصم اليهودى حين سحره‪ ،‬ومن قال بقتل ساحرهم يُجيب عن هذا بأنه لم يُ ِقرّ‪ ،‬ولم يُقم عليه‬
‫بينة‪ ،‬وبأنه خشى صلى ال عليه وسلم أن يثير على الناس شرًا بترك إخراجِ السحر مِن البئر‪،‬‬
‫فكيف لو قتله‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى أول غنيمة كانت فى السلم وأوّل قتيل‬
‫ش ومن معه سري ًة إلى نخل َة َت ْرصُد‬
‫ح ٍ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عبدَ الّ بن جَ ْ‬
‫لما بعث رسولُ ا ّ‬
‫عِيراً لقريش‪ ،‬وأعطاه كِتاباً مختوماً‪ ،‬وأمره أن ل يقرأه إل بع َد يومين‪ ،‬فقتلوا عمرو بن الحضرمى‪،‬‬
‫وأسروا عثمان بنَ عبد الّ‪ ،‬والحكمَ بن كيسان‪ ،‬وكان ذلك فى الشهر الحرام‪ ،‬فعنّفهم المشركون‪،‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم الغنيمةَ والسيرين حتى أنزل الّ سبحانه وتعالى‪{:‬يَسَْألُونَكَ‬
‫ووقف رسولُ ا ّ‬
‫خرَاجُ‬
‫حرَامِ وإ ْ‬
‫لّ َوكُ ْف ٌر بِ ِه والمَسْجِدِ ال َ‬
‫سبِيلِ ا ِ‬
‫حرَامِ ِقتَالٍ فيهِ قُلْ ِقتَالٌ فِي ِه َكبِي ٌر وصَدّ عَنْ َ‬
‫ش ْهرِ ال َ‬
‫عَن ال ّ‬
‫عنْدَ الِّ} [البقرة‪ ]217 :‬فأخَذ رسول الّ صلى ال عليه وسلم العِير والسيرين‪،‬‬
‫أَ ْهلِهِ ِمنْ ُه َأ ْك َبرُ ِ‬
‫وبعثت إليه قريشٌ فى فدائهما‪ ،‬فقال‪ :‬ل‪ ،‬حتى يَقْدَمَ صاحبانا ‪ -‬يعنى سعد بن أبى وقاص‪ ،‬وعُتبة بن‬
‫ل صلى‬
‫غزوان ‪ ،-‬فإنا نخشاكم عليهما‪ ،‬فإن تقتلوهما‪ ،‬نقتُلْ صاحِبيكم‪ ،‬فلما قَ ِدمَا‪ ،‬فأداهما رسولُ ا ّ‬
‫ال عليه وسلم بعثمان والحكم‪ ،‬وقسم الغنيمة‪.‬‬
‫ن وهب‪ :‬أن النبى صلى ال عليه وسلم ر ّد الغنمية‪ ،‬وودَى القتيل‪.‬‬
‫وذكر اب ُ‬
‫والمعروفُ فى السير خلف هذا‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫وفى هذه القصة مِن الفقه إجازةُ الشهادة على الوصية المختومة‪ ،‬وهو قولُ مالك‪،‬‬
‫ل عنهما فى ((الصحيحين))‪(( :‬ما حقّ‬
‫وكثير من السلف‪ ،‬ويدل عليه حديث ابن عمر رضى ا ّ‬
‫عنْ َدهُ))‪.‬‬
‫ص ّيتُه م ْكتُوبَة ِ‬
‫سلِم لَهُ شَىء يُوصى به يبيتُ َل ْيَل َتيْنِ إل َو َو ِ‬
‫ا ْمرِىءً مُ ْ‬
‫وفيها‪ :‬أنه ل يُشترط فى كتاب المام والحاكم البينة‪ ،‬ول أن يقرأه المام‬
‫والحاكم على الحامل له‪ ،‬وكُلّ هذا ل أصل له فى كتاب ول سنة‪ ،‬وقد كان رسولُ الّ صلى ال عليه‬
‫وسلم يدفع كُتبه مع رُسله‪ ،‬ويُسيرها إلى من يكتب إليه‪ ،‬ول يقرؤها على حاملها‪ ،‬ول يُقيم عليها‬
‫شاهدين‪ ،‬وهذا معلوم بالضرورة مِن هديه وسنته‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الجاسوس‬
‫ل عنه ضربَ عنقه‪ ،‬فلم‬
‫ثبت أن حاطب بن أبى بَلتعة لما جسّ عليه‪ ،‬سأله عمرُ رضى ا ّ‬
‫ت َلكُمْ))‪ .‬وقد‬
‫ش ْئتُم‪ ،‬فَقَدْ غَ َف ْر ُ‬
‫ع َملُوا مَا ِ‬
‫ل بَ ْدرٍ فَقَالَ‪ :‬ا ْ‬
‫طلَعَ عَلى أَهْ ِ‬
‫لّ ا ّ‬
‫يُمكنه‪ ،‬وقال‪(( :‬مَا يُ ْدرِيكَ َلعَلّ ا َ‬
‫تقدم حكم المسألة مستوفى‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء فى ذلك‪ ،‬فقالَ سحنون‪ :‬إذا كاتب المسل ُم أهلَ الحرب‪ُ ،‬قتِلَ‪ ،‬ولم يُستتب‪،‬‬
‫ومالُه لورثته‪ ،‬وقال غيرُه من أصحاب مالك رحمه الّ‪ :‬يُجلد جلداً وجيعاً‪ ،‬ويُطال حبسه‪ ،‬ويُنفى مِن‬
‫موضع يقرب من الكفار‪ .‬وقال ابن القاسم‪ :‬يُقتل ول يعرف لهذا توبة‪ ،‬وهو كالزنديق‪.‬‬
‫وقال الشافعى‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬وأحمد رحمهم الّ‪ :‬ل يُقتل‪ ،‬والفريقان احتجوا بقصة حاطب‪،‬‬
‫وقد تقدم ذِكرُ وجه احتجاجهم‪ ،‬ووافق ابنُ عقيل من أصحاب أحمد مالكًا وأصحابه‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه فى السرى‬
‫ثبت عنه صلى ال عليه وسلم فى السرى أنه َقتَل َب ْعضَهم‪ ،‬ومَنّ على بعضهم‪ ،‬وفادى‬
‫س َترِقّ‬
‫بعضَهم بمال‪ ،‬وبعضَهم بأسرى مِن المسلمين‪ ،‬واسترقّ بعضَهم‪ ،‬ولكن المعروف‪ ،‬أنه لم يَ ْ‬
‫رجلً بالغاً‪.‬‬
‫فقتل يومَ بدر من السرى عُقبةَ بن أبى معيط‪ ،‬والنضر بن الحارث‪.‬‬
‫وقتل مِن يهود جماع ًة كثيرين من السرى‪ ،‬وفادى أسرى بدر بالمال بأربعةِ آلف إلى‬
‫ع ّزةَ الشاعر يومَ‬
‫أربعمائةٍ‪ ،‬وفادى بعضَهم على تعليم جماعة من المسلمين الكتابة‪ ،‬ومنّ على أبى َ‬

‫‪31‬‬
‫طلَ ْق ُتهُمْ‬
‫حيّاً‪ ،‬ثُ ّم َكّل َمنِى فى هُؤلَء ال ّنتْنى لَ ْ‬
‫طعِمُ بنُ عَ ِدىّ َ‬
‫ن المُ ْ‬
‫بدر‪ ،‬وقال فى أسارى بدر‪َ(( :‬لوْ كَا َ‬
‫لَهُ))‪ .‬وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين‪.‬‬
‫ل من المسلمين بامرأة من السبى‪ ،‬استوهبها مِن سلمة بن الكوع‪.‬‬
‫وفدى رجا ً‬
‫ومنّ على ثُمامة بن أُثال‪ ،‬وأطَلَق يوم فتح مكة جماع ًة مِن قريش‪ ،‬فكان يقال لهم‪ :‬الطّلقاء‪.‬‬
‫ب المصلحة‪ ،‬واسترقّ مِن‬
‫وهذه أول أحكام لم يُنسخ منها شىء‪ ،‬بل يُخير المامُ فيها بحس ِ‬
‫أهل الكِتاب وغيرهم‪ ،‬فسبايا أوطاس‪ ،‬وبنى المصطَلِق لم يكونوا كتابين‪ ،‬وإنما كانوا عبدة أوثان مِن‬
‫العرب‪ ،‬واسترق الصحاب ُة مِنْ سبى بنى حنيفة‪ ،‬ولم يكونوا كتابيين‪ .‬قال ابن عباس رضى الّ‬
‫ن والقتلِ والستعباد‪ ،‬يفعلُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فى السرى بينَ الفداء والم ّ‬
‫عنهما‪ :‬خ ّيرَ رسولُ ا ّ‬
‫ما شاء‪ ،‬وهذا هو الحق الذى ل قول سواه‪.‬‬
‫فصل‬
‫وحكم فى اليهود بعدة قضايا‪ ،‬فعاهدَهم أوّل مقدمه المدينة‪ ،‬ثم حاربه بُنو َق ْينُقَاع‪ ،‬فظَ ِفرَ بهم‪،‬‬
‫ومنّ عليهم‪ ،‬ثم حاربه بنو النضير‪ ،‬فظ ِفرَ بهم‪ ،‬وأجلهم‪ ،‬ثُمّ حارَبه بنو قُريظة‪ ،‬فظ ِفرَ بهم وقتلهم‪ ،‬ثم‬
‫حاربه أهلُ خيبر‪ ،‬فظَ ِف َر بهم وأقرّهم فى أرض خيبرَ ما شاء سِوى مَنْ قتل مِنهم‪.‬‬
‫ولما حكم سع ُد بن معاذ فى بنى قُريظة بأن تُقتَل مقاتلتُهم‪ ،‬وتُسبى ذراريهم وتُغنم أموالُهم‪،‬‬
‫سمَاوات‪.‬‬
‫سبْعِ َ‬
‫ل مِن فوق َ‬
‫لّ عزّ وج ّ‬
‫حكْمُ ا ِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ :‬أن هذا ُ‬
‫أخبره رسولُ ا ّ‬
‫وتضمّن هذا الحكم‪ :‬أن ناقضى العه ِد يسرى نقضُهم إلى نسائهم و ُذ ّر ّيتِهم إذا كان نقضُهم‬
‫لّ عزّ وجل‪.‬‬
‫بالحرب‪ ،‬ويعودون أهلَ حرب‪ ،‬وهذا عينُ حكمِ ا ِ‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى فتح خيبر‬
‫حك َم يومئذ بإقرار يهودَ فيها على شطرِ ما يخرُج منها مِن ثمر أو زرع‪.‬‬
‫وحكم بقتل ابنى أبى الحُ َقيْقِ لما نقضُوا الصّلح بينَهم وبينَه‪ :‬على أن ل يكتُموا ول يُغيّبوا‬
‫شيئًا من أموالهم‪ ،‬فكتمُوا وغيّبوا‪ ،‬وحكم بعقوبة المتّهم بتغييبِ المال حتى أقرّ به‪ ،‬وقد تقدّم ذلك‬
‫مستوفى فى غزوة خيبر‪.‬‬
‫ل صلى‬
‫وكانت لهل الحُديبية خاصة‪ ،‬ولم َي ِغبْ عنها إل جابرُ بن عبد الّ‪ ،‬فقسم له رسولُ ا ّ‬
‫ال عليه وسلم سهمَه‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪32‬‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى فتح مكة‬
‫ل المسجد‪ ،‬أو وضع السلح‪ ،‬فهو‬
‫ل دا َر أبى سفيان‪ ،‬أو دخ َ‬
‫ن من أغلقَ بابَه‪ ،‬أو دخ َ‬
‫حكم بأ ّ‬
‫آمن‪ ،‬وحكم بقتل نفر ستةٍ‪ ،‬منهم‪ :‬مِقْيس بن صبُابة‪ ،‬وابنُ خطل‪ ،‬ومغنيتان كانتا تغنيان بهجائه‪،‬‬
‫وحكم بأنه ل يُجهز على جريح‪ ،‬ول يُتب ُع مدبر‪ ،‬ول يُقتل أسير‪ ،‬ذكره أبو عبيد فى ((الموال))‪.‬‬
‫خزَاعَةَ‪،‬‬
‫شرَ ُ‬
‫وحكم لخُزاعة أن يبذلُوا سُيوفَهم فى بنى بكر إلى صلة العصر‪ ،‬ثم قال لهم‪(( :‬يَا َمعْ َ‬
‫ارْ َفعُوا َأيْ ِد َيكُمْ عَنِ ال َقتْل))‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى قسمة الغنائم‬
‫حكم صلى ال عليه وسلم أن للفارِس ثلثَةَ أسهم‪ ،‬وللرّاجِلِ سهم‪ ،‬هذا حكمُه الثابتُ عنه فى‬
‫مغازيه ُكلّها‪ ،‬وبه أخذ جمهورُ الفقهاء‪.‬‬
‫وحكم أن السّلبَ للقاتل‪.‬‬
‫ل يومَ بنى قريظة ست ًة وثلثين‬
‫وأما حُكمه بإخراج الخمس‪ ،‬فقال ابن إسحاق‪ :‬كانت الخي ُ‬
‫فرساً‪ ،‬وكان أوّلَ فىء وقعت فيه السهمان‪ ،‬وأخرج منه الخمس‪ ،‬ومضت به السنة‪ ،‬ووافقه على‬
‫سبُ أن بعضَهم قال‪ :‬ترك أمرَ الخُمس بعد‬
‫ذلك القضاء إسماعيل بن إسحاق‪ ،‬فقال إسماعيل‪ :‬وأحْ ِ‬
‫ذلك‪ ،‬ولم يأت فى ذلك من الحديث ما فيه بيانٌ شاف‪ ،‬وإنما جاء ذكرُ الخمس يقيناً فى غنائم حُنين‪.‬‬
‫وقال الواقدى‪ :‬أول خُمسٍ فى غزوة بنى َق ْينُقاع بعدَ بدرٍ بشهر وثلثة أيام‪ ،‬نزلُوا على‬
‫حُكمه‪ ،‬فصالحهم على أن له أموالَهم‪ ،‬ولهم النسا ُء والذرية‪ ،‬وخمّس أموالهم‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم إلى بدر‪ ،‬فلما َهزَمَ الّ‬
‫وقال عُبادة بن الصامت‪ :‬خرجنا مع رسول ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وطائف ٌة استولت‬
‫الع ُدوّ‪ ،‬تبعتهم طائف ٌة يقتلونهم‪ ،‬وأحد َقتْ طائفةٌ برسول ا ّ‬
‫على العسكر والغنيمة‪ ،‬فلما رجع الّذِين طلبوهم‪ ،‬قالوا‪ :‬لنا النّفَلُ نحن طلبنا الع ُدوّ‪ ،‬وقال الذين‬
‫ل عليه وسلم‬
‫ل صلى ا ّ‬
‫أحدقوا برسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ :‬نحن أحقّ به‪ ،‬لنا أحدقنا برسول ا ّ‬
‫ح ْو َينَاهُ‪ .‬فأنزل الّ عز وجل‪:‬‬
‫غ ّرتَه‪ ،‬وقال الذين استَوَلوْا على العسكر‪ُ :‬هوَ لنا‪ ،‬نحن َ‬
‫أن ل ينال الع ُدوّ ِ‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫لّ وَالرّسُولِ} [النفال‪ ،]1 :‬فقسمه رسولُ ا ّ‬
‫لنْفَالُ ِ‬
‫{يَسَْألُو َنكَ عَن الُنفالِ قُلِ ا َ‬
‫خمُسَهُ} [النفال‪.]41 :‬‬
‫شىْءٍ فَأَنّ لِّ ُ‬
‫غ ِن ْمتُم مِنْ َ‬
‫عَلمُوا أنّما َ‬
‫وسلم عن َبوَاءٍ قبل أن ينزل‪{ :‬وا ْ‬
‫ل بنى النضير‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أموا َ‬
‫وقال القاضى إسماعيل‪ :‬إنما قسم رسولُ ا ّ‬
‫ل بنِ حُنيف‪ ،‬وأبى دُجانة‪ ،‬والحارث بن الصّمة لن‬
‫بينَ المهاجرين‪ ،‬وثلث ًة من النصار‪ :‬سه ِ‬

‫‪33‬‬
‫س ْمتُ‬
‫ش ْئتُم قَ َ‬
‫المهاجرين حين قدموا المدينة‪ ،‬شاطرهم النصارُ ثمارَهم‪ ،‬فقال لهم رسول الّ‪(( :‬إنْ ِ‬
‫طيْنَاها ِل ْل ُمهَاجِرينَ‬
‫ش ْئتُ ْم أَعْ َ‬
‫علَى ُموَاسَاتِهم فى ِثمَا ِركُم‪ ،‬وإنْ ِ‬
‫َأ ْموَالَ َبنِى النّضِي ِر َب ْي َنكُمْ و َب ْي َنهُمْ‪ ،‬وأَ َق ْمتُم َ‬
‫سكُ ثمارنا‪،‬‬
‫ع ْنهُ ْم مَا ُك ْنتُم ُتعْطُو َنهُ ْم مِنْ ِثمَا ِركُمْ))‪ ،‬فقالوا‪ :‬بل تُعطيهم دوننا‪ ،‬و ُنمْ ِ‬
‫ط ْعتُم َ‬
‫دُو َنكُمْ‪ ،‬وقَ َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم المهاجرينَ‪ ،‬فاستغنوا بما أخذوا‪ ،‬واستغنى النصارُ بما‬
‫فأعطاها رسولُ ا ّ‬
‫ش َكوْا حَاجَةً‪.‬‬
‫رجع إليهم من ثمارهم‪ ،‬وهؤلء الثلثة من النصار َ‬
‫فصل‬
‫وكان طلح ُة بنُ عبيد الّ‪ ،‬وسعي ُد بن زيد رضى الّ عنهما بالشام لم يشهد بدراً‪ ،‬فقسم لهما‬
‫ل صلى ال عليه وسلم سهميهما‪ ،‬فقال‪ :‬وأجورُنا يا رسولَ الّ؟ فقال‪(( :‬وأُجُور ُكمَا))‪.‬‬
‫رسولَ ا ّ‬
‫وذكر ابن هشام‪ ،‬وابن حبيب أن أبا لبابة‪ ،‬والحارث بنَ حاطب‪ ،‬وعاصِمَ بنَ عدى خرجُوا‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فردّهم‪ ،‬وأ ّمرَ أبا لبابة على المدينة‪ ،‬وابن أم مكتوم على‬
‫مع رسول ا ّ‬
‫الصلة‪ ،‬وأسهم لهم‪.‬‬
‫سرَ بالروحاء‪ ،‬فضرب له رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم بسهمه‪.‬‬
‫والحارث بن الصّمة كُ ِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بسهمه‪.‬‬
‫قال ابن هشام‪ :‬وخّوات بن جُبير ضرب له رسولُ ا ّ‬
‫ل عنه تخلف على امرأته رقية بنت رسول‬
‫ولم يختِلف أحدٌ أن عثمان ابن عفان رضى ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فضرب له بسهمه‪ ،‬فقال‪ :‬وأجرى يا رسول ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأجمع المسلمون أن ل يُقسم‬
‫ص للنب ّ‬
‫ج ُركَ)) ؛ قال ابن حبيب‪ :‬وهذا خا ٌ‬
‫((وأَ ْ‬
‫لغائب‪.‬‬
‫قلتُ‪ :‬وقد قال أحم ُد ومالك‪ ،‬وجماع ٌة من السلف والخلف‪ :‬إن الما َم إذا بعث أحداً فى مصالح‬
‫الجيش‪ ،‬فله سهمُه‪.‬‬
‫سهِمُ للنساء والصبيان والعبيد‪ ،‬ولكن‬
‫قال ابن حبيب‪ :‬ولم يكن النبى صلى ال عليه وسلم يُ ْ‬
‫كان يحذيهم مِن الغنيمة‪.‬‬
‫فصل‬
‫وعدل فى قسمة البل والغنم كُلّ عشرة منها ببعير‪ ،‬فهذا فى التقويم‪ ،‬وقسمة المال المشترك‪.‬‬
‫وأما فى الهدى‪ ،‬فقد قال جابر‪ :‬نحرنا مَع رسول الّ صلى ال عليه وسلم عام الحُديبية‪ .‬وأما فى‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أن نشترك فى البل والبقر‬
‫حجة الوداع‪ ،‬فقال جابر أيضاً‪(( :‬أمرنا رسول ا ّ‬
‫كُلّ سبعة منا فى بدنة)) ؛ وكلهما فى الصحيح‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫وفى ((السنن)) من حديث ابن عباس‪ ،‬أن رجلً‪ :‬أتى النبىّ صلى ال عليه وسلم فقال‪(( :‬إن‬
‫علىّ بدنة وأنا موسِر بها ول أجدها فأشتريها‪ ،‬فأمره أن يبتاعَ سبعَ شياه‪ ،‬فيذبحهن))‪.‬‬
‫فصل‬
‫ب كله للقاتل‪ ،‬ولم يُخمّسْه‪ ،‬ولم يجعله مِن الخُمس‪ ،‬بل‬
‫سَل ِ‬
‫حكم النبىّ صلى ال عليه وسلم بال ّ‬
‫مِن أصل الغنيمة‪ ،‬وهذا حكمه وقضاؤه‪.‬‬
‫قال البخارى فى ((صحيحه))‪ :‬السلبُ للقاتل إنما هو مِن غير الخُمس‪ ،‬وحكم به بشهادة‬
‫ب لمن قتل‬
‫سَل ِ‬
‫واحد‪ ،‬وحكم به بعد القتل‪ ،‬فهذه أربعة أحكام تضمّنها حكمُه صلى ال عليه وسلم بال ّ‬
‫قتيلً‪.‬‬
‫وقال مالك وأصحابهُ‪ :‬السلبُ ل يكون إل من الخمس‪ ،‬وحكمه حُكمُ النفل‪ ،‬قال مالك‪ :‬ولم‬
‫يبُل ْغنَا أن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال ذلك‪ ،‬ول فعلَه فى غي ِر يوم حُنين‪ ،‬ول فعلَه َأبُو بكر‪ ،‬ول‬
‫عُمر رضى ال عنهما‪ .‬قال ابن الموّاز‪ :‬ولم يُعط غير البراء بن مالك سلبَ قتيله‪ ،‬وخمّسه‪.‬‬
‫خمُسَهُ }‪ ،‬فجعل أربعة‬
‫غ ِن ْمتُم مِنْ شَىءٍ فأنّ لِّ ُ‬
‫علَمُوا َأ ّنمَا َ‬
‫ل تعالى‪{ :‬وا ْ‬
‫قال أصحابه‪ :‬قال ا ّ‬
‫أخماس الغنيمة لمن غنمها‪ ،‬فل يجوز أن يُؤخذ شىء مما جعله الّ لهم بالحتمال‪.‬‬
‫وأيضاً فلو كانت هذه اليةُ إنما هى فى غير السلب‪ ،‬لم يُؤخر النبى صلى ال عليه وسلم‬
‫سَلبُه))‪ ،‬بعد أن برد‬
‫حكمها إلى حُنين‪ ،‬وقد نزلت فى قصة بدر‪ ،‬وأيضًا إنما قال‪(( :‬مَنْ َقتَلَ َقتِلً فلَهُ َ‬
‫القتالُ‪ ،‬ولو كان أمراً متقدماً‪ ،‬لعلمه أبو قتادة فارسُ رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأحدُ أكابر‬
‫ل ذلك‪.‬‬
‫ل عليه وسلم يقو ُ‬
‫سمِعَ منادىَ رسولِ الّ صلى ا ّ‬
‫أصحابه‪ ،‬وهو لم يطلبه حتى َ‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فالنبىّ صلى ال عليه وسلم أعطاه إياه بشهادة واحد بل يمين‪ ،‬فلو كان مِن‬
‫رأس الغنيمة‪ ،‬لم يخرج حقّ مغنم إل بما تخرج به الملكُ من البيّنات‪ ،‬أو شاهد ويمين‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فلو وجب للقاتل ولم يجد بيّنة لكان يُوقف‪ ،‬كاللقطة ول يُقسم‪ ،‬وهو إذا لم تكن‬
‫بينة يُقسَم‪ ،‬فخرج من معنى الملك‪ ،‬ودل على أنه إلى اجتهاد المام يجعلُه من الخمس الذى يجعل‬
‫ج به لهذا القول‪.‬‬
‫فى غيره‪ ،‬هذا مجموعُ ما احتُ ّ‬
‫قال الخرون‪ :‬قد قال ذلك رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفعله قبل حُنين بستة أعوام‪،‬‬
‫فذكر البخارى فى ((صحيحه))‪ :‬أن معا َذ بن عمرو بنِ الجموح‪ ،‬ومُعا َذ بن عفراء النصاريين‪،‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ضرباً أبا جهل بن هشام يوم بدر بسيفهما حتى قتله‪ ،‬فانصرفا إلى رسول ا ّ‬
‫سيْ َف ْي ُكمَا))؟ قال‪:‬‬
‫حتُما َ‬
‫ل مَسَ ْ‬
‫فأخبراه‪ ،‬فقال‪َ(( :‬أيّ ُكمَا َق َتلَهُ))؟ فقال كُلّ واحد منهما‪ :‬أنا قتلته‪ ،‬فقال‪(( :‬هَ ْ‬

‫‪35‬‬
‫جمُوح‪ ،‬وهذا يدل على‬
‫عمْرو بْنِ ال َ‬
‫سَلبُه لمعاذ بْنِ َ‬
‫ل ُكمَا َق َتلَهُ))‪ ،‬و َ‬
‫ل‪ ،‬فنظر إلى السيفين‪ ،‬فقال‪(( :‬كِ َ‬
‫ن السلب للقاتل أم ٌر مقرر معلو ٌم مِن أول المر‪ ،‬وإنما تجدّد يومَ حنين العلمُ العام‪ ،‬والمناداة‬
‫أن كو َ‬
‫به ل شرعيتُه‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ن الموّاز‪ :‬إن أبا بكر وعمر لم يفعله‪ ،‬فجوابُه من وجهين ؛ أحدُهما‪ :‬أن هذا‬
‫وأما قول اب ِ‬ ‫@‬
‫شهاد ٌة على النفى‪ ،‬فل تُسمع‪ ،‬الثانى‪ :‬أنه يجوز أن يكون تركُ المناداة بذلك على عهدهما اكتفاءً بما‬
‫ل صلى ال عليه وسلم وقضائه‪ ،‬وحتى لو صحّ عنهما تركُ ذلك‬
‫تقرر‪ ،‬وثبت مِن حكم رسول ا ّ‬
‫ل عليه وسلم‪.‬‬
‫ل صلى ا ّ‬
‫تركاً صحيحاً ل احتمالَ فيه‪ ،‬لم يُقَدّم على حكم رسول ا ّ‬
‫ن الكوع‪،‬‬
‫وأما قولُه‪ :‬ولم يُعط غي َر البراء بن مالك سلبَ قتيله‪ ،‬فد أعطى السلبَ لسلمة اب ِ‬
‫ولمعاذ بن عمرو‪ ،‬ولبى طلحة النصارى‪َ ،‬قتَلَ عِشرين َيوْمَ حنين‪ ،‬فأخذ أسلَبهم‪ ،‬وهذه كلها وقائع‬
‫صحيحة معظمُها فى الصحيح‪ ،‬فالشهاد ُة على النفى ل تكاد تسلمُ من النقض‪.‬‬
‫وأما قولُه‪(( :‬وخمّسَه))‪ ،‬فهذا لم يُحفظ به أثر البتة‪ ،‬بل المحفوظُ خلفه‪ ،‬ففى ((سنن أبى‬
‫سلَب‪.‬‬
‫خمّس ال ّ‬
‫داود))‪ :‬عن خالد‪ ،‬أن النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لم يُ َ‬
‫خمُسَهُ} [النفال‪ ،]41 :‬فهذا عام‪،‬‬
‫غ ِن ْمتُم مِنْ شَىءٍ فأَنّ لِّ ُ‬
‫عَلمُوا َأ ّنمَا َ‬
‫وأما قولُه تعالى‪{ :‬وا ْ‬
‫والحكم بالسلب للقاتل خاص‪ ،‬ويجوز تخصيصُ عمومِ الكتاب بالسنة‪ ،‬ونظائرُه معلومة‪ ،‬ول يُمكن‬
‫دفعُها‪.‬‬
‫وقوله‪(( :‬ل يجعل شىء من الغنيم ِة لغير أهلها بالحتمال))‪ ،‬جوابُه من وجهين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنا‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ل‬
‫لم نجعل السلب لغير الغانمين‪ .‬الثانى‪ :‬إنما جعلنا للقاتل بقول رسول ا ّ‬
‫بالحتمال‪ ،‬ولم يؤخّر النبى صلى ال عليه وسلم حُك َم الية إلى يوم حُنين كما ذكرتم‪ ،‬بل قد حكم‬
‫ل مِن استحقاقه بالقتل‪.‬وأما كون أبى قتادة لم يطلبه حتى‬
‫بذلك يو َم بدر‪ ،‬ول يمنع كونه قاله بعد القتا ِ‬
‫ل على أنه لم يكن متقرراً معلوماً‪ ،‬وإنما سكت‬
‫سمِ َع منادى النبى صلى ال عليه وسلم يقوله‪ ،‬فل يدُ ّ‬
‫َ‬
‫عنه أبو قتادة لنه لم يكن يأخُذه بمجرد دعواه‪ ،‬فلما شهد له به شاهد أعطاه‪.‬‬
‫والصحيح‪ :‬أن يُكتفى فى هذا بالشاهد الواحد‪ ،‬ول يحتاج إلى شاهد آخر‪ ،‬ول يمين‪ ،‬كما‬
‫جاءت به السن ُة الصحيح ُة الصريحة التى ل مُعارِضَ لها‪ ،‬وقد تقدم هذا فى موضعه‪ .‬وأما قولُه‪:‬‬
‫ق التقديم‪ ،‬فإذا‬
‫((إنه لو كان للقاتل‪ ،‬لوقف‪ ،‬ولم يُقسم كاللقطة))‪ ،‬فجوابُه أنه للغانمين‪ ،‬وإنما للقاتل ح ّ‬
‫لم تُعلم عين القاتل اشترك فيه الغانمين‪ ،‬فإنه حقهم‪ ،‬ولم يظهر مستحق التقديم منهم‪ ،‬فاشتركوا فيه‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيما حازه المشركون من أموال المسلمين‪ ،‬ثم ظهر عليه المسلمون‪،‬‬
‫أو أسلم عليه المشركون‬
‫فى البخارى‪ :‬أن فرساً لبن عمر رضى الّ عنه ذهب‪ ،‬وأخذه العدو‪ ،‬فظه َر عليه المسلمون‪،‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وَأبَقَ له عبد‪ ،‬فلحق بالروم‪ ،‬فظهر عليه‬
‫َفرُ ّد عليه فى زمن رسول ا ّ‬
‫ل عنه‪.‬‬
‫المسلمون‪ ،‬فردّه عليه خالد فى زمن أبى بكر رضى ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم هو الذى رَ ّد عليه الغلم‪ .‬وفى‬
‫وفى ((سنن أبى داود))‪ :‬أن رسولَ ا ّ‬
‫ل من المسلمين وجد بعيراً له فى المغانم‪ ،‬فقال له رسول الّ‬
‫((المدونة)) و((الواضحة)) أن رج ً‬
‫ن إن‬
‫ق بِ ِه بِال ّثمَ ِ‬
‫ت أَحَ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنْ وَج ْدتَه لم يُقْسَمْ‪ ،‬فَخُ ْذهُ‪ ،‬وإنْ وج ْدتَهُ قَدْ قُسِمَ فََأ ْن َ‬
‫أرَ ْدتَهُ))‪.‬‬
‫وصح عنه‪ :‬أن المهاجرين طلبوا منه دُورَهم يوم الفتح بمكة‪ ،‬فلم يرد على أحد دارَه‪ .‬وقل‬
‫ل َم ْنزِلً))‪ ،‬وذلك أن الرسولَ صلى‬
‫ك َلنَا عَقِي ٌ‬
‫له‪ :‬أين َت ْنزِلُ غدًا من دارك بمكة؟‪ ،‬فقال‪(( :‬وهَلْ َت َر َ‬
‫ل عليه وسلم بمكة‪ ،‬فحازها‬
‫ال عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة‪ ،‬وثب عقل على رباع النبى صلى ا ّ‬
‫ُكلّها‪ ،‬وحوى عليها‪ ،‬ثم أسلم وهى فى يده‪ ،‬وقضى رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم أن من أسلم على‬
‫شىء فهو له‪ ،‬وكان عقيل ورث أبا طالب‪ ،‬ولم يرثه على لتقدّم إسلمه على موت أبيه‪ ،‬ولم يكنْ‬
‫ث مِن عبد المطلب‪ ،‬فإن أباه عبدَ الّ مات‪ ،‬وأبوه عبدُ المطلب‬
‫لرسولِ الّ صلى ال عليه وسلم ميرا ٌ‬
‫حىّ‪ ،‬ثمّ مات عبدُ المطلب‪ ،‬فَورِثه أولده‪ ،‬وهم أعمامُ النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومات أكيرُ‬
‫ن على لختلف‬
‫ل دو َ‬
‫أولده‪ ،‬ولم يعقبوا‪ ،‬فحاز أبو طالب رِباعه‪ ،‬ثم مات‪ ،‬فاستولى عليها عَقي ٌ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاستولى عقيل على داره‪ ،‬فلذلك قال رسول الّ‪(( :‬وهَلْ‬
‫الدين‪ ،‬ثم هاجر النب ّ‬
‫ل َم ْنزِلً))‪.‬‬
‫َت َركَ َلنَا عَقِي ٌ‬
‫وكان المشركون َي ْعمِدُونَ إلى من هاجر من المسلمين ولحق بالمدينة‪ ،‬فيستولُون على داره‬
‫وعقاره‪ ،‬فمضت السنةُ أن الكفارَ المحاربين إذا أسلموا‪ ،‬لم يضمنُوا ما أتلفُوه على المسلمين مِن‬
‫نفس أو مال‪ ،‬ولم َيرُدّوا عليهم أموَالهم التى غَصبُوهَا عليهم‪ ،‬بل من أسلم على شىء‪ ،‬فهو له ؛ هذا‬
‫حكمه وقضاؤه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيما كان يُهدى إليه‬

‫‪37‬‬
‫ل منهم‪ ،‬ويُكافئهم أضعافَها‪.‬‬
‫ل عنهم يُهدون إليه الطعامَ وغيره‪ ،‬فيقب ُ‬
‫كان أصحابُه رضى ا ّ‬
‫سمُها بينَ أصحابه‪ ،‬ويأخُذُ منها لنفسه ما‬
‫ك تُهدى إليه‪ ،‬فيقبلُ هداياهم‪ ،‬ويَقْ ِ‬
‫وكانت الملو ُ‬
‫ى الذى له من المغنم‪.‬‬
‫يختارُه‪ ،‬فيكون كالصف ّ‬
‫ج مز ّررَة بالذهب‪،‬‬
‫ت إليه أَ ْقبِية دِيبا ٍ‬
‫وفى ((صحيح البخارى))‪ :‬أن النبى صلى ال عليه وسلم أُه ِد َي ْ‬
‫خرَمة بنِ نوفل‪ ،‬فجاء ومعه المِسور ابنُه‪ ،‬فقام‬
‫فقسمها فى ناس مِن أصحابه‪ ،‬وعزل منها واحدًا لِم ْ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم صوتَه‪ ،‬فتلقاه به فاستقبلَه‪ ،‬وقال‪(( :‬يا‬
‫على الباب‪ ،‬فقال‪ :‬ادْعُ ُه لى‪ ،‬فسمِع النب ّ‬
‫خبَ ْأتُ هذَا َلكَ))‪.‬‬
‫س َورِ َ‬
‫أَبا المِ ْ‬
‫وأهدى له المُ َقوْ ِقسُ ماري ًة أ ّم ولده‪ ،‬وسِيرين التى وهبها لحسان‪ ،‬وبغلةً شهباء‪ ،‬وحماراً‪.‬‬
‫ل أن‬
‫وأهدى له النجاشىّ هديةً‪ ،‬فَق ِبلَها منه‪ ،‬وبعث إليه هدي ًة عوضها‪ ،‬وأخبر أنّه مات قب َ‬
‫َتصِلَ إليه‪ ،‬وأنها َترْجعُ‪ ،‬فكان المر كما قال‪.‬‬
‫ن نُفَاثَةَ الجذَامِى بغل ًة ببيضاء ركبها يوم حُنين‪ ،‬ذكره مسلم‪.‬‬
‫وأهدى له َف ْر َو ُة بْ ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‬
‫ك أيل َة أهدى له بغلةً بيضاء‪ ،‬فكساه رسولُ ا ّ‬
‫وذكر البخارى‪ :‬أن َمِل َ‬
‫حرِهِم‪.‬‬
‫بُردة‪ ،‬وكتب له ِببَ ْ‬
‫وأهدى له أبو سفيان هدية فقبلها‪.‬‬
‫عبَ الْسِنة‪ ،‬أهدى للنبى صلى ال عليه وسلم فرساً‬
‫وذكر أبو عبيد‪ :‬أن عام َر بن مالك مُل ِ‬
‫ل َزبَدَ‬
‫ش ِركٍ)) وكذلك قال لعياض المجاشعى‪(( :‬إنّا ل نَ ْقبَ ُ‬
‫فرده‪ ،‬وقال‪(( :‬إنّا ل نَ ْقبَلُ هَ ِديّ َة مُ ْ‬
‫ش ِركِين)) يعنى‪ :‬رِفدهم‪.‬‬
‫المُ ْ‬
‫قال أبو عبيد‪ :‬وإنما قبل هدية أبى سفيان لنها كانت فى مد ِة الهُدنة بينه وبين أهل مكة‪،‬‬
‫ب بن أبى بلتعة رسوله إليه‪،‬‬
‫وكذلك المقو ِقسُ صاحبُ السكندرية إنما قبل هديته لنه أكرمَ حاط َ‬
‫ب له قطّ‪.‬‬
‫وأقرّ بنبوته‪ ،‬ولم يُؤيسه من إسلمه‪ ،‬ولم يقبل صلى ال عليه وسلم هدي َة مشركٍ محار ٍ‬
‫فصل‬
‫وأما حكم هدايا الئمة بعده‪ ،‬فقال سُحنون من أصحاب مالك‪ :‬إذا أهدى أميرُ الروم هدي ًة إلى‬
‫المام‪ ،‬فل بأس بقبولها‪ ،‬وتكون له خاصة‪ ،‬وقال الوزاعى‪ :‬تكون للمسلمين‪ ،‬ويُكافئه عليها مِن‬
‫بيت يالمال‪ .‬وقال المام أحمد رحمه الّ وأصحابه‪ :‬ما أهداه الكفار للمام‪ ،‬أو لمير الجيش‪ ،‬أو‬
‫قواده‪ ،‬فهو غنيمة‪ ،‬حكمها حكمُ الغنائم‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪38‬‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى قسمة الموال‬
‫سمُها ثلثة‪ :‬الزكاةُ‪ ،‬والغنائم‪ ،‬والفىء فأما‬
‫ى صلى ال عليه وسلم يق ِ‬
‫الموال التى كان النب ّ‬
‫ف الثمانية‪ ،‬وأنه كان رُبما‬
‫عبُ الصنا َ‬
‫الزكاة والغنائم‪ ،‬فقد تقدم حكمها‪ ،‬وبيّنا أنه لم يكن يُستو ِ‬
‫وضعها فى واحد‪.‬‬
‫وأما حُكمه فى الفىء‪ ،‬فثبت فى الصحيح‪ ،‬أنه صلى ال عليه وسلم قسم يومَ حُنين فى‬
‫ن يَذْ َهبَ‬
‫ن أَ ْ‬
‫ل َت ْرضَو َ‬
‫ط النصارَ شيئاً‪َ ،‬ف َع ِتبُوا عليه‪ ،‬فقال لهم‪(( :‬أ َ‬
‫المؤلفة قلوبُهم من الفىء‪ ،‬ولم يُع ِ‬
‫ن ِبرَسُولِ الّ صلى ال عليه وسلم تَقُودُونَ ُه إلى رِحَاِلكُمْ‪َ ،‬فوَالِّ لما‬
‫النّاسُ بالشّا ِء وال َبعِيرِ‪ ،‬و َتنْطَلِقُو َ‬
‫خ ْي ٌر ِممّا َينْ َقِلبُونَ بِهِ)) وقد تقدّم ذك ُر القصة وفوائدها فى موضعها‪.‬‬
‫ن بِهِ َ‬
‫تنقلبو َ‬
‫والقصة هنا أن الّ سبحانه أباح لرسول ِه من الحكم فى مال الفىء ما لم يُبحه لغيره‪ ،‬وفى‬
‫ب إلىّ‬
‫ح ّ‬
‫ع أَ َ‬
‫غ ْيرَهُم‪ ،‬والّذِى أَدَ ُ‬
‫((الصحيح)) عنه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنى لَعْطِى أَ ْقوَاماً‪َ ،‬وأَدْعُ َ‬
‫عهُمْ‪ ،‬وَأكِلُ أَ ْقوَاماً‬
‫جزَ َ‬
‫ظَل َعهُمْ و َ‬
‫مِنَ الّذِى أُعْطى)) وفى (الصحيح) عنه‪(( :‬إنّى لَعْطى أَ ْقوَاماً أَخَافُ َ‬
‫ع ْمرُو بْن َت ٌغلِب))‪ .‬قال عمرو بن تغلب‪ :‬فما‬
‫خ ْيرِ‪ِ ،‬منْهم َ‬
‫ن الغِنى وال َ‬
‫جعَلَ الُّ فى ُقلُو ِبهِمْ مِ َ‬
‫إلى مَا َ‬
‫ب أن لى بكلمةِ رسول ال صلى ال عليه وسلم حُمرَ ال ّنعَمِ‪.‬وفى ((الصحيح))‪ :‬أن عليًا بعث إليه‬
‫ح ّ‬
‫أُ ِ‬
‫علْ َقمَ َة بنَ‬
‫ع بنَ حابس‪ ،‬وأعطى زيدَ الخيل‪ ،‬وأعطى َ‬
‫بِذُ َه ْيبَةً من اليمن‪ ،‬فقَسمها أرباعاً‪ ،‬فأعطى القر َ‬
‫ق الرأس‪،‬‬
‫ث اللّحية‪ ،‬محلو ُ‬
‫ع َي ْينَ َة بنَ حِصن‪ ،‬فقام إليه رجلٌ غائ ُر العينين‪ ،‬ناتىءُ الجبهة‪ ،‬ك ّ‬
‫عُلثة و ُ‬
‫ق أهلِ‬
‫فقال‪ :‬يا رسول ال اتق ال‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ويلك أو لست أح ّ‬
‫ى ال))؟‪ ،‬الحديث‪.‬‬
‫الرض أن يتق َ‬
‫وفى ((السنن))‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم وضع سهم ذى القُربى فى بنى هاشم‪،‬‬
‫ك بنى نوفل‪ ،‬ونبى عب ِد شمس‪ ،‬فانطلق جُبير بن مُطعم‪ ،‬وعثمانُ ابن عفان‬
‫وفى بنى المطلب‪ ،‬و َت َر َ‬
‫ل إخوانِنا بنى عبد‬
‫ل بنى هاشم لموضعهم منك‪ ،‬فما با ُ‬
‫إليه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسولَ الِّ‪ ،‬ل ُن ْن ِك ُر فض َ‬
‫المطلب‪ ،‬أعطيتَهم وتركتنا‪ ،‬وإنما نحنُ وهم بمنزلةً واحدة‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنّا‬
‫ن َأصَا ِبعِهِ‪.‬‬
‫ش َبكَ َبيْ َ‬
‫ن وَهُمْ شَىءٌ واحدٌِ)) و َ‬
‫طِلبِ ل نَ ْف َترِقُ فى جَاهِليّ ًة وَلَ إسْلمٍ‪ ،‬إنّما نَحْ ُ‬
‫و َبنُوا المُ ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأن سه َم ذوى القُربى‬
‫وذكر بعضُ الناس بأن هذا الحكمَ خاص بالنب ّ‬
‫يُصرف بعدَه فى بنى عبد شمس‪ ،‬ونبى نوفل‪ ،‬كما يُصرف فى بنى هاشم‪ ،‬وبنى المطلب‪ ،‬قال‪ :‬لن‬
‫عبد شمس‪ ،‬وهاشما‪ ،‬والمطلب‪ ،‬ونوفلً إخوة‪ ،‬وهُم أولدُ عبد مناف‪ .‬ويقال‪ :‬إن عب َد شمس‪ ،‬وهاشما‬
‫توأمان‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫والصواب‪ :‬استمرارُ هذا الحكم النبوى‪ ،‬وأنّ سه َم ذوى القربى لبنى هاشم ونبى المطلب‬
‫حيث خصّه رسولُ ال صلى ال عليه وسلم بهم‪ ،‬وقولُ هذا القائل‪ :‬إن هذا خاصُ بالنبىّ صلى ال‬
‫عليه وسلم باطل‪ ،‬فإنه بيّن مواضِعَ الخُمس الذى جعله ال لذوى القُربى‪ ،‬فل يُتعدّى به تلك‬
‫سمُه بينهم على السواء بين أغنيائهم وفقرائهم‪ ،‬ول كان‬
‫المواضع‪ ،‬ول يُقصر عنها‪ ،‬ولكن لم يكن يق ِ‬
‫ظ النثيين‪ ،‬بل كان يَصرفُه فيهم بحسب المصلحة والحاجة‪،‬‬
‫سمُه قِسمَة الميراث للذكر مثلُ ح ّ‬
‫يق ِ‬
‫فيزوّجُ منه عزبَهم‪ ،‬ويقضِى منه عن غارِمهم‪ ،‬ويُعطى منه فقيرَهم كفايته‪.‬‬
‫وفى ((سنن أبى داود))‪ :‬عن على بن أبى طالب رضى ال عنه‪ ،‬قال‪(( :‬ولّنى رسول ال‬
‫ضعَه حياةَ رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وحياةَ أبى بكر رضى ال‬
‫خ ْمسَ الخمس‪ ،‬فوضعتُه موا ِ‬
‫ُ‬
‫عنه‪ ،‬وحيا َة عمر رضى ال عنه))‪.‬‬
‫صرَفُ فى مصارفه الخمسةِ‪ ،‬ول يقوى هذا الستدلل‪ ،‬إذ غايةُ‬
‫ل به على أنه كان ُي ْ‬
‫وقد استدِ ّ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم يصرِفُه فيها‪ ،‬ولم َيعُدها إلي‬
‫ما فيه أنه صرفه فى مصارفه التى كان رسو ُ‬
‫سواها‪ ،‬فأين تعميمُ الصناف الخمسة به؟‪ ،‬والذى يدل عليه هدىُ رسولِ ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ف الزكاة‪ ،‬ول يخرجُ بها عن الصناف المذكورة‬
‫وأحكامُه أنه كان يجعل مصارِفَ الخمس كمصا ِر ِ‬
‫سمُه بينهم كقِسمة الميراث‪ ،‬ومن تأمل سيرته وهديَه حقّ التأمل لم يشك فى ذلك‪.‬‬
‫ل أنه يق ِ‬
‫ت أموالُ بنى النضير‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬عن عمر بن الخطاب رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬كا َن ْ‬
‫ف المسلمون عليه بخيل ول رِكاب‪ ،‬فكانت لِرسول ال صلى‬
‫ج ِ‬
‫لّ على رسوله مما لم يُو ِ‬
‫مما أفاء ا ُ‬
‫ق منها على أهله نفقةَ سنة‪ ،‬وفى لفظ‪(( :‬يح ِبسُ لهله قوت سنتهم‪ ،‬ويجعلُ‬
‫ال عليه وسلم خاصة يُنفِ ُ‬
‫ما بقى فى الكراع والسلح عُدة فى سبيل ال))‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫وفى ((السنن))‪ :‬عن عوف بن مالك رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬كان رسولُ ا ّ‬
‫ظيْنِ‪ ،‬وأعطى ال َعزَب حظاً‪.‬فهذا تفصيل منه‬
‫وسلم إذا أتاه الفىء‪ ،‬قسمه مِن يومه‪ ،‬فأعطى الهِل حَ ّ‬
‫للهِلِ بحسب المصلحة والحاجة‪ ،‬وإن لم تكن زوجُه من ذوى القربى‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاءُ فى الفىء‪ ،‬هل كان مِلكًا لرسول ال صلى ال عليه وسلم يتصرف‬
‫فيه كيف يشاء‪ ،‬أو لم يكن ملكًا له؟ على قولين فى مذهب أحمد وغيره‪.‬‬
‫سمُه‬
‫ث أمره ال‪ ،‬ويق ِ‬
‫والذى تدل عليه سنتُه وهديه‪ ،‬أنه كان يتصرّف فيه بالمر‪ ،‬فيضعه حي ُ‬
‫ف المالك بشهوته وإرادته‪ ،‬يُعطى من‬
‫على من ُأ ِمرَ بقسمته عليهم‪ ،‬فلم يكن يتصرّف فيه تص ّر َ‬
‫ف العبدِ المأمور يُنفّذُ ما أمره به سيده وموله‪،‬‬
‫أحبّ‪ ،‬ويمنعُ من أحبّ‪ ،‬وإنما كان يتصرّف فيه تصرّ َ‬

‫‪40‬‬
‫فيعطى من أمر بإعطائه‪ ،‬ويمنع من ُأ ِم َر بمنعه‪ ،‬وقد صرح رسول ال صلى ال عليه وسلم بهذا‬
‫ح ْيثُ ُأ ِم ْرتُ))‪ ،‬فكان عطاؤه ومنعُه‬
‫لّ إنّى ل أُعطِى أحدًا ول أمنعهُ‪ ،‬إما أنا قاسِ ٌم َأضَعُ ِ‬
‫فقال‪(( :‬وا ِ‬
‫ن عبداً رسولً‪ ،‬وبين أن يكون ملكاً‬
‫وقسمُه بمجرد المر‪ ،‬فإن ال سبحانه خيّره بين أن يكو َ‬
‫رسولً‪ ،‬فاختار أن يكون عبداً رسولً‪.‬‬
‫ك الرسولُ‬
‫والفرقُ بينهما أن العب َد الرسولَ ل يتص ّرفُ إل بأمر سيّده و ُمرْسِله‪ ،‬وال َمِل ُ‬
‫ى مَن يشاء‪ ،‬ويمنعُ من يشاء كما قال تعالى للملك الرسول سليمان‪{ :‬هذا عَطَا ُؤنَا فَا ْمنُنْ‬
‫طَ‬‫له أن يُع ِ‬
‫سبُك ؛ وهذه المرتبة‬
‫ك ِب َغ ْيرِ حِسَابٍ} [ص‪ ]39 :‬أى‪ :‬أعطِ مَن شئتَ‪ ،‬وامنع من شئت‪ ،‬ل نحا ِ‬
‫س ْ‬
‫َأوْ َأمْ ِ‬
‫غبَ عنها إلى ما هو أعلى منها‪ ،‬وهى مرتبةُ‬
‫ضتْ على نبينا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فَر ِ‬
‫ع َر َ‬
‫هى التى ُ‬
‫العبودية المحضة التى تَصرّفُ صاحبها فيها مقصو ٌر على أم ِر السيد فى كُلّ دقيق وجليل‪.‬‬
‫والمقصود‪ :‬أن تصرفه فى الفىء بهذه المثابة‪ ،‬فهو ملك يُخالف حكم غيره من المالكين‪،‬‬
‫ف المسلمون عليه بخيل ول ركاب على نفسه وأهله‬
‫ج ِ‬
‫ولهذا كان ينفق مما أفاء ال عليه مما لم يُو ِ‬
‫نفقةَ سنتهم‪ ،‬ويجعل الباقى فى الكُراع والسّلح عدة فى سبيل ال عز وجل‪ ،‬وهذا النوعُ مِن الموال‬
‫هو السهمُ الذى وقع بعده فيه مِن النزاع ما وقع إلى اليوم‪.‬‬
‫فأما الزكاوات والغنائم‪ ،‬وقسمة المواريث‪ ،‬فإنها معينة لهلها ل يَشُركُهم غيرُهم‬
‫فيها‪ ،‬فلم يُشكل على ولة المر بعدَه مِن أمرها ما أشكل عليهم مِن الفىء‪ ،‬ولم يقع فيها مِن النزاع‬
‫ت رسول ال صلى ال عليه وسلم ميراثها‬
‫ل أمره عليهم‪ ،‬لما طلبت فاطم ُة بن ُ‬
‫ما وقع فيه‪ ،‬ولول إشكا ُ‬
‫مِن تركته‪ ،‬وظنت أنه يُورث عنه ما كان ملكًا له كسائر المالكين‪ ،‬وخفى عليها رضى ال عنها‬
‫حقيق ُة الملك الذى ليس مما يُورث عنه‪ ،‬بل هو صدقة بعده‪ ،‬ولما علِمَ ذلك خليفتهُ الراشدُ البار‬
‫الصّدّيق‪ ،‬ومَن بعده من الخلفاء الراشدين لم يجعلوه ما خلفه من الفىء ميراثاً يُقسم بين ورثته‪ ،‬بل‬
‫ل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حتى تنازعا فيه‪،‬‬
‫دفعوه إلى على والعباس يعملن فيه عم َ‬
‫وترافعا إلى أبى بكر الصديق‪ ،‬وعمر‪ ،‬ولم يَقسم أحد منهما ذلك ميراثاً‪ ،‬ول مكّنا منه عباسًا وعليّا‪،‬‬
‫ل وَلذِى ال ُقرْبى وَال َيتَامَى‬
‫ل ال ُقرَى فَللّه ولِلرّسو ِ‬
‫وقد قال ال تعالى‪{ :‬مَا أَفَاءَ الُّ عَلى رَسُولِ ِه مِنْ أَهْ ِ‬
‫عنْهُ‬
‫غ ِنيَاءِ ِم ْنكُ ْم َومَا آتَاكُ ُم الرّسُولُ فَخَذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ َ‬
‫ل َيكُونَ دُولَ ًة َبيْنَ الَ َ‬
‫سبِيلِ َكيْ َ‬
‫ن ال ّ‬
‫والمَسَاكِين وابْ ِ‬
‫خرِجُوا مِنْ ِديَارِهِمْ َوَأ ْموَاِلهِمْ‬
‫ن أُ ْ‬
‫ن الّذِي َ‬
‫جرِي َ‬
‫ب * ِللْفُ َقرَا ِء ال ُمهَا ِ‬
‫لّ إنّ الَّ شَدِي ُد العِقَا ِ‬
‫فَا ْن َتهُوا واتّقُوا ا َ‬
‫ن َت َبوّءو الدّارَ‬
‫ن * والّذِي َ‬
‫ضوَانًا و َي ْنصُرُونَ ال َورَسُولَهُ أُول ِئكَ هُ ُم الصّادِقُو َ‬
‫لّ ورِ ْ‬
‫ل مِنَ ا ِ‬
‫َي ْب َتغُونَ َفضْ ً‬
‫ج َر إَل ْيهِمْ} [الحشر‪ ]9-7 :‬إلى قوله‪{ :‬والّذِينَ جَاؤُوا مِنْ َبعْدِهِمْ}‬
‫ن مَنْ هَا َ‬
‫حبّو َ‬
‫واليمَانَ مِنْ َق ْبِلهِ ْم يُ ِ‬

‫‪41‬‬
‫[الحشر‪ ،]10 :‬إلى آخر الية‪ .‬فأخبر سبحانه أن ما أفاء على رسوله بجملته ِلمَن ُذ ِكرَ فى ه ِذهِ‬
‫ص منه خمسة بالمذكورين‪ ،‬بل عمّ َم وأطلق واستوعب‪.‬‬
‫خ ّ‬
‫اليات‪ ،‬ولم يَ ُ‬
‫ل الخمس‪ ،‬ثم على المصارف‬
‫ويُصرف على المصارف الخاصة‪ ،‬وهم أه ُ‬
‫العامة‪ ،‬وهم المهاجرون والنصار وأتباعهم إلى يوم الدين‪ .‬فالذى عمل به هو وخلفاؤه الراشدون‪،‬‬
‫هو المرادُ من هذه اليات‪ ،‬ولذلك قال عمر بن الخطاب رضى ال عنه فيما رواه أحمد رحمه ال‬
‫ل مِن أحد‪ ،‬وما أنا أحقّ به من أحد‪ ،‬وال ما مِن المسلمين أحد إل‬
‫وغيره عنه‪ :‬ما أحدٌ أحقّ بهذا الما ِ‬
‫وله فى هذا المال نصيب إل عبد مملوك‪ ،‬ولكنا على منَازِلنا مِن كتاب ال‪ ،‬وقسمنا من رسول ال‬
‫ل وبلؤُه فى السلم‪ ،‬والرجل وقِ َدمُه فى السلم‪ ،‬والرجل وغَناؤه فى‬
‫صلى ال عليه وسلم فالرج ُ‬
‫السلم‪ ،‬والرجل وحاجتُه‪ ،‬وال لئن بقيت لهم ليأتين الراعى بجبل صنعاء حظّه مِن هذا المال‪ ،‬وهو‬
‫يَرعى مكانه‪ .‬فهؤلء المس ّموْن فى آية الفىء هم المسمّون فى آية الخمس‪ ،‬ولم يدخُل المهاجرون‬
‫والنصارُ وأتباعُهم فى آية الخمسِ‪ ،‬لنهم المستحقون لجملة الفىء‪ ،‬وأهلُ الخمس لهم استحقاقان‪:‬‬
‫استحقاقٌ خاص مِن الخمس‪ ،‬واستحقاقٌ عام من جملة الفىء‪ ،‬فإنهم داخلون فى ال ّنصِيبَيْنِ‪.‬‬
‫وكما أن قِسمته من جملة الفىء بين مَن جعل له ليس قسمة الملك التى يشترك فيها‬
‫المالكون ؛ كقِسم ِة المواريث والوصايا والملك المطلقة‪ ،‬بل بحسب الحاجة والنفع والغَناء فى‬
‫السلم والبلء فيه‪ ،‬فكذلك قِسمة الخمسِ فى أهله‪ ،‬فإن مخرجَهما واحد فى كتاب ال‪ ،‬والتنصيصُ‬
‫على الصناف الخمسة يُفيد تحقيق إدخالهم‪ .‬وأنهم ل يُخرجون من أهل الفىء بحال‪ ،‬وأن الخمس ل‬
‫يعدوهم إلى غيرهم‪ ،‬كأصناف الزكاة ل تعدوهم إلى غيرهم‪ ،‬كما أن الفىء العام فى آية الحشر‬
‫للمذكورين فيها ل يتعداهم إلى غيرهم‪ ،‬ولهذا أفتى أئمة السلم‪ ،‬كمالك‪ ،‬والمام أحمد وغيرهما‪،‬‬
‫ق لهم فى الفىء لنهم ليسوا من المهاجرين‪ ،‬ول من النصار‪ ،‬ول من الذين‬
‫أن الرافضة ل ح ّ‬
‫سبَقُونَا بِالِيمَانِ} [الحشر‪ ،]10:‬وهذا‬
‫خوَا ِننَا الّذينَ َ‬
‫جاؤوا من بعدهم يقولون‪{:‬رَبّنا اغْ ِف ْر َلنَا وَلِ ْ‬
‫مذهبُ أهل المدينة‪ ،‬واختيارُ شيخ السلم ابن تيمية‪ ،‬وعليه يدل القرآن‪ ،‬وفعل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وخلفائه الراشدين‪.‬‬
‫س فى آية الزكا ِة وآي ِة الخمس‪ ،‬فقال الشافعى‪ :‬تجب قسم ُة الزكاة‬
‫وقد اختلف النا ُ‬
‫والخمس على الصناف كلّها‪ ،‬ويُعطى مِن كل صنف مَن يطلق عليه اسم الجمع‪.‬‬
‫ل المدينة‪ :‬بل يُعطى فى الصناف المذكورة فيهما‪ ،‬ول يعدوهم‬
‫وقال مالك رحمه ال وأه ُ‬
‫إلى غيرهم‪ ،‬ول تجب قسمةُ الزكاة ول الفىء فى جميعهم‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫وقال المام أحمد وأبو حنيفة‪ :‬بقول مالك رحمهم ال فى آية الزكاة‪ ،‬وبقول الشافعى رحمه‬
‫ال فى آية الخمس‪.‬‬
‫عمَلَ رسول ال صلى ال عليه وسلم وخلفائه‪ ،‬وجده يدل على قول‬
‫ومن تأمل النصوصَ‪ ،‬و َ‬
‫أهل المدينة‪ ،‬فإن ال سبحانه جعل أهل الخمس هم أهل الفىء‪ ،‬وعيّنهم اهتماماً بشأنهم‪ ،‬وتقديمًا لهم‪،‬‬
‫ولما كانت الغنائمُ خاصة بأهلها ل يشركهم فيها سواهم‪ ،‬نصّ على خمسها لهل الخمس‪ ،‬ولما كان‬
‫الفىء ل يختصُ بأحد دون أحد‪ ،‬جعل جملته لهم‪ ،‬وللمهاجرين والنصار وتابعيهم‪ ،‬فسوّى بينَ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم يصِرفُ سهم ال وسهمَه‬
‫الخمسِ وبين الفىء فى المصرِف‪ ،‬وكان رسو ُ‬
‫فى مصالح السلم‪ ،‬وأربعةَ أخماس الخمس فى أهلها مقدمًا لِلهم فالهم‪ ،‬والحوج فالحوج‪،‬‬
‫فيزوج منه عزابَهم‪ ،‬ويقضى منه ديونهم‪ ،‬ويُعين ذا الحاجة منهم‪ ،‬ويُعطى عزبهم حظاً‪ ،‬ومتزوجَهم‬
‫حظّين‪ ،‬ولم يكن هو ول أح ٌد من خلفائه يجمعون اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وذوى القربى‪،‬‬
‫ويقسمون أربعة أخماس الفىء بينهم على السوية‪ ،‬ول على التفضيل‪ ،‬كما لم يكونوا يفعلون ذلك فى‬
‫ض الصواب‪.‬‬
‫الزكاة‪ ،‬فهذا هديُه وسيرتُه‪ ،‬وهو فصلُ الخطاب‪ ،‬ومح ُ‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الوفاء بالعهد لعدوّه وفى رسلهم‪ ،‬أن ل يُقتلوا ول يُحبسوا‪ ،‬وفى‬
‫ض العهد‬
‫ف منه نق َ‬
‫النبذ إلى من عاهده على سواء إذا خا َ‬
‫ن الرّسُلَ لَ‬
‫ثبت عنه أنه قال لرسولى مسلمَة الكذاب لما قال‪ :‬نقول‪ :‬إنه رسولُ الِّ‪َ(( :‬لوْلَ أَ ّ‬
‫ل لَ َق َت ْلتُ ُكمَا))‪.‬‬
‫تُ ْقتَ ُ‬
‫وثبت عنه أنه قال لبى رافع وقد أرسلته إليه قريش‪ ،‬فأراد المقا َم عنده‪ ،‬وأنه ل يرجع إليهم‪،‬‬
‫ك الّذِى فيها‬
‫سَ‬‫ن كَانَ فى نَفْ ِ‬
‫س ال ُبرُدَ‪ ،‬وَلكِنِ ارْجِ ْع إلى َق ْو ِمكَ‪ ،‬فَإ ْ‬
‫ح ِب ُ‬
‫ل أَخِيسُ بِال َعهْدِ‪ ،‬ول أَ ْ‬
‫فقال‪(( :‬إنى َ‬
‫الن فارْجِعْ))‪.‬‬
‫وثبت عنه أنه ر ّد إليهم أبا جندل للعهد الذى كان بينه وبينهم أن َيرُ ّد إليهم من جاءه منهم‬
‫س َب ْيعَةُ السلميةُ مسلمةً‪ ،‬فخرج زوجُها فى طلبها‪ ،‬فأنزل ال عز‬
‫مسلماً‪ ،‬ولم يرد النساء‪ ،‬وجَادت ُ‬
‫علَمُ بِإيمَا ِنهِنّ فَإنْ‬
‫لّ أَ ْ‬
‫حنُوهُنّ ا ُ‬
‫جرَاتٍ‪ ،‬فَا ْمتَ ِ‬
‫ت ُمهَا ِ‬
‫وجل‪{ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا إذَا جَا َءكُم ال ُم ْؤ ِمنَا ُ‬
‫جعُوهُنّ إلى الكُفّارِ} [الممتحنة‪ ]10 :‬فاستحلفها رسولُ ال صلى ال عليه‬
‫ل َترْ ِ‬
‫ن ُم ْؤ ِمنَاتٍ فَ َ‬
‫عِل ْم ُتمُوهُ ّ‬
‫َ‬
‫وسلم أنه لم يُخرجها إل الرغبة فى السلمِ‪ ،‬وأنها لم تخرج لحدث أحدثته فى قومها‪ ،‬ول بغضاً‬
‫لزوجها‪ ،‬فحلفت‪ ،‬فأعطى رسول ال صلى ال عليه وسلم زوجَها مهرَها‪ ،‬ولم يردها عليه‪ .‬فهذا‬

‫‪43‬‬
‫حكمه الموافق لحكم ال‪ ،‬ولم يجىء شىء ينسخه البتة‪ ،‬ومن زعم أنه منسوخ‪ ،‬فليس بيده إل‬
‫الدعوى المجردة‪ ،‬وقد تقدم بيان ذلك فى قصة الحُديبية‪.‬‬
‫سوَا ٍء إنّ الَّ ل يُحبّ الخَا ِئنِينَ}‬
‫خيَانةً فا ْنبِ ْذ إَل ْيهِمْ عَلى َ‬
‫ن مِنْ قَومٍ ِ‬
‫وقال تعالى‪{:‬وإمّا تَخَافَ ّ‬
‫[النفال‪]58 :‬‬
‫حتّى‬
‫ل يُشُ ّدنّهُ َ‬
‫حلّنّ عَقْداً‪ ،‬و َ‬
‫ل يَ ُ‬
‫عهْدٌ فَ َ‬
‫ن َب ْينَهُ َو َبيْنَ َقوْمٍ َ‬
‫ن كَا َ‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَ ْ‬
‫سوَاء))‪ .‬قال الترمذى‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫ى َأمَ ُدهُ‪َ ،‬أوْ َي ْنبِ َذ إَل ْيهِمْ عَلى َ‬
‫َي ْمضِ َ‬
‫ولما أسرت قريشٌ حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما‪ ،‬وعاهدوهما أن ل يقاتلهم معَ رسول‬
‫جيْن إلى بدر‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكانوا خار َ‬
‫عَل ْيهِمْ))‪.‬‬
‫ى َلهُمْ ِب َعهْدِهِمْ‪ ،‬ونَس َتعِينُ الَّ َ‬
‫صرِفا‪ ،‬نَ َف ِ‬
‫((ا ْن َ‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى المان الصادر من الرجال والنساء‬
‫سعَى بِ ِذ ّم ِتهِ ْم أَ ْدنَاهُمْ))‪.‬‬
‫سِلمُونَ َت َتكَا َفأُ ِدمَاؤُهُم وَي ْ‬
‫ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬ا ْلمُ ْ‬
‫وثبت عنه أن أجارَ رجلينَ أجار ْتهُما أم هانىء ابنة عمه ؛ وثبت عنه أنه أجار أبا العاص بن‬
‫سِلمِينَ أَ ْدنَاهُمْ))‪ .‬وفى حديث آخر‪(( :‬يُجِيرُ‬
‫علَى المُ ْ‬
‫الربيع لما أجارته ابنتُه زينب‪ ،‬ثم قال‪(( :‬يُجيرُ َ‬
‫عَل ْيهِمْ أَقصَاهُمْ))‪.‬‬
‫سِلمِينَ أَ ْدنَاهُم َو َيرُدّ َ‬
‫على المُ ْ‬
‫فهذه أربع قضايا كلية ؛ أحَدها‪ :‬تكافؤ دمائهم‪ ،‬وهو يمنع قتل مسلمهم بكافرهم‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬أنه يَسعى بذمتهم أدناهم‪ ،‬وهو يُوجب قبول أمان المرأة والعبد‪.‬‬
‫وقال ابن الماجشون‪ .‬ل يجوز المان إل لوالى الجيش‪ ،‬أو والى السرية‪ .‬قال ابنُ شعبان‪:‬‬
‫وهذا خلفُ النّاس ُكلّهم‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬أن المسلمين يد على من سواهم‪ ،‬وهذا يمن ُع مثن تولية الكفار شيئًا من الوليات‪،‬‬
‫فإن للوالى يدًا على المولّى عليه‪.‬‬
‫س ِريّة إذا غنمت غنيمة بقوة جيش‬
‫والرابعة‪ :‬أنه يرد عليهم أقصاهم‪ ،‬وهذا يُوجب أن ال ّ‬
‫السلم كانت لهم‪ ،‬وللقاصى من الجيش إذ بقوته غنموها‪ ،‬وأن ما صار فى بيت المال من الفىء‬
‫كان لقاصيهم ودانيهم‪ ،‬وإن كان سبب أخذه دانيهم‪ ،‬فهذه الحكام وغيرها مستفادة من كلماته‬
‫الربعة صلوات ال وسلمه عليه‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪44‬‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الجزية ومقدارها وممن تقبل‬
‫قد تقدم أنّ أول ما بعث ال عز وجل به نبيّه صلى ال عليه وسلم الدعوة إليه بغير قتال ول‬
‫جزية‪ ،‬فأقام على ذلك ِبضْعَ عشرة سنة بمكة‪ .‬ثم أذِنَ له فى القتال لما هاجر من غير فرض له‪ ،‬ثم‬
‫أمره بقتال من قاتله‪ ،‬والكفّ عمن لم يقاتله‪ ،‬ثم لما نزلت ((براءة)) سنة ثمان أمره بقتال جميع من‬
‫لم يُسلم من العرب‪ :‬مَن قالته‪ ،‬أو كفّ عن قتاله إل من عاهده‪ ،‬ولم َينْ ُقصْهُ من عهده شيئاً‪ ،‬فأمره أن‬
‫يفىَ له بعهده‪ ،‬ولم يأمره بأخذ الجزية من المشركين‪ ،‬وحارب اليهود مراراً‪ ،‬ولم يُؤمر بأخذ الجزية‬
‫منهم‪.‬‬
‫ث ّم أمره بقتال أهل الكتاب كلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية‪ ،‬فامتثل أمر ربه‪،‬‬
‫فقاتلهم‪ ،‬فأسلم بعضهم‪ ،‬وأعطى بعضُهم الجزية‪ ،‬واستم ّر بعضُهم على محاربته‪ ،‬فأخذها صلى ال‬
‫عليه وسلم مِن أهل نجران وأيلة‪ ،‬وهم من نصارى العرب‪ ،‬ومن أهل دُومَة الجندل وأكثرُهم عرب‪،‬‬
‫وأخذها مِن المجوس ومن أهل الكتاب باليمن‪ ،‬وكانوا يهوداً‪.‬‬
‫ولم يأخذها من مشركى العرب‪ ،‬فقال أحمد‪ ،‬والشافعى‪ :‬ل تؤخذ إل من‬
‫الطوائف الثلث التى أخذها رسول ال صلى ال عليه وسلم منهم‪ ،‬وهم‪ :‬اليهود‪ ،‬والنصارى‪،‬‬
‫والمجوس‪ .‬ومن عداهم فل يُقبل منهم إل السل ُم أو القتل‪ .‬وقالت طائفة‪ :‬فى المم كلها إذا بذلوا‬
‫الجزية‪ُ ،‬ق ِبَلتْ منهم‪ :‬أهل الكتابين بالقرآن‪ ،‬والمجوس بالسنة‪ ،‬ومن عداهم ملحَقٌ بهم لن المجوس‬
‫أهل شرك ل كتاب لهم‪ ،‬فأخذُها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين‪ ،‬وإنما لم يأخذها صلى‬
‫ال عليه وسلم من عبدة الوثان من العرب لنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية‪ ،‬فإنها نزلت بعدَ‬
‫تبوك‪ ،‬وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب‪ ،‬واستوثقت ُكلّها له بالسلم‪،‬‬
‫ولهذا يأخذها مِن اليهود الذين حاربوه‪ ،‬لنها لم تكن نزلت بعد‪ ،‬فلما نزلت‪ ،‬أخذها من نصارى‬
‫العرب‪ ،‬ومن المجوس‪ ،‬ولو بقى حينئذ أحدٌ من عبدة الوثان بذلها لقبلها منه‪ ،‬كما قبلها من عبدة‬
‫الصلبان والنيران‪ ،‬ول فرق ول تأثير لتغليظِ كفر بعض الطوائف على بعض‪ ،‬ثم إن كفر عبدةِ‬
‫الوثان ليس أغلظ مِن كفر المجوس‪ ،‬وأىّ فرق بين عبدة الوثان والنيران‪ ،‬بل كف ُر المجوس أغلظ‪،‬‬
‫وعبادُ الوثان كانوا يُقرون بتوحيد الربوبية‪ ،‬وأنه ل خالق إل ال‪ ،‬وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لِتقربهم‬
‫إلى ال سبحانه وتعالى ‪ ،‬ولم يكونوا يُ ِقرّون بصان َعيْنِ للعالم‪ ،‬أحدهما‪ :‬خالق للخير‪ ،‬والخر للشر‪،‬‬
‫كما تقوله المجوس‪ ،‬ولم يكونوا يستحلون نكاح المهات والبنات والخوات‪ ،‬وكانوا على بقايا من‬
‫دين إبراهيم صلوات ال وسلمه عليه‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫وأما المجوس‪ ،‬فلم يكونوا على كتاب أصلً‪ ،‬ول دانوا بدين أحد من النبياء ل فى عقائدهم‬
‫ول فى شرائِعهم‪ ،‬والثر الذى فيه أنه كان لهم كتاب َفرُفعَ‪ ،‬ورُ ِفعَت شريعتُهم لما وقع َمِلكُهم على‬
‫ح البتة‪ ،‬ولو صحّ لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب‪ ،‬فإن كتابَهم رُفِعَ‪ ،‬وشريعتهم بطلت‪،‬‬
‫ابنته ل َيصِ ّ‬
‫فلم يبقوا على شىء منها‪.‬‬
‫ب كانوا على دين إبراهيم عليه السلم‪ ،‬وكان له صحف وشريعة‪ ،‬وليس‬
‫ومعلوم أن العر َ‬
‫ن إبراهيم عليه السلم وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم‬
‫تغييرُ عبدة الوثان لدي ِ‬
‫وكتابهم لو صحّ‪ ،‬فإنه ل يُعرف عنهم التمسك بشىء من شرائع النبياء عليهم الصلوات والسلم‪،‬‬
‫ل من مشركى العرب‪،‬‬
‫بخلف العرب‪ ،‬فكيف يجعل المجوس الذين دينُهم أقبحُ الديان أحسنَ حا ً‬
‫وهذا القول أصحّ فى الدليل كما ترى‪.‬‬
‫وفرقت طائفة ثالثة بين العرب وغيرهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬تُؤخذ مِن كل كافر إل مشركى‬
‫العرب‪.‬ورابعة‪ :‬فرقت بين قريش وغيرهم‪ ،‬وهذا ل معنى له‪ ،‬فإن قريشًا لم يبق فيهم كافر يحتاج‬
‫إلى قتاله وأخذ الجزية منه البتة‪ ،‬وقد كتب النبى صلى ال عليه وسلم إلى أهل َهجَر‪ ،‬إلى المنذر بن‬
‫ساوى‪ ،‬وإلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى السلم أو الجزية‪ ،‬ولم يفرق بين عربى وغيره‪.‬‬
‫أما حُكمُه فى قدرها‪ ،‬فإنه بعث معاذًا إلى اليمن‪ ،‬وأمره أن يأخذ مِن كُلّ حالم ديناراً‬
‫أو قِيمته َمعَافِر‪ ،‬وهى ثياب معروفة باليمن‪ .‬ثم زاد فيها عمر رضى ال عنه‪ ،‬فجعلها أربعةً دنانير‬
‫على أهل الذهب‪ ،‬وأربعينَ درهمًا على أهل ال َورِقِ فى كل سنة‪ ،‬فرسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ف أهل اليمن‪ ،‬وعمرُ رضى ال عنه علم غِنى أهل الشام وقوتهم‪.‬‬
‫علم ضع َ‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الهدنة وما ينقضها‬
‫ل مكة على وضع الحرب بينه وبينهم عشرَ‬
‫ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه صالح أه َ‬
‫سنين‪ ،‬ودخل حلفاؤهم من بنى بكر معهم‪ ،‬وحلفاؤه من خزاعة معه‪َ ،‬فعَ َدتْ حلفاءُ قريش على‬
‫حلفائه‪ .‬فغدروا بهم‪ ،‬فرضيت قريش ولم تُنكره‪ ،‬فجعلهم بذلك ناقضين للعهد‪ ،‬واستباح غزوهم مِن‬
‫غير نبذ عهدهم إليهم‪ ،‬لنهم صاروا محاربين له‪ ،‬ناقضين لعهده برضاهم وإقرارهم لحلفائهم على‬
‫الغدر بحلفائه‪ ،‬وألحق رِدأهم فى ذلك بمباشرهم‪.‬‬
‫وثبت عنه أنه صالح اليهود‪ ،‬وعاهدهم لما قَدِمَ المدينة‪ ،‬فغدروا به‪ ،‬ونقضوا عهده‬
‫مراراً‪ ،‬وكل ذلك يُحاربهم ويظفر بهم‪ ،‬وآخرُ ما صالح يهود خيبر على أن الرض له‪ ،‬ويُقرهم فيها‬

‫‪46‬‬
‫عمالً له ما شاء‪ ،‬وكان هذا الحكمُ منه فيهم حج ًة على جواز صلح المام لعدوه ما شاء مِن المدة‪،‬‬
‫فيكون العقدُ جائزاً‪ ،‬له فسخه متى شاب‪ ،‬وهذا هو الصواب‪ ،‬وهو موجب حكم رسول ال صلى ال‬
‫خ له‪.‬‬
‫عليه وسلم الذى ل ناس َ‬
‫فصل‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫@‬
‫وكان فى صلحه لهل مكة أن من أحبّ أن يدخل فى عهد محمد وعقده دخل‪ ،‬ومن أحب أن‬
‫يدخل فى عهد قريش وعقدهم دخل‪ ،‬وأن من جاءهم من عنده ل يردّونه إليه‪ ،‬ومن جاءه منهم رده‬
‫جُلبّانِ السلح‪ ،‬وقد تقدم‬
‫إليهم‪ ،‬وأنه يدخل العام القابل إلى مكة‪ ،‬فيخلونها له ثلثاً‪ ،‬ول يدخلها إل بِ ُ‬
‫ذِكرُ هذه القصة وفقهها فى موضعه‪.‬‬
‫ذكر أقضيته وأحكامه صلى ال عليه وسلم فى النكاح وتوابِعه‬
‫فصل‬
‫ب والبِكر يُزوّجُهما أبوهما‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى ال ّثيّ ِ‬
‫ثبت عنه فى ((الصحيحين))‪ :‬أن خنساء بنت خِدَام زوّجَها أبوها وهى كارِهةٌ‪ ،‬وكانت ثيباً‪،‬‬
‫وفى السنن‪ :‬من حديث ابن عباس‪ :‬أن‬ ‫حهَا‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فر ّد نِكا َ‬
‫ت رَسُو َ‬
‫فَأ َت ْ‬
‫جاري ًة بكراً أتت النّبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فذكرت لَ ُه أنّ أباها زوّجها وَ ِهىَ كَارِهَةٌ‪ ،‬فخيرها النبى‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬وهذه غير خنساء‪ ،‬فهما قضيتان قضى فى إحداهما بتخيير الثّيب‪ ،‬وقضى فى‬
‫الخرى بتخيير البكر‪.‬‬
‫س َتأْذَنَ‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسولَ ال‪:‬‬
‫حتّى تُ ْ‬
‫ح ال ِب ْكرُ َ‬
‫وثبت عنه فى ((الصحيح)) أنه قال‪(( :‬ل ُت ْنكَ ُ‬
‫س ُكتَ))‪.‬‬
‫وكيف إذنُها؟ قال‪(( :‬أَنْ تَ ْ‬
‫صمَاتُها))‪.‬‬
‫سهَا‪ ،‬وإ ْذ ُنهَا ُ‬
‫وفى صحيح مسلم‪(( :‬ال ِب ْكرُ تُستأذن فى نَفْ ِ‬
‫وموجب هذا الحكم أنه ل تُجبر البِك ُر البال ُغ على النكاح‪ ،‬ول تُزوج إل برضاها‪ ،‬وهذا قولُ‬
‫جمهور السلف‪ ،‬ومذهبُ أبى حينفة وأحمد فى إحدى الروايات عنه‪ ،‬وهو القولُ الذى ندين ال به‪،‬‬
‫ول نعتقِدُ سواه‪ ،‬وهو الموافِقُ لحكم رسول ال صلى ال عليه وسلم وأمرِه ونهيه‪ ،‬وقواعد شريعته‪،‬‬
‫ومصالح أمته‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫حكَم بتخيير البِكرِ الكارِهة‪ ،‬وليس روايةُ هذا الحديث مرسلةً‬
‫أما موافقتُه لِحكمه‪ ،‬فإنه َ‬
‫بعلة فيه‪ ،‬فإنه قد رُوى مسنداً ومرسلً‪ .‬فإن قلنا بقول الفقهاء‪ :‬إن التصال زيادة‪ ،‬ومَنْ وصله مقدّمٌ‬
‫على من أرسله‪ ،‬فظاهر وهذا تصرفهم فى غالب الحاديث‪ ،‬فما بالُ هذا خرج عن حكم أمثاله‪ ،‬وإن‬
‫حكمنا بالرسال‪ ،‬كقول كثير من المحدثين‪ ،‬فهذا مرسل قوى قد عضدته الثارُ الصحيحة‬
‫الصريحة‪ ،‬والقياسُ وقواعِ ُد الشرع كما سنذكره‪ ،‬فيتعين القولُ به‪.‬‬
‫وأما موافقة هذا القول لمره‪ ،‬فإنه قال‪(( :‬وال ِب ْكرُ تُستأذن‪ ،‬وهذا أمر مؤكّد‪،‬‬
‫ق المخبر به وثبوتِه ولزومِه‪ ،‬والصل فى أوامره صلى ال‬
‫لنه ورد بصيغة الخبرِ الدال على تحقّ ِ‬
‫عليه وسلم أن تكون للوجوب ما لم يَقُمْ إجماع على خلفه‪.‬‬
‫س َتأَذَنَ))‪ ،‬فأمر‬
‫حتّى تُ ْ‬
‫ل ُت ْنكَحُ ال ِب ْكرُ َ‬
‫وأما موافقته لنهيه‪ ،‬فلقوله‪َ (( :‬‬
‫ونهى‪ ،‬وحكم بالتخيير‪ ،‬وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق‪.‬‬
‫ن البِكر البالغة العاقلة الرشيدة‬
‫وأما موافقته لِقواعد شرعِه‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل يتصرّف أبوها فى أقلّ شىء من مالها إل برضاها‪ ،‬ول يُجبرها على إخراج اليسي ِر منه بدون‬
‫ج بُضعها منها بغير رضاها إلى من يُريد هو‪ ،‬وهى مِن أكره‬
‫رضاها‪ ،‬فكيف يجوز أن ُيرِقّها‪ ،‬ويُخرِ َ‬
‫الناس فيه‪ ،‬وهو مِن أبغض شىء إليها؟ ومع هذا فيُنكِحها إياه قهرًا بغير رضاها إلى من يُريده‪،‬‬
‫عوَانٍ‬
‫لّ فى النّسَاءِ فَإ ّنهُنّ َ‬
‫ويجعلُها أسيرةً عنده‪ ،‬كما قال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬اتّقُوا ا َ‬
‫ل عليها من تزويجها بمن ل‬
‫عنْ َدكُمْ)) أى‪ :‬أسرى‪ ،‬ومعلومٌ أن إخراجَ مالها ُكلّه بغير رضاها أسه ُ‬
‫ِ‬
‫ل مَنْ قال‪ :‬إنها عينت كُفْئًا تُحبه‪ ،‬وعيّن أبوها كُفْئاً‪ ،‬فالعبر ُة بتعيينه‪،‬‬
‫تختارُه بغير رضاها‪ ،‬ولقد أبط َ‬
‫ولو كان بغيضاً إليها‪ ،‬قبيحَ الخِلقة‪.‬‬
‫وأما موافقتُه لمصالح المة‪ ،‬فل يخفى مصلحة البنت‬
‫ل ضد ذلك بمن تُب ِغضُه‬
‫فى تزويجها بمن تختاره وترضاه‪ ،‬وحصولُ مقاصد النكاح لها به‪ ،‬وحصو ُ‬
‫س الصحيح‪ ،‬وقواع ُد الشريعة ل‬
‫وتن ِفرُ عنه‪ ،‬فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول‪ ،‬لكان القيا ُ‬
‫تقتضى غيره‪ ،‬وبال التوفيق‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫فإن قيل‪ :‬قد حكم رسو ُ‬
‫وسلم بالفرق بين البكر والثيب‪ ،‬وقال‪(( :‬ول تُنكَحُ الّيم حتى تُستأمر‪ ،‬ول تُنكح ال ِبكُر حتى‬
‫ليّمَ أحقّ بنفسها من‬
‫ستَأْ َذنُها َأبُوها)) فجعل ا َ‬
‫ن َوِليّها‪ ،‬وال ِبكْ ُر يَ ْ‬
‫ق ِبنَفْسِها مِ ْ‬
‫ليّمُ أَحَ ّ‬
‫تُستأذن)) وقال‪(( :‬ا َ‬
‫ليّم بذلك معنى‪.‬‬
‫وليّها‪ ،‬فعلم أن ولىّ البكرِ أحقّ بها مِن نفسها‪ ،‬وإل لم يكن لتخصيصِ ا َ‬

‫‪48‬‬
‫ب النطقَ‪ ،‬وإذن البِكرِ الصّمتَ‪ ،‬وهذا‬
‫وأيضاً فإنه فرّق بينهما فى صفة الذن‪ ،‬فجعل إذنَ ال ّث ّي ِ‬
‫ُكلّه يدل على عدم اعتبار رضاها‪ ،‬وأنها ل حقّ لها مع أبيها‪.‬‬
‫ل على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها‬
‫فالجواب‪ :‬أنه ليس فى ذلك ما يَدُ ّ‬
‫ض الخلق إليها إذا كان كُفْئاً‪ ،‬والحاديث التى احتججتُم بها صريحةٌ فى‬
‫ورُشدها‪ ،‬وأن يزوجها بأبغ ِ‬
‫ل بطريق‬
‫إبطال هذا القول‪ ،‬وليس معكم أقوى مِن قوله‪(( :‬الّيم أحق بنفسها من وليّها))‪ ،‬هذا إنما يد ُ‬
‫المفهوم‪ ،‬ومُنازِعوكم يُنازعونكم فى كونه حجة‪ ،‬ولو سلم أنه حجة‪ ،‬فل يجوز تقديمُه على المنطوق‬
‫الصريح‪ ،‬وهذا أيضاً إنما يدل إذا قلت‪ :‬إن للمفهوم عموماً‪ ،‬والصواب أنه ل عموم له‪ ،‬إذ دللتُه‬
‫ترج ُع إلى أن التخصيصَ بالمذكور ل بُدّ له من فائدة‪ ،‬وهى نفىُ الحكم عما عداه‪ ،‬ومعلوم أن انقسام‬
‫ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة‪ ،‬وأن إثبات حكم آخرَ للمسكوت عنه فائدة وإن لم يكن ضدّ‬
‫حكم المنطوق‪ ،‬وأن تفصيله فائدة‪ ،‬كيف وهذا مفهومٌ مخالفٌ للقياس الصريح‪ ،‬بل قياس الولى كما‬
‫ص المذكورة‪.‬‬
‫تقدم‪ ،‬ويُخالف النصو َ‬
‫وتأمل قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬والبكر يستأذنها أبوها)) عقيبَ قوله‪(( :‬الّيم أحق بنفسها‬
‫من وليها))‪ ،‬قطعًا لتوهم هذا القول‪ ،‬وأن البكر تُزوج بغير رضاها ول إذنها‪ ،‬فل حق لها فى نفسها‬
‫البتة‪ ،‬فوصل إحدى الجملتين بالخرى دفعًا لهذا التوهم‪ .‬ومن المعلوم أنه ل يلزمُ مِن كون الثيّب‬
‫أحق بنفسها من وليها أن ل يكون للِبكر فى نفسها حق البتة‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء فى مناط الجبار على ستة أقوال‪.‬‬
‫ل الشَافعى ومالك وأحمد فى رواية‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬أنه يُجبر بالبكارة‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫ل أبى حنيفة‪ ،‬وأحمد فى الرواية الثانية‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أنه يُجبر بالصغر‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫الثالث‪ :‬أنه يجبر بهما معاً‪ ،‬وهو الروايةُ الثالثة عن أحمد‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أنه يُجبر بأيّهما وجد وهو الرواية الرابعة عنه‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أنه يُجبر باليلد‪ ،‬فُتج َب ُر الثيب البالغ‪ ،‬حكاه القاضى إسماعيل عن الحسن‬
‫البصرى قال‪ :‬وهو خلف الجماع‪ .‬قال‪ :‬وله وجه حسن من الفقه‪ ،‬فيا ليتَ شعرى ما هذا الوجه‬
‫السودُ المظلمُ؟‪،‬‬
‫السادس‪ :‬أنه يُجبر من يكون فى عياله‪ ،‬ول يَخفى عليك الراجحُ مِن هذه المذاهب‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪49‬‬
‫وقضى صلى ال عليه وسلم بأن إذن البكر الصّمات‪ ،‬وإذن الثيب الكلم‪ ،‬فإن نطقت البكر‬
‫ح أن تزوج إل بالصمات‪ ،‬وهذا هو اللئق بظاهريته‪.‬‬
‫بالذن بالكلم فهو آكد‪ ،‬وقال ابنُ حزم‪ :‬ل َيصِ ّ‬
‫فصل‬
‫حتِلمٍ‪،‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم أن اليتيم َة تُستأمر فى نفسها‪ ،‬ول يُت َم َبعْدَ ا ْ‬
‫وقضى رسو ُ‬
‫ل ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ‪ ،‬وهذا مذهبُ عائشة رضى ال عنها‪ ،‬وعليه يَدُلّ‬
‫فد ّ‬
‫القرآن والسنة‪ ،‬وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرُهما‪.‬‬
‫عَل ْيكُ ْم فى ال ِكتَابِ فى َيتَامَى‬
‫ن َومَا ُيتْلى َ‬
‫لّ يُ ْفتِيكُم فيه ّ‬
‫ك فى النّسَاءِ قُلِ ا ُ‬
‫ستَفتُونَ َ‬
‫قال تعالى‪{:‬ويَ ْ‬
‫ن أَنْ َت ْنكِحُوهُنّ} [النساء‪.]127 :‬‬
‫غبُو َ‬
‫ن و َترْ َ‬
‫ب َلهُ ّ‬
‫النّسَا ِء اللّتى ل ُت ْؤتُو َنهُنّ مَا ُك ِت َ‬
‫قالت عائش ُة رضى ال عنها‪ :‬هى اليتيمةُ تكون فى حجر وليها‪ ،‬فيرغبُ فى نكاحها‪ ،‬ول‬
‫سنّةَ صداقِهن‪.‬‬
‫سنّ َة صَدَاقِها‪َ ،‬فنُهوا عن نكاحهن إل أن يُقْسِطُوا لهن ُ‬
‫يُقْسِطُ لها ُ‬
‫ص َم َتتْ َف ُهوَ‬
‫سهَا فَإنْ َ‬
‫ستَ ْأ َمرُ فى نَفْ ِ‬
‫وفى السنن الربعة‪ :‬عنه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ال َيتِيمَةُ تُ ْ‬
‫عَل ْيهَا))‪.‬‬
‫جوَازَ َ‬
‫إ ْذنُها وإنْ أَبتْ‪ ،‬فَلَ َ‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى النكاح بل ولى‬
‫حتْ نَفْسَها ِب َغيْر إذْن‬
‫فى ((السنن)) عنه من حديث عائشة رضى ال عنها‪َ(( :‬أيّمَا ا ْم َرَأةٍ َن َك َ‬
‫َولّيها َف ِنكَاحُها بَاطِلٌ‪َ ،‬ف ِنكَاحُها باطِلٌ‪َ ،‬ف ِنكَاحُها بَاطِلُ‪ ،‬فَإن َأصَابَها َفلَها َم ْهرُهَا بمَا َأصَابَ ِمنْها‪ ،‬فَإنْ‬
‫ل َوِلىّ لَهُ)) قال الترمذى حديث حسن‪.‬‬
‫سلْطَانُ وَلى مَنْ َ‬
‫جرُوا فَال ّ‬
‫شتَ َ‬
‫اْ‬
‫ل تُزوّجُ ال َم ْرَأةُ المرأةَ‪ ،‬ول‬
‫ل ِبوَلى))‪ .‬وفيها عنه‪َ (( :‬‬
‫ح إِ ّ‬
‫ل ِنكَا َ‬
‫وفى السنن الربعة‪ :‬عنه‪َ (( :‬‬
‫سهَا))‪.‬‬
‫ج نَفْ َ‬
‫ى الّتى َت ُزوّ ُ‬
‫ُت َزوّجُ ال َم ْرَأةُ نَفْسَها‪ ،‬فَإن الزّا ِنيَةَ ِه َ‬
‫فصل‬
‫وحكم أن المرأة إذا زوجها الوليان‪ ،‬فهى للول منهما‪ ،‬وأن الرجل إذا باع للرجلين‪ ،‬فالبيعُ‬
‫للول منهما‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى قضائه فى نكاح التفويض‬
‫ثبت عنه أنه قضى فى رجل تزوّج امرأة‪ ،‬ولم يَ ْفرِضْ لها صداقاً‪ ،‬ولم يدخل بها حتّى ماتَ‬
‫أن لها َم ْه َر ِم ْثِلهَا‪ ،‬ل َو ْكسَ ول شَطَطَ‪ ،‬ولها الميراثُ‪ ،‬وعليها العِد ّة أربعة أشهر وعشراً‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫جكَ فلنَة))؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وقال‬
‫ن ُأ َزوّ َ‬
‫وفى سنن أبى داود عنه‪ :‬أنه قال لرجل‪َ(( :‬أ َترْضى أَ ْ‬
‫جكِ فُلَناً))؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فزوّج أحدهما صاحبه‪ ،‬فدخل بها الرجلُ‪ ،‬ولم‬
‫ن أَنْ َأ َزوّ َ‬
‫للمرأة‪َ(( :‬أ َت ْرضَيْ َ‬
‫ض لها صَداقاً‪ ،‬ولم يُعطِها شيئاً‪ ،‬فلما كان عند موته ع ّوضَها مِن صداقها سهماً له بخيبر‪.‬‬
‫يَ ْفرِ ْ‬
‫وقد تضمّنت هذه الحكام جوازَ النكاح مِن غير تسمية صداق‪ ،‬وجوازَ الدخول قبل التسمية‪،‬‬
‫واستقرا َر مهر المثل بالموت‪ ،‬وإن لم يدخُلْ بها‪ ،‬ووجوبَ عِدة الوفا ِة بالموت‪ ،‬وإن لم يدخُلْ بها‬
‫الزوج‪ ،‬وبهذا أخذ ابنُ مسعود وفقها ُء العِراق‪ .‬وعلماءُ الحديث‪ ،‬منهم‪ :‬أحمد‪ ،‬والشافعى فى أحد‬
‫وقال على بن أبى طالب‪ ،‬وزيد بن ثابت رضى ال عنهما‪ :‬ل صداقَ لها‪ ،‬وبه أخذَ‬ ‫قوليه‪.‬‬
‫ل المدينة‪ ،‬ومالك‪ ،‬والشافعى فى قوله الخر‪.‬‬
‫أه ُ‬
‫طرَفى العقد‪ ،‬كوكيل مِن الطرفين‪ ،‬أو ولى فيهما‪ ،‬أول ولى‬
‫وتضمّنت جواز تولّى الرجل َ‬
‫ج و ّكلَه الولى‪ ،‬ويكفى أن يقول‪ :‬زوجتُ فلنًا فلنة مقتصراً على ذلك‪ ،‬أو‬
‫و ّكلَه الزوجُ‪ ،‬أو زو ٍ‬
‫تزوجت فلنة إذا كان هو الزوج‪ ،‬وهذا ظاهر مذهب أحمد‪ ،‬وعنه رواية ثانية‪ :‬ل يجوز ذلك إل‬
‫للولى المجبر‪ ،‬كمن زوّج أمته أو ابنته المجبرة بعبده المجبر‪ ،‬ووجه هذه الرواية أنه ل يُعتبر‬
‫رضى واحد من الطرفين‪.‬‬
‫ح منه تولى الطرفين لتضاد‬
‫وفى مذهبه قول ثالث‪ :‬أنه يجوز ذلك إل للزوج خاصة‪ ،‬فإنه ل يصِ ّ‬
‫أحكا ِم الطرفين فيه‪.‬‬
‫فصل‬
‫حبَلِ‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيمن تزوج امرأةً فوجدها فى ال َ‬
‫فى ((السنن)) ((والمصنّف))‪ :‬عن سعيد بن المسيب‪ ،‬عن بصرة بن أكثم‪ ،‬قال‪ :‬تزوجت‬
‫امرأة بكراً فى سترها‪ ،‬فدخلتُ عليها‪ ،‬فإذا هى حُبلى‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪َ(( :‬لهَا‬
‫جلِدوُهَا))‪ ،‬وفرّق بينَهما‪.‬‬
‫عبْدُ َلكَ‪ ،‬وإذا َولَ َدتْ فَا ْ‬
‫جهَا وَال َولَدُ َ‬
‫حَل ْلتَ مِنْ َفرْ ِ‬
‫ق ِبمَا اسْت ْ‬
‫الصّدَا ُ‬
‫ل أهل المدينة‪ ،‬والمام أحمد‪،‬‬
‫وقد تضمّن هذا الحكم بطلنَ نِكاح الحامل مِن زنى‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫ب المهر المسمى فى النكاح الفاسد‪ ،‬وهذا هو الصحيح من القوال الثلثة‪.‬‬
‫وجمهور الفقهاء‪ ،‬ووجو ُ‬
‫ل المرين‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬يجب مهر المثل‪ ،‬وهو قول الشافعى رحمه ال‪ .‬والثالث‪ :‬يجبُ أق ّ‬
‫حبَل وإن لم تقُ ْم بينة ول اعتراف‪ ،‬والحبل من أقوى البينات‪ ،‬وهذا‬
‫وتضمنت وجوبَ الحد بال َ‬
‫مذهبُ عمر بن الخطاب رضى ال عنه‪ ،‬وأهل المدينة‪ ،‬وأحمد فى إحدى الروايتين عنه‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫وأما حكمه بكون الولد عبدًا للزوج‪ ،‬فقد قيل‪ :‬إنه لما كان ولد زنى ل أب له‪ ،‬وقد غرّته من‬
‫غرِمَ صداقها أخدمه ولدها‪ ،‬وجعله له بمنزلة العبد ل أنه أرقّه‪ ،‬فإنه انعقد حراً تبعاً لحرية‬
‫نفسها‪ ،‬و َ‬
‫ل أن يكون أرقّه عقوبة لمه على زناها وتغريرها للزوج‪ ،‬ويكون هذا‬
‫أمه‪ ،‬وهذا محتمل‪ ،‬ويحتمِ ُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبذلك الولد ل يتعدّى الحكم إلى غيره‪ ،‬ويحتمِلُ أن يكون هذا‬
‫خاصاً بالنب ّ‬
‫منسوخاً‪ .‬وقد قيل‪ :‬إنه كان فى أول السلم يُسترق الحر فى الدّين‪ ،‬وعليه حمل بيعُه صلى ال عليه‬
‫سرّقٍ فى دَينه‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫وسلم ل ُ‬
‫فصل‬
‫فى حُكمه صلى ال عليه وسلم فى الشّروط فى النّكاح‬
‫حَل ْلتُم بِهِ ال ُفرُوجَ))‪.‬‬
‫ستَ ْ‬
‫ط أَنْ ُتوَفّوا ما ا ْ‬
‫شرُو ِ‬
‫ق ال ّ‬
‫فى ((الصحيحين))‪ :‬عنه‪(( :‬إنّ أحَ ّ‬
‫ستَفْرغَ صَحْ َفتَها وِل َت ْنكِحَ‪ ،‬فإنّما َلهَا ما قُ ّدرَ‬
‫ق أُخْتها ِلتَ ْ‬
‫ل ال َم ْرأَةُ طَلَ َ‬
‫وفيهما عنه‪(( :‬ل تَسْأَ ِ‬
‫ط المرأةُ طلقَ أختها‪.‬‬
‫لها))‪.‬وفيهما‪ :‬أنه نهى أن تَشْترِ َ‬
‫ن ُت ْنكَحَ ا ْم َرَأ ُة بِطَلقِ أُخْرى))‪.‬‬
‫ل أَ ْ‬
‫وفى مسند أحمد‪ :‬عنه‪(( :‬ل يَحِ ّ‬
‫طتْ فى العقد إذا لم تتضمّن تَغييراً لحكم‬
‫شرِ َ‬
‫فتضمن هذا الحكمُ وجوبَ الوفاء بالشروط التى ُ‬
‫ال ورسوله‪ .‬وقد اتّفق على وجوب الوفاء بتعجيل المهر أو تأجيله والضمين والرهن به‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬وعلى عدم الوفاء باشتراط ترك الوطء‪ ،‬والنفاق‪ ،‬الخلو عن المهر‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫واخ ُتِلفَ فى شرط القامة فى بلد الزوجة‪ ،‬وشرط دار الزوجة‪ ،‬وأن ل يتسّرى عليها‪ ،‬ول‬
‫يتزوجَ عليها‪ ،‬فأوجب أحم ُد وغيرُه الوفاء به‪ ،‬ومتى لم َيفِ به فلها الفسخ عند أحمد‪.‬‬
‫واخ ُتلِف فى اشتراط البكارة والنسب‪ ،‬والجمال والسّلمة من العيوب التى ل يُفسخ بها‬
‫النكاحُ‪ ،‬وهل يؤ ّثرُ عدمها فى فسخه؟ على ثلثة أقوال‪.‬‬
‫ثالثها‪ :‬الفسخ عند عدم النسب خاصة‪.‬‬
‫وتضمن حكمُه صلى ال عليه وسلم بطلنَ اشتراط المرأة طلقَ أختها‪ ،‬وأنه ل‬
‫يجب الوفاءُ به‪ .‬فإن قيل‪ :‬فما الفرق بين هذا وبين اشتراطها أن ل يتزوج عليها حتى صححتم هذا‬
‫وأبطلتم شرط الضرة؟ قيل‪ :‬الفرقُ بينهما أن فى اشتراط طلقِ الزوجة من الضرار بِها‪ ،‬وكسرِ‬
‫قلبها‪ ،‬وخرابِ بيتها‪ ،‬وشماتةِ أعدائها ما ليس فى اشتراط عدمِ نكاحها‪ ،‬ونكاحِ غيرها‪ ،‬وقد فرق‬
‫النصّ بينهما‪ ،‬فقياس أحدهما على الخر فاسد‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪52‬‬
‫ح المُحرِم‪ ،‬ونِكاح الزانيةِ‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى نِكاح الشّغار والمُحلّل‪ ،‬والمُتعَةِ ونِكا ِ‬
‫ح النهى عنه مِن حديث ابن عمر‪ ،‬وأبى هُريرة‪ ،‬ومعاوية‪.‬‬
‫أما الشّغار‪ :‬فص ّ‬
‫شغَارَ فى السْلَمِ))‪.‬‬
‫وفى صحيح مسلم‪ :‬عن ابن عمر مرفوعًا ((ل ِ‬
‫ن يُزوّجَه الخ ُر ابنتَه وليس‬
‫وفى حديث ابن عمر‪ :‬والشّغار‪ :‬أن يُزوّجَ الرجلُ ابنتَه على أ َ‬
‫بينهما صداق‪.‬‬
‫وفى حديث أبى هُريرة‪ :‬والشّغارُ‪ :‬أن يقولَ الرجُلُ للِرجل‪ :‬زوجنى ابنتَك وأُزوّجك ابنتى‪ ،‬أو‬
‫زوّجنى أختك وأزوجُك أختى‪.‬‬
‫ن عبد ال بن عباس أنكحَ عبدَ الرحمن ابنَ الحكم ابنَته‪،‬‬
‫سبَ‬
‫ن العبا َ‬
‫وفى حديث معاوية‪ :‬أ ّ‬
‫وأنكحه عب ُد الرحمن ابنتَه‪ ،‬وكانا جعل صَدَاقاً‪ ،‬فكتب معاوي ُة رضى ال عنه إلى مروان يأمُره‬
‫شغَا ُر الذى نهى عنه رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫بالتفريقِ بينهما‪ ،‬وقال‪ :‬هذا ال ّ‬
‫فاختلف الفقهاء فى ذلك‪ ،‬فقال المام أحمد‪ :‬الشّغار الباطل أن يزوّجه وليته على أن يزوّجه‬
‫ح العقدُ بالمسمّى‬
‫ث ابن عمر‪ ،‬فَإن سمّوا مع ذلك مهراً‪ ،‬ص ّ‬
‫الخر وليته‪ ،‬ول مهر بينهما على حدي ِ‬
‫عنده‪ ،‬وقَال الخرقى‪ :‬ل َيصِحّ ولو سمّوا مهرًا على حديث معاوية‪ .‬وقال أبو البركات ابن تيمية‬
‫وغيرُه مِن أصحاب أحمد‪ :‬إن س ّموْا مهراً وقالوا‪ :‬مع ذلك‪ :‬بُضع كل واحدة مهر الخرة لم َيصِحّ‪،‬‬
‫وإن لم يقولوا ذلك‪ ،‬صح‪.‬‬
‫واخ ُتِلفَ فى علة النهى‪ ،‬فقيل‪ :‬هى جعلُ كل واح ٍد من العقدين شرطاً فى الخر وقيل‪:‬‬
‫ل واحدة مهراً للخرى‪ ،‬وهى ل تنتفِعُ به‪ ،‬فلم يرجع إليها‬
‫ل بُضع ك ّ‬
‫العلة التشريكُ فى البُضع‪ ،‬وجع ُ‬
‫المهر‪ ،‬بل عاد المهرُ إلى الولى‪ ،‬وهو مُلكه لبُضع زوجته بتمليكه لبُضع مُولّيته‪ ،‬وهذا ظلم لكل‬
‫ن المرأتين‪ ،‬وإخلءٌ لنكاحهما عن مهر تنتفع به‪ ،‬وهذا هو الموافق للغة العرب‪ ،‬فإنهم‬
‫واحدة مِ َ‬
‫يقوْلون‪ :‬بلد شاغر مِن أمير‪ ،‬ودار شاغرة مِن أهلها‪ :‬إذا خلت‪ ،‬وشغر الكلبُ‪ :‬إذا رفع رجله‪ ،‬وأخلى‬
‫مكانَها‪ .‬فإذا سمّوا مهراً مع ذلك زال المحذور‪ ،‬ولم يبق إل اشتراطُ كلّ واحد على الخر شرطاً ل‬
‫يُؤثر فى فساد العقد‪ ،‬فهذا منصوص أحمد‪.‬‬
‫وأما من فرق‪ ،‬فقال‪ :‬إن قالوا مع التسمية‪ :‬إن بُضع كُل واحدة مهرٌ للخرى‪ ،‬فسد‪ ،‬لنها لم‬
‫يرج ْع إليها مهرُها‪ ،‬وصار بُضعها لغير المستحق‪ ،‬وإن لم يقولوا ذلك‪ ،‬صحّ‪ ،‬والذى يجىء على‬
‫أصله أنهم متى عقدُوا على ذلك وإن لم يقولوه بألسنتهم أنه ل يصح‪ ،‬لن القصود فى العقود‬

‫‪53‬‬
‫معتبرة‪ ،‬والمشروط عرفاً كالمشروط لفظاً‪ ،‬فيبطل العقدُ بشرط ذلك‪ ،‬والتواطؤ عليه ونيته‪ ،‬فإن‬
‫سمّى لِكل واحدة مهرَ مثلها‪ ،‬صح‪ ،‬وبهذا تظهر حكم ُة النهى واتفاقُ الحاديث فى هذا الباب‪.‬‬
‫فصل‬
‫حلّل‪ ،‬ففى ((المسند)) والترمذى من حديث ابن مسعود رضىَ ال عنه قال‪:‬‬
‫وأما نكاح المُ َ‬
‫ل له))‪ .‬قال الترمذى‪ :‬هذا حديث حسن‬
‫حلّ َ‬
‫حلّلَ وَالمُ َ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم المُ َ‬
‫ن رَسُولُ ا ِ‬
‫((لَعَ َ‬
‫صحيح‪.‬‬
‫ل لَهُ))‪.‬‬
‫حلّ َ‬
‫وفى ((المسند))‪ :‬من حديث أبى هريرة رضى ال عنه مرفوعًا ((َلعَنَ ال المُ َ‬
‫وإسناده حسن‪.‬‬
‫وفيه‪ :‬عن على رضى ال عنه‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه وسلم مثله‪.‬‬
‫وفى سنن ابن ماجه‪ :‬مِن حديث عُقبة بن عامر رضى ال عنه قال‪ :‬قال رسولُ ال صلى ال‬
‫س َتعَارِ))؟ قالُوا‪ :‬بلى يا رَسُولَ الِّ‪ .‬قال‪ُ (( :‬ه َو المتُحَللُ َلعَنَ الُّ‬
‫س المُ ْ‬
‫خ ِب ُركُم بال ّتيْ ِ‬
‫ل أُ ْ‬
‫عليه وسلم‪(( :‬أَ َ‬
‫ل لَهُ))‪.‬‬
‫حلّ َ‬
‫حلّلَ والمَ َ‬
‫المُ َ‬
‫فهؤلء الربعةُ مِن سادات الصحابة رضى ال عنهم‪ ،‬وقد شهِدُوا على رسول ال صلى ال‬
‫حلّلُ لَه وهذا خبرٌ عن ال فهو خب ُر صِدق‪،‬‬
‫ل والمُ َ‬
‫حلّ ُ‬
‫عليه وسلم بلعنه أصحابَ التحليل‪ ،‬وهم‪ :‬المُ َ‬
‫ق عند أهل‬
‫علُها‪ ،‬ول فر َ‬
‫وإما دُعاء فهو دُعاء مستجاب قطعاً‪ ،‬وهذا يُفيد أنه مِن الكبائر الملعون فا ِ‬
‫المدينة وأهلِ الحديث وفُقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ‪ ،‬والقصدِ‪ ،‬فإن القُصود فى‬
‫العُقود عندهم معتبرة‪ ،‬والعمالُ بالنيّات‪ ،‬والشرطُ المتواطَأُ عليه دخل عليه المتعاقدان كالملفوظِ‬
‫ع ْبرَة‬
‫عندهم‪ ،‬واللفاظُ ل تُراد لعينها‪ ،‬بل لِلدللَة على المعانى‪ ،‬فإذا ظهرت المعانى والمقاصدُ‪ ،‬فل ِ‬
‫باللفاظ‪ ،‬لنها وسائل‪ ،‬وقد تحقّقت غاياتُها‪ ،‬فتر ّت َبتْ عليها أحكامُها‪.‬‬
‫فصل‬
‫ح المُتعة‪ ،‬فثبت عنه أنه أحلّها عا َم الفتح‪ ،‬وثبت عنه أنّه نهى عنها عَا َم الفتح‬
‫وأما نِكا ُ‬
‫واخ ُتِلفَ هل نهى عنها يومَ خيبر؟ على قولين‪ ،‬والصحيح‪ :‬أن النهى إنما كان عا َم الفتح‪ ،‬وأن النهى‬
‫لّ صلى ال عليه‬
‫ح ُم ِر الهلية‪ ،‬وإنما قال على لبن عباس‪ :‬إنّ رسولَ ا ِ‬
‫يومَ خيبر إنما كان عن ال ُ‬
‫وسلم نهى يومَ خيبرَ عن مُتعة النساء‪ ،‬ونهى عن الحمر الهلية محتجاً عليه فى المسألتين‪ ،‬فظنّ‬
‫ض الرواة أن التقييدَ بيوم خيبر راجع إلى ال َفصْلَين‪ ،‬فرواه بالمعنى‪ ،‬ثم أفرد بعضُهم أح َد الفصلين‬
‫بع ُ‬
‫وقيّده بيومِ خيبر‪ ،‬وقد تقدّم بيانُ المسألة فى غزاة الفتح‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫وظا ِهرُ كل ِم ابن مسعود إباحتُها‪ ،‬فإن فى ((الصحيحين))‪ :‬عنه‪ :‬كنا نغزو مع رسولِ ال‬ ‫@‬
‫خصِى؟ فنهانا عن ذلك‪ ،‬ثم‬
‫ستَ ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم وليس معنا نِساء‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أل نَ ْ‬
‫ح ّرمُوا‬
‫رخّصَ لنا بع ُد أن َن ْنكِحَ المرأة بال ّثوْب إلى أجَل‪ ،‬ثم قرأ عبدُ ال‪{ :‬يَا َأيّها الّذينَ آ َمنُوا ل تُ َ‬
‫ب ال ُم ْعتَدِينَ} [المائدة‪ ]87 :‬ولكن فى‬
‫ل يُح ّ‬
‫ل َت ْعتَدُوا إنّ ال َ‬
‫لّ َلكُم وَ َ‬
‫ت مَا أحَلّ ا ُ‬
‫طيّبا ِ‬
‫َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم حرّم ُم ْتعَةَ النّسَاءِ‪.‬‬
‫((الصحيحين))‪ :‬عن على رضى ال عنه‪ ،‬أن رسو َ‬
‫وهذا التحريمُ‪ :‬إنما كان بعد الباحة‪ ،‬وإل لزم منه النسخُ مرتين ولم يحتج به على علي بن‬
‫عباس رضى ال عنهم‪ ،‬ولكن النظر‪ :‬هل هو تحريمُ َبتَاتٍ‪ ،‬أو تحري ُم ِمثْلُ تحريمِ الميتة والدم‬
‫حلّها‬
‫ن عباس‪ ،‬وأفتى بِ ِ‬
‫وتحريم نكاح المة فيُباح عند الضرورة وخوفِ العنت؟ هذا هو الذى لحظه ب ُ‬
‫صرُوا على موضع الضرورة‪ ،‬أمسك عن فُتياه‪ ،‬ورجع‬
‫للضرورة‪ ،‬فلما توسّع الناسُ فيها‪ ،‬ولم يقت ِ‬
‫عنها‪.‬‬
‫فصل‬
‫حرِمِ‪ ،‬فثبت عنه فى ((صحيح مسلم)) من رواية عثمان بن عفان رضى ال‬
‫ح المُ ْ‬
‫وأما نكا ُ‬
‫ل ُي ْنكَحُ))‪.‬‬
‫حرِ ُم وَ َ‬
‫عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل َي ْنكِحُ المُ ْ‬
‫واخ ُتِلفَ عنه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬هل تزوّج ميمونةَ حللً أو حراماً؟ فقال ابنُ‬
‫ل أبى رافع‬
‫ت الرسولَ بينهما‪ .‬وقو ُ‬
‫ح ِرمَاً‪ ،‬وقال أبو رافع‪ :‬تزوّجها حللً‪ ،‬وكن ُ‬
‫عباس‪ :‬تزوّجها مُ ْ‬
‫أرجح لعدة أوجه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه إذ ذاك كان رجلً بالغاً‪ ،‬وابنُ عباس لم يكن حينئذ ممن بلغ الحُلم‪ ،‬بل كان له‬
‫نحو العشر سنين‪ ،‬فأبو رافع إذ ذاك كان أحفظَ منه‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أنه كان الرسولَ بين رسولِ ال صلى ال عليه وسلم وبينها‪ ،‬وعلى يده دارَ الحديثُ‪،‬‬
‫فهو أعلم به مِنه بل شك‪ ،‬وقد أشار بنفسه إلى هذا إشارةَ متحقّق له‪ ،‬ومتيقّن‪ ،‬لم ينقله عن غيره‪ ،‬بل‬
‫باشره بنفسه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن ابن عباس لم يكن معه فى تلك العُمرة‪ ،‬فإنها كانت عُمرةَ القضية‪ ،‬وكان ابنُ‬
‫لّ مِن الوِلدان‪ ،‬وإنما سمع ال ِقصّة مِن غير حضور‬
‫عباس إذ ذاك من المستضعفين الذين عَ َذرَهُمُ ا ُ‬
‫منه لها‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫الرابع‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم حين دخل مكة‪ ،‬بدأ بالطواف بالبيت‪ ،‬ثم سعى بينَ الصفا‬
‫والمروة‪ ،‬وحلق‪ ،‬ثم حَلّ‪.‬‬
‫ل الطواف بالبيت‪ ،‬ول‬
‫ومن المعلوم‪ :‬أنه لم يتزوج بها فى طريقه‪ ،‬ول بدأ بالتزويج بها قب َ‬
‫تزوّج فى حال طوافه‪ ،‬هذا من المعلوم أنه لم يقع‪ ،‬فصحّ قولُ أبى رافع يقيناً‪.‬‬
‫ن عباس‪ ،‬ولم يُغلّطُوا أبا رافع‪.‬‬
‫غلّطُوا اب َ‬
‫الخامس‪ :‬أن الصحابة رضى عنهم َ‬
‫حرِمِ‪ ،‬وقول‬
‫ق لنهى النبىّ صلى ال عليه وسلم عن نِكاح المُ ْ‬
‫ل أبى رافع موافِ ٌ‬
‫السادس‪ :‬أن قو َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‬
‫ابن عباس يُخالفه‪ ،‬وهو مستلزِم لحد أمرين‪ ،‬إما لنسخه‪ ،‬وإما لتخصيص النب ّ‬
‫بجواز النّكاحِ محرماً‪ ،‬وكل المرين مخالِف للصل ليس عليه دليل‪ ،‬فل يُقبل‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم تزوّجها حللً‬
‫السابع‪ :‬أن ابنَ أختها يزيد بن الصم شهد أن رسو َ‬
‫ن عباس‪ .‬ذكره مسلم‪.‬‬
‫قال وكانت خالتى وخالة اب ِ‬
‫فصل‬
‫ح الزانية‪ ،‬فقد صرّح ال سبحانه وتعالى بتحريمه فى سُورة النور‪ ،‬وأخبر أن مَنْ‬
‫وأما نكا ُ‬
‫نكحها‪ ،‬فهو إما زانٍ أو مشرك‪ ،‬فإنه إما أن يلتزِمَ حُكمَه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه‪ ،‬أول‪ ،‬فإن لم‬
‫يلت ِزمْه ولم يعتقده‪ ،‬فهو مشرك‪ .‬وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه‪ ،‬فهو زانٍ‪ ،‬ثم صرّح بتحريمه‬
‫ى الم ْؤمِنينَ} [النور‪.]3 :‬‬
‫حرّمَ َذِلكَ عَل َ‬
‫فقال‪{ :‬و ُ‬
‫ليَامى ِم ْنكُم} [النور‪ ،]32:‬مِن أضعفِ ما‬
‫ول يخفى أن دعوى نسخ الية بقوله‪َ {:‬وَأ ْنكِحُوا ا َ‬
‫يُقال‪ ،‬وأضعف منه حملُ النكاح على الزنى إذ يصير معنى الية‪ :‬الزانى ل يزنى إل بزانية أو‬
‫مشركة‪ ،‬والزانية ل يزنى بها إل زانٍ أو مشرك‪ ،‬وكلم ال ينبغى أن يُصان عن مثل هذا‪.‬‬
‫ل الية على امرأة بغى مشركة فى غاية البعد عن لفظها وسياقها‪ ،‬كيف‬
‫وكذلك حم ُ‬
‫ح الحرائر والماءِ بشرط الحصان‪ ،‬وهو العِفّة‪ ،‬فقال‪{ :‬فا ْنكِحُوهُنّ بإِذْنِ‬
‫وهو سبحانه إنما أباح نكا َ‬
‫ت أَخْدانٍ} [النساء‪،]25 :‬‬
‫ل ُمتّخِذَا ِ‬
‫غ ْي َر مُسَافِحَاتٍ وَ َ‬
‫صنَاتٍ َ‬
‫ح َ‬
‫ن بِال َم ْعرُوفِ مُ ْ‬
‫أَ ْهِلهِنّ وآتُوهُنّ أُجُورَهُ ّ‬
‫فإنما أبح نكاحَها فى هذه الحالة دُون غيرها‪ ،‬وليس هذا من باب دللة المفهوم‪ ،‬فإن البضاع فى‬
‫الصل على التحريم‪ ،‬فيُقتصرُ فى إباحتها على ما ورد به الشرعُ‪ ،‬وما عداه‪ ،‬فعلى أصل التحريم‪.‬‬
‫خبِيثَاتِ} [النور‪]26 :‬‬
‫خبِيثُونَ للْ َ‬
‫خبِيثينَ وال َ‬
‫ت ِللْ َ‬
‫خبِيثَا ُ‬
‫وأيضاً‪ ،‬فإنه سبحانه قال‪{ :‬ال َ‬
‫ث مثلهن‪.‬‬
‫خبِيثَاتُ‪ :‬الزوانى‪ .‬وهذا يقتضى أن من تزوّج بهن‪ ،‬فهو خبي ٌ‬
‫وال َ‬

‫‪56‬‬
‫وأيضاً‪ .‬فمن أقبح القبائح أن يكون الرجلُ زوجَ بغى‪ ،‬و ُقبْحُ هذا مستقر فى فطر الخلق‪ ،‬وهو‬
‫عندهم غاية المسبّة‪.‬‬
‫وأيضاً‪ :‬فإن ال َب ِغىّ ل يُؤمَن أن تُفْسِدَ على الرجل ِفرَاشه‪ ،‬وتعلّق عليه أولداً مِن غيره‪،‬‬
‫والتحريم يثبت بدونْ هذا‪.‬‬
‫وأيضاً‪ :‬فإن النبى صلى ال عليه وسلم فرق بين الرجل وبين المرأة التى وجدها حُبلى من‬
‫الزنى‪.‬‬
‫عنَاق‬
‫وأيضاً فإن مرثد بن أبى مرثد الغنوى استأذن النبى صلى ال عليه وسلم أن يتزوج َ‬
‫حهَا))‪.‬‬
‫وكانت بغيّاً‪ ،‬فقرأ عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم آية النور وقال‪(( :‬ل َت ْنكِ ْ‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيمن أسلم على أكثر مِن أربع نِسوة أو على أختين‬
‫ش ُر نِسوةٍ‪ ،‬فقال له‬
‫فى الترمذى عن ابن عمر رضى ال عنهما‪ :‬أن غَيلن أسلم وتحتَه عَ ْ‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬اختر ِم ْنهُنّ َأ ْربَعاً))‪ .‬وفى طريق أخرى‪(( :‬وفَارِقْ سَائِرهُنّ))‬
‫خ َترْ َأ ّي َتهُما‬
‫وأسلم فيروز الدّيلمى وتحته أختان‪ ،‬فقال له النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ا ْ‬
‫شِئتَ))‪.‬فتضمن هذا الحكم صِحةَ نكاح الكفار‪ ،‬وأنه له أن يختار مَنْ شاء مِن السوابق واللواحق لنه‬
‫جعل الخِيرة إليه‪ ،‬وهذا قول الجمهور‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬إن تزوجهن فى عقد واحد‪ ،‬فسد نكاحُ‬
‫الجميع‪ ،‬وإن تزوجهن مترتباتٍ‪ ،‬ثبت نكاح الربع‪ ،‬وفسد نكاح من بعدهن ول تخيير‪.‬‬
‫فصل‬
‫ن َموَالِيه‪ ،‬فهو عَا ِهرٌ))‪ .‬قال‬
‫وحكم صلى ال عليه وسلم‪ :‬أن العبد ((إذا تزوّج ِب َغ ْيرِ إِذْ ِ‬
‫الترمذى‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫فصل‬
‫ن أبى طالب رضى ال عنه ابنةَ أبى جهل‪،‬‬
‫ىبَ‬
‫واستأذنه بنو هشام بن المُغيرة أن يُزوّجوا عل َ‬
‫طمَة‬
‫ح ا ْب َن َتهُم‪ ،‬فإ ّنمَا فَا ِ‬
‫ق ا ْبنَتى و َي ْنكِ َ‬
‫طلّ َ‬
‫ب أَنْ يُ َ‬
‫ن ُيرِي َد ابْنُ أبى طَاِل ٍ‬
‫فلم يأذن فى ذلك‪ ،‬وقال‪(( :‬إلّ أَ ْ‬
‫ستُ‬
‫طمَةُ فى دِينِها‪ ،‬وإنى لَ ْ‬
‫ن تُ ْفتَنَ فَا ِ‬
‫ف أَ ْ‬
‫ضعَةٌ ِمنّى َيرِيبُنى ما رَابَها‪ ،‬و ُيؤْذِينى ما آذاهَا‪ ،‬إنّى أَخَا ُ‬
‫َب ْ‬
‫ن وَاحِدٍ‬
‫ت رَسُولِ ال و ِب ْنتُ عدوّ ال فى مَكا ٍ‬
‫ج َتمِع ِب ْن ُ‬
‫ل أُحِلّ حَراماً‪ ،‬ولكِنْ والِّ ل تَ ْ‬
‫حرّمُ حَلَلً‪ ،‬و َ‬
‫أُ َ‬
‫أَبداً))‬
‫وفى لفظ فذكر صِهراً له فأثنى عليه‪ ،‬وقال‪ :‬حَ ّدثَنى َفصَدَقَنى‪َ ،‬ووَعَدَنى فوفى لى‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫فتضمّن هذا الحك ُم أموراً‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬أن الرجل إذا شرط لزوجته أن ل يتزوج عليها‪ ،‬لزمه الوفاءُ بالشرط‪،‬‬
‫ومتى تزوّج عليها‪ ،‬فلها الفسخ‪ ،‬ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صلى ال عليه وسلم أخبر أن ذلك‬
‫يُؤذى فاطمة ويَريبها‪ ،‬وأنه يؤذيه صلى ال عليه وسلم ويريبه‪ ،‬ومعلوم قطعًا أنه صلى ال عليه‬
‫وسلم إنما زوجه فاطمة رضى ال عنها على أن ل يُؤذيها ول يَريبها‪ ،‬ول يؤذى أباها صلى ال‬
‫عليه وسلم ول يَريبه‪ ،‬وإن لم يكن هذا مشترطًا فى صُلب العقد‪ ،‬فإنه مِن المعلوم بالضرورة أنه إنما‬
‫دخل عليه‪ ،‬وفى ذكره صلى ال عليه وسلم صِهره الخر‪ ،‬وثناءَه عليه بأنه حدّثه فصدقه‪ ،‬ووعده‬
‫ج له على القتداء به‪ ،‬وهذا يُشعر بأنه جرى منه وعد‬
‫فوفى له تعريضٌ بعلى رضى ال عنه‪ ،‬وتهيي ٌ‬
‫له بأنه يَريبها ول يُؤذيها‪ ،‬فهيّجه على الوفاء له‪ ،‬كما وفى له صهرُه الخر‪.‬‬
‫فيُؤخذ مِن هذا أن المشروطَ عُرفاً كالمشروطِ لفظاً‪ ،‬وأن عدمَه يُملّك‬
‫الفسخ لمشترطه‪ ،‬فلو ُفرِضَ من عادة قوم أنهم ل يُخرجون نساءهم من ديارهم ول يُمكنو أزواجَهم‬
‫من ذلك البتة‪ ،‬واستمرت عادتُهم بذلك كان كالمشروط لفظاً‪ ،‬وهو مطّرد على قواعد أهل المدينة‪،‬‬
‫وقواعِد أحمد رحمه ال‪ :‬أن الشرط العرفى كاللفظى سواء‪ ،‬ولهذا أوجبوا الجر َة على من دفع ثوبه‬
‫إلى غسّال أو قصار‪ ،‬أو عجينَه إلى خباز‪ ،‬أو طعامَه إلى طباخ يعملُون بالجرة‪ ،‬أو دخل الحمامَ‪،‬‬
‫أو استخدم من يغسله ممن عادته يغسِل بالجرة ونحو ذلك‪ ،‬ولم يشرط لهم أجرة أنه يلزمه أجرة‬
‫ل على نسائهم ضرةً‪ ،‬ول يُمكنونه‬
‫ض أن المرأة من بيت ل يتزوجُ الرج ُ‬
‫المثل‪ .‬وعلى هذا‪ ،‬فلو ُف ِر َ‬
‫مِن ذلك‪ ،‬وعادتهم مستمرة بذلك‪ ،‬كان كالمشروط لفظاً‪.‬‬
‫ل الضر ِة عليها عادةً لشرفها وحسبها وجَللتها‬
‫وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها ل تُمكّن إدخا َ‬
‫كان تركُ التزوّج عليها كالمشروط لفظاً سواء‪.‬‬
‫وعلى هذا فسيّدةُ نساء العالمين‪ ،‬وابنةُ سيد ولد آدمَ أجمعين أحقّ النساء بهذا‪ ،‬فلو شرطه‬
‫على فى صُلب العقد كان تأكيدا ل تأسيساً‪.‬‬
‫فى منع على من الجمع بين فاطمة رضى ال عنها‪ ،‬وبين بنتِ أبى جهل حِكمةٌ‬
‫بديعة‪ ،‬وهى أن المرأةَ مع زوجها فى درجته تبعٌ له‪ ،‬فإن كانت فى نفسها ذاتَ درجة عالية‪،‬‬
‫وزوجُها كذلك‪ ،‬كانت فى درجة عالية بنفسها وبزوجها‪ ،‬وهذا شأنُ فاطمة وعلى رضى ال عنهما‪،‬‬
‫ولم يكن الُّ عز وجل لِيجعل ابن َة أبى جهل مع فاطمة رضى ال عنها فى درجة واحدة ل بنفسها‬
‫ول تبعًا وبينَهما من الفرق ما بينهما‪ ،‬فلم يكن نكاحُها على سيدة نساء العالمين مستحسناً ل شرعاً‬

‫‪58‬‬
‫لّ وبنت عَ ُدوّ‬
‫ت رَسُولِ ا ِ‬
‫ج َتمِ ُع بِن ُ‬
‫ول قدراً‪ ،‬وقد أشار صلى ال عليه وسلم إلى هذا بقوله‪(( :‬وال ل تَ ْ‬
‫ن وَاحِ ٍد أَبداً))‪ ،‬فهذا إما أن يتناولَ درجة الخر بلفظه أو إشارته‪.‬‬
‫الّ فى َمكَا ٍ‬
‫فصل‬
‫حكَم الُّ سبحانه بتحريمه مِن النساء على لسان نبيه صلى ال عليه وسلم‬
‫فيما َ‬
‫حرّم المهاتِ‪ ،‬وهن كل من بينك وبينه إيلد مِن جهة المومة أو البوة‪ ،‬كأُمهاته‪ ،‬وأمهاتِ‬
‫آبائه وأجدادِه من جهة الرجال والنساء وإن علون‪.‬‬
‫ل من انتسب إليه بإيلد‪ ،‬كبناتِ صُلبه وبناتِ بناته‪ ،‬وأبنائِهن‬
‫ن كُ ّ‬
‫وحرّم البناتِ وهُ ّ‬
‫وإن سَ ُفلْنَ‪.‬‬
‫عَلوْنَ‬
‫ت آبائه وإن َ‬
‫ن أخوا ُ‬
‫وحرّم الخواتِ مِن كل جهة‪ ،‬وحرّم العّماتِ وهُ ّ‬
‫مِن كل جهة‪.‬‬
‫وأما عمةُ العمّ فإن كان العمّ لبٍ‪ ،‬فهى عمة أبيه‪ ،‬وإن كان لم‪ ،‬فعمتُه‬
‫أجنبية منه‪ ،‬فل تدخُل فى العمات‪ ،‬وأما الم‪ ،‬فهى داخلة فى عماته‪ ،‬كما دخلت عمةُ أبيه فى عماته‪.‬‬
‫عَلوْنَ‪.‬‬
‫ت وهُنّ أخواتُ أمهاتِه وأمهات آبائه وإن َ‬
‫وحرّم الخال ِ‬
‫وأما خال ُة العمة‪ ،‬فإن كانت العمةُ لب فخالتُها أجنبية‪،‬‬
‫وإن كانت لم فخالتها حرامٌ‪ ،‬لنها خالة‪ ،‬وأما عمةُ الخالة‪ ،‬فإن كانت الخالةُ لم‪ ،‬فعمتُها أجنبية‪،‬‬
‫وإن كانت لبٍ‪ ،‬فعمتها حرام‪ ،‬لنها عمة الم‪.‬‬
‫وحرّم بناتِ الخ‪ ،‬وبناتِ الخت‪ ،‬فيعُمّ الخَ‬
‫والخت مِن كل جهة وبناتهما وإن نزلت درجتُهن‪.‬‬
‫وحرّم المّ مِن الرضاعة‪ ،‬فيدخُل فيه‬
‫أمهاتُها مِن قبل الباء والمهاتِ وإن علون وإذا صارت المرضع ُة أمّه‪ ،‬صار صاحب اللبن وهو‬
‫ج أو السيد إن كانت جارية أباه‪ ،‬وآباؤه أجداده‪ ،‬فنبّه بالمرضعة صاحبة اللبن التى هى مُودع‬
‫الزو ُ‬
‫ل ال صلى‬
‫فيها للب‪ ،‬على كونه أبًَا بطريق الولى‪ ،‬لن اللبن له‪ ،‬وبوطئه ثابَ‪ ،‬ولهذا حكم رسو ُ‬
‫ال عليه وسلم بتحريم لبن الفحل‪ ،‬فثبت بالنص وإيمائه انتشا ُر حرمة الرضاع إلى أم المرتضع‬
‫وأبيه مِن الرضاعة‪ ،‬وأنه قد صار ابناً لهما‪ ،‬وصارا أبوينِ له‪ ،‬فلزم من ذلك أن يكون إخوتهما‬
‫خوَا ُتكُم مِنَ‬
‫وأخواتُهما خالت له وعماتٍ‪ ،‬وأبناؤهما وبناتُهما إخوة له وأخوات‪ ،‬فنبه بقوله‪{:‬وأَ َ‬
‫الرّضَاعَةِ} [النساء‪ ]23 :‬على انتشار حرمة الرضاع إلى إخوتهما وأخواتهما‪ ،‬كما انتشرت منهما‬

‫‪59‬‬
‫إلى أولدهما فكما صاروا إخوةً وأخوت للمرتضع‪ ،‬فأخوالهُما وخالتُهما أخوالٌ وخالتٌ له‪،‬‬
‫وأعمامٌ وعمات له‪ :‬الول بطريق النص‪ ،‬والخر بتنبيهه‪ ،‬كما أن النتشار إلى الم بطريق النص‪،‬‬
‫وإلى الب بطريق تنبيهه‪.‬‬
‫وهذه طريقة عجيبة مطّردة فى القرآن ل يق ُع عليها إل كُلّ غائص على معانيه‪ ،‬ووجوهِ‬
‫حرُ ُم مِنَ‬
‫ع مَا يَ ْ‬
‫ن الرّضَا ِ‬
‫حرُ ُم مِ َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم أنه ((يَ ْ‬
‫دللته‪ ،‬ومن هنا قضى رسو ُ‬
‫سبِ)) ولكن الدللة دللتان‪ :‬خفيّةٌ وجليّةٌ‪ ،‬فجمعهما للمة‪ ،‬ليتم البيانُ ويزول اللتباسُ‪ ،‬ويقع على‬
‫النّ َ‬
‫صرَ فهمُه عن الخفية‪.‬‬
‫الدللة الجلية الظاهرة مَنْ َق ُ‬
‫حرّم أمهاتِ النساء‪ ،‬فدخل فى ذلك أ ّم المرأة وإن علت مِن نسب أو رضاع‪ ،‬دخل‬
‫وَ‬
‫بالمرأة أو لم يدخل بها‪ ،‬لصدق السم على هؤلء كلّهن‪.‬‬
‫ت نسائهم المدخول بهن‪،‬‬
‫ب اللتى فى حُجور الزواج وهُنّ بنا ُ‬
‫وحرّم الربا ِئ َ‬
‫فتناول بذلك بناتِهن‪ ،‬وبناتِ بناتهن‪ ،‬وبنات أبنائهن‪ ،‬فإنهنّ داخلتٌ فى اسم الربائب‪ ،‬وقيد التحريم‬
‫بقيدين‪ ،‬أحدُهما‪ :‬كونُهن فى حجور الزواج والثانى‪ :‬الدخولُ بأمهاتهن‪ .‬فإذا لم يُوجد الدخول لم‬
‫يثبت التحريم‪ ،‬وسواء حصلت الفرق ُة بموت أو طلق‪ ،‬هذا مقتضى النص‪.‬‬
‫وذهب زيد بن ثابت‪ ،‬ومَن وافقه‪ ،‬وأحمد فى رواية عنه‪ :‬إلى أن موتَ الم فى تحريم الربيبة‬
‫كالدخول بها‪ ،‬لنه يُكمل الصداق‪ ،‬ويُوجب العدة والتوارث‪ ،‬فصار كالدخول‪ ،‬والجمهور أ َبوْا ذلك‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬الميتة غير مدخول بها‪ ،‬فل تحرم ابنتها‪ ،‬وال تعالى قيّد التحريم بالدخول‪ ،‬وصرح بنفيه‬
‫عند عدم الدخول‪.‬‬
‫وأما كونها فى حَجره‪ ،‬فلما كان الغالبُ ذلك ذكره ل تقييداً للتحريم به‪ ،‬بل هو بمنزلة قوله‪:‬‬
‫شيَ َة إمْلَق} [السراء‪ ]31 :‬ولما كان مِن شأن بنت المرأة أن تكون عند‬
‫ل تَ ْق ُتلُوا َأوْل َدكُم خَ ْ‬
‫{وَ َ‬
‫أمّها‪ ،‬فهى فى حجر الزوج وقوعًا وجوازاً‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬اللتى من شأنهن أن يكُنّ فى حُجوركم‪ ،‬ففى‬
‫ذكر هذا فائدة شريفة‪ ،‬وهى جوازُ جعلها فى حَجره‪ ،‬وأنه ل يجب عليه إبعادُها عنه‪ ،‬وتجنب‬
‫مؤاكلتها‪ ،‬والسفر‪ ،‬والخلوة بها‪ ،‬فأفاد هذا الوصفُ عدمَ المتناع مِن ذلك‪.‬‬
‫ولما خفى هذا على بعض أهلِ الظاهر‪ ،‬شرط فى تحريم الربيبة أن تكون فى حَجر الزوج‪،‬‬
‫وقيّد تحريمها بالدخول بأمها‪ ،‬وأطلق تحري َم أ ّم المرأة ولم يُقيده بالدخول‪ ،‬فقال جمهورُ العلماء من‬
‫الصحابة ومن بعدهم‪ :‬إن الم تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل‪ ،‬ول تحرم البنتُ‬
‫خ ْلتُ ْم ِبهِنّ}‬
‫إل بالدخول بالم‪ ،‬وقالوا‪ :‬أب ِهمُوا ما أبهمَ ال‪ .‬وذهبت طائفة إلى أن قوله‪{ :‬اللّتى دَ َ‬

‫‪60‬‬
‫[النساء‪ ]23 :‬وصف لنسائكم الولى والثانية‪ ،‬وأنه ل تحرم الم إل بالدخول بالبنت‪ ،‬وهذا يردّه‬
‫نظمُ الكلم‪ ،‬وحيلولة المعطوف بين الصفة والموصوف‪ ،‬وامتناعُ جعل الصفة للمضاف إليه دون‬
‫المضاف إل عند البيان‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬مررت بغلم زيد العاقلِ‪ ،‬فهو صفة للغلم ل لزيد إل عند زوال‬
‫اللبس‪ ،‬كقولك‪ :‬مررت بغلم هند الكاتِبة‪ ،‬ويردّه أيضاً جعله صفة واحدة لموصوفين مختلفى الحكم‬
‫والتعلّق والعامل‪ ،‬وهذا ل يُعرف فى اللغة التى نزل بها القرآنُ‪.‬‬
‫وأيضاً فإن الموصوف الذى يلى الصفَة أولى بها لجواره‪ ،‬والجا ُر أحق بصَقَبه ما لم تدعُ‬
‫ضرور ٌة إلى نقلها عنه‪ ،‬أو تخطّيها إياه إلى البعد‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فمن أين أدخلتم ربيبَته التى هى بنتُ جاريته التى دخل بها‪ ،‬وليست مِن‬
‫نسائه؟‪.‬‬
‫ح ْر َثكُم‬
‫ث َلكُمْ فَ ْأتُوا َ‬
‫ح ْر ٌ‬
‫قلنا‪ :‬السرية قد تدخل فى جملة نسائه‪ ،‬كما دخلت فى قوله‪{:‬نِسَا ُؤكُم َ‬
‫ث إلى نِسَا ِئكُم} [البقرة‪:‬‬
‫ل َلكُم َل ْيلَ َة الصّيامِ الرّ َف ُ‬
‫ش ْئتُم}[البقرة‪ ،]223 :‬ودخلت فى قوله‪{ :‬أُحِ ّ‬
‫َأنّى ِ‬
‫ح آبَا ُؤكُم مِنَ النّسَاءِ} [النساء‪.]22 :‬‬
‫ل َت ْنكِحُوا مَا َنكَ َ‬
‫‪، ]187‬ودخلت فى قوله‪{ :‬وَ َ‬
‫ت نِسَا ِئكُمْ} [النساء‪ ]23 :‬فتحرم‬
‫فإن قيل‪ :‬فليزمُكم على هذا إدخالها فى قوله‪{ :‬وُأ ّمهَا ُ‬
‫عليه أمّ جاريته؟‬
‫ت عليه أمّها وابنتها‪.‬‬
‫ح ُر َم ْ‬
‫قلنا‪ :‬نعم وكذلك نقول‪ :‬إذا وطىء أمته‪َ ،‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فأنتم قد قررتم أنه ل يُشترط الدخولُ بالبنت فى تحريم أمّها فكيف تشترطونه‬
‫هاهنا؟‬
‫قلنا‪ :‬لتصير من نسائه‪ ،‬فإن الزوجة صارت من نسائه بمجرد العقد‪ ،‬وأما المملوكة‪ ،‬فل‬
‫تصي ُر مِن نسائه حتى يطأها‪ ،‬فإذا وطئها‪ ،‬صارت من نسائه‪ ،‬فحرمت عليه أمّها وابنتُها‪.‬‬
‫س ّريّةَ فى نسائه فى آية التحريم‪ ،‬ولم تُدخلوها فى نسائه فى‬
‫فإن قيل‪ :‬فكيف أدخلتم ال ّ‬
‫آية الظهار واليلء؟‬
‫ق والواقع يأبى ذلك‪ ،‬فإن الظهار كان عندهم طلقاً‪ ،‬وإنما محلّه الزواج ل‬
‫قيل‪ :‬السيا ُ‬
‫الماء‪ ،‬فنقله ال سبحانه من الطلق إلى التحريم الذى تُزيله الكفّارة‪ ،‬ونقل حُكمَه وأبقى محله‪ ،‬وأما‬
‫ش ُهرٍ‬
‫ص َأ ْر َبعَ ِة أَ ْ‬
‫اليلء‪ ،‬فصريح فى أن محله الزوجات‪ ،‬لقوله تعالى‪ِ{ :‬للّذين ُي ْؤلُون مِنْ نِسَائِهمْ َت َربّ ُ‬
‫علِيمٌ} [البقرة‪.]227-226 :‬‬
‫سمِيعٌ َ‬
‫ع َزمُوا الطّلَقَ َفإِنّ ال َ‬
‫فَإِنْ فَاءُو َفإِنّ ال غَفُورُ رَحِي ُم * وإِنْ َ‬

‫‪61‬‬
‫وحرّم سبحانه حلئل البناء‪ ،‬وهن موطوآتُ البناء بنكاح أو ملك يمين‪ ،‬فإنها حليلة‬
‫بمعنى محلّلة‪ ،‬ويدخل فى ذلك ابنُ صلبه‪ ،‬وابن ابنه‪ ،‬وابن ابنته‪ ،‬ويخرج بذلك ابن ال ّت َبنّى‪ ،‬وهذا‬
‫التقييدُ ُقصِدَ به إخراجُه‪.‬‬
‫وأما حليلةُ ابنه من الرضاع‪ ،‬فإن الئمة الربعة ومَنْ قال بقولهم يدخلونها‬
‫ل ِبكُمْ} [النساء‪]23 :‬‬
‫ن مِنْ َأصْ َ‬
‫لئِلُ َأبْنا ِئكُم} [النساء‪ ]23 :‬ول يخرجونها بقوله‪{ :‬الّذِي َ‬
‫فى قوله‪{:‬وحَ َ‬
‫سبِ))‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫ن النّ َ‬
‫ن مِ َ‬
‫ح ّرمُو َ‬
‫ن الرّضَاع مَا ُت َ‬
‫ح ّرمُوا مِ َ‬
‫ويحتجون بقول النبى صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬‬
‫وهذه الحليلة تحرم إذا كانت لبن النسب‪ ،‬فتحرم إذا كانت لبن الرضاع‪ .‬قالوا‪ :‬والتقييد لخراج ابن‬
‫حرُمُ بالنسب‪ .‬ونازعهم فى ذلك آخرون‪،‬‬
‫التبنّى ل غير‪ ،‬وحرموا من الرضاع بالصهر نظيرَ ما يَ ْ‬
‫وقالوا‪ :‬ل تحرُم حليل ُة ابنه مِن الرضاعة‪ ،‬لنه ليس مِن صُلبه‪ ،‬والتقييد كما يُخرج حليلة ابن التبنّى‬
‫حرُ ُم مِنَ‬
‫يُخرج حليلةَ ابن الرضاع سواء‪ ،‬ول فرق بينهما‪ .‬قالوا‪ :‬وأما قولُه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬يَ ْ‬
‫سبِ)) فهو من أكبر أدلتنا وعمدتنا فى المسألة‪ ،‬فإن تحريمَ حلئلِ الباء‬
‫ن النّ َ‬
‫حرُ ُم مِ َ‬
‫ع مَا يَ ْ‬
‫الرّضَا ِ‬
‫والبناء إنما هو بالصّهر ل بالنَسب‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم قد قصر تحري َم الرضاع على‬
‫نظيره مِن النسب ل على شقيقه من الصهر‪ ،‬فيجبُ القتصارُ بالتحريم على مورد النص‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬والتحريمُ بالرضاع فرع على تحريم النسب‪ ،‬ل على تحريم المصاهرة‪ ،‬فتحريمُ‬
‫المصاهرة أصلٌ قائم بذاته‪ ،‬وال سبحانه لم ي ُنصّ فى كتابه على تحريم الرضاع إل من جهة‬
‫ى صلى‬
‫النسب‪ ،‬ولم ينبه على التحريم به مِن جهة الصهر ألبتة‪ ،‬ل بنص ول إيماءٍ ول إشارة‪ ،‬والنب ّ‬
‫ال عليه وسلم أمر أن يُحرم به ما يحرُم من النسب‪ ،‬وفى ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه ل يحرم به ما‬
‫سبِ‬
‫ن ال ّرضَاعِ ما يحرم من النّ َ‬
‫ح ّرمُوا مِ َ‬
‫يحرم بالصهرِ‪ ،‬ولول أنه أراد القتصار على ذلك لقال‪َ (( :‬‬
‫والصّهر))‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فالرّضاع مشبّه بالنسب‪ ،‬ولهذا أخذ منه بعض أحكامه وهو الحرمةُ والمحرمية‬
‫فقط دون التوارث‪ ،‬والنفاق وسائر أحكام النسب‪ ،‬فهو نسبٌ ضعيف‪ ،‬فأخذ بحسب ضعفه بعضَ‬
‫أحكام النسب‪ ،‬ولم يقوى على سائر أحكام النسب‪ ،‬وهو ألصق به من المصاهرة‪ ،‬فكيف يقوى على‬
‫أخذ أحكام المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهه وشقيقه؟‪.‬‬
‫وأما المصاهرة والرضاع‪ ،‬فإنه ل نسبَ بينهما ول شبهة نسب‪ ،‬ول بعضية‪ ،‬ول اتصال‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولو كان تحري ُم الصهرية ثابتًا لبينه ال ورسوله بياناً شافيًا يُقيم الحجة ويقطع العذر‪َ ،‬فمِنَ ال‬

‫‪62‬‬
‫البيانُ‪ ،‬وعلى رسولِه البلغُ‪ ،‬وعلينا التسليمُ والنقياد‪ ،‬فهذا منتهى النظر فى هذه المسألة‪ ،‬فمن ظفِر‬
‫فيها بحجة‪ ،‬فليرشد إليها وليدل عليها‪ ،‬فإنا لها منقادون‪ ،‬وبها معتصِمون‪ ،‬وال الموفق للصواب‪.‬‬
‫فصل‬
‫وحرّم سبحانه وتعالى نكاح من نكحهُنّ الباء‪ ،‬وهذا يتناولُ منكوحاتِهم بملك اليمين أو عقد‬
‫سَلفَ} [النساء‪:‬‬
‫ل مَا قَدْ َ‬
‫عَلوْن‪ ،‬والستثناء بقوله‪{ :‬إِ ّ‬
‫نكاح‪ ،‬ويتناول آباء الباء‪ ،‬وآباء المهات وإن َ‬
‫‪ ،]23‬من مضمون جملة النهى وهو التحريم المستلزم للتأثيم والعقوبة‪ ،‬فاستثنى منه ما سلف قبل‬
‫إقامة الحجة بالرسول والكتاب‪.‬‬
‫فصل‬
‫وحرّم سبحانه الجم َع بين الختينِ‪ ،‬وهذا يتناولُ الجم َع بينهما فى عق ِد النكاح‪ ،‬وملكِ اليمين‪،‬‬
‫كسائر محرّمات الية‪ ،‬وهذا قولُ جمهور الصحابة ومَن بعدهم‪ ،‬وهو الصوابُ‪ ،‬وتوقفت طائفةٌ فى‬
‫جهِمْ حَافِظُونَ * إِلّ‬
‫تحريمه بملك اليمين لمعارضة هذا العموم بعموم قوله سبحانه‪{:‬والّذِينَ هُ ْم لِ ُفرُو ِ‬
‫ن } [المؤمنون‪ ]6-5 :‬ولهذا قال أميرُ المؤمنين‬
‫غ ْيرُ َملُومِي َ‬
‫ت َأ ْيمَا ُنهُمْ فَِإ ّنهُمْ َ‬
‫جهِ ْم َأوْ مَا َمَل َك ْ‬
‫على َأزْوا ِ‬
‫ن رضى ال عنه‪ :‬أحلّتهما آية‪ ،‬وحرّمتهما آية‪.‬‬
‫عثمان بن عفا َ‬
‫وقال المام أحمد فى رواية عنه‪ :‬ل أقول‪ :‬هو حرام‪ ،‬ولكن ننهى عنه‪ ،‬فمن أصحابه من‬
‫جعل القولَ بإباحته رواية عنه‪ .‬والصحيح‪ :‬أنه لم يبُحه‪ ،‬ولكن تأدّب مع الصحابة أن يُطلِق لفظ‬
‫الحرامِ على أمرٍ تو ّقفَ فيه عثمانُ‪ ،‬بل قال‪ :‬ننهى عنه‪.‬‬
‫والذين جزموا بتحريمه‪ ،‬رجّحوا آي َة التحريم من وجوه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن سائرَ ما ُذ ِكرَ فيها من المحرّمات عام فى النكاح وملك اليمين‪ ،‬فما بالُ هذا وحدَه‬
‫حتى يخرُجَ منها‪ ،‬فإن كانت آيةُ الباحة مقتضية لِحلّ الجمع بالملك‪ ،‬فلتكن مقتضية لِحل أمّ‬
‫موطوءته بالملك‪ ،‬ولموطوءة أبيه وابنه بالملك‪ ،‬إذ ل فرق بينهما ألبتة‪ ،‬ول يُعلم بهذا قائل‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أن آيةَ الباحة بملك اليمين مخصوصةٌ قطعًا بصورٍ عديدة ل يختِلفُ فيها اثنان‪،‬‬
‫كأمه وابنته‪ ،‬وأختِه وعمتِه وخالتِه من الرضاعة‪ ،‬بل كأخِته وخالته مِن النسب عند من ل يرى‬
‫ت َأ ْيمَا ُنكُم} [النساء‪]3 :‬‬
‫عتقهن بالملك‪ ،‬كمالك والشافعى‪ ،‬ولم يكن عموم قوله‪{ :‬أ ْو مَا َمَل َك ْ‬
‫حكْمُ الختين سواء‪.‬‬
‫ومعارضاً لعموم تحريمهن بالعقد والملك‪ ،‬فهذا ُ‬
‫ل الملك ليس فيه أكثرُ من بيان جهة الحل وسببه‪ ،‬ول تعّرض فيه لشروط‬
‫الثالث‪ :‬أن حِ ّ‬
‫ل من النسب والرضاع والصهر وغيره‪ ،‬فل‬
‫ن موانعِ الحِ ّ‬
‫الحِلّ‪ ،‬ول لموانعه‪ ،‬وآيةُ التحريم فيها بيا ُ‬

‫‪63‬‬
‫ط الحل وموانعه معارضًا لمقتضى الحل‪،‬‬
‫ل موضع ذكر فيه شر ُ‬
‫تعارض بينهما البتة‪ ،‬وإل كان كُ ّ‬
‫وهذا باطل قطعاً‪ ،‬بل هو بيان لما سكت عنه دليلُ الحِل من الشروط والموانع‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أنه لو جاز الجم ُع بين الختين المملوكتين فى الوطء‪ ،‬جاز الجم ُع بين الم وابنتها‬
‫ل للصورتين شمولً واحداً‪ ،‬وأن إباحة المملوكات إن عمت‬
‫المملوكتين‪ ،‬فإن نص التحريم شامِ ٌ‬
‫الختين‪ ،‬عمّت الم وابنتها‪.‬‬
‫خرِ‪ ،‬فَلَ يجْمعْ‬
‫لّ وال َيوْمِ ال ِ‬
‫ن ُي ْؤمِنُ بِا ِ‬
‫ن كَا َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬مَ ْ‬
‫الخامس‪ :‬أن النب ّ‬
‫خ َتيْنِ)) ول ريب أن جمع الماء كما يكون بعقد النكاح يكون بملك اليمين‪ ،‬واليمان‬
‫مَا َءهُ فى رَحِ ِم أُ ْ‬
‫يمنَع منه‪.‬‬
‫فصل‬
‫ن المرأة وعمتها‪ ،‬والمرأةِ‬
‫((وقضى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم بتحريم الجم ِع بي َ‬
‫وخالتها)) وهذا التحريمُ مأخوذ من تحريم الجمع بينَ الختين‪ ،‬لكن بطريق خفىّ‪ ،‬وما حرّمه رسولُ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم مثلُ ما حرّمه ال‪ ،‬ولكن هو مستنبط مِن دللة الكتاب‪.‬‬
‫وكان الصحاب ُة رضى ال عنهم أحرصَ شىء على استنباط أحاديثِ رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم من القُرآن‪ ،‬ومَن ألزم نفسَه ذلك‪ ،‬وقرعَ بابه‪ ،‬ووجّه قلبه إليه‪ ،‬واعتنى به‬
‫ل للقرآن‪ ،‬وتبيينًا لدللته‪ ،‬وبياناً لمراد الِّ منه‪،‬‬
‫بفطرةٍ سليمة‪ ،‬وقلب ذكى‪ ،‬رأى السنة ُكلّها تفصي ً‬
‫وهذا أعلى مراتب العلم‪ ،‬فمن ظفر به‪ ،‬فليحمد ال‪ ،‬ومن فاته‪ ،‬فل يلومَنّ إل نفسه وهِمتّه‬
‫جزَه‪.‬واستُفِيدَ من تحريم الجمع بين الختين وبينَ المرأة وعمتها‪ ،‬وبينها وبين خالتها‪ ،‬أن كل‬
‫وعَ ْ‬
‫حرُ َم على الخر‪ ،‬فإنه يحرُم الجمعُ بينهما‪ ،‬ول يُستثنى‬
‫امرأتين بينهما قرابة لو كان أحدُهما َذكَراً‪َ ،‬‬
‫من هذا صورةُ واحدة‪ ،‬فإن لم يكن بينهما قرابةُ‪ ،‬لم يحرم الجمع بينهما‪ .‬وهل يكره؟ على قولين‪،‬‬
‫وهذا كالجمع بين امرأةِ رجل وابنتِه من غيرها‪.‬‬
‫حرُمَ‬
‫ن كل امرأة َ‬
‫واستُفِيدَ مِن عموم تحريمه سبحانه المحرّماتِ المذكورة‪ :‬أ ّ‬
‫حهُنّ حرام عند الكثرين‪ ،‬ووطؤهن‬
‫حرُ َم وطؤها بملك اليمين إل إما َء أهلِ الكتاب‪ ،‬فإن نكا َ‬
‫نكاحُها َ‬
‫بملك اليمين جائز‪ ،‬وسوّى أبو حنيفة بينهما‪ ،‬فأباح نكاحهن كما يُباح وطؤهن بالملك‪.‬‬
‫س ْبحَانه وتعالى إنما أباح نِكاح الماء بوصف اليمان‪ .‬فقال‬
‫والجمهور‪ :‬احتجوا عليه بأن ال ُ‬
‫ن مَا َمَل َكتْ َأ ْيمَا ُنكُ ُم مِنْ َف َتيَا ِتكُمُ‬
‫صنَاتِ ال ُم ْؤ ِمنَاتِ َفمِ ْ‬
‫ح َ‬
‫ح المُ ْ‬
‫ل أَنْ َي ْنكِ َ‬
‫طوْ ً‬
‫ستَطِعْ ِم ْنكُم َ‬
‫ن لَ ْم يَ ْ‬
‫تعالى‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫حتّى ُي ْؤمِنّ}‬
‫ش ِركَاتِ َ‬
‫علَ ُم بِإيمَا ِنكُم} [النساء‪ ]25 :‬وقالَ تعالى‪{ :‬ول َت ْنكِحُوا المُ ْ‬
‫لّ أَ ْ‬
‫ال ُم ْؤمِنَاتِ وا ُ‬

‫‪64‬‬
‫ص ذلك بحرائ ِر أهل الكتاب‪ ،‬بقى الما ُء على قضية التحريم‪ ،‬وقد فهم عمر‬
‫[البقرة‪ ]221 :‬خ ّ‬
‫رضى ال عنه وغيرُه من الصحابة إدخال الكتابيات فى هذه الية‪ ،‬فقال‪ :‬ل أعلم شِركًا أعظَم من‬
‫أن نقول‪ :‬إن المسيح إلهها‪.‬‬
‫وأيضاً فالصلُ فى البضاعِ الحرمة‪ ،‬وإنما أبيح نِكاحُ الما ِء المؤمناتِ‪َ ،‬فمَن عداهُنّ على‬
‫أصل التحريم‪ ،‬وليس تحريمُهنّ مستفاداً مِن المفهوم‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ل امرأةٍ حرمت‪ ،‬حرمت ابنتها إل العمة‬
‫واستُفِي َد مِن سياق الية ومدلولِها أن كُ ّ‬ ‫@‬
‫والخالة‪ ،‬وحليلةَ البن‪ ،‬وحليلَةَ الب‪ ،‬وأ ّم الزوجة‪ ،‬وأن كُلّ القارب حرام إل الربعة المذكوراتِ‬
‫فى سورة الحزاب‪ ،‬وهن بناتُ العمام والعمات‪ ،‬وبناتُ الخوال والخالت‪.‬‬
‫فصل‬
‫ك اليمين‪،‬‬
‫ن المحصَناتُ‪ ،‬واستثنى من ذلك مل َ‬
‫ح المزوّجاتِ‪ ،‬وهُ ّ‬
‫ومما حرّمه النص‪ ،‬نِكا ُ‬
‫فأشكل هذا الستثناء على كثير من الناس‪ ،‬فإن المَ َة المزوّجَةَ يحرُم وطؤُها على مالكها‪ ،‬فأين محلّ‬
‫الستثناء ؟‪.‬‬
‫فقالت طائفة‪ :‬هو منقطع‪ ،‬أى لكن ما ملكت أيمانُكم‪ ،‬ورُدّ هذا لفظاً‪ ،‬ومعنى أما اللفظُ‬
‫فإن النقطاعَ إنما يقعُ حيث يق ُع التفريغ‪ ،‬وباب ُه غير اليجاب مِن النفى والنهى والستفهام‪ ،‬فليس‬
‫الموض ُع موضع انقطاع‪ ،‬وأما المعنى‪ :‬فإن المنقطع لبد فيه من رابط بينه وبين المستثنى منه‬
‫بحيث يخرج ما تُوهّمَ دخولُه فيه بوجهٍ ما‪ ،‬فإنك إذا قلت‪ :‬ما بالدار مِن أحد‪ ،‬دل على انتفاء من بها‬
‫ل المستثنى فى‬
‫ى ونحو ذلك‪ ،‬أزلت توهّمَ دخو ِ‬
‫بدوابّهم وأمتعتهم‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬إل حماراً‪ ،‬أو إل الثاف ّ‬
‫س َمعُونَ ِفيَها َلغْواً إل سلماً} [مريم‪]62 :‬‬
‫حكم المستثنى منه‪ .‬وأ ْبيَنُ من هذا قولُه تعالى‪{:‬ل يَ ْ‬
‫فاستثنا ُء السلم أزال توهّمَ نفى السماعِ العام‪ ،‬فإن عدم سماع اللغو يجو ُز أن يكونَ لعدم سماع كلم‬
‫ما‪ ،‬وأن يكونَ مع سماع غيره‪ ،‬وليس فى تحريم نكاحِ المزوّجة ما يُوهم تحريم وطء الماء بملك‬
‫اليمين حتى يُخرجه‬
‫ل المة المزوّجة كان‬
‫وقالت طائفة‪ :‬بل الستثناء على بابه‪ ،‬ومتى ملك الرج ُ‬
‫ملكه طلقاً لها‪ ،‬وحلّ له وطؤها‪ ،‬وهى مسأل ُة بيع المة‪ :‬هل يكون طلقاً لها‪ ،‬أم ل؟ فيه مذهبان‬
‫للصحابة‪ ،‬فابنُ عباس رضي ال عنه يراه طلقاً‪ ،‬ويحتج له بالية‪ ،‬وغيرُه يأبى ذلك‪ ،‬ويقول‪ :‬كما‬
‫يُجامع الملك السابق للنكاح اللحق اتفاقاً ول يتنافيان‪ ،‬كذلك الملكُ اللحق ل يُنافى النكاحَ السابقَ‪،‬‬

‫‪65‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم َبرِي َرةَ لما بِيعت ولو انفسخ نِكاحُها لم يُخيّرها‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬وقد خ ّيرَ رسو ُ‬
‫وهذا حجة على ابن عباس رضى ال عنه‪ ،‬فإنه هو راوى الحديث‪ ،‬والخ ُذ برواية الصحابى ل‬
‫برأيه‪.‬‬
‫وقالت طائفة ثالثة‪ :‬إن كان المشترى امرأة‪ ،‬لم ينفسخ النكاح‪ ،‬لنها لم‬
‫ك اليمين أقوى‬
‫تمِلكِ الستمتاع ببُضع الزوجة‪ ،‬وإن كان رجلً انفسخ‪ ،‬لنه يملك الستمتاع َ به‪ ،‬ومل ُ‬
‫مِن مُلك النكاح‪ ،‬وهذا الملك يُبطل النكاح دون العكس‪ ،‬قالوا‪ :‬وعلى هذا فل إشكال فى حديث‬
‫بريرة‪.‬‬
‫وأجاب الولون عن هذا بأن المرأةَ وإن لم تملك الستمتاع‬
‫ببُضع أمتها‪ ،‬فهى تمِلكُ المعاوضة عليه‪ ،‬وتزويجَها‪ ،‬وأخذَ مهرها‪ ،‬وذلك كملك الرجل‪ ،‬وإن لم‬
‫تستمتع بالبُضع‪.‬‬
‫وقالت فرقة أخرى‪ :‬الية خاصة بالمسبيّاتِ‪ ،‬فإن‬
‫س ِب َيتْ‪ ،‬حَلّ وطؤها لِسابيها بعد الستبراء‪ ،‬وإن كانت مزوجة‪ ،‬وهذا قولُ الشافعى وأحدُ‬
‫المسبية إذا ُ‬
‫الوجهين لصحاب أحمد‪ ،‬وهو الصحيح‪ ،‬كما روى مسلم فى ((صحيحه)) عن أبى سعيد الخُدرى‬
‫رضى ال عنه‪ ،‬أن رسولَ ال صلى ال عليه وسلم بعث جيشًا إلى أوطاس‪ ،‬فلقى عدواً‪ ،‬فقاتلوهم‪،‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم تحرّجُوا‬
‫فظهرُوا عليهم‪ ،‬وأصابُوا سبايا‪ ،‬وكأنّ ناسًا مِن أصحابِ رسو ِ‬
‫ت مِنَ‬
‫صنَا ُ‬
‫ح َ‬
‫جهِنّ مِن المشركين‪ ،‬فأنزل ال عز وجل فى ذلك {وَالمُ ْ‬
‫ل أزوا ِ‬
‫ن أَجْ ِ‬
‫مِن غِشيَا ِنهِنّ مِ ْ‬
‫النّسَاءِ إلّ مَا َمَل َكتْ َأ ْيمَا ُنكُم} [النساء‪ ]24 :‬أى فهن لكم حلل إذا انقضت عدتهنّ‪.‬‬
‫فتضمّن هذا الحكمُ إباحة وطء المسبيّةِ وإن كان لها زوجٌ من الكفار‪ ،‬وهذا يدل على انفساخِ‬
‫نكاحه‪ ،‬وزوالِ عصمة بُضع امرأته‪ ،‬وهذا هو الصوابُ‪ ،‬لنه قد استولى على محلّ حقه‪ ،‬وعلى‬
‫حرُ ُم بُضعها عليه‪ ،‬فهذا القولُ ل يُعا ِرضُه نصّ‬
‫رقبة زوجته‪ ،‬وصار سابيها أحقّ بها منه‪ ،‬فكيف يَ ْ‬
‫ول قياس‪.‬‬
‫س ِب َيتْ وحدَها‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫والذين قالوا من أصحاب أحمد وغيرهم‪ :‬إن وطأها إنما يُباح إذا ُ‬
‫ج يكون بقاؤه مجهولً‪ ،‬والمجهول كالمعدوم‪ ،‬فيجوز وطؤها بعد الستبراء‪ ،‬فإذا كان‬
‫لن الزو َ‬
‫س ِب َيتْ وحدَها وتيقنّا بقاءَ زوجها فى دار‬
‫الزوجُ معها‪ ،‬لم يجز وطؤُها مع بقائه‪ ،‬فأُور َد عليهم ما لو ُ‬
‫ق الفرد بالعم‬
‫الحرب‪ ،‬فإنهم يُج ّوزُون وطأها فأجابُوا بما ل يُجدى شيئاً‪ ،‬وقالوا‪ :‬الصل إلحا ُ‬
‫الغلب‪ ،‬فيُقال لهم‪ :‬العمّ الغلبُ بقا ُء أزواج المسبيات إذا سُبين منفرداتٍ‪ ،‬وموتُهم كلّهم نادر جداً‪،‬‬

‫‪66‬‬
‫ثم يُقال‪ :‬إذا صارت رقبةُ زوجها وأملكُه مِلكاً للسابى‪ ،‬وزالَت العصمةُ عن سائر أملكه وعن‬
‫رقبته‪ ،‬فما الموجبُ لِثبوت العصمة فى فرج امرأته خاصة وقد صارت هى وهو وأملكُهما‬
‫للسابى؟‬
‫ودلّ هذا القضا ُء النبوىّ على جواز وطء الماء الوثنيات بملك اليمين‪ ،‬فإن‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فى وطئهن إسلمَهن‪،‬‬
‫سبايا أوطاس لم يكنّ كتابيات‪ ،‬ولم يشترِطْ رسو ُ‬
‫ولم يجعل المانع منه إل الستبراء فقط‪ ،‬وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهدٍ‬
‫ى عليهم حُكمُ هذه المسألة‪ ،‬وحصولُ السلم من جميع السبايا وكانوا عدةَ آلفٍ‬
‫بالسلم حتّى خف َ‬
‫ف منهم عن السلم جاريةٌ واحدة مِما يُعلم أنه فى غاية البُعد‪ ،‬فإنهن لم ُي ْكرَهْنَ على‬
‫ث لم يتخّل ْ‬
‫بحي ُ‬
‫السلم‪ ،‬ولم يكن لهن مِن البصيرة والرغبة والمحبة فى السلم ما يقتضى مبادرتُهن إليه جميعاً‪،‬‬
‫فمقتضى السنةِ‪ ،‬وعمل الصحابة فى عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم وبعده جوازُ وطء‬
‫ب ((المغنى)) فيه‪ ،‬ورجح‬
‫المملوكات على أىّ دين كُنّ‪ ،‬وهذا مذهبُ طاووس وغيره‪ ،‬وقواه صاح ُ‬
‫أدلته وبال التوفيق‪.‬‬
‫ل على عدم اشتراط إسلمهن‪ ،‬ما روى الترمذى فى ((جامعه)) عن عِرباض بن‬
‫ومما يد ّ‬
‫ضعْنَ ما فى بُطُو ِنهِنّ‪ .‬فجعل للتحريم‬
‫حتّى َي َ‬
‫حرّ َم وَطْء السّبايا َ‬
‫سَارية‪ ،‬أن النبى صلى ال عليه وسلم َ‬
‫غاية واحدة وهى وضعُ الحمل‪ ،‬ولو كان متوقفًا على السلم‪ ،‬لكان بيانُه أهمّ من بيان الستبراء‪.‬‬
‫ن يَقَعَ عَلى‬
‫ن بِال وال َيوْمِ الخر أَ ْ‬
‫وفى ((السنن)) و((المسند)) عنه‪(( :‬لَ يَحِلّ لمْرئ ُي ْؤمِ ُ‬
‫لّ وَال َيوْمِ الخِر‬
‫ن بِا ِ‬
‫ن ُي ْؤمِ ُ‬
‫س َت ْبرِئها))‪.‬ولم يقل‪ :‬حتى تُسلِمَ‪ ،‬وَلحمد‪(( :‬مَنْ كَا َ‬
‫حتّى يَ ْ‬
‫سبْى َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ا ْمرَأ ِة مِ َ‬
‫حتّى تَحِيضَ)) ولم يقل‪ :‬وتسلم‪.‬‬
‫سبَايَا َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ل َي ْنكِحَنّ شَيئًا مِ َ‬
‫فَ َ‬
‫غ ْيرُ حَامِلٍ‬
‫حتّى َتضَعَ وَل َ‬
‫وفى ((السنن)) عنه‪ :‬أنه قال فى سبايا أوطاس‪(( :‬ل تُوطأُ حَامِلٌ َ‬
‫ح ْيضَة وَاحِ َدةً))‪ .‬ولم يقل‪ :‬وتسلم‪ ،‬فلم يجئ عنه اشتراطُ إسلم المسبية فى موضع‬
‫حتّى تَحِيضَ َ‬
‫َ‬
‫واحد البتة‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حُكمِه صلى ال عليه وسلم فى الزوجين يُسِلمُ أحدُهما قبل الخر‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم زينَب ابنَته على أبى‬
‫قال ابنُ عباس رضى ال عنهما‪ :‬ردّ رسو ُ‬
‫ح الوّلِ‪ ،‬ولم يُحْ ِدثْ شيئاً‪ .‬رواه أحمد‪ ،‬وأبو داود‪ ،‬والترمذى‪ .‬وفى لفظ‪ :‬بعد‬
‫ن الرّبيعِ بالنّكا ِ‬
‫العاص بْ ِ‬

‫‪67‬‬
‫ث نِكاحاً قال الترمذى‪ :‬ليس بإسناده بأس‪ ،‬وفى لفظ‪ :‬كان إسلمُها قبل إسلمه‬
‫ست سنين ولم يُح ِد ْ‬
‫بستّ سنين‪ ،‬ولم يُحِدثْ شهاد ًة ول صَداقاً‪.‬‬
‫وقال ابنُ عباس رضى ال عنهما‪(( :‬أسلمت امرأةٌ على عهدِ رسول ال صلى ال عليه‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إنى كنتُ‬
‫وسلم‪ ،‬فتزوّجت‪ ،‬فجاء زوجُها إلى النب ّ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم مِن زوجها الخر‪ ،‬وردّها‬
‫أسلمتُ‪ ،‬وعلمتْ بإسلمى‪ ،‬فانتزعها رسو ُ‬
‫على زوجها الول)) رواه أبو داود‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم جاءت‬
‫وقال أيضا‪(( :‬إن رجلً جاء مسلمًا على عهد رسو ِ‬
‫امرأتُه مسلمة بعدَه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسولَ ال‪ :‬إنها أسلمت معى‪ ،‬فردّها عليه))‪ .‬قال الترمذى‪ :‬حديث‬
‫صحيح‪ .‬وقال مالك إن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أسلمت يومَ الفتح بمكة‪ ،‬وهرب زوجها‬
‫عكرمةُ بن أبى جهل من السلم حتى قدمَ اليمن فارتحلت أمّ حكيم حتى قَ ِد َمتْ عليه باليمن‪ ،‬فدعته‬
‫إلى السلم‪ ،‬فأسلم فَقَدِ َم على رسول ال صلى ال عليه وسلم عا َم الفتح‪ ،‬فلما قَدِ َم على رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وثب إليه فرحًا وما عليه رِداء حتى بايعه‪ ،‬فثبتا على نكاحهما ذلك‪ ،‬قال‪ :‬ولم‬
‫يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى ال ورسوله صلى ال عليه وسلم وزوجُها كافر مقيم بدار الكفر إل‬
‫فرّقت هجرتُها بينها وبينه إل أن يَقْدمَ زوجُها مهاجراً قبل أن تنقضىَ عِ ّدتُها‪ ،‬ذكره مالك رحمه ال‬
‫فى ((الموطأ)) فتضمّن هذا الحكمُ أن الزوجين إذا أسلما معاً فهما على نكاحهما‪ ،‬ول يُسأل عن‬
‫كيفية وقوعه قبل السلم‪ ،‬هل وقع صحيحاً أم ل؟ ما لم يكن المبطلُ قائماً‪ ،‬كما إذا أسلما وقد نكحها‬
‫وهى فى عِدة مِن غيره‪ ،‬أو تحريماً مجمعًا عليه‪ ،‬أو مؤبّداً كما إذا كانت محرماً له بنسب أو‬
‫رضاع‪ ،‬أو كانت مما ل يجو ُز له الجم ُع بينها وبينَ من معه كالختين والخمس وما فوقَهن‪ ،‬فهذه‬
‫ثلثُ صور أحكامُها مختلفة‪.‬‬
‫ب أو رضاع‪ ،‬أو صِهر‪ ،‬أو كانت أختَ الزوجة أو‬
‫س ٍ‬
‫فإذا أسلما وبينها وبينَه محرمي ٌة مِن نَ َ‬
‫عمّتها أو خالَتها‪ ،‬أو من يَحرُمُ الجمعُ بينها وبينها‪ُ ،‬فرّقَ بينهما بإجماع المة‪ ،‬لكن إن كان التحريمُ‬
‫خ ّي َر بينَ إمساك أيّتهِما شاء‪ ،‬وإن كانت بنته من الزنى‪ ،‬فرّق بينهما أيضاً عند‬
‫لجل الجمع‪ُ ،‬‬
‫ت النسب بالزنى فرق بينهما اتفاقاً‪ ،‬وإن أسلم أحدهما وهى فى عدة‬
‫الجمهور‪ ،‬وإن كان يعتقد ثبو َ‬
‫مِن مسلم متقدّمة على عقده‪ُ ،‬فرّق بينهما اتفاقاً‪ ،‬وإن كانت العدةُ مِن كافر‪ ،‬فإن اعتبرنا دوامَ المفسد‬
‫أو الجماع عليه‪ ،‬لم يُفرّق بينهما لن عدة الكافر ل تدومُ‪ ،‬ول تمنعُ النكاح عند من يُبطِلُ أنكحةَ‬
‫الكفار‪ ،‬ويجعل حكمها حكم الزنى‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫وإن أسلم أحدُهما وهى حُبلى من زنى قبلَ العقد‪ ،‬فقولن مبنيان على اعتبار قيامِ المفسد أو‬
‫كونه مجمعًا عليه‪.‬‬
‫وإن أسلما وقد عقداه بل ولى‪ ،‬أو بل شهود‪ ،‬أو فى عِدة وقد انقضت‪ ،‬أو على أخت وقد‬
‫ماتت‪ ،‬أو على خامسة كذلك‪ ،‬أُ ِقرّا عليه‪ ،‬وكذلك إن قهر حربىٌ حربيةً‪ ،‬واعتقداه نكاحًا ثم أسلما‪،‬‬
‫أُ ِقرّا عليه‪.‬‬
‫وتضمن أن أح َد الزوجين إذا أسلَم قبل الخر‪ ،‬لم ينفسِخِ النكاحُ بإسلمه‪َ ،‬فرّقت‬
‫الهجرة بينهما‪ ،‬أو لم تُفرّق‪ ،‬فإنه ل يُعرف أن رسول ال صلى ال عليه وسلم جدّدَ نكاح زوجين‬
‫سلِمُ الرجلُ قبل امرأته‪ ،‬وامرأتُه قبله‪ ،‬ولم‬
‫سبق أحدهما الخر بإسلمه قطّ‪ ،‬ولم يزل الصحاب ُة يُ ْ‬
‫يُعرف عن أحد منهم البتة أنه تلفّظ بإسلمه هو وامرأتُه‪ ،‬وتساويا فيه حرفاً بحرف‪ ،‬هذا مما يُعلم‬
‫ى صلى ال عليه وسلم ابنَته زينَب على أبى العاص بن الربيع‪ ،‬وهو‬
‫أنه لم يقع البتة‪ ،‬وقد ردّ النب ّ‬
‫إنما أسلم زمنَ الحُديبية‪ ،‬وهى أسلمت من أول البعثة‪ ،‬فبين إسلمهما أكث ُر مِن ثمانى عشرة سنة‪.‬‬
‫وأما قوله فى الحديث‪ :‬كان بين إسلمها وإسلمِهِ ستّ سنين‪ ،‬فوهم إنما أراد‪ :‬بينَ هجرتها‬
‫وإسلمه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬وعلى ذلك فالعِدةُ تنقضى فى هذه المدة‪ ،‬فكيف لم يُجدّد نكاحها؟ قيل‪ :‬تحريمُ‬
‫صلْحِ الحُديبية ل قبلَ ذلك‪ ،‬فلم ينفسِخِ النكاح فى تلك المدة‬
‫المسلمات على المشركين إنما نزل بعد ُ‬
‫لعدم شرعية هذا الحكم فيها‪ ،‬ولما نزل تحريمهُن على المشركين‪ ،‬أسلم أبو العاص‪َ ،‬فرُدّت عليه‪.‬‬
‫ل عليه مِن نص ول إجماع‪ .‬وقد ذكر حما ُد بن سلمة‪،‬‬
‫وأما مراعاة زمن العِدة‪ ،‬فل دلي َ‬
‫عن قتادة‪ ،‬عن سعي ِد بن المسيّب‪ ،‬أن على بن أبى طالب رضى ال عنه قال فى الزوجين الكافرين‬
‫ك ببُضعها ما دامت فى دار هجرتها‪.‬‬
‫يسلِمُ أحدُهما‪ :‬هو أمل ُ‬
‫وذكر سفيانُ بن عيينة‪ ،‬عن مُطرّف بن طريف‪ ،‬عن الشعبى‪ ،‬عن على‪ :‬هو أحقّ بها ما لم‬
‫يخرج مِن مِصرها‪.‬‬
‫ن أبى شيبة‪ ،‬عن معتمِر بن سليمان‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن الزّهرى‪ ،‬إن أسلمت ولم يُسلم‬
‫وذكر اب ُ‬
‫زوجُها‪ ،‬ف ُهمَا على نكاحهما إل أن يُفرّقَ بينهما سلطان‪.‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم يسأل‬
‫ول يُعرف اعتبا ُر العِدة فى شىء من الحاديث‪ ،‬ول كان النب ّ‬
‫المرأة هل انقضت عدتُها أم ل‪ ،‬ول ريبَ أن السلم لو كان بمجردهِ فرقة‪ ،‬لم تكن فرقةً رجعية بل‬
‫بائنة‪ ،‬فل أثر لِلعدة فى بقاء النكاح‪ ،‬وإنما أثرُها فى منع نكاحها للغير فلو كان السلمُ قد نجز‬

‫‪69‬‬
‫الفُرقة بينهما‪ ،‬لم يكن أحقّ بها فى العِدة‪ ،‬ولكن الذى دلّ عليه حُكمُه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن النكاح‬
‫ح من شاءت‪،‬‬
‫موقوف‪ ،‬فإن أسلم قبلَ انقضاء عِدتها‪ ،‬فهى زوجتُه وإن انقضت عدتها‪ ،‬فلها أن تنكِ َ‬
‫وإن أحبّت‪ ،‬انتظرته‪ ،‬فإن أسلم‪ ،‬كا َنتْ زوجته مِن غير حاجة إلى تجديد نكاح‪.‬‬
‫ول نعلم أحداً جدّد للسلم نكاحَه ألبتة‪ ،‬بل كان الواقعُ أحد أمرين‪ :‬إما افتراقُهما ونكاحها‬
‫غيره‪ ،‬وإما بقاؤُها عليه وإن تأخر إسلمُها أو إسلمُه‪ ،‬وإما تنجي ُز الفُرقة أو مراعاة العِدة‪ ،‬فل نعلم‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم فى عهده من الرجال‬
‫أن رسو َ‬
‫وأزواجهن‪ ،‬وقرب إسلم أحد الزوجين من الخر وبعده منه‪ ،‬ولول إقرارُه صلى ال عليه وسلم‬
‫الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلمُ أحدهما عن الخر بع َد صلح الحديبية وزمن الفتح‪ ،‬لقلنا‬
‫حلّونَ َلهُنّ}‬
‫ل َلهُ ْم وَلَ هُمْ َي ِ‬
‫بتعجيل الفُرقة بالسلم مِن غير اعتبار عدة‪ ،‬لقوله تعالى‪{:‬لَ هُنّ حِ ّ‬
‫س َببُ الفُرقة‪،‬‬
‫سكُوا ِب ِعصَمِ ال َكوَا ِفرِ} [الممتحنة‪ ]10 :‬وأن السلم َ‬
‫ل ُتمْ ِ‬
‫[الممتحنة‪ ]10 :‬وقوله‪{ :‬و َ‬
‫وكل ما كان سبباً للفرقة تعقبه الفرقة‪ ،‬كالرضاع والخلع والطلق‪ ،‬وهذا اختيار الخلل‪ ،‬وأبى بكر‬
‫صاحِبه‪ ،‬وابنِ المنذر‪ ،‬وابنِ حزم‪ ،‬وهو مذهب الحسن‪ ،‬وطاووس‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬وقتادة‪ ،‬والحكم‪ .‬قال‬
‫ل عمرَ بن الخطاب رضى ال عنه‪ ،‬وجابِر ابن عبد ال‪ ،‬وابنِ عباس‪ ،‬وبه قال‬
‫ابن حزم‪ :‬وهو قو ُ‬
‫حمادُ بن زيد‪ ،‬والحكمُ بن عُتيبة‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز‪ ،‬وعدى بن عدى الكندى‪،‬‬
‫والشعبى‪ ،‬وغيرهم‪ .‬قلت‪ :‬وهو أح ُد الروايتين عن أحمد‪ ،‬ولكن الذى أُنزِلَ عليه قولُه تعالى‪{ :‬وَلَ‬
‫ن َلهُنّ} [الممتحنة‪:‬‬
‫حلّو َ‬
‫ل َلهُ ْم وَلَ هُ ْم يَ ِ‬
‫سكُوا بِعصَ ِم الكَوَا ِفرِ} [الممتحنة‪ ]10 :‬وقوله‪{ :‬لَ هُنّ حِ ّ‬
‫ُتمْ ِ‬
‫‪ ]10‬لم يحكم بتعجيل الفرقة‪ ،‬فروى مالك فى ((موطئه)) عن ابن شهاب‪ ،‬قال‪ :‬كان بين إسلم‬
‫صفوان بن أمية‪ ،‬وبين إسلم امرأته بنت الوليد بن المغيرة نح ٌو من شهر‪ ،‬أسلمت يومَ الفتح‪ ،‬وبقى‬
‫صفوانُ حتى شهد حُنيناً والطائف وهو كافر‪ ،‬ثم أسلم‪ ،‬ولم يفرّق النبى صلى ال عليه وسلم بينهما‪،‬‬
‫ن عبد البر‪ :‬وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده‪.‬‬
‫واستقرّت عنده امرأته بذلك النكاح‪ .‬وقال اب ُ‬
‫وقال ابنُ شهاب‪ :‬أسلمت أُمّ حكيم يو َم الفتح‪ ،‬وهرب زوجُها عكرمة حتى أتى اليمن‪ ،‬فدعته‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبقيا على نكاحهما‪.‬‬
‫إلى السلم‪ ،‬فأسلم وقدم‪ ،‬فباي َع النب ّ‬
‫ل النبى صلى ال‬
‫ومن المعلوم يقيناً‪ ،‬أن أبا سفيان بن حرب خرج‪ ،‬فأسلم عام الفتح قبل دخو ِ‬
‫عليه وسلم مكة‪ ،‬ولم تُسلم هند امرأته حتى فتح رسول ال صلى ال عليه وسلم مكة‪ ،‬فبقيا على‬
‫نكاحهما‪ ،‬وأسلم حكي ُم بنُ حِزام قبل امرأته‪ ،‬وخرج أبو سفيان بن الحارث‪ ،‬وعبد ال بن أبى أمية‬

‫‪70‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم بالبواء‪ ،‬فأسلما قبل منكوحتيهما‪ ،‬فبقيا على نكاحهما‪،‬‬
‫عا َم الفتح‪ ،‬فلقيا النب ّ‬
‫ولم يعلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم فرّق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته‪.‬‬
‫وجواب من أجاب بتجديد نكاح من أسلم فى غاية البطلن‪ ،‬ومن القول على رسول‬
‫ق الزوجين فى التلفظ بكلمة السلم معاً فى لحظة واحدة‬
‫ال صلى ال عليه وسلم بل علم‪ ،‬واتفا ُ‬
‫معلومُ النتفاء‪.‬‬
‫ب من يقف الفُرقة على انقضاء العدة مع ما فيه‪ ،‬إذ فيه‬
‫ويلى هذا القول مذه ُ‬
‫س على عهد‬
‫ش ْب ُرمَةَ‪ :‬كان النا ُ‬
‫آثار وإن كانت منقطعة‪ ،‬ولو صحت لم يج ِز القول بغيرها‪ .‬قال ابن ُ‬
‫ل قبل المرأة‪ ،‬والمرأة قبل الرجل‪ ،‬فأيّهما أسلم قبل‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يُسلم الرج ُ‬
‫ل الترمذى فى‬
‫انقضاء عِدة المرأة‪ ،‬فهى امرأتُه وإن أسلم بعد العدة‪ ،‬فل نِكاح بينهما‪ ،‬وقد تقدّم قو ُ‬
‫أول الفصل‪ ،‬وما حكاه ابنُ حزم عن عمر رضى ال عنه فما أدرى مِن أين حكاه؟ والمعروف عنه‬
‫خلفُه‪ ،‬فإنه ثبت عنه من طريق حماد بن سلمة‪ ،‬عن أيوب وقتادة كلهما عن ابن سيرين‪ ،‬عن عبد‬
‫ال بن يزيد الخطمى‪ ،‬أن نصرانيًا أسلمت امرأته‪ ،‬فَخيّرها عم ُر بن الخطاب رضى ال عنه إن‬
‫شاءت فارقته‪ ،‬وإن شاءت أقامت عليه‪ .‬ومعلوم بالضرورة‪ ،‬أنه إنما خيرها بين انتظاره إلى أن‬
‫ح عنه‪ :‬أن نصرانيًا أسلمت امرأته‪ ،‬فقال عمرُ‬
‫يسلم‪ ،‬فتكون زوجته كما هى أو تُفارقه‪ ،‬وكذلك ص ّ‬
‫ى امرأتُه‪ ،‬وإن لم يُسلم‪ ،‬فرقَ بينهما‪ ،‬فلم يُسلم‪ ،‬ففرق بينهما‪ .‬وكذلك قال‬
‫رضي ال عنه‪ :‬إن أسلم فه َ‬
‫لعُبادة بن النعمان التغلبى وقد أسلمت امرأتُه‪ :‬إما أن تسلم‪ ،‬وإل نزعتها منكَ‪ ،‬فأبى‪ ،‬فنزعها منه‪.‬‬
‫فهذه الثار صريحة فى خلف ما حكاه أبو محمد ابن حزم عنه‪ ،‬وهو حكاها‪ ،‬وجعلها روايات‬
‫ل وبينَ‬
‫أخر‪ ،‬وإنما تمسّك أبو محمد بآثار فيها‪ ،‬أن عمر‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وجابراً‪ ،‬فرّقوا بين الرج ِ‬
‫امرأته بالسلم‪ ،‬وهى آثار مجملة ليست بصريحة فى تعجيل التفرقة‪ ،‬ولو صحت‪ ،‬فقد صحّ عن‬
‫عمر ما حكيناه‪ ،‬وعن على ما تقدم وبال التوفيق‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى العَزْلِ‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬عن أبى سعيد قال‪ :‬أصبنا سبياً‪ ،‬ف ُكنّا َن ْعزِلُ‪ ،‬فسألنا رسولَ ال‬
‫ن نَسَمة كَا ِئنَ ٍة إلى َيوْ ِم ال ِقيَامَةِ إل‬
‫صلى ال عليه وسلم فقال‪(( :‬وإ ّنكُمْ َلتَ ْف َعلُون؟)) قالها ثلثاً‪(( .‬مَا مِ ْ‬
‫وَهِى َكَا ِئنَةٌ))‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫عزِلُ عنها‪ ،‬وأنا أكره أن‬
‫وفى السنن‪ :‬عنه‪ ،‬أن رجلً قال‪ :‬يا رسولَ ال إن لى جاري ًة وأنا أَ ْ‬
‫ل الموؤدةُ الصّغرى‪ ،‬قال‪(( :‬كَ َذ َبتْ‬
‫ث أن العز َ‬
‫ن اليهو َد تُح ّد ُ‬
‫تحمِلَ‪ ،‬وأنا أريدُ ما يُريدُ الرجال‪ ،‬وإ ّ‬
‫ن َتصْرفَهُ))‪.‬‬
‫ط ْعتَ أَ ْ‬
‫ستَ َ‬
‫خلُقَهُ مَا ا ْ‬
‫لّ أَنْ َي ْ‬
‫يهودُ َل ْو أَرادَ ا ُ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬عن جابر قال‪ :‬كنا نَعزِلُ على عهدِ رسو ِ‬
‫ن َي ْنزِلُ‪.‬‬
‫والقُرآ ُ‬
‫ل على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبلغ ذلك‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) عنه‪ :‬كنَا نَعزِ ُ‬
‫رسولَ ال صلى ال عليه وسلم َفلَمْ َي ْن َهنَا‪.‬‬
‫ل النبى صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬إنّ عِندى‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) أيضاً‪ :‬عنه قال‪ :‬سألَ رج ٌ‬
‫شيْئًا أرَا َدهُ الُّ))‪،‬‬
‫ل َي ْمنَعُ َ‬
‫جاريةً‪ ،‬وأنا أعزِلُ عنها‪ ،‬فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنّ ذِلكَ َ‬
‫ح َمَلتْ‪ ،‬فقال رسول ال صلى‬
‫ت ذكرتُها لك َ‬
‫قال‪ :‬فجاء الرجلُ فقال‪ :‬يا رسولَ ال إن الجاريَة التى ُك ْن ُ‬
‫لّ َورَسُولُه))‪.‬‬
‫عبْدُ ا ِ‬
‫ال عليه وسلم‪َ(( :‬أنَا َ‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) أيضاً‪ :‬عن أسامة بن زيد‪ ،‬أن رجلً جاء إلى رسول ال صلى ال‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ن امرأتى‪ ،‬فقال له رسو ُ‬
‫ل ال‪ ،‬إنى أعزِلُ عَ ِ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسو َ‬
‫ل ال صلى ال‬
‫علَى ولدها‪ ،‬أو قال‪ :‬على أولدِها‪ ،‬فقال رسو ُ‬
‫ل ذِلكَ؟ فقال الرجُلُ‪ :‬أُشْفِقُ َ‬
‫((لِ َم تَ ْفعَ ُ‬
‫ضرّ فَا ِرسَ وَالرّومَ))‪.‬‬
‫ن ضَارّا َ‬
‫عليه وسلم‪َ(( :‬ل ْو كَا َ‬
‫ع َمرَ بنِ الخطاب رضى ال عنه قال‪ :‬نهى‬
‫وفى مسند أحمد‪ ،‬وسنن ابن ماجه‪ ،‬من حديث ُ‬
‫ح ّرةِ إل بإ ْذ ِنهَا‪.‬‬
‫رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أن يُعزَلَ عَنِ ال ُ‬
‫وقال أبو داود‪ :‬سمعتُ أبا عبد ال ذكر حديث ابن َلهِيعة‪ ،‬عن جعفر ابن ربيعة عن الزهرى‪،‬‬
‫حرّر بن أبى هريرة‪ ،‬عن أبى هريرة رضى ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫عن المُ َ‬
‫ح ّرةِ إلّ بإذْنها))‪ ،‬فقال‪ :‬ما أن َك َرهُ‪.‬‬
‫وسلم‪(( :‬ل ُي ْعزَلُ عَنِ ال ُ‬
‫ت الرخصةٌ فيه عن عشرة من الصحابة‪:‬‬
‫ث صريحةٌ فى جواز العزلِ‪ ،‬وقد ُروِي ِ‬
‫فهذه الحادي ُ‬
‫ن بن على‪،‬‬
‫ن عباس‪ ،‬والحس ِ‬
‫على‪ ،‬وسع ِد بن أبى وقاص‪ ،‬وأبى أيوب‪ ،‬وزيدِ بن ثابت‪ ،‬وجابرٍ‪ ،‬واب ِ‬
‫ب بن الرتّ‪ ،‬وأبى سعيد الخدرى‪ ،‬وابنِ مسعود‪ ،‬رضى ال عنهم‪.‬‬
‫وخبّا ِ‬
‫قال ابن حزم‪ :‬وجاءت الباحة للعزل صحيحة عن جابر‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وسع ِد بن أبى‬
‫وقاص‪ ،‬وزيدِ بن ثابت‪ ،‬وابنِ مسعود‪ ،‬رضى ال عنهم‪ ،‬وهذا هو الصحيحُ‪.‬‬
‫وحرّمه جماعة‪ ،‬منهم أبو محمد ابن حزم وغيرُه‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫وفرّقت طائفة بين أن تأذن له الح ّرةُ‪ ،‬فيبُاح‪ ،‬أول تأذن فيحرُم‪ ،‬وإن كانت زوجته أمةً‪ ،‬أبيحَ‬
‫بإذن سيدها‪ ،‬ولم يبح بدون إذنه‪ ،‬وهذا منصوصُ أحمد‪ ،‬ومن أصحابه من قال‪ :‬ليُباح بحال‪ ،‬ومنهم‬
‫من قال‪ :‬يُباح بكُلّ حال‪ .‬ومنهم من قال‪ :‬يباح بإذن الزوجة حرةً كانت أو أمة‪ ،‬ول يُباح بدون إذنها‬
‫حرة كانت أو أمة‪.‬‬
‫ق المرأة فى ذوق العسيلة‬
‫فمن أباحه مطلقاً‪ ،‬احتج بما ذكرنا من الحاديث‪ ،‬وبأن ح ّ‬
‫ل فى النزال‪ ،‬ومن حرّمه مطلقاً احتج بما رواه مسلم فى ((صحيحه)) من حديث عائشة رضى ال‬
‫ت رسول ال صلى ال عليه وسلم فى‬
‫عكّاشة‪ ،‬قالت‪ :‬حضر ُ‬
‫ت وهبٍ أختِ ُ‬
‫عنها‪ ،‬عن جُدَامة بن ِ‬
‫أناسٍ‪ ،‬فسألُوه عن ال َعزْلِ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ذِلكَ الوَأدُ الخَ ِفىّ))‪ ،‬وهى‪{:‬وإِذَا‬
‫س ِئَلتْ} [التكوير‪.]8 :‬‬
‫ال َموْءُدَةُ ُ‬
‫قالوا‪ :‬وهذا ناسخٌ لخبار الباحة‪ ،‬فإنه ناقل عن الصل‪ ،‬وأحاديثُ الباحة‬
‫على وفق البراءة الصلية‪ ،‬وأحكامُ الشرع ناقلة عن البراءة الصلية‪ .‬قالوا‪ :‬وقولٌ جابر رضي ال‬
‫ن ينزِلُ‪ ،‬فلو كان شيئًا ينهى عنه‪ ،‬لنهى عنه القرآن‪.‬‬
‫ل والقرآ ُ‬
‫عنه‪ :‬كنا نعِز ُ‬
‫ل عليه القرآنُ بقوله‪(( :‬إنّه المَوءُد ُة الصّغرى)) والوأد كله حرام‪.‬‬
‫ن ُأ ْنزِ َ‬
‫فيقال‪ :‬قد نهى عنه مَ ْ‬
‫ن البصرى‪ ،‬النهىَ مِن حديث أبى سعيد الخدرى رضي ال عنه لما ُذ ِك َر العزلُ‬
‫قالوا‪ :‬وقد فهِم الحس ُ‬
‫ل تَ ْف َعلُوا ذَاكُمْ‪ ،‬فإما ُهوَ القَ َدرُ)) قال ابنُ عون‪:‬‬
‫عَل ْيكُم أ ّ‬
‫عند رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬ل َ‬
‫فحدّثتُ به الحسنَ‪ ،‬فقال‪ :‬وال لكأنّ هذا زجرٌ‪ .‬قالوا‪ :‬ولن فيه قط َع النسلِ المطلوبِ مِن النكاح‪،‬‬
‫وسوء العشرة‪ ،‬وقط َع اللذة عندَ استدعاء الطبيعة لها‪.‬‬
‫ت أن أحدًا من ولدى‬
‫قالوا‪ :‬ولهذا كان ابنُ عمر رضي ال عنه ل يعزِلُ‪ ،‬وقال‪ :‬لو علم ُ‬
‫َي ْعزِلُ‪ ،‬لن ّك ْلتُه‪ ،‬وكان علىّ يكره العزل‪ ،‬ذكره شعبة عن عاصم عن ز ّر عنه وصح عن ابن مسعود‬
‫رضى ال عنه أنه قال فى العزل‪ :‬هو الموؤود ُة الصغرى‪ .‬وصح عن أبى أُمامة أنه سئل عنه فقال‪:‬‬
‫ض بنيه‪ .‬وقال يحيى‬
‫ت أرى مسلمًا يفعلُه‪ .‬وقال نافع عن ابن عمر‪ :‬ضرب عمر على العزل َبعْ َ‬
‫ما ُك ْن ُ‬
‫بن سعيد النصارى‪ ،‬عن سعيد بن المسيّب‪ ،‬قال‪ :‬كان عمرُ وعثمانُ ينهيان عن العزل‪.‬‬
‫وليس فى هذا ما يُعارضُ أحاديث الباحة مع صراحتها وصحتها أما حديثَ جُدَامة‬
‫بنت وهب‪ ،‬فإنه وإن كان رواه مسلم‪ ،‬فإن الحاديث الكثيرةَ على خلفه‪ ،‬وقد قال أبو داود‪ :‬حدثنا‬
‫موسى بن إسماعيل‪ ،‬حدثنا أبان‪ ،‬حدثنا يحيى‪ ،‬أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه‪ ،‬أنّ رِفاعة‬
‫حدثه عن أبى سعيد الخدرى رضى ال عنه‪ ،‬أن رجلً قال‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬إن لى جاريةً‪ ،‬وأنا أعزِلُ‬

‫‪73‬‬
‫عنها‪ ،‬وأنا أكره أن تحمِلَ‪ ،‬وأنا أُريدَ ما يُريد الرجال‪ ،‬وإن اليهو َد تُحدّث أن العزل الموؤودة‬
‫صرِفَه)) وحسبك بهذا السناد‬
‫ن َت ْ‬
‫ط ْعتَ أَ ْ‬
‫ستَ َ‬
‫خلُقَه مَا ا ْ‬
‫ن يَ ْ‬
‫لّ أ ْ‬
‫ت يهودُ‪َ ،‬ل ْو َأرَادَ ا ُ‬
‫الصغرى‪ ،‬قال‪(( :‬كَذَ َب ْ‬
‫صحة‪ ،‬ف ُكلّهم ثقات حفاظ‪ ،‬وقد أعلّه بعضُهم بأنه مضطرب فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبى‬
‫كثير‪ ،‬فقيل‪ :‬عنه‪ ،‬عن محمد ابن عبد الرحمن ابن ثوبان‪ ،‬عن جابر بن عبد ال‪ ،‬ومن هذه الطريق‪:‬‬
‫أخرجه الترمذى والنسائى‪ .‬وقيل‪ :‬فيه عن أبى مُطيع بن رِفاعة‪ ،‬وقيل‪ :‬عن أبى رفاعة‪ ،‬وقيل‪ :‬عن‬
‫أبى سلمة عن أبى هُريرة‪ ،‬وهذا ل يقدحُ فى الحديث‪ ،‬فإنه قد يكونُ عند يحيى‪ ،‬عن محمد بن عبد‬
‫الرحمن‪ ،‬عن جابر‪ ،‬وعنده عن ابن ثوبان عن أبى سلمة عن أبى هريرة‪ ،‬وعنده عن ابن ثوبان عن‬
‫رفاعة عن أبى سعيد‪ .‬ويبقى الختلفُ فى اسم أبى رفاعة‪ ،‬هل أبو رافع‪ ،‬أو ابنُ رِفاعة‪ ،‬أو أبُو‬
‫ضرّ مع العلم بحال رفاعة‪.‬‬
‫مطيع؟ وهذا ل َي ُ‬
‫ول ريبَ أن أحاديثَ جابر صريحةٌ صحيحة فى جواز العزل‪ ،‬وقد قال الشافعىّ رحمه ال‪:‬‬
‫ب النبى صلى ال عليه وسلم أنهم رخّصوا فى ذلك‪ ،‬ولم َي َروْا به‬
‫ونحن نروى عن عدد من أصحا ِ‬
‫بأساً‪ .‬قال البيهقى‪ :‬وقد روينا الرخصةَ فيه‪ ،‬عن سعد بن أبى قاص‪ ،‬وأبى أيوب النصارى‪ ،‬وزيد‬
‫ل العلم‪.‬‬
‫ابن ثابت‪ ،‬وابن عباس وغيرهم‪ ،‬وهو مذهب مالك‪ ،‬والشافعى‪ ،‬وأهلِ الكوفة‪ ،‬وجمهورِ أه ِ‬
‫وقد أُجيب عن حديث جُدَامة‪ ،‬بأنه على طريق التنزيه‪ ،‬وضعفته طائفةٌ‪ ،‬وقالوا‪ :‬كيفَ‬
‫ب اليهودَ فى ذلك‪ ،‬ثم يُخبر به كخبرهم؟‪ ،‬هذا من‬
‫َيصِحّ أن يكونَ النبىّ صلى ال عليه وسلم ك ّذ َ‬
‫المحال البيّن‪ ،‬وردّت عليه طائفةٌ أخرى‪ ،‬وقالوا‪ :‬حديثُ تكذيبهم فيه اضطراب وحديثُ جُدَامة فى‬
‫((الصحيح))‪.‬‬
‫وجمعت طائفةٌ أخرى بين الحديثين‪ ،‬وقالت‪ :‬إن اليهودَ كانت تقولُ‪ :‬إن العزلَ‬
‫ل عليه قوله صلى‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فى ذلك‪ ،‬ويَدُ ّ‬
‫ل يكون معه حمل أصلً‪ ،‬فكذّبهم رسو ُ‬
‫ن َتصْرِفَه))‪ ،‬وقوله‪(( :‬إنّهُ ال َوأْدُ الخَ ِفىّ))‪ ،‬فإنه‬
‫ت أَ ْ‬
‫ط ْع َ‬
‫ستَ َ‬
‫خلُقَه َلمَا ا ْ‬
‫لّ أَنْ َي ْ‬
‫ال عليه وسلم‪(( :‬لَ ْو َأرَادَ ا ُ‬
‫ك الوطء‪ ،‬فهو مؤثر فى تقليله‪.‬‬
‫وإن لم يمنع الحملَ بالكلية‪ ،‬كتر ِ‬
‫وقالت طائفة أخرى‪ :‬الحديثان صحيحان‪ ،‬ولكن حديث التحريم ناسخ‪،‬‬
‫وهذه طريقة أبى محمد ابن حزم وغيره‪ .‬قالوا‪ :‬لنه ناقل عن الصل والحكام كانت قبل التحريم‬
‫على الباحة‪ ،‬ودعوى هؤلء تحتاج إلى تاريخ محقّق يبيّن تأخّر أحدِ الحديثين عن الخر وأنّى لهم‬
‫ع َم ُر وَعلى رضي ال عنهما على أنها ل تكونُ موؤودةً حتى َت ُمرّ عليها التاراتُ‬
‫به‪ ،‬وقد اتفق ُ‬
‫السبع‪ ،‬فروى القاضى أبو يعلى وغيرهُ بإسناده‪ ،‬عن عُبيد بن رفاعة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال جلس إلى عمر‬

‫‪74‬‬
‫علىّ والزبيرُ وسع ٌد رضى ال عنهم فى نفر من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتذاكروا‬
‫العزلَ‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل بأس به‪ ،‬فقال رجل‪ :‬إنهم يزعمون أنها الموؤدةُ الصغرى‪ ،‬فقال على رضى ال‬
‫ت السبع‪ :‬حتى تكون مِنْ سُللة من طين‪ ،‬ثم تكونَ‬
‫عنه‪ :‬ل تكون موؤدةً حتى تم ّر عليها التارا ُ‬
‫ن مضغةً‪ ،‬ثم تكون عظاماً‪ ،‬ثم تكون لحماً‪ ،‬ثم تكون خلقاً آخر‪ ،‬فقال‬
‫نُطفةً‪ ،‬ثم تكون عَلقةً‪ ،‬ثم تكو َ‬
‫عمر رضى ال عنه‪ :‬صدقتَ أطال ال بقاءك‪ .‬وبهذا احتجّ من احتج على جواز الدعاء للرجل‬
‫بطول البقاء‪.‬‬
‫ق فى الولد‪ ،‬كما‬
‫ح ّرةِ‪ ،‬فقال‪ :‬للمرأة ح ّ‬
‫وأما من جوّزه بإذن ال ُ‬
‫س ّريّةِ فيه لنها ل حقّ لها فى‬
‫ن ال ّ‬
‫للرجل حقّ فيه‪ ،‬ولهذا كانت أحقّ بحضانته‪ ،‬قالُوا‪ :‬ولو يُع َت َبرْ إذ ُ‬
‫ق فى الوطء لطُولِب المؤلى منها بالفيئة‪.‬‬
‫القسم‪ ،‬ولهذا ل تُطالبه بالفيئة‪ ،‬ولو كان لها ح ّ‬
‫قالوا‪ :‬وأما زوجتُه الرقيقة‪ ،‬فله أن َي ْعزِلَ عنها بغير إذنها صيان ًة لولده عن الرّقّ ولكن يُعتبر‬
‫ل البُضع يحصل للسيدِ‬
‫إذنُ سيدها‪ ،‬لن له حقًا فى الولد‪ ،‬فاع ُت ِبرَ إذنُه فى العزل كالحرة‪ ،‬ولن بد َ‬
‫كما يحصل للحرة‪ ،‬فكان إذنه فى العزل كإذن الحرة‪.‬‬
‫قال أحمد رحمه ال فى رواية أبى طالب فى المة إذا نكحها‪ :‬يستأذِنُ أهَلها‪ ،‬يعنى فى‬
‫العزل‪ ،‬لنهم يُريدون الولد‪ ،‬والمرأةُ لها حق‪ ،‬تُريد الولد‪ ،‬وملكُ يمينه ل يستأذنها‪.‬‬
‫وقال فى رواية صالح‪ ،‬وابن منصور‪ ،‬وحنبل‪ ،‬وأبى الحارث‪ ،‬والفضل ابن زياد‬
‫والمروذى‪ :‬يَعزِلُ عن الحرة بإذنها‪ ،‬والمةِ بغير إذنها‪ ،‬يعنى أمَته‪ ،‬وقال فى رواية ابن هانىء‪ :‬إذا‬
‫ن الولدُ مع العزل‪ .‬وقد قال بعضُ من قال‪ :‬ما لى ولد إل من العزل‪.‬‬
‫عزل عنها‪ ،‬لزمه الولد‪ ،‬قد يكُو ُ‬
‫ل لك؟ ليس لها ذلك‪.‬‬
‫وقال فى رواية المروذى‪ :‬فى العزل عن أم الولد‪ :‬إن شاء‪ ،‬فإن قالت‪ :‬ل يَحِ ّ‬
‫فصل‬
‫ضعَة‬
‫فى حُكمه صلى ال عليه وسلم فى الغَيل‪ ،‬وهو وطءُ المر ِ‬
‫ت أَنّ‬
‫حتّى َذ َك ْر ُ‬
‫ن ال ِغيْلَةِ َ‬
‫ت أَنْ َأنْهى عَ ِ‬
‫ثبت عنه فى ((صحيح مسلم))‪ :‬أنه قال‪(( :‬لَقَدْ َه َم ْم ُ‬
‫ض ّر َأوْلَدَهُم)) وفى سنن أبى داود عنه‪ ،‬من حديث أسماء بنت‬
‫ل َي ُ‬
‫ن ذلكَ فَ َ‬
‫صنَعُو َ‬
‫س َي ْ‬
‫الرّومَ وفَا ِر َ‬
‫ع ِث ُرهُ))‪.‬‬
‫سرّا َفوَالّذِى نَفْسِى ِبيَ ِد ِه إنّه َليُ ْدرِك الفَا ِرسَ َفيُدَ ْ‬
‫يزيد‪(( :‬ل تَ ْق ُتلُوا َأوْل َدكُم ِ‬
‫ل امرأتَه وهى ترضع‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬ما يعنى؟ قلت‪ :‬الغيلة‪ :‬يأتى الرج ُ‬
‫ث الول‪ ،‬فهو حديثُ جُدَامة بنت وهب‪ ،‬وقد تضمّن أمرين لِكلّ منهما‬
‫قلت‪ :‬أما الحدي ُ‬
‫ت أن أنهى عن الغِيلة))‪ ،‬وقد عارضه حديث أسماء‪،‬‬
‫معارض‪ :‬فصدرُه هو الذى تقدّم‪(( :‬لقد همم ُ‬

‫‪75‬‬
‫وعجزه‪ :‬ثم سألوه عن العزل‪ ،‬فقال‪(( :‬ذلك الوأد الخفى)) وقد عارضه حديث أبى سعيد‪(( :‬كذبت‬
‫سرّا)) نهى أن يتسبب إلى ذلك‪ ،‬فإنه شبّه الغَيل بقتل‬
‫يهود))‪ ،‬وقد يُقال‪ :‬إن قوله‪(( :‬ل تَ ْق ُتلُوا َأوْل َدكُمْ ِ‬
‫الولد‪ ،‬وليس بقتلٍ حقيقة‪ ،‬وإل كان من الكبائر‪ ،‬وكان قرينَ الشراك بال‪ ،‬ول ريبَ أن وطء‬
‫المراضع مما َتعُمّ به البلوى‪ ،‬ويتعذّر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع ولو كان وطؤُهن‬
‫لمّةُ‪ ،‬وخي ُر القرون‪ ،‬ول‬
‫حراماً لكان معلوماً من الدين‪ ،‬وكان بيانُه مِن أه ّم المور‪ ،‬ولم تُه ِملْه ا ُ‬
‫يُصرّحُ أحدٌ منهم بتحريمه‪َ ،‬ف ُعلِمَ أن حديث أسماء على وجه الرشاد والحتياط للولد‪ ،‬وأن ل‬
‫ضعُوا لولدهم غيرَ‬
‫ُي َعرّضَه لفساد اللبن بالحمل الطارىء عليه‪ ،‬ولهذا كان عاد ُة العرب أن يستر ِ‬
‫أمهاتهم‪ ،‬والمنع غايُته أن يكون من باب سد الذرائع التى قد تُفضى إلى الضرار بالولد‪ ،‬وقاعدةُ‬
‫ت عليه‪ ،‬كما تقدّم بيانُه مراراً وال أعلم‪.‬‬
‫باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة‪ ،‬قُ ّد َم ْ‬
‫فصل‬
‫فى حُكمه صلى ال عليه وسلم فى قسم البتداء والدوام بين الزوجات‬
‫ل ال ِب ْكرَ‬
‫ن السّن ِة إذا تزوّج الرّجُ ُ‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬عن أنس رضى ال عنه أنه قال‪ :‬مِ َ‬
‫عنْدَهَا ثلثاً‪ ،‬ثم قَسَمَ‪ .‬قال أبو قلبة‪ :‬ولو‬
‫ج ال ّث ّيبَ‪ ،‬أَقَامَ ِ‬
‫سبْعاً وقَسَمَ‪ ،‬وإذا َت َزوّ َ‬
‫عنْدَهَا َ‬
‫على ال ّث ّيبِ‪ ،‬أَقام ِ‬
‫شئتُ‪ ،‬ل ُق ْلتُ‪ :‬إن أنسًا رفعه إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وهذا الذى قاله أبو قِلبة‪ ،‬قد جاء مصرّحًا به عن أنس‪ ،‬كما رواه البزار فى ((مسنده))‪ ،‬من‬
‫طريق أيوب السّختيانى‪ ،‬عن أبى قِلبة‪ ،‬عن أنس رضى ال عنه أن النبىّ صلى ال عليه وسلم‬
‫ل لِلبِكرِ سبعاً‪ ،‬ولل ّثيّب ثلثاً‪.‬‬
‫جعَ َ‬
‫َ‬
‫وروى الثورى‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬وخالد الحذّاء‪ ،‬كِلهما عن أبى قِلبة‪ ،‬عن أنس‪ ،‬أن النبىّ صلى‬
‫عنْدَها ثلثاً))‪.‬‬
‫ج ال ّثيّيبَ‪ ،‬أقَامَ ِ‬
‫سبْعاً‪ ،‬وإِذا َت َزوّ َ‬
‫عنْدَهَا َ‬
‫ج ال ِب ْكرَ‪ ،‬أَقَامَ ِ‬
‫ال عليه وسلم قَالَ‪(( :‬إِذَا َت َزوّ َ‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫وفى صحيح مسلم‪ :‬عن أ ّم سلمة رضى ال عنها‪ ،‬لما تزوّجها رسو ُ‬
‫ت َلكِ‪،‬‬
‫س ّب ْع ُ‬
‫ش ْئتِ َ‬
‫وسلم‪ ،‬فدخل عليها‪ ،‬أقامَ عندها ثلثاً‪ ،‬ثم قال‪(( :‬إنّ ُه َل ْيسَ ِبكِ عَلى أَ ْهِلكِ هَوانٌ‪ ،‬إنْ ِ‬
‫ش ْئتِ‬
‫ت بثوبه فقال‪(( :‬إنْ ِ‬
‫س ّب ْعتُ ِلنِسَائى))‪ .‬وله فى لفظ‪(( :‬لما أراد أن يخرج‪ ،‬أخَ َذ ْ‬
‫ت َلكِ‪َ ،‬‬
‫س ّب ْع ُ‬
‫وإنْ َ‬
‫لثٌ))‪.‬‬
‫سبْعٌ‪ ،‬وللثّيُب ثَ َ‬
‫سبْتكِ بِهِ‪ِ ،‬ل ْل ِب ْكرِ َ‬
‫زِ ْد ُتكِ وَحَا َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم يَقْسِمُ َف َيعْدِلُ‪،‬‬
‫وفى السنن‪ :‬عن عائشة رضى ال عنها‪ ،‬كان رسو ُ‬
‫ل َأ ْمِلكُ))‪ ،‬يعنى القلبَ‪.‬‬
‫ل َتُلمْنى فيمَا َت ْمِلكُ وَ َ‬
‫ويقول‪(( :‬الّلهُ ّم إِنّ هذا قَسْمى فِيما َأمِلكُ‪ ،‬فَ َ‬

‫‪76‬‬
‫ع بين نسائه‪ ،‬فأ ّيتُهن‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم كان إذا أرادَ سفراً‪ ،‬أقر َ‬
‫خرَجَ بها معه‪.‬‬
‫خرج سهمُها‪َ ،‬‬
‫ى صلى ال‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬أن سود َة وهبت يومها لِعائشة رضى ال عنها‪ ،‬وكان النب ّ‬
‫عليه وسلم يَقْسِمُ لعائشة َي ْومَها و َيوْمَ سودة‪.‬‬
‫ضنَا‬
‫وفى السنن‪ :‬عن عائشة رضى ال عنها‪ ،‬كان النبىّ صلى ال عليه وسلم ل يُ َفضّلُ َب ْع َ‬
‫ن كُلّ‬
‫ل َيوْ ٌم إل و ُه َو يَطُوفُ علينا جميعاً‪ ،‬فيدنو مِ ْ‬
‫على َبعْضٍ فى القَسْ ِم مِن مُكثِه عندنا‪ ،‬وكان قَ ّ‬
‫عنْدَهَا‪.‬‬
‫ت ِ‬
‫ن غير مسيس حتى َي ْبلُغَ إلى التى ُه َو يَومُها‪ ،‬فَيبِي ُ‬
‫امرأة مِ ْ‬
‫ن كُنّ يجت ِمعْنَ كل ليلة فى بيت التى يأتيها‪.‬‬
‫وفى ((صحيح مسلم))‪ :‬إنه ّ‬
‫ت مِنْ َب ْعِلهَا‬
‫ن ا ْمرَأةٌ خَا َف ْ‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬عن عائشة رضىَ ال عنها‪ ،‬فى قوله‪{ :‬وإ ِ‬
‫ل صحبتُها‪ ،‬فُيريد‬
‫ن عند الرجل فتطو ُ‬
‫نُشُوزاً أو إعْراضاً} [النساء‪ُ ]128:‬أ ْن ِزلَت في المرأة تكو ُ‬
‫ى والقَسْمِ لى‪ ،‬فذلك قولُه‪{:‬فَلَ‬
‫ل من النفقة عل ّ‬
‫طلقَها‪ ،‬فتقول‪ :‬ل تُطلّقنى وأمسِكنى‪ ،‬وأَنت فى حث ّ‬
‫خ ْيرٌ} [النساء‪.]128:‬‬
‫صلْحًا والصّلْحُ َ‬
‫صلِحَا َب ْي َن ُهمَا ُ‬
‫عَل ْي ِهمَا أَنْ ُي ْ‬
‫جنَاحَ َ‬
‫ُ‬
‫ن عمه علىّ بن أبى طالب رضى ال عنه‪ ،‬أنه إذا تزوّج الحرّة على‬
‫وقضى خليفتُه الراشدُ‪ ،‬واب ُ‬
‫حرّة ليلتين‪ .‬وقضاءُ خلفائه وإن لم يكن مساويًا لقضائه‪ ،‬فهو كقضائه فى‬
‫المة قس َم للمة ليلة‪ ،‬ولل ُ‬
‫وجوبه على المة‪ ،‬وقد احتجّ المام أحمدُ بهذا القضاءِ عن على رضي ال عنه‪ ،‬وقد ضعّفه أبو‬
‫محمد بن حزم بالمنهال بن عمرو‪ ،‬وبابنِ أبى ليلى‪ ،‬ولم يصنع شيئاً‪ ،‬فإنهما ثِقتان حافِظانِ جليلن‪،‬‬
‫ل الناسُ يحتجّونَ بابن أبى ليلى على شىء ما فى حفظه ُيتّقى منه ما خالف فيه الثبات‪ ،‬وما‬
‫ولم يز ِ‬
‫تفرّد به عن الناس‪ ،‬وإل فهو غيرُ مدفوع عن المانة والصدق‪ .‬فتضمّن هذا القضا ُء أموراً‪.‬‬
‫منها وجوبُ قسم البتداء‪ ،‬وهو أنه إذا تزوّج بكراً على ثيب‪ ،‬أقام عندها سبعاً ثم سوّى‬
‫بينهما‪ ،‬وإن كانت ثيّباً‪ ،‬خيّرها بين أن يُقيم عندها سبعاً‪ ،‬ثم يقضِيها للبواقى‪ ،‬وبين أن يُقيم عندها‬
‫ثلثًا ول يُحاسبها‪ ،‬هذا قول الجمهور‪ ،‬وخالف فيه إما ُم أهل الرأى‪ ،‬وإمامُ أهل الظاهر‪ ،‬وقالوا‪ :‬ل‬
‫حقّ للجديدة غيرَ ما تستحقه التى عنده‪ ،‬فيجب عليه التسوية بينهما‪.‬‬
‫ب عليها بالثلث‪ ،‬ولو‬
‫ب إذا اختارت السبعَ‪ ،‬قضاهُن للبواقى‪ ،‬واحتس َ‬
‫ومنها‪ .‬أن الث ّي َ‬
‫ب عليها بها‪ ،‬وعلى هذا من سُومح بثلث دون ما فوقَها‪ ،‬ففعل أكثرَ منها‪،‬‬
‫س ْ‬
‫ت الثلثَ‪ ،‬لم يحت ِ‬
‫اختار ِ‬
‫دخلت الثلث فى الذى لم يُسامح به بحيث لو ترتب عليه إثم‪ ،‬أثِمَ على الجميع‪ ،‬وهذا كما رخّص‬

‫‪77‬‬
‫ج ِر أن يُقيم بعد قضاء نسكه ثلثاً‪ .‬فلو أقام أبداً‪ ،‬ذُمّ على القامة‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم للمُها ِ‬
‫ُكلّها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل تجب التسويةُ بينَ النساء فى المحبة‪ ،‬فإنها ل ُت ْمَلكُ‪ ،‬وكانت‬
‫ب التسوية بينهن فى الوطء‪ ،‬لنه‬
‫ب نسائه إليه‪ .‬وأُخِذَ من هذا أنه ل تج ُ‬
‫عائش ُة رضى ال عنها أح ّ‬
‫موقوف على المحب ِة والميل‪ ،‬وهى بيد مقلّب القلوب‪.‬‬
‫وفى هذا تفصيل‪ ،‬وهو أنه إن تركه لعدم الداعى إليه‪ ،‬وعدم النتشار‪ ،‬فهو معذور‪ ،‬وإن‬
‫تركه مع الداعى إليه‪ ،‬ولكن داعيه إلى الضرة أقوى‪ ،‬فهذا مما يدخُلُ تحت قُدرته وملكه‪ ،‬فإن أدى‬
‫الواجبَ عليه منه‪ ،‬لم َيبْقَ لها حق‪ ،‬ولم يلزمه التسويةُ‪ ،‬وإن ترك الواجبَ منه‪ ،‬فلها المطالب ُة به‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬إذا أراد السفرَ‪ ،‬لم يجز له أن يُسافِر بإحداهن إل بقُرعة‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم لم يكن يقضى‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل يقضى للبواقى إذا قَدِمَ‪ ،‬فإن رسو َ‬ ‫@‬
‫للبواقى‪.‬‬
‫وفى هذا ثلثة مذاهب‪.‬‬
‫ع أو لم يُقرع‪ ،‬وبه قال أبو حنيفة‪ ،‬ومالك‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه ل يقضى‪ ،‬سواء أقرَ َ‬
‫والثانى‪ :‬أنه يقضى للبواقى أقرع أو لم يُقرع‪ ،‬وهذا مذهب أهل الظاهر‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أنه إن أقرع لم يقض‪ ،‬وإن لم يُقرع قضى‪ ،‬وهذا قولُ أحمد والشافعى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن للمرأ ِة أن َت َهبَ ليلتها لِضرتها‪ ،‬فل يجوزُ له جعلُها لغير الموهبة‪ ،‬وإن‬
‫ق للمرأة فإذا أسقطتها‪ ،‬وجعلتها‬
‫وهبتها للزوج‪ ،‬فله جعلُها لمن شاء منهن‪ ،‬والفرقُ بينهما أن الليلةَ ح ّ‬
‫لضرتها‪ ،‬تعينت لها‪ ،‬وإذا جعلتها للزوج‪ ،‬جعلها لمن شاء مِن نسائه‪ ،‬فإذا اتفق أن تكون ليل ُة الواهبة‬
‫تلى ليلة الموهوبة‪ ،‬قسم لها ليلتين متواليتين‪ ،‬وإن كانت ل تليها فهل له نقلُها إلى مجاورتها‪ ،‬فيجعل‬
‫الليلتين متجاورتين؟ على قولين للفقهاء‪ ،‬وهما فى مذهب أحمد والشافعى‪.‬‬
‫ل له أن يَدْخُلَ على نسائه ُكّلهِنّ فى يوم إحداهن ولكن ل يطؤها في غير‬
‫ومنها‪ :‬أن الرج َ‬
‫نوبتها‪.‬‬
‫ت النوم‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أن لِنسائه ُكّلهِنّ أن يجتمِعن فى بيت صاحبة النوبة يتحدّثن إلى أن يجىء وق ُ‬
‫ل واحدة إلى منزلها‪.‬‬
‫فتؤوب كُ ّ‬

‫‪78‬‬
‫جزَ عن حقوقها‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الرجل إذا قضَى وطراً من امرأته‪ ،‬وكرهتْها نفسُه‪ ،‬أو عَ َ‬
‫خيّرها‪ ،‬إن شاءت أقامت عنده ول حقّ لها في القسم والوطء والنفقة‪ ،‬أو فى‬
‫فله أن يُطلّقها‪ ،‬وله أن يُ َ‬
‫بعضِ ذلك بحسب ما يصطلحان عليه‪ ،‬فإذا رضيت بذلك‪ ،‬لزم‪ ،‬وليس لها المطالبةُ به بعد الرضى‪.‬‬
‫غ غيره‪ ،‬وقولُ من قال‪ :‬إن حقها‬
‫هذا موجب السنة ومقتضاها‪ ،‬وهو الصوابُ الذى ل يسو ُ‬
‫يتجدد‪ ،‬فلها الرجوع فى ذلك متى شاءت‪ ،‬فاسد‪ ،‬فإن هذا خرج مخرجَ المعاوضة‪ ،‬وقد سماه ال‬
‫ت مِن طلب حقّها بعد‬
‫تعالى صالحاً‪ ،‬فيلزم كما يلزم ما صالح عليه من الحقوق والموال‪ ،‬ولو ُم ّك َن ْ‬
‫ذلك‪ ،‬لكان فيه تأخيرُ الضرر إلى أكمل حالتيه‪ ،‬ولم يكن صلحاً‪ ،‬بل كان مِن أقرب أسباب المعاداة‪،‬‬
‫والشريع ُة منزّهة عن ذلك‪ ،‬ومن علمات المنافق أنه إذا وعد‪ ،‬أخلف‪ ،‬وإذا عاهد‪ ،‬غدر‪ ،‬القضاء‬
‫النبوي ير ّد هذا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن المة المزوّجة على النصف من الحرة‪ ،‬كما قضى به أمير المؤمنين على‬
‫رضى ال عنه‪ ،‬ول يُعرف له فى الصحابة مخالف‪ ،‬وهو قولُ جمهور الفقهاء إل رواية عن مالك‪:‬‬
‫ل الجمهور هو الذى يقتضيه العدلُ‪ ،‬فإن ال سبحانه لم يسو‬
‫أنهما سواء‪ ،‬وبها قال أهل الظاهر‪ ،‬وقو ُ‬
‫بين الحرة والمة‪ ،‬ل فى الطلق‪ ،‬ول فى العدة‪ ،‬ول فى الحدّ‪ ،‬ول فى الملك‪ ،‬ول فى الميراث‪ ،‬ول‬
‫ن عند الزوج ليلً ونهاراً‪ ،‬ول فى أصلِ النكاح‪ ،‬بل جعل نكاحها بمنزلة الضرورة‪ ،‬ول‬
‫فى مدة الكو ِ‬
‫ل الجمهور‪ ،‬وروى المام أحمد‬
‫فى عد ِد المنكوحات‪ ،‬فإن العبد ل يتزوج أكثر من اثنتين‪ ،‬هذا قو ُ‬
‫بإسناده‪ :‬عن عمر بن الخطاب رضى ال عنه قال‪ :‬يتزوّجُ العبد ثنتين‪ ،‬ويطلق ثنتين‪ ،‬وتعت ّد امرأتُه‬
‫حيضتين‪ ،‬واحتج به أحمد‪ .‬ورواه أبو بكر عبد العزيز‪ ،‬عن على بن أبى طالب رضى ال عنه‪،‬‬
‫ل للعبد من النساء إل ثنتان‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل يَحِ ّ‬
‫وروى المام أحمد بإسناده‪ ،‬عن محمد بن سيرين قال‪ :‬سأل عمر رضى ال عنه الناس‪ :‬كم‬
‫يتزوجُ العبد؟ فقال عبد الرحمن‪ :‬ثنتين وطلقه ثنتين فهذا عمر‪ ،‬وعلى‪ ،‬وعبد الرحمن‪ ،‬رضى ال‬
‫عنهم‪ ،‬ول يعرف لهم مخالف فى الصحابة مع انتشار هذا القول وظهوره‪ ،‬وموافقته للقياس‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى قضائه صلى ال عليه وسلم فى تحريم وطء المرأة الحبلى من غير الوَاطىء‬
‫ثبت فى ((صحيح مسلم))‪ :‬من حديث أبى الدرداء رضىَ ال عنه‪ ،‬أن النبى صلى ال عليه‬
‫ن ُيلِمّ بها))‪ .‬فقالُوا‪َ :‬نعَمْ‪ ،‬فقالَ رسولُ‬
‫ح على بَابِ فُسْطَاطٍ‪ ،‬فقال‪َ(( :‬ل َعلّهُ يُري ُد أَ ْ‬
‫وسلم أتى بامرأ ٍة مُجِ ّ‬

‫‪79‬‬
‫ل لهُ‪،‬‬
‫ف ُي َو ّرثُه و ُهوَ ل يَحِ ّ‬
‫ل َمعَهُ َق ْب َرهُ‪َ ،‬ك ْي َ‬
‫ن َأ ْل َعنَهُ َل ْعنًا يَ ْدخُ ُ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لَقَدْ َه َم ْمتُ أَ ْ‬
‫ل لهُ))‪.‬‬
‫ل يَحِ ّ‬
‫س َتخْ ِدمُه و ُهوَ َ‬
‫َك ْيفَ يَ ْ‬
‫قال أبو محمد ابن حزم‪ :‬ل َيصِحّ فى تحريم وطءِ الحامِلِ خب ٌر غي ُر هذا‪ .‬انتهى‪ .‬وقد‬
‫روى أهل ((السنن)) من حديث أبى سعيد رضى ال عنه‪ ،‬أن النبى صلى ال عليه وسلم قال فى‬
‫ح ْيضَةً))‪.‬‬
‫حتّى تَحيضَ َ‬
‫غ ْيرُ حَامِلٍ َ‬
‫حتّى َتضَعَ‪ ،‬ول َ‬
‫سبايا أوطاس‪(( :‬ل ُتوَطأْ حَامِلُ َ‬
‫وفى الترمذى وغيره‪ :‬من حديث رُويفع بن ثابت رضى ال عنه‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه‬
‫غ ْي ِرهِ)) قال الترمذى حديث‬
‫ق مَاءَه َولَدَ َ‬
‫خرِ فَل يَسْ ِ‬
‫لّ وال َيوْمِ ال ِ‬
‫ن بِا ِ‬
‫وسلم أنه قال‪(( :‬مَنْ كَانَ ُي ْؤمِ ُ‬
‫حسن‪.‬‬
‫وفيه عن العِرباضِ بن سَا ِريَ َة رضى ال عنه‪ ،‬أن النبىّ صلى ال عليه وسلم حرّم وطءَ‬
‫ضعْنَ ما فى بُطونهن‪.‬‬
‫السبايا حتى َي َ‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬كيف يُورّثه وهو ل يَحلّ له‪ ،‬كيف يستخ ِدمُه وهو ل َيحِلّ‬
‫ل فى معناه‪ :‬كيف يجعلُه عبدًا مَوروثاً عنه‪ ،‬ويستخ ِدمُه استخدا َم العبيدِ وهو‬
‫له))‪ ،‬كان شيخُنا يقو ُ‬
‫خلْقِه؟ قال المام أحمد‪ :‬الوطء يزيد فى سمعه وبصره‪ .‬قال فيمن اشترى‬
‫ولدُه‪ ،‬لن وطأه زاد فى َ‬
‫ل من غيره‪ ،‬فوطئها قبل وضعها‪ ،‬فإن الولد ل يلحَقُ بالمشترى‪ ،‬ول يتبعُه‪ ،‬لكن يعتِقُه‬
‫جاريةً حام ً‬
‫لنه قد شرك فيه‪ ،‬لن الما َء يزي ُد فى الولد‪ ،‬وقد روى عن أبى الدرداء رضى ال عنه‪ ،‬عن النبىّ‬
‫ح على باب فسطاط‪ ،‬فقال‪(( :‬لعله يُريد أن ُيلِمّ بها)) وذكر‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬م ّر بامرأة مُجِ ّ‬
‫الحديثَ‪ .‬يعنى‪ :‬أنه إن استلحقه وشرِكه فى ميراثه‪ ،‬لم يحل له‪ ،‬لنه ليس بولده‪ ،‬وإن أخذه مملوكاً‬
‫ل له لنه قد شرك فيه لكون الماء يزيدُ فى الولد‪.‬‬
‫يستخ ِدمُه لم يَح ّ‬
‫وفى هذا دللة ظاهرةٌ على تحريم نكاح الحامِل‪ ،‬سواء كان حملُها مِن زوج أو سيّ ٍد أو شُبهة‬
‫ل مِن زنى‪ ،‬ففى صحة العقد قولن‪ ،‬أحدهما‪:‬‬
‫أو زنى‪ ،‬وهذا ل خلف فيه إل فيما إذا كان الحم ُ‬
‫بطلنُه وهو مذهبُ أحمد ومالك‪ ،‬والثانى‪ :‬صحتُه وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى ثم اختلفا‪ ،‬فمنع‬
‫ى العِ ّدةُ‪ ،‬وكرهه الشافعى‪ ،‬وقال أصحابُه‪ :‬ل يحرم‪.‬‬
‫أبو حنيفة مِن الوطء حتى تنقض َ‬
‫فصل‬
‫ق أمتَه ويجعل عِتقها صداقَها‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الرجل يعتِ ُ‬
‫عتْقَها صَدَاقَها))‪ .‬قيل لنس‪ :‬ما‬
‫ثبت عنه فى ((الصحيح))‪(( :‬أنه أعتق صفيّةَ وجعل ِ‬
‫ب إلى جواز ذلك علىّ ابن أبى طالب‪ ،‬وفعله أنس بن مالك‪ ،‬وهو‬
‫َأصْدَقَها؟ قال‪َ :‬أصْدَقَها نَفْسَها وذه َ‬

‫‪80‬‬
‫ن البَصرى‪،‬‬
‫مذهبُ أعلم التابعين‪ ،‬وسيّدهم سعي ِد بن المسيّب‪ ،‬وأبى سلمة بن عبد الرحمن‪ ،‬والحس ِ‬
‫والزهري‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وإسحاق‪.‬‬
‫وعن أحمد رواية أخرى‪ ،‬أنه ل َيصِحّ حتى يستأ ِنفَ نكاحها بإذنها‪ ،‬فإن أبت ذلك‪ ،‬فعليها‬
‫قيمتُها‪.‬‬
‫ل يزوّجه إياها‪.‬‬
‫وعنه رواية ثالثة‪ :‬أنه ُي َوكّلُ رج ً‬
‫ل الصحابة والقياس‪ ،‬فإنه كان يمِلك‬
‫والصحيح‪ :‬هو القول الول الموافق للسنة‪ ،‬وأقوا ِ‬
‫رقبتها‪ ،‬فأزال ملكه عن رقبتها‪ ،‬وأبقى ملكَ المنفعة بعقد النكاح‪ ،‬فهو أولى بالجواز مما لو أعتقها‪،‬‬
‫واستثنى خِدمتها‪ ،‬وقدم تقدّم تقري ُر ذلك فى غزاة خيبر‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى قضائه صلى ال عليه وسلم فى صحة النكاح الموقوفِ على الجازة‬
‫ى صلى ال عليه‬
‫فى ((السنن))‪ :‬عن ابن عباس رضى ال عنهما‪(( ،‬أن جاريةً بكرًا أتت النب ّ‬
‫وسلم فذكرت أنّ أباها زوّجَها وهى كَارِهَة‪ ،‬فخيّرها النبىّ صلى ال عليه وسلم))‪.‬‬
‫وقد نصّ المامُ أحمد على القول بمقتضى هذا‪ ،‬فقال فى رواية صالح فى صغير‬
‫زوّجه عمه‪ ،‬قال‪ :‬إن رضى به فى وقت من الوقات‪ ،‬جاز‪ ،‬وإن لم يرض فسخ‪.‬‬
‫ونقل عنه ابنه عبد ال‪ ،‬إذا زوجت اليتيمةُ‪ ،‬فإذا بلغت فلها الخيارُ‪ ،‬وكذلك نقل‬
‫ن فى يتيمة ُزوّجَت و َدخَلَ بها الزوجُ‪ ،‬ثم حاضت عند الزوج‬
‫ابنُ منصور عنه حُكى له قولُ سفيا َ‬
‫بعدُ‪ ،‬قال‪ :‬تُخ ّيرُ‪ ،‬فإن اختارت نفسَها لم يقع التزويجُ‪ ،‬وهى أحقّ بنفسها‪ ،‬وإن قالت‪ :‬اخترتُ زوجى؟‬
‫فليشهدوا على نكاحهما‪ .‬قال أحمد‪ :‬جيد‪.‬‬
‫وقال فى رواية حنبل فى العبد إذا تزوّج بغير إذن سيده‪ ،‬ثم علم السيدُ‬
‫ق بيد السيد‪ ،‬وإذا أذن له فى التزويج‪ ،‬فالطلقُ بيد العبد‪ ،‬ومعنى‬
‫بذلك‪ :‬فإن شاء يُطلّق عليه‪ ،‬فالطل ُ‬
‫ل العقد‪ ،‬ويمنع تنفيذَه وإجازته‪ ،‬هكذا أوّله القاضى‪ ،‬وهو خلف ظاهر النص‪،‬‬
‫قوله‪ :‬يطلق‪ ،‬أى‪ُ :‬يبْطِ ُ‬
‫وهذا مذهبُ أبى حنيفة ومالك على تفصيل فى مذهبه‪ ،‬والقياسُ يقتضى صحةَ هذا القول‪ ،‬فإن الذن‬
‫إذا جاز أن يتقدّم القبولَ واليجابَ جاز أن يتراخى عنه‪.‬‬
‫وأيضاً فإنه كما يجوز وقفُه على الفسخ يجوزُ وقفُه على الجازة كالوصية‪ ،‬ولن المعتبرَ‬
‫هو التراضى‪ ،‬وحصولُه فى ثانى الحال كحصولِه فى الول‪ ،‬ولن إثباتَ الخيار فى عقد البيع هو‬
‫ف للعقد فى الحقيقة على إجازة من له الخيار وردّه‪ ،‬وبال التوفيق‪.‬‬
‫وق ٌ‬

‫‪81‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الكفاءة فى النكاح‬
‫ل ِلتَعارَفُوا إنّ‬
‫شعُوباً و َقبَائِ َ‬
‫ج َع ْلنَاكُم ُ‬
‫خلَ ْقنَاكُم مِنْ َذ َك ٍر َوُأ ْنثَى و َ‬
‫س إنّا َ‬
‫قال ال تعالى‪{ :‬يََأ ّيهَا النّا ُ‬
‫خ َوةٌ} [الحجرات‪]10 :‬‬
‫لّ َأتْقَاكُم} [الحجرات‪]13 :‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إنّما ال ُم ْؤ ِمنُونَ إ ْ‬
‫عنْدَ ا ِ‬
‫أ ْك َر َمكُمْ ِ‬
‫ستَجَابَ َلهُمْ‬
‫ت َب ْعضُهُم َأ ْوِليَا ُء َبعْضٍ} [التوبة‪ ]71 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَا ْ‬
‫وقال‪{ :‬والمُ ْؤ ِمنُونَ وال ُم ْؤ ِمنَا ُ‬
‫ضكُ ْم مِنْ َبعْضٍ} [آل عمران‪.]195 :‬‬
‫ل ِم ْنكُ ْم مِنْ َذ َك ٍر أَو ُأ ْنثَى َب ْع ُ‬
‫عمَلَ عَامِ ٍ‬
‫َر ّبهُمْ َأنّى ل ُأضِيعُ َ‬
‫ل ْبيَضَ‬
‫عرَبى‪ ،‬ول َ‬
‫ج ِمىّ عَلى َ‬
‫ل ِلعَ َ‬
‫جمِى‪ ،‬وَ َ‬
‫ل ِل َعرَبىّ عَلى عَ َ‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل َفضْ َ‬
‫ن تُرابٍ))‪.‬‬
‫ن آدَمَ‪ ،‬وآدَمُ م ْ‬
‫ل بِالتّ ْقوَى‪ ،‬النّاس مِ ْ‬
‫سوَدَ ول لسود عَلى أ ْبيَضَ‪ ،‬إِ ّ‬
‫عَلى أَ ْ‬
‫ح ْيثُ‬
‫ن َأ ْولِيائى المتّقُونَ َ‬
‫ن َليْسُوا لى بَِأوْليَاءَ‪ ،‬إِ ّ‬
‫ل بنِى فُلَ ٍ‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إِنّ آ َ‬
‫ن كَانُوا))‪.‬‬
‫كَانُوا وَأيْ َ‬
‫خلُقَهُ فََأ ْنكِحُوهُ‪ ،‬إلّ‬
‫ن َت ْرضُوْنَ دِينَهُ و ُ‬
‫وفى الترمذى‪ :‬عنه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إذَا جَا َءكُ ْم مَ ْ‬
‫لرْضِ وفَسَا ٌد َكبِيرٌ))‪ .‬قالوا‪ :‬يارسولَ ال‪ ،‬وإن كان فيه؟ فقال‪(( :‬إذَا جَا َءكُم‬
‫تَ ْفعَلوه‪َ ،‬تكُنْ ِف ْتنَةٌ فى ا َ‬
‫خلُقَهُ َفَأ ْنكِحُوه))‪ ،‬ثلث مرات‪.‬‬
‫ضوْنَ دِينَهُ و ُ‬
‫مَنْ َت ْر َ‬
‫وقال النبىّ صلى ال عليه وسلم لبنى َبيَاضَة‪َ(( :‬أنْكِحُوا أَبا ِهنْدٍ‪ ،‬وَأ ْنكِحُوا إَليْهِ))‪ .‬وكان‬
‫حجّاماً‪.‬‬
‫حشٍ القُرشية مِن زيد بن حارثة موله‪،‬‬
‫ب بنتَ جَ ْ‬
‫وزوّج النبىّ صلى ال عليه وسلم زين َ‬
‫وزوّج فاطمة بنت قيس الفِهرية القرشية‪ .‬من أسامة ابنه‪ ،‬وتزوّج بللُ ابن رباح بأخت عبد الرحمن‬
‫طيّبَاتِ} [النور‪ ]26:‬وقد قال‬
‫ن لِل ّ‬
‫ط ّيبِين والطّ ّيبُو َ‬
‫طيّباتُ لِل ّ‬
‫بن عوف‪ ،‬وقد قال ال تعالى‪{:‬وال ّ‬
‫ن النّسَاءِ} [النساء‪.]3:‬‬
‫ب َلكُمْ مِ َ‬
‫تعالى‪{:‬فا ْنكِحُوا مَا طَا َ‬
‫فالذى يقتضيه حُكمُه صلى ال عليه وسلم اعتبا ُر الدّين فى الكفاءة أصلً‪ .‬وكمالً‪،‬‬
‫فل تُزوّجُ مسلمةٌ بكافر‪ ،‬ول عفيفةٌ بفاجر‪ ،‬ولم يعتبرِ القرآنُ والسنةُ فى الكفاءة أمرًا وراءَ ذلك‪ ،‬فإنه‬
‫ح الزانى الخبيثِ‪ ،‬ولم يعتبر نسباً ول صِناعة‪ ،‬ول غِنىً ول حريّةً‪ ،‬فجوّز‬
‫حرّم على المسلمة نكا َ‬
‫للعبد القِنّ نكاحَ الح ّرةِ النسيبة الغنيةِ إذا كان عفيفاً مسلماً‪ ،‬وجوز لغير القرشيين نكاحَ القرشيات‪،‬‬
‫ح الموسرات‪.‬‬
‫ولغير الهاشميين نكاحَ الهاشميات وللفقراءِ نكا َ‬
‫وقد تنازع الفقهاءُ فى أوصاف الكفاءة‪:‬‬

‫‪82‬‬
‫فقال مالك فى ظاهر مذهبه‪ :‬إنها الدّينُ‪ ،‬وفى رواية عنه‪ :‬إنها ثلثة‪:‬‬
‫الدّين‪ ،‬والحريّة‪ ،‬والسلمةُ من العيوب‪.‬‬
‫ب والدين‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة‪ :‬هى النس ُ‬
‫وقال أحمد فى رواية عنه‪ :‬هى الدّين والنسب خاصة‪.‬‬
‫وفى رواية أخرى‪ :‬هى خمسة‪ :‬الدّين‪ ،‬والنسب‪ ،‬والحرية‪ ،‬والصناعة‪ ،‬والمال‪ .‬وإذا اعتبر فيها‬
‫النسب‪ ،‬فعنه فيه روايتان‪ .‬إحداهما‪ :‬أن العرب بعضُهم لبعض أكفاء‪ .‬الثانية‪ :‬أن قريشاً ل يكافئهم إل‬
‫قرشى‪ ،‬وبنو هاشم ل يُكافئهم إل هاشمى‪.‬‬
‫وقال أصحابُ الشافعى‪ :‬يُعتبر فيها الدّينُ‪،‬‬
‫والنسبُ‪ ،‬والحُرية‪ ،‬والصّناعة‪ ،‬والسلمةُ من العيوب ال ُمنَ ّف َرةِ‪.‬‬
‫ولهم فى اليسار ثلثة أوجه‪ :‬اعتبارُه فيها‪ ،‬وإلغاؤُه‪ ،‬واعتبارُه فى أهل المدن دون أهلِ‬
‫ى ليس عندهم كُ ْفئًَا للعربى‪ ،‬ول غي ُر القرشى للقرشية‪ ،‬ول غيرُ الهاشمى للهاشمية‪،‬‬
‫البوادى‪ ،‬فالعجم ّ‬
‫ول غيرُ المنتسبة إلى العلماء والصلحاء المشهورين كفئًا لمن ليس منتسبًا إليهما‪ ،‬ول العبدُ كُ ْفئَاً‬
‫س الرّقّ أحدَ آبائه كفئًا لمن لم يمسّها رِق‪ ،‬ول أحداً‬
‫للحرة‪ ،‬ول العتيق كفئاً لحرة الصل‪ ،‬ول من َم ّ‬
‫من آبائها‪ ،‬وفى تأثير رِق المهات وجهان‪ ،‬ول مَن به عيب مثبت للفسخ كُ ْفئًَا للسليمة منه‪ ،‬فإن لم‬
‫يثبت الفسخ وكان منفّراً كالعمى والقطع‪ ،‬وتشويهِ الخِلقة‪ ،‬فوجهان‪ .‬واختار الرّويانى أن صاحبه‬
‫ليس بكفءٍ‪ ،‬ول الحجام والحائك والحارس كُ ْفئَاً لبنت التاجر والخياط ونحوهما‪ ،‬ول المحترف‬
‫لبنت العالم‪ ،‬ول الفاسق كفئًا للعفيفة‪ ،‬ول المبتدعُ للسنية ولكن الكفاءة عند الجمهور هي حق المرأة‬
‫والولياء‪.‬‬
‫ثم اختلفوا‪ ،‬فقال أصحاب الشافعى‪ :‬هى لمن له ولية فى الحال‪ .‬وقال أحمد فى‬
‫رواية‪ :‬حق لجميع الولياء‪ ،‬قريبهم وبعيدِهم‪ ،‬فمن لم يرض منهم‪ ،‬فله الفسخ وقال أحمد فى رواية‬
‫ثالثة‪ :‬إنها حقّ الِّ‪ ،‬فل َيصِحّ رضاهم بإسقاطه‪ ،‬ولكن على هذه الرواية ل تُعتبر الحريةُ ول اليسار‪،‬‬
‫ول الصناعة ول النسبُ‪ ،‬إنما يُعتبر الدّينُ فقط‪ ،‬فإنه لم يقل أحمد‪ ،‬ول أح ٌد من العلماء‪ :‬إن نكاح‬
‫الفقير للموسرة باطل وإن رضيت‪ ،‬ول يقولُ هو ول أحدٌ‪ :‬إن نكاح الهاشمية لغير الهاشمى‪،‬‬
‫والقرشية لغير القرشى باطل‪ ،‬وإنما نبهنا على هذا لن كثيراً من أصحابنا يحكُون الخلف فى‬
‫ل المذكورة‪ ،‬وفى‬
‫الكفاءة‪ ،‬هل هى حق ل أو للدمى؟ ويطلقون مع قولهم‪ :‬إن الكفاءة هى الخصا ُ‬
‫هذا من التساهلِ وعدمِ التحقيق ما فيه‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫فصل‬
‫فى حُكمه صلّى ال عليه وسلّم فى ثُبوتِ الخيا ِر للمعتَقة تحتَ العبدِ‬
‫ل النبىّ صلى ال‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ ،‬والسنن‪ :‬أن َبرِي َر َة كاتبت أهلَها‪ ،‬وجاءت تسأ ُ‬
‫ن ولؤك‬
‫ب أهلُك أن أعُدّها لهم‪ ،‬ويكو ُ‬
‫ح ّ‬
‫عليه وسلم فى كتِابتها‪ ،‬فقالت عائش ُة رضى ال عنها‪ :‬إن أ َ‬
‫ن الولءُ لهم فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم لعائشة‬
‫لى فعلتُ‪ ،‬فذكرت ذلك لهلها‪ ،‬فأ َبوْا إل أن يكو َ‬
‫ب الناسَ فقال‪(( :‬مَا بَالُ أ ْقوَامٍ‬
‫عتَقَ))‪ ،‬ثم خط َ‬
‫نأ ْ‬
‫ش َترِطى َلهُ ُم الوَلءُ لِم ْ‬
‫شتَرِيها وا ْ‬
‫رضى ال عنها‪(( :‬ا ْ‬
‫شرْطًا ل ْيسَ فى ِكتَابِ الِّ‪َ ،‬ف ُه َو بَاطِلٌ‪ ،‬وإِنْ كَانَ‬
‫ش َترَطَ َ‬
‫ستْ فى ِكتَابِ الِّ‪ ،‬مَنِ ا ْ‬
‫ش َترِطُونَ شروطًا َليْ َ‬
‫يَ ْ‬
‫ل ال صلى‬
‫عتَقَ))‪ ،‬ثم خيّرها رسو ُ‬
‫لّ أ ْوثَقُ‪ ،‬وِإ ّنمَا الولء ِلمَنْ أْ ْ‬
‫شرْطُ ا ِ‬
‫شرْطٍ‪َ ،‬قضَاءُ ال أحَقّ‪ ،‬و َ‬
‫مِائَة َ‬
‫ال عليه وسلم بين أن َتبْقَى على نكاح زوجها‪ ،‬وبين أن تَفْسَخَهُ‪ ،‬فاختارت نفسَها‪ ،‬فقال لها‪(( :‬إنّهُ‬
‫جكِ وأبُو َولَ ِدكِ))‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬تأ ُمرُنى بذلك؟ قال‪(( :‬لَ‪ ،‬إِنمَا َأنَا شَافِعٌ))‪ ،‬قالت‪ :‬فل‬
‫َزوْ ُ‬
‫حاجة لى فيه‪ ،‬وقال لها إذْ خيّرها‪(( :‬إن َق ُر َبكِ‪ ،‬فل خِيارَ لك))‪ ،‬وأمرها أن تعتد‪ ،‬وتُصُدّقَ عليها‬
‫عَليْها صَدَقَةٌ‪ ،‬وَلنَا هَ ِديّةٌ))‪.‬‬
‫بلحم‪ ،‬فأكل منه النبىّ صلى ال عليه وسلم وقال‪ُ (( :‬هوَ َ‬
‫ب وإن لم‬
‫وكان فى قِصةِ بريرة من الفقه جوا ُز مكاتبة المرأة‪ ،‬وجوازُ بي ِع المكات ِ‬
‫جزْه سّيدُه‪ ،‬وهذا مذهبُ أحمد المشهو ُر عنه‪ ،‬وعليه أكث ُر نصوصه‪ ،‬وقال فى رواية أبى طالب‪:‬‬
‫يُع ّ‬
‫ل يطأ مكاتبته‪ ،‬أل ترى أنه ل يقدر أن يبيعَها‪ .‬وبهذا قال أبو حنيفة‪ ،‬ومالكٌ‪ ،‬والشافعى‪ .‬والنبىّ‬
‫صلى ال عليه وسلم أقرّ عائشة رضى ال عنها على شرائها‪ ،‬وأهلَها على بيعها‪ ،‬ولم يسأل‪:‬‬
‫أعجزت أم ل‪ ،‬ومجيئُها تستعينُ فى كتابتها ل يستلزِمُ عجزَها‪ ،‬وليس فى بيع المكاتب محذور‪ ،‬فإن‬
‫عتَقَ‪ ،‬وإن عجز عن‬
‫بيعه ل يُبطل كِتابته‪ ،‬فإنه يبقى عند المشترى كما كان عند البائع‪ ،‬إن أدى إليه‪َ ،‬‬
‫الداء‪ ،‬فله أن ُيعِيدَه إلى الرّق كما كان عند بائعه‪ ،‬فلو لم تأت السنةُ بجواز بيعه‪ ،‬لكان القياسُ‬
‫يقتضيه‪.‬‬
‫ع القديمَ على جواز بيعِ المكاتَب‪ .‬قالوا‪ :‬لن قصة بريرة وردت‬
‫وقد ادعى غيرُ واحد الجما َ‬
‫ف ذلك‪ ،‬لنها صفقةٌ جرت بين أْمّ المؤمنين‪ ،‬وبينَ بعضِ‬
‫بنقل الكافّة‪ ،‬ولم يبق بالمدينة منْ لم َي ْع ِر ْ‬
‫الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وهم موالى بريرة‪ ،‬ثم خطبَ رسولُ ال صلى ال عليه وسلم الناسَ فى‬
‫أمر بيعها خُطبةُ فى غير وقت الخطبة‪ ،‬ول يكون شىء أشهر مِن هذا‪ ،‬ثم كان مِن مشى زوجِها‬
‫خلفَها باكياً فى أزِقّة المدينةِ ما زاد الم َر شهر ًة عند النساء والصبيان‪ ،‬قالوا‪ :‬فظهر يقينًا أنه إجماعٌ‬
‫من الصحابة‪ ،‬إذ ل يُظن بصاحبٍ أنه يُخالف مِن سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم مثلَ هذا‬

‫‪84‬‬
‫المر الظاهر المستفيضِ قالوا‪ :‬ول يُمكن أن تُوجِدُونا عن أحدٍ من الصحابة رضى ال عنهم المنعَ‬
‫من بيع المكاتب إل روايةً شاذة عن ابن عباس ل يُعرف لها إسناد‪.‬‬
‫ن منع بيعَه بعُذرين‪ .‬أحدهما‪ :‬أن بري َرةَ كانت قد عجزَت‪ ،‬وهذا عذرُ‬
‫واعتذر مَ ْ‬
‫أصحاب الشافعى‪ ،‬والثانى‪ :‬أن البي َع ورد على مال الكِتابة ل علي رقبتها‪ ،‬وهذا عذرُ أصحابِ‬
‫مالك‪.‬‬
‫ج إلى أن يُعتذر عنهما مِن الحديث‪ ،‬ول َيصِحّ واحد‬
‫وهذان العُذران أحو ُ‬
‫س وابنُه عبد ال‪ ،‬وكانت‬
‫ب أن هذه القصة كانت بالمدينة‪ ،‬وقد شهدها العبا ُ‬
‫منهما‪ ،‬أما الول‪ :‬فل ري َ‬
‫الكِتابة تسع سنين فى كل سنة أوقية‪ ،‬ولم تكن بع ُد أدّت شيئاً‪ ،‬ول خلف أن العباس وابنَه إنما سكنا‬
‫ض الثالث‪ ،‬فأين‬
‫ش النبىّ صلى ال عليه وسلم بعد ذلك إل عامينِ‪ ،‬وبع َ‬
‫المدينة بعد فتح مكة‪ ،‬ولم يع ِ‬
‫العجزُ وحلولُ النجوم؟‪،‬‬
‫وأيضاً‪ ،‬فإن بريرة لم تَقُلْ‪ :‬عجزتُ‪ ،‬ول قالت لها عائشةُ‪ :‬أعجزتِ؟ ول اعترف أهلُها‬
‫خ َب َر عنها البتة‪،‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم بعجزها‪ ،‬ول وَصَفَها به‪ ،‬ول أ ْ‬
‫بعجزها‪ ،‬ول حكم رسو ُ‬
‫جزُونَ عن إثباته؟‪.‬‬
‫فمن أين لكم هذا العجزُ الذى تع ِ‬
‫حبّ‬
‫وأيضاً‪ ،‬فإنها إنما قالت لعائشة‪ :‬كاتبت أهلى على تسع أواق فى كل سنة أوقية‪ ،‬وإنى أُ ِ‬
‫أن تُعينينى‪ ،‬ولم تقل‪ :‬لم أؤدّ لهم شيئاً‪ ،‬ول مضت علىّ نجوم عِ ّدةٌ عجزت عن الداء فيها‪ ،‬ول‬
‫قالت‪ :‬عجّزنى أهلى‪.‬‬
‫وأيضاً فإنهم لو عجّزوها‪ ،‬لعادت فى الرّق‪ ،‬ولم تكن حينئذ لِتسعى فى كتابتها‪ ،‬وتستعِينَ‬
‫بعائشة على أمر قد بَطَلَ‪.‬‬
‫جزِهَا قولُ عائشة‪ :‬إن أحب أهلك أن اشتريَك وأعِتقَك‪ ،‬ويكون‬
‫فإن قيل‪ :‬الذى يدل على عَ ْ‬
‫عتِقيها))‪،‬‬
‫ش َترِيهَا فَأَ ْ‬
‫ولؤكِ لى فعلتُ‪ .‬وقول النبى صلى ال عليه وسلم لعائشة رضى ال عنها‪(( :‬ا ْ‬
‫وهذا يدلّ على إنشاء عتق من عائشة رضى ال عنها‪ ،‬وعتقُ المكاتب بالداء ل بإنشاء مِن السيد‪.‬‬
‫ن المعلوم أنها ل تبطلُ إل بعجز‬
‫ل ببطلنِ الكِتابة‪ .‬قالوا‪ :‬ومِ َ‬
‫قيل‪ :‬هذا هو الذى أوجبَ لهم القو َ‬
‫المكاتب أو تعجِيزِه نفسه‪ ،‬وحينئذ فيعود فى الرّق‪ ،‬فإنما ورد البيعُ على رقيق‪ ،‬ل على مكاتَب‪.‬‬
‫وجوابُ هذا‪ :‬أن ترتيب العِتق على الشراء ل يدُلّ على إنشائه‪ ،‬فإنه ترتيبٌ للمسبب على‬
‫سببه‪ ،‬ول سيما فإن عائشة لما أرادت أن تُعجّل كتابتها جملة واحدة كان هذا سبباً فى إعتاقها‪ ،‬وقد‬

‫‪85‬‬
‫ش َت ِريَهُ‬
‫ل يَجِ َد ُه َم ْملُوكاً َفيَ ْ‬
‫ل يَجْزى َولَ ٌد وَالِ َدهُ إ ّ‬
‫ل النبى صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬‬
‫قلُتم أنتم‪ :‬إن قو َ‬
‫َف ُي ْعتِقَهُ))‪.‬‬
‫إن هذا من ترتيب المسبب على سببه‪ ،‬وأنه بنفس الشراء يُعتق عليه ل يحتاج إلى‬
‫إنشاء عتق‪.‬‬
‫طلُه‪ ،‬فإن أمّ المؤمنين اشترتْها‪ ،‬فأعتقتها‪،‬‬
‫ق القصة يُب ِ‬
‫وأما العذ ُر الثانى‪ :‬فأمرُه أظهرُ‪ ،‬وسيا ُ‬
‫وكان ولؤُها لها‪ ،‬وهذا مما ل ريبَ فيه‪ ،‬ولم تشترِ المالَ‪ ،‬والمال كان تس َع أوراق منجّمة‪ ،‬فعدّتها‬
‫لهم جملةً واحدة‪ ،‬ولم تتعرّض للمال الذى فى ذمتها‪ ،‬ول كان غرضها بوجهِ ما‪ ،‬ول كان لعائشة‬
‫غرض في شراء الدراهم المؤجّلة بعددها حالّة‪.‬‬
‫وفى القصة جوا ُز المعاملة بالنقود عدداً إذا لم يختِلفْ مقدارها‪ ،‬وفيها أنه ل يجوزُ‬
‫ط على الخر شرطًا يُخالف حكم ال ورسوله‪ ،‬وهذا معنى قوله‪:‬‬
‫لحدٍ من المتعاقدَين أن يشترِ َ‬
‫((ليس فى كتاب ال))‪ ،‬أى‪ :‬ليس فى حكم ال جوازُه‪ ،‬وليس المرادُ أنه ليس فى القرآن ذِكرُه‬
‫ط ال أوثق))‪.‬‬
‫وإباحته‪ ،‬ويدل عليه قولُه‪(( :‬كتابُ ال أحق وشر ُ‬
‫وقد استدل به من صحيح العقد الذى شرط فيه شرط فاسد‪ ،‬ولم يبطل العقدُ به‬
‫وهذا فيه نزاع وتفصيلٌ يظهر الصواب منه فى تبيين معنى الحديث‪ ،‬فإنه قد أشكل على الناس‬
‫قوله‪(( :‬اشترطى لهم الولء‪ ،‬فإن الولء لمن أعتق))‪ ،‬فأذن لها فى هذا الشتراط‪ ،‬وأخبر ل يفيد‪.‬‬
‫والشافعى طعن فى هذه اللفظة وقال‪ :‬إن هشام ابن عروة انفردَ بها‪ ،‬وخالفه غيرُه‪ ،‬فردها الشافعى‪،‬‬
‫ولم يثبتْها‪ ،‬ولكن أصحاب ((الصحيحين)) وغيرَهم أخرجوها‪ ،‬ولم يطعنوا فيها‪ ،‬ولم يُعللها أحد‬
‫سوى الشافعى فيما نعلم‪.‬‬
‫ثم اختلفوا فى معناها‪ ،‬فقالت طائفة‪ :‬اللم ليست على بابها‪ ،‬بل هى‬
‫ن أَسَ ْأتُمْ َفَلهَا} [السراء‪ ]7 :‬أى‪ :‬فعليها‪،‬‬
‫سكُمْ وإِ ْ‬
‫لنْفُ ِ‬
‫س ْنتُمْ َ‬
‫س ْنتُ ْم أَحْ َ‬
‫ن أَحْ َ‬
‫بمعنى ((على))‪ ،‬كقوله‪{ :‬إِ ْ‬
‫ن أَسَاءَ َف َعَل ْيهَا} [فصلت‪.]46 :‬‬
‫ل صَالِحاً َفِلنَفْسِهِ ومَ ْ‬
‫عمِ َ‬
‫كما قال تعالى‪{ :‬مَنْ َ‬
‫ورَ ّدتْ طائفة هذا العتذار بخلفه لسياق القصة‪ ،‬ولموضوع الحرف‪ ،‬وليس نظير الية‪،‬‬
‫فإنها قد فرّقت بين ما للنفس وبين ما عليها‪ ،‬بخلف قوله‪(( :‬اشترطى لهم))‪.‬‬
‫وقالت طائفة‪ :‬بل اللم على بابها‪ ،‬ولكن فى الكلم محذوف تقديره‪ :‬اشترطى لهم‪ ،‬أو ل‬
‫تشترطى‪ ،‬فإن الشتراط ل يُفيد شيئاً لمخالفته لكتاب ال‪.‬‬
‫وردّ غيرُهم هذا العتذا َر لستلزامه إضمارَ ما ل دليل عليه‪ ،‬والعلمُ به مِن نوع علم الغيب‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫ش ْئتُم}‬
‫ع َملُوا مَا ِ‬
‫وقالت طائفة أخرى‪ :‬بل هذا أمرُ تهديد ل إباحة‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬ا ْ‬
‫[فصلت‪ ]40 :‬وهذا فى البطلن من جنس ما قبله وأظهرُ فساداً‪ ،‬فما لعائشة‪ ،‬وما للتهديد هنا؟‪ ،‬وأين‬
‫فى السياق ما ينقضى التهديد لها؟ نعم هُمْ أحقّ بالتهديد‪ ،‬ل أ ّم المؤمنين‪.‬‬
‫ل هذا‪ ،‬ويكونُ‬
‫وقالت طائفة‪ :‬بل هو أمر إباحة وإذن‪ ،‬وأنه يجو ُز اشتراط مث ِ‬
‫ولءُ المكاتب للبائع‪ ،‬قاله بعضُ الشافعية‪ ،‬وهذا أفس ُد مِن جميع ما تقدم‪ ،‬وصريحُ الحديث يقتضى‬
‫بطلنَه وردّه‪.‬‬
‫وقالت طائفة‪ :‬إنما أذِنَ لها فى الشتراط‪ ،‬ليكون وسيلة إلى ظهور‬
‫بطلنِ هذا الشرط‪ ،‬وعلم الخاص والعام به‪ ،‬وتقررّ حكمه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان القومُ قد‬
‫عِلمُوا حكمه صلى ال عليه وسلم فى ذلك‪ ،‬فلم يقنعوا دون أن يكون الولءُ لهم‪ ،‬فعاقبهم بأن أذِنَ‬
‫لعائشة فى الشتراط‪ ،‬ثم خطبَ الناس فأذّن فيهم ببطلن هذا الشرط‪ ،‬وتضمّن حكماً من أحكام‬
‫شرِطَ فى العقد‪ ،‬لم يجز الوفاء به‪ ،‬ولول الذن فى الشتراط‬
‫الشريعة‪ ،‬وهو أن الشرطَ الباطل إذا ُ‬
‫ث تضمّن فسادَ هذا الحكم‪ ،‬وهو كَونُ الول ِء لغير المعتقِ‪.‬‬
‫علِمَ ذلك‪ ،‬فإن الحدي َ‬
‫لما ُ‬
‫وأما بطلنُه إذا شرط‪ ،‬فإنما استُفِي َد مِن تصريح النبىّ صلى ال عليه وسلم ببطلنه بعد‬
‫ل القومَ اعتقدوا أن اشتراطه يُفيد الوفاءَ به‪ ،‬وإن كان خلفَ مقتضى العقد المطلق‪،‬‬
‫اشتراطه ولع ّ‬
‫فأبطله النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإن شرط كما أبطله بدون الشرط‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فإذا فات مقصودُ المشترط ببطلن الشرط‪ ،‬فإنه إما أن يُسلّط على الفسخ‪ ،‬أو يُعطى‬
‫من الرش بقدر ما فات من غرضه‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم لم يَقْضِ بواح ٍد من المرين‪.‬‬
‫قيل‪ :‬هذا إنما يثبت إذا كان المشترط جاهلً بفساد الشرط‪ .‬فأما إذا علم بطلنَه ومخالفتَه‬
‫لحكم ال‪ ،‬كان عاصياً آثماً بإقدامه على اشتراطه‪ ،‬فل فسخ له ول أرش‪ ،‬وهذا أظه ُر المرين فى‬
‫موالى بريرة‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫فصل‬
‫وفى قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنما الولء لمن أعتق)) مِن العموم ما يقتضى ثبوتَه لمن‬
‫أعتق سائبةً‪ ،‬أو فى زكاة‪ ،‬أو كفارة‪ ،‬أو عتقٍ واجب‪ ،‬وهذا قولُ الشافعى وأبى حنيفة‪ ،‬وأحمد فى‬
‫إحدى الروايات‪ ،‬وقال فى الرواية الخرى‪ :‬ل ولء عليه‪ ،‬وقال فى الثالثة‪ :‬يُرد ولؤه فى عتق‬
‫ج بعمومه أحمد ومن وافقه فى أن المسلم إذا أعتق عبداً ذميّاً‪ ،‬ثم مات العتيق‪ ،‬ورثه‬
‫مثله‪ ،‬ويحت ّ‬
‫سلِ ُم الكَا ِفرَ)) فيخصصه أو يقيده‪ ،‬وقال الشافعى‬
‫بالولء‪ ،‬وهذا العمومُ أخصّ من قوله‪(( :‬ل َي ِرثُ المُ ْ‬

‫‪87‬‬
‫ت العبدُ مسلماً‪ ،‬ولهم أن يقولوا‪ :‬إن عموم قوله‪:‬‬
‫ومالك وأبو حنيفة‪ :‬ل َي ِرثُه بالولء إل أن يمو َ‬
‫سلِ ُم الكَا ِفرَ))‪.‬‬
‫((الولء لمن أعتق))‪ ،‬مخصوص بقوله‪(( :‬ل َي ِرثُ المُ ْ‬
‫فصل‬
‫في فقه قصة بريرة‬
‫وفى القصة مِن الفقه تخيي ُر المة المزوّجة إذا أُعتقت وزوجُها عبدٌ‪ ،‬وقد اختلفت الروايةُ فى‬
‫زوج بَريرة‪ ،‬هل كان عبداً أو حراً؟ فقال القاسم‪ ،‬عن عائشة رضى ال عنها‪ :‬كان عبداً ولو كان‬
‫حرًا لم يُخيّرها‪ .‬وقال عروة عنها‪ :‬كان حراً‪ .‬وقال ابنُ عباس‪ :‬كان عبداً أسودَ يقال له‪ :‬مغيث‪ ،‬عبداً‬
‫لبنى فلن‪ ،‬كأنى أنظر إليه يطوف وراءها فى سكك المدينة‪ ،‬وكل هذا فى الصحيح‪ .‬وفى سنن أبى‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم وقال‬
‫داود عن عروة عن عائشة‪ :‬كان عبداً لل أبى أحمد‪ ،‬فخيّرها رسو ُ‬
‫لها‪(( :‬إنْ َق ُر َبكِ‪ ،‬فَلَ خيا َر َلكِ))‪.‬‬
‫وفى مسند أحمد‪ ،‬عن عائشة رضى ال عنها‪ ،‬أن بَريرة كانت تحتَ عبد‪ ،‬فلما أعتقها‪ ،‬قال‬
‫ش ْئتِ أنْ‬
‫ت هذا ال َعبْدِ‪ ،‬وإن ِ‬
‫ح َ‬
‫ت أَنْ َت ْم ُكثِى تَ ْ‬
‫ش ْئ ِ‬
‫لها رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬اخْتارِى فَإنْ ِ‬
‫تُفَارِقِيهِ))‪.‬‬
‫وقد روى فى ((الصحيح))‪ :‬أنه كان حراً‪.‬‬
‫ن عبداً‪ ،‬وهذا الخب ُر رواه عن عائشة رضى ال عنها‬
‫ح الروايات‪ ،‬وأكثرُها‪ :‬أنه كا َ‬
‫وأص ّ‬
‫ثلثة‪ :‬السود‪ ،‬وعروةُ‪ ،‬والقاسمُ‪ ،‬أما السود‪ ،‬فلم يختلفْ عنه عن عائشة أنه كان حراً‪ ،‬وأما عروة‪،‬‬
‫فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان‪ ،‬إحداها‪ :‬أنه كان حراً ؛ والثانية‪ :‬أنه كان عبداً‪ ،‬وأما عبد‬
‫الرحمن بن القاسم‪ ،‬فعنه روايتان صحيحتان‪ ،‬إحداها‪ :‬أنه كان حراً‪ ،‬والثانية‪ :‬الشك‪ .‬قال داود بن‬
‫ف الروايةُ عن ابن عباس أنه كان عبداً‪.‬‬
‫مقاتل‪ :‬ولم تختِل ِ‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫واتفق الفقها ُء على تخيير الم ِة إذا أُعتِقَت وزوجُها عبد‪ ،‬واختلفوا إذا كان حراً ؛‬ ‫@‬
‫فقال الشافعىّ ومالك وأحمد فى إحدى الروايتين عنه‪ :‬ل يخيرَ‪ ،‬وقال أبو حنيفة وأحمد فى الرواية‬
‫الثانية‪ :‬تُخيّر‪.‬‬
‫وليست الروايتان مبنيتين على كون زوجها عبداً أو حراً‪ ،‬بل على تحقيق‬
‫المناط فى إثبات الخيار لها‪ ،‬وفيه ثلثةُ مآخذ للفقهاء ؛ أحدها‪ :‬زوالُ الكفاءة‪ ،‬وهو المعبّ ُر عنه‬
‫ت ناقص‪ ،‬الثانى‪ :‬أن عتقها أوجبَ للزوج ملكَ طلقة ثالثة عليها لم تكن مملوكة له‬
‫بقولهم‪ :‬كملت تح َ‬

‫‪88‬‬
‫بالعقد‪ ،‬وهذا مأخذُ أصحابِ أبى حنيفة‪ ،‬وبنوا على أصلهم أن الطلقَ معتبرٌ بالنساء ل بالرجال‪،‬‬
‫الثالث‪ :‬ملكُها نفسها‪ ،‬ونحن نبين ما فى هذه‪.‬‬
‫المأخذ الول‪ :‬وهو كمالُها تحت ناقص‪ ،‬فهذا يرجع إلى أن الكفاءَة‬
‫خيّرتِ المرأةُ‪ ،‬كما تخيّر إذا بان الزوجُ‬
‫معتبرةٌ فى الدوام‪ ،‬كما هى معتبرة فى البتداء‪ ،‬فإذا زالت‪ُ ،‬‬
‫غيرَ كف ٍء لها‪ ،‬وهذا ضعيف من وجهين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن شروطَ النكاح ل يُعتبر دوامُها واستمرارها‪ ،‬وكذلك توابعه المقا ِرنَةُ لعقدة ل‬
‫يُشترط أن تكون توابعَ فى الدوام‪ ،‬فإن رضى الزوجة غير المجبَرة شرط فى البتداء دونَ الدوامِ‪،‬‬
‫ح الزانية‪ ،‬إنما يمنع‬
‫وكذلك الولىّ والشاهدانِ‪ ،‬وكذلك مان ُع الحرام والعدة والزنى عند من يمنع نكا َ‬
‫ابتداء العقد دون استدامته‪ ،‬فل يلزم مِن اشتراط الكفاءة ابتدا ُء اشتراط استمرارها ودوامها‪..‬‬
‫ث عيب موجبٍ للفسخ‪ ،‬لم‬
‫ق الزوج‪ ،‬أو حدو ِ‬
‫الثانى‪ :‬أنه لو زالت الكفاءة فى أثناء النكاح بفس ِ‬
‫َي ْثبُت الخيا ُر على ظاهر المذهب‪ ،‬وهو اختيارُ قدماء الصحاب‪ ،‬ومذهب مالك‪ .‬وأثبت القاضى‬
‫الخيارَ بالعيب الحا ِدثَ‪ ،‬ويلزم إثباتُه بحدوث فسق الزوج‪ ،‬وقال الشافعى‪ :‬إن حدث بالزوج‪ ،‬ثبت‬
‫الخيار‪ ،‬وإن حدث بالزوجة‪ ،‬فعلى قولين‪.‬‬
‫وأما المأخذُ الثانى وهو أن عتقها أوجب للزوج عليها مِلكَ طلقة ثالثة‪ ،‬فمأخذٌ‬
‫ع مِلك‬
‫ن ثبوت الخيا ِر لها؟ وهل نصبَ الشار ُ‬
‫ى مناسبة بين ثبوت طلقة ثالثة‪ ،‬وبي َ‬
‫ضعيف جداً‪ ،‬فأ ّ‬
‫ن منه باثنتين فصارت ل تَبينُ إل‬
‫الطلقة الثالثة سببًا لملك الفسخ‪ ،‬وما يُتوهم من أنها كانت تَبي ُ‬
‫ل يُفارِقَها ألبتة‪ ،‬ويُمسكها حتى‬
‫بثلث‪ ،‬وهو زيادةُ إمساك وحبس لم يقتضِهِ العقدُ فَاسِدٌ‪ ،‬فإنه َي ْمِلكُ أ ّ‬
‫ك استدامة إمساكِها‪ ،‬وعتقها ل يسُلبُه هذا‬
‫يُفرّق الموتُ بينهما‪ ،‬والنكاحُ عقد على مدة العمر‪ ،‬فهو َي ْمِل ُ‬
‫الملك‪ ،‬فكيف يسلبه إياه ملكه عليها طلقةً ثالثة‪ ،‬وهذا لو كان الطلق معتبراً بالنساء‪ ،‬فكيف‬
‫ح أنه معتبر بمن هو بيده وإليه‪ ،‬ومشروع فى جانبه‪.‬‬
‫والصحي ُ‬
‫وأما المأخ ُذ الثالث‪ :‬وهو ملكُها نفسهَا‪ ،‬فهو أرجح المآخ ِذ وأقربُها إلى أصول‬
‫الشرع‪ ،‬وأبعدُها من التناقض‪ ،‬وسر هذا المأخذ أن السيد عقدَ عليها بحكم الملك حيث كان مالكاً‬
‫ك الرقبة والمنافع للمعتق‪ ،‬وهذا مقصوده وحكمته‪ ،‬فإذا ملكت‬
‫لرقبتها ومنافعها‪ ،‬والعتق يقتضى تملي َ‬
‫رقبتها‪ ،‬ملكت بُضعها ومنافعها‪ ،‬ومن جملتها منافِع البُضع‪ ،‬فل يملك عليها إل باختيارها‪ ،‬فخيّرها‬
‫ع بين أن تُقيم مع زوجها‪ ،‬وبين أن تفسخَ نكاحه‪ ،‬إذ قد ملكت منافع بُضعها‪ ،‬وقد جاء فى‬
‫الشار ُ‬
‫ختَارى))‪.‬‬
‫سكِ فَا ْ‬
‫بعض طرق حديث بريرة‪ ،‬أنه صلى ال عليه وسلم قال لها‪َ (( :‬مَل ْكتِ نَفْ َ‬

‫‪89‬‬
‫فإن قيل‪ :‬هذا ينت ِقضُ بما لو زوّجها ثم باعها‪ ،‬فإن المشترى قد ملك رقبتها وبُضعها‬
‫ومنا ِفعَه‪ ،‬ول تسلّطُونه على فسخ النكاح‪ .‬قلنا ل َيرِدُ هذا نقضاً‪ ،‬فإن البائع نقل إلى المشترى ما كان‬
‫مملوكاً له‪ ،‬فصار المشترى خليفته‪ ،‬هو لما زوّجها‪ ،‬أخرج منفعة البُضع عن ملكه إلى الزوج‪ ،‬ثم‬
‫نقلها إلى المشترى مسلوب ًة منفعة البُضع‪ ،‬فصار كما لو آجر عبده مدة‪ ،‬ثم باعه‪ .‬فإن قيل‪ :‬فهب أن‬
‫هذا يستقيم لكم فيما إذا باعها‪ ،‬فهل قلتم ذلك إذا أعتقها‪ ،‬وأنها ملكت نفسَها مسلوبة البُضع‪ ،‬كما لو‬
‫ض عليكم هذا المأخذ؟‬
‫آجرها‪ ،‬ثم أعتقها‪ ،‬ولهذا ينتقِ ُ‬
‫قيل‪ :‬الفرقُ بينهما‪ :‬أن العتق فى تمليك العتيق رقبتَه ومنافعه أقوى من البيع‪ ،‬ولهذا ينفذ فيما‬
‫لم يعتقه ويسرى فى حصة الشريك‪ ،‬بخلف البيع‪ ،‬فالعتق إسقاطُ ما كان السيد يملِك ُه من عتيقه‪،‬‬
‫وجعله له محرراً‪ ،‬وذلك يقتضى إسقاط مُلكِ نفسه ومنافِعها ُكلّها‪ .‬وإذا كان العتق يسرى في ملك‬
‫الغير المحض الذي ل حق له فيه البتة‪ ،‬فكيف ل يسري إلى مُلكه الذى تعلّق به حقّ الزوج‪ ،‬فإذا‬
‫ق الزوج‬
‫ك الذي ل حقّ للمعتق فيه‪ ،‬فسريانُه إلى مُلك الذى يتعلق به ح ّ‬
‫سرى إلى نصيب الشري ِ‬
‫ض العدل والقياس الصحيح‪.‬‬
‫أولى وأحرى‪ ،‬فهذا مح ُ‬
‫ق الزوج من هذه المنفعة بخلف الشريك‪ ،‬فإنه يرجِ ُع إلى القيمة‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهذا فيه إبطال ح ّ‬
‫قيل‪ :‬الزوج قد استوفى المنفعة بالوطء‪ ،‬فطريانُ ما يُزيل دوامَها ل يُسقط له حقاً‪ ،‬كما لو‬
‫خ به‪.‬‬
‫طرأ ما يُفسِدُ أو يفسخُه برضاع أو حدوث عيب‪ ،‬أو زوالِ كفاءة عند من يفس ُ‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون فيما رواه النسائى‪ ،‬من حديث ابن َموْهَب‪ ،‬عن القاسم بن‬
‫ت ذلك‬
‫محمد‪ ،‬قال‪ :‬كان لعائشة رضى ال عنها غلم وجارية‪ ،‬قالت‪ :‬فأردت أن أعتِقَهما‪ ،‬فذكر ُ‬
‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال ((ابدَئى بالغُلَم َقبْلَ الجَا ِريَةَ))‪ .‬ولول أن التخيير يمنع إذا‬
‫كان الزوج حرًا لم يكن للبداءة بعتق الغلم فائدة‪ ،‬فإذا بدات به‪ ،‬عتقت تحت حر‪ ،‬فل يكون لها‬
‫اختيار‪.‬‬
‫عبْدٍ‬
‫حتَ َ‬
‫ت تَ ْ‬
‫وفى سنن النسائى أيضاً‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬أ ّيمَا َأمَ ٍة كَا َن ْ‬
‫خيَا ِر مَا لَ ْم يَطَأْهَا َزوْجُها))‪.‬‬
‫َف ُعتِ َقتْ‪َ ،‬ف ِهىَ بِال ِ‬
‫قيل‪ :‬أما الحديث الول‪ :‬فقال أبو جعفر العقيلى وقد رواه‪ :‬هذا خب ٌر ل يعرف إل بعبيد ال بن‬
‫ح لم يكن فيه حجة‪،‬‬
‫عبد الرحمن بن َموْهَب وهوضعيف‪ .‬وقال ابن حزم‪ :‬هو خبر ل يصح‪ .‬ثم لو ص ّ‬
‫لنه ليس فيه أنهما كانا زوجين‪ ،‬بل قال‪ :‬كان لها عبدٌ وجارية‪ .‬ثم لو كانا زوجين لم يكن فى أمره‬
‫ت الحر‪ ،‬وليس فى الخبر أنه أمرها بالبتداء بالزوج‬
‫لها بعتق العبد أولً ما يُسقط خيا َر المعتقة تح َ‬

‫‪90‬‬
‫لهذا المعنى‪ ،‬بل الظاهر أنه أمرها بأن تبتدىء بال ّذ َكرِ لفضل عتقه على النثى‪ ،‬وأن عتق أنثيين‬
‫يقومُ مقامَ عتق َذ َكرٍ‪ ،‬كما فى الحديث الصحيح مبيناً‪.‬‬
‫ضعّف‪ ،‬لنه من رواية الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمرى‬
‫وأما الحديث الثانى‪ :‬ف ُ‬
‫وهو مجهول‪ .‬فإذا تقرر هذا‪ ،‬وظهر حك ُم الشرع فى إثبات الخيار لها‪ ،‬فقد روى المام أحمد‬
‫لمَةُ فهى بِالخِيا ِر مَا لَ ْم يَطَأْهَا‪ ،‬إن شَاءتْ‬
‫عتِ َقتِ ا َ‬
‫بإسناده‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه وسلم ((إِذَا أُ ْ‬
‫ستَطِيعُ ِفرَاقَهُ))‪.‬ويُستفاد من هذا قضيتان‪:‬‬
‫ل تَ ْ‬
‫طئَها فَلَ خَيا َر لَها وَ َ‬
‫ن وَ ِ‬
‫فَارَ َقتْهُ‪ ،‬وإِ ْ‬
‫إحداهما‪ :‬أن خيارَها على التراخى ما لم ُت َم ّكنْ ُه مِن وَطئها‪ ،‬وهذا مذهب مالك وأبى‬
‫حنيفة‪ .‬وللشافعى ثلثةُ أقوال‪ .‬هذا أحدُها‪ .‬والثانى‪ :‬أنه على الفور ؛ والثالث‪ :‬أنه إلى ثلثة أيام‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أنها إذا مكّنته من نفسها‪ ،‬فوطئها‪ ،‬سقط خيارُها‪ ،‬وهذا إذا علمت‬
‫بالعتق وثبوتِ الخيار به‪ ،‬فلو جهلتهما‪ ،‬لم يسقط خيارُها بالتمكين من الوطء‪ .‬وعن أحمد رواية‬
‫ثانية‪ :‬أنها ل تُعذر بجهلها بملك الفسخ‪ ،‬بل إذا علمت بالعتق‪ ،‬ومكّنته مِن وطئها‪ ،‬سقط خيارها ولو‬
‫لم تعلم أن لها الفسخ‪ ،‬والرواية الولى أصح فإن عتق الزوج قبل أن تختار وقلنا‪ :‬إنه ل خيار‬
‫للمعتقة تحت حر بطلَ خيارُها لمساواة الزوج لها‪ ،‬وحصول الكفاءة قبل الفسخ‪ .‬قال الشافعى فى‬
‫أحد قوليه وليس هو المنصور عند أصحابه‪ :‬لها الفسخ لتقدّم ملك الخيار على العتق فل يبطله‪،‬‬
‫ب فى البيع والنكاح قبل الفسخ به‪ ،‬وكما‬
‫س لزوال سبب الفسخ بالعتق‪ ،‬وكما لو زال العي ُ‬
‫والوّل أقي ُ‬
‫لو زال العسار فى زمن ملك الزوجة الفسخَ به‪ .‬وإذا قلنا‪ :‬العلة ملكها نفسها‪ ،‬فل أثر لذلك‪ ،‬فإن‬
‫طلقها طلقاً رجعياً‪ ،‬فعتقت فى عدتها‪ ،‬فاختارت الفسخَ‪ ،‬بطلت الرجعةُ‪ ،‬وإن اختارت المقام معه‪،‬‬
‫صح‪ ،‬وسقط اختيارُها للفسخ‪ ،‬لن الرجعية كالزوجة‪.‬‬
‫وقال الشافعى وبعضُ أصحاب أحمد‪ :‬ل يسقُط خيارُها إذا رضيت بالمقام دون الرجعة‪ ،‬ولها أن‬
‫تختار نفسها بعد الرتجاع‪ ،‬ول َيصِحّ اختيارُها فى زمن الطلق فإن الختيارَ فى زمن هى فيه‬
‫صائرة إلى بينوتة‪ ،‬ممتنع فإذا راجعها‪ ،‬صحّ حينئذ أن تختارَه وتُقيم معه‪ ،‬لنها صارت زوجة‪،‬‬
‫وعمل الختيار عمله‪ ،‬وتر ّتبَ أثرُه عليه‪ .‬ونظيرُ هذا إذا ارت ّد زوجُ المة بعد الدخول‪ ،‬ثم عتقت فى‬
‫زمن الرّدّة‪ ،‬فعلى القول الول لها الخيار قبل إسلمه‪ ،‬فإن اختارته‪ ،‬ثم أسلم‪ ،‬سقط ملكُها للفسخ‪،‬‬
‫وعلى قول الشافعى‪ :‬ل َيصِحّ لها خيار قبل إسلمه‪ ،‬لن العقد صائر إلى البطلن فإذا أسلم‪ ،‬صحّ‬
‫خِيارُها‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون إذا طلقها قبل أن تفسخ‪ ،‬هل يقع الطلق أم ل؟‬

‫‪91‬‬
‫قيل‪ :‬نعم يقع‪ ،‬لنها زوجة ؛ وقال بعضُ أصحاب أحمد وغيرهم‪ :‬يُوقف الطلق‪ ،‬فإن‬
‫فسخت‪ ،‬تبينّا أنه لم يقع‪ ،‬وإن اختارت زوجها تبينّا وقوعه‪ .‬فإن قيل‪ :‬فما حكم المهر إذا اختارت‬
‫الفسخ؟‬
‫قيل‪ :‬إما أن تفسخ قبل الدخول أو بعده‪ .‬فإن فسخت بعدَه‪ ،‬لم يسقط المهر‪ ،‬وهو لِسيدها سواء‬
‫فسخت أو أقامت‪ ،‬وإن فسخت قبله ففيه قولن‪ ،‬هما روايتان عن أحمد إحداهما‪ :‬ل مهر‪ ،‬لن الفرقة‬
‫من جهتها‪ ،‬والثانية‪ ،‬يجب نصفُه‪ ،‬ويكون لسيدها ل لها‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون فى المعتَق نِصفُها‪ ،‬هل لها خيار؟ قيل‪ :‬فيه قولن‪ ،‬وهما روايتان عن‬
‫أحمد‪ ،‬فإن قلنا‪ :‬ل خيا َر لها كزوج مدبّرة له ل يمِلك غيرها وقيمُتها مائة‪ ،‬فعقد على مائتين مهراً‪،‬‬
‫ط المهرُ‪ ،‬أو انتصف‪ ،‬فلم تخرُجْ‬
‫ثم مات‪ ،‬عتقت‪ ،‬وَلم تمِلك الفسخَ قبل الدخول‪ ،‬لنها لو ملكت‪ ،‬سق َ‬
‫مِن الثلث‪ ،‬فيرق بعضُها‪ ،‬فيمتنِعُ الفسخُ قبل الدخول‪ ،‬بخلف ما إذا لم تملكه‪ ،‬فإنها تخرُج من الثلث‪،‬‬
‫فيعتق جميعُها‪.‬‬
‫فصل‬
‫ج ْعتِهِ)) فقالت‪ :‬أتأمُرنى؟ فقال‪(( :‬ل‪ ،‬إنّما َأنَا شافع))‪،‬‬
‫فى قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لو را َ‬
‫فقالت‪ :‬ل حاجة لى فيه‪ ،‬فيه ثلث قضايا‪.‬‬
‫إحداها‪ :‬أن أمره على الوجوب‪ ،‬لهذا فرّق بين أمره وشفاعته‪ ،‬ول ريبَ أن امتثال‬
‫شفاعته من أعظم المستحبات‪.‬‬
‫ضبْ على بريرة‪ ،‬ولم يُنكر عليها إذ لم‬
‫الثانية‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم لم َي ْغ َ‬
‫تقبل شفاعته‪ ،‬لن الشفاعة فى إسقاط المشفوع عنده حقه‪ ،‬وذلك إليه‪ ،‬إن شاء أسقطه‪ ،‬وإن أبقاه‬
‫ن أمره‪.‬‬
‫فلذلك ل يحرُم عصيانُ شفاعته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويحرم عصيا ُ‬
‫الثالثة‪ :‬أن اسم المراجعة فى لسان الشارع قد يكونُ مع زوال عقد‬
‫النكاح بالكلية‪ ،‬فيكون ابتداءَ عقد‪ ،‬وقد يكون مع تشعثه‪ ،‬فيكون إمساكاً‪ ،‬وقد سمّى سبحانه ابتداء‬
‫جعَا}‬
‫ن َي َترَا َ‬
‫عَل ْي ِهمَا أَ ْ‬
‫جنَاحَ َ‬
‫طلّ َقهَا فَلَ ُ‬
‫النكاح للمطلق ثلثًا بعد الزوج الثانى مُراجعتةً‪ ،‬فقال‪َ { :‬فإِنْ َ‬
‫[البقرة‪ ]230 :‬أى‪ :‬إن طلقها الثانى‪ ،‬فل جناح عليها‪ ،‬وعلى الول أن يتراجعا نكاحاً مستأنفاً‪.‬‬
‫فصل‬
‫عَل ْيهَا‬
‫وفى أكله صلى ال عليه وسلم مِن اللحم الذى تُصدّقَ به على برَيرة‪ ،‬وقال‪ُ (( :‬هوَ َ‬
‫صَدَقَةٌ ولَنا هَ ِديّةٌ))‪ ،‬دليلٌ على جواز أكل الغنى‪ ،‬وبنى هاشم‪ ،‬وكل من تحرم عليه الصدقة مما يُهديه‬

‫‪92‬‬
‫إليه الفقير من الصدقة لختلف جهة المأكول‪ ،‬ولنه قد بلغ محلّه وكذلك يجوزُ له أن يشتريَه منه‬
‫بماله‪ .‬هذا إذا لم تكن صدقَة نفسه‪ ،‬فإن كانت صدقَته‪ ،‬لم يجز له أن يشتر َيهَا‪ ،‬ول يَهبَها‪ ،‬ول يقبلها‬
‫هديةً‪ .‬كما نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عمر رضى ال عنه عن شِراء صدقته وقال‪(( :‬ل‬
‫ن أَعْطَاكَ ُه بِ ِدرْهَم))‪.‬‬
‫ش َترِه وإ ْ‬
‫تَ ْ‬
‫فصل‬
‫ل و َك ُثرَ وقضائه بصحة النكاح على ما مع الزوج‬
‫فى قضائه صلى ال عليه وسلم فى الصداق بما ق ّ‬
‫مِن القُرآن‬
‫ى صلى ال عليه‬
‫ن صَدَاقُ النب ّ‬
‫ثبت فى ((صحيح مسلم))‪ :‬عن عائشة رضى ال عنها‪ :‬كا َ‬
‫وسلم لَزواجه ثنتى عشرة أوقية ونشّاً‪ ،‬فذلك خمسمائة‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم َنكَحَ شيئًا مِن نسائه‪،‬‬
‫عِلمْتُ رسو َ‬
‫ع َمرُ رضى ال عنه‪ :‬ما َ‬
‫وقال ُ‬
‫ول َأ ْنكَحَ شيئًا مِن بناتِه على أكث َر مِن ثِنتى عشر َة أُوقية‪ .‬قال الترمذى‪ :‬حديث حسن صحيح‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وفى ((صحيح البخارى))‪ :‬من حديث سهل بن سعد‪ ،‬أن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال‬
‫لرجل‪َ (( :‬ت َزوّجْ َوَل ْو بِخَاتَ ٍم مِنْ حَدِيدٍ))‪.‬‬
‫وفى سنن أبى داود‪ :‬مِن حديث جابر‪ ،‬أن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬مَنْ أعْطى فى‬
‫ستَحَلّ))‪.‬‬
‫صَداقٍ مِلءَ كفيه سَويقًا أ ْو تَمراً‪ ،‬فَقَدِ ا ْ‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫وفى الترمذى‪ :‬أن امرأةً مِن بنى فَزارة تزوّجت على نعلينِ‪ ،‬فقال رسو ُ‬
‫ك بنعلين))؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فأجازه‪ .‬قال الترمذى‪ :‬حديث حسن‬
‫ك ومَاِل ِ‬
‫سِ‬‫ت مِنْ نَفْ ِ‬
‫وسلم‪(( :‬رَضِي ِ‬
‫صحيح‪.‬‬
‫وفى مسند المام أحمد‪ :‬من حديث عائشة رضىَ ال عنها‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫س ُرهُ َمؤُونَة))‪.‬‬
‫ح َب َركَ ًة َأيْ َ‬
‫ن أَعْظَمَ ال ّنكَا ِ‬
‫((إ ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسولَ ال‪،‬‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬أن امرأةً جاءت إلى النب ّ‬
‫جنِيهَا إن لم َيكُن َلكَ ِبهَا حَاجَةٌ‪،‬‬
‫ت نفسى لكَ‪ ،‬فقامَت طويلً‪ ،‬فقال رجل‪ :‬يا رسول ال‪َ ،‬زوّ ْ‬
‫إنى قد وهب ُ‬
‫ك مِنْ شَى ٍء ُتصْدِقُها إيّاهُ))؟ قال‪ :‬ما عندى إل‬
‫عنْ َد َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬فهَلْ ِ‬
‫فقالَ رسو ُ‬
‫ل إزَارَ َلكَ‪،‬‬
‫ت وَ َ‬
‫س َ‬
‫جلَ ْ‬
‫ط ْيتَها إزَا َركَ َ‬
‫ك إنْ أَعْ َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إ ّن َ‬
‫إزارى هذا‪ ،‬فقال رسو ُ‬
‫شيْئاً))‪ ،‬قال‪ :‬ل أجد شيئاً‪ ،‬قال‪(( :‬فَا ْل َت ِمسْ َوَلوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ))‪ ،‬فالتمس فلم يَجِدْ شيئاً‪ ،‬فقال‬
‫فَا ْل َت ِمسْ َ‬

‫‪93‬‬
‫ن ال ُقرْآنِ))؟ قال‪ :‬نعم سور ُة كذا وسورةُ كذا‬
‫ل َم َعكَ شىء مِ َ‬
‫رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬هَ ْ‬
‫ن ال ُقرْآن))‪.‬‬
‫ك مِ َ‬
‫ج ُتكَها ِبمَا َم َع َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬قَدْ َزوّ ْ‬
‫لِسور سماها‪ ،‬فقال رسو ُ‬
‫ك ُيرَدّ ولكنّك‬
‫سَليْمٍ‪ ،‬فقالت‪ :‬والِّ يا َأبَا طلحة‪ ،‬ما ِم ْثُل َ‬
‫وفى النسائى‪ :‬أن أبا طلحة خطب أُمّ ُ‬
‫سلِم‪ ،‬فَذاك َم ْهرِى‪ ،‬وما أسألك غيرَه‪،‬‬
‫ل لى أن أتزوّجَك‪ ،‬فإن تُ ْ‬
‫رجلٌ كافِر‪ ،‬وأنا امرأةٌ مسلمة‪ ،‬ول يَحِ ّ‬
‫ك َم ْهرَهَا‪ .‬قال ثابت‪ :‬فما سمعنا بامرأةٍ قَطّ كانت أكرمَ مهرًا من أمّ سُليم‪ ،‬فدخل بها‪،‬‬
‫فأسلَمَ فكان ذَل َ‬
‫فولدت له‪.‬‬
‫ث أن الصداق ل يتقدّر أقلّه‪ ،‬وأن قبض َة السويق وخاتمَ الحديد والنعلينِ‬
‫فتضمن هذا الحدي ُ‬
‫ل بها الزوجة‪.‬‬
‫َيصِحّ تسميتُها مهراً‪ ،‬وتَحِ ّ‬
‫وتضمّن أن المُغالة فى المهر مكروهة فى النكاح‪ ،‬وأنها مِن قلة بركته وعُسره‪.‬‬
‫وتضمّن أن المرأ ًة إذا َرضِيت بعلم الزوج‪ ،‬وحِفظه للقرآن أو بعضه مِن مهرها‪ ،‬جاز ذلك‪،‬‬
‫عتْقَها صداقَها وكان‬
‫جعَل السيدُ ِ‬
‫وكان ما يحصُل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صَداقها‪ ،‬كما إذا َ‬
‫انتفاعُها بحريّتها ومُلكها لرقبتها هو صداقَها‪ ،‬وهذا هو الذى اختَارته أمّ سليم من انتفاعها بإسلم‬
‫أبى طلحة‪ ،‬وبذلِها نفسها له إن أسلم‪ ،‬وهذا أحبّ إليها من المال الذى يب ُذلُه الزوجُ‪ ،‬فإن الصداقَ‬
‫ع فى الصل حقًا للمرأة تنتفع به‪ ،‬فإذا رضيت بالعلم والدّين‪ ،‬وإسلم الزوج‪ ،‬وقراءته للقرآن‪،‬‬
‫شرِ َ‬
‫ُ‬
‫كان هذا من أفضل المهور وأنفعها وأجلّها‪ ،‬فما خل العقد عن مهر‪ ،‬وأين الحكم بتقدير المهر بثلثة‬
‫دراهم‪ ،‬أو عشرة من النص؟ والقياس إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصاً وقياساً‪ ،‬وليس‬
‫هذا مستوياً بين هذه المرأة وبين الموهبة التى وهبت نفسها للنبى صلى ال عليه وسلم وهى خالصة‬
‫له من دون المؤمنين‪ ،‬فإن تلك وهبت نفسها هبةً مجردة عن ولى وصداق‪ ،‬بخلف ما نحن فيه‪ ،‬فإنه‬
‫نكاح بولى وصداق‪ ،‬وإن كان غير مالى‪ ،‬فإن المرأة جعلته عوضاً عن المال لما يرجع إليها من‬
‫نفعه‪ ،‬ولم تهب نفسها للزوج هِبةً مجرّ َدةً كهبة شىء من مالها بخلف الموهوبة التى خصّ ال بها‬
‫رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬هذا مقتضى هذه الحاديث‪.‬‬
‫وقد خالف فى بعضه من قال‪ :‬ل يكون الصداقُ إل مالً‪ ،‬ول تكون منافع أخرى‪ ،‬ول علمه‪،‬‬
‫ل مِن ثلثة دراهم‬
‫ول تعليمه صداقاً‪ ،‬كقول أبى حنيفة وأحمد فى رواية عنه‪ .‬ومن قال‪ :‬ل يكون أق ّ‬
‫كمالك‪ ،‬وعشرة دراهم كأبى حنيفة‪ ،‬وفيه أقوال أخر شاذة ل دليل عليها من كتاب‪ ،‬ول سنة‪ ،‬ول‬
‫إجماع‪ ،‬ول قياس‪ ،‬ول قولِ صاحب‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫ومن ادعى فى هذه الحاديث التى ذكرناها اختصاصَها بالنبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو أنها‬
‫ل أهل المدينة على خلفها‪ ،‬فدعوى ل يقومُ عليها دليلٌ‪ .‬والصل يردّها‪ ،‬وقد‬
‫منسوخة‪ ،‬أو أن عم َ‬
‫زوّج سي ُد أهل المدينة من التابعين سعي ُد بن المسيب ابنتَه على درهمين‪ ،‬ولم يُنكر عليه أحد‪ ،‬بل عُدّ‬
‫ذلك فى مناقبه وفضائله‪ ،‬وقد تزوّج عبد الرحمن بن عوف على صداق خمسة دراهم‪ ،‬وأقرّه النبى‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول سبيل إلى إثبات المقادير إل من جهة صاحب الشرع‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وخلفائه فى أحد الزوجين يجد بصاحبه برصًا أو جنونًا أو جذاماً‪،‬‬
‫عنّيناً‬
‫أو يكون الزوج ِ‬
‫ل ال صلى‬
‫فى ((مسند أحمد))‪ :‬من حديث يزيد بن كعب بن عُجرة رضى ال عنه‪ ،‬أن رسو َ‬
‫عَل ْيهَا‪َ ،‬و َوضَ َع ثوبَه‪ ،‬و َقعَ َد على الفِراش‪ ،‬أبصَرَ‬
‫ج امرأ ًة من بنى غِفَار‪ ،‬فلما َدخَلَ َ‬
‫ال عليه وسلم تزوّ َ‬
‫ك ِثيَا َبكِ‪ ))،‬ولم يأخذ مما آتاها شيئاً‪.‬‬
‫علَي ِ‬
‫ن ال ِفرَاشِ‪ ،‬ثم قال‪(( :‬خُذِى َ‬
‫حهَا بياضاً ؛ فامّاز عَ ِ‬
‫ِبكَشْ ِ‬
‫ن َأوْ جُذامٌ أ ْو َبرَصُ‪،‬‬
‫جنُو ُ‬
‫وفى ((الموطأ))‪ :‬عن عمر أنه قال‪َ :‬أيّما ا ْم َراَ ٍة غرّ بها رجُلٌ‪ ،‬بِها ُ‬
‫غ ّرهُ))‪.‬‬
‫ق الرّجُلِ عَلى مَنْ َ‬
‫ب ِم ْنهَا‪ ،‬وصَدَا ُ‬
‫َفَلهَا ال َم ْهرُ بما أصَا َ‬
‫ق بينَهما‪،‬‬
‫وفى لفظ آخر‪(( :‬قضَى عمر فى ال َبرْصاء‪ ،‬والجذماء‪ ،‬والمجنونة‪ ،‬إذا دخَل بها َفرّ َ‬
‫والصّداقُ لها بمَسِيسِه إياها‪ ،‬وهو له على َوِليّها))‬
‫وفى سنن أبى داود‪ :‬مِن حديث عِكرمة‪ ،‬عن ابن عباس رضى ال عنهما‪ :‬طلّق عب ُد يزيد أبو‬
‫ن ُم ِز ْينَةَ‪ ،‬فجاءت إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم فقالت‪ :‬ما‬
‫ح امرأ ًة مِ ْ‬
‫رُكانة زوجتَه أ ّم رُكانة‪ ،‬و َنكَ َ‬
‫ن َرأْسِها‪ ،‬فَ َفرّق بينى وبينَه‪ ،‬فأخذت النبىّ‬
‫ش ْع َرةٍ أَخَ َذتْها مِ ْ‬
‫ش ْع َر ُة لِ َ‬
‫ل كَما ُت ْغنِى ه ِذ ِه ال ّ‬
‫عنّى إ ّ‬
‫ُي ْغنِى َ‬
‫طلّقْها))‪ ،‬ففعل‪،‬‬
‫ح ِميّةُ‪ ،‬فذكر الحديثَ‪ .‬وفيه‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم قال له (( َ‬
‫صلى ال عليه وسلم َ‬
‫عِلمْتُ‪،‬‬
‫ثم قال‪(( :‬رَاجِع ا ْم َرَأ ُتكَ أُ ّم ُركَانَةَ))‪ ،‬فقال‪ :‬إنى طلقتُها ثلثاً يا رَسُولَ الِّ‪ ،‬قال‪(( :‬قَدْ َ‬
‫ن ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪.]1 :‬‬
‫طلّقُوهُ ّ‬
‫طلّ ْقتُمُ النّسَاءَ فَ َ‬
‫ج ْعهَا))‪ ،‬وتل‪{ :‬يََأ ّيهَا ال ّن ِبىّ إِذَا َ‬
‫ارْ ِ‬
‫علّة لهذا الحديث إل رواي ُة ابن جُريج له عن بعض بنى أبى رافع‪ ،‬وهو مجهول‪ ،‬ولكن‬
‫ول ِ‬
‫هو تابعى‪ ،‬وابنُ جريج من الئمة الثقات العدولِ‪ ،‬وروايةُ العدل عن غيره تعديلٌ له ما لم يُعلم فيه‬
‫جرحٌ‪ ،‬ولم يكن الكذبُ ظاهراً فى التابعين‪ ،‬ول سيما التابعين مِن أهل المدينة‪ ،‬ول سيما موالى‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول سيما مثل هذه السنة التى تشتد حاج ُة النّاس إليها ل يُظن بابن‬
‫رسولِ ا ِ‬
‫جريج أنه حملها عن كذّاب‪ ،‬ول عن غي ِر ثقة عنده‪ ،‬ولم يُبيّنْ حاله‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫وجاء التفريقُ بال ُعنّ ِة عن عمر‪ ،‬وعثمانَ‪ ،‬وعبدِ ال بن مسعود‪ ،‬وسمر َة بنِ جندب‪،‬‬
‫ومعاويةَ بن أبى سفيان‪ ،‬والحارث بن عبد ال بن أبى ربيعة‪ ،‬والمغيرة بن شعبة‪ ،‬لكن عمر‪ ،‬وابن‬
‫جلَه‬
‫جلُوه سنة‪ ،‬وعثمان ومعاوية وسمرة لم يؤجّلوه‪ ،‬والحارث بن عبد ال أ ّ‬
‫مسعود‪ ،‬والمغيرة‪ ،‬أ ّ‬
‫عشرة أشهر‪.‬‬
‫وذكر سعي ُد بن منصور‪ :‬حدثنا هُشيم‪ ،‬أنبأنا عبدُ ال بن عوف‪ ،‬عن ابن‬
‫سعَاية‪ ،‬فتزوّج امرأةً وكان‬
‫ض ال ّ‬
‫سيرين أن عم َر بنَ الخطاب رضى ال عنه بعثَ رجلً على بع ِ‬
‫عِلمْها‪ ،‬ثم خيّرها‪.‬‬
‫عَل ْمتَها أ ّنكَ عَقِيمُ؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فانطلق فأ ْ‬
‫عقيماً‪ ،‬فقال له عمرُ‪ :‬أ ْ‬
‫وأجّلَ مجنوناً سنة‪ ،‬فإن أفاق وإل فرّق بينه وبين امرأته‪.‬‬
‫ح بعيب ألبتة‪،‬‬
‫فاختلف الفقهاءُ فى ذلك‪ ،‬فقال داود‪ ،‬وابنُ حزم‪ ،‬ومَنْ وافقهما‪ :‬ل يُفْسَخْ النكا ُ‬
‫ب وال ُعنّةِ خاصة‪ .‬وقال الشافعى ومالك‪ :‬يُفْسَخُ بالجنونِ وال َبرَصِ‪،‬‬
‫ج ّ‬
‫وقال أبو حنيفة‪ :‬ل يفسخ إل بال َ‬
‫ب وال ُعنّةِ خاصة‪ ،‬وزاد المام أحمد عليهما‪ :‬أن تكونَ المرأة فتقاءَ منخرِقة ما‬
‫ج ّ‬
‫والجُذامِ وال َقرَن‪ ،‬وال َ‬
‫ن الفرج والفم‪ ،‬وانخراقِ مخرجى البول والمنى فى الفرج‪ ،‬والقروح‬
‫بينَ السبيلين‪ ،‬ولصحابه فى َنتَ ِ‬
‫ق البول‪ ،‬والنجو‪ ،‬والخصى وهو قطعُ‬
‫السيالة فيه‪ ،‬والبواسير‪ ،‬والنّاصور‪ ،‬والستحاضة‪ ،‬واستطل ِ‬
‫ل البيضتين‪ ،‬والوجء وهو رضّهما‪ ،‬وكونُ أحدهما خُنثى مشكلً‪ ،‬والعيبِ‬
‫البيضتينِ‪ ،‬والسّل وَهو سَ ّ‬
‫الذى بصاحبه مثلُه مِن العيوب السبعة‪ ،‬والعيبِ الحادث بعد العقد‪ ،‬وجهان‪.‬‬
‫ب تُردّ به الجاري ُة فى البيع وأكثرُهم‬
‫وذهب بعضُ أصحابِ الشافعى إلى ر ّد المرأة بكُلّ عي ٍ‬
‫ظ ّنتَه‪ ،‬ول مَنْ قاله‪ .‬وممن حكاه‪ :‬أبو عاصم العبادانى فى كتاب طبقات‬
‫ل َي ْع ِرفُ هذا الوجهَ ول م ِ‬
‫أصحاب الشافعى‪ ،‬وهذا القولُ هو القياس‪ ،‬أو قولُ ابن حزم ومن وافقه‪.‬‬
‫وأما القتصارُ على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساو لها‪ ،‬فل‬
‫وجه له‪ ،‬فالعمى والخرس والطرش‪ ،‬وكونُها مقطوعة اليدين أو الرجلين‪ ،‬أو إحداهُما‪ ،‬أو كونُ‬
‫ف للدين‪،‬‬
‫الرجل كذلك من أعظم المنفّرات‪ ،‬والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش‪ ،‬وهو مُنا ٍ‬
‫والطلق إنما ينصرف إلى السلمة‪ ،‬فهو كالمشروط عرفاً‪ ،‬وقد قال أمير المؤمنين عمر بن‬
‫خ ِبرْهَا أ ّنكَ عَقِيمٌ وخ ّيرْهَا‪ .‬فماذا يقول‬
‫الخطاب رضى ال عنه لمن تزوج امرأة وهُو ل يولد له‪ :‬أَ ْ‬
‫رضى ال عنه فى العيوب التى هذا عندها كمالٌ ل نقص؟‬
‫ل عيب ين ِفرُ الزوجُ الخر منه‪ ،‬ول يحصُل به مقصودُ النكاح مِن الرحمة‬
‫والقياس‪ :‬أن كُ ّ‬
‫ط المشترطة فى النكاح أولى بالوفا ِء مِن‬
‫والمودّة يُوجبُ الخيارَ‪ ،‬وهو أولى مِن البيع‪ ،‬كما أن الشرو َ‬

‫‪96‬‬
‫ن به‪ ،‬ومن تدبّر مقاصد‬
‫غبِ َ‬
‫غ ّر به و ُ‬
‫شروط البيع‪ ،‬وما ألزم الُّ ورسولُه مغروراً قطّ‪ ،‬ول مغبوباً بما ُ‬
‫الشرع فى مصادره وموارِده وعدله وحِكمته‪ ،‬وما اشتمل عليه مِن المصالح لم يخفَ عليه رجحانُ‬
‫هذا القول‪ ،‬وقربُه من قواعد الشريعة‪.‬‬
‫جتْ‬
‫وقد روى يحيى بن سعيد النصارى‪ ،‬عن ابن المسيب قال‪ :‬قال عمر‪ :‬أيّما امرأ ٍة ُزوّ َ‬
‫وبها جنونٌ أو جُذام أو َبرَصٌ فدخل بها ثم اطّلع على ذلك‪ ،‬فلها مهرها بمسيسه إياها‪ ،‬وعلى الولى‬
‫الصّداقُ بما دلس كما غرّه‪.‬‬
‫ورَدّ هذا بأن ابن المسيّب لم يسمع من عمر من باب الهذيان البارد المخالف لجماع أهل‬
‫الحديث قاطبة‪ ،‬قال المام أحمد‪ :‬إذا لم يُقبل سعيد بن المسيب عن عمر‪ ،‬فمن يقبل‪ ،‬وأئمة السلم‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬فكيف بروايته‬
‫وجمهورهُم يحتجون بقول سعيد بن المسيب‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ع َم َر رضى ال عنه‪ ،‬وكان عبد ال بن عمر يرسل إلى سعيد يسأله عن قضايا عمر‪ ،‬فيُفتى‬
‫عن ُ‬
‫ل معتبر فى رواية‬
‫ط من أهل عصره‪ ،‬ول مَنْ بعدهم ممن له فى السلم قو ٌ‬
‫بها‪ ،‬ولم يطعن أحدٌ ق ّ‬
‫سعيد بن المسيب عن عمر‪ ،‬ول عبرة بغيرهم‪.‬‬
‫وروى الشعبى عن على‪ :‬أيّما امرأةٍ نكحت وبها َبرَصٌ أو جُنون أو جُذام أو َقرَنٌ فزوجُها‬
‫بالخيار ما لم يمسها‪ ،‬إن شاء أمسك‪ ،‬وإن شاء طلق‪ ،‬وإن مسّها فلها المهرُ بما استحل من فرجها‪.‬‬
‫ع َمرَ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وقال وكيع‪ :‬عن سفيان الثورى‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن سعيد بن المسّيب‪ ،‬عن ُ‬
‫ن غرّه‪ .‬وهذا يدل على‬
‫إذا تزوّجها برصاء‪ ،‬أو عميَاء‪ ،‬فدخل بها‪ ،‬فلها الصداقُ‪ ،‬ويرج ُع به على مَ ْ‬
‫أن عمر لم يذكر تلك العيوب المتقدّمة على وجه الختصاص والحصر دونَ ما عداها‪ ،‬وكذلك حكم‬
‫قاضى السلم حقًا الذى يُضرب المثلُ بعلمِه ودِينه وحُكمه‪ :‬شريحٍ قال عبد الرزاق‪ :‬عن معمر‪،‬‬
‫ش َريْح‪ ،‬فقال‪ :‬إن هؤلء قالوا لى‪ :‬إنا نُزوّجُك بأحْسَنِ‬
‫ل إلى ُ‬
‫عن أيوب‪ ،‬عن ابن سيرين‪ ،‬خاصم رج ٌ‬
‫الناسِ‪ ،‬فجاؤونى بامرأة عمشاءَ‪ ،‬فقال شُريح‪ :‬إن كان دلّس لك بعيب لم يَجُز‪ ،‬فتأمل هذا القضاء‪،‬‬
‫وقوله‪ :‬إن كان دلّس لك بعيب‪ ،‬كيف يقتضى أن كل عيب دلست به المرأةُ‪ ،‬فللزوج الردّ به؟ وقال‬
‫ى يُردّ النكاح مِن كل داءٍ عُضالٍ‪.‬‬
‫الزهر ّ‬
‫ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف‪ ،‬علم أنهم لم يخصّوا الردّ بعيب دون عيب إل‬
‫رواية رُويت عن عمر رضى ال عنه‪ :‬ل تُردّ النساء إل من العُيوب الربعة‪ :‬الجنون‪ ،‬والجذام‪،‬‬
‫والبرص‪ ،‬والداء فى الفرج‪ .‬وهذه الرواية ل نعلم لها إسنادًا أكثر من أصبغ عن ابن وهب‪ ،‬عن‬
‫ع َمرَ وعَلى‪ .‬رُوى عن ابن عباسِ ذلك بإسناد متصل‪ ،‬ذكره سفيان‪ ،‬عن عمرو بن دينار عنه‪ .‬هذا‬
‫ُ‬

‫‪97‬‬
‫ق الزوجُ‪ ،‬وأما إذا اشترط السلمةَ‪ ،‬أو شرطَ الجمَال‪ ،‬فبانت شوهاء‪ ،‬أو شرطَها شابةً‬
‫ُكلّه إذا أطل َ‬
‫حديث َة السن‪ ،‬فبانت عجوزاً شمطاء‪ ،‬أو شرطها بيضاءَ‪ ،‬فبانت سوداء‪ ،‬أو بِكراً فبانت ثيباً‪ ،‬فله‬
‫الفسخُ فى ذلك ُكلّه‪.‬‬
‫غرْمٌ على وليها إن‬
‫فإن كان قبلَ الدخول‪ ،‬فل مهرَ لها‪ ،‬وإن كان بعدَه‪ ،‬فلها المهرُ‪ ،‬وهو ُ‬
‫كان غرّه‪ ،‬وإن كانت هى الغارّة‪ ،‬سقط مهرُها أو رَجَ َع عليها به إن كانت قبضته‪ ،‬ونص على هذا‬
‫أحمد فى إحدى الروايتين عنه‪ ،‬وهو أقيسُهما وأولهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط‪.‬‬
‫وقال أصحابُه‪ :‬إذا شرطت فيه صفةً‪ ،‬فبان بخلفها‪ ،‬فل خيار لَها إل فى شرط الحفرية إذا‬
‫بان عبداً‪ ،‬فلها الخيارُ‪ ،‬وفى شرط النسب إذا بان بخلفه وجهان‪ ،‬والذى يقتضيه مذهبُه وقواعده‪،‬‬
‫أنه ل فرق بين اشتراطه واشتراطها‪ ،‬بل إثباتُ الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى‪ ،‬لنها ل‬
‫خ مع تمكن ِه من الفراق بغيره‪ ،‬فلن يجوزَ لها الفسخُ‬
‫تتمكّنُ من المفارقة بالطلق‪ ،‬فإذا جاز له الفس ُ‬
‫مع عدم تمكّنها أولى‪ ،‬وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر الزوجُ ذا صناعة دنيئة ل تشينُه فى دِينه ول فى‬
‫عرضه‪ ،‬وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به‪ ،‬فإذا شرطته شاباً جميلً صحيحاً فبان شيخاً مشوهاً‬
‫أعمى أطرش أخرس أسود‪ ،‬فكيف تلزم به‪ ،‬وتمنع من الفسخ؟ هذا فى غاية المتناع والتناقض‪،‬‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫والبعدِ عن القياس‪ ،‬وقواعد الشرع‪ ،‬وبا ّ‬
‫وكيف يمكّن أح ُد الزوجين من الفسخ بقدر العدسَ ِة من ال َبرَصِ‪ ،‬ول يُمكّن منه بالجرب‬
‫المستحكم المتمكّن وهو أش ّد إعدا َء من ذلك البرص اليسير وكذلك غيرُه مِن أنواع الداء العُضال؟‬
‫وإذا كان النبىّ صلى ال عليه وسلم حرّم على البائع كِتمانَ عيب سلعته‪ ،‬وحرّم على مَنْ‬
‫علمه أن يك ُتمَه مِن المشترى‪ ،‬فكيف بالعيوب فى النكاح‪ ،‬وقد قال النبىّ صلى ال عليه وسلم لفاطمة‬
‫ل لَهُ‪ ،‬وأمّا‬
‫ص ْعلُوكٌ ل مَا َ‬
‫بنتِ قيس حين استشارته فى نكاح معاوية‪ ،‬أو أبى الجهم‪(( :‬أمّا ُمعَا ِويَةُ‪َ ،‬ف ُ‬
‫ن العيب فى النكاح أولى وأوجب‪ ،‬فكيف يكون‬
‫عصَاهُ عَنْ عَاتِقِه))‪ ،‬ف ُعلِمَ أن بيا َ‬
‫جهْمِ‪ ،‬فَل َيضَعُ َ‬
‫أبُو َ‬
‫كتمانُه وتدليسُه وال ِغشّ الحرَامُ به سببًا للزومه‪ ،‬وجعل ذا العيب غُلً لزماً فى عُنق صاحبه مع شِدة‬
‫نُفرته عنه‪ ،‬ول سيما مع شرط السلمة منه‪ ،‬وشرطِ خلفه‪ ،‬وهذا مما يُعلم يقينًا أن تصرفات‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫الشريعة وقواعدَها وأحكامَها تأباه وا ّ‬
‫ى عيبٍ‬
‫وقد ذهب أبو محمد ابن حزم إلى أن الزوجَ إذا شرط السلمةَ مِن العيوب‪ ،‬فوجِ َد أ ّ‬
‫كان‪ ،‬فالنكاح باطل من أصله غير منعقد‪ ،‬ول خيار له فيه‪ ،‬ول إجازة ول نفقة‪ ،‬ول ميراث‪ .‬قال‪:‬‬

‫‪98‬‬
‫لَن التى أدخلت عليه غير التى تزوج‪ ،‬إذ السالمةُ غي ُر المعيبة بل شك‪ ،‬فإذا لم يتزوجها‪ ،‬فل‬
‫زوجيةَ بينهما‪.‬‬
‫فصل‬
‫صلّى ال عليه وسلم فى خِ ْدمَ ِة المرأةِ لزوجها‬
‫فى حُكم النبىّ َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم بين على بن أبى طالب‬
‫قال ابنُ حبيب فى ((الواضحة))‪ :‬حكم النب ّ‬
‫رضى ال عنه‪ ،‬وبين زوجته فاطمة رضى ال عنها حين اشتكيا إليه الخِدمة‪ ،‬فحكم على فاطمة‬
‫بالخدمة الباطنة خدمة البيت‪ ،‬وحكم على عليّ بالخدمة الظاهرة‪ ،‬ثم قال ابنُ حبيب‪ :‬والخدمة‬
‫س البيت‪ ،‬واستقا ُء الماء‪ ،‬وعمل البيت كلّه‪.‬‬
‫الباطنة‪ :‬العجينُ‪ ،‬والطبخُ‪ ،‬والفرشُ‪ ،‬وكن ُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم تشكُو إليه ما‬
‫ت النب ّ‬
‫فى ((الصحيحين))‪ :‬أن فاطمة رضى ال عنها أت ِ‬
‫َتلْقى فى يَ َد ْيهَا مِن الرّحى‪ ،‬وتسألُه خادماً فلم تَجِدْه‪ ،‬فذكرت ذلك لِعائشة رضى ال عنها‪ ،‬فلما جاء‬
‫ج َعنَا‪ ،‬فذهبنا نقومُ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أخبرتْه‪ .‬قال على‪ :‬فجاءنا وقد أخذنا َمضَا ِ‬
‫خ ْيرٌ‬
‫ل أ ُدّل ُكمَا عَلى مَا ُهوَ َ‬
‫(( َمكَان ُكمَا))‪ ،‬فجاء فقعَ َد بي َننَا حتى وجدت َبرْدَ قَ َد َميْ ِه على بطْنى‪ ،‬فقال‪(( :‬أَ َ‬
‫حمَدا ثلثًا وثلثينَ‪ ،‬و َكبّرا أربعاً‬
‫سبّحا ال ثَلثًَا وثَلثِينَ‪ ،‬وا ْ‬
‫ج َعكُما فَ َ‬
‫َل ُكمَا ِممّا سََأ ْل ُتمَا‪ ،‬إذا أَخَ ْذتُما َمضَا ِ‬
‫علّى‪ :‬فما تركتُها َبعْدُ‪ ،‬قِيلَ‪ :‬ول ليل َة صفين؟ قال‪ :‬ول ليلة‬
‫وثلثين‪ ،‬فهو خير لكما من خادِم‪ .‬قال َ‬
‫صِفّين))‪.‬‬
‫س و ُك ْنتُ‬
‫ت ُكلّه‪ ،‬وكان لَه َف َر ٌ‬
‫وصحّ عن أسماء أنها قالت‪ :‬كنت أخدِ ُم ال ّز َب ْيرَ خِ ْدمَ َة ال َب ْي ِ‬
‫عَليْهِ‪.‬‬
‫ش لَهُ‪ ،‬وأَقُومُ َ‬
‫أَسُوسُه‪ ،‬و ُك ْنتُ أَحْت ّ‬
‫علَى‬
‫خ ِرزُ ال ّد ْل َو و َتعْجِنُ‪ ،‬و َتنْقُلُ النّوى َ‬
‫وصحّ عنها أنها كانت َت ْعِلفُ فرسَه‪ ،‬وتَسْقِى الماءَ‪ ،‬وتَ ْ‬
‫علَى ُثُلثَى َفرْسَخ‪.‬‬
‫ض لَهُ َ‬
‫سهَا مِنْ أَر ٍ‬
‫َرأْ ِ‬
‫خَلفِ خِدمَتها له فى مصالح البيت‪،‬‬
‫فاختلف الفقهاءُ فى ذلك‪ ،‬فأوجب طائف ٌة مِن السّلفِ وال َ‬
‫وقال أبو ثور‪ :‬عليها أن تَخْدِمَ زوجها فى كل شىء‪ ،‬ومنعت طائفةً وجوبَ خدمته عليها فى شىء‪،‬‬
‫وممن ذهب إلى ذلك مالك‪ ،‬والشافعى‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬وأهلُ الظاهر‪ ،‬قالوا‪ :‬لن عقدَ النكاح إنما‬
‫ل على التطوّع‬
‫اقتضى الستمتاع‪ ،‬ل الستخدام وبذل المنافع‪ ،‬قالوا‪ :‬والحاديث المذكورة إنما تد ّ‬
‫ومكارِمِ الخلق‪ ،‬فأين الوجوبُ منها؟‬
‫واحتج من أوجب الخدمة‪ ،‬بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم ال سبحانه بكلمه‪ ،‬وأما‬
‫ترفي ُه المرأةِ‪ ،‬وخدم ُة الزوج‪ ،‬وكنسُه‪ ،‬وطحنُه‪ ،‬وعجنُه‪ ،‬وغسيلُه‪ ،‬وفرشُه‪ ،‬وقيامُه بخدمة البيت‪،‬‬

‫‪99‬‬
‫ن ِمثْلُ الّذِى عَليْهنّ بِال َم ْعرُوفِ} [البقرة‪ ]228 :‬وقال‪{:‬الرّجَالُ‬
‫ن المنكر‪ ،‬والّ تعالى يقول‪{:‬وَلهُ ّ‬
‫َفمِ َ‬
‫َقوّامُونَ عَلى النّسَاءِ} [النساء‪ ]34 :‬وإذا لم تخ ِدمْه المرأةُ‪ ،‬بل يكون هو الخادِمَ لها‪ ،‬فهى ال َقوّامَةُ‬
‫عليه‪.‬‬
‫ل مِن الزوجين يقضى وطرَه مِن صاحبه فإنما‬
‫وأيضاً‪ :‬فإن المهر فى مقابلة البُضع‪ ،‬وكُ ّ‬
‫أوجبَ ال سبحانه نفقتَها وكُسوتها ومسكنَها فى مقابلة استمتاعه بها وخدمتها‪ ،‬وما جرت به عادةُ‬
‫الزواج‪.‬‬
‫ل على العرف‪ ،‬والعُرفُ خدم ُة المرأة‪ ،‬وقيامُها بمصالح‬
‫وأيضاً فإن العقود المطلقة إنما ُت َنزّ ُ‬
‫البيت الداخلة‪ ،‬وقولُهم‪ :‬إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعاً وإحسانًا يردّه أن فاطمة كانت تشتكى‬
‫ل لعلتى‪ :‬ل خِدمة عليها‪ ،‬وإنما هى عليك‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم ل‬
‫ما تلقى مِن الخِدمة‪ ،‬فلم يَقُ ْ‬
‫يُحابى فى الحكم أحداً‪ ،‬ولما رأى أسماء والعلفُ على رأسها‪ ،‬والزبي ُر معه‪ ،‬يقل له‪ :‬ل خِدمةَ عليها‪،‬‬
‫وأن هذا ظلمٌ لها‪ ،‬بل أقرّه على استخدامها‪ ،‬وأقرّ سا ِئرَ أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه‬
‫بأن منهن الكارِهَة والراضية‪ ،‬هذا أمر ل ريب فيه‪.‬‬
‫ح التفريقُ بين شريفة ودنيئة‪ ،‬وفقير ٍة وغنية‪ ،‬فهذه أشرفُ نساء العالمين كانت تَخْدِمُ‬
‫ول َيصِ ّ‬
‫ش ِكهَا‪ ،‬وقد سمّى النبىّ صلى ال عليه‬
‫زوجها‪ ،‬وجاءته صلى ال عليه وسلم تشكُو إليه الخدمة‪ ،‬فلم يُ ْ‬
‫عنْ َدكُم))‪.‬‬
‫لّ فى النّساء‪ ،‬فِإ ّنهُنّ عَوانٍ ِ‬
‫وسلم فى الحديث الصحيح المرأة عانيَةُ‪ ،‬فقال‪(( :‬اتّقُوا ا َ‬
‫والعانى‪ :‬السير‪ ،‬ومرتبة السير خدم ُة من هو تحت يده‪ ،‬ول ريبَ أن النكاح نوعٌ من الرّق‪ ،‬كما‬
‫ض السلف‪ :‬النكاح رِق‪ ،‬فلينظر أحدُكم عند من ُيرِقّ كريمته‪ ،‬ول يخفى على المنصف‬
‫قال بع ُ‬
‫الراجحُ من المذهبين‪ ،‬والقوى من الدليلين‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم َبيْنَ الزوجين يَقَعُ الشّقَاقُ بينهما‬
‫حكْمُ رسو ِ‬
‫ُ‬
‫روى أبو داود فى ((سننه))‪ :‬من حديث عائشة رضى ال عنها‪ ،‬أن حبيب َة بنتَ سهل كانت‬
‫ت النبىّ صلى ال عليه وسلم بعدَ‬
‫س َر بعضَها‪ ،‬فَأ َت ِ‬
‫عند ثابت بنِ قيس بن شمّاس‪ ،‬فضربها‪ ،‬فكَ َ‬
‫ض مَالِها وفَارِقْها))‪ ،‬فقال‪ :‬ويصلُح‬
‫صبْحِ‪ ،‬فدعا النبىّ صلى ال عليه وسلم ثابتاً‪ ،‬فقال‪(( :‬خُ ْذ َبعْ َ‬
‫ال ّ‬
‫ى صلى ال‬
‫ذلك يا رسولَ ال؟ قال‪(( :‬نعم))‪ ،‬قال‪ :‬فإنى أَصدقتُها حَديقتَينِ‪ ،‬وهُما بيدها‪ ،‬فقال النب ّ‬
‫عليه وسلم‪(( :‬خُذْهُما وفَارِقْها))‪ ،‬فَ َفعَل‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫ق َب ْينِهمَا‬
‫ق بينهما بقوله تعالى‪َ {:‬وإِنْ خِ ْفتُمْ شِقَا َ‬
‫وقد حكم ال تعالى بين الزوجين يق ُع الشّقا ُ‬
‫علِيماً خَبيراً}‬
‫لّ كَانَ َ‬
‫لّ َب ْي َن ُهمَا إنّ ا َ‬
‫ن ُيرِيدَا ِإصْلَحًا ُيوَفّقِ ا ُ‬
‫ن أ ْهِلهَا إِ ْ‬
‫حكَمًا مِ ْ‬
‫ن أ ْهلِهِ وَ َ‬
‫حكَمًا مِ ْ‬
‫فَا ْب َعثْوا َ‬
‫[النساء‪.]35 :‬‬
‫حكَمين‪ :‬هل هُما حاكمان‪ ،‬أو وكيلن؟ على قولين‪.‬‬
‫خَلفُ فى ال َ‬
‫وقد اختلف السلفُ وال َ‬
‫أحدهما‪ :‬أنهما وكيلن‪ ،‬وهو قولُ أبى حنيفة‪ ،‬والشافعى فى قول‪ ،‬وأحمد فى رواية‪.‬‬
‫ل أهلِ المدينة‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأحمد فى الرواية الخرى‪،‬‬
‫والثانى‪ :‬أنهما حاكمان‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫والشافعى فى القول الخر‪ ،‬وهذا هو الصحيح‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ب كُلّ العجب ممن يقول‪ :‬هما وكيلن ل حاكمان‪ ،‬والّ تعالى قد نصبهما‬
‫والعج ُ‬ ‫@‬
‫حكَمين‪ ،‬وجعل نصَبهما إلى غير الزوجين‪ ،‬ولو كانا وكيلين‪ ،‬لقال‪ :‬فليبعث وكيلً مِن أهله‪ ،‬ولتبعث‬
‫َ‬
‫وكيلً من أهلها‪.‬‬
‫وأيضاً فلو كانا وكيلين‪ ،‬لم يختصا بأن يكونا مِن الهل‪.‬‬
‫حكْمَ إليهما فقال‪{ :‬إن يُريدَا ِإصْلحًا ُيوَفّقِ ال َب ْي َن ُهمَا} [النساء‪]35 :‬‬
‫وأيضاً فإنه جعل ال ُ‬
‫والوكيلن ل إرادة لهما‪ ،‬إنما يتصرّفان بإرادة م َوكّليهما‪.‬‬
‫وأيضاً فإن الوكيل ل يُسمى حَكمًا فى لغة القرآن‪ ،‬ول فى لسان الشارع‪ ،‬ول فى العُرف‬
‫العام ول الخاص‪.‬‬
‫حكْ ِم واللزام‪ ،‬وليس للوكيل شىء من ذلك‪.‬‬
‫ن له ولية ال ُ‬
‫حكَمُ مَ ْ‬
‫وأيضاً فال َ‬
‫حكَم أبل ُغ مِن حاكم‪ ،‬لنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت‪ ،‬ول خلف‬
‫وأيضاً فإن ال َ‬
‫بين أهل العربية فى ذلك‪ ،‬فإذا كان اسمُ الحاكم ل يصدُق على الوكيل المحض‪ ،‬فكيف بما هو أبلغُ‬
‫منه‪.‬‬
‫وأيضاً فإنه سبحانه خاطب بذلك غيرَ الزوجين‪ ،‬وكيف َيصِحّ أن يُوكّل عن الرجل والمرأة‬
‫ق َب ْي ِن ِهمَا} [النساء‪ ]35 :‬فمروهما أن‬
‫ج إلى تقدير الية هكذا‪{:‬وإنْ خِ ْفتُمْ شِقَا َ‬
‫غيرَهما‪ ،‬وهذا يُحوِ ُ‬
‫ل من أهلها‪ ،‬ومعلومٌ ُبعْدُ لفظِ الية ومعناها عن هذا التقدير‪،‬‬
‫ل من أهله ووكي ً‬
‫يُوكّل وكيلين‪ :‬وكي ً‬
‫ل عليه بوجه‪ ،‬بل هى دالة على خلفه‪ ،‬وهذا بحمد ال واضح‪.‬‬
‫وأنها ل تد ّ‬
‫ح َك َميْنِ بين عقيل بن أبى طالب وامرأته فاطمةَ‬
‫ن بنُ عفان عبد ال بنَ عباس ومعاويةَ َ‬
‫وبعث عثما ُ‬
‫بنت عُتبة بن ربيعة‪ ،‬فقيل لهما‪ :‬إن رأيتُما أن تُ َفرّقا فرقتما‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫عَل ْيكُمَا إن رأيتُما أن تفرّقا‪،‬‬
‫ن بين الزوجين‪َ :‬‬
‫ح عن على بن أبى طالب أنه قال لِلح َك َميْ ِ‬
‫وص ّ‬
‫ج َمعَا‪ ،‬جمعتُما‪.‬‬
‫فرّقتما‪ ،‬وإن رأي ُتمَا أن تَ ْ‬
‫فهذا عثمانُ‪ ،‬وعلىّ‪ ،‬وابنُ عباس‪ ،‬ومعاوية‪ ،‬جعلوا الحكم إلى الحكمين‪ ،‬ول يُعرف لهم من‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫الصحابة مخالف‪ ،‬وإنما يُعرف الخلف بين التابعين فمن بعدهم‪ .‬وا ّ‬
‫ض وغيره‪،‬‬
‫ن على توكيل الزوج فى الفُرقة بعو ٍ‬
‫وإذا قلنا‪ :‬إنهما وكيلن‪ ،‬فهل يُجبر الزوجا ِ‬
‫وتوكيلِ الزوجة فى بذل ال ِعوَضِ‪ ،‬أو ل يُجبران؟ على روايتين‪ ،‬فإن قلنا‪ :‬يجبران‪ ،‬فلم يوكل‪ ،‬جعل‬
‫الحاك ُم ذلك إلى الحكمين بغير رضى الزوجين وإن قلنا‪ :‬إنهما حكمان‪ ،‬لم يحتج إلى رضى‬
‫الزوجين‪.‬‬
‫وعلى هذا النزاع ينبنى ما لو غاب الزوجان أو أحدُهما‪ ،‬فإن قيل‪ :‬إنهما وكيلن لم ينقطع‬
‫نظرُ الحكمين‪ ،‬وإن قيل‪ :‬حكمان‪ ،‬انقطع نظرهُما لعدم الحكم على الغائب‪ ،‬وقيل‪ :‬يبقى نظرهما على‬
‫القولين لنهما يتطرفان لحظهما‪ ،‬فهما كالناظرين‪ .‬وإن جُنّ الزوجانِ‪ ،‬انقطع نظرُ الحكمين‪ ،‬إن‬
‫ع الموكلين‪ ،‬ولم ينقطع إن قيل‪ :‬إنهما حكمان‪ ،‬لن الحاكم يلى على‬
‫قيل‪ :‬إنهما وكيلن‪ ،‬لنهما فر ُ‬
‫المجنون‪ ،‬وقيل‪ :‬ينقطع أيضاً لنهما منصوبان عنهما‪ ،‬فكأنهما وكيلنِ‪ ،‬ول ريبَ أنهما حكمان‬
‫فيهما شائبة الوكالة‪ ،‬ووكيلن منصوبان للحكم‪ ،‬فمِن العلماء من رجّح جانب الحكم‪ ،‬ومنهم من‬
‫رجح جانب الوكالة‪ ،‬ومنهم من اعتبر المرين‪.‬‬
‫حُكم رسول ال صلى ال عليه وسلم في الخُلع‬
‫فى صحيح البخارى‪ :‬عن ابن عباس رضى ال عنه‪ ،‬أن امرأة ثابت بن قيس بن شمّاس‪،‬‬
‫خلُقٍ‪ ،‬ول‬
‫ت بنُ قيس ما أَعِيبُ عليه فى ُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم فقالت‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬ثاب ُ‬
‫َأ َتتِ ال ّن ِب ّ‬
‫عَليْهِ حَدِي َقتَه؟))‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬ترُدّين َ‬
‫دِين‪ ،‬وَل ِكنّى أكُرهُ الكُ ْفرَ فى الِسْلمِ‪ ،‬فقال رسو ُ‬
‫طلِيقَةً))‪.‬‬
‫طلّ ْقهَا تَ ْ‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ا ُقبَل الحَديقَ َة و َ‬
‫سرَ‬
‫ض َربَ امرأته َفكَ َ‬
‫ت ُم َعوّذ‪ ،‬أن ثابتَ بن قيس بن شماس َ‬
‫وفى سنن النسائى‪ ،‬عن ال ّر َبيّع ِب ْن ِ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫يدها‪ ،‬وهى جميلة بنت عبد ال بن أبى‪ ،‬فأتى أخوها يشتكيه إلى رسو ِ‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫سبِيلَها))‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬فأمرها رسو ُ‬
‫عَل ْيكَ وخَلّ َ‬
‫فأرسل إليه‪ ،‬فقال‪(( :‬خُذْ الذى َلهَا َ‬
‫ص حيض ًة وَاحِ َدةً وتلحق بأهلها‪.‬‬
‫وسلم أن تتربّ َ‬
‫ت بن قيسِ بن شمّاس اختلعت من زوجها‪،‬‬
‫ن امرأة ثَاب ِ‬
‫وفى سنن أبى داود‪ :‬عن ابن عباس‪ ،‬أ ّ‬
‫ح ْيضَة‪.‬‬
‫فأمرها النبىّ صلى ال عليه وسلم أن تعتدّ َ‬

‫‪102‬‬
‫عَليْهِ حَدِي َقتَهُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪َ(( :‬أ َترُدّين َ‬
‫وفى سنن الدارقطنى فى هذه القصة‪ :‬فقال النب ّ‬
‫الّتى أَعْطَاكِ))؟ قالت‪َ :‬نعَ ْم َوزِيادَة‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪َ(( :‬أمّا الزّيا َدةُ‪ ،‬فَل ولكِنْ‬
‫حَدِي َقتَهُ))‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فأخذ مالَه‪ ،‬وخلّى سبيلها‪ ،‬فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال‪ :‬قد قبلتُ قضاءَ‬
‫رسولِ ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬قال الدارقطنى‪ :‬إسناده صحيح‪.‬‬
‫فتضمّن هذا الحكم النبوى عدة أحكام‪.‬‬
‫ل َلكُ ْم أَنْ تَ ْأخُذُوا ِممّا‬
‫ل يَحِ ّ‬
‫ل عليه القرآن‪ ،‬قال تعالى‪{:‬وَ َ‬
‫خلْع كما د ّ‬
‫أحدُها‪ :‬جوازُ ال ُ‬
‫عَل ْي ِهمَا‬
‫جنَاحَ َ‬
‫ل يُقِيمَا حُدُودَ ال فَل ُ‬
‫ل يُقِيما حُدُودَ الِّ فَإِنْ خِ ْفتُ ْم أَنْ َ‬
‫ن يَخَافَا أَنْ َ‬
‫ل أَ ْ‬
‫شيْئاً إ ّ‬
‫آ َت ْي ُتمُوهُنّ َ‬
‫ت بهِ} [البقرة‪.]229 :‬‬
‫فِيمَا ا ْفتَ َد ْ‬
‫ومنع الخلعَ طائفةٌ شَاذّة من الناس خالفتِ النصّ والجماعَ‪.‬‬
‫وفى الية دليل على جوازه مطلقاً بإذن السلطان وغيره‪ ،‬ومنعه طائفة بدون إذنه‪،‬‬
‫والئمة الربعة والجمهو ُر على خلفه‪.‬‬
‫وفى الية دليل على حصول البينونة به‪ ،‬لنه سبحانه سمّاه فدية‪ ،‬ولو كان رجعيًا كما قاله‬
‫عَل ْي ِهمَا‬
‫جنَاحَ َ‬
‫ض الناسِ لم يحصل للمرأة الفتدا ُء من الزوج بما بذلته له‪ ،‬ودلّ قولُه سبحانه‪{ :‬فَلَ ُ‬
‫بع ُ‬
‫ت بِه} [البقرة‪ ]229 :‬على جوازِه بما قل وكثُر وأن له أن يأخُ َذ منها أكثرَ مما أعطاها‪.‬‬
‫فِيمَا ا ْفتَ َد ْ‬
‫وقد ذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن عبد ال بن محمد بن عقيل‪ ،‬أن ال ّر َبيّ َع ب ْنتَ ُم َعوّ ِذ بنِ‬
‫عفراء حدثته‪ ،‬أنها اختلعت مِن زوجها ِبكُلّ شىء تملكه‪ ،‬فخُوصِمَ فى ذلك إلى عثمان بن عفان‪،‬‬
‫فأجازه‪ ،‬وأمره أن يأخُذ عِقَاصَ رأسها فما دُونَه‪.‬‬
‫وذكر أيضًا عن ابن جريج‪ ،‬عن موسى بن عقبة‪ ،‬عن نافع‪ ،‬أن ابن عمر جاءته مولة‬
‫لمرأته اختلعت مِن كل شىء لها وكلّ ثوب لها حتى نُقبتِها‪.‬‬
‫ورفعت إلى عمر بن الخطاب امرأة نشزت عَنْ زوجها‪ ،‬فقال‪ :‬اخلعها ولو مِن قُرطها‪ ،‬ذكره‬
‫حماد بن سلمة‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن كثير بن أبى كثير عنه‪.‬‬
‫وذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن ليث‪ ،‬عن الحكم بن عُتيبة عن على بن أبى طالب رضى‬
‫ال عنه‪ :‬ل يأخُذُ منها فوقَ ما أعطاها‪.‬‬
‫وقال طاووس‪ :‬ل يَحِلّ أن يأخُذَ منها أكثَر مما أعطاها‪ ،‬وقال عطاء‪ :‬إن أخذ زياد ًة على‬
‫ل له أن يأخذ منها أكثرَ مما أعطاها‪ .‬وقال‬
‫صداقها فالزياد ُة مردودة إليها‪ .‬وقال الزهرى‪ :‬ل يَح ّ‬

‫‪103‬‬
‫سرّحُ بإِحسان‪ .‬وقال الوزاعي‪ :‬كانت القضاةُ‬
‫ميمون بن مهران‪ :‬إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يُ َ‬
‫ل تُجيز أن يأخُذ منها شيئاً إل ما ساق إليها‪.‬‬
‫والذين جوّزوه احتجوا بظاهر القرآن‪ ،‬وآثارِ الصحابة‪ ،‬والذين منعوه‪ ،‬احتجوا بحديث أبى‬
‫خلْ َع امرأته‪ ،‬قال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫الزبير‪ ،‬أن ثابت بن قيس بن شماس لما أراد َ‬
‫عَليْهِ حَدِي َقتَهُ))؟ قالت‪ :‬نعم َوزِيادة‪ ،‬فقال النبى صلى ال عليه وسلم‪ :‬أما الزيادة‪ ،‬فل‪ .‬قال‬
‫((أَ َترُدّينَ َ‬
‫الدارقطنى‪ :‬سمعه أبو الزبير من غير واحد‪ ،‬وإسناده صحيح‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬والثار من الصحابة مختلِفَة‪ ،‬فمنهم من ُر ِوىَ عنه تحري ُم الزيادة‪ ،‬ومنهم من ُر ِوىَ‬
‫ى عنه كراهتُها‪ ،‬كما روى وكيع عن أبى حنيفة‪ ،‬عن عمار بن عمران‬
‫ن ُر ِو َ‬
‫عنه إباحتها‪ ،‬ومنهم مَ ْ‬
‫الهمدانى‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن على رضى ال عنه‪ ،‬أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها‪ ،‬والمامُ أحمد‬
‫ص على الكراهة‪ ،‬وأبو بكر من أصحابه حرّم الزيادة‪ ،‬وقال‪ :‬ترد عليها‪.‬‬
‫أخذ بهذا القولِ‪ ،‬ون ّ‬
‫ل ال صلى ال‬
‫وقد ذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬قال‪ :‬قال لى عطاء‪ :‬أتت امرأة رسو َ‬
‫عَليْهِ حَدِي َقتَ ُه التى‬
‫حبّ فراقه‪ ،‬قال‪َ (( :‬ف َترُدّينَ َ‬
‫ض زوجى وأُ ِ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬إنى ُأ ْبغِ ُ‬
‫َأصْدَ َقكِ))؟ قالت‪ :‬نعم َوزِيادة مِن مالى‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪َ(( :‬أمّا الزّيا َد ُة منْ‬
‫مَالِك فَل ولكِنِ الحَدِيقَةُ))‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فقضى بذلك على الزوج وهذا وإن كان مرسلً‪ ،‬فحديث أبى‬
‫الزبير مُ َقوّله‪ ،‬وقد رواه جريج عنهما‪.‬‬
‫فصل‬
‫وفى تسميتة سبحانه الخلعَ فديةً‪ ،‬دليل على أن فيه معنى المعاوضةِ‪ ،‬ولهذا اعتُبر فيه رضى‬
‫الزوجين‪ ،‬فإذا تَقَايَل الخل َع ور ّد عليها ما أخذ منها‪ ،‬وارتجعها فى العِدة‪ ،‬فهل لهما ذلك؟ منعه الئمة‬
‫الربعة وغيرهم وقالوا قد بانت منه بنفس الخلع‪ ،‬وذكر عبد الرازق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن‬
‫جعَها‪ ،‬فليردّ عليها ما أخذ منها فى العدة‪،‬‬
‫سعيد بن المسيّب أنه قال فى المختلعة‪ :‬إن شاء أن يُرا ِ‬
‫وليشهد على رجعتها‪ .‬قال معمر‪ :‬وكان الزهرى يقول مثل ذلك‪ .‬قال قتادة‪ :‬وكان الحسن يقول‪ :‬ل‬
‫يُراجعها إل بخطبة‪.‬‬
‫ولقولِ سعيد بن المسيب‪ ،‬والزهرى وجهٌ دقيق مِن الفقه‪ ،‬لطيفُ المأخذ‪ ،‬تتلقاه قواعِ ُد الفقِه‬
‫ل على خلفه‪ ،‬فإن المرأة ما دامت فى العدة فهى فى‬
‫وأصوله بالقبول‪ ،‬ول نكارة فيه‪ ،‬غير أن العم َ‬
‫حبسه‪ ،‬ويلحقُها صريحُ طلقه المنجز عند طائفة من العلماء‪ ،‬فإذا تقايل عقد الخلع‪ ،‬وتراجعا إلى ما‬
‫كان عليه بتراضيهما‪ ،‬لم تمنع قواع ُد الشرع ذلك‪ ،‬وهذا بخلف ما بعدَ العِدة‪ ،‬فإنها قد صارت منه‬

‫‪104‬‬
‫أجنبية محضة‪ ،‬فهو خاطبٌ من الخطاب‪ ،‬ويدل على هذا أن له يتزوجها فى عدتها منه بخلف‬
‫غيره‪.‬‬
‫فصل‬
‫وفى أمره صلى ال عليه وسلم المختلعة أن تعت ّد بحيضة واحدة‪ ،‬دليل على حُكمين‬
‫أحدهما‪ :‬أنه ل يجبُ عليها ثلثُ حيض‪ ،‬بل تكفيها حيضة واحدة‪ ،‬وهذا كما أنه صريحُ السنة‪ ،‬فهو‬
‫مذهبُ أمير المؤمنين عثمان بن عفان‪ ،‬وعبد ال بن عمر بن الخطاب‪ ،‬وال ّر َبيّع ِبنْت ُم َعوّذ‪ ،‬وعمها‬
‫وهو مِن كبار الصحابة‪ ،‬ل يُعرف لهم مخالفٌ منهم‪ ،‬كما رواه الليث بن سعد‪ ،‬عن نافع مولى ابن‬
‫ت معوّ ِذ بن عفراء وهى تُخ ِب ُر عبد ال بن عمر رضى ال عنه أنها اختلعت‬
‫عمر‪ ،‬أنه سمع ال ّر َبيّعَ بن َ‬
‫مِن زوجها على عهد عثمان بن عفان‪ ،‬فجاء عمّها إلى عثمان ابن عفان‪ ،‬فقال له‪ :‬إن ابنة ُم َعوّذٍ‬
‫اختلعت من زوجها اليوم‪ ،‬أفتنتقل؟ فقال عثمان‪ :‬لِتنتقِلْ ول ميراثَ بينهما‪ ،‬ول عِدة عليها إل أنها ل‬
‫ض حيضةُ خشي َة أن يكون بها حبل‪ .‬فقال عبد ال بن عمر‪ :‬فعثمان خيرُنا وأعلمُنا ؛‬
‫َت ْنكِحُ حتى تحي َ‬
‫وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهوية‪ ،‬والمام أحمد فى رواية عنه‪ ،‬اختارها‪ ،‬شيخُ السلم‬
‫ابن تيمية‪.‬‬
‫ت ثلثَ حيضِ‬
‫ج ِعَل ْ‬
‫قال من نصر هذا القول‪ :‬هو مقتضى قواعِ ِد الشريعة‪ ،‬فإن العدة إنما ُ‬
‫ليطولَ زمن الرجعة‪ ،‬فيتروّى الزوج‪ ،‬ويتمكّن من الرجعة فى مدة العِدة فإذا لم تكن عليها رجعة‪،‬‬
‫حمِها من الحمل‪ ،‬وذلك يكفى فيه حيضة‪ ،‬كالستبراء‪ .‬قالوا‪ :‬ول ينتقضُ‬
‫فالمقصودُ مجر ُد براءة رَ ِ‬
‫جعِلَ حك ُم العدة فيه واحداً بائنة ورجعية‪.‬‬
‫هذا علينا بالمطلقةِ ثلثاً‪ ،‬فإن باب الطلق ُ‬
‫ب ابن عباس‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬وهذا دليل على أن الخلع فسخ‪ ،‬وليس بطلق‪ ،‬وهو مذه ُ‬
‫وعثمان‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬والرّبيع‪ ،‬وعمها‪ ،‬ول َيصِحّ عن صحابى أنه طلق ألبتة‪ ،‬فروى المام أحمد‪،‬‬
‫عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬عن عمرو‪ ،‬عن طاووس‪ ،‬عن ابن عباس رضى ال عنهم أنه قال‪:‬‬
‫خلْعُ تفريقٌ‪ ،‬وليس بطلق‪.‬‬
‫ال ُ‬
‫وذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن سُفيان‪ ،‬عن عمرو‪ ،‬عن طاووس‪ ،‬أن إبراهيم بن سعد ابن أبى‬
‫وقاص سأله عن رجل طلّق امرأته تطليقتين‪ ،‬ثم اختلعت منه‪ ،‬أينكِحُها؟ قال ابنُ عباس‪ :‬نعم ذكر ال‬
‫الطلقَ فى أوّل الية وآخِرها‪ ،‬والخلعَ بين ذلك‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬كيف تقولون‪ :‬إنه ل مخالف لمن ذكرتُم مِن الصحابة‪ ،‬وقد روى حما ُد ابن سلمة‪،‬‬
‫ج ْمهَانَ‪ ،‬أن أم بكرة السلمية كانت تحتَ عبد ال بن أُسيد‬
‫عن هشام بنِ عُروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن ُ‬

‫‪105‬‬
‫واختلعت منه‪ ،‬فَندِما‪ ،‬فارتفعا إلى عُثمان بن عفان‪ ،‬فأجاز ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬هى واحدة إل أن تكونَ سمّت‬
‫شيئاً‪ ،‬فهو على ما سمّت‪.‬‬
‫ن أبى شيبة‪ :‬حدثنا على بن هاشم‪ ،‬عن ابن أبى ليلى‪ ،‬عن طلحة بن مصرّف‪ ،‬عن‬
‫وذكر اب ُ‬
‫إبراهيم النّخعى‪ ،‬عن علقمة‪ ،‬عن ابن مسعود‪ ،‬قال‪ :‬ل تكون تطليقة بائنة إل فى فدية أو إيلء‪.‬‬
‫وروُى عن على بن أبى طالب‪ ،‬فهؤلء ثلث ُة مِن أجلء الصحابة رضى ال عنهم‪.‬‬
‫ح هذا عن واحد منهم‪ ،‬أما أثر عثمان رضى ال عنه‪ ،‬فطعن فيه المام أحمد‪،‬‬
‫قيل‪ :‬ل َيصِ ّ‬
‫والبيهقى‪ ،‬وغيرُهما‪ ،‬قال شيخنا‪ :‬وكيف َيصِحّ عن عثمان‪ ،‬وهو ل يرى فيه عِدة‪ ،‬وإنما يرى‬
‫ن الراوى لهذه القصة عن‬
‫ج ْمهَا ُ‬
‫الستبراء فيه بحيضة؟ فلو كان عنده طلَقاً‪ ،‬لوجب فيه العدة‪ ،‬و ُ‬
‫عثمان ل نعرفه بأكثر من أنه مولى السلميين‪.‬‬
‫وأما أثر على بن أبى طالب‪ ،‬فقال أبو محمد ابن حزم‪ :‬رويناه من طريق ل يصح عن على‬
‫رضى ال عنه‪ .‬وأمثلها‪ :‬أثر ابنِ مسعو َد على سوء حفظ ابن أبى ليلى‪ ،‬ثم غايتُه إن كان محفوظًا أن‬
‫ل على أن الطلقة فى الخلع تقع بائنة ل أن الخلع يكون طلقاً بائناً‪ ،‬وبين المرين فرق ظاهر‪.‬‬
‫يدُ ّ‬
‫ب على الطّلقِ بعد‬
‫ل على أنه ليس بطلق أن ال سبحانه وتعالى ر ّت َ‬
‫والذى يَدُ ّ‬
‫الدّخولِ الذى لم يَستوفِ عدده ثلثة أحكام‪ ،‬كلّها منتفية عن الخلع‪ .‬أحدها‪ :‬أن الزوجَ أحقّ بالرجعة‬
‫فيه‪ .‬الثانى‪ :‬أنه محسوب مِن الثلث‪ ،‬فل تَحِلّ بعد استيفاء العدد إل بعد زوج وإصابة‪ .‬الثالث‪ :‬أن‬
‫العدة فيه ثلثةُ قروء‪ ،‬وقد ثبت بالنصّ والجماع أنه ل رجعة فى الخُلع وثبت بالسنة وأقوالِ‬
‫الصحابة أن العِدة فيه حيضةٌ واحدة‪ ،‬وثبت بالنص جوازه طلقتين‪ ،‬ووقوع ثالثة بعده‪ ،‬وهذا ظاهر‬
‫ح بِإِحْسَانٍ‬
‫سرِي ٌ‬
‫ك ِبمَعرُوفٍ َأ ْو تَ ْ‬
‫ق َم ّرتَانِ فَِإمْسَا ُ‬
‫جداً فى كونه ليس بطلق‪ ،‬فإنه سبحانه قال‪{:‬الطّلَ ُ‬
‫ل يُقِيمَا‬
‫ل يُقِيمَا حُدُودَ ال فَإِنْ خِ ْفتُم أنْ َ‬
‫ن يَخَافَا أنْ َ‬
‫شيْئاً إلّ أ ْ‬
‫ل َلكُم أن تَأْخُذُوا ِممّا آ َت ْي ُتمُوهُنّ َ‬
‫ل يَحِ ّ‬
‫وَ َ‬
‫ت بِهِ} [البقرة‪ ]229 :‬وهذا وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين‪،‬‬
‫عَل ْي ِهمَا فِيمَا ا ْفتَ َد ْ‬
‫حُدُودَ ال فل جُناحَ َ‬
‫فإنه يتناولها وغيرَهما‪ ،‬ول يجو ُز أن يعودَ الضميرُ إلى من لم يذكر‪ ،‬ويُخلى منه المذكور‪ ،‬بل إما‬
‫ن َبعْدُ} [البقرة‪ ]230 :‬وهذا‬
‫ل لَ ُه مِ ْ‬
‫ل تَحِ ّ‬
‫طلّقَها فَ َ‬
‫أن يختصّ بالسابق أو يتناوله وغيره‪ ،‬ثم قال‪{ :‬فَإِنْ َ‬
‫ل مَنْ طلقت بعد فدي ٍة وطلقتين قطعًا لنها هى المذكورة‪ ،‬فل بُدّ من دخولها تحت اللفظ‪ ،‬وهكذا‬
‫يتناو ُ‬
‫ل القُرآن‪ ،‬وهى‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم أن يُعّلمَه الُّ تأوي َ‬
‫ن القرآن الذى دعا له رسو ُ‬
‫َفهِمَ ترجُما ُ‬
‫دعوة مستجابة بل شكّ‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫ل على أنها من غيرِ جِنسه‪ ،‬فهذا مقتضى‬
‫وإذا كانت أحكا ُم الفدية غيرَ أحكا ِم الطّلقِ‪ ،‬دَ ّ‬
‫ق العقود ومقاصِدها دون ألفاظها َيعُدّ الخلع‬
‫النصّ‪ ،‬والقياسِ‪ ،‬وأقوالِ الصحابة‪ ،‬ثم من نظر إلى حقائ ِ‬
‫فسخاً بأى لفظٍ كان حتى بلفظ الطّلقِ‪ ،‬وهذا أحدُ الوجهين لصحاب أحمد‪ ،‬وهو اختيارُ شيخنا‪ .‬قال‪:‬‬
‫وهذا ظاهرُ كلمِ أحمد‪ ،‬وكلم ابن عباس وأصحابه‪ .‬قال ابنُ جريج‪ :‬أخبرنى عمر ُو بنُ دينار‪ ،‬أنه‬
‫سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول‪ :‬ما أجازَه المالُ‪ ،‬فليسَ بطلقٍ‪ .‬قال عبدُ ال بنُ أحمد‪ :‬رأيتُ‬
‫ب إلى قول ابن عباس‪ .‬وقال عمرو‪ ،‬عن طاووس عن ابن عباس‪ :‬الخل ُع تفريقٌ وليس‬
‫أبى كان يذه ُ‬
‫بطلق‪ ،‬وقال ابنُ جريج‪ ،‬عن ابن طاووس‪ :‬كان أبى ل يرى الفداء طلقًا ويُخّيرُه‪.‬‬
‫ومن اعتبر اللفاظ ووقفَ معها‪ ،‬واعتبرها فى أحكام العُقودِ‪ ،‬جعله بلفظ الطلق طلقاً‪،‬‬
‫ى فى العقود حقائقُها ومعانيها ل صورُها وألفاظُها‪ ،‬وبالّ‬
‫عّ‬‫وقوَاعِدُ الفقه وأصولُه تشهد أن الرْ ِ‬
‫ت بنَ قيس أن يُطلّق‬
‫ل على هذا‪ ،‬أن النبىّ صلى ال عليه وسلم أمر ثاب َ‬
‫ومما يَدُ ّ‬ ‫التوفيق‪.‬‬
‫امرأتَه فى الخُل ِع تطليقةً‪ ،‬ومع هذا أمرها أن تعت ّد بحيضة‪ ،‬وهذا صريحُ فى أنه فسخ‪ ،‬ولو وقع بلفظ‬
‫الطلق‪.‬‬
‫وأيضاً فإنه سبحانه علّق عليه أحكا َم الفدية بكونه فدية‪ ،‬ومعلو ُم أنّ الفِدية ل تختص بلفظ‪،‬‬
‫ق الفداء طلقُ مقيّد‪ ،‬ول يدخل تحت أحكام الطلق‬
‫ولم يُعين ال سبحانه لها لفظًا معيّناً‪ ،‬وطل ُ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫المطلق‪ ،‬كما ل يدخلُ تحتها فى ثبوت الرجعة والعتداد بثلثة قروء بالسنة الثابتة‪ ،‬وبا ّ‬
‫ذكرُ أحكام رسولِ ال صلى ال عليه وسلم فى الطلق‬
‫ذكر حكمه صلى ال عليه وسلم فى طلق الهازل‪ ،‬وزائل العقل‪ ،‬والمكرَه والتطليق فى‬
‫نفسه‬
‫فى ((السنن))‪ :‬من حديث أبى هريرة رضى ال عنه‪(( ،‬ثَلَثُ جِدّهُنّ جِدّ‪ ،‬و َه ْزُلهُنّ جِدّ‪:‬‬
‫جعَةُ))‪.‬‬
‫ال ّنكَاحُ‪ ،‬والطّلَقُ‪ ،‬والرّ ْ‬
‫س ُت ْكرِهُوا‬
‫سيَانَ َومَا ا ْ‬
‫ن ُأ ّمتِى الخَطََأ والنّ ْ‬
‫وفيها‪ :‬عنه من حديث ابن عباس‪(( :‬إنّ ال َوضَعَ عَ ْ‬
‫عَليْهِ))‪.‬‬
‫َ‬
‫وفيها‪ :‬عنه صلى ال عليه وسلم‪(( ،‬ل طَلَقَ ول عتاق فى إِغْلقٍ))‪.‬‬
‫جنُونُ))؟‬
‫وصح عنه أنه قال للمُ ِقرّ بالزنى‪(( :‬أ ِبكَ ُ‬
‫وثبت عنه أنه أمرَ بِ ِه أن يُستنكه‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫ن القلم رُفِ َع عن ثلث‪:‬‬
‫وذكر البخارى فى ((صحيحه))‪ :‬عن على‪ ،‬أنه قال ِل ُعمَر‪ :‬ألم تعلم أَ ّ‬
‫ص ِبىّ حتى يُد ِركَ‪ ،‬وعن النائم حتى يستيقظ‪.‬‬
‫عن المجنونِ حتى يُفيقَ‪ ،‬وعن ال ّ‬
‫عمّا حَدّثت بِ ِه أنفُسَها مَا‬
‫ل ّمتِى َ‬
‫وفى ((الصحيح)) عنه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنّ ال تَجَا َوزَ ُ‬
‫لَمْ ت َكلّمْ‪ ،‬أَو َتعْملْ بِه))‪.‬‬
‫فتضمّنت هذه السنن‪ ،‬أن ما لم َينْطِقْ به اللسان مِن طلق أو عِتاق‪ ،‬أو يمين‪ ،‬أو نذر‬
‫ل الجمهور‪ ،‬وفى المسألة قولن آخرانِ‪.‬‬
‫ونح ِو ذلك‪ ،‬عف ٌو غيرُ لزم بالنية والقصد‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫أحدهما‪ :‬التوقف فيها‪ ،‬قال عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ :‬سئل ابنُ سيرين عمن طلّق فى نفسه‪،‬‬
‫علِمَ ال ما فى نفسك؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فل أقولُ فيها شيئاً‪.‬‬
‫فقال‪ :‬أليس قد َ‬
‫والثانى‪ :‬وقوعُه إذا جزَم عليه‪ ،‬وهذا روايةُ أشهب عن مالك‪ ،‬ورُوى عن الزهرى وحجةُ‬
‫هذا القول قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنّما العمالُ بال ّنيّاتِ))‪ ،‬وأن من كفر فى نفسه‪ ،‬فهو كفر‪،‬‬
‫س ْبكُم بِهِ ال} [البقرة‪ ،]284 :‬وأن المصرّ على‬
‫سكُم َأوْ ُتخْفُوهُ يُحَا ِ‬
‫وقوله تعالى‪{:‬وإنْ ُتبْدُوا مَا فى َأنْفُ ِ‬
‫ل الجوارح‪،‬‬
‫ل القلوب فى الثواب والعقاب كأعما ِ‬
‫المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها‪ ،‬وبأن أعما َ‬
‫ولهذا يُثاب على الحبّ والبُغض‪ ،‬والموالة والمعاداة فى ال‪ ،‬وعلى التوكّل والرّضى‪ ،‬والعز ِم على‬
‫ب على الكِبر والحَسَدِ‪ ،‬والعُجب والشكّ‪ ،‬والرّياءِ وظنّ السوء بالبرياء‪.‬‬
‫الطاعة ويُعا َق ُ‬
‫ع الطلق والعتاق بمجرد النيةِ مِن غير تلفظ أما حديثُ‬
‫ول حُجة فى شىء من هذا على وقو ِ‬
‫ل مع النية هو المعتبرُ‪ ،‬ل النية‬
‫((العمال بالنيات))‪ :‬فهو حجةٌ عليهم‪ ،‬لنه أخبر فيه أن العم َ‬
‫وحدَها‪ ،‬وأما من اعتقد الكُ ْف َر بقلبه أو شكّ‪ ،‬فهو كافر لِزوال اليمان الذى هو عق ُد القلب مع‬
‫ن أمر وجودى ثابتٌ قائم بالقلب‪،‬‬
‫ل العقدُ الجازمُ‪ ،‬كان نفسُ زواله كفراً‪ ،‬فإن اليما َ‬
‫القرار‪ ،‬فإذا زا َ‬
‫حصَلَ ضده وهو كفر‪ ،‬وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم‪ ،‬حصل الجهل‪ ،‬وكذلك‬
‫فما لم يَقُمْ بالقلب‪َ ،‬‬
‫كلّ نقيضين زال أحدُهما خلفه الخر‪.‬‬
‫أما الية فليس فيها أن المحاسبةَ بما يُخفيه العب ُد إلزامه بأحكامه بالشرع‪ ،‬وإنما فيها محاسبتُه‬
‫بما يُبديه أو يُخفيه‪ ،‬ثم هو مغفور له أو معذّب‪ ،‬فأين هذا من وقوع الطلق بالنية‪ .‬وأما أن المصرّ‬
‫ل المعصية‪ ،‬ثم أصرّ عليها‪ ،‬فهُنا عمل اتصل به‬
‫عمِ َ‬
‫على المعصية فاسقٌ مؤاخذ‪ ،‬فهذا إنما هو فيمن َ‬
‫ن عزم على المعصية ولم َي ْع َملْها‪ ،‬فهو بين أمرينِ‪ ،‬إما‬
‫صرّ‪ ،‬وأما مَ ْ‬
‫العزمُ علي معاودته‪ ،‬فهذا هو ال ُم ِ‬
‫ب على أعمال‬
‫أن ل تُكتب عليه‪ ،‬إما أن تُكتب له حسنة إذا تركها لّ عز وجل‪ .‬وأما الثوابُ والعقا ُ‬
‫ع الطلق والعتاق بالنية من غير تلفّظ أمر‬
‫القلوب فحقّ‪ ،‬والقرآنُ والسنة مملوآن به‪ ،‬ولكن وقو ُ‬

‫‪108‬‬
‫خارج عن الثواب والعقاب‪ ،‬ول تلزم بين المرين‪ ،‬فإن ما يُعاقب عليه مِن أعمال القلوب هو‬
‫ق العقوبة عليها‪ ،‬كما يستحقّه على المعاصى البدنية إذ هى مُنافية لعبودية القلب‪،‬‬
‫معاصٍ قلبية يستح ّ‬
‫ن السوء محرّمات على القلب‪ ،‬وهى أمور اختيارية يمكن اجتنابُها‬
‫فإن الكِبر والعُجب والرياء وظ ّ‬
‫فيستحق العقوبة على فعلها‪ ،‬وهى أسماءٌ لمعان مسمياتها قائمةٌ بالقلب‪.‬‬
‫وأما العِتاق والطلق‪ ،‬فاسمان لمسميين قائمين باللسان‪ ،‬أو ما نابَ عنه من إشارة أو كتابة‪،‬‬
‫ولبسا اسمين لما فى القلب مجرداً عن النطق‪.‬‬
‫وتضمنت أن المكلف إذا َهزَلَ بالطلق‪ ،‬أو النّكاح‪ ،‬أو الرجعة‪َ ،‬ل ِزمَهُ ما َهزَلَ به فدل‬
‫ل العقل والمكرَه‪ ،‬والفرقُ‬
‫ذلك على أن كلمَ الهازل معتبر وإن لم يُعتبر كلمُ النائم والناسى‪ ،‬وزائ ِ‬
‫بينهما أن الهازلَ قاص ُد للفظ غيرُ مريد لحكمه‪ ،‬وذلك ليس إليه‪ ،‬فإنما إلى المكلّف السباب‪ ،‬وأما‬
‫ف أو ل َم يقصِدْه‪ ،‬والعبرةُ بقصده السبب‬
‫تر ّتبُ مسبّباتها وأحكامها‪ ،‬فهو إلى الشارع قصده المكل ُ‬
‫اختياراً فى حال عقله وتكليفه‪ ،‬فإذا قصده‪ ،‬ر ّتبَ الشارعُ عليه حُكمه ج ّد به أو َهزَلَ‪ ،‬وهذا بخلف‬
‫ن وزائل العقل‪ ،‬فإنهم ليس لهم قصد صحيح‪ ،‬وليسوا مكلفين‪،‬‬
‫النائم وال ُم َبرْسَمِ‪ ،‬والمجنون والسكرا ِ‬
‫ظ الطفل الذى ل يعقِلُ معناها‪ ،‬ول يقصِدُه‪.‬‬
‫فألفاظُهم لغو بمنزلة ألفا ِ‬
‫ق بين من قصد اللفظ‪ ،‬وهو عالِم به ولم يُرد حكمه‪ ،‬وبين من لم يَقصِدْ‬
‫سرّ المسألة الفر ُ‬
‫وِ‬
‫ب التى اعتبرها الشارع أربعةُ‪.‬‬
‫اللفظ ولم يعلم معناه‪ ،‬فالمرات ُ‬
‫إحداها‪ :‬أن يَقصدَ الحكم ول َي َتلَفّظ به‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن ل يَقصِدَ اللفظ ول حُكمَه‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يَ ْقصِدَ دُون حكمه‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أن يقصِ َد اللفظ والحكم‪ .‬فالوليان لغو‪ ،‬والخرتان معتبرتان‪ .‬هذا الذى أستُفِي َد مِن‬
‫مجموع نصوصه وأحكامِه‪ ،‬وعلى هذا فكل ُم المكرَه ُكلّه لغو ل عِبر َة به‪.‬‬
‫ل القرآن على أن من ُأ ْك ِرهَ على التكلم بكلمة الكفر ل َيكْ ُفرُ‪ ،‬ومن أكره على‬
‫وقد د ّ‬
‫السلم ل يصيرُ به مسلماً‪ ،‬ودّلتِ السن ُة على أن ال سبحانه تجاوز عن المكره‪ ،‬فلم يُؤاخِذْه بما‬
‫ُأ ْك ِرهَ عليه‪ ،‬وهذا يُراد به كلمه قطعاً‪ ،‬وأما أفعالهُ‪ ،‬ففيها تفصيلٌ‪ ،‬فما أبيح منها بالكراه فهو‬
‫متجاوز عنه‪ ،‬كالكل فى نهار رمضان‪ ،‬والعملِ فى الصلة‪ ،‬ولبس المخيط فى الحرام ونحو ذلك‪،‬‬
‫وما ل يُباح بالكراه‪ ،‬فهو ُمؤَاخذ به‪ ،‬كقتل المعصوم‪ ،‬وإتلفِ ماله‪ ،‬وما اختلف به كشُرب الخمر‬

‫‪109‬‬
‫والزنى والسرقة هل ُيحَ ّد به أو ل؟ فالختلفُ‪ ،‬هل يباح ذلك بالكراه أو ل؟ فمن لم ُيبِحْه حدّه به‪،‬‬
‫ومن أباحه بالكراه لم يحُدّه‪ ،‬وفيه قولن للعلماء‪ ،‬وهما روايتان عن المام أحمد‪.‬‬
‫ل إذا وقعت‪ ،‬لم ترتفعْ‬
‫والفرق بين القوال والفعال فى الكراه ؛ أن الفعا َ‬
‫مفسدتُها‪ ،‬بل مفسدتُها معها بخلف القوال‪ ،‬فإنها يمكن إلغاؤها‪ .‬وجعلُها بمنزلة أقوالِ النائم‬
‫والمجنون‪ ،‬فمفسد ُة الفعل الذى ل يُباح بالكراه ثابتة بخلف مفسدة القول‪ ،‬فإنها إنما تثبت إذا كان‬
‫قائلُه عالماً به مختارًا له‪ .‬وقد روى وكيع عن ابن أبى ليلى‪ ،‬عن الحكم بن عتيبة‪ ،‬عن خيثمة ابن‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬قال‪ :‬قالت امرأةٌ لزوجها‪ :‬سمنى‪ ،‬فسمّاها الظبية‪ ،‬فقالت‪ :‬ما قلت شيئاً‪ ،‬قال‪ :‬فهاتِ ما‬
‫خِليّةٌ طالق‪ ،‬فأتت عمر ابن الخطاب‪ ،‬فقالت‪ :‬إن‬
‫أُسميك به‪ ،‬قالت‪ :‬سمنى خليةً طالقاً‪ ،‬قال‪ :‬أنت َ‬
‫ص عليه القصة‪ ،‬فأوجع عمر رأسَها‪ ،‬وقال لزوجها‪ :‬خذ بيدها‪،‬‬
‫زوجى طلّقنى‪ ،‬فجاء زوجُها‪ ،‬فق ّ‬
‫وأوجعْ رأسها‪.‬‬
‫فهذا الحكمُ من أمير المؤمنين بعدم الوقوع لما لم يقصد الزوجُ اللفظ الذى يقع به الطلقُ‪ ،‬بل‬
‫قصد لفظاً ل يُريد به الطلق‪ ،‬فهو كما لو قال لمتِه أو غُلمِه‪ :‬إنها جرة‪ ،‬وأراد أنها ليست بفاجِرة‪،‬‬
‫أو قال لمرأته‪ :‬أنت مسرّحة‪ ،‬أو سرحتُك‪ ،‬ومرادُه تسريح الشعر ونحو ذلك‪ ،‬فهذا ل يقع عتقُه ول‬
‫طلقُه بينه وبينَ ال تعالى‪ ،‬وإن قامت قرينةٌ أو تصادقا فى الحكم لم يقع به‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهذا من أى القسام؟ فإنكم جعلتم المراتبَ أربعة‪ ،‬ومعلومٌ أن هذا ليس بمكرَه ول‬
‫زائل العقل‪ ،‬ول هازل‪ ،‬ول قاص ٍد لحكم اللفظ؟ قيل‪ :‬هذا متكلم باللفظ مريد به أحدَ معنييه‪ ،‬فلزم حكم‬
‫ما أراده بلفظه دون ما لم يرده‪ ،‬فل يلزم بما لم يرده باللفظ إذا كان صالحًا لما أراده‪ ،‬وقد استحلف‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم رُكانَة لما طلّق امرأته ألبتة‪ ،‬فقال‪ :‬ما أردتَ؟ قال‪ :‬واحدة‪ ،‬قال‪ :‬آلِّ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫هو ما أردتَ‪ ،‬فقبل منه نيّته فى اللفظ المحتمل‪.‬‬
‫ف على شىء ثم بدا له‪،‬‬
‫وقد قال مالك‪ :‬إذا قال‪ :‬أنت طالق البتة‪ ،‬وهو يُريد أن يحِل َ‬
‫فترك اليمين‪ ،‬فليست طالقاً‪ ،‬لنه لم يُرد أن يطلقها‪ ،‬وبهذا أفتى الليث بن سعد‪ ،‬والمامُ أحمد‪ ،‬حتى‬
‫إن أحمد فى رواية عنه‪ :‬يُقبل منه ذلك فى الحكم‪.‬‬
‫ث صور‪.‬‬
‫وهذه المسألة لها ثل ُ‬
‫إحداها‪ :‬أن يرجع عن يمينه ولم يكن التنجيزُ مرادَه‪ ،‬فهذه ل تطلُق عليه فى الحال‪ ،‬ول يكون‬
‫حالفاً‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يكون مقصودُه اليمينَ ل التنجيزَ‪ ،‬فيقول‪ :‬أنت طالق‪ ،‬ومقصودُه‪ :‬إن كلمت زيداً‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يكونَ مقصودُه اليمينَ مِن أول كلمه‪ ،‬ثم يرج ُع عن اليمين فى أثناء الكلم‪،‬‬
‫ويجعل الطلق منجزاً‪ ،‬فهذا ل يقعُ به‪ ،‬لنه ل ينو به اليقاع‪ ،‬وإنما نوى به التعليق‪ ،‬فكان قاصراً‬
‫عن وقوع المنجز‪ ،‬فإذا نوى التنجيزَ بعد ذلك لم يكن قد أتى فى التنجيز بغير النية المجردة‪ ،‬وهذا‬
‫س َبتْ‬
‫ن ُيؤْاخِ ُذكُ ْم ِبمَا كَ َ‬
‫لّ بِالّل ْغوِ فى َأ ْيمَا ِنكُم ولكِ ْ‬
‫قولُ أصحاب أحمد‪ .‬وقد قال تعالى‪{:‬لَ ُيؤَاخِ ُذكُمُ ا ُ‬
‫ُقلُو ُبكُمْ} [البقرة‪.]225 :‬‬
‫ف على الشىء يظنّه كما حلف عليه‪ ،‬فيتبينُ بخلفه‪.‬‬
‫واللغو‪ :‬نوعان‪ ،‬أحدهما‪ :‬بأن يحِل َ‬
‫والثانى‪ :‬أن تجرى اليمين على لِسانه من غير قصد للحلف‪ ،‬كَلَ والِّ‪ ،‬و َبلَى والِّ فى أثناء كلمه‪،‬‬
‫وكلهما رفع ال المؤاخذة به‪ ،‬لعدم قصد الحالف إلى عقد اليمين وحقيقتها‪ ،‬وهذا تشريعٌ منه‬
‫سبحانَه لعباده أل يرتّبوا الحكامَ على اللفاظ التى لم يقصِدِ المتكلمُ بها حقائقَها ومعانيهَا‪ ،‬هذا غيرُ‬
‫الهازل حقيقةَ وحكماً‪.‬‬
‫وقد أفتى الصحابةُ بعدم وقوع طلق المكرَه وإقرارِه‪ ،‬فصحّ عن عمر أنه‬
‫ل تدلّى بحبل‬
‫ح عنه أن رج ً‬
‫ن على نفسه إذا أوجعتَه أو ضربتَه أو أوثقتَه‪ ،‬وص ّ‬
‫قال‪ :‬ليس الرجلُ بأمي ٍ‬
‫ليَشْارَ عسلً‪ ،‬فأتت امرأته فقالت‪ :‬لقطعنّ الحبل‪ ،‬أو لتُطلّقنى‪ ،‬فناشدها ال‪ ،‬فأبت‪ ،‬فطلّقَها‪ ،‬فأتى‬
‫عمر‪ ،‬فذكر له ذلك‪ ،‬فقال له‪ :‬ارجع إلى امرأتك‪ ،‬فإن هذا ليس بطلق‪ .‬وكان علىّ ل يُجيز طلقَ‬
‫ن الزبير عن طلق المكره‪ ،‬فقال جميعاً‪ :‬ليس‬
‫ن عمر‪ ،‬واب َ‬
‫الكره‪ ،‬وقال ثابت العرج‪ :‬سألت اب َ‬
‫بشىءٍ‪.‬‬
‫جبَلة‪ ،‬عن صفوان بن عمران الصم‪ ،‬عن رجلٍ‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تصنعون بما رواه الغازى بن َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن رجلً جلست امرأتُه على صدره‪ ،‬وجعلت السكينَ‬
‫من أصحاب رسو ِ‬
‫على حلقه‪ ،‬وقالت له‪ :‬طلقنى أو لذبحنّك‪ ،‬فناشدها‪ ،‬فأبت‪ ،‬فطلقها ثلثاً‪ ،‬ف ُذ ِك َر ذلك للنبى صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فقال‪(( :‬ل َق ْيلُولَة فى الطّلق)) رواه سعيد بن منصور فى ((سننه))‪ .‬وروى عطا ُء ابن‬
‫ل الطّلقِ جَا ِئزٌ إلّ‬
‫عجلن‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬كُ ّ‬
‫علَى عَ ْقلِهِ))‪.‬‬
‫طَلقَ ال َم ْعتُو ِه وال َم ْغلُوبِ َ‬
‫وروى سعيد بن منصور‪ :‬حدثنا فرج بن فضَالة‪ ،‬حدثنى عمرو بن شراحِيل المعافرى‪ ،‬أن‬
‫جهَا‪ ،‬وقالت‪ :‬والّ لنفذنّك‪ ،‬أو لُتطلّقنّى‪ ،‬فطلقها ثلثاً‪،‬‬
‫امرأة استّلتْ سيفاً‪ ،‬فوضعته على بطن َزوْ ِ‬
‫ق المعتوه‪.‬‬
‫فرُفِ َع ذلِك إلى عمر بن الخطاب‪ ،‬فأمضى طلقها‪ .‬وقال على‪ .‬كل الطلقِ جائزٌ إل طل َ‬

‫‪111‬‬
‫قيل‪ :‬أما خبر الغازى بن جبلة‪ ،‬ففيه ثلث علل‪ .‬إحداها‪ :‬ضعف صفوان بن عمرو‪،‬‬
‫والثانية‪ :‬لين الغازى بن جبلة‪ ،‬والثالثة‪ .‬تدليس بقية الراوى عنه‪ ،‬ومثل هذا ل يحتج به‪ .‬قال أبو‬
‫محمد ابن حزم‪ :‬وهذا خبر فى غاية السقوط‪.‬‬
‫وأما حديث ابن عباس ((كل الطلق جائز)) فهو من رواية عطاء بن عجلن‪ ،‬وضعفُه‬
‫مشهور‪ ،‬وقد رُمى بالكذب‪ .‬قال أبو محمد ابن حزم‪ :‬وهذا الخبر شر من الول‪.‬‬
‫وأما أثر عمر‪ ،‬فالصحيح عنه خلفه كما تقدم‪ ،‬ول يُعلم معاصرة المعافرى لعمر‪ ،‬وفرج بن‬
‫فضالة فيه ضعف‪.‬‬
‫وأما أثر على‪ ،‬فالذى رواه عنه الناس أنه كان ل يُجيز طلق المكره وروى عبد الرحمن بن‬
‫مهدى‪ ،‬عن حماد بن سلمة‪ ،‬عن حُميد‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬أن على ابن أبى طالب رضى ال عنه‪ ،‬كان ل‬
‫يُجيز طلق المكره‪ .‬فإن صح عنه ما ذكرتم‪ ،‬فهو عام مخصوص بهذا‪.‬‬
‫فصل‬
‫حتّى‬
‫سكَارَى َ‬
‫ل َة وَأ ْنتُمْ ُ‬
‫وأما طلق السّكرانِ‪ ،‬فقال تعالى‪{:‬يَأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا ل تَ ْق َربُوا الصّ َ‬
‫َت ْعَلمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء‪ ،]43 :‬فجعل سُبحانه قول السكران غي َر معتبر‪ ،‬لنه ل َي ْعلَمُ ما يقولُ‪،‬‬
‫ح عنه صلى ال عليه وسلم َأنّه أمر بالمُ ِقرّ بالزّنى أن يُسَت ْنكَ َه لِيعتبر قولُه الذى أق ّر به أو يُلغى‪.‬‬
‫وص ّ‬
‫وفى صحيح البخارى فى قصة حمزة‪ ،‬لما عَ َقرَ َب ْع ِي َرىْ عَلى‪ ،‬فجاء النبىّ صلى ال عليه‬
‫ل َأ ْنتُمْ إل عَبيدٌ لبى‪،‬‬
‫وسلم‪َ ،‬فوَ َقفَ عليه َيلُومُه‪ ،‬فصعّ َد فيه النّظرَ وصوّبه وهو سكران‪ ،‬ثم قال‪ :‬ه ْ‬
‫فنكص النبىّ صلى ال عليه وسلم على عَقِبيْةِ‪ .‬وهذا القولُ لو قاله غي ُر سكران‪ ،‬لكان رِد ًة وكُفراً‪،‬‬
‫ولم يُؤاخذ بذلك حمزة‪.‬‬
‫وصح عن عُثمانَ بنِ عفان رضى ال عنه أنه قال‪ :‬ليس لِمجنون‪ ،‬ول سكران طلق‪ .‬رواه‬
‫ابن أبى شيبة‪ ،‬عن وكيع‪ ،‬عن ابن أبى ذئب‪ ،‬عن الزهرى‪ ،‬عن أبان بن عثمان‪ ،‬عن أبيه‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ق السكران ل‬
‫ق السكران ل يجوزُ‪ ،‬وقال ابنُ طاووس عن أبيه‪ :‬طل ُ‬
‫وقال عطاء‪ :‬طل ُ‬ ‫@‬
‫يجوز‪ .‬وقال القاسم بن محمد‪ :‬ل يجوزُ طلقه‪.‬‬
‫لّ الذى ل إله إل هو‪ :‬لقد‬
‫س ْكرَان طلّق‪ ،‬فاستحلفه با ِ‬
‫ح عن عمر بن عبد العزيز أنه أُتى بِ َ‬
‫وص ّ‬
‫طلّقها وهو ل َيعْقِلُ‪ ،‬فحلف‪ ،‬فرَ ّد إليه امرأته‪ ،‬وضربه الحد‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫وهو مذهبُ يحيى بن سعيد النصارى‪ ،‬وحُمي ِد بن عبد الرحمن‪ ،‬وربيعة‪ ،‬والليثِ بن سعد‪،‬‬
‫وعبدِ ال بن الحسن‪ ،‬وإسحاق بن راهويه‪ ،‬وأبى ثور‪ ،‬والشافعى فى أحد قوليه‪ ،‬واختاره المزنىّ‬
‫وغيرُه من الشافعية‪ ،‬ومذهب أحمد فى إحدى الروايات عنه‪ ،‬وهى التى استقرّ عليها مذهبُه‪،‬‬
‫وصرّح برجوعه إليها ؛ فقال فى رواية أبى طالب‪ :‬الذى ليأمر بالطلق‪ ،‬إنما أتى خصلةً واحدة‪،‬‬
‫والذى يأمر بالطلق‪ ،‬فقد أتى خصلتيْنِ حرّمها عليه‪ ،‬وأحلّها لغيره‪ ،‬فهذا خي ٌر مِن هذا‪ ،‬وأنا أتقى‬
‫جميعاً‪ .‬وقال فى رواية الميمونى‪ :‬قد كنتُ أقولُ‪ :‬إن طلق السكران يجو ُز تبينتُه‪ ،‬فغلب على‪ :‬أنه ل‬
‫يجوزُ طلقه‪ ،‬لنه لو أقر‪ ،‬لم يلزمه‪ ،‬ولو باع‪ ،‬لم يجز بيعُه‪ ،‬قال‪ :‬وألزمه الجناية‪ ،‬وما كان من غير‬
‫ب أهلِ الظاهر ُكلّهم‪ ،‬واختاره من‬
‫ذلك‪ ،‬فل يلزمُه‪ .‬قال أبو بكر عبد العزيز‪ :‬وبهذا أقولُ‪ ،‬وهذا مذه ُ‬
‫الحنفية أبو جعفر الطحاوىّ‪ ،‬وأبو الحسن الكرخىّ‪.‬‬
‫والذين أوقعوه لهم سبعة مآخذ‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬أنه مكلّف‪ ،‬ولهذا يُؤاخذ بجناياته‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أن إيقاع الطلق عقوبةٌ له‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أنّ ترتب الطلق على التطليق مِن باب ربط الحكام بأسبابها‪ ،‬فل يُؤثر فيه السُكر‪.‬‬
‫س ِكرَ‪ ،‬وإذا‬
‫والرابع‪ :‬أنّ الصحابة أقاموه مقام الصّاحى فى كلمه‪ ،‬فإنهم قالوا‪ :‬إذا شرب‪َ ،‬‬
‫س ِكرَ‪ ،‬هذى‪ ،‬وإذا هَذَى‪ ،‬افترى‪ ،‬وحَ ّد المفترى ثمانون‪.‬‬
‫َ‬
‫والخامس‪ :‬حديث‪(( :‬ل قيلولة فى الطلق)) وقد تقدم‪.‬‬
‫ق المعتوه))‪ ،‬وقد تقدم‪.‬‬
‫السادس‪ :‬حديث ((كُلّ طلقٍ جائِز إل طل َ‬
‫والسابع‪ :‬أن الصحابة أوقعوا عليه الطلق‪ ،‬فرواه أبو عُبيد عن عمر‪ ،‬معاوية‪ ،‬ورواه غيرُه‬
‫عن ابن عباس‪ .‬قال أبو عبيد‪ :‬حدثنا يزيد بن هارون‪ ،‬عن جرير بن حازم‪ ،‬عن الزبير بن الحارث‪،‬‬
‫ل طلّق امرأتَه وهو سكران‪َ ،‬فرُفِ َع إلى عمر بن الخطاب‪ ،‬وشهد عليه أربعُ‬
‫عن أبى لَبيد‪ ،‬أن رج ً‬
‫قال‪ :‬وحدثنا ابنُ أبى مريم‪ ،‬عن نافع بن يزيد‪ ،‬عن جعفر بن ربيعة‪،‬‬ ‫نِسوة ففرق عمر بينهما‪.‬‬
‫ق السكران‪ .‬هذا جميعُ ما احتجوا به‪،‬‬
‫عن ابن شهاب‪ ،‬عن سعيد بن المسيّب‪ ،‬أن معاوية أجاز طل َ‬
‫وليس فى شىء منه حج ٌة أصلً‪.‬‬
‫ط التكليفِ‬
‫فأما المأخ ُذ الوّلُ‪ ،‬وهو‪ :‬أنه مكلف‪ ،‬فباطل‪ ،‬إذ الجماع منعقِ ٌد على أن شر َ‬
‫العقلُ‪ ،‬ومن ل يعقِلُ ما يقول‪ ،‬فليس بمكلّف‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫وأيضاً فلو كان مكلفاً‪ ،‬لوجب أن يقع طلقُه إذا كان مكرهًا على شُربها‪ ،‬أو غيرَ عالم بأنها‬
‫خمر‪ ،‬وهم ل يقولون به‪.‬‬
‫وأما خطابُه‪ ،‬فيجب حملُه على الذى يعقِلُ الخطاب‪ ،‬أو على الصاحى‪ ،‬وأنه نُهى عن السكر‬
‫إذا أراد الصلة‪ ،‬وأما من ل َيعْقِلُ‪ ،‬فل يُؤمر ول ينهى‪.‬‬
‫ل نزاع ل محل وفاق‪ ،‬فقال عثمان ال َبتّى‪ :‬ل يلزمُه عقدٌ ول بيع‪،‬‬
‫وأما إلزامُه بجناياته‪ ،‬فمح ّ‬
‫ول حدّ إل حدّ الخمر فقط‪ ،‬وهذا إحدى الروايتين عن أحمد أنه كالمجنون فى كُلّ فعل يُعتبر له‬
‫العقلُ‪.‬‬
‫ن أقواله‪ ،‬فرّقوا بفرقين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أن إسقاطَ أفعاله ذريع ٌة إلى‬
‫والذين اعتبروا أفعالَه دو َ‬
‫س ِكرَ وفعل ذلك‪ ،‬فيقام‬
‫ل من أراد قتل غيره أو الزنى أو السرقة أو الحِراب‪َ ،‬‬
‫تعطيل القِصاص‪ ،‬إذ كُ ّ‬
‫عليه الح ّد إذا أتى جرماً واحداً‪ ،‬فإذا تضاعف جُرمُه بالسكر كيف يسقط عنه الحدّ؟ هذا مما تأباه‬
‫ض من يرى طلق السكران‬
‫قواعدُ الشريعة وأصولها‪ ،‬وقال أحمد منكرًا على من قال ذلك‪ :‬وبع ُ‬
‫ليس بجائز‪ ،‬يزعم أن سكران لو جنى جناية‪ ،‬أو أتى حداً‪ ،‬أو تركَ الصيام أو الصلةَ‪ ،‬كان بمنزلة‬
‫ال ْمبَرسَمِ والمجنون‪ ،‬هذا كَلمْ سوء‪.‬‬
‫والفرق الثانى‪ :‬إن إلغاء أقواله ل يتضمّن مفسدة‪ ،‬لن القول المجر َد مِن غير العاقل ل‬
‫مفسدة فيه بخلف الفعال‪ ،‬فإن مفاسدها ل يُمكن إلغاؤها إذا وقعت‪ ،‬فإلغا ُء أفعاله ضررٌ محض‪،‬‬
‫ح هذان الفرقان‪ ،‬بطلَ اللحاق‪ ،‬وإن لم يصحا‪ ،‬كانت التسويةُ‬
‫وفسادٌ منتشر بخلف أقواله‪ ،‬فإن ص ّ‬
‫بين أقواله وأفعاله متعينة‪.‬‬
‫وأما المأخذ الثانى وهو أن إيقاع الطلق به عقوبةٌ له ففى غاية الضعف‪ ،‬فإن الحدّ يكفيه‬
‫عقوبة‪ ،‬وقد حصل رضى ال سُبحانه من هذه العقوبة بالحد‪ ،‬ول عهد لنا فى الشريعة بالعُقوبة‬
‫بالطلق‪ ،‬والتفريق بين الزوجين‪.‬‬
‫ع الطلق به من ربط الحكام بالسباب‪ ،‬ففى غاية الفساد‬
‫وأما المأخ ُذ الثالث‪ :‬أن إيقا َ‬
‫ع الطلق ممن سكر مُكرهاً‪ ،‬أو جاهلً بأنها خمر‪ ،‬وبالمجنون‬
‫والسقوط‪ ،‬فإن هذا يُوجب إيقا َ‬
‫ق السكران سببٌ حتى يُربط الحكمُ به‪ ،‬وهل‬
‫وال ُمبَرْسَم‪ ،‬بل وبالنائم‪ ،‬ثم يُقال‪ :‬وهل ثبت لكم أن طل َ‬
‫النزاعُ إل فى ذلك؟‬
‫س ِكرَ‪ ،‬وإذا‬
‫وأما المأخذ الرابع‪ :‬وهو أن الصحابة جعلوه كالصاحى فى قولهم‪ :‬إذا شرب‪َ ،‬‬
‫س ِكرَ‪ ،‬هذى‪ .‬فهو خبر ل يصح البتة‪.‬‬
‫َ‬

‫‪114‬‬
‫قال أبو محمد ابن حزم‪ :‬وهو خبر مكذوب قد نزه ال عليًا وعبد الرحمن بن عوف منه‪،‬‬
‫وفيه من المناقضة ما يدل على بُطلنه‪ ،‬فإن فيه إيجاب الحد على من هذى‪ ،‬والهاذى ل ح ّد عليه‪.‬‬
‫وأما المأخذْ الخامس‪ ،‬وهو حديث‪(( :‬ل قيلولة فى الطلق))‪ ،‬فخبر ل َيصِحّ‪ ،‬لو صحّ‪،‬‬
‫ل دون من ل يعقِل‪ ،‬ولهذا لم يدخل فيه طلقُ المجنون والمُبرْسَم‬
‫لوجب حملُه على طلق مكلّف يعقِ ُ‬
‫وأما المأخذ السادس‪ ،‬وهو خبر‪(( :‬كلّ طلق جائز إل طلق المعتوه))‪ ،‬فمثله‬ ‫والصبى‪.‬‬
‫ل إما معتوه‪،‬‬
‫سواء ل يصح‪ ،‬ولو صح‪ ،‬لكان فى المكلف‪ ،‬وجواب ثالث‪ :‬أن السكران الذى ل يَعقِ ُ‬
‫وإما مُلحق به‪ ،‬وقد ادعت طائفة أنه معتوه‪ .‬وقالوا‪ :‬المعتوه فى اللغة‪ :‬الذى ل عقل له‪ ،‬ول يدرى ما‬
‫وأما المأخذ السابعُ‪ :‬وهو أن الصحابة أوقعوا عليه الطلقَ‪ ،‬فالصحابةُ مختلفون فى‬ ‫يتكلم به‪.‬‬
‫ذلك‪ ،‬فصح عن عثمان ما حكيناه عنه‪.‬‬
‫ح عنه‪ ،‬لنه من طريقين‪ ،‬فى أحدهما الحجاج بن أرطأة‪ ،‬وفى الثانية‬
‫ن عباس‪ ،‬فل َيصِ ّ‬
‫وأما أثر اب ِ‬
‫ن عمر ومعاوية‪ ،‬فقد خالفهما عثمان بن عفان‪.‬‬
‫إبراهيم بن أبى يحيى‪ ،‬وأما اب ُ‬
‫فصل‬
‫وأما طلق الغلق‪ ،‬فقد قال المام أحمد فى رواية حنبل‪ :‬وحديثُ عائشة رضى ال عنها‪:‬‬
‫سمعت النبى صلى ال عليه وسلم يَقول‪(( :‬ل طَلقَ ول عِتاق فى إغلق))‪ ،‬يعنى الغضبَ‪ ،‬هذا‬
‫نصّ أحمد حكاه عنه الخلل‪ ،‬وأبو بكر فى ((الشافى)) و((زاد المسافر))‪ .‬فهذا تفسير أحمد‪.‬‬
‫وقال أبو داود فى سننه‪ :‬أظنه الغضب‪ ،‬وترجم عليه‪(( :‬باب الطلق على غلط)) وفسره أبو‬
‫عُبيد وغيرُه‪ :‬بأنه الكراه‪ ،‬وفسره غيرهما‪ :‬بالجنون‪ ،‬وقيل‪ :‬هو نهىُ عن إيقاع الطلقات الثلث‬
‫دفعةً واحدة‪ ،‬فُي ْغلَقُ عليه الطلقُ حتى ل يبقى منه شىء‪ ،‬ك َغلَقِ الرهن‪ ،‬حكاه أبو عُبيد الهروى‪.‬‬
‫قال شيخُنا‪ :‬وحقيقةُ الغلق‪ :‬أن يُغلق على الرجل قلبُه‪ ،‬فل يقصِدُ الكلم‪ ،‬أو ل يعلم به‪،‬‬
‫ق الصدر‪ ،‬وقل ُة الصبر‬
‫كأنه انغلق عليه قصدُه وإرادتُه‪ .‬قلت‪ :‬قال أبو العباس المبرّد‪ :‬ال َغلَق‪ :‬ضي ُ‬
‫بحيث ل يجد مخلصاً قال شيخنا‪ :‬ويدخل فى ذلك طلقُ المكرَه والمجنون‪ ،‬ومن زال عقلُه بسُكر أو‬
‫ل من ل قصد له ول معرفة له بما قال‪.‬‬
‫غضب‪ ،‬وكُ ّ‬
‫والغضب على ثلثة أقسام‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬ما يُزيل العقل‪ ،‬فل يش ُعرُ صاحبُه بما قال‪ ،‬هذا ل يقعُ طلقه بل نزاع‪.‬‬
‫ل وقصده‪ ،‬فهذا يقع‬
‫حبَه مِن تصور ما يقو ُ‬
‫الثانى‪ :‬ما يكون فى مباديه بحيث ل يمنع صا ِ‬
‫طلقُه‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ل بينه وبين نيته بحيث يندَمُ‬
‫الثالث‪ :‬أن يستحكِمَ ويشتدّ به‪ ،‬فل يُزيل عقله بالكلية‪ ،‬ولكن يحو ُ‬
‫ل نظر‪ ،‬وعد ُم الوقوع فى هذه الحالة قوى متجه‪.‬‬
‫على ما فرط منه إذا زال‪ ،‬فهذا مح ّ‬
‫حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم فى الطلق قبل النكاح‬
‫فى السنن‪ :‬من حديث عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه عن جده‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال صلىال‬
‫ل َي ْمِلكُ))‪.‬‬
‫ق لَهُ فِيمَا َ‬
‫ل َي ْمِلكُ‪ ،‬ول طَلَ َ‬
‫ق لَهُ فِيمَا َ‬
‫عتْ َ‬
‫ل َي ْمِلكُ‪ ،‬ولَ ِ‬
‫عليه وسلم‪(( :‬ل نَ ْذرَ لبْن آدَمَ فِيمَا َ‬
‫قال الترمذى‪ :‬هذا حديث حسن‪ ،‬وهو أحسنُ شىء فى هذا الباب‪ ،‬وسَألت محمد بن إسماعيل‪ .‬فقلت‪:‬‬
‫ث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪.‬‬
‫ح فى الطلق قبل النكاح؟ فقال‪ :‬حدي ُ‬
‫أىّ شىء أص ّ‬
‫وروى أبو داود‪(( :‬ل َبيْعَ إلّ فِيمَا َي ْمِلكُ‪ ،‬ول وَفَا َء نَ ْذرِ إلّ فِيما َي ْمِلكُ))‪.‬‬
‫خ َرمَة رضى ال عنه‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫ن مَ ْ‬
‫وفى سنن ابن ماجه‪ :‬عن المِسور ب ِ‬
‫ل ِم ْلكِ))‪.‬‬
‫عتْق َقبْ َ‬
‫ل ال ّنكَاحِ وَلَ ِ‬
‫وسلم قال‪(( :‬لَ طَلَقَ َقبْ َ‬
‫وقال وكيع‪ :‬حدثنا ابنُ أبى ذئب‪ ،‬عن محمد بن المنكدِر‪ ،‬وعطاء بن أبى رباح‪ ،‬كلهما عن‬
‫جابر بن عبد ال يرفعه‪(( :‬لَ طَلَقَ َقبْلَ نكاح))‪.‬‬
‫وذكر عب ُد الرزاق‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬قال‪ :‬سمعتُ عطا ًء يقول‪ :‬قال ابنُ عباس رضى ال‬
‫ق إل من بعدِ نكاح‪.‬‬
‫عنه‪ :‬ل طل َ‬
‫قال ابنُ جريج‪ :‬بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول‪ :‬إن طلّق ما لم ينكِحْ فهو جائز‪ ،‬فقال ابن‬
‫طلّ ْق ُتمُوهُنّ} [الحزاب‪،]49 :‬‬
‫ت ثُمّ َ‬
‫حتُ ُم ال ُم ْؤمِنَا ِ‬
‫عباس‪ :‬أخطأ فى هذا‪ ،‬إن ال تعالى يقول‪{:‬إذَا َنكَ ْ‬
‫ولم يقل‪ :‬إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن‪.‬‬
‫سئِل عن رجل قال‪ :‬إن تزوجتُ‬
‫وذكر أبو عُبيد‪ :‬عن على بن أبى طالب رضى ال عنه أنه ُ‬
‫ق إل من بعد ملك‪.‬‬
‫فلنه‪ ،‬فهى طالق‪ ،‬فقال على‪ :‬ليس طل ٌ‬
‫وثبت عنه رضى ال عنه أنه قال‪ :‬ل طلق إل من بعد نكاح وإن سماها‪.‬‬
‫وهذا قولُ عائشة‪ ،‬وإليه ذهب الشافعى‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وإسحاق وأصحابُهم‪ ،‬وداود وأصحابُه‪،‬‬
‫وجمهورُ أهل الحديث‪.‬‬
‫طلّقٌ لجنبية‪ ،‬وذلك محال‪،‬‬
‫ومِن حجة هذا القول‪ :‬أن القائل‪ :‬إن تزوجتُ فلنه‪ ،‬فهى طالق مُ َ‬
‫ن الطلق المعلّق أجنبية‪ ،‬والمتجدّدُ هو نِكاحُها‪ ،‬والنكاح ل يكون طلقاً‪ ،‬ف ُعلِمَ أنها لو طلقت‪،‬‬
‫فإنها حِي َ‬
‫فإنما يكون ذلك استنادًا إلى الطلق المتقدّم معلقاً‪ ،‬وهى إذا ذاك أجنبية‪ ،‬وتجدّ ُد الصفة ل يجعلُه‬

‫‪116‬‬
‫متكلماً بالطلق عند وجودها فإن وجودها مختار للنكاح غي ُر مريد للطلق‪ ،‬فل َيصِبحّ‪ ،‬كما لو قال‬
‫لجنبية‪ :‬إن دخلت الدار فأنت طالق‪ ،‬فدخَلتْ وهى زوجتُه‪ ،‬لم تطلق بغير خلف‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما الفرقُ بين تعليق الطلق وتعليق العِتق؟ فإنه لو قال‪ :‬إن ملكت فلناً‪،‬‬
‫فهو حر‪ ،‬صَحّ التعليقُ‪ ،‬وعتق بالملك؟‬
‫قيل‪ :‬فى تعليق العِتق قولن‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد‪ ،‬كما عنه روايتان فى تعليق الطلق‪،‬‬
‫ح من مذهبه الذى عليه أكثرُ نصوصه‪ ،‬وعليه أصحابه‪ :‬صح ُة تعليق العتق دون الطلق‪،‬‬
‫والصحي ُ‬
‫ح أن‬
‫ق له قوة وسراية‪ ،‬ول يعتمِ ُد نفوذ الملك‪ ،‬فإنه ينفذ فى ملك الغير‪ ،‬ويَصِ ّ‬
‫والفرقُ بينهما أن العِت َ‬
‫ل ملكه بالعتق عن ذى رحمه المحرَمِ‬
‫يكون الملك سببًا لزواله بالعتق لزواله عقلً وشرعاً‪ ،‬كما يزو ُ‬
‫ل هذا يُشرع فيه‬
‫بشرائه‪ ،‬وكما لو اشترى عبدًا لِيعتقه فى كفارة أو نذر‪ ،‬أو اشتراه بشرط العِتق‪ ،‬وكُ ّ‬
‫جعل الملك سبباً للعتق‪ ،‬فإنه قُربة محبوبة لّ تعالى‪ ،‬فشرع ال سبحانه التوسلَ إليه بكل وسيلة‬
‫ض الحلل إليه‪ ،‬ولم يجعل‬
‫مفضية إلى محبوبه‪ ،‬وليس كذلك الطلقُ‪ ،‬فإنه بغيضُ إلى ال‪ ،‬وهو أبغ ُ‬
‫ن أن تعليق العتق بالملك من باب نذر ال ُق َربِ‬
‫ملك البُضع بالنكاح سببًا لزالته ألبتة‪ ،‬وفرقٌ ثا ٍ‬
‫والطاعات والتبرر‪ ،‬كقوله‪ :‬لئن آتانىَ ال مِن فضله‪ ،‬لتصدقن بكذا وكذا‪ ،‬فإذا وُجِ َد الشرطُ‪ ،‬لزمه ما‬
‫علقه به من الطاعة المقصودة‪ ،‬فهذا لونٌ‪ ،‬وتعليقُ الطلق على الملك لونٌ آخر‪.‬‬
‫ض والنفساء والموطوءةِ فى‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فى تحريم طلق الحائ ِ‬
‫حكْمُ رسو ِ‬
‫طُهرها‪ ،‬وتحريم إيقاع الثلث جملة‬
‫فى ((الصحيحين))‪ :‬أن ابن عمر رضي ال عنه طلق امرأته وهى حائض على عهد رسول‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فسأل عمرُ بن الخطاب رضى ال عنه عن ذلك رسو َ‬
‫ك َبعْدَ‬
‫سَ‬‫ط ُهرَ‪ ،‬ثُ ّم إنْ شَا َء َأمْ َ‬
‫ط ُه َر ثُمّ تَحيضَ‪ ،‬ثُ ّم تَ ْ‬
‫حتّى تَ ْ‬
‫سكْها َ‬
‫جعْها ثُ ّم ليمْ ِ‬
‫وسلم فقال‪ُ (( :‬م ْرهُ َف ْل ُيرَا ِ‬
‫ق لَها النّسَاءُ))‪.‬‬
‫طلّ َ‬
‫ن تُ َ‬
‫لّ أَ ْ‬
‫ك العِ ّدةُ التى َأ َمرَ ا ُ‬
‫ن َيمَسّ‪َ ،‬ف ِت ْل َ‬
‫ل أَ ْ‬
‫َذِلكَ‪ ،‬وإنْ شَا َء يُطلّقُ َقبْ َ‬
‫طلّقْها طاهِراً أو حامِلً))‪.‬‬
‫جعْها‪ ،‬ثُ ّم ِليُ َ‬
‫ولمسلم‪(( :‬مُ ْرهُ َف ْل ُيرَا ِ‬
‫ق ِل ْلعِدّ ِة َكمَا َأ َم َرهُ ال تَعالى))‪.‬‬
‫ك الطّل ُ‬
‫ن يَمسّ‪ ،‬فذِل َ‬
‫وفى لفظ‪(( :‬إنْ شَا َء طلّقَها طاهِراً َقبْل أ ْ‬
‫طلّقْها فى ُقبُلِ عِ ّدتِها))‪.‬‬
‫جعْها ثُ ّم ليُ َ‬
‫وفى لفظ للبخارى‪(( :‬مُ ْرهُ َف ْل ُيرَا ِ‬
‫وفى لفظ لحمد‪ ،‬وأبى داود‪ ،‬والنسائى‪ ،‬عن ابن عمر رضى ال عنهما‪ :‬قال‪ :‬طلق عبد ال‬
‫بن عمر امرأتَه وهى حائِض‪ ،‬فردّها عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولم يرها شيئاً‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪117‬‬
‫سكْ))‪ .‬وقال ابن عمر رضى ال عنه‪ :‬قرأ رسول ال صلى ال عليه‬
‫ق َأ ْو ِل ُيمْ ِ‬
‫طلّ ْ‬
‫ط ُه َرتْ َف ْليُ َ‬
‫((إذَا َ‬
‫طلّقُوهُنّ} [الطلق‪ ]1 :‬فى ُقبُلِ عِ ّد ِتهِنّ‪.‬‬
‫طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ فَ َ‬
‫ى إذَا َ‬
‫وسلم‪{ :‬يَأيّها النّب ّ‬
‫ق على أربعة أوجه‪ :‬وجهانِ حلل‪ ،‬ووجهان حرام‪.‬‬
‫فتضمّن هذا الحك ُم أن الطل َ‬
‫فالحللن‪ :‬أن يطلّق امرأته طَاهرًا مِن غير جماع‪ ،‬أو يُطلّقها حاملً مستبيناً حملها‪.‬‬
‫طلّقها وهى حائض‪ ،‬أو يُطلّقها فى طهرٍ جامعها فيه هذا فى طلق المدخول‬
‫والحرامان‪ :‬أن يُ َ‬
‫بها‪.‬‬
‫عَل ْيكُمْ إنْ‬
‫جنَاحَ َ‬
‫وأما من لم يدخل بها‪ ،‬فيجوز طلقُها حائضاً وطاهراً‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬لَ ُ‬
‫ن َأوْ تَ ْف ِرضُوا َلهُنّ َفرِيضَةً} [البقرة‪.]236 :‬‬
‫طلّ ْقتُمُ النّسَا َء مَا لَ ْم َتمَسّوهُ ّ‬
‫َ‬
‫ن َتمَسّوهُنّ َفمَالكُمْ‬
‫لأ ْ‬
‫طلّ ْق ُتمُوهُنّ مِنْ َقبْ ِ‬
‫حتُ ُم ال ُم ْؤ ِمنَاتِ ثُمّ َ‬
‫وقال تعالى‪{ :‬يَأيّها الّذِينَ آ َمنُوا إذَا َنكَ ْ‬
‫طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ}‬
‫عَل ْيهِنّ مِنْ عِ ّدةٍ َت ْعتَدّونَها} [الحزاب‪ ]49 :‬وقد دل على هذا قولُه تعالى‪{ :‬فَ َ‬
‫َ‬
‫ك العِ ّدةُ الّتى‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم بقوله‪َ (( :‬ف ِت ْل َ‬
‫[الطلق‪ ]1:‬وهذه ل عِدة لها‪ ،‬ونبّه عليه رسو ُ‬
‫ن اللتان فيهما إباح ُة الطلق قبل الدخول‪ ،‬لمنع مِن‬
‫طلّق َلهَا النّسَاء))‪ ،‬ولول هاتان اليتا ِ‬
‫لّ أَنْ تُ َ‬
‫أَمرَ ا ُ‬
‫طلق مَنْ ل عِدة له عليها‪.‬‬
‫خ ِب َر رسول ال صلى ال عليه‬
‫وفى سنن النسائى وغيره‪ :‬من حديث محمود بن لبيد‪ ،‬قال‪ :‬أُ ْ‬
‫لّ وَأنَا َبيْنَ‬
‫ل طلّق امرأته ثلثَ تطليقاتٍ جمعياً‪ ،‬فقا َم غضبان‪ ،‬فقال‪(( :‬أ ُي ْل َعبُ ِب ِكتَابِ ا ِ‬
‫وسلم عن رجُ ِ‬
‫ظ ُه ِركُم))‪ ،‬حتى قام رجلٌ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬أفل أق ُتلُه‪.‬‬
‫أَ ْ‬
‫ع َمرَ رضى ال عنه‪ ،‬أنه كان إذا سئل عن الطلق قال‪َ :‬أمّا‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬عن ابن ُ‬
‫ن ُك ْنتَ‬
‫ك َم ّرةً َأ ْو َم ّرتَين‪ ،‬فإِنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم أمرنى بهذا‪ ،‬وإ ْ‬
‫ت ا ْمرََأ َت َ‬
‫طلّ ْق َ‬
‫َأ ْنتَ إن َ‬
‫ق ا ْمرََأ ِتكَ‪.‬‬
‫عَليْكَ حتى َت ْنكِحَ زوجًا غي َركَ‪ ،‬وعصيتَ ال فِيمَا أ َمرَك مِنْ طَل ِ‬
‫ح ُر َمتْ َ‬
‫طلّقتها ثلثاً‪ ،‬فقد َ‬
‫ص أن المطلّقة نوعان‪ :‬مدخولٌ بها‪ ،‬وغيرُ مدخول بها‪ ،‬وكلهما ل‬
‫فتض ّم َنتْ هذه النصو ُ‬
‫يجوز تطليقها ثلثاً مجموعة‪ ،‬ويجو ُز تطليقُ غيرِ المدخولِ بها طاهراً وحائضاً‪.‬‬
‫وأما المدخولُ بها‪ ،‬فإن كانت حائضًا أو نفساء‪ ،‬حرم طلقُها‪ ،‬وإن كانت طاهراً فإن كانت‬
‫جزْ طلقها بعد الوطء فى طُهر‬
‫مستبينَةَ الحمل‪ ،‬جاز طلقُها بعد الوط ِء وقبله‪ ،‬وإن كانت حائلً لم يَ ُ‬
‫الصابة‪ ،‬ويجوز قبلَه هذا الذى شرعه الُّ على لسان رسولهِ مِن الطلق‪ ،‬وأجمعَ المسلمون على‬
‫ع الطلق الذى أذن ال فيه‪ ،‬وأباحه إذا كان مِن مكّلفٍ مختارٍ‪ ،‬عالم بمدلول اللفظ‪ ،‬قاصدٍ له‪.‬‬
‫وقو ِ‬
‫واختلفوا فى وقوع المحرّم من ذلك‪ ،‬وفيه مسألتان‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫المسألة الولى‪ :‬الطلق فى الحيض‪ ،‬أو فى الطهر الذى واقعها فيه‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬فى جمع الثلث‪ ،‬ونحن نذكر المسألتين تحريرًا وتقريراً‪ ،‬كما ذكرناهما‬
‫حجَجَ الفَريقينِ‪ ،‬ومنتهى أقدام الطائفتينِ‪ ،‬مع العلم بأن المقلّد المتعصّب ل يتركُ مَنْ‬
‫تصويراً‪ ،‬ونذكر ُ‬
‫حكّ ُم إل إياه‪ ،‬ولِكل من الناس َموْردُ ل‬
‫ل آية‪ ،‬وإن طالبَ الدليل ل يأت ّم بسواه‪ ،‬ول يُ َ‬
‫قَلده ولو جاءته كُ ّ‬
‫ل ما انتهت إليه قواه‪ ،‬وسعى إلى حيث انتهت إليه‬
‫حمَ َ‬
‫يتعداه‪ ،‬وسبيل ل يتخطاه‪ ،‬ولقد عُ ِذرَ مَنْ َ‬
‫خُطاه‪.‬‬
‫فأما المسأل ُة الولى‪ ،‬فإن الخلفَ فى وقوع الطلق المحرّم لم يزل ثابتًا بين السلف‬
‫والخلف‪ ،‬وقد وَهِ َم من ادعى الجماعَ على وقوعه‪ ،‬وقال بمبلغ علمه‪ ،‬وخفى عليه مِن الخلف ما‬
‫ل الناسَ‬
‫اطلع عليه غيرُه‪ ،‬وقد قال المامُ أحمد‪ :‬من ادعى الجماع‪ ،‬فهو كاذب‪ ،‬وما يُدريه لع ّ‬
‫اختلفوا‪.‬‬
‫ف بين الناس فى هذه المسألة معلو ُم الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين؟ قال‬
‫كيف والخل ُ‬
‫محمد بن عبد السلم الخُشنى‪ :‬حدثنا محمد بن بشار ؛ حدثنا عبد الوهّاب بنُ عبد المجيدِ الثقفى‪،‬‬
‫حدثنا عُبيد ال بن عمر‪ ،‬عن نافع مولى ابن عمر‪ ،‬عن ابن عمر رضى ال عنه أنه قال فى رجل‬
‫طلق امرأته وهى حائض‪ .‬قال ابن عمر‪ :‬ل يعتد بذلك‪ ،‬ذكره أبو محمد ابن حزم فى ((المحلى))‬
‫بإسناده إليه‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق فى ((مصنفه))‪ :‬عن ابن جريج‪ ،‬عن ابن طاووس‪ ،‬عن أبيه أنه قال‪ :‬كان‬
‫طلّقَها طاهِراً مِن‬
‫ل يرى طلقاً ما خالفَ وج َه الطّلقِ‪ ،‬ووجُ َه العِدة‪ ،‬وكان يقول‪ :‬وج ُه الطلقِ‪ :‬أن يُ َ‬
‫غير جماع وإذا استبان حملُها‪.‬‬
‫وقال الخُشنى‪ :‬حدثنا محمد بنُ المثّنى‪ ،‬حدثنا عبدُ الرحمن بن مهدى‪ ،‬حدثنا همّام بن يحيى‪ ،‬عن‬
‫قتادة‪ ،‬عن خِلس بن عمرو أنه قال فى الرجل يُطلّق امرأته وهى حائض‪ :‬قال‪ :‬ل ُي ْعتَدّ بها قال أبو‬
‫ن ادّعى الجماعَ على خلف هذا‪ ،‬وهو ل يجد فيما يُوافق‬
‫محمد ابن حزم‪ :‬والعجبُ من جُرأة م ِ‬
‫قوله فى إمضاء الطلق فى الحيض أو فى طهر جامعها فيه كلمة عن أحدٍ من الصحابة رضى ال‬
‫عنهم غي َر رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسنُ منها عن ابن عمر‪ ،‬وروايتين عن عُثمان‬
‫وزيدِ بن ثابت رضى ال عنهما‪ .‬إحداهما‪ :‬رويناها من طريق ابن وهب عن ابنِ سمعان‪ ،‬عن رجل‬
‫أخبره أن عثمانَ بن عفان رضى ال عنه كان يقضى فى المرأة التى يُطلّقُها زوجها وهى حائض‬
‫أنها ل تعتدّ بحيضتها تلك‪ ،‬وتعتدّ بعدَها بثلثة قروء‪ .‬قلت‪ :‬وابن سمعان هو عبد ال بن زياد بن‬

‫‪119‬‬
‫سمعان الكذاب‪ ،‬وقد رواه عن مجهول ل يُعرف‪ .‬قال أبو محمد‪ :‬والخرى من طريق عبد الرزاق‪،‬‬
‫عن هشام بن حسان‪ ،‬عن قيس بن سعد مولى أبى علقمة‪ ،‬عن رجل سماه‪ ،‬عن زيد بن ثابت أنه قال‬
‫فيمن طلّق امرأَته وهى حائض‪ :‬يلزمه الطلقُ‪ ،‬وتعتد بثلثِ حيض سوى تلك الحيضة‪.‬‬
‫قال أبو محمد‪ :‬بل نحنُ أسعدُ بدعوى الجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزوُن ونعوذُ بالّ‬
‫من ذلك‪ ،‬وذلك أنه ل خلفَ بين أح ٍد من أهل العلم قاطبة‪ ،‬ومن جملتهم جميع المخالفين لنا فى ذلك‬
‫أن الطلق فى الحيض أو فى طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫مخالفة لمره‪ ،‬فإذا كان ل شك فى هذا عندهم‪ ،‬فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التى يقرون‬
‫أنها بدعةٌ وضللة‪ ،‬أليس بحكم المشاهدة مجيزُ البدعة مخالفاً لجماع القائلين بأنها بدعة؟ قال أبو‬
‫محمد‪ :‬وحتي لو لم يبلغنا الخلفُ‪ ،‬لكان القاط ُع على جميع أهل السلم بما ل يقين عنده‪ ،‬ول بلغه‬
‫عن جميعهم كاذبًا على جميعهم‪.‬‬
‫ح المتيقنُ إل بيقين مثله من‬
‫قال المانعون من وقوع الطلق المحرم‪ :‬ل ُيزَالُ النكا ُ‬
‫حكْ َم النّكاح به‪ ،‬ول‬
‫كتاب‪ ،‬أو سنة‪ ،‬أو إجماع متيقّن‪ .‬فإذا أوجدتمونا واحدًا من هذه الثلثة‪ ،‬رفعنا ُ‬
‫ل إلى رفعه بغير ذلك‪ .‬قالوا‪ :‬وكيف والدل ُة المتكاثِرةٌ تدل على عدم وقوعه‪ ،‬فإن هذا طلق لم‬
‫سَبي َ‬
‫يشرعه ال تعالى ألبتة‪ ،‬ول أذن فيه‪ ،‬فليس من شرعه‪ ،‬فكيف يُقال بنفوذه وصحته؟‬
‫قالوا‪ :‬وإنما يقع من الطلق المحرم ما ملّكه ال تعالى للمطلّق‪ ،‬ولهذا ل يقع‬
‫به الرابعةُ‪ ،‬لنه لم يملّكها إياه‪ ،‬ومن المعلوم أنه لم يملّكه الطلقَ المحرم‪ ،‬ول أذن له فيه‪ ،‬فل‬
‫يصح‪ ،‬ول يقع‪.‬‬
‫ل أن يُطلّق امرأتَه طلقاً جائزاً‪ ،‬فطلّق طلقاً محرماً‪ ،‬لم يقع‪ ،‬لنه غيرُ‬
‫قالوا‪ :‬ولو وكل وكي ً‬
‫مأذون له فيه‪ ،‬فكيف كان إذن المخلوف معتبراً فى صحة إيقاع الطلق دون إذن الشارع‪ ،‬ومِن‬
‫ل للتصرف البتة‪.‬‬
‫المعلوم أن المكّلفَ إنما يتصرف بالذن‪ ،‬فما لم يأذن به ال ورسولُه ل يكون مح ً‬
‫طلّق فى حال الحيض أو بعد الوطءِ‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فالشارِعُ قد حجر على الزوج أن يُ َ‬
‫فى الطهر‪ ،‬فلو صح طلقُه لم يكن لحجر الشارع معنى‪ ،‬وكان حجرُ القاضى على من منعه‬
‫ل التصرفَ بحجره‪.‬‬
‫التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يُبطِ ُ‬
‫ت النداءِ يومَ الجمعة‪ ،‬لنه بيعٌ حجر الشارعُ على بائعه هذا‬
‫قالوا‪ :‬وبهذا أبطلنا البيعَ وق َ‬
‫الوقتَ‪ ،‬فل يجوز تنفيذُه وتصحيحه‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫ى يقتضى فسا َد المنهى عنه‪ ،‬فلو‬
‫قالوا‪ :‬ولنه طلقٌ محرم منهى عنه‪ ،‬فالنه ُ‬
‫صححناه‪ ،‬لكان ل فرق بين المنهى عنه والمأذونِ فيه من جهة الصحة والفساد‪.‬‬
‫ع إنما نهى عنه وحرمه‪ ،‬لنه يُب ِغضُه‪ ،‬ول يُحبّ وقوعه‪ ،‬بل وقوعُه‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فالشارِ ُ‬
‫مكروه إليه‪ ،‬فحرّمه لِئل يقع ما يُبغضه ويكرهه‪ ،‬وفى تصحيحه وتنفيذه ضِد هذا المقصود‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وإذا كان النكاحُ المنهى عنه ل َيصِحّ لجل النهى‪ ،‬فما الفرقُ بينه وبين الطلق‪،‬‬
‫وكيف أبطلتم ما نهى ال عنه من النكاح‪ ،‬وصححتم ما حرّمه ونهى عنه من الطلق‪ ،‬والنهى‬
‫يقتضى البطلن فى الموضعين؟‬
‫قالوا‪ :‬ويكفينا من هذا حُكمُ رسولِ ال صلى ال عليه وسلم العام الذى ل تخصيص‬
‫فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغاءه‪ ،‬كما فى ((الصحيح)) عنه‪ ،‬من حديث عائشة رضى ال‬
‫عَليْ ِه َأ ْمرُنا َف ُهوَ‬
‫ل َليْس َ‬
‫عمَ ً‬
‫عمِلَ َ‬
‫عَليْهِ َأ ْمرُنا َف ُه َو رَدّ)) وفى رواية‪(( :‬مَنْ َ‬
‫عمَلٍ َل ْيسَ َ‬
‫عنها‪(( :‬كُلّ َ‬
‫ح أن هذا الطلقَ المحرّم الذى ليس عليه أمرُه صلى ال عليه وسلم مردود باطل‪،‬‬
‫رَدّ))‪ .‬وهذا صري ُ‬
‫فكيف يُقال‪ :‬إنه صحيح لزم نافذ؟ فأين هذا مِن الحكم برده؟‬
‫ق لم يشرعه ال أبداً‪ ،‬وكان مردوداً باطلً كطلق‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فإنه طل ٌ‬
‫ل للطلق بخلف الزوجة‪ ،‬فإن هذه الزوجة‬
‫الجنبية‪ ،‬ول ينفعُكم الفرقُ بأن الجنبية ليست مح ً‬
‫ع إيّاه‪.‬‬
‫ليست محلً لِلطلق المحرّم‪ ،‬ول هو مما ملّكه الشّارِ ُ‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فإن ال سبحان إنما أمر بالتسريح بإحسان‪ ،‬ول أشر مِن التسريح الذى حرّمه‬
‫الُّ ورسُوله‪ ،‬وموجب عقدِ النكاح أح ُد أمرين‪ :‬إما إمساك بمعروف‪ ،‬أو تسريح بإحسان‪ ،‬والتسريح‬
‫ث غيرُهما‪ ،‬فل عبرة به البتة‪.‬‬
‫المحرّم أمر ثال ُ‬
‫ن ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪:‬‬
‫طلّقُوهُ ّ‬
‫طلّ ُقتُمُ النّسَاءَ فَ َ‬
‫ى إذا َ‬
‫قالوا‪ :‬وقد قال الُّ تعالى‪{ :‬يأيّها النّب ّ‬
‫لّ مرادَه مِن كلمه‪ ،‬أن الطلق المشروع‬
‫ى صلى ال عليه وسلم المبيّنِ عن ا ِ‬
‫‪ ]1‬وصحّ عن النب ّ‬
‫المأذون فيه هو الطلقُ فى زمن الطهر الذى لم يُجامع فيه‪ ،‬أو بعدَ استبانة الحمل‪ ،‬وما عداهُما‬
‫فليس بطلق للعدة فى حق المدخول بها‪ ،‬فل يكون طلقاً‪ ،‬فكيف تحرم المرأة به؟‬
‫ق َم ّرتَانِ} [البقرة‪ ،]229:‬ومعلوم أنه إنما أرادَ‬
‫قالوا‪ :‬وقد قال تعالى‪{ :‬الطّلَ ُ‬
‫ق للعدة‪ ،‬فدل على أن ما عداه ليس من الطلق‪ ،‬فإنه حصر الطلقَ‬
‫الطلق المأذونَ فيه‪ ،‬وهو الطل ُ‬
‫المشروع المأذونَ فيه الذى يملك به الرجعة فى مرتين‪ ،‬فل يكون ما عداه طلقاً‪ .‬قالُوا‪ :‬ولهذا كان‬
‫الصحاب ُة رضى ال عنهم يقولون‪ :‬إنهم ل طاقة لهم بالفتوى فى الطلق المحرّم‪ ،‬كما روى ابنُ‬

‫‪121‬‬
‫وهب‪ ،‬عن جرير بن حازم‪ ،‬عن العمش‪ ،‬أن ابن مسعود رضى ال عنه قال‪ :‬من طلق كما أمره‬
‫ال‪ ،‬فقد بيّن ال له‪ ،‬ومن خالف‪ ،‬فإنا ل نُطِيقُ خِلفه‪ ،‬ولو وقع طلقُ المخالف لم يكن الفتا ُء به‬
‫غير مطاق لهم‪ ،‬ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعانِ واقعينَ نافذين‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود رضي ال عنه أيضاً‪ :‬من أتى الم َر على وجهه فقد َبيّنَ ال له وإل فوالِّ‬
‫ما لنا طاقةٌ بكل ما تُحْ ِدثُون‪.‬‬
‫وقال بعض الصحابةِ قد سئل عن الطلق الثلث مجموعة‪ :‬مَنْ طلّق كما أمر‪ ،‬فقد ُبيّن له‪،‬‬
‫ومن لبّس‪ ،‬تركناه وتلبيسه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ويكفى من ذلك كله ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت‪ :‬حدثنا أحمد بن‬
‫صالح‪ ،‬حدثنا عبد الرزاق‪ ،‬حدثنا ابن جريج‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنى أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن‬
‫ن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع‪ :‬كيف ترى في رجل طلّق امرأته‬
‫أيمن مولى عروة يسأل اب َ‬
‫ع َم ُر عن ذلك رسول‬
‫حائضاً؟ فقال‪ :‬طلّق ابنُ عمر على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فسأل ُ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬إن عبد ال بن عمر طلق امرأته وهى حائض‪ ،‬قال عبد ال‪ :‬فردّها‬
‫لّ صلى ال‬
‫سكْ‪ ،‬قال ابن عُمر‪ :‬وقرأ رسول ا ِ‬
‫ق أو ِليُم ِ‬
‫طلّ ْ‬
‫علي ولم َيرَهَا شيئاً‪ ،‬وقال‪ :‬إذا طهرت فليُ َ‬
‫طلّقُوهُنّ} [الطلق‪ ]1 :‬فى قبلِ عِ ّد ِتهِنّ‪ .‬قالوا‪ :‬وهذا إسناد‬
‫طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ فَ َ‬
‫عليه وسلم‪{ :‬يَأ ّيهَا النّبىّ إِذَا َ‬
‫فى غاية الصحة‪ ،‬فإن أبا الزبير غيرُ مدفوع عن الحفظ والثقة‪ ،‬وإنما يُخشى مِن تدليسه‪ ،‬فإذا قال‪:‬‬
‫سمعتُ‪ ،‬أو حدثنى‪ ،‬زال محذو ُر التدليس‪ ،‬وزالت العلةُ المتوهّمة‪ ،‬وأكث ُر أهلِ الحديث يحتجّون به‬
‫إذا قال‪(( :‬عن)) ولم ُيصّرحْ بالسماع‪ ،‬ومسلم يُصحّح ذلك من حديثه‪ ،‬فأما إذا صرّحَ بالسماع‪ ،‬فقد‬
‫زال الشكالُ‪ ،‬وصحّ الحديثُ وقامت الحجة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ول نعلم فى خبر أبى الزبير هذا ما يُوجب ردّه‪ ،‬وإنما رَدّه مَنْ ردّه استبعاداً واعتقاداً‬
‫أنه خلفُ الحاديث الصحيحة‪ ،‬ونحن نحكى كلم من رده‪ ،‬ونبين أنه ليس فيه ما يُوجب الرّد‪.‬‬
‫ث ُكلّها على خلف ما قال أبو الزبير‪.‬‬
‫قال أبو داود‪ :‬والحادي ُ‬
‫ت مِن الحديثين أولى أن يُقال‬
‫وقال الشافعىّ‪ :‬وناف ٌع أثبتُ عن ابن عمر مِن أبى الزبير‪ ،‬والثب ُ‬
‫به إذا خالفه‪.‬‬
‫ج ْعهَا))‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫ت مِن هذا‪ ،‬يعنى قوله‪((:‬م ْرهُ َف ْل ُيرَا ِ‬
‫وقال الخطابىّ‪ :‬حديثُ يونس بن جبير أثب ُ‬
‫((أرأيتَ إن عجز واستحمق))؟ قال‪ :‬فمه‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫جلّةٌ‪ ،‬فلم‬
‫قال ابنُ عبدِ البر‪ :‬وهذا لم ينقله عنه أح ُد غير أبى الزبير‪ ،‬وقد رواه عنه جماع ٌة أَ ِ‬
‫ت منه‪.‬‬
‫يقل ذلك أح ٌد منهم‪ ،‬وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثلُه‪ ،‬فكيف بخلف مَن هو أثب ٌ‬
‫ض أهلِ الحديث‪ :‬لم ير ِو أبو الزبير حديثًا أنكرَ من هذا‪.‬‬
‫وقال بع ُ‬
‫فهذا جملة ما رُد به خب ُر أبى الزبير‪ ،‬وهو عند التأمل ل يوجب رده ول بطلنه‪.‬‬
‫ل أبى داود‪ :‬الحاديثُ كلها على خلفه‪ ،‬فليس بأيديكم سوى تقليدِ أبى داود‪،‬‬
‫أما قو ُ‬
‫ضوْنَ ذلك‪ ،‬وتزعمون أن الحج َة مِن جانبكم‪ ،‬فدعوا التقليدَ‪ ،‬وأخبرونا أين فى الحاديث‬
‫وأنتم ل تر َ‬
‫ث أبى الزّبير؟ فهل فيها حديثٌ واحد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫الصحيحة ما يُخالف حدي َ‬
‫لّ هذا خلف صريح لحديثِ‬
‫احتسب عليه تلك الطلقة‪ ،‬وأمره أن يعتدّ بها‪ ،‬فإن كان ذلك‪ ،‬فنعم وا ِ‬
‫أبى الزبير‪ ،‬ول تَجِدُون إلى ذلك سبيلً‪ ،‬وغايةُ ما بأيديكم (( ُم ْرهُ فليراجعها))‪ ،‬والرجعة تستلزِمُ‬
‫وقوع الطلق‪ .‬وقول ابن عمر‪ .‬وقد سئل‪ :‬أتعتد بتلك التطليقة؟ فقال‪(( :‬أرأيت إن عجز واستحمق))‬
‫ل على وقوعها‪،‬‬
‫وقول نافع أو مَنْ دونه‪(( :‬فحسبت من طلقها)) وليس وراءَ ذلك حرفٌ واحد يدُ ّ‬
‫ن كُلّ فى معارضتها‪،‬‬
‫والعتداد بها‪ ،‬ول ريبَ فى صحة هذه اللفاظ‪ ،‬ول مطعن فيها‪ ،‬وإنما الشأ ُ‬
‫لقوله‪(( :‬فردّها علىّ ولم يرها شيئاً))‪ ،‬وتقديمها عليه‪ ،‬ومعارضتها لتلك الدلة المتقدمة التى‬
‫سقناها‪ ،‬وعند الموازنة يظهرُ التفاوتُ‪ ،‬وعدمُ المقاومة‪ ،‬ونحن نذكرُ ما فى كلِمةٍ كلمةٍ منها‪.‬‬
‫أما قوله‪(( :‬مره فليراجعها))‪ ،‬فالمراجعة قد وقعت فى كلم ال ورسول ِه على‬
‫ثلث معان‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ظنّا أَنْ‬
‫جعَا إنْ َ‬
‫عَل ْي ِهمَا أَنْ َي َترَا َ‬
‫جنَاحَ َ‬
‫طلّ َقهَا فَلَ ُ‬
‫أحدُها‪ :‬ابتداءُ النكاح‪ ،‬كقوله تعالى‪{:‬فَإِنْ َ‬ ‫@‬
‫ل العلم بالقرآن أن المطلّق هاهنا‪ :‬هو‬
‫ف بينَ أح ٍد من أه ِ‬
‫يُقِيمَا حُدُودَ الِّ} [البقرة‪ ،]230 :‬ول خل َ‬
‫الزوج الثانى‪ ،‬وأن التراجُ َع بينها وبين الزوج الول‪ ،‬وذلك نكاح مبتدأ‪.‬‬
‫وثانيهما‪ :‬الرد الحسى إلى الحالة التى كان عليها أولً‪ ،‬كقوله لبى النعمان بن بشير لما نَحَلَ‬
‫ابنه غلماً خصّه به دون ولده‪(( :‬رُدّه))‪ ،‬فهذا رد ما لم تصح فيه الهبةُ الجائزة التى سماها رسولُ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم جوراً‪ ،‬وأخبر أنها ل تصلُح‪ ،‬وأنها خلف العدل‪ ،‬كما سيأتى تقريرُه إن‬
‫شاء ال تعالى‪.‬‬
‫ومِن هذا قوله لمن فرّق بين جارية وولدها فى البيع‪ ،‬فنهاه عن ذلك‪ ،‬ورد البيع وليس هذا‬
‫الرد مستلزمًا لصحة البيع‪ ،‬فإنه بيعٌ باطل‪ ،‬بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا‪ ،‬وهكذا‬

‫‪123‬‬
‫المر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الجتماع كما كانا قبل الطلق‪ ،‬وليس فى‬
‫ذلك ما يقتضى وقوع الطلق فى الحيض البتة‪.‬‬
‫ت إن عجز واستحمق))‪ ،‬فيا سبحانَ ال أين البيان فى هذا اللفظ بأن تلك‬
‫وأما قوله‪(( :‬أرأي َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والحكام ل تُؤخذ بمثل هذا ولو كان رسولُ ال‬
‫الطلقة حَسبَها عليه رسو ُ‬
‫ل عن الجواب بفعله وشرعه إلى‪:‬‬
‫صلى ال عليه وسلم قد حسبها عليه‪ ،‬واعتدّ عليه بها لم َيعْدِ ْ‬
‫ل للسائل عن صريح السنة إلى لفظة‬
‫أرأيتَ‪ ،‬وكان ابنُ عمر أكره ما إليه ((أرأيت))‪ ،‬فكيف َيعْدِ ُ‬
‫((أرأيت)) الدالة على نوع من الرأى سببُه عجز وحمقُه عن إيقاع الطلق على الوجه الذى أذن ال‬
‫له فيه‪ ،‬والظهر فيما هذه صفتُه أنه ل يُعتدى به‪ ،‬وأنه ساقط من فعل فاعله‪ ،‬لنه ليس فى دين ال‬
‫تعالى حكم نافذ سببُه العجزُ والحمقُ عن امتثال المر‪ ،‬إل أن يكون فعلً ل يمكن ردّه بخلف‬
‫العقود المحرّمة التى مَنْ عقدها على الوجه المحرّم‪ ،‬فقد عجز واستحمق‪ ،‬وحينئذ‪ ،‬فيُقال هذا أدلّ‬
‫ف أمر ال ورسوله‪ ،‬فيكون‬
‫على الر ّد منه على الصحة واللزوم‪ ،‬فإنه عقدُ عاجز أحمق على خل ِ‬
‫مردوداً باطلً‪ ،‬فهذا الرأىُ والقياس أدلّ على بطلن طلق مَن عجز واستحمق منه على صحته‬
‫واعتباره‪.‬‬
‫س ّمىَ فاعله‪ ،‬ظهر‪ ،‬وتبين‪،‬‬
‫ت مِن طلقها‪ .‬ففعل مبنى لما لم يسم فاعله‪ ،‬فإذا ُ‬
‫س َب ْ‬
‫وأما قولُه‪ :‬فحُ ِ‬
‫ل ألبتة‪ .‬وسواء كان القائلُ‪:‬‬
‫ل المجهولِ دلي ٌ‬
‫هل فى حُسبانه حجة أو ل؟ وليس فى حُسبان الفاع ِ‬
‫((فحسبت)) ابن عمر أو نافعًا أو من دونه‪ ،‬وليس فيه بيان أن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو‬
‫الذى حسبها حتى تلتزمَ الحجةُ به‪ ،‬وتحرم مخالفته‪ ،‬فقد تبين أن سائرَ الحاديث ل تُخَاِلفُ حديث‬
‫أبى الزبير‪ ،‬وأنه صريح فى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يرها شيئاً‪ ،‬وسائر الحاديث‬
‫مجملة ل بيان فيها‪.‬‬
‫ى صعباً‪ ،‬وأبطلتُم أكثرَ طلق‬
‫قال الموقعون‪ :‬لقد ارتقيتُم أيها المانعون مرتق ً‬
‫شوْا خِلفَ الجمهور‪ ،‬وشذذتُم‬
‫طلّقين‪ ،‬فإن غالِبه طلق بدعى‪ ،‬وجاهرتُم بخلف الئمة‪ ،‬ولم تتحا َ‬
‫المُ َ‬
‫ل الذى أفتى جمهو ُر الصحابة ومَنْ بعدهم بخلفه‪ ،‬والقرآنُ والسنن تدل على بطلنه‪ .‬قال‬
‫بهذا القو ِ‬
‫غ ْي َرهُ} [البقرة‪ ،]230:‬وهذا يعم كُلّ طلق‪،‬‬
‫ح َزوْجاً َ‬
‫حتّى َت ْنكِ َ‬
‫ن َبعْدُ َ‬
‫ل لَهُ مِ ْ‬
‫طلّقَها فَلَ َتحِ ّ‬
‫تعالى‪َ { :‬فإِنْ َ‬
‫لثَةَ ُقرُوءٍ} [البقرة‪ ،]228 :‬ولم يفرّق‪ ،‬وكذلك قوله‬
‫ن ثَ َ‬
‫سهِ ّ‬
‫ت َيتَر ّبصْنَ بَأنْفُ ِ‬
‫وكذلك قوله‪{ :‬والمُطَلّقَا ُ‬
‫ت َمتَاعٌ} [البقرة‪ ،]241:‬وهذه مطلّقة‬
‫طلّقَا ِ‬
‫ق َم ّرتَانِ} [البقرة‪ ، ]229:‬وقوله‪{ :‬وِل ْلمُ َ‬
‫تعالى‪{ :‬الطّل ُ‬
‫وهى عمومات ل يجوز تَخصيصُها إل بنص أو إجماع‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫ن عمر دليل على وقوع الطلق المحرّم من وجوه‪.‬‬
‫ث اب ِ‬
‫قالوا‪ :‬وحدي ُ‬
‫أحدها‪ :‬المرُ بالمراجعة‪ ،‬وهى لَمّ شعثِ النكاح‪ ،‬وإنما شعثه وقوعُ الطلق‪.‬‬
‫ل ابن عمر‪ ،‬فراجعتُها‪ ،‬وحسبت لها التطليقة التي طلّقها‪ ،‬وكيف يُظن بابن عمر‬
‫الثانى‪ :‬قو ُ‬
‫أنه يخالف رسول ال صلى ال عليه وسلم فيحسبها مِن طلقها ورسولُ ال صلى ال عليه وسلم لم‬
‫يرها شيئاً‪.‬‬
‫ل ابنِ عمر لما قيل له‪ :‬أيحتسب بتلك التطليقة؟ قال‪ :‬أرأيتَ إن عجز واستحمق‪،‬‬
‫الثالث‪ :‬قو ُ‬
‫أى‪ :‬عجزُه وحمقُه ل يكون عذراً له فى عدم احتسابه بها‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن ابن عمر قال‪ :‬وما يمنعُنى أن أعتدّ بها‪ ،‬وهذا إنكا ٌر منه لعدم العتداد بها‪ ،‬وهذا‬
‫ُيبْطِلُ تلك اللفظة التى رواها عنه أبو الزبير‪ ،‬إذ كيف يقولُ ابن عمر‪ :‬وما يمنعُنى أن أعتد بها؟ وهو‬
‫يرى رسولَ ال قد ردّها عليه‪ ،‬ولم يرها شيئاً‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أن مذهبَ ابن عمر العتداد بالطلقِ فى الحيض‪ ،‬وهو صاحبُ القصة وأعلمُ‬
‫الناس بها‪ ،‬وأشدّهم اتباعًا للسنن‪ ،‬وتحرّجًا من مخالفتها‪ .‬قالوا‪ :‬وقد روى ابن وهب فى ((جامعه))‪،‬‬
‫ع َمرُ‬
‫حدثنا ابن أبى ذئب‪ ،‬أن نافعاً أخبرهم عن ابن عمر‪ ،‬أنه طلق امرأته وهى حائض‪ ،‬فسأل ُ‬
‫ط ُه َر ثُ ّم تَحيضَ‬
‫حتّى تَ ْ‬
‫سكْها َ‬
‫ج ْعهَا ثُ ّم ِل ُيمْ ِ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم عن ذلك‪ ،‬فقال‪ُ (( :‬مرْهُ َف ْل ُيرَا ِ‬
‫طلّقَ‬
‫ن تُ َ‬
‫لّ أ ْ‬
‫ك العِدّ َة التى أ َمرَ ا ُ‬
‫ل أَنْ َي َمسّ‪َ ،‬ف ِت ْل َ‬
‫طلّقَ َقبْ َ‬
‫ك وإنْ شَاءَ َ‬
‫ك َبعْدَ َذِل َ‬
‫سَ‬‫ط ُهرَ‪ ،‬ثُ ّم إنْ شا َء أمْ َ‬
‫ثُ ّم تَ ْ‬
‫َلهَا النّسَاءُ)) وهى واحدة هذا لفظ حديثه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وروى عبد الرزاق‪ ،‬عن ابن جريج قال‪ :‬أرسلنا إلى نافع وهو يترجّلُ فى دار الندوة‬
‫ذاهبًا إلى المدينة‪ ،‬ونحنُ مع عطاء‪ :‬هل حسبت تطليقة عبد ال بن عمر امرأته حائضًا علي عهد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وروى حمادُ بن زيد‪ ،‬عن عبد العزيز بن صهيب‪ ،‬عن أنس رضى ال عنه قال‪ :‬قال‬
‫عتَهُ))‪ ،‬رواه عبد الباقى بن قانع‪،‬‬
‫طلّقَ فى بدْعَ ٍة َأ ْل ْز َمنْاهُ بِدْ َ‬
‫رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَنْ َ‬
‫عن زكريا الساجى حدثنا إسماعيل بن أمية الذارع حدثنا حماد فذكره‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وقد تقدّم مذهبُ عثمان بن عفان‪ ،‬وزيد بن ثابت فى فتواهما بالوقوع‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وتحريمُه ل يمنع ترتب أثره‪ ،‬وحكمه عليه كالظّهار‪ ،‬فإنه منكر من القول وزور‪،‬‬
‫ق البدعى‬
‫وهو محرّم بل شك‪ ،‬وترتب أثره عليه وهو تحري ُم الزوجة إلى أن يك ّفرَ‪ ،‬فهكذا الطل ُ‬
‫محرّم‪ ،‬ويترتب عليه أثره إلى أن يُراجع‪ ،‬ول فرق بينهما‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫ح ُر َمتْ عليكَ حتي تنكِحَ زوجًا غيرَك وعصيتَ‬
‫ل للمطلق ثلثاً‪َ :‬‬
‫قالوا‪ :‬وهذا ابنُ عمر يقو ُ‬
‫ربك فيما أمرك به من طلق امرأتك‪ .‬فأوقع عليه الطلق الذى عصى به المطلق ربه عز وجل‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وكذلك القذفُ محرّم‪ ،‬وترتب عليه أثرهُ من الحدّ‪ ،‬وردّ الشهادة وغيرهما‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬والفرقُ بين النكاح المحرم‪ ،‬والطلق المحرّم‪ ،‬أن النكاحَ عقد يتضمّن حِلّ‬
‫الزوجة ومُلك بُضعها‪ ،‬فل يكون إل على الوجهِ المأذون فيه شرعاً‪ ،‬فإن البضَاع فى الصل على‬
‫ط لحقه‪ ،‬وإزالةٌ لملكه‪ ،‬وذلك‬
‫التحريم‪ ،‬ول يُباح منها إل ما أباحه الشارع‪ ،‬بخلف الطلق‪ ،‬فإنه إسقا ٌ‬
‫ل يتو ّقفُ على كون السبب المزيل مأذوناً فيه شرعاً‪ ،‬كما يزولُ ملكه عن العين بالتلف المحرّم‪،‬‬
‫وبالقرار الكاذب‪ ،‬وبالتبرع المحرّم‪ ،‬كهبتها لمن يعلم أنه يستعين بها على المعاصى والثام‪.‬‬
‫ن أصلُ العقود وأجلّها وأشرفُها‪ ،‬يزول بالكلم المحرّم إذا كان كفراً فكيف ل‬
‫قالوا‪ :‬واليما ُ‬
‫يزولُ عقدُ النكاح بالطلق المحرّم الذى وضع لزالته‪.‬‬
‫ل له الهزل‬
‫قالوا‪ :‬ولو لَم يكن معنا فى المسألة طلقُ الهازل‪ ،‬فإنه يقع مع تحريمه لنه ل يَحِ ّ‬
‫بآيات ال‪ ،‬وقد قال النبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ما بالُ أقوا ٍم يتّخِذُون آيات ال هزواً‪ :‬طلقتُك‬
‫راجعتُك‪ ،‬طلقتُك راجعتُك)) فإذا وقع طلقُ الهازل مع تحريمه‪ ،‬فطلقُ الجا ّد أولى أن يقع مع‬
‫تحريمه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وفرق آخر بين النكاح المحرّم‪ ،‬والطلق المحرم‪ ،‬أن النكاحَ نعمة‪ ،‬فل تُستباح‬
‫بالمحرمات‪ ،‬وإزالتُه وخروجُ البُضع عن ملكه نِقمة‪ ،‬فيجو ُز أن يكون سببها محرماً‪.‬‬
‫ط يقتضى وقوعَ الطلق‪ ،‬وتجديد الرجعة‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فإن الفروجَ يُحتاط لها‪ ،‬والحتيا ُ‬
‫والعقد‪.‬‬
‫ب والقبول‪ ،‬والولى‬
‫عهِدْنا النكاحَ ل يُدخل فيه إل بالتشدي ِد والتأكيدِ من اليجا ِ‬
‫قالوا‪ :‬وقد َ‬
‫ج الخروج مِنه إلى‬
‫خرَجُ منه بأيسر شىء‪ ،‬فل يحتا ُ‬
‫والشاهدين‪ ،‬ورِضى الزوجة المعتبرِ رضاها‪ ،‬ويُ ْ‬
‫شىء من ذلك‪ ،‬بل يُدخل فيه بالعزيمة‪ ،‬ويُخرج منه بالشبهة‪ ،‬فأين أحدُهما من الخر حتى يُقاسَ‬
‫عليه‪.‬‬
‫ع ُكلّهم قديماً وحديثاً‪ :‬طلق امرأتَه وهى حائض‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬ولو لم يكن بأيدينا إل قولُ حملةِ الشر ِ‬
‫ق على أربعة‬
‫والطلق نوعان‪ :‬طلق سنة‪ ،‬وطلق بدعة‪ ،‬وقول ابن عباس رضى ال عنه‪ :‬الطل ُ‬
‫أوجه‪ :‬وجهانِ حللٌ‪ ،‬ووجهانِ حرام‪ ،‬فهذا الطلق والتقسيمُ دليل على أنه عندهم طلق حقيقة‪،‬‬
‫وشمولُ اس ِم الطلق له كشموله للطلق الحللِ‪ ،‬ولو كان لفظاً مجردًا لغواً لم يكن له حقيقة‪ ،‬ول‬

‫‪126‬‬
‫قيل‪ :‬طلق امرأته‪ ،‬فإن هذا اللفظ إذا كان لغواً كان وجودُه كعدمه‪ ،‬ومثلُ هذا ل يقال فيه‪ :‬طلق‪ ،‬ول‬
‫يقسم الطلق وهو غيرُ واقع إليه وإلى الواقع‪ ،‬فإن اللفاظ اللغية التى ليس لها معانٍ ثابتة ل‬
‫تكونُ هى ومعانيها قسماً من الحقيقة الثابتة لفظاً‪ ،‬فهذا أقصى ما تمسّك به الموقعون‪ ،‬وربما ادعى‬
‫بعضهم الجماع لعدم علمه بالنزاع‪.‬‬
‫قال المانعون من الوقوع‪ :‬الكل ُم معكم فى ثلث مقاماتٍ بها يستبينُ الحقّ في‬
‫المسألة‪.‬‬
‫المقام الول‪ :‬بطلنُ ما زعمتم من الجماع‪ ،‬وأنه ل سبيل لكم إلى إثباته ألبتة بل العلمُ‬
‫بانتفائه معلوم‪.‬‬
‫ل الجمهور ليس بحجة‪.‬‬
‫ل على صحته‪ ،‬وقو ُ‬
‫المقام الثانى‪ ،‬أن فتوى الجمهور بالقول ل يد ّ‬
‫المقام الثالث‪ :‬أن الطلق المحرّم ل يدخل تحتَ نصوص الطلق المطلقة التى رتب الشارعُ‬
‫عليها أحكام الطلق‪ ،‬فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلث‪ ،‬كنا أسع َد بالصواب منكم فى‬
‫ن دعوى الجماع‪،‬‬
‫المسألة‪.‬فنقول‪ :‬أما المقام الول‪ ،‬فقد تقدم مِن حكاية النزاع ما يُعلم معه بطل ُ‬
‫ل إلى إثبات الجماع الذى تقومُ به الحجة‪ ،‬وتنقطِعُ معه‬
‫كيف ولو لم يعلم ذلك‪ ،‬لم يكن لكم سبي ٌ‬
‫ع القطعى المعلوم‪.‬‬
‫المعذرة‪ ،‬وتحر ُم معه المخالفة‪ ،‬فإن الجماع الذى يُوجب ذلك هو الجما ُ‬
‫وأما المقام الثانى‪ :‬وهو أن الجمهورَ على هذا القول‪ ،‬فَأ ْوجِدُونا فى الدلة الشرعية أن قولَ‬
‫الجمهور حجةٌ مضافة إلى كتاب ال وسنة رسوله‪ ،‬وإجماع أمته‪.‬‬
‫ومن تأمّل مذاهب العلماء قديماً وحديثًا من عهد الصحابة وإلى الن‪ ،‬واستقرأ‬
‫أحوالهم وجدهم مُجمعين على تسويغ خلف الجمهور‪ ،‬ووجد لِكل منهم أقوالً عديدة انفرد بها عن‬
‫الجمهور‪ ،‬ول يُستثنى من ذلك أحد قط‪ ،‬ولكن مستقِلّ ومستكثِر‪ ،‬فمن شئتم سميتموه من الئمة‬
‫تتبّعوا ما له من القوال التى خالف فيها الجمهور‪ ،‬ولو تتبعنا ذلك وعددناه‪ ،‬لطال الكتابُ به جداً‪،‬‬
‫ونحن نُحيلُكم على الكتب المتضمِنة لمذاهب العلماء واختلفهم‪ ،‬ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم‬
‫يأخذُ إجماعَهم على ذلك مِن اختلفهم‪ ،‬ولكن هذا فى المسائل التى يسوغُ فيها الجتها ُد ول تدفعُها‬
‫السنةُ الصحيح ُة الصريحة‪ ،‬وأما ما كان هذا سبيله‪ ،‬فإنهم كالمتفقين على إنكارِه وردّه‪ ،‬وهذا هو‬
‫المعلو ُم مِن مذاهبهم فى الموضعين‪.‬‬
‫وأما المقامُ الثالثُ‪ :‬وهو دعواكم دخول الطلق المحرم تحت نصوص الطلق‪ ،‬وشمولها‬
‫ل أنواع البيعِ المحرّم‪ ،‬والنكاح‬
‫للنوعين إلى آخر كلمكم‪ ،‬فنسألُكم‪ :‬ما تقولُون فيمن ادّعى دخو َ‬

‫‪127‬‬
‫المحرّم تحت نصوص البيع والنكاح‪ ،‬وقال‪ :‬شمولُ السم للصحيح من ذلك والفاسد سواء‪ ،‬بل‬
‫وكذلك سائ ُر العقود المحرمة إذا ادّعى دخلوها تحت ألفاظ العقود الشرعية‪ ،‬وكذلك العباداتُ‬
‫المحرّمة المنهى عنها إذا ادعى دخولَها تحت اللفاظ الشرعية‪ ،‬وحكم لها بالصّحة لشمولِ السم‬
‫ل معلومَ‬
‫ل لكم إلى ذلك‪ ،‬كان قو ً‬
‫لها‪ ،‬هل تكون دعواه صحيحة أو باطلة؟ فإن قُلتُم‪ :‬صحيحة ول سبي َ‬
‫الفسا ِد بالضرورة من الدين‪ ،‬وإن قلتُم‪ :‬دعواه باطلة‪ ،‬تركتُم قولكم ورجعتم إلى ما قلناه‪ ،‬وإن قلتم‪:‬‬
‫طرِد منع ِكسٍ‪ ،‬معكم به برهانُ‬
‫ن صحيح م ّ‬
‫تُقبلُ فى موضع‪ ،‬وتُردّ فى موضع‪ ،‬قيل لكم‪ :‬ففرّقوا بفُرقا ٍ‬
‫من ال بينَ ما يدخل من العقود المحرّمة تحتَ ألفاظ النصوص‪ ،‬فيّثبتُ له حك ُم الصحة‪ ،‬وبينَ ما ل‬
‫يدخل تحتها‪ ،‬فيثبتُ له حك ُم البطلن‪ ،‬وإن عجزتُم عن ذلك‪ ،‬فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى‬
‫شفَ الغطاء‬
‫ج لِقوله ل بقوله‪ ،‬وإذا كُ ِ‬
‫حتَ ّ‬
‫ن كُلّ أحدٍ مقابلتها بمثلها‪ ،‬أو العتماد على من يُ ْ‬
‫التى يُحْسِ ُ‬
‫عما قررتموه فى هذه الطريق وُجِ َد عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة فى الدليل‪ ،‬وذلك عينُ‬
‫المصادرة على المطلوب‪ ،‬فهل وقع النزاعُ إل فى دخول الطلق المحرّم المنهى عنه تحتَ قوله‪:‬‬
‫لثَةَ ُقرُوءٍ}‬
‫ن ثَ َ‬
‫سهِ ّ‬
‫ت َي َت َر ّبصْنَ بَأنْفُ ِ‬
‫{وِل ْلمُطَلقَاتِ َمتَاعٌ} [البقرة‪ ،]241 :‬وتحت قوله‪{ :‬والمُطَلّقَا ُ‬
‫[البقرة‪ ]228:‬وأمثال ذلك‪ ،‬وهل سلّم لكم منازعوكم قطّ ذلك حتى تجعلوه مقدّم ًة لدليلكم؟‬
‫ب منه إلى‬
‫قالوا‪ :‬وأما استدللُكم بحديث ابن عمر‪ ،‬فهو إلى أن يكون حج ًة عليكم أقر َ‬
‫أن يكون حج ًة لكم مِن وجوه‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬صريح قوله‪ :‬فردها علىّ ولم يرها شيئاً‪ ،‬وقد تقدّم بيانُ صحته‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فهذا الصريح ليسَ بأيديكم ما يُقاومه فى الموضعين‪ ،‬بل جمي ُع تلك اللفاظ أما‬
‫صحيحة غيرُ صريحة‪ ،‬وإما صريحةٌ غيرُ صحيحة كما ستقفون عليه‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أنه قد صحّ عن ابن عمر رضى ال عنه بإسناده كالشمس من رواية عبيد ال‪ ،‬عن‬
‫نافع عنه‪ ،‬فى الرجل يُطلّق امرأته وهى حائض‪ ،‬قال‪ :‬ل ُي ْعتَ ّد بذلك وقد تقدم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه لو كان صريحاً فى العتداد به‪ ،‬لما عدل به إلى مجرّد الرأى‪ .‬وقوله للسائل‪:‬‬
‫أرأيتَ؟‬
‫الرابع‪ :‬أن اللفاظ قد اضطربت عن ابن عمر فى ذلك اضطراباً شديداً‪ ،‬وكلها صحيحة‬
‫ص صَريح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم فى وقوع‬
‫ل على أنه لم يكن عنده ن ّ‬
‫عنه‪ ،‬وهذا يد ّ‬
‫تلك الطلقة والعتداد بها‪ ،‬وإذا تعارضت تلك اللفاظُ‪ ،‬نظرنا إلى مذهب ابن عمر‪ ،‬وفتواه‪ ،‬فوجدناه‬

‫‪128‬‬
‫صريحاً فى عدم الوقوع‪ ،‬ووجدناه أحد ألفاظ حديثه صريحاً فى ذلك‪ ،‬فقد اجتمع صريحُ روايته‬
‫ظ مجملة مضطربة‪ ،‬كما تقدم بيانه‪.‬‬
‫وفتواه على عدم العتداد‪ ،‬وخالف فى ذلك ألفا ُ‬
‫ل ابن عمر رضى ال عنه‪ :‬وما لى ل أعتدّ بها‪ ،‬وقوله‪ :‬أرأيت إن عجزَ واستحمق‪،‬‬
‫وأما قو ُ‬
‫ن رواية صريحة عنه بالوقوع‪ ،‬ويكون عنه روايتان‪.‬‬
‫فغاية هذا أن يكو َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم قد ردّها‬
‫وقولكم‪ .‬كيف يفتى بالوقوع وهو يعلم أن رسو َ‬
‫عليه ولم يعت ّد عليه بها؟ فليس هذا بأوّل حديثٍ خالفه راويه‪ ،‬وله بغيره مِن الحاديث التى خالفها‬
‫س َوةٌ حسنةٌ فى تقديم رواية الصحابى ومن بعده على رأيه‪.‬‬
‫راويها أُ ْ‬
‫وقد روى ابن عباس حديثَ برِيرة‪ ،‬وأن بي َع المة ليس بطلقها‪ ،‬وأفتى بخلفه‪ ،‬فأخذ الناس‬
‫بروايته‪ ،‬وتركوا رأيَه‪ ،‬وهذا هو الصوابُ‪ ،‬فإن الرواية معصومةُ عن معصوم‪ ،‬والرأى بخلفها‪،‬‬
‫كيف وأصرحُ الروايتين عنه موافقتُه لما رواه من عدم الوقوع على أن فى هذا فِقهاً دقيقًا إنما يَعرِفُه‬
‫من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم‪ ،‬وفهمِهم عن الِّ ورسوله‪ ،‬واحتياطِهم للمة‪ ،‬ولعلك‬
‫تراه قريبًا عند الكلمِ على حُكمه صلى ال عليه وسلم فى إيقاع الطلق الثلث جملة‪.‬‬
‫وأما قوله فى حديث ابن وهب عن ابن أبى ذئب فى آخره‪ :‬وهى واحدة‪ ،‬فلعمرُ ال لو كانت‬
‫ل وهلة‪،‬‬
‫هذه اللفظة من كلم رسول ال صلى ال عليه وسلم ما قدّمنا عليها شيئاً‪ ،‬ولصِرنا إليها بأوّ ِ‬
‫ف إلى رسولِ‬
‫ولكن ل ندرى أقالها ابن وهب من عنده‪ ،‬أم ابن أبى ذئب‪ ،‬أم نافع‪ ،‬فل يجوزُ أن ُيضَا َ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ما ل يُتيقّن أنه من كلمه‪ ،‬ويشهد به عليه‪ ،‬وترتب عليه الحكامُ‪ ،‬ويقال‪:‬‬
‫ن دون ابن عمر رضى ال عنه‪،‬‬
‫ل مَ ْ‬
‫هذا من عند ال بِالوهم والحتمال‪ ،‬والظاهر أنها من قو ِ‬
‫ومراده بها أن ابن عمر إنما طلّقها واحدة‪ ،‬ولم يكن ذلك منه ثلثًا ؛ أى طلق ابن عمر رضى ال‬
‫عنه امرأته واحدة على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكره‪.‬‬
‫س َبتْ عليه‪ ،‬فهذا غايتُه أن‬
‫وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع‪ ،‬أن تطليقة عبد ال حُ ِ‬
‫يكون من كلم نافع‪ ،‬ول يعرف من الذى حسبها‪ ،‬أهو عبد ال نفسه‪ ،‬أو أبوه عمر‪ ،‬أو رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم؟ ول يجوز أن يشهد على رسول ال صلى ال عليه وسلم بالوهم والحسبان‪،‬‬
‫وكيف يعارض صريح قوله‪ :‬ولم يرها شيئاً بهذا المجمل؟ والّ يشهد وكفى بالّ شهيداً أنا لو تيقنا‬
‫أن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو الذى حسبها عليه لم نتعد ذلك‪ ،‬ولم نذهب إلى سواه‪.‬‬
‫عتَهُ))‪ ،‬فحديث باطل على رسول‬
‫طلّقَ فى بِدْعَ ٍة َأ ْل َز ْمنَاه بِدْ َ‬
‫وأما حديث أنس‪(( :‬مَنْ َ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونحن نشهد بالِّ أنه حديث باطل عليه‪ ،‬ولم يروه أح ُد من الثقات من‬

‫‪129‬‬
‫أصحاب حماد بن زيد‪ ،‬وإنما هو من حديث إسماعيل ابن أمية الذارع الكذاب الذى يذرَع ويفصل‪،‬‬
‫ى وغيرُه‪ ،‬وكان قد اخ ُتلِطَ فى آخر عمره‪،‬‬
‫ثم الراوى له عنه عبد الباقى بن قانع‪ ،‬وقد ضعفه البرقان ّ‬
‫ل هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثُه حجةً‪.‬‬
‫وقال الدارقطنى‪ :‬يخطىء كثيراً‪ ،‬ومث ُ‬
‫ح ذلك ول‬
‫وأما إفتاء عثمانَ بن عفان‪ ،‬وزي ِد بن ثابت رضى ال عنهما بالوقوع‪ ،‬فلو ص ّ‬
‫يصِحّ أبداً‪ ،‬فإن أثر عثمان‪ ،‬فيه كذّاب عن مجهول ل يعرف عينه ول حاله‪ ،‬فإنه من رواية ابن‬
‫سمعان‪ ،‬عن رجل‪ ،‬وأثر زيد‪ :‬فيه مجهول عن مجهول‪ :‬قيس بن سعد‪ ،‬عن رجل سماه عن زيد‪،‬‬
‫ن الروايتان مِن رواية عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثقفى‪ ،‬عن عُبيد ال حافظ‬
‫فيالِّ العجب‪ ،‬أين هاتا ِ‬
‫ن عمر أنه قال‪ :‬ل ُي ْعتَ ّد بهَا‪ .‬فلو كان هذا الثرُ من قبلكم‪ ،‬لصُلتم به وجُلتم‪.‬‬
‫المة‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن اب ِ‬
‫وأما قولكم‪ :‬إن تحريمه ل يمنع ترتّب أثره عليه‪ ،‬كالظهار‪ ،‬فيقال أولً‪ :‬هذا قياسُ‬
‫يدفعه ما ذكرناه من النص‪ ،‬وسائر تلك الدلة التى هى أرجح منه‪ ،‬ثم يقال ثانياً‪ :‬هذا معارَض بمثله‬
‫سواء معارضة القلب بأن يقال‪ :‬تحريمُه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح‪ ،‬ويقال ثالثاً‪ :‬ليس للظهار‬
‫ن أن ينقسِ َم إلى‬
‫جهتانِ‪ :‬جهة حل وجهة حرمة‪ ،‬بل ُكلّه حرام فإنه منكر من القول وزور‪ ،‬فل ُي ْمكِ ُ‬
‫حلل جائز‪ ،‬وحرام باطل‪ ،‬بل هو بمنزلة القذف مِن الجنبى والردة‪ ،‬فإذا وجد لم يُوجد إل مع‬
‫مفسدته‪ ،‬فل يتُصوّر أن يقال‪ :‬منه حلل صحيح‪ ،‬وحرام باطل‪ ،‬بخلف النكاح والطلق والبيع‬
‫فالظهار نظيرُ الفعال المحرمة التى إذا وقعت‪ ،‬قارنتها مفاسدُها فترتبت عليها أحكامُها‪ ،‬وإلحاقُ‬
‫الطلق بالنكاح‪ ،‬والبيع والجارة والعقود المنقسمة إلى حللٍ وحرامٍ‪ ،‬وصحيحٍ وباطلٍ‪ ،‬أولى‪.‬‬
‫وأما قولكم‪ :‬إن النكاح عق ٌد يُملك به البُضع‪ ،‬والطلقُ عقدٌ يخرج به‪ ،‬فنعم‪.‬‬
‫مِن أين لكم برهان من الِّ ورسولِه بالفرق بين العقدين فى اعتبار حُكم أحدهما‪ ،‬واللزام به‬
‫وتنفيذه‪ ،‬وإلغاء الخر وإبطاله؟‬
‫وأما زوالُ ملكه عن العين بالتلف المحرّم‪ ،‬فذلك ملك قَد زال حساً‪ ،‬ولم يبق له محل‪ .‬وأما‬
‫زوالُه بالقرار الكاذب‪ ،‬فأبعد وأبعد‪ ،‬فإنّا صدقناه ظاهراً فى إقراره وألزمنا ُم ْلكَه بالقرار المصدّق‬
‫فيه وإن كان كاذباً‪.‬‬
‫وأما زوال اليمان بالكل ِم الذى هو كفر‪ ،‬فقد تقدم جوابُه‪ ،‬وأنه ليس فى الكفر حلل وحرام‪.‬‬
‫وأما طلقُ الهازِلِ‪ ،‬فإنما وقع‪ ،‬لنه صادف محلً‪ ،‬وهو طهر لم يُجامع فيه فنفذ‬
‫وكونُه هزل به إرادة منه أو ل يترتب أثرُه عليه‪ ،‬وذلك ليس إليه‪ ،‬بل إلى الشارع‪ ،‬فهو قد أتى‬
‫بالسبب التام‪ ،‬وأراد أل يكونَ سببه‪ ،‬فلم ينفعْه ذلك‪ ،‬بخلف من طلّق فى غير زمن الطلق‪ ،‬فإنه لم‬

‫‪130‬‬
‫ب الّذى نصَبه الُّ سبحانه مفضيًا إلى وقوع الطلق‪ ،‬وإنما أتي بسبب مِن عنده‪ ،‬وجعله‬
‫يأت بالسّب ِ‬
‫هو مفضيًا إلى حكمه‪ ،‬وذلك ليس إليه‪.‬‬
‫وأما قولُكم‪ :‬إن النكاح نِعمة‪ ،‬فل يكون سببُه إل طاعةً بخلف الطلق‪ ،‬فإنه‬
‫من باب إزالة النعم‪ ،‬فيجوزُ أن يكونَ س َببَ ُه معصيةً‪ ،‬فيقال‪ :‬قد يكون الطلق من أكبر النعم التى يفك‬
‫لّ على عباده‬
‫بها المطلق الغُل من عنقه‪ ،‬والقيد من رِجله‪ ،‬فليس كُلّ طلقٍ نِقمة‪ ،‬بل مِن تمام نعمة ا ِ‬
‫ن زوج‪ ،‬والتخلّصَ ممن ل يُحبها‬
‫أن مكّنهم مِن المفارقة بالطلق إذا أراد أحدُهم استبدالَ زوج مكا َ‬
‫ل الطلق‪ ،‬ثم كيف يكون نِقمةُ والُّ‬
‫ن مث ُ‬
‫ن مثلُ النكاح‪ ،‬ول للمتباغضي ِ‬
‫ول يُلئمها‪ ،‬فلم يُر للمتحا ّبيْ ِ‬
‫طلّ ْقتُ ُم النّسَا َء مَا لَ ْم َتمَسّوهُنّ} [البقرة‪ ،]236 :‬ويقول‪{ :‬يََأيّها النّبىّ‬
‫عَل ْيكُم إنْ َ‬
‫جنَاحَ َ‬
‫تعالى يقول‪{:‬لَ ُ‬
‫طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪]1 :‬؟‪.‬‬
‫طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ فَ َ‬
‫إذَا َ‬
‫ج يُحتاط لها‪ ،‬فنعم‪ ،‬وهكذا قلنا سواء‪ ،‬فإنا‬
‫وأما قولُكم‪ :‬إن الفرو َ‬
‫ن على يقينِ النكاح حتى يأتى ما يُزيلُه بيقين فإذا أخطأنا‪ ،‬فخطؤُنا فى جهة‬
‫احتطنا‪ ،‬وأبقينا الزوجي ِ‬
‫واحدة‪ ،‬وإن أصبنا‪ ،‬فصوابُنا فى جهتين‪ ،‬جه ِة الزوج الولِ‪ ،‬وجه ِة الثانى‪ ،‬وأنتم ترتكبُون أمرينِ‪:‬‬
‫ل له بيقين‪ ،‬وإحللَه لِغيره‪ .‬فإن كان خطأ‪ ،‬فهو خطأ مِن جهتين‪،‬‬
‫تحري َم الفرج على من كان حل ً‬
‫فتبيّن أنّا أولى بالحتياط منكم‪ ،‬وقد قال الما ُم أحمد فى رواية أبى طالب‪ :‬فى طلق السكران نظير‬
‫هذا الحتياط سواء‪ ،‬فقال‪ :‬الذى ل يأ ُمرُ بالطلق‪ :‬إنما أتى خصلةً واحدةً‪ ،‬والّذى يأمر بالطلق أتى‬
‫خصلتينِ حرّمها عليه‪ ،‬وأحلّها لِغيره‪ ،‬فهذا خي ٌر مِن هذا‪.‬‬
‫وأما قولُكم‪ :‬إن النّكاحَ يدخل فيه بالعزيمة والحتياط‪ ،‬ويُخرج‬
‫منه بأدنى شىء قلنا‪ :‬ولكن ل يُخرج منه إل بما نصبَه ال سببًا يُخرج به منه‪ ،‬وأذن فيه‪ :‬وأما ما‬
‫صبُه المؤمِنُ عنده‪ ،‬ويجعله هو سببًا للخروج منه‪ ،‬فكلّ‪ .‬فهذا منتهى أقدام الطائفتين فى هذه‬
‫ين ِ‬
‫ل لدى‬
‫عنّةَ أدلتها الفرسانُ‪ ،‬وتتضاء ُ‬
‫المسألة الضيق ِة المعتركِ‪ ،‬الوعر ِة المسلك التى يتجاذب أَ ِ‬
‫صولتها شجاعةُ الشجعانِ‪ ،‬وإنما نبهنا على مأخذِها وأدّلتِها ليعلم ال ِغ ّر الذى بِضاعتُه مِن العلم‬
‫صرَ فى العلم باعُه‪ ،‬فضعف خلف‬
‫مزجاة‪ ،‬أن هناك شيئًا آخر وراءَ ما عنده‪ ،‬وأنه إذا كان ممن َق ُ‬
‫ع ْزمِه‪ ،‬وحامَ حولَ آثار رسول‬
‫صرَ عن جنى ثماره ذِراعُه‪َ ،‬ف ْل َيعْ ُذرْ مَنْ ش ّمرَ عن ساق َ‬
‫الدليل‪ ،‬وتقا َ‬
‫ل همة‪ ،‬وإن كانَ غيرَ عاذر لمنازعه فى‬
‫ال صلى ال عليه وسلم وتحكيمِها‪ ،‬والتحاكم إليها بكُ ّ‬
‫قصورِه ورغبته عن هذا الشأن البعيد‪ ،‬فليع ِذ ْر مُنازِعَه فى رغبته عما ارتضاه لنفسه مِن محض‬
‫ى السعيين أحقّ بأن يكون هو السعى المشكور‪ ،‬والُّ‬
‫التقليد‪ ،‬ولينظر مع نفسه أيّهما هو المعذورُ‪ ،‬وأ ّ‬

‫‪131‬‬
‫ح لمن أمّ بابَه طالبًا لمرضاته من الخير كلّ‬
‫المستعان وعليه التّكلن‪ ،‬وهو الموفّقُ للصواب‪ ،‬الفاتِ ُ‬
‫باب‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيمن طلق ثلثًا بكلمة واحدة‬
‫قد تقدم حديثُ محمود بن لبيد رضى ال عنه‪ :‬أن رسولَ ال صلى ال عليه وسلم أُخْب َر عن‬
‫لّ وَأنَا َبيْنَ‬
‫ب ِب ِكتَابِ ا ِ‬
‫رجل طلّق امرأته ثلثَ تطليقات جميعاً‪ ،‬فقام مُغضبَاً‪ ،‬ثم قال‪َ(( :‬أ ُي ْلعَ ُ‬
‫ظ ُه ِركُمْ؟!))‪ ،‬وإسناده على شرط مسلم‪ ،‬فإن ابن وهب قد رواه عن مخرمة بن بُكير بن الشج‪ ،‬عن‬
‫أَ ْ‬
‫أبيه قال‪ :‬سمعت محمود بن لبيد فذكره‪ ،‬ومخرمة ثقة بل شك‪ ،‬وقد احتج مسلم فى ((صحيحه))‬
‫بحديثه عن أبيه‪.‬‬
‫والذين أعلوه قالوا‪ :‬لم يسمع منه‪ ،‬وإنما هو كتابٌ‪ .‬قال أبُو طالب‪ :‬سألت أحمد بن حنبل عن‬
‫مخرمة بنِ بُكير؟ فقال‪ :‬هو ثقة‪ ،‬ولم يسمع من أبيه‪ ،‬إنما هو كتابُ‪ ،‬فنظر فيه‪ ،‬كُلّ شىء يقول‪:‬‬
‫بلغنى عن سُليمان بن يسار‪ ،‬فهو مِن كتاب مخرمة‪ .‬وقال أبو بكر بن أبى خيثمة‪ :‬سمعتُ يحيى بنَ‬
‫معين يقول‪ :‬مخرم ُة بن بُكير وقع إليه كتابُ أبيه‪ ،‬ولم يسمعه‪ .‬وقال فى رواية عباس الدّورى‪ :‬هو‬
‫ضعيفٌ‪ ،‬وحديثُه عن أبيه كتاب‪ ،‬ولم يسمعه منه‪ ،‬وقال أبو داود‪ :‬لم يسمع من أبيه إل حديثاً واحداً‪،‬‬
‫ث الوتر‪ ،‬وقال سعيد بن أبى مريم عن خاله موسى بن سلمة‪ :‬أتيتُ مخرمة فقلت‪ :‬حدثك أبُوك؟‬
‫حدي َ‬
‫ك أبى‪ ،‬ولكن هذه كتبه‪.‬‬
‫قال‪ :‬لم أُ ْد ِر ْ‬
‫والجوابُ عن هذا من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن كِتابَ أبيه كان عنده محفوظًا مضبوطاً‪ ،‬فل فرقَ فى قيامِ الحجة بالحديثِ بينَ ما‬
‫حدّثه به‪ ،‬أو رآه فى كتابه‪ ،‬بل الخذُ عن النسخة أحوطُ إذا تيقّن الراوى أنها نسخة الشيخ بعينها‪،‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك‪،‬‬
‫وهذه طريق ُة الصحابة والسلف‪ ،‬وقد كان رسو ُ‬
‫وتقوم عليهم بها الحجة‪ ،‬وكتب كتبه إلى عُماله فى بلد السلم‪ ،‬فعلموا بها‪ ،‬واحتجوا بها‪ ،‬ودفع‬
‫ت به‬
‫عمَِل ْ‬
‫الصديق كتابَ رسول ال صلى ال عليه وسلم فى الزكاة إلى أنسِ بن مالك‪ ،‬فحمله‪ ،‬و َ‬
‫المةُ‪ ،‬وكذلك كتابُه إلى عمرو بن حزم فى الصدقات الذى كان عند آل عمرو‪ ،‬ولم يزل السلفُ‬
‫ب إليه‪ :‬كتب إلى فلن أن فلناً أخبره‪،‬‬
‫ب بعضهم إلى بعض‪ ،‬ويقول المكتو ُ‬
‫والخلفُ يحتجّون بكتا ِ‬
‫ولو بطل الحتجاجُ بال ُكتُب‪ ،‬لم يبق بأيدى المة إل أيس ُر اليسير‪ ،‬فإن العتماد إنما هو على النّسْخِ‬
‫خوّان‪ ،‬والنسخة ل تخون‪ ،‬ول يحفظ فى زمن من الزمان المتقدّمة أن أحداً‬
‫ل على الحفظ‪ ،‬والحفظ َ‬

‫‪132‬‬
‫مِن أهل ال ِعلْ ِم رَدّ الحتجاج بالكتاب‪ ،‬وقال‪ :‬لم يُشافهنى به الكاتبُ‪ ،‬فل أقبلُه‪ ،‬بل ُكلّهم مجمعون على‬
‫قبول الكتابِ والعمل به إذا صح عنده أنه كتابُه‪.‬‬
‫الجواب الثانى‪ :‬أن قول من قال‪ :‬لم يسمع من أبيه‪ ،‬مُعارَض بقول من قال‪ :‬سمع منه‪ ،‬ومعه‬
‫زياد ُة علم وإثبات‪ ،‬قال عبد الرحمن بن أبى حاتم‪ :‬سئل أبى عن مخرمة بن بُكير؟ فقال‪ :‬صالحُ‬
‫الحديث‪ .‬قال‪ :‬وقال ابنُ أبى أويس‪ :‬وجدت فى ظهر كتاب مالك‪ :‬سألت مخرمة عما يُحدّث به عن‬
‫ب هذه ال َبنِيّةِ يعنى المسجدَ سمعتُ من أبى‪ .‬وقال علىُ بنُ‬
‫أبيه‪ ،‬سمعها مِن أبيه؟ فحلف لى‪ :‬و َر ّ‬
‫المدينى‪ :‬سمعتُ معن بن عيسى يقول‪ :‬مخرمةُ سمع من أبيه‪ ،‬وعرض عليه ربيعة أشياء مِن رأى‬
‫سليمان ابن يسار‪ ،‬وقال على‪ :‬ول أظن مخرمَة سمع مِن أبيه كتابَ سليمان‪ ،‬لعلّه سمع منه الشىءَ‬
‫اليسير‪ ،‬ولم أجد أحداً بالمدينة يخبرنى عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول فى شىء من حديثه‪:‬‬
‫ج به فى ((موطئه))‪،‬‬
‫سمعت أبى‪ ،‬ومخرمة ثقة‪ .‬انتهى‪ .‬ويكفى أن مالكاً أخذ كِتابه‪ ،‬فنظر فيه‪ ،‬واحت ّ‬
‫وكان يقول‪ :‬حدثنى مخرمة‪ ،‬وكان رجلً صالحاً‪ .‬وقال أبو حاتم‪ :‬سألت إسماعيل بن أبى أويس‪،‬‬
‫قلت‪ :‬هذا الذى يقول مالك بن أنس‪ :‬حدثنى الثقة‪ ،‬من هو؟ قال‪ :‬مخرمة بن بكير‪ .‬وقيل لحمد بن‬
‫صالح المصرى‪ :‬كان مخرمة من ثقات الرجال؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وقال ابنُ عدى عن ابن وهب ومعن ابن‬
‫عيسى عن مخرمة‪ :‬أحاديثُ حِسانٌ مستقيمة وأرجو أنه ل بأس به‪.‬‬
‫غ ْي َركَ‪،‬‬
‫حتّى َت ْنكِحَ َزوْجاً َ‬
‫عَل ْيكَ َ‬
‫ح ُر َمتْ َ‬
‫ل ابنِ عمر للمطلّق ثلثاً‪َ (( :‬‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) قو ُ‬
‫ك بِ ِه مِنْ طَلقِ ا ْم َرَأ ِتكَ))‪ .‬وهذا تفسيرٌ منه للطلق المأمور به‪ ،‬وتفسيرُ‬
‫ت َر ّبكَ فِيمَا َأ َمرَ َ‬
‫ص ْي َ‬
‫وعَ َ‬
‫حجّةٌ‪ ،‬وقال الحاكم‪ :‬هو عندنا مرفوع‪.‬‬
‫الصحابى ُ‬
‫ق المشروعَ بع َد الدخول هو‬
‫ومن تأمّل القرآن حقّ التأمل‪ ،‬تبيّن له ذلك‪ ،‬وعرف أن الطل َ‬
‫ع الثلث جمل ٌة واحدة البتة؛ قال تعالى‪:‬‬
‫الطلقُ الذى يملكُ به الرجعة‪ ،‬ولم يشرعِ ال سبحانه إيقا َ‬
‫ع المرتين إل متعاقبتين‪ ،‬كما قال‬
‫ل العرب فى لغتها وقو َ‬
‫{الطّلَقُ َم ّرتَانِ} [البقرة‪ ، ]229 :‬ول تعقِ ُ‬
‫لثِينَ‪ ،‬وحمِده ثلثًا وثلثين‪،‬‬
‫لةٍ ثلثًا َوثَ َ‬
‫ل صَ َ‬
‫سبّحَ الَّ ُد َبرَ كُ ّ‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَنْ َ‬
‫ل يتلو بعضهُ‬
‫لثِينَ))‪ ،‬ونظائره فإنه ل يُعقل من ذلك إل تسبيح وتكبيرٌ وتحميدُ متوا ٍ‬
‫و َكبّرهُ أَر ْبعًَا وث َ‬
‫ل أكبر أربعًا وثلثين بهذا‬
‫بعضاً‪ ،‬فلو قال‪ :‬سبحان ال ثلثًا وثلثين‪ ،‬والحمد لّ ثلثاً وثلثين‪ ،‬وا ّ‬
‫ن َلهُمْ‬
‫جهُ ْم ولم َيكُ ْ‬
‫ن َي ْرمُونَ َأ ْزوَا َ‬
‫ث مرات فقط‪ ،‬وأصرحُ من هذا قوله سبحانه‪{ :‬والّذِي َ‬
‫ن ثل َ‬
‫اللفظ‪ ،‬لكا َ‬
‫شهَاداتٍ بالِّ} [النور‪ ]6 :‬فلو قال‪ :‬أشهدُ بالِّ أربع شهادات‬
‫شهَا َد ُة أَحَدِهِ ْم َأ ْربَعُ َ‬
‫سهُمْ فَ َ‬
‫شهَدَاءُ إلّ َأنْفُ ُ‬
‫ُ‬
‫لّ ِإنّهُ‬
‫شهَادَاتٍ بِا ِ‬
‫شهَ َد َأ ْربَعَ َ‬
‫ن تَ ْ‬
‫ع ْنهَا العَذَابَ أَ ْ‬
‫إنى لمن الصادقين‪ ،‬كانت مرّة‪ ،‬وكذلك قولُه‪َ { :‬ويَ ْدرُؤا َ‬

‫‪133‬‬
‫لّ أربَع شهادات إنه لمن الكاذبين‪ ،‬كانت واحدة‪،‬‬
‫لَمنَ الكَا ِذبِينَ} [النور‪ ]8 :‬فلو قالت‪ :‬أشه ُد با ِ‬
‫س ُنعَ ّذبُهم َم ّر َتيْنِ} [التوبة‪ ]101 :‬فهذا مرة بعد مرة‪ ،‬ول ينتقض هذا‬
‫ح مِن ذلك قولُه تعالى‪َ { :‬‬
‫وأصر ُ‬
‫لثَةٌ ُي ْؤتَونَ‬
‫جرَها َم ّر َتيْنِ} [الحزاب‪ ،]31 :‬وقولهِ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ثَ َ‬
‫بقوله تعالى‪ُ { :‬ن ْؤتِها أَ ْ‬
‫جرَهُم َم ّر َتيْنِ))‪ .‬فإن المرتين هنا هما الضّعفان‪ ،‬وهما المِثلن‪ ،‬وهما مِثلن فى القدر‪ ،‬كقوله‬
‫أَ ْ‬
‫ف َلهَا العَذَاب ضِعفَين} [الحزاب‪ .]30 :‬أي‪ :‬ضعفي ما يعذب به غيرها ‪ ،‬وضعفي‬
‫ع ْ‬
‫تعالى‪ُ { :‬يضَا َ‬
‫ما كانت تؤتي ‪ ،‬ومن هذا قول أنس‪ :‬انشق القمر على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم مرتين ‪،‬‬
‫أي‪ :‬شقتين وفرقتين ‪ ،‬كما قال في اللفظ الخر‪ :‬انشق القمر فلقتين‪ .‬وهذا أمر معلوم قطعًا أنه إنما‬
‫انشق القمر مرة واحدة ‪ ،‬والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان ‪ ،‬وبين ما يكون مثلين‬
‫وجزأين ومرتين في المضاعفة‪ .‬فالثاني‪ :‬يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد ‪ ،‬والول ل‬
‫يتصور فيه ذلك‪.‬‬
‫لثَةَ‬
‫ن ثَ َ‬
‫سهِ ّ‬
‫ن بَِأنْفُ ِ‬
‫ت َي َت َربّصْ َ‬
‫طلّقا ُ‬
‫ومما يدل على أن ال لم يشرع الثلث جملة ‪ ،‬أنه قال تعالى‪{ :‬وَا ْلمُ َ‬
‫ن َأرَا ُد َواْ ِإصْلَحاً} [البقرة‪:‬‬
‫ق ِبرَدّهنّ فِي َذِلكَ إِ ْ‬
‫ُق ُروَءٍ} [البقرة‪ ]228 :‬إلى أن قال‪َ { :‬و ُبعُوَل ُتهُنّ أَحَ ّ‬
‫‪ ، ]228‬فهذا يدل على أن كل طلق بعد الدخول ‪ ،‬فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة‬
‫طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪:‬‬
‫طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ فَ َ‬
‫ى إذَا َ‬
‫المذكورة بعد هذا ‪ ،‬وكذلك قوله تعالى‪{ :‬يََأيّها النّب ّ‬
‫ن ِب َم ْعرُوفٍ} [الطلق‪ ،]2 :‬فهذا‬
‫ن ِب َم ْعرُوفٍ َأوْ فَارِقُوهُ ّ‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫جَلهُنّ فََأمْ ِ‬
‫‪ ]1‬إلى قوله‪{ :‬فَإِذَا َبَلغْنَ أَ َ‬
‫هو الطلق المشروع ‪ ،‬وقد ذكر ال سبحانه وتعالى أقسام الطلق كلها في القرآن ‪ ،‬وذكر‬
‫أحكامها ‪ ،‬فذكر الطلق قبل الدخول ‪ ،‬وأنه ل عدة فيه ‪ ،‬وذكر الطلقة الثالثة ‪ ،‬وأنها تحرم الزوجة‬
‫على المطلق حتى تنكح زوجًا غيره ‪ ،‬وذكر طلق الفداء الذي هو الخلع ‪ ،‬وسماه فدية ‪ ،‬ولم يحسبه‬
‫من الثلث كما تقدم ‪ ،‬وذكر الطلق الرجعي الذي المُطلق أحق فيه بالرجعة ‪ ،‬وهو ما عدا هذه‬
‫القسام الثلثة‪.‬‬
‫وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض‬
‫بائنة ‪ ،‬وأنه إذا قال لها‪ :‬أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية ‪ ،‬ويلغو وصفُها بالبينونة ‪ ،‬وأنه ل ملك‬
‫إبانتها إل بعوض‪ .‬وأما أبو حنيفة ‪ ،‬فقال‪ :‬تبين بذلك ‪ ،‬لن الرجعة حق له ‪ ،‬وقد أسقطها ‪،‬‬
‫والجمهور يقولون‪ :‬وإن كانت الرجعة حقًا لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه ‪ ،‬ل يملك إسقاطه‬
‫إل باختيارها ‪ ،‬وبذلها العوض ‪ ،‬أو سؤالها أن تفتدي نفسها منه بغير عوض في أحد القولين ‪ ،‬وهو‬
‫جواز الخلع بغير عوض‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ول بذلها العوض ‪ ،‬فخلف النص والقياس‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فال سبحانه شرع الطلق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة ‪ ،‬فإنهم كانوا‬
‫يطلقون في الجاهلية بغير عدد ‪ ،‬فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ‪ ،‬ويراجعها ‪ ،‬وهذا وإن كان فيه‬
‫رفق بالرجل ‪ ،‬ففيه إضرار بالمرأة ‪ ،‬فنسخ سبحانه ذلك بثلث ‪ ،‬وقصر الزوج عليها ‪ ،‬وجعله أحق‬
‫بالرجعة ما لم تنقض عدتها ‪ ،‬فإذا استوفى العدد الذي ملكه ‪ ،‬حرمت عليه ‪ ،‬فكان في هذا رفق‬
‫بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة ‪ ،‬وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلث ‪ ،‬فهذا شرعه‬
‫وحكمته ‪ ،‬وحدوده التي حدها لعباده ‪ ،‬فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها كان خلف شرعه‬
‫وحكمته ‪ ،‬وهو لم يملك إيقاع الثلث جملة ‪ ،‬بل إنما ملك واحدة ‪ ،‬فالزائد عليها غير مأذون له فيه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة ‪ ،‬إذ هو خلف ما شرعه ‪ ،‬لم يملك إبانتها بثلث‬
‫مجموعة ‪ ،‬إذ هو خلف شرعه‪.‬‬
‫ونكتة المسألة أن ال لم يجعل للمة طلقاً بائنًا قط إل في موضعين‪ .‬أحدهما‪ :‬طلق غير المدخول‬
‫بها‪ .‬والثاني‪ :‬الطلقة الثالثة ‪ ،‬وما عداه من الطلق ‪ ،‬فقد جعل للزوج فيه الرجعة ‪ ،‬هذا مقتضى‬
‫الكتاب كما تقدم تقريره ‪ ،‬وهذا قول الجمهور ‪ ،‬منهم‪ :‬المام أحمد ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأهل الظاهر ‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬ل يملك إبانتها بدون الثلث إل في الخلع‪.‬‬
‫ولصحاب مالك ثلثة أقوال فيما إذا قال‪ :‬أنت طالق طلقة ل رجعة فيها‪ .‬أحدها‪ :‬أنها ثلث ‪ ،‬قاله‬
‫ابن الماجشون لنه قطع حقه من الرجعة ‪ ،‬وهي ل تنقطع إل بثلث ‪ ،‬فجاءت الثلث ضرورة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنها واحدة بائنة ‪ ،‬كما قال ‪ ،‬وهذا قول ابن القاسم ‪ ،‬لنه يملك إبانتها بطلقة بعوض ‪ ،‬فملكها‬
‫بدونه ‪ ،‬والخلع عنده طلق‪ .‬الثالث‪ :‬أنها واحدة رجعية ‪ ،‬وهذا قول ابن وهب ‪ ،‬وهو الذي يقتضيه‬
‫الكتاب والسنة والقياس ‪ ،‬وعليه الكثرون‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما المسألة الثانية ‪ ،‬وهي وقوع الثلث بكلمة واحدة ‪ ،‬فاختلف الناس فيها على أربعة‬
‫مذاهب‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أنها تقع ‪ ،‬وهذا قول الئمة الربعة ‪ ،‬وجمهور التابعين ‪ ،‬وكثير من الصحابة رضي‬
‫ال عنهم‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫الثاني‪ :‬أنها ل تقع ‪ ،‬بل ترد لنها بدعة محرمة ‪ ،‬والبدعة مردودة لقوله صلى ال عليه‬
‫ل ليس عليه أمرنا فهو رد)) وهذا المذهب حكاه أبو محمد ابن حزم ‪ ،‬وحكي‬
‫وسلم‪(( :‬من عمل عم ً‬
‫للمام أحمد فأنكره ‪ ،‬وقال‪ :‬هو قول الرافضة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه يقع به واحدة رجعية ‪ ،‬وهذا ثابت عن ابن عباس ‪ ،‬ذكره أبو داود عنه‪ .‬قال‬
‫المام أحمد‪ :‬وهذا مذهب ابن إسحاق ‪ ،‬يقول‪ :‬خالف السنة فيرد إلى السنة ‪ ،‬انتهى ‪ ،‬وهو قول‬
‫طاووس ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬وهو اختيار شيخ السلم ابن تيمية‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها ‪ ،‬فتقع الثلث بالمدخول بها ‪ ،‬ويقع بغيرها‬
‫واحدة ‪ ،‬وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس ‪ ،‬وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه‬
‫محمد بن نصر المروزي في كتاب ((اختلف العلماء))‪.‬‬
‫فأما من لم يوقعها جملة ‪ ،‬فاحتجوا بأنه طلق بدعة محرم ‪ ،‬والبدعة مردودة ‪ ،‬وقد‬
‫اعترف أبو محمد ابن حزم بأنها لو كانت بدعة محرمة ‪ ،‬لوجب أن ترد وتبطل ‪ ،‬ولكنه اختار‬
‫مذهب الشافعي أن جمع الثلث جائز غير محرم ‪ ،‬وستأتي حجة هذا القول‪.‬‬
‫وأما من جعلها واحدة ‪ ،‬فاحتج بالنص والقياس ‪ ،‬فأما النص ‪ ،‬فما رواه معمر‬
‫‪ ،‬وابن جريج عن ابن طاووس ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬أن أبا الصهباء قال لبن عباس‪ :‬ألم تعلم أن الثلث‬
‫كانت تجعل واحدة على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأبي بكر ‪ ،‬وصدرًا من إمارة عمر؟‬
‫قال نعم‪ .‬رواه مسلم في ((صحيحة))‪.‬‬
‫وفي لفظ‪ :‬ألم تعلم أن الثلث كانت على عهد رسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأبي بكر ‪،‬‬
‫وصدراً من خلفة عمر ترد إلى واحدة؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫وقال أبو داود‪ :‬حدثنا أحمد بن صالح ‪ ،‬حدثنا عبد الرازق ‪ ،‬أن ابن جريج قال‪ :‬أخبرني‬
‫بعض بني أبي رافع مولى رسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬قال‪ :‬طلق‬
‫عبد يزيد ‪ -‬أبو ركانة وإخوته ‪ -‬أم ركانة ‪ ،‬ونكح امرأة من مزينة ‪ ،‬فجاءت النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم فقالت‪ :‬ما يغني عني إل كما تغني هذه الشعرة ‪ ،‬لشعرة أخذتها من رأسها ‪ ،‬ففرق بيني‬
‫وبينه ‪ ،‬فأخذت النبي صلى ال عليه وسلم حمية ‪ ،‬فدعا بركانة وإخوته ‪ ،‬ثم قال لجلسائه‪( :‬أل ترون‬
‫أن فلناً يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد ‪ ،‬وفلنًا منه كذا وكذا)؟ قالوا‪ :‬نعم ‪ ،‬قال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم لعبد يزيد‪( :‬طلقها) ‪ ،‬ففعل ثم قال ((راجع امرأتك أم ركانة وإخوته)) فقال‪ :‬إني طلقتها‬

‫‪136‬‬
‫طلّقُوهُنّ‬
‫طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ فَ َ‬
‫ثلثاً يا رسول ال ‪ ،‬قال‪(( :‬قد علمت راجعها)) وتل‪{ :‬يََأيّها النّبىّ إذَا َ‬
‫ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪.]1 :‬‬
‫وقال المام أحمد‪ :‬حدثنا سعد بن إبراهيم ‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا أبي ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ ،‬عن عبد ال‬
‫بن عباس ‪ ،‬قال‪ :‬طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بن المطلب امرأته ثلثاً في مجلس واحد ‪ ،‬فحزن‬
‫عليها حزناً شديداً ‪ ،‬قال‪ :‬فسأله رسول ال صلى ال عليه وسلم ((كيف طلقتها)) ‪ ،‬فقال‪ :‬طلقتها ثلثاً‬
‫‪ ،‬فقال‪(( :‬في مجلس واحد؟)) قال‪ :‬نعم ‪ ،‬قال‪(( :‬فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت)) قال‪ :‬فراجعها‪.‬‬
‫فكان ابن عباس يرى أنما الطلق عند كل طهر‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما القياس ‪ ،‬فقد تقدم أن جمع الثلث محرم وبدعة ‪ ،‬والبدعة مردودة ‪ ،‬لنها‬
‫ليست على أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قالوا‪ :‬وسائر ما تقدم في بيان التحريم يدل على‬
‫ت بِال}‬
‫شهَادَا ٍ‬
‫شهَا َد ُة أَحَدِهِ ْم َأ ْربَعُ َ‬
‫عدم وقوعها جملة‪ .‬قالوا‪ :‬ولو لم يكن معنا إل قوله تعالى‪{ :‬فَ َ‬
‫ت بِال} [النور‪ ، ]8 :‬قالوا‪ :‬وكذلك‬
‫شهَادَا ٍ‬
‫شهَ َد َأ ْربَعَ َ‬
‫ب أَن تَ ْ‬
‫ع ْنهَا ا ْلعَذَا َ‬
‫[النور‪ ، ]6 :‬وقوله‪َ { :‬ويَ ْد َر ُؤاْ َ‬
‫كل ما يعتبر له التكرار من حلف أو إقرار أو شهادة ‪ ،‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫((تحلفون خمسين يميناً ‪ ،‬وتستحقون دم صاحبكم)) فلو قالوا‪ :‬نحلف بال يميناً‪ :‬إن فلناً قتله ‪ ،‬كانت‬
‫يميناً واحدة‪ .‬قالوا‪ :‬وكذلك القرار بالزنى ‪ ،‬كما في الحديث‪ :‬إن بعض الصحابة قال لماعز‪ :‬إن‬
‫أقررت أربعاً ‪ ،‬رجمك رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فهذا ل يعقل أن تكون الربع فيه مجموعة‬
‫بفم واحد‪.‬‬
‫وأما الذين فرقوا بين المدخول بها وغيرها ‪ ،‬فلهم حجتان‪.‬‬
‫إحداهما‪ :‬ما رواه أبو داود بإسناد صحيح ‪ ،‬عن طاووس ‪ ،‬أن رجلً يقال له‪ :‬أبو الصهباء‬
‫كان كثير السؤال لبن عباس ‪ ،‬قال له‪ :‬أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلثاً قبل أن يدخل‬
‫بها جعلوها واحدة على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر؟‬
‫فلما رأى عمر الناس قد تتايعوا فيها‪ :‬قال‪ :‬أجيزوهن عليهم‪.‬‬
‫الحجة الثانية‪ :‬أنها تبين بقوله‪ :‬أنت طالق ‪ ،‬فيصادقها ذكر الثلث وهي بائن ‪ ،‬فتلغو ورأى‬
‫هؤلء أن إلزام عمر بالثلث هو في حق المدخول بها ‪ ،‬وحديث أبي الصهباء في غير المدخول‬
‫بها‪ .‬قالوا‪ :‬ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين ‪ ،‬وموافقة القياس ‪ ،‬وقال بكل قول من هذه‬
‫القوال جماعة من أهل الفتوى ‪ ،‬كما حكاه أبو محمد ابن حزم وغيره ‪ ،‬ولكن عدم الوقوع جملة هو‬
‫مذهب المامية ‪ ،‬وحكوه عن جماعة من أهل البيت‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫قال الموقعون للثلث‪ :‬الكلم معكم في مقامين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬تحريم جمع الثلث‪ .‬والثاني‪ :‬وقوعها جملة ولو كانت محرمة ‪ ،‬ونحن نتكلم معكم‬
‫في المقامين‪ .‬فأما الول‪:‬‬
‫فقد قال الشافعي ‪ ،‬وأبو ثور ‪ ،‬وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه ‪ ،‬وجماعة من أهل‬
‫حتّى‬
‫ل لَ ُه مِن َبعْدُ َ‬
‫ل تَحِ ّ‬
‫طلّقهَا فَ َ‬
‫الظاهر‪ :‬إن جمع الثلث سنة ‪ ،‬واحتجوا عليه بقوله تعالى‪{ :‬فَإِنْ َ‬
‫غ ْي َرهُ} [البقرة‪ ، ]230 :‬ولم يفرق بين أن تكون الثلثُ مجموعةً‪ ،‬أو مفرّقة‪ ،‬ول يجوز‬
‫َت ْنكِحَ َزوْجاً َ‬
‫طلّ ْقتُموُهُنّ مِنْ‬
‫أن نفرّق بينَ ما جمع ال بينه‪ ،‬كما ل نجمع بين ما فرّق ال بينه‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬وإِنْ َ‬
‫طلّ ْقتُم النّسا َء مَا لَم‬
‫عَل ْيكُمْ إِنْ َ‬
‫ل أنْ تَمسّوهُنّ} [البقرة‪ ،]237 :‬ولم يفرق وقال‪{ :‬ل جُناَحَ َ‬
‫َقبْ ِ‬
‫ع بِال َم ْعرُوفِ} [البقرة‪ ،]241 :‬وقال‪َ { :‬يَأيّها‬
‫ت متَا ٌ‬
‫طلّقَا ِ‬
‫َتمَسّوهُنّ} الية‪ ،‬ولم يفرق وقال‪{ :‬وَل ْلمُ َ‬
‫ل أَن َتمَسّوهُنّ} [الحزاب‪ ،]49 :‬ولم يفرق‪.‬‬
‫طلّ ْق ُتمُوهُنّ مِن َقبْ ِ‬
‫حتُ ُم ا ْل ُم ْؤ ِمنَاتِ ثُمّ َ‬
‫الّذينَ آ َم ُن َواْ إِذَا َنكَ ْ‬
‫قالوا‪ :‬وفي ((الصحيحين)) ‪ ،‬بطلقها‪ .‬قالوا‪ :‬فلو كان جمع الثلث معصية لما أقر عليه رسول‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ول يخلو طلقها أن يكون قد وقع وهي امرأته ‪ ،‬أو حين حرمت عليه‬
‫باللعان‪.‬‬
‫فإن كان الول ‪ ،‬فالحجة منه ظاهرة ‪ ،‬وإن كان الثاني ‪ ،‬فل شك أنه طلقها ‪ ،‬وهو يظنها‬
‫امرأته ‪ ،‬فلو كان حراماً ‪ ،‬لبينها له رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وإن كانت قد حرمت عليه‪.‬‬
‫ل طلق‬
‫قالوا‪ :‬وفي صحيح البخاري ‪ ،‬من حديث القاسم بن محمد ‪ ،‬عن عائشة أم المؤمنين ‪ ،‬أن رج ً‬
‫امرأته ثلثاً ‪ ،‬فتزوجت ‪ ،‬فطلقت‪ ،‬فسئل رسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أتحل للول؟ قال‪(( :‬ل حتى‬
‫يذوق عسيلتها كما ذاق الول)) ‪ ،‬فلم ينكر صلى ال عليه وسلم ذلك ‪ ،‬وهذا يدل على إباحة جمع‬
‫الثلث ‪ ،‬وعلى وقوعها ‪ ،‬إذ لو لم تقع ‪ ،‬لم يوقف رجوعها إلى الول على ذوق الثاني عسيلتها‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن ‪ ،‬أن فاطمة بنت قيس‬
‫أخبرته أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلثًا ‪ ،‬ثم انطلق إلى اليمن ‪ ،‬فانطلق خالد‬
‫بن الوليد في نفر ‪ ،‬فأتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين ‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن أبا‬
‫حفص طلق امرأته ثلثاً ‪ ،‬فهل لها من نفقة؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ليس لها نفقة‬
‫وعليها العدة))‪.‬‬
‫وفي ((صحيح مسلم)) في هذه القصة‪ :‬قالت فاطمة ‪ ،‬فأتيت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فقال‪(( :‬كم طلّقك))؟ قلت‪ :‬ثلثاً ‪ ،‬فقال‪(( :‬صدوق ليس لك نفقة))‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫وفي لفظ له‪ :‬قالت‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن زوجي طلقني ثلثاً ‪ ،‬وإني أخاف أن يقتحم علي‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫وفي لفظ له‪ :‬عنها ‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم في المطلقة ثلثاً‪(( :‬ليس لها سكنى ول‬ ‫@‬
‫نفقة))‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وقد روى عبد الرازق في ((مصنفه)) عن يحيى بن العلء ‪ ،‬عن عبيد ال بن الوليد‬
‫الوصافي ‪ ،‬عن إبراهيم بن عبيد ال بن عبادة بن الصامت ‪ ،‬عن داود بن عبادة بن الصامت ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫طلق جدي امرأة له ألف تطليقة ‪ ،‬فانطلق أبي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فذكر له ذلك ‪،‬‬
‫فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ما اتقى ال جدك‪ ،‬أما ثلث فله ‪ ،‬وأما تسعمائة وسبعة وتسعون‬
‫فعدوان وظلم ‪ ،‬إن شاء ال عذبه‪ ،‬وإن شاء غفر له))‪.‬‬
‫ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران ‪ ،‬عن إبراهيم بن عبيد ال بن عبادة بن الصامت ‪،‬‬
‫عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬قال طلق بعض آبائي امرأته ‪ ،‬فانطلق بنوه إلى رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن أبانا طلق أمنَا إلفاً‪ ،‬فهل له من مخرج؟ فقال‪(( :‬إن أباكم لم يتق ال‬
‫‪ ،‬فيجعل له مخرجًا ‪ ،‬بانت منه بثلث على غير السنة ‪ ،‬وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقة))‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وروى محمد بن شاذان ‪ ،‬عن معلي بن منصور ‪ ،‬عن شعيب ابن زريق ‪ ،‬أن عطاء‬
‫الخراساني حدثهم عن الحسن ‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا عبد ال بن عمر رضي ال عنهما ‪ ،‬أنه طلق امرأته‬
‫وهي حائض ‪ ،‬ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرءين الباقيين ‪ ،‬فبلغ ذلك رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال‪(( :‬يا ابن عمر‪ ،‬ما هكذا أمرك ال ‪ ،‬أخطأت السنة))‪ ...‬وذكر الحديث ‪ ،‬وفيه ‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬لو كنت طلقتها ثلثاً ‪ ،‬أكان لي أن أجمعها؟ قال‪(( :‬ل‪ ،‬كانت تبين وتكون‬
‫معصية))‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وقد روى أبو داود في ((سننه))‪ :‬عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة ‪ ،‬أن‬
‫ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ‪ ،‬فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم بذلك ‪ ،‬فقال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬وال ما أردت إل واحدة))؟ فقال ركانة‪ :‬وال ما أردت إل واحدة ‪،‬‬
‫فردها إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فطلقها الثانية في زمن عمر ‪ ،‬والثالثة في زمن عثمان‪.‬‬
‫وفي جامع الترمذي‪ :‬عن عبد ال بن علي بن يزيد بن ركانة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن جده ‪ ،‬أنه طلق‬
‫امرأته ألبته ‪ ،‬فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪(( :‬ما أردت بها))؟ قال‪ :‬واحدة ‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪139‬‬
‫((آل))‪ ،‬قال‪ :‬آل ‪ ،‬قال‪(( :‬هو على ما أردت))‪ .‬قال الترمذي‪ :‬ل نعرفه إل من هذا الوجه ‪ ،‬وسألت‬
‫محمداً ‪ -‬يعني البخاري ‪ -‬عن هذا الحديث؟ فقال‪ :‬فيه اضطراب‪.‬‬
‫ووجه الستدلل بالحديث ‪ ،‬أنه صلى ال عليه وسلم أحلفه أنه أراد بالبتة واحدة ‪،‬‬
‫فدل على أنه لو أراد بها أكثر ‪ ،‬لوقع ما أراده ‪ ،‬ولو لم يفترق الحال لم يحلّفه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وهذا أصح من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس أنه طلقها ثلثاً‪ .‬قال أبو داود‪ :‬لنهم ولد الرجل ‪ ،‬وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلقها البتة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع‪ .‬فإن كان عبيد ال ‪ ،‬فهو ثقة معروف ‪،‬‬
‫وإن كان غيره من إخوته ‪ ،‬فمجهول العدالة ل تقوم به حجة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما طريق المام أحمد ‪ ،‬ففيها ابن إسحاق ‪ ،‬والكلم فيه معروف ‪ ،‬وقد حكى‬
‫الخطابي ‪ ،‬أن المام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأصح ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن العباس ‪ ،‬وقد قال البيهقي‪ :‬هذا الحديث‬
‫أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم ‪ ،‬فأخرجه مسلم وتركه البخاري ‪ ،‬وأظنه تركه لمخالفته سائر‬
‫الروايات عن ابن عباس ‪ ،‬ثم ساق الروايات عنه بوقوع الثلث ‪ ،‬ثم قال‪ :‬فهذه رواية سعيد بن جبير‬
‫‪ ،‬وعطاء بن أبي رباح ‪ ،‬ومجاهد وعكرمة ‪ ،‬وعمرو بن دينار ‪ ،‬ومالك بن الحارث ‪ ،‬ومحمد بن‬
‫إياس بن البكير ‪ ،‬قال‪ :‬ورويناه عن معاوية بن أبي عياش النصاري ‪ ،‬كلهم عن ابن عباس ‪ ،‬أنه‬
‫أجاز الثلث وأمضاهن‪.‬‬
‫وقال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫شيئاً ثم يفتي بخلفه‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬فإن كان معنى قول ابن عباس‪ :‬إن الثلث كانت تحسب على عهد الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم واحدة ‪ ،‬يعني أنه بأمر النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فالذي يشبه ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬أن يكون‬
‫ابن عباس قد علم أنه كان شيئاً فنسخ‪ .‬قال البيهقي‪ :‬ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة‬
‫هذا التأويل ‪ -‬يريد البيهقي ‪ ، -‬ما رواه أبو داود والنسائي ‪ ،‬من حديث عكرمة في قوله تعالى‪:‬‬
‫لثَةَ ُق ُروَءٍ} [البقرة‪ ]228 :‬الية وذلك أن الرجل كان إذا طلق‬
‫ن ثَ َ‬
‫سهِ ّ‬
‫طلّقاتُ َي َت َر ّبصْنَ بَِأنْفُ ِ‬
‫{وَا ْلمُ َ‬
‫ق َم ّرتَان} [البقرة‪.]229 :‬‬
‫امرأته فهو أحق برجعتها ‪ ،‬وإن طلقها ثلثاً ‪ ،‬فنسخ ذلك ‪ ،‬فقال‪{ :‬الطَلَ ُ‬
‫قالوا‪ :‬فيحتمل أن الثلث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت ‪ ،‬بمعنى أن الزوج كان يتمكن‬
‫من المراجعة بعدها ‪ ،‬كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة ‪ ،‬ثم نسخ ذلك‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫وقال ابن سريج‪ :‬يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلق الثلث ‪ ،‬وهو أن‬
‫يفرق بين اللفاظ ‪ ،‬كأن يقول‪ :‬أنت طالق ‪ ،‬أنت طالق ‪ ،‬أنت طالق ‪ ،‬وكان في عهد رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وعهد أبي بكر رضي ال عنه الناس على صدقهم وسلمتهم لم يكن فيهم‬
‫الخِب والخداع ‪ ،‬فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد‪ .‬ول يُريدون به الثلثَ‪ ،‬فلما رأى عمر‬
‫رضى ال عنه فى زمانه أموراً ظهرت‪ ،‬وأحوالً تغيّرت ‪ ،‬منع من حمل اللفظ على التكرار‪،‬‬
‫وألزمهم الثلث‪.‬‬
‫وقالت طائفة‪ :‬معنى الحديث أنّ الناس كانت عادتُهم على عهدِ رسولِ ال صلى ال عليه‬
‫وسلم إيقاعَ الواحدة‪ ،‬ثم يدعها حتى تنقضىَ عدتُها‪ ،‬ثم اعتادوا الطلقَ الثلثَ جملة‪ ،‬وتتا َيعُوا فيه‪،‬‬
‫ومعنى الحديث على هذا‪ :‬كان الطلقُ الذى يُوقعه المطلق الن ثلثًا يُوقِع ُه على عهد رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأبى بكر واحدة‪ ،‬فهو إخبا ٌر عن الواقع‪ ،‬ل عن المشروع‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم هو الذى كان يجعل‬
‫ن أن رسو َ‬
‫وقالت طائفة‪ :‬ليس فى الحديث بيا ُ‬
‫الثلثَ واحدة‪ ،‬ول أنه أُعلم بذلك فأَق ّر عليه‪ ،‬ول حُجة إل فيما قاله أو فعله‪ ،‬أو علم به فأق ّر عليه‪،‬‬
‫ول يُعلم صحةُ واحد ًة من هذه المور فى حديث أبى الصهباء‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫قالُوا‪ :‬وإذا اختلفت علينا الحاديثُ‪ ،‬نظرنا إلى ما عليه أصحابُ رسو ِ‬
‫ت عنه غيره ما رواه‬
‫وسلم‪ ،‬فإنّهم أعلمُ بسنته‪ ،‬فنظرنا فإذا الثابتُ عن عمر بن الخطاب الذى ل َي ْث ُب ُ‬
‫عبد الرزاق‪ ،‬عن سفيان الثورى‪ ،‬عن سلمة ابن كُهيل‪ ،‬حدثنا زيدُ بن وهب‪ ،‬أنه رُفِ َع إلى عمر بن‬
‫ع َمرُ‬
‫الخطاب رجل طلق امرأته ألفاً‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬أطلقتَ امرأتَك؟ فقال‪ :‬إنما كنتُ ألعب‪ ،‬فعالجه ُ‬
‫وروى وكيع‪ ،‬عن العمشِ‪ ،‬عن حبيب بن أبى‬ ‫بال ّد ّرةِ‪ ،‬وقال‪ :‬إنما يكفيك من ذلك ثلث‪.‬‬
‫ثابت‪ ،‬قال‪ :‬جاء رجل إلى على ابن أبى طالب‪ ،‬فقال‪ :‬إنى طلقتُ امرأتى ألفاً‪ ،‬فقال له علىّ‪ :‬بانت‬
‫منك بثلث‪ ،‬واقسِمْ سا ِئرَهن بينَ نسائك‪.‬‬
‫ل إلى‬
‫وروى وكيع أيضاً‪ ،‬عن جعفر بن بُرقان‪ ،‬عن معاوية بن أبى يحيى‪ ،‬قال‪ :‬جاء رج ٌ‬
‫ت منك بثلث‪.‬‬
‫ت امرأتى ألفاً‪ ،‬فقال با َن ْ‬
‫عثمان بنِ عفان‪ ،‬فقال‪ :‬طلق ُ‬
‫وروى عب ُد الرزاق‪ ،‬عن سفيان الثورى‪ ،‬عن عمرو بن مرة‪ ،‬عن سعيد بنِ جبير‪ ،‬قال‪ :‬قال‬
‫ث تُح ّرمُها عليك‪ ،‬وبقيتُها عليك‪،‬‬
‫رجلٌ لبنِ عباس‪ :‬طلقتُ امرأتى ألفاً‪ ،‬فقال له ابنُ عباس‪ :‬ثل ٌ‬
‫ِوزْر‪ ،‬اتخذت آيات ال هزواً‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫وروى عب ُد الرزاق أيضاً‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن العمش‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن علقمة‪ ،‬قال‪ :‬جاء‬
‫ت امرأتى تسعاً وتسعين‪ ،‬فقال له ابنُ مسعود‪ :‬ثلث تُبينها‬
‫رجل إلى ابن مسعود‪ ،‬فقال‪ :‬إنى طلق ُ‬
‫منك‪ ،‬وسائُرهن عُدوان‪.‬‬
‫وذكر أبو داود فى ((سننه))‪ ،‬عن محمد ابن إياس‪ ،‬أن ابن عباس‪ ،‬وأبا هريرة‪ ،‬وعبد ال بن‬
‫س ِئلُوا عن البِكر يُطلّقُها زوجُها ثلثاً‪َ ،‬ف ُكلّهم قال‪ :‬ل تَحِلّ له حتى تَنكِحَ زوجاً‬
‫عمرو بن العاص‪ُ ،‬‬
‫غيرَه‪.‬‬
‫ب رسول ال صلى ال عليه وسلم كما تسمعون قد أوقعوا الثلثَ جملةً‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬فهؤلء أصحا ُ‬
‫ولو لم يكن فيهم إل عمر المحدّث ال ُملْهَمُ وحدَه‪ ،‬لكفى‪ ،‬فإنه ل يُظن به تغييرُ ما شرعه النبى صلى‬
‫ال عليه وسلم مِن الطلق الرجعى‪ ،‬فيجعله محرّماً‪ ،‬وذلك يتضمّن تحريمَ فرج المرأه على من‬
‫ل له‪ ،‬ولو فعل ذلك عمر‪ ،‬لما أقرّه عليه الصحابةُ‪ ،‬فضلً عن أن‬
‫حرُ ْم عليه‪ ،‬وإباحته لمن ل تَحِ ّ‬
‫تَ ْ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أن الثلثَ واحد ٌة لم‬
‫يُوافقوه‪ ،‬ولو كان عندَ ابنِ عباس حجة عن رسول ا ّ‬
‫يُخَالِفْها‪ .‬ويُفتى بغيرها موافق ًة لعمر‪ ،‬وقد علم مخالفته له فى ال َعوْل‪ ،‬وحجب الم بالثنين من الخوة‬
‫والخوات‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ونحنُ فى هذه المسألة تبع لصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪َ ،‬فهُ ْم أعلمُ بسنته‬
‫خفَ عليهم‪،‬‬
‫ث واحدة وتُوفّى والمر على ذلك لم َي ْ‬
‫وشرعه‪ ،‬ولو كان مستقراً مِن شريعته أن الثل َ‬
‫ن بعدهم‪ ،‬ويروى حبرُ المة وفقيهُها خبرَ‬
‫ح َرمُوا الصّواب فيه‪ ،‬ويُوفّق له مَ ْ‬
‫ن بعدهم‪ ،‬ولم يُ ْ‬
‫ويعلمه مَ ْ‬
‫كونِ الثلث واحدة ويُخالفه‪.‬‬
‫قال المانعون من وقوع الثلث‪ :‬التحاكُم فى هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم الُّ‬
‫جرَ بيننا‪ ،‬ثم نَرضى بحُكمِه‪ ،‬ول‬
‫شَ‬‫ح ّكمَه فيما َ‬
‫سبحانه وتعالى أصدقَ قَسَمٍ‪ ،‬وأبره‪ ،‬أنا ل ُن ْؤمِنُ حتى نُ َ‬
‫يلحقُنا فيه حرجٌ‪ ،‬ونسلّم له تسليمًا ل إلى غيره كائنًا مَنْ كان‪ ،‬اللهم إل أن تُجمِعَ أمته إجماعاً متيقناً‬
‫ل نشكّ فيه على حُكم‪ ،‬فهو الحقّ الذى ل يجوز خلفُه‪ ،‬ويأبى ال أن تجتمع المة على خلف سنة‬
‫ثابتة عنه أبداً‪ ،‬ونحن قد أوجدناكُم من الدلة ما تثبتُ المسألة به‪ ،‬بل وبدُونه‪ ،‬ونحن نُناظركم فيما‬
‫طعنتم به فى تلك الدلة‪ ،‬وفيما عارضتمونا به على أنا ل نحكّم على أنفسنا إل نصّاً عن ال‪ ،‬أو‬
‫نصاً ثابتاً عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬أو إجماعًا متيقّناً ل شكّ فيه‪ ،‬وما عدا هذا فعُرضة‬
‫للنزاع‪ ،‬وغايتُه أن يكون سائ َغ التّباع ل لزمهَ‪ ،‬فلتكن هذه المقدمة سلفاً لنا عندكم‪ ،‬وقد قال تعالى‪:‬‬
‫عتُمْ فى شَىءٍ َفرُدّوهُ إلى ال وَالرّسُولِ} [النساء‪ ،]59 :‬فقد تنازعنا نحن وأنتم فى هذه‬
‫ن َتنَازَ ْ‬
‫{فإ ْ‬

‫‪142‬‬
‫المسألة‪ ،‬فل سبيلَ إلى ردّها إلى غير ال ورسوله ألبتة‪ ،‬وسيأتى أننا أحقّ بالصحابة‪ ،‬وأسع ُد بهم‬
‫فيها‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫أمّا منعُكم لتحريمِ جم ِع الثلث‪ ،‬فل ريبَ أنها مسألة نزاع‪ ،‬ولكن الدلة الدالة‬
‫على التحريم حج ٌة عليكم‪.‬‬
‫أما قولكم‪ :‬إن القرآن دل على جواز الجمع‪ ،‬فدعوى غيرُ مقبولة‪ ،‬بل باطلة‪ ،‬وغايةُ ما‬
‫ق القرآن للفظ الطلق‪ ،‬وذلك ل يعمّ جائزه ومحرّمه‪ ،‬كما ل يدخل تحتَه طلقُ‬
‫تمسكتم به إطل ُ‬
‫ق الموطوءة فى طهرها‪ ،‬وما َم َثُلكُم فى ذلك إل َك َمثَلِ مَنْ عارض السنة الصحيحةَ‬
‫الحائض‪ ،‬وطل ُ‬
‫ل على جواز كل طلق‬
‫فى تحريم الطلق المحرم بهذه الطلقات سواء‪ ،‬ومعلوم أن القرآن لم يد ّ‬
‫ل َبيّنَ حَللَه‬
‫ل على أحكام الطلق‪ ،‬والمُبيّنُ عن الِّ عز وج ّ‬
‫حتى تُحمّلوه ما ل يُطيقه‪ ،‬وإنما د ّ‬
‫حرَامه‪ ،‬ول ريب أنا أسعدُ بظاهر القرآن كما بينا فى صدر الستدلل‪ ،‬وأنه سبحانه لم يشرع قط‬
‫وَ‬
‫طلقاً بائنًا بغيرِ عوض لمدخول بها‪ ،‬إل أن يكونَ آخ َر العدد‪ ،‬وهذا كتابُ ال بيننَا وبينَكم‪ ،‬وغايةُ ما‬
‫تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيّدتْها السنة‪ ،‬وبينت شروطها وأحكامها‪.‬‬
‫وأما استدللُكم بأن الملعِنَ طلّق امرأته ثلثًا بحضرة رسولِ ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فما‬
‫أصحّه مِن حديث‪ ،‬وما أبع َد ُه مِن استدللكم على جواز الطلق الثلث بكلمة واحدة فى نكاح يقصد‬
‫بقاؤه ودوامه‪ ،‬ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول‪ :‬إن الفرقة وقعت عقيبَ لِعان الزوج وحده‪ ،‬كما‬
‫يقولُه الشافعى‪ ،‬أو عَقيبَ لعانهما وإن لم يفرّق الحاكم‪ ،‬كما يقوله أحمد فى إحدى الروايات عنه‪،‬‬
‫فالستدللُ به باطل‪ ،‬لن الطلق الثلث حينئذ لغو لم يفد شيئاً‪ ،‬وإن كان ممن يُوقف الفرقة على‬
‫تفريق الحاكم‪ ،‬لم يصح الستدلل به أيضاً لن هذا النكاح لم يبق سبيلٌ إلى بقائه ودوامه‪ ،‬بل هو‬
‫ق الثلث مؤكّد لمقصود اللعان‪ ،‬ومقرّر له‪ ،‬فإن غايتَه أن‬
‫واجبُ الزالة‪ ،‬ومؤبّدُ التحريم‪ ،‬فالطل ُ‬
‫يُحرّمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره‪ ،‬وفرقة اللعان تحرّمها عليه على البد‪ ،‬ول يلزم من نفوذ‬
‫ب البقاء والدوام‪،‬‬
‫ق التحريم على التأبيد نفوذُه فى نكاح قائم مطلو ِ‬
‫الطلق فى نكاح قد صار مستح ّ‬
‫ولهذا لو طلقها فى هذا الحال وهى حائض‪ ،‬أو نفساء‪ ،‬أو فى طُهر جامعها فيه‪ ،‬لم يكن عاصياً‪ ،‬لن‬
‫هذا النكاح مطلوب الزالة مؤبد التحريم‪ ،‬ومن العجب أنكم متمسّكون بتقريرِ رسول ال صلى ال‬
‫ث مِن غير‬
‫عليه وسلم على هذا الطلق المذكور‪ ،‬ول تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلق الثل ِ‬
‫الملعن‪ ،‬وتسميته لعباً بكتاب ال كما تقدم‪ ،‬فكم بينَ هذا القرار وهذا النكار؟ ونحن بحمد ال‬
‫قائلون بالمرين‪ ،‬مُ ِقرّون لما أقره رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬منكرون لما أنكره‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫ل طلّق امرأته ثلثاً فتزوّجت‪،‬‬
‫وأما استدللُكم بحديث عائشة رضى ال عنها‪ ،‬أن رج ً‬
‫سيْلة))‪ ،‬فهذا ل‬
‫حتّى تَذُوقَ العُ َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬هل تحل للزوج؟ قال‪(( :‬ل‪َ ،‬‬
‫سئِلَ رسو ُ‬
‫فَ ُ‬
‫نُنازِعُكم فيه‪ ،‬نعم هو حج ٌة على من اكتفى بمجرد عقد الثانى‪ ،‬ولكن أينَ فى الحديث أنه طلّق‬
‫الثلثَ بفم واحد‪ ،‬بل الحديثُ حجة لنا‪ ،‬فإنّه ل يُقال‪ :‬فعلَ ذلك ثلثاً‪ ،‬وقال ثلثاً إل من فعل‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫مرةً بعد مرةِ‪ ،‬هذا هو المعقولُ فى لغات المم عِربهم وعجمِهم‪ ،‬كما يقال‪ :‬قذفه ثلثاً‪ ،‬وشتمه ثلثاً‪،‬‬
‫وسلّم عليه ثلثاً‪.‬‬
‫ن العجب العُجاب‪ ،‬فإنكم خالفتُموه فيما هو‬
‫قالوا‪ :‬وأما استدللُكم بحديثِ فاطمة بنت قيس‪َ ،‬فمِ َ‬
‫صريحٌ فيه ل يقبلُ تأويلً صحيحاً‪ ،‬وهو سقوطُ النفقة والكِسوة للبائن مع صحته وصراحته‪ ،‬وعدم‬
‫ل تعلّقكم به‪،‬‬
‫ما يُعا ِرضُه مقاومًا له‪ ،‬وتمسكتُم به فيما هو مجمل‪ ،‬بل بيانُه فى نفس الحديث مما يُبطِ ُ‬
‫فإن قوله‪ :‬طلّقها ثلثًا ليس بصريح فى جمعها‪ ،‬بل كما تقدم‪ ،‬كيف وفى ((الصحيح)) فى خبرها‬
‫نفسِه مِن رواية الزهرى‪ ،‬عن عبيد ال بن عبد ال ابن عُتبة‪ ،‬أن زوجَها أرسل إليها بتطليقةٍ كانت‬
‫خ َر ثلثٍ تطليقاتٍ‪ ،‬وهو سند صحيح‬
‫بَقيت لها مِن طلقِها وفى لفظ فى ((الصحيح))‪ :‬أنه طلقها آ ِ‬
‫ل الشمس‪ ،‬فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجملٍ‪ ،‬وهو أيضاً حجةٌ عليكم كما‬
‫متصل مث ُ‬
‫تقدم؟‪.‬‬
‫ن الصامت الذى رواه عبد الرزاق‪ ،‬فخبر فى‬
‫قالوا‪ :‬وأما استدللُكم بحديثِ عُبادة ب ِ‬
‫غاية السقوط‪ ،‬لن فى طريقه يحيى بن العلء‪ ،‬عن عُبيد ال بن الوليد الوصّافى‪ ،‬عن إبراهيم بن‬
‫ل على كذبه وبُطلنه‪ ،‬أنه لم يعرف فى شىء‬
‫عبيد ال ضعيف‪ ،‬عن هالك‪ ،‬عن مجهول‪ ،‬ثم الذى يد ّ‬
‫من الثار صحيحها ول سقيمها‪ ،‬ول متصلها ول منقطعها‪ ،‬أن والد عبادة بن الصامت أدرك‬
‫السلم‪ ،‬فكيف بجده‪ ،‬فهذا محال بل شك‪ .‬وأما حديث عبد ال بن عمر‪ ،‬فأصلُه صحيحٌ بل شك‪،‬‬
‫ل ال‪ :‬لو طلقتُها ثلثاً أكانت تَحِلّ لى؟ إنما جاءت‬
‫لكن هذه الزيادة والوصلة التى فيه‪ :‬فقلتُ‪ :‬يا رسو َ‬
‫من رواية شعيب بن زُريق‪ ،‬وهو الشامى‪ ،‬وبعضهم يقلبه فيقولُ‪ :‬زُريق بن شعيب‪ ،‬وكيفما كان‪،‬‬
‫فهو ضعيف‪ ،‬ولو صحّ‪ ،‬لم يكن فيه حجة‪ ،‬لن قوله‪ :‬لو طلقتها ثلثًا بمنزلة قوله‪ :‬لو سلمت ثلثاً‪ ،‬أو‬
‫أقررت ثلثاً‪ ،‬أو نحوه مما ل يُعقل جمعُه‪.‬‬
‫وأما حديثُ نافِع بن عجير الذى رواه أبو داود‪ ،‬أن ركانة طلق امرأته ألبتة‪،‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم ما أرادَ إل واحدة‪ ،‬فمن العجب تقديمُ نافع ابن عجير‬
‫فأحلفه رسو ُ‬
‫المجهول الذي ل يُعرف حاله ألبتة‪ ،‬ول يُدرى من هو‪ ،‬ول ما هو على ابن جريج‪ ،‬ومعمر‪ ،‬وعبد‬

‫‪144‬‬
‫ال بن طاووس فى قصة أبى الصهباء‪ ،‬وقد شهد إمامُ أهل الحديث محمدُ بن إسماعيل البخارى بأن‬
‫فيه اضطراباً‪ ،‬هكذا قال الترمذى فى الجامع‪ ،‬وذكر عنه فى موضع آخر‪ :‬أنه مضطرب‪ .‬فتارةً‬
‫يقول‪ :‬طلقها ثلثاً‪ ،‬وتار ًة يقول‪ :‬واحدةً‪ ،‬وتارة يقول‪ :‬البتة‪ ،‬وقال المام أحمد‪ :‬وطرقه ُكلّها ضعيفة‪،‬‬
‫ث المضطربُ المجهولُ‬
‫ثم كيف يُقدّم هذا الحدي ُ‬ ‫وضعفه أيضاً البخارى‪ ،‬حكاه المنذرى عنه‪.‬‬
‫رواية على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لِجهالة بعض بنى أبى رافع‪ ،‬هذا وأولدُه تابعيون‪،‬‬
‫وإن كان عبيد ال أشهرَهم‪ ،‬وليس فيهم متهم بالكذب‪ ،‬وقد روى عنه ابنُ جُريج‪ ،‬ومَنْ يقبلُ روايةَ‬
‫المجهول‪ ،‬أو يقولُ‪ :‬رواي ُة العدل عنه تعديلٌ له‪ ،‬فهذا حجةٌ عنده‪ ،‬فأمّا أن يُضعّفَه ويُقَدّ َم عليه روايةَ‬
‫من هو مثلُه فى الجهالة‪ ،‬أو أشدّ‪ ،‬فكلّ‪ ،‬فغاي ُة المر أن تتساقَط روايتا هذين المجهولين‪ُ ،‬يعْدَل إلى‬
‫غيرهما‪ ،‬وإذا فعلنا ذلك‪ ،‬نظرنا فى حديث سعد بن إبراهيم‪ ،‬فوجدناه صحيح السناد‪ ،‬وقد زالت علةُ‬
‫تدليسِ محمد ابن إسحاق بقوله‪ :‬حدثنى داود بن الحصين‪ ،‬وقد احتج أحمد بإسناده فى مواضع‪ ،‬وقد‬
‫ب على زوجِها أبى‬
‫صحح هو وغيرُه بهذا السناد بعينه‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ر ّد زين َ‬
‫ح الوّلِ‪ ،‬ولم يُحدث شيئاً‪ .‬وأما داودُ بن الحُصين‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬فلم تزل‬
‫العاص بن الربيع بالنّكا ِ‬
‫جزَ ْم به مِن تقديرها بخمسة‬
‫شكّ فيه‪ ،‬ولم يُ ْ‬
‫الئمة تحتجّ به‪ ،‬وقد احتجّوا به فى حديث ال َعرَايا فيما ُ‬
‫طبِ بالتمرِ‪ ،‬فما ذنبه فى‬
‫أوسُق أو دونَها مع كونِها على خلف الحاديث التى نهى فيها عن بيع الرّ َ‬
‫هذا الحديث سوى رواية ما ل يقولون به‪ ،‬وإن قدحتُم فى عكرمة ولعلكم فاعِلون جاءكم ما ل ِقبَلَ‬
‫لكُم به من التناقض فيما احتججتُم به أنتُم وأئمةُ الحديث مِن روايته‪ ،‬وارتضاء البخارى لدخال‬
‫حديثه فى ((صحيحه))‪.‬‬
‫فصل‬
‫ث أبى الصهباء‪ ،‬فل َيصِحّ شىء منها‪.‬‬
‫وأما تلك المسالك الوَعْ َر ُة التى سلكتموها فى حدي ِ‬
‫شكَاةٌ ظَا ِهرٌ‬
‫أما المسلكُ الول‪ ،‬وهو انفرادُ مسلم بروايته‪ ،‬وإعراضُ البخارى عنه‪َ ،‬ف ِت ْلكَ َ‬
‫عنْهُ عَارُهَا‪ ،‬وما ضرّ ذلك الحديثَ انفرادُ مسلم به شيئاً‪ ،‬ثم هل تقبلون أنتم‪ ،‬أو أحدٌ مثل هذا فى كُلّ‬
‫َ‬
‫خلْه فى كتابى‪ ،‬فهو‬
‫ث َينْ َفرِدُ به مسلم عن البخارى‪ ،‬وهل قال البخارىّ قطّ‪ :‬إن كُلّ حديث لم أُدْ ِ‬
‫حدي ٍ‬
‫باطل‪ ،‬أو ليس بحجة‪ ،‬أو ضعيف‪ ،‬وكم قد احتج البخارىّ بأحاديث خارجَ الصحيح ليس لها ذكر فى‬
‫((صحيحه))‪ ،‬وكم صحّح مِن حديث خارجٍ عن صحيحه‪ .‬فأما مخالفةُ سائ ِر الروايات له عن ابن‬
‫ب أن عن ابن عباس روايتين صحيحتين بل شك‪ .‬إحداهُهما‪ :‬تُوافق هذا الحديثَ‪،‬‬
‫عباس‪ ،‬فل ري َ‬
‫ث على أنه بحمد ال سالم‪ .‬ولو اتفقتِ‬
‫سلِمَ الحدي ُ‬
‫والُخرى‪ :‬تُخالفه‪ ،‬فإن أسقطنا رواية برواية‪َ ،‬‬

‫‪145‬‬
‫ت عنه على مخالفته‪ ،‬فله أسو ُة أمثاله‪ ،‬وليس بأوّلِ حديث خالفه روايه‪ ،‬فنسألكم‪ :‬هل الخذُ‬
‫الروايا ُ‬
‫بما رواه الصحابى عندكم‪ ،‬أو بما رآه؟ فإن قلتم‪ :‬الخ ُذ بروايته‪ ،‬وهو قولُ جمهوركم‪ ،‬بل جمهورُ‬
‫المة على هذا‪ ،‬كفيتُمونا مؤونة الجوابِ‪ .‬إن قلتُم‪ :‬الخ ُذ برأيه‪ ،‬أَريناكُم مِن تناقضكم ما ل حِيلة لكم‬
‫فى دفعه‪ ،‬ول سيما عن ابن عباس نفسِه‪ ،‬فإنه روى حديث بَريرة وتخييرها‪ ،‬ولم يكن بيعُها طلقاً‪،‬‬
‫ورأى خلفَه‪ ،‬وأن بيعَ بالمة طلقُها‪ ،‬فأخذتُم وأصبتُم بِروايته‪ ،‬وتركتم رأيه‪ ،‬فهل فعلتُم ذلك فيما‬
‫ل الصحابى غيرُ معصوم‪ ،‬ومخالفته لما رواه يحتمِلُ‬
‫نحن فيه‪ ،‬وقلتم‪ :‬الرواية معصومة‪ ،‬وقو ُ‬
‫احتمالتٍ عديدة من نسيان أو تأويل‪ ،‬أو اعتقاد مُعارِض راجحٍ فى ظنه‪ ،‬أو اعتقادِ أنه منسوخ أو‬
‫غ ترك روايته مع قيام هذه الحتمالت؟ وهل‬
‫مخصوص‪ ،‬أو غير ذلك من الحتمالت‪ ،‬فكيف يسو ُ‬
‫ث التسبيعِ‬
‫ك معلوم لِمظنون‪ ،‬بل مجهول؟ قالوا‪ :‬وقد روى أبو هريرة رضى ال عنه حدي َ‬
‫هذا إل تر ُ‬
‫من ولُوغ الكلب‪ ،‬وأفتى بخلفه‪ ،‬فأخذتُم بروايته‪ ،‬وتركتُم فتواه‪ .‬ولو تتبعنا ما أخذتُم فيه بروايةِ‬
‫ن فتواه‪ ،‬لطال‪.‬‬
‫الصحابى دو َ‬
‫قالُوا‪ :‬وأما دعواكم نسخ الحديث‪ ،‬فموقوفة على ثبوت معارض مُقاوم متراخ‪ ،‬فأين هذا؟‬
‫ث عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس فى نسخ المراجعة بعد الطلق الثلث‪ ،‬فلو صحّ‪ ،‬لم‬
‫وأما حدي ُ‬
‫صرَ‬
‫خ ذلك‪ ،‬و ُق ِ‬
‫طلّقُ امرأته ويُراجعها بغير عدد‪ ،‬فنُسِ َ‬
‫يكن فيه حجة‪ ،‬فإنه إنما فيه أن الرّجل كان يُ َ‬
‫على ثلث‪ ،‬فيها تنقطع الرجعة‪ ،‬فأين فى ذلك اللزام بالثلث بفم واحد‪ ،‬ثم كيف يستمرّ المنسوخ‬
‫على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبى بكر‪ ،‬وصدراً من خلفة عمر‪ ،‬ل تعلم به المة‪،‬‬
‫وهو من أهم المور المتعلقة بحل الفروج‪ ،‬ثم كيف يقول عمر‪ :‬إن الناس قد استعجلوا فى شىء‬
‫كانت لهم فيه أناة‪ ،‬وهل للمة أناة فى المنسوخ بوجه ما؟‪ ،‬ثم كيف يُعارض الحديثُ الصحيحُ بهذا‬
‫الذى فيه على بن الحسين ابن واقد‪ ،‬وضعفُه معلوم؟‬
‫ت طالق‪ ،‬ومقصودُه التأكيد‬
‫ث على قول المطلّق‪ :‬أنتِ طالق‪ ،‬أنتِ طالق‪ ،‬أن ِ‬
‫وأما حملُكم الحدي َ‬
‫ث عليه ل يتغيرُ‬
‫بما بعد الول‪ ،‬فسياقُ الحديث مِن أوله إلى آخره يردّه‪ ،‬فإنّ هذا الذى أوّلتم الحدي َ‬
‫ف على عهده وعهدِ خُلفائه‪ ،‬و َهلُمّ جراً إلى آخر‬
‫بوفاةِ رسولِ ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول يختِل ُ‬
‫الدهر‪ ،‬ومن ينويه فى قصد التأكيد ل يُ َفرّقُ بين َبرّ وفاجر‪ ،‬وصادق وكاذب‪ ،‬بل يردّه إلى نيته‪،‬‬
‫وكذلك مَن ل يقبله فى الحكم ل يقبلُه مطلقًا بَراً كان أو فاجراً‪.‬‬
‫وأيضاً فإن قوله‪ :‬إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا فى شىء كانت لهم فيه أناة‪ ،‬فلو أنا‬
‫شرَعَهُ‬
‫أمضيناه عليهم‪ .‬إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم ال فى فُسحة منه‪ ،‬و َ‬

‫‪146‬‬
‫متراخيًا بعضه عن بعض رحمةً بهم‪ ،‬ورفقاً وأناة لهم‪ ،‬لئل يندم مطلّق‪ ،‬فيذهب حبيبُه مِن يديه مِن‬
‫أول وهلة‪َ ،‬ف َي ِع ّز عليه تدارُكه‪ ،‬فجعل له أنا ًة ومُهلةً يستع ِتبُه فيها‪ ،‬ويرضيه ويَزولُ ما أحدثه العتبُ‬
‫ل منهما الذى عليه بالمعروف‪ ،‬فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة‬
‫الداعى إلى الفراقُ‪ ،‬ويُراجع كُ ّ‬
‫علِمَ‬
‫ومُهلة‪ ،‬وأوقعوه بفم واحد‪ ،‬فرأى عمر رضى ال عنه أنه يلزمُهم ما التزموه عقوب ًة لهم‪ ،‬فإذا َ‬
‫المطلّق أن زوجته وسكنه تحرُم عليه من أول مرة بجمعه الثلثَ‪ ،‬كفّ عنها‪ ،‬ورجع إلى الطلق‬
‫المشروع المأذون فيه‪ ،‬وكان هذا مِن تأديب عمر لرعيته لما أكثرُوا مِن الطلق الثلث‪ ،‬كما سيأتى‬
‫مزيدُ تقريره عند العتذار عن عمر رضى ال عنه فى إلزامه بالثلث‪ ،‬هذا وج ُه الحديث الذى ل‬
‫وجه له غيرُه‪ ،‬فأين هذا من تأويلكم المستك َر ِه المستبعَ ِد الذى ل تُوافقه ألفاظُ الحديث‪ ،‬بل تنبُو عنه‪،‬‬
‫وتُنافره‪.‬‬
‫ع الطلق الثلث الن على عهدِ رسول ال صلى ال‬
‫ل مَنْ قال‪ :‬إن معناه كان وقو َ‬
‫وأما قو ُ‬
‫عليه وسلم واحدةً‪ ،‬فإن حقيقة هذا التأويل‪ :‬كان الناس على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ل إذا وصل إلى هذا الحد‪ ،‬كان مِن‬
‫طلّقُونَ واحدة‪ ،‬وعلى عهد عمر صاروا يطلّقون ثلثاً‪ ،‬والتأوي ُ‬
‫يُ َ‬
‫ح ذلك بوجه ما‪ ،‬فإن الناسَ ما زالوا‬
‫باب اللغاز والتحريف‪ ،‬ل من باب بيان المراد‪ ،‬ول َيصِ ّ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم ثلثاً‪،‬‬
‫يُطلّقون واحدة وثلثاً‪ ،‬وقد طلّق رجالٌ نساءهم على عهد رسو ِ‬
‫ضبَ‪،‬‬
‫غ ِ‬
‫فمنهم من ردّها إلى واحدة‪ ،‬كما فى حديث عكرمة عن ابن عباس‪ .‬ومنهم من أنكر عليه‪ ،‬و َ‬
‫وجعله متلعباً بكتاب ال‪ ،‬ولم ُي ْع َرفْ ما حكم به عليهم‪ ،‬وفيهم من أقّره لتأكيد التحريم الذى أوجبه‬
‫اللعان‪ ،‬ومنهم من ألزمه بالثلث‪ ،‬لكون ما أتى به من الطلق آخر الثلث‪ ،‬فل َيصِحّ أن يقال‪ :‬إن‬
‫ح أن يقال‪ :‬إنهم قد‬
‫الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلفة عمر‪ ،‬فطلقوا ثلثاً‪ ،‬ول َيصِ ّ‬
‫استعجلوا فى شىء كانت لهم فيه أناة‪ ،‬فنمضيه عليهم‪ ،‬ول يُلئم هذا الكلم الفرق بين عهد رسول‬
‫ض منكم على عهده وبعدَ عهده‪.‬‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبين عهده بوجه ما‪ ،‬فإنه ما ِ‬
‫ج ِعَلتْ وَاحِدَة على عهد‬
‫ثم إن فى بعض ألفاظِ الحديث الصحيحة‪ :‬ألم تعلم أنه من طلّق ثلثاً ُ‬
‫رسولِ ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫عِل ْمتَ أن الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة‬
‫وفى لفظ‪ :‬أما َ‬
‫على عه ِد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأبى بكر‪ ،‬وصدراً من خلفة عمر‪ ،‬فقال ابن عباس‪:‬‬
‫ل إذا طلّق امرأتَه ثلثاً قبل أن يدخُلَ بها جعلوها واحدة على عهد رسول ال صلى ال‬
‫بلى كان الرج ُ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأبى بكر‪ ،‬وصدراً من إمارة عمر‪ ،‬فلما رأى الناس يعنى عمر قد تتايعوا فيها‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪147‬‬
‫ظ الحديث‪ ،‬وهو بأصح إسناد‪ ،‬وهو ل يحتمِلُ ما ذكرتُم من التأويل بوجه‬
‫أجيزوهن عليهم‪ ،‬هذا لف ُ‬
‫ل من جعل الدلة تبعاً للمذهب‪ ،‬فاعتقد‪ ،‬ثم استدل‪ .‬وأما من جعل المذهب تبعاً‬
‫عمَ ُ‬
‫ما‪ ،‬ولكن هذا كله َ‬
‫للدليل‪ ،‬واستدل‪ ،‬ثم اعتقد‪ ،‬لم يمكنه هذا العمل‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم كان َهوُ الذى‬
‫ن أن رسو َ‬
‫وأما قول من قال‪ :‬ليس فى الحديث بيا ُ‬
‫سبْحَانَك هذا بهتان عظيم أن يست ِم ّر هذا‬
‫ل ذلك‪ ،‬ول أنه علم به‪ ،‬وأقرّه عليه‪ ،‬فجوابه أن يقال‪ُ :‬‬
‫يجع ُ‬
‫ج لمن هو عليه حرامٌ‪ ،‬وتحريمُه على‬
‫ل الحرام المتضمّن لتغيير شرع ال وَدِينه‪ ،‬وإباحة ال َفرْ ِ‬
‫الجع ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم وأصحابه خير الخلف‪ ،‬وهم يفعلونه‪،‬‬
‫ل على عهدِ رسول ا ّ‬
‫من هو عليه حل ٌ‬
‫ب أن رسولَ ال صلى ال‬
‫ول يعلمونه‪ ،‬ول يعلمه هو‪ ،‬والوحى َي ْنزِلُ عليه‪ ،‬وهو يُ ِقرّهم عليه‪َ ،‬ف َه ْ‬
‫لّ يعل ُم ذلك‪ ،‬ول يُوحيه‬
‫عليه وسلم لم يكن يعلمُه‪ ،‬وكان الصحابةُ يعلمونه‪ ،‬ويُبدّلون دينَه وشرعَه‪ ،‬وا ُ‬
‫لّ رسولَه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والم ُر علي ذلك‪ ،‬فيست ِمرّ هذا‬
‫إلى رسوله‪ ،‬ول يُعلمه به‪ ،‬ثم يتوفّى ا ُ‬
‫ل به ول يُغيّر إلى أن فارق‬
‫ل العظيم‪ ،‬والخطُأ المبين عند كم مدة خِلف ِة الصديق ُكلّها‪ُ ،‬ي ْعمَ ُ‬
‫الضل ُ‬
‫الصديقُ الدنيا‪ ،‬واستمر الخطأ والضللُ المركّب صدراً مِن خلفة عمر‪ ،‬حتى رأي بعد ذلك برأيه‬
‫أن يُلزِ َم الناسَ بالصّواب‪ ،‬فهل فى الجهل بالصحابة‪ ،‬وما كانُوا عليهم فى عهد نبيهم وخلفائه أقبحُ‬
‫ل من هذا الخطأ الذى ارتكبتموه‪،‬‬
‫ل الثَلث واحدةً خطأً محضاً‪ ،‬لكان أسه َ‬
‫لّ لو كان جع ُ‬
‫من هذا‪ ،‬وتَا ِ‬
‫والتأويلِ الذى تأولتموه‪ ،‬ولو تركتم المسألةَ بهيأتها‪ ،‬لكان أقوى لِشأنها من هذه الدلة والجوبة‪.‬‬
‫ب للجمهور‪ ،‬ول مستوحِش‬
‫صبٍ‪ ،‬ول هيّا ٍ‬
‫قالُوا‪ :‬وليس التحاكُم فى هذه المسألة إلى مقلّد متع ّ‬
‫خ فى العلم قد طال فيه باعُه‪،‬‬
‫مِن التفرّد إذا كان الصوابُ فى جانبه‪ ،‬وإنما التحاكُم فيها إلى راس ٍ‬
‫حبَ بنيله ِذرَاعُه‪ ،‬وفرّق بين الشبهة والدليل‪ ،‬وتلقّى الحكا َم مِن نفس مِشكاة الرسول‪ ،‬وعرفَ‬
‫ور ُ‬
‫ح َكمَها البا ِهرَة‪ ،‬وما تضمّنته مِن‬
‫المراتبَ‪ ،‬وقام فيها بالواجبِ‪ ،‬وباشر قلبُه أسرارَ الشريعة و ِ‬
‫ججَها‪،‬‬
‫المصالح الباطنة والظاهرة‪ ،‬وخاض فى مثل هذه المضايق لُججها‪ ،‬واستوفى مِن الجانبين حُ َ‬
‫والّ المستعانُ‪ ،‬وعليه التّكلن‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما قولُكم‪ :‬إذا اختلفت علينا الحاديثُ‪ ،‬نظرنا فيما عليه الصحاب ُة رضى ال عنهم‪،‬‬
‫فنعم والِّ وحيّهل ِب َي َركِ السلم‪ ،‬وعِصابة اليمان‪.‬‬
‫ل َي ْرضَى ِب َغ ْيرِهم‬
‫فَإِنّ َق ْل ِبىَ َ‬ ‫ض َبعْدَهُمُ‬
‫عوَا َ‬
‫طّلبْ ِلىَ الَ ْ‬
‫ل تَ َ‬
‫فَ َ‬
‫ولكن ل يليق بكم أن تدعونا إلى شىء‪ ،‬وتكونُوا أول نافرٍ عنه‪ ،‬ومخالفٍ له‪ ،‬فقد تُوفى النبىّ‬
‫ح لكُم عن هؤلء‬
‫سمِ َع منه‪ ،‬فهل صَ ّ‬
‫ن ُكلّهم قد رآه و َ‬
‫عيْ ٍ‬
‫صلى ال عليه وسلم عن أكث َر مِن مائة ألف َ‬

‫‪148‬‬
‫شرِهِم القولُ بلزوم الثلثِ بفمٍ واحد؟ هذا ولو‬
‫شرِ عُ ْ‬
‫شرِ عشرهم‪ ،‬أو عُشرِ عُ ْ‬
‫شرِهم‪ ،‬أو عُ ْ‬
‫ُكلّهم‪ ،‬أو عُ ْ‬
‫ف عنهم فى ذلك‪ ،‬فقد صحّ عن‬
‫جهِ ْدتُم كُلّ الجهد لم تُطيقوا نقلَه عن عشرين نفسًا منهم أبداً مع اختل ٍ‬
‫َ‬
‫ح عنه التوقف‪ ،‬ولو كاثرنَاكُم‬
‫ل باللزوم‪ ،‬وص ّ‬
‫ابن عباس القولن‪ ،‬وصحّ عن ابن مسعود القو ُ‬
‫ف ذلك‪ ،‬ونحن‬
‫بالصحابة الذين كان الثلثُ على عهدهم واحدةً‪ ،‬لكانوا أضعافَ من نُقِلَ عنه خل ُ‬
‫ل صحابى مات إلى صد ٍر مِن خلفة عمر‪ ،‬ويكفينا مق ّدمُهم‪ ،‬وخيرُهم وأفضلُهم‪ ،‬ومن‬
‫نُكا ِثرُكم بكُ ّ‬
‫خ َتِلفْ‬
‫كان معه من الصحابة على عهده‪ ،‬بل لو شئنا لقلنا‪ ،‬ولصدقنا‪ :‬إن هذا كان إجماعاً قديمًا لم يَ ْ‬
‫ض عصرُ المجمعين حتى حدث الختلفُ‪ ،‬فلم يستقرّ‬
‫فيه على عهد الصديق اثنانِ‪ ،‬ولكن لم ينقرِ ْ‬
‫الجماعُ الول حتى صار الصحاب ُة على قولين‪ ،‬واستمرّ الخلفُ بين المة فى ذلك إلى اليوم‪ ،‬ثم‬
‫عِلمُوا أنه حرام‪،‬‬
‫ث عقوبةً لهم لما َ‬
‫ع من تقدّمه‪ ،‬بل رأى إلزامَهم بالثل ِ‬
‫نقول‪ :‬لم يُخالف عمر إجما َ‬
‫ب أن هذا سائغ للئمة أن يُلزموا الناسَ بما ضيّقوا به على أنفسهم‪ ،‬ولم يقبلوا‬
‫وتتايعُوا فيه‪ ،‬ول ري َ‬
‫فيه رخصةَ ال عز وجل وتسهيلَه‪ ،‬بل اختاروا الشدة والعُسر‪ ،‬فكيف بأميرِ المؤمنين عم َر بنِ‬
‫ف الزمنة‬
‫الخطاب رضى ال عنه‪ ،‬وكمال نظره للمة‪ ،‬وتأديبه لهم‪ ،‬ولكن العقوبة تختلفُ باختل ِ‬
‫والشخاص‪ ،‬والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه‪ ،‬وأمير المؤمنين عمر رضى‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإنما هو رأي رآه مصلح ًة للمة‬
‫ل لهم‪ :‬إن هذا عن رسو ِ‬
‫ال عنه لم يَقُ ْ‬
‫يكفّهم بها عن التسارع إلى إيقاع الثلث‪ ،‬ولهذا قال‪ :‬فلو أنا أمضيناهُ عليهم‪ ،‬وفى لفظ آخر‪:‬‬
‫((فأجيزوهن عليهم)) أفل يُرى أن هذا رأي منه رآه للمصلحة ل إخبارٌ عن رسول صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ولما علم رضى ال عنه أن تلك الناة والرخصة نعمة من ال على المطلّق‪ ،‬ورحمةٌ به‪،‬‬
‫ن إليه‪ ،‬وأنه قابلها بضدّها‪ ،‬ولم يقبل رخصةَ ال‪ ،‬وما جعله له من الناة عاقبه بأن حال بينه‬
‫وإحسا ٌ‬
‫ق لقواعد الشريعة‪ ،‬بل هو موافق لحكمة‬
‫وبينها‪ ،‬وألزمه ما ألزمه مِن الشدة والستعجال‪ ،‬وهذا مواف ٌ‬
‫ال فى خلقه قدراً وشرعاً‪ ،‬فإن الناس إذا تعدّوا حدودَه‪ ،‬ولم يَقِفُوا عندها‪ ،‬ضيّق عليهم ما جعله لمن‬
‫اتقاه من المخرج‪ ،‬وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه مَنْ قال مِن الصحابة للمطلّق ثلثاً‪ :‬إنك لو اتقيتَ‬
‫ال‪ ،‬لجعل لك مخرجاً‪ ،‬كما قاله ابن مسعود‪ ،‬وابنُ عباس‪ .‬فهذا نظر أمير المؤمنين‪ ،‬ومن معه من‬
‫الصحابة‪ ،‬ل أنه رضى ال عنه غ ّيرَ أحكام ال‪ ،‬وجعل حللها حراماً‪ ،‬فهذا غاي ُة التوفيق بين‬
‫النصوص‪ ،‬وفعل أمير المؤمنين ومن معه‪ ،‬وأنتم لم يُمكنكم ذلك إل بإلغاء أحد الجانبين‪ ،‬فهذا نهاية‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫ض ْنكِ‪ ،‬والمعت َركِ الصّعبِ‪ ،‬وبا ّ‬
‫أقدام الفريقين فى هذا المقام ال ّ‬

‫‪149‬‬
‫ل له‬
‫حُكم رسول ال صلى ال عليه وسلم فى العبد يُطلّقُ زوجتَه تطليقتين‪ ،‬ثم يُعتَقُ بعد ذلك‪ ،‬هل تَحِ ّ‬
‫بدون زوج وإصابة؟‬
‫ل السنن‪ :‬مِن حديث أبى الحسن مولى بنى نوفل‪ ،‬أنه استفتى ابنَ عباس فى مملوكٍ‬
‫روى أه ُ‬
‫طبَها؟ قال‪ :‬نعم قضى‬
‫عتِقا بعد ذلك‪ ،‬هل يصلُح له أن يخ ُ‬
‫كانت تحته مملوكة‪ ،‬فطلقها تطليقتين‪ ،‬ثم ُ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫بذلك رسو ُ‬
‫ت لك واحدةٌ‪ ،‬قضى به رسولُ ال‪.‬‬
‫ن عباس‪ :‬بَ ِق َي ْ‬
‫وفى لفظ‪ :‬قال اب ُ‬
‫قال المام أحمد‪ :‬عن عبد الرازق‪ ،‬أن ابنَ المبارك قال لمعمر‪ :‬من أبو حسن هذا؟ لقد تحمّل‬
‫صخرةً عظيمة انتهى‪.‬‬
‫قال المنذرى‪ :‬وأبو حسن هذا قد ُذ ِكرَ بخير وصلح‪ ،‬وقد قال على بن المدينى‪ :‬هو منكرُ الحديث‪،‬‬
‫وقال النسائى‪ :‬ليس بالقوى‪.‬‬
‫عتِقَ وقد طلّقها اثنتين‪ ،‬ففيها‬
‫ق العبدُ والزوجة فى حِباله‪ ،‬ملك تما َم الثلث‪ ،‬وإن ُ‬
‫عتِ َ‬
‫وإذا ُ‬
‫أربعةُ أقوال للفقهاء‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أنها ل تحِلّ له حتى تنكِحَ زوجاً غيره حرة كانت أو أمة‪ ،‬وهذا قولُ الشافعى‪ ،‬وأحمد‬
‫ك طلقتين ولو كانت زوجتُه‬
‫فى إحدى الروايتين بناء على أن الطلقَ بالرجال‪ ،‬وأن العبدَ إنما يمِل ُ‬
‫حرة‪.‬‬
‫ل عليه‬
‫والثانى‪ :‬أن له أن يعقِ َد عليها عقداً مستأنفًا مِن غير اشتراط زوج وإصابة‪ ،‬كما د ّ‬
‫ل ابن عباس‪ ،‬وأح ُد الوجهين‬
‫حديثُ عُمر بن معتّب هذا‪ ،‬وهذا إحدى الروايتين عن أحمد‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫ق وهى‬
‫عتِ َ‬
‫للشافعية‪ ،‬ولهذا القول فقه دقيق‪ ،‬فإنها إنما حرمتها عليه التطليقتانِ لنقصه بالرق‪ ،‬فإذا ُ‬
‫فى العدة‪ ،‬زال النقصُ‪ ،‬ووُجِدَ سببُ ملك الثلث‪ ،‬وآثارُ النكاح باقية‪ ،‬فملك عليها تمامَ الثلث‪ ،‬وله‬
‫ج وإصابة‪ ،‬فليس هذا القولُ‬
‫رجعتُها‪ ،‬وإن عُتقَ بعد انقضاءِ عدتها‪ ،‬بانت منه‪ ،‬وحلّت له بدون زو ٍ‬
‫ببعيد فى القياس‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أن له أن يَرتَجعَها فى عِدتها‪ ،‬وأن ينكحها بعدها بدون زوج وإصابة‪ ،‬ولو لم يعتق‪،‬‬
‫وهذا مذهبُ أهل الظاهر جميعِهم‪ ،‬فإن عندهم أن العبد والحرّ فى الطلق سواء‪.‬‬
‫وذكر سُفيان بن عيينة‪ ،‬عن عمرو بن دينار‪ ،‬عن أبى معبد مولى ابن عباس‪ ،‬عن ابن عباس‬
‫جعَها‪ ،‬فأبى‪ ،‬فقال ابنُ‬
‫رضى ال عنهما‪ :‬أن عبدًا له طلّق امرأته تطليقتين‪ ،‬فأمره ابنُ عباس أن يُرا ِ‬
‫حلّها بملك اليمين‪.‬‬
‫عباس‪ :‬هى لك فاست ِ‬

‫‪150‬‬
‫والقول الرابع‪ :‬أن زوجتَه إن كانت حرةً‪ ،‬ملك عليها تما َم الثلث‪ ،‬وإن كانت أمةً‪،‬‬
‫حرمت عليه حتى تنكِحَ زوجًا غيره‪ ،‬وهذا قولُ أبى حنيفة‪.‬‬
‫ف والخلف على أربعة أقوال‪.‬‬
‫وهذا موضع اختلف فيه السل ُ‬
‫ق العبد والحر سواء‪ ،‬وهذا مذهبُ أهل الظاهر جميعهم‪ ،‬حكاه عنهم أبو‬
‫أحدها‪ :‬أن طل َ‬
‫محمد بن حزم‪ ،‬واحتجّوا بعُموم النصوص الواردة فى الطلق‪ ،‬وإطلقها‪ ،‬وعدم تفريقها بين حر‬
‫وعبد‪ ،‬ولم تُجمِ ِع الم ُة على التفريق‪ ،‬فقد صحّ عن ابن عباس أنه أفتى غلماً له برجعة زوجته بعد‬
‫ل عن ابن عباس نظر‪ ،‬فإن عبد الرزاق روى عن ابن جريج‪،‬‬
‫طلقتين‪ ،‬وكانت أمة‪ .‬وفى هذا النق ِ‬
‫عن عمرو بن دينار‪ ،‬أن أبا معبد أخبره‪ ،‬أن عبداً كان لبن عباس‪ ،‬وكانت له امرأة جارية لبن‬
‫عباس‪ ،‬فطلقها فبتّها‪ ،‬فقال له ابنُ عباس‪ :‬ل طلق لك فارجعها‪.‬‬
‫قال عب ُد الرزاق‪ :‬حدثنا معمر‪ ،‬عن سِماك بن الفضل‪ ،‬أن العبد سأل ابن عمر رضى ال‬
‫سكَ‪.‬‬
‫ضرِب رأ ُ‬
‫عنهما‪ ،‬فقال‪ :‬ل ترجع إليها وإن ُ‬
‫فمأخذ هذه الفتوى‪ ،‬أن طلق العبد بيد سيده‪ ،‬كما أن نِكاحَه بيده‪ ،‬كما روى عبد الرحمن بن‬
‫مهدى‪ ،‬عن الثورى‪ ،‬عن عبد الكريم الجزرى‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬عن ابن عباس قال‪ :‬ليس طلق العبد‬
‫ول فرقته بشىء‪.‬‬
‫وذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬عن أبى الزبير‪ ،‬أنه سمع جابر بن عبد ال يقول فى‬
‫ل المدينة ل‬
‫المة والعبد‪ :‬سيّدُهما يجمعُ بينهما‪ ،‬ويفرق‪ ،‬وهذا قول أبى الشعثاء‪ ،‬وقال الشعبى‪ :‬أه ُ‬
‫يرون للعبد طلقاً إل بإذن سيده‪ ،‬فهذا مأخ ُذ ابن عباس‪ ،‬ل أنه يرى طلق العبد ثلثًا إذا كانت تَحته‬
‫أمة‪ ،‬وما علمنا أحداً من الصحابة قال بذلك‪.‬‬
‫ى الزوجين إن رُق كان الطلقُ بسبب رقه اثنتين‪ ،‬كما روى حما ُد بن‬
‫والقول الثانى‪ :‬أن َأ ّ‬
‫سلمة‪ ،‬عن عبد ال بن عمر‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر رضى ال عنهما قال‪ :‬الحرّ يُطلق المة‬
‫تطليقتين‪ ،‬وتعت ّد بحيضتين‪ ،‬والعبدُ يطلّق الحرة تطليقتين‪ ،‬وتعتد ثلث حِيض‪ ،‬وإلى هذا ذهب‬
‫عثمان البتّى‪.‬‬
‫والقولُ الثالث‪ :‬أن الطلق بالرجال‪ ،‬فيمِلكُ الحرّ ثلثاً‪ .‬وإن كانت زوجته أمة‪ ،‬والعبد ثنتين‬
‫ل زيد بن‬
‫وإن كانت زوجته حرة‪ ،‬وهذا قولُ الشافعى ومالك وأحمد فى ظاهر كلمه‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫ثابت‪ ،‬وعائشة‪ ،‬وأمّ سلمة أمّى المؤمنين‪ ،‬وعثمانَ بن عفان‪ ،‬وعبدِ ال بن عباس‪ ،‬وهذا مذهب‬

‫‪151‬‬
‫القاسم‪ ،‬وسالم‪ ،‬وأبى سلمة‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز‪ ،‬ويحيى بن سعيد‪ ،‬وربيعة‪ ،‬وأبى الزناد‪،‬وسليمان‬
‫ن المسيّب‪ ،‬وعطاء‪.‬‬
‫بن يسار‪ ،‬وعمرو بن شعيب‪ ،‬واب ِ‬
‫والقول الرابع‪ :‬أن الطلقَ بالنساء كالعِدة‪ ،‬كما روى شعبة عن أشعث بن سوّار‪ ،‬عن‬
‫الشعبى‪ ،‬عن مسروق‪ ،‬عن ابن مسعود‪ .‬السنة‪ :‬الطلقُ والعِدةُ بالنساء‪.‬‬
‫وروى عبد الرزاق‪ :‬عن محمد بن يحيى وغيرِ واحد‪ ،‬عن عيسى عن الشعبى عن‬
‫اثنى عشر من صحابة النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قالوا‪ :‬الطلق والعِدة بالمرأة‪ ،‬هذا لفظُه‪ ،‬وهذا‬
‫قولُ الحسن‪ ،‬وابن سيرين‪ ،‬وقتادة‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬والشعبى‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬والثورى‪ ،‬والحسن بن‬
‫حى‪ ،‬وأبى حنيفة وأصحابه‪.‬‬
‫حكْم رسول ال صلى ال عليه وسلم فى هذه المسألة؟ قيل‪ :‬قد قال أبو داود‪:‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما ُ‬
‫حدثنا محمد بن مسعود‪ ،‬حدثنا أبو عاصم‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬عن مظاهر بن أسلم‪ ،‬عن القاسم بن‬
‫طلِي َقتَانِ‪،‬‬
‫لمَ ِة تَ ْ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬طَلَقُ ا َ‬
‫محمد‪ ،‬عن عائشة رضى ال عنها‪ ،‬عن النب ّ‬
‫ضتَانِ))‪.‬‬
‫ح ْي َ‬
‫و ُق ْرؤُها َ‬
‫ع َمرُ‬
‫وروى زكريا بن يحيى الساجى‪ ،‬حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الحمسى‪ ،‬حدثنا ُ‬
‫بن شبيب المُسْلى‪ ،‬حدثنا عبد ال بن عيسي‪ ،‬عن عطيّة‪ ،‬عن ابن عمر رضى ال عنهما‪ ،‬قال‪ :‬قال‬
‫ضتَانِ))‪ .‬وقال عب ُد الرزاق‪ :‬حدثنا بن جريج‪ ،‬قال‪ :‬كتب‬
‫ح ْي َ‬
‫لمَةِ ِث ْنتَانِ‪ ،‬وعِ ّدتُها َ‬
‫رسول ال‪(( :‬طَلَقُ ا َ‬
‫إلىّ عبدُ ال بن زياد بن سمعان‪ ،‬أن عبد ال بن عبد الرحمن النصارى‪ ،‬أخبره عن نافع‪ ،‬عن أمّ‬
‫سلمة أم المؤمنين‪ ،‬أن غلماً لها طلّق امرأةً له حر ًة تطليقتين‪ ،‬فاستفتت أ ّم سلمة النبى صلى ال‬
‫حتّى َت ْنكِحَ َزوْجاً غَيرَه))‪ ،‬وقد تقدّم حديثُ عمر بن معتّب‪ ،‬عن‬
‫عَليْهِ َ‬
‫ح ُر َمتْ َ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فقال‪َ (( :‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم غيرُ هذه‬
‫أبى حسن‪ ،‬عن ابن عباس رضى ال عنه‪ ،‬ول يُعرف عن النب ّ‬
‫جرِهَا‪.‬‬
‫جرِهَا وبُ َ‬
‫الثار الربعة على عُ َ‬
‫أما الولُ‪ :‬فقال أبو داود‪ :‬هو حديث مجهول‪ ،‬وقال الترمذى‪ :‬حديث غريب ل نعِرفه إل من‬
‫حديث مظاهر بن أسلم‪ ،‬ومظاهر ل يُعرف له فى العلم غي ُر هذا الحديث انتهى‪ .‬وقال أبو القاسم ابن‬
‫عساكر فى ((أطرافه)) بعد ذكر هذا الحديث‪ :‬روى أسام ُة بن زيد بن أسلم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬أنه كان جالساً‬
‫عند أبيه‪ ،‬فأتاه رسولُ المير‪ ،‬فأخبره أنه سأل القاسمَ بن محمد‪ ،‬وسالم بن عبد ال عن ذلك‪ ،‬فقال‬
‫عمِل به‬
‫هذا‪ ،‬وقال له‪ :‬إن هذا ليسَ فى كتاب ال‪ ،‬ول سن ِة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن َ‬
‫المسلمون‪ .‬قال الحافظ‪ :‬فدّل على أن الحديث المرفوعَ غيرُ محفوظ‪ .‬وقال أبو عاصم النبيل‪ :‬مظاهر‬

‫‪152‬‬
‫ابن أسلم ضعيف‪ ،‬وقال يحيى بن معين‪ :‬ليس بشىء‪ ،‬مع أنه ل يُعرف‪ ،‬وقال أبو حاتم الرازى‪:‬‬
‫منكر الحديث‪ .‬وقال البيهقى‪ :‬لو كان ثابتًا لقُلنا به إل أنّا نُثبتُ حديثًا يرويه من نجهل عدالته‪.‬‬
‫وأما الثر الثانى‪ :‬ففيه عمر بن شبيب المُسْلى ضعيف‪ ،‬وفيه عطية وهو ضعيف أيضاً‪.‬وأما‬
‫الثر الثالث‪ :‬ففيه ابن سمعان الكذاب‪ ،‬وعبد ال بن عبد الرحمن مجهول‪.‬‬
‫وأما الثر الرابع‪ :‬ففيه عمر بن معتّب‪ ،‬وقد تقدم الكلمُ فيه‪.‬‬
‫والذى سلم فى المسألة الثار عن الصحابة رضى ال عنهم والقياس‪.‬‬
‫أما الثار‪ ،‬فهى متعارضة كما تقدم‪ ،‬فليس بعضُها أولى من بعض‪ ،‬بقى القياسُ‪،‬‬
‫طلّق‪ ،‬قال‪ :‬هو الذى يمِلكُ‬
‫وتجاذَبه طرفانِ‪ :‬طرف المطلّق‪ ،‬وطرف المطلّقة‪ .‬فمن راعى طرف الم َ‬
‫ب المنكوحات برقه‪ ،‬ومن راعى طرف‬
‫ف برقه كما يتنصّف نصا ُ‬
‫ص ُ‬
‫الطلق‪ ،‬وهو بيده‪ ،‬فيتن ّ‬
‫المطلّقة‪ ،‬قال‪ :‬الطلقُ يقع عليها‪ ،‬وتلزمُها العدة والتحريم وتوابعُها‪ ،‬فَتنصّف برقها كالعدة‪ ،‬ومن‬
‫ل الشبهين‪ ،‬ومن كملهُ وجعله ثلثًا رأى أن‬
‫نصف برق أىّ الزوجين كان راعى المرين‪ ،‬وأعم َ‬
‫س كذلك‪ ،‬فلم يتعلّق بشىء من ذلك‪،‬‬
‫الثار لم تثبت‪ ،‬والمنقولُ عن الصحابة‪ ،‬متعارِض‪ ،‬والقيا ُ‬
‫وتمسّك بإطلق النصوص الدالة على أن الطلق الرجعى طلقتان‪ ،‬ولم يُفرّقِ الُّ بين حر وعبد‪ ،‬ول‬
‫سيّاً} [مريم‪ ]64 :‬قالوا‪ :‬والحكمة التى لجلها جعل الطلق‬
‫ك نَ ِ‬
‫ن َر ّب َ‬
‫بينَ حرة وأمة‪{ ،‬ومَا كَا َ‬
‫حرّ‪ ،‬لن حاجتَه‬
‫الرجعى اثنتين فى الحر والعبد سواءٌ‪ ،‬قالوا‪ :‬وقد قال مالك‪ :‬إن له أن ينكِحَ أربعاً كال ُ‬
‫إلى ذلك كحاجة الحر‪ ،‬وقال الشافعىّ وأحمدُ‪ :‬أجله فى اليلء كأجلِ الحر‪ ،‬لن ضرر الزوجة فى‬
‫الصورتين سواء‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬إن طلقَه وطلقَ الحر سواء إذا كانت امرأتاهما حرتينِ إعمالً‬
‫لطلق نصوص الطلق‪ ،‬وعمومها للحر والعبد‪.‬‬
‫وقال أحمد بن حنبل والناسُ معه‪ :‬صيامُه فى الكفارات كلّها‪ ،‬وصيامُ الحر سواء‪ ،‬وحدّه فى‬
‫السرقة والشراب‪ ،‬وحدّ الحر سواء‪ .‬قالوا‪ :‬ولو كانت هذه الثا ُر أو بعضُها ثابتاً‪ ،‬لما سبقتُمونا إليه‪،‬‬
‫ول غلبتُمونا عليه‪ ،‬ولو اتفقت اثارُ الصحابة لم َنعْدُهَا إلى غيرها‪ ،‬فإن الحقّ ل يعدُوهم‪ ،‬وبالّ‬
‫التوفيق‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم بأن الطلق بي ِد الزوج ل بي ِد غيره‬
‫حُكم رسو ِ‬
‫طلّ ْق ُتمُوهُنّ} [الحزاب‪ ،]49 :‬وقال‪:‬‬
‫ت ثُمّ َ‬
‫حتُمُ ال ُم ْؤ ِمنَا ِ‬
‫ن آ َمنُوا إذَا َنكَ ْ‬
‫قال ال تعالى‪{:‬يََأ ّيهَا الّذِي َ‬
‫ن ِب َم ْعرُوفٍ} [البقرة‪]231 :‬‬
‫سرّحوهُ ّ‬
‫سكُوهُنّ ِب َم ْعرُوفٍ َأوْ َ‬
‫جلَهنّ َفَأمْ ِ‬
‫ن أَ َ‬
‫طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ َف َبَلغْ َ‬
‫{وإذا َ‬
‫فجعل الطلق لمن نكح‪ ،‬لن له المساك‪ ،‬وهو الرجعة‪ ،‬وروى ابن ماجه فى ((سننه))‪ :‬من حديث‬

‫‪153‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم رجلٌ فقال‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬سيّدى زوّجنى أمتَه‪ ،‬وهو‬
‫ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬أتى النب ّ‬
‫صعِدَ رسولُ ال صلى ال عليه وسلم المنبرَ‪ ،‬فقال‪(( :‬يَا َأ ّيهَا النّاسُ‬
‫يُريد أن يفرّق بينى وبينَها‪ .‬قال‪َ :‬ف َ‬
‫ق ِلمَنْ أَخَ َذ بِالسّاقِ))‪.‬‬
‫ق َب ْي َن ُهمَا‪ ،‬إنّما الطّلَ ُ‬
‫ن يُ َفرّ َ‬
‫عبْ َد ُه َأ َمتَ ُه ثُ ّم ُيرِيدُ أَ ْ‬
‫ل أَحَ ِدكُ ْم ُي َزوّجُ َ‬
‫مَا بَا ُ‬
‫وقد روى عب ُد الرزاق‪ ،‬عن ابنِ جُريج‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬عن ابنِ عباس رضى ال عنهما ؛ كان‬
‫ق العبدِ بيدِ سيّده‪ ،‬إن طلّق‪ ،‬جاز‪ ،‬إن فرق‪ ،‬فهى واحدة إذا كانا له جميعاً‪ ،‬فإن كان العبدُ‬
‫يقول‪ :‬طل ُ‬
‫له‪ ،‬والمةُ لغيره‪ ،‬طلّق السي ُد أيضاً إن شاء‪.‬‬
‫ق العبد ول فرقتُه‬
‫وروى الثورىّ‪ ،‬عن عبد الكريم الجزرى‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬عنه‪ :‬ليس طل ُ‬
‫بشىء‪.‬وذكر عب ُد الرزاق‪ ،‬حدثنا ابن جريج‪ ،‬أخبرنى أبو الزبير سمع جابراً يقول فى المة والعبد‪:‬‬
‫سيدُهما يجمعُ بينهما ويُفرّق‪.‬‬
‫ث ابن عباس رضى ال عنهما‬
‫ق أن يُتبع‪ .‬وحدي ُ‬
‫وقضاءُ رسول ال صلى ال عليه وسلم أح ّ‬
‫ل الناس‪.‬‬
‫ن َيعْضُدُه‪ ،‬وعليه عم ُ‬
‫المتقدّم‪ ،‬وإن كان فى إسناده ما فيه‪ ،‬فالقرآ ُ‬
‫ن الثلث‪ ،‬ثم راجعها بع َد زوج أنها على‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فيمن طلّق دو َ‬
‫حُكم رسو ِ‬
‫بقية الطلقِ‬
‫ن وهب‪ ،‬يُحدّث عن رجل‬
‫ن مِقْسَمٍ‪ ،‬أنه أخبره‪ ،‬أنه سمع ُن َبيْهَ ب َ‬
‫نبِ‬
‫ن المبارك‪ ،‬عن عثما َ‬
‫ذكر اب ُ‬
‫من قومه‪ ،‬عن رجل من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أن رسولَ ال صلى ال عليه‬
‫جعُها بعد زوج أنها على ما بقى من‬
‫ن الثلث‪ ،‬ثم يرت ِ‬
‫وسلم قضى فى المرأة يُطلّقُها زوجُها دو َ‬
‫الطلق‪.‬‬
‫وهذا الثر وإن كان فيه ضعيف ومجهول‪ ،‬فعليه أكابرُ الصحابة‪ ،‬كما ذكر عبد الرزاق فى‬
‫((مصنفه))‪ ،‬عن مالك‪ ،‬وابن عيينة‪ ،‬عن الزّهرى‪ ،‬عن ابن المسيّب‪ ،‬وحُميد بن عبد الرحمن‪،‬‬
‫وعُبيد ال بن عبد ال بن عتبة ابن مسعود‪ ،‬وسُليمان ابن يسار‪ ،‬كلهم يقول‪ :‬سمعتُ أبا هُريرة يقول‪:‬‬
‫سمعتُ عمر بن الخطاب يقول‪ :‬أيّما امرأةٍ طلّقها زوجُها تطليق ًة أو تطليقتين‪ ،‬ثم تركها حتّى َت ْنكِحَ‬
‫زوجًا غيره‪ ،‬فيموتَ عنها‪ ،‬أو يُطَلقَها ثم ينكحهَا زوجُها الول‪ ،‬فإنها عنده على ما بقى مِن طلقها‪.‬‬
‫وعن على بن أبى طالب‪ ،‬وأبى بن كعب‪ ،‬وعمران بن حصين رضى ال عنهم مثله‪.‬‬
‫قال المام أحمد ‪ :‬هذا قولُ الكابر مِن أصحاب النبىّ صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫ن عباس‪ ،‬رضى ال عنهم ‪ :‬تعو ُد على الثلث‪ ،‬قال ابنُ‬
‫ن عمر‪ ،‬واب ُ‬
‫وقال ابنُ مسعود‪ ،‬واب ُ‬
‫عباس رضى ال عنهما ‪ :‬نِكاح جديدٌ‪ ،‬وطلقٌ جديد ‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫ل أهلُ الحديث‪ ،‬فيهم أحمدُ‪ ،‬والشافعىّ‪ ،‬ومالكُ‪ ،‬وذهب إلى الثانى‬
‫وذهب إلى القولِ الوّ ِ‬
‫أبو حنيفة‪ ،‬هذا إذا أصابها الثانى‪ ،‬فإن لم يُصبها فهى على ما بقى من طلقها عند الجميع ‪ .‬وقال‬
‫النخعى ‪ :‬لم أسمع فيها اختلفاً‪ ،‬ولو ثبت الحديثُ لكان فصلَ النزاع فى المسألة‪ ،‬ولو اتفقت اثارُ‬
‫ل أيضاً ‪.‬‬
‫الصحابة‪ ،‬لكانت فص ً‬
‫وأما فقه المسألة فمتجاذب‪ ،‬فإن الزّوج الثانى إذا هَ َد َمتْ إصابتُه الثلثَ‪ ،‬وأعادتها إلى‬
‫الول بطلقٍ جديدٍ‪ ،‬فما دُونها أولى‪ ،‬وأصحابُ القول الول يقولون ‪ :‬لما كانت إصابة الثانى‬
‫طلّقَت‬
‫ل المطلقة ثلثًا للول لم يكن بُ ّد مِن هدمها وإعادتها على طلق جديدٍ‪ ،‬وأما مَنْ ُ‬
‫شرطاً فى حِ ّ‬
‫ل للول‪ ،‬فلم‬
‫دونَ الثلث‪ ،‬فلم تُصادِف إصابة الثانى فيها تحريمًا يُزيلُه‪ ،‬ول هى شرطٌ فى الحِ ّ‬
‫َتهْدِمْ شيئاً‪ ،‬فوجودُها كعدمها بالنسبة إلى الول‪ ،‬وإحللها له‪ ،‬فعادت على ما بقى كما لو لم‬
‫يُصبها‪ ،‬فإن إصابتَه ل أثر لها البتة‪ ،‬ول نكاحه‪ ،‬وطلقُه معلّق بها بوجه ما‪ ،‬ول تأثيرَ لها فيه ‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فى المطلقة ثلثاً ل تَحِلّ للول حتى يطأَهَا الزوجُ‬
‫حُكم رسو ِ‬
‫الثانى‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫@‬
‫ظىّ جاءت إلى‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬عن عائشة رضىَ الُّ عنها‪ ،‬أن امرأةَ رِفاعة القُر ِ‬
‫رسولِ ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬إن رِفاعة طلّقنى‪َ ،‬ف َبتّ طلقى‪ ،‬وإنى‬
‫ل ال صلى ال‬
‫ل الهُ ْدبَةِ‪ ،‬فقال رسو ُ‬
‫نكحتُ بعدَه عب َد الرحمن بنَ الزّبير القُرظى‪ ،‬وإنّ ما معه مث ُ‬
‫س ْيَلتَك))‪.‬‬
‫س ْيَلتَهُ ويَذُوقَ عُ َ‬
‫حتّى تَذُوقى عُ َ‬
‫ن َترْجِعى إلى رِفَاعَةَ‪ .‬لَ‪َ ،‬‬
‫ن أَ ْ‬
‫عليه وسلم‪َ(( :‬ل َعّلكِ تُريدِي َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫وفى سنن النسائى‪ :‬عن عائش َة رضىَ ال عنها‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ع َوَل ْو لَ ْم ُي ْنزِل))‪.‬‬
‫س ْيلَةُ‪ :‬الجِما ُ‬
‫((العُ َ‬
‫طلّقُ امرأتَه‬
‫ل يُ َ‬
‫ن الرّجُ ِ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم عَ ِ‬
‫سئِلَ رسولُ ا ِ‬
‫وفيها عن ابن عمر‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫ثلثاً‪ ،‬فيتزوّجُها الرجُل‪َ ،‬ف ُي ْغلِقُ البابَ‪ ،‬ويُرخى السّتر‪ ،‬ثم يُطلّقها قبل أن يدخُلَ بها؟ قال‪(( :‬لَ‬
‫خرُ))‪.‬‬
‫حتّى يُجا ِمعَها ال َ‬
‫لوّلِ َ‬
‫ل لِ َ‬
‫تَحِ ّ‬
‫فتضمن هذا الحكم أموراً‪.‬‬
‫ل المرأة على الرجل أنه ل يق ِد ُر على جماعها‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه ل يُقبل قو ُ‬

‫‪155‬‬
‫الثانى‪ :‬أن إصاب َة الزوج الثانى شرط فى حلها للول‪ ،‬خلفًا لمن اكتفى بمجرد العقد‪ ،‬فإن‬
‫قوله مردود بالسنة التى ل مرد لها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه ل يُشترط النزال‪ ،‬بل يكفى مجردُ الجماع الذى هو ذوقُ العسيلة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم لم يجعلْ مجر َد العقد المقصود الذى هو نكاح رغبة كافياً‪،‬‬
‫ول اتصال الخلوة به‪ ،‬وإغلق البواب‪ ،‬وإرخاء الستور حتى يتّصل به الوطءُ‪ ،‬وهذا يدل على‬
‫ض للزوج والزوجة فيه سوى صور ِة العقد‪ ،‬وإحللها‬
‫أنه ل يكفى مجرد عقد التحليل الذى ل غر َ‬
‫للول بطريق الولى‪ ،‬فإنه إذا كان عقد الرغبة المقصود للدوام غيرَ كافٍ حتى يوجد فيه الوطء‪،‬‬
‫فكيف يكفى عق ُد تيسٍ مستعار لِيحلّها ل رغبة له فى إمساكها‪ ،‬إنما هو عا ِريّة كحمار العشرين‬
‫المستعار للضّراب؟‬
‫حُكم رسول ال صلى ال عليه وسلم فى المرأة تُقيم شاهداً واحداً على طلقِ زوجها والزّوجُ‬
‫منكر‬
‫ن وضّاح عن ابن أبى مريم‪ ،‬عن عمرو بن أبى سلمة‪ ،‬عن عمرو بن أبى سلمة‪،‬‬
‫ذكر اب ُ‬
‫عن زهير بن محمد‪ ،‬عن ابن جُريج‪ ،‬عن عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬عن النبىّ‬
‫ك بِشَاهِ ٍد وَاحِدٍ عَدْلِ‪،‬‬
‫علَى ذَل َ‬
‫ق َزوْجهَا‪ ،‬فَجَا َءتْ َ‬
‫عتِ ال َم ْرَأةُ طَلَ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪(( :‬إذَا ادّ َ‬
‫خرَ‪ ،‬وَجَازَ‬
‫ن َنكَلَ َف ُنكُولُه ِب َم ْن ِزلَةِ شَاهِدٍ آ َ‬
‫شهَا َد ُة الشّاهِدِ‪ ،‬وإ ْ‬
‫عنْهُ َ‬
‫طَلتْ َ‬
‫ف بَ َ‬
‫حَل َ‬
‫جهَا‪ ،‬فإِنْ َ‬
‫حِلفَ َزوْ ُ‬
‫استُ ْ‬
‫طَلقُه))‪ ،‬فتضمّن هذا الحك ُم أربع َة أمور‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬أنه ل يُكتفى بشهادة الشاهد الواحِدِ فى الطلق‪ ،‬ول مَع يمين المرأة‪ ،‬قال المام‬
‫أحمد‪ :‬الشاه ُد واليمين إنما يكون فى الموال خاصة ل يقعُ فى حدّ‪ ،‬ول نِكاح‪ ،‬ول طلق‪ ،‬ول‬
‫إعتاق‪ ،‬ول سرقة‪ ،‬ول قتل‪ .‬وقد نصّ فى رواية أخرى عنه على أن العبدَ إذا ادّعى أن سيدَه‬
‫أعتقه‪ ،‬وأتى بشاهد‪ ،‬حلف مع شاهده‪ ،‬وصار حراً‪ ،‬واختاره الخِرقى‪ ،‬ونص أحمد فى شريكين‬
‫س َريْنِ عدلين‪ ،‬فللعبد أن يحلفَ‬
‫فى عبد ادّعى كُلّ واحد منهما أن شريكَه أعتق حقّه منه‪ ،‬وكانا مُع ِ‬
‫مع كُلّ واحد منهما‪ ،‬ويصيرَ حراً‪ ،‬ويحِلفَ مع أحدهما‪ ،‬ويصيرَ نصفُه حراً‪ ،‬ولكن ل يعرف عنه‬
‫أن الطلق يثبتُ بشاه ٍد ويمين‪.‬‬
‫ب إن‬
‫ث عمرو بن شعيب هذا على أنه يثُبت بشاهِ ٍد ونكولِ الزوج‪ ،‬وهو الصوا ُ‬
‫وقد دلّ حدي ُ‬
‫شاء ال تعالى‪ ،‬فإن حديث عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬ل يُعرف من أئمة السلم إل‬
‫ض المواضع‪ ،‬وزهي ُر بن محمد‪ ،‬الراوى عن ابن‬
‫من احتج به‪ ،‬وبنى عليه وإن خالفه فى بع ِ‬

‫‪156‬‬
‫جريج‪ ،‬ثقة محتج به فى ((الصحيحين))‪ ،‬وعمرو بن أبى سلمة‪ ،‬هو أبو حفص التنيسى‪ ،‬محتج‬
‫به فى ((الصحيحين)) أيضاً‪ ،‬فمن احتجّ بحديث عمرو بن شعيب‪ ،‬فهذا من أصح حديثه‪.‬‬
‫ج يُستحلف فى دعوى الطلق إذا لم تَقُ ْم للمرأة به بينة‪ ،‬لكن إنما استحلفه مع‬
‫الثانى‪ :‬أن الزو َ‬
‫قوة جانب الدعوى بالشاهد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه يحكم فى الطلق بشاهدٍ‪ ،‬ونكول المدّعى عليه‪ ،‬وأحمد فى إحدى الروايتين عنه‬
‫يحكُم بوقوعه بمجرّد النكول من غير شاهد‪ ،‬فإذا ادّعت المرأة على زوجها الطلقَ‪ ،‬وأحلفناه لها‬
‫فى إحدى الروايتين‪َ ،‬ف َنكَلَ‪ ،‬قضى عليه‪ ،‬فإذا أقامت شاهداً واحدًا ولم يَحلف الزوج على عدم‬
‫دعواها‪ ،‬فالقضاء بالنكول عليه فى هذه الصورة أقوى‪.‬‬
‫وظاهر الحديث‪ :‬أنه ل يُحكم على الزوج بالنكول إل إذا أقامت المرأةُ شاهداً واحداً‪ ،‬كما هو‬
‫إحدى الروايتين عن مالك‪ ،‬وأنه ل يُحكم عليه بمجرد دعواها مع نكوله‪ ،‬لكن من يقضى عليه به‬
‫ض هذا عليه بالنكولِ فى دعوى‬
‫يقول‪ :‬النكولُ إما إقرارٌ‪ ،‬وإما بينة‪ ،‬وكلهما يُحكم به‪ ،‬ولكن ينتقِ ُ‬
‫القِصاص‪ ،‬ويُجاب بأن النكولَ بدل استغنى به فيما يُباح بالبدل‪ ،‬وهو الموالُ وحقوقها دون النكاح‬
‫وتوابعه‪.‬‬
‫ل بمنزلة البينة‪ ،‬فلما أقامت شاهداً واحداً وهو شط ُر البينة كان النكولُ‬
‫الرابع‪ :‬أن النكو َ‬
‫قائماً‪ ،‬مقام تمامها‪.‬‬
‫ونحن نذكرُ مذاهبَ الناس فى هذه المسألة‪ ،‬فقال أبو القاسم بن الجلب فى ((تفريعه))‪:‬‬
‫حلّف بدعواها‪ ،‬فإن أقامت على ذلك شاهداً واحداً‪ ،‬لم‬
‫وإذا ادعت المرأ ُة الطلقَ على زوجها لم يُ َ‬
‫ق على زوجها‪ ،‬وهذا الذى قاله ل يُعلم فيه نزاع بين الئمة‬
‫تُحلف مع شاهدها‪ ،‬ولم يث ُبتِ الطل ُ‬
‫الربعة‪ ،‬قال‪ :‬ولكن يحلف لها زوجُها‪ ،‬فإن حلف‪ ،‬برىءَ من دعواها‪.‬‬
‫قلتُ‪ :‬هذا فيه قولن للفقهاء‪ ،‬وهما روايتان عن المام أحمد‪ .‬إحداهما‪ :‬أنه يحِلفُ لدعواها‪،‬‬
‫وهو مذهب الشافعى‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأبى حنيفة‪ .‬والثانية‪ :‬ل يحلف‪ .‬فإن قلنا‪ :‬ل يحلف‪ ،‬فل إشكال‪،‬‬
‫وإن قلنا‪ :‬يحلف‪ ،‬فنكل عن اليمين‪ ،‬فهل يقضى عليه بطلق زوجته بالنكول؟ فيه روايتان عن‬
‫ق عليه بالشاهد والنكول عملً بهذا الحديث‪ ،‬وهذا اختيارُ أشهب‪ ،‬وهذا‬
‫مالك‪ ،‬إحداهما‪ :‬أنها تطلُ ُ‬
‫فيه غاي ُة القوة‪ ،‬لن الشاهد والنكول سببان مِن جهتين مختلفتين‪ ،‬فقوى جانبُ المدعى بهما‪ ،‬فحكم‬
‫له‪ ،‬فهذا مقتضى الثر والقياس‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫ح ِبسَ‪ ،‬فإن طال حبسُه‪ُ ،‬ت ِركَ‪.‬‬
‫ل عن اليمين‪ُ ،‬‬
‫والرواية الثانية عنه‪ :‬أن الزوج إذا َنكَ َ‬
‫واختلفت الرواية عن المام أحمد‪ ،‬هل يقضى بالنكول فى دعوى المرأة الطلق؟ على روايتين‪.‬‬
‫ول أثر عنده لقامة الشاهدِ الواحد‪ ،‬بل إذا ادعت عليه الطلقَ‪ ،‬ففيه روايتان فى استحلفه‪ ،‬فإن‬
‫قلنا‪ :‬ل يُستحلف‪ ،‬لم يكن لدعواها أثر‪ ،‬وإن قلنا‪ :‬يستحلف‪ ،‬فأبى فهل يُحكم عليه بالطلق؟ فيه‬
‫روايتان‪ ،‬وسيأتى إن شاء ال تعالى الكلمُ فى القضاء بالنكول‪ ،‬وهل هو إقرار أو بدل‪ ،‬أو قائم‬
‫مقام البينة فى موضعه من هذا الكتاب؟‪.‬‬
‫حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم فى تخيير أزواجه بين المُقام معه وبين مفارقتهن له‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫ثبت فى ((الصحيحين)) عن عائشة رضى ال عنها قالت‪ :‬لما ُأ ِمرَ رسو ُ‬
‫حتّى تَسْت ْأمِرى‬
‫ل َتعْجَلى َ‬
‫عَل ْيكِ أَ ّ‬
‫ك َأمْراً فَلَ َ‬
‫وسلم بتخيير أزواجه‪ ،‬بدأ بى‪ ،‬فقال‪(( :‬إنّى ذَا ِك ٌر َل ِ‬
‫جكَ إنْ‬
‫ل ْزوَا ِ‬
‫َأ َب َو ْيكِ))‪ .‬قالت‪ :‬وقد علم أن أبوى لم يكونا ليأمرانى بفراقه‪ ،‬ثم قرأ‪{:‬يَأ ّيهَا النّبىّ قُلْ َ‬
‫ن ُك ْنتُنّ ُترِدْنَ ال‬
‫ل * َوإِ ْ‬
‫جمِي ً‬
‫سرَاحاً َ‬
‫حكُنّ َ‬
‫سرّ ْ‬
‫ن ُأ َم ّت ْعكُنّ َوأُ َ‬
‫حيَا َة ال ّدنْيا وزينَتَها َف َتعَاَليْ َ‬
‫ُك ْنتُنّ ُترِدْنَ ال َ‬
‫ن أَجْراً عَظِيماً} [الحزاب‪ ]29-28 :‬فقلتُ‪ :‬فى‬
‫ت ِم ْنكُ ّ‬
‫سنَا ِ‬
‫خ َرةَ فَإِنّ ال أَعَدّ ِل ْلمُحْ ِ‬
‫َورَسُولَهُ والدّارَ ال ِ‬
‫هذا استأمر أبوى؟ فإنى أريدُ ال ورسولَه والدارَ الخرةَ‪ .‬قالت عائشة‪ :‬ثم َفعَل أزواجُ النبى صلى‬
‫ال عليه وسلم ِمثْلَ ما فعلتُ‪ ،‬فلم يكن ذلك طلقاً‪.‬‬
‫قال ربيع ُة وابنُ شهاب‪ :‬فاختارت واحدةٌ منهن نفسَها‪ ،‬فذهبت وكانت ألبتة‪ .‬قال ابن شهاب‪:‬‬
‫وكانت بدوية‪ .‬قال عمرو بن شعيب‪ :‬وهى ابنة الضحاك العامرية رجعت إلى أهلها‪ ،‬وقال ابنُ‬
‫حبيب‪ :‬قد كان دخل بها‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ط بعد ذلك البعر‪ ،‬وتقول‪ :‬أنا الشقيّةُ‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬لم يدخل بها‪ ،‬وكانت تلتقِ ُ‬
‫واختلف الناسُ فى هذا التخيير‪ ،‬فى موضعين‪ .‬أحدهما‪ :‬فى أى شىء كان؟ والثانى‪ :‬فى‬
‫حكمه‪ ،‬فأما الول‪ :‬فالذى عليه الجمهور أنه كان بين المقام معه والفراق‪ ،‬وذكر عبد الرزاق فى‬
‫ن بين الدنيا والخرة‪ ،‬ولم يُخ ّيرْهُنّ فى الطلق‪،‬‬
‫((مصنفه))‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬أن ال تعالى إنما خ ّيرَهُ ّ‬
‫ق القرآن‪ ،‬وقولُ عائشة رضى ال عنها َيرُدّ قوله‪ ،‬ول ريب أنه سبحانه خيّرهن بينَ ال‬
‫وسيا ُ‬
‫جبَ اختيارهن ال ورسولَه والدارَ‬
‫ورسوله والدار الخرة‪ ،‬وبينَ الحياة الدنيا وزينتها‪ ،‬وجعل مَو ِ‬
‫ن ويُسرّحَهن سَراحاً جميلً‪،‬‬
‫الخرة المقا َم مع رسوله‪ ،‬وموجبَ اختيارهن الدنيا وزينتها أن يُم ّتعَه ّ‬
‫وهو الطلقُ بل شك ول نزاع‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫وأما اختلفُهم فى حكمه‪ ،‬ففى موضعين‪ .‬أحدهما‪ :‬فى حكم اختيار الزوج‪ ،‬والثانى‪:‬‬
‫ن ومعظم المة أن‬
‫فى حكم اختيار النفس‪ ،‬فأما الول‪ :‬فالذى عليه معظمُ أصحاب النبى ونساؤه ُكّلهُ ّ‬
‫من اختارت زوجها لم تطلق‪ ،‬ول يكون التخييرُ بمجرده طلقاً‪ ،‬صحّ ذلك عن عمر‪ ،‬وابن‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فاخترناه‪ ،‬فلم‬
‫مسعود‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وعائشة‪ .‬قالت عائشة‪ :‬خيّرنا رسو ُ‬
‫نعدّه طلقاً‪ ،‬وعن أمّ سلمة‪ ،‬وقريبة أختها‪ ،‬وعبد الرحمن بن أبى بكر‪.‬‬
‫وصح عن على‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وجماعة من الصحابة‪ :‬أنها إن اختارت زوجَها‪ ،‬فهى‬
‫ل الحسن‪ ،‬ورواية عن أحمد رواها عنه إسحاق بن منصور‪ ،‬قال‪ :‬إن‬
‫طلقة رجعية‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫اختارت زوجَها‪ ،‬فواحدة يمِلكُ الرجعة‪ ،‬وإن اختارت نفسها‪ ،‬فثلثٌ‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬انفرد بهذا‬
‫إسحاق بن منصورِ‪ ،‬والعملُ على ما رواه الجماعة‪ .‬قال صاحب ((المغنى))‪ :‬ووجه هذه الرواية‬
‫أن التخييرَ كناية نوى بها الطلق‪ ،‬فوقع بمجرّدها كسائر كناياته‪ ،‬وهذا هو الذى صرّحت به‬
‫عائشة رضى ال عنها‪ ،‬والحق معها بإنكاره وردّه‪ ،‬فإن رسولَ ال صلى ال عليه وسلم لما‬
‫اختاره أزواجُه لم يَقُل‪ :‬وقع بكن طلقة‪ ،‬ولم يُراجعهن‪ ،‬وهى أعلم المة بشزن التخيير‪ ،‬وقد صح‬
‫عن عائشة رضى ال عنها أنها قالت‪ :‬لم يكن ذلك طلقاً‪ ،‬وفى لفظ‪(( :‬لم نعده طلقاً))‪ .‬وفى لفظ‪:‬‬
‫((خيّرنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أفكان طلقا ؟ً))‬
‫والذى لحظه من قال‪ :‬إنها طلقة رجعية أن التخيير تمليك‪ ،‬ول تملك المرأةُ نفسها إل وقد‬
‫ك مستلزم لوقوع الطلق‪ ،‬وهذا مبنى على مقدمتين‪ .‬إحداهما‪ :‬أن التخيي َر تمليك‪.‬‬
‫طلقت‪ ،‬فالتملي ُ‬
‫ع الطلق‪ ،‬وكِل المقدمتين ممنوعة‪ ،‬فليس التخيي ُر بتمليك‪ ،‬ولو‬
‫والثانية‪ :‬أن التمليك يستلزِمُ وقو َ‬
‫ع الطلق قبل إيقاع من ملكه‪ ،‬فإن غاية أمره أن تمِلكَه الزوجةُ كما كان‬
‫كان تمليكاً لم يستلزم وقو َ‬
‫الزوج يمِلكُه‪ ،‬فل يقع بدون إيقاع من ملكه‪ ،‬ولو صحّ ما ذكروه‪ ،‬لكان بائناً‪ ،‬لن الرجعية ل‬
‫تمِلكُ نفسها‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاءُ فى التخيير‪ :‬هل هو تمليك أو توكيلٌ‪ ،‬أو بعضُه تمليك‪ ،‬وبعضُه‬
‫توكيل‪ ،‬أو هو تطليق منجّز‪ ،‬أو لغوٌ ل أثر له ألبتة؟ على مذاهب خمسة‪ .‬التفريقُ هو مذهب أحمد‬
‫ف على القبول‪ ،‬وقال صاحب‬
‫ومالك‪ .‬قال أبو الخطاب فى ((رؤوس المسائل))‪ :‬هو تمليكٌ يق ُ‬
‫ك بيدكِ‪ ،‬أو اختارى‪ ،‬فقالت‪ :‬قبلتُ‪ ،‬لم يقع شىء‪ ،‬لن ((أمرك‬
‫((المغنى)) فيه‪ :‬إذا قال‪ :‬أم ُر ِ‬
‫ت ينصرف إلى قبول الوكالة‪ ،‬فلم يقع شىء‪ ،‬كما لو قال‬
‫بيدك)) توكيل‪ ،‬فقولُها فى جوابه‪ :‬قبل ُ‬
‫لجنبية‪ :‬أم ُر امرأتى بيدكِ‪ ،‬فقالت‪ :‬قبلت‪ ،‬وقوله‪ :‬اختارى‪ :‬فى معناه‪ ،‬وكذلك إن قالت‪ :‬أخذت‬

‫‪159‬‬
‫أمرى‪ ،‬نص عليهما أحمد فى رواية إبراهيم بن هانئ إذا قال لمرأته‪ :‬أمُركِ بيدكِ‪ ،‬فقالت‪ :‬قبلت‪،‬‬
‫ليس بشىء حتى يتبيّن‪ ،‬وقال‪ :‬إذا قالت‪ :‬أخذتُ أمرى‪ ،‬ليس بشىء‪ ،‬قال‪ :‬وإذا قال لمرأته‪:‬‬
‫اختارى‪ ،‬فقالت‪ :‬قبلتُ نفسى‪ ،‬أو اخترت نفسى‪ ،‬كان أبين‪ .‬انتهى‪ .‬وفرق مالك بين ((اختيارى))‪،‬‬
‫ك بيدكِ)) تمليكاً‪ ،‬و ((اختيارى)) تخييراً ل تمليكاً‪ .‬قال‬
‫وبين ((أم ُركِ بيدكِ))‪ ،‬فجعل ((أم ُر ِ‬
‫أصحابُه‪ :‬وهو توكيلٌ‪.‬‬
‫وللشافعى قولن‪ .‬أحدهما‪ :‬أنه تمليك‪ ،‬وهو الصحيح عند أصحابه‪ ،‬والثانى‪ :‬أنه توكيل وهو‬
‫القديم‪ ،‬وقالت الحنفية‪ :‬تمليك‪ .‬وقال الحسنُ وجماعةٌ من الصحابة‪ :‬هو تطليق تقع به واحدة منجّزة‪،‬‬
‫وله رجعتُها‪ ،‬هى رواية ابنِ منصور عن أحمد‪.‬‬
‫وقال أهلُ الظاهر وجماع ٌة من الصحابة‪ :‬ل يقع به طلق‪ ،‬سواءٌ اختارت نفسَها‪ ،‬أو‬
‫اختارت زوجها‪ ،‬ول أثر للتخيير فى وقوع الطلق‪.‬‬
‫ونحن نذكر مآخذ هذه القوال على وجه الشارة إليها‪.‬‬
‫ب التمليك‪ :‬لما كان البُضع يعود إليها بعد ما كان للزوج‪ ،‬كان هذا حقيق َة التمليك‪.‬‬
‫قال أصحا ُ‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فالتوكيل يستلزِ ُم أهلي َة الوكيل لمباشرة ما ُوكّلَ فيه‪ ،‬والمرأةُ ليست بأهل ليقاع‬
‫الطلق‪ ،‬ولهذا لو وكّل امرأةً فى طلق زوجته‪ ،‬لم يصحّ فى أحد القولين‪ ،‬لنها ل تُباشر الطلق‪،‬‬
‫ل فى طلق امرأته‪َ ،‬يصِحّ أن يوكّل امرأة فى‬
‫والذين صححوه قالوا‪ :‬كما يصح أن يُوكّلَ رج ً‬
‫طلقها‪.‬‬
‫ن الوكيلَ هو الذى يتصرف لموكله ل لنفسه‪،‬‬
‫قالُوا‪ :‬وأيضاً فالتوكيل ل يُعقل معناه هاهنا‪ ،‬فإ ّ‬
‫ف الوكيل‪.‬‬
‫والمرأة ها هنا إنما تتصرّف لنفسها ولحظها‪ ،‬وهذا يُنافى تصر َ‬
‫ب التوكيل‪ ،‬واللفظُ لصاحب ((المغنى))‪ :‬وقولهم‪ :‬إنه توكيل ل َيصِحّ‪،‬‬
‫قال أصحا ُ‬
‫فإن الطلقَ ل يصح تمليكه‪ ،‬ول ينتقِلُ عن الزواج‪ ،‬وإنما ينوبُ فيه غيرُه عنه‪ ،‬فإذا استناب غيره‬
‫فيه‪ ،‬كان توكيلً ل غير‪.‬‬
‫ل الملك إليها فى بُضعها‪ ،‬وهو محال‪ ،‬فإنه لم‬
‫قالوا‪ :‬ولو كان تمليكاً لكان مقتضاه انتقا َ‬
‫ك البُضع‪َ ،‬ل َمَلكَ عِوضه‪،‬‬
‫يخرُج عنها‪ ،‬ولهذا لو وُطئت بشبهة كان المهر لها ل للزوج‪ ،‬ولو َمَل َ‬
‫ض تلك المنفعة له‪.‬‬
‫عوَ ُ‬
‫كمن ملك منفعة عينٍ كان ِ‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فلو كان تمليكاً‪ ،‬لكانت المرأةُ مالكة للطلق‪ ،‬وحينئذ يجب أن ل يبقى الزوجُ‬
‫مالكاً لستحالة كون الشىء الواحد بجميع أجزائه ملكاً لمالكين فى زمن واحد‪ ،‬والزوجُ مالك‬

‫‪160‬‬
‫للطلق بعد التخيير‪ ،‬فل تكونُ هى مالكة له‪ ،‬بخلف ما إذا قلنا‪ :‬هو توكيل واستتابة‪ ،‬كان الزوجُ‬
‫مالكاً‪ ،‬وهى نائبة ووكيلة عنه‪.‬‬
‫ح ِنثَ‪ ،‬فدل‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فلو قال لها‪ :‬طلّقى نفسَك‪ ،‬ثم حلف أن ل يُطلّق‪ ،‬فطلقت نفسَها‪َ ،‬‬
‫على أنها نائبة عنه‪ ،‬وأنه هو المطلّق‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فقولُكم‪ :‬إنه تمليك‪ ،‬إما إن تُريدوا به أنه ملّكها نفسَها‪ ،‬أو أنه ملّكها أن تّطلّق‪،‬‬
‫فإن أردتم الول‪ ،‬لزمكم أن يقع الطلقُ بمجرد قولها‪ :‬قبلت‪ ،‬لنه أتى بما يقتضى خروجَ بُضعها‬
‫ت العبارة‪.‬‬
‫غيّر ِ‬
‫عن ملكه‪ ،‬واتصل به القبولُ‪ ،‬وإن أردتم الثانى‪ ،‬فهو معنى التوكيل‪ .‬وإن ُ‬
‫قال المفرّقون بين بعض صوره وبعض‪ ،‬وهُمْ أصحابُ مالك ‪ :‬إذا قال لها‪ :‬أم ُركِ‬
‫بيدكِ‪ ،‬أو جعلت أمرَك إليك‪ ،‬أو ملّكتُك أمرك‪ ،‬فذاك تمليك‪ .‬وإذا قال‪ :‬اختارى فهو تخيير‪ ،‬قالُوا‪:‬‬
‫والفرقُ بينهما حقيقةً وحكماً‪ .‬أما الحقيقةُ‪ ،‬فلن ((اختارى)) لم يتضمن أكثرَ من تخييرها‪ ،‬لم‬
‫يُملكها نفسها‪ ،‬وإنما خيّرها بين أمرين‪ ،‬بخلف قوله‪ :‬أمرُك بيدك‪ ،‬فإنه ل يكون بيدها إل وهى‬
‫مالكته‪ ،‬وأما الحكم‪ ،‬فلنه إذا قال لها‪ :‬أمرُك بيدك‪ ،‬وقال‪ :‬أردتُ به واحدة‪ ،‬فالقولُ قولُه مع‬
‫يمينه‪ ،‬وإذا قال‪ :‬اختارى‪ ،‬فطلقت نفسَها ثلثاً‪ ،‬وقعت‪ ،‬ولو قال‪ :‬أردتُ واحدة إل أن تكونَ غيرَ‬
‫مدخول بها‪ ،‬فالقول قوله فى إرادته الواحدة‪ .‬قالوا‪ :‬لن التخيير يقتضى أن لها أن تختارَ نفسها‪،‬‬
‫ول يحصُل لها ذلك إل بالبينونة‪ ،‬فإن كانت مدخولً بها لم َتبِنْ إل بالثلث‪ ،‬وإن لم تكن مدخولً‬
‫بها‪ ،‬بانت بالواحدة‪ ،‬وهذا بخلفِ‪ :‬أمرُك بيدك‪ ،‬فإنه ل يقتضى تخييرها بين نفسها وبين زوجها‪،‬‬
‫بل تمليكها أمرها‪ ،‬وهو أعمّ مِن تمليكها البانة بثلث أو بواحدة تنقضى بها عدتها‪ ،‬فإن أراد بها‬
‫أحدَ محتمليه‪ُ ،‬قبِلَ قولُه‪ ،‬وهذا بعينه َيرِد عليهم فى ((اختيارى))‪ ،‬فإنه أعم من أن تختار البينونة‬
‫ح فى تمليك الثلث من‬
‫بثلث أو بواحدة تنقضى بها عدتها‪ ،‬بل‪(( :‬أمرك بيدك)) أصر ُ‬
‫((اختارى))‪ ،‬لنه مضاف ومضاف إليه‪ ،‬فيعم جميعَ أمرها‪ .‬بخلف ((اختارى)) فإنه مطلق ل‬
‫عموم له‪ ،‬فمن أين يُستفاد منه الثلث؟ وهذا منصوصُ المام أحمد‪ ،‬فإنه قال فى اختارى‪ :‬إنه ل‬
‫تمِلكُ به المرأة أكث َر مِن طلقة واحدة إل بني ِة الزوج‪ ،‬ونص فى ((أمرك بيدك‪ ،‬وطلقك بيدك‬
‫ووكلتك فى الطلق))‪ :‬على أنها تملك به الثلث‪ .‬وعنه رواية أخرى‪ :‬أنها ل تمِلكُها إل بنيته‪.‬‬
‫وأما من جعله تطليقاً منجّزاً‪ ،‬فقد تقدّم وج ُه قوله وضعفه‪.‬‬
‫وأما من جعله لغواً‪ ،‬فلهم مأخذان‪:‬‬

‫‪161‬‬
‫ق لم يجعله ال بيد النساء‪ ،‬إنما جعله بيد الرّجال‪ ،‬ول‬
‫أحدهما‪ :‬أن الطل َ‬
‫ل الطلق إلى من لم يجعل ال إليه الطلق‬
‫يتغ ّيرُ شرع ال باختيار العبد‪ ،‬فليس له أن يختار نق َ‬
‫البتة‪.‬‬
‫ب ابن أبى ثابت‪ ،‬أن‬
‫ن عياش‪ ،‬حدثنا حبي ُ‬
‫قال أبو عُبيد القاسم بن سلم‪ :‬حدثنا أبو بكر ب ُ‬
‫ل إلى هذا البيت‪ ،‬فأمرُ صاحبتك بيدك‪ ،‬فأدخلتْه‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫رجلً قال لمرأة له‪ :‬إن أدخلتِ هذا العِدْ َ‬
‫هى طالق‪َ ،‬فرُفِ َع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضى ال عنه‪ ،‬فأبانها منه‪ ،‬فمرّوا بعبد ال بن‬
‫مسعود‪ ،‬فأخبروه‪ ،‬فذهب بهم إلى عمر‪ ،‬فقال‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ :‬إن ال تبارك وتعالى جعل‬
‫الرّجال قوامِينَ على النساء‪ ،‬ولم يجعل النساء قواماتٍ على الرجال‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬فما ترى؟ قال‪:‬‬
‫أراها امرأته‪ .‬قال‪ :‬وأنا أرى ذلك‪ ،‬فجعلها واحدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يحتمل أنه جعلها واحدة بقول الزوج‪ :‬فأمر صاحبتك بيدك‪ ،‬ويكون كنايةً فى الطلق‪،‬‬
‫ويحتمل أنه جعلها واحدة بقول ضرتها‪ :‬هى طالق‪ ،‬ولم يجعل للضرة إبانتها‪ ،‬لئل تكون هى‬
‫القوامة على الزوج‪ ،‬فليس فى هذا دليل لما ذهبت إليه هذه الفرقة‪ ،‬بل هو حجة عليها‪.‬‬
‫وقال أبو عبيد‪ :‬حدثنا عبد الغفار بن داود‪ ،‬عن ابنِ لهيعة‪ ،‬عن يزيد ابن أبى حبيب‪ ،‬أن‬
‫ُر َم ْيثَةَ الفارسية كانت تحتَ محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر‪ ،‬فملكها أمرها‪ ،‬فقالت‪ :‬أنتَ طالق‬
‫طلّقُ‪.‬‬
‫ثلث مرات‪ ،‬فقال عثمان بن عفان‪ :‬أخطأتَ‪ ،‬ل طلق لها‪ ،‬لن المرأة ل تُ َ‬
‫وهذا أيضاً ل يدل لهذه الفرقة‪ ،‬لنه إنما لم يوقع الطلق لنها أضافته إلى غير محله وهو‬
‫الزوج‪ ،‬وهو لم يقل‪ :‬أنا منك طالق‪ ،‬وهذا نظيرُ ما رواه عبد الرزاق‪ ،‬حدثنا ابن جريج‪ ،‬أخبرنى‬
‫أبو الزبير‪ ،‬أن مجاهداً أخبره‪ ،‬أن رجلً جاء إلى ابن عباس رضى ال عنهما‪ ،‬فقال‪ :‬ملّكتُ‬
‫امرأتى أمرها‪ ،‬فطلّقتْنى ثلثاً‪ ،‬فقال ابنُ عباس‪(( :‬خَطّأَ الُّ فوءها‪ ،‬إنما الطلق لك عليها‪ ،‬وليس‬
‫لها عليك))‪.‬‬
‫قال الثرم‪ :‬سألتُ أبا عبد ال‪ ،‬عن الرجل يقول لمرأته‪ :‬أم ُركِ بيدك؟ فقال‪ :‬قال عثمانُ‪،‬‬
‫وعلىّ رضى ال عنهما‪ :‬القضاء ما قضت‪ ،‬قلت‪ :‬فإن قالت‪ :‬قد طلقتُ نفسى ثلثاً قال‪ :‬القضاءُ ما‬
‫قضت‪ .‬قلت‪ :‬فإن قالت‪ :‬طلقتُك ثلثاً‪ ،‬قال‪ :‬المرأة ل تطلّق‪ ،‬واحتج بحديث ابن عباس رضى ال‬
‫عنهما‪(( :‬خَطَّأ ال نوءها))‪ .‬ورواه عن وكيع‪ ،‬عن شعبة‪ ،‬عن الحكم‪ ،‬عن ابن عباس رضى ال‬
‫عنه‪ ،‬فى رجل جعل أمر امرأتِه فى يدها‪ ،‬فقالت‪ :‬قد طلقتُك ثلثاً‪ ،‬قال ابنُ عباس‪ :‬خَطّأَ ال‬
‫نوءها‪ ،‬أفل طلقت نفسها‪ .‬قال أحمد‪ :‬صحّف أبو مطر‪ ،‬فقال‪(( :‬خطأ ال فوها)) ولكن روى عبد‬

‫‪162‬‬
‫الرزاق‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬قال‪ :‬سألتُ عبد ال بن طاووس كيف كان أبوك يقول فى رجل ملّك‬
‫امرأتَه أمرَها‪ ،‬أتمِلكُ أن تُطلّق نفسها‪ ،‬أم ل؟ قال‪ :‬كان يقولُ‪ :‬ليس إلى النساء طلقٌ‪ ،‬فقلت له‪:‬‬
‫ل أم َر امرأتِه‪َ ،‬أ َي ْمِلكُ الرجلُ أن يُطلّقَها؟ قال‪ :‬ل‪ .‬فهذا‬
‫فكيف كان أبوك يقول فى رجل ملّك رج ً‬
‫صريح من مذهب طاووس أنه ل يُطلق إل الزوج‪ ،‬وأن تمليكَ الزوجة أمرها لغو‪ ،‬وكذلك توكيلُه‬
‫غيره فى الطلق‪ .‬قال أبو محمد ابن حزم‪ :‬وهذا قول سليمان‪ ،‬وجميع أصحابنا‪.‬‬
‫الحجة الثانية لهؤلء‪ :‬أن ال سبحانه إنما جعل أم َر الطلق إلى الزوج دونَ النساء‪،‬‬
‫لنهن ناقصاتُ عقل ودين‪ ،‬والغالبُ عليهن السفه‪ ،‬وتذهب بهن الشهوة والميل إلى الرجال كُلّ‬
‫جعِلَ أم ُر الطلق إليهن‪ ،‬لم يستقِمْ للرجال معهن أمر‪ ،‬وكان فى ذلك ضرر عظيم‬
‫مذهب‪ ،‬فلو ُ‬
‫بأزواجهن‪ ،‬فاقتضت حِكمتُه ورحمتُه أَنه لم يجعل بأيديهن شيئًا مِن أمر الفراق‪ ،‬وجعله إلى‬
‫ل ذلك إليهن‪ ،‬لناقض حكمةَ ال ورحمتَه‪ ،‬ونظره للزواج‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫الزواج‪ .‬فلو جاز للزواج نق ُ‬
‫ن أزواجه‬
‫ل على التخيير فقط‪ ،‬فإن اخترن ال ورسولَه والدارَ الخرَة كما وقع كُ ّ‬
‫والحديث إنما دَ ّ‬
‫سهُنّ‪ ،‬متعهن‪ ،‬وطلقهن هو بنفسه‪ ،‬وهو السّراحُ الجميل‪ ،‬ل أن‬
‫ن أنفُ َ‬
‫بحالهن‪ ،‬وإن اختر َ‬
‫ن هو نفسَ الطلق‪ ،‬وهذا فى غاية الظهور كما ترى‪.‬‬
‫اختيارَهن لنفسهن يكو ُ‬
‫قال هؤلء‪ :‬والثارُ عن الصحابة فى ذلك مختلفة اختلفاً شديداً فصح عن عمر وابن‬
‫مسعود‪ ،‬وزيد بن ثابت فى رجل جعل أم َر امرأته بيدها فطلقت نفسها ثلثاً‪ ،‬أنها طلقةٌ واحدة‬
‫رجعية‪ ،‬وصح عن عثمان رضى ال عنه‪ .‬أن القضاء ما قضت‪ ،‬ورواه سعيد بن منصور‪ ،‬عن‬
‫ابن عمر‪ ،‬وغيره عن ابن الزبير‪ .‬وصح وعن على‪ ،‬وزيد‪ ،‬وجماعة من الصحابة رضى ال‬
‫عنهم‪ :‬أنها إن اختارت نفسها‪ ،‬فواحدة بائنة‪ ،‬وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية‪.‬‬
‫وصح عن بعض الصحابة‪ :‬أنها اختارت نفسها‪ ،‬فثلث بكل حال‪ :‬وروى عن ابن مسعود‬
‫فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها‪ ،‬فليس بشىء‪.‬‬
‫قال أبو محمد ابن حزم‪ :‬وقد تقصّينا مَن روينا عنه مِن الصحابة أنه يقع به الطلقُ‪ ،‬فلم‬
‫ل بعضهم أولى مِن‬
‫ح عنه‪ ،‬ومن لم َيصِحّ عنه إل سبعة‪ ،‬ثم اختلفوا‪ ،‬وليس قو ُ‬
‫يكونوا بين من ص ّ‬
‫قول بعض ول أثر فى شىء منها‪ ،‬إل ما رويناه من طريق النسائى‪ ،‬أخبرنا نصر بن على‬
‫الجهضمى‪ ،‬حدثنا سليمانُ بن حرب‪ ،‬حدثنا حماد بن زيد‪ ،‬قال‪ :‬قلت ليوب السختيانى‪ :‬هل علمتَ‬
‫أحداً قال فى ((أمرك بيدك))‪ :‬إنها ثلثٌ غير الحسن؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬اللهم غُفراً إل ما حدثنى به قتادة‪،‬‬
‫عن كثير مولى ابن سمرة‪ ،‬عن أبى سلمة‪ ،‬عن أبى هريرة‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬

‫‪163‬‬
‫ت إلى قتادة‪ ،‬فأخبرتُه‪،‬‬
‫ثلث‪ .‬قال أيوب‪ :‬فلقيت كثيرًا مولى ابن سمرة‪ ،‬فسألتُه‪ ،‬فلم يعرفه‪ ،‬فرجع ُ‬
‫فقال‪ :‬ننسى‪ .‬قال أبو محمد‪ :‬كثير مولى ابن سمرة مجهول‪ ،‬ولو كان مشهوراً بالثقة والحفظ‪ ،‬لما‬
‫ض رواته على أبى هريرة‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫خالفنا هذا الخبرَ‪ ،‬وقد أوقفه بع ُ‬
‫خيّرت‪ ،‬فاختارت نفسَها؟ قال‪ :‬قال‬
‫وقال المروذى‪ :‬سألت أبا عبد ال‪ ،‬ما تقول فى امرأة ُ‬
‫فيها خمسةٌ من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنها واحدة ولها الرجعة‪ :‬عمر‪ ،‬وابن‬
‫مسعود‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وعائشة‪ .‬وذكر آخر‪ ،‬قال غير المروذى‪ :‬هو زيد ابن ثابت‪.‬‬
‫قال أبو محمد‪ ،‬ومن خيّر امرأته‪ ،‬فاختارت نفسَها‪ ،‬أو اختارت الطلقَ‪ ،‬أو اختارت‬
‫ل ذلك سواء‪ ،‬ول تطلق بذلك‪ ،‬ول تحرُم عليه‪،‬‬
‫زوجَها‪ ،‬أو لم تختر شيئاً‪ ،‬فكل ذلك ل شىء‪ ،‬وكُ ّ‬
‫ول لشىءٍ مِن ذلك حكم‪ ،‬ولو كرّر التخييرَ‪ ،‬وكررت هى اختيارَ نفسها‪ ،‬أو اختيا َر الطلق ألف‬
‫مرة‪ ،‬وكذلك إن ملّكها نفسها‪ ،‬أو جعل أمرها بيدها‪ .‬ول فرق‪.‬‬
‫ت فى القرآن‪ ،‬ول‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإذ لم يأ ِ‬
‫ول حُجة فى أحد دونَ رسو ِ‬
‫ك أمركِ‪ ،‬أو‬
‫ل الرجل لمرأته‪ :‬أمرُك بيدك‪ ،‬أو قد َملّكت ِ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن قو َ‬
‫عن رسولِ ا ِ‬
‫حرّمَ‬
‫اختارى يُوجب أن يكون طلقاً‪ ،‬أو أن لها أن تطلّق نفسها‪ ،‬أو تختارَ طلقاً‪ ،‬فل يجو ُز أن ُي َ‬
‫ل لم يُوجبها ال‪ ،‬ول‬
‫لّ تعالى له ورسولُه صلى ال عليه وسلم بأقوا ٍ‬
‫على الرجل فرجٌ أباحه ا ُ‬
‫رسولُه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهذا فى غاية البيان‪ .‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫ب أقوال الموقعين‪ ،‬وتناقُضها‪ ،‬ومعارضةُ بعضها لبعض يدل على فسادِ‬
‫قالوا‪ :‬واضطرا ُ‬
‫أصلها‪ ،‬ولو كان الصل صحيحاً لطردت فروعُه‪ ،‬ولم تتناقض‪ ،‬ولم تختلف‪ ،‬ونحن نُشير إلى‬
‫طرف من اختلفهم‪.‬‬
‫فاختلفوا‪ :‬هل يقع الطلقُ بمجرد التخيير‪ ،‬أو ل يقعُ حتى تختار نفسها؟ على قولين‪ :‬تقدم‬
‫حكايتُهما‪ ،‬ثم اختلف الذين ل يُوقعونه بمجردِ قوله‪ :‬أمرك بيدك‪ :‬هل يختص اختيارُها بالمجلس‪،‬‬
‫ل أبى‬
‫أو يكون فى يدها ما لم يفسح‪ ،‬أو يطأ؟ على قولين‪.‬أحدهما‪ ،‬أنه يتقيّد بالمجلس‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫حنيفة‪ ،‬والشافعى‪ ،‬ومالك فى إحدى الروايتين عنه‪ .‬الثانى‪ :‬أنه فى يدها أبداً حتى يفسخَ أو يطأ‪،‬‬
‫ل أحمد‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬وأبى ثور‪ .‬والرواية الثانية عن مالك‪ .‬ثم قال بعضُ أصحابه‪ :‬وذلك‬
‫وهذا قو ُ‬
‫ما لم تَطُلْ حتى يتبين أنها تركته‪ ،‬وذلك بأن يتعدّى شهرين‪ ،‬ثم اختلفوا‪ ،‬هل عليها يمين‪ :‬أنها‬
‫تركت‪ ،‬أم ل؟ على قولين‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫ثم اختلفوا إذا رجع الزوج فيما جعل إليها‪ ،‬فقال أحمد وإسحاق والوزاعى‪ ،‬والشعبى‪،‬‬
‫ومجاهد‪ ،‬وعطاء‪ :‬له ذلك‪ ،‬ويبطلُ خيارها‪ .‬وقال مالك‪ ،‬وأبو حنيفة والثورى‪ ،‬والزهرى‪ :‬ليس له‬
‫ف مبنى على أنه توكيل‪ ،‬فيمِلكُ الموكل الرجوع‪ ،‬أو تمليك‪ ،‬فل يمِلكُه‪،‬‬
‫الرجوعُ‪ ،‬وللشافعية خل ٌ‬
‫ض أصحاب التمليك‪ :‬ول يمتِنعُ الرجوعُ‪ .‬وإن قلنا إنه تمليك‪ ،‬لنه لم يتصل به القبول‪،‬‬
‫قال بع ُ‬
‫ع فيه كالهبة والبيع‪.‬‬
‫فجاز الرجو ُ‬
‫ل ابن‬
‫واختلفوا‪ :‬فيما يلزَم من اختيارها نفسها‪ .‬فقال أحمد والشافعى واحدة رجعية وهو قو ُ‬
‫عمر‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬واختاره أبو عبيد‪ ،‬وإسحاق‪ .‬وعن على‪ :‬واحدة بائنة‪ ،‬وهو‬
‫قول أبى حنيفة وعن زيد بن ثابت‪ ،‬ثلث‪ ،‬وهو قول الليث‪ ،‬وقال مالك‪ :‬إن كانت مدخولً بها‪،‬‬
‫فثلث‪ ،‬وإن كانت غير مدخول بها‪ُ ،‬قبِل منه دعوى الواحدة‪.‬‬
‫واختلفوا‪ :‬هل يفتِقُر قوله‪ :‬أمرك بيدك إلى نية أم ل؟ فقال أحمد والشافعى وأبو‬
‫ع الطلق إلى نية‬
‫حنيفة‪ :‬يفت ِق ُر إلى نية‪ ،‬وقال مالك‪ ،‬ل يفت ِق ُر إلى نية‪ ،‬واختلفوا‪ :‬هل يفت ِقرُ وقو ُ‬
‫المرأة إذا قالت‪ :‬اخترت نفسى‪ ،‬أو فسخت نِكاحَك؟ فقال أبو حنيفة‪ :‬ل يفت ِق ُر وقوع الطلق إلى نيتها‬
‫إذا نوى الزوج‪ .‬وقال أحمد والشافعى‪ :‬لبد من نيتها إذا اختارت بالكناية‪ ،‬ثم قال أصحابُ مالك‪:‬‬
‫إن قالت‪ :‬اخترتُ نفسى‪ ،‬أو قبلتُ نفسى‪ ،‬لزم الطلقُ‪ ،‬ولو قالت‪ :‬لم أُرده‪ .‬وإن قالت‪ .‬قبلت أمرى‪،‬‬
‫سئلت عما أرادت؟ فإن أرادت الطلق كان طلقاً‪ ،‬وإن لم ُترِ ْد ُه لم يكن طلقاً ثم قال مالك‪ :‬إذا قال‬
‫لها‪ :‬أمُرك بيدك‪ ،‬وقال‪ :‬قصدتُ طلقة واحدة‪ ،‬فالقولُ قوله مع يمينه‪ ،‬وإن لم تكن له نية‪ ،‬فله أن‬
‫يُوقع ما شاء‪ .‬وإذا قال‪ :‬اختارى‪ ،‬وقال‪ :‬أردت واحدة‪ ،‬فاختارت نفسها‪ ،‬طلقت ثلثاً‪ ،‬ول يقبل‬
‫قوله‪.‬‬
‫ع كثيرة مضطربة غاي َة الضطرابِ ل دليل عليها من كتابٍ ول سنة ول‬
‫ثم هاهنا فرو ٌ‬
‫إجماع‪ ،‬والزوجة زوجته حتى يقو َم دليل على زوال عصمته عنها‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولم يجعل الُّ إلى النساء شيئًا من النكاحِ‪ ،‬ول من الطلق‪ ،‬وإنما جعل ذلك‬
‫إلى الرجل‪ ،‬وقد جعل الُّ سبحانه الرجال قوّامينَ على النساء‪ ،‬إن شاءوا أمسكوا‪ ،‬وإن شاءوا‬
‫طلقوا‪ ،‬فل يجوز للرجل أن يجعل المرأة قوّامة عليه‪ ،‬إن شاءت أمسكت‪ ،‬وإن شاءت طلقت‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولو أجمع أصحابُ رسول ال صلى ال عليه وسلم على شىء لم نتعد إجماعَهم‪ ،‬ولكن‬
‫اختلفوا‪ ،‬فطلبنا الحُجة لقوالهم مِن غيرها‪ ،‬فلم نجد الحجةَ تقومُ إل على هذا القول‪ .‬وإن كان من‬
‫روى عنه قد روى عنه خلفه أيضاً‪ ،‬وقد أبطل من ادعى الجماع فى ذلك‪ ،‬فالنزاع ثابت بين‬

‫‪165‬‬
‫الصحابة والتابعين كما حكيناه‪ ،‬والحجةُ ل تقوم بالخلف‪ ،‬فهذا ابنُ عباس‪ ،‬وعثمان ابن عفان‪،‬‬
‫قد قال‪ :‬إن تمليك الرجل لمرأته أمرها ليس بشىء‪ ،‬وابنُ مسعود يقول فيمن جعل أمر امرأته بيد‬
‫آخر فطلقها‪ :‬ليس بشىء‪ ،‬وطاووس يقول فيمن ملك امرأته أمرها‪ :‬ليس إلى النساء طلق‪ ،‬ويقول‬
‫ل أمر امرأته‪ ،‬أيملك الرجل أن يطلقها؟ قال‪ :‬ل‪.‬‬
‫فيمن ملك رج ً‬
‫قلت‪ :‬أما المنقولُ عن طاووس‪ ،‬فصحيح صريح ل مطعن فيه سندًا وصراحة‪ .‬وأما المنقول‬
‫عن ابن مسعود‪ ،‬فمختلفٌ‪ ،‬فنقل عنه موافقة على وزيد فى الوقوع‪ ،‬كما رواه ابن أبى ليلى عن‬
‫الشعبى‪ :‬أن أمرك بيدك‪ ،‬واختارى سواء فى قول على وابن مسعود وزيد‪ ،‬ونقل عنه فيمن قال‬
‫لمرأته‪ :‬أمُر فلنة بيدك إن أدخلت هذا العدل البيت‪ ،‬ففعلت‪ ،‬أنها امرأته‪ ،‬ولم يطلقها عليه‪.‬‬
‫ق إلى‬
‫وأما المنقول عن ابن عباس‪ ،‬وعثمان‪ ،‬فإنما هو فيما إذا أضافت المرأةُ الطل َ‬
‫الزوج‪ ،‬وقالت‪ :‬أنت طالق‪ .‬وأحمد ومالك يقولن ذلك مع قولهما بوقوع الطلق إذا اختارت نفسها‪،‬‬
‫أو طلقت نَفسها‪ ،‬فل يُعرف عن أحد من الصحابة إلغاء التخيير والتمليك ألبتة‪ ،‬إل ه ِذ ِه الرواية‬
‫ت عن الصحابة‪ ،‬اعتبا ُر ذلك‪ ،‬ووقوع الطلق به‪،‬‬
‫عن ابن مسعود‪ ،‬وقد ُر ِوىَ عنه خلفُها‪ ،‬والثاب ُ‬
‫وإن اختلفوا فيما َت ْمِلكُ به المرأة كما تقدم‪ ،‬والقولُ بأن ذلك ل أثر له ل يُعرف عن أحد من‬
‫الصحابة ألبتة‪ ،‬وإنما وهم أبو محمد فى المنقول عن ابن عباس وعثمان‪ ،‬ولكن هذا مذهب‬
‫طاووس‪ ،‬وقد نقل عن عطاء ما يدل على ذلك‪ ،‬فروى عبد الرزاق‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬قلت لعطاء‪:‬‬
‫رجل قال لمرأته‪ :‬أمرك بيدك بعد يوم أو يومين‪ ،‬قال‪ :‬ليس هذا بشىء‪ .‬قلت‪ :‬فأرسل إليها رجلً‬
‫أن أمرها بيدها يوماً أو ساعة‪ ،‬قال‪ :‬ما أدرى ما هذا؟ ما أظن هذا شيئاً‪ .‬قلت لعطاء‪ :‬أملّكت عائشة‬
‫حفصة حين ملّكها المنذر أمرها‪ ،‬قال عطاء‪ :‬ل‪ ،‬إنما عرضت عليها أتطلقها أم ل‪ ،‬ولم تُملّكها‬
‫أمرها‪.‬‬
‫ب رسول ال صلى ال عليه وسلم لما عَ َد ْلنَا عن هذا القول‪ ،‬ولكن‬
‫ولول هيبةُ أصحا ِ‬
‫أصحابُ رسول ال صلى ال عليه وسلم هم القدوةُ وإن اختلفوا فى حكم التخيير‪ ،‬ففى ضمن‬
‫اختلفهم اتفاقُهم على اعتبار التخيير‪ ،‬وعدم إلغائه‪ ،‬ول مفسدة فى ذلك‪ ،‬والمفسدةُ التى ذكرتمُوها‬
‫فى كون الطلق بيد المرأة إنما تكونُ لو كان ذلك بيدها استقللتً‪ ،‬فأما إذا كان الزوج هو‬
‫المستقل بها‪ ،‬فقد تكونُ المصلحة له فى تفويضها إلى المرأة ليصير حاله معها على بينة إن أخبته‪،‬‬
‫أقامت معه‪ ،‬وإن كرهته‪ ،‬فارقتُه‪ ،‬فهذا مصلحة له ولها‪ ،‬وليس فى هذا ما يقتضى تغيير شرع ال‬

‫‪166‬‬
‫ق بين توكيل المرأة فى طلق نفسها وتوكيل الجنبى‪ ،‬ول معنى لمنع توكيل‬
‫وحكمته‪ ،‬ول فر َ‬
‫الجنبى فى الطلق‪ ،‬كما َيصِحّ توكليه فى النكاح والخلع‪.‬‬
‫وقد جعل الُّ سبحانَه للحكمين النظرَ فى حال الزوجين عند الشقاق إن رأيا التفريقَ‬
‫فرّقا‪ ،‬وإن رأيا الجمع‪ ،‬جمعا‪ ،‬وهو طلق أو فسخ من غير الزوج‪ ،‬إما برضاه إن قيل‪ :‬هما‬
‫وكيلنِ‪ ،‬أو بغير رضاه إن قيل‪ :‬هما حكمان‪ ،‬وقد جُعلَ للحاكم أن يطلّق على الزوج فى مواضع‬
‫ج من يُطلّق عنه‪ ،‬أو يُخالع‪ ،‬لم يكن فى هذا تغيير لحكم ال‬
‫ل الزو ُ‬
‫بطريق النيابة عنه‪ ،‬فإذا وكّ َ‬
‫مخالفةٌ لدينه‪ ،‬فإن الزوجَ هو الذى يُطلّق إما بنفسه‪ ،‬أو بوكيله‪ ،‬وقد يكون أتمّ نظراً للرجل من‬
‫نفسه‪ ،‬وأعلم بمصلحته‪ ،‬فيفوض إليه ما هو أعل ُم بوجه المصلحة فيه منه‪ ،‬وإذا جاز التوكيلُ فى‬
‫العتقِ والنكاح‪ ،‬والخلع والبراء‪ ،‬وسائر الحقوق من المطالبة بها وإثباتها واستيفائها‪،‬‬
‫ل فى الطلق؟ نعم الوكيلُ يقوم مقام الموكّل فيما يملكه من‬
‫والمخاصمة فيها‪ ،‬فما الذى حرّم التوكي َ‬
‫الطلق‪ ،‬ومال يمِلكُه‪ ،‬وما يَحلّ له منه‪ ،‬وما يحرم عليه‪ ،‬ففى الحقيقة لم يُطلّق إل الزوج إما‬
‫بنفسه أو بوكيله‪.‬‬
‫حُكم رسول ال صلى ال عليه وسلم بيّنه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرّم أمته أو‬
‫زوجته أو متاعه‬
‫جكَ والُ غَفُورٌ رحيمٌ *‬
‫ت َأ ْزوَا ِ‬
‫ك َت ْب َتغِى َمرْضَا َ‬
‫حرّ ُم مَا أَحَلّ ال َل َ‬
‫قال تعالى‪{ :‬يََأ ّيهَا ال ّن ِبىّ لِ َم تُ َ‬
‫حلّ َة َأ ْيمَا ِنكُم} [التحريم‪ ،]2-1 :‬ثبت فى ((الصحيحين))‪ ،‬أنه صلى ال عليه وسلم‬
‫قَدْ َفرَضَ ال َلكُ ْم تَ ِ‬
‫ل فى بيت زينب بنت جحش‪ ،‬فاحتالت عليه عائش ُة وحفصةُ‪ ،‬حتى قال‪(( :‬لَنْ أَعُو َد لَهُ))‪.‬‬
‫ش ِربَ عس ً‬
‫َ‬
‫وفى لفظ‪ :‬وقد حلفت‪.‬‬
‫وفى ((سنن النسائى))‪ :‬عن أنس رضى ال عنه‪ ،‬أن رسولَ الِّ صلى ال عليه وسلم كانت‬
‫له أمة يطؤُها‪ ،‬فلم تزل به عائش ُة وحفصةُ حتى ح ّرمَها‪ ،‬فأنزل ال عز وجل‪{ :‬يََأ ّيهَا النبىّ لِ َم تُحرّمُ‬
‫مَا أَحلّ ال َلكَ} [التحريم‪.]1:‬‬
‫ل امرأَته‪ ،‬فهي‬
‫حرّمَ الرّجُ ُ‬
‫وفى ((صحيح مسلم))‪ :‬عن ابنِ عباس رضى ال عنهما‪ ،‬قال‪ :‬إذا َ‬
‫يَمينٌ ُيكَ ّفرُهَا‪ ،‬وقال‪ :‬لقد كان لكُم فى رسولِ ال أسوة حسنة‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وفى جامع الترمذى‪ :‬عن عائشة رضى ال عنها‪ ،‬قالت‪ :‬آلى رسو ُ‬
‫جعَلَ فى اليمينِ كفارةً‪ .‬هكذا رواه مسلمة بن علقمة‪ ،‬عن‬
‫حرَامَ حَلَلً‪ ،‬و َ‬
‫جعَلَ ال َ‬
‫مِن نسائه وحرّم فَ َ‬

‫‪167‬‬
‫داود‪ ،‬عن الشعبى‪ ،‬عن مسروق‪ ،‬عن عائشة‪ ،‬ورواه على بن مُسهر‪ ،‬وغيره‪ ،‬عن الشعبى‪ ،‬عن‬
‫ل وهو أصح‪ ،‬انتهى كلم أبى عيسى‪.‬‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم مرس ً‬
‫وقولُها‪ :‬جعل الحرامَ حللً‪ ،‬أى‪ :‬جعل الشىء الذى حرّمه وهو العسلُ‪ ،‬أو الجاريةُ‪ ،‬حللً‬
‫بعد تحريمه إياه‪.‬‬
‫وقال الليثُ بن سعد‪ :‬عن يزيد بن أبى حبيب‪ ،‬عن عبد ال بن هُبيرة عن قَبيصة بن ذُؤيب‪،‬‬
‫قال‪ :‬سألت زيد بن ثابت‪ ،‬وابن عمر رضى ال عنهم‪ ،‬عمن قال لمرأته‪ :‬أنت علىّ حرام‪ ،‬فقال‬
‫جميعاً‪ :‬كفارة يمين‪ .‬وقال عبد الرزاق‪ ،‬عن ابن عُيينة‪ ،‬عن ابن أبى نجيح‪ ،‬عن مجاهد‪ ،‬عن ابن‬
‫مسعود رضى ال عنه‪ ،‬قال فى التحريم‪ :‬هى يمينٌ يكفّرها‪.‬‬
‫قال ابنُ حزم‪ :‬وروى ذلك عن أبى بكر الصديق‪ ،‬وعائشة أ ّم المؤمنين‪ .‬وقال الحجاج بن‬
‫منهال‪ :‬حدثنا جريرُ بن حازم‪ ،‬قال‪ :‬سألت نافعًا مولى ابن عمر رضى ال عنه عن الحرام‪ ،‬أطلق‬
‫هو؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬أوليس قد حرّم رسول ال صلى ال عليه وسلم جاريته فأمره ال عز وجل أن يُكفّر‬
‫عن يمينه‪ ،‬ولم يحرّمها عليه‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق‪ :‬عن معمر‪ ،‬عن يحيى بن أبى كثير‪ ،‬وأيوب السختيانى‪ ،‬كلهما عن‬
‫عكرمة أن عمر بن الخطاب قال‪ :‬هى يمين‪ ،‬يعنى التحريم‪.‬‬
‫وقال إسماعيل بن إسحاق‪ :‬حدثنا المُقَدّمىّ‪ :‬حدثنا حماد بن زيد‪ ،‬عن صخر بن جُويرية‪ ،‬عن‬
‫نافع‪ ،‬عن ابن عمر رضى ال عنهما‪ ،‬قال‪ :‬الحرام يمين‪.‬‬
‫وفى ((صحيح البخارى))‪ :‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬أنه سمع ابن عباس رضى ال عنهما‬
‫يقول‪ :‬إذا حرّم امرأته‪ ،‬ليس بشىء‪ ،‬وقال‪ :‬لقد كان لكم فى رسول ال أسوة حسنة فقيل‪ :‬هذا رواية‬
‫أخرى عن ابن عباس‪ .‬وقيل‪ :‬إنما أراد أنه ليس بطلق وفيه كفارة يمين‪ ،‬ولهذا احتجّ بفعل رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهذا الثانى أظهر‪ ،‬وهذه المسألة فيها عشرون مذهبًا للناس‪ ،‬ونحن‬
‫نذكرها‪ ،‬ونذكر وجوهها ومآخذها‪ ،‬والراجح منها بعون ال تعالى وتوفيقه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن التحري َم لغو ل شىء فيه‪ ،‬ل فى الزوجة‪ ،‬ول فى غيرها‪ ،‬ل طلقَ‬
‫ظهَار‪ ،‬روى وكيع‪ ،‬عن إسماعيل بن أبى خالد‪ ،‬عن الشعبى‪ ،‬عن مسروق‪:‬‬
‫ول إيلءَ‪ ،‬ول يمينَ ول ِ‬
‫ما أبالى حرّمتُ امرأتى أو قصع ًة من ثريد‪ .‬وذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن الثورى‪ ،‬عن صالح بن مسلم‪،‬‬
‫ن على من نعلى و ُذ ِك َر عن ابن جريج‪ ،‬أخبرنى عبد‬
‫عن الشعبى‪ ،‬أنه قال فى تحريم المرأة‪ :‬لهن أهو ُ‬
‫الكريم‪ ،‬عن أبى سلمة بن عبد الرحمن‪ ،‬أنه قال‪ :‬ما أبالى ح ّرمُتها يعنى امرأته‪ ،‬أو حرّمتُ ماء‬

‫‪168‬‬
‫النهر‪ .‬وقال قتادة‪ :‬سأل رجلٌ حمي َد بن عبد الرحمن الحميرى‪ ،‬عن ذلك؟ فقال‪ :‬قال ال تعالى‪{ :‬فَإِذَا‬
‫غبْ} [الشرح‪ ]8-7 :‬وأنت رجل تلعب‪ ،‬فاذهب فالعب‪ ،‬هذا قول‬
‫صبْ * وإلى َر ّبكَ فَارْ َ‬
‫غتَ فَا ْن َ‬
‫َفرَ ْ‬
‫أهلِ الظاهر كلّهم‪.‬‬
‫المذهب الثانى‪ :‬أن التحريم فى الزوجة طلق ثلث‪ .‬قال ابن حزم‪:‬‬
‫قاله على بن أبى طالب‪ ،‬وزيدُ بن ثَابت‪ ،‬وابنُ عمر‪ ،‬وهو قول الحسن‪ ،‬ومحمد بن عبد الرحمن ابن‬
‫أبى ليلى‪ ،‬وروى عن الحكم بن عتيبة‪ .‬قلت‪ :‬الثابت عن زيد بن ثابت‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬ما رواه هو من‬
‫طريق الليث ابن سعد‪ ،‬عن يزيد بن أبى حبيب‪ ،‬عن أبى هُبيرة‪ ،‬عن قَبيصة‪ ،‬أنه سأل زي َد بن ثابت‬
‫وابنَ عمر عمن قال لمرأته‪ .‬أنت علىّ حرام‪ ،‬فقال جميعاً‪ :‬كفارة يمين‪ ،‬ولم يصح عنهما خلف‬
‫ذلك‪ ،‬وأما على‪ ،‬فقد روى أبو محمد بن حزم‪ ،‬من طريق يحيى القطان‪ ،‬حدثنا إسماعيل بن أبى‬
‫خالد‪ ،‬عن الشعبى‪ ،‬قال‪ :‬يقول رجال فى الحرام‪ :‬هى حرام حتى تنكِح زوجًا غيره‪ .‬ول والّ ما قال‬
‫ذلك على‪ ،‬وإنما قال على‪ :‬ما أنا بمحلّها ول بمحرّمها عليك‪ ،‬إن شئت فتقدّم‪ ،‬وإن شئت فتأخر‪ .‬وأما‬
‫الحسن‪ ،‬فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه‪ ،‬أنه قال‪ :‬كُلّ حلل على حرام‪ ،‬فهو يمين‪ .‬ولعل‬
‫أبا محمد غلط على على وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة‪ ،‬فإن أحمد حكى عنهم أنها‬
‫ثلث‪ .‬وقال هو عن على وابن عمر صحيح‪ ،‬فوهم أبو محمد‪ ،‬وحكاه فى‪ :‬أنت على حرام‪ ،‬وهو‬
‫وهم ظاهر‪ ،‬فإنهم فرّقوا بين التحريم‪ ،‬فأفتوا فيه بأنه يمين‪ ،‬وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلث‪ ،‬ول‬
‫أعلم أحداً قال‪ :‬إنه ثلث بكل حال‪.‬‬
‫المذهب الثالث‪ :‬أنه ثلث فى حق المدخول بها ل يُقبل منه‬
‫غيرُ ذلك‪ ،‬وإن كانت غيرَ مدخول بها‪ ،‬وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلث‪ ،‬فإن أطلق‪ ،‬فواحدة‪،‬‬
‫وإن قال‪ :‬لم أرد طلقاً‪ ،‬فإن كان قد تقدّم كلم يجوز صرفه إليه قبل منه‪ ،‬وإن كان ابتداءً لم يقبل‪،‬‬
‫حرّم أمته أو طعامه أو متاعه‪ ،‬فليس بشىء‪ ،‬وهذا مذهب مالك‪.‬‬
‫وإن ِ‬
‫المذهب الرابع‪ :‬أنه إن نوى الطلق كان طلقاً‪ ،‬ثم إن‬
‫نوى به الثلث فثلث‪ ،‬وإن نوى دونها فواحدة بائنة‪ ،‬وإن نوى يميناً فهو يمين فيها كفارة‪ ،‬وإن لم‬
‫ينو شيئاً فهو إيلء فيه حكمُ اليلء‪ .‬فإن نوى الكذبَ‪ ،‬صُدّق فى الفتيا ولم يكن شيئاً‪ ،‬ويكون فى‬
‫القضاء إيلء‪ ،‬وإن صادف غير الزوجة المةِ والطعام وغيره‪ ،‬فهو يمين فيه كفارتها‪ ،‬وهذا مذهب‬
‫أبى حنيفة‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫المذهب الخامس‪ :‬أنه إن نوى به الطلقَ‪ ،‬كان‬
‫طلقاً‪ ،‬ويق ُع ما نواه‪ ،‬فإن أطلق وقعت واحدةً‪ ،‬وإن نوى الظهارَ‪ ،‬كان ظهاراً‪ ،‬وإن َنوَى اليمينَ‪ ،‬كان‬
‫يميناً‪ ،‬وإن نوى تحري َم عينها مِن غير طلق ول ظِهار‪ ،‬فعليه كفار ُة يمين‪ ،‬وإن لم ينوِ شيئاً‪ ،‬ففيه‬
‫قولن‪ .‬أحدهما‪ :‬ل يلزمُه شىء‪ .‬والثانى‪ :‬يلزمه كفارة يمين‪ .‬وإن صادف جارية‪ ،‬فنوى عتقها وقع‬
‫العتق‪ ،‬وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفار ُة يمين‪ ،‬وإن نوى الظهارَ منها‪ ،‬لم يصح‪ ،‬ولم‬
‫يلزمه شىء‪ ،‬وقيل‪ :‬بل يلزمه كفار ُة يمين‪ ،‬وإن ينو شيئاً‪ ،‬ففيه قولن‪ ،‬أحدهما‪ :‬ل يلزمُه شىء‬
‫ف غيرَ الزوجة والمة لم يحرم‪ ،‬ولم يلزمه به شىء‪ ،‬وهذا‬
‫والثانى‪ :‬عليه كفار ُة يمين‪ .‬وإن صاد َ‬
‫مذهبُ الشافعى‪.‬‬
‫المذهب السادس‪ :‬أنه ظِهار بإطلقه‪،‬‬
‫نواه أو لم ينوِه‪ ،‬إل أن يَصرفَه بالنية إلى الطلق‪ ،‬أو اليمين‪ ،‬فينصرِف إلى ما نواه‪ ،‬هذا ظاهر‬
‫صرِفَه بالنية إلى الظهار أو الطّلق‪،‬‬
‫مذهبِ أحمد‪ .‬وعنه رواية ثانية‪ :‬أنه بإطلقه يمين إل أن َي ْ‬
‫ف إلى ما نواهُ‪ ،‬وعنه رواية أخرى ثالثة‪ :‬أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيرَه‪ ،‬وفيه رواية‬
‫صرِ ُ‬
‫فين َ‬
‫رابعة حكاها أبو الحسين فى ((فروعه))‪ ،‬أنه طلق بائن‪،.‬ولو وصله بقوله‪ :‬أعنى به الطلق‪ .‬فعنه‬
‫فيه روايتان‪ .‬إحداهما‪ :‬أنه طلق‪ ،‬فعلى هذا هل تلزمُه الثلث‪ ،‬أو واحدة؟ على روايتين‪ ،‬والثانية‪:‬‬
‫ى كظهر أمى أعنى به الطلق‪ ،‬هذا تلخيصُ مذهبه‪.‬‬
‫أنه ظهار أيضاً كما لو قال‪ :‬أنتِ عل ّ‬
‫المذهب السابع‪ :‬أنه إن نوى به‬
‫ثلثاً‪ ،‬فهى ثلثٌ‪ ،‬وإن نوى به واحدة‪ ،‬فهى واحدة بائنة‪ ،‬وإن نوى به يميناً‪ ،‬فهى يمين‪ ،‬وإن لم ينوِ‬
‫شيئاً‪ ،‬فهى كذبة ل شىءَ فيها‪ ،‬وهذا مذهبُ سفيان الثورى‪ ،‬حكاه عنه أبو محمد ابن حزم‪.‬‬
‫المذهب الثامن‪ :‬أنه طلقةٌ‬
‫واحدة بائنة بكل حال‪ ،‬وهذا مذهبُ حماد بن أبى سليمان‪.‬‬
‫المذهب التاسع‪:‬‬
‫ب إبراهيم‬
‫أنه إن نوى ثلثاً فثلث‪ ،‬وإن نوى واحدة‪ ،‬أو لم ينوِ شيئاً‪ ،‬فواحدة بائنة‪ ،‬وهذا مذه ُ‬
‫النخعى‪ ،‬حكاه عنه أبو محمد بن حزم‪.‬‬
‫المذهب‬
‫العاشر‪ :‬أنه طلقة رجعية‪ ،‬حكاه ابن الصباغ وصاحبُه أبو بكر الشاشى عن الزهرى‪ ،‬عن عمر بن‬
‫الخطاب‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫الم‬
‫ذهب الحادى عشر‪ :‬أنها حرمت عليه بذلك فقط‪ ،‬ولم يذكر هؤلء ظهاراً ول طلقاً ول يميناً‪ ،‬بل‬
‫ل من الصحابة لم‬
‫ألزموه موجب تحريمه‪ .‬قال ابن حزم‪ :‬صح هذا عن على بن أبى طالب‪ ،‬ورجا ٍ‬
‫يُس ّموْا‪ ،‬وعن أبى هريرة‪ .‬وصح عن الحسن‪ ،‬وخِلس بن عمرو‪ ،‬وجابر بن زيد‪ ،‬وقتادة‪ ،‬أنهم‬
‫أمروه باجتنابها فقط‪.‬‬

‫المذهب الثانى عشر‪ :‬التوقفُ فى ذلك ل يُحرّمها المفتى على الزوج‪ ،‬ول يحلّلها له‪ ،‬كما رواه‬
‫الشعبى عن على أنه قال‪ :‬ما أنا بمحلها ول محرّمها عليك إن شئتَ فتقدّم‪ ،‬وإن شئت فتأخر‪.‬‬

‫المذهب الثالث عشر‪ :‬الفرقُ بين أن يُوقع التحريم منجزاً أو معلقاً تعليقًا مقصوداً وبين أن يُخرجه‬
‫ج اليمين‪ ،‬فالول‪ :‬ظهار بكل حال ولو نوى به الطلقَ‪ ،‬ولو وصله بقوله‪ :‬أعنى به الطلقَ‪.‬‬
‫مخر َ‬
‫والثانى‪ :‬يمين يلزمه به كفار ُة يمين‪ ،‬فإذا قال‪ :‬أنت علىّ حرام‪ ،‬أو إذا دخل رمضان‪ ،‬فأنتِ علىّ‬
‫حرام‪ ،‬فظهار‪ .‬وإذا قال‪ :‬إن سافرتُ‪ ،‬أو إن أكلتُ هذا الطعامَ أو كلمتُ فلنا‪ ،‬فامرأتى علىّ حرام‪،‬‬
‫ل المذاهب فى هذه المسألة وتتفرّعُ‬
‫فيمين مكفرة‪ ،‬وهذا اختيارُ شيخ السلم ابن تيمية‪ ،‬فهذه أصو ُ‬
‫إلى أكثر من عشرين مذهباً‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫@‬
‫فصل‬
‫فأما من قال‪ :‬التحري ُم كلّه لغو ل شىء فيه‪ ،‬فاحتجوّا بأن ال سبحانه لم يجعل للعبد تحريماً‬
‫ل بها العينُ وتحرم‪ ،‬كالطلق والنكاحِ‪ ،‬والبيعِ‬
‫ول تحليلً‪ ،‬وإنما جعل له تعاطى السباب التى تَحِ ّ‬
‫صفُ‬
‫ل تَقُولُوا ِلمَا َت ِ‬
‫والعتقِ‪ ،‬وأما مجردُ قوله‪ :‬حرّمت كذا وهو علىّ حرام‪ ،‬فليس إليه‪ .‬قال تعالى‪{:‬وَ َ‬
‫لّ الكَ ِذبَ} [النحل‪ ]116 :‬وقال تعالى‪{ :‬يَأ ّيهَا‬
‫حرَا ٌم ِلتَ ْف َترُوا عَلى ا ِ‬
‫ل وهذَا َ‬
‫س َن ِتكُم الكَ ِذبَ هذَا حَلَ ٌ‬
‫أَل ِ‬
‫ل لرسوله أن يُحّرمَ ما أحل ال‬
‫لّ َلكَ} [التحريم‪ ،]1:‬فَإذا كَانَ سبحانه لم يجع ْ‬
‫حرّ ُم مَا أَحَلّ ا ُ‬
‫ال ّن ِبىّ ل َم تُ َ‬
‫له‪ ،‬فكيف يجعلُ لِغيره التحريمَ؟‬
‫عَليْهِ َأ ْم ُرنَا َفهُو رَدّ)) وهذا‬
‫عمَلٍ َليْس َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬كُلّ َ‬
‫قالوا‪ :‬وقد قال النب ّ‬
‫التحريمُ كذلك‪ ،‬فيكون رداً باطلً‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫قالوا‪ :‬ولنه ل فرق بين تحريمِ الحلل‪ ،‬وتحليلِ الحرام‪ ،‬وكما أن هذا الثانى لغو ل أثر له‪،‬‬
‫فكذلك الولُ‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ول فرق بين قوله لمرأته‪ :‬أنت علىّ حرام‪ ،‬وبين قول ِه لِطعامه هو علىّ حرام‪.‬‬
‫ت علىّ حرام‪ ،‬إما أن يُريد به إنشاء تحريمها‪ ،‬أو الخبارَ عنها بأنها حرام‪ ،‬وإنشاء‬
‫قالوا‪ :‬وقوله‪ :‬أن ِ‬
‫تحريم محال‪ ،‬فإنه ليس إليه‪ ،‬إنما هو إلى من أحلّ الحلل‪ ،‬وحرّ َم الحرامَ‪ ،‬وشرع الحكام‪ ،‬وإن أراد‬
‫الخبار‪ ،‬فهو كذب‪ ،‬فهو إما خبرٌ كاذب أو إنشاءٌ باطل‪ ،‬وكلهما لغو من القول‪.‬‬
‫ل مضطربة متعارضة يردّ بعضُها بعضاً‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬ونظرنا فيما سوى هذا القولِ‪ ،‬فرأيناها أقوا ً‬
‫فلم يحرم الزوجة بشىء منها بغير برهان من ال ورسوله‪ ،‬فنكون قد ارتكبنا أمرين‪ :‬تحريمَها على‬
‫لّ ورسوله على‬
‫الول‪ ،‬وإحللها لغيره‪ ،‬والصلُ بقاءُ النكاح حتي تُجمع المة‪ ،‬أو يأتىَ برهان من ا ِ‬
‫زواله‪ ،‬فيتعيّن القولُ به‪ ،‬فهذا حجة هذا الفريق‪.‬‬
‫فصل‬
‫جعِلَ كناية فى‬
‫وأما من قال‪ :‬إنه ثلث بكل حال‪ ،‬إن ثبت هذا عنه‪ ،‬فيحتجّ له بأن التحريمَ ُ‬
‫الطلق‪ ،‬وأعلى أنواعه تحريمُ الثلث‪ ،‬فُيحمل على أعلى أنواعه احتياطًا للبضاع‪.‬‬
‫وأيضاً فإنّا تي ّقنّا التحريمَ بذلك‪ ،‬وشككنا‪ :‬هل هو تحري ٌم تُزيله الكفارة كالظهار أو يُزيله تجدي ُد العقد‬
‫كالخُلع‪ ،‬أو ل يُزيله إل أوجٌ وإصابة كتحري ِم الثلث؟ وهذا متيقّن‪ ،‬وما دونه مشكوكٌ فيه‪ ،‬فل يَحلّ‬
‫بالشك‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولن الصحابة أَ ْف َنوْا فى الخلية والبرية بأنها ثلث‪ .‬قال أحمد‪ :‬هو عن على وابنِ عمر‬
‫صحيح‪ ،‬ومعلوم أن غاية الخلية والبرية أن تصير إلى التحريم‪ ،‬فإذا صرّحَ بالغاية‪ ،‬فهى أولى أن‬
‫ن هذا اللفظَ صارَ‬
‫ق إلى وهمه تحريمُ امرأته بدون الثلث‪ ،‬فكأ ّ‬
‫تكونَ ثلثاً‪ ،‬ولن المحرم ل يسب ُ‬
‫حقيقةً عُرفية فى إيقاع الثلث‪.‬‬
‫وأيضاً فالواحدةُ ل تحرمُ إل بعوض‪ ،‬أو قبلَ الدخول‪ ،‬أو عندَ تقييدها بكونها بائنة عند من‬
‫يراه‪ ،‬فالتحريمُ بها مقيّد‪ ،‬فإذا أطلق التحريمُ‪ ،‬ولم يُقيّيد‪ ،‬انصرف إلى التحريم المطلق الذى يثبت قبل‬
‫الدخول أو بعده‪ ،‬وبعوض وغيره وهو الثلث‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما من جعله ثلثاً فى حق المدخول بها‪ ،‬وواحدة بائنة فى حقّ غيرها‪ ،‬فحجتُه أن المدخولَ‬
‫ح ّرمُها إل الثلث‪ ،‬وغيرُ المدخول بها تحرمها الواحدة‪ ،‬فالزائدة عليها ليست من لوازم‬
‫بها ل يُ َ‬

‫‪172‬‬
‫التحريم‪ ،‬فأورد على هؤلء أن المدخول بها يمِلكُ إبانتها بواحدة بائنة‪ ،‬فأجابوا بما ل يُجدى عليهم‬
‫شيئاً‪ ،‬وهو أن البانة بالواحدة الموصوفة بأنها بائنة إبانة مقيّدة‪ ،‬بخلف التحريم‪ ،‬فإن البانة به‬
‫ن ذلك إل بالثلثِ‪ ،‬وهذا القدرُ ل يُخّلصُهم من هذا اللزام‪ ،‬فإن إبانة التحريمِ أعظمُ‬
‫مطلقة‪ ،‬ول يكو ُ‬
‫تقييداً من قوله‪ :‬أنتِ طالق طلقة بائنة‪ ،‬فإن غاي َة البائنة أن تحرمها‪ ،‬وهذا قد صرّح بالتحريم‪ ،‬فهو‬
‫أولى بالبانة من قوله‪ :‬أنت طالق طلقةً بائنة‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما مَن جعلها واحدة بائنة فى حقّ المدخول بها وغيرها‪ ،‬فمأخ ُذ هذا القول أنها ل تُفيد‬
‫بوضعها‪ ،‬وإنما تقتضى بينونةً يحصلُ بها التحريمُ‪ ،‬وهو َيمِلكُ إبانتها بعد الدخول بها بواحدة بدون‬
‫عوض‪ ،‬كما إذا قال‪ :‬أنت طالق طلقة بائنة‪ ،‬فإن الرجعة حقّ له‪ ،‬فإذا أسقطها سقطت‪ ،‬ولنه إذا ملك‬
‫إبانتها بعوض يأخذه منها‪ ،‬ملك البانة بدونه‪ ،‬فإنه محسن بتركه‪ ،‬ولن العِوض مستحق له‪ ،‬ل‬
‫عليه‪ ،‬فإذا أسقطه وأبانها‪ ،‬فله ذلك‪.‬‬
‫فصل‬
‫ع الملك وهو يصدُق‬
‫وأما مَن قال‪ :‬إنها واحدة رجعية‪ ،‬فمأخذه أن التحريمَ يُفيد مطلق انقطا ِ‬
‫ض فى اللفظ له‪ ،‬فل يسوغُ إثباتُه بغير موجب‪.‬‬
‫بالمتيقّنِ منه وهو الواحدةُ‪ ،‬وما زاد عليها‪ ،‬فل تعّر َ‬
‫ل اللفظ فى الواحدة‪ ،‬فقد وفى بموجبه‪ ،‬فالزيادةُ عليه ل موجبَ لها‪ .‬قالوا‪ :‬وهذا‬
‫وإذا أمكن إعما ُ‬
‫ظاهر جدًا على أصل من يجعل الرجعية محرمة‪ ،‬وحينئذ فنقول‪ :‬التحري ُم أعمّ مِن تحريم رجعية‪ ،‬أو‬
‫ص أو‬
‫ل على العم ل يدُل على الخص‪ ،‬وإن شئتَ قلت‪ :‬العمّ ل يستلزِمُ الخ ّ‬
‫تحريم بائن‪ ،‬فالدا ّ‬
‫ص مِن لوازم العم‪ ،‬أو العم ل يُنتج الخصّ‪.‬‬
‫ليس الخ ّ‬
‫فصل‬
‫وأما من قال‪ :‬يُسأل عما أراد من ظهار أو طلق رجعي‪ ،‬أو محرّم‪ ،‬أو يمين‪ ،‬فيكون ما أراد‬
‫ل للطلق والظهار‬
‫مِن ذلك‪ ،‬فمأخذُه أن اللفظ لم يوضع ليقاع الطلق خاصة‪ ،‬بل هو محتمِ ٌ‬
‫ف إلى بعضها بالنية فقد استعمله فيما هو صالح له‪ ،‬وصرفه إليه بنيته‪،‬‬
‫ص ِر َ‬
‫واليلء‪ ،‬فإذا ُ‬
‫ف إلى ما أراده‪ ،‬ول يتجاوز به ول يقصُ ُر عنه‪ ،‬وكذلك لو نوى عتق أمته بذلك‪ ،‬عتقت‪،‬‬
‫فينصر ُ‬
‫وكذلك لو نوى اليلء من الزوجة‪ ،‬واليمين من المة‪ ،‬لزمه ما نواه‪ ،‬قالوا‪ :‬وأما إذا نوى تحريمَ‬
‫عينها‪ ،‬لزمه بنفس اللفظ كفار ُة يمين اتباعًا لظاهر القرآن‪ ،‬وحديث ابن عباس الذى رواه مسلم فى‬
‫س َوةٌ‬
‫ل أُ ْ‬
‫ن َلكُم فى رَسولِ ا ِ‬
‫ل امرأته فهى يمين يكفّرها‪ ،‬وتل‪{ :‬لَقَ ْد كَا َ‬
‫((صحيحه))‪ :‬إذا حرّم الرج ُ‬

‫‪173‬‬
‫سنَةٌ} [الحزاب‪ ،]21 :‬وهذا يُشبه ما قاله مجاهد فى الظّهار‪ :‬إنه ليزمُه بمجرد التكلم به كفارةُ‬
‫حَ َ‬
‫الظهار‪ ،‬وهو فى الحقيقة قولُ الشافعى رحمه ال‪ ،‬فإنه يُوجب الكفارة إذا لم يُطلّق عقيبَه على الفور‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولن اللفظ يحتمِلُ النشاء والخبار‪ ،‬فإن أراد الخبار‪ ،‬فقد استعمله فيما هو صالحٌ له‪ ،‬فيُقبل‬
‫سئِلَ عن السبب الذى حرّمها به‪ .‬فإن قال‪ :‬أردت ثلثًا أو واحدة‪ ،‬أو اثنتين‪،‬‬
‫منه‪ .‬وإن أراد النشاء ُ‬
‫ل منه لصلحية اللفظ له واقترانه بنيته‪ ،‬وإن نوى الظهار‪ ،‬كان كذلك‪ ،‬لنه صرّح بموجب‬
‫ُقبِ َ‬
‫ى كظهر أمى موجبُه التحريم‪ ،‬فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم‪ ،‬كان ظهاراً‪،‬‬
‫الظهار‪ ،‬لن قوله‪ :‬أنتِ عل ّ‬
‫واحتمالُه للطلق بالنية ل يزيدُ على احتماله للظهار بها‪ ،‬وإن أراد تحريمَها مطلقاً‪ ،‬فهو يمين‬
‫مكفرة‪ ،‬لنه امتناع منها بالتحريم‪ ،‬فهو كامتناعه منها باليمين‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما من قال‪ :‬إنه ظهار إل أن ينوىَ به طلقاً‪ ،‬فمأخذُ قوله‪ :‬أن اللفظ موضوعٌ للتحريم‪ ،‬فهو‬
‫منكر من القول وزور‪ ،‬فإن العب َد ليس إليه التحريمُ والتحليل‪ ،‬وإنما إليه إنشاء السباب التى يرتب‬
‫ت علىّ كظهر أمى‪،‬‬
‫عليها ذلك‪ ،‬فإذا حرّم ما أحل ال له‪ ،‬فقد قال ال ُمنْكر والزّورَ‪ ،‬فيكون كقوله‪ :‬أن ِ‬
‫بل هذا أولى أن يكون ظهاراً‪ ،‬لنه إذا شبهها بمن تحرم عليه‪ ،‬دل على التحريم باللزوم‪ ،‬فإذا صرّح‬
‫بتحريمها‪ ،‬فقد صرح بموجب التشبيه فى لفظ الظهار‪ ،‬فهو أولى أن يكون ظهاراً‪ .‬قالوا‪ :‬وإنما‬
‫جعلناه طلقاً بالنية‪ ،‬فصرفناه إليه بها‪ ،‬لنه يصلُح كناي ًة فى الطلق فينصرِف إليه بالنية بخلف‬
‫إطلقه‪ ،‬فإنه ينصرِف إلى الظهار‪ ،‬فإذا نوى به اليمينَ كان يميناً‪ ،‬إذ من أصل أرباب هذا القول أن‬
‫تحريم الطعام ونحوه‪ ،‬يمين مكفرة‪ ،‬فإذا نوى بتحريم الزوجة اليمين‪ ،‬نوى ما يصلُح له اللفظ‪ ،‬ف ُقبِلَ‬
‫منه‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما من قال‪ :‬إنه ظهار وإن نوى به الطلقَ‪ ،‬أو وصله بقوله‪ :‬أعنى به الطلقَ فمأخذُ قوله‬
‫ت علىّ‬
‫ما ذكرنا من تقرير كونه ظهاراً‪ ،‬ول يخُرج عن كونه ظهاراً بنية الطلق كما لو قال‪ :‬أَن ِ‬
‫كظهر أمى ونوى به الطلق‪ ،‬أو قال‪ :‬أعنى به الطلق‪ ،‬فإنه ل يخرُج بذلك عن الظهار‪ ،‬ويصيرُ‬
‫طلقاً عِند الكثرين‪ :‬إل على قول شاذ ل يُلتفت إليه لموافقته ما كان المر عليه فى الجاهلية مِن‬
‫جعل الظهار طلقاً‪ ،‬ونسخ السلم لذلك‪ ،‬وإبطلله‪ ،‬فإذا نوى به الطلقَ‪ ،‬فقد نوى ما أبطله ال‬
‫ورسولُه مما كان عليه أهلُ الجاهلية عند إطلق لفظ الظهار‪ ،‬وقد نوى مال يحت ِملُه شرعاً‪ ،‬فل تؤثّر‬
‫نيته فى تغيير ما استق ّر عليه حكمُ ال الذى حكم به بينَ عباده‪ ،‬ثم جرى أحم ُد وأصحابُه على أصله‬

‫‪174‬‬
‫من التسوية بين إيقاع ذلك‪ ،‬والحلف به كالطلق والعتاق وفرّق شيخ السلم بين البابين على أصله‬
‫فى التفريق بين اليقاع والحلف‪ ،‬كما فرّق الشافعى وأحمد رحمهما ال‪ ،‬ومَنْ وافقهما بين البابين‬
‫ن أن يحلف به‪ ،‬فيكون يمينًا مكفرة‪ ،‬وبين أن ينجزه أو يعلّقه بشرط يقصد وقوعه‪،‬‬
‫فى النذر بي َ‬
‫فيكون نذراً لزم الوفاء كما سيأتى تقريرُه فى اليمان إن شاء ال تعالى‪ .‬قال‪ :‬فيلزمهم على هذا أن‬
‫يفرّقوا بين إنشاء التحريم‪ ،‬وبين الحلف‪ ،‬فيكون فى الحلف به حالفًا يلزمه كفارة يمين‪ ،‬وفى تنجيزه‬
‫أو تعليقه بشرط مقصود مظاهرًا يلزمُه كفارةُ الظهار‪ ،‬وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضى‬
‫ال عنهما‪ ،‬فإنه مرة جعله ظهاراً ومرة جعله يميناً‪.‬‬
‫فصل‬
‫ن مكفرة بكلّ حال‪ ،‬فمأخذ قوله‪ :‬أن تحريم الحلل من الطعام والشراب‬
‫وأما من قال‪ :‬إنه يمي ٌ‬
‫حرّ ُم مَا‬
‫واللباس يمينٌ تُكفّر بالنصّ‪ ،‬والمعنى‪ ،‬وآثار الصحابة‪ ،‬فإن ال سبحانه قال‪{ :‬يََأيّها النّبىّ لِ َم تُ َ‬
‫حلّ َة َأ ْيمَا ِنكُم} [التحريم‪:‬‬
‫لّ َلكُ ْم تَ ِ‬
‫جكَ والُّ غَفُو ٌر رَحِيمٌ * قَدْ َفرَضَ ا ُ‬
‫ت َأزْوا ِ‬
‫ك َت ْبتَغى َم ْرضَا َ‬
‫لّ َل َ‬
‫أَحَلّ ا ُ‬
‫‪ ،]2-1‬ولبد أن يكون تحريم الحلل داخلً تحت هذا الفرض‪ ،‬لنه س ُببُه‪ ،‬وتخصيصُ محل السبب‬
‫خصّ لخل سببُ الحكم عن البيان‪،‬‬
‫من جملة العام ممتنع قطعاً‪ ،‬إذ هو المقصودُ بالبيان أولً‪ ،‬فلو ُ‬
‫وهو ممتنع‪ ،‬وهذا استدلل فى غاية القوة‪ ،‬فسألتُ عنه شيخ السلم رحمه ال تعالى‪ ،‬فقال‪َ :‬نعَم‬
‫التحريمُ يمين كُبرى فى الزوجة كفارتُها كفارةُ الظهار‪ ،‬ويمين صغرى فيما عداها كفارتُها كفارةُ‬
‫ل ابن عباس وغيرِه من الصحابة ومَنْ َبعْدَهم‪ ،‬إن التحرِيمَ يمين‬
‫اليمين بالّ‪ .‬قال‪ :‬وهذا معنى قو ِ‬
‫تكفر‪ ،‬فهذا تحري ُر المذاهب فى هذه المسألة نقلً‪،‬وتقريرها استدللً‪ ،‬ول يخفى‪ -‬على من آثر العِلم‬
‫ح مِن المرجوح وبالّ‬
‫والنصاف‪ ،‬وجانب التعصّب ونصرة ما بنى عليه من القوال‪ -‬الراج ُ‬
‫المستعان‪.‬‬
‫فصل‬
‫وقد تبين بما ذكرنا‪ ،‬أن من حرّم شيئًا غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته‬
‫حرُ ْم عليه بذلك‪ ،‬وعليه كفارةُ يمين‪ ،‬وفى هذا خلف فى ثلثة مواضع‪.‬‬
‫يَ ْ‬
‫أحدها‪ :‬أنه ل يحرم‪ ،‬وهذا قول الجمهور‪ ،‬وقال أبو حنيفة‪ :‬يحرم تحريمًا مقيدًا تُزيله‬
‫ل له وطؤها حتى يُكفّر‪ ،‬ولن ال سبحانه سمّى الكفارة‬
‫الكفارة‪ ،‬كما إذا ظاه َر من امرأته‪ ،‬فإنه ل َيحِ ّ‬
‫حلّةً‪ ،‬وهى ما يُوجب الحِلّ‪ ،‬فدل علي ثبوت التحريم قبلها‪ ،‬ولنه سبحانه قال لنبيه صلى‬
‫فى ذلك َت ِ‬

‫‪175‬‬
‫ل َلكَ} [التحريم‪ ،]1:‬ولنه تحريمٌ لما أبيح له‪ ،‬فيحرم بتحريمه‬
‫حرّ ُم مَا أَحَلّ ا ُ‬
‫ال عليه وسلم‪{ :‬لِ َم تُ َ‬
‫كما لو حرّم زوجته‪.‬‬
‫حلّه مِن الحَل الذى هو ضِ ّد العقدِ ل‬
‫ومنازعوه يقولون‪ :‬إنما سُميت الكفارة ت ِ‬
‫حرّ ُم مَا أَحَلّ ال‬
‫مِن الحِل الذى هو مقابلُ التحريم‪ ،‬فهى تَحُلّ اليمين بعد عقدها‪ ،‬وأما قوله‪{ :‬لِ َم تُ َ‬
‫َلكَ} [التحريم‪ ،]1:‬فالمرادُ تحري ُم المِة أو العسل‪ ،‬ومنعُ نفسه منه‪ ،‬وذلك يُسمى تحريماً‪ ،‬فهو تحريم‬
‫بالقول‪ ،‬ل إثبات للتحريم شرعاً‪.‬‬
‫ح هذا القياس‪ ،‬لوجب‬
‫وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهارِ‪ ،‬أو بقوله‪ :‬أنتِ علىّ حرام‪ ،‬فلو ص ّ‬
‫تقديمُ التكفير على الحنث قياسًا على الظهارِ‪ ،‬إذ كان فى معناه‪ ،‬وعندهم ل يجو ُز التكفيرُ إل بعد‬
‫حلّة اليمين‪ ،‬فيلزم‬
‫الحنث‪ ،‬فعلى قولِهم‪ :‬يلزم أحد أمرين‪ ،‬ول بد إما أن يفعله حراماً وقد فرض ال ت ِ‬
‫حلّةِ إل بفعل المحلوف‬
‫ل إلى التّ ِ‬
‫كون المحرم مفروضاً‪ ،‬أو من ضرورة المفروض‪ ،‬لنه ل َيصِ ُ‬
‫ل له إلى فعله حللً‪ ،‬لنه ل يجوز تقدي ُم الكفارة‪ ،‬فيستفيدُ بها الحل‪ ،‬وإقدامه عليه‬
‫عليه‪ ،‬أو أنه ل سبي َ‬
‫وهو حرامٌ ممتنع‪ ،‬هذا ما قيل فى المسألة من الجانبين‪ ،‬وبعدُ‪ ،‬فلها غور‪ ،‬وفيها دِقة وغموض‪ ،‬فإن‬
‫ل على تركه‪ ،‬ولو حلف على تركه‪ ،‬لم يَجز له هتكُ حرمة‬
‫حَلفَ با ّ‬
‫من حرّم شيئاً‪ ،‬فهو بمنزلة من َ‬
‫المحلوفِ به بفعله إل بالتزام الكفارة‪ ،‬فإذا التزمها‪ ،‬جاز له القدا ُم على فعل المحلوف عليه‪ ،‬فلو‬
‫عزم على تركِ الكفارة‪ ،‬فإن الشارع ل يُبيح له القدامَ على فعل ما حلف عليه‪ ،‬ويأذن له فيه‪ ،‬وإنما‬
‫ن له فيه ويُبيحه إذا التزم ما فرض ال من الكفارة‪ ،‬فيكون إذنه له فيه‪ ،‬وإباحته بعد امتناعه منه‬
‫يأذ ُ‬
‫بالحلف أو التحريم رُخصةً من ال له‪ ،‬ونعمة منه عليه بسبب التزامه لحكمه الذى فرض له من‬
‫الكفارة‪ ،‬فإذا لم يلت ِزمْه بقى المن ُع الذى عقدَه على نفسه إصرًا عليه‪ ،‬فإن ال إنما رفع الصار عمن‬
‫اتقاه‪ ،‬والتزم حُكمه‪ ،‬وقد كانت اليمينُ فى شرع مَن قبلنا يتحتّم الوفاءُ بها‪ ،‬ول يجوز الحنثُ‪ ،‬فوسّع‬
‫ال على هذه المة‪ ،‬وجوّز لها الحنث بشرط الكفارة‪ ،‬فإذا لم يُك ّفرْ ل قبلُ ول بع ُد لم يُوسّع له فى‬
‫الحنث‪ ،‬فهذا معنى قوله‪ :‬إنه يحرم حتى يكفّر‪،.‬وليس هذا من مفردات أبى حنيفة‪ ،‬بل هو أحدُ‬
‫القولين فى مذهب أحمد يُوضحه‪ :‬أن هذا التحري َم والحلف قد تعلّق به مانعان‪ :‬منع من نفسه لفعله‪،‬‬
‫ومنع من الشارع للحنث بدون الكفارة‪ ،‬فلو لم يُحرّمه تحريمه أو يمينه‪ ،‬لم يكن لمنعه نفسه ول لمنع‬
‫الشارع له أثره‪ ،‬بل كان غاي ُة المر أن الشارعَ أوجبَ فى ذمته بهذا المنع صدقةً أو عِتقًا أو صوماً‬
‫ل المحلوف عليه ول تحريمه البته‪ ،‬بل هو قبل المنع وبعده على السواء من غير‬
‫ل يتو ّقفُ عليه ح ّ‬
‫فرق‪ ،‬فل يكونُ للكفارة أثر البته‪ ،‬ل فى المنع منه‪ ،‬ول فى الذن‪ ،‬وهذا ل يخفى فسادُه‪،.‬وأما إلزامه‬

‫‪176‬‬
‫بالقدام عليه مع تحريمه حيثُ ل يجوزُ تقدي ُم الكفارة‪ ،‬فجوابه أنه إنما يجوز له القدام عند عزمه‬
‫على التكفير‪ ،‬فعزمُه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه‪ ،‬وإنما يكونُ التحريمُ ثابتًا إذا لم يلتزم‬
‫الكفارة‪ ،‬ومع التزامها ل يستمرّ التحريم‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل مَنْ سميناه من الصحابة‪،‬‬
‫الثانى‪ :‬أن يلزمه كفارة بالتحريم‪ ،‬وهو بمنزلة اليمين‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫وقولُ فقهاء الرأى والحديث إل الشافعىّ ومالكاً‪ ،‬فإنهما قال‪ :‬ل كفارة عليه بذلك‪.‬‬
‫حلّةَ اليمانِ‬
‫والذين أوجبوا الكفارةَ أسعدُ بالنص من الذين أسقطوها‪ ،‬فإن ال سبحانه ذكر تَ ِ‬
‫ل َلكَ} [التحريم‪ ،]1 :‬وهذا صريحٌ فى أن تحريم الحلل قد ُفرِضَ‬
‫حرّ ُم مَا أَحَلّ ا ُ‬
‫عَقبَ قوله‪{ :‬لِ َم تُ َ‬
‫فيه تحلّةُ اليمان‪ ،‬إما مختصاً به‪ ،‬وإما شاملً له ولغيره‪ ،‬فل يجوزُ أن يُخلى سببُ الكفارة المذكورة‬
‫فى السياق عن حك ِم الكفارة‪ ،‬ويُعلّق بغيره‪ ،‬وهذا ظاهرُ المتناع‪.‬‬
‫ن إن تضمن هتكَ‬
‫وأيضاً فإن المنع من فعله بالتحريم كالمنع منه باليمين‪ ،‬بل أقوى‪ ،‬فإن اليمي َ‬
‫حُرمة اسمه سبحانه‪ ،‬فالتحري ُم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره‪ ،‬فإنه إذا شرع الشىء حللً فحرّمه‬
‫المكلف‪ ،‬كان تحريمه هتكاً لحرمة ما شرعه‪ ،‬ونحن نقولُ‪ :‬لم يتضمن الحِنث فى اليمين هتكَ حرمِة‬
‫السم‪ ،‬ول التحري ُم هتكَ حرمة الشرع‪ ،‬كما يقولُه من يقول مِن الفقهاء‪ ،‬وهو تعليلٌ فاسد جداً‪ ،‬فإن‬
‫الحِنثَ إما جائز‪ ،‬وإما واجب أو مستحب‪ ،‬وما جوّز ال لحد البتة أن َي ْه ِتكَ حُرمة اسمه‪ ،‬وقد شرع‬
‫لِعباده الحِنث مع الكفارة‪ ،‬وأخبره النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه إذا حلف على يمين ورأى غيرها‬
‫خيراً منها كفّر عن يمينه‪ ،‬وأتى المحلوفَ عليه‪ ،‬ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يُبح‬
‫فى شريعة قطّ‪ ،‬وإنما الكفّارة كما سماها ال تعالى تحلّة وهى تفعلة من الحل‪ ،‬فهى تَحُلّ ما عقد به‬
‫سرّ قوله تعالى‪{ :‬قَدْ َفرَضَ الُ‬
‫اليمين ليس إل‪ ،‬وهذا العقدُ كما يكون باليمين يكونُ بالتحريم‪ ،‬وظهر ِ‬
‫لّ َلكَ} [التحريم‪.]1:‬‬
‫حرّ ُم مَا أَحَلّ ا ُ‬
‫حلّةَ َأ ْيمَا ِنكُم} [التحريم‪ ]2 :‬عقيب قوله‪{ :‬لِ َم تُ َ‬
‫َلكُم َت ِ‬
‫فصل‬
‫الثالث‪ :‬أنه ل فرقَ بينَ التحريم فى غير الزوجة بين المة وغيرها عند الجمهور إل‬
‫الشافعىّ وحدَه‪ ،‬أوجب فى تحريم المة خاصة كفار َة يمين‪ ،‬إذ التحريمُ له تأثير فى البضاع عنده‬
‫دون غيرها‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫ل السبب عن الحكم‪ ،‬ويتعلّق بغيره‪،‬‬
‫وأيضاً فإن سببَ نزول الية تحريمُ الجارية‪ ،‬فل يخرُجُ مح ّ‬
‫حلّة اليمين بتحريم الحلل‪ ،‬وهو أع ّم من تحريم المة‬
‫ومنازعوه يقولون‪ :‬النص علق فرض تَ ِ‬
‫وغيرها‪ ،‬فتجب الكفارة حيث وجد سببها‪ ،‬وقد تقدم تقريرهُ‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فى قول الرّجُلِ لمرأته‪ :‬الحقى بأَ ْهِلكِ‬
‫حكمُ رسو ِ‬
‫جوْنِ لما دخلت على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ثبت فى صحيح البخارى‪ :‬أن ابنةَ ال َ‬
‫لّ منكَ‪ ،‬فقالَ‪(( :‬عُ ْذتِ ِبعَظِيمٍ الحَقى بِأَ ْهِلكِ))‪.‬‬
‫و َدنَا منها قالت‪ :‬أعوذُ با ِ‬
‫ل ال صلى ال‬
‫وثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬أن كعب بنَ مالك رضى ال عنه لما أتاه رسو ُ‬
‫عليه وسلم ((يأ ُمرُه أن يعتزِلَ امرأته‪ ،‬قال لها‪ :‬الحقى بأهلك))‪.‬‬
‫ق نواه أو لم‬
‫فاختلف الناسُ فى هذا‪ ،‬فقالت طائفة‪ :‬ليس هذا بطلق‪ ،‬ول يق ُع به الطل ُ‬
‫جوْنِ‪ ،‬وإنما‬
‫ينوه‪ ،‬وهذا قولُ أهل الظاهر‪ .‬قالوا‪ :‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم لم يكن عقد على ابنة ال َ‬
‫أرسل إليها ِليَخطُبها‪ .‬قالوا‪َ :‬ويَدُلّ على ذلك ما فى صحيح البخارى‪ :‬من حديث حمزة بن أبى أُسيد‪،‬‬
‫ج ْونِيةِ‪ ،‬فأُنزلت فى بيت أُميمة بنت‬
‫عن أبيه‪ ،‬أنه كان مع رسولِ ال صلى ال عليه وسلم وقد ُأ ِتىَ بال َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫النعمان بن شراحبيل فى نخل ومعها دابتُها‪ ،‬فدخل عليها رسو ُ‬
‫سكُنَ‪ ،‬فَقَاَلتْ‪:‬‬
‫عَل ْيهَا لِت ْ‬
‫ب ال َملِكةُ نَفْسَها للسّوقَةِ‪ ،‬فَأَ ْهوَى ِليَضَ َع يَ َدهُ َ‬
‫سكِ))‪ ،‬فقالت‪ :‬وهَلْ َت َه ْ‬
‫((هَبى لى نَفْ َ‬
‫ن وَألْحِ ْقهَا‬
‫سهَا رازِ ِق ّييْ ِ‬
‫سيْد‪ :‬اكْ ُ‬
‫خرَجَ فقال‪(( :‬يَا أَبا أُ َ‬
‫ت ِب َمعَاذ))‪ ،‬ثم َ‬
‫لّ ِم ْنكَ فقالَ‪(( :‬قَدْ عُ ْذ ِ‬
‫أَعُوذُ با ِ‬
‫بأَ ْهِلهَا))‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وفى ((صحيح مسلم))‪ :‬عن سهل بن سعد‪ ،‬قال‪ :‬ذُك َرتْ لِرسو ِ‬
‫سيْ ٍد أن ُيرْسِلَ إليها‪ ،‬فأرسل إليها‪،‬فَقَ ِد َمتْ‪ ،‬فنزلت فى أُجُ ِم بنى سَاعِدَة‪،‬‬
‫امرأ ٌة مِن العرب‪ ،‬فأمر أَبا أُ َ‬
‫فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى جاءها فدخل عليها‪ ،‬فإذا امرأة منكّسة رأسها‪ ،‬فلمّا‬
‫لّ منك‪ ،‬قال‪(( :‬قَ ْد أَعَ ْذ ُتكِ ِمنّى))‪ ،‬فقالوا لها‪ :‬أتدرينَ مَنْ هذا؟ قالتْ‪ :‬ل‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫كلمها‪ ،‬قالت‪ :‬أَعوذُ با ِ‬
‫طبَك‪ ،‬قالت‪ :‬أنا كنتُ أشقى من ذلك‪.‬‬
‫هذا رسولُ ال صلى ال عليه وسلم جاءَك لِيخْ ُ‬
‫قالوا‪ :‬وهذه ُكّلهَا أخبا ٌر عن قصة واحدة‪ ،‬فى امرأة واحدة‪ ،‬فى مقام واحد‪ ،‬وهى صريحة أن‬
‫طبَها‪.‬‬
‫رسولَ ال صلى ال عليه وسلم لم يكن تزوّجها بعدُ‪ ،‬وإنما دخل عليها لِيخْ ُ‬
‫وقال الجمهور منهم الئمة الربعة وغيرهم ‪ :‬بل هذا من ألفاظ الطلق إذا نوى به‬
‫الطلق‪ ،‬وقد ثبت فى صحيح البخارى‪ :‬أن أبانا إسماعيل بن إبراهيم طلّق به امرأَته لما قال لها‬
‫ع َتبَةَ بابِهِ))‪ ،‬فقال لها‪ :‬أنتِ العتبةُ‪ ،‬وقد أمرنى أن أُفارِ َقكِ‪ ،‬الحقى بأهلك‬
‫إبراهيم‪ُ (( :‬مرِيه فلّي َغ ّيرْ َ‬

‫‪178‬‬
‫وحديث عائشة كالصريح‪ ،‬فى أنه صلى ال عليه وسلم كان عَقَدَ عليها‪ ،‬فإنه قالت‪ :‬لما أُدخلت عليه‪،‬‬
‫ل الزوج بأهِله‪ ،‬ويُؤكّده قولها‪ :‬ودنا منها‪.‬‬
‫فهذا دخو ُ‬
‫سكِ))‪ ،‬وهذا ل يدل على أنه لم يتقدم‬
‫وأما حديث أبى أُسيد‪ ،‬فغاي ُة ما فيه قوله‪(( :‬هِبى لِى نَفْ َ‬
‫نِكاحُه لها‪ ،‬وجاز أن يكون هذا استدعا ًء منه صلى ال عليه وسلم للدّخول ل للعقد‪.‬‬
‫ن فيه أنه صلى ال عليه‬
‫وأما حديث سهل بن سعد‪ ،‬فهو أصرحُها فى أنه لم يكن وُجدَ عقد‪ ،‬فإ ّ‬
‫ط َبكِ‪ ،‬والظاهرُ أنها هى الجونية‪ ،‬لن سهلً قال فى‬
‫وسلم لما جاء إليها قالُوا‪ :‬هذا رسولُ ال جاء لِيخ ُ‬
‫حديثه‪ :‬فأمر أبا أُسيد أن ُيرْسِلَ إليها‪ ،‬فأرسل إليها‪ .‬فالقصةُ واحدة دارت على عائشة رضى ال‬
‫عنها وأبى أسيد وسهل‪ ،‬وكُلّ منهم رواها‪ ،‬وألفاظُهم فيها متقاربة‪ ،‬ويبقى التعارض بين قوله‪ :‬جاء‬
‫ليخطبك‪ ،‬وبين قوله‪ :‬فلما دخل عليها‪ ،‬ودنا منها‪ :‬فإما أن يكون أح ُد اللفظين وهماً‪ ،‬أو الدخولُ ليس‬
‫دخول الرجل على امرأته‪ ،‬بل الدخول العام‪ ،‬وهذا محتمل‪.‬‬
‫ث ابنِ عباس رضى ال عنهما فى قصة إسماعيل صريح‪ ،‬ولم يزل هذا اللفظُ من‬
‫وحدي ُ‬
‫اللفاظ التى يُطلّقُ بها فى الجاهلية والسلم‪ ،‬ولم يغيره النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل أقرهم عليه‪،‬‬
‫ب رسول ال صلى ال عليه وسلم الطلقَ وهُ ُم القدوةُ‪ :‬بأنتِ حرام‪ ،‬وأمرُك بيدك‪،‬‬
‫وقد أوقع أصحا ُ‬
‫ت مني‪ ،‬وأنت برية وقد أبرأتك‪ ،‬وأنتِ مبرّأة‪،‬‬
‫واختاري‪ ،‬ووهبتُك لهلك‪ ،‬وأنت خلية وقد خلو ِ‬
‫وحبلُك على غاربِك‪ ،‬وأنتِ الحرجُ‪ .‬فقال على وابن عمر‪ :‬الخلي ُة ثلث‪ ،‬وقال عمر‪ :‬واحدة‪ ،‬وهو‬
‫ق بهَا‪ .‬وفرّق معاوية بين رجل وامرأته قال لها‪ :‬إن خرجت فأنت خلية‪ ،‬وقال على وابنُ عمر‬
‫أح ّ‬
‫رضي ال عنهما‪ ،‬وزيد فى البرية‪ :‬إنها ثلث‪ .‬وقال عمر رضى ال عنه‪ :‬هى واحدة وهو أحق بها‪،‬‬
‫وقال على في الحرج‪ :‬هى ثلث‪ ،‬وقال عمر‪ :‬واحدة‪ ،‬وقد تقدم ذكر أقوالهم فى أمرك بيدك‪ ،‬وأنت‬
‫حرام‪،.‬والّ سبحانه ذكر الطلقَ ولم يُعين له لفظاً‪ ،‬فعلم أَنه ر ّد الناسَ إلى ما يتعارفونه طلقاً‪ ،‬فإن‬
‫ق مع النيّة‪ ،‬واللفاظُ ل تُراد لعينها‪ ،‬بل للدللة على مقاصد لفظها‪،‬‬
‫جرى عرفهم به‪ ،‬وقع به الطل ُ‬
‫فإذا تكلّم بلفظ دال على معنى‪ ،‬وقصد به ذلك المعنى‪ ،‬ترتّب عليه حكمه‪ ،‬ولهذا يقع الطلقُ مِن‬
‫ح الطلق بالعربية ولم يفهم معناه‪ ،‬لم‬
‫العجمى والتركى والهندى بألسنتهم‪ ،‬بل لو طلّق أحدهم بصري ِ‬
‫ث كعب بن مالك على أن‬
‫يقع به شىء قطعاً‪ ،‬فإنه تكلّم بما ل يفهم معناه ول قصده‪ ،‬وقدْ دل حدي ُ‬
‫الطلقَ ل يق ُع بهذا اللفظ وأمثاله إل بالنية‪.‬‬
‫والصوابُ أن ذلك جارٍ فى سائر اللفاظ صرِيحِها وكنايِتها‪ ،‬ول فرق بين ألفاظِ‬
‫العتق والطلق‪ ،‬فلو قال‪ :‬غلمى غلمٌ حرٌ ل يأتى الفواحش‪ ،‬أو أمتى أمةٌ حرة ل تبغى الفجورَ‪،‬‬

‫‪179‬‬
‫ولم يخطر بباله العتقُ ول نواه‪ ،‬لم يعتق بذلك قطعاً‪ ،‬وكذلك لو كانت معه امرأته فى طريق فافترقا‪،‬‬
‫فقيل له‪ :‬أين امرأتُكَ؟ فقال‪ :‬فارقتُها‪ ،‬أو سرّح شعرها وقال‪ :‬سرحتُها ولم يُرد طلقاً‪ ،‬لم تطلق‪ .‬كذلك‬
‫إذا ضربها الطلق وقال لغيره إخباراً عنها بذلك‪ :‬إنها طالق‪ ،‬لم تطلق بذلك‪ ،‬وكذلك إذا كانت المرأة‬
‫فى وثَاق فأطلقت منه‪ ،‬فقال لها‪ :‬أنتِ طالق‪ ،‬وأراد من الوثاق‪ .‬هذا كله مذهبُ مالك وأحمد فى‬
‫ق به حتى ينويَه‪ ،‬ويأتى بلفظ دال‬
‫بعض هذه الصور‪ ،‬وبعضها نظير ما نص عليه‪ ،‬ول يق ُع الطل ُ‬
‫عليه‪ ،‬فلو انفرد أح ُد المرين عن الخر‪ ،‬لم يقع الطلق‪ ،‬ول العتاق‪ ،‬وتقسيمُ اللفاظ إلى صريح‬
‫وكناية وإن كان تقسيماً صحيحًا فى أصل الوضع‪ ،‬لكن يختِلفُ بإختلف الشخاص والزمنة‬
‫ظ صريح‪ ،‬عند قوم كناية آخرين‪ ،‬أو صريح فى‬
‫والمكنة‪ ،‬فليس حكماً ثابتًا للفظ لذاته‪ ،‬فُربّ لف ٍ‬
‫زمان أو مكان كنايةٌ فى غير ذلك الزمان والمكان‪ ،‬والواقعُ شاهد بذلك‪ ،‬فهذا لفظ السّراحِ ل يكادُ‬
‫أح ٌد يستعمله فى الطلق ل صريحاً ول كناية‪ ،‬فل يسوغُ أن يقال‪ :‬إن من تكلم به‪ ،‬لزمه طلقُ‬
‫امرأته نواه أو لم ينوه‪ ،‬ويدّعى أنه ثبت له عُرف الشرع والستعمال‪ ،‬فإن هذه دعوة باطلة شرعاً‬
‫واستعمالً‪ ،‬أما الستعمال‪ ،‬فل يكاد أح ٌد يطلق به البتة‪ ،‬وأما الشرعُ‪ ،‬فقد استعمله فى غير الطلق‪،‬‬
‫ن َتمَسّوهُنّ َفمَاَلكُمْ‬
‫ن مِنْ َقبْلِ أَ ْ‬
‫طلّ ْق ُتمُوهُ ّ‬
‫ت ثُمّ َ‬
‫حتُم ال ُم ْؤ ِمنَا ِ‬
‫كقوله تعالى‪{ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا إِذَا َنكَ ْ‬
‫عَل ْيهِنّ مِنْ عِ ّدةٍ َت ْعتَدّونَها َف َم ّتعُوهُنّ وسرّحُوهُنّ سَراحاً جَميلً} [الحزاب‪ ،]49 :‬فهذا السراح غير‬
‫َ‬
‫طلّ ْقتُمُ‬
‫ى إِذَا َ‬
‫ك الفراق استعمله الشرعُ فى غير الطلق‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬يََأ ّيهَا النّب ّ‬
‫الطلق قطعاً‪ ،‬وكذل َ‬
‫سكُوهُنّ ِب َم ْعرُوفٍ َأوْ‬
‫جَلهُنّ َفَأمْ ِ‬
‫طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪ ]1 :‬إلى قوله تعالى‪{ :‬فَإِذَا َبَلغْنَ َأ َ‬
‫النّسَاءَ فَ َ‬
‫ن ِب َم ْعرُوفٍ} [الطلق‪ ]2 :‬فالمساك هنا‪ :‬الرجعة‪ ،‬والمفارقةُ‪ :‬تركُ الرجعة ل إنشاء طلقة‬
‫فَارقُوهُ ّ‬
‫ل يجوز أن يُقال‪ :‬إن من تكلم به طلقت زوجته‪ ،‬فهم معناه أو لم‬
‫ثانية‪ ،‬هذا مما ل خلف فيه البتة‪ ،‬ف َ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫يفهم‪ ،‬وكلهما فى البطلن سواء‪ ،‬وبا ّ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فى الظهار‪ ،‬وبيان ما أنزل ال فيه‪ ،‬ومعني‬
‫حُكم رسو ِ‬
‫العودِ الموجبِ للكفارة‬
‫لئِى َولَ ْد َنهُمْ‬
‫ل ال ّ‬
‫ن ُأمّها ِتهِ ْم إنْ ُأمّها ُتهُ ْم إِ ّ‬
‫ن نِسَا ِئهِ ْم مَا هُ ّ‬
‫ن ِم ْنكُم مِ ْ‬
‫ن يُظَا ِهرُو َ‬
‫قال تعالى‪{ :‬الّذِي َ‬
‫ن مِنْ نِسَا ِئهِمْ ثُمّ‬
‫لّ َلعَ ُفوّ غَفُو ٌر * والّذِينَ يُظَاهِروُ َ‬
‫ل َوزُوراً وإِنّ ا َ‬
‫وِإ ّنهُمْ َليَقُولُونَ ُم ْنكَرًا مِنَ ال َقوْ ِ‬
‫ن لَمْ‬
‫خبِيرٌ * َفمَ ْ‬
‫لّ ِبمَا َت ْع َملُونَ َ‬
‫حرِي ُر رَ َقبَ ٍة مِنْ َقبْل أَنْ َيتَماسّا َذِلكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وا ُ‬
‫َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا َفتَ ْ‬
‫ك ِل ُتؤْمنُوا بِالِ‬
‫سكِينًا ذِل َ‬
‫ستّينَ مِ ْ‬
‫طعَامُ ِ‬
‫ستَطِعْ َفإِ ْ‬
‫ن لَمْ يَ ْ‬
‫ل أَنْ َيتَماسّا َفمَ ْ‬
‫ن مِنْ َقبْ ِ‬
‫ش ْه َريْن ُم َتتَا ِب َعيْ ِ‬
‫صيَامُ َ‬
‫يَجِدْ َف ِ‬
‫ب ألِيمٌ} [المجادلة‪ ،]4-2 :‬ثبت فى ((السنن)) و‬
‫َورَسُولِه َو ِت ْلكَ حُدُودُ ال وِل ْلكَافِرين عَذَا ٌ‬

‫‪180‬‬
‫((المسانيد))‪ :‬أن أوس بن الصامت ظاهر مِن زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة‪ ،‬وهي التى جادلت‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬واشتكت إلى ال‪ ،‬وسمع ال شكواها مِن فوقِ سبعِ سماوات‪،‬‬
‫فيه رسو َ‬
‫ن الصامت تزوّجنى وأنا شابة مرغوب فىّ‪ ،‬فلما خل سنى‪ ،‬ونثرت‬
‫فقالت‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬إن أوسَ ب َ‬
‫عنْدِى فى أمرِك‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَا ِ‬
‫له بطنى‪ ،‬جعلنى كأمّهِ عنده‪ ،‬فقال لها رسو ُ‬
‫شَىءٌ)) فقالت‪ :‬اللهم إنى أشكو إليك‪ ،‬ورُوى أنها قالت‪ :‬إن لى صبي ًة صِغارًا إن ضمّهم إليه‪،‬‬
‫ل القرآنُ‪ ،‬وقالت عائشة‪ :‬الحمدُ لِّ الذى وَسِعَ سمعُه‬
‫ضاعُوا وإن ضممتُهم إلىّ جَاعُوا‪ ،‬فنز َ‬
‫سرِ‬
‫الصواتَ‪ ،‬لقد جاءت خول ُة بنتُ ثعلبة تشكو إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وأنا فى كِ ْ‬
‫جهَا‬
‫ل الّتى ُتجَا ِدُلكَ فى ْزَوْ ِ‬
‫سمِعَ الُّ َقوْ َ‬
‫ض كلمِها‪ ،‬فأنزل ال عزّ وجَلّ‪{:‬قَدْ َ‬
‫البيت يَخْفى علىّ بع ُ‬
‫سمَ ُع تَحا ُورَكما إنّ الَّ سمي ٌع َبصِيرٌ} [المجادلة‪ ]1 :‬فقال النبىّ صلى ال عليه‬
‫لّ يَ ْ‬
‫وتَشْتكى إلى الِّ وا ُ‬
‫ش ْه َريْنِ ُم َتتَا ِب َعيْنِ))‪ ،‬قالت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إنه‬
‫وسلم ((ِل ُي ْعتِقْ رَ َقبَةً))‪ ،‬قالت‪ :‬ل يجد‪ ،‬قال‪َ (( :‬فيَصُومَ َ‬
‫سكِيناً)) قالت‪ :‬ما عنده من شىء يتصدّقُ به‪،‬‬
‫ن مِ ْ‬
‫ستّي َ‬
‫طعِمْ ِ‬
‫شيخ كبير ما ب ِه مِنْ صيام‪ ،‬قال‪َ (( :‬ف ْليُ ْ‬
‫ن َت ْمرٍ)) قلت‪ :‬يا رسول ال صلى ال عليه وسلم فإنى أعينه بعَرقٍ آخرَ‪،‬‬
‫قالت‪ :‬فأنى ساعتئذ ِبعَرق مِ ْ‬
‫ع ّمكِ))‪.‬‬
‫سكِينًا وارْجِعى إلى ابْنِ َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫ستّي َ‬
‫عنْهُ ِ‬
‫طعِمى َ‬
‫س ْنتِ َفأَ ْ‬
‫قالَ‪(( :‬أَحْ َ‬
‫وفى ((السنن))‪ :‬أن سلمة بن صخر البياضى ظاهر مِن امرأته مدةَ شهرِ رمضان‪ ،‬ثم‬
‫ك يَا سَلمة))‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬أنا‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أَنتَ بِذَا َ‬
‫واقعها ليلةً قبل انسلخه‪ ،‬فقال له النب ّ‬
‫ح ّر ْر رَ َقبَةَ))‪ ،‬قلتُ‪:‬‬
‫ى بما أراك ال قال‪َ (( :‬‬
‫بِذَاكَ يا رسولَ ال مرتين وأنا صابر لمر ال‪ ،‬فاحكمْ ف ّ‬
‫ش ْه َريْنِ‬
‫والذى بعثك بالحقّ نبياً ما أمِلكُ رقبة غيرَها‪ ،‬وضربتُ صفحة رقبتى‪ ،‬قال‪(( :‬فَصُمْ َ‬
‫ت الذى أصبتُ إل فى الصيام‪ ،‬قال‪(( :‬فاطعم‪ ،‬وسْقًا مِن تمر بين سِتينَ‬
‫متتا ِبعَين))‪ ،‬قال‪ :‬وهل أصب ُ‬
‫ب صَدَقَةِ‬
‫ح ِ‬
‫طلِقْ إلى صَا ِ‬
‫طعَام‪ ،‬قال‪(( :‬فانْ َ‬
‫شيْنِ ما لنا َ‬
‫مسكيناً)) قلت‪ :‬والّذى بعثك بالحقّ لقد ِب ْتنَا وَحْ َ‬
‫حتُ‬
‫ك بَ ِق ّيتَها))‪ .‬قال‪َ :‬فرُ ْ‬
‫عيَاُل َ‬
‫ل َأ ْنتَ و ِ‬
‫سكِينًا وَسْقًا مِنْ تَم ِر وكُ ْ‬
‫ستّينَ مِ ْ‬
‫طعِمْ ِ‬
‫َبنِى ُز َريْقٍ َف ْليَدْ َف ْعهَا إِل ْيكَ فَأ ْ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ق وسوء الرأى‪ ،‬ووجدتُ عندَ رسو ِ‬
‫إلى قومى‪ ،‬فقلتُ‪ :‬وجدت عندكم الضي َ‬
‫حسْنَ الرأى‪ ،‬وقد أمر لى بصدَ َقتِكم‪،.‬وفى جامع الترمذى عن ابن عباس‪ ،‬أنّ رجل أتى‬
‫سعَةَ و ُ‬
‫ال ّ‬
‫ت مِن‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم قد ظا َه َر مِن امرأته فوقع عليها‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسولَ ال إنى ظاهر ُ‬
‫خلْخَالَها‬
‫ح ُمكَ ال)) قال‪َ :‬رَأ ْيتُ َ‬
‫ح َمَلكَ عَلى َذِلكَ َيرْ َ‬
‫ل أن أكفّر‪ ،‬قال‪َ (( :‬ومَا َ‬
‫امرأتى‪ ،‬فوقعتُ عليها َقبْ َ‬
‫ل مَا َأ َم َركَ ال))‪ .‬قال‪ :‬هذا حديث حسن غريب‬
‫حتّى تَ ْفعَ َ‬
‫ضوْءِ ال َق َمرِ‪ ،‬قال‪(( :‬فَلَ تَ ْق َربْها َ‬
‫فى َ‬
‫صحيح‪،.‬وفيه أيضاً‪ :‬عن لسمة بن صخر‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فى المظاهر يُواقِعُ قبل‬

‫‪181‬‬
‫أن ُيكَفّر‪ ،‬فقال‪(( :‬كَفّا َرةٌ وَاحِ َدةٌ))‪ .‬وقال‪ :‬حسن غريب‪ ،‬انتهى‪ ،‬وفيه انقطاع بين سليمان بن يسار‪،‬‬
‫وسلمة بن صخر‪ ،‬وفى مسند البزار‪ ،‬عن إسماعيل بن مسلم‪ ،‬عن عمرو بن دينار‪ ،‬عن طاووس‪،‬‬
‫ل إلى النبى ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬إنى‬
‫عن ابن عباس رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬أتى رج ٌ‬
‫ت من امرأتى‪ ،‬ثم وقعتُ عليها قبل أن أُكفِر‪ ،‬فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ألم يقل‬
‫ظاهر ُ‬
‫حتّى ُتكَ ّفرَ)) قال‬
‫سكْ عنها َ‬
‫ج َبتْنى‪ ،‬فقال‪َ(( :‬أمْ ِ‬
‫ال‪{:‬مِنْ َقبْل أَنْ َي َتمَاسّا} [المجادلة‪]3:‬؟ فقال‪ :‬أَعْ َ‬
‫ن من هذا‪ ،‬على أن إسماعيل ابن مسلم قد تُكلّم فيه‪ ،‬وروى عنه‬
‫البزار‪ :‬ل نعلم ُه يُروى بإسناد أحس َ‬
‫جماعة كثيرة من أهل العلم‪.‬‬
‫فتضمنت هذه الحكام أموراً‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬إبطال ما كانوا عليه فى الجاهلية‪ ،‬وفى صدرِ السلم مِن كون الظهار طلقاً‪ ،‬ولو‬
‫ى كظهر أمى‪ ،‬أعنى به الطلق‪ ،‬لم يكن طلقاً وكان ظهاراً‪ ،‬وهذا‬
‫صرّح بنيته له‪ ،‬فقال‪ :‬أنتِ عل ّ‬
‫بالتفاق إل ما عساه مِن خلف شاذ‪ ،‬وقد نصّ عليه أحمد والشافعى وغيرهما‪ .‬قال الشافعى‪ :‬ولو‬
‫ظاهر يُريد طلقاً‪ ،‬كان ظهاراً‪ ،‬أو طلّق يُريد ظهاراً كان طلقاً‪ ،‬هذا لفظه‪ ،‬فل يجوز أن يُنسب إلى‬
‫ف هذا‪ ،‬ونص أحمد‪ :‬على أنه إذا قال‪ :‬أنت علىّ كظهر أمى أعنى به الطلقَ أنه ظهار‪،‬‬
‫مذهبه خل ُ‬
‫ول تطلُق به‪ ،‬وهذا لن الظهار كان طلقًا فى الجاهلية‪ ،‬فنسخ‪ ،‬فلم يج ْز أن يُعاد إلى الحكم‬
‫المنسوخ‪ ،‬وأيضاً فأْوس بن الصامت إنما نوى به الطلقَ على ما كان عليه‪ ،‬وأجرى عليه حكم‬
‫الظهار دون الطلق‪.‬وأيضاً فإنه صريح فى حكمه‪ ،‬فلم يجز جعلُه كناية فى الحكم الذى أبطله عز‬
‫وجل بشرعه‪ ،‬وقضاءُ ال أحقّ‪ ،‬وحكم الِّ أوجبُ‪.‬‬
‫ومنها أن الظهار حرام ل يجوزُ القدامُ عليه لنه كما أخبر ال عنه منكر من القول‬
‫وزور‪ ،‬وكلهما حرام‪ ،‬والفرقُ بين جهة كونه منكراً وجه ِة كونه زورًا أن قوله‪ :‬أنت علىّ كظهر‬
‫أمى يتضمنُ إخباره عنها بذلك‪ ،‬وإنشاءه تحريمها‪ ،‬فهو يتضمن إخباراً وإنشاءً‪ ،‬فهو خبر زُورٌ‬
‫وإنشا ٌء منكر‪ ،‬فإن الزور هو الباطل خلف الحق الثابت‪ ،‬والمنكر خلف المعروف‪ ،‬وختم سبحانه‬
‫لّ َلعَ ُفوّ غَفُور} [المجادلة‪ ]2:‬وفيه شعار بقيام سبب الثم الذى لول عفوُ‬
‫الية بقوله تعالى‪{:‬وَإنّ ا َ‬
‫ال ومغفرتُه لخذ به‬
‫ومنها‪ :‬إن الكفارة ل تجب بنفسِ الظهار‪ ،‬وإنما تجبُ بالعود‪ ،‬وهذا قولُ‬
‫الجمهور‪ ،‬وروى الثورى‪ ،‬عن ابن أبى نَجيح‪ ،‬عن طاووس قال‪ :‬إذا تكلّم بالظهار‪ ،‬فقد َل ِزمَه‪ ،‬وهذه‬
‫ن ِلمَا‬
‫رواية ابن أبى نجيح عنه‪ ،‬وروى معمر‪ ،‬عن طاووس‪ ،‬عن أبيه فى قوله تعالى‪{ :‬ث ّم َيعُودُو َ‬

‫‪182‬‬
‫قَالُوا} [المجادلة‪ ،]3 :‬قال‪ :‬جعلها عليه كظهر أمه‪ ،‬ثم يعودُ‪ ،‬فيطؤها‪ ،‬فتحرير رقبة‪ .‬وحكى الناس‬
‫عن مجاهد‪ :‬أنه تجب الكفارةُ بنفس الظهار‪ ،‬وحكاه ابنُ حزم عن الثورى‪ ،‬وعثمان البتي‪ ،‬وهؤلء‬
‫لم يخف عليهم أن العود شرط فى الكفارة‪ ،‬ولكن العود عندهم هو العود إلى ما كانوا عليه فى‬
‫لّ ِمنْهُ} [المائدة‪ ]95 :‬أى‪:‬‬
‫الجاهلية من التظاهر‪ ،‬كقوله تعالى فى جزاء الصيد‪{:‬ومَنْ عَادَ َف َي ْنتَقِمُ ا ُ‬
‫سَلفَ} [المائدة‪ ]95 :‬قالوا‪ :‬ولن‬
‫عمّا َ‬
‫عاد إلى الصطياد بعد نزول تحريمه‪ ،‬ولهذا قال‪{ :‬عَفَا الُّ َ‬
‫الكفارة إنما وجبت فى مقابلة ما تكلم به من المنكر والزور‪ ،‬وهو الظها ُر دون الوطء‪ ،‬أو العزم‬
‫عليه‪ ،‬قالوا‪ :‬ولن ال سبحانه لما حرّم الظهار‪ ،‬ونهى عنه كان العود هو فعل المنهى عنه‪ ،‬كما قال‬
‫ح َمكُم وإنْ عُ ْدتُم عُ ْدنَا} [السراء‪ ]8:‬أى‪ :‬إن عدتم إلى الذنب‪ ،‬عدنا إلى‬
‫تعالى‪{ :‬عَسى َر ّبكُم أَنْ َيرْ َ‬
‫ل المنهى عنه‪،‬‬
‫العقوبة‪ ،‬فالعودُ هنا نفسُ فع ِ‬
‫قالوا‪ :‬ولن الظهارَ كان طلقاً فى الجاهلية‪ ،‬فنُقِلَ حكمُه من الطلق إلى الظهار‪ ،‬ورتب‬
‫عليه التكفير‪ ،‬وتحريم الزوجة حتى يكفّر‪ ،‬وهذا يقتضى أن يكون حكمُه معتبراً بلفظه كالطلق‪،‬‬
‫ونازعهم الجمهور فى ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن العود أمرٌ وراءه مجرد لفظ الظهار‪ ،‬ول َيصِحّ حمل الية‬
‫على العود إليه فى السلم لثلثة أوجه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن هذه الية بيان لحكم من يُظاهر فى السلم‪ ،‬ولهذا أتى فيها بلفظ الفعل مستقبلً‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يُظاهرون‪ ،‬وإذا كان هذا بياناً لحكم ظِهار السلم‪ ،‬فهو عندكم نفسُ العود‪ ،‬فكيف يقول بعده‪:‬‬
‫ثم يعودون‪ ،‬وإن معنى هذا العود غير الظهر عندكم؟‬
‫الثانى‪ :‬أنه لو كان العُود ما ذكرتم‪ ،‬وكان المضا ُر بمعنى الماضي‪ ،‬كان تقديرُه‪ :‬والذين‬
‫ظاهروا مِن نسائهم‪ ،‬ثم عادوا فى السلم‪ ،‬ولما وجبت الكفارةُ إل على من تظاهر فى الجاهلية ثم‬
‫عاد فى السلم‪ ،‬فمن أين تُوجبونها على من ابتدأ الظهار فى السلم غيرَ عائد؟ فإن هنا أمرين‪:‬‬
‫ظِهار سابق‪ ،‬وعود إليه‪ ،‬وذلك يبطلُ حكم الظهار الن بالكلية إل أن تجعلوا ((يظاهرون)) لفرقة‬
‫ويعودون لفرقة‪،‬ولفظ المضارع نائباً عن لفظ الماضى‪ ،‬وذلك مخالف للنظم‪ ،‬ومخرج عن‬
‫الفصاحة‪.‬‬
‫لّ أمر أوسَ بن الصَامت‪ ،‬وسلمة بن صخر بالكفارة‪ ،‬ولم يسألهما‪ :‬هل‬
‫الثالث‪ :‬أن رسولَ ا ِ‬
‫تظاهرا فى الجاهلية أم ل؟ فإن قلتُم‪ :‬ولم يسألهُما عن العود الذى تجعلونه شرطاً‪ ،‬لسألهما عنه‪ .‬قبل‪:‬‬
‫ل العود نفس المساك بعد الظهار زمنًا ُي ْمكِنُ وقوع الطلق فيه‪ ،‬فهذا جا ٍر على قوله‪،‬‬
‫أما من يجع ُ‬
‫وهو نفسُ حجته‪ ،‬ومن جعل العودَ هو الوطء والعزم‪ ،‬قال‪ :‬سياق القصة بيّن فى أن المتظاهرين‬

‫‪183‬‬
‫كان قصدُهم الوطء‪ ،‬وإنما أمسكوا له‪ ،‬وسيأتى تقريرُ ذلك إن شاء ال تعالى‪ ،‬وأما كون الظهار‬
‫منكراً من القول وزوراً‪ ،‬فنعم هو كذلك‪ ،‬ولكن ال عز وجل إنما أوجب الكفارة فى هذا المنكر‬
‫والزور بأمرين‪ :‬به‪ ،‬وبالعود‪ ،‬كما أن حكم اليلء إنما يترتب عليه وعلى الوطء ل على أحدهما‪.‬‬
‫فصل‬
‫ب الكفارةُ إل بالعود بعد الظهار‪ ،‬ثم اختلفوا فى معنى العود‪ :‬هل هو‬
‫وقال الجمهور‪ :‬ل تج ُ‬
‫إعادة لفظ الظها ِر بعينه‪ ،‬أو أمر وراءه؟ على قولين‪ ،‬فقال أهلُ الظاهر ُكلّهم‪ :‬هو إعادة لفظِ الظهارِ‪،‬‬
‫ل لم يُسبقوا إليه‪ ،‬وإن كانت هذه الشّكاةُ ل يكاد‬
‫ولم يحكُوا هذا عن أحد من السلف البتة‪ ،‬وهو قو ٌ‬
‫مذهب من المذاهب يخلو عنها‪ .‬قالوا‪ :‬فلم يوجب الُّ سبحانَه الكفارة إل بالظهار المعاد ل المبتدأ‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬والستدلل بالية من ثلثة وجوه‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن العرب ل يُعقل فى لغاتها العو ُد إلى الشىء إل فعل مثله مرةً ثانية‪ ،‬قالوا‪ :‬وهذا‬
‫عنْهُ}‬
‫كتابُ ال‪ ،‬وكلمُ رسوله‪ ،‬وكل ُم العرب بيننا وبينكم‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬وَل ْو رُدّوا َلعَادُوا ِلمَا نُهوا َ‬
‫[النعام‪ ،]28 :‬فهذا نظي ُر الية سواء فى أنه عدّى فعل العود باللم‪ ،‬وهو إتيانُهم مرة ثانية بمثل ما‬
‫أتوا به أولً‪ ،‬وقال تعالى‪َ { :‬وإِنْ عُ ْدتُمْ عُدْنا} [السراء‪ ]8 :‬أى‪ :‬إن كررتم الذنب‪ ،‬كررنا العقوبة‪،‬‬
‫عنْهُ} [المجادلة‪ ]8 :‬وهذا‬
‫ن ِلمَا ُنهُوا َ‬
‫جوَى ثُ ّم َيعُودُو َ‬
‫ن ُنهُوا عَن النّ ْ‬
‫ومنه قوله تعالى‪َ{ :‬ألَمْ َت َر إلى الّذِي َ‬
‫ل وإرادة‪ ،‬والعهد قريب‬
‫فى سورة الظهار نفسها‪ ،‬وهو يُبين المرا َد مِن العود فيه‪ ،‬فإنه نظيرُه فع ً‬
‫بذكره‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً‪ ،‬فالذى قالوه‪ :‬هو لفظُ الظهار‪ ،‬فالعود إلى القول هو التيانُ به مرة ثانية ل‬
‫ل العرب غيرَ هذا‪ .‬قالوا‪ :‬وأيضاً فما عدا تكرار اللفظ إما إمساكٌ‪ ،‬وإما عزم‪ ،‬وإما فعل‪ ،‬وليس‬
‫تعقِ ُ‬
‫واضحٌ منها بقول‪ ،‬فل يكون التيان به عوداً‪ ،‬ل لفظًا ول معنى‪ ،‬ولن العزم والوطء َ والمساكَ‬
‫ليس ظهاراً‪ ،‬فيكون التيان بها عودًا إلى الظهار‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولو أريد بالعودِ الرجوعُ فى الشىء الذى منع منه نفسه كما يُقال‪ ،‬عاد فى الهبة‪ ،‬لقال‪:‬‬
‫ثم يعودون فيما قالوا‪ ،‬كما فى الحديث‪(( :‬العَائِدُ فى هِبتهِ‪ ،‬كَالعَائِدِ فى َقيْئهِ))‪ ،‬واحتج أبو محمد ابن‬
‫حزم‪ ،‬بحديث عائشة رضى ال عنها‪ .‬أن أوس بن الصامت كان به لمم‪ ،‬فكان إذا اشت ّد بِه َل َممُه‪،‬‬
‫ظا َه َر من زوجته‪ ،‬فأنزل الُّ عز وجَلّ فيه كفارةَ الظهار‪ .‬فقال‪ :‬هذا يقتضى التكرارَ ول بُدّ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ول يصِحّ فى الظهارِ إل هذا الخبرُ وحدَه‪ .‬قال‪ :‬وأما تشنيعُكم علينا بأن هذا القولَ لم يَقُلْ به أحد من‬
‫الصحابة‪ ،‬فأرونا مِن الصحابه من قال‪ :‬إن العود هو الوطء‪ ،‬أو العزم‪ ،‬أو المساك‪ ،‬أو هو العود‬

‫‪184‬‬
‫إلى الظهار فى الجاهلية ولو عن رجل واح ٍد من الصحابة‪ ،‬فل تكونون أسعدَ بأصحاب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم منا أبداً‪.‬‬
‫فصل‬
‫س معنى العود إعادة اللفظ الول‪ ،‬لن ذلك لو كان هو‬
‫ونازعهم الجمهورُ فى ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬لي َ‬
‫العود‪ ،‬لقال‪ :‬ثُ ّم يعيدون ما قالوا‪ ،‬لنه يُقال‪ :‬أعاد كلمَه بعينه‪ ،‬وأما عاد‪ ،‬فإنما هو فى الفعال‪ ،‬كما‬
‫يقال‪ :‬عاد فى فعله‪ ،‬وفى هبته‪،‬فهذا استعماله بـ((فى))‪ .‬ويقال‪ :‬عاد إلى عمله وإلى وليته‪ ،‬وإلى‬
‫حاله‪ ،‬وإلى إحسانه وإساءتهِ‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬وعاد له أيضاً‪.‬‬
‫عَلىّ‬
‫وأما القول‪ :‬فإما يقال‪ :‬أعاده كما قال ضِماد بن ثعلبة للنبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أَعِدْ َ‬
‫عَلىّ يا رسول ال))‪ ،‬وهذا ليس بلزم‪ ،‬فإنه يقال‪ :‬أعاد‬
‫َكِلمَا ِتكَ)) وكما قال أبو سعيد‪(( :‬أَعِدْهَا َ‬
‫مقالته‪ ،‬وعاد لِمقالته‪ ،‬وعاد لِمقالته‪ ،‬وفى الحديث‪(( :‬فعاد لمقالته))‪ ،‬بمعنى أعادها سواء‪ ،‬وأفسدُ مِن‬
‫ن رَ ّد عليهم بأن إعادةَ القول محال‪ ،‬كإعادة أمس‪ .‬قال‪ :‬لنه ل يتهيأ اجتماعُ زمانين‪ ،‬وهذا‬
‫هذا ردّ مَ ْ‬
‫فى غاية الفساد‪ ،‬فإن إعاد َة القولِ من جنس إعادة الفعل‪ ،‬وهى التيان بمثل الول ل بعينه‪ ،‬والعجبُ‬
‫ث معهم بمثل هذه البحوث‪ ،‬ويردّ عليهم بمثل‬
‫مِن متعصّب يقول‪ :‬ل ُي ْعتَدّ بخلف الظاهرية‪ ،‬ويبح ُ‬
‫هذا الردّ‪ ،‬وكذلك ر ّد من ر ّد عليهم بمثل العائدِ في هبته‪ ،‬فإنه ليس نظي َر الية‪ ،‬وإنما نظيرُها‪َ{ :‬ألَمْ‬
‫عنْهُ} [المجادلة‪ ،]8 :‬ومع هذا فه ِذ ِه الية تُبين‬
‫جوَى ثُ ّم َيعُودونَ ِلمَا ُنهُوا َ‬
‫َترَ إلى الّذِينَ ُنهُوا عَن النّ ْ‬
‫المرا َد مِن آية الظهار‪ ،‬فإن عودَهم ِلمَا ُنهُوا عنه‪ ،‬هو رجوعُهم إلى نفس المنهى عنه‪ ،‬وهو النجوى‪،‬‬
‫وليس المرادُ به إعاد َة تلك النجوي بعينها‪ ،‬بل رجوعُهم إلى المنهى عنه‪ ،‬وكذلك قولُه تعالى فى‬
‫الظهار‪َ { :‬يعُودُونَ ِلمَا قَالُوا} [المجادلة‪ ]3 :‬أى‪ :‬لقولهم‪ .‬فهو مصدر بمعنى المفعول‪ ،‬وهو تحريمُ‬
‫الزوجة بتشبيهها بالمحرّمة‪ ،‬فالعو ُد إلى المحرم هو العودُ إليه‪ ،‬وهو فعلُه‪ ،‬فهذا مأخذُ من قال‪ :‬إنه‬
‫الوطء‪.‬‬
‫ونكتة المسألة‪ :‬أن القولَ فى معنى المقول‪ ،‬والمقول هو التحريم‪ ،‬والعود له هو العو ُد إليه‪،‬‬
‫وهو استباحته عائداً إليه بعد تحريمه‪ ،‬وهذا جار على قواعد اللغة العربية واستعمالها‪ ،‬وهذا الذى‬
‫عليه جمهو ُر السلف والخلف‪ ،‬كما قال قتادة‪ ،‬وطاووس‪ ،‬والحسن‪ ،‬والزهرىّ‪ ،‬ومالك‪ ،‬وغيرُهم‪ ،‬ول‬
‫يُعرف عن أحد مِن السلف أنه فسر الية بإعادة اللفظ البتة ل من الصحابة‪ ،‬ول مِن التابعين‪ ،‬ول‬
‫ى على مَنْ جعله إعاد َة اللفظ‪ ،‬وهو أن العودَ إلى الفعل يستلزِمُ مفارقة‬
‫مَنْ بعدهم‪ ،‬وها هنا أمرٌ خف َ‬
‫الحال التى هو عليها الن‪ ،‬وعودَه إلى الحال التى كان عليها أولً‪،‬كما قال تعالى{وإنْ عُ ْدتُمْ عُ ْدنَا}‬

‫‪185‬‬
‫[السراء‪ ]8 :‬أل ترى أن عودهم مفارقة ما هم عليه من الحسان‪ ،‬وعودُهم إلى الساءة‪ ،‬وكقول‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫حمَدُ‪.‬‬
‫وإنْ عَا َد لِلِحْسَانِ فَال َعوْدُ َأ ْ‬
‫جبِ‬
‫ل التى هو عليها الن التحريمُ بالظهار‪ ،‬والتى كان عليها إباح ُة الوطء بالنكاح المو ِ‬
‫والحَا ُ‬
‫للحل‪َ ،‬ف َعوْدُ المظاهر عودٌ حِلّ كان عليهِ قبلَ الظهار‪ ،‬وذلك هو الموجبُ للكفارة فتأمله‪ ،‬فالعودُ‬
‫ن العود فى الهبة‪ ،‬وبينَ العود لما قال‬
‫س ّر الفرق بي َ‬
‫يقتضى أمراً يعو ُد إليه بعدَ مفارقته‪ ،‬وظهر ِ‬
‫ن الهبة بمعنى الموهوب وهو عين يتضمّن عودُه فيه إدخالَه فى مُلكه وتصرّفَه فيه‪ ،‬كما‬
‫المظاهرُ‪ ،‬فإ ّ‬
‫كان أولً‪ ،‬بخلف المظاهر‪ ،‬فإنه بالتحريم قد خرج عن الزوجية‪ ،‬وبالعودِ قد طلب الرجوعَ إلى‬
‫للْيق أن يقال‪ :‬عاد لكذا‪ ،‬يعنى‪ :‬عاد إليه‪ .‬وفى الهبة‪:‬‬
‫ل التى كان عليها معها قبلَ التحريم‪ ،‬فكان ا َ‬
‫الحا ِ‬
‫عاد إليها‪ ،‬وقد أمر النبىّ صلى ال عليه وسلم أوسَ بن الصامِت‪ ،‬وسلم َة ابن صخر بكفارة الظّهار‪،‬‬
‫ولم يتلفظا به مرتين‪ ،‬فإنّهما لم يُخبرا بذلك عن أنفسهما‪ ،‬ول أخبر به أزواجُهما عنهما‪ ،‬ول أح ٌد من‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ :‬هَلْ قلُتما ذلك مرة أو مرتين؟ ومثلُ هذا لو كان‬
‫الصحابة‪ ،‬ول سألهما النب ّ‬
‫شرطاً لما أهمل بيانه‪.‬‬
‫وسرّ المسألة أن العودَ يتضمن أمرين‪ :‬أمرًا يعود إليه‪ ،‬وأمراً يعود عنه‪ ،‬ول بُدّ منهما فالذى‬
‫يعود عنه يتضمّن نقضَه وإبطاله‪ ،‬والذى يعودُ إليه يتضمّن إيثاره وإرادته‪ ،‬فعودُ المظاهر يقتضى‬
‫ض الظِهار وإبطاله‪ ،‬وإيثار ضدّه وإرادته‪ ،‬وهذا عينُ فهم السلفِ من الية‪ ،‬فبعضُهم يقول‪ :‬إن‬
‫نق َ‬
‫العود هو الصابة‪ ،‬وبعضُهم يقول‪ :‬الوطء‪ ،‬وبعضُهم يقول‪ :‬اللمس‪ ،‬وبعضُهم يقول‪ :‬العزم‪.‬‬
‫وأما قولُكم‪ :‬إنه إنما أوجب الكفارة فى الظهار‪ ،‬إن أردتم به المعاد لفظُه‪ ،‬فدعوى بحسب ما‬
‫ستَلز ْم ذلك إعادة اللفظ الول‪ .‬وأما‬
‫فهمتموه‪ ،‬وإن أردتم به الظهارَ المعادَ فيه لما قال المظا ِهرُ‪ ،‬لم يَ ْ‬
‫حديث عائشة رضى ال عنها فى ظِهار أوس بن الصامت‪ ،‬فما أصحّه‪ ،‬وما أبع َد دللته على‬
‫مذهبكم‪.‬‬
‫فصل‬
‫ث ّم الذين جعلوا العودَ أمراً غي َر إعادة اللفظ اختلفُوا فيه‪ :‬هل هو مجردُ إمساكِها بعد الظهار‪،‬‬
‫أو أم ٌر غيره؟ على قولين‪ .‬فقالت طائفة‪ :‬هو إمساكُها زمنًا يتّس ُع لقوله‪ :‬أنت طالق‪ ،‬فمتى لم َيصِل‬
‫ظ الظّهار‪ ،‬وزمنُ‬
‫الطلق بالظهار عن كونه موجبَ الكفارة‪ ،‬ففى الحقيقة لم يُوجب الكفارة إل لف ُ‬
‫ب به ممتنع‪ ،‬ول تُسمى تلك‬
‫قوله‪ :‬أنت طالق ل تأثيرَ له فى الحكم إيجاباً ول نفياً‪ ،‬فتعليقُ اليجا ِ‬

‫‪186‬‬
‫اللحظةُ والنّفسُ الواحد مِن النفاس عودًا ل فى لغة العرب ول فى عُرف الشارع‪ ،‬وأىّ شىء فى‬
‫هذا الجزء اليسير جدًا مِن الزمان من معنى العود أو حقيقته؟‬
‫ل معقول يفهم‬
‫قالوا‪ :‬وهذا ليس بأقوى مِن قول من قال‪ :‬هو إعادةُ اللفظ بعينه‪ ،‬فإن ذلك قو ٌ‬
‫منه العودُ وحقيقةً‪ ،‬وأما هذا الجزءُ مِن الزمان‪ ،‬فل يفهمُ من النسان فيه العود البتة‪ .‬قالوا‪ :‬ونحنُ‬
‫ب الكفارةَ‬
‫نُطالبكم بما طالبتُم به الظاهرية‪ :‬من قال هذا القولَ قبل الشافعى؟ قالوا‪ :‬والُّ سبحانه أوج َ‬
‫ن بينَ العود وبين الظهار مدةٌ‬
‫بالعودِ بحرف ((ثم)) الدالة على التراخى عن الظهار‪ ،‬فل بد أن يكو َ‬
‫متراخية‪ ،‬وهذا ممتنع عندكم‪ ،‬وبمجردِ انقضاء قوله‪ :‬أنت علىّ كظهر أمى صار عائدًا ما لم يصله‬
‫بقوله‪ :‬أنتِ طالق‪ ،‬فأين التراخى والمهلة بين العود والظهار؟ والشافعى لم ينقل هذا عن أحد من‬
‫س ِم ْعتُ فى‬
‫ت ممّا َ‬
‫الصحابة والتابعين‪ ،‬وإنما أخبر أنه أولى المعانى بالية‪ ،‬فقال‪ :‬الذى عَ َق ْل ُ‬
‫((يعودون لما قالوا))‪ ،‬أنه إذا أتت على المظا ِه ِر مد ٌة بعد القول بالظهار‪ ،‬لم يُح ّر ْمهَا بالطلق الذى‬
‫يحرم به‪ ،‬وجبت عليه الكفارةُ‪ ،‬كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسكَ ما حرّم على نفسه أنه حلل‪ ،‬فقد‬
‫عاد لما قال‪ ،‬فخالفه‪ ،‬فأحلّ ما حرم‪ ،‬ول أعل ُم له معنى أولى به من هذا‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫فصل‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫@‬
‫والذين جعلوه أمراً وراءَ المساك اختلفوا فيه‪ ،‬فقال مالك فى إحدى الروايات الربع عنه‪،‬‬
‫وأبو عُبيد‪ :‬هو العزم على الوطء‪ ،‬وهذا قول القاضى أبى يعلى وأصحابه‪ ،‬وأنكره المام أحمد‪،‬‬
‫وقال مالك‪ :‬يقول‪ :‬إذا أجمع‪ ،‬لزمته الكفارة‪ ،‬فكيف يكون هذا لو طلّقها بعد ما يُجمع‪ ،‬أكان عليه‬
‫ل الطلق؟‬
‫كفارة إل أن يكون يذهبُ إلى قول طاووس إذا تكلم بالظهارِ‪ ،‬لزمه مث ُ‬
‫ب هذا القول فيما لو مات أحدُهما‪ ،‬أو طلّق بعد العزم‪ ،‬وقبل الوطء‪،‬‬
‫ثم اختلف أربا ُ‬
‫هل تستقر عليه الكفارة؟ فقال مالك وأبو الخطاب‪ :‬تست ِقرّ الكفارةُ‪ .‬وقال القاضى وعامةُ أصحابه‪ :‬ل‬
‫تست ِقرّ‪ ،‬وعن مالك رواية ثانية‪ :‬أنه العزم على المساك وحدَه‪ ،‬وروايةُ ((الموطأ)) خلف هذا كله‪:‬‬
‫أنه العز ُم على المساك والوطء معاً‪ .‬وعنه رواية رابعة‪ :‬أنه الوطء نفسه‪ ،‬وهذا قولُ أبى حنيفة‬
‫ن إذا أراد‬
‫وأحمد‪ .‬وقد قال أحمد فى قوله تعالى‪{:‬ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا} [المجادلة‪ ،]3 :‬قال‪ :‬الغشيا ُ‬
‫أن يغشى‪ ،‬كَ ّفرَ‪ ،‬وليس هذا باختلف رواية‪ ،‬بل مذهبُه الذى ل يُعرف عنه غيره أنه الوطء ويلزمه‬
‫إخراجها قبله عند العزم عليه‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫ل أن‬
‫واحتج أرباب هذا القول بأن ال سبحانه قال فى الكفارة‪{ :‬مِنْ َقبْ ِ‬
‫يتماساً} [المجادلة‪ ]3 :‬فأوجب الكفارة بعد العودِ‪ ،‬وقبل التماس‪ ،‬وهذا صريح فى أن العود غير‬
‫التماس‪ ،‬وأن ما يحرم قبل الكفارة‪ ،‬ل يجوز كونُه متقدماً عليها‪ .‬قالوا‪ :‬ولنه قصد بالظهار‬
‫تحريمها‪ ،‬والعزم على وطئها عود فيما قصده‪ .‬قالوا‪ :‬ولن الظّهار تحريم‪ ،‬فإذا أراد استباحتها‪ ،‬فقد‬
‫رجع فى ذلك التحريم‪ ،‬فكان عائداً‪.‬‬
‫ل ضدّ قولِه كما تقدم‬
‫قال الذين جعلوه الوطء‪ :‬ل ريب أن العود فع ُ‬
‫ن ِلمَا ُنهُوا‬
‫تقريره‪ ،‬والعائد فيما نهى عنه وإليه وله‪ :‬هو فاعلُه ل مريدُه‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬ثُ ّم َيعُودو َ‬
‫ب هذا القول ما ألزمهم به‬
‫عنْهُ} [المجادلة‪ ،]8 :‬فهذا فعل المنهى عنه نفسه لرادته‪ ،‬ول يلزم أربا َ‬
‫َ‬
‫أصحابُ العزم‪ ،‬فإن قولهم‪ :‬إن العودَ يتقدم التكفير‪ ،‬والوطءُ متأخر عنه‪ ،‬فهم يقولون‪ :‬إن قوله‬
‫تعالى‪{ :‬ثُ ّم َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا} [المجادلة‪ ]3 :‬أى‪ :‬يريدون العود كما قال تعالى‪{ :‬فَإذَا َق َر ْأتَ ال ُقرْآنَ‬
‫سلُوا وجُو َهكُم} [المائدة‪]6 :‬‬
‫س َتعِ ْذ بالِ} [النحل‪ ،]98 :‬وكقوله تعالى‪{ :‬إذَا ُق ْمتُ ْم إلى الصّلةِ فاغْ ِ‬
‫فا ْ‬
‫ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها‪ .‬قالوا‪ :‬وهذا أولى مِن تفسير العود بنفس اللفظ‬
‫ق بعده‪،‬‬
‫الول‪ ،‬وبالمساك نَفَساً واحداً بعد الظهار‪ ،‬وبتكرار لفظ الظهار‪ ،‬وبالعزم المجرّدِ لو طلّ َ‬
‫فإن ه ِذهِ القوال ُكلّها قد تبين ضعفها‪ ،‬فأقرب القوال إلى دللة اللفظ وقواعد الشريعة وأقوال‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫المفسرين‪ ،‬هو هذا‪ ،‬وبا ّ‬
‫فصل‬
‫ى صلى ال عليه وسلم أعان أوسَ‬
‫ومنها‪ :‬أن من عجز عن الكفارة‪ ،‬لم تسقُط عنه‪ ،‬فإن النب ّ‬
‫ابن الصامت ِب َعرَقٍ من تمر‪ ،‬وأعانته امرأته بمثله‪ ،‬حتى كفّر‪ ،‬وأمر سلم َة بن صخر أن يأخذ صدقةَ‬
‫قومه‪ ،‬فيكفّر بها عن نفسه‪ ،‬ولو سقطت بالعجز‪ ،‬لما أمرهما بإخراجها‪ ،‬بل تبقى فى ذمته دينًا عليه‪،‬‬
‫وهذا قول الشافعى‪ ،‬وأحد الروايتين عن أحمد‪.‬‬
‫وذهبت طائفة إلى سقوطِها بالعجز‪ ،‬كما تسقط الواجبات بعجزه عنها‪ ،‬وعن إبدالها‪.‬‬
‫وذهبت طائفة أن كفار َة رمضان ل تبقى فى ذمته‪ ،‬بل تسقُط‪ ،‬وغيرُها من الكفارات ل‬
‫تسقط‪ ،‬وهذا الذى صححه أبو البركات ابن تيمية‪.‬‬
‫صرِفاً‬
‫ن َم ْ‬
‫ت إليه‪ ،‬فإن الرجل ل يكو ُ‬
‫صرِ َف ْ‬
‫واحتجّ من أسقطها بأنها لو وجبت مع العجز‪ ،‬لما ُ‬
‫ب القول الول يقولون‪ :‬إذا عجز عنها‪ ،‬وكفر الغيرُ‬
‫صرِفا لزكاته‪ ،‬وأربا ُ‬
‫لكفارته‪ ،‬كما ل يكون َم ْ‬
‫صرِ َفهَا إليه‪ ،‬كما صرف النبى صلى ال عليه وسلم كفارةَ من جامع فى رمضان إليه‬
‫عنه‪ ،‬جاز أن َي ْ‬

‫‪188‬‬
‫وإلى أهله‪ ،‬وكما أباح لسلمة بن صخر أن يأكُل هو وأهلُه من كفارته التى أخرجها عنه من صدقة‬
‫قومه‪ ،‬وهذا مذهبُ أحمد‪ ،‬رواية واحدة عنه فى كفارة من وطىء أهله فى رمضان‪ ،‬وعنه فى سائر‬
‫الكفارات‪ ،‬وك ّفرَ عن غيرُه‪ ،‬جاز صرف كفارته إليه‪ ،‬وإلى أهله‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل يجوز له إذا كان فقيرًا له عيال وعليه زكاة يحتاج إليها أن يصرفها إلى نفسه‬
‫وعياله؟ قيل‪ :‬ل يجوز ذلك لعدم الخراج المستحق عليه‪ ،‬ولكن للمام أو الساعى أن يدفع زكاتَه‬
‫إليه بعد قبضها منه فى أصحّ الروايتين عن أحمد‪ ،‬فإن قيل‪ :‬فهل له أن يسقطها عنه؟ قيل‪ :‬ل‪ ،‬نص‬
‫عليه‪ ،‬والفرق بينهما واضح‪ ،‬فإن قيل‪ :‬فإذا أذن السيد لعبده فى التكفير بالعتق‪ ،‬فهل له أن يعتق‬
‫ل عن الصيامِ إليه؟ على‬
‫نفسه؟ قيل‪ :‬اختلفت الرواية فيما إذا أذن له فى التكفير بالمال‪ ،‬هل له أن ينتق َ‬
‫روايتين إحداهما‪ :‬أنه ليس له ذلك‪ ،‬وفرضُه الصيام‪ ،‬والثانية‪ :‬له النتقال إليه‪ ،‬ول يلزمُه لنّ المنع‬
‫لِحقّ السيد‪ ،‬وقد أذن فيه‪ .‬فإذا قلنا‪ :‬له ذلك‪ ،‬فهل العتقُ؟ اختلف الروايةُ فيه عن أحمد‪ ،‬فعنه فى ذلك‬
‫روايتان‪ ،‬ووج ُه المنع‪ :‬أنه ليس من أهل الولء‪ ،‬والعتق َي ْع َتمِدُ الولء‪ ،‬واختار أبو بكر وغيرُه أن له‬
‫العتاق‪ ،‬فعلى هذا‪ ،‬هل له عِتقُ نفسه؟ فيه قولن فى المذهب‪ ،‬ووج ُه الجواز إطلقُ الذن ووجهُ‬
‫المنع أن الذن فى العتاق ينصرفُ إلى إعتاق غيره‪ ،‬كما لو أذن له فى الصدقة انصرف الذن‬
‫إلى الصدقة على غيره‪.‬‬
‫فصل‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل يجوز وطء المظاهر منها قبل التكفير‪ ،‬وقد اختلف ها هنا فى موضعين‪.‬‬
‫ن الفرج قبل التكفير‪ ،‬أم ل؟ والثانى‪ :‬أنه إذا كانت كفارتُه الطعام‪ ،‬فهل‬
‫أحدهما‪ :‬هل له ُمبَاشَرتها دُو َ‬
‫له الوطء قبلَه أم ل؟ فى المسألتين قولن للفقهاء‪ ،‬وهما روايتانِ عن أحمد‪ ،‬وقولن للشافعى‪.‬‬
‫ل أَنْ َيتَماسّا} [المجادلة‪،]3 :‬‬
‫ووجه منع الستمتاع بغير الوطء‪ ،‬ظاهرُ قوله تعالى‪{ :‬مِنْ َقبْ ِ‬
‫ولنه شبّهها بمن يحرم وطؤها ودواعيه‪ ،‬ووج ُه الجواز أن التّماسّ كنايةٌ عن الجماع‪ ،‬ول يلزم مِن‬
‫تحريم الجماع تحريمُ دواعيه‪ ،‬فإن الحائضَ يحرم جماعُها دون دواعيه‪ ،‬والصائمُ يحرم منه الوطُء‬
‫ل أبى حنيفة‪.‬‬
‫ن دواعيه‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫دون دواعيه‪ ،‬والمسبية يحرم وطُؤها دو َ‬
‫وأما المسألةُ الثانية وهى وطؤها قبل التكفير‪ :‬إذا كان بالطعام‪ ،‬فوجه الجواز أن ال سبحانه‬
‫قيّد التكفيرَ بكونه قبل المسيس فى العتق والصيام‪ ،‬وأطلقه فى الطعام‪ ،‬ولكل منهما حِكمة‪ ،‬فلو أراد‬
‫التقييدَ فى الطعام‪ ،‬لذكره‪ ،‬كما ذكره فى العتق والصيام‪ ،‬وهو سبحانه لم يقيد هذا ويطلق هذا عبثاً‪،‬‬
‫بل لِفائدة مقصودة‪ ،‬ول فائدة إل تقييد ما قيّده‪ ،‬وإطلقُ ما أطلقه‪ .‬ووجهُ المنع استفادةُ حكم ما أطلقه‬

‫‪189‬‬
‫مماقيده‪ ،‬إما بيانًا على الصحيح‪ ،‬وإما قياساً قد ألغى فيه الفارق بين الصورتين‪ ،‬وهو سبحانه ل‬
‫ل أَنْ َي َتمَاسّا} [المجادلة‪ ]4 :‬مرتين‪ ،‬لو أعاده ثالثاً‪ ،‬لطال به‬
‫يُفرّقُ بين المتماثلين‪ ،‬وقد ذكر‪{ :‬مِنْ َقبْ ِ‬
‫الكلم‪ ،‬ونبّه بذكره مرتين على تكرر حكمه فى الكفارات‪ ،‬ولو ذكره فى آخر الكلم مرةً واحدةً‪،‬‬
‫لوهم اختصاصه بالكفارة الخيرة‪ ،‬ولو ذكره فى أول مرة لوهم اختصاصه بالولى‪ ،‬وإعادته فى‬
‫كُلّ كفارة تطويل‪ ،‬وكان أفصحَ الكلم وابلَغه وأوجزَه ما وقع‪.‬‬
‫وأيضاً فإنه نبه بالتكفير قبل المسيس بالصوم مع تطاول زمنه‪ ،‬وشدة الحاجة إلى مسيس‬
‫الزوجة على أن اشتراط تقدمه فى الطعام الذى ل يطول زمنه أولى‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل ونهاراً‪ ،‬ول خلف بين‬
‫ومنها‪ :‬أنه سبحانه أمر بالصيام قبل المسيسِ‪ ،‬وذِلكَ َيعُ ّم المسيسَ لي ً‬
‫ن الصوم ليلً ونهاراً‪ ،‬وإنما اختلفُوا‪ ،‬هل يبطل التتابُع به؟ فيه‬
‫الئمة فى تحريم وطئها فى زم ِ‬
‫ل مالك‪ ،‬وأبى حنيفة‪ ،‬وأحمد فى ظاهر مذهبه‪ ،‬والثانى‪ :‬ل يبطل‪،‬‬
‫قولن‪ .‬أحدهما‪ :‬يبطل وهو قو ُ‬
‫ل الشافعى‪ ،‬وأحمد فى رواية أخرى عنه‪.‬‬
‫وهو قو ُ‬
‫والذين أبطلوا التتاب َع معهم ظاهرُ القرآن‪ ،‬فإنه سبحانه أمر بشهرين متتابعين قبل المسيسِ‪،‬‬
‫ولم يوجد‪ ،‬ولن ذلك يتضمّن النهى عن المسيس قبل إكمال الصيام وتحريمه‪ ،‬وهو يُوجب عدم‬
‫العتدادِ بالصوم‪ ،‬لنه عمل ليس عليه أمرُ رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيكون رداً‪.‬‬
‫وسر المسألة أنه سبحانه أوجب أمرين‪ ،‬أحدهما‪ :‬تتابع الشهرين والثانى‪ :‬وقوعُ صيامهما‬
‫قبل التماس‪ ،‬فل يكون قد أتى بما أمر به إل بمجموع المرين‪.‬‬
‫فصل‬
‫ومنها‪ :‬أنه سبحانه وتعالى أطلق إطعا َم المساكين ولم يُقيده بقدر‪ ،‬ول تتابع‪ ،‬وذلك يقتضى‬
‫ب أو تمر‪ ،‬جاز‪ ،‬وكان ممتثلً لمر ال‪ ،‬وهذا قولُ‬
‫أنه لو أطعمهم فغدّاهم وعشاهم مِن غير تمليك ح ّ‬
‫الجمهور ومالك‪ ،‬وأبى حنيفة‪ ،‬وأحمد فى إحدى الروايتين عنه‪ ،‬وسواء أطعمهم جملة أو متفرقين‪.‬‬
‫فصل‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل بُدّ من استيفاء عدد الستين‪ ،‬فلو أطعم واحداً ستين يومًا لم يجزه إلّ عن واحدٍ‪،‬‬
‫هذا قول الجمهور‪ :‬مالك‪ ،‬والشافعى‪ ،‬وأحمد فى إحدى الروايتين عنه‪ .‬والثانية‪ :‬أن الواجب إطعام‬
‫ستين مسكيناً‪ ،‬ولو لواح ٍد وهو مذهب أبى حنيفة‪ .‬والثالثة‪ :‬إن وجد غيرَه لم يجز‪ ،‬وإل أجزأه‪ ،‬وهو‬
‫ظاهرُ مذهبه‪ ،‬وهى أصح القوال‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫فصل‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل يجزئه دفعُ الكفارة إل إلى المساكين‪ ،‬ويدخُلُ فيهم الفقراء كما يدخل المساكينُ‬
‫ل من يأخذ من الزكاة لحاجته‪،‬‬
‫فى لفظ الفقراء عند الطلق‪ ،‬وعمم أصحابُنا وغيرهم الحكمَ فى ك ّ‬
‫ن السبيل‪ ،‬والغار ُم لمصلحته‪ ،‬والمكاتب‪ .‬وظاهر القرآن‬
‫وهم أربعة‪ :‬الفقراء‪ ،‬والمساكين‪ ،‬واب ُ‬
‫اختصاصُها بالمساكين‪ ،‬فل يتعدّاهم‪.‬‬
‫فصل‬
‫ق الرقبةَ هاهنا‪ ،‬ولم يُقيدها باليمان‪ ،‬وقيّدها فى كفارة القتل‬
‫ومنها‪ :‬أن ال سبحانه أطل َ‬
‫باليمان‪ ،‬فاختلف الفقهاء فى اشتراط اليمان فى غير كفارة القتل‪ ،‬على قولين‪ :‬فشرطه الشافعىّ‪،‬‬
‫ل الظاهر‪ ،‬والذين لم يشترطوا‬
‫ومالك‪ ،‬وأحمد فى ظهر مذهبه‪ ،‬ولم يشترطه أبو حنيفة‪ ،‬ول أه ُ‬
‫اليمان قالوا‪ :‬لو كان شرطًا لبيّنه ال سبحانه‪ ،‬كما بينه فى كفارة القتل‪ ،‬بل يُطلق ما أطلقه‪ ،‬ويُقيد ما‬
‫قيده‪ ،‬فيعمل بالمطلق والمقيد‪ .‬وزادت الحنفيّة أن اشتراط اليمان زيادة على النص‪ ،‬وهو نسخ‪،‬‬
‫والقرآن ل يُنسخ إل بالقرآن أو خبرٍ متواترٍ‪ ،‬قال الخرون‪ :‬واللفظ للشافعى‪ :‬شرط ال سبحانه فى‬
‫ط العدلَ فى الشهادة‪ ،‬وأطلق الشهو َد فى مواضع‪ ،‬فاستدللنا به على أن ما‬
‫رقبة القتل مؤمنة‪ ،‬كما شر َ‬
‫شرَطَ وإنما رد ال أموال المسلمين على المسلمين ل على‬
‫أطلقَ مِن الشهادات على مثل معنى ما َ‬
‫ض مِن الرقاب ل يجوزُ إل‬
‫المشركين وفرض ال الصدقاتِ‪ ،‬فلم تجز إل للمؤمنين‪ ،‬فكذلك ما فر َ‬
‫ل المطلق على المقيد إذا كان مِن جنسه‪،‬‬
‫لمؤمن‪ ،‬فاستدل الشافعىّ بأن لسان العرب يقتضى حم َ‬
‫أحدهما‪ :‬أن حمل المطلق على‬ ‫ف الشرع على مقتضى لسانهم‪ ،‬وهاهنا أمران‪.‬‬
‫ل عر َ‬
‫فحم َ‬
‫المقيد بيانٌ ل قياس‪ .‬الثانى‪ :‬أنه إنما يحمل عليه بشرطين‪ .‬أحدهما‪ :‬اتحاد الحكم‪ .‬والثانى‪ :‬أن ل‬
‫يكون للمطلق إل أصل واحد‪ .‬فإن كان بين أصلين مختلفين‪ ،‬لم يُحمل إطلقُه على أحدهما إل بدليل‬
‫يُعينه‪ .‬قال الشافعى‪ :‬ولو نذر رقبةً مطلق ًة لم يُجزه إل مؤمنة‪ ،‬وهذا بناء على هذا الصل‪ ،‬وأن النذر‬
‫ب العتق ل يتأدى إل بعتق المسلم‪ .‬ومما يدل على هذا‪ ،‬أن النبى‬
‫ل على واجب الشرع‪ ،‬وواج ُ‬
‫محمو ٌ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال لمن استفتى فى عتق رقبة منذورة‪ :‬ائتنى بها‪ ،‬فسألها أينَ الُّ؟ فقالت‪ :‬فى‬
‫السماء‪ ،‬فقال‪ :‬من أنا؟ قالت‪ :‬أنتَ رسولُ الِّ‪ ،‬فقال‪ :‬أعتقها فإنها مُؤمنة‪ .‬قال الشافعى‪ :‬فلما وصفت‬
‫اليمانَ‪ ،‬أمر بعتقها انتهى‪.‬‬
‫وهذا ظاهر جداً أن العِتقَ المأمورَ به شرعاً ل يُجزىء إل فى رقبة مؤمنة‪ ،‬وإل لم يكن‬
‫للتعليل باليمان فائدة‪ ،‬فإن العم متى كان عِلة للحكم كان الخصّ عديمَ التأثير‪ ،‬وأيضاً فإن‬

‫‪191‬‬
‫المقصود من إعتاق المسلم تفريغُه لعبادة ربه‪ ،‬وتخليصُه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق‪،‬‬
‫ول ريبَ أن هذا أمرٌ مقصودٌ للشارع محبوب له‪ ،‬فل يجو ُز إلغاؤُه‪ ،‬وكيف يستوى عند ال ورسوله‬
‫تفريغُ العبد لعبادته وحدَه‪ ،‬وتفريغُه لعبادة الصليب‪ ،‬أو الشمس والقمر والنار‪ ،‬وقد بيّن سبحانه‬
‫ط العدالة فى‬
‫اشتراط اليمان فى كفارة القتل‪ ،‬وأحال ما سكتَ عنه على بيانه‪ ،‬كما بيّن اشترا َ‬
‫الشاهدين‪ ،‬وأحال ما أطلقه‪ ،‬وسكت عنه على ما بينه‪ ،‬وكذلك غالبُ مطلقات كلمه سبحانه ومقيداته‬
‫لمن تأملها‪ ،‬وهى أكث ُر من أن تُذكر‪ ،‬فمنها‪ :‬قوله تعالى فيمن أمر بصدقة‪ ،‬أو معروف‪ ،‬أو إصلح‬
‫ف نُؤتِي ِه أَجْراَ عَظِيماً} [النساء‪ ]114 :‬وفى‬
‫س ْو َ‬
‫ك ا ْب ِتغَاءَ َم ْرضَاتِ الِّ فَ َ‬
‫ل ذِل َ‬
‫ن يَ ْفعَ ْ‬
‫بين الناس‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫موضع آخر‪ ،‬بل مواضع يُعلق الجر بنفس العمل اكتفاءً بالشرط المذكور فى موضعه‪ ،‬وكذلك قولُه‬
‫س ْعيِهِ} [النبياء‪ ،]94 :‬وفى موضع يُعلّق‬
‫ن لِ َ‬
‫ل كُ ْفرَا َ‬
‫ت وَ ُه َو ُم ْؤمِنٌ فَ َ‬
‫ن الصّالِحَا ِ‬
‫ل مِ َ‬
‫ن َي ْعمَ ْ‬
‫تعالى‪َ { :‬فمَ ْ‬
‫الحزاء بنفس العمال الصالحة اكتفاءً بما علم من شرط اليمان‪ ،‬وهذا غالب فى نصوص الوعد‬
‫والوعيد‪.‬‬
‫فصل‬
‫ومنها‪ :‬أنه لو أعتق نِصفي رقبتين لم يكن معتقاً لرقبة‪ ،‬وفى هذا ثلث ُة أقوال للناس‪ ،‬وهى‬
‫روايات عن أحمد‪ ،‬ثانيها الجزاء‪ ،‬وثالثها وهو أصحها‪ :‬أنه إن تكملت الحريةُ فى الرقبتين أجزأه‪،‬‬
‫وإل فل‪ ،‬فإنه َيصْدُقُ عليه أنه حرّر رقبة‪ ،‬أى‪ :‬جعلها حرة بخلف ما إذا لم تكمل الحرية‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل التكفير‪ ،‬ول تتضاعف‪ ،‬بل هى بحالها كفارةٌ واحدة‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الكفارة ل تسقُط بالوطء قب َ‬
‫ت بنُ دينار‪ :‬سألتُ عشرة‬
‫كما دل عليه حكمُ رسول ال صلى ال عليه وسلم الذى تقدم‪ ،‬قال الصل ُ‬
‫مِن الفقهاء عن المظاهر يُجامع قبل أن يُكفر‪ ،‬فقالوا‪ :‬كفارة واحدة‪ .‬قال‪ :‬وهم الحسنُ‪ ،‬وابنُ سيرين‪،‬‬
‫ومسروق‪ ،‬وبكر‪ ،‬وقتادة‪ ،‬وعطاء‪ ،‬وطاووس‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬وعكرمة‪ .‬قال‪ :‬والعاشر‪ :‬أراه نافعاً‪ ،‬وهذا‬
‫ل الئمة الربعة‪.‬‬
‫قو ُ‬
‫ح عن ابن عمر‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬أن عليه كفارتين‪ ،‬وذكر سعيد ابن منصور‪ ،‬عن‬
‫وص ّ‬
‫الحسن‪ ،‬وإبراهيم فى الذى يُظاهر‪ ،‬ثم يطؤها قبل أن يكفّر‪ :‬عليه ثلثُ كفارات‪ ،‬وذكر عن‬
‫الزهرى‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬وأبى يوسف‪ ،‬أن الكفارة تسقُطُ‪ ،‬ووجه هذا أنه فات وقتُها‪ ،‬ولم يبق له‬
‫سبيل إلى إخراجها قبل المسيس‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫ط الواجب فى الذمّة كالصلةِ والصيام وسائر‬
‫وجواب هذا‪ ،‬أن فوات وقت الداء ل يُسق ُ‬
‫العبادات‪ ،‬ووجهُ وجوب الكفارتين أن إحداهما للظهار الذى اقترن به العودُ‪ ،‬والثانية للوطء‬
‫المحرّم‪ ،‬كالوطء فى نهار رمضان‪ ،‬وكوطء المحرِمِ‪ ،‬ول يُعلم ليجاب الثلثِ وجه‪ ،‬إل أن يكونَ‬
‫عقوبة على إقدامه على الحرام‪ ،‬وحكم رسول ال صلى ال عليه وسلم يدلّ على خلف هذه‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫القوال‪ ،‬وا ّ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم فى الِيلء‬
‫حكْمُ رسولِ ا ِ‬
‫ُ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم من نسائه‪،‬‬
‫ثبت فى صحيح البخارى‪ :‬عن أنس قال‪ :‬آلى رسولُ ا ِ‬
‫ش ُربَةٍ له تِسعًا وعشرين ليلة‪ ،‬ثم نزل‪ ،‬فقالُوا‪ :‬يا رسَولَ ال‪ :‬آليتَ‬
‫وكانت انفكت رجلُه‪ ،‬فأقام فى مَ ْ‬
‫ن نِسَا ِئهِمْ‬
‫ن مِ ْ‬
‫ن ُي ْؤلُو َ‬
‫شرِينَ))‪ ،‬وقد قال سبحانه‪{ :‬للّذِي َ‬
‫ن تِسْعًا وعِ ْ‬
‫ش ْهرَ َيكُو ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫شهراً‪ ،‬فقال‪(( :‬إ ّ‬
‫علِيمٌ}‬
‫سمِيعٌ َ‬
‫ع َزمُوا الطّلَقَ َفإِنّ الَّ َ‬
‫ش ُهرٍ‪ ،‬فَإِنْ فَاءُوا َفإِنّ الَّ غَفُورٌ رَحِي ٌم * َوإِنْ َ‬
‫ص َأ ْر َبعَةِ أَ ْ‬
‫تَربّ ُ‬
‫[البقرة‪.]227-226 :‬‬
‫ن مِن وطء الزوجة‪،‬‬
‫ص فى عرف الشرع بالمتناعِ باليمي ِ‬
‫اليلء‪ :‬لغة‪ :‬المتناع باليمين‪ ،‬وخُ ّ‬
‫ولهذا عُدّى فعلُه بأداة ((من)) تضمينًا له‪ ،‬معنى ((يمتنعون)) من نسائهم‪ ،‬وهو أحسنُ من إقامةِ‬
‫علَى))‪ ،‬وجعل سبحانه للزواج مُ ّدةَ أربعة أشهر يمتنعونَ فيها مِن وطء نسائهم‬
‫((من)) مقام (( َ‬
‫ن عباس‪ ،‬أن اليلء‬
‫باليلء‪ ،‬فإذا مضت فإما أن يَفىء‪ ،‬وإما أن يُطلّق‪ ،‬وفد اشتهر عن على‪ ،‬واب ِ‬
‫إنما يكون فى حال الغضب دون الرضي‪ ،‬كما وقع لِرسول ال صلى ال عليه وسلم مع نسائه‪،‬‬
‫وظاه ُر القرآن مع الجمهور‪.‬‬
‫وقد تناظر فى هذه المسألة محمد بنُ سيرين‪ ،‬ورجل آخر‪ ،‬فاحتج على محمد بقول على‪،‬‬
‫فاحتج عليه محمد بالية‪ ،‬فسكت‪.‬‬
‫وقد دلت الية على أحكام‪.‬‬
‫ل من أربعة أشهر لم يكن مؤلياً‪ ،‬وهذا‬
‫منها‪ :‬هذا‪ .‬ومنها‪ :‬أن من حلف على ترك الوطء أق ّ‬
‫ل الجمهور‪ ،‬وفيه قول شاذ‪ ،‬أنه مؤل‪.‬‬
‫قو ُ‬
‫ف على أكثر من أربعة أشهر‪ ،‬فإن كانت مدة‬
‫حِل َ‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل يثبت له حكم اليلء حتى يَ ْ‬
‫المتناع أربعة أشهر‪ ،‬لم يثبت له حكمُ اليلء‪ ،‬لن ال جعل لهم مدةَ أربعة أشهر‪ ،‬وبعدَ انقضائها‬
‫ل الجمهور‪ ،‬منهم‪ ،‬أحمد‪ ،‬والشافعى‪ ،‬ومالك‪ ،‬وجعله أبو‬
‫إما أن يُطلّقوا‪ ،‬وإما أن يفيؤوا‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫ل لوقوع الطلق‬
‫حنيفة مؤلياً بأربعة أشهر سواء‪ ،‬وهذا بناء على أصله أن المدةَ المضروبة أج ٌ‬

‫‪193‬‬
‫بانقضائها‪ ،‬والجمهور يجعلون المدة أجلً لستحقاق المطالبة‪ ،‬وهذا موضع اختلف فيه السلفُ من‬
‫الصحابة رضى ال عنهم والتابعين ومَنْ بعدهم‪ ،‬فقال الشافعى‪ ،‬حدثنا سفيانَ‪ ،‬عن يحيى ابن سعيد‪،‬‬
‫ل مِن الصحابة‪ ،‬كلهم يُو ِقفُ المؤلى‪ .‬يعنى‪ :‬بعد‬
‫عن سليمانَ بن يسار‪ ،‬قال‪ :‬أدركتُ بضعة عشرَ رج ً‬
‫ل مِن أصحابِ‬
‫أربعةِ أشهر‪ .‬وروى سهيل بن أبى صالح‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬سألتُ اثنى عشر رج ً‬
‫ى أربعةُ أشهر‪ .‬وهذا‬
‫رسولِ ال صلى ال عليه وسلم عن المؤلى‪ ،‬فقالوا‪ :‬ليس عليه شىء حتى تمض َ‬
‫ل الجمهور مِن الصحابة والتابعين‪ ،‬ومن بعدهم‪.‬‬
‫قو ُ‬
‫وقال عبد ال بن مسعود‪ ،‬وزيدُ بن ثابت‪ :‬إذا مضت أربعة أشهر ولم يفىء فيها‪ ،‬طلقت منه‬
‫ق المطالبة‬
‫بمضيها‪ ،‬وهذا قولُ جماع ٍة من التابعين‪ ،‬وقولُ أبى حنيفة وأصحابه‪ ،‬فعند هؤلء يستحِ ّ‬
‫قبل مضى الربعة الشهر‪ ،‬فإن فاء وإل طلقت بمضيها‪ .‬وعند الجمهور‪ ،‬ل يستحق المطالبة حتى‬
‫تمضى الربعة الشهر‪ ،‬فحينئذ يقال‪ :‬إما أن تفىء‪ ،‬وإما أن تُطلق‪ ،‬وإن لم يفىء‪ ،‬أُخِذَ بإيقاع‬
‫الطلق‪ ،‬إما بالحاكم‪ ،‬وإما بحبسه حتى يطلّق‪.‬‬
‫قال الموقعون للطلق بمضى المدة‪ :‬آية اليلء تدل على ذلك من ثلثة أوجه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن عبدَ ال بن مسعود قرأ‪{:‬فَإنْ فَاءوا فَإنّ ال غَفُو ٌر رَحِيمٌ} [البقرة‪ ]226 :‬فإضافة‬
‫الفيئة إلى المدة تدل على استحقاق الفيئة فيها‪ ،‬وهذه القراءة إما أن تُجرى مجرى خبر الواحد‪،‬‬
‫فتوجب العمل‪ ،‬وإن لم تُوجب كونها مِن القرآن‪ ،‬وإما أن تكون قرآناً نسخ لفظه‪ ،‬وبقى حكمه ل‬
‫يجوز فيها غير هذا البتة‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أن ال سبحانه جعل مدة اليلء أربعة أشهر‪ ،‬فلو كانت الفيئةُ بعدها‪ ،‬لزادت على مدة‬
‫النص‪ ،‬وذلك غيرُ جائز‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه لو وطئها فى مدة اليلء‪ ،‬لوقعت الفيئةُ مو ِقعَها‪ ،‬فدل على استحقاق الفيئة فيها‪.‬‬
‫ص أربعة أشهر‪ ،‬ثم قال‪{ :‬فَإنْ فَاءوا فَإنّ الَ‬
‫قالوا‪ :‬ولن ال سبحانه وتعالى جعل لهم ترب َ‬
‫ع َزمُو الطّلَقَ} [البقرة‪]227-226 :‬وظاهر هذا أن هذا التقسيم فى المدة التى‬
‫غَفُورٌ رَحِي ٌم * وَإن َ‬
‫لهم فيها التربص‪ ،‬كما إذا قال لغريمه‪ :‬أصبر عليك بدينى أربعة أشهر‪ ،‬فإن وفيتنى وإل حبستك‪،‬‬
‫ول يُفهم من هذا إل أن وفّيتنى فى هذه المدة‪ ،‬ول يُفهم منه إن وفيتنى بعدها‪ ،‬وإل كانت مدة الصبر‬
‫ل مراتبها أن‬
‫أكثر من أربعة أشهر‪ ،‬وقراءة ابن مسعود صريحة فى تفسير الفيئة بأنها فى المدة‪ ،‬وأق ّ‬
‫ضرِبَ لوقوع‬
‫ل مضروب للفرقة‪ ،‬فتعقبه الفرقة كالعدة‪ ،‬وكلجل الذى ُ‬
‫تكون تفسيراً‪ .‬قالوا‪ :‬ولنه أج ٌ‬
‫الطلق‪ ،‬كقوله‪ :‬إذا مضت أربعة أشهر‪ ،‬فأنت طالق‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫قال الجمهور‪ :‬لنا مِن آية اليلء عشرة أدلة‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه أضاف مدة اليلء إلى الزواج‪ ،‬وجعلَها لهم‪ ،‬ولم يجعلها عليهم‪ ،‬فوجبَ أل‬
‫ب المطالبةَ فيها لم يكن عنده أجلً لهم‪ ،‬ول‬
‫ل الدّين‪ ،‬ومن أوج َ‬
‫يستحق المطالبة فيها‪ ،‬بل بعدَها‪ ،‬كأج ِ‬
‫يُعقل كونها أجلً لهم‪ ،‬ويستحق عليهم فيها المطالبة‪.‬‬
‫الدليل الثانى‪ :‬قوله‪{ :‬فَإنْ فَاءُوا فَإنّ الَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة‪ ،]226 :‬فذكر الفيئ َة بعد المدة‬
‫بفاء التعقيب‪ ،‬وهذا يقتضى أن يكونَ بع َد المدة‪ ،‬ونظيرُه قولُه سبحانه‪{ :‬الطّلَقُ َم ّرتَانِ فَإمْسَاكٌ‬
‫سرِيحٌ بِِإحْسَانٍ} [البقرة‪ ]229 :‬وهذا بعدَ الطلق قطعاً‪.‬‬
‫ف َأ ْو تَ ْ‬
‫ِب َم ْعرُو ٍ‬
‫فإن قيل‪ :‬فاء التعقيب تُوجب أن يكونَ بعد اليلء ل بع َد المدة؟ قيل‪ :‬قَد تقدّمَ فى الية ذكر‬
‫اليلء‪ ،‬ثم تله ذكر المدة‪ ،‬ثم أعقبها بذكر الفيئة‪ ،‬فإذا أوجبت الفا ُء التعقيبُ بعد ما تقدم ذكرُه‪ ،‬لم‬
‫يجز أن يعود إلى أبعدِ المذكورين‪ ،‬ووجب عودُها إليهما أو إلى أقربهما‪.‬‬
‫ع َزمُوا الطّلَقَ} [البقرة‪ ،]227 :‬وإنما العزم ما عزم العاز ُم على‬
‫الدليل الثالث‪ :‬قوله‪{ :‬وإِنْ َ‬
‫جلَهُ} [البقرة‪ ]235 :‬فإن قيل‪:‬‬
‫حتّى َي ْبلُ َغ ال ِكتَابُ أَ َ‬
‫ل َت ْع ِزمُوا عُقْ َدةَ ال ّنكَاحِ َ‬
‫فعله‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬وَ َ‬
‫فتركُ الفيئة عزم على الطلق؟ قيل‪ :‬العزمُ هو إرادة جازمة لفعل المعزوم عليه أو تركه‪ ،‬وأنتم‬
‫ى المدة وإن لم يكن منه عزم ل على وطء ول على تركه‪ ،‬بل لو عزم‬
‫تُوقعون الطلقَ بمجرد مض ّ‬
‫على الفيئة‪ ،‬ولم يُجامع طلقتم عليه بمضىّ المدة‪ ،‬ولم يعزم الطلق‪ ،‬فكيفما قدرتم‪ ،‬فاليةُ حجة‬
‫عليكم‪.‬‬
‫الدليل الرابع‪ :‬أن ال سبحانه خيّره فى الية بين أمرين‪ :‬الفيئ ِة أو الطلقِ‪ ،‬والتخييرُ بين‬
‫أمرين ل يكون إل فى حالة واحدة كالكفارات‪ ،‬ولو كان فى حالتين‪ ،‬لكانتا ترتيباً ل تخييراً‪ ،‬وإذا‬
‫تقرر هذا‪ ،‬فالفيئة عندكم فى نفس المدة‪ ،‬وعزمُ الطلق بانقضاء المدة‪ ،‬فلم يقع التخييرُ فى حالة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬هو مخيّر بين أن يفىء فى المدة‪ ،‬وبين أن يترك الفيئة‪ ،‬فيكون عازمًا للطلق‬
‫بمضى المدة‪.‬‬
‫قيل‪ :‬ترك الفيئة ل يكون عزمًا للطلق وإنما يكون عزمًا عندكم إذا انقضت المدة‪ ،‬فل يتأتّى التخييرُ‬
‫بين عزم الطلق وبين الفيئة البتة‪ ،‬فإنه بمضى المدة يقع الطلق عندكم‪ ،‬فل يُمكنه الفيئة‪ ،‬وفى‬
‫ت عزم الطلق الذى هو مضى المدة‪ ،‬وحينئذ فهذا دليل خامس‬
‫المدة يمكنه الفيئة‪ ،‬ولم يحضر وق ُ‬
‫مستقل‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫الدليل السادس‪ :‬أن التخيير بين أمرين يقتضى أن يكون فِعلُهما‪ ،‬إليه ليصح منه اختيارُ فعل‬
‫كل منهما وتركه‪ ،‬وإل لبطل حكمُ خياره‪ ،‬ومضى المدة ليس إليه‪.‬‬
‫علِيمٌ} [البقرة‪.]227 :‬‬
‫سمِيعٌ َ‬
‫ع َزمُوا الطّلَقَ َفإِنّ ال َ‬
‫الدليل السابع‪ :‬أنه سبحانه قال‪{:‬وإِنْ َ‬
‫ل يُسمع‪ ،‬ليحسن ختم الية بصفة السمع‪.‬‬
‫فاقتضى أن يكون الطلقُ قو ً‬
‫ت منك‪ ،‬وإن لم تُوفنى‬
‫ل أربعة أشهر‪ ،‬فإن وفيتنى قبل ُ‬
‫الدليل الثامن‪ :‬أنه لو قال لغريمه‪ :‬لك أج ُ‬
‫ب غي َر هذا‪.‬‬
‫حبستُك‪ ،‬كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة ل فيها‪ ،‬ول َيعْقِلُ المخاط ُ‬
‫فإن قيل‪ :‬ما نحن فيه نظيرُ قوله‪ :‬لك الخيار ثلثة أيام فإن فسخت البيع وإل لزمك‪ ،‬ومعلومٌ‬
‫ب العقد اللزومُ‪،‬‬
‫أن الفسخَ إنما يقع فى الثلث ل بعدها؟ قيل‪ :‬هذا من أقوى حُججنا عليكم فإن موج َ‬
‫فجعل له الخيار فى مدة ثلثة أيام‪ ،‬فإذا انقضت ولم يفسخ عاد العق ُد إلى حكمه وهو اللزومُ وهكذا‬
‫عَل ْيهِنّ‬
‫ل الّذِى َ‬
‫ن ِمثْ ُ‬
‫ق على الزوج فى الوطء كما له حقّ عليها‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬وَلهُ ّ‬
‫الزوجة لها ح ّ‬
‫ع أربعة أشهر ل حقّ لها فيهن‪ ،‬فإذا انقضت‬
‫بالم ْعرُوف} [البقرة‪ ]228 :‬فجعل له الشارعُ امتنا َ‬
‫ب العَقد‪ ،‬وهو المطالبة ل وقوع الطلق‪ ،‬وحينئذ فهذا دليل تاسع‬
‫المدةُ‪ ،‬عادت على حقّها بموج ِ‬
‫مستقل‪.‬‬
‫الدليل العاشر‪ :‬أنه سبحانه جعل للمؤلين شيئاً‪ ،‬وعليهم شيئين‪ ،‬فالذى لهم تربّصُ‬
‫المدة المذكورة‪ ،‬والذى عليهم إما الفيئةُ وإما الطلقُ‪ ،‬وعندكم ليس عليهم إل الفيئةُ فقط‪ ،‬وأما‬
‫الطلقُ‪ ،‬فليس عليهم‪ ،‬بل ول إليهم‪ ،‬وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة‪ ،‬فيُحكم بطلقها عقيب‬
‫انقضاء المدة شاء أو أبى‪ ،‬ومعلوم أن هذا ليس إلى المؤلى ول عليه‪ ،‬وهو خلفُ ظاهر النص‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولنها يمين بالّ تعالى توجب الكفارةَ‪ .‬فلم يقع بها الطلق كسائر اليمان‪ ،‬ولنها مدة قدرها‬
‫ح أن يقع به الطلق‬
‫الشرعُ‪ ،‬لم تتقدمها الفرقة‪ ،‬فل يقع بها بينونة‪ ،‬كأجل العنّين‪ ،‬ولنه لفظ ل َيصِ ّ‬
‫المعجّل‪ ،‬فلم يقع به المؤجّلُ كالظهار‪ ،‬ولن اليلء كان طلقًا فى الجاهلية‪ ،‬فنسخ كالظهار‪ ،‬فل‬
‫يجوز أن يقع به الطلق لنه استيفاءٌ للحكم المنسوخ‪ ،‬ولما كان عليه أهلُ الجاهلية‪.‬‬
‫ف بثلثة أشياء‪ :‬بالطّلق‪ ،‬والظّهار‪ ،‬واليلء‪ ،‬فنقل‬
‫قال الشافعى‪ :‬كانت ال ِفرَقُ الجاهلية تَحِل ُ‬
‫ال سبحانه وتعالى اليلء والظّهار عما كانا عليه فى الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما‬
‫استقّر عليه حكمُهما فى الشرع‪ ،‬وبقى حك ُم الطلق على ما كان عليه‪ ،‬هذا لفظه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولن الطلقَ إنما يقع بالصريح والكناية‪ ،‬وليس اليلء واحداً منهما‪ ،‬إذ لو كان‬
‫ل إن أطلقه‪ ،‬أو إلى أجل مسمّى إن قيّده‪ ،‬ولو كان كنايةٍ‪ ،‬لرجع فيه إلى نيته‪ ،‬ول‬
‫صريحاً‪ ،‬لوقع معجّ ً‬

‫‪196‬‬
‫ن الطلق‪ ،‬والفسخُ يقع بغير قول‪ ،‬والطلقُ ل يقع إل‬
‫خ دو َ‬
‫َيرِدُ على هذا اللعان‪ ،‬فإنه يُوجب الفس َ‬
‫بالقول‪.‬‬
‫ل على جواز الفيئة فى مدة التربّص‪ ،‬ل على‬
‫قالوا‪ :‬وأما قراء ُة ابن مسعود‪ ،‬فغايتُها أن تدُ ّ‬
‫ق المطالبة بها فى المدة‪ ،‬وهذا حقّ ل نن ِكرُه‪.‬‬
‫استحقا ِ‬
‫وأما قولُكم‪ :‬جوا ُز الفيئة فى المدة دليلٌ على استحقاقها فيها‪ ،‬فهو باطل بال ّديْنِ المؤجّلِ‪.‬‬
‫وأما قولُكم‪ :‬إنه لو كانت الفيئة بعد المدة‪ ،‬لزادت على أربعة أشهر‪ ،‬فليس بصحيح‪ ،‬لن‬
‫الربعة أشهر مدة لزمن الصبرِ الذي ل يستحِقّ فيه المطالبة‪ ،‬فبمجرد انقضائها يستحِقّ عليه الحقّ‪،‬‬
‫ظرَه‪ ،‬وهذا كسا ِئرِ الحقوق المعلّقة بآجال معدودة‪ ،‬إنما تُستحق‬
‫فلها أن تعجّل المطالبة به‪ .‬وإمّا أن ُتنْ ِ‬
‫عند انقضاء آجالها‪ ،‬ول يُقال‪ :‬إن ذلك يستلزِ ُم الزيادةَ على الجل‪ ،‬فكذا أجلُ اليلء سواء‪.‬‬
‫فصل‬
‫ى يمين حلف‪ ،‬فهو مؤلٍ حتى َي َبرّ‪ ،‬إما أن‬
‫ن صحّ منه اليلء بأ ّ‬
‫ل مَ ْ‬
‫ودلت الية على أن ك ّ‬
‫يفىءَ‪ ،‬وإما أن يُطلّقَ‪ ،‬فكان فى هذا حج ٌة لما ذهب إليه مَن يقول مِن السلف والخلفِ‪ :‬إن المؤلى‬
‫باليمين بالطلق‪ ،‬إما أن يفىء‪ ،‬وإما أن يطلّقَ‪.‬‬
‫ومن يُلزمه الطلق على كل حال لم يُمكنه إدخال هذه اليمين فى حكم اليلء‪ ،‬فإنه‬
‫إذا قال‪ :‬إن وطئتك إلى سنة‪ ،‬فأنت طالق ثلثاً‪ ،‬فإذا مضت أربعةُ أشهر ل يقولون له‪ :‬إما أن تطأ‪،‬‬
‫وإما أن تُطلّقَ‪ ،‬بل يقولون له‪ :‬إن وطئتها طلقت‪ ،‬وإن لم تطأها‪ ،‬طلقنا عليك‪ ،‬وأكثرُهم ل يُمكنه من‬
‫اليلج لوقوع النزع الذى هو جزء الوطء فى أجنبية‪ ،‬ول جواب عن هذا إل أن يقال‪ :‬بأنه غير‬
‫مؤل‪ ،‬وحينئذ فيقال‪ :‬فل تُوقفوه بعد مضى الربعة الشهر‪ ،‬وقولوا‪ :‬إن له أن يمتنع مِن وطئها‬
‫بيمينِ الطلق دائماً‪ ،‬فإن ضربتم له الجل‪ ،‬أثبتم له حكم اليلء مِن غير يمين‪ ،‬وإن جعلتموه مؤلياً‬
‫ولم تجيزوه‪ ،‬خالفتم حكم اليلء‪ ،‬وموجب النص‪ ،‬فهذا بعضُ حجج هؤلء على منازعيهم‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما حكمُ هذه المسألة‪ ،‬وهى إذا قال‪ :‬إن وطئتُك‪ ،‬فأنتِ طالق ثلثاً‪.‬‬
‫قيل‪ :‬اختلف الفقهاءُ فيها‪ ،‬هل يكون مؤلياً أم ل؟ على قولين‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد‪،‬‬
‫وقولن للشافعى فى الجديد‪ :‬بأنه يكون مؤلياً‪ ،‬وهو مذهب أبى حنيفة‪ ،‬ومالك‪ .‬وعلى القولين‪ :‬فهل‬
‫يُمكّنُ مِن اليلجِ؟ فيه وجهان لصحاب أحمد والشافعى‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه ل يُمكن منه‪ ،‬بل يحر ُم عليه‪ ،‬لنها باليلج تطلق عندهم ثلثاً‪ ،‬فيصيرُ ما بعد‬
‫اليلج محرماً‪ ،‬فيكون اليلج محرماً‪ ،‬وهذا كالصائم إذا تيقن أنه لم يبق إلى طلوع الفجر إل قدر‬

‫‪197‬‬
‫حرُمَ عليه اليلجُ‪ ،‬وإن كان فى زمن الباحة‪ ،‬لوجود الخراج فى زمن‬
‫إيلج الذكر دون إخراجه‪َ ،‬‬
‫الحظر‪ ،‬كذلك ها هنا يحرُم عليه اليلجُ‪ ،‬وإن كان قبل الطلق لوجود الخراج بعده‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنه ل يحرم عليه اليلج‪ ،‬قال الماوردى‪ :‬وهو قولُ سائر أصحابنا‪ ،‬لنها زوجته‪،‬‬
‫ول يحرم عليه الخراج‪ ،‬لنه ترك‪ .‬وإن طلقت باليلج‪ ،‬ويكون المحرمُ بهذا الوطء استدامة‬
‫اليلج ل البتداء والنزع‪ ،‬وهذا ظاهر نص الشافعى‪ ،‬فإنه قال‪ :‬لو طلع الفجرُ على الصائم وهو‬
‫مجامع وأخرجه مكانَه كان على صومه‪ ،‬فإن مكث بغير إخراجه‪ ،‬أفطر‪ ،‬ويك ّفرُ‪ .‬وقال فى كتاب‬
‫اليلء‪ :‬ولو قال‪ :‬إن وطئتُك‪ ،‬فأنتِ طالق ثلثاً‪ ،‬وقف‪ ،‬فإن فاء‪ ،‬فإذا غيّب الحشفة‪ ،‬طلقت منه ثلثاً‪،‬‬
‫فإن أخرجه ثم أدخله‪ ،‬فعليه مهرُ مثلها‪ .‬قال هؤلء‪ :‬ويدل على الجواز أن رجلً لو قال لرجل‪ :‬ادخل‬
‫دارى‪ ،‬ول تقم‪ ،‬استباح الدخول لوجوده عن إذن‪ ،‬ووجب عليه الخروجُ لمنعه من المقام‪ ،‬ويكون‬
‫ح أن‬
‫الخروجُ وإن كان فى زمن الحظر مباحاً‪ ،‬لنه تركٌ‪ ،‬كذلك هذا المؤلى يستبيحُ أن يولج‪ ،‬ويستبي ُ‬
‫ينزع‪ ،‬ويحرم عليه استدامةُ اليلج‪ ،‬والخلف فى اليلج قبل الفجر والنزع بعده للصائم‪،‬‬
‫كالخلف فى المؤلى‪ ،‬وقيل‪ :‬يحرم على الصائم اليلج قبل الفجر‪ ،‬ول يحرم على المؤلى‪ ،‬والفرق‬
‫أن التحريم قد يطرأ على الصائم بغير اليلج‪ ،‬فجاز أن يحرُ َم عليه اليلج‪ ،‬والمؤلى ل يطرأ عليه‬
‫التحريم بغير اليلج‪ ،‬فافترقا‪.‬‬
‫وقالت طائفة ثالثة‪ :‬ل يحرُ ٌمُ عليه الوطءُ‪ ،‬ول تطلُق عليه الزوجةُ‪ ،‬بل يُوقف‪ ،‬ويقال له‪ :‬ما‬
‫أمر ال إما أن تفىء‪ ،‬وإما أن تُطلق‪ .‬قالوا‪ :‬وكيف يكون مؤلياً ول يُمكن من الفيئة‪ ،‬بل يلزم‬
‫بالطلق‪ ،‬وإن مكن منها‪ ،‬وقع به الطلق‪ ،‬فالطلق واقع به على التقديرين مع كونه مؤلياً؟ فهذا‬
‫خلفُ ظاه ِر القرآن‪ ،‬بل يقال لهذا‪ :‬إن فاء لم يقع به الطلقُ‪ ،‬وإن لم يفىء‪ ،‬أُلزِمَ بالطلق‪ .،‬وهذا‬
‫ل أهل الظاهر‪،‬‬
‫مذهبُ من يرى اليمينَ بالطلق ل يُوجب طلقاً‪ ،‬وإنما يُجزئه بكفارة يمين‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫وطاووس‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬وجماعة من أهل الحديث؟ واختيار شيخ السلم ابن تيمية قدس ال روحه‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم فى اللعان‬
‫حُكم رسو ِ‬
‫شهَا َد ُة أَحَدِهِ ْم َأ ْربَعُ‬
‫سهُمْ فَ َ‬
‫ل َأنْفُ ُ‬
‫شهَدَاءُ إ ّ‬
‫ن َلهُمْ ُ‬
‫جهُ ْم ولَمْ َيكُ ْ‬
‫ن َي ْرمُونَ َأزْوا َ‬
‫قال تعالى‪{:‬والّذِي َ‬
‫ع ْنهَا‬
‫ن الكَاذِبينَ * ويَ ْد َر ُؤاْ َ‬
‫ن مِ َ‬
‫ن كَا َ‬
‫عَليْهِ إِ ْ‬
‫ن َل ْعنَةَ الِّ َ‬
‫ن الصّادِقِينَ * والخَامِسَ ُة أَ ّ‬
‫ل ِإنّ ُه َلمِ َ‬
‫شهَادَاتٍ با ِ‬
‫َ‬
‫ن مِنَ‬
‫ن كَا َ‬
‫عَل ْيهَا إِ ْ‬
‫ضبَ الِ َ‬
‫غ َ‬
‫ن الكَا ِذبِينَ * وَالخَامِس َة أَنّ َ‬
‫لّ ِإنّهُ َلمِ َ‬
‫ت بِا ِ‬
‫شهَادَا ٍ‬
‫شهَ َد َأ ْربَعَ َ‬
‫ن تَ ْ‬
‫ب أَ ْ‬
‫العَذَا َ‬
‫الصّادِقِينَ} [النور‪.]9-6 :‬‬

‫‪198‬‬
‫ع َو ْيمِرًا العجلنىّ قال ِلعَاصم بن‬
‫وثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث سهل بن سعد‪ ،‬أن ُ‬
‫ل أَيق ُتلُه فتق ُتلُونه‪ ،‬أم كيف يفعلُ؟ فسل لى رَسولَ الِّ‬
‫ل وَجَ َد مَ َع امرأتِهِ رج ً‬
‫عدى‪ :‬أَرأَيتَ لو أن رج ً‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكره رسولُ ا ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فسألَ رسو َ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم إن عويمراً‬
‫سمِعَ مِنْ رسولِ ا ِ‬
‫ل وعَابَها‪ ،‬حتى َك ْبرَ على عاصمٍ مَا َ‬
‫المَسَائِ َ‬
‫ح َب ِتكَ‪ ،‬فاذْ َهبْ‪َ ،‬ف ْأتِ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم عن ذلك‪ ،‬فقال‪(( :‬قَ ْد َنزَلَ فيكَ وفى صا ِ‬
‫سأل رسولَ ا ِ‬
‫لّ إن‬
‫عَل ْيهَا يا رسولَ ا ِ‬
‫عنْ َد رَسُولِ الِّ صلى ال عليه وسلم‪َ ،‬فَلمّا َفرَغَا قال‪ :‬كذبتُ َ‬
‫عنَا ِ‬
‫ِبهَا‪َ ،‬فتَلَ َ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪ .‬قال الزهرىّ‪ :‬فكانت ِت ْلكَ سنةَ‬
‫ل أَن يأ ُم َرهُ رسولُ ا ِ‬
‫أمسكتُها‪ ،‬فطلّقها ثلثاً َقبْ َ‬
‫سبُ إلى أمه‪ ،‬ثم جرت السّن ُة أَن َي ِرثَها و َت ِرثَ‬
‫عنْينِ‪ .‬قال سهل‪ :‬وكانت حَامِلً‪ ،‬وكان اب ُنهَا ُينْ َ‬
‫بالمتل ِ‬
‫ِمنْهُ ما َفرَضَ الُّ لها‪.‬‬
‫ى صلى ال‬
‫وفى لفظ‪ :‬فتلعنا فى المسجد‪ ،‬ففارقها عن َد النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال النب ّ‬
‫عنَيْن))‪.‬‬
‫ل ُمتَل ِ‬
‫ن كُ ّ‬
‫ق َبيْ َ‬
‫عليه وسلم‪(( :‬ذاكُم التّ ْفرِي ُ‬
‫ل إلى آخره‪ ،‬هو عند البخارى مِن قول الزهرى‪ ،‬وللبخارى‪ :‬ثم قالَ‬
‫وقولُ سهل‪ :‬وكانت حام ً‬
‫ج ال َع ْي َنيْنِ عَظي َم ال ْل َيتَيْن‪ ،‬خَ َدلّج‬
‫ت بِه أَسْحَ َم أَدْعَ َ‬
‫ظرُوا فَإنْ جَاء ْ‬
‫رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬انْ ُ‬
‫ع َو ْيمِراً‬
‫سبُ ُ‬
‫ل أَحْ ِ‬
‫ح َرةٌ فَ َ‬
‫ح ْي ِم َر كََأنّهُ و ْ‬
‫ت ب ِه أُ َ‬
‫عَل ْيهَا‪ ،‬وإِنْ جَاء ْ‬
‫ع َو ْيمِراً إلّ قَ ْد صَدَقَ َ‬
‫سبُ ُ‬
‫ل أَحْ ِ‬
‫السّا َقيْنِ فَ َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم من‬
‫ت الذى نعتَ به رسو ُ‬
‫عَل ْيهَا))‪ ،‬فجاءت به على ال ّنعْ ِ‬
‫إلّ قَ ْد كَ َذبَ َ‬
‫تصديق عويمر‪.‬‬
‫وفى لفظ‪ :‬وكانت حَامِلً‪ ،‬فأنكر حملَها‪.‬‬
‫ن بنَ فلن‪ ،‬قال‪ :‬يا رسولَ الِّ‪ ،‬أرأيتَ لو‬
‫وفى صحيح مسلم‪ :‬من حديث ابن عمر‪ ،‬أن فل َ‬
‫ت على ِمثْل‬
‫س َك َ‬
‫وجد أحدُنا امرأتَه على فاحِشةٍ‪ ،‬كيف يصنعُ‪ ،‬إن تكلم‪ ،‬تكلّم بأمر عظيم‪ ،‬وإن سكت‪َ ،‬‬
‫جبْهُ‪ ،‬فلما كان بعدَ ذلك‪ ،‬أتاه فقال‪(( :‬إنّ الّذِى سََأ ْل ُتكَ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلم ُي ِ‬
‫ذِلكَ؟ فسكت النب ّ‬
‫جهُمْ}‬
‫ن َي ْرمُونَ َأزْوا َ‬
‫عزّ وجَلّ هؤلءِ اليات فى سُو َر ِة النّورِ‪{:‬والّذِي َ‬
‫ت بِهِ))‪ ،‬فأنزلَ الُّ َ‬
‫عنْهُ قَ ِد اب ُتلِي ُ‬
‫َ‬
‫ب الدنيا أهونُ مِن عذابِ الخرة‪ ،‬قال‪ :‬ل‬
‫[النور‪ ،]6 :‬فتلهن عليه ووعظَه‪ ،‬وذكّره وأخبره أن عذا َ‬
‫ن مِن‬
‫ظهَا‪ ،‬وذكرها‪ ،‬وأخبرها أن عذابَ الدنيا أهو ُ‬
‫والّذِى َب َعثَك بِالحَقّ ما كذبتُ عليها‪ ،‬ثم دعاها فوع َ‬
‫لّ إنه‬
‫ت با ِ‬
‫عذابِ الخرة‪ ،‬قالَت‪ :‬ل والّذِى َب َع َثكَ بالحَقّ إنه لكا ِذبٌ‪ ،‬فبدأ بالرّجُلِ فَشَه َد أربعَ شهادَا ٍ‬
‫ت أربعَ‬
‫شهِ َد ْ‬
‫لمن الصادقين‪ ،‬والخامسة أنّ لعنةَ الِّ عليه إن كان مِن الكَا ِذبِينَ‪ ،‬ثم ثنّى بالمرأةِ‪ ،‬ف َ‬

‫‪199‬‬
‫غضَبَ الِّ عليها إن كان من الصّادِقينَ‪ ،‬ثم فرّق‬
‫لّ إنّه لمن الكاذبينَ‪ ،‬والخا مسة أنّ َ‬
‫شهادَاتٍ با ِ‬
‫بين ُهمَا‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم للمتُلعنين‪(( :‬حِسَا ُبكُما‬
‫وفى ((الصحيحين)) عنه‪ ،‬قال رسولُ ا ِ‬ ‫@‬
‫ن ُك ْنتَ‬
‫ل َلكَ‪ ،‬إِ ْ‬
‫ل مَا َ‬
‫عَل ْيهَا))‪ ،‬قال‪ :‬يا رسولَ الِّ‪ ،‬مالى؟ قال‪َ :‬‬
‫ل َلكَ َ‬
‫سبِي َ‬
‫لّ َأحَ ُد ُكمَا كَا ِذبٌ‪ ،‬ل َ‬
‫عَلى ا ِ‬
‫ك ِم ْنهَا))‪.‬‬
‫عَل ْيهَا‪َ ،‬ف ُهوَ َأ ْبعَ ُد َل َ‬
‫ت كَ َذ ْبتَ َ‬
‫جهَا‪َ ،‬وإِنْ ُك ْن َ‬
‫ت مِن َفرْ ِ‬
‫حَل ْل َ‬
‫ستَ ْ‬
‫عَل ْيهَا‪َ ،‬ف ُه َو ِبمَا ا ْ‬
‫صَدَ ْقتَ َ‬
‫لّ إِن أَحَ َد ُكمَا‬
‫ع َنيْنِ‪ ،‬وقال‪ :‬وا ِ‬
‫ن ال ُمتَل ِ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم َبيْ َ‬
‫وفى لفظ لهما‪ :‬فرّق رسولُ ا ِ‬
‫ل ِم ْن ُكمَا تا ِئبٌ))؟‪.‬‬
‫كَا ِذبٌ‪َ ،‬فهَ ْ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ففرّقَ رسولُ الِّ‬
‫عهْ ِد رَسُولِ ا ِ‬
‫علَى َ‬
‫وفيهما عنه‪ :‬أن رجلً لعَنَ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم َب ْي َن ُهمَا‪ ،‬وألحق الولد بأمّه‪.‬‬
‫وفى صحيح مسلم‪ :‬من حديث ابن مسعود رضى ال عنه فى قِص ِة المتلعنين‪ ،‬فشهد الرجلُ‬
‫ن الكَاذِبينَ‪،‬‬
‫ن مِ َ‬
‫لّ عليه إن كا َ‬
‫ن لعنةَ ا ِ‬
‫ل إنّ ُه َلمِنَ الصادقين‪ ،‬ثم لعن الخامس َة أ ّ‬
‫أربعَ شهادات با ّ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَهْ)) فََأ َبتْ‪َ ،‬فَل َع َنتْ‪ ،‬فلما أدبرا‪ ،‬قال‪َ :‬ل َعّلهَا‬
‫ت لتلعنَ‪ ،‬فقال لها رسولُ ا ِ‬
‫فذهب ْ‬
‫جعْداً‪.‬‬
‫سوَدَ َ‬
‫ت بهِ أ ْ‬
‫جعْ َداً))‪ ،‬فجاء ْ‬
‫سوَدَ َ‬
‫أَنْ َتجِىءَ ب ِه أَ ْ‬
‫شرِيك بْنِ‬
‫ل بن أمية قذف امرأته بِ َ‬
‫وفى ((صحيح مسلم)) من حديث أنس بن مالك‪ ،‬أن هِل َ‬
‫ى صلى ال‬
‫حمَاء‪ ،‬وكان أخا البرَا ِء بنِ مالك لمّه‪ ،‬وكان أوّلَ رجلٍ لعن فى السلم‪ ،‬فقال النب ّ‬
‫سَ ْ‬
‫ت بِ ِه َأ ْبيَضَ سَبطًا قضى َء ال َعيْ َنيْنِ‪َ ،‬ف ُه َو لهلل بْن ُأ َميّة‪ ،‬وَإنْ جَاءتْ‬
‫صرُوهَا فإنْ جَاء ْ‬
‫عليه وسلم‪َ(( :‬أ ْب ِ‬
‫ت أَنها جاءت به أكحلَ جعداً‬
‫حمَاء‪ ،‬قال‪ :‬فأُنبئ ُ‬
‫سْ‬‫ك ابن َ‬
‫شرِي ِ‬
‫ح ْمشَ السّا َقيْنِ‪َ ،‬ف ُه َو لِ َ‬
‫جعْداً َ‬
‫بِ ِه َأكْحَلَ َ‬
‫حمْش السّاقين‪.‬‬
‫َ‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث ابن عباس نحوُ هذه القصة‪ ،‬فقال له‪ ،‬رجل‪ :‬أهى المرأةُ‬
‫ج ْمتُ ه ِذهِ))‪ ،‬فقال ابنُ‬
‫ت أَحَدًا ِب َغ ْيرِ َب ّينَ ٍة َلرَ َ‬
‫ج ْم ُ‬
‫التى قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪َ(( :‬لوْ رَ َ‬
‫ظ ِهرُ فى السْل ِم السّوءَ‪.‬‬
‫عباس‪ :‬ل‪ِ ،‬ت ْلكَ امرأَة كانت تُ ْ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم َب ْي َنهُما‬
‫ولبى داود فى هذا الحديث عن ابن عباس‪ :‬ففرّق رسولُ ا ِ‬
‫وقضى أن ل يُدعى ولدُها لب‪ ،‬ول تُرمى‪ ،‬ول يُرمى ولدُها ومَنْ رماها‪ ،‬أو رمى ولدها‪ ،‬فعليه‬
‫ل َب ْيتَ لها عليه‪ ،‬ول قوت من أجل أنهما يتفرّقان مِن غير طلق‪ ،‬ول متوفى عنها‪.‬‬
‫الحدّ‪ ،‬وقضَى أ ّ‬
‫وفى القصة قال عكرمة‪ :‬فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يُدعى لب‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم بشريكِ‬
‫ل بن أمية قذف امرأتهُ عند رسولِ ا ِ‬
‫وذكر البخارى‪ :‬أن هل َ‬
‫ظ ْه ِركَ))‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسولَ الِّ‪ :‬إذا‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ال َبيّنَ ُة َأوْ حَدّ فى َ‬
‫حمَاء‪ ،‬فقال النب ّ‬
‫بن سَ ْ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫ق يلت ِمسُ البينة؟ فجعل رسو ُ‬
‫ل ينطلِ ُ‬
‫رأى أحدُنا على امرأتِه رج ً‬
‫ظ ْهرِى‬
‫ظ ْه ِركَ))‪ ،‬فقال‪ :‬والذى بعثك بالحق إنى لصَادِق‪ ،‬ول ُي ْن ِزلَنّ الُّ ما يُبرّىءُ َ‬
‫((ال َب ّينَ ُة وإلّ حَدّ فى َ‬
‫جهُم الية} [النور‪،]6 :‬‬
‫ن َأ ْزوَا َ‬
‫ل عليه السلم‪ ،‬وأنزل عليه‪{:‬والّذِينَ َي ْرمُو َ‬
‫مِن الحَدّ‪ ،‬فنزلَ جبري ُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم إليها‪ ،‬فجاء هِلل‪ ،‬فشهِ َد والنبىّ صلى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫فانصرفَ النب ّ‬
‫شهِدَت‪ ،‬فلما كانت عند الخامِسة وقّفُوهَا‪،‬‬
‫ل ِم ْن ُكمَا تَائبٌ))؟ فَ َ‬
‫لّ َي ْعلَ ُم أَنّ أَحَ َد ُكمَا كَا ِذبٌ َفهَ ْ‬
‫((إنّ ا َ‬
‫صتْ حتّى ظَننّا أنها َترْجعُ‪ ،‬ثم‬
‫جبَة‪ ،‬قال ابنُ عباس رضى ال عنهما‪ :‬فتلكّأَت و َن َك َ‬
‫وقالوا‪ :‬إنها مُو ِ‬
‫صرُوهَا فَإنْ‬
‫ضتْ‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪َ(( :‬أ ْب ِ‬
‫قالت‪ :‬ل أَفْضحُ َق ْومِى سَا ِئ َر اليومِ‪َ ،‬ف َم َ‬
‫حمَاء‪ ،‬فجاءت به كذلكَ‪،‬‬
‫شرِيكِ بن سَ ْ‬
‫ل ْل َي َتيْنِ‪ ،‬خَ َدلّج السّا َقيْن‪َ ،‬ف ُهوَ لَ َ‬
‫ل ال َع ْي َنيْنِ‪ ،‬سَابغَ ا َ‬
‫ت بِ ِه َأكْحَ َ‬
‫جَاء ْ‬
‫ن ِكتَابِ ال كَانَ لى َوَلهَا شَأْنٌ))‪.‬‬
‫ل مَا َمضَى مِ ْ‬
‫فقال النبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لَوْ َ‬
‫ل يَجِ ُد مع امرأتِهِ‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬أن سع َد بنَ عُبادة‪ ،‬قال‪ :‬يا رسولَ الِّ‪ ،‬أرأيتَ الرّجُ َ‬
‫سعْدٌ‪ :‬بلَى والّذِى بعثك بالحقّ‪ ،‬فقال‬
‫ل أيقتلُه؟ فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل))‪ ،‬فقال َ‬
‫رج ً‬
‫خرَ‪ :‬يا رسولَ الِّ‪ ،‬إن‬
‫سيّ ُدكُم))‪ :‬وفى لفظٍ آ َ‬
‫س َمعُوا إلى مَا يَقُولُ َ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ا ْ‬
‫رسولُ ا ِ‬
‫ت مع‬
‫ل ُأ ْم ِهلُه حتى آتىَ بأربعة شهداء؟ قال‪(( :‬نعم))‪ .‬وفى لفظ آخر‪ :‬لو وجَ ْد ُ‬
‫ت مع امرأتى رج ً‬
‫وجد ُ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬نعم))‪ ،‬قال‪:‬‬
‫شهَدَاءَ؟ قال رسولُ ا ِ‬
‫حتّى آتىَ بَأ ْر َبعَةِ ُ‬
‫أَهْلى رجلً لم أهجْهُ َ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ل ذِلكَ‪ ،‬قالَ رسولُ ا ِ‬
‫س ْيفِ َقبْ ِ‬
‫ق نَبيّا إِنْ ُك ْنتُ لُعاجلُهُ بال ّ‬
‫ل والّذِى َب َع َثكَ بالحَ ّ‬
‫كّ‬
‫غ َي ُر ِمنّى))‪.‬‬
‫لّ أَ ْ‬
‫غ َيرُ ِمنْهُ‪ ،‬وا ُ‬
‫سيّ ُدكُم ِإنّه َل َغيُو ٌر وَأنَا أ ْ‬
‫سمَعوا إلى ما يقُولُ َ‬
‫((ا ْ‬
‫غ ْي َر ُمصْفَحٍ‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال‬
‫س ْيفِ َ‬
‫وفى لَفْظٍ‪(( :‬لو رأيتُ مَ َع امرأتى رجلً لضربتُه بال ّ‬
‫حرّمَ‬
‫ل ذِلكَ َ‬
‫ن أَجْ ِ‬
‫غ َيرُ ِمنّى‪ ،‬ومِ ْ‬
‫لّ أَ ْ‬
‫غ َيرُ ِمنْهُ‪ ،‬وا ُ‬
‫لنَا أَ ْ‬
‫سعْدٍ‪َ ،‬فوَالِّ َ‬
‫غ ْي َرةِ َ‬
‫جبُونَ مِنْ َ‬
‫عليه وسلم‪َ :‬أ َتعْ َ‬
‫ب ِإَليْهِ العُ ْذ ُر مِنَ الِّ‪،‬‬
‫ح ّ‬
‫ص أَ َ‬
‫خ َ‬
‫غ َيرُ مِنَ الّ‪ ،‬ول شَ ْ‬
‫ص أَ ٌ‬
‫شخْ َ‬
‫ظ َه َر ِم ْنهَا ومَا بَطَنَ‪ ،‬ول َ‬
‫ش مَا َ‬
‫ال َفوَاحِ َ‬
‫ن أَجْلِ‬
‫حبّ إَليْ ِه المِدْحَ ُة مِنَ الِّ‪ ،‬مِ ْ‬
‫ن و ُمنْ َذرِينَ‪ ،‬ول شخص أ َ‬
‫شرِي َ‬
‫سلِينَ ُمبَ ّ‬
‫لّ ال ُمرْ َ‬
‫ل ذِلكَ َب َعثَ ا ُ‬
‫مِنْ َأجْ ِ‬
‫جنّةَ))‪.‬‬
‫ذِلكَ وَعَدَ الُّ ال َ‬
‫فصل‬
‫المستفاد من حديث سعد بن عبادة‬
‫واستُفيدَ من هذا الحكم النبوىّ ع َدةُ أحكام‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫ن َيصِحّ من كل زوجين سواءً كانا مسلمين أو كافريْنِ‪ ،‬عدلين فاسقْينِ‬
‫الحكم الول‪ :‬أن اللعا َ‬
‫محدودين فى قذف‪ ،‬أو غير محدودين‪ ،‬أو أحدهما كذلك‪ ،‬قال المام أحمد فى رواية إسحاق بن‬
‫منصور‪ :‬جميعُ الزواج يلت ِعنُونَ‪ ،‬الحُر من الحرة والمة إذا كانت زوجة‪ ،‬والعبد من الحرة والمة‬
‫إذا كانت زوجة‪ ،‬والمسلم من اليهودية والنصرانية‪ ،‬وهذا قول مالك وإسحاق وقولُ سعيد بن‬
‫المسيب‪ ،‬والحسن‪ ،‬وربيعة‪ ،‬وسليمان بن يسار‪.‬‬
‫ل الرأى‪ ،‬والوزاعى‪ ،‬والثورى‪ ،‬وجماعة إلى أن اللّعان ل يكون إل بينَ‬
‫وذهب أه ُ‬
‫زوجينِ مسلمين عدلين حرين غير محدودين فى قذف‪ ،‬وهو روايةٌ عن أحمد‪.‬‬
‫ومأخذ القولين‪ :‬أن اللعان يجمع وصفين‪ ،‬اليمينَ والشهادةَ‪ ،‬وقد سماه ال سبحانه شهادةً‪،‬‬
‫ل اليمَانُ‪َ ،‬لكَانَ لى َوَلهَا شَأْنٌ))‪ ،‬فمن‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم يمينًا حيث يقول‪َ(( :‬لوْ َ‬
‫وسماه رسولُ ا ِ‬
‫ح مِن كل من يصح يمينه‪ :‬قالوا‪ :‬ولعموم قوله تعالى‪{ :‬وَالّذِينَ‬
‫غلّب عليه حُكم اليمان قال‪َ :‬يصِ ّ‬
‫جهُمْ } [النور‪ ]6 :‬قالوا‪ :‬وقد سمّاه رسول ال صلى ال عليه وسلم يميناً‪ .‬قالوا‪ :‬ولنه‬
‫َي ْرمُونَ َأزْوا َ‬
‫مفتقِر إلى اسم ال‪ ،‬وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه‪ .‬قالوا‪ :‬ولنه يستوى فيه الذكرُ والنثى‪ ،‬بخلف‬
‫الشهادة‪ .‬قالوا‪ :‬ولو كان شهادة‪ ،‬لما تكرّر لفظُه‪ ،‬بخلف اليمين‪ ،‬فإنه قد يشرع فيها التكرار‪ ،‬كأيمان‬
‫ح منه الشهادة إلى اللعان ونفى الولد‪ ،‬كحاجة من‬
‫القسامة‪ .‬قالوا‪ :‬ولن حاجة الزوج التى ل َتصِ ّ‬
‫تصِحّ شهادته سواء‪ ،‬والمر الذى ينزل به مما يدعو إلى اللعان‪ ،‬كالذى ينزلُ بالعدل الحر‪،‬‬
‫والشريعة ل ترفع ضررَ أح ِد النوعين‪ ،‬وتجعلُ له فرجاً ومخرجاً مما نزل به‪ ،‬وتدعُ النوع الخر‬
‫فى الصار والغلل‪ ،‬ل فرج له مما نزل به‪ ،‬ول مخزج‪ ،‬بل يستغيثُ فل يُغاث‪ ،‬ويستجيرُ فل‬
‫يُجار‪ ،‬إن تكلّمَ تكلّم بأمر عظيم‪ ،‬وإن سكت سكت على مثله‪ ،‬قد ضاقت عنه الرحم ُة التى وسعت من‬
‫َتصِحّ شهادته‪ ،‬وهذا تأباه الشريعةُ الواسعة الحنيفية السمحةُ‪.‬‬
‫سهُم‬
‫ل َأنْفُ ُ‬
‫شهَدَا ُء إِ ّ‬
‫ن َلهُمْ ُ‬
‫جهُمْ َولَ ْم َيكُ ْ‬
‫ن َي ْرمُونَ َأ ْزوَا َ‬
‫قال الخرون‪ :‬قال ال تعالى‪{ :‬وَالّذِي َ‬
‫شهَادَاتٍ بِالِّ} [النور‪ ،]6 :‬وفى الية دليل من ثلثة أوجه‪.‬‬
‫شهَا َد ُة أَحَدِه ْم َأ ْربَعُ َ‬
‫فَ َ‬
‫أحدها‪ :‬أنه سبحانه استثنى أنفسَهم مِن الشهادة‪ ،‬وهذا استثنا ُء م ّتصِلٌ قطعاً‪ ،‬ولهذا جاء‬
‫مرفوعاً‪.‬‬
‫ب أَنْ‬
‫ع ْنهَا العَذَا َ‬
‫والثانى‪ :‬أنه صرح بأن التعانَهم شهادة‪ ،‬ثم زاد سبحانه هذا بياناً‪ ،‬فقال‪َ { :‬ويَ ْد َر ُؤاْ َ‬
‫ن الكَاذِبينَ} [النور‪.]8 :‬‬
‫ل ِإنّهُ َلمِ َ‬
‫ت بِا ِ‬
‫شهَادَا ٍ‬
‫شهَ َد َأ ْربَعَ َ‬
‫تَ ْ‬
‫والثالث‪ :‬أنه جعله بدلً من الشهود‪ ،‬وقائماً مقامَهم عند عدمهم‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬وقد روى عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬أن النب ّ‬
‫ل كَا ِف َريْنِ))‪ ،‬ذكره أبو عمر بن عبد البر فى ((التمهيد))‪.‬‬
‫ن وَ َ‬
‫ن َم ْملُو َكيْ ِ‬
‫ن َبيْ َ‬
‫((لَ ِلعَا َ‬
‫س َب ْي َنهُمْ ِلعَانٌ‪:‬‬
‫وذكر الدارقطنى من حديثه أيضاً‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده مرفوعاً‪َ(( :‬أ ْر َبعَةٌ َل ْي َ‬
‫سلِم وَال َيهُو ِديّ ِة ِلعَانٌ‪َ ،‬وَليْسَ‬
‫س َبيْنَ المُ ْ‬
‫ح ّرةِ وال َعبْ ِد ِلعَانٌ‪ ،‬وَل ْي َ‬
‫حرّ والم ِة ِلعَانٌ‪َ ،‬وَل ْيسَ َبيْنَ ال ُ‬
‫َل ْيسَ َبيْنَ ال ُ‬
‫صرَا ِنيّةِ ِلعَانٌ))‪.‬‬
‫سلِ ِم والنّ ْ‬
‫َبيْنَ المُ ْ‬
‫وذكر عبد الرزاق فى ((مصنفه))‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬قال‪ :‬من وصية النبى صلى ال عليه‬
‫جعِلَ بدلَ‬
‫قالوا‪ :‬ولن اللّعانَ ُ‬ ‫وسلم لِعتّاب بن أَسِيد‪ :‬أن ل لِعان بين أربع‪ ،‬فذكر معناه‪.‬‬
‫الشهادة‪ ،‬وقائماً مقامَها عند عدمها‪ ،‬فَل َيصِحّ إل ممن تصح منه‪ ،‬ولهذا تُح ّد المرأة بِلعان الزّوج‪،‬‬
‫ل لللِعانه منزل َة أربعةِ شهود‪.‬‬
‫ونُكولها تنزي ً‬
‫ن لى َوَلهَا شَأْنٌ))‪ ،‬فالمحفوظ فيه‪ :‬لول‬
‫ن ال ْيمَانِ‪َ ،‬لكَا َ‬
‫قالُوا‪ :‬وأما الحديثُ‪(( :‬لول مَا َمضَى مِ َ‬
‫ل ْيمَانِ‪،‬‬
‫ما مضى من كتاب ال‪ ،‬هذا لفظ البخارى فى ((صحيحه))‪ .‬وأما قوله‪َ :‬لوْلَ مَا َمضَى مِنَ ا َ‬
‫فمن رواية عباد ابن منصور‪ ،‬وقد تكلم فيه غير واحد‪ .‬قال يحيى بن معين‪ :‬ليس بشىء‪ .‬وقال على‬
‫بن الحسين بن الجنيد الرازى‪ :‬متروك قدرى‪ .‬وقال النسائي‪ :‬ضعيف‪.‬‬
‫ن على المدّعَى عليه‪ ،‬والزوج ها‬
‫وقد استقرت قاعدة الشريعة أن البين َة على المدّعي‪ ،‬واليمي َ‬
‫قال الولون‪ :‬أما تسميتُه شهادةً‪،‬‬ ‫هنا مُدّعٍ‪ ،‬فلِعانُه شهادة‪ ،‬ولو كان يمينًا لم تُشرع فى جانبه‪.‬‬
‫فلِقول الملتعِنِ فى يمينه‪ :‬أشهد بالّ‪ ،‬فسمى بذلك شهادة‪ ،‬وإن كان يمينًا اعتباراً بلفظها‪ .‬قالوا‪ :‬وكيف‬
‫وهو مصرّح فيه بالقسم وجوابه‪ ،‬وكذلك لو قال‪ :‬أشهد بالِّ‪ ،‬انعقدت يمينُه فبذلك‪ ،‬سواء نوى اليمينَ‬
‫ب َتعُ ّد ذلك يميناً فى لغتها واستعمالها‪ .‬قال قيس‪:‬‬
‫أو أطلق‪ ،‬والعر ُ‬
‫عنْدَهَا ِليَا‬
‫عنْدِى َفمَا ِ‬
‫فَهذَا َلهَا ِ‬ ‫ح ّبهَا‬
‫لّ َأنّى أُ ِ‬
‫عنْدَ ا ِ‬
‫شهَدُ ِ‬
‫فَأَ ْ‬
‫وفى هذا حجة لمن قال‪ :‬إن قوله‪(( :‬أشهد)) تنعقِد به اليمين‪ ،‬ولو لم يقُلْ‪ :‬بالِّ‪ ،‬كما هو إحدى‬
‫ل الكثرين‪ .‬كما أن قوله‪ :‬أشهد بالّ‬
‫الروايتين عن أحمد‪ .‬والثانية‪ ،‬ل يكون يميناً إل بالنيةِ‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫يمين عند الكثرين بمطلقة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما استثناؤُه سبحانه أنفسَهم مِن الشهداء‪ ،‬فيقال أولً‪(( :‬إل)) ها هنا‪ :‬صفة بمعنى‬
‫غير‪ ،‬والمعنى‪ :‬ولم يكن لهم شهداء غيرُ أنفسهم‪ ،‬فإن ((غيراً))‪ ،‬و((وإلّ)) يتعارضان الوصفية‬
‫ل على ((غير))‪.‬‬
‫ل على ((إلّ))‪ ،‬ويُوصف بـ ((إلّ)) حم ً‬
‫والستثناء‪ ،‬فيُستثنى بـ ((غير)) حم ً‬

‫‪203‬‬
‫ويقال ثانياً‪ :‬إن ((أنفسهم)) مستثنى من الشهداء‪ ،‬ولكن يجوز أن يكون منقطعًا على لغة بنى‬
‫تميم‪ ،‬فإنهم يُبذلون فى النقطاع‪ ،‬كما ُيبْدِل أهلُ الحجاز وهم فى التصال‪.‬‬
‫ويقال ثالثاً‪ :‬إنما استثنى ((أنفسهم)) من الشهداء لنه نزّلهم منزلتهم فى قبول قولهم‪ ،‬وهذا‬
‫قوى جدًا على قول من يرجم المرأة بالتعان الزوج إذا نكلت وهو الصحيح‪ ،‬كما يأتى تقريره إن‬
‫شاء ال تعالى‪ .‬والصحيح‪ :‬أن لعانهم يجمع الوصفين‪ ،‬اليمين والشهادة‪ ،‬فهو شهادة مؤكّدة بالقسم‬
‫والتكرار‪ ،‬ويمين مغلّظة بلفظ الشهادة والتكرار لقتضاء الحال تأكيد المر‪.‬‬
‫ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬ذكر لفظ الشهادة‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬ذكر القسم بأحد أسما ِء الربّ سبحانه وأجمعها لمعانى أسمائه الحسنى‪ ،‬وهو اسم ال‬
‫جَلّ ذِكرُه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تأكي ُد الجواب بِما يُؤكّد به المقسم عليه‪ ،‬من ((إن‪ ،‬واللم))‪ ،‬وإتيانه باسم الفاعل‬
‫الذي هو صادق وكاذب دون الفعل الذى هو صدق وكذب‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬تكرا ُر ذلك أربع مرات‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬دعاؤه على نفسه فى الخامسة بلعنة ال إن كان من الكاذبين‪.‬‬
‫السادس‪ :‬إخبارُه عند الخامسة أنها الموجِبةُ لعذاب ال‪ ،‬وهو إما الحدّ أو الحبسُ‪ ،‬وجعل‬
‫لعانها دارئًا للعذاب عنها‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬أن هذا اللعان يُوجب العذاب على أحدهما إما فى الدنيا‪ ،‬وإما فى الخرة‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬التفريقُ بين المتلعنين‪ ،‬وخرابُ بيتها‪ ،‬وكسرها بالفراق‪.‬‬
‫جعِلَ‬
‫العاشرُ‪ :‬تأبيد تلك الفرقة ودوام التحريم بينهما‪ ،‬فلما كان شأنُ هذا اللعانِ هذا الشأن‪ُ ،‬‬
‫يميناً مقروناً بالشهادة‪ ،‬وشهادة مقرونة باليمين‪ ،‬وجعل الملتعن لقبول قوله كالشاهد‪ ،‬فإن نكلت‬
‫المرأةُ‪ ،‬مضت شهادته وحُ ّدتْ‪ ،‬وأفادت شهادتُه ويمينهُ شيئين‪ :‬سقوط الحد عنه‪ ،‬ووجوبه عليها‪ .‬وإن‬
‫التعنت المرأة وعارضت لعانه بلعان آخر منها‪ ،‬أفاد لعانُه سقوطَ الحد عنه دون وجبه عليها‪ ،‬فكان‬
‫شهادة ويميناً بالنسبة إليه دونها‪ ،‬لنه إن كان يميناً محضة فهى ل تحدّ بمجرد حلفه‪ ،‬وإن كان شهادة‬
‫ب الشهادة واليمين فى حقّه‬
‫فل تحدّ بمجرد شهادته عليها وحده‪ .‬فإذا انضم إلى ذلك نكولُها‪ ،‬قوىَ جان ُ‬
‫بتأكّد ِه ونكولها‪ ،‬فكان دليلً ظاهرًا على صدقة‪ ،‬فأسقط الحد عنه‪ ،‬وأوجبه عليها‪ ،‬وهذا أحسنُ ما‬

‫‪204‬‬
‫يكون من الحكم‪ ،‬ومن أَحْسنُ من الِّ حكمًا لِقوم يُو ِقنُونَ‪ ،‬وقد ظهر بهذا أنه يمين فيها معنى الشهادة‪،‬‬
‫وشهادةٌ فيها معنى اليمين‪.‬‬
‫ث عمرو بن شُعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬فما أبينَ دللته لو كان صحيحًا بوصوله‬
‫وأما حدي ُ‬
‫إلى عمرو‪ ،‬ولكن فى طريقه إلى عمرو مَهالكُ ومفاوز‪ .‬قال أبو عمر بن عبد البر‪ :‬ليس دون عمرو‬
‫بن شعيب من يحتج به‪.‬‬
‫وأما حديثُه الخر الذي رواه الدارقطنى‪ ،‬فعلى طريق الحديث عثمان بن عبد الرحمن‬
‫الوقاصى‪ ،‬وهو متروك بإجماعهم‪ ،‬فالطريق به مقطوعة‪.‬‬
‫ب بنُ أسيد‬
‫عتّا ُ‬
‫حتَجّ بها‪ ،‬و َ‬
‫ل الزهرىّ عندهم ضعيفة ل ُي ْ‬
‫ث عبد الرزاق‪ ،‬فمراسي ُ‬
‫وأما حدي ُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم على مكة‪ ،‬ولم يكن بمكة يهودىٌ ول نصرانى البتة حتى‬
‫ل للنب ّ‬
‫كان عام ً‬
‫يُوصِيُه أن ل يلعِنَ بينهما‪.‬‬
‫ن لى ولها شأن))‪ ،‬وهو حديث رواه أبو‬
‫قالوا‪ :‬وأما ردّكم لقوله‪(( :‬لول ما مضى من اليمان‪ ،‬لكَا َ‬
‫داود فى سننه‪ ،‬وإسناده ل بأس به‪ ،‬وأما تعلّقكم فيه على عبّاد بن منصور‪ ،‬فأكثر ما عيب عليه أنه‬
‫ن القد ِريّة‬
‫ى داعية إلى القدر‪ ،‬وهذا ل يوجب ردّ حديثهِ‪ ،‬ففى الصحيح‪ :‬الحتجاجُ بجماعة مِ َ‬
‫قدر ّ‬
‫ن قوله‪(( :‬لول ما َمضَى مِن كتاب ال تعالى))‪،‬‬
‫علِ َم صِدْقُه‪ ،‬ول تنافى بي َ‬
‫والمرجئة والشيعة ممن ُ‬
‫((ولول ما مضى من اليمان))‪ ،‬فيحتاج إلى ترجيح أح ِد اللفظين‪ ،‬وتقديمه على الخر‪ ،‬بل اليمان‬
‫المذكورة هى فى كتابِ ال‪ ،‬وكتابُ ال تعالى حكمُه الذى حكم به بين المتلعنين‪ ،‬وأراد صلى ال‬
‫ل بين المتلعنَين‪ ،‬لكان لها شأن آخر‪.‬‬
‫لّ الذى فص َ‬
‫عليه وسلم‪ :‬لول ما مضى مِن حكم ا ِ‬
‫قالوا‪ :‬وأما قولُكم‪ :‬إن قاعد َة الشريعةِ استقرّت على أن الشهادةَ فى جانب المدّعى‪ ،‬واليمين‬
‫فى جانب المدّعَى عليه‪ ،‬فجوابه مِن وجوه‪ ،‬أحدها‪ :‬أن الشريعةَ لم تست ِق ّر على هذا‪ ،‬بل قد استقرت‬
‫فى القَسامة بأن يبدأ بأيمان المدّعينَ‪ ،‬وهذ لقوة جانبهم بالّل ْوثِ‪ ،‬وقاعدةُ الشريعة أن اليمين تكون من‬
‫ب المدّعى عليه قوياً بالبراءة الصلية‪ ،‬شرعت اليمينُ فى‬
‫جنبة أقوى المتداعيين‪ ،‬فلما كان جان ُ‬
‫جانبه‪ ،‬فلما قوى جانبُ المدعى فى القسامة باللوث كانت اليمينُ فى جانبه‪ ،‬فيقال له‪ :‬احلف‬
‫ن مِن‬
‫واستحق‪ ،‬وهذا مِن كمال حكمة الشارع واقتضائه للمصالح بحسب المكان‪ ،‬ولو شرعت اليمي ُ‬
‫جانب واحد دائماً‪ ،‬لذهبت قوةُ الجانب الراجح هدراً‪ ،‬وحكمة الشارع تأبى ذلك‪ ،‬فالذى جاء به هو‬
‫غايةُ الحكمة والمصلحة‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫ع ِرفَ هذا‪ ،‬فجانب الزوج ها هنا أقوى من جانبها‪ ،‬فإن المرأة ُت ْن ِكرُ زناها‪ ،‬وتبهتُه‪،‬‬
‫وإذا ُ‬
‫ج ليس له غرضٌ فى هتك حرمته‪ ،‬وإفساد فراشه‪ ،‬ونسبة أهله إلى الفجور‪ ،‬بل ذلك أشوشُ‬
‫والزو ُ‬
‫ل المرأة قوى المرُ جداً فى‬
‫عليه‪ ،‬وأكره شىء إليه‪ ،‬فكان هذا لوثاً ظاهراً‪ ،‬فإذا انضاف إليه نكو ُ‬
‫ت بلعانه‪ ،‬ولكن لما‬
‫ل ذلك بثبوت حكم الزنى عليها شرعاً‪ ،‬فحف ّد ْ‬
‫قلوبِ الناسِ خاصّهم وعامّهم‪ ،‬فاستق ّ‬
‫تكن أيمانُه بمنزلة الشهداء الربعة حقيقةً‪ ،‬كان لها أن تُعارِضَها بأيمان أخرى مثلِها يدرأ عنها بها‬
‫ن ال ُم ْؤ ِمنِينَ} [النور‪ ،]2 :‬ولو‬
‫شهَدْ عَذَا َب ُهمَا طَائِفَ ٌة مِ َ‬
‫ب عذابَ الح ّد المذكور فى قوله تعالى‪َ {:‬و ْليَ ْ‬
‫العذا َ‬
‫كان لِعانُه بينةً حقيقةً‪ ،‬لما دفعت أيمانها عنها شيئاً‪.‬‬
‫ح بالفصل الثانى المستفاد من قضاء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو‬
‫وهذا ي ّتضِ ُ‬
‫أن المرأةَ إذا لم تلتعِنْ‪ ،‬فهل ُتحَ ّد أو تُح َبسُ حتى تُ ِقرّ‪ ،‬أو تُلعن؟ فيه قولن للفقهاء‪ .‬فقال الشافعى‪،‬‬
‫ل أهلِ الحجاز‪ .‬وقال أحمد‪ :‬تُحبسُ حتى تُ ِق ّر أو تُلعِنَ‪،‬‬
‫وجماعة من السلف والخلف‪ :‬تُحَدّ‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫س ويُخلّى سبيلُها‪.‬‬
‫ل أهل العِراق‪ .‬وعنه رواية ثانية‪ :‬ل تح َب ُ‬
‫وهو قو ُ‬
‫جبُ الحدّ عليها‪ ،‬لم‬
‫قال أهل العراق ومَنْ وافقهم‪ :‬لو كان لِعانُ الرجل بين ًة تُو ِ‬
‫تملك إسقاطَه باللعانِ‪ ،‬وتكذيب البينة‪ ،‬كما لو شهد عليها أربعة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولنه لو شهد عليها مع ثلثة غيرِه‪ ،‬لم تحد بهذه الشهادة‪ ،‬فلن ل تُحدّ بشهادته وحده‬
‫جبُ حدّ الخر‪ ،‬كما لم يُوجب لِعانُها حدّه‪.‬‬
‫أولى وأحرى‪ .‬قالُوا‪ :‬ولنه أح ُد المتلعنين‪ ،‬فل يُو ِ‬
‫قالوا‪ :‬وقد قال النبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ال َب ّينَةُ عَلى المُدّعى))‪ .‬ول ريب أن الزوج ها‬
‫هنا مدّع‪.‬‬
‫ب لِعانه إسقاط الحد عن نفسه ل إيجابَ الحد عليها‪ ،‬ولهذا قال النبى صلى‬
‫قالوا‪ :‬ولن موج َ‬
‫ف الزوج‪ ،‬كموجِب قذفِ الجنبى وهو‬
‫جبَ قذ ِ‬
‫ظ ْه ِركَ))‪ ،‬فإن مو ِ‬
‫ال عليه وسلم‪(( :‬ال َب ّينَ ُة وإل حَدّ فى َ‬
‫الحدّ‪ ،‬فجعل ال سبحانه له طريقاً إلى التخلص منه باللعان‪ ،‬وجعل طريق إقامة الحد على المرأة‬
‫ل عند من يَحُ ّد به مِن الصحابة‪ ،‬كعمر بن‬
‫حبَ ُ‬
‫أح َد أمرين‪ :‬إما أربعة شهود‪ ،‬أو اعتراف‪ ،‬أو ال َ‬
‫الخطاب ومن وافقه‪ ،‬وقد قال عمر بن الخطاب على منبر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬والرجمُ‬
‫حبَلُ‪ ،‬أو‬
‫ف من َزنَى مِن الرجال والنساء إذا كان محصَناً إذا قامَت بينةٌ‪ ،‬أو كان ال َ‬
‫جبٌ على ك ّ‬
‫وا ِ‬
‫العترافُ‪ ،‬وكذلك قال علىّ رضى ال عنه‪ ،‬فجعل طريق الحدّ ثلثة لم يجعل فيها اللعان‪.‬‬
‫ب عليها الحد‪ ،‬لن تحقق زناها إما أن يكونُ‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فهذه لم يتحقق زناها‪ ،‬فل يج ُ‬
‫ط بِلعانها الحدّ‪ ،‬ولما وجب بعد ذلك حد على قاذفها‪،‬‬
‫بِلعان الزوج وحدَه‪ ،‬لنه لو تحقق به‪ ،‬لم يسقُ ْ‬

‫‪206‬‬
‫ول يجوزُ أن يتحقق بنكُولها أيضاً‪ ،‬لن الحدّ ل يثبُت بالنكول‪ ،‬فإن الح ّد يُدرأ بالشّبهاتِ‪ ،‬فكيف يجب‬
‫بالنكولِ‪ ،‬فإن النكولَ‪ ،‬يحتمل أن يكون لِشدة خَ َفرِهَا‪ ،‬أو لعُ ْقلَةِ لِسانها‪ ،‬أو لِدهشها فى ذلك المقام‬
‫ع ِبرَ فى بينته من العدد ضعف‬
‫الفاضح المخزى‪ ،‬أو لغير ذلك من السباب‪ ،‬فكيف يثبتُ الحدّ الذى ا ُ‬
‫ما اعتبر فى سائر الحدود‪ ،‬وفى إقراره أربع مرات بالسنة الصحيحة الصريحة‪ ،‬واع ُت ِبرَ فى كل من‬
‫ف الفعل والتصريح به مبالغة فى الستر‪ ،‬ودفعاً لثبات الحدّ بأبلغ‬
‫القرار والبينة أن يتضمّن وص َ‬
‫الطرق وآكِدها‪ ،‬وتوسلً إلى إسقاط الحدّ بأدنى شُبهة‪ ،‬فكيف يجوزُ أن يقضى فيه بالنكولِ الذي هو‬
‫فى نفسه شبهة ل يُقضي به فى شىء من الحدود والعقوبات البتة ول فيما عد الموال؟‬
‫قالوا‪ :‬والشافعى رحمه ال تعالى ل يرى القضاء بالنكول فى درهم فما دونَه‪ ،‬ول فى أدنى‬
‫تعزير‪ ،‬فكيف يُقضَى به فى أعظم المور وأبعدِها ثبوتاً‪ ،‬وأسرعها سقوطاً‪ ،‬ولنها لو أقرّت‬
‫بلسانها‪ ،‬ثم رجعت‪ ،‬لم يجب عليها الحدّ‪ ،‬فلن ل يجب بمجرد امتناعها مِن اليمين على براءتها‬
‫أولي‪ ،‬وإذا ظهر أنه ل تأثير لواحد منهما فى تحقق زناها‪ ،‬لم يجز أن يُقال بتحققه بهما لوجهين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن ما فى كل واحد منهما من الشبهة ل يزول بضم أحدهما إلى الخر‪ ،‬كشهادة‬
‫ل نكولها لفرط حيائها‪ ،‬وهيبة ذلك المقام‪ ،‬والجمع‪ ،‬وشدة الخَ َفرِ‪ ،‬وعجزها‬
‫مائة فاسق‪ ،‬فإن احتما َ‬
‫عن النطق‪ ،‬وعُقلة لسانها ل يزولُ بلعان الزوج ول بنكولها‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أن ما ل يقضى فيه باليمين المفردة ل يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق‪.‬‬
‫شهَدَ} [النور‪ ،]8 :‬فالعذاب ها هنا يجوز‬
‫ب أَنْ تَ ْ‬
‫ع ْنهَا العَذَا َ‬
‫قالوا‪ :‬وأما قوله تعالى‪{ :‬ويَ ْدرَؤاْ َ‬
‫أن يُراد به الحدّ‪ ،‬وأن يُرا َد به الحبسُ والعقوبةُ المطلوبة‪ ،‬فل يتعين إرادة الحدّ به‪ ،‬فإنّ الدال على‬
‫ل على المقيد إل بدليل من خارج‪ ،‬وأدنى درجاتِ ذلك الحتمال‪ ،‬فل يثبتُ الح ّد مع‬
‫المطلق ل يد ّ‬
‫قيامه‪ ،‬وقد يُرجّحُ هذا بما تقدم مِن قول عمر وعلى رضى ال عنهما‪ :‬إن الح ّد إنما يكون بالبينة أو‬
‫العتراف أو الحبل‪.‬‬
‫ثم اختلف هؤلء فيما يصنع بها إذا لم تُلعِنْ‪ ،‬فقال أحمد‪ :‬إذا أبت المرأة أن تلتعِنَ بعدًَ التعان‬
‫حكُمَ عليها بالرجم‪ ،‬لنها لو أقرت بلسانها‪ ،‬لم أرجمها إذا‬
‫ت أن أ ْ‬
‫الرجل‪ ،‬أجبرتُها عليه‪ ،‬و ِه ْب ُ‬
‫ت اللعان؟ وعنه رحمه ال تعالى رواية ثانية‪ :‬يخلى سبيلُها‪ ،‬اختارها أبو بكر‪،‬‬
‫رجعت‪ ،‬فكيف إذا أب ِ‬
‫لنها ل يجبُ عليها الحد‪ ،‬فيجب تخلية سبيلها‪ ،‬كما لو لم تكمل البينة‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪207‬‬
‫ل عن الشهود‪،‬‬
‫ن الزوج بد ً‬
‫قال الموجبون للحدّ‪ :‬معلومٌ أن ال سبحانه وتعالى جعل التعا َ‬
‫وقائماً مقامهم‪ ،‬بل جعل الزواج الملتعنِينَ شهداءَ كما تقدّم‪ ،‬وصرّحَ بأن لِعانهم شهادةٌ‪ ،‬وأوضح‬
‫شهَادَاتٍ بِالِ} [النور‪ ،]8 :‬وهذا يدلّ على أن سببَ‬
‫شهَ َد َأ ْربَعَ َ‬
‫ن تَ ْ‬
‫ع ْنهَا العَذَابَ أَ ْ‬
‫ذلك بقوله‪{ :‬ويَ ْد َرؤُاْ َ‬
‫العذاب الدنيوى قد وُجِدَ‪ ،‬وأنه ل يدفعه عنها إل لعانُها‪ ،‬والعذاب المدفوع عنها إل لعانُها‪ ،‬والعذاب‬
‫شهَدْ عَذَا َب ُهمَا طَائِفَ ٌة مِنَ ال ُم ْؤ ِمنِينَ} [النور‪:‬‬
‫المدفوع عنها بلعنها هو المَذكُور فى قوله تعالى‪{ :‬و ْليَ ْ‬
‫‪ ،]2‬وهذا عذابُ الحدّ قطعاً‪ ،‬فذكره مضافاً‪ ،‬ومعرّفًا بلم العهد‪ ،‬فل يجو ُز أن ينص ِرفَ إلى عُقوب ٍة لم‬
‫ل عليها بوج ٍه مِن حبس أو غيره‪ ،‬فكيف يُخلّى سبيلُها‪ ،‬ويدرأ عنها العذابُ‬
‫تُذكر فى اللفظ‪ ،‬ول د ّ‬
‫بِغير لِعان‪ ،‬وهل هذا إلّ مخالف ٌة لِظاهر القرآن؟‬
‫ن الزوج دارئاً لح ّد القذف عنه‪ ،‬وجعل لِعانَ الزوجة دارئاً‬
‫قالُوا‪ :‬وقد جعل الُّ سبحانه لِعا َ‬
‫لعذاب ح ّد الزّنى عنها‪ ،‬فكما أن الزوج إذا لم يُلعن يُحدّ حَدّ القذف‪ ،‬فكذلك الزوج ُة إذا لم تُلعن‬
‫يجب عليها الحدّ‪.‬‬
‫ن الزوج لو كان بيّنة تُوجب الح ّد عليها لم تملك هى إسقاطه‬
‫قالُوا‪ :‬وأما قولكم‪ :‬إن لعا َ‬
‫باللعان‪ ،‬كشهادة الجنبى‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن حكم اللّعان حُكمٌ مستقلٌ بنفسه غي ُر مردود إلى أحكام الدعاوى والبيّنات‪ ،‬بل‬
‫شرَعَه الذى شرع نظيرَه مِن الحكام‪ ،‬وفصّله الذى فصّل الحللَ والحرام‪،‬‬
‫هو أصل قائم بنفسه َ‬
‫جرَ َم نزل عن مرتبة البينة‪ ،‬فلم يستقِلّ وحدَه بحكم البينة‪،‬‬
‫ولما كان لِعانُ الزوج بدلً عن الشهود ل َ‬
‫وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره‪ ،‬وحينئذ فل يظهر ترجيحُ أحد اللعانين على الخر لنا‪ ،‬والّ‬
‫يعلم أن أحدهما كاذب‪ ،‬فل وجه لحد المرأة بمجردِ لِعان الزوج‪ ،‬فإذا مُكنت من معارضته وإتيانها‬
‫ل المقتضى عمَله‪ ،‬وانضاف إليه قرينة قوّته‬
‫عمِ َ‬
‫بما يُبرىء ساحتها‪ ،‬فلم تفعل‪ ،‬ونكلت عن ذلك‪َ ،‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما‬ ‫ل المرأة وإعراضُها عما يُخلّصها مِن العذاب‪َ ،‬ويَ ْد َرؤُه عنها‪.‬‬
‫وأكّدته‪ ،‬وهى نكو ُ‬
‫قولُكم‪ :‬إنه لو شهد عليها مع ثلثة غيره لم تُحَدّ بهذه الشهادة‪ ،‬فكيف تُحدّ بشهادته وحدَه؟ فجوابُه أنها‬
‫س مرات‪ ،‬ونكولِها عن معارضته مع قدرتها‬
‫لم تُحد بشهادة مجرّدة‪ ،‬وإما حُدّت بمجموع لِعانه خم َ‬
‫عليها‪ ،‬فقامَ من مجموع ذلك دليل فى غاية الظهور والقوة على صحة قوله‪ ،‬والظنّ المستفاد منه‬
‫أقوى بكثره من الظن المستفاد من شهادة الشهود‪.‬‬
‫وأما قولُكم‪ :‬إنه أحد اللعانين‪ ،‬فل يُوجب حد الخر‪ ،‬كما لم يُوجب لِعانُها حدّه‪ ،‬فجوابه أن‬
‫شهَدَ} [النور‪،]8 :‬‬
‫ن تَ ْ‬
‫ب أَ ْ‬
‫ع ْنهَا العَذَا َ‬
‫لِعانها إنما شرع للدفع‪ ،‬ل لليجاب‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬ويَ ْدرَ ُؤاْ َ‬

‫‪208‬‬
‫ص على أن لعانه مقتض ليجاب الحد‪ ،‬ولعانها دافع ودارىء ل موجب‪ ،‬فقياسُ أحد اللعانينِ‬
‫فدلّ الن ّ‬
‫ى صلى ال عليه‬
‫ل النب ّ‬
‫على الخر جمع بين ما فرّق ال سبحانه بينهما وهو باطل‪ .‬قالُوا‪ :‬وأما قو ُ‬
‫علَى المُدّعِى))‪ ،‬فسمعاً وطاع ًة لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول ريبَ أن لِعان‬
‫وسلم‪(( :‬البَ ّينَةُ َ‬
‫ج المذكورِ المكرر بينة‪ ،‬وقد انضم إليها نكولُها الجارى مجرى إقرارها عند قوم‪ ،‬ومجرى بينة‬
‫الزو ِ‬
‫المدعين عند آخرين‪ ،‬وهذا مِن أقوى البينات‪ ،‬ويدل عليه أن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال له‪:‬‬
‫((البين ُة وإلّ حَدّ فى ظهرك))‪ ،‬ولم يُبطل الُّ سبحانه هذا‪ ،‬وإنما نقله عند عجزه عن بينة منفصلة‬
‫تُسقط الحد عنه يعجز عن إقامتها‪ ،‬إلى بينة يتمكّن مِن إقامته‪ ،‬ولما كانت دونها فى الرتبة مع قدرتها‬
‫وتمكنها‪ ،‬قالوا‪ :‬وأما قولُكم‪ :‬إن موجب لعانه إسقاط الحد عن نفسه ل إيجابُ الح ّد عليها إلى آخره‪،‬‬
‫فإن أردتُم أن من موجبه إسقاطُ الحد عن نفسه فحق‪ ،‬وإن أردتُم أن سقوطَ الحدّ عنه يسقط جميع‬
‫موجبه‪ ،‬ول موجب له سواه‪ ،‬فباطل قطعاً‪ ،‬فإن وقوع الفرقة‪ ،‬أو وجوب التفريق والتحريم المؤبّد‪،‬‬
‫أو المؤقت‪ ،‬ونفى الولد المصرح بنفيه‪ ،‬أو المكتفى فى نفيه باللعان‪ ،‬ووجوب العذاب على الزوجة‬
‫ل ذلك من موجب اللعان‪ ،‬فل يصح أنه يقال‪ :‬إنما يوجب سقوط‬
‫إما عذاب الحد‪ ،‬أو عذاب الحبس‪ ،‬كُ ّ‬
‫حد القذف عن الزوج فقط‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما قولُكم‪ :‬إن الصحابة جعلُوا ح ّد الزنى بأحد ثلثة أشياء‪ :‬إما البينة‪ ،‬أو العترافِ‪،‬‬
‫ن ليس منها‪ ،‬فجوابُه‪ :‬أن منازعيكم يقولُون‪ :‬إن كان إيجاب الحدّ عليها باللعان‬
‫حبَلِ‪ ،‬واللعا ُ‬
‫أو ال َ‬
‫خلفاً لقوال هؤلء الصحابة‪ ،‬فإن إسقاطَ الحدّ بالحبل أدخلُ فى خلفهم وأظهر‪ ،‬فما الذى سوّغ لكم‬
‫إسقاطَ حدّ أوجبوه بالحبل‪ ،‬وصريح مخالفتهم‪ ،‬وحرّم على منازعيكم مخالفتَهم فى إيجاب الح ّد بغير‬
‫هذه الثلثة‪ ،‬مع أنهم أعذ ُر منكم‪ ،‬لثلثة أوجه‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬أنهم لم يُخالفوا صريحَ قولهم‪ ،‬وإنما هو مخالفة لمفهومٍ سكتُوا عنه‪ ،‬فهو مخالفة‬
‫لسكوتهم‪ ،‬وأنتم خالفتهم صريح أقوالهم‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أن غاية ما خالفوه مفهومٌ قد خالفه صريحٌ عن جماعة منهم بإيجاب الحدّ‪ ،‬فلم يُخالفوا‬
‫ما أجم َع عليه الصحابة‪ ،‬وأنتم خالفتُم منطوقاً‪ ،‬ل ُي ْعلَمُ لهم فيه مخالف البتة ها هنا‪ ،‬وهو إيجابُ الحدّ‬
‫بالحبل‪ ،‬فل يُحفظ عن صحابى قطّ مخالفة عمر وعلى رضى ال عنهما فى إيجاب الحد به‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنهم خالفوا هذا المفهومَ لمنطوق تلك ال ِدلّ ِة التى تقدّمت‪ ،‬ولمفهوم قوله‪{:‬ويَ ْد َر ُؤاْ‬
‫شهَدَ} [النور‪ ،]8 :‬ول ر ْيبَ أن هذا المفهومَ أقوى مِن مفهوم سقوط الحد بقولهم‪:‬‬
‫ن تَ ْ‬
‫ب أَ ْ‬
‫ع ْنهَا العَذَا َ‬
‫َ‬
‫ل أو العترافُ‪ ،‬فهم تركوا مفهومًا لِما هو أقوى منه وأولى‪ ،‬هذا لو كانوا قد‬
‫إذا كانت البين ُة أو الحب ُ‬

‫‪209‬‬
‫ن مع نكولِ المرأة مِن أقوى‬
‫ن اللعا َ‬
‫خالفوا الصحابة‪ ،‬فكيف وقولُهم موافق لقوال الصحابة؟ فإ ّ‬
‫البينات كما تقرر‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما قولُكم‪ :‬لَمْ يتحقق زِناها إلى آخره‪ ،‬فجوابُه إن أردتم بالتحقيق اليقينَ المقطوعَ به‬
‫كالمحرمات‪ ،‬فهذا ل يُشترط فى إقامة الحد‪ ،‬ولو كان هذا شرطاً‪ ،‬لما أقيمَ الحدّ بشهاد ِة أربعة‪ ،‬إذ‬
‫ل الزّنى محققًا بهذا العتبار‪ .‬وإن أردتُم بعدم التحقق أنه مشكوكٌ فيه على السواء‪،‬‬
‫شهادتُهم ل تجع ُ‬
‫ب أن‬
‫بحيث ل يترجّح ثبوته‪ ،‬فباطل قطعاً‪ ،‬وإل لما وجب عليها العذابُ المد َرأُ بلعانها‪ ،‬ول ري َ‬
‫التحقّقَ المستفا َد مِن لعانه المؤكد المكرَّْر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه أقوى من التحقق‬
‫بأربع شهود‪ ،‬ولعل لهم غرضاً فى قذفها وهتكِها وإفسادها على زوجها‪ ،‬والزوجُ ل غرض له فى‬
‫ذلك منها‪.‬‬
‫وقولكم‪ :‬إنه لو تحقق‪ ،‬فإما أن يتحقق بلعانِ الزوج‪ ،‬أو بنكولها‪ ،‬أو بهما‪ ،‬فجوابُه‪ :‬أنه تحقّق‬
‫بهما‪ ،‬ول يلزم مِن عدم استقلل أحدِ المرين بالح ّد وضعفه عنه عد ُم استقللهما معاً‪ ،‬إذا هذا شأنُ‬
‫ل مفرد لم يستقِلّ بالحكم بنفسه‪ ،‬ويستقل به مع غي ِرهِ لقوته به‪.‬‬
‫كُ ّ‬
‫وأما قولُكم‪ :‬عجباً للشافعىّ كيف ل يقضى بالنكول فى درهم‪ ،‬ويقضى به فى إقامة ح ٍد بَالَغَ‬
‫ل بيّنة‪ ،‬فهذا موضع ل يُنتصر فيه للشافعى ول لغيره من الئمة‪،‬‬
‫الشّرع فى ستره‪ ،‬واعتبر له أكم َ‬
‫وليس لِهذا وُض َع ِكتَا ُبنَا هذا‪ ،‬ول قصدنا به نُص َرةَ أح ٍد من العالمين‪ ،‬وإنما قصدنا به مجرّد هدى‬
‫رسولِ ال صلى ال عليه وسلم فى سيرته وأقضيته وأحكامه‪ ،‬وما تضمّن سوى ذلك‪ ،‬فتبع مقصودٌ‬
‫ضرّ ذلك هدى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫لغيره‪ ،‬فهب أن من لم يقض بالنكول تناقض‪ ،‬فماذ َي ُ‬
‫ى رَحمَه ال تعالى لم يتناقض‪ ،‬فإنه فرّق بين نكولٍ‬
‫شكَاةٌ ظَا ِه ٌر عنه عَارُهَا‪ .‬على أن الشّافِع ّ‬
‫و ِت ْلكَ َ‬
‫مجرد ل قولة له‪ ،‬وبين نُكولٍ قد قارنَه التعان مؤكّ ٌد مك ّر ٌر أُقيم فى حق الزوج مقا َم البينة مع شهادة‬
‫الحال بكراهة الزوج‪ ،‬لزنى امرأته‪ ،‬وفضيحتها‪ ،‬وخراب بيتها‪ ،‬وإقامة نفسه وحِبه فى ذلك المقام‬
‫العظيم بمشهد المسلمين وخراب بيتها‪ ،‬وإقامة نفسه وحِبه فى ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين‬
‫جهْ َد أيمانه أرب َع مرات إنه لمن الصادقين‪،‬‬
‫يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذباً بعد حلفه بالّ َ‬
‫والشافعى رحمه ال إنما حكم بنكول قد قارنه ما هذا شأنُه‪ ،‬فمن أين يلزمه أن يحكم بنكول مجرد؟‬
‫جبُ بمجرّدِ‬
‫قالوا‪ :‬وأما قولُكم‪ :‬إنها أقرّت بالزنى ثم رجعت‪ ،‬لسقط عنها الحدّ‪ ،‬فكيف ي ِ‬
‫امتناعِها من اليمين؟ فجوابه‪ :‬ما تقرر آنفاً‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫ن العذاب المُ ْد َرأَ عنها بلعانها هو عذابُ الحبس أو غيره‪ ،‬فجوابُه‪ :‬أن‬
‫قالوا‪ :‬وأما قولُكم‪ :‬إ ّ‬
‫ل الية على عذاب الخرة باطل قطعاً‪،‬‬
‫ب المذكورَ‪ ،‬إما عذابُ الدنيا‪ ،‬أو عذابُ الخرة‪ ،‬وحم ُ‬
‫العذا َ‬
‫فإن لِعانها ل يدرؤه إذا وجب عليها‪ ،‬وإنما هو عذابُ الدنيا وهو الحدّ قطعاً فإنه عذابُ المحدود‪،‬‬
‫وهو فِداء له من عذابِ الخرة‪ ،‬ولهذا شرعه سبحانه طُهرةً وفدية من ذلك العذاب‪ ،‬كيف وقد صرّح‬
‫ن ال ُم ْؤ ِمنِينَ} [النور‪ ،]2 :‬ثم أعاده بعينه بقوله‪:‬‬
‫شهَدْ عَذَا َبهُما طَائِفَ ٌة مِ َ‬
‫به فى أول السورة بقوله‪{ :‬وَليَ ْ‬
‫ع ْنهَا العَذَابَ} [النور‪ ،]8 :‬فهذا هو العذابُ المشهو ُد مكّنها مِن دفعه بلعانها‪ ،‬فأين هنا‬
‫{ويَ ْد َر ُؤاْ َ‬
‫سرَ الي ُة به؟ وإذا تبيّن هذا‪ ،‬فهذا هو القولُ الصحيح الذى ل نعتقِ ُد سواه‪ ،‬ول‬
‫عذابُ غيره حتّي تُفَ ّ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫نرتضي إل إياه‪ ،‬وبا ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬فلو نكل الزوج عن اللعان بعد قذفه‪ ،‬فما حك ُم نكولِهِ؟ قلنا‪ :‬يُحَدّ ح ّد القذفِ عند‬
‫جمهور العلما ِء مِن السلف والخلف‪ ،‬وهو قولُ الشافعى ومالك وأحمد وأصحابهم‪ ،‬وخالف فى ذلك‬
‫أبو حنيفة وقال‪ :‬يُحبس حتى يُلعِنَ‪ ،‬أو تُ ِقرّ الزوجة‪ .،‬وهذا الخلف مبنى على أن موجب قذفِ‬
‫الزوج لمرأته هَل هو الحد‪ ،‬كقذف الجنبى‪ ،‬وله إسقاطه باللعان‪ ،‬أو موجبه اللعان نفسه؟ فالول‪:‬‬
‫قول الجمهور‪ .‬والثانى‪ :‬قول أبو حنيفة‪ ،‬واحتجّوا عليه بعموم قوله تعالى‪{ :‬وَالّذِينَ َي ْرمُونَ‬
‫جلْ َدةً} [النور‪ ،]4 :‬وبقوله صلى ال عليه‬
‫جلِدُوهُم َثمَانِينَ َ‬
‫شهَدَاءَ فَا ْ‬
‫صنَاتِ ثُ ّم لَ ْم يَ ْأتُوا بَأ ْر َبعَةِ ُ‬
‫ح َ‬
‫المُ ْ‬
‫ن مِنْ عَذَابِ‬
‫ب ال ّد ْنيَا أَ ْهوَ ُ‬
‫ظ ْه ِركَ))‪ ،‬وبقوله له‪(( :‬عَذَا ُ‬
‫وسلم لهلل بن أمية‪(( :‬ال َبيّنَ ُة َأوْحَدّ فى َ‬
‫الخ َرةَ))‪ ،‬وهذا قاله لِهلل بن أمية قبل شروعه فى اللعان‪ .‬فلو لم يجب الحدّ بقذفه‪ ،‬لم يكن لهذا‬
‫معنى‪ ،‬وبأنه قَذف حرة عفيفة يجرى بينَه وبينها القود‪ ،‬فَحُدّ بقذفها كالجنبى‪ ،‬وبأنه لو لعنها‪ ،‬ثم‬
‫ب لوجوب الحد عليه‪ ،‬وله إسقاطُه‬
‫أك َذبَ نفسه بعد لعنها‪ ،‬لوجب عليه الحدّ‪ ،‬فدل على أن قذفه سب ٌ‬
‫باللعان‪ ،‬إذ لو لم يكن سبباً لما وجب بإكذابه نفسه بعد اللعان‪ ،‬وأبو حنيفة يقول‪ :‬قذفه لها دعوى‬
‫ح ِبسَ حتى يلعن‪ ،‬إل أن تُ ِقرّ فيزول‬
‫تُوجب أحد أمرين‪ ،‬إما لعانه‪ ،‬وإما إقرارها‪ ،‬فإذا لم يُلعن‪ُ ،‬‬
‫ق له عند المقذوفة‪ ،‬فكانَ قاذفاً محضاً‪،‬‬
‫ب الدعوى‪ ،‬وهذا بخلف قذف الجنبى‪ ،‬فإنه ل ح ّ‬
‫موج ُ‬
‫والجمهور يقولون‪ :‬بل قذفُه جناية منه على عرضها‪ ،‬فكان موجبهاً الحدّ كقذف الجنبى‪ ،‬ولما كان‬
‫فيها شائب ُة الدعوى عليها بإتلفها لحقه وخيانتها فيه‪ ،‬ملك إسقاطَ ما يُوجبه القذفُ مِن الحدّ بلعانه‪،‬‬
‫فإذا لم يُلعِنْ مع قدرته على اللعان‪ ،‬وتمكنه منه‪ ،‬عمل مقتضى القذِف عملَه‪ ،‬واستقل بإيجاب الحدّ‪،‬‬
‫لّ التوفيق‪.‬‬
‫إذ ل معارض له‪ ،‬وبا ِ‬
‫فصل‬

‫‪211‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم إنما كان يقضى بالوحي‪ ،‬وبما أراه الُّ‪ ،‬ل بما رآه هو‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أن رسو َ‬
‫ع َنيْن حتّى جاءه الوحىُ‪ ،‬ونزل القرآن‪ ،‬فقال لِعويمر‬
‫ض بين المتل ِ‬
‫فإنه صلى ال عليه وسلم لم يَقْ ِ‬
‫ل يَسَْألُنى‬
‫ت بها))‪ ،‬وقد قال صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬‬
‫حينئذ‪(( :‬قد نزل فيك وفى صاحبتك‪ ،‬فاذهب ف ْأ ِ‬
‫سنّ ٍة أَحْ َد ْث ُتهَا فِيكُم لَ ْم أُو َم ْر ِبهَا)) وهذا فى القضية‪ ،‬والحكام‪ ،‬والسنن الكلية‪ ،‬وأما‬
‫ع ّز وَجَلّ عَنْ ُ‬
‫الُّ َ‬
‫المور الجزئية التى ل َترْجِعُ إلى أحكام‪ ،‬كالنزول فى منزل معيّن‪ ،‬وتأمير رجل معيّن‪ ،‬ونحو ذلك‬
‫ل ْمرِ} [آل عمران‪ ]159 :‬فتلك للرأى‬
‫مما هو متعلق بالمشاور ِة المأمورِ بها بقوله‪{ :‬وشَا ِورْهُم فى ا َ‬
‫ى َرَأ ْيتُه))‪ .‬فهذا‬
‫فيها مدخل‪ ،‬ومن هذا قولُه صلى ال عليه وسلم فى شأن تلقيح النخل‪ِ(( :‬إ ّنمَا ُهوَ َر ْأ ٌ‬
‫ن الكلية شىء آخر‪.‬‬
‫القِسم شىء‪ ،‬والحكا ُم والسن ُ‬
‫فصل‬
‫ومنها‪ :‬أن النبىّ صلى ال عليه وسلم أمره بأن يأتىَ بها‪ ،‬فتلعنا بحضرته‪ ،‬فكان فى هذا‬
‫ن أن اللعان إنما يكونُ بحضرةِ المام أو نائبة‪ ،‬وأنه ليس لحا ِد الرعية أن يُلعِنَ بينهما‪ ،‬كما أنه‬
‫بيا ُ‬
‫ليس له إقامة الحد‪ ،‬بل هو للمام أو نائبه‪.‬‬
‫فصل‬
‫ومنها‪ :‬أنُه يسن التلعن بمحضر جماع ٍة من الناس يشهدُونه‪ ،‬فإن ابن عباس‪ ،‬وابن عمر‪،‬‬
‫ل ذلك على أنه حضره جمع كثير‪ ،‬فإن الصبيان إنما‬
‫وسهل بن سعد‪ ،‬حضروه مع حداثة أسنانهم‪ ،‬فد ّ‬
‫ل هذا المر تبعاً للرجال‪ .‬قال سهل ابنُ سعد‪ :‬فتلعنا وأنا مع الناس عند النبى صلى‬
‫يحضرون مث َ‬
‫ل أعلم ‪ ،‬أن اللعان بنى على التغليظ مبالغ ًة فى الردع والزجر‪،‬‬
‫ال عليه وسلم‪ .‬وحكمة هذا وا ّ‬
‫وفعلُه فى الجماعة أبلغُ فى ذلك‪.‬‬
‫فصل‬
‫ى صلى ال عليه وسلم قال له‪:‬‬
‫ومنها‪ :‬أنهما يتلعنان قياماً‪ ،‬وفى قصة هلل بن أمية أن النب ّ‬
‫((قم فاشهد أربع شهادات بالّ))‪.‬‬
‫ضرُون‪،‬‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬فى قصة المرأة‪ ،‬ثم قامت فشهدت‪ ،‬ولنه إذا قام شاهده الحا ِ‬
‫فكان أبلغَ فى شهرته‪ ،‬وأوق َع فى النفوس‪ ،‬وفيه سِر آخر‪ ،‬وهو أن الدعوة التى تُطلب إصابتُها إذا‬
‫ب على المشركين حين صلبوه‪ ،‬أخذ أبو‬
‫صادفت المدع ّو عليه قائماً نفذت فيه‪ ،‬ولهذا لما دعا خُبي ٌ‬
‫سفيان معاوية فأضجعَه‪ ،‬وكانوا يرون أن الرجل إذا لطىء بالرض‪ ،‬زلّت عنه الدعوة‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪212‬‬
‫لّ عز وجل ورسولُه به‪ ،‬فلو بدأت هى‪ ،‬لم يُعتدّ‬
‫ومنها‪ :‬البداءة بالرجل فى اللعان‪ ،‬كما بدأ ا ُ‬
‫بلعانها عند الجمهور‪ ،‬واعتدّ به أبو حنيفة‪ .‬وقد بدأ ال سبحانه فى الح ّد بذكر المرأة فقال‪{ :‬الزّا ِنيَةُ‬
‫جلْ َدةٍ} [النور‪ ،]2 :‬وفى اللعان بذكر الزوج‪ ،‬وهذا فى غاية‬
‫ل وَاحِ ٍد ِم ْن ُهمَا مِائَةَ َ‬
‫جلِدُوا كُ ّ‬
‫والزّانى فَا ْ‬
‫المناسبة‪ ،‬لن الزِنى من المرأة أقبحُ منه بالرجل‪ ،‬لنها تزيد على هتكِ حقّ ال إفسا َد فراشِ بعلها‪،‬‬
‫ب من غيره عليه‪ ،‬وفضيحةَ أهلها وأقاربها‪ ،‬وتعييره بإمساك البغى‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫وتعليقَ نس ٍ‬
‫ج هو الذى قذفها وعرضها‬
‫مفاسد زناها‪ ،‬فكانت البداءة بها فى الحدّث أهمّ‪ ،‬وأما اللعانُ‪ :‬فالزو ُ‬
‫للّعان‪ ،‬وهتك عرضها‪ ،‬ورماها بالعظيمة‪ ،‬وفضحها عند قومها وأهلها‪ ،‬ولهذا يجب عليه الح ّد إذا لم‬
‫يُلعن‪ ،‬فكانت البُداءة به فى اللعان أولى من البداءة بها‪.‬‬
‫فصل‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ظ ويُذكّر‪،‬‬
‫ل واحد من المتلعنين عند إرادة الشروع فى اللعان‪ ،‬فيُوع ُ‬
‫ومنها‪ :‬وعظُ ك ّ‬ ‫@‬
‫ن مِن عذاب الخرة‪ ،‬فإذا كان عند الخامسة‪ ،‬أُعِي َد ذلك عليهما‪ ،‬كما‬
‫ويقال له‪ :‬عذاب الدنيا أهو ُ‬
‫صحت السنة بهذا وهذا‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل من خمس مرات‪ ،‬ول من المرأة‪ ،‬ول يُقبل منه إبدالُ‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل يُقبل من الرجل أق ّ‬
‫اللعنة بالغضب والبعاد والسّخط‪ ،‬ول منها إبدالُ الغضب باللعنة والبعاد والسخط‪ ،‬بل يأتى كُلّ‬
‫ح القولين فى مذهب أحمد ومالك وغيرهما‪.‬‬
‫منهما بما قسم ال له من ذلك شرعاً وقدراً‪ ،‬وهذا أص ّ‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل يفت ِق ُر أن يزيد على اللفاظ المذكورة فى القرآن والسنة شيئاً‪ ،‬بل ل‬
‫ل الذى ل إله إل هُو عالم الغيب والشهادة الذى يعلم من‬
‫يُستحب ذلك‪ ،‬فل يحتاج أن يقول‪ :‬أشهدُ با ّ‬
‫لّ إنى لمن الصادقين‪ ،‬وهى تقول‪:‬‬
‫السر ما يعلم من العلنية‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬بل يكفيه أن يقول‪ :‬أشهد با ِ‬
‫ج أن يقول‪ :‬فيما رميتها به من الزنى‪ ،‬ول أن تقول هى‪ :‬إنه‬
‫ل إنّه لمن الكاذبين‪ ،‬ول يحتا ُ‬
‫أشهد با ّ‬
‫لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى‪ ،‬ول يُشترط أن يقول إذا ادّعى الرؤية‪ :‬رأيتُها تزنى كالمِروَدِ‬
‫ل لذلك فى كتاب ال‪ ،‬ول سنة رسوله‪ ،‬فإن ال سبحانه بعلمه وحكمته كفانا بما‬
‫حلَةِ‪ ،‬ول أص َ‬
‫فى ال ُمكْ ُ‬
‫شرعه لنا وأمرنا به عن تكلّف زيادة عليه‪.‬‬
‫حيَى بن محمد بن هبيرة فى ((إفصاحه))‪ :‬مِن الفقهاء من‬
‫قال صاحب ((الفصاح)) وهو َي ْ‬
‫اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين‪ :‬فيما رميتها به من الزنى‪ ،‬واشترط فى نفيها عن نفسها أن‬

‫‪213‬‬
‫تقول‪ :‬فيما رمانى به من الزنى‪ .‬قال‪ :‬ول أراه يحتاج إليه‪ ،‬لن ال تعالى أنزل ذلك وبينه‪ ،‬ولم يذكر‬
‫هذا الشتراط‪.‬‬
‫وظاهر كلم أحمد‪ ،‬أنه ل يشترط ذكر الزنى فى اللعان‪ ،‬فإن إسحاق بن منصور قال‪ :‬قلت‬
‫لحمد‪ :‬كيف يُلعِنُ؟ قال‪ :‬على ما فى كتاب ال يقول أرب َع مراتٍ‪ :‬أشهد بالّ إنى فيما رميتُها به‬
‫ل ذلك‪.‬‬
‫لّ عليه إن كان من الكاذبين‪ ،‬والمرأة مث ُ‬
‫لمن الصادقين‪ ،‬ثم يقف عند الخامسة فيقول‪ :‬لعنةُ ا ِ‬
‫ففى هذا النص أنه ل يُشترط أن يقول‪ :‬من الزنى‪ ،‬ول تقولُه هى‪ ،‬ول يُشترط أن يقولَ عند‬
‫الخامسة‪ :‬فيما رميتُها به‪ ،‬وتقول هى‪ :‬فيما رمانى به‪ ،‬والذين اشترطوا ذلك حجتهم أن قالوا‪ :‬ربما‬
‫نوى‪ :‬إنى لمن الصادقين فى شهادة التوحيد أو غيره مِن الخبر الصادق‪ ،‬ونوت‪ :‬إنه لمن الكاذبين‬
‫فى شأن آخر‪ ،‬فإذا ذكرا ما رُميت به من الزنى‪ ،‬انتفى هذا التأويل‪.‬‬
‫قال الخرون‪ :‬هب أنهما نويا ذلك‪ ،‬فإنهما ل ينتفعان بنيتهما‪ ،‬فإن الظالم ل ينفعُه تأويلُه‪،‬‬
‫ويمينه على نية خصمه‪ ،‬ويمينُه بما أمر ال به إذا كان مجاهراً فيها بالباطل‪ ،‬والكذب موجبه عليه‬
‫اللعنة أو الغضب‪ ،‬نوى ما ذكرتم‪ ،‬أو لم ينوه‪ ،‬فإنه ل يموّه على من يعلم السر وأخفى بمثل هذا‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل منى‪ ،‬ول يحتاج أن‬
‫ج أن يقول‪ :‬وما هذا الحم ُ‬
‫ومنها‪ :‬أن الحمل ينتفى بلعانه‪ ،‬ول يحتا ُ‬
‫يقول‪ :‬وقد استبرأتُها‪ ،‬هذا قول أبى بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد‪ ،‬وقولُ بعضِ أصحاب مالك‪،‬‬
‫ج المرأة إلى ذِكره‪ ،‬وقال الخِرقى‬
‫ج إلى ذِكر الولد‪ ،‬ول تحتا ُ‬
‫وأهل الظاهر‪ ،‬وقال الشافعىّ‪ :‬يحتا ُ‬
‫وغيرُه‪ :‬يحتاجان إلى ذِكره‪ ،‬وقال القاضى‪ :‬يشترط أن يقول‪ :‬هذا الولد من زنى وليس ه َو ِمنّى‪.‬‬
‫ل الشافعى‪ ،‬وقول أبى بكر أصح القوال‪ ،‬وعليه تدل السنة الثابتة‪.‬‬
‫وهو قو ُ‬
‫فإن قيل‪ :‬فقد روى مالك‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر رضى ال عنهما‪ ،‬أن النبى صلى ال عليه‬
‫ن رجل وامرأته‪ ،‬وانتفى من ولدها‪ ،‬ففرّق بينهما‪ ،‬وألحقَ الول َد بالمرأةِ‪.‬‬
‫وسلم لعن َبيْ َ‬
‫وفى حديث سهل بن سعد‪ :‬وكانت حاملً فأنكر حملَها‪.‬‬
‫وقد حكم صلى ال عليه وسلم‪(( :‬بأن الولد للفراش)) وهذه كانت فِراشاً له حال كونها‬
‫حاملً‪ ،‬فالولُد له‪ ،‬فل ينتفى عنه إل بنفيه‪.‬‬
‫قيل‪ :‬هذا موضعُ تفصيل ل بُ ّد منه‪ ،‬وهو أن الحملَ إن كان سابقاً على ما رماها به‪ ،‬وعلم‬
‫ل له أن ينفيَه عنه فى‬
‫أنها زنت وهى حامل منه‪ ،‬فالولد له قطعاً‪ ،‬ول ينتفى عنه بلعانه‪ ،‬ول يَحِ ّ‬
‫اللعان‪ ،‬فإنها لما علقت به‪ ،‬كانت فراشاً له‪ ،‬وكان الحملُ لحقاً به‪ ،‬فزناها ل يُزيل حكم لحوقه به‪،‬‬

‫‪214‬‬
‫ل مِن ستة أشهر‬
‫وإن لم يعلم حملَها حالَ زناها الذى قد قذفها به‪ ،‬فهذا ينظر فيه‪ ،‬فإن جاءت به لق ّ‬
‫من الزنى الذى رماها به‪ ،‬فالولُد له‪ ،‬ول ينتفى عنه بلعانه‪ ،‬وإن ولدته لكثر من ستة أشهر من‬
‫الزنى الذى رماها به‪ ،‬نظر‪ ،‬فإما أن يكون استبرأها قبل زناها‪ ،‬أو لم يستبرئها‪ ،‬فإن كان استبرأها‪،‬‬
‫انتفى الولد عنه بمجرد اللعان‪ ،‬سواء نفاه‪ ،‬أو لم ينفه‪ ،‬ول بُدّ من ذِكره عند من يشترط ذِكره‪ ،‬وإن لم‬
‫يستبرئها‪ ،‬فها هنا أمكن أن يكون الولُد منه‪ ،‬وأن يكون من الزانى‪ ،‬فإن نفاه فى اللعان‪ ،‬انتفى‪ ،‬وإل‬
‫لحق به‪ ،‬لنه أمكن كونُه منه ولم ينفه‪.‬‬
‫شبِ ُه الزوجَ‬
‫فإن قيل‪ :‬فالنبىّ صلى ال عليه وسلم قد حكم بعدَ اللعان‪ ،‬ونفى الولد بأنه إن جاء يُ ْ‬
‫ب الفراش فهو له‪ ،‬وإن جاء يُشبه الذى رميت به‪ ،‬فهو له‪ ،‬فما قولُكم فى مثل هذه الواقعة إذا‬
‫صاح َ‬
‫لعن امرأته وانتفى من ولدها‪ ،‬ثم جاء الولدُ يُشبه‪ ،‬هل ُتلِحقُونه به بالشبه عملً بالقافة‪ ،‬أو تحكمون‬
‫ع ّنتَه اللعانُ‬
‫ض ْنكٌ‪ ،‬وموضع ضيّق تجاذب أ ِ‬
‫بانقطاع نسبه منه عملً بموجب لعانه؟ قيل‪ :‬هذا مجال َ‬
‫المقتضى لنقطاع النسب‪ ،‬وانتفاء الولد‪ ،‬وأنه يُدعى لمه ول يدعى لب‪ ،‬والشبه الدال على ثبوت‬
‫نسبه من الزواج‪ ،‬وأنه ابنُه‪ ،‬مع شهادة النبىّ صلى ال عليه وسلم بأنها إن جاءت به على شبهه‪،‬‬
‫ص منه إل المستبص ُر البصير بأدلة الشرع‬
‫خلّ ُ‬
‫فالول ُد له‪ ،‬وأنه كذب عليها‪ ،‬فهذا مضيق ل يت َ‬
‫وأسراره‪ ،‬والخبيرُ بجمعه وفرقه الذي سافرت به ِه ّمتُه إلى مطلع الحكام‪ ،‬والمشكاة التى منها‬
‫ل المستعان وعليه التكلن‪ ،‬أن حكم اللعان قطع‬
‫ل والحرامُ‪ ،‬والذى يظهر فى هذا‪ ،‬وا ّ‬
‫ظهر الحل ُ‬
‫حكم الشبه‪ ،‬وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفهما‪ ،‬فل عبرة للشبه بعد مضى حكم اللعان‬
‫فى تغيير أحكامه‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم لم يُخِبرْ عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم‬
‫ب اللعنة والغضب‪ ،‬فهو‬
‫اللعان‪ ،‬وإنما أخبر عنه‪ ،‬ليتبين الصادقُ منهما من الكاذب الذي قد استوج َ‬
‫إخبار عن أمر قدرى كونى يتبين به الصادقُ مِن الكاذب بعد تقرر الحكم الدينى‪ ،‬وأن ال سبحانه‬
‫ل على ذلك‪ ،‬ويدل عليه أنه صلى ال عليه وسلم قال ذلك بعد انتفائِه من الود‪،‬‬
‫سيجعل فى الولد دلي ً‬
‫وقال‪(( :‬إن جاءت به كذا وكذا‪ ،‬فل أراه إل صدق عليها‪ ،‬وإن جاءت به كذا وكذا‪ ،‬فل أراه إل كذب‬
‫عليها))‪ ،‬فجاءت به على النعتِ المكروه‪ ،‬فعلم أنه صَدَقَ عليها‪ ،‬ولم َي ْعرِضْ لها‪ ،‬ولم يفسخ حكم‬
‫اللعان‪ ،‬فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها‪ ،‬فكذلك لو جاءت به على شبه الزوج‬
‫يعلم أنه كَ َذبَ عليها‪ ،‬ول يُغير ذلك حكم اللعان‪ ،‬فيحد الزوج ويلحق به الولد‪ ،‬فليس قوله‪ :‬إن جاءت‬
‫به كذا وكذا فهو الهلل بن أمية إلحاقاً له به فى الحكم‪ ،‬كيف وقد نفاه باللعان‪ ،‬وانقطع نسبُه به‪ ،‬كما‬
‫أن قوله‪ :‬وإن جاءت به كذا وكذا‪ ،‬فهو للذى رميت به‪ .‬ليس إلحاقاً به‪ ،‬وجعله ابنه‪ ،‬وإنما هو إخبارٌ‬

‫‪215‬‬
‫عن الواقع‪ ،‬وهذا كما لو حكم بأيمان القَسَامَةِ ثمَ أظهر ال سبحانه آي ًة تدل على كذب الحالفين‪ ،‬لم‬
‫ح ْكمُها بذلك‪ ،‬وكذا لو حكم بالبراءة مِن الدعوى بيمين‪ ،‬ثم أظهر ال سبحانه آية تدل على‬
‫ينتقض ُ‬
‫أنها يمينٌ فاجرة‪ ،‬لم يبطل الحكم بذلك‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل إذا قذف امرأَته بالزنى برجل بعينه‪ ،‬ثم ل عنها‪ ،‬سقطَ الحدّ عنه لهما‪ ،‬ول‬
‫ومنها‪ :‬أن الرج َ‬
‫ج إلى ذِكر الرجل فى لعانه‪ ،‬وإن لم يُلعن‪ ،‬فعليه لكل واحد منهما حَدّه‪ ،‬وهذا موضعٌ اخ ُتِلفَ‬
‫يحتا ُ‬
‫فيه‪ ،‬فقال أبو حنيفة ومالك‪ :‬يُلعن للزوجة‪ ،‬ويحد للجنبى‪ ،‬وقال الشافعى فى أحد قوليه‪ :‬يجب عليه‬
‫حدّ واحد‪ ،‬ويسقط عنه الحَدّ لهما بلعانه‪ ،‬وهو قولُ أحمد‪ ،‬والقول الثانى للشافعى‪ :‬أنه يحد لِكل واحد‬
‫ف اللعان‪،‬‬
‫حداً‪ ،‬فإن ذكر المقذوفَ فى لِعانه‪ ،‬سقط الحدّ‪ ،‬وإن لم يذكره فعلى قولين‪ ،‬أحدهما‪ :‬يستأ ِن ُ‬
‫ويذكره فيه‪ ،‬فإن لم يذكره‪ ،‬حُ ّد له‪ .‬والثانى‪ :‬أنه يسقط حدّه بلعانه‪ ،‬كما يسقط ح ّد الزوجة‪.‬‬
‫وقال بعضُ أصحاب أحمد‪ :‬القذفُ للزوجة وحدها‪ ،‬ول يتعلّق بغيرها حق المطالبة ول الحد‪.‬‬
‫وقال بعضُ أصحاب الشافعى‪ :‬يجبُ الحدّ لهما‪ ،‬وهل يجب حدّ أو حدّانِ؟ على وجهينِ‪ ،‬وقال بعض‬
‫أصحابه‪ :‬ل يجب إل حداً واحداً قولً واحداً‪ ،‬ول خلف بين أصحابه أنه إذا لعن الجنبى فى‬
‫لعانه‪ :‬أنه يسقط عنه حُكمُه‪ ،‬وإن لم يذكره‪ ،‬فعلى قولين‪ :‬الصحيح عندهم‪ :‬أنه ل يسقط‪.‬‬
‫والذين أسقطوا حكم قذفِ الجنبى باللعان‪ ،‬حجتّهم ظاهرة وقوية جداً‪ ،‬فإنه صلى ال عليه‬
‫وسلم لم يحد الزوج بشريك بن سحماء‪ ،‬وقد سماه صريحاً‪ ،‬وأجاب الخرون عن هذا بجوابين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن المقذوفَ كان يهودياً‪ ،‬ول يجب الحدّ بقذف الكافر‪ .‬والثانى‪ :‬أنه لم يُطالب به‪ ،‬وحدّ‬
‫القذف إنما يُقام بعد المطالبة‪.‬‬
‫وأجاب الخرون عن هذين الجوابين‪ ،‬وقالوا‪ :‬قولُ من قال‪ :‬إنه يهودى باطل‪ ،‬فإنه شريك بن‬
‫ف النصار‪ ،‬وهو أخو البراء بن مالك لمه‪ .‬قال عبد العزيز بن بزيزة‬
‫عبدة وأمه سحماء‪ ،‬وهو حلي ُ‬
‫ل العلم فى شريك بن سحماء المقذوف‪ ،‬فقيل‪ :‬إنه كان‬
‫فى شرحه لحكام عبد الحق‪ :‬قد اختلفَ أه ُ‬
‫يهوديًا وهو باطل‪ ،‬والصحيح‪ :‬أنه شريك بن عدة حليف النصار‪ ،‬وهو أخو البراء بن مالك لمه‪.‬‬
‫وأما الجواب الثانى‪ ،‬فهو ينقلب حُجّةَ عليكم‪ ،‬لنه لما استقرّ عنده أنه ل حق له فى هذا القذف لم‬
‫يطالِب به‪ ،‬ولم يتعرّض له‪ ،‬وإل كيف يسكت عن براءة عرضه‪ ،‬وله طريق إلى إظهارها بحدّ‬
‫قاذفة‪ ،‬والقوم كانُوا أشدّ حميّ ًة وأنَفَ ًة مِن ذلك؟ وقد تقدّم أن اللعان أقيمَ مقام البينة للحاجة‪ ،‬وجعل بدلً‬
‫جبُ الح ّد عليها إذا نكلت‪ ،‬فإذا كان بمنزلة الشهادة‬
‫مِن الشهود الربعة‪ ،‬ولهذا كان الصحيح أنه يُو ِ‬

‫‪216‬‬
‫فى أحد الطرفين كان بمنزلتها فى الطرف الخر‪ ،‬ومِن المحال أن تح ّد المرأة باللعان إذا َن َكلَت‪ ،‬ثم‬
‫يُحد القاذف ح ّد القذف وقد أقام البينة على صدق قوله‪ ،‬وكذلك إن جعلناه يميناً فإنها كما درأت عنه‬
‫الح ّد مِن طرف الزوجة‪ ،‬درأت عنه مِن طرف المقذوف‪ ،‬ول فرق‪ ،‬لن به حاجة إلى قذف الزانى‬
‫ج إلى ذِكره ليستدل بشبه الولد له على صدق قاذفه‪ ،‬كما‬
‫لما أفسد عليه مِن فراشه‪ ،‬وربما يحتا ٌ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم على صِدق هلل بشبه الولد بشريك بن سحماء‪ ،‬فوجب أن يسقط‬
‫استدل النب ّ‬
‫حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها‪ ،‬وقد قال النبى صلى ال عليه وسلم للزوج‪(( :‬البينة وإل حدّ فى‬
‫ظهرك))‪ ،‬ولم يقل‪ :‬وإل حَدّانِ‪ ،‬هذا والمرأةُ لم تُطاِلبْ بح ّد القذف‪ ،‬فإن المطالبة شرطٌ فى إقامة‬
‫الحدّ‪ ،‬ل فى وجوبه‪ ،‬وهذا جواب آخر عن قولهم‪ :‬إن شريكًا لم يُطالب بالحدّ‪ ،‬فإن المرأةَ أيضًا لم‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬البينةُ وإل حَ ّد فى ظهرك))‪.‬‬
‫تُطالب به‪ ،‬وقد قال له النب ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون‪ :‬لو قذف أجنبية بالزنى برجل سماه؟ فقال‪ :‬زنى بكِ فلن‪ ،‬أو زنيتِ به؟‬
‫قيل‪ :‬هاهنا يجب عليه حدانِ‪ ،‬لنه قاذف لكل واحد منهما‪ ،‬ولم يأتِ بما يُسقط موجبَ قذفه‪ ،‬فوجبَ‬
‫عليه حكمه‪ ،‬إذ ليس هنا بينة بالنسبة إلى أحدهما‪ ،‬ول ما يقومُ مقامَها‪.‬‬
‫فصل‬
‫ج إلى أن يلعن‬
‫حتَ ْ‬
‫ومنها‪ :‬أنه إذا لعنها وهى حامل‪ ،‬وانتفى مِن حملها‪ ،‬انتفى عنه‪ ،‬ولم يَ ْ‬
‫بعد وضعه كما دلت عليه السنةُ الصحيح ُة الصريحةُ‪ ،‬وهذا موضع اختلف فيه‪ .‬فقال أبو حنيفة‬
‫رحمه ال‪ :‬ل يُلعن لِنفيه حتى َتضَعَ لحتمال أن يكون رِيحاً َف َتنْ َفشّ‪ ،‬ول يكون لِلعان حينئذ معنى‪،‬‬
‫ف عنه حتى‬
‫وهذا هو الذى ذكره الخِرقى فى ((مختصره))‪ ،‬فقال‪ :‬وإن نفى الحمل فى التعانه لم َي ْن َت ِ‬
‫ب على ذلك‪ ،‬وخالفهم أبو محمد المقدسى كما يأتى‬
‫بن ِفيَه عند وضعها له ويُلعن‪ ،‬وتبعه الصحا ُ‬
‫كلمُه‪ .‬وقال جمهورُ أهل العلم‪ :‬له أن يُلعِنَ فى حال الحمل اعتماداً على قصة هلل بن أمية‪ ،‬فإنها‬
‫صريحةٌ صحيحه فى اللعان حال الحمل‪ ،‬ونفى الولدِ فى تلك الحال‪ ،‬وقد قال النبى‪(( :‬إن جاءت به‬
‫على صِفَ ِة كذا وكَذَا‪ ،‬فل أراه إل قد صدق عليها )) الحديثَ‪ .‬قال الشيخ فى ((المغنى))‪ :‬وقال‬
‫مالك‪ ،‬والشافعى‪ ،‬وجماعة من أهل الحجاز‪َ :‬يصِحّ نفى الحمل‪ ،‬وينتفى عنه‪ ،‬محتجين بحديثِ هلل‪،‬‬
‫وأنه نفى حملها‪ ،‬فنفاه عنه النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وألحقه بالمّ‪ ،‬ول خَفَاءَ أنه كان حملً‪ ،‬ولهذا‬
‫قال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬انظروها‪ ،‬فإن جَا َءتْ به كذا وكذا))‪ ،‬قال‪ :‬ولن الحمل مظنون‬
‫ل من النفقة والفِطر فى الصيام‪،‬‬
‫بأمارات تدل عليه‪ ،‬ولهذا تثبت للحامل أحكا ٌم تُخالف فيها الحائ َ‬
‫وتركِ إقامة الحدّ عليها‪ ،‬وتأخي ِر القِصاص عنها‪ ،‬وغيرِ ذلك مما يطولُ ِذكُره‪ ،‬و َيصِحّ استلحاقُ‬

‫‪217‬‬
‫ل هو الصحيح‪ ،‬لموافقته ظواهر الحاديث‪ ،‬وما‬
‫الحمل‪ ،‬فكان كالولد بعد وضعه قال‪ :‬وهذا القو ُ‬
‫ج إلى‬
‫خالف الحديثَ ل يُعبأ به كائناتً ما كان‪ .‬وقال أبو بكر‪ :‬ينتفى الولد يزوالِ الفراش‪ ،‬ول يحتا ُ‬
‫ث لم ينقل نفىُ الحمل‪ ،‬ول تعرض لنفيه‪.‬‬
‫ذِكره فى اللعان احتجاجاً بظاهر الحاديث‪ ،‬حي َ‬
‫ح نفىُ الحمل واللعان عليه‪ ،‬فإن لعنها حاملً‪،‬‬
‫وأما مذهب أبى حنيفة رحمه ال‪ ،‬فإنه ل َيصِ ّ‬
‫ثم أتت بالولد‪ ،‬لزمه عنده‪ ،‬ولم يتمكن من نفيه أصلً‪ ،‬لن اللعان ل يكون إل بين الزوجين‪ ،‬وهذه قد‬
‫بانت بلعانها فى حال حملها‪.‬‬
‫قال المنازعون له‪ :‬هذا فيه إلزامُه ولداً ليس منه‪ ،‬وسدّ باب النتفاء مِن أولد الزنى‪ ،‬والُّ‬
‫سبحانه قد جعل له إلى ذلك طريقاً‪ ،‬فل يجوز سَدّها‪ ،‬قالوا‪ :‬وإنما تعتبر الزوجية فى الحال التى‬
‫أضاف الزنى إليها فيها‪ ،‬لن الولد الذى تأتى به يلحقُه‪ ،‬إذا لم ينفه‪ ،‬فيحتاج إلى نفيه‪ ،‬وه ِذهِ كانت‬
‫زوجتَه فى تلك الحال‪ ،‬فملك نفىَ ولدها‪ .‬وقال أبو يوسف‪ .‬ومحمد‪ :‬له أن ينفىَ الحمل بين الولدة‬
‫إلى تما ِم أربعينَ ليلة منها‪ .‬وقال عبد الملك بن الماجشُون‪ :‬ل يُلعن لنفى الحمل إل أن ينفيَهُ ثانية‬
‫علِمَ بالحمل فأمكنه الحاكم مِن اللعان‪ ،‬فلم يلعن‪ ،‬لم يكن له أن ينفيَهُ‬
‫بعد الولدة‪ .‬وقال الشافعىّ‪ :‬إذا َ‬
‫بعدُ‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون‪ :‬لو استحلق الحملَ‪ ،‬وقذفها بالزنى‪ ،‬فقال‪ :‬هذا الولدُ منى وقد‬
‫زنت‪ ،‬ما حُكمُ هذه المسألة؟ قيل‪ :‬قد اختلف العلماء فى هذه المسألة على ثلث أقوال‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه ُيحَ ّد ويُلحق به الولدُ‪ ،‬ول يُمكّن من اللعان‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنه يُلعن‪ ،‬وينتفى الولد‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أنه يُلعن للقذف‪ ،‬ويلحقه الولدُ‪ ،‬والثلثة روايات عن مالِك‪ ،‬والمنصوص عن‬
‫أحمد‪ :‬أنه ل َيصِحّ استلحاقُ الولد كما ل يصح نفيه‪.،‬قال أبو محمد‪ :‬وإن استلحق الحمل‪ ،‬فمن قال‪:‬‬
‫ل َيصِحّ نفيه‪ ،‬قال‪ :‬ل يصح استلحاقُه‪ ،‬وهو المنصوصُ عن أحمد‪ .‬ومن أجاز نفيه‪ ،‬قال‪َ :‬يصِحّ‬
‫استلحقاقُه‪ ،‬وهو مذهبُ الشافعى‪ ،‬لنه محكو ٌم بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث‪ ،‬فصح‬
‫القرار به كالمولود‪ ،‬وإذا استلحقه‪ ،‬لم يملك نفيَه بعد ذلك‪ ،‬كما لو استلحقه بعد الوضع‪ .‬ومن قال‪ :‬ل‬
‫َيصِحّ استلحاقُه‪ ،‬قال‪ :‬لو صح استلحاقُه‪ ،‬للزمه بترك نفيه كالمولود‪ ،‬ول يلزمُه ذلك بالجماع‪،‬‬
‫ث المُلعنة‪ ،‬وذلك مختص بما بع َد الوضع‪ ،‬فاختص صحة‬
‫شبَه أثرٌ فى اللحاق‪ ،‬بدليل حدي ِ‬
‫وليس لِل ّ‬
‫اللحاق به‪ ،‬فعلى هذا لو استلحقه‪ ،‬ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك‪ ،‬فأما إن سكت عنه‪ ،‬فلم ينفه‪ ،‬ولم‬

‫‪218‬‬
‫يستلحقه‪ ،‬لم يلزمه عند أحد علمنا قولَه‪ ،‬لن تركه محتمل‪ ،‬لنه ل يتحقّقُ وجودُه إل أن يُلعنها‪،‬‬
‫فإن أبا حنيفة ألزمه الولَد على ما أسلفناه‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل يُدعى ولدها‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم بينهما‪ ،‬وقضي أ ّ‬
‫ل ابن عباس‪ :‬ففرّق رسو ُ‬
‫وقو ُ‬
‫لب‪ ،‬ول تُرمى‪ ،‬ومن رماها‪ ،‬أو رمى ولدها‪ ،‬فعليه الحدّ‪ ،‬وقضى أن ل بيتَ لها عليه ول قوت‪،‬‬
‫ومن أجل أنهما يفترقان من غير طلق ول متوفى عنها‪.‬‬
‫وقولُ سهل‪ :‬فكان ابنُها يُدعى إلى أمه‪ ،‬ثم جرت السنةُ أنه يرثها وترِث منه ما فرض ال‬
‫لها‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬مضت السنة فى المتلعنين أن يُفرّقَ بينهما‪ ،‬ثم ل يجتمعان أبداً‪.‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم بينهما‪ ،‬وقال‪ :‬ل‬
‫وقال الزهرى‪ ،‬عن سهل بن سعد‪ :‬فرّق رسو ُ‬
‫يجتمعان أبداً‪.‬‬
‫ت صَدَ ْقتَ عليها‪ ،‬فهو بما‬
‫وقول الزوج‪ :‬يا رسولَ ال‪ ،‬مالى؟ قال‪(( :‬ل مال لك‪ ،‬إن ُك ْن َ‬
‫ت كذبتَ عليها‪ ،‬فهو أبع ُد لك منها))‪.‬‬
‫استحللتَ مِن فرجها‪ ،‬وإن كن َ‬
‫فتضمنت هذه الجملةُ عشرةَ أحكام‪:‬‬
‫ق بين المتلعنين‪ ،‬وفى ذلك خمسة مذاهب‪.‬‬
‫الحكم الول‪ :‬التفري ُ‬
‫ل أبى عبيد‪ ،‬والجمهورُ‬
‫أحدها‪ :‬أن الفرقةَ تحصلُ بمجرد القذفِ‪ ،‬هذا قو ُ‬
‫خالفوه فى ذلك‪ ،‬ثم اختلفوا‪.‬‬
‫فقال جابر بن زيد‪ ،‬وعثمان ال َبتّى‪ ،‬ومحمد بن أبى صُفرة‪ ،‬وطائفة من‬
‫فُقهاء البصرة‪ :‬ل يقع باللعان فرقةٌ البتة‪ ،‬وقال ابن أبى صفرة‪ :‬اللعانُ ل يَقْطَعُ العِصمة‪ ،‬واحتجوا‬
‫بأن النبىّ صلى ال عليه وسلم لم يُنكِر عليه الطلقَ بعد اللعانِ‪ ،‬بل هو أنشأ طلقَها‪ ،‬ونزّه نفسه أن‬
‫ى صلى ال عليه‬
‫سكَ من قد اعترف بأنها زنت‪ ،‬أو أن يقومَ عليه دليل كذب بإمساكها‪ ،‬فجعل النب ّ‬
‫ُيمْ ِ‬
‫جبُ الفرقة‪ ،‬ثم اختلفوا على ثلثة‬
‫وسلم فِعلَه سنة‪ ،‬ونازع هؤلء جمهور العلماء‪ ،‬وقالوا‪ :‬اللعانُ يُو ِ‬
‫مذاهب‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أنها تقع بمجرد لِعان الزوج وحدَه‪ ،‬وإن لم تلتعِن‬
‫المرأة‪ ،‬وهذا القولُ مما تفرّد به الشافعى‪ ،‬واحتج له بأنها فُرقة حاصلة بالقول‪ ،‬فحصلت بقول‬
‫الزوج وحدَه كالطلق‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫المذهب الثانى‪ :‬أنها ل تحصلُ إل بلعانهما جميعاً‪ ،‬فإذا‬
‫تَ ّم لِعانهما‪ ،‬وقعت الفرقةُ‪ ،‬ول يعتبر تفريقُ الحاكم‪ ،‬وهذا مذهبُ أحمد فى إحدى الروايتين عنه‬
‫ع إنما ورد بالتفريق بين‬
‫ل مالك وأهلِ الظاهر‪ ،‬واحتج لهذا القول بأن الشر َ‬
‫اختارها أبو بكر‪ ،‬وقو ُ‬
‫المتلعنين‪ ،‬ول يكونان متلعنين بلعان الزوج وحده‪ ،‬وإنما فرّق النبىّ صلى ال عليه وسلم بينهما‬
‫بعد تما ِم اللعان منهما‪ ،‬فالقولُ بوقوع الفرقِة قبلَه مخالفٌ لمدلولِ السنة وفعل النبى صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬واحتجّوا بأن لفظ اللعان ل يقتضى فُرقة‪ ،‬فإنه إما أيمان على زناها‪ ،‬وإما شهادة به‪ ،‬وكلهما‬
‫ل يقتضى فُرقة‪ ،‬وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمامِ لعانهما لِمصلحة ظاهرة‪ ،‬وهى أن الَّ‬
‫ل منهما سكناً للخر‪ ،‬وقد زال هذا بالقذف‪،‬‬
‫سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة‪ ،‬وجعل ك ً‬
‫وأقامها مقام الخزى والعار والفضيحة‪ ،‬فإنه إن كان كاذباً فقد فضحها وبهتها‪ ،‬ورماها بالداء‬
‫العُضال‪ ،‬ون ّكسَ رأسها ورؤوس قومها‪ ،‬وهتكها على رؤوس الشهاد‪ .‬وإن كانت كاذبة‪ ،‬فقد أفسدت‬
‫فراشه‪ ،‬وعرّضته للفضيحة والخزى والعار بكونه زوجَ بغى‪ ،‬وتعليق ولد غيره عليه‪ ،‬فل يحصلُ‬
‫بعد هذا بينهما مِن المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوبٌ بالنكاح‪ ،‬فكان مِن محاسن شريعة‬
‫السلم التفريقُ بينهما‪ ،‬والتحري ُم المؤبد على ما سنذكره‪ ،‬ول يترتب هذا على بعض اللعان كما ل‬
‫يتر ّتبُ على بعض لعان الزوج‪ .‬قالوا‪ :‬ولنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين‪ ،‬فلم يثبت بأيمان أحدهما‪،‬‬
‫كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الختلف‪.‬‬
‫المذهب الثالث‪ :‬أن الفرقةَ ل تحصُل إل بتمام‬
‫ب أبى حنيفة‪ ،‬وإحدى الروايتين عن أحمد‪ ،‬وهى ظاهر كلم‬
‫لعانهما‪ ،‬وتفريق الحاكم‪ ،‬وهذا مذه ُ‬
‫الخِرقى‪ ،‬فإنه قال‪ :‬ومتى تلعنا‪ ،‬وفرق الحاكمُ بينهما‪ ،‬لم يجتمعا أبداً‪ .‬واحتج أصحابُ هذا القولِ‬
‫بقول ابن عباس فى حديثه‪ :‬ففرّق رسول ال صلى ال عليه وسلم بينهما‪ .‬وهذا يقتضى أن الفُرقة لم‬
‫تتَحصُلْ قبله‪ ،‬واحتجوا بأن عويمراً قال‪ :‬كذبتُ عليها يا رسول ال‪ ،‬إن أمسكتها‪ ،‬فطلقها ثلثاً قبل‬
‫أن يأ ُم َرهُ رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهذا حج ٌة مِن وجهين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنه يقتضى إمكان‬
‫إمساكها‪ .‬والثانى‪ :‬وقوع الطلق‪ ،‬ولو حصلت الفرقةُ باللعان وحده‪ ،‬لما ثبت واح ٌد مِن المرين‪،‬‬
‫وفى حديث سهل بن سعد‪ :‬أنه طلقها ثلثاً‪ ،‬فأنفذه رسولُ ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫قال الموقعون للفُرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم‪ :‬اللعان معنىً يقتضى التحري َم المؤبّد‪،‬‬
‫كما سنذكره‪ ،‬فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع‪ ،‬قالوا‪ :‬ولن الفُرقة لو وقعت على تفريقِ‬
‫الحاكم‪ ،‬لساغ تركُ التفريق إذا كرهه الزوجان‪ ،‬كالتفريق بالعيب والعسار‪ ،‬قالوا‪ :‬وقولُه‪ :‬فرّق‬

‫‪220‬‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يحتمل أموراً ثلثة‪ .‬أحدها‪ :‬إنشاء الفرقة‪ .‬والثانى‪ :‬العلمُ بها‪ .‬والثالث‪:‬‬
‫إلزامُه بموجبها من الفرقة الحسية‪.‬‬
‫وأما قوله‪ :‬كذبت عليها إن أمسكتها‪ ،‬فهذا ل يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه‬
‫شرعاً‪ ،‬بل هو بادر إلى فراقها‪ ،‬وإن كان المر صائرًا إلى ما بادر إليه‪ ،‬وأما طلقُه ثلثةً‪ ،‬فما زاد‬
‫الفُرقة الواقعة إل تأكيداً‪ ،‬فإنها حرمت عليه تحريماً مؤبّداً‪ ،‬فالطلقُ تأكيد لهذا التحريم‪ ،‬وكأنه قال‪:‬‬
‫ل لى بعد هذا وأما إنفا ُذ الطلقِ عليه‪ ،‬فتقريرٌ لموجبه من التحريم‪ ،‬فإنها إذا لم تَحِل له باللعان‬
‫ل تَحِ ّ‬
‫ق الثلث تأكيدًا للتحريم الواقع باللعان‪ ،‬فهذا معنى إنفاذه‪ ،‬فلما لم ينكره عليه‪ ،‬وأَقرّه‬
‫أبداً‪ ،‬كان الطل ُ‬
‫ظ النبىّ‬
‫ك لف َ‬
‫على التكلم به وعلى موجبه‪ ،‬جعل هذا إنفاذاً من النبىّ صلى ال عليه وسلم وسهل لم يح ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ :‬وقع طلقُك‪ ،‬وإنما شاهد ال ِقصّة‪ ،‬وعد َم إنكار النبى صلى ال عليه‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫وسلم للطلق‪ ،‬فظن ذلك تنفيذاً‪ ،‬وهو صحيح بما ذكرنا من العتبار‪ ،‬وا ّ‬
‫فصل‬
‫الحكم الثانى‪ :‬أن فرقة اللعان فسخ‪ ،‬وليست بطلقٍ‪ ،‬وإلى هذا ذهب الشافعىّ وأحمد‪ ،‬ومن‬
‫قال بقولهما‪ ،‬واحتجوا بأنها فرق ٌة تُوجب تحريمًا مؤبّداً‪ ،‬فكانت فسخاً كفُرقة الرضاع‪ ،‬واحتجوا بأن‬
‫ج به الطلَق‪ ،‬فل يقع به الطلقُ‪ ،‬قالوا‪ :‬ولو كان‬
‫اللعان ليس صريحاً فى الطلق‪ ،‬ول نوى الزو ُ‬
‫اللعان صريحاً فى الطلق‪ ،‬أو كناية فيه‪ ،‬لوقع بمجرد لعان الزوج‪ ،‬ولم يتوقف على لِعان المرأة‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬ولنه لو كان طلقاً‪ ،‬فهو طلق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلث‪ ،‬فكأن يكون‬
‫ن الطلقَ بيد الزوج‪ ،‬إن شاء طلقَ‪ ،‬وإن شاء أمسكَ‪ ،‬وهذا الفسخُ حاصِل بالشرع‬
‫رجعياً‪ .‬قالوا‪ :‬ول ّ‬
‫وبغير اختياره‪ ،‬قالوا‪ :‬وإذا ثبت بالسنة وأقوالِ الصحابة‪ ،‬ودللةِ القرآن‪ ،‬أن فرقة الخُلع ليست‬
‫بطلقٍ‪ ،‬بل هى فسخ مع كونها بتراضيهما‪ ،‬فكيف تكونُ فرق ُة اللعانِ طلقاً؟‪.‬‬
‫فصل‬
‫الحكم الثالث‪ :‬أن هذه الفُرقة توجب تحريمًا مؤبداً ل يجتمعان بعدها أبداً‪ .‬قال الوزاعى‪:‬‬
‫حدثنا الزبيدى‪ ،‬حدثنا الزهرى‪ ،‬عن سهل بن سعد‪ ،‬فذكر قصة الملعنين‪ ،‬وقال‪ :‬ففرق رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم بينهما وقال‪ :‬ل يجتمعان أبداً‪.‬‬
‫وذكر البيهقى من حديث سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عمر‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫المتلعنان إذا تفرقا ل يجتمعان أبداً‪.،‬قال‪ :‬وروينا عن على‪ ،‬وعبد ال بن عباس رضى ال عنهم‪،‬‬
‫قال‪ :‬مضت السنة فى المتلعنين أن ل يجتمعا أبداً‪ .‬قال‪ :‬وروى عن عمر بن الخطاب رضى ال‬

‫‪221‬‬
‫عنه أنه قال‪ :‬يفرق بينهما ول يجتمعان أبداً وإلى هذا ذهب أحمد‪ ،‬والشافعى ومالك‪ ،‬والثورىّ‪ ،‬وأبو‬
‫عُبيد‪ ،‬وأبو يوسف‪.‬‬
‫وعن أحمد رواية أخرى‪ :‬أنه إن أكذب نفسه‪ ،‬حلّت له‪ ،‬وعاد فِراشه بحاله‪ ،‬وهى رواية شاذة‬
‫شذّ بها حنبل عنه‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬ل نعلَمُ أحداً رواها غيره‪ ،‬وقال صاحب ((المغنى))‪ :‬وينبغى أن‬
‫تُحمل هذه الرواية على ما إذا لم يُفّرق بينهما‪ .‬فأما مع تفريقِ الحاكم بينهما‪ ،‬فل وجهَ لبقاء النكاح‬
‫بحاله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الروايةُ مطلقة‪ ،‬ول أثر لتفريقِ الحاكم فى دوام التحريم‪ ،‬فإن الفُرقة الواقعة بنفس‬
‫اللعان أقوى من الفُرقة الحاصلة بتفريق الحاكم‪ ،‬فإذا كان إكذاب نفسه مؤثراً فى تلك الفُرقة القوية‪،‬‬
‫رافعًا للتحريم الناشىء منها‪ ،‬فلن يُؤ ّثرَ فى الفُرقة التى هى دونها‪ ،‬ويرفعَ تحريمها أولى‪.‬‬
‫وإنما قُلنا‪ :‬إن الفرقة بنفس اللعان أقوى مِن الفرق ِة بتفريق الحاكم‪ ،‬لن فُرقة اللعان تستنِدُ إلى‬
‫ق أو َأ َب ْوهُ‪ ،‬فهى فُرقة من الشارع بغير‬
‫حكم ال ورسوله‪ ،‬وسوا ٌء رضى الحاك ُم والمتلعِنانِ التفري َ‬
‫رِضى أحدٍ منهم ول اختياره‪ ،‬بخلفِ فُرقة الحاكم فإنه إنما يفرق باختياره‪.‬‬
‫وأيضاً فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه عليه‪ ،‬بخلف ما إذا توقّف‬
‫على تفريق الحاكم‪ ،‬فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة‪ ،‬ول كان له سلطانٌ عليها‪ ،‬وهذه الروايةُ‬
‫ب أبى حنيفة‬
‫هى مذهبُ سعي ِد بن المسيب‪ ،‬قال‪ :‬فإن أكذب نفسَه‪ ،‬فهو خاطبٌ من الخُطّاب‪ ،‬ومذه ُ‬
‫ومحمد‪ ،‬وهذا على أصله اطرد‪ ،‬لن فُرقة اللعان عنده طلق‪ .‬وقال سعي ُد بن جبير‪ :‬إن أكذب نفسه‪،‬‬
‫رُدّت إليه ما دامت فى العدة‪.‬‬
‫ل الذى دلت عليه السنةُ الصحيح ُة الصريحةُ‪ ،‬وأقوالُ الصحابة رضى‬
‫ل الوّ ُ‬
‫والصحيح‪ :‬القو ُ‬
‫ال عنهم‪ ،‬وهو الذى تقتضيه حِكمةُ اللعان‪ ،‬ول تقتضى سواه‪ ،‬فإن لعنة ال تعالى وغضَبه قد حَلّ‬
‫جبَةُ))‪ ،‬أى‬
‫بأحدهما ل محالة‪ ،‬ولهذا قال النبى صلى ال عليه وسلم عند الخامسة‪(( :‬إنها المو ِ‬
‫ن هو الملعونَ‬
‫الموجبة لهذا الوعيد‪ ،‬ونحن ل نعلم عينَ مَنْ حلّت به يقيناً‪ ،‬ففرق بينهما خشي َة أن يكو َ‬
‫الذى قد وجبت عليه لعنةُ ال وباءَ بها‪ ،‬فيعلُو امرأ ًة غيرَ ملعونه‪ ،‬وحِكمة الشرع تأبى هذا‪ ،‬كما أبت‬
‫أن َي ْعُلوَ الكا ِفرُ مسلمة والزانى عفيفةً‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهذا يوجب أل يتزوج غيرَها لما ذكرتم بعينه؟‬
‫قيل‪ :‬ل يُوجب ذلك‪ ،‬لنا لم نتحقق أنه هو الملعون‪ ،‬وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك‪ ،‬وشككنا‬
‫فى عينه‪ ،‬فإذا اجتمعا‪ ،‬لزمه أح ُد المرين ولبد‪ ،‬إما هذا وإما إمساكُه ملعون ًة مغضوباً عليها قد‬

‫‪222‬‬
‫وجب عليها غضبُ ال‪ ،‬وباءت به‪ ،‬فأما إذا تزوّجت بغيره‪ ،‬أو تزوّج بغيرها‪ ،‬لم تتحقق هذه‬
‫المفسدة فيهما‪.‬‬
‫ل أبداً‪ ،‬فإن الرجل‬
‫وأيضاً فإن النفرة الحاصلة من إساءة كُلّ واح ٍد منهما إلى صاحبه ل تزو ُ‬
‫إن كان صادقاً عليها‪ ،‬فقد أشاعَ فاحِشتها‪ ،‬وفضحَها على رؤوس الشهاد‪ ،‬وأقامها مقام الخزى‪،‬‬
‫وحقق عليها الخزى والغضب‪ ،‬وقطع نسب ولدها‪ ،‬وإن كان كاذباً‪ ،‬فقد أضافَ إلى ذلك بهتَها بهذه‬
‫الفرية العظيمة‪ ،‬وإحراق قلبها بها والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الشهاد‪،‬‬
‫وأوجبت عليه لعنة ال‪ .‬وإن كانت كاذبة‪ ،‬فقد أفسدت فراشه وخانته فى نفسها‪ ،‬وألزمته العارَ‬
‫والفضيحة وأحوجتُه إلى هذا المقام المُخزى‪ ،‬فحصل ِلكُلّ واحدٍ منهما من صاحبه من النّفرة‬
‫ح ْكمَةٌ‬
‫شرْعُ ُه ُكلّه ِ‬
‫والوحشة‪ ،‬وسوء الظن ما ل يكاد يلتئم معه شملُهما أبداً‪ ،‬فاقتضت حِكمة مَنْ َ‬
‫ومصلح ٌة وعَدْلٌ ورحمةٌ تحتّم الفرقة بينهما‪ ،‬وقطع الصحبة المتمحّضةِ مفسدة‪.‬‬
‫صنَعَ مِن القبيح‬
‫وأيضاً فإنه إذا كان كاذباً عليها‪ ،‬فل ينبغى أن يُسلّطَ على إمساكها مع ما َ‬
‫ج بغى‪.‬‬
‫س َكهَا مع علمه بحالها‪ ،‬ويرضى لنفسه أن يكون زو َ‬
‫إليها‪ ،‬وإن كان صادقاً‪ ،‬فل ينبغى أن يُم ِ‬
‫ل له وطؤها بملك اليمين؟ قلنا‪ :‬ل‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون‪ :‬لو كانت أمة ثم اشتراها‪ ،‬هل يَحِ ّ‬
‫تَحِلّ له لنه تحريم مؤبّد‪ ،‬فحرمت على مشتريها كالرضاع‪ ،‬ولن المطلّق ثلثًا إذا اشترى مطلقته‬
‫ل له قبل زوج وإصابة‪ ،‬فهاهنا أولى‪ ،‬لن هذا التحري َم مؤبد‪ ،‬وتحريم الطلق غير مؤبد‪.‬‬
‫لم َتحِ ّ‬
‫فصل‬
‫ط صداقُها بعد الدخول‪ ،‬فل يَرج ُع به عليها‪ ،‬فإنه إن كان صادقاً‪،‬‬
‫الحكم الرابع‪ :‬أنها ل يَسْقُ ُ‬
‫ض الصداق‪ ،‬وإن كان كاذباً فأولى وأحرى‪.‬‬
‫فقد استحلّ من فرجها عو َ‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون‪ :‬لو وقع اللعانُ قبلَ الدخول‪ ،‬هل تحكمون عليه بنصف المهر‪،‬‬
‫أو تقولون‪ :‬يسقط جملة؟‬
‫قيل‪ :‬فى ذلك قولنِ للعلماء‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد مأخذهُما‪ :‬أن الفُرقة إذا كانت بسبب‬
‫من الزوجين كلعانهما أو منهما ومن أجنبى‪ ،‬كشرائها لزوجها قبل الدخول‪ ،‬فهل يسقط الصداقُ‬
‫تغليباً لجانبها كما لو كانت مست ِقلّضة بسبب الفُرقة أو نِصفُه تغليباً لجانبه‪ ،‬وأنه هو المشاركُ فى‬
‫سبب السقاط‪ ،‬والسيد الذى باعه متسبب إلى إسقاطه ببيعه إياها؟ فهذا الصل فيه قولن‪ .‬وكُلّ‬
‫شرَطَه‪ ،‬فإنه‬
‫ت الصداق كطلقه‪ ،‬إل فسخه لِعيبها‪ ،‬أو فواتِ شرطٍ َ‬
‫فُرقة جاءت مِن قبل الزوج نصّ َف ِ‬
‫ط ُكلّه‪ ،‬وإن كان هو الذى فسخ‪ ،‬لن سبب الفسخ منها وهى الحاملة له عليه‪ .‬ولو كانت الفرقُة‬
‫يسق ُ‬

‫‪223‬‬
‫بإسلمه‪ ،‬فهل يسقط عنه‪ ،‬أو تُنصفه؟ على روايتين فوجهُ إسقاطه‪ ،‬أنه فعل الواجب عليه‪ ،‬وهى‬
‫الممتنعة من فعل ما يجبُ عليها‪ ،‬فهى المتسببة إلى إسقاط صداقها بامتناعها من السلم‪ ،‬ووجهُ‬
‫ف أن سبب الفسخ من جهته‪.‬‬
‫التنصي ِ‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون فى الخلع‪ :‬هل يُنصفه أو يُسقطه؟‬
‫قيل‪ :‬إن قلنا‪ :‬هو طلق َنصّفه‪ ،‬وإن قلنا‪ :‬هو فسخ‪ ،‬فقال أصحابنا‪ :‬فيه وجهان‪ .‬أحدهما‪:‬‬
‫كذلك تغليباً لجانبه‪ .‬والثانى‪ :‬يسقطه لنه لم يستقل بسبب الفسخ‪ ،‬وعندى‪ ،‬أنه إن كان مع أجنبى‬
‫نصفه وجهاً واحداً‪ ،‬وإن كان معها‪ ،‬ففيه وجهان‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون‪ :‬لو كانت الفُرقة بشرائه لِزوجته من سيدها‪ :‬هل يُسقطه أو يُنصفه؟‬
‫قيل‪ :‬فيه وجهان‪ :‬أحدهما‪ :‬يسقطه‪ ،‬لن مستحق مهرها تسبّب إلى إسقاطه ببيعها‪ ،‬والثانى‪:‬‬
‫ينصّفه لن الزوج تسبب إليه بالشراء‪ ،‬وكُلّ فرقة جاءت من قبلها كردتها‪ ،‬وإرضاعها من يفسَخُ‬
‫إرضاعُه ِنكَاحَها‪ ،‬وفسخها لعسارِه أو عيبه فإنه يسقط مهرُها‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فقد قلتم‪ :‬إن المرأة إذا فسخت لعيب فى الزوج سقط مهرها‪ ،‬إذ الفُرقة من جهتها‪،‬‬
‫خ من جهته فتنصفوه‪ ،‬كما‬
‫وقلتم‪ :‬إن الزوجَ إذا فسخ لِعيب فى المرأة سقط أيضًا ولم تجعلوا الفس َ‬
‫جعلتموه لِفسخها لعيبه من جهتها‪ ،‬فأسقطتموه‪ ،‬فما الفرق؟ قيل‪ :‬الفرقُ بينهما أنه إنما بذل المهر فى‬
‫مقابلة بُضع سليم من العيوب‪ ،‬فإذا لم يتبين كذلك‪ ،‬وفسخ‪ ،‬عاد إليها كما خرج منها‪ ،‬ولم يستوفه‪،‬‬
‫ول شيئاً منه‪ ،‬فل يلزمه شىء من الصداق‪ ،‬كما أنها إذا فسخت لِعيبه لم تُسلم إليه المعقود عليه‪ ،‬ول‬
‫ق عليه شيئًا من الصداق‪.‬‬
‫شيئاً منه‪ ،‬فل تستحِ ّ‬
‫فصل‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫الحكم الخامس‪ :‬أنها ل نفقةَ لها عليه ول سكنى‪ ،‬كما قضى به رسو ُ‬
‫وسلم وهذا موافق لحكمه فى المبتوتة التى ل رجعةَ لزوجها عليها‪ ،‬كما سيأتى بيانُ حكمه فى ذلك‪،‬‬
‫ط النفقة والسكنى للملعنة أولى مِن سقوطها‬
‫وأنه موافقٌ لكتاب ال‪ ،‬ل مخالف له‪ ،‬بل سقو ُ‬
‫ل إلى أن ينكِحهَا فى عِدتها‪ ،‬وهذهِ ل سبيل له إلى نكاحها ل فى العدة‬
‫للمبتوتة‪ ،‬لن المبتوتَة له سبي ُ‬
‫ول بعدَها‪ ،‬فل وجه أصلً لوجوب نفقتها وسُكناها‪ ،‬وقد انقطعت العصمةُ انقطاعاً كلياً‪.‬‬
‫ن الذى‬
‫ب ال والميزا َ‬
‫ق بعضُها بعضاً‪ ،‬وكلها تُوافق كتا َ‬
‫فأقضيتُه صلى ال عليه وسلم يُوافِ ُ‬
‫أنزل ليقو َم الناسُ بالقسط‪ ،‬وهو القياسُ الصحيحُ‪ ،‬كما ستقر عينُك إن شاء ال تعالى بالوقوف عليه‬
‫عن قريب‬

‫‪224‬‬
‫وقال مالك‪ ،‬والشافعي‪ :‬لها السكنى‪ .‬وأنكر القاضى إسماعيل بن إسحاق هذا القول إنكاراً‬
‫شديداً‪.‬‬
‫وقوله‪(( :‬من أحل أنهما يتفرقان من غير طلق‪ ،‬ول متوفى عنها)) ل يدل مفهومه على أن‬
‫كل مطلقة‪ ،‬ومتوفى عنها لها النفقةُ والسكنى‪ ،‬وإنما يدل على أن هاتين الفُرقتين قد يجبُ معهما نفقة‬
‫وسكنى‪ ،‬وذلك إذا كانت المرأة حاملً‪ ،‬فلها ذلك فى فرقة الطلق اتفاقاً‪ ،‬وفى فرقة الموت ثلثة‬
‫أقوال‪ ،‬أحدها‪ :‬أنه ل نفقة لها ول سكنى‪ ،‬كما لو كانت حائلً‪ ،‬وهذا مذهبُ أبى حنيفة وأحمد فى‬
‫إحدى روايتيه‪ ،‬والشافعى فى أحد قوله‪ ،‬لزوال سبب النفقة بالموت على وجه ل يُرجى عودهُ‪ ،‬فلم‬
‫يبق إل نفقةُ قريب‪ ،‬فهى فى مال الطفل إن كان له مال‪ ،‬وإل فعلى من تلزمه نفقته من أقاربه‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أن لها النفقة والسكنى فى تركته تُقدم بها على الميراث‪ ،‬وهذا إحدى الروايتين عن‬
‫أحمد‪ ،‬لن انقطاع العصمة بالموت ل يزيد على انقطاعها بالطلق البائن‪ ،‬بل انقطاعها بالطلق‬
‫ل المرأةُ زوجَها بعد موته عند جمهور العلماء حتى المطلقة الرجعية عند أحمد‬
‫أشد‪ ،‬ولهذا تغس ُ‬
‫ومالك فى إحدى الروايتين عنه‪ ،‬فإذا وجبت النفق ُة والسّكنى للبائن الحامل‪ ،‬فوجوبُها للمتوفى عنها‬
‫زوجها أولى وأحرى‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أن لها السكنى دون النفقة حاملً كانت أو حائلً‪ ،‬وهذا قولُ مالك وأحدُ قولى‬
‫الشافعى إجراء لها مجرى المبتوتة فى الصحة‪ ،‬وليس هذا موضعَ بسطِ هذه المسائل وذكر أدلتها‪،‬‬
‫والتمييز بين راجحها ومرجوحها إذ المقصود أن قوله‪(( :‬من أجل أنهما يفترقان من غير طلق ول‬
‫ت والبيتُ فى‬
‫متوفى عنها زوجها)) إنما يدل على أن المطلقة والمتوفى عنها قد يجب لهما القو ُ‬
‫ج مِن قول‬
‫ل أعلم أن ُه مُ ْدرَ ٌ‬
‫الجملة‪ ،‬فهذا إن كان هذا الكلم مِن كلم الصحابى‪ ،‬والظاهر وا ّ‬
‫الزهرى‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬
‫الحكم السادس‪ :‬انقطاعُ نسب الولد من جهة الب‪ ،‬لن رسو َ‬
‫قضى أل يدعى ولدُها لب‪ ،‬وهذا هو الحقّ‪ ،‬وهو قولُ الجمهور‪ ،‬وهو أجلّ فوائد اللعان‪ ،‬وشذ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم قضى‬
‫ض أهل العلم‪ ،‬وقال‪ :‬المولود للفراش ل ينفيه اللعانُ البتة‪ ،‬لن النب ّ‬
‫بع ُ‬
‫أن الولد لِلفراش‪ ،‬وإنما ينفى اللعانُ الحمل‪ ،‬فإن لم يُلعنها حتى ولدت‪ ،‬لعن لسقاط الحد فقط‪ ،‬ول‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ينتفى ولدُها منه‪ ،‬وهذا مذهبُ أبى محمد بن حزم‪ ،‬واحتج عليه بأن رسو َ‬
‫ن ُولِ َد على فراشه ولد‪ ،‬فهو ولدُه إل حيثُ نفاه‬
‫قضى أن الولد لصاحب الفراش‪ ،‬قال‪ :‬فصح أن كل مَ ْ‬

‫‪225‬‬
‫ال على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو حيث يوقن بل شك أنه ليس ولده‪ ،‬ولم ينفه صلى ال‬
‫عليه وسلم إل وهى حامل باللعان فقط‪ ،‬فبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب‪ ،‬قال‪ :‬ولذلك قلنا‪ :‬إن‬
‫ل َتكْسِب كُلّ‬
‫صدقته فى أن الحمل ليس منه‪ ،‬فإن تصديقها له ل يُلتفت إليه لن ال تعالى يقول‪{ :‬وَ َ‬
‫عَل ْيهَا} [النعام‪ ]164 :‬فوجب أن إقرار البوين يصدُق على نفى الولد‪ ،‬فيكون كسبًا على‬
‫نَ ْفسٍ إلّ َ‬
‫لّ الول َد إذا أكذبته المّ‪ ،‬والتعنت هى والزوج فقط‪ ،‬فل ينتفى فى غير هذا‬
‫غيرهما‪ ،‬وإنما نفى ا ُ‬
‫الموضع‪ ،‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫ب من يقول‪ :‬إنه ل يصح اللعان على الحمل حتى تضع‪ ،‬كما يقول أحمد وأبو‬
‫وهذا ضد مذه ِ‬
‫حنيفة‪ ،‬والصحيح‪ :‬صحتُه على الحمل‪ ،‬وعلى الولد بعد وضعه‪ ،‬كما قاله مالك والشافعى‪ ،‬فالقوال‬
‫ثلثة‪.‬‬
‫ول تنافى بين هذا الحكم وبين الحكم بكون الولد للفراش بوجه ما‪ ،‬فإن الفراش قد زال‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم بأن الولدَ للفراش عند تعارض الفراش‪ ،‬ودعوى‬
‫باللعان‪ ،‬وإنما حكم رسو ُ‬
‫ب الفراش قد نفى الولَد‬
‫الزانى‪ ،‬فأبطل دعوى الزانى للولد وحكم به لصاحب الفراش‪ ،‬وهاهنا صاح ُ‬
‫عنه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون‪ :‬لو لعن لمجرد نفى الولد مع قيام الفراش‪ ،‬فقال‪ :‬لم تزن‪ ،‬ولكن ليس‬
‫هذا الول ُد ولدى؟‬
‫قيل‪ :‬فى ذلك قولن للشافعى‪ ،‬وهما روايتان منصوصتان عن أحمد‪.‬‬
‫إحداهما‪ :‬أنه ل لِعان بينهما‪ ،‬ويلزمه الولدُ‪ ،‬وهى اختيار الخرقى‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬أن له أن يُلعِنَ لنفى الولد‪ ،‬فينتفى عنه بلعانه وحده‪ ،‬وهى اختيا ُر أبى البركات ابن‬
‫تيمية‪ ،‬وهى الصحيحة‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فخالفتم حك َم رسول ال صلى ال عليه وسلم ((أن الولد للفراش)) قلنا‪ :‬معاذ ال‪،‬‬
‫بل وافقنا أحكامَه حيث وقع غيرُنا فى خلف بعضها تأويلً‪ ،‬فإنه إنما حكم بالولد للفراش حيث‬
‫ادعاه صاحبُ الفراش‪ ،‬فرجح دعواه بالفراش‪ ،‬وجعله له‪ ،‬وحكم بنفيه عن صاحب الفراش حيث‬
‫ل يُدعى لب‪ ،‬فوافقنا الحكمين‪ ،‬وقلنا بالمرين‪ ،‬ولم نفرق‬
‫نفاه عن نفسه‪ ،‬وقطع نسبه منه‪ ،‬وقضى أ ّ‬
‫ل ونفيه مولوداً‪ ،‬فإن الشريعة ل تأتى على هذا‬
‫تفريقاً بارداً جداً سمجًا ل أثر لَهُ فى نفى الولد حم ً‬
‫ل نصيبه مِن ذوق الفقه وأسرارِ‬
‫الفرق الصّورى الذى ل معنى تحته البتة‪ ،‬وإنما يرتضى هذا مَنْ قَ ّ‬
‫ل المستعان‪ ،‬وبه التوفيق‪.‬‬
‫الشريعةِ وحِك ِمهَا ومعانِيها‪ ،‬وا ّ‬

‫‪226‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫فصل‬ ‫@‬
‫ق الولد بأمّه عند انقطاع نسبه مِن جهة أبيه‪ ،‬وهذا اللحاق يُفيد حكماً‬
‫الحكم السابع‪ :‬إلحا ُ‬
‫ج الولدِ منها أمر‬
‫زائداً على إلحاقه بها مع ثبوت نسبه من الب‪ ،‬وإل كان عديمَ الفائدة فإن خرو َ‬
‫ل مع ثبوتِ النسب من الب‪ ،‬وقد‬
‫محقق‪ ،‬فلبد فى اللحاق من أمر زائد عليه‪ ،‬وعلى ما كان حاص ً‬
‫اختُلفَ فى ذلك‪.‬‬
‫ب الولد من الم‪ ،‬كما انقط َع مِن الب‪،‬‬
‫فقالت طائفة‪ :‬أفادَ هذا اللحاق قط َع توهمِ انقطاعِ نس ِ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم هذا الوَهم وألحق بالم‪ ،‬وأكّدَ‬
‫وأنه ل يُنسب إلى أمّ‪ ،‬ول إلى أبٍ‪ ،‬فقطع النب ّ‬
‫هذا بإِيجابه الح ّد على من قذفه أو قذفَ أمه‪ ،‬وهذا قول الشافعى ومالك‪ ،‬وأبى حنيفة‪ ،‬وكُل من ل‬
‫يرى أن أمه وعصباتها له‪.‬‬
‫ل النسب الذى كان إلى أبيه‬
‫وقالت طائفة ثانية‪ :‬بل أفادنا هذا اللحاق فائد ًة زائدة‪ ،‬وهى تحوي ُ‬
‫إلى أمه‪ ،‬وجعل أمّه قائمةً مقام أبيه فى ذلك‪ ،‬فهى عصبتُه وعصباتُها أيضاً عصبته‪ ،‬فإذا مات‪،‬‬
‫ل هو الصواب‪ ،‬لما روى أهل‬
‫ل ابن مسعود‪ ،‬ويُروى عن على‪ ،‬وهذا القو ُ‬
‫حازَت ميراثَهُ‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫السنن الربعة‪ ،‬من حديث واثلة بن السقع‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬تَحُوزُ ال َم ْرَأةُ‬
‫عَليْهِ))‪ ،‬ورواه المام أحمد وذهب إليه‪.‬‬
‫ع َنتْ َ‬
‫عتِيقها‪ ،‬ولَقِيطَها‪َ ،‬و َولَدَها الّذى لَ َ‬
‫ثَلثَةَ َموَارِيثَ‪َ :‬‬
‫وروى أبو داود فى ((سننه))‪ :‬من حديث عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده عن النبىّ‬
‫ن َبعْدِهَا‪.‬‬
‫عنَةِ لمّه ولِورثِتهَا مِ ْ‬
‫ث ابن المُلَ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه جعل مِيرَا َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وفى السنن أيضاً مرسلً‪ :‬من حديث مكحول‪ ،‬قال‪ :‬جعلَ رسو ُ‬
‫ن َبعْدِهَا‪.‬‬
‫لمّه ولوِرثِتها مِ ْ‬
‫عنَةِ ُ‬
‫ن المُلَ َ‬
‫ميراثَ اب ِ‬
‫وهذه الثارُ موافقة لمحضِ القياس‪ ،‬فإن النسَب فى الصل للب‪ ،‬فإذا انقطع مِن جهته صار‬
‫للم‪ ،‬كما أن الولء فى الصل لمعتق الب‪ ،‬فإذا كان الب رقيقاً كان لمعتق الم‪ .‬فلو أعتق البُ‬
‫بعد هذا‪ ،‬انجز الول ُء مِن موالى الم إليه‪ ،‬ورجع إلى أصله‪ ،‬وهو نظي ُر ما إذا كذب الملعن نفسه‪،‬‬
‫ض القياس‪ ،‬وموجبُ‬
‫واستلحق الولد‪ ،‬رجع النسبُ والتعصيب من الم وعصبتها إليه‪ .‬فهذا مح ُ‬
‫ح ْبرِ المة وعالمِها عبد الِّ بن مسعود‪ ،‬ومذهبُ إمامى أهل الرض‬
‫الحاديث والثار‪ ،‬وهو مذهبُ َ‬
‫ل القرآن بألطف إِيماء وأحسنه‪ ،‬فإن ال‬
‫فى زمانهما‪ ،‬أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه‪ ،‬وعليه يَدُ ّ‬
‫سبحانه جعل عيسى مِن ذرية إبراهيم بواسطة مريم أمّه‪ ،‬وهَى مِن صَميم ذرية إبراهيم‪ ،‬وسيأتى‬

‫‪227‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم وأحكامه فى الفرائض إن شاء ال‬
‫مزيدُ تقرير لهذا عند ذكر أقضيةِ النب ّ‬
‫تعالى‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تصنعون بقوله فى حديث سهل الذى رواه مسلم فى ((صحيحه)) فى قصة‬
‫ث ِم ْنهَا و َت ِرثَ منه ما فرضَ ال لها؟ قيل‪ :‬نتلقاه بالقبول‬
‫اللعان‪ :‬وفى آخره‪ :‬ثم جرت السنةُ أن ِي َر َ‬
‫والتسليم والقول بموجبه‪ ،‬وإن أمكن أن يكون مدرجاً من كلم ابن شهاب وهو الظا ِهرُ‪ ،‬فإن تعصيبَ‬
‫الم ل يُسقط ما فرض ال لها من ولدها فى كتابه‪ ،‬وغايتُها أن تكونَ كالب حيث يجتمع له الفرض‬
‫والتعصيب‪ ،‬فهى تأخذ فرضها ولبُدّ فإن فصل شى ٌء أخذته بالتعصيب‪ ،‬وإل فازت بفرضها‪ ،‬فنحن‬
‫قائلون بالثار ُكلّها فى هذا الباب بحمد ال وتوفيقه‪.‬‬
‫فصل‬
‫الحكمُ الثامن‪(( :‬أنها ل تُرمى ول يُرمى ولدُها‪ ،‬ومَنْ رماها أو َرمَى ولَدَها‪ ،‬فعليه الحَدّ))‬
‫وهذا لن لِعانها نفى عنها تحقيقَ ما ُر ِم َيتْ به‪ ،‬فيُحدّ قاذِفُها وقا ِذفُ ولدها‪ ،‬هذا الذى دلّت عليهِ السّنة‬
‫الصحيح ُة الصريحةُ‪ ،‬وهو قولُ جمهور المة‪ ،‬وقال أبو حنيفة‪ :‬إن لم يكن هناك ولد نُ ِفىَ نسبُه‪ ،‬حُدّ‬
‫قاذفها‪ ،‬وإن كان هناك ولد نُفى نسبه‪ ،‬لم يُحَدّ قاذفها‪ ،‬والحديثُ إنما هو فيمن لها ولد نفاه الزوجُ‪،‬‬
‫ق أنه متى نَفَى نسب ولدها‪ ،‬فقد حكم بزناها بالنسبة إلى الولد فأثر ذلك‬
‫والذى أوجب له هذا الفر َ‬
‫شبهةً فى سقُوط ح ّد القذف‪.‬‬
‫فصل‬
‫الحكم التاسع‪ :‬أن هذه الحكام إنما ترتبت على لِعانهما معاً‪ ،‬وبعد أن تَمّ اللعانانِ‪ ،‬فل يترتب‬
‫شىء منها على لِعان الزوج وحده‪ ،‬وقد خرّج أبو البركات ابن تيمية على هذا المذهب انتفاء الولد‬
‫بلعان الزوج وحدَه‪ ،‬وهو تخريجٌ صحيح‪ ،‬فإن لِعانه كما أفاد سقوطَ الحد وعا َر القذف عنه مِن غير‬
‫اعتبار لعانها‪ ،‬أفاد سقوطَ النسب الفاسد عنه‪ ،‬وإن لم تُلعن هى‪ ،‬بطريق الولى‪ ،‬فإنّ تضرره‬
‫بدخول النسب الفاسِد عليه أعظمُ مِن تضرره بحدّ القذف‪ ،‬وحاجته إلى نفيه عنه أش ّد مِن حاجته إلى‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫دفعِ الحد‪ ،‬فلِعانه كما استقلّ بدفعِ الحد استقلّ بنفى الولد‪ ،‬وا ّ‬
‫فصل‬
‫ب النفقة والسكنى للمطلقة والمتوفّى عنها إذا كانتا حا ِملَين فإنه قال‪:‬‬
‫شرُ‪ :‬وجو ُ‬
‫الحكم العا ِ‬
‫((من أجل أنهما يفترقان عن غير طلق ول متوفى عنها))‪ ،‬فأفاد ذلك أمريْنِ‪ ،‬أحدهما‪ :‬سقوطُ نفقة‬

‫‪228‬‬
‫ل مِن الزوج‪ .‬والثانى‪ :‬وجوبهُما لها‪ ،‬وللمتوفّى عنها إِذا كانتا حاملَين‬
‫البائن وسكناها إذا لم تكن حامِ ً‬
‫من الزوج‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل بن أُميّة‪ ،‬وإِنْ‬
‫وقولُه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أَ ْبصِروُها فَإِنْ جَاءَت بِ ِه كَذا وكذا‪َ ،‬ف ُه َو ِلهِل ِ‬
‫حكْم‬
‫حمَاء))‪ ،‬إِرشا ٌد منه صلى ال عليه وسلم إلى اعتبارِ ال ُ‬
‫ك بن سَ ْ‬
‫شرِي ِ‬
‫ت بِ ِه كَذا وكَذا فهُو لِ َ‬
‫جَا َء ْ‬
‫ق الولد بمنزلة الشبه‪ ،‬وإنما لم يُلحق بالملعن لو‬
‫شبَهِ مدخلً فى معرفة النسب‪ ،‬وإلحا ِ‬
‫ن لِل ّ‬
‫بالقَافَةِ‪ ،‬وأَ ّ‬
‫قُدّر أن الشب َه له‪ ،‬لمعارضة اللعان الذى هو أقوى مِن الشبه له كما تقدم‪.‬‬
‫فصل‬
‫وقوله فى الحديث‪َ(( :‬ل ْو أنّ رجلً َوجَ َد مع امرأتِهِ رجلً يق ُتلُه فتق ُتلُونه به)) دليل على أن من‬
‫ل فى داره‪ ،‬وادّعى أنه وجده مع امرأتِه أو حريِمه‪ ،‬قتل فيه ول يُقبل قوله‪ ،‬إذ لو ُقبِلَ قولُه‪،‬‬
‫قتل رج ً‬
‫لُه ِد َرتِ الدماءُ‪ ،‬وكان كل من أراد قتلَ رجل أدخله دارَه‪ ،‬وادعى أنه وجده مع امرأته‪.‬‬
‫ولكن هاهنا مسألتان يجب التفريقُ بينهما‪ .‬إحداهما‪ :‬هل يسعه فيما بينه وبين ال تعالى أن‬
‫يق ُتلَه‪ ،‬أم ل؟ والثانية‪ :‬هل يُقبل قوله فى ظاهر الحكم أم ل؟ وبهذا التفريق يزولُ الِشكالُ فيما نُقلَ‬
‫عن الصحابة رضى ال عنهم فى ذلك‪ ،‬حتى جعلها بعض العلماء مسألَة نزاع بين الصحابة‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬مذهب عمر رضى ال عنه‪ :‬أنه ل يُقتل به‪ ،‬ومذهب على‪ :‬أنه يُقتل به‪ ،‬والذى غره ما رواه‬
‫سعي ُد بن منصور فى ((سننه))‪ ،‬أن عمر بن الخطاب رضى ال عنه بينا هو يوماً يتغدى‪ ،‬إذ جاءه‬
‫رجلٌ يعدو وفى يده سيف ملطخ بدم‪ ،‬ووراءه قوم يعدون‪ ،‬فجاء حتى جلسَ مع عمر‪ ،‬فجاء‬
‫الخرون‪ ،‬فقالوا يا أمي َر المؤمنين‪ :‬إن هذا قتل صاحبنا‪ ،‬فقال له عمر رضى ال عنه‪ :‬ما تقول؟‬
‫فقال له‪ :‬يا أميرَ المؤمنين‪ ،‬إنى ضربت بين فخذى امرأتى‪ ،‬فإن كان بينَهما أحد فقد قتلتُه‪ ،‬فقال عمر‬
‫س ْيفِ‪ ،‬فوقع فى وسط الرجل وفخذى المرأة‪،‬‬
‫ما تقولون؟ فقالوا‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إنه ضرَب بال ّ‬
‫فأخذ عم ُر رضى ال عنه سيفَه فهزّه‪ ،‬ثم دفعه إليه‪ ،‬وقال‪ :‬إن عادوا‪ ،‬فعد‪ .‬فهذا ما نُقِل عن عُمر‬
‫رضى ال عنه‪.‬‬
‫ل عمن وَجَ َد مع امرأته رجلً فقتله‪ ،‬فقال‪ :‬إن لم يأتِ بأربعةِ شُهداء‪ ،‬فل ُيعْطَ‬
‫سئِ َ‬
‫وأما على‪ ،‬ف ُ‬
‫ف بينَ الصحابة‪ ،‬وأنتَ إِذا تأملتَ‬
‫ف المنقول عن عمر‪ ،‬فجعلها مسألةَ خل ٍ‬
‫ِب ُر ّمتِهِ‪ ،‬فظن أن هذا خل ُ‬
‫حُكميهما‪ ،‬لم تَجِدْ بينهما اختلفاً‪ ،‬فإن عمر إنما أسقط عنه القودَ لما اعترف الولىّ بأنه كان مع‬
‫ف الولىّ بذلك‪ ،‬فل قِصاصَ ول‬
‫امرأته‪ ،‬وقد قال أصحابنا واللفظ لصاحب ((المغنى))‪ :‬فإن اعتر َ‬

‫‪229‬‬
‫دِية‪ ،‬لما رُوى عن عمر‪ ،‬ثم ساق القِصة‪ ،‬وكلمه يُعطى أنه ل فرق بين أن يكون محصناً وغيرَ‬
‫محصن‪ ،‬وكذلك حك ُم عمر فى هذا القتيل‪ ،‬وقولُه أيضاً‪(( :‬فإن عادوا فعد)) ولم يفرق بين المحصَن‬
‫وغيره‪ ،‬وهذا هو الصوابُ‪ ،‬وإن كان صاحب ((المستوعب)) قد قال‪ :‬وإن وجد مع امرأته رجلً‬
‫ينال منها ما يُوجب الرجم‪ ،‬فقتله‪ ،‬وادّعى أنه قتله لجل ذلك‪ ،‬فعليه القصاصُ فى ظاهر الحكم‪ ،‬إلّ‬
‫أن يأتىَ بينّة بدعواه‪ ،‬فل يلزمه القصاصُ‪ ،‬قال‪ :‬وفى عدد البينة روايتان‪ ،‬إحداهما‪ :‬شاهدان‪،‬‬
‫ل مِن أربعة‪ ،‬والصحيح‬
‫اختارها أبو بكر لن البينة على الوجود ل على الزنى‪ ،‬والخرى ل يُقبل أق ّ‬
‫أن البينة متى قامت بذلك‪ ،‬أو أق ّر به الولىّ‪ ،‬سقط القصاص محصناً كان أو غيره وعليه يدل كلم‬
‫ل فقتله‪ :‬إن لم يأت بأربعة شهداء فل ُيعْطَ ِب ُر ّمتِهِ)) وهذا لن‬
‫على‪ ،‬فإنه قال فيمن وجد مع امرأته رج ً‬
‫هذا القتل ليس بحد للزنى‪ ،‬ولو كان حداً لما كان بالسيف ولع ُت ِب َر له شروطُ إقامة الحد وكيفيته‪،‬‬
‫وإنما هو عقوب ٌة لمن تعدّى عليه‪ ،‬وهتك حريمَه‪ ،‬وأفسد أهلَه‪ ،‬وكذلك فعل الزبير رضى ال عنه لما‬
‫تخلف عن الجيش ومعه جارية له‪ ،‬فأتاه رجلن فقال‪ :‬أعطنا شيئاً‪ ،‬فأعطاهما طعاماً كان معه‪،‬‬
‫طلَعَ فى بيت قومٍ من‬
‫فقال‪ :‬خلّ عن الجارية‪ ،‬فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة وكذلك من ا ّ‬
‫ثُقب‪ ،‬أو شق فى الباب بغير إذنهم‪ ،‬فنظر حرمة أو عورة‪ ،‬فلهم خذفه وطعنه فى عينه‪ ،‬فإن انقلعت‬
‫عينُه‪ ،‬فل ضَمان عليهم‪ .‬قال القاضى أبو يعلى‪ :‬هذا ظاه ُر كلم أحمد أنهم يدفعونه‪ ،‬ول ضمان‬
‫عليهم من غير تفصيل‪.‬‬
‫وفصل ابن حامد فقال‪ :‬يدفعه بالسهل‪ ،‬فيبدأ بقوله‪ :‬انصرف واذهب‪ ،‬وإل نفعل بك كذا‪.‬‬
‫ل بل الحاديث‬
‫قلت‪ :‬وليس فى كلم أحمد‪ ،‬ول فى السنة الصحيحة ما يقتضى هذا التفصي َ‬
‫الصحيحة تدل على خلفه‪ ،‬فإن فى ((الصحيحين)) عن أنس‪ ،‬أن رجلً أطلع مِن جُحر في بعض‬
‫ط ُعنَه‪ ،‬فأين الدفعُ‬
‫خ ِتلُه لي ْ‬
‫حُجر النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقام إليه بمِشْقًص أو بمشَاقِص‪ ،‬وجعل يَ ْ‬
‫ط ُعنَه‪.‬‬
‫بالسهل وهو صلى ال عليه وسلم يخ ِتلُه‪ ،‬أو يختبىء له‪ ،‬ويختفى ِليَ ْ‬
‫وفى ((الصحيحين)) أيضاً‪ :‬من حديث سهل بن سعد‪ ،‬أن رجلً اطلع فى جُحْر فى باب النبىّ‬
‫ك بِ ِه َرأْسَه‪ ،‬فلمّا رآهُ قال‪َ(( :‬لوْ‬
‫حّ‬‫ى يَ ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفى يد النبىّ صلى ال عليه وسلم مِ ْد َر ً‬
‫ل ال َبصَر))‪.‬‬
‫ن مِنْ أَجْ ِ‬
‫جعِلَ الذْ ُ‬
‫ع ْينِك‪ِ ،‬إ ّنمَا ُ‬
‫ط َع ْنتُ به فى َ‬
‫ك تنظُرنى لَ َ‬
‫علَمُ َأ ّن َ‬
‫أَ ْ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫وفيهما أيضاً‪ :‬عن أبى هُريرة رضى ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫جنَاحٌ))‪.‬‬
‫عَل ْيكَ ُ‬
‫ع ْينَهُ لَ ْم َيكُنْ َ‬
‫حصَاةٍ‪ ،‬فَفَقَ ْأتَ َ‬
‫ك ِب َغ ْي ِر إِذْنٍ‪َ ،‬فخَذَ ْفتَ ُه بِ َ‬
‫عَليْ َ‬
‫طلَعَ َ‬
‫ن امْرءًا ا ّ‬
‫((لَ ْو أَ ّ‬
‫ع ْينَهُ فَلَ ِديَ َة لَ ُه وَلَ ِقصَاصَ))‪.‬‬
‫طلَعَ فى َب ْيتِ َقوْمٍ ِب َغ ْي ِر إِ ْذ ِنهِمْ‪ ،‬فَفَقؤوا َ‬
‫وفيهما أيضاً‪(( :‬مَنْ ا ّ‬

‫‪230‬‬
‫وهذا اختيارُ شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال‪ ،‬وقال‪ :‬ليس هذا مِن بابِ دف ِع الصائل‪ ،‬بل مِن‬
‫ل من اعتدى على‬
‫باب عقوبةِ المعتدى المؤذى‪ ،‬وعلى هذا فيجوزُ له فيما بينَه وبين ال تعالى قت ُ‬
‫حريمِه‪ ،‬سواء كان محصَناً أو غي َر محصن‪ ،‬معروفًا بذلك أو غي َر معروف‪ ،‬كما دل عليه كلم‬
‫الصحاب‪ ،‬وفتاوى الصحابة‪ ،‬وقد قال الشافعى وأبو ثور‪ :‬يسعُه قتلُه فيما بينه وبين ال تعالى إذا‬
‫كان الزانى محصناً‪ ،‬جعله من باب الحدود‪ .‬وقال أحمد وإسحاق‪ :‬يُه َدرُ دمُه إذا جاء بشاهدين ولم‬
‫يُفصّل بين المحصن وغيره‪ .‬واخْتلّف قولُ مالك في هذه المسألة‪ ،‬فقال ابنُ حبيب‪ :‬إن كان المقتولُ‬
‫ج البينة‪ ،‬فل شىء عليه‪ ،‬وإل ُقتِل به‪ ،‬وقال ابنُ القاسم‪ :‬إذا قامت البينةُ‬
‫محصناً‪ ،‬وأقام الزو ُ‬
‫ن وغي ُر المحصَنِ سواء‪ ،‬ويُهدر دمه‪ ،‬واستحب ابنُ القاسم الديةَ فى غير المحصَن‪.‬‬
‫فالمحصَ ُ‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون فى الحديث المتفق على صحته‪ ،‬عن أبى هريرة رضى ال عنه‪ ،‬أن‬
‫ل أيق ُتلُه؟ فقال‬
‫سعد بن عبادة رضى ال عنه قال‪ :‬يا رسولَ ال‪ :‬أرأيتَ الرجلَ يَجِ ُد مع امرأته رج ً‬
‫ل ال صلى‬
‫سعْدٌ‪َ :‬بلَى والّذِى َب َع َثكَ بالحَقّ‪ ،‬فقال رسو ِ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل))‪ ،‬فقال َ‬
‫سيّ ُدكُم))‪.‬‬
‫س َمعُوا إلى مَا يَقُولُ ً‬
‫ال عليه وسلم‪(( :‬ا ْ‬
‫شهَدَاء؟ قال‪:‬‬
‫حتّى آتى بَأ ْر َبعَةِ ُ‬
‫ل ُأ ْم ِهلُهُ َ‬
‫ت مَعَ امرأتِى رَجُ ً‬
‫ن وَجَ ْد ُ‬
‫وفى اللفظ الخر‪(( :‬إِ ْ‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫ل ذِلكَ‪ ،‬قال رسو ُ‬
‫س ْيفِ َقبْ َ‬
‫جلُهُ بال ّ‬
‫ق إِنْ ُك ْنتُ لُعَا ِ‬
‫((نعم)) قال‪ :‬والّذى َب َع َثكَ بالحَ ّ‬
‫غ َي ُر ِمنّى؟))‪.‬‬
‫لّ أَ ْ‬
‫غ َيرُ ِمنْهُ‪ ،‬وا ُ‬
‫سيّ ُدكُم ِإنّ ُه َل َغيُورٌ وَأنَا أَ ْ‬
‫س َمعُوا إِلى مَا يَقُولُ َ‬
‫وسلم‪(( :‬ا ْ‬
‫خ ُر الحديث دليل على أنه لو قتله لم يُقد به‪ ،‬لنه قال‪:‬‬
‫قلنا‪:‬نتلقاه بالقبول والتسليم‪ ،‬والقول بموجبه‪ ،‬وآ ِ‬
‫بلى والذى أكر َمكَ بالحق‪ ،‬ولو وجب عليه القصاصُ بقتله‪ ،‬لما أقره على هذا الحلف‪ ،‬ولما أثنى‬
‫غ ْيرَته‪ ،‬ولقال‪ :‬لو قتلَته ُقتِلتَ به وحديث أبى هريرة صريحٌ فى هذا‪ ،‬فإن رسول ال صلى ال‬
‫على َ‬
‫غ َيرُ ِمنّى))‪ ،‬ولم ينكر عليه‪،‬‬
‫لّ أَ ْ‬
‫غيَ ُر ِمنْهُ وا ُ‬
‫لنَا أَ ْ‬
‫سعْدٍ َفوَالِّ َ‬
‫غ ْيرَة َ‬
‫ن مِنْ َ‬
‫جبُو َ‬
‫عليه وسلم قال‪َ(( :‬أ َتعْ َ‬
‫ول نهاه عن قِتله لن قولَه صلى ال عليه وسلم حُكم ملزم‪ ،‬وكذلكَ فتواه حكم عام للمة‪ ،‬فلو أذن له‬
‫فى قتله‪ ،‬لكان ذلك حكماً منه بأن دمه هدرٌ فى ظاهر الشرع وباطنه‪ ،‬ووقعت المفسد ُة التى درأها‬
‫الُّ بالقِصاص‪ ،‬وتهالك الناس فى قتل من يريدون قتله فى دورهم‪ ،‬ويدّعونَ أنهم كانُوا َي َر ْو َنهُم على‬
‫حريمهم‪ ،‬فس ّد ال ّذرِيعَةَ‪ ،‬وحَمى المفسدَة‪ ،‬وصان الدماء‪ ،‬وفى ذلك دليل على أنه يُقبل القاتل‪ ،‬ويُقاد به‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‬
‫جبَ النب ّ‬
‫فى ظاهر الشرع‪ ،‬فلما حلف سعد أنه يقتلُه ول ينتظر به الشهود‪ ،‬عَ ِ‬
‫غيُورٌ‪ ،‬وأنه صلى ال عليه وسلم أغي ُر منه‪ ،‬والُّ أشدّ غَيرةً‪ ،‬وهذا يحتمِلُ‬
‫غ ْي َرتِه‪ ،‬وأخبر أنه َ‬
‫من َ‬
‫معنيين‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫أحدهما‪ :‬إقراره وسكوُته على ما حلف عليه سع ٌد أنه جائز له فيما بينَه و َبيْنَ الِّ‪ ،‬ونهيه عن‬
‫خرَه‪.‬‬
‫قتله فى ظاهر الشرع‪ ،‬ول يناقض أولُ الحديث آ ِ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم قال ذلك كالمن ِك ِر على سعد‪ ،‬فقال‪(( :‬أَلَ‬
‫والثانى‪ :‬أن رسو َ‬
‫سيّ ُدكُم)) يعنى‪ :‬أنا أنهاه عن قتلِه وهو يقُول‪ :‬بلى‪ ،‬والذى أكرمك بالحق‪ ،‬ثم‬
‫س َمعُونَ إلى مَا يَقُولُ َ‬
‫تَ ْ‬
‫ل أغيرُ منى‪ .‬وقد‬
‫غ ْي َرتِه‪ ،‬ثم قال‪ :‬أنا أغي ُر ِمنْهُ‪ ،‬وا ّ‬
‫أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة‪ ،‬وأنه شِ ّدةُ َ‬
‫شرع إِقامة الشهداء الربعة مع شِ ّد ِة غيرته سبحانه‪ ،‬فهى مقرون ٌة بحكمة ومصلحة‪ ،‬ورحمة‬
‫وإحسان‪ ،‬فالّ سبحانه مع شدّة غَيرته أعلم بمصالح عباده‪ ،‬وما شرعه لهم من إقامة الشهود الربعة‬
‫ل ال صلى ال عليه‬
‫دون المبادرة إلى القتل‪ ،‬وأنا أغيرُ من سعد‪ ،‬وقد نهيته عن قتله‪ ،‬وقد يُريد رسو ُ‬
‫ق بكلمه وسياق القصة‪.‬‬
‫وسلم كل المرين‪ ،‬وهو اللي ُ‬
‫فصل‬
‫ن ولده لونَه‬
‫فى حُكمِه صلى ال عليه وسلم فى لُحُوق النسب بالزّوج إذا خالف لو ُ‬
‫سوَدَ كأَنه ُي َعرّضُ‬
‫ثبت عنه فى ((الصحيحين)) أن رَجلً قال له‪ :‬إن امرأتى ولدت غلمًا أَ ْ‬
‫ن إِبلٍ))؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪(( :‬مَا َل ْو ُنهَا؟)) قال‪:‬‬
‫ك مِ ْ‬
‫بنفيهِ‪ ،‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم ك ((هَلْ َل َ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬فََأنّى َأتَاهَا‬
‫ل رَسُولُ ا ِ‬
‫ح ْمرٌ‪ .‬قال‪َ (( :‬فهَل فيها مِنْ َأ ْورَق؟)) قال‪َ :‬نعَمْ‪ .‬قَا َ‬
‫ُ‬
‫عرْقٌ‪ .‬فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬وهذَا َل َعلّهُ‬
‫لّ يكونُ َنزَعَهُ ِ‬
‫ذِلكَ؟)) قال‪َ :‬ل َعلْهُ يَا رَسُول ا ِ‬
‫عرْقٌ))‪.‬‬
‫َيكُونُ َنزَعَهُ ِ‬
‫ض إِذا كان على وج ِه السؤالِ‬
‫جبُ بالتعرِي ِ‬
‫وهذا الحديث مِن الفقه‪ :‬أن الحدّ ل ي ِ‬
‫ض ولو كان على وجه المُقَابَحة والمشاتمة‪ ،‬فقد َأ ْبعَدَ‬
‫والستفتاء‪ ،‬ومن أخذ منه أنه ل يجبُ بالتعري ِ‬
‫جعَةَ‪ ،‬و ُربّ تعريضٍ أفهمُ‪ ،‬وأوجعُ للقلب‪ ،‬وأبلغُ فى النكاية من التصريح‪ ،‬وبساطُ الكلم وسياقُه‬
‫النّ ْ‬
‫ى الدّللة على المراد‪.‬‬
‫ل الكلم قطع ّ‬
‫يردّ ما ذكروه من الحتمال‪ ،‬ويجع ُ‬
‫ن ونفى الولد‪.‬‬
‫سوّغُ اللّعا َ‬
‫وفيه أن مجرد الرّيبةِ ل يُ َ‬
‫وفيه ضربُ المثال والشباه والنظائر فى الحكام‪ ،‬ومِن تراجم البخارى فى ((صحيحه))‬
‫على هذا الحديث‪ :‬باب من شبه أصلً معلومًا بأصل مبين قد بيّن ال حكمه ليُفهمَ السائِلَ‪ ،‬وساق معه‬
‫علَى أ ّمكَ َديْنٌ؟))‪.‬‬
‫حديثَ‪َ(( :‬أ َرَأ ْيتَ َلوْ كانَ َ‬
‫فصل‬

‫‪232‬‬
‫فى حُكمه صلى ال عليه وسلم بالولدِ لِلفراش‪ ،‬وأن المة تكون فراشاً‪ ،‬وفيمن استلحق بعدَ َم ْوتِ‬
‫أبيه‬
‫ن أبى‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ ،‬من حديث عائشة رضى ال عنها‪ ،‬قالت‪ :‬اختصم سع ُد ب ُ‬
‫عهِدَ‬
‫ن زمعة فى غلم‪ ،‬فقال سعد‪ :‬هذا يا رسولَ ال ابنُ أخى عتبة بن أَبى وقاص َ‬
‫وقّاص‪ ،‬وعب ُد ب ُ‬
‫شبَههِ‪ ،‬وقال عب ُد بنُ زمعة‪ :‬هذا أخى يا رسولَ ال ُولِدَ على فِراش أبى مِن‬
‫ظرْ إِلى َ‬
‫إِلىّ أنه ابنُه‪ ،‬انْ ُ‬
‫عبْدُ بْنَ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فرأى شبهاً بينًا بعُتبة‪ ،‬فقال‪ُ (( :‬ه َو َلكَ يا َ‬
‫وَلي َدتِهِ‪ ،‬فنظر رسو ُ‬
‫سوْ َدةُ قَطّ‪.‬‬
‫سوْ َدةُ))‪ ،‬فلم َت َرهُ َ‬
‫حتَجِبى ِمنْهُ يا َ‬
‫جرُ وا ْ‬
‫َز ْمعَةَ‪ ،‬ال َولَ ُد لِلفِراشِ‪ ،‬وِل ْلعَا ِهرِ الحَ َ‬
‫ت النسب بالفراش‪ ،‬وفى أن المة تكون ِفرَاشاً بالوطء‪ ،‬وفى‬
‫ى أصلٌ فى ثبو ِ‬
‫فهذا الحكمُ النبو ّ‬
‫ض الفِراش‪ ،‬قُدّ َم عليه الفِراشُ‪ ،‬وفى أن أحكا َم النسب تتبعّضُ‪ ،‬فتثبُت من وجهٍ‬
‫أن الشّبه إذا عار َ‬
‫دُونَ وجه‪ ،‬وهو الذى يُسميه بعضُ الفقهاء حُكمًَا بينَ حُكمين‪ ،‬وفى أن القافةَ حقٌ‪ ،‬وأنها من الشرع‪.‬‬
‫ت النسب أربعةٌ‪:‬‬
‫ت ثبو ِ‬
‫ت النسبِ بالفِراش‪ ،‬فأجمعت عليه المةُ‪ ،‬وجها ُ‬
‫فأما ثبو ُ‬
‫الفراشُ‪ ،‬والستلحاقُ‪ ،‬والبيّنةُ‪ ،‬والقَافَةُ‪.‬‬
‫فالثلثة الول‪ ،‬متفق عليها‪ ،‬واتفق المسلمون على أن النّكاحَ يثبُت به‬
‫الفراشُ‪ ،‬واختلفوا فى التسرّى‪ ،‬فجعله جمهورُ المة موجبًا للفراش‪ ،‬واحتجوا بصريحِ حديثِ عائشة‬
‫ى صلى ال عليه وسلم قضى بالول ِد لِزمعة‪ ،‬وصرّح بأنه صاحبُ الفراش‪ ،‬وجعل‬
‫الصحيح‪ ،‬وأن النب ّ‬
‫ذلك عِلة للحكم بالولد له فس َببُ الحكم ومحلُه إِنما كان فى المة‪ ،‬فل يجوزُ إِخلءُ الحديث منه‬
‫وحملُه على الحرة التى لم تذكر البتة‪ ،‬وإنما كان الحكمُ فى غيرها‪ ،‬فإن هذا يستلزِ ُم إِلغاءَ ما اعتبره‬
‫ع وعلّق الحك َم به صريحاً‪ ،‬وتعطيلَ محلّ الحكم الذى كان لجله وفيه‪.‬‬
‫الشار ُ‬
‫ن الذى أنزل له ال تعالى لِيقومَ‬
‫ثم لو لم َيرِدِ الحديثُ الصحيح فيه‪ ،‬لكان هو مقتضى الميزا ِ‬
‫ح ّرةَ‬
‫حسّاً وحقيقةً وحُكماً‪ ،‬كما أن ال ُ‬
‫س ّريّة فِراشٌ ِ‬
‫الناسُ بالقسْطِ‪ ،‬وهو التسويةُ بين المتماثلين‪ ،‬فإن ال ّ‬
‫كذلك‪ ،‬وهى تُراد لما تُراد له الزوج ُة مِن الستمتاع والستيلدِ‪ ،‬ولم يزل الناسُ قديماً وحديثاً‬
‫س ّريّةُ‬
‫س ّم َيتْ فِراشًا لمعنى هى وال ّ‬
‫يرغبون فى السّرارى لستيلدِهن واستفراشهن‪ ،‬والزوجةُ إِنما ُ‬
‫فيه على حدّ سواء‪.‬‬
‫ل ولد ولدته مِن السيد‪ ،‬فل يلحقُه الول ُد إل إذا‬
‫ن المة فراشاً بأوّ ِ‬
‫وقال أبو حنيفة‪ :‬ل تكو ُ‬
‫استلحقه‪ ،‬فيلحقه حينئذ بالستلحاق‪ ،‬ل بالفِراشِ‪ ،‬فما ولدت بعد ذلك لَحقه إل أن َينْ ِفيَه‪ ،‬فعندهم ولدُ‬
‫س َتلْحَقٌ‪ ،‬ومعلومٌ أن النبىّ صلى ال عليه وسلم‬
‫المة ل يلحق السي َد بالفراش‪ ،‬إل أن يتقدّمه ولد مُ ْ‬

‫‪233‬‬
‫ت له قبل ذلك غيره‪ ،‬ول سأل‬
‫لمَة ولَ َد ْ‬
‫ط أن ه ِذهِ ا َ‬
‫ألحق الول َد ب َز ْمعَةَ‪ ،‬وأثبتَ نسبه منه‪ ،‬ولمْ ي ْث ُبتْ قَ ّ‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم عن ذلك ول استفصل فيه‪.‬‬
‫قال منازعوهم‪ :‬ليس لهذا التفصيلِ أصلٌ فى كتابٍ ول سُنة‪ ،‬ول أثرٍ عن صاحب‪ ،‬ول‬
‫ن المة فراشاً فى الجملة‪ ،‬ولكنه‬
‫تقتضيهِ قواع ُد الشرع وأصوله‪ ،‬قالت الحنفية‪ :‬ونحن ل نُنكر كو َ‬
‫ن الحرة‪ ،‬فاعتبرنا ما تعتق به بأن َتلِ َد منه ولداً فيستلحقه‪ ،‬فما ولدت بعد‬
‫فراش ضعيف‪ ،‬وهى فيه دو َ‬
‫ذلك‪ ،‬لحق به إل أن َينْ ِفيَه‪ ،‬وأما الولد الوّل‪ ،‬فل يلحقه إل بالستلحاق‪ ،‬ولهذا قُلتُم‪ :‬إنه إذا استحلق‬
‫ولداً مِن أمته لم يلحقه ما بعدَه إل باستلحاقٍ مستأنف‪ ،‬بخلف الزوجة‪ ،‬والفرقُ بينهما‪ :‬أن عقدَ‬
‫النكاح إنما يُراد للوطء والستفراش‪ ،‬بخلف مُلك اليمين‪ ،‬فإن الوطء والستفراش فيه تابع‪ ،‬ولهذا‬
‫يجو ُز ورودُه على من يحرم عليه وطؤُها بخلفِ عقد النكاح‪ .‬قالوا‪ :‬والحديثُ ل حُجّةَ لكم فيه‪ ،‬لن‬
‫وطء زمعة لم يث ُبتْ‪ ،‬وإِنما ألحقه النبىّ صلى ال عليه وسلم لِعبد أخاً‪ ،‬لنه استلحقه‪ ،‬فألحقه‬
‫باستلحاقه‪ ،‬ل بفراش الب‪.‬‬
‫قال الجمهورُ‪ :‬إذا كانت المةُ موطوءة‪ ،‬فهى فِراش حقيقة وحُكماً‪ ،‬واعتبارُ ولدتها السابقة‬
‫فى صيرورتها فراشاً اعتبارُ ما ل دليل على اعتباره شرعاً‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم لم يعتبره‬
‫فى فِراش َز ْمعَة‪ ،‬فاعتبارُه تحكم‪.‬‬
‫وقولُكم‪ :‬إن الم َة ل تفرد للوطء‪ ،‬فالكلم فى المة الموطوءة التى اتخذت سّريّة وفِراشاً‪،‬‬
‫ج ِعَلتْ كالزوجة أو أحظى منها ل فى أمته التى هى أختُه من الرضاع ونحوها‪.‬‬
‫وُ‬
‫وقولُكم‪ :‬إن وطء زمع َة لم يثُبت حتّى يلحق به الولدُ‪ ،‬ليس علينا جوابُه‪ ،‬بل جوابُه على من‬
‫حكم بلحوق الولد بزمعة‪ ،‬وقال لبنه‪ :‬هو أخوك‪.‬‬
‫وقولكم‪ :‬إنما ألحقه بالخ لنه استلحقه‪ :‬باطل‪ ،‬فإن المستلحق إن لم يُ ِقرّ به جمي ُع الورثة‪ ،‬لم‬
‫عبْدٌ لم يكن يُ ِق ّر له جمي ُع الورثة‪،‬‬
‫يلحق بالمقر إل أن يشه َد منهم اثنان أنه ُولِ َد على فراش الميت‪ ،‬و َ‬
‫ستَلحقهُ‪ ،‬وحتى لو أ َقرّت به‬
‫فإن سودة زوجة النبى صلى ال عليه وسلم أخته‪ ،‬وهىَ لم تُ ِق ّر به‪ ،‬ولم تَ ْ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم صرّح‬
‫ت النسب بالفراش ل بالستلحاق‪ ،‬فإن النب ّ‬
‫مع أخيها عبدٍ‪ ،‬لكان ثبو ُ‬
‫ل هذهِ‬
‫عقيب حكمه بإلحاق النسب‪ ،‬بأن الولد للفراش معللً بذلك‪ ،‬منبهًا على قضية ُكلّية عامة تتناو ُ‬
‫الواقعةَ وغيرها‪ .‬ثم جوابُ هذا العتراض الباطل المحرّم‪ ،‬أن ثبوتَ كون المة فراشاً بالقرار من‬
‫ى صلى ال عليه وسلم ألحقه به بقوله‪(( :‬ابن‬
‫الواطىء‪ ،‬أو وارثه كافٍ فى لحقوق النسب‪ ،‬فإن النب ّ‬

‫‪234‬‬
‫وليدة أبى ُولِدَ على فراشه))‪ ،‬كيف و َز ْمعَةُ كان صِه َر النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وابنتُه تحته‪،‬‬
‫ش الذى يلحق به النسب؟‬
‫فكيف ل يثُبت عنده الفِرا ُ‬
‫وأما ما نقضتُم به علينا َأنّه إذا استحلق ولداً مِن أمته‪ ،‬لم يلحقه ما بعدَه إل بإقرارٍ مستأنَف‪،‬‬
‫فهذا فيه قولن لصحاب أحمد‪ ،‬هذا أحدُهما‪ ،‬والثانى‪ :‬أنه يلحقُه وإن لم يستأ ِنفْ إقراراً‪ ،‬ومن رجّح‬
‫القولَ الول قال‪ :‬قد يستبرئها السيدُ بعد الوِلدة‪ ،‬فيزولُ حكمُ الفِراش بالستبراء‪ ،‬فل يلحقُه ما بعد‬
‫الول بإعتراف مستأنف أنه وطئها‪ ،‬كالحال فى أول ولد‪.‬‬
‫ومن رجّح الثانى قال‪ :‬قد يثبت كونُها فراشًا أولً‪ ،‬والصلُ بقاء الفراش حتى َي ْث ُبتَ ما يُزيله‪،‬‬
‫إذ ليس هذا نظيرَ قولكم‪ :‬إنه ل يلحقُه الول ُد مع اعترافه بوطئها حتى يستلحِقَه‪ ،‬وأبطلُ من هذا‬
‫ل بعضهم‪ ،‬إنه لم يُلحقه به أخاً‪ ،‬وإنما جعله له عبداً‪ ،‬ولهذا أتى فيه بلم التمليك فقال‪:‬‬
‫العتراض قو ُ‬
‫(( ُهوَ َلكَ))‪ ،‬أى‪ :‬مملوك لك‪ ،‬وقوّى هذا العتراض بأن فى بعض ألفاظ الحديث (( ُه َو َلكَ عبد))‪،‬‬
‫ل على أنه أجنبى‬
‫ب منه‪ ،‬ولو كان أخاً لها لما أمرها بالحتجاب منه‪ ،‬فد ّ‬
‫ج َ‬
‫وبأنه أمر سو َدةَ أن تحت ِ‬
‫منها‪ .‬قال‪ :‬وقوله‪(( :‬الولد للِفراش))‪ ،‬تنبيه على عدم لحوق نسبه بزمعة أى‪ :‬لم تكن هذه المة فراشاً‬
‫له‪ ،‬لن المة ل تكون فراشاً‪ ،‬والولد إنما هو للِفراش‪ ،‬وعلى هذا َيصِحّ أمرُ احتجاب سودة منه‪،‬‬
‫قال‪ :‬ويُؤكده أن فى بعض طرق الحديث‪(( :‬احتجبى منه‪ ،‬فإنه ليس لك بأخ)) قالوا‪ :‬وحينئذ فتبيّن إنا‬
‫أسعدُ بالحديث وبالقضاء النبوى منكم‪.‬‬
‫ى الوطيسُ‪ ،‬والتقت حلقتا البطان فنقول والّ المستعان ‪ :‬أمّا قولُكم‪:‬‬
‫ح ِم َ‬
‫قال الجمهورُ‪ :‬الن َ‬
‫إنه لم يُلحقه به أخاً‪ ،‬وإنما جعله عبداً‪ ،‬يردّه ما رواه محمد بن إسماعيل البخارى فى ((صحيحه))‬
‫فى هذا الحديث‪(( :‬هو لك‪ ،‬هو أخوك يا عبد بن زمعة)) وليس اللم للتمليك‪ ،‬وإنما هى‬
‫للختصاص‪ ،‬كقوله‪(( :‬الولد للفراش))‪ .‬فأما لفظة قوله‪(( :‬هو لك عبد))‪ ،‬فرواية باطلة ل َتصِحّ‬
‫أصلً‪ .‬وأما أمرُه سودة بالحِتجاب منه‪ ،‬فإما أن يكونَ على طريقِ الحتياطِ لمكان الشبهة التى‬
‫أورثها الشّب ُه ال َبيّنُ بعُتبة‪ ،‬وإما أن يكون مراعاةً للشّب َهيْنِ وإعمالً للدليلين‪ ،‬فإن الفِراش دليلُ لحوق‬
‫النسب‪ ،‬والشبه بغير صاحبه دليلُ نفيه‪ ،‬فأعمل أم َر الفراش بالنسبة إِلى المدّعى لقوته‪ ،‬وأعمل الشّبه‬
‫بعُتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبَين سودة‪ ،‬وهذا مِن أحسن الحكام وأبينها‪ ،‬وأوضحها‪ ،‬ول‬
‫ت النسبِ مِن وجه دونَ وجه‪ ،‬فهذا الزانى يثبُت النسبُ منه بينه وبين الولد فى التحريم‬
‫يمنع ثبو ُ‬
‫والبعضية دون الميراثِ والنفق ِة والوِلية وغيرها‪ ،‬وقد يتخلّف بعضُ أحكام النسب عنه مع ثبوته‬
‫ن سودة وبينَ هذا الغلم لمانع الشبه‬
‫لمانع‪ ،‬وهذا كثيرٌ فى الشريعة‪ ،‬فل يُفكر مِن تخلّف المحرمية بي َ‬

‫‪235‬‬
‫ك بأخ))‪ ،‬لو صحت هذه اللفظة‬
‫بعتبة‪ ،‬وهل هذا إل محضُ الفقه؟ وقد علم بهذا معنى قوله‪(( :‬ليس ل ِ‬
‫مع أنها ل تصِحّ‪ ،‬وقد ضعفها أهلُ العلم بالحديث‪ ،‬ول نُبالى بصحتها مع قوله لعبد‪(( :‬هُو َأخُوكَ))‪،‬‬
‫وإذا جمعت أطرافَ كلم النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقرنت قوله‪(( :‬هو أخوك))‪ ،‬بقوله‪(( :‬الولد‬
‫للفراش‪ ،‬وللعاهر الحجرُ))‪ ،‬تبيّن لك بطلنُ ما ذكروهُ من التأويل‪ ،‬وأن الحديثَ صريحٌ فى خلفه‬
‫ل أعلم‪ .‬والعجب أن منازعينا فى هذه المسألة يجعلُون الزوجة فراشاً لمجرد‬
‫ل يحِتملُه بوجه وا ّ‬
‫س ّريّته التى يتكرّر استفراشُه لها ليلً‬
‫العقد‪ ،‬وإن كان بينَها وبين الزوج بعد المشرقين‪ ،‬ول يجعلونَ ُ‬
‫ونهاراً فِراشاً‪.‬‬
‫فصل‬
‫واختلف الفقهاءُ فيما تصي ُر به الزوجة فراشاً‪ ،‬على ثلثة أقوال‪:‬‬
‫س العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها‪ ،‬بل لو طلّقها عقيبَه فى المجلس‪ ،‬وهذا‬
‫أحدُها‪ :‬أنه نف ُ‬
‫مذهب أبى حنيفة‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنه العق ُد مع إمكان الوطء‪ ،‬وهذا مذهب الشافعى وأحمد‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أنه العقدُ مع الدخول المحقّقِ ل إمكانه المشكوك فيه‪ ،‬وهذا اختيارٌ شيخ السلم ابن‬
‫تيمية‪ ،‬وقال‪ :‬إن أحمد أشار إليه فى رواية حرب‪ ،‬فإنه نص فى روايته فيمن طلق قبل البناء‪ ،‬وأتت‬
‫ح المجزوم به‪ ،‬وإل فكيف تصيرُ‬
‫امرأتُه بولد‪ ،‬فأنكره أنه ينتفى عنه بغير لعان وهذا هو الصحي ُ‬
‫ل العرف واللغة المرأة‬
‫ل بها الزوجُ ولم َيبْنِ لمجرد إمكان بعيدٍ؟ وهل َيعُ ّد أه ُ‬
‫المرأة فراشاً ولم يدخُ ْ‬
‫ب بمن لم يبن بامرأته‪ ،‬ول دخلَ بها‪ ،‬ول اجتمع‬
‫فراشاً قبل البناء بها وكيف تأتى الشريعةُ بإلحاق نس ٍ‬
‫بها بمجرّدِ إمكان ذلك؟ وهذا المكانُ قد يقطع بإنتفائه عادة‪ ،‬فل تصي ُر المرأة فِراشاً إل بدخول‬
‫ل التوفيق‪ .‬وهذا الذى نص عليه فى رواية حرب‪ ،‬هو الذى تقتضيه قواعِدُه وأصولُ‬
‫محقق‪ ،‬وبا ّ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫مذهبه وا ّ‬
‫واختلفوا أيضاً فيما تصير به المةُ فراشاً‪ ،‬فالجمهور على أنه ل تصير فراشاً إل‬
‫بالوطءِ‪ ،‬وذهب بعضُ المتأخرين من المالكية إلى أن المة التى تشترى للوطء دونَ الخِدمة‪،‬‬
‫كالمرتفعة التى يُفهم من قرائن الحوال أنها إنما تُراد للتسرى‪ ،‬فتصير فِراشاً بنفس الشراء‪،‬‬
‫والصحيح أن المة والحرة ل تصيران فِراشاً بالدخول‪.‬‬
‫فصل‬
‫فهذا أح ُد المور الربعة التي يثبتُ بها النسب‪ ،‬وهو الفراش‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫ب أن يستلحِقَ فأما الجدّ‪ ،‬فإن كان‬
‫الثانى‪ :‬الستلحاق وقد اتفق أهلُ العلم على أن لل ِ‬
‫ل الورثة‪ ،‬صح إقراره‪ ،‬وثبت نسبُ‬
‫البُ موجودًا لم يؤثر استلحاقه شيئاً‪ ،‬وإن كان معدوماً‪ ،‬وهو كُ ّ‬
‫ض الورثة وصدّقوه‪ ،‬فكذلك‪ ،‬وإل لم ي ْث ُبتْ نسبه إل أن يكون أحد الشاهدين‬
‫المُ ِقرّ به‪ ،‬وإن كان بع َ‬
‫فيه‪.‬‬
‫ل يثبُت النسبُ‬
‫والحكم فى الخ كالحكم فى الجد سواء‪ ،‬والصل فى ذلك أن مَن حاز الما َ‬
‫بإقراره واحداً كان أو جماعة‪ ،‬وهذا أصلُ مذهب أحمد والشافعى‪ ،‬لن الورثة قامُوا مقا َم الميت‪،‬‬
‫ع الورثة على إلحاق النسب‬
‫وحلّوا محلّه‪ .‬وأورد بعضُ الناس على هذا الصل‪ ،‬أنه لو كان إجما ُ‬
‫ل مِن أمة وطئها الميت أن يحلوا محلّه فى نفى النسب‪،‬‬
‫ُي ْث ِبتُ النسب‪ ،‬للزم إذا اجتمعوا على نفى حم ٍ‬
‫جمِعِ‬
‫ل َي ْلزَمُ‪ ،‬لنا اعتبرنا جمي َع الورثة والحمل من الورثة‪ ،‬فلم يُ ْ‬
‫كما حلوا محلّه فى إلحاقه‪ ،‬وهذا َ‬
‫الورثة على نفيه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فأنتم اعتبرتُم فى ثبوت النسب إقرارَ جميع الورثة‪ ،‬والمقر هاهنا إنما هو عبدٌ‪،‬‬
‫وسودةُ لم تُ ِق ّر به وهى أختُه‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم ألحقَهُ بعبد باستلحاقه‪ ،‬ففيه دليل على‬
‫ل على أن استلحاقَ أحدِ الخوة كافٍ‪.‬‬
‫استلحاق الخ وثبوت النسب بإقراره‪ ،‬ودلي ٌ‬
‫قيل‪ :‬سود ُة لم تكن منكرة‪ ،‬فإن عبداً استلحقه‪ ،‬وأقرته سودةُ على استلحاقه‪ ،‬وإقرارُها‬
‫وسكوتُها على هذا المر المتعدى حكمُه إليها من خلوته بها‪ ،‬وبرؤيته إياها وصيرورته أخاً لها‬
‫عبْدٍ‪ ،‬وإقرارٌ بما أقر به‪ ،‬وإل لبادرت إلى النكار والتكذيبِ‪ ،‬فجرى رِضاها‬
‫تصديقٌ لخيها َ‬
‫ق صريح‪ ،‬فالواقعة واقع ُة عين‪ ،‬ومتى‬
‫وإقرارُها مجرى تصدِيقها‪ ،‬هذا إن كان لَ ْم َيصْ ُدرْ منها تصدي ٌ‬
‫ب من لو أقّر به مورثهم لحقه‪ ،‬ثبت نسبُه ما لم يكن هنا وارثٌ‬
‫استلحق الخُ أو الج ّد أو غيرُهما نس َ‬
‫ت النسب‪ ،‬ومنازعة غيره مِن الورثة مان ٌع من الثبوتِ‪ ،‬فإِذا وُجِدَ‬
‫ض لثبو ِ‬
‫منازع‪ ،‬فالستلحاقُ مقت ٍ‬
‫المقتضى‪ ،‬ولم يمنع مانِعٌ من اقتضائه‪ ،‬ترتّب عليه حكمُه‪ .‬ولكن هاهنا أمر آخر‪ ،‬وهو أن إقرا َر من‬
‫حاز الميراثَ واستلحاقه‪ :‬هل هو إقرارُ خلف ٍة عن الميت أو إِقرارُ شهادة؟ هذا فيه خلفٌ‪ ،‬فمذهبُ‬
‫أحمد والشافعى رحمهما ال‪ ،‬أنه إقرارُ خِلفه‪ ،‬فل تُشترط عدالة المستلحق‪ ،‬بل ول إسلمُه‪ ،‬بل‬
‫َيصِحّ ذلك مِن الفاسق وال ّديّن‪ ،‬وقالت المالكية‪ :‬هو إقرارُ شهادة‪ ،‬فتعتب ُر فيه أهليةُ الشهادة‪ ،‬وحكى‬
‫ابن القصار عن مذهب مالك‪ :‬أن الورثة إذا أقرّوا بالنسب‪ ،‬لحق‪ ،‬وإن لم يكونوا عدولً‪ ،‬والمعروف‬
‫من مذهب مالك خلفُه‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪237‬‬
‫ن أنّه ابنه‪ ،‬أو أنه ُولِ َد على فراشه مِن زوجتِه أو أمته‪ ،‬وإذا‬
‫الثالث‪ :‬البينة‪ ،‬بأن يشهد شاهِدا ِ‬
‫شهد بذلك اثنان من الورثة لم يلتفت إلى إنكار بقيتهم وثبت نسبة‪ ،‬ول يُعرف فى ذلك نزاع‪.‬‬
‫فصل‬
‫الرابع‪ :‬القافة‪ ،‬حكم رسولِ ال صلى ال عليه وسلم وقضاؤُه باعتبار القافة وإلحاق النسب‬
‫بها‪.‬‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث عائشة رضى ال عنها قالت‪ :‬دخل علىّ رسول ال‬
‫جزّزًا المُدْلِجِى‬
‫ن مُ َ‬
‫ت يو ٍم مسروراً َت ْبرُقٌ أساريرُ وجهه‪ ،‬فقال‪َ(( :‬ألَ ْم َت َرىْ أَ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ذا َ‬
‫ت أَقْدَا ُم ُهمَا‪،‬‬
‫س ُهمَا َوبَ َد ْ‬
‫طيَا ُرؤُو َ‬
‫عَل ْي ِهمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَ ّ‬
‫نَظَر آنفًا إِلى َزيْ ِد بْنِ حَا ِرثَ َة وأُسَامَ َة بْنِ َزيْ ٍد و َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم بقول القائف ولو كانت‬
‫سرّ النب ّ‬
‫ن َبعْضٍ))‪َ ،‬ف ُ‬
‫ضهَا مِ ْ‬
‫فقال‪ِ :‬إنّا ه ِذهِ الَقْدَامَ َب ْع ُ‬
‫ب ِبهَا‪ ،‬ولكانت بمنزلة‬
‫ج َ‬
‫سرّ بها‪ ،‬ول أُعْ ِ‬
‫ن مِن أَمر الجاهلية كالكهانة ونحوها لما ُ‬
‫كما يقول المُنازِعُو َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم أثبته عِلماً‪،‬‬
‫ح عنه وعيدُ مَن صَدّق كاهناً‪ .‬قال الشافعي‪ :‬والنب ّ‬
‫الكَهانة‪ .‬وقد ص ّ‬
‫ف المحصَناتِ‪ ،‬ونفىَ النساب‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫ولم ُي ْنكِره‪ ،‬ولو كان خطأ لنكره‪ ،‬لن فى ذلك قذ َ‬
‫كيف والنبىّ صلى ال عليه وسلم قد صرّح فى الحديث الصحيح بصحتها واعتبارها‪ ،‬فقال‬
‫ل بنِ أمية‪ ،‬وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشريك‬
‫فى ولد الملعنة‪(( :‬إن جاءت به كذا وكذا فهو لهل ِ‬
‫ن لِى َوَلهَا شَأْنٌ)) وهل‬
‫ل ال ْيمَانُ َلكَا َ‬
‫شبَ ِه الذى ُر ِم َيتْ به قال‪َ(( :‬لوْ َ‬
‫بن سَحْماء))‪ ،‬فلما جاءت به على َ‬
‫ف يتب ُع أَثرَ الشبه‪ ،‬وينظرُ إلى من يتّصِلُ‪ ،‬فيحكم به‬
‫هذا إل اعتبار للشبه وهو عينُ القافة‪ ،‬فإن القا ِئ َ‬
‫لصاحب الشبه‪ ،‬وقد اعتبر النبى صلى ال عليه وسلم الشبه وبيّن سببه‪ ،‬ولهذا لما قالت له أمّ سلمة‪:‬‬
‫شبَهُ))‪.‬‬
‫أو تحتلم المرأة‪ ،‬فقال‪(( :‬مِ ّم َيكُونُ ال ّ‬
‫سبَقَ‬
‫شبَهُ لَهُ‪ ،‬وإِذا َ‬
‫سبَقَ ما َء المرأة‪ ،‬كان ال ّ‬
‫وأخبر فى الحديث الصحيح‪ ،‬أن ماء الرّجُل إذا َ‬
‫شبَ ُه َلهَا))‪ .‬فهذا اعتبار منه للشبه شرعاً وقدراً‪ ،‬وهذا أقوى ما يكون مِن طرق‬
‫مَأُوهَا مَا َءهُ‪ ،‬كان ال ّ‬
‫ع والقدرُ ولهذا تبعه خلفاؤه الراشِدُونَ فى الحُكم‬
‫ق والم ُر والشر ُ‬
‫الحكام أن يتوارَ َد عليه الخل ٌ‬
‫بالقَافه‪.‬‬
‫قال سعيد بن منصور‪ :‬حدثنا سفيان‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن سليمان بن يسار‪ ،‬عن عمر‬
‫فى امرأة وَطئهَا رجلنِ فى طهرٍ‪ ،‬فقال القائفُ‪ ،‬قد اشتركا فيه جميعاً‪ ،‬فجعلَه بينهما‪.‬‬
‫قال الشعبي‪ :‬وعلى يقول‪ :‬هو ابنُهما‪ ،‬وهما ابواه يرثانه‪ ،‬ذكره سعيد أيضاً‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫ط ْه ِر امرأةٍ فحملت‪،‬‬
‫وروى الثرم بإسناده‪ ،‬عن سعيد بن المسيّب‪ ،‬فى رجلين اشتركا فى ُ‬
‫فولَ َدتْ غُلمًا يُشبههما‪ ،‬فرُفِ َع ذلك إلى عمرَ بنِ الخطاب‪ ،‬فدعا القافة فنظرُوا‪ ،‬فقالوا‪ :‬نراه يُشِب ُه ُهمَا‪،‬‬
‫فألحقه بهما‪ ،‬وج َعلَه يَرثُهما ويرثانه‪.‬‬
‫ول ُي ْع َرفُ قطّ فى الصحابة مَنْ خالف عمر وعليًا رضى ال عنهما فى ذلك‪ ،‬بل حكم عمر‬
‫بهذا فى المدينة‪ ،‬وبحَضرته المهاجرون والنصار‪ ،‬فلم ُي ْن ِك ْرهُ منهم منكر‪.‬‬
‫حكُمُ بالقيافة تعويلٌ على‬
‫ل والرّجلِ‪ ،‬وال ُ‬
‫قال الحنفية‪ :‬قد أجلبتم علينا فى القافة بالخي ِ‬
‫مجرّد الشّبه والظن والتخمين‪ ،‬ومعلوم أن الشّبه قد يُوجد من الجانب‪ ،‬وينتفى عن القارب‪،‬‬
‫ف لونَهما‪ ،‬فلم يُمكنه‬
‫وذكرتُم قِصة أسامة وزيد‪ ،‬ونسيتُم قِص َة الذى ولدت امرأتُه غلماً أسود يُخاِل ُ‬
‫ل للشبه ول لِعدمه أثراً‪ ،‬ولو كان للِشبه أثر‪ ،‬لكتفى به‬
‫جعَ َ‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم من نفيه‪ ،‬ول َ‬
‫ظرُ ولدته‪ ،‬ثم يُلحق بصاحب الشبه‪ ،‬ويستغنى‬
‫فى وَلدِ الملعنة‪ ،‬ولم يحتج إلى اللعان‪ ،‬ولكان ينت ِ‬
‫بذلك عن اللعان بل كانَ ل َيصِحّ نفيُه مع وجودِ الشبه بالزوج‪ ،‬وقد َدلّت السنةُ الصحيح ُة الصريحة‬
‫صرُوها فإن‬
‫على نفيه عن الملعين‪ ،‬ولو كان الشبه له‪ ،‬فإن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال‪َ(( :‬أبْ ِ‬
‫ن أُميّة))‪ ،‬وهذا قاله بعد اللّعان ونفى النسب عنه ف ُعلِ َم أنه لو جاء‬
‫ت بِ ِه كَذَا وكَذَا‪َ ،‬ف ُه َو ِلهِلل بْ ِ‬
‫جَا َء ْ‬
‫ل على كذبه‪ ،‬ل على لحوق‬
‫على الشبه المذكور‪ ،‬لم َي ْث ُبتْ نسبُه منه‪ ،‬وإنما كان مجيئه على شبه دلي ً‬
‫الولد به‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما قصةُ أسام َة وزيدٍ‪ ،‬فالمنافقون كانوا يطعنون فى نسبه من زيد لمخالفة لونه لون‬
‫أبيه‪ ،‬ولم يكونوا يكتفون بالفِراش‪ ،‬وحكم ال ورسُولُه فى أنه ابنُه‪ ،‬فلما شهد به القائفُ وافقت‬
‫لّ ورسوله‪ ،‬فسر به النبى صلى ال عليه وسلم لموافقتِها حكمه‪ ،‬ولتكذيبها قولَ‬
‫شهادتُه حكمَ ا ِ‬
‫المنافقين‪ ،‬ل أنه أثبت نسبه بها‪ ،‬فأين فى هذا إِثباتُ النسب بقول القائف؟‬
‫قالوا‪ :‬وهذا معنى الحاديث التى ذكر فيها اعتبا ُر الشبه‪ ،‬فإنها إنما اعتبرت فيه الشبه بنسب‬
‫ف على عمر‪ ،‬فرُوى‬
‫ثابت بغير القافة‪ ،‬ونحن ل نُنك ُر ذلك‪ .‬قالوا‪ :‬وأما حكم عمر وعلى‪ ،‬فقد اخ ُتِل َ‬
‫ل أيّهما شئت‪ .‬فلم يعتبر قولَ‬
‫عنه ما ذكرتُم‪ ،‬ورُوى عنه أن القائف لما قال له‪ :‬قد اشتركا فيه‪ ،‬قال وَا ِ‬
‫القائف‬
‫شبَهُ موجود‪ ،‬لم‬
‫قالوا‪ :‬وكيف تقولون بالشبه‪ ،‬ولو أقر أح ُد الورثة بأخ‪ ،‬وأنكره الباقون‪ ،‬وال ّ‬
‫سبُ؟‪.‬‬
‫ت النّ َ‬
‫تُث ِبتُو النسبَ به‪ ،‬وقلُتم‪ :‬إن لم تتفق الورثة على القرارِ به لم يث ُب ِ‬

‫‪239‬‬
‫قال أهلُ الحديث‪ :‬مِن العجب أن يُن ِك َر علينا القولَ بالقافة‪ ،‬ويجعلَها مِن باب الحَ ْدسِ‬
‫ق ولدَ المشرقى بمن فى أقصى المغرب‪ ،‬مع القطع بأنهما لم يتلقيا طرف َة عين‪،‬‬
‫ن ُيلْحِ ُ‬
‫والتخمين مَ ْ‬
‫ويلُحق الولَد باثنين مع القطع بأنه ليس ابناً لحدهما‪ ،‬ونحنُ إنما ألحقنا الولدَ بقول القائف المستند‬
‫إلى الشبه المعتبر شرعاً وقدراً‪ ،‬فهو إستناد إلى ظن غالب‪ ،‬ورأى راجح‪ ،‬وأمارة ظاهرة بقول من‬
‫هو مِن أهل الخبرة‪ ،‬فهو أولى بالقبول مِن قول المقومين‪ ،‬وهل يُنكر مجى ُء كثير من الحكام‬
‫مستنداً إلى المارات الظاهرة‪ ،‬واالظنون الغالبة؟‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫وأما وجود الشبه بين الجانب‪ ،‬وانتفاؤه بين القارب‪ ،‬وإن كان واقعاً فهو مِن أندر شىء‬ ‫@‬
‫وأ َقلّه‪ ،‬والحكام إنما هى للغالب الكثير‪ ،‬والنادرُ فى حكم المعدوم‪.‬‬
‫وأما قصةُ من ولدت امرأتُه غلماً أسود‪ ،‬فهو حج ٌة عليكم‪ ،‬لنها دليل على أن العادة التى‬
‫فطر ال عليها الناسَ اعتبا ُر الشبه‪ ،‬وأن خلفَه يُوجب ريبة‪ ،‬وأن فى طباع الخلق إنكا َر ذلك ولكن‬
‫لما عارض ذلك دليلٌ أقوى منه وهو الفِراش‪ ،‬كان الحكمُ للدليل القوى‪ ،‬وكذلك نقول نحن وسائر‬
‫شبَهِ‪ ،‬فمخالفةُ ظاهر الشبه لدليلٍ‬
‫الناس‪ :‬إن الفراش الصحيح إذا كان قائماً‪ ،‬فل يُعارَض بقافة ول َ‬
‫ش غيرُ مستنكر‪ ،‬وإنما المستنكرُ مخالف ُة هذا الدليل الظاهر بغير شىء‪.‬‬
‫أقوى منه وهو الفِرا ُ‬
‫وأما تقديمُ اللعان على الشبه‪ ،‬وإلغا ُء الشبه مع وجوده‪ ،‬فكذلك أيضاً هو مِن تقديم أقوى‬
‫الدليلين على أضعفهما‪ ،‬وذلك ل يمنع العملَ بالشبه مع عدم ما يُعارضه‪ ،‬كالبينة تُقدم على اليد‬
‫وأما ثبوتُ نسبِ أسامة من زيد بدون القيافة‪،‬‬ ‫والبراءة الصلية‪ ،‬ويُعمل بهما عند عدمهما‪.‬‬
‫فنحن لم نُثبت نسبه بالقيافة‪ ،‬والقياف ُة دليل آخر موافق لدليل الفِراش‪ ،‬فسرو ُر النبى صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وفرجُه بها‪ ،‬واستبشارُه لتعاضُد أدلة النسب وتضافرها‪ ،‬ل لثبات النسب بقولِ القائف وحدَه‪،‬‬
‫ل لم يَ ْفرَحْ بها‬
‫بل هو من باب الفرح بظهور أعلمِ الحق وأدلته وتكاثرها‪ ،‬ولو لم تصلُحِ القياف ُة دلي ً‬
‫ولم يُسر‪ ،‬وقد كان النبىّ صلى ال عليه وسلم يقرح ويُسر إذا تعاضدت عنده أدلةُ الحق‪ ،‬ويُخبر بها‬
‫الصحابةَ‪ ،‬ويُحب أن يسمعوها من المخبر بها‪ ،‬لن النفوسَ تزدادُ تصديقاً بالحق إذا تعاضدت أدلته‪،‬‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫وتُسّر به وتفرح‪ ،‬وعلى هذا فطر الُّ عباده‪ ،‬فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشرعة وبا ّ‬
‫وأما ما رُوى عن عمر أنه قال‪ :‬وَالِ أيهما شئت‪ ،‬فل تعرف صحته عن عمر‪ ،‬ولو صحّ عنه‬
‫ل عنه‪ ،‬فإن ما ذكرنا عنه فى غاية الصحة‪ ،‬مع أن قوله‪ :‬وال أيهما شئت ليس بصريح فى‬
‫لكان قو ً‬

‫‪240‬‬
‫إبطال قول القائف‪ ،‬ولو كان صريحاً فى إبطال قوله‪ ،‬لكان فى مثل هذا الموضع إذا ألحقه باثنين‪،‬‬
‫كما يقوله الشافعى ومن وافقه‪.‬‬
‫وأما إذا أقر أح ُد الورثة بأخ‪ ،‬وأنكره الباقون‪ ،‬فإنما لم يث ُبتْ نسبُه لمجرد القرار‪ ،‬فأما إذا‬
‫كان هناك شبهٌ يستنِ ُد إليه القائف‪ ،‬فإنه ل يُعتبر إنكارُ الباقين‪ ،‬ونحن ل نقصُر القَافَ َة على بنى مُ ْدلِج‪،‬‬
‫ول نعت ِبرُ تعدد القائف‪ ،‬بل يكفى واحد على الصحيح بناء على أنه خبر‪ ،‬وعن أحمد رواية أخرى‪:‬‬
‫أنه شهادة‪ ،‬فل بد من اثنين‪ ،‬ولفظُ الشهادة بناء على اشتراط اللفظ‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فالمنقول عن عمر أنه ألحقه بأبوين‪ ،‬فما تقولون فيما إذا ألحقته القافة‬
‫بأبوين‪ ،‬هل تُلحِقُونه بهما‪ ،‬أو ل تُلحقونه إل بواحدٍ‪ ،‬وإذا ألحقتمُوه بأبوين‪ ،‬فهل يختصّ ذلك باثنين‪،‬‬
‫ق بهم وإن كثروا‪ ،‬وهل حُك ُم الثنين فى ذلك حكم البوين أم ماذا حُكمهما؟‬
‫أم يلح ُ‬
‫قيل‪ :‬هذه مسائل فيها نزاع بين أهل العلم‪ ،‬فقال الشافعى ومن وافقه‪ :‬ل يُلحق بأبوين‪ ،‬ول‬
‫يكون للرجل إل أبٌ واحد‪ ،‬ومتى ألحقته القافة باثنين‪ ،‬سقط قولُها‪ ،‬وقال الجمهورُ‪ :‬بل يلحق باثنين‪،‬‬
‫ثم اختلفوا‪ ،‬فنص أحمد فى رواية مهنا بن يحيى‪ :‬أنه يُلحق بثلثة‪ ،‬وقال صاحب المغنى‪ :‬ومقتضى‬
‫هذا أنه يُلحق بمن أحلقته القاف ُة به وإن كثروا‪ ،‬لنه إذا جاز إلحاقُه باثنين‪ ،‬جاز إلحاقه بأكث َر من ذلك‬
‫وهذا مذهبُ أبى حنيفة‪ ،‬لكنه ل يقولُ بالقافة‪ ،‬فهو يُلحقه بالمدّعين وإن كثروا‪ ،‬وقال القاضى‪ :‬يجب‬
‫أن ل يُلحق بأكثر من ثلثة‪ ،‬وهو قولُ محمد بن الحسن‪ ،‬وقال ابنُ حامد‪ :‬ل يُلحق بأكث َر من اثنين‪،‬‬
‫ل أبى يوسف‪ ،‬فمن لم يُلحقه بأكثرَ من واحد‪ ،‬قال‪ :‬قد أجرى ال سبحانه عادته أن للولد أباً‬
‫وهو قو ُ‬
‫واحداً‪ ،‬وأمًا واحدة‪ ،‬ولذلك يُقال‪ :‬فلنُ ابن فلن‪ ،‬وفلن ابن فلنه فقط‪ .‬ولو قيل‪ :‬فلن ابن فلن‬
‫وفلن‪ ،‬لكان ذلك منكراً‪ ،‬وعُد قذفاً‪ ،‬ولهذا إنما يُقال يومَ القيامة‪ :‬أين فُلن بن فلن؟ وهذه غَ ْد َرةُ‬
‫فلن بن فلن‪ ،‬ولم يُعهد قطّ فى الوجود نسبة ولد إلى أبوين قط‪ ،‬ومن ألحقه باثنين‪ ،‬احتج بقول‬
‫عمر‪ ،‬وإقرار الصحابة له على ذلك‪ ،‬وبأن الولد قد ينعقِدُ من ماء رجلين‪ ،‬كما ينعقد من ماء الرجل‬
‫والمرأة‪ ،‬ثم قال أبو يوسف‪ :‬إنما جاء الث ُر بذلك‪ ،‬فيُقتصر عليه‪ .‬وقال القاضى‪ :‬ل يتعدى به ثلثة‪،‬‬
‫لن أحمد إنما نص على الثلثة‪ ،‬والصل أل يُلحق بأكثرَ مِن واحد‪ ،‬وقد دل قول عمر على إلحاقه‬
‫باثنين مع انعقاده من ماء الم‪ ،‬فدل على إمكان انعقاده من ماء ثلثة‪ ،‬وما زاد على ذلك‪ ،‬فمشكوكٌ‬
‫فيه‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫قال ال ُملْحِقُونَ له بأكث َر مِن ثلثة‪ :‬إذا جاز تخليقه من ماء رجلين وثلثة‪ ،‬جاز خلقُه مِن ماء‬
‫أربعة وخمسة‪ ،‬ول وجه لقتصاره على ثلثة فقط‪ ،‬بل إما أن يُلحق بهم وإن كُثروا‪ ،‬وإما أن ل‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫يتعدى به أحد‪ ،‬ول قول سوى القولين وا ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬إذا اشتمل الرح ُم على ماء الرجل‪ ،‬وأراد ال أن يخلُق منه الولدَ‪ ،‬انضم عليه أحكمَ‬
‫انضمام‪ ،‬وأتمّه حتى ل يَفٍسُدَ‪ ،‬فكيف يدخل عليه ماء آخر؟ قيل‪ :‬ل يمتنِ ُع أن َيصِلَ الماءُ الثانى إلى‬
‫لبَويْنِ‪ ،‬وقد سبق ماءُ الرجل‬
‫حيث وصل الول‪ ،‬فينضم عليهما‪ ،‬وهذا كما أن الول َد ينعقِد من ماءِ ا َ‬
‫ماء المرأة أو بالعكس‪ ،‬ومع هذا فل يمتنِعُ وصولُ الماء الثانى إلى حيث وصل الول‪ ،‬وقد علِم‬
‫بالعادة أن الحامل إذا تُوبع وطؤها‪ ،‬جاء الولد عبل الجسم ما لم يُعارِضْ ذلك مانع‪ ،‬ولهذا ألهم ال‬
‫ل النّفار‪ ،‬وقال المام‬
‫ل أن ينزوَ عليها‪ ،‬بل َتنْ ِفرُ عنه كُ ّ‬
‫سبحانَه الدوابّ إذا حملت أن ل تُمكّنَ الفح َ‬
‫أحمد‪ :‬إن الوطء الثانى يزيد فى سمع الولد وبصره‪ ،‬وقد شبّهه النبىّ صلى ال عليه وسلم بسقى‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫الزرع‪ ،‬ومعلومٌ أن سقيَه يزيدُ فى ذاته وا ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬فقد دلّ الحديثُ على حكم استلحاق الولد‪ ،‬وعلى أن الولد للفراش‪ ،‬فما‬
‫تقولون لو استلحق الزانى ولداً ل فِراش هُناك يُعارضه‪ ،‬هل يلحقُه نسبُه‪ ،‬ويثبتُ له أحكا ُم النسب؟‬
‫ب إلى أن المولودَ‬
‫ل العلم فيها‪ ،‬فكان إسحاق بن راهويه يذه ُ‬
‫قيل‪ :‬هذه مسألة جليلة اختلف أه ُ‬
‫ق به‪ ،‬وأوّل قول النبى‬
‫مِن الزّنى إذا لم يكن مولوداً على فراش يدّعيه صاحبه‪ ،‬وادعاه الزانى‪ ،‬أُلحِ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪(( :‬الولد للفراش))‪ ،‬على أنه حكم بذلك عند تنازُع الزانى وصاحب الفراش‪،‬‬
‫كما تقدم‪ ،‬وهذا مذهب الحسن البصرى‪ ،‬رواه عنه إسحاق بإسناده‪ ،‬فى رجل زنى بامرأة‪ ،‬فولدت‬
‫ولداً‪ ،‬فادّعى ولدَها فقال‪ :‬يُجلد ويلزمُه الولد‪ ،‬وهذا مذهبُ عروة بن الزبير‪ ،‬وسليمانَ بن يسار ذكر‬
‫ع ذلك الغلمَ أحد‪،‬‬
‫عنهما أنهما قال‪ :‬أيّما رجل أتى إلى غلم يزعم أنه ابن له‪ ،‬وأنه زنى بأمه ولم يَدّ ِ‬
‫ط أولدَ الجاهلية بمن ادعاهم فى السلم‪،‬‬
‫فهو ابنُه‪ ،‬واحتج سليمان‪ ،‬بأن عمر بن الخطاب كان ُيلِي ُ‬
‫وهذا المذهبُ كما تراه قوة ووضوحاً‪ ،‬وليس مع الجمهور أكث ُر مِن ((الولد للفراش)) وصاحبُ هذا‬
‫المذهب أوّلُ قائل به‪ ،‬والقياسُ الصحيح يقتضيه‪ ،‬فإن البَ أح ُد الزانيين‪ ،‬وهو إذا كان يلحق بأمه‪،‬‬
‫وينسب إليها وترثه ويرثُها‪ ،‬ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به‪ ،‬وقد وُجِ َد الولدُ‬
‫مِن ماء الزانيين‪ ،‬وقد اشتركا فيه‪ ،‬واتفقا على أنه ابنهُما‪ ،‬فما المانِعُ مِن لحوقه بالب إذا لم يدّعِهِ‬
‫ض القياس‪ ،‬وقد قال جريج للغلم الذى زنت أمّه بالراعى‪ :‬من أبوك يا غلم؟ قال‪:‬‬
‫غيرُه؟ فهذا مح ُ‬
‫فلن الراعى‪ ،‬وهذا إنطاق من ال ل يُمكن فيه الكذبُ‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل لِرسول ال صلى ال عليه وسلم فى هذه المسألة حُكم؟ قيل‪ :‬قد رُوى عنه فيها‬
‫حديثانِ‪ ،‬نحن نذكرُ شأنهما‪.‬‬
‫فصل‬
‫ق ولد الزنى وتوريثه‬
‫ذكر حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم في استلحا ِ‬
‫ذكر أبو داود في ((سننه))‪ :‬من حديث ابن عباس قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫((ل مساعاة في السلم‪ ،‬من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته‪ ،‬ومن ادعى ولدا من غير رشدة‪،‬‬
‫فل يرث ول يورث))‪ .‬المساعاة‪ :‬الزنى‪ ،‬وكان الصمعي يجعلها في الماء دون الحرائر‪ ،‬لنهن‬
‫يسعين لمواليهن‪ ،‬فيكتسبن لهم‪ ،‬وكان عليهن ضرائب مقررة‪ ،‬فأبطل النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫المساعاة في السلم‪ ،‬ولم يلحق النسب بها‪ ،‬وعفا عما كان في الجاهلية منها‪ ،‬وألحق النسب به‪.‬‬
‫وقال الجوهري‪ :‬يقال‪ :‬زنى الرجل وعهر‪ ،‬فهذا قد يكون في الحرة والمة‪ ،‬ويقال في المة خاصة‪:‬‬
‫قد ساعاها‪ .‬ولكن في إسناد هذا الحديث رجل مجهول‪ ،‬فل تقوم به حجة‪ .‬وروى أيضا في ((سننه))‬
‫من حديث عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده ((أن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قضى أن كل‬
‫مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له‪ ،‬ادعاه ورثته‪ ،‬فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم‬
‫أصابها‪ ،‬فقد لحق بمن استلحقه‪ ،‬وليس له مما قسم قبله من الميراث‪ ،‬وما أدرك من ميراث لم يقسم‪،‬‬
‫فله نصيبه‪ ،‬ول يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره‪ ،‬وإن كان من أمة لم يملكها‪ ،‬أو من حرة‬
‫عاهر بها‪ ،‬فإنه ل يلحق ول يرث‪ ،‬وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه‪ ،‬فهو من ولد زني من حرة‬
‫كان أو أمة))‪.‬‬
‫وفي رواية‪(( :‬وهو ولد زنى لهل أمه من كانوا حرة أو أمة))‪ .‬وذلك فيما استلحق في أول‬
‫السلم‪ ،‬فما اقتسم من مال قبل السلم‪ ،‬فقد مضى)) وهذا لهل الحديث في إسناده مقال‪ ،‬لنه من‬
‫رواية محمد بن راشد المكحولي‪ .‬وكان قوم في الجاهلية لهم إماء بغايا‪ ،‬فإذا ولدت أمة أحدهم وقد‬
‫وطئها غيره بالزنى‪ ،‬فربما ادعاه سيدها‪ ،‬وربما ادعاه الزاني‪ ،‬واختصما في ذلك‪ ،‬حتى قام‬
‫السلم‪ ،‬فحكم النبي صلى ال عليه وسلم بالولد للسيد‪ ،‬لنه صاحب الفراش‪ ،‬ونفاه على الزاني‪.‬‬
‫ثم تضمن هذا الحديث أمورا‪ .‬منها‪ :‬أن المستلحق إذا استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه‬
‫ورثته‪ ،‬فإن كان الولد من أمة يملكها الواطىء يوم أصابها‪ ،‬فقد لحق بمن استلحقه‪ ،‬يعني إذا كان‬
‫الذي استلحقه ورثة مالك المة‪ ،‬وصار ابنه من يومئذ‪ ،‬ليس له مما قسم قبله من الميراث شيء‪،‬‬
‫لن هذا تجديد حكم نسبه‪ ،‬ومن يومئذ يثبت نسبه‪ ،‬فل يرجع بما اقتسم قبله من الميراث‪ ،‬إذ لم يكن‬

‫‪243‬‬
‫حكم البنوة ثابتا‪ ،‬وما أدرك من ميراث لم يقسم‪ ،‬فله نصيبه منه‪ ،‬لن الحكم ثبت قبل قسمه الميراث‪،‬‬
‫فيستحق منه نصيبه‪ ،‬وهذا نظير من أسلم على ميراث قبل قسمه‪ ،‬قسم له في أحد قولي العلماء‪،‬‬
‫وهو إحدى الروايتين عن أحمد‪ ،‬وإن أسلم بعد قسم الميراث‪ ،‬فل شيء له‪ ،‬فثبوت النسب هاهنا‬
‫بمنزلة السلم بالنسبة إلى الميراث‪ .‬قوله‪(( :‬ول يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره)) هذا‪،‬‬
‫يبين أن التنازع بين الورثة‪ ،‬وأن الصورة الولى أن يستلحقه ورثة أبيه الذي كان يدعى له‪ ،‬وهذه‬
‫الصورة إذا استلحقه ورثته وأبوه الذي يدعى له كان ينكر‪ ،‬فإنه ل يلحق‪ ،‬لن الصل الذي الورثة‬
‫خلف عنه منكر له‪ ،‬فكيف يلحق به مع إنكاره؟ فهذا إذا كان من أمة يملكها‪ ،‬أما إذا كان من أمة لم‬
‫يملكها‪ ،‬أو من حرة عاهر بها‪ ،‬فانه ل يلحق‪ ،‬ول يرث‪ ،‬وإن ادعاه الواطىء وهو ولد زنية من أمة‬
‫كان أو من حرة‪ ،‬وهذا حجة الجمهور على إسحاق ومن قال بقوله‪ :‬إنه ل يلحق بالزانى إذا ادعاه‪،‬‬
‫ول يرثه‪ ،‬وأنه ولد زنى لهل أمه من كانوا حرة كانت أو أمة‪.‬‬
‫وأما ما اقتسم من مال قبل السلم‪ ،‬فقد مضى‪ ،‬فهذا الحديث يرد قول إسحاق ومن وافقه‪،‬‬
‫لكن فيه محمد بن راشد‪ ،‬ونحن نحتج بعمرو بن شعيب‪ ،‬فل يعلل الحديث به‪ ،‬فإن ثبت هذا الحديث‪،‬‬
‫تعين القول بموجبه‪ ،‬والمصير إليه‪ ،‬وإل فالقول قول إسحاق ومن معه‪ ،‬وال المستعان‪.‬‬
‫ذكر الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب رضي ال عنه في الجماعة الذين وقعوا على‬
‫امرأة في طهر واحد‪ ،‬ثم تنازعوا الولد‪ ،‬فأقرع بينهم فيه‪ ،‬ثم بلغ النبي صلى ال عليه وسلم فضحك‬
‫ولم ينكره‬
‫ذكر أبو داود والنسائي في ((سننهما))‪ ،‬من حديث عبد ال بن الخليل‪ ،‬عن زيد بن أرقم‬
‫رضي ال عنه قال‪ :‬كنت جالسا عند النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجاء رجل من أهل اليمن‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إن ثلثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد‪ ،‬قد وقعوا على امرأة في طهر واحد‪،‬‬
‫فقال لثنين‪ :‬طيبا بالولد لهذا فغليا‪ ،‬ثم قال لثنين‪ :‬طيبا بالولد لهذا‪ ،‬فغليا‪ ،‬ثم قال لثنين‪ :‬طيبا بالولد‬
‫لهذا‪ ،‬فغليا‪ ،‬فقال‪ :‬أنتم شركاء متشاكسون‪ ،‬إني مقرع بينكم‪ ،‬فمن قرع‪ ،‬فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا‬
‫الدية‪ ،‬فأقرع بينهم‪ ،‬فجعله لمن قرع‪ ،‬فضحك رسول ال حتى بدت أضراسه أو نواجذه‪ .‬وفي إسناده‬
‫يحيى بن عبد ال الكندي الجلح ول يحتج بحديثه‪ ،‬لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات‬
‫إلى عبد خير‪ ،‬عن زيد بن أرقم‪ .‬قال‪ :‬أتي علي بن أبي طالب بثلثة وهو باليمن وقعوا على امرأة‬
‫في طهر واحد‪ ،‬فسأل اثنين أتقران لهذا بالولد؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬حتى سألهم جميعا‪ ،‬فجعل كلما سأل اثنين‬
‫قال‪ :‬ل‪ ،‬فأقرع بينهم‪ ،‬فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة‪ ،‬وجعل عليه ثلثي الدية‪ ،‬قال‪ :‬فذكر‬

‫‪244‬‬
‫ذلك للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فضحك حتى بدت نواجذه‪ .‬وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن عبد‬
‫خير بإسقاط زيد بن أرقم‪ ،‬فيكون مرسل‪ .‬قال النسائي‪ :‬وهذا أصوب‪ .‬وهذا أعجب‪ ،‬فإن إسقاط زيد‬
‫بن أرقم من هذا الحديث ل يجعله مرسل‪ ،‬فإنه عبد خير أدرك عليا وسمع منه‪ ،‬وعلي صاحب‬
‫القصة‪ ،‬فهب أن زيد بن أرقم ل ذكر له في السند فمن أين يجيء الرسال‪ ،‬إل أن يقال‪ :‬عبد خير لم‬
‫يشاهد ضحك النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعلي إذ ذاك كان باليمن‪ ،‬وإنما شاهد ضحكه صلى ال‬
‫عليه وسلم زيد بن أرقم أو غيره من الصحابة وعبد خير لم يذكر من شاهد ضحكه‪ ،‬فصار الحديث‬
‫به مرسل‪ .‬فيقال‪ :‬إذا‪ :‬قد صح السند عن عبد خير‪ ،‬عن زيد بن أرقم‪ ،‬متصل‪ ،‬فمن رجح التصال‪،‬‬
‫لكونه زيادة من الثقة فظاهر‪ ،‬ومن رجح رواية الحفظ والضبط‪ ،‬وكان الترجيح من جانبه ولم‬
‫يكن علي قد أخبره بالقصة‪ ،‬فغايتها أن تكون مرسلة‪ ،‬وقد يقوى الحديث بروايته من طريق أخرى‬
‫متصل‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فاختلف الفقهاء في هذا الحكم‪ ،‬فذهب إليه إسحاق بن راهويه‪ ،‬وقال‪ :‬هو السنة‬
‫في دعوى الولد‪ ،‬وكان الشافعي يقول به في القديم‪ ،‬وأما المام أحمد‪ ،‬فسئل عن هذا الحديث‪ ،‬فرجح‬
‫عليه حديث القافة‪ ،‬وقال‪ :‬حديث القافة أحب إلي‪ .‬وهاهنا أمران‪ ،‬أحدهما‪ :‬دخول القرعة في النسب‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه‪ .‬وأما القرعة‪ ،‬فقد تستعمل عند فقدان‬
‫مرجح سواها من بينة أو إقرار‪ ،‬أو قافة‪ ،‬وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال‪ ،‬إذ‬
‫هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى‪ ،‬ولها دخول في دعوى الملك المرسلة التي ل‬
‫تثبت بقرينة ول أمارة‪ ،‬فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف‬
‫أولى وأحرى‪ .‬وأما أمر الدية فمشكل جدا‪ ،‬فإن هذا ليس بموجب الية‪ ،‬وإنما هو تفويت نسبه‬
‫بخروج القرعة‪ ،‬فيقال‪ :‬وطء كل واحد صالح لجعل الولد له‪ ،‬فقد فوته كل واحد منهم على صاحبيه‬
‫بوطئه‪ ،‬ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم‪ ،‬فلما أخرجته القرعة لحدهم‪ ،‬صار مفوّتا لنسبه عن‬
‫صاحبيه‪ ،‬فأجري ذلك مجرى إتلف الولد‪ ،‬ونزل الثلثة منزلة أب واحد‪ ،‬فخصة المتلف منه ثلث‬
‫الدية‪ ،‬إذ قد عاد الولد له‪ ،‬فيغرم لكل من صاحبيه ما يخصه‪ ،‬وهوثلث الدية‪.‬‬
‫ووجه آخر أحسن من هذا‪ ،‬أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به‪ ،‬وجب عليه ضمان‬
‫قيمته‪ ،‬وقيمة الولد شرعا هي ديته‪ ،‬فلزمه لهما ثلثا قيمته‪ ،‬وهي ثلثا الدية‪ ،‬وصار هذا كمن أتلف‬
‫عبدا بينه وبين شريكين له‪ ،‬فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه‪ ،‬فإتلف الولد الحر عليهما بحكم‬
‫القرعة‪ ،‬كإتلف الرقيق الذي بينهم‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية المة قيمة أولده لسيد المة لما فات رقهم‬
‫على السيد لحريتهم‪ ،‬وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء‪ ،‬وهذا ألطف ما يكون من القياس وأدقه‪ ،‬وأنت‬
‫إذا تأملت كثيرا من أقيسة الفقهاء وتشبيهاتهم‪ ،‬وجدت هذا أقوى منها‪ ،‬وألطف مسلكا‪ ،‬وأدق مأخذا‪،‬‬
‫ولم يضحك منه النبي صلى ال عليه وسلم سدى‪ .‬وقد يقال‪ :‬ل تعارض بين هذا وبين حديث القافة‪،‬‬
‫بل إن وجدت القافة تعين العمل بها‪ ،‬وإن لم توجد قافة‪ ،‬أو أشكل عليهم‪ ،‬تعين العمل بهذا الطريق‪،‬‬
‫وال أعلم‪.‬‬
‫فصل‬
‫ذكر حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم في الولد من أحق به في الحضانة‬
‫روى أبو داود في ((سننه))‪ :‬من حديث عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده عبد ال بن‬
‫عمرو بن العاص‪ ،‬أن امرأة قالت‪ :‬يا رسول ال إن ابني هذا كان بطني له وعاء‪ ،‬وثديى له سقاء‪،‬‬
‫وحجري له حواء‪ ،‬وإن أبا ُه طلقني‪ ،‬فأراد أن ينتزعه منى‪ ،‬فقال لها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫((أنت أحق به ما لم تنكحي)) وفي ((الصحيحين))‪ :‬من حديث البراء بن عازب‪ ،‬أن ابنة حمزة‬
‫اختصم فيها على وجعفر‪ ،‬وزيد‪ .‬فقال على‪ :‬أنا أحق بها وهي ابنة عمى‪ ،‬وقال جعفر‪ :‬ابنة عمي‬
‫وخالتها تحتي‪ ،‬وقال‪ :‬زيد‪ :‬ابنة أخي‪ ،‬فقضى بها رسول ال صلى ال عليه وسلم لخالتها‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫((الخالة بمنزلة الم))‪.‬‬
‫وروى أهل السنن‪ :‬من حديث أبى هريرة رضىال عنه‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫خير غلما بين أبيه وأمه‪ .‬قال الترمذي‪ :‬حديث صحيح‪.‬‬
‫وروى أهل السنن أيضا‪ :‬عنه‪ ،‬أن امرأة جاءت‪ ،‬فقالت يا رسول ال ! إن زوجي يريد أن‬
‫يذهب بابني‪ ،‬وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعني‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫((استهما عليه))‪ ،‬فقال زوجها من يحاقني في ولدي‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬هذا‬
‫أبوك وهذه أمك خذ بيد أيهما شئت))‪ ،‬فأخذ بيد أمه‪ ،‬فانطلقت به‪ .‬قال الترمذي‪ :‬حديث حسن‬
‫صحيح‪ .‬وفي ((سنن النسائي))‪ :‬عن عبد الحميد بن سلمة النصاري‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬أن جدّه‬
‫أسلم وأبت امرأتُه أن تسلم‪ ،‬فجاء بابن له صغير لم يَبلغ‪ ،‬قال فأجلس النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫الب هاهنا والم هاهنا‪ ،‬ثم خير وقال ((الّلهُ ّم اه ِدهِ)) فذهب إلى أبيه‪.‬‬
‫ورواه أبو داود عنه وقال‪ :‬أخبرنى جدي رافع بن سنان‪ ،‬أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم‪،‬‬
‫فأتت النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬ابنتى وهي فطيم أو شبهه‪ ،‬وقال رافع‪ :‬ابنتي‪ ،‬فقال له‬

‫‪246‬‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬اقعد ناحية))‪ ،‬وقال لها‪(( :‬اقعدي ناحية))‪ ،‬فأقعد الصبية بينهما‪،‬‬
‫ثم قال‪(( :‬ادعواها))‪ ،‬فمالت إلى أمها‪ ،‬فقال النبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬اللهم اهدها))‪ ،‬فمالت إلى‬
‫أبيها‪ ،‬فأخذها‪.‬‬
‫فصل‬
‫الكلم على هذه الحكام‬
‫أما الحديث الول‪ ،‬فهو حديث احتاج الناس فيه إلى عمرو بن شعيب‪ ،‬ولم يجدوا بدا من‬
‫الحتجاج هنا به‪ ،‬ومدار الحديث عليه‪ ،‬وليس عن النبى صلى ال عليه وسلم حديثٌ في سقوط‬
‫الحضانة بالتزويج غير هذا‪ ،‬وقد ذهب إليه الئمةُ الربعة وغيرُهم‪ ،‬وقد صرح بأن الجد هو عبد‬
‫ن يقولُ‪ :‬لعله محمد والدُ شعيب‪ ،‬فيكون الحديثُ مرسلً‪ .‬وقد صحّ سماعُ‬
‫ل مَ ْ‬
‫ل بن عمرو‪ ،‬فبطل قو ُ‬
‫ا ّ‬
‫ل من قال‪ :‬إنه منقطع‪ ،‬وقد احتج به البخاريّ خارجَ‬
‫ل بن عمرو‪ ،‬فبطل قو ُ‬
‫شعيب من جَدّه عبد ا ّ‬
‫ل بن الزّبير الحميدي‪ ،‬وأحمد وإسحاق وعلي‬
‫صحيحه‪ ،‬ونص على صحة حديثه‪ ،‬وقال‪ :‬كان عبدُ ا ّ‬
‫س َبعْدَهُم؟! هذا لفظه‪ .‬وقال إسحاق بن راهويه‪ :‬هو عندنا‪،‬‬
‫بن عبد الّ يحتجّون بحديثه‪َ ،‬فمَن النّا ُ‬
‫كأيوب عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر‪ .‬وحكى الحاكم في ((علوم الحديث)) له التفاق على صحة حديثه‪،‬‬
‫وقال أحمد بن صالح‪ :‬ليختلف على عبد الّ أنها صحيفة‪.‬‬
‫وقولها‪ :‬كان بطني وعاء إلى آخره‪ ،‬إدلءٌ منها‪ ،‬وتوسّل إلى اختصاصها به‪ ،‬كما اختصّ‬
‫ب لم يُشاركها في ذلك‪ ،‬فنبهت في هذا الختصاص الذي لم‬
‫ن الثلثة‪ ،‬وال ُ‬
‫بها في هذه المواط ِ‬
‫ب على الختصاص الذي طلبته بالستفتاء والمخاصمة‪.‬‬
‫يُشا ِركْها فيه ال ُ‬
‫وفي هذا دليل على اعتبار المعاني والعِلل‪ ،‬وتأثيرها في الحكام‪ ،‬وإناطتها بها‪ ،‬وأن‬
‫ي أدلت به المرأةُ وجعلته‬
‫ف الذ َ‬
‫طرِ السّليمةِ حتى فِطَر النساء‪ ،‬وهذا الوص ُ‬
‫ذلك أمر مستقر في الفِ َ‬
‫ل ألغاه‪،‬‬
‫سببًا لتعليق الحكم به‪ ،‬قد قرّر ُه النبيّ صلى ال عليه وسلم ورتّب عليه أثره‪ ،‬ولو كان باط ً‬
‫بل ترتيبُه الحكمَ عقيبَه دليل على تأثيره فيه‪ ،‬وأنه سببه‪.‬‬
‫واستدل بالحديث على القضاء على الغائب‪ ،‬فإن البَ لم يذكر له حضورول‬
‫مخاصمة‪ ،‬ول دللة فيه لنها واقعةُ عين‪ ،‬فإن كان البُ حاضراً‪ ،‬فظاهر‪ ،‬وإن كان غائباً‪ ،‬فالمرأة‬
‫إنما جاءت مستفتية أفتاها النبيّ صلى ال عليه وسلم بمقتضى مسألتها‪ ،‬وإل فل يُفبل قولُها على‬
‫الزوج‪ :‬إنه طلقها حتى يُحكم لها بالولد بمجرّدِ قولها‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪247‬‬
‫ق به من الب ما لم يقم بالمّ‬
‫ودلّ الحديث على أنه إذا افترق البوانِ‪ ،‬وبينهما ولد‪ ،‬فالمّ أح ّ‬
‫ما يمنعُ تقديمَها‪ ،‬أو بالولد وصفٌ يقتضي تخييرَه‪ ،‬وهذا ما ل يُعرف فيه نزاعٌ‪ ،‬وقد قضى به خليفةُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أبو بكر على عمر بن الخطاب‪ ،‬ولم ُي ْن ِك ْر عليهِ ُم ْنكِر‪ .‬فلما وَليَ‬
‫رسولِ ا ّ‬
‫عمرُ قضى بمثله‪ ،‬فروى مالك في ((الموطأ)) عن يحيى بن سعيد أنه قال‪ :‬سمعت القاسم بن محمد‬
‫ل عنه امرأةٌ من النصار‪ ،‬فولدت له عاص َم بن عمر‪،‬‬
‫يقول‪ :‬كانت عند عمرَ بن الخطاب رضي ا ّ‬
‫ع َمرُ ُقبَاء‪ ،‬فوجد ابنه عاصمًا يلعب بفناء المسجد‪ ،‬فأخذ بعضدهِ‪ ،‬فوضعه‬
‫ثم إن عمرَ فارقها‪ ،‬فجاء ُ‬
‫ل عنه‪،‬‬
‫بين يديه على الدابة‪ ،‬فأدركته جدةُ الغلم‪ ،‬فنازعته إيّاه‪ ،‬حتّى أتيا أبا بكر الصديق رضي ا ّ‬
‫ل بينها وبينه‪ ،‬فما راجعه‬
‫فقال عمر‪ :‬ابني‪ .‬وقالت المرأة‪ :‬ابني‪ ،‬فقال أبو بكر رضي ال عنه‪ :‬خَ ّ‬
‫ع َمرُ الكَلَم قال ابن عبد البر‪ :‬هذا خبر مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة‪ ،‬تلقاه أهل العلم بالقبول‬
‫ُ‬
‫والعمل‪ ،‬وزوجة عمر أ ّم ابنه عاصم‪ :‬هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي القلح النصاري‪.‬‬
‫ف أبي بكر‪ ،‬ولكنه سلم للقضاء ممن له‬
‫قال‪ :‬وفيه دليل على أن عمر كان مذهبُه في ذلك خل َ‬
‫ن بعْدُ في خلفته يقضي به ويُفتي‪ ،‬ولم يُخالف أبا بكر في شيء منه ما دام‬
‫الحكمُ والِمضاء‪ ،‬ثم كا َ‬
‫ي صغيراً ل يُميز‪ ،‬ول مخالف لهما مِن الصحابة‪.‬‬
‫الصب ّ‬
‫وذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬أنه أخبره عن عطاء الخراساني‪ ،‬عن ابن عباس قال‪:‬‬
‫طلق عم ُر بنُ الخطاب امرأتَه النصارية أ ّم ابنه عاصم‪ ،‬فلقيها تَح ِملُه بمحسر‪ ،‬وقد فُطِمَ ومشى‪،‬‬
‫فأخذ بيده لينتزعهُ منها‪ ،‬ونازعها إياه حتّى أوج َع الغلم وبكى‪ ،‬وقال‪:‬أنا أحقّ بإبني ِم ْنكِ‪ ،‬فاختصما‬
‫شبّ ويختارَ لنفسه‪،‬‬
‫إلى أبي بكر‪ ،‬فقضى لها بِهِ وقال‪ :‬ريحُها وفِراشُها وحجرُهَا خي ٌر له منك حتى يَ ِ‬
‫ومحسر‪ :‬سوق بين قباء والمدينة‪.‬‬
‫ع َم َر إلى أبي بكر‬
‫ع َمرَ ُ‬
‫وذكر عن الثوري‪ ،‬عن عاصم‪ ،‬عن عكرمة قال‪ :‬خاصمتِ امرأةُ ُ‬
‫ل عنه‪ :‬الم أعطفُ‪ ،‬وألطفُ‪ ،‬وأرحمُ‪ ،‬وأحنى‪،‬‬
‫ل أبو بكر رضي ا ّ‬
‫رضي الّ عنه‪ ،‬وكان طلّقها‪ ،‬فقا َ‬
‫وأرأف‪ ،‬هي أحقّ بولدها ما لم تتزوج‪.‬‬
‫ع َم َر في ابنه مع أمّه‪،‬‬
‫ي يقول‪ :‬إن أبا بكر قضَى على ُ‬
‫وذكر عن معمر قال‪ :‬سمعتُ الزهر ّ‬
‫وقال‪ :‬أمّهُ أحقّ به ما لم تتزوج‪.‬فإن قيل‪ :‬فقد اختلفت الروايةُ‪ :‬هل كانت المنازعةُ وقعت بينَه وبينَ‬
‫الم أولً‪،‬ثم بينه وبين الجدة‪،‬أو وقعت مرة واحدة بينه وبين إحداهما‪.‬‬
‫قيل‪:‬المر فى ذلك قريب‪،‬لنها إن كانت من الم فواضح‪،‬وإن كانت من الجدة‪،‬فقضاء‬
‫الصديق رضى ال عنه لها يدل على أن الم أولى‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫فصل‬
‫ب على الم ومن في جهتها‪ ،‬وهي ولية المال‬
‫والولية على الطفل نوعان‪ :‬نوع يقدم فيه ال ُ‬
‫ل من البوين‬
‫ع تُقدّم فيه الم على الب‪ ،‬وهي ولي ُة الحضانة والرضاع‪ ،‬وقُدّ َم كُ ّ‬
‫والنكاح‪ ،‬ونو ٌ‬
‫فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحة الولد‪ ،‬وتوقف مصلحته على من يلي ذلك من أبويه‪ ،‬وتحصل به‬
‫كفايته‪.‬‬
‫ولما كان النساءُ أعرفَ بالتربية‪ ،‬وأقدرَ عليها‪ ،‬وأصبَر وأرأفَ وأفرغ لها‪،‬لذلك قُ ّد َمتِ الم‬
‫فيها على الب‪.‬‬
‫ولما كان الرجالُ أقومَ بتحصيل مصلحةالولدوالحتياط له في البضع‪ ،‬قُدّمَ‬
‫البُ فيها على الم‪ ،‬فتقديمُ الم في الحضانة مِن محاسن الشريعة والحتياط للطفال‪،‬‬
‫والنظر لهم‪ ،‬وتقديمُ الب في ولية المال والتزويج كذلك‪.‬‬
‫ع ِرفَ هذا‪ ،‬فهل قُدّمتِ الُمّ لكون جهتها مقدم ًة على جهة البوة في الحضانة‪،‬‬
‫إذا ُ‬
‫فقدمت لجل المومة‪ ،‬أو قُدّمت على الب‪ ،‬لكون النساء أقوم بمقاصد الحضانة والتربية من‬
‫الذكور‪ ،‬فيكون تقديمُها لجل النوثة؟ ففي هذا للناس قولن وهما في مذهب أحمد يظهر أثرهُما في‬
‫تقديم نساء العصبة على أقارب الم أو بالعكس‪ ،‬كأم الم‪ ،‬وأم الب‪ ،‬والخت من الب‪ ،‬والخت‬
‫من الم‪ ،‬والخالة‪ ،‬والعمة‪ ،‬وخالة الم‪ ،‬وخالة الب‪ ،‬ومن يُدلي من الخالت والعمات بأم‪ ،‬ومن‬
‫ب البِ‪ .‬والثانية‬
‫يُدلي منهن بأب‪ ،‬ففيه روايتان عن الِمام أحمد‪ .‬إحداهما تقديمُ أقاربِ الم على أقار ِ‬
‫ح دليلً‪ ،‬واختيار شيخ الِسلم ابن تيمية‪ :‬تقديمُ أقارب الب وهذا هو الذي ذكره الخرقي‬
‫وهيَ أص ّ‬
‫ق من الخالة‪ ،‬وخالة الب‬
‫ق من الخت من الم وأح ّ‬
‫في ((مختصره)) فقال والختُ من الب أح ّ‬
‫ص عليه أحمد في إحدى الروايتين‬
‫ق مِن خالة الم‪ ،‬وعلى هذا فأ ّم البِ مقدّمة على أمّ الم كما ن ّ‬
‫أح ّ‬
‫عنه‪..‬‬
‫ب الب من الرجال مقدّمون على أقارب الم‪،‬‬
‫وعلى هذه الرواية‪ :‬فأقار ُ‬
‫والخ للب أحق من الخ للم‪،‬والعم أولى من الخال‪،‬هذا إن قلنا‪:‬إن لقارب الم من الرجال مدخلً‬
‫في الحضانة‪ ،‬وفي ذلك وجهان في مذهب أحمد والشافعي‪ .‬أحدهما‪ :‬أنه ل حضانة إل لرجل مِن‬
‫حرَمٍ‪ ،‬أو لمرأة وارثة‪،‬أو مُدلية بعصبة‪ ،‬أو وارث‪..‬‬
‫العصبة مَ ْ‬
‫ل أبي‬
‫والثاني‪ :‬أن لهم الحضانة والتفريع على هذا الوجه‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫حنيفة‪،‬‬

‫‪249‬‬
‫وهذا يدل على رجحان جهة البوة على جهة المومة في الحضانة‪ ،‬وأن الم إنما قدّمت‬
‫لكونها أنثى ل لتقديم جهتها‪ ،‬إذ لو كان جهتها راجحةً لترجّحَ رجالها‬
‫ونساؤها على الرجالِ والنساءِ من جهة الب‪ ،‬ولما لم يترجّح رجالُها اتفاقاًفكذلك النساء‪،‬‬
‫وما الفرقُ المؤثر؟وأيضاً فإن أصولَ الشرع وقواعِ َدهُ شاهدةٌ بتقديم أقارب الب في الميراث‪،‬‬
‫وولية النكاح‪ ،‬وولية الموت وغير ذلك‪ ،‬ولم يُعهد في الشرع تقديمُ قرابة الم على قرابة الب في‬
‫حكم من الحكام‪ ،‬فمن قدّمها في الحضانة‪ ،‬فقد خرج عن موجب الدليل‪.‬‬
‫فالصوابُ في المأخذ هو أن الم إنما قُدّمت‪ ،‬لن النساءَ أرفقُ بالطفل‪ ،‬وأخبرُ‬
‫بتربيته‪ ،‬وأصبرُ على ذلك‪ ،‬وعلى هذا فالج ّد ُة أم الب أولى من أمّ الم‪ ،‬والخت للب أولى مِن‬
‫الخت للم‪ ،‬والعم ُة أولى من الخالة‪ ،‬كما نصّ عليه أحمد في إحدى الروايتين‪ ،‬وعلى هذا فتقدَ ُم أتمُ‬
‫الب على أب الب‪ ،‬كما تُقدّم الم على الب‪.‬‬
‫طرِد منضبط ل تتناقض فروعُه‪ ،‬بل إن‬
‫وإذا تقرر هذا الصل‪ ،‬فهو أصل م ّ‬
‫اتفقت القراب ُة والدرجةُ واحدة قُدّمت النثى على الذكر‪ ،‬فتُقدّم الخت على الخ‪،‬والعمة على العم‪،‬‬
‫والخالة على الخال‪ ،‬والجد ُة على الجد‪ ،‬وأصلُه تقديم الم على الب‪ .‬وإن اختلفت القرابةُ‪ ،‬قُدّمت‬
‫قرابةُ الب على قرابة الم‪ ،‬فتقدم الخت للب على الخت للم‪ ،‬والعمة على الخالة‪ ،‬وعمةُ الب‬
‫على خالته‪ ،‬وهلم جراً‪.‬‬
‫وهذا هو العتبا ُر الصحيح‪ ،‬والقياسُ المطرد‪ ،‬وهذا هو الذي قضى‬
‫به سيّدُ قُضاةِ الِسلم شريح‪ ،‬كما روى وكيع في ((مصنفه)) عن الحسن بن عقبة‪ ،‬عن سعيد بن‬
‫ل إلى شُريح في طفل‪ ،‬فقضى به للعم‪ ،‬فقال الخال‪ :‬أنا أُنفق عليه من‬
‫الحارث قال‪ :‬اختصم عمّ وخا ٌ‬
‫مالي‪ ،‬فدفعه إليه شريح‪.‬‬
‫ك غيرَ هذا المسلك لم يجد بداً من التناقض‪ ،‬مثاله‪ :‬أن الثلثة وأحمد في إحدى‬
‫ومن سل َ‬
‫روايتيه‪ ،‬يُق ّدمُون أم الم على أم الب‪ ،‬ثم قال الشافعي في ظاهر مذهبه‪ ،‬وأحمد في المنصوص‬
‫عنه‪ :‬تُقدّم الخت للب على الخت للم‪ ،‬فتركوا القياسَ‪ ،‬وطرّده أبو حنيفة‪ ،‬والمزني‪ ،‬وابن سريج‪،‬‬
‫ت للم على الخت للب‪ .‬قالوا‪ :‬لنها تُدلي بالم‪ ،‬والخت للب بالب‪ ،‬فلما قُ ّدمَت‬
‫فقالوا‪ :‬تُقدّم الخ ُ‬
‫الم على الب‪ ،‬قُدّ َم من يُدلي بها على من يُدلي به‪ ،‬ولكن هذا أشدّ تناقضاً من الول لن أصحاب‬
‫ج َروْا على القياس والصول في تقديمِ قرابة الب على قرابة الم‪ ،‬وخالفوا ذلك في أم‬
‫القول الول َ‬
‫الم وأم الب‪ ،‬وهؤلء تركوا القياسَ في الموضعينِ‪ ،‬وقدّموا القراب َة التي أخّرها الشرعُ‪ ،‬وأخّروا‬

‫‪250‬‬
‫خرُوها في غير ِه مع‬
‫ل موضع‪ ،‬فقدّموها في موضع‪ ،‬وأ َ‬
‫القراب َة التي قدّمها‪ ،‬ولم يمكنهم تقديمُها في كُ ّ‬
‫تساويهما‪ ،‬ومن ذلك تقديمُ الشافعي في الجديد الخال َة على العمة مع تقديمه الخت للب على الخت‬
‫للم‪ ،‬وطرّد قياسه في تقديم أم الم على أم الب‪ ،‬فوجب تقديمُ الخت للم‪ ،‬والخالة على الخت‬
‫للب والعمة‪ ،‬وكذلكَ مَنْ قَدّ َم مِن أصحاب أحمد الخالَة على العمة‪ ،‬وقدّ َم الخت للب على الخت‬
‫للم‪ ،‬كقول القاضي وأصحابه‪،‬وصاحب ((المغني)) فقد تناقضوا‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬الخال ُة تُدلي بالم‪ ،‬والعمة تُدلي بالب‪ ،‬فكما قدّمتِ الم على الب‪ ،‬قُدّم من‬
‫يُدلي بها‪ ،‬ويزيدُه بيانًا كونُ الخالة أمّا كما قال النبيّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فالعمةُ بمنزلة الب‪ .‬قيل‪:‬‬
‫قد بينا أنه لم يقدم الم على الب لقوة المومة‪ ،‬وتقديم هذه الجهة‪ ،‬بل لكونها أنثى‪ ،‬فإذا وُجِ َد عمةٌ‬
‫وخالة‪ ،‬فالمعنى الذي قُ ّد َمتْ له الم موجود فيهما‪ ،‬وامتازت العمةُ بأنها تُدلي بأقوى القرابتين‪ ،‬وهي‬
‫قرابةُ الب‪ ،‬والنبيّ صلى ال عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها‪ ،‬وقال‪(( :‬الخَال ُة أُم))حيث لم‬
‫يكن لها مزاحم مِن أقارب الب تُساويها في درجتها‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فقد كان لها عمة وهى صفي ُة بنت عبد المطلب أختُ حمزة‪ ،‬وكانت‬
‫ل مِن اليهود كان يطوفُ‬
‫إذ ذاك موجودة في المدينة‪ ،‬فإنها هاجرت‪ ،‬وشهدت الخندقَ‪ ،‬وقتلت رج ً‬
‫ل من المشركين‪ ،‬وبقيت إلى خلفة عمر رضي‬
‫بالحِصن الذي هي فيه‪ ،‬وهي أوّل امرأة قتلت رج ً‬
‫ل على تقديم من في جهة الم على‬
‫الّ عنه‪ ،‬فقدّم النبيّ صلى ال عليه وسلم الخالة عليها‪ ،‬وهذا يد ّ‬
‫من في جهة الب‪.‬‬
‫ل هذا إذا كانت صفية قد نازعت معهم‪ ،‬وطلبت الحضانة‪،‬‬
‫قيل‪ :‬إنما يد ّ‬
‫فلم يقض لها بها بعد طلبها‪ ،‬وقدّم عليها الخالة‪ ،‬هذا إذا كانت لم تمنع منها لعجزها عنها‪،‬‬
‫ت هذه الحكومة بِضعٌ وخمسون‬
‫فإنها تُوفيت سنة عشرين عن ثلث وسبعين سنة‪ ،‬فيكون لها وق َ‬
‫ق للمرأة‪ ،‬فإذا تركتها‪،‬‬
‫سنة‪ ،‬فيحتمِلُ أنها تركتها لعجزها عنها‪ ،‬ولم تطلبها مع قدرتها‪ ،‬والحضانةُ ح ّ‬
‫انتقلت إلى غيرها‪.‬‬
‫وبالجملة‪ :‬فإنما يدل الحديث على تقديم الخالة على العمة إذا ثبت أن صفيةَ خاصمت في ابنة‬
‫ل إليه‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم الخالة‪ ،‬وهذا ل سبي َ‬
‫أخيها‪ ،‬وطلبت كفالَتها‪ ،‬فقدّم رسولُ ا ّ‬
‫فصل‬
‫ومن ذلك أن مالكاً لما قدّم أمّ الم على أ ّم الب‪ ،‬قدم الخالةَ بعدها على الب وأمه‪ ،‬واختلف‬
‫أصحابه في تقديم خالة الخالة على هؤلء‪ ،‬على وجهين‪ ،‬فأح ُد الوجهين‪ :‬تقديم خالة الخالة على‬

‫‪251‬‬
‫الب نفسِه‪ ،‬وعلى أمه‪ ،‬وهذا في غاية البعد‪ ،‬فكيف تُقدم قراب ُة الم وإن بعدت على الب نفسه‪،‬‬
‫ق على الطفل‪ ،‬وأرعى لمصلحة من قرابة الم؟ فإنه ليس‬
‫وعلى قرابته مع أن البَ وأقاربه أشف ُ‬
‫ب أبيه‪ ،‬وهم أولى‬
‫ي منهم‪ ،‬وإنما نسبه وولؤه إلى أقار ِ‬
‫إليهم بحال‪ ،‬ول يُنسب إليهم‪ ،‬بل هو أجنب ّ‬
‫ت القرابةَ بينهم‬
‫به‪ ،‬يع ِقلُون عنه‪ ،‬وينفقون عليه عند الجمهور‪ ،‬ويتوارثون بالتعصيب وإن بعد ِ‬
‫بخلف قرابةِ الم‪ ،‬فإنه ل يثبتُ فيها ذلك‪ ،‬ول توا ُرثَ فيها إل في أمهاتها‪ ،‬وأول درجة مِن‬
‫فروعها‪ ،‬وهم ولدُها‪ ،‬فكيف تقدم هذه القرابة على الب‪ ،‬ومن في جهته‪ ،‬ول سيما إذا قيل بتقديم‬
‫خالة الخالة على الب نفسه وعلى أمه‪ ،‬فهذا القولُ مما تأباه أصولُ الشريعة وقواعِدُها‪.‬‬
‫وهذا نظي ُر إحدى الروايتين عن أحمد في تقديم الخت على الم‪ ،‬والخالة على الب‪،‬‬
‫وهذا أيضاً في غاية البعد‪ ،‬ومخالفة القياس‪..‬وحجة هذا القول‪ :‬أن كلتيهما تُدليان بالم المقدمة على‬
‫الب‪ ،‬فتُقدمان‬
‫عليه‪ ،‬وهذا ليس بصحيح‪ ،‬فإن الم لما ساوت الب في الدرجة‪ ،‬وامتازت عليه بكونها أقومَ‬
‫ت عليه‪ ،‬وليس كذلك الختُ من الم‪ ،‬والخال ُة مع الب‪،‬‬
‫بالحضانة‪ ،‬وأقدرَ عليها وأصبرَ‪ ،‬قُ ّد َم ْ‬
‫ت امرأته‪ ،‬أو أختها؟ وهل‬
‫فإنهما ل يُساويانه‪ ،‬وليس أحدٌ أقربَ إلى ولده منه‪ ،‬فكيف تُقَدّ ُم عليه بن ُ‬
‫جعل الّ الشفقة فيهما أكمل منه؟‬
‫ثم اختلف أصحاب الِمام أحمد في فهم نصه هذا على ثلثة أوجه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬إنما قدمها على الب لنوثتها‪ ،‬فعلى هذا تُقدّمُ نساء الحضانة علىكل رجل‪ ،‬فتُقدّمُ‬
‫خالة الخالة وإن علت‪ ،‬وبنت الخت على الب‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن الخالةَ والخت للم لم تدليا بالب‪ ،‬وهما من أهل الحضانة‪،‬‬
‫ل إل على من أدلين به‪ ،‬فل تُقدمن عليه‪ ،‬لنهن فرعه‪،‬‬
‫َفتُقدّمُ نسا ُء الحضانة على كل رج ٍ‬
‫فعلى هذا الوجه ل تُقَدّم أمّ الب على الب‪ ،‬ول الخت والعمة عليه‪ ،‬وتقدم عليه أم الم‪ ،‬والخالة‪،‬‬
‫والخت للم‪ ،‬وهذا أيضاً ضعيف جداً‪ ،‬إذ يستلزِمُ تقديم قرابة الم البعيدة على الب وأمه‪ ،‬ومعلوم‬
‫أن البَ إذا قُدّ َم على الخت للب فتقديمُه على الخت للم أولى‪ ،‬لن الخت للب مقدمة عليها‪،‬‬
‫فكيف تُقدّم على الب نفسه؟ هذا تناقض بيّن‪..‬‬
‫الثالث‪ :‬تقديمُ نساء الم على الب وأمهاته وسائر مَن في جهته‪ ،‬قالوا‪.:‬‬
‫فعلى هذا‪ ،‬فكل امرأة في درجة رجل تُقَدّ ُم عليه‪ ،‬ويُقدّم من أدلى بها على من أدلى بالرجل‪،‬‬
‫فلما قُ ّد َمتِ ال ّم على الب وهي في درجته قدمت الخت من الم على الخت من الب‪ ،‬وقُ ّد َمتِ‬

‫‪252‬‬
‫الخالة على العمة‪ .‬هذا تقرير ما ذكره أبو البركات بن تيمية في ((محرره)) من تنزيل نص أحمد‬
‫على هذه المحامل الثلث‪ ،‬وهو مخالف لعامة نصوصه في تقديمِ الخت للب على الخت للم‪،‬‬
‫وعلى الخالة‪ ،‬وتقديم خالة الب على خالة الم‪ ،‬وهو الذي لم يذكر الخرقي فى((مختصره)) غيره‪،‬‬
‫وهو الصحيحُ‪ ،‬وخرجها ابنُ عقيل على الروايتين في أم الم‪ ،‬وأم الب‪ ،‬ولكن نصه ما ذكره‬
‫الخرقي‪ ،‬وهذه الرواية التي حكاها صاحب ((المحرر))ضعيفة مرجوحة‪ ،‬فلهذا جاءت فروعُها‬
‫ولوا ِزمُها أضعفَ منها بخلف سائر نصوصه في جادة مذهبه‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل عصبة‪ ،‬فإنه يقدّ ُم على كل امرأة هي‬
‫ب بضابط‪ ،‬فقال‪ :‬كُ ّ‬
‫وقد ضبط بعض أصحابه هذا البا َ‬
‫أبعدُ منه‪ ،‬ويتأخر عمن هي أقربُ منه‪ ،‬وإذا تساويا‪ ،‬فعلى وجهين‪ .‬فعلى هذا الضابط يُقدّ ُم الب‬
‫على أمه‪ ،‬وعلى أم الم ومن معها‪ ،‬ويُقدّم الخ على ابنته وعلى العمة‪ ،‬والعم على عمة الب‪،‬‬
‫وتقدّم أ ُم الب على جد الب‪ ،‬في تقديمها على أب الب وجهان‪ .‬وفي تقديم الخت للب على الخ‬
‫للب وجهان‪ ،‬وفي تقديم العمة على العم وجهان‪.‬‬
‫والصواب‪ :‬تقديم النثى مع التساوي‪ ،‬كما قُ ّد َمتِ المّ على الب لما استويا‪ ،‬فل وجه لتقديم‬
‫الذكر على النثى مع مساواتها له‪ ،‬وامتيازِها بقوة أسباب الحضانة والتربية فيها‪.‬واختُلفَ في بنات‬
‫ت والعماتُ عليهن؟ على‬
‫الخوة والخوات‪ ،‬هل يُقدمن على الخالت والعمات‪،‬أو تقدم الخال ُ‬
‫وجهين مأخذهُما‪ :‬أن الخالة والعمة تُدليان بأخوة الم والب‪ ،‬وبنات الخوة والخوات يُدلين ببنوة‬
‫الب‪ ،‬فمن قدّم بنات الِخوة‪ ،‬راعى قوة البنوة على الخوة‪ ،‬وليس ذلك بجديد‪ ،‬بل الصوابُ تقديم‬
‫العمة والخالة لوجهين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنها أقرب إلى الطفل من بنات أخيه‪ ،‬فإن العمة أخت أبيه‪ ،‬وابنةالخ ابنة ابن أبيه‪،‬‬
‫ب أن العمة‬
‫وكذلك الخال ُة أخت أمه‪ ،‬وبنت الخت من الم‪ ،‬أو لب بنت بنت أمه أو أبيه‪ ،‬ول ري َ‬
‫والخالة أقرب إليه من هذه القرابة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن صاحبَ هذا القول إن طرّد أصله‪ ،‬لزمه ما ل قبل له به من تقديم بنت بنت الخت‬
‫ص ذلك ببنت الخت دون من سفل‬
‫وإن نزلت على الخالة التي هي أم‪ ،‬وهذا فاس ٌد من القول‪ ،‬وإن خ ّ‬
‫منها‪ ،‬تناقض‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫واختلف أصحابُ أحمد أيضاً في الجد والخت للب أيهما أولى؟ فالمذهب‪ :‬أن الج ّد أولى‬
‫منها وحكى القاضي في((المجرد)) وجهاً‪ :‬أنها أولى منه‪ ،‬وهذا يجيء على أحد التأويلت التي‬
‫تأوّل عليها الصحابُ نص أحمد‪ ،‬وقد تقدمت‪.‬‬
‫فصل‬
‫ج َه ِتهِنّ‪ ،‬انتقلت‬
‫ومما يُبين صحة الصل المتقدّم أنهم قالوا‪ :‬إذا عَدِمَ المهات‪ ،‬ومن في ِ‬
‫حضَانةُ إلى العصبات‪ ،‬وقُدّمَ القربُ فالقربُ منهم‪ ،‬كما في الميراث‪ ،‬فهذا جا ٍر على القياس‪،‬‬
‫ال َ‬
‫ل راعيتُم هذا في جنس القرابة‪ ،‬فقدمتم القرابة القوية الراجح َة على الضعيفة‬
‫فيقال لهم‪ :‬هَ ّ‬
‫المرجوحة كما فعلتم في العصبات؟‬
‫وأيضاً فإن الصحيح في الخوات عندكم أنه يُقدّم منهن من كانت لبوين‪،‬ثم من كانت لب‪،‬‬
‫ثم من كانت لم‪ ،‬وهذا صحيح موافق للصول والقياس‪ ،‬لكن إذا ضمّ هذا إلى قولهم بتقديم قرابة‬
‫ع المشكلة المتناقضة‪.‬‬
‫الم على قرابة الب جاء التناقضُ‪ ،‬وتلك الفرو ُ‬
‫ت للم‪،‬وهو الصوابُ‬
‫ت البِ والجدّ على الخالت والخوا ِ‬
‫وأيضاً فقد قالوا بتقديم أمها ِ‬
‫ق لصول الشرع‪ ،‬لكنه مناقض لِتقديمهم أمهاتِ الم على أمهاتِ الب‪ ،‬ويُناقض تقديم الخالة‬
‫المواف ُ‬
‫والخت للم على الب‪ ،‬كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الّ‪ ،‬والقول القديم للشافعي‪ .‬ول‬
‫ريب أن القول به أطر ُد للصل‪ ،‬لكنه في غاية البُعد من قياس الصول كما تقدم‪ ،‬ويلزمهم من‬
‫طرْده أيضاً تقدي ُم من كان من الخوات لم على من كان منهن لب‪ ،‬وقد التزمه أبو حنيفة‪،‬‬
‫َ‬
‫طرْدهِ أيضاً تقدي ُم بنت الخالة على الخت للب‪ ،‬وقد التزمه‬
‫والمزني‪ ،‬وابنُ سريج‪ ،‬ويلزمهم مِن َ‬
‫زفر‪ ،‬وهو رواية عن أبي حنيفة‪ ،‬ولكن أبو يوسف استشنع ذلك‪ ،‬فقدّم الخت للب كقول الجمهور‪،‬‬
‫ورواه عن أبي حنيفة‪.‬‬
‫ويلزمهم أيضاً من طرده تقديم الخالة والخت للم على الجدة أم الب‪،‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫وهذا في غاية البعد والوهن‪ ،‬وقد التزمه زفر‪ ،‬ومثلُ هذا من المقاييس التي حذر منها أبو‬ ‫@‬
‫حنيفة أصحابه‪ ،‬وقال ل تأخذوا بمقاييس زفر‪ ،‬فإنكم إن أخذتم بمقاييس زفر ح ّر ْمتُمُ الحَلَلَ‪ ،‬وحلّلتمُ‬
‫حرَامَ‪..‬‬
‫ال َ‬
‫فصل‬

‫‪254‬‬
‫وقد رام بعضُ أصحاب أحمد ضبط هذا الباب بضابط زعم أنه يتخلّص بِه مِن التناقض‪،‬‬
‫فقال‪ :‬العتبارُ في الحضانة بالولدة المتحققة وهي المومة‪ ،‬ثم الولدة الظاهرة وهي البوة‪ ،‬ثم‬
‫الميراث‪ .‬قال‪ :‬ولذلك تُقدّمُ الخت من الب على الخت من الم‪ ،‬وعلى الخالة‪ ،‬لنها أقوى إرثاً‬
‫منهما‪ .‬قال‪ :‬ثم الِدلء‪ ،‬فتقدّم الخالة على العمة لن الخالة تدلي بالم‪ ،‬والعمة تدلي بالب‪ ،‬فذكر‬
‫أربع أسباب للحضانة مرتبة‪ :‬المومة‪ ،‬ثم بعدها البوة‪ ،‬ثم بعدها الميراث‪ ،‬ثم الِدلء‪ ،‬وهذه طريقة‬
‫صاحب ((المستوعب))‪ ،‬وما زادتهُ هذه الطريقةُ إل تناقضاًوبعداً عن قواعد الشّريعة‪ ،‬وهي من‬
‫أفسد الطرق‪ ،‬وإنما يتبينُ فسادُها بلوازمها الباطلة‪ ،‬فإنه إن أراد بتقديم المومة على البوة تقديمَ من‬
‫في جهتها على الب ومَنْ في جهته‪ ،‬كانت تلك اللوازم الباطلة المتقدمة من تقديم الخت للم‪،‬‬
‫وبنت الخالة على الب وأمه‪ ،‬وتقديم الخالة على العمة‪ ،‬وتقديم خالة الم على الب وأمه‪ ،‬وتقديم‬
‫ف لصول الشرع‬
‫بنات الخت من الم على أم الب‪ ،‬وهذا مع مخالفته لِنصوص إمامه‪ ،‬فهو مخال ٌ‬
‫وقواعده‪.‬‬
‫وإن أراد أن الم نفسها تُقَدّ ُم على الب‪ ،‬فهذا حق لكن الشأن في مناط هذا التقديم‪ :‬هل هو‬
‫لكون الم ومن في جهتها تقدم على الب ومن في جهته‪ ،‬أو لكونها أنثى في درجة ذكر‪ ،‬وكل أنثى‬
‫كانت في درجة ذكر قُ ّد َمتْ عليه مع تقديم قرابة الب على قرابة الم؟ وهذا هو الصواب كما تقدم‪،‬‬
‫وكذلك قولُه ((ثم الميراث)) إن أراد به أن المقدَم في الميراث مقدم في الحضانة فصحيح‪ ،‬وطرده‬
‫تقديمُ قرابة الب على قرابة الم‪ ،‬لنها مقدّمة عليها في الميراث‪ ،‬فتقدم الختُ على العمة والخالة‪.‬‬
‫وقوله وكذلك تقديمُ الخت للب على الخت للم‪ ،‬والخالة‪ ،‬لنها أقوى إرثاً منهما‪ ،‬فيقال‪:‬لم يكن‬
‫تقديمُها لجل الِرث وقوته‪ ،‬ولو كان لجل ذلك‪ ،‬لكان العصبات أحقّ بالحضانة من النساء‪ ،‬فيكون‬
‫العمّ أولى مِن الخالة والعمة‪ ،‬وهذا باطل‪..‬‬
‫فصل‬
‫وقد ضبط الشيخ في ((المغني)) هذا الباب بضابط آخر فقال‪ :‬فصل في بيان الولى فالولى‬
‫من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء‪ .‬وأولى الكلّ بها‪ :‬المّ‪ ،‬ثم أمهاتُها وإن علون يُقدّم‬
‫منهن القرب فالقرب لنهن نساء ولدتهن متحققة‪ ،‬فهن في معنى الم‪ :‬وعن أحمد‪ ،‬أن أم الب‬
‫ن يُدلين به‪ ،‬فيكون‬
‫وأمهاتِها يُقدّمن على أم الم‪ ،‬فعلى هذه الرواية يكون الب أولى بالتقديم‪ ،‬لنّه ّ‬
‫الب بعد الم‪ ،‬ثم أمهاته‪ ،‬والولى هي المشهورة عند أصحابنا‪ ،‬فإن المقدّم الم‪ ،‬ثم أمهاتها‪ ،‬ثم‬
‫الب‪ ،‬ثم أمهاتُه‪ ،‬ثم الجدّ‪ ،‬ثم أمهاتُه‪ ،‬ثم ج ّد الب‪ ،‬ثم أمهاتُه‪ ،‬وإن كن غيرَ وارثات لنهن يُدلين‬

‫‪255‬‬
‫بعصبةٍ مِن أهل الحضانة‪ ،‬بخلف أ ّم أب الم‪ .‬وحُكي عن أحمد رواية أخرى‪ :‬أن الختَ من الم‬
‫ق منه‪ ،‬ومنهما‪ ،‬ومن جميع العصبات‪،‬‬
‫ت من البوين أح ّ‬
‫ق من الب‪ ،‬فتكون الخ ُ‬
‫والخالة أح ّ‬
‫والولى هي المشهورة من المذهب‪ ،‬فإذا انقرض الباء والمهات‪ ،‬انتقلت الحضانة إلى الخوات‬
‫ت من الب‪ ،‬ثم الختُ من الم‪ ،‬وتقدّمُ الخت على الخ لنها‬
‫ت من البوين‪ ،‬ثم الخ ُ‬
‫وتُقدّم الخ ُ‬
‫ت على مَن في درجتها من الرجال‪ ،‬كالم تُقدّ ُم على الب‪ ،‬وأ ّم الب‬
‫امرأة من أهل الحضانة‪ ،‬فَقُ ّد َم ْ‬
‫على أب الب‪ ،‬وكُل جدة في درجة جد تُقدّ ُم عليه لنها تلي الحَضانة بنفسها‪ ،‬والرجلُ ل يليها‬
‫بنفسه‪..‬‬
‫وفيه وجه آخر‪ :‬أنه يقدم عليها لنه عصبة بنفسه‪ ،‬والول أولى‪ ،‬وفي تقديم الخت من‬
‫خ للب‪ ،‬ثم‬
‫البوين‪ ،‬أو من الب على الجد وجهان‪ ،‬وإذا لم تكن أخت فالخ للبوين أولى‪ ،‬ثم ال ُ‬
‫ابناهما‪ ،‬ول حَضانة للخ من المّ لما ذكرنا‪..‬‬
‫فإذا عدموا‪ ،‬صارت الحضانةُ للخالت على الصحيح‪ ،‬وترتيبُهن فيها كترتيبِ الخوات‪ ،‬ول‬
‫حضانةَ للخوال‪ ،‬فإذا عدموا‪ ،‬صارت للعمات ويقدّمن على العمام كتقديمِ الخوات على الِخوة‪،‬‬
‫ثم للعم للبوين‪ ،‬ثم للعم للب‪ ،‬ول حضانة للعم من الم‪ ،‬ثم ابناهما‪ ،‬ثم إلى خالتِ الب على قول‬
‫الخرقي‪ ،‬وعلى القول الخر‪ :‬إلى خالت الم‪ ،‬ثم إلى عمات الب‪ ،‬ول حَضانة لعمات الم‪ ،‬لنهن‬
‫ن أو أكثر مِن أهل الحضانة في درجة قدّمَ‬
‫يُدلين بأب الم‪ ،‬ول حضانة له‪ .‬وإن اجتمع شخصا ِ‬
‫المستحق منهم بالقرعة‪ ،‬انتهى كلمه‪..‬‬
‫وهذا خيرٌ مما قبله من الضوابط‪ ،‬ولكن فيه تقدي ُم أم الم وإن علت علىالب‬
‫طرّدَ تقديم من في جهة الم على من في جهة الب جاءت تلك اللوازمُ الباطلة‪ ،‬وهو‬
‫وأمهاته‪ ،‬فإن َ‬
‫ض من في جهة الب على بعض من في جهة الم كما فعل‪ ،‬طوِلبَ بالفرق‪،‬‬
‫لم يُطرده‪ ،‬وإن قَدّمَ بع َ‬
‫خ مِن الم‪ ،‬وهو في درجتها ومساوٍ لها‬
‫وب َمنَاط التقديم‪.‬وفيه إثباتُ الحضانة للخت من الم دون ال ِ‬
‫من كل وجه‪ ،‬فإن كان ذلك لنوثتها وهو ذكر‪ ،‬انتقض برجال العصبة كلهم‪ ،‬وإن كان ذلك لكونه‬
‫ليس مِن العصبة‪ ،‬والحضانة ل تكون لرجل إل أن يكون مِن العصبةِ‪ .‬قيل‪ :‬فكيف جعلتمُوها لِنساء‬
‫ذوىَ الرحام مع مساواتِ قرابتهن لقرابة مَنْ في درجتهن من الذكو ِر من كل وجه؟ فإما أن‬
‫تعت ِبرُوا النوثة فل تجعلُوها للذكر‪ ،‬أو الميراثَ فل تجعلُوها لغير وارث‪ ،‬أو القرابة فل تمنعوا منها‬
‫الخَ من الم والخال وأبا الم‪ ،‬أو التعصيبَ‪ ،‬فل تعطوها لغير عصبة‪.‬‬
‫فإن قلتم‪ :‬بقي قسم آخر وهو قولنا‪ ،‬وهو اعتبار التعصيب في الذكور والقرابة في النساء‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫قيل‪ :‬هذا مخالف لباب الوليات‪ ،‬وباب الميراث‪ ،‬والحضانة وِلية على الطفل‪ ،‬فإن سلكتم‬
‫ك الميراث‪ ،‬فل تُعطوها لغير‬
‫بها مسلكَ الوليات‪ ،‬فخصّوها بالب والجد‪ ،‬وإن سلكتم بها مسل َ‬
‫وارث‪ ،‬وكلهما خلف قولكم وقولِ الناس أجمعين‪..‬‬
‫وفي كلمه أيضاً‪ :‬تقدي ُم ابن الخ وإن نزلت درجتُه على الخالة التي هي أم‪،‬وهو في غاية‬
‫البعد‪ ،‬وجمهورُ الصحاب إنما جعلوا أولد الِخوة بعد أب الب والعمات وهو الصحيح‪ ،‬فإن‬
‫الخالة أختُ الم‪ ،‬وبها تُدلي‪ ،‬والمّ مقدّمة على الب‪ ،‬وابنُ الخ إنما يُدلي بالخ الذي يُدلي بالب‪،‬‬
‫ن ابنه عليها‪.‬‬
‫فكيف يقدّمُ على الخالة‪ ،‬وكذا العمةُ أختُ الب وشقيقتُه‪ ،‬فكيف يقد ُم اب ُ‬
‫وقد ضبط هذا البابَ شيخُنا شيخُ الِسلم ابن تيمية بضابط آخر‪ .‬فقال‪:‬أقربُ ما‬
‫ب الحضانة أن يقال‪ :‬لما كانت الحضانة وليةً تعتمد الشفقة والتربية والملطفة كان‬
‫يُضبط به با ُ‬
‫أحق الناس بها أقومَهم بهذه الصفات وهم أقاربُه يقدّم منهم أقربهم إليه وأقومُهم بصفات الحضانة‪.‬‬
‫فإن إجتمع منهم اثنان فصاعداً‪ ،‬فإن استوت درجتهم قُدّم النثى على الذكر‪ ،‬فتُقدّم ال ّم على الب‪،‬‬
‫والجدة علىالجد‪ ،‬والخالة على الخال‪ ،‬والعمة على العم‪ ،‬والخت على الخ‪ .‬فإن كانا ذكرين أو‬
‫ا ْن َث َييْن‪ ،‬قُدّمَ أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما‪ ،‬وإن اختلفت درج ُتهُما من الطفل‪ ،‬فإن كانوا‬
‫من جهة واحدة‪ ،‬قُدمَ القرب إليه‪ ،‬فتقدّمُ الخت على ابنتها‪ ،‬والخال ُة على خالة البوين‪ ،‬وخالةُ‬
‫البوين على خالة الجد والجدة‪ ،‬والجد أبو الم على الخ للم‪ ،‬هذا هو الصحيحُ لن جهة البوة‬
‫والمومة في الحضانة أقوى مِن جهة الخوة فيها‪ .‬وقيل‪ :‬يقدم الخ للم لنه أقوى من أب الم في‬
‫الميراث‪ .‬والوجهان في مذهب أحمد‪.‬‬
‫وفيه وجه ثالث‪ :‬أنه ل حضانة للخ من الم بحال‪ ،‬لنه ليس من العصبات‪ ،‬ول من نساء‬
‫ل أيضاً‪ ،‬فإن صاحب هذا الوجه يقولُ‪ :‬ل حضانة له‪ ،‬ول نِزاع أن أبا الم‬
‫الحضانة‪ ،‬وكذلك الخا ُ‬
‫وأمهاته أولى مِن الخال وإن كانوا من جهتين‪ ،‬كقرابة الم وقرابة الب مثل العمة والخالة‪ ،‬والخت‬
‫للب‪ ،‬والخت للم‪ ،‬وأم الب‪ ،‬وأم الم‪ ،‬وخالة الب‪ ،‬وخالة الم قدّم من في جهة الب في ذلك‬
‫كله على إحدى الروايتين فيه‪ .‬هذا كلهُ إذا استوت درجتهم‪ ،‬أو كانت جهة الب أقربَ إلى الطفل‪،‬‬
‫وأما إذا كانت جِهةُ الم أقرب‪ ،‬وقرابة الب أبعد‪ ،‬كأم الم‪ ،‬وأم أب الب‪ ،‬وكخالة الطفل‪ ،‬وعمة‬
‫أبيه‪ ،‬فقد تقابل الترجيحان‪ ،‬ولكن يُقدّم القربُ إلى الطفل لقوة شفقته وحنّوه على شفقة البعد‪ ،‬ومن‬
‫قَدّم قراب َة الب‪ ،‬فإنما يُقدّمها مع مساواةِ قرابة الم لها‪ ،‬فأما إذا كانت أبعدَ منها‪ ،‬قُدمت قرابةُ الم‬
‫ط يُمكن حصرُ‬
‫القريبة‪ ،‬وإل لزم مِن تقديم القرابة البعيدة لوازم باطلة ل يقولُ بها أحد‪ ،‬فبهذا الضابِ ِ‬

‫‪257‬‬
‫جميع مسائل هذا الباب وجريها على القياس الشرعي‪ ،‬واطرادها وموافقتها لصول الشرع‪ ،‬فأي‬
‫مسألة وردت عليك أمكَن أخذُها من هذا الضابط مع كونه مقتضى الدليل‪ ،‬ومع سلمتِهِ من التناقض‬
‫ومناقضة قياس ا لصول‪ ،‬وبال التوفيق‪.‬‬
‫فصل‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم ((أنتِ أحق به ما لم تنكحي)) فيه دليل على أن الحَضانة حقّ‬
‫للم‪ ،‬وقد اختلف الفقهاءُ‪ ،‬هل هي للحاضن أم عليه؟ على قولين في مذهب أحمد ومالك‪ ،‬وينبني‬
‫عليهما هل لمن له الحَضانة أن يُسقِطَها فينزل عنها؟ على قولين‪ ..‬وأنه ل يجب عليه خدم ُة الولد‬
‫أيامَ حَضانته إل بالجرة إن قلنا‪:‬الحق له‪ ،‬وإن قلنا الحق عليه‪ ،‬وجب خدمته مجاناً‪ .‬وإن كان‬
‫الحاضن فقيراً‪ ،‬فله الجر ُة على القولين‪.‬‬
‫وإذا وهبت الحضانة للب‪ ،‬وقلنا‪ :‬الحق لها‪ ،‬لزمت الهبة ولم ترجع فيها‪،‬وإن قلنا‪ :‬الحق‬
‫عليها‪ ،‬فلها العود إلى طلبها‪.‬والفرق بين هذه المسألة وبين ما لم يثبت بعد كهبة الشفعة قبل البيع‬
‫حيث لتلز م في أحد القولين‪ :‬أن الهبة في الحضانة قد وُجِدَ سببُها‪ ،‬فصار بمنزلة ما قد وجد‪،‬‬
‫وكذلك إذا وهبت المرأةُ نفقتها لزوجها شهرًا ألزمت الهبة‪ ،‬ولم ترجع فيها‪ .‬هذا كلهُ كلم أصحابِ‬
‫ح أن الحضانة حق لها‪ ،‬وعليها إذا احتاج الطفل إليها‪ ،‬ولم يُوجد غيرُها‪،‬‬
‫مالك وتفريعهم‪ ،‬والصحي ُ‬
‫وإن اتفقت هي‪ ،‬وولي الطفل على نقلها إليه جاز‪ ،‬والمقصو ُد أن في قوله صلى ال عليه وسلم((أنت‬
‫ل على أن الحضانة حقّ لها‪.‬‬
‫أحق به))‪ ،‬دلي ً‬
‫فصل‬
‫وقوله ((ما لم تنكحي))‪ ،‬اختلف فيه‪ :‬هل هو تعليل أو توقيت‪ ،‬على قولين ينبغي عليهما‪ :‬ما‬
‫طلّقت‪ ،‬فهل تعودُ الحضانة؟ فإن قيل‪ :‬اللفظُ تعليل‪ ،‬عادت‬
‫لو تزوّجت وسقطت حضانتها‪ ،‬ثم ُ‬
‫الحضانة بالطلق‪ ،‬لن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها‪ ،‬وعلة سقوط الحضانة التزويج‪ ،‬فإن‬
‫ل الكثرين‪ ،‬منهم‪ :‬الشافعي‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وأبو حنيفة‪.‬‬
‫طلقت‪ ،‬زالت العلة‪ ،‬فزال حكمها‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫ثم اختلفوا فيما إذا كان الطلق رجعياً‪ ،‬هل يعودُ حقّها بمجرده‪ ،‬أو يتوقف عودُها على‬
‫انقضاء العدة؟ على قولين‪ ،‬وهما في مذهب أحمد والشافعي‪ ،‬أحدهما‪ :‬تعود بمجرده‪ ،‬وهو ظاهر‬
‫مذهب الشافعي‪ .‬والثاني‪ :‬ل تعود حتى تنقضيَ العدةِ‪ ،‬وهو قول أبي جنيفة والمزني‪ ،‬وهذا كله‬
‫ل الكثرين‪ .‬وقال مالك في المشهور من مذهبه‪:‬‬
‫تفريع على أن قوله‪ :‬ما لم تنكحي " تعليل‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫ض أصحابه‪ :‬وهذا بناء على‬
‫إذا تزوجت ودخل بها‪ ،‬لم َيعُد حقها من الحضانة‪ ،‬وإن طلقت‪ ،‬قال بع ُ‬

‫‪258‬‬
‫أن قوله‪" :‬ما لم تنكحي "‪ ،‬للتوقيت أي‪ :‬حقك من الحضانة مُوقّت إلى حين نكاحك‪ ،‬فإذا نكحت‪،‬‬
‫انقضى وقت الحضانة‪ ،‬فل تعودُ بعد انقضاء وقتها‪ ،‬كما لو انقضى وقتُها ببلوغ الطفل واستغنائه‬
‫عنها‪ .‬وقال بعض أصحابه‪ :‬يعودُ حقها إذا فارقها زوجُها‪ ،‬كقول الجمهور‪ ،‬وهو قول المغيرة‪ ،‬وابن‬
‫أبي حازم‪ .‬قالُوا‪ :‬لن المقتضي لحقها من الحضانة هو قرابتُها الخاصة‪ ،‬وإنما عارضها مانع النكاح‬
‫ق الزوج الجنبي منه عن مصالحه‪ ،‬ولما فيه من‬
‫لما يُوجبه من إضاعة الطفل‪ ،‬واشتغالها بحقو ِ‬
‫غضَاضَة‪ ،‬فإذا انقطع النكاحُ بموتٍ‪ ،‬أو‬
‫تغذيته وتربيته في نعمة غير أقاربه‪ ،‬وعليهم في ذلك ِمنّ ٌة و َ‬
‫فُرقةٍ‪ ،‬زال المانع‪ ،‬والمقتضي قائم‪ ،‬فترتب عليه أثره‪ ،‬وهكذا كُلّ من قام به من أهل الحضانة مانع‬
‫منها‪ ،‬ككفر‪ ،‬أورِق‪ ،‬أو فسق‪ ،‬أو بدو‪ ،‬فإنه ل حضانة له‪ ،‬فإن زالت الموانعُ‪ ،‬عاد حقّهم من‬
‫الحضانة‪ ،‬فهكذا النكاح والفرقة‪.‬‬
‫وأما النزاعُ في عود الحضانة بمجرد الطلق الرجعي‪ ،‬أو بوقفه على انقضاء العدة‪ ،‬فمأخذُه‬
‫ث والنفقة‪ ،‬و َيصِحّ منها الظهارُ‬
‫كون الرجعية زوجة في عامة الحكام‪ ،‬فإنه يثبت بينهما التوار ُ‬
‫واليلء‪ :‬ويحرم أن يَنكحَ عليها أختها‪ ،‬أو عمتها‪ ،‬أو خالتها‪ ،‬أو أربعاً سواها‪ ،‬وهي زوجة‪ ،‬فمن‬
‫راعى ذلك‪ ،‬لم تعد إليها الحضانة بمجرد الطلق الرجعي حتى تنقضي العدة‪ ،‬فتبينُ حينئذ‪ ،‬ومن‬
‫أعاد الحضانة بمجرد الطلق‪ ،‬قال‪ :‬قد عزلها عن فِراشه‪ ،‬ولم يبق لها عليه قَسْمّ‪ ،‬ول لها به شغل‪،‬‬
‫والعِلة التي سقطت الحضانة لجلها قد زالت بالطلق‪ ،‬وهذا هو الذي رجحه الشيخ في "المغني "‬
‫وهو ظاهر كلم الخرقي‪ ،‬فإنه قال‪ :‬وإذا أخذ الولد من الم إذا تزوجت ثم طلقت‪ ،‬رجعت على حقها‬
‫من كفالته‪..‬‬
‫فصل‬
‫وقوله ((ما لم تنكحي))‪ ،‬اخ ُتِلفَ فيه‪ :‬هل المراد به مجرد العقد‪ ،‬أو العقد مع الدخول؟ وفي‬
‫ذلك وجهان‪ .‬أحدهما‪ :‬أن بمجرد العقد تزول حضانتها‪ ،‬وهو قول الشافعي‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬لنه بالعقد‬
‫يَمِلكُ الزوج منافع الستمتاع بها‪ ،‬ويَملِك نفعها من حضانة الولد‪ .‬والثاني‪ :‬أنها ل تزول إل‬
‫بالدخول‪ ،‬وهو قولُ مالك‪ ،‬فإن بالدخول يتحقق اشتغالها عن الحضانة‪ ،‬والحديث يحتمل المرين‪،‬‬
‫والشبه سقوطُ حضانتها بالعقد‪ ،‬لنها حينئذ صارت في مظنة الشتغال عن‪ ،‬الولد والتهيؤ للدخول‪،‬‬
‫وأخذها حينئذ في أسبابه‪ ،‬وهذا قولُ الجمهور‪.‬‬
‫فصل‬
‫واختلف الناسُ في سقوط الحضانة بالنكاح‪ ،‬على أربعة أقوال‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫أحدُها‪ :‬سقوطها به مطلقاً‪ ،‬سواء كان المحضون ذكراً‪ ،‬أو أنثى‪ ،‬وهذا مذهب الشافعي‪،‬‬
‫ومالك‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬وأحمد في المشهور عنه‪ .‬قال ابن المنذر‪ :‬أجمع على هذا كلُ من أحفظ عنه‬
‫من أهل العلم‪ ،‬وقضى به شريح‪..‬‬
‫ط بالتزويج بحال‪ ،‬ول فرق في الحضانة بين اليّم وذوات البعل‪،‬‬
‫والقولُ الثاني‪ :‬أنها ل تسق ُ‬
‫وحُكي هذا المذهبُ عن الحسن البصري‪ ،‬وهو قول أبي محمد ابن حزم‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أن الطفل إن كان بنتاً لم تسقط الحضانة بنكاح أمها‪ ،‬وإن كان ذكراً سقطت‪،‬‬
‫ل نص عليه في رواية مهنا بن يحي الشامي‪ ،‬فقال‪ :‬إذا‬
‫وهذه إحدى الروايتين عن أحمد رحمه ا ّ‬
‫تزوجت ال ّم وابنُها صغير‪ ،‬أُخذَ منها‪ .‬قيل له‪ :‬والجارية مثل الصبي؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬الجاري ُة تكون مع‬
‫أمها إلى سبع سنين‪ .‬وعلى هذه الرواية‪ :‬فهل تكون عندها إلى سبع سنين أو إلى أن تبلغ؟ على‬
‫ن أبي موسى‪ :‬وعن أحمد‪ ،‬أن الم أحقّ بحضانة البنت وإن تزوجت إلى أن‬
‫روايتين‪ .‬قال اب ُ‬
‫تبلغ‪.‬والقول الرابع‪ :‬أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها‪ ،‬ثم اختلف أصحاب هذا‬
‫القول‪ ،‬على ثلثة أقوال‪ .‬أحدها‪ :‬أن المشترط أن يكون الزوج نسيبًا للطفل فقط‪ ،‬وهذا ظاهرُ قولِ‬
‫أصحاب أحمد‪ .‬الثاني‪ :‬أنه يشترط أن يكون مع ذلك ذا رحم محرم‪ ،‬وهو قولُ أصحاب أبي حنيفة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه يشترط أن يكون بين الزوج وبين الطفل إيلد‪ ،‬بأن يكون جدًا للطفل‪ ،‬وهذا قولُ مالك‪،‬‬
‫وبعض أصحاب أحمد‪ ،‬فهدا تحرير المذاهب في هذه المسألة‪.‬‬
‫فأما حُج ُة مَنْ أسقط الحضانة بالتزويج مطلقاً‪ ،‬فثلث حجج‪:‬إحداها‪ ،‬حديث عمرو بن‬
‫شعيب المتقدم ذكره‪ .‬الثانية‪ :‬اتفاق الصحابة على ذلك‪ ،‬وقدُ تقدّم قول الصدّيق لعمر‪ :‬هي أحق به ما‬
‫لم تتزوج‪ ،‬وموافقة عمر له على ذلك‪ ،‬ول مخالف لهما من الصحابة ألبتة‪ ،‬وقضى به شريح‪،‬‬
‫والقضاة بعده إلى اليوم في سائر العصار والمصار‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬ما رواه عبد الرزاق‪ :‬حدثنا ابن جريج‪ ،‬حدثنا أبو الزبير‪ ،‬عن رجل صالح من أهل‬
‫المدينة‪ ،‬عن أبي سلمة بن عبد الرحمن‪ ،‬قال‪ :‬كانت امرأةٌ من النصار تحتَ رجل من النصار‪،‬‬
‫ل آخر إلى أبيها‪ ،‬فأنكح الخرَ‪ ،‬فجاءت‬
‫ف ُقتِلَ عنها يومَ أحد وله منها ولد‪ ،‬فخطبها عمّ ولدها َورَجُ ٌ‬
‫ل ل أريدُه‪ ،‬وترك ع ّم ولدي‪ ،‬فيؤخذ مني‬
‫إلى النبيّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬أنكحني أبي رج ً‬
‫ولدي‪ ،‬فدعا رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم أباها‪ ،‬فقال‪ :‬أنكحت فلناً فلنة؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال ((أَنتَ‬
‫ح َلكَ‪ ،‬اذْ َهبِي فَا ْنكِحِي ع ّم َولَ ِدكِ))‪ ،‬فلم ينكر أخذَ الولد منها لما تزوجت‪ ،‬بل أنكحها عم‬
‫الذي ل ِنكَا َ‬

‫‪260‬‬
‫الولد لتبقى لها الحضانة‪ ،‬ففيه دليل على سقوط الحضانة بالنكاح‪ ،‬وبقائها إذا تزوجت بنسيب من‬
‫الطفل‪.‬‬
‫واعترض أبو محمد بن حزم على هذا الستدلل‪ ،‬بأن حديث عمرو بن شعيب‬
‫صحيفة‪ ،‬وحديث أبي سلمة هذا مرسل‪ ،‬وفيه مجهول‪ .‬وهذان العتراضان ضعيفان‪ ،‬فقد بينا‬
‫ج الئمة بعمرو في تصحيحهم حديثه‪ ،‬وإذا تعارض معنا في الحتجاج برجل قولُ ابن حزم‪،‬‬
‫احتجا َ‬
‫وقولُ البخاري‪ ،‬و أحمد‪ ،‬وابن المديني‪ ،‬والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم‪ ،‬لم تلتفت إلى‬
‫سواهم‪.‬‬
‫وأما حديث أبي سلمة هذا‪ ،‬فإن أبا سلمة مِن كبار التابعين‪ ،‬وقد حكى القِصة عن النصارية‪،‬‬
‫ول يُنكر لقاؤه لها‪ ،‬فل يتحقق الِرسال‪ ،‬ولو تحقق‪ ،‬فمرسل جيد‪ ،‬له شواهد مرفوعة وموقوفة‪،‬‬
‫وليس العتما ُد عليه وحدَه‪ ،‬وعنى بالمجهول الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلح‪ ،‬ول‬
‫رَيبَ أن هذه الشهادة ل تُع ّرفُ به‪ ،‬ولكن المجهول إذا عدّله الراوي عنه الثقة ثبتت عدالته وإن كان‬
‫واحداً على أصح القولين‪ ،‬فإن التعديلَ من باب الِخبار والحكم ل من باب الشهادة‪،‬؟ل سيما التعديل‬
‫في الرواية‪ ،‬فإنهُ يكتفى فيه بالواحد‪ ،‬ول يزيد على أصل نصاب الرواية‪ ،‬هذا مع أن أحد القولين‪:‬‬
‫إن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له وإن لم يصرح بالتعديل‪ ،‬كما هو إحدى الروايتين عن‬
‫ح بتعديله‪ ،‬فقد خرج عن الجهالة التي ترد لجلها روايته ل سيّما إذا‬
‫أحمد‪ ،‬وأما إذا روى عنه وصر ِ‬
‫لم يكن معروفَا بالرواية عن الضعفاء والمتهمين‪ ،‬وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس‪ ،‬فليس معروفاً‬
‫بالتدليس عن المتهمين والضعفاء‪ ،‬بل تدليسُه من جنس تدليس السلف‪ ،‬لم يكونوا يُدلّسون عن متهم‬
‫ع من التدليس في المتأخرين‪.‬‬
‫ول مجروح‪ ،‬وإنما كثر هذا النو ُ‬
‫واحتج أبو محمد على قوله‪ ،‬بما رواه من طريق البخاري‪ ،‬عن عبد العزيز بن‬
‫ل صلى ال عليه وسلم المدينة وليس له خادم‪ ،‬فأخذ أبو طلحة‬
‫صُهيب‪ ،‬عن أنس قال‪ :‬قَدِمَ رسولُ ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الّ! إن أنساً غل ٌم ك ّيسٌ‪،‬‬
‫بيدي‪ ،‬وانطلق بي إلى رسولِ ا ّ‬
‫َف ْليَخْ ُدمْك‪ .‬قال‪ :‬فخدمتُه في السفر والحضر‪ .‬وذكر الخبر‪.‬‬
‫ل صلى‬
‫قال أبو محمد‪ :‬فهذا أنس في حضانة أمه‪ ،‬ولها زوج‪ ،‬وهو أبو طلحة بعلم رسول ا ّ‬
‫ال عليه وسلم وهذا الحتجاجُ في غاية السقوط‪ ،‬والخبرُ في غاية الصحة‪ ،‬فإن أحداً من أقارب أنس‬
‫لم ُينَازعْ أمه فيه إلى النبي صلى ال عليه وسلم وهو طفل صغير لم َي ّثغِز‪ ،‬ولم يأكل وحدَه‪ ،‬ولم‬
‫يشرب وحدَه‪ ،‬ولم يميز‪ ،‬وأمه مزوجة‪ ،‬فحكم به لمه‪ ،‬وإنما يَتمّ الستدلل بهذه المقدمات كلها‪،‬‬

‫‪261‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم لما قَدِ َم المدينة كان لنس من العمر عشرُ سنين‪ ،‬فكان عند أمه‪ ،‬فلما‬
‫والنب ّ‬
‫تزوّجت أبا طلحة لم يأت أحدٌ من أقارب أنس يُنازعها في ولدها ويقول‪ :‬قد تزوجتِ فل حضانةَ‬
‫ب انتزاعَه ِم ْنكِ‪ ،‬ول ريبَ أنه ل يحرم على المرأة المزوجة حضان ُة ابنها إذا اتفقت‬
‫لكِ‪ ،‬وأنا أطل ُ‬
‫ب أنه ل يجب‪ ،‬بل ل يجو َز أن يفرّق بين الم وولدها‬
‫هي والزوجُ وأقارب الطفل على ذلك‪ ،‬ول ري َ‬
‫ج بهذه القصة‬
‫طلُب انتزاع الولد‪ ،‬فالحتجا ُ‬
‫ن له الحضانة‪ ،‬ويَ ْ‬
‫إذا تزوجت من غير أن يُخاصمها مَ ْ‬
‫من أبعدِ الحتجاج وأبرده‪.‬‬
‫ونظيرُ هذا أيضاً‪ ،‬احتجاجُهم بأن أمّ سلمة لما تزوجت برسول ال صلى ال عليه وسلم لم‬
‫تسقط كفالتها لبنها‪ ،‬بل استمرت على حضانتها‪ ،‬فيا عجبا من الذى نازع أمّ سلمة في ولدها‪،‬‬
‫ورغب عن أن يكون في حجر النبيّ صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫واحتج لهذا القول أيضاً بأن رسولَ الّ ِصلى ال عليه وسلم قض بابنة حمزة لخالتها وهي‬
‫ث مآخذ‪.‬‬
‫مزوّجة بجعفر‪ ،‬فل ريب أن للناسِ في قصة ابنة حمزة ثل َ‬
‫ح أمهَا ل‬
‫أحدها‪ :‬أن النكاحَ ل يُسقط الحضانة‪ .‬الثاني‪ :‬أن المحضون َة إذا كانت بنتاً‪ ،‬فنكا ُ‬
‫يُسقِطُ حضانتها‪ ،‬ويسقِطُها إذا كان ذكراً‪ .‬الثالث‪ :‬أن الزوج إذا كان نسيبًا من الطفل‪ ،‬لم تسقط‬
‫ج بالقصة على أن النكاحَ ل يُسقط الحضانَة مطلقاً ل َيتِمّ إل بعدَ‬
‫حضانتها‪ ،‬وإل سقطت‪ ،‬فالحتجا ُ‬
‫إبطال ذينك الحتمالين الخرين‪.‬‬
‫فصل‬
‫ق بِهِ ما لَم َت ْنكِحي))‪ ،‬ل يُستفاد‬
‫وقضاؤه صلى ال عليه وسلم بالولد لمه‪ ،‬وقوله((أ ْنتِ أحَ ُ‬
‫منه عمومُ القضاء لكل أمّ حتّى يقضِي به للم‪ .‬وإن كانت كافرة‪ ،‬أو رقيقة‪ ،‬أو فاسقة‪ ،‬أو مسافِرة‪،‬‬
‫ل على اعتبار الِسلم والحرية‬
‫ل دليلٌ منفصِ ٌ‬
‫فل يَصحّ الحتجاج به على ذلك‪ ،‬ول نفيُه‪ ،‬فإذا د ّ‬
‫والديانة والِقامة‪ ،‬لم يكن ذلك تخصيصاً ول مخالفة لِظاهر الحديث‪.‬‬
‫وقد اشترط في الحاضن ستة شروط‪:‬‬
‫اتفاقهما في الدّين‪ ،‬فل حضانة لكافر على مسلم لوجهين‪.‬‬
‫ص على تربيةِ الطفل على دينه‪ ،‬وأن ينشَأ عليه‪ ،‬ويتربّى عليه‪،‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن الحاضن حري ٌ‬
‫ل التي فطر عليها عبادَه‪ ،‬فل يُراجعها‬
‫فيصعبُ بعد كِبره وعقله انتقاله عنه‪ ،‬وقد يُغيره عن فطرة ا ّ‬
‫صرَانِهِ‪،‬‬
‫أبداً‪ ،‬كما قال النبيّ صلى ال عليه وسلم ((كُلّ َم ْولُود يولَدُ عَلى الفِط َرةِ فََأبَواه َي َهوّدَانِهِ أو ُي َن ّ‬
‫أو ُيمَجّسَانِه)) فل يُؤمن تهويدُ الحاضن وتنصيرُه للطفل المسلم‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫فإن قيل‪ :‬الحديثُ إنما جاء في البوين خاصة‪ .‬قيل‪:‬الحديث خرجَ مخرج الغالِب إذ الغالب‬
‫ن أو أحدُهما قا َم ولي الطفل مِن أقاربه مقامهما‪.‬‬
‫المعتادُ نشوء الطفل بين أبويه‪ ،‬فإن فُقِ َد البوا ِ‬
‫الوجه الثاني‪:‬أن الّ سبحانه قط َع الموالة بين المسلمين والكفار‪ ،‬وجعلَ المسلمين‬
‫بعضهم أولياءَ بعض‪ ،‬والكفارَ بعضَهم مِن بعض‪ ،‬والحضان ُة مِن أقوى أسباب الموالة التي قطعها‬
‫ل الرأي‪ ،‬وابنُ القاسم‪ ،‬وأبو ثور‪ :‬تثبتُ الحضانة لها مع كُفرها وإسلم‬
‫ل بين الفريقين‪ .‬وقال أه ُ‬
‫ا ّ‬
‫الولد‪ ،‬واحتجّوا بما روى النسائي في سننه‪ ،‬من حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه‪ ،‬عن جدّه رافع‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‪،‬فقالت‪ :‬ابنتي وهي فطيمٌ‬
‫بن سنان‪ ،‬أنه أسلم وأبت امرأتُه أن تُسلم‪ ،‬فأتت النب ّ‬
‫حيَةً))‪ ،‬وقال لها‪((:‬ا ْقعُدِي‬
‫أو يشبهُه‪ ،‬وقال رافع‪ :‬ابنتي‪ ،‬فقال النبيُ صلى ال عليه وسلم ((ا ْقعُدْ نا ِ‬
‫حيَةً))‪،‬وقال لهما((ادْعُواها))‪ ،‬فمالت الصبيةُ إلى أمها‪ ،‬فقال النبيّ صلى ال عليه وسلم‪((،‬اللهم‬
‫نَا ِ‬
‫إهدها)) فمالت إلى أبيها فأخذها‬
‫قالوا‪ :‬ولن الحضانة لمرين‪ :‬الرضاعِ‪ ،‬وخدم ِة الطفل‪ ،‬وكلهما يجوزُ من الكافرة‪.‬‬
‫ث مِن رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد الّ بن الحكم بن‬
‫قال الخرون‪ :‬هذا الحدي ُ‬
‫رافع بن سنان النصاري الوسي‪ ،‬وقد ضعفه إما ُم العلل يحيى بن سعيد القطان‪ ،‬وكان سفيان‬
‫ل عليه‪ ،‬وضعف ابنُ المنذر الحديث‪ ،‬وضعفه غيرُه‪ ،‬وقد اضطرب في القصة‪ ،‬فروَى‬
‫الثوري يَحمِ ُ‬
‫أن المخيّر كان بنتاً‪ ،‬وروَى أنه كان ابناً‪ .‬وقال الشيخ في ((المغنى))وأما الحديث‪ ،‬فقد روي على‬
‫غير هذا الوجه‪ ،‬ول يثبته أهل النقل‪ .‬وفي إسناده مقال‪ ،‬قاله ابن المنذر‪..‬‬
‫ثم إن الحديث قد يحتج به على صحة مذهب من اشترط الِسلم‪ ،‬فإن الصبيّة لما مالت إلى‬
‫أمها دعا النبي صلى ال عليه وسلم لها بالهداية‪ ،‬فمالت إلى أبيها‪ ،‬وهذا يدل على أن كونَها مع‬
‫ل الذي أراد ُه مِن عبادِه‪ ،‬ولو استنكر جعلها مع أمها‪ ،‬لكان فيه حجة‪ ،‬بل أبطله‬
‫الكافر خلفُ هُدى ا ّ‬
‫الّ سبحانه بدعوة رسوله‪.‬‬
‫ومن العجب أنهم يقولون‪:‬ل حضانةَ للفاسقِ‪ ،‬فأيُّ فِسق أكبر مِن الكفر؟ وأينَ‬
‫الضّرر المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقّع من الكافر‪ ،‬مع أن‬
‫الصوابَ أنه ل تشترط العدالة في الحاضن قطعاً‪ ،‬وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم‪،‬‬
‫واشتراطها في غاية البعد‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫ولو اشترط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم‪ ،‬ولعظمت المشقة على المة‪ ،‬واشتد‬
‫العنتُ‪ ،‬ولم يزل من حين قام الِسلم إلى أن تقومَ الساعة أطفال الفساق بينهم ل يتعرض لهم أحدٌ‬
‫في الدنيا‪ ،‬مع كونهم الكثرين‪ .‬ومتى وقع في الِسلم انتزاع الطفل من أبويه أو أحدهما بفسقه؟‬
‫وهذا في الحرج والعسر ‪-‬واستمرارُ العمل المتصل في سائر المصار والعصار على خلفه‬
‫بمنزلة اشتراط العدالة في ولية النكاح‪ ،‬فإنه دائمُ الوقوع في المصار والعصار‪ ،‬والقرى‬
‫والبوادي‪ ،‬مع أن أكثر الولياء الذين يلون ذلك‪ ،‬فساق‪ ،‬ولم يزل الفسقُ في الناس‪ ،‬ولم يمنع النبيِ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول أحدٌ من الصحابة فاسقًا من تربية ابنه وحضانته له‪ ،‬ول مِن تزويجه‬
‫مولّيته‪ ،‬والعادةُ شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق‪ ،‬فإنه يحتاط لبنته‪ ،‬ول يُضيعها‪ ،‬ويحرص‬
‫على الخير لها بجهده‪ ،‬وإن قُ ّدرَ خلف ذلك‪ ،‬فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد‪ ،‬والشارع يكتفي في ذلك‬
‫ن هذا للمة من أهم‬
‫بالباعث الطبيعي‪ ،‬ولو كان الفاسق مسلوبَ الحضانة‪ ،‬وولية النكاح‪ ،‬لكان بيا ُ‬
‫المور‪ ،‬واعتناء المة بنقله‪ ،‬وتوارث العملِ به مقدّما على كثير مما نقلوه‪ ،‬وتوارثوا العمل به‪،‬‬
‫فكيف يجوز عليهم تضييعُه واتصالُ العمل بخلفه‪ .‬ولو كان الفِسق !ينافي الحضانة‪ ،‬لكان من زنى‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫أو شرب خمراً‪ ،‬أو أتى كبيرةً‪ ،‬فرق بينه وبين أولده الصغار‪ ،‬والت ِمسَ لهم غيره وا ّ‬
‫نعم‪ ،‬العقل مشترط في الحضانة‪ ،‬فل حضَانة لمجنون ول معتوه ول طفل‪ ،‬لن‬
‫هؤلء يحتاجون إلى من يحضنُهم ويك ُفلُهم‪ ،‬فكيف يكونون كافلين لغيرِهم‪.‬‬
‫ن القلب إليه‪ ،‬وقد اشترطه‬
‫ل يَركَ ُ‬
‫ض عليه دلي ٌ‬
‫وأما اشتراطُ الحرية‪ ،‬فل ينتهِ ُ‬
‫ق به إل أن تباع‪ ،‬فتنتقل‪،‬‬
‫ح ّر له ولد مِن أمة‪:‬إن الم أح ُ‬
‫أصحابُ الئمه الثلثة‪ .‬وقال مالك في ُ‬
‫فيكون الب أحق بها‪ ،‬وهذا هو الصحيح‪ ،‬لن النبي صلى ال عليه وسلم قال ((ل ُت َولّهُ وال َدةٌ عن‬
‫ح ّبتِ ِه َيوْ َم القِيامَةِ)) وقد قالوا‪ :‬ل‬
‫ل َب ْينَ ُه و َبيْنَ أ ِ‬
‫ق َبيْنَ الوالدة َو َولَدِهَا‪ ،‬فَرقَ ا ّ‬
‫َولِدِهَا)) ‪,‬وقال ((مَنْ َفرّ َ‬
‫ق في البيع بين ال ّم وولدها الصغير فكيف يُفرّقون بينهما في الحضانة؟ وعمومُ‬
‫يجو ُز التفري ُ‬
‫للُهم بكون منافِعها مملوكةً للسيد‪ ،‬فهي‬
‫الحاديث تمن ُع مِن التفريق مطلقاً في الحضانة والبيع‪ ،‬واستد َ‬
‫مستغرِقَة في خدمته‪ ،‬فل تَفرُغُ ِلحَضانةِ الولد ممنوع‪ ،‬بل حَقّ الحَضانةِ لها‪ ،‬تُقدّم به في أوقات‬
‫حاجة الولد على حقّ السيد‪ ،‬كما في البيع سواء‪ .‬وأما اشتراطُ خلوها من النكاح‪ ،‬فقد تقدم‪.‬‬
‫وهاهنا مسألة ينبغي التنبيهُ عليها وهي أنا إذا أسقطنا حقّها مِن الحضانة بالنكاح‪ ،‬ونقلناها‬
‫إلى غيرها فاتّفِق أنه لم يكن له سِواها‪ ،‬لم يَسقُطْ حقُها من الحضانة‪ ،‬وهي أحقّ به من الجنبي الذي‬
‫ح مِن تربيته في بيتِ أجنبي محض ل قرابة‬
‫يدفعه القاضي إليه‪ ،‬وتربيته في حجر أمه ورأيه أصل ُ‬

‫‪264‬‬
‫ي الشريعة بدفع مفسدة بمفسدة أعظمَ منها‬
‫بينهما توجِب شفقته ورحمته وح ُنوّه‪ ،‬ومنَ المحالِ أن تأت َ‬
‫بكثير‪ ،‬والنبيّ صلى ال عليه وسلم لم يحكم حكماً عاماً كلياً‪ :‬أن كل امرأة تزوجت سقطت‬
‫ت الحضانة للم في هذه الحالة مخالفة للنص‪.‬‬
‫حضانتُها في جمِيع الحوال حتى يكونَ إثبا ُ‬
‫وأما اتحاد الدار‪ ،‬فإن كان سفرُ أحدهما لحاجة‪ ،‬ثم يعود والخر مقيم‪ ،‬فهو أحقّ به‪،‬‬
‫لن السفر بالولد الطفل ول سيما إن كان رضيعاً إضرارٌ به وتضيي ٌع له‪ ،‬هكذا أطلقوه‪ ،‬ولم يستثنوا‬
‫ل عن بلد الخر للِقامة‪ ،‬والبل ُد وطريقُه مخوفان‪ ،‬أو‬
‫سفرَ الحج من غيره‪ ،‬وإن كان أحدهما منتق ً‬
‫أحدهُما‪ ،‬فالمقيمُ أحقّ‪ ،‬وإن كان هو وطريقُه آمنين‪ ،‬ففيه قولنِ‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد‪ ،‬إحداهما‬
‫أن الحضان َة للب ليتمكن من تربية الولد وتأديبه وتعليمِه‪ ،‬وهو قولُ مالك والشافعي‪ ،‬وقضى به‬
‫ق به‪ ،‬وإن‬
‫شريح‪ .‬والثانية‪ :‬أن الم أحقّ‪ .‬وفيها قول ثالث‪ :‬أن المنتقل إن كان هو الب‪ ،‬فالمّ أح ّ‬
‫ق به‪ ،‬وإن انتقلت إلى غيره‪،‬‬
‫كان الم‪ ،‬فإن انتقلت إلى البلد الذي كان فيه أصلُ النكاح فهي أح ّ‬
‫فالبُ أحق‪ ،‬وهو قول الحنفية‪.‬وحكوا عن أبي حنيفة رواية أخرى أن نقلها إن كان من بلد إلى‬
‫قرية‪ ،‬فالبُ أحق‪ ،‬وإن كان من بل ٍد إلى بلد‪ ،‬فهي أحق‪ ،‬وهذه أقوالٌ كُلها كما ترى ل يقوم عليها‬
‫ب إليه‪ ،‬فالصوابُ النظر والحتياط للطفل في الصلح له والنفع مِن الِقامة أو‬
‫دليلٌ يسكن القل ُ‬
‫النقلة‪ ،‬فأيّهما كان أنفعَ له وأصونَ وأحفظَ‪ ،‬روعي‪ ،‬ول تأثيرَ لِقامة ول نقلة‪ ،‬هذا كلّهُ ما لم ُيرِدْ‬
‫ل الموفق‪.‬‬
‫أحدُهما بالنقلة مضارةَ الَخر‪ ،‬وانتزاعَ الولد منه‪ .‬فإن أراد ذلك‪ ،‬لم يُجب إليه‪ ،‬وا ّ‬
‫فصل‬
‫ل بك‬
‫وقوله ((أنتِ أحق به ما لم تَنكحي))‪ ،‬قيل‪ :‬فيه إضمارٌ تقديره‪ :‬ما لم تنكحي‪ ،‬ويدخ ْ‬
‫الزوج‪ ،‬ويحكم الحاكم بسقوط الحضانة‪ .‬وهذا تعسف بعيد ل يُشع ُر به اللفظ‪ ،‬ول يدل عليه بوجه‪،‬‬
‫ول هو من دللة القتضاء التي تتوقف صح ُة المعنى عليها‪ ،‬والدخولُ داخل في قوله((تنكحي))‪،‬‬
‫غ ْي َرهً))‪ ،‬ومن لم يعتبره‪ ،‬فالمراد بالنكاح عنده العقد‪.‬‬
‫ح َزوْجاً َ‬
‫حتّى َت ْنكِ َ‬
‫عند من اعتبره‪ ،‬فهو كقوله(( َ‬
‫ج إليه عند التنازع والخصومة بين‬
‫وأما حكمُ الحاكم بسقوط الحضانة‪ ،‬فذاك إنما يحتا ُ‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ل أن رسولَ ا ّ‬
‫المتنازعين‪ ،‬فيكون منفذًا لِحكم رسول ا ّ‬
‫حكّام بعده أو لم‬
‫حكَمَ به ال ُ‬
‫ط الحضانة على حكمه‪ ،‬بل قد حكم هو بسقوطها‪َ ،‬‬
‫وسلم أوقفَ سقو َ‬
‫يحكمُوا‪ .‬والذي دل عليه هذا الحك ُم النبوي‪ ،‬أن المّ أحقّ بالطفل ما لم يُوجد منها النكاحُ‪ ،‬فإذا‬
‫ق إلى غيرها‪ .‬فأما إذا طلبه من له الحق‪ ،‬وجب على‬
‫نكحت‪ ،‬زال ذلك الستحقاقُ‪ ،‬وانتقل الح ّ‬

‫‪265‬‬
‫خصمه أن يبذله له‪ ،‬فإن امتنع‪ ،‬أجبره الحاك ُم عليه‪ ،‬وإن أسقط حقّه‪ ،‬أو لم يطالب به‪ ،‬بقي على ما‬
‫كان عليه أولً‪ ،‬فهذه قاعدة عامة مستفادَة من غير هذا الحديث‪.‬‬
‫فصل‬
‫وقد احتج من ل يرى التخييرَ بين البوين بظاهر هذا الحديثِ‪ ،‬ووجهُ الستدلل أنه قال‬
‫ق به‬
‫ب ل يكون أح ّ‬
‫ق به إل إذا اختارها‪ ،‬كما أن ال َ‬
‫خ ّي َر الطفل لم تكن هي أح ّ‬
‫((أنت أحق به))‪ ،‬ولو ُ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ق به إن اختارك‪ ،‬قُ ّد َر ذلكَ في جانب الب‪ ،‬والنب ّ‬
‫إل إذا اختاره‪ ،‬فإن قدر‪ :‬أنت أح ّ‬
‫ق به مطلقاً عند المنازعة‪ ،‬وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك‪ .‬ونحن نذكر هذه‬
‫وسلم جعلها أح ّ‬
‫المسألة‪:‬ومذاهب الناس فيها‪ ،‬والحتجاج لقوالهم‪ ،‬ونرجح ما وافق حكم رسول الّ صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫ل عنه‪.‬‬
‫ذكر قول أبي بكر الصديق رضي ا ّ‬
‫ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج‪ ،‬عن عطاء الخراساني‪ ،‬عن ابن عباس رضي الّ عنهما‬
‫ل عنه امرأته‪ ،‬فذكر الث َر المتقدم‪ ،‬وقال فيه‪ :‬ريحُها وفراشُها‬
‫قال‪ :‬طلق عمر بن الخطاب رضي ا ّ‬
‫ب ويُميز‬
‫شبّ ويختار لنفسه‪ ،‬فحكم به لمّه حين لم يكن له تميي ٌز إلى أن يَش ّ‬
‫خير له منك حتى يَ ِ‬
‫ويخير حينئذ‪.‬‬
‫ل عنه‬
‫ذكر قول عمر بن الخطاب رضي ا ّ‬
‫قال الشافعي‪:‬حدثنا ابن عيينة‪ ،‬عن يزيد بن يزيد بن جابر‪ ،‬عن إسماعيل بن عُبيد ال بن أبي‬
‫خ ّيرَ غلمًا بين أبيه وأمه‪.‬‬
‫المهاجر‪ ،‬عن عبد الرحمن بن غَنم‪ ،‬أن عمر بن الخطاب رضي الّ عنه‪َ .‬‬
‫وقال عبد الرزاق‪ :‬أخبرنا ابن جريج‪،‬عن عبد ال بن عبيد بن عمير‪ ،‬قال‪:‬خيرَ عمر رضي‬
‫الّ عنه غلماً ما بينَ أبيه وأمه‪ ،‬فاختار أمّه‪ ،‬فانطلقت به‪.‬‬
‫وذكر عبد الرزاق أيضاً‪:‬عن معمر‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن إسماعيل بن عبيد الّ‪ ،‬عن عبد الرحمن‬
‫بن غنم‪ ،‬قال‪ :‬اختُص َم إلى عم َر بنِ الخطاب في غلم‪ ،‬فقال‪ :‬هو مع أمه حتى ُي ْع ِربَ عنه لِسانُه‬
‫ليختار‪.‬وذكر سعيد بن منصور عن هشيم‪ ،‬عن خالد‪ ،‬عن الوليد بن مسلم‪ ،‬قال‪ :‬اختصموا إلى عمر‬
‫ف أمك خيرٌ‬
‫ط َ‬
‫بن الخطاب رضي الّ عنه في يتيم فخيّره‪ ،‬فاختار أمه على عمه‪ ،‬فقال عمر‪ :‬إنّ لُ ْ‬
‫مِن خِصب ع ّمكَ‪.‬‬
‫ل عنه‪.‬‬
‫ذكر قول علي بن أبي طالب رضي ا ّ‬

‫‪266‬‬
‫جرْمي‪ ،‬عن عمارة‬
‫قال الشافعي رحمه ال تعالى‪ :‬أنبأنا ابن عيينة‪ ،‬عن يونس بن عبد الّ ال َ‬
‫عمّي‪ ،‬ثم قال لخ لي أصغر مني‪ :‬وهذا أيضًا لو بلغ مبلغ هذا‬
‫الجرمي‪ ،‬قال‪:‬خيرني علي بين أمي و َ‬
‫لخيرتُه‪.‬‬
‫قال الشافعي رحمه الّ‪.‬قال إبراهيم‪:‬عن يونس عن عمارة عن علي مثله قاله في الحديث‪:‬‬
‫وكنتُ ابن سبع سنين‪ ،‬أو ثمانِ سنين‪.‬‬
‫ل الجرمي‪ ،‬حدثني عُمارة ابن رويبة‪ ،‬أنه‬
‫قال يحيى القطان‪ :‬حدثنا يونس بنُ عبدِ ا ّ‬
‫ل عنه‪ ،‬قال‪ :‬فخيرني علي ثلثاً‪ُ ،‬كّلهُنّ‬
‫تخاص َمتْ فيه أمّه وعمّه إلى علي بن أبي طالب رضي ا ّ‬
‫خيّر‪.‬‬
‫خ لي صغير‪ ،‬فقال علي‪ :‬هذا إذا بلغ مبلغ هذا ُ‬
‫أختا ُر أمي‪ ،‬ومعي أ ٌ‬
‫ل عنه‬
‫ذكر قول أبي هريرة رضي ا ّ‬
‫ن عيينة‪ ،‬عن زياد بن سعد‪ ،‬عن هِلل بن أبي‬
‫نبُ‬
‫قال أبو خيثمة زهير بن حرب‪ :‬حدثنا سفيا ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‬
‫ميمونة قال‪ :‬شهدت أبا هريرة خيّر غلمًا بين أبيه وأمه‪ ،‬وقال‪:‬إنّ رسولَ ا ّ‬
‫خ ّيرَ غُلمًا بينَ أبيه وأمه‪.‬‬
‫َ‬
‫فهذا ما ظفرت به عن الصحابة‪.‬وأما الئمة‪ ،‬فقال حرب بن إسماعيل‪ :‬سألت إسحاق‬
‫ب إليّ أن يكونَ مع الم إلى‬
‫ح ّ‬
‫ي والصبية مع الم إذا طلّقت؟ قال أ َ‬
‫بن راهويه‪ ،‬إلى متى يكون الصب ّ‬
‫ل مِن سبع سنين ل يُخير؟ قال‪ :‬قد‬
‫سبع سنين‪ ،‬ثم يُخيّر‪ .‬قلت له‪ :‬أترى التخيير؟ قال شديداً‪.‬قلت‪ :‬فأق ّ‬
‫ب إليّ سبع‪.‬‬
‫ح ّ‬
‫قال بعضهم‪ :‬إلى خمس‪ ،‬وأنا أ َ‬
‫ل ذكراً أو أنثى‪ ،‬فإن كان ذكراً‪،‬‬
‫ن الطف ُ‬
‫وأما مذهب الِمام أحمد‪ ،‬فإما أن يكو َ‬
‫ن سبع أو دونَها‪ ،‬فإن كان له دون السبع‪ ،‬فأمّه أحقّ بحضانته من غير تخيير‪ ،‬وإن‬
‫فإما أن يكونَ اب َ‬
‫كان له سبعٌ‪ ،‬ففيه ثلث روايات‪.‬‬
‫إحداها‪ -‬وهي الصحيحة المشهورة من مذهبه‪ -‬أنه يخير‪ ،‬وهي اختيار أصحابِه‪ ،‬فإن لم يختر‬
‫ن لمن قرع‪ ،‬وإذا اختار أحدَهما‪ ،‬ثم عاد فاختار الخر‪ ،‬نقل إليه‪،‬‬
‫واحداً منهما‪ ،‬أقرع بينهما‪ ،‬وكا َ‬
‫وهكذا أبداً‪.‬‬
‫ق ب ِه مِن غير تخيير‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬أن البَ أح ّ‬
‫والثالثة‪ :‬أن الم أحق به كما قبل السبع‪ .‬وأما إذا كان أنثى‪ ،‬فإن كان لها دونَ سبع سنين‪،‬‬
‫فأمّها أحقّ بها من غير تخيير‪ ،‬وإن بلغت سبعاً‪ ،‬فالمشهورُ من مذهبه‪ ،‬أن المّ أحقّ بها إلى تسع‬
‫سنين‪ ،‬فإذا بلغت تسعاً‪ ،‬فالبُ أحقّ بها من غير تخيير‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫وعنه رواية رابعة‪ :‬أن المّ أحقٌ بها حتى تبلغ‪ ،‬ولو تزوجت الم‪.‬‬
‫ص عليها‪ ،‬وأكثر أصحابه إنما حكوا‬
‫وعنه رواية خامسة‪ :‬أنها تخير بعد السبع كالغلم‪ ،‬ن ّ‬
‫ذلك وجهًا في المذهب‪ ،‬هذا تلخيصُ مذهبه وتحريرُه‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬المّ أحقُ بالطفل ذكراً كان أو أنثى إلى أن يبلُغا سبع سنين‪ ،‬فإذا بلغا‬
‫ن أبيه وأمه‪ ،‬وكان مع من اختار‪.‬‬
‫سبعاً وهما يعقِلن عقل مثلهما‪ ،‬خ ّي َر كُلّ منهما بي َ‬
‫وقال مالك وأبو حنيفة ل تخيير بحال‪ ،‬ثم اختلفا فقال أبو حنيفة‪ ،‬المّ أحق‬
‫بالجارية حتى تبلغ‪ ،‬وبالغلم حتى يأكل وحده‪ ،‬ويشربَ وحدَه‪ ،‬ويلبسَ وحده‪ ،‬ثم يكونان عند الب‪،‬‬
‫ومن سوى البوين أحقّ بهما حتى يستغنيا‪ ،‬ول يُعتبر البلوغ‪ ،‬وقال مالك‪ :‬المّ أحقُ بالولد ذكراً كان‬
‫أو أنثى حتى ي ّثغِر‪،‬هذه رواية ابن وهب‪ ،‬وروى ابنُ القاسم‪ :‬حتى َي ْبلُغَ‪ ،‬ول يُخ ّيرُ بحال‪.‬‬
‫وقال الليثُ بن سعد‪ :‬المّ أحقّ بالبن حتى َي ْبلُغَ ثمان سنين‪ ،‬وبالبنت‬
‫حتى تبلغ‪ ،‬ثم البُ أحقّ بهما بعد ذلك‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫وقال الحسنُ بن حَي‪ :‬ال ُم أولى بالبنت حتى َي ْك ُعبَ ثدياها‪،‬‬ ‫@‬
‫حتَى َييْفَعَ‪ ،‬فيُخيران بع َد ذلك بين أبويهما‪ ،‬الذكرُ والنثى سواء‪.‬‬
‫وبالغلم َ‬
‫قال المخيّرون في الغلم دون الجارية‪ :‬قد ثبت التخييرُ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم في الغلم‪ ،‬من حديث أبي هريرة‪:‬وثبت عن الخلفاء الراشدين‪ ،‬وأبي‬
‫عن النب ّ‬
‫هريرة‪ ،‬ول يُعرف لهم مخالفٌ في الصحابة ألبتة‪ ،‬ول أنكره منك‪ .‬قالوا‪ :‬وهذا غايةٌ في العدل‬
‫الممكن‪ ،‬فإن المّ إنما قُدّمتْ في حال الصغر لحاجة الولد إلى التربية والحمل والرضاع والمداراة‬
‫التي ل تتهيأ لِغير النساء‪ ،‬وإل فالمّ أحد البوين‪ ،‬فكيف تُقدّم عليه؟ فإذا بلغ الغلم حدًا ُي ْع ِربُ فيه‬
‫عن نفسه‪ ،‬ويستغني عن الحمل والوضع وما تُعانيه النساء‪ ،‬تساوى البوانِ‪ ،‬وزال السببُ الموجبُ‬
‫لتقديم الم‪ ،‬والبوانِ متساويانِ فيه‪ ،‬فل يُقَدّمُ أحدُهما إل بمرجّح‪ ،‬والمرجّحُ إما من خارج‪ ،‬وهو‬
‫ث أبي‬
‫القرعةُ‪ ،‬وإما من جهة الولد‪ ،‬وهو اختيارُه‪ ،‬وقد جاءت السنةُ بهذا وهذا‪ ،‬وقد جمعهما حدي ُ‬
‫هريرة‪ ،‬فاعتبرناهما جميعاَ‪ ،‬ولم ندفع أحدهما بالخر‪.‬‬
‫وقدمنا ما قدمه النبيّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأخّرنا ما أخره‪ ،‬فقدم التخييرُ‪ ،‬لن القُرعة إنما‬
‫يُصار إليها إذا تساوت الحقوقُ مِن كل وجه‪ ،‬ولم يبق مرجّحٌ سواها‪ ،‬وهكذا فعلنا هاهنا قدمنا‬
‫أحدَهما بالختيار‪ ،‬فإن لم يختر‪ ،‬أو اختارهما جميعاً‪ ،‬عدلنا إلى القُرعة‪ ،‬فهذا لو لم يكن فيه موافقة‬

‫‪268‬‬
‫السنة‪ ،‬لكان مِن أحسن الحكام‪ ،‬وأعدلها‪ ،‬وأقطعها للنزاع بتراضي المتنازعين‪ .‬وفيه وجه آخر في‬
‫مذهب أحمد والشافعي‪ :‬أنه إذا لم يختر واحداً منهما كان عند الم بل قُرعة‪ ،‬لن الحضانة كانت‬
‫لها‪ ،‬وإنما ننقلُه عنها باختياره‪ ،‬فإذا لم يختر‪ ،‬بقي عندها على ما كان‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فقد قدمتُ ُم التخييرَ على القُرعة‪ ،‬والحديث فيه تقديمُ القُرعة أولً‪ ،‬ثم التخيير‪ ،‬وهذا‬
‫أولى‪ ،‬لن القرعة طريق شرعي للتقديم عند تساوي المستحقين‪ ،‬وقد تساوى البوانِ‪ ،‬فالقياسُ تقديمُ‬
‫أحدهما بالقُرعة‪ ،‬فإن أبيا القُرعة‪ ،‬لم يبق إل اختيارُ الصبي‪ ،‬فيُرجح به‪ ،‬فما بالُ أصحابِ أحمد‬
‫والشافعي قدّموا التخيي َر على القرعة‪.‬‬
‫قيل‪ :‬إنما قُدّم التخيير‪ ،‬لتفاق ألفاظِ الحديث عليه‪ ،‬وعملِ الخلفاء الراشدين به‪ ،‬وأما القُرعة‪،‬‬
‫ض الرواة ذكرها في الحديث‪ ،‬وبعضُهم لم يذكرها‪ ،‬وإنما كانت في بعضِ طُرق أبي هريرة‬
‫فبع ُ‬
‫رضي الّ عنه وحده‪ ،‬فَقُدّ َم التخييرُ عليها‪ ،‬فإذا تعذر القضاء بالتخيير‪ ،‬تعينت القُرعة طريقاً‬
‫للترجيح إذ لم يبق سواها‪.‬‬
‫ثمّ قال المخيرون للغلم والجارية‪ :‬روى النسائي في ((سننه))‪ ،‬والِمام أحمد في‬
‫ي صلى‬
‫ل عنه أنه تنازع هو وأمّ في ابنتهما‪ ،‬وأن النب ّ‬
‫((مسنده)) من حديث رافع بن سنان رضي ا ّ‬
‫ال عليه وسلم أقعَده ناحية‪ ،‬وأقعد المرأة ناحية‪ ،‬وأقعد الصبيةَ بينهما‪ ،‬وقال‪(( :‬ادْعُوَاها))‪ ،‬فمالَت‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ((الّلهُمّ اهْدِهَا)) فمَالَت إلى َأبِيهَا فَأَخَذَهَا قالُوا‪ :‬ولو لم َيرِدْ‬
‫إلى ُأمّها فقال النب ّ‬
‫ث أبي هريرة رضي ال عنه‪ ،‬والثار المتقدمة حجةً في تخيير النثى‪ ،‬لن‬
‫هذا الحديثُ لكان حدي ُ‬
‫كون الطفل ذكراً ل تأثير له في الحكم‪ ،‬بل هي كالذكر في قوله صلى ال عليه وسلم ((مَنْ وَجَدَ‬
‫حضَانة أولى‬
‫عبْدٍ))‪ ،‬بل حديثُ ال َ‬
‫شرْكًا لَهُ في َ‬
‫عتَقَ ِ‬
‫عنْدَ رَجُل قَ ْد أَ ْفَلسَ)) وفي قوله ((مَنْ أَ ْ‬
‫َمتَاعه‪ِ ،‬‬
‫بعدم اشتراط الذكورية فيه‪ ،‬لن لَفظ الصَبي ليس مِن كلم الشارع‪ ،‬إنما الصحابيّ حكى القِصة‪،‬‬
‫وأنها كانت في صبي‪ ،‬فإذا نُقّحَ المناطُ تبين أنه ل تأثير‪ ،‬لكونه ذكراً‪.‬‬
‫قالت الحنابلة‪ :‬الكل ُم معكم في مقامين‪ ،‬أحد هما‪ :‬استدللُكم بحديثِ رافع‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬إلغاؤكم وصفَ الذكورية في أحاديث التخيير‪.‬‬
‫ث قد ضعّفه ابنُ المنذر وغيرُه‪ ،‬وضعف يحيى بن سعيد والثوري عبدَ‬
‫فأما الول‪ ،‬فالحدي ُ‬
‫الحميد بن جعفر‪ ،‬وأيضًا لقد اختلف فيه على قولين‪ .‬أحدهما‪ :‬أن المخيّر كان بنتاً‪ ،‬وروي‪ :‬أنه كان‬
‫ابناً‪ .‬فقال عبد الرزاق‪ :‬أخبرنا سفيان‪ ،‬عن عثمان البتي‪ ،‬عن عبد الحميد بن سلمة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن‬

‫‪269‬‬
‫جده‪ ،‬أن أبويه اختصما إلى النبيّ صلى ال عليه وسلم أحدهما مسلم‪ ،‬والخرُ‪،‬كافر‪ ،‬فتوجه إلى‬
‫الكافر‪ ،‬فقال النبيّ صلى ال عليه وسلم ((اللّهُ ّم اهْ ِدهِ))‪ ،‬فتوجه إلى المسلم‪ ،‬فقضى‪ ،‬له به‪.‬‬
‫قال أبو الفرج ابن الجوزي‪ :‬ورواية من روى أنه كان غلمًا أصحّ‪ ..‬قالوا‪ :‬ولو سلم لكم أنه‬
‫كان أنثى‪ ،‬فأنتم ل تقولون به‪ ،‬فإن فيه أن أحدهما كان مسلماً‪،‬‬

‫والخر كافراً‪ ،‬فكيف تحتجون بما ل تقولون به‪.‬‬


‫قالوا‪ :‬وأيضاً فلو كانا مسلمين‪ ،‬ففي الحديث أن الطفل كان فطيماً‪ ،‬وهذا قطعاً دون السبع‪،‬‬
‫والظاهر أنّه دون الخمس‪ ،‬وأنتم ل تُخيرون من له دون السبع‪ ،‬فظهر أنه ل يُمكنكم الستدللُ‬
‫بحديث رافع هذا على كل تقدير‪.‬‬
‫فبقي المقام الثاني‪ ،‬وهو إلغاء وصف الذكورة في أحاديث التخيير وغيرها‪ ،‬فنقول‪ .‬لريب‬
‫ف النوثة قطعاً‪ ،‬ومنها ما ل يكفي فيه‪ ،‬بل‬
‫ف الذكورة‪ ،‬أو وص ُ‬
‫أن مِن الحكام ما يكفي فيها وص ُ‬
‫يُعتبر فيه إمّا هذا وإمّا هذا‪ ،‬فيُلغى الوصف في كل حكم تعلّق بالنوع الِنساني المشترك بين الفراد‪،‬‬
‫ويُعتبر وصفُ الذكورة في كل موضع كان له تأثير فيه‪ ،‬كالشهادة والميراث‪ ،‬والولية في النكاح‪،‬‬
‫ل موضع يختصّ بالناث‪ ،‬أو يُقدمن فيه على الذكور‪ ،‬كالحضانة‪ ،‬إذا‬
‫ويعتبر وصفُ النوثة في ك ّ‬
‫استوى في الدرجة الذكرُ والنَثى‪ ،‬قُدّمت النثى‪.‬بقي النظر فيما نحن فيه من شأن التخيير‪ ،‬هل‬
‫لِوصف الذكورة تأثيرٌ في ذلك فيُلحق بالقسم الذي تعتبر فيه‪ ،‬أو ل تأثير له فيلحق بالقسم الذي يلغى‬
‫فيه؟ ول سبيل إلى جعلها من القسم الملغى فيه وصفُ الذكورة‪ ،‬لن التخيير هاهنا تخيير شهوة‪ ،‬ل‬
‫تخيير رأي ومصلحة‪ ،‬ولهذا إذا اختار غيرَ مَن اختاره أولً‪ ،‬نقل إليه‪ ،‬فلو خيرت البنت‪ ،‬أفضى‬
‫ذلك إلى أن تكونَ عند الب تارة‪ ،‬وعند الم أخرى‪ ،‬فإنها كلما شاءت النتقال‪ ،‬أجيبت إليه‪ ،‬وذلك‬
‫عكسُ ما شرع للِناث مِن لزوم البيوت‪ ،‬وعد ِم البروز‪ ،‬ولزوم الخدور وراء الستار‪ ،‬فل يليقُ بها‬
‫ف معتبراً قد شهد له الشرعُ بالعتبار لم يمكن إلغاؤه‪.‬‬
‫أن تمكن مِن خلف ذلك‪ .‬وإذا كان هذا الوص ُ‬
‫ب موكّل بحفظها‪ ،‬ول الم لتن ّقلِها بينهما‪ ،‬وقد‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فإن ذلك يُفضي إلى أل يبقى ال ُ‬
‫ب الناسُ على حفظه‪ ،‬ويتواكلون فيه‪ ،‬فهو آيل إلى ضياع‪ ،‬ومن المثال‬
‫ع ِرفَ بالعادة أن ما يتناو ُ‬
‫ُ‬
‫خيْنِ))‪.‬‬
‫طبّا َ‬
‫ح القِ ْدرُ َبيْنَ َ‬
‫السائرة ((ل يصلُ ُ‬

‫‪270‬‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فالعادة شاهدة بأن اختيار أحدهما يُضعف رغبة الخر فيه بالِحسان إليه‬
‫وصيانته‪ ،‬فإذا اختار أحدَهما‪ ،‬ثم انتقل إلى الخر لم يبق أحدُهما تامَ الرغبة في حفظه والِحسان‬
‫إليه‪.‬‬
‫فإن قلتم‪ :‬فهذا بعينه موجو ٌد في الصبي‪ ،‬ولم يمنع ذلك تخييره‪ .‬قلنا‪ :‬صدقتم لكن عارضَه‬
‫ب البنين‪ ،‬واختيارِهم على البناتِ‪ ،‬فإذا اجتمع نقصُ الرغبة‪ .،‬ونقصُ‬
‫ح ّ‬
‫كونُ القلوب مجبولةً على ُ‬
‫سرُ تلفِيه‪ ،‬والواقعُ شاهِدٌ‬
‫النوثة‪ ،‬وكراهةُ البنات في الغالب‪ ،‬ضاعت الطّفلَةُ‪ ،‬وصارت إلى فسَاد َيعْ ُ‬
‫ج مِن الحفظ والصيانةِ فوقَ ما‬
‫س ّر الفرق أن البنتَ تحتا ُ‬
‫بهذا‪ ،‬والفقه تنزيل المشروع على الواقع‪ ،‬و ِ‬
‫ن الستر والخَ َفرِ ما لم يُشرع مثلُه للذكور في‬
‫ث مِ َ‬
‫شرِعَ في حق الِنا ِ‬
‫ج إليه الصبيّ‪ ،‬ولهذا ُ‬
‫يحتا ُ‬
‫اللباس وإرخاء الذيل شِبراً أو أكثر‪ ،‬وجمع نفسِها في الركوع والسجود دونَ التجافي‪ ،‬ول ترفعُ‬
‫شفُ‬
‫صوتَها بقراءة القرآن‪ ،‬ول َت ْرمُلُ في الطواف‪ ،‬ول تتجرّدُ في الِحرام عن المخيط‪ ،‬ول تك ِ‬
‫ن الصغر‪ .‬وضعفِ‬
‫رأسها‪ ،‬ول تُسا ِفرُ وحدَها‪ ،‬هذا كلّه مع كبرها ومعرفتها‪ ،‬فكيف إذا كانت في س ّ‬
‫العقل الذي يقبل فيه النخداع؟ ول ريب أن تردّدها بين البوينِ مما يعودُ على المقصود بالِبطال‪،‬‬
‫ل به‪ ،‬أو َينْ ُقصُه لنها ل تستقِر في مكان معين‪ ،‬فكان الصلحُ لها أن تجعل عند أحد البوين‬
‫أو ُيخِ ّ‬
‫من غير تخيير‪ ،‬كما قاله الجمهور‪ :‬مالك‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬فتخييرُها ليس منصوصاً‬
‫عليه‪ ،‬ول هو في معناه فيلحق به‪.‬‬
‫ثم هاهنا حصل الجتهادُ في تعيينِ أح ِد البوين لمقامها عنده‪ ،‬وأيهما أصلحُ لها‪،‬‬
‫فمالك‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬وأحمد في إحدى الروايتين عنه‪ :‬عيّنوا الم‪ ،‬وهو الصحيحُ دليلً‪ ،‬وأحمد رحمه‬
‫ل في المشهور عنه‪ ،‬واختيارُ عامة أصحابه عيّنوا البَ‪.‬قال مَن رجّح الم‪ :‬قد جرت العادةُ بأن‬
‫ا ّ‬
‫البَ يتصرّف في المعاش‪ ،‬والخروج‪ ،‬ولقا ِء الناسِ‪ ،‬والمّ في خِدرها مقصورة في بيتها‪ ،‬فالبنت‬
‫ب عن‬
‫عندها أصونُ وأحفظ بل شك‪ ،‬وعينُها عليها دائماً بخلف البِ‪ ،‬فإنه في غالب الوقات غائ ٌ‬
‫ظنّةِ ذلك‪ ،‬فجعلُها عند أمها أصونُ لها وأحفظ‪.‬‬
‫البنت‪ ،‬أو في مَ ِ‬
‫ض أو أكثرُ منها عند الب‪ ،‬فإنه إذا‬
‫قالوا‪ :‬وكل مفسدة يعرِضُ وجودُها عند الم‪ ،‬فإنها تَعرِ ُ‬
‫ق عليها‬
‫تركها في البيت وحدَها لم يأمن عليها‪ ،‬وإن ترك عندها امرأته أو غيرها‪ ،‬فالم أشفَ ُ‬
‫وأصونُ لها من الجنبية‪.‬‬
‫ح البيت‪ ،‬وهذا‬
‫قالوا‪ :‬وأيضاً فهي محتاجة إلى تعلُم ما يصلُح للنساء من الغزل والقيامِ بمصال ِ‬
‫ج إلى أمها لتعلمها ما يصلح للمرأة‪ ،‬وفي دفعها إلى أبيها‬
‫إنما تقوم به النساءُ ل الرجال‪ ،‬فهي أحو ُ‬

‫‪271‬‬
‫تعطيلُ هذه المصلحة‪ ،‬وإسلمها إلى امرأة أجنبية تُعلّمها ذلك‪ ،‬وترديدها بين الم وبينه‪ ،‬وفي ذلك‬
‫تمرين لها على البروز والخروج‪ ،‬فمصلح ُة البنت والم والبِ أن تكونَ عند أمها‪ ،‬وهذا القولُ هو‬
‫الذي ل نختار سواه‪.‬‬
‫ل أغيرُ على البنات مِن النِساء‪ ،‬فل تستوي غيرةُ الرجل على‬
‫قال من رجح الب‪ :‬الرجا ُ‬
‫ابنته‪ ،‬وغيرةُ الم أبداً‪ ،‬وكم مِن أ ّم تُساعِ ُد ابنتها على ما تهواه‪ ،‬ويحملُها على ذلك ضعفُ عقلها‪،‬‬
‫ف الب‪ ،‬ولهذا المعنى وغيرِه جعل‬
‫وسُرعةُ انخداعها‪ ،‬وضعفُ داعي الغيرةِ في طبعها‪ ،‬بخل ِ‬
‫الشارعُ تزويجَها إلى أبيها دونَ أمها‪ ،‬ولم يجعل لمها ولية على بُضعها البتة‪ ،‬ول على مالها‪،‬‬
‫فكان مِن محاسن الشريعة أن تكون عند أمّها ما دامت محتاج ًة إلى الحضانة والتربية‪ ،‬فإذا بلغت‬
‫حدًا تُشتهى فيه‪ ،‬وتصلحُ للرجالِ‪َ ،‬فمِنْ محاسِن الشريعة أن تكونَ عند من هو أغيرُ عليها‪ ،‬وأحرصُ‬
‫على مصلحتها‪ ،‬وأصونُ لها من الم‪.‬قالوا‪ :‬ونحن نرى في طبيعة الب وغيره من الرجال من‬
‫ال َغ ْيرَةِ‪ ،‬ولو مع فسقه وفجوره ما يحمله على قتل ابنته وأخته وموليته إذا رأى منها ما يُريبه لِشدة‬
‫الغيرة‪ ،‬ونرى في طبيعة النساء من النحلل والنخداع ضدّ ذلك‪ ،‬قالوا‪ :‬فهذا هو الغالبُ على‬
‫النوعين‪ ،‬ول عبرة بما خرج عن الغالب‪ ،‬على أنا إذا قدمنا أحد ا البوين فل بد أن نُراعي صيانته‬
‫ت غيرَ‬
‫وحفظَه للطفل‪ ،‬ولهذا قال مالك والليث‪ :‬إذا لم تحن الم في موضع حر ٍز وتحصين‪ ،‬أو كا َن ْ‬
‫ل في الرواية المشهورة عنه‪ ،‬فإنه‬
‫مرضية‪ ،‬فللب أخ ُذ البنت منها‪ ،‬وكذلك الِمامُ أحمد رحمه ا ّ‬
‫ل لذلك‪ ،‬أو عاجزًا عنه‪ ،‬أو غي َر مرضي‪ ،‬أو ذا‬
‫يعتبر قدرتَه على الحفظ والصيانة‪ .‬فإن كان مهم ً‬
‫دِياثة والم بخلفه‪ ،‬فهي أحقّ بالبنتِ بل ريب‪ ،‬فمن قدمناه بتخيير أو قرُعة أو بنفسه‪ ،‬فإنما نُقدّمه‬
‫إذا حصلت به مصلحة الولد‪ ،‬ولو كانت الم أصون مِن الب وأغي َر منه قدمت عليه‪ ،‬ول التفات‬
‫إلى قرعة ول اختيار الصبي في هذه الحالة‪ ،‬فإنه ضعيفُ العقل يؤ ِثرُ البطالة واللعب‪ ،‬فإذا اختار‬
‫من يُساعِ ُدهُ على ذلك‪ ،‬لم يُلتفت إلى اختياره‪ ،‬وكان عند من هو أنف ُع له وأخيرُ‪ ،‬ول تحتمِلُ الشريعة‬
‫ض ِربُوهُم عَلى َت ْركِها‬
‫سبْعٍ وا ْ‬
‫غيرَ هذا‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم قد قال‪ُ (( :‬مرُوهُم بِالصّل ِة لِ َ‬
‫سكُم وأَ ْهلِيكُ ْم نَاراً‬
‫ن آ َمنُوا قُوا َأنْف ُ‬
‫شرٍ و َفرّقُوا بَي َنهُم في المَضَاجِع)) وال تعالى يقول‪{ :‬يََأ ّيهَا الّذِي َ‬
‫ِلعَ ْ‬
‫وَقُودُهَا النّاسُ والحِجَا َرةُ} [التحريم‪ .]6 :‬وقال الحسن‪ :‬علّموهُم وأدبوهم وفقهوهم‪ ،‬فإذا كانت الم‬
‫ي يؤثر اللعب ومعاشرةَ أقرانه‪ ،‬وأبوهُ يُمكنه مِن ذلك‪ ،‬فإنه‬
‫تتركُه في المكتب‪ ،‬وتعلمه القرآن والصب ّ‬
‫ل ورسوله في الصبي‬
‫أحق به بل تخيير‪ ،‬ول قرعة‪ ،‬وكذلك العكسُ‪ ،‬ومتى أخل أح ُد البوين بأمر ا ّ‬
‫وعطّله‪ ،‬والخر مُراعٍ له‪ ،‬فهو أحق وأولى به‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫ل يقول‪ :‬تنازع أبوان صبياً عند بعض الحكام‪ ،‬فخ ّي َرهُ بينهما‪ ،‬فاختار‬
‫وسمعت شيخنا رحمه ا ّ‬
‫سلْهُ لي شيء يختار أباه‪ ،‬فسأله‪ ،‬فقال‪ :‬أمي تبعثني كل يوم للكتاب‪ ،‬والفقيه‬
‫أباه‪ ،‬فقالت له أمه‪َ :‬‬
‫يضربني‪ ،‬وأبي يتركني للعب مع الصبيان‪ ،‬فقضى به للم‪ .‬قال‪ :‬أنتِ أحق به‪.‬‬
‫قال شيخنا‪ :‬وإذا ترك أح ُد البوين تعليم الصبي‪ ،‬وأمره الذي أوجبه الّ عليه‪ ،‬فهو عاصٍ‪،‬‬
‫ل من لم يقم بالواجب في وليته‪ ،‬فل ولية له‪ ،‬بل إما أن تُرفع يدُه عن‬
‫ول وِلية له عليه‪ ،‬بل كُ ّ‬
‫الولية ويُقام من يفعل الواجب‪ ،‬وإما أن يُضم إليه مَنْ يقومُ معه بالواجب‪ ،‬إذ المقصودُ طاعةُ ال‬
‫ق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم‪،‬‬
‫ورسوله بحسب الِمكان‪ .‬قال شيخنا‪ :‬وليس هذا الح ّ‬
‫والنكاح‪ ،‬والولء‪ ،‬سواء كان الوارث فاسقاً أو صالحاً‪ ،‬بل هذا مِن جنس الولية التي ل بُدّ فيها من‬
‫القدرة على الواجب والعلم به‪ ،‬وفعله بحسب الِمكان‪ .‬قال‪ :‬فلو قدر أن الب تزوج امرأة ل تراعي‬
‫مصلحة ابنته‪ ،‬ول تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة‪ ،‬فالحضانة للم قطعاً‪ ،‬قال‪ :‬ومما‬
‫ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد البوين مطلقاً‪ ،‬ول تخيير الولد بين‬
‫البوين مطلقاً‪ ،‬والعلماء متفقون على أنه ل يتعين أحدهما مطلقاً‪ ،‬بل ل يقدم ذو العُدوان والتفريط‬
‫على ال َبرّ العادل المحسن‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫قالت الحنفية والمالكية‪ :‬الكلمُ معكم في مقامين‪ ،‬أحدهما‪ :‬بيان الدليل الدال على‬
‫بطلن التخيير‪ ،‬والثاني‪ :‬بيانُ عدم الدللة في الحاديث التي استدللتم بها على التخيير‪ ،‬فأما الول‪:‬‬
‫فيدُل عليه قوله صلى ال عليه وسلم ((أنت أحق به))‪ ،‬ولم يُخيره‪ .‬وأما المقامُ الثاني‪ :‬فما رويتُم مِن‬
‫أحاديث التخيير مطلقة ل تقييد فيها‪ ،‬وأنتم ل تقولون بها على إطلقها‪ ،‬بل قيدتم التخيير بالسبع‪ ،‬فما‬
‫ل على ذلك‪ ،‬ونحن نقول‪ :‬إذا صار للغلم اختيار معتبر‪،‬‬
‫فوقها‪ ،‬وليس في شيء من الحاديث مَا يدُ ّ‬
‫خ َي َر بين أبويه‪ ،‬وإنما يعتبر اختيارُه إذا اعتبر قوله‪ ،‬وذلك بعد البلوغ‪ ،‬وليس تقييدكم وقتَ التخيير‬
‫ح مِن جانبنا‪ ،‬لنه حينئذ يعت َبرُ قولُه ويدل عليه قولها‬
‫بالسبع أولى مِن تقييدنا بالبلوغ‪ ،‬بل الترجي ُ‬
‫((وقد سقاني من بئر أبي عنبة))‪ ،‬وهي على أميال من المدينة‪ ،‬وغيرُ البالغ ل يتأتى منه عادةً أن‬
‫حمِلَ الما َء مِن هذهِ المسافة ويستقي من البئر‪ ،‬سلمنا أنه ليس في الحديث ما يدل على البلوغ‪ ،‬فليس‬
‫يَ ْ‬
‫فيه ما ينفيه‪ ،‬والواقع ُة واقعة عين‪ ،‬وليس عن الشارع نص عام في تخيير من هو دونَ البلوغ حتى‬
‫ب المصي ُر إليه‪ ،‬سلمنا أنه فيه ما ينفي البلوغ‪ ،‬فمن أين فيه ما يقتضي التقييدَ بسبع كما قلتم؟‬
‫يج َ‬
‫ج بقوله‬
‫قالت الشافعية والحنابلة ومن قال بالتخيير‪ :‬ل يتأتّى لكم الحتجا ُ‬
‫ق به ما لم تَنكِحي))‪ ،‬بوجه من الوجوه‪ ،‬فإن منكم من يقول‪ :‬إذا‬
‫صلى ال عليه وسلم ((أنتِ أح ُ‬

‫‪273‬‬
‫ق به بغير تخيير‪ ،‬ومنكم من يقول‪ :‬إذا ا َث َغرَ‪،‬‬
‫استغنى بنفسه‪ ،‬وأكل بنفسه‪ ،‬وشرب بنفسه‪ ،‬فالبُ أح ّ‬
‫فالبُ أحق به‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬النبي صلى ال عليه وسلم قد حكم لها به ما لم تنكح‪ ،‬ولم يفرق بين أن َت ْنكِحَ قبل‬
‫ب يكون مشتركاً بيننا وبينكم‪ ،‬ونحن فيه‬
‫ن الذي يكون عنده أو بعده‪ ،‬وحينئذ فالجوا ُ‬
‫بلوغ الصبيّ السّ ّ‬
‫على سواء‪ ،‬فما أجبتُم به‪ ،‬أجاب به منازعوكم سواء‪ ،‬فإن أضمرتُم أضمرُوا‪ ،‬وإن قيَدتُم قيّدوا‪ ،‬وإن‬
‫صصُوا‪ .‬وإذا تبين هذا‪ ،‬فنقول‪ :‬الحديث اقتضى أمرين‪.‬‬
‫صتُمْ خ ّ‬
‫ص ْ‬
‫خ ّ‬
‫َ‬
‫أحدهما‪ :‬أنها ل حقّ لها في الولد بعد النكاح‪ .‬والثاني‪ :‬أنها أحق به ما لم تنكح‪ ،‬وكونها أحق‬
‫به له حالتان‪ ،‬إحداهما‪ :‬أن يكون الول ُد صغيراً لم يميز‪ ،‬فهي أحق به مطلقًا مِن غير تخيير‪ .‬الثاني‪:‬‬
‫ق به أيضاً‪ ،‬ولكن هذه الولوية مشروطة بشرط‪ ،‬والحكم إذا عُلقَ‬
‫ن التمييز‪ ،‬فهي أح ّ‬
‫أن يبلغ سِ ّ‬
‫بشرطٍ صدق إطلقُه اعتماداً على تقدير الشرط‪ ،‬وحينئذ فهي أحقّ به بشرط اختياره لها‪ ،‬وغايةُ‬
‫هذا أنه تقييد للمطلق بالدلة الدال ِة على تخييره‪ .‬ولو حمل على إطلقه‪ ،‬وليس بممكن ألبتة‪ ،‬لستلزم‬
‫ل أحاديث التخيير‪ ،‬وأيضاً فإذا كنتم قيدتموه بأنها أحق به إذا كانت مقيمة وكانت حرة‬
‫ذلك إبطا َ‬
‫ورشيدة وغير ذلك من القيود التي ل ذكر لشيء منها في الحاديث ألبتة‪ ،‬فتقييدُه بالختيار الذي‬
‫دلت عليه السنة‪ ،‬واتفق عليه الصحاب ُة أولى‪.‬‬
‫وأما حملكم أحاديث التخيير على ما بعد البلوغ‪ ،‬فل يصح لخمسة أوجه‪ .‬أحدها‪ :‬أن‬
‫لفظ الحديث أنه خيّر غلمًا بين أبويه‪ ،‬وحقيق ُة الغلم من لم يبلُغ‪ ،‬فحمله على البالغ إخراج له عن‬
‫حقيقته إلى مجازه بغير موجب‪ ،‬ول قرينة صارفة‪.‬‬
‫ح أن يخير ابنُ أربعين سنة بين أبوين؟ هذا مِن‬
‫الثاني‪ :‬أن البالغَ ل حضانة عليه‪ ،‬فكيف َيصِ ّ‬
‫ل الحديث عليه‪.‬‬
‫الممتنع شرعاً وعادة‪ ،‬فل يجوز حم ُ‬
‫خيّر بين‬
‫الثالث‪ :‬أنه لم يفهم أحدٌ من السامعين أنهم تنازعُوا في رجل كبير بالغ عاقل‪ ،‬وأنه ُ‬
‫أبويه‪ ،‬ول يسبق إلى هذا فه ُم أحد ألبتة‪ ،‬ولو فرض تخييرُه‪ ،‬لكان بين ثلثة أشياء‪ :‬البوين‪،‬‬
‫والنفراد بنفسه‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أنه ل يُعقل في العادة ول العرف ول الشرع أن تنازع البوان في رجل كبير بالغٍ‬
‫عاقل‪ ،‬كما ل يعقلُ في الشرع تخييرُ من هذه حاله بين أبويه‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫الخامس‪ :‬أن في بعض ألفاظِ الحديث أن الولد كان صغيراً لم يبلغ ذكره النسائي‪ ،‬وهو حديثُ‬
‫رافع بن سنان‪ ،‬وفيه‪ :‬فجاء ابن لها صغير لم يبلغ‪ ،‬فأجلس النبي صلى ال عليه وسلم الب هاهنا‪،‬‬
‫والم هاهنا ثم خيّره‪.‬‬
‫وأما قولكم‪ :‬إن بئر أبي عنبة على أميال من المدينة‪ ،‬فجوابُه مطالبتكم أولً‪ :‬بصحة هذا‬
‫الحديث ومَن ذكره‪ ،‬وثانياً‪ :‬بأن مسكن هذه المرأة كان بعيداً مِن هذه البئر‪ ،‬وثالثاً‪ ،‬بأن من له نحو‬
‫العشر سنين ل يمكنه أن يستقي من البئر المذكور عادة‪ ،‬وكُلُ هذا مما ل سبيل إليه‪ ،‬فإن العرب‬
‫وأهلَ البوادي يستقي أولدُهم الصغار مِن آبار هي أبعدُ من ذلك‪.‬‬
‫وأما تقييدنا له بالسبع‪ ،‬فل ريب أن الحديث ل يقتضي ذلك‪ ،‬ول هو أمرٌ مجمع عليه‪ ،‬فإن‬
‫لِلمخيّرين قولين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنه يخ ّيرُ لخمس‪ ،‬حكاه إسحاق بن راهويه‪ ،‬ذكره عنه حرب‬
‫ع الصبي‪ ،‬ويمكن أن يعقل‬
‫في((مسائله))‪ ،‬ويحتج لهؤلء بأن الخمس هي السن التي يَصح فيها سما ُ‬
‫فيها‪ ،‬وقد قال محمود بن الربيع‪:‬‬
‫عقلتُ عن النبي صلى ال عليه وسلم مجة مجّها في فيّ وأنا ابن خمس سنين او القول‬
‫الثاني‪ :‬أنه إنما يُخيّر لسبع‪ ،‬وهو قول الشافعي‪ ،‬وأحمد وإسحاق رحمهم الّ‪ ،‬واحتج لهذا القول بأن‬
‫التخييرَ يستدعي التميي َز والفهم‪ ،‬ول ضابطَ له في الطفال‪ ،‬فضبط بمَظنّتهه وهي السبعُ‪ ،‬فإنها أول‬
‫صبِى بالصلة‪.‬‬
‫سن التمييز‪ ،‬ولهذا جعلها النبي صلى ال عليه وسلم حدًا للوقت الذي يُؤمر فيه ال ّ‬
‫وقولكم‪ :‬إن الحاديثَ وقائعُ أعيان‪ ،‬فنعم هي كذلك‪ ،‬ولكن يمتنع حملُها على تخيير الرجال البالغين‪،‬‬
‫كما تقدم‪ .‬وفي بعضها لفظ‪ :‬غلم‪ ،‬وفي بعضها لفظ‪ :‬صغير لم يبلغ‪ ،‬وبال التوفيق‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل عنهم فيها‪ ،‬وحكم رسول‬
‫وأما قصة بنت حمزة‪ ،‬واختصام علي‪ ،‬وزيد‪ ،‬وجعفر رضي ا ّ‬
‫ن هذه الحكومَة كانت عَقِيبَ فراغهم من عُمرة القضاء‪ ،‬فإنهم‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بها لجعفر‪ ،‬فإ ّ‬
‫ا ّ‬
‫لما خرجُوا مِن مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم‪ ،‬فأخذ علي بيدها‪ ،‬ثم تنازع فيها هو‬
‫وجعف ٌر وزيدٌ‪ ،‬وذكر كُلّ واحد من الثلثة ترجيحاً‪ ،‬فذكر زيد أنها ابنة أخيه للمؤاخاة التي عقدها‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بينَه وبينَ حمزة‪ ،‬وذكر علي كونها ابن َة عمّه‪ ،‬وذكر جعفر‬
‫رسولُ ا ّ‬
‫مرجّحين‪ :‬القرابة‪ ،‬وكونَ خالتها عنده‪ ،‬فتكون غد خالتها‪ ،‬فاعتبر النبيّ صلى ال عليه وسلم مرجّحَ‬
‫ب إليه من أخذ‬
‫ل وَاحد منهم وطيّب قلبَه بما هو أح ّ‬
‫جعفر دون مرجّح الخرين‪ ،‬فحكم له‪ ،‬وجبر ك ّ‬
‫البنت‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫فأما مرجح المؤاخاة‪ ،‬فليس بمقتض للحضانة‪ ،‬ولكنّ زيدًا كان وصي حمزة‪ ،‬وكان الِخاء‬
‫ق بها لذلك‪.‬‬
‫حينئذ يث ُبتُ به التوارثُ‪ ،‬فظن زيدٌ أنه أح ّ‬
‫وأمّا مرجّحُ القرابة هاهنا وهي بنوة العم‪ ،‬فهل يُستحق بها الحضانة؟ على قولين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬يُستحق بها وهو منصوص الشافعي‪ ،‬وقول مالك‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬لنه عصبة‪ ،‬وله‬
‫وِلية بالقرابة‪ ،‬فقدم على الجانب‪ ،‬كما يُقدّ ُم عليهم في الميراث‪ ،‬وولية النكاح‪ ،‬وولية الموت‪،‬‬
‫ورسولُ الّ صلى ال عليه وسلم يُنكر على جعفر وعلي ادّعاءَهما حضانتها‪ ،‬ولو لم يكن لهما‬
‫ذلك‪ ،‬لنكر عليهما الدعوى الباطلة‪ ،‬فإنها دعوى ما ليس لهما‪ ،‬وهو ل يُ ِقرّ على‪ ،‬باطل‪ .‬والقول‬
‫الثاني‪ :‬أنه ل حضانة لحد من الرجال سوى الباء والجداد‪ ،‬هذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعي‪،‬‬
‫وهو مخالف لنصه‪ ،‬وللدليل‪ .‬فعلى قول الجمهور‪ -‬وهو الصواب‪ -‬إذا كان الطفل أنثى‪ ،‬وكان ابنُ‬
‫العم محرماً لها برضاع أو نحوه‪ ،‬كان له حضانتُها وإن جاوزت السبعَ‪ ،‬وإن لم يكن محرماً‪ ،‬فله‬
‫سلّم إلى محرمها‪ ،‬أو امرأة ثقة‪ .‬وقال‬
‫حضانتها صغيرةً حتى تبلُغ سبعاً‪ ،‬فل يبقى له حضانتُها‪ ،‬بل تُ َ‬
‫أبو البركات في ((محرره))‪ :‬ل حضانة له ما لم يكن محرمًا برضاع أو نحوه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فالحكمُ بالحضانة مِن النبي صلى ال عليه وسلم في هذه القصة‪ ،‬هل‬
‫وقع للخالة؟ أو لجعفر؟‬
‫قيل‪ :‬هذا مما اخ ُتِلفَ في ِه على قولين‪ ،‬منشؤهما اختلفُ ألفاظ الحديث في ذلك‪ ،‬ففي‬
‫ي صلى ال عليه وسلم لخالتها‪.‬‬
‫((صحيح البخاري))‪ ،‬من حديث البراء‪ :‬فقض بها النب ّ‬
‫وعن أبي داود‪ :‬من حديث رافع بن عجير‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن علي في هذه القصة ((وأما‬
‫الجاريةُ‪ ،‬فأقضي بها لجعفر‪ ،‬تكونُ مع خالتها‪ ،‬وإنما الخال ُة أم)) ثم ساقه من طريق عبد الرحمن بن‬
‫أبي ليلى وقال‪ :‬قضى بها لجعفر‪ ،‬لن خالتها عنده‪ ،‬ثم ساقه من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن‬
‫هانىء بن هانىء‪ ،‬وهبيرة بن يَريم‪ ،‬وقال‪(( :‬فقضى بها النبيّ لخالتها‪ ،‬وقال الخَالَ ُة ب َم ْن ِزلَةِ ا لُمّ))‬
‫واستشكل كثير من الفقهاء هذا وهذا‪ ،‬فإن القضا َء إن كان لجعفر‪ ،‬فليس محرما لها‪،‬‬
‫وهو وعلي في القرابة منها سواء‪ ،‬وإن كان للخالة‪ ،‬فهي مزوجه‪ ،‬والحاضنة إذا تزوّجت‪ ،‬سقطت‬
‫حضانتُها‪.‬‬
‫ولما ضاق هذا على ابن حزم‪ ،‬في القصة بجميع طرقها‪ ،‬وقال‪ :‬أما حديثُ‬
‫البخاري‪ ،‬فمن رواية إسرائيل‪ ،‬هو ضعيف‪ ،‬وأما حديث هانىءِ وهبيرة‪ ،‬فمجهولن‪ ،‬وأما حديث‬
‫ابن أبي ليلى‪ ،‬فمرسل‪ ،‬وأبو فروة الراوي عنه هو مسلم بن سالم الجهني ليس بالمعروف‪ ،‬وأما‬

‫‪276‬‬
‫حديث نافع ابن عجير‪ ،‬فهو وأبوه مجهولن‪ ،‬ول حُجة في مجهول‪ ،‬قال‪ :‬إل أن هذا الخب َر بكل وجه‬
‫حجة على الحنفية والمالكية والشافعية‪ ،‬لن خالتها كانت مزوّجة بجعفر‪ ،‬وهو أجملُ شاب في‬
‫قريش‪ ،‬وليس هو ذا رحم محرم مِن بنت حمزة‪ .‬قال‪ :‬ونحن ل نُنكرُ قضاءَه بها لجعفر مِن أجل‬
‫خالتها‪ ،‬لن ذلك أحفظُ لها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا من تهورِهِ رحمه الّ‪ ،‬وإقدامِه على تضعيف ما اتفقت‬
‫الناس على صحته‪ ،‬فخالفهم وحده‪ ،‬فإن هذِه القصةَ شهرتُها في الصحاح‪ ،‬والسنن‪ ،‬والمسانيد‪،‬‬
‫والسير‪ ،‬والتواريخ تغني عن إسنادها‪ ،‬فكيف وقد اتفق عليها صاحب الصحيح‪ ،‬ولم يحفظ عن أحد‬
‫قبله الطعنُ فيها ألبتة‪ ،‬وقوله‪ :‬إسرائيل ضعيف‪ ،‬فالذي غره في ذلك تضعيفُ علي بن المديني له‪،‬‬
‫ولكن أبى ذلك سائرُ أهلِ الحديث‪ ،‬واحتجوا به‪ ،‬ووثّقوه وثبتوه‪ .‬قال أحمد‪ :‬ثقة وتعجّب مِن حفظه‪،‬‬
‫وقال أبو حاتم‪ .‬وهو من أتقن أصحاب أبي إسحاق ول سيما وقد روى هذا الحديثَ عن أبي إسحاق‪،‬‬
‫وكان يحفظ حديثَه كما يحفظ السورة من القرآن‪ .‬وروى له الجماعة كلهم محتجين به‪.‬وأما قوله‪ :‬إن‬
‫هانئًا وهبيرة مجهولن‪ ،‬فنعم مجهولن عنده‪ ،‬معروفان عند أهل السنن‪ ،‬وثّقهما الحفاظ‪ ،‬فقال‬
‫النسائي‪ .‬هانىء بن هانىء ليس به بأس‪ ،‬وهُبيرة روى له أهل السنن الربعة‪ ،‬وقد وثق‪.‬‬
‫وأما قوله‪ :‬حديث ابن أبي ليلى‪ ،‬وأبو فروة الراوي عنه مسلم بن مسلم الجهني ليس‬
‫بالمعروف‪ ،‬فالتعليلن باطلن‪ ،‬فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى روى عن علي غير حديث‪ ،‬وعن‬
‫ل عنهما‪ .‬والذي غر أبا محمد أن أبا داود قال‪ :‬حدثنا محمد بن عيسى‪ ،‬حدثنا‬
‫عمر‪ ،‬ومعاذ رضي ا ّ‬
‫سفيان عن أبي فروة‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الخبر‪ ،‬وظن أبو محمد‪ ،‬أن عبد الرحمن لم‬
‫يذكر عليًا في الرواية‪ ،‬فرماه بالِرسال‪ ،‬وذلك من وهمه‪ ،‬فإن ابن أبي ليلى روى القصة عن علي‪،‬‬
‫فاختصرها أبو داود‪ ،‬وذكر مكان الحتجاج‪ ،‬وأحال على العلم المشهور برواية عبد الرحمن بن‬
‫أبي ليلى‪ ،‬عن علي‪ ،‬وهذه القصة قد رواها علي‪ ،‬وسمعها منه أصحابه‪ :‬هانىء بن هانىء‪ ،‬وهُبيرة‬
‫ث الثلثة الولين‬
‫بن َيرِيم‪ ،‬وعجير بن عبد يزيد‪ ،‬وعبد الرحمن بن أبي ليلى‪ ،‬فذكر أبو داود حدي َ‬
‫ث ابن أبي ليلى‪ ،‬لنه لم يتمه‪ ،‬وذكر السند منه إليه‪ ،‬فبطل‬
‫لسياقهم لها بتمامها‪ ،‬وأشار إلى حدي ِ‬
‫الِرسال‪ ،‬ثم رأيتُ أبا بكر الِسماعيلي قد روى هذا الحديث في مسند علي مصرحاً فيه بالتصال‪،‬‬
‫ف بن عدي‪ ،‬حدثنا سفيانُ‪،‬‬
‫ن بنُ سعيد المقري‪ ،‬حدثنا يوس ُ‬
‫فقال‪ :‬أخبرنا الهيثم بن خلف‪ ،‬حدثنا عثما ُ‬
‫عن أبي فروة‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي ليلى‪ ،‬عن علي‪ ،‬أنه اختصم هو وجعفر وزيد‪ ،‬وذكر‬
‫الحديث‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫ن بن عيينة وغيره‪ ،‬وخرجا له في‬
‫وأما قوله‪ :‬إن أبا فروة ليس بالمعروف‪ ،‬فقد عرفه سفيا ُ‬
‫((الصحيحين))‪.‬‬
‫وأما رميه نافع بن عجير وأباه بالجهالة‪ :‬فنعم‪ ،‬ول يُعرف حالهما‪ ،‬وليسا مِن المشهورين‬
‫بنقل العلم‪ ،‬وإن كان نافع أشهرَ مِن أبيه لرواية ثقتين عنه‪ :‬محمد بن إبراهيم التميمي‪ ،‬وعبد ال بن‬
‫ل التوفيق‪ ،‬فثبتت صحة الحديث‪.‬‬
‫علي‪ ،‬فليس العتمادُ على روايتهما‪ ،‬وبا ّ‬
‫ل التوفيق‪ :‬ل إشكال‪،‬سواء كان‬
‫وأما الجواب عن استشكال من استشكله‪ ،‬فنقول وبا ّ‬
‫القضاء لجعفر أو للخالة‪ ،‬فإن ابنة العم إذا لم يكن لها قرابة سوى ابن عمها‪ ،‬جاز أن تجعل مع‬
‫ن العم مبرزاً في الديانة‪،‬‬
‫امرأته في بيته‪ ،‬بل يتعيّن ذلك وهو أولى من الجنبي ل سيما إن كان اب ُ‬
‫والعِفة‪ ،‬والصّيانة‪ ،‬فإنه في هذه الحال أولى من الجانب بل ريب‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فالنبيّ صلى ال عليه وسلم كان ابنَ عمها‪ ،‬وكان محرماً لها‪ ،‬لن‬
‫حمزة كان أخاه مِن الرضاعة‪ ،‬فهل أَخَذَهَا هو؟‬
‫ل صلى ال عليه وسلم كان في شُغل شاغل بأعباء الرسالة‪ ،‬وتبليغ الوحي‪،‬‬
‫قيل رسولُ ا ّ‬
‫والدعوة إلى الّ‪ ،‬وجها ِد أعداء الّ عن فراغه للحضانة‪ ،‬فلو أخذها‪ ،‬لدفعها إلى بعض نسائه‪،‬‬
‫فخالتُها أمسّ بها رحمًا وأقربُ‪.‬‬
‫وأيضاً فإن المرأة من نسائه لم تكن تجيئُها النوبةُ إل بعد تسع ليال‪ ،‬فإن دارت‬
‫الصبيةُ معه حيث دار‪ ،‬كان مشقةً عليها‪ ،‬وكان فيه مِن بروزها وظهورِها كُلّ وقت ما ل يخفى‪،‬‬
‫وإن جلست في بيت إحداهن كانت لها الحضانة وهي أجنبيةٌ‪ .‬هذا إن كان القضاءُ لجعفر‪ ،‬وإن كان‬
‫للخالة‪-‬وهو الصحيح وعليه يدل الحديث الصحيح الصريح ‪ -‬فل إشكال لوجوه‪ .‬أحدها‪ :‬أن نكاح‬
‫الحاضنة ليُسْقِطُ حضانة البنت كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وأح ُد قولي العلماء‪ ،‬وحج ُة هذا‬
‫س ّر الفرقِ بين الذكر والنثى‪ .‬الثاني‪ :‬أن نكاحَها قريبًا من الطفل ل يُسْقِطُ‬
‫القول الحديثُ‪ ،‬وقد تقدم ِ‬
‫حضانَتها‪ ،‬وجعفر ابن عمها‪.‬‬
‫ن الطفل عنده في حجره‪ ،‬لم تسقط‬
‫الثالث‪ :‬أن الزوج إذا رضي بالحَضانة‪ ،‬وآثر كو َ‬
‫الحضانة‪ ،‬هذا هو الصحيحُ‪ ،‬وهو مبني على أصل‪ ،‬وهو أن سقوطَ الحضانة بالنكاح هو مراعاةٌ‬
‫ب من المرأة لحضانتها لولد غيره‪ ،‬ويتنكّ ُد عليه‬
‫ع المطلو ُ‬
‫ق الزوج‪ ،‬فإنه يتنغص عليه الستمتا ُ‬
‫لح ّ‬
‫عيشُه مع المرأة‪ ،‬ل يُؤمن أن يَحصلَ بينهما خلف المودة والرحمة‪ ،‬ولهذا كان للزوج أَن يمنعها‬
‫ق الزوج‪ ،‬فتضيغ‪،‬مصلحة الطفل‪ ،‬فإذا آثر الزوجُ ذلك وطلبه‪،‬‬
‫مِن هذا مع اشتغالها هي بحقو ِ‬

‫‪278‬‬
‫حرَص عليه‪ ،‬زالت المفسدةُ التي لجلها سقطت الحضانة‪ ،‬والمقتضي قائم‪ ،‬فيترتب عليه أثُره‪،‬‬
‫وَ‬
‫ق للزوج وللطفل وأقاربه‪ ،‬فإذا‬
‫يوضّحه أن سقوطَ الحضانة بالنكاح ليست حقاً لّ‪ ،‬وإنما هي ح ّ‬
‫ل صلى‬
‫ي من له الحق جاز‪ ،‬فزال الِشكال على كل تقدير‪،،‬ظهر أن هذا الحك َم مِن رسولِ ا ّ‬
‫رض َ‬
‫ال عليه وسلم من أحسن الحكام وأوضحِها وأشدّها موافقة للمصلحة‪ ،‬والحكمة‪ ،‬والرحمة‪،‬‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫والعدل‪ ،‬وبا ّ‬
‫فهذه ثلثة مدارك في الحديث للفقهاء‪ .‬أحدها‪ :‬أن نكاح الحاضنة ل يُسْقطُ حضانتها‪،‬‬
‫كما قاله الحسن البصري‪ ،‬وقضى به يحي بن حمزة‪ ،‬وهو مذهبُ أبي محمد بن حزمٍ‪ .‬والثاني‪ :‬أن‬
‫ط حضانة البنت‪ ،‬ويسقط حضانة البن‪ ،‬كما قاله أحمد في إحدى روايتيه‪.‬‬
‫نكاحَها ل يُسقِ ُ‬
‫والثالث‪ :‬أن نِكاحَها لقريب الطِفل ل يُسقط للجنبي يسقطها‪ ،‬كما هو المشهور من مذهب‬
‫أحمد‪.‬‬
‫وفيه مدرك رابع لمحمد بن جرير الطبري‪ ،‬وهو أن الحاضنة إن كانت أمّا والمنازعُ‬
‫لها الب‪ ،‬سقطت حضانتها بالتزويج‪ ،‬وإن كانت خالةً أو غيرَها مِن نساء الحضانة‪ ،‬لم تسقط‬
‫حضانتُها بالتزويج‪ ،‬وكذلك إن كانت أمّا‪ ،‬والمنازعُ لها غيرُ الب من أقارب الطفل لم تسقط‬
‫حضانتُها‪.‬‬
‫ونحن نذكر كلمه‪ ،‬وما له وعليه فيه‪ ،‬قال في ((تهذيب الثار))بعد ذكر حديث ابنة حمزة‪:‬‬
‫فيه الدللةُ الواضحة على أن قيّ َم الصبية الصغيرة‪ ،‬والطفل الصغير من قرابتهما من قبل أمهاتهما‬
‫ت أزواج غير الب الذي هما‬
‫من النساء أحقُ بحضانتهما مِن عصباتهما من قبل الب‪ ،‬وإن كُنّ ذوا ِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم قضى بابنة حمزةَ لخالتها في الحضانة‪ ،‬وقد تنازع‬
‫منه‪ ،‬وذلك أن رسولَ ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم آخى بينَه‬
‫فيها ابنا عمها عليّ وجعفر ومولها وأخو أبيها الذي كان رسولُ ا ّ‬
‫وبينَه‪ ،‬وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها وذلك بعد مقتل حمزة‪ ،‬وكان معلومًا بذلك صحة قول من‬
‫قال‪ :‬ل حق لعصبة الصغير والصغيرة من قبل الب في حضانته ما لم تبلغ حد الختيار‪ ،‬بل‬
‫قراب ُتهُما من النساء مِن قبل أمهما أحقُ‪ ،‬وإن كن ذوات أزواج‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬فإن كان المر في ذلك عندك على ما وصفت من أن أمّ الصغير والصغيرة‬
‫ن ذوات أزواج من قرابتهما من قبل‬
‫وقرابتهما من النساء من قبل أمهاتهما أحقّ بحضانتهما‪ ،‬وإن كُ ّ‬
‫الب من الرجال الذين هم عصبتهما‪ ،‬فهلّ كانت المّ ذات الزوج كذلك مع والدهما الدنى والبعد‪،‬‬
‫كما كانت الخالة أحق بهما؟ وإن كان لها زوج غير أبيهما‪ ،‬وإل فما الفرق؟‬

‫‪279‬‬
‫قيل‪ :‬الفرقُ بينهما واضح‪ ،‬وذلك لقيام الحجة بالنقل المستفيض روايته عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أن الم أحقُ بحضانة الطفال إذا كانت بانت من والدهم ما لَ ْم تَنكِحْ زوجًا غيره‪ ،‬ولم‬
‫ض به على الحجة فيما نعلمه‪ .‬وقد روي في ذلك خبر‪ ،‬وإن كان‬
‫يُخالف في ذلك من يجوز العترا ُ‬
‫ت أمره دال على صحته‪ ،‬وإن كان واهيَ السند‪ .‬ثم ساق‬
‫في إسناده نظر‪ ،‬فإن النقل الذي وصف ُ‬
‫ق به مَا لَم تَنكِحِي)) من طريق المثنى بن‬
‫حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪َ(( :‬أ ْنتِ أَحَ ّ‬
‫الصباح عنه‪.‬ثم قال‪ :‬وأما إذا نازعها فيه عصب ُة أبيه‪ ،‬فصحة الخبر عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫الذي ذكرناه أنه جعل الخالة ذات الزوج غير أبي الصبية أحقّ بها من بني عمها وهم عصبتُها‪،‬‬
‫فكانت المّ أحقّ بأن تكون أولى منهم وإن كان لها زوج غير أبيها‪ ،‬لن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫إنما جعل الخالة أولى منهم لقرابتها من الم‪ ،‬وإذا كان ذلك كالذي وصفنا‪ ،‬تبيَن أن القول الذي قُلناه‬
‫في المسألتين أصلُ إحداهما من جهة النقل المستفيض‪ ،‬والخرى من جهة نقل الحاد العدول‪ ،‬فإذا‬
‫كان كذلك‪ ،‬فغيرُ جائز رَدّ حكمِ إحداهما إلى حكم الخرى‪ ،‬إذ القياسُ إنما يجوز استعمالُه فيما ل‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‬
‫نص فيه من الحكام‪ ،‬فأما ما فيه نص من كتاب ال‪ ،‬أو خبر عن رسول ا ّ‬
‫برقي‪ ،‬فل حظَ فيه للقياس‪.‬‬
‫ت أنك إنما أبطلت حق الم من الحضانة إذا نكحت زوجًا غير أبي‬
‫فإن قال قائل‪ :‬زعم َ‬
‫الطفل‪ ،‬وجعلت الب أولى بحضانتها منها بالنقل المستفيض‪ ،‬فكيف يكونُ ذلك كما قلت؟ وقد علمتَ‬
‫أن الحسن البصري كان يقول‪ :‬المرأةُ أحقُ بولدها‪ ،‬وإن تزوجت‪ ،‬وقضى بذلك يحيى بن حمزة‪.‬‬
‫قيل‪ :‬إن النقل المستفيض الذي تلز ُم به الحج ُة في الدين عندنا ليس صفته أل يكونَ له‬
‫ب الكذب والخطأ‪،‬‬
‫ن َي ْنتَفي عنه أسبا ُ‬
‫ل من علماء المة مَ ْ‬
‫ل وعم ً‬
‫مخالف‪ ،‬ولكن صفته أن ينقلَه قو ً‬
‫ل مَنْ صِ َفتُه ذلِك من علماء المة‪ ،‬أن المرأة إذا نكحت بعد بينونتها من زوجها زوجًا غيره‪،‬‬
‫وقد نَقَ َ‬
‫ب أولى بحضانة ابنتها منها‪ ،‬فكان ذلك حجًة لزمة غيرَ جائز العتراض عليها بالرأي‪ ،‬وهو‬
‫أن ال َ‬
‫قول من يجوز عليه الغلط في قوله‪ ،‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫ذكر ما في هذا الكلم من مقبول ومردود‬
‫فأما قوله‪ :‬إن فيه الدللة على أن قرابة الطفلِ من قبل أمهاته من النساء أحقُ بحضانته مِن‬
‫عصباته من قبل الب وإن كن ذواتِ أزواجٍ‪ ،‬فل دللة فيه على ذلك ألبتة‪ ،‬بل أحدُ ألفاظِ الحديثِ‬
‫صريحٌ في خلفه‪ ،‬وهو قولُه صلى ال عليه وسلم‪ :‬وأما البنة فإني أقضي بها لجعفر‪ ،‬وأما اللفظ‬
‫الخر‪(( ،‬فقضى بها لخالتها‪ ،‬وقال‪ :‬هي أم)) وهو اللفظ الذي احتج به أبو جعفر‪ ،‬فل دليل على أن‬

‫‪280‬‬
‫ق من قرابة الب‪ ،‬بل إقرا ُر النبي علياً وجعفرًا على دعوى الحضانة يدل على‬
‫قرابة الم مطلقًا أَحَ ُ‬
‫أن لِقرابة الب مدخلً فيها‪ ،‬وإنما قدم الخالة لكونها أنثى من أهل الحضانة‪ ،‬فتقديمُها على قرابة‬
‫الب كتقديم الم على الب‪ ،‬والحديث ليس فيه لفظ عام يدل على ما ادّعاه‪ ،‬ل من أن من كان من‬
‫ق من العم‪،‬‬
‫ق بالحضانة من العصبةِ مِن ِقبَلِ الب‪ ،‬حتى تكونَ بنتُ الخت للم أح ّ‬
‫قرابة الم أح ّ‬
‫ق من العم‪ ،‬والعمة‪ ،‬فأين في الحديث دللة على هذا فضلً عن أن تكونَ واضحة‪.‬‬
‫وبنت الخالة أح ّ‬
‫قوله‪ :‬وكان معلومًا بذلك صحة قول من قال‪ :‬ل حق لعصبة الصغير والصغيرة مِن قبل البِ في‬
‫حضانته ما لم يبلغ حد الختيار‪ ،‬يعني‪ :‬فيخيّر بين قرابة أبيه وأمه‪ ،‬فيقال‪ :‬ليس ذلك معلومًا من‬
‫الحديث‪ ،‬ول مظنوناً‪ ،‬وإنما دل الحديثُ على أن ابن العم المزوّج بالخالة أولى من ابن العم الذي‬
‫ليس تحته خالة الطفل‪ ،‬ويبقى تحقيقُ المناط‪ :‬هل كانت جه ُة التعصيب مقتضيةً للحضانة فاستوت‬
‫في شخصين؟ فرجح أحدهما بكون خالة الطفل عنده وهي من أهل الحضانة‪ ،‬كما فهما طائف ٌة من‬
‫أهل الحديث‪ ،‬أو أن قرابةَ الم وهي الخالة أولى بحضانة الطفل مِن عصبة الب‪ ،‬ولم تسقط‬
‫حضانتُها بالتزويج إما لكون الزوج ل يُسقِطُ الحضانة مطلقاً‪ ،‬كقول الحسن ومن وأفقه‪ ،‬وإما لكون‬
‫المحضونة بنتاً كما قاله أحمد في رواية‪ ،‬وإما لكون الزوج قراب َة الطفل كالمشهورِ من مذهب‬
‫أحمد‪ ،‬وإما لكون الحاضِن ِة غير أمّ نازعها البُ‪ ،‬كما قاله أبو جعفر‪ ،‬فهذه أربعة مدارك‪ ،‬ولكن‬
‫المدرك الذي اختاره أبو جعفر ضعيف جداً‪ ،‬فإن المعنى الذي أسقط حضانة الم بتزويجها هو‬
‫بعينه موجود في سائر نساء الحضانة‪ ،‬والخالة غايتُها أن تقومَ مقام الم‪ ،‬وتُشبّه بها‪ ،‬فل تكون‬
‫أقوى منها‪ ،‬وكذلك سائرُ قرابة الم‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم لم يحكم حكماً عامًا أن سائر‬
‫أقارب الم من كن ل تسقط حضانتهن بالتزويج‪ ،‬وإنما حكم حكماً معيناً لخالة ابنةِ حمزة بالحضانة‬
‫مع كونها مزوج ًة بقريب من الطفل‪ ،‬والطفل ابنة‪.‬‬
‫ع الذي‬
‫وأما الفرق الذي فرق بين الم وغيرها بالنقل المستفيض إلى آخره‪ ،‬فيريد به الِجما َ‬
‫ل ينقضه عنده مخالفة الواحد والثنين‪ ،‬وهذا أصل تفرد به‪ ،‬ونازعه فيه الناسُ‪.‬‬
‫َ‬
‫وأما حكمه على حديث عمرو بن شعيب بأنه واهٍ‪ ،‬فمبني على ما وصل إليه مِن طريقه‪ ،‬فإن‬
‫فيه المثنى بن الصبّاح‪ ،‬وهو ضعيف أو متروك‪ ،‬ولكن الحديث قد رواه الوزاعي عن عمرو بن‬
‫شعيب‪ ،‬عن أبيه عن جده رواه أبو داود في ((سننه))‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪281‬‬
‫وفي الحديث مسلك خامس وهو أن النبي صلى ال عليه وسلم قضى بها لخالتها وإن كانت‬
‫ي صلى ال‬
‫ذاتَ زوج‪ ،‬لن البنتَ تحرُم على الزوج تحريمَ الجمعِ بين المرأة وخالتها‪ ،‬وقد نبه النب ّ‬
‫عليه وسلم على هذا بعينه في حديث داود بن الحصين‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬فذكر الحديث‬
‫علَى‬
‫ع ّم ِتهَا‪ ،‬ولَ َ‬
‫علَى َ‬
‫ح ال َم ْرَأةُ َ‬
‫جعْ َف ُر َأ ْولَى ِبهَا‪ :‬تَح َتكَ خَاَل ُتهَا‪ ،‬وَلَ ُت ْنكَ ُ‬
‫بطوله‪ ،‬وقال فيه‪َ (( :‬وَأ ْنتَ يَا َ‬
‫ص يقتضي أن يكون الحاضن ذا رحم تحرم عليه‬
‫خَاَل ِتهَا))‪ ،‬وليس عن النبي صلى ال عليه وسلم ن ٌ‬
‫البنتُ على التأبيد حتى يُعترض به على هذا المسلك‪ ،‬بل هذا مما ل تأباه قواعدُ الفقه وأصول‬
‫الشريعة‪ ،‬فإن الخالة ما دامت في عصمة الحاضن‪ ،‬فبنتُ أختها محرمة عليه‪ ،‬فإذا فارقها‪ ،‬فهي مع‬
‫خالتها‪ ،‬فل محذو َر في ذلك أصلً‪ ،‬ول ريبَ أن القولَ بهذا أخير وأصلحُ للبنتِ مِن رفعها إلى‬
‫الحاكم يدفعُها إلى أجنبي تكون عنده‪ ،‬إذ الحاك ُم غير متصد للحضانة بنفسه‪ ،‬فهل يشكّ أحد أن ما‬
‫حكم به النبي صلى ال عليه وسلم في هذه الواقعة هو عينُ المصلحة والحكمة والعدل‪ ،‬وغايةُ‬
‫ج ْورٍ أو فسادٍ ل تأتي به الشريعةُ‪ ،‬فل‬
‫الحتياط للبنت والنظر لها‪ ،‬وأن كُلّ حكم خالفه ل ينفك عن َ‬
‫ل كُلّ الِشكالِ فيما خالفه‪ ،‬والّ المستعان‪ ،‬وعليه‬
‫إشكالَ في حكمه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والِشكا ُ‬
‫التكلن‪.‬‬
‫ذكر حكمه صلى ال عليه وسلم في النفقة على الزوجات‬
‫وأنه لم يُقدّرها‪ ،‬ول ورد عنه ما يَدُلّ على تقديرها‪ ،‬وإنما ردّ الزواج فيها إلى العرف‪.‬‬
‫ثبت عنه في ((صحيح مسلم))‪(( :‬أنه قال في خطبة حَجة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل‬
‫جهُنّ َ‬
‫ستَحَل ْلتُمْ ُفرُو َ‬
‫ل في النّسَاءِ فَإ َنكُم أخَ ْذ ُتمُوهُنّ بَأمَانَة الّ‪ ،‬وا ْ‬
‫وفاته ببضعة وثمانين يومًا ((واتّقُوا ا ّ‬
‫ن بالمعروفِ))‬
‫عَل ْيكُم رِزقُهن‪.‬ولهنّ عليكم رز ُقهُنّ وكسو ُتهُ ّ‬
‫بكَلمَة ِالّ‪ .‬ولَهنّ َ‬

‫وثبت عنه صلى ال عليه وسلم في ((الصحيحين))‪ :‬أن هندًا امرأة أبي سفيان قالت له‪ :‬إن‬
‫ت منه وهو ل يعلم‪،‬‬
‫ح ليس يُعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إل ما أخذ ُ‬
‫أبا سُفيان رجلٌ شحي ٌ‬
‫فقال‪(( :‬خُذِي مَا َيكْفِيكِ َو َولَ َدكِ بِال َم ْعرُوفِ))‪ .‬وفي ((سنن أبي داود))‪ :‬من حديث حكيم بن معاوية‪،‬‬
‫ل ! ما تقولُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فقلتُ‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ل عنه‪ ،‬قال‪ :‬أتيت رسول ا ّ‬
‫عن أبيه رضي ا ّ‬
‫ل تُ َقبّحُوهُنّ))‪.‬‬
‫ض ِربُوهُنّ وَ َ‬
‫ل َت ْ‬
‫ن ِممّا َت ْلبَسُونَ‪ ،‬وَ َ‬
‫ن ِممّا تَ ْأ ُكلُونَ‪ ،‬وَاكْسُوهُ ّ‬
‫ط ِعمُوهُ ّ‬
‫في نسائنا؟ قال‪(( :‬أَ ْ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم مطابق لكتابِ الّ عز وجل حيث يقول‪{ :‬وَالوَالِدَاتُ‬
‫وهذا الحكمُ من رسولِ ا ّ‬
‫س َو ُتهُنّ‬
‫ن ِلمَن َأرَا َد أَن يتِ ّم ال َرضَاعَةَ وَعَلى ال َموْلُو ِد لَه ِرزْقُهنّ َوكِ ْ‬
‫ن كَا ِملَي ِ‬
‫ن َأوْلَدَهُنّ حَوَليْ ِ‬
‫ُي ْرضِعْ َ‬

‫‪282‬‬
‫بالمعروفِ} [البقرة‪ .]233 :‬والنبي صلى ال عليه وسلم جعل نفقَ َة المَرأة مثل نفقة الخَادم‪ ،‬وسوّى‬
‫س َوتُه بِال َم ْعرُوفِ))‪.‬‬
‫طعَامُهُ وكِ ْ‬
‫بينهما في عدم التقدير‪ ،‬وردَهما إلى المعروف‪ ،‬فقال‪ِ(( :‬ل ْلمَمْلوكِ َ‬
‫فجعل نفقتهما بالمعروفِ‪ ،‬ول ريب أن نفقة الخادم غيرُ مقدّرة‪ ،‬ولم يقل أحد بتقديرها‪ .‬وصح عنه‬
‫ط ِعمُوهُم ِممّا تَأ ُكلُونَ‪ ،‬وَأ ْلبِسُوهُ ْم ِممّا َت ْلبَسُونَ))‪ .‬رواه مسلم‪ ،‬كما قال في‬
‫في الرقيق أنه قال‪(( :‬أَ ْ‬
‫الزوجة سواء‪.‬‬
‫وصح عن أبي هريرة رضي ال عنه أنه قال‪ :‬امرأتُك تقولُ‪ :‬إما أن تُط ِعمَنى‪ ،‬وإما أن‬
‫ن تَدَعُني‪ .‬فجعل نفقة‬
‫طلّقَني‪ ،‬ويقول العبد‪ :‬أَطْعمني واستعملني‪ .‬ويقول البن أطعمني إلى مَ ْ‬
‫تُ َ‬
‫الزوجة والرقيق والولد كلّها الِطعام ل التمليك‪.‬وروى النسائي هذا مرفوعاً إلى النبي صلى ال‬
‫س َو ُتهُمْ } [المائدة‪،]89 :‬‬
‫ن أَ ْهلِيكُم أَو كِ ْ‬
‫ط ِعمُو َ‬
‫ن أوسَطِ مَا ت ْ‬
‫عليه وسلم كما سيأتي‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬مِ ْ‬
‫وصح عن ابن عباس رضي الّ عنهما أنه قال‪ :‬الخبز والزيت‪ ،‬وصح عن ابن عمر رضي الّ‬
‫عنه‪ :‬الخبز والسمن‪ ،‬والخبز والتمر‪ ،‬ومِن أفضل ما تطعمون الخبز واللحم‪ .‬ففسر الصحابة إطعامَ‬
‫ل ورسولُه ذكرا الِنفاق مطلقاً من غير تحديد‪ ،‬ول تقدير‪ ،‬ول‬
‫الهلِ بالخبز مع غيره من الدم‪ ،‬وا ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكيف وهو الذي رد ذلك‬
‫ف لو لم يرده إليه النب ّ‬
‫تقييد‪ ،‬فوجب رَدّه إلى العُر ِ‬
‫إلى العرف‪ ،‬وأرشد أمته إليه؟ ومن المعلوم أن أهلَ العُرف إنما يتعارفون بينهم في الِنفاق على‬
‫حبّ‪ ،‬والنبيّ صلى ال عليه وسلم وأصحابُه‬
‫أهليهم حتى من يُوجب التقدير‪ :‬الخبز والِدام دون ال َ‬
‫إنما كانوا يُنفقون على أزواجهم‪ ،‬كذلك دون تمليك الحب وتقديره‪ ،‬ولنها نفقة واجبة بالشرع‪ ،‬فلم‬
‫تقدر بالحب كنفقة الرقيق‪ ،‬ولو كانت مقدرة‪ ،‬لمر النبي صلى ال عليه وسلم هنداً أن تأخذ المقدّرَ‬
‫لها شرعاً‪ ،‬ولما أمرها أن تأخذ ما يكفيها مِن غير تقدير‪ ،‬وردّ الجتهادَ في ذلك إليها‪ ،‬ومن المعلوم‬
‫أن قدر كفايتها ل ينحصر في مُدّين‪ ،‬ول في رطلين بحيث ل يزيد عليهما ول َينْقُص‪ ،‬ولفظه لم يدل‬
‫على ذلك بوجه‪ ،‬ول إيماء‪ ،‬ول إشارة‪ ،‬وإيجاب مدّين أو رطلين خبزاً قد يكون أقلّ من الكفاية‪،‬‬
‫ل من مد أو‬
‫فيكون تركًا للمعروف‪ ،‬وإيجابُ قدر الكفاية مما يأكل الرجل وولده ورقيقه وإن كان أق ّ‬
‫ج إلى‬
‫من رطلي خبز‪ ،‬إنفاق بالمعروف‪ ،‬فيكون هذا هو الواجبَ بالكتاب والسنة‪ ،‬ولن الحب يحتا ُ‬
‫طحنه وخبزه وتوابع ذلك‪ ،‬فإن أخرجت ذلك من مالها‪ ،‬لم تحصل الكفاية بنفقة الزوج‪ ،‬وإن فرض‬
‫عليه ذلك لها من ماله كان الواجب حبًا ودراهم‪ ،‬ولو طلبت مكان الخبز دراهم أو حباً أو دقيقًا أو‬
‫غيرَه‪ ،‬لم يلزمه بذلُه‪ ،‬ولو عرض عليها ذلك أيضاً‪ ،‬لم يلزمها قبولُه لن ذلك معاوضة‪ ،‬فل يُجبر‬
‫أحدُهما على قبولها‪ ،‬ويجوز تراضيهما على ما اتفقا عليه‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫والذين قدّروا النفقة اختلفوا‪ ،‬فمنهم من قدّرها بالحب وهو الشافعي‪ ،‬فقال‪ :‬نفقة الفقير‬
‫م ٌد بمد النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مُدّ‪ ،‬والّ سبحانه اعتبر‬
‫ن أَ ْهلِيكُم أَو‬
‫ط ِعمُو َ‬
‫ن َأوْسَطِ مَا تُ ْ‬
‫ن مِ ْ‬
‫ش َرةِ مَسَاكِي َ‬
‫طعَامُ عَ َ‬
‫الكفارة بالنفقة على الهل‪ ،‬فقال‪{ :‬فكَفّارتُه إِ ْ‬
‫س ِر مُدّانِ‪ ،‬لن أكثر ما أوجب الّ سبحانه للواحد مُدّانِ في‬
‫س َو ُتهُم} [المائدة‪ ]89 :‬قال‪ :‬وعلى المُو ِ‬
‫كِ ْ‬
‫كفارة الذى‪ ،‬وعلى المتوسط مُ ٌد ونِصفٌ‪ ،‬نِصف نَفَقَة الموسِر‪ ،‬ونصف نفقة الفقير‪.‬‬
‫وقال القاضي أبو يعلى‪ :‬مقدرة بمقدارٍ ل يختِلفُ في القِلة والكثرة‪ ،‬والواجب رِطلنِ من‬
‫س ِر اعتباراً بالكفارات‪ ،‬وإنما يختلفان في صفته وجودته‪،‬‬
‫سرِ وال ُمعْ ِ‬
‫الخبز في كل يوم في حق المُو ِ‬
‫سرَ سواء في قدر المأكول‪ ،‬وما تقُو ُم به البنيةُ‪ ،‬وإنما يختلفان في جودته‪ ،‬فكذلك‬
‫س َر وال ُمعْ ِ‬
‫لن المُو ِ‬
‫النفقة الواجبة‪.‬‬
‫والجمهور قالوا‪ :‬ل يُحفظ عن أحد من الصحابة قطّ تقديرُ النفقة‪ ،‬ل بمُدّ‪ ،‬ول برطل‪،‬‬
‫ل في كل عصر ومصر ما ذكرناه‪.‬‬
‫والمحفوظ عنهم‪ ،‬بل الذي اتصل به العم ُ‬
‫ل عليه القرآن والسنة أن‬
‫قالوا‪ :‬ومن الذي سلّم لكم التقدير بالمُد والرطل في الكفارة‪ ،‬والذي د ّ‬
‫ش َرةِ‬
‫الواجبَ في الكفارة الِطعامُ فقط ل التمليك‪ ،‬قال تعالى في كفارة اليمين‪{ :‬فكفّارتُهُ إطعامُ عَ َ‬
‫ستَطعْ‬
‫ن لَمْ يَ ْ‬
‫ن أَ ْهلِيكُم} [المائدة‪ ،]89 :‬وقال في كفارة الظهار‪{ :‬فَم َ‬
‫ط ِعمُو َ‬
‫ن مِنْ َأوْسَطِ ما تُ ْ‬
‫مَسَاكِي َ‬
‫سكٍ}‬
‫ن صيَامٍ أ ْو صدَقَ ٍة أَو نُ ُ‬
‫سكِينا} [المجادلة‪ ،]4 :‬وقال في فدية الذى‪{:‬فَفِدْي ٌة مِ ْ‬
‫ستّينَ م ْ‬
‫طعَامُ ِ‬
‫فَإ ْ‬
‫[البقرة‪ ،]196 :‬وليس في القرآن في إطعام الكفارات غي ُر هذا‪ ،‬وليس في موضع واحد منها تقدير‬
‫ذلك بمد ول رطل‪ ،‬وصح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لمن وطىء في نهار رمضان‪:‬‬
‫سكِيناً))‪ .‬وكذلك قال للمظاهرِ‪ ،‬ولم يَحُ ّد ذلك بمد ول رطل‪.‬‬
‫ن مِ ْ‬
‫ستّي َ‬
‫طعِمْ ِ‬
‫((أَ ْ‬
‫فالذي دل عليه القراَن والسنة‪ ،‬أن الواجب في الكفارات والنفقات هو الِطعامُ ل‬
‫ت عن الصحابة رضي الّ عنهم‪ .‬قال أبو بكر بن أبي شيبة‪ :‬حدثنا أبو خالد‪،‬‬
‫التمليكُ‪ ،‬وهذا هو الثاب ُ‬
‫عن حجاج‪ ،‬عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي‪ :‬يُغدّيهم‪ ،‬ويُعشّيهم خبزاً وزيتاً‪.‬‬
‫وقال إسحاق‪ ،‬عن الحارث كان عليّ يقول في إطعام المساكين في كفارة اليمين‪ :‬يُغدّيهم‬
‫ويُعشيهم خبزاً وزيتاً‪ ،‬أو خبزاً وسمناً‪.‬‬
‫ل بن مسعود رضي الّ‬
‫وقال ابن أبي شيبة‪ :‬حدثنا يحيى بن يعلى‪ ،‬عن ليث‪ ،‬قال‪ :‬كان عبدُ ا ّ‬
‫عنه يقول‪{:‬مِن أوسطِ ما تط ِعمُون أهليكم} [المائدة‪ ]89 :‬قال‪ :‬الخبز والسمن‪ ،‬والخبز والزيت‪،‬‬
‫والخبز واللحم‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫وصح عن ابن عمر رضي الّ عنهما قال‪ :‬أوسط ما يُطعم الرجل أهله‪:‬الخبز واللبن‪،‬والخبز‬
‫والزيت‪،‬والخبز والسمن‪،‬ومن أفضل ما يطعم الرجل أهله‪:‬الخبز واللحم‪.‬‬
‫وقال يزيد بن زريع‪ :‬حدثنا يونس‪ ،‬عن محمد بن سيرين‪ ،‬أن أبا موسى الشعري كفّر عن‬
‫يمين له مرة‪ ،‬فأمر بجيرًا أو جبيرًا يُطعم عنه عشرة مساكين خبزاً ولحمًا وأمر لهم بثوب مُعقَد أو‬
‫ظهراني‪.‬‬
‫وقال ابن أبي شيبة‪ :‬حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا يحيى بن أيوب‪ ،‬عن حميد‪ ،‬أن أنسًا رضي‬
‫ل أن يموتَ‪ ،‬فلم يستط ْع أن يصوم‪ ،‬وكان يجم ُع ثلثين مسكيناً فيطعمهم خبزاً‬
‫الّ عنه مرض قب َ‬
‫ولحمًا أكلة واحدة‪.‬‬
‫وأما التابعون‪،‬فثبت ذلك عن السود بن يزيد‪ ،‬وأبي رزين‪ ،‬وعبيدةَ‪ ،‬ومحمد بن‬
‫سيرين‪ ،‬والحسن البصري‪ ،‬وسعيد بن جُبير‪ ،‬وشُريح‪ ،‬وجابر بن زيد‪ ،‬وطاووس‪ ،‬والشعبي‪ ،‬وابن‬
‫بريدة‪،‬والضحاك‪،‬والقاسم‪ ،‬وسالم‪ ،‬ومحمد بن إبراهيم‪ ،‬ومحمد بن كعب‪ ،‬وقتادة‪،‬وإبراهيم النخعي‪،‬‬
‫والسانيد عنهم بذلك في أحكام القرآن لِسماعيل بن إسحاق‪ ،‬منهم من يقول‪ :‬يغذَي المساكينَ‬
‫ويُعشّيهم‪ ،‬ومنهم من يقول‪ :‬أكلة واحدة‪ ،‬ومنهم من يقول‪ :‬خبز ولحمٌ‪ ،‬خبز وزيت‪ ،‬خبز وسمن‪،‬‬
‫وهذا مذهب أهل المدينة‪ ،‬وأهل العراق‪ ،‬وأحمد في إحدى الروايتين عنه‪ ،‬والرواية الخرى‪ :‬أن‬
‫طعامَ الكفارة مقدّر دون نفقة الزوجات‪.‬‬
‫فالقوال ثلثة‪ :‬التقدير فيهما‪ ،‬كقول الشافعي وحدَه‪ ،‬وعد ُم التقدير فيهما‪ ،‬كقول مالك وأبي‬
‫حنيفة‪ ،‬وأحمد في إحدى الروايتين‪ .‬والتقديرُ في الكفارة دون النفقة‪ ،‬كالرواية الخرى عنه‪.‬‬
‫ق بين النفقة والكفارة‪ :‬أن الكفارة ل تختِلفُ باليسار‬
‫قال من نصر هذا القول‪ :‬الفر ُ‬
‫والِعسار‪ ،‬ول هي مقدّرة بالكفاية‪ ،‬ول أوجبها الشارعُ بالمعروف‪ ،‬كنفق ِة الزوجة والخادم‪،‬‬
‫والِطعامُ فيها حق لّ تعالى ل لَدمي معين‪ ،‬فيُرضى بالعوض عنه‪ ،‬ولهذا لو أخرج القيمة لم‬
‫جزِه‪ ،‬ورُوي التقديرُ فيها عن الصحابة‪ ،‬فقال القاضي إسماعيل‪ :‬حدثنا حجّاج بن المنهال‪ ،‬حدثنا‬
‫يُ ْ‬
‫أبو عَوانة‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن أبي وائل‪ ،‬عن يسار بن نمير‪ ،‬قال‪ :‬قال عمر‪ :‬إن ناساً يأتوني‬
‫ف أني ل أُعطيهم‪ ،‬ثم يبدو لي أن أُعْطيهم‪ ،‬فإذا أمرتُك أن تكَ ّفرَ‪ ،‬فأطعم عنّي عشرة‬
‫يسألوني‪ ،‬فأَحِل ُ‬
‫مساكين‪ِ ،‬لكُلّ مسكينٍ صاعًا من تمر أو شعير‪ ،‬أو نصف صاع من بر‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫حدثنا حجاج بن المنهال وسليمان بن حرب‪ ،‬قال حدثنا حما ُد بن سلمة‪ ،‬عن سلمة بن ك َهيْل‪،‬‬
‫ل عنه قال‪ :‬يَا َيرْفا! إذا حلفتُ فحنثتُ‪ ،‬فأطعم عني‬
‫عن يحيى بن عباد‪ ،‬أن عمر بن الخطاب رضي ا ّ‬
‫صوُعٍ عشرة مساكين‪.‬‬
‫ليميني خمسة أ ْ‬
‫ل بن‬
‫وقال ابن أبي شيبة‪ ،‬حدثنا وكيع‪ ،‬عن ابن أبي ليلى‪ ،‬عن عُمر بن أبي مرة‪ ،‬عن عبد ا ّ‬
‫سلمة‪ ،‬عن علي قال‪ :‬كفار ُة اليمين‪ :‬إطعام عشرةِ مساكين لِكل مسكين نصفُ صاع‪.‬‬
‫حدثنا عبد الرحيم‪ ،‬وأبو خالد الحمر‪ ،‬عن حجاج‪ ،‬عن قُرط‪ ،‬عن جدته‪ ،‬عن عائشة رضي‬
‫ال عنها قالت‪ :‬إنا نُطعِمُ نصفَ صاعٍ مِن بُر‪ ،‬أو صاعاً من تمر في كفارة اليمين‪ .‬وقال إسماعيل‪:‬‬
‫حدثنا مسلم بن إبراهيم‪ ،‬حدثنا هشام بن أبي عبد ال‪ ،‬حدثنا يحيى بن أبي كثير‪ ،‬عن أبي سلمة‪ ،‬عن‬
‫زيد بن ثابت‪ ،‬قال‪ :‬يُجزىء في كفارة اليمينِ لِكل مسكين مُدّ حِنطة‪ .‬حدثنا سليمان بن حرب‪ ،‬حدثنا‬
‫حماد بن يزيد‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن نافع‪ ،‬أن ابن عمر رضي الّ عنه كان إذا ذكر اليمين‪ ،‬أعتق‪ ،‬وإذا لم‬
‫ي ْذ ُكرْها‪ ،‬أطعم عشرةَ مساكين‪ ،‬لكل مسكين مُ ّد مُدّ‪.‬‬
‫ح عن ابن عباس رضي الّ عنهما‪ :‬في كفارة اليمين مُدّ‪ ،‬ومعه أدمُهُ‪.‬‬
‫وص ّ‬
‫وأما التابعون‪ ،‬فثبت ذلك عن سعيد بن المسيب‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬وقال‪ :‬كل طعام‬
‫ن ِلكُلّ مسكين‪.‬‬
‫ذكر في القرآن للمساكين‪ ،‬فهو نصف صاع‪ ،‬وكان يقولُ في كفارة الَيمان كلها‪ :‬مُدَا ِ‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫س وهم يُعطون‬
‫وقال حما ُد بن زيد عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن سليمان بن يسار‪ :‬أدركتُ النا َ‬ ‫@‬
‫في كفارة اليمين مداً بالمدّ الول‪ .‬وقال القاسم‪ ،‬وسالم‪ ،‬وأبو سلمة‪ ،‬مُ ّد مُدّ من بر‪ ،‬وقال عطاء‪ :‬فرقاً‬
‫بين عشرة‪ ،‬ومرة قال‪ :‬مُدّ مدٌ‪.‬‬
‫ج َرةَ في‬
‫قالوا‪ :‬وقد ثبت في ((الصحيحين)) أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ِل َكعْب بن غ ْ‬
‫ل مِسْكينٍ‪ .‬فقدّر رسول‬
‫طعَامًا ِلكُ ّ‬
‫ف صَاعٍ َ‬
‫ع ِنصْ َ‬
‫صفَ صا ٍ‬
‫ستّ َة مَسَاكِينَ ِن ْ‬
‫طعِمْ ِ‬
‫كفارة فدية الذى‪ :‬أَ ْ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فِدية الذى‪ ،‬فجعلنا تقديرها أصلً‪ ،‬وعدّيناها إلى سائر الكفارات‪،‬ثم قال‬
‫ا ّ‬
‫ت و الكفاراتِ قد اشتركا في الوجوب‪ ،‬فاعتبرنا إطعامَ النفقة‬
‫من قدّر طعام الزوجة‪ :‬ثم رأينا النفقا ِ‬
‫طعَا ُم مَسَاكِينَ} [المائدة‪:‬‬
‫بإطعام الكفارة‪ ،‬ورأينا الّ سبحانه قد قال في جزاء الصيد‪{ :‬أَو كَفّا َرةٌ َ‬
‫‪ ،]95‬وما أجمعت المة أن الطعام مقدّر فيها‪ ،‬ولهذا لو عَدِمَ الطعام‪ ،‬صام عن كل مدّ يوماً‪ ،‬كما‬
‫س بعده‪ ،‬فهذا ما احتجت به هذه الطائف ُة على تقدير طعام الكفارة‪.‬‬
‫ن عباس والنا ُ‬
‫أفتى به اب ُ‬

‫‪286‬‬
‫قال الخرون‪ :‬ل حُجة في أحد دونَ ال ورسوله وإجماع المة‪ ،‬وقد أمرنا تعالى أن‬
‫َنرُدّ ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله‪ ،‬وذلك خيرٌ لنا حالً وعاقبةً‪ ،‬ورأينا الّ سبحانه إنما قال في‬
‫ستَينَ مسكِيناً} [المجادلة‪ ،]4 :‬فعلق‬
‫طعَام ِ‬
‫ش َرةِ مَسَاكِينَ} [المائدة‪{ ،]89 :‬فإِ ْ‬
‫طعَامُ عَ َ‬
‫الكفارة‪{ :‬إ ْ‬
‫المر بالمصدر الذي هو الِطعام‪ ،‬ولم يحد لنا جنسَ الطعام ول قدره‪ ،‬وح ّد لنا جنس المطعمين‬
‫وقدرَهم‪ ،‬فأطلق الطعام وقيّ َد المطعومين‪ ،‬ورأيناه سبحانه حيث ذكر إطعامَ المسكين في كتابه‪ ،‬فإنما‬
‫طعَامٌ في‬
‫ك مَا العَ َقبَةُ * فَك رَ َقبَ ٍة * أَو إِ ْ‬
‫أراد به الِطعا َم المعهود المتعارفَ‪ ،‬كقوله تعالى‪{:‬ومَا أَدرا َ‬
‫س َغبَ ٍة * َيتِيماً} [البلد‪ .]15-12 :‬وقال‪{ :‬ويُط ِعمُونَ الطّعامَ عَلى حبّ ِه مِسكِينًا و َيتِيماً‬
‫يَومٍ ذي مَ ْ‬
‫وأَسيراً}[الِنسان‪ ]8 :‬وكان من المعلوم يقيناً‪ ،‬أنهم لو غدّوهم أو عشّوهم أو أطعمُوهم خبزاً ولحماً‬
‫أو خبزاً ومرقاً ونحوه لكانوا ممدوحين داخلين فيمن أثنى عليهم‪ ،‬وهو سبحانه عَدَلَ عن الطعام‬
‫الذي هو اسم للمأكول إلى الِطعام الذي هو مصد ٌر صريح‪ ،‬وهذا نصّ في أنه إذا أطعم المساكينَ‪،‬‬
‫ولم يُملكهم‪ ،‬فقد امتثل ما أمر به‪ ،‬وصحّ في كل لغة وعرف‪ :‬أنه أطعمهم‪ .‬قالوا‪ :‬وفي أي لغة ل‬
‫ل عنه‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم أطعَمَ‬
‫يصدق لفظُ الِطعام إل بالتمليك؟ ولِما قال أنس رضي ا ّ‬
‫الصحابة في وليمة زينب خبزاً ولحماً‪ .‬كان قد اتخذ طعاماً‪ ،‬ودعاهم إليه على عادة الولئم‪ ،‬وكذلك‬
‫حيْساً))‪ ،‬وهذا أظهر من أن نذكر شواهدَه‪ ،‬قالوا‪ :‬وقد زاد ذلك‬
‫ط َع َمهُم َ‬
‫قولُه في وليمة صفية‪(( :‬أ ْ‬
‫ط ِعمُونَ أَ ْهلِيكُم} [المائدة‪ ،]89 :‬ومعلوم يقيناً‪ ،‬أن الرجل إنما‬
‫ط مَا تُ ْ‬
‫ن َأوْسَ ِ‬
‫إيضاحاً وبيانًا بقوله‪{ :‬مِ ْ‬
‫يُطعم أهله الخب َز واللحمَ‪ ،‬والمرق واللبنَ‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فإذا أطعم المساكينَ مِن ذلك‪ ،‬فقد أطعمهم مِن‬
‫ل على أنه غيرُ‬
‫ل عنهم في إطعامِ اله ِ‬
‫أوسط ما يُطعم أهلَه بل شك‪ ،‬ولهذا اتفق الصحاب ُة رضي ا ّ‬
‫ل بطريق الولى على أن طعام الكفارة‬
‫مقدر‪ ،‬كما تقدّمَ‪ ،‬والّ سبحانه جعله أصلً لطعام الكفارة‪ ،‬فد ّ‬
‫غيرُ مقدّر‪.‬‬
‫وأما من قدّر طعام الهل‪ ،‬فإنما أخذ من تقدير طعام الكفارة‪ ،‬فيُقال‪ :‬هذا خلفُ مقتضى‬
‫النص‪ ،‬فإن الّ أطلق طعامَ الهل‪ ،‬وجعله أصلً لطعام الكفارة‪ ،‬ف ُعلِ َم أن طعام الكفارة ل يتقدّر كما‬
‫ل يتق َدرُ أصله‪ ،‬ول يُعرف عن صحابي البتة تقديرُ طعام الزوجة مع عموم هذه الواقعة في كل‬
‫وقت‪ .‬قالوا‪ :‬فأما الفروق التي ذكرتمُوها‪ ،‬فليس فيها ما يستلزِمُ تقديرَ طعام الكفارة‪ ،‬وحاصلُها‬
‫خمسةُ فروق‪ ،‬أنها ل تختِلفُ باليَسار والِعسار‪ ،‬وأنها ل تتقدّر بالكِفاية‪ ،‬ول أوجبها الشارعُ‬
‫بالمعروف‪ ،‬ول يجوز إخراجُ ال ِعوَضِ عنها‪ ،‬وهي حقّ لّ ل تسقُط بالِسقاط بخلف نفقة الزوجة‪،‬‬

‫‪287‬‬
‫فيقال‪ :‬نعم ل شك في صحة هذه الفروق‪ ،‬ولكن من أين يستلزم وجوب تقديرها بمد ومدين؟ بل هي‬
‫طعِ ُم أهله‪ ،‬ومع ثبوت هذه الحكام ل يدل على تَقديرها بوجه‪.‬‬
‫إطعامٌ واجب من جنس ما يُ ْ‬
‫وأما ما ذكرتم عن الصحابة من تقديرها‪ ،‬فجوابه من وجهين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنا قد ذكرنا عن جماعة‪ ،‬منهم علي‪ ،‬وأنس‪ ،‬وأبو موسى‪ ،‬وابن مسعود رضي الّ‬
‫شيَهم‪.‬‬
‫عنهم أنهم قالوا‪ :‬يُجزىء أن يغ ّديَهم ويع ّ‬
‫الثاني‪ :‬أن مَنْ رُوي عنهم المد والمدان لم يذكروا ذلك تقديراً وتحديداً‪ ،‬بل تمثيلً‪ ،‬فإن منهم‬
‫ي عنه المد‪ ،‬ورُوي عنه مدان‪ ،‬ورُوي عنه مكّوك‪ ،‬وروي عنه جوا ُز التغدية والتعشية‪،‬‬
‫من رُو َ‬
‫ورُوي عنه أكلة‪ ،‬ورُوي عنه رغيفٌ أو رغيفانِ‪ ،‬فإن كان هذا اختلفاً‪ ،‬فل حجة فيه‪ ،‬وإن كان‬
‫بحسب حال المستفتي وبحسب حال الحالف والمكفّر‪ ،‬فظاهر‪ ،‬وإن كان ذلك على سبيل التمثيل‪،‬‬
‫فكذلك‪ .‬فعلى كُلّ تقدير ل حجة فيه على التقديرين‪.‬‬
‫ن صِيامٍ‬
‫قالوا‪ :‬وأما الِطعامُ في فِدية الذى‪ ،‬فليس من هذا الباب‪ ،‬فإن ال سبحانه‪{:‬فَفِ ْديَ ٌة مِ ْ‬
‫سكٍ} [البقرة‪ ،]196 :‬والّ سبحانه أطلق هذه الثلثة ولم يقيدها‪ .‬وصح عن النبي‬
‫َأوْ صَدَقَ ٍة َأ ْو نُ ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم تقيي ُد الصيام بثلثة أيام‪ ،‬وتقييد النسك بذبح شاة‪ ،‬وتقييدُ الِطعام بستة مساكين‪،‬‬
‫لكل مسكين نِصفُ صاع‪ ،‬ولم يقل سبحانه في فدية الذى‪ :‬فإطعام ستة مساكين‪ ،‬ولكن أوجب صدقة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بال َفرْقِ‪ ،‬والثلثة اليام‪،‬‬
‫مطلقة‪ ،‬وصوماً مطلقاً‪ ،‬ودماً مطلقاً‪ ،‬فعيّنه النب ُ‬
‫والشاة‪.‬‬
‫خرِجَ إنما يُخرج قيمة الصيد من الطعام‪،‬‬
‫وأما جزاءُ الصيد‪ ،‬فإنه مِن غير هذا الباب‪ ،‬فإن المُ ْ‬
‫وهي تختلف بالقلة والكثرة‪ ،‬فإنها بَدَل ُم ْتَلفٍ ل يُنظر فيها إلف عدد المساكين‪ ،‬وإنما تنظر فيها إلى‬
‫مبلغ الطعام‪ ،‬فيُطعمه المساكين على ما يرى من إطعامهم وتفضيل بعضهم على بعض‪ ،‬فتقديرُ‬
‫ل ويكثُر‪ ،‬وليس ما يُعطاه كلّ مسكين مقدراً‪.‬‬
‫الطعام فيها على حسب المتلف‪ ،‬وهو يَقِ ّ‬
‫ل بيّنَ البُطلن‪ ،‬فإنه إذا كان الواجبُ لها عليه شرعاً‬
‫ب يستلزِمُ أمراً باط ً‬
‫ح ّ‬
‫ثم إن التقدير بال َ‬
‫الحب‪ ،‬وأكثر الناس إنما يطعم أهله الخبز‪ ،‬فإن جعلتم هذا معاوضة كان رباً ظاهراً‪ ،‬وإن لم تجعلوه‬
‫معاوضة‪ ،‬فالحبّ ثابت لها في ذمته‪ ،‬ولم َت ْعتَضْ عنه‪ ،‬فلم تبرأ ذمتُه منه إل بإسقاطها وإبرائها‪ ،‬فإذا‬
‫ل يومٍ حاجتها من الخبز والدم‪،‬و إن مات‬
‫لم تُبرئه طالبته بالحب مد ًة طويلة مع إنفاقه عليها ك ّ‬
‫أحدُهما كان الحب دينًا له أو عليه‪ ،‬يُؤخذ من التركة مع سعة الِنفاق عليها كُلّ يوم‪.‬ومعلوم أن‬
‫الشريعة الكاملة المشت ِملَةَ على العدل والحكمة والمصلحة تأبى ذلك كُلّ الِباء‪ ،‬وتدفعُه كُلّ الدفع كما‬

‫‪288‬‬
‫ن أن يُقال‪ :‬إن النفقة التي في ذمته تسقُط بالذي له عليها من الخبز‬
‫يدفعُه العقل والعُرف‪ ،‬ول يُمكِ ُ‬
‫والدم لوجهين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنه لم يبعه إياها‪ ،‬ول اقترضه منها حتى يثبت في ذمتها‪ ،‬بل هي معه فيه‬
‫على حكم الضيف‪ ،‬لمتناع المعاوضة عن الحب بذلك شرعاً‪ .‬ولو ق ّد َر ثبوتُه في ذمتها‪ ،‬لما أمكنت‬
‫المقاصة‪ ،‬لختلف الدينين جنساً‪ ،‬والمقاصة تعتمِدُ اتفاقهما‪ .‬هذا وإن قيل بأحد الوجهين‪ :‬إنه ل‬
‫يجوزُ المعاوضة على النفقة مطلقًا ل بدراهم ول بغيرها لنه معاوضة عما لم يستقر‪ ،‬ولم يجب‪،‬‬
‫فإنها إنما تجب شيئاً فشيئاً‪ ،‬فإنه ل َتصِحّ المعاوضةُ عليها حتى تستقر بمُضي الزمان‪ ،‬فيعاوض‬
‫عنها كما يُعاوض عما هو مستقر في الذمة من الديون‪ ،‬ولما لم يجد بعضُ أصحاب الشافعي من هذا‬
‫الِشكال مخلصاً قال‪ :‬الصحيح أنها إذا أكلت‪ ،‬سقطت نفقتها‪ .‬قال الرافعي في ((محرره))‪ :‬أولى‬
‫الوجهين السقوطُ‪ ،‬وصححه النووي لجريان الناس عليه في كل عصر ومصر‪ ،‬واكتفاء الزوجة به‪.‬‬
‫وقال الرافعي في ((الشرح الكبير))‪ ،‬و((الوسط))‪ :‬فيه وجهان‪ .‬أقيسهُما‪ :‬أنها ل تسقط‪ ،‬لنه لم‬
‫يوفِ الواجب‪ ،‬وتطوع بما ليس بواجب‪ ،‬وصرّحوا بأن هذين الوجهين في الرشيدة التي أذن لها‬
‫َق ّيمُها‪ ،‬فإن لم يأذن لها‪ ،‬لم تسقط وجهاً واحداً‪.‬‬
‫فصل‬
‫وفي حديث هند‪ :‬دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه‪ ،‬وأن‬
‫ذلك ليسر بغيبة‪ ،‬ونظيرُ ذلك قول الخر في خصمه‪ :‬يا رسول الّ ! إنه فاجر ل يُبالي ما حلف‬
‫عليه‪.‬‬
‫وفيه دليل على تفرد الب بنفقة أولده‪ ،‬ول تُشا ِركُه فيها الم‪ ،‬وهذا إجماع من‬
‫العلماء إل قول شاذ ل يلتفت إليه‪ ،‬أن على الم من النفقة بقدر ميراثها‪ ،‬وزعم صاحبُ هذا القول‪:‬‬
‫أنه طرّ َد القياس على كل من له ذكر وأنثى في درجة واحدة‪ ،‬وهما وارثان‪ ،‬فإن النفقة عليهما‪ ،‬كما‬
‫لو كان له أخٌ وأخت‪ ،‬أو أم وجد‪ ،‬أو ابن وبنت‪ ،‬فالنفقةُ عليهما على قدر ميراثهما‪ ،‬فكذلك البُ‬
‫والمّ‪ .‬والصحيح‪ :‬انفرادُ العصبة بالنفقة‪ ،‬وهذا كُلهُ كما ينفرد الب دون الم بالِنفاق‪ ،‬وهذا هو‬
‫مقتضى قواعد الشرع‪ ،‬فإن العصبة تنفردُ بحمل العقل‪ ،‬وولية النكاح‪ ،‬وولية الموت والميراث‬
‫ي على أنه إذا اجتمع أم وجد أو أب‪ ،‬فالنفق ُة على الجد وحده‪ ،‬وهو إحدى‬
‫بالولء‪ ،‬وقد نص الشافع ّ‬
‫الروايات عن أحمد‪ ،‬وهي الصحيحة في الدليل‪ ،‬وكذلك إن اجتمع ابن وبنت‪ ،‬أو أم وابن‪ ،‬أو بنت‬
‫وابن ابن‪ ،‬فقال الشافعي‪ :‬النفقةُ في هذه المسائل الثلث على البن لنه العصبة‪ ،‬وهي إحدى‬
‫الروايات عن أحمد‪ .‬والثانية‪ :‬أنها على قدر الميراث في المسائل الثلث‪ ،‬وقال أبو حنيفة‪ :‬النفقة في‬

‫‪289‬‬
‫مسألة البن والبنت عليهما نصفان لتساويهما في القرب‪ ،‬وفي مسألة بنت وابن ابن‪ :‬النفقة على‬
‫البنت لنها أقرب‪ ،‬وفي مسألة أم وبنت على الم الربع‪ ،‬والباقي على البنت‪ ،‬وهو قولُ أحمد‪ ،‬وقال‬
‫الشافعي‪ :‬تنفرد بها البنتُ‪ ،‬لنها تكون عصبةً مع أخيها‪ ،‬والصحيحُ‪ :‬انفراد العصبة بالِنفاق‪ ،‬لنه‬
‫الوارث المطلق‪.‬‬
‫وفيه دليلٌ على أن نفقة الزوجة‪ ،‬والقارب مقدّرة بالكفاية‪ ،‬وأن ذلك بالمعروف‪ ،‬وأن ِلمَن‬
‫له النفقة له أن يأخذها بنفسه إذا منعه إياها مَنْ هي عليه‪.‬‬
‫وقد احتجّ بهذا على جواز الحكم على الغائب‪ ،‬ول دليل فيه‪ ،‬لن أبا سفيان كان‬
‫حاضراً في البلد لم يكن مسافراً‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم لم يسألها البينَة‪ ،‬ول يُعطى المدّعي‬
‫بمجرد دعواه‪ ،‬وإنما كان هذا فتوى منه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقد احتج به على مسألة الظّفر‪ ،‬وأن للِنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا‬
‫ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه‪ ،‬ول يدل لثلثة أوجه‪ ،‬أحدُها‪ :‬أن سببَ الحق هاهنا ظاهر‪ ،‬وهو‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أَدّ‬
‫الزوجية‪ ،‬فل يكون الخذُ خيانةً في الظاهر‪ ،‬فل يتناولُه قول النب ّ‬
‫ن مَنْ خَا َنكَ))‪ .‬ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقاً بينهما‪ ،‬فمنع‬
‫ل تَخُ ْ‬
‫المَانَ َة إلى من ا ْئ َت َم َنكَ‪ ،‬وَ َ‬
‫من الخذ في مسألة الظفر‪ ،‬وجوّز للزوجة الخذَ‪ ،‬وعمل بكل الحديثين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه يشق على الزوجة أن ترفعَه إلى الحاكم‪ ،‬فيلزمه بالِنفاق أو الفراق‪ ،‬وفي ذلك‬
‫ل يوم فليس هو حقاً واحدًا مستقراً‬
‫مضرّة عليها مع تمكنها من أخذ حقها‪ .‬الثالث‪ :‬أن حقها يتجد ُد كُ ّ‬
‫ن عليه‪ ،‬أو ترفعه إلى الحاكم بخلف حق الدين‪.‬‬
‫يُمكن أن تستدي َ‬
‫فصل‬
‫ط بمضي الزمان‪ ،‬لنه لم يُمكنها من أخذ‬
‫وقد احتج بقصة هند هذه على أن نفقة الزوجة تَسْقُ ُ‬
‫ما مضى لها مِن قدر الكفاية مع قولها‪ :‬إنه ل يُعطيها ما يكفيها‪ ،‬ول دليلَ فيها‪ ،‬لنها لم تدع به ول‬
‫طلبته‪ ،‬وإنما استفتته‪ :‬هل تأخذ في المستقبل ما يكفيها؟ فأفتاها بذلك‪ .‬وبعد‪ ،‬فقد اختلف الناسُ في‬
‫ن بمضى الزمان كلهما‪ ،‬أو ل يسقطان‪ ،‬أو تسقُطُ نفقةُ‬
‫نفقة الزوجات والقارب‪ ،‬هل يسقُطا ِ‬
‫القارب دون الزوجات؟ على ثلثة أقوال‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أنهما يسقطان بمضي الزمان‪ ،‬وهذا مذهب أبي حنيفة‪ ،‬وإحدى الروايتين عن أحمد‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أنهما ل يسقُطان إذا كان القريبُ طفلً‪ ،‬وهذا وجه للشافعية‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫والثالث‪ :‬تسقُط نفقةُ القريب دون نفقة الزوجة‪ ،‬وهذا هو المشهو ُر من مذهب الشافعي وأحمد‬
‫ومالك‪ .‬ثم الذين أسقطوه بمضي الزمان‪ ،‬منهم من قال‪ :‬إذا كان الحاكمُ قد فرضها لم تسقط‪ ،‬وهذا‬
‫شيْئًا إذا سقطت‬
‫قولُ بعض الشافعية والحنابلة‪ .‬ومنهم من قال‪ :‬ل يُؤثّر فرضُ الحاكم في وجوبها َ‬
‫بمضى الزمان‪ ،‬والذي ذكره أبو البركات في ((مح ّر ِرهِ))‪ ،‬الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة القريب في‬
‫ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬وإذا غاب مُد ًة ولم يُنفق‪ ،‬لزمه نفق ُة الماضي‪ ،‬وعنه‪ :‬ل يلزمه إل أن يكون الحاكمُ قد‬
‫فرضها‪.‬‬
‫وأما نفقةُ أقاربه‪ ،‬فل تلزمه لِما مضى وإن فرضت إل أن يستدان عليه بإذن الحاكم وهذا هو‬
‫الصوابُ‪ ،‬وأنه ل تأثير لفرض الحاكم في وجوب نفقة القريب لما مضى من الزمان نقلً وتوجيهاً‪،‬‬
‫أما النقلُ‪ ،‬فإنه ل يُعرف عن أحمد‪ ،‬ول عن قدماء أصحابه استقرا ُر نفقة القريب بمضي الزمان إذا‬
‫فرضها الحاكم‪ ،‬ول عن الشافعي‪ ،‬وقدماء أصحابه والمحققين لمذهبه منهم‪ ،‬كصاحب ((المهذب))‪،‬‬
‫و((الحاوي))‪ ،‬و((الشامل))‪ ،‬و((النهاية))‪ ،‬و((التهذيب))‪ ،‬و((البيان))‪ ،‬و((الذخائر)) وليس في‬
‫هذه الكتب إل السقوطُ بدون استثناء فرض‪ ،‬وإنما يُوجد استقرارُها إذا َف َرضَها الحاكم في‬
‫((الوسيط)) و((الوجيز))‪ ،‬وشرح الرافعي وفروعه‪ ،‬وقد صرح نصر المقدسي في ((تهذيبه))‪،‬‬
‫والمحاملي في ((العدة))‪ ،‬ومحمد بن عثمان في ((التمهيد))‪ ،‬والبندنيجي في ((المعتمد)) بأنها ل‬
‫جبُ على وجه المواساة لِحياء النفس‪ ،‬ولهذا ل‬
‫تستقر ولو فرضها الحاكم‪ ،‬وعلّلوا السقوط بأنها ت ِ‬
‫ل يُوجب سقوطَها فرضت أو لم تفرض‪ .‬وقال أبو المعالي‪:‬‬
‫تجب مع يسار المنفق عليه‪ ،‬وهذا التعلي ُ‬
‫ومما يدل على ذلك أن نفقة القريب إمتاع ل تمليك‪ ،‬وما ل يجب فيه التمليك‪ ،‬وانتهى إلى الكفاية‪،‬‬
‫استحال مصيرُه دينًا في الذمة‪ ،‬واستبعد لهذا التعليل قول من يقول‪ :‬إن نفق َة الصغير تست ِقرّ بمضي‬
‫الزمان‪ ،‬وبالغ في تضعيفه من جهة أن إيجابَ الكفاية مع إيجاب عوض ما مضى متناقض‪ ،‬ثم‬
‫اعتذر عن تقديرها في صورة الحمل على الصح‪ .‬إذا قلنا‪ :‬إن النفقة له بأن الحامل مستحقة لها أو‬
‫منتفعة بها فهي كنفقة الزوجة‪ .‬قال‪:‬ولهذا قُلنا‪ :‬تتقدر‪،‬ثم قال‪ :‬هذا في الحمل والولد الصغير‪ ،‬أما نفقة‬
‫غيرهما‪ ،‬فل تصير دينًا أصلً‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وهذا الذي قاله هؤلء هو الصوابُ‪ ،‬فإن في تصورِ فرض الحاكم نظرا‪ ،‬لنه إما أن يعتقد‬
‫سقوطَها بمضي الزمان أو ل‪ ،‬فإن كان يعتقده‪ ،‬لم يسغ له الحكم بخلفه‪ ،‬وإلزام ما يعتقد أنه غيرُ‬
‫لزم‪ ،‬وإن كان ل يعتقد سقوطَها مع أنه ل يعرف بهِ قائل إل في الطفل الصغير على وجه‬
‫ت الواجب‪ ،‬أو تقديرَه أو أمراً رابعاً فإن‬
‫لصحاب الشافعي‪ .‬فإما أن يعني بالفرض الِيجاب‪ ،‬أو إثبا َ‬

‫‪291‬‬
‫ت الواجب‪ ،‬ففرضُه‬
‫أُريدَ به الِيجابُ‪ ،‬فهو تحصيلُ الحاصل ول أث َر لفرضه‪ ،‬وكذلك إن أريد به إثبا ُ‬
‫سيّان‪ ،‬وإن أريد به تقدي ُر الواجب‪ ،،‬فالتقديرُ إنما ُي َؤثّر في صفة الواجب من الزيادة‬
‫وعَ َدمُهُ ِ‬
‫والنقصان‪ ،‬ل في سقوطِه ول ثبوتِه‪ ،‬فل أثر لفرضه في الواجب البتة‪ ،‬هذا مع ما في التقدير مِن‬
‫ب النفقةُ بالمعروف‪ ،‬فيُطعمهم مما يأكل‪ ،‬ويكسوهم مما‬
‫مُصادمة الدل ِة التي تقدمت‪ ،‬على أن الواج َ‬
‫يلبس‪ .،‬وإن أريد به أم ٌر رابع‪ ،‬فل بد من بيانه لينظر فيه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬المرُ الرابع المرادُ هو عدمُ السقوط بمضي الزمان‪ ،‬فهذا هو محلّ الحكم‪ ،‬وهو‬
‫الذي أثر فيه حكمُ الحاكم‪ ،‬وتعلّق به‪ .‬قيل‪ :‬فكيف يُمكنُ أن يعتقِ َد السقوط‪ ،‬ثم يُلزم ويقضي بخلفه؟‬
‫ل الشيءَ عن صفته‪ ،‬فإذا‬
‫وإن اعتقد عد َم السقوط‪ ،‬فخلف الِجماع‪ ،‬ومعلو ٌم أن حكم الحاكم ل يزي ُ‬
‫كانت صفة هذا الواجِب سقوطه بمضي الزمان شرعًا لم يُزله حكم الحاكم عن صفته‪ .‬فإن قيل‪ :‬بقي‬
‫قسم آخر‪ ،‬وهو أن يعتقد الحاك ُم السقوطَ بمضي الزمان ما لم يفرِضْ‪ ،‬فإن ُفرِضَت‪ ،‬استقرت فهو‬
‫يحكم باستقرارها لجل الفرض ل بنفس مضي الزمان‪ .‬قيل‪ :‬هذا ل يُجدي شيئاً‪ ،‬فإنه إذا اعتقد‬
‫سقوطها بمضي الزمان‪ ،‬وإن هذا هو الحقّ والشرع‪ ،‬لم يَجُز له أن يلزم بما يعتقد سقوطه وعدم‬
‫ب طعام غير مضطر‪ ،‬فقضي به‬
‫ثبوته‪ ،‬وما هذا إل بمثابة ما لو ترافع إليه مضطر‪ ،‬وصاح ُ‬
‫ض أنه يلزمه‬
‫للمضطر بعوضه‪ ،‬فلم يتفق أَخْ ُذهُ حتى زال الضطرارُ‪ ،‬ولم يعط صاحبه العو َ‬
‫حبُ الطعام ببذله له‪ ،‬والقريبُ يستحق النفقة لِحياء مُهجته‪ ،‬فإذا مضى زمنُ‬
‫بالعوض‪ ،‬و ُي ْلزَمُ صا ِ‬
‫الوجوب‪ ،‬حصل مقصودُ الشارع من إحيائه‪ ،‬فل فائدة في الرجوع بما فات من سبب الِحياء‪،‬‬
‫ووسيلته مع حصول المقصود والستغناء عن السبب بسبب آخر‪.‬‬
‫ض عليكم بنفق ِة الزوجة‪ ،‬فإنها تست ِق ّر بمضي الزمان‪ ،‬ولو لم‬
‫فإن قيل‪ :‬فهذا ينتقِ ُ‬
‫تُفرض مع حصول هذا المعنى الذي ذكرتموه بعينه‪ .‬قيل‪ :‬النقضُ ل بُد أن يكون بمعلومِ الحكم‬
‫بالنص أو الِجماع‪ ،‬وسقوطُ نفقة الزوجة بمضي الزمان مسألة نزاع‪ ،‬فأبو حنيفة وأحمد في رواية‬
‫يُسقطانها‪ ،‬والشافعي وأحمد في الرواية الخرى ل يُسقطانها‪ ،‬والذين ل يُسقطونها فرّقوا بينها وبين‬
‫نفقة القريب بفروق‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن نفقة القريب صلة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن‬ ‫الثاني‪ :‬أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والِعسار بخلف نفقة القريب‪.‬‬
‫نفقة الزوجة تجب مع استغنائها بمالها‪ ،‬ونفقة القريب ل تجب إل مع إعساره وحاجته‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫ل عنهم أوجبوا للزوجة نفقة ما مضى‪ ،‬ول يُعرف عن أحد‬
‫الرابع‪ :‬أن الصحابة رضي ا ّ‬
‫منهم قط أنه أوجب للقريب نفقة ما مضى‪ ،‬فصح عن عمر‬
‫رضي ال عنه أنه كتب إلى أمراء الجناد في رجال غابوا عن نسائهم‪ ،‬فأمرهم بأن يُنفقوا‬
‫أو يُطلقوا‪ ،‬فإن طلقوا‪ ،‬بعثوا بنفقة ما مضى‪ ،‬ولم يُخالف عمر رضي الّ عنه في ذلك منهم مخالف‪.‬‬
‫قال ابن المنذر رحمه الّ‪ :‬هذه نفقةٌ وجبت بالكتاب والسنة والِجماع‪ ،‬ول يزول ما وجب بهذه‬
‫الحجج إل بمثلها‪.‬‬
‫قال المسقطون‪ :‬قد شكت هند إلى النبي صلى ال عليه وسلم أن أبا سفيان ل يُعطيها كفايتها‪،‬‬
‫جوّز لها أخذ ما مضى‪ ،‬وقولُكم‪ :‬إنها نفقة‬
‫فأباح لها أن تأخذ في المستقبل قدر الكفاية‪ ،‬ولم يُ َ‬
‫معاوضة‪ ،‬فالمعاوضة إنما هي بالصداق‪ ،‬وإنما النفقة لكونها في حبسه‪ ،‬فهي عانِيةٌ عنده كالسير‪،‬‬
‫فهى من جملة عياله‪ ،‬ونفقتها مواساة‪ ،‬وإل فكل من الزوجين يحصُلُ له من الستمتاع مثلُ ما‬
‫يحصل للخر‪ ،‬وقد عاوضها على المهر‪ ،‬فإذا استغنت عن نفقة ما مضى فل وجه لِلزام الزوج‬
‫ي صلى ال عليه وسلم جعل نفقة الزوجة كنفقة القريب بالمعروف‪ ،‬وكنفقة الرقيق‬
‫به‪ ،‬والنب ّ‬
‫فالنواع الثلثة إنما وجبت بالمعروف مواساة لِحياء نفس من هو في ملكه وحبسه‪ ،‬ومن بينه وبينه‬
‫رحم وقرابة‪ ،‬فإذا استغنى عنها بمضي الزمان‪ ،‬فل وجه لِلزام الزوج بها‪ ،‬وأيّ معروف في‬
‫إلزامه نفقة ما مضى وحبسه على ذلك‪ ،‬والتضييق عليه‪ ،‬وتعذيبه بطول الحبس‪ ،‬وتعريض الزوجة‬
‫لقضاء أوطارها مِن الدخول والخروج وعُشرةِ الخدان بانقطاع زوجها عنها‪ ،‬وغيبةِ نظره عليها‪،‬‬
‫ل من‬
‫ج إلى ا ّ‬
‫كما هو الواقع‪ ،‬وفي ذلك من الفساد المنتشر ما ل يعلمه إل الّ‪ ،‬حتى إن الفروج َل َتعُ ّ‬
‫ل أن يأتي شرع الّ لهذا الفساد‬
‫حبس حماتها ومن يصونها عنها‪ ،‬وتسييبها في أوطارها‪ ،‬ومعاذ ا ّ‬
‫ج إذا طلقوا أن يبعثوا‬
‫الذي قد استطار شرارُه‪ ،‬واستعرت نارُه‪ ،‬وإنما أمر عم ُر بن الخطاب الزوا َ‬
‫بنفقة ما مضى‪ ،‬ولم يأمرهم إذا قَدِموا أن يفرضوا نفقَة ما مضى‪ ،‬ول ُي ْع َرفُ ذلك عن صحابي‬
‫البتة‪ ،‬ول يلزم من الِلزم بالنفقة الماضية بع َد الطلق وانقطاعها بالكُلية الِلزامُ بها إذا عاد الزوج‬
‫إلى النفقة والِقامة‪ ،‬واستقبل الزوجةَ بكل ما تحتاج إليه‪ ،‬فاعتبارُ أحدهما بالخر غيرُ صحيح‪،‬‬
‫ونفقة الزوجة تجب يوماً بيوم‪ ،‬فهي كنفق ِة القريب‪ ،‬وما مضى فقد استغنت عنه بمضي وقته‪ ،‬فل‬
‫وجهَ لِلزام الزوج به‪ ،‬وذلك منشأ العداوة والبغضاء بين الزوجين‪ ،‬وهو ضِدّ ما جعله ال بينهما من‬
‫المودة والرحمة‪ ،‬وهذا القولُ هو الصحيحُ المختا ُر الذي ل تقتضي الشريع ُة غيره‪ ،‬وقد صرح‬

‫‪293‬‬
‫أصحابُ الشافعي‪ ،‬بأن كسوة الزوجة وسكنها يسقُطان بمضى الزمان إذا قيل‪ :‬إنهما إمتاع ل تمليك‪،‬‬
‫فإن لهم في ذلك وجهين‪.‬‬
‫فصل‬
‫ض الدراهم‪ ،‬فل أصل له في كتاب ال تعالى‪ ،‬ول سنة رسولِه صلى ال عليه‬
‫وأما فر ُ‬
‫ص عليه‬
‫ل عنهم البتة‪ ،‬ول التابعين‪ ،‬ول تابعيهم‪ ،‬ول ن ّ‬
‫وسلم‪ ،‬ول عن أحد من الصحابة رضي ا ّ‬
‫أح ّد من الئمة الربعة‪ ،‬ول غيرُهم من أئمة الِسلم‪ ،‬وهذه كتبُ الثار والسنن‪ ،‬وكلمُ الئمة بين‬
‫ض الدراهم‪ .‬والّ سبحانه أوجب نفقة القارب والزوجات والرقيق‬
‫أظهرنا‪ ،‬فأوجِدُونا من ذكر فر َ‬
‫ب الشرع أن‬
‫ض الدراهم‪ ،‬بل المعروف الذي نص عليه صاح ُ‬
‫بالمعروف‪ ،‬وليس مِن المعروف فر ُ‬
‫ض الدراهم على المنفق من‬
‫يُطعمهم مما يأكل‪ ،‬ويكسوهم مما َي ْل َبسُ‪ ،‬ليس المعروف سوى هذا‪ ،‬وفر ُ‬
‫المنكر‪ ،‬وليست الدراه ُم من الواجب ول عوضه‪ ،‬ول َيصِحّ العتياضُ عما لم يستقر ولم يملك‪ ،‬فإن‬
‫نفقة القارِب والزوجات إنما تجب يوماً فيوماً‪ ،‬ولو كانت مستقرة لم تصح المعاوضةُ عنها بغير‬
‫ل عوضاً عن الواجب الصلي‪ ،‬وهو إما الب ّر عند‬
‫رضى الزوج والقريب‪ ،‬فإن الدراهم تجع ُ‬
‫الشافعي‪ ،‬أو الطعامُ المعتاد عند الجمهور‪ ،‬فكيف يُجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم مِن غير‬
‫رِضاه‪ ،‬ول إجبار صاحب الشرع له على ذلك‪ ،‬فهذا مخالف لقواعد الشرع‪ ،‬ونصوص الئمة‪،‬‬
‫ق والمنفق عليه على ذلك جاز باتفاقهما‪ ،‬هذا مع أنه في جواز‬
‫ومصالح العباد‪ ،‬ولكن إن اتفق المنفِ ُ‬
‫ض الزوجة عن النفقة الواجبة لها نزاع معروف في مذهب الشافعي وغيره‪ ،‬فقيل‪ :‬ل تعتاض‪،‬‬
‫اعتيا ِ‬
‫ض عنه قبل القبض‪ ،‬كالمسلم فيه‪ ،‬وعلى هذا فل‬
‫لن نفقتها طعام ثبت في الذمة عوضاً‪ ،‬فل تعتا ُ‬
‫ض بغير الخبز والدقيق‪ ،‬فإن‬
‫ض ل بدارهم ول ثياب‪ ،‬ول شيء البتة‪ ،‬وقيل‪ :‬تعتا ُ‬
‫يجوزُ العتيا ُ‬
‫ض عن الماضي‪ ،‬فإن كان عن المستقبل‪ ،‬لم يصح عندهم‬
‫العتياضَ بهما رباً‪ ،‬هذا إذا كان العتيا ُ‬
‫وجهاً واحداً‪ ،‬لنها بصدد السقوط‪ ،‬فل يُعلم استقرارها‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم في تمكين المرأة من فراق زوجها إذا‬
‫ذكر ما روي من حكم رسول ا ّ‬
‫أعسر بنفقتها‪.‬‬
‫روى البخاري في ((صحيحه))‪ ،‬من حديث أبي هريرة رضي الّ عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول‬
‫خ ْي ٌر مِنَ اليَدِ‬
‫ظ ْهرِ غِنىً‪ ،‬واليَدُ الع ْليَا َ‬
‫ل الصّدَقَ ِة مَا َت َركَ غِنىً))‪ ،‬وفي لفظ‪(( :‬ما كان عَنْ َ‬
‫الّ‪(( :‬أَ ْفضَ ُ‬
‫طلّقني‪ ،‬ويقول العبدُ‪ :‬أطعمني‬
‫السّفلَى‪ ،‬وابْ َد ْأ بِمن َتعُولُ))‪ ،‬تقول المرأةُ‪ :‬إما أن تُط ِعمَنى‪،‬وإما أن تُ َ‬
‫واستَعمِلني‪ ،‬ويقول الولدُ‪ :‬أطعمني‪ ،‬إلى من تدعني؟ قالوا‪ :‬يا أبا هريرة سمعتَ هذا من رسول الّ‬

‫‪294‬‬
‫ن كِيسِ أبي هريرة‪ .‬وذكر النسائي هذا الحديث في كتابه وقال‬
‫صلى ال عليه وسلم؟ قال‪ :‬ل‪ .‬هذا مِ ْ‬
‫ط ِعمْني وإلّ‬
‫ك تَقُولُ‪ :‬أَ ْ‬
‫فيه‪(( :‬وابْدَأ بِمن َتعُولُ))‪ ،‬فقيل‪ :‬من أعولُ يا رسول الّ؟ قال‪(( :‬ا ْمرَأتُ َ‬
‫ط ِعمْني إلى مَن تَترُكني؟))‪ .‬وهذا في‬
‫س َت ْع ِملْني‪َ ،‬ولَ ُدكَ يَقُولُ‪ :‬أَ ْ‬
‫ط ِعمْني وا ْ‬
‫ك يَقُولُ‪ :‬أَ ْ‬
‫فَارِقني‪ ،‬خَادِم َ‬
‫جميع نسخ كتاب النسائي‪ ،‬هكذا‪ ،‬وهو عنده من حديث سعيد بن أيوب‪ ،‬عن محمد بن عجلن‪ ،‬عن‬
‫زيد بن أسلم‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة رضي الّ عنه‪ ،‬وسعيد ومحمد ثقتان‪.‬‬
‫وقال الدارقطني‪ :‬حدثنا أبو بكر الشافعي‪ ،‬حدثنا محمد بن بشر بن مطر‪ ،‬حدثنا شيبان بن‬
‫فروخ‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن عاصم‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬أن النبيّ صلى ال عليه‬
‫ط ِعمْني َأوْطَلّقْني))الحديث‪.‬‬
‫جهَا‪ :‬أَ ْ‬
‫ل ِل َزوْ ِ‬
‫وسلم قال‪(( :‬ال َم ْرأَ ُة تَقُو ُ‬
‫وقال الدارقطني‪ :‬حدثنا عثمانُ بن أحمد بن السماك‪ ،‬وعبدُ الباقي ابن قانع‪ ،‬وإسماعيل بن‬
‫علي‪ ،‬قالوا‪ :‬أخبرنا أحمد بن علي الخزاز‪ ،‬حدثنا إسحاق بن إبراهيم الباوردي‪،‬حدثنا إسحاق بن‬
‫منصور‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن سعيد بن المسيب‪،‬في الرجل ل يجد ما‬
‫ق َب ْي َن ُهمَا‪ .‬وبهذا الِسناد إلى حماد بن سلمة‪ ،‬عن عاصم بن بهدلة‪ ،‬عن‬
‫ينفق على امرأته‪ ،‬قال‪ :‬يُ َفرّ ُ‬
‫أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة رضي الّ عنه‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم مثله‪.‬‬
‫وقال سعيد بن منصور في ((سننه))‪ :‬حدثنا سفيان‪ ،‬عن أبي الزناد‪ ،‬قال‪ :‬سألت سعيد بن‬
‫ق على امرأته‪َ ،‬أيُفرّقُ بينهما؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت سنة؟ قال‪ :‬سنة‪ .‬وهذا‬
‫المسيب عن الرجل ل يَجِدُ ما ُينْفِ ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فغايتُه أن يكون من مراسيل سعيد بن المسيب‪.‬‬
‫ينصرف إلى سنة رسول ا ّ‬
‫واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال‪.‬‬
‫ق أو يُطلّقَ‪ ،‬روى سفيان عن يحيى بن سعيد النصاري‪ ،‬عن‬
‫أحدها‪ :‬أنه يُجبر على أن ُينْفِ َ‬
‫ج ِب َر على طلقها‪.‬‬
‫ابن المسيب‪ ،‬قال‪ :‬إذا لم يجد الرجلُ ما يُنفق على امرأته‪ ،‬أُ ْ‬
‫ل مالك‪ ،‬لكنه قال‪ :‬يؤجل في عدم النفقة شهرا‬
‫الثاني‪ :‬إنما يُطلّقها عليه الحاكمُ‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫خرَ حتى تطهر‪ ،‬وفي الصداقة عامين‪ ،‬ثم يُطلقها عليه‬
‫ونحوه‪ ،‬فإن انقضى الجلُ وهي حائضٌ‪ ،‬أُ ّ‬
‫الحاكمُ طلقة رجعية‪ ،‬فإن أيسر في العدة‪ ،‬فله ارتجاعُها‪ ،‬وللشافعي قولن‪ .‬أحدهما‪ :‬أن الزوجة تخير‬
‫سرِ ديناً لها في ذمته‪ .‬قال أصحابه‪ :‬هذا إذا أمكنته مِن نفسها‪،‬‬
‫إن شاءت أقامت معه‪ ،‬وتبقى نفقة ال ُمعْ ِ‬
‫وإن لم تُمكنه‪ ،‬سقطت نفقتها‪ ،‬وإن شاءت‪ ،‬فسخت النكاح‪.‬‬
‫سبَ‪ ،‬والمذهب أنها تمِلكُ‬
‫والقول الثاني‪ :‬ليس لها أن تفسخ‪ ،‬لكن يرفع الزوجُ يدَه عنها لتكت ِ‬
‫الفسخ‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫ق أو فسخ؟ فيه وجهان‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وهل هو طل ٌ‬
‫أحدهما‪ :‬أنه طلق‪ ،‬فل بُ ّد من الرفع إلى القاضي حتى يُلزمه أن يطلّقَها أو ينفق‪ ،‬فإن أبى‬
‫ق عليه ثانية‪ ،‬فإن راجعها‪ ،‬طلق عليه ثالثة‪.‬‬
‫طلق الحاكم عليه طلقةً رجعيةً‪ ،‬فإن راجعها‪ ،‬طلّ َ‬
‫والثاني‪ :‬أنه فسخ‪ ،‬فل بد من الرفع إلى الحاكم ليثبتَ الِعسارُ‪ ،‬ثم تفسخ هي‪ ،‬وإن اختارت‬
‫المقام‪ ،‬ثم أرادت الفسخَ‪ ،‬ملكته‪ ،‬لن النفقة يتجدد وجوبُها كل يوم‪ ،‬وهل تملك الفسخَ في الحال أول‬
‫تمِلكُه إل بعد مضي ثلثة أيام؟ وفيه قولن‪ .‬الصحيح عندهم‪ :‬الثاني‪ .‬قالوا‪ :‬فلو وجد في اليوم الثالث‬
‫ف هذا الِمهال؟ فيه وجهان‪ .‬وقال حماد بن‬
‫نفقتها وتعذّر عليه نفق ُة اليوم الرابع‪ ،‬فهل يجب استئنا ُ‬
‫أبي سليمان‪ :‬يؤجل سنة ثم يفسخ قياسًا على ال ِعنّين‪ .‬وقال عمر بن عبد العزيز‪ :‬يُضرب له شهر أو‬
‫شهران‪ .‬وقال مالك‪ :‬الشهرُ ونحوه‪ .‬وعن أحمد روايتان‪ .‬إحداهما‪ ،‬وهي ظاهر مذهبه‪ :‬أن المرأة‬
‫تخ ّي ُر بين المقام معه وبين الفسخ‪ .‬فإن اختارت الفسخ رفعته إلى الحاكم‪ ،‬فيُخيّر الحاكم بين أن يفسخ‬
‫عليه أو يجبره على الطلق‪ ،‬أو يأذنَ لها في الفسخ‪ ،‬فإن فسخ أو أذن في الفسخ‪ ،‬فهو فسخ ل طلق‬
‫ول رجعة له‪ ،‬وإن أيسر في العدة‪ .‬وإن أجبره على الطلق‪ ،‬فطلق رجعياً‪ ،‬فله رجعتُها‪ ،‬فإن‬
‫سرٌ‪ ،‬أو امتنع من الِنفاق عليها‪ ،‬فطلبت الفسخ‪ ،‬فسخ عليه ثانياً وثالثاً‪ ،‬وإن رضيت‬
‫راجعها وهو ُمعْ ِ‬
‫المقام معه مع عُسرته‪ ،‬ثم بدا لها الفسخُ‪ ،‬أو تزوجته عالمة بعُسرته‪ ،‬ثم اختارت الفسخ‪ ،‬فلها ذلك‪.‬‬
‫خ في الموضعين‪ ،‬ويبطل خيارُها‪ ،‬وهو‬
‫قال القاضي‪ :‬وظاهرُ كلم أحمد‪ :‬أنه ليس لها الفس ُ‬
‫عنّينا‬
‫قول مالك لنها رضيت بعيبه‪ ،‬ودخلت في العقد عالمةً به‪ ،‬فلم تملك الفسخَ‪ ،‬كما لو تزوّجَت ِ‬
‫عنّيناَ‪ .‬وهذا الذي قاله القاضي‪ :‬هو مقتضى المذهب‬
‫عالم ًة بعنّته‪ .‬وقالت بعد العقد‪ :‬قد رضيت به ِ‬
‫والحجة‪.‬‬
‫خ ‪ -‬وإن رضيت بالمقام ‪ -‬قالوا‪ :‬حقّها متجدّد كل يوم‪ ،‬فيتجدّدُ لها الفسخُ‬
‫والذين قالوا‪ :‬لها الفس ُ‬
‫بتجدّدِ حقها‪ ،‬قالوا‪ :‬ولن رضاها يتضمّن إسقاطَ حقها فيما لم يجب فج ِه مِن الزمان‪ ،‬فلم يسقط‬
‫كإسقاط الشفعة قبل البيع‪ .‬قالوا‪ :‬وكذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة‪ ،‬لم تسقط‪ ،‬وكذلك لو أسقطتها‬
‫قبل العقد جملة ورضيت بل نفقة‪ ،‬وكذلك لو أسقطت المهر قبله‪ ،‬لم يسقط‪ ،‬وإذا لم يسقط وجوبُها لم‬
‫يسقط الفسخ الثابت به‪ .‬والذين قالوا بالسقوط أجابُوا عن ذلك بأن حقها في الجماع يتجدّد‪ ،‬ومع هذا‬
‫إذا أسقطت حقها من الفسخ بال ُعنّة سقط‪ ،‬ولم َت ْمِلكِ الرجوعَ فيه‪.‬‬
‫ك على إسقاط نفقتها قياسٌ على أصلٍ غي ِر متفق عليه‪ ،‬ول ثابت بالدليل‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬وقياسُكم ذل َ‬
‫ل على سقوطِ الشفعة بإسقاطها قبل البيع‪ ،‬كما صحّ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫بل الدليلُ يد ُ‬

‫‪296‬‬
‫ق بِال َبيْعِ))‪ ،‬وهذا صريحٌ‬
‫شرِيكَهُ‪ ،‬فإن باعه ولَ ْم يُؤذِه‪ ،‬فَهوَ أَحَ ّ‬
‫ل له أن يبيعَ حتى يُؤذِنَ َ‬
‫قال‪(( :‬ل يَحِ ّ‬
‫ك طلبَها بعده‪ ،‬وحينئذ فيجعل هذا أصلً لسقوط حقها مِن النفقة‬
‫في أنه إذا أسقطها قبل البيع لم يمِل ْ‬
‫بالِسقاط‪ ،‬ونقول‪ :‬خيارٌ لدفع الضررِ‪ ،‬فسقط بإسقاطه قبل ثبوته‪ ،‬كالشفعة‪ ،‬ثم ينتقضُ هذا بالعيب‬
‫ل عليه‪ ،‬أو علِمَ به‪ ،‬ثم اختار ترك الفسخ‪ ،‬لم يكن له الفسخُ‬
‫في العين المؤجرة‪ ،‬فإن المستأج َر إذا دخ َ‬
‫بعد هذا‪ ،‬وتجدّد حقّه بالنتفاع كُلّ وقت‪ ،‬كتجدد حق المرأة من النفقة سواء ول فرق‪ ،‬وأما قوله‪ :‬لو‬
‫أسقطها قبل النكاح‪ ،‬أو أسقط المهرَ قبلُه‪ ،‬لم يسقط‪ ،‬فليس إسقاط الحقّ قبل انعقاد سببه بالكليَة‬
‫كإسقاطه بعد انعقاد سببه‪ ،‬هذا إن كان في المسألة إجماع‪ ،‬وإن كان فيها خلف‪ ،‬فل فرق بين‬
‫الِسقاطين‪ ،‬وسوينا بين الحُكمين‪ ،‬وإن كان بينهما فرق امتنع القياس‪ .‬وعنه رواية أخرى‪ :‬ليس لها‬
‫الفسخ‪ ،‬وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه‪ .‬وعلى هذا ل يلزمُها تمكينُه مِن الستمتاعِ‪ ،‬لنه لم يُسلم‬
‫إليها عوضه‪ ،‬فلم يلزمها تسليمُه‪ ،‬كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع‪ ،‬لم يجب تسليمُه إليه‪ ،‬وعليه‬
‫سبَ لها‪ ،‬وتحصل ماتُنفقه على نفسها‪ ،‬لن في حبسها بغير نفقة إضراراً بها‪.‬‬
‫تخليةُ سبيلها لِتكت ِ‬
‫ل يملك حبسها؟ قيل قد قالُوا أيضاً‪ :‬ل يمِلكُ حبسها‪ ،‬لنه إنما‬
‫فإن قيل‪ :‬فلو كانت موسِرةً‪ ،‬فه ّ‬
‫يملِكهُ إذا كفاها المؤنة‪ ،‬وأغناها عمّا ل بُدّ لها منه مِن النفقة والكسوة‪ ،‬ولحاجته إلى الستمتاع‬
‫الواجب له عليها‪ ،‬فإذا انتفى هذا وهذا لم َي ْمِلكْ حبسَها‪ ،‬وهذا قولُ جماعة من السلف والخلف‪.‬‬
‫ذكر عبد الرزاق عن ابن جُريج قال‪ :‬سألتُ عطاء عمن ل يجد ما يصلحُ امرأته مِن النفقة؟‬
‫قال‪ :‬ليس لها إل ما وجدت‪ ،‬ليس لها أن يُطلقها‪ .‬وروى حماد بن سلمة‪ ،‬عن جماعة‪ ،‬عن الحسن‬
‫ل وتص ِبرُ‪ ،‬ويُنفق عليها ما‬
‫جزُ عن نفقة امرأته‪ :‬قال‪ :‬تُواسيه وتتّقي ا ّ‬
‫البصري أنه قال في الرجل يَع ِ‬
‫استطاع‪ .‬وذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬قال‪ :‬سألتُ الزهري عن رجل ل يجد ما يُنفق على امرأته‪،‬‬
‫جعَلُ الُ بعد‬
‫سيَ ْ‬
‫ساً إلّ مَا آتاهَا َ‬
‫ل نَفْ َ‬
‫ل ُي َكّلفُ ا ُ‬
‫أيفرّقُ بينهما؟ قال‪ :‬تستأني به ول يفرّق بينهما‪ ،‬وتل‪َ { :‬‬
‫ل قول الزهري سواء‪.‬‬
‫عُسْر يُسْراً} [الطلق‪ .]7 :‬قال معمر‪ :‬وبلغني عن عمر بن عبد العزيز مث ُ‬
‫سرُ زوجُها بنفقتها‪ :‬قال‪ :‬هي امرأة ابتُليَت‪،‬‬
‫وذكر عب ُد الرزاق‪ ،‬عن سفيان الثوري‪ ،‬في المرأة ُيعْ ِ‬
‫فلتصبر ول تأخذ بقول من فرّق بينهما‪.‬‬
‫ث روايات‪ ،‬هذه إحداها‪.‬‬
‫قلتُ‪ :‬عن عُمر بن عبد العزيز ثل ُ‬
‫ت عمر بن‬
‫ن وهب‪ ،‬عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬شهد ُ‬
‫والثانية‪ :‬روى اب ُ‬
‫ل شهرًا أو شهرين‪ ،‬فإن‬
‫عبد العزيز يقول لزوج امرأة شكت إليه أنه ل يُنفِقُ عليها‪ :‬أضربوا له أج ً‬
‫لم يُنفق عليها إلى ذلك الجل‪ ،‬فرقوا بينه وبينها‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫ل شكى إلى عمر‬
‫والثالثة‪ :‬ذكر ابن وهب‪ ،‬عن ابن لهيعة‪،‬عن محمد بن عبد الرحمن‪ ،‬أن رج ً‬
‫بن عبد العزيز بأنه أنكح ابنته رجلً ل يُنفق عليها‪ ،‬فأرسل إلى الزوج‪ ،‬فأتى‪ ،‬فقال‪ :‬أنكحني وهو‬
‫َي ْعلَمُ أنه ليس لي شيء‪ ،‬فقال عمر‪ :‬أنكحته وأنت تَعرِفُه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فما الذي أصنع؟ اذهب‬
‫بأهلك‪.‬‬
‫والقول بعدم التفريق مذهبُ أهل الظاهر ُكلّهم‪ ،‬وقد تناظر فيها مالك وغي ُرهُ‪ ،‬فقال‬
‫س يقولون‪ :‬إذا لم يُنفق الرجل على امرأته ُفرّقَ بينهما‪ .‬فقيل له‪ :‬قد كانت الصحابة‬
‫ت النا َ‬
‫مالك‪ :‬أدرك ُ‬
‫س اليوم كذلك‪ ،‬إنما تزوجته رجاءً‪.‬‬
‫سرُون ويحتاجون‪ ،‬فقال مالك‪ :‬ليس النا ُ‬
‫ل عنهم يُع ِ‬
‫رضي ا ّ‬
‫ن ُيرِدْنَ الدارَ الَخرة‪ ،‬وما عند الّ‪ ،‬ولم‬
‫ل عنهم كُ ّ‬
‫ومعنى كلمه‪ :‬أن نساء الصحابة رضي ا ّ‬
‫ن يُبالين بعُسر أزواجهن‪ ،‬لن أزواجهن كانوا كذلك‪ .‬وأما النساء اليوم‪،‬‬
‫يكن مرادُهُنّ الدنيا‪ ،‬فلم يك ّ‬
‫فإنما يتزوجن رجاء دنيا الزواج ونفقتهم وكسوتهم‪ ،‬فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا‪،‬‬
‫فصار هذا المعروفُ كالمشروط في العقد‪ ،‬وكان عرفُ الصحابة ونسائهم كالمشروط في العقد‪،‬‬
‫والشرط العرفيّ في أصل مذهبه‪ ،‬كاللفظي‪ ،‬وإنما أنكر على مالك كلمَه هذا من لم يفهمه ويفهم‬
‫غورَه‪.‬‬
‫ح ِبسَ حتى يجدَ ما يُنفقه‪،‬‬
‫وفي المسألة مذهب آخر‪ ،‬وهو أن الزوج إذا أعسر بالنفقة‪ُ ،‬‬
‫وهذا مذهب حكاه الناس عن ابن حزم‪،‬وصاحب((المغني))وغيرهما عن عُبيد الّ بن الحسن‬
‫العنبري قاضي البصرة‪ .‬ويالّ العجب! لي شيء يُسجن ويُجمع عليه بين عذاب السجن وعذاب‬
‫الفقر‪ ،‬وعذاب البعد عن أهلِه؟ سبحانك هذا بهتان عظيم‪ ،‬وما أظن من ش ّم رائحة العلم يقول هذا‪.‬‬
‫وفي المسألة مذهب آخر‪ ،‬وهو أن المرأةَ ت َكّلفُ الِنفاق عليه إذا كان عاجزاً‬
‫ب أبي محمد بن حزم‪ ،‬وهو خي ٌر بل شك من مذهب العنبري‪ .‬قال في‬
‫عن نفقة نفسه‪ ،‬وهذا مذه ُ‬
‫((المحلى))‪ :‬فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه‪ ،‬وامرأتُه غنيةٌ‪ُ ،‬كلّفت النفقة عليه‪ ،‬ول ترجع بشيء من‬
‫ن بِالم ْعرُوف ل‬
‫س َو ُتهُ ّ‬
‫علَى الموْلُو ِد لَ ُه ِرزْ ُقهُنّ وكِ ْ‬
‫ن ذلك قولُ الّ عز وجل {وَ َ‬
‫ذلك‪ ،‬إن أيسر‪ ،‬برها ُ‬
‫ل ذِلكَ} [البقرة‪:‬‬
‫علَى الوَا ِرثِ ِمثْ ُ‬
‫ل مَولُو ٌد لَهُ ِبوَل ِد ِه وَ َ‬
‫ل ُتضَارّ وَالِ َدةٌ بولَدهَا و َ‬
‫سعَها َ‬
‫ل وُ ْ‬
‫تكَلفُ نَ ْفسٌ إ ّ‬
‫‪ ]233‬فالزوج ُة وارثة‪ ،‬فعليها النفقةُ بنص القرآن‪.‬‬
‫ويا عجبًا لبي محمد! لو تأمل سياقَ الية‪ ،‬لتبين له منها خلفُ ما فهمه‪ ،‬فإن الّ سبحانه‬
‫س َو ُتهُنّ بال َم ْعرُوفِ} [البقرة‪ ]233 :‬وهذا ضميرُ الزوجات بل‬
‫ن َوكِ ْ‬
‫علَى المَولُودِ لَ ُه ِرزْ ُقهُ ّ‬
‫قال‪{ :‬و َ‬
‫ل ذِلكَ} [البقرة‪ ،]233 :‬فجعل سُبحانه على وارث المولود له‪ ،‬أو‬
‫ث ِمثْ ُ‬
‫علَى الوَارِ ِ‬
‫شك‪ ،‬ثم قال‪{ :‬وَ َ‬

‫‪298‬‬
‫وارثِ الولد من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على المَوروث‪ ،‬فأين في الية نفقة‬
‫على غير الزوجات؟ حتى يحمل عمومها على ما ذهب إليه‪.‬‬
‫س َعتِ ِه َومَنْ قُ ِدرَ‬
‫سعَ ٍة مِنْ َ‬
‫واحتج من لَم ير الفسخ بالِعسار بقوله تعالى‪ِ{ :‬ل ُينْفِقْ ذُو َ‬
‫ل نَفْسًا إل مَا أتاهَا} [الطلق‪ ]7 :‬قالوا‪ :‬وإذا لم يُكلفه الّ‬
‫ق ِممّا آتاهُ الُ ل ُي َكّلفُ ا ُ‬
‫عَليْهِ ِرزْقُهُ َف ْل ُينْفِ ْ‬
‫َ‬
‫النفقة في هذه الحال‪ ،‬فقد ترك ما ل يجب عليه‪ ،‬ولم يأثم بتركه‪ ،‬فل يكون سببًا للتفريق بينه وبين‬
‫حبّه وسكَنه وتعذيبه بذلك‪ .‬قالوا‪ :‬وقد روى مسلم في ((صحيحه))‪ :‬من حديث أبي الزبير‪ ،‬عن‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فوجداه جالساً‬
‫جابر‪ ،‬دخل أبو بكر وعمر رضي الّ عنهما على رسول ا ّ‬
‫ل أبو بكر‪ :‬يا رسول الّ! لو رأيتَ بنت خارجة سألتني النفقة فقمتُ‬
‫حوله نساؤه واجماً ساكتاً‪ ،‬فقا َ‬
‫ح ْولِي كما ترى يَسألنني‬
‫حكَ رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم وقال‪ :‬هُنّ َ‬
‫إليها‪ ،‬فوجأتُ عنقها‪ ،‬فضَ ِ‬
‫النفقة‪ ،‬فقام أبو بكر إلى عائشة يجأُ عُنقها‪ ،‬وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها‪ ،‬كلهما يقولُ‪ :‬تسألنَ‬
‫ل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ما ليس عنده‪ ،‬فقلن‪ :‬وال ل نسأَ ُ‬
‫رسولَ ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم شهرًا وذكر الحديث‪.‬‬
‫شيئًا أبداً ما ليس عنده‪ ،‬ثم اعتزلهُنّ رسولُ ا ّ‬
‫ل صلى ال‬
‫قالوا‪ :‬فهذا أبو بكر وعمر رضي الّ عنهما يضربان ابنتيْهما بحضرة رسولِ ا ّ‬
‫ل صلى‬
‫عليه وسلم إذ سأله نفقةً ل يجِدُها‪ .‬ومن المحال أن يضرِبا طالبتين للحق‪ ،‬ويُقرّهما رسولُ ا ّ‬
‫ل على أنه ل حقّ لهما فيما طلبتاه من النفقة في حال الِعسار‪ ،‬وإذا‬
‫ال عليه وسلم على ذلك‪ ،‬فد ّ‬
‫كان طلبُهما لها باطلً‪ ،‬فكيف تمكن المرأةُ من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبُه‪ ،‬ول يحلّ لها‪ ،‬وقد‬
‫ظ َر ال ُمعْسِ َر إلى الميسرة‪ ،‬وغاي ُة النفقة أن تكون ديناً‪ ،‬والمرأةُ‬
‫أمر الّ سبحانه صاحب الدّين أن ُينْ ِ‬
‫س َرةِ بنص القرآن هذا إن قيل‪ :‬تثبت في ذمة الزوج‪ ،‬وإن قيل‪ :‬تسقط‬
‫مأمورة بإنظار الزوج إلى الميْ َ‬
‫بمضي الزمان‪ ،‬فالفسخ أبعد وأبعد‪.‬‬
‫ق الصب ُر على المعسر‪ ،‬وندبه إلى الصّدَقَةِ بترك‬
‫قالوا‪ :‬فالّ تعالى أوجب على صاحب الح ّ‬
‫ل تعالى لها سواءً‬
‫ل له ِذ ِه المرأة كما قال ا ّ‬
‫حقه‪ ،‬وما عدا هذين المرين‪ ،‬فجو ٌر لم يُبحه له‪ ،‬ونحن نقو ُ‬
‫ق َلكِ فيما عدا هذين المرين‪.‬‬
‫بسواءٍ؟ إما أن تُنظريه إلى الميسرة‪ ،‬وإما أن َتصَدّقي‪ ،‬ول ح َ‬
‫ف أضعافِ موسريهم‪،‬‬
‫سرُوهم أضعا َ‬
‫سرُ‪ ،‬وكان مُع ِ‬
‫سرُ والمو ِ‬
‫قالوا ولم يزل في الصحابة ال ُمعْ ِ‬
‫ط امرأةً واحدة من الفسخ بإعسار زوجها‪ ،‬ول أعلمها أن‬
‫فما مكّن النبيّ صلى ال عليه وسلم ق ُ‬
‫ختْ‪ ،‬وهو يشرعُ الحكام عن الّ تعالى بأمره‪،‬‬
‫الفسخَ حق لها فإن شاءت‪ ،‬صبرت‪ ،‬وإن شاءت‪ ،‬فَسَ َ‬
‫ب أن الزواج تركن حقهن‪ ،‬أفما كان فيهن امرأةٌ واحد ٌة تُطاِلبُ بحقها‪ ،‬وهؤلء نساؤه صلى ال‬
‫فه ْ‬

‫‪299‬‬
‫ل عليهن شهرًا مِن شدة‬
‫عليه وسلم خيرُ نساء العالمين يُطالبنه بالنفقة حتى أغضبنه‪ ،‬وحلفَ أل يدخُ َ‬
‫َموْجِ َدتِ ِه عليهن‪ ،‬فلو كان مِن المستقر في شرْعِ ِه أن المرأة تمِلكُ الفسخَ بإعسار زوجها لرفع إليه‬
‫ذلك‪ ،‬ولو مِن امرأة واحدة‪ ،‬وقد رُفع إليه ما ضرورتُه دون ضرورة فقد النفقة من فقد النكاح‪،‬‬
‫ت بعد رِفاعة عبد الرحمن بن الزبير‪ ،‬وإن ما معه ِمثْلُ هُ ْدبَةِ‬
‫وقالت له امرأة رِفاعة‪ :‬إني نكح ُ‬
‫الثوب‪ .‬تُريد أن يُ َفرّق بينه وبينها‪ .‬ومن المعلوم أن هذا كان فيهم في‬
‫غاية النّدرة بالنسبة إلى الِعسار‪ ،‬فما طلبت منه امرأة واحدة أن يفرّقَ بينه وبينها بالِعسار‪.‬‬
‫ل الفقر والغنى مطيّتينِ للعباد‪ ،‬فيفت ِقرُ الرجل الوقت ويستغني الوقتَ‪ ،‬فلو‬
‫قالوا‪ :‬وقد جعل ا ّ‬
‫ل من افتقر‪ ،‬فسخت عليه امرأته‪ ،‬لعم البلءُ‪ ،‬وتفاقم الشرّ‪ ،‬وفسخت أنكحة أكثرِ العالم‪ ،‬وكان‬
‫كان كُ ّ‬
‫صبْهُ عُسْرةٌ‪ ،‬ويعوز النفقة أحياناً‪.‬‬
‫الفراق بي ِد أكثر النِساء‪ ،‬فمن الذي لم ُت ِ‬
‫قالوا‪ :‬ولو تعذّر من المرأةِ الستمتاع بمرض متطاول‪ ،‬وأعسرت بالجماع‪ ،‬لم يمكن الزوجُ‬
‫مِن فسخ النكاح‪ ،‬بل يُوجبون عليه النفقة كاملة مع إعسار زوجته بالوطء‪ ،‬فكيف يُمكنونها مِن الفسح‬
‫بإعساره عن النفقة التي غايتُها أن تكون عوضاً عن الستمتاع؟‬
‫ي وإل طلقني‪،‬‬
‫ث أبي هريرة‪ ،‬فقد صرّحَ فيه بأن قوله‪ :‬امرأتك تقول‪ :‬أنفق عل ّ‬
‫قالوا‪ :‬وأما حدي ُ‬
‫من كِيسه‪ ،‬ل مِن كلم النبي صلى ال عليه وسلم وهذا في ((الصحيح)) عنه‪ .‬ورواه عنه سعيد بن‬
‫أبي سعيد‪ ،‬وقال‪ :‬ثم يقول أبو هريرة‪ .‬إذا حدث بهذا الحديث‪ :‬امرأتُك تقول‪ ،‬فذكر الزيادة‪.‬‬
‫وأما حديثُ حماد بن سلمة‪ ،‬عن عاصم بن بهدلة‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم بمثله‪ ،‬فأشار إلى حديث يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في الرجل‬
‫ل أن يكونَ عن النبي صلى‬
‫ل يجد ما ينفق على امرأته‪ .‬قال‪ :‬يُفرق بينهما‪ ،‬فحديثٌ منكر ل يحتمِ ُ‬
‫ال عليه وسلم أصلً‪ ،‬وأحسنُ أحواله أن يكون عن أبي هريرة رضي ال عنه موقوفاً‪ ،‬والظاهر‪:‬‬
‫ل عنه‪ :‬امرأتك تقول‪ :‬أطعمني أو طلقني‪ ،‬وأما‬
‫أنه رُوي بالمعنى‪ ،‬وأراد قوله أبي هريرة رضي ا ّ‬
‫ق على‬
‫ن عند أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه سئل عن الرجل ل يجد ما يُنفِ ُ‬
‫أن يكو َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ول سمعه أبو هريرة‪،‬‬
‫امرأتِه‪ ،‬فقال‪ :‬يُفرق بينهما‪ ،‬فوالّ ما قال هذا رسولُ ا ّ‬
‫ول حدّث به‪ ،‬كيف وأبو هريرة ل يستجي ُز أن يَرويَ عن النبيّ صلى ال عليه وسلم ((امرأتُك‬
‫تقول‪ :‬أطعمني وإل طلقني))‪،‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‪.‬والذي‬
‫ويقول‪ :‬هذا من كيس أبي هريرة لئل يتوهم نسبته إلى النب ّ‬
‫تقتضيه أصولُ الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غ ّر المرأة بأنه ذو مال‪ ،‬فتزوجته‬

‫‪300‬‬
‫على ذلك‪ ،‬فظهر ُمعْدماً ل شيء له‪ ،‬أو كان ذا مالٍ‪ ،‬وترك الِنفاق على امرأته‪ ،‬ولم تَقد ْر على أخذ‬
‫كفايتها من ماله بنفسها‪ ،‬ول بالحاكم أن لها الفَسخ‪ ،‬وإن تزوجته عالم ًة بعُسرته‪ ،‬أو كان موسِراً‪ ،‬ثم‬
‫أصابته جائحةٌ اجتاحت مالَه‪ ،‬فل فسخَ لها في ذلك‪ ،‬ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار‪ ،‬ولم‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫ترفعهم أزواجُهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن‪ ،‬وبا ّ‬
‫ل أبي حنيفة‬
‫وقد قال جمهورُ الفقهاء‪ :‬ل يثبت لها الفسخُ بالِعسار بالصداق‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫ل كثير من‬
‫وأصحابه‪ ،‬وهو الصحيحُ من مذهب أحمد رحمه الّ‪ ،‬اختاره عامة أصحابه‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫أصحاب الشافعي‪ .‬وفصل الشيخ أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة‪ ،‬فقال‪ :‬إن كان قبلَ الدخول‪،‬‬
‫ثبت به الفسخُ‪ ،‬وبعده ل يثبت‪ ،‬وهو أح ُد الوجوه من مذهب أحمد هذا مع أنه عِوض محضٌ‪ ،‬وهو‬
‫أحق أن يوفى من ثمن المبيع‪ ،‬كما دل عليه النص‪ ،‬كلّ ما تقرر في عدم الفسخ به‪ ،‬فمثله في النفقة‬
‫وأولى‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬في الِعسار بالنفقةِ مِن الضرر اللحق بالزوجة ما ليس في الِعسار بالصّداق‪،‬‬
‫فإن البِنية تقوم بدونه بخلف النفقة‪ .‬قيل‪ :‬والبِنية قد تقوم بدون نفقته بأن تُنفِقَ من مالها‪ ،‬أو يُنفِق‬
‫ش بما تعيشُ به زمن العدة‪ ،‬وتُقدر زمن‬
‫عليها ذو قرابتها‪ ،‬أو تأكل من غزلها‪ ،‬وبالجملة‪ ،‬فتعي ُ‬
‫عُسرة الزوج كله عدّة‪.‬‬
‫ثم الذين يُجوزون لها الفسخ يقولُون‪ :‬لها أن تفسخ ولو كان معها القناطيرُ المقنطرة مِن‬
‫ل مِنجنيق الغرب أبي محمد بن‬
‫الذهب والفضة إذا عجز الزوجُ عن نفقتها‪ ،‬وبإزاء هذا القول قو ُ‬
‫حزم‪ :‬إنه يجب عليها أن تُنفِقَ عليه في هذه الحال‪ ،‬فتُعطيه مالها‪ ،‬وتُم ّكنُه من نفسها‪ ،‬ومن العجب‬
‫ل العنبري بأنه يُحبس‪.‬‬
‫قو ُ‬
‫وإذا تأملت أصولَ الشريعة وقواعدَها‪ ،‬وما اشتملت عليه من المصالح ودرء المفاسد‪ ،‬ودفعِ‬
‫أعلى المفسدتين باحتمالِ أدناهما‪ ،‬وتفويتِ أدنى المصلحتين لتحصل أعلهما‪ ،‬تبَين لكَ القولُ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫الراجحُ مِن هذه القوال‪ ،‬وبا ّ‬
‫فصل‬
‫ل أنه ل نفقة للمبتوتة ول سكنى‬
‫ل صلى ال عليه وسلم الموافق لكتابِ ا ّ‬
‫في حكم رسول ا ّ‬
‫روى مسلم في ((صحيحه))‪ ،‬عن فاطمة بنت قيس‪ ،‬أن أبا عمرو بن حفص طلّقها ألبتةَ وهو‬
‫طتْهُ فقال‪ :‬والّ ماَلكِ علينا مِن شيء‪ ،‬فجاءت رسولَ الّ‬
‫ل إليها وكيلُه بشعير‪ ،‬فسخِ َ‬
‫غائب‪ ،‬فأرس َ‬
‫عَليْهِ نَفَقَةٌ))‪ ،‬فأمرها أن تعتد في بيت‬
‫س َلكِ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم فذكرت ذلك له وما قَالَ‪ ،‬فقال‪َ(( :‬ليْ َ‬

‫‪301‬‬
‫عمَى‪،‬‬
‫ل أَ ْ‬
‫عنْ َد ابنِ أُ ّم َم ْكتُوم‪ ،‬فإنّ ُه رَجُ ٌ‬
‫عتَدّي ِ‬
‫أمّ شريك‪ ،‬ثم قال‪ِ (( :‬ت ْلكَ ا ْم َرَأةٌ َيغْشَاهَا أَصحَابي‪ ،‬ا ْ‬
‫حَل ْلتِ فآذِنيني))‪ .‬قالت‪ :‬فلما حللتُ‪ ،‬ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم‬
‫ن ِثيَا َبكِ‪ ،‬فَإذا َ‬
‫ضعِي َ‬
‫َت َ‬
‫عصَاهُ عَنْ عاتِقِهِ‪ ،‬وأمّا‬
‫ل َيضَعُ َ‬
‫جهْمٍ فَ َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ((َأمّا َأبُو َ‬
‫خطباني‪،‬فقال رسول ا ّ‬
‫ل لَهُ‪ ،‬ا ْنكِحِي أُسَامَ َة بنَ َزيْدٍ)) فكرهته‪ ،‬ثم قال‪(( :‬ا ْنكِحي أسامة بنَ َزيْدٍ))‬
‫ص ْعلُوكٌ ل مَا َ‬
‫مُعاوي ُة ف ُ‬
‫فنكحته‪ ،‬فجعلَ الّ فيه خيراً واغتبطتُ‪ .‬وفي ((صحيحه)) أيضاً‪ :‬عنها أنها طَلقها زوجها في عهدِ‬
‫عِلمَنّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم وكان أنفقَ عليها نفقةً دوناً فلما رأت ذلك‪ ،‬قالت‪ :‬والّ لُ ْ‬
‫رسول ا ّ‬
‫ت الذي يُصلِحُني‪،‬وإن لم تكُن لي نفقةٌ‪،‬لم‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن كانت لي نفقةٌ أخذ ُ‬
‫رَسولَ ا ّ‬
‫سكْنى))‪.‬‬
‫ك وَلَ ُ‬
‫ل نَفَقَ َة ل ِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالَ‪َ (( :‬‬
‫آخذْ منه شيئاً‪ ،‬قالت‪ :‬فذكرتُ ذلك لرسول ا ّ‬
‫وفي ((صحيحه)) أيضاً عنها‪ ،‬أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلّقها ثلثاً‪ ،‬ثم انطلق‬
‫ل صلى‬
‫عَل ْينَا نفقة‪ ،‬فانطلق خال ُد بن الوليد في نفرٍ‪ ،‬فأتوْا رسولَ ا ّ‬
‫إلى اليمن‪ ،‬فقال لها أهلُه‪ :‬ليس َلكِ َ‬
‫ص طلّق‬
‫ال عليه وسلم في بيت ميمونة‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن أبا حَفْ ٍ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪َ(( :‬ليْست َلهَا نَفَقَةّ‬
‫امرأته ثلثاً‪ ،‬فهل لها مِن نفقة؟ فقال رسولُ ا َ‬
‫ل إلى أمّ شريك‪ ،‬ثم أرسل‬
‫سكِ))‪ ،‬وأمرها أن تنتقِ َ‬
‫سبِقيني ِبنَفْ ِ‬
‫علَيهَا العِ ّدةُ))‪ ،‬وأرسل إليها‪(( :‬أَنْ ل تَ ْ‬
‫وَ‬
‫عمَى فَإ ّنكِ إِذَا‬
‫لوّلونَ‪ ،‬فانْطِلقي إلى ابْنِ أُ ّم مَكتُومٍ الَ ْ‬
‫إليها‪(( :‬أَنّ أُمّ شرِيكٍ يأتيها المهاجِرونَ ا َ‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫حهَا رسول ا ّ‬
‫ك لَم َي َركِ))‪ ،‬فانطلَقَت إليه‪ ،‬فلما انقضت ع ّدتُها أنك َ‬
‫خمَا َر ِ‬
‫وَضعْتِ ِ‬
‫وسلم أسامَة بن زيد بن حارثة‪.‬‬
‫ل بن عبد الّ بن عتبة‪ ،‬أن أبا عمرو بن حفص بن‬
‫وفي ((صحيحه)) أيضاً‪ ،‬عن عبيد ا ّ‬
‫المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن‪ ،‬فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت‬
‫ش بن أبي ربيعة بنفقة‪ ،‬فقال لها‪ :‬والّ ما َلكِ‬
‫بقيت من طلقها‪ ،‬وأمر لها الحارث بن هشام‪ ،‬وعيا ُ‬
‫نفقةٌ إل أن تكوني حاملً‪ ،‬فأتت النبيّ صلى ال عليه وسلمَ‪ ،‬فذكرت له قولهما‪ ،‬فقال‪(( :‬ل نَفَقَةَ‬
‫ن أمّ مَكتوم))‪ ،‬وكان‬
‫َلكِ))‪ ،‬فاستأذنته في النتقال‪ ،‬فأذنَ لها‪ ،‬فقالت‪ :‬أين يا رسولَ الّ؟ قال‪(( :‬إلى اب ِ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أسامة بن‬
‫أعمى َتضَعُ ثيابَها عندهُ ول يَراهَا‪ ،‬فلما مضت عِدّتها‪ ،‬أنكحها النب ّ‬
‫ل إليهَا مروانُ قَبيصَةَ بنَ ذُؤيب يسأُلهَا عن الحديث‪ ،‬فحدثته به‪ ،‬فقال مروان لم نسمع هذا‬
‫زيد‪ ،‬فأرس َ‬
‫الحديثَ إل مِن امرأة‪ ،‬سنأخُذ بالعِصمة التي وجدنا النَاسَ عليها‪ ،‬فقالت فاطمة حين بلغها قولُ‬
‫ل أَنْ يَ ْأتِينَ‬
‫خرُجْنَ إ ّ‬
‫ل يَ ْ‬
‫ن وَ َ‬
‫ن بيو ِتهِ ّ‬
‫ن مِ ْ‬
‫خرِجُوهُ ّ‬
‫مروان‪ :‬بيني وبينكم القرآنُ‪ ،‬قال الّ عز وجلّ‪{ :‬ل تُ ْ‬
‫ث َبعْ َد ذِلكَ َأمْراً}[الطلق‪ ،]1 :‬قالت‪ :‬هذا لمن كان‬
‫ل يُحْ ِد ُ‬
‫بِفَاحِشَ ٍة مُبيَنةٍ} إلى قوله‪{ :‬ل تَ ْدرِي َلعَلّ ا ّ‬

‫‪302‬‬
‫له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلث؟! فكيف تقولون‪ :‬ل نفقة لها إذا لم تكن حاملً‪ ،‬فعلم‬
‫تحبسونها؟!‪.‬‬
‫وروى أبو داود في هذا الحديث بإسناد مسلم عقيب قولِ عياش بن أبي ربيعة والحارث بن‬
‫ل أَنْ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪(( :‬ل نَفَقَ َة َلكِ إ ّ‬
‫ت النب ّ‬
‫هشام‪ :‬ل نفقة لك إل أن تكوني حَاملً‪ ،‬فات ِ‬
‫تكوني حَاملً))‪.‬‬
‫ت قيس‪ ،‬فسألتُها عن قضاء‬
‫وفي ((صحيحه)) أيضًا عن الشعبي قال‪ :‬دخلتُ على فاطمة بن ِ‬
‫ل صلى‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عليها‪ ،‬فقالت‪ :‬طلّقها زوجُها البتة‪ ،‬فخاصمته إلى رسول ا ّ‬
‫رسول ا ّ‬
‫ال عليه وسلم في السّكنى والنفقة‪ ،‬قالت‪ :‬فلم يجعل لي سُكنى ول نفقة‪ ،‬وأمرني أن أعتدّ في بيت‬
‫ابن أم مكتوم‪.‬‬
‫وفي ((صحيحه)) عن أبي بكر بن أبي الجهم العدوي‪ ،‬قال‪ :‬سمعتُ فاطمة بنت قيس تقولُ‪:‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم سُكنَى ول نفقة‪ ،‬قالت‪ :‬قال لي‬
‫طلقها زوجُها ثلثاً‪ ،‬فلم يجعل لها رسولُ ا ّ‬
‫حَل ْلتِ فآذِنيني))‪ ،‬فآذنته‪ ،‬فخطبها معاويةُ‪ ،‬وأبُو جهم‪ ،‬وأسامةُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إِذَا َ‬
‫رسولُ ا ّ‬
‫جهْمٍ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ((أمَا معاوية فرجُل ترِب ل مال لهُ‪َ ،‬وَأمّا َأبُو َ‬
‫بن زيد‪ ،‬فقال رسول ا ّ‬
‫ن زيْد))‪ ،‬فقالت بيدها هكذا‪ :‬أسامة! أسامة! فقال لها رسولُ‬
‫ل ضرّاب لِلنّساءِ‪ ،‬ولكِنْ أُسامةُ ب ُ‬
‫َفرَجُ ٌ‬
‫ل وَطَاعَ ُة رَسُولِهِ خَيرٌ َلكِ))‪ ،‬فتزوجتُه‪ ،‬فاغتبطتُ‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪(( :‬طَاعَةُ ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫وفي ((صحيحه)) أيضاً عنها قالت‪ :‬أرسل إلي زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة‬
‫عياشَ بن أبي ربيعة بطلقي‪ ،‬فأرسل معه بخمسة آصُع تمرٍ‪ ،‬وخمسة آصعِ شعير‪ ،‬فقلتُ‪ :‬أما لي‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫ت عليّ ثيابي‪ ،‬وأتيتُ رسول ا ّ‬
‫نفقة إل هذا؟ ول أعتَ ّد في منزلكم؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬فشدد ُ‬
‫ن أُمّ‬
‫ع ّمكِ اب ِ‬
‫س َلكِ نَفَقَةٌ‪ ،‬اعْتدّي في َب ْيتِ ابن َ‬
‫طلّ َقكِ؟))قلتُ‪ :‬ثلثاً‪ .‬قال‪(( :‬صَدَقَ‪َ ،‬ل ْي َ‬
‫وسلم‪ ،‬فقال‪(( :‬كَمْ َ‬
‫ضتْ عِ ّد ُتكِ فآذِنيني))‪.‬‬
‫ن َث ْو َبكِ عِن َدهُ‪ ،‬فَإِذَا انْ َق َ‬
‫ضعِي َ‬
‫ص ِر َت َ‬
‫َم ْكتُوم‪ ،‬فإنه ضَري ُر البَ َ‬
‫وروى النسائي في ((سننه)) هذَا الحَديثَ بطرقه وألفاظه‪ ،‬وفي بعضِها بإسناد صحيح ل‬
‫سكْنى ِللْمرأ ِة إذا كان لِزوجِها عَليْها‬
‫مطعن فيه‪ ،‬فقال لها النبي صلى ال عليه وسلم إنّما النّفَقَةُ وال ّ‬
‫ت ذلك له‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فذ َك َر ْ‬
‫الرّجْعةُ))‪ ،‬ورواه الدارقطني وقال‪ :‬فأتت رسول ا ّ‬
‫جعَةَ))‪ .‬وروى النسائي‬
‫ن َي ْمِلكُ الرّ ْ‬
‫ل لي سكنى ول نفقة‪ ،‬وقال‪(( :‬إِ ّنمَا السكنى والنّفَقَة ِلمَ ْ‬
‫جعَ ْ‬
‫فلم يَ ْ‬
‫أيضاً هذا اللفظ‪ ،‬وإسنادهما صحيح‪.‬‬
‫ل عزّ وجل‬
‫ذكر موافقة هذا الحكم لكتاب ا ّ‬

‫‪303‬‬
‫ل َربّكم‬
‫حصُوا العِ ّدةَ واتّقُوا ا ّ‬
‫ن َوأَ ْ‬
‫طلّقُوهُنَ ِلعِ ّد ِتهِ ّ‬
‫طلّ ْقتُ ُم النَسَاءَ فَ َ‬
‫قال الّ تعالى‪{ :‬يََأ ّيهَا النّبيّ إِذَا َ‬
‫ل َومَنْ َي َتعَدّ حُدًودَ الِ‬
‫ن بِفَاحِشَ ٍة مُب ّينَ ٍة َو ِت ْلكَ حُدُودُ ا ّ‬
‫ن يَأتِي َ‬
‫خرُجْنَ إلّ أَ ْ‬
‫ل يَ ْ‬
‫ن وَ َ‬
‫ن مِنْ ُبيُو ِتهِ ّ‬
‫خرِجُوه ّ‬
‫ل تُ ْ‬
‫ف َأوْ‬
‫ن بمعرو ٍ‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫جَلهُنّ فََأمْ ِ‬
‫ك َأمْراً * فَإذا َبَلغْنَ أ َ‬
‫ث بعْد ذِل َ‬
‫ظلَم نفْسَهُ ل ت ْدرِي لعلَ ال يُحْ ِد ُ‬
‫فَقَدْ َ‬
‫ل ِلكُلّ‬
‫ل ِم ْنكُ ُم َوأَقِيمُوا الشّها َدةَ لّ}‪ ،‬إلى قوله‪{ :‬قدْ جعل ا ّ‬
‫ن ب َم ْعرُوفٍ وأَشهِدوا ذ َويْ عَدْ ٍ‬
‫فَارقُوهُ ّ‬
‫شيءَ قَدْراً} [الطلق‪ ]3-1 :‬فأمر الّ سبحانه الزواج الذين لهم عند بلوغ الجلِ الِمساكُ‬
‫ل على جواز‬
‫خرُجْنَ‪ ،‬فد ّ‬
‫والتسريحُ بأن ل يُخرجوا أزواجهم مِن بيوتهم‪ ،‬وأمر أزواجَهن أن ل يَ ْ‬
‫إخراج من ليس لزوجها إمساكُها بعدَ الطلق‪ ،‬فإنه سبحانه ذكر لهؤلء المطلقات أحكامًا متلزمة‬
‫ل ينفكّ بعضُها عن بعض‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن الزواج ل يُخرجوهن مِن بيوتهن‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ن مِن بيوت أزواجهن‪.‬‬
‫خرُجْ َ‬
‫والثاني‪ :‬أنهن ل يَ ْ‬ ‫@‬
‫والثالث‪ :‬أن لزواجهن إمساكَهن بالمعروف قبلَ انقضاء الجل‪ ،‬وترك الِمساك‪،‬‬
‫فيُسرّحوهن بإحسان‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬إشهاد ذَويْ عدل‪ ،‬وهو إشها ٌد على الرجعة إما وجوباً‪ ،‬وإما استحباباً‪ ،‬وأشار‬
‫ث َبعْ َد ذِلكَ َأمْراً}‬
‫ل يُحْ ِد ُ‬
‫سُبحانه إلى حكمة ذلك‪ ،‬وأنه في الرجعيات خاصة بقوله‪{ :‬ل تَ ْدرِي َلعَلّ ا ّ‬
‫[الطلق‪ ]1 :‬والمر الذي يُرجَى إحداثُه هاهنا‪ :‬هو المراجعة‪ .‬هكذا قال السلف ومن بعدهم‪ .‬قال ابنُ‬
‫ث َبعْ َد ذِلكَ‬
‫ل يُحْ ِد ُ‬
‫أبي شيبة‪ :‬حدثنا أبو معاوية‪ ،‬عن داود الودي‪ ،‬عن الشعبي‪{:‬ل تَ ْدرِي َلعَلّ ا ّ‬
‫ل إلى الرجعة‪ ،‬وقال الضحاك‪َ{ :‬لعَلّ الّ‬
‫َأمْراً} [الطلق‪ ،]1 :‬قال‪ :‬لعلك َتنْدَمُ‪ ،‬فيكون لك سبي ٌ‬
‫جعَها في العِ ّدةِ‪ ،‬وقاله عطاء‪ ،‬وقتادة‪ ،‬والحسن‪،‬‬
‫ث َبعْ َد ذِلكَ َأمْراً} [الطلق‪ ]1 :‬قال‪ :‬لعله أن يُرا ِ‬
‫يُحْ ِد ُ‬
‫ق المذكور‪ :‬هو‬
‫ث بعد الثلث؟ فهذا يدل على أن الطل َ‬
‫وقد تقدّم قول فاطمة بنت قيس‪ :‬أي أمر يح ُد ُ‬
‫الرجعيّ الذي ثبتت فيه هذه الحكامُ‪ ،‬وأن حِكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين‪ ،‬اقتضته لعل‬
‫شرّ الذى َنزَغَهُ الشيطانُ بينهما‪ ،‬فتتبعها نفسه‪ ،‬فيُراجعَها‪ ،‬كما قال علي بن‬
‫ل ال ّ‬
‫الزوج أن يَندَمَ‪ ،‬ويزو َ‬
‫ل عنه‪ :‬لو أنّ الناسَ أخذوا بأمر الّ في الطّلقِ‪ ،‬ما تتبع رجل نفسه امرأة يُطلّقها‬
‫أبي طالب رضي ا ّ‬
‫أبداً‪.‬‬
‫سكَنتم منْ‬
‫ح ْيثُ َ‬
‫سكِنوهُنّ مِنْ َ‬
‫ثم ذكر سبحانه المر بإسكان هؤلء المطلقاتِ‪ ،‬فقال‪{ :‬أَ ْ‬
‫ل النبيّ‬
‫وُجْ ِدكُم} [الطلق‪ ]6 :‬فالضمائر كلّها َيتّحِدُ مفسرها‪ ،‬وأحكامها كلها متلزمة‪ ،‬وكان قو ُ‬

‫‪304‬‬
‫جعَةٌ))‪ ،‬مشتقاً من كتابِ‬
‫علَيهَا رَ ْ‬
‫جهَا َ‬
‫ن ِل َزوْ ِ‬
‫س ْكنَى ِل ْلمَرَأةِ إذَا كَا َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنّما النّفَقَ ُة وال ّ‬
‫ل صلى ال‬
‫الّ عز وجل‪ ،‬ومفسّراً له‪ ،‬وبيانًا لمراد المتكلّم به منه‪ ،‬فقد تبين اتحادُ قضاءِ رسول ا ّ‬
‫ل عز وجل‪ ،‬والميزانُ العادل معهما أيضاً ل يُخَالفهما‪ ،‬فإن النفقَ َة إنما تكونُ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وكتابِ ا ّ‬
‫للزوجة‪ ،‬فإذا بانت منه‪ ،‬صارت أجنبيةً حكمُها حكمُ سائر الجنبيات‪ ،‬ولم يبق إل مجردُ اعتدادها‬
‫جبُ لها نفقة‪ ،‬كالموطوءة بشُبهة أو زنى‪ ،‬ولن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكنِ‬
‫منه‪ ،‬وذلك ل يُو ِ‬
‫من الستمتاع‪ ،‬وهذا ل يُمكِنُ استمتاعُه بها بعد بينونتها‪ ،‬ولن النفقة لو وجبت لها عليه لجلِ‬
‫ق بينهما البتة‪ ،‬فإن كُلّ واحد منهما قد بانت عنه‪،‬‬
‫عدتها‪ ،‬لوجبت للمتوفّى عنها من ماله‪ ،‬ول َفرْ َ‬
‫وهي معتدة منه‪ ،‬قد تعذّر منهما الستمتاعُ‪ ،‬ولنها لو وجبت لها السكنى‪ ،‬لوجبت لها النفقةُ‪ ،‬كما‬
‫ص والقياسُ يدفعه‪ ،‬وهذا قولُ عبد الّ‬
‫يقوله من يوجبها‪ .‬فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة‪ ،‬فالن ّ‬
‫بن عباس وأصحابه‪ ،‬وجابر بن عبد الّ‪ ،‬وفاطمة بنت قيس إحدى فقهاء نساء الصحابة وكانت‬
‫فاطمة تُناظر عليه‪ ،‬وبه يقول أحمد بن حنبل وأصحابه‪ ،‬وإسحاق بن راهويه وأصحابه‪ ،‬وداود بن‬
‫علي وأصحابُه‪ ،‬وسائر أهل الحديث‪ .‬وللفقهاء في هذه المسألة ثلثة أقوال‪ ،‬وهي ثلث روايات عن‬
‫أحمد‪ :‬أحدها‪ :‬هذا‪ .‬والثاني‪ :‬أن لها النفقةَ والسكنى‪ ،‬وهو قولُ عمر بن الخطاب‪ ،‬وابن مسعود‪،‬‬
‫وفقهاء الكوفة‪ .‬والثالث‪ :‬أن لها السكنى دون النفقة‪ ،‬وهذا مذهب أهل المدينة‪ ،‬وبه يقول مالك‬
‫والشافعي‪.‬‬
‫ذكر المطاعن التي طعن بها على حديث فاطمة بنت قيس قديماً وحديثاً‬
‫ن أميرِ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ ،‬فروى مسلم في ((صحيحه))‪:‬‬
‫فأولها طع ُ‬
‫عن أبي إسحاق‪،‬قال‪ :‬كنت مع السود بن يزيد جالساً في المسجد العظم‪ ،‬ومعنا الشعبي‪ ،‬فحدّث‬
‫الشعبيّ بحديث فاطمة بنت قيسٍ‪ ،‬أن رسولَ الّ ِصلى ال عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ول نفقة‪،‬‬
‫ك ِكتَابَ‬
‫ل َن ْت ُر ُ‬
‫ثم أخذ السود كفأ مِن حصى‪ ،‬فحصبه به‪ ،‬فقال‪َ :‬و ْيَلكَ تُحدّث بمثل هذا؟ قال عمر‪َ :‬‬
‫س ْكنَى والنّفَقَةُ قال الّ عز وجل‪:‬‬
‫س َيتْ؟ َلهَا ال ّ‬
‫ت َأوْ نَ ِ‬
‫ظ ْ‬
‫سنّ َة نبيّنا! لِقول امرأة ل نَ ْدرِي َل َعّلهَا حَفِ َ‬
‫ل وَ ُ‬
‫ا ّ‬
‫ن بِفَاحِشَ ٍة مُب ًينَةٍ} [الطلق‪ ]1 :‬قالوا‪ :‬فهذا عمرُ‬
‫ل أَن يَأتِي َ‬
‫ن إِ ّ‬
‫خرُجْ َ‬
‫ن وَل يَ ْ‬
‫ن ُبيُو ِتهِ ّ‬
‫ن مِ ْ‬
‫خرِجُوهُ ّ‬
‫{ل تُ ْ‬
‫ب أن هذا مرفوعٌ‪ ،‬فإن‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أن لها النفقةَ والسكنى‪ ،‬ول ري َ‬
‫يخبر أن سنةَ رسول ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫الصحابيّ إذا قال‪ :‬من السنة كذا‪ ،‬كان مرفوعاً‪ ،‬فكيف إذا قال‪ :‬مِن سنة رسول ا ّ‬
‫ل عنه‪ ،‬وروايةُ‬
‫ل عمر بن الخطاب؟ وإذا تعارضت رواية عمر رضي ا ّ‬
‫وسلم فكيف إذا كان القائ ُ‬
‫فاطمة‪ ،‬فرواية عمر رضي ال عنه أولى ل سيما ومعها ظاهر القرآن‪ ،‬كما سنذكر‪ .‬وقال سعيد بن‬

‫‪305‬‬
‫منصور‪ :‬حدثنا أبو معاوية‪،‬حدثنا العمش‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬قال‪ :‬كان عُمر بن الخطاب إذا ُذ ِك َر عنده‬
‫حديثُ فاطمة بنتِ قيس قال‪ :‬ما كنا نغير في ديننا بِشَها َد ِة امرأة‪.‬‬
‫ذكر طعن عائشة رضي الّ عنها في خبر فاطمة بنتِ قيس‬
‫في ((الصحيحين))‪ :‬من حديث هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬تزوّجَ يحيى بنُ سعيد بن‬
‫ب ذلك عليهم عروةُ‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن‬
‫ت عبد الرحمن بن الحكم فطلقها‪ ،‬فأخرجها مِن عنده‪ ،‬فعا َ‬
‫العاص بن َ‬
‫فاطمةَ قد خرجت‪ ،‬قال عروةُ‪ :‬فأتيت عائشة رضي الّ عنها‪ ،‬فأخبرتها بذلك‪ ،‬فقالت‪ :‬ما لِفاطمة بنتِ‬
‫قيس خ ْيرٌ أن تذكرَ هذَا الحديثَ‪ .‬وقال البخاري‪ :‬فانتقلها عب ُد الرحمن‪ ،‬فأرسلت عائش ُة إلى مروان‬
‫ل واردُدْها إلى بيتها‪ .‬قال مروان‪ :‬إن عب َد الرحمن بن الحكم غلبني‪ ،‬وقال‬
‫وهو أمي ُر المدينة‪ ،‬اتّق ا ّ‬
‫القاسم بن محمد‪ :‬أو ما بلغك شأنُ فاطمة بنت قيس؟ قالت‪ :‬ل يضرك أل تذكر حديثَ فاطمة‪ ،‬فقال‬
‫ن من الشر‪.‬‬
‫مروان‪ :‬إن كان بِك شرٌ‪ ،‬فحسبُك ما بينَ هذي ِ‬
‫ومعنى كلمه‪ :‬إن كان خروجُ فاطمة لما يُقال من شر كان في لسانها‪،‬فيكفيك ما بين يحيى‬
‫بن سعيد بن العاص وبين امرأتِهِ مِن الشر‪.‬‬
‫ي إلى فُلنَة بنتِ‬
‫ل عنها‪َ :‬ألَم َت َر ْ‬
‫وفي ((الصحيحين))‪ :‬عن عروة‪ ،‬أنه قال لعائشة رضي ا ّ‬
‫صنَ َعتْ‪ ،‬فقلتُ‪َ :‬ألَمْ تسمعي إلى قولِ فاطمة‪،‬‬
‫الحكم طلّقها زوجُها البتة فخرجت‪ ،‬فقالت‪ِ :‬ب ْئسَ مَا َ‬
‫خ ْيرَ لها في ذكر ذلك‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬أما إنّه ل َ‬
‫وفي حديث القاسم‪ ،‬عن عائشة رضي الّ عنها يعني‪ :‬في قولها‪ :‬ل سكنى لها ول نفقة‪ .‬وفي‬
‫((صحيح البخاري))‪ :‬عن عائشة رضي الّ عنها أنها قالت لفاطمة‪ :‬أل نتقي الّ‪ ،‬تعني في قولها ل‬
‫حشٍ‪َ ،‬فخِيفَ‬
‫ن وَ ْ‬
‫سكنى لها ول نفقة وفي ((صحيحه)) أيضاً‪ :‬عنها قالت‪ :‬إن فاطمةَ كا َنتْ في مكا ِ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم وقال عبد الرزاق‪ :‬عن ابن جريج‪ ،‬أخبرني‬
‫ص النب ّ‬
‫على ناحِيتها‪ ،‬فلذلكَ أرخ َ‬
‫ت قيس‪ ،‬تعني‪:‬‬
‫ابن شهاب‪ ،‬عن عُروة‪ ،‬أن عائش َة رضي الّ عنها أنكرت ذلك على فاطمة بن ِ‬
‫ل المطلقة ثلثاً))‪.‬‬
‫((انتقا َ‬
‫وذكر القاضي إسماعيل حدثنا نصر بن علي‪ ،‬حدثني أبي‪ ،‬عن هارون عن محمد بن‬
‫سبُه عن محمد بن إبراهيم‪ ،‬أن عائشة رضي الّ عنها قالت لفاطمة بنت قيس‪ :‬إنما‬
‫إسحاق‪ ،‬قال‪ :‬أح ِ‬
‫جكِ هذا اللسان‪.‬‬
‫أخر َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم وابنِ حبه على حديث فاطمة‬
‫ن زيدٍ حبّ رسول ا ّ‬
‫ذكر طعن أسامة ب ِ‬

‫‪306‬‬
‫روى عبد الّ بن صالح كاتب الليث‪ ،‬قال‪ :‬حدثني الليثُ بن سعد‪ ،‬حدثني جعفر‪ ،‬عن ابن‬
‫هرمز‪ ،‬عن أبي سلمة بن عبد الرحمن‪ ،‬قال‪ :‬كان محمد بنُ أسامة بن زيد يقول‪ :‬كان أسام ُة إذا‬
‫ذكرت فاطمة شيئًا مِن ذلك يعنى انتقالها في عدتها رماها بما في يده‪.‬‬
‫ذكرُ طعن مروان على حديث فاطمة‬
‫ل بن عتبة حديثَ‬
‫روى مسلم في ((صحيحه))‪ :‬من حديث الزهري‪ ،‬عن عبيد ال بن عبد ا ّ‬
‫فاطمة هذا‪ :‬أنه حدّث به مروان‪،‬فقال مروان‪ ،‬لم نسمع هذا إل من امرأة سنأخذ بالعِصمة التي‬
‫وجدنا الناس عليها‪.‬‬
‫ذكرُ طعنِ سعي ِد بن المسيّب‬
‫ت إلى‬
‫ت المدينةَ‪ ،‬فَدُ ِف ْع ُ‬
‫روى أبو داود في ((سننه))‪ :‬من حديث ميمون بن مِهران‪ ،‬قال‪ :‬قدم ُ‬
‫سعي ِد بن المسيبِ‪ ،‬فقلتُ‪ :‬فاطمة بنت قيس طلّقت‪ ،‬فخَرجَت مِن بيتها‪ ،‬فقال سعيد‪ :‬تلك امرأة فَت َنتِ‬
‫علَى يدي ابنِ أ ّم مكتوم العمى‪.‬‬
‫ض َعتْ َ‬
‫سنَة‪َ ،‬ف ُو ِ‬
‫الناسَ إنها كانت امرأةً لَ ِ‬
‫ذكر طعن سليمان بن يسار‬
‫خلُقِ‪.‬‬
‫روى أبو داود في ((سننه)) أيضاً‪ ،‬قال في خروج فاطمة‪ :‬إنما كان مِن سُوءِ ال ُ‬
‫ذكر طعن السود بن يزيد‬
‫تقدّمَ حديث مسلم‪ :‬أن الشعبي حدّث بحديث فاطمة‪ ،‬فأخذ السود كفًا مِن حصباء فحصبه به‪،‬‬
‫وقال‪ :‬ويلك تحدث بمثل هذا؟! وقال النسائي‪ :‬ويلك لِ َم تُفتي بمثل هذا؟ قال عمر لها‪ :‬إن جئتِ‬
‫ك ِكتَابَ َر ّبنَا لِقَولِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإل لم نت ُر ْ‬
‫بشاهدين يشهدانِ أنهما سمعاه من رسولِ ا ّ‬
‫امرأة‪.‬‬
‫ذكر طعن أبي سلمة بن عبد الرحمن‬
‫قال الليث‪ :‬حدثني عقيل‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن‪ ،‬فذكر‬
‫حديث فاطمة ثم قال‪ :‬فأنكر الناسُ عليها ما كانت تُحدّث من خروجها قبل أن تَحِلّ‪ ،‬قالوا‪ :‬وقد‬
‫ح رواية عُمر في إيجاب النفقة والسكنى‪ ،‬فروى حماد بن سلمة‪ ،‬عن‬
‫عارض رواية فاطمة صري ُ‬
‫حماد بن أبي سليمان‪ ،‬أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس‪ ،‬فقال له‬
‫ل وقول النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫خ ِب َر بقولهَا‪ ،‬فقال‪ :‬لسنا بتاركي آية من كتاب ا ّ‬
‫إبراهيمُ‪ :‬إن عمر أُ ْ‬
‫س ْكنَى والنَفَقَةُ)) ذكره أبو‬
‫ي صلى ال عليه وسلم يقول‪َ(( :‬لهَا ال ّ‬
‫لقول امرأة لعلّها أوهمت‪ ،‬سمعت النب ّ‬

‫‪307‬‬
‫محمد في ((المحلى))‪ ،‬فهذا نص صريح يجب تقديمُه على حديث فاطمة لِجللة رواته‪ ،‬وتركِ إنكارِ‬
‫الصحاب ِة عليه وموافقته لِكتاب الّ‪.‬‬
‫ذكر الجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلنها‬
‫وحاصلها أربعة‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬أن راويتها امرأة لم تأتِ بشاهدينِ يتابعانها على حديثها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن روايتها تضمّنت مخالفةَ القرآن‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن خروجَها من المنزل لم يكن لنه ل حقّ لها في السكنى‪ ،‬بل لذاها أهلَ زوجها‬
‫بلسانها‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬معارضة روايتِها برواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‪.‬‬
‫ونحن نبين ما في كل واحد من هذه المور الربعة بحول الّ وقوته‪ ،‬هذا مع أن في بعضها‬
‫س ُننَب ُه عليه‪ ،‬وبعضُها صحيح‬
‫مِن النقطاع‪ ،‬وفي بعضها مِن الضعف‪ ،‬وفي بعضها من البُطلن ما َ‬
‫عمن نسب إليه بل شك‪.‬‬
‫ل بل شك‪ ،‬والعلماء قاطبة‬
‫ن الراوي امرأة‪ ،‬فمطعن باط ٌ‬
‫ن الول‪ :‬وهو كو ُ‬
‫فأما المطع ُ‬
‫ل مبطل له ومخالف له‪ ،‬فإنهم ل يختلفون في أن‬
‫ج بهذا من أتباع الئمة أوّ ُ‬
‫على خلفة‪ ،‬والمحت ّ‬
‫السننَ تُؤخذ عن المرأة كما تُؤخذ عن الرجل‪ ،‬هذا وكم مِن سنة تلقاها الئمة بالقبولِ عن امرأة‬
‫واحدة من الصحابة‪ ،‬وهذه مسانيد نساءِ الصحابة بأيدي الناس ل تشاءُ أن ترى فيها سن ًة تفرّدت بها‬
‫ت قيس دون نساء العالمين‪ ،‬وقد أخذ الناس بحديث فُريعة‬
‫امرأ ّة منهن إل رأيتَها‪ ،‬فما ذنبُ فاطمةَ بن ِ‬
‫ت أبي سعيد في اعتدا ِد المتوفّى عنها في بيت زوجها وليست فاطم ُة بدونها‬
‫بنت مالِك بن سنان أخ ِ‬
‫علماً وجللةً وثقةً وأمانةً‪ ،‬بل هي أفقهُ منها بل شك‪ ،‬فإن فُريعة ل تُعرف إل في هذا الخبر وأما‬
‫شهرةُ فاطمة‪ ،‬ودعاؤها من نازعها مِن الصحابة إلى كتاب الّ‪ ،‬ومناظرتها على ذلك‪ ،‬فأمر‬
‫مشهور‪ ،‬وكانت أسع َد بهذه المناظرة ممن خالفها كما مضى تقريرُه‪ ،‬وقد كان الصحابة رضي الّ‬
‫عنهم يختلِفونَ في الشيء‪ ،‬فتروي لهم إحدى أمهات المؤمنين عن النبيّ صلى ال عليه وسلم شيئاً‪،‬‬
‫ن على فاطمة بنت قيس بكونهن‬
‫فيأخذون به‪ ،‬ويرجعون إليه‪ ،‬ويتركون ما عندهم له‪ ،‬وإنما ُفضّلْ َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإل فهي مِن المهاجرات الول‪ ،‬وقد رضيها رسولُ الّ‬
‫أزواجَ رسولِ ا ّ‬
‫حبّه أسامة بن زيد‪ ،‬وكان الذي خطبها له‪ .‬وإذا شئتَ أن تعرف‬
‫حبّه وابنِ ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم ِل ِ‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫ل الذي حدث به رسول ا ّ‬
‫ل الطوي ِ‬
‫مقدارَ حفظها وعلمها‪ ،‬فاعرفه مِن حديث الدّجَا ِ‬

‫‪308‬‬
‫وسلم على المنبر‪ ،‬فوعته فاطمةُ وحفظته‪ ،‬وأدته كما سمعته‪ ،‬ولم ينكره عليها أحد مع طوله‬
‫وغرابته‪ ،‬فكيف بقصة جرت لها وهي سببها‪ ،‬وخاصمت فيها‪ ،‬وحكم فيها بكلمتين‪ :‬وهى ل نفقة ول‬
‫سكنى‪ ،‬والعادة تُوجبُ حفظ مثل هذا وذكره‪ ،‬واحتمال النسيان فيه أمر مشترك بينها وبين من أنكر‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‬
‫عليها‪ ،‬فهذا عمرُ قد نسي تيمّ َم الجنب‪ ،‬وذكرهُ عمار بن ياسر أمر رسول ا ّ‬
‫ل عنه‪ ،‬وأقام على أن الجنب ل يصلي حتى يجد‬
‫لهما بالتيمم من الجنابة‪،‬فلم يذكره عمر رضي ا ّ‬
‫الماء‪.‬‬
‫ن زَوجٍ َوآْتيتُم إحْدَاهن ِقنْطَاراً فَلَ تَأخُذُوا‬
‫ج َمكَا َ‬
‫ونسي قولَه تعالى‪{ :‬وإِنْ َأرَ ْدتُم اس ِتبْدَالَ زَو ٍ‬
‫مِنهُ شَيئا} [النساء‪.]20 :‬‬
‫ت وَإ ّنهُمْ َميّتون} [الزمر‪]30 :‬‬
‫ك م ّي ٌ‬
‫حتى ذكّرته به امرأَة‪ ،‬فرج َع إلى قولها‪.‬ونسي قوله‪{ :‬إ ّن َ‬
‫حتى ذُكر بهِ‪ ،‬فإن كان جوازُ النسيان على الراوي يُوجب سقوطَ روايته‪ ،‬سقطت رواي ُة عمر التي‬
‫ط روايته‪ ،‬بطلت المعارض ُة بذلك‪ ،‬فهي باطلة‬
‫عارضتم بها خبر فاطمة‪ ،‬وإن كان ل يُوجب سقو َ‬
‫ن بمثل هذا‪ ،‬لم يبق بأيدي المة منها إل اليسير‪ ،‬ثم كيف يُعارِضُ‬
‫على التقديرين‪ ،‬ولو رُ ّدتِ السّن ُ‬
‫ط للرواية نِصاباً‪،‬‬
‫ن يرى قبولَ خبرِ الواحد العدل‪ ،‬ول يشتر ُ‬
‫طعَنُ في ِه بمثل هذا مَ ْ‬
‫خَبر فاطمة‪ ،‬ويَ ْ‬
‫ل عنه أصابه في مثل هذا ما أصابه في رد خبر أبي موسى في الستئذان حتى شهد‬
‫وعمر رضي ا ّ‬
‫شهِ َد له مُحمّدُ بن مسلمة‪ ،‬وهذا‬
‫ص المرأةِ حتى َ‬
‫له أبو سعيد‪ ،‬وردّ خب َر المغيرة بنِ شُعبة في إمل ِ‬
‫ل في الرواية عن رسول الّ‬
‫ب والذّلُو َ‬
‫كان تثبيتًا منه رضي الّ عنه حتى ل يركب الناس الصّع َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإل فقد َقبِلَ خبرَ الضحاك بن سفيان الكلبي وحده وهو أعرابي‪ ،‬وقبل‬
‫ل الراوي‬
‫لعائشة رضي الّ عنها عدةَ أخبار تفرّدت بها‪ ،‬وبالجملة‪ ،‬فل يقول أحد‪ :‬إنه ل يقبل قو ُ‬
‫الثقة العدل حتى يشهد له شاهدان ل سيما إن كان من ا لصحابة‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما المطعن الثاني‪ :‬وهو أن روايتها مخالفة للقرآن‪ ،‬فنجيب بجوابين‪ :‬مجملٍ‪ ،‬ومفصلٍ‪ ،‬أما‬
‫المُجمل‪ :‬فنقولُ‪ :‬لو كانت مخالفة كما ذكرتم‪ ،‬لكانت‬
‫مخالف ًة لعمومه‪،‬فتكون تخصيصاً للعام‪ ،‬فحكمُها حكمُ تخصيص قوله‪{ :‬يُوصِيكُم الُ في‬
‫ل َلكُ ْم مَا َورَاءَ ذِلكُم}‬
‫َأوْلَ ِدكُم} [النساء‪ ،]11 :‬بالكافر‪ ،‬والرقيق‪ ،‬والقاتل‪ ،‬وتخصيصِ قولِه‪{:‬وأُحِ ّ‬
‫ن المرأة وعمتها‪ ،‬وبينها وبين خالتها ونظائره‪ ،‬فإن القرآنَ لم يخُصّ‬
‫[النساء‪ ]24 :‬بتحريم الجم ِع بي َ‬

‫‪309‬‬
‫خرَجُ‪ ،‬وبأنها تسكن من حيث يسكنُ زوجها‪ ،‬بل إما أن َي ُعمّها و َيعُمّ‬
‫خرُج ول تُ ْ‬
‫البائن بأنها ل تَ ْ‬
‫ص الرجعيةَ‪.‬‬
‫الرجعية‪ ،‬وإما أن يخُ ّ‬
‫ص لعمومه‪ ،‬وإن خص الرجعيات وهو الصواب للسياق‬
‫ث مخصّ ٌ‬
‫فإن ع ّم النوعينِ‪ ،‬فالحدي ُ‬
‫الذي مَنْ تدبّره وتأمله قطع بأنه في الرجعيات من عدة أوجه قد أشرنا إليها‪ ،‬فالحديث ليس مخالفاً‬
‫ل عنه بذلك‪ ،‬لكان أوّل راجع إليه‪ ،‬فإن‬
‫لكتاب الّ‪ ،‬بل موافق له‪ ،‬ولو ُذ ّكرَ أمي ُر المؤمنين رضي ا ّ‬
‫الرجل كما يذهَلُ عن النص يذهَلُ عن دخول الواقعة المعينة تحتَ النصّ العام واندراجِه تحتها‪،‬‬
‫ل مَنْ يشاء من عباده‪ ،‬ولقد كان أمير المؤمنين‬
‫فهذا كثيرٌ جداً‪ ،‬والتفطُنُ له من الفهم الذي يُؤتيه ا ّ‬
‫ل عنه مِن ذلك بالمنزلة التي ل تُجهل‪ ،‬ول تستغرقها عبارةٌ‪ ،‬غيرَ أن الغسيان‬
‫عمر رضي ا ّ‬
‫والذّهولَ عُرضةٌ للِنسان‪ ،‬وإنما الفاضلُ العال ُم من إذا ُذ ّكرَ َذ َك َر َورَجَعَ‪.‬‬
‫ل على ثلثة أطباق ل يخرُج عن واحد منها‪ ،‬إما‬
‫فحديثُ فاطمة رضي الّ عنها مع كتاب ا ّ‬
‫أن يكون تخصيصاً لعامه‪ .‬الثاني‪ :‬أن يكون بياناَ لما لم يتناوله‪ ،‬بل سكت عنه‪ .‬الثالث‪ :‬أن يكون بياناً‬
‫لما أريد به وموافِقاً لما أرشد إليه سياقه وتعليله وتنبيهه‪ ،‬وهذا هو الصوابُ‪ ،‬فهو إذن موافق له ل‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بما يُخالف كتاب‬
‫مخالف‪ ،‬وهكذا ينبغي قطعاً‪ ،‬ومعاذَ الّ أن يحكم رسولُ ا ّ‬
‫ل تعالى أو يعارضه‪ ،‬وقد أنكر المام أحمد رحمه الّ هذا مِن قول عمر رضي الّ عنه‪ ،‬وجعل‬
‫ا ّ‬
‫ل إيجاب السكنى والنفقة للمطلقة ثلثاً‪ ،‬وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة‬
‫يتبسّمُ ويقول‪ :‬أين في كتاب ا ّ‬
‫فاطمة‪ ،‬وقالت‪ :‬بيني وبينكم كتابُ الّ‪ ،‬قال الّ تعالى‪{ :‬ل تَ ْدرِي َلعَلّ ال ُيحْ ِدثُ َبعْ َد ذلِك َأمْراً}‬
‫سكُوهُنّ}‬
‫جَلهُنّ فَأمْ ِ‬
‫[الطلق‪ ]1 :‬وأي أمر يحدث بعد الثلث‪ ،‬وقد تقدم أن قوله‪{ :‬فإِذَا َبَلغْنَ أ َ‬
‫[الطلق‪ ،]2 :‬يشهد بأن اليات كلها في الرجعيات‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما المطعن الثالث‪ :‬وهو أن خروجها لم يكن إل لِفحش من لسانها‪ ،‬فما أبردَه من تأويل‬
‫وأسمجَه‪ ،‬فإن المرأة مِن خيار الصحاب ِة رضي الّ عنهم وفُضلئهم‪ ،‬ومِن المهاجرات الول‪ ،‬وممن‬
‫ل يحملها رِقّة الدين وقلة التقوىَ على فُحش يُوجب إخراجَها من دارها‪ ،‬وأن يمنع حقها الذي جعله‬
‫حشَ؟‬
‫ي صلى ال عليه وسلم هذا الفُ ْ‬
‫الّ لها‪ ،‬ونهى عن إضاعته‪ ،‬فيا عجباً! كيف لم ُي ْن ِك ْر عليها النب ّ‬
‫ف َيعْدِلُ عن‬
‫ويقول لها‪ :‬اتقي الّ‪ ،‬وكُفّي لسانَك عن أذى أهل زوجك‪ ،‬واستقري في مسكنكِ؟ وكَي َ‬
‫جهَا‬
‫ن ِل َزوْ ِ‬
‫هذا إلى قوله‪(( :‬ل نفقة لك ول سكنى))‪ ،‬إلى قوله‪(( :‬إ ّنمَا السّكنَى والنّفَق ُة لِل َم ْرأَ ِة إذا كَا َ‬
‫جعَةٌ؟!)) فيا عجباً! كيف يُترك هذا المانع الصريح الذي خرج من بين شفتي النبي صلى ال‬
‫عَل ْيهَا َر ْ‬
‫َ‬

‫‪310‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪،‬البتة ول أشار إليه‪ ،‬ول‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ويُعلّل بأَمرٍ موهوم لم يعلل به رسول ا ّ‬
‫نبه عليه؟ هذا من المحال البيَن‪ .‬ثم لو كانت فاحشة اللسان وقد أعاذها الّ من ذلك‪ ،‬لقال لها النبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسمعت وأطاعتْ‪ :‬كفي لِسانَك حتى تنقضيَ عِ ّد ُتكِ‪ ،‬وكان من دونها يسمع‬
‫ويطيع لئل تخرج من سكنه‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل عنه‪ ،‬فهذه المعارضةُ‬
‫ن الرابع‪ :‬وهو معارض ُة روايتِها برواية عمر رضي ا ّ‬
‫وأما المطع ُ‬
‫تُورد مِن وجهين‪ .‬أحدهما‪ :‬قوله‪ :‬ل نَدَعُ كتابَ ربنا وسن َة نبينَا‪،‬؟أن هذا مِن حكم المرفوع‪ .‬الثاني‪:‬‬
‫س ْكنَى والنّفَقَةُ))‪ .‬ونحن نقول‪ :‬قد أعاذ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم يقول‪َ(( :‬لهَا ال ّ‬
‫قوله‪ :‬سمعتُ رسولَ ا ّ‬
‫ح ذلك عن‬
‫ل أميرَ المؤمنين مِن هذا الكلم الباطل الذي ل َيصِحّ عنه أبداً‪ .‬قال الِمام أحمد‪ :‬ل َيصِ ّ‬
‫ا ّ‬
‫عمر‪ .‬وقال أبو الحسن الدارقطني‪:‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‬
‫بل السنةُ بيد فاطمة بنت قيس قطعاً‪ ،‬ومن له إلمام بسنة رسولِ ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أن‬
‫ل أنه لم يكن عند عمر رضي الّ عنه سنة عن رسول ا ّ‬
‫يشهدُ شهادة ا ّ‬
‫ل صلى ال‬
‫للمطلقة ثلثاً‪ ،‬السكنى والنفقة‪ ،‬وعمر كان أتقى لّ‪ ،‬وأحرصَ في تبليغ سننِ رسولِ ا ّ‬
‫عليه وسلم في أن تكونَ هذه السن ُة عنده‪ ،‬ثم ليرويها أصلً‪ ،‬ول تبينها ول يُبلغها عن رسول الّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وأما حديثُ حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن عمر رضي الّ‬
‫س ْكنَى والنّفَقَةُ))‪ ،‬فنحن نشهَدُ بالّ شهاد ًة نُسألُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم يقول‪َ(( :‬لهَا ال ّ‬
‫عنه‪ ،‬رسولَ ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫ع َمرَ رضي الّ عنه‪ ،‬وكذب على رسولِ ا ّ‬
‫عنها إذا لقيناه‪ ،‬أن هذا كذبٌ على ُ‬
‫ط النتصا ِر للمذاهب والتعصب لها على معارضةِ سننِ‬
‫وسلم‪ ،‬وينبغي أن ل يَحمِلَ الِنسانَ فر ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم الصحيح ِة الصريحةِ بالكذب البحت‪ ،‬فلو يكونُ هذا عند عمر‬
‫رسول ا ّ‬
‫ل عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لخرستَ فاطمة وذووها‪ ،‬ولم َي ْنبِسوا بكلمة‪ ،‬ول‬
‫رضي ا ّ‬
‫ج إلى ذكر إخراجها لبَذاء لسانها‪ ،‬ولما فات هذا الحديث أئمةَ‬
‫عتْ فاطمة إلى المناظرة‪ ،‬ول احتِي َ‬
‫دَ َ‬
‫الحديثِ والمصنفين في السنن والحكام المنتصرين للسنن فقط ل لِمذهب‪ ،‬ول لرجل‪ ،‬هذا قبل أن‬
‫َنصِلَ به إلى إبراهيم‪ ،‬ولو قدر؟وصولُنا بالحديث إلى إبراهيم ل نقطع نخَاعُهُ‪ ،‬فإن إبراهيم لم يُولد‬
‫إل بعد موت عمر رضي الّ عنه بسنين‪ ،‬فإن كان مخبرٌ أخبر به إبراهيم عن عمر رضي الّ عنه‪،‬‬
‫ل صلى ال‬
‫ن أن رسولَ ا ّ‬
‫ل عنه بالمعنى‪ ،‬وظ ّ‬
‫وحسنّا به الظن‪ ،‬كان قد روى له قول عمر رضي ا ّ‬

‫‪311‬‬
‫ل عنه‪ :‬ل ندع‬
‫عليه وسلم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلقة‪ ،‬حتى قال عمُر رضي ا ّ‬
‫كتابَ ربنا لِقول امرأة‪ ،‬فقد يكون الرجل صالحًا ويكون مغفّلً‪ ،‬ليس تَحمّلُ الحديثِ وحفظُه وروايتُه‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫مِن شأنِهِ‪ ،‬وبا ّ‬
‫ن بن مهران‪ ،‬وسعيدُ بن المسيّب‪ ،‬فذكر له ميمون‬
‫وقد تناظر في هذه المسألة ميمو ُ‬
‫ت الناسَ‪ ،‬فقال له ميمون‪ :‬لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به‬
‫خبر فاطمة‪ ،‬فقال سعيد‪ :‬تلك امرأة فتن ِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أسوةً‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ما َف َت َنتِ الناسَ‪ ،‬وإن لنا في رسول ا ّ‬
‫رسولُ ا ّ‬
‫حسنة‪ ،‬مع أنها أحرمُ الناس عليه ليس لها عليه رجعة‪ ،‬ول بينهما ميراث‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ول يعلم أحدٌ من الفقهاء رحمهم الّ إل وقد احتجّ بحديث فاطمة بنت قيس‬
‫هذا‪ ،‬وأخذ به في بعض الحكام كمالك‪ ،‬والشافعي‪ .‬وجمهورُ المة يحتجون به في سقوط نفقة‬
‫المبتوتة إذا كانت حائلً‪ ،‬والشافعي نفسُه احتج به على جواز جمع الثلث‪ ،‬لن في بعض‪ ،‬ألفاظه‪:‬‬
‫ج به من يرى‬
‫فطلقني ثلثاً‪ ،‬وقد بيّنا أنه إنما طلقها آخ َر ثلثٍ كما أخبرت به عن نفسها‪ .‬واحت ّ‬
‫جوازَ نظر المرأة إلى الرجال‪ ،‬واحتج به الئمة ُكّلهُم على‪ ،‬جوازِ خِطبة الرجل على خِطبة أخيه إذا‬
‫لم تكن المرأةُ قد سكنت إلى الخاطب الول‪ ،‬واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على‬
‫وجه النصيحةِ لمن استشاره أن يزوّجه‪ ،‬أو يُعا ِملَه‪ ،‬أو تسا ِفرَ معه‪ ،‬وأن ذلك ليس بغيبة‪ ،‬واحتجوا به‬
‫ح القرشية من غير القرشي‪ ،‬واحتجوا به على وقوعِ الطلق في حال غيبة أحدِ‬
‫على جواز نكا ِ‬
‫الزوجين عن الخر‪ ،‬وأنه ل يُشترط حضورُه ومواجهتُه به‪ ،‬واحتجوا به على جواز التعريض‬
‫طتْها‬
‫بخطبة المعتدة البائن‪ ،‬وكانت هذه الحكا ُم ُكلُها حاصلةً ببركة روايتها‪ ،‬وصدقِ حديثها‪ ،‬فاست ْنبَ َ‬
‫المةُ منها‪ ،‬وعملت بها‪ ،‬فما بالُ روايتها ترد في حكم واح ٍد من أحكام هذا الحديث‪ ،‬وتُقبل فيما‬
‫عداه؟! فإن كانت حفظته‪ ،‬قبلت في جميعه‪ ،‬وإن لم تكن حفظته وجب أن ل يقبل في شيِء من‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫أحكامه وبا ّ‬
‫س ِكنُوهُنّ‬
‫فإن قيل‪ :‬بقي عليكم شيء واحد‪ ،‬وهو أن قوله سبحانه‪{ :‬أَ ْ‬
‫ن وُجْ ِدكُم} [الطلق‪ ،]6 :‬إنما هو في البوائن ل في الرجعيات‪ ،‬بدليل قوله عقيبه‪:‬‬
‫س َك ْنتُم مِ ْ‬
‫ح ْيثُ َ‬
‫مِنْ َ‬
‫ضعْنَ حَمَلهُنَ}‬
‫حتَى َي َ‬
‫عَل ْيهِنّ َ‬
‫حمْلٍ فَأنْفِقُوا َ‬
‫ن كُن أولتِ َ‬
‫عَل ْيهِن َوإِ ْ‬
‫ضيّقوا َ‬
‫ن ِل ُت َ‬
‫{ول تُضارُوهُ َ‬
‫[الطلق‪ ،]6 :‬فهذا في البائن‪ ،‬إذ لو كانت رجعية‪ ،‬لما قيد النفقة عليها بالحمل‪ ،‬ولكان عديم التأثير‪،‬‬
‫فإنها تستحِقُها حائلً كانت أو حاملً‪ ،‬والظاهر‪ :‬أن الضمير في ((أسكنوهن)) هو‪ ،‬والضمير في‬
‫عَل ْيهِنَ}‪ ،‬واحد‪.‬‬
‫حمْل َفَأنْفِقُوا َ‬
‫ن أولتِ َ‬
‫ن كُ َ‬
‫قوله‪{ :‬وإ ْ‬

‫‪312‬‬
‫ن من الموجبين النفقةَ‬
‫فالجواب‪ :‬أن ُم ْورِدَ هذا السؤالِ إما أن يكو َ‬
‫والسكنى‪ ،‬أو ممن يُوجب السّكنى دون النفقة‪ ،‬فإن كان الولُ‪ ،‬فالي ُة على زعمه حجة عليه‪،‬‬
‫لنه سبحانه شرط في إيجاب النفقة عليهن كونهن حواملَ‪ ،‬والحكم المعلّق على الشرط ينتفي عند‬
‫انتفائه‪ ،‬فدل على أن البائنَ الحائلَ ل نفقة لها‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهذه دللة على المفهوم‪ ،‬ول يقولُ بها‪.‬‬
‫قيل‪ :‬ليس ذلك مِن دللة المفهوم‪ ،‬بل مِن انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه‪ ،‬فلو بقي الحكم بعد‬
‫انتفائه‪ ،‬لم يكن شرطاً‪ ،‬وإن كان فمن يُوجب السكنى وحدها فيقال له‪ :‬ليس في الية ضمير واحد‬
‫جَلهُنّ‬
‫ن أَ َ‬
‫يخصّ البائن‪ ،‬بل ضمائرها نوعان‪ :‬نوع يخص الرجعية قطعاً‪ ،‬كقوله‪{ :‬فَإذَا َبَلغْ َ‬
‫ل أن يكون للبائن‪ ،‬وأن يَكون‬
‫ن ب َمعْروفٍ} [الطلق‪ ]2 :‬ونوع يحَتمِ ُ‬
‫ف َأوْ فَارِقُوه ّ‬
‫ن ب َم ْعرُو ٍ‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫فََأمْ ِ‬
‫خ ُرجْنَ} [الطلق‪،]1 :‬‬
‫ن بُيو ِتهِنّ وَل يَ ْ‬
‫خرِجُوهُنّ مِ ْ‬
‫ل ُت ْ‬
‫للرجعيةِ‪ ،‬وأن يَكون لهما‪ ،‬وهو قوله‪َ { :‬‬
‫ن مِنْ حيثُ سكنتُ ْم مِنْ وجْ ِدكُم} [الطلق‪ ]6 :‬فحمله على الرجعية هو المتعين‬
‫س ِكنُوهُ ّ‬
‫وقوله‪{ :‬أَ ْ‬
‫لِتتحد الضمائرُ ومفسرها‪ ،‬وهو خلفُ الصل‪ ،‬والحمل على الصل أولى‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما الفائدة في تخصيص‪ ،‬نفقة الرجعية بكونها حاملً؟‬
‫قيل‪ :‬ليس في الَية ما يقتضي أنه‪ ،‬ل نفقة للرجعية الحائل‪ ،‬بل الرجعيةُ نوعان‪ ،‬قد بيّن الّ‬
‫حكمهما في كتابه‪ :‬حائل‪ ،‬فلها النفقة بعقد الزوجية‪ ،‬إذ حكمُها حكم الزواج‪ ،‬أو حامل‪ ،‬فلها النفقة‬
‫بهذه الية إلى أن تضع حملها‪ ،‬فتصير النفق ُه بعد الوضع نفقةَ قريب ل نفقة زوج‪ ،‬فيخالف حالها‬
‫قبل الوضع حالها بعده‪ ،‬فإن الزوج يُنفق عليها وحدَه إذا كانت حاملً‪ ،‬فإذا وضعت‪ ،‬صارت نفقتها‬
‫ب عليه نفقة الطفل‪ ،‬ول يكون حالها في حال حملها كذلك‪ ،‬بحيث تجب نفقتُها على من‬
‫ج ُ‬
‫على من ت ِ‬
‫تجب عليه نفقة الطفل‪ ،‬فإنه في حال حملها جزء من أجزائها‪ ،‬فإذا انفصل‪ ،‬كان له حكم آخر‪،‬‬
‫ل أعلم بما أراد من كلمه‪.‬‬
‫وانتقلت النفقةُ مِن حكم إلى حكم‪ ،‬فظهرت فائدة التقييد وسر الشتراط وا ّ‬
‫ذكر حكم رسول الّ صلى ال عليه وسلم الموافق لكتاب ال تعالى من وجوب النفقة‬
‫للقارب‬
‫روى أبو داود في ((سننه))‪ :‬عن كليب بن منفعة‪ ،‬عن جده‪ ،‬أنه أتى النبي صلى ال عليه‬
‫ك الّذِي يَلي ذاك‪ ،‬حَقّ‬
‫لَ‬‫خ َتكَ َوأَخَاكَ َو َموْ َ‬
‫ك وأُ ْ‬
‫وسلم فقال‪ :‬يا رسول الّ ! من أ َبرّ؟ قال ((ُأمّك وَأبَا َ‬
‫وَاجِب ورَحِ ٌم َم ْوصُولَةٌ))‬

‫‪313‬‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫ت المدينة‪ ،‬فإذا رسولُ ا ّ‬
‫وروى النسائي عن طارِق المحاربي قال‪ :‬قدم ُ‬
‫ك َوَأبَاكَ‪،‬‬
‫ن َتعُولُ‪ُ :‬أ ّم َ‬
‫س وهو يقول‪(( :‬يَدُ ال ُمعْطي ال ُع ْليَا‪ ،‬وَابْدَأ ِبمَ ْ‬
‫وسلم قائ ٌم على المنبر يخطُب‪،‬النا َ‬
‫ك أَ ْدنَاكَ))‬
‫خ َتكَ وأَخَاكَ‪ ،‬ثُ ّم أَ ْدنَا َ‬
‫َوأُ ْ‬
‫ل إلى رسول الّ صلى‬
‫ل عنه قال‪ :‬جاء رج ٌ‬
‫وفي ((الصحيحين))‪ :‬عن أبي هُريرة رضي ا ّ‬
‫ق الناسِ بحُسن صَحَابتي؟ قال ((ُأ ُمكّ))‪ ،‬قال‪ :‬ثم من؟‬
‫ل ! من أح ّ‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسولَ ا ّ‬
‫ك أَ ْدنَاكَ))‪.‬‬
‫ك ثُ َم أَ ْدنَا َ‬
‫قال‪(( :‬أُ ّمكَ))‪ ،‬قال‪ :‬ثم من؟ قال‪ُ(( :‬أمّكَ))‪ ،‬قال‪ :‬ثم من؟ قال‪َ(( :‬أبُو َ‬
‫ن َأ َبرُ؟‬
‫وفي الترمذي‪ ،‬عن معاوية القُشيري رضي الّ عنه‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسولَ الّ ! مَ ْ‬
‫قال‪(( :‬أُ ّمكَ))‪ ،‬قلتُ‪ :‬ثم مَنْ؟ قال‪ُ(( :‬أ ّمكَ))‪ ،‬قلت‪ :‬ثم من؟ قال‪ُ(( :‬أمّك))‪ ،‬قلت‪ :‬ثم مَن؟ قال‪َ(( :‬أبَاكَ‬
‫ثُمّ الَ ْق َربَ فَالَق َربَ))‪.‬‬
‫ك َو َولَدَك بِال َم ْعرُوفِ))‪.‬‬
‫وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم لِهند‪(( :‬خُذي مَا َيكْفِي ِ‬
‫وفي ((سنن أبي داود))‪ ،‬من حديث عمرو بن شعيبٍ‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جدّه‪ ،‬عن النبيّ صلى‬
‫س ِبكُمْ‪ ،‬وإِنّ َأوْلَ َدكُ ْم مِنْ كَس ِبكُم َف ُكلُوهُ هنيئاً))‪.‬‬
‫ن كَ ْ‬
‫ب مَا َأ َكلْتم مِ ْ‬
‫ط َي َ‬
‫ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬إنّ أَ ْ‬
‫ورواه أيضاً من حديث‪،‬عائشة رضي ال عنها مرفوعاً‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ((ابْ َدأْ‬
‫وروى النسائي من حديث جابر بن عبد الّ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫ن أَ ْهِلكَ شَيءٌ‪َ ،‬فلِذِي َقرَا َبتِكَ‪ ،‬فَإنْ َفضَلَ‬
‫عَل ْيهَا فَإِنْ َفضَلَ شَيءٌ‪ ،‬فَل ْهِلكَ‪ ،‬فَإنْ َفضَلَ عَ ْ‬
‫سكَ فَتصَدّقْ َ‬
‫ِبنَفْ ِ‬
‫عَنْ ذِي َقرَابتكَ‪ ،‬فهكَذَا وهكَذَا))‪.‬‬
‫شيْئًا وبِالوَالِدَينِ إحْسَانًا وبذِي‬
‫ش ِركُوا بِهِ َ‬
‫ل تُ ْ‬
‫ل وَ َ‬
‫عبُدُوا ا َ‬
‫وهذا كله تفسير لقوله تعالى‪{ :‬وَا ْ‬
‫ال ُق ْربَى} [النساء‪ ]36 :‬وقوله تعالى‪{ :‬وآتِ ذا ال ُقرْبى حَقّهُ} [السراء‪ ]26 :‬فجعل سبحانه حق ذى‬
‫القربى يلي حق الوالدين‪ ،‬كما جعله النبيّ صلى ال عليه وسلم سواءً بسواء‪ ،‬وأخبر سبحانه؟ أن‬
‫ق النفقةِ‪ ،‬فل نَ ْدرِي أيّ حقّ ُهوَ‪.‬‬
‫لذي القربى حقًا على قرابته‪ ،‬وأمر بإتيانه إياه‪ ،‬فإن لم يكن ذلك ح ّ‬
‫عرْياً‪ ،‬وهو قادر‬
‫وأمر تعالى بالِحسان إلى ذي القربى‪ .‬ومن أعظم الِسا َء َة أن يراه‪ ،‬يموت جوعًا و ُ‬
‫ع ْورَة إل بأن يقرضه ذلك في ِذ ّمتِهِ‪،‬‬
‫ستُر له َ‬
‫ع ْو َرتِهِ‪ ،‬ول يطعمه لُقمة‪ ،‬ول يَ ْ‬
‫خلّته وستر َ‬
‫على سد َ‬
‫وهذَا الحكم من‪ ،‬النبيّ صلى ال عليه وسلم مطابق لكتاب الّ تعالى حيث يقول‪{ :‬وَالوَالِدَاتُ‬
‫س َو ُتهُنّ‬
‫علَى ال َموْلُو ِد لَ ُه ِرزْقهنّ وكِ ْ‬
‫ن لِمنَ َأرَا َد أَنْ يتُ ّم ال ّرضَاعَةَ وَ َ‬
‫ن َأوْلدَهُنّ حَوَليْنِ كا ِمَليْ ِ‬
‫ُي ْرضِعْ َ‬
‫علَى الوَا ِرثِ ِمثْلُ‬
‫ل ُتضَارّ وَالِ َد ٌة ِب َولَدِها وَلَ َم ْولُو ٌد لَ ُه ِب َولَدهِ وَ َ‬
‫س َعهَا َ‬
‫ل وُ ْ‬
‫ف نَ ْفسٌ إ ّ‬
‫بِال َم ْعرُوفِ ل ن َكّل ُ‬
‫َذِلكَ} [البقرة‪ ]233 :‬فأوجب سبحانه وتعالى على الوارثِ مثل ما أوجب على المولود له‪ ،‬وبمثلِ‬

‫‪314‬‬
‫ع َييْةً‪ ،‬عن ابن‬
‫ل عنه‪ .‬فروى سفيان بن ُ‬
‫هذا الحكم حكم أمي ُر المؤمنين عمرُ بنُ الخطاب رضي ا ّ‬
‫صبَةَ صبيّ‬
‫ع َ‬
‫ح َبسَ َ‬
‫جريج‪ ،‬عن عمرو بن شعيب‪ ،‬عن سعيد بن المسّيب‪ ،‬أن عمر رضي ال عنه َ‬
‫على أن ُينْفقوا عليه‪ ،‬الرجال دون النّساء‪ .‬وقال عبد الرزاق‪ :‬حدثنا ابن جريج‪ ،‬أخبرني عمرو بن‬
‫شعيب‪ ،‬أن ابن المسيّب أخبره‪ ،‬أن عم َر بنَ الخطاب رضي الّ عنه‪ ،‬وقف بني عم على َمنْفُوسٍ‬
‫كَللة بالنفقة عليه مثل العاقلة‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل مال له‪ ،‬فقال‪ :‬وَلوْ‪ ،‬وقوفُهم بالنفقة عليه كهيئة العقل‪ ،‬قال‬
‫ابن المديني‪ :‬قوله‪ :‬ولو‪ ،‬أي‪ :‬ولو لم يكن له مال‪ .‬وذكر ابن أبي شيبة‪ ،‬عن أبي خالد الحمر‪ ،‬عن‬
‫حجاج‪ ،‬عن عمرو‪ ،‬عن سعيد بن المسيب‪ ،‬قال‪ :‬جاء ولي يتيم إلى عم َر بنِ الخطّاب رضي ال‬
‫ت عليهم‪ .‬وحكم بمثل ذلك أيضاً‬
‫عنه‪ ،‬فقال‪َ :‬أنْفِق عليه‪ ،‬ثم قال‪ :‬لو لم أج ْد إل أقصى عشيرته لَ َف َرضْ ُ‬
‫زيدُ بن ثابت‪.‬‬
‫قال ابن أبي شيبة‪ :‬حدثنا حميد بن عبد الرحمن‪ ،‬عن حسن‪ ،‬عن مطرف‪،‬عن إسماعيل‪ ،‬عن‬
‫الحسن‪ ،‬عن زيد بن ثابت‪ ،‬قال‪ :‬إذا كان أُ ّم وَعَمّ‪ ،‬فعلى الم بقدر مِيراثها‪ ،‬وعلى العم بقدر مِيراثه‪،‬‬
‫ول يعرفُ لعمر‪ ،‬وزيد مخالف في الصحابة البتّةَ‪.‬‬
‫ل ذِلكَ} [البقرة‪ ،]233 :‬قال‪ :‬على ورثة‬
‫ث ِمثْ ُ‬
‫علَى الوَا ِر ِ‬
‫وقال ابن جريج‪ :‬قلت لعطاء‪{ :‬و َ‬
‫اليتيم أن ينفقوا عليه كما يرثونه‪ .‬قلت له‪ :‬أيحْبسُ وارث المولود إن لم يكن للمولود مال؟ قال‪:‬‬
‫ل الذي َي ِرثُ‬
‫ل ذِلكَ} [البقرة‪ ]233 :‬قال‪ :‬على الرج ِ‬
‫أفيدعُه يموت؟ وقال الحسن‪{ :‬وعَلى الوَا ِرثِ ِمثْ ُ‬
‫سرَ الية جمهورُ السلف‪ ،‬منهم‪ :‬قتادة‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬والضحاك‪،‬‬
‫أن ينفق عليه حتى يستغنيَ‪ .‬وبهذا ف ّ‬
‫ل بن عتبة بن مسعود‪ ،‬وإبراهيم‬
‫ن ذؤيب‪ ،‬وعبدُ ا ّ‬
‫وزيدُ بن أسلم‪ ،‬وشريح القاضي‪ ،‬و َقبِيص ُة ب ُ‬
‫ب ابن مسعود‪ ،‬ومن بعدهم‪ :‬سفيان الثوري‪ ،‬وعبد الرزاق‪ ،‬وأبو حنيفة‬
‫النخعي‪ ،‬والشعبي‪ ،‬وأصحا ُ‬
‫وأصحابه‪ ،‬ومن بعدهم‪ :‬أحمد‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬وداود و أصحابهم‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على عدة أقوال‪.‬‬
‫صلَة‪ ،‬وهذا مذهب ُيعَزى‬
‫ج َبرُ أح ٌد على نفقةِ أحدٍ من أقاربه‪ ،‬وإنما ذلك ِب ٌر و ِ‬
‫أحدُها أنه ل يُ ْ‬
‫إلى الشعبي‪ .‬قال عب ُد بنُ حمي ٍد الكَشّي‪ :‬حدثنا َقبِيصةُ‪ ،‬عن سفيان الثوري‪ ،‬عن أشعث‪ ،‬عن الشعبى‪،‬‬
‫قال‪ :‬ما رأيت أحداً أجبرَ أحدًا على أحدٍ‪ ،‬يعني على نفقته‪ .‬وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلم نظر‪،‬‬
‫ي أن يجب َرهُ‬
‫ل من أن يحتاج الغن ّ‬
‫س كانوا أتقى ّ‬
‫والشعبي أفقه من هذا‪ ،‬والظاهر أنه أراد‪ :‬أن النا َ‬
‫الحاكم على الِنفاق على قريبه المحتاج‪ ،‬فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب الحاكم أو‬
‫إجباره‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫المذهب الثاني‪ :‬انه يجب عليه النفقةُ على أبيه الدنى‪ ،‬وأمّه التي ولدته خاصة‪ ،‬فهذان‬
‫البوان يجبر الذكر والنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فقيرين‪ ،‬فأما نفقةُ الولدِ‪ ،‬فالرجل‬
‫يُجْب ُر على نفقة ابنهِ الدنى حتى يبلغ فقط‪ ،‬وعلى نفقة بنته الدنيا حتى ُت َزوّجَ‪ ،‬ول يجبر على نفقة‬
‫ابن ابنه‪ ،‬ول بنت ابنه وإن سفل‪ ،‬ول ُتجْبرُ الُ ُم على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة‬
‫والم في غاية الغنى‪ ،‬ول تجب على أحد النفق ُة على ابن ابن‪ ،‬ول جدّ‪ ،‬ول أخٍ‪ ،‬ول أختٍ‪ ،‬ول‬
‫عمّ‪،‬ول عمةٍ ول خالٍ ول خالةٍ ول أحد من القارب البتة سوى ما ذكرنا‪ .‬وتجب النفقةُ مع اتحادِ‬
‫الدّين واختلفه حيث وجبت‪ ،‬وهذا مذهب مالك‪ ،‬وهو أضيقُ المذاهب في النفقات‪.‬‬
‫المذهب الثالث‪ :‬أنه تجبُ نفق ُة عمودي النسب خاصة‪ ،‬دون مَنْ عداهم‪ ،‬مع اتفاق الدّين‪،‬‬
‫ن أو زمانةٍ إن‬
‫ق عليه‪ ،‬وعجزه عن الكسب بصغرٍ أو جنو ٍ‬
‫ويَسَا ِر المنفِقِ‪ ،‬وقدرته‪ ،‬وحاجة ال ُمنْفَ ِ‬
‫ن من العمود العلى‪ :‬فهل يشترط عَجْزهُم عن الكسبِ؟ على قولين‪.‬‬
‫كان من العمود السفل‪ .‬وإن كا َ‬
‫ومنهم من طرّد القولين أيضاً في العمود السفل‪ .‬فإذا بلغ الولد صحيحاً‪ ،‬سقطت نفقته ذكراً كان أو‬
‫أنثى‪ ،‬وهذا مذهب الشافعي‪ ،‬وهو أوسع من مذهب مالك‪.‬‬
‫حرَمٍ لذي رحمه فإن كان من الولد‬
‫جبُ على كل ذي رحم مَ ْ‬
‫المذهب الرابع‪ :‬أن النفقة تَ ِ‬
‫وأولدهم‪ ،‬أو الباء والجداد‪ ،‬وجبت نفقتُهم مع اتحاد الدَين واختلفه‪ .‬وإن كان من غيرهم‪ ،‬لم‬
‫تجب إل مع اتحاد الدّين‪ ،‬فل يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر‪ ،‬ثم إنما تجب النفقة‬
‫ع ُتبِرَ فَ ْق ُرهُ فَقَط‪ ،‬وإن كان كبيراً‪ ،‬فإن كان‬
‫ق عليه‪ .‬فإن كان صغيرًا ا ْ‬
‫بشرط قدرة المنفِق وحاجة المنفَ ِ‬
‫عمَاهُ أو َزمَا َنتِهِ‪ ،‬فإن كان صحيحًا بصيرا لم تجب‬
‫أنثى‪ ،‬فكذلك‪ ،‬وإن كان َذكَراً‪ ،‬فل بُدّ مع فقره من َ‬
‫نفقته‪ ،‬وهي مرتّبة عنده على الميراث إل في نفقة الولد‪ ،‬فإنها على أبيه‪ ،‬خاصة على المشهور من‬
‫مذهبه‪.‬‬
‫وروي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي‪ :‬أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طردًا للقياس‪،‬‬
‫وهذا مذهب أبي حنيفة‪ ،‬وهو أوسعُ من مذهب الشافعي‪،‬‬
‫المذهب الخامس‪ :‬أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبتْ نفقته مطلقاً‪ ،‬سواءً كان‬
‫وارثاً أو غير وارث‪ ،‬وهل يشترط اتحا ُد الدّين بينهم؟ على روايتين وعنه رواية أخرى‪ :‬أنه ل تجبُ‬
‫ض أو َتعْصيب كسائر القارب‪ .‬وإن كان من غير عمودي النسب‪،‬‬
‫نفقتُهم إل بشرط أن يرثهم بِ َفرْ ٍ‬
‫وجبت نفقتهم بشرط‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫أن يكون بينه وبينهم توارث‪ .‬ثم هل يشترط أن يكون التوارث من الجانبين‪ ،‬أو يكفي أن‬
‫يكون من أحدهما؟ على روايتين‪ .‬وهل يشترط ثبوت التّوا ُرثِ في الحال‪ ،‬أو أن يكون من أهل‬
‫الميراث في الجملة؟ على روايتين‪ :‬فإن كان القارب من ذوي الرحام الذين ل يرثون‪ ،‬فل نفقةَ‬
‫لهم على المنصوص عنه‪ ،‬وخرّج بعض أصحابه وجوبَها عليهم من مذهبه من توارثهم‪ ،‬ول بد‬
‫عنده من اتّحاد الدّين بين المنفِق والمنفَقِ عليه حيث وجبت النفقة إل في عمودي النسب في إحدى‬
‫الروايتين‪ .‬فإن كان الميراث بغير القرابة‪ ،‬كالولء وجبت النفقة به في ظاهر مذهبه على الوارث‬
‫ل لزمته نفقةُ زوجتِهِ في ظاهر مذهبه‪ .‬وعنه‪ :‬ل تلزمه‪ .‬وعنه‪:‬‬
‫دون الموروث‪ ،‬وإذا لزمتْه نفقةُ رج ٍ‬
‫تلزمه في عمودي النسب خاصة دون مَنْ عداهم‪ .‬وعنه‪ :‬تلزمه لزوجة الب خاصة‪ ،‬ويلزمه‬
‫س ّر إذا طلبوا ذلك‪.‬قال القاضي أبو يعلى‪ :‬وكذلك يجيءُ في كل مَنْ‬
‫إعفاف عمودي نسبه بتزويج أو تَ َ‬
‫لزمته نفقتُه‪ :‬أخ‪ ،‬أو عم‪ ،‬أو غيرهما يلزمُه إعفافُه‪ ،‬لن أحمد رحمه الّ قد نص في العبد يلزمه أن‬
‫يزوجه إذا طلب ذلك‪ ،‬وإل بيع عليه‪ ،‬وإذا لزمه إعفافُ رجل لزمه نفقة زوجته‪ ،‬لنه ل ُت َمكّنُ من‬
‫الِعفاف إل بذلك‪ ،‬وهذه غير المسألة المتقدمة‪ ،‬وهو وجوب الِنفاق على زوجة المنفَق عليه‪ ،‬ولهذه‬
‫مأخذ‪ ،‬ولتلك مأخذ‪ ،‬وهذا مذهب الِمام أحمد‪ ،‬وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة‪ ،‬وإن كان مذهب‬
‫ب النفقةَ على ذوي الرحام وهو الصحيح في الدليل‪،‬‬
‫ج ُ‬
‫ث يُو ِ‬
‫أبي حنيفة أوسعَ منه من وجه آخر حي ُ‬
‫ل أن تُوصَلَ‪،‬‬
‫وهو الذي تقتضيه أصولُ أحمد ونصوصُه وقواعد الشرع‪ ،‬وصلةُ الرحم التي أمر ا ّ‬
‫ق بشيئين‪ :‬بالميراث بكتاب الّ‪ ،‬وبالرحم بسنة رسول‬
‫ستَحَ ّ‬
‫وحرّمَ الجنة على كل قاطع رحم‪ ،‬فالنفقةُ تُ ْ‬
‫صبَ َة صبيّ أن‬
‫ع َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقد تقدَ َم أن عمر بن الخطاب رضي الّ عنه حبس َ‬
‫ا ّ‬
‫ينفقوا عليه‪ ،‬وكانوا بني عمه‪ ،‬وتقدّمَ قولُ زيد بن ثابت‪ :‬إذا كان عَ ّم وأمّ فعلى العم بقدر ميراثه‪،‬‬
‫وعلى الم بقدر ميراثها‪ ،‬فإنه ل مخالف لهما في الصحابة البتة‪ ،‬وهو قولُ جمهو ِر السلف‪ ،‬وعليه‬
‫يدل قوله تعالى‪{:‬وآتِ ذا ال ُق ْربَى حَقّه} [السراء‪ ،]26 :‬وقوله تعالى‪{ :‬وَبا ْلوَال َديْن إحْسَانًا وَبذي‬
‫ال ُق ْربَى} [النساء‪.]36 :‬‬
‫خ َتكَ‬
‫وقد أوجب النبى صلى ال عليه وسلم للقارب‪ ،‬العطية وصرّح بأنسابهم‪ ،‬فقال‪(( :‬وأُ ْ‬
‫ب َورَحِ ٌم َموْصُولَةٌ))‪.‬‬
‫ج ٌ‬
‫ق وَا ِ‬
‫َوأَخَاكَ‪ ،‬ثُ ّم أَ ْدنَاكَ فأدناكَ‪ ،‬حَ ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬فالمراد بذلك ال ِبرّ والصّلةُ دون الوجوب‪.‬‬
‫قيل‪َ :‬يرُدّ هذا أنه سبحانه أمر به وسمّاهُ حقاً‪ ،‬وأضافه إليه بقوله‪(( :‬حَقّهُ))‪ ،‬وأخبر النبى‬
‫صلى ال عليه وسلم بأنه حقّ‪ ،‬وأنه واجبٌ‪ ،‬وبعض هذا ينادى على الوجوب جهاراً‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫فإن قيل‪ :‬المراد بحقه ترك قطيعته‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬من وجهين‪ .‬أحدهما‪ :‬أن يقال‪ :‬فأى قطيعة أعظم من أن يراه يتلظّى جُوعاً‬
‫س ِكنُهُ‬
‫ع ْو َرتَهُ ويقيهِ الح ّر والبردَ‪ ،‬ويُ ْ‬
‫وعَطَشاً‪ ،‬ويتأذّى غاية الذى بالحر والبرد‪ ،‬ول يكسوه ما يستر َ‬
‫صنْو أبيه‪ ،‬أو خالته التى هى أمه‪ ،‬إنما‬
‫تحت سقف يُظله‪ ،‬هذا وهو أخوه ابن أمه وأبيه‪ ،‬أو عمه ِ‬
‫يجب عليه من ذلك ما يجب بَ ْدلُهُ للجنبىّ البعيد‪ ،‬بأن يعاوضه على ذلك فى ال ّذمّ ِة إلى أن يُوسر‪ ،‬ثم‬
‫سعَ ِة الموال‪ .‬فإن لم تكن هذه قطيعة‪ ،‬فإنا‬
‫يسترجع به عليه‪ ،‬هذا مع كونه فى غاية اليَسَارِ والجِ َدةِ‪ ،‬و َ‬
‫صلَةُ التى أمر الّ بها‪ ،‬وحرّمَ الجنة على قاطعها‪.‬‬
‫ل ندرى ما هى القطيعة المحرمة‪ ،‬وال ّ‬
‫الوجه الثانى‪ :‬أن يقال‪ :‬فما هذه الصلة الواجبة التى نادت عليها النصوصُ‪ ،‬وبالغت فى‬
‫خ ِبرَ به اللسنة‪،‬‬
‫إيجابها‪ ،‬و َذ ّمتْ قاطعها؟ فأىّ قَ ْدرٍ زائدٍ فيها على حق الجنبىّ حتى َتعْ ِقلَهُ القلوب‪ ،‬وتُ ْ‬
‫و َت ْعمَلَ به الجوارحُ؟ أهو السل ُم عليه إذا لقيه‪ ،‬وعيادتُه إذا مرض‪ ،‬وتشميتُه إذا عطس‪ ،‬وإجابتُه إذا‬
‫ب نظيرُه للجنبىّ على الجنبىّ؟ وإن كانت هذه‬
‫دعاهُ‪ ،‬وإنكم ل تُوجبون شيئًا من ذلك إل ما يج ُ‬
‫ب لكل مسلم على كُلّ مسلم‪،‬‬
‫الصّل ُة ترك ضربِه وسبه وأذاه والزراء به‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فهذا حق يج ُ‬
‫بل للذمّى البعيد على المسلم‪ ،‬فما خصوصي ُة صلةِ الواجبة؟ ولهذا كان بعضُ فضلء المتأخّرين‬
‫س هذا على أصحابِ مالك‪ ،‬وقالوا لهم‪:‬‬
‫يقول‪ :‬أعيانى أن أعرف صلةَ الرحم الواجبة‪ .‬ولما َأ ْورَ َد النا ُ‬
‫ص ّنفَ بعضُهم فى صلة الرحم كتابًا كبيراً‪ ،‬وأوعب فيه من الثارِ‬
‫ما معنى صلةِ الرحم عندكم؟ َ‬
‫المرفوعةِ‪ ،‬وذكر جنسَ الصلة وأنواعها وأقسامها‪ ،‬ومع هذا فلم يتخلّص من هذا اللزام‪ ،‬فإن الصلة‬
‫معروفة يعرفُها الخاصّ والعام‪ ،‬والثارُ فيها أشهر من العلم‪ ،‬ولكن ما الصّل ُة التى تخ َتصّ بها‬
‫الرحمُ‪ ،‬وتجب له الرحمة‪ ،‬ول يُشاركه فيها الجنبى؟ فل يُمكنكم أن ُت َعيّنوا وجوب شىءٍ إل وكانت‬
‫ب منه‪ ،‬ول يمكنكم أن تَ ْذكُروا مُسْقِطًا لوجوب النّفقة إل وكان ما عداها أولى بالسقوط‬
‫النفقةُ أوج َ‬
‫خ َتكَ‬
‫ك وَأبَاكَ‪ ،‬وأُ ْ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم قد َقرَنَ حَقّ الخ والخت بالب والم‪ ،‬فقال‪((:‬أُ ّم َ‬
‫منه‪ ،‬والنب ّ‬
‫خ َرهُ للستحبابِ؟‬
‫َوأَخَاكَ‪ ،‬ثُ ّم أَ ْدنَاكَ فَأَ ْدنَاكَ))‪ ،‬فما الذى نسخ هذا‪ ،‬وما الذى جعل َأ ّولَهُ للوجوب‪ ،‬وآ ِ‬
‫س ال ُك ُنفَ‪ ،‬ويُكارى على الحُمر‪ ،‬ويُوقِدُ‬
‫ع ِرفَ هذا‪ ،‬فليس من ِب ّر الوالدينِ أن يَدَعَ الرجلُ أبا ُه َي ْكنُ ُ‬
‫وإذا ُ‬
‫سعَةِ‬
‫ج َرتِهِ‪ ،‬وهو فى غاية الغِنى واليَسَار‪ ،‬و َ‬
‫حمِلُ للناس على رأسه ما َيتَ َق ّوتُ بأُ ْ‬
‫حمّامِ‪ ،‬ويَ ْ‬
‫فى أَتوّنِ ال َ‬
‫عهَا تَخْدُ ُم النّاسَ‪ ،‬وتغسلُ ثيابهم‪ ،‬وتسقى لهم الماء ونحو ذلك‪ ،‬ول‬
‫ذاتِ اليدِ‪ ،‬وليس مِن ِب ّر ُأمّهِ أن يَدَ َ‬
‫ع َم َييْنِ‪ ،‬فبالِّ‬
‫سبَانِ صحيحانِ‪ ،‬وليسا ِب َز ِم َنيْنِ ول أَ ْ‬
‫يصُونُها بما ُينْفِقهُ عليها‪ ،‬ويقول‪ :‬البوان ُم ْكتَ ِ‬

‫‪318‬‬
‫ل ورسولهِ فى ب ّر الوالدين‪ ،‬وصِلَ ِة الرّح ِم أن يكون أحدُهم َزمِنًا أو أعمى‪،‬‬
‫العجبُ‪ :‬أين شرطُ ا ّ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫صلَ ُة الرّحمِ ول ِب ّر الوالدين موقوف ًة على ذلك شرعًا ول لغةً ول عرفاً‪ ،‬وبا ّ‬
‫وليست ِ‬
‫ِذ ْكرُ حكم رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم فى الرضاعة وما يحرم بها‪ ،‬وما ل يحرم‪ ،‬وحُكمه‬
‫فى القَ ْدرِ المحرّم منها وحُكمه فى إرضاع الكبير‪ ،‬هل له تأثير‪ ،‬أم ل؟‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ل عنها‪ ،‬عنه صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث عائشة رضى ا ّ‬ ‫@‬
‫ل عنهما أن النبىّ‬
‫حرّ ُم الولَدَة))‪.‬وثبت فيهما‪ :‬من حديث ابن عباس رضى ا ّ‬
‫ن الرّضَاعَ َة تُ َ‬
‫قال‪(( :‬إ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم أُريد على ابنة حمزَة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫حرُ ُم من‬
‫حرُ ُم مِن الرّضَاعَةِ ما يَ ْ‬
‫ل لى‪ ،‬إ ّنهَا ابنةُ أخى مِن الرّضاَعَةِ َويَ ْ‬
‫((إِ ّنهَا ل تَحِ ّ‬
‫ع ّمكِ))‬
‫ح أخى أبى ال ُق َعيْسِ‪ ،‬فَِإنّهُ َ‬
‫الرّحِم))‪.‬وثبت فيهما‪ :‬أنه قال لعائشة رضى الّ عنها‪(( :‬ائذَنى لَ ْفلَ َ‬
‫وكانَت امرَأتُه أرضعت عائش َة رضى الّ عنها‪.‬وبهذا أجاب ابنُ عباس لما سئل عن رجل له‬
‫ل للغلم أن يتزوجَ الجارية؟ قال‪ :‬ل‬
‫جاريتان‪ ،‬أرضعت إحداهما جاريةً‪ ،‬والخرى غُلماً‪ :‬أَيحِ ّ‬
‫اللّقَاحُ واحِدُ‪.‬‬
‫وثبت فى ((صحيح مسلم)) عن عائشة رضىالّ عنها‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لَ‬
‫حرّ ُم المَصّ ُة والمَصّتانِ))‪.‬‬
‫تُ َ‬
‫جتَانِ))‪.‬‬
‫حرّمُ الملجَةُ والمل َ‬
‫وفى رواية‪(( :‬لَ تُ َ‬
‫وفى لفظ له‪ :‬أن رجلً قال‪ :‬يا رسولَ الّ هل تحرّم الرضعةُ الواحِ َدةُ؟ قال‪ :‬ل‪.‬‬
‫ن القُرآنِ‪:‬‬
‫ل مِ َ‬
‫وثبت فى ((صحيحه)) أيضاً‪ :‬عن عائشة رضى الّ عنها قالت‪ :‬كَانَ فيما َنزَ َ‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫س َم ْعلُومَاتٍ‪ ،‬فتو ّفىَ رسولُ ا ّ‬
‫خ ْم ٍ‬
‫ن بِ َ‬
‫ح ّرمْنَ ثم نُسِخْ َ‬
‫ت َم ْعلُومَاتٍ ُي َ‬
‫ضعَا ٍ‬
‫شرُ َر َ‬
‫عَ ْ‬
‫وسلم‪ ،‬وهُنّ فيما يقرأ مِن القرآن‪.‬‬
‫وثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث عائشة رضى الّ عنها‪ ،‬أن النبىّ صلى ال عليه وسلم‬
‫قال‪(( :‬إ ّنمَا ال ّرضَاعَةُ من المَجَاعَة))‪.‬وثبت فى ((جامع الترمذى))‪ :‬من حديث أم سلمة رضى الّ‬
‫ن ال ّرضَاعَةِ إل ما َفتَقَ ال ْمعَاء فى الثّدْى‬
‫حرّمُ مِ َ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬ل يُ َ‬
‫عنها‪ ،‬أن رسولَ ا ِ‬
‫وكَانَ َقبْل الفِطَام))‪ ،‬وقال الترمذى‪ :‬حديث صحيح‪ .‬وفى سنن الدارقطنى بإسناد صحيح‪ ،‬عن ابن‬
‫عباسٍ يرفعه‪(( :‬ل رضاع إل ما كان فى الحولين))‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫ت اللّحْمَ‬
‫وفى سنن أبى داود‪ :‬من حديث ابن مسعود يرفعه‪(( :‬ل يحرم مِن الرضَاع إل مَا َأ ْن َب َ‬
‫شرَ العَظْمَ))‪.‬‬
‫َوَأنْ َ‬
‫س َهيْل إلى‬
‫س ْهلَة بنتُ ُ‬
‫وثبت فى ((صحيح مسلم))‪ :‬عن عائشة رضى الّ عنها قالت‪ :‬جاءت َ‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬إنى أرَى فى وجه أبى حُ َذيْفَ َة مِن ُدخُولِ سال ٍم وهو‬
‫عَليْهِ))‪.‬وفى رواية له عنها قالت‪:‬‬
‫حرُمى َ‬
‫حلِيفُهُ‪ ،‬فقال النبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أَ ْرضِعيهِ َت ْ‬
‫َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬إنى أرى فى‬
‫س َهيْل إلى رسول ا ّ‬
‫س ْهلَ ُة بنتُ ُ‬
‫جاءت َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أرضعيهِ))‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫وجه أبى حُ َذيْفَة من دخول سالم وهو حليفُه‪ ،‬فقال النب ّ‬
‫عِل ْمتُ أنه‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال‪(( :‬قد َ‬
‫ضعُهُ وهو رَجُلٌ كبير‪ ،‬فتبسّم رَسولُ ا ِ‬
‫وكيف أُر ِ‬
‫كبير))‪.‬‬
‫وفى لفظ لمسلم‪ :‬أن أم سلم َة رضى الّ عنها قالت لعائش َة رضى الّ عنها‪ :‬إنه يدخُل عليك‬
‫ل علىّ‪ ،‬فقالت عائش ُة رضى الّ عنها‪ :‬أما َلكِ فى رسولِ الّ‬
‫ب أن يدخ َ‬
‫ح ّ‬
‫الغلمُ اليْفَ ُع الذى ما أُ ِ‬
‫ل علىّ وهو‬
‫صلى ال عليه وسلم أسوةٌ؟ إن امرأة أبى حُذيفة قالت‪ :‬يا رسولَ الّ‪ ،‬إن سالماً يدخ ُ‬
‫حتّى يَ ْدخُل‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ((أَ ْرضِعيهِ َ‬
‫رَجُل‪ ،‬وفى نفس أبى حُذيفَة منه شىءٌ‪ ،‬فقال رسولُ ا ّ‬
‫عَل ْيكِ))‪.‬‬
‫َ‬
‫وساقه أبو داود فى ((سننه)) سياقه تامة مطولة‪ ،‬فرواه من حديث الزهرى‪ ،‬عن عروة‪ ،‬عن‬
‫عائشة وأم سلمة رضى الّ عنهما‪ ،‬أن أبا حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنّى سالماً‪،‬‬
‫ت الوليد بن عتبة‪ ،‬وهو مولىً لمرأة من النصار‪ ،‬كما َت َبنّى رسولُ الِّ‬
‫وأنكَحَهُ ابنةَ أخيه هندًا بن َ‬
‫ن َت َبنّى رجلً فى الجاهلية‪ ،‬دعا ُه النّاسُ إليه‪َ ،‬و َو ِرثَ ميراثَه‪،‬‬
‫صلى ال عليه وسلم زيداً‪ ،‬وكان مَ ْ‬
‫ن لَ ْم َت ْعَلمُوا آبَاءَهم فَإخْوانُكم فى‬
‫عنْدَ الِّ فَإِ ْ‬
‫حتى أنزل الّ تعالى فى ذلك‪{ :‬ادْعُوهُم لبا ِئهِمْ ُه َو أَقْسَطُ ِ‬
‫الدّينِ و َموَالِيكُمْ} [الحزاب‪ ]5 :‬فردوا إلى آبائهم فمن لم ُيعْل ْم له أبٌ كان مولىً وأخاً فى الدّين‪،‬‬
‫عمْرو القرشى‪ ،‬ثم العامرى‪ ،‬وهى امرأةُ أبى حذيفة‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول‬
‫س َهيْل بن َ‬
‫س ْهلَة بنتُ ُ‬
‫فجاءت َ‬
‫الِّ‪ ،‬إنا ُكنّا نرى سالِمًا ولداً‪ ،‬وكان يأوى معى ومع أبى حذيفة فى بيتٍ واحدٍ‪ ،‬ويرانى ُفضُلً‪ ،‬وقد‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫عِلمْتَ‪ ،‬فكيف َترَى فيه؟ فقال رَسُولُ ا ّ‬
‫أنزلَ الُّ تعالى فيهم ما قد َ‬
‫((أرضعيه)) فأرْض َعتْهُ خمس رضعاتٍ‪ ،‬فكان بمنزلةِ ولدِها من الرّضَاعَةِ‪ ،‬فبذلك كانت عائشةُ‬
‫ح ّبتْ عائش ُة رضى الّ عنها أن‬
‫ن أَ َ‬
‫ضعْنَ مَ ْ‬
‫ت أخواتهَا أَن يُر ِ‬
‫رضى الّ عنها تأ ُمرُ بناتِ إخوتِها‪ ،‬وبنا ِ‬
‫سَلمَةَ وسائرُ‬
‫ت ذلك أُمّ َ‬
‫س رضعاتٍ‪ ،‬ثُمّ يدْخُلُ عليها‪ ،‬وَأ َب ْ‬
‫خ ْم َ‬
‫َيرَاهَا ويدخلَ عليها‪ ،‬وإن كان كبيراً َ‬

‫‪320‬‬
‫ن عليهنّ أحدًا بتلك الرِضاعةِ مِن الناس حتى يرضع فى‬
‫خلْ َ‬
‫ج النبىّ صلى ال عليه وسلم أن يُدْ ِ‬
‫أزوا ِ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم لسالم دُونَ‬
‫خصَ ًة من النب ّ‬
‫المهد‪ ،‬وقلن لعائشة‪ :‬والّ ما ندرى لعلّها كانت رُ ْ‬
‫الناس‪.‬‬
‫لمّة‪ ،‬وفى بعضها نِزاع‪.‬‬
‫سنَنُ الثابتةُ أحكاماً عديدةً‪ ،‬بعضها متفق عليه بين ا ُ‬
‫فتضمنت هذه ال ّ‬
‫حرّ ُم الوِلدَةُ))‪ ،‬وهذا‬
‫حرّمُ ما تُ َ‬
‫الحكم الول‪ :‬قولُه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ال ّرضَاعَ ُة تُ َ‬
‫سنّةِ‪،‬‬
‫ق عليه بين المّةِ حتى عِند من قال‪ :‬إن الزيادة على النص نسخ‪ ،‬والقرآنُ ل ُينْسخُ بال ّ‬
‫الحكم متف ٌ‬
‫فإنه اضْطُر إلى قبولِ هذا الحكم وإن كان زائداً على ما فى القرآن‪ ،‬سواء سماه نسخًا أو لم يُسمه‪،‬‬
‫كما اضطُر إلى تحريم الجمع بين المرأة وع ّم ِتهَا‪ ،‬وبينَها وبينَ خالتها‪ ،‬مع أنه زياد ٌة على نص‬
‫ن المرضع َة والزوج‬
‫القرآن‪ ،‬وذكرها هذا مع حديث أبى ال ُقعَيس فى تحريم لبن الفَحْل على أ ّ‬
‫حرْمة مِن ه ِذهِ الجهات‬
‫ل ولداً لهما‪ ،‬فانتشرتِ ال ُ‬
‫ب الّلبَن قد صارا أبوين للطفل‪ ،‬وصار الطف ُ‬
‫صاح َ‬
‫ل وإن نزلوا أولدُ ولدِهما‪ ،‬وأول ُد كُلّ واحد من المرضعة والزوج من الخر‬
‫الثلثِ‪ ،‬فأول ُد الطف ِ‬
‫ومن غيره‪ ،‬إخوت ُه وأَخواته من الجهات الثلث‪ .‬فأولدُ أحدهما من الخر إخوتُه وأَخواته لبيه‬
‫وأمه‪ ،‬وأولد الزوج من غيرها إخوته وأخواته من أبيه‪ ،‬وأول ُد المرضعة من غيره إخوتُه وأخواتُه‬
‫لمه‪ ،‬وصار آباؤها أجدَا َدهُ وجَدّاتِه‪ ،‬وصارَ إخوة المرأة وأخواتُها أَخوالَه وخالتِه‪ ،‬وإخوةُ صاحب‬
‫ح ْرمَ ُة ال ّرضَاعِ تنتشر من هذه الجهات الثلث فقط‪ .‬ول يتعدّى‬
‫عمّاتِه‪ ،‬فَ ُ‬
‫اللبن وأخَواتُه أعمامه و َ‬
‫ن أرضعتْ‬
‫ح مَ ْ‬
‫التحريمُ إلى غير المرتضع ممن هو فى درجته من إخوته وأَخَواتِهِ‪ ،‬فيُباح لخيه ِنكَا ُ‬
‫شرُ إلى مَنْ فوقه‬
‫ب اللبن وأبا ُه وبنيه‪ ،‬وكذلك ل ينت ِ‬
‫ح ِ‬
‫ح صَا ِ‬
‫أخاهُ وبنا ِتهَا وأمها ِتهَا‪ ،‬ويُباحُ لُختِه نكا ُ‬
‫عمّاتِ ِه وأخوالِهِ وخالتِهِ‪ ،‬فلبى المرتضعِ مِن‬
‫من آبائِهِ وأمهاتِهِ‪ ،‬ومَنْ فى درجت ِه مِن أعمامِ ِه و َ‬
‫النسب‪ ،‬وأجداد ِه أن َي ْنكِحُوا أُ ّم الطّفْل من الرضاع وأمهاتِها وأخَوا ِتهَا وبنا ِتهَا وبنا ِتهَا‪ ،‬وأن َي ْنكِحُوا‬
‫ُأمّهاتِ صاحبِ اللبن وأخواتِهِ وبناتِهِ‪ ،‬إذ نظيرُ هذا من النسب حلل‪ ،‬فللخ من الب أن يت َزوّج‬
‫أختَ أخيه من الُمّ‪ ،‬وللْخ من الم أن َي ْنكِحَ أختَ أخيه من الب‪ ،‬وكذلك يَنكِحُ الرجل أم ابنه من‬
‫النسب وأختها‪ ،‬وأما أمّها وبنتُها‪ ،‬فإنما حرمتا بالمصاهرة‪.‬‬
‫وهل يحرمُ نظي ُر المصاهرة بالرضاع‪ ،‬فيحر ُم عليه أ ّم امرأتِه مِن الرضاع‪،‬‬
‫وبنتُها من ال ّرضَاعة‪ ،‬وامرأةُ ابنه من الرّضاعة‪ ،‬أو يحرمُ الجمعُ بين الختين من الرّضاعة‪ ،‬أو بين‬
‫المرأة وعمتها‪ ،‬وبينها وبين خالتها من الرضاعة؟ فحرّمه الئمة الربعة وأتباعهم‪ ،‬وتوقف فيه‬
‫شيخُنا وقال‪ :‬إن كان قد قال أحد بعدم التحريم‪ ،‬فهو أقوى‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫ن ال ّرضَاع مَا‬
‫حرُمُ مِ َ‬
‫ل فى قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬يَ ْ‬
‫قال المحرّمون‪ :‬تحريمُ هذا يدخ ُ‬
‫ل ولد الرضاعة وأبى‬
‫سبِ)) فأجرى الرّضاعة مجرى النسب‪ ،‬وشبّهها به‪ ،‬فثبت تنزي ُ‬
‫حرُ ُم من النّ َ‬
‫يَ ْ‬
‫ح ُرمَت امرأة‬
‫الرضاعة منزلةَ ولد النسب وأبيه‪ ،‬فما ثبت للنسب من التحريم‪ ،‬ثبت للرّضاعة‪ ،‬فإذا َ‬
‫حرُ َم الجمع بين أُختى النسب‪،‬‬
‫ح ُرمْنَ بالرّضاعة‪ .‬وإذا َ‬
‫الب والبن‪ ،‬وأُمّ المرأة‪ ،‬وابنتُها من النسب‪َ ،‬‬
‫حرّمَ‬
‫حرُ َم بين أُختى الرضاعة‪ ،‬هذا تقدير احتجاجهم على التحريم‪ .‬قال شيخ السلم‪ :‬الّ سبحانه َ‬
‫َ‬
‫صهْر‪ ،‬كذا قال ابن عباس‪ .‬قال‪ :‬ومعلوم أن تحري َم الرضاعة ل يُسمّى‬
‫سبعاً بالنسب‪ ،‬وسبعًا بال ّ‬
‫ن ال ّرضَاعةِ‬
‫حرُمُ مِ َ‬
‫حرُ ُم من النسب‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬يَ ْ‬
‫حرُم منه ما يَ ْ‬
‫صهْراً‪ ،‬إنما يَ ْ‬
‫ِ‬
‫حرُم بالمصاهرة‪ ،‬ول‬
‫سبِ))‪ .‬ولم يقل‪ :‬وما يَ ْ‬
‫حرُم من النّ َ‬
‫حرُ ُم من الولدة))‪ .‬وفى رواية‪(( :‬ما يَ ْ‬
‫ما يَ ْ‬
‫ذكره الُّ سبحانه فى كتابه‪ ،‬كما ذكر تحريم الصّهرِ‪ ،‬ول َذكَر تحري َم الجمع فى الرّضَاعِ كما ذكره‬
‫جعَلهُ‬
‫ن المَاءِ بَشَراً َف َ‬
‫ق مِ َ‬
‫خلَ َ‬
‫صهْر قسيمُ النسب‪ ،‬وشقيقُه‪ ،‬قال الّ تعالى‪{ :‬و ُه َو الّذِى َ‬
‫فى النسب‪ ،‬وال ّ‬
‫صهْر‪ ،‬وهما سببا التحريم‪ ،‬والرّضاع‬
‫صهْراً} [الفرقان‪ ]54 :‬فالعلقةُ بين الناس بالنسب وال ّ‬
‫نَسَبًا و ِ‬
‫حرّمَ الجمعَ بين الُختين‪،‬‬
‫فرع على النسب‪ ،‬ول ُتعْقَلُ المصاهرة إل بين النساب‪ ،‬والُّ تعالى إنما َ‬
‫ع ّم ِتهَا‪ ،‬وبينها وبين خالتها‪ ،‬لئل يُفضى إلى قطيع ِة الرّح ِم المحرّمة‪ .‬ومعلوم أن‬
‫وبين المرأة و َ‬
‫الختين من الرّضاع ليس بينهما رَحِمٌ محرّمة فى غير النكاح‪ ،‬ول ترتب على ما بينهما من أخوة‬
‫الرضاع حكمٌ قطّ غير تحريم أحدهما على الخر‪ ،‬فل يعتق عليه بالملك‪ ،‬ول ي ِرثُهُ‪ ،‬ول يستحق‬
‫ل فى الوصية‬
‫النفقة عليه‪ ،‬ول يثبتُ له عليه وليةُ النكاح ول الموتُ‪ ،‬ول َيعْقِلُ عنه‪ ،‬ول يدخ ُ‬
‫حرُم التفريق بين الم وولدها الصغير من الرضاعة‪،‬‬
‫والوقف على أقاربه وذوى رحمه‪ ،‬ول يَ ْ‬
‫حرُم من النسب‪ ،‬والتفريقُ بينهما فى الملك كالجمع بينهما فى النكاح سواء‪ ،‬ولو ملك شيئًا من‬
‫ويَ ْ‬
‫ع ّمتُه‬
‫ختُه و َ‬
‫ت على الرجل ُأمّه وبنتُ ُه وأُ ْ‬
‫ح ُر َم ْ‬
‫المحرّمات بالرضاع‪ ،‬لم يعتق عليه بالملك‪ ،‬وإذا ُ‬
‫ب بينه‬
‫وخالتُه من الرضاعة‪ ،‬لم يلزم أن يحرم عليه أ ّم امرأته التى أرضعت امرأته‪ ،‬فإنه ل نس َ‬
‫وبينها‪ ،‬ول مصاهرة‪ ،‬ول رضاع‪ ،‬والرضاعة إذا جعلت كالنسب فى حكم ل يلزم أن تكون مثله فى‬
‫كل حكم‪ ،‬بل ما افترقا فيه من الحكام أضعافُ ما اجتمعا فيه منها‪ ،‬وقد ثبت جوا ُز الجمع بين اللتين‬
‫بينهما مُصاهرة محرّمة‪ ،‬كما جمع عبدُ الّ بن جعفر بين امرأ ِة علىّ وابنتِه من غيرِهَا‪ .‬وإن كان‬
‫بينهما تحريمٌ يمنع جواز نكاح أحدها للخر لو كان ذكراً‪ ،‬فهذا نظيرُ الختين من الرضاعة سواء‪،‬‬
‫ع بينه‬
‫لن سبب تحريم النكاح بينهما فى أنفسهما‪ ،‬ليس بينهما وبين الجنبى منهما الذى ل رضا َ‬
‫صهْر‪ ،‬وهذا مذهب الئمة الربعة وغيرهم‪.‬واحتجّ أحمد بأن عبد الّ بن جعفر جمع‬
‫وبينهما ول ِ‬

‫‪322‬‬
‫ن بنُ الحسن بن على‪ ،‬بين‬
‫بين امرأ ِة علىّ وابنتِهِ‪ ،‬ولم ينكر ذلك أحدٌ‪ ،‬قال البخارى‪ :‬وجمع الحس ُ‬
‫ش ْب ُرمَة‪ :‬ل بأس به‪،‬‬
‫ى وابنته‪ ،‬وقال ابنُ ُ‬
‫ل بن جعفر بين امرأة عل ّ‬
‫بنتى عم فى ليلة‪ ،‬وجمع عبدُ ا ّ‬
‫وكرهه الحَسَنُ مرة ثم قال‪ :‬ل بأس به‪ .‬وكرهه جاب ُر بن زيد للقطيعة‪ ،‬وليس فيه تحريم‪ ،‬لقوله عز‬
‫ل َلكُم مَا َورَا َء ذِلكُم} [النساء‪ ]24 :‬هذا كلم البخارى‪.‬‬
‫وجل‪َ { :‬وأُحِ ّ‬
‫وبالجملة‪ :‬فثبوتُ أحكام النسب من وجهٍ ل يستلز ُم ثُبوتَها من كل وجه‪ ،‬أو من وجه آخر‪،‬‬
‫حرْمة فقط‪ ،‬ل فى‬
‫ت المؤمنين فى التحريم وال ُ‬
‫ن ُأمّها ُ‬
‫فهؤلء نسا ُء النبىّ صلى ال عليه وسلم هُ ّ‬
‫عمّن حرم عليه‬
‫ن ول ينظ َر إليهن‪ ،‬بل قد أمرهُنّ الّ بالحتجابِ َ‬
‫المحرمية‪ ،‬فليس لحد أن يخلوَ به ّ‬
‫نكاحهن من غير أقاربهن‪ ،‬ومَنْ بينهن وبينه رضاع‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬وإِذَا سََأ ْل ُتمُوهُنّ َمتَاعاً فَاسْألُوهُنّ‬
‫ن البتة‪ ،‬فليس بنا ُتهُنّ أخوات‬
‫مِنْ وراءِ حِجَابٍ} [الحزاب‪ ]53 :‬ثم هذا الحكم ل يتعدّى إلى أقاربه ّ‬
‫ن وإِخوتهنّ‬
‫حرُمن على رجالهم‪ ،‬ول بنوهُنّ إخوة لهم يحرم عَليْهنّ بنا ُتهُنّ‪ ،‬ول أخوا ُتهُ ّ‬
‫المؤمنين يَ ْ‬
‫ت ميمونَة زوج‬
‫خالتٍ وأخوالً‪ ،‬بل هن حلل للمسلمين بإتفاق المسلمين‪ ،‬وقد كانت أُ ّم الفضل أخ ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم تحت العباس‪ ،‬وكانت أسماء بنتُ أبى بكر أختُ عائشة رضى الّ‬
‫رسول ا ّ‬
‫ت أبى بكر‪ ،‬وأمّ حفصةَ تحت عمر رضى‬
‫ت الزبير‪ ،‬وكانت أم عائشة رضى الّ عنها تح َ‬
‫عنها تح َ‬
‫ل بن عمر وإخوته‪ ،‬وأولد أبى بكر‪ ،‬وأولد أبى‬
‫ل عنه‪ ،‬وليس لرجل يتزوج ُأمّة‪ ،‬وقد تزوّجَ عبدُ ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫ل لهن‪ ،‬لم يجْز أن ينكحوهن‪ ،‬فلم تنتشر الحُرمة من أمّهات‬
‫سفيان من المؤمنات‪ ،‬ولو كانوا أخوا ً‬
‫ن ثبوتُ غيره من‬
‫المؤمنين إلى أقاربهنّ‪ ،‬وإل لزم من ثبوت حكم من أحكام النسب بين الُمة وبينه ّ‬
‫الحكام‪.‬‬
‫ن أصْل ِبكُمْ}‬
‫ل َأ ْبنَائكُ ُم الّذِينَ مِ ْ‬
‫لئِ ُ‬
‫ك أيضاً قولُه تعالى فى المحرّمات‪{ :‬وحَ َ‬
‫ل على ذِل َ‬
‫ومما يد ّ‬
‫[النساء‪ ]23 :‬ومعلوم أن لفظ البن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرّضاع‪ ،‬فكيف إذا ُقيّ َد بكونه ابنَ‬
‫صلْب‪ ،‬وقصْدُ إخراجِ ابن التّبنّى بهذا ل يمنع إخراجَ ابن الرضاع‪ ،‬ويوجب دخلوه‪ ،‬وقد ثبت فى‬
‫ُ‬
‫س َهيْل أن ُت ْرضِعَ سالمًا مولَى أبى حذيفة‬
‫س ْهلَة بنتَ ُ‬
‫((الصحيح))‪ :‬أنّ النبى صلى ال عليه وسلم أمر َ‬
‫حرَماً لها‪ ،‬فأرضعت ُه بلبن أبى حذيفة زوجها‪ ،‬وصار ابنَها ومح َرمَها بنصّ رسول الّ‬
‫ليصير مَ ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬سواء كان هذا الحكم مختصاً بسالم أو عاماً كما قالته أ ّم المؤمنين عائشة‬
‫صرْ مَحْرماً لها‪،‬‬
‫حرَمًا لها‪ ،‬لكونها أرضعتْهُ وصارت ُأمّهُ‪ ،‬ولم َي ِ‬
‫رضى الّ عنها‪ ،‬فبقى سالم مَ ْ‬
‫س ْهلَة له‪ ،‬بل لو أرض َعتْهُ جاريةٌ له‪،‬‬
‫لكونها امرأة أبيه من الرّضاعة‪ ،‬فإن هذا ل تأثيرَ فيه لرضاعة َ‬
‫علّل بهذا فى الحديث‬
‫أو امرأة أُخرَى‪ ،‬صارت سهل ُة امرأة أبيه‪ ،‬وإنما التأثي ُر لِكونه ولدَها نفسِها وقد ُ‬

‫‪323‬‬
‫ضعَات‪ ،‬وكان‬
‫ضعِيه))‪ ،‬فأرضعتهُ خمس َر َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪َ(( :‬أرْ ِ‬
‫نفسِ ِه ولفظه‪ :‬فقال النب ّ‬
‫بمنزلة ولدِها من الرضاعة‪ ،‬ول يُمكِنُ دعوى الجماع فى هذه المسألة‪ ،‬ومن ادعاه فهو كاذب‪ ،‬فإن‬
‫سعيد بن المسيب‪ ،‬وأبا سلمةَ بن عبد الرحمن‪ ،‬وسليمانَ بن يسار‪ ،‬وعطاءَ بن يسار‪ ،‬وأبا قِلبة‪ ،‬لم‬
‫يكونوا ُي ْث ِبتُون التحري َم بلبن الفحل‪ ،‬وهو مروىّ عن الزبير‪ ،‬وجماعة من الصحابة‪ ،‬كما سيأتى إن‬
‫ل تعالى‪ ،‬وكانوا يرون أن التحريمَ إنما هو من ِقبَلِ الُمهات فقط‪ ،‬فهؤلء إذا لم يجعلوا‬
‫شاء ا ّ‬
‫المرتضِع من لبن الفحل ولداً له‪ ،‬فأن ل يُحرّموا عليه امرأته‪ ،‬ول على الرضيع امرأةَ الفحل‬
‫حرُ ُم على المرأة أبو زوجها من الرّضاعة‪ ،‬ول ابنُه من‬
‫بطريق الولى‪ ،‬فعلى قول هؤلء فل يَ ْ‬
‫الرضاعة‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬هؤلء لم ُي ْث ِبتُوا ال ُبنُوّة بين المرتضِع وبين الفحل‪ ،‬فلم تثبتِ المصاهرةُ‪ ،‬لنها فرع‬
‫ع من جهة الفحل‬
‫ت ُب ُن ّوةَ الرضا ِ‬
‫عهَا‪ ،‬وأما من َأ َث َب َ‬
‫ثبوتِ ُب ُن ّو ِة الرّضاع‪ ،‬فإذا لم تثبت له‪ ،‬لم يثبت َفرْ ُ‬
‫ت المصاهرة بهذه‬
‫سنّة الصحيحة الصريحة‪ ،‬وقال به جمهور أهل السلم‪ ،‬فإنه َت ْث ُب ُ‬
‫كما دلت عليه ال ّ‬
‫البنوة‪ ،‬فهل قال أحد ممن ذهب إلى التحريم بلبن الفحل‪ :‬إن زوجة أبيه وابن ِه من الرضاعة ل‬
‫تحرم؟ قيل‪ :‬المقصود أن فى تحريم هذه نزاعاً‪ ،‬وأنه ليس مجمعًا عليه‪ ،‬وبقى النظرُ فى مأخذه‪ ،‬هل‬
‫هو إلغاء لبن الفحل‪ ،‬وأنه ل تأثير له‪ ،‬أو إلغاء المصاهرة من جهة الرّضاع‪ ،‬وأنه ل تأثير لها‪،‬‬
‫وإنما التأثير لمصاهرة النسب؟‬
‫سنّة الصريحة بالتحريم بلبن الفحل‪ ،‬وقد بينا أنه ل‬
‫ول شك أن المأخذ الول باطل‪ ،‬لثبوت ال ّ‬
‫ت المصاهرة به إل بالقياس‪ ،‬وقد تقدّمَ أن الفارق بين الصل والفرع‬
‫يلزم من القول بالتحريم به إثبا ُ‬
‫أضعاف أضعافِ الجامع‪ ،‬وأنه ل يلزم من ثبوت حكم من أحكام النسب‪ ،‬ثبوت حكم آخر‪.‬‬
‫ويدل على هذا أيضاً أنه سبحانه لم يجعل أُ ّم الرّضاع‪ ،‬وأخت الرّضاعة داخلةً تحت ُأمّهاتنا‬
‫خوَا ُتكُمْ} [النساء‪ ،]23 :‬ثم قال‪:‬‬
‫عَل ْيكُ ْم ُأ ّمهَا ُتكُم و َبنَا ُتكُ ْم َوأَ َ‬
‫ح ّر َمتْ َ‬
‫وأخوَاتنا‪ ،‬فإنه سبحانه قال‪ُ { :‬‬
‫ن الرّضاعَةِ} [النساء‪ ]23 :‬فدل على أن لفظ أمّها ِتنَا عند‬
‫خوَا ُتكُ ْم مِ َ‬
‫ض ْع َنكُم َوأَ َ‬
‫{وُأ ّمهَا ُتكُمُ اللّتى َأرْ َ‬
‫الطلق‪ :‬إنما يراد بها الم من النسب‪ ،‬وإذا ثبت هذا‪ ،‬فقوله تعالى‪{ :‬وُأ ّمهَاتُ نِسَا ِئكُم} [النساء‪:‬‬
‫‪ ]23‬مثل قوله‪{ :‬وأمها ُتكُم} [النساء‪ ،]23 :‬إنما هن أمهات نسائنا من النسب‪ ،‬فل يتناول أمهّاتهن‬
‫من الرضاعة‪ ،‬ولو أريد تحريمهنّ لقال‪ :‬وأمهاتهنّ اللتي أرضعنهن‪ ،‬كما ذكر ذلك فى أُمهاتنا وقد‬
‫سبِ))‪ ،‬إنما يدل على أن من حرم على الرجل‬
‫حرُم من النّ َ‬
‫حرُمُ من الرضَاعَةِ ما يَ ْ‬
‫بينا أن قوله‪(( :‬يَ ْ‬
‫من النسب حرم عليه نظيره من الرضاعة‪ ،‬ول يدل على أن من حرم عليه بالصّهر أو بالجمعِ‪،‬‬

‫‪324‬‬
‫ل َلكُ ْم مَا‬
‫حرُم عليه نظيره من الرضاعة‪ ،‬بل يدل مفهومه علي خلف ذلك‪ ،‬مع عموم قوله‪{ :‬وأُحِ ّ‬
‫َ‬
‫َورَاءَ َذِلكُم} [النساء‪.]24 :‬‬
‫ن الرّضاع ِة ليس مسألةَ إجماع‪ ،‬أنه قد‬
‫ومما يدل على أن تحريم امرأ ِة أبيه وابنه مِ َ‬
‫ج ِرهِ‪ ،‬كما صحّ عن مالك بن‬
‫ت امرأتهِ إذا لم تكن فى ح ْ‬
‫ثبت عن جماعة من السلف جوازُ نِكاح بن ِ‬
‫أوس بن الحدثان النّصْرى‪ ،‬قال‪ :‬كانت عندى امرأة‪ ،‬وقد ولدت لى‪ ،‬فتوفيتْ‪َ ،‬فوَجِ ْدتُ عليها‪َ ،‬فلَقِيتُ‬
‫علىّ بنَ أبى طالب رضى الّ عنه‪ ،‬قال لى‪ :‬مالك؟ قلتُ‪ :‬توفيت المرأةُ‪ ،‬قال‪ :‬لها ابنةٌ؟ قلت‪ :‬نعم‪،‬‬
‫جرِك؟ قلت‪ :‬ل‪ ،‬هى فى الطائف‪ .‬قال‪ :‬فانكحها‪ ،‬قلت‪ :‬فأين قوله تعالى‪َ { :‬و َربَا ِئ ُبكُم‬
‫قال‪ :‬كانت فى حَ ْ‬
‫ن نِسَا ِئكُم} [النساء‪ ،]23 :‬قال‪ :‬إنها لم تكن فى حجرك‪ ،‬وإنما ذلك إذا كانت‬
‫حجُو ِركُم مِ ْ‬
‫اللّتى فى ُ‬
‫ل بن معبد‪ ،‬أثنى‬
‫ل من بنى سواءة يقال له‪ :‬عُبيد ا ّ‬
‫جرِك‪.‬وصح عن إبراهيم بن ميسرة‪ ،‬أن رج ً‬
‫فى حَ ْ‬
‫ت ولدٍ من غيرهِ‪ ،‬ثم اصطحبا ما شاء الّ‪ ،‬ثم‬
‫عليه خيراً‪ ،‬أخبره أنّ أباه أو جَدّه كان قد نكح امرأةً ذا َ‬
‫ت على أ ّمنَا وكَبرت واستغنيتَ عنها بامرأةٍ شابة‪،‬‬
‫ح َ‬
‫نكح امرأة شابة‪ ،‬فقال‪ :‬أح ُد بنى الُولى قد َنكَ ْ‬
‫لّ إل أن ُتنْكحَنى ابنتَك‪ ،‬قال‪ :‬فطلّقها وأنكحه ابنته‪ ،‬ولم تكن فى حَجره هى ول‬
‫فطلّ ْقهَا‪ ،‬قال‪ :‬ل وا ِ‬
‫ن ابنَ عبد الّ‪ ،‬فقلت‪ :‬استفتِ لى عم َر بنَ الخطاب رضى الّ عنه‪ .‬قال‪:‬‬
‫أبوها‪ .‬قال‪ :‬فجئت سفيا َ‬
‫خبَر‪ ،‬فقال عمرُ‪ :‬ل بأس‬
‫ت عليه ال َ‬
‫ن معى‪ ،‬فأدخلنى على عم َر رضى الّ عنه بمنى‪ ،‬فقصص ُ‬
‫لتَحُجّ ّ‬
‫بذلك‪ ،‬فاذهب فسل فلناً‪ ،‬ثم تعالَ فأخبرنى‪ .‬قال‪ :‬ول أراهُ إل علياً قال‪ :‬فسألتُه‪ ،‬فقال‪ :‬ل بأس بذلك‪،‬‬
‫وهذا مذهب أهل الظاهر‪ .‬فإذا كان عمر وعلى رضى الّ عنهما ومن يقول بقولهما قد أباحا الربيبة‬
‫إذا لم تكن فى حَجْر الزوج‪ ،‬مع أنها ابن ُة امرأته من النسب‪ ،‬فكيف يُحرمان عليه ابنَتها من‬
‫الرضاع‪ ،‬وهذه ثلثة قيود ذكرها الّ سبحانه وتعالى فى تحريمها‪ .‬أن تكون فى حَجْرهِ‪ ،‬وأن تكون‬
‫من امرأتِهِ‪ ،‬وأن يكون قد دخل بأمّها‪ .‬فكيف يحرم عليه مجرد ابنتها من الرّضاعة‪ ،‬وليست فى‬
‫س ّميَا ربيباً‬
‫ب ابنُها بإتفاق الناس‪ ،‬و ُ‬
‫ت الزوجة‪ ،‬والربي ُ‬
‫ج ِرهِ‪ ،‬ول هى ربيبته لغة‪ ،‬فإن الربيبةَ بن ُ‬
‫حْ‬
‫وربيبةً لن زوج أمّهما َي ُربّهما فى العادة‪ ،‬وأمّا مَنْ أرضعتهما امرأتُه بغير لبنه‪ ،‬ولم َي ُربّها قَطّ‪ ،‬ول‬
‫كانت فى حَجْرهِ‪ ،‬فدخولها فى هذا النص فى غاية البعد لفظًا ومعنىً‪ ،‬وقد أشار النبىّ صلى ال عليه‬
‫وسلم بتحريم الربيبة بكونها فى الحَجْر‪ .‬ففى ((صحيح البخارى)) من حديث الزهرى‪ ،‬عن عروة‪،‬‬
‫ت أم سلمةَ أخبرت ُه أن أمّ حبيبة بنت أبى سفيان قالت‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬أُخ ِب ْرتُ أنك تخطُب‬
‫ب بن َ‬
‫أن زين َ‬
‫حّلتْ‬
‫بنتَ أبى سلمة‪ ،‬فقال‪ :‬بنتَ أمّ سلمة؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪(( :‬إ ّنهَا َل ْو َتكُنْ رَبيبَتى فى حَجْرى َلمَا َ‬
‫لى))‪ .‬وهذا يدل على اعتباره صلى ال عليه وسلم القي َد الذى قيّده الّ فى التحريم‪ ،‬وهو أن تكون‬

‫‪325‬‬
‫ن الصّلب إذا كانت مُحرّمة برضاع‪ :‬لو لم‬
‫فى حَجْر الزوج‪ .‬ونظير هذا سواء‪ ،‬أن يقال فى زوجة اب ِ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫تكن حليلة ابنى الذى لصلبى‪ ،‬لما حلّت لى سواء‪ ،‬ول فرق بينهما‪ ،‬وبا ّ‬
‫فصل‬
‫شرُ مِنه كما‬
‫حرّم‪ ،‬وأن التحريمَ ينت ِ‬
‫سنّة‪ ،‬أَنّ لبن الفحل يُ َ‬
‫الحكم الثانى‪ :‬المستفاد من هذه ال ّ‬
‫ف من‬
‫ق الذى ل يجوز أن يُقال بغيره‪ ،‬وإن خالف فيه مَنْ خال َ‬
‫ينتشِر من المرأة‪ ،‬وهذا هو الح ّ‬
‫ق أن ُت ّتبَعَ‪ ،‬ويتركَ ما خالفها لجلها‪،‬‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم أحَ ّ‬
‫سنّةُ رسولِ ا ِ‬
‫ن َبعْدَهُم‪ ،‬فَ ُ‬
‫الصحابة ومَ ْ‬
‫سنَنُ لخلف من خالفها لعدم بلوغها له‪ ،‬أو‬
‫ن كان‪ .‬ولو تُركت ال ّ‬
‫ول ُت ْت َركُ هى لجل قولِ أحد كائنًا مَ ْ‬
‫ن كثيرة جداً‪ ،‬وتُركت الحجّ ُة إلى غيرها‪ ،‬وقولُ من يجب اتّباعه إلى‬
‫سنَ ٌ‬
‫لتأويلها‪ ،‬أو غير ذلك‪َ ،‬ل ُت ِركَ ُ‬
‫ل غي ِر المعصوم‪ ،‬وهذه بلية‪ ،‬نسأل الّ العافية منها‪،‬‬
‫ل المعصوم إلى قو ِ‬
‫قول من ل يجب اتّباعه‪ ،‬وقو ُ‬
‫وأن ل نلقاه بها يوم القيامة‪.‬‬
‫ن بلبن الفحل بأساً حتى أتاهم الحكم‬
‫قال العمش‪ :‬كان عِمارة‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬وأصحابُنا ل َي َروْ َ‬
‫ل العلم إذا أ َت ْتهُم‬
‫صنَعُ أه ُ‬
‫ع َت ْيبَة بخبر أبى ال ُقعَيس‪ ،‬يعنى‪ :‬فتركوا قولَهم‪ ،‬ورجعوا عنه‪ ،‬وهكذا َي ْ‬
‫بنُ ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬رجعوا إليها‪ ،‬وتركوا قولَهم بغيرها‪.‬‬
‫سنّةُ عن رسول ا ّ‬
‫ال ّ‬
‫قال الذين ل يحرّمون بلبن الفحل‪ :‬إنما ذكر الُّ سبحانه فى كتابه التحريم بالرضاعة‬
‫ن الرّضَاعَةِ} [النساء‪ ]23 :‬واللم‪:‬‬
‫مِنَ جهة الم‪ ،‬فقال {وأ ّمهَا ُتكُم اللّتى َأ ْرضَعْنكُ ْم َوأَخَوا ُتكُمْ مِ ْ‬
‫ل َلكُ ْم مَا َورَاءَ‬
‫ل تعالى‪َ { :‬وأُحِ ّ‬
‫للعهد ترجع إلى الرّضاعة المذكورة‪ ،‬وهى رَضاعة الم‪ ،‬وقد قال ا ّ‬
‫سنّة‪ ،‬وهذا ‪ -‬على أصل من‬
‫َذِلكُم} [النساء‪ ]24 :‬فلو أثبتنا التحريمَ بالحديث َل ُكنّا قد نسخنا القرآن بال ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم هم‬
‫يقول‪ :‬الزيادة على النص نسخ _ ألزمُ‪ ،‬قالوا‪ :‬وهؤلء أصحابُ رسول ا ّ‬
‫ل بن َز ْمعَ َة أن أمّهُ‬
‫س ّنتِهِ‪ ،‬وكانوا ل يرون التحريمَ به‪ ،‬فصح عن أبى عُبيدة بن عبد ا ّ‬
‫لمّة بِ ُ‬
‫أعلمُ ا ُ‬
‫ل عنه امرأةُ الزبير‬
‫ت أمّ سلمةَ أ ّم المؤمنين أرضعتها أسما ُء بنتُ أبى بكر الصّدّيق رضى ا ّ‬
‫زينبَ بن َ‬
‫بن العوام‪ ،‬قالت زينب‪ :‬وكان الزبيرُ يدخل علىّ وأنا َأ ْمتَشِطُ فيأخذ ب َقرْنٍ من قرون رأسى‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫ن الزبير أرسل إلىّ‬
‫لّ ب َ‬
‫أقبلى علىّ فحدّثينى أرى أنه أبى‪ ،‬وما ولَدَ منه‪ :‬فهم إخوتي‪ ،‬ثم إن عبدَ ا ِ‬
‫ل له؟‬
‫ب أمّ كلثوم ابنتى على حمزة بن الزبير‪ ،‬وكان حمز ُة للكلبية‪ ،‬فقالت لرسوله‪ :‬وهَل تَحِ ّ‬
‫ط ُ‬
‫يخ ُ‬
‫وإنما هى ابنةُ أخته‪ ،‬فقال عبد الّ‪ :‬إنما أردتِ بهذا المن َع من ِقبَلكِ‪ .‬أمّا ما ولدتْ أسماءُ‪ ،‬فهم إخوتك‪،‬‬
‫وما كان من غير أسما َء فليسوا لك بإخوةٍ‪ ،‬فأرسلى فاسألى عن هذا‪ ،‬فأرسلتْ فسألتْ‪ ،‬وأصحابُ‬

‫‪326‬‬
‫ل الرّجُل ل تحرّم شيئاً‪،‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم متوافِرون‪ ،‬فقالوا لها‪ ،‬إن الرضاعة من قب ِ‬
‫رسول ا ّ‬
‫فأنكحيها إياه‪ ،‬فلم تزل عنده حتى هلك عنها‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولم ينكر ذلك الصحاب ُة رضى الّ عنهم‪ ،‬قالوا‪ :‬ومن المعلوم أن الرضاعة من جهة‬
‫المرأة ل من الرجل‪.‬‬
‫سنّة الصحيحة الصريحة‪ ،‬فل يجوزُ‬
‫ض ال ّ‬
‫قال الجمهور‪ :‬ليس فيما ذكرتم ما يُعار ُ‬
‫العدولُ عنها‪ .‬أمّا القرآن‪ ،‬فإنه بينَ أمرين‪ :‬إما أن يتناولَ الخت من الب من الرضاعة فيكون دالً‬
‫سنّة لها تحريمًا مبتدءاً‬
‫على تحريمها‪ ،‬وإما أن ل يتناولَها فيكون ساكتاً عنها‪ ،‬فيكون تحري ُم ال ّ‬
‫ل َلكُ ْم مَا َورَاءَ َذِلكُمْ} [النساء‪ ]24 :‬والظاهرُ يتناولُ لفظ الختِ لها‪،‬‬
‫ومخصصًا لعموم قوله‪َ {:‬وأُحِ ّ‬
‫ن أطلق عليها أخته‪ ،‬ول يجوزُ أن‬
‫ل مَ ْ‬
‫فإنه سبحانه عمم لفظ الخوات من الرّضاعة‪ ،‬فدخل فيه كُ ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم قال لعائشة‬
‫يُقال‪ :‬إن أخته من أبيه من الرّضاعة ليست أختًا له‪ ،‬فإن النب ّ‬
‫ت العمومةَ بينها وبينه بلبنِ الفحل وحده‪ ،‬فإذا ثبتت‬
‫عمّك‪ ،‬فأثْب َ‬
‫ل عنها‪ :‬ائذنى لفلح‪ ،‬فإنه َ‬
‫رضى ا ّ‬
‫ال ُعمُومة بين المرتضعة‪ ،‬وبين أخى صاحب اللبن‪ ،‬فثبوتُ الُخوة بينها وبين ابنه بطريق الولى أو‬
‫مثله‪.‬‬
‫ن أثبتتْ تحريمَ ما سكت عنه‪ ،‬أو‬
‫ت مرادَ الكتاب‪ ،‬ل أنها خالفته‪ ،‬وغايتُها أن تكو َ‬
‫سنّة بين ْ‬
‫فال ّ‬
‫تَخصيص ما لم يرد عمومه‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ل يرون التحري َم بذلك‪ ،‬فدعوى‬
‫وأما قولكم‪ :‬إن أصحاب رسول ا ّ‬
‫باطلة على جميع الصحابة‪ ،‬فقد صح عن على رضى الّ عنه إثبات التحريمِ به‪ ،‬وذكر البخارى فى‬
‫((صحيحه)) أن ابن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتانِ أرضعت إحداهما جاريةً‪ ،‬والخرى‬
‫حهَا؟ فقال ابنُ عباس‪ :‬ل‪ ،‬اللقاحُ واحد‪ ،‬وهذا الثر الذى استدللتم به صريح عن‬
‫ل أن َي ْنكَ َ‬
‫غلماً‪ ،‬أيحِ ّ‬
‫ب ابنته بتلك الرضاعة‪ ،‬وهذه عائش ُة أُمّ المؤمنين رضى الّ عنها كانت‬
‫الزبير أنه كان يعتقدُ أن زين َ‬
‫ن الزبير‪ ،‬وأين يَقَعُ من هؤلء‪.‬‬
‫لبُ‬
‫شرُ الحرمة‪ ،‬فلم َيبْقَ بأيديكم إل عبدُ ا ّ‬
‫تُفتى‪ :‬أن لبن الفحل ين ُ‬
‫ل الراوى‪ :‬فسألت‬
‫سمّين‪ ،‬ولم يق ِ‬
‫وأما الذين سَألتهُم فأفتوها بالحل‪ ،‬فمجهولون غي ُر مَ َ‬
‫سنّةُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم وهم متوافرون‪ ،‬بل لعلها أرسلتْ فسألت من لم َت ْبُلغْهُ ال ّ‬
‫أصحابَ رسول ا ّ‬
‫ل بن الزبير‪ ،‬ولم يكن الصحابة إذ ذاك متوافرين‬
‫الصحيحة منهم‪ ،‬فأفتاها بما أفتاها به عبد ا ّ‬
‫بالمدينة‪ ،‬بل كان معظمهم وأكابرُهم بالشام والعراق ومصر‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫ن للب الذى‬
‫وأما قولكم‪ :‬إن الرّضاعة إنما هى من جهة الم‪ ،‬فالجواب أن يقال‪ :‬إنما اللب ُ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫ثار بوطئه‪ ،‬والم وعاء له‪ ،‬وبا ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل َتثْبت أ ُب ّو ُة صاحب اللبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة‪ ،‬أو ثبوتُ ُأ ُبوّتهِ فرع‬
‫على ثبوت أمومة المرضعة؟‬
‫قيل‪ :‬هذا الصلُ فيه قولن للفقهاء‪ ،‬وهما وجهان فى مذهب أحمد والشافعى‪ ،‬وعليه مسألة‬
‫من له أربعُ زوجات‪ ،‬فأرضعنَ طفل ًة كُلّ واحد ٍة منهن َرضْعتين‪ ،‬فإنهن ل َيصِرْنَ أماً لها‪ ،‬لن كل‬
‫ضعَات‪ .‬وهل يصير الزوج أبًا للطفلة؟ فيه وجهان‪ .‬أحدهما‪ :‬ل‬
‫ضعْها خمس َر َ‬
‫واحدة منهن لم تُر ِ‬
‫يصير أباً‪ ،‬كما لم َتصِر المرضعاتُ ُأمّهاتٍ‪ ،‬والثانى وهو الصح‪ :‬يصير أباً‪ ،‬لكون الولد ارتضع‬
‫ن الفَحْل أصلٌ بنفسه‪ ،‬غير متفرّع على أمومة المرضعة‪ ،‬فإن البوةَ‬
‫ضعَات‪ ،‬ولب ُ‬
‫من لبنه خمس َر َ‬
‫صَلىْ أبى حنيفة‬
‫إنما تثبُت بحصول الرتضاع من لبنه‪ ،‬ل لِكون المرضعة أمه‪ ،‬ول يجى ُء على َأ ْ‬
‫ت الربع أمهات للمرتضِع‪ ،‬فإذا قلنا‬
‫ومالك‪ ،‬فإن عندهما قليل الرضاع وكثيره محرّم‪ ،‬فالزوجا ُ‬
‫ح ُر َمتِ المرضعاتُ على الطفل‪ ،‬لنه ربيبُهنّ‪ ،‬وهُنّ موطوءات أبيه‪،‬‬
‫ل ُب ّو ِة وهو الصحيح‪َ ،‬‬
‫بثبوت ا ُ‬
‫ح ُرمْنَ عليه بهذا الرضاع‪.‬‬
‫ل ُب ّو ُة لم يَ ْ‬
‫فهو ابنُ َبعْلهِنّ‪ .‬وإن قلنا‪ :‬ل تثُبت ا ْ‬
‫ضعَة‪ ،‬لم‬
‫ل واحدة َر ْ‬
‫وعلى هذه المسألة‪ :‬ما لو كان لِرجل خمسُ بناتٍ‪ ،‬فأرضعنَ طفْلً‪ ،‬ك ّ‬
‫ت له‪ .‬وهل يصير الرجل جداً له‪ ،‬وأولده الذين هم إخو ُة المرضِعات أخوالً له‬
‫صرْنَ أمها ٍ‬
‫َي ِ‬
‫ضعَاتٍ‬
‫س َر َ‬
‫ل المرتضِع خم َ‬
‫وخالت؟ على وجهين‪ ،‬احدهما‪ :‬يصير جداً‪ ،‬وأخوهن خالً‪ ،‬لنه قد كَم َ‬
‫من لبن بناته‪ ،‬فصار جَدّا‪ ،‬كما لو كان المرتضِع بنتاً واحدة‪ .‬وإذا صار جَدّا كان أولدُه الذين هُم‬
‫إخوةُ البنات أخوالً وخالت‪ ،‬لنهن إخوةُ من كمل له منهن خمسُ َرضَعتَات‪ ،‬فنزلوا بالنسبة إليه‬
‫ن ابنته‬
‫ع على كو ِ‬
‫منزلةَ أم واحدة‪ ،‬والخر ل يصيرُ جَداً‪ ،‬ول أخواتُهن خالتٍ‪ ،‬لن كونَه جداً فر ٌ‬
‫ت الصل‪ ،‬فل يثُبت فرعُه‪ ،‬وهذا الوجه‬
‫أمّاً‪ ،‬وكونُ أخيها خالً فرع على كون أُخته أمّا‪ ،‬ولم يثب ِ‬
‫ل ُب ّوةِ فيها ل يستلزم ثبوت المومة على‬
‫أصحّ فى هذه المسألة‪ ،‬بخلف التى قبلَها‪ ،‬فإن ثبوت ا ُ‬
‫الصحيح‪ .‬والفرقُ بينهما‪ :‬أن الفرعية متحققة فى هذه المسألة بين المرضعات وأبيهن‪ ،‬فإنهنّ بناتُه‪،‬‬
‫واللبن ليس له‪ ،‬فالتحريم هنا بين المرضعة وابنها‪ ،‬فإذا لم تكن ُأمّا‪ ،‬لم يكن أبوها جَ ّداً‪ ،‬بخلفِ تلك‪،‬‬
‫ن المرتضِع وبينَ صاحب اللبن‪ ،‬فسوا ٌء ثبتت أموم ُة المرضعة أول‪ ،‬فعلى هذا إذا‬
‫فإن التحريم بي َ‬
‫قلنا‪ :‬يصير أَخُوهنّ خالً‪ ،‬فهل تكون كل واحدة منهن خالةً له؟ فيه وجهان‪ .‬أحدهما‪ :‬ل تكون خالةً‪،‬‬
‫لنه لم يرتضِ ْع من لبن أخوا ِتهَا خمس رضعات‪ ،‬فل تثبت الخؤولة‪ .‬والثانى‪ :‬تثبت‪ ،‬لنه قد اجتمع‬

‫‪328‬‬
‫من اللبن المحرّم خمس رضعات‪ ،‬وكان ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتًا للخؤولة‪ ،‬ول تثبت‬
‫أمومة واحدة منهن إذ لم يرتضع منها خمس رضعات‪ ،‬ول يستبع ُد ثبوت خؤولة بل أمومة‪ ،‬كما‬
‫ثبت فى لبن الفحل أبوة بل أمومة‪ ،‬وهذا ضعيف‪ .‬والفرق بينهما‪ .‬أن الخؤولة فرع محض على‬
‫المومة‪ ،‬فإذا لم يثبت الصل‪ ،‬فكيف يثُبت فرعُه؟ بخلف البوة والُمومة‪ ،‬فإنهما أصلن ل يلزم‬
‫من انتفاه أحدهما انتفاء الخر‪.‬‬
‫وعلى هذا مسألة‪ ،‬ما لو كان لرجل أُم‪ ،‬وأخت‪ ،‬وابنة‪ ،‬وزوجةُ ابن‪ ،‬فأرضعن طِ ْفلَةً كُلّ‬
‫صرْ واحدةٌ منهن أمها‪ ،‬وهل تحرم على الرجل؟ على وجهين‪ .‬أوجههما‪:‬‬
‫ضعَة‪ ،‬لم َت ِ‬
‫واحدة منهن َر ْ‬
‫ما تقدم‪ .‬والتحريمُ ههنا بعيد‪ ،‬فإن هذا اللبن الذى كمل للطفل ل يجعل الرجل أباً له‪ ،‬ول جداً‪ ،‬ول‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫أخاً‪ ،‬ول خالً‪ ،‬وا ّ‬
‫فصل‬
‫ل التحريم بلبن الفحل على تحريم المخلوقة مِن ماء الزانى دللةَ الولى والحْرى‪،‬‬
‫وقد د ّ‬
‫ق مِن‬
‫خلِ َ‬
‫ل له أن ينكِحَ من قد ُ‬
‫لنه إذا حرم عليه أن ينكِحَ من قد تغذّت بلبن ثار بوطئه‪ ،‬فكيف يَحِ ّ‬
‫ع بنته من الرضاع لما فيها من لبن كان وطء الرجل سبباً فيه‪،‬‬
‫نفس مائة بوطئه؟ وكيف يحرّم الشار ُ‬
‫ضيّةَ التى بينه وبينَ‬
‫ت بنفسِ وطئه ومائة؟ هذا من المستحيل‪ ،‬فإن ال َب ْع ِ‬
‫خلِ َق ْ‬
‫ح مَنْ ُ‬
‫ثم يُبيح له نكا َ‬
‫ضيّة التى بينَه وبين من تغذّت بلبنه‪ ،‬فإن بنت الرضاع فيها‬
‫ل وأتمّ مِن ال َب ْع ِ‬
‫المخلوقة مِن مائة أكم ُ‬
‫جزء ما من البعضية‪ ،‬والمخلوقة من مائة كاسمها مخلوقة مِن مائة‪ ،‬فنصفُها أو أكثرها بعضُه‬
‫قطعاً‪ ،‬والشطرُ الخر للم‪ ،‬وهذا قولُ جمهورِ المسلمين‪ ،‬ول يُعرف فى الصحابة من أباحها‪ ،‬ونص‬
‫المام أحمد رحمه الّ‪ ،‬على أن من تزوّجها‪ُ ،‬قتِلَ بالسيف محصناً كان أو غيره‪ .‬وإذا كانت بنتُه من‬
‫الرضاعة بنتاً فى حكمين فقط‪ :‬الحرمة‪ ،‬والمحرمية‪ ،‬وتخلف سائر أحكام البنت عنها لم تُخرجها‬
‫عن التحريم‪ ،‬وتُوجب حِلها‪ ،‬فكذا بنتُه مِن الزنى تكون بنتاً فى التحريم‪ .‬وتخّلفُ أحكامِ البنت عنها ل‬
‫يُوجب حلها‪ ،‬والّ سبحانه خاطب العرب بما تع ِقلُه فى لغاتِها‪ ،‬ولفظ البنت لفظ لغوى لم ينقلْه‬
‫ل على موضوعه اللغوى‬
‫الشارع عن موضعه الصلى‪ ،‬كلفظ الصلة واليمان ونحوهما‪َ ،‬فيُجم ُ‬
‫ت كلفظِ الخ والعم والخال ألفاظٌ باقية على‬
‫حتى يثبت نقل الشارع له عنه إلى غيره‪ ،‬فلفظُ البن ِ‬
‫ن الراعى الزانى بقوله‪(( :‬أبى‬
‫ل تعالى أنطق اب َ‬
‫موضوعاتها اللغوية‪ .‬وقد ثبت فى ((الصحيح)) أن ا ّ‬
‫ل الكذب‪ ،‬وأجمعت المةُ على تحريم أمّه عليه‪ .‬وخلقُه من‬
‫ن الرّاعى))‪ ،‬وهذا النطاقُ ل يحتمِ ُ‬
‫فُل ٌ‬
‫ل كونه بعضاً لها‪ ،‬وإنقطاع‬
‫ق واحد‪ ،‬وإثمهُما فيه سواء‪ ،‬وكونه بعضًا له مث ُ‬
‫مائها‪ ،‬وماء الزانى خل ٌ‬

‫‪329‬‬
‫ب هذا القول أن‬
‫حرّمُ صاح ُ‬
‫الرث بين الزانى والبنت ل يُوجب جوازَ نكاحها‪ ،‬ثم مِن العجب كيف يُ َ‬
‫ح لِيده‪ ،‬ويُج ّوزُ للنسان أن ينكحَ بعضَه‪ ،‬ثم يُج ّوزُ له أن‬
‫يستمنىَ النسان بيده‪ ،‬ويقول‪ :‬هو نكا ٌ‬
‫ل مِن مائه‪ ،‬وأخرجَ ُه مِن صُلبه‪،‬كما يستفرش الجنبية‪.‬‬
‫خلَقَهُ ا ّ‬
‫يستف ِرشَ بعضه الذى َ‬
‫فصل‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫صتَانِ‪ ،‬كما نص عليه رسول ا ّ‬
‫والحكم الثالث‪ :‬أنه ل تُحرم المصةُ والم ّ‬
‫س رضعات‪ ،‬وهذا موضع اختلف فيه العلماء‪ .‬فأثبتت طائفة من السلف‬
‫وسلم‪ ،‬ول يُحرّ ُم إل خم ُ‬
‫والخلف التحريم بقليل الرضاع وكثيرة‪ ،‬وهذا يروى عن على وابن عباس‪ ،‬وهو قولُ سعيد بن‬
‫المسيب‪ ،‬والحسن والزهرى‪ ،‬وقتادة‪ ،‬والحكم‪ ،‬وحماد‪ ،‬والوزاعى‪ ،‬والثورى‪ ،‬وهو مذهبُ مالك‪،‬‬
‫ث بنُ سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يُحرّم فى‬
‫وأبى حنيفة‪ ،‬وزعم اللي ُ‬
‫ط ُر به الصائم‪ ،‬وهذا رواية عن المام أحمد رحمه الّ‪ .‬وقالت طائفة أخرى‪ :‬ل يثبُت‬
‫المهد ما يُفْ ِ‬
‫ل أبى ثور‪ ،‬وأبى عبيد‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬وداود بن على‪،‬‬
‫ل مِن ثلث رضعات‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫التحريمُ بأق ّ‬
‫وهو روايةٌ ثانية عن أحمد‪.‬‬
‫ل بن مسعود‪ ،‬وعبد‬
‫ل مِن خمس رضعات‪ ،‬وهذا قول عبد ا ّ‬
‫وقالت طائفة أخرى‪ :‬ل يثُبت بأق ّ‬
‫ل بن الزبير‪ ،‬وعطاء‪ ،‬وطاووس‪ ،‬وهو إحدى الروايات الثلث عن عائشة رضى الّ عنها‪،‬‬
‫ا ّ‬
‫والرواية الثانية عنها‪ :‬أنه ل يحرم أقل من سبع‪ ،‬والثالثة‪ :‬ل يحرم أقل من عشر‪ .‬والقول بالخمس‬
‫ل ابن حزم‪ ،‬وخالف داود فى هذه المسألة‪.‬‬
‫مذهب الشافعى‪ ،‬وأحمد فى ظاهر مذهبه‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫فحج ُة الولين أنه سبحانه علّقَ التحريم باسم الرضاعة‪ ،‬فحيث وجد اسمُها وُجدَ‬
‫سبِ)) وهذا موافق‬
‫ن النّ َ‬
‫حرُمُ مِ َ‬
‫ن ال ّرضَاعَة مَا َي ْ‬
‫حرُمُ مِ َ‬
‫حكمُها‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬ي ْ‬
‫لطلق القرآن‪.‬‬
‫وثبت فى ((الصحيحين))‪ ،‬عن عقبة بن الحارث‪ ،‬أنه تزوج أمّ يحيى بنت أبى إهاب‪،‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأعرض عنى‪،‬‬
‫فجاءت أمةٌ سوداء‪ ،‬فقالت‪ :‬قدأرضعتُكما‪ ،‬فذكر ذلك للنب ّ‬
‫ض َع ْتكُما فنها ُه عنها))‪ ،‬ولم يسأل‬
‫ع َمتْ َأ ّنهَا قَ ْد َأ ْر َ‬
‫قال‪ :‬فتنحيت فذكرت ذلك له‪ ،‬قال‪(( :‬وكيْف وقَ ْد زَ َ‬
‫عن عدد الرضاع‪ ،‬قالوا‪ :‬ولنه فعل يتعلق به التحريم‪ ،‬فاستوى قليل ُه وكثيره‪ ،‬كالوطء الموجب له‪،‬‬
‫ب العدد قد اختلفت‬
‫قالوا‪ :‬ولن إنشاز العظم‪ ،‬وإنبات اللحم يحصُل بقليله وكثيره‪ .‬قالُوا‪ :‬ولن أصحا َ‬
‫أقوالهم فى الرضعة وحقيقتها‪ ،‬واضطربت أش ّد الضطراب‪ ،‬وما كان هكذا لم يجعله الشارعُ نصاباً‬
‫لِعدم ضبطه والعلم به‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬ل تُحرّمُ‬
‫ب الثلث‪ :‬قد ثبت عن النب ّ‬
‫قال أصحا ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل‬
‫المصّ ُة والمصّتان))‪ ،‬وعن أم الفضل بنتِ الحارث قالت‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫حرّ ُم الرضعةُ‬
‫جتَانِ))‪ .‬وفى حديث آخر‪ :‬أن رجلً قال‪ :‬يا رسولَ الّ‪ ،‬هل تُ َ‬
‫حرّ ُم المْلجَ ُة والمْلَ َ‬
‫تُ َ‬
‫الواحِدة؟ قال‪(( :‬ل))‪ .‬وهذه أحاديث صحيحة صريحة‪ ،‬رواها مسلم فى ((صحيحه))‪ ،‬فل يجوز‬
‫العدولُ عنها فأثبتنا التحري َم بالثلث لِعموم الية‪ ،‬ونفينا التحريمَ بما دونها بصريحِ السنة قالُوا‪ :‬ولن‬
‫ل مراتب الجمع‪ ،‬وقد اعتبرها‬
‫ما يُعتبر فيه العدد والتكرا ُر يُعتبر فيه الثلث‪ .‬قالوا‪ :‬ولنها أو ُ‬
‫الشارعُ فى مواضع كثيرة جداً‪.‬‬
‫ب الخمسِ‪ :‬الحجةُ لنا ما تقدّم فى أول الفصل من الحاديث‬
‫قال أصحا ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم توفى‬
‫الصحيحة الصريحة‪ ،‬وقد أخبرت عائشة رضى الّ عنها أن رسول ا ّ‬
‫ل النبى صلى ال عليه وسلم لِسهلة بنت سهيل‪:‬‬
‫والمرُ على ذلك‪ ،‬قالُوا‪ :‬ويكفى فى هذا قو ُ‬
‫عَليْهِ))‪ .‬قالُوا‪ :‬وعائشة أعلمُ المة بحكم هذه المسألة هى‬
‫ح ُرمِى َ‬
‫ت تَ ْ‬
‫ضعَا ٍ‬
‫خ ْمسَ َر َ‬
‫ضعِى سَالِماً َ‬
‫((أَر ِ‬
‫ل عنها إذا أرادت أن يدْخُلَ عليها أحد‬
‫ونسا ُء النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكانت عائش ُة رضى ا ّ‬
‫ضعَاتٍ‪ .‬قالوا‪ :‬ونفىُ التحريم بالرضعة‬
‫س َر َ‬
‫خ ْم َ‬
‫أمرت إحدى َبنَاتِ إخوتِها أو أخواتِها فأرضعتهُ َ‬
‫والرضعتين صريحٌ فى عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيرة‪ ،‬وهى ثلثةُ أحاديث صحيحة‬
‫صريحة بعضُها خرج جوابًا للسائل‪ ،‬وبعضُها تأسيسُ حكم مبتدأ‪ .‬قالُوا‪ :‬وإذا علقنا التحريمَ‬
‫بالخمس‪ ،‬لم نكن قد خالفنا شيئًا من النصوص التى استدللتُم بها‪ ،‬وإنما نكونُ قد قيدنا مطلقها‬
‫بالخمس‪ ،‬وتقيي ُد المطلقِ بيانٌ ل نسخ ول تخصيصٌ‪ .‬وأما من علّق التحريمَ بالقليل والكثير‪ ،‬فإنه‬
‫ب الثلث‪ ،‬فإنه وإن لم يُخالفها‪ ،‬فهو‬
‫ث نفى التحريم بالرضعة والرضعتين‪ ،‬وأما صاح ُ‬
‫يُخالف أحادي َ‬
‫مخالفٌ لحاديث الخمس‪.‬‬
‫قال من لم يُقيده بالخمس‪ :‬حديثُ الخمس لم تنقله عائشةُ رضى الّ عنها نقلَ الخبار‪ ،‬فيحتج‬
‫به‪ ،‬وإنما نقلته نقل القرآن‪ ،‬والقرآن إنما يثُبت بالتواتر‪ ،‬والمة لم تنقل ذلك قرآناً‪ ،‬فل يكون قرآناً‪،‬‬
‫وإذا لم يكن قرآناً ول خبراً‪ ،‬امتنع إثباتُ الحكم به‪ .‬قال أصحابُ الخمس‪ :‬الكلمُ فيما نقل مِن القرآن‬
‫آحادًا فى فصلين‪ ،‬أحدهما‪ :‬كونُه من القرآن‪ ،‬والثانى‪ :‬وجوبُ العمل به‪ ،‬ول ريبَ أنهما حكمان‬
‫متغايران‪ ،‬فإن الول يُوجب انعقا َد الصلة به‪ ،‬وتحريمَ مسه على المحدث‪ ،‬وقراءتهِ على الجنبِ‪،‬‬
‫وغير ذلك من أحكام القرآن‪ ،‬فإذا انتفت هذه الحكا ُم لعدم التواتر‪ ،‬لم يلزم انتفاءُ العمل به‪ ،‬فإنه‬
‫جّ كُلّ واحد من الئم ِة الربعة به فى موضع‪ ،‬فاحتج به الشافعى وأحمد فى‬
‫يكفى فيه الظّنّ‪ ،‬وقد احت ً‬

‫‪331‬‬
‫هذا الموضع‪ ،‬واحتج به أبو حنيفة فى وجوب التتابع فى صيام الكفارة بقراءة ابن مسعود ((فصيامُ‬
‫ثلثة أيام متتابعات))‪ .‬واحتج به مالك والصحابة قبله فى فرض الواحد من ولد الم أنه السدس‬
‫بقراءة أبى‪(( ،‬وإن كان رجل يُورث كللة‪ ،‬أو امرأة وله أخ‪ ،‬أو أخت من أم‪ ،‬فلكل واحد منهما‬
‫س كلهم احتجّوا بهذه القراءة‪ ،‬ول مستند للجماع سواها‪.‬‬
‫السدس))‪ ،‬فالنا ُ‬
‫قالوا‪ :‬وأما قولُكم إما أن يكون نقله قرآنًا أو خبراً‪ ،‬قلنا‪ :‬بل قرآناً صريحاً‪ .‬قولُكم‪ :‬فكان يجب‬
‫نقله متواتراً‪ ،‬قلنا‪ :‬حتى إذا نسخ لفظُه أو بقى‪ ،‬أما الول‪ ،‬فممنوع‪ ،‬والثانى‪ ،‬مسلّم‪ ،‬وغايةُ ما فى‬
‫ن له حكمُ قوله‪(( :‬الشيخُ والشيخ ُة إذا زنيا‬
‫المر أنه قرآن نُسِخَ لفظُه‪ ،‬وبقى حكمه‪ ،‬فيكو ُ‬
‫فارجمُوهما)) مما اكتفىَ بنقله آحاداً‪ ،‬وحكمُه ثابت‪ ،‬وهذا مما ل جواب عنه‪ .‬وفى المسألة مذهبان‬
‫آخران ضعيفان‪.‬‬
‫ل مِن سبع‪ ،‬كما سئل طاووس عن قول من يقول‪ :‬ل‬
‫أحدهما‪ :‬أن التحريم ل يثبت بأق ّ‬
‫يحرم من الرضاع دون سبع رضعات‪ ،‬فقال‪ :‬قد كان ذلك‪ ،‬ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم‪،‬‬
‫المرة الواحدة تُحرّمُ‪ ،‬وهذا المذهب ل دليل عليه‪.‬‬
‫ت بعشر رضعات‪ ،‬وهذا يُروى عن حفصة وعائشة‬
‫الثانى‪ :‬التحريمُ إنما يثب ُ‬
‫رضى الّ عنهما‪.‬‬
‫وفيها مذهب آخر‪ ،‬وهو الفرق بين أزواج النبى صلى ال عليه وسلم وغيرهن قال طاووس‪:‬‬
‫كان لزواج النبى صلى ال عليه وسلم رضعات محرمات‪ ،‬ولسائر الناس رضعات معلومات‪ ،‬ثم‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫ح من هذه القوال‪ ،‬وبا ّ‬
‫ُت ِركَ ذلك بعد‪ ،‬وقد تبين الصحي ُ‬
‫فصل‬
‫فإن قيل‪ :‬ما هى الرضع ُة التى تنفصلُ من أختها‪ ،‬وما حدّها؟ قيل‪ :‬الرضعةُ فعلة مِن‬
‫ص منه ثم تركه‬
‫الرضاع‪ ،‬فهى مرة منه بل شك‪ ،‬كضربة وجلسة وأكلة‪ ،‬فمتى التقم الثدىَ‪ ،‬فامت ّ‬
‫ل على العُرف‪،‬‬
‫باختياره مِن غير عارض كان ذلك رضعة‪ ،‬لن الشرع ورد بذلك مطلقاً‪ ،‬فحُم َ‬
‫ض لتنفس أو استراحة يسيرة‪ ،‬أو لشىء يلهيه ثم يعودُ عن قرب ل‬
‫والعُرف هذا‪ ،‬والقطعُ العار ُ‬
‫يخرجه عن كونه رضعة واحدة‪ ،‬كما أن الكل إذا قطع أكلته بذلك‪ ،‬ثم عاد عن قريب لم يكن ذلك‬
‫أكلتين بل واحدة‪ ،‬هذا مذهب الشافعى‪ ،‬ولهم فيما إذا قطعت المرضعةُ عليه‪ ،‬ثم أعادته وجهان‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنها رضعة واحدة ولو قطعته مراراً حتى يقطع بإختياره‪ ،‬قالُوا‪ :‬لن العتبار بفعله ل‬

‫‪332‬‬
‫سبَت رضعة‪ ،‬فإذا قطعت عليه‪ ،‬لم يُعتد به‪،‬‬
‫بفعل المرضعة‪ ،‬ولهذا لو ا ْرتَضَع منها وهى نائمة حُ ِ‬
‫كما لو شرع فى أكلة واحدة أمره بها الطبيبُ‪ ،‬فجاء شخص فقطعها عليه‪ ،‬ثم عاد‪ ،‬فإنها أكلة واحدة‪.‬‬
‫ع َيصِحّ من المرتضع‪ ،‬ومن المرضعة‪،‬‬
‫والوجه الثانى‪ :‬أنها رضعة أخرى‪ ،‬لن الرضا َ‬
‫ب رضعة‪.‬‬
‫س َ‬
‫ج َرتْهُ وهو نائم احت ِ‬
‫ولهذا لو َأوْ َ‬
‫ولهم فيما إذا انتقل من ثدى المرأة إلى ثدى غيرها وجهان‪ .‬أحدهما‪ :‬ل يعتد بواحد منهما‬
‫لنه انتقل من إحداهما إلى الخرى قبل تمام الرضعة‪ ،‬فلم تتم الرضعة من إحداهما‪ .‬ولهذا لو انتقل‬
‫من ثدى المرأة إلى ثديها الخر كانا رضعةً واحدةً‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنه يحتسب من كل واحد منهما رضعة‪ ،‬لنه ارتضع‪ ،‬وقطعه بإختياره من‬
‫شخصين‪.‬‬
‫وأما مذهبُ المام أحمد رحمه الّ‪ ،‬فقال صاحب ((المغنى))‪ :‬إذا قطع قطعاً بيناً بإختيارهِ‪،‬‬
‫كان ذلك رضعة‪ ،‬فإن عاد كان رضعةً أخرى‪ ،‬فأما إن قطع لِضيق نفس‪ ،‬أو للنتقال من ثدى إلى‬
‫ثدى‪ ،‬أو لشىء يُلهيه‪ ،‬أو قطعت عليه المرضعة‪ ،‬نظرنا‪ ،‬فإن لم َيعُدْ قريباً‪ ،‬فهى رضعة وإن عاد فى‬
‫الحال‪ ،‬ففيه وجهان‪ ،‬أحدهما‪ :‬أن الولى رضعة‪ ،‬فإذا عاد فهى رضعة أخرى‪ ،‬قال‪ :‬وهذا اختيار‬
‫أبى بكر‪ ،‬وظاهر كلم أحمد فى رواية حنبل‪ ،‬فإنه قال‪ :‬أما ترى الصبى يرتضع من الثدى‪ ،‬فإذا‬
‫ك عن الثدى ليتنفس‪ ،‬أو ليستريح‪ ،‬فإذا فعل ذلك‪ ،‬فهى رضعة‪ ،‬قال الشيخ‪ :‬وذلك‬
‫أدركه النّفسُ‪ ،‬أمس َ‬
‫أن الولى رضعةٌ لو لم يعد‪ ،‬فكانت رضعة‪ ،‬وإن عاد‪ ،‬كما لو قطع بإختياره‪ .‬والوجه الخر أن‬
‫جميع ذلك رضعة‪ ،‬وهو مذهب الشافعى إل فيما إذا قطعت عليه المرضعة‪ ،‬ففيه وجهان‪ ،‬لنه لو‬
‫ت اليو َم إل أكلةً واحدةً‪ ،‬فاستدام الكلُ زمناً‪ ،‬أو انقطع لشرب ماء أو انتقال من لون إلى‬
‫حلف‪ :‬ل أكل ُ‬
‫لون‪ ،‬أو انتظار لما يُحمل إليه من الطعام لم يُع ّد إل أكلة واحدة فكذا ههنا‪ ،‬والول أصح‪ ،‬لن‬
‫اليسير من السعوط والوَجُور رضعة‪ ،‬فكذا هذا‪.‬‬
‫ل أمرين‪ ،‬أحدهما‪ :‬ما ذكره الشيخ‪ ،‬ويكون قوله‪(( :‬فهى رضعة))‪،‬‬
‫قلتُ‪ ،‬وكلمُ أحمد يحتم ُ‬
‫ع رضعة‪ ،‬فيكون قوله‪(( :‬فهى رضعة)) عائداً‬
‫عائدًا إلى الرضعة الثانية‪ .‬الثانى‪ :‬أن يكون المجمو ُ‬
‫إلى الول‪ ،‬والثانى‪ ،‬وهذا أظهر محتمليه‪ ،‬لنه استدل بقطعه للتنفس‪ ،‬أو الستراحة على كونها‬
‫ق بكون الثانية مع الول واحدة من كون الثانية رضعةً‬
‫رضعة واحدة‪ .‬ومعلوم أن هذا الستدلل ألي ُ‬
‫مستقلة‪ ،‬فتأمله‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫وأما قياسُ الشيخ له على يسير السّعوط والوَجور‪ ،‬فالفرقُ بينهما أن ذلك مستقل ليس تابعاً‬
‫لرضعة قبله‪ ،‬ول هو مِن تمامها‪ ،‬فيقال‪ :‬رضعة بخلف مسألتنا‪ ،‬فإن الثانية تابعة للولى‪ ،‬وهى من‬
‫تمامها فافترقا‪.‬‬
‫فصل‬
‫والحكم الرابع‪ :‬أن الرضاع الذى يتعلّق به التحريمُ ما كان قبل الفطام فى زمن الرتضاع‬
‫المعتاد‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء فى ذلك‪ ،‬فقال الشافعى‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وأبو يوسف‪ ،‬ومحمد‪ :‬هو ما كان فى‬
‫حرّمُ ما كان بعدهما‪ ،‬وصح ذلك عن عمر‪ ،‬وابنِ مسعود‪ ،‬وأبى هريرة‪ ،‬وابن عباس‪،‬‬
‫الحولين‪ ،‬ول يُ َ‬
‫ش ْب ُرمَةَ‪ ،‬وهو قولُ سفيان‪ .‬وإسحاق وأبى‬
‫وابن عمر‪ ،‬ورُوى عن سعيد بن المسيّب‪ ،‬والشعبى وابن ُ‬
‫عُبيد‪ ،‬وابنِ حزم‪ ،‬وابنِ المنذر‪ ،‬وداود‪ ،‬وجمهور أصحابه‪.‬‬
‫ح ذلك عن أم‬
‫وقالت طائفة‪ :‬الرضاعُ المحرم ما كان قبل الفطام‪ ،‬ولم يحدوه بزمن‪ ،‬ص ّ‬
‫ل الزهرى‪ ،‬والحسن‪ ،‬وقتادة‪،‬‬
‫سلمة‪ ،‬وابن عباس ورُوى عن على‪ ،‬ولم يصح عنه‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫وعِكرمة‪ ،‬والوزاعى‪ .‬قال الوزاعى‪ :‬إن فُط َم وله عام واحد واستمر فِطامُه‪ ،‬ثم رضع فى‬
‫حرّم هذا الرضاعُ شيئاً‪ ،‬فإن تمادى رضاعُه ولم يُفطم‪ ،‬فما كان فى الحولين فإنه‬
‫الحولين‪ ،‬لم يُ َ‬
‫يُحرّمُ‪ .‬وما كان بعدهما‪ ،‬فإنه ل يُحرّمُ‪ ،‬وإن تمادى الرضاعُ‪ .‬وقالت طائفة‪ :‬الرضاعُ المحرّمُ ما كان‬
‫فى الصغر‪ ،‬ولم يوقته هؤلء بوقت‪ ،‬وروى هذا عن ابن عمر‪ ،‬وابن المسيّب‪ ،‬وأزواج رسول الّ‬
‫صلى ال عليه وسلم خل عائشة رضى الّ عنها‪ .‬وقال أبو حنيفة وزفر‪ :‬ثلثون شهراً‪ ،‬وعن أبى‬
‫حنيفة رواية أخرى‪ ،‬كقول أبى يوسف ومحمد‪ .‬وقال مالك فى المشهور من مذهبه‪ :‬يُحرّمُ فى‬
‫الحولين‪ ،‬وما قاربهما‪ ،‬ول حُرمة له بعد ذلك‪ .‬ثم روى عنه اعتبارُ أيام يسيرة‪ ،‬وروى عنه شهران‪.‬‬
‫وروى شهر‪ ،‬ونحوه‪ .‬وروى عنه الوليدُ بن مسلم وغيره‪ :‬أن ما كان بع َد الحولين مِن رضاعِ بشهر‬
‫أو شهرين أو ثلثة أشهر‪ ،‬فإنه عندى من الحولين‪ ،‬وهذا هو المشهو ُر عند كثير من أصحابه‪.‬‬
‫والذى رواهُ عنه أصحابُ الموطأ وكان يُقرأ عليه إلى أن مات قوله فيه‪ :‬وما كان مِن الرضاع بعد‬
‫ل الصبى‬
‫الحولين كان قليلُه وكثيرُه ل يُحرّمُ شيئاً‪ ،‬إنما هو بمنزلة الطعام‪ ،‬هذا لفظه‪ .‬وقال‪ :‬إذا فُص َ‬
‫ل الحولين‪ ،‬واستغنى بالطعام عن الرّضاع‪ ،‬فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع حرمة‪ .‬وقال‬
‫قب َ‬
‫ن بن صالح‪ ،‬وابن أبى ذِئب وجماع ٌة من أهل الكوفة‪ :‬مد ُة الرضاع المُحرّم ثلثُ سنين‪ ،‬فما‬
‫الحس ُ‬
‫زاد عليها لم يُحرم‪ ،‬وقال عم ُر بنُ عبد العزيز‪ :‬مدته إلى سبعِ سنين‪ ،‬وكان يزيدُ بن هارون يحكيه‬

‫‪334‬‬
‫حكَى عنه ربيعة‪ ،‬أن مدته حولن‪ ،‬واثنا عشر‬
‫جبِ من قوله‪ .‬وروى عنه خلفُ هذا‪ ،‬و َ‬
‫عنه كالمتع ّ‬
‫يوماً‪.‬‬
‫وقالت طائفة من السلف والخلف‪ :‬يحر ُم رضاع الكبير‪ ،‬ولو أنه شيخ‪ ،‬فروى مالك‪،‬‬
‫ث أمر رسول الّ‬
‫عن ابن شهاب‪ ،‬أنه سئل عن رضاع الكبير‪ ،‬فقال‪ :‬أخبرنى عروة بن الزبير‪ ،‬بحدي ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم‪ ،‬ففعلت‪ ،‬وكانت تراه ابناً لها‪ .‬قال عروةُ‪:‬‬
‫ب أن يدخل عليها من الرجال‪،‬‬
‫فأخذت بذلك عائشة أ ّم المؤمنين رضى الّ عنها فيمن كانت تُح ّ‬
‫فكانت تأمر أختَها أ ّم كلثوم‪ ،‬وبنات أخيها يرضعن من أحبّت أن يدخل عليها من الرجال‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق‪ :‬حدثنا ابن جريج‪ ،‬قال‪ :‬سمعتُ عطاء بن أبى رباح وسأله رجلٌ فقال‪:‬‬
‫حهَا‪ ،‬فقلت له‪ :‬وذلك‬
‫ل كبيراً‪ .‬أفأنكِحُها؟ قال عطاء‪ :‬ل َت ْنكِ ْ‬
‫سقتنى امرأ ٌة من لبنها بعد ما كنت رج ً‬
‫رأيُك؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬كانت عائشة رضى الّ عنها تأمر بذلك بنات أخيها‪ .‬وهذا قولُ ثابت عن عائشة‬
‫ل الليث بن‬
‫ل عنها‪ .‬ويروى عن على‪ ،‬وعروة بن الزبير‪ .‬وعطاء بن أبى رباح‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫رضى ا ّ‬
‫سعد‪ ،‬وأبى محمد ابن حزم‪ ،‬قال‪ :‬ورضاعُ الكبير ولو أنه شيخ يُحرّمُ كما يحرّم رضاع الصغير‪ .‬ول‬
‫فرق‪ ،‬فهذه مذاهب الناس فى هذه المسألة‪.‬‬
‫ولنذكر مناظرةَ أصحاب الحولين‪ ،‬والقائلين برضاع الكبير‪ ،‬فإنهما طرفان‪ ،‬وسائر القوال‬
‫متقاربة‪.‬‬
‫ن كَا ِمَليْنِ‬
‫ح ْوَليْ ِ‬
‫ن َأوْلَدَهُنّ َ‬
‫ضعْ َ‬
‫ت ُيرْ ِ‬
‫ل تعالى‪{ :‬وَالوَالِدَا ُ‬
‫ب الحولين‪ :‬قال ا ّ‬
‫قال أصحا ُ‬
‫ل على أنه ل‬
‫ِلمَنْ َأرَا َد أَنْ ُيتِ ّم ال ّرضَاعَةَ} [البقرة‪ ]233 :‬قالوا‪ :‬فجعل تما َم الرضاعة حولين‪ ،‬فد ّ‬
‫حكم لما بعدهما‪ ،‬فل يتعلّق به التحريم‪ .‬قالوا‪ :‬وهذه المدة هى مدة المجاعة التى ذكرها رسولُ الّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقصَر الرضاعةَ المحرمة عليها‪ .‬قالوا‪ :‬وهذه مدة الثدى الذى قال فيها‪(( :‬ل‬
‫رضاع إل ما كان فى الثدى))‪ ،‬أى فى زمن الثدى‪ ،‬وهذه لغة معروفة عند العرب‪ ،‬فإن العرب‬
‫يقولون‪ :‬فلن ماتَ فى الثّدى‪ ،‬أى‪ :‬فى زمن الرضاع قبل الفطام‪ ،‬ومنه الحديث المشهور‪(( :‬إِنّ‬
‫جنّ ِة ُتتِ ّم َرضَاعَهُ))‪ .‬يعنى إبراهيم ابنَه صلواتُ الّ‬
‫ن لَ ُه ُم ْرضِعاً فى ال َ‬
‫ت فى الثّدْى وإ ّ‬
‫إ ْبرَاهِي َم مَا َ‬
‫وسلمه عليه‪ .‬قالوا‪ :‬وأكّد ذلك بقوله‪(( :‬ل رضاع إل ما فتق المعاء)) وكان فى الثدى قبل الفطام‪،‬‬
‫ع الشيخ الكبير عا ٍر من الثلثة‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫فهذه ثلثةُ أوصاف للرضاع المُحرّم‪ ،‬ومعلوم أن رضَا َ‬
‫ح مِن هذا حديثُ ابن عباس‪(( :‬ل رضاع إل ما كان فى الحولين))‪.‬قالوا‪ :‬وأكدَ ُه أيضاً حديث‬
‫وأصر ُ‬

‫‪335‬‬
‫ع الكبير ل ينبت‬
‫ش َز العَظْمَ))‪ ،‬ورضا ُ‬
‫ن الرّضاعةِ إل ما َأ ْن َبتَ اللّحْ َم وَأنْ َ‬
‫ابن مسعود‪(( :‬ل يُحرّ ُم مِ َ‬
‫لحماً‪ ،‬ول يُنشز عظماً‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولو كان رضاعُ الكبير محرّماً لما قال النبىّ صلى ال عليه وسلم لعائشة وقد تغيّر‬
‫ن إخوانكن)) فلو حرّم‬
‫وجهُه‪ ،‬و َكرِه دخولَ أخيها من الرضاعة عليها لما رآ ُه كبيراً‪(( :‬انظُرنَ مَ ْ‬
‫َرضَاع الكبير‪ ،‬لم يكن فرق بينه وبين الصغير‪ ،‬ولما كره ذلك وقال‪(( :‬انظرن مَن إخوانُكن)) ثم‬
‫ت هذا من المعنى خشي َة أن يكونَ قد ارتضع فى غير‬
‫قال‪(( :‬فإنّما الرضَاعَ ُة مِنَ المجَاعَة)) وتح َ‬
‫زمن الرضاع وهو زمن المجاعة‪ ،‬فل ينشر الحرمة‪ ،‬فل يكون أخاً‪ .‬قالوا‪ :‬وأما حديثُ سهلة فى‬
‫ب نزول قوله تعالى‪{ :‬ادْعُوهُم‬
‫رضاع سالم‪ ،‬فهذا كان فى أوّل الهجرة لن قصته كانت عقي َ‬
‫لبا ِئهِمْ} [الحزاب‪ ]5 :‬وهى نزلت فى أول الهجرة‪.‬‬
‫وأما أحاديث اشتراط الصغر‪ ،‬وأن يكون فى الثدى قبل الفطام‪ ،‬فهى من رواية ابن عباس‪،‬‬
‫ن عباس إنما قدم المدينة قبل الفتح‪ ،‬وأبو هريرة إنما أسلم عامَ فتح خيبر بل شك‪،‬‬
‫وأبى هريرة‪ ،‬واب ُ‬
‫كِلهُما قدم المدينة بعد قصة سالم فى رضاعه من امرأة أبى حذيفة‪.‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم صحة‬
‫قال المثبتون للتحريم برضاع الشيوخ‪ :‬قد صحّ عن النب ّ‬
‫ل يمترى فيها أحد أنه أمر سهلة بنتَ سُهيل أن ُت ْرضِع سالمًا مولى أبى حذيفة‪ ،‬وكان كبيراً ذا لحية‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫حرُمى))‪ ،‬ثم ساقوا الحديث‪ ،‬وطرقَهَ وألفاظَه وهى صحيح ٌة صريحة بل شك‪.‬‬
‫((أَرْضعِيهِ تَ ْ‬
‫ت أن الرضاعة‬
‫ثم قالوا‪ :‬فهذه الخبارُ ترفع الشكال‪ ،‬وتُبين مراد الّ عز وجل فى اليات المذكورا ِ‬
‫التى َتتِمّ بتمام الحولين‪ ،‬أو بتراضى البوين قبل الحولين إذا رأيا فى ذلك صلحًا للرضيع‪ ،‬إنما هى‬
‫الموجبة للنفقة على المرأة المرضعة‪ ،‬والتى يُجبر عليها البوان أحبا أم كرها‪ .‬ولقد كان فى الية‬
‫ن ُيتِمّ‬
‫ن ِلمَنْ أرا َد أَ ْ‬
‫ح ْوَليْنِ كَا ِمَليْ ِ‬
‫ن َأوْلَدَهُنّ َ‬
‫ضعْ َ‬
‫ت يُر ِ‬
‫كفاية من هذا لنه تعالى قال‪{ :‬والوَالِدَا ُ‬
‫ل تعالى الوالدات‬
‫س َو ُتهُنّ بِالمعرُوفِ} [البقرة‪ ،]233 :‬فأمر ا ّ‬
‫ن َوكِ ْ‬
‫الرّضَاعَ َة وعلى الم ْولُودِ لَ ُه ِرزْ ُقهُ ّ‬
‫ع المولود عامين‪ ،‬وليس فى هذا تحريمٌ للرضاعة بعد ذلك ول أن التحريم ينقطِعُ بتمام‬
‫بإرضا ِ‬
‫ن ال ّرضَاعَةِ} [النساء‪]23 :‬؟‪،‬‬
‫ضعْنكُم َوأَخَوا ُتكُمْ مِ َ‬
‫لتِى َأ ْر َ‬
‫الحولين‪ ،‬وكان قولُه تعالى‪َ { :‬وُأ ّمهَا ُتكُ ُم ال ّ‬
‫ولم يقل فى حولين‪ ،‬ول فى وقت دونَ وقت زائداً على اليات الخر‪ ،‬وعمومها ل يجو ُز تخصيصُه‬
‫إل بنص يبُين أنه تخصيص له‪ ،‬ل بظن‪ ،‬ول محتمل ل بيانَ فيه‪ ،‬وكانت ه ِذهِ الثا ُر يعنى التى فيها‬
‫التحريمُ برضاع الكبير قد جاءت مجىء التوا ُترِ‪ ،‬رواها نساء النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسهلةُ‬

‫‪336‬‬
‫ب بنت أم سلمة وهى ربيب ُة النبىّ صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫بنت سهيل‪ ،‬وهي من المهاجرات‪ ،‬وزين ُ‬
‫ورواها من التابعين‪ :‬القاسمُ بن محمد‪ ،‬وعرو ُة بن الزبير‪ ،‬وحُميد بن نافع‪ ،‬ورواها عن هؤلء‪:‬‬
‫الزهرى‪ ،‬وابنُ أبى مليكة‪ ،‬وعبدُ الرحمن بن القاسم‪ ،‬ويحيى بن سعيد النصارى وربيعة‪ ،‬ثم رواها‬
‫ن بن عيينة‪ ،‬وشعبةُ‪ ،‬ومالك‪ ،‬وابنُ جريج‪،‬‬
‫ن الثورى‪ ،‬وسفيا ُ‬
‫عن هؤلء‪ :‬أيوب السّخْتيانى‪ ،‬وسفيا ُ‬
‫وشعيب‪ ،‬ويونس‪ ،‬وجعفر بن ربيعة‪ ،‬ومعمر‪ ،‬وسليمان بن بلل‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ثم رواها عن هؤلء‬
‫الج ّم الغفيرُ‪ ،‬والعددُ الكثير‪ ،‬فهى نقلُ كافة ل يختلفُ مُؤالف ول مخالف فى صحتها‪ ،‬فلم يبق مِن‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫ض أزواج رسول ا ّ‬
‫العتراض إل قول القائل‪ :‬كان ذلك خاصاً بسالم‪ ،‬كما قال بع ُ‬
‫ل عنهن‪ .‬هكذا‬
‫ن ممن ظن ذلك منهن رضى ا ّ‬
‫ن تبعهن فى ذلك‪ ،‬فليعل ْم من تعلّق بهذا أنه ظ ٌ‬
‫وسلم ومَ ْ‬
‫فى الحديث أنهن قُلن‪ :‬ما نرى هذا إل خاصاً بسالم‪ ،‬وما ندرى لعلها كانت رخصة لسالم‪ .‬فإذا هو‬
‫ن الظّنّ ل يُغنى مِنَ الحَقّ‬
‫ظن بل شك فإن الظن ل يُعارض به السنن الثابتة‪ ،‬قال الّ تعالى‪{ :‬إ ّ‬
‫ج أ ّم سلمة رضى الّ عنها بظنها‪ ،‬وبين احتجاج عائشة‬
‫شيْئاً} [يونس‪ ]36 :‬وشتانَ بين اجتجا ِ‬
‫َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‬
‫رضى الّ عنها بالسنة الثابتة‪ ،‬ولهذا لما قالت لها عائشة‪ :‬أمالكِ في رسول ا ّ‬
‫ع إلى مذهب عائشة‪ ،‬وإما انقطاع‬
‫أسوة حسنة‪ ،‬سكتت أم سلمة‪ ،‬ولم تنطق بحرف‪ ،‬وهذا إما رجو ُ‬
‫فى يدها‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ :‬كيف أرضِع ُه وهو رجل كبير؟ بيان‬
‫ل سهلة لرسول ا ّ‬
‫قالُوا‪ :‬وقو ُ‬
‫جلى أنه بعد نزول اليات المذكورات‪.‬‬
‫قالُوا‪ :‬ونعلم يقينًا أنه لو كان ذلك خاصاً بسالم‪ ،‬لقطع النبىّ صلى ال عليه وسلم اللحاق‪،‬‬
‫نص على أنه ليس لحد بعده‪ ،‬كما بيّن لبى بُردة بن نيار‪ ،‬أن جذعته تُجزىْء عنه‪ ،‬ول تجزىْء‬
‫ل الفرج وتحريمه‪،‬‬
‫عن أحد بعده‪ ..‬وأين يقعُ ذبح جَذع ٍة أضحية من هذا الحكم العظيم المتعلق به ح ّ‬
‫وثبوت المحرمية‪ ،‬والخلة بالمرأة والسفر بها؟ فمعلوم قطعاً‪ ،‬أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان‬
‫خاصاً‪ .‬قالوا‪ :‬وقول النبى صلى ال عليه وسلم ((إنّما الرّضاعة من المَجَاعَةِ)) حجة لنا‪ ،‬لن شُرب‬
‫الكبير للبن يُؤثر فى دفع مجاعته قطعاً‪ ،‬كما يُؤثر فى الصغير أو قريبًا منه‪.‬‬
‫فإن قلتم‪ :‬فما فائدة ذكره إذا كان الكبيرُ والصغيرُ فيه سواء؟ قلنا‪ :‬فائدتُه إبطال تعلق التحريم‬
‫بالقطرة من اللبن‪ ،‬أو المصّة الواحدة التى ل تُغنى من جوع‪ ،‬ول تُنبت لحماً‪ ،‬ول تُنشز عظماً‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وقولُه صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل رضاع إل ما كان فى الحولين‪ ،‬وكان فى الثدى قبلَ‬
‫الفطام)) ليس بأبل َغ مِن قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل ربا إلّ فى النسيئة))‪،‬‬

‫‪337‬‬
‫((وإنما الربا فى النسيئة))‪ ،‬ولم يمنع ذلك ثبوتُ ربا الفضل بالدلة الدالة عليه‪ ،‬فكذا هذا‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسنُنه الثابتة ُكّلهَا حق يجب اتباعُها ل يضرب‬
‫فأحاديثُ رسول ا ّ‬
‫ل على ذلك أن عائشة أم المؤمنين‬
‫بعضها ببعض‪ ،‬بل تستعمل كلً منها على وجهه‪ .‬قالوا‪ :‬ومما يد ّ‬
‫رضى الّ عنها‪ ،‬وأفقه نساء المة هى التى روت هذا وهذا‪ ،‬فهى التى روت‪(( :‬إنّماال َرضَاعَةُ مِنَ‬
‫المَجَاعَةِ)) وروت حديث سهلة‪ ،‬وأخذت به فلو كان عندها حديث ((إنما الرضاعة من المجاعة))‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫مخالفاً لحديث سهلة‪ ،‬لما ذهبت إليه وتركت حديثاً واجهها به رسولُ ا ّ‬
‫وتغ ّيرَ وجهه‪ ،‬وكره الرجل الذى رآه عندها‪ ،‬وقالت‪ :‬هو أخى‪.‬‬
‫ت مِن‬
‫ل عليها الكبير إذا أرضعته فى حال كبره أخ ٌ‬
‫قالوا‪ :‬وقد صحّ عنها أنها كانت تُدْخ ُ‬
‫أخواتها الرضاع المُحَرم‪ ،‬ونحن نشهدُ بشهادة الّ‪ ،‬ونقطع قطعاً نلقاه به يوم القيامة‪ ،‬أن أ ّم المؤمنين‬
‫ل له انتهاكُه‪ ،‬ولم يكن الّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بحيث ينت ِهكُه من ل َيحِ ّ‬
‫لم تكن لِتبيحَ سِترَ رسول ا ّ‬
‫سمَاوات‪ ،‬وقد عصم الّ سبحانه ذلك‬
‫عز وجل ليبيح ذلك على ي ِد الصّديقة المبرأةِ من فوق سبع َ‬
‫ب الكريم‪ ،‬والحمى المنيع‪ ،‬والشرفَ الرفيع أتمّ عِصمة‪ ،‬وصانه أعظ َم صيانة‪ ،‬وتولّى صيانته‬
‫الجنا َ‬
‫ن ونقطعُ‪ ،‬و َن ُبتّ الشهادة لّ‪ ،‬بأن فعلَ‬
‫وحمايتَه‪ ،‬والذبّ عنه بنفسه ووحيه وكلمه‪ ،‬قالوا‪ :‬فنحن نُوقِ ُ‬
‫ع الكبير يقع به من التحريم والمحرميةِ ما يقع برضاع‬
‫عائشة رضى الّ عنها هو الحقّ‪ ،‬وأن رضا َ‬
‫الصغير‪ ،‬ويكفينا أمّنا أفقه نساء المة على الطلق‪ ،‬وقد كانت تُناظر فى ذلك نساءه صلى ال عليه‬
‫ب ابن‬
‫ل علينا بتلك الرضاعة‪ ،‬ويكفينا فى ذلك أنه مذه ُ‬
‫ج ْبنَها بغيرِ قولهن‪ :‬ما أحدٌ داخ ٌ‬
‫وسلم‪ ،‬ول يُ ِ‬
‫عم نبينا‪ ،‬وأعلم أهل الرض على الطلق حين كان خليفة‪ ،‬ومذهبُ الليث بن سعد الذى شهد له‬
‫الشافعى بأنه كان أفقه من مالك‪ ،‬إل أنه ضيّعهُ أصحابُه‪ ،‬ومذهبُ عطاء بن أبى رباح ذكره عبدُ‬
‫الرزاق عن ابن جريج عنه‪ .‬وذكر مالك عن الزهرى‪ ،‬أنه سُئلَ عن رضاع الكبير‪ ،‬فاحتج بحديثِ‬
‫سهلة بنت سهيل فى قصة سالم مولى أبى حذيفة‪ ،‬وقال عبد الرزاق‪ :‬وأخبرنى ابن جريج‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أخبرنى عبد الكريم‪ ،‬أن سالم ابن أبى جعد المولى الشجعى أخبره أن أباه أخبره‪ ،‬أنه سأل على بن‬
‫ل عنه فقال‪ :‬أردت أن أتزوّج امرأة قد سقتنى من لبنها وأنا كبير تداويتُ به‪،‬‬
‫أبى طالب رضى ا ّ‬
‫حهَا‪ ،‬ونهاه عنها‪.‬‬
‫فقال له على‪ :‬ل َت ْنكِ ْ‬
‫فهؤلء سلفنا فى هذه المسألة‪ ،‬وتلك نصوصنا كالشمسِ صحة وصراحة‪ .‬قالوا‪ :‬وأصرحُ‬
‫ل ْمعَا َء فى الثّدْى وكَانَ َقبْلَ‬
‫ع إل مَا َفتَقَ ا َ‬
‫حرّ ُم مِن الرّضا ِ‬
‫ث أم سلمة ترفعه‪(( :‬ل يُ َ‬
‫أحاديثكم حدي ُ‬
‫الفِطَام)) فما أصرحه لو كان سليمًا من العلة‪ ،‬لكن هذا حديثٌ منقطع‪ ،‬لنه من رواية فاطمة بنت‬

‫‪338‬‬
‫ن مِن زوجها هشام باثنى عشر عاماً‪ ،‬فكان‬
‫المنذر عن أم سلمة‪ ،‬ولم تسمع منها شيئاً‪ ،‬لنها كانت أس ّ‬
‫مولده فى سنة ستين‪ ،‬ومولد فاطمة فى سنة ثمان وأربعين‪ ،‬وماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين‪،‬‬
‫وفاطمة صغيرة لم تبلغها‪ ،‬فكيف تحفظُ عنها‪ ،‬ولم تسم ْع مِن خالة أبيها شيئًا وهى فى حَجْرها‪ ،‬كما‬
‫حصل سماعُها من جدتها أسماء بنت أبى بكر؟ قالوا‪ :‬وإذا نظر العالمُ المنصف فى هذا القول‪،‬‬
‫ووازن بينه وبينَ قول من يحدد مد َة الرضاع المُحرّمِ بخمسة وعشرين شهراً‪ ،‬أو ستة وعشرين‬
‫شهراً أو سبعة وعشرين شهراً‪ ،‬أو ثلثين شهرًا من تلك القوال التى ل دليل عليها مِن كتاب الّ‪،‬‬
‫أو سُنة رسوله‪ ،‬ول قوِلِ أحد من الصحابة‪ ،‬تبيّن له فضلُ ما بين القولين‪ ،‬فهذا منتهى أقدام‬
‫الطائفتين فى هذه المسألة‪ ،‬ولعل الواقف عليها لم يكن يخطر له أن هذا القول تنتهى قوتُه إلى هذا‬
‫الحد‪ ،‬وأنه ليس بأيدى أصحابه قدرةٌ على تقديره وتصحيحه‪ ،‬فاجلس أيها العال ُم المنصف مجِلسَ‬
‫حكَم بين هذين المتنازعين‪ ،‬وافصل بينهما بالحج ِة والبيان ل بالتقليد‪ ،‬وقال فلن‪.‬‬
‫ال َ‬
‫واختلف القائلون بالحولين فى حديث سهلة هذا على ثلثة مسالك‪ ،‬أحدها‪ :‬أنه‬
‫ك كثير منهم‪ ،‬ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى‪ ،‬فإنهم ل يُمكنهم إثباتُ‬
‫منسوخ‪ ،‬وهذا مسل ُ‬
‫ب هذا القول عليهم الدعوى‪،‬‬
‫التاريخ المعلوم التأخر بينه وبينَ تلك الحاديث‪ .‬ولو قَلبَ أصحا ُ‬
‫خ تلك الحاديث بحديث سهلة‪ ،‬لكانت نظيرَ دعواهم‪.‬‬
‫وادعوا نس َ‬
‫وأما قولهم‪ :‬إنها كانت فى أوّلِ الهجرة‪ ،‬وحين نزول قوله تعالى‪{:‬ادْعُوهُمْ لبا ِئهِمْ}‬
‫ل عنه‪ ،‬وأبى هريرة بعد ذلك‪ ،‬فجوابه من وجوه‪.‬أحدها‪:‬‬
‫[الحزاب‪ ،]5 :‬ورواية ابن عباس رضى ا ّ‬
‫ن عباس إل دونَ‬
‫أنهما لم يصرحا بسماعه مِن النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل لم يسمع منه اب ُ‬
‫العشرين حديثاً‪ ،‬وسائرُها عن الصحابة رضى الّ عنهم‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أن نساء النبىّ صلى ال عليه وسلم لم تحتج واحدةٌ منهن‪ ،‬بل ول غيرُهن على‬
‫عائشة رضى الّ عنها بذلك‪ ،‬بل سلكن فى الحديث بتخصيصه بسالم‪ ،‬وعدم إلحاق غيره به‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن عائشةَ رضى الّ عنها نفسَها روت هذا وهذا‪ ،‬فلو كان حديثُ سهلة منسوخاً‪،‬‬
‫لكانت عائشةُ رضى الّ عنها قد أخذت به‪ ،‬وتركتِ الناسخَ‪ ،‬أو خفى عليها تقدّمه مع كونها هى‬
‫الراوية له‪ ،‬وكلهما ممتنع‪ ،‬وفى غاية البعد‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن عائش َة رضى الّ عنها ابتُليت بالمسألة‪ ،‬وكانت تعمَلُ بها‪ ،‬وتُناظر عليها‪ ،‬وتدعو‬
‫إليها صواحباتِها فلها بها مزيدُ اعتناء‪ ،‬فكيف يكون هذا حُكماً منسوخاً قد بطل كونهُ من الدين جملة‪،‬‬
‫ويخفى عليها ذلك‪ ،‬ويخفى على نسا ِء النبى صلى ال عليه وسلم فل تذ ُكرُه لها واحد ٌة منهن‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫المسلك الثانى‪ :‬أنه مخصوص بسالم دون من عداه‪ ،‬وهذا مسلك أ ّم سلمة ومَنْ معها‬
‫من نساء النبى صلى ال عليه وسلم ومَنْ تبعهن‪ ،‬وهذا المسلكُ أقوى مما قبله‪ ،‬فإن أصحابه قالوا‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بعد نزول آية‬
‫مما يُبين اختصاصَه بسالم أن فيه‪ :‬أن سهلة سألت رسول ا ّ‬
‫س ّمىَ فيها‪ ،‬ول‬
‫ل للمرأة أن تُبدى زينتها إل لمن ذكر فى الية و ُ‬
‫الحجاب‪ ،‬وهى تقتضى أنه ل يَحِ ّ‬
‫يُخص من عموم من عداهم أحد إل بدليل‪ .‬قالُوا‪ :‬والمرأة إذا أرضعت أجنبياً‪ ،‬فقد أبدت زينتها له‪،‬‬
‫ص به‪ .‬قالوا‪ :‬وإذا أمر‬
‫فل يجو ُز ذلك تمسكاً بعموم الية‪ ،‬فعلمنا أن إبداء سهلة زينتها لسالم خا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم واحدًا مِن المة بأمر‪ ،‬أو أباح له شيئًا أو نهاه عن شىء وليس فى‬
‫رسولُ ا ّ‬
‫ص على تخصيصه‪ ،‬وأما إذا أمر‬
‫الشريعة ما يُعارضه ثبت ذلك فى حق غيره من المة ما لم ين ّ‬
‫الناس بأمرٍ‪ ،‬أو نهاهم عن شىء‪ ،‬ثم أمر واحداً من المة بخلف ما أم َر به الناس‪ ،‬أو أطلقَ له ما‬
‫نهاهم عنه‪ ،‬فإن ذلك يكون خاصاً به وحدَه‪ ،‬ول يقولُ فى هذا الموضع‪ :‬إن أمره للواحد أمرٌ للجميع‪،‬‬
‫وإباحته‪ .‬للواحد إباحةٌ للجميع‪ ،‬لن ذلك يُؤدى إلى إسقاط المر الول‪ ،‬والنهى الول‪ ،‬بل نقول‪ :‬إنه‬
‫ص وتأتلفَ ول يُعارض بعضها بعضاً‪ ،‬فحرم الّ فى كتابه أن‬
‫خاص بذلك الواحد لتتفق النصو ُ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم لسهلة أن تُبدى زينتها لسالم‬
‫حرَمٍ‪ ،‬وأباح رسولُ ا ِ‬
‫تبدىَ المرأ ُة زينتها لغير مَ ْ‬
‫حرَ ٍم عند إِبداء الزينة قطعاً‪ ،‬فيكون ذلك رخصةً خاصة بسالم‪ ،‬مستثناة من عموم‬
‫وهو غي ُر مَ ْ‬
‫التحريم‪ ،‬ول نقول‪ :‬إن حكمها عام‪ ،‬فيبطل حكم الية المحرمة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ويتعيّن هذا المسلك لنا لو لم نسلكه‪ ،‬لزمنا أح ُد مسلكين‪ ،‬ول بد منهما إما نسخ هذا‬
‫ل إلى واحد من‬
‫ث الدالة على إعتبار الصّغر فى التحريم‪ ،‬وإما نسخُها به‪ ،‬ول سبي َ‬
‫الحديث بالحادي ِ‬
‫المرين لعدم العلم بالتاريخ‪ ،‬ولعدم تحقق المعارضة‪ ،‬ولمكان العمل بالحاديث ُكلّها‪ ،‬فإنا إذا حملنا‬
‫ث سهلة على الرخصة الخاصة‪ ،‬والحاديث الخ َر على عمومها فيما عدا سالماً‪ ،‬لم تتعارض‪،‬‬
‫حدي َ‬
‫عمِلَ بجميعها‪.‬‬
‫ولم ينسخ بعضُها بعضاً‪ ،‬و ُ‬
‫قالوا‪ :‬وإذا كان النبىّ صلى ال عليه وسلم قد بّين أن الرضاع إنما يكون فى الحولين‪ ،‬وأنه‬
‫إنما يكون فى الثدى‪ ،‬وإنما يكون قبل الفِطام‪ ،‬كان ذلك ما يَدُلّ على أن حديث سهلة على‬
‫صرُ بيانُ الخصوص فى قوله هذا لك وحدك حتى يتعيّن‬
‫الخصوص‪ ،‬سواء تقدم أو تأخر‪ ،‬فل ينح ِ‬
‫طريقاً‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما تفسي ُر حديث ((إنّما ال ّرضَاعَةُ مِنَ المجَاعَةِ)) بما ذكرتموه‪ ،‬ففى غاية البُعد من‬
‫اللفظ‪ ،‬ول تتبادر إليه أفهامُ المخاطبين‪ ،‬بل القولُ فى معناه ما قاله أبو عُبيد والناس‪ ،‬قال أبو عبيد‪:‬‬

‫‪340‬‬
‫قوله‪(( :‬إنما الرّضاع ُة مِنَ المجاعة)) يقول‪ :‬إن الذى إذا جاع كان طعامُه الذى يُشبعه اللبن‪ ،‬إنما هو‬
‫ى الرضيعُ‪ .‬فأما الذى شبعُه من جوعه الطعامُ‪ ،‬فإن رضاعه ليس برضاع‪ ،‬ومعنى الحديث‪:‬‬
‫الصب ّ‬
‫إنّما الرضاعُ فى الحولين قبل الفطام‪ ،‬هذا تفسير أبى عُبيد والناس‪ ،‬وهو الذى يتبادر فهمُه مِن‬
‫ث التفسيرين على السواء‪ ،‬لكان هذا المعنى أولى به‬
‫الحديث إلى الذهان‪ ،‬حتى لو احتمل الحدي ُ‬
‫ث لهذا المعنى‪ ،‬وكشفها له‪ ،‬وإيضاحها‪ ،‬ومما يبين أن غي َر هذا التفسير خطأ‪،‬‬
‫لمساعدة سائر الحادي ِ‬
‫ح أن يُراد به رضاعة الكبير‪ ،‬أن لفظة ((المجاعة)) إنما تدل على رضاعة الصغير‪،‬‬
‫وأنه ل يَص ّ‬
‫فهى تُثبتُ رضاعة المجاعة‪ ،‬وتَنفى غيرها‪ ،‬ومعلوم يقينًا أنه إنما أراد مجاع َة اللبن ل مجاعةَ الخبز‬
‫ل المتكلم ول السامع‪ ،‬فلو جعلنا حكم الرضاعة عامًا لم يبق لنا ما ينفى‬
‫واللحم‪ ،‬فهذا ل يخطُر ببا ِ‬
‫ويُثبت‪ .‬وسياق قوله‪ :‬لما رأى الرجل الكبير‪ ،‬فقال‪(( :‬إنما الرضاع ُة مِن المجاعة)) يبينُ المرادِ‪،‬‬
‫ل اللفظ منزلة الصريح‪ ،‬فتغيرُ‬
‫وأنه إنما يُحرّم رضاعة من يجوعُ إلى لبن المرأة‪ ،‬والسياق يُنزّ ُ‬
‫ن إخوانُكن)) إنما‬
‫لّ وسلمه عليه وكراهتُه لذلك الرجل‪ ،‬وقوله‪(( :‬انظرن مَ ْ‬
‫وجهه الكريم صلوات ا ِ‬
‫حرّمُ وقتًا دون وقت‪ ،‬ول يفهم أح ٌد من‬
‫هو للتَحفظ فى الرضاعة‪ ،‬وأنها ل تُحرّمُ كلّ وقت‪ ،‬وإنما تُ َ‬
‫هذا أنما الرضاعة ما كان عددُها خمسًا فيعبر عن هذا المعنى بقوله‪(( :‬من المجاعة))‪ ،‬وهذا ضدّ‬
‫البيان الذى كان عليه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقولكم‪ :‬إن الرضاعة تطرُدُ الجوع عن الكبير‪ ،‬كما تطرد الجوعَ عن الصغير كلم باطل‪،‬‬
‫ع المرأة ويَطْر ُد عنه الجوع‪ ،‬بخلف الصغير فإنه ليس له ما يقومُ‬
‫فإنه ل يُعهد ذو لحية يُش ِبعُهُ رضا ُ‬
‫طرُ ُد عنه الجوع‪ ،‬فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلً‪ ،‬والذى يُوضّحُ هذا أنه‬
‫مقا َم اللبن‪ ،‬فهو يَ ْ‬
‫ص َغرُ‪ ،‬فإن‬
‫صلى ال عليه وسلم لم ُيرِدْ حقيقة المجاعة‪ ،‬وإنما أراد مَظنتها وزمنها‪ ،‬ول شك أنه ال ّ‬
‫ع الكبير إل إذا ارتضع وهو جائعٌ‪،‬‬
‫أبيتم إل الظاهرية‪ ،‬وأنه أراد حقيقتها‪ ،‬لزمكم أن ل يُحرّمَ رضا ُ‬
‫فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئاً‪.‬‬
‫ل عن أم‬
‫وأما حديث الستر المصون‪ ،‬والحُرمة العظيمة‪ ،‬والحِمى المنيع‪ ،‬فرضىَ ا ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‬
‫المؤمنين‪ ،‬فإنها وإن رأت أن هذا الرضاع يُثبت المحرمية‪ ،‬فسائرُ أزواج النب ّ‬
‫ل هذا السّتر المصون‪ ،‬والحِمى الرفيع بهذه الرضاعة‪ ،‬فهى مسألة‬
‫يخالفنها فى ذلك‪ ،‬ول يرينَ دخو َ‬
‫اجتهاد‪ ،‬وأح ُد الحزبين مأجور أجراً واحداً‪ ،‬والخر مأجورٌ أجرين‪ ،‬وأسعدُهما بالجرين من أصاب‬
‫ن بهذهِ الرضاعة‪ ،‬والمانع مِن‬
‫لّ ورسوله فى هذه الواقعة‪ ،‬فكل من المدخل للستر المصو ِ‬
‫حكم ا ِ‬

‫‪341‬‬
‫الدخول فائز بالجر‪ ،‬مجتهد فى مرضاة الّ وطاعة رسوله‪ ،‬وتنفيذ حكمه‪ ،‬ولهما أسوة بالنبيين‬
‫ن اللذين أثنى الّ عليهما بالحِكمة والحُكم‪ ،‬وخصّ بفهم الحُكومة أحدَهُما‪.‬‬
‫سَليْما ِ‬
‫الكريمين داودَ و ُ‬
‫فصل‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫سفٌ بارد‪ ،‬فل يلزم انقطاعُ الحديثِ مِن أجل أن فاطمة‬
‫وأما ردّكم لحديث أم سلمة‪ ،‬فتع ّ‬ ‫@‬
‫ل الصغيرُ جداً أشياء‪ ،‬ويحفظُها‪ ،‬وقد عَقَل محمو ُد بنُ‬
‫بنت المنذر لقيت أ ّم سلمة صغيرة‪ ،‬فقد يعقِ ُ‬
‫سبْعِ سِنين‪ ،‬و َيعْقِلُ أصغر منه‪ .‬وقد قلتم‪ :‬إن فاطمة كانت وقتَ وفاة أم سلمة‬
‫الربيع المَجّ َة وهو ابنُ َ‬
‫بنت إحدى عشرة سنة‪ ،‬وهذا سِن جيد‪ ،‬ل سيما للمرأة‪ ،‬فإنها تَصلح فيه للزوج‪ ،‬فمن هى فى حد‬
‫ل الذى ل تُرد به‬
‫الزواج‪ ،‬كيف يقال‪ :‬إنها ل تعقِلُ ما تسمع‪ ،‬ول تدرِى ما تُح ّدثُ به؟ هذا هو الباط ُ‬
‫السننُ‪ ،‬مع أن أم سلمة كانت مصادقةً لجدتها أسماء‪ ،‬وكانت دارهما واحدة‪ ،‬ونشأت فاطمة هذه فى‬
‫حَجر جدتها أسماء مع خالة أبيها عائشة رضى الّ عنها وأم سلمة‪ ،‬وماتت عائش ُة رضى الّ عنها‬
‫سنة سبع وخمسين‪ ،‬وقيل‪ :‬سنة ثمان وخمسين‪ ،‬وقد يُمكن سماعُ فاطمة منها‪ ،‬وأما جدتها أسماء‪،‬‬
‫فماتت سنة ثلث وسبعين‪ ،‬وفاطمة إذ ذاك بنت خمس وعشرين سنة‪ ،‬فلذلك كثر سماعُها منها‪ ،‬وقد‬
‫أفتت أمّ سلمة بمثل الحديث الذى روته أسماء‪ .‬فقال أبو عُبيد‪ :‬حدثنا أبو معاوية‪ ،‬عن هشام بن‬
‫حرّ ُم مِنَ ال ّرضَاعِ؟‬
‫عروة‪ ،‬عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب‪ ،‬عن أم سلمة‪ ،‬أنها سُئلت ما يُ َ‬
‫ل الفِطَامِ‪ .‬فروت الحديث‪ ،‬وأفتت بموجبه‪.‬وأفتى به عم ُر بنُ الخطاب‬
‫ن فى الثّدْى َقبْ َ‬
‫فَقَاَلتْ‪ :‬مَا كَا َ‬
‫ل عنه‪ ،‬كما رواهُ الدارقطنى من حديث سفيان عن عبد الّ بن دينار‪ ،‬عن ابن عمر قال‪:‬‬
‫رضى ا ّ‬
‫ص َغرِ))‪.‬‬
‫ح ْوَليْنِ فى ال ّ‬
‫سمعت عم َر يقول‪(( :‬لرضاع إل فى ال َ‬
‫لّ رضى الّ عنه‪ ،‬فقال مالك رحمه الّ‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر رضى‬
‫وأفتى به ابنُه عبد ا ِ‬
‫ص َغرِ‪ ،‬ول َرضَاعَ َة ِل َكبِيرٍ‪.‬‬
‫الّ عنهما‪ :‬أنه كان يقول‪ :‬ل َرضَاعَة إل لمن َأ ْرضَعَ فى ال ّ‬
‫وأفتى به ابن عباس رضى الّ عنهما‪ ،‬فقال أبو عبيد‪ :‬حدثنا عبد الرحمن‪ ،‬عن سفيان‬
‫ع َبعْدَ‬
‫الثورى‪ ،‬عن عاصم الحول‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس رضى الّ عنهما‪ ،‬قال‪ :‬ل َرضَا َ‬
‫فِطَام‪.‬‬
‫وتناظر فى هذه المسألة عبدُ الّ بن مسعود‪ ،‬وأبو موسى‪ ،‬فأفتى ابنُ مسعود بأنه ل‬
‫حرّمُ إل فى الصغر‪ ،‬فرجع إليه أبو موسى‪ ،‬فذكر الدارقطنى‪ ،‬أن ابن مسعود قال لبى موسى‪ :‬أنت‬
‫يُ َ‬

‫‪342‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل َرضَاع إل ما شَ ّد العَظْمَ وأنبتَ‬
‫تُفتى بكذا وكذا‪ ،‬وقد قال رسولُ ا ّ‬
‫اللّحْمَ))‪.‬‬
‫وقد روى أبو داود‪ :‬حدثنا محمد بن سليمان النبارى‪ ،‬حدثنا وكيع‪ ،‬حدثنا سليمان بن‬
‫ل عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسولُ الِّ‬
‫المغيرة‪ ،‬عن أبى موسى الهللى‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن ابن مسعود رضى ا ّ‬
‫شزَ العَظْم))‪.‬‬
‫ن ال ّرضَاعِ إلّ مَا َأ ْن َبتَ اللّحْ َم وَأنْ َ‬
‫حرّمُ مِ َ‬
‫ل يُ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬‬
‫ثم أفتى بذلك كما ذكره عبد الرزاق عن الثورى‪ ،‬حدثنا أبو بكر ابن عياش‪ ،‬عن أبى‬
‫ل إلى أبى موسى‪ ،‬فقال‪ :‬إن امرأتى َورِمَ ثديُها‬
‫حُصين‪ ،‬عن أبى عطية الوادعى‪ ،‬قال‪ :‬جاء رَجُ ٌ‬
‫صتُهُ‪ ،‬فدخل حلقى شىء سبقنى‪ ،‬فشدّد عليه أبو موسى‪ ،‬فأتى عبدَ الّ بن مسعود‪ ،‬فقال‪ :‬سألتَ‬
‫َف َمصِ ْ‬
‫أحدًا غيرى؟ قال‪ :‬نعم أبا موسى‪ ،‬فشدّ َد على‪ ،‬فأتى أبا موسى‪ ،‬فقال‪ :‬أرضيعٌ هذا؟ فقال أبو موسى‪:‬‬
‫ل تسألونى ما دامَ هذا الحب ُر بينَ أظهركم‪ .‬فهذه روايتُه وفتواه‪.‬‬
‫وأما على بن أبى طالب‪ ،‬فذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن الثورى‪ ،‬عن جُويبر‪ ،‬عن الضحاك‪ ،‬عن‬
‫النزّال بن سبرة‪ ،‬عن على‪ :‬لرَضاع َبعْ َد الفِصَال‪.‬‬
‫وهذا خلف رواية عبد الكريم‪ ،‬عن سالم بن أبى الجعد‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عنه‪ .‬لكن جُويبر ل يُحتج‬
‫بحديثه‪ ،‬وعبد الكريم أقوى منه‪.‬‬
‫فصل‬
‫ق كُلّ أحد‪،‬‬
‫ث سهلة ليس بمنسوخ‪ ،‬ول مخصوصٍ‪ ،‬ول عامٍ فى ح ّ‬
‫المسلك الثالث‪ :‬أن حدي َ‬
‫وإنما هو رخصةٌ للحاجة لمن ل يَستغنى عن دخوله على المرأة‪ ،‬ويَشقّ احتجابُها عنه‪ ،‬كحال سالم‬
‫ن عداه‪ ،‬فل يُؤثّر إل‬
‫مع امرأة أبى حُذيفة‪ ،‬فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجَ ِة َأثّر رضاعُه‪ ،‬وأما مَ ْ‬
‫رضاعُ الصغير‪ ،‬وهذا مسلكُ شيخ السلم ابن تيمية رحمه الّ تعالى‪ ،‬والحاديثُ النافية للرضاع‬
‫فى الكبير إما مطلقة‪ ،‬فتقيّد بحديث سهلة‪ ،‬أو عامة فى الحوال فتخصيصُ هذه الحال من عمومها‪،‬‬
‫ث من‬
‫وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه‪ ،‬وأقرب إلى العمل بجميع الحادي ِ‬
‫ل الموفق‪.‬‬
‫الجانبين‪ ،‬وقواعدُ الشرع تشهد لهُ‪ ،‬وا ّ‬
‫ذكر حكمه صلى ال عليه وسلم فى العدد‬
‫هذا البابُ قد تولى ال سبحانه بيانَه فى كتابه أتمّ بيانٍ‪ ،‬وأوضحَه‪ ،‬وأجمَعه بحيث ل تَشِ ّذ عنه‬
‫معتدة‪ ،‬فذكر أربعة أنواعٍ من العِدَدِ‪ ،‬وهى جملة أنواعها‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫النوع الول‪ :‬عِ ّد ُة الحامل بوضع الحمل مطلقاً بائنةً كانت أو رجعيةً‪ ،‬مفارقة فى‬
‫ح ْمَلهُنّ} [الطلق‪ ،]4 :‬وهذا فيه‬
‫ضعْنَ َ‬
‫ن َي َ‬
‫جُلهُنّ أَ ْ‬
‫ل أَ َ‬
‫الحياة‪ ،‬أو متوفّى عنها‪،‬فقال‪َ {:‬وأُولتُ الَحْما ِ‬
‫عمومٌ مِن ثلث جهات‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬عمومُ المخَب ِر عنه‪ ،‬وهو أولتُ الحمال‪ ،‬فإنه يتناولُ جمي َعهُن‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬عمومُ الجَلِ‪ ،‬فإنه أضافه إليهن‪ ،‬وإضافةُ اسمِ الجمع إلى المعرفة َيعُمّ‪ ،‬فجعل وضعَ‬
‫الحمل جميعَ أجلهن‪ ،‬فلو كان لِبعضهن أجل غيره لم يكن جميعَ أجلهن‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن المبتدأ والخبر معرفتان‪ ،‬أما المبتدأ‪ :‬فظاهر‪ ،‬وأما الخبر وهو قوله تعالى‪ { :‬أَنْ‬
‫ح ْمَلهُنّ} [الطلق‪ ،]4 :‬ففى تأويل مصدر مضاف‪ ،‬أى أجلهن وضع حملهن‪ ،‬والمبتدأ‬
‫ضعْنَ َ‬
‫َي َ‬
‫والخبر إذا كانا معرفتين‪ ،‬اقتضى ذلك حصرَ الثانى فى الول‪ ،‬كقوله‪ {:‬يَا َأ ّيهَا النّاسُ َأ ْنتُ ُم الفُقَراءُ‬
‫ل المتوفى‬
‫حمِيدُ} [فاطر‪ ،]15 :‬وبهذا احتج جمهو ُر الصحابة على أن الحامِ َ‬
‫لّ وَالُّ ُهوَ ال َغ ِنىّ ال َ‬
‫إلى ا ِ‬
‫عنها زوجُها عِدتُها وضعُ حملها‪ ،‬ولو وضعته والزوجُ على المغتسل كما أفتى به النبىّ صلى ال‬
‫س َب ْيعَةَ السلمية‪ ،‬وكان هذا الحك ُم والفتوى منه مشتقاً من كتاب الّ‪ ،‬مطابقًا له‪.‬‬
‫عليه وسلم لِ ْ‬
‫فصل‬
‫طلّقَاتُ‬
‫النوع الثانى‪ :‬عدة المطلقة التى تحيضُ‪ ،‬وهى ثلثةُ قُروُء‪ ،‬كما قال الّ تعالى‪{ :‬والم َ‬
‫ن ثلثة ُقرُوءٍ} [البقرة‪.]228 :‬‬
‫سهِ ّ‬
‫ن بَِأنْفُ ِ‬
‫َي َت َربّصْ َ‬
‫النوع الثالث‪ :‬عدة التى ل حيضَ لها‪ ،‬وهى نوعان‪ :‬صغيرة ل تحيض‪ ،‬و َكبِيرة قد‬
‫ض مِنْ نِسا ِئكُمْ إن‬
‫ن مِنَ المحِي ِ‬
‫لئِى َيئِسْ َ‬
‫يئست من الحيض‪ .‬فبيّن الُّ سبحانَه عِدّة النوعين بقوله‪{ :‬وال ّ‬
‫حضْنَ} [الطلق‪ ،]4 :‬أى‪ :‬فعدتهن كذلك‪.‬‬
‫لئِى لَ ْم يَ ِ‬
‫ن ثَلثَ ُة أَشْهر وَال ّ‬
‫ا ْر َت ْبتُمْ َفعِ ّد ُتهُ ّ‬
‫النوع الرابع‪ :‬المتوفّى عنها زوجها فبين عدتها سبحانه بقوله‪{ :‬وَالّذِين‬
‫ش ُه ٍر وَعَشْراً} [البقرة‪ ،]234 :‬فهذا يتناول‬
‫ن َأ ْر َبعَةَ أَ ْ‬
‫سهِ ّ‬
‫ن بَِأنْفُ ِ‬
‫ُي َتوَ ّفوْنَ ِم ْنكُ ْم َويَ َذرُونَ َأ ْزوَاجًا َي َت َر ّبصْ َ‬
‫المدخولَ بها وغيرَها‪ ،‬والصغير َة والكبيرة‪ ،‬ول تدخل فيه الحامل‪ ،‬لنها خرجت بقوله‪َ { :‬وأُولتُ‬
‫ح ْمَلهُنّ} [الطلق‪ ]4 :‬فجعل وضع حملهن جميع أجلهن‪ ،‬وحصره فيه‪،‬‬
‫ضعْنَ َ‬
‫ن أَنْ َي َ‬
‫جُلهُ ّ‬
‫ل أَ َ‬
‫الحْما ِ‬
‫ل مطلقٌ ل عمو َم له‪ ،‬وأيضاً‬
‫بخلف قوله فى المتوفى عنهن‪َ { :‬يتَر ّبصْنَ} [البقرة‪ ،]228 :‬فِإنّهُ ِفعْ ٌ‬
‫حمْلهُنّ} [الطلق‪ ،]4 :‬متأخر فى النزول عن قوله‪َ { :‬يتَر ّبصْنَ}‬
‫ضعْنَ َ‬
‫ن َي َ‬
‫جُلهُنّ أَ ْ‬
‫فإن قوله‪َ{ :‬أ َ‬
‫ش ُهرٍ وَعَشْراً} [البقرة‪ ،]228 :‬فى‬
‫ن َأ ْر َبعَ َة أَ ْ‬
‫سهِ ّ‬
‫[البقرة‪ ،]228 :‬وأيضاً فإن قوله‪َ { :‬ي َت َر ّبصْنَ بَأنْفُ ِ‬
‫غير الحامل بالتفاق‪ ،‬فإنها لو تمادى حملها فوق ذلك تربصته‪ ،‬فعمومُها مخصوص اتفاقاً‪ ،‬وقوله‪:‬‬

‫‪344‬‬
‫ح ْمَلهُنّ} [الطلق‪ ]4 :‬غيرُ مخصوص بالتفاق‪ ،‬هذا لو لم تأت السن ُة الصحيحةُ‬
‫ضعْنَ َ‬
‫ن أَنْ َي َ‬
‫جُلهُ ّ‬
‫{أَ َ‬
‫بذلك‪ ،‬ووقعت الحوالةُ على القرآن‪ ،‬فكيف والسنة الصحيحة موافقة لذلك‪ ،‬مقررة له‪.‬‬
‫ل مفصّل ًة مبينة‪ ،‬ولكن اختلف فى فهم المراد من القرآن‬
‫فهذه أصول العدد فى كتاب ا ّ‬
‫ل على مرادِ الّ منها ونحن نذكرها ونذكر‬
‫ودللته فى مواضع من ذلك‪ ،‬وقد دلّت السنةُ بحمد ا ّ‬
‫أ ْولَى المعانى وأشبهها بها‪ ،‬ودللة السنة عليها‪.‬‬
‫ف السلف فى المتوفّى عنها إذا كانت حاملً‪ ،‬فقال على‪ ،‬وابن عباس‪،‬‬
‫فمن ذلك اختل ُ‬
‫وجماعة من الصحابة‪ :‬أبعدُ الجلين من وضع الحمل‪ ،‬أو أربعة أشهر وعشراً‪ ،‬وهذا أحد القولين‬
‫فى مذهب مالك رحمه الّ اختاره سحنُون‪ .‬قال المام أحمد فى رواية أبى طالب عنه‪ :‬على بن أبى‬
‫طالب وابن عباس يقولن فى المعتدة الحامل‪ :‬أبعد الجلين‪ ،‬وكان ابن مسعود يقول‪ :‬من شاء‬
‫ضعَتْ‪ ،‬فَقَدْ‬
‫با َه ْلتُهَ‪ ،‬إنّ سورة النساء القُصرى نزلت بعدُ‪ ،‬وحديث سبيعة يقضى بينهم ((إذا َو َ‬
‫ح ْمَلهُنّ} [الطلق‪ ،]4 :‬هى فى المتوفّى‬
‫ن أَنْ َيضَعنَ َ‬
‫جُلهُ ّ‬
‫حّلتْ))‪ .‬وابنُ مسعود يتأول القرآن‪{ :‬أَ َ‬
‫َ‬
‫ل إذا أسقطت‬
‫عنها‪ ،‬والمطلقة مثلها إذا وضعت‪ ،‬فقد حلّت‪ ،‬وانقضت عِدتها‪ ،‬ول تنقضى عدة الحامِ ِ‬
‫حتى يتبين خلقُه‪ ،‬فإذا بان له يد أو رجل‪ ،‬عتقت به المة‪ ،‬وتنقضى به العدة‪ ،‬وإذا ولدت ولداً وفى‬
‫ب عن منزلها الذى أُصيب فيه زوجها أربعة‬
‫ض العدةُ حتى َتلِدَ الخر‪ ،‬ول تغي ُ‬
‫بطنها آخر‪ ،‬لم تنق ِ‬
‫أشهر وعشرًا إذا لم تكن حاملً‪ ،‬والعِدة مِن يو ِم يموت أو يطلق‪ ،‬هذا كلم أحمد‪.‬‬
‫وقد تناظر فى هذه المسألة‪ :‬ابنُ عباس‪ ،‬وأبو هريرة رضى الّ عنهما‪ ،‬فقال أبو هريرة‪:‬‬
‫عِدتُها وضع الحمل‪ ،‬وقال ابنُ عباس‪ :‬تعت ّد أقصى الجلين‪ ،‬فحكّما أ ّم سلمة رضى الّ عنها‪،‬‬
‫س َب ْيعَة‪.‬‬
‫فحكمت لبى هريرة‪ ،‬واحتجت بحديث ُ‬
‫وقد قيل‪ :‬إن ابن عباس رجع‪.‬‬
‫وقال جمهو ُر الصحابة ومَن بعدهم‪ ،‬والئمةُ الربعة‪ :‬إن عدتها وضعُ الحمل‪ ،‬ولو كان‬
‫سلِه فوضعت‪ ،‬حلّت‪.‬‬
‫ج على مغت َ‬
‫الزو ُ‬
‫ج مِن‬
‫قال أصحاب الجلين‪ :‬هذه قد تناولها عمومان‪ ،‬وقد أمكن دخولُها فى كليهما‪ ،‬فل تخر ُ‬
‫عدتها بيقين حتى تأتى بأقصى الجلين‪ ،‬قالوا‪ :‬ول يُمكِنُ تخصيصُ عموم إحداهما بخصوص‬
‫ل بعض الصور فى‬
‫الخرى‪ ،‬لن كلّ آية عامةٌ من وجه‪ ،‬خاصةٌ من وجه‪ ،‬قالوا‪ :‬فإذا أمكن دخو ُ‬
‫ل للعموم فى مقتضاه‪.‬فإذا اعتدت أقصى الجلين دخل أدناهما فى‬
‫عموم اليتين‪ ،‬يعنى إعما ً‬
‫أقصاهما‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫والجمهورُ أجابوا عن هذا بثلثة أجوبة‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن صريحَ السنة يدل على اعتبار الحمل فقط‪ ،‬كما فى ((الصحيحين))‪ :‬أن سُبيعة‬
‫السلميةَ توفّى عنها زوجُها وهى حبلى‪ ،‬فوضعت‪ ،‬فأرادت أن تنكِحَ‪ ،‬فقال لها أبو السنابل‪ :‬ما أنتِ‬
‫ب أَبو السّنابِلِ‪ ،‬قَد‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪(( :‬كَ َذ َ‬
‫بناكحة حتى تعتدى آخرَ الجلين‪ ،‬فسألَت النب ّ‬
‫ش ْئتِ))‪.‬‬
‫حَل ْلتِ فَا ْنكِحِى مَنْ ِ‬
‫َ‬
‫ح ْمَلهُنّ} [الطلق‪ ،]4 :‬نزلت بع َد قوله‪:‬‬
‫ضعْنَ َ‬
‫ن أَنْ َي َ‬
‫جُلهُ ّ‬
‫ل أَ َ‬
‫حمَا ِ‬
‫لتُ الَ ْ‬
‫الثانى أن قوله‪َ { :‬وأُو َ‬
‫ش ُهرٍ وَعَشْراً} [البقرة‪،]234 :‬‬
‫سهِنّ َأ ْر َبعَةَ أ ْ‬
‫ن َأ ْزوَاجًا َي َت َر ّبصْنَ‪ِ ،‬بَأنْفُ ِ‬
‫ن ِم ْنكُمْ َويَذرُو َ‬
‫{والّذِينَ ُي َتوَ ّفوْ َ‬
‫وهذا جواب عبد الّ بن مسعود‪ ،‬كما فى صحيح البخارى عنه‪ :‬أتجعلُون عليها التغليظَ‪ ،‬ول تجعلون‬
‫لها الرخصة‪ ،‬أشهد لنزلت سورةُ النساء القُصرى بعد الطولى‪:‬‬
‫ح ْمَلهُنّ} [الطلق‪.]4 :‬‬
‫ضعْنَ َ‬
‫ن َي َ‬
‫جُلهُنّ أَ ْ‬
‫ل َأ َ‬
‫{وَأولتُ الَحْما ِ‬
‫وهذا الجوابُ يحتاج إلى تقرير‪ ،‬فإن ظا ِهرَه أن آي َة الطلق مقدّمة على آي ِة البقرة‬
‫لتأخرِها عنها‪ ،‬فكانت ناسخةً لها‪ ،‬ولكن النسخ عند الصحابة والسلف أع ّم مِنه عند المتأخرين‪ ،‬فإنهم‬
‫يُريدون به ثلثة معان‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬رفعُ الحكم الثابت بخطاب‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬رفعُ دللة الظاهر إما بتخصيص‪ ،‬وإما بتقييد‪ ،‬وهو أعمّ مما قبله‪.‬‬
‫ن المراد باللفظ الذى بيانه مِن خارج‪ ،‬وهذا أع ّم مِن المعنيين الولين‪ ،‬فابن‬
‫الثالث‪ :‬بيا ُ‬
‫مسعود رضى الّ عنه أشار بتأخر نزولِ سور ِة الطلق‪ ،‬إلى أن آية العتداد بوضع الحملِ ناسخة‬
‫لية البقرة إن كان عمومُها مراداً‪ ،‬أو مخصّصة لها إن لم يكن عمومُها مرادًا مبيّنة للمراد منها‪ ،‬أو‬
‫مقيّدة لطلقها‪ ،‬وعلى التقديرات الثلث‪ ،‬فيتعينُ تقديمُها على عموم تلك وإطلقها‪ ،‬وهذا مِن كمال‬
‫ل الفقه سجي ٌة للقوم‪ ،‬وطبيعةٌ ل‬
‫فقهه رضى الّ عنه‪ ،‬ورسوخِه فى العلم‪ ،‬ومما يُبين أن أصو َ‬
‫يتكلفونها‪ ،‬كما أن العربيةَ والمعانى والبيان وتوابعَها لهم كذلك‪َ ،‬فمَنْ بعدهم فإنما يُجهد نفسه ليتعلق‬
‫بغُبارهم وأنى له؟‬
‫الثالث‪:‬أنه لو لم تأت السن ُة الصريحةُ بإعتبار الحمل‪ ،‬ولم تكن آي ُة الطلق متأخرة‪ ،‬لكان‬
‫تقديمُها هو الواجب لما قررناه أولً من جهات العموم الثلثة فيها‪ ،‬وإطلق قوله‪َ { :‬ي َت َر ّبصْنَ}‬
‫[البقرة‪ ،]234 :‬وقد كانت الحوالةُ على هذا الفهم ممكنة‪ ،‬ولكن لِغموضه ودِقته على كثيرٍ من‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫الناس‪ ،‬أُحيل فى ذلك الحكم على بيان السنة‪ ،‬وبا ّ‬

‫‪346‬‬
‫فصل‬
‫ح ْمَلهُنّ} [الطلق‪ ،]4 :‬على أنها إذا كانت حاملً‬
‫ضعْنَ َ‬
‫ن َي َ‬
‫جُلهُنّ أَ ْ‬
‫ودل قولُه سبحانه‪َ{ :‬أ َ‬
‫بتوأمين لم تنقض العِدةُ حتى تضعهما جيمعاً‪ ،‬ودلّت على أن من عليها الستبراء‪ ،‬فعِدتها وضعُ‬
‫الحمل أيضاً‪ ،‬ودلت على أن العِدة تنقضى بوضع ِه على أىّ صفة كان حياً أو ميتاً‪ ،‬تامّ الخِلقة أو‬
‫ح أو لم يُنفخ‪.‬‬
‫نا ِقصَها‪ ،‬نُفِخَ فيه الرو ُ‬
‫ش ُهرٍ وَعَشْراً} [البقرة‪ ،]234 :‬على الكتفاء‬
‫ن َأ ْر َبعَ َة أَ ْ‬
‫سهِ ّ‬
‫ودل قولُه‪َ { :‬ي َت َر ّبصْنَ بَِأنْفُ ِ‬
‫ض وهذا قول الجمهور‪ ،‬وقال مالك‪ :‬إذا كان عادتُها أن تحيض فى كل سنة مرة‪،‬‬
‫بذلك وإن لم تَح ْ‬
‫فتوفى عنها زوجُها‪ ،‬لم تنقض عدتها حتى تحيضَ حيضتها‪ ،‬فتبرأ مِن عِدتها‪ .‬فإن لم تَحِض‪،‬‬
‫انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم وفاته‪ ،‬وعنه رواية ثانية‪ :‬كقول الجمهور‪ ،‬أنه تعتدّ أربعة أشهر‬
‫ظرُ حيضها‪.‬‬
‫وعشراً‪ ،‬ول تنت ِ‬
‫فصل‬
‫ومن ذلك اختلفُهم فى القراء‪ ،‬هل هى الحيض أو الطهار؟ فقال أكابر الصحابة‪ :‬إنها‬
‫الحيض‪ ،‬هذا قول أبى بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعلى‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وأبى موسى‪ ،‬وعُبادة بن‬
‫الصامت‪ ،‬وأبى الدرداء‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬ومعاذ ابن جبل رضى الّ عنهم‪ ،‬وهو قولُ أصحاب عبد الّ‬
‫ابن مسعود‪ ،‬كلهم كعلقمة‪ ،‬والسود‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬وشُريح وقول الشعبى‪ ،‬والحسن‪ ،‬وقتادة‪ ،‬وقولُ‬
‫ل أئمة‬
‫أصحاب ابن عباس‪ ،‬سعي ِد ابن جبير‪ ،‬وطاووس‪ ،‬وهو قولُ سعيد بن المسيّب‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫الحديث‪ :‬كإسحاق بن إبراهيم‪ ،‬وأبى عُبيد القاسم‪ ،‬والمام أحمد رحمه الّ‪ ،‬فإنه رجع إلى القول به‪،‬‬
‫واستقرّ مذهبُه عليه‪ ،‬فليس له مذهب سواه‪ ،‬وكان يقول‪ :‬إنها الطهار‪ ،‬فقال فى رواية الثرم‪ :‬رأيتُ‬
‫الحاديث عمن قال‪ :‬القروء الحيض‪ ،‬تختِلفُ‪ .‬والحاديث عمن قال‪ :‬إنه أحقّ بها حتى تدخل فى‬
‫الحيضة الثالثة أحاديثُ صحاح قوية‪ ،‬وهذا النصّ وحدَه هو الذى ظفر به أبو عمر بن عبد البر‪،‬‬
‫ل هذا أولً‪ ،‬ثم توقّف فيه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬رجع أحمد إلى أنّ القراء‪ :‬الطهار‪ ،‬وليس كما قال‪ :‬بل كان يقو ُ‬
‫فقال فى رواية الثرم أيضاً‪ :‬قد كنتُ أقول الطهار‪ ،‬ثم وقفت كقول الكابر‪ ،‬ثم جزم أنها الحيضُ‪،‬‬
‫وصرح بالرجوع عن الطهار‪ ،‬فقال فى رواية ابن هانىء‪ .‬كنت أقول‪ :‬إنها الطهارُ‪ ،‬وأنا اليوم‬
‫أذهبُ إلى أن القراء الحيض‪ ،‬قال القاضى أبو يعلى‪ :‬وهذا هو الصحيح عن أحمد رحمه الّ‪ ،‬وإليه‬
‫ذهب أصحابنا‪ ،‬ورجع عن قوله بالطهار‪ ،‬ثم ذكر نصّ رجوعه مِن رواية ابن هانىء كما تقدم‪،‬‬
‫ل أئمة أهل الرأى‪ ،‬كأبى حنيفة وأصحابه‪.‬‬
‫وهو قو ُ‬

‫‪347‬‬
‫وقالت طائفة‪ :‬القراء‪ :‬الطهار‪ ،‬وهذا قولُ عائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت‪ ،‬وعبد‬
‫ل بن عمر‪.‬‬
‫ا ّ‬
‫ويُروى عن الفقهاء السبعة‪ ،‬وأبان بن عثمان والزهرى‪ ،‬وعامة فقهاء المدينة‪ ،‬وبه قال‬
‫مالك‪ ،‬والشافعى‪ ،‬وأحمد فى إحدى الروايتين عنه‪.‬‬
‫وعلى هذا القول‪ ،‬فمتى طلقها فى أثناءِ طهر‪ ،‬فهل تحتسب ببقيته قرءاً؟ على ثلثة أقوال‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬تحتسب به‪ ،‬وهو المشهورُ‪.‬‬
‫ب ببقية الحيضة عند مَنْ يقول‪:‬‬
‫س ُ‬
‫ب به‪ ،‬وهو قولُ الزهرى‪ .‬كما ل تحت ِ‬
‫س ُ‬
‫والثانى‪ :‬ل تحت ِ‬
‫القرء‪ :‬الحيض اتفاقاً‪.‬‬
‫ل أبى‬
‫والثالث‪ :‬إن كان قد جامعها فى ذلك الطهر‪ ،‬لم تحتسِب ببقيته‪ ،‬وإل احتسبت‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫عبيد‪ .‬فإذا طعنت فى الحيضة الثالثة أو الرابعة على قول الزهرى‪ ،‬انقضت عدتها‪ .‬وعلى قول‬
‫الول‪ ،‬ل تنقضى العدة حتى تنقضى الحيض ُة الثالثة‪.‬‬
‫وهَلْ ي ِقفُ انقضاء عدتها على اغتسالها منها؟ على ثلثة أقوال‪ .‬أحدها‪ :‬ل تنقضى‬
‫عدتها حتى تغتسل‪ ،‬وهذا هو المشهُورُ عن أكاب ِر الصحابة‪ ،‬قال المام أحمد‪ :‬وعمر‪ ،‬وعلى‪ ،‬وابن‬
‫ل مِن الحيضة الثالثة‪ ،‬انتهى‪ .‬ورُوى ذلك عن أبى بكر‬
‫مسعود يقولون‪ :‬له رجعتُها قبل أن تغتسِ َ‬
‫الصديق‪ ،‬وعثمان بن عفان‪ ،‬وأبى موسى‪ ،‬وعبادة‪ ،‬وأبى الدرداء‪ ،‬ومعاذ بن جبل رضى الّ عنهم‪،‬‬
‫كما فى مصنف وكيع‪ ،‬عن عيسى الخياط‪ ،‬عن الشعبى‪ ،‬عن ثلثة عشر من أصحاب النبى صلى‬
‫ل مِن‬
‫ال عليه وسلم الخيّر فالخيّر‪ ،‬منهم‪ :‬أبو بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وابن عباس‪ :‬أنه أحقّ بها ما لم تغتسِ ْ‬
‫الحيضة الثالثة‪.‬‬
‫وفى ((مصنفه)) أيضاً‪ ،‬عن محمد بن راشد‪ ،‬عن مكحول‪ ،‬عن معاذ ابن جبل وأبى الدرداء‬
‫مثلُه‪.‬‬
‫ل بن‬
‫وفى مصنف عبد الرزاق‪ :‬عن معمر‪ ،‬عن زيد بن رفيع‪ ،‬عن أبى عُبيدة بن عبد ا ّ‬
‫ى بن كعب فى ذلك‪ ،‬فقال أبى بن كعب‪ :‬أرى أنه أحق بها حتى‬
‫مسعود‪ ،‬قال‪ :‬أرسل عثمان إلى أب ّ‬
‫تغتسل من حَيضتها الثالثة‪ ،‬وتحل لها الصلةُ‪ ،‬قال‪ :‬فما أعلم عثمان إل أخذ بذلك‪.‬‬
‫وفى ((مصنفه)) أيضاً‪ :‬عن عمر بن راشد‪ ،‬عن يحيى بن أبى كثير‪ ،‬أن عُبادة ابن الصامت‬
‫ل لها الصلة‪.‬‬
‫ح ْيضَة الثالثة‪ ،‬وتَحِ ّ‬
‫قال‪ :‬ل تبينُ حتى تغتسِلَ من ال َ‬

‫‪348‬‬
‫فهولء بضعة عشر من الصحابة‪ ،‬وهو قولُ سعيد بن المسيب‪ ،‬وسفيان الثورى وإسحاق بن‬
‫راهوية‪ .‬قال شريك‪ :‬له الرجعة وإن فرّطت فى الغسل عشرينَ سنة‪ ،‬وهذا إحدى الروايات عن‬
‫المام أحمد رحمه الّ‪.‬‬
‫ف على الغسل‪ ،‬وهذا قولُ‬
‫والثانى‪ :‬أنها تنقضى بمجرد طهرها من الحيضة الثالثة‪ ،‬ول تَ ِق ُ‬
‫سعيد بن جبير والوزاعى‪ ،‬والشافعى فى قوله القديم حيث كان يقول‪ :‬القراء‪ :‬الحيض‪ ،‬وهو إحدى‬
‫الروايات عن المام أحمد اختارها أبو الخطاب‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أنها فى عدتها بعد انقطاع الدم‪ ،‬ولِزوجها رجعتها حتى يمضى عليها وقتُ الصلة‬
‫ل الثورى‪ ،‬والرواية الثالثة عن أحمد‪ :‬حكاها أبو بكر عنه‪ ،‬وهو‬
‫التى طهرت فى وقتها‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫ت العدة‬
‫ل أبى حنيفة رحمه الّ‪ ،‬لكن إذا انقطع الدم لقلّ الحيض‪ ،‬وإن انقطع الدم لكثره‪ ،‬إنقض ِ‬
‫قو ُ‬
‫عنها بمجردِ انقطاعه‪.‬‬
‫وأما من قال‪ :‬إنها الطهار‪ ،‬اختلفوا فى موضعين‪ ،‬أحدهما‪ :‬هل يشترط كون‬
‫الطهر مسبوقاً بدم قبله‪ ،‬أو ل يُشترط ذلك؟ على قولين لهم‪ ،‬وهما وجهان فى مذهب الشافعى‬
‫وأحمد‪ .‬أحدهما‪ :‬يُحتسب‪ ،‬لنه طهر بعده حيض فكان قرءاً‪ ،‬كما لو كان قبله حيض‪ .‬والثانى‪ :‬ل‬
‫يُحتسب‪ ،‬وهو ظاهر نص الشافعى فى الجديد‪ ،‬لنها ل تُسمى من ذوات القراء إل إذا رأت الدم‪.‬‬
‫الموضع الثانى‪ :‬هل تنقضى العدة بالطعن فى الحيضة الثالثة أو ل‬
‫تنقضى حتى تحيضَ يومًا وليلةً؟ على وجهين لصحاب أحمد‪ ،‬وهما قولن منصوصان للشافعى‪،‬‬
‫ولصحابه وجه ثالث‪ :‬إن حاضت للعادة‪ ،‬انقضت العِدةُ بالطعن فى الحيضة‪ .‬وإن حاضت لِغير‬
‫العادة‪ ،‬بأن كانت عادتها ترى الدم فى عاشر الشهر‪ ،‬فرأته فى أوله‪ ،‬لم تنقضِ حتى يمضَى عليها‬
‫يوم وليلة‪ .‬ثم اختلفوا‪ :‬هل يكون هذا الدم محسوبًا من العدة؟ على وجهين‪ ،‬تظهرُ فائدتهما فى‬
‫رجعتها فى وقته‪ ،‬فهذا تقرير مذاهب الناس فى القراء‪.‬‬
‫قال من نص‪ :‬إنها الحيض‪ :‬الدليل عليه وجوه‪.‬‬
‫ن ثَلثَةَ‬
‫سهِ ّ‬
‫ن بِأنْفُ ِ‬
‫أحدها‪ :‬أن قولَه تعالى‪َ { :‬ي َت َربّصْ َ‬
‫قُروُء} [البقرة‪ ،]228 :‬إما أن يراد به الطهار فقط‪ ،‬أو الحيض فقط‪ ،‬أو مجموعُهما‪ .‬والثالث‪:‬‬
‫ل اللفظ المشترك على معنييه‪ .‬وإذا تعيّن حمله على أحدهما‪،‬‬
‫محال إجماعاً‪ ،‬حتى عند من يَحمِ ُ‬
‫فالحيض أولى به لوجوه‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫أحدها‪ :‬أنها لو كانت الطهار فالمعتدة بها‬
‫يكفيها قَرآنِ‪ ،‬ولحظ ُة من الثالث‪ ،‬وإطلق الثلثة على هذا مجاز بعيد لنصية الثلثة فى العدد‬
‫المخصوص‪.‬‬
‫فإن قلتم‪ :‬بعض الطهر المطلق فيه عندنا قرء كامل‪ ،‬قيل‪ :‬جوابه مِن ثلثة أوجه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن هذا مختلف فيه كما تقدم‪ ،‬فلم تُجمع المة على أن بعض القَرء قرء قطّ‪ ،‬فدعوى‬
‫هذا يفت ِقرُ إلى دليل‪.‬‬
‫ل الية عليها إلزامُ كون القراء الطهار‪،‬‬
‫الثانى‪ :‬أن هذا دعوى مذهبية‪ ،‬أوجب حم َ‬
‫ط أن اللحظة من‬
‫س ُر بها القرآن‪ ،‬وتُحمل عليها اللغة‪ ،‬ول يُعقل فى اللغة ق ّ‬
‫والدعاوى المذهبية ل يُف ّ‬
‫الطّهر تُسمى قرءاً كاملً‪ ،‬ول اجتمعت المة على ذلك‪ ،‬فدعواه ل تثبت نقلً ول إجماعاً‪ ،‬وإنما هو‬
‫مجرد الحمل‪ ،‬ول ريب أن الحمل شىء‪ ،‬والوضع شىء آخر‪ ،‬وإنما يُفيد ثبوتُ الوضع لغة أو‬
‫شرعًا أو عرفاً‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن القرء إما أن يكون اسمًا لمجموع الطهر‪ ،‬كما يكون اسمًا لمجموع الحيضة أو‬
‫لبعضه‪ ،‬أو مشتركًا بين المرين اشتراكًا لفظيّا‪ ،‬أو اشتراكاً معنويّا‪ ،‬والقسام الثلثة باطلةٌ فتعيّن‬
‫ن وضعه لبعض الطهر‪ ،‬فلنه يلزمُ أن يكون الطه ُر الواحِدُ ع ّد َة أقراء‪ ،‬ويكون‬
‫الول‪ ،‬أما بطل ُ‬
‫ل لفظ ((القرء)) فيه مجازاً‪ .‬وأما بطلنُ الشتراك المعنوى‪ ،‬فمن وجهين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنه يلزم‬
‫استعما ُ‬
‫أن يصْدُق على الطهر الواحد أنه عِدة أقراء حقيقة‪ .‬والثانى‪ :‬أن نظي َر َه وهو الحيض ل يُسمى‬
‫جزؤه قرءاً اتفاقاً‪ ،‬ووضع القرء لهما لغة ل يختِلفُ‪ ،‬وهذا لخفاء به‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬تختار من هذه القسام أن يكون مشتركًا بين ُكلّه وجزُئه اشتراكًا لفظيّا‪ ،‬ويُحمل‬
‫ب من وجهين‪ .‬أحدهما‪ :‬أنه‬
‫المشترك على معنييه‪ ،‬فإنه أحفظُ‪ ،‬وبه تحصل البراءة بيقين‪ .‬قيل‪ :‬الجوا ُ‬
‫ل َيصِحّ اشتراكه كما تقدم‪ .‬الثانى‪ :‬أنه لو صح اشتراكه‪ ،‬لم يجز حملُه على مجموع معنييه‪.‬‬
‫أما على قول من ل يُج ّوزُ حمل المشترك على معنييه‪ ،‬فظاهر‪ ،‬وأما من يُجوّز حمله‬
‫عَليهما‪ ،‬فإنما يُجوزونه إذا دل الدليل على إرادتهما معاً‪ .‬فإذا لم يدل الدليل وقفوه حتى يقوم الدليل‬
‫على إرادة أحدهما‪ ،‬أو إرادتهما‪ ،‬وحكى المتأخرون عن الشافعى‪ ،‬والقاضى أبى بكر‪ ،‬أنه إذا تجرّد‬
‫عن القرائن‪ ،‬وجب حملُه على معنييه‪ ،‬كالسم العام لنه أحوط‪ ،‬إذ ليس أحدهما أولى به من الخر‪،‬‬
‫ول سبيل إلى معنى ثالث‪ ،‬وتعطيلُ ُه غير ممكن‪ ،‬ويمتنِعُ تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة‪ .‬فإذا جاء‬
‫علِمَ أن الحقيقة غيرُ مرادة‪ ،‬إذ لو أريدت‬
‫ت العمل‪ ،‬ولم يتبيّنْ أن أحدَهما هو المقصود بعينه‪ُ ،‬‬
‫وق ُ‬

‫‪350‬‬
‫لبيّنت‪ ،‬فتعيّن المجازُ‪ ،‬وهو مجموع المعنيين‪ ،‬ومن يقول‪ :‬إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول‪ :‬لما لم‬
‫يتبين أن المرادَ أحدهما علم أنه أراد كليهما‪.‬‬
‫قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه الّ‪ :‬فى هذه الحكاية عن الشافعى والقاضى نظر‪ ،‬أما‬
‫القاضى‪ ،‬فمن أصله الوقف فى صيغ العموم‪ ،‬وأنه ل يجوز حملُها على الستغراق إل بدليل‪ ،‬فمن‬
‫ق من غير دليل وإنما الذى ذكره‬
‫جزِمُ فى اللفاظ المشتركة بالستغرا ِ‬
‫يَ ِقفُ فى ألفاظ العموم كيف يَ ْ‬
‫فى كتبه إحالة الشتراك رأساً‪ ،‬وما يُدعى فيه الشتراك‪ ،‬فهو عنده من قبيل المتواطىء‪ ،‬وأما‬
‫ل من أن يقول مثل هذا‪ ،‬وإنما استنبط هذا من قوله‪ :‬إذا أوصى‬
‫الشافعى‪ ،‬فمنصبُه فى العلم أج ّ‬
‫لمواليه تناول المولى مِن فوق ومِنْ أسفل‪ ،‬وهذا قد يكونُ قاله لعتقاده أن المولى من السماء‬
‫المتواطِئة‪ ،‬وأن موضعه القدر المشترك بينهما‪ ،‬فإنه من السماء المتضايقة‪ ،‬كقوله ((منْ ُك ْنتُ‬
‫لهُ)) ول يلزمُ مِن هذا أن يُحكى عنه قاعدة عامة فى السماء التى ليس من معانيها‬
‫لهُ َفعَلي َموْ َ‬
‫َموْ َ‬
‫قدرٌ مشترك أن تُحمَلَ عند الطلق على جميع معانيها‪.‬‬
‫ثم الذى يَدلّ على فساد هذا القول وجوه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن استعمال اللفظ فى معنييه إنما هو مجاز‪ ،‬إذ َوضْعهُ لِكل واحد منهما على سبيل‬
‫النفراد هو الحقيقة‪ ،‬واللفظُ المطلق ل يجوزُ حمله على المجاز‪ ،‬بل يجب حملُه على حقيقته‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أنه لو قُ ّد َر أنه موضوع لهما منفردين‪ ،‬ولكل واحد منهما مجتمعين‪ ،‬فإنه يكون له‬
‫ن غيره بغير موجب ممتنع‪.‬‬
‫حينئذ ثلثةُ مفاهيم‪ ،‬فالحمل على أحد مفاهيمه دو َ‬
‫الثالث‪ :‬أنه حينئذ يستحيلُ حملُه على جميع معانيه‪ ،‬إذ حملُه على هذا وحدَه‪ ،‬وعليهما معاً‬
‫ل له على‬
‫مستلزم للجمع بين النقيضين‪ ،‬فيستحيلُ حملُه على جميع معانيه‪ ،‬وحملُه عليهما معاً حم ٌ‬
‫بعض مفهوماته‪ ،‬فحملُه على جميعها يُبطِلُ حمله على جميعها‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن ههنا أموراً‪ .‬أحدها‪ :‬هذه الحقيقة وحدها‪ ،‬والثانى‪ :‬الحقيقة الخرى وحدها‪،‬‬
‫والثالث‪ :‬مجموعهما‪ ،‬والرابع‪ :‬مجاز هذه وحدها‪ ،‬والخامس‪ :‬مجاز الخرىوحدها‪ ،‬والسادس‪:‬‬
‫مجازهما معاً‪ ،‬والسابع‪ :‬الحقيقة وحدَها مع مجازِها‪ ،‬والثامن‪ :‬الحقيقة مع مجاز الخرى‪ .‬والتاسع‪:‬‬
‫الحقيق ُة الواحدة مع مجازهما‪ ،‬والعاشر‪ :‬الحقيقة الخرى مع مجازها‪ ،‬والحادى عشر‪ :‬مع مجاز‬
‫ل بعضها على سبيل الحقيقة‪ ،‬وبعضها‬
‫الخرى‪ ،‬والثانى عشر‪ :‬مع مجازهما‪ ،‬فهذه اثنا عشر محم ً‬
‫على سبيل المجاز‪ ،‬فتعيين معنى واحد مجازى دونَ سائر المجازات‪ ،‬والحقائق ترجيحٌ مِن غير‬
‫مرجح‪ ،‬وهو ممتنع‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫الخامس‪ :‬أنه لو وجب حملُه علىالمعنيين جميعًا لصار من صيغ العموم‪ ،‬لن حكم السم‬
‫العام وجوبُ حمله على جميع مفرداته عند التجرد مِن التخصيص‪ ،‬ولو كان كذلك‪ ،‬لجاز استثناء‬
‫أح ِد المعنيين منه‪ ،‬ولسبق إلى الذهن منه عند الطلق العموم‪ ،‬وكان المستعمِلُ له فى أحد معنييه‬
‫بمنزلة المستعملِ للسم العام فى بعض معانيه‪ ،‬فيكون متجوزاً فى خطابه غير متكلم بالحقيقة‪ ،‬وأن‬
‫يكون من استعمله فى معنييه غيرَ محتاج إلى دليل‪ ،‬وإنما يحتاج إليه من نفى المعنى الخر‪،‬‬
‫ولوجب أن يفهم منه الشمول قبل البحث عن التخصيص عند من يقول بذلك فى صيغ العموم‪ ،‬ول‬
‫ينفى الجمِال عنه‪ ،‬إذ يصيرُ بمنزلة سائر اللفاظ العامة‪ ،‬وهذا باطل قطعاً‪ ،‬وأحكام السماء‬
‫المشتركة ل تُفارق أحكام السماء العامة‪ ،‬وهذا مما يعلم بالضطرار من اللغة‪ ،‬ولكانت المة قد‬
‫أجمعت فى هذه الية على حملها على خلف ظاهرها ومطلقها إذ لم يصر أح ٌد منهم إلى حمل‬
‫((القرء)) على الطهر والحيض معاً‪ ،‬وبهذا يتبين بطلن قولهم‪ :‬حمله عليهما أحوطُ‪ ،‬فإنه لو قُ ّدرَ‬
‫ل الية على ثلثةِ من الحيض والطهار‪ ،‬لكان فيه خروجٌ عن الحتياط‪ .‬إن قيل‪ :‬نحمله على‬
‫حم ُ‬
‫ثلثة من كل منهما‪ ،‬فهو خلف نص القرآن إذ تصير القراء ستة‪.‬‬
‫قولهم‪ :‬إما أن يُحمل على أحدهما بعينه‪ ،‬أو عليهما إلى آخره قلنا‪ :‬مثلُ هذا ل يجوز أن‬
‫يَعرى عن دللة تُبين المراد منه كما فى السماء المجملة‪ ،‬وإن خفيت الدللة على بعض‬
‫المجتهدين‪ ،‬فل يلز ُم أن تكون خفية عن مجموع المة‪ ،‬وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث‪،‬‬
‫فالكلم‪ ،‬إذا لم يكن مطلقُه يدل على المعنى المراد‪ ،‬فل بد من بيان المراد‪ .‬وإذا تعين أن المراد‬
‫بالقرء فى الية أحدُهما ل كلهما‪ ،‬فإرادة الحيض أولى لوجوه‪ .‬منها‪ :‬ما تقدم‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أن استعمال القرء فى الحيض أظهر منه فى الطهر‪ ،‬فإنهم يذكرونه تفسيراً‬
‫للفظه‪ ،‬ثم يُردفونه بقولهم‪ :‬وقيل‪ ،‬أو قال فلن‪ ،‬أو يقال‪ ،‬على الطهر‪ ،‬أو وهو أيضاً الطهر‪،‬‬
‫فيجعلون تفسيره بالحيض كالمستقر المعلوم المستفيض‪ ،‬وتفسيره بالطهرِ قول قيل‪ .‬وهاك حكايةُ‬
‫قال الجوهرى‪ :‬القَرء بالفتح‪ :‬الحيض‪ ،‬والجمع أقراء وقُروء‪ ،‬فى الحديث‪(( :‬ل صَلَةَ‬ ‫ألفاظهم‪.‬‬
‫َأيّامَ أقْرائِك))‪.‬‬
‫القَرء أيضاً‪ :‬الطهر‪ ،‬وهو من الضداد‪.‬وقال أبو عُبيد‪ :‬القراء‪ :‬الحيض‪ ،‬ثم قال‪ :‬القراء‬
‫ت المرأة‪ :‬إذا حاضت‪ .‬وقال ابن فارس‪ :‬القُروء‪ :‬أوقات‪،‬‬
‫الطهار‪ ،‬وقال الكِسائى‪ :‬والفَراء أقرأ ِ‬
‫يكون للطهر مرة‪ ،‬وللحيض مرة‪ ،‬والواحد قَرء ويقال‪ :‬القرء‪ :‬وهو الطهر‪ ،‬ثم قال‪ :‬وقوم يذهبون‬
‫ل مَنْ جعله مشتركاً بين أوقات الطهر والحيض‪ ،‬وقولَ من جعله‬
‫إلى أن القرء الحيض‪ ،‬فحكي قو َ‬

‫‪352‬‬
‫لوقات الطهر‪ ،‬وقولَ من جعله لوقات الحيض‪ ،‬وكأنه لم يختر واحداً منهما‪ ،‬بل جعله لوقاتهما‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأقرأت المرأة إذا خرجت من حيض إلى طهر‪ ،‬ومن طهر إلى حيض‪ ،‬وهذا يدل على أنه ل‬
‫ت الطهر تُسمى قروءاً‪ ،‬فإنما يريد أوقات‬
‫بُ ّد من مسمى الحيض فى حقيقته يُوضح أن من قال‪ :‬أوقا ُ‬
‫الطهر التى يحتوِشُها الدم‪ ،‬وإل فالصغيرة واليسة ل يقال لزمن طهرهما أقراء‪ ،‬ول هُما مِن ذوات‬
‫القراء بإتفاق أهل اللغة‪.‬‬
‫الدليل الثانى‪ :‬أن لفظ القرء لم يستعمل فى كلم الشارع إل للحيض‪ ،‬ولم يجىء عنه‬
‫ف من خطاب الشارع‬
‫فى موضع واحد استعمالُه للطهر‪ ،‬فحملُه فى الية على المعهود المعرو ِ‬
‫لةَ َأيّا َم أَ ْقرَا ِئكِ)) وهو‬
‫أولى‪ ،‬بل متعين‪ ،‬فإنه صلى ال عليه وسلم قال للمستحاضة‪(( :‬دَعى الصّ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم المع ّبرُ عن الّ تعالى‪ ،‬وبلغة قومِه نزل القرآنُ‪ ،‬فإذا ورد المشتركُ فى كلمِهِ‬
‫على أحد معنييه‪ ،‬وجب حملُه فى سائر كلمه عليه إذا لم تثبت إرادة الخر فى شىء من كلمه‬
‫البتة‪ ،‬ويصيرُ هو لغ َة القرآن التى خوطبنا بها‪ ،‬وإن كان له معنى آخر فى كلم غيره‪ ،‬ويصير هذا‬
‫ص المتواطىءُ بأحد أفراده‪،‬‬
‫المعنى الحقيقة الشرعية فى تخصيص المشترك بأحد معنييه‪ ،‬كما ُيخَ ّ‬
‫بل هذا أولى‪ ،‬لن أغَلبَ أسباب الشتراك تسمية أح ِد القبيلتين الشىء باسم‪ ،‬وتسمية الخرى بذلك‬
‫السم مسمى آخر‪ ،‬ثم تشيع الستعمالت‪ ،‬بل قال المبرّد وغيره‪ :‬ل يقع الشتراكُ فى اللغة إل بهذا‬
‫الوجه خاصة‪ ،‬والواضع لم يضع لفظاً مشتركاً البتة‪ ،‬فإذا ثبت استعمالُ الشارع لفظ القروء فى‬
‫الحيض‪ ،‬علم أن هذا لغته‪ ،‬فيتعينُ حملُه على ما فى كلمه‪ .‬ويوضح ذلك ما فى سياق الية مِن‬
‫خلَقَ الُّ فى َأرْحَا ِمهِنّ} [البقرة‪ ]228 :‬وهذا هو الحيضُ‪،‬‬
‫ن َي ْك ُتمْنَ مَا َ‬
‫ن أَ ْ‬
‫ل َلهُ ّ‬
‫ل يَحّ ّ‬
‫قوله‪{ :‬و َ‬
‫والحمل عند عامة المفسرين‪ ،‬والمخلوق فى الرحم إنما هو الحيض الوجودى‪ ،‬ولهذا قال السلف‬
‫والخلف‪ :‬هو الحمل والحيض‪ ،‬وقال بعضُهم‪ :‬الحمل‪ ،‬وبعضهم‪ :‬الحيض‪ ،‬ولم يقل أحد قطّ‪ :‬إنه‬
‫الطهر‪ ،‬ولهذا لم ينقله من عُنىَ بجمع أقوال أهل التفسير‪ ،‬كابن الجوزى وغيره‪ .‬وأيضاً فقد قال‬
‫ى لَمْ‬
‫ش ُهرٍ‪ ،‬واللّئ ْ‬
‫لثَةُ أ ْ‬
‫ض مِنْ نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُمْ َفعِ ّد ُتهُنّ ثَ َ‬
‫ن مِنَ المحي ِ‬
‫سبحانه‪{ :‬واللّئى َيئِسْ َ‬
‫حضْنَ} [الطلق‪ ،]4 :‬فجعل كُلّ شهر بإزاء حيضة‪ ،‬وعلّق الحكم بعدم الحيض ل بعدم الطهر من‬
‫يَ ِ‬
‫الحيض‪.‬‬
‫وأيضاً فحديث عائشة رضى الّ عنها عن النبى صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ضتَانِ))‪ ،‬رواه أبو داود‪ ،‬ابن ماجه‪ ،‬والترمذى وقال‪:‬‬
‫ح ْي َ‬
‫لمَ ِة تَطْلي َقتَانِ‪ ،‬وَعِ ّدتُها َ‬
‫((طَلَقُ ا َ‬
‫غريب ل نعرفه إلّ من حديث مظاهر ابن أسلم‪ ،‬ومظاهر ل يُعرف له فى العلم غير هذا الحديث‪،‬‬

‫‪353‬‬
‫وفى لفظ للدارقطنى فيه‪(( :‬طلقُ ال َعبْ ِد ِثنْتان))‪ ،‬وروى ابن ماجه من حديث عَطية ال َعوْفى‪ ،‬عن ابن‬
‫لمَ ِة ا ْث َنتَانِ‪ ،‬وعِ ّدتُها‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ((طَلَقُ ا َ‬
‫عمر رضى الّ عنهما قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫ضتَانِ))‪ .‬أيضاً‪ :‬قال ابن ماجه فى سننه‪ :‬حدثنا على بن محمد‪ ،‬حدثنا وكيع‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬عن‬
‫ح ْي َ‬
‫َ‬
‫منصور‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن السود‪ ،‬عن عائشة رضى الّ عنها قالت‪ :‬أمرت بريرة أن تعت ّد ثلث‬
‫حيض‪.‬وفى ((المسند))‪ :‬عن ابن عباس رضى الّ عنهما‪ ،‬أن النبى صلى ال عليه وسلم خير‬
‫بريرة‪ ،‬فاختارت نفسها‪ ،‬وأمرها أن تعتد عدة الحرة‪ .‬وقد فسر عدة الحرة بثلث حيض فى حديث‬
‫عائشة رضى الّ عنها‪ .‬فإن قيل‪ :‬فمذهب عائشة رضى الّ عنها‪ ،‬أن القراء‪ :‬الطهار؟ قيل‪ :‬ليس‬
‫ت ُم َعوّذ‪ ،‬أن‬
‫هذا بأول حديث خالفه روايه‪ ،‬فأخذ بروايته دون رأيه‪ ،‬وأيضاً ففى حديث ال ّر َبيّعِ ِب ْن ِ‬
‫ت بنِ قيس ابن شمّاس لما اختلعت من زوجها أن تتربّص‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم أمر امرأة ثاب ِ‬
‫حيضة واحدة‪ ،‬وتلحق بأهلها‪ ،‬رواه النسائى‪.‬‬
‫خ َتَل َعتْ مِنْ‬
‫وفى سنن أبى داود عن ابن عباس رضى الّ عنهما‪ ،‬أن امرأة ثَابت ابن َقيْس ا ْ‬
‫حيْضةٍ‪.‬‬
‫جهَا‪ ،‬فأمرها النبىّ صلى ال عليه وسلم أن تعتدّ ب َ‬
‫َزوْ ِ‬
‫ت معوذ اختلعَت على عهدِ رسول الّ صلى ال عليه‬
‫وفى الترمذى‪ :‬أن ال ّر َبيّعَ بن َ‬
‫ت أن تَعتَدّ بحيضة‪ .‬قال الترمذى‪ :‬حديث ال ّر َبيّعِ‬
‫وسلم‪ ،‬فأمرها النبىّ صلى ال عليه وسلم أو أ ِمرَ ْ‬
‫الصحيحُ أنها ُأ ِم َرتْ أن تعتد بحيضة‪ .‬وأيضاً‪ ،‬فإن الستبراء هو عِ ّدةُ المة‪ ،‬وقد ثبت عن أبى سعيد‪:‬‬
‫غ ْيرُ ذَاتِ‬
‫حتّى َتضَ َع وَلَ َ‬
‫ل ُتوَطأُ حَامِلٌ َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم قال فى سبايا أوطاس‪َ (( :‬‬
‫أن النب ّ‬
‫ح ْيضَةً)) رواه أحمد وأبو داود‪.‬‬
‫حتّى تَحيضَ َ‬
‫حمْلِ َ‬
‫َ‬
‫ل الحيضة‪ ،‬كذلك‬
‫فإن قيل‪ :‬ل نسلّم أن استبراء المة بالحيضة‪ ،‬وإنما هو بالطهر الذى هو قب َ‬
‫ن عبد البر‪ ،‬وقال‪ :‬قولهم‪ :‬إن استبراء المة حيضة بإجماع ليس كما ظنّوا‪ ،‬بل جائز لها عندنا‬
‫قال اب ُ‬
‫أن تنكِحَ إذا دخلت فى الحيضة‪ ،‬واستيقنت أن دمَها دمُ حيض‪ ،‬كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى‬
‫بن أكثم حين أدخل عليه فى مناظرته إياه‪.‬‬
‫حتَى‬
‫حتَى َتضَعَ وَل حَائِلٌ َ‬
‫ل تُوطَأُ الحَامِلُ َ‬
‫قلنا‪ :‬هذا يردّه قولُه صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬‬
‫ح ْيضَةٍ))‪.‬‬
‫س َتبْرأ بِ َ‬
‫تُ ْ‬
‫وأيضاً فَالمقصودُ الصلى مِن العدة إنما هو استبراءُ الرحم‪ ،‬وإن كان لها فوائد أخر‪،‬‬
‫ولِشرف الحرة المنكوحة وخطرها‪ ،‬جعل العلم الدال على براءة رحمها ثلثة أقراء‪ ،‬فلو كان القرء‪:‬‬
‫هو الطهر‪ ،‬لم تحصل بالقرء الول دللة‪ ،‬فإنه لو جامعها فى الطهر‪ ،‬ثم طلقها‪ ،‬ثم حاضت كان ذلك‬

‫‪354‬‬
‫قرءاً محسوباً من القراء عند من يقول‪ :‬القراء الطهار‪ .‬ومعلوم‪ :‬أن هذا لم يدل على شىء‪ ،‬وإنما‬
‫ل على البراءة الحيض الحاصل بعد الطلق‪ ،‬ولو طلقها فى طهر‪ ،‬لم يُصبها فيه‪ ،‬فإنما يعلم‬
‫الذى يَدُ ّ‬
‫ل الطلق‪ ،‬والعِدة ل تكونُ قبل الطلق لنها حُكمه‪ ،‬والحكم ل‬
‫هنا براءة الرحم بالحيض الموجود قب َ‬
‫يسبِقُ سببه‪ ،‬فإذا كان الطهرُ الموجود بعد الطلق ل دللة له على البراءة أصلً‪ ،‬لم يجز إدخالهُ فى‬
‫العِدد الدالة على براءة الرحم‪ ،‬وكان مثلُه كمثل شاه ٍد غيرِ مقبول‪ ،‬ول يجو ُز تعليقُ الحكم بشهادة‬
‫شاهد ل شهادة له‪ ،‬يُوضحه أن العدة فى المنكوحات‪ ،‬كالستبراء فى المملوكات‪.‬‬
‫وقد ثبت بصريح السنة أن الستبراء بالحيض ل بالطّهر‪ ،‬فكذلك العِ ّد ُة إذ ل فرق بينهما إل‬
‫بتعدد العِدة‪ ،‬والكتفاءُ بالستبراء بقرء واحد‪ ،‬وهذا ل يُوجب اختلفهما فى حقيقة القرء‪ ،‬وإنما‬
‫يختلفان فى القدر المعتبر منهما‪ ،‬ولهذا قال الشافعى فى أصحّ القولين عنه‪ :‬إن استبراء المة يكون‬
‫بالحيض‪ ،‬وفرق أصحابه بين البابين‪ ،‬بأن العدة وجبت قضاء لحق الزوج‪ ،‬فاختصّت بأزمان حقه‪،‬‬
‫وهى أزمان الطهر‪ ،‬وبأنها تتكرر‪ ،‬فتُعلم معها البراءة بتوسط الحيض بخلف الستبراء‪ ،‬فإنه ل‬
‫يتكرر‪ ،‬والمقصو ُد منه مجرد البراءة‪ ،‬فاكتفى فيه بحيضة‪ .‬وقال فى القول الخر‪ :‬تُستبرأ بطهر‬
‫طرداً لصله فى العِدد‪ ،‬وعلى هذا‪ ،‬فهل تُحتسب ببعض الطهر؟ على وجهين لصحابه‪ ،‬فإذا‬
‫ت به‪ ،‬فل بُد من ض ّم حيضة كاملة إليه‪ .‬فإذا طعنت فى الطهر الثانى‪ ،‬حلّت‪ ،‬وإن لم تحتسب‬
‫س َب ْ‬
‫احتُ ِ‬
‫به‪ ،‬فل بُ ّد من ض ّم طهر كامل إليه‪ ،‬ول تحتسب ببعض الطهر عنده قرءاً قولً واحداً‪.‬‬
‫والمقصود‪ :‬أن الجمهورَ على أن عدة الستبراء حيضة ل طُهر‪ ،‬وهذا الستبراء فى‬
‫حق المة كالعِدة فى حق الحرة‪ ،‬قالوا‪ :‬بل العتداد فى حق الحرة بالحيض أولى من المة من‬
‫وجهين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن الحتياط فى حقها ثابت بتكرير القرء ثلث استبراءات‪ ،‬فهكذا ينبغى أن يكونَ‬
‫العتدادُ فى حقها بالحيض الذى هو أحوطُ مِن الطهر‪ ،‬فإنها ل تُحسب بقية الحيضة قرءاً‪ ،‬وتُحتسب‬
‫ببقية الطهر قرءاً‪.‬‬
‫ح ّرةِ‪ ،‬وهى الثابتة بنص القرآن‪ ،‬والستبراء إنما ثبت‬
‫الثانى‪ :‬أن استبراء المة فرع عدة ال ُ‬
‫بالسنة‪ ،‬فإذا كان قد احتاط له الشارعُ بأن جعله بالحيض‪ ،‬فاستبراء الحرة أولى‪ ،‬فعِدة الحرة استبراء‬
‫لها‪ ،‬واستبراء المة عِدة لها‪.‬‬
‫وأيضاً فالدلة والعلمات والحدود والغايات إنما تحصُل بالمور الظاهرة المتميّزة عن‬
‫غيرها‪ ،‬والطه ُر هو المر الصلى‪ ،‬ولهذا متى كان مستمراً مستصحبًا لم يكن له حكم يُفرد به فى‬

‫‪355‬‬
‫الشريعة‪ ،‬وإنما المر المتميز هو الحيضُ‪ ،‬فإن المرأة إذا حاضت تغيّرت أحكامُها مِن بلوغها‪،‬‬
‫وتحريم العبادات عليها من الصلة والصوم والطواف واللّبث فى المسجد وغيرِ ذلك من الحكام‪.‬‬
‫ثم إذا إنقطع الدمُ واغتسلت‪ ،‬فلم تتغير أحكامُها بتجدد الطهر‪ ،‬لكن لزوال المغير الذى هو‬
‫الحيض‪ ،‬فإنها تعود بعد الطهر إلى ما كانت عليه قبل الحيض من غير أن يُجدد لها الطهر حكماً‪،‬‬
‫والقرء أمر يُغير أحكام المرأة‪ ،‬هذا التغييرُ إنما يحصل بالحيض دون الطهر‪ .‬فهذا الوجه دال على‬
‫فساد قول من يحتسب بالطهر الذى قبل الحيضة قرءاً فيما إذا طلقت قبل أن تحيض‪ ،‬ثم حاضت‪،‬‬
‫فإن من اعتد بهذا الطهر قرءاً‪ ،‬جعل شيئًا ليس له حكم فى الشريعة قرءاً من القراء‪ ،‬وهذا فاسد‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫فصل‬ ‫@‬
‫قال من جعل القراء الطهار‪ :‬الكلمُ معكم فى مقامين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬بيان الدليل على أنها الطهار‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬فى الجواب عن أدلتكم‪.‬‬
‫طلّقُوهُنّ ِلعِدّتهنّ}‬
‫طلّقتم النّسَاءَ فَ َ‬
‫أما المقام الول‪ :‬فقوله تعالى‪{ :‬يا أيّها النّبىّ إذا َ‬
‫[الطلق‪ ،]1 :‬ووجه الستدلل به‪ :‬أن اللم هى لم الوقت‪ ،‬أى‪ :‬فطلقوهن فى وقت عدتهن‪ ،‬كما فى‬
‫ط ِل َيوْمِ ال ِقيَامَةِ} [النبياء‪ ،]47 :‬أى‪ :‬فى يوم القيامة‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫قوله تعالى‪َ { :‬و َنضَعُ الموَازِينَ القِسْ َ‬
‫ش ْمسِ} [السراء‪ ،]78 :‬أى‪ :‬وقت الدلوك‪ ،‬وتقول العرب‪ :‬جئتك لثلث بقين‬
‫ل َة لِ ُدلُوكِ ال ّ‬
‫{أَقِم الصّ َ‬
‫من الشهر‪ ،‬أى‪ :‬فى ثلث بقين منه‪ ،‬وقد فسر النبى صلى ال عليه وسلم هذه الية بهذا التفسير‪ ،‬ففى‬
‫ل عنه‪ :‬أنه لما طلّق امرأته وهى حائض‪ ،‬أمره النبىّ صلى‬
‫((الصحيحين))‪ :‬عن ابن عمر رضى ا ّ‬
‫جعَها‪ ،‬ثم يُطلّقَها‪ ،‬وهى طاهر‪ ،‬قبل أن يمسّها‪ ،‬ثم قال‪َ (( :‬ف ِت ْلكَ العِ ّدةُ الّتى َأ َمرَ‬
‫ال عليه وسلم أن يُرا ِ‬
‫ل أن تُطلق لها النساءُ‬
‫طلّقَ لهَا النّسَاءُ)) فبيّن النبى صلى ال عليه وسلم أن العِدة التى أمر ا ّ‬
‫ن تُ َ‬
‫لّ أَ ْ‬
‫ا ُ‬
‫هى الطه ُر الذى بعد الحيضة‪ ،‬ولو كان القرءُ هو الحيض‪ ،‬كان قد طلقها قبل العِدة ل فى العِدة‪،‬‬
‫وكان ذلك تطويلً عليها‪ ،‬وهو غيرُ جائز‪ ،‬كما لو طلقها فى الحيض‪.‬‬
‫لثَةَ ُقرُوءٍ}‬
‫ن ثَ َ‬
‫سهِ ّ‬
‫ت َي َت َر ّبصْنَ بَأنْفُ ِ‬
‫قال الشافعى‪ :‬قال الّ تعالى‪{:‬وَالمُطَلّقَا ُ‬
‫[البقرة‪ ،]228 :‬فالقراء عندنا والّ أعلم الطهار‪ ،‬فإن قال قائل‪ :‬ما دل على أنها الطهار وقد‬
‫ب الذى دلت عليه السنة‪ ،‬والخرى‪ :‬اللسان‪.‬‬
‫قال غي ُركُم‪ :‬الحيض؟ قيل‪ :‬له دللتان‪ .‬إحداهما‪ :‬الكتا ُ‬
‫ن ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪:‬‬
‫طلّقُوهُ ّ‬
‫طلّ ْقتُمُ النّسَاءَ فَ َ‬
‫فإن قال‪ :‬وما الكتاب؟ قيل‪ :‬قال الّ تبارك وتعالى‪{ :‬إذا َ‬

‫‪356‬‬
‫ل عنه‪ ،‬أنه طلّق امرأته وهى حائض فى عهد‬
‫‪ ،]1‬وأخبرنا مالك‪ :‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر رضى ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عن ذلك‪ ،‬فقال رسول الّ‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فسأل عمر رسول ا ّ‬
‫ط ُهرَ‪ ،‬ثُ ّم إنْ شَاءَ‬
‫ط ُهرَ‪ ،‬ثم تَحِيضَ‪ ،‬ثم تَ ْ‬
‫حتّى تَ ْ‬
‫سكْها َ‬
‫ج ْعهَا‪ ،‬ثُ ّم ِل ُيمْ ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ُ (( :‬م ْرهُ َف ْليُرا ِ‬
‫ق لهَا النّسَاءُ))‪.‬‬
‫ن تُطلّ َ‬
‫لّ أَ ْ‬
‫ك العِ ّدةُ الّتى َأ َمرَ ا ُ‬
‫ل أَنْ َي َمسّ‪َ ،‬ف ِت ْل َ‬
‫طلّقَ َقبْ َ‬
‫سكَ َبعْ ُد وإنْ شاءَ َ‬
‫َأمْ َ‬
‫أخبرنا مسلم‪ ،‬وسعيد بن سالم‪ ،‬عن ابن جُريج‪ ،‬عن أبى الزبير‪ ،‬أنه سمع ابن عمر يذكر‬
‫سكْ))‪ ،‬وتل‬
‫طلّقْ أ ْو ُيمْ ِ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إذَا طهَرتْ َف ْليُ َ‬
‫طلقَ امرأته حائضاً‪ ،‬فقال‪ :‬قال النب ّ‬
‫ل أو فى ُقبُلِ عِ ّد ِتهِنّ قال‬
‫طلّقُوهُنّ} [الطلق‪ ]1 :‬لِ ُقبُ ِ‬
‫طلّ ْقتُ ُم النّساءَ فَ َ‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم‪{ :‬إذَا َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عن الّ عز وجَلّ‪ :‬أن العِدة‬
‫الشافعى رحمه الّ‪ :‬أنا شككت‪ ،‬فأخبر رسول ا ّ‬
‫ن لِ ُقبُلِ عِ ّد ِتهِنّ}وهو أن يُطلقها طاهراً‪ ،‬لنها حينئذ تستقبِلُ‬
‫الطُهر دون الحيض‪ ،‬وقرأ‪{ :‬فَطلّقُوهُ ّ‬
‫طلّقت حائضاً‪ ،‬لم تكن مستقبلة عدتها إل بعد الحيض‪.‬‬
‫عِدتها‪ ،‬ولو ُ‬
‫فإن قال‪ :‬فما اللسان؟ قيل‪ :‬القرء‪ :‬اسم وُضِ َع لمعنى‪ ،‬فلما كان الحيضُ دمًا يُرخيه الرحم‬
‫فيخرُج‪ ،‬والطهر دماً يحتبس‪ ،‬فل يخرج‪ ،‬وكان معروفاً من لسان العرب‪ ،‬أن القرء‪ :‬الحبس‪ .‬تقولُ‬
‫العرب‪ :‬هو يَقري الماء فى حوضه وفى سقائه‪ ،‬وتقول العرب‪ :‬هو يقري الطعام فى شِدقه‪ ،‬يعنى‪:‬‬
‫ل العرب‪ :‬إذا حبس الرجل الشىء‪ ،‬قرأه‪ .‬يعنى‪ :‬خبأه‪ ،‬وقال عمر بن الخطاب‬
‫يحبسه فى شدقه‪ .‬وتقو ُ‬
‫ل عنه‪ :‬تُقرى فى صحافها‪ ،‬أى‪ :‬تُحبس فى صحافها‪.‬‬
‫رضى ا ّ‬
‫قال الشافعى‪ :‬أخبرنا مالك‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬عن عروة‪ ،‬عن عائشة رضى الّ عنها‪ ،‬أنها‬
‫ت عبد الرحمن حين دخلت فى الدّمِ مِن الحيضة الثالثة‪ .‬قال ابنُ شهاب‪ :‬فَ ُذ ِك َر ذلك‬
‫انتقلت حفص ُة بن ُ‬
‫لعمرة بنت عبد الرحمن‪ ،‬فقالت‪ :‬صَدَقَ عروة‪ .‬وقد جادلها فى ذلك ناس‪ .‬وقالوا‪ :‬إن الّ تعالى يقول‪:‬‬
‫ل عنها‪ :‬صدقتُم‪ ،‬وهل تدرونَ ما القراء؟‬
‫لثَةَ ُقرُوءٍ} [البقرة ‪ ،]228‬فقالت عائشة رضى ا ّ‬
‫{ثَ َ‬
‫القراء‪ :‬الطهار‪ .‬أخبرنا مالك‪ ،‬عن ابن شهاب قال‪ :‬سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول‪ :‬ما‬
‫أدركتُ أحداً من فقهائنا إل وهو يقول هذا‪ :‬يُريد الذى قالت عائشة رضى الّ عنها‪ .‬قال الشافعى‬
‫رحمه الّ‪ :‬وأخبرنا سفيان‪ ،‬عن الزهرى‪ ،‬عن عمرة‪ ،‬عن عائشة رضى الّ عنها‪ :‬إذا طع َنتِ‬
‫المطلقةُ فى الدم مِن الحيضة الثالثة‪ ،‬فقد برئت منه‪.‬‬
‫وأخبرنا مالك رحمه الّ‪ ،‬عن نافع‪ ،‬وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار‪ ،‬أن الحوص يعنى‬
‫ابنَ حكيم هلك بالشام حين دخلت امرأتُه فى الحيضة الثالثة‪ ،‬وقد كان طلقها‪ ،‬فكتب معاوية إلى زيد‬

‫‪357‬‬
‫بن ثابت يسألُه عن ذلك؟ فكتب إليه زيد‪ :‬إنها إذا دخلت فى الدّ ِم من الحيضة الثالثة‪ ،‬فقد برئت منه‪،‬‬
‫وبرىء منها‪ ،‬ول ترثه‪ ،‬ول َي ِرثُها‪.‬‬
‫وأخبرنا سفيان‪ ،‬عن الزهرى‪ ،‬قال‪ :‬حدثنى سليمان بن يسار‪ ،‬عن زيد بن ثابت‪ ،‬قال‪ :‬إذا‬
‫طعنتِ المرأة فى الحيضة الثالثة فقد برئت‪.‬‬
‫وفى حديث سعيد بن أبى عَروبة‪ ،‬عن رجل‪ ،‬عن سليمان بن يسار‪ ،‬أن عثمان ابن عفان‬
‫وابن عمر قال‪ :‬إذا دخلت فى الحيضة الثالثة فل رجعة له عليها‪.‬‬
‫ل امرأتَه فدخلت‬
‫وأخبرنا مالك‪ :‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر رضى الّ عنهما قال‪ :‬إذا طلّق الرج ُ‬
‫فى الدم مِن الحيضة الثالثة‪ ،‬فقد برئت منه‪ ،‬ول ترثه‪ ،‬ول يرثها‪.‬‬
‫أخبرنا مالك رحمه الّ‪ ،‬أنه بلغه عن القاسم بن محمد‪ ،‬وسالم بن عبد الّ‪ ،‬وأبى بكر بن عبد‬
‫الرحمن‪ ،‬وسليمان بن يسار‪ ،‬وابن شهاب‪ ،‬أنهم كانوا يقولون‪ :‬إذا دخلت المطلقة فى الدم مِن‬
‫ث بينهما‪ .‬زاد غيرُ الشافعى عن مالك رحمهما الّ‪ :‬ول‬
‫الحيضة الثالثة‪ ،‬فقد بانت منه‪ ،‬ول ميرا َ‬
‫ل العلم ببلدنا‪.‬‬
‫رجعة له عليها‪ .‬قال مالك‪ :‬وذلك المر الذى أدركتُ عليه أه َ‬
‫قال الشافعى رحمه الّ‪ :‬ول بُعد أن تكون القراء الطهار‪ ،‬كما قالت عائشة رضى الّ‬
‫عنها‪ ،‬والنساءُ بهذا أعلم‪ ،‬لنه فيهن ل فى الرجال‪ ،‬أو الحيض‪ ،‬فإذا جاءت بثلثِ حيض‪ ،‬حلّت‪،‬‬
‫ل للغسل معنى‪ ،‬ولستم تقولون بواحد من القولين‪ ،‬يعنى‪ :‬أن الذين قالوا‪ :‬إنها‬
‫ول نجد فى كتاب ا ّ‬
‫الحيض‪ ،‬قالوا‪ :‬وهو أحق برجعتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة‪ ،‬كما قاله على‪ ،‬وابن مسعود‪،‬‬
‫وأبو موسى‪ ،‬وهو قول عمر بن الخطاب أيضاً‪ .‬فقال الشافعى‪ :‬فقيل لهم يَعنى للعراقيينَ‪ :‬لم تقولوا‬
‫بقول من احتججتم بقوله‪ ،‬ورويتُم هذا عنه‪ ،‬ول بقول أح ٍد من السلف علمناه؟ فإن قال قائل‪ :‬أين‬
‫خالفناهم؟ قلنا‪ .‬قالوا‪ :‬حتى تغتسِل وتَحِل لها الصلة‪ ،‬وقلتم‪ :‬إن فرطت فى الغسل حتى يذهبَ وقتُ‬
‫الصلة حلّت وهى لم تغتسل‪ ،‬ولم تحل لها الصلة‪ .‬انتهى كلم الشافعى رحمه الّ‪.‬‬
‫قالُوا‪ :‬ويدل على أنها الطهار فى اللسان قولُ العشى‪:‬‬
‫عزَائِكَــا‬
‫عزِيمَ َ‬
‫تَشُدّ لِْ ْقصَاهَا َ‬ ‫غ ْزوَ ٍة‬
‫أفى كُلّ عَامٍ َأ ْنتَ جَاشِمُ َ‬
‫ِلمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ ُقرُو ِء نِسَا ِئكَا‬ ‫حىّ رِ ْفعَــة‬
‫ع ّزاً وفى ال َ‬
‫ُم َو ّرثّة ِ‬
‫فالقروء فى البيت‪ :‬الطهار‪ ،‬لنه ضيع اطهارهن فى غزاته‪ ،‬وآثرها عليهن‪.‬‬
‫ق إلى الوجود مِن الحيض‪ ،‬فكان أولى بالسم‪ ،‬قالُوا‪ :‬فهذا أحدُ‬
‫قالوا‪ :‬ولن الطهر أسب ُ‬
‫المقامين‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫ل ومفصل‪.‬‬
‫وأما المقام الخر‪ ،‬وهو الجواب عن أدلتكم‪ :‬فنُجيبكم بجوابين مجم ٍ‬
‫أما المجمل‪ :‬فنقولُ‪ :‬من أنزل عليه القرآن‪ ،‬فهو أعل ُم بتفسيره‪ ،‬وبمراد المتكلم‬
‫لّ أن تُطلّق لها النساءُ‬
‫به من كل أحد سواه‪ ،‬وقد فسر النبىّ صلى ال عليه وسلم العدة التى أمر ا ُ‬
‫ت بعد ذلك إلى شىء خالفه‪ ،‬بل كُلّ تفسير يُخالف هذا فباطل‪ .‬قالُوا‪ :‬وأعلم المة‬
‫بالطهار‪ ،‬فل التفا َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأعلمُهن بها عائشة رضى الّ عنها‪ ،‬لنها‬
‫بهذه المسألة أزواجُ رسول ا ّ‬
‫ل تعالى جعل قولَهن فى ذلك مقبولً فى وجود الحيض والحمل‪ ،‬لنه ل‬
‫فيهن ل فى الرجال‪ ،‬ولن ا ّ‬
‫ل عنها‪:‬‬
‫ن أعلمُ بذلك من الرجال‪ ،‬فإذا قالت أ ّم المؤمنين رضى ا ّ‬
‫ل على أنه ّ‬
‫يُعلم إل مِن جهتهن‪ ،‬فد ّ‬
‫إن القراء الطهار‪.‬‬
‫ل مَا قَاَلتْ حَذَام‬
‫ن ال َقوْ َ‬
‫فَإ ّ‬ ‫فَقَدْ قَاَلتْ حَذَامِ َفصَدّقُوهَا‬
‫قالوا‪ :‬وأما الجوابُ المفصّلُ‪َ ،‬فنُ ْفرِدُ كلّ واحد مِن أدلتكم بجواب خاص‪ ،‬فهاكم الجوبة‪.‬‬
‫أما قولكم‪ :‬إما أن يُراد بالقراء فى الية الطهار فقط‪ ،‬أو الحيض فقط‪ ،‬أو مجموعُهما إلى‬
‫آخره‪.‬‬
‫فجوابُه أن نقول‪ :‬الطهار فقط‪ ،‬لما ذكرنا من الدللة‪ .‬قولُكم النص اقتضى ثلثة إلى آخره‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬عنه جوابان‪.‬‬
‫ث كوامل‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن بقية الطهر عندنا قرء كامل‪ ،‬فما اعتدت إل بثل ِ‬
‫ض الثالث‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫الثانى‪ :‬أن العرب تُوقِع اسم الجمع على اثنين‪ ،‬وبع َ‬
‫ش ُهرٌ َم ْعلُومَاتٌ} [البقرة‪ ،]197 :‬فإنها شوال‪ ،‬وذو القعدة‪ ،‬وعشر من ذى الحجة أو تسع‪،‬‬
‫ج أَ ْ‬
‫{الحَ ّ‬
‫أو ثلثة عشر‪ .‬ويقولون‪ :‬لفلن ثلث عشرة سنة‪ ،‬إذا دخل فى السنة الثالثة عشر‪ .‬فإذا كان هذا‬
‫ل عليه‪ ،‬وجب المصي ُر إليه‪.‬‬
‫معروفاً فى لُغتهم‪ ،‬وقد دل الدلي ُ‬
‫وأما قولكم‪ :‬إن استعمال القرء فى الحيض أظهر منه فى الطهر‪ ،‬فمقابَل بقولِ منازعيكم‪.‬‬
‫قولكم‪ :‬إن أهل اللغة يُصدرون كتبهم بأن القرء هو الحيض‪ ،‬فيذكرونه تفسيراً للفظ‪ ،‬ثم‬
‫يُردفونه بقولهم‪ :‬بقيل‪ ،‬أو وقال بعضهم‪ :‬هو الطهر‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬أهل اللغة يحكون أن له مسميين فى اللغة‪ ،‬ويُصرحون بأنه يُقال على هذا وعلى هذا‪،‬‬
‫ومنهم من يجعله فى الحيض أظهر‪ ،‬ومنهم من يحكى إطلقه عليهما من غير ترجيح‪ ،‬فالجوهرى‪:‬‬
‫رجّح الحيض‪ .‬والشافعى من أئمة اللغة‪ ،‬وقد رجح أنه الطهر‪ ،‬وقال أبو عبيد‪ :‬القرء يصلحُ للطهر‬
‫والحيض‪ ،‬وقال الزجاج‪ :‬أخبرنى من أثق به‪ ،‬عن يونس‪ ،‬أن القرء عنده يصلحُ للطهر والحيض‪،‬‬

‫‪359‬‬
‫وقال أبو عمرو بن العلء‪ :‬القرء الوقت‪ ،‬وهو يصلُح للحيض‪ ،‬ويصلح للطهر‪ ،‬وإذا كانت هذه‬
‫نصوص أهل اللغة‪ ،‬فكيف يحتجون بقولهم‪ :‬إن القراء الحيض؟‬
‫قولكم‪ :‬إن من جعله الطهر‪ ،‬فإنه يُريد أوقات الطهر التى يحتوشُها الدم‪ ،‬وإل فالصغيرة‬
‫والية ليستا مِن ذوات القراء‪ ،‬وعنه جوابان‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬المنع‪ ،‬بل إذا طلقت الصغيرة التى لم تحض ثم حاضت‪ ،‬فإنها تعتد بالطّهر الذى‬
‫طلّقت فيه قرءًا على أصح الوجهين عندنا‪ ،‬لنه طهر بعده حيض‪ ،‬وكان قرءاً كما لو كان قبله‬
‫ُ‬
‫حيض‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬إنا وإن سلمنا ذلك‪ ،‬فإن هذا يدل على أن الطهر ل يُسمى قرءاً حتى يحتوِشَهُ‬
‫دمانِ‪ ،‬وكذلك نقولُ‪ :‬فالدم شرط فى تسميته قرءاً‪ ،‬وهذا ل يدل على أنّ مسماه الحيض‪ ،‬وهذا‬
‫كالكأس الذى ل يُقال على الناء إل بشرط كون الشراب فيه وإل فهو زُجاجة أو قدح‪ ،‬والمائدة التى‬
‫ل تُقال للخِوان إل إذا كان عليه طعام‪ ،‬وإل فهو خِوان‪ ،‬والكوز الذى ل يقال لمسماه‪ :‬إل إذا كان ذا‬
‫عُروة‪ ،‬وإل فهو كُوب‪ ،‬والقلم الذى يُشترط فى صحة إطلقه على القصبة كونها مبرية‪ ،‬وبدون‬
‫ن غيره‪ ،‬وإل فهو‬
‫ص منه َأ ْو مِ ْ‬
‫البرى‪ ،‬فهو أنبوب أو قصبة‪ ،‬والخاتم شرط إطلقه أن يكون ذا َف ّ‬
‫َفتْحَةٌ‪ ،‬والفرو شرطُ إطلقه على مسماه الصوف‪ ،‬وإل فهو جلد‪ .‬والرّيطة شرط إطلقها على‬
‫مسماها أن تكون قِطعة واحدة‪ ،‬فإن كانت مُلفقة من قطعتين‪ ،‬فهى مُلءة‪ ،‬والحُلة شرط إطلقها أن‬
‫جلَة‪،‬‬
‫حَ‬‫تكون ثوبين‪ ،‬إزار ورداء‪ ،‬وإل فهو ثوب‪ ،‬والريكة ل تقال على السرير إل إذا كان عليه َ‬
‫وهى التى تُسمى بشخانة وخركاه‪ ،‬وإل فهو سرير‪ ،‬واللّطيمة ل تُقال للجِمال إل إذا كان فيها طيب‪،‬‬
‫س َربٌ‪ ،‬وال ِعهْنُ ل يقال للصوف إل إذا كان‬
‫ع ْيرٌ‪ ،‬والنّفَق ل يقال إل لما له منفذ‪ ،‬وإل فهو َ‬
‫وإل فهى ِ‬
‫ستْر‪ .‬والمِحْجَنُ ل‬
‫مصبوغاً‪ ،‬وإل فهو صوف‪ ،‬والخِدْر ل يقال إل لما اشتمل على المرأة وإل فهو ِ‬
‫حنّي ِة الرأس‪ ،‬وإل فهى عصا‪ .‬وال ّر ِكيّةُ ل تقال على البئر إل بشرط كون‬
‫يقال للعصا إل إذا كان مَ ْ‬
‫الماء فيها‪ ،‬وإل فهى بئر‪ .‬والوَقُود ل يقال للحطب إل إذا كانت النار فيه‪ ،‬وإل فهو حطب‪ ،‬ول يقال‬
‫ت من بلد إلى‬
‫ح ِمَل ْ‬
‫للتراب َثرَى إل بشرط نداوته‪ ،‬وإل فهو تراب‪ .‬ول يقال للرسالة‪ُ :‬م َغ ْل َغلَة‪ ،‬إل إذا ُ‬
‫بلد‪ ،‬وإل فهى رسالة‪ ،‬ول يقال للرض َفرَاح إل إذا هُيئت للزراعة‪ ،‬ول يقال لهروب العبد‪ :‬إباق‬
‫إل إذا كان هروبُه مِن غير خوف ول جُوع ول جَهد‪ ،‬وإل فهو هروب‪ ،‬والريق ل يقال له رُضاب‬
‫إل إذا كان فى الفم‪ ،‬فإذا فارقه فهو بُصاق وبُساق والشجاعُ ل يقال له‪ :‬كَمى إل إذا كان شاكى‬
‫السلح‪ ،‬وإل فهو بطل وفى تسميته بطلً قولن أحدهما‪ :‬لنه ُتبْطِلُ شجاعته قِرنه وضربه وطعنه‬

‫‪360‬‬
‫ل بمعنى فاعل‪ ،‬وعلى الثانى‪َ ،‬فعَل‬
‫والثانى‪ :‬لنه َتبْطُلُ شجاعةُ الشجعان عنده‪ ،‬فعلى الول‪ ،‬فهو َفعَ َ‬
‫بمعنى مفعول‪ ،‬وهو قياسُ اللغة‪ .‬والبعير ل يقال له‪ :‬راوية إل بشرط حمله للماء‪ ،‬والطبق ل يُسمى‬
‫ِمهْدَى إل أن يكون عليه هدية‪ ،‬والمرأة ل تُسمى ظَعينة إل بشرطِ كونها فى الهودج‪ ،‬هذا فى‬
‫ظعُنٌ‬
‫الصل‪ ،‬وإل فقد تُسمى المرأة ظعينة‪ ،‬وإن لم تكن فى هودج‪ ،‬ومنه فى الحديث‪(( :‬فَم ّرتْ ُ‬
‫جرِينَ)) والدلو ل يُقال له‪ :‬سَجْل إل ما دام فيه ماء‪ ،‬ول يُقال لها‪ :‬ذَنوب‪ ،‬إل إذا امتلت به‪،‬‬
‫يَ ْ‬
‫عرْق‪ ،‬إل إذا اشتمل عليه‬
‫والسريرُ ل يقال له‪ :‬نعش‪ ،‬إل إذا كان عليه ميّت‪ ،‬والعظمُ ل يقال له‪َ :‬‬
‫حبْلِ‪َ :‬قرَن إل إذا ُقرِنَ فيه اثنان‬
‫خرَز‪ ،‬ول يقال لل َ‬
‫لحم‪ ،‬والخيطُ ل يُسمى سِمطاً إل إذا كان فيه َ‬
‫فصاعداً‪ ،‬والقوم ل يسمون رِفقة إل إذا انضموا فى مجلس واحد‪ ،‬وسير واحد‪ ،‬فإذا تفرقوا زال هذا‬
‫ح ِم َيتْ بالشمس أو بالنار‪،‬‬
‫ل عنهم اسمُ الرفيق‪ ،‬والحجارة ل تسمى َرضْفاً إل إذا ُ‬
‫السمُ‪ ،‬ولم َيزُ ْ‬
‫طرَفاً‪ ،‬إل إذا كان فى طرفيه‬
‫والشمسُ ل يُقال لها‪ :‬غزالة إل عند ارتفاع النهار‪ ،‬والثوبُ ل يُسمى مِ ْ‬
‫عَلمَان‪ ،‬والمجلس ل يُقِال له‪ :‬النادى إل إذا كان أهلُه فيه‪ ،‬والمرأة ل يُقال لها‪ :‬عاتِق إل إذا كانت فى‬
‫َ‬
‫بيت أبويها‪ ،‬ول يسمى الماء ا ْلمِلحُ أجُجاً‪ ،‬إل إذا كان مع ملوحته ُم ّراً‪ ،‬ول يُقال للسير‪ :‬إهطاع إل إذا‬
‫حجّل‪ ،‬إل إذا كان البياض فى قوائمها ُكلّها‪ ،‬أو أكثرِها‪ ،‬وهذا‬
‫كان معه خوفٌ‪ ،‬ول يُقال للفرس‪ :‬مُ َ‬
‫باب طويل لو تقصيناه‪ ،‬فكذلك ل يُقال للطهر‪ :‬قرء‪ ،‬إل إذا كان قبلَه دم‪ ،‬وبَعدَه دم‪ ،‬فأين فى هذا ما‬
‫ل على أنه حيض؟‬
‫يُدُ ّ‬
‫ن نمنع‬
‫قالوا‪ :‬وأما قولُكم‪ :‬إنه لم يجىء فى كلم الشارع إل للحيض‪ ،‬فنح ُ‬
‫مجيئَه فى كلم الشارع للحيض البتة‪ ،‬فضلً عن الحصر‪ .‬قالوا‪ :‬إنه قال للمستحاضة‪(( :‬دعى‬
‫الصلة أيام أقرائك))‪ ،‬فقد أجاب الشافعى عنه فى كتاب حرملة بما فيه شفاء‪ ،‬وهذا لفظه‪ .‬قال‪:‬‬
‫وزعم إبراهيم ابن إسماعيل بن عُلية‪ ،‬أن القراء‪ :‬الحيض‪ ،‬واحتج بحديث سفيان‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن‬
‫ل صلى ال عليه وسلم قال فى امرأة‬
‫ل عنها‪ :‬أن رسولَ ا ّ‬
‫سُليمان بن يسار‪ ،‬عن أم سلمة رضى ا ّ‬
‫استُحيضت‪(( :‬تدعَ الصّلةَ أيّا َم أَ ْقرَائِها)) قال الشافعى رحمه الّ‪ :‬وما حدّث بهذا سفيان قطّ‪ ،‬إنما‬
‫ل صلى ال‬
‫قال سفيان‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن سليمان بن يسار‪ ،‬عن أم سلمة رضى الّ عنها‪ ،‬أن رسول ا ّ‬
‫عليه وسلم قال‪:‬‬
‫لةَ عَدَ َد الّليَالى واليّام الّتى كَا َنتْ َتحِيضُهُنّ))‪ .‬أو قال‪َ(( :‬أيّامَ أَ ْقرَا ِئهَا))‪ ،‬الشك‬
‫((تَدَعُ الصّ َ‬
‫من أيوب ل يدرى‪ .‬قال‪ :‬هذا أو هذا‪ ،‬فجعله هو حديثاً على ناحية ما يريد‪ ،‬فليس هذا بصدق‪ ،‬وقد‬
‫ل عنها‪ ،‬أن النبى صلى ال عليه‬
‫أخبر مالك‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن سليمان بن يسار‪ ،‬عن أم سلمة رضى ا ّ‬

‫‪361‬‬
‫ن ُيصِيبَها الّذِى‬
‫لأ ْ‬
‫ش ْهرِ َقبْ َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن مِ َ‬
‫ضهُ ّ‬
‫ت تَحِي ُ‬
‫ظرْ عَدَ َد اللّيالِى واليّا ِم الّتى كَا َن ْ‬
‫وسلم قال‪ِ(( :‬ل َتنْ ُ‬
‫ل َولُتصَلّ)) ونافع أحفظ عن سليمان من أيوب وهو يقول‪ :‬بمثل‬
‫لةَ‪ ،‬ثُ ّم ِل َت ْغتَسِ ْ‬
‫ع الصّ َ‬
‫َأصَابَها‪ ،‬ثُ ّم ِلتَدَ ِ‬
‫ن أَنْ‬
‫ل َلهُ ّ‬
‫ل يَحِ ّ‬
‫ل بقوله تعالى‪{ :‬وَ َ‬
‫أح ِد معنيى أيوب اللذين رواهما‪ ،‬انتهى كلمه‪ .‬قالوا‪ :‬وأما الستدل ُ‬
‫ل أو كِلهما‪ ،‬فل ريبَ أن‬
‫حبَ ُ‬
‫خلَقَ الُّ فى َأرْحَا ِمهِنّ} [البقرة‪ ]228 :‬وأنه الحيض‪ ،‬أو ال َ‬
‫َي ْك ُتمْنَ مَا َ‬
‫ل فى ذلك‪ ،‬ولكن تحريمُ كتمانه ل يدل على أن القُروء المذكورة فى الية هى الحيض‪،‬‬
‫الحيض داخِ ٌ‬
‫فإنها إذا كانت الطهار‪ ،‬فإنها تنقضى بالطعن فى الحيضة الرابعة أو الثالثة فإذا أرادت كِتمان‬
‫انقضاء العِدة لجل النفقة أو غيرها‪ ،‬قالت‪ :‬لم أحض‪ ،‬فتنقضى عدتى‪ ،‬وهى كاذبة وقد حاضت‬
‫وانقضت عِدتها‪ ،‬وحينئذ فتكون دللة الية على أن القروء الطهار أظهر‪ ،‬ونحن نقنع بإتفاق الدللة‬
‫بها‪ ،‬وإن أبيتم إل الستدللَ‪ ،‬فهو من جانبنا أظهر‪ ،‬فإن أكثر المفسرين قالوا‪ :‬الحيض والولدة‪ .‬فإذا‬
‫كانت العِدة تنقضى بظهور الولدة‪ ،‬فهكذا تنقضى بظهور الحيض تسويةً بينهما فى إتيان المرأة‬
‫على كل واحد منهما‪.‬‬
‫لثَةُ‬
‫ن نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُم َفعِ ّد ُتهُنّ ثَ َ‬
‫ض مِ ْ‬
‫ن مِنَ المحِي ِ‬
‫وأما استدللُكم بقوله تعالى‪{ :‬والّلئى َيئِسْ َ‬
‫ش ُهرٍ} [الطلق‪.]4 :‬‬
‫أَ ْ‬
‫فجعل كل شهر بإزاء حيضة‪ ،‬فليس هذا بصريح فى أن القروء هى الحيض‪ ،‬بل غاية الية‬
‫أنه جعل اليأسَ من الحيض شرطاً فى العتداد بالشهر‪ ،‬فما دامت حائضاً ل تنتقل إلى عدة‬
‫اليسات‪ ،‬وذلك أن القراء التى هى الطهار عندنا ل تُوجد إل مع الحيض‪ ،‬ل تُكون بدونه‪ ،‬فمن‬
‫أين يلزم أن تكون هى الحيض؟‬
‫وأما استدللُكم بحديثِ عائشة رضى الّ عنها‪:‬‬
‫ضتَان))‪ ،‬فهو حديث لو استدللنا به عليكم لم تقبلُوا ذلك منا‪ ،‬فإنه‬
‫ح ْي َ‬
‫طلْ َقتَانِ وقَرؤُهَا َ‬
‫لمِةَ َ‬
‫((طَلَقُ ا َ‬
‫ث ضعيف معلول‪ ،‬قال الترمذى‪ :‬غريب لنعرفه إل من حديث مظاهر بن أسلم‪ ،‬ومظاهر ل‬
‫حدي ٌ‬
‫يُعرف له فى العلم غير هذا الحديث‪ ،‬انتهى‪ .‬ومظاهر بن أسلم هذا‪ ،‬قال فيه أبو حاتم الرازى‪ :‬منكر‬
‫الحديث‪ .‬وقال يحيى بن معين‪ :‬ليس بشىء‪ ،‬مع أنه ل يعرف‪ ،‬وضعفه أبو عاصم أيضاً‪ .‬وقال أبو‬
‫ل الحديث ضعفوا هذا الحديث‪ ،‬وقال البيهقى‪ :‬لو كان‬
‫داود‪ :‬هذا حديث مجهول‪ ،‬وقال الخطابى‪ :‬أه ُ‬
‫ثابتًا لقُلنا به إل أنا ل نُثبت حديثًا يرويه من تُجهل عدالته‪ ،‬وقال الدارقطنى‪ :‬الصحيح عن القاسم‬
‫بخلف هذا‪ ،‬ثم روى عن زيد بن أسلم قال‪ :‬سئل القاسم عن المة كم تطلق؟ قال‪ :‬طلقها ثنتان‪،‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فى هذا؟ فقال‪ :‬ل‪.‬‬
‫وعِدتها حيضتان‪ .‬قال‪ :‬فقيل له‪ :‬هل بلغك عن رسولِ ا ّ‬

‫‪362‬‬
‫وقال البخارى فى ((تاريخه))‪ :‬مظاهر بن أسلم‪ ،‬عن القاسم‪ ،‬عن عائشة رضى الّ عنها يرفعه‪:‬‬
‫ق المِة طلقتان‪ ،‬وعِدتُها حيضتَانِ))‪ .‬قال أبو عاصم‪ :‬أخبرنا ابنُ جريج‪ ،‬عن مظاهر‪ ،‬ثم‬
‫((طل ُ‬
‫ض ّعفُ مظاهراً‪ ،‬وقال يحيى بن سليمان‪ :‬حدثنا ابنُ‬
‫لقيتُ مظاهراً‪ ،‬فحدثنا به‪ ،‬وكان أبو عاصم ُي َ‬
‫وهب‪ ،‬قال‪ :‬حدثنى أسامة بن زيد بن أسلم‪ ،‬أنه كان جالسًا عند أبيه‪ ،‬فأتاه رسولُ المير‪ ،‬فقال‪ :‬إن‬
‫ق العبد‬
‫ل لك‪ :‬كم عِد ُة المة؟ فقال‪ :‬عِدة المة حيضتان‪ ،‬وطلقُ الحر المة ثلث‪ ،‬وطل ُ‬
‫الميرَ يقو ُ‬
‫الحرة تطليقتان‪ ،‬وعِدة الحرة ثلثُ حيض‪ ،‬ثم قال للرسول‪ :‬أين تذهبُ؟ قال أمرنى أن أسأل القاسم‬
‫ت إلىّ فأخبرتنى ما يقولن‪ ،‬فذهب ورجع‬
‫بن محمد‪ ،‬وسالم بن عبد الّ‪ ،‬قال‪ :‬فأقْسِ ُم عليك إل رجع َ‬
‫إلى أبى‪ ،‬فأخبره أنهما قال كما قال‪ ،‬وقال له‪ :‬قل له‪ :‬إن هذا ليس فى كتاب الّ‪ ،‬ول سنةِ رسول الّ‬
‫ل به المسلمون‪.‬‬
‫عمِ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن َ‬
‫ث المرفوعَ غيرُ‬
‫وقال أبو القاسم بن عساكر فى ((أطرافه))‪ :‬فدل ذلك على أن الحدي َ‬
‫محفوظ‪.‬‬
‫ضتَانِ))‪ ،‬فهو من‬
‫ح ْي َ‬
‫لمَ ِة ِث ْنتَانِ‪ ،‬وعِ ّدتُها َ‬
‫وأما استدللكم بحديث ابن عمر مرفوعاً‪(( ،‬طَلقُ ا َ‬
‫رواية عطية بن سع ٍد العَوْفى‪ ،‬وقد ضعفه‪ ،‬غيرُ واحد من الئمة‪ .‬قال الدارقطنى‪ :‬والصحيح عن ابن‬
‫ل عنه ما رواه سالم‪ ،‬ونافع من قوله‪ ،‬وروى الدارقطنى أيضاً عن سالم ونافع‪ ،‬أن ابن‬
‫عمر رضى ا ّ‬
‫ق الحر المة تطليقتان‪،‬‬
‫عمر كان يقول‪ :‬طلقُ العبد الحرة تطليقتان‪ ،‬وعِدتها ثلثة قروء‪ ،‬وطل ُ‬
‫وعدتها عدة المة حيضتان‪.‬‬
‫ل عنه‪ ،‬أن القراء‪ :‬الطهار‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬والثابت بل شك‪ ،‬عن ابن عمر رضى ا ّ‬
‫قال الشافعى رحمه الّ‪ :‬أخبرنا مالك رحمه الّ‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر قال‪ :‬إذا طلّق‬
‫الرجل امرأته‪ ،‬فدخلت فى الدم من الحيضة الثالثة‪ ،‬فقد برئت منه‪ ،‬ول ترثه ول يرثها‪.‬‬
‫ث مدارُه على ابن عمر‪ ،‬وعائشة‪ ،‬ومذهبُهما بل شك أن القراء‪ :‬الطهار‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬فهذا الحدي ُ‬
‫ف ذلك‪ ،‬ول يذهبان إليه؟ قالوا‪ :‬وهذا بعينه‬
‫فكيف يكون عندهما عن النبى صلى ال عليه وسلم خل ُ‬
‫هو الجوابُ عن حديث عائشة الخر‪ :‬أمرت بريرة أن تعتدّ ثلثَ حيض‪ .‬قالوا‪ :‬وقد رُوى هذا‬
‫الحديث بثلثة ألفاظ‪ :‬أمرت أن تعتد‪ ،‬وأمرت أن تعتد عدة الحرة‪ ،‬وأمرت أن تعتد ثلثَ حيض‪،‬‬
‫فلعل رواية من روى ((ثلث حيض)) محمولة على المعنى‪ ،‬ومن العجب أن يكون عند عائشة‬
‫ث بهذا السند‬
‫ب منه أن يكون هذا الحدي ُ‬
‫ل عنها هذا وهى تقول‪ :‬القراء‪ :‬الطهار‪ ،‬وأعج ُ‬
‫رضى ا ّ‬
‫المشهور الذى ُكلّهم أئمة‪ ،‬ول يخرجه أصحاب الصحيح‪ ،‬ول المسانِد‪ ،‬ول من اعتنى بأحاديث‬

‫‪363‬‬
‫الحكام وجمعها‪ ،‬ول الئمة الربعة‪ ،‬وكيف يصبر عن إخراج هذا الحديث من هو مضطر إليه‪،‬‬
‫ول سيما بهذا السن ِد المعروف الذى هو كالشمس شُهرةً ول شك بريرَة أمرت أن تعتد‪ ،‬وأما أنها‬
‫أمرت بثلثِ حيض‪ ،‬فهذا لو صحّ لم نَع ُد ُه إلى غيره‪ ،‬ولبادرنا إليه‪.‬‬
‫ح كونه بحيضة‪ ،‬وهو‬
‫قالوا‪ :‬وأما استدللكم بأن الستبراء‪ ،‬فل ريب أن الصحي َ‬
‫ظاه ُر النص الصحيح‪ ،‬فل وجه للشتغال بالتعلل بالقول‪ :‬إنها تُستبرأ بالطهر‪ ،‬فإنه خلف ظاهر‬
‫ص الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وخلف القول الصحيح من قول الشافعى‪ ،‬وخلف قول‬
‫ن ّ‬
‫الجمهور من المة‪ ،‬فالوجه العدولُ إلى الفرق بين البابين‪ ،‬فنقولٌ‪ :‬الفرقُ بينهما ما تقدم أن العِدة‬
‫وجبت قضاء لحق الزوج‪ ،‬فاخ ُتصّت بزمان حقه‪ ،‬وهو الطهرُ بأنها تتكرر‪ ،‬فيُعلم منها البراءة‬
‫بواسطة الحيض بخلف الستبراء‪.‬‬
‫قولكم‪ :‬لو كانت القراء الطهار لم تحصل بالقَرء الول دللة‪ ،‬لنه لو جامعها ثم طلّقها فيه‬
‫س َبتْ بقيته قَرءاً‪ ،‬ومعلوم قطعًا أن هذا الطهر ل يدل على شىء‪.‬‬
‫حُ ِ‬
‫فجوابه أنها إذا طهرت بعد طُهرين كاملين‪ ،‬صحت دِللته بإنضمامه إليهما‪.‬‬
‫ت والدلة إنما تحصل بالمور الظاهرة إلى آخره‪.‬‬
‫قولُكم‪ :‬إن الحدودَ والعلما ِ‬
‫جوابه أن الطهر إذا احتوشه دمانِ‪ ،‬كان كذلك‪ ،‬وإذا لم يكن قبله دم‪ ،‬ول بَعده دم‪ ،‬فهذا ل‬
‫يُعتد به البتة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ويزيد ما ذهبنا إليه قوة‪ ،‬أن القَرء هو الجمع‪ ،‬وزمان الطهر أولى به‪ ،‬فإنه حينئذ‬
‫يجتمع الحيضُ‪ ،‬وإما يخرج بعد معه‪ .‬قالوا وإدخال التاء فى ثلثة قروء يدل على أن القَرء مذكر‪،‬‬
‫وهو الطهر فلو كان الحيض لكان بغير تاء لن واحدها حيضة‪.‬‬
‫فهذا ما احتج به أربابُ هذا القول استدللً وجواباً‪ ،‬وهذا موضع ل يُمكن فيه التوسطُ بينَ‬
‫الفريقين‪ ،‬إذ ل توسط بين القولين‪ ،‬فل بد من التح ّي ِز إلى أحد الفئتين ونحن متحيّزون فى هذه‬
‫ل على صحة‬
‫المسألة إلى أكابر الصحابة وقائلون فيها بقولهم‪ :‬إن القَرء الحيضُ‪ ،‬وقد تقدم الستدل ُ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫ب القول الخر‪ ،‬ليتبين ما رجحناه‪ ،‬وبا ّ‬
‫هذا القول‪ ،‬فنُجيب عما عارض به أربا ُ‬
‫طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪ ،]1 :‬فهو إلى أن‬
‫فنقول‪ :‬أما استدللُكم بقوله تعالى‪{ :‬فَ َ‬
‫ب منه إلى أن يكون حجة لكم‪ ،‬فإن المرأة طلقها قبل العدة ضرورة‪ ،‬إذ ل‬
‫يكونَ حجة عليكم أقر ُ‬
‫ل الية على الطلق فى العِدة فإن هذا مع تضمنه لكون اللم للظرفية بمعنى‪ -‬في ‪ -‬فاسد‬
‫يمكن حم ُ‬
‫ع الطلق فى العِدة‪ ،‬فإنه سبُبها‪ ،‬والسببُ يتقدم الحكم‪ ،‬وإذا تقرر ذلك فمن‬
‫معنى‪ ،‬إذ ل يُمكن إيقا ُ‬

‫‪364‬‬
‫قال‪ :‬القراء الحيض‪ ،‬فقد عمل بالية‪ ،‬وطلّق قبل العدة‪ .‬فإن قلتم‪ :‬ومن قال‪ :‬إنها الطهار فالعِدة‬
‫ح أن المراد الطلقُ قبل العدة‬
‫تتعقب الطلق‪ ،‬فقد طلّق قبل العدة‪ ،‬قلنا‪ :‬فبطل احتجاجُكم حينئذ‪ ،‬وص ّ‬
‫ل فيها‪ ،‬وكل المرين يصح أن يُراد بالية‪ ،‬لكن إرادةُ الحيض أرجحُ‪ ،‬وبيانُه أن العِدة فعلة مما‬
‫حصُوا العِ ّدةَ} [الطلق‪ ،]1 :‬والطه ُر الذى قبل‬
‫يعنى معدودة‪ ،‬لنها تُعد وتُحصى‪ ،‬كقوله‪َ { :‬وأَ ْ‬
‫الحيضة‪ ،‬مما يعد ويُحصى‪ ،‬فهو من العِدة‪ ،‬وليس الكلمُ فيه‪ ،‬وإنما الكلم فى أمر آخر‪ ،‬وهو دخولُه‬
‫فى مسمى القروء الثلثة المذكورة فى الية أم ل؟ فلو كان النصّ‪ :‬فطلقوهن لِقروئهن‪ ،‬لكان فيه‬
‫لثَة ُقرُوءٍ} [البقرة‪ ،]228 :‬والثانى‪ :‬قوله‪:‬‬
‫ن ثَ َ‬
‫سهِ ّ‬
‫تعلق‪ ،‬فهنا أمران‪ .‬قوله تعالى‪َ { :‬ي َت َر ّبصْنَ بَِأنْفُ ِ‬
‫ن مِن الشهر‪ ،‬إنما يكون‬
‫طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪ ،]1 :‬ول ريب أن القائل‪ :‬افعل كذا لثلث بَقِي َ‬
‫{فَ َ‬
‫ل إذا فعله قبل مجىء الثلث‪ ،‬وكذلك إذا قال‪ :‬فعلته لثلث مضين من الشهر‪ ،‬إنما‬
‫المأمور ممتث ً‬
‫يصدق إذا فعله بعد مضى الثلث‪ ،‬وهو بخلف حرف الظرف الذى هو ((فى)) فإنه إذا قال‪ :‬فعلته‬
‫فى ثلث بقين‪ ،‬كان الفعل واقعاً فى نفس الثلث‪ ،‬وههنا نكتة حسنة‪ ،‬وهى أنهم يقولون‪ :‬فعلُته لثلث‬
‫خَلوْن أو بقين من الشهر‪ ،‬وفعلته فى الثانى أو الثالث من الشهر‪ ،‬أو فى ثانية أو ثالثة‪ ،‬فمتى‬
‫ليال َ‬
‫س ّر ذلك‬
‫ع الفعل فيه‪ ،‬أتوا بفى‪ ،‬و ِ‬
‫أرادوا مضى الزمان أو استقباله‪ ،‬أ َتوْا باللم‪ ،‬ومتى أرادوا وقو َ‬
‫أنهم إذا أرادوا مضى زمن الفعل أو استقباله أتوا بالعلمة الدالة على اختصاص العدد الذى يلفظون‬
‫به بما مضى‪ ،‬أو بما يُستقبل‪ ،‬وإذا أرادوا وقوع الفعل فى ذلك الزمان أتوا بالداة المعينة له‪ ،‬وهى‬
‫أداة ((فى))‪ ،‬وهذا خير من قول كثير من النحاة‪ :‬إن اللم تكون بمعنى قبل فى قولهم‪ :‬كتبته لثلث‬
‫طلّقُوهُنّ لِع ّد ِتهِنّ} [الطلق‪ ،]1 :‬وبمعنى بعد‪ ،‬كقولهم‪ :‬لثلث خلون‪ .‬وبمعنى فى‪:‬‬
‫بقين‪ ،‬وقوله‪{ :‬فَ َ‬
‫ج َم ْعنَاهُمْ‬
‫ف إذَا َ‬
‫ط ِل َيوْمِ ال ِقيَامَةِ} [النبياء‪ ،]47 :‬وقوله‪َ { :‬ف َك ْي َ‬
‫ن القِسْ َ‬
‫كقوله تعالى‪{ :‬ونضع الموازِي َ‬
‫ل َر ْيبَ فِيهِ} [آل عمران‪ ،]25 :‬والتحقيقُ أن اللم على بابها للختصاص بالوقت المذكور‪،‬‬
‫ِل َيوْمٍ َ‬
‫كأنهم جعلوا الفِعل للزمان المذكور اتساعاً لختصاصه به‪ ،‬فكأنه له‪ ،‬فتأمله‪.‬‬
‫وفرق آخر‪ :‬وهو أنك إذا أتيت باللم‪ ،‬لم يكن الزمانُ المذكورُ بعدَه إل ماضيًا أو منتظراً‪،‬‬
‫ومتى أتيت بفى لم يكن الزمان المجرور بها إل مقارنًا للفعل‪ ،‬وإذا تقرّر هذا مِن قواعد العربية‪،‬‬
‫ن ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪ ،]1 :‬معناه‪ :‬لستقبال عدتهن ل فيها‪ ،‬وإذا كانت العدة‬
‫طلّقُوهُ ّ‬
‫فقولُه تعالى‪{:‬فَ َ‬
‫التى يُطلق لها النساء مستقبلةً بعد الطلق‪ ،‬فالمستقبَلُ بعدها إنما هو الحيضُ‪ ،‬فإن الطاهر ل تستَ ْقبِلُ‬
‫ل وعُرفاً‪،‬‬
‫ض بعد حالها التى هى فيها‪ ،‬هذا المعروفُ لغ ًة وعق ً‬
‫الطهر إذ هى فيه‪ ،‬وإنما تستقبلُ الحي َ‬
‫فإنه ل يُقال لمن هو فى عافية‪ :‬هو مستقبل العافية‪ ،‬ول لمن هو فى أمن‪ :‬هو مستقبل المن‪ ،‬ول‬

‫‪365‬‬
‫لمن هو فى قبض مغله وإحرازه‪ :‬هو مستقبل المغل‪ ،‬وإنما المعهودُ لغة وعُرفاً أن يستقبلَ الشىءَ‬
‫منْ هو على حال ضِدْ‪ ،‬وهذا أظهرُ من أن نُكثَر شواهده‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فيلزم من هذا أن يكون من طلق فى الحيض مطلقًا للعِدة عند مَنْ يقول‪ :‬القراء‬
‫الطهار‪ ،‬لنها تستقبلُ طهرها بعد حالها التى هى فيها‪ ،‬قلنا‪ :‬نعم يلزمهم ذلك‪ ،‬فإنه لو كان أول‬
‫العدة التى تُطلق لها المرأة هو الطهر‪ ،‬لكان إذا طلقها فى أثناء الحيض مطلقًا للعدة‪ ،‬لنها تستقبِلُ‬
‫الطهرَ بعد ذلك الطلق‪.‬‬
‫فإن قيل‪(( :‬اللم)) بمعنى ((فى))‪ ،‬والمعنى‪ :‬فطلقوهن فى عدتهن‪ ،‬وهذا إنما يُمكن إذا طلقها‬
‫فى الطهر‪ ،‬بخلف ما إذا طلقها فى الحيض قيل‪ :‬الجوابُ من وجهين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن الصل عدمُ الشتراك فى الحروف‪ ،‬والصل إفراد كل حرف بمعناه فدعوى‬
‫ف ذلك مردودة بالصل‪.‬‬
‫خل ِ‬
‫الثانى‪ :‬أنه يلزم منه أن يكون بعض العِدة ظرفًا لزمن الطلق‪ ،‬فيكون الطلق واقعاً فى نفس‬
‫العِدة ضرورة صحة الظرفية‪ ،‬كما إذا قلت‪ :‬فعلته فى يوم الخميس بل الغالب فى الستعمال مِن‬
‫ض الظرف سابقًا على الفعل‪ ،‬ول ريبَ فى امتناع هذا‪ ،‬فإن العِدة تتعقب الطلق‬
‫هذا‪ ،‬أن يكون بع ُ‬
‫ول تُقارنه‪ ،‬ول تتقدم عليه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولو سلمنا أن ((اللم)) بمعنى ((فى))‪ ،‬وساعد على ذلك قراءةُ ابن عمر رضى الّ‬
‫عنه وغيره‪(( :‬فطلقوهن فى ُقبُلِ عدتهن))‪ ،‬فإنه ل يلزمُ مِن ذلك أن يكون القَرء‪ :‬هو الطهر‪ ،‬فإن‬
‫القَرء حينئذ يكون هو الحيضَ‪ ،‬وهو المعدو ُد والمحسوب‪ ،‬وما قَبله من الطهر يدخل فى حكمه تبعاً‬
‫وضمناً لوجهين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن من ضرورة الحيض أن يتقدّمه طهر‪ ،‬فإذا قيل‪ :‬تربّصى ثلث حيض‪،‬‬
‫وهى فى أثناء الطهر كان ذلك الطهر من مدة التربص‪ ،‬كما لو قيل لرجل‪ :‬أقم ههنا ثلثة أيام‪ ،‬وهو‬
‫أثناء ليلة‪ ،‬فإنه يدخُل بقية تلك الليلة فى اليوم الذى يليها‪ ،‬كما تدخل ليلة اليومين الخرين فى‬
‫يوميهما‪ .‬ولو قيل له فى النهار‪ :‬أقم ثلث ليال‪ ،‬دخل تما ُم ذلك النهار تبعًا لليلة التى تليه‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أن الحيض إنما يتم بإجتماع الدم فى الرحم قبله‪ ،‬فكان الطهر مقدمةً‬
‫ن لوازمه ما ل يُوجد الحيض إل بوجوده‪،‬‬
‫وسبباً لوجود الحيض‪ ،‬فإذا علق الحكم بالحيض‪َ ،‬فمِ ْ‬
‫وبهذا يظه ُر أن هذا أبل ُغ مِن اليام والليالى‪ ،‬فإن الليلَ والنهار متلزمان‪ ،‬وليس أحدهما سبباً لوجود‬
‫الخر‪ ،‬وههنا الطهرُ سببٌ لجتماع الدم فى الرحم‪ ،‬فقولُه سبحانه وتعالى‪ِ{ :‬لعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق‪]1 :‬‬

‫‪366‬‬
‫أى‪ :‬لستقبال العدة التى تتربصها‪ ،‬وهى تتربص ثلث حيض بالطهار التى قبلها‪ .‬فإذا طلقت فى‬
‫أثناء الطهر‪ ،‬فقد طلقت فى الوقت الذى تستقبل فيه العدة المحسوبة‪ ،‬وتلك العِدة هى الحيض بما‬
‫قبلها من الطهار‪ ،‬بخلف ما لو طلقت فى أثناء حيضة‪ ،‬فإنها لم تطلق لِعدة تحسبها‪ ،‬لن بقية ذلك‬
‫الحيض ليس هو العِدة التى تعتد بها المرأة أصلً ول تبعًا لصل‪ ،‬وإنما تسمى عِدة لنها تُحبس فيها‬
‫ط ِل َيوْ ِم ال ِقيَامَةِ} [النبياء‪ ،]47 :‬يجوز‬
‫عن الزواج‪ ،‬إذا عرف هذا‪ ،‬فقوله‪{ :‬و َنضَ ُع المَوازِينَ القِسْ َ‬
‫أن تكون اللمُ ل َم التعليل‪ ،‬أى‪ :‬لجل يومِ القيامة‪ .‬وقد قيل‪ :‬إن القِسط منصوب على أنه مفعول له‪،‬‬
‫لةَ لِ ُدلُوكِ‬
‫ط نصبه‪ ،‬وأما قوله تعالى‪{ :‬أَقِ ِم الصّ َ‬
‫أى‪ :‬نضعها لجل القسط‪ ،‬وقد استوفى شرو َ‬
‫شمْسِ} [السراء‪ ،]78 :‬فليست اللم بمعنى ((فى)) قطعاً‪ ،‬بل قيل‪ :‬إنها لم التعليل‪ ،‬أى‪ :‬لجل‬
‫ال ّ‬
‫ت الدلوك سواء فسر بالزوال أو‬
‫دلوك الشمس‪ ،‬وقيل‪ :‬إنها بمعنى بعد‪ ،‬فإنه ليس المرادُ إقامتهَا وق َ‬
‫ل آية‬
‫الغروب‪ ،‬وإنما يُؤمر بالصلة بعده‪ ،‬ويستحيلُ حمل آية العدة على ذلك‪ ،‬وهكذا يستحيلُ حم ُ‬
‫طلّقُوهُنّ َبعْدَ عِ ّد ِتهِنّ‪ .‬فلم يبق إل أن يكون المعنى‪ :‬فطلقوهن لستقبال‬
‫العِدة عليه‪ ،‬إذ يصي ُر المعنى‪ :‬فَ َ‬
‫عِدتهن‪ ،‬ومعلوم أنها إذا طلقت طاهراً استقبلت العدةَ بالحيض‪ .‬ولو كانت القراء الطهار‪ ،‬لكانت‬
‫السنة أن تطلق حائضًا لتستقبل العدة بالطهار‪ ،‬فبيّن النبىّ صلى ال عليه وسلم أن العدة التى أمر‬
‫ل أن تطلق لها النساء هى أن تطلّق طاهراً لتستقبل عدتها بعد الطلق‪.‬‬
‫ا ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬فإذا جعلنا القراء‪ :‬الطهار‪ ،‬استقبلت عدتها بعد الطلق بل فصل‪ ،‬ومن جعلها‬
‫ض لم تستقبلها على قوله حتى ينقضى الطّهرُ‪.‬‬
‫الحي َ‬
‫ل الية على معنى‪:‬‬
‫قيل‪ :‬كلم الرب تبارك وتعالى ل بد أن يُحمل على فائدة مستقلة‪ ،‬وحم ُ‬
‫فطلقوهن طلقًا تكون العدةُ بعده ل فائدة فيه‪ ،‬وهذا بخلف ما إذا كان المعنى‪ :‬فطلقوهن طلقاً‬
‫يستقبلن فيه العدة ل يست ِقبْلنَ فيه طهراً ل تعتد به‪ ،‬فإنها إذا طُلقت حائضاً استقبلت طهراً ل تعتد به‪،‬‬
‫ل العدة‪ :‬هو الوقت‬
‫طلّقُوهُنّ فى ُقبُل عِ ّد ِتهِنّ‪ .‬و ُقبُ ُ‬
‫فلم تُطلق لستقبال العدة‪ ،‬ويُوضحه قراءة من قرأ‪ :‬فَ َ‬
‫الذى يكون بين يدى العدة تستقبل به‪ ،‬كقبل الحائض‪ ،‬يوضحه أنه لو أُريد ما ذكروه‪ ،‬لقيل‪ :‬فى أوّلِ‬
‫ل الشىء وأوله‪.‬‬
‫ن بينَ ُقبُ ِ‬
‫عدتهن‪ ،‬فالفرق َبيّ ٌ‬
‫ل العِدة‪ .‬قلنا‪ :‬أجل‪ ،‬وهذا‬
‫وأما قولكم‪ :‬لو كانت القروء هى الحِيض‪ ،‬لكان قد طلقها َقبْ َ‬
‫ب تأخرها عنه‪.‬‬
‫هو الواجبُ عقلً وشرعاً‪ ،‬فإن العِدة ل تُفارق الطلقَ ول تَسبِقُهُ‪ ،‬بل يج ُ‬
‫قولكم‪ :‬وكان ذلك تطويلً عليها‪ ،‬كما لو طلّقها فى الحيض‪ ،‬قيل‪ :‬هذا مبنى‬
‫على أن العِلة فى تحريمِ طلق الحائض خشية التطويل عليها‪ ،‬وكثيرٌ من الفقهاء ل يرضون هذا‬

‫‪367‬‬
‫التعليلَ‪ ،‬ويفسدونه بأَنها لو رضيت بالطلق فيه‪ ،‬واختارت التطويلَ‪ ،‬لم يُبح له‪ ،‬ولو كان ذلك لجل‬
‫ق المطلّق بتراضيهما بإسقاطها‬
‫ط الرجعة الذى هو ح ّ‬
‫التطويل‪ ،‬لم تبح له برضاها‪ ،‬كما يُباح إسقا ُ‬
‫بالعِوض اتفاقاً‪ ،‬وبدونه فى أحد القولين‪ ،‬وهذا هو مذهبُ أبى حنيفة‪ ،‬وإحدى الروايتين عن أحمد‬
‫ومالك‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنما حرم طلقُها فى الحيض‪ ،‬لنه طلقها فى وقت رغبة عنها‪ ،‬ولو سلمنا أن‬
‫التحريم لجل التطويل عليها‪ ،‬فالتطويلُ المضر أن يُطلقها حائضاً‪ ،‬فتنتظ َر مضى الحيضة والطهر‬
‫الذى يليها‪ ،‬ثم تأخُذ فى العدة‪ ،‬فل تكون مستقبل ًة لِعدتها بالطلق وأما إذا طلقت طاهراً‪ ،‬فإنها تستقبِلُ‬
‫العِدة عقيب انقضاء الطهر‪ ،‬فل يتحقق التطويلُ‪.‬‬
‫وقولكم‪ :‬إن القَرء مشتق من الجمع‪ ،‬وإنما يُجمع الحيض فى زمن‬
‫الطهر‪ .‬عنه ثلثة أجوبة‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن هذا ممنوع‪ ،‬والذى هو مشتق من الجمع إنما هو‬
‫مِن باب الياء مِن المعتل‪ ،‬من قرى يقرى‪ ،‬كقضى يقضى‪ ،‬والقَرء من المهموز من بنات الهمز‪ ،‬مِن‬
‫قرأ يقرأ‪ ،‬كنحر يَنحر‪ ،‬وهما أصلن مختلفان فإنهم يقولون‪ :‬قريتُ الماء فى الحوض أقريه‪ ،‬أى‪:‬‬
‫جمعتُه‪ ،‬ومنه سميت القرية‪ ،‬ومنه قرية النمل‪ :‬للبيت الذى تجتمع فيه‪ ،‬لنه يقربها‪ ،‬أى‪ :‬يضمّها‬
‫ويجمعُها‪ .‬وأما المهموزُ‪ ،‬فإنه من الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد‪ ،‬ومنه قراءة‬
‫عَل ْينَا‬
‫القرآن‪ ،‬لن قارئه يُظهره ويُخرجه مقداراً محدوداً ل يزيدُ ول ينقُصُ‪ ،‬ويدل عليه قوله‪{ :‬إِنّ َ‬
‫ج ْمعَهُ و ُقرْآنَه} [القيامة‪ ،]17 :‬ففرق بين الجمع وال ُقرْآنِ‪ .‬ولو كانا واحداً‪ ،‬لكان تكريراً محضاً‪،‬‬
‫َ‬
‫ولهذا قال ابن عباس رضى الّ عنهما‪{ :‬فإذَا قَر ْأنَاهُ فاتّبع ُقرْآنَهُ} [القيامة‪ ،]18 :‬فإذا بيناه‪ ،‬فجعل‬
‫قراءته نفس إظهاره وبيانه‪ ،‬ل كما زعم أبو عُبيدة أن القرآن مشتق من الجمع‪ .‬ومنه قولهم‪ :‬ما‬
‫سلَى قَطّ‪ ،‬وما قرأت جنينًا هو من هذا الباب‪ ،‬أى ما ولدته وأخرجته وأظهرته‪،‬‬
‫قرأت هذه الناقةُ َ‬
‫ومنه‪ :‬فلن يَقرؤك السلم‪ ،‬ويقرأ عليك السلم‪ ،‬هو من الظهور والبيان‪ ،‬ومنه قولهم‪ :‬قرأت المرأة‬
‫حيضة أو حيضتين‪ ،‬أى‪ :‬حاضتهما‪ ،‬لن الحيض ظهورُ ما كان كامناً‪ ،‬كظهور الجنين‪ ،‬ومنه‪:‬‬
‫قروء الثريا‪ ،‬وقروء الريح‪ :‬وهو الوقت الذى يظهر المطر والريح‪ ،‬فإنهما يظهران فى وقت‬
‫مخصوص‪ ،‬وقد ذكر هذا الشتقاق المصنفون فى كتب الشتقاق‪ ،‬وذكره أبو عمرو وغيره‪ ،‬ول‬
‫ريب أن هذا الم ْعنَى فى الحيض أظه ُر منه فى الطهر‪.‬‬
‫قولكم‪ :‬إن عائشة رضى الّ عنها قالت‪ :‬القُروء‪:‬‬
‫الطهار‪ ،‬والنساء أعلم بهذا من الرجال‪.‬‬

‫‪368‬‬
‫جعَلَ النساء أعلمَ بمراد الّ من كتابه‪ ،‬وأفهَم لمعناه مِن أبى بكر‬
‫فالجواب أن يُقال‪ :‬مَنْ َ‬
‫ل بن مسعود وأبى الدرداء رضى الّ‬
‫الصديق‪ ،‬وعمر بن الخطاب‪ ،‬وعلى بن أبى طالب‪ ،‬وعبد ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم؟‪ ،‬فنزولُ ذلك فى شأنهن ل يدل على أنهن‬
‫عنهم‪ ،‬وأكابر أصحابِ رسول ا ّ‬
‫ل آية نزلت فى النّسا ِء تكونُ النسا ُء أعلَم بها من الرجال‪ ،‬ويجبُ‬
‫أعلمُ به من الرجال‪ ،‬وإل كانت كُ ّ‬
‫ن أعلَم مِن الرجال بآي ِة الرضاع‪ ،‬وآيةِ الحيض‪،‬‬
‫على الرجال تقليدُهن فى معناها وحكمها فيك ّ‬
‫وتحريمِ وطء الحائض‪ ،‬وآية عِدة المتوفى عنها‪ ،‬وآيةِ الحمل والفِصال ومدتهما‪ ،‬وآيةِ تحريم إبداء‬
‫ب على‬
‫الزينة إل لمن ذكر فيها‪ ،‬وغير ذلك من اليات التى تتعلق بهن‪ ،‬وفى شأنهن نزلت‪ ،‬ويج ُ‬
‫الرجال تقليدُهن فى حكم هذه اليات ومعناها‪ ،‬وهذا ل سبيل إليه البتة‪ .‬وكيف ومدار العلم بالوحى‬
‫ق بهذا من النساء‪ ،‬وأوفر نصيباً منه‪ ،‬بل ل يكاد‬
‫على الفهم والمعرفة‪ ،‬ووفور العقل والرجال أح ّ‬
‫يختِلفُ الرجالُ والنساء فى مسألة إل والصوابُ فى جانب الرجال‪ ،‬وكيف يُقال‪ :‬إذا اختلفت عائشة‪،‬‬
‫وعمر بن الخطاب‪ ،‬وعلى بن أبى طالب‪ ،‬وعبد الّ بن مسعود فى مسألة‪ :‬إن الخذ بقول عائشة‬
‫ل عنها أولى‪ ،‬وهل الولى إل قولٌ فيه خليفتان راشدان؟ وإن كان الصديق معهما كما حُكى‬
‫رضى ا ّ‬
‫عنه‪ ،‬فذلك القولُ مما ل يعدوه الصوابُ البتة‪ ،‬فإن النقل عن عمر وعلى ثابت‪ ،‬وأما عن الصديق‪،‬‬
‫ففيه غرابة‪ ،‬ويكفينا قولُ جماعة من الصحابة فيهم مثلُ‪ :‬عمر‪ ،‬وعلى‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وأبى الدرداء‪،‬‬
‫وأبى موسى‪ ،‬فكيف نقدم قول أُ ّم المؤمنين وفهمها على أمثال هؤلء؟‬
‫شرُ الحُرمة‪ ،‬ويُثبت المحرمية‪،‬‬
‫ع الكبير َينْ ُ‬
‫ثم يقال‪ :‬فهذه عائشة رضى الّ عنها ترى رضا َ‬
‫ومعها جماعة من الصحابة رضى الّ عنهم‪ ،‬وقد خالفها غيرُها من الصحابة‪ ،‬وهى روت حديثَ‬
‫التحريم به‪ ،‬فهلّ قلتم‪ :‬النساءُ أعلم بهذا من الرجال‪ ،‬ورجحتم قولَها على قول من خالفها؟‬
‫ونقول لصحاب مالك رحمه الّ‪ :‬وهذه عائشة رضى الّ عنها ل ترى التحريمَ إل بخمس‬
‫رضعات‪ ،‬ومعها جماع ٌة من الصحابة‪ ،‬وروت فيه حديثين‪ ،‬فهلّ قلُتم‪ :‬النساء أعلم بهذا من الرجال‪،‬‬
‫وقدمتُم قولَها على قول من خالفها؟ فإن قلتم‪ :‬هذا حكم يتعدّى إلى الرجال‪ ،‬فيستوى النسا ُء معهم فيه‪،‬‬
‫قيل‪ :‬ويتعدى حك ُم العِدة مثله إلى الرجال‪ ،‬فيجب أن يستوىَ النساءُ معهم فيه‪ ،‬وهذا لخفا َء به‪ .‬ثم‬
‫ل صلى ال عليه وسلم شهِد لِواح ٍد من هذا‬
‫يُرجح قولُ الرجال فى هذه المسألة‪ ،‬بأن رسول ا ّ‬
‫ق على لِسانه وقلبه‪ .‬وقد وافق ربّه تبارك وتعالى فى عدة مواضع قال‬
‫الحزب‪ ،‬بأن الّ ضرب الح ّ‬
‫فيها قولً‪ ،‬فنزل القرآنُ بمثل ما قال‪ ،‬وأعطاه النبىّ صلى ال عليه وسلم فضلَ إنائه فى النوم‪ ،‬وأوله‬

‫‪369‬‬
‫ث ُم ْلهَمٌ‪ ،‬فإذا لم يكن بُد من التقليد‪ ،‬فتقليدُه أولى‪ ،‬وإن كانت الحجة هى التى‬
‫بالعلم وشهد له بأنه مُحَ ّد ٌ‬
‫تَ ْفصِلُ بين المتنازعين‪ ،‬فتحكيمُها هو الواجب‪.‬‬
‫حيَض‪ ،‬ل يقولُون بقول على وابن مسعود‪ ،‬ول بقول‬
‫قولكم‪ :‬إن من قال‪ :‬إن القراء ال ِ‬
‫عائشة‪ ،‬فإن عليًا يقول‪ :‬هو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل‪ ،‬وأنتم ل تقولون بواح ٍد من القولين‪ ،‬فهذا‬
‫ع ْنكَ عَارُهَا‬
‫شكَاة ظَا ِهرٌ َ‬
‫غايتُه أن يكون تناقضًا ممن ل يقول بذلك‪ ،‬كأصحاب أبى حنيفة‪ ،‬وت ْلكَ َ‬
‫عمن يقول بقول على‪ ،‬وهو المام أحمد وأصحابه‪ ،‬كما تقدم حكاية ذلك‪ ،‬فإن العِدة تبقى عنده إلى‬
‫أن تغتسل كما قاله على‪ ،‬ومن وافقه‪ ،‬ونحن نعت ِذ ُر عمن يقول‪ :‬القراء الحِيض فى ذلك‪ ،‬ول يقول‪:‬‬
‫هو أحقّ بها ما لم تغتسل فإنه وافق من يقول‪ :‬القراء الحِيض فى ذلك‪ ،‬وخالفه فى توقف انقضائها‬
‫على الغسل لمعارض أوجب مخالفته‪ ،‬كما يفعلُه سائر الفقهاء‪ .‬ولو ذهبنا نعُدّ ما تصرفتم فيه هذا‬
‫ف بعينه‪ ،‬فإن كان هذا المعارض صحيحاً لم يكن تناقضًا منهم‪ ،‬وإن لم يكن صحيحاً‪ ،‬لم يكن‬
‫التصر َ‬
‫ضعفُ قولهم فى إحدى المسألتين عندهم بمانع لهم مِن موافقتهم لهم فى المسألة الخرى‪ ،‬فإن‬
‫موافقة أكابر الصحابة وفيهم مَنْ فيهم مِن الخلفاء الراشدين فى معظم قولهم خيرٌ‪ ،‬وأولى من‬
‫مخالفتهم فى قولهم جميعِه وإلغائه بحيث ليُعتبر البتة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ثم لم نخالفهم فى توقف انقضائها على الغسل‪ ،‬بل قلنا‪ :‬ل تنقضى حتى تغتسِلَ‪ ،‬أو‬
‫ت صلة‪ ،‬فوافقناهم فى قولهم بالغسل‪ ،‬وزدنا عليهم انقضاءَها بمضى وقت‬
‫يمضى عليها وق ُ‬
‫الصلة‪ ،‬لنها صارت فى حكم الطاهرات بدليل استقرار الصلة فى ذمتها‪ ،‬فأين المخالف ُة الصريحة‬
‫ل عليهم‪.‬‬
‫للخلفاء الراشدين رضوان ا ّ‬
‫ل تعالى لم يتعرض للغسل‬
‫ل للغسل معنى‪ .‬فيقال‪ :‬كتابُ ا ّ‬
‫وقولكم‪ :‬ل نجد فى كتاب ا ّ‬
‫ل والبينونة بإنقضاء الجل‪.‬‬
‫بنفى ول إثبات‪ ،‬وإنما علّق الحِ ّ‬
‫وقد اختلف السلف والخلف فيما ينقضى به الجلُ‪ ،‬فقيل‪ :‬بإنقطاع الحيض‪ .‬وقيل‪ :‬بالغسل أو‬
‫مضى صلة‪ ،‬أو انقطاعه لكثره‪ .‬وقيل‪ :‬بالطعن فى الحيضة الثالثة‪ ،‬وحجة من وقفه على الغسل‬
‫ل من‬
‫قضاءُ الخلفاء الراشدين‪ ،‬قال المام أحمد‪ :‬عمر‪ ،‬وعلى‪ ،‬وابن مسعود يقولون‪ :‬حتى تغتسِ َ‬
‫ى هذا المذهب‬
‫الحيضة الثالثة‪ .‬قالوا‪ :‬وهم أعلمُ بكتاب الّ‪ ،‬وحدودِ ما أُنزِل على رسوله‪ ،‬وقد ُر ِو َ‬
‫عن أبى بكر الصديق‪ ،‬وعثمان بن عفان‪ ،‬وأبى موسى‪ ،‬وعُبادة‪ ،‬وأبى الدرداء‪ ،‬حكاه صاحب‬
‫((المغنى)) وغيره عنهم‪ .‬ومن ههنا قيل‪ :‬إن مذهب الصديق ومن ُذ ِك َر معه‪ ،‬أن القراء‪ :‬الحِيض‪.‬‬

‫‪370‬‬
‫قالوا‪ :‬وهذا القول له حظ وافر مِن الفقه‪ ،‬فإن المرأة إذا انقطع حيضها صارت فى حكم‬
‫حيّضِ من وجه‪ ،‬والوجوه التى هى فيها فى حكم الحيض أكثر من‬
‫الطاهرات من وجه‪ ،‬وفى حكم ال ُ‬
‫الوجوه التى هى فيها فى حُكم الطاهرات‪ ،‬فإنها فى حُكم الطاهرات فى صحة الصيام‪ ،‬ووجوب‬
‫حيّضِ فى تحريم قراءة القرآن عند من حرمه على الحائض‪ ،‬واللبث فى‬
‫الصلة‪ ،‬وفى حُكم ال ُ‬
‫المسجد‪ ،‬والطواف بالبيت‪ ،‬وتحريم الوطء‪ ،‬وتحريم الطلق فى أحد القولين‪ ،‬فاحتاطَ الخلفاءُ‬
‫الراشدون وأكابر الصحابة للنكاح‪ ،‬ولم يُخرجوها منه بعد ثبوته إل بقيد ل ريبَ فيه‪ ،‬وهو ثبوتُ‬
‫حكم الطاهرات فى حقها من كل وجه‪ ،‬إزال ٌة لليقين بيقين مثله‪ ،‬إذ ليس جعلها حائضاً فى تلك‬
‫الحكام أولى من جعلها حائضاً فى بقاء الزوجية‪ ،‬وثبوت الرجعة‪ ،‬وهذا من أدق الفقه وألطفه‬
‫مأخذاً‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما قول العشى‪:‬‬
‫لِما ضَاعَ فِيهَا مِنْ ُقرُوءِ نِسَائكا‪.‬‬
‫فغايته استعمال القروء فى الطهر‪ ،‬ونحن ل ننكره‪.‬‬
‫قولكم‪ :‬إن الطهر أسبق من الحيض‪ ،‬فكان أولى بالسم‪ ،‬فترجيحٌ طريف جداً فمن أين‬
‫يكون أولى بالسم إذا كان سابقاً فى الوجود؟ ثم ذلك السابق ل يُسمى قرءاً ما لم يسبقه دم عند‬
‫جمهور من يقوله‪ :‬القراء الطهار‪ ،‬وهل يقال فى كل لفظ مشترك‪ :‬إن أسبق معانيه إلى الوجود‬
‫س َعسَ} [التكوير‪ ،]17 :‬أولى بكونه لقبال الليل‬
‫س من قوله‪{ :‬والّليْلِ إذَا عَ ْ‬
‫س َع َ‬
‫أحق به‪ ،‬فيكون عَ ْ‬
‫لسبقه فى الوجود‪ ،‬فإن الظلم سابق على الضياء‪.‬‬
‫وأما قولكم‪ :‬إن النبى صلى ال عليه وسلم فسر القروء بالطهار‪ ،‬فلعمرُ الّ‬
‫لو كان المر كذلك‪ ،‬لما سبقتمُونا إلى القول بأنها الطهار‪ ،‬ولبادرنا إلى هذا القول اعتقادًا وعملً‪،‬‬
‫وهل المعوّل إل على تفسيره وبيانه‪:‬‬
‫َولَم تَ ْد ِر أَنىّ ِل ْلمُقَا ِم أَطُوفُ‬ ‫سَل ْيمَى َل ْو أَ َق ْمتُمْ بأ ْرضِنَا‬
‫تَقُولٌ ُ‬
‫فقد بينا مِن صريح كلمه ومعناه ما يدل على تفسيره للقروء بالحيض‪ ،‬وفى ذلك كفاية‪.‬‬
‫فصل‬
‫فى الجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا‬
‫قولكم فى العتراض على الستدلل بقوله‪(( :‬ثلثة قروء)) فإنه يقتضى أن تكون كواملَ‪،‬‬
‫أى بقية الطهر قرء كامل‪ ،‬فهذا ترجمة المذهب‪ ،‬والشأن فى كونه قرءاً فى لسان الشارع‪ ،‬أو فى‬

‫‪371‬‬
‫اللغة‪ ،‬فكيف تستدلون علينا بالمذهب‪ ،‬مع منازعة غيرِكم لكم فيه ممن يقول‪ :‬القراء الطهار كما‬
‫تقدم؟ ولكن أوجدونا فى لسان الشارع‪ ،‬أو فى لغة العرب‪ ،‬أن اللحظة من الطهر تسمى قَرءاً كاملً‪،‬‬
‫وغايةُ ما عندكم أن بعض مَنْ قال‪ :‬القروءُ الطهار‪ ،‬ل ُكلّهم يقولُون‪ :‬بقي ُة القرء المطلق فيه قَرء‪،‬‬
‫ض طه ٍر بل ريب؟ فإذا كان مسمى القَرء فى الية هو‬
‫وكَانَ ماذا؟‪ ،‬كيف وهذا الجز ُء مِن الطّهر بع ُ‬
‫الطهر‪ ،‬وجب أن يكون هذا بعضَ قرء يقيناً‪ ،‬أو يكون القرء مشتركًا بينَ الجميع والبعض‪ ،‬وقد تقدّم‬
‫ل ذلك‪ ،‬وأنه لم يقل به أحد‪.‬‬
‫إبطا ُ‬
‫قولكم‪ :‬إن العرب تُوقِعُ اسم الجمع على اثنين‪ ،‬وبعض الثالث‪ ،‬جوابه من وجوه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن هذا إن وقع‪ ،‬فإنما يقع فى أسماء الجموع التى هى ظواهرُ فى‬
‫ل وَلمّا‪ ،‬ولم تَر ْد صيغ ُة العدد إل‬
‫مسماها‪ ،‬وأما صيغ العدد التى هى نصوص فى مسماها‪ ،‬فك ّ‬
‫ش ْه َراً فى ِكتَابِ الِّ} [التوبة‪]36 :‬‬
‫شرَ َ‬
‫لّ ا ْثنَا عَ َ‬
‫عنْدَ ا ِ‬
‫شهُورِ ِ‬
‫مسبوقة بمسماها‪ ،‬كقوله‪{ :‬إنّ عِ ّد َة ال ّ‬
‫لثَ ِة أيّامٍ‬
‫صيَا ُم ثَ َ‬
‫ث مِائةٍ سِنينَ وازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف‪ ]25 :‬وقوله‪َ { :‬ف ِ‬
‫وقوله‪{ :‬وَل ِبثُوا فى َكهْ ِفهِ ْم ثل َ‬
‫سبْ َع َليَالٍ‬
‫عَل ْيهِمْ َ‬
‫خرَها َ‬
‫سّ‬‫ش َر ٌة كَا ِملَةُ} [البقرة‪ .]196 :‬وقوله‪َ { :‬‬
‫ج ْعتُ ْم ِت ْلكَ عَ َ‬
‫س ْبعَ ٍة إذَا رَ َ‬
‫فى الحَجّ وَ َ‬
‫و َثمَا ِنيَةَ َأيّامٍ حُسُوماً} [الحاقة‪ ،]15 :‬ونظائره مما ل يُراد به فى موضع واحد دون مسماه من العدد‪.‬‬
‫لثَةَ ُقرُوءٍ} [البقرة‪ ،]228 :‬اسم عدد ليس بصيغة جمع‪ ،‬فل َيصِحّ إلحاقه بأشهر‬
‫وقوله‪{:‬ثَ َ‬
‫معلومات‪ ،‬لوجهين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن اسم العدد نصّ فى مسماه ل يقبَلُ التخصيصَ المنفصل‪ ،‬بخلف السم العام‪،‬‬
‫ص المنفصل‪ ،‬فل يلزم من التوسعِ فى السم الظاهر التوسعُ فى السم الذى هو‬
‫فإنه يقبل التخصي َ‬
‫نص فيما يتناولُه‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أن اسم الجمع َيصِحّ استعمالُه فى اثنين فقط مجازًا عند الكثرين‪ ،‬وحقيقة عند‬
‫ل تعالى‪:‬‬
‫ف الثلثة‪ ،‬ولهذا لما قال ا ّ‬
‫بعضهم‪ ،‬فصحة استعماله فى اثنين‪ ،‬وبعض الثالث أولى بخل ِ‬
‫شهَا َدةُ‬
‫خ َوةٌ فَلمّ ِه السّ ُدسُ} [النساء‪ ،]16 :‬حمله الجمهورُ على أخوين‪ ،‬ولما قال‪{ :‬فَ َ‬
‫ن لَهُ إ ْ‬
‫ن كَا َ‬
‫{فَإ ْ‬
‫شهَادَاتٍ} [النور‪ ،]6 :‬لم يحملها أح ٌد على ما دون الربع‪.‬‬
‫أَحَدِهِ ْم َأ ْربَعُ َ‬
‫والجواب الثانى‪ :‬أنه وإن صح استعمال الجمع فى اثنين‪ ،‬وبعض الثالث‪ ،‬إل أنه مجاز‪،‬‬
‫والحقيقةُ أن يكون المعنى على وفق اللفظ‪ ،‬وإذا دار اللفظُ بين حقيقته ومجازه‪ ،‬فالحقيق ُة أولى به‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬

‫‪372‬‬
‫الجواب الثالث‪ :‬أنه إنما جاء استعمالُ الجمع فى اثنين‪ ،‬وبعض الثالث فى أسماء اليام‬ ‫@‬
‫والشهور والعوام خاصة‪ ،‬لن التاريخ إنما يكون فى أثناء هذه الزمنة‪ ،‬فتارة يُدخلون السنة‬
‫سعُوا فى ذلك ما لم يتوسعوا فى‬
‫الناقصة فى التاريخ‪ ،‬وتارة ل يُدخلونها‪ .‬وكذلك اليامُ‪ ،‬وقد تو ّ‬
‫غيره‪ ،‬فأطلقوا الليالى‪ ،‬وأرادوا اليامَ معها تارة‪ ،‬وبدونها أخرى وبالعكس‪.‬‬
‫ش ُه ٌر َم ْعلُومَاتٌ}‪.‬‬
‫ج أَ ْ‬
‫الجواب الرابع‪ :‬أن هذا التجوزَ جاء فى جمع القِلة‪ ،‬وهو قوله‪{ :‬الح ّ‬
‫لثَةَ قُروُءٍ} [البقرة‪ ،]228 :‬جم ُع كثرة‪ ،‬وكان مِن الممكن أن يُقال‪ :‬ثلثة‬
‫[البقرة‪ ]197 :‬وقوله‪{ :‬ثَ َ‬
‫أقراء‪ ،‬إذ هو الغلبُ على الكلم‪ ،‬بل هو الحقيقة عند أكثر النحاة‪ ،‬والعدولُ عن صيغة القلة إلى‬
‫صيغة الكثرة ل بد له من فائدة‪ ،‬ونفى التجوز فى هذا الجمع يصلح أن يكون فائدة‪ ،‬ول يظهر‬
‫غيرها‪ ،‬فوجب اعتبارُها‪.‬‬
‫الجواب الخامس‪ :‬أن اسم الجمع إنما يُطلق على اثنين‪ ،‬وبعض الثالث فيما يقبل‬
‫التبعيض‪ ،‬وهو اليومُ والشهر والعامُ‪ ،‬ونحو ذلك دونَ ما ل يقبله‪ ،‬والحيض والطهر ل يتبعضان‪،‬‬
‫ف القرء‪ ،‬لجعلت قَرءاً‬
‫ت عدة المة ذات القراء قرءين كاملين بالتفاق‪ ،‬ولو أمكن تنصي ُ‬
‫ج ِعَل ْ‬
‫ولهذا ُ‬
‫ونصفاً‪ ،‬هذا مع قيام المقتضى للتبعيض‪ ،‬فأن ل يجوزَ التبعيض مع قيام المقتضى للتكميل أولى‪،‬‬
‫سرّ المسألة أن القرءَ ليس لبعضه حكم فى الشرع‪.‬‬
‫وِ‬
‫ش ُهرِ} [الطلق‪]4 :‬‬
‫لثَ ُة أَ ْ‬
‫ن ثَ َ‬
‫الجواب السادس‪ :‬أنه سبحانه قال فى اليسة والصغيرة‪َ { :‬فعِ ّد ُتهُ ّ‬
‫ل المبدل أولى‪.‬‬
‫ثم اتفقت المة على أنها ثلثة كوامل‪ ،‬وهى بدلٌ عن الحيض‪ ،‬فتكمي ُ‬
‫قولكم‪ :‬إن أهل اللغة يُصرحون بأن له مسميين‪ :‬الحيض والطهر‪ ،‬ل ننازعكم فيه‪ ،‬ولكن‬
‫ن تُرجّحُ أح َد معانيه‪،‬‬
‫حمله على الحيض أولى للوجوه التى ذكرناها‪ ،‬والمشترك إذا اقترن به قرائ ُ‬
‫وجب الحملُ على الراجح‪.‬‬
‫قولكم‪ :‬إن الطهر الذى لم يسبقه دم‪ ،‬قَرء على الصح‪ ،‬فهذا ترجيحٌ وتفسير للفظة‬
‫ت أربع سنين يُسمى قرءاً‪ ،‬ول تُسمى من‬
‫بالمذهب‪ ،‬وإل فل يُعرف فى لغة العرب قط أن طهر بن ِ‬
‫ذوات القراء‪ ،‬ل لغة ول عرفاً ول شرعاً‪ ،‬فثبت أن الدم داخل فى مسمى القَرء‪ ،‬ول يكون قرءاً إل‬
‫مع وجوده‪.‬‬
‫قولكم‪ :‬إن الدم شرط للتسمية‪ ،‬كالكأس والقلم وغيرهما من اللفاظ المذكورة‬
‫تنظِيرٌ فاسد‪ ،‬فإن مسمى تلك اللفاظَ حقيقة واحدة مشروطة بشروط‪ ،‬والقَرء مشترك بين الطهر‬

‫‪373‬‬
‫والحيض‪ ،‬يقال‪ :‬على كل منهما حقيقة‪ ،‬فالحيضُ مسماه حقيقة ل أنه شرط فى استعماله فى أحد‬
‫مسمييه فافترقا‪.‬‬
‫قولكم‪ :‬لم يجىء فى لسان الشارع للحيض‪ ،‬قلنا‪ ،‬قد بينا مجيئَه فى‬
‫كلمه للحيض‪ ،‬بل لم يجىء فى كلمه للطهر البتة فى موضع واحد‪ ،‬وقد تقدّم أن سفيان ابن عيينة‬
‫روى عن أيوب‪ ،‬عن سليمان بن يسار‪ ،‬عن أم سلمة رضى الّ عنها‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه‬
‫لةَ َأيّا َم أَ ْقرَائِها))‪ .‬قولكم‪ :‬إن الشافعى قال‪ :‬ما حدث بهذا سفيان‬
‫وسلم فى المستحاضة ((تَدَعُ الصّ َ‬
‫قط‪ ،‬جوابُه أن الشافعى لم يسمع سفيان يُحدث به‪ ،‬فقال بموجب ما سمعَه مِن سفيان‪ ،‬أو عنه من‬
‫قوله‪(( :‬لتنظر عدد الليالى واليام التى كانت تحيضهن من الشهر)) وقد سمعه من سفيان من ل‬
‫يُستراب بحفظه وصدقه وعدالته‪ .‬وثبت فى السنن‪ ،‬من حديث فاطمة بنت أبى حُبيش‪ ،‬أنها سألت‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إ ّنمَا‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فشكت إليه الدّمَ‪ ،‬فقال لها رسول ا ّ‬
‫رسولَ ا ّ‬
‫صلّى مَا َبيْنَ ال َقرْءِ‬
‫ط ّهرِى‪ ،‬ثُ ّم َ‬
‫ل ُتصَلّى‪ ،‬وإذَا َمرّ َق ْر ُؤكِ‪َ ،‬فتَ َ‬
‫عرْقٌ‪ ،‬فانْظُرى‪ ،‬فإذا َأتَى َق ْرؤُك‪ ،‬فَ َ‬
‫َذِلكَ ِ‬
‫إلى ال َقرْءِ))‪ .‬رواه أبو داود بإسناد صحيح‪ ،‬فذكرفيه لفظ القرء أربع مرات فى كل ذلك يريد به‬
‫الحيض ل الطهر‪ ،‬وكذلك إسناد الذى قبله‪ ،‬وقد صححه جماعة من الحفاظ‪.‬‬
‫ظرْ عَدَ َد الليالى واليا َم التى كانت تحيضُهن من‬
‫وأما حديث سفيان الذى قال فيه‪(( :‬لِتن ُ‬
‫الشهر))‪ ،‬فل تعارض بينه وبين اللفظ الذى احتججنا به بوجه ما حتى يُطلب ترجيحُ أحدهما على‬
‫الخر‪ ،‬بل أح ُد اللفظين يجرى من الخر مجرى التفسير والبيان‪ ،‬وهذا يدل على أن القَرء اسم لتلك‬
‫ل صلى ال عليه وسلم وهو الظاهر فظاهر‪ ،‬وإن‬
‫الليالى واليام‪ ،‬فإنه إن كانا جميعاً لفظَ رسول ا ّ‬
‫ل للراوى أن‬
‫كان قد روى بالمعنى‪ ،‬فلول أن معنى أح ِد اللفظين معنى الخر لغة وشرعاً‪ ،‬لم تَحِ ّ‬
‫ل اللفظ بما يُوافق‬
‫غ له أن ُيبَدّ َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بما ل يقوم مقامه‪ ،‬ول يسو ُ‬
‫ل لفظ رسول ا ّ‬
‫يُبدّ َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ل سيما والراوى لذلك من ل يُدفع‬
‫مذهبه‪ ،‬ول يكون مرادفًا للفظ رسول ا ّ‬
‫ل مِن نافع وأعلم‪.‬‬
‫عن المامة والصدق والورع‪ ،‬وهو أيوب السّختيانى‪ ،‬وهو أج ّ‬
‫وقد روى عثمان بن سعد الكاتب‪ ،‬حدثنا ابن أبى مليكة‪ ،‬قال‪ :‬جاءت خالتى فاطمة بنت أبى‬
‫ع الصل َة السنة والسنتين‪،‬‬
‫حُبيش إلى عائشة رضى الّ عنها‪ ،‬فقالت‪ :‬إنى أخاف أن أقع فى النار‪ ،‬أَدَ ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجاء‪ ،‬فقالت عائش ُة رضى الّ عنها‪:‬‬
‫قالت‪ :‬انتظرى حَتى يجىءَ رسولُ ا ّ‬
‫ش ْهرٍ َأيّامَ َق ْر ِئهَا))‪ .‬قال الحاكم‪:‬‬
‫لةَ فى كُلّ َ‬
‫ع الصّ َ‬
‫هذه فاطم ُة تقول‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬قال‪(( :‬قُولى َلهَا َف ْلتَدَ ِ‬
‫هذا حديث صحيح‪ ،‬وعثمان بن سعد الكاتب بصرى ثقة عزيز الحديث‪ ،‬يُجمع حديثه‪ ،‬قال البيهقى‪:‬‬

‫‪374‬‬
‫وتكلم فيه غيرُ واحد‪ .‬وفيه‪ :‬أنه تابعه الحجاجُ بن أرطاة عن ابن أبى مليكة عن عائشة رضى الّ‬
‫عنها‪.‬‬
‫ت َأيّا ُم أَ ْقرَا ِئكِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم قال لِفاطمة‪(( :‬إذَا أَ ْق َبَل ْ‬
‫وفى ((المسند))‪ :‬أن رسول ا ّ‬
‫عَل ْيكِ‪ ))...‬الحديثَ‪.‬‬
‫فأمْسِكى َ‬
‫وفى سنن أبى داود من حديث عدى بن ثابت‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جدّه‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه‬
‫ل و ُتصَلى))‪.‬‬
‫لةَ َأيّامَ أ ْقرَا ِئهَا‪ ،‬ثم َت ْغتَسِ ُ‬
‫وسلم‪ ،‬فى المستحاضة ((تَدَعُ الصّ َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وفى ((سننه)) أيضاً‪ :‬أن فاطمة بنت أبى حبيش سألت رسول ا ّ‬
‫عرْقٌ فَانْظُرى‪ ،‬فَإذَا أَتى‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنّما ذلكَ ِ‬
‫فشكت إليه الدم‪ ،‬فقال لها رسولُ ا ّ‬
‫ن ال َقرْءِ إلى ال َقرْءِ))‪ .‬وقد تقدم‪.‬‬
‫صلّى ما َبيْ َ‬
‫طهّرى ثُ ّم َ‬
‫صلّى‪ ،‬فإذا َمرّ َق ْر ُؤكِ َفتَ َ‬
‫َق ْر ُؤكِ‪ ،‬فَلَ ُت َ‬
‫قال أبو داود‪ :‬وروى قتادة‪ ،‬عن عروة‪ ،‬عن زينب‪ ،‬عن أم سلمة رضى الّ عنها‪ ،‬أن أمّ‬
‫ع الصّلة‬
‫حبيبة بنت جحش رضى الّ عنها استحيضت‪ ،‬فأمرها النبىّ صلى ال عليه وسلم أن تَدَ َ‬
‫أيّامَ أقرائها‪.‬‬
‫وتعليل هذه الحاديث‪ ،‬بأن هذا مِن تغيير الرواة‪ ،‬رووه بالمعنى ل يُلتفت إليه‪ ،‬ول يُعرج‬
‫عليه‪ ،‬فلو كانت من جانب مَنْ عللها‪ ،‬لعاد ذِكرها وأبداه‪ ،‬وشنّع على من خالفها‪.‬‬
‫وأما قولكم‪ :‬إن الّ سبحانه وتعالى جعل اليأس من الحيض شرطاً فى العتداد بالشهر‪ ،‬فمن‬
‫حيَض؟ قلنا‪ :‬لنه جعل الشه َر الثلثة بدلً عنِ القراءِ الثلثة‪،‬‬
‫أين يلزم أن تكون القُروء هى ال ِ‬
‫ن نِسَا ِئكُمُ} [الطلق‪ ،]4 :‬فنقلهن إلى الشهر عند تعذّر‬
‫ض مِ ْ‬
‫ن مِنَ المحِي ِ‬
‫وقال‪{ :‬واللّئى َيئِسْ َ‬
‫ن منه‪ ،‬ل عن الطهر‪ ،‬وهذا‬
‫ض الذى َيئِسْ َ‬
‫مبدلهن‪ ،‬وهو الحيض‪ ،‬فدل على أن الشهر بدل عن الحي ِ‬
‫واضح‪.‬‬
‫ل عنها معلول بمظاهر بن أسلم‪ ،‬ومخالفة عائشة له‪،‬‬
‫قولكم‪ :‬حديثُ عائشة رضى ا ّ‬
‫ل من صنف‬
‫فنحن إنما احتججنا عليكم بما استدللُتم به علينا فى كون الطلق بالنساء ل بالرجال‪ ،‬فكُ ّ‬
‫ل على أن طلق العبد طلقتان‪ ،‬احتج علينا بهذا الحديث‪.‬‬
‫من أصحابكم فى طريق الخلف‪ ،‬أو استد ّ‬
‫ق العبد تطليقتين‪ ،‬فاعتبر الطلقَ بالرجال ل بالنساء‪،‬‬
‫وقال‪ :‬جعل النبىّ صلى ال عليه وسلم طل َ‬
‫ضتَانِ‪ .‬فيا سُبحان الّ‪ ،‬يكونُ الحديث سليمًا من العِلل إذا‬
‫ح ْي َ‬
‫لمَةِ َ‬
‫واعتبر العِدة بالنساء‪ ،‬فقال‪ :‬وعدة ا َ‬
‫كان حجة لكم‪ ،‬فإذا احتجّ به منازعوكم عليكم اعتورته العِلل المختلفة‪ ،‬فما أشبَهه بقول القائل‪:‬‬
‫إَل ْيكُم تَلقّى نَشْركُمْ َفيَطِيبُ‬ ‫َيكُونُ أُجَاجاً دُو َنكُم فَإذَا ا ْنتَهى‬

‫‪375‬‬
‫ب أن مُظاهراً‬
‫فنحن إنما كِلنا لكم بالصاع الذى كِلتم لنا به بخسًا ببخس‪ ،‬وإيفاءً بإيفاء‪ ،‬ول ري َ‬
‫ل غيرُه‪.‬‬
‫ممن ل يُحتج به‪ ،‬ولكن ل يمتنع أن ُي ْع َتضَدَ بحديثه‪ ،‬ويقوى به‪ ،‬والدلي ُ‬
‫وأما تعليلُه بخلف عائشة رضى الّ عنها له‪ ،‬فأين ذلك من تقريرِكم‪ ،‬أن مخالفة الراوى ل‬
‫تُوجب ردّ حديثه‪ ،‬وأن العتبار بما رواه ل بما رآه‪ ،‬وتكثركم مِن المثلة التى أخذ الناسُ فيها‬
‫بالرواية دونَ مخالفة راويها لها‪ ،‬كما أخذوا برواي ِة ابن عباس المتضمنة لبقاء النكاح مع بيع‬
‫الزوجة‪ ،‬وتركوا رأيه بأن بيع المة طلقُها‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ل عنه‪(( :‬طلق المة طلقتان‪ ،‬وقَرؤها حيضتان))‪.‬‬
‫وأما ردكم لحديث ابن عمر رضى ا ّ‬
‫بعطية العوفى‪ ،‬فهو وإن ضعفه أكثرُ أهل الحديث‪ ،‬فقد احتمل الناسُ حديثه‪ ،‬وخرجوه فى السنن‪،‬‬
‫وقال يحيى بن معين فى رواية عباس الدورى عنه‪ :‬صالح الحديث‪ ،‬وقال أبو أحمد بن عدى رحمه‬
‫الّ‪ :‬روى عنه جماعة من الثقات‪ ،‬وهو مع ضعفه يُكتب حديثه‪ ،‬فيُعتضد به وإن لم يُعتمد عليه‬
‫وحده‪.‬‬
‫وأما ردكم الحديث بأن ابن عمر مذهبه‪ :‬أن القُروء الطهار‪ ،‬فل ريب أن هذا يُورث شبهة‬
‫فى الحديث‪ ،‬ولكن ليس هذا بأوّل حديث خالفه راويه‪ ،‬فكان العتبارُ بما رواه ل بما ذهب إليه‪،‬‬
‫وهذا هو الجوابُ عن ردكم لحديث عائشة رضى الّ عنها بمذهبان‪ ،‬ول يُعترض على الحاديث‬
‫بمخالفة الرواة لها‪.‬‬
‫وأما ردّكم لحديث المختلعة‪ ،‬وأمرها أن تعتد بحيضة‪ ،‬فإنا ل نقول به‪ ،‬فللناس فى‬
‫هذه المسألة قولن‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد أحدهما‪ :‬أن عدتها ثلثُ حيض‪ ،‬كقول الشافعى‪،‬‬
‫ل أمير المؤمنين عثمان بن عفان‪ ،‬وعبد الّ‬
‫ومالك‪ ،‬وأبى حنيفة‪ .‬والثانى‪ :‬أن عدتها حيضة‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫ل بن عباس‪ ،‬وهو مذهب أبان بن عثمان‪ ،‬وبه يقول إسحاق ابن راهويه‪ ،‬وابن‬
‫بن عمر‪ ،‬وعبد ا ّ‬
‫ض لها‪ ،‬والقياس يقتضيه‬
‫ح فى الدليل‪ ،‬والحاديث الواردة فيه ل معار َ‬
‫المنذر‪ ،‬وهذا هو الصحي ُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فى عِدة المختلعة‪.‬‬
‫حكماً‪ ،‬وسنبين هذه المسألة عند ذكر حكم رسول ا ّ‬
‫قالُوا‪ :‬ومخالفتنا لحديث اعتداد المختلعة بحيضة فى بعض ما اقتضاه من جواز العتداد‬
‫ن عذراً لكم فى مخالفة ما اقتضاه من أن القُروء الحيض‪ ،‬فنحن وإن خالفناه فى حكم‪،‬‬
‫بحيضة ل يكو ُ‬
‫فقد وافقناه فى الحكم الخر‪ ،‬وهو أن القَرء الحيض‪ ،‬وأنتم خالفتموه فى المرين جميعاً‪ ،‬هذا مع أن‬
‫سلِ َم مِن هذه المطالبة‪ ،‬فماذا تردون‬
‫من يقول‪ :‬القراء الحِيض‪ ،‬ويقول‪ :‬المختلعة تعتد بحيضة‪ ،‬قد َ‬
‫به قولَه؟‬

‫‪376‬‬
‫وأما قولُكم فى الفرق بين الستبراء والعِدة‪ :‬إن العِدة وجبت قضاءَ لحق الزوج‪،‬‬
‫فاختصت بزمان حقه‪ ،‬كلمٌ ل تحقيق وراءه‪ ،‬فإن حقّه فى جنس الستمتاع فى زمن الحيض‬
‫والطهر‪ ،‬وليس حقه مختصًا بزمن الطهر‪ ،‬ول العِدة مختصة بزمن الطهر دون الحيض‪ ،‬وكل‬
‫الوقتين محسوب من العدة‪ ،‬وعدم تكرر الستبراء ل يمنع أن يكون طهراً محتوشاً بدمين‪ ،‬كقُرء‬
‫المطلقة‪ ،‬فتبين أن الفرق غيرُ طائل‪.‬‬
‫قولكم‪ :‬إن انضمام قرءين إلى الطهر الذى جامع فيه يجعلُه علماً جوابُه أن هذا يُفضى إلى‬
‫أن تكون العِدة قرءين حسب‪ ،‬فإن ذلك الذى جامع فيه لدللة له على البراءة البتة‪ ،‬وإنما الدالّ‬
‫ن بعده‪ ،‬وهذا خلف موجب النص‪ ،‬وهذا ل يلزمُ مِن جعل القراء الحِيض‪ ،‬فإن الحيضة‬
‫القَرآ ِ‬
‫وحدها علم‪ ،‬ولهذا اكتفى بها فى استبراء الماء‪.‬‬
‫قولكم‪ :‬إن القرء هو الجمع‪ ،‬والحيض يجتمع فى زمان الطهر‪ ،‬فقد تقدم جوابُه‪ ،‬وأن ذلك فى‬
‫المعتل ل فى المهموز‪.‬‬
‫قولكم‪ :‬دخولُ التاء فى ثلثة‪ ،‬يدل على أن واحدها مذكر‪ ،‬وهو الطهر‪ ،‬جوابُه أن واحد‬
‫القروء قَرء‪ ،‬وهو مذكر‪ ،‬فأتى بالتاء مراعاةً للفظه‪ ،‬وإن كان مسماه حيضة‪ ،‬وهذا كما يُقال‪ :‬جاءنى‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫ثلثة أنفس‪ ،‬وهُنّ نساء بإعتبار اللفظ‪ .‬وا ّ‬
‫فصل‬
‫ن يرى أن عِدة الحرة والمة سواء‪ ،‬قال أبو محمد ابن‬
‫وقد احتج بعُموم آيات العِدد الثلث مَ ْ‬
‫حزم‪ :‬وعدة المة المتزوجة من الطلق والوفاة‪ ،‬كعدة الحرة سواء بسواء‪ ،‬ول فرق‪ ،‬لن الّ تعالى‬
‫لثَة قُروُءٍ} [البقرة‪ ]228 :‬وقال‪:‬‬
‫ن ثَ َ‬
‫سهِ ّ‬
‫ت َي َت َر ّبصْنَ بَِأنْفُ ِ‬
‫علّمنا العِدَ َد فى الكِتاب‪ ،‬فقال‪{ :‬وَالمُطَلّقَا ُ‬
‫ش ُهرٍ وَعَشْراً} [البقرة‪،]234 :‬‬
‫سهِنّ َأ ْر َبعَ َة أَ ْ‬
‫ن َأ ْزوَاجًا َي َت َر ّبصْنَ ِبَأنْفُ ِ‬
‫ن ِم ْنكُم َويَ َذرُو َ‬
‫{والّذِينَ ُي َتوَ ّفوْ َ‬
‫ش ُهرٍ واللّئى لَم‬
‫لثَ ُة أَ ْ‬
‫ن ثَ َ‬
‫ن نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُم َفعِ ّد ُتهُ ّ‬
‫ض مِ ْ‬
‫ن مِنَ المَحِي ِ‬
‫ل تعالى‪{ :‬واللّئى َيئِسْ َ‬
‫وقال ا ّ‬
‫ح ْمَلهُنّ } [الطلق‪ ،]4 :‬وقد علم الّ تعالى إذ أباح لنا‬
‫ضعْنَ َ‬
‫ن أَن َي َ‬
‫جُلهُ ّ‬
‫ل أَ َ‬
‫حمَا ِ‬
‫لتُ ال ْ‬
‫حضْنَ َوأُو َ‬
‫يِ‬
‫ح ّرةٍ ول َأمَةٍ فى ذلك‪ ،‬وما‬
‫زواج الماء‪ ،‬أنه يكون عليهن العِدَدُ المذكورات‪ .‬وما فرّق عز وجل بين ُ‬
‫كان ربك نسياً‪.‬‬
‫لمَ ِة إل َكعِدّة‬
‫وثبت عمن سلف مثل قولنا‪ :‬قال محمد بن سِيرين رحمه الّ‪ .‬ما أرى عِدّة ا َ‬
‫ق أن ُت ّتبَعَ‪ .‬قال‪ :‬وقد ذكر أحمد بن حنبل‪ ،‬أن‬
‫سنّةُ أح ّ‬
‫سنّةٌ‪ ،‬فال ّ‬
‫حرّة‪ ،‬إل أن يكون مضت فى ذلك ُ‬
‫ال ُ‬

‫‪377‬‬
‫حرّة‪ ،‬وهو قول أبى سليمان‪ ،‬وجميع أصحابنا‪ ،‬هذا‬
‫قول مكحول‪ :‬إنّ عِدّة المة فى كل شى‪َ ،‬كعِدّة ال ُ‬
‫كلمه‪.‬‬
‫لمّةِ‪ ،‬فقالوا‪ :‬عِ ّدتُها نصف عِدّة الحرة‪ ،‬هذا قول فقهاء‬
‫وقد خالفهم فى ذلك جمهور ا ُ‬
‫ل بن عتبة‪ ،‬والزهرىّ‪ ،‬ومالك‪،‬‬
‫المدينة‪ :‬سعي ِد بنِ المسيب‪ ،‬والقاسِم‪ ،‬وسالِم‪ ،‬وزيدِ بن أسلم‪ ،‬وعبدِ ا ّ‬
‫ن أبى رباح‪ ،‬ومسلم بنِ خالد وغيرهما‪ ،‬وفقها ِء البصرة‪ :‬كقتادة‪ ،‬وفقهاءِ‬
‫وفقها ِء أهل مكة‪ :‬كعطا ِء ب ِ‬
‫ى وأبى حنيفةَ وأصحابِه رحمهم الّ‪ .‬وفقهاءِ الحديثِ كأحَمدَ وإسحاق‪ ،‬والشافعى‪،‬‬
‫الكوفة‪ ،‬كالثور ّ‬
‫ل وغيرهم‪ ،‬وسلفُهم فى ذلك الخليفتان الراشدان‪ :‬عمرُ بنُ الخطاب‪ ،‬وعلىّ بنُ‬
‫وأبى ثور رحمهم ا ّ‬
‫ن عمر رضى الّ عنه‪ ،‬كما‬
‫لبِ‬
‫أبى طالب‪ ،‬رضى الّ عنهما‪ ،‬صح ذلك عنهما‪ ،‬وهو قولُ عبدِ ا ّ‬
‫حيَض‪ ،‬وهو قول زيد ابن ثابت‪،‬‬
‫لمَةِ حيضتان‪ ،‬عِ ّد ُة الحرة ثلث ِ‬
‫رواه مالك‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عنه‪ :‬عِ ّدةُ ا َ‬
‫لمَةِ حيضتان‪ ،‬وعِدّة الحرة‬
‫كما رواه الزهرى‪ ،‬عن قَبيصة‪ ،‬بن ُذؤَيب‪ ،‬عن زيد بن ثابت‪ :‬عِ ّدةُ ا َ‬
‫ل عنه‬
‫حيَضِ‪ .‬وروى حماد بن زيد‪ ،‬عن عمرو بن أوس الثقفى‪ ،‬أن عم َر بنَ الخطاب رضى ا ّ‬
‫ثلثُ ِ‬
‫لمَ ِة حيض ًة ونصفاً لفعلت‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬يا أمير المؤمنين‪،‬‬
‫قال‪ :‬لو استطعتُ أن أجعلَ عِ ّدةَ ا َ‬
‫فاجعلها شهرًا ونصفاً‪.‬‬
‫ل يقول‪:‬‬
‫وقال عبد الرزاق‪ :‬حدثنا ابن جريح‪ ،‬أخبرنى أبو الزبير‪ ،‬أنه سمع جابر بن عبد ا ّ‬
‫طلّقة‪ .‬وروى عبد الرزاق أيضاً‪ :‬عن ابن‬
‫لمَ َة الم َ‬
‫ل عنه حيضتين‪ ،‬يعنى‪ :‬ا َ‬
‫جعل لها عمرُ رضى ا ّ‬
‫ل بن عتبة بن مسعود‪ ،‬عن‬
‫عيينة‪ ،‬عن محمد بن عبد الرحمن‪ ،‬عن سليمان بن يسار‪ ،‬عن عبد ا ّ‬
‫لمَ ُة حيضتين‪ ،‬فإن لم تحض‪،‬‬
‫ل عنه‪ :‬ينكح العبد اثنتين‪ ،‬ويطلّق تطليقتين‪ ،‬وتعتدّ ا َ‬
‫عمر رضى ا ّ‬
‫شهْرين أو قال‪ :‬فشهرًا ونصفاً‪.‬‬
‫فَ َ‬
‫وذكر عبد الرزاق أيضاً‪ :‬عن معمرَ‪ ،‬عن المغيرة‪ ،‬عن إبراهيم النخعى‪ ،‬عن ابن مسعود‬
‫قال‪ :‬يكون عليها نصف العذاب‪ ،‬ول يكون لها نصف الرخصة‪.‬‬
‫سيْطٍ‪ ،‬ويحيى ابن سيعد‪،‬‬
‫وقال ابن وهب‪ :‬أخبرنى رجال من أهل العلم‪ :‬أن نافعاً‪ ،‬وابنَ قُ َ‬
‫لمَةِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والتابعين‪ ،‬قالوا‪ :‬عِ ّدةُ ا َ‬
‫وربيعة‪ ،‬وغير واحد من أصحابِ رسولِ ا ّ‬
‫حيضتان‪ .‬قالوا‪ :‬ولم يزل هذا عمل المسلمين‪.‬‬
‫سعْد‪ ،‬عن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصّدّيق رضى الّ‬
‫قال ابن وهب‪ :‬أخبرنى هشام بن َ‬
‫لمَةِ حيضتان‪.‬‬
‫عنهم‪ ،‬قال‪ :‬عِدّة ا َ‬

‫‪378‬‬
‫ل صلى ال‬
‫سنّةً عَنْ رسول ا ّ‬
‫قال القاسم‪ :‬مع أن هذا ليس فى كتاب الّ عز وجل‪ ،‬ول نعلمه ُ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ولكن قد مضى أمرُ النّاس على هذا‪ ،‬وقد تقدّم هذا الحديث بعينه‪ ،‬وقولُ القاسم وسالم‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫سنّةِ رسول ا ّ‬
‫فيه لرسول المير‪ ،‬قل له‪ :‬إن هذا ليس فى كِتاب الّ‪ ،‬ول ُ‬
‫ل عمر‪ ،‬وابنِ مسعود‪ ،‬وزيدِ بن ثابت‪،‬‬
‫ولكن عمل به المسلمون‪ .‬قالوا‪ :‬ولو لم يكن فى المسألة إل قو ُ‬
‫ل بن عمر‪ ،‬لكفى به‪.‬‬
‫وعبد ا ّ‬
‫ل عنه‪ :‬تجعلون عليها نصف العذاب‪ ،‬ول تجعلون لها نصف‬
‫وفى قول ابن مسعود رضى ا ّ‬
‫الرخصة‪ ،‬دليل على اعتبار الصحابة للَقْيسة والمعانى‪ ،‬وإلحاق النظير بالنظير‪.‬‬
‫ولما كان هذا الثر مخالفًا لقول الظاهرية فى الصل والفرع‪ ،‬طعن ابنُ حزم فيه وقال‪ :‬ل‬
‫ض الناس‪ ،‬فكيف عن مثل ابن مسعود؟‬
‫عرْ ِ‬
‫يصح عن ابن مسعود‪ :‬قال وهذا بعيد على رجل من ُ‬
‫ج ّرأَه على الطعن فيه‪ ،‬أنه من رواية إبراهيم النخعى عنه‪ ،‬رواه عبد الرزاق عن معمر‪ ،‬عن‬
‫وإنما َ‬
‫المغيرة‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬وإبراهيم لم يسمع من عبد الّ‪ ،‬ولكن الواسطة بينه وبينه أصحاب عبد الّ‬
‫كعلقمة ونحوه‪ ،‬وقد قال إبراهيم‪ :‬إذا قلتُ‪ :‬قال عبد الّ‪ ،‬فقد حدثنى به غير واحد عنه‪ ،‬وإذا قلت‪ :‬قال‬
‫س ّم ْيتُ‪ ،‬أو كما قال‪ .‬ومن المعلوم‪ :‬أن بين إبراهيم‪ ،‬وعبد الّ أئمة ثقات‪ ،‬لم يسمّ‬
‫فلن عنه‪ ،‬فهو عمن َ‬
‫ل أئمة أجلء نبلء‪،‬‬
‫ط ُمتّهماً‪ ،‬ول مجروحاً‪ ،‬ول مجهولً‪ ،‬فشيوخه الذين أخذ عنهم عن عبد ا ّ‬
‫قَ ّ‬
‫ج الكوفة‪ ،‬وكل من له َذوْق فى الحديث إذا قال إبراهيم‪ :‬قال عبد الّ‪ ،‬لم يتوقف‬
‫وكانوا كما قيل‪ُ :‬مرُ َ‬
‫فى ثبوته عنه‪ ،‬وإن كان غيره ممن فى طبقته‪ ،‬لو قال‪ :‬قال عبد الّ‪ ،‬ل يحصل لنا الثبت بقوله‪،‬‬
‫ل نظي ُر ابنِ المسيّب عن عمر‪ ،‬ونظير مالك عن ابن عمر‪ ،‬فإن الوسائط بين‬
‫فإبراهيم عن عبد ا ّ‬
‫ل الناس‪ ،‬وأوثقهم‪ ،‬وأصدقِهم‪ ،‬ول‬
‫س ّموْهم وُجِدُوا من أَجَ ّ‬
‫ل عنهم إذا َ‬
‫هؤلء وبين الصحابة رضى ا ّ‬
‫ع ابنَ مسعود فى هذه المسألة‪ ،‬فكيف يخالف عمرَ‪ ،‬وزيداً‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وهم‬
‫سمّون سواهم البتة‪ ،‬وَدَ ِ‬
‫يُ َ‬
‫ب البتة‪ ،‬ول إلى حديث‬
‫سنّةِ رسوله‪ ،‬ويخالف عمل المسلمين‪ ،‬ل إلى قول صاح ٍ‬
‫أعلم بكتاب الّ و ُ‬
‫لمّةِ‪ ،‬ليس هو مما تخفى دللته‪ ،‬ول‬
‫صحيح‪ ،‬ول حسن‪ ،‬بل إلى عمومٍ أمره ظاهر عند جميع ا ُ‬
‫موضعه‪ ،‬حتى يظفر به الواحد والثنان دون سائر الناس‪ ،‬هذا من أبين المحال‪.‬‬
‫ولو ذهبنا نذكر الثار عن التابعين بتنصيف عِدّة المة‪ ،‬لطالت جدًا ثم إذا تأملتَ سياق‬
‫اليات التى فيها ذِكر العِدَد‪ ،‬وجدتَها ل تتناول الماء‪ ،‬وإنما تتناول الحرائر‪ ،‬فإنه سبحانه قال‪:‬‬
‫ن إنْ كُنّ‬
‫خلَقَ الُّ فى َأرْحَا ِمهِ ّ‬
‫ن َي ْك ُتمْنَ مَا َ‬
‫ل َلهُنّ أَ ْ‬
‫لثَةَ ُقرُو ٍء وَلَ َيحِ ّ‬
‫ن ثَ َ‬
‫سهِ ّ‬
‫طلّقَاتُ َيتَر ّبصْنَ بَأنْفُ ِ‬
‫{وَالم َ‬
‫عَل ْيهِنّ‬
‫ل الّذى َ‬
‫ن َأرَادُوا إصْلَحًا َوَلهُنّ ِمثْ ُ‬
‫كإ ْ‬
‫ق ِبرَدّهِنّ فى ذِل َ‬
‫ن أَحَ ّ‬
‫لّ وا ْل َيوْمِ الخ ِر و ُبعُوَل ُتهُ ّ‬
‫ُي ْؤمِنّ بِا ِ‬

‫‪379‬‬
‫ن يَخَافَا‬
‫شيْئاً إلّ أَ ْ‬
‫ن تَأْخُذُوا ِممّا آ َت ْي ُتمُوهُنّ َ‬
‫ل َلكُمْ أَ ْ‬
‫ل يَحِ ّ‬
‫بِالم ْعرُوفِ} [البقرة‪ ]228 :‬إلى أن قال‪{ :‬وَ َ‬
‫ت به} [البقرة‪:‬‬
‫عَل ْي ِهمَا فِيمَا افتَ َد ْ‬
‫جنَاحَ َ‬
‫ل يُقِيمَا حُدُودَ الّ فَلَ ُ‬
‫ل يُقِيمَا حُدُودَ الِّ فَإنْ خِ ْفتُ ْم أَنْ َ‬
‫أَنْ َ‬
‫طلّ َقهَا‪،‬‬
‫‪ ]229‬وهذا فى حق الحرائر دون الماء‪ ،‬فإن افتدا َء المة إلى سيدها‪ ،‬ل إليها ثم قال‪{ :‬فَإنْ َ‬
‫جعَا} [البقرة‪،]230 :‬‬
‫عَل ْي ِهمَا أَنْ َي َترَا َ‬
‫جنَاحَ َ‬
‫طلّقَها فَلَ ُ‬
‫غ ْي َرهُ فَإنْ َ‬
‫ح َزوْجاً َ‬
‫حتّى َت ْنكِ َ‬
‫ن َبعْدُ َ‬
‫ل لَ ُه مِ ْ‬
‫ل تَحِ ّ‬
‫فَ َ‬
‫فجعل ذلك إليهما‪ ،‬والتراجع المذكور فى حق المة‪ ،‬وهو العقد‪ ،‬إنما هو إلى سيدها‪ ،‬ل إليها‪،‬‬
‫ن ِم ْنكُم‬
‫بخلف الحرة‪ ،‬فإنه إليها بإذن وليها‪ ،‬وكذلك قوله سبحانه فى عدة الوفاة‪{:‬وَالّذِينَ ُي َتوَ ّفوْ َ‬
‫عَل ْيكُمْ فِيمَا َف َعلْنَ‬
‫جنَاحَ َ‬
‫جَلهُنّ فَلَ ُ‬
‫ش ُه ٍر وَعَشْراً فَإذَا َبَلغْنَ أَ َ‬
‫ن َأ ْر َبعَةَ أَ ْ‬
‫سهِ ّ‬
‫ن بَِأنْفُ ِ‬
‫ن َأ ْزوَاجًا َي َت َربّص َ‬
‫ويَذرُو َ‬
‫سهِنّ بِالم ْعرُوفِ} [البقرة‪ ،]234 :‬وهذا إنما هو فى حق الحرة‪ ،‬وأما المة‪ ،‬فل فعل لها فى‬
‫فى َأنْفُ ِ‬
‫نفسها البتة‪ ،‬فهذا فى العدة الصلية‪ .‬وأما عدة الشهر‪ ،‬ففرع وبدل‪ .‬وأما عدة وضع الحمل‪،‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والتابعون‪ ،‬وعمل به‬
‫فيستويان فيها‪ ،‬كما ذهب إليه أصحابُ رسولِ ا ّ‬
‫ل فى تنصيف الحدّ عليها‪ ،‬ول يعرف فى الصحابة‬
‫المسلمون‪ ،‬وهو محض الفقه‪ ،‬وموافق لكتاب ا ّ‬
‫ل أولى من َفهْ ِم مَنْ شَ ّذ عنهم‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عن ا ّ‬
‫مخالف فى ذلك‪ ،‬و َفهْمُ أصحابِ رسولِ ا ّ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫من المتأخّرين‪ ،‬وبا ّ‬
‫حرّة والمة فى العِدّة عن أح ٍد من السلف إل عن محمد ابن‬
‫ول تعرف التسوية بين ال ُ‬
‫ل به على عدم‬
‫سيرين‪ ،‬ومكحول‪ .‬فأما ابنُ سيرين‪ ،‬فلم يَجزِ ْم بذلك‪ ،‬وأخبر به عن رأيه‪ ،‬وعلّق القو َ‬
‫سنّة ُت ّتبَعُ‪ .‬وأما قول مكحول‪ ،‬فلم يذكر له سنداً‪ ،‬وإنما حكاه عنه أحمد رحمه الّ‪ ،‬وهو ل يقبل عند‬
‫ُ‬
‫ق على عدم‬
‫أهل الظاهر‪ ،‬ول يصح‪ ،‬فلم يبق معكم أحد من السلف إل رأىُ ابنِ سيرين وحدَه المعلّ ُ‬
‫ل عنه فى ذلك ُم ّت َبعَةُ‪ ،‬ولم يخالفه فى ذلك‬
‫سنّةَ عم َر بنِ الخطاب رضى ا ّ‬
‫سُن ٍة ُمتّبعةٍ‪ ،‬ول ريب أن ُ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫أحد من الصحابة رضى الّ عنهم‪ ،‬وا ّ‬
‫لمّة‪ ،‬وقد صحّ عن عمرَ‬
‫فإن قيل‪ :‬كَيفَ تَدّعُون إجماع الصحابة وجماهير ا ُ‬
‫ل عنه‪ ،‬أن عِ ّد َة المَ ِة التى لم تبل ْغ ثلثةُ أشهر‪ ،‬وصح ذلك عن عمرَ بنِ عبد‬
‫بنِ الخطاب رضى ا ّ‬
‫سعْ ٍد والزهرى‪ ،‬وبكر ابنِ الشجّ‪ ،‬ومالكٍ‪،‬‬
‫العزيز‪ ،‬ومجاهدِ والحسنِ‪ ،‬وربيعةَ‪ ،‬والليثِ بن َ‬
‫وأصحابه‪ ،‬وأحم َد بنِ حنبلٍ فى إحدى الروايات عنه ومعلوم أن الشهر فى حق اليسة والصغيرة‬
‫بَدَلٌ عن الَقراء الثلث‪ ،‬فدل على أن بَدَلها فى حقها ثلثةٌ‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن القائلين بهذا هم بأنفسهم القائلون‪ :‬إن عِدّتها حيضتان وقد أَ ْفنُوا بهذا‪ ،‬وهذا‪،‬‬
‫ولهم فى العتداد بالشهر ثلثةُ أقوال‪ ،‬وهى للشافعى‪ ،‬وهى ثلث روايات عن أحمد‪ .‬فأكثر‬

‫‪380‬‬
‫الرواياتِ عنه أنها شهران‪ ،‬رواه عنه جماعة من أصحابه‪ ،‬وهو إحدى الروايتين عن عم َر بنِ‬
‫الخطاب رضى الّ عنه‪ ،‬ذكرها الثرم وغيره عنه‪.‬‬
‫وحج ُة هذا القول‪ :‬أن عِدّتها بالقراء حيضتان‪ ،‬فجعل كل شهر مكان حيضةٍ‪.‬‬
‫ى بنِ‬
‫والقول الثانى‪ :‬أن عِدّتها شه ٌر ونصف‪ ،‬نقلها عنه الثرم‪ ،‬والميمونى‪ ،‬وهذا قول عل ّ‬
‫ن المسيّب‪ ،‬وأبى حنيفة‪ ،‬والشافعىّ فى أحد أقواله‪ .‬وحجته‪ :‬أن التنصيف‬
‫ن عمر‪ ،‬واب ِ‬
‫أبى طالب‪ ،‬واب ِ‬
‫حرِ َم إذا وجبَ عليه فى جزاء‬
‫فى الشهر ممكن‪ ،‬فتنصفت‪ ،‬بخلف القروء‪ .‬ونظير هذا‪ :‬أن المُ ْ‬
‫الصيد نصفَ مدّ أخرجه‪ ،‬فإن أراد الصيام مكانه‪ ،‬لم يجزه إل صوم يومٍ كاملٍ‪.‬‬
‫والقول الثالث‪ :‬أنّ عِدّتها ثلثةُ أشه ٍر كواملَ‪ ،‬وهو إحدى الروايتين عن عمر رضى الّ‬
‫عنه‪ ،‬وقول ثالث للشافعى‪ :‬وهو فيمن ذكرتموه‪.‬‬
‫والفرق عند هؤلء بين اعتدادها بالقراء‪ ،‬وبين اعتدادها بالشهور‪ ،‬أن العتبار بالشهور‬
‫للعلم ببراءة رحمها‪ ،‬وهو ل يحصل بدون ثلثة أشهر فى حق الحرة والمة جميعاً‪ ،‬لن الحمل‬
‫طوْر الثالث الذى يمكن أن‬
‫يكون نُطف ُة أربعين يوماً‪ ،‬ثم عَلق ًة أربعين‪ ،‬ثم ُمضْغةً أربعين‪ ،‬وهو ال ّ‬
‫علَم‬
‫يظهر فيه الحمل‪ ،‬وهو بالنسبة إلى الحرة والمة سواء‪ ،‬بخلف القراء‪ ،‬فإن الحيضة الواحدة َ‬
‫جتْ فقد أخذت شَبهًا من الحرائر‪،‬‬
‫ق المملوكة‪ ،‬فإذا ُزوّ َ‬
‫ظاهر على الستبراء‪ ،‬ولهذا اكتفى بها فى حَ ّ‬
‫ف من ملك اليمين‪ ،‬فجعلت عِ ّدتُها بين العدتين‪.‬‬
‫وصارت أشر َ‬
‫قال الشيخ فى ((المغنى))‪ :‬ومن ر ّد هذا القول‪ ،‬قال‪ :‬هو مخالف لجماع الصحابة‪ ،‬لنهم‬
‫ل ّوَليْن‪ ،‬ومتى اختلفوا على قولين‪ ،‬لم يجز إحداث قول ثالث‪ ،‬لنه يفضى إلى‬
‫اختلفوا على القولين ا َ‬
‫تخطئتهم‪ ،‬وخروجِ الحق عن قول جميعهم‪ .‬قلت‪ :‬وليس فى هذا إحداثُ قولٍ ثالثٍ‪ ،‬بل هو إحدى‬
‫الروايتين عن عمر‪ ،‬ذكرها ابن وهب وغيره‪ ،‬وقال به من التابعين من ذكرناهم وغيرهم‪.‬‬
‫فصل‬
‫ن مِنَ‬
‫حضْ‪ ،‬فقد بينها سبحانه فى كتابه فقال‪{ :‬وَاللّئى َيئِسْ َ‬
‫وأما عِدّة اليسةِ‪ ،‬والتى لم تَ ِ‬
‫حضْنَ} [الطلق‪.]4 :‬‬
‫ش ُه ٍر واللّئى لَ ْم يَ ِ‬
‫لثَ ُة أَ ْ‬
‫ن نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُمْ َفعِ ّد ُتهُنّ ثَ َ‬
‫ض مِ ْ‬
‫المحِي ِ‬
‫وقد اضطرب الناس فى حدّه بخمسين سنة‪ ،‬وقال‪ :‬ل تحيض المرأة بعد الخمسين‪.‬‬
‫وهذا قول إسحاق ورواية عن أحمد رحمه الّ‪ ،‬واحتج أرباب هذا القول بقول‬
‫حيّضِ‪ .‬طائفةٌ بستّين سنةً‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫ل عنها‪ :‬إذا بلغتْ خمسين سنةً‪ ،‬خرجت من حَدّ ال ُ‬
‫عائشة رضى ا ّ‬
‫ض بعد الستين‪ ،‬وهذه رواية ثانية عن أحمد‪ .‬وعنه رواية ثالثة‪ :‬الفرق بين نسا ِء العرب‬
‫ل تحي ُ‬

‫‪381‬‬
‫وغيرِهم‪ ،‬فحدّه ستون فى نسا ِء العرب‪ ،‬وخمسون فى نسا ِء العجم‪ .‬وعنه رواية رابعة‪ :‬أن ما بين‬
‫الخمسين والستين دم مشكوك فيه‪ ،‬تصوم وتصلّى‪ ،‬وتَقْضى الصو َم المفروضَ‪ ،‬وهذه اختيار‬
‫خرَقىّ‪ .‬وعنه رواية خامسة‪ :‬أن الدم إن عاود بعد الخمسين وتكرر‪ ،‬فهو حيض‪ ،‬وإل فل‪.‬‬
‫ال ِ‬
‫وأما الشافعى رحمه الّ‪ ،‬فل نص له فى تقدير الياس بمدة‪ ،‬وله‬
‫قولن بعدُ‪ .‬أحدهما‪ :‬أنه ُي ْعرَف بيأس أقاربِها‪ .‬والثانى‪ :‬أنه يعتبر بيأس جميع النساء‪ ،‬فعلى القول‬
‫صبَاتِها‪ ،‬أو نساء بلدِهَا خاصة؟ فيه ثلثة أوجه‪ ،‬ثم إذا‬
‫ع َ‬
‫الول‪ :‬هل المعتبر جميعُ أقاربها‪ ،‬أو نساءُ َ‬
‫قيل‪ :‬يعتبر بالقارب‪ ،‬فاختلفتْ عادتُهن‪ ،‬فهل يعتبر بأقَلّ عاد ٍة منهن‪ ،‬أو بأكثرهن عادةً‪ ،‬أو بأقصرِ‬
‫امرأة فى العالم عادةً؟ على ثلثة أوجه‪ .‬والقول الثانى للشافعى رحمه الّ‪ :‬أن المعتبر جميعُ النساء‪.‬‬
‫ثم اختلف أصحابه‪ :‬هل لذلك حَدّ‪ ،‬أم ل؟ على وجهين‪ .‬أحدهما‪ :‬ليس له حَدّ‪ ،‬وهو ظاهر َنصّه‪.‬‬
‫والثانى له حَدّ‪ ،‬ثم اختلفوا فيه على وجهين‪ .‬أحدهما‪ :‬أنه ستون سنة‪ ،‬قاله أبو العباس بن القاص‪،‬‬
‫سنَةً‪ ،‬قاله الشيخ أبو إسحاق فى ((المهذب))‪ ،‬وابن الصبّاغ‬
‫والشيخ أبو حامد‪ .‬والثانى‪ :‬اثنان وستون َ‬
‫فى ((الشامل))‪.‬‬
‫وأما أصحاب مالك رحمه الّ‪ ،‬فلم يَحُدّوا سِنّ الياس بحدّ‬
‫البتة‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ ،‬منهم شيخ السلم ابن تيمية‪ :‬اليأس يختلف بإختلف النساء‪ ،‬وليس له حَدّ‬
‫َيتّفِقُ فيه النساء‪ .‬والمراد بالية‪ ،‬أن يأس كل امرأة من نَفْسها‪ ،‬لن اليأسَ ضِدّ الرجاء‪ ،‬فإذا كانت‬
‫المرأة قد يئست من الحيض‪ ،‬ولم ترجُهُ‪ ،‬فهى آيسةٌ‪ ،‬وإن كان لها أربعون أو نحوها‪ ،‬وغيرها ل‬
‫تيأس منه وإن كان لها خمسون‪.‬‬
‫سنَ َة إل عربيةٌ‪ ،‬ول َتلِدُ‬
‫وقد ذكر الزبير بن َبكّار‪ :‬أن بعضهم قال‪ :‬ل َتلِدُ لخمسين َ‬
‫ل ابن ربيعة‪ ،‬ولدت موسى بن عبد الّ‬
‫سنَةً إل قرشيّةُ‪ .‬وقال‪ :‬إن هن َد بنتَ أبى عُبيدة بن عبد ا ّ‬
‫لسّتين َ‬
‫بن حسن بن حسن بن على بن أبى طالب رضى الّ عنهم ولها ستون سنة‪ .‬وقد صح عن عمر بن‬
‫ح ْيضَتين‪ ،‬ثم يرتفع حيضها ل تدرى‬
‫ح ْيضَ ًة أو َ‬
‫طلّقت‪ ،‬فحاضت َ‬
‫ل عنه فى امرأة ُ‬
‫الخطاب رضى ا ّ‬
‫ت ثلثَة أشهر‪ .‬وقد وافقه‬
‫حمْل‪ ،‬وإل اعت ّد ْ‬
‫ما ر َفعَ ُه أنها تتربّص تسع َة أشهر‪ ،‬فإن استبان بها َ‬
‫الكثرون على هذا‪ ،‬منهم مالك‪ ،‬وأحمد‪ ،‬والشافعى فى القديم‪ .‬قالوا‪ :‬تتربّص غالب مدة الحمل‪ ،‬ثمّ‬
‫ل للزواج ولو كانت بنت ثلثين سنةً‪ ،‬أو أربعين‪ ،‬وهذا يقتضى أن عم َر بن‬
‫تعتدّ عِدّة اليسةِ‪ ،‬ثم تَحِ ّ‬
‫خَلفِ‪ ،‬تكون المرأةُ آيسةً عندهم قبل الخمسين‪،‬‬
‫سَلفِ وال َ‬
‫ل عنه‪ ،‬ومن وافقه من ال ّ‬
‫الخطاب رضى ا ّ‬

‫‪382‬‬
‫وقبل الربعين‪ ،‬وأن اليأس عندهم ليس وقتاً محدوداً للنساء‪ ،‬بل مثل هذه تكون آيس ًة وإن كانت بنت‬
‫ثلثين‪ ،‬وغيرُها ل تكون آيس ُة وإن بلغت خمسين‪ .‬وإذا كانوا فيمن ارتفع حيضُها ول تدرى ما‬
‫رَ َفعَهُ‪ ،‬جعلوها آيس ًة بعد تسعة أشهر‪ ،‬فالتى تدرى ما رَ َفعَهُ إما بدواءٍ يعلم أنه ل يعودُ َمعَهُ‪ ،‬وإما‬
‫بعادةٍ مستق ّرةٍ لها من أهلها وأقاربها أولى أن تكون آيسةً‪ .‬وإن لم تبلغ الخمسين‪ ،‬وهذا بخلف ما إذا‬
‫ارتفع لمرض‪ ،‬أو رضاع‪ ،‬أو حمل‪ ،‬فإن هذه ليست آيسةً‪ ،‬فإن ذلك يزول‪.‬‬
‫س معلوم متيقّنٍ‪ ،‬بأن تنقطع عاماً بعد‬
‫فالمراتب ثلثة‪ .‬أحدها‪ :‬أن ترتفعَ ِليَأ ٍ‬
‫عام‪ ،‬ويتكرّر انقطاعه أعواماً متتابعة‪ ،‬ثم يطلّق بعد ذلك‪ ،‬فهذه تتربص ثلثة أشهر بنص القرآن‪،‬‬
‫ل أو أكثرَ‪ ،‬وهى أولى بالتربّص بثلثة أشهر من التى حكم فيها‬
‫ت أربعين أو أق ّ‬
‫سواء كانت بن َ‬
‫ت وهى حائض‪ ،‬ثم‬
‫طلّق ْ‬
‫الصحابة والجمهور بتربّصِها تسعة أشهر ثم ثلثة‪ ،‬فإن تلك كانت تحيض و ُ‬
‫ب مدةِ‬
‫ارتفع حيضُها بعد طلقها ل تدرى ما رَ َفعَه‪ ،‬فإذا حكم فيها بحكم اليساتِ بعد انقضاءِ غال ِ‬
‫الحمل‪ ،‬فكيف بهذه؟ ولهذا قال القاضى إسماعيل فى ((أحكام القرآن))‪ :‬إذا كان الُّ سبحانه قد ذكر‬
‫لثَةُ‬
‫ن ثَ َ‬
‫ن نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُم َفعِ ّد ُتهُ ّ‬
‫ض مِ ْ‬
‫ن مِنَ المحِي ِ‬
‫اليأسَ مع الرّيبة‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬واللّئى َيئِسْ َ‬
‫ش ُهرٍ} [الطلق‪:‬‬
‫أَ ْ‬
‫ل عنه لفظ موافق لظاهر القرآن‪ ،‬لنه قال‪ :‬أيّما امرأةٍ‬
‫‪ ،]4‬ثم جاء عن عمرَ بن الخطاب رضى ا ّ‬
‫ح ْيضَة‪ ،‬أو حيضتين‪ ،‬ثم ارتفعتْ حيضتُها ل تدرى ما رَ َف َعهَا‪ ،‬فإنها تنتظر تسعة‬
‫طلّ َقتْ فحاضت َ‬
‫ُ‬
‫ح ْيضَة‪ ،‬كان موضع الرتياب‪ ،‬فحكم‬
‫أشهر‪ ،‬ثم تعت ّد ثلث َة أشهر‪ .‬فلما كانت ل تدرى ما الذى رَفَعَ ال َ‬
‫ل يطلّقُ امرأت ُه تطليقةً أو‬
‫فيها بهذا الحكم‪ ،‬وكان اتّباع ذلك ألزَم وأولى من قول من يقول‪ :‬إن الرج َ‬
‫سنَ ًة معت ّدةً‪ ،‬وإن جاءت بولد لكثر من‬
‫تطليقتين‪ ،‬فيرتفع حيضُها وهى شابّةٌ‪ :‬أنها تبقى ثلثين َ‬
‫ج ِمعِينَ على أن‬
‫ضوْا‪ ،‬لنهم كانوا مُ ْ‬
‫سنتين‪ ،‬لم يلزمْهُ‪ ،‬فخالف ما كان من إجماع المسلمين الذى َم َ‬
‫ت المرأةُ فى ع ّدتِها‪ ،‬فكيف يجوزُ أن يقولَ قائلٌ‪ :‬إن الرجل يطلّق امرأتَهُ‬
‫الولدَ يلحق بالبِ ما دام ِ‬
‫تطليقَةً أو تطليقتين‪ ،‬ويكون بينها وبين زوجها أحكامُ الزوجات ما دامتْ فى عِ ّدتِها من الموا َرثَةِ‬
‫ج ِعَلتْ من الدخول الذى يكون منه‬
‫وغيرها؟ فإن جاءت بولد لم َيلْحَقْه‪ ،‬وظاهر عِدّة الطلقِ َأنّها ُ‬
‫الولدُ‪ ،‬فكيف تكونُ المرأة مُعت ّد ًة والولد ل يلزم؟‬
‫قلت‪ :‬هذا إلزام منه لبى حنيفة‪ ،‬فإن عنده أقصر مدة الحمل سنتان‪ ،‬والمرتابةُ فى أثناءِ‬
‫عِ ّدتِها ل تزال فى عِ ّدةٍ حتى تبلغَ سِنّ الياسِ‪ ،‬فتعت ّد به‪ ،‬وهو يلزم الشافعى فى قوله الجديد سواء‪،‬‬
‫إل أن مدةَ الحملِ عنده أربعُ سنينَ‪ .‬فإذا جاءت به بعدَها لم َيلْحَقْهُ‪ ،‬وهى فى عِ ّدتِها منه‪ .‬قال القاضى‬

‫‪383‬‬
‫س يكون بعضُه أكثرَ من بعض‪ ،‬وكذلك القنوطُ‪ ،‬وكذلك الرجاءُ‪ ،‬وكذلك الظن‪ ،‬ومثل‬
‫إسماعيل واليأ ُ‬
‫هذا َيتّسع الكلم فيه‪ ،‬فإذا قيل منه شىء‪ ،‬أُنزل على قدر ما يظهر من المعنى فيه‪ ،‬فمن ذلك أن‬
‫ت من مريضى‪ ،‬إذا كان الغلب عنده أنه ل يبرأُ ويئست من غائبى إذا كان‬
‫س ُ‬
‫النسان يقولُ‪ :‬قد َيئِ ْ‬
‫الغلب عنده أنه ل يَقْدمُ‪ ،‬ولو قال‪ :‬إذا مات غائبهُ‪ ،‬أو مات مريضُه‪ :‬قد يئستُ منه‪ ،‬لكان الكلمُ عند‬
‫ت وَجِلً فى‬
‫جهِهِ‪ ،‬إل أن يتبيّن معنى ما قصد له فى كلمه‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬كن ُ‬
‫الناس على غيرِ وَ ْ‬
‫ت وقع اليأس‪ ،‬فينصرف الكلمُ على هذا وما أشبهه‪ ،‬إل أن أكثر ما‬
‫مرضه مخافة أن يموت‪ ،‬فلما ما َ‬
‫يلفظُ باليأس إنما يكون فيما هو الغلبُ عند اليأس أنه ل يكون‪ ،‬وليس واحد من اليائس والطامع‬
‫ل َيرْجُونَ‬
‫يعلم يقينًا أن ذلك الشىءَ يكون أو ل يكون‪ ،‬وقال الّ تعالى‪{ :‬وَال َقوَاعِ ُد مِن النّسَا ِء اللّتى َ‬
‫ت ِبزِينَةٍ} [النور‪ ،]60 :‬والرجاء ضِدُ‬
‫غ ْي َر ُمتَبرّجَا ٍ‬
‫ضعْنَ ِثيَا َبهُنّ َ‬
‫ن َي َ‬
‫جنَاحٌ أَ ْ‬
‫عَل ْيهِنّ ُ‬
‫ِنكَاحاً َفَل ْيسَ َ‬
‫اليأسِ‪ ،‬والقاعد ُة من النساءِ قد يمكن أن ُت َزوّجَ‪ ،‬غير أن الَغلب عند الناس فيها أن الزواج ل‬
‫ن َبعْ ِدمَا َقنَطُوا} [الشورى‪ ]28 :‬والقُنوط‬
‫ل ال َغ ْيثَ مِ ْ‬
‫يرغبون فيها‪ .‬وقال الّ تعالى‪{ :‬وَ ُه َو الّذى ُي َنزّ ُ‬
‫خَلهُم حين تطاول إبطاؤه‪ .‬وقال‬
‫شبْ ُه اليأسِ‪ ،‬وليس يعلمون يقينًا أن المط َر ل يكون‪ ،‬ولكن اليأس دَ َ‬
‫ِ‬
‫صرُنا} [يوسف‪ ،]110 :‬فلما ذكرَ‬
‫ظنّو َأ ّنهُمْ قَد كُ ِذبُوا جَاءَهُمْ َن ْ‬
‫س الرّسُلُ وَ َ‬
‫س َتيَْأ َ‬
‫حتّى إذَا ا ْ‬
‫الّ تعالى‪َ {:‬‬
‫س من غير يقين استيقنوه‪ ،‬لن‬
‫ل هم الذين استيأسوا كان فيه دليل على أنهم دخل قلوبَهم يأ ٌ‬
‫أن الرس َ‬
‫ن مِنْ‬
‫ن ُي ُؤمِ َ‬
‫ح أنّهُ لَ ْ‬
‫حىَ إلى نُو ٍ‬
‫اليقين فى ذلك إنما يأتيهم من عند الّ‪ ،‬كما قال فى قصة نوح‪َ { :‬وأُو ِ‬
‫ل َت ْب َت ِئسْ ِبمَا كَانُوا يَ ْف َعلُون} [هود‪ ]36 :‬وقال الّ تعالى فى قصة إخوة‬
‫ل مَنْ قَ ْد آمَنَ فَ َ‬
‫َق ْو ِمكَ إ ّ‬
‫جيّاً} [يوسف‪ ،]80 :‬فدل الظاهر على أن يَأسَهم ليس بيقين‪،‬‬
‫خَلصُوا نَ ِ‬
‫س َتيْأَسُوا ِمنْهُ َ‬
‫يوسف‪َ { :‬فَلمّا ا ْ‬
‫وقد حَدّثنا ابن أبى ُأ َويْس‪ ،‬حدثنا مالك‪ ،‬عن هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬أن عمر بن الخطاب رضى‬
‫الّ عنه كان يقول فى خطبته‪َ :‬ت ْعَلمُنّ أيّها الناس‪ :‬أن الطمع فَقْر‪ ،‬وأن اليأسَ غِنى‪ ،‬وأن المرء إذا‬
‫يئس من شىء‪ ،‬استغنى عنه‪ .‬فجعل عمر اليأس بإزاء الطمع‪ ،‬وسمعت أحمد بن المعدّل يُنشد شعراً‬
‫لرجل من القدماء يصف ناقة‪:‬‬
‫ظبْى فى ال ِكنَاسِ‬
‫صيّرتُها كَال ّ‬
‫َ‬ ‫ن َتلْدِ َبنِى ال َعبّاس‬
‫صَ ْفرَا ُء مِ ْ‬
‫طمَ ٍع وَياسِ‬
‫س َبيْـنَ َ‬
‫فَالنّ ْف ُ‬ ‫لبْسَاس‬
‫سمَ َع بِا ِ‬
‫تَ ِدرّ أن تَ ْ‬
‫فجعل الطمع بإزاء اليأس‪.‬‬
‫وحدثنا سليمان بن حرب‪ ،‬حدثنا جرير بن حازم‪ ،‬عن العمش‪ ،‬عن سلّم بن شُرحبيل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬علّمنا شيئاً‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫حبّةَ بن خالد‪ ،‬وسواء بن خالد‪ ،‬أنهما أتيا النب ّ‬
‫سمع َ‬

‫‪384‬‬
‫ش َرةٌ ثُ ّم َي ْرزُقُهُ الّ‬
‫عَليْهِ قِ ْ‬
‫ح َم َر َليْسَ َ‬
‫عبْ ٍد يُولَ ُد أَ ْ‬
‫سكُما فَإنّ كُلّ َ‬
‫ت ُرؤُو ُ‬
‫خ ْي ِر مَا َت َهزْ َه َز ْ‬
‫((لَ َتيْأَسا مِنَ ال َ‬
‫ن عبد الملك لبى حازم‪ :‬يا أبا‬
‫و ُيعْطيه))‪.‬وحدثنا على بن عبد الّ‪ ،‬حدثنا ابنُ عُيينة‪ ،‬قال‪ :‬قال هشا ُم ب ُ‬
‫حازِم‪ ،‬ما مالُك‪ .‬قال‪ :‬خيرُ مالٍ ثقتى بالّ‪ ،‬ويأسى مما فى أيدى الناس‪ .‬قال‪ :‬وهذا أكثر من أن‬
‫يحصى‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫ض وإن بلغت‪ ،‬وفيهن‬
‫ن مَنْ ل تحي ُ‬
‫قال شيخنا‪ :‬وليس للنساء فى ذلك عادة مستمرة‪ ،‬بل فيه ّ‬
‫ض فى السنة مرةً‪ ،‬ولهذا اتفق العلماء على‬
‫من تَحيضُ حيضًا يسيراً يتباعد ما بين أقرائها حتى تحي َ‬
‫ن ُربُع‬
‫حضْ َ‬
‫حضْنَ كل شهر مرةً‪ ،‬ويَ ِ‬
‫أن أكثر الطهر بين الحيضتين ل حدّ له‪ ،‬وغالبُ النساء يَ ِ‬
‫الشهر‪ ،‬ويكون طهرهُنّ ثلثةَ أرباعه‪ .‬ومنهن من تطهر الشهور المتعددة‪ ،‬لقلِة رطوبتها‪ ،‬ومنهنّ‬
‫مَنْ يسرع إليها الجفاف‪ ،‬فينقطع حيضها‪ ،‬وتيأس منه وإن كان لها دون الخمسين‪ ،‬بل والربعين‪.‬‬
‫سنّةِ‬
‫ومنهن من ل يسرع إليها الجفاف‪ ،‬فتجاوز الخمسين وهى تحيض‪ .‬قال‪ :‬وليس فى الكتاب ول ال ّ‬
‫تحديدُ اليأس بوقت‪ ،‬ولو كان المراد باليسة من المحيض مَنْ لها خمسون سنة أو ستون سنة أو‬
‫غير ذلك‪ ،‬لقيل‪ :‬واللئى يبلغن من السن كذا وكذا‪ ،‬ولم يقل‪ :‬يئسن‪ .‬وأيضاً‪ ،‬فقد ثبت عن الصحابة‬
‫ل عنهم أنهم جعلوا من ارتفع حيضُها قبل ذلك يائسةً‪ ،‬كما تقدم‪ .‬والوجود مختلف فى وقت‬
‫رضى ا ّ‬
‫ن غير متفِق‪ ،‬وأيضاً فإنه سبحانه قال‪{ :‬واللّئى َيئِسْنَ} [الطلق‪ ،]4 :‬ولو كان له وقت‬
‫سهِ ّ‬
‫يأ ِ‬
‫محدود‪ ،‬لكانت المرأة وغيرها سواء فى معرفة يأسِهنّ‪ ،‬وهو سبحانه قد خص النساء بأنهن اللئى‬
‫حضْنَ} [الطلق‪ ]4 :‬فالتى تحيض‪ ،‬هى التى َتيَْأسُ‪ ،‬وهذا‬
‫يئسن‪ ،‬كما خصهن بقوله‪{ :‬واللّئى لَمْ َي ِ‬
‫بخلف الرتياب‪ ،‬فإنه سبحانه قال‪{ :‬إن ا ْر َت ْبتُم} [الطلق‪ ،]4 :‬ولم يقل‪ :‬إن ارتبن‪ ،‬أى‪ :‬إن ارتبتم‬
‫فى حُكمهنّ‪ ،‬وشككتم فيه‪ ،‬فهو هذا ل هذا الذى عليه جماعة أهل التفسير‪ ،‬كما روى ابن أبى حاتم‬
‫فى تفسيره‪ ،‬من حديث جرير‪ ،‬وموسى بن أعْين‪ ،‬واللفظ له‪ ،‬عن مطّرف بن طريف‪ ،‬عن عمرو بن‬
‫ى ابن كعب‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬إن ناسًا بالمدينة يقولون فى عِدَد النساء ما لم‬
‫سالم‪ ،‬عن أُب ّ‬
‫يَ ْذكُر الّ فى القرآن الصغا َر والكبارَ وأولتِ الحمال‪ ،‬فأنزل الّ سبحانه فى هذه السورة‪{ :‬واللّئى‬
‫حمَالِ‬
‫لتُ ال ْ‬
‫ن وأُو َ‬
‫حضْ َ‬
‫ش ُهرٍ وَاللّئى لَ ْم يَ ِ‬
‫لثَ ُة أَ ْ‬
‫ن ثَ َ‬
‫ن نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُمْ َفعِ ّد ُتهُ ّ‬
‫ض مِ ْ‬
‫َيئِسْنَ مِنَ المحِي ِ‬
‫ح ْمَلهُنّ} [الطلق‪ ]4 :‬فأجَلُ إحداهن أن تضعَ حملها‪ ،‬فإذا وضعتْ‪ ،‬فقد قضتْ‬
‫ضعْنَ َ‬
‫ن َي َ‬
‫جُلهُنّ أَ ْ‬
‫أَ َ‬
‫ل المَدينَةِ َلمّا نَزلت هذه الية التى فى البقرة‬
‫ن أه ِ‬
‫ع ّدتَها‪ .‬ولفظ جرير‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬إن ناسًا مِ ْ‬
‫ن فى القرآنِ‪ ،‬الصغارُ والكبا ُر التى قد‬
‫في عِدّة النساء‪ ،‬قالوا‪ :‬لقد بقى من عِدَدِ النساء عِدَ ٌد لم يُ ْذ َكرْ َ‬
‫ن مِنَ‬
‫انقطع عنها الحيض‪ ،‬وذواتُ الحمل‪ ،‬قال‪ :‬فأُنزلت التى فى النساء القُصرى‪{ ،‬واللّئى َيئِسْ َ‬

‫‪385‬‬
‫ن نِسا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُم} [الطلق‪ ]4 :‬ثم روى عن سعيد بن جبير فى قوله‪{ :‬واللّئى َيئِسْنَ‬
‫ض مِ ْ‬
‫المحِي ِ‬
‫ض مِنْ نِسا ِئكُم} [الطلق‪ ]4 :‬يعنى اليس َة العجو َز التى ل تحيض‪ ،‬أو المرأة التى َقعَ َدتْ‬
‫مِنَ المحِي ِ‬
‫عن الحيضة‪ ،‬فليست هذه من القُروء فى شىء‪ .‬وفى قوله‪{ :‬إن ا ْر َتبْتُمُ} [الطلق‪ ]4 :‬فى الية يعنى‬
‫إن شككتم‪ ،‬فع ّدتُهن ثلث ُة أشهر‪ ،‬وعن مجاهد‪{ :‬إن ا ْر َت ْبتُم} [الطلق‪ ]4 :‬لم تعلموا عِدّة التى َقعَ َدتْ‬
‫عن الحيض‪ ،‬أو التى لم َتحِض‪ ،‬فعدتُهن ثلثةُ أشهر‪ .‬فقوله تعالى‪{ :‬إن ا ْر َتبْتم} [الطلق‪،]4 :‬‬
‫ح ْك َمهُنّ‪ ،‬وشككتم فيه‪ ،‬فقد بيناه لكم‪ ،‬فهو بيان لنعمته على‬
‫يعنى‪ :‬إن سألتم عن حكمهن‪ ،‬ولم تعلموا ُ‬
‫من طلب عليه ذلك‪ ،‬ليزول ما عنده من الشك وال ّريْب‪ ،‬بخلف ال ُم ْعرِض عن طلب العلم‪ .‬وأيضاً‪،‬‬
‫فإن النساء ل يستوين فى ابتداء الحيض‪ ،‬بل منهن من تَحيض لعشر أو اثنتى عشرة‪ ،‬أو خمس‬
‫عشرة‪ ،‬أو أكثر من ذلك‪ ،‬فكذلك ل يستوين فى آخر سِنّ الحيض الذى هو سِنّ اليأسِ‪ ،‬والوجود‬
‫حوْل كالتى‬
‫شاهد بذلك‪ .‬وأيضاً‪ ،‬فإنهم تنازعوا فيمن بلغت ولم تَحِضْ‪ ،‬هل تعتد بثلثة أشهر‪ ،‬أو بال َ‬
‫ارتَفَع حيضُها ل تدرى ما رَ َفعَه؟ وفيه روايتان عن أحمد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والجمهور على أنها تعتد بثلثة أشهر‪ ،‬ولم يجعلوا للصّغر الموجب للعتداد بها حداً‪،‬‬
‫فكذلك يجب أن ل يكون لل ِكبَ ِر الموجِب للعتداد بالشهر حداً‪ ،‬وهو ظاهر‪ ،‬ولّ الحمد‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل عليه عمومُ‬
‫وأما عِدةُ الوفاة‪ ،‬فتجبُ بالموت‪ ،‬سواءٌ دخل بِها‪ ،‬أو لم يدخُل اتفاقاً‪ ،‬كما د ّ‬
‫ل الدخول‪ ،‬وعلى أن الصّداقَ يست ِقرّ إذا كان مسمّى‪،‬‬
‫القرآن والسنة‪ ،‬واتفقوا على أنهما يتوارثان قب َ‬
‫لن الموتَ لما كان انتهاء العقدِ استقّرت به الحكام فتوارثا‪ ،‬واستقر المَهر‪ ،‬ووجبت العِدة‪.‬‬
‫واختلفوا فى مسألتين إحداهما‪ :‬وجوبُ مه ِر المثل إذا لم يكن مسمّى‪ ،‬فأوجبه أحمدُ‬
‫وأبو حنيفة‪ ،‬والشافعى فى أحد قوليه‪ ،‬ولم يُوجبه مالك والشافعى فى القول الخر‪ ،‬وقضى بوجوبه‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كما جاء فى السنة الصحيحة الصريح ِة مِن حديث َب ْروَع بنت‬
‫رسولُ ا ّ‬
‫ج ِرىَ مجرى الدّخولِ‬
‫واشق وقد تقدم‪ .‬ولو لم ترد به السنةُ‪ ،‬لكان هو محض القياس‪ ،‬لن الموتَ ُأ ْ‬
‫فى تقرير المسمى‪ ،‬ووجوبِ العدة‪.‬‬
‫والمسألة الثانية‪ :‬هل يثبت تحري ُم الربيبة بموتِ الم‪ ،‬كما يثبت بالدخول بها‬
‫وفيه قولن للصحابة‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد‪.‬‬
‫والمقصود‪ :‬أن العدة فيه ليست للعلم ببراءة الرحم‪ ،‬فإنها تجب قبلَ الدخولِ‪ ،‬بخلف عدة‬
‫الطلق‪.‬‬

‫‪386‬‬
‫وقد اضطرب الناسُ فى حكمة عدة الوفاة وغيرها‪ ،‬فقيل‪ :‬هى لبراءة الرحم‪ ،‬وأُورِدَ‬
‫على هذا القول وجوه كثيرة‪.‬‬
‫منها‪ :‬وجوبُها قبل الدخول فى الوفاة‪ ،‬ومنها‪ :‬أنها ثلث ُة قروء‪ ،‬وبراءةُ الرحم يكفى فيها‬
‫حيضة‪ ،‬كما فى المستبرأة‪ ،‬ومنها‪ :‬وجوب ثلثة أشهر فى حق من يُقطع ببراءة رحمها لصغرها أو‬
‫لكبرها‪.‬‬
‫ومن الناس من يقول‪ :‬هو تعبد ل يُعقل معناه‪ ،‬وهذا فاسد لوجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه ليس فى الشريعة حكم إلّ وله حِكمة وإن لم يعقلها كثيرٌ من الناس أو أكثرهم‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أن العدد ليست من العبادات المحضة‪ ،‬بل فيها من المصالح رعاية حق الزوجين‬
‫والولد والناكح‪.‬‬
‫قال شيخنا‪ :‬والصواب أن يُقال‪ :‬أما عِدة الوفاة فهى حرم لنقضاء النكاح‪ ،‬ورعاية‬
‫لحق الزوج‪ ،‬ولهذا تَح ّد المتوفى عنها فى عدة الوفاة رعاية لحق الزوج‪ ،‬فجعلت العِدة حريماً لحق‬
‫هذا العقد الذى له خطر وشأن‪ ،‬فيحصُل بهذه فصل بين نكاح الول ونكاح الثانى‪ ،‬ول يتصل‬
‫ل صلى ال عليه وسلم لما عظم حقه‪ ،‬حرم نساؤُه بعده‪ ،‬وبهذا‬
‫الناكحان‪ ،‬أل ترى أن رسولَ ا ّ‬
‫اختص الرسول‪ ،‬لن أزواجه فى الدنيا هنّ أزواجُه فى الخرة بخلف غيره‪ ،‬فإنه لو حرم على‬
‫المرأة أن تتزوج بغيرِ زوجها‪ ،‬تضررت المتوفى عنها‪ ،‬وربما كان الثانى خيراً لها من الول‪.‬‬
‫ولكن لو تأيمت على أولد الول‪ ،‬لكانت محمودة على ذلك‪ ،‬مستحبًا لها‪ ،‬وفى الحديث ((أنا وا ْمرَأةٌ‬
‫صبٍ‬
‫ت َم ْن ِ‬
‫جهَا ذَا ُ‬
‫سَ ْفعَاءُ الخ ّديْنِ‪ ،‬كهَا َتيْنِ َيوْ َم ال ِقيَامَةِ‪ ،‬وأوما بالوسطى والسّبابة‪ ،‬ا ْمرَأةٌ آمت مِنْ َزوْ ِ‬
‫حتّى بَانُوا أو ماتُوا))‪.‬‬
‫سهَا عَلى َيتَامى َلهَا َ‬
‫ت نَفْ َ‬
‫س ْ‬
‫حبَ َ‬
‫جمَالٍ‪ ،‬و َ‬
‫وَ‬
‫ل مِن مدة تتر ّبصُها‪ ،‬وقد كانت فى الجاهلية‬
‫وإذا كان المقتضى لتحريمها قائماً‪ ،‬فل أق ّ‬
‫تتربّصُ سنة‪ ،‬فخففها الّ سبحانه بأربعةِ أشهر وعشر‪ ،‬وقيل لسعيد ابن المسيب‪ :‬ما بال العشر؟‬
‫قال‪ :‬فيها يُنفخ الروح‪ ،‬فيحصل بهذه المدة براءةَ الرحم حيث يحتاج إليه‪ ،‬وقضا ُء حق الزوج إذا لم‬
‫يحتج إلى ذلك‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما عِدة الطلق‪ ،‬فهى التى أشكلت‪ ،‬فإنه ل يُمكن تعليلُها بذلك‪ ،‬لنها إنما تجب بعد‬
‫صفُ فيه المسمى‪ ،‬ويسقط فيه مهرُ المثل‪.‬‬
‫المسيس‪ ،‬ولن الطلقَ قطع للنكاح‪ ،‬ولهذا يتن ّ‬

‫‪387‬‬
‫ل الموفق للصواب عِدة الطلق وجبت ليتمكن الزوجُ فيها من الرجعة‪ ،‬ففيها‬
‫فيقال‪ _:‬وا ّ‬
‫ق للزوج‪ ،‬وحق لّ‪ ،‬وحق للولد‪ ،‬وحق للناكح الثانى‪ .‬فحق الزوج‪ِ ،‬ل َي َت َمكّن من الرجعة فى العدة‪،‬‬
‫حّ‬
‫ص عليه سبحانه‪ ،‬وهو منصوصُ أحمد‪ ،‬ومذهب أبى‬
‫وحق الِّ‪ ،‬لوجوب ملزمتها المنزل‪ ،‬كما ن ّ‬
‫حنيفة‪ .‬وحق الولد‪ ،‬لئل َيضِيعَ نسبه‪ ،‬ول يُدرى لى الواطئين‪ .‬وحقّ المرأة‪ ،‬لما لها من النفقة زمن‬
‫العدة لكونها زوجة َت ِرثُ وتورث‪ ،‬ويدل على أن العدة حق للزوج قوله تعالى‪{ :‬يا َأيّها الّذِينَ آ َمنُوا‬
‫عَل ْيهِنّ مِنْ عِ ّد ٍة َتعْتدّو َنهَا} [الحزاب‪]49 :‬‬
‫ل أَنْ َتمَسّوهُنّ َفمَالكُمْ َ‬
‫طلّ ُقتُموهُنّ َقبْ ِ‬
‫ت ثُمّ َ‬
‫حتُم المؤ ِمنَا ِ‬
‫إِذَا نكَ ْ‬
‫فقوله‪ :‬فما لكم عليهن من عدة‪ ،‬دليل على أن العدة للرجل على المرأة‪ ،‬وأيضاً فإنه سبحانه قال‪:‬‬
‫ق بردّها فى العدة‪ ،‬وهذا‬
‫ق ِبرَدّهِنّ فى ذَلك} [البقرة‪ ]228 :‬فجعل الزوج أح ّ‬
‫ن أَحَ ّ‬
‫{ َو ُبعُوَل ُتهُ ّ‬
‫ظ َر فى أمره‪ :‬هل‬
‫ص لِينْ ُ‬
‫حق له‪ .‬فإذا كانت العِدة ثلثَة قُروء‪ ،‬أو ثلثة أشهر‪ ،‬طالت مد ُة الترب ِ‬
‫ص أربع ِة أشهر لينظر فى أمره‪ :‬هل يُمسك‬
‫يُمسكها‪ ،‬أو يُسرحها كما جعل سبحانه لل ُمؤْلى تربّ َ‬
‫ويَفىء‪ ،‬أو يُطلق‪ ،‬وكان تخييرُ المطلق كتخيير المؤلى‪ ،‬لكن المُؤلى جعل له أربعة أشهر‪ ،‬كما جعل‬
‫مدة التسيير أربعةَ أشهر‪ ،‬لينظروا فى أمرهم‪.‬‬
‫ن أَنْ‬
‫ل َت ْعضُلُوهُ ّ‬
‫جَلهُنّ فَ َ‬
‫طلّ ْقتُم النّسَاءَ َف َبَلغْنَ أ َ‬
‫ومما يُبين ذِلكَ‪ ،‬أنه سبحانه قال‪{ :‬وإذا َ‬
‫ضوْا َب ْي َنهُم بالم ْعرُوفِ} [البقرة‪ ]232 :‬وبلوغُ الجل‪ :‬هو الوصولُ‬
‫ن إذَا َترَا َ‬
‫جهُ ّ‬
‫ن أ ْزوَا َ‬
‫َي ْنكِحْ َ‬
‫سكُوهُنّ‬
‫جَلهُنّ فَأمْ ِ‬
‫والنتهاء إليه‪ ،‬وبلوغُ الجل فى هذه الية مجاوزتُه‪ ،‬وفى قوله‪{ :‬فإذا بَلغْنَ أَ َ‬
‫ِب َم ْعرُوفٍ} [الطلق‪ ،]2 :‬مقاربتُه ومشارفته‪ ،‬ثم فيه قولن‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنه ح ّد مِن الزمان‪ ،‬وهو‬
‫الطعنُ فى الحيضة الثالثة‪ ،‬أو انقطاع الدم منها‪ ،‬أو من الرابعة‪ ،‬وعلى هذا‪ ،‬فل يكون مقدوراً لها‪،‬‬
‫ل للزوج‬
‫وقيل‪ :‬بل هو فعلُها‪ ،‬وهو الغتسالُ كما قاله جمهو ُر الصحابة‪ ،‬وهذا كما أنه بالغتسال يَحِ ّ‬
‫وطوءها‪ ،‬ويحل لها أن تمكنه من نفسها‪.‬‬
‫فالغتسالُ عندهم شرط فى النكاح الذى هو العقد‪ ،‬وفى النكاح الذى هو‬
‫الوطء‪.‬‬
‫وللناس فى ذلك أربعةُ أقوال‪:‬‬
‫ن يقولُ مِن أهل الظاهر‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه ليس شرطاً‪ ،‬ل فى هذا‪ ،‬ول فى هذا‪ ،‬كما يقولُ ُه مَ ْ‬
‫والثانى‪ :‬أنه شرطٌ فيهما‪ ،‬كما قاله أحمد‪ ،‬وجمهورُ الصحابة كما تقدّم حكايته عنهم‪ .‬والثالث‪:‬‬
‫أنه شرطٌ فى نكاح الوطء‪ ،‬ل فى نكاح العقد‪ ،‬كما قاله مالك والشافعى‪ .‬والرابع‪ :‬أنه شرط فيهما‪ ،‬أو‬
‫ت صلة‪ ،‬وانقطاعه لكثر‪ ،‬كما يقوله أبو حنيفة فإذا‬
‫ما يقومُ مقامه‪ ،‬وهو الحكمُ بالطهر بمضى وق ِ‬

‫‪388‬‬
‫ارتجعها قبلَ غسلها‪ ،‬كان غسلها‪ ،‬لجل وطئه لها‪ ،‬وإلّ كان لجل حِلها لغيره‪ ،‬وبالغتسال يتحقق‬
‫ط ّهرْنَ ف ْأتُوهُنّ مِنْ‬
‫ط ُهرْنَ فَإذا تَ َ‬
‫حتّى يَ ْ‬
‫ل تَ ْق َربُوهُنّ َ‬
‫كمالُ الحيض وتمامُه‪ ،‬كما قال الّ تعالى‪{ :‬وَ َ‬
‫ث َأمَركُم الّ} [البقرة‪ ]222 :‬والّ سبحانه أمرها أن تتربّص ثلثَة قُروء‪ ،‬فإذا مضت الثلثَةُ فقد‬
‫ح ْي ُ‬
‫َ‬
‫بلغت أجلها‪.‬‬
‫ج عند بلوغ‬
‫وهو سبحانه لم يقل‪ :‬إنها عقيب القرءين َتبِينُ من الزوج‪ ،‬خيّر الزو َ‬
‫ل عنهم‪ ،‬أنه عند انقضاء‬
‫الجل بين المساك والتسريح‪ ،‬فظاه ُر القرآن كما فهمه الصحابة رضى ا ّ‬
‫ج بين المساك بالمعروف‪ ،‬أو التسريح بالحسان‪ ،‬وعلى هذا فيكون بلوغ‬
‫القروء الثلثة يُخيّر الزو ُ‬
‫الجل فى القرآن واحدًا ل يكون قسمين‪ ،‬بل يكون بإستيفاء المدة واستكمالها‪ ،‬وهذا كقوله تعالى‬
‫جَلهُنّ فَلَ‬
‫ن أَ َ‬
‫ت َلنَا} [النعام‪ ]128 :‬وقوله‪{ :‬فَإذَا َبَلغْ َ‬
‫ج ْل َ‬
‫جلَنا الّذى أَ ّ‬
‫إخباراً عن أهل النار‪َ {:‬و َبَلغْنَا أَ َ‬
‫ن بِالم ْعرُوفِ} [البقرة‪ ]234 :‬وإنما حمل من قال‪ :‬إن بلوغ الجل‬
‫عَل ْيكُم َفيَما َف َعلْنَ فى َأنْفُسِه ّ‬
‫جنَاحَ َ‬
‫ُ‬
‫هو مقارنته أنها بع ْد أن تَحِلّ للخطاب ل يبقى الزوجُ أحقّ برجعتها‪ ،‬وإنما يكون أحقّ بها ما لم تحل‬
‫ل لِغيره أن يتزوج بها صار هو خاطباً من الخطاب‪ ،‬ومنشأ هذا ظن أنها ببلوغ الجل‬
‫لغيره‪ ،‬فإذا حَ ّ‬
‫لثَةَ قُروء‪ ،‬وذكر أنها إذا‬
‫ل على هذا‪ ،‬بل القرآن جعل عليها أن تتربص ث َ‬
‫ل لِغيره‪ ،‬والقرآن لم يد ّ‬
‫تَحِ ّ‬
‫بلغت أجلها‪ ،‬فإما أن تُمسك بمعروف‪ ،‬وإما أن تُسرح بإحسان‪ .‬وقد ذكر سبحانه هذا المساك‬
‫سرِيح بِإحْسانٍ} [البقرة‪:‬‬
‫ك ِب َم ْعرُوفٍ َأ ْوتَ ْ‬
‫ق َم ّرتَانِ فَإمْسَا ٌ‬
‫أوالتسريح عقيبَ الطلق‪،‬فقال{الطّل ُ‬
‫جهُنّ} [البقرة‪:‬‬
‫ن َأ ْزوَا َ‬
‫ن أَنْ َي ْنكِحْ َ‬
‫ضلُوهُ ّ‬
‫ل َت ْع ُ‬
‫جَلهُنّ فَ َ‬
‫طلّ ْقتُمُ النّساءَ َف َبَلغْنَ أَ َ‬
‫‪ ،]229‬ثم قال‪{ :‬وإذَا َ‬
‫‪ ،]232‬وهذا هو تزوّجُها بزوجها الول المطلق الذى كان أحقّ بها‪ ،‬فالنهى عن عضلهن مؤكّدٌ‬
‫لحق الزوج‪ ،‬وليس فى القرآن أنها بعد بلوغ الجل تَحِلّ للخُطاب‪ ،‬بل فيه أنه فى هذه الحال‪ ،‬إما أن‬
‫يُمسك بمعروف‪ ،‬أو يُسرح بإحسان‪ ،‬فإن سرح بإحسان‪ ،‬حلت حينئذ للخُطاب‪ ،‬وعلى هذا‪ ،‬فدِللة‬
‫القرآن بينة أنها إذا بلغت أجلها وهو انقضاء ثلثة قروء بإنقطاع الدم‪ ،‬فإِما أن يُمسكها قبل أن‬
‫تغتسِل‪ ،‬فتغتسِل عنده وإما أن يُسرحها فتغتسل وتنكِحَ من شاءت‪ ،‬وبهذا يُعرف قدرُ فهم الصحابة‬
‫ل عنهم‪ ،‬وأن مَنْ بعدهم إنما يكون غايةُ اجتهاده أن يفهم ما فهموه‪ ،‬ويعرف ما قالوه‪.‬فإن‬
‫رضى ا ّ‬
‫جعَها فى جميع هذه المدة ما لم تغتسِلْ‪ ،‬فَلم َقيّد التخيير ببلوغ الجل؟ قيل‪:‬‬
‫قيل‪ :‬فإذا كان له أن يرت ِ‬
‫ق الزوج‪ ،‬والتربص‪ :‬النتظار‪ ،‬وكانت منتظرة‪،‬‬
‫ليتبين أنها فى مدة العِدة كانت متربصة لجل ح ّ‬
‫ن الفيئة‬
‫خيّر المُؤلى بي َ‬
‫هل يُمسكها أو يُسرحها؟ وهذا التخييرُ ثابت له مِن أول المدة إلى آخرها‪ ،‬كما ُ‬

‫‪389‬‬
‫وعدم الطلق‪ ،‬وهنا لما خيّره عند بلوغ الجل كان تخييرُه قبله أولى وأحرى‪ ،‬لكن التسريح‬
‫بإحسان إنما يُمكن إذا بلغت الجل‪ ،‬وقبل ذلك هى فى العدة‪.‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إن تسريحَها بإحسان مؤثرٌ فيها حين تنقضى العدة‪ ،‬ولكن ظاهرُ‬
‫القرآن يدل على خلف ذلك‪ ،‬فإنه سبحانه جعل التسريحَ بإحسان عند بلوغ الجل‪ ،‬ومعلومٌ أن هذا‬
‫ت من أول المدة‪ ،‬فالصوابُ أن التسريحَ إرسالُها إلى أهلها بعد بلوغ الجل‪ ،‬ورفع يده‬
‫التركَ ثاب ٌ‬
‫عنها‪ ،‬فإنه كان يمِلكُ حبسها مد َة العِدة بلغت أجلها فحينئذ إن أمسكها كان له حبسُها‪ ،‬وإن لم يُمسكها‬
‫علَيهنّ‬
‫كان عليه أن يُسرحها بإحسان‪ ،‬ويدل على هذا قولُه تعالى فى المطلقة قبل المسيس‪َ { :‬فمَا َلكُمْ َ‬
‫سرّحُوهُنّ سَراحاً جَميلً} [الحزاب‪ ،]49 :‬فأمر بالسراح الجميل ول‬
‫مِنْ عِ ّد ٍة َت ْعتَدّونَها َف َم ّتعُوهُنّ و َ‬
‫عدة‪ ،‬فَعلِمَ أن تخلية سبيلها إرسالُها‪ ،‬كما يقال‪ :‬سرّح الماء والناقة‪ :‬إذا مكنها مِن الذهاب‪ ،‬وبهذا‬
‫الطلق والسراح يكونُ قد تم تطليقُها وتخليتُها‪ ،‬وقبل ذلك لم يكن الطلق تاماً‪ ،‬وقبل ذلك كان له‬
‫أن يُمسكها وأن يُسرحها‪ ،‬وكان مع كونه مطلقاً‪ ،‬قد جعل أحقّ بها مِن غيره مدة التربص‪ ،‬وجعل‬
‫التربص ثلثة قروء لجله‪ ،‬ويؤيّد هذا أشياء‪.‬‬
‫أحدُها‪ :‬أن الشارع جعل عدة المختلِعة حيضة‪ ،‬كما ثبتت به السنة‪ ،‬وأقرّ به عثمان بن عفان‪،‬‬
‫وابن عباس‪ ،‬وابن عمر رضى الّ عنهم‪ ،‬وحكاه أبو جعفر النخاس فى ((ناسخه ومنسوخه)) إجماعَ‬
‫الصحابة‪ ،‬وهو مذهب إسحاق‪ ،‬وأحمد ابن حنبل فى أصح الروايتين عنه دليلً‪ ،‬كما سيأتى تقريرُ‬
‫المسألة عن قرب إن شاء الّ تعالى‪ .‬فلما لم يكن على المختلعة رجعة‪ ،‬لم يكن عليها عِدة‪ ،‬بل‬
‫استبراء بحيضة‪ ،‬لنها لما افتدت منه‪ ،‬وبانت‪ ،‬ملكت نفسَها‪ ،‬فلم يكن أحقّ بإمساكها‪ ،‬فل معنى‬
‫لتطويل العدة عليها‪ ،‬بل المقصودُ العلم ببراءة رحمها‪ ،‬فيكفى مجرد الستبراء‪.‬والثانى‪ :‬أن‬
‫المهاجرة مِن دار الحرب قد جاءت السنة بأنها إنما تُستبرأ بحيضة‪ ،‬ثم تزوج كما سيأتى‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن الّ سبحانه لم يشرعْ لها طلقاً بائناً بعد الدخول إل الثالثة‪ ،‬وكل طلق فى القرآن‬
‫سواها فرجعى‪ ،‬وهو سبحانه إنما ذكر القروء الثلثة فى هذا الطلق الذى شرعه لهذه الحكمة‪ .‬وأما‬
‫المفتدية‪ ،‬فليس افتداؤها طلقاً‪ ،‬بل خلعًا غير محسوب من الثلث‪ ،‬والمشروع فيه حيضة‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ض عليكم بصورتين‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهذا ينتقِ ُ‬ ‫@‬
‫إحداهما‪ :‬بمن استوفت عدد طلقها‪ ،‬فإنها تعتد ثلثةَ قروء‪ ،‬ول يتمكن زوجُها مِن رجعتها‪.‬‬

‫‪390‬‬
‫الثانية‪ :‬بالمخيرة إذا عتقت تحت حر أو عبد‪ ،‬فإن عِدتها ثلثةُ قروء بالسنة‪ ،‬كما فى السنن‬
‫ل عنها‪ُ :‬أ ِمرَت بريرة أن تعتدّ عِدة الحرة‪.‬‬
‫من حديث عائشة رضى ا ّ‬
‫وفى سنن ابن ماجه‪ُ :‬أ ِمرَت أن تعت ّد ثلث حِيضٍ ول رجعة لزوجها عليها‪.‬‬
‫ب فيه التربصُ لجل رجع ِة الزوج‪ ،‬بل‬
‫فالجواب‪ :‬أن الطلق المحرّم للزوجة ل يج ُ‬
‫جعِلَ حريماً للنكاح‪ ،‬وعقوبةً للزوج بتطويل مدة تحريمها عليه‪ ،‬فإنه لو سوغ لها أن تتزوج بعد‬
‫ُ‬
‫مجرد الستبراء بحيضة‪ ،‬لمكن أن يتزوّجها الثانى ويُطلقها بسرعتة‪ ،‬إما على قصد التحليل أو‬
‫بدونه‪ ،‬فكان تيسير عودها إلى المطلق‪ ،‬والشارع حرمها عليه بعد الثالثة عقوبة له‪ ،‬لن الطلق‬
‫ح مِنه قدر الحاجة‪ ،‬وهو الثلثُ‪ ،‬وحرّم المرأة بعد الثالثة حتى‬
‫الذى أَبغضُ الحلل إلى الّ‪ ،‬إنما أبا َ‬
‫تنكِحَ زوجاً غيره‪ ،‬وكان مِن تمام الحكمة أنها ل تنكِحُ حتى تتربص ثلثة قروء‪ ،‬وهذا ل ضررَ‬
‫عليها به‪ ،‬فإنها فى كل مرة من الطلق ل تنكح حتى تتربّص ثلثة قروء‪ ،‬فكان التربصُ هناك‬
‫نظراً فى مصلحته‪ ،‬لما لم يُوقع الثلث المحرمة‪ ،‬وهنا التربصُ بالثلث مِن تمام عقوبته‪ ،‬فإنه‬
‫عُو ِقبَ بثلثة أشياء‪ :‬أن حرمت عليه حبيبتُه‪ ،‬وجعل تربصها ثلثةَ قروء‪ ،‬ولم يجز أن تعو َد إليه‬
‫حتى يحظى بها غيرُه حظو َة الزوج الراغب بزوجته المرغوب فيها‪ ،‬وفى كل مِن ذلك عقوبة‬
‫علِ َم أنه بعد الثالثة ل تحِل له إل بعد تربص‪،‬‬
‫ل المكروه له‪ ،‬فإذا ُ‬
‫مؤلمة على إيقاع البغيض إلى ا ّ‬
‫علِ َم أن‬
‫وتُزوج بزوج آخر‪ ،‬وأن المر بيد ذلك الزوج‪ ،‬ول بد أن تَذُوقَ عُسيلته‪ ،‬ويذوقَ عُسيلتها‪ُ ،‬‬
‫المقصو َد أن ييأسَ منها‪ ،‬فل تعود إليه إل بإختيارها ل بإختياره‪ ،‬ومعلومٌ أن الزوجَ الثانى إذا كان‬
‫ح الذى شرعه الّ لعباده‪ ،‬وجعله سبباً لمصالحهم فى المعاش والمعاد‪،‬‬
‫قد نكح نكح رغبة وهو النكا ُ‬
‫ك امرأته‪ ،‬فل يصير لحد من‬
‫سُ‬‫وسببًا لحصول الرحمة والوداد‪ ،‬فإنه ل يُطلّقها لجل الول‪ ،‬بل يُم ِ‬
‫الناس اختيارٌ فى عودها إليه‪ ،‬فإذا اتفق فراقُ الثانى لها بموتٍ أو طلق‪ ،‬كما يفترقُ الزوجان اللذان‬
‫هما زوجان‪ ،‬أبيح للمطلّق الول نكاحُها‪ ،‬كما يُباح للرجل نكاح مطلقة الرجل ابتداء‪ ،‬وهذا أمر لم‬
‫يُحرّمه الّ سبحانه فى الشريعة الكاملة المهي ِمنَ ِة على جميع الشرائع‪ ،‬بخلف الشريعتين قبلنا‪ ،‬فإنه‬
‫ل للول أبداً‪ .‬وفى شريعة النجيل‪ ،‬قد‬
‫فى شريعة ال َتوْراة قد قيل‪ :‬إنها متى تزوّجت بزوج آخ َر لم تَحِ ّ‬
‫قيل‪ :‬إنه ليس له أن يُطلقها البتة‪ ،‬فجاءت هذه الشريعةُ الكاملة الفاضلة على أكملِ الوجوه وأحسنها‬
‫وأصلحها للخلق‪ ،‬ولهذا لما كان التحليلُ مباينًا للشرائع ُكلّها‪ ،‬والعقل والفطرة‪ ،‬ثبت عن النبىّ صلى‬
‫خبَر عن الّ‬
‫حلّل لَهُ))‪ .‬ولعنه صلى ال عليه وسلم لهما‪ ،‬إما َ‬
‫ل والمُ َ‬
‫حلّ ِ‬
‫ن المُ َ‬
‫ال عليه وسلم‪(( :‬لَع ُ‬
‫ل على تحريمه‪ ،‬وأنه من الكبائر‪.‬‬
‫تعالى بوقوع لعنته عليهما‪ ،‬أو دُعاء عليهما باللعنة‪ ،‬وهذا يد ّ‬

‫‪391‬‬
‫والمقصود‪ :‬أن إيجاب القُروء الثلث فى هذا الطلق مِن تمام تأكيد تحريمها على الول‪ ،‬على أنه‬
‫ليس فى المسألة إجماع‪.‬‬
‫ب ((اليجاز)) وغيره‪ ،‬إلى أن المطلقة ثلثاً‬
‫فذهب ابنُ اللبان ال َفرَضِى صاح ُ‬
‫ليس عليها غيرُ استبراء بحيضة‪ ،‬ذكره عنه أبو الحسين بن القاضى أبى يعلى‪ ،‬فقال مسألة‪ :‬إذا طلق‬
‫الرجلُ امرأته ثلثاً بعدَ الدخول‪ ،‬فعِدتها ثلثةُ أقراء إن كانت من ذوات القراء‪ ،‬وقال ابن اللبان‪:‬‬
‫لثَةَ ُقرُوءٍ} [البقرة‪:‬‬
‫ن ثَ َ‬
‫سهِ ّ‬
‫ن بِأنْفُ ِ‬
‫ت َي َت َر ّبصْ َ‬
‫طلّقَا ُ‬
‫عليها الستبراء بحيضة‪ ،‬دليلُنا قوله تعالى‪{ :‬وَالمُ َ‬
‫‪ ،]228‬ولم يقف شيخ السلم على هذا القول‪ ،‬وعلق تسويغه على ثبوتِ الخلف‪ ،‬فقال‪ :‬إن كان فيه‬
‫ِنزَاعِ كان القولُ بأنه ليس عليها‪ ،‬ول على المعتقة المخيّرة إل الستبراء قولً متوجهاً‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ج إلى عدة بعد الطلقة الثالثة‪ .‬قال‪ :‬وهذا ل نعلم أحداً قاله‪.‬‬
‫ولزمُ هذا القول‪ :‬أن اليسة ل تحتا ُ‬
‫وقد ذكر الخلف أبو الحسين‪ ،‬فقال‪ :‬مسألة‪ :‬إذا طلّق الرجلُ زوجته ثلثاً‪ ،‬وكانت ممن ل‬
‫ض لِصغر أو هرم‪ ،‬فعِدتها ثلثةُ أشهر خلفاً لبن اللبان أنه ل عِدة عليها‪ ،‬دليلنا‪ :‬قولُه تعالى‪:‬‬
‫تحي ُ‬
‫حضْنَ}‬
‫ش ُه ٍر وَاللّئى لَمْ َي ِ‬
‫لثَ ُة أَ ْ‬
‫ض مِنْ نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُم َفعِ ّدتُهنّ ثَ َ‬
‫ن المَحِي ِ‬
‫ن مِ َ‬
‫{واللّئى َيئِسْ َ‬
‫[الطلق‪.]4 :‬‬
‫قال شيخنا‪ :‬وإذا مضت السّنة بأن على هذه ثلثة أقراء‪ ،‬لم يجز مخالفتُها‪ ،‬ولو لم يجمع‬
‫ت قيس‪:‬‬
‫عليها‪ ،‬فكيف إذا كانَ مع السنة إجماع؟ قال‪ :‬وقولُه صلى ال عليه وسلم لِفاطمة بن ِ‬
‫عتَدّى))‪ ،‬قد فهم منه العلماء أنها تعتد ثلثة قروء‪ ،‬فإن الستبراء قد يُسمى عِدة‪ .‬قُلت‪ :‬كما فى‬
‫((ا ْ‬
‫ن النّسَاءِ} [النساء‪]24 :‬‬
‫صنَاتُ مِ َ‬
‫ح َ‬
‫حديث أبى سعيد فى سبايا أوطاس‪ ،‬أنه فسرقولَه تعالى‪{:‬والمْ ْ‬
‫بِالسبايا‪ ،‬ثم قال‪ :‬أى‪ :‬فهن لكم حلل إذا انقضت عدتهن‪ ،‬فجعل الستبراء عدة‪ .‬قال‪ :‬فأما حديثُ‬
‫ل عنها‪ُ :‬أ ِمرَت برير ُة أن تعتد ثلث حِيض‪ ،‬فحديث منكر‪ .‬فإذا مذهب عائشة رضى‬
‫عائشة رضى ا ّ‬
‫الّ عنها أن القراء الطهار‪.‬‬
‫قلتُ‪ :‬ومن جَعل أن عِدة المختلعة حيضة‪ ،‬فبطريق الولى تكونُ عِدة الفسوخ كلها‬
‫ق الطلق‪ ،‬وأشبهُ به ل يجب فيه العتدادُ عنده بثلثة قروء‪،‬‬
‫عنده حيضة‪ ،‬لن الخلع الذى هو شقي ُ‬
‫فالفسخ أولى‪ ،‬وأحرى من وجوه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن كثيرًا مِن الفقهاء يجعل الخلع طلقًا ينقص به عددُه‪ ،‬بخلف الفسخ لرضاع‬
‫ونحوه‪.‬‬

‫‪392‬‬
‫الثانى‪ :‬أن أبا ثور ومن وافقه يقولون‪ :‬إن الزوج إذا رد العوض‪ ،‬ورضيت المرأ ُة برده‪،‬‬
‫وراجعها‪ ،‬فلهما ذلك بخلف الفسخ‪.‬‬
‫ع المرأة إلى زوجها فى عِدتها بعقد جديد‪ ،‬بخلف الفسخ‬
‫الثالث‪ :‬أن الخُلع يُمكن فيه رجو ُ‬
‫لِرضاع أو عَدد‪ ،‬أو محرمية حيث ل يُمكن عودُها إليه‪ ،‬فهذه بطريق الولى يكفيها استبراء‬
‫بحيضة‪ ،‬ويكون المقصود مجر َد العِلم ببراءة رحمها‪ ،‬كالمسبية والمهاجرة‪ ،‬والمختلعة والزانية‬
‫على أصحّ القولين فيهما دليلً‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد‪.‬‬
‫فصل‬
‫ومما يُبين الفرق بين عدة الرجعية والبائن‪ ،‬أن عِدّة الرجعية لجل الزوج وللمرأة فيها النفقة‬
‫والسكنى باتفاق المسلمين‪ ،‬ولكن سُكناها‪ ،‬هل هى كسكنى الزوجة‪ ،‬فيجوز أن َينْ ُقلَها المطلقُ حيث‬
‫خرَجُ؟ فيه قولن‪ .‬وهذا الثانى‪ ،‬هو المنصوص عن‬
‫خرُجُ ول تُ ْ‬
‫شاء‪ ،‬أم يتعين عليها المنزلُ‪ ،‬فل َت ْ‬
‫ل بعض أصحاب أحمد‪.‬‬
‫أحمد‪ ،‬وأبى حنيفة‪ ،‬وعليه يدل القرآن‪ .‬والول‪ :‬قول الشافعى‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫والصواب‪ :‬ما جاء به القرآن‪ ،‬فإن سُكنى الرجعية مِن جنس سكنى المتوفى عنها‪ ،‬ولو‬
‫تراضيا بإسقاطها‪ ،‬لم يجز‪ ،‬كما أن العِدة فيها كذلك بخلف البائن‪ ،‬فإنها ل سُكنى لها‪ ،‬ول عليها‪،‬‬
‫ج له أن يُخرجها‪ ،‬ولها أن تخرج‪ ،‬كما قال النبى صلى ال عليه وسلم لفاطمة بنت قيس‪:‬‬
‫فالزو ُ‬
‫س ْكنَى))‪.‬‬
‫ك وَلَ ُ‬
‫((ل نَفَقَ َة َل ِ‬
‫وأما الرجعة‪ :‬فهل هى حق للزوج يملك إسقاطها بأن يطلقها واحدة بائنة‪ ،‬أم هى حقّ لّ فل‬
‫يملك إسقاطها؟ ولو قال‪ :‬أنتِ طالق طلقة بائنة‪ ،‬وقعت رجعية‪ ،‬أم هى حق لهما فإن تراضيا بالخُلع‬
‫بل عِوض‪ ،‬وقع طلقاً بائناً‪ ،‬ول رجعة فيه؟ فيه ثلثة أقوال‪.‬‬
‫فالول‪ :‬مذهب أبى حنيفة‪ ،‬وإحدى الروايات عن أحمد‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬مذهب الشافعى‪ ،‬والرواية الثانية عن أحمد‪.‬والثالث‪ :‬مذهب مالك‪ ،‬والرواية الثالثة‬
‫عن أحمد‪.‬‬
‫ل تعالى ليس لهما أن َيتّفِقَا على إسقاطها‪ ،‬وليس له أن يُطلّقَها‬
‫والصواب‪ :‬أن الرجعة حق ّ‬
‫طلقة بائنة‪ ،‬ولو رضيت الزوجةُ‪ ،‬كما أنه ليس لهما أن يتراضيا بفسخ النكاح بل عِوض بالتفاق‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فكيف يجوز الخل ُع بغيرِ عوض فى أحد القولين فى مذهب مالك وأحمد‪ ،‬وهل هذا‬
‫جوّز أحمد فى إحدى الروايتين‬
‫إل إتفاقُ مِن الزوجين على فسخ النكاح بغير عوض؟ قيل‪ :‬إنما ي ُ‬
‫الخُلع بل عِوض إذا كان طلقاً‪ ،‬فأما إذا كان فسخاً‪ ،‬فل يَجوزُ بالتفاق‪ ،‬قاله شيخنا رحمه الّ‪ .‬قال‪:‬‬

‫‪393‬‬
‫ص عدد الطلق‪ ،‬ويكون‬
‫ولو جاز هذا‪ ،‬لجاز أن يتفقا على أن يَبينها مرة بعد مرة من غير أن َينْقُ َ‬
‫المر إليهما إذا أراد أن يجعل الفرقة بين الثلث جعلها‪ ،‬وإن أرادا‪ ،‬لم يجعلها من الثلث‪ ،‬ويلزمُ‬
‫مِن هذا إذا قالت‪ :‬فادنى بل طلق‪ ،‬أن يبينها بل طلق‪ ،‬ويكون مخيرًا إذا سألته إن شاء أن يجعله‬
‫رجعياً‪ ،‬وإن شاء أن يجعله بائناً‪ ،‬وهذا ممتنع‪ ،‬فإن مضمونه أنه يُخير‪ ،‬إن شاء أن يُحرمها بعد المرة‬
‫الثالثة‪ ،‬وإن شاء لم يُحرمها‪ ،‬ويمتنع أن يخير الرجل بينَ أن يجعل الشىء حللً‪ ،‬وأن يجعلَه‬
‫حراماً‪ ،‬ولكن إنما يُخير بين مباحين له‪ ،‬وله يُباشر أسبابَ الحِل وأسباب التحريم‪ ،‬وليس له إنشاءُ‬
‫نفس التحليل والتحريم‪ ،‬والُّ سبحانه إنما شرع له الطلق واحدة بعد واحدة‪ ،‬ولم يشرع له إيقاعه‬
‫ل نزغةُ الشيطان التى حملته على الطلق‪ ،‬فتتبع نفسُه المرأة‪ ،‬فل يجد‬
‫مرة واحدة‪ ،‬لئل يندم‪ ،‬وتزو َ‬
‫إليها سبيلً‪ ،‬فلو ملكه الشارع أن يطلقها طلقة بائنة ابتداء‪ ،‬لكان هذا المحذو ُر بعينه موجوداً‪،‬‬
‫والشريع ُة المشتمِلةُ على مصالح العباد تأبى ذلك‪ ،‬فإنه يبقى المرُ بيدها إن شاءت راجعته‪ ،‬وإن‬
‫شاءت فل‪ ،‬والّ سبحانه جعل الطلق بي ِد الزوج ل بيد المرأة رحمةً منه وإحساناً‪ ،‬ومراعاةً‬
‫لمصلحة الزوجين‪.‬نعم له أن يُملكها أمرها بإختياره‪ ،‬فيخيرها بين القيام معه وفراقها‪ .‬وأما أن‬
‫ج المرُ عن يد الزوج بالكلية إليها‪ ،‬فهذا ل يمكن‪ .‬فليس له أن يُسقط حقّه مِن الرجعة‪ ،‬ول يملك‬
‫يخر َ‬
‫ذلك‪ ،‬فإن الشارع إنما يملك العبد ما ينفعُه ملكه‪ ،‬ول يتضرر به‪ ،‬ولهذا لم يملكه أكثر من ثلث‪ ،‬ول‬
‫ملكه جمع الثلث‪ ،‬ول ملّكه الطلق فى زمن الحيض والطهر المواقع فيه‪ ،‬ول ملكه نكاح أكثر من‬
‫جعَلَ الُّ‬
‫أربع‪ ،‬ول ملك المرأ َة الطلق‪ ،‬وقد نهى سبحانه الرجال‪ :‬أن يُؤتُوا السّ َفهَا َء أمْوالَهُم الّتى َ‬
‫لهم ِقيَاماً‪ ،‬فكيف يجعلون أمر البضاع إليهن فى الطلق والرجعة‪ ،‬فكما ل يكون الطلقُ بيدها ل‬
‫تكون الرجعة بيدها‪ ،‬فإن شاءت راجعته‪ ،‬وإن شاءت فل‪ ،‬فتبقى الرجعةُ موقوفةً على اختيارها‪،‬‬
‫وإذا كان ل يملك الطلقَ البائن‪ ،‬فلن ل يملك الطلقَ المحرم ابتدا ًء أولى وأحرى‪ ،‬لن الندم فى‬
‫الطلق المحرم أقوى منه فى البائن‪ .‬فمن قال‪ :‬إنه ل يمِلكُ البانة‪ ،‬ولو أتى بها لم َتبِنْ‪ ،‬كما هو قولُ‬
‫فقهاء الحديث‪ ،‬لزمه أن يقول‪ :‬إنه ل يملك الثلث المحرمة ابتداء بطريق الولى والخرى‪ ،‬وأن له‬
‫رجعتَها‪ .‬وإن أوقعها‪ ،‬كان له رجعتُها‪ ..‬وإن قال‪ :‬أنت طالق واحدة بائنة‪ ،‬فإذا كان ل يملِك إسقاط‬
‫الرجعة‪ ،‬فكيف يمِلكُ إثباتَ التحريم الذى ل يعود بعده إل بزوجٍ وإصابة؟‬
‫فإن قيل‪ :‬فلزم هذا أنه ل يملكه ولو بعداثنتين‪ ،‬قلنا‪ :‬ليس ذلك بلزم‪ ،‬فإن الّ سبحانه ملكه‬
‫الطلق على وجه معين‪ ،‬وهو أن يطلق واحدة‪ ،‬ويكون أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها‪ ،‬ثم إن‬
‫ت عليه‪ ،‬ول تعود إليه إل أن‬
‫ح ُر َم ْ‬
‫شاء طلق الثانية كذلك‪ ،‬ويبقى له واحدةٌ‪ ،‬وأخبر أنه إن أوقعها‪َ ،‬‬

‫‪394‬‬
‫تتزوج غيره‪ ،‬ويُصيبها ويُفارقها‪ ،‬فهذا هو الذى ملكه إياه‪ ،‬لم يُملّكه أن يُحرمها ابتداء تحريماً تاماً‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫من غير تقدم تطليقتين‪ .‬وبا ّ‬
‫فصل‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فى المختلعة أنها تعتد بحيضة‪ ،‬وأن هذا‬
‫قد ذكرنا حكم رسول ا ّ‬
‫مذهب عثمان بن عفان‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وإسحاق بن راهويه‪ ،‬وأحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين‬
‫عنه‪ ،‬اختارها شيخنا‪ .‬ونحن نذكر الحاديث بذلك بإسنادها‪.‬‬
‫قال النسائى فى ((سننه الكبير))‪ :‬باب فى عدة المختلعة‪ .‬أخبرنى أبو على محمد بن يحيى‬
‫عبْدان‪ ،‬حدثنا أبى‪ ،‬حدثنا على بن المبارك‪ ،‬عن‬
‫المروزى‪ ،‬حدثنا شاذان عبد العزيز بن عثمان أخو َ‬
‫ن عفراء‪ ،‬أخبرته أن‬
‫يحيى بن أبى كثير‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنى محمد بن عبد الرحمن‪ ،‬أن ُر َبيّع بنتَ معوّذ ب ِ‬
‫ت ابن قيس بن شماس ضرب امرأته‪ ،‬فكسرَ يدها وهى جميلة بنت عبد الّ ابن أبى‪ ،‬فجاء أخوها‬
‫ثاب َ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم إلى ثابت‪،‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأرسل رسولُ ا ِ‬
‫يشتكيه إلى رسولِ ا ّ‬
‫فقال‪:‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أن‬
‫((خُذ الذى لها عليك‪ ،‬وخلّ سبيلها)) فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فأرسل رسول ا ّ‬
‫تتربص حيضة واحدة‪ ،‬وتلحق بأهلها‪.‬‬
‫لّ بنُ سعد بن إبراهيم بن سعد‪ ،‬قال‪ :‬حدثنى عمي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا أبى‪ ،‬عن ابن‬
‫أخبرنا عُبيدُ ا ِ‬
‫إسحاق‪ ،‬قال‪ :‬حدثنى عُبادة بن الوليد بن عبادة ابن الصامت‪ ،‬عن ُر َبيّ ِع بنتِ معوّذ‪ ،‬قال‪ :‬قلتُ لها‪:‬‬
‫ت من زوجى‪ ،‬ثم جئتُ عثمان‪ ،‬فسألتُ ماذا علىّ مِن العِدة‪ ،‬قال‪ :‬ل‬
‫حدثينى حديثَك‪ ،‬قالت‪ :‬اختلع ُ‬
‫عَليْك إل أن يكونَ حديثَ عهد بك فتمكُثين حتى تحيضى حَيضة‪ .‬قالت‪ :‬وإنما تَبعَ فى ذلك‬
‫عِدة َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فى مريم ال َمغَاِليّة‪ ،‬كانت تحتَ ثابتِ بنِ قيس بن شماس‪،‬‬
‫قضاءَ رسول ا ّ‬
‫فاختلعت منه‪.‬‬
‫ل عنه‪ ،‬أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه‪ ،‬فجعل‬
‫وروى عكرمةُ عن ابن عباس رضى ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عِ ّدتَها حيضة‪ .‬رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحيم البزاز‪ ،‬عن‬
‫رسولُ ا ّ‬
‫على بن بحر القطان‪ ،‬عن هشام بن يوسف‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن عمرو بن مسلم‪ ،‬عن عكرمة‪ .‬ورواه‬
‫الترمذي‪ :‬عن محمد بن عبد الرحيم بهذا السند بعينه‪ .‬وقال‪ :‬حديث حسن غريب‪.‬‬

‫‪395‬‬
‫وهذا كما أنه موجبُ السنة وقضاء رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وموافقٌ لقوالِ‬
‫الصحابة‪ ،‬فهو مقتضى القياس‪ ،‬فإنه استبرا ٌء لمجرد العلم ببراءة الرحم‪ ،‬فكفت فيه حيضة‪،‬‬
‫كالمسبية والمة المستبرأة‪ ،‬والحرة‪ ،‬والمهاجرة‪ ،‬والزانية إذا أرادت أن تنكِحَ‪.‬‬
‫وقد تقدم أن الشارع مِن تمام حكمته جعل عِدة الرجعية ثلثة قروء لمصلحة المطلق‪،‬‬
‫ص على هذه الحكمة‪ ،‬والجواب عنه‪.‬‬
‫والمرأة ليطول زمان الرجعة‪ ،‬وقد تقدم النق ُ‬
‫ذكر حكم رسول الّ صلى ال عليه وسلم بإعتداد المتوفى عنها فى منزلها الذى توفى‬
‫زوجها وهى فيه وأنه غيرُ مخالف لِحكمه بخروج المبتوتة واعتدادها حيث شاءت‬
‫ب بنتِ كعب بن عجرة‪ ،‬عن الفُريعة بنت مالك أخت أبى سعيد‬
‫ثبت فى ((السنن))‪ :‬عن زين َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم تسأله أن ترج َع إلى أهلها فى بنى خُدرة‪،‬‬
‫الخُدرى‪ ،‬أنها جاءت إلى رسول ا ّ‬
‫عبُدٍ له َأبَقُوا‪ ،‬حتى إذا كانُوا بطرف القُدُوم‪ ،‬لحقهم فقتلُوه‪ ،‬فسألتُ رسول‬
‫فإن زوجها خرج فى طلب أَ ْ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أن أرجع إلى أهلى‪ ،‬فإنه لم يتركنى فى مسكن َيمِلكُه ول نفقة‪ ،‬فقال رسولُ‬
‫ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪(( :‬نعم)) فخرجتُ حتى إذا ُك ْنتُ فى الحجرة أو فى المسجد‪ ،‬دعانى أو أمر‬
‫ا ّ‬
‫بى فدعيتُ له‪ ،‬فقال‪((:‬كيف قُلتِ))؟ فرددتُ عليه القِصةَ التى ذكرتُ من شأن زوجى‪ ،‬قالت‪ :‬فقال‪:‬‬
‫ت فيه أربعةَ أشهر وعشراً‪ ،‬قالت‪ :‬فلما‬
‫جلَهُ))‪ ،‬قالت‪ :‬فاعتدد ُ‬
‫حتّى َيبْل َغ ال ِكتَابُ َأ َ‬
‫((ا ْمكُثى فى َبيْتك َ‬
‫كان عثمان‪ ،‬أرسل إلىّ فسألنى عن ذلك‪ ،‬فأخبرته‪ ،‬فقضى به‪ ،‬واتبعه‪.‬‬
‫قال الترمذى‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪ ،‬وقال أبو عمر بن عبد البر‪ :‬هذا حديثٌ مشهور‬
‫معروف عند علماء الحجاز والعراق‪ .‬وقال أبو محمد ابن حزم‪ :‬هذا الحديث ل يثبت‪ ،‬فإن زينب‬
‫هذه مجهولة‪ ،‬لم يروِ حديثَها غير سعد بن إسحاق بن كعب وهو غير مشهور بالعدالة‪ ،‬ومالك رحمه‬
‫ل وغيره يقول فيه‪ :‬سعد بن إسحاق‪ ،‬وسفيان يقول‪ :‬سعيد‪ .‬وما قاله أبو محمد غيرُ صحيح‪،‬‬
‫ا ّ‬
‫فالحديث حديث صحيح مشهور فى الحجاز والعراق‪ ،‬وأدخله مالك فى ((موطئه))‪ ،‬واحتج به‪،‬‬
‫وبنى عليه مذهبه‪.‬‬
‫ب هذه من‬
‫وأما قوله‪ :‬إن زينب بنت كعب مجهولة‪ ،‬فنعم مجهول ٌة عنده‪ ،‬فكان ماذا؟ وزين ُ‬
‫التابعيات‪ ،‬وهى امرأة أبى سعيد‪ ،‬روى عنها سعد بن إسحاق بن كعب‪ ،‬وليس بسعيد‪ ،‬وقد ذكرها‬
‫ل على بن المدينى‪ :‬لم يرو عنها غيرُ سعد بن‬
‫ابن حبان فى كتاب الثقات‪ .‬والذى غر أبا محمد قو ُ‬
‫إسحاق وقد روينا فى مسند المام أحمد‪ :‬حدثنا يعقوب‪ ،‬حدثنا أبى‪ ،‬عن ابن إسحاق‪ ،‬حدثنى عبد الّ‬
‫ب بنتِ‬
‫بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم‪ ،‬عن سليمان بن محمد بن كعب بن عُجرة‪ ،‬عن عمته زين َ‬

‫‪396‬‬
‫كعب بن عُجرة وكانت عند أبى سعيد الخُدرى‪ ،‬عن أبى سعيد‪ ،‬قال‪ :‬اشتكى الناسُ علياً رضى الّ‬
‫عِليّا‪ ،‬فَوالِّ‬
‫شكُوا َ‬
‫عنه‪ ،‬فقام النبىّ صلى ال عليه وسلم خطيباً‪ ،‬فسمعتُه يقول‪(( :‬يَا أيّها النّاسُ ل تَ ْ‬
‫سبِيلِ الِّ))‪ ،‬فهذه امرأة تابعية كانت تحتَ صحابى‪ ،‬وروى عنها الثقات‪،‬‬
‫لّ أو فى َ‬
‫لَخْشَنٌ فى ذَاتِ ا ِ‬
‫ولم يُطعن فيها بحرف‪ ،‬واحتج الئمة بحديثها وصححوه‪.‬وأَما قولُه‪ :‬إن سعد بن إسحاق غير‬
‫مشهور بالعدالة‪ ،‬فقد قال إسحاق بن منصور‪ ،‬عن يحيى بن معين‪ :‬ثقة‪ .‬وقال النسائى أيضاً‪،‬‬
‫والدارقطنى أيضاً‪ :‬ثقة وقال أبو حاتم‪ :‬صالح‪ ،‬وذكره ابن حيان فى كتاب الثقات‪ ،‬وقد روى عنه‬
‫ن الثورى‪ ،‬وعبدُ العزيز الدراوردى‪ ،‬وابنُ جريج‪ ،‬ومالكُ بن أنس‪،‬‬
‫الناس‪ :‬حمادُ بن زيد‪ ،‬وسفيا ُ‬
‫ويحيى ابن سعيد النصارى‪ ،‬والزهرى‪ ،‬وهو أكب ُر منه‪ ،‬وحات ُم بن إسماعيل وداو ُد بن قيس‪ ،‬وخلق‬
‫سواهم من الئمة‪ ،‬ولم يُعلم فيه قدح ول جرح البتة‪ ،‬ومثل هذا يُحتج به اتفاقاً‪.‬‬
‫ل عنهم ومَنْ بعدهم فى حكم هذه المسألة‪.‬‬
‫وقد اختلف الصحاب ُة رضى ا ّ‬
‫فروى عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن الزهرى‪ ،‬عن عروة بن الزبير‪ .‬عن‬
‫عائشة رضى الّ عنها‪ .‬أنها كانت تُفتى المتوفى عنها بالخروج فى عدتها‪ ،‬وخرجت بأختها أ ّم كلثُوم‬
‫ل إلى مكة فى عمرة‪.‬ومن طريق عبد الرزاق أخبرنا ابنُ جريج‪،‬‬
‫حين ُقتِلَ عنها طلحة بن عبيد ا ّ‬
‫لّ عز وجل‪ :‬تعتد أربعَة أشهر وعشراً‪ ،‬ولم يقل‪:‬‬
‫أخبرنى عطاء‪ ،‬عن ابن عباس أنه قال‪ :‬إنما قالَ ا ُ‬
‫تعتد فى بيتها‪ ،‬فتعتد حيث شاءت وهذا الحديث سمعه عطاء من ابن عباس‪ ،‬فإن على بن المدينى‪:‬‬
‫ت ابنَ عباس يقول‪ :‬قال الّ‬
‫قال‪ :‬حدثنا سفيان بن عيينة‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬قال‪ :‬سمع ُ‬
‫ش ُه ٍر وَعَشْراً} [البقرة‪:‬‬
‫ن َأ ْر َبعَةَ أَ ْ‬
‫سهِ ّ‬
‫ن بَِأنْفُ ِ‬
‫ن َأ ْزوَاجًا َي َت َربّصْ َ‬
‫ن ِم ْنكُم ويَذرُو َ‬
‫تعالى‪{ :‬والّذِينَ ُي َتوَ ّفوْ َ‬
‫ن فى بيوتهن‪ ،‬تعتَدّ حيث شاءت‪ .‬قال سفيان‪ :‬قاله لنا ابن جريج كما أخبرنا‪.‬‬
‫‪ ،]234‬ولم يقل‪َ :‬ي ْعتَدِدْ َ‬
‫ل يقول‪:‬‬
‫وقال عبد الرازق‪ :‬حدثنا ابن جريج‪ ،‬أخبرنى أبو الزبير‪ ،‬أنه سمع جابرَ بن عبد ا ّ‬
‫تعتدّ المتوّفى عنها حيثُ شاءت‪ .‬وقال عبد الرزاق عن الثورى‪ ،‬عن إسماعيل بن أبى خالد‪ ،‬عن‬
‫ل المتوفّى عنهن فى عدتهن‪ .‬وذكر عبد‬
‫الشعبى‪ ،‬أن على بن أبى طالب رضى الّ عنه‪ ،‬كان يُرحّ ُ‬
‫الرزاق أيضاً‪ ،‬عن محمد بن مسلم‪ ،‬عن عمرو بن دينار‪ ،‬عن طاووس وعطاء‪ ،‬قال جميعاً‪ :‬المبتوتة‬
‫ن وتعت ِمرَان‪ ،‬وتنتقلن وتبيتان‪.‬‬
‫والمتوفى عنها تَحُجّا ِ‬
‫ن اعتدت‪.‬‬
‫ل يَض ّر المتوفّى عنها أي َ‬
‫وذكر أيضًا عن ابن جريج‪ ،‬عن عطاء قال‪َ :‬‬
‫وقال ابنُ عُيينة‪ :‬عن عمرو بن دينار‪ ،‬عن عطاء وأبى الشعثاء‪ ،‬قال جميعاً‪ :‬المتوفّى عنها‬
‫تخرُج فى عدتها حيث شاءت‪.‬‬

‫‪397‬‬
‫ن أبى شيبة‪ ،‬حدثنا عبد الوهّاب الثقفى‪ ،‬عن حبيب المعلم‪ ،‬قال‪ :‬سألتُ عطاء عن‬
‫وذكر اب ُ‬
‫المطلقة ثلثاً‪ ،‬والمتوفّى عنها‪ ،‬أتَحُجّان فى عِدتهما؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬وكان الحسن يقولُ بمثل ذلك‪.‬‬
‫وقال ابن وهب‪ :‬أخبرنى ابن لهيعة‪ ،‬عن حنين بن أبى حكيم‪ ،‬أن امرأة مُزاحم لما توفى عنها‬
‫زوجها بخناصرة‪ ،‬سألت عمر بن عبد العزيز‪ ،‬أأمكث حتى تنقضىَ عِدتى؟ فقال لها‪ :‬بل الحقى‬
‫بقرارك ودار أبيك‪ ،‬فاعتدى فيها‪.‬‬
‫ن أيوب‪ ،‬عن يحيى بن سعيد النصارى أنه قال فى رجل‬
‫قال ابن وهب‪ :‬وأخبرنى يحيى ب ُ‬
‫توفى بالسكندرية ومعه امرأتُه‪ ،‬وله بها دار‪ ،‬وله بالفُسطاط دار‪ ،‬فقال‪ :‬إن أحبّت أن تعتدّ حيثُ‬
‫ت أن ترجِ َع إلى دار زوجها وقراره بالفُسطاط‪ ،‬فتعتد فيها فلترجع‪.‬‬
‫تو ّفىَ زوجُها فلتعتد‪ ،‬وإن أح ّب ْ‬
‫قال ابن وهب‪ :‬وأخبرنى عمرو بن الحارث‪ ،‬عن بُكير بن الشج‪ ،‬قال‪ :‬سألتُ سالم بن عبد‬
‫ل بن عمر عن المرأة يخرج بها زوجُها إلى بلد فيتوفى؟ قال‪ :‬تعتد حيث توفى عنها زوجها‪ ،‬أو‬
‫ا ّ‬
‫ب أهل الظاهر ُكلّهم‪.‬ولصحاب هذا القولِ‬
‫ترج ُع إلى بيت زوجها حتى تنقضى عدتها وهذا مذه ُ‬
‫حُجتان‪ ،‬احتج بهما ابنُ عباس‪،‬وقد حكينا إحداهما‪ ،‬وهى‪ :‬أن الّ سبحانه إنما أمرها بإعتداد أربعة‬
‫أشهر وعشر‪ ،‬ولم يأمرها بمكان معين‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬ما رواه أَبو داود‪ :‬حدثنا أحمد بن محمد المروزى‪ ،‬حدثنا موسى بن مسعود‪ ،‬حدثنا‬
‫شِبل‪ ،‬عن ابن أبى نجيح‪ ،‬قال‪ :‬قال عطاء‪ :‬قال ابن عباس‪ :‬نسخت هذه الية عدتَها عندَ أهلها‪ ،‬فتعتد‬
‫حيثُ شاءت‪ ،‬وهو قولُ الّ عز وجل‪{ :‬غيرَ إخراجٍ} [البقرة‪ ]240 :‬قال عطاء‪ :‬إن شاءت اعتدت‬
‫جنَاحَ‬
‫خرَجْنَ فَلَ ُ‬
‫عند أهله‪ ،‬وسكنت فى وصيتها‪ ،‬وإن شاءت‪ ،‬خرجت لِقول الّ عز وجل‪{ :‬فَإنْ َ‬
‫عَل ْيكُمْ فَيما ف َعلْنَ} [البقرة‪ ،]234 :‬قال عطاء‪ :‬ثم جاء الميراثُ‪ ،‬فنسخ السكنى‪ ،‬تعتدّ حيث شاءت‪.‬‬
‫َ‬
‫وقالت طائفة ثانية مِن الصحابة والتابعين بعدهم‪ :‬تعتدّ فى منزلها التى تُوفى زوجها‬
‫وهى فيه‪ ،‬قال وكيع‪ :‬حدثنا الثورىّ‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن مجاهد‪ ،‬عن سعيد بن المسيب ان عمر ردّ‬
‫ت أو معتمراتٍ توفى عنهن أزواجهن‪.‬‬
‫نِسوة من ذى الحُليفة حاجّا ٍ‬
‫وقال عب ُد الرزاق‪ :‬حدثنا ابنُ جُريج‪ ،‬أخبرنا حُميدُ العرج‪ ،‬عن مجاهد قال‪ :‬كان عمر‬
‫ت ومعتمراتٍ من الجُحفة وذى الحُليفة‪.‬‬
‫وعثمان يرجعانهن حاجّا ٍ‬
‫وذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن يوسف بن ماهك عن أمه مُسيكة‪ ،‬أن امرأة‬
‫متوفّى عنها زارت أهلها فى عِدتها‪ ،‬فضربها الطلق‪ ،‬فأتوْا عثمان‪ ،‬فقال‪ :‬اح ِملُوها إلى بيتها وهى‬
‫طلَقُ‪.‬‬
‫تُ ْ‬

‫‪398‬‬
‫وذكر أيضًا عن معمر‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر أنه كانت له ابنة تعت ّد مِن وفاة‬
‫زوجها‪ ،‬وكانت تأتيهم بالنّهار‪َ ،‬ف َتتَح ّدثُ إليهم‪ ،‬فإذا كان الليل‪ ،‬أمَرها أن ترج َع إلى بيتها‪.‬‬
‫ن أبى شيبة‪ :‬حدثنا وكيع‪ ،‬عن على بن المبارك‪ ،‬عن يحيى بن أبى كثير عن محمد‬
‫وقال اب ُ‬
‫بن عبد الرحمن بن ثوبان‪ ،‬أن عُمر رخّص للمتوفى عنها أن تأتى أهلها بياض يومها‪ ،‬وأن زي َد بن‬
‫ثابت لم ُيرَخّص لها إل فى بياض يومها أو ليلها‪.‬‬
‫وذكر عبد الرزاق عن سفيان الثورى‪ ،‬عن منصور بن المعتمِر‪ ،‬عن إبراهيم النّخَعى‪ ،‬عن‬
‫حشُ‪ ،‬فقال ابنُ‬
‫علقمة‪ ،‬قال‪ :‬سأل ابنَ مسعود نساء من همدان ُن ِعىَ إليهن أزواجُهن‪ ،‬فَ ُقلْنَ‪ :‬إنا نَستَو ِ‬
‫مسعود‪ :‬تجت ِمعْنَ بالنهارِ‪ ،‬ثم ترجعُ كلّ امرأة منكن إلى بيتها بالليل‪.‬‬
‫وذكر الحجاج بن المنهال‪ ،‬حدثنا أبو عَوانة‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬أن امرأة بعثت إلى‬
‫أمّ سلمة أ ّم المؤمنين رضى الّ عنها‪ :‬إن أبى مريض‪ ،‬وأنا فى عِدة‪ ،‬أفآتيه أُمرضه؟ قالت‪ :‬نعم‬
‫ولكن بيتى أح َد طرفى الليل فى بيتك‪.‬‬
‫سئِلَ عن‬
‫وقال سعيد بن منصور‪ :‬حدثنا هُشيم‪ ،‬أنبأنا إسماعيل بن أبى خالد‪ ،‬عن الشعبى‪ ،‬أنه ُ‬
‫ن أكثرُ أصحاب ابن مسعود أشدّ شىء فى ذلك‪ ،‬يقولون‪:‬‬
‫المتوفّى عنها‪ :‬أتخرج فى عدتها؟ فقال‪ :‬كا َ‬
‫ل عنه يُرحلها‪.‬‬
‫ل تخرُج‪ ،‬وكان الشيخ يعنى على بن أبى طالب رضى ا ّ‬
‫وقال حمّا ُد بنُ سلمة‪ :‬أخبرنا هِشام بن عُروة‪ ،‬أن أباه قال‪ :‬المتوفّى عنها زوجُها تعتدّ فى بيتها إل أن‬
‫ينتوى أهلُها فتنتوى معهم‪.‬‬
‫وقال سعيد بن منصور‪ :‬حدثنا هُشيم‪ ،‬أخبرنا يحيى بن سعيد هو النصارى‪ ،‬أن القاسم بن‬
‫محمد‪ ،‬وسالم بن عبد الّ‪ ،‬وسعيد بن المسيّب قالوا فى المتوفّى عنها‪ :‬ل تبَرحُ حتى تنقضى عِدتُها‪.‬‬
‫وذكر أيضًا عن ابن عُيينة‪ ،‬عن عمرو بن دينار‪ ،‬عن عطاء وجابر‪ ،‬كِلهما قال فى المتوفّى‬
‫عنها‪ :‬ل تخرُجُ‪.‬‬
‫وذكر وكيع‪ ،‬عن المحسن بن صالح‪ ،‬عن المغيرة‪ ،‬عن إبراهيم فى المتوفّى عنها‪ :‬ل بأس أن‬
‫تخُرجَ بالنهار‪ ،‬ول تبيتُ عن بيتها‪.‬‬
‫وذكر حماد بن زيد‪ ،‬عن أيوب السّختيانى‪ ،‬عن محمد بن سيرين‪ ،‬أن امرأة تُوفى عنها‬
‫زوجُها وهى مريضة‪ ،‬فنقلها أهلُها‪ ،‬ثم سألوا‪َ ،‬ف ُكلٌّهم يأمرهم أن تُرد إلى بيت زوجها‪ ،‬قال ابنُ‬
‫سيرين‪ :‬فرددناها فى َنمَطٍ‪ ،‬وهذا قولُ المام أحمد‪ .‬ومالك‪ .‬والشافعى‪ .‬وأبى حنيفة رحمهم الّ‪،‬‬
‫وأصحابهم‪ ،‬والوزاعى‪ ،‬وأبى عُبيد‪ ،‬وإسحاق‪.‬‬

‫‪399‬‬
‫قال أبو عُمر بن عبد البر‪ :‬وبه يَقول جماعةُ فقهاء المصار بالحجاز والشام‪ ،‬والعراق‪،‬‬
‫ل عنه بالقبول‪،‬‬
‫ومصر‪ .‬وحجة هؤلء حديث الفُريعة بنت مالك‪ ،‬وقد تلقاه عثمانُ بنُ عفان رضى ا ّ‬
‫وقضى به بمحضر المهاجرين والنصار‪ ،‬وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر‬
‫بالقبول‪ ،‬ولم ُي ْعلَ ْم أن أحداً منهم طعن فيه‪ ،‬ول فى رواته‪ ،‬وهذا مالك مع تحريه وتشدّ ِد ِه فى الرواية‪.‬‬
‫وقوله للسائلِ له عن رجل‪ :‬أثقة هو؟ فقال‪ :‬لو كان ثقة لرأيته فى كتبى‪ :‬قد أدخله فى ((موطئه))‪،‬‬
‫وبنى عليه مذهبَه‪.‬‬
‫ع بين السلف فى المسألة‪ ،‬ولكن السنة تفصِلُ بين المتنازعين‪ .‬قال‬
‫قالوا‪ :‬ونحن ل نُنكر النزا َ‬
‫أبو عمر بن عبد البر‪ :‬أما السنة‪ ،‬فثابتة بحمد الّ‪ .‬وأما الجماع‪ ،‬فمستغنى عنه مع السنة‪ ،‬لن‬
‫الختلف إذا نزل فى مسألة كانت الحجة فى قول من وافقته السنة‪.‬‬
‫وقال عبد الرزاق‪ :‬أخبرنا معمر‪ ،‬عن الزهرى‪ ،‬قال أَخَ َذ المترخّصون فى المتوفّى عنها‬
‫بقول عائشة رضى الّ عنها‪ ،‬وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل ملزمة المنزل حقّ عليها‪ ،‬أو حق لها؟ قيل‪ :‬بل هو حَق عليها إذا‬
‫طلَبوا منها‬
‫تركه لها الورثة‪ ،‬ولم يكن عليها فيه ضر ٌر أو كان المسكن لها‪ ،‬فلو حّولها الوراث‪ ،‬أو َ‬
‫الجرة‪ ،‬لم يلزمها السكن‪ ،‬وجاز لها التحولُ‪.‬‬
‫ل إلى أقرب‬
‫ب هذا القول‪ :‬هل لها أن تتحول حيثُ شاءت‪ ،‬أو يلزمُها التحو ُ‬
‫ثم اختلف أصحا ُ‬
‫غرَقاً‪ ،‬أو عدواً أو نحو ذلك‪ ،‬أو حوّلها‬
‫المساكن إلى مسكن الوفاة؟ على قولين‪ .‬فإن خافت هدمًا أو َ‬
‫ب المنزل لكونه عا ِريّة رجع فيها‪ ،‬أو بإجارة انقضت مدتُها‪ ،‬أو منعها السكنى تعديًا‪ ،‬أو امتنع‬
‫صاح ُ‬
‫من إجارته‪ ،‬أو طلب به أكثر من أجر المثل‪ ،‬أو لم تَجِدْ ما تكترى به‪ ،‬أو لم تجِدْ إل من مالها‪ ،‬فلها‬
‫أن تنتقِلَ‪ ،‬لنها حالُ عذر‪ ،‬ول يلزمها بذلُ أجر المسكن‪ ،‬وإنما الواجبُ عليها فِعل السّكنى ل‬
‫تحصيلُ المسكن‪ ،‬وإذا تعذرت السّكنى‪ ،‬سقطت‪ ،‬وهذا قول أحمد والشافعى‪.‬‬
‫ق على الورث ِة تُقدّمُ الزوجة به على الغرماء‪ ،‬وعلى‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل السكان ح ّ‬
‫الميراث‪ ،‬أم ل حق لها فى التركة سوى الميراث؟ قيل‪:‬‬
‫هذا موضوع اختلف فيه‪ .‬فقال المام أحمد‪ :‬إن كانت حائلً‪ ،‬فل سُكنى لها فى التركة‪ ،‬ولكن‬
‫عليها ملزمة المنزل إذا بُذِلَ لها كما تقدم‪ ،‬وإن كانت حاملً‪ ،‬ففيه روايتان إحداهما أن الحكم كذلك‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أن لها السّكنى حق ثابت فى المال‪ ،‬تُقدّ ُم به على الورثة والغرماء‪ ،‬ويكون من رأس المال‪،‬‬

‫‪400‬‬
‫ل تُباع الدار فى دينه بيعًا يمنعُها سكناها حتى تنقضي عدتها‪ ،‬وإن تعذر ذلك‪ ،‬فعلى الوارث أن‬
‫ل عنه إل لضرورة‪.‬‬
‫يكترىَ لها سكناً من مال الميت‪ .‬فإن لم يفعل‪ ،‬أجبره الحاكمُ‪ ،‬وليس لها أن تنتقِ َ‬
‫جزْ‪ ،‬لنه يتعلق بهذه السكنى حقّ الّ تعالى‪،‬‬
‫وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه‪ ،‬لم يَ ُ‬
‫فلم يجز اتفاقُهما على إبطالها‪ ،‬بخلف سُكنى النكاح‪ ،‬فإنها حقّ لّ تعالى‪ ،‬لنها وجبت مِن حقوق‬
‫ق للزوجين‪ .‬والصحيح المنصوص‪ :‬أن سكنى الرجعية كذلك‪ ،‬ول يجوز‬
‫العِدة‪ ،‬والعِدة فيها ح ّ‬
‫اتفاقهما على إبطالها‪ ،‬هذا متقضى نص الية‪ ،‬وهو منصوص أحمد وعنه رواية ثالثة‪ :‬أن للمتوفّى‬
‫ث روايات‪ :‬وجوبها للحامل‪،‬‬
‫عنها السّكنى بكل حال‪ ،‬حاملً كانت أو حائلً‪ ،‬فصار فى مذهبه ثل ُ‬
‫والحائل‪ ،‬وإسقاطها فى حقهما ووجوبها للحامل دون الحائل‪ ،‬هذا تحصيلُ مذهب أحمد فى سكنى‬
‫المتوفى عنها‪.‬‬
‫وأما مذهب مالك‪ ،‬فإيجاب السكنى لها حاملً كانت أو حائلً‪ ،‬وإيجابُ السكنى عليها مدة‬
‫ق بسكناه من الورثة والغرماء‪،‬‬
‫العِدة‪ ،‬قال أبو عمر‪ :‬فإذا كان المسكن بكراءٍ؟ فقال مالك‪ :‬هى أح ّ‬
‫وهو مِن رأس مال المتوفّى‪ ،‬إل أن يكونَ فيه عقد لزوجها وأراد أهل المسكن إخراجَها‪ .‬وإذا كان‬
‫المسكنُ لزوجها‪ ،‬لم يُبع فى دينه حتى تنقضى عدتها‪ ،‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫ق بالسكنى من الورثة والغرماء إذا كان الملك للميت‪،‬‬
‫وقال غيرُه من أصحاب مالك‪ :‬هى أح ّ‬
‫أو كان قد أدّى كِراءه‪ ،‬وإن لم يكن قد أدى‪ ،‬ففى ((التهذيب))‪ :‬ل سُكنى لها فى مال الميت‪ ،‬وإن كان‬
‫ق به‪ ،‬وتُحاصّ‬
‫موسِراً‪َ .‬و َروَى محمد‪ ،‬عن مالك‪ :‬الكراء لزم للميت فى ماله‪ ،‬ول تكون الزوجةُ أح ّ‬
‫حبّ أن تسكن فى حصتها‪ ،‬وتؤدى كِراء حصتهم‪.‬‬
‫الورثة فى السكنى‪ ،‬وللورثة إخراجُها إل أن تُ ِ‬
‫وأما مذهب الشافعى‪ :‬فإن له فى سكنى المتوفى عنها قولين‪ ،‬أحدُهما‪ :‬لها السّكنى حاملً‬
‫كانت أو حائلً‪ .‬والثانى‪ :‬ل سُكنى لها حاملً كانت أو حائلً‪ ،‬ويجب عنده ملزمتُها للمسكن فى‬
‫العِدة بائناً كانت أو متوفى عنها‪ ،‬وملزمة البائن للمنزل عنده آك ُد مِن ملزمة المتوفىّ عنها‪ ،‬فإنه‬
‫يجوز للمتوفّى عنها الخروجُ نهاراً لقضاء حوائجها‪ ،‬ول يجو ُز ذلك فى البائن فى أحد قوليه وهو‬
‫القديمُ‪ ،‬ول يُوجبه فى الرجعية بل يستحبه‪.‬‬
‫وأما أحمد‪ ،‬فعنده ملزم ُة المتوفّى عنها آك ُد مِن الرجعية‪ ،‬ول يُوجبه فى البائن‪ .‬وأورد‬
‫ل على نصه بوجوب ملزمة المنزل على المتوفّى عنها مع نصه فى أحد‬
‫أصحاب الشافعى رحمه ا ّ‬
‫القولين‪ ،‬على أنه ل سكنى لها سؤالً وقالوا‪ :‬كيف يجتمع النّصّان‪ ،‬وأجابوا بجوابين‪ .‬أحدهما‪ :‬أنه ل‬

‫‪401‬‬
‫ث أجرة المسكن‪ ،‬وجبت عليها‬
‫ب عليها ملزم ُة المسكن على ذلك القول‪ ،‬لكن لو ألزم الوار ُ‬
‫ج ُ‬
‫تِ‬
‫الملزمةُ حينئذ‪ ،‬وأطلق أكثرُ أصحابه الجواب هكذا‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أن ملزمة المنزل واجبة عليها ما لم يكن عليها فيه ضرر بأن تُطالب بالجرة‪ ،‬أو‬
‫يُخرجها الوارث‪ ،‬أو المالك‪ ،‬فتسقط حينئذ‪ .‬وأما أصحاب أبى حنيفة‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل يجو ُز للمطلقة‬
‫الرجعية‪ ،‬ول للبائن الخروجُ مِن بيتها ليلً ول نهاراً‪ ،‬وأما المتوفى عنها‪ ،‬فتخرج نهاراً وبعض‬
‫ق أن المطلقة نفقتُها فى مال زوجها‪ .‬فل يجوز لها‬
‫الليل‪ ،‬ولكن ل تبيتُ فى منزلها‪ ،‬قالوا‪ :‬والفر ُ‬
‫خرُجَ بالنهار لصلح حالها‪،‬‬
‫الخروجُ كالزوجة‪ ،‬بخلف المتوفى عنها‪ ،‬فإنها ل نَفَقَةَ لها‪ ،‬فل بد أن ت ْ‬
‫قالوا‪ :‬وعليها أن تعتد فى المنزل الذى يُضاف إليها بالسكنى حالَ وقوع الفرقة‪ ،‬قالوا‪ :‬فإن كان‬
‫نصيبُها مِن دار الميت ل يكفيها‪ ،‬أو أخرجها الورثةُ من نصيبهم‪ ،‬انتقلت‪ ،‬لن هذا عذر‪ ،‬والكونُ فى‬
‫بيتها عبادة‪ ،‬والعبادةُ تسقط بالعذر قالوا‪ :‬فإن عجزت عن كراء البيت الذى هى فيه لكثرته‪ ،‬فلها أن‬
‫ل كراء منه‪ ،‬وهذا مِن كلمهم يدل على أن أجرة السكن عليها‪ ،‬وإنما يَسقط السكن‬
‫تنتقِلَ إلى بيت أق ّ‬
‫عنها لعِجزها عن أجرته‪ ،‬ولهذا صرّحوا بأنها تسكن فى نصيبها من التركة إن كفاها‪ ،‬وهذا لنه ل‬
‫سُكنى عندهم للمتوفى عنها حاملً كانت أو حائلً‪ ،‬وإنما عليها أن تلزم مسكنها الذى توفّى زوجُها‪،‬‬
‫وهى فيه ليلً ل نهاراً‪ ،‬فإن بذله لها الورثةُ وإلّ كانت الجرة عليها‪ ،‬فهذا تحري ُر مذاهب الناس فى‬
‫ل التوفيق‪ .‬ولقد أصاب فريعَة بنتَ مالك فى هذا الحديث نظيرُ‬
‫هذه المسألة‪ ،‬ومأخذُ الخلف فيها وبا ّ‬
‫ض المنازعين فى هذه المسألة‪ :‬ل ندعُ كتابَ ربنا‬
‫ما أصاب فاطمة بنت قيس فى حديثها‪ ،‬فقال بع ُ‬
‫لقول امرأة‪ ،‬فإن الّ سبحانه إنما أمرها بالعتداد أربعة أشهر وعشراً‪ ،‬ولم يأمرها بالمنزل‪ .‬وقد‬
‫ب المنزل‪ ،‬وأفتت المتوفّى عنها بالعتداد حيث‬
‫أنكرت عائش ُة أ ّم المؤمنين رضى الّ عنها وجو َ‬
‫شاءت كما أنكرت حديثَ فاطمة بنت قيس‪ ،‬وأوجبت السكنى للمطلقة‪.‬‬
‫ل عنهم على عهد‬
‫ل مِن الصحابة رضى ا ّ‬
‫وقال بعضُ من نازع فى حديث الفُريعة‪ :‬قد ُقتِ َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم خلقٌ كثير يوم أحد‪ ،‬ويومَ بئر مَعونة‪ ،‬ويومَ مؤتة وغيرِها‪ ،‬واعتدّ‬
‫رسول ا ّ‬
‫ل امرأة منهن تُلزم منزلها زمن العدة‪ ،‬لكان ذلك من أظهرِ الشياء‪،‬‬
‫أزواجُهم بعدهم‪ ،‬فلو كان ك ّ‬
‫وأبينها بحيثُ ل يخفى على من هو دونَ ابن عباس وعائشة‪ ،‬فكيف خفى هذا عليهما وعلى غيرهما‬
‫من الصحابة الذين حكى أقوالهم‪ ،‬مع استمرار العمل به استمراراً شائعاً‪ ،‬هذا من أبعد الشياء‪ ،‬ثم‬
‫لو كانت السنّةُ جارية بذلك‪ ،‬لم تأت الفُريعة تستأذن ُه صلى ال عليه وسلم أن تلحق بأهلها‪ ،‬ولمَا أذِنَ‬
‫لها فى ذلك‪ ،‬ثم يأمرُ بردها بعد ذهابها‪ ،‬ويأمرها بأن تمكث فى بيتها فلو كان ذلك أمرًا مستمراً‬

‫‪402‬‬
‫ثابتاً‪ ،‬لكان قد نسخ بإذنه لها فى اللحاق بأهلها‪ ،‬ثم نسخ ذلك الذن بأمره لها بالمُكث فى بيتها‪،‬‬
‫فُيفضى إلى تغيير الحكم مرتين‪ ،‬وهذا ل عهد لنا به فى الشريعة فى موضع متيقن‪.‬‬
‫قال الخرون‪ :‬ليس فى هذا ما يوجب رد هذه السنة الصحيحة الصريحة التى تلقّاها أمي ُر المؤمنين‬
‫عثمان بن عفان‪ ،‬وأكاب ُر الصحابة بالقبول‪ ،‬ونفذها عثمان‪ ،‬وحكم بها‪ ،‬ولو كنا ل نقبلُ رواية النساء‬
‫ن كثيرة مِن سُنن السلم ل يُعرف أنه رواها عنه إل‬
‫عن النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لذهبت سن ٌ‬
‫ل ليس فيه ما ينبغى وجوب العتداد فى المنزل حتى تكون السنةُ مخالفة له‪،‬‬
‫النساء‪ ،‬وهذا كتابُ ا ّ‬
‫بل غايتُها أن تكونَ بياناً لحكم سكت عنه الكتاب‪ ،‬ومثل هذا ل تُرد به السننُ‪ ،‬وهذا الذى حذّر منه‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بعينه أن تترك السنة إذا لم يكن نظيرُ حكمها فى الكتاب‪.‬‬
‫رسولُ ا ّ‬
‫وأما تركُ أ ّم المؤمنين رضى الّ عنها لحديث الفُريعة‪ ،‬فلعله لم يَبُلغْها‪ ،‬ولو بلغها فلعلها‬
‫تأولته‪ ،‬ولو لم تتأولْه‪ ،‬فلعله قام عندها معارض له‪ ،‬وبكل حال فالقائلون به فى تركهم لتركها لهذا‬
‫ل مع النبى‬
‫الحديث أعذ ُر من التاركين له لترك أ ّم المؤمنين له‪ ،‬فبين التركَين فرقٌ عظيم‪.‬وأما من ُقتِ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن مات فى حياته‪ ،‬فلم يأتِ قطّ أن نساءكم كن يعتَدِدْنَ حيث شِئن‪ ،‬ولم يأت‬
‫عنهن ما يُخالف حُكمَ حديثِ فُريعة البتة‪ ،‬فل يجوز تركُ السنة الثابتة لمر ل يُعلم كيف كان‪ ،‬ولو‬
‫علِمَ أَنهن كن يَعتَدِدْنَ حيث شئن‪ ،‬ولم يأت عنهن ما يخالف حكم حديث الفريعة‪ ،‬فلعل ذلك قبل‬
‫ُ‬
‫استقرار هذا الحكم وثبوته حيث كان الصلُ براءة الذمة‪ ،‬وعدم الوجوب‪.‬‬
‫ل بن كثير‪ ،‬قال‪ :‬قال مجاهد‪ :‬استشهد رجال‬
‫وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج‪ ،‬عن عبد ا ّ‬
‫حشُ يا رسول الّ صلى‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقلن‪ :‬إنا نستو ِ‬
‫يوم أحد‪ ،‬فجاء نساؤهم إلى رسول ا ّ‬
‫ل صلى ال‬
‫ال عليه وسلم بالليل‪ ،‬فنبيت عند إحدانا‪ ،‬حتى إذا أصبحنا تبددنا فى بيوتتنا فقال رسولُ ا ّ‬
‫ل ا ْمرَأ ٍة إلى َب ْيتِها)) وهذا‬
‫ن النّوْمَ فَل َت ُؤبْ كُ ّ‬
‫عنْدَ إحْدَاكُنّ مَا بَدَا َلكُنّ‪ ،‬فَإذَا َأرَ ْدتُ ّ‬
‫عليه وسلم‪(( :‬تَحَ ّدثْنَ ِ‬
‫وإن كان مرسلً‪ ،‬فالظاهِر أن مجاهدًا إما أن يكون سمعه مِن تابعى ثقة‪ ،‬أو مِن صحابى‪ ،‬والتابعون‬
‫ل صلى ال‬
‫لم يكن الكذبُ معروفاً فيهم‪ ،‬وهم ثانى القرون المفضلة‪ ،‬وقد شاهدُوا أصحابَ رسول ا ّ‬
‫ل صلى‬
‫ب على رسول ا ّ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأخذوا العِلمَ عنهم‪ ،‬وهم خيرُ المة بعدهم‪ ،‬فل يُظن بهم الكذ ُ‬
‫ل صلى ال‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬ول الروايةُ عن الكذابين‪ ،‬ول سيما العالمُ منهم إذا جز َم على رسولِ ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفعلَ رسولُ الّ‬
‫شهِدَ له بالحديث‪ ،‬فقال‪ :‬قال رسولُ ا ّ‬
‫عليه وسلم بالرواية‪ ،‬و َ‬
‫ل البعد أن يُقْدِ َم على ذلك مع كون الواسطة بينه وبينَ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأم َر ونهى‪ ،‬فيبعد كُ ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم كذاباً أو مجهولً‪ ،‬وهذا بخلف مراسيل من بعدهم‪ ،‬فكلما تأخرت‬
‫رسولِ ا ّ‬

‫‪403‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبالجملة فليس‬
‫القرونُ ساء الظن بالمراسيل‪ ،‬ولم يشهد بها على رسول ا ّ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫العتماد على هذا المرسل وحَده‪ ،‬وبا ّ‬
‫ذِكرُ حكمِ رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم فى إحداد المعتدةِ نفياً وإثباتاً‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬عن حُميد بن نافع‪ ،‬عن زينب بنت أبى سلمة‪ ،‬أنها أخبرته هذه‬
‫ل عنها زوج النبى صلى ال عليه‬
‫ث الثلثة‪ ،‬قالت زينبُ‪ :‬دخلت على أمّ حبيبة رضى ا ّ‬
‫الحادي َ‬
‫خلُوقٌ أو‬
‫وسلم حين تُوفى أبوها أبو سفيان‪ ،‬فدعت أ ّم حبيبة رضى الّ عنها بطيبٍ فيه صُفرةٌ َ‬
‫غيرُه‪ ،‬فدهنت منه جاريةً‪ ،‬ثم مسّت بعارضيها‪ ،‬ثم قالت‪ :‬والّ مالى بالطّيبِ من حاجة‪ ،‬غير أنى‬
‫لّ وال َيوْم الخرِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم يقول على المنبر‪(( :‬ل يَحِلّ ل ْم َرَأةٍ ُت ْؤمِنُ با ِ‬
‫سمعت رسولَ ا ّ‬
‫ش ُه ٍر وَعَشْراً))‪ .‬قالت زينب‪ :‬ثم دخلت على زينب‬
‫ج َأ ْر َبعَةَ أَ ْ‬
‫ق ثلث إلّ عَلى َزوْ ٍ‬
‫تُحِدّ عَلى َم ّيتٍ َفوْ َ‬
‫ب من حاجة‪،‬‬
‫بنت جحش حين تُوفى أخوها فدعت بطيب‪ ،‬فمسّت منه‪ ،‬ثم قالت‪ :‬والِّ مالى بالطي ِ‬
‫ل يَحِلّ ل ْم َرَأ ٍة ُت ْؤمِنُ بالّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم يقول على المنبر‪َ (( :‬‬
‫غير أنى سمعت رسولَ ا ّ‬
‫ش ُه ٍر وَعَشْراً))‪.‬‬
‫ج أ ْر َبعَةَ أَ ْ‬
‫لثٍ إلّ عَلى َزوْ ٍ‬
‫ق ثَ َ‬
‫خ ِر تُحِدّ عَلى َم ّيتٍ َفوْ َ‬
‫وَاليَوْمِ ال ِ‬
‫ل صلى‬
‫قالت زينبُ‪ :‬وسمعت ُأمّى أ ّم سلمة رضى الّ عنها تقولُ‪ :‬جاءت امرأة إلى رسول ا ّ‬
‫حلُها؟ فقال‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول الّ‪ :‬إن بنتى توفى عنها زوجها‪ ،‬وقد اشتكت عينُها‪ ،‬أَفَتكْ َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل))‪ ،‬مرتين‪ ،‬أو ثلثاً‪ ،‬كل ذلك يقول‪:‬‬
‫رسولُ ا ّ‬
‫ش ُه ٍر وَعَشْراً‪ ،‬وقَ ْد كَا َنتْ إحْدَاكُنّ فى الجَا ِهِليّ ِة َترْمى بال َب ْعرَةِ عَلى‬
‫ى َأ ْر َبعَةُ أَ ْ‬
‫((ل))‪ ،‬ثم قال‪(( :‬إنّما ه َ‬
‫حوْلِ))‪.‬‬
‫َرأْسِ ال َ‬
‫ش ّر ثِيابِها‪ ،‬ولم َت َمسّ‬
‫ستْ َ‬
‫ت المرأة إذا تُوفى عنها زوجُها‪ ،‬دخلت حِفْشاً‪ ،‬وَلبِ َ‬
‫فقالت زينب‪ :‬كان ِ‬
‫طِيباً ول شيئاً حتى َي ُمرّ بها سنة‪ ،‬ثُم تُؤتى بدابةٍ حمارٍ‪ ،‬أو شا ٍة أو طير‪ ،‬فتفتَضّ به‪ ،‬فقلما تفتضّ‬
‫بشىء إل مات‪ ،‬ثم تَخْرجُ‪ ،‬فُتعطى بعرة‪ ،‬فترمى بها‪ ،‬ثم تُراجع بعدُ ما شاءت مِن طيب أو غيره‪.‬‬
‫قال مالك تفتض‪ :‬تمسح به جلدها‪.‬‬
‫ل عنها‪ :‬أن امرأة تُوفى عنها زوجُها‪ ،‬فخافوا على‬
‫وفى ((الصحيحين))‪ :‬عن أ ّم سلمة رضى ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫عينها‪ ،‬فَأتْوا النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاستأذنوه فى الكُحْل‪ ،‬فقال رسول ا ّ‬
‫ب َر َمتْ‬
‫حوْلً‪ ،‬فإذَا َم ّر َك ْل ٌ‬
‫شرّ أحْلَسِها فى َب ْيتِها َ‬
‫شرّ َب ْيتِها‪َ ،‬أوْ فى َ‬
‫ن تكُونُ فى َ‬
‫((قَدْ كَا َنتْ إحْدَاكُ ّ‬
‫ش ُه ٍر وَعَشْراً))‪.‬‬
‫ل َأ ْر َبعَ َة أَ ْ‬
‫جتْ أفَ َ‬
‫خرَ َ‬
‫ب َب ْع َرةٍ‪َ ،‬ف َ‬

‫‪404‬‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫وفى ((الصحيحين)) عن أَمّ عَطيّة النصارية رضى الّ عَنها‪ ،‬أن رسول ا ّ‬
‫ل َت ْل َبسُ َثوْباً‬
‫ش ُه ٍر وَعَشْراً‪ ،‬و َ‬
‫ج َأ ْربَعةَ أَ ْ‬
‫لثٍ إلّ عَلى َزوْ ٍ‬
‫ق ثَ َ‬
‫ل تُحِ ّد الم ْرَأةُ عَلى َم ّيتٍ َفوْ َ‬
‫وسلم قال‪َ (( :‬‬
‫ط َأ ْو أَظْفَارٍ))‪.‬‬
‫ط ُهرَت ُنبْذةً مِنْ قُسْ ٍ‬
‫ل وَلَ َت َمسّ طيبًا إل إذا َ‬
‫ل َت ْكتَحِ ُ‬
‫صبٍ‪ ،‬وَ َ‬
‫ع ْ‬
‫ل َث ْوبَ َ‬
‫صبُوغاً إ ّ‬
‫َم ْ‬
‫وفى سنن داود‪ :‬من حديث الحسن بن مسلم‪ ،‬عن صفيّةبنت شيبة‪ ،‬عن أ ّم سلمة زوج النبى‬
‫ن الثياب وَلَ ال ُممَشّقَةَ‪،‬‬
‫ل َت ْل َبسُ ال ُم َعصْ َفرَ مِ َ‬
‫عنْها َزوْجها َ‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه قال‪(( :‬ال ُم َتوَفىّ َ‬
‫ضبُ))‪.‬وفى ((سننه)) أيضاً‪ :‬من حديث ابن وهب‪ ،‬أخبرنى مخرمة‪،‬‬
‫خ َت ِ‬
‫ل تَ ْ‬
‫ل ت ْكتَحِلُ‪ ،‬وَ َ‬
‫وَلَ الحُلىّ وَ َ‬
‫سيَدٍ‪ ،‬عن أمها‪ ،‬أن زوجَها‬
‫ن الضحاك يقول‪ :‬أخبرتنى أمّ حكيم بنت أَ ْ‬
‫ت المغير َة ب َ‬
‫عن أبيه قال‪ :‬سمع ُ‬
‫تُوفى‪ ،‬وكانت تشتكى عينيها فتكتحِلُ بالجَلء‪ .‬قال أحمد بن صالح رحمه الّ‪ :‬الصوابُ‪ :‬الصوابُ‪:‬‬
‫ِبكُحْلِ الجلء فأرسلت مولةً لها إلى أمّ سلمة رضى الّ عنها‪ ،‬فسألتها عن كُحل الجَلء‪ ،‬فقالت‪ :‬ل‬
‫تكتحِلىْ به إل مِن أمرٍ ل بد منه يشتدّ عليك‪ ،‬فتكتحلين بالليل‪ ،‬وتمسحينه بالنهار‪ ،‬ثم قالت عند ذلك‬
‫ع ْي َنىّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم حين تُوفى أبو سلمة وقد جعلت على َ‬
‫أمّ سلمة‪ :‬دخل علىّ رسول ا ّ‬
‫سوُلَ الّ‪ ،‬ليس فيه طِيب‪ .‬فقال‪:‬‬
‫ص ِبرٌ يا ر َ‬
‫صبِراً‪ ،‬فقال‪(( :‬ما هذا يَا أُمّ سلمة))؟ فقلت‪ :‬إنما هو َ‬
‫َ‬
‫حنّاءِ‬
‫ل بِال ِ‬
‫جعَليه إلّ بالّليْل‪َ ،‬و َتنْزعيهِ بِالنّهار‪ ،‬ول َت ْمتَشِطى بِالطّيب وَ َ‬
‫ل تَ ْ‬
‫ب الوَجْهَ فَ َ‬
‫ش ّ‬
‫((إنّه يَ ُ‬
‫خضَابٌ))‪ ،‬قالت‪ :‬قلت‪ :‬بأى شىء أمتَشِطُ يا رسول الّ؟ قال‪(( :‬بالسّدْر ُت َغلّفِينَ بِ ِه َرأْسَك))‪.‬‬
‫فَإنّهُ ِ‬
‫وقد تضمنت هذه السنة أحكاماً عديدة‪ .‬أحدها‪ :‬أنه ل يجوزُ الحدا ُد على مّيتٍ فوقَ‬
‫ثلثة أيامِ كائنًا من كان‪ ،‬إل الزوجَ وحدَه‪.‬‬
‫وتضمن الحديثُ الفرقَ بين الحدادين من وجهين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬من جهة الوجوب والجواز‪ ،‬فإن الحداد على الزوج واجب‪ ،‬وعلى غيره‬
‫جائز‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬من مقدار مدة الحداد‪ ،‬فالحدادُ على الزوج عزيمة‪ ،‬وعلى غيره‬
‫رخصة وأجمعت المة على وجوبه على المتوفّى عنها زوجُها إل ما حُكى عن الحسن‪ ،‬والحكم بن‬
‫عتيبة‪ .‬أما الحسن‪ ،‬فروى حماد بن سلمة‪ ،‬عن حميد‪ ،‬عنه‪ ،‬أن المطلقة ثلثاً‪ ،‬والمتوفّى عنها زوجُها‬
‫ن وتختضِبان‪ ،‬وتنتقلن‪ ،‬وتصنعان ما شاءتا‪ ،‬وأما الحكم‪ :‬فذكر عنه‬
‫تكتحلن وتمتشِطَان‪ ،‬وتتطيّبا ِ‬
‫شعبةُ‪ :‬أن المتوفى عنها ل تُحِدّ‪.‬‬
‫قال ابنُ حزم‪ :‬واحتج أهل هذه المقالة‪ ،‬ثم ساق مِن طريق أبى الحسن محمد بن عبد السلم‪ ،‬حدثنا‬
‫محم ُد بنُ بشار‪ ،‬حدثنا محمد بن جعفر‪ ،‬حدثنا شُعبة‪ ،‬حدثنا الحكم بن عتيبة‪ ،‬عن عبد الّ بن شداد بن‬

‫‪405‬‬
‫ن ثلثَة أيّامٍ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم قال لمرأة جعفر بن أبى طالب‪(( :‬إذا كَا َ‬
‫الهاد‪ ،‬أن رسولَ ا ّ‬
‫ن َبعْ َد ثلثة أيام)) شعبة شك‪.‬‬
‫فالبَسى ما شئتِ‪ ،‬أو إذا كَا َ‬
‫ل بن‬
‫ومن طريق حماد بنِ سلمة‪ ،‬حدثنا الحجّاج بنُ أرطاة‪ ،‬عن الحسن ابن سَعدِ‪ ،‬عن عبد ا ّ‬
‫ت النبىّ صلى ال عليه وسلم أن تبكى على جعفر وهى امرأتُه‪،‬‬
‫شداد‪ ،‬أن أسما َء بنت عُميس استأذن ِ‬
‫فَأذِنَ لها ثلثةَ أيام‪ ،‬ثم بعث إليها بعد ثلثة أيام أن تطهرى واكتحلى‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫قالوا‪ :‬وهذا ناسخ لحاديث الحداد‪ ،‬لنه بعدها‪ ،‬فإن أم سلمة رضى الّ عنها روت‬ ‫@‬
‫ت أبى سلمة ول خلف أن موت أبى‬
‫ل عليه وسلم أمرها به إثر مو ِ‬
‫حديث الحداد‪ ،‬وأنه صلّى ا ّ‬
‫سلمة كان قبل موتِ جعفر رضى الّ عنهما‪.‬‬
‫وأجاب الناسُ عن ذلك بأن هذا حديث منقطع‪ ،‬فإن عبد الّ بن شداد بن الهاد لم يسمع من‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول رآه‪ ،‬فكيف يُقَدّمُ حديثُه على الحاديث الصحيحة المسندة التى‬
‫رسول ا ّ‬
‫ث الئمة الذين هم‬
‫ل مطعن فيها؟ وفى الحديث الثانى‪ :‬الحجاج بن أرطاة‪ ،‬ول يُعارض بحديثه حدي ُ‬
‫فرسانُ الحديث‪.‬‬
‫فصل‬
‫الحكم الثانى‪ :‬أن الحداد تابع للعِدة بالشهور‪ ،‬أما الحامل‪ ،‬فإذا انقضى حملُها‪ ،‬سقط وج ْوبُ‬
‫الحداد عنها اتفاقاً‪ ،‬فإن لها أن تتزوج‪ ،‬وتتجمّل‪ ،‬وتتطيّب لزوجها‪ ،‬وتتزيّن له ما شاءت‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فإذا زادت مدةُ الحمل على أربع ِة أشهر وعشر‪ ،‬فهل يسقطُ وجوبُ الحداد‪ ،‬أم‬
‫يست ِمرّ إلى الوضع؟ قيل‪ :‬بل يست ِمرُ الحداد إلى حين الوضع‪ ،‬فإنه من توابع العدة‪ ،‬ولهذا ُقيّد‬
‫بمدتها‪ ،‬وهو حُكم من أحكام العِدة‪ ،‬وواجب من واجباتها‪ ،‬فكان معها وجوداً وعدماً‪.‬‬
‫فصل‬
‫الحكم الثالث‪ :‬أن الحداد تستوى فيه جمي ُع الزوجات المسلمة والكافرة‪ ،‬والحُرة والمة‪،‬‬
‫ل الجمهور‪ :‬أحمد‪ ،‬والشافعى‪ ،‬ومالك‪ .‬إل أن أشهب‪ ،‬وابنَ نافع قال‪ :‬ل‬
‫والصغيرة والكبير‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫ل أبى حنيفة‪ ،‬ول إحداد عنده على الصغيرة‪.‬‬
‫إحداد على الذمية‪ ،‬ورواه أشهب عن مالك‪ ،‬وهو قو ُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم جعل الحداد من أحكام من يؤمن‬
‫ب هذا القول بأن النب ّ‬
‫واحتج أربا ُ‬
‫ل واليوم الخر‪ ،‬فل تدخُلُ فيه الكافرةُ‪ ،‬ولنها غي ُر مكلّفة بأحكام الفروع‪.‬‬
‫با ّ‬

‫‪406‬‬
‫قالوا‪ :‬وعدو لُه عن اللفظ العام المطلق إلى الخاص المقيّد باليمان يقتضى أن هذا من أحكام‬
‫ق أن‬
‫اليمان ولوازِمه وواجباته‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬من التزم اليمان فهذا من شرائعه وواجباته‪ .‬والتحقي ُ‬
‫ت لهم أيضاً‪ ،‬وإنما يقتضى‬
‫ل الفعل عن المؤمنين ل يقتضى نفىَ حُكمه عن الكفار‪ ،‬ول إثبا َ‬
‫نفى حِ ّ‬
‫أن من التزم اليمان وشرائعه‪ ،‬فهذا ل يَحِلُ له‪ ،‬ويجب على كل حال أن يلزم اليمان وشرائعه‪،‬‬
‫ولكن ل يلزمه الشارعُ شرائعَ اليمان إل بعد دخلوه فيه‪ ،‬وهذا كما لو قيل‪ :‬ل يحِل لمؤمن أن يترُك‬
‫الصلة والحجّ والزكاة‪ ،‬فهذا ل يدل على أن ذلك حِلّ للكافر‪ .‬وهذا كما قال فى لباس الحرير‪(( :‬لَ‬
‫ن َلعّاناً))‪.‬‬
‫ن أَنْ َيكُو َ‬
‫ل َي ْنبَغى ِل ْل ُم ْؤمِ ِ‬
‫َي ْنبَغى هذَا لِل ُمتّقِينَ))‪ ،‬فل يدل أنه ينبغى لغيرهم‪ .‬وكذا قوله‪َ (( :‬‬
‫ت لمن التزم اليمان‪ ،‬ومن لم‬
‫ع ْ‬
‫وسر المسألة‪ :‬أن شرائ َع الحلل والحرام واليجاب‪ ،‬إنما شُر َ‬
‫خّلىَ بينه وبين‬
‫يلتَزمه وخلى بينه وبين دينه‪ ،‬فإنه يُخلى بينَه وبينَ شرائع الدين الذى التزمه‪ ،‬كما ُ‬
‫أصله ما لم يُحاكم إلينا‪ ،‬وهذه القاعدة متفق عليها بين العلماء‪ ،‬ولكن عذ ُر الذين أوجبوا الحداد على‬
‫ج المسلم‪ ،‬وكان منه إلزامها به كأصل العدة‪ ،‬ولهذا ل يُلزمونها به فى‬
‫ق الزو ِ‬
‫الذمية‪ ،‬أنه يتعلق به ح ّ‬
‫عِدتها مِن الذمى‪ ،‬ول يُتعرض لها فيها‪ ،‬فصار هذا كعقودهم مع المسلمين‪ ،‬فإنهم يُلزمون فيها‬
‫بأحكام السلم وإن لم يتعرض لِعقودِهم مع بعضهم بعضاً‪ ،‬ومن يُنازعهم فى ذلك يقولون‪ :‬الحدادُ‬
‫حق لّ تعالى‪ ،‬ولهذا لو اتفقت هى والولياء والمتوفّى على سقوطه بأن أوصاها بتركه‪ ،‬لم يسقط‪،‬‬
‫ولزمها التيانُ به فهو جا ٍر مجرى العِبادات وليست الذمية من أهلها‪ ،‬فهذا سر المسألة‪.‬‬
‫فصل‬
‫ب على المة‪ ،‬ول أ ّم الولد إذا مات سيدُهما‪ ،‬لنهما ليسا‬
‫الحكم الرابع‪ :‬أن الحداد ل يج ُ‬
‫بزوجين‪ .‬قال ابنُ المنذر‪ :‬ل أعلمهم يختلِفُون فى ذلك‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل لهما تُحِدّا ثلثَةَ أيام؟ قيل‪ :‬نعم لهما ذلك‪ ،‬فإن النصّ إنما حرم الحداد فوق‬
‫جبَه أربعة أَشهر وعشرًا على الزوج‪ ،‬فدخلت الم ُة وأ ّم الولد فيمن‬
‫الثلث على غير الزوج‪ ،‬وأوْ َ‬
‫حرُ ُم عليهن‪ ،‬ول فيمن يجب‪.‬‬
‫يحل لهن الحداد‪ ،‬ل فيمن يَ ْ‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل يجب على المعتدة مِن طلق أو وطءِ شبهة‪ ،‬أو زنى‪ ،‬أو استبراء‬
‫إحداد؟‬
‫قلنا‪ :‬هذا هو الحك ُم الخامس الذى دلّت عليه السنة‪ ،‬أنه ل إحداد على واحدةٍ من هؤلء‪ ،‬لن‬
‫جبِ الزوجاتِ‪ ،‬وبالجائز غيرَهن على المواتِ خاصة‪،‬‬
‫السنة أثبتت ونفت‪ ،‬فخصّت بالحدادِ الوَا ِ‬
‫وما عداهما‪ ،‬فهو داخل فى حُكم التحريم على الموات‪ ،‬فمن أين لكم دخولُه فى الحداد على‬

‫‪407‬‬
‫المطلقة البائن؟ وقد قال سعي ُد بن المسيب‪ ،‬وأبو عبيد‪ ،‬وأبو ثور‪ ،‬وأبو حنيفة وأصحابُه‪ ،‬والمام‬
‫ض القياس‪،‬‬
‫أحمد فى إحدى الروايتين عنه اختارها الخِرقى‪ :‬إن البائن يجب عليها الحدادُ‪ ،‬وهو مح ُ‬
‫لنها معتدة بائن مِن نكاح‪ ،‬فلزمها الحداد كالمتوفّى عنها‪ ،‬لنهما اشتركا فى العِدة‪ ،‬واختلفا فى‬
‫ل المعنى‪ ،‬وهو‬
‫ب أن الحداد معقو ُ‬
‫ح ُر َمتْ دواعيه‪ .‬قالوا‪ :‬ول ري َ‬
‫سببها‪ ،‬ولن العِدة تُحرّمُ النكاح‪ ،‬فَ َ‬
‫أن إظها َر الزينة والطّيب والحُلى‪ ،‬مما يدعو المرأة إلى الرجال‪ ،‬ويدعُو الرجال إليها‪ :‬فل يُؤمن أن‬
‫تك ِذبَ فى انقضاء عدتها استعجالً لذلك‪ ،‬ف ُم ِن َعتْ مِن دواعى ذلك‪ ،‬وسدت إليه الذريعة‪ ،‬هذا مع أن‬
‫ن العِدة أيّامً معدودة‪ ،‬بخلف عِدة الطلق‪،‬‬
‫الكذب فى عدة الوفاة يتعذّر بظهو ِر موت الزوج‪ ،‬وكو ِ‬
‫ط لها أولى‪.‬‬
‫فإنها بالقراء وهى ل تُعلم إل من جهتها‪ ،‬فكان الحتيا ُ‬
‫ت مِنَ‬
‫طيّبا ِ‬
‫ج ِل ِعبَا ِد ِه وال ّ‬
‫خرَ َ‬
‫حرّ َم ِز ْي َنتَ ُه الّتى أَ ْ‬
‫قيل قد أنكر الُّ سبحانَه وتعالى على مَنْ َ‬
‫ال ّرزْقِ‪ .‬وهذا يدل على أنه ل يجوز أن يُحرّ َم من الزينة إل ما حرّمه الّ ورسولُه‪ ،‬والّ سبحانه قد‬
‫حرّم على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم زينة الحداد على المتوفّى عنها مدة العدة‪ ،‬وأباح‬
‫رسولُه الحدادَ بتركها على غير الزوج‪ ،‬فل يجوز تحريمُ غير ما حرمه‪ ،‬بل هو على أصلِ‬
‫الباحة‪ ،‬وليس الحدا ُد مِن لوازم العدة‪ ،‬ول توابعها‪ ،‬ولهذا ل يجب على الموطوءة بشبهة‪ ،‬ول‬
‫س أولى مِن قياسها على المتوفى عنها لما‬
‫المزنى بها‪ ،‬ول المستبرَأة‪ ،‬ول الرجعيّةِ اتفاقاً‪ ،‬وهذا القيا ُ‬
‫بين العِدتين من القُروء قدرًا أو سبباً وحكماً‪ ،‬فإلحاقُ عِدة القراء بالقراء أولى من إلحاق عِدة‬
‫القراء بعِدة الوفاة‪ ،‬وليس المقصودُ من الحداد على الزوج الميت مجرّدَ ما ذكرتم مِن طلب‬
‫ل الدخول‪ ،‬وإنما هو مِن‬
‫جبُ قب َ‬
‫الستعجال‪ ،‬فإن العدة فيه لم تكن لمجرد العلم ببراء ِة الرّحِم‪ ،‬ولهذا ت ِ‬
‫تعظيم هذا العقد وإظهار خطره وشرفه‪ ،‬وأنه عند الّ بمكان‪ ،‬فجعلت العدة حريماً له‪ ،‬وجعل‬
‫الحداد مِن تمام هذا المقصود وتأكده‪ ،‬ومزيدِ العتناء به‪ ،‬حتى جُعلت الزوجة أولى بفعله على‬
‫زوجها مِن أبيها وابنها وأخيها وسائرِ أقاربها‪ ،‬وهذا مِن تعظيم هذا العقدِ وتشريفِه‪ ،‬وتأك ِد الفرقِ بينه‬
‫شرِعَ فى ابتدائه إعلنُه‪ ،‬والشها ُد عليه‪ ،‬والضّربُ بالدّف‬
‫وبين السّفاح من جميع أحكامه‪ ،‬ولهذا ُ‬
‫لتحقق المضادة بينَه وبينَ السّفاح‪ ،‬وشرع فى آخره‪ ،‬وانتهائه من العدة والحداد ما لم يُشرع فى‬
‫غيره‪.‬‬
‫فصل‬
‫ص دون الراءِ‬
‫الحكم السادس فى الخصال التى تجتنِبها الحادةُ‪ ،‬وهى التى دل عليها الن ّ‬
‫والقوال التى ل دليل عليها وهى أربعة‪:‬‬

‫‪408‬‬
‫ل تَمسّ طِيباً))‪ ،‬ول خلفَ فى تحريمه‬
‫أحدها‪ :‬الطيب بقوله فى الحديث الصحيح‪َ (( :‬‬
‫عند من أوجب الحداد‪ ،‬ولهذا لما خرجت أ ّم حبيبة رضى الّ عنها من إحدادها على أبيها أبى‬
‫سفيان‪ ،‬دعت بطيب‪ ،‬فدهنت منه جارية‪ ،‬ثم مست بعارضيها‪ ،‬ثم ذكرتِ الحديثَ‪ ،‬ويدخل فى‬
‫الطيب‪ :‬المسكُ‪ ،‬والعنبرُ‪ ،‬والكافورُ‪ ،‬والند‪ ،‬والغالِية‪ ،‬والزّباد‪ ،‬والذّريرة‪ ،‬والبخور‪ ،‬والدهان‪ ،‬كدُهن‬
‫البان‪ ،‬والورد والبنفسج‪ ،‬والياسمين‪ ،‬والمياه المعتصرة من الدهان الطيبة‪ ،‬كماء الورد‪ ،‬وماء‬
‫ل فيه الزيتُ‪ ،‬ول الشيرج‪ ،‬ول السمن‪ ،‬ول‬
‫القرنفل‪ ،‬وماء زهر النارنج‪ ،‬فهذا ُكلّه طِيب‪ ،‬ول يدخُ ُ‬
‫تُمتع من الدهان بشىء من ذلك‪.‬‬
‫فصل‬
‫الحكم السابع‪ :‬وهى ثلثة أنواع‪ .‬أحدها‪ :‬الزينة فى بدنها‪ ،‬فيحرم عليها الخضابُ‪ ،‬والنّقشُ‪،‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم نص على الخِضاب منبهًا به‬
‫والتطريفُ‪ ،‬والحُمرة‪ ،‬والسفيدَاجُ‪ ،‬فإن النب ّ‬
‫على هذه النواع التى هى أكثرُ زينة منه‪ ،‬وأعظمُ فتنة‪ ،‬وأشدّ مضادة لمقصود الحداد‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫الكُحل‪ ،‬والنهى عنه ثابت بالنص الصريح الصحيح‪.‬‬
‫ل ولو‬
‫ثم قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف‪ :‬منهم أبو محمد ابن حزم‪ :‬ل تكتحِ ُ‬
‫ذهبت عيناها ل ليلً ول نهاراً‪ ،‬ويُساعد قولَهم‪ ،‬حديثُ أم سلمة المتفق عليه‪ :‬أن امرأة توفى عنها‬
‫زوجها‪ ،‬فخافوا على عينها‪ ،‬فَأ َتوُا النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاستأذنوه فى الكحل‪ ،‬فما أذن فيه‪ ،‬بل‬
‫قال‪(( :‬ل)) مرتين أو ثلثاً‪ ،‬ثم ذكر لهم ما كانوا يفعلونه فى الجاهلية من الحداد البليغ سنَةً‪،‬‬
‫ويصبِرن على ذلك‪ ،‬أفل يصبرن أربعة أشهر وعشراً‪ .‬ول ريب أن الكحل من أبلغ الزينة‪ ،‬فهو‬
‫كالطيب أو أشد منه‪ .‬وقال بعض الشافعية‪ :‬للسوداء أن تكتحل‪ ،‬وهذا تصرف مُخَاِلفٌ للنص‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ل تُفرّق بين السود والبيض‪ ،‬كما ل تُفرق بين‬
‫والمعنى‪ ،‬وأحكامُ رسول ا ّ‬
‫االطِوال والقِصار‪ ،‬ومثلُ هذا القياس بالرأى الفاسد الذى اشتد نكيرُ السلف له وذمّهم إياه‪.‬وأما‬
‫جمهور العلماء‪ ،‬كمالك‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وأبى حنيفة والشافعى‪ ،‬وأصحابهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن اضطرت إلى‬
‫ث أم سلمة‬
‫ل به ليلً وتمسحه نهاراً‪ ،‬وحجتُهم‪ :‬حدي ُ‬
‫الكحل بالثمد تداوياً ل زينة‪ ،‬فلها أن تكتحِ َ‬
‫عَل ْيكِ‬
‫شتَ ّد َ‬
‫المتقدم رضي الّ عنها‪ ،‬فإنها قالت فى كحل الجلء‪ :‬ل تكتَحِلُ إل لما ل بُدّ منه‪ ،‬يَ ْ‬
‫فتكتحلين بالليل‪ ،‬وتغسلينه بالنهار‪ .‬ومن حجتهم‪ :‬حديث أم سلمة رضى الّ عنها الخر أن رسول‬
‫ل صلى ال عليه وسلم دخل عليها‪ ،‬وقد جعلت عليها صَبراً فقال‪ :‬ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت‪ :‬صبر‬
‫ا ّ‬
‫ب الوَجْهَ‪ ،‬فقال‪ :‬لَ تجعليه إل بالّليْل َو َت ْنزِعيه بال ّنهَار))‪،‬‬
‫يا رسول الّ‪ ،‬ليس فيه طيب فقال‪ :‬إنه يُش ّ‬

‫‪409‬‬
‫وهما حديثٌ واحد‪ ،‬فّرقه الرواةُ‪ ،‬وأدخل مالك هذا القدر منه فى ((موطئه)) بلغاً‪ ،‬وذكر أبو عمر‬
‫ل السنن فى كتبهم‪،‬‬
‫فى ((التَمهيد)) له طرقًا يَش ّد بعضُها بعضاً‪ ،‬ويكفى احتجاجُ مالك به‪ ،‬وأدخله أه ُ‬
‫واحتج به الئمةُ‪ ،‬وأقلّ درجاته أن يكون حسناً‪ ،‬ولكن حديثُها لهذا مخالف فى الظاهر لحديثها‬
‫ل على أن المتوفى عنها ل تكتحِلُ بحال‪ ،‬فإن النبى صلى ال عليه وسلم‬
‫المسند المتفق عليه‪ ،‬فإنه يَدُ ّ‬
‫لم يأذن للمشتكية عينها فى الكحل ل ليلً ول نهاراً‪ ،‬ول مِن ضرورة ول غيرِها‪ ،‬وقال‪(( :‬ل))‪،‬‬
‫مرتين أو ثلثاً‪ ،‬ولم يقل‪ :‬إل أن تضطر‪ .‬وقد ذكر مالك عن نافع‪ ،‬عن صفية ابنة عبيد‪ ،‬أنها اشتكت‬
‫عينها وهى حَا ّد على زوجها عبد الّ بن عمر‪ ،‬فلم تكتحِل حتى كادت عيناها َت ْرمَصَانِ‪.‬‬
‫قال أبو عمر‪ :‬وهذا عندى وإن كان ظاهره مخالفاً لحديثها الخر‪ ،‬لما فيه من إباحته بالليل‪.‬‬
‫ل أعلم أن‬
‫وقوله فى الحديث الخر‪(( :‬ل))‪ ،‬مرتين أو ثلثًا على الطلق‪ ،‬أن ترتِيبَ الحديثَين وا ّ‬
‫ل أعلم مِنها مبلغاً ل بُدّ لها فيه‬
‫الشكاة التى قال فيها رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل‪ ،‬لم تبلغ وا ّ‬
‫ب بصرها‪ ،‬لباح لها ذلك‪ ،‬كما فعل‬
‫مِن الكحل‪ ،‬فلذلك نهاها‪ ،‬ولو كانت محتاجة مضطرة تخافُ ذها َ‬
‫بالتى قال لها‪(( :‬اجعليه بالّليْلِ وامْسَحيهِ بالنّهارِ))‪ ،‬والنظر يشهد لهذا التأويل‪ ،‬لن الضرورات‬
‫المحظورات إلى حال المباح فى الصول‪ ،‬ولهذا جعل مالك فتوى أم سلمة رضى الّ عنها تفسيراً‬
‫للحديث المسند فى الكحل‪ ،‬لن أم سلمة رضى الّ عنها روته‪ ،‬وما كانت لِتخالِفَه إذا صحّ عندها‪،‬‬
‫وهى أعلمُ بتأويله ومخرجه‪ ،‬والنظ ُر يشهد لذلك‪ ،‬لن المضطر إلى شىء ل يُحكم له بحكم المرفّه‬
‫المتزين بالزينة‪ ،‬وليس الدواء والتداوى من الزينة فى شىء‪ ،‬وإنما نُهيت الحادة عن الزينة ل عن‬
‫ل الفقه‪ ،‬وبه قال‬
‫التداوى‪ ،‬وأمّ سلم َة رضى الّ عنها أعلم بما روت مع صحته فى النظر‪ ،‬وعليه أه ُ‬
‫مالك والشافعى‪ ،‬وأكثر الفقهاء‪.‬‬
‫ل فى ((موطئه))‪ :‬أنه بلغه عن سالم بن عبد الّ‪ ،‬وسليمان بن يسار‪،‬‬
‫وقد ذكر مالك رحمه ا ّ‬
‫أنهما كانا يقولن فى المرأة يُتوفى عنها زوجُها‪ :‬إنها إذا خشيت على بصرها مِن رمدٍ بعينيها‪ ،‬أو‬
‫شكوى أصابتها‪ ،‬أنها تكتحل وتتداوى بالكحل وإن كان فيه طيب‪ .‬قال أبو عمر‪ :‬لن القصد إلى‬
‫التداوى ل إلى التطيب‪ ،‬والعمال بالنيات‪.‬‬
‫وقال الشافعى رحمه الّ‪ ،‬الصبر يصفر‪ ،‬فيكون زينة‪ ،‬وليس بطيب‪ ،‬وهو كحل الجلء‪،‬‬
‫ل عنها للمرأة بالليل حيث ل ترى‪ ،‬وتمسحه بالنهار حيث يرى‪ ،‬وكذلك ما‬
‫فأذنت أم سلمة رضى ا ّ‬
‫أشبهه‪.‬‬

‫‪410‬‬
‫وقال أبو محمد بن قدامة فى ((المغنى))‪ :‬وإنما تُمنع الحاد ُة مِن الكُحل بالثمد‪ ،‬لنه تحصل‬
‫به الزينة‪ ،‬فأما الكُحل بالتوتيا والعنزَروت ونحوهما‪ ،‬فل بأس به‪ ،‬لنه ل زينةَ فيه‪ ،‬بل يُ َقبّح العين‬
‫صبِ ِر على غير وجهها من بدنها‪ ،‬لنه إنما ُمنِ َع منه فى‬
‫ويزيدها َمرَهاً‪ .‬قال‪ :‬ول تُمنع مِن جعل ال ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنه يُشب الوجه‪.‬‬
‫الوجه‪ ،‬لنه يُصفره‪ ،‬فيشبه الخضاب‪ ،‬فلهذا قال النب ّ‬
‫قال‪ :‬ول تُمنع مِن تقليم الظفار‪ ،‬ونتفِ البط‪ ،‬وحلقِ الشعر المندوب إلى حلقه‪ ،‬ول من‬
‫ث أم سلمة رضى الّ عنها‪ ،‬ولنه يراد للتنظيف ل للتطيب‪،‬‬
‫الغتسال بالسّدر‪ ،‬والمتشاط به‪ ،‬لحدي ِ‬
‫وقال إبراهيم بن هانىء النيسابورى فى ((مسائله)) قيل لبى عبد الّ‪ :‬المتوفى عنها تكتحِلُ بالثمد؟‬
‫صبِر إذا خافت على عينها واشتكت شكوى شديدة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل‪ ،‬ولكن إن أرادت‪ ،‬اكتحلت بال ّ‬
‫فصل‬
‫النوع الثانى‪ :‬زينةُ الثياب‪ ،‬فيحرُم عليها ما نهاها عنه النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وما هو‬
‫صبُوغاً))‪ .‬وهذا يعم‬
‫س َثوْبًا َم ْ‬
‫أولى بالمنع منه‪ ،‬وما هو مثلُه‪ .‬وقد صح عنه أنه قال‪(( :‬ولَ َت ْل َب ُ‬
‫المعصفر والمزعفر‪ ،‬وسائرَ المصبوغ بالحمر والصفر‪ ،‬والخضر‪ ،‬والزرق الصافى‪ ،‬وكل ما‬
‫ن الثّيابِ‪،‬ول ال ُممَشّق))‪.‬‬
‫ل َت ْل َبسُ ال ُم َعصْفَ َر مِ َ‬
‫يُصبغ للتحسين والتزيين‪ .‬وفى اللفظ الخر‪(( :‬وَ َ‬
‫وههنا نوعان آخران‪ .‬أحدهما‪ :‬مأذون فيه‪ ،‬وهو ما نُسج من الثياب على وجهه ولم يدخل‬
‫فيه صبغ من خز‪ ،‬أو قز‪ ،‬أو قطن‪ ،‬أو كتان‪ ،‬أو صوف‪ ،‬أو وبر‪ ،‬أو شعر‪ ،‬أو صبغ غزله ونسج مع‬
‫غيره كالبروُد‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬ما ل يُراد بصبغه الزينة مثل السواد‪ ،‬وما صُبغ لتقبيح‪ ،‬أو ليستر الوسخ‪ ،‬فهذا ل‬
‫يمنع منه‪.‬‬
‫قال الشافعى رحمه الّ‪ :‬فى الثياب زينتان‪ .‬إحداهما‪ :‬جمال الثياب على اللبسين‪ ،‬والسترة‬
‫ب زينة لمن يلبسُها‪ ،‬وإنما نُهيت الحادةُ عن زينة بدنها‪ ،‬ولم تُنه عن ستر عورتها‪ ،‬فل‬
‫للعورة‪ .‬فالثيا ُ‬
‫ف والوبر‪ ،‬وكل ما‬
‫ل ثوبٍ من البياض‪ ،‬لن البياض ليس بمزين‪ ،‬وكذلك الصو ُ‬
‫بأس أن تلبس كُ ّ‬
‫ل صبغ لم يرد تزيين الثوب مثل‬
‫يُنسج على وجهه ولم يدخل عليه صِبغ من خز أو غيره‪ ،‬وكذلك كُ ّ‬
‫السواد‪ ،‬وما صبغ لتقبيحه‪ ،‬أو لنفى الوسخ عنه‪ ،‬فأما كان مِن زينة‪ ،‬أو وشى فى ثوبه أو غيره فل‬
‫تلبسه الحادة‪ ،‬وذلك لِكل حرة أو أمة‪ ،‬كبيرة أو صغيرة‪ ،‬مسلمة أو ذمية‪ .‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫قال أبو عمر‪ :‬وقول الشافعى رحمه الّ فى هذا الباب نحو قول مالك‪ ،‬وقال أبو حنيفة‪ :‬ل‬
‫س ثوب عصب ول خز وإن لم يكن مصبوغًا إذا أرادت به الزينة‪ ،‬وإن لم تُرد بلبس الثوب‬
‫تلبَ ُ‬

‫‪411‬‬
‫المصبوغ الزينة‪ ،‬فل بأس أن تلبسه‪ .‬وإذا اشتكت عينُها‪ ،‬اكتحلت بالسود وغيره‪ ،‬وإن لم تشتكِ‬
‫عينُها‪ ،‬لم تكتحل‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما المام أحمد رحمه الّ‪ ،‬فقال فى رواية أبى طالب‪ :‬ول تتزين المعتدة‪ ،‬ول تتطيب‬
‫ل بكُحل زِينة‪ ،‬وتدّهنُ بدُهن ليس فيه طيب‪ ،‬ول تُق ّربُ مسكاً‪ ،‬ول‬
‫بشىء من الطيب‪ ،‬ول تكتحِ ُ‬
‫زعفرانًا للطيب‪ ،‬والمطلقة واحدة أو اثنتين تتزيّن‪ ،‬وتتش ّوفُ لعله أن يُراجعها‪.‬‬
‫وقال أبو داود فى مسائله‪ :‬سمعت أحمد قال‪ :‬المتوفّى عنها زوجُها‪ ،‬والمطلقةُ ثلثاً‪،‬‬
‫ن الطيبَ والزينة‪.‬‬
‫والمحرمة يجتنْب َ‬
‫وقال حرب فى ((مسائله))‪ :‬سألتُ أحمد رحمه الّ‪ ،‬قلت‪ :‬المتوفى عنها زوجها والمطلقة‪،‬‬
‫هل تلبسان البُرد ليس بحرير؟ فقال‪ :‬ل تتطيب المتوفى عنها‪ ،‬ول تتزين بزينة‪ ،‬وشدد فى الطيب‪،‬‬
‫ل عند طُهرها‪ .‬ثم قال‪ :‬وشبهت المُطَلّقَة ثلثاً بالمتوفّى عنها‪ ،‬لنه ليس لزوجها‬
‫إل أن يكون قلي ً‬
‫عليها رجعة‪ ،‬ثم ساق حرب بإسناده إلى أمّ سلمة قال‪ :‬المتوفّى عنها ل تلبس المعصفر من الثياب‪،‬‬
‫ول تختضب‪ ،‬ول تكتحِلُ‪ ،‬ول تتطيب‪ ،‬ول تمتشط بطيب‪.‬‬
‫ل عن المرأة تنت ِقبُ فى‬
‫وقال إبراهيم بن هانىء النيسابورى فى ((مسائله))‪ :‬سألتُ أبا عبد ا ّ‬
‫عدتها‪ ،‬أو تدهن فى عدتها؟ قال‪ :‬ل بأس به‪ ،‬وإنما ُك ِر َه للمتوفّى عنها زوجُها أن تتزين‪ .‬وقال أبو‬
‫عبد الّ‪ :‬كل دُهن فيه طيب‪ ،‬فل تدهِنُ به‪ ،‬فقد دار كلم المام أحمد‪ ،‬والشافعى‪ ،‬وأبى حنيفة رحمهم‬
‫ل على أن الممنوع منه مِن الثياب ما كان من لباس الزينة من أى نوع كان‪ ،‬وهذا هو الصوابُ‬
‫ا ّ‬
‫قطعاً‪ ،‬فإن المعنى الذى مُنعت مِن المعصفر والممشّق لجله مفهوم‪ ،‬والنبى صلى ال عليه وسلم‬
‫ض والبرود‬
‫خصه بالذكر مع المصبوغ تنبيهًا على ما هو مثلُه‪ ،‬وأولى بالمنع‪ ،‬فإذا كان البي ُ‬
‫المحبرّة الرفيعة الغالية الثمان مما يُراد للزينة لرتفاعِهما وتناهى جودتهما‪ ،‬كان أولى بالمن ِع مِن‬
‫ل ورسوله لم يَس َت ِربْ فى ذلك‪ ،‬ل كما قال أبو محمد ابن‬
‫الثوب المصبوغ‪ .‬وكل من عقل عن ا ّ‬
‫حزم‪ :‬إنها تجتنب الثياب المصبغة فقط‪ ،‬ومباحٌ لها أن تلبس بعدُ ما شاءت من حرير أبيض وأصفر‬
‫مِن لونه الذى لم يُصبغ‪ ،‬وصوف البحر الذى هو لونُه‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ومباح لها أن تلبسَ المنسوجَ‬
‫بالذهب والحُلى كله مِن الذهب والفضة‪ ،‬والجوهر والياقوت‪ ،‬والزمرد وغير ذلك‪ ،‬فهى خمستةُ‬
‫أشياء تجتنبها فقط‪ ،‬وهى‪ :‬الكحل كله لضرورة أو لغير ضرورة‪ ،‬ولو ذهبت عيناها ل ليلً ول‬
‫ل ثوب مصبوغ مما يُلبس فى الرأس والجسد‪ ،‬أو على شىء منه‪ ،‬سواء فى‬
‫نهاراً‪ ،‬وتجتنب فرضًا كُ ّ‬

‫‪412‬‬
‫ذلك السواد والخضرة‪ ،‬والحُمرة والصفرة‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬إل العصب وحدَه وهى ثياب موشّاة تُعمل‬
‫فى اليمن‪ ،‬فهو مباح لها‪ .‬وتجتنب أيضاً‪ :‬فرضاً الخضابَ ُكلّه جملة‪ ،‬وتجتنب المتشاط حاشا‬
‫التسريح بالمشط فقط‪ ،‬فهو حللٌ لها‪ ،‬وتجتنب أيضاً‪ :‬فرضًا الطيبَ ُكلّه‪ ،‬ول تقرب شيئاً حاشا شيئاً‬
‫من قسط أو أظفار عند طهرها فقط‪ ،‬فهذه الخمسة التى ذكرها حكينا كلمه فيها بنصه‪.‬‬
‫وليس بعجيبٍ منه تحريمُ لبس ثوب أسودَ عليها ليس من الزينة فى شىء‪ ،‬وإباح ُة ثوب يتقد‬
‫ذهبًا ولؤلؤًا وجوهراً‪ ،‬ول تحري ُم المصبوغ الغليظ لحمل الوسخ‪ ،‬وإباحة الحرير الذى يأخذ بالعيون‬
‫حسنُه وبهاؤه ورُواؤه‪ ،‬وإنما العجب منه أن يقولَ‪ :‬هذا دينُ الّ فى نفس المر‪ ،‬وأنه ل يَحلّ لحد‬
‫ب من هذا إقدامه على خلفِ الحديث الصحيح فى نهيه صلى ال عليه وسلم لها عن‬
‫خلفه‪ .‬وأعج ُ‬
‫ح ذلك‪ ،‬لنه من رواية إبراهيم‬
‫حلِى‪ .‬وأعجبُ من هذا‪ ،‬أنه ذكر الخبرَ بذلك‪ ،‬ثم قال‪ :‬ول َيصِ ّ‬
‫لباس ال ُ‬
‫بن طهمان‪ ،‬وهو ضعيف‪ ،‬ولو صح لقلنا به‪.‬‬
‫َفِللّه ما لقى إبراهيم بن طهمان من أبى محمد ابن حزم‪ ،‬وهو مِن الحفاظ الثبات‬
‫ب الصحيح‪ ،‬وفيهم الشيخان على‬
‫الثقات الذين اتفق الئم ُة الستة على إخراج حديثه‪ ،‬واتفق أصحا ُ‬
‫الحتجاج بحديثه‪ ،‬وشهد له الئمةُ بالثقة والصدق‪ ،‬ولم يُحفظ عن أحد منهم فيه جرح ول خدش‪،‬‬
‫ول يُحفظ عن أحد من المحدثين قط تعليلُ حديث رواه‪ ،‬ول تضعيفُه به‪ .‬وقرىء على شيخنا أبى‬
‫الحجاج الحافظ فى ((التهذيب)) وأنا أسمع‪ :‬قال‪ :‬إبراهيم بن طهمان بن سعيد الخراسانى أبو سعيد‬
‫الهروى ولد بهراة‪ ،‬وسكن نيسابور وقَدِمَ بغداد‪ ،‬وحدث بها‪ ،‬ثم سكن بمكة حتى مات بها‪ ،‬ثم ذكر‬
‫عمن روى‪ ،‬ومن روى عنه‪ ،‬ثم قال‪ :‬قال نوح بن عمرو بن المروزى‪ ،‬عن سفيان بن عبد الملك‪،‬‬
‫عن ابن المبارك‪ :‬صحيحُ الحديث‪ ،‬وقال عبد الّ بن أحمد بن حنبل‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬وأبى حاتم‪ :‬ثقة‪ ،‬وقال‬
‫ل بن أحمد بن حنبل‪ ،‬عن يحيى بن معين‪ :‬ل بأس به‪ ،‬وكذلك قال العِجلى‪ ،‬وقال أبو حاتم‪:‬‬
‫عبد ا ّ‬
‫صدوقٌ حسن الحديث‪ ،‬وقال عثمان بن سعيد الدارمى‪ :‬كان ثقة فى الحديث‪ ،‬ثم لم تزل الئمة‬
‫يشتهون حديثه‪ ،‬ويرغبون فيه‪ ،‬ويوثقونه‪ .‬وقال أبو داود‪ :‬ثقة وقال إسحاق بن راهويه‪ :‬كان صحيحَ‬
‫س الرواية‪ ،‬كثيرَ السماع‪ ،‬ما كان بخُراسان أكثر حدثًا منه‪ ،‬وهو ثقة‪ ،‬وروى له‬
‫الحديث‪ ،‬ح َ‬
‫الجماعة‪ .‬وقال يحيى بن أكثم القاضى‪ :‬كان مِن أنبل مَنْ حدّث بخُراسان والعراق والحجاز‪،‬‬
‫وأوثقهم‪ ،‬وأوسعهم علماً‪ .‬وقال المسعودى‪ :‬سمعت مالك ابن سليمان يقول‪ :‬مات إبراهيم بنُ طهمان‬
‫سنة ثمان وستين ومائة بمكة ولم يخلف مثله‪.‬‬

‫‪413‬‬
‫ل عنهم بما هو مطابق لهذه النصوص‪ ،‬وكاشف عن معناها‬
‫وقد أفتى الصحاب ُة رضى ا ّ‬
‫خ َتضِب‪ ،‬ول تل َبسُ‬
‫ومقصودها‪ ،‬فصّح عن ابن عمر أنه قال‪ :‬ل تكتحِلُ‪ ،‬ول تتطيب‪ ،‬ول َت ْ‬
‫ل بكُحل‬
‫المعصفر‪ ،‬ول ثوبًا مصبوغاً‪ ،‬ول برداً‪ ،‬ول تتزين بِحلى‪ ،‬شيئًا تُريد به الزينة‪ ،‬ول تكتحِ ُ‬
‫تُريد به الزينة‪ ،‬إل أن تشتكى عينها‪.‬‬
‫ل ابن عمر‪ ،‬عن نافع‪،‬‬
‫ح عنه من طريق عبد الرزاق‪ ،‬عن سفيان الثورى‪ ،‬عن عُبيد ا ّ‬
‫وص ّ‬
‫ضبُ ول تكتحل‪ ،‬ول تلبس ثوباً مصبوغًا إل ثوب‬
‫عن ابن عمر‪ :‬ول تمسّ عنها طيباً‪ ،‬ول تخت ِ‬
‫ب به‪.‬‬
‫عصب تتجلب ُ‬
‫صبَ‪ ،‬ول تمس طيباً إل أدنى الطيب‬
‫س الثيابَ المصبغة إل ال َع ْ‬
‫وصح عن أمّ عطية‪ :‬ل تلب ُ‬
‫بالقُسط والظفار‪ ،‬ول تكتحِلُ بكحل زينة‪.‬‬
‫ب والزينة‪.‬‬
‫ب الطي َ‬
‫وصح عن ابن عباس رضى الّ عنه أنه قال‪ :‬تجت ِن ُ‬
‫س مِن الثياب المصبغة شيئاً‪ ،‬ول تكتحِلُ‪ ،‬ول تلبس‬
‫وصح عن أمّ سلمة رضى الّ عنها ل تلبَ ُ‬
‫حُلياً‪ ،‬ول تختضب‪ ،‬ول تتط ّيبُ‪.‬‬
‫س معصفراً‪ ،‬ول تُق ّربُ طيباً‪ ،‬ول تكتحل‪،‬‬
‫وقالت عائشة أمّ المؤمنين رضى الّ عنها‪ :‬ل تل َب ُ‬
‫ب ال َعصْبِ‪.‬‬
‫ول تلبس حُلياً‪ ،‬وتلبس إن شاءت ثيا َ‬
‫فصل‬
‫ب الزوج ُة المتوفّى عنها زوجها الطيبَ‪،‬‬
‫وأما النّقابُ‪ ،‬فقال الخِرقى فى ((مختصره))‪ :‬وتجت ِن ُ‬
‫والزينة‪ ،‬والبيتوتة فى غير منزلها‪ ،‬والكُحلَ بالثمد‪ ،‬والنّقاب‪ .‬ولم أج ْد بهذا نصاً عن أحمد‪.‬وقد قال‬
‫ل عن المرأة تنت ِقبُ فى عِدتها‪ ،‬أو تدهِن فى‬
‫إسحاق ابن هانىء فى ((مسائله))‪ :‬سألت أبا عبد ا ّ‬
‫عدتها؟ قال‪ :‬ل بأس به‪ ،‬وإنما ُك ِر َه للمتوفى عنها زوجها أن تتزيّن‪ .‬ولكن قد قال أبو داود فى‬
‫ب والزينة‪ .‬فجعل‬
‫((مسائله)) عن المتوفى عنها زوجها‪ ،‬والمطلقة ثلثاً‪ ،‬والمحرمة‪ :‬تجتنبن الطي َ‬
‫المتوفى عنها بمنزلة المحرمة فيما تجتنبه‪ ،‬فظاهر هذا أنها تجتنب النقاب‪ ،‬فلعل أبا القاسم أخذ مِن‬
‫ل أعلم وبهذا علله أبو محمد فى ((المغنى)) فقال‪ :‬فصل الثالث فيما تجتنبه الحادة‬
‫نصه هذا وا ّ‬
‫ح ِرمَة‪ ،‬والمحرمة تمتنع من ذلك‪.‬‬
‫النقاب‪ ،‬وما فى معناه مثل البرقع ونحوه‪ ،‬لن المعتدة مشبهة بالمُ ْ‬
‫وإذا احتاجت إلى ستر وجهها‪،‬سدلت عليه كما تفعل المحرمة‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪414‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون فى الثوب إذا صُب َغ غزلُه ثم نسج‪ ،‬هل لها لبسه؟ قيل‪ :‬فيه وجهان‪،‬‬
‫وهما احتمالت فى المغنى أحدهما يحرم لبسه‪ ،‬لنه أحسن وأرفع ولنه مصبوغٌ للحسن‪ ،‬فأشبه ما‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فى حديث أمّ سلمة رضي‬
‫صُبغَ بعد نسجه‪ ،‬والثانى‪ :‬ل يحرم لقول رسول ا ّ‬
‫صبٍ))‪ ،‬وهو ما صُبغَ غزلُه قبل نسجه‪ ،‬ذكره القاضى‪ ،‬قال الشيخ‪ :‬والول‬
‫ع ْ‬
‫ل َث ْوبَ َ‬
‫الّ عنها‪(( :‬إ ّ‬
‫أصح‪ ،‬وأما العَصَب‪ :‬فالصحيح‪ :‬أنه نبتٌ تصبغ به الثياب‪ ،‬قال السهيلى‪ :‬الورس والعصب نبتان‬
‫باليمن ل ينبتان إل به‪ ،‬فرخص النبى صلى ال عليه وسلم للحا ّدةِ فى لبس ما يُصبغ بالعَصب‪ ،‬لنه‬
‫فى معنى ما يصبغ لغير تحسين‪ ،‬كالحمر والصفر‪ ،‬فل معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫بصبغه‪ ،‬كحصولها بما صُبغ بعد نسجه‪ .‬وا ّ‬
‫ذِكرُ حكمِ رسول الِّ صلى ال عليه وسلم فى الستبراء‬
‫ل صلى ال‬
‫ل عنه‪ ،‬أن رسول ا ّ‬
‫ثبت فى صحيح مسلم‪ :‬من حديث أبى سعيد الخُدرى رضى ا ّ‬
‫عليه وسلم يومَ حُنين بعث جيشًا إلى أوطاس‪ ،‬فلقى عدواً‪ ،‬فقاتلوهم‪ ،‬فظهروا عليهم‪ ،‬وأصابُوا سبايا‪،‬‬
‫ل أزواجهن‬
‫ل صلى ال عليه وسلم تحرّجوا من غِشيانهن مِن أج ِ‬
‫فكأن ناسًا مِن أصحابِ رسول ا ّ‬
‫ت أ ْيمَا ْنكُمْ }‬
‫ل مَا َمَل َك ْ‬
‫ن النّسَاءِ إ ّ‬
‫صنَاتُ مِ َ‬
‫ح َ‬
‫لّ عزّ وجلّ فى ذلك‪{ :‬والمُ ْ‬
‫من المشركين‪ ،‬فأنزل ا ُ‬
‫ن لكُمْ حَلَلٌ إذا انقضت عدتهن‪.‬وفى ((صحيحه)) أيضاً‪ :‬من حديث أبى‬
‫[النساء‪ ،]24 :‬أى‪َ :‬فهُ ّ‬
‫علَى بابِ فُسطاط‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ل عنه‪ ،‬أن النبىّ صلى ال عليه وسلم م ّر بامرأةٍ مُجحّ َ‬
‫الدرداء رضى ا ّ‬
‫ن َأ ْل َعنَهُ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لَقَدْ َه َم ْمتُ أَ ْ‬
‫ل رَسولُ ا ّ‬
‫ن ُيلِ ّم بها))‪ .‬فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فقا َ‬
‫((لَ َعلّ ُه يُريد أَ ْ‬
‫ل لَهُ))‪.‬‬
‫ل يَحِ ّ‬
‫ستَخْ ِدمُ ُه و ُهوَ َ‬
‫ف يَ ْ‬
‫ل لَهُ‪َ ،‬ك ْي َ‬
‫ل يَحِ ّ‬
‫ف ُي َو ّرثُ ُه و ُهوَ َ‬
‫ل َمعَهُ َق ْب َرهُ‪َ ،‬ك ْي َ‬
‫َلعْنًا يَدْخُ ُ‬
‫وفى الترمذي‪ :‬من حديث عِرباض بن سارية‪ ،‬أن النبىّ صلى ال عليه وسلم حرّم وَطْءَ‬
‫ضعْنَ مَا فى بُطُو ِنهِنّ‪.‬‬
‫حتّى َي َ‬
‫السّبايَا َ‬
‫ل عنه‪ ،‬أن النبىّ‬
‫وفى ((المسند))‪ ،‬وسنن أبى داود‪ :‬من حديث أبى سعيد الخُدري رضى ا ّ‬
‫حتّى‬
‫حمْلٍ َ‬
‫غ ْيرُ ذَاتِ َ‬
‫حتّى َتضَعَ‪ ،‬وَلَ َ‬
‫ل تُوطَأُ حَامِلٌ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال فى سبايا أَوطاس‪َ (( :‬‬
‫ح ْيضَةً))‪.‬‬
‫تَحِيضَ َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‬
‫ل عنه‪ ،‬أن النب ّ‬
‫وفى الترمذى‪ :‬من حديث رُويفع بن ثابت رضى ا ّ‬
‫غ ْيرِه))‪ .‬قال الترمذى‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫ل يَسْقى مَا َء ُه َولَد َ‬
‫لّ وَال َيوْمِ الخر‪ ،‬فَ َ‬
‫ن يُؤمِنُ بِا ِ‬
‫ن كَا َ‬
‫قال‪(( :‬مَ ْ‬
‫علَى ا ْمرََأةٍ‬
‫ن يَقَعَ َ‬
‫خرِ أَ ْ‬
‫لّ وَال َيوْمِ ال ِ‬
‫ن بِا ِ‬
‫ولبى داود‪ ،‬من حديثه أيضاً‪(( :‬لَ َيحِلّ ل ْمرِىءٍ ُي ْؤمِ ُ‬
‫س َتبْرئَها))‪.‬‬
‫حتّى يَ ْ‬
‫سبْى َ‬
‫مِنَ ال ّ‬

‫‪415‬‬
‫حتّى َتحِيضَ))‪ .‬وذكر‬
‫سبَايَا َ‬
‫ن َثيّبًا مِنَ ال ّ‬
‫ل َي ْنكِحَ ّ‬
‫خرِ فَ َ‬
‫لّ واليَوْمِ ال ِ‬
‫ن ُي ْؤمِنُ با ِ‬
‫ن كَا َ‬
‫ولحمد‪(( :‬مَ ْ‬
‫ت الوَليد ُة التى تُوطَأ‪ ،‬أو بيعَت‪ ،‬أو عَتقت‪،‬‬
‫البخارى فى ((صحيحه))‪ :‬قال ابن عمر‪ :‬إذا وُ ِه َب ِ‬
‫فلُتستبرأ بحيضة‪ ،‬ول تُستبرأ العذراءُ‪.‬‬
‫ل صلى‬
‫وذكر عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن عمرو بن مسلم‪ ،‬عن طاووس‪ :‬أرسل رسول ا ّ‬
‫حتّى َتحِيضَ))‪.‬‬
‫ل يَ َقعَنّ رَجُلٌ عَلى حَامِلٍ‪ ،‬وَلَ حَائِلِ َ‬
‫ال عليه وسلم منادياً فى بعض مغازيه‪َ (( :‬‬
‫وذكر عن سفيان الثورى‪ :‬عن زكريا‪ ،‬عن الشعبى‪ ،‬قال‪ :‬أصاب المسلمون سبايا يومَ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أن ل يقعوا على حامِلٍ حتى َتضَعَ‪ ،‬ول على غير‬
‫أوطاس‪ ،‬فأمرهم رسولُ ا ّ‬
‫حامل حتّى تحيض‪.‬‬
‫فصل‬
‫فتضمنت هذه السنن أحكاماً عديدة‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه ل يجوز وط ُء المسبية حتى يُعلم براءةُ رحمها‪ ،‬فإن كانت حاملً فبوضع حملها‪،‬‬
‫وإن كانت حائلً فبأن تحيضَ حيضة‪ .‬فإن لم تكن مِن ذوات الحيض فل نصّ فيها‪ ،‬واخ ُتِلفَ فيها‬
‫وفى البِكر‪ ،‬وفى التى يُعلم براءةُ رحمها بأن حاضت عند البائع‪ ،‬ثم باعها عقيبَ الحيض ولم‬
‫يطأها‪ ،‬ولم يُخرجها عن ملكه‪ ،‬أو كانت عند امرأ ٍة وهى مصونة‪ ،‬فانتقلت عنها إلى رجل‪ ،‬فأوجب‬
‫ى وأبو حنيفة وأحمد الستبراءَ فى ذلك كله‪ ،‬أخذًا بعموم الحاديث‪ ،‬واعتباراً بالعِدة حيث‬
‫الشافع ّ‬
‫تجب مع العلم ببراءة الرحم‪ ،‬واحتجاجاً بآثار الصحابة‪ ،‬كما ذكر عبد الرزاق‪ :‬حدثنا ابنُ جريج‪،‬‬
‫ل عنه‬
‫قال‪ :‬قال عطاء‪ :‬تداولَ ثلثةٌ من التجار جارِيةً‪ ،‬فولَدت‪ ،‬فدعا عمر بن الخطاب رضى ا ّ‬
‫ل عنه‪ :‬من ابتاع جارية قد بلغت المحيضَ‪،‬‬
‫القافة‪ ،‬فألحقوا ولدها بأحدهم‪ ،‬ثم قال عمر رضى ا ّ‬
‫فليتربّصنْ بها حتى تحيض‪ ،‬فإن كانت لم تحض فليتربّصنْ بها خمسًا وأربعين ليلة‪.‬‬
‫ل العدة على من يئست من المحيض‪ ،‬وعلى من لم تبلغ سن المحيض‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬وقد أوجب ا ّ‬
‫ب على اليسة‪ ،‬ومن لم تبلغ سنَ المحيض‪ .‬وقال‬
‫وجعلها ثلثة أشهر‪ ،‬والستبراءُ عدة المة‪ ،‬فيج ُ‬
‫ك براءة رحم المة‪ ،‬فله‬
‫آخرون‪ :‬المقصو ُد من الستبراء العلمُ ببراءة الرحم‪ ،‬فحيث تيقن المال ُ‬
‫وطؤُها ول استبراء عليه‪ ،‬كما رواه عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن أيوب‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر‬
‫رضى الّ عنه قال‪ :‬إذا كانت المة عذرا َء لم يستبرئها إن شاء‪ ،‬وذكره البخارى فى ((صحيحه))‬
‫عنه‪.‬‬

‫‪416‬‬
‫ل اللخمى‪ ،‬عن ابن عمر قال‪:‬‬
‫وذكر حماد بن سلمة‪ ،‬حدثنا على بن زيد‪ ،‬عن أيوب بن عبد ا ّ‬
‫عنُقَها إبريقُ ِفضّة‪ ،‬قال ابن عمر‪ :‬فما ملكتُ نفسى أن‬
‫جلُولَء‪ ،‬كأنّ ُ‬
‫وقعت فى سهمى جاريةٌ يومَ َ‬
‫س ينظرون‪.‬‬
‫ت أقبلها والنا ُ‬
‫جعل ُ‬
‫ومذهب مالك إلى هذا يرجع‪ ،‬وهاك قاعدته وفروعها‪ :‬قال أبو عبد الّ المازَرى وقد عقد‬
‫قاعدة لباب الستبراء فنذكرها بلفظها‪.‬‬
‫ل مَنْ‬
‫والقول الجامع فى ذلك‪ :‬أن كل َأمَ ٍة ُأمِنَ عليها الحملُ‪ ،‬فل يلزم فيها الستبراءُ‪ ،‬وكُ ّ‬
‫غلب على الظن كونها حاملً‪ ،‬أو شك فى حملها‪ ،‬أو تردد فيه‪ ،‬فالستبراءُ لزم فيها‪ ،‬وكل من غلّب‬
‫الظن ببراءة رحمها‪ ،‬لكنه مع الظن الغالب يجوز حصولُه‪ ،‬فإن المذهب على قولين فى ثبوتِ‬
‫الستبراء وسقوطِه‪.‬‬
‫ثم خرج على ذلك الفروعَ المختلفة فيها‪ ،‬كاستبرا ِء الصغيرة التى تُطيق الوطْء‪ ،‬واليسَة‪،‬‬
‫وفيه روايتان عن مالك‪ ،‬قال صاحب ((الجواهر))‪ :‬ويجبُ فى الصغيرة إذا كانت ممن قارب سن‬
‫الحمل‪ ،‬كبنت ثلث عشرة‪ ،‬أو أربع عشرة‪ ،‬وفى إيجاب الستبراء إذا كانت ممن تُطيق الوطءَ‪ ،‬ول‬
‫حمِلُ مثلها كبنت تسع وعشر‪ ،‬روايتان أثبته فى رواية ابن القاسم‪ ،‬ونفاه فى رواية ابن عبد الحكم‪،‬‬
‫يَ ْ‬
‫وإن كانت ممن ل يُطبق الوطء‪ ،‬فل استبراء فيها‪ .‬قال‪ :‬ويجب الستبراء فيمن جاوزت سنّ‬
‫الحيض‪ ،‬ولم تبلغ سنّ اليسة‪ ،‬مثل ابنة الربعين والخمسين‪ .‬وأما التى قعدت عن المحيض‪،‬‬
‫ويئست عنه‪ ،‬فهل يجب فيها الستبرا ُء أو ل يجب؟ روايتان لبن القاسم‪ ،‬وابنِ عبد الحكم‪ .‬قال‬
‫ل على الندور‪ ،‬أو‬
‫المازَرى‪ :‬ووج ُه الصغيرة التى تُطيق الوطء واليسة‪ ،‬أنه يُمكن فيهما الحم ُ‬
‫لِحماية الذريعة‪ ،‬لئل يدعى فى مواضع المكان أن ل إمكان‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومِن ذلك استبراءُ المة خوفًا أن تكون زنت‪ ،‬وهو المعّبر عنه بالستبراء لسوء الظن‪،‬‬
‫وفيه قولن‪ ،‬والنفى لشهب‪.‬‬
‫خشِ‪ ،‬فيه قولن‪ ،‬الغالبُ‪ :‬عَدمُ وطءِ السادات لهن‪ ،‬وإن كان‬
‫قال‪ :‬ومِن ذلك استبراءُ المَ ِة الوَ ْ‬
‫يقع فى النادر‪.‬‬
‫ومِن ذلك استبراءُ مَنْ باعها مجبوبٌ‪ ،‬أو امرأة‪ ،‬أو ذو محرم‪ ،‬ففى وجوبه روايتان عن‬
‫مالك‪.‬‬
‫ف ثم عجزت‪ ،‬فرجعت إلى سيدها‪ ،‬فابنُ القاسم يُث ِبتُ‬
‫ومِن ذلك استبراءُ المكاتبة إذا كانت تتص ّر ُ‬
‫ب ينفيه‪.‬‬
‫الستبراءَ‪ ،‬وأشه ُ‬

‫‪417‬‬
‫ومن ذلك استبراءُ البِكر‪ ،‬قال أبو الحسن اللخمى‪ :‬هو مستحب على وجه الحتياط غيرُ‬
‫واجب‪ ،‬وقال غيرُه من أصحاب مالك‪ :‬هو واجب‪.‬‬
‫علِ َم المشترى أنه قد استبرأها‪ ،‬فإنه يُجزىء استبراءُ‬
‫ومن ذلك إذا استبرأ البائ ُع المة‪ ،‬و َ‬
‫البائع عن استبراء المشترى‪.‬‬
‫ومن ذلك إذا أودعه‪ ،‬فحاضت عند المُودَع حيضة‪ ،‬ثم استبرأها لم يحتج إلى استبراءٍ ثانٍ‪،‬‬
‫وأجزأت تلك الحيضة عن استبرائها‪ ،‬وهذا بشرط أن ل تخرُج‪ ،‬ول يكون سيدُها يدخلُ عليها‪.‬‬
‫ومن ذلك أن يشت ِريَها مِن زوجته‪ ،‬أو ولد له صغير فى عياله وقد حاضت عند البائع‪ ،‬فابنٌ‬
‫القاسم يقول‪ :‬إن كانت ل تخرج‪ ،‬أجزأه ذلك‪ ،‬وأشهبُ يقول‪ :‬إن كان مع المشترى فى دار وهو‬
‫الذابّ عنها‪ ،‬والناظرُ فى أمرها‪ ،‬أجزأه ذلك‪ ،‬سواء كانت تخرج أو ل تخرج‪.‬‬
‫ومن ذلك إن كان سي ُد المةِ غائباً‪ ،‬فحين قدم‪ ،‬اشتراها منه رجل قبل أن تخرج‪ ،‬أو خرجت‬
‫وهى حائض‪ ،‬فاشتراها قبل أن تطهر‪ ،‬فل استبراء عليه‪.‬‬
‫ومِنْ ذلك إذا بيعت وهى حائض فى أوّلِ حيضها‪ ،‬فالمشهورُ من مذهبه أن ذلك يكون‬
‫استبراءً لها ل يحتاجُ إلى حيضة مستأنفَة‪.‬‬
‫ت يد المشترى منهما‪ ،‬وقد‬
‫ومن ذلك‪ ،‬الشريكُ يشترى نصيبَ شريكه مِن الجارية وهى تح َ‬
‫حاضت فى يده‪ ،‬فل استبرا َء عليه‪.‬‬
‫ع كلّها مِن مذهبه تُنبيك عن مأخذه فى الستبراء‪ ،‬وأنه إنما يجب حيث ل يعلم‬
‫وهذه الفرو ُ‬
‫ول يُظن براءة الرحم‪ ،‬فإن عُلمت أو ظُنت‪ ،‬فَلَ استبراء‪ ،‬وقد قال أبو العباس ابن سريج وأبو‬
‫العباس ابن تيمية‪ :‬إنه ل يجب استبراءُ البكر‪ ،‬كما صح عن ابن عمر رضى الّ عنها‪ ،‬وبقولهم‬
‫نقول‪ ،‬وليس عن النبى صلى ال عليه وسلم نص عام فى وجوب استبراء كل من تجدّد له عليها‬
‫ملك على أى حالة كانت‪ ،‬وإنما نهى عن وطءِ السبايا حتى تضعَ حواملُهن‪ ،‬وتحيض حوائلهن‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فعمومُه يقتضى تحريم وطء أبكارهن قبل الستبراء‪ ،‬كما يمتنع وطء الثيب؟‪.‬‬
‫قيل‪ :‬نعم‪ ،‬وغايتُه أنه عموم أو إطلق ظهر القصدُ منه‪ ،‬فيُخص أو يُقيد عند انتفاء موجبِ‬
‫ن يُؤمِنُ بِالّ‬
‫ن كَا َ‬
‫الستبراء‪ ،‬ويخص أيضًا بمفهوم قوله صلى ال عليه وسلم فى حديث رويفع‪(( :‬مَ ْ‬
‫حتّى تحِيضَ))‪ .‬ويخص أيضًا بمذهب الصحابى‪ ،‬ول يعلم له‬
‫ن السّبايَا َ‬
‫ل َي ْنكِحْ َثيّبًا مِ َ‬
‫خرِ فَ َ‬
‫وَاليَوْمِ ال ِ‬
‫مخالف‪.‬‬

‫‪418‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم علياً‬
‫وفى صحيح البخارى‪ :‬من حديث بريدة‪ ،‬قال‪ :‬بعث رسول ا ّ‬
‫س ِبيّةً‪ ،‬فأصبح وقد‬
‫خ ُمسَ‪ ،‬فاصطفى علىٌ منها َ‬
‫ل عنه إلى خالد يعنى باليمن لِيقبض ال ُ‬
‫رضى ا ّ‬
‫صنَ َع هذا؟ قال‬
‫اغتسل‪ ،‬فقلتُ لخالد‪ :‬أما ترى إلى هذا؟ وفى رواية‪ :‬فقال خالد لبُريدة‪ :‬أل ترى ما َ‬
‫ت ذلك له‪،‬‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ذكر ُ‬
‫ل عنه‪ ،‬فلما قدمنا إلى النب ّ‬
‫بريدة‪ :‬و ُك ْنتُ ُأ ْبغِضُ عليًا رضى ا ّ‬
‫س َأ ْك َثرَ مِنْ َذِلكَ))‪.‬‬
‫خ ُم ِ‬
‫ل ُت ْب ِغضْهُ فَإنّ له فى ال ُ‬
‫عِليّا))؟ قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪َ (( :‬‬
‫فقال‪(( :‬يا ُب َريْ َد َة َأ ُت ْبغِضُ َ‬
‫فهذه الجاريةُ إما أن تكون بكراً فلم ير علي وجوب استبرائها‪ ،‬وإما أن تكون فى آخر حيضها‪،‬‬
‫فاكتفى بالحيضة قبل تملّكه لها‪ .‬وبكل حال‪ ،‬فل بد أن يكون تحقق براءَة رحمها بحيث أغناه عن‬
‫الستبراء‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ل النبى صلى ال عليه وسلم حقّ التأمل‪ ،‬وجدت قوله‪(( :‬وَلَ ُتوْطَأُ حَامِلٌ‬
‫فإذا تَأملتَ قو َ‬ ‫@‬
‫حتّى َتحِيضَ))‪ ،‬ظهر لك منه أن المراد بغير ذاتِ الحمل مَنْ يجوزُ‬
‫حمْلٍ َ‬
‫غ ْيرُ ذَاتِ َ‬
‫حتّى َتضَعَ‪ ،‬وَلَ َ‬
‫َ‬
‫أن تكون حاملً‪ ،‬وأَن ل تكون‪ ،‬فيُمسك عن وطئها مخافة الحمل‪ ،‬لنه ل علم له بما اشتمل عليه‬
‫رحمها‪ ،‬وهذا قاله فى المسبيات لعدم علم السابى بحالهنّ‪.‬‬
‫ل من ملك أمة ل يعلم حالها قبل الملك‪ ،‬هل اشتمل رحمها على حمل أم ل؟ لم‬
‫وعلى هذا َفكُ ّ‬
‫يطأها حتى يستبرئها بحيضة‪ ،‬هذا أمر معقول‪ ،‬وليس بتعبد محض ل معنى له‪ ،‬فل معنى لستبراء‬
‫ل مثلُها‪ ،‬والتى اشتراها من امرأته وهى فى بيته ل تخرُج أصلً‪،‬‬
‫حمِ ُ‬
‫العذراء والصغير ِة التى ل يَ ْ‬
‫ت المرأة وأرادت أن تتزوج‪ ،‬استبرأها بحيضة‪ ،‬ثم‬
‫ونحوها ممن يُعلم براءة رحمها‪ ،‬فكذلك إذا زن ِ‬
‫تزوجت‪ ،‬وكذلك إذا زنت وهى متزوجة‪ ،‬أمسك عنها زوجها حتى تحيض حيضة‪.‬‬
‫وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدُها‪ ،‬اعتدت بحيضة‪.‬‬
‫قال عبدُ الّ بن أحمد‪ :‬سألت أبى‪ ،‬كم عدة أم الولد إذا توفى عنها مولها أو أعتقها؟ قال‪:‬‬
‫عِدتها حيضة‪ ،‬وإنما هى أمة فى كل أحوالها‪ ،‬إن جنت‪ ،‬فعلى سيدها قيمتها‪ ،‬وإن جُني عليها‪ ،‬فعلى‬
‫الجانى ما نقص مِن قيمتها‪ .‬وإن ماتت‪ ،‬فما تركت مِن شىء فلسيدها‪ ،‬وإن أصابت حداً‪ ،‬فح ّد أمة‪،‬‬
‫وإن زوجها سيدها‪ ،‬فما ولدت‪ ،‬فهم بمنزلتها يُعتقون بعتقها‪ ،‬ويُرقون برقها‪.‬‬
‫ض الناس‪ :‬أربعة أشهر وعشراً‪ ،‬فهذه عِدة الحرة‪،‬‬
‫وقد اختلف الناس فى عِدتها‪ ،‬فقال بع ُ‬
‫وهذه عِدة أمة خرجت مِن الرق إلى الحرية‪ ،‬فيلزم من قال‪ :‬أربعة أشهر وعشراً أن يُورّثها‪ ،‬وأن‬
‫يجعل حُكمها حكم الحرة‪ ،‬لنه قد أقامها فى العِدة مقا َم الحرة‪ .‬وقال بعضُ الناس‪ :‬عدتها ثلث‬

‫‪419‬‬
‫حيض‪ ،‬وهذا قول ليس له وجه‪ ،‬إنما تعتد ثلثَ حيض المطلقةُ‪ ،‬وليست هى بمطلقة ول حُرة‪ ،‬وإنما‬
‫ش ُه ٍر وَعَشْراً}‬
‫ن َأ ْر َبعَةَ أ ْ‬
‫سهِ ّ‬
‫ن َأ ْزوَاجًا َي َت َربّصن بَأنْفُ ِ‬
‫ل العدة فقال‪{ :‬والّذِينَ ُي َتوَ ّفوْنَ ِم ْنكُم َويَ َذرُو َ‬
‫ذكر ا ّ‬
‫طلّقَاتُ‬
‫[البقرة‪ ،]234 :‬وليست أم الولد بحرة ول زوجة‪ ،‬فتعتد بأربعة أشهر وعشر‪ .‬قال‪{ :‬والمُ َ‬
‫لثَةَ ُقرُوءٍ} [البقرة‪ ،]228 :‬وإنما هى أمة خرجت مِن الرّق إلى الحرية‪ ،‬وهذا‬
‫ن ثَ َ‬
‫سهِ ّ‬
‫ن بَِأنْفُ ِ‬
‫َي َت َربّصْ َ‬
‫لفظ أحمد رحمه الّ‪.‬‬
‫وكذلك قال فى رواية صالح‪ :‬تعتد أ ّم الولد إذا تُوفى عنها مولها‪ ،‬أو أعتقها حيضة‪ ،‬وإنما‬
‫ى أمة فى كل أحوالها‪.‬‬
‫هَ‬
‫وقال فى رواية محمد بن العباس‪ :‬عِدة أ ّم الولد أربعة أشهر وعشر إذا توفى عنها سيدها‪.‬‬
‫وقال الشيخ فى ((المغنى))‪ :‬وحكي أبو الخطاب رواية ثالثة عن أحمد‪ :‬أنها تعتد بشهرين‬
‫ل فى ((الجامع))‪ ،‬ول أظنها صحيحة عن‬
‫وخمسة أيام‪.‬قال‪ :‬ولم أجِده هذه الرواية عن أحمد رحمه ا ّ‬
‫أحمد رحمه الّ‪ ،‬ورُوى ذلك عن عطاء وطاووس وقتادة‪ ،‬لنها حين الموت أمة‪ ،‬فكانت عِدتها عدةَ‬
‫المة‪ ،‬كما لو مات رجل عن زوجته المة‪ ،‬فعتقت بعد موته‪ ،‬فليست هذه رواية إسحاق بن منصور‬
‫عن أحمد‪.‬‬
‫قال أبو بكر عبد العزيز فى ((زاد المسافر))‪ :‬باب القول فى عدة أم الولد من الطلق‬
‫ل فى رواية ابن القاسم‪ :‬إذا مات السيد وهى عند زوج‪ ،‬فل عِدة عليها‪ ،‬كيف‬
‫والوفاة‪ .‬قال أبو عبد ا ّ‬
‫تعتد وهى مع زوجها؟ وقال فى رواية مهنا‪ :‬إذا أعتق أمّ الولد‪ ،‬فل يتزوج أختها حتى تخرج من‬
‫عدتها‪ .‬وقال فى رواية إسحاق ابن منصور‪ :‬وعِدة أم الولد عدة المة فى الوفاة والطلق والفرقة‪،‬‬
‫انتهى كلمه‪.‬وحُجة من قال‪ :‬عدتها أربعة أشهر وعشر‪ ،‬ما رواه أبو داود عن عمرو بن العاص‪،‬‬
‫عَل ْينَا سنة نبينا محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها‬
‫أنه قال‪ :‬ل تُفْسِدُوا َ‬
‫أربعة أشهر وعشر‪ :‬وهذا قول السّعيدين‪ ،‬ومحمد بن سيرين‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز‪،‬‬
‫وخِلس بن عمرو‪ ،‬والزهرى‪ ،‬والوزاعى‪ ،‬وإسحاق‪ .‬قالوا‪ :‬لنها حرة تعتد للوفاة‪ ،‬فكانت عِدتُها‬
‫أربعة أشهر وعشراً‪ ،‬كالزوجة الحرة‪.‬‬
‫وقال عطاء‪ ،‬والنخعى‪ ،‬والثورى‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬وأصحابه‪ :‬تعت ّد بثلثِ حيض‪ ،‬وحُكىَ عَن‬
‫على‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬قالوا‪ :‬لنها ل بد لها مِن عدة‪ ،‬وليست زوجة‪ ،‬فتدخل فى آية الزواج المتوفّى‬
‫ل فى نصوص استبراء المَاء بحيضة‪ ،‬فهى أشبه شىء بالمطلقة‪ ،‬فتعتد بثلثة‬
‫عنهن‪ ،‬ول أمة‪ ،‬فتدخُ ُ‬
‫أقراء‪.‬‬

‫‪420‬‬
‫والصوابُ من هذه القوال‪ :‬أنها تُستَبرأ بحيضة‪ ،‬وهو قولُ عثمان بن عفان‪ ،‬وعائشة‪ ،‬وعبد‬
‫ل بن عمر‪ ،‬والحسن‪ ،‬والشعبى‪ ،‬والقاسم ابن محمد‪ ،‬وأبى قِلبة‪ ،‬ومكحول‪ ،‬ومالك‪ ،‬والشافعى‪،‬‬
‫ا ّ‬
‫وأحمد بن حنبل فى أشهر الروايات عنه‪ ،‬وهو قول أبى عبيد‪ ،‬وأبى ثور‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬فإن هذا إنما‬
‫هو لمجرد الستبراء لزوال الملك عن الرقية‪ ،‬فكان حيضة واحدة فى حق من تحيض‪ ،‬كسائر‬
‫استبراءات المعتقات‪ ،‬والمملوكات‪ ،‬والمسبيات‪ .‬وأما حديث عمرو بن العاص‪ ،‬فقال ابن المنذر‪:‬‬
‫ضعف أحمد وأبو عُبيد حديث عمرو بن العاص‪ .‬وقال محمد بن موسى‪ :‬سألت أبا عبد الّ عن‬
‫ب مِن حديث عمرو‬
‫ج ُ‬
‫حديث عمرو بن العاص‪ ،‬فقال‪ :‬ل يصح‪ .‬وقال الميمونى‪ :‬رأيت أبا عبد الّ يع َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فى هذا؟ وقال‪ :‬أربعة أشهر‬
‫بن العاص هذا‪ ،‬ثم قال‪ :‬أين سنةُ رسول ا ّ‬
‫وعشراً إنما هى عدة الحرة من النكاح‪ ،‬وإنما هذه أمة خرجت من الرّق إلى الحرية‪ ،‬ويلزم من قال‬
‫بهذا أن يُورثها‪ ،‬وليس لقول من قال‪ :‬تعتد ثلثَ حيض وجه‪ ،‬إنما تعتد بذلك المطلقة‪ ،‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫وقال المنذرى‪ :‬فى إسناد حديث عمرو‪ ،‬مطرُ بن طهمان أبو رجاء الوراق‪ ،‬وقد ضعفه غير واحد‪،‬‬
‫وأخبرنا شيخنا أبو الحجاج الحافظ فى كتاب ((التهذيب)) قال أبو طالب‪ :‬سألت أحمد بن حنبل عن‬
‫مطر الوراق‪ .‬فقال‪ :‬كان يحيى بن سعيد يُضعف حديثه عن عطاء‪ ،‬وقال عبد الّ ابن أحمد بن‬
‫حنبل‪ :‬سألتُ أبى عن مطر الوراق‪ ،‬قال‪ :‬كان يحيى بن سعيد يُشبه حديث مطر الوراق بابن أبى‬
‫ليلى فى سوء الحفظ‪ ،‬قال عبد الّ‪ :‬فسألت أبى عنه؟ فقال‪ :‬ما أقربَه مِن ابن أبى ليلى فى عطاء‬
‫خاصة‪ ،‬وقال‪ :‬مطر فى عطاء‪ :‬ضعيف الحديث‪ ،‬قال عبد الّ‪ :‬قلت ليحيى بن معين‪ :‬مطر الوراق؟‬
‫فقال‪ :‬ضعيف فى حديث عطاء بن أبى رباح‪ ،‬وقال النسائى‪ :‬ليس بالقوى‪ .‬وبعد‪ ،‬فهو ثقة‪ ،‬قال أبو‬
‫حاتم الرازى‪ :‬صالح الحديث‪ ،‬وذكره ابن حبان فى كتاب الثقات‪ ،‬واحتج به مسلم‪ ،‬فل وجه لضعف‬
‫الحديث به‪.‬‬
‫وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب‪ ،‬عن عمرو بن العاص رضى الّ عنه‪،‬‬
‫ولم يسمع منه‪ ،‬قاله الدارقطنى‪ ،‬وله عِلة أخرى‪ ،‬وهى أنه موقوف لم يقل‪ :‬ل تُلبسوا علينا سنة نبينا‪.‬‬
‫قال الدارقطنى‪ :‬والصوابُ‪ :‬ل تُلبّسوا علينا ديننا‪ .‬موقوف‪ .‬وله علة أخرى‪ ،‬وهى اضطرابُ‬
‫الحديث‪ ،‬واختلفه عن عمرو على ثلثة أوجه‪ .‬أحدها‪ :‬هذا‪ .‬والثانى‪ :‬عدة أم الولد عدة الحرة‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬عدتها إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا‪ ،‬فإذا أعتقت‪ ،‬فعدتها ثلث حيض‪،‬‬
‫والقاويل الثلثة عنه ذكرها البيهقى‪ .‬قال المام أحمد‪ :‬هذا حديث منكر حكاه البيهقى عنه‪ ،‬وقد‬
‫روى خِلس‪ ،‬عن على مثل رواية قبيصة عن عمرو‪ ،‬أن عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر‪ ،‬ولكن‬

‫‪421‬‬
‫خِلس بن عمرو قد ُت ُكلّم فى حديثه‪ ،‬فقال أيوب‪ :‬ل يُروى عنه‪ ،‬فإنه صَحَفى‪ ،‬وكان مغيرة ل ُي ْعبَأُ‬
‫بحديثه‪ .‬وقال أحمد‪ :‬روايته عن على يقال‪ :‬إنه كتاب‪ ،‬وقال البيهقى‪ :‬روايات خِلس عن على‬
‫ضعيفة عند أهل العلم بالحديث‪ ،‬فقال‪ :‬هى من صحيفة‪ .‬ومع ذلك فقد روى مالك‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن‬
‫عمر فى أم الولد يُتوفى عنها سيدها‪ ،‬قال‪ :‬تعتد بحيضة‪ .‬فإن ثبت عن على وعمرو ما رُوى عنهما‪،‬‬
‫فهى مسألة نزاع بين الصحابة‪ ،‬والدليلُ هو الحاكم‪ ،‬وليس مع مَنْ جعلها أربعةَ أشهر وعشراً إل‬
‫ط عموم المعنى تساوى الفراد فى‬
‫ق بعموم المعنى‪ ،‬إذ لم يكن معهم لفظ عام‪ ،‬ولكن شر ُ‬
‫التعل ُ‬
‫المعنى الذى ثبت الحكم لجله‪ ،‬فما لم يُعلم ذلك ل يتحقّقُ الِلحاق‪ ،‬والذين ألحقوا أ ّم الولد بالزوجة‬
‫ن المة من جهة أنها‬
‫رأوا أن الشّبهَ الذى بين أم الولد وبينَ الزوجة أقوى من الشبه الذى بينها وبي َ‬
‫ت له عِدة‬
‫ج ِعَل ْ‬
‫بالموت صارت حرة‪ ،‬فلزمتها العِدة مع حُريتها‪ ،‬بخلف المة‪ ،‬ولن المعنى الذى ُ‬
‫ق الولد‪،‬‬
‫الزوجة أربعة أشهر وعشراً‪ ،‬موجودٌ فى أمّ الولد‪ ،‬وهو أدنى الوقات الذى يُتيقن فيها خل ُ‬
‫ن الزوجة وأم الولد والشريعةُ ل تُفرق بين متماثلين‪ ،‬ومنازعوهم‬
‫وهذا ل يفترق الحالُ فيه بَي َ‬
‫صفُ‬
‫يقولون‪ :‬أمّ الولد أحكامُها أحكام الماء‪ ،‬ل أحكامُ الزوجات‪ ،‬ولهذا لم تدخل فى قوله‪َ { :‬وَلكُمْ ِن ْ‬
‫ن ِم ْنكُ ْم ويَ َذرُون‬
‫جكُم } [النساء‪ ،]12 :‬وغيرها‪ ،‬فكيف تدخل فى قوله‪{ :‬والّذِينَ ُي َتوَ ّفوْ َ‬
‫مَا َت َركَ َأ ْزوَا ُ‬
‫َأزْواجًا } [البقرة‪ ،]240 :‬قالوا‪ :‬والعِدة لم تُجعل أربعة أشهر وعشراً لجل مجرد براءة الرحم‪،‬‬
‫ن براءة رحمها‪ ،‬وتجب قبل الدخول والخلوة‪ ،‬فهى مِن حريم عقد النكاح‬
‫فإنها تجب على من ُي َتيَقّ ُ‬
‫وتمامه‪ .‬وأما استبراء المة‪ ،‬فالمقصود منه العلم ببراءة رحمها‪ ،‬وهذا يكفى فيه حيضة‪ ،‬ولهذا لم‬
‫يُجعل استبراؤها ثلثَة قروء‪ ،‬كما جعلت عِدة الحرة كذلك تطويلً لزمان الرجعة‪ ،‬ونظرًا للزوج‪،‬‬
‫وهذا المعنى مقصو ٌد فى المستبرأة‪ ،‬فل نصّ يقتضى إلحاقها بالزوجات ول معنى‪ ،‬فأولى المورِ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫بها أن يُشرع لها ما شرعه صاحبُ الشرع فى المسبيات والمملوكات‪ ،‬ول تتعداه‪ ،‬وبا ّ‬
‫فصل‬
‫ل الجمهور‪،‬‬
‫الحكم الثانى‪ :‬أنه ل يحصُل الستبراءُ بطُهر البتة‪ ،‬بل ل بُدّ مِن حيضة‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫ل بطهر كامل‪ ،‬ومتى طعنت فى‬
‫وهو الصوابُ‪ ،‬وقال أصحابُ مالك‪ ،‬والشافعى فى قول له‪ :‬يحص ُ‬
‫الحيضة‪ ،‬تم استبراؤُها بناء على قولهما‪ :‬إن القراء‪ :‬الطهار‪ ،‬ولكن َيرُدّ هذا‪ ،‬قول رسولِ الّ‬
‫ح ْيضَةٍ))‪ .‬وقال رُويفع‬
‫س َتبْرأَ بِ َ‬
‫حتّى تُ ْ‬
‫حتّى َتضَعَ‪ ،‬ولَ حَائِلٌ َ‬
‫ل تُوطأ حَامِلٌ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪َ (( :‬‬
‫لّ وَاليَوْمِ‬
‫ن ُي ْؤمِنُ بِا ِ‬
‫ن كَا َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم يقول يوم حنين‪(( :‬مَ ْ‬
‫بن ثابت‪ :‬سمعتُ رسول ا ّ‬

‫‪422‬‬
‫س َت ْبرِئها بِحَيضَة)) رواه المام أحمد وعنده فيه ثلثة ألفاظ‪:‬‬
‫حتّى يَ ْ‬
‫سبْى َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ل يَطَأْ جَا ِريَ ًة مِ َ‬
‫خرِ فَ َ‬
‫ال ِ‬
‫هذا أحدها‪.‬‬
‫حبَالى‬
‫الثانى‪ :‬نهى رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم أن ل توطأ المة حتى تحيض‪ ،‬وعن ال َ‬
‫حتى تضعن‪.‬‬
‫حتّى تَحِيضَ))‪ .‬فعلق‬
‫سبَايَا َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن َثيّبًا مِ َ‬
‫ل َي ْنكِحَ ّ‬
‫لّ وَال َيوْمِ الخرِ فَ َ‬
‫ن بِا ِ‬
‫ن يُؤمِ ُ‬
‫الثالث‪(( :‬مَنْ كَا َ‬
‫الحِلّ فى ذلك كله بالحيض وحده ل بالطهر‪ ،‬فل يَجوز إلغاء ما اعتبره‪ ،‬واعتبار ما ألغاه‪ ،‬ول‬
‫ب هو الستبراء‪ ،‬والذى يدل‬
‫تعويل على ما خالف نصه‪ ،‬وهو مقتضى القياس المحض‪ ،‬فإن الواج َ‬
‫على البراءة هو الحيض‪ ،‬فأما الطهر‪ ،‬فل دِللة فيه على البراءة‪ ،‬فل يجوز أن يُعوّلَ فى الستبراء‬
‫على ما ل دللة له فيه عليه دون ما يدل عليه‪ ،‬وبناؤُهم هذا على أن القراء هى الطهار‪ ،‬بناء على‬
‫الخلف للخلف‪ ،‬وليس بحجة ول شبهة‪ ،‬ثم لم يُمكنهم بناء هذا على ذاك حتى خالفوه‪ ،‬فجعلوا‬
‫الطهر الذى طلقها فيه قرءاً‪ ،‬ولم يجعلوا طهر المستبرأة التى تجدد عليها الملكُ فيه‪ ،‬أو ماتَ سيدها‬
‫ث أيضاً كما تبين‪ ،‬وحتى خالفوا المعنى كما بيناه‪ ،‬ولم يُمكنهم هذا‬
‫فيه قرءاً‪ ،‬وحتّى خالفُوا الحدي َ‬
‫ض الحيضة المقترن بالطهر‬
‫البناء إل بعد هذه النواع الثلثة من المخالفة‪ ،‬وغاية ما قالوا‪ :‬أن بع َ‬
‫يدل على البراءة‪ ،‬فيقال لهم‪ :‬فيكون العتماد عليهم حينئذ على بعض الحيضة‪ ،‬وليس ذلك قرءاً عند‬
‫أحد؟ فإن قالوا‪ :‬هو اعتماد على بعض حيضة وطهر‪ .‬قلنا‪ :‬هذا قول ثالث فى مسمى القروء‪ ،‬ول‬
‫يعرف‪ ،‬وهو أن تكون حقيقته مركب ًة من حيض وطهر‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬بل هو اسم للطهر بشرط الحيض‪ .‬فإذا انتفى الشرط‪ ،‬انتفى المشروط‪ ،‬قلنا‪ :‬هذا‬
‫إنما يمكن لو علق الشارع الستبراء بقرء‪ ،‬فأما مع تصريحه على التعليق بحيضة‪ ،‬فل‪.‬‬
‫فصل‬
‫الحكم الثالث‪ :‬أنه ل يحصُل ببعض حيضة فى ي ِد المشترى اكتفاء بها‪ .‬قال صاحب‬
‫((الجواهر))‪ :‬فإن بِيعت المة فى آخرِ أيام حيضها‪ ،‬لم يكن ما بقَى مِن أيام حيضها استبراءً لها مِن‬
‫غير خلف‪ ،‬وإن بِيعَت وهى فى أول حيضتها‪ ،‬فالمشهور من المذهب أن ذلك يكون استبراءً لها‪.‬‬
‫وقد احتج من نازع مالكاً بهذا الحديث‪ ،‬فإنه علق الحل بحيضة‪ ،‬فل بُدّ من تمامها‪ ،‬ول دليل‬
‫فيه على بطلن قوله‪ ،‬فإنه ل بُ ّد من الحيضة بالتفاق‪ ،‬ولكن النزاع فى أمر آخر‪ ،‬وهو أنه هل‬
‫ن معظمُها فى مُلكه‪ ،‬فهذا ل ينفيه‬
‫يشترط أن يكون جميع الحيضة وهى فى ملكه‪ ،‬أو يكفى أن يكو َ‬
‫الحديثُ‪ ،‬ول يُثبته‪ ،‬ولكن لمنازعيه أن يقولوا‪ :‬لما اتفقنا على أنه ل يكفى أن يكون بعضُها فى ملك‬

‫‪423‬‬
‫المشترى وبعضُها فى ملك البائع إذا كان أكثرُها عند البائع‪ ،‬علم أن الحيضة المعتبرة أن تكون‪،‬‬
‫وهى عند المشترى‪ ،‬ولهذا لو حاضت عند البائع‪ ،‬لم يكن ذلك كافياً فى الستبراء‪.‬‬
‫ومن قال بقول مالك‪ ،‬يُجيب عن هذا بأنها إذا حاضت قبل البيع وهى مودَعة عند المشترى‪،‬‬
‫ثم باعها عقيب الحيضة‪ ،‬ولم تخرج من بيته‪ ،‬اكتُفى بتلك الحيضة‪ ،‬ولم يجب على المشترى‬
‫استبراء ثان‪ ،‬وهذا أحد القولين فى مذهب مالك كما تقدم‪ ،‬فهو يجوز أن يكون الستبراء واقعاً قبل‬
‫البيع فى صور‪ ،‬منها هذه‪.‬‬
‫ومنها إذا وضعت للستبراء عند ثالث‪ ،‬فاستبرأها‪ ،‬ثم بيعت بعده‪ .‬قال فى ((الجواهر))‪ :‬ول‬
‫يجزىء الستبراء قبل البيع إل فى حالت منها أن تكونَ تحتَ يدِه للستبراء‪ ،‬أو بالوديعة‪ ،‬فتحيضُ‬
‫عنده‪ ،‬ثم يشتريها حينئذ‪ ،‬أو بعدَ أيام‪ ،‬وهى ل تخرُجُ‪ ،‬ول يدخل عليها سيدُها‪ .‬ومنها‪ :‬أن يشتريها‬
‫ممن هو ساكن معه من زوجته‪ ،‬أو ولد له صغير فى عياله‪ .‬وقد حاضت‪ ،‬فابن القاسم يقول‪ :‬إن‬
‫كانت ل تخرج أجزأه ذلك‪ .‬وقال أشهب‪ :‬إن كانت معه فى دار وهو الذاب عنها‪ ،‬والناظرُ فى‬
‫أمرها‪ ،‬فهو استبراء‪ ،‬سواء كانت تخرُج أو ل تخرُج‪ .‬ومنها‪ :‬إذا كان سيدُها غائباً‪ ،‬فحين قدم‬
‫استبرأها قبل أن تخرُج‪ ،‬أو خرجت وهى حائض‪ ،‬فاشتراها منه قبل أن تطهر‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬الشريكُ يشترى نصيب شريكه من الجارية وهى تحتَ يد المشترى منهما وقد‬
‫حاضت فى يده‪ .‬وقد تقدمت هذه المسائل‪ ،‬فهذه وما فى معناها تضمنت الستبراء قبل البيع‪ ،‬واكتفى‬
‫به مالك عن استبراء ثان‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فكيف يجتمع قولُه هذا‪ ،‬وقوله‪ :‬إن الحيضة إذا وجد معظمها عند البائع لم يكن‬
‫ض بينهما‪ ،‬وهذه لها موضع وهذه لها موضع‪ ،‬فكل موضع يحتاج فيه‬
‫استبراءاً؟ قيل‪ :‬ل تناقُ َ‬
‫المشترى إلى استبراء مستقل ل يُجزىء إل حيضة لم يوجد معظمُها عند البائع‪ ،‬وكل موضع ل‬
‫يحتاج فيه إلى استبراء مستقل ل يحتاج فيه إلى حيضة ول بعضها‪ ،‬ول اعتبارَ بالستبراء قبل‬
‫البيع‪ ،‬كهذه الصور ونحوها‪.‬‬
‫فصل‬
‫الحكم الرابع‪ :‬أنها إذا كانت حاملً‪ ،‬فاستبراؤها بوضع الحمل‪ ،‬وهذا كما أنه حكم النص‪،‬‬
‫فهو مجمع عليه بين المة‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪424‬‬
‫الحكم الخامس‪ :‬أنه ل يجوزُ وطؤها قبلَ وضع حملها‪ ،‬أى حمل كان‪ ،‬سواء كان يلحق‬
‫بالواطىء‪ ،‬كحمل الزوجة والمملوكة‪ ،‬والموطوءة بشبهة‪ ،‬أو ل يلحق به كحمل الزانية‪ ،‬فل يحل‬
‫وطءُ حامل مِن غير الواطىء البتة‪ ،‬كما صرّح به النص‪ ،‬وكذلك قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬مَنْ‬
‫غ ْي ِرهِ)) وهذا َيعُ ّم الزرعَ الطيب والخبيث‪ ،‬ولن‬
‫خرِ فَل يَسْقى مَاءَه َزرْعَ َ‬
‫لّ وَال َيوْمِ ال ِ‬
‫ن ُي ْؤمِنُ با ِ‬
‫كَا َ‬
‫ط به أولى مِن صيانته عن الماء الطيب‪ ،‬ولن‬
‫صِيانة ماء الواطىء عن الماء الخبيث حتى ل يختلِ َ‬
‫ل هذا الواطىء وماؤه محترم‪ ،‬فل يجوزُ له خلطه‬
‫حمل الزانى وإن كان ل حُرمة له ول لمائه‪ ،‬فحم ُ‬
‫ث من الطيب‪ ،‬وتخليصه منه‪ ،‬وإلحاق كل قسم‬
‫بغيره ولن هذا مخالف لسنة الّ فى تمييز الخبي ِ‬
‫بمجانسه ومشاكله‪.‬‬
‫والذى يقضى منه العجب‪ ،‬تجوي ُز من جوز من الفقهاء الربعة العقد على الزانية قبل‬
‫استبرائها ووطئها عقيبَ العقد‪ ،‬فتكون الليلة عند الزانى وقد علقت منه‪ ،‬والليلة التى تليها فراشاً‬
‫للزوج‪.‬‬
‫ل المنع‪.‬‬
‫ومن تأمل كمال هذه الشريعة‪ ،‬علم أنها تأبى ذلك كُلّ الِباء‪ ،‬وتَمنع منه كُ ّ‬
‫ومِن محاسن مذهب المام أحمد‪ ،‬أن حرّم نكاحها بالكُلية حتى تتوب‪ ،‬ويرتفعَ عنها‬
‫اس ُم الزانية والبغىّ والفاجرة‪ ،‬فهو رحمه الّ ل يجوز أن يكون الرجل زوجَ بغى‪ ،‬ومنازعوه‬
‫يجوزون ذلك‪ ،‬وهو أسعدُ منهم فى هذه المسألة بالدلة ُكلّها من النصوصِ والثار‪ ،‬والمعانى‬
‫والقِياس‪ ،‬والمصلحة والحكمة‪ ،‬وتحريم ما رآه المسلمون قبيحاً‪ .‬والناس إذا بلغوا فى سبّ الرجل‬
‫صرّحوا له بالزاى والقاف‪ ،‬فكيف تجوز الشريعةُ مثل هذا‪ ،‬مع ما فيه من تعرّضه لفساد فراشه‪،‬‬
‫وتعليق أولد عليه من غيره‪ ،‬وتعرضه للسم المذموم عند جميع المم؟ وقياسُ قولِ من ج ّوزَ العقد‬
‫على الزانية ووطئها قبل استبرائها حتى لو كانت حاملً‪ ،‬أن ل يوجب استبراء المة إذا كانت‬
‫ف لصريح السنة‪ .‬فإن أوجب استبراءها‪ ،‬نقض‬
‫ل من الزنى‪ ،‬بل يطؤها عقيب ملكها‪ ،‬وهو مخاِل ٌ‬
‫حام ً‬
‫قوله بجواز وطء الزانية قبل استبرائها‪ ،‬وإن لم يوجب استبراءها‪ ،‬خالف النصوصَ‪ ،‬ول ينفعُه‬
‫الفرق بينهما‪ ،‬بأن الزوجَ ل استبراء عليه‪ ،‬بخلفِ السيد فإن الزوجَ إنما لم يجب عليه الستبراءُ‪،‬‬
‫لنه لم يعقد على معتدة‪ ،‬ول حامل من غيره بخلف السيد‪ ،‬ثم إن الشارع إنما حرم الوطء‪ ،‬بل‬
‫ل من غيره‪ ،‬وساقياً ماءَه لزرع غيره مع‬
‫العقد فى العدة خشيةَ إمكان الحمل‪ ،‬فيكون واطئاً حام ً‬
‫احتمال أن ل يكون كذلك‪ ،‬فكيف إذا تحقق حملها‪.‬‬

‫‪425‬‬
‫وغاية ما يقال‪ :‬إن ولد الزانية ليسَ لحقًا بالواطىء الول‪ ،‬فإن الولَد لِلفراش‪ ،‬وهذا ل يجوزُ‬
‫إقدامه على خلط مائه ونسبه بغيره‪ ،‬وإن لم يلحق بالواطىء الول‪ ،‬فصيانةُ مائه ونسبه عن نسب ل‬
‫يُلحق بواضعه لصيانته عن نسب يلحق به‪ .‬والمقصود‪ :‬أن الشرعَ حرّم وطء المة الحامل حتى‬
‫ى صلى ال عليه وسلم بين الرجل‬
‫تضع‪ ،‬سواء كان حملُها محرمًا أو غير محرم وقد فرّق النب ّ‬
‫والمرأة التى تزوج بها‪ ،‬فوجدها حُبلى‪ ،‬وجلدها الحدّ‪ ،‬وقضى لها بالصّداق‪ ،‬وهذا صريحٌ فى بطلن‬
‫سيّدها‬
‫ح على باب فسطاط‪ ،‬فقال‪َ(( :‬لعَلّ َ‬
‫العقد على الحامل من الزنى‪ .‬وصح عنه أنه مر بامرأة مُجِ ّ‬
‫ستَخْ ِدمُ ُه وَ ُهوَ لَ‬
‫ف يَ ْ‬
‫ل َمعَهُ َق ْب َرهُ‪َ ،‬ك ْي َ‬
‫ت أَنْ أَلعْنه لعنًا يَدْخُ ُ‬
‫ن ُيلِ ّم بِها))؟ قالوا‪ :‬نعم‪.‬قال‪(( :‬لَقَدْ َه َم ْم ُ‬
‫ُيرِيدُ أَ ْ‬
‫ل لَهُ))‪.‬فجعل سبب همّه بلعنته وطأه للمة الحامل‪ ،‬ولم يستفصِلْ‬
‫ل يَحِ ّ‬
‫ل لَهُ‪َ ،‬ك ْيفَ ُي َو ّرثُ ُه وَ ُهوَ َ‬
‫يَحِ ّ‬
‫عن حملها‪ ،‬هل هو لحق بالواطِىء أم غيرُ لحق به؟ وقوله‪:‬‬
‫((كيف يستخ ِدمُه وهو ل يحل له)) أى‪ :‬كيف يجعلُه عبدًا له يستخ ِدمُه‪ ،‬وذلك ل يحِل‪ ،‬فإن‬
‫ماء هذا الواطىء يزيدُ فى خلق الحمل‪ ،‬فيكون بعضُه منه‪ ،‬قال المام أحمد يزيدُ وطؤه فى سمعه‬
‫وبصره‪.‬‬
‫ل له))‪ ،‬سمعت شيخ السلم ابن تيمية يقول فيه‪ :‬أى‪ :‬كيف‬
‫وقوله‪(( :‬كيف يورثه وهو ل يَحِ ّ‬
‫ل له ذلك‪ ،‬لن ماءه‬
‫يجعله تركة موروثة عنه‪ ،‬فإنه يعتقده عبده‪ ،‬فيجعله ترك ًة تُورث عنه‪ ،‬ول يَحِ ّ‬
‫زاد فى خلقه‪ ،‬ففيه جزء منه‪.‬‬
‫ل مِن غيره‪ ،‬وهو‬
‫ل له ذلك‪ ،‬لن الحم َ‬
‫وقال غيره‪ :‬المعنى‪ :‬كيف يورثه على أنه ابنُه‪ ،‬ول يحِ ّ‬
‫بوطئه يريد أن يجعله منه‪ ،‬فيورثه ماله‪ ،‬وهذا يردّه أولُ الحديث‪ ،‬وهو قوله‪(( :‬كيف يستعبده))؟‬
‫أى‪ :‬كيف يجعله عبده؟ وهذا إنما يدل على المعنى الول‪ .‬وعلى القولين‪ ،‬فهو صريح فى تحريم‬
‫ل مِن زنى أو من غيره‪ ،‬وأن فاعل ذلك جدير باللعن‪ ،‬بل قد‬
‫وطء الحامل من غيره‪ ،‬سواء كان الحم ُ‬
‫صرّح جماعة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم‪ :‬بأن الرجل إذا ملك زوجتَه المة‪ ،‬لم يطأها‬
‫ل منه فى صلب النكاح‪ ،‬فيكون على ولده الولء لموالى أمه‬
‫حتى يستبرئها خشية أن تكون حام ً‬
‫بخلف ما علقت به فى ملكه‪ ،‬فإنه ل ولء عليه‪ ،‬وهذا كله احتياط لولده‪ :‬هل هو صريحُ الحرية ل‬
‫ل من غيره؟‬
‫ولء عليه‪ ،‬أو عليه ولء؟ فكيف إذا كانت حام ً‬
‫فصل‬
‫س َت ْب َرأَ‬
‫حتّى تُ ْ‬
‫حتّى َتضَعَ‪ ،‬وَلَ حَائِلٌ َ‬
‫الحكم السادس‪ :‬استنبط من قوله‪(( :‬ول تُوطَأُ حَامِلٌ َ‬
‫ح ْيضَةٍ))‪ ،‬أن الحامل ل تحيض‪ ،‬وأن ما تراه من الدم يكون دمَ فساد بمنزلة الستحاضة‪ ،‬تصومُ‬
‫بِ َ‬

‫‪426‬‬
‫وتُصلى‪ ،‬وتطوف بالبيت‪ ،‬وتقرأ القرآن‪ ،‬وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء‪ ،‬فذهب عطاءٌ والحسن‪،‬‬
‫وعكرمة ومكحول‪ ،‬وجاب ُر بن زيد‪ ،‬ومحمد بن المنكدر‪ ،‬والشعبى‪ ،‬والنخعى‪ ،‬والحكم‪ ،‬وحماد‪،‬‬
‫والزهرى‪ ،‬وأبو حنيفة وأصحابُه‪ ،‬والوزاعى‪ ،‬وأبو عُبيد‪ ،‬وأبو ثور‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬والمام أحمد‬
‫فى المشهور من مذهبه‪ ،‬والشافعى فى أحد قوليه‪ :‬إلى أنه ليس دمَ حيض‪ .‬وقال قتادة‪ ،‬وربيعةُ‪،‬‬
‫ومالك‪ ،‬والليث بن سعد‪ ،‬وعبد الرحمن ابن مهدى‪ ،‬وإسحاق بن راهوية‪ :‬إنه دم حيض‪ ،‬وقد ذكره‬
‫البيهقى فى ((سننه)) وقال إسحاق ابن راهويه‪ :‬قال لى أحمد بن حنبل‪ :‬ما تقول فى الحامل ترى‬
‫الدم؟ فقلت‪ :‬تصلى‪ ،‬واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضى الّ عنها‪ .‬قال‪ :‬فقال أحمد بن حنبل‪،‬‬
‫أين أنت عن خبر المدنيين‪ ،‬خبر أمّ علقمة مولة عائشة رضى الّ عنها؟ فإنه أصح‪ .‬قال إسحاق‪:‬‬
‫فرجعت إلى قول أحمد‪ ،‬وهو كالتصريح من أحمد‪ ،‬بأن دمَ الحامل دم حيض‪ ،‬وهو الذى فهمه‬
‫إسحاق عنه‪ ،‬والخبرُ الذى أشار إليه أحمد‪ ،‬وهو ما رويناه من طريق البيهقى‪ ،‬أخبرنا الحاكم‪ ،‬حدثنا‬
‫أبو بكر بن إسحاق‪ ،‬حدثنا أحم ُد بن إبراهيم‪ ،‬حدثنا ابن بكير‪ ،‬حدثنا الليث‪ ،‬عن بكير بن عبد الّ‪،‬‬
‫عن أ ّم علقمة مولةِ عائشة‪ ،‬أن عائشة رضى الّ عنها سئلت عن الحامل ترى الدم فقالت‪ :‬ل‬
‫صلّى‪ ،‬قال البيهقى‪ :‬ورويناه عن أنس بن مالك‪ ،‬وروينا عن عمر بن الخطاب‪ ،‬ما يدل على ذلك‪.‬‬
‫ُت َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بيت أبى كبير‬
‫وروينا عن عائشة رضى الّ عنها‪ ،‬أنها أنشدت لرسول ا ّ‬
‫الهذلى‪:‬‬
‫ضعَ ٍة وَدَاءٍ ُم ْغيِلِ‬
‫وَفَسَا ِد ُم ْر ِ‬ ‫غ ّبرِ ح ْيضَ ٍة‬
‫ن كُلّ ُ‬
‫و ُم َب ّرأً مِ ْ‬
‫ش ْعرَ‪.‬‬
‫قال‪ :‬وفى هذا دليل على ابتداء الحمل فى حال الحيض حيث لم ينكر ال ّ‬
‫ل عنها أنها قالت‪ :‬الحبلى ل‬
‫قال‪ :‬وروينا عن مطر‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬عن عائشة رضى ا ّ‬
‫تحيضُ‪ ،‬إذا رأت الدم‪ ،‬صلّت‪ .‬قال‪ :‬وكان يحيى القطان ينكر هذه الرواية‪ ،‬ويُضعف رواية ابن أبى‬
‫ليلى‪ ،‬ومطر عن عطاء‪.‬‬
‫ل عنها‬
‫قال‪ :‬وروى محمد بن راشد‪ ،‬عن سليمان بن موسى‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬عن عائشة رضى ا ّ‬
‫نحو رواية مطر‪ ،‬فإن كانت محفوظة‪ ،‬فيشبه أن تكون عائشة كانت تراها ل تحيض‪ ،‬ثم كانت تراها‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫تحيض‪ ،‬فرجعت إلى ما رواه المدنيون‪ ،‬وا ّ‬
‫قال المانعون مِن كون دم الحامل دمَ حيض‪ :‬قد قسم النبىّ صلى ال عليه وسلم الماء‬
‫قسمين‪ :‬حاملً وجعل عدتها وضع الحمل‪ ،‬وحائلً فجعل عدتها حَيضة‪ ،‬فكانت الحيضة علمًا على‬
‫ض يُجامع الحمل‪ ،‬لما كانت الحيضةُ علمًا على عدمه‪ ،‬قالوا‪ :‬ولذلك‬
‫براءة رحمها‪ ،‬فلو كان الحي ُ‬

‫‪427‬‬
‫جعل عدة المطلقة ثلثة أقراء‪ ،‬لِيكون دليلً على عدم حملها‪ ،‬فلو جامع الحملُ الحيضَ‪ ،‬لم يكن دليلً‬
‫على عدمه‪ :‬قالوا‪ :‬وقد ثبت فى ((الصحيح))‪ ،‬أن النبى صلى ال عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب‬
‫ط ُهرَ‪ ،‬ثُمّ‬
‫حتّى تَ ْ‬
‫سكْها َ‬
‫جعْها ثُمّ ِل ُيمْ ِ‬
‫رضى الّ عنه حين طلق ابنُه امرأتَه وهى حائض‪(( :‬مُ ْرهُ َف ْل ُيرَا ِ‬
‫لّ أَنْ‬
‫ك العِدّ ُة التى َأ َمرَ ا ُ‬
‫ل أَنْ َي َمسّ‪َ ،‬فتِل َ‬
‫طلّقَ َقبْ َ‬
‫سكَها َبعْدُ‪ ،‬وإنْ شَاءَ َ‬
‫ط ُهرَ‪ ،‬ثُمّ إنْ شَا َء َأمْ َ‬
‫ض ثُ ّم تَ ْ‬
‫تَحِي َ‬
‫طلّق َلهَا النّسَاءُ))‪.‬‬
‫تُ َ‬
‫ووجه الستدلل به‪ ،‬أن طلقَ الحامل ليس ببدعةٍ فى زمن الدم وغيره‬
‫إجماعاً‪ ،‬فلو كانت تحيضُ‪ ،‬لكان طلقُها فيه‪ ،‬وفى طهرها بعد المسيس بدعة عملً بعموم الخبر‪،‬‬
‫طلّ ْقهَا طَاهِراً‬
‫ج ْعهَا ثُ ّم ليُ َ‬
‫قالوا‪ :‬وروى مسلم فى ((صحيحه)) من حديث ابن عمر أيضًا (( ُمرْهُ َف ْل ُيرَا ِ‬
‫َأوْ حَامِلً))‪ ،‬وهذا يدل على أن ما تراه من الدم ل يكون حيضاً‪ ،‬فإنه جعل الطلق فى وقته نظير‬
‫الطلق فى وَقت الطهر سواء‪ .‬فلو كان ما تراه من الدم حيضاً‪ ،‬لكان لها حالن‪ ،‬حال طهر‪ ،‬وحال‬
‫حيض‪ ،‬ولم يجز طلقها فى حال حيضها‪ ،‬فإنه يكون بدعة قالوا‪ :‬وقد روى أحمد فى ((مسنده)) من‬
‫غ ْي ِرهِ‪ ،‬وَلَ‬
‫ن يَسْقى مَاءه َزرْعَ َ‬
‫حديث رويفع‪ ،‬عن النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪(( :‬ل يَحِلّ لحَ ٍد أَ ْ‬
‫ح ْملُها))‪ .‬فجعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم من‬
‫ض َأ ْو َي َتبّينَ َ‬
‫حتّى تَحِي َ‬
‫يقع عَلى أمَةٍ َ‬
‫الحمل‪ .‬قالوا‪ :‬وقد ُر ِوىَ عن على أنه قال‪ :‬إن الّ رفع الحيض عن الحبلى‪ ،‬وجعل الدم مما تغيض‬
‫الرحام‪.‬‬
‫ل عنه‪ :‬إن الّ رفع الحيض عن الحبلى‪ ،‬وجعل الدم رزقًا للولد‪،‬‬
‫وقال ابنُ عباس رضى ا ّ‬
‫رواهما أبو حفص بن شاهين‪.‬‬
‫قالُوا‪ :‬وروى الثرم‪ ،‬والدارقطنى بإسنادهما‪ ،‬عن عائشة رضى الّ عنها فى الحامل ترى‬
‫الدم‪ ،‬فقالت‪ :‬الحامل ل تحيض‪ ،‬وتغتسل‪ ،‬وتصلى‪.‬‬
‫وقولها‪ :‬وتغتسل‪ ،‬بطريق الندب لكونها مستحاضة‪ ،‬قالوا‪ :‬ول يُعرف عن غيرهم خلفهم‪،‬‬
‫لكن عائشة قد ثبت عنها أنها قالت‪ :‬الحامل ل تُصلى‪ .‬وهذا محمول على ما تراه قريبًا من الولدة‬
‫باليومين ونحوهما‪ ،‬وأنه نفاس جمعًا بين قوليها‪ ،‬قالوا‪ :‬ولنه دم ل تنقضى به العدة‪ ،‬فلم يكن حيضاً‬
‫كالستحاضة‪.‬‬
‫وحديث عائشة رضى الّ عنها يدل على أن الحائض قد تحبل‪ ،‬ونحن نقول بذلك‪ ،‬لكنه يقطع‬
‫حيضَها ويرفعُه‪ .‬قالوا‪ :‬ولن الّ سبحانه أجرى العادة بإنقلب دم الطمث لبناً غذاءً للولد‪ ،‬فالخارجُ‬
‫وقت الحمل يكون غيره‪ ،‬فهو دم فساد‪.‬‬

‫‪428‬‬
‫قال المحيضون‪ :‬ل نزاع أن الحاملَ قد ترى الدَم على عادتها‪ ،‬ل سيما فى أول‬
‫حملها‪ ،‬وإنما النزاعُ فى حكم هذا الدم‪ ،‬ل فى وجوده‪ .‬وقد كان حيضاً قبل الحمل بالتفاق‪ ،‬فنحن‬
‫حبُ حكمَه حتى يأتىَ ما يرفعه بيقين‪ .‬قالوا‪ :‬والحك ُم إذا ثبت فى محل‪ ،‬فالصلُ بقاؤه حتى‬
‫نستص ِ‬
‫يأتى ما يرفعه‪ ،‬فالول استصحابٌ لحكم الجماع فى محل النزاع‪ ،‬والثانى استصحابٌ للحكم الثابت‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫فى المحل حتى يتحقق ما يرفعه‪ ،‬والفرقُ بينهما ظاهر‪ .‬قالوا‪ :‬وقد قال النب ّ‬
‫سوَ ُد ُي ْع َرفُ))‪ .‬وهذا أسود يُعرف‪ ،‬فكان حيضاً‪.‬‬
‫حيْضِ فَإنّهُ أ ْ‬
‫((إذَا كَانَ دَمُ ال َ‬
‫ت لَمْ َتصُ ْم ولم‬
‫ض ْ‬
‫ن إذَا حَا َ‬
‫ستْ إحْدَاكُ ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أَليْ َ‬
‫قالُوا‪ :‬وقد قال النب ّ‬
‫ض المرأة خروج دمها فى أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعاً‪ ،‬وهذا كذلك لغة‬
‫ُتصَلّ؟)) وحي ُ‬
‫والصل فى السماء تقريرُها ل تغييرُها‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولن الدم الخارج من الفرج الذى رتّب الشارع عليه الحكام قسمان‪ :‬حيض‬
‫واستحاضة‪ ،‬ولم يجعل لهما ثالثاً‪ ،‬وهذا ليس بإستحاضة‪ ،‬فإن الستحاضة الدمُ المطبق‪ ،‬والزائد‬
‫على أكثر الحيض‪ ،‬أو الخارج عن العادة‪ ،‬وهذا ليس واحداً منها‪ ،‬فبطل أن يكون استحاضة‪ ،‬فهو‬
‫حيض‪ ،‬قالوا‪ :‬ول يمكنكم إثباتُ قسم ثالث فى هذا المحل‪ ،‬وجعله دَم فساد‪ ،‬فإن هذا ل يثبتُ إل‬
‫بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه‪ ،‬وهو منتف قالوا‪ :‬وقد رد النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫جلِسى قَ ْد َر اليّا ِم التى ُك ْنتِ تَحِيضِينَ))‪ .‬فدل على أن عادة النساء‬
‫المستحاضة إلى عادتها‪ ،‬وقال‪(( :‬ا ْ‬
‫معتبرة فى وصف الدمِ وحُكمه‪ ،‬فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة‪ ،‬ووقتها من غير زيادة‬
‫ول نقصان ول انتقال‪ ،‬دلّت عادتُها على أنه حيض‪ ،‬ووجب تحكيمُ عادتها‪ ،‬وتقديمُها على الفساد‬
‫الخارج عن العبادة‪ .‬قالوا‪ :‬وأعل ُم المة بهذه المسألة نسا ُء النبى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأعلمُهن‬
‫عائشة‪ ،‬وقد صح عنها من رواية أهل المدينة‪ ،‬أنها ل تُصلى‪ ،‬وقد شهد له المام أحمد بأنه أصح‬
‫من الرواية الخرى عنها‪ ،‬ولذلك رجع إليه إسحاق وأخبر أنه قولُ أحمد بن حنبل‪ ،‬قالوا‪ :‬ول تُعرف‬
‫صحة الثار بخلف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة‪ ،‬ولو صحت فهى مسألة نزاع بين الصحابة‪،‬‬
‫ول دليل يفصل‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولن عدمَ مجامعة الحيضِ للحمل‪ ،‬إما أن يُعلم بالحسّ أو بالشرع‪ ،‬وكلهما منتف‪،‬‬
‫أما الوّل‪ :‬فظاهر‪ ،‬وأما الثانى‪ :‬فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما ل يجتمعان‪.‬‬
‫وأما قولُكم‪ :‬إنه جعله دليلً على براءة الرحم من الحمل فى العدة والستبراء‪ .‬قلنا‪ :‬جعل‬
‫دليلً ظاهراً أو قطعياً‪ ،‬الول‪ :‬صحيح‪ .‬والثانى‪ :‬باطل‪ ،‬فإنه لو كان دليلً قطعياً لما تخلف عنه‬

‫‪429‬‬
‫ل المدةِ مِن حين‬
‫مدلُوله‪ ،‬ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض‪ ،‬وهذا لم يقله أحد‪ ،‬بل أو ُ‬
‫الوطء‪ ،‬ولو حاضت بعده عدة حيض‪ ،‬فلو وطئها‪ ،‬ثم جاءت بولد لكثرَ من ستة أشهر من حين‬
‫الوطء‪ ،‬ولقل منها من حين انقطاع الحيض‪ ،‬لحقه النسبُ اتفاقاً‪ ،‬ف ُعلِ َم أنه أمارة ظاهرة‪ ،‬قد يتخلف‬
‫ف المطر عن الغيم الرطب‪ ،‬وبهذا يخرج الجوابُ عما استدللُتم به من السنة‪ ،‬فإنا‬
‫عنها مدلولُها تخّل َ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم قسم‬
‫ن المتنازعين‪ .‬والنب ّ‬
‫حكَ ُم بي َ‬
‫بها قائلون‪ ،‬وإلى حكمها صائرون‪ ،‬وهى ال َ‬
‫النساء إلى قسمين‪ :‬حامل فعِدتُها وضعُ حملها‪ ،‬وحائل فعِدتها بالحيض‪ ،‬ونحن قائلون بموجب هذا‬
‫غير منازعين فيه‪ ،‬ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصومُ معه‬
‫وتُصلى؟ هذا أمر آخر ل تَعرّضَ للحديث به‪ ،‬وهذا يقول القائلون‪ :‬بأن دمَها دمُ حيض‪ ،‬هذه العبارة‬
‫بعينها‪ ،‬ول يُعد هذا تناقضاً ول خللً فى العبارة‪.‬‬
‫طلّقْها‬
‫جعْها ثُ ّم ِليُ َ‬
‫ل عنه‪ُ (( :‬م ْرهُ َف ْليُرا ِ‬
‫ل بن عمر رضى ا ّ‬
‫قالوا‪ :‬وهكذا قولُه فى شأن عبد ا ّ‬
‫ل أَنْ َيمَسّها))‪ ،‬إنما فيه إباح ُة الطلق إذا كانت حائلً بشرطين‪ :‬الطهر وعدم المسيس‪،‬‬
‫طَاهِراً َقبْ َ‬
‫فأين فى هذا التعرف لحكم الدم الذى تراه على حملها؟‬
‫س على‬
‫وقولُكم‪ :‬إن الحامل لو كانت تحيض‪ ،‬لكان طلقُها فى زمن الدم بدعة‪ ،‬وقد اتفق النا ُ‬
‫أن طلق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم؟‬
‫قلنا‪ :‬إن النبىّ صلى ال عليه وسلم قسم أحوال المرأة التى يُريد طلقَها إلى حال حمل‪،‬‬
‫وحالِ خلو عنه‪ ،‬وجوّز طلق الحامل مطلقاً من غير استثناء‪ ،‬وأما غي ُر ذات الحمل‪ ،‬فإنما أباح‬
‫طلقها بالشرطين المذكورين‪ ،‬وليس فى هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد‪ ،‬بل على أن‬
‫الحامل تخالف غيرها فى الطلق‪ ،‬وأن غيرها إنما تطلق طاهرًا غير مصابة‪ ،‬ول يُشترط فى‬
‫الحامل شىء من هذا‪ ،‬بل تطلُق عقيبَ الصابة‪ ،‬وتطلُق وإن رأت الدم‪ ،‬فكما ل يحرُمُ طلقُها عقيبَ‬
‫إصابتها‪ ،‬ل يحرُم حالَ حيضها وهذا الذى تقتضيه حِكمةُ الشارع فى وقت الطلق إذناً ومنعاً‪ ،‬فإن‬
‫المرأة متى استبان حملُها كان المطلق على بصيرة من أمره‪ ،‬ولم يعرض له مِن الندم ما يعرِضُ‬
‫لهن كلهن بعد الجماع‪ ،‬ول يشعر بحملها‪ ،‬فليس ما ُمنِ َع منه نظير ما أُذِنَ فيه‪ ،‬ل شرعاً‪ ،‬ول واقعاً‪،‬‬
‫ن علل المنع من الطلق فى الحيض بتطويل العِدة‪ ،‬فهذا ل أثر له فى‬
‫ول اعتباراً‪ ،‬ول سيما مَ ْ‬
‫الحامل‪.‬‬

‫‪430‬‬
‫قالوا‪ :‬وأما قولُكم‪ :‬إنه لو كان حيضاً‪ ،‬لنقضت به العِدة‪ ،‬فهذا ل يلزمُ‪ ،‬لن الَّ سبحانه جعل‬
‫عِدة الحامل بوضع الحمل‪ ،‬وعدة الحائل بالقراء‪ ،‬ول يُمكن انقضاءُ عِدة الحامل بالقراء لفضاء‬
‫ع غيره‪.‬‬
‫ذلك إلى أن يملكها الثانى ويتزوجها وهى حامل من غيره‪ ،‬فيسقى مَا َء َزرْ َ‬
‫قالوا‪ :‬وإذا كنتُم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل‪ ،‬وحملتُم على ذلك حديثَ عائشة رضى الّ‬
‫عنها ول يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به‪ ،‬فقد أعطيتُم أن الحيض والحبل يجتمعان‪ ،‬فبطل‬
‫استدللُكم من رأسه‪ ،‬لن مداره على أن الحيض ل يُجامع الحبل‪.‬‬
‫فإن قلتم‪ :‬نحن إنما جوزنا ورودَ الحمل على الحيض‪ ،‬وكلمُنا فى عكسه‪ ،‬وهو ورودُ‬
‫الحيض على الحمل‪ ،‬وبينهما فرق‪.‬‬
‫قيل‪ :‬إذا كانا متنافيين ل يجتمعان‪ ،‬فأىّ فرق بين ورودها هذا على هذا وعكسه؟‬
‫وأما قولكم‪ :‬إن الّ سبحانه أجرى العادة بإنقلب د ِم الطمث لبنًا يتغذّى به الولد ولهذا ل‬
‫تحيض المراضع‪ .‬قلنا‪ :‬وهذا من أكبر حجتنا عليكم‪ ،‬فإن هذا النقلب والتغذية باللبن إنما يستحكم‬
‫ل العادة بأن المرضع ل‬
‫بعد الوضع‪ ،‬وهو زمن سلطان اللبن‪ ،‬وارتضاع المولود وقد أجرى ا ّ‬
‫تحيض‪ .‬ومع هذا‪ ،‬فلو رأت دماً فى وقت عادتها‪ ،‬لحكم له بحكم الحيض بالتفاق‪ ،‬فلن يحكم له‬
‫بحكم الحيض فى الحال التى لم يستحكم فيها انقلبه‪ ،‬ول تغذى الطفل به أولى وأحرى‪ .‬قالوا‪ :‬وهب‬
‫أن هذا كما تقولون‪ ،‬فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن‪ ،‬وهذا بع َد أن يُنفخ فيه‬
‫الروح‪ .‬فأما قبل ذلك‪ ،‬فإنه ل ينقلب لبناً لعدم حاجة الحمل إليه‪.‬‬
‫وأيضاً‪ ،‬فإنه ل يستحيل كله لبناً‪ ،‬بل يستحيل بعضه‪ ،‬ويخرج الباقى‪ ،‬وهذا القول هو الراجح‬
‫ل ودليلً‪ ،‬والّ المستعان‪.‬‬
‫كما تراه نق ً‬
‫ستَبرأة بغير الوطء فى الموضع الذى يجب‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل تمنعون من الستمتاع بالمُ ْ‬
‫فيه الستبراء؟ قيل‪ :‬أما إذا كانت صغيرة ل يوطأ مثلها‪ ،‬فهذه ل تحرم قبلتها ول مباشرتها‪ ،‬وهذا‬
‫منصوص أحمد فى إحدى الروايتين عنه‪ ،‬اختارها أبو محمد المقدسى‪ ،‬وشيخنا وغيرُهما‪ ،‬فإنه قال‪:‬‬
‫إن كانت صغيرة بأى شىء تستبرأ إذا كانت رضيعة؟ وقال فى رواية أخرى‪ :‬تستبرأ بحيضة إن‬
‫كانت تحيض‪ ،‬وإل ثلثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل‪ .‬قال أبو محمد‪ :‬فظاهر هذا أنه ل يجب‬
‫استبراؤها‪ ،‬ول تحرم مباشرتها‪ ،‬وهذا اختيار ابن أبى موسى‪ ،‬وقولُ مالك وهو الصحيح‪ ،‬لن سبب‬
‫الباحة متحقق‪ ،‬وليس على تحريمها دليل‪ ،‬فإنه ل نص فيها ول معنى نص‪ ،‬فإن تحريم مباشرة‬

‫‪431‬‬
‫الكبيرة إنما كان لكونه داعيًا إلى الوطء المحرم‪ ،‬أو خشية أن تكون أمّ ولد لغيره‪ ،‬ول يتوهم هذا فى‬
‫هذه‪ ،‬فوجب العمل بمقتضى الباحة‪ ،‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫فصل‬
‫وإن كانت ممن يُوطأ مثلُها‪ ،‬فإن كانت بكراً‪ ،‬وقلنا‪ :‬ل يجبُ استبراؤها‪ ،‬فظاهر‪ ،‬وإن قلنا‪:‬‬
‫يجب استبراؤُها فقال أصحابنا‪ :‬تحرم قبلُتها ومباشرتها‪ ،‬وعندى أنه ل يحرم‪ ،‬ولو قلنا بوجوب‬
‫استبرائها‪ ،‬لنه ل يلزم من تحريم الوطء تحريم دواعيه‪ ،‬كما فى حق الصائم‪ ،‬ل سيما وهم إنما‬
‫حرّموا تحريم مباشرتها لنها قد تكون حاملً‪ ،‬فيكون مستمتعًا بأمة الغير‪ ،‬هكذا عللوا تحريم‬
‫المباشرة‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬ولهذا ل يحرم الستمتاع بالمسبية بغير الوطء قبل الستبراء فى إحدى‬
‫الروايتين‪ ،‬لنها ل يُتوهم فيها انفساخ الملك‪ ،‬لنه قد استقرّ بالسبى‪ ،‬فلم يبق لمنع الستمتاع بالقبلة‬
‫وغيرها مِن البِكر معنى‪ .‬وإن كانت ثيباً‪ ،‬فقال أصحاب أحمد‪ ،‬والشافعى وغيرهم‪ :‬يحرم الستمتاعُ‬
‫بها قبل الستبراء‪ ،‬قالوا‪ :‬لنه استبراءٌ يحرم الوطء‪ ،‬فحرم الستمتاع بها قبل الستبراء كالعِدة‪،‬‬
‫ولنه ل يأمن كونها حاملً‪ ،‬فتكون أم ولد‪ ،‬والبيع باطل‪ ،‬فيكون مستمتعاً بأ ّم ولد غيره‪ .‬قالوا‪ :‬ولهذا‬
‫فارق وطء تحريم الحائض والصائم‪.‬‬
‫وقال الحسن البصرى‪ :‬ل يحرم من المستبرأة إل فرجُها‪ ،‬وله أن يستمتِعَ منها بما شاء ما لم‬
‫يطأ‪ ،‬لن النبى صلى ال عليه وسلم إنما منع من الوطء قبل الستبراء‪ ،‬ولم يمنع مما دونه ول يلزمُ‬
‫مِن تحريم الوطء تحريمُ ما دونه‪ ،‬كالحائض والصائمة وقد قيل‪ :‬إن ابن عمر قبّل جاريتَه من السبى‬
‫حين وقعت فى سهمه قبل استبرائها‪ .‬ولمن نصر هذا القول أن يقولَ‪ :‬الفرقُ بين المشتراة والمعتدة‪:‬‬
‫ل وطؤها ول دواعيه‪ ،‬بخلف المملوكة‪ ،‬فإن وطأها إنما‬
‫ل يَحِ ّ‬
‫أن المعتدة قد صارت أجنبية منه‪ ،‬ف ً‬
‫يحرم قبل الستبراء خشيةَ اختلط مائه بماء غيره‪ ،‬وهذا ل يُوجب تحري َم الدواعى‪ ،‬فهى أشبهُ‬
‫بالحائض والصائمة‪ ،‬ونظيرُ هذا أنه لو زنت امرأتُه أو جاريتُه‪ ،‬حرم عليه وطؤها قبل الستبراء‪،‬‬
‫ول يحرمُ دواعيه‪ ،‬وكذلك المسبية كما سيأتى‪ .‬وأكثرُ ما يتوهم كونها حاملً من سيدها‪ ،‬فينفسخ‬
‫ت الولد على عِلّته‪ ،‬ول يلزم القائل به‪ ،‬لنه لما استمتع بها‪،‬‬
‫البيع‪ ،‬فهذا بناء على تحريم بيع أمها ِ‬
‫كانت ملكه ظاهرًا وذلك يكفى فى جواز الستمتاع‪ ،‬كما يخلو بها ويُح ّدثُها‪ ،‬وينظر منها ما ل يُباح‬
‫من الجنبية‪ ،‬وما كان جوابُكم عن هذه المور‪ ،‬فهو الجوابُ عن القُبلة والستمتاع‪ ،‬ول يُعلم فى‬
‫جواز هذا نزاع‪ ،‬فإن المشترىَ ل يُمنع مِن قبض أمته وحوزها إلى بيته وإن كان وحدَه قبلَ‬

‫‪432‬‬
‫الستبراء‪ ،‬ول يجبُ عليها أن تس ُترَ وجهها منه‪ ،‬ول يحرم عليه النظرُ إليها والخلوةُ بها‪ ،‬والكلُ‬
‫ج ْز له ذلك فى ملك الغير‪.‬‬
‫معها‪ ،‬واستخدامها‪ ،‬والنتفاعُ بمنافعها‪ ،‬وإن لم يَ ُ‬
‫فصل‬
‫س ِبيّةً‪ ،‬ففى جواز الستمتاع بغير الوطء قولن للفقهاء‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد‬
‫وإن كانت مَ ْ‬
‫رحمه الّ‪.‬‬
‫إحداهما‪ :‬أنها كغير المسبية‪ ،‬فيحرم الستمتاع منها بما دون ال َفرْج‪ ،‬وهو ظاهر كلم‬
‫خرَقى‪ ،‬لنه قال‪ :‬ومن َملَك أمةً‪ ،‬لم يصبْها ولم يُ َق ّبلْها حتى يستبرئهَا بعد تمام ملكه لها‪.‬‬
‫ال ِ‬
‫ل عنه‪ .‬والفرق بينها وبين المملوكة بغير‬
‫والثانية‪ :‬ل يحرم‪ ،‬وهو قول ابن عمر رضى ا ّ‬
‫السبى‪ ،‬أن المسبيّةَ ل يتوهم فيها كونها أُ ّم ولد‪ ،‬بل هى مملوكة له على كل حال‪ ،‬بخلف غيرها كما‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫تقدّم وا ّ‬
‫ل مدة الستبراء من حين البيع‪ ،‬أو من حين القبض؟‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل يكونُ أو ُ‬
‫قيل‪ :‬فيه قولن‪ ،‬وهما وجهان فى مذهب أحمد رحمه الّ‪ .‬أحدهما‪ :‬من حين البيع‪ ،‬لن الملك‬
‫ينتقل به‪ .‬والثانى‪ :‬من حين القبض لن القصد معرفة براءة رحمها من ماء البائع وغيره‪ ،‬ول‬
‫يحصل ذلك مع كونها فى يده‪ ،‬وهذا على أصل الشافعى وأحمد‪ .‬أما على أصل مالك‪ ،‬فيكفى عنده‬
‫الستبراءُ قبل البيع فى المواضع التى تقدّمت‪ .‬فإن قيل‪ :‬فإن كان فى البيع خيار‪ ،‬فمتى يكون ابتداء‬
‫مدة الستبراء؟‬
‫قيل‪ :‬هذا ينبنى على الخلف فى انتقال الملك فى مدة الخيار‪ ،‬فمن قال‪ :‬ينتقل فابتداء المدة‬
‫عنده من حين البيع‪ ،‬ومن قال‪ :‬ل ينتقل‪ ،‬فابتداؤها عنده من حين انقطاع الخيار‪.‬‬
‫ع ْيبٍ؟ قيل‪ :‬ابتداء المدة من حين البيع قولً واحداً‪،‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون لو كان الخيارُ خيارَ َ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫خيَا َر العيب ل يمنع نقل الملك بغير خلف‪ ،‬وا ّ‬
‫لن ِ‬
‫فصل‬
‫سنّ ُة على استبراء الحامل بوضع الحمل‪ ،‬وعلى استبراء الحائل بحيضةٍ‬
‫فإن قيل‪ :‬قد دلت ال ّ‬
‫فكيف سكتت عن استبراء اليس ِة والتى لم تحض ولم تسكت عنهما فى العدة؟‬
‫قيل‪ :‬لم تسكت عنهما بحمد الّ‪ ،‬بل بينتْهما بطريق اليماء والتنبيه‪ ،‬فإن الّ سبحانه جعل‬
‫عِ ّدةَ الحرة ثلثةَ قُروء‪ ،‬ثم جعل عِدّة اليسة والتى لم تحض ثلثة أشهر‪ ،‬فعلم أنه سبحانه جعل فى‬
‫مقابلة كل قرْء شهراً‪ .‬ولهذا أجرى سبحانه عادته الغالبةَ فى إمائه‪ ،‬أن المرأة تحيض فى كل شهر‬

‫‪433‬‬
‫سنّ ُة أن المة الحائض بحيضة‪ ،‬فيكون الشهر قائماً مقام الحيضة‪ ،‬وهذا إحدى‬
‫حيضة‪ ،‬وبينت ال ّ‬
‫س َتبَرُأ بثلثة أشهر‪ ،‬وهى‬
‫الروايات عن أحمد‪ ،‬وأحد قولى الشافعى‪ .‬وعن أحمد رواية ثانية‪ :‬أنها تُ ْ‬
‫المشهورة عنه‪ ،‬وهو أحد قولى الشافعى‪ .‬ووجه هذا القول‪ ،‬ما احتج به أحمد فى رواية أحمد بن‬
‫ت ثلثةَ أشهر مكان حيضةٍ‪ ،‬وإنما جعل الّ سبحانه‬
‫القاسم‪ ،‬فإنه قال‪ :‬قلت لبى عبد الّ‪ :‬كيف جعل َ‬
‫ل حيضةٍ شهراً؟‪.‬‬
‫فى القرآن مكان كُ ّ‬
‫فقال أحمد‪ :‬إنما قلنا‪ :‬ثلثة أشهر من أجل الحمل‪ ،‬فإنه ل يتبين فى أقلّ من ذلك‪ ،‬فإن عمر بن‬
‫ل العلم والقوابلَ‪ ،‬فأخبروا أن الحملَ ل يتبين فى أقل من ثلثة‬
‫عبد العزيز سأل عن ذلك‪ ،‬وجمع أه َ‬
‫أشهر‪ ،‬فأعجبه ذلك‪ ،‬ثم قال‪ :‬أل تسمع قول ابن مسعود‪ :‬إن النطفة تكون أربعين يومًا علقة‪ ،‬ثم‬
‫أربعين يومًا مضغة بعد ذلك‪ ،‬فإذا خرجت الثمانون‪ ،‬صارت بعدها مضغةً‪ ،‬وهى لحم‪ ،‬فيتبين‬
‫حينئذ‪.‬‬
‫قال ابن القاسم‪ :‬قال لى‪ :‬هذا معروف عند النساء‪ .‬فأما شهر‪ ،‬فل معنى فيه انتهى كلمه‪.‬‬
‫ح ْنبَل‪ :‬قال عطاء‪ :‬إن كانت‬
‫س َت ْب َرأُ بشهر ونصف‪ ،‬فإنه قال فى رواية َ‬
‫وعنه رواية ثالثة‪ :‬أنها تُ ْ‬
‫ل تحيض‪ ،‬فخمسة وأربعون ليلة‪ .‬قال حنبل‪ :‬قال عمى‪ :‬لذلك أذهب‪ ،‬لن عدة المطلقة اليسة كذلك‪،‬‬
‫انتهى كلمه‪.‬‬
‫س َت ْب َرأَ‬
‫ن تُ ْ‬
‫ووجه هذا القول‪ :‬أنها لو طلقت وهى آيسة‪ ،‬اعتدت بشهر ونصفٍ فى رواية‪ ،‬فَلَ ْ‬
‫المةُ بهذا القدر أولى‪ .‬وعن أحمد رواية رابعة‪ :‬أنها تُستب َرأُ بشهرين‪ ،‬حكاها القاضى عنه‪،‬‬
‫واستشكلها كثير من أصحابه‪ ،‬حتى قال صاحب ((المغنى))‪ :‬ولم أر لذلك وجهاً‪ .‬قال‪ :‬ولو كان‬
‫ت القُروء ب َقرْءيْن‪ ،‬ولم نعلم به قائلً‪.‬‬
‫استبراؤُها بشهرين‪ ،‬لكان استبرا ُء ذا ِ‬
‫طلّقتْ وهى أمة لكانت عدتُها شهرين‪ ،‬هذا‬
‫ووجه هذه الرواية‪ ،‬أنها اعتبرت بالمطلّقة‪ ،‬ولو ُ‬
‫ل عنه‪ ،‬وهو الصواب‪ ،‬لن‬
‫هو المشهور عن أحمد رحمه الّ‪ ،‬واحتج فيه بقول عمر رضى ا ّ‬
‫الش ُهرَ قائمةٌ مقام القُروء‪ ،‬وعِدّتة ذاتِ القُروء قَرءان‪ ،‬فبدلهما شهران‪ ،‬وإنما صرنا إلى استبراءِ‬
‫ل ذلك بشهر واحد‪ ،‬فل بدّ‬
‫حصُ ُ‬
‫علَم ظاهر على براءتها من الحمل‪ ،‬ول يَ ْ‬
‫ذاتِ القَرء بحيضة‪ ،‬لنها َ‬
‫ج ِعَلتْ عَلماً‬
‫من مدة تظهر فيها براءتها‪ ،‬وهى إما شهران أو ثلثة‪ ،‬فكانت الشهران أولى‪ ،‬لنها ُ‬
‫س َتبْرأَ ِة أولى‪ ،‬فهذا وجه هذه الرواية‪ .‬وبعدُ‪ ،‬فالراجح من‬
‫على البراءة فى حق المطلّقة‪ ،‬ففى حق المُ ْ‬
‫الدليل‪ :‬الكتفاء بشهر واحد‪ ،‬وهو الذى دل عليه إيماء النص وتنبيهه‪ ،‬وفى جعل مدة استبرائها‬
‫ثلثة أشهر تسويةٌ بينها وبين الحرة‪ ،‬وجعلها بشهرين تسوي ٌة بينها وبين المطلّقة‪ ،‬فكان أولى المُدد‬

‫‪434‬‬
‫بها شهراً‪ ،‬فإنه البدل التامّ‪ ،‬والشارع قد اعتبر نظي َر هذا البدل فى نظي ِر المة‪ ،‬وهى الحرة‪،‬‬
‫واعتبره الصحابة فى المة المطلّقة‪ ،‬فصح عن عمر بن الخطاب رضى الّ عنه أنه قال‪ :‬عِ ّدتُها‬
‫حيضتان‪ ،‬فإن لم تكن تحيض‪ ،‬فشهران‪ ،‬احتج به أحمد رحمه الّ‪ .‬وقد نص أحمد رحمه الّ فى‬
‫أشهر الروايات عنه على أنها إذا ارتفع حيضُها ل تدرى ما رَ َفعَهُ‪ ،‬اعتدت بعشرة أشهر‪ ،‬تسعةٍ‬
‫للحمل‪ ،‬وشهرٍ مكان الحيضة‪.‬‬
‫سنَةٍ‪ ،‬هذه طريقة الشيخ أبى محمد‪ ،‬قال‪ :‬وأحمد ههنا جعل مكان‬
‫وعنه رواية ثانية‪ :‬تعت ّد بِ َ‬
‫الحيضة شهراً‪ ،‬لن اعتبارَ تكرارِها فى اليس ِة ِل ُت ْعلَم براءتُها من الحمل‪ ،‬وقد علم براءتها منه ههنا‬
‫خرَقىّ‬
‫بمضى غالب مُدّته‪ ،‬فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس‪ ،‬وهذا هو الذى ذكره ال ِ‬
‫مفرّقاً بين اليسة‪ ،‬وبين من ارتفع حيضُها‪ ،‬فقال‪ :‬فإن كانت آيسةً‪ ،‬فبثلثة أشهر‪ ،‬وإن ارتف َع حيضُها‬
‫ل تدرى ما رَ َفعَهُ‪ ،‬اعتدت بتسعة أشهر للحمل‪ ،‬وشهر مكان الحيضة‪.‬‬
‫وأما الشيخُ أبو البركات‪ ،‬فجعل الخلف فى الذى ارتفع حيضُها‪ ،‬كالخلفِ فى اليسةِ‪،‬‬
‫وجعل فيها الروايات الربع بعد غالب مدةِ الحملِ تسويةً بينها وبين اليسة فقال فى ((محرره))‪:‬‬
‫واليسة‪ ،‬والصغيرة بمضى شهر‪ .‬وعنه‪ :‬بمضى ثلثة أشهر وعنه‪ :‬شهرين‪ ،‬وعنه‪ :‬شهر ونصف‪.‬‬
‫وإن ارتفع حيضها ل تدرى ما رَ َفعَهُ‪ ،‬فبذلك بعد تسعة أشهر‪.‬‬
‫خرَقى‪ ،‬والشيخ أبى محمد أصح‪ ،‬وهذا الذى اخترناه من الكتفاء بشهر‪ ،‬هو الذى‬
‫وطريقة ال ِ‬
‫ح ْيضَةِ‪،‬‬
‫مال إليه الشيخ فى ((المغنى)) فإنه قال‪ :‬ووجه استبرائها بشهرٍ‪ ،‬أن الّ جعل الشهرَ مكان ال َ‬
‫ن الثلثة‬
‫ولذلك اختلفت الشهورُ باختلف الحيضات‪ ،‬فكانت عِدة الحُرة اليس ِة ثلثَة أشهر مكا َ‬
‫قُروء‪ ،‬وعِدّة المة شهرين‪ ،‬مكان ال َقرْءيْن‪ ،‬وللَمةِ المستبرأةِ التى ارتفع حيضها عشرة أشهر‪،‬‬
‫ن الحيضة هنا شهرٌ‪ ،‬كما فى حق من ارتفع‬
‫تِسعةٌ للحمل‪ ،‬وشهر مكان الحيضة‪ ،‬فيجب أن يكون مكا َ‬
‫حيضها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن قيل‪ :‬فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬وههنا ما يدل على البراءة وهو الياس‪ ،‬فاستويا‪.‬‬

‫‪435‬‬
‫ذكر أحكامه صلى ال عليه وسلم فى البيوع‬
‫ذكر حكمه صلى ال عليه وسلم فيما يحرم بيعه‬
‫ل رضى الّ عنهما‪ ،‬أنه سمع النبىّ‬
‫ثبت فى ((الصحيحين))‪ :‬من حديث جابر بن عبد ا ّ‬
‫صنَام))‪.‬‬
‫لّ ورسولَه حرّم بيع الخمر‪ ،‬والميتةِ‪ ،‬والخِنزير‪ ،‬وال ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول‪(( :‬إن ا َ‬
‫صبِحُ بها‬
‫س َت ْ‬
‫فقيل‪ :‬يا رَسُول الّ‪ :‬أرأيت شُحوم الميتة‪ ،‬فإنها يُطلى بها السّفن‪ ،‬ويُدهَنُ بها الجلودُ‪ ،‬ويَ ْ‬
‫لّ ال َيهُودَ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم عند ذلك ‪(( :‬قاتَلَ ا ُ‬
‫ل رَسُولُ ا َ‬
‫حرَامٌ)) ثم قَا َ‬
‫الناسُ؟ فقال‪(( :‬لَ‪ُ ،‬هوَ َ‬
‫ج َملُو ُه ثُ ّم بَاعُوهُ فأَكلوا َث َمنَهُ))‪.‬‬
‫عَل ْيهِم شُحُومَها َ‬
‫حرّمَ َ‬
‫لّ لمّا َ‬
‫إنّ ا َ‬
‫س ُم َرةَ باع خمراً فقال‪ :‬قاتلَ‬
‫ل عنه أنّ ً‬
‫ع َمرَ رضى ا ّ‬
‫وفيها أيضاً‪ :‬عن ابن عباسٍ‪ ،‬قال‪ :‬بَلغَ ُ‬
‫عَل ْيهِمُ الشّحُومُ‪،‬‬
‫ح ّر َمتْ َ‬
‫لّ ال َيهُودَ ُ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم قال‪َ(( :‬لعَنَ ا ُ‬
‫س ُم َرةَ‪ ،‬ألم يعل ْم أنّ رسولَ ا ِ‬
‫الُّ َ‬
‫فَجَملُوهَا َفبَاعُوهَا))‪.‬‬
‫فهذا من مسند عمر رضى الّ عنه‪ ،‬وقد رواه البيهقىّ‪ ،‬والحاكم فى ((مستدركه))‪ ،‬فجعله‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‬
‫من ((مسند ابن عباس))‪ ،‬وفيه زيادة‪ ،‬ولفظه‪ :‬عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬كان النب ّ‬
‫لّ ال َيهُودَ‪،‬‬
‫لّ ال َيهُودَ‪َ ،‬لعَنَ ا ُ‬
‫فى المسجد‪ ،‬يعنى الحرامَ‪ ،‬فرفع بص َرهُ إلى السماءِ‪ ،‬فتبسّم فقال ‪َ(( :‬لعَنَ ا ُ‬
‫عَليْهمُ الشّحُومَ‪َ ،‬فبَاعُوهَا‪َ ،‬وَأ َكلُوا َأثْمانها‪ ،‬إنّ‬
‫حرّمَ َ‬
‫عزّ وجَلّ َ‬
‫لّ ال َيهُودَ‪ ،‬إنّ الُّ َ‬
‫لّ ال َيهُودَ‪َ ،‬لعَنَ ا ُ‬
‫َلعَنَ ا ُ‬
‫عَل ْيهِمْ َث َمنَهُ))‪ .‬وإسناده صحيح‪ ،‬فإن البيهقى رواه عن ابن‬
‫حرّمَ َ‬
‫حرّمَ عَلى َقوْ ٍم َأكْلَ شَىءٍ َ‬
‫لّ إذَا َ‬
‫ا ُ‬
‫عبدان‪ ،‬عن الصفار‪ ،‬عن إسماعيل القاضى‪ ،‬حدثنا مُسدّد‪ ،‬حدثنا بشر بن المفضل‪ ،‬حدثنا خالد‬
‫الحذّاء‪ ،‬عن بركة أبى الوليد‪ ،‬عن ابن عباس‪.‬‬
‫ل إذا‬
‫وفى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرة رضى الّ عنه‪ .‬نحوه‪ ،‬دون قوله‪(( :‬إن ا ّ‬
‫حرّمَ َث َمنَهُ))‪.‬‬
‫حرّم َأكْلَ شَىءٍ َ‬
‫َ‬
‫ب تُفْسِ ُد العقول‬
‫فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلثة أجناس‪ :‬مشار َ‬
‫شرْك‪.‬‬
‫طبَاع وتغذّى غِذاءً خبيثاً ؛ وأعيانٍ تُفْسِدُ الديان‪ ،‬وتدعو إلى الفِتنةِ وال ّ‬
‫ومطاعِمَ تُفْسِ ُد ال ّ‬
‫فصانَ بتحريم النوع الول العقولَ عما يُزيلها ويُفْسِدُها‪ ،‬وبالثانى‪ :‬القلوبَ عما يُفْسِدها من‬
‫ل أث ِر الغذا ِء الخبيثِ إليها‪ ،‬والغاذى شبيهُ بالمغتذى‪ ،‬وبالثالث‪ :‬الديانَ عما وُضِعَ لفسادها‪.‬‬
‫ُوصُو ِ‬
‫ل والقلوبِ والديان‬
‫فتضمن هذا التحريمُ صِيان َة العقو ِ‬
‫ل عليه‪ ،‬وما يدخل فيه‪ ،‬وما ل يدخل فيه‪،‬‬
‫ولكن الشّأنَ فى معرفة حدود كلمه صلوات ا ّ‬
‫ش ِملَها عمومُ كلماتِهِ‪ ،‬وتأويلها بجميع‬
‫ج ْم ِعهَا‪ ،‬وتنا ُولِها لجميع النواع التى َ‬
‫لِتستبين عمومُ كلماته و َ‬

‫‪436‬‬
‫صيّةُ الفهم عن الِّ ورسولِه التى تفاوت فيه العلماءُ‬
‫ش ِملَها عمومُ لفظه ومعناه‪ ،‬وهذه خا ِ‬
‫النواع التى َ‬
‫ويُؤتيه الّ من يشاء‪.‬‬
‫فأمّا تحري ُم بيعِ الخمرِ‪ ،‬فيدخل فيه تحري ُم بيعِ كلّ مسكر‪ ،‬مائعاً كان‪ ،‬أو جامداً‬
‫شعِيرِ‪ ،‬والعَسَل‬
‫عصيراً‪ ،‬أو مطبوخاً‪ ،‬فيدخل فيه عَصيرُ ال ِع َنبِ‪ ،‬وخَم ُر الزبيبِ‪ ،‬والتمر‪ ،‬والذّ َرةِ‪ ،‬وال ّ‬
‫ن إلى أَخبثِ الماكن‪ ،‬فإن‬
‫حنْطَةِ‪ ،‬واللقم ِة الملعونة‪ ،‬لقمة الفسق والقلب التى تُحرّك القلبَ الساك َ‬
‫وال ِ‬
‫طعَنَ فى سنده‪ ،‬ول‬
‫ل صلى ال عليه وسلم الصحيح الصَريح الذى ل مَ ْ‬
‫خ ْمرٌ بنص رسول ا ّ‬
‫هذا ُكلّه َ‬
‫خمْر))‪.‬‬
‫س ِكرٍ َ‬
‫ل مُ ْ‬
‫إجمالَ فى متنه‪ ،‬إذ صح عنه قوله‪(( :‬كُ ّ‬
‫خ ْمرَ مَا خَا َمرَ‬
‫لمّةِ بخطابه ومُراده‪ :‬أنّ ال َ‬
‫ل عنهم الذين هم أعلمُ ا ُ‬
‫وصح عن أصحابه رضى ا ّ‬
‫العَقْلَ فدخولُ هذه النواع تحت اسم الخمر‪ ،‬كدخول جميع أنواع الذهب والفضّةِ‪ ،‬وال ُب ّر والشعيرِ‪،‬‬
‫والتم ِر والزبيب‪ ،‬تحت قوله‪(( :‬ل تبيعوا الذهبَ بالذهب‪ ،‬والفِض َة بالفضة‪ ،‬وال ُبرّ بال ُبرّ‪ ،‬والشّعيرَ‬
‫ل بمثل))‪.‬‬
‫بالشّعيرِ‪ ،‬والتمرِ‪ ،‬والملحَ بالملحِ إل ِمثْ ً‬
‫صنْف من هذه الصناف عن تناوُل اسمه له‪ ،‬فهكَذا ل يجوزُ إخراجُ‬
‫فكما ل يجوز إخراجُ ِ‬
‫صِنف من أَصناف المسكر عن اسم الخمر‪ ،‬فإنه يتضمّن محذورين‪.‬‬
‫ج مِن كلمه ما قصَدَ دخولَه فيه‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن يُخْر َ‬
‫والثانى‪ :‬أن يُشرع لذلك النوعِ الذى أخرج حك ٌم غير حكمه‪ ،‬فيكون تغييراً للفاظ الشارع‬
‫سمّاه به الشارع‪ ،‬أزال عنه حكم ذلك المسمّى‪،‬‬
‫ومعانيه‪ ،‬فإنه إذا سمّى ذلك النوعَ بغير السم الذى َ‬
‫ن ُي ْبتَلى بهذا‪ ،‬كما قال‪:‬‬
‫وأعطاه حكماً آخر‪ .‬ولما علم النبىّ صلى ال عليه وسلم أن مِنْ ُأ َمتِ ِه مِ ْ‬
‫سمِها))‪ .‬قضى قضية كليةً عامةً ل يتطرّق إليها‬
‫سمّونَها ِب َغ ْيرِ ا ْ‬
‫خ ْمرَ يُ َ‬
‫ن ُأمّتى ال َ‬
‫ن ناسٌ مِ ْ‬
‫شرَب ّ‬
‫((ليَ ْ‬
‫عبَيدة‪ ،‬والخليلَ‬
‫خمْر))‪ ،‬هذا ولو أن أبا ُ‬
‫سكِر َ‬
‫ل مُ ْ‬
‫إجمال‪ ،‬وَلَ احتمال‪ ،‬بل هى شافيةٌ كافيةُ‪ ،‬فقال‪(( :‬كُ ّ‬
‫ن كُلّ مسكرٍ‬
‫ص أئم ُة اللغة على أ ّ‬
‫وأضرابَهما مِن أئمة اللغة ذكروا هذه الكلمة هكذا‪ ،‬لقالوا‪ :‬قد ن ّ‬
‫خمر‪ ،‬وقولُهم حجة‪ ،‬وسيأتى إن شاء الّ تعالى عندَ ِذ ْكرِ هَدْيهِ فى الطعمة والشربة مزي ُد تقرير‬
‫ع مِن كل وجه‬
‫س الصريح الذى استوى فيه الصلُ والفر ُ‬
‫لهذا‪ ،‬وأنه لو لم يتناوله لفظُه‪ ،‬لكان القيا ُ‬
‫ق بين‬
‫ن نوع ونوع‪ ،‬تفري ٌ‬
‫ق بي َ‬
‫شرْب‪ ،‬فالتفري ُ‬
‫حاكمًا بالتسوية بين أنواع المسكر فى تحريم البيع وال ّ‬
‫متماثلين من جميع الوجوه‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪437‬‬
‫وأما تحريمُ بيع الميتة‪ ،‬فيدخل فيه كُلّ ما يسمّى ميتةً‪ ،‬سواء مات حتف أنفه‪ ،‬أو ُذ ّكىَ ذكَاةً ل‬
‫حلّه‪ .‬ويدخل فيه أبعاضُها أيضاً‪.‬‬
‫تُفيد ِ‬
‫ولهذا استشكل الصحاب ُة رضى الّ عنهم تحري َم بيع الشحم‪ ،‬مع ما لهم فيه من‬
‫ى صلى ال عليه وسلم أنّه حرامٌ وإن كان فيه ما ذكروا مِن المنفعة وهذا‬
‫المنفعة‪ ،‬فأخبرهم النب ّ‬
‫موضعٌ اختلف الناسُ فيه لختلفهم فى فهم مرادِه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو أنّ قوله‪(( :‬ل‪ ،‬هوَ‬
‫حرام))‪ :‬هل هو عائد إلى البيع‪ ،‬أو عائد إلى الفعال التى سألوا عنها؟ فقال شيخُنا‪ :‬هو راجع إلى‬
‫حرّم بيع الميتة‪ ،‬قالوا‪ :‬إن فى شحومها مِن المنافع‬
‫البيع‪ ،‬فإنه صلى ال عليه وسلم َلمّا أخبرهم أنّ َ‬
‫حرَام))‪.‬‬
‫كذا وكذا‪ ،‬يعنون‪ ،‬فهل ذلك مسوغ لبيعها؟ فقال‪(( :‬ل‪ ،‬هو َ‬
‫قلت‪ :‬كأنهم طلبوا تخصيصَ الشحوم من جملة الميتة بالجواز‪ ،‬كما طلب العباسُ رضى الّ‬
‫حرَمِ بالجواز‪ ،‬فلم يجبهم إلى ذلك‪ ،‬فقال‪(( :‬ل‪ ،‬هو‬
‫عنه تخصيصَ الذْخر من جملة تحريم نَبات ال َ‬
‫حرام))‪.‬‬
‫وقال غيرُه من أصحاب أحمد وغيرهم‪ :‬التحريمُ عائد إلى الفعال المَسؤول عنها‪ ،‬وقال‪ :‬هو‬
‫حرام‪ ،‬ولم يقل‪ :‬هى‪ ،‬لنه أراد المذكورَ جميعَه‪ ،‬ويرجح قولهم عود الضمير إلى أقرب مذكور‪،‬‬
‫ويرجحه من جهة المعنى أن إباحة هذه الشياء ذريعةٌ إلى اقتناء الشحوم وبيعها‪ ،‬ويُرجحه أيضاً‪:‬‬
‫أن فى بعض ألفاظ الحديث‪ ،‬فقال‪(( :‬ل‪ ،‬هى حرام))‪ ،‬وهذا الضمير إما أن يرجع إلى الشحوم‪ ،‬وإما‬
‫إلى هذه الفعال‪ ،‬وعلى التقديرين‪ ،‬فهو حُجّةٌ على تحريم الفعال التى سألوا عنها‪.‬‬
‫ل عنه فى الفأرة التى وقعت فى السمن‪:‬‬
‫ويرجحه أيضاً قولُه فى حديث أبى هريرة رضى ا ّ‬
‫ن مَائِعاً فَل تَ ْق َربُوهُ))‪ .‬وفى النتفاع به فى‬
‫حوْلها و ُكلُوهُ‪ ،‬وإنْ كَا َ‬
‫ن كَانَ جَامِداً َفأَلقُوهَا ومَا َ‬
‫((إ ْ‬
‫الستصباح وغيره قُربان له‪ .‬ومن رجّح الول يقول‪َ :‬ث َبتَ عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال‪:‬‬
‫ن ال َم ْيتَةِ َأ ْكلُها))‪ ،‬وهذا صريحُ فى أنه ل يحرم النتفاعُ بها فى غير الكل‪ ،‬كالوقيدِ‪،‬‬
‫حرُ َم مِ َ‬
‫((إنّما َ‬
‫وسَ ّد البُثوقِ‪ ،‬ونحوهما‪ .‬قالوا‪ :‬والخبيث إنما تحرُمُ ملبسته باطناً وظاهراً‪ ،‬كالكل والّل ْبسِ‪ ،‬وأما‬
‫ع به من غير مُلبسة‪ ،‬فَلىّ شىءٍ يحرم؟‬
‫النتفا ُ‬
‫قالوا‪ :‬ومن تأمل سياقَ حديث جابر‪ ،‬علم أن السؤالَ إنما كان منهم عن البيع‪ ،‬وأنّهم طلبوا‬
‫منه أن يُرخّص لهم فى بيع الشحوم‪ ،‬لما فِيها من المنافع‪ ،‬فأبى عليهم وقال‪(( :‬هو حرام))‪ ،‬فإنهم لو‬
‫سألوه عن حكم هذه الفعال‪ ،‬لقالوا‪ :‬أرأيتَ شحو َم الميتة‪ ،‬هل يجوز أن يَستصبحَ بها الناسُ‪ ،‬وتُدهَنَ‬
‫بها الجلودُ ؛ ولم يقولوا‪ :‬فإنه يفعل بها كذا وكذا‪ ،‬فإن هذا إخبار منهم‪ ،‬ل سؤال‪ ،‬وهم لم يُخبروه‬

‫‪438‬‬
‫بذلك عقيبَ تحريم هذه الفعال عليهم‪ ،‬ليكون قوله‪(( :‬ل‪ ،‬هو حرام)) صريحاً فى تحريمها‪ ،‬وإنما‬
‫أخبروه به عقيبَ تحريم بيع الميتة‪ ،‬فكأنهم طلبوا منه أن يرخّص لهم فى بيع الشحوم لهذه المنافع‬
‫التى ذكروها‪ ،‬فلم يفعل‪ .‬ونهاي ُة المر أن الحديثَ يحتمل المرين‪ ،‬فل يحرم ما لم يعلمْ أنّ الّ‬
‫حرّمه‪.‬‬
‫ورسوله َ‬
‫ط ِعمُوا ما عجنُوا‬
‫قالوا‪ :‬وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الستسقاء مِن آبار ثمود‪ ،‬وأباح لهم أن يُ ْ‬
‫مِنه من تلك البار للبهائم‪ ،‬قالوا‪ :‬ومعلوم أن إيقادَ النجاسةِ والستصباحَ بها انتفاعٌ خالٍ عن هذه‬
‫المفَسْ َدةِ‪ ،‬وعن ملبستها باطناً وظاهراً‪ ،‬فهو نَفْ ٌع َمحْضٌ ل مفسدة فيه‪ .‬وما كان هكذا‪ ،‬فالشريعةُ ل‬
‫تحرّمه‪ ،‬فإن الشريعة إنما تحرّم المفاسدَ الخالص َة أو الراجحةَ‪ ،‬وطرقَها وأسبابهَا الموصلةَ إليها‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وقد أجاز أحمد فى إحدى الروايتين الستصباحَ بشحوم الميتة إذا خالطت دُهناً‬
‫طاهراً‪ ،‬فإنه فى أكثر الروايات عنه يجوز الستصباحُ بالزيت النجِس‪ ،‬وطلىُ السفن به‪ ،‬وهو‬
‫اختيارُ طائفة من أصحاب‪ ،‬منهم‪ :‬الشيخ أبو محمد‪ ،‬وغيره‪ ،‬واحتج بأن ابن عمر أمر أن يُستصبحَ‬
‫به‪.‬‬
‫ح به إذا لم يمسوه‪،‬‬
‫وقال فى رواية ابنيه‪ :‬صالح وعبد الّ‪ :‬ل يعجبنى بيع النّجس‪ ،‬ويستصب ُ‬
‫جسَ‪ ،‬والمتنجّس‪ ،‬ولو قُ ّد َر أنه إنما أراد به المتنجّس‪ ،‬فهو صريحٌ فى القول‬
‫لنه نجس‪ ،‬وهذا يعم الن ّ‬
‫بجواز الستصباح بما خالطه نجاسة ميتة أو غيرها‪ ،‬وهذا مذهبُ الشافعى‪ ،‬وأىّ فرق بين‬
‫الستصباح بشحم الميتة إذا كان منفرداً‪ ،‬وبين الستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فنجسه؟‬
‫س العين‪ ،‬وإذا خالطه غيره تنجس به‪ ،‬فأمكن تطهيره‬
‫ج ُ‬
‫فإن قيل‪ :‬إذا كان مفرداً‪ ،‬فهو نَ ِ‬
‫جسِ‪ ،‬ولهذا يجوز بيع الدّهْن المتنجّس على أحد القولين دون دهن الميتة‪.‬‬
‫بالغسل‪ ،‬فصار كالثوب النّ ِ‬
‫عوّل عليه المفرّقون بينهما‪ ،‬ولكنه ضعيف لوجهين‪.‬‬
‫ب أنّ هذا هو الفرق الذى َ‬
‫قيل‪ :‬ل ري َ‬
‫أحدهما‪ :‬أنه ل يعرف عن المام أحمد‪ ،‬ول عن الشافعى البتة غسل الدهن النجّس‪ ،‬وليس‬
‫طهُر‬
‫عنهم فى ذلك كلمةٌ واحدةٌ‪ ،‬وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين‪ ،‬وقد رُوى عن مالك‪ ،‬أنه يَ ْ‬
‫بالغسل‪ ،‬هذه رواية ابن نافع‪ ،‬وابن القاسم عنه‪.‬‬
‫الثانى‪ :‬أن هذا الفرق وإن تأتّى لصحابه فى الزيت والشيرج ونحوهما‪ ،‬فل يتأتّى لهم فى‬
‫جميع الدهان‪ ،‬فإن منها ما ل يُمكن غسله‪ ،‬وأحمد والشافعى قد أطلقا القولَ بجواز الستصباح‬
‫بالدهن النجس من غير تفريق‪.‬‬

‫‪439‬‬
‫ل للخبيث والنجاسة‪ ،‬سواء كانت عيني ًة أو‬
‫وأيضاً فإنّ هذا ال َفرْق ل يُفيد فى دفع كونه مستعم ً‬
‫طارئةً‪ ،‬فإنه إن حرم الستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث‪ ،‬فل فرق‪ ،‬وإن حرم لجل دُخان‬
‫النجاسة‪ ،‬فل فرق‪ ،‬وإن حرم لكون الستصباح به ذريعة إلى اقتنائه‪ ،‬فل فرق‪ ،‬فالفرق بين‬
‫المذهبين فى جواز الستصباح بهذا دونَ هذا ل معنى له‪.‬‬
‫وأيضاً فقد جوز جمهورُ العلماءِ النتفاعَ بالسّرقين النّجس فى عمارةِ الرض لل ّزرْع‪،‬‬
‫والثمر‪ ،‬والبقل مع نجاسة عينِه‪ ،‬وملبس ِة المستعمل له أكثر من ملبسة الموقَدِ‪ ،‬وظهورِ أثره فى‬
‫البقول والزروع‪ ،‬والثمار‪ ،‬فوق ظهور أثر الوقيد‪ ،‬وإحال ُة النار أتم من إحالة الرض‪ ،‬والهواء‬
‫سلّ َم أن دُخَان النجاس ِة نجس‪ ،‬وبأىّ‬
‫والشمس للسّرقين‪ ،‬فإن كان التحريم لجل ُدخَان النّجَاسَةِ‪ ،‬فَمن َ‬
‫ب عينِ السرقينِ والماءِ‬
‫سنّةٍ ثبت ذلك؟ وانقلبُ النجاس ِة إلى الدّخَان أتمّ من انقل ِ‬
‫كتاب‪ ،‬أم بأيّةِ ُ‬
‫شكّ فيه‪ ،‬بل معلوم بالحسّ والمشاهدةِ‪ ،‬حتى جوز بعضُ‬
‫النجس ثمرًا أو زرعاً‪ ،‬وهذا أمر ل يُ َ‬
‫ل َب ْيعَه‪ ،‬فقال ابن الماجشون‪ :‬ل بأس ببيع العَذِرةِ‪ ،‬لن ذلك‬
‫أصحاب مالك‪ ،‬وأبى حنيفة رحمهما ا ّ‬
‫من منافع الناس‪ .‬وقال ابن القاسم‪ :‬ل بأس ببيع ال ّزبْل‪ .‬قال اللخمىّ‪ :‬وهذا يدل من قوله على أنه يرى‬
‫بيع العَذِرةِ‪ .‬وقال أشهب فى ال ّزبْل‪ :‬المشترى أعذر فيه من البائع‪ ،‬يعنى فى اشترائه‪ .‬وقال ابن عبد‬
‫سيّان فى الِثم‪.‬‬
‫الحكم‪ :‬لم َيعْذُر الّ واحداً منهما‪ ،‬وهما ِ‬
‫حرَامٌ وإن جاز النتفاع به‪ ،‬والمقصود‪ :‬أنه ل يلزم‬
‫قلت‪ :‬وهذا هو الصوابُ‪ ،‬وأن بيع ذلك َ‬
‫ل ورسولُه منها كالوقيد‪ ،‬وإطعام الصقورِ‬
‫من تحريم بيع الميتة تحريمُ النتفاع بها فى غير ما حرّم ا ّ‬
‫والبُزا ِة وغير ذلك‪ .‬وقد نص مالك على جواز الستصباح بال ّز ْيتِ النّجس فى غير المساجد‪ ،‬وعلى‬
‫حرُم‬
‫ل مَا َ‬
‫ب البيعِ‪ ،‬فليس كُ ّ‬
‫ع أوسعُ من با ِ‬
‫ل الصابون منه‪ ،‬وينبغى أن ُي ْعلَ َم أنّ بَابَ النتفا ِ‬
‫جوازِ عم ِ‬
‫حرُمَ النتفاع به‪ ،‬بل ل تلزم بينهما‪ ،‬فل يؤخذ تحريمُ النتفاع مِن تحريم البيع‪.‬‬
‫بيعه َ‬
‫فصل‬
‫ويدخل فى تحري ِم بيعِ الميتة بي ُع أجزائها التى تحلّها الحياة‪ ،‬وتُفارقها بالموت‪ ،‬كاللحم‬
‫والشحم والعصب‪ ،‬وأما الشع ُر والوب ُر والصوف‪ ،‬فل يدخل فى ذلك‪ ،‬لنه ليس بميتة‪ ،‬ول تحله‬
‫الحياة‪ .‬وكذلك قال جمهورُ أهل العلم‪ :‬إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارَها طاهرة إذا كانت من‬
‫حيوان طاهر‪ ،‬هذا مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل‪ ،‬والليث‪ ،‬والوزاعى‪ ،‬والثورى‪،‬‬
‫وداود‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬والمزنى‪ ،‬ومن التابعين‪ :‬الحسن‪ ،‬وابن سيرين‪ ،‬وأصحاب عبد الّ بن مسعود‪،‬‬
‫وانفرد الشافعى بالقول بنجاستها‪ ،‬واحتجّ له بأن اس َم الميتة يتناولُها كَما يتناول سائر أجزائها بدليل‬

‫‪440‬‬
‫الثر والنظر‪ ،‬أما الثرُ‪ ،‬ففى ((الكامل)) لبن عدى‪ :‬من حديث ابن عمر يرفعه‪(( :‬ادْفِنوا الَظْفَارَ‪،‬‬
‫ش َعرَ‪ ،‬فَإنّها َم ْيتَةٌ))‪ .‬وأما النظر‪ ،‬فإنه متصل بالحيوان ينمو بنمائه‪ ،‬فينجس بالموت كسائر‬
‫والدّمَ وال ّ‬
‫أعضائه‪ ،‬وبأنه شعر نابت فى محل نجس‪ ،‬فكان نجساً كشعر الخنزير‪ ،‬وهذا لن ارتباطه بأصله‬
‫خِلقة يقتضى أن يثبت له حكمُه تبعاً‪ ،‬فإنه محسوب منه عرفاً‪ ،‬والشارع أجرى الحكامَ فيه على‬
‫وفق ذلك‪ ،‬فأوجب غسله فى الطهارة‪ ،‬وأوجبَ الجزاء بأخذه من الصيد كالعضاء‪ ،‬وألحقه بالمرأة‬
‫ع له تشوف إلى إصلح الموالِ‬
‫فى النكاح والطلقِ حلً وحرمة‪ ،‬وكذلك ههنا‪ ،‬وبأن الشار َ‬
‫وحفظها وصيانتها‪ ،‬وعدم إضاعتها‪ .‬وقد قال لهم فى شاة ميمونة‪(( :‬هلّ أَخَ ْذتُم إهَابهَا فَ َد َب ْغ ُتمُوه‬
‫فَا ْنتَ َف ْعتُم بِهِ))‪ .‬ولو كان الشعر طاهراً‪ ،‬لكان إرشادُهم إلى أخذه أولى‪ ،‬لنه أقلّ كلفة‪ ،‬وأسهل تناولً‪.‬‬
‫شعَارِها َأثَاثًا و َمتَاعًا إلى‬
‫ن َأصْوَا ِفهَا وَأ ْوبَارِهَا وأ ْ‬
‫قال المط ّهرُونَ للشعور‪ :‬قال الّ تعالى‪{ :‬ومِ ْ‬
‫حين} [النحل‪ ،]80 :‬وهذا يعم أحياءها وأمواتَها‪ ،‬وفى مسند أحمد‪ :‬عن عبد الرزاق‪ ،‬عن معمر‪،‬‬
‫ل عنه‪ ،‬قال‪ :‬م ّر النبىّ‬
‫ل ابن عتبة‪ ،‬عن ابن عباس رضى ا ّ‬
‫عن الزهرى‪ ،‬عن عبيد الّ بن عبد ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم بشاة لميمونة ميتة‪ ،‬فقال‪(( :‬أل انتفعتم بإهابها))‪ ،‬قالوا‪ :‬وكيفَ وهى ميتة؟ قال‪:‬‬
‫ح ُمهَا))‪ .‬وهذا ظاهرٌ جداً فى إباحة ما سوى اللحم‪ ،‬والشحمُ‪ ،‬والكب ُد والطحال‪ ،‬واللية‬
‫حرُ َم لَ ْ‬
‫((إنّما َ‬
‫ض هذا بالعظم والقَرن‪ ،‬والظفر‬
‫ُكلّها داخلة فى اللحم‪ ،‬كما دخلت فى تحريم لحم الخنزير‪ ،‬ول ينتقِ ُ‬
‫والحافِر‪ ،‬فإن الصحيحَ طهارة ذلك كما سنقرره عقيب هذه المسألة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولنه لو أُخِذَ حال الحياة‪ ،‬لكان طاهراً فلم ينجس بالموت كالبيض‪ ،‬وعكسه العضاء‪.‬‬
‫قالُوا‪ :‬ولنه لما لم ينجس بجزه فى حال حياة الحيوان بالجماع دل على أنه ليس جزءاً مِن‬
‫حىّ‪َ ،‬ف ُه َو َم ْيتَةٌ))‪،‬‬
‫الحيوان‪ ،‬وأنه ل روح فيه لن النبى صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬ما ُأبِينَ مِنْ َ‬
‫رواه أهل السنن‪ .‬ولنه ل يتألّم بأخذه‪ ،‬ول يُحس بمسه‪ ،‬وذلك دليلُ عدم الحياة فيه‪ ،‬وأما النماء‪ ،‬فل‬
‫يدل على الحياة والحيوانية التى يتنجّس الحيوان بمفارقتها‪ ،‬فإن مجرد النماء لو دلّ على الحياة‪،‬‬
‫ع بُيبسه‪ ،‬لمفارقة حياة النمو والغتذاء له‪.‬‬
‫ونجس المحل بمفارقة هذه الحياة‪ ،‬لتنجس الزر ُ‬
‫قالوا‪ :‬فالحياةُ نوعان‪ :‬حياة حس وحركة‪ ،‬وحياة نمو واغتذاء‪ ،‬فالولى‪ :‬هى التى يُؤثر فقدُها‬
‫فى طهارة الحى دون الثانية‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬واللحمُ إنما ينجُس لحتقان الرطوبات والفضلت الخبيثة فيه‪ ،‬والشعو ُر والصواف‬
‫بريئة مِن ذلك‪ ،‬ول ينتقض بالعظام والظفار لما سنذكره‪.‬‬

‫‪441‬‬
‫قالوا‪ :‬والصلُ فى العيان الطهارة‪ ،‬وإنما يطرأ عليها التنجيس بإستحالتها‪ ،‬كالرجيع‬
‫المستحيل عن الغذاء‪ ،‬وكالخمر المستحيل عن العصير وأشباهها‪ ،‬والشعور فى حال استحالتها‬
‫كانت طاهرة‪ ،‬ثم لم يعرض لها ما يُوجب نجاستَها بخلف أعضاء الحيوان‪ ،‬فإنها عرض لها ما‬
‫ن الفضلت الخبيثة‪.‬‬
‫يقتضى نجاستها‪ ،‬وهو احتقا ُ‬
‫ل بن عبد العزيز بن أبى َروّاد‪ .‬قال أبو‬
‫ل بن عمر‪ ،‬ففى إسنادِه عبد ا ّ‬
‫قالوا‪ :‬وأما حديثُ عبد ا ّ‬
‫حاتم الرازى‪ :‬أحاديثُه منكرة ليس محله عندى الصدق‪ ،‬وقال على بن الحسين بن الجنيد‪ :‬ل يُساوى‬
‫فلساً‪ ،‬يُحدث بأحاديث كذب‪.‬‬
‫وأما حديثُ الشاة الميتة‪ ،‬وقوله‪(( :‬أل انتفعتم بإهابها))‪ ،‬ولم يتعرض للشعر فعنه ثلثةُ‬
‫أجوبة‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه أطلق النتفاع بالهاب‪ ،‬ولم يأمرهم بإزالة ما عليه من الشعر‪ ،‬مع أنه ل بُدّ فيه‬
‫ب المنتفع به بوجه دون وجه‪ ،‬فدل على أن‬
‫من شعر‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم لم يُقيد الها َ‬
‫النتفاع به فرواً وغيره مما ل يخلو من الشعر‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنه صلى ال عليه وسلم قد أرشدهم إلى النتفاعِ بالشعر فى الحديث نفسِه حيث‬
‫حمُها))‪.‬‬
‫ن ال َم ْيتَ ِة َأ ْكلُها َأوْ ل ْ‬
‫حرُمَ مِ َ‬
‫يقول‪(( :‬إ ّنمَا َ‬
‫ت وتعليلُهم‬
‫والثالث‪ :‬أن الشع َر ليس من الميتة ليتعرض له فى الحديث‪ ،‬لنه ل يحلّه المو ُ‬
‫ن الشعر عندهم‪ ،‬وتمسكهم بغسله فى‬
‫ل بجلد الميتة إذا دُبغَ‪ ،‬وعليه شعر‪ ،‬فإنه يطهرُ دو َ‬
‫بالتبعية يبط ُ‬
‫الطهارة َيبْطُلُ بالجبيرة‪ ،‬وتمسكهم بضمانه مِن الصيد يبطُل بالبيض‪ ،‬وبالحمل‪ .‬وأما فى النكاح‪،‬‬
‫فإنه يتبع الجملة لتصاله‪ ،‬وزوال الجملة بإنفصاله عنها‪ ،‬وههنا لو فارق الجملة بعد أن تبعها فى‬
‫التنجس‪ ،‬لم يُفارقها فيه عندهم‪ ،‬فعلم الفرق‪.‬‬
‫فصل‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل يدخُل فى تحريم بيعها تحريمُ بيع عظمها وقرنها وجلدها بعدَ الدباغ لشمول‬
‫اسم الميتة لذلك؟ قيل‪ :‬الذى يحرم بيعُه منها هو الذى يحرم أكلُه واستعمالُه‪ ،‬كما أشار إليه النبىّ‬
‫حرّمَ‬
‫حرّ َم َث َمنَهُ))‪ .‬وفى اللفظ الخر‪(( :‬إذَا َ‬
‫حرّمَ شيئاً َ‬
‫ل َتعَالى إذَا َ‬
‫صلى ال عليه وسلم بقوله‪(( :‬إنّ ا ّ‬
‫حرّمَ َث َمنَهُ))‪ .‬فنّبه على أن الذى يحرم بيعهُ يحرم أكله‪.‬‬
‫َأكْلَ شَىءٍ‪َ ،‬‬
‫وأما الجلد إذا دبغ‪ ،‬فقد صار عيناً طاهرة ينتفع به فى اللبس والفرش‪ ،‬وسائِر وجوه‬
‫الستعمال‪ ،‬فل يمتنع جوازُ بيعه‪ ،‬وقد نص الشافعى فى كتابه القديم على أنه ل يجوز بيعُه‪،‬‬

‫‪442‬‬
‫واختلف أصحابُه‪ ،‬فقال القفال‪ :‬ل يتجه هذا إل بتقدير قول يُوافق مالكاً فى أنه يطهر ظاهرُه دون‬
‫باطنه‪ ،‬وقال بعضُهم‪ :‬ل يجوز بيعُه‪ ،‬وإن طهر ظاهره وباطنه على قوله الجديد‪ ،‬فإنه جز ٌء من‬
‫الميتة حقيقة‪ ،‬فل يجوزُ بيعه كعظمها ولحمها‪ .‬وقال بعضُهم‪ :‬بل يجو ُز بيعه بعد الدبغ لنه عين‬
‫طاهرة يُنتفع بها فجاز بيعها كالمذكّى‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬بل هذا ينبنى على أن الدبغ إزالة أو إحالة‪،‬‬
‫فإن قلنا‪ :‬إحالة‪ ،‬جاز بَيعُه لنه قد استحال من كونه جزء ميتة إلى عين أخرى‪ ،‬وإن قلنا‪ :‬إزالة‪ ،‬لم‬
‫يجزء بيعُه‪ ،‬لن وصف الميتة هو المحرمُ لبيعه‪ ،‬وذلك باق لم يستحل‪.‬‬
‫وبنوا على هذا الخلف جواز أكله‪ ،‬ولهم فيه ثلثة أوجه‪ :‬أكله مطلقاً‪ ،‬وتحريمه مطلقاً‪،‬‬
‫ل بين جلد المأكول وغير المأكول‪ ،‬فأصحاب الوجه الول‪ ،‬غّلبُوا حكم الحالة‪ ،‬وأصحاب‬
‫والتفصي ُ‬
‫الوجه الثانى‪ ،‬غلّبوا حكم الزالة‪ ،‬وأصحاب الوجه الثالث أجروا الدباغَ مجرى الذكاة‪ ،‬فأباحوا بها‬
‫ما يُباح أكله بالذكاة إذا ذكى دون غيره‪ ،‬والقولُ بجواز أكله باطل مخالف لصريح السنة‪ ،‬ولهذا لم‬
‫يُمكن قائلُه القول به إل بعد منعه كونَ الجلد بعد الدبغ ميتة‪ ،‬وهذا منع باطل‪ ،‬فإنه جلد ميتة حقيقة‬
‫وحساً وحكماً‪ ،‬ولم يحدث له حياةٌ بالدبغ ترفع عنه اسم الميتة‪ ،‬وكون الدبغ إحالةً باطل حساً‪ ،‬فإن‬
‫الجلد لم يستحل ذاتُه وأجزاؤه‪ ،‬وحقيقته بالدباغ‪ ،‬فدعوى أن الدباغ إحالة عن حقيقة إلى حقيقة‬
‫أخرى‪ ،‬كما تُحيل النارُ الحطب إلى الرماد‪ ،‬والملّحة ما يُلقى فيها من الميتات إلى الملح دعوى‬
‫باطلة‪.‬‬
‫وأما أصحاب مالك رحمه الّ ففى ((المدونة)) لبن القاسم المن ُع من بيعها وإن دبغت‪ ،‬وهو‬
‫الذى ذكره صاحب ((التهذيب))‪ .‬وقال المازَرى‪ :‬هذا هو مقتضى القول بأنها ل تطهرُ بالدباغ‪ .‬قال‪:‬‬
‫وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة‪ ،‬فإنا نُجيز بيعها لباحة جملة منافعها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عن مالك فى طهارة الجلد المدبوغ روايتان‪ .‬إحداهما‪ :‬يطهر ظاهرُه وباطنُه‪ ،‬وبها قال‬
‫وهب‪ ،‬وعلى هذه الرواية جوز أصحابُه بيعه والثانية‪ :‬وهى أشهر الروايتين عنه أنه يطهر طهارة‬
‫مخصوصة يجوز معها استعمالُه فى اليابسات‪ ،‬وفى الماء وحده دون سائر المائعات‪ ،‬قال أصحابه‪:‬‬
‫وعلى هذه الرواية ل يجوز بيعُه‪ ،‬ول الصلة فيه‪ ،‬ول الصلةُ عليه‪.‬‬
‫وأما مذهب المام أحمد‪ :‬فإنه ل يصح عنده بيع جلد الميتة قبل دبغه‪ .‬وعنه فى جوازه بعد‬
‫الدبغ روايتان‪ ،‬هكذا أطلقهما الصحابُ‪ ،‬وهما عندى مبنيتان على اختلف الرواية عنه فى طهارته‬
‫بعد الدباغ‪.‬‬
‫وأما بيعُ الدهن النجس‪ ،‬ففيه ثلثة أوجه فى مذهبه‪.‬‬

‫‪443‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه ل يجوز بيعه‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنه يجوز بيعُه لكافر يعلم نجاسته‪ ،‬وهو المنصوص عنه‪ .‬قلت‪ :‬والمراد بعلم‬
‫النجاسة‪ :‬العلم بالسبب المنجس ل اعتقاد الكافر نجاسته‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬يجوز بيعه لكافر ومسلم‪ .‬وخرج هذا الوجه من جواز إيقاده‪ ،‬وخرج أيضًا من‬
‫طهارته بالغسل‪ ،‬فيكون كالثوب النجس‪ ،‬وخرج بعضُ أصحابه وجهًا ببيع السرقين النجس للوقيد‬
‫مِن بيع الزيت النجس له‪ ،‬وهو تخريجٌ صحيح‪.‬‬
‫وأما أصحاب أبى حنيفة فجوزوا بيع السرقين النجس إذا كان تبعًا لغيره‪ ،‬ومنعوه إذا‬
‫كان مفرداً‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما عظمُها‪ ،‬فمن لم ينجسه بالموت‪ ،‬كأبى حنيفة‪ ،‬وبعض أصحاب أحمد‪ ،‬واختيار ابن‬
‫وهب من أصحاب مالك‪ ،‬فيجوز بيعُه عندهم‪ ،‬وإن اختلف مأخذ الطهارة‪ ،‬فأصحاب أبى حَنيفة‬
‫قالوا‪ :‬ل يدخل فى الميتة‪ ،‬ول يتناولُه اسمها‪ ،‬ومنعوا كونَ اللم دليلَ حياته‪ ،‬قالُوا‪ :‬وإنما تؤلمه لما‬
‫ن يُحْيى العِظَا َم وَ ِهىَ َرمِيمٌ} [يس‪:‬‬
‫ل مَ ْ‬
‫جاوره من اللحم ل ذات العظم‪ ،‬وحملوا قوله تعالى‪{ :‬قَا َ‬
‫‪ ،]78‬على حذف مضاف‪ ،‬أى أصحابها‪ .‬وغيرهُم ضعّف هذا المأخذ جداً‪ ،‬وقال‪ :‬العظم يألم‪ ،‬وألمه‬
‫أش ّد من ألم اللحم‪ ،‬ول َيصِحّ حمل الية على حذف مضاف‪ ،‬لوجهين‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنه تقدير ما ل دليل‬
‫عليه‪ ،‬فل سبيل إليه‪ .‬الثانى‪ :‬أن هذا التقدير يستلزم الضراب عن جواب سؤال السائل الذى‬
‫استشكل حياة العظام‪ ،‬فإن أُبىّ ابْنَ خَلف أخذ عظماً بالياً‪ ،‬ثم جاء به إلى النبى صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ففته فى يده‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬أترى الّ يحيى هذا بعد ما رُمّ؟ فقالَ رسولُ ا ِ‬
‫ك النّار))‪.‬‬
‫خُل َ‬
‫((نعم‪ ،‬و َي ْب َع ُثكَ‪ ،‬ويُدْ ِ‬
‫ب تنجيس الميتة منتفٍ فى العظام‪ ،‬فلم يُحكم بنجاستها‪ ،‬ول يصح‬
‫فمأخذ الطهارة أن سب َ‬
‫قياسها على اللحم‪ ،‬لن احتقانَ الرطوبات والفضلت الخبيثة يختص به دونَ العظام‪ ،‬كما أن ما ل‬
‫نفس له سائلة ل ينجس بالموت‪ ،‬وهو حيوان كامل‪ ،‬لِعدم سبب التنجيس فيه‪ .‬فالعظم أولى‪ ،‬وهذا‬
‫المأخ ُذ أصح وأقوى من الول‪ ،‬وعلى هذا‪ ،‬فيجوز بيعُ عظام الميتة إذا كانت من حيوان طاهر‬
‫العين‪.‬‬
‫وأما من رأى نجاستها‪ ،‬فإنه ل يجوز بيعها‪ ،‬إذ نجاستها عينية‪ ،‬قال ابن القاسم‪ :‬قال مالك‪ :‬ل‬
‫أري أن تُشترى عِظام الميتة ول تباع‪ ،‬ول أنياب الفيل‪ ،‬ول يتجر فيها‪ ،‬ول يمتشط بأمشاطها‪ ،‬ول‬

‫‪444‬‬
‫يدهن بمداهنها‪ ،‬وكيف يجعل الدهن فى الميتة ويمشط لحيته الميتة‪ ،‬وهى مبلولة‪ ،‬وكره أن يُطبخ‬
‫بعظام الميتة‪ ،‬وأجاز مطرّف‪ ،‬وابن الماجِشون بيعَ أنياب الفيل مطلقاً‪ ،‬وأجازه ابن وهب‪ ،‬وأصبغ‬
‫سلِقت‪ ،‬وجعل ذلك دباغاً لها‪.‬‬
‫إن غُليت و ُ‬
‫فصل‬
‫وأما تحريمُ بيع الخنزير‪ ،‬فيتناولُ جملته‪ ،‬وجميعَ أجزائه الظاهرة والباطنة‪ ،‬وتأمل كيف ذكر‬
‫لحمه عند تحريم الكل إشارة إلى تحريم أكله ومعظمه اللحم‪ ،‬فذكر اللحم تنبيهاً على تحريم أكلِه‬
‫دونَ ما قبله‪ ،‬بخلف الصيد‪ ،‬فإنه لم يقل فيه‪ :‬وحرم عليكم لحم الصيد‪ ،‬بل حرم نفس الصيد‪،‬‬
‫ليتناول ذلك أكله وقتله‪ .‬وههنا لما حرم البيع ذكر جملته‪ ،‬ولم يخص التحريمَ بلحمه ليتناول بيعه حياً‬
‫وميتاً‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما تحريمُ بيع الصنام‪ ،‬فُيستفاد منه تحري ُم بيع كُلّ آلة متخذة للشرك على أى وجه كانت‪،‬‬
‫ومن أى نوع كانت صنماً أو وثنًا أو صليباً‪ ،‬وكذلك الكُتب المشت ِملَةُ على الشرك‪ ،‬وعبادة غير الّ‪،‬‬
‫فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها‪ ،‬وبيعُها ذريع ٌة إلي اقتناعها واتخاذها‪ ،‬فهو أولى بتحريم البيع مِن‬
‫كل ما عداها‪ ،‬فإن مفسدةَ بيعها بحسب مفسدتها فى نفسها‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم لم يُؤخر‬
‫ل مِن‬
‫ذِكرها لخفة أمرها‪ ،‬ولكنه تدرّج من السهل إلى ما هو أغلظ منه‪ ،‬فإن الخمرَ أحسنُ حا ً‬
‫الميتة‪ ،‬فإنها تصيرُ مالً محترماً إذا قلبها الُّ سبحانه ابتداء خّل‪ ،‬أو قلبها الدمى بصنعته عند طائفة‬
‫من العلماء‪ ،‬تُضمن إذا أتلفت على الذمى عند طائفة بخلف الميتة‪ ،‬وإنما لم يجعل الّ فى أكل‬
‫الميتة حداً اكتفاء بالزاجر الذى جعله الّ فى الطباع مِن كراهتها والنفرة عنها‪ ،‬وإبعادها عنها‪،‬‬
‫بخلف الخمر‪ .‬والخنزير أشدّ تحريمًا من الميتة‪ ،‬ولهذا أفرده الّ تعالى بالحكم عليه أنه رجس فى‬
‫ن َيكُونَ َم ْيتَ ًة َأوْ دَمًا مَسْفُوحًا َأوْ‬
‫ل أَ ْ‬
‫ط َعمُهُ إ ّ‬
‫ى إلىّ مُحرّماً عَلى طَاعِ ٍم يَ ْ‬
‫حَ‬‫ل أَجدُ فِيمَا أُو ِ‬
‫قوله‪{ :‬قُلْ َ‬
‫جسٌ َأوْ فِسْقاً} [النعام‪ ،]145 :‬فالضمير فى قوله‪(( :‬فإنه)) وإن كان عوده إلى‬
‫خ ْنزِيرٍ فَإنّ ُه رِ ْ‬
‫لَحْمَ ِ‬
‫الثلثة المذكورة بإعتبار لفظ المحرم‪ ،‬فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلثة أوجه‪ .‬أحدها‪:‬‬
‫قربُه منه‪ ،‬والثانى‪ :‬تذكيرُه دون قوله‪ ،‬فإنها رجس‪ ،‬والثالث‪ :‬أنه أتى‬
‫س عنه‪ ،‬ويقابل هذه العلة ما فى طباع‬
‫((بالفاء)) و((إنّ)) تنبيهًا على علة التحريم لتزجر النفو ُ‬
‫بعض الناس من استلذاذه‪ ،‬واستطابته‪ ،‬فنفى عنه ذلك‪ ،‬وأخبر أنه رجس‪ ،‬وهذا ل يحتاج إليه فى‬
‫الميتة والدم لن كونهما رجسًا أمر مستقر معلوم عندهم‪ ،‬ولهذا فى القرآن نظائر‪ ،‬فتأملها‪ .‬ثم ذكر‬

‫‪445‬‬
‫بعدُ تحريمُ بيع الصنام‪ ،‬وهو أعظمُ تحريماً وإثماً‪ ،‬وأشد منافاة للسلم من بيع الخمر والميتة‬
‫والخنزير‪.‬‬
‫فصل‬
‫حرّ َم ثمنه))‪ ،‬يُراد به أمران‪ ،‬أحدهُما‪:‬‬
‫حرّم أكل شَىءٍ َ‬
‫شيْئاً أو َ‬
‫حرّم َ‬
‫وفى قوله‪(( :‬إنّ الّ إذا َ‬
‫ما هو حرام العين والنتفاع جملة‪ ،‬كالخمر‪ ،‬والميتة‪ ،‬والدم‪ ،‬والخنزير‪ ،‬وآلت الشرك‪ ،‬فهذه ثمنها‬
‫حرام كيفما اتفقت‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬ما يُباح النتفاعُ به فى غير الكل‪ ،‬وإنما يحرم أكلُه‪ ،‬كجلد الميتة بعد الدباغ‪،‬‬
‫وكالحمر الهلية‪ ،‬والبغال ونحوها مما يحرم أكلُه دونَ النتفاع به‪ ،‬فهذا قد يُقال‪ :‬إنه ل يدخل فى‬
‫الحديث‪ ،‬وإنما يدخل فيه ما هو حرام على الطلق‪ .‬وقد يقال‪ :‬إنه داخل فيه‪ ،‬ويكون تحريم ثمنه إذا‬
‫بيع لجل المنفعة التى حرمت منه‪ ،‬فإذا بيع البغل والحمار لكلهما‪ ،‬حرم ثمنهما بخلف ما إذا بيعا‬
‫للركوب وغيره‪ ،‬وإذا بيع جلد الميتة للنتفاع به‪ ،‬حل ثمنه‪ .‬وإذا بيع لكله‪ ،‬حرم ثمنه‪ ،‬وطرد هذا ما‬
‫قاله جمهور من الفقهاء‪ ،‬كأحمد‪ ،‬ومالك وأتباعهما‪ :‬إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمراً‪ ،‬حرم أكل‬
‫ح إذا بيع لمن يُقاتل به مسلماً‪ ،‬حرم أكل ثمنه‪ ،‬وإذا‬
‫ثمنه‪ .‬بخلف ما إذا بيع لمن يأكله‪ ،‬وكذلك السل ُ‬
‫ب الحرير إذا بيعت لمن يلبسُها ممن‬
‫بيع لمن يغزو به فى سبيل الّ‪ ،‬فثمنه من الطيبات‪ ،‬وكذلك ثيا ُ‬
‫يحرم عليه‪ ،‬حرم أكل ثمنها بخلف بيعها ممن يحل له لبسها‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل تُجوّزون للمسلم بيعَ الخمر والخنزير مِن الذمى لعتقاد الذمى حلهما‪،‬‬
‫كما جوزتم بيعه الدهن المتنجس إذا بين حاله لعتقاده طهارته وحله؟ قيل‪ :‬ل يجوز ذلك‪ ،‬وثمنُه‬
‫حرام‪ ،‬والفرقُ بينهما‪ :‬أن الدهن المتنجس عين طاهرة خالطها نجاسة‪ ،‬ويسوغ فيها النزاعُ‪ .‬وقد‬
‫ذهبت طائفة من العلماء إلى أنه ل ينجس إل بالتغير‪ .‬وإن تغير‪ ،‬فذهب طائفة إلى إمكان تطهيره‬
‫ل ملة‪ ،‬وعلى لسان كل رسول‪ ،‬كالميتة‪ ،‬والدم‪،‬‬
‫بالغسل‪ ،‬بخلف العين التى حرمها الّ فى كُ ّ‬
‫حلّه‪ ،‬فهو كبيع‬
‫ل على تحريمه‪ ،‬وإن اعتقد الكافرُ ِ‬
‫والخنزير‪ ،‬فإن استباحته مخالفة لما أجمعت الرس ُ‬
‫ل ورسولُه بعينه‪ ،‬وإل فالمسلمُ ل يشترى صنماً‪.‬‬
‫الصنام للمشركين‪ ،‬وهذا هو الذى حرّمه ا ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬فالخمر حلل عند أهل الكتاب‪ ،‬فجوّزوا بيعها منهم‪.‬‬
‫قيل‪ :‬هذا هو الذى توهمه من توهمه من عمال عمر بن الخطاب رضى الّ عنه‪ ،‬حتى كتب‬
‫إليهم عمر رضى الّ عنه ينهاهم عنه‪ ،‬وأمر عماله أن يُولوا أهل الكتاب بَيعها بأنفسهم‪ ،‬وأن يأخذوا‬
‫ما عليهم من أثمانها‪ ،‬فقال أبو عبيد‪ :‬حدثنا عبد الرحمن‪ ،‬عن سفيان بن سعيد‪ ،‬عن إبراهيم بن عبد‬

‫‪446‬‬
‫العلى الجعفى‪ ،‬عن سويد بن غفلة‪ ،‬قال‪ :‬بلغ عمر بن الخطاب رضى الّ عنه‪ ،‬أن ناساً يأخذون‬
‫ل عنه‪ :‬ل تفعلُوا‪ ،‬ولّوهم‬
‫الجزية من الخنازير‪ ،‬فقام بلل‪ ،‬فقال‪ :‬إنهم ليفعلون‪ ،‬فقال عمر رضى ا ّ‬
‫بيعها‪.‬‬
‫قال أبو عبيد‪ :‬وحدثنا النصارى‪ ،‬عن إسرائيل‪ ،‬عن إبراهيم ابن عبد العلى‪ ،‬عن سويد بن‬
‫ل عنه‪ :‬إن عُماَلك يأخذون الخمر والخنازير فى الخراج‪ ،‬فقال‪ :‬ل‬
‫ل قال لعمر رضى ا ّ‬
‫غفلة‪ ،‬أن بل ً‬
‫تأخذوا منهم‪ ،‬ولكن ولوهم بيعها‪ ،‬وخذوا أنتم من الثمن‪.‬‬
‫قال أبو عبيد‪ :‬يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير مِن جزية‬
‫رؤوسهم‪ ،‬وخراج أرضهم بقيمتها‪ ،‬ثم يتولّى المسلمون بيعها‪ ،‬فهذا الذى أنكره بلل‪ ،‬ونهى عنه‬
‫ل الذمة هم المتولين لبيعها‪ ،‬لن الخمر‬
‫عمرُ‪ ،‬ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أه ُ‬
‫ل للمسلمين‪.‬‬
‫ل من أموال أهل الذمة‪ ،‬ول تكون ما ً‬
‫والخنازير ما ٌ‬
‫ل بن‬
‫قال‪ :‬ومما يُبين ذلك حديثُ آخ ُر لعمر رضى الّ عنه حدثنا على ابن معبد‪ ،‬عن عبيد ا ّ‬
‫ل عنه كتب إلى العمال يأمرهم بقتل‬
‫عمرو‪ ،‬عن ليث بن أبى سليم‪ ،‬أن عمر بن الخطاب رضى ا ّ‬
‫الخنازير وقبض أثمانها لهل الجزية مِن جزيتهم‪ .‬قال أبو عُبيد‪ :‬فهو لم يجعلها قِصاصًا من الجزية‬
‫ب له أن‬
‫إل وهو يراها من أموالهم‪ .‬فأما إذا مر الذمى بالخمر والخنازير على العاشر‪ ،‬فإنه ل يطي ُ‬
‫يُعشّرها‪ ،‬ول يأخذ ثمن العشر منها‪ .‬وإن كان الذمى هو المتولى لبيعها أيضاً‪ ،‬وهذا ليس مِن الباب‬
‫الول‪ ،‬ول يشبهه‪ ،‬لن ذلك حقٌ وجب على رقابهم وأرضيهم‪ ،‬وأن العشر ههنا إنما هو شىء‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ب لقول رسول ا ّ‬
‫يُوضع على الخمر والخنازير أنفسها‪ ،‬وكذلك ثمنها ل يطي ُ‬
‫((إن الّ إذا حرم شيئًا حرم ثمنه))‪ .‬وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الّ عنه‪ ،‬أنه أفتى فى‬
‫مثلِ هذا بغير ما أفتى به فى ذاك‪ ،‬وكذلك قال عم ُر بن عبد العزيز‪.‬‬
‫سبَائِى أن عُتبة‬
‫ل بن هُبيرة ال ّ‬
‫ل بن لهيعة‪ ،‬عن عبد ا ّ‬
‫حدثنا أبو السود المصرى‪ ،‬حدثنا عبدُ ا ّ‬
‫ن ألفَ درهم صدقة الخمر‪ ،‬فكتب إليه عمر رضى الّ‬
‫بن فرقد بعث إلى عمرَ بنِ الخطاب بأربعي َ‬
‫عنه‪ :‬بعثت إلىّ بصدَقِة الخمر‪ ،‬وأنت أحقّ بها من المهاجرين‪ ،‬وأخب َر بذلك الناس‪ ،‬وقال‪ :‬والّ ل‬
‫استعملتُك على شىءِ بعدها‪ ،‬قال‪ :‬فتركه‪.‬‬
‫حدثنا عبد الرحمن‪ ،‬عن المثنى بن سعيد الضبعى‪ ،‬قال‪ :‬كتب عم ُر بن عبد العزيز إلى عدىّ‬
‫ب إليه بذلك وصنفه له‪،‬‬
‫ى بتفصيل الموال التى قِبلَك‪ ،‬من أين دخلت؟ فكت َ‬
‫بن أرطاة‪ ،‬أن ابعث إل ّ‬
‫وكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلف درهم‪ .‬قال‪ :‬فلبثنا ما شاءَ الّ‪ ،‬ثم جاءه جوابُ‬

‫‪447‬‬
‫ى تذكر من عشور الخمر أربعة آلف درهم‪ ،‬وإن الخمر ل يُعشرها مسلم‪ ،‬ول‬
‫كتابه‪ :‬إنك كتبتَ إل ّ‬
‫يشتريها‪ ،‬ول يبيعُها‪ ،‬فإذا أتاك كتابى هذا‪ ،‬فاطلب الرجلَ‪ ،‬فاردُدْها عليه‪ ،‬فهو أولى بما كان فيها‪.‬‬
‫ت عليه‪.‬‬
‫فطلب الرجل‪َ ،‬فرَ ّد ْ‬
‫قال أبو عُبيد‪ :‬فهذا عندى الذى عليه العمل‪ ،‬وإن كان إبراهيم النخعى قد قال غير ذلك‪ .‬ثم‬
‫ذكر عنه فى الذمى يمرّ بالخمر على العاشر‪ ،‬قال‪ :‬يضاعف عليه العشور‪.‬‬
‫شرَ الخمر‪،‬‬
‫قال أبو عُبيد‪ :‬وكان أبو حنيفة يقول‪ :‬إذا ُمرّ على العاشر بالخمر والخنازير‪ ،‬عَ ّ‬
‫شرِ الخنازيرَ‪ ،‬سمعتُ محمد بن الحسن يُحدّث بذلك عنه‪ ،‬قال أبو عبيد‪ :‬وقول الخليفتين عمر‬
‫ولم يُع ّ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫ل عنهما أولى بالتباع‪ ،‬وا ّ‬
‫بن الخطاب‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز رضى ا ّ‬
‫سنّورِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فى ثمن ال َك ْلبِ وال ّ‬
‫حَكمُ رسولِ ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم نهى عَنْ َثمَن‬
‫فى ((الصحيحين))‪ :‬عن أبى مسعود‪ ،‬أن رسول ا ّ‬
‫ح ْلوَانِ الكَاهِنِ‪.‬‬
‫ب َو َم ْهرِ ال َب ِغىّ‪ ،‬و ُ‬
‫ال َكلْ ِ‬
‫جرَ‬
‫وفى صحيح مسلم‪ :‬عن أبى الزبير‪ ،‬قال‪ :‬سألتُ جابرًا عن ثمن الكلب والسّنور فقال‪ :‬زَ َ‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم عن ذلك‪.‬‬
‫س ّن ْورِ‪.‬‬
‫ب وال ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم نهى عن ثمن ال َكلْ ِ‬
‫وفى سنن أبى داود‪ :‬عنه أن النب ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫وفى صحيح مسلم‪ :‬من حديث رافع بن خَديج‪ ،‬عن رسول ا ّ‬
‫سبُ الحَجّامِ))‪.‬‬
‫ى و َثمَنُ ال َك ْلبِ وكَ ْ‬
‫ب َم ْهرُ ال َب ِغ ّ‬
‫س ِ‬
‫شرّ الكَ ْ‬
‫(( َ‬
‫فتضمنت هذه السنن أربعة أمور‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫ن أو كبيراً للصيد‪ ،‬أو‬
‫ل كل كلب صغيراً كا َ‬
‫أحدُها‪ :‬تحري ُم بيع الكلب‪ ،‬وذلك بتناو ُ‬ ‫@‬
‫للماشية‪ ،‬أو للحرث‪ ،‬وهذا مذهبُ فقها ِء أهلِ الحديثِ قاطبة‪ ،‬والنزاعُ فى ذلك معروف عن أصحاب‬
‫ب أبى حنيفة بيعَ الكلب‪ ،‬وأكل أثمانها‪ ،‬وقال القاضى عبد‬
‫مالك‪ ،‬وأبى حنيفة‪ ،‬فجوز أصحا ُ‬
‫الوهّاب‪ :‬اختلف أصحابُنا فى بيع ما أذن فى اتخاذه من الكلب‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬يُكره‪ ،‬ومنهم من‬
‫قال‪ :‬يَحرم‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫وعقدَ بعضُهم فصلً لما يصح بيعُه‪ ،‬وبنى عليه اختلفهم فى بيع الكلب‪ ،‬فقال‪ :‬ما كانت‬
‫منافعُه كلّها محرمة لم يجز بيعه‪ ،‬إذ ل فرق بين المعدوم حساً‪ ،‬والممنوع شرعاً‪ ،‬وما تنوّعَتْ‬
‫منا ِفعُه إلى محللة ومحرمة‪ ،‬فإن كان المقصودُ مِن العين خاصة كان العتبارُ بها‪ ،‬والحكم تابع لها‪،‬‬

‫‪448‬‬
‫فاع ُت ِب َر نوعُها‪ ،‬وصار الخر كالمعدوم‪ .‬وإن توزعت فى النوعين‪ ،‬لم َيصِحّ البيعُ‪ ،‬لن ما يُقابل ما‬
‫حرم منها أكل مال بالباطل‪ ،‬وما سواه من بقية الثمن يصير مجهولً‪.‬‬
‫قال‪ :‬وعلى هذا الصل مسألةُ بي ِع كلب الصيد‪ ،‬فإذا بُنى الخلفُ فيها على هذا الصل‪ ،‬قيل‪:‬‬
‫فى الكلب من المنافع كذا وكذا‪ ،‬وعُددت جملة منافعه‪ ،‬ثم نظر فيها‪ ،‬فمن رأى أن جملتها محرمة‪،‬‬
‫حّللَة‪ ،‬أجاز‪ ،‬ومن رآها متنوعة‪ ،‬نظر‪ :‬هل المقصودُ المحلل‪ ،‬أو المحرم‪،‬‬
‫منع‪ ،‬ومن رأى جميعَها مُ َ‬
‫فجعل الحك َم للمقصود‪ ،‬ومن رأى منفعة واحدة منها محرمة وهى مقصودة‪ ،‬منع أيضاً‪ ،‬ومن التبس‬
‫ل والتفصيل‪ ،‬وطابق بينهما يظهر لك ما‬
‫عليه كونُها مقصودة‪ ،‬وقف أو كره‪ ،‬فتأمل هذا التأصي َ‬
‫فيهما مِن التناقض والخلل‪ ،‬وأن بنا َء بيع كلب الصيد على هذا الصل مِن أفسد البناء‪ ،‬فإن قوله‪ :‬من‬
‫رأى أن جملة منافع كلب الصيد محرمة بعد تعديدها‪ ،‬لم يجز بيعُه‪ ،‬فإن هذا لم يقله أحدٌ من الناس‬
‫قط‪ ،‬وقد اتفقت المة على إباحة منافع كلب الصيد من الصطياد والحراسة‪ ،‬وهما جُلّ منافعه‪ ،‬ول‬
‫يُقتنى إل لذلك‪ ،‬فمن الذى رأى منافعه ُكلّها محرمة‪ ،‬ول يصح أن تراد منافعه الشرعية؟ فإن إعارتَه‬
‫جائزة‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ومن رأى جميعها محللة‪ ،‬أجاز‪ ،‬كلمٌ فاسِ ٌد أيضاً‪ ،‬فإن منافعه المذكورة محللة اتفاقاً‪،‬‬
‫والجمهور على عدم جواز بيعه‪.‬وقوله‪ :‬ومن رآها متنوعة‪ ،‬نظر‪ ،‬هل المقصود المحلل أو المحرم؟‬
‫كلمٌ ل فائدة تحته البتة‪ ،‬فإن منفع َة كلب الصيد هى الصطيادُ دون الحراسة‪ ،‬فأين التنوعُ وما يُق ّدرُ‬
‫فى المنافع من التحريم يُق ّد ُر مثلُه فى الحمار والبغل؟ وقوله‪ :‬ومن رأى منفعة واحدة محرمة وهى‬
‫مقصودة‪ ،‬منع‪ .‬أظهرُ فساداً مما قبله‪ ،‬فإن هذه المنفعةَ المحرمة ليست هى المقصود َة من كلب‬
‫الصيد‪ ،‬وإن قُ ّدرَ أن مشتريَه قصدها‪ ،‬فهو كما لو قصد منفعة محرمة من سائر ما يجوز بيعه‪،‬‬
‫ص الصريح الذى ل معارض‬
‫وتبين فساد هذا التأصيل‪ ،‬وأن الصل الصحيح هو الذى دل عليه الن ّ‬
‫له البتة من تحريم بيعه‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫فإن قيل‪ :‬كلبُ الصيد مستثنى من النوع الذى نهى عنه رسول ا ّ‬
‫ل عنه‪ ،‬أن النبىّ صلى ال عليه وسلم َنهَى‬
‫وسلم‪ ،‬بدليل ما رواه الترمذى‪ ،‬من حديث جابر رضى ا ّ‬
‫صيْدِ‪.‬‬
‫ب ال ّ‬
‫ن ال َك ْلبِ‪ ،‬إل كل َ‬
‫عَنْ َثمَ ِ‬
‫وقال النسائى‪ :‬أخبرنى إبراهيم بن الحسن المصيصى‪ ،‬حدثنا حجاج ابن محمد‪ ،‬عن حماد بن‬
‫ل صلى ال عليه وسلم نهى عن َثمَنِ‬
‫سلمة‪ ،‬عن أبى الزبير‪ ،‬عن جابر رضى الّ عنه‪ ،‬أن رسولَ ا ّ‬
‫ب الصيد‪.‬‬
‫سنّورِ‪ ،‬إل كل َ‬
‫ب وال ّ‬
‫ال َكلْ ِ‬

‫‪449‬‬
‫ن أبى مريم‪ ،‬أخبرنا يحيى بن‬
‫وقال قاسم بن أصبغ‪ :‬حدثنا محمد بن إسماعيل‪ ،‬حدثنا اب ُ‬
‫ل عنه‪ ،‬أن‬
‫أيوب‪ ،‬حدثنا المثّنى بن الصبّاح‪ ،‬عن عطاء بن أبى رباح‪ ،‬عن أبى هُريرة رضى ا ّ‬
‫صيْدٍ))‪.‬‬
‫ل َك ْلبَ َ‬
‫حتٌ إ ّ‬
‫ن ال َكلْبِ سُ ْ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم قال‪َ (( :‬ثمَ ُ‬
‫رسول ا ّ‬
‫عمّن أخبره‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬عن أبى بكر الصّديق رضى الّ عنه‪ ،‬عن‬
‫وقال ابن وهب َ‬
‫ن الكلبِ‬
‫حلْوانُ الكاهِنِ‪ ،‬و َم ْهرُ الزانِية‪ ،‬و َثمَ ُ‬
‫حتٌ‪ُ :‬‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬ثَلثٌ هُنّ س ْ‬
‫العَقُور))‪.‬‬
‫ش ْمرُ بن عبد اللّته بن ضميرة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬عن على بن‬
‫وقال ابن وهب‪ :‬حدثنى ال ّ‬
‫ن ال َك ْلبِ العَقُورِ‪ .‬ويدل على‬
‫ن النَبىّ صلى ال عليه وسلم َنهَى عَنْ َثمَ ِ‬
‫ل عنه‪ ،‬أ ّ‬
‫أبى طالب رضى ا ّ‬
‫صحة هذا الستثناء أيضاً‪ ،‬أن جابراً أحد من روى عن النبىّ صلى ال عليه وسلم النهىَ عن ثمنِ‬
‫الكلب‪ ،‬وقد رخّص جابر نفسُه فى ثمن كلب الصيد‪ ،‬وقولُ الصحابى صالح لتخصيص عمومِ‬
‫الحديث عند من جعله حجة‪ ،‬فكيف إذا كان معه النصّ بإستثنائه والقياس؟ وأيضاً لنه يُباح النتفاع‬
‫ل اليد فيه بالميراث‪ ،‬والوصية‪ ،‬والهبة‪ ،‬وتجوزُ إعارته وإجارته فى أحد قولى‬
‫به‪ ،‬ويَصِحّ نق ُ‬
‫العلماء‪ ،‬وهما وجهان للشافعية‪ ،‬فجاز بيعه كالبغل والحمار‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أنه ل َيصِحّ عن النبى صلى ال عليه وسلم استثنا ُء كلب الصيد بوجه‪ :‬أما حديث‬
‫جابر رضى الّ عنه‪ ،‬فقال المام أحمد وقد سئل عنه‪ :‬هذا مِن الحسن بن أبى جعفر‪ ،‬وهو ضعيف‪،‬‬
‫وقال الدارقطنى‪ :‬الصواب أنه موقوف على جابر‪ .‬وقال الترمذى‪ :‬ل يصح إسناد هذا الحديث‪.‬‬
‫ل عنه‪ :‬هذا ل يصح‪ ،‬أبو المهزّم ضعيف‪ ،‬يريد روايه‬
‫وقال فى حديث أبى هريرة رضى ا ّ‬
‫عنه‪ .‬وقال البيهقى‪ :‬روى عن النبىّ صلى ال عليه وسلم النهىَ عن ثمن الكلب جماعةٌ‪ ،‬منهم‪ :‬ابن‬
‫عباس‪ ،‬وجابر بن عبد الّ‪ ،‬وأبو هريرة‪ ،‬ورافع بن خديج‪ ،‬وأبو جُحيفة‪ ،‬اللفظ مختلف‪ ،‬والمعنى‬
‫ن رواه أراد حديث النهى عن‬
‫واحد‪ .‬والحديث الذى روُى فى استثناء كلب الصيد ل يصح وكأن مَ ْ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫شبّ َه عليه‪ ،‬وا ّ‬
‫اقتنائه‪ ،‬فَ ُ‬
‫وأما حديثُ حماد بن سلمة‪ ،‬عن أبى الزبير‪ ،‬فهو الذى ضعفه المام أحمد رحمه الّ بالحسن‬
‫بن أبى جعفر‪ ،‬وكأنّه لم يقع له طريق حجاج ابن محمد‪ ،‬وهو الذى قال فيه الدارقطنى‪ :‬الصواب أنه‬
‫موقوف‪ ،‬وقد أعله ابن حزم‪ ،‬بأن أبا الزبير لم يصرح فيه بالسماع من جابر‪ ،‬وهو مدلس‪ ،‬وليس‬
‫ى عن‬
‫من رواية الليث عنه‪ .‬وأعلّه البيهقىّ بأن أح َد رواته وهم من استثناء كلب الصيد مما ُن ِه َ‬
‫ط عليه‬
‫خلّ َ‬
‫اقتنائه من الكلب‪ ،‬فنقله إلى البيع‪ .‬قلت‪ :‬ومما يدل على بطلنِ حديثِ جابر هذا‪ ،‬وأنه ُ‬

‫‪450‬‬
‫ن الكلب‪ ،‬و َم ْهرُ البغىّ‪ ،‬وكسب‬
‫ضرَابُ الفَحْل‪ ،‬وثم ُ‬
‫ح عنه‪ ،‬أنه قال‪ :‬أربعٌ من السحت‪ِ :‬‬
‫أنه صَ ّ‬
‫الحجام‪ .‬وهذا علة أيضًا للموقوف عليه من استثناء كلب الصيد‪ ،‬فهو علة للموقوف والمرفوع‪.‬‬
‫ل عنه‪ ،‬فباطل‪ ،‬لن فيه‬
‫ث المثّنى بن الصبّاح‪ ،‬عن عطاء‪ ،‬عن أبى هريرة رضى ا ّ‬
‫وأما حدي ُ‬
‫يحيى بن أيوب‪ ،‬وقد شهد مالك عليه بالكذب‪ ،‬وجرّحه المام أحمد‪ .‬وفيه المثنى بن الصباح‪،‬‬
‫وضعفه عندهم مشهور‪ ،‬ويدل على بطلن الحديث ما رواه النسائى‪ ،‬حدثنا الحسن بن أحمد بن‬
‫ل بن نمير حدثنا أسباط‪ ،‬حدثنا العمش‪ ،‬عن عطاء بن أبى رباح‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حبيب‪ ،‬حدثنا محمدبن عبد ا ّ‬
‫ن ال َكلْبِ‪ ،‬و َم ْهرُ البَغىّ‪،‬‬
‫ضرَابُ الفَحْلِ‪ ،‬و َثمَ ُ‬
‫ل عنه‪ :‬أرب ٌع مِن السّحت‪ِ ،‬‬
‫قال أبو هريرة رضى ا ّ‬
‫حجّامِ‪.‬‬
‫سبُ ال َ‬
‫وكَ ْ‬
‫ل عنه‪ ،‬فل يُدرى من أخبر ابنَ وهب عن ابن‬
‫وأما الثر عن أبى بكر الصديق رضى ا ّ‬
‫شهاب‪ ،‬ول من أخب َر ابنَ شهاب عن الصديق رضى الّ عنه‪ ،‬ومثل هذا ل يُحتج به‪.‬‬
‫ل عنه‪ :‬ففيه ابن ضميرة فى غاية الضعف‪ ،‬ومثلُ هذه الثار‬
‫وأما الثرُ عن على رضى ا ّ‬
‫الساقطة المعلولة ل تُقدم على الثار التى رواها الئمة الثقاتُ الثبات‪ ،‬حتى قال بعضُ الحفاظ‪ :‬إن‬
‫ل تواتر‪ ،‬وقد ظهر أنه لم َيصِحّ عن صحابى خلفها البتة‪ ،‬بل هذا جابر‪ ،‬وأبو هريرة‪ ،‬وابن‬
‫نقلها نق ُ‬
‫ن الكلب خبيث‪.‬‬
‫عباس يقولون‪ :‬ثم ُ‬
‫ح ْب َترٍ‪ ،‬عن ابن عباس رضى الّ‬
‫قال وكيع‪ :‬حدثنا إسرائيل‪ ،‬عن عبد الكريم‪ ،‬عن قيس بن َ‬
‫حرَامٌ))‪.‬‬
‫خ ْمرِ َ‬
‫عنهما يرفعه‪َ (( :‬ثمَنُ ال َك ْلبِ‪ ،‬و َم ْه ُر ال َب ِغىّ‪ ،‬و َثمَنُ ال َ‬
‫ل ابن عباس‪.‬‬
‫وهذا أقل ما فيه أن يكون قو َ‬
‫وأما قياسُ الكلب على البغل والحمار‪ ،‬فمن أفسد القياس‪ ،‬بل قياسُه على الخنزير أصحّ من‬
‫قياسه عليهما‪ ،‬لن الشبَه الذى بينه وبَين الخنزير أقربُ مِن الشبه الذى بينَه وبينَ البغل والحمار‪،‬‬
‫ح وأولى من القياس المخالف له‪.‬‬
‫ص الموافق له‪ ،‬أص ّ‬
‫س المؤيّد بالن ّ‬
‫ولو تعارض القياسانِ لكان القيا ُ‬
‫حرُمَ قتلُها‪ ،‬وأبيحَ اتخا ُذ بعضها‪،‬‬
‫فإن قيل‪ :‬كان النهىُ عن ثمنها حينَ كان المر بقتلها‪ ،‬فلما َ‬
‫خ النهىُ‪ ،‬فنسخ تحري ُم البيع‪.‬‬
‫نُسِ َ‬
‫قيل‪ :‬هذه دعوى باطلة ليس مع مدعيها لصحتها دليل‪ ،‬ول شُبهة‪ ،‬وليس فى الثر ما يدل‬
‫عوَى البتة بوجه من الوجوه‪ ،‬ويدل على بطلنها‪ :‬أن أحاديثَ تحري ِم بيعها وأكل‬
‫على صحة هذه الدَ ْ‬
‫ث المر بقتلها‪ ،‬والنهى عن اقتنائها نوعان‪ :‬نوع كذلك وهو المتقدم‪،‬‬
‫ثمنها مطلقة عامة ُكلّها‪ ،‬وأحادي ُ‬

‫‪451‬‬
‫ونوع مقيّد مخصص وهو المتأخر‪ ،‬فلو كان النهى عن بيعها مقيدًا مخصوصاً‪ ،‬لجاءت به الثارُ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫كذلك‪ ،‬فلما جاءت عامة مطلقة‪ ،‬عُلث َم أن عمومَها وإطلقَها مراد‪ ،‬فل يجوز إبطالُه‪ .‬وا ّ‬
‫فصل‬
‫ث الصحيح الصريح الذى رواه جابر‪،‬‬
‫الحكم الثانى‪ :‬تحريمُ بيع السّنور‪ ،‬كما دل عليه الحدي ُ‬
‫وأفتى بموجبه‪ ،‬كما رواه قاسم بن أصبغ‪ ،‬حدثنا محمد بن وضّاح‪ ،‬حدثنا محمد بن آدم‪ ،‬حدثنا عبد‬
‫ل بن المبارك‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن أبى الزبير‪ ،‬عن جابر بن عبد الّ‪ ،‬أنه كره ثمن الكلب‬
‫ا ّ‬
‫والسنور‪ .‬قال أبو محمد‪ :‬فهذه فتيا جابر بن عبد الّ‪ ،‬أنه كره بما رواه‪ ،‬ول يُعرف له مخالف مِن‬
‫ل عنه‪ ،‬وهو مذهبُ طاووس‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬وجابر بن زيد‪،‬‬
‫الصحابة‪ ،‬وكذلك أفتى أبو هريرة رضى ا ّ‬
‫وجميع أهل الظاهر‪ ،‬وإحدى الروايتين عن أحمد‪ ،‬وهى اختيا ُر أبى بكر عبد العزيز‪ ،‬وهو الصواب‬
‫لصحة الحديث بذلك‪ ،‬وعدم ما يُعارضه‪ ،‬فوجب القولُ به‪.‬‬
‫قال البيهقى‪ :‬ومن العلماء من حمل الحديث على أن ذلك حين كان محكوماً بنجاستها‪ ،‬فلما‬
‫جسٍ))‪ .‬صار ذلك منسوخًا فى البيع‪ .‬ومنهم من‬
‫ستْ ِبنَ َ‬
‫قال النبى ّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ال ِه ّر ُة َليْ َ‬
‫ل الخبر الواقع‬
‫حمله على السنور إذا توحّش‪ ،‬ومتابعة ظاهر السنة أولى‪ .‬ولو سمع الشافعى رحمه ا ّ‬
‫فيه‪ ،‬لقال به إن شاء الّ‪ ،‬وإنما ل يقول به مَنْ توقّف فى تثبيت روايات أبى الزبير‪ ،‬وقد تابعه أبو‬
‫سفيان عن جابر على هذه الرواية من جهة عيسى بن يونس‪ ،‬وحفص بن غياث عن العمش‪ ،‬عن‬
‫أبى سفيان انتهى كلمه‪.‬‬
‫ومنهم من حمله على اله ّر الذى ليس بمملوك‪ ،‬ول يخفى ما فى هذه المحامل مِن الوهن‪.‬‬
‫فصل‬
‫والحكم الثالث‪ :‬مهر البغى‪ ،‬وهو ما تأخذُه الزانية فى مقابل الزنى بها‪ ،‬فحكم رسولُ الّ‬
‫ث على أى وجه كان‪ ،‬حر ًة كانت أو أمةً‪ ،‬ول سيما فإن البغاء إنما‬
‫صلى ال عليه وسلم أن ذلك خبي ٌ‬
‫كان على عهدهم فى الماء دون الحرائر‪ ،‬ولهذا قالت هند‪ :‬وقت البيعة‪(( :‬أو تزنى الحُرة؟)) ول‬
‫ل من نفسها فزنى بها أنه ل مهرَ لها‪.‬‬
‫نزاع بين الفقهاء فى أن الحرة البالغة العاقلة إذا مكنت رج ً‬
‫واختلف فى مسألتين‪ .‬إحداهما‪ :‬الحرة المكرهة‪ .‬والثانية‪ :‬المة المطاوعة‪ ،‬فأما الحرة‬
‫المكرهة على الزنى‪ ،‬ففيها أربعة أقوال‪ ،‬وهى روايات منصوصات عن أحمد‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن لها المهر بكراً كانت أو ثيباً‪ ،‬سواء وطئت فى قبلها أو دبرها‪.‬‬

‫‪452‬‬
‫والثانى‪ :‬أنها إن كانت ثيباً‪ ،‬فل مهر لها‪ ،‬وإن كانت بكراً‪ ،‬فلها المهرُ‪ ،‬وهل يجب معه أرشُ‬
‫البكارة؟ على روايتين منصوصتين‪ ،‬وهذا القولُ اختيارُ أبى بكر‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أنها إن كانت ذاتَ محرم‪ ،‬فل مهر لها‪ ،‬وإن كانت أجنبية‪ ،‬فلها المهر‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن من تحرم ابنتها كالم والبنت والخت‪ ،‬فل مهر لها‪ ،‬ومن تحل ابنتها كالعمة‬
‫والخالة‪ ،‬فلها المهر‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة رحمه الّ‪ :‬ل مهر للمكرهة على الزنى بحال‪ ،‬بكراً كانت أو ثيباً‪.‬‬
‫فمن أوجب المهر‪ .‬قال‪ :‬إن استيفاء هذه المنفعة جعل مقوماً فى الشرع بالمهر‪ ،‬وإنما لم يجب‬
‫للمختارة‪ ،‬لنها باذلة للمنفعة التى عوضها لها‪ ،‬فلم يجب لها شىء‪ ،‬كما لو أذنت فى إتلف عضو‬
‫من أعضائها لمن أتلفه‪.‬‬
‫ومن لم يُوجبه قال‪ :‬الشارعُ إنما جعل هذه المنفعة متقومة بالمهرِ فى عقد أو شبهة عقد‪ ،‬ولم‬
‫يُقومها بالمهر فى الزنى البتة‪ ،‬وقياس السفاح على النكاح من أفسد القياس‪ .‬قالوا‪ :‬وإنما جعل‬
‫ن ضمان المهر‪ .‬قالوا‪ :‬والوجوب‬
‫الشارعُ فى مقابلة هذا الستمتاع الح ّد والعُقوبة‪ ،‬فل يجمع بينَه وبي َ‬
‫إنما يُتلقى من الشرع من نص خطابه أو عمومه‪ ،‬أو فحواه‪ ،‬أو تنبيهه‪ ،‬أو معنى نصّه‪ ،‬وليس شىء‬
‫من ذلك ثابتاً متحققًا عنه‪ .‬وغاية ما يُدعى قياسُ السفاح على النكاح‪ ،‬ويا بُعد ما بينهما‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫والمهر إنما هو مِن خصائص النكاح لفظًا ومعنى‪ ،‬ولهذا إنما يُضاف إليه فيقال‪ :‬مهر النكاح‪ ،‬ول‬
‫يُضاف إلى الزنى‪ ،‬فل يقال‪ :‬مهر الزنا‪ ،‬وإنما أطلق النبى صلى ال عليه وسلم المهر وأراد به‬
‫ل بَاعَ‬
‫لصْنَامِ))‪ .‬وكما قال‪(( :‬ورَجُ ٌ‬
‫خ ْمرِ والم ْيتَةِ والخِنزِي ِر وا َ‬
‫حرّ َم َبيْعَ ال َ‬
‫العقد‪ ،‬كما قال‪(( :‬إنّ الَّ َ‬
‫ل َث َمنَهُ))‪ .‬ونظائرُه كثيرة‪.‬‬
‫حُراً فَأكَ َ‬
‫ل فى هذه المنفعة‪ ،‬أن تقوّم بالمهر‪ ،‬وإنما أسقطه الشارعُ فى حق‬
‫والولون يقولون‪ :‬الص ُ‬
‫البغى‪ ،‬وهى التى تزنى بإختيارها‪ ،‬وأما المكرهة على الزنى فليست بغياً‪ ،‬فل يجوز إسقاطُ بدلِ‬
‫منفعتها التى أُكرهت على استيفائها‪ ،‬كما لو أُك ِرهَ الحر على استيفاء منافعه‪ ،‬فإنه يلزمُه عوضها‪،‬‬
‫وعوضُ هذه المنفعة شرعًا هو المهر‪ ،‬فهذا مأخذ القولين‪ .‬ومن فرّق بين البكر والثيب‪ ،‬رأى أن‬
‫الواطىء لم يذهب على الثيب شيئاً‪ ،‬وحسبُه العقوبة التى ترتبت على فعله‪ ،‬وهذه المعصية ل يُقابلها‬
‫شرعاً مال يلزم من أقدم عليها‪ ،‬بخلف البكر‪ ،‬فإنه أزال بكارتها‪ ،‬فل بُد من ضمان ما أزاله‪،‬‬
‫فكانت هذه الجناي ُة مضمون ًة عليه فى الجملة‪ ،‬فضمن ما أتلفه مِن جزء منفعة‪ ،‬وكانت المنفعة تابعة‬
‫للجزء فى الضمان‪ ،‬كما كانت تابعة له فى عدمه من البكر المطاوعة‪.‬‬

‫‪453‬‬
‫ومن فرّق بين ذوات المحارم وغيرهن‪ ،‬رأى أن تحريمهن لما كان تحريماً مستقراً‪ ،‬وأنهن‬
‫غيرُ محل الوطء شرعاً‪ ،‬كان استيفا ُء هذه المنفعة منهن بمنزلة التلوط‪ ،‬فل يوجب مهرًا وهذا قولُ‬
‫الشعبى‪ ،‬وهذا بخلف تحريم المصاهرة‪ ،‬فإنه عارض يُمكن زوالُه‪.‬‬
‫لنَّهُ طَارىءُ‬
‫قال صاحب ((المغنى))‪ :‬وهكذا ينبغى أن يكون الحكم فيمن حرمت بالرضاع‪َ ،‬‬
‫ن مَنْ تحرم ابنتها‪ ،‬وبين من ل تحرُم‪ ،‬فكأنه رأى أن من ل‬
‫أيضاً‪ .‬ومن فرّق فى ذوات المحارم‪ ،‬بي َ‬
‫تحرم ابنتها تحريمها أخف مِن تحريم الخرى‪ ،‬فأشبه العارض‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما حك ُم المكرهة على الوطء فى دُبرها‪ ،‬أو المة المطاوعة على ذلك؟ قيل‪ :‬هو‬
‫أولى بعدم الوجوب‪ ،‬فهذا كاللواط ل يجب فيه المهر اتفاقاً‪.‬‬
‫وقد اختلف فى هذه المسألة الشيخانِ‪ ،‬أبو البركات ابن تيمية‪ ،‬وأبو محمد بن قدامة‪ ،‬فقال أبو‬
‫البركات فى ((محرره))‪ :‬ويجب مه ُر المثل للموطوءة بشبهة‪ ،‬والمكرَهَة على الزنى فى قبل أو‬
‫دبر‪ ،‬وقال أبو محمد فى ((المغنى))‪ :‬ول يجب المهرُ بالوطء فى الدبر‪ ،‬ول اللواط‪ ،‬لن الشرع لم‬
‫ن الفرج‪ ،‬وهذا القولُ هو الصوابُ قطعاً‪،‬‬
‫َيرِدُ ببَ َدلِه‪ ،‬ول هو إتلفٌ لشىء‪ ،‬فأشبه القبلة والوطءَ دو َ‬
‫ع قيمة أصلً‪ ،‬ول قدّر له مهراً بوجه من الوجوه‪ ،‬وقياسُه على‬
‫فإن هذا الفعل لم يجعل له الشار ُ‬
‫ب المهر لمن فعلت به اللوطية مِن الذكور‪ ،‬وهذا‬
‫وطء الفرج مِن أفسد القياس‪ ،‬ولزم من قاله إيجا ُ‬
‫لم يقل به أحد البتة‪.‬‬
‫فصل‬
‫وأما المسألة الثانية‪ :‬وهى المة المطاوعة‪ ،‬فهل يجب لها المَهر؟ فيه قولن‪ .‬أحدُهما‪ :‬يِجبُ‪،‬‬
‫ل الشافعى‪ ،‬وأكثر أصحاب أحمد رحمه الّ‪ .‬قالوا‪ :‬لن هذه المنفعة لغيرها‪ ،‬فل يسقط بدلها‬
‫وهو قو ُ‬
‫مجاناً‪ ،‬كما لو أذنت فى قطع طرفها‪ .‬والصوابُ المقطوع به‪ :‬أنه ل مهر لها‪ ،‬وهذه هى البغىّ التى‬
‫ن الكلب‪،‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عن مهرها‪ ،‬وأخبر أنه خبيثٌ‪ ،‬وحكم عليه وعلى ثم ِ‬
‫نهى رسولُ ا ّ‬
‫ل أولياً‪ ،‬فل يجوز تخصيصُها مِن‬
‫وأجرِ الكاهن بحكم واحد‪ ،‬والمة داخلة فى هذا الحكم دخو ً‬
‫عمومه لن الماء هن اللتى كُن يُعرفن بالبغاء‪ ،‬وفيهن وفى ساداتهن أنزل الُّ تعالى‪{ :‬ول‬
‫حصّناً} [النور‪ ،]33 :‬فكيف يجوز أن تُخرج الماء مِن نص‬
‫ن َأرَدْنَ َت َ‬
‫ُت ْكرِهُوا َفتَيا ِتكُم عَلى ال ِبغَاءِ إ ْ‬
‫أردن به قطعاً‪ ،‬ويُحمل على غيرهن‪.‬‬
‫وأما قولكم‪ :‬إن منفعتها لسيدها‪ ،‬ولم يأذن فى استيفائها‪ ،‬فيقال‪ :‬هذه المنفعةُ يملك السيدُ‬
‫ح أو شبهته‪ ،‬ول يمِلكُ المعاوضَ َة عليها إل إذا‬
‫استيفاءها بنفسه‪ ،‬ويمِلكُ المعاوضة عليها بعقد النكا ِ‬

‫‪454‬‬
‫لّ ورسوله للزنى عوضاً قط غير العقوبة‪ ،‬فيفوت على السيد حتى يُقضى له‪ ،‬بل‬
‫أذنت‪ ،‬ولم يجعل ا ُ‬
‫ن الكلب‪،‬‬
‫لّ ورسولُه‪ ،‬وإثباتُ عِوض حكم الشارعُ بخبثه‪ ،‬وجعله بمنزلة ثم ِ‬
‫هذا تقويمُ مال أهدره ا ُ‬
‫وأجرِ الكاهن‪ ،‬وإن كان عوضاً خبيثاً شرعاً‪ ،‬لم يجز أن يقضى به‪.‬‬
‫ول يقال‪ :‬فأجر الحجام خبيث‪ ،‬ويُقضى له به‪ ،‬لن منفعة الحِجامة منفعة مباحة‪ ،‬وتجوز‪ ،‬بل‬
‫ب على مستأجره أن يُوفيه أجره‪ ،‬فأين هذا مِن المنفعة الخبيثة المحرمة التى عِوضها مِن‬
‫يج ُ‬
‫جنسها‪ ،‬وحُكمه حكمها‪ ،‬وإيجابُ عوض فى مقابلة هذه المعصية‪ ،‬كإيجابِ عوض فى مقابلة اللواط‪،‬‬
‫إذ الشارع لم يجعل فى مقابلة هذا الفعل عوضاً‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فقد جعل فى مقابلة الوطء فى الفرج عوضاً‪ ،‬وهو المهرُ مِن حيث الجملة‪ ،‬بخلف‬
‫اللواطة‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬إنما جعل فى مقابلته عوضاً‪ ،‬إذا استوفى بعقد أو بشبهة عقد‪ ،‬ولم يجعل له عوضاً إذا‬
‫ل التوفيق‪ .‬ولم يُعرف فى السلم قط أن زانيًا قضى عليه‬
‫استوفى بزنى محض ل شُبهة فيه‪ ،‬وبا ّ‬
‫ب أن المسلمين يرون هذا قبيحاً‪ ،‬فهو عند الّ عز وجل قييح‪.‬‬
‫بالمهر للمزنى بها‪ ،‬ول ري َ‬
‫فصل‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولون فى كسب الزانية إذا قبضته‪ ،‬ثم تابت‪ ،‬هل يجبُ عليها ردّ ما قبضته‬
‫إلى أربابه‪ ،‬أم يطيبُ لها‪ ،‬أم تصّدق به؟‬
‫قيل‪ :‬هذا ينبنى على قاعدة عظيمة مِن قواعد السلم‪ ،‬وهى أن مَن قبض ما ليس له قبضُه‬
‫شرعاً‪ ،‬ثم أراد التخلصَ منه‪ ،‬فإن كان المقبوضُ قد أُخِ َذ بغير رضى صاحبه‪ ،‬ول استوفى عِوضَه‪،‬‬
‫ردّه عليه‪ .‬فإن تعذّر ردّه عليه‪ ،‬قضى به دينًا يعلمه عليه‪ ،‬فإن تعذّر ذلك‪ ،‬رده إلى ورثته‪ ،‬فإن تعذّر‬
‫ب الحق ثوابَه يوم القيامة‪ ،‬كان له‪ .‬وإن أبى إل أن يأخذ مِن‬
‫ذلك‪ ،‬تصدق به عنه‪ ،‬فإن اختار صاح ُ‬
‫ب الصدقة للمتصدق بها‪ ،‬كما ثبت عن الصحابة‬
‫حسنات القابض‪ ،‬استوفى منه نظيرَ ماله‪ ،‬وكان ثوا ُ‬
‫رضى الّ عنهم‪.‬‬
‫ض برضى الدافع وقد استوفى عِوضه المحرم‪ ،‬كمن عاوض على خمر أو‬
‫وإن كان المقبو ُ‬
‫خنزير‪ ،‬أو على زنى أو فاحشة‪ ،‬فهذا ل يجبُ ردّ العوض على الدافع‪ ،‬لنه أخرجه بإختياره‪،‬‬
‫واستوفى عوضه المحرم‪ ،‬فل يجو ُز أن يجمع له بينَ العوض والمعوض‪ ،‬فإن فى ذلك إعانة له‬
‫على الثم والعدوان‪ ،‬وتيسير أصحاب المعاصى عليه‪ .‬وماذا يريد الزانى وفاعل الفاحشة إذا علم‬
‫ل به‪ ،‬وهو‬
‫أنه ينال غرضه‪ ،‬ويسترِد ماله‪ ،‬فهذا مما تُصان الشريعة عن التيان به‪ ،‬ول يسوغُ القو ُ‬

‫‪455‬‬
‫ح أن يستوفى عوضه من المزنى بها‪ ،‬ثم‬
‫يتضمن الجمْع بين الظلم والفاحشة والغدر‪ .‬ومن أقبح القبي ِ‬
‫يرجع فيما أعطاها قهراً‪ ،‬وقبح هذا مستقر فى فِطر جميع العقلء‪ ،‬فل تأتى به شريعة‪ ،‬ولكن ل‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن خبثه لخبث‬
‫يطيب للقابض أكله‪ ،‬بل هو خبيث كما حكم عليه رسولُ ا ّ‬
‫مكسبه‪ ،‬ل لظلم من أخذ منه‪ ،‬فطريقُ التخلص منه‪ ،‬وتمام التوبة بالصدقة به‪ ،‬فإن كان محتاجًا إليه‪،‬‬
‫فله أن يأخذ قدر حاجته‪ ،‬ويتصدق بالباقى‪ ،‬فهذا حكمُ كل كسب خبيث لِخبث عوضه عيناً كان أو‬
‫ب رده على الدافع‪ ،‬فإن النبى صلى ال عليه وسلم حكم بخُبثِ‬
‫منفعة‪ ،‬ول يلزم من الحكم بخبثه وجو ُ‬
‫كسبِ الحجام‪ ،‬ول يجب ردّه على دافعه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فالدافع مَالَه فى مقابلة العوض المحرم دفع ما ل يجوزُ دفعه‪ ،‬بل حجر عليه فيه‬
‫الشارع‪ ،‬فلم يقع قبضُه موقعه‪ ،‬بل وجو ُد هذا القبض كعدمه‪ ،‬فيجب ردّه على مالكه‪ ،‬كما لو تبرع‬
‫المريضُ لوارثه بشىء‪ ،‬أو لجنبى بزيادة على الثلث‪ ،‬أو تبرّْع المحجو ُر عليه بفلس‪ ،‬أو سفه‪ ،‬أو‬
‫تبرع المضطرُ إلى قوته بذلك‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وسر المسألة أنه محجورٌ عليه شرعاً فى هذا الدفع‬
‫فيجب ردّه‪.‬‬
‫قيل‪ :‬هذا قياس فاسد‪ ،‬لن الدفع فى هذه الصور تبرعٌ محض لم يُعاوض عليه‪ ،‬والشارع قد‬
‫منعه منه لتعلق حق غيره به‪ ،‬أو حق نفسه المقدمة على غيره‪ ،‬وأما نحن فيه‪ ،‬فهو قد عاوض بماله‬
‫على استيفاء منفعة‪ ،‬أو استهلك عينٍ محرمة‪ ،‬فقد قبض عوضاً محرماً‪ ،‬وأقبض مالً محرماً‪،‬‬
‫فاستوفى ما ل يجوز استيفاؤه‪ ،‬وبذل فيه ما ل يجوزُ بذلُه‪ ،‬فالقابضُ قبض مالً محرماً‪ ،‬والدافعُ‬
‫استوفى عِوضاً محرماً‪ ،‬وقضي ُة العدل ترا ّد العوضين‪ ،‬لكن قد تعذر ردّ أحدهما‪ ،‬فل يُوجب رد‬
‫الخر من غير رجوع عوضه‪ .‬نعم لو كان الخمر قائمًا بعينه لم يستهلكه‪ ،‬أو دفع إليها المال ولم‬
‫يفجر بها‪ ،‬وجب ردّ المال فى الصورتين قطعاً كما فى سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبضُ‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬وأىّ تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة‪ ،‬ومعلوم أن قبضَ ما ل يجوز‬
‫قبضُه بمنزلة عدمه‪ ،‬إذ الممنوعُ شرعًا كالممنوع حساً‪ ،‬فقابضُ المال قبضه بغير حق‪ ،‬فعليه أن‬
‫َيرُ ّدهُ إلى دافعه؟‬
‫قيل‪ :‬والدافع قبض العين‪ ،‬واستوفى المنفعة بغير حق‪ ،‬كلهما قد اشتركا فى دفع ما ليس‬
‫لهما دفعه‪ ،‬وقبض ما ليس لهما قبضه‪ ،‬وكلهما عاصٍ لّ‪ ،‬فكيف يُخص أحدهما بأن يجمع له بين‬
‫العوض والمعوض عنه‪ ،‬ويفوتُ على الخر العوض والمعوض‪.‬‬

‫‪456‬‬
‫ت المنفعة على نفسه بإختياره‪ .‬قيل‪ :‬والخر فوّت العوض على نفسه‬
‫فإن قيل‪ :‬هو ف ّو َ‬
‫بإختياره‪ ،‬فل فرق بينهما‪ ،‬وهذا واضح بحمد الّ‪.‬‬
‫وقد توقف شيخنا فى وجوب ردّ عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله‪ ،‬أو الصدقة به فى‬
‫كتاب ((اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم))‪ ،‬وقال‪ :‬الزانى‪ ،‬ومستمع الغناء‬
‫ض المحرم‪ ،‬والتحريم الذى فيه ليس‬
‫والنوح قد بذلوا هذا المالَ عن طيب نفوسهم‪ ،‬فاستوفوا العو َ‬
‫ل تعالى‪ ،‬وقد فاتت هذه المنفعةُ بالقبض‪ ،‬والصول تقتضى أنه إذا رد أحدَ‬
‫لحقهم‪ ،‬وإنما هو لحقّ ا ّ‬
‫العوضين‪ ،‬ردّ الخر‪ ،‬فإذا تعذر على المستأجر ردّ المنفعة لم يرد عليه المال‪ ،‬وهذا الذى استوفيت‬
‫منفعتُه عليه ضرر فى أخذ منفعته‪ ،‬وأخذ عوضها جميعًا منه‪ ،‬بخلف ما إذا كان العوض خمرًا أو‬
‫ميتة‪ ،‬فإن تلك ل ضرر عليه فى فواتها‪ ،‬فإنها لو كانت باقية لتلفناها عليه‪ ،‬ومنفعة الغناء والنوح‬
‫لو لم تفت‪ ،‬لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة فى أمر آخر‪ ،‬أعنى من صرف‬
‫القوة التى عمل بها‪ .‬ثم أورد على نفسه سؤالً‪ ،‬فقال‪ :‬فيقال على هذا فينبغى أن تقضوا بها إذا طالب‬
‫بقبضها‪ .‬وأجاب عنه بأن قال‪ :‬قيل‪ :‬نحن ل نأمر بدفعها ول بردها كعقود الكفار المحرمة‪ ،‬فإنهم إذا‬
‫أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض‪ ،‬ولو أسلموا بعد القبض لم يُحكم بالرد‪ ،‬ولكن المسلم تحرم عليه‬
‫هذه الجرة‪ ،‬لنه كان معتقداً لتحريمها بخلف الكافر‪ ،‬وذلك لنه إذا طلب الجرة‪ ،‬فقلنا له‪ :‬أنت‬
‫فرطت حيث صرفت قوتَك فى عمل يحرم‪ ،‬فل يُقضى لك بالجرة‪ .‬فإذا قبضها‪ ،‬وقال الدافع هذا‬
‫المال‪ :‬اقضوا لى برده‪ ،‬فإنى أقبضته إياه عوضاً عن منفعة محرمة‪ ،‬قلنا له‪ :‬دفعته معاوضة‬
‫رضيتَ بها‪ ،‬فإذا طلبت استرجاع ما أخذ‪ ،‬فاردد إليه ما أخذت إذا كان له فى بقائه معه منفعة‪ ،‬فهذا‬
‫محتمل‪ .‬قال‪ :‬وإن كان ظاهرُ القياس‪ ،‬ردها لنها مقبوضة بعقد فاسد‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫وقد نص أحمد فى رواية أبى النضر‪ ،‬فيمن حمل خمراً‪ ،‬أو خنزيراً‪ ،‬أو ميتة‬
‫ل كرائه‪ ،‬ولكن يُقضى للحمال بالكراء‪ .‬وإذا كان لمسلم‪ ،‬فهو أشدّ كراهة‪ .‬فاختلف‬
‫لنصرانى‪ :‬أكرهُ أك َ‬
‫أصحابه فى هذا النص على ثلث طرق‪.‬‬
‫ن أبى موسى‪ :‬وكره أحمد أن‬
‫إحداها‪ :‬إجراؤه على ظاهره‪ ،‬وأن المسألة رواية واحدة‪ .‬قال اب ُ‬
‫ب له أم‬
‫يُؤجر المسلم نفسَه لحمل ميتة أو خنزير لنصرانى‪ .‬فإن فعل‪ ،‬قضى له بالكراء‪ ،‬وهل يطي ُ‬
‫ب له‪ ،‬ويتصدّقُ به‪ ،‬وكذا ذكر أبو الحسن المدى‪ ،‬قال‪ :‬إذا‬
‫ل؟ على وجهين‪ .‬أوجههما‪ :‬أنه ل يطي ُ‬
‫أجر نفسه من رجل فى حمل خمر‪ ،‬أو خنزير‪ ،‬أو ميتة‪ ،‬كره ؛ نص عليه‪ ،‬وهذه كراهة تحريم‪ ،‬لن‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم لعن حاملها‪ .‬إذا ثبت ذلك‪ ،‬فيقضى له بالكراء‪ ،‬وغير ممتنع أن يُقضى له‬

‫‪457‬‬
‫بالكراء وإن كان محرماً‪ ،‬كإجارة الحجام انتهى‪ .‬فقد صرّح هؤلء‪ ،‬بأنه يستحق الجرة مع كونها‬
‫محرمة عليه على الصحيح‪.‬‬
‫ل هذه الرواية بما يُخالف ظاهرها‪ ،‬وجعل المسألة رواية واحدة‪ ،‬وهى‬
‫الطريق الثانية‪ :‬تأوي ُ‬
‫أن هذه الجارة ل تصِح‪ ،‬وهذه طريقة القاضى فى ((المجرد))‪ ،‬وهى طريقة ضعيفة‪ ،‬وقد رجع‬
‫عنها فى كتبه المتأخرة‪ ،‬فإنه صنف ((المجرد)) قديماً‪.‬‬
‫الطريقة الثالثة‪ :‬تخريجُ هذه المسألة على روايتين إحداهما‪ :‬أن هذه الجارة صحيحة يستحق‬
‫بها الجرة مع الكراهة للفعل والجرة‪ .‬والثانية‪ :‬ل تصح الجارة‪ ،‬ول يستحق بها أجرة وإن حمل‪.‬‬
‫وهذا على قياس قوله فى الخمر‪ :‬ل يجوز إمساكُها‪ ،‬وتجب إراقتها‪ .‬قال فى رواية أبى طالب‪ :‬إذا‬
‫أسلم وله خمر أو خنازير تُصب الخمرُ‪ ،‬وتسرّحُ الخنازير‪ ،‬وقد حرما عليه‪ ،‬وإن قتلها‪ ،‬فل بأس‪.‬‬
‫ص فى رواية ابن منصور‪ :‬أنه يكره أن يُؤاجر‬
‫فقد نص أحمد‪ ،‬أنه ل يجوز إمساكُها‪ ،‬ولنه قد ن ّ‬
‫نفسه لنطارة كرم لنصرانى‪ ،‬لن أصل ذلك يرجع إلى الخمر‪ ،‬إل أن يعلم أنه يُباع لغير الخمر‪ ،‬فقد‬
‫منع من إجارة نفسه على حمل الخمر‪ ،‬وهذه طريقة القاضى فى ((تعليقه)) وعليها أكثر أصحابه‪،‬‬
‫والمنصور عندهم‪ :‬الرواية المخرجة‪ ،‬وهى عد ُم الصحة‪ ،‬وأنه ل يستحق أجرة‪ ،‬ول يقضى له بها‪،‬‬
‫وهى مذهبُ مالك‪ ،‬والشافعى‪ ،‬وأبى يوسف‪ ،‬ومحمد‪ .‬وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب‬
‫أو لكل الخنزير‪ ،‬أو مطلقاً‪ ،‬فأما إذا استأجره لحملها ِليُريقها‪ ،‬أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئل‬
‫يتأذّى بها‪ ،‬فإن الجارة تجوزُ حينئذ لنه عمل مباح‪ ،‬لكن إن كانت الجرة جلد الميتة لم تصح‪،‬‬
‫واستحق أجرة المثل‪ ،‬وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه‪ ،‬رده على صاحبه‪ ،‬هذا قول شيخنا‪ ،‬وهو‬
‫مذهب مالك‪ .‬والظاهر‪ :‬أنه مذهب الشافعى‪ .‬وأما مذهب أبى حنيفة رحمه الّ‪ :‬فمذهبه كالرواية‬
‫الولى‪ ،‬أنه تصح الجارة‪ ،‬ويُقضى له بالجرة‪ ،‬ومأخذه فى ذلك‪ ،‬أن الحمل إذا كان مطلقاً‪ ،‬لم يكن‬
‫المستحق نفسَ حمل الخمر‪ ،‬فذكرُه وعدمُ ذكره سواء‪ ،‬وله أن يحمل شيئاً آخر غيره كخل وزيت‪،‬‬
‫وهكذا قال‪ :‬فيما لو أجره داره‪ ،‬أو حانوته ليتخذها كنيسة‪ ،‬أو لبيع فيها الخمر‪ ،‬قال أبو بكر الرازى‪:‬‬
‫ل فرق عند أبى حنيفة بين أن يشترط أن يبيعَ فيها الخمر‪ ،‬أو ل يشترط وهو يعلم أنه يبيعُ فيه‬
‫الخمر‪ :‬أن الجارة َتصِحّ‪ ،‬لنه ل يستحق عليه بعقد الجارة فعل هذه الشياء‪ ،‬وإن شرط ذلك‪ ،‬لن‬
‫له أن ل يبيعَ فيه الخمر‪ ،‬ول يتخذ الدار كنيسة‪ ،‬ويستحق عليه الجرة بالتسليم فى المدة‪ ،‬فإذا لم‬
‫يستحق عليه فعل هذه الشياء‪ ،‬كان ذكرها وتركها سواء‪ ،‬كما لو اكترى داراً لينام فيها أو ليسكنها‪،‬‬
‫فإن الجرة تستحق عليه‪ ،‬وإن لم يفعل ذلك‪ ،‬وكذا يقول‪ :‬فيما إذا استأجر رجلً ليحمل خمرًا أو‬

‫‪458‬‬
‫ميتة‪ ،‬أو خنزيراً‪ :‬أنه يصح‪ ،‬لنه ل يتعين حمل الخمر‪ ،‬بل لو حمله بدلَه عصيراً استحق الجرة‪،‬‬
‫فهذا التقييدُ عندهم لغو‪ ،‬فهو بمنزلة الجارة المطلقة‪ ،‬والمطلقة عنده جائزة‪ .‬وإن غلب على ظنه أن‬
‫المستأجر يعصى فيها‪ ،‬كما يجوز بي ُع العصير لمن يتخذه خمراً‪ ،‬ثم إنه كره بيع السلح فى الفتنة‪.‬‬
‫قال‪ :‬لن السلح معمول للقتال ل يصلح لغيره‪ ،‬وعامة الفقهاء خالفوه فى المقدمة الولى‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫ليس المقيد كالمطلق‪ ،‬بل المنفعة المعقودُ عليها هى المستحقةُ‪ ،‬فتكون هى المقابلة بالعوض‪ ،‬وهى‬
‫منفعة محرمة‪ ،‬وإن كان للمستأجر أن يُقيم غيرهَا مقامَها‪ ،‬وألزموه فيما لو اكترى داراً لِيتخذها‬
‫ق عليه فعل المعقودِ عليه‪ ،‬ومع هذا فإنه أبطل هذه الجارة بناء على أنها اقتضت‬
‫مسجداً‪ ،‬فإنه يستحِ ّ‬
‫ل الصلة‪ ،‬وهى ل تستحقّ بعقد إجارة‪.‬‬
‫فع َ‬
‫ونازعه أصحاب أحمد ومالك فى المقدمة الثانية‪ ،‬وقالوا‪ :‬إذا غلب على ظنه أن المستأجر‬
‫صرَ الخمر‬
‫ينتفع بها فى محرم‪ ،‬حرمت الجارة‪ ،‬لن النبىّ صلى ال عليه وسلم لعن عا ِ‬
‫ص َر يريد أن يتخذه خمراً‪،‬‬
‫صرُ عصيراً‪ ،‬ولكن لما علم أن المعت ِ‬
‫ومعتصرها‪ ،‬والعاصر إنما يع ِ‬
‫فيعصره له‪ ،‬استحق اللعنة‪.‬‬
‫لّ ويُبغضه‪ ،‬ويلعنُ فاعله‪ ،‬فأصولُ‬
‫قالوا‪ :‬وايضاً فإن فى هذا معاونة على نفس ما يَسْخَطُهُ ا ُ‬
‫الشرع وقواعدُه تقتضى تحريمَه وبطلن العقد عليه‪ ،‬وسيأتى مزيد تقرير هذا عند الكلم على‬
‫حكمه صلى ال عليه وسلم بتحريم العينة وما يترتب عليها من العقوبة‪.‬‬
‫قال شيخنا‪ :‬والشبهُ طريقةُ ابن موسى‪ ،‬يعنى أنه يُقضى له بالجرة وإن كانت المنفعة‬
‫ب إلى القياس‪ ،‬وذلك لن‬
‫ب له أكلُها‪ .‬قال‪ :‬فإنها أقربُ إلى مقصود أحمد‪ ،‬وأقر ُ‬
‫محرمة‪ ،‬ولكن ل يطي ُ‬
‫النبى صلى ال عليه وسلم لعن عاصر الخمر‪ ،‬ومعتصرها‪ ،‬وحا ِملَها والمحمولة إليه‪ .‬فالعاصر‬
‫ح ُرمَت‬
‫والحامِل‪ ،‬قد عاوضا على منفعة تستحق عوضاً‪ ،‬وهى ليست محرمةً فى نفسها‪ ،‬وإنما َ‬
‫بقصد المعتصر والمستحمل‪ ،‬فهو كما لو باع عنبًا وعصيراً لمن يتخذه خمراً‪ ،‬وفات العصيرُ‬
‫والخمر فى يد المشترى‪ ،‬فإن مال البائع ل يذهب مجاناً‪ ،‬بل يُقضى له بعوضه‪ .‬كذلك هنا المنفعة‬
‫التى وفاها المؤجر ل تذهب مجاناً‪ ،‬بل يُعطى بدلها‪ ،‬فإن تحريم النتفاعِ بها إنما كان من جهة‬
‫المستأجر‪ ،‬ل من جهة المؤجر‪ ،‬فإنه لو حملها للراقة‪ ،‬أو لخراجها إلى الصحراء خشية التأذى‬
‫بها‪ ،‬جاز‪ .‬ثم نحن نحرم الجرة عليه لحق الّ سبحانه ل لحق المستأجر والمشترى‪ ،‬بخلف من‬
‫استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة‪ ،‬فإن نفس هذا العمل محرم لجل قصد المستأجر‪ ،‬فهو‬

‫‪459‬‬
‫كما لو باع ميتة أو خمراً‪ ،‬فإنه ل يقضى له بثمنها‪ ،‬لن نفس هذه العين محرمة‪ ،‬وكذلك ل يُقضى له‬
‫بعوض هذه المنفعة المحرمة‪.‬‬
‫قال شيخنا‪ :‬ومثلُ هذه الجارة‪ ،‬والجعالة‪ ،‬يعنى الجارة على حمل الخمر والميتة‪ ،‬ل‬
‫تُوصف بالصحة مطلقاً‪ ،‬ول بالفساد مطلقاً‪ ،‬بل يقال‪ :‬هى صحيحة بالنسبة إلى المستأجر‪ ،‬بمعنى أنه‬
‫يجب عليه العوض‪ ،‬وفاسدة بالنسبة إلى الجير‪ ،‬بمعنى أنه يحرم عليه النتفاعُ بالجر‪ ،‬ولهذا فى‬
‫الشريعة نظائر‪ .‬قال‪ :‬ول يُنافى هذا نصّ أحمد على كراهة نطارة كرم النصرانى‪ ،‬فإنا ننهاه عن‬
‫هذا الفعل وعن عوضه‪ ،‬ثم نقضى له بكرائه‪ ،‬قال‪ :‬ولو لم يفعل هذا‪ ،‬لكان فى هذا منفعة عظيمةٌ‬
‫للعصاة‪ ،‬فإن كل من استأجروه على عمل يستعينُون به على المعصية قد حصلوا غرضَهم منه‪ ،‬فإذا‬
‫ل أن‬
‫لم يعطوه شيئاً‪ ،‬ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم‪ ،‬كان ذلك أعظ َم العون لهم‪ ،‬وليسوا بأه ٍ‬
‫سلّم إليهم عملً ل قيمة له بحال‪ ،‬يعنى كالزانية‪ ،‬والمغنى‪ ،‬والنائحة‪،‬‬
‫يُعاونوا على ذلك‪ ،‬بخلف من َ‬
‫فإن هؤلء ل يُقضى لهم بأجرة‪ ،‬ولو قبضوا منهم المال‪ ،‬فهل يلزمُهم ردّه عليهم‪ ،‬أم يتصدقون به؟‬
‫ب لهم أكله‪ ،‬والّ‬
‫فقد تقدم الكلم مستوفى فى ذلك‪ ،‬وبينا أن الصواب أنه ل يلزمهم رده‪ ،‬ول يطي ُ‬
‫الموفق للصواب‪.‬‬
‫فصل‬
‫الحكم الخامس‪ :‬حلوان الكاهن‪ .‬قال أبو عمر بن عبد البر‪ :‬ل خلف فى حُلوان الكاهن أنه ما‬
‫يُعطاه على كهانته‪ ،‬وهو مِن أكل المال بالباطل‪ ،‬والحلوان فى أصل اللغة‪ :‬العطية‪ .‬قال علقمةُ‪:‬‬
‫ش ْع َر إ ْذ مَاتَ قَا ِئلُهُ‬
‫ُي َبلّ ُغ عنّى ال ّ‬ ‫حلُوهُ رَحْلى ونَا َقتِى‬
‫ل أَ ْ‬
‫ن رَجُ ٌ‬
‫َفمَ ْ‬
‫انتهى‪.‬‬
‫وتحريمُ حُلوان الكاهن تنبيه على تحريم حُلوان المنجم‪ ،‬والزاجر‪ ،‬وصاحب القُرعة التى هى‬
‫شقيقة الزلم‪ ،‬وضاربة الحصا‪ ،‬والعرّاف‪ ،‬وال ّرمّال ونحوهم ممن تطلب منهم الخبارُ عن‬
‫عرّافاً‬
‫المغيبات‪ ،‬وقد نهى النبىّ صلى ال عليه وسلم عن إتيان الكهّان‪ ،‬وأخبر أن‪(( :‬مَنْ َأتَى َ‬
‫َفصَدّقه بما يَقُولُ‪ ،‬فَقَ ْد كَفَر ِبمَا أنزل عليه صلى ال عليه وسلم)) ول ريبَ أن اليمانَ بما جاء به‬
‫محّم ٌد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبما يجىء به هؤلء‪ ،‬ل يجتمعان فى قلب واحد‪ ،‬وإن كان أحدُهم قد‬
‫ل من كثير‪ ،‬وشيطانُه الذى يأتيه بالخبار ل بُد له أن‬
‫َيصْدُقُ أيحاناً‪ ،‬فصِدقُه بالنسبة إلى كذبه قلي ٌ‬
‫َيصْدُقَه أحيانًا ِليُغوىَ به الناس‪ ،‬ويفتنهم به‪.‬‬

‫‪460‬‬
‫وأكثرُ الناسِ مستجيبون لهؤلء‪ ،‬مؤمنون بهم‪ ،‬ول سيما ضعفاء العقول‪ ،‬كالسّفهاء‪،‬‬
‫علْمَ لهم بحقائق اليمان‪ ،‬فهؤلء هم المفتونون بهم‪،‬‬
‫جهّالِ‪ ،‬والنّساء‪ ،‬وأهل البوادى‪ ،‬ومن ل ِ‬
‫وال ُ‬
‫ن الظنّ بأحدهم‪ ،‬ولو كان مشركاً كافرًا بالّ مجاهرًا بذلك‪ ،‬ويزوره‪ ،‬وينذر له‪،‬‬
‫وكثيرٌ منهم يُحْسِ ُ‬
‫ل به رسوله من‬
‫ويلتمِسُ دعاءه‪ .‬فقد رأينا وس ِم ْعنَا من ذلك كَثيراً‪ ،‬وسببُ هذا كله خفاءُ ما بعث ا ّ‬
‫لّ له نوراً فما له من نور} [النور‪،]40 :‬‬
‫الهدى ودين الحق على هؤلء وأمثالهم‪{ ،‬ومَنْ لم يجعل ا ُ‬
‫ل عنهم للنبى صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنّ هؤل ِء يُحدثوننا أحياناً بالمر‪،‬‬
‫وقد قال الصحابة رضى ا ّ‬
‫ن ِإَل ْيهِم ال َكِلمَ َة تكُونُ حَقاً فَيزِيدُون هُمْ‬
‫شيَاطِين‪ُ ،‬يلْقُو َ‬
‫جهَ ِة ال ّ‬
‫ك مِنْ ِ‬
‫فيكونُ كما قالوا‪ ،‬فأخبرهم أنّ ذِل َ‬
‫ك الكَِلمَةِ‪.‬‬
‫ل ِت ْل َ‬
‫ن أَجْ ِ‬
‫َمعَها مائَة كَ ْذبَةٍ َف ُيصَدّقُونَ مِ ْ‬
‫حمَهم من أشياء‪.‬‬
‫وأما أصحابُ الملحم‪ ،‬فر ّكبُوا مل ِ‬
‫أحدها‪ :‬من أخبارِ الكهان‪.‬‬
‫ن أهل الكتاب‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬من أخبا ٍر منقولة عن الكتب السالفة متوارثة بي َ‬
‫خ َب َر نبيّنا صلى ال عليه وسلم بها جملة وتفصيلً‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬من أمور أ ْ‬
‫والرابع‪ :‬من أمور أخبر بها من له كشف مِن الصحابة ومَن بعدهم‪.‬‬
‫والخامس‪ :‬من منامات متواطئة على أمر كُلى وجزئى‪ .‬فالجزئى‪ :‬يذكرونه بعينه والكُلى‪:‬‬
‫يُفصلونه بحدس وقرائن تكون حقاً أو تقارب‪.‬‬
‫والسادس‪ :‬مِن استدلل بآثار علوية جعلها الّ تعالى علمات وأدلة وأسبابًا لحوادث أرضية‬
‫ل يعلمُها أكث ُر الناس‪ ،‬فإن الّ سبحانه لم يخلق شيئاً سدى ول عبثاً‪ .‬وربط سبحانه العالمَ العُلوى‬
‫بالسّفلى‪ ،‬وجعل عُلويه مؤثراً فى سُفليه دون العكسِ‪ ،‬فالشمس‪ ،‬والقمرُ ل ينكسفان لموت أحد ول‬
‫لحياته‪ ،‬وإن كان كسوفُهما لِسبب شر يحدث فى الرض‪ ،‬ولهذا شرع سُبحانه تغييرَ الشرِ عند‬
‫كُسوفهما بما يدفع ذلك الشرّ المتوقّ َع مِن الصلة والذكر والدعاء والتوبة والستغفار والعتق‪ ،‬فإن‬
‫هذه الشياء تُعارضُ أسباب الشر‪ ،‬وتُقاومها‪ ،‬وتدفع موجباتها إن قويت عليها‪.‬‬
‫وقد جعل الُّ سبحانه حرك َة الشمس والقمر‪ ،‬واختلفَ مطالعهما سببًا للفصول التى هى‬
‫سببُ الحر والبرد‪ ،‬والشتاء والصيف‪ ،‬وما يحدُث فيهما مما يليق بكُلّ فصل منها‪ ،‬فمن له اعتناء‬
‫ل بذلك على ما يحدث فى النبات والحيوان وغيرهما‪ ،‬وهذا‬
‫بحركاتهما‪ ،‬واختلف مطالعهما‪ ،‬يستدِ ّ‬
‫أمر يعرفه كثي ٌر من أهل الفلحة والزراعة‪ ،‬ونواتى السفن لهم استدللتٌ بأحوالهما وأحوالِ‬
‫ختَلّ‪.‬‬
‫ب مِن اختلف الرياح وقوتها وعُصوفها‪ ،‬ل تكاد َت ْ‬
‫الكواكب على أسباب السلم ِة والعط ِ‬

‫‪461‬‬
‫والطباءُ لهم استدللت بأحوال القمر والشمس على اختلف طبيعة النسان وتهيئها لِقبول‬
‫التغير‪ ،‬واستعدادها لمور غريبة ونحو ذلك‪.‬‬
‫وواضعو الملحم لهم عناية شديدة بهذا‪ ،‬وأمور متوارثَة عن قدماء المنجمين‪ ،‬ثم يستنتجون‬
‫مِن هذا ُكلّه قياسات وأحكاماً تشبه ما تقدم ونظيره‪ .‬وسنة الّ فى خلقه جارية على سنن اقتضته‬
‫حكمته‪ ،‬فحكم النظير حكمُ نظيره‪ ،‬وحك ُم الشىء حكم مثله‪ ،‬وهؤلء صرفوا قوى أذهانهم إلى أحكام‬
‫القضا ِء والقدر‪ ،‬واعتبار بعضه ببعض‪ ،‬والستدلل ببعضه على بعض‪ ،‬كما صرف أئمة الشرع‬
‫قوى أذهانهم إلى أحكام المر والشرع‪ ،‬واعتبار بعضه ببعض‪ ،‬والستدلل ببعضه على بعض‪،‬‬
‫ض ومن‬
‫والّ سبحانه له الخلق والمر‪ ،‬ومصدر خلقه وأمره عن حكمه ل تختل ول تتعطل ول تنتقِ ُ‬
‫صرف قوى ذهنه وفكره‪ ،‬واستنفد ساعاتِ عمره فى شى ٍء مِن أحكام هذا العالم وعلمه‪ ،‬كان له فيه‬
‫من النفوذ والمعرفة والطلع ما ليس لغيره‪.‬‬
‫ويكفى العتبارُ بفرع واحدٍ من فروعه‪ ،‬وهو عبارة الرؤيا‪ ،‬فإن العبد إذا نفذ فيها‪ ،‬و َكمُل‬
‫اطلعه‪ ،‬جاء بالعجائب‪ .‬وقد شاهدنا نحن وغيرُنا مِن ذلك أموراً عجيبةً‪ ،‬يحكم فيها المع ّبرُ بأحكام‬
‫متلزمة صادقة‪ ،‬سريعة وبطيئة‪ ،‬ويقول سامعها‪ :‬هذه علم غيب‪ .‬وإنما هى معرفة ما غاب عن‬
‫غيره بأسبابٍ انفرد هو بعلمها‪ ،‬وخفيت على غيره‪ ،‬والشارع صلوات الّ عليه حرم من تعاطى‬
‫ذلك ما مضرتُه راجحة على منفعته‪ ،‬أو ما ل منفعة فيه‪ ،‬أو ما يُخشى على صاحبه أن يجرّه إلى‬
‫الشرك‪ ،‬وحرم بذل المال فى ذلك‪ ،‬وحرم أخذه به صيانة للمة عما يُفسد عليها اليمان أو يخدِشُه‪،‬‬
‫بخلف علم عبارة الرؤيا‪ ،‬فإنه حقٌ ل باطل‪ ،‬لن الرؤيا مستندة إلى الوحى المنامى‪ ،‬وهى جزء من‬
‫أجزاء النبوة‪ ،‬ولهذا ُكلّما كان الرائى أصدقَ‪ ،‬كانت رؤياه أصدقَ‪ ،‬وكلما كان المعبرُ أصدق‪ ،‬وأبر‬
‫وأعلم‪ ،‬كان تعبيرُه أصحّ‪ ،‬بخلف الكاهن والمنجم وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من‬
‫الشياطين‪ ،‬فإن صناعتهم ل َتصِحّ مِن صادق ول بار‪ ،‬ول متقيد بالشريعة‪ ،‬بل هم أشبهُ بالسحرة‬
‫ل ورسوله ودينه‪ ،‬كان السح ُر معه أقوى وأشدّ‬
‫الذين كلما كان أحدُهم أكذبَ وأفجرَ‪ ،‬وأبعدَ عن ا ّ‬
‫تأثيراً‪ ،‬بخلف علم الشرع والحق‪ ،‬فإن صاحبَه كلما كان أب ّر وأصدقَ وأدينَ‪ ،‬كان علمه به ونفوذه‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫فيه أقوى‪ ،‬وبا ّ‬
‫فصل‬
‫الحكم السادس‪ :‬خبثُ كسبِ الحجّام‪ ،‬ويدخُلُ فيه الفاصد والشارط‪ ،‬وكل من يكون كسبُه من‬
‫إخراج الدم‪ ،‬ول يدخل فيه الطبيبُ‪ ،‬ول الكحّال ول البيطارُ ل فى لفظه ول فى معناه‪ ،‬وصحّ عن‬

‫‪462‬‬
‫ح عنه‬
‫ن َي ْعلِقَه نَاضِحَه َأ ْو رَقِيقَهُ)) وص ّ‬
‫حبِه أَ ْ‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أنّه حكم بخُبثه وَأ َمرَ صَا َ‬
‫أنه احتج َم وأعطى الحجامَ أج َرهُ))‪.‬‬
‫فأشكل الجم ُع بينَ هذين على كثير من الفقهاء‪ ،‬وظنوا أن النهىَ عن كسبه منسوخٌ بإعطائه‬
‫أجره‪ ،‬وممِن سلك هذا المسلكَ الطحاوى‪ ،‬فقال فى احتجاجه للكوفيين فى إباحة بيع الكِلب‪ ،‬وأكلِ‬
‫أثمانها‪ :‬لما أمر النبىّ صلى ال عليه وسلم بقتل الكلبِ‪ ،‬ثم قال‪(( :‬ما لى وللكلب))‪ ،‬ثم رخص فى‬
‫ع به حراماً‪ ،‬وكان قاتله مؤدياً للفرض‬
‫ب الغنم‪ ،‬وكان بي ُع الكلب إذ ذاك والنتفا ُ‬
‫كلب الصيد‪ ،‬وكل ِ‬
‫عليه فى قتله‪ ،‬ثم نُسِخَ ذلك‪ ،‬وأباح الصطيادَ به‪ ،‬فصار كسائر الجوارح فى جواز بيعه‪ ،‬قال‪ :‬ومثلُ‬
‫ذلك نهيُه صلى ال عليه وسلم عن كسبِ الحجّام‪ ،‬وقال‪(( :‬كسبُ الحجام خبيث)) ثم أعطى الحجام‪،‬‬
‫أجرَه‪ ،‬وكان ذلك ناسخًا لمنعه وتحريمه ونهيه‪ .‬انتهى كلمه‪.‬‬
‫وأسهلُ ما فى هذه الطريقة أنها دعوى مجردة ل دليلَ عليها‪ ،‬فل تُقبل‪ ،‬كيف وفى الحديث‬
‫ل الكلب)) ثم‬
‫ل الكلب‪ ،‬ثم قال‪(( :‬ما بالُهم وبا ُ‬
‫نفسه ما يُبطلها‪ ،‬فإنه صلى ال عليه وسلم أمر بقت ِ‬
‫رخّص لهم فى كلب الصيد‪.‬‬
‫ب الصيدِ أو كلب غَنمٍ‬
‫ل الكِلبِ إل َك ْل َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بقت ِ‬
‫ن عمر أمرَ رسولُ ا ّ‬
‫وقال اب ُ‬
‫أو ماشِية‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بقتل الكلبِ ثم قال ما بالُهم‬
‫ل بن مغفّل‪ :‬أمرنا رسولُ ا ّ‬
‫وقال عبدُ ا ّ‬
‫ص فى كلب الصيد‪ ،‬وكلب الغنم‪ .‬والحديثانِ فى‬
‫ل الكِلَب‪ ،‬ثم رخّ َ‬
‫وبَا ُ‬
‫ل على أن الرخصة فى كلب الصيد وكلب الغنم وقعت بعد المر بقتل الكلب‪،‬‬
‫((الصحيح)) فد ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فى اقتنائه هو الذى حرّم ثمنه‪ ،‬وأخبر أنه خبيثٌ‬
‫ب الذى أذن رسولُ ا ّ‬
‫فالكل ُ‬
‫دونَ الكلب الذى أمر بقتله‪ ،‬فإن المأمورَ بقتله غيرُ مستبقى حتى تحتاج المة إلى بيان حكم ثمنه‪،‬‬
‫ولم تجر العاد ُة ببيعه وشرائه بخلف الكلب المأذون فى اقتنائه‪ ،‬فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم‬
‫ثمنه أولى مِن حاجتهم إلى بيان ما لم تجرِ عادتُهم ببيعه‪ ،‬بل قد ُأ ِمرُوا بقتله‪.‬‬
‫ومما يُبين هذا أنه صلى ال عليه وسلم ذكر الربعة التى تُبذل فيها الموال عادة لحرص‬
‫النفوس عليها وهى ما تأخذُه الزانية والكاهِنُ والحجّا ُم وبائع الكلب فكيف يُحمل هذا على كلب لم‬
‫جرِ العادةُ ببيعه‪ ،‬وتخرج منه الكلب التى إنما جرت العادة ببيعها هذا من الممتنع البينِ امتناعُه‪،‬‬
‫تَ ْ‬
‫وإذا تبين هذا‪ ،‬ظهر فساد ما شبه به من نسخ خُبثِ أجرة الحجام‪ ،‬بل دعوى النسخ فيها أبعد‪.‬‬
‫(يتبع‪)...‬‬

‫‪463‬‬
‫وأما إعطا ُء النبىّ صلى ال عليه وسلم الحجام أجره‪ ،‬فل يُعارض قوله ((كسب الحجام‬ ‫@‬
‫خبيث)) فإنه لم يقل‪ :‬إن إعطاءه خبيث‪ ،‬بل إعطاؤه إما واجب‪ ،‬وإما مستحب‪ ،‬وإما جائز ولكن هو‬
‫ث الكسب‪ ،‬ولم يلزم مِن ذلك تحريمُه‪،‬‬
‫خبيثٌ بالنسبة إلى الخذ‪ ،‬وخبثُه بالنسبة إلى أكله‪ ،‬فهو خبي ُ‬
‫فقد سمى النبىّ صلى ال عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما‪ ،‬ول يلزم من إعطاء‬
‫النبىّ صلى ال عليه وسلم الحجّام أجرَه حِل أكلِه فضلً عن كون أكله طيباً‪ ،‬فإنه قال‪(( :‬إنّى لُعْطِى‬
‫ج ِبهَا َيتََأبّطُ َه نَا َراً))‪ ،‬والنبىّ صلى ال عليه وسلم قد كان يُعطى المؤلفةَ قلوبُهم‬
‫خرُ ُ‬
‫طيّ َة يَ ْ‬
‫الرّجُلَ العَ ِ‬
‫ب عليهم‬
‫ج ُ‬
‫مِن مال الزكاة والفىء مع غناهم‪ ،‬وعدم حاجتهم إليه‪ ،‬ليبذُلوا من السلم والطاعة ما يَ ِ‬
‫ل لهم توقُف بذله على الخذ‪ ،‬بل يجبُ عليهم المبادرةُ إلى بذله بل‬
‫بذلُه بدون العطاء‪ ،‬ول يَحِ ّ‬
‫عوض‪.‬‬
‫وهذا أصل معروف مِن أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكونُ جائزاً‪ ،‬أو مستحباً‪ ،‬أو واجباً‬
‫ل أن َيبْذُلَ ويحرم على‬
‫من أحد الطرفين‪ ،‬مكروهًا أو محرمًا من الطرف الخر‪ ،‬فيجب على الباذ ِ‬
‫الخذ أن يأخذه‪.‬‬
‫ث الرائحة‪،‬‬
‫وبالجملة فخبثُ أجرِ الحجّام من جنس خُبث أكل الثوم والبصل‪ ،‬لكن هذا خبي ُ‬
‫وهذا خبيثٌ لكسبه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما أطيبُ المكاسب وأحلّها؟ قيل هذا فيه ثلث ُة أقوال للفقهاء‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه كسبُ التجارة‪.‬‬
‫ل اليد فى غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوِها‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنّه عم ُ‬
‫ل مِن هذه وجه مِن الترجيح أثراً ونظراً‪ ،‬والراجح أن أحلّها‬
‫والثالث‪ :‬أنه الزّراعةُ‪ ،‬ولكل قو ٍ‬
‫ب الغانمين وما أُبيح لهم على‬
‫ل صلى ال عليه وسلم وهو كس ُ‬
‫الكسبُ الذى جعل منه رِزق رسولِ ا ّ‬
‫لسان الشارع‪ ،‬وهذا الكسبُ قد جاء فى القرآن مدحُه أكثرَ مِن غيره‪ ،‬وأثنى على أهله ما لم ُيثْنَ على‬
‫ن يَدَى‬
‫س ْيفِ َبيْ َ‬
‫غيرهم‪ ،‬ولهذا اختاره الّ لخيرِ خلقه‪ ،‬وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقولُ‪ُ (( :‬ب ِع ْثتُ بال ّ‬
‫صغَارُ‬
‫ل ال ّذلّ ُة وال ّ‬
‫جعِ َ‬
‫ل ُرمْحى‪ ،‬وَ ُ‬
‫حتَ ظِ ّ‬
‫ل ِرزْقى تَ ْ‬
‫جعِ َ‬
‫شرِيكَ لَهُ‪ ،‬و ُ‬
‫لّ وَحْ َدهُ لَ َ‬
‫حتّي ُي ْعبَدَ ا ُ‬
‫السّاعَةِ َ‬
‫ف َأ ْمرِى))‪ ،‬وهو الرزقُ المأخو ُذ بعزة وشرف وقهر لعداء الّ‪ ،‬وجعل أحب شىء‬
‫عَلىَ مَنْ خَاَل َ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫إلى الّ‪ ،‬فل يُقاومه كسب غيره‪ .‬وا ّ‬
‫فصل‬
‫ل وضِرابِه‬
‫ب الفَحْ ِ‬
‫س ِ‬
‫فى حُكمه صلى ال عليه وسلم فى بيع عَ ْ‬

‫‪464‬‬
‫ب الفَحْلِ‪.‬‬
‫س ِ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم نهى عن عَ ْ‬
‫فى صحيح البخارى عن ابن عمر أن النب ّ‬
‫ضرَابِ الفحل‪ .‬وهذا‬
‫ى صلى ال عليه وسلم نهى عن َبيْ ِع ِ‬
‫وفى صحيح مسلمٍ عن جابر أن النب ّ‬
‫ن مبذول‬
‫الثانى تفسير للول‪ ،‬وسمى أجرة ضِرابه بيعًا إما لكون المقصودِ هو الماءَ الذى له‪ ،‬فالثم ُ‬
‫فى مقابلة عين مائه‪ ،‬وهو حقيق ُة البيع‪ ،‬وإما أنه سمى إجارته لذلك بيعاً‪ ،‬إذ هى عقد معاوضة وهى‬
‫ضرَابِ‪ ،‬وهذا هو الذى ُنهِى عنه‪ ،‬والعقدُ الوارد عليه‬
‫جرُون الفحل لل ّ‬
‫بيع المنافع‪ ،‬والعادة أنهم يستأ ِ‬
‫ل جمهور العلماء‪ ،‬منهم أحمدُ والشافعى‪ ،‬وأبو حنيفة‬
‫باطل‪ ،‬سواء كان بيعًا أو إجارة‪ ،‬وهذا قو ُ‬
‫وأصحابهم‪.‬‬
‫وقال أبو الوفاء بن عقيل‪ :‬ويحتمِلُ عندي الجواز‪ ،‬لنه عقد على منافع الفحل‪ ،‬ونزوه على‬
‫النثى وهى منفعة مقصودة‪ ،‬وماء الفحل يدخل تبعاً‪ ،‬والغالب حصولُه عقيبَ نزوه‪ ،‬فيكون كالعقد‬
‫على الظئر‪ ،‬ليحصُلَ اللبنُ فى بطن الصبى‪ ،‬وكما لو استأجر أرضاً‪ ،‬وفيها بئر ماء‪ ،‬فإن الماء‬
‫يدخل تبعاً وقد يغتفر فى التباع ما ل يُغتفر فىالمتبوعات‪.‬‬
‫ى عنه جوازُه‪ ،‬والذى ذكره أصحابه التفصيل‪ ،‬فقال صاحب ((الجواهر)) فى‬
‫وأما مالك فَحُك َ‬
‫باب فساد العقد من جهة نهى الشارع‪ :‬ومنها بيعُ عَسْب الفَحْلِ‪ ،‬ويُحمل النهى فيه على استئجار‬
‫جرَه على أن ينزو‬
‫الفحل على لِقاح النثى وهو فاسد‪ ،‬لنه غيرُ مقدورعلى تسليمه‪ ،‬فأما أن يستأ ِ‬
‫عليه دفعاتٍ معلومة‪ ،‬فذلك جائز‪ ،‬إذ هو أمَدٌ معلوم فى نفسه‪ ،‬ومقدورٌ على تسليمه‪.‬‬
‫والصحيحُ تحريمُه مطلقاً وفسا ُد العقد به على كل حال‪ ،‬ويحرُم على الخر أخذُ أجرةِ‬
‫ضرابه‪ ،‬ول يحرم على المعطى‪ ،‬لنه بذل ماله فى تحصيل مباح يحتاج إليه ول يمنع من هذا كما‬
‫فى كسب الحجام‪ ،‬وأجرة الكسّاح‪ ،‬والنبى صلى ال عليه وسلم نهى عما يعتادونه من استئجار‬
‫سبِهِ‪ ،‬فل يجوزُ حمل كلمه على غير الواقع والمعتاد وإخلء‬
‫الفحل للضّراب‪ ،‬وسمي ذلك بيع عَ ْ‬
‫الواقع من البيان مع أنه الذى قصد بالنهى‪ ،‬ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح فى نزو‬
‫الفحل على النثى الذى له دفعات معلومة‪ ،‬وإنما غرضُه نتيجة ذلك وثمرته‪ ،‬ولجله بذل ماله‪.‬‬
‫وقد علّل التحري َم بعدة علل‪.‬‬
‫إحداها‪ :‬أنه ل يقدر على تسليم المعقود عليه‪ ،‬فأشبه إجارة البق‪ ،‬فإن ذلك متعلق بإختيار‬
‫الفحل وشهوته‪.‬‬
‫ل القدر والعين‬
‫الثانية‪ :‬أن المقصودَ هو الماءُ وهو مما ل يجوز إفرادُه بالعقد‪ ،‬فإنه مجهو ُ‬
‫س عليها غيرُها‪ ،‬وقد يقال والّ‬
‫وهذا بخلف إجارة الظئر‪ ،‬فإنها احتملت بمصلحة الدمى‪ ،‬فل يُقا ُ‬

‫‪465‬‬
‫أعلم إن النهى عن ذلك مِن محاسن الشريعة وكما لها فإن مقابلة ماء الفحل بالثمان‪ ،‬وجعله محلً‬
‫لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجَن عند العقلء‪ ،‬وفاعل ذلك عندهم ساقط مِن أعينهم فى‬
‫طرَ عباده ل سيما المسلمين ميزانًا للحسن والقبيح‪ ،‬فما رآه‬
‫أنفسهم‪ ،‬وقد جعل الّ سبحانه فِ َ‬
‫المسلمون حسناً‪ ،‬فهو عند الّ حسن‪ ،‬وما رآه المسلمون قبيحاً‪ ،‬فهو عند الّ قبيح‪.‬‬
‫ويزيد هذا بياناً أن ماء الفحل ل قيمة له‪ ،‬ول هو مما يُعاوض عليه‪ ،‬ولهذا لو نزا فحلُ‬
‫الرجل على َر َمكَة غيره‪ ،‬فأولدها‪ ،‬فالولد لِصاحب ال ّر َمكَةِ اتفاقاً‪ ،‬لنه لم ينفصِلْ عن الفحل إل مجردُ‬
‫الماء وهو ل قيمة له‪ ،‬فحرمت هذه الشريعةُ الكامل ُة المعاوضةَ على ضِرابه ليتناوله الناس بينهم‬
‫مجاناً‪ ،‬لما فيه مِن تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل‪ ،‬ول نقصان من ماله‪،‬‬
‫ل هذا مجاناً‪ ،‬كما قال النبى صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إِنّ مِنْ حَ ّقهَا‬
‫فمن محاسن الشريعة إيجابُ بذ ِ‬
‫حِلهَا وإعَا َرةَ َد ْلوِهَا)) فهذه حقوقٌ يضر بالناس منعُها إل بالمعاوضة‪ ،‬فأوجبت الشريعة‬
‫إطْراقَ فَ ْ‬
‫بذلها مجاناً‪.‬‬
‫ب النثى إلى صاحب الفحل هديةً‪ ،‬أو ساق إليه كرامة‪ ،‬فهل له‬
‫فإن قيل‪ :‬فإذا أهدى صاح ُ‬
‫ل له أخذُه‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫أخذُها؟ قيل‪ :‬إن كان ذلك على وجه المعاوضة والشتراط فى الباطن لم َيحِ ّ‬
‫كذلك فل بأس به‪ ،‬قال أصحابُ أحمد والشافعى‪ :‬وإن أعطى صاحبَ الفحل هدية‪ ،‬أو كرامة من‬
‫ل عنه‪ ،‬عن النبىّ صلى ال عليه‬
‫غيرِ إجارة‪ ،‬جاز‪ ،‬واحتج أصحابُنا بحديث رُوى عن أنس رضى ا ّ‬
‫وسلم أنه قال‪ :‬إذا كان إكراماً‪ ،‬فل بأس‪ ،‬ذكره صاحب ((المغنى)) ول أعرف حالَ هذا الحديث‪،‬‬
‫ول من خرّجه‪ ،‬وقد نص أحمد فى رواية ابن القاسم على خلفه‪ ،‬فقيل له‪ :‬أل يكونُ مثلَ الحجّامِ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم أعطى فى مثل هذا شيئاً‬
‫يُعطى‪ ،‬وإن كان منهيًا عنه؟ فقال‪ :‬لم يبلغنا أن النب ّ‬
‫كما بلغنا فى الحجام‪.‬‬
‫واختلف أصحابنا فى حمل كلم أحمد رحمه الّ على ظاهره‪ ،‬أو تأويله‪ ،‬فحمله القاضي‬
‫على ظاهره‪ ،‬وقال‪ :‬هذا مقتضى النظر‪ ،‬لكن ترك مقتضاه فى الحجام‪ ،‬فبقى فيما عداه على مقتضى‬
‫القياس‪ .‬وقال أبو محمد فى ((المغنى))‪ :‬كلم أحمد يُحمل على الورع ل على التحريم‪ ،‬والجواز‬
‫ق للقياس‪.‬‬
‫أرفقُ بالناس‪ ،‬وأوف ُ‬
‫ذكرُ حكم رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم فى المنع مِن بيع الماء الذى يشترك فيه الناسُ‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫ثبت فى صحيح مسلم من حديث جابر رضى الّ عنه قال‪ :‬نهى رسولُ ا ّ‬
‫ل المَاء‪.‬‬
‫ن َبيْعِ َفضْ ِ‬
‫وسلم عَ ْ‬

‫‪466‬‬
‫ن َبيْ ِع المَاءِ‬
‫ضرَابِ الفَحْلِ‪ ،‬وَعَ ْ‬
‫لّ صلى ال عليه وسلم عن َبيْع ِ‬
‫وفيه عنه قال‪ :‬نهى رسولُ ا ِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫حرَث‪ ،‬فعن ذلك نهى رسولُ ا ّ‬
‫ض ِلتُ ْ‬
‫لرْ ِ‬
‫وا َ‬
‫ل عنه أن رسولَ الِّ صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫وفى ((الصحيحين)) عن أبى هُريرة رضى ا ّ‬
‫ل المَا ِء ِليُمنَعَ ب ِه الكَلُ)) وفى لفظ آخر ((لَ َت ْم َنعُوا َفضْلَ المَا ِء ِل َت ْم َنعُوا به الكَلَ))‪،‬‬
‫((لَ ُي ْمنَعُ َفضْ ُ‬
‫ل الكَلِ))‪.‬‬
‫ل المَا ِء ِل َت ْم َنعُوا بِهِ َفضْ َ‬
‫ل َت ْم َنعُوا َفضْ َ‬
‫وقال البخارى فى بعض طرقه‪َ (( :‬‬
‫ل عنه عن النبى‬
‫وفى ((المسند)) من حديث عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جدّه رضى ا ّ‬
‫ضلَهُ َيوْ َم ال ِقيَامَةِ))‪.‬‬
‫ن َمنَعَ َفضْل مَائِ ِه َأوْ َفضْل َكَلئِهِ‪َ ،‬م َنعَهُ الُّ َف ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬مَ ْ‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫لّ عنه قال‪ :‬قال رسولُ ا ّ‬
‫وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى ا ُ‬
‫ل ُي ْم َنعْنَ‪ :‬المَا ُء والكَلُ والنّارُ))‪.‬‬
‫وسلم‪(( :‬ثَلثٌ َ‬
‫لّ صلى ال عليه‬
‫وفى ((سننه)) أيضًا عن ابن عباس رضى الّ عنهما قال‪ :‬قال رسولُ ا ِ‬
‫حرَامٌ))‪.‬‬
‫لثٍ‪ :‬المَا ُء والنّارُ والكَلُ‪ ،‬و َث َمنُهُ َ‬
‫وسلم‪(( :‬المسلمونَ شُركَاءُ فى ثَ َ‬
‫لّ صلى ال‬
‫وفى صحيح البخاري من حديث أبى هُريرة رضى الّ عنه قال‪ :‬قال رسولُ ا ِ‬
‫ل كَانَ‬
‫ب َألِيمٌ‪ :‬رَجُ ٌ‬
‫ل ُي َزكّيهِمْ‪َ ،‬وَلهُمْ عَذَا ٌ‬
‫ل إَليْهمْ َيوْ َم ال ِقيَامَةِ‪ ،‬وَ َ‬
‫ع ّز وَجَ ّ‬
‫ظرُ الُّ َ‬
‫ل َينْ ُ‬
‫لثَةٌ َ‬
‫عليه وسلم ((ثَ َ‬
‫ن أَعْطَاهُ‬
‫ل بَايَع إمامَه ل ُيبَايعُ ُه إل لِل ّد ْنيَا فإ ْ‬
‫سبِيلِ‪ ،‬وَرجُ ٌ‬
‫ن ال ّ‬
‫طرِيقِ َف َم َنعَ ُه من اب ِ‬
‫ل مَا ٍء بِال ّ‬
‫لضهُ َفضْ ُ‬
‫غ ْي ُرهُ‬
‫ل ِإلَهَ َ‬
‫لّ الذِى َ‬
‫س ْلعَ ًة َبعْ َد ال َعصْرِ فَقَالَ‪ :‬وا ِ‬
‫ل أَقَامَ ِ‬
‫ط َورَجُ ٌ‬
‫ِم ْنهَا‪َ ،‬رضِىَ‪ ،‬وإنْ لَ ْم يعْطِ ِه ِم ْنهَا‪ ،‬سَخ َ‬
‫لّ َوَأ ْيمَا ِنهِ ْم َثمَناً َقلِيلً}‬
‫ش َترُون ِب َعهْدِ ا ِ‬
‫ن يَ ْ‬
‫ن الّذِي َ‬
‫أُعْطِيتُ ِبهَا كَذَا‪َ ،‬فصَدّقَ ُه رَجُلٌ‪ ،‬ثُمّ َق َرأَ ه ِذهِ اليةَ‪{ :‬إ ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫[آل عمران‪ ،]77 :‬وفى سنن أبى داود عن ُب َهيْسَة قالت‪ :‬استأذن أبى النب ّ‬
‫ل منعُه؟ قال‪ :‬الماء قَالَ‪(( :‬يا نبىّ‬
‫ل يدنو منه ويلتزمُه‪ ،‬ثم قال‪ :‬يانبى الّ ما الشىءُ الذى ل يَحِ ّ‬
‫فَجَع َ‬
‫ل َم ْنعُهُ؟ قال‪ :‬أن‬
‫ل ال ِملْحُ‪ ،‬قال‪ :‬يان ِبىّ الِّ ما الشّى ُء الّذى لَ يحِ ّ‬
‫ل َم ْنعُهُ؟ قَا َ‬
‫ل يَحِ ّ‬
‫الِّ ما الشى ُء الذى َ‬
‫خ ْي ٌر َلكَ))‪.‬‬
‫خ ْيرَ َ‬
‫تَ ْفعَلَ ال َ‬
‫ل فى الصل مشتركًا بين العباد والبهائم‪ ،‬وجعله سقيا لهم‪ ،‬فل يكون أحدٌ أخصّ‬
‫الماء خلقه ا ّ‬
‫ق مِن‬
‫ن السبيل أح ّ‬
‫ل عنه اب ُ‬
‫به مِن أحد‪ ،‬ولو أقام عليه‪ ،‬و َتنََأ عليه‪ ،‬قال عمرُ ابن الخطاب رضى ا ّ‬
‫التّانىء عليه‪ ،‬ذكره أبو عبيد عنه‪.‬‬
‫ل أول شاربٍ‪.‬‬
‫وقال أبو هريرة‪ :‬ابنُ السبي ِ‬
‫فأما من حازه فى قِربته أو إنائه‪ ،‬فذاك غي ُر المذكور فى الحديث‪ ،‬وهو بمنزلة سائر‬
‫المباحات إذا حازها إلى ملكه‪ ،‬ثم أراد بيعَها كالحطب والكل والملح‪ ،‬وقد قال النبى صلى ال عليه‬

‫‪467‬‬
‫خ ْيرٌ‬
‫جهَهَ َ‬
‫لّ ِبهَا وَ ْ‬
‫ظ ْه ِرهِ فيبيعها فَي ُكفّ ا ُ‬
‫ب على َ‬
‫ط ٍ‬
‫ح ْزمَةِ حَ َ‬
‫ح ْبلَهُ‪َ ،‬فيَ ْأتَى‪ ،‬ب ُ‬
‫وسلم‪(( :‬لنَ يَأخُ َذ أَحَ ُدكُمْ َ‬
‫طوْ ُه َأ ْو َم َنعُوهُ)) رواه البخارى‪.‬‬
‫س أَعْ َ‬
‫ل النّا َ‬
‫ن يَسْأَ َ‬
‫لَ ُه منْ أَ ْ‬
‫ل صلى ال‬
‫ل عنه قال‪ :‬أصبتُ شَارِفَاً مع رسولِ ا ّ‬
‫وفى ((الصحيحين)) عن على رضى ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم شَارِفاً آخر‪ ،‬فأنختُهما يوماً‬
‫عليه وسلم فى مغنم َيوْم بدر‪ ،‬وأعطانى رسولُ ا ّ‬
‫حمِلَ عَليهما إذخراً لبيعه‪ .‬وذكر الحديثَ فهذا فى الكل‬
‫ن أَ ْ‬
‫عِند بابِ رجل من النصار وأنا أُريدُ أ ْ‬
‫ل النهى‬
‫والحطب المباح بعد أخذه وإحرازه‪ ،‬وكذلك السمكُ وسائر المباحات‪ ،‬وليس هذا مح ّ‬
‫ل النهى أيضًا بيعُ مياه النهار الكِبار المشتركة بين الناس‪ ،‬فإن هذا ل يُمكن‬
‫بالضرورة ول مح ّ‬
‫منعُها‪ ،‬والحجرُ عليها‪ ،‬وإنما محل النهى صور‪ ،‬أحدها‪ :‬المياه المنتقعة مِن المطار إذا اجتمعت فى‬
‫أرض مباحة‪ ،‬فهى مشتركة بينَ الناس‪ ،‬وليس أحد أحقّ بها مِن أحد إل بالتقديمِ لقُرب أرضه كما‬
‫ب لوعيد الّ‬
‫ل بيعُه ول منعُه‪ ،‬ومانعُه عاصٍ مستوج ٌ‬
‫سيأتى إن شاء الّ تعالى‪ ،‬فهذا النوعُ ل يَحِ ّ‬
‫ومنع فضله إذ منع فضل ما لم تعمل يداه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فلو اتخذ فى أرضه المملوكة له حفرةً يجمع فيها الماء‪ ،‬أو حفر بئراً‪ ،‬فهل يمِلكُه‬
‫ق به مِن غيره‪ ،‬ومتى كان الما ُء النابع فى ملكه‪ ،‬والكل‬
‫بذلك‪ ،‬ويحل له بيعُه؟ قيل‪ :‬ل ريب أنه أح ّ‬
‫ب عليه بذلُه‪ ،‬نص عليه أحمد‪ ،‬وهذا ل‬
‫والمعدن فوقَ كفايته لشربه وشرب ماشيته ودوابه‪ ،‬لم يج ُ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنه إنما توعّد مَنْ منع فضل الماء‪ ،‬ول فضلَ فى هذا‪.‬‬
‫ت وعيدِ النب ّ‬
‫يدخُلُ تح َ‬
‫فصل‬
‫وما َفضَل منه عن حاجته وحاج ِة بهائمه وزرعه‪ ،‬واحتاج إليه آدمى مثلُه أو بهائمه‪ ،‬وبَ َذلَه‬
‫بغير عوض‪ ،‬ولكل واحد أن يتقدّم إلى الماء ويشربَ ويسقى ما شيته‪ ،‬وليس لصاحب الماء منعُه‬
‫ل له الدل َو والبَكرة والحبلَ‬
‫ض وهل يلزمُه أن يبذُ َ‬
‫عوَ ٌ‬
‫مِن ذلك‪ ،‬ول يلزم الشارب وساقى البهائم ِ‬
‫مجاناً‪ ،‬أو له أن يأخُذَ أجرته؟ على قولين وهما وجهان لصحاب أحمد فى وجوب إعارة المتاع عند‬
‫الحاجة إليه‪ ،‬أظهرهُما دليلً وجوبُه‪ ،‬وهو مِن الماعون‪ .‬قال أحمد‪ :‬إنما هذا فى الصحارى والبرية‬
‫ن يعنى‪ :‬أن البنيان إذا كان فيه الماءُ‪ ،‬فليس لحد الدخولُ إليه إل بإذن صاحبه‪ ،‬وهل‬
‫دون البنيا ِ‬
‫يلزمُه بذْل فضل مائه لزرعِ غيره؟ فيه وجهان‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد‪.‬‬
‫أحدهما ل يلزمُه‪ ،‬وهو مذهب الشافعى‪ ،‬لن الزرع ل حُرمة له فى نفسه‪ ،‬ولهذا ل يجبُ‬
‫على صاحبه سقيه بخلف الماشيةَ‪.‬‬

‫‪468‬‬
‫ث المتقدمة وعمومِها وبما رُوى عن عبيد‬
‫والثانى‪ :‬يلزمه بذلُه‪ ،‬واحتج لهذا القول بالحادي ِ‬
‫ل بن عمرو أنّ َقيّ َم أرضه بالوهط كتب إليه يُخبره أنه سقى أرضه‪ ،‬و َفضَل له مِن الماء فضلٌ‬
‫ا ّ‬
‫ل بن عمرو رضى الّ عنهما‪ :‬أقم ِقلْ َدكَ‪ ،‬ثم اسق الدنى‪،‬‬
‫يُطلب بثلثين ألفاً‪ ،‬فكتب إليه عبد ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ينهَى عن َبيْعِ َفضْلِ المَاءِ‪.‬‬
‫فالدنى‪ ،‬فإنى سمعتُ رسول ا ّ‬
‫قالُوا‪ :‬وفى منعه من سقى الزرع إهلكُه وإفسادُه‪ ،‬فحرم كالماشية‪ .‬وقولُكم‪ :‬ل حرمة له‪،‬‬
‫فلصاحبه حُرمة‪ ،‬فل يجو ُز التسبّب إلى إهلك ماله‪ ،‬ومن سلّم لكم أنه ل حُرمة للزرع؟ قال أبو‬
‫ل أن يمنع نفى الحرمة عنه‪ ،‬فإن إضاعةَ المال منهى عنها‪ ،‬وإتلفَه محرم‪،‬‬
‫محمد المقدسى‪ :‬ويحتمِ ُ‬
‫وذلك دليل على حرمته‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فإذا كان فى أرضه أو داره بئر نابعة‪ ،‬أو عين مستنبطة‪ ،‬فهل تكون ملكًا له‬
‫تبعًا لملك الرض والدار؟ قيل‪ :‬أما نفسُ البئر وأرض العين‪ ،‬فمملوكةً لمالك الرض‪ ،‬وأما الماءُ‪،‬‬
‫ففيه قولن‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد‪ ،‬ووجهان لصحاب الشافعى‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه غي ُر مملوك‪ ،‬لنه يجرى مِن تحت الرض إلى مُلكه‪ ،‬فأشبه الجارى فى النهر‬
‫إلى ملكه‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬أنه مملوك له‪ ،‬قال أحمد فى رجل له أرضٌ ولخر ماء‪ ،‬فاشترك صاحبُ الرض‬
‫وصاحبُ الماء فى الزرع‪ :‬يكون بينهما؟ فقال‪ :‬ل بأس‪ ،‬وهذا القولُ اختيارُ أبى بكر‪.‬‬
‫وفى معنى الماء المعادنُ الجارية فى الملك كالقَا ِر والنّفط والمُوميا‪ ،‬والمِلح‪ ،‬وكذلك الكل‬
‫النابتُ فى أرضه كُلّ ذلك يُخرج على الروايتين فى الماء‪ ،‬وظاهر المذهب أن هذا الماء ل يُملك‪،‬‬
‫وكذلك هذه الشياء قال أحمد‪ :‬ل يُعجبنى بيعُ الماء البتة‪ ،‬وقال الثرم‪ :‬سمعتُ أبا عبد الّ يسأل عن‬
‫قوم بينهم نهر تشرب منه أرضُهم لهذا يوم‪ ،‬ولهذا يومان يتّفِقُون عليه بالحصص‪ ،‬فجاء يومى ول‬
‫أحتاج إليه أكريه بدراهم؟ قال‪ :‬ما أدرى‪ ،‬أما النبىّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فنهى عن بيع الماء‪ ،‬قيل‪:‬‬
‫سنُوه‪ ،‬فأى شىء هذا إل البيع‪ ..‬انتهى‪.‬‬
‫إنه ليس يبيعُه‪ ،‬إنما يكريه‪ ،‬قال‪ :‬إنّما احتالُوا بهذا ِليُح ّ‬
‫ك الناسِ فى الماء دليلٌ ظاهر على المنع من بيعه‪ ،‬وهذه المسألة التى‬
‫ث اشترا ِ‬
‫وأحادي ُ‬
‫سئل عنها أحمد هى التى قد ابتُلىَ بها الناسُ فى أرض الشام وبساتينه وغيرها‪ ،‬فإن الرضَ‬
‫ق مِن الشّرب مِن نهر‪ ،‬فيفصل عنه‪ ،‬أو يبنيه دوراً‪ ،‬وحوانيت‪ ،‬ويُؤجر ماءَه‪،‬‬
‫والبستان يكونُ له ح ّ‬
‫ى صلى ال عليه وسلم نهى عن بيع الماءِ‪ ،‬فلما قيل له‪ :‬إن‬
‫ب بأن النب ّ‬
‫فقد توقف أحمد أولً‪ ،‬ثم أجا َ‬
‫ن اللفظ‪ ،‬وحقيقة العقد البيعُ‪ ،‬وقواعِ ُد الشريعة‬
‫هذه إجارة‪ ،‬قال‪ :‬هذه التسميةُ حِيلة‪ ،‬وهى تحسي ُ‬

‫‪469‬‬
‫ق التقديم فى سقى أرضه من هذا الماء المشترك‬
‫تقتضى المَنع من بيع هذا الماء فإنه إنما كان له ح ّ‬
‫بينه وبين غيره‪ ،‬فإذا استغنى عنه‪ ،‬لم يجز له المعاوض ُة عنه‪ ،‬وكان المحتاج إليه أولى به بعده‪،‬‬
‫ج ْز له أن يبيعَ باقيَهُ بع َد نزعه عنه‪.‬‬
‫وهذا كمن أقام على معدن‪ ،‬فأخذ منه حاجته‪ ،‬لم يَ ُ‬
‫حبَةٍ أو طريق واسعة‪ ،‬فهو أحقّ بها ما دام جالساً‪ ،‬فإذا‬
‫ن سبق إلى الجلوس فى َر ْ‬
‫وكذلك مَ ْ‬
‫جزْ‪ ،‬وكذلك الرضُ المباحة إذا كان فيها كل أو عشب‪ ،‬فسبق‬
‫استغنى عنها‪ ،‬وأجر مقعده‪ ،‬لم يَ ُ‬
‫ق ِبرَعْيهِ ما دامت دوابّه فيه‪ ،‬فإذا طلب الخروج مِنها‪ ،‬وبيعَ ما َفضَل عنه‪ ،‬لم‬
‫بدوابه إليه‪ ،‬فهو أح ّ‬
‫يكن له ذلك وهكذا هذا الماءُ سواء‪ ،‬فإنّه إذا فارق أرضَه‪ ،‬لم يبق له فيه حقّ‪ ،‬وصار بمنزلة الكل‬
‫الذى ل اختصاص له به‪ ،‬ول هو فى أرضه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬الفرقُ بينهما أن هذا الماء فى نفس أرضه‪ ،‬فهو منفع ٌة مِن منافعها‪ ،‬فملكه بملكها‬
‫كسا ِئرِ منافعها بخلف ما ذكرتم مِن الصور‪ ،‬فإن تلك العيان ليست من ملكه‪ ،‬وإنما له حقّ‬
‫النتفاع والتقديم إذا سبق خاصة‪.‬‬
‫قيل‪ :‬هذه النكتة التى لجلها ج ّوزَ من جوّز بيعه‪ ،‬وجعل ذلك حقًا مِن حقوق أرضه‪َ ،‬ف َمَلكَ‬
‫ق أرضه فى النتفاع ل فى‬
‫ك المعاوضة عليه مع الرض‪ ،‬فُيقال‪ :‬ح ّ‬
‫المعاوضة عليه وحدَه كما يمِل ُ‬
‫ملك العين التى أودعها الّ فيها بوصف الشتراك‪ ،‬وجعل حقّه فى تقديم النتفاع على غيره فى‬
‫التحجر والمعاوضة‪ ،‬فهذا القولُ هو الذى تقتضيه قواعدُ الشرع وحكمته واشتماله على مصالح‬
‫العالم‪ ،‬وعلى هذا فإذا دخل غيره بغير إذنه‪ ،‬فأخذ منه شيئاً‪ ،‬لنه مباح فى الصل‪ ،‬فأشبه ما لو‬
‫ششَ فى أرضه طائر‪ ،‬أو حصل فيها ظبى‪ ،‬أو نضب ماؤها عن سمك‪ ،‬فدخل إليه‪ ،‬فأخذه‪.‬‬
‫عّ‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل له منعُه مِن دخول ملكه‪ ،‬وهل يجوزُ دخولُه فى ملكه بغير إذنه؟‬
‫قيل‪ :‬قد قال بعضُ أصحابنا‪ :‬ل يجو ُز له دخولُ ملكه لخذ ذلك بغير إذنه‪ ،‬وهذا ل أصل له‬
‫ض غيرِ‬
‫فى كلم الشارع‪ ،‬ول فى كلم المام أحمد‪ ،‬بل قد نص أحمد على جواز الرعى فى أر ٍ‬
‫مباحة مع أن الرض ليست مملوكة له ول مستأجرة ودخولُها لغير الرعى ممنوع منه‪ .‬فالصوابُ‬
‫أنه يجوز له دخولُها لخذ ما له أخذُه‪ ،‬وقد يتع ّذرُ عليه غالبًا استئذان مالكها‪ ،‬ويكون قد احتاج إلى‬
‫الشرب وسقى بهائمه ورعى الكل‪ ،‬ومالك الرض غائب‪ ،‬فلو منعناه من دخولها إل بإذنه كان فى‬
‫ذلك إضرار ببهائمه‪.‬‬

‫‪470‬‬
‫ب عليه‬
‫وأيضاً فإنه ل فائدة لهذا الذن‪ ،‬لنه ليس لصاحب الرض منعُه مِن الدخول‪ ،‬بل يج ُ‬
‫ل له منعُه من الدخول‪ ،‬فل فائدة‬
‫تمكينُه‪ ،‬فغايةُ ما يقدر أنه لم يأذن له‪ ،‬وهذا حرامٌ عليه شرعاً ل يَحِ ّ‬
‫فى توقف دخوله على الذن‪.‬‬
‫وأيضاً فإنه إذا لم يتمكن مِن أخذ حقّه الذى جعله له الشارعُ إل بالدخول فهو مأذون فيه‬
‫ل بغير إذن‪،‬‬
‫شرعاً‪ ،‬بل لو كان دخولُه بغير إذنه لِغيرة على حريمه وعلى أهله‪ ،‬فل يجوزُ له الدخو ُ‬
‫ن وغيرِه‪ ،‬وقد قال الُّ‬
‫فأما إذا كان فى الصحراء‪ ،‬أو دار فيها بئر ول أنيسَ بها‪ ،‬فله الدخولُ بإذ ٍ‬
‫ع َلكُمْ} [النور‪ ،]29 :‬وهذا الدخولُ‬
‫سكُونَةٍ فِيهَا َمتَا ٌ‬
‫غ ْي َر مَ ْ‬
‫خلُوا ُبيُوتَاً َ‬
‫ن تَدْ ُ‬
‫ح أَ ْ‬
‫جنَا ٌ‬
‫عَل ْيكُمْ ُ‬
‫تعالى‪َ{ :‬ل ْيسَ َ‬
‫ل بل إذن‪ ،‬فإنه قد منعهم قبل مِن الدخول لغير بيوتهم حتى‬
‫الذى رفع عنه الجناح هو الدخو ُ‬
‫ض السلف كذلك‪ ،‬ثم‬
‫يستأنِسُوا ويُسلّموا على أهلها‪ ،‬والستئناس هنا‪ :‬الستئنذان‪ ،‬وهى فى قراءة بع ِ‬
‫ل ذلك على جواز الدخول إلى‬
‫رفع عنهم الجُناح فى دخول البيوت غير المسكونة لخذ متاعهم‪ ،‬فد ّ‬
‫بيت غيره وأرضه غيرِ المسكونة‪ ،‬لخذ حقّه من الماء والكل‪ ،‬فهذا ظاه ُر القرآن‪ ،‬و ُه َو مقتضى‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫نص أحمد وبا ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬فما تقولُون فى بيع البئر والعين نفسها‪ :‬هل يجوزُ؟ قال المام أحمد‪ :‬إنما‬
‫نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون فى قراره‪ ،‬ويجوز بيع البئر نفسِها والعين‪ ،‬ومشتريها أحقّ‬
‫بمائها‪ ،‬وهذا الذى قاله المام أحمد هو الذى دلّت عليه السنة‪ ،‬فإن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫ن بن عفان‬
‫جنّةُ)) أو كما قال‪ ،‬فاشتراها عثما ُ‬
‫علَى المُسلِمينَ َولَهُ ال َ‬
‫شتَرى ِب ْئرَ رُومَ َة ُيوَس ُع ِبهَا َ‬
‫ن يَ ْ‬
‫((مَ ْ‬
‫ل عنه مِن يهودى بأم ِر النبىّ صلى ال عليه وسلم وَس ّبلَها لِلمُسلمِينَ وكان اليهودىّ يبيعُ‬
‫رضى ا ّ‬
‫ل عنه اشترى منه نصفها باثنى عشر ألفاً‪ ،‬ثم قال لليهودى‬
‫ماءَها‪ .‬وفى الحديث أن عثمان رضى ا ّ‬
‫ب عليها دلواً‪ ،‬فاختار‬
‫ص َ‬
‫ب لك عليها دلواً‪ ،‬وَأنْ ِ‬
‫ص َ‬
‫اختر إما أن تأخُذَهَا يوماً وآخذَهَا يوماً‪ ،‬وإما أنْ َت ْن ِ‬
‫ى بئرى‪،‬‬
‫ت عل ّ‬
‫يوماً ويوماً‪ ،‬فكان الناسُ يستقون منها فى يوم عثمان لِليومين‪ ،‬فقال اليهودىّ‪ :‬أفسد َ‬
‫فاشترى باقيها‪ ،‬فاشتراه بثمانية آلف‪ ،‬فكان فى هذا حج ٌة على صحة بيعِ البئر وجوازِ شرائها‪،‬‬
‫وتسبيلها‪ ،‬وصحةِ بيع ما يُسقى منها‪ ،‬وجواز قسمةِ الماء بالمهايأة‪ ،‬وعلى كون المالك أحقّ بمائها‪،‬‬
‫وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فإذا كان الماءُ عندكم ل يملك‪ ،‬ولكل واحد أن يستقى منه حاجَته‪،‬‬
‫س البئر وكانت‬
‫ن البئرَ وس ّبلَها‪ ،‬فإن قلتم‪ :‬اشترى نف َ‬
‫جرَه حتى اشترى عثما ُ‬
‫فكيف أمكن اليهودى تح ّ‬
‫مملوكةً‪ ،‬ودخل الماءُ تبعاً‪ ،‬أشكل عليكم مِن وجه آخر وهو أنكم قررتم أنه يجوزُ للرجل دخولُ‬

‫‪471‬‬
‫أرض غيره لخذ الكل والماء‪ ،‬وقضيةُ بئر اليهودى تدل على أحد أمرين ول بُد‪ ،‬إما ملك الماء‬
‫بملك قراره‪ ،‬وإما على أنه ل يجوز دخولُ الرض لخذ ما فيها من المباح إل بإذن مالكها‪.‬‬
‫ن المذهبين‪ ،‬ومن منع‬
‫قيل‪ :‬هذا سؤال قوى‪ ،‬وقد يتمسك به من ذهب إلى واحد مِن هذي ِ‬
‫المرين‪ ،‬يُجيب عنه بأن هذا كان فى أوّلِ السلم‪ ،‬وحين قدم النبى صلى ال عليه وسلم وقبل تقرر‬
‫الحكام‪ ،‬وكان اليهود إذ ذاك لهم شوكةُ بالمدينة‪ ،‬ولم تكن أحكامُ السلم جاري ًة عليهم‪ ،‬والنبىّ‬
‫صلى ال عليه وسلم لما قدم‪ ،‬صالحهم‪ ،‬وأقرّهم على ما بأيديهم‪ ،‬ولم يتعرّض له‪ ،‬ثم استقرت‬
‫الحكام‪ ،‬وزالت شوك ُة اليهود لعنهم الّ‪ ،‬وجرت عليهم أحكامُ الشريعة‪ ،‬وسباق قصة هذه البئر‬
‫ى صلى ال عليه وسلم المدينة فى أول المر‪.‬‬
‫ظاهر فى أنها كانت حينَ مقدمِ النب ّ‬
‫فصل‬
‫وأما المياهُ الجاريةُ‪ ،‬فما كان نابعًا من غير ملك كالنهار الكبار وغي ِر ذلك‪ ،‬لم يملك بحال‪،‬‬
‫ولو دخل إلى أرض رجل‪ ،‬لم يملكه بذلك وهو كالطير يدخل إلى أرضه‪ ،‬فل يملك بذلك‪ ،‬ولكل‬
‫واحدة أخذُه وصيده‪ ،‬فإن جعل له فى أرضه مصنعًا أو بركة يجتمع فيها‪ ،‬ثم يخرج منها‪ ،‬فهو كنقع‬
‫ق به للشرب والسقى‪ ،‬وما فضل‬
‫البئر سواه‪ ،‬وفيه من النزاع ما فيه وإن كان ل يخرج منها‪ ،‬فهو أح ّ‬
‫عنه‪ ،‬فحكمه حكم ما تقدم‪.‬‬
‫وقال الشيخ فى ((المغنى))‪ :‬وإن كان ماءٌ يسي ٌر فى البركة ل يخرج منها‪ ،‬فالولى أنه يملكه‬
‫بذلك على ما سنذكره فى مياه المطار‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬فأما المصانعُ المتخذة لمياه المطار تجتمعُ فيها ونحوها مِن البرك وغيرها فالولى‬
‫أن يُملك ماؤها‪ ،‬ويصح بيعه إذا كان معلوماً‪ ،‬لنه مباح حصله فى شى ٍء ُمعَدّ له‪ ،‬فل يجوز أخذُ‬
‫شىء منه إل بإذن مالكه‪.‬‬
‫وفى هذا نظر‪ ،‬مذهبًا ودليلً‪ ،‬أما المذهبُ‪ ،‬فإن أحمد قال‪ :‬إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر‬
‫والعيون فى قراره‪ ،‬ومعلوم أن ما َء البئر ل يُفارقها‪ ،‬فهو كالبِركة التى اتخذت مقراً كالبئر سواء‪،‬‬
‫ول فرقَ بينهما‪ ،‬وقد تقدم مِن نصوص أحمد ما يدل على المنع مِن بيع هذا‪ ،‬وأما الدليل فما تقدم من‬
‫علَى‬
‫النّصوص التى سقناها‪ ،‬وقوله فى الحديث الذى رواه البخارى فى وعيد الثلثة‪(( ،‬والرّجُلُ َ‬
‫ل فى أرضه المختصة به‪ ،‬أو فى‬
‫سبِيلِ)) ولم يُفرق بين أن يكونَ ذلك الفض ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫َفضْلٍ مَا ٍء َي ْم َنعُهُ ابْ َ‬
‫لثٍ)) ولم يشترط فى هذه الشركة كون مقره‬
‫الرض المباحة‪ ،‬وقوله‪(( :‬النّاسُ شُركَاءُ فى ثَ َ‬

‫‪472‬‬
‫مشتركاً‪ ،‬وقوله وقد سئل‪ :‬ما الشىء الذى ل يَحِلّ منعه؟ فقال‪ :‬الماء‪ ،‬ولم يشترط كون مقره مباحاً‪،‬‬
‫فهذا مقتضى الدليل فى هذه المسألة أثراً ونظراً‪.‬‬
‫ل مِن بيع ما ليس عنده‬
‫ذِكرُ حُكمِ رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم فى منع الرج ِ‬
‫سنَنِ)) و((المسند)) من حديث حَكيم بن حزام قال‪ :‬قلتُ يا رسولَ الِّ يأتينى الرجلُ‬
‫فى ((ال ّ‬
‫عنْ َدكَ))‬
‫ل تَب ْع مَا َل ْيسَ ِ‬
‫يسألنى من البيع ما ليس عندى‪ ،‬فأبيعه منه‪ ،‬ثم أبتاعُه مِن السوق‪ ،‬فقال (( َ‬
‫قال الترمذى‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫سَلفٌ َو َبيْعٌ‪،‬‬
‫ل يَحِلّ َ‬
‫ل عنه‪ ،‬ولفظه‪َ (( :‬‬
‫وفى ((السنن)) نحوه من حديث ابن عمرو رضى ا ّ‬
‫عنْ َدكَ)) قال الترمذى‪ :‬حديث حسن‬
‫ل َبيْ ُع مَا َل ْيسَ ِ‬
‫ضمَنْ‪ ،‬و َ‬
‫ح مَا لَم ُي ْ‬
‫ل ربْ ُ‬
‫شرْطَانِ فى َبيْع‪ ،‬وَ َ‬
‫وَلَ َ‬
‫صحيح‪.‬‬
‫فاتفق لفظُ الحديثين على نهيه صلى ال عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده‪ ،‬فهذا هو المحفوظُ‬
‫مِن لفظه صلى ال عليه وسلم وهو يتضمن نوعًا مِن ال َغ َررِ‪ ،‬فإنه إذا باعه شيئاً معيناً‪ ،‬ولَيس فى‬
‫ملكه ثم مضى لِيشتريه‪ ،‬أو يسلمه له‪ ،‬كان مترددًا بينَ الحصول وعدمه‪ ،‬فكان غررًا يشبه ال ِقمَار‪،‬‬
‫ض الناس أنه إنما نهى عنه‪ ،‬لكونه معدوماً‪ ،‬فقال‪ :‬ل َيصِحّ بي ُع المعدوم‪،‬‬
‫ى عنه‪ .‬وقد ظنّ بع ُ‬
‫َف ُن ِه َ‬
‫ن َبيْ ِع ال َمعْدُومِ‪ ،‬وهذا الحديثُ ل يُعرف فى‬
‫وروى فى ذلك حديثًا أنه صلى ال عليه وسلم نهى عَ ْ‬
‫ظ مَنْ ظَنّ‬
‫غلِ َ‬
‫شىء مِن كتب الحديث‪ ،‬ول له أصلَ‪ ،‬والظاهر أنه مروى بالمعنى من هذا الحديث‪ ،‬و َ‬
‫ل عنه ل يلزمُ أن‬
‫أن معناهما واحد‪ ،‬وأن هذا المنهى عنه فى حديث حكيم وابن عمرو رضى ا ّ‬
‫حبَلةِ وهو معدوم يتضمن غرراً‬
‫حبَلِ ال َ‬
‫يكون معدوماً‪ ،‬وإن كان‪ ،‬فهو معدوم خاص‪ ،‬فهو كبيع َ‬
‫وتردداً فى حصوله‪.‬‬
‫والمعدوم ثلثةُ أقسام‪ :‬معدوم موصوف فى الذمة‪ ،‬فهذا يجوز بيعُه اتفاقاً‪ ،‬وإن كان‬
‫سلَمُ‪،‬‬
‫أبو حنيفة شرط فى هذا النوع أن يكون وقت العقد فى الوجود من حيثُ الجملة‪ ،‬وهذا هو ال ّ‬
‫وسيأتى ذكره إن شاء الّ تعالى‪.‬‬
‫والثانى‪ :‬معدوم تبع للموجود‪ ،‬وإن كان أكث َر منه وهو نوعانِ‪ :‬نوع متفق‬
‫س على‬
‫عليه ونوع مختلَف فيه‪ ،‬فالمتّفَق عليه بيعُ الثمار بعد بدو صلح ثمرة واحدة منها‪ ،‬فاتفق النا ُ‬
‫جواز بيع ذلك الصنف الذى بدا صلحُ واحدة منه‪ ،‬وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومةً وقتَ‬
‫العقد‪ ،‬ولكن جاز بيعها للموجود‪ ،‬وقد يكون المعدومُ متصلً بالموجود‪ ،‬وقد يكون أعياناً أخر‬
‫منفصلة عن الوجود لم تُخلق بعد‪.‬‬

‫‪473‬‬
‫والنوع المختلف فيه كبيع المقاثىء والمباطخ إذا طابت‪ ،‬فهذا فيه‬
‫قولن‪ ،‬أحدهما‪ :‬أنه يجو ُز بيعُها جملة‪ ،‬ويأخذها المشترى شيئاً بعد شىء‪ ،‬كما جرت به العادة‪،‬‬
‫ح مِن القولين الذى استقر عليه عمل‬
‫ويجرى مجرى بيع الثمرة بعد بُ ُدوّ صلحها‪ ،‬وهذا هو الصحي ُ‬
‫المة‪ ،‬ول غنى لهم عنه‪ ،‬ولم يأتِ بالمنع منه كتابٌ ول سنة ول إجماع‪ ،‬ول أثر ول قياس صحيح‪،‬‬
‫ل المدينة‪ ،‬وأحد القولين فى مذهب أحمد‪ ،‬وهو اختيارُ شيخ السلم ابن تيمية‪.‬‬
‫وهو مذهب مالك وأه ٍ‬
‫والذين قالوا‪ :‬ل يُباع إل لُقْطَ ًة ل ينضبِطُ قولُهم شرعاً ول عُرفًا ويتع ّذرُ العملُ به غالباً‪ ،‬وإن‬
‫أمكن‪ ،‬ففى غاية العسر‪ ،‬ويؤدى إلى التنازع والختلف الشديد‪ ،‬فإن المشترى يُريد أخ َذ الصغار‬
‫والكِبار‪ ،‬ول سيما إذا كان صغاره أطيب من كباره والبائع ل يُؤثر ذلك‪ ،‬وليس فى ذلك عرف‬
‫ب المشترى اللّقطة الظاهرة حتى يحدث فيها لُقطة‬
‫منضبط‪ ،‬وقد تكون المقثأة كثيرةً‪ ،‬فل يستوعِ ُ‬
‫ضرَ لها‬
‫ح ِ‬
‫أخرى‪ ،‬ويختلط المبيع بغيره‪ ،‬ويتع ّذرُ تمييزُه‪ ،‬ويتعذر أو يتعسّر على صاحب المقثأة أن يُ ْ‬
‫كُلّ وقت مَن يشترى ما تجدّد فيها‪ ،‬ويُفرده بعقد‪ ،‬وما كان هكذا‪ ،‬فإن الشريعة‪ ،‬ل تأتى به‪ ،‬فهذا غيرُ‬
‫مقدورٍ ول مشروع‪ ،‬ولو أُلزم الناسُ به‪ ،‬لفسدت أموالُهم وتعطلّت مصالِحُه ْم ثم إنّه يتضمن التفريقَ‬
‫بينَ متماثلين مِن كل الوجوه‪ ،‬فإن بُدو الصّلحِ فى المقاثىء بمنزلة بُد ّو الصلح فى الثمار‪ ،‬وتلحقُ‬
‫خلِقَ فى الصورتين واحدٌ‪ ،‬فالتَفريقُ‬
‫جعْلُ ما لم يُخلق منها تبعاً لما ُ‬
‫أجزائها كتلحُقِ أجزاءِ الثّمارِ‪ ،‬و َ‬
‫بينهما تفريق بين متماثلين‪.‬‬
‫ولما رأى هؤلء ما في بيعها لُقْطَ ًة لُقْطَ ًة مِن الفساد والتع ّذرِ قالوا‪ :‬طريقُ رفع ذلك بأن يبيعَ‬
‫أصلَها معها‪ ،‬ويقال‪ :‬إذا كان بيعُها جملةً مفسدة عندكم‪ ،‬وهو بي ٌع معدوم وغرر‪ ،‬فإن هذا ل يرتفعُ‬
‫ق التي ل قيمة لها‪ ،‬وإن كان لها قيمة‪ ،‬فيسيرة جداً بالنسبة إلى الثمن المبذول‪ ،‬وليس‬
‫ببيع العرو ِ‬
‫للمشتري قص ٌد في العروق‪ ،‬ول يدفع فيها الجمل َة مِن المال‪ ،‬وما الذي حصل ببي ِع العُروق معها مِن‬
‫المصلحة لهما حتى شرط‪ ،‬وإذا لم يكن بيعُ أصول الثمارِ شرطًا في صِحة بي ِع الثمرة المتلحقةِ‬
‫ن بيعُ أصولِ المقاثىء شرطاً في صحة بيعها وهي غيرُ‬
‫كالتينِ والتُوت وهي مقصودة‪ ،‬فكيف يكو ُ‬
‫مقصودة‪ ،‬والمقصو ُد أن هذا المعدومَ يجوزُ بيعُه تبعاً للموجود‪ ،‬ول تأثيرَ للمعدُومِ‪ ،‬وهذا كالمنافع‬
‫المعقودِ عليها في الِجارة‪ ،‬فإنها معدومة‪ ،‬وهي مورد العقدَ‪ ،‬لنها ل يُمكِنُ أن تَحْ ُدثَ دفعةً واحدة‪،‬‬
‫والشَرائعُ مبناها على رعاية مصالح العباد‪ ،‬وعدم الحجر عليهم فيما ل بُ ّد لهم منه‪ ،‬ول تتمّ‬
‫مصالِحُهم في معاشهم إل به‪.‬‬
‫فصل‬

‫‪474‬‬
‫ن المشتري‬
‫الثالث‪ :‬معدوم ل يُدرى يحصُل أو ل يحصُل‪ ،‬ول ثقة لبائعه بحصوله‪ ،‬بل يكو ُ‬
‫غرَراً‪ ،‬فمنه صورةُ النهي‬
‫ع بيعَه ل لِكونه معدوماً‪ ،‬بل لكونه َ‬
‫منه على خطر‪ ،‬فهذا الذي منع الشار ُ‬
‫التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي ال عنهما‪ ،‬فإن البائ َع إذا باعَ ما ليس في‬
‫مُلكه‪ ،‬ول له قُدرة على تسليمه‪ ،‬ليذهب ويحصله‪ ،‬ويسلمه إلى المشتري‪ ،‬كان ذلك شبيهاً بالقمار‬
‫ح َبلَةِ‪-‬‬
‫حبَلِ ال َ‬
‫ف مصلحتُهما عليه‪ ،‬وكذلك بيعُ َ‬
‫والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ‪ ،‬ول تتو ّق ُ‬
‫ص هذا النهي بحمل الحمل‪ ،‬بل لو باعه ما تحمِلُ ناقتُه أو‬
‫وهو بيعُ حمل ما تحمِلُ ناقتُه‪ ،-‬ول يخت ّ‬
‫بقرتُه أو أمتُه‪ ،‬كان مِن بيوع الجاهلية التي يعتادونها‪.‬‬
‫س عنده‪ ،‬وليس هو‬
‫سلَمِ مخصوصٌ مِن النهي عن بيع ما لي َ‬
‫وقد ظنّ طائفة أن بي َع ال ّ‬
‫كما ظنّوه‪ ،‬فإن السلمَ يرد على أمر مضمون في الذمة‪ ،‬ثابتٍ فيها‪ ،‬مقدورٍ على تسليمه عند محله‪،‬‬
‫ول غرر في ذلك‪ ،‬ول خطر‪ ،‬بل هو جعل المال في ذمة المسلّم إليه‪ ،‬يجب عليه أداؤُه عند محله‪،‬‬
‫ل لِذمة المشتري بالثمن المضمون‪ ،‬وهذا شغلٌ‬
‫ل الثمن في ذمة المشتري‪ ،‬فهذا شغ ٌ‬
‫فهو يُشبه تأجي َ‬
‫لذمة البائع بالمبيع المضمون‪ ،‬فهذا لون‪ ،‬وبيعُ ما ليس عنده لونٌ‪ ،‬ورأيتُ لشيخنا في هذا الحديث‬
‫فصلً مفيداً وهذه سياقته‪.‬‬
‫ث أقوالٌ قيل‪ :‬المرادُ بذلك أن يبي َع السّلع َة المعينة‬
‫قال‪ :‬للناس في هذا الحدي ِ‬
‫عنْدَك من‬
‫التي هي مال الغير‪ ،‬فيبيعُها‪ ،‬ثم يتمّلكُها‪ ،‬ويُسلمها إلى المشتري‪ ،‬والمعنى‪ :‬ل تَب ْع ما ليسَ ِ‬
‫العيان‪ ،‬ونقل هذا التفسير عن الشافعي‪ ،‬فإنه يُجوّز السلمَ الحال‪ ،‬وقد ل يكون عند المسلم إليه ما‬
‫ل أو مؤجلً‪.‬‬
‫باعه‪ ،‬فحمله على بيع العيان‪ ،‬ليكون بيع ما في الذمة غَير داخل تحته سواءً كان حا ً‬
‫وقال آخرون‪ :‬هذا ضعيف جداً‪ ،‬فإن حكيم بن حزام ما كان يبغ شيئاً معينًا هو ملك لغيره‪ ،‬ثم‬
‫ينطلِقُ فيشتريه منه‪ ،‬ول كان الذين يأتونه يقولون‪ :‬نطلبُ عبد فلن‪ ،‬ول دارَ فلن‪ ،‬وإنما الذي يفعلُه‬
‫الناسُ أن يأتيَه الطالبُ‪ ،‬فيقولُ‪ :‬أريدُ طعاماً كذا وكذا‪ ،‬أو ثوباً كذا وكذا‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬فيقول‪ :‬نعم‬
‫أعطيك‪ ،‬فيبيعه منه‪ ،‬ثم يذهب‪ ،‬فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده‪ ،‬هذا هو الذي يفعله من يفعلُه‬
‫مِن الناس‪ ،‬ولهذا قال‪(( :‬يأتيني فيطلب مني المبيع ليس عندي)) لم يقل يطلب مني ما هو مملوك‬
‫لغيري‪ ،‬فالطالبُ طلب الجنسَ لم يطُلبْ شيئا معيناً‪ ،‬كما جرت به عادةُ الطالب لما يُؤكل ويُلبس‬
‫ويُركب‪ ،‬إنما يطلب جنس ذلك‪ ،‬ليس له غرض في ملك شخص بعينه دون ما سواه‪ ،‬مما هو مثلُه أو‬
‫خي ٌر منه‪ ،‬ولهذا صار الِمامُ أحمد وطائفةٌ إلى القول الثاني‪ ،‬فقالوا‪ :‬الحديثُ على عمومه يقتضي‬

‫‪475‬‬
‫النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده‪ ،‬وهو يتناول النهي عن السّلم إذا لم يكن عنده‪ ،‬لكن‬
‫سلَمِ الحالَ‪.‬‬
‫سلَمِ المؤجلِ‪ ،‬فبقي هذا في ال َ‬
‫جاءت الحاديثُ بجوا ِز ال ّ‬
‫ث لم يرد به النهي عن السلم المؤجّل‪ ،‬ول‬
‫والقول الثالث ‪ -‬وهو أظهر القوال ‪ :-‬إن الحدي َ‬
‫الحال مطلقاً‪ ،‬وإنما أريد به أن يبيعَ ما في الذمة مما ليس هو مملوكاً له‪ ،‬ول يق ِد ُر على تسليمه‪،‬‬
‫ويربح فيه قبل أن يَملِكه‪ ،‬ويضمنه‪ ،‬ويقدر على تسليمه‪ ،‬فهو نهي عن السلم الحالى إذا لم يكن عند‬
‫المستسِلفِ ما باعه‪ ،‬فليزم ذمته بشيء حالّ‪ ،‬ويربح فيه‪ ،‬وليس هو قادرًا على إعطائه‪ ،‬وإذا ذهب‬
‫يشتريه‪ ،‬فقد يحصُل وقد ل يحصُل‪ ،‬فهو مِن نوع الغرر والمخاطرة‪ ،‬وإذا كان السلم حالّ‪ ،‬وجب‬
‫عليه تسليمُه في الحال‪ ،‬وليس بقاد ٍر على ذلك‪ ،‬ويربح فيه على أن يَملكه ويضمنه‪ ،‬وربما أحاله‬
‫على الذي ابتاع منه‪ ،‬فل يكونُ قد عمل شيئاً‪ ،‬بل أكل المال بالباطل‪ ،‬وعلى هذا فإذا كان السّلم‬
‫ل والمسلم إليه قادرًا على الِعطاء‪ ،‬فهو جائز‪ ،‬وهو كما قال الشافعي إذا جاز المؤجّل‪ ،‬فالحالّ‬
‫الحا ّ‬
‫أولى بالجواز‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق‬
‫ومما يُبين أن هذا مرادُ النب ّ‬
‫في الذمة كما تقدم‪ ،‬لكن إذا لم يجز بيعُ ذلك‪ ،‬فبي ُع المعين الذي لم يملكْه أولى بالمنع‪ ،‬وإذا كان إنما‬
‫سأله عن بيع شيء في الذمة‪ ،‬فإنما سأله عن بيعه حالّ‪ ،‬فإنه قال‪ :‬أبيعُه‪ ،‬ثم أذهب فأبتاعه‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫عنْ َدكَ))‪ ،‬فلو كان السلفُ الحال ل يجوزُ مطلقاً‪ ،‬لقال له ابتداء‪ :‬ل تبع هذا سواء‬
‫((لَ َتبْع ما َليْس ِ‬
‫ب هذا القول يقول‪ :‬بيعُ ما في الذمة حالّ ل يجوز‪ ،‬ولو كان عنده‬
‫كان عنده أو ليس عنده‪ ،‬فإن صاح َ‬
‫ما يُسلمه‪ ،‬بل إذا كان عنده‪ ،‬فإنه ل يبيع إل معيناً ل يبيع شيئاً في الذمة‪ ،‬فلما لم ينه النبيُ صلى ال‬
‫ل تَبعْ ما ليس عندك))‪ ،‬علم أنه صلى ال عليه وسلم فرّق‬
‫عليه وسلم عن ذلك مطلقاً‪ ،‬بل قال‪َ (( :‬‬
‫بين ما هو عنده ويملِكه ويقدِر على تسليمه‪ ،‬وما ليس كذلك‪ ،‬وإن كان كلهما في الذمة‪.‬‬
‫ث هو الصوابُ‪ ،‬فإن قيل‪ :‬إن بي َع المؤجّل جائزٌ‬
‫ومن تدبّر هذا تبيّن له أن القولَ الثال َ‬
‫للضرورة وهو بيعُ المفاليس‪ ،‬لن البائع احتاج أن يبي َع إلى أجل‪ ،‬وليس عنده ما يبيعه الن‪ ،‬فأما‬
‫الحال‪ ،‬فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه‪ ،‬فل حاجة إلى بيع موصوف في الذمة‪ ،‬أو بيع عين غائبة‬
‫ل المبيع كتأجيل‬
‫موصوفة ل يبيع شيئاً مطلقاً؟‪ .‬قيل‪ :‬ل نسلم أن السّلمَ على خلف الصل‪ ،‬بل تأجي ُ‬
‫الثمن‪ ،‬كلهما مِن مصالح العالم‪.‬‬
‫والناسُ لهم في مبيع الغائب ثلث ُة أقوال‪ :‬منهم من يُجوّزه مطلقاً‪ ،‬ول يجوزه معيناً‬
‫موصوفاً كالشافعي في المشهور عنه‪ ،‬ومنهم من يجوّزه معيناً موصوفاً‪ ،‬ول يجوزه مطلقاً كأحمد‬

‫‪476‬‬
‫وأبي حنيفة‪ ،‬والظهرُ جوازُ هذا وهذا‪ ،‬ويقال لِلشافِعي مثل ما قال هو لغيره‪ :‬إذا جاز بي ُع المطلق‬
‫ن الموصوفُ أولى بالجواز‪ ،‬فإن المطلق فيه مِن الغرر والخطر‬
‫الموصوف في الذمة‪ ،‬فالمعي ُ‬
‫والجهل أكثرُ مما في المعيّن‪ ،‬فإذا جاز بيعُ حنطة مطلقة بالصفة‪ ،‬فجوازُ بيعها معينة بالصفة أولى‪،‬‬
‫بل لو جَا َز بيع المعين بالصفة‪ ،‬فللمشتري الخيار إذا رآه‪ ،‬جاز أيضاً‪ ،‬كما نقل عن الصحابة‪ ،‬وهو‬
‫سلَمَ‬
‫مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين‪ ،‬وقد جوز القاضي وغيره من أصحاب أحمد ال ّ‬
‫الحال بلفظ البيع‪.‬‬
‫ظ ولفظٍ‪ ،‬فالعتبا ُر في العقود بحقائقها ومقاصدها‬
‫والتحقيقُ‪ :‬أنه ل فرقَ بينَ لف ٍ‬
‫س بيعِ العيان الحاضرة التي يتأخر قبضُها يُسمى سلفًا إذا عجل له الثمن‪،‬‬
‫ل بمجرد ألفاظها‪ ،‬ونف ُ‬
‫ل أَنْ َيكُونَ‬
‫ط ِب َعيْنهِ إ ّ‬
‫سلِمَ في الحَائِ ِ‬
‫كما في ((المسند)) عن النبي صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أنّه َنهَى أن يُ ْ‬
‫قَ ْد بَدَا صَلَحُهُ))‪ ،‬فإذا بَدَا صَلحُهُ‪ ،‬وقال‪ :‬أسلمت إليك في عشرة أوسق مِن تمر هذا الحائط‪ ،‬جاز‬
‫كما يجوز أن يقول‪ :‬ابتعت عشرة أوسق مِن هذه الصّبرة‪ ،‬ولكن الثمن يتأخَر قبضُه إلى كمال‬
‫صلحه‪ ،‬فإذا عجّل له الثمن قيل له‪ :‬سلف‪ ،‬لن السلفَ هو الذي تقدم‪ ،‬والسالف المتقدم قال الثه‬
‫سلَفًا ومَثلً لِلخِرين} [الزخرف‪ ]56 :‬والعرب تُسمي أوَل الرواحل السالفة‪،‬‬
‫تعالى‪َ { :‬فجَع ْلنَاهُمْ َ‬
‫ظعُونٍ))‪ .‬وقول الصديق‬
‫سلَ ِفنَا الصَالِحِ عُثمَان بن مَ ْ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ألحق بِ َ‬
‫ل النب ّ‬
‫ومنه قو ُ‬
‫رضي ال عنه‪ :‬لقاتلنّهم حتى تنفرِ َد سالفتي‪ .‬وهي العنق‪.‬‬
‫ولفظ السلف يتناولُ القرضَ والسلم‪ ،‬لن المقرض أيضًا أسلف القرض‪ ،‬أي‪ :‬قدمه‪ ،‬ومنه‬
‫سَلفَ‬
‫ستَ ْ‬
‫ث الخر‪(( :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم ا ْ‬
‫ف و َبيْعٌ)) ومنه الحَدي ُ‬
‫سَل ٌ‬
‫ل يَحِلّ َ‬
‫هذا الحديث (( َ‬
‫س َتِلفُ‬
‫ل َربَاعِياً)) والذي يبيعُ ما ليس عنده ل يقصِ ُد إل الربح‪ ،‬وهو تاجر‪َ ،‬فيَ ْ‬
‫جمَ ً‬
‫َبكْراً‪ ،‬و َقضَى َ‬
‫بسعر‪ ،‬ثم يذهب فيشتري بمثل ذلك الثمن‪ ،‬فإنه يكون قد أتعبَ نفسه لغيره بل فائدة‪ ،‬وإنما يفعل هذا‬
‫من يتوكل لغيره فيقول‪ :‬أعطني‪ ،‬فأنا أشتري لك فذه السلعة‪ ،‬فيكون أميناً‪ ،‬أما أنه يبيعها بثمنٍ معين‬
‫يقبضه‪ ،‬ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك الثمن مِن غير فائدة في الحال‪ ،‬فهدا ل يفعلُه عاقل‪ ،‬نعم إذا‬
‫سلِفُ ُه وينتف ُع به مدة إلى أن يحصل تلك السلعة‪،‬‬
‫ستَ ْ‬
‫كان هناك تاجرٌ‪ ،‬فقد يكون محتاجًا إلى الثمن‪َ ،‬فيَ ْ‬
‫فهذا يقع في السلم المؤجّل‪ ،‬وهو الذي يسمى بيعَ المفاليس‪ ،‬فإنه يكون محتاجًا إلى الثمن وهو‬
‫ل أو غيره‪ ،‬فيبيعه في الذمة‪ ،‬فهذا‬
‫مفلس‪ ،‬وليس عنده في الحال ما يبيعُه‪ ،‬ولكن له ما ينتظره مِن َمغَ ّ‬
‫جرَ بالثمن في الحال‪ ،‬أو يرى أنه يحصل به‬
‫يفعل مع الحاجة‪ ،‬ول يُفعل بدونها إل أن يقصد أن يتّ ِ‬
‫مِن الربح أكثر مما يفوتُ بالسلم‪ ،‬فإن المستسلف يبيعُ السلعة في الحال بدون ما تساوي نقداً‪،‬‬

‫‪477‬‬
‫والمسلف يرى أن يشتريَها إلى أجل بأرخصَ مما يكون عند حصولها‪ ،‬وإل فلو علم أنها عند طرد‬
‫الصل تُباع بمثل رأس مال السلم لم يُسلم فيها‪ ،‬فيذهب نفعُ ماله بل فائدة‪ ،‬وإذا قصد الجر‪ ،‬أقرضه‬
‫سلَمًا إل إذا ظنّ أنه في الحال أرخصُ منه وقتَ حلول الجل‪ ،‬فالسلمُ‬
‫ذلك قرضاً‪ ،‬ول يجعل ذلك َ‬
‫المؤجّل في الغالب ل يكون إل مع حاجة المستسلِف إلى الثمن‪ ،‬وأما الحال‪ ،‬فإن كان عنده‪ ،‬فقد‬
‫يكونُ محتاجًا إلى الثمن‪ ،‬فيبيعُ ما عنده معيناً تارة‪ ،‬وموصوفًا أخرى‪ ،‬وأما إذا لم يكن عنده‪ ،‬فإنه ل‬
‫يفعلُه إل إذا قصد التجارة والربحَ‪ ،‬فيبيعه بسعر‪ ،‬ويشتريه بأرخص منه‪.‬‬
‫ثم هذا الذي قدّره قد يحصُل كما قدره‪ ،‬وقد ل يحصُل له تلك السلعة التي يُسلف فيها إل‬
‫ص مِن ذلك‪ ،‬قدم السلف إذ كان يُمكنه أن‬
‫بثمن أغنى مما أسلف فيندم‪ ،‬وإن حصلت بسعر أرخ َ‬
‫يشت ِريَه هو بذلك الثمن‪ ،‬فصار هذا مِن نوع الميسر والقمار والمخاطرة‪ ،‬كبيع العبد البق‪ ،‬والبعير‬
‫حبَلِ‬
‫الشارد يُباع بدون ثمنه‪ ،‬فإن حصل‪ ،‬نَدِم البائع‪ ،‬وإن لم يحصل‪ ،‬نَدِمَ المشتري‪ ،‬وكذلك بيعُ َ‬
‫ح َبلَةِ‪ ،‬وبيعُ الملقِيحِ والمضامينِ‪ ،‬ونحو ذلك مما قد يحصُل‪ ،‬وقد ل يحصل‪ ،‬فبائعُ ما ليس عنده‬
‫ال َ‬
‫من جنس بائع الغرر الذي قد يحصل‪ ،‬وقد ل يحصل وهو من جنس القمار والميسر‪ .‬والمخاطرة‬
‫مخاطرتان‪ :‬مخاطرة التجارة وهو أن يشتريَ السلعة بقصد أن يبيعَها ويربحَ ويتوكّل على الّ في‬
‫ذلك‪ ،‬والخطر الثاني‪ :‬الميسر الذي يتضمن أكلَ المال بالباطل‪ ،‬فهذا الذي حرّمه الّ تعالى ورسوله‬
‫ح َبلَة والملقيح والمضامين‪ ،‬وبيع الثمار قبل بُدو صلحها‪،‬‬
‫حبَلِ ال َ‬
‫مثل بيعِ الملمسة والمنابذة‪ ،‬و َ‬
‫ومن هذا النوع يكونُ أحدهما قد َق َمرَ الخرَ‪ ،‬وظلمه‪ ،‬ويتظلم أحدُهما مِن الخر بخلف التاجر الذي‬
‫قد اشترى السلعة‪ ،‬ثم بعد هذا نقص سعرُها‪ ،‬فهذا من الّ سبحانه ليس لحد فيه حِيلة‪ ،‬ول يتظلّم مثلُ‬
‫هذا مِن البائع‪ ،‬وبيعُ ما ليس عنده مِن قسم القمار والميسر‪ ،‬لنه قصد أن يربح على هذا لما باعه ما‬
‫عِلمُوا ذلك لم يشتروا‬
‫ليس عنده‪ ،‬والمشتري ل يعلم أنه يبيعه‪ ،‬ثم يشتري مِن غيره‪ ،‬وأكثرُ الناس لو َ‬
‫منه‪ ،‬بل يذهبون ويشترون مِن حيث اشترى هو‪ ،‬وليست هذه المخاطرة مخاطرة التجار بل‬
‫مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم‪ ،‬فإذا اشترى التاجر السلعة‪ ،‬وصارت عنده ملكاً‬
‫ل تَأ ُكلُوا َأ ْموَاَلكُم‬
‫ل بقوله‪َ { :‬‬
‫وقبضاً‪ ،‬فحينئذ دخل في خطر التجارة‪ ،‬وباع بيع التجارة كما أحله ا ّ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫ض مِنكُم} [النساء‪ ،]29 :‬وا ّ‬
‫ن َترَا ٍ‬
‫ن تكُونَ ِتجَا َرةً عَ ْ‬
‫ل أَ ْ‬
‫َبيْنكُم بِالبَاطِلِ إ ّ‬
‫حصَا ِة والغَ َر ِر والمُلمسة والمنَابَ َذةِ‬
‫ذكر حُكمِ رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم في بيع ال َ‬
‫ل صلى ال عليه‬
‫ل عنه قال‪(( :‬نهى رسولُ ا ّ‬
‫في ((صحيح مسلم)) عن أبي هريرة رضي ا ّ‬
‫ن َبيْ ِع ال َغ َررِ))‪.‬‬
‫حصَاةِ وعَ ْ‬
‫ن َبيْعِ ال َ‬
‫وسلم عَ ْ‬

‫‪478‬‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم نهى عن المُلمَسَةِ‬
‫وفي ((الصحيحين)) عنه‪(( :‬أن رسو َ‬
‫حبِه ِب َغ ْي ِر تَأمُلٍ‪ ،‬وال ُمنَابَ َذةُ‪ :‬أَن‬
‫ب صَا ِ‬
‫ل ِم ْن ُهمَا َث ْو َ‬
‫س كُ ّ‬
‫لمَسَةُ‪ :‬فأنَ َي ْل ِم َ‬
‫والمنَابَ َذةِ)) زاد مسلم‪(( :‬أمّا المُ َ‬
‫خرِ))‪ .‬وفي‬
‫ظرْ وَاحِ ٌد م ْن ُهمَا إلى َثوْب صَاحبه ال َ‬
‫خرِ‪ ،‬ولَ ْم َينْ ُ‬
‫ل وَاحِ ٍد ِم ْن ُهمَا َث ْوبَه إلى ال َ‬
‫يَنبِذَ كُ ّ‬
‫ستَينِ‪:‬‬
‫ن َب ْي َع َتيْنِ وُلبْ َ‬
‫ل ال صلى ال عليه وسلم عَ ْ‬
‫((الصحيحين)) عن أبي سعيد قال‪(( :‬نهى رسو ُ‬
‫لمَسَةُ‪ :‬لمسُ الرجلِ ثوبَ الخر بيده بالليلِ أو بالنهارِ‬
‫لمَسَ ِة وال ُمنَابَ َذ ِة في البَيعِ‪ .‬والمُ َ‬
‫ن المُ َ‬
‫َنهَى عَ ِ‬
‫ل إلى الرجل ثوبَه‪ ،‬وينبذ الخر ثوبَه‪ ،‬ويكون ذلك بيعَهما‬
‫ول ي ْقِلبُه إل بذلك‪ ،‬والمنابذة‪ :‬أن َي ْنبِذَ الرج ُ‬
‫مِن غير نظر ول تراض))‪.‬‬
‫أما بيعُ الحصاةِ‪ ،‬فهو من باب إضافة المصدر إلى نوعه‪ ،‬كبيع الخيار‪ ،‬وبيع النسيئة‬
‫ونحوهما‪ ،‬وليس مِن باب إضافة المصدر إلى مفعوله‪ ،‬كبيع الميتة والدم‪.‬‬
‫س َر بيعُ الحصاة بأن يقول‪ :‬ارمِ هذه‬
‫ع المنهى عنها ترج ُع إلى هذين القِسمين‪ ،‬ولهذا فُ ّ‬
‫والبيو ُ‬
‫ي ثوبِ وقعت‪ ،‬فهو لك بِدرهم‪ ،‬وفسر بأن بيعَه مِن أرضه قد َر ما انتهت إليه رميةُ‬
‫الحصاةَ‪ ،‬فعلى أ ّ‬
‫سرَ بأن يقبض على كف من حصا‪ ،‬ويقول‪ :‬لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء‬
‫الحصاة‪ ،‬وفُ ّ‬
‫سرَ بأن‬
‫المبيع‪ ،‬أو يبيعه سلعة‪ ،‬ويَ ْقبِض على كف مِن الحصا‪ ،‬ويقول‪ :‬لي بكُلّ حصاة درهم‪ ،‬وفُ ّ‬
‫سرَ بأن يتبايعا‪،‬‬
‫يمسك أحدهما حصاة في يده‪ ،‬ويقول‪ :‬أي وقت سقطت الحصاة‪ ،‬وجب البيعُ‪ ،‬وفُ ّ‬
‫ض القطيع مِن الغنم‪ ،‬فيأخذ‬
‫سرَ بأن يعترِ َ‬
‫ويقول أحدهما‪ :‬إذا نبذت إليك الحصاة‪ ،‬فقد وجب البيعُ‪ ،‬وفُ ّ‬
‫ي شاة أصبتها‪ ،‬فهي لك بكذا‪ ،‬وهذه الصو ُر كلُها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال‬
‫حصاة‪ ،‬ويقول‪ :‬أ ّ‬
‫بالباطل‪ ،‬ومِن ال َغ َررِ والخطر الذي هو شبيه بالقمار‪.‬‬
‫فصل‬
‫(يتبع‪)...‬‬
‫وأما بي ُع ال َغ َررِ‪ ،‬فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملقيح والمضامين وال َغ َررُ‪ :‬هو‬ ‫@‬
‫المَبيع نفسه‪ ،‬وهو فعل بمعنى مفعول‪ ،‬أي‪ :‬مغرور به كالقبض والسلب بمعنى المقبوض‬
‫والمسلوب‪ ،‬وهذا كبيع العبد البق الذي ل يقدر على تسليمه‪ ،‬والفرس الشارد‪ ،‬والطير في الهواء‪،‬‬
‫وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته‪ ،‬أو ما يرضى له به زيد‪ ،‬أو يهبه له‪ ،‬أو يورثه‬
‫إياه ونحو ذلك مما ل يعلم حصولُه أو ل يقدر على تسليمه‪ ،‬أو ل يُعرف حقيقته ومقداره‪ ،‬ومنه بيعُ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم نهى عنه‪ ،‬وهو نتاج النتاج‬
‫ح َبلَةِ‪ ،‬كما ثبت في ((الصحيحين)) أن النب ّ‬
‫حبَلِ ال َ‬
‫َ‬
‫في أحد القوال‪ ،‬والثاني‪ :‬أنه أجل‪ ،‬فكانوا يتبايعون إليه هكذا رواه مسلم‪ ،‬وكِلهما غرر‪ ،‬والثالث‪:‬‬

‫‪479‬‬
‫أنه بيعُ حمل الكرم قبل أن يبلغ‪ ،‬قاله المبرد‪ .‬قال‪ :‬والحبْلة‪ :‬الكرم بسكون الباء وفتحها‪ ،‬وأما ابنُ‬
‫عمر رضي ال عنه‪ ،‬فإنه فسره بأنه أجلٌ كانوا يتبايعون إليه‪ ،‬وإليه ذهب مالك والشافعي‪ ،‬وأما أبو‬
‫عبيدة‪ ،‬ففسره ببيع نتاج النتاج‪ ،‬وإليه ذهب أحمد‪ ،‬ومنه بي ُع الملقيح والمضامين‪ ،‬كما ثبت في‬
‫ي صلى ال عليه وسلم نهى عَن‬
‫حديث سعيد بن المسيّب‪ ،‬عن أبي هريرة رضي ال عنه أن النب ّ‬
‫ن والملقيح‪ .‬قال أبو عُبيد‪ :‬الملقيح ما في البطون من الجنّةِ‪ ،‬والمضامين‪ :‬ما في أَصلب‬
‫المضامي ِ‬
‫الفحول‪ ،‬وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة‪ ،‬وما يضربه الفحل في عام أو أعوام وأنشد‪:‬‬
‫ظهُورِالحُ ْدبِ‬
‫مَا ُء الفُحُولِ في ال ّ‬ ‫ب‬
‫إنّ ال َمضَامِينَ الّتي في الصّ ْل ِ‬
‫عنْه‪ .‬قال ابن العرابي‪ :‬المجر ما في‬
‫جرِ‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم َنهَى َ‬
‫ومِنه بي ُع المَ ْ‬
‫بطن الناقة‪ ،‬والمجر‪ :‬الربا‪ ،‬والمجر‪ :‬القِمار‪ ،‬والمجر‪ :‬المحاقلَة والمزابنة‪.‬‬
‫ومنه بي ُع الملمسة والمنابذة وقد جاء تفسيرُهما في نفس الحديث‪ ،‬ففي ((صحيح‬
‫لمَسَةُ فَأَنْ‬
‫لمَسَ ِة وَال ُمنَابَ َذةِ‪َ ،‬أمَا المُ َ‬
‫ل عنه َنهَى عَنْ َب ْي َع َتيْنِ‪ :‬المُ َ‬
‫مسلم)) عن أبي هُريرة رضي ا ّ‬
‫ل وَاحِ ٍد ِم ْنهُما ثَوبَ صاحبه بغير تأمل والمنابذة‪ :‬أن ينبِذ كُلّ واحد منهما ثوبَه إلى الخر‪،‬‬
‫س كُ ّ‬
‫ي ْلمِ َ‬
‫ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه‪ ،‬هذا لفظ مسلم‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عن بيعيين‬
‫وفي ((الصحيحين)) عن أبي سعيد قال‪ :‬نهانا رسولُ ا ِ‬
‫س الرجل ثوبَ الخر بيده بالليل أو بالنهار‪ ،‬ول يَ ْقِلبُهُ إل بذلك‪،‬‬
‫ولبستين في البيع‪ ،‬والملمسة‪ :‬لم ُ‬
‫والمُنابذة‪ :‬أن يَنبذ الرجل إلى الرجل ثوبَه‪ ،‬وينبِذَ الخر إليه ثوبه‪ ،‬ويكون ذلك بيعَهما مِن غير نظر‬
‫ول تراض‪.‬‬
‫س َرتِ الملمسةُ بأن يقول‪ :‬بعتُك ثوبي هذا على أنك متى لمسته‪ ،‬فهو عليك بكذا‪ ،‬والمنابذة‬
‫وفُ ّ‬
‫بأن يقول‪ :‬أي ثوب نبذته إلي‪ ،‬فهو علي بكذا‪ ،‬وهذا أيضًا نوع من الملمسة والمنابذة‪ ،‬وهو ظاهر‬
‫ق البيعِ شرط‪ ،‬بل ما تضمنه مِن‬
‫حمَهُ ال‪ ،‬والغرر في ذلك ظاهر‪ ،‬وليس العلة تعلي َ‬
‫كلم أحمد َر ِ‬
‫الخطر والغرر‪.‬‬
‫فصل‬
‫ج َزرِ والفِجل والقَلقَاس والبَصل‬
‫ت وال َ‬
‫وليس مِن بيع ال َغ َر ِر بيع المغ ّيبَات في الرض كاللف ِ‬
‫ونحوها‪ ،‬فإنها معلومة بالعادة َي ْعرِفُها أهل الخبرة بها‪ ،‬وظاهرُها عنوانُ باطنها‪ ،‬فهو كظاهر‬
‫ص ْب َر ِة مع باطنها‪ ،‬ولو قُ ّدرَ أن في ذلك غرراً‪ ،‬فهو غرر يسير يُغتفر في جنب المصلحة العامة‬
‫ال ّ‬
‫التي ل بد للناس منها‪ ،‬فإن ذلك غرر ل يكون موجبًا للمنع‪ ،‬فإن إجارة الحيوان والدار والحانوت‬

‫‪480‬‬
‫ت الحيوان‪ ،‬وانهدام الدار‪ ،‬وكذا دخولُ الحمام‪ ،‬وكذا‬
‫مساناة ل تخلُو عن غرر‪ ،‬لنه يعرض فيه مو ُ‬
‫ع السّلم‪ ،‬وكذا بيع‬
‫الشربُ من فم السقاء‪ ،‬فإنه غيرَ مقدر مع اختلف الناس في قدره‪ ،‬وكذا بيو ُ‬
‫ض وال ّرمّان والبطيخ والجوز واللوز والفستق‪،‬‬
‫صبْر ِة العظيمة التي ل يُعلم مكيلُها‪ ،‬وكذا بيعُ البي ِ‬
‫ال ُ‬
‫وأمثال ذلك مما ل يخلو مِن الغرر‪ ،‬فليس كُلُ غرر سببًا للتحريم‪ ،‬والغر ُر إذا كان يسيرًا أو ل يُمكن‬
‫الحترازُ منه‪ ،‬لم يكن مانعًا مِن صحة العقد‪ ،‬فإن الغررَ الحاصِل في أساسات الجدران‪ ،‬وداخل‬
‫بطون الحيوان‪ ،‬أو آخر الثمار التي بدا صلحُ بعضِها دونَ بعض ل يُمكن الحترا ُز منه‪ ،‬والغررُ‬
‫ن البيع‬
‫الذي في دخولِ الحمام‪ ،‬والشرب من السّقاء ونحوه غرر يسير‪ ،‬فهذان النوعان ل يمنعا ِ‬
‫بخلف الغرر الكثير الذي يمكن الحترا ُز منه‪ ،‬وهو المذكور في النواع التي نهى عنها رسول الّ‬
‫ق بينها وبينَه‪ ،‬فهذا هو المان ُع مِن صحة العقد‪.‬‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وما كان مساوياً لها ل فر َ‬
‫ع ِرفَ هذا‪ ،‬فبيعُ المغيبات في الرض‪ ،‬انتفى عنه المرانِ‪ ،‬فإن غررَه يسير‪ ،‬ول يُمكن‬
‫فإذا ُ‬
‫الحترازُ منه‪ ،‬فإن الحقول الكِبار ل يُمكن بيعُ ما فيها مِن ذلك إل وهو في الرض‪ ،‬فلو شرط لبيعه‬
‫إخراجَه دفعة واحدة كان في ذلك من المشقة‪ ،‬وفساد الموال ما ل يأتي به شرع‪ ،‬وإن منع بيعه إل‬
‫شيئاً فشيئاً كلما أخرجَ شيئاً باعه‪ ،‬ففي ذلك مِن الحرج والمشقة‪ ،‬وتعطيلِ مصالح أربابِ تلك‬
‫الموالِ‪ ،‬ومصالح المشتري ما ل يخفى‪ ،‬وذّلك مما ل يُوجبه الشارعُ‪ ،‬ول تقو ُم مصالحُ الناس بذلك‬
‫ج كذلك‪ ،‬أو كان ناظرًا عليه‪،‬‬
‫خرَا ٌ‬
‫البتة حتى إن الذين يمنعون مِن بيعها في الرض إذا كان لحدهم َ‬
‫لم يجد بُداً مِن بيعه في الرض اضطرارًا إلى ذلك‪ ،‬وبالجملة‪ ،‬فليس هذا مِن الغرر الذي نهى عنه‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول نظير لما نهى عنه من البيوع‪.‬‬
‫رسولُ ا ّ‬
‫فصل‬
‫وليس منه بي ُع المسك في فأرته‪ ،‬بل هو نظيرُ ما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز والفُستق‬
‫وجوز الهند‪ ،‬فإن فأرته وعاء له تصونُه مِن الفات‪ ،‬وتحفظ عليه رطوبته ورائحتَه‪ ،‬وبقاؤه فيها‬
‫أقربُ إلى صيانته مِن الغش والتغير‪ ،‬والمسك الذي في الفأرة عند الناس خير من المنفوض‪،‬‬
‫وجرت عادة التجار بيعه وشرائه فيها‪ ،‬ويعرفون قدره وجنسه معرفة ل تكاد تختلِف‪ ،‬فليس مِن‬
‫الغرر في شيء‪ ،‬فإن الغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات‪ ،‬وعلى القاعدة الخرى‪ :‬هو ما‬
‫ت عينُه‪ ،‬وأما هذا ونحوه‪ ،‬فل يُسمى غررًا ل لغةً ول شرعًا ول عُرفاً‪ ،‬ومن‬
‫ج ِهَل ْ‬
‫ط ِو َيتْ معرفتُه‪ ،‬و ُ‬
‫ُ‬
‫غ ّررَ‪ ،‬طُولِب بدخوله في مسمى الغرر لغة وشرعاً‪ ،‬وجوازُ بيع المسك‬
‫حرّ َم بيعَ شيء‪ ،‬وادعى أنه ُ‬
‫َ‬
‫ح دليلً‪ ،‬والذين منعوه جعلوه مثل بيع النوى‬
‫في الفأرة أحد الوجهين لصحاب الشافعي‪ ،‬وهو الراج ُ‬

‫‪481‬‬
‫في التمر‪ ،‬والبيض في الدجاج‪ ،‬واللبن في الضرع‪ ،‬والسمن في الوعاء‪ ،‬والفرقُ بين النوعين‬
‫ظاهر‪.‬‬
‫ل بيع قلب الجوز واللوز والفستق في صِوانه‪ ،‬لنه من مصلحته‪،‬‬
‫ومنازعوهم يجعلونه مث َ‬
‫ول ريبَ أنه أشبهُ بهذا منه بالول‪ ،‬فل هو مما نهى عنه الشارعُ‪ ،‬ول في معناه‪ ،‬فلم يش َملْ ُه نهيُه‬
‫لفظًا ول معنى‪.‬‬
‫وأما بيعُ السمن في الوعاء‪ ،‬ففميه تفصيل‪ ،‬فإنه إن فتحه‪ ،‬ورأى رأسه بحيث ي ُدلُه‬
‫على جنسه ووصفه‪ ،‬جاز بيعُه في السّقاء‪ ،‬لكنه يصي ُر كبيع الصّبرة التي شاهد ظاهرها وإن لم‬
‫يره‪ ،‬ولم يُوصف له‪ ،‬لم يجز بيعُه‪ ،‬لنه غرر‪ ،‬فإنه يختِلفُ جنساً ونوعًا ووصفاً‪ ،‬وليس مخلوقاً في‬
‫ض والجوز واللوز والمسك في أوعيتها‪ ،‬فل يصح إلحاقُه بها‪.‬‬
‫وعائه كالبي ِ‬
‫وأما بيعُ اللبن في الضرع‪ ،‬فمنعه أصحابُ أحمد والشافعي وأبي حنيفة والذي‬
‫يجب فيه التفصيلُ‪ ،‬فإن باع الموجودَ المشاهدَ في الضرع‪ ،‬فهذا ل يجوز مفرداً‪ ،‬ويجوز تبعاً‬
‫للحيوان‪ ،‬لنه إذا بيعَ مفرداً تعذر تسليمُ المبيع بعينه‪ ،‬لنه ل يُعرف مقدارُ ما وقع عليه البيع‪ ،‬فإنه‬
‫وإن كان مشاهدًا كاللبن في الظرف‪ ،‬لكنه إذا حلبه خلفه مثله مما لم يكن في الضرع‪ ،‬فاختلط المبيعُ‬
‫جمِهِ)) من حديث ابن‬
‫ث الذي رواه الطّبرانِي في ((مُعْ َ‬
‫بغيره على وجه ل يتميز‪ ،‬وإن صح الحدي ُ‬
‫ضرْعٍ))‬
‫ن في َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪(( :‬نهى أن يُباع صوفٌ على ظهر‪ ،‬أو َلبَ ٌ‬
‫عباس أن رسول ا ّ‬
‫فهذا إن شاء الّ محمله‪ ،‬وأما إن باعه آصعًا معلومة من اللبن يأخذه مِن هذه الشاة‪ ،‬أو باعه لبنَها‬
‫أيامًا معلومة‪ ،‬فهذا بمنزلة بيع الثمار قبل بُ ُدوّ صلحها ل يجوزُ‪ ،‬وأما إن باعه لبناً مطلقًا موصوفاً‬
‫في الذمة‪ ،‬واشترط كونه مِن هذه الشاة أو البقرة‪ ،‬فقال شيخنا‪ :‬هذا جائز‪ ،‬واحتج بما في ((المسند))‬
‫من أن النبي صلى ال عليه وسلم نهى أن يُسلم في حائط بعينه إل أن يكون قد بدا صلحُه‪ .‬قال فإذا‬
‫ت إليك في عشرة أوسق مِن تمرِ هذا الحائط‪ ،‬جاز كما يجوز أن يقول‪:‬‬
‫بدا صلحه‪ ،‬وقال‪ :‬أسلم ُ‬
‫ابتعتُ منك عشرَة أوسق مِن هذه الصّبرة‪ ،‬ولكن الثمن يتأخر قبضُه إلى كمال صلحه‪ ،‬هذا لفظه‪.‬‬
‫فصل‬
‫ج ّوزُه‬
‫وأما إن أجره الشا َة أو البقرة أو النَاقة مدةً معلومة لخذ لبنها في تلك المدة‪ ،‬فهذا ل يُ َ‬
‫ل لبعض أهل العلم‪ ،‬وله فيها مص ّنفٌ مفرد‪ ،‬قال‪ :‬إذا‬
‫الجمهورُ؟ واختار شيخُنا جوازه‪ ،‬وحكاه قو ً‬
‫استأجر غنمًا أو بقراً‪ ،‬أو نوقاً أيا َم اللبن بأجرة مسماة‪ ،‬وعلفُها على المالِك‪ ،‬أو بأجرة مسماة مع‬
‫علفها على أن يأخُ َذ اللبن‪ ،‬جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظّئر قال‪ :‬وهذا يُشبه البيع‪،‬‬

‫‪482‬‬
‫ويُشبه الِجارة‪ ،‬ولهذا يذكرُه بعضُ الفقهاء في البيع‪ ،‬وبعضُهم في الِجارة‪ ،‬لكن إذا كان اللبن‬
‫يحصُل بعلف المستأجر وقيامه على الغنم‪ ،‬فإنه يشبه استئجار الشجر‪ ،‬وإن كان المالك هو الذي‬
‫يَعلِفُها‪ ،‬وإنما يأخ ُذ المشتري لبنًا مقدراً‪ ،‬ففذا بيعٌ محضٌ‪ ،‬وإن كان يأخذ اللبن مطلقاً‪ ،‬فهو بي ٌع أيضاً‪،‬‬
‫فإن صاحب اللبن يُوفيه اللبن بخلف الظئر‪ ،‬فإنما هي تسقي الطفل‪ ،‬وليس فذا داخلً فيما نهى عنه‬
‫صلى ال عليه وسلم مِن بيع ال َغ َررِ‪ ،‬لن الغرر تردّ ٌد بين الوجود والعدم‪ ،‬فنهى عن بيعه‪ ،‬لنه مِن‬
‫جنس القمار الذي هو الميسر‪ ،‬وال حرم ذلك لما فيه مِن أكل المال بالباطل‪ ،‬وذلك مِن الظلم الذي‬
‫حرمه الّ تعالى‪ ،‬وهذا إنما يكون قمارًا إذا كان أح ُد المتعاوضين يحصلُ له مال‪ ،‬والخر قد يحصُل‬
‫ح َبلَةِ‪،‬‬
‫حبَلِ ال َ‬
‫له وقد ل يحصل‪ ،‬فهذا الذي ل يجوزُ كما في بيع العبد البق‪ ،‬والبعير الشارد‪ ،‬وبيع َ‬
‫فإن البائع يأخذُ مال المشتري‪ ،‬والمشتري قد يحصل لَهُ شَيء‪ ،‬وقد ل يَحصُل‪ ،‬ول يعرف قدر‬
‫الحاصل‪ ،‬فأما إذا كان شيئاً معروفاً بالعادة كمنافع العيان بالِجارة مثل منفعة الرض والدابة‪،‬‬
‫ومثلِ لبن الظئر المعتاد‪ ،‬ولبنِ البهائم المعتاد‪ ،‬ومثلِ الثمر والزرع المعتاد‪ ،‬فهذا ُكلّهُ من باب واحد‬
‫وهو جائز‪.‬‬
‫ثم إن حصل على الوجه المعتاد‪ ،‬وإل حطّ عن المستأجر بقدر ما فات مِن المنفعة‬
‫ض المبيع قبل التمكن مِن القبض‬
‫ل وضع الجائحة في البيع‪ ،‬ومثلُ ما إذا تلف بع ُ‬
‫المقصودة‪ ،‬وهو مث ُ‬
‫في سائر البيوع‪.‬‬
‫فإن قيل‪َ :‬م ْورِدُ عقد الِجارة إنما هو المنافع‪ ،‬ل العيان‪ ،‬ولفذا ل َيصِحُ استئجارُ‬
‫الطعامِ ليأكله‪ ،‬والماء ليشربه‪ ،‬وأما إجارة الظئر‪ ،‬فعلى المنفعة وهي وضع الطفل في حَجرها‪،‬‬
‫وإلقامُه ثديها‪ ،‬واللبنُ يدخل ضمناً وتبعاً‪ ،‬فهو كنقع البئر في إجارة الدار‪ ،‬ويغتفر فيما دخل ضمناً‬
‫وتبعاً ما ل يُغتفر في الصول والمتبوعات‪.‬‬
‫قيل‪ :‬الجواب عن هذا من وجوه‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬منع كون عقد الِجارة ل َيرِدُ إل على منفعة‪ ،‬فإن هذا ليس‬
‫ثابتاً بالكتاب ول بالسنة ول بالِجماع‪ ،‬بل الثابتُ عن الصحابة خلفه‪ ،‬كما صحّ عن عمر رضي‬
‫ل عنه أنه َقبَل حديقة أسي ِد بنِ حضير ثلث سنين‪ ،‬وأخذ الجرة فقضى بها دينَه‪ ،‬والحديقة‪ :‬هي‬
‫ا ّ‬
‫ب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الّ‬
‫النخل‪ ،‬فهذه إجارة الشجر لخذ ثمرها‪ ،‬وهو مذه ُ‬
‫عنه‪ ،‬ول يُعلم له في الصحابة مخالف‪ ،‬واختاره أبو الوفاء بن عقيل من أَصحَابِ أحمد‪ ،‬واختيار‬
‫شيْخنا‪ ،‬فقولُكم‪ :‬إن مورد عقد الِجارة ل يكون إل منفعة غيرُ مسلم‪ ،‬ول ثابت بالدليل‪ ،‬وغاية ما‬
‫َ‬

‫‪483‬‬
‫معكم قياس محل النزاع على إجارة الخبز للكل‪ ،‬والماء للشرب‪ ،‬وهذا مِن أفسد القياس‪ ،‬فإن الخبز‬
‫ف مثله بخلف اللبن ونقع البئر‪ ،‬فإنه لما كان يستخلف ويحدث شيئاً فشيئاً‪،‬‬
‫خَل ُ‬
‫ستَ ْ‬
‫تذهب عينُه ول يُ ْ‬
‫كان بمنزلة المنافع‪.‬‬
‫يوضحه الوجه الثاني‪ :‬وهو أن الثمر يجري مجرى المنافع‬
‫ل الوقف بثمراتها كمَا يقفُ‬
‫والفوائد في الوقف والعا ِريّة ونحوها فيجو ُز أن يقف الشّجَرة لِينتفع أه ُ‬
‫ل الوقف بِغّلتِها‪ ،‬ويجوز إعارةُ الشجرة‪ ،‬كما يجوز إعارة الظهر‪ ،‬وعاريّة الدارِ‪،‬‬
‫الرض‪ ،‬لينتفعَ أه ُ‬
‫ومنيح ُة اللبن‪ ،‬وهذا كُلُ تبرع بنماء المال وفائدته‪ ،‬فإن من دفع عقاره إلى مَنْ يسكنُه‪ ،‬فهو بمنزلة‬
‫مَنْ دفع دابتَه إلى من يركبها‪ ،‬وبمنزلة مَن دفع شجرة إلى من يستث ِمرُها‪ ،‬وبمنزلة مَنْ دفع أرضَه‬
‫ل في عقود التبرع‪،‬‬
‫إلى من يزرَعُها‪ ،‬وبمنزلة مَنْ دفع شاته إلى من يشربُ لبنها‪ ،‬فهذه الفوائدُ تدخُ ُ‬
‫حبّساً بالوقف‪ ،‬أو غير محبس‪ .‬ويدخل أيضاً في عقود المشاركات‪ ،‬فإنه إذا دفع‬
‫سواء كان الصل مُ َ‬
‫ح على أصح الروايتين عن‬
‫شاة‪ ،‬أو بقرة‪ ،‬أو ناقة إلى من يعمل عليها بجزء مِن َدرّها ونسلها‪ ،‬ص ّ‬
‫ل في العقود للِجارات‪.‬‬
‫أحمد فكذلك يدخ ُ‬
‫يوضحه الوجه الثالث‪ :‬وهو أن العيانَ نوعانِ‪ :‬نوع ل‬
‫خَلفُ شيئاً فشيئاً‪ُ ،‬كلّما ذهبَ منه شيء‪،‬‬
‫ستَ ْ‬
‫يستخلف شيئاً فشيئاً‪ ،‬بل إذا ذهب‪ ،‬ذهب جملة‪ ،‬ونوع يُ ْ‬
‫خَلفْ‪ ،‬فينبغي أن ينظر في‬
‫ستَ ْ‬
‫خلفه شيء مثله‪ ،‬فهذا رتب ٌة وسطى بين المنافع وبين العيان التي ل تُ ْ‬
‫ش َبهَهُ بالمنافع أقوى‪ ،‬فإلحاقه بها أولى‪.‬‬
‫ي النوعين‪ ،‬فيُلحق به‪ ،‬ومعلوم أن َ‬
‫ش َبهِهِ بأ ّ‬
‫َ‬
‫يوضحه الوجه الرابع‪ :‬وهو أن الّ سبحانه‬
‫نصّ في كتابه على إجارة الظئر‪ ،‬وسمّى ما تأخذه أجراً‪ ،‬وليس في القرآن إجارة منصوص عليها‬
‫ن أُجُورَهنّ وأ َت ِمرُوا بَي َنكُمْ‬
‫ضعْنَ َلكُم فآتُوهُ ّ‬
‫ن َأ ْر َ‬
‫في شريعتنا إل إجارة الظّئ ِر بقوله تعالى‪{ :‬فَإ ْ‬
‫ِبمَعروفٍ} [الطلق‪ ،]6 :‬قال شيخنا‪ :‬وإنما ظن الظانّ أنها خلفُ القياس حيث توهّم أن الِجارة ل‬
‫تكون إل على منفعة‪ ،‬وليس الم ُر كذلك‪ ،‬بل الِجارة تكونُ على كل ما يُستوفى مع بقاء أصله‪،‬‬
‫ن هي التي تُوقف وتُعار فيما استوفاه الموقوف عليه‬
‫سواء كان عيناً أو منفعة‪ ،‬كما أن هذه العي َ‬
‫والمستعيرُ بل عوض يستوفيه المستأجرُ وبالعوض‪ ،‬فلما كان لبن الظئر‪ ،‬مستوفى مع بقاء الصل‪،‬‬
‫ن يُحدثها ال‬
‫ض القياس‪ ،‬فإن هذه العيا َ‬
‫جازت الِجارة عليه كما جازت على المنفعة‪ ،‬وهذا مح ُ‬
‫شيئاً بعد شيءٍ‪ ،‬وأصلُها باقٍ كما يُح ِدثُ الُ المنافعَ شيئًا بعد شيء‪ ،‬وأصلُها باقٍ‪.‬‬

‫‪484‬‬
‫ويوضحه الوجهُ الخا ِمسُ‪ :‬وهو أن‬
‫ل ورسولُه‪ ،‬فإن المسلمين على شروطهم إل شرطاً‬
‫الصل في العقود وجوبُ الوفاء إل ما حرّمه ا ُ‬
‫ل ورسولُه‪ ،‬وليس مع‬
‫أحلّ حراماً‪ ،‬أو حرّم حللً‪ ،‬فل يحرُم مِن الشروط والعقود إل ما حرّمه ا ُ‬
‫ن الصل والفرع فيه مِن الفرق ما يمنع‬
‫علِ َم أن بي َ‬
‫المانعين نصّ بالتحريم البتة‪ ،‬وإنما معهم قياسٌ قد ُ‬
‫س الذي مع مَنْ أجاز ذلك أقربُ إلى مساواة الفرع لصله‪ ،‬وهذا ما ل حيلة فيه‪،‬‬
‫الِلحاق‪ ،‬وأن القيا َ‬
‫ل التوفيق‪.‬‬
‫وبا ّ‬
‫يوضحه الوجه السادس‪ :‬وهو أن‬
‫الذين منعوا فذه الِجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتةً بالنص والِجماع‪ ،‬والمقصودَ بالعقد إنما هو‬
‫حلُوا لجوازها أمراً يعلمون هم والمرضعةُ والمستأج ُر بطلنَه‪ ،‬فقالوا‪ :‬العقدُ إنما‬
‫اللبنُ‪ ،‬وهو عينٌ‪ ،‬تم ّ‬
‫وقع على وضعها الطفل في حَجرها وإلقامه ثديها فقط‪ ،‬واللبن يدخل تبعاً‪ ،‬وال يعلم والعقلء قاطبة‬
‫أن المر ليسَ كذلك‪ ،‬وأن وضع الطفل في حَجرها ليس مقصودا أصلً‪ ،‬ول ورد عليه عقدُ‬
‫ل وهو في حَجر غيرها‪ ،‬أو في مهده‪،‬‬
‫الِجارة‪ ،‬ل عرفاً ول حقيقةً ول شرعاً‪ ،‬ولو أرضعت الطف َ‬
‫لستحقت الجرة‪ ،‬ولو كان المقصودُ إلقا َم الثدي المجرد‪ ،‬لستؤجر له كل امرأة لها ثدي‪ ،‬ولو لم‬
‫يكن لها لبن‪ ،‬فهذا هو القياسُ الفاسِدُ حقاً‪ ،‬والفقه البارد‪ ،‬فكيف يقال‪ :‬إن إجار َة الظّئر على خلف‬
‫القياس‪ ،‬ويُدعى أن هذا هو القياسُ الصحيح‪.‬‬
‫الوجه السابع‪ :‬أن النبي‬
‫ض على ذلك‪ ،‬وذكر ثوابَ فاعله‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ندب إلى منيحة ال َعنْز والشاة للبنها‪ ،‬وح ّ‬
‫ومعلوم أن هذا ليس ببيع ول هبة‪ ،‬فإن هِبة المعدوم المجهول ل َتصِحّ‪ ،‬وإنما هو عاريّة الشاة‬
‫للنتفاع بلبنها كما يُعيره الدابة لركوبها‪ ،‬فهذا إباحة للنتفاع بدرها‪ ،‬وكلهما في الشرع واحد‪ ،‬وما‬
‫جاز أن يُستوفى بالعاريّة جاز أن يُستوفى بالِجارة‪ ،‬فإن موردَهما واحد‪ ،‬وإنما يختلفان في التبرع‬
‫بهذا والمعاوضة على الخر‪.‬‬
‫والوجه الثامن‪:‬‬
‫ما رواه حرب الكرماني في ((مسائله))‪ :‬حدثنا سعيد بن منصور‪ ،‬حدثنا عباد بن عباد‪ ،‬عن هشام‬
‫بن عروة‪ ،‬عن أبيه أن أسيد بن حضير تُوفّي وعليه سِت ُة آلفِ ِدرْهمٍ دَين‪ ،‬فدعا عمر بن الخطاب‬
‫ق المدينة الغالب‬
‫ل عنه ((غُرماءَه‪ ،‬فَ َق َبَلهُ ْم أرضَه سنتينِ))‪ ،‬وفيها الشجر والنخلُ‪ ،‬وحدائ ُ‬
‫رضي ا ّ‬
‫ض البيضاء فيها قليل‪ ،‬فهذا إجارة الشجر لخذ ثمرها‪ ،‬ومن ادعى أن ذلك‬
‫عليها النخلُ والر ُ‬

‫‪485‬‬
‫خلف الِجماع‪َ ،‬فمِنْ عد ِم علمه‪ ،‬بل ادعاء الِجماع على جواز ذلك أقربُ‪ ،‬فإن عمر رضي الّ‬
‫ظنّةِ الشتهار‪ ،‬ولم‬
‫عنه فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد المهاجرين والنصار وهي قصة في مَ ِ‬
‫يُقابلها أحد بالِنكار‪ ،‬بل تلقاها الصحابةُ بالتسليم والِقرار‪ ،‬وقد كانوا يُنكرون ما هو دُونَها وإن فعله‬
‫ن بن حصين وغيرُه شأن متعة الحج ولم ينكر أحد هذه‬
‫عمرُ رضي الّ عنه‪ ،‬كما أنكر عليه عِمرا ُ‬
‫ض القياس‪ ،‬وأن المانعين منها ل بد لهم منها‪ ،‬وأنهم‬
‫الواقعة‪ ،‬وسنبين إن شاء الّ تعالى أنها مح ُ‬
‫يتح ّيلُون عليها بحيل ل تجوز‪.‬‬
‫الوجه‬
‫ن مِن العيان وهو المغلّ الذي يستغله‬
‫التاسع‪ :‬أن المستوفَى بعقد الِجارة على زرعِ الرض هو عي ٌ‬
‫ض غير ذلك‪ ،‬وإن كان له قصد جرى في النتفاع بغير‬
‫المستأجرُ‪ ،‬وليس له مقصودٌ في منفعة الر ِ‬
‫الزرع‪ ،‬فذلك َتبَعٌ‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬المعقو ُد عليه هو منفعة شَقّ الرضِ وبذرها وفلحتها والعينُ تتولّد من هذه‬
‫المنفعة‪ ،‬كما لو استأجر لحفر بئر‪ ،‬فخرج منها الماء‪ ،‬فالمعقو ُد عليه هو نفس العمل ل الماء‪.‬‬
‫ل وسيلة مقصودةٌ لغيرها‪ ،‬ليس‬
‫قيل‪ :‬مستأجرُ الرض ليس له مقصود في غير المغل‪ ،‬والعم ُ‬
‫حبّ بسقيه وعمله‪ ،‬وهكذا‬
‫له فيه منفعة‪ ،‬بل هو تعب ومشقة‪ ،‬وإنما مقصودُه ما يُح ِدثُه ال مِن ال َ‬
‫ج ُر الشاة للبنها سواء مقصودُه ما يُحدثه ال من لبنها بعلفها وحفظها والقيامِ عليها‪ ،‬فل فرقَ‬
‫مستأ ِ‬
‫بينهما البتة إل ما ل تُناط به الحكا ُم مِن الفروق الملغاة‪ ،‬وتنظيرُكم بالستئجار لحفر البئر تنظيرٌ‬
‫فاسد‪ ،‬بل نظيرُ حف ِر البئر أن يستأجر أكاراً لحرث أرضه ويبذرها ويسقيها‪ ،‬ول ريب أن تنظيرَ‬
‫إجارة الحيوان للبنه بإجارة الرض لمغلها هو محضُ القياس وهو كما تقدّم أصحُ مِن التنظير‬
‫بإجارة الخبز للكل‪.‬‬
‫يوضحه الوجه العاشر وهو أن الغرر والخطر الذي في إجارة الرض لحصول‬
‫مغلها أعظمُ بكثر مِن ال َغ َر ِر الذي في إجارة الحيوان للبنه‪ ،‬فإن الفات والموانعَ التي تعرض للزرع‬
‫أكثرُ مِن آفات اللبن‪ ،‬فإذا اغتفر ذلك في إجارة الرض‪ ،‬فلن يُغفر في إجارة الحيوان للبنه أولى‬
‫وأحرى‪.‬‬
‫فصل‬
‫فالقوال في العقد على اللبن في الضرع ثلثة‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬منعه بيعًا وإجارة وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة‪.‬‬

‫‪486‬‬
‫والثاني‪ :‬جوازه بيعاً وإجارة‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬جوازه إجارة ل بيعاً‪ ،‬وهو اختيار شيخنا رحمه الّ‪.‬‬
‫وفي المنع من بيع اللبن في الضرع حديثان‪ ،‬أحدهما حديث عمر بن فروخ وهو ضعيف‬
‫عن حبيب بن الزبير‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس رضي الّ عنهما مرفوعاً‪َ (( :‬نهَى أن يُباع‬
‫ضرْعٍ))‪ ،‬وقد رواه أبو إسحاق عن عكرمة‪ ،‬عن‬
‫سمْنٌ في َلبَنٍ‪ ،‬أ ْو َلبَنٌ في َ‬
‫ظ ْهرٍ‪ ،‬أو َ‬
‫صُوفٌ عَلى َ‬
‫ابن عباس رضي الّ عنهما من قوله دون ذكر السمن رواه البيهقي وغيره‪.‬‬
‫ث رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار‪ ،‬حدثنا حاتم بن إسماعيل‪ ،‬حدثنا‬
‫والثاني حدي ٌ‬
‫ج ْهضَمُ بن عبد الّ اليماني‪ ،‬عن محمد بن إبراهيم البَاهِلي‪ ،‬عن محمد بن زيد العبدي‪ ،‬عن شهر بن‬
‫َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم عن‬
‫ل عنه قال‪(( :‬نهى رسولُ ا ّ‬
‫حوشب‪ ،‬عن أبي سعيد الخُدري رضي ا ّ‬
‫شراء ما في بطون النعام حتى تضع‪ ،‬وعما في ضروعها إل بكيل أو وزن‪ ،‬وعن شراء العبد وهو‬
‫آبق‪ ،‬وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض‪ ،‬وعن ضربة الغائص))‪،‬‬
‫ولكن لهذا الِسناد ل تقومُ به حجة‪ ،‬والنهي عن شراء ما في بطون النعام ثابتٌ بالنهي عن الملقيح‬
‫والمضامين‪ ،‬والنهي عن شراء العبد البق‪ ،‬وهو آبق معلومٌ بالنهي عن بيع الغرر‪ ،‬والنهي عن‬
‫شراء المغانم حتى تُقْسَمَ داخل في النهي عن بيع ما ليس عنده‪ ،‬فهو بي ُع غررٍ ومخاطرة‪ ،‬وَكذلك‬
‫ل قبضه مع انتقاله‬
‫ي صلى ال عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قب َ‬
‫الصدقاتُ قبلَ قبضها‪ ،‬وإذا كان النب ّ‬
‫إلى المشتري وثبوت ملكه عليه‪ ،‬وتعيينه له‪ ،‬وانقطاع تعلق غيره به‪ ،‬فالمغانمُ والصدقات قبل‬
‫قبضها أولى بالنهي‪ .‬وأما ضربةُ الغائِص‪ ،‬فغرر ظاهر ل خفا َء به‪.‬‬
‫وأما بيعُ اللبن في الضرع‪ ،‬فإن كان معينًا لم يمكن تسلي ُم المبيع بعينه‪ ،‬وإن‬
‫كان بي َع لبن موصوف في الذمة‪ ،‬فهو نظيرُ بيع عشرة أقفزة مطلقة مِن هذه الصبرة وهذا النوع له‬
‫جهتان‪ :‬جهة إطلق وجهةُ تعيين‪ ،‬ول تنافي بينهما‪ ،‬وقد دل على جوازه نهي النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم أن يُسلم في حائط بعينه إل أن يكون قد بدا صلحُه‪ ،‬رواه الِمام أحمد‪ .‬فإذا أسلم إليه في كيل‬
‫معلوم مِن لبن هذه الشاة وقد صارت لبوناً‪ ،‬جاز‪ ،‬ودخل تحت قوله‪(( :‬ونهى عن بيع ما في‬
‫ن لبيعه بالكيل والوزن معيناً أو مطلقاً‪ ،‬لنه لم يُفصّل‪ ،‬ولم‬
‫ضروعها إل بكيل أو وزن))‪ ،‬فهذا إذ ٌ‬
‫ل والوزنِ‪ ،‬ولو كان التعيين شرطًا لذكره‪.‬‬
‫يشترط سوى الكي ِ‬
‫فإن قيل فما تقولون لو باعه لبنها أيامًا معلومة من غير كيل ول وزن‪.‬‬

‫‪487‬‬
‫قيل‪ :‬إن ثبت الحديثُ‪ ،‬لم يجز بيعُه إل بكيل أو وزن‪ ،‬وإن لم يثبت‪ ،‬وكان لبنُها معلوماً ل‬
‫يختِلفُ بالعادة‪ ،‬جاز بيعُه أياماً‪ ،‬وجرى حكمُه بالعادة مجرى َك ْيلِهِ أو وزنه‪ ،‬وإن كان مختلفاَ فمرة‬
‫يزيدُ‪ ،‬ومرة َينْقُصُ‪ ،‬أو ينقطعُ‪ ،‬فهذا غرر ل يجوز‪ ،‬وهذا بخلفِ الِجارة‪ ،‬فإنّ اللبن يحدُث على‬
‫ص اللبنُ عن‬
‫غ َررَ في ذلك‪ ،‬نعم إن نَقَ َ‬
‫مُلكه بعلفه الدابة كما يحدُث الحبُ على ملكه بالسّقي‪ ،‬فل َ‬
‫العادة‪ ،‬أو انقطع‪ ،‬فهو بمنزلة نُقصان المنفعة في الِجارة‪ ،‬أو تعطيلها يثبت للمستأجر حق الفسخ‪،‬‬
‫أو ينقص عنه من الجرة بقدر ما نقص عليه من المنفعة‪ ،‬هذا قياسُ المذهب‪ ،‬وقال ابن عقيل‪،‬‬
‫وصاحب ((المغني))‪ :‬إذا اختار الِمساك لزمته جميعُ الجرة‪ ،‬لنه رضي بالمنفعة ناقصةَ‪ ،‬فل ِزمَه‬
‫ص مِن‬
‫ط عنه من الجرة بقدر ما نَقَ َ‬
‫جمي ُع ال ِعوَض‪ ،‬كما لو رضي بالمبيع معيبا‪ ،‬والصحيحُ أنه يسقُ ُ‬
‫المنفعة‪ ،‬لنه إنما بذل العوضَ الكامِلَ في منفعة كاملةٍ سليمة‪ ،‬فإذا لم تسلم له‪ ،‬لم يلزمه جميعُ‬
‫العوض‪.‬‬
‫وقولهم‪ :‬إنه رضي بالمنفعة معيبة‪ ،‬فهو كما لو رضي بالبيع معيباً‪ ،‬جوابه مِن وجهين‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه إن رضي به معيباً‪ ،‬بأن يأخذ أرشه كان له ذلك على ظاهر المذهب‪َ ،‬ف ِرضَاهُ‬
‫بالعيب مع الرش ل يُسقط حقه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إن قلنا‪ :‬إنه ل أرش لممسك له الرد‪ ،‬لم يلزم سقوط الرش في الِجارة‪ ،‬لنه قد‬
‫ن عليه ضرر في رد‬
‫ض المعقود عليه‪ ،‬فلم يُمكنه ر ّد المنفعة كما قبضها‪ ،‬ولنه قد يكو ُ‬
‫استوفى بع َ‬
‫باقي المنفعة‪ ،‬وقد ل يتمكن من ذلك‪ ،‬فقد ل يجد بداً من الِمساك‪ ،‬فإلزامُه بجميع الجرة مع العيب‬
‫المنقص ظاهراً‪ ،‬ومنعه من استدراك ظلمته إل بالفسخ ضرر عليه‪ ،‬ول سيما لمستأجر الزرع‬
‫ب أنه ل أرش في المبيع‬
‫ب في الطريق‪ ،‬فالصوا ُ‬
‫والغرس والبناء‪ ،‬أو مستأجر دابة للسفر فتتعي ُ‬
‫لممسك له الرد‪ ،‬وأنه في الِجارة له الرش‪.‬‬
‫والذي يُوضح هذا أن النبيّ صلى ال عليه وسلم حكم بوضع الجوائح وهي أن يسقط عن‬
‫مشتري الثمار من الثمرة‪ ،‬بقدر ما أذهبت عليه الجائحة مِن ثمرته ويُمسك الباقي بقسطه من الثمن‪،‬‬
‫وهذا لن الثمار لم تستكمل صلحها دفعة واحدة‪ ،‬ولم تجر العادةُ بأخذها جملة واحدة‪ ،‬وإنما تؤخذ‬
‫شيئاً فشيئأ‪ ،‬فهي بمنزلة المنافع في الِجارة سواء‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم في المصرّاة خيّر‬
‫المشتري بين الرد وبين الِمساك بل أرشٍ‪ ،‬وفي الثمار جعل له الِمساك مع الرش‪ ،‬والفرقُ ما‬
‫ذكرناه‪ ،‬والِجارة أشب ُه ببيع الثمار‪ ،‬وقد ظهر اعتبا ُر هذا الشبه في وضع الشارع الجائحة قبل‬
‫قبض الثمن‪ .‬فإن قيل‪ :‬فالمنافع ل تُوضع فيها الجائحةُ باتفاق العلماء‪.‬‬

‫‪488‬‬
‫ن ذلك‪ ،‬فقد وهم‪ ،‬قال شيخُنا‪ :‬وليس‬
‫قيل ليس هذا مِن باب وضع الجوائح في المنافع‪ ،‬ومَن ظ ّ‬
‫هذا مِن باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثمر المشترى‪ ،‬بل هو من باب تلف المنفعة‬
‫المقصودة بالعقد أو فواتها‪ ،‬وقد اتفق العلماءُ على أن المنفعة في الِجارة إذا تلفت قبل التمكن مِن‬
‫ل التمكن‪ ،‬مِن قبضه وهو بمنزلة‬
‫استيفائها‪ ،‬فإنه ل تجب الجرة مثل أن يستأجر حيواناً فيموت قب َ‬
‫أن يشتريَ قفيزًا مِن صُبرة فتتلفَ الصّبرةُ قبل القبض والتمييز‪ ،‬فإنه مِن ضمان البائع بل نزاع‪،‬‬
‫ولهذا لو لم يتمكن المستأجر مِن ازدراع الرض لِفة حصلت لم يكن عليه الجرةُ‪.‬‬
‫وإن نبت الزرع‪ ،‬ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن مِن حصاده‪ ،‬ففيه نزاع‪ ،‬فطائفة‬
‫ن الثمرة والمنفعة قالوا‪ :‬الثمرة هي‬
‫ألحقته بالثمرة والمنفعة‪ ،‬وطائفة فرقت‪ ،‬والذين فرّقوا بينه وبي َ‬
‫المعقود عليها وكذلك المنفعة‪ ،‬وهنا الزرع ليس معقودًا عليه‪ ،‬بل المعقو ُد عليه هو المنفعة وقد‬
‫س ّووْا بينهما‪ ،‬قالوا المقصودُ بالِجارة هو الزرعُ‪ ،‬فإذا حالت الفةُ السماوية بينَه‬
‫استوفاها‪ ،‬والذين َ‬
‫وبينَ المقصودِ بالِجارة‪ ،‬كان قد تلف المقصودُ بالعقد قبل التمكن مِن قبضه‪ ،‬وإن لم يُعاوض على‬
‫زرع‪ ،‬فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها المستأجر مِن حصول الزرع‪ ،‬فإذا حصلت الفةُ‬
‫ل التمكن مِن حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها‪ ،‬بل تلفت قبل التمكن‬
‫السماوية المفسد ُة للزرع قب َ‬
‫ن تعطيل منفعة الرض في أول المدة أو في آخرها إذا لم يتمكن من‬
‫مِن النتفاع‪ ،‬ول فرق بي َ‬
‫استيفاء شيء من المنفعة‪ ،‬ومعلوم أن الفة السماوية إذا كانت بع َد الزرع مطلقاً بحيث ل يتمكن من‬
‫النتفاع بالرض مع تلك الفة‪ ،‬فل فرق بين تقدمها وتأخرها‪.‬‬
‫فصل‬
‫ل به‪ ،‬ولم تسغ‬
‫ب القو ُ‬
‫وأما بيعُ الصوف على الظهر‪ ،‬فلو صحّ فذا الحديثُ بالنهي عنه‪ ،‬لوج َ‬
‫ج ّزهِ في الحال‪ ،‬ووجه‬
‫مخالفته وقد اختلف الروايةُ فيه عن أحمد‪ ،‬فمر ًة منعه‪ ،‬ومرّة أجازه بشرط َ‬
‫هذا القول أنه معلوم يُمكن تسليمُه‪ ،‬فجاز بيعُه كالرطبة‪ ،‬وما يقدر من اختلط المبيع الموجود‬
‫بالحادث على ملك البائع يزولُ بج ّزهِ في الحال‪ ،‬والحادث يسير جدًا ل يمكن ضبطُه‪ ،‬هذا ولو قيل‬
‫بعدم اشتراط جزّه في الحال‪ ،‬ويكون كالرطبة التي تؤخذ شيئاً فشيئاً‪ ،‬وإن كانت تطول في زمن‬
‫أخذها كان له وجه صحيح‪ ،‬وغايته بيع معدوم‪ .‬لم يخلق تبعاً للموجود‪ ،‬فهو كأجزاء الثمار التي لم‬
‫تُخلق‪ ،‬فإنها تتبع الموجود منها‪ ،‬فإذا جعل للصوف وقتاً معينًا يُؤخذ فيه كان بمنزلة أخذ الثمرة‬
‫وقتَ كمالها‪.‬‬

‫‪489‬‬
‫ويُوضح هذا أن الذين منعوه قاسوه على أعضاء الحيوان وقالوا‪ :‬متصلٌ بالحيوان فلم يجز‬
‫إفراده بالبيع كأعضائه‪ ،‬وهذا من أفسدِ القياس‪ ،‬لن العضاء ل يُمكن تسليمها مع سلمة الحيوان‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فما الفرق بينه وبين اللبن في الضرع وقد سوغتم هذا دونه؟ قيل‪ :‬اللبن في‬
‫الضرع‪ ،‬يختلط ملك المشتري فيه بملك البائع سريعاً‪ ،‬فإن اللبن سريع الحدوث كلما حلبه‪َ ،‬درّ‪،‬‬
‫بخلف الصوف‪ .‬وال أعلم وأحكم‪.‬‬

‫النسخة المعتمدة للمراجعة ‪:‬‬


‫دار النشر‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‬
‫الطبعة الثانية‬
‫السنة‪ 1418 :‬هـ ‪ 1997 /‬م‬
‫تحقيق‪ :‬شعيب الرنؤوط وعبد القادر الرنؤوط‬

‫‪490‬‬

You might also like