Professional Documents
Culture Documents
الجزء الخامس
1
فصل
في هديه صلى ال عليه وسلم في القضِيَة والن ِكحَة والبُيُوع
ض من ذلك ذكر التشريع العام وإن كانت أقضيتهُ الخاصةُ تشريعاً عاماً ،وإنما
وليس الغر ُ
الغرضُ ذكرُ هديه فى الحكومات الجزئية التى فصل بها بينَ الخصوم ،وكيف كان هديهُ فى الحكم
بين الناس ،ونذكرُ مع ذلك قضايا مِن أحكامه الكلية.
فصل
ثبت عنه صلى ال عليه وسلم من حديث بهزِ بن حكيم ،عن أبيه ،عن جده(( ،أن النبى صلى ال
ح َبسَ رجلً فى ُتهْمةٍ)) .قال أحمد وعلى بن المدينى :هذا إسناد صحيح.
عليه وسلم َ
ن زياد عنه صلى ال عليه وسلم فى ((أحكامه)) :أنه صلى ال عليه وسلم سجن
وذكر اب ُ
غ َن ْيمَ ًة له.
شرْكاً له فى عبد ،فوجب عليه استتمام عتقه حتى باع ُ
ل أعتق ِ
رج ً
فصل
فى حكمه فيمن َقتَلَ عبده
روى الوزاعى ،عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جدّه ،أن رجلً قتل عبدَه متعّمداً،
فجلده النبىّ صلى ال عليه وسلم مائة جلدةً ،ونفاه سنةً ،وأمره أن يعتِقَ رقب ًة ولم يُقِ ْد ُه به.
س ُم َرةَ رضىَ الُّ عنه ،عنه صلى ال عليه
وروى المام أحمد :من حديث الحسن ،عن َ
عبْ َدهُ َق َت ْلنَاه)) فإن كان هذا محفوظاً ،وقد سمعه منه الحسن ،كان قتلُه تعزيزاً إلى
وسلم(( :مَنْ َقتَلَ َ
المام بحسب ما يراه من المصلحة.
ل بملزمة غريمه ،كما ذكر أبو داود ،عن النّضر بن شُميل ،عن الهِرماس بن
وأمرَ رج ً
ى صلى ال عليه وسلم بغريم لى ،فقال لى:
حبيب ،عن أبيه ،عن جدّه رضى الُّ عنه قال :أتيتُ النب ّ
ل بِأسِيرك))؟ وروى أبو عبيدٍ ،أنه صلى ال
ن تَ ْفعَ َ
سهْم ما تُري ُد أ ْ
((ا ْل َزمْهُ)) ثم قال لى(( :يا أخا بنى َ
ت حتى يموت.
عليه وسلم أمر بقتل القاتل ،وص ْبرِ الصابر .قال أبو عبيد :أى :بحبسه للمو ِ
سكُ فى السّجْنِ حتى يَموتَ.
وذكر عب ُد الرزاق فى ((مصنفه)) عن على :يُحبس ال ُممْ ِ
فصل
فى حكمه فى المحاربين
ن الرّعاء ،وتركهم حتى ماتُوا جوعاً
سمْلِ أعينهم ،كما سملُوا عي َ
حَكم بقطع أيدِيهم ،وأرجُلهِم ،و َ
وعطشاً كما فعلوا بالرّعاء.
2
فصل
(يتبع)...
@فى حكمه بين القاتل وولى المقتول
ل أخاهُ،
ثبت فى ((صحيح مسلم)) :عنه صلى ال عليه وسلم أن رجلً ادّعى على آخر أنه قت َ
ح َبكَ)) ،فلما ولّى ،قال(( :إنْ َق َتلَهُ ،فهو ِم ْثلُه)) ،فرجعَ فقال :إنما أخذتُه
ك صَا ِ
فاعترف ،فقالَ(( :دُو َن َ
ح َبكَ))؟ فقال :بلى فخلّى
ك وِإثْم صَا ِ
بأمرك ،فقال صلى ال عليه وسلم(( :أمَا تُريدُ أَن يَبوءَ بإ ْث ِم َ
سبيلَه.
وفى قوله(( :فهو مثلُه)) ،قولن ،أحدهما :أن القاتل إذا قِيد منه ،سقط ما عليه ،فصار هو
والمستفيدُ بمنزلةٍ واحدة ،وهو لم يقل :إنه بمنزلته قبل القتل ،وإنما قال(( :إن قتله فهو مثلُه)) ،وهذا
ق بترك القود
يقتضى المماثلةَ بعد قتله ،فل إشكالَ فى الحديث ،وإنما فيه التعريضُ لصاحب الح ّ
والعفو.
والثانى :أنه إن كان لم يُرد قتلَ أخيه قتلَه به ،فهو متعدّ مثله إذ كان القاتل متعدياً بالجناية،
والمقتصّ متع ٍد بقتل من لم يتعم ِد القتلَ ،ويدلّ على التأويل ما روى المام أحمد فى ((مسنده)) :من
حديث أبى هُريرة رضى ال عنه قالُ :قتِلَ رجل على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلمَ ،فرُفِعَ
ل ال صلى ال عليه وسلم ،فدفَعه إلى ولىّ المقتول ،فقال القاتِلُ :يا رسولَ ال ،ما أردتُ
إلى رسو ِ
خ ْلتَ النّار))،
ل ال صلى ال عليه وسلم للولى(( :أمَا إنّ ُه إذَا كَانَ صَادِقاً ،ثم َق َت ْلتَه َد َ
قتلَه ،فقال رسو ُ
فخلّى سبيله .وفى كتاب ابن حبيب فى هذا الحديث زيادةُ ،وهى :قال النبىّ صلى ال عليه وسلم:
((عَمْ ُد يَدٍ ،وخَطَأُ َق ْلبٍ)).
فصل
فى حكمه بال َقوَ ِد على من قتل جاريةً ،وأنه يُفعَلُ به كما َفعَلَ
ن على أوضاحٍ لها ،أى:
ض رأسَ جاري ٍة بينَ حجريْ ِ
ثبت فى ((الصحيحين))(( :أن يهودياً ر ّ
ج َريْنِ)).
حَلّ صلى ال عليه وسلم أن ُيرَضّ رأسُه بين َ
ع َت َرفَ ،فأمر رسولُ ا ِ
حِلىّ ،فأُخِذَ ،فا ْ
ُ
ل الرجل بالمرأة ،وعلى أن الجانىَ يُفعل به كمَا َفعَلَ ،وأن
ل على قت ِ
ث دلي ٌ
وفى هذا الحدي ِ
لّ صلى ال عليه وسلم لم يدفعه إلى أوليائها ،ولم
القتل غيلة ل يُشترط فيه إذنُ الولى ،فإنّ رسولَ ا ِ
يقل :إن شِئتُم فاقتلُوه ،وإن شئتم فاعفوا عنه ،بل قتله حتماً ،وهذا مذهبُ مالك ،واختيارُ شيخِ السلم
3
ابن تيمية ،ومن قال :إنه فعل ذلك لِنقض العهد ،لم َيصِحّ ،فإن ناقض العهد ل تُرضخُ رأسهُ
بالحجارة ،بل يُقتل بالسيف.
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيمن ضرب امرأةً حامِلً فَطرحهَا
جرٍ فقتلتها وما فى
ن من هُذيل رمت إحداهُما الُخرى بح َ
فى ((الصحيحين))(( :أن امرأتي ِ
عبْ ٍد أَو ولِي َدةٍ فى الجنين ،وجعل دِيةَ
ل ال صلى ال عليه وسلم ب ُغ ّرةًَ :
بطنها ،فقضى فيها رسو ُ
عصَبة القاتِلةِ)) ،هكذا فى ((الصحيحين)) .وفى النسائى(( :فقضى فى حملها ب ُغرّة،
المقتول ِة على َ
وأن تُقتل بها)) ،وكذلك قال غيرُه أيضاً :إنه قتلها مكانها ،والصحيح :أنه لم يقتلها لما تقدم .وقد
ى فى ((صحيحه)) عن أبى هريرة رضى ال عنه ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
روى البخار ّ
ن امرأ ٍة من بنى لَحيان ب ُغ ّرةٍ :عبدٍ أو وليدةٍ ،ثم إن المرأة التى قضى عليها بالغُرة
((قضى فى جني ِ
ل على
تُوفيت ،فقضى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها ،وأن العق َ
عصبتها)).
وفى هذا الحكم أن شِب َه العمدِ ل يُوجب القود ،وأن العا ِقلَة تحمل ال ُغ ّرةَ تبعًا للدية ،وأن العاقلة
ل معهم ،وأن أولدهَا أيضاً ليسوا مِن العاقِلة.
هم العصبةُ ،وأن زوجَ القاتلة ل يدخُ ُ
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم بالقَسامة فيمن لم يُعرف قا ِتلُه
ثبت فى ((الصحيحين)) :أنه صلى ال عليه وسلم حكم بها بين النصار واليهود ،وقال
ستَحِقّونَ دَ َم صَاحِبكُم))؟ وقال البخارى:
حلِفُونَ وتَ ْ
عبْدِ الرحمن(( :أتَ ْ
ح ّيصَ َة و َ
ح َو ّيصَةَ ومُ َ
لِ ُ
ح َبكُم)) ،فقالوا :أمرُ لم نشهده ولم نره ،فقالَ (( :ف ُتبْرئكُم َيهُودُ بَأ ْيمَانِ
((وتستحقون قَا ِتَلكُم أو صا ِ
خمْسِينَ)) ،فَقَالُوا :كيف نقبلُ أيمان َقوْمٍ كفار؟ فوداه رسولُ ال صلى ال عليه وسلم من عنده.
َ
وفى لفظ :ويُقْسِمُ خمسون منكم على رجل منهم ،فيُدْفَ ُع ِب ُر ّمتِهِ إليه)).
واختلف لفظُ الحاديث الصحيحة فى محل الدّية ،ففى بعضها أنه صلى ال عليه وسلم وداه
مِن عنده ،وفى بعضها وداه من إبل الصدقة.
وفى ((سنن أبى داود)) :أنه صلى ال عليه وسلم ((ألقى ديتَه على اليهود ،لنه وُجِدَ
بينهم)).
4
وفى ((مصنف عبد الرزاق)) :أنه صلى ال عليه وسلم ((بدأ بيهود ،فأ َبوْا أن يحلِفُوا ،فردّ
القسام َة على النصار ،فأبوا أن يحلِفُوا فجعل عَقلَه على يهود)).
وفى ((سنن النسائى))(( :فجعل عقله على اليهود ،وأعانهم ببعضِها)).
وقد تضمنت هذه الحكومة أموراً:
منها :الحكمُ بالقَسامة ،وأنها مِن دين ال وشرعه.
ومنها :القتلُ بها لِقوله(( :فيدفع بُر ّمتِهِ إليه)) ،وقوله فى لفظ آخر(( :وتستحِقّونَ دمَ
ن الولياء فى القسامة ،وهو
صاحبكم)) ،فظاه ُر القرآن والسنة القتلُ بأيمان الزوج الملعن وأيما ِ
مذهبُ أهل المدنية ،وأما أهلُ العراق ،فل يقتلُونَ فى واحد منهما ،وأحمدُ يقتل فى القسام ِة دون
اللعان ،والشافعى عكسه.
ومنها :أنه يبدأ بأيمان المُدّعِينَ فى القَسامة بخلف غيرِها من الدّعاوى.
ل الذّمة إذا منعوا حقًا عليهم ،انتقضَ عهدُهم لِقوله صلى ال عليه وسلم(( :إما
ومنها :أن أه َ
أن تدوه ،وإما أن تأذنُوا بحرب)).
خصْهُ.
ب إليه ،ولم يُشْ ِ
ومنها :أن المدّعىَ عليه إذا َبعُدَ عن مجلس الحكمَ ،ك َت َ
ب القاضى وإن لم يُشهد عليه.
ومنها :جوا ُز العملِ والحُكم بِكتا ِ
ومنها :القضاء على الغائب.
ل من خمسين إذا وُجدوا.
ومنها :أنه ل يُكتفى فى القَسامة بأق ّ
ومنها :الحك ُم على أهل الذمة بحكم السلم ،وإن لم يتحاكموا إلينا إذا كان الحك ُم بينهم وبينَ
المسلمين.
ومنها :وهو الذى أشكل على كثيرٍ من الناس إعطاؤه الدية مِن إبل الصدقةِ ،وقد ظنّ
ل الذمة ل يُعطى من الزكاة،
بعضُ الناس أن ذلك مِن سهم الغارمين ،وهذا ل يصِح ،فإن غارِ َم أه ِ
وظن بعضُهم أن ذلك مما َفضَل مِن الصدقة عن أهلها ،فللمام أن يصرِفه فى المصالح ،وهذا
ض الدية من إبل
أقربُ مِن الول ،وأقربُ منه :أنه صلى ال عليه وسلم وداه مِن عنده ،واقتر َ
الصدقة ،ويدل عليه:
((فواده من عنده)) وأقربُ من هذا ُكلّه أن يُقال :لما تح ّملَها النبىّ صلى ال عليه وسلم
لصلح ذات البين بين الطائفتين ،كان حكمُها حك َم القضاء على الغرم لما غرمه لصلح ذاتِ
البين ،ولعل هذا مرادُ من قَال :إن قضاها مِن سهم الغارمين ،وهو صلى ال عليه وسلم لم يأخذ
5
ل له ،ولكن جرى إعطا ُء الدية منها مجرى إعطاء الغارم منها
منها لنفسه شيئاً ،فإن الصدقةَ ل تحِ ّ
لصلح ذات البين .وال أعلم.
فإن قيل :فكيف تصنعون بقوله ((فجعل عقلَه على اليهود))؟ فيقال :هذا مجمل لم يحفظ
راويه كيفيةَ جعله عليهم ،فإنه صلى ال عليه وسلم لما كتب إليهم أن يدوا القتيلَ ،أو يأذنوا بحربٍ،
كان هذا كاللزام لهم بالدّية ،ولكن الذى حفظوا أنهم أنكروا أن يكونوا قتلوا ،وحلفوا على ذلك ،وأن
رسولَ ال صلى ال عليه وسلم وداه من عنده ،حفِظُوا زيادة على ذلك ،فهم أولى بالتقديم.
فإن قيل :فكيف تصنعون برواية النسائى(( :أنه قسمها على اليهود ،وأعانهم ببعضها))؟
قيل :هذا ليس بمحفوظ قطعاً ،فإن الدية ل تلزم المدّى عليهم بمجرد دعوى أوليا ِء القتيل ،بل ل بُد
ض النبىّ صلى ال عليه
من إقرار أو بينة ،أو أيمان المدعين ،ولم يُوجد هنا شىء من ذلك ،وقد عر َ
ن القسامة على المدعين ،فَأ َبوْا أن يحلِفُوا ،فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد الدعوى.
وسلم أيما َ
فصل
فى حُكمه صلى ال عليه وسلم فى أربعةً سقطُوا فى بئر ،فتعلّق بعضُهم ببعض ،فهلكُوا
ذكر المام أحمد ،والبزار ،وغيرُهما ،أن قوماً احتفروا بئراً باليمن ،فسقط فيها رجلٌ ،فتعلّق
بآخر ،الثانى بالثالث ،والثالث بالرابع ،فسقطُوا جميعاً ،فماتُوا ،فارتفع أولياؤُهم إلى على بن أبى
ن حفر البئ َر مِن النّاسِ ،وقضى للول بُربع الدية ،لنه هلك
طالب رضى ال عنه ،فقال :اجمعُوا مَ ْ
فوقَه ثلثة ،وللثانى بُثلثها لنه هلك فوقه اثنان ،وللثالث بنصفهما لنه هلك فوقَه واحد ،وللرابع
بالدية تامة ،فأَتوا رسولَ ال صلى ال عليه وسلم العا َم المقبلَ ،فقصّوا عليه القِصّة ،فقالُ (( :هوَ مَا
ق البزار.
قضَى َبيْنكُمْ)) ،هكذا سيا ُ
ل ال صلى ال
وسياق أحمد نحوه ،وقال(( :إنهم َأ َبوْا أَن يرضوا بقضاء على ،فََأتْوا رسو َ
عليه وسلم وهو عند مقام إبراهيم عليه السلم ،فقصّوا عليه القِصة ،فأجازه رسولُ ال صلى ال
عليه وسلم ،وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا)).
فصل
فيمن تزوج إمرأة أبيه
روى المام أحمد ،والنسائى وغيرُهما :عن البراء رضى ال عنه ،قال :لقيتُ خالى أبا بُردة
ل تزوّج امرأة أبيه أن أقتُله
ل ال صلى ال عليه وسلم إلى رج ٍ
ومعه الراية ،فقال(( :أرسلنى رسو ُ
وآخذ ماله)).
6
وذكر ابن أبى خيثمة فى ((تاريخه)) ،من حديث معاوية بن قُرة ،عن أبيه ،عن جده ،رضى
س بامرأةِ أبيه ،فضرب عنقَه،
أعْر َ ل ال صلى ال عليه وسلم بعثه إلى رجل
ال عنه ،أن رسو َ
وخ ّمسَ ماله .قال يحيى بن معين :هذا حديث صحيح.
وفى ((سنن ابن ماجه)) من حديث ابن عباس قال :قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم:
ت مَحْرمٍ فَا ْق ُتلُوهُ)).
ن وَقَعَ عَلى ذَا ِ
((مَ ْ
ل اغتصبَ أختَه على نفسها ،فقال :احبِسُوهُ،
وذكر الجوزجانى ،أنه رُفِ َع إلى الحجاجِ رج ٌ
ب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فسألوا عبد ال بن أبى مطرّف
وسلوا مَنْ هاهنا من أصحا ِ
حرَ َم ال ُم ْؤ ِمنِينََ ،فخُطّوا وَسَطَه
رضى ال عنه ،فقال :سمعتُ رسول ال يقول(( :مَنْ تَخَطّى ُ
بالسّيفِ)).
وقد نص أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد ،فى رجل تزوّج امرأة أبيه أو بذاتِ محرم،
فقال :يُقتل ،ويُدخل مالُه فى بيت المال.
ل ال صلى ال عليه وسلم.
ل هو الصحيح ،وهو مقتضى حكمِ رسو ِ
وهذا القو ُ
ع ّزرَ،
وقال الشافعى ومالك وأبو حنيفة :حدّه ح ّد الزانى ،ثم قال أبو حنيفة :إن وطئها بعدُ ،
ول حد عليه ،وحك ُم رسول ال صلى ال عليه وسلم وقضاؤه أحق وأولى.
فصل
فى حُكمه صلى ال عليه وسلم بقتل من ا ّتهِمَ بأم ولده فلما ظهرت براءتُه ،أمسك عنه
روى ابن أبى خيثمة وابن السكن وغيرُهما من حديث ثابت ،عن أنس رضى ال عنه ،أن
ابنَ عمّ ماريةَ كان ُيتّهم بها ،فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم لعلى بن أبى طالب رضى ال عنه:
عنُقَهُ)) ،فأتا ُه علىّ فإذا هو فى َر ِكىّ يت َبرّدُ فيها ،فقال له
ض ِربْ ُ
عنْ َد مَا ِريَةَ ،فا ْ
ن وَجَ ْدتَهُ ِ
((اذْهَبْ فَإ ْ
ف عنه على ،ثم أتى النبىّ
ب ليس له ذكر ،فك ّ
على :اخرج ،فناوله يده ،فأخرجه ،فإذا هو مجبو ٌ
صلى ال عليه وسلم ،فقال :يا رسول ال :إنه مجبوب ،ماله ذكر .وفى لفظ آخر :أنه وجده فى نخلة
يجمع تمراً ،وهو ملفوفٌ بخرقة ،فلما رأى السيفَ ،ارتعد وسقطت الخِرقة ،فإذا هو مجبوبٌ ل ذكر
له.
وقد أشكلَ هذا القضا ُء على كثي ٍر من الناس ،فطعن بعضُهم فى الحديث ،ولكن ليس فى
إسناده من يتعلّق عليه ،وتأوّله بعضُهم على أنه صلى ال عليه وسلم لم يُردْ حقيق َة القتل ،إنما أرادَ
جرَ عن مجيئه إليها .قال :وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه فى الولد:
تخويفَه ليزد ِ
7
ق الولد بينهما)) ،ولم يرد أن يفعل ذلك ،بل قصد استعل َم المر من هذا
((على بالسّكين حتى أشُ ّ
القول ،ولذلك كان مِن تراجم الئمة على هذا الحديث :باب الحاكم يُوهم خلف الحق لِيتوصل به
ل ال صلى ال عليه وسلم أن يَع ِرفَ الصحابة براءته ،وبراءة مارية،
إلى معرفة الحق ،فأحبّ رسو ُ
ل ال صلى ال عليه
وعلم أنه إذا عاين السيفَ ،كشف عن حقيقة حاله ،فجاء المرُ كما قدّره رسو ُ
وسلم.
ن من هذا أن يقال :إن النبى صلى ال عليه وسلم أمر عليًا رضى ال عنه بقتله تعزيراً
وأحس ُ
لقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده ،فلما تبيّن لعلى حقيقة الحال ،وأنه برىء من الريبة ،كفّ عن
قتله ،واستغنى عن القتل بتبيين الحال ،والتعزيرُ بالقتل ليس بلزم كالحدّ ،بل هو تاب ٌع للمصلحة
دائرٌ معها وجوداً وعدماً.
فصل
فى قضائه صلى ال عليه وسلم فى القتيل يُوجد بينَ قريتين
روى المام أحمد ،وابن أبى شيبة ،من حديث أبى سعيد الخدرى رضىَ ال عنه قال:
ل بَينَ قريتينِ ،فأمر النبىّ صلى ال عليه وسلم فَ َذرَعَ ما بينهما ،فوُجِدَ إلى أحدهما أقرب،
((وُجدَ قتي ٌ
علَى أقر ِب ِهمَا)).وفى ((مصنف عبد
فكأنى أنظر إلى شِبر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فألقاهُ َ
الرزاق)) قال عمرُ بن عبد العزيز(( :قضى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم فيما بلغنا فى القتيل
حّلفَ المدعون،
ن على المدّعى عليهم ،فإن َن َكلُواُ ،
يُوجد بين ظهرانى دِيارِ قومٍ :أنّ اليما َ
ف إذا لم
واستحقّوا ،فإن نكل الفريقانِ ،كانت الديةُ نِصفُها على المدّعى عليهم ،وبطل النص ُ
يحلِفُوا)).
وقد نص المام أحمد فى رواية المروَزى على القول بمثل رواية أبى سعيد ،فقال :قلت لبى
ع ِرفَ القوم .قلت:
ظلِمَ فيه قوم؟ فقال :يُرد عليهم إن ُ
عبد ال :القو ُم إذا أعطوا الشىء ،فتبينوا أنه ُ
فإن لم يُعرفوا؟ قال :يُفرّق على مساكين ذلك الموضع ،فقلت :فما الحُجة فى أن يُفرّق على مساكين
ن يعنى القرية التى
ذلك الموضع؟ فقال :عمر بنُ الخطاب رضى ال عنه جعل الدي َة على أهل المكا ِ
ظلِ َم قوم منهم ولم
وُجِدَ فيها القتيل ،فأراه قال :كما أن عليهم الدية هكذا يُفرّقُ فيهم ،يعنى :إذا ُ
يُعرفوا ،فهذا عمر بن الخطاب رضى ال عنه قد قضى بموجب هذا الحديث ،وجعل الديةَ على أهل
المكان الذى وُجِدَ فيه القتيلِ ،واحتج به أحمد ،وجعل هذا أصلً فى تفريق المال الذى ظُلم فيه أهلُ
ذلك المكان عليهم إذا لم يُعرفوا بأعيانهم.
8
ل بمثله ،ولم تَجُز
ح تعيّن القو ُ
وأما الثر الخر ،فمرسل ل تقو ُم بمثله حجة ،ولو ص ّ
مخالفته ،ول يُخالف باب الدعاوى ،ول باب القسامة ،فإنه ليس فيهم َل ْوثٌ ظاهر يُوجب تقديم
ب المدّعين من وجهين :أحدهما:
المدعين ،فيقدم المدّعى عليهم فى اليمين ،فإذا َن َكلُوا ،قوىَ جان ُ
وجو ُد القتيل بين ظهرانيهم .والثانى :نكولُهم عن براءة ساحتهم باليمن ،وهذا يقومُ مقا َم اللوثِ
حِلفُ المدّعون ،ويستحقون ،فإذا نكل الفريقانِ كلهما ،أورث ذلك شبه ًة مركبة من
الظاهرَ ،فيَ ْ
نكول كُلّ واحد منهما ،فلم ينهض ذلك سبباً ليجاب كمال الدية عليهم إذا لم يحلِف غرماؤهم ،ول
إسقاطُها عنهم بالكلية حيث لم يحلِفُوا ،فجعلت الدية نصفين ،ووجب نصفُها على المدّعى عليهم
لثبوت الشبهة فى حقهم بترك اليمين ،ولم تَجِب عليهم بكمالها ،لن خُصومَهم لم يحلِفُوا ،فلما كان
اللوثُ متركبًا من يمين المدعين ،ونكول المدّعى عليهم ،ولم يتمّ ،سقط ما يقابل أيمان المدعين وهو
النصفُ ،ووجب ما يُقابل نكول المدّعى عليهم وهو النصف ،وهذا مِن أحسن الحكام وأعدِلها،
وبال التوفيق.
فصل
فى قضائه صلى ال عليه وسلم بتأخير القِصاصِ من الجُرح حتى َينْ َدمِلَ
ذكر عبد الرزاق فى ((مصنفه)) وغيرُه :من حديث ابن جريج ،عن عمرو بن شعيب قال:
ل ال صلى ال عليه وسلم فى رجل طعن آخر بقرن فى رجله ،فقال :يا رسول ال:
((قضى رسو ُ
ل أن يستقيده ،فأقاده النبىّ صلى ال عليه وسلم،
حكَ)) ،فأبى الرجل إ ّ
جرَا ُ
حتّى َت ْب َرأَ ِ
أقِدْنى ،فقالَ (( :
ى صلى ال عليه وسلم:
ت وبرأ صاحبى ،فقال النب ّ
فصحّ المستقا ُد منه ،وعرج المستقيد ،فقال :عرج ُ
لّ وبطل عَرجك)) ،ثم أمر رسولُ
ص ْيتَنى ،فَأَبع َدكَ ا ُ
حكَ َف َع َ
حتّى َتبْرأَ جِرا ُ
((أَلَ ْم آ ُم ْركَ أَن ل تَستَقيدَ َ
عرَجَ أن ل يُستقاد منه حتى يبرأ جرح
ال صلى ال عليه وسلم من كان به جُرح بعد الرجل الذى َ
عرَج أو شللَ ،فل قود فيه ،وهو عقل ،ومن
صاحبه .فالجراح على ما بلغ حتى يبرأ ،فما كان مِن َ
استقاد جرحاً ،فأصيب المستقادُ منه ،فعقل ما فضل من دِيته على جُرح صاحبه له.
ث فى ((مسند المام أحمد)) .من حديث عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جدّه
قلت :الحدي ُ
ى صلى ال عليه وسلم فقال :أقدنى .فقال:
ل طعن بِ َقرْن فى ُر ْك َبتِهِ فجاء إلى النب ّ
متصل ((،أن رج ً
حتّى َت ْب َرأَ)) ،جاء إليه فقال :أَقِدْنى .فأقاده ،ثم جاء إليه ،فقال :يا رسولَ ال ،عرجتُ ،فقال(( :قَدْ
َ
ج َتكَ)) ،ثم نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يُقتصّ
عرْ َ
ص ْيتَنى ،فََأ ْبعَ َدكَ ال وبَطّلَ َ
َن َه ْي ُتكَ َف َع َ
مِن جُرح حتى يبَرأ صاحبه)).
9
جرِحَ ،فأرا َد أَن يستقيدَ ،فنهى
وفى سنن الدارقطنى :عن جابر رضى ال عنه(( ،أن رجلً ُ
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أن يُستقاد مِن الجارح حتى يبرَأ المجروحُ)).وقد تضمنتَ هذه
ص مِن الجُرح حتى يسِتق ّر أمرُه ،إما باندمالٍ ،أو بسِراية مستقرة،
الحكومةُ ،أنه ل يجوز القتصا ُ
وأنّ سراية الجناية مضمونة بالقود ،وجوازِ القِصاص فى الضربة بالعصا والقَرن ونحوهما ،ول
ناسخ لهذه الحكومة ،ول مُعارِضَ لها ،والذى نسخ بها تعجيلُ القصاص قبل الندمال ل نفسُ
القصاص فتأمله ،وأن المجنى عليه إذا بادر واقتصّ من الجانى ،ثم سرتِ الجناية إلى عُضو من
أعضائه ،أو إلى نفسه بعد القصاص ،فالسراي ُة هدر.وأنه يُكتفى بالقصاص وحدَه دون تعزير
الجانى وحبسِه ،قال عطاء :الجروحُ قِصاص ،وليس للمام أن يض ِربَه ول يسجِنه ،إنما هو
القصاص ،وما كان ربك نسياً ،ولو شاء ،لمر بالضرب والسجن .وقال مالك :يُقتص منه بحقّ
الدمى ،ويُعاقب لجرأته.
ص يُغنى عن العقوبة الزائدة ،فهو كالح ّد إذا أُقيم على المحدود ،لم
والجمهور يقولون :القصا ُ
يحتج معه إلى عقوبة أخرى.
والمعاصى ثلثة أنواع :نوعٌ عليه حدّ مقدّر ،فل يُجمع بينه وبين التعزير .ونوعٌ ل
حدّ فيه ،ول كفارة ،فهذا يُردع فيه بالتعزير ،ونوع فيه كفارة ،ول حد فيه ،كالوطء فى الحرام
والصيام ،فهل يُجمع فيه بين الكفارة والتعزير؟ على قولين للعلماء ،وهما وجهان لصحاب أحمد،
والقِصاص يجرى مجرى الحدّ ،فل يُجمع بينه وبين التعزير.
فصل
فى قضائِ ِه صلى ال عليه وسلم بالقِصاصِ فى كسرِ السن
ت ال ّر َبيّعِ لط َمتْ جَارِية ،فكسرت
فى ((الصحيحين)) :من حديث أنس ،أن ابنة النضر أخ َ
سنّها ،فاختصمُوا إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم ،فأمر بالقِصاصِ ،فقالت أُمّ ال ّر َبيّعِ :يا رسول ال،
ِ
ن َلوْ
لّ مَ ْ
عبَادِ ا ِ
ن مِنْ ِ
أَيقتص مِن فُلنة ،ل وال ل يُ ْقتَصّ منها ،فقال النبى صلى ال عليه وسلم(( :إ ّ
ل َب ّرهُ)).
علَى الِّ َ
أَقْسَمَ َ
فصل
فى قضائه صلى ال عليه وسلم فيمن عضّ ي َد رَجُلٍ ،فانتزع يده من فيه ،فسقطت ثنية العاض
بإهدارها
10
ثبت فى ((الصحيحين)) :أن رجلً عضّ يدَ رجل ،فنزع يدَه من فيه ،فوقعت ثناياه،
ض الفَحْلُ ،ل دِيةَ
فاختصمُوا إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم ،فقالَ (( :يعَضّ أحَ ُدكُم أَخَاهُ كما َيعَ ّ
َلكَ)).
ت هذه الحكومةُ أن مَنْ خلّص نَفَسَه مِن يدِ ظالمٍ لهَ ،ف َتلِ َفتْ نَ ْفسُ الظالم ،أو شىءٌ
وقد تضمّن ْ
غ ْي ُر مضمون.
مِنْ أطرافه أو مَالِ ِه بذلك ،فهو هَ ْدرٌ َ
فصل
حصَاةٍ أَو عُود ،ففقأ
ل بغير إذنه ،فَحذَفَهُ ب َ
فى قضائه صلى ال عليه وسلم فيمن أطلع فى بيت رجُ ٍ
عينه ،فل شىء عليه
(يتبع)...
@
ثبت فى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرة رضى ال عنه ،عن النبى صلى ال عليه
عَليْكَ
ع ْينَهُ ،لَ ْم َيكُنْ َ
حصَاةٍ ،فَفَ َقَأتْ َ
ك ِب َغ ْيرِ إِذْن ،فَحذَ ْفتَهُِ ،ب َ
عَل ْي َ
وسلم قالَ(( :ل ْو أَنّ امرءًا اطّلعَ َ
جنَاحٌ)).
ُ
ع ْينَهُ ،فَلَ دِي َة لَهُ ول ِقصَاصِ)).
وفى لفظ فيهما(( :مَنِ اطّلعَ فى َب ْيتِ َقوْمٍ ِب َغ ْي ِر إ ْذ ِنهِمْ ،فَفَ َقؤُوا َ
ى صلى ال عليه وسلم ،فقام إليهِ
ج ِر النب ّ
حرٍ فى بعضِ حُ َ
وفيهما(( :أن رجلً اطلعَ من جُ ْ
بمِشْقَصٍ ،وجعلَ يختِل ُه لِيطعَنه)) ،فذهب إلى القول بهذه الحكومة ،إلى التى قبلها فقهاءُ الحديث،
منهم :المامُ أحمد ،والشافعى ولم يقل بها أبو حنيفة ومالك.
[قضاء متنوع في القتل والدية]
فصل
ل ال صلى ال عليه وسلم ((أن الحامِلَ إذا َق َتلَت عمداً ل تُقتل حتى تضَعَ ما فى
وقضَى رسو ُ
ل َولَدَهَا)) .ذكره ابن ماجه فى ((سننه)).
بطنها وحتّى ُتكَفّ َ
وقضى ((أن ل يُقتل الوالدُ بالولَدِ)) .ذكره النسائى وأحمد.
ن بكافر)).
وقضى ((أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ،ول يُ ْقتَل مؤمِ ٌ
ل له قتيل ،فأهله َبيْنَ خِي َر َتيْنِ ،إما أن يقتلُوا أو يأخذوا العقل.
وقضى أن من ُقتِ َ
وقضى أن فى دية الصابع من اليدين والرّجلين فى كل واحدة عشرًا مِن البل .وقضى فى السنان
س خمسٍ.وقضى فى
فى كل سِن بخمسٍ من البل ،وأنها كلها سواء ،وقضى فى المواضح بخم ٍ
11
ط َعتْ بثلث ديتها ،وفى السّنّ
ستْ بثلث ديتها ،وفى اليد الشلء إذا قُ ِ
طمِ َ
العين السّادة لمكانها إذا ُ
عتْ بثلث ديتها.
السوداء إذا نُز َ
ت أرنبتُه بنصف الدية.
ع ْ
ع ُكلّه بالدية كاملة ،وإذا جُدِ َ
وقضى فى النف إذا جُدِ َ
وقضى فى المأمومة ب ُثلُث الدية ،وفى الجائفة بثلثها ،وفى ال ُمنَ ّقلَةِ بخمسةَ عشرَ من البل.
ض َتيْنِ بالدية ،وفى ال ّذ َكرِ بالدية ،وفى
وقضى فى اللسان بالدية ،وفى الشفتين بالدية ،وفى ال َبيْ َ
صلْب بالدية ،وفى العينين بالدية ،وفى إحداهما بنصفها ،وفى الرجل الواحدة بنصف الدية ،وفى
ال ّ
اليد بنصف الدية ،وقضى أن الرجل يُقتل بالمرأة.
وقضى أن دية الخطأ على العاقلة مائة من البل ،واختلفت الرواية عنه فى أسنانها،
ن ِب ْنتَ َمخَاضٍ،
لثُو َ
ففى السنن الربعة عنه من حديث عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده(( :ثَ َ
لثُونَ حِقّةً ،وعَشَر ُة بنى َلبُونٍ َذ َكرٍ)).
ت َلبُون ،وثَ َ
ن ِب ْن َ
لثُو َ
وثَ َ
قال الخطابى :ول أعلم أحدًا مِن الفقهاء قال بهذا.
ت مَخَاضٍ ،وعشرون بنت
وفيها أيضا من حديث ابن مسعود :أنها أخماسٌ((:عِشرون بن َ
لَبون ،وعشرون ابن مخاض ،وعشرون حِقّة ،وعِشرونَ جَذَعَة)).
خلِفَة ،وما
وقضى فى العمد إذا رضُوا بالدّية ثلثين حِقّة ،وثلثين جَذَعة ،وأربعين َ
صُولحوا عليه ،فهو لهم.
فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى القول بحديث ابن مسعودٍ رضى ال عنهما ،وجعل الشافعى
ومالك بدل ابن مخاض ابن لبون ،وليس فى واحد من الحديثين.
ى صلى ال عليه وسلم على أهل البل مائة من البل ،وعلى أهل البقر مائتى
وفرضها النب ّ
حلَلِ مائتى حُلة.
بقرة ،وعلى أهلِ الشاءِ ألفى شاة ،وعلى أهل ال ُ
وقال عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده رضى ال عنه أنه صلى ال عليه وسلم ((جعلها
ثمانمائة دينار ،أو ثمانمائة آلف درهم)).
وذكر أهل السنن الربعة من حديث عكرمة ،عن ابن عباس رضى ال عنهما((،أن رجلً
شرَ أَلفاً)).
ل النبى صلى ال عليه وسلم ديتَه اثنى ع َ
ُقتِلَ ،فجع َ
وثبت عن عمر أنه خطب فقال :إن البلَ قد غلت ،ففرضها على أهلِ الذهب ألفَ دينار،
ل البقر مائتى بقرة ،وعلى أهل الشا ِء ألفى شاة ،وعلى أهل
وعلى أهل ال َورِقِ عشر ألفاً ،وعلى أه ِ
الحُلل مائتى حلة ،وترك دِية أهل الذمة ،فلم يرفعها فيما رَفَ َع مِن الدية.
12
ل السنن الربعة عنه صلى ال عليه وسلم:
وقد روى أه ُ
صفُ عَقْلِ
ل ال ِكتَابينِ ِن ْ
ل أَهْ ِ
حرّ .ولفظ ابن ماجه :قضى أن عق َ
صفُ ِديَةِ ال ُ
(( ِديَةُ المعَاهَ ِد ِن ْ
المسلمين ،وهم اليهود والنصارى)).
واختلف الفقهاء فى ذلك ،فقال مالك :ديتهم نصفُ دية المسلمين فى الخطأ والعمد ،وقال
الشافعى :ثلثُها فى الخطأ والعمد .وقال أبو حنيفة :بل كِدَية المسلم فى الخطأ والعمد .وقال المام
ل دية المسلم فى العمد .وعنه فى الخطأ روايتان ،إحداهما :نصفُ الدية ،وهى ظاهر
أحمد :مث ُ
ع َمرَ جعل
مذهبه .والثانية :ثلثها ،فأخذ مالك بظاهر حديث عمرو بن شعيب ،وأخذ الشافعىّ بأن ُ
ف الدية
ضعّ َ
ث دية المسلم ،وأخذ أحمدُ بحديث عمرو إل أنه فى العم ِد َ
ديته أربعة آلف ،وهى ثل ُ
ضعّفت عليه الدية عقوبة،
عقوبة لجل سقوط القصاص ،وهكذا عنده مَنْ سقط عنه القصاصُ ،
نص عليه توفيقاً ،وأخذ أبو حنيفة بما هو أصلُه من جريان القصاص بينهما ،فتتساوى ديتُهما.
ل المرأة ِمثْلُ عقل الرجل إلى الثلث من ديتها))
وقضى صلى ال عليه وسلم ((أن عق َ
ذكره النسائى .فتصير على النصف من ديته ،وقَضى بالدية على العاقلة ،وبرأ منها الزوج ،وولد
المرأة القاتلة.
ل يُودى بقدر ما أَدّى من كتابته دية الحر ،وما
وقضى فى المكاتب أنه إذا ُقتِ َ
ى بن أبى طالب ،وإبراهيم النّخعى،
بقى فدية المملوك ،قلت :يعنى قيمته ،وقضى بهذا القضاء عل ّ
ويُذكر رواية عن أحمد ،وقال عمر :إذا أَدّى شطرَ كتابته كان غريماً ،ول يرجع رقيقاً ،وبه قضى
عبدُ الملك بن مروان .وقال ابن مسعود :إذا أدّى الثلث ،وقال عطاء :إذا أدّى ثلثة أرباع الكتابة،
ى لم تُجمع المةُ على تركه ،ولم يُعلم نسخه.
فهو غريم ،والمقصود :أن هذا القضاء النبو ّ
عَليْهِ ِدرْهَم)) فل معارضة بينه وبين هذا القضاء ،فإنه
عبْدٌ مَا بَ ِقىَ َ
وأما حديث ((المكَاتبُ َ
فى الرق بعد ،ول تحصل حريته التامة إل بالداء.
فصل
فى قضائه صلى ال عليه وسلم على من أقر بالزنى
ى صلى ال عليه وسلم،
ل من أسلم جاء إلى النب ّ
ثبت فى صحيح البخارى ومسلم أن رج ً
شهِ َد على نفسه أربعَ مرّاتٍ ،فقال
ى صلى ال عليه وسلم ،حتى َ
فاعترف بالزنى ،فأعرض عنه النب ّ
ص ْنتَ))؟ قَالَ :نعم ،فأ َم َر بهَِ ،فرُجمَ
النبىّ صلى ال عليه وسلمَ(( :أ ِبكَ جُنونٌ))؟ قال :ل .قال(( :أَحْ َ
13
فى المصلّى ،فلمّا أذلَ َقتْهُ الحجارةُ ،فرّ فأَ ْد ِركَ ،فُرجِم حتى مات ،فقال النبى صلى ال عليه وسلم
ى عليه.
خيراً ،وصل ّ
ع ْنكَ)) ،قال :وما بلغك عنى ،قالَ :بَلغَنى أ ّنكَ
ق مََا َبَلغَنى َ
وفى لفظ لهما :أنه قال :له ((أَحَ ّ
ى صلى ال
شهِ َد على نفسه أربعَ شهاداتٍ ،ثم دعاه النب ّ
وَ َق ْعتَ بجَا ِريَ ِة بنى فُلَنٍ)) فقال :نعم ،قال :فَ َ
ص ْنتَ)) ؛ قال :نعم ،ثم أ َم َر بِهِ َفرُجِمَ.
ح َ
جنُونٌ)) ،قال :ل ،قَالَ(( :أ ْ
عليه وسلم فقال(( :أ ِبكَ ُ
وفى لفظ لهما :فلما شهد على نفسه أربَعَ شهادات ،دعاه النبىّ صلى ال عليه وسلم فقال:
جمُوه)).وفى لفظ
ص ْنتَ))؟ قال :نعم .قالَ :اذْ َهبُوا بهِ ،فَار ُ
ح َ
((أ ِبكَ جنُونٌ)) ؛ قال :ل .قال(( :أَ ْ
ظ ْرتَ)) ،قال :ل يا
غ َم ْزتَ ،أو نَ َ
ت أو َ
للبخارى :أن النبى صلى ال عليه وسلم قالَ(( :لعَّلكَ َق ّب ْل َ
رسول ال .قال(( :أَ ِن ْك َتهَا)) ل َيكْنى ،قال :نعمَ ،ف ِعنْ َد ذلك أمر برجمه.
وفى لفظ لبى داود :أنه شَهد على نفسه أربعَ مرات ،كُلّ ذلك ُي ْعرِضُ عنه ،فَأَقبِل فى
ك ِم ْنهَا))؟ قال :نعم .قال:
حتّى غَاب ذِلكَ ِم ْنكَ فى ذِل َ
الخامسة ،قالَ(( :أ ِنكْ َتهَا))؟ قال :نعم .قالَ (( :
ل تَدْرى مَا ال ّزنَى))؟ قال:
حلَ ِة والرّشاء فى البئرِ))؟ قال :نعم .قالَ (( :فهَ ْ
ب المِيلُ فى ال ُمكْ ُ
(( َكمَا يغِي ُ
ل من امرأته حللً .قالَ (( :فمَا تُري ُد بِهذا ال َقوْلِ))؟ قال :أري ُد أن
نعم أتيتُ منها حراماً ما يأتى الرج ُ
تطهّرنى قال :فَأ َمرَ به َفرُجِمَ.
وفى ((السنن)) :أنه لما وج َد مسّ الحِجارة ،قال :يا قو ُم رُدّونى إلى رسول ال صلى ال
ل ال صلى ال عليه وسلم
عليه وسلم ،فإن قومى قتلونى ،وغرّونى من نفسى ،وأخبرونى أن رسو َ
غيرُ قاتلى.
ل إنى قد زنيتُ فطهّرنى ،وأنه
وفى ((صحيح مسلم))(( :فجاءت الغامدية فقالت :يا رسولَ ا ّ
ردّها ،فلما كان مِن الغد ،قالت :يا رسول الِّ ثم َترُدّنى ،لعلك أن َترُدّنى كما رددتَ ماعزاً؟ فوال
حتّى َتلِدى)) ،فلما ولدت ،أتته بالصبىّ فى خِرقة ،قالت :هذا قد
إنى لحبلى ،قال :إمّا لَ ،فاذْهبى َ
طمِيهِ)) ،فلما فطمته ،أتته بالصبىّ فى يده كِسرة خبز،
حتّى تَفْ ِ
ضعِيهِ َ
ولدتُه ،قال(( :اذْهبى فََأ ْر ِ
فقالت :هذا يا نبىّ ال قد فطمتُه ،وقد أكل الطعامَ ،فدفع الصبىّ إلى رجل من المسلمين ،ثم َأ َمرَ بها،
فَحُ ِف َر لها إلى صدرها ،وأمر الناسِ فرجموها ،فأقبل خال ُد بن الوليدِ بحجرٍ ،فرمى رأسها ،فانتضحَ
الدمُ على وجهِ ،فسبّها ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلمَ (( :مهْلً يا خَالِدُ َفوَالّذى نَفْسى بيَده ،لَقَدْ
س َلغُ ِفرَ لَهُ)) ثم أمر بها ،فصلى عليها ،ودُفنت.وفى ((صحيح
ب َم ْك ٍ
ح ُ
ت َت ْوبَةً َل ْو تَا َبهَا ،صَا ِ
تَا َب ْ
حصِنْ بنفى عامٍ ،وإقامةِ
البخارى)) :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قضى فيمن زنى ،ولم يُ ْ
14
لّ إل قضيتَ بيننا بكتابِ ال ،فقام
الحدّ عليه.وفى ((الصحيحين)) :أن رجلً قال له :أنشُ ُدكَ با ِ
خصمه ،وكان أفقَه مِنه ،فقال :صَدَقَ اقْضِ بيننا بكتابِ الِّ ،وائذن لى ،فقال((:قل)) قال :إن ابنى
كانَ عسيفًا على هذا ،فزنى بامرأته ،فافتديتُ منه بمائة شاةٍ وخادِم ،وإنى سألتُ أهلَ بالعلم،
جلْدَ مائ ٍة وتغريبَ عام ،وأن على امرأةِ هذا الرجم ،فقال(( :والّذِى نَفْسِى
فأخبرونى أن على ابنى َ
جلْدُ مائَ ٍة و َت ٌغرِيبُ عَامٍ ،واغْدُ
عَل ْيكَ ،وعلى ا ْب ِنكَ َ
ن َب ْي َن ُكمَا ِب ِكتَابِ الِّ ،المائَةُ والخَادِمُ رَدّ َ
ضيْ ّ
ل ْق ِ
َبيَ ِدهِ َ
جمَها.
ع َترَ َفتْ َفرَ َ
جمْها)) ،فا ْ
ع َترَ َفتْ فَارْ ُ
علَى ا ْم َرأَةِ هذَا ،فاسَْأ ْلهَا ،فإن ا ْ
يا أُنيسُ َ
وفى ((صحيح مسلم)) عنه صلىال عليه وسلم(( :الثّيبُ بالثّيب جلدُ مائ ٍة والرجْمُ ،والبِ ْكرُ
جلْدُ مائَ ٍة وتغريب عام)).
بال ِب ْكرِ َ
فتضمنت هذه القضية رج َم الثيب ،وأنه ل يُرجم حتى يُ ِق ّر أربع مراتٍ ،وأنه إذا أقر دون
ض عنه ،ويعرض له بعدم تكميل
الربع ،لم يلزم بتكميل نصاب القرار ،بل للمام أن ُي ْعرِ َ
القرار.وأن إقرارَ زائل العقل بجنون ،أو سكر ملغى ل عِبرة به ،وكذلك طلق ُه وعِتقُه ،وأيمانُه
ووصيتُه.
وأن الحر المحصَن إذا زنى بجارية ،فحده الرجم ،كما لو زنى بحرة.
وأن المام يُستحب له أن يُعرّض للمقر بأن ل يُ ِقرّ ،وأنه يجب استفسارُ المقرّ فى محل
الجمال ،لن اليدَ والف َم والعين لما كان استمتاعُها زنى استفسر عنه دفعاً لحتماله.
وأن المام له أن يصرح باسم الوطء الخاص به عند الحاجة إليه كالسؤال عن الفعل.
وأن الحد ل يجبَ على جاهل بالتحريم ،لنه صلى ال عليه وسلم سأله عن حكم الزنى،
فقال :أأتيتُ منها حراماً ما يأتى الرجل مِن أهله حللً.
طمَه ،وأن
ضعَه وتَف ِ
وأن الحد ل يُقام على الحامل ،وأنها إذا ولدت الصبىّ ،أمهَلتْ حتى تُر ِ
ب عليه أن يبدأ بالرجم.
ج ُ
المرأ َة يُحفَر لها دون الرجل ،وأن المام ل ي ِ
ل المعاصى إذا تابوا ،وأنه يُصلّى على من ُقتِلَ فى ح ّد الزنى ،وأن المُقِ ّر إذا
ب أه ِ
وأنه ل يجوز س ّ
استقال فى أثناء الحد ،وفّر ،ترك ولم يتمم عليه الحد ،فقيل :لنه رجوع .وقيل :لنه توبة قبل تكميل
الحد ،فل يقام عليه كما لو تاب قبل الشروع فيه ،وهذا اختيار شيخنا.
وأن الرجل إذا أقرّ أنه زنى بفلنة ،لم يُقم عليه حَ ّد مع حد الزنى.
وأن ما ُقبِضَ من المال بالصلح الباطلِ باطل يجبُ ردّه.
وأن المام له أن يُوكّل فى استيفاء الحد.
15
وأن الثيب ل يُجمع عليه بين الجل ِد والرجم ،لنه صلى ال عليه وسلم لم يجلد ماعزاً
جلِدَ المرأة التى أرسله إليها ،وهذا قول الجمهور ،وحديث عبادة:
ول الغامدية ،ولم يأمر أنيسًَا أن َي ْ
جلْدُ مِائَةٍ والرجم منسوخ)) .فإن هذا كان
سبِيلً :ال ّث ّيبُ بالثّيبِ َ
لّ َلهُنّ َ
جعَلَ ا ُ
((خذُوا عنى قَدْ َ
فى أول المر عند نزول حد الزانى ،ثم رجم ماعزاً والغامدية ،ولم يجلدهما ،وهذا كان بعد حديث
عبادة بل شك ،وأما حديث جابر فى ((السنن)) :أن رجلً زنى ،فأم َر به النبىّ صلى ال عليه وسلم
جلِدَ الحَدّ ،ثم أق ّر أنه محصَن ،فأمر به فرجم .فقد قال جابر فى الحديث نفسه :إنه لم يعلم بإحصانه،
فَ ُ
فجلد ،ثم علم بإحصانه فرجم .رواه أبو داود.
وفيه :أن الجهل بالعقوبة ل يسقط الحد إذا كان عالماً بالتحريم ،فإن ماعزًا لم يعلم أن
عقوبتَه بالقتل ،ولم يُسقط هذا الجهلُ الح ّد عنه.
وفيه :أنه يجوز للحاكم أن يحكم بالقرار فى مجلسه ،وإن لم يسمعه معه
ع َترَ َفتْ بحضرة
شاهدان ،نص عليه أحمد ،فإن النبىّ صلى ال عليه وسلم لم يقل لنيس :فإن ا ْ
شاهدين فارجمها.
وأن الحكم إذا كان حقاً محضاً ل لم يشترط الدعوى به عند الحاكم.
وأن الح ّد إذا وجب على امرأة ،جاز للمام أن يبعث إليها من يُقيمه عليها ،ول يحضرها،
وترجم النسائى على ذلك :صوناً للنساء عن مجلس الحكم.
ف على أن هذا حكمُ ال عز وجل إذا تحقق ذلك،
حِل ُ
وأن المام والحاكم والمفتىَ يجوزُ ال َ
وتيقنه بل ريب ،وأنه يجوز التوكيلُ فى إقامة الحدود ،وفيه نظر ،فإن هذا استناب ُة من النبى صلى
ال عليه وسلم ،وتضمن تغريب المرأة كما يغرب الرجل ،لكن يغرب معها محرمُها إن أمكن ،وإل
فل ،وقال مالك :ول تغريب على النساء ،لنهن عورة.
فصل
فى حُكمه صلى ال عليه وسلم على أهلِ الكتاب فى الحدود بحُكم السلم
ل ال صلى ال عليه
ثبت فى ((الصحيحين)) و ((المسانيد))(( :أن اليهودَ جاؤوا إلى رسو ِ
وسلم ،فذكروا له أن رجلً مِنهم وامرأةً زنيا ،فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم(( :مَا تَجِدُونَ فى
جلَدُون ،فقال عبدُ ال بن سلم :كذبتُم إن فيها الرّجمَ،
ال ّتوْرَاةِ فى شَأْن الرّجْمِ))؟ ((قالوا :نفضحُهم ويُ ْ
فََأ َتوْا بالتوارة ،فنشرُوها ،فوضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرجم ،فقرأ ما قبلَها وما بعدَها ،فقال له عبدُ
16
ال بنُ سلم :ارفَعْ يدَك ،فرفع يدَه ،فإذا فيها آيةُ الرجم ،فقالوا :صَدَقَ يا محمد ،إن فيها الرجم ،فَأ َمرَ
جمَا)).
بهما رسولُ ال صلى ال عليه وسلم َفرُ ِ
فتضمنت هذه الحكومةُ أن السلم ليس بشرط فى الحصان ،وأن الذّمى يُحصّن الذميةَ،
ل بذلك اختلفوا فى وجه هذا الحديث ،فقال مالك فى غير
وإلى هذا ذهب أحمدُ والشافعىّ ،ومن لم يَقُ ْ
ك أن
((الموطأ)) :لم يكن اليهودُ بأهل ذمة .والذى فى ((صحيح البخارى)) :أنهم أهلُ ذمة ،ول ش ّ
هذا كان بعدَ العهد الذى وقع بين النبىّ صلى ال عليه وسلم وبينهم ،ولم يكونوا إذ ذاك حرباً ،كيف
وقد تحاكمُوا إليه ،ورضُوا بحكمه؟ وفى بعضِ طُرق الحديث :أنهم قالوا :اذهبوا بنا إلى هذا النبىّ،
سهِم ،فأتاهم وحكم بينهم ،فهم كانوا
فإنه بعث بالتخفيف ،وفى بعض طرقه :أنهم دعوه إلى بيت مِ ْدرَا ِ
ل عهد وصُلح بل شك.
أه َ
ق القًصة صريحٌ فى ذلك ،وهذا
وقالت طائفة أخرى :إنما رجمهم بحُكم التوراة .قالوا :وسيا ُ
مما ل يُجدى عليهم شيئاً ألبتة ،فإنه حكم بينهم بالحقّ المحضِ ،فيجبُ اتباعُه بكلّ حال ،فماذا بعد
الحقّ إل الضلل.
وقالت طائفة :رجمهما سياسةً ،وهذا مِن أقبح القوال ،بل رجمهما بحُكم ال الذى ل حُكم
سِواه.
وتضمنت هذه الحكومةُ أن أهل الذّمة إذا تحاكَموا إلينا ل نحكُم بينهم إل بحُكم
السلم.
ن لم يُ ِقرّا ،ولم يشهد عليهما
ل الذمة بعضهم على بعض لن الزانيي ِ
وتضمنت قبولَ شهادة أه ِ
ل ال صلى
المسلمون ،فإنهم لم يحضُروا زِناهما ،كيف وفى ((السنن)) فى هذه القصة ،فدعا رسو ُ
ال عليه وسلم بالشّهودِ ،فجاؤوا أربعة ،فشهدوا أنهم رأوا ذكره فى فرجها مِثل المِيل فى المُكحلة.
وفى بعض طرق هذا الحديث :فجاء أربع ٌة منهم ،وفى بعضها :فقال لليهود(( :ا ْئتُونى
بَِأ ْر َبعَ ٍة ِم ْنكُم)).
وتضمنت الكتفاءَ بالرجم ،وأن ل يجمع بينَه وبين الجلد ،قال ابنُ عباس :الرجمُ فى
ن َلكُمْ
ل ال ِكتَابِ قَدْ جَا َءكُمْ رَسُولُنا ُي َبيّ ُ
ص عليه إل غوّاصٌ ،وهو قوله تعالى{ :يَأَهْ َ
كتاب ال ل يغو ُ
ن مِنَ ال ِكتَابِ} [المائدة ]15 :واستنبطه غير ُه مِن قوله{ :إنّا َأ ْن َزلْنا ال ّتوْراةَ فيها
َكثِيراً ِممّا ُك ْنتُم تُخْفُو َ
سَلمُوا ِللّذِينَ هَادُوا} [المائدة ]44 :قال الزهرى في حديثه:
ن أَ ْ
حكُم ِبهَا ال ّن ِبيّونَ الّذِي َ
ى َونُورٌ يَ ْ
هُد ً
17
سَلمُوا}
ن أَ ْ
حكُم ِبهَا ال ّن ِبيّونَ الّذِي َ
ى ونُورٌ ي ْ
فبلغنا أن هذه الية نزلت فيهم{ :إنّا َأ ْن َز ْلنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُد ً
ى صلى ال عليه وسلم منهم.
[المائدة ]44 :كان النب ّ
الحكم في الزنى واللواطة وشرب الخمر
فصل
فى قضائه صلى ال عليه وسلم فى الرجل يزنى بجارية امرأته
فى ((المسند)) و((السنن)) الربعة :من حديث قتادة ،عن حبيب بن سالم ،أن رجلً يقال له:
عبد الرحمن بن جُنين ،وقع على جارية امرأتهَ ،فرُفِ َع إلى النعمان بن بشير ،وهو أمير على
ك بقضيةِ رسول ال صلى ال عليه وسلم ،إن كانت أحلّتها لك ،جلدتُك مائة
الكوفة ،فقال :لقضينّ في َ
جلدة ،وإن لم تكن أحلتها ،رجمتُك بالحجارة ،فوجدوه أحلتها له ،فجلده مائة.
قال الترمذى :فى إسنادِ هذا الحديثِ اضطرابٌ ،سمعتُ محمداً يعنى البخارىّ يقول :لم يسمع
قتاد ُة مِن حبيب بنِ سالم هذا الحديثَ ،إنما رواه عن خالد بن عُرفُطة ،وأبو بشر لم يسمعه أيضًا من
حبيب بن سالم ،إنما رواه عن خالد بن عرفطة ،وسألت محمداً عنه؟ فقال :أنا أنفى هذا الحديثَ.
وقال النسائى :هو مضطرب ،وقال أبو حاتم الرازى :خالد ابن عرفطة مجهول.
حبّقِ ،أن رسولَ الِّ
سَلمَةَ بن المُ َ
وفى ((المسند)) و ((السنن)) :عن َق ِبصَة بن حُريثٍ ،عن َ
صلى ال عليه وسلم قضى فى رجل وقَع على جارية امرأته ،إن كان استكرهها ،فهى حرّة ،وعليه
لسيدتها مثلُها ،وإن كانت طاوعته ،فهى له ،وعليه لسيدتِها مثلُها.
فاختلف الناسُ فى القول بهذا الحكم ،فأخذ به أحمد فى ظاهر مذهبه ،فإن الحديثَ حسن،
وخالد بن عُرفطة قد روى عنه ثقتان :قتادة ،وأبو بشر ،ولم يُعرف فيه قدح ،والجهالة ترتفِعُ عنه
برواية ثقتين ،القياسُ وقواع ُد الشريعة يقتضى القولَ بموجب هذه الحكومة ،فإن إحلل الزوجة
شبه ْة تُوجب سقوطَ الحد ،ول تُسقِط التعزيزَ ،فكانت المائ ُة تعزيزاً ،فإذا لم تكن أحلتها ،كان زنىً ل
شبهة فيه ،ففيه الرجمُ ،فأى شىء فى هذه الحكومة مما يُخالف القياس.
سلَمة بن المحبّق :فإن صحّ ،تعيّن القولُ به ولم يُعدَل عنه ،ولكن قال النسائى :ل
وأما حديث َ
َيصِحّ هذا الحديثُ.قال أبو داود :سمعتُ أحمد بن حنبل يقول :الذى رواه عن سلمة بن المحبق شيخٌ
ل يُعرف ،ول يُحدث عنه غيرُ الحسن يعنى قَبيصة بن حريث .وقال البخارى فى ((التاريخ)):
قَبيصة بن حُريث سمع سلمة بن المحبق ،فى حديثه نظر ،وقال ابن المنذر :ل يثُبتُ خبرُ سلمة بن
18
المحبق ،وقال البيهقى :وقبيصة ابن حُريث غير معروف ،وقال الخطابى :هذا حديث منكر،
ث ممن سمع.
وقبيصة غير معروف ،والحجة ل تقوم بمثله ،وكان الحسن ل يُبالى أن يروىَ الحدي َ
ل نزول
وطائفة أخرى قبلت الحديثَ ،ثم اختلفوا فيه ،فقالت طائفة :منسوخ ،وكان هذا قب َ
الحدود.
وقالت طائفة :بل وجهه أنه إذا استكرهها ،فقد أفسدها على سيدتها ،ولم تبق ممن تصلُح لها،
ولَحِقَ بها العارُ ،وهذا ُم ْثلَ ٌة معنوية ،فهى كال ُم ْثلَةِ الحِسية ،أو أبلغُ منها ،وهو قد تضمن أمرين:
إتلفها على سيدتها ،والمثلة المعنوية بها ،فيلزمه غرامتُها لسيدتها ،وتُعتق عليه ،وأما إن طاوعته،
فقد أفسدها على سيدتها ،فتلزمه قيمتُها لها ،ويملِكُها لن القيمة قد استحقت عليه ،وبمطاوعتِها
وإرادتِها خرجت عن شُبهة المثلة .قالوا :ول ُبعْد فى تنزيل التلف المعنوى منزلة التلفِ
ن المالك وبين النتفاع بمُلكه ،ول ريبَ أن جاري َة الزوجة إذا صارت
الحِسى ،إذ كلهما يحولُ بي َ
موطوءة لزوجها ،فإنها ل تبقى لسيدتها كما كانت قبلَ الوطء ،فهذا الحك ُم مِن أحسن الحكام ،وهو
موافق للقياس الصولى.
ل الحديث ،ول تضُ ّر كثرةُ المخالفين له ،ولو كانوا
وبالجملة :فالقول به مبنى على قبو ِ
أضعافَ أضعافهم.
فصل
ولم يثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قضى فى اللواط بشىء ،لن هذا لم تكن تعرِفُه
ل والمَ ْفعُولَ بِهِ)).
ت عنه أنه قال(( :ا ْق ُتلُوا الفَاعِ َ
العربُ ،ولم يُرفع إليه صلى ال عليه وسلم ،ولكن ثب َ
رواه أهل السنن الربعة ،وإسناده صحيح ،وقال الترمذى :حديث حسن.
وحكم به أبو بكر الصّديق ،وكتب به إلى خالد بعد مشاور ِة الصحابة ،وكان علىّ أشدّهم فى
ذلك.
ن القصار :وشيخنا :أجمعتِ الصحاب ُة على قتله ،وإنما اختلفُوا فى كيفية قتله ،فقال
وقال اب ُ
ى رضى ال عنه :يُهدم عليه حائط .وقال ابنُ عباس:
أبو بكر الصديق :يُرمى من شاهق ،وقال عل ّ
ق منهم على قتله ،وإن اختلفوا فى كيفيته ،وهذا وافق لحُكمه صلى ال
يُقتلن بالحجارة .فهذا اتفا ٌ
عليه وسلم فيمن وطىء ذات محرم ،لن الوطء فى الموضعين ل يُباح للواطىء بحال ،ولهذا جمع
بينهما فى حديث ابن عباس رضى ال عنهما ،فإنه روى عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال(( :مَنْ
19
حرَمٍ ،فا ْق ُتلُوه))،
ت مَ ْ
عمَلَ قوم لُوطِ فَا ْق ُتلُوهُ)) ،وروى أيضًا عنه(( :مَنْ وَقَعَ عَلى ذَا ِ
وَجَ ْدتّموه َي ْعمَلُ َ
وفى حديثه أيضاً بالسناد(( :مَنْ أَتى َبهِيمَةً فَا ْق ُتلُوهُ وا ْق ُتلُوها َمعَهُ)).
وهذا الحكم على وفق حكم الشارع ،فإن المحرماتِ كلّما تغلّظت ،تغلّظت عقوباتُها ،ووطءُ
من ل يُباح بحال أعظمُ جرمًا مِن وطء من يُباح فى بعض الحوال ،فيكون حدّه أغلظَ ،وقد نصّ
أحمدُ فى إحدى الروايتين عنه ،أن حُكم من أتى بهيمةً حكْ ُم اللواط سواء ،فيُقتل بكل حال ،أو يكون
حدّه ح ّد الزانى.
واختلف السلفُ فى ذلك ،فقال الحسن :حدّه ح ّد الزانى .وقال أبو سلمة عنه :يقتل بكل حال،
وقال الشعبى والنخعى :يُعزّر ،وبه أخذ الشافعى ومالك وأبو حنيفة وأحمد فى رواية ،فإن ابن
عباس رضى ال عنه أفتى بذلك ،وهو راوى الحديث.
فصل
وحكم صلى ال عليه وسلم على من أقرّ بالزّنى بامرأة معينة بح ّد الزنى دون القذف ،ففى
ى صلى ال عليه وسلم(( ،فأقرّ عنده أنه زنى
ل أتى النب ّ
ل بنِ سعد ،أن رج ً
((السنن)) :من حديث سه ِ
ت أَنْ تكونَ
بامرأةٍ سمّاها ،فبعثَ رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك ،فأنك َر ْ
زنت ،فجلده الح ّد وتركها)).
فتضمنت هذه الحكومةُ أمرين:
أحدهما :وجوبُ الح ّد على الرجل ،وإن كذّبته المرأة خلفاً لبى حنيفة وأبى يوسف أنه ل
يُحّد.
الثانى :أنه ل يجب عليه ح ّد القذف للمرأة.
(يتبع)...
ل أتى
وأما ما رواه أبو داود فى ((سننه)) :من حديث ابن عباس رضى ال عنه ،أن رج ً @
النبى صلى ال عليه وسلم((،فأقر أن زنى بامرأ ٍة أربعَ مرات ،فجلده مائةَ جلدة وكان بكرا ،ثم سأله
البينةَ على المرأة فقالت :كذب وال يا رسول ال ،فجلد حد الفرية ثمانين)) ؛ فقال النسائىّ :هذا
حديث منكر .انتهى .وفى إسناده القاسم بن فياض النبارى الصنعانى ،تكلم فيه غير واحد ،وقال
ج به.
ابن حبان :بطل الحتجا ُ
فصل
20
حصِنّ فَإنْ
حكَم فى المة إذا زنت ولم تُحصنْ بالجلد .وأما قوله تعالى فى الماء{:فَإذَا أُ ْ
وَ
ت مِنَ العَذَابِ} [النساء ،]25 :فهو نص فى أن حدّها
صنَا ِ
ح َ
ف مَا عَلى المُ ْ
ص ُ
أ َتيْنَ بِفَاحِشَةٍ َف َعلْيهِنّ ِن ْ
بعد التزويج نصفُ ح ّد الحرة من الجد ،وأما قبل التزويج ،فأمرَ بجلدها.
وفى هذا الحد قولن:
أحدهما :أنه الحد ،ولكن يختِلفُ الحال قبل التزويج وبعده ،فإن للسيد إقامتَه قبله ،وأما بعده،
فل يُقيمه إل المام.
والقول الثانى :أن جلدهما قبل الحصان تعزير ل حد ،ول يُبطل هذا ما رواه مسلم فى
جلِدْهَا وَلَ
((صحيحه)) :من حديث أبى هريرة رضى ال عنه يرفعُه(( :إذَا َز َنتْ َأمَ ُة أَحَ ِدكُمَْ ،ف ْليَ ْ
ض ِربْها
جلِدْهَا َو ْل َي ِبعْها َوَلوْ ِبضَفِير)) ،وفى لفظ (( َف ْليَ ْ
ت فى الرّابِعَةِ َف ْليَ ْ
لثَ َمرّاتٍ ،فإِنْ عَا َد ْ
ُي َع ّيرْها ثَ َ
كتاب ال)).
وفى ((صحيحه)) أيضاً :من حديث على رضى ال عنه أنه قالَ :أيّها الناسُ أقيمُوا على
ل ال صلى ال عليه وسلم َز َنتْ،
ن مِنهن ،ومن لم يُحصنْ ،فإن أم ًة ِلرَسُو ِ
ن أحص َ
أرقائكم الحدّ ،مَ ْ
فأمرنى أن أجلِدَهَا ،فإذا هى حديثةُ عهدٍ ِبنِفاس ،فخشيتُ إن أنا جلدتُها أن أق ُتلَها ،فذكرت ذلك للنبى
صلى ال عليه وسلم ،فقال(( :أحسنتَ)).
فإن التعزير يدخلُ لفظُ الحد فى لسان الشارع ،كما فى قوله صلى ال عليه وسلم(( :ل
يُضرَبُ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إل فى ح ّد مِن حدُود ال تعالى)).
وقد ثبت التعزيرُ بالزيادة على العشرة جنساً وقدراً فى مواضِع عديدة لم َي ْث ُبتْ نسخُها ،ولم
جمِع الم ُة على خِلفها.
تُ ْ
وعلى كل حال ،فل بد أن يُخاِلفَ حالُها بعد الحصان حالها قبله ،وإل لم يكن للتقييد فائدة،
فإما أن يُقال قبل الحصان :ل حدّ عليها ،والسنة الصحيح ُة تبطِلُ ذلك ،وإما أن يقال :حدّها قبل
الحصان ح ّد الحرة ،وبعده نصفه ،وهذا باطل قطعًا مخالف لقواعد الشرع وأصوله ،وإما أن يُقال:
جلدُها قبل الحصان تعزير ،وبعده حد ،وهذا أقوى ،وإما أن يُقال :الفتراقُ بين الحالتين فى إقامة
الحدّ ل فى قدرِه ،وأنه فى إحدى الحالتين للسيد ،وفى الخرى للمام ،وهذا أقربُ ما يُقال.
وقد يقال :إن تنصيصه على التنصيفِ بعد الحصان لئل يتوهّم متوهم أن بالحصان يزولُ
التنصيفٌ ،ويصيرُ حدها حدّ الحرة ،كما أن الح َد زال عن البِكر بالحصان ،وانتقل إلى الرجم،
21
فبقى على التنصيف فى أكمل حالتيها ،وهى الحصان تنبيهًا على أنه إذا اكتُ ِفىَ به فيها ،ففيما قبل
الحصان أولى وأحرى ،وال أعلم.
ل ال صلى ال عليه وسلم فى ((مريض زنى ولم يَح َتمِلْ إقامةَ الحد،
وقضى رسو ُ
ب بها ضربةً واحدة)).
ش ْمرَاخٍ ،فيُضر َ
بأن يُؤخذ له [عِ ْثكَالٌ] فيه مائة ِ
فصل
وحكم رسولُ ال صلى ال عليه وسلم بح ّد القذفِ ،لما أنزل الُّ سبحانه براءةَ زوجت ِه مِن
ن ُأثَانَة .قال أبو جعفر النّفيلى:
حبُ
ن بن ثابت ،ومِسطَ ُ
السماء ،فجلد رجلين وامرأةً .وهما :حسا ُ
ويقولون :المرأة حَمنة بنتُ جحش.
ل من امرأة ،وقتل الصديقُ امرأةً ارتدت
وحكم فيمن بدل دينه بالقتل ،ولم يخص رج ً
بعد إسلمها يقال لها :أم قِرفة.
وحكم فى شارب الخمر بضربه بالجري ِد والنّعال ،وضربه أربعينَ ،وتبعه أبو
بكر رضى ال عنه على الربعين.
وفى ((مصنف عبد الرزاق)) :أنه صلى ال عليه وسلم ((جلد فى الخمر ثمانين)).
ل ال صلى ال عليه وسلم شيئاً)).
وقال ابنُ عباس رضى ال عنه(( :لم يُو ّقتْ فيها رسو ُ
وقال على رضى ال عنه(( :جلد رسول ال صلى ال عليه وسلم فى الخمر أربعين ،وأبو
بكر أربعينَ ،وكمّلها عمرُ ثمانيَ ،وكُلّ سنة)).
وصح عنه صلى ال عليه وسلم أنه أمر بقتله فى الرابعة أو الخامسة .واختلف الناسُ
فى ذلك ،فقيل :هو منسوخ ،وناسخه ((ل َيحِلّ دمُ امرىء مسلمٍ إل بإحدى ثلث)) .وقل :هو محكم،
ض بين الخاص والعام ،ول سيما إذا لم يُعلم تأخّر العام .وقيل :ناسخُه حديث عبد ال
ول تعار َ
ى به مراراً إلى رسولِ ال صلى ال عليه وسلم فجلده ولم يقتُله.
حِمارٍ ،فإنه ُأ ِت َ
وقيل :قتله تعزيزٌ بحسب المصلحة ،فإذا كثر منه ولم ينهه الحدّ ،واستهان به ،فللمام قتلُه
تعزيزاً ل حداً ،وقد صحّ عن عبد ال بن عمر رضى ال .عنهما أنه قال :أئتونى به فى الرابعة
فعلىّ أن أق ُتلَه لكم ،وهو أح ُد رواة المر بالقتل عن النبى صلى ال عليه وسلم ،وهم :معاويةُ ،وأبو
هريرة ،وعبدُ ال ابن عمر ،وعبدُ ال بن عمرو ،وقَبيصة بن ذؤيب رضى ال عنهم.
22
وحديث قبيصة :فيه دللة على أن القتلَ ليس بحد ،أو أنه منسوخ ،فإنه قال فيه :فأُتيِ رسولُ
ال صلى ال عليه وسلم برجل قد شرب ،فجلده ،ثم أتى به ،فجلده ،ثم أتى به فجلده ،ورفع القتل،
وكانت رخصة .رواه أبو داود.
فإن قيل :فما تصنعون بالحديث المتفق عليه ،عن على رضى ال أنه قال :ما كنت لدرى من أقمتُ
ل ال صلى ال عليه وسلم لم يَسُنّ فيه شيئاً ،إنما هو شىءُ
عليه الحدّ إل شاربَ الخمر ،فإنّ رسو َ
سنّه.
قلناه نحن .لفظ أبى داود .ولفظهما :فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم مات ولم يَ ُ
ل ال صلى ال عليه وسلم لم يُقَ ّد ْر فيه بقوله تقديراً ل يُزاد عليه
قيل :المرا ُد بذلك أن رسو َ
ل ال صلى ال عليه وسلم قد
شهِ َد أن رسو َ
ول يُنقص كسائر الحدود ،وإل فعلى رضى ال عنه قد َ
ضرب فيها أربعين.
وقوله :إنما هو شىء قلناه نحن ،يعنى التقديرَ بثمانين ،فإن عم َر رضى ال عنه جمع
الصحابة رضي ال عنهم واستشارهم ،فأشاروا بثمانين ،فأمضاها ،ثم جلد على فى خلفته أربعين،
ب إلىّ.
وقال :هذا أح ّ
ومن تأمّل الحاديثَ ،رآها تدل على أن الربعينَ حد ،والربعون الزائدة عليها تعزيزٌ اتفق
ك الناسِ
عليه الصحاب ُة رضى ال عنهم ،والقتلُ إما منسوخ ،وإما أنه إلى رأى المام بحسب تهال ِ
فيها واستهانتهم بحدها ،فإذا رأى قتلَ واحد لينزجر الباقون ،فله ذلك ،وقد حلق فيها عمرُ رضى ال
عنه وغرّب ،وهذا من الحكام المتعلقة بالئمة ،وبال التوفيق.
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى السارق
قطع سارقاً فى ِمجَنّ قيمته ثلث ُة دراهم.
ل من ُربُع دينار.
وقضى أنه ل تُقطع فى أق ّ
ن ذلِك)) ذكره
طعُوا فِيمَا ُهوَ أَ ْدنَى مِ ْ
طعُوا فى ُربْعِ دينَارٍ ،ول تَقْ َ
وصح عنه أنه قال(( :اقْ َ
المام أحمد رحمه ال.
ل ال صلى ال عليه
لّ عنها :لم تكن تقطع يدُ السارق فى عهد رسو ِ
وقالت عائشة رضىَ ا ُ
جحَفَةٍ ،وكان كلٌ منهما ذا ثمن.
وسلم فى أدنى من ثمن المِجَنُّ ،ت ْرسٍ أو َ
سرِقُ ال َب ْيضَةَ َفتُقْطَع يَ ُدهُ)).
حبْلَ َفتُقْطَ ُع يَ ُد ُه ويَ ْ
سرِقَ ال َ
ق يَ ْ
لّ السّارِ َ
وصح عنه أنه قالَ(( :لعَنَ ا ُ
حبْل و َبيْضَةٍ ،وقيل :هو إخبار بالواقع ،أى:
ل السفينة ،و َب ْيضَة الحديد ،وقيل :بل كل َ
فقيل :هذا حب ُ
23
إنه يسرق هذا ،فيكون سبباً لقطع يده بتدرّجه منه إلى ما هو أكبرُ منه .قال العمش :كانوا يرونَ
حبْلُ كانوا يرون أن منه ما يُساوى دراهم.
بأنه َبيْضُ الحديد ،وال َ
وحكم فى امرأة كانت تستعيرُ المتاع وتَجْحَدُه بقطع يدها.
وقال أحمد رحمه ال :بهذه الحكومة ول معارض لها.
خ َتلِس ،والخائن .والمراد
وحكم صلى ال عليه وسلم بإسقاط القطع عن الم ْنتَهب ،والمُ ْ
بالخائن :خائن الوديعة.
ى صلى ال عليه وسلم
وأما جاحدُ العارّية ،فيدخلُ فى اسم السارق شرعاً ،لن النب ّ
حمّدٍ
طمَ َة ِب ْنتَ مُ َ
لما كلّموه فى شأن المستعيرة الجاحدة ،قطعها ،وقال(( :والّذِى نَفْسِى بيَ ِد ِه َل ْو أَنّ فَا ِ
ط ْعتُ يَدَهَا)).
ت لَقَ َ
سرَ َق ْ
َ
فإدخاله صلى ال عليه وسلم جاحِد العارّية فى اسم السارق ،كإدخاله سائر أنواع المسكر فى
اسم الخمر ،فتأمله ،وذلك تعريف للمة بمراد ال من كلمه.
وأسقط صلى ال عليه وسلم القطعَ عن سارق ال ّث َم ِر وال َكثَرِ ،وحكم أن من أصاب منه شيئاً
بفمه وهو محتاج ،فل شىء عليه ،ومن خرج منه بشىء ،فعليه غرامة مثليه والعقوبَة ،ومن سَرق
ن فهذا قضاؤه الفصلُ ،وحُكمُه العدل.
منه شيئاً فى جَرينه وهو بيدره ،فعليه القطع إذا بلغ َثمَنَ المج ّ
وقضى فى الشاة التى تُؤخذ مِن مراتِعها بثمنها مرتين ،وضرب نكال ،وما أُخِ َذ من عَطَنه،
ففيه القطعُ إذا بلغ ثمن المجن.
وقضى بقطع سارق رِداء صفوان بن أمية ،وهو نائم عليه فى المسجد ،فأراد
ل أَنْ تَ ْأتِينى به)).
ل كَانَ َقبْ َ
ن أن يَهبَه إياه ،أو ربيعَه منه ،فقال(( :هَ ّ
صفوا ُ
وقطع سارقاً سرق تُرسًا من صُفة النساء فى المسجد.
ق َب ْعضُه
سرَ َ
ق مِن الخمس .وقَالَ(( :مَالُ الِّ َ
سرَ َ
خمُس َ
و َد َرأَ القطع عن عبد مِن رقيق ال ُ
َبعْضاً)) رواه ابن ماجه.
سرَقَ))؟ قال :بلى
ورُف َع إليه سارق ،فاعترف ،ولم يُوجد معه متاع ،فقال له(( :مَا إخَالُه َ
فأعا َد عليه مرتين أو ثلثاً ،فأمر به فُقطِع.
طعُوهُ ،ثُمّ
سرَقَ))؟ فقال :بلى ،فقال(( :اذْ َهبُوا بِهِ فَاقْ َ
ورفع إليه آخر فقال(( :مَا إخَالُهُ َ
ب إلى ال))،
سمُوهُ ،ثُ ّم أئتُونى بِهِ)) ،فقطع ،ثم أتى به النبى صلى ال عليه وسلم ،فقال لهُ (( :ت ْ
احْ ِ
عَل ْيكَ)).
فقال :تبتُ إلى ال ،فقال(( :تابَ الُّ َ
24
عنُقه .قال :حديث حسن.
وفى الترمذى عنه أن قطع سارقًا وعلق يده فى ُ
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم على من اتّهم رجلً بسرقة
سرِقَ لهم متاع ،فاتّهموه ناسًا مِن الحَاكَة،
روى أبو داود :عن أزهر بن عبد ال ((أن قوماً ُ
فأتوا النعمانَ بْن بشيرٍ صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فحبسهم أياماً ثم خلّى سبيلهم ،فَأ ُتوْه
فقالُوا :خّل ْيتَ سبيلَهم بغير ضرب ول امتحان ،فقال :ما شئتُم ،إن شئتُم أن أضربَهم ،فإن خرجَ
ح ْك ُمكَ؟ فقال:
ت مِن ظهورهم .فقالوا :هذا ُ
ل الذى أخذ ُ
ت مِن ظُهو ِركُم مث َ
متاعُكم فذاكَ ،وإل أخذ ُ
حكْ ُم رَسُولِه)).
حكْمُ الِّ و ُ
ُ
فصل
وقد تضمنت هذه القضيةُ أموراً :
أحدها :أنه ل يقطع فى أقل من ثلث ِة دراهم ،أو رُبع دينار.
ب الكَبائِر بأنواعهم دونَ أعيانهم ،كما َلعَنَ السارِقَ،
الثانى :جوا ُز لعنِ أصحا ِ
ولعن آكِل الرّبا وموكلَه ،ولعن شاربَ الخمر وعاصِرها ،ولعن من عمل عمل قو ِم لوط ،ونهى عن
ض بين المرين ،فإن الوصف الذى علق اللعن
لعن عبد ال حِمار وقد شرب الخمر ،ول تعار ُ
مقتض .وأما المعين ،فقد يقوم به ما يمنعُ لحوقَ اللعن به مِن حسنات ماحية ،أو توبة ،أو مصائب
مكفرة ،أو عف ٍو من ال عنه ،فتُلعن النواعُ دون العيان.
ل والبيضة ل تدعُه حتى تقط َع يده.
الثالث :الشارة إلى سد الذرائع ،فإنه أخبر أن سرقة الحب ِ
الرابع :قطعُ جاحد العارية ،وهو سارق شرعاً كما تقدم.
ف عليه الغرمُ ،وقد نص عليه المام
ع َ
الخامس :أن من سرق مالً قطع فيه ،ضُو ِ
عفَ عليه الغرم ،وقد تقدّم الحك ُم النبوىّ به فى
أحمد رحمه ال ،فقال :كل مَنْ سقط عنه القطعُ ،ضُو ِ
صورتين :سرق ِة الثمار المعلقة ،والشا ِة من المرتع.
ع التعزيز مع الغُرم ،وفى ذلك الجم ُع بين العقوبتين :مالية وبدنية.
السادس :اجتما ُ
السابع :اعتبارُ الحِرز ،فإنه صلى ال عليه وسلم أسقط القطعَ عن سارق الثمار من
الشجرة ،وأوجبه على سارقة من الجرين ،وعند أبى حنيفة أن هذا لنقصان ماليته ،لسراع الفسادِ
ل الجمهور أصحّ ،فإنه
إليه ،وجعل هذا أصلً فى كل ما نقصت ماليتُه بإسراع الفساد إليه ،وقو ُ
صلى ال عليه وسلم جعل له ثلثة أحوال :حالةً ل شىء فيها ،وهو ما إذا أكل منه بفيه ،وحال ًة ُي َعزّم
25
مثليه ،ويُضرب مِن غير قطع ،وهو ما إذا أخذه من شجره وأخرجه ،وحال ًة يُقطع فيها ،وهو ما إذا
سرقه مِن بيدره سواء كان قد انتهى جفافُه أو لم ينته ،فالعبرةُ للمكان والحرز ل لُيبسه ورطوبته،
ويدل عليه أن صلى ال عليه وسلم أسقط القطعَ عن سارق الشاةِ من مرعاها ،وأوجبه على سارقها
مِن عطنها فإنه حرزُها.
الثامن :إثبات العقوبات المالية ،وفيه عدة سنن ثابتة ل مُعارِضَ لها ،وقد
عمل بها الخلفا ُء الراشدون وغيرُهم مِن الصحابة رضى ال عنهم ،وأكث ُر من عمل بها عمر رضى
ال عنه.
التاسع :أن النسان حِرز لثيابه ولفراشه الذى هو نائم عليه أين كان ،سواء كان فى المسجد
أو فى غيره.
العاشر :أن المسجد حِرز لما يعتاد وضعُه فيه ،فإن النبى صلى ال عليه وسلم قطع مَن
سرق منه ترساً ،وعلى هذا فيُقطع من سرق مِن حصيره وقناديله وبسطه ،وهو أح ُد القولين فى
مذهب أحمد وغيره .ومن لم يقطعه ،قال :له فيها حق ،فإن لم يكن فيها حق ،قطع كالذمى.
الحادى عشر :أن المطالبةُ فى المسروقِ شرط فى القطعِ ،فلو وهبه إياه ،أو باعه قبل
رفعه إلى المام ،سقط عنه القطع ،كما صرح به النبى صلى ال عليه وسلم وقال(( :هَلّ كَانَ َقبْلَ
أَنْ َت ْأتِينى بِهِ)).
الثانى عشر :أن ذلك ل يُسقط القطعَ بعد رفعه إلى المام ،وكذلك كُلّ حد بلغ
المام ،وثبت عنده ل يجوز إسقاطُه ،وفى ((السنن)) :عنه(( :إذا َبَل َغتِ الحُدُودُ المَامََ ،فَلعَنَ الُّ
الشافِ َع والمُشَفّعَ)).
ق لم يُقطع.
الثالث عشر :أن من سرق من شيء له فيه ح ّ
الرابع عشر :أنه ل يقطع إل بالقرار مرتين ،أو بشهادةِ شاهدين ،لن السارق أقرّ
عنده مرة ،فقال(( :ما إخالك سرقت))؟ فقال :بي ،فقطعه حينئذ ،ولم يقطعه حتى أعاد عليه مرتين.
الخامس عشر :التعريضُ للسارق بعدم القرار ،وبالرجوع عنه ،وليس هذا
حُكمَ كل سارق ،بل من السّراق من يُقرّ بالعقوبة والتهديد ،كما سيأتى إن شاء ال تعالى.
السادس عشر :أنه يجب على المام حسمُه بعد القطع لئل يتَلفَ .وفى
قوله(( :احسموه)) ،دليل على أن مؤنة الحسم ليست على السارق.
السابعُ عشر :تعليق يد السارق فى عنقه تنكيلً له وبه ليراه غيره.
26
ب النبى صلى ال عليه
ب المتهم إذا ظهر منه أمارات الرّيبة ،وقد عا َق َ
الثامن عشر :ضر ُ
وسلم فى تُهمة ،وحبس فى تُهمة.
ب تخلية المتّهم إذا لم يظهر عنده شىء مما اتّهم به ،وأن المتّهِ َم إذا
التاسع عشر :وجو ُ
ض ِربَ هو مثل ضرب من اتهمه إن أجيب إلى
رضي بضرب المتُهم ،فإن خرج ماله عنده ،وإل ُ
ل عنه ،وأخبر أنه قضاء
ذلك ،وهذا ُكلُه مع أمارات الرّيبة ،كما قضى به النعمان بن بشير رضى ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم.
رسول ا ّ
العشرون :ثبوت القصاص فى الضربة بالسوط والعصا ونحوهما.
فصل
طعُوهُ)) ،ثم جىء
وقد روى عنه أبو داود :أنه أمر بقتل سارقٍ فقالُوا :إنما سرق ،فقال(( :اقْ َ
طعُوهُ)) ،ثم جىء به فى الثالثة ،فأمر بقتله ،فقالوا:
به ثانياً ،فأمر بقتله ،فقالوا :إنما سرق ،فقال ((اقْ َ
طعُوهُ)) ثم جىء به رابعة ،فقال(( :ا ْق ُتلُوهُ)) ،فقالوا :إنما سرق ،فقال:
إنما سرق ،فقال(( :اقْ َ
طعُوهُ)) ،فأتى به فى الخامسة ،فأمر بقتله ،فقتلُوه.
((اقْ َ
ى وغيرُه ل يصححون هذا الحديث .قال النسائى:
فاختلف الناسُ فى هذه الحكومة :فالنسائ ّ
ث منكَر ،ومُصعب بنُ ثابت ليس بالقوى ،وغيرُه يُحسنه ويقول :هذا حكم خاص بذلك
هذا حدي ٌ
ل صلى ال عليه وسلم مِن المصلحة فى قتله ،وطائفة ثالثة تقبلُهُ،
الرجل وحدَه ،لما علم رسولُ ا ّ
س مرات قتل فى الخامسة ،وممن ذهب إلى هذا المذهب أبو
وتقول به ،وأن السارق إذا سرق خم َ
مصعب من المالكية.
ن على أطراف السارق الربعة .وقد روى عبد الرزاق فى
وفى هذه الحكومة التيا ُ
((مصنفه)) :أن النبى صلى ال عليه وسلم ((أتى بعبد سرق ،فُأ ِتىَ به أرب َع مرات ،فتركه ،ثم أتَى
به الخامسة ،فقطع يده ،ثم السادسة فقطع رجله ،ثم السابعة فقطع يده ،ثم الثامنة فقطع رجله)).
واختلف الصحابة ومَنْ بعدهم ،هل يُوتى على أطرافِه ُكلّها ،أم ل؟ على قولين .فقال الشافعىّ
ومالكٌ وأحمدُ فى إحدى روايتيه :يُؤتى عليها ُكلّها ،وقال أبو حنيفة وأحمد فى رواية ثانية :ل يُقطع
ل منفعة الجنس ،أو ذهابُ عضوين
منه أكثرُ من يد ورجل ،وعلى هذا القول ،فهل المحذو ُر تعطي ُ
من شق؟ فيه وجهان ظهر أثرُهما فيما لو كان أقط َع اليد اليُمني فقط ،أو أقطعَ الرجل اليسرى فقط،
ط َعتْ رجلُه اليسرى فى
فإن قلنا :يُؤتى على أطرافه ،لم يؤثر ذلك ،وإن قلنا :ل يُؤتى عليها ،قُ ِ
الصورة الولى ،ويدُه اليمنى فى الثانية على العِلتين ،وإن كان أقط َع اليد اليُسرى مع الرجل اليُمنى
27
لم يُقطع على العِلتين ،وإن كان أقط َع اليد اليُسرى فقط ،لم تقطع يُمناه على العلتين ،وفيه نظر،
فتأمل.
طعَت رجلُه،
وهل قطع رجله اليُسرى يبتنى على العلتين؟ فإن عللنا بذهاب منفعة الجنس ،قُ ِ
وإن عللنا بذهاب عضوين مِن شق ،لم تُقطع.
طعَت رجلُه اليسرى ،وإن عللنا
وإن كان أقط َع اليدين فقط ،وعللنا بذهاب منفعة الجنس قُ ِ
بذهاب عضوين مِن شق ،لم تُقطع ،هذا طردُ هذه القاعدة .وقال صاحب ((المحرر)) فيه :تقطع
يُمنى يديه على الروايتين ،وفرق بينها وبين مسألة مقطعوع اليدين ،والذى يقال فى الفرق :إنه إذا
طعَت إحدى يديه ،انتفع بالخرى فى الكل والشرب
كان أقط َع الرجلين ،فهو كالمُقعد ،وإذا قُ ِ
والوضوء والستجمار وغيره ،وإذا كان أقط َع اليدين لم ينتفع إل برجليه ،فإذا ذهبت إحداهما ،لم
يمكنه النتفاعُ بالرجل الواحدة بل يد ،ومن الفرق أن الي َد الواحدة تنفع مع عدم منفعة المشىء،
والرجل الواحدة ل تنف ُع مع عدم منفعة البطش.
فصل
فى قضائه صلى ال عليه وسلم فيمن سبّه مِن مسلم أو ِذمّى أو ُمعَاهَدٍ
ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قضى بإهدار دم أ ّم ولد العمى لما قتلَها مولها على
السبّ.
س يوم الفتح إل نفراً ممن كان يُوذيه
وقتل جماعة من اليهود على سبّه وأذاه ،وأمّن النا َ
ل ورَسُولهُ))
ب بْنِ الَشرَف ،فَِإنّهُ قَ ْد آذى ا ّ
ويهجوه ،وهم أربعة رجال وامرأتان .وقال(( :مَنْ ِل َك ْع ِ
وأهدر دمه ودم أبى رافع.
وقال أبو بكر الصديق رضى الّ عنه لبى برزة السلمى ،وقد أراد قتل من سبّه :ليس هذا
ل صلى ال عليه وسلم .فهذا قضاؤه صلى ال عليه وسلم وقضاءُ خلفائِه مِن
لحد بعدَ رسولِ ا ّ
ل من مخالفة هذا الحكم.
بعده ،ول مخالف لهم من الصحابة ،وقد أعاذهم ا ّ
ى صلى
ل عنه أن يهوديةً كانت تشتِمُ النب ّ
وقد روى أبو داود فى ((سننه)) :عن على رضى ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم دمَها.
ال عليه وسلم وتقع فيه ،فخنقها رجل حتى ماتت ،فأبطلَ رسولُ ا ّ
(يتبع)...
ت امرأةُ النبىّ
ب السير والمغازى عن ابن عباس رضى الّ عنهما قال :هج ِ
وذكر أصحا ُ @
ن لى ِبهَا))؟ فقال رجل مِن قومها :أنا ،فنهضَ فقتلها ،فأُخ ِب َر النبى
صلى ال عليه وسلم ،فقال(( :مَ ْ
28
صلى ال عليه وسلم ،فقال(( :ل َي ْنتَطِحُ فيها عَنزانِ)) .وفى ذلك بضعة عشر حديثاً ما بين صحاح
وحِسان ومشاهير ،وهو إجماع الصحابة.وقد ذكر حرب فى ((مسائله)) :عن مجاهد قال :أتَي عمرُ
ل عنه :من سبّ
ب النبى صلى ال عليه وسلم فقتله ،ثم قال عمر رضي ا ّ
رضى الّ عنه برجُلِ س ّ
ل عنهما :أيّما
ل ورسوله ،أو سبّ أحداً من النبياء فاقتلُوه .ثم قال مجاهد عن ابن عباس رضى ا ّ
ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم وهى
ل ورسوله ،أو سبّ أحدًا من النبياء ،فقد ك ّذبَ برسول ا ّ
مسلم سبّ ا ّ
لّ أو سبّ أحداً من النبياء ،أو جهر
رِدة ،يُستتاب ،فإن رجع ،وإل ُقتِل ،وأيّما ُمعَاهَدٍ عاند ،فسبّ ا َ
به ،فقد نقضَ العهد فاقتلوه.
ب النبىّ
ل عنهما أنه م ّر به راهب ،فقيل له :هذا يس ّ
وذكر أحمد ،عن ابن عمر رضى ا ّ
ل عنه :لو سمعتُه ،لقتلته إنا لم نُعطهم الذمة على أن
صلى ال عليه وسلم ،فقال ابنُ عمر رضى ا ّ
يسبوا نبيّنا .والثا ُر عن الصحابة بذلك كثيرة ،وحكى غيرُ واحد من الئمة الجماع على قتله .قال
شيخُنا :وهو محمول على إجماع الصدر الول من الصحابة والتابعين .والمقصود :إنما هو ذكر
حكم النبى صلى ال عليه وسلم وقضائه فيمن سبه.
ك لَمْ
وأما تركه صلى ال عليه وسلم قتل مَن قدح فى عدله بقوله(( :اعْدِلْ فَإ ّن َ
سمَةٌ ما ُأرِيدَ بِها
َتعْدِلْ)) ،وفى حكمه بقوله(( :أن كان ابن ع ّمتِك)) ،وفى قصده بقوله(( :إن هذهِ قِ ْ
ك تنهى عن الغى وتستخلى به)) وغير ذلك ،فذلك أن
ل أو فى خلوته بقوله(( :يَقُولُونَ إ ّن َ
وَجْهُ ا ّ
ق له ،فله أن يستو ِفيَه ،وله أن يترُكه ،وليس لمته تركُ استيفاء حقّه صلى ال عليه وسلم.
الح ّ
وأيضاً فإن هذا كان فى أول المر حيث كان صلى ال عليه وسلم مأموراً بالعف ِو والصفح.
س عنه ،ولئل
وأيضاً فإنه كان يعفو عن حقّه لمصلحة التأليف وجم ِع الكلمة ،ولئل ُينَ ّفرَ النا َ
يتحدثوا أنه يقتلُ أصحابه ،وكل هذا يختصّ بحياته صلى ال عليه وسلم.
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيمن سمّه
ثبت فى ((الصحيحين))(( :أن يهوديةً سمته فى شاة ،فأكل منها لُقمة ،ثم لفظها ،وأكل معه
بِشر بنُ البراء ،فعفا عنها النبىّ صلى ال عليه وسلم ولم يُعاقبها)) ،هكذا فى ((الصحيحين)).
ن البراء ،قتلها
وعند أبى داود :أنه أمر بقتلها ،فقيل :إنه عفا عنها فى حقّه ،فلما مات بشر ب ُ
به.
ت به ،أُقي َد منه.
وفيه دليل على أن من قدّم لغيره طعاماً مسموماً ،يعلم به دون آكله ،فما َ
29
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الساحر
س ْيفِ)) .والصحيح أنه
ض ْربَةٌ بِال ّ
ح ِر َ
فى الترمذى .عنه صلى ال عليه وسلم(( :حَ ّد السّا ِ
ب بن عبد الّ.
جنْ ُد ِ
موقوف على ُ
ل عنه أنه أمر بقتله ،وصح عن حفصة رضى الّ عنها ،أنها قتلت
وصح عن عمر رضى ا ّ
ح َرتْها ،فأنكر عليها عثمانُ إذ فعلته دون أمره .ورُوى عن عائشة رضى الّ عنها أيضاً
سَمدبّرةً َ
ن المنذر وغيره.
أنها قتلت مدبّرة سحرتها ،وروى أنها باعتها ،ذكره اب ُ
ل صلى ال عليه وسلم لم يقتُل مَن سحره من اليهود ،فأخذ بهذا
وقد صح أن رسول ا ّ
الشافعى ،وأبو حنيفة رحمهما الّ ،وأما مالك ،وأحمد رحمهما الّ ،فإنهما يقتلنه ،ولكن منصوصُ
أحمد رحمه الّ ،أن ساحر أهل الذمة ل يُقتل ،واحتج بأن النبىّ صلى ال عليه وسلم لم يقتل لبيد بن
العصم اليهودى حين سحره ،ومن قال بقتل ساحرهم يُجيب عن هذا بأنه لم يُ ِقرّ ،ولم يُقم عليه
بينة ،وبأنه خشى صلى ال عليه وسلم أن يثير على الناس شرًا بترك إخراجِ السحر مِن البئر،
فكيف لو قتله.
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى أول غنيمة كانت فى السلم وأوّل قتيل
ش ومن معه سري ًة إلى نخل َة َت ْرصُد
ح ٍ
ل صلى ال عليه وسلم عبدَ الّ بن جَ ْ
لما بعث رسولُ ا ّ
عِيراً لقريش ،وأعطاه كِتاباً مختوماً ،وأمره أن ل يقرأه إل بع َد يومين ،فقتلوا عمرو بن الحضرمى،
وأسروا عثمان بنَ عبد الّ ،والحكمَ بن كيسان ،وكان ذلك فى الشهر الحرام ،فعنّفهم المشركون،
ل صلى ال عليه وسلم الغنيمةَ والسيرين حتى أنزل الّ سبحانه وتعالى{:يَسَْألُونَكَ
ووقف رسولُ ا ّ
خرَاجُ
حرَامِ وإ ْ
لّ َوكُ ْف ٌر بِ ِه والمَسْجِدِ ال َ
سبِيلِ ا ِ
حرَامِ ِقتَالٍ فيهِ قُلْ ِقتَالٌ فِي ِه َكبِي ٌر وصَدّ عَنْ َ
ش ْهرِ ال َ
عَن ال ّ
عنْدَ الِّ} [البقرة ]217 :فأخَذ رسول الّ صلى ال عليه وسلم العِير والسيرين،
أَ ْهلِهِ ِمنْ ُه َأ ْك َبرُ ِ
وبعثت إليه قريشٌ فى فدائهما ،فقال :ل ،حتى يَقْدَمَ صاحبانا -يعنى سعد بن أبى وقاص ،وعُتبة بن
ل صلى
غزوان ،-فإنا نخشاكم عليهما ،فإن تقتلوهما ،نقتُلْ صاحِبيكم ،فلما قَ ِدمَا ،فأداهما رسولُ ا ّ
ال عليه وسلم بعثمان والحكم ،وقسم الغنيمة.
ن وهب :أن النبى صلى ال عليه وسلم ر ّد الغنمية ،وودَى القتيل.
وذكر اب ُ
والمعروفُ فى السير خلف هذا.
30
وفى هذه القصة مِن الفقه إجازةُ الشهادة على الوصية المختومة ،وهو قولُ مالك،
ل عنهما فى ((الصحيحين))(( :ما حقّ
وكثير من السلف ،ويدل عليه حديث ابن عمر رضى ا ّ
عنْ َدهُ)).
ص ّيتُه م ْكتُوبَة ِ
سلِم لَهُ شَىء يُوصى به يبيتُ َل ْيَل َتيْنِ إل َو َو ِ
ا ْمرِىءً مُ ْ
وفيها :أنه ل يُشترط فى كتاب المام والحاكم البينة ،ول أن يقرأه المام
والحاكم على الحامل له ،وكُلّ هذا ل أصل له فى كتاب ول سنة ،وقد كان رسولُ الّ صلى ال عليه
وسلم يدفع كُتبه مع رُسله ،ويُسيرها إلى من يكتب إليه ،ول يقرؤها على حاملها ،ول يُقيم عليها
شاهدين ،وهذا معلوم بالضرورة مِن هديه وسنته.
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الجاسوس
ل عنه ضربَ عنقه ،فلم
ثبت أن حاطب بن أبى بَلتعة لما جسّ عليه ،سأله عمرُ رضى ا ّ
ت َلكُمْ)) .وقد
ش ْئتُم ،فَقَدْ غَ َف ْر ُ
ع َملُوا مَا ِ
ل بَ ْدرٍ فَقَالَ :ا ْ
طلَعَ عَلى أَهْ ِ
لّ ا ّ
يُمكنه ،وقال(( :مَا يُ ْدرِيكَ َلعَلّ ا َ
تقدم حكم المسألة مستوفى.
واختلف الفقهاء فى ذلك ،فقالَ سحنون :إذا كاتب المسل ُم أهلَ الحربُ ،قتِلَ ،ولم يُستتب،
ومالُه لورثته ،وقال غيرُه من أصحاب مالك رحمه الّ :يُجلد جلداً وجيعاً ،ويُطال حبسه ،ويُنفى مِن
موضع يقرب من الكفار .وقال ابن القاسم :يُقتل ول يعرف لهذا توبة ،وهو كالزنديق.
وقال الشافعى ،وأبو حنيفة ،وأحمد رحمهم الّ :ل يُقتل ،والفريقان احتجوا بقصة حاطب،
وقد تقدم ذِكرُ وجه احتجاجهم ،ووافق ابنُ عقيل من أصحاب أحمد مالكًا وأصحابه.
فصل
فى حكمه فى السرى
ثبت عنه صلى ال عليه وسلم فى السرى أنه َقتَل َب ْعضَهم ،ومَنّ على بعضهم ،وفادى
س َترِقّ
بعضَهم بمال ،وبعضَهم بأسرى مِن المسلمين ،واسترقّ بعضَهم ،ولكن المعروف ،أنه لم يَ ْ
رجلً بالغاً.
فقتل يومَ بدر من السرى عُقبةَ بن أبى معيط ،والنضر بن الحارث.
وقتل مِن يهود جماع ًة كثيرين من السرى ،وفادى أسرى بدر بالمال بأربعةِ آلف إلى
ع ّزةَ الشاعر يومَ
أربعمائةٍ ،وفادى بعضَهم على تعليم جماعة من المسلمين الكتابة ،ومنّ على أبى َ
31
طلَ ْق ُتهُمْ
حيّاً ،ثُ ّم َكّل َمنِى فى هُؤلَء ال ّنتْنى لَ ْ
طعِمُ بنُ عَ ِدىّ َ
ن المُ ْ
بدر ،وقال فى أسارى بدرَ(( :لوْ كَا َ
لَهُ)) .وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين.
ل من المسلمين بامرأة من السبى ،استوهبها مِن سلمة بن الكوع.
وفدى رجا ً
ومنّ على ثُمامة بن أُثال ،وأطَلَق يوم فتح مكة جماع ًة مِن قريش ،فكان يقال لهم :الطّلقاء.
ب المصلحة ،واسترقّ مِن
وهذه أول أحكام لم يُنسخ منها شىء ،بل يُخير المامُ فيها بحس ِ
أهل الكِتاب وغيرهم ،فسبايا أوطاس ،وبنى المصطَلِق لم يكونوا كتابين ،وإنما كانوا عبدة أوثان مِن
العرب ،واسترق الصحاب ُة مِنْ سبى بنى حنيفة ،ولم يكونوا كتابيين .قال ابن عباس رضى الّ
ن والقتلِ والستعباد ،يفعلُ
ل صلى ال عليه وسلم فى السرى بينَ الفداء والم ّ
عنهما :خ ّيرَ رسولُ ا ّ
ما شاء ،وهذا هو الحق الذى ل قول سواه.
فصل
وحكم فى اليهود بعدة قضايا ،فعاهدَهم أوّل مقدمه المدينة ،ثم حاربه بُنو َق ْينُقَاع ،فظَ ِفرَ بهم،
ومنّ عليهم ،ثم حاربه بنو النضير ،فظ ِفرَ بهم ،وأجلهم ،ثُمّ حارَبه بنو قُريظة ،فظ ِفرَ بهم وقتلهم ،ثم
حاربه أهلُ خيبر ،فظَ ِف َر بهم وأقرّهم فى أرض خيبرَ ما شاء سِوى مَنْ قتل مِنهم.
ولما حكم سع ُد بن معاذ فى بنى قُريظة بأن تُقتَل مقاتلتُهم ،وتُسبى ذراريهم وتُغنم أموالُهم،
سمَاوات.
سبْعِ َ
ل مِن فوق َ
لّ عزّ وج ّ
حكْمُ ا ِ
ل صلى ال عليه وسلم :أن هذا ُ
أخبره رسولُ ا ّ
وتضمّن هذا الحكم :أن ناقضى العه ِد يسرى نقضُهم إلى نسائهم و ُذ ّر ّيتِهم إذا كان نقضُهم
لّ عزّ وجل.
بالحرب ،ويعودون أهلَ حرب ،وهذا عينُ حكمِ ا ِ
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى فتح خيبر
حك َم يومئذ بإقرار يهودَ فيها على شطرِ ما يخرُج منها مِن ثمر أو زرع.
وحكم بقتل ابنى أبى الحُ َقيْقِ لما نقضُوا الصّلح بينَهم وبينَه :على أن ل يكتُموا ول يُغيّبوا
شيئًا من أموالهم ،فكتمُوا وغيّبوا ،وحكم بعقوبة المتّهم بتغييبِ المال حتى أقرّ به ،وقد تقدّم ذلك
مستوفى فى غزوة خيبر.
ل صلى
وكانت لهل الحُديبية خاصة ،ولم َي ِغبْ عنها إل جابرُ بن عبد الّ ،فقسم له رسولُ ا ّ
ال عليه وسلم سهمَه.
فصل
32
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى فتح مكة
ل المسجد ،أو وضع السلح ،فهو
ل دا َر أبى سفيان ،أو دخ َ
ن من أغلقَ بابَه ،أو دخ َ
حكم بأ ّ
آمن ،وحكم بقتل نفر ستةٍ ،منهم :مِقْيس بن صبُابة ،وابنُ خطل ،ومغنيتان كانتا تغنيان بهجائه،
وحكم بأنه ل يُجهز على جريح ،ول يُتب ُع مدبر ،ول يُقتل أسير ،ذكره أبو عبيد فى ((الموال)).
خزَاعَةَ،
شرَ ُ
وحكم لخُزاعة أن يبذلُوا سُيوفَهم فى بنى بكر إلى صلة العصر ،ثم قال لهم(( :يَا َمعْ َ
ارْ َفعُوا َأيْ ِد َيكُمْ عَنِ ال َقتْل)).
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى قسمة الغنائم
حكم صلى ال عليه وسلم أن للفارِس ثلثَةَ أسهم ،وللرّاجِلِ سهم ،هذا حكمُه الثابتُ عنه فى
مغازيه ُكلّها ،وبه أخذ جمهورُ الفقهاء.
وحكم أن السّلبَ للقاتل.
ل يومَ بنى قريظة ست ًة وثلثين
وأما حُكمه بإخراج الخمس ،فقال ابن إسحاق :كانت الخي ُ
فرساً ،وكان أوّلَ فىء وقعت فيه السهمان ،وأخرج منه الخمس ،ومضت به السنة ،ووافقه على
سبُ أن بعضَهم قال :ترك أمرَ الخُمس بعد
ذلك القضاء إسماعيل بن إسحاق ،فقال إسماعيل :وأحْ ِ
ذلك ،ولم يأت فى ذلك من الحديث ما فيه بيانٌ شاف ،وإنما جاء ذكرُ الخمس يقيناً فى غنائم حُنين.
وقال الواقدى :أول خُمسٍ فى غزوة بنى َق ْينُقاع بعدَ بدرٍ بشهر وثلثة أيام ،نزلُوا على
حُكمه ،فصالحهم على أن له أموالَهم ،ولهم النسا ُء والذرية ،وخمّس أموالهم.
ل صلى ال عليه وسلم إلى بدر ،فلما َهزَمَ الّ
وقال عُبادة بن الصامت :خرجنا مع رسول ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم ،وطائف ٌة استولت
الع ُدوّ ،تبعتهم طائف ٌة يقتلونهم ،وأحد َقتْ طائفةٌ برسول ا ّ
على العسكر والغنيمة ،فلما رجع الّذِين طلبوهم ،قالوا :لنا النّفَلُ نحن طلبنا الع ُدوّ ،وقال الذين
ل عليه وسلم
ل صلى ا ّ
أحدقوا برسول الّ صلى ال عليه وسلم :نحن أحقّ به ،لنا أحدقنا برسول ا ّ
ح ْو َينَاهُ .فأنزل الّ عز وجل:
غ ّرتَه ،وقال الذين استَوَلوْا على العسكرُ :هوَ لنا ،نحن َ
أن ل ينال الع ُدوّ ِ
ل صلى ال عليه
لّ وَالرّسُولِ} [النفال ،]1 :فقسمه رسولُ ا ّ
لنْفَالُ ِ
{يَسَْألُو َنكَ عَن الُنفالِ قُلِ ا َ
خمُسَهُ} [النفال.]41 :
شىْءٍ فَأَنّ لِّ ُ
غ ِن ْمتُم مِنْ َ
عَلمُوا أنّما َ
وسلم عن َبوَاءٍ قبل أن ينزل{ :وا ْ
ل بنى النضير
ل صلى ال عليه وسلم أموا َ
وقال القاضى إسماعيل :إنما قسم رسولُ ا ّ
ل بنِ حُنيف ،وأبى دُجانة ،والحارث بن الصّمة لن
بينَ المهاجرين ،وثلث ًة من النصار :سه ِ
33
س ْمتُ
ش ْئتُم قَ َ
المهاجرين حين قدموا المدينة ،شاطرهم النصارُ ثمارَهم ،فقال لهم رسول الّ(( :إنْ ِ
طيْنَاها ِل ْل ُمهَاجِرينَ
ش ْئتُ ْم أَعْ َ
علَى ُموَاسَاتِهم فى ِثمَا ِركُم ،وإنْ ِ
َأ ْموَالَ َبنِى النّضِي ِر َب ْي َنكُمْ و َب ْي َنهُمْ ،وأَ َق ْمتُم َ
سكُ ثمارنا،
ع ْنهُ ْم مَا ُك ْنتُم ُتعْطُو َنهُ ْم مِنْ ِثمَا ِركُمْ)) ،فقالوا :بل تُعطيهم دوننا ،و ُنمْ ِ
ط ْعتُم َ
دُو َنكُمْ ،وقَ َ
ل صلى ال عليه وسلم المهاجرينَ ،فاستغنوا بما أخذوا ،واستغنى النصارُ بما
فأعطاها رسولُ ا ّ
ش َكوْا حَاجَةً.
رجع إليهم من ثمارهم ،وهؤلء الثلثة من النصار َ
فصل
وكان طلح ُة بنُ عبيد الّ ،وسعي ُد بن زيد رضى الّ عنهما بالشام لم يشهد بدراً ،فقسم لهما
ل صلى ال عليه وسلم سهميهما ،فقال :وأجورُنا يا رسولَ الّ؟ فقال(( :وأُجُور ُكمَا)).
رسولَ ا ّ
وذكر ابن هشام ،وابن حبيب أن أبا لبابة ،والحارث بنَ حاطب ،وعاصِمَ بنَ عدى خرجُوا
ل صلى ال عليه وسلم ،فردّهم ،وأ ّمرَ أبا لبابة على المدينة ،وابن أم مكتوم على
مع رسول ا ّ
الصلة ،وأسهم لهم.
سرَ بالروحاء ،فضرب له رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم بسهمه.
والحارث بن الصّمة كُ ِ
ل صلى ال عليه وسلم بسهمه.
قال ابن هشام :وخّوات بن جُبير ضرب له رسولُ ا ّ
ل عنه تخلف على امرأته رقية بنت رسول
ولم يختِلف أحدٌ أن عثمان ابن عفان رضى ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم قال:
ل صلى ال عليه وسلم ،فضرب له بسهمه ،فقال :وأجرى يا رسول ا ّ
ا ّ
ى صلى ال عليه وسلم ،وأجمع المسلمون أن ل يُقسم
ص للنب ّ
ج ُركَ)) ؛ قال ابن حبيب :وهذا خا ٌ
((وأَ ْ
لغائب.
قلتُ :وقد قال أحم ُد ومالك ،وجماع ٌة من السلف والخلف :إن الما َم إذا بعث أحداً فى مصالح
الجيش ،فله سهمُه.
سهِمُ للنساء والصبيان والعبيد ،ولكن
قال ابن حبيب :ولم يكن النبى صلى ال عليه وسلم يُ ْ
كان يحذيهم مِن الغنيمة.
فصل
وعدل فى قسمة البل والغنم كُلّ عشرة منها ببعير ،فهذا فى التقويم ،وقسمة المال المشترك.
وأما فى الهدى ،فقد قال جابر :نحرنا مَع رسول الّ صلى ال عليه وسلم عام الحُديبية .وأما فى
ل صلى ال عليه وسلم أن نشترك فى البل والبقر
حجة الوداع ،فقال جابر أيضاً(( :أمرنا رسول ا ّ
كُلّ سبعة منا فى بدنة)) ؛ وكلهما فى الصحيح.
34
وفى ((السنن)) من حديث ابن عباس ،أن رجلً :أتى النبىّ صلى ال عليه وسلم فقال(( :إن
علىّ بدنة وأنا موسِر بها ول أجدها فأشتريها ،فأمره أن يبتاعَ سبعَ شياه ،فيذبحهن)).
فصل
ب كله للقاتل ،ولم يُخمّسْه ،ولم يجعله مِن الخُمس ،بل
سَل ِ
حكم النبىّ صلى ال عليه وسلم بال ّ
مِن أصل الغنيمة ،وهذا حكمه وقضاؤه.
قال البخارى فى ((صحيحه)) :السلبُ للقاتل إنما هو مِن غير الخُمس ،وحكم به بشهادة
ب لمن قتل
سَل ِ
واحد ،وحكم به بعد القتل ،فهذه أربعة أحكام تضمّنها حكمُه صلى ال عليه وسلم بال ّ
قتيلً.
وقال مالك وأصحابهُ :السلبُ ل يكون إل من الخمس ،وحكمه حُكمُ النفل ،قال مالك :ولم
يبُل ْغنَا أن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال ذلك ،ول فعلَه فى غي ِر يوم حُنين ،ول فعلَه َأبُو بكر ،ول
عُمر رضى ال عنهما .قال ابن الموّاز :ولم يُعط غير البراء بن مالك سلبَ قتيله ،وخمّسه.
خمُسَهُ } ،فجعل أربعة
غ ِن ْمتُم مِنْ شَىءٍ فأنّ لِّ ُ
علَمُوا َأ ّنمَا َ
ل تعالى{ :وا ْ
قال أصحابه :قال ا ّ
أخماس الغنيمة لمن غنمها ،فل يجوز أن يُؤخذ شىء مما جعله الّ لهم بالحتمال.
وأيضاً فلو كانت هذه اليةُ إنما هى فى غير السلب ،لم يُؤخر النبى صلى ال عليه وسلم
سَلبُه)) ،بعد أن برد
حكمها إلى حُنين ،وقد نزلت فى قصة بدر ،وأيضًا إنما قال(( :مَنْ َقتَلَ َقتِلً فلَهُ َ
القتالُ ،ولو كان أمراً متقدماً ،لعلمه أبو قتادة فارسُ رسول الّ صلى ال عليه وسلم ،وأحدُ أكابر
ل ذلك.
ل عليه وسلم يقو ُ
سمِعَ منادىَ رسولِ الّ صلى ا ّ
أصحابه ،وهو لم يطلبه حتى َ
قالوا :وأيضاً فالنبىّ صلى ال عليه وسلم أعطاه إياه بشهادة واحد بل يمين ،فلو كان مِن
رأس الغنيمة ،لم يخرج حقّ مغنم إل بما تخرج به الملكُ من البيّنات ،أو شاهد ويمين.
قالوا :وأيضاً فلو وجب للقاتل ولم يجد بيّنة لكان يُوقف ،كاللقطة ول يُقسم ،وهو إذا لم تكن
بينة يُقسَم ،فخرج من معنى الملك ،ودل على أنه إلى اجتهاد المام يجعلُه من الخمس الذى يجعل
ج به لهذا القول.
فى غيره ،هذا مجموعُ ما احتُ ّ
قال الخرون :قد قال ذلك رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم ،وفعله قبل حُنين بستة أعوام،
فذكر البخارى فى ((صحيحه)) :أن معا َذ بن عمرو بنِ الجموح ،ومُعا َذ بن عفراء النصاريين،
ل صلى ال عليه وسلم،
ضرباً أبا جهل بن هشام يوم بدر بسيفهما حتى قتله ،فانصرفا إلى رسول ا ّ
سيْ َف ْي ُكمَا))؟ قال:
حتُما َ
ل مَسَ ْ
فأخبراه ،فقالَ(( :أيّ ُكمَا َق َتلَهُ))؟ فقال كُلّ واحد منهما :أنا قتلته ،فقال(( :هَ ْ
35
جمُوح ،وهذا يدل على
عمْرو بْنِ ال َ
سَلبُه لمعاذ بْنِ َ
ل ُكمَا َق َتلَهُ)) ،و َ
ل ،فنظر إلى السيفين ،فقال(( :كِ َ
ن السلب للقاتل أم ٌر مقرر معلو ٌم مِن أول المر ،وإنما تجدّد يومَ حنين العلمُ العام ،والمناداة
أن كو َ
به ل شرعيتُه.
(يتبع)...
ن الموّاز :إن أبا بكر وعمر لم يفعله ،فجوابُه من وجهين ؛ أحدُهما :أن هذا
وأما قول اب ِ @
شهاد ٌة على النفى ،فل تُسمع ،الثانى :أنه يجوز أن يكون تركُ المناداة بذلك على عهدهما اكتفاءً بما
ل صلى ال عليه وسلم وقضائه ،وحتى لو صحّ عنهما تركُ ذلك
تقرر ،وثبت مِن حكم رسول ا ّ
ل عليه وسلم.
ل صلى ا ّ
تركاً صحيحاً ل احتمالَ فيه ،لم يُقَدّم على حكم رسول ا ّ
ن الكوع،
وأما قولُه :ولم يُعط غي َر البراء بن مالك سلبَ قتيله ،فد أعطى السلبَ لسلمة اب ِ
ولمعاذ بن عمرو ،ولبى طلحة النصارىَ ،قتَلَ عِشرين َيوْمَ حنين ،فأخذ أسلَبهم ،وهذه كلها وقائع
صحيحة معظمُها فى الصحيح ،فالشهاد ُة على النفى ل تكاد تسلمُ من النقض.
وأما قولُه(( :وخمّسَه)) ،فهذا لم يُحفظ به أثر البتة ،بل المحفوظُ خلفه ،ففى ((سنن أبى
سلَب.
خمّس ال ّ
داود)) :عن خالد ،أن النبى صلى ال عليه وسلم ،لم يُ َ
خمُسَهُ} [النفال ،]41 :فهذا عام،
غ ِن ْمتُم مِنْ شَىءٍ فأَنّ لِّ ُ
عَلمُوا َأ ّنمَا َ
وأما قولُه تعالى{ :وا ْ
والحكم بالسلب للقاتل خاص ،ويجوز تخصيصُ عمومِ الكتاب بالسنة ،ونظائرُه معلومة ،ول يُمكن
دفعُها.
وقوله(( :ل يجعل شىء من الغنيم ِة لغير أهلها بالحتمال)) ،جوابُه من وجهين ،أحدهما :أنا
ل صلى ال عليه وسلم ل
لم نجعل السلب لغير الغانمين .الثانى :إنما جعلنا للقاتل بقول رسول ا ّ
بالحتمال ،ولم يؤخّر النبى صلى ال عليه وسلم حُك َم الية إلى يوم حُنين كما ذكرتم ،بل قد حكم
ل مِن استحقاقه بالقتل.وأما كون أبى قتادة لم يطلبه حتى
بذلك يو َم بدر ،ول يمنع كونه قاله بعد القتا ِ
ل على أنه لم يكن متقرراً معلوماً ،وإنما سكت
سمِ َع منادى النبى صلى ال عليه وسلم يقوله ،فل يدُ ّ
َ
عنه أبو قتادة لنه لم يكن يأخُذه بمجرد دعواه ،فلما شهد له به شاهد أعطاه.
والصحيح :أن يُكتفى فى هذا بالشاهد الواحد ،ول يحتاج إلى شاهد آخر ،ول يمين ،كما
جاءت به السن ُة الصحيح ُة الصريحة التى ل مُعارِضَ لها ،وقد تقدم هذا فى موضعه .وأما قولُه:
ق التقديم ،فإذا
((إنه لو كان للقاتل ،لوقف ،ولم يُقسم كاللقطة)) ،فجوابُه أنه للغانمين ،وإنما للقاتل ح ّ
لم تُعلم عين القاتل اشترك فيه الغانمين ،فإنه حقهم ،ولم يظهر مستحق التقديم منهم ،فاشتركوا فيه.
36
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيما حازه المشركون من أموال المسلمين ،ثم ظهر عليه المسلمون،
أو أسلم عليه المشركون
فى البخارى :أن فرساً لبن عمر رضى الّ عنه ذهب ،وأخذه العدو ،فظه َر عليه المسلمون،
ل صلى ال عليه وسلم ،وَأبَقَ له عبد ،فلحق بالروم ،فظهر عليه
َفرُ ّد عليه فى زمن رسول ا ّ
ل عنه.
المسلمون ،فردّه عليه خالد فى زمن أبى بكر رضى ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم هو الذى رَ ّد عليه الغلم .وفى
وفى ((سنن أبى داود)) :أن رسولَ ا ّ
ل من المسلمين وجد بعيراً له فى المغانم ،فقال له رسول الّ
((المدونة)) و((الواضحة)) أن رج ً
ن إن
ق بِ ِه بِال ّثمَ ِ
ت أَحَ ّ
صلى ال عليه وسلم(( :إنْ وَج ْدتَه لم يُقْسَمْ ،فَخُ ْذهُ ،وإنْ وج ْدتَهُ قَدْ قُسِمَ فََأ ْن َ
أرَ ْدتَهُ)).
وصح عنه :أن المهاجرين طلبوا منه دُورَهم يوم الفتح بمكة ،فلم يرد على أحد دارَه .وقل
ل َم ْنزِلً)) ،وذلك أن الرسولَ صلى
ك َلنَا عَقِي ٌ
له :أين َت ْنزِلُ غدًا من دارك بمكة؟ ،فقال(( :وهَلْ َت َر َ
ل عليه وسلم بمكة ،فحازها
ال عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ،وثب عقل على رباع النبى صلى ا ّ
ُكلّها ،وحوى عليها ،ثم أسلم وهى فى يده ،وقضى رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم أن من أسلم على
شىء فهو له ،وكان عقيل ورث أبا طالب ،ولم يرثه على لتقدّم إسلمه على موت أبيه ،ولم يكنْ
ث مِن عبد المطلب ،فإن أباه عبدَ الّ مات ،وأبوه عبدُ المطلب
لرسولِ الّ صلى ال عليه وسلم ميرا ٌ
حىّ ،ثمّ مات عبدُ المطلب ،فَورِثه أولده ،وهم أعمامُ النبى صلى ال عليه وسلم ،ومات أكيرُ
ن على لختلف
ل دو َ
أولده ،ولم يعقبوا ،فحاز أبو طالب رِباعه ،ثم مات ،فاستولى عليها عَقي ٌ
ى صلى ال عليه وسلم ،فاستولى عقيل على داره ،فلذلك قال رسول الّ(( :وهَلْ
الدين ،ثم هاجر النب ّ
ل َم ْنزِلً)).
َت َركَ َلنَا عَقِي ٌ
وكان المشركون َي ْعمِدُونَ إلى من هاجر من المسلمين ولحق بالمدينة ،فيستولُون على داره
وعقاره ،فمضت السنةُ أن الكفارَ المحاربين إذا أسلموا ،لم يضمنُوا ما أتلفُوه على المسلمين مِن
نفس أو مال ،ولم َيرُدّوا عليهم أموَالهم التى غَصبُوهَا عليهم ،بل من أسلم على شىء ،فهو له ؛ هذا
حكمه وقضاؤه صلى ال عليه وسلم.
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيما كان يُهدى إليه
37
ل منهم ،ويُكافئهم أضعافَها.
ل عنهم يُهدون إليه الطعامَ وغيره ،فيقب ُ
كان أصحابُه رضى ا ّ
سمُها بينَ أصحابه ،ويأخُذُ منها لنفسه ما
ك تُهدى إليه ،فيقبلُ هداياهم ،ويَقْ ِ
وكانت الملو ُ
ى الذى له من المغنم.
يختارُه ،فيكون كالصف ّ
ج مز ّررَة بالذهب،
ت إليه أَ ْقبِية دِيبا ٍ
وفى ((صحيح البخارى)) :أن النبى صلى ال عليه وسلم أُه ِد َي ْ
خرَمة بنِ نوفل ،فجاء ومعه المِسور ابنُه ،فقام
فقسمها فى ناس مِن أصحابه ،وعزل منها واحدًا لِم ْ
ى صلى ال عليه وسلم صوتَه ،فتلقاه به فاستقبلَه ،وقال(( :يا
على الباب ،فقال :ادْعُ ُه لى ،فسمِع النب ّ
خبَ ْأتُ هذَا َلكَ)).
س َورِ َ
أَبا المِ ْ
وأهدى له المُ َقوْ ِقسُ ماري ًة أ ّم ولده ،وسِيرين التى وهبها لحسان ،وبغلةً شهباء ،وحماراً.
ل أن
وأهدى له النجاشىّ هديةً ،فَق ِبلَها منه ،وبعث إليه هدي ًة عوضها ،وأخبر أنّه مات قب َ
َتصِلَ إليه ،وأنها َترْجعُ ،فكان المر كما قال.
ن نُفَاثَةَ الجذَامِى بغل ًة ببيضاء ركبها يوم حُنين ،ذكره مسلم.
وأهدى له َف ْر َو ُة بْ ُ
ل صلى ال عليه وسلم
ك أيل َة أهدى له بغلةً بيضاء ،فكساه رسولُ ا ّ
وذكر البخارى :أن َمِل َ
حرِهِم.
بُردة ،وكتب له ِببَ ْ
وأهدى له أبو سفيان هدية فقبلها.
عبَ الْسِنة ،أهدى للنبى صلى ال عليه وسلم فرساً
وذكر أبو عبيد :أن عام َر بن مالك مُل ِ
ل َزبَدَ
ش ِركٍ)) وكذلك قال لعياض المجاشعى(( :إنّا ل نَ ْقبَ ُ
فرده ،وقال(( :إنّا ل نَ ْقبَلُ هَ ِديّ َة مُ ْ
ش ِركِين)) يعنى :رِفدهم.
المُ ْ
قال أبو عبيد :وإنما قبل هدية أبى سفيان لنها كانت فى مد ِة الهُدنة بينه وبين أهل مكة،
ب بن أبى بلتعة رسوله إليه،
وكذلك المقو ِقسُ صاحبُ السكندرية إنما قبل هديته لنه أكرمَ حاط َ
ب له قطّ.
وأقرّ بنبوته ،ولم يُؤيسه من إسلمه ،ولم يقبل صلى ال عليه وسلم هدي َة مشركٍ محار ٍ
فصل
وأما حكم هدايا الئمة بعده ،فقال سُحنون من أصحاب مالك :إذا أهدى أميرُ الروم هدي ًة إلى
المام ،فل بأس بقبولها ،وتكون له خاصة ،وقال الوزاعى :تكون للمسلمين ،ويُكافئه عليها مِن
بيت يالمال .وقال المام أحمد رحمه الّ وأصحابه :ما أهداه الكفار للمام ،أو لمير الجيش ،أو
قواده ،فهو غنيمة ،حكمها حكمُ الغنائم.
فصل
38
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى قسمة الموال
سمُها ثلثة :الزكاةُ ،والغنائم ،والفىء فأما
ى صلى ال عليه وسلم يق ِ
الموال التى كان النب ّ
ف الثمانية ،وأنه كان رُبما
عبُ الصنا َ
الزكاة والغنائم ،فقد تقدم حكمها ،وبيّنا أنه لم يكن يُستو ِ
وضعها فى واحد.
وأما حُكمه فى الفىء ،فثبت فى الصحيح ،أنه صلى ال عليه وسلم قسم يومَ حُنين فى
ن يَذْ َهبَ
ن أَ ْ
ل َت ْرضَو َ
ط النصارَ شيئاًَ ،ف َع ِتبُوا عليه ،فقال لهم(( :أ َ
المؤلفة قلوبُهم من الفىء ،ولم يُع ِ
ن ِبرَسُولِ الّ صلى ال عليه وسلم تَقُودُونَ ُه إلى رِحَاِلكُمَْ ،فوَالِّ لما
النّاسُ بالشّا ِء وال َبعِيرِ ،و َتنْطَلِقُو َ
خ ْي ٌر ِممّا َينْ َقِلبُونَ بِهِ)) وقد تقدّم ذك ُر القصة وفوائدها فى موضعها.
ن بِهِ َ
تنقلبو َ
والقصة هنا أن الّ سبحانه أباح لرسول ِه من الحكم فى مال الفىء ما لم يُبحه لغيره ،وفى
ب إلىّ
ح ّ
ع أَ َ
غ ْيرَهُم ،والّذِى أَدَ ُ
((الصحيح)) عنه صلى ال عليه وسلم(( :إنى لَعْطِى أَ ْقوَاماًَ ،وأَدْعُ َ
عهُمْ ،وَأكِلُ أَ ْقوَاماً
جزَ َ
ظَل َعهُمْ و َ
مِنَ الّذِى أُعْطى)) وفى (الصحيح) عنه(( :إنّى لَعْطى أَ ْقوَاماً أَخَافُ َ
ع ْمرُو بْن َت ٌغلِب)) .قال عمرو بن تغلب :فما
خ ْيرِِ ،منْهم َ
ن الغِنى وال َ
جعَلَ الُّ فى ُقلُو ِبهِمْ مِ َ
إلى مَا َ
ب أن لى بكلمةِ رسول ال صلى ال عليه وسلم حُمرَ ال ّنعَمِ.وفى ((الصحيح)) :أن عليًا بعث إليه
ح ّ
أُ ِ
علْ َقمَ َة بنَ
ع بنَ حابس ،وأعطى زيدَ الخيل ،وأعطى َ
بِذُ َه ْيبَةً من اليمن ،فقَسمها أرباعاً ،فأعطى القر َ
ق الرأس،
ث اللّحية ،محلو ُ
ع َي ْينَ َة بنَ حِصن ،فقام إليه رجلٌ غائ ُر العينين ،ناتىءُ الجبهة ،ك ّ
عُلثة و ُ
ق أهلِ
فقال :يا رسول ال اتق ال ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :ويلك أو لست أح ّ
ى ال))؟ ،الحديث.
الرض أن يتق َ
وفى ((السنن)) :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم وضع سهم ذى القُربى فى بنى هاشم،
ك بنى نوفل ،ونبى عب ِد شمس ،فانطلق جُبير بن مُطعم ،وعثمانُ ابن عفان
وفى بنى المطلب ،و َت َر َ
ل إخوانِنا بنى عبد
ل بنى هاشم لموضعهم منك ،فما با ُ
إليه ،فقال :يا رسولَ الِّ ،ل ُن ْن ِك ُر فض َ
المطلب ،أعطيتَهم وتركتنا ،وإنما نحنُ وهم بمنزلةً واحدة ،فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم(( :إنّا
ن َأصَا ِبعِهِ.
ش َبكَ َبيْ َ
ن وَهُمْ شَىءٌ واحدٌِ)) و َ
طِلبِ ل نَ ْف َترِقُ فى جَاهِليّ ًة وَلَ إسْلمٍ ،إنّما نَحْ ُ
و َبنُوا المُ ّ
ى صلى ال عليه وسلم ،وأن سه َم ذوى القُربى
وذكر بعضُ الناس بأن هذا الحكمَ خاص بالنب ّ
يُصرف بعدَه فى بنى عبد شمس ،ونبى نوفل ،كما يُصرف فى بنى هاشم ،وبنى المطلب ،قال :لن
عبد شمس ،وهاشما ،والمطلب ،ونوفلً إخوة ،وهُم أولدُ عبد مناف .ويقال :إن عب َد شمس ،وهاشما
توأمان.
39
والصواب :استمرارُ هذا الحكم النبوى ،وأنّ سه َم ذوى القربى لبنى هاشم ونبى المطلب
حيث خصّه رسولُ ال صلى ال عليه وسلم بهم ،وقولُ هذا القائل :إن هذا خاصُ بالنبىّ صلى ال
عليه وسلم باطل ،فإنه بيّن مواضِعَ الخُمس الذى جعله ال لذوى القُربى ،فل يُتعدّى به تلك
سمُه بينهم على السواء بين أغنيائهم وفقرائهم ،ول كان
المواضع ،ول يُقصر عنها ،ولكن لم يكن يق ِ
ظ النثيين ،بل كان يَصرفُه فيهم بحسب المصلحة والحاجة،
سمُه قِسمَة الميراث للذكر مثلُ ح ّ
يق ِ
فيزوّجُ منه عزبَهم ،ويقضِى منه عن غارِمهم ،ويُعطى منه فقيرَهم كفايته.
وفى ((سنن أبى داود)) :عن على بن أبى طالب رضى ال عنه ،قال(( :ولّنى رسول ال
ضعَه حياةَ رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وحياةَ أبى بكر رضى ال
خ ْمسَ الخمس ،فوضعتُه موا ِ
ُ
عنه ،وحيا َة عمر رضى ال عنه)).
صرَفُ فى مصارفه الخمسةِ ،ول يقوى هذا الستدلل ،إذ غايةُ
ل به على أنه كان ُي ْ
وقد استدِ ّ
ل ال صلى ال عليه وسلم يصرِفُه فيها ،ولم َيعُدها إلي
ما فيه أنه صرفه فى مصارفه التى كان رسو ُ
سواها ،فأين تعميمُ الصناف الخمسة به؟ ،والذى يدل عليه هدىُ رسولِ ال صلى ال عليه وسلم
ف الزكاة ،ول يخرجُ بها عن الصناف المذكورة
وأحكامُه أنه كان يجعل مصارِفَ الخمس كمصا ِر ِ
سمُه بينهم كقِسمة الميراث ،ومن تأمل سيرته وهديَه حقّ التأمل لم يشك فى ذلك.
ل أنه يق ِ
ت أموالُ بنى النضير
وفى ((الصحيحين)) :عن عمر بن الخطاب رضى ال عنه ،قال :كا َن ْ
ف المسلمون عليه بخيل ول رِكاب ،فكانت لِرسول ال صلى
ج ِ
لّ على رسوله مما لم يُو ِ
مما أفاء ا ُ
ق منها على أهله نفقةَ سنة ،وفى لفظ(( :يح ِبسُ لهله قوت سنتهم ،ويجعلُ
ال عليه وسلم خاصة يُنفِ ُ
ما بقى فى الكراع والسلح عُدة فى سبيل ال)).
ل صلى ال عليه
وفى ((السنن)) :عن عوف بن مالك رضى ال عنه ،قال :كان رسولُ ا ّ
ظيْنِ ،وأعطى ال َعزَب حظاً.فهذا تفصيل منه
وسلم إذا أتاه الفىء ،قسمه مِن يومه ،فأعطى الهِل حَ ّ
للهِلِ بحسب المصلحة والحاجة ،وإن لم تكن زوجُه من ذوى القربى.
وقد اختلف الفقهاءُ فى الفىء ،هل كان مِلكًا لرسول ال صلى ال عليه وسلم يتصرف
فيه كيف يشاء ،أو لم يكن ملكًا له؟ على قولين فى مذهب أحمد وغيره.
سمُه
ث أمره ال ،ويق ِ
والذى تدل عليه سنتُه وهديه ،أنه كان يتصرّف فيه بالمر ،فيضعه حي ُ
ف المالك بشهوته وإرادته ،يُعطى من
على من ُأ ِمرَ بقسمته عليهم ،فلم يكن يتصرّف فيه تص ّر َ
ف العبدِ المأمور يُنفّذُ ما أمره به سيده وموله،
أحبّ ،ويمنعُ من أحبّ ،وإنما كان يتصرّف فيه تصرّ َ
40
فيعطى من أمر بإعطائه ،ويمنع من ُأ ِم َر بمنعه ،وقد صرح رسول ال صلى ال عليه وسلم بهذا
ح ْيثُ ُأ ِم ْرتُ)) ،فكان عطاؤه ومنعُه
لّ إنّى ل أُعطِى أحدًا ول أمنعهُ ،إما أنا قاسِ ٌم َأضَعُ ِ
فقال(( :وا ِ
ن عبداً رسولً ،وبين أن يكون ملكاً
وقسمُه بمجرد المر ،فإن ال سبحانه خيّره بين أن يكو َ
رسولً ،فاختار أن يكون عبداً رسولً.
ك الرسولُ
والفرقُ بينهما أن العب َد الرسولَ ل يتص ّرفُ إل بأمر سيّده و ُمرْسِله ،وال َمِل ُ
ى مَن يشاء ،ويمنعُ من يشاء كما قال تعالى للملك الرسول سليمان{ :هذا عَطَا ُؤنَا فَا ْمنُنْ
طَله أن يُع ِ
سبُك ؛ وهذه المرتبة
ك ِب َغ ْيرِ حِسَابٍ} [ص ]39 :أى :أعطِ مَن شئتَ ،وامنع من شئت ،ل نحا ِ
س ْ
َأوْ َأمْ ِ
غبَ عنها إلى ما هو أعلى منها ،وهى مرتبةُ
ضتْ على نبينا صلى ال عليه وسلم ،فَر ِ
ع َر َ
هى التى ُ
العبودية المحضة التى تَصرّفُ صاحبها فيها مقصو ٌر على أم ِر السيد فى كُلّ دقيق وجليل.
والمقصود :أن تصرفه فى الفىء بهذه المثابة ،فهو ملك يُخالف حكم غيره من المالكين،
ف المسلمون عليه بخيل ول ركاب على نفسه وأهله
ج ِ
ولهذا كان ينفق مما أفاء ال عليه مما لم يُو ِ
نفقةَ سنتهم ،ويجعل الباقى فى الكُراع والسّلح عدة فى سبيل ال عز وجل ،وهذا النوعُ مِن الموال
هو السهمُ الذى وقع بعده فيه مِن النزاع ما وقع إلى اليوم.
فأما الزكاوات والغنائم ،وقسمة المواريث ،فإنها معينة لهلها ل يَشُركُهم غيرُهم
فيها ،فلم يُشكل على ولة المر بعدَه مِن أمرها ما أشكل عليهم مِن الفىء ،ولم يقع فيها مِن النزاع
ت رسول ال صلى ال عليه وسلم ميراثها
ل أمره عليهم ،لما طلبت فاطم ُة بن ُ
ما وقع فيه ،ولول إشكا ُ
مِن تركته ،وظنت أنه يُورث عنه ما كان ملكًا له كسائر المالكين ،وخفى عليها رضى ال عنها
حقيق ُة الملك الذى ليس مما يُورث عنه ،بل هو صدقة بعده ،ولما علِمَ ذلك خليفتهُ الراشدُ البار
الصّدّيق ،ومَن بعده من الخلفاء الراشدين لم يجعلوه ما خلفه من الفىء ميراثاً يُقسم بين ورثته ،بل
ل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،حتى تنازعا فيه،
دفعوه إلى على والعباس يعملن فيه عم َ
وترافعا إلى أبى بكر الصديق ،وعمر ،ولم يَقسم أحد منهما ذلك ميراثاً ،ول مكّنا منه عباسًا وعليّا،
ل وَلذِى ال ُقرْبى وَال َيتَامَى
ل ال ُقرَى فَللّه ولِلرّسو ِ
وقد قال ال تعالى{ :مَا أَفَاءَ الُّ عَلى رَسُولِ ِه مِنْ أَهْ ِ
عنْهُ
غ ِنيَاءِ ِم ْنكُ ْم َومَا آتَاكُ ُم الرّسُولُ فَخَذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ َ
ل َيكُونَ دُولَ ًة َبيْنَ الَ َ
سبِيلِ َكيْ َ
ن ال ّ
والمَسَاكِين وابْ ِ
خرِجُوا مِنْ ِديَارِهِمْ َوَأ ْموَاِلهِمْ
ن أُ ْ
ن الّذِي َ
جرِي َ
ب * ِللْفُ َقرَا ِء ال ُمهَا ِ
لّ إنّ الَّ شَدِي ُد العِقَا ِ
فَا ْن َتهُوا واتّقُوا ا َ
ن َت َبوّءو الدّارَ
ن * والّذِي َ
ضوَانًا و َي ْنصُرُونَ ال َورَسُولَهُ أُول ِئكَ هُ ُم الصّادِقُو َ
لّ ورِ ْ
ل مِنَ ا ِ
َي ْب َتغُونَ َفضْ ً
ج َر إَل ْيهِمْ} [الحشر ]9-7 :إلى قوله{ :والّذِينَ جَاؤُوا مِنْ َبعْدِهِمْ}
ن مَنْ هَا َ
حبّو َ
واليمَانَ مِنْ َق ْبِلهِ ْم يُ ِ
41
[الحشر ،]10 :إلى آخر الية .فأخبر سبحانه أن ما أفاء على رسوله بجملته ِلمَن ُذ ِكرَ فى ه ِذهِ
ص منه خمسة بالمذكورين ،بل عمّ َم وأطلق واستوعب.
خ ّ
اليات ،ولم يَ ُ
ل الخمس ،ثم على المصارف
ويُصرف على المصارف الخاصة ،وهم أه ُ
العامة ،وهم المهاجرون والنصار وأتباعهم إلى يوم الدين .فالذى عمل به هو وخلفاؤه الراشدون،
هو المرادُ من هذه اليات ،ولذلك قال عمر بن الخطاب رضى ال عنه فيما رواه أحمد رحمه ال
ل مِن أحد ،وما أنا أحقّ به من أحد ،وال ما مِن المسلمين أحد إل
وغيره عنه :ما أحدٌ أحقّ بهذا الما ِ
وله فى هذا المال نصيب إل عبد مملوك ،ولكنا على منَازِلنا مِن كتاب ال ،وقسمنا من رسول ال
ل وبلؤُه فى السلم ،والرجل وقِ َدمُه فى السلم ،والرجل وغَناؤه فى
صلى ال عليه وسلم فالرج ُ
السلم ،والرجل وحاجتُه ،وال لئن بقيت لهم ليأتين الراعى بجبل صنعاء حظّه مِن هذا المال ،وهو
يَرعى مكانه .فهؤلء المس ّموْن فى آية الفىء هم المسمّون فى آية الخمس ،ولم يدخُل المهاجرون
والنصارُ وأتباعُهم فى آية الخمسِ ،لنهم المستحقون لجملة الفىء ،وأهلُ الخمس لهم استحقاقان:
استحقاقٌ خاص مِن الخمس ،واستحقاقٌ عام من جملة الفىء ،فإنهم داخلون فى ال ّنصِيبَيْنِ.
وكما أن قِسمته من جملة الفىء بين مَن جعل له ليس قسمة الملك التى يشترك فيها
المالكون ؛ كقِسم ِة المواريث والوصايا والملك المطلقة ،بل بحسب الحاجة والنفع والغَناء فى
السلم والبلء فيه ،فكذلك قِسمة الخمسِ فى أهله ،فإن مخرجَهما واحد فى كتاب ال ،والتنصيصُ
على الصناف الخمسة يُفيد تحقيق إدخالهم .وأنهم ل يُخرجون من أهل الفىء بحال ،وأن الخمس ل
يعدوهم إلى غيرهم ،كأصناف الزكاة ل تعدوهم إلى غيرهم ،كما أن الفىء العام فى آية الحشر
للمذكورين فيها ل يتعداهم إلى غيرهم ،ولهذا أفتى أئمة السلم ،كمالك ،والمام أحمد وغيرهما،
ق لهم فى الفىء لنهم ليسوا من المهاجرين ،ول من النصار ،ول من الذين
أن الرافضة ل ح ّ
سبَقُونَا بِالِيمَانِ} [الحشر ،]10:وهذا
خوَا ِننَا الّذينَ َ
جاؤوا من بعدهم يقولون{:رَبّنا اغْ ِف ْر َلنَا وَلِ ْ
مذهبُ أهل المدينة ،واختيارُ شيخ السلم ابن تيمية ،وعليه يدل القرآن ،وفعل رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،وخلفائه الراشدين.
س فى آية الزكا ِة وآي ِة الخمس ،فقال الشافعى :تجب قسم ُة الزكاة
وقد اختلف النا ُ
والخمس على الصناف كلّها ،ويُعطى مِن كل صنف مَن يطلق عليه اسم الجمع.
ل المدينة :بل يُعطى فى الصناف المذكورة فيهما ،ول يعدوهم
وقال مالك رحمه ال وأه ُ
إلى غيرهم ،ول تجب قسمةُ الزكاة ول الفىء فى جميعهم.
42
وقال المام أحمد وأبو حنيفة :بقول مالك رحمهم ال فى آية الزكاة ،وبقول الشافعى رحمه
ال فى آية الخمس.
عمَلَ رسول ال صلى ال عليه وسلم وخلفائه ،وجده يدل على قول
ومن تأمل النصوصَ ،و َ
أهل المدينة ،فإن ال سبحانه جعل أهل الخمس هم أهل الفىء ،وعيّنهم اهتماماً بشأنهم ،وتقديمًا لهم،
ولما كانت الغنائمُ خاصة بأهلها ل يشركهم فيها سواهم ،نصّ على خمسها لهل الخمس ،ولما كان
الفىء ل يختصُ بأحد دون أحد ،جعل جملته لهم ،وللمهاجرين والنصار وتابعيهم ،فسوّى بينَ
ل ال صلى ال عليه وسلم يصِرفُ سهم ال وسهمَه
الخمسِ وبين الفىء فى المصرِف ،وكان رسو ُ
فى مصالح السلم ،وأربعةَ أخماس الخمس فى أهلها مقدمًا لِلهم فالهم ،والحوج فالحوج،
فيزوج منه عزابَهم ،ويقضى منه ديونهم ،ويُعين ذا الحاجة منهم ،ويُعطى عزبهم حظاً ،ومتزوجَهم
حظّين ،ولم يكن هو ول أح ٌد من خلفائه يجمعون اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وذوى القربى،
ويقسمون أربعة أخماس الفىء بينهم على السوية ،ول على التفضيل ،كما لم يكونوا يفعلون ذلك فى
ض الصواب.
الزكاة ،فهذا هديُه وسيرتُه ،وهو فصلُ الخطاب ،ومح ُ
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الوفاء بالعهد لعدوّه وفى رسلهم ،أن ل يُقتلوا ول يُحبسوا ،وفى
ض العهد
ف منه نق َ
النبذ إلى من عاهده على سواء إذا خا َ
ن الرّسُلَ لَ
ثبت عنه أنه قال لرسولى مسلمَة الكذاب لما قال :نقول :إنه رسولُ الَِّ(( :لوْلَ أَ ّ
ل لَ َق َت ْلتُ ُكمَا)).
تُ ْقتَ ُ
وثبت عنه أنه قال لبى رافع وقد أرسلته إليه قريش ،فأراد المقا َم عنده ،وأنه ل يرجع إليهم،
ك الّذِى فيها
سَن كَانَ فى نَفْ ِ
س ال ُبرُدَ ،وَلكِنِ ارْجِ ْع إلى َق ْو ِمكَ ،فَإ ْ
ح ِب ُ
ل أَخِيسُ بِال َعهْدِ ،ول أَ ْ
فقال(( :إنى َ
الن فارْجِعْ)).
وثبت عنه أنه ر ّد إليهم أبا جندل للعهد الذى كان بينه وبينهم أن َيرُ ّد إليهم من جاءه منهم
س َب ْيعَةُ السلميةُ مسلمةً ،فخرج زوجُها فى طلبها ،فأنزل ال عز
مسلماً ،ولم يرد النساء ،وجَادت ُ
علَمُ بِإيمَا ِنهِنّ فَإنْ
لّ أَ ْ
حنُوهُنّ ا ُ
جرَاتٍ ،فَا ْمتَ ِ
ت ُمهَا ِ
وجل{ :يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا إذَا جَا َءكُم ال ُم ْؤ ِمنَا ُ
جعُوهُنّ إلى الكُفّارِ} [الممتحنة ]10 :فاستحلفها رسولُ ال صلى ال عليه
ل َترْ ِ
ن ُم ْؤ ِمنَاتٍ فَ َ
عِل ْم ُتمُوهُ ّ
َ
وسلم أنه لم يُخرجها إل الرغبة فى السلمِ ،وأنها لم تخرج لحدث أحدثته فى قومها ،ول بغضاً
لزوجها ،فحلفت ،فأعطى رسول ال صلى ال عليه وسلم زوجَها مهرَها ،ولم يردها عليه .فهذا
43
حكمه الموافق لحكم ال ،ولم يجىء شىء ينسخه البتة ،ومن زعم أنه منسوخ ،فليس بيده إل
الدعوى المجردة ،وقد تقدم بيان ذلك فى قصة الحُديبية.
سوَا ٍء إنّ الَّ ل يُحبّ الخَا ِئنِينَ}
خيَانةً فا ْنبِ ْذ إَل ْيهِمْ عَلى َ
ن مِنْ قَومٍ ِ
وقال تعالى{:وإمّا تَخَافَ ّ
[النفال]58 :
حتّى
ل يُشُ ّدنّهُ َ
حلّنّ عَقْداً ،و َ
ل يَ ُ
عهْدٌ فَ َ
ن َب ْينَهُ َو َبيْنَ َقوْمٍ َ
ن كَا َ
وقال صلى ال عليه وسلم(( :مَ ْ
سوَاء)) .قال الترمذى :حديث حسن صحيح.
ى َأمَ ُدهَُ ،أوْ َي ْنبِ َذ إَل ْيهِمْ عَلى َ
َي ْمضِ َ
ولما أسرت قريشٌ حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما ،وعاهدوهما أن ل يقاتلهم معَ رسول
جيْن إلى بدر ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
ال صلى ال عليه وسلم ،وكانوا خار َ
عَل ْيهِمْ)).
ى َلهُمْ ِب َعهْدِهِمْ ،ونَس َتعِينُ الَّ َ
صرِفا ،نَ َف ِ
((ا ْن َ
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى المان الصادر من الرجال والنساء
سعَى بِ ِذ ّم ِتهِ ْم أَ ْدنَاهُمْ)).
سِلمُونَ َت َتكَا َفأُ ِدمَاؤُهُم وَي ْ
ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال(( :ا ْلمُ ْ
وثبت عنه أن أجارَ رجلينَ أجار ْتهُما أم هانىء ابنة عمه ؛ وثبت عنه أنه أجار أبا العاص بن
سِلمِينَ أَ ْدنَاهُمْ)) .وفى حديث آخر(( :يُجِيرُ
علَى المُ ْ
الربيع لما أجارته ابنتُه زينب ،ثم قال(( :يُجيرُ َ
عَل ْيهِمْ أَقصَاهُمْ)).
سِلمِينَ أَ ْدنَاهُم َو َيرُدّ َ
على المُ ْ
فهذه أربع قضايا كلية ؛ أحَدها :تكافؤ دمائهم ،وهو يمنع قتل مسلمهم بكافرهم.
والثانية :أنه يَسعى بذمتهم أدناهم ،وهو يُوجب قبول أمان المرأة والعبد.
وقال ابن الماجشون .ل يجوز المان إل لوالى الجيش ،أو والى السرية .قال ابنُ شعبان:
وهذا خلفُ النّاس ُكلّهم.
والثالثة :أن المسلمين يد على من سواهم ،وهذا يمن ُع مثن تولية الكفار شيئًا من الوليات،
فإن للوالى يدًا على المولّى عليه.
س ِريّة إذا غنمت غنيمة بقوة جيش
والرابعة :أنه يرد عليهم أقصاهم ،وهذا يُوجب أن ال ّ
السلم كانت لهم ،وللقاصى من الجيش إذ بقوته غنموها ،وأن ما صار فى بيت المال من الفىء
كان لقاصيهم ودانيهم ،وإن كان سبب أخذه دانيهم ،فهذه الحكام وغيرها مستفادة من كلماته
الربعة صلوات ال وسلمه عليه.
فصل
44
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الجزية ومقدارها وممن تقبل
قد تقدم أنّ أول ما بعث ال عز وجل به نبيّه صلى ال عليه وسلم الدعوة إليه بغير قتال ول
جزية ،فأقام على ذلك ِبضْعَ عشرة سنة بمكة .ثم أذِنَ له فى القتال لما هاجر من غير فرض له ،ثم
أمره بقتال من قاتله ،والكفّ عمن لم يقاتله ،ثم لما نزلت ((براءة)) سنة ثمان أمره بقتال جميع من
لم يُسلم من العرب :مَن قالته ،أو كفّ عن قتاله إل من عاهده ،ولم َينْ ُقصْهُ من عهده شيئاً ،فأمره أن
يفىَ له بعهده ،ولم يأمره بأخذ الجزية من المشركين ،وحارب اليهود مراراً ،ولم يُؤمر بأخذ الجزية
منهم.
ث ّم أمره بقتال أهل الكتاب كلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ،فامتثل أمر ربه،
فقاتلهم ،فأسلم بعضهم ،وأعطى بعضُهم الجزية ،واستم ّر بعضُهم على محاربته ،فأخذها صلى ال
عليه وسلم مِن أهل نجران وأيلة ،وهم من نصارى العرب ،ومن أهل دُومَة الجندل وأكثرُهم عرب،
وأخذها مِن المجوس ومن أهل الكتاب باليمن ،وكانوا يهوداً.
ولم يأخذها من مشركى العرب ،فقال أحمد ،والشافعى :ل تؤخذ إل من
الطوائف الثلث التى أخذها رسول ال صلى ال عليه وسلم منهم ،وهم :اليهود ،والنصارى،
والمجوس .ومن عداهم فل يُقبل منهم إل السل ُم أو القتل .وقالت طائفة :فى المم كلها إذا بذلوا
الجزيةُ ،ق ِبَلتْ منهم :أهل الكتابين بالقرآن ،والمجوس بالسنة ،ومن عداهم ملحَقٌ بهم لن المجوس
أهل شرك ل كتاب لهم ،فأخذُها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين ،وإنما لم يأخذها صلى
ال عليه وسلم من عبدة الوثان من العرب لنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية ،فإنها نزلت بعدَ
تبوك ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب ،واستوثقت ُكلّها له بالسلم،
ولهذا يأخذها مِن اليهود الذين حاربوه ،لنها لم تكن نزلت بعد ،فلما نزلت ،أخذها من نصارى
العرب ،ومن المجوس ،ولو بقى حينئذ أحدٌ من عبدة الوثان بذلها لقبلها منه ،كما قبلها من عبدة
الصلبان والنيران ،ول فرق ول تأثير لتغليظِ كفر بعض الطوائف على بعض ،ثم إن كفر عبدةِ
الوثان ليس أغلظ مِن كفر المجوس ،وأىّ فرق بين عبدة الوثان والنيران ،بل كف ُر المجوس أغلظ،
وعبادُ الوثان كانوا يُقرون بتوحيد الربوبية ،وأنه ل خالق إل ال ،وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لِتقربهم
إلى ال سبحانه وتعالى ،ولم يكونوا يُ ِقرّون بصان َعيْنِ للعالم ،أحدهما :خالق للخير ،والخر للشر،
كما تقوله المجوس ،ولم يكونوا يستحلون نكاح المهات والبنات والخوات ،وكانوا على بقايا من
دين إبراهيم صلوات ال وسلمه عليه.
45
وأما المجوس ،فلم يكونوا على كتاب أصلً ،ول دانوا بدين أحد من النبياء ل فى عقائدهم
ول فى شرائِعهم ،والثر الذى فيه أنه كان لهم كتاب َفرُفعَ ،ورُ ِفعَت شريعتُهم لما وقع َمِلكُهم على
ح البتة ،ولو صحّ لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب ،فإن كتابَهم رُفِعَ ،وشريعتهم بطلت،
ابنته ل َيصِ ّ
فلم يبقوا على شىء منها.
ب كانوا على دين إبراهيم عليه السلم ،وكان له صحف وشريعة ،وليس
ومعلوم أن العر َ
ن إبراهيم عليه السلم وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم
تغييرُ عبدة الوثان لدي ِ
وكتابهم لو صحّ ،فإنه ل يُعرف عنهم التمسك بشىء من شرائع النبياء عليهم الصلوات والسلم،
ل من مشركى العرب،
بخلف العرب ،فكيف يجعل المجوس الذين دينُهم أقبحُ الديان أحسنَ حا ً
وهذا القول أصحّ فى الدليل كما ترى.
وفرقت طائفة ثالثة بين العرب وغيرهم ،فقالوا :تُؤخذ مِن كل كافر إل مشركى
العرب.ورابعة :فرقت بين قريش وغيرهم ،وهذا ل معنى له ،فإن قريشًا لم يبق فيهم كافر يحتاج
إلى قتاله وأخذ الجزية منه البتة ،وقد كتب النبى صلى ال عليه وسلم إلى أهل َهجَر ،إلى المنذر بن
ساوى ،وإلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى السلم أو الجزية ،ولم يفرق بين عربى وغيره.
أما حُكمُه فى قدرها ،فإنه بعث معاذًا إلى اليمن ،وأمره أن يأخذ مِن كُلّ حالم ديناراً
أو قِيمته َمعَافِر ،وهى ثياب معروفة باليمن .ثم زاد فيها عمر رضى ال عنه ،فجعلها أربعةً دنانير
على أهل الذهب ،وأربعينَ درهمًا على أهل ال َورِقِ فى كل سنة ،فرسول ال صلى ال عليه وسلم
ف أهل اليمن ،وعمرُ رضى ال عنه علم غِنى أهل الشام وقوتهم.
علم ضع َ
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الهدنة وما ينقضها
ل مكة على وضع الحرب بينه وبينهم عشرَ
ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه صالح أه َ
سنين ،ودخل حلفاؤهم من بنى بكر معهم ،وحلفاؤه من خزاعة معهَ ،فعَ َدتْ حلفاءُ قريش على
حلفائه .فغدروا بهم ،فرضيت قريش ولم تُنكره ،فجعلهم بذلك ناقضين للعهد ،واستباح غزوهم مِن
غير نبذ عهدهم إليهم ،لنهم صاروا محاربين له ،ناقضين لعهده برضاهم وإقرارهم لحلفائهم على
الغدر بحلفائه ،وألحق رِدأهم فى ذلك بمباشرهم.
وثبت عنه أنه صالح اليهود ،وعاهدهم لما قَدِمَ المدينة ،فغدروا به ،ونقضوا عهده
مراراً ،وكل ذلك يُحاربهم ويظفر بهم ،وآخرُ ما صالح يهود خيبر على أن الرض له ،ويُقرهم فيها
46
عمالً له ما شاء ،وكان هذا الحكمُ منه فيهم حج ًة على جواز صلح المام لعدوه ما شاء مِن المدة،
فيكون العقدُ جائزاً ،له فسخه متى شاب ،وهذا هو الصواب ،وهو موجب حكم رسول ال صلى ال
خ له.
عليه وسلم الذى ل ناس َ
فصل
(يتبع)...
@
وكان فى صلحه لهل مكة أن من أحبّ أن يدخل فى عهد محمد وعقده دخل ،ومن أحب أن
يدخل فى عهد قريش وعقدهم دخل ،وأن من جاءهم من عنده ل يردّونه إليه ،ومن جاءه منهم رده
جُلبّانِ السلح ،وقد تقدم
إليهم ،وأنه يدخل العام القابل إلى مكة ،فيخلونها له ثلثاً ،ول يدخلها إل بِ ُ
ذِكرُ هذه القصة وفقهها فى موضعه.
ذكر أقضيته وأحكامه صلى ال عليه وسلم فى النكاح وتوابِعه
فصل
ب والبِكر يُزوّجُهما أبوهما
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى ال ّثيّ ِ
ثبت عنه فى ((الصحيحين)) :أن خنساء بنت خِدَام زوّجَها أبوها وهى كارِهةٌ ،وكانت ثيباً،
وفى السنن :من حديث ابن عباس :أن حهَا.
ل ال صلى ال عليه وسلم ،فر ّد نِكا َ
ت رَسُو َ
فَأ َت ْ
جاري ًة بكراً أتت النّبىّ صلى ال عليه وسلم ،فذكرت لَ ُه أنّ أباها زوّجها وَ ِهىَ كَارِهَةٌ ،فخيرها النبى
صلى ال عليه وسلم .وهذه غير خنساء ،فهما قضيتان قضى فى إحداهما بتخيير الثّيب ،وقضى فى
الخرى بتخيير البكر.
س َتأْذَنَ ،قالوا :يا رسولَ ال:
حتّى تُ ْ
ح ال ِب ْكرُ َ
وثبت عنه فى ((الصحيح)) أنه قال(( :ل ُت ْنكَ ُ
س ُكتَ)).
وكيف إذنُها؟ قال(( :أَنْ تَ ْ
صمَاتُها)).
سهَا ،وإ ْذ ُنهَا ُ
وفى صحيح مسلم(( :ال ِب ْكرُ تُستأذن فى نَفْ ِ
وموجب هذا الحكم أنه ل تُجبر البِك ُر البال ُغ على النكاح ،ول تُزوج إل برضاها ،وهذا قولُ
جمهور السلف ،ومذهبُ أبى حينفة وأحمد فى إحدى الروايات عنه ،وهو القولُ الذى ندين ال به،
ول نعتقِدُ سواه ،وهو الموافِقُ لحكم رسول ال صلى ال عليه وسلم وأمرِه ونهيه ،وقواعد شريعته،
ومصالح أمته.
47
حكَم بتخيير البِكرِ الكارِهة ،وليس روايةُ هذا الحديث مرسلةً
أما موافقتُه لِحكمه ،فإنه َ
بعلة فيه ،فإنه قد رُوى مسنداً ومرسلً .فإن قلنا بقول الفقهاء :إن التصال زيادة ،ومَنْ وصله مقدّمٌ
على من أرسله ،فظاهر وهذا تصرفهم فى غالب الحاديث ،فما بالُ هذا خرج عن حكم أمثاله ،وإن
حكمنا بالرسال ،كقول كثير من المحدثين ،فهذا مرسل قوى قد عضدته الثارُ الصحيحة
الصريحة ،والقياسُ وقواعِ ُد الشرع كما سنذكره ،فيتعين القولُ به.
وأما موافقة هذا القول لمره ،فإنه قال(( :وال ِب ْكرُ تُستأذن ،وهذا أمر مؤكّد،
ق المخبر به وثبوتِه ولزومِه ،والصل فى أوامره صلى ال
لنه ورد بصيغة الخبرِ الدال على تحقّ ِ
عليه وسلم أن تكون للوجوب ما لم يَقُمْ إجماع على خلفه.
س َتأَذَنَ)) ،فأمر
حتّى تُ ْ
ل ُت ْنكَحُ ال ِب ْكرُ َ
وأما موافقته لنهيه ،فلقولهَ (( :
ونهى ،وحكم بالتخيير ،وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق.
ن البِكر البالغة العاقلة الرشيدة
وأما موافقته لِقواعد شرعِه ،فإ ّ
ل يتصرّف أبوها فى أقلّ شىء من مالها إل برضاها ،ول يُجبرها على إخراج اليسي ِر منه بدون
ج بُضعها منها بغير رضاها إلى من يُريد هو ،وهى مِن أكره
رضاها ،فكيف يجوز أن ُيرِقّها ،ويُخرِ َ
الناس فيه ،وهو مِن أبغض شىء إليها؟ ومع هذا فيُنكِحها إياه قهرًا بغير رضاها إلى من يُريده،
عوَانٍ
لّ فى النّسَاءِ فَإ ّنهُنّ َ
ويجعلُها أسيرةً عنده ،كما قال النبىّ صلى ال عليه وسلم(( :اتّقُوا ا َ
ل عليها من تزويجها بمن ل
عنْ َدكُمْ)) أى :أسرى ،ومعلومٌ أن إخراجَ مالها ُكلّه بغير رضاها أسه ُ
ِ
ل مَنْ قال :إنها عينت كُفْئًا تُحبه ،وعيّن أبوها كُفْئاً ،فالعبر ُة بتعيينه،
تختارُه بغير رضاها ،ولقد أبط َ
ولو كان بغيضاً إليها ،قبيحَ الخِلقة.
وأما موافقتُه لمصالح المة ،فل يخفى مصلحة البنت
ل ضد ذلك بمن تُب ِغضُه
فى تزويجها بمن تختاره وترضاه ،وحصولُ مقاصد النكاح لها به ،وحصو ُ
س الصحيح ،وقواع ُد الشريعة ل
وتن ِفرُ عنه ،فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول ،لكان القيا ُ
تقتضى غيره ،وبال التوفيق.
ل ال صلى ال عليه
فإن قيل :قد حكم رسو ُ
وسلم بالفرق بين البكر والثيب ،وقال(( :ول تُنكَحُ الّيم حتى تُستأمر ،ول تُنكح ال ِبكُر حتى
ليّمَ أحقّ بنفسها من
ستَأْ َذنُها َأبُوها)) فجعل ا َ
ن َوِليّها ،وال ِبكْ ُر يَ ْ
ق ِبنَفْسِها مِ ْ
ليّمُ أَحَ ّ
تُستأذن)) وقال(( :ا َ
ليّم بذلك معنى.
وليّها ،فعلم أن ولىّ البكرِ أحقّ بها مِن نفسها ،وإل لم يكن لتخصيصِ ا َ
48
ب النطقَ ،وإذن البِكرِ الصّمتَ ،وهذا
وأيضاً فإنه فرّق بينهما فى صفة الذن ،فجعل إذنَ ال ّث ّي ِ
ُكلّه يدل على عدم اعتبار رضاها ،وأنها ل حقّ لها مع أبيها.
ل على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها
فالجواب :أنه ليس فى ذلك ما يَدُ ّ
ض الخلق إليها إذا كان كُفْئاً ،والحاديث التى احتججتُم بها صريحةٌ فى
ورُشدها ،وأن يزوجها بأبغ ِ
ل بطريق
إبطال هذا القول ،وليس معكم أقوى مِن قوله(( :الّيم أحق بنفسها من وليّها)) ،هذا إنما يد ُ
المفهوم ،ومُنازِعوكم يُنازعونكم فى كونه حجة ،ولو سلم أنه حجة ،فل يجوز تقديمُه على المنطوق
الصريح ،وهذا أيضاً إنما يدل إذا قلت :إن للمفهوم عموماً ،والصواب أنه ل عموم له ،إذ دللتُه
ترج ُع إلى أن التخصيصَ بالمذكور ل بُدّ له من فائدة ،وهى نفىُ الحكم عما عداه ،ومعلوم أن انقسام
ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة ،وأن إثبات حكم آخرَ للمسكوت عنه فائدة وإن لم يكن ضدّ
حكم المنطوق ،وأن تفصيله فائدة ،كيف وهذا مفهومٌ مخالفٌ للقياس الصريح ،بل قياس الولى كما
ص المذكورة.
تقدم ،ويُخالف النصو َ
وتأمل قوله صلى ال عليه وسلم(( :والبكر يستأذنها أبوها)) عقيبَ قوله(( :الّيم أحق بنفسها
من وليها)) ،قطعًا لتوهم هذا القول ،وأن البكر تُزوج بغير رضاها ول إذنها ،فل حق لها فى نفسها
البتة ،فوصل إحدى الجملتين بالخرى دفعًا لهذا التوهم .ومن المعلوم أنه ل يلزمُ مِن كون الثيّب
أحق بنفسها من وليها أن ل يكون للِبكر فى نفسها حق البتة.
وقد اختلف الفقهاء فى مناط الجبار على ستة أقوال.
ل الشَافعى ومالك وأحمد فى رواية.
أحدُها :أنه يُجبر بالبكارة ،وهو قو ُ
ل أبى حنيفة ،وأحمد فى الرواية الثانية.
الثانى :أنه يُجبر بالصغر ،وهو قو ُ
الثالث :أنه يجبر بهما معاً ،وهو الروايةُ الثالثة عن أحمد.
الرابع :أنه يُجبر بأيّهما وجد وهو الرواية الرابعة عنه.
الخامس :أنه يُجبر باليلد ،فُتج َب ُر الثيب البالغ ،حكاه القاضى إسماعيل عن الحسن
البصرى قال :وهو خلف الجماع .قال :وله وجه حسن من الفقه ،فيا ليتَ شعرى ما هذا الوجه
السودُ المظلمُ؟،
السادس :أنه يُجبر من يكون فى عياله ،ول يَخفى عليك الراجحُ مِن هذه المذاهب.
فصل
49
وقضى صلى ال عليه وسلم بأن إذن البكر الصّمات ،وإذن الثيب الكلم ،فإن نطقت البكر
ح أن تزوج إل بالصمات ،وهذا هو اللئق بظاهريته.
بالذن بالكلم فهو آكد ،وقال ابنُ حزم :ل َيصِ ّ
فصل
حتِلمٍ،
ل ال صلى ال عليه وسلم أن اليتيم َة تُستأمر فى نفسها ،ول يُت َم َبعْدَ ا ْ
وقضى رسو ُ
ل ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ ،وهذا مذهبُ عائشة رضى ال عنها ،وعليه يَدُلّ
فد ّ
القرآن والسنة ،وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرُهما.
عَل ْيكُ ْم فى ال ِكتَابِ فى َيتَامَى
ن َومَا ُيتْلى َ
لّ يُ ْفتِيكُم فيه ّ
ك فى النّسَاءِ قُلِ ا ُ
ستَفتُونَ َ
قال تعالى{:ويَ ْ
ن أَنْ َت ْنكِحُوهُنّ} [النساء.]127 :
غبُو َ
ن و َترْ َ
ب َلهُ ّ
النّسَا ِء اللّتى ل ُت ْؤتُو َنهُنّ مَا ُك ِت َ
قالت عائش ُة رضى ال عنها :هى اليتيمةُ تكون فى حجر وليها ،فيرغبُ فى نكاحها ،ول
سنّةَ صداقِهن.
سنّ َة صَدَاقِهاَ ،فنُهوا عن نكاحهن إل أن يُقْسِطُوا لهن ُ
يُقْسِطُ لها ُ
ص َم َتتْ َف ُهوَ
سهَا فَإنْ َ
ستَ ْأ َمرُ فى نَفْ ِ
وفى السنن الربعة :عنه صلى ال عليه وسلم(( :ال َيتِيمَةُ تُ ْ
عَل ْيهَا)).
جوَازَ َ
إ ْذنُها وإنْ أَبتْ ،فَلَ َ
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى النكاح بل ولى
حتْ نَفْسَها ِب َغيْر إذْن
فى ((السنن)) عنه من حديث عائشة رضى ال عنهاَ(( :أيّمَا ا ْم َرَأةٍ َن َك َ
َولّيها َف ِنكَاحُها بَاطِلٌَ ،ف ِنكَاحُها باطِلٌَ ،ف ِنكَاحُها بَاطِلُ ،فَإن َأصَابَها َفلَها َم ْهرُهَا بمَا َأصَابَ ِمنْها ،فَإنْ
ل َوِلىّ لَهُ)) قال الترمذى حديث حسن.
سلْطَانُ وَلى مَنْ َ
جرُوا فَال ّ
شتَ َ
اْ
ل تُزوّجُ ال َم ْرَأةُ المرأةَ ،ول
ل ِبوَلى)) .وفيها عنهَ (( :
ح إِ ّ
ل ِنكَا َ
وفى السنن الربعة :عنهَ (( :
سهَا)).
ج نَفْ َ
ى الّتى َت ُزوّ ُ
ُت َزوّجُ ال َم ْرَأةُ نَفْسَها ،فَإن الزّا ِنيَةَ ِه َ
فصل
وحكم أن المرأة إذا زوجها الوليان ،فهى للول منهما ،وأن الرجل إذا باع للرجلين ،فالبيعُ
للول منهما.
فصل
فى قضائه فى نكاح التفويض
ثبت عنه أنه قضى فى رجل تزوّج امرأة ،ولم يَ ْفرِضْ لها صداقاً ،ولم يدخل بها حتّى ماتَ
أن لها َم ْه َر ِم ْثِلهَا ،ل َو ْكسَ ول شَطَطَ ،ولها الميراثُ ،وعليها العِد ّة أربعة أشهر وعشراً.
50
جكَ فلنَة))؟ قال :نعم ،وقال
ن ُأ َزوّ َ
وفى سنن أبى داود عنه :أنه قال لرجلَ(( :أ َترْضى أَ ْ
جكِ فُلَناً))؟ قالت :نعم ،فزوّج أحدهما صاحبه ،فدخل بها الرجلُ ،ولم
ن أَنْ َأ َزوّ َ
للمرأةَ(( :أ َت ْرضَيْ َ
ض لها صَداقاً ،ولم يُعطِها شيئاً ،فلما كان عند موته ع ّوضَها مِن صداقها سهماً له بخيبر.
يَ ْفرِ ْ
وقد تضمّنت هذه الحكام جوازَ النكاح مِن غير تسمية صداق ،وجوازَ الدخول قبل التسمية،
واستقرا َر مهر المثل بالموت ،وإن لم يدخُلْ بها ،ووجوبَ عِدة الوفا ِة بالموت ،وإن لم يدخُلْ بها
الزوج ،وبهذا أخذ ابنُ مسعود وفقها ُء العِراق .وعلماءُ الحديث ،منهم :أحمد ،والشافعى فى أحد
وقال على بن أبى طالب ،وزيد بن ثابت رضى ال عنهما :ل صداقَ لها ،وبه أخذَ قوليه.
ل المدينة ،ومالك ،والشافعى فى قوله الخر.
أه ُ
طرَفى العقد ،كوكيل مِن الطرفين ،أو ولى فيهما ،أول ولى
وتضمّنت جواز تولّى الرجل َ
ج و ّكلَه الولى ،ويكفى أن يقول :زوجتُ فلنًا فلنة مقتصراً على ذلك ،أو
و ّكلَه الزوجُ ،أو زو ٍ
تزوجت فلنة إذا كان هو الزوج ،وهذا ظاهر مذهب أحمد ،وعنه رواية ثانية :ل يجوز ذلك إل
للولى المجبر ،كمن زوّج أمته أو ابنته المجبرة بعبده المجبر ،ووجه هذه الرواية أنه ل يُعتبر
رضى واحد من الطرفين.
ح منه تولى الطرفين لتضاد
وفى مذهبه قول ثالث :أنه يجوز ذلك إل للزوج خاصة ،فإنه ل يصِ ّ
أحكا ِم الطرفين فيه.
فصل
حبَلِ
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيمن تزوج امرأةً فوجدها فى ال َ
فى ((السنن)) ((والمصنّف)) :عن سعيد بن المسيب ،عن بصرة بن أكثم ،قال :تزوجت
امرأة بكراً فى سترها ،فدخلتُ عليها ،فإذا هى حُبلى ،فقال النبىّ صلى ال عليه وسلمَ(( :لهَا
جلِدوُهَا)) ،وفرّق بينَهما.
عبْدُ َلكَ ،وإذا َولَ َدتْ فَا ْ
جهَا وَال َولَدُ َ
حَل ْلتَ مِنْ َفرْ ِ
ق ِبمَا اسْت ْ
الصّدَا ُ
ل أهل المدينة ،والمام أحمد،
وقد تضمّن هذا الحكم بطلنَ نِكاح الحامل مِن زنى ،وهو قو ُ
ب المهر المسمى فى النكاح الفاسد ،وهذا هو الصحيح من القوال الثلثة.
وجمهور الفقهاء ،ووجو ُ
ل المرين.
والثانى :يجب مهر المثل ،وهو قول الشافعى رحمه ال .والثالث :يجبُ أق ّ
حبَل وإن لم تقُ ْم بينة ول اعتراف ،والحبل من أقوى البينات ،وهذا
وتضمنت وجوبَ الحد بال َ
مذهبُ عمر بن الخطاب رضى ال عنه ،وأهل المدينة ،وأحمد فى إحدى الروايتين عنه.
51
وأما حكمه بكون الولد عبدًا للزوج ،فقد قيل :إنه لما كان ولد زنى ل أب له ،وقد غرّته من
غرِمَ صداقها أخدمه ولدها ،وجعله له بمنزلة العبد ل أنه أرقّه ،فإنه انعقد حراً تبعاً لحرية
نفسها ،و َ
ل أن يكون أرقّه عقوبة لمه على زناها وتغريرها للزوج ،ويكون هذا
أمه ،وهذا محتمل ،ويحتمِ ُ
ى صلى ال عليه وسلم ،وبذلك الولد ل يتعدّى الحكم إلى غيره ،ويحتمِلُ أن يكون هذا
خاصاً بالنب ّ
منسوخاً .وقد قيل :إنه كان فى أول السلم يُسترق الحر فى الدّين ،وعليه حمل بيعُه صلى ال عليه
سرّقٍ فى دَينه .وال أعلم.
وسلم ل ُ
فصل
فى حُكمه صلى ال عليه وسلم فى الشّروط فى النّكاح
حَل ْلتُم بِهِ ال ُفرُوجَ)).
ستَ ْ
ط أَنْ ُتوَفّوا ما ا ْ
شرُو ِ
ق ال ّ
فى ((الصحيحين)) :عنه(( :إنّ أحَ ّ
ستَفْرغَ صَحْ َفتَها وِل َت ْنكِحَ ،فإنّما َلهَا ما قُ ّدرَ
ق أُخْتها ِلتَ ْ
ل ال َم ْرأَةُ طَلَ َ
وفيهما عنه(( :ل تَسْأَ ِ
ط المرأةُ طلقَ أختها.
لها)).وفيهما :أنه نهى أن تَشْترِ َ
ن ُت ْنكَحَ ا ْم َرَأ ُة بِطَلقِ أُخْرى)).
ل أَ ْ
وفى مسند أحمد :عنه(( :ل يَحِ ّ
طتْ فى العقد إذا لم تتضمّن تَغييراً لحكم
شرِ َ
فتضمن هذا الحكمُ وجوبَ الوفاء بالشروط التى ُ
ال ورسوله .وقد اتّفق على وجوب الوفاء بتعجيل المهر أو تأجيله والضمين والرهن به ،ونحو
ذلك ،وعلى عدم الوفاء باشتراط ترك الوطء ،والنفاق ،الخلو عن المهر ،ونحو ذلك.
واخ ُتِلفَ فى شرط القامة فى بلد الزوجة ،وشرط دار الزوجة ،وأن ل يتسّرى عليها ،ول
يتزوجَ عليها ،فأوجب أحم ُد وغيرُه الوفاء به ،ومتى لم َيفِ به فلها الفسخ عند أحمد.
واخ ُتلِف فى اشتراط البكارة والنسب ،والجمال والسّلمة من العيوب التى ل يُفسخ بها
النكاحُ ،وهل يؤ ّثرُ عدمها فى فسخه؟ على ثلثة أقوال.
ثالثها :الفسخ عند عدم النسب خاصة.
وتضمن حكمُه صلى ال عليه وسلم بطلنَ اشتراط المرأة طلقَ أختها ،وأنه ل
يجب الوفاءُ به .فإن قيل :فما الفرق بين هذا وبين اشتراطها أن ل يتزوج عليها حتى صححتم هذا
وأبطلتم شرط الضرة؟ قيل :الفرقُ بينهما أن فى اشتراط طلقِ الزوجة من الضرار بِها ،وكسرِ
قلبها ،وخرابِ بيتها ،وشماتةِ أعدائها ما ليس فى اشتراط عدمِ نكاحها ،ونكاحِ غيرها ،وقد فرق
النصّ بينهما ،فقياس أحدهما على الخر فاسد.
فصل
52
ح المُحرِم ،ونِكاح الزانيةِ
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى نِكاح الشّغار والمُحلّل ،والمُتعَةِ ونِكا ِ
ح النهى عنه مِن حديث ابن عمر ،وأبى هُريرة ،ومعاوية.
أما الشّغار :فص ّ
شغَارَ فى السْلَمِ)).
وفى صحيح مسلم :عن ابن عمر مرفوعًا ((ل ِ
ن يُزوّجَه الخ ُر ابنتَه وليس
وفى حديث ابن عمر :والشّغار :أن يُزوّجَ الرجلُ ابنتَه على أ َ
بينهما صداق.
وفى حديث أبى هُريرة :والشّغارُ :أن يقولَ الرجُلُ للِرجل :زوجنى ابنتَك وأُزوّجك ابنتى ،أو
زوّجنى أختك وأزوجُك أختى.
ن عبد ال بن عباس أنكحَ عبدَ الرحمن ابنَ الحكم ابنَته،
سبَ
ن العبا َ
وفى حديث معاوية :أ ّ
وأنكحه عب ُد الرحمن ابنتَه ،وكانا جعل صَدَاقاً ،فكتب معاوي ُة رضى ال عنه إلى مروان يأمُره
شغَا ُر الذى نهى عنه رسولُ ال صلى ال عليه وسلم.
بالتفريقِ بينهما ،وقال :هذا ال ّ
فاختلف الفقهاء فى ذلك ،فقال المام أحمد :الشّغار الباطل أن يزوّجه وليته على أن يزوّجه
ح العقدُ بالمسمّى
ث ابن عمر ،فَإن سمّوا مع ذلك مهراً ،ص ّ
الخر وليته ،ول مهر بينهما على حدي ِ
عنده ،وقَال الخرقى :ل َيصِحّ ولو سمّوا مهرًا على حديث معاوية .وقال أبو البركات ابن تيمية
وغيرُه مِن أصحاب أحمد :إن س ّموْا مهراً وقالوا :مع ذلك :بُضع كل واحدة مهر الخرة لم َيصِحّ،
وإن لم يقولوا ذلك ،صح.
واخ ُتِلفَ فى علة النهى ،فقيل :هى جعلُ كل واح ٍد من العقدين شرطاً فى الخر وقيل:
ل واحدة مهراً للخرى ،وهى ل تنتفِعُ به ،فلم يرجع إليها
ل بُضع ك ّ
العلة التشريكُ فى البُضع ،وجع ُ
المهر ،بل عاد المهرُ إلى الولى ،وهو مُلكه لبُضع زوجته بتمليكه لبُضع مُولّيته ،وهذا ظلم لكل
ن المرأتين ،وإخلءٌ لنكاحهما عن مهر تنتفع به ،وهذا هو الموافق للغة العرب ،فإنهم
واحدة مِ َ
يقوْلون :بلد شاغر مِن أمير ،ودار شاغرة مِن أهلها :إذا خلت ،وشغر الكلبُ :إذا رفع رجله ،وأخلى
مكانَها .فإذا سمّوا مهراً مع ذلك زال المحذور ،ولم يبق إل اشتراطُ كلّ واحد على الخر شرطاً ل
يُؤثر فى فساد العقد ،فهذا منصوص أحمد.
وأما من فرق ،فقال :إن قالوا مع التسمية :إن بُضع كُل واحدة مهرٌ للخرى ،فسد ،لنها لم
يرج ْع إليها مهرُها ،وصار بُضعها لغير المستحق ،وإن لم يقولوا ذلك ،صحّ ،والذى يجىء على
أصله أنهم متى عقدُوا على ذلك وإن لم يقولوه بألسنتهم أنه ل يصح ،لن القصود فى العقود
53
معتبرة ،والمشروط عرفاً كالمشروط لفظاً ،فيبطل العقدُ بشرط ذلك ،والتواطؤ عليه ونيته ،فإن
سمّى لِكل واحدة مهرَ مثلها ،صح ،وبهذا تظهر حكم ُة النهى واتفاقُ الحاديث فى هذا الباب.
فصل
حلّل ،ففى ((المسند)) والترمذى من حديث ابن مسعود رضىَ ال عنه قال:
وأما نكاح المُ َ
ل له)) .قال الترمذى :هذا حديث حسن
حلّ َ
حلّلَ وَالمُ َ
لّ صلى ال عليه وسلم المُ َ
ن رَسُولُ ا ِ
((لَعَ َ
صحيح.
ل لَهُ)).
حلّ َ
وفى ((المسند)) :من حديث أبى هريرة رضى ال عنه مرفوعًا ((َلعَنَ ال المُ َ
وإسناده حسن.
وفيه :عن على رضى ال عنه ،عن النبى صلى ال عليه وسلم مثله.
وفى سنن ابن ماجه :مِن حديث عُقبة بن عامر رضى ال عنه قال :قال رسولُ ال صلى ال
س َتعَارِ))؟ قالُوا :بلى يا رَسُولَ الِّ .قالُ (( :ه َو المتُحَللُ َلعَنَ الُّ
س المُ ْ
خ ِب ُركُم بال ّتيْ ِ
ل أُ ْ
عليه وسلم(( :أَ َ
ل لَهُ)).
حلّ َ
حلّلَ والمَ َ
المُ َ
فهؤلء الربعةُ مِن سادات الصحابة رضى ال عنهم ،وقد شهِدُوا على رسول ال صلى ال
حلّلُ لَه وهذا خبرٌ عن ال فهو خب ُر صِدق،
ل والمُ َ
حلّ ُ
عليه وسلم بلعنه أصحابَ التحليل ،وهم :المُ َ
ق عند أهل
علُها ،ول فر َ
وإما دُعاء فهو دُعاء مستجاب قطعاً ،وهذا يُفيد أنه مِن الكبائر الملعون فا ِ
المدينة وأهلِ الحديث وفُقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ ،والقصدِ ،فإن القُصود فى
العُقود عندهم معتبرة ،والعمالُ بالنيّات ،والشرطُ المتواطَأُ عليه دخل عليه المتعاقدان كالملفوظِ
ع ْبرَة
عندهم ،واللفاظُ ل تُراد لعينها ،بل لِلدللَة على المعانى ،فإذا ظهرت المعانى والمقاصدُ ،فل ِ
باللفاظ ،لنها وسائل ،وقد تحقّقت غاياتُها ،فتر ّت َبتْ عليها أحكامُها.
فصل
ح المُتعة ،فثبت عنه أنه أحلّها عا َم الفتح ،وثبت عنه أنّه نهى عنها عَا َم الفتح
وأما نِكا ُ
واخ ُتِلفَ هل نهى عنها يومَ خيبر؟ على قولين ،والصحيح :أن النهى إنما كان عا َم الفتح ،وأن النهى
لّ صلى ال عليه
ح ُم ِر الهلية ،وإنما قال على لبن عباس :إنّ رسولَ ا ِ
يومَ خيبر إنما كان عن ال ُ
وسلم نهى يومَ خيبرَ عن مُتعة النساء ،ونهى عن الحمر الهلية محتجاً عليه فى المسألتين ،فظنّ
ض الرواة أن التقييدَ بيوم خيبر راجع إلى ال َفصْلَين ،فرواه بالمعنى ،ثم أفرد بعضُهم أح َد الفصلين
بع ُ
وقيّده بيومِ خيبر ،وقد تقدّم بيانُ المسألة فى غزاة الفتح.
54
(يتبع)...
وظا ِهرُ كل ِم ابن مسعود إباحتُها ،فإن فى ((الصحيحين)) :عنه :كنا نغزو مع رسولِ ال @
خصِى؟ فنهانا عن ذلك ،ثم
ستَ ْ
صلى ال عليه وسلم وليس معنا نِساء ،فقلنا :يا رسول ال ،أل نَ ْ
ح ّرمُوا
رخّصَ لنا بع ُد أن َن ْنكِحَ المرأة بال ّثوْب إلى أجَل ،ثم قرأ عبدُ ال{ :يَا َأيّها الّذينَ آ َمنُوا ل تُ َ
ب ال ُم ْعتَدِينَ} [المائدة ]87 :ولكن فى
ل يُح ّ
ل َت ْعتَدُوا إنّ ال َ
لّ َلكُم وَ َ
ت مَا أحَلّ ا ُ
طيّبا ِ
َ
ل ال صلى ال عليه وسلم حرّم ُم ْتعَةَ النّسَاءِ.
((الصحيحين)) :عن على رضى ال عنه ،أن رسو َ
وهذا التحريمُ :إنما كان بعد الباحة ،وإل لزم منه النسخُ مرتين ولم يحتج به على علي بن
عباس رضى ال عنهم ،ولكن النظر :هل هو تحريمُ َبتَاتٍ ،أو تحري ُم ِمثْلُ تحريمِ الميتة والدم
حلّها
ن عباس ،وأفتى بِ ِ
وتحريم نكاح المة فيُباح عند الضرورة وخوفِ العنت؟ هذا هو الذى لحظه ب ُ
صرُوا على موضع الضرورة ،أمسك عن فُتياه ،ورجع
للضرورة ،فلما توسّع الناسُ فيها ،ولم يقت ِ
عنها.
فصل
حرِمِ ،فثبت عنه فى ((صحيح مسلم)) من رواية عثمان بن عفان رضى ال
ح المُ ْ
وأما نكا ُ
ل ُي ْنكَحُ)).
حرِ ُم وَ َ
عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :ل َي ْنكِحُ المُ ْ
واخ ُتِلفَ عنه صلى ال عليه وسلم ،هل تزوّج ميمونةَ حللً أو حراماً؟ فقال ابنُ
ل أبى رافع
ت الرسولَ بينهما .وقو ُ
ح ِرمَاً ،وقال أبو رافع :تزوّجها حللً ،وكن ُ
عباس :تزوّجها مُ ْ
أرجح لعدة أوجه.
أحدها :أنه إذ ذاك كان رجلً بالغاً ،وابنُ عباس لم يكن حينئذ ممن بلغ الحُلم ،بل كان له
نحو العشر سنين ،فأبو رافع إذ ذاك كان أحفظَ منه.
الثانى :أنه كان الرسولَ بين رسولِ ال صلى ال عليه وسلم وبينها ،وعلى يده دارَ الحديثُ،
فهو أعلم به مِنه بل شك ،وقد أشار بنفسه إلى هذا إشارةَ متحقّق له ،ومتيقّن ،لم ينقله عن غيره ،بل
باشره بنفسه.
الثالث :أن ابن عباس لم يكن معه فى تلك العُمرة ،فإنها كانت عُمرةَ القضية ،وكان ابنُ
لّ مِن الوِلدان ،وإنما سمع ال ِقصّة مِن غير حضور
عباس إذ ذاك من المستضعفين الذين عَ َذرَهُمُ ا ُ
منه لها.
55
الرابع :أنه صلى ال عليه وسلم حين دخل مكة ،بدأ بالطواف بالبيت ،ثم سعى بينَ الصفا
والمروة ،وحلق ،ثم حَلّ.
ل الطواف بالبيت ،ول
ومن المعلوم :أنه لم يتزوج بها فى طريقه ،ول بدأ بالتزويج بها قب َ
تزوّج فى حال طوافه ،هذا من المعلوم أنه لم يقع ،فصحّ قولُ أبى رافع يقيناً.
ن عباس ،ولم يُغلّطُوا أبا رافع.
غلّطُوا اب َ
الخامس :أن الصحابة رضى عنهم َ
حرِمِ ،وقول
ق لنهى النبىّ صلى ال عليه وسلم عن نِكاح المُ ْ
ل أبى رافع موافِ ٌ
السادس :أن قو َ
ى صلى ال عليه وسلم
ابن عباس يُخالفه ،وهو مستلزِم لحد أمرين ،إما لنسخه ،وإما لتخصيص النب ّ
بجواز النّكاحِ محرماً ،وكل المرين مخالِف للصل ليس عليه دليل ،فل يُقبل.
ل ال صلى ال عليه وسلم تزوّجها حللً
السابع :أن ابنَ أختها يزيد بن الصم شهد أن رسو َ
ن عباس .ذكره مسلم.
قال وكانت خالتى وخالة اب ِ
فصل
ح الزانية ،فقد صرّح ال سبحانه وتعالى بتحريمه فى سُورة النور ،وأخبر أن مَنْ
وأما نكا ُ
نكحها ،فهو إما زانٍ أو مشرك ،فإنه إما أن يلتزِمَ حُكمَه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه ،أول ،فإن لم
يلت ِزمْه ولم يعتقده ،فهو مشرك .وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه ،فهو زانٍ ،ثم صرّح بتحريمه
ى الم ْؤمِنينَ} [النور.]3 :
حرّمَ َذِلكَ عَل َ
فقال{ :و ُ
ليَامى ِم ْنكُم} [النور ،]32:مِن أضعفِ ما
ول يخفى أن دعوى نسخ الية بقولهَ {:وَأ ْنكِحُوا ا َ
يُقال ،وأضعف منه حملُ النكاح على الزنى إذ يصير معنى الية :الزانى ل يزنى إل بزانية أو
مشركة ،والزانية ل يزنى بها إل زانٍ أو مشرك ،وكلم ال ينبغى أن يُصان عن مثل هذا.
ل الية على امرأة بغى مشركة فى غاية البعد عن لفظها وسياقها ،كيف
وكذلك حم ُ
ح الحرائر والماءِ بشرط الحصان ،وهو العِفّة ،فقال{ :فا ْنكِحُوهُنّ بإِذْنِ
وهو سبحانه إنما أباح نكا َ
ت أَخْدانٍ} [النساء،]25 :
ل ُمتّخِذَا ِ
غ ْي َر مُسَافِحَاتٍ وَ َ
صنَاتٍ َ
ح َ
ن بِال َم ْعرُوفِ مُ ْ
أَ ْهِلهِنّ وآتُوهُنّ أُجُورَهُ ّ
فإنما أبح نكاحَها فى هذه الحالة دُون غيرها ،وليس هذا من باب دللة المفهوم ،فإن البضاع فى
الصل على التحريم ،فيُقتصرُ فى إباحتها على ما ورد به الشرعُ ،وما عداه ،فعلى أصل التحريم.
خبِيثَاتِ} [النور]26 :
خبِيثُونَ للْ َ
خبِيثينَ وال َ
ت ِللْ َ
خبِيثَا ُ
وأيضاً ،فإنه سبحانه قال{ :ال َ
ث مثلهن.
خبِيثَاتُ :الزوانى .وهذا يقتضى أن من تزوّج بهن ،فهو خبي ٌ
وال َ
56
وأيضاً .فمن أقبح القبائح أن يكون الرجلُ زوجَ بغى ،و ُقبْحُ هذا مستقر فى فطر الخلق ،وهو
عندهم غاية المسبّة.
وأيضاً :فإن ال َب ِغىّ ل يُؤمَن أن تُفْسِدَ على الرجل ِفرَاشه ،وتعلّق عليه أولداً مِن غيره،
والتحريم يثبت بدونْ هذا.
وأيضاً :فإن النبى صلى ال عليه وسلم فرق بين الرجل وبين المرأة التى وجدها حُبلى من
الزنى.
عنَاق
وأيضاً فإن مرثد بن أبى مرثد الغنوى استأذن النبى صلى ال عليه وسلم أن يتزوج َ
حهَا)).
وكانت بغيّاً ،فقرأ عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم آية النور وقال(( :ل َت ْنكِ ْ
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيمن أسلم على أكثر مِن أربع نِسوة أو على أختين
ش ُر نِسوةٍ ،فقال له
فى الترمذى عن ابن عمر رضى ال عنهما :أن غَيلن أسلم وتحتَه عَ ْ
النبى صلى ال عليه وسلم(( :اختر ِم ْنهُنّ َأ ْربَعاً)) .وفى طريق أخرى(( :وفَارِقْ سَائِرهُنّ))
خ َترْ َأ ّي َتهُما
وأسلم فيروز الدّيلمى وتحته أختان ،فقال له النبىّ صلى ال عليه وسلم(( :ا ْ
شِئتَ)).فتضمن هذا الحكم صِحةَ نكاح الكفار ،وأنه له أن يختار مَنْ شاء مِن السوابق واللواحق لنه
جعل الخِيرة إليه ،وهذا قول الجمهور .وقال أبو حنيفة :إن تزوجهن فى عقد واحد ،فسد نكاحُ
الجميع ،وإن تزوجهن مترتباتٍ ،ثبت نكاح الربع ،وفسد نكاح من بعدهن ول تخيير.
فصل
ن َموَالِيه ،فهو عَا ِهرٌ)) .قال
وحكم صلى ال عليه وسلم :أن العبد ((إذا تزوّج ِب َغ ْيرِ إِذْ ِ
الترمذى :حديث حسن.
فصل
ن أبى طالب رضى ال عنه ابنةَ أبى جهل،
ىبَ
واستأذنه بنو هشام بن المُغيرة أن يُزوّجوا عل َ
طمَة
ح ا ْب َن َتهُم ،فإ ّنمَا فَا ِ
ق ا ْبنَتى و َي ْنكِ َ
طلّ َ
ب أَنْ يُ َ
ن ُيرِي َد ابْنُ أبى طَاِل ٍ
فلم يأذن فى ذلك ،وقال(( :إلّ أَ ْ
ستُ
طمَةُ فى دِينِها ،وإنى لَ ْ
ن تُ ْفتَنَ فَا ِ
ف أَ ْ
ضعَةٌ ِمنّى َيرِيبُنى ما رَابَها ،و ُيؤْذِينى ما آذاهَا ،إنّى أَخَا ُ
َب ْ
ن وَاحِدٍ
ت رَسُولِ ال و ِب ْنتُ عدوّ ال فى مَكا ٍ
ج َتمِع ِب ْن ُ
ل أُحِلّ حَراماً ،ولكِنْ والِّ ل تَ ْ
حرّمُ حَلَلً ،و َ
أُ َ
أَبداً))
وفى لفظ فذكر صِهراً له فأثنى عليه ،وقال :حَ ّدثَنى َفصَدَقَنىَ ،ووَعَدَنى فوفى لى.
57
فتضمّن هذا الحك ُم أموراً.
أحدُها :أن الرجل إذا شرط لزوجته أن ل يتزوج عليها ،لزمه الوفاءُ بالشرط،
ومتى تزوّج عليها ،فلها الفسخ ،ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صلى ال عليه وسلم أخبر أن ذلك
يُؤذى فاطمة ويَريبها ،وأنه يؤذيه صلى ال عليه وسلم ويريبه ،ومعلوم قطعًا أنه صلى ال عليه
وسلم إنما زوجه فاطمة رضى ال عنها على أن ل يُؤذيها ول يَريبها ،ول يؤذى أباها صلى ال
عليه وسلم ول يَريبه ،وإن لم يكن هذا مشترطًا فى صُلب العقد ،فإنه مِن المعلوم بالضرورة أنه إنما
دخل عليه ،وفى ذكره صلى ال عليه وسلم صِهره الخر ،وثناءَه عليه بأنه حدّثه فصدقه ،ووعده
ج له على القتداء به ،وهذا يُشعر بأنه جرى منه وعد
فوفى له تعريضٌ بعلى رضى ال عنه ،وتهيي ٌ
له بأنه يَريبها ول يُؤذيها ،فهيّجه على الوفاء له ،كما وفى له صهرُه الخر.
فيُؤخذ مِن هذا أن المشروطَ عُرفاً كالمشروطِ لفظاً ،وأن عدمَه يُملّك
الفسخ لمشترطه ،فلو ُفرِضَ من عادة قوم أنهم ل يُخرجون نساءهم من ديارهم ول يُمكنو أزواجَهم
من ذلك البتة ،واستمرت عادتُهم بذلك كان كالمشروط لفظاً ،وهو مطّرد على قواعد أهل المدينة،
وقواعِد أحمد رحمه ال :أن الشرط العرفى كاللفظى سواء ،ولهذا أوجبوا الجر َة على من دفع ثوبه
إلى غسّال أو قصار ،أو عجينَه إلى خباز ،أو طعامَه إلى طباخ يعملُون بالجرة ،أو دخل الحمامَ،
أو استخدم من يغسله ممن عادته يغسِل بالجرة ونحو ذلك ،ولم يشرط لهم أجرة أنه يلزمه أجرة
ل على نسائهم ضرةً ،ول يُمكنونه
ض أن المرأة من بيت ل يتزوجُ الرج ُ
المثل .وعلى هذا ،فلو ُف ِر َ
مِن ذلك ،وعادتهم مستمرة بذلك ،كان كالمشروط لفظاً.
ل الضر ِة عليها عادةً لشرفها وحسبها وجَللتها
وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها ل تُمكّن إدخا َ
كان تركُ التزوّج عليها كالمشروط لفظاً سواء.
وعلى هذا فسيّدةُ نساء العالمين ،وابنةُ سيد ولد آدمَ أجمعين أحقّ النساء بهذا ،فلو شرطه
على فى صُلب العقد كان تأكيدا ل تأسيساً.
فى منع على من الجمع بين فاطمة رضى ال عنها ،وبين بنتِ أبى جهل حِكمةٌ
بديعة ،وهى أن المرأةَ مع زوجها فى درجته تبعٌ له ،فإن كانت فى نفسها ذاتَ درجة عالية،
وزوجُها كذلك ،كانت فى درجة عالية بنفسها وبزوجها ،وهذا شأنُ فاطمة وعلى رضى ال عنهما،
ولم يكن الُّ عز وجل لِيجعل ابن َة أبى جهل مع فاطمة رضى ال عنها فى درجة واحدة ل بنفسها
ول تبعًا وبينَهما من الفرق ما بينهما ،فلم يكن نكاحُها على سيدة نساء العالمين مستحسناً ل شرعاً
58
لّ وبنت عَ ُدوّ
ت رَسُولِ ا ِ
ج َتمِ ُع بِن ُ
ول قدراً ،وقد أشار صلى ال عليه وسلم إلى هذا بقوله(( :وال ل تَ ْ
ن وَاحِ ٍد أَبداً)) ،فهذا إما أن يتناولَ درجة الخر بلفظه أو إشارته.
الّ فى َمكَا ٍ
فصل
حكَم الُّ سبحانه بتحريمه مِن النساء على لسان نبيه صلى ال عليه وسلم
فيما َ
حرّم المهاتِ ،وهن كل من بينك وبينه إيلد مِن جهة المومة أو البوة ،كأُمهاته ،وأمهاتِ
آبائه وأجدادِه من جهة الرجال والنساء وإن علون.
ل من انتسب إليه بإيلد ،كبناتِ صُلبه وبناتِ بناته ،وأبنائِهن
ن كُ ّ
وحرّم البناتِ وهُ ّ
وإن سَ ُفلْنَ.
عَلوْنَ
ت آبائه وإن َ
ن أخوا ُ
وحرّم الخواتِ مِن كل جهة ،وحرّم العّماتِ وهُ ّ
مِن كل جهة.
وأما عمةُ العمّ فإن كان العمّ لبٍ ،فهى عمة أبيه ،وإن كان لم ،فعمتُه
أجنبية منه ،فل تدخُل فى العمات ،وأما الم ،فهى داخلة فى عماته ،كما دخلت عمةُ أبيه فى عماته.
عَلوْنَ.
ت وهُنّ أخواتُ أمهاتِه وأمهات آبائه وإن َ
وحرّم الخال ِ
وأما خال ُة العمة ،فإن كانت العمةُ لب فخالتُها أجنبية،
وإن كانت لم فخالتها حرامٌ ،لنها خالة ،وأما عمةُ الخالة ،فإن كانت الخالةُ لم ،فعمتُها أجنبية،
وإن كانت لبٍ ،فعمتها حرام ،لنها عمة الم.
وحرّم بناتِ الخ ،وبناتِ الخت ،فيعُمّ الخَ
والخت مِن كل جهة وبناتهما وإن نزلت درجتُهن.
وحرّم المّ مِن الرضاعة ،فيدخُل فيه
أمهاتُها مِن قبل الباء والمهاتِ وإن علون وإذا صارت المرضع ُة أمّه ،صار صاحب اللبن وهو
ج أو السيد إن كانت جارية أباه ،وآباؤه أجداده ،فنبّه بالمرضعة صاحبة اللبن التى هى مُودع
الزو ُ
ل ال صلى
فيها للب ،على كونه أبًَا بطريق الولى ،لن اللبن له ،وبوطئه ثابَ ،ولهذا حكم رسو ُ
ال عليه وسلم بتحريم لبن الفحل ،فثبت بالنص وإيمائه انتشا ُر حرمة الرضاع إلى أم المرتضع
وأبيه مِن الرضاعة ،وأنه قد صار ابناً لهما ،وصارا أبوينِ له ،فلزم من ذلك أن يكون إخوتهما
خوَا ُتكُم مِنَ
وأخواتُهما خالت له وعماتٍ ،وأبناؤهما وبناتُهما إخوة له وأخوات ،فنبه بقوله{:وأَ َ
الرّضَاعَةِ} [النساء ]23 :على انتشار حرمة الرضاع إلى إخوتهما وأخواتهما ،كما انتشرت منهما
59
إلى أولدهما فكما صاروا إخوةً وأخوت للمرتضع ،فأخوالهُما وخالتُهما أخوالٌ وخالتٌ له،
وأعمامٌ وعمات له :الول بطريق النص ،والخر بتنبيهه ،كما أن النتشار إلى الم بطريق النص،
وإلى الب بطريق تنبيهه.
وهذه طريقة عجيبة مطّردة فى القرآن ل يق ُع عليها إل كُلّ غائص على معانيه ،ووجوهِ
حرُ ُم مِنَ
ع مَا يَ ْ
ن الرّضَا ِ
حرُ ُم مِ َ
ل ال صلى ال عليه وسلم أنه ((يَ ْ
دللته ،ومن هنا قضى رسو ُ
سبِ)) ولكن الدللة دللتان :خفيّةٌ وجليّةٌ ،فجمعهما للمة ،ليتم البيانُ ويزول اللتباسُ ،ويقع على
النّ َ
صرَ فهمُه عن الخفية.
الدللة الجلية الظاهرة مَنْ َق ُ
حرّم أمهاتِ النساء ،فدخل فى ذلك أ ّم المرأة وإن علت مِن نسب أو رضاع ،دخل
وَ
بالمرأة أو لم يدخل بها ،لصدق السم على هؤلء كلّهن.
ت نسائهم المدخول بهن،
ب اللتى فى حُجور الزواج وهُنّ بنا ُ
وحرّم الربا ِئ َ
فتناول بذلك بناتِهن ،وبناتِ بناتهن ،وبنات أبنائهن ،فإنهنّ داخلتٌ فى اسم الربائب ،وقيد التحريم
بقيدين ،أحدُهما :كونُهن فى حجور الزواج والثانى :الدخولُ بأمهاتهن .فإذا لم يُوجد الدخول لم
يثبت التحريم ،وسواء حصلت الفرق ُة بموت أو طلق ،هذا مقتضى النص.
وذهب زيد بن ثابت ،ومَن وافقه ،وأحمد فى رواية عنه :إلى أن موتَ الم فى تحريم الربيبة
كالدخول بها ،لنه يُكمل الصداق ،ويُوجب العدة والتوارث ،فصار كالدخول ،والجمهور أ َبوْا ذلك،
وقالوا :الميتة غير مدخول بها ،فل تحرم ابنتها ،وال تعالى قيّد التحريم بالدخول ،وصرح بنفيه
عند عدم الدخول.
وأما كونها فى حَجره ،فلما كان الغالبُ ذلك ذكره ل تقييداً للتحريم به ،بل هو بمنزلة قوله:
شيَ َة إمْلَق} [السراء ]31 :ولما كان مِن شأن بنت المرأة أن تكون عند
ل تَ ْق ُتلُوا َأوْل َدكُم خَ ْ
{وَ َ
أمّها ،فهى فى حجر الزوج وقوعًا وجوازاً ،فكأنه قال :اللتى من شأنهن أن يكُنّ فى حُجوركم ،ففى
ذكر هذا فائدة شريفة ،وهى جوازُ جعلها فى حَجره ،وأنه ل يجب عليه إبعادُها عنه ،وتجنب
مؤاكلتها ،والسفر ،والخلوة بها ،فأفاد هذا الوصفُ عدمَ المتناع مِن ذلك.
ولما خفى هذا على بعض أهلِ الظاهر ،شرط فى تحريم الربيبة أن تكون فى حَجر الزوج،
وقيّد تحريمها بالدخول بأمها ،وأطلق تحري َم أ ّم المرأة ولم يُقيده بالدخول ،فقال جمهورُ العلماء من
الصحابة ومن بعدهم :إن الم تحرم بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل ،ول تحرم البنتُ
خ ْلتُ ْم ِبهِنّ}
إل بالدخول بالم ،وقالوا :أب ِهمُوا ما أبهمَ ال .وذهبت طائفة إلى أن قوله{ :اللّتى دَ َ
60
[النساء ]23 :وصف لنسائكم الولى والثانية ،وأنه ل تحرم الم إل بالدخول بالبنت ،وهذا يردّه
نظمُ الكلم ،وحيلولة المعطوف بين الصفة والموصوف ،وامتناعُ جعل الصفة للمضاف إليه دون
المضاف إل عند البيان ،فإذا قلت :مررت بغلم زيد العاقلِ ،فهو صفة للغلم ل لزيد إل عند زوال
اللبس ،كقولك :مررت بغلم هند الكاتِبة ،ويردّه أيضاً جعله صفة واحدة لموصوفين مختلفى الحكم
والتعلّق والعامل ،وهذا ل يُعرف فى اللغة التى نزل بها القرآنُ.
وأيضاً فإن الموصوف الذى يلى الصفَة أولى بها لجواره ،والجا ُر أحق بصَقَبه ما لم تدعُ
ضرور ٌة إلى نقلها عنه ،أو تخطّيها إياه إلى البعد.
فإن قيل :فمن أين أدخلتم ربيبَته التى هى بنتُ جاريته التى دخل بها ،وليست مِن
نسائه؟.
ح ْر َثكُم
ث َلكُمْ فَ ْأتُوا َ
ح ْر ٌ
قلنا :السرية قد تدخل فى جملة نسائه ،كما دخلت فى قوله{:نِسَا ُؤكُم َ
ث إلى نِسَا ِئكُم} [البقرة:
ل َلكُم َل ْيلَ َة الصّيامِ الرّ َف ُ
ش ْئتُم}[البقرة ،]223 :ودخلت فى قوله{ :أُحِ ّ
َأنّى ِ
ح آبَا ُؤكُم مِنَ النّسَاءِ} [النساء.]22 :
ل َت ْنكِحُوا مَا َنكَ َ
، ]187ودخلت فى قوله{ :وَ َ
ت نِسَا ِئكُمْ} [النساء ]23 :فتحرم
فإن قيل :فليزمُكم على هذا إدخالها فى قوله{ :وُأ ّمهَا ُ
عليه أمّ جاريته؟
ت عليه أمّها وابنتها.
ح ُر َم ْ
قلنا :نعم وكذلك نقول :إذا وطىء أمتهَ ،
فإن قيل :فأنتم قد قررتم أنه ل يُشترط الدخولُ بالبنت فى تحريم أمّها فكيف تشترطونه
هاهنا؟
قلنا :لتصير من نسائه ،فإن الزوجة صارت من نسائه بمجرد العقد ،وأما المملوكة ،فل
تصي ُر مِن نسائه حتى يطأها ،فإذا وطئها ،صارت من نسائه ،فحرمت عليه أمّها وابنتُها.
س ّريّةَ فى نسائه فى آية التحريم ،ولم تُدخلوها فى نسائه فى
فإن قيل :فكيف أدخلتم ال ّ
آية الظهار واليلء؟
ق والواقع يأبى ذلك ،فإن الظهار كان عندهم طلقاً ،وإنما محلّه الزواج ل
قيل :السيا ُ
الماء ،فنقله ال سبحانه من الطلق إلى التحريم الذى تُزيله الكفّارة ،ونقل حُكمَه وأبقى محله ،وأما
ش ُهرٍ
ص َأ ْر َبعَ ِة أَ ْ
اليلء ،فصريح فى أن محله الزوجات ،لقوله تعالىِ{ :للّذين ُي ْؤلُون مِنْ نِسَائِهمْ َت َربّ ُ
علِيمٌ} [البقرة.]227-226 :
سمِيعٌ َ
ع َزمُوا الطّلَقَ َفإِنّ ال َ
فَإِنْ فَاءُو َفإِنّ ال غَفُورُ رَحِي ُم * وإِنْ َ
61
وحرّم سبحانه حلئل البناء ،وهن موطوآتُ البناء بنكاح أو ملك يمين ،فإنها حليلة
بمعنى محلّلة ،ويدخل فى ذلك ابنُ صلبه ،وابن ابنه ،وابن ابنته ،ويخرج بذلك ابن ال ّت َبنّى ،وهذا
التقييدُ ُقصِدَ به إخراجُه.
وأما حليلةُ ابنه من الرضاع ،فإن الئمة الربعة ومَنْ قال بقولهم يدخلونها
ل ِبكُمْ} [النساء]23 :
ن مِنْ َأصْ َ
لئِلُ َأبْنا ِئكُم} [النساء ]23 :ول يخرجونها بقوله{ :الّذِي َ
فى قوله{:وحَ َ
سبِ)) ،قالوا:
ن النّ َ
ن مِ َ
ح ّرمُو َ
ن الرّضَاع مَا ُت َ
ح ّرمُوا مِ َ
ويحتجون بقول النبى صلى ال عليه وسلمَ (( :
وهذه الحليلة تحرم إذا كانت لبن النسب ،فتحرم إذا كانت لبن الرضاع .قالوا :والتقييد لخراج ابن
حرُمُ بالنسب .ونازعهم فى ذلك آخرون،
التبنّى ل غير ،وحرموا من الرضاع بالصهر نظيرَ ما يَ ْ
وقالوا :ل تحرُم حليل ُة ابنه مِن الرضاعة ،لنه ليس مِن صُلبه ،والتقييد كما يُخرج حليلة ابن التبنّى
حرُ ُم مِنَ
يُخرج حليلةَ ابن الرضاع سواء ،ول فرق بينهما .قالوا :وأما قولُه صلى ال عليه وسلم(( :يَ ْ
سبِ)) فهو من أكبر أدلتنا وعمدتنا فى المسألة ،فإن تحريمَ حلئلِ الباء
ن النّ َ
حرُ ُم مِ َ
ع مَا يَ ْ
الرّضَا ِ
والبناء إنما هو بالصّهر ل بالنَسب ،والنبىّ صلى ال عليه وسلم قد قصر تحري َم الرضاع على
نظيره مِن النسب ل على شقيقه من الصهر ،فيجبُ القتصارُ بالتحريم على مورد النص.
قالوا :والتحريمُ بالرضاع فرع على تحريم النسب ،ل على تحريم المصاهرة ،فتحريمُ
المصاهرة أصلٌ قائم بذاته ،وال سبحانه لم ي ُنصّ فى كتابه على تحريم الرضاع إل من جهة
ى صلى
النسب ،ولم ينبه على التحريم به مِن جهة الصهر ألبتة ،ل بنص ول إيماءٍ ول إشارة ،والنب ّ
ال عليه وسلم أمر أن يُحرم به ما يحرُم من النسب ،وفى ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه ل يحرم به ما
سبِ
ن ال ّرضَاعِ ما يحرم من النّ َ
ح ّرمُوا مِ َ
يحرم بالصهرِ ،ولول أنه أراد القتصار على ذلك لقالَ (( :
والصّهر)).
قالوا :وأيضاً فالرّضاع مشبّه بالنسب ،ولهذا أخذ منه بعض أحكامه وهو الحرمةُ والمحرمية
فقط دون التوارث ،والنفاق وسائر أحكام النسب ،فهو نسبٌ ضعيف ،فأخذ بحسب ضعفه بعضَ
أحكام النسب ،ولم يقوى على سائر أحكام النسب ،وهو ألصق به من المصاهرة ،فكيف يقوى على
أخذ أحكام المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهه وشقيقه؟.
وأما المصاهرة والرضاع ،فإنه ل نسبَ بينهما ول شبهة نسب ،ول بعضية ،ول اتصال.
قالوا :ولو كان تحري ُم الصهرية ثابتًا لبينه ال ورسوله بياناً شافيًا يُقيم الحجة ويقطع العذرَ ،فمِنَ ال
62
البيانُ ،وعلى رسولِه البلغُ ،وعلينا التسليمُ والنقياد ،فهذا منتهى النظر فى هذه المسألة ،فمن ظفِر
فيها بحجة ،فليرشد إليها وليدل عليها ،فإنا لها منقادون ،وبها معتصِمون ،وال الموفق للصواب.
فصل
وحرّم سبحانه وتعالى نكاح من نكحهُنّ الباء ،وهذا يتناولُ منكوحاتِهم بملك اليمين أو عقد
سَلفَ} [النساء:
ل مَا قَدْ َ
عَلوْن ،والستثناء بقوله{ :إِ ّ
نكاح ،ويتناول آباء الباء ،وآباء المهات وإن َ
،]23من مضمون جملة النهى وهو التحريم المستلزم للتأثيم والعقوبة ،فاستثنى منه ما سلف قبل
إقامة الحجة بالرسول والكتاب.
فصل
وحرّم سبحانه الجم َع بين الختينِ ،وهذا يتناولُ الجم َع بينهما فى عق ِد النكاح ،وملكِ اليمين،
كسائر محرّمات الية ،وهذا قولُ جمهور الصحابة ومَن بعدهم ،وهو الصوابُ ،وتوقفت طائفةٌ فى
جهِمْ حَافِظُونَ * إِلّ
تحريمه بملك اليمين لمعارضة هذا العموم بعموم قوله سبحانه{:والّذِينَ هُ ْم لِ ُفرُو ِ
ن } [المؤمنون ]6-5 :ولهذا قال أميرُ المؤمنين
غ ْيرُ َملُومِي َ
ت َأ ْيمَا ُنهُمْ فَِإ ّنهُمْ َ
جهِ ْم َأوْ مَا َمَل َك ْ
على َأزْوا ِ
ن رضى ال عنه :أحلّتهما آية ،وحرّمتهما آية.
عثمان بن عفا َ
وقال المام أحمد فى رواية عنه :ل أقول :هو حرام ،ولكن ننهى عنه ،فمن أصحابه من
جعل القولَ بإباحته رواية عنه .والصحيح :أنه لم يبُحه ،ولكن تأدّب مع الصحابة أن يُطلِق لفظ
الحرامِ على أمرٍ تو ّقفَ فيه عثمانُ ،بل قال :ننهى عنه.
والذين جزموا بتحريمه ،رجّحوا آي َة التحريم من وجوه.
أحدها :أن سائرَ ما ُذ ِكرَ فيها من المحرّمات عام فى النكاح وملك اليمين ،فما بالُ هذا وحدَه
حتى يخرُجَ منها ،فإن كانت آيةُ الباحة مقتضية لِحلّ الجمع بالملك ،فلتكن مقتضية لِحل أمّ
موطوءته بالملك ،ولموطوءة أبيه وابنه بالملك ،إذ ل فرق بينهما ألبتة ،ول يُعلم بهذا قائل.
الثانى :أن آيةَ الباحة بملك اليمين مخصوصةٌ قطعًا بصورٍ عديدة ل يختِلفُ فيها اثنان،
كأمه وابنته ،وأختِه وعمتِه وخالتِه من الرضاعة ،بل كأخِته وخالته مِن النسب عند من ل يرى
ت َأ ْيمَا ُنكُم} [النساء]3 :
عتقهن بالملك ،كمالك والشافعى ،ولم يكن عموم قوله{ :أ ْو مَا َمَل َك ْ
حكْمُ الختين سواء.
ومعارضاً لعموم تحريمهن بالعقد والملك ،فهذا ُ
ل الملك ليس فيه أكثرُ من بيان جهة الحل وسببه ،ول تعّرض فيه لشروط
الثالث :أن حِ ّ
ل من النسب والرضاع والصهر وغيره ،فل
ن موانعِ الحِ ّ
الحِلّ ،ول لموانعه ،وآيةُ التحريم فيها بيا ُ
63
ط الحل وموانعه معارضًا لمقتضى الحل،
ل موضع ذكر فيه شر ُ
تعارض بينهما البتة ،وإل كان كُ ّ
وهذا باطل قطعاً ،بل هو بيان لما سكت عنه دليلُ الحِل من الشروط والموانع.
الرابع :أنه لو جاز الجم ُع بين الختين المملوكتين فى الوطء ،جاز الجم ُع بين الم وابنتها
ل للصورتين شمولً واحداً ،وأن إباحة المملوكات إن عمت
المملوكتين ،فإن نص التحريم شامِ ٌ
الختين ،عمّت الم وابنتها.
خرِ ،فَلَ يجْمعْ
لّ وال َيوْمِ ال ِ
ن ُي ْؤمِنُ بِا ِ
ن كَا َ
ى صلى ال عليه وسلم قال(( :مَ ْ
الخامس :أن النب ّ
خ َتيْنِ)) ول ريب أن جمع الماء كما يكون بعقد النكاح يكون بملك اليمين ،واليمان
مَا َءهُ فى رَحِ ِم أُ ْ
يمنَع منه.
فصل
ن المرأة وعمتها ،والمرأةِ
((وقضى رسولُ ال صلى ال عليه وسلم بتحريم الجم ِع بي َ
وخالتها)) وهذا التحريمُ مأخوذ من تحريم الجمع بينَ الختين ،لكن بطريق خفىّ ،وما حرّمه رسولُ
ال صلى ال عليه وسلم مثلُ ما حرّمه ال ،ولكن هو مستنبط مِن دللة الكتاب.
وكان الصحاب ُة رضى ال عنهم أحرصَ شىء على استنباط أحاديثِ رسول ال
صلى ال عليه وسلم من القُرآن ،ومَن ألزم نفسَه ذلك ،وقرعَ بابه ،ووجّه قلبه إليه ،واعتنى به
ل للقرآن ،وتبيينًا لدللته ،وبياناً لمراد الِّ منه،
بفطرةٍ سليمة ،وقلب ذكى ،رأى السنة ُكلّها تفصي ً
وهذا أعلى مراتب العلم ،فمن ظفر به ،فليحمد ال ،ومن فاته ،فل يلومَنّ إل نفسه وهِمتّه
جزَه.واستُفِيدَ من تحريم الجمع بين الختين وبينَ المرأة وعمتها ،وبينها وبين خالتها ،أن كل
وعَ ْ
حرُ َم على الخر ،فإنه يحرُم الجمعُ بينهما ،ول يُستثنى
امرأتين بينهما قرابة لو كان أحدُهما َذكَراًَ ،
من هذا صورةُ واحدة ،فإن لم يكن بينهما قرابةُ ،لم يحرم الجمع بينهما .وهل يكره؟ على قولين،
وهذا كالجمع بين امرأةِ رجل وابنتِه من غيرها.
حرُمَ
ن كل امرأة َ
واستُفِيدَ مِن عموم تحريمه سبحانه المحرّماتِ المذكورة :أ ّ
حهُنّ حرام عند الكثرين ،ووطؤهن
حرُ َم وطؤها بملك اليمين إل إما َء أهلِ الكتاب ،فإن نكا َ
نكاحُها َ
بملك اليمين جائز ،وسوّى أبو حنيفة بينهما ،فأباح نكاحهن كما يُباح وطؤهن بالملك.
س ْبحَانه وتعالى إنما أباح نِكاح الماء بوصف اليمان .فقال
والجمهور :احتجوا عليه بأن ال ُ
ن مَا َمَل َكتْ َأ ْيمَا ُنكُ ُم مِنْ َف َتيَا ِتكُمُ
صنَاتِ ال ُم ْؤ ِمنَاتِ َفمِ ْ
ح َ
ح المُ ْ
ل أَنْ َي ْنكِ َ
طوْ ً
ستَطِعْ ِم ْنكُم َ
ن لَ ْم يَ ْ
تعالىَ { :ومَ ْ
حتّى ُي ْؤمِنّ}
ش ِركَاتِ َ
علَ ُم بِإيمَا ِنكُم} [النساء ]25 :وقالَ تعالى{ :ول َت ْنكِحُوا المُ ْ
لّ أَ ْ
ال ُم ْؤمِنَاتِ وا ُ
64
ص ذلك بحرائ ِر أهل الكتاب ،بقى الما ُء على قضية التحريم ،وقد فهم عمر
[البقرة ]221 :خ ّ
رضى ال عنه وغيرُه من الصحابة إدخال الكتابيات فى هذه الية ،فقال :ل أعلم شِركًا أعظَم من
أن نقول :إن المسيح إلهها.
وأيضاً فالصلُ فى البضاعِ الحرمة ،وإنما أبيح نِكاحُ الما ِء المؤمناتَِ ،فمَن عداهُنّ على
أصل التحريم ،وليس تحريمُهنّ مستفاداً مِن المفهوم.
(يتبع)...
ل امرأةٍ حرمت ،حرمت ابنتها إل العمة
واستُفِي َد مِن سياق الية ومدلولِها أن كُ ّ @
والخالة ،وحليلةَ البن ،وحليلَةَ الب ،وأ ّم الزوجة ،وأن كُلّ القارب حرام إل الربعة المذكوراتِ
فى سورة الحزاب ،وهن بناتُ العمام والعمات ،وبناتُ الخوال والخالت.
فصل
ك اليمين،
ن المحصَناتُ ،واستثنى من ذلك مل َ
ح المزوّجاتِ ،وهُ ّ
ومما حرّمه النص ،نِكا ُ
فأشكل هذا الستثناء على كثير من الناس ،فإن المَ َة المزوّجَةَ يحرُم وطؤُها على مالكها ،فأين محلّ
الستثناء ؟.
فقالت طائفة :هو منقطع ،أى لكن ما ملكت أيمانُكم ،ورُدّ هذا لفظاً ،ومعنى أما اللفظُ
فإن النقطاعَ إنما يقعُ حيث يق ُع التفريغ ،وباب ُه غير اليجاب مِن النفى والنهى والستفهام ،فليس
الموض ُع موضع انقطاع ،وأما المعنى :فإن المنقطع لبد فيه من رابط بينه وبين المستثنى منه
بحيث يخرج ما تُوهّمَ دخولُه فيه بوجهٍ ما ،فإنك إذا قلت :ما بالدار مِن أحد ،دل على انتفاء من بها
ل المستثنى فى
ى ونحو ذلك ،أزلت توهّمَ دخو ِ
بدوابّهم وأمتعتهم ،فإذا قلت :إل حماراً ،أو إل الثاف ّ
س َمعُونَ ِفيَها َلغْواً إل سلماً} [مريم]62 :
حكم المستثنى منه .وأ ْبيَنُ من هذا قولُه تعالى{:ل يَ ْ
فاستثنا ُء السلم أزال توهّمَ نفى السماعِ العام ،فإن عدم سماع اللغو يجو ُز أن يكونَ لعدم سماع كلم
ما ،وأن يكونَ مع سماع غيره ،وليس فى تحريم نكاحِ المزوّجة ما يُوهم تحريم وطء الماء بملك
اليمين حتى يُخرجه
ل المة المزوّجة كان
وقالت طائفة :بل الستثناء على بابه ،ومتى ملك الرج ُ
ملكه طلقاً لها ،وحلّ له وطؤها ،وهى مسأل ُة بيع المة :هل يكون طلقاً لها ،أم ل؟ فيه مذهبان
للصحابة ،فابنُ عباس رضي ال عنه يراه طلقاً ،ويحتج له بالية ،وغيرُه يأبى ذلك ،ويقول :كما
يُجامع الملك السابق للنكاح اللحق اتفاقاً ول يتنافيان ،كذلك الملكُ اللحق ل يُنافى النكاحَ السابقَ،
65
ل ال صلى ال عليه وسلم َبرِي َرةَ لما بِيعت ولو انفسخ نِكاحُها لم يُخيّرها .قالوا:
قالوا :وقد خ ّيرَ رسو ُ
وهذا حجة على ابن عباس رضى ال عنه ،فإنه هو راوى الحديث ،والخ ُذ برواية الصحابى ل
برأيه.
وقالت طائفة ثالثة :إن كان المشترى امرأة ،لم ينفسخ النكاح ،لنها لم
ك اليمين أقوى
تمِلكِ الستمتاع ببُضع الزوجة ،وإن كان رجلً انفسخ ،لنه يملك الستمتاع َ به ،ومل ُ
مِن مُلك النكاح ،وهذا الملك يُبطل النكاح دون العكس ،قالوا :وعلى هذا فل إشكال فى حديث
بريرة.
وأجاب الولون عن هذا بأن المرأةَ وإن لم تملك الستمتاع
ببُضع أمتها ،فهى تمِلكُ المعاوضة عليه ،وتزويجَها ،وأخذَ مهرها ،وذلك كملك الرجل ،وإن لم
تستمتع بالبُضع.
وقالت فرقة أخرى :الية خاصة بالمسبيّاتِ ،فإن
س ِب َيتْ ،حَلّ وطؤها لِسابيها بعد الستبراء ،وإن كانت مزوجة ،وهذا قولُ الشافعى وأحدُ
المسبية إذا ُ
الوجهين لصحاب أحمد ،وهو الصحيح ،كما روى مسلم فى ((صحيحه)) عن أبى سعيد الخُدرى
رضى ال عنه ،أن رسولَ ال صلى ال عليه وسلم بعث جيشًا إلى أوطاس ،فلقى عدواً ،فقاتلوهم،
ل ال صلى ال عليه وسلم تحرّجُوا
فظهرُوا عليهم ،وأصابُوا سبايا ،وكأنّ ناسًا مِن أصحابِ رسو ِ
ت مِنَ
صنَا ُ
ح َ
جهِنّ مِن المشركين ،فأنزل ال عز وجل فى ذلك {وَالمُ ْ
ل أزوا ِ
ن أَجْ ِ
مِن غِشيَا ِنهِنّ مِ ْ
النّسَاءِ إلّ مَا َمَل َكتْ َأ ْيمَا ُنكُم} [النساء ]24 :أى فهن لكم حلل إذا انقضت عدتهنّ.
فتضمّن هذا الحكمُ إباحة وطء المسبيّةِ وإن كان لها زوجٌ من الكفار ،وهذا يدل على انفساخِ
نكاحه ،وزوالِ عصمة بُضع امرأته ،وهذا هو الصوابُ ،لنه قد استولى على محلّ حقه ،وعلى
حرُ ُم بُضعها عليه ،فهذا القولُ ل يُعا ِرضُه نصّ
رقبة زوجته ،وصار سابيها أحقّ بها منه ،فكيف يَ ْ
ول قياس.
س ِب َيتْ وحدَها .قالوا:
والذين قالوا من أصحاب أحمد وغيرهم :إن وطأها إنما يُباح إذا ُ
ج يكون بقاؤه مجهولً ،والمجهول كالمعدوم ،فيجوز وطؤها بعد الستبراء ،فإذا كان
لن الزو َ
س ِب َيتْ وحدَها وتيقنّا بقاءَ زوجها فى دار
الزوجُ معها ،لم يجز وطؤُها مع بقائه ،فأُور َد عليهم ما لو ُ
ق الفرد بالعم
الحرب ،فإنهم يُج ّوزُون وطأها فأجابُوا بما ل يُجدى شيئاً ،وقالوا :الصل إلحا ُ
الغلب ،فيُقال لهم :العمّ الغلبُ بقا ُء أزواج المسبيات إذا سُبين منفرداتٍ ،وموتُهم كلّهم نادر جداً،
66
ثم يُقال :إذا صارت رقبةُ زوجها وأملكُه مِلكاً للسابى ،وزالَت العصمةُ عن سائر أملكه وعن
رقبته ،فما الموجبُ لِثبوت العصمة فى فرج امرأته خاصة وقد صارت هى وهو وأملكُهما
للسابى؟
ودلّ هذا القضا ُء النبوىّ على جواز وطء الماء الوثنيات بملك اليمين ،فإن
ل ال صلى ال عليه وسلم فى وطئهن إسلمَهن،
سبايا أوطاس لم يكنّ كتابيات ،ولم يشترِطْ رسو ُ
ولم يجعل المانع منه إل الستبراء فقط ،وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهدٍ
ى عليهم حُكمُ هذه المسألة ،وحصولُ السلم من جميع السبايا وكانوا عدةَ آلفٍ
بالسلم حتّى خف َ
ف منهم عن السلم جاريةٌ واحدة مِما يُعلم أنه فى غاية البُعد ،فإنهن لم ُي ْكرَهْنَ على
ث لم يتخّل ْ
بحي ُ
السلم ،ولم يكن لهن مِن البصيرة والرغبة والمحبة فى السلم ما يقتضى مبادرتُهن إليه جميعاً،
فمقتضى السنةِ ،وعمل الصحابة فى عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم وبعده جوازُ وطء
ب ((المغنى)) فيه ،ورجح
المملوكات على أىّ دين كُنّ ،وهذا مذهبُ طاووس وغيره ،وقواه صاح ُ
أدلته وبال التوفيق.
ل على عدم اشتراط إسلمهن ،ما روى الترمذى فى ((جامعه)) عن عِرباض بن
ومما يد ّ
ضعْنَ ما فى بُطُو ِنهِنّ .فجعل للتحريم
حتّى َي َ
حرّ َم وَطْء السّبايا َ
سَارية ،أن النبى صلى ال عليه وسلم َ
غاية واحدة وهى وضعُ الحمل ،ولو كان متوقفًا على السلم ،لكان بيانُه أهمّ من بيان الستبراء.
ن يَقَعَ عَلى
ن بِال وال َيوْمِ الخر أَ ْ
وفى ((السنن)) و((المسند)) عنه(( :لَ يَحِلّ لمْرئ ُي ْؤمِ ُ
لّ وَال َيوْمِ الخِر
ن بِا ِ
ن ُي ْؤمِ ُ
س َت ْبرِئها)).ولم يقل :حتى تُسلِمَ ،وَلحمد(( :مَنْ كَا َ
حتّى يَ ْ
سبْى َ
ن ال ّ
ا ْمرَأ ِة مِ َ
حتّى تَحِيضَ)) ولم يقل :وتسلم.
سبَايَا َ
ن ال ّ
ل َي ْنكِحَنّ شَيئًا مِ َ
فَ َ
غ ْيرُ حَامِلٍ
حتّى َتضَعَ وَل َ
وفى ((السنن)) عنه :أنه قال فى سبايا أوطاس(( :ل تُوطأُ حَامِلٌ َ
ح ْيضَة وَاحِ َدةً)) .ولم يقل :وتسلم ،فلم يجئ عنه اشتراطُ إسلم المسبية فى موضع
حتّى تَحِيضَ َ
َ
واحد البتة.
فصل
فى حُكمِه صلى ال عليه وسلم فى الزوجين يُسِلمُ أحدُهما قبل الخر
ل ال صلى ال عليه وسلم زينَب ابنَته على أبى
قال ابنُ عباس رضى ال عنهما :ردّ رسو ُ
ح الوّلِ ،ولم يُحْ ِدثْ شيئاً .رواه أحمد ،وأبو داود ،والترمذى .وفى لفظ :بعد
ن الرّبيعِ بالنّكا ِ
العاص بْ ِ
67
ث نِكاحاً قال الترمذى :ليس بإسناده بأس ،وفى لفظ :كان إسلمُها قبل إسلمه
ست سنين ولم يُح ِد ْ
بستّ سنين ،ولم يُحِدثْ شهاد ًة ول صَداقاً.
وقال ابنُ عباس رضى ال عنهما(( :أسلمت امرأةٌ على عهدِ رسول ال صلى ال عليه
ى صلى ال عليه وسلم ،فقال :يا رسول ال ،إنى كنتُ
وسلم ،فتزوّجت ،فجاء زوجُها إلى النب ّ
ل ال صلى ال عليه وسلم مِن زوجها الخر ،وردّها
أسلمتُ ،وعلمتْ بإسلمى ،فانتزعها رسو ُ
على زوجها الول)) رواه أبو داود.
ل ال صلى ال عليه وسلم ،ثم جاءت
وقال أيضا(( :إن رجلً جاء مسلمًا على عهد رسو ِ
امرأتُه مسلمة بعدَه ،فقال :يا رسولَ ال :إنها أسلمت معى ،فردّها عليه)) .قال الترمذى :حديث
صحيح .وقال مالك إن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أسلمت يومَ الفتح بمكة ،وهرب زوجها
عكرمةُ بن أبى جهل من السلم حتى قدمَ اليمن فارتحلت أمّ حكيم حتى قَ ِد َمتْ عليه باليمن ،فدعته
إلى السلم ،فأسلم فَقَدِ َم على رسول ال صلى ال عليه وسلم عا َم الفتح ،فلما قَدِ َم على رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،وثب إليه فرحًا وما عليه رِداء حتى بايعه ،فثبتا على نكاحهما ذلك ،قال :ولم
يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى ال ورسوله صلى ال عليه وسلم وزوجُها كافر مقيم بدار الكفر إل
فرّقت هجرتُها بينها وبينه إل أن يَقْدمَ زوجُها مهاجراً قبل أن تنقضىَ عِ ّدتُها ،ذكره مالك رحمه ال
فى ((الموطأ)) فتضمّن هذا الحكمُ أن الزوجين إذا أسلما معاً فهما على نكاحهما ،ول يُسأل عن
كيفية وقوعه قبل السلم ،هل وقع صحيحاً أم ل؟ ما لم يكن المبطلُ قائماً ،كما إذا أسلما وقد نكحها
وهى فى عِدة مِن غيره ،أو تحريماً مجمعًا عليه ،أو مؤبّداً كما إذا كانت محرماً له بنسب أو
رضاع ،أو كانت مما ل يجو ُز له الجم ُع بينها وبينَ من معه كالختين والخمس وما فوقَهن ،فهذه
ثلثُ صور أحكامُها مختلفة.
ب أو رضاع ،أو صِهر ،أو كانت أختَ الزوجة أو
س ٍ
فإذا أسلما وبينها وبينَه محرمي ٌة مِن نَ َ
عمّتها أو خالَتها ،أو من يَحرُمُ الجمعُ بينها وبينهاُ ،فرّقَ بينهما بإجماع المة ،لكن إن كان التحريمُ
خ ّي َر بينَ إمساك أيّتهِما شاء ،وإن كانت بنته من الزنى ،فرّق بينهما أيضاً عند
لجل الجمعُ ،
ت النسب بالزنى فرق بينهما اتفاقاً ،وإن أسلم أحدهما وهى فى عدة
الجمهور ،وإن كان يعتقد ثبو َ
مِن مسلم متقدّمة على عقدهُ ،فرّق بينهما اتفاقاً ،وإن كانت العدةُ مِن كافر ،فإن اعتبرنا دوامَ المفسد
أو الجماع عليه ،لم يُفرّق بينهما لن عدة الكافر ل تدومُ ،ول تمنعُ النكاح عند من يُبطِلُ أنكحةَ
الكفار ،ويجعل حكمها حكم الزنى.
68
وإن أسلم أحدُهما وهى حُبلى من زنى قبلَ العقد ،فقولن مبنيان على اعتبار قيامِ المفسد أو
كونه مجمعًا عليه.
وإن أسلما وقد عقداه بل ولى ،أو بل شهود ،أو فى عِدة وقد انقضت ،أو على أخت وقد
ماتت ،أو على خامسة كذلك ،أُ ِقرّا عليه ،وكذلك إن قهر حربىٌ حربيةً ،واعتقداه نكاحًا ثم أسلما،
أُ ِقرّا عليه.
وتضمن أن أح َد الزوجين إذا أسلَم قبل الخر ،لم ينفسِخِ النكاحُ بإسلمهَ ،فرّقت
الهجرة بينهما ،أو لم تُفرّق ،فإنه ل يُعرف أن رسول ال صلى ال عليه وسلم جدّدَ نكاح زوجين
سلِمُ الرجلُ قبل امرأته ،وامرأتُه قبله ،ولم
سبق أحدهما الخر بإسلمه قطّ ،ولم يزل الصحاب ُة يُ ْ
يُعرف عن أحد منهم البتة أنه تلفّظ بإسلمه هو وامرأتُه ،وتساويا فيه حرفاً بحرف ،هذا مما يُعلم
ى صلى ال عليه وسلم ابنَته زينَب على أبى العاص بن الربيع ،وهو
أنه لم يقع البتة ،وقد ردّ النب ّ
إنما أسلم زمنَ الحُديبية ،وهى أسلمت من أول البعثة ،فبين إسلمهما أكث ُر مِن ثمانى عشرة سنة.
وأما قوله فى الحديث :كان بين إسلمها وإسلمِهِ ستّ سنين ،فوهم إنما أراد :بينَ هجرتها
وإسلمه.
فإن قيل :وعلى ذلك فالعِدةُ تنقضى فى هذه المدة ،فكيف لم يُجدّد نكاحها؟ قيل :تحريمُ
صلْحِ الحُديبية ل قبلَ ذلك ،فلم ينفسِخِ النكاح فى تلك المدة
المسلمات على المشركين إنما نزل بعد ُ
لعدم شرعية هذا الحكم فيها ،ولما نزل تحريمهُن على المشركين ،أسلم أبو العاصَ ،فرُدّت عليه.
ل عليه مِن نص ول إجماع .وقد ذكر حما ُد بن سلمة،
وأما مراعاة زمن العِدة ،فل دلي َ
عن قتادة ،عن سعي ِد بن المسيّب ،أن على بن أبى طالب رضى ال عنه قال فى الزوجين الكافرين
ك ببُضعها ما دامت فى دار هجرتها.
يسلِمُ أحدُهما :هو أمل ُ
وذكر سفيانُ بن عيينة ،عن مُطرّف بن طريف ،عن الشعبى ،عن على :هو أحقّ بها ما لم
يخرج مِن مِصرها.
ن أبى شيبة ،عن معتمِر بن سليمان ،عن معمر ،عن الزّهرى ،إن أسلمت ولم يُسلم
وذكر اب ُ
زوجُها ،ف ُهمَا على نكاحهما إل أن يُفرّقَ بينهما سلطان.
ى صلى ال عليه وسلم يسأل
ول يُعرف اعتبا ُر العِدة فى شىء من الحاديث ،ول كان النب ّ
المرأة هل انقضت عدتُها أم ل ،ول ريبَ أن السلم لو كان بمجردهِ فرقة ،لم تكن فرقةً رجعية بل
بائنة ،فل أثر لِلعدة فى بقاء النكاح ،وإنما أثرُها فى منع نكاحها للغير فلو كان السلمُ قد نجز
69
الفُرقة بينهما ،لم يكن أحقّ بها فى العِدة ،ولكن الذى دلّ عليه حُكمُه صلى ال عليه وسلم ،أن النكاح
ح من شاءت،
موقوف ،فإن أسلم قبلَ انقضاء عِدتها ،فهى زوجتُه وإن انقضت عدتها ،فلها أن تنكِ َ
وإن أحبّت ،انتظرته ،فإن أسلم ،كا َنتْ زوجته مِن غير حاجة إلى تجديد نكاح.
ول نعلم أحداً جدّد للسلم نكاحَه ألبتة ،بل كان الواقعُ أحد أمرين :إما افتراقُهما ونكاحها
غيره ،وإما بقاؤُها عليه وإن تأخر إسلمُها أو إسلمُه ،وإما تنجي ُز الفُرقة أو مراعاة العِدة ،فل نعلم
ل ال صلى ال عليه وسلم قضى بواحدة منهما مع كثرة من أسلم فى عهده من الرجال
أن رسو َ
وأزواجهن ،وقرب إسلم أحد الزوجين من الخر وبعده منه ،ولول إقرارُه صلى ال عليه وسلم
الزوجين على نكاحهما وإن تأخر إسلمُ أحدهما عن الخر بع َد صلح الحديبية وزمن الفتح ،لقلنا
حلّونَ َلهُنّ}
ل َلهُ ْم وَلَ هُمْ َي ِ
بتعجيل الفُرقة بالسلم مِن غير اعتبار عدة ،لقوله تعالى{:لَ هُنّ حِ ّ
س َببُ الفُرقة،
سكُوا ِب ِعصَمِ ال َكوَا ِفرِ} [الممتحنة ]10 :وأن السلم َ
ل ُتمْ ِ
[الممتحنة ]10 :وقوله{ :و َ
وكل ما كان سبباً للفرقة تعقبه الفرقة ،كالرضاع والخلع والطلق ،وهذا اختيار الخلل ،وأبى بكر
صاحِبه ،وابنِ المنذر ،وابنِ حزم ،وهو مذهب الحسن ،وطاووس ،وعكرمة ،وقتادة ،والحكم .قال
ل عمرَ بن الخطاب رضى ال عنه ،وجابِر ابن عبد ال ،وابنِ عباس ،وبه قال
ابن حزم :وهو قو ُ
حمادُ بن زيد ،والحكمُ بن عُتيبة ،وسعيد بن جبير ،وعمر بن عبد العزيز ،وعدى بن عدى الكندى،
والشعبى ،وغيرهم .قلت :وهو أح ُد الروايتين عن أحمد ،ولكن الذى أُنزِلَ عليه قولُه تعالى{ :وَلَ
ن َلهُنّ} [الممتحنة:
حلّو َ
ل َلهُ ْم وَلَ هُ ْم يَ ِ
سكُوا بِعصَ ِم الكَوَا ِفرِ} [الممتحنة ]10 :وقوله{ :لَ هُنّ حِ ّ
ُتمْ ِ
]10لم يحكم بتعجيل الفرقة ،فروى مالك فى ((موطئه)) عن ابن شهاب ،قال :كان بين إسلم
صفوان بن أمية ،وبين إسلم امرأته بنت الوليد بن المغيرة نح ٌو من شهر ،أسلمت يومَ الفتح ،وبقى
صفوانُ حتى شهد حُنيناً والطائف وهو كافر ،ثم أسلم ،ولم يفرّق النبى صلى ال عليه وسلم بينهما،
ن عبد البر :وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده.
واستقرّت عنده امرأته بذلك النكاح .وقال اب ُ
وقال ابنُ شهاب :أسلمت أُمّ حكيم يو َم الفتح ،وهرب زوجُها عكرمة حتى أتى اليمن ،فدعته
ى صلى ال عليه وسلم ،فبقيا على نكاحهما.
إلى السلم ،فأسلم وقدم ،فباي َع النب ّ
ل النبى صلى ال
ومن المعلوم يقيناً ،أن أبا سفيان بن حرب خرج ،فأسلم عام الفتح قبل دخو ِ
عليه وسلم مكة ،ولم تُسلم هند امرأته حتى فتح رسول ال صلى ال عليه وسلم مكة ،فبقيا على
نكاحهما ،وأسلم حكي ُم بنُ حِزام قبل امرأته ،وخرج أبو سفيان بن الحارث ،وعبد ال بن أبى أمية
70
ى صلى ال عليه وسلم بالبواء ،فأسلما قبل منكوحتيهما ،فبقيا على نكاحهما،
عا َم الفتح ،فلقيا النب ّ
ولم يعلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم فرّق بين أحد ممن أسلم وبين امرأته.
وجواب من أجاب بتجديد نكاح من أسلم فى غاية البطلن ،ومن القول على رسول
ق الزوجين فى التلفظ بكلمة السلم معاً فى لحظة واحدة
ال صلى ال عليه وسلم بل علم ،واتفا ُ
معلومُ النتفاء.
ب من يقف الفُرقة على انقضاء العدة مع ما فيه ،إذ فيه
ويلى هذا القول مذه ُ
س على عهد
ش ْب ُرمَةَ :كان النا ُ
آثار وإن كانت منقطعة ،ولو صحت لم يج ِز القول بغيرها .قال ابن ُ
ل قبل المرأة ،والمرأة قبل الرجل ،فأيّهما أسلم قبل
رسول ال صلى ال عليه وسلم يُسلم الرج ُ
ل الترمذى فى
انقضاء عِدة المرأة ،فهى امرأتُه وإن أسلم بعد العدة ،فل نِكاح بينهما ،وقد تقدّم قو ُ
أول الفصل ،وما حكاه ابنُ حزم عن عمر رضى ال عنه فما أدرى مِن أين حكاه؟ والمعروف عنه
خلفُه ،فإنه ثبت عنه من طريق حماد بن سلمة ،عن أيوب وقتادة كلهما عن ابن سيرين ،عن عبد
ال بن يزيد الخطمى ،أن نصرانيًا أسلمت امرأته ،فَخيّرها عم ُر بن الخطاب رضى ال عنه إن
شاءت فارقته ،وإن شاءت أقامت عليه .ومعلوم بالضرورة ،أنه إنما خيرها بين انتظاره إلى أن
ح عنه :أن نصرانيًا أسلمت امرأته ،فقال عمرُ
يسلم ،فتكون زوجته كما هى أو تُفارقه ،وكذلك ص ّ
ى امرأتُه ،وإن لم يُسلم ،فرقَ بينهما ،فلم يُسلم ،ففرق بينهما .وكذلك قال
رضي ال عنه :إن أسلم فه َ
لعُبادة بن النعمان التغلبى وقد أسلمت امرأتُه :إما أن تسلم ،وإل نزعتها منكَ ،فأبى ،فنزعها منه.
فهذه الثار صريحة فى خلف ما حكاه أبو محمد ابن حزم عنه ،وهو حكاها ،وجعلها روايات
ل وبينَ
أخر ،وإنما تمسّك أبو محمد بآثار فيها ،أن عمر ،وابن عباس ،وجابراً ،فرّقوا بين الرج ِ
امرأته بالسلم ،وهى آثار مجملة ليست بصريحة فى تعجيل التفرقة ،ولو صحت ،فقد صحّ عن
عمر ما حكيناه ،وعن على ما تقدم وبال التوفيق.
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى العَزْلِ
ثبت فى ((الصحيحين)) :عن أبى سعيد قال :أصبنا سبياً ،ف ُكنّا َن ْعزِلُ ،فسألنا رسولَ ال
ن نَسَمة كَا ِئنَ ٍة إلى َيوْ ِم ال ِقيَامَةِ إل
صلى ال عليه وسلم فقال(( :وإ ّنكُمْ َلتَ ْف َعلُون؟)) قالها ثلثاً(( .مَا مِ ْ
وَهِى َكَا ِئنَةٌ)).
71
عزِلُ عنها ،وأنا أكره أن
وفى السنن :عنه ،أن رجلً قال :يا رسولَ ال إن لى جاري ًة وأنا أَ ْ
ل الموؤدةُ الصّغرى ،قال(( :كَ َذ َبتْ
ث أن العز َ
ن اليهو َد تُح ّد ُ
تحمِلَ ،وأنا أريدُ ما يُريدُ الرجال ،وإ ّ
ن َتصْرفَهُ)).
ط ْعتَ أَ ْ
ستَ َ
خلُقَهُ مَا ا ْ
لّ أَنْ َي ْ
يهودُ َل ْو أَرادَ ا ُ
ل ال صلى ال عليه وسلم
وفى ((الصحيحين)) :عن جابر قال :كنا نَعزِلُ على عهدِ رسو ِ
ن َي ْنزِلُ.
والقُرآ ُ
ل على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فبلغ ذلك
وفى ((صحيح مسلم)) عنه :كنَا نَعزِ ُ
رسولَ ال صلى ال عليه وسلم َفلَمْ َي ْن َهنَا.
ل النبى صلى ال عليه وسلم فقال :إنّ عِندى
وفى ((صحيح مسلم)) أيضاً :عنه قال :سألَ رج ٌ
شيْئًا أرَا َدهُ الُّ))،
ل َي ْمنَعُ َ
جاريةً ،وأنا أعزِلُ عنها ،فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم(( :إنّ ذِلكَ َ
ح َمَلتْ ،فقال رسول ال صلى
ت ذكرتُها لك َ
قال :فجاء الرجلُ فقال :يا رسولَ ال إن الجاريَة التى ُك ْن ُ
لّ َورَسُولُه)).
عبْدُ ا ِ
ال عليه وسلمَ(( :أنَا َ
وفى ((صحيح مسلم)) أيضاً :عن أسامة بن زيد ،أن رجلً جاء إلى رسول ال صلى ال
ل ال صلى ال عليه وسلم:
ن امرأتى ،فقال له رسو ُ
ل ال ،إنى أعزِلُ عَ ِ
عليه وسلم ،فقال :يا رسو َ
ل ال صلى ال
علَى ولدها ،أو قال :على أولدِها ،فقال رسو ُ
ل ذِلكَ؟ فقال الرجُلُ :أُشْفِقُ َ
((لِ َم تَ ْفعَ ُ
ضرّ فَا ِرسَ وَالرّومَ)).
ن ضَارّا َ
عليه وسلمَ(( :ل ْو كَا َ
ع َمرَ بنِ الخطاب رضى ال عنه قال :نهى
وفى مسند أحمد ،وسنن ابن ماجه ،من حديث ُ
ح ّرةِ إل بإ ْذ ِنهَا.
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أن يُعزَلَ عَنِ ال ُ
وقال أبو داود :سمعتُ أبا عبد ال ذكر حديث ابن َلهِيعة ،عن جعفر ابن ربيعة عن الزهرى،
حرّر بن أبى هريرة ،عن أبى هريرة رضى ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه
عن المُ َ
ح ّرةِ إلّ بإذْنها)) ،فقال :ما أن َك َرهُ.
وسلم(( :ل ُي ْعزَلُ عَنِ ال ُ
ت الرخصةٌ فيه عن عشرة من الصحابة:
ث صريحةٌ فى جواز العزلِ ،وقد ُروِي ِ
فهذه الحادي ُ
ن بن على،
ن عباس ،والحس ِ
على ،وسع ِد بن أبى وقاص ،وأبى أيوب ،وزيدِ بن ثابت ،وجابرٍ ،واب ِ
ب بن الرتّ ،وأبى سعيد الخدرى ،وابنِ مسعود ،رضى ال عنهم.
وخبّا ِ
قال ابن حزم :وجاءت الباحة للعزل صحيحة عن جابر ،وابن عباس ،وسع ِد بن أبى
وقاص ،وزيدِ بن ثابت ،وابنِ مسعود ،رضى ال عنهم ،وهذا هو الصحيحُ.
وحرّمه جماعة ،منهم أبو محمد ابن حزم وغيرُه.
72
وفرّقت طائفة بين أن تأذن له الح ّرةُ ،فيبُاح ،أول تأذن فيحرُم ،وإن كانت زوجته أمةً ،أبيحَ
بإذن سيدها ،ولم يبح بدون إذنه ،وهذا منصوصُ أحمد ،ومن أصحابه من قال :ليُباح بحال ،ومنهم
من قال :يُباح بكُلّ حال .ومنهم من قال :يباح بإذن الزوجة حرةً كانت أو أمة ،ول يُباح بدون إذنها
حرة كانت أو أمة.
ق المرأة فى ذوق العسيلة
فمن أباحه مطلقاً ،احتج بما ذكرنا من الحاديث ،وبأن ح ّ
ل فى النزال ،ومن حرّمه مطلقاً احتج بما رواه مسلم فى ((صحيحه)) من حديث عائشة رضى ال
ت رسول ال صلى ال عليه وسلم فى
عكّاشة ،قالت :حضر ُ
ت وهبٍ أختِ ُ
عنها ،عن جُدَامة بن ِ
أناسٍ ،فسألُوه عن ال َعزْلِ ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :ذِلكَ الوَأدُ الخَ ِفىّ)) ،وهى{:وإِذَا
س ِئَلتْ} [التكوير.]8 :
ال َموْءُدَةُ ُ
قالوا :وهذا ناسخٌ لخبار الباحة ،فإنه ناقل عن الصل ،وأحاديثُ الباحة
على وفق البراءة الصلية ،وأحكامُ الشرع ناقلة عن البراءة الصلية .قالوا :وقولٌ جابر رضي ال
ن ينزِلُ ،فلو كان شيئًا ينهى عنه ،لنهى عنه القرآن.
ل والقرآ ُ
عنه :كنا نعِز ُ
ل عليه القرآنُ بقوله(( :إنّه المَوءُد ُة الصّغرى)) والوأد كله حرام.
ن ُأ ْنزِ َ
فيقال :قد نهى عنه مَ ْ
ن البصرى ،النهىَ مِن حديث أبى سعيد الخدرى رضي ال عنه لما ُذ ِك َر العزلُ
قالوا :وقد فهِم الحس ُ
ل تَ ْف َعلُوا ذَاكُمْ ،فإما ُهوَ القَ َدرُ)) قال ابنُ عون:
عَل ْيكُم أ ّ
عند رسول ال صلى ال عليه وسلم قال(( :ل َ
فحدّثتُ به الحسنَ ،فقال :وال لكأنّ هذا زجرٌ .قالوا :ولن فيه قط َع النسلِ المطلوبِ مِن النكاح،
وسوء العشرة ،وقط َع اللذة عندَ استدعاء الطبيعة لها.
ت أن أحدًا من ولدى
قالوا :ولهذا كان ابنُ عمر رضي ال عنه ل يعزِلُ ،وقال :لو علم ُ
َي ْعزِلُ ،لن ّك ْلتُه ،وكان علىّ يكره العزل ،ذكره شعبة عن عاصم عن ز ّر عنه وصح عن ابن مسعود
رضى ال عنه أنه قال فى العزل :هو الموؤود ُة الصغرى .وصح عن أبى أُمامة أنه سئل عنه فقال:
ض بنيه .وقال يحيى
ت أرى مسلمًا يفعلُه .وقال نافع عن ابن عمر :ضرب عمر على العزل َبعْ َ
ما ُك ْن ُ
بن سعيد النصارى ،عن سعيد بن المسيّب ،قال :كان عمرُ وعثمانُ ينهيان عن العزل.
وليس فى هذا ما يُعارضُ أحاديث الباحة مع صراحتها وصحتها أما حديثَ جُدَامة
بنت وهب ،فإنه وإن كان رواه مسلم ،فإن الحاديث الكثيرةَ على خلفه ،وقد قال أبو داود :حدثنا
موسى بن إسماعيل ،حدثنا أبان ،حدثنا يحيى ،أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه ،أنّ رِفاعة
حدثه عن أبى سعيد الخدرى رضى ال عنه ،أن رجلً قال :يا رسولَ ال ،إن لى جاريةً ،وأنا أعزِلُ
73
عنها ،وأنا أكره أن تحمِلَ ،وأنا أُريدَ ما يُريد الرجال ،وإن اليهو َد تُحدّث أن العزل الموؤودة
صرِفَه)) وحسبك بهذا السناد
ن َت ْ
ط ْعتَ أَ ْ
ستَ َ
خلُقَه مَا ا ْ
ن يَ ْ
لّ أ ْ
ت يهودَُ ،ل ْو َأرَادَ ا ُ
الصغرى ،قال(( :كَذَ َب ْ
صحة ،ف ُكلّهم ثقات حفاظ ،وقد أعلّه بعضُهم بأنه مضطرب فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبى
كثير ،فقيل :عنه ،عن محمد ابن عبد الرحمن ابن ثوبان ،عن جابر بن عبد ال ،ومن هذه الطريق:
أخرجه الترمذى والنسائى .وقيل :فيه عن أبى مُطيع بن رِفاعة ،وقيل :عن أبى رفاعة ،وقيل :عن
أبى سلمة عن أبى هُريرة ،وهذا ل يقدحُ فى الحديث ،فإنه قد يكونُ عند يحيى ،عن محمد بن عبد
الرحمن ،عن جابر ،وعنده عن ابن ثوبان عن أبى سلمة عن أبى هريرة ،وعنده عن ابن ثوبان عن
رفاعة عن أبى سعيد .ويبقى الختلفُ فى اسم أبى رفاعة ،هل أبو رافع ،أو ابنُ رِفاعة ،أو أبُو
ضرّ مع العلم بحال رفاعة.
مطيع؟ وهذا ل َي ُ
ول ريبَ أن أحاديثَ جابر صريحةٌ صحيحة فى جواز العزل ،وقد قال الشافعىّ رحمه ال:
ب النبى صلى ال عليه وسلم أنهم رخّصوا فى ذلك ،ولم َي َروْا به
ونحن نروى عن عدد من أصحا ِ
بأساً .قال البيهقى :وقد روينا الرخصةَ فيه ،عن سعد بن أبى قاص ،وأبى أيوب النصارى ،وزيد
ل العلم.
ابن ثابت ،وابن عباس وغيرهم ،وهو مذهب مالك ،والشافعى ،وأهلِ الكوفة ،وجمهورِ أه ِ
وقد أُجيب عن حديث جُدَامة ،بأنه على طريق التنزيه ،وضعفته طائفةٌ ،وقالوا :كيفَ
ب اليهودَ فى ذلك ،ثم يُخبر به كخبرهم؟ ،هذا من
َيصِحّ أن يكونَ النبىّ صلى ال عليه وسلم ك ّذ َ
المحال البيّن ،وردّت عليه طائفةٌ أخرى ،وقالوا :حديثُ تكذيبهم فيه اضطراب وحديثُ جُدَامة فى
((الصحيح)).
وجمعت طائفةٌ أخرى بين الحديثين ،وقالت :إن اليهودَ كانت تقولُ :إن العزلَ
ل عليه قوله صلى
ل ال صلى ال عليه وسلم فى ذلك ،ويَدُ ّ
ل يكون معه حمل أصلً ،فكذّبهم رسو ُ
ن َتصْرِفَه)) ،وقوله(( :إنّهُ ال َوأْدُ الخَ ِفىّ)) ،فإنه
ت أَ ْ
ط ْع َ
ستَ َ
خلُقَه َلمَا ا ْ
لّ أَنْ َي ْ
ال عليه وسلم(( :لَ ْو َأرَادَ ا ُ
ك الوطء ،فهو مؤثر فى تقليله.
وإن لم يمنع الحملَ بالكلية ،كتر ِ
وقالت طائفة أخرى :الحديثان صحيحان ،ولكن حديث التحريم ناسخ،
وهذه طريقة أبى محمد ابن حزم وغيره .قالوا :لنه ناقل عن الصل والحكام كانت قبل التحريم
على الباحة ،ودعوى هؤلء تحتاج إلى تاريخ محقّق يبيّن تأخّر أحدِ الحديثين عن الخر وأنّى لهم
ع َم ُر وَعلى رضي ال عنهما على أنها ل تكونُ موؤودةً حتى َت ُمرّ عليها التاراتُ
به ،وقد اتفق ُ
السبع ،فروى القاضى أبو يعلى وغيرهُ بإسناده ،عن عُبيد بن رفاعة ،عن أبيه ،قال جلس إلى عمر
74
علىّ والزبيرُ وسع ٌد رضى ال عنهم فى نفر من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وتذاكروا
العزلَ ،فقالوا :ل بأس به ،فقال رجل :إنهم يزعمون أنها الموؤدةُ الصغرى ،فقال على رضى ال
ت السبع :حتى تكون مِنْ سُللة من طين ،ثم تكونَ
عنه :ل تكون موؤدةً حتى تم ّر عليها التارا ُ
ن مضغةً ،ثم تكون عظاماً ،ثم تكون لحماً ،ثم تكون خلقاً آخر ،فقال
نُطفةً ،ثم تكون عَلقةً ،ثم تكو َ
عمر رضى ال عنه :صدقتَ أطال ال بقاءك .وبهذا احتجّ من احتج على جواز الدعاء للرجل
بطول البقاء.
ق فى الولد ،كما
ح ّرةِ ،فقال :للمرأة ح ّ
وأما من جوّزه بإذن ال ُ
س ّريّةِ فيه لنها ل حقّ لها فى
ن ال ّ
للرجل حقّ فيه ،ولهذا كانت أحقّ بحضانته ،قالُوا :ولو يُع َت َبرْ إذ ُ
ق فى الوطء لطُولِب المؤلى منها بالفيئة.
القسم ،ولهذا ل تُطالبه بالفيئة ،ولو كان لها ح ّ
قالوا :وأما زوجتُه الرقيقة ،فله أن َي ْعزِلَ عنها بغير إذنها صيان ًة لولده عن الرّقّ ولكن يُعتبر
ل البُضع يحصل للسيدِ
إذنُ سيدها ،لن له حقًا فى الولد ،فاع ُت ِبرَ إذنُه فى العزل كالحرة ،ولن بد َ
كما يحصل للحرة ،فكان إذنه فى العزل كإذن الحرة.
قال أحمد رحمه ال فى رواية أبى طالب فى المة إذا نكحها :يستأذِنُ أهَلها ،يعنى فى
العزل ،لنهم يُريدون الولد ،والمرأةُ لها حق ،تُريد الولد ،وملكُ يمينه ل يستأذنها.
وقال فى رواية صالح ،وابن منصور ،وحنبل ،وأبى الحارث ،والفضل ابن زياد
والمروذى :يَعزِلُ عن الحرة بإذنها ،والمةِ بغير إذنها ،يعنى أمَته ،وقال فى رواية ابن هانىء :إذا
ن الولدُ مع العزل .وقد قال بعضُ من قال :ما لى ولد إل من العزل.
عزل عنها ،لزمه الولد ،قد يكُو ُ
ل لك؟ ليس لها ذلك.
وقال فى رواية المروذى :فى العزل عن أم الولد :إن شاء ،فإن قالت :ل يَحِ ّ
فصل
ضعَة
فى حُكمه صلى ال عليه وسلم فى الغَيل ،وهو وطءُ المر ِ
ت أَنّ
حتّى َذ َك ْر ُ
ن ال ِغيْلَةِ َ
ت أَنْ َأنْهى عَ ِ
ثبت عنه فى ((صحيح مسلم)) :أنه قال(( :لَقَدْ َه َم ْم ُ
ض ّر َأوْلَدَهُم)) وفى سنن أبى داود عنه ،من حديث أسماء بنت
ل َي ُ
ن ذلكَ فَ َ
صنَعُو َ
س َي ْ
الرّومَ وفَا ِر َ
ع ِث ُرهُ)).
سرّا َفوَالّذِى نَفْسِى ِبيَ ِد ِه إنّه َليُ ْدرِك الفَا ِرسَ َفيُدَ ْ
يزيد(( :ل تَ ْق ُتلُوا َأوْل َدكُم ِ
ل امرأتَه وهى ترضع.
قال :قلت :ما يعنى؟ قلت :الغيلة :يأتى الرج ُ
ث الول ،فهو حديثُ جُدَامة بنت وهب ،وقد تضمّن أمرين لِكلّ منهما
قلت :أما الحدي ُ
ت أن أنهى عن الغِيلة)) ،وقد عارضه حديث أسماء،
معارض :فصدرُه هو الذى تقدّم(( :لقد همم ُ
75
وعجزه :ثم سألوه عن العزل ،فقال(( :ذلك الوأد الخفى)) وقد عارضه حديث أبى سعيد(( :كذبت
سرّا)) نهى أن يتسبب إلى ذلك ،فإنه شبّه الغَيل بقتل
يهود)) ،وقد يُقال :إن قوله(( :ل تَ ْق ُتلُوا َأوْل َدكُمْ ِ
الولد ،وليس بقتلٍ حقيقة ،وإل كان من الكبائر ،وكان قرينَ الشراك بال ،ول ريبَ أن وطء
المراضع مما َتعُمّ به البلوى ،ويتعذّر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع ولو كان وطؤُهن
لمّةُ ،وخي ُر القرون ،ول
حراماً لكان معلوماً من الدين ،وكان بيانُه مِن أه ّم المور ،ولم تُه ِملْه ا ُ
يُصرّحُ أحدٌ منهم بتحريمهَ ،ف ُعلِمَ أن حديث أسماء على وجه الرشاد والحتياط للولد ،وأن ل
ضعُوا لولدهم غيرَ
ُي َعرّضَه لفساد اللبن بالحمل الطارىء عليه ،ولهذا كان عاد ُة العرب أن يستر ِ
أمهاتهم ،والمنع غايُته أن يكون من باب سد الذرائع التى قد تُفضى إلى الضرار بالولد ،وقاعدةُ
ت عليه ،كما تقدّم بيانُه مراراً وال أعلم.
باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة ،قُ ّد َم ْ
فصل
فى حُكمه صلى ال عليه وسلم فى قسم البتداء والدوام بين الزوجات
ل ال ِب ْكرَ
ن السّن ِة إذا تزوّج الرّجُ ُ
ثبت فى ((الصحيحين)) :عن أنس رضى ال عنه أنه قال :مِ َ
عنْدَهَا ثلثاً ،ثم قَسَمَ .قال أبو قلبة :ولو
ج ال ّث ّيبَ ،أَقَامَ ِ
سبْعاً وقَسَمَ ،وإذا َت َزوّ َ
عنْدَهَا َ
على ال ّث ّيبِ ،أَقام ِ
شئتُ ،ل ُق ْلتُ :إن أنسًا رفعه إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم.
وهذا الذى قاله أبو قِلبة ،قد جاء مصرّحًا به عن أنس ،كما رواه البزار فى ((مسنده)) ،من
طريق أيوب السّختيانى ،عن أبى قِلبة ،عن أنس رضى ال عنه أن النبىّ صلى ال عليه وسلم
ل لِلبِكرِ سبعاً ،ولل ّثيّب ثلثاً.
جعَ َ
َ
وروى الثورى ،عن أيوب ،وخالد الحذّاء ،كِلهما عن أبى قِلبة ،عن أنس ،أن النبىّ صلى
عنْدَها ثلثاً)).
ج ال ّثيّيبَ ،أقَامَ ِ
سبْعاً ،وإِذا َت َزوّ َ
عنْدَهَا َ
ج ال ِب ْكرَ ،أَقَامَ ِ
ال عليه وسلم قَالَ(( :إِذَا َت َزوّ َ
ل ال صلى ال عليه
وفى صحيح مسلم :عن أ ّم سلمة رضى ال عنها ،لما تزوّجها رسو ُ
ت َلكِ،
س ّب ْع ُ
ش ْئتِ َ
وسلم ،فدخل عليها ،أقامَ عندها ثلثاً ،ثم قال(( :إنّ ُه َل ْيسَ ِبكِ عَلى أَ ْهِلكِ هَوانٌ ،إنْ ِ
ش ْئتِ
ت بثوبه فقال(( :إنْ ِ
س ّب ْعتُ ِلنِسَائى)) .وله فى لفظ(( :لما أراد أن يخرج ،أخَ َذ ْ
ت َلكَِ ،
س ّب ْع ُ
وإنْ َ
لثٌ)).
سبْعٌ ،وللثّيُب ثَ َ
سبْتكِ بِهِِ ،ل ْل ِب ْكرِ َ
زِ ْد ُتكِ وَحَا َ
ل ال صلى ال عليه وسلم يَقْسِمُ َف َيعْدِلُ،
وفى السنن :عن عائشة رضى ال عنها ،كان رسو ُ
ل َأ ْمِلكُ)) ،يعنى القلبَ.
ل َتُلمْنى فيمَا َت ْمِلكُ وَ َ
ويقول(( :الّلهُ ّم إِنّ هذا قَسْمى فِيما َأمِلكُ ،فَ َ
76
ع بين نسائه ،فأ ّيتُهن
وفى ((الصحيحين)) :أنه صلى ال عليه وسلم كان إذا أرادَ سفراً ،أقر َ
خرَجَ بها معه.
خرج سهمُهاَ ،
ى صلى ال
وفى ((الصحيحين)) :أن سود َة وهبت يومها لِعائشة رضى ال عنها ،وكان النب ّ
عليه وسلم يَقْسِمُ لعائشة َي ْومَها و َيوْمَ سودة.
ضنَا
وفى السنن :عن عائشة رضى ال عنها ،كان النبىّ صلى ال عليه وسلم ل يُ َفضّلُ َب ْع َ
ن كُلّ
ل َيوْ ٌم إل و ُه َو يَطُوفُ علينا جميعاً ،فيدنو مِ ْ
على َبعْضٍ فى القَسْ ِم مِن مُكثِه عندنا ،وكان قَ ّ
عنْدَهَا.
ت ِ
ن غير مسيس حتى َي ْبلُغَ إلى التى ُه َو يَومُها ،فَيبِي ُ
امرأة مِ ْ
ن كُنّ يجت ِمعْنَ كل ليلة فى بيت التى يأتيها.
وفى ((صحيح مسلم)) :إنه ّ
ت مِنْ َب ْعِلهَا
ن ا ْمرَأةٌ خَا َف ْ
وفى ((الصحيحين)) :عن عائشة رضىَ ال عنها ،فى قوله{ :وإ ِ
ل صحبتُها ،فُيريد
ن عند الرجل فتطو ُ
نُشُوزاً أو إعْراضاً} [النساءُ ]128:أ ْن ِزلَت في المرأة تكو ُ
ى والقَسْمِ لى ،فذلك قولُه{:فَلَ
ل من النفقة عل ّ
طلقَها ،فتقول :ل تُطلّقنى وأمسِكنى ،وأَنت فى حث ّ
خ ْيرٌ} [النساء.]128:
صلْحًا والصّلْحُ َ
صلِحَا َب ْي َن ُهمَا ُ
عَل ْي ِهمَا أَنْ ُي ْ
جنَاحَ َ
ُ
ن عمه علىّ بن أبى طالب رضى ال عنه ،أنه إذا تزوّج الحرّة على
وقضى خليفتُه الراشدُ ،واب ُ
حرّة ليلتين .وقضاءُ خلفائه وإن لم يكن مساويًا لقضائه ،فهو كقضائه فى
المة قس َم للمة ليلة ،ولل ُ
وجوبه على المة ،وقد احتجّ المام أحمدُ بهذا القضاءِ عن على رضي ال عنه ،وقد ضعّفه أبو
محمد بن حزم بالمنهال بن عمرو ،وبابنِ أبى ليلى ،ولم يصنع شيئاً ،فإنهما ثِقتان حافِظانِ جليلن،
ل الناسُ يحتجّونَ بابن أبى ليلى على شىء ما فى حفظه ُيتّقى منه ما خالف فيه الثبات ،وما
ولم يز ِ
تفرّد به عن الناس ،وإل فهو غيرُ مدفوع عن المانة والصدق .فتضمّن هذا القضا ُء أموراً.
منها وجوبُ قسم البتداء ،وهو أنه إذا تزوّج بكراً على ثيب ،أقام عندها سبعاً ثم سوّى
بينهما ،وإن كانت ثيّباً ،خيّرها بين أن يُقيم عندها سبعاً ،ثم يقضِيها للبواقى ،وبين أن يُقيم عندها
ثلثًا ول يُحاسبها ،هذا قول الجمهور ،وخالف فيه إما ُم أهل الرأى ،وإمامُ أهل الظاهر ،وقالوا :ل
حقّ للجديدة غيرَ ما تستحقه التى عنده ،فيجب عليه التسوية بينهما.
ب عليها بالثلث ،ولو
ب إذا اختارت السبعَ ،قضاهُن للبواقى ،واحتس َ
ومنها .أن الث ّي َ
ب عليها بها ،وعلى هذا من سُومح بثلث دون ما فوقَها ،ففعل أكثرَ منها،
س ْ
ت الثلثَ ،لم يحت ِ
اختار ِ
دخلت الثلث فى الذى لم يُسامح به بحيث لو ترتب عليه إثم ،أثِمَ على الجميع ،وهذا كما رخّص
77
ج ِر أن يُقيم بعد قضاء نسكه ثلثاً .فلو أقام أبداً ،ذُمّ على القامة
النبىّ صلى ال عليه وسلم للمُها ِ
ُكلّها.
ومنها :أنه ل تجب التسويةُ بينَ النساء فى المحبة ،فإنها ل ُت ْمَلكُ ،وكانت
ب التسوية بينهن فى الوطء ،لنه
ب نسائه إليه .وأُخِذَ من هذا أنه ل تج ُ
عائش ُة رضى ال عنها أح ّ
موقوف على المحب ِة والميل ،وهى بيد مقلّب القلوب.
وفى هذا تفصيل ،وهو أنه إن تركه لعدم الداعى إليه ،وعدم النتشار ،فهو معذور ،وإن
تركه مع الداعى إليه ،ولكن داعيه إلى الضرة أقوى ،فهذا مما يدخُلُ تحت قُدرته وملكه ،فإن أدى
الواجبَ عليه منه ،لم َيبْقَ لها حق ،ولم يلزمه التسويةُ ،وإن ترك الواجبَ منه ،فلها المطالب ُة به.
ومنها :إذا أراد السفرَ ،لم يجز له أن يُسافِر بإحداهن إل بقُرعة.
(يتبع)...
ل ال صلى ال عليه وسلم لم يكن يقضى
ومنها :أنه ل يقضى للبواقى إذا قَدِمَ ،فإن رسو َ @
للبواقى.
وفى هذا ثلثة مذاهب.
ع أو لم يُقرع ،وبه قال أبو حنيفة ،ومالك.
أحدها :أنه ل يقضى ،سواء أقرَ َ
والثانى :أنه يقضى للبواقى أقرع أو لم يُقرع ،وهذا مذهب أهل الظاهر.
والثالث :أنه إن أقرع لم يقض ،وإن لم يُقرع قضى ،وهذا قولُ أحمد والشافعى.
ومنها :أن للمرأ ِة أن َت َهبَ ليلتها لِضرتها ،فل يجوزُ له جعلُها لغير الموهبة ،وإن
ق للمرأة فإذا أسقطتها ،وجعلتها
وهبتها للزوج ،فله جعلُها لمن شاء منهن ،والفرقُ بينهما أن الليلةَ ح ّ
لضرتها ،تعينت لها ،وإذا جعلتها للزوج ،جعلها لمن شاء مِن نسائه ،فإذا اتفق أن تكون ليل ُة الواهبة
تلى ليلة الموهوبة ،قسم لها ليلتين متواليتين ،وإن كانت ل تليها فهل له نقلُها إلى مجاورتها ،فيجعل
الليلتين متجاورتين؟ على قولين للفقهاء ،وهما فى مذهب أحمد والشافعى.
ل له أن يَدْخُلَ على نسائه ُكّلهِنّ فى يوم إحداهن ولكن ل يطؤها في غير
ومنها :أن الرج َ
نوبتها.
ت النوم،
ومنها :أن لِنسائه ُكّلهِنّ أن يجتمِعن فى بيت صاحبة النوبة يتحدّثن إلى أن يجىء وق ُ
ل واحدة إلى منزلها.
فتؤوب كُ ّ
78
جزَ عن حقوقها،
ومنها :أن الرجل إذا قضَى وطراً من امرأته ،وكرهتْها نفسُه ،أو عَ َ
خيّرها ،إن شاءت أقامت عنده ول حقّ لها في القسم والوطء والنفقة ،أو فى
فله أن يُطلّقها ،وله أن يُ َ
بعضِ ذلك بحسب ما يصطلحان عليه ،فإذا رضيت بذلك ،لزم ،وليس لها المطالبةُ به بعد الرضى.
غ غيره ،وقولُ من قال :إن حقها
هذا موجب السنة ومقتضاها ،وهو الصوابُ الذى ل يسو ُ
يتجدد ،فلها الرجوع فى ذلك متى شاءت ،فاسد ،فإن هذا خرج مخرجَ المعاوضة ،وقد سماه ال
ت مِن طلب حقّها بعد
تعالى صالحاً ،فيلزم كما يلزم ما صالح عليه من الحقوق والموال ،ولو ُم ّك َن ْ
ذلك ،لكان فيه تأخيرُ الضرر إلى أكمل حالتيه ،ولم يكن صلحاً ،بل كان مِن أقرب أسباب المعاداة،
والشريع ُة منزّهة عن ذلك ،ومن علمات المنافق أنه إذا وعد ،أخلف ،وإذا عاهد ،غدر ،القضاء
النبوي ير ّد هذا.
ومنها :أن المة المزوّجة على النصف من الحرة ،كما قضى به أمير المؤمنين على
رضى ال عنه ،ول يُعرف له فى الصحابة مخالف ،وهو قولُ جمهور الفقهاء إل رواية عن مالك:
ل الجمهور هو الذى يقتضيه العدلُ ،فإن ال سبحانه لم يسو
أنهما سواء ،وبها قال أهل الظاهر ،وقو ُ
بين الحرة والمة ،ل فى الطلق ،ول فى العدة ،ول فى الحدّ ،ول فى الملك ،ول فى الميراث ،ول
ن عند الزوج ليلً ونهاراً ،ول فى أصلِ النكاح ،بل جعل نكاحها بمنزلة الضرورة ،ول
فى مدة الكو ِ
ل الجمهور ،وروى المام أحمد
فى عد ِد المنكوحات ،فإن العبد ل يتزوج أكثر من اثنتين ،هذا قو ُ
بإسناده :عن عمر بن الخطاب رضى ال عنه قال :يتزوّجُ العبد ثنتين ،ويطلق ثنتين ،وتعت ّد امرأتُه
حيضتين ،واحتج به أحمد .ورواه أبو بكر عبد العزيز ،عن على بن أبى طالب رضى ال عنه،
ل للعبد من النساء إل ثنتان.
قال :ل يَحِ ّ
وروى المام أحمد بإسناده ،عن محمد بن سيرين قال :سأل عمر رضى ال عنه الناس :كم
يتزوجُ العبد؟ فقال عبد الرحمن :ثنتين وطلقه ثنتين فهذا عمر ،وعلى ،وعبد الرحمن ،رضى ال
عنهم ،ول يعرف لهم مخالف فى الصحابة مع انتشار هذا القول وظهوره ،وموافقته للقياس.
فصل
فى قضائه صلى ال عليه وسلم فى تحريم وطء المرأة الحبلى من غير الوَاطىء
ثبت فى ((صحيح مسلم)) :من حديث أبى الدرداء رضىَ ال عنه ،أن النبى صلى ال عليه
ن ُيلِمّ بها)) .فقالُواَ :نعَمْ ،فقالَ رسولُ
ح على بَابِ فُسْطَاطٍ ،فقالَ(( :ل َعلّهُ يُري ُد أَ ْ
وسلم أتى بامرأ ٍة مُجِ ّ
79
ل لهُ،
ف ُي َو ّرثُه و ُهوَ ل يَحِ ّ
ل َمعَهُ َق ْب َرهَُ ،ك ْي َ
ن َأ ْل َعنَهُ َل ْعنًا يَ ْدخُ ُ
ال صلى ال عليه وسلم(( :لَقَدْ َه َم ْمتُ أَ ْ
ل لهُ)).
ل يَحِ ّ
س َتخْ ِدمُه و ُهوَ َ
َك ْيفَ يَ ْ
قال أبو محمد ابن حزم :ل َيصِحّ فى تحريم وطءِ الحامِلِ خب ٌر غي ُر هذا .انتهى .وقد
روى أهل ((السنن)) من حديث أبى سعيد رضى ال عنه ،أن النبى صلى ال عليه وسلم قال فى
ح ْيضَةً)).
حتّى تَحيضَ َ
غ ْيرُ حَامِلٍ َ
حتّى َتضَعَ ،ول َ
سبايا أوطاس(( :ل ُتوَطأْ حَامِلُ َ
وفى الترمذى وغيره :من حديث رُويفع بن ثابت رضى ال عنه ،عن النبى صلى ال عليه
غ ْي ِرهِ)) قال الترمذى حديث
ق مَاءَه َولَدَ َ
خرِ فَل يَسْ ِ
لّ وال َيوْمِ ال ِ
ن بِا ِ
وسلم أنه قال(( :مَنْ كَانَ ُي ْؤمِ ُ
حسن.
وفيه عن العِرباضِ بن سَا ِريَ َة رضى ال عنه ،أن النبىّ صلى ال عليه وسلم حرّم وطءَ
ضعْنَ ما فى بُطونهن.
السبايا حتى َي َ
وقوله صلى ال عليه وسلم(( :كيف يُورّثه وهو ل يَحلّ له ،كيف يستخ ِدمُه وهو ل َيحِلّ
ل فى معناه :كيف يجعلُه عبدًا مَوروثاً عنه ،ويستخ ِدمُه استخدا َم العبيدِ وهو
له)) ،كان شيخُنا يقو ُ
خلْقِه؟ قال المام أحمد :الوطء يزيد فى سمعه وبصره .قال فيمن اشترى
ولدُه ،لن وطأه زاد فى َ
ل من غيره ،فوطئها قبل وضعها ،فإن الولد ل يلحَقُ بالمشترى ،ول يتبعُه ،لكن يعتِقُه
جاريةً حام ً
لنه قد شرك فيه ،لن الما َء يزي ُد فى الولد ،وقد روى عن أبى الدرداء رضى ال عنه ،عن النبىّ
ح على باب فسطاط ،فقال(( :لعله يُريد أن ُيلِمّ بها)) وذكر
صلى ال عليه وسلم ،م ّر بامرأة مُجِ ّ
الحديثَ .يعنى :أنه إن استلحقه وشرِكه فى ميراثه ،لم يحل له ،لنه ليس بولده ،وإن أخذه مملوكاً
ل له لنه قد شرك فيه لكون الماء يزيدُ فى الولد.
يستخ ِدمُه لم يَح ّ
وفى هذا دللة ظاهرةٌ على تحريم نكاح الحامِل ،سواء كان حملُها مِن زوج أو سيّ ٍد أو شُبهة
ل مِن زنى ،ففى صحة العقد قولن ،أحدهما:
أو زنى ،وهذا ل خلف فيه إل فيما إذا كان الحم ُ
بطلنُه وهو مذهبُ أحمد ومالك ،والثانى :صحتُه وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى ثم اختلفا ،فمنع
ى العِ ّدةُ ،وكرهه الشافعى ،وقال أصحابُه :ل يحرم.
أبو حنيفة مِن الوطء حتى تنقض َ
فصل
ق أمتَه ويجعل عِتقها صداقَها
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الرجل يعتِ ُ
عتْقَها صَدَاقَها)) .قيل لنس :ما
ثبت عنه فى ((الصحيح))(( :أنه أعتق صفيّةَ وجعل ِ
ب إلى جواز ذلك علىّ ابن أبى طالب ،وفعله أنس بن مالك ،وهو
َأصْدَقَها؟ قالَ :أصْدَقَها نَفْسَها وذه َ
80
ن البَصرى،
مذهبُ أعلم التابعين ،وسيّدهم سعي ِد بن المسيّب ،وأبى سلمة بن عبد الرحمن ،والحس ِ
والزهري ،وأحمد ،وإسحاق.
وعن أحمد رواية أخرى ،أنه ل َيصِحّ حتى يستأ ِنفَ نكاحها بإذنها ،فإن أبت ذلك ،فعليها
قيمتُها.
ل يزوّجه إياها.
وعنه رواية ثالثة :أنه ُي َوكّلُ رج ً
ل الصحابة والقياس ،فإنه كان يمِلك
والصحيح :هو القول الول الموافق للسنة ،وأقوا ِ
رقبتها ،فأزال ملكه عن رقبتها ،وأبقى ملكَ المنفعة بعقد النكاح ،فهو أولى بالجواز مما لو أعتقها،
واستثنى خِدمتها ،وقدم تقدّم تقري ُر ذلك فى غزاة خيبر.
فصل
فى قضائه صلى ال عليه وسلم فى صحة النكاح الموقوفِ على الجازة
ى صلى ال عليه
فى ((السنن)) :عن ابن عباس رضى ال عنهما(( ،أن جاريةً بكرًا أتت النب ّ
وسلم فذكرت أنّ أباها زوّجَها وهى كَارِهَة ،فخيّرها النبىّ صلى ال عليه وسلم)).
وقد نصّ المامُ أحمد على القول بمقتضى هذا ،فقال فى رواية صالح فى صغير
زوّجه عمه ،قال :إن رضى به فى وقت من الوقات ،جاز ،وإن لم يرض فسخ.
ونقل عنه ابنه عبد ال ،إذا زوجت اليتيمةُ ،فإذا بلغت فلها الخيارُ ،وكذلك نقل
ن فى يتيمة ُزوّجَت و َدخَلَ بها الزوجُ ،ثم حاضت عند الزوج
ابنُ منصور عنه حُكى له قولُ سفيا َ
بعدُ ،قال :تُخ ّيرُ ،فإن اختارت نفسَها لم يقع التزويجُ ،وهى أحقّ بنفسها ،وإن قالت :اخترتُ زوجى؟
فليشهدوا على نكاحهما .قال أحمد :جيد.
وقال فى رواية حنبل فى العبد إذا تزوّج بغير إذن سيده ،ثم علم السيدُ
ق بيد السيد ،وإذا أذن له فى التزويج ،فالطلقُ بيد العبد ،ومعنى
بذلك :فإن شاء يُطلّق عليه ،فالطل ُ
ل العقد ،ويمنع تنفيذَه وإجازته ،هكذا أوّله القاضى ،وهو خلف ظاهر النص،
قوله :يطلق ،أىُ :يبْطِ ُ
وهذا مذهبُ أبى حنيفة ومالك على تفصيل فى مذهبه ،والقياسُ يقتضى صحةَ هذا القول ،فإن الذن
إذا جاز أن يتقدّم القبولَ واليجابَ جاز أن يتراخى عنه.
وأيضاً فإنه كما يجوز وقفُه على الفسخ يجوزُ وقفُه على الجازة كالوصية ،ولن المعتبرَ
هو التراضى ،وحصولُه فى ثانى الحال كحصولِه فى الول ،ولن إثباتَ الخيار فى عقد البيع هو
ف للعقد فى الحقيقة على إجازة من له الخيار وردّه ،وبال التوفيق.
وق ٌ
81
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فى الكفاءة فى النكاح
ل ِلتَعارَفُوا إنّ
شعُوباً و َقبَائِ َ
ج َع ْلنَاكُم ُ
خلَ ْقنَاكُم مِنْ َذ َك ٍر َوُأ ْنثَى و َ
س إنّا َ
قال ال تعالى{ :يََأ ّيهَا النّا ُ
خ َوةٌ} [الحجرات]10 :
لّ َأتْقَاكُم} [الحجرات]13 :وقال تعالىِ{ :إنّما ال ُم ْؤ ِمنُونَ إ ْ
عنْدَ ا ِ
أ ْك َر َمكُمْ ِ
ستَجَابَ َلهُمْ
ت َب ْعضُهُم َأ ْوِليَا ُء َبعْضٍ} [التوبة ]71 :وقال تعالى{ :فَا ْ
وقال{ :والمُ ْؤ ِمنُونَ وال ُم ْؤ ِمنَا ُ
ضكُ ْم مِنْ َبعْضٍ} [آل عمران.]195 :
ل ِم ْنكُ ْم مِنْ َذ َك ٍر أَو ُأ ْنثَى َب ْع ُ
عمَلَ عَامِ ٍ
َر ّبهُمْ َأنّى ل ُأضِيعُ َ
ل ْبيَضَ
عرَبى ،ول َ
ج ِمىّ عَلى َ
ل ِلعَ َ
جمِى ،وَ َ
ل ِل َعرَبىّ عَلى عَ َ
وقال صلى ال عليه وسلم(( :ل َفضْ َ
ن تُرابٍ)).
ن آدَمَ ،وآدَمُ م ْ
ل بِالتّ ْقوَى ،النّاس مِ ْ
سوَدَ ول لسود عَلى أ ْبيَضَ ،إِ ّ
عَلى أَ ْ
ح ْيثُ
ن َأ ْولِيائى المتّقُونَ َ
ن َليْسُوا لى بَِأوْليَاءَ ،إِ ّ
ل بنِى فُلَ ٍ
وقال صلى ال عليه وسلم(( :إِنّ آ َ
ن كَانُوا)).
كَانُوا وَأيْ َ
خلُقَهُ فََأ ْنكِحُوهُ ،إلّ
ن َت ْرضُوْنَ دِينَهُ و ُ
وفى الترمذى :عنه صلى ال عليه وسلم(( :إذَا جَا َءكُ ْم مَ ْ
لرْضِ وفَسَا ٌد َكبِيرٌ)) .قالوا :يارسولَ ال ،وإن كان فيه؟ فقال(( :إذَا جَا َءكُم
تَ ْفعَلوهَ ،تكُنْ ِف ْتنَةٌ فى ا َ
خلُقَهُ َفَأ ْنكِحُوه)) ،ثلث مرات.
ضوْنَ دِينَهُ و ُ
مَنْ َت ْر َ
وقال النبىّ صلى ال عليه وسلم لبنى َبيَاضَةَ(( :أنْكِحُوا أَبا ِهنْدٍ ،وَأ ْنكِحُوا إَليْهِ)) .وكان
حجّاماً.
حشٍ القُرشية مِن زيد بن حارثة موله،
ب بنتَ جَ ْ
وزوّج النبىّ صلى ال عليه وسلم زين َ
وزوّج فاطمة بنت قيس الفِهرية القرشية .من أسامة ابنه ،وتزوّج بللُ ابن رباح بأخت عبد الرحمن
طيّبَاتِ} [النور ]26:وقد قال
ن لِل ّ
ط ّيبِين والطّ ّيبُو َ
طيّباتُ لِل ّ
بن عوف ،وقد قال ال تعالى{:وال ّ
ن النّسَاءِ} [النساء.]3:
ب َلكُمْ مِ َ
تعالى{:فا ْنكِحُوا مَا طَا َ
فالذى يقتضيه حُكمُه صلى ال عليه وسلم اعتبا ُر الدّين فى الكفاءة أصلً .وكمالً،
فل تُزوّجُ مسلمةٌ بكافر ،ول عفيفةٌ بفاجر ،ولم يعتبرِ القرآنُ والسنةُ فى الكفاءة أمرًا وراءَ ذلك ،فإنه
ح الزانى الخبيثِ ،ولم يعتبر نسباً ول صِناعة ،ول غِنىً ول حريّةً ،فجوّز
حرّم على المسلمة نكا َ
للعبد القِنّ نكاحَ الح ّرةِ النسيبة الغنيةِ إذا كان عفيفاً مسلماً ،وجوز لغير القرشيين نكاحَ القرشيات،
ح الموسرات.
ولغير الهاشميين نكاحَ الهاشميات وللفقراءِ نكا َ
وقد تنازع الفقهاءُ فى أوصاف الكفاءة:
82
فقال مالك فى ظاهر مذهبه :إنها الدّينُ ،وفى رواية عنه :إنها ثلثة:
الدّين ،والحريّة ،والسلمةُ من العيوب.
ب والدين.
وقال أبو حنيفة :هى النس ُ
وقال أحمد فى رواية عنه :هى الدّين والنسب خاصة.
وفى رواية أخرى :هى خمسة :الدّين ،والنسب ،والحرية ،والصناعة ،والمال .وإذا اعتبر فيها
النسب ،فعنه فيه روايتان .إحداهما :أن العرب بعضُهم لبعض أكفاء .الثانية :أن قريشاً ل يكافئهم إل
قرشى ،وبنو هاشم ل يُكافئهم إل هاشمى.
وقال أصحابُ الشافعى :يُعتبر فيها الدّينُ،
والنسبُ ،والحُرية ،والصّناعة ،والسلمةُ من العيوب ال ُمنَ ّف َرةِ.
ولهم فى اليسار ثلثة أوجه :اعتبارُه فيها ،وإلغاؤُه ،واعتبارُه فى أهل المدن دون أهلِ
ى ليس عندهم كُ ْفئًَا للعربى ،ول غي ُر القرشى للقرشية ،ول غيرُ الهاشمى للهاشمية،
البوادى ،فالعجم ّ
ول غيرُ المنتسبة إلى العلماء والصلحاء المشهورين كفئًا لمن ليس منتسبًا إليهما ،ول العبدُ كُ ْفئَاً
س الرّقّ أحدَ آبائه كفئًا لمن لم يمسّها رِق ،ول أحداً
للحرة ،ول العتيق كفئاً لحرة الصل ،ول من َم ّ
من آبائها ،وفى تأثير رِق المهات وجهان ،ول مَن به عيب مثبت للفسخ كُ ْفئًَا للسليمة منه ،فإن لم
يثبت الفسخ وكان منفّراً كالعمى والقطع ،وتشويهِ الخِلقة ،فوجهان .واختار الرّويانى أن صاحبه
ليس بكفءٍ ،ول الحجام والحائك والحارس كُ ْفئَاً لبنت التاجر والخياط ونحوهما ،ول المحترف
لبنت العالم ،ول الفاسق كفئًا للعفيفة ،ول المبتدعُ للسنية ولكن الكفاءة عند الجمهور هي حق المرأة
والولياء.
ثم اختلفوا ،فقال أصحاب الشافعى :هى لمن له ولية فى الحال .وقال أحمد فى
رواية :حق لجميع الولياء ،قريبهم وبعيدِهم ،فمن لم يرض منهم ،فله الفسخ وقال أحمد فى رواية
ثالثة :إنها حقّ الِّ ،فل َيصِحّ رضاهم بإسقاطه ،ولكن على هذه الرواية ل تُعتبر الحريةُ ول اليسار،
ول الصناعة ول النسبُ ،إنما يُعتبر الدّينُ فقط ،فإنه لم يقل أحمد ،ول أح ٌد من العلماء :إن نكاح
الفقير للموسرة باطل وإن رضيت ،ول يقولُ هو ول أحدٌ :إن نكاح الهاشمية لغير الهاشمى،
والقرشية لغير القرشى باطل ،وإنما نبهنا على هذا لن كثيراً من أصحابنا يحكُون الخلف فى
ل المذكورة ،وفى
الكفاءة ،هل هى حق ل أو للدمى؟ ويطلقون مع قولهم :إن الكفاءة هى الخصا ُ
هذا من التساهلِ وعدمِ التحقيق ما فيه.
83
فصل
فى حُكمه صلّى ال عليه وسلّم فى ثُبوتِ الخيا ِر للمعتَقة تحتَ العبدِ
ل النبىّ صلى ال
ثبت فى ((الصحيحين)) ،والسنن :أن َبرِي َر َة كاتبت أهلَها ،وجاءت تسأ ُ
ن ولؤك
ب أهلُك أن أعُدّها لهم ،ويكو ُ
ح ّ
عليه وسلم فى كتِابتها ،فقالت عائش ُة رضى ال عنها :إن أ َ
ن الولءُ لهم فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم لعائشة
لى فعلتُ ،فذكرت ذلك لهلها ،فأ َبوْا إل أن يكو َ
ب الناسَ فقال(( :مَا بَالُ أ ْقوَامٍ
عتَقَ)) ،ثم خط َ
نأ ْ
ش َترِطى َلهُ ُم الوَلءُ لِم ْ
شتَرِيها وا ْ
رضى ال عنها(( :ا ْ
شرْطًا ل ْيسَ فى ِكتَابِ الَِّ ،ف ُه َو بَاطِلٌ ،وإِنْ كَانَ
ش َترَطَ َ
ستْ فى ِكتَابِ الِّ ،مَنِ ا ْ
ش َترِطُونَ شروطًا َليْ َ
يَ ْ
ل ال صلى
عتَقَ)) ،ثم خيّرها رسو ُ
لّ أ ْوثَقُ ،وِإ ّنمَا الولء ِلمَنْ أْ ْ
شرْطُ ا ِ
شرْطٍَ ،قضَاءُ ال أحَقّ ،و َ
مِائَة َ
ال عليه وسلم بين أن َتبْقَى على نكاح زوجها ،وبين أن تَفْسَخَهُ ،فاختارت نفسَها ،فقال لها(( :إنّهُ
جكِ وأبُو َولَ ِدكِ)) ،فقالت :يا رسولَ ال ،تأ ُمرُنى بذلك؟ قال(( :لَ ،إِنمَا َأنَا شَافِعٌ)) ،قالت :فل
َزوْ ُ
حاجة لى فيه ،وقال لها إذْ خيّرها(( :إن َق ُر َبكِ ،فل خِيارَ لك)) ،وأمرها أن تعتد ،وتُصُدّقَ عليها
عَليْها صَدَقَةٌ ،وَلنَا هَ ِديّةٌ)).
بلحم ،فأكل منه النبىّ صلى ال عليه وسلم وقالُ (( :هوَ َ
ب وإن لم
وكان فى قِصةِ بريرة من الفقه جوا ُز مكاتبة المرأة ،وجوازُ بي ِع المكات ِ
جزْه سّيدُه ،وهذا مذهبُ أحمد المشهو ُر عنه ،وعليه أكث ُر نصوصه ،وقال فى رواية أبى طالب:
يُع ّ
ل يطأ مكاتبته ،أل ترى أنه ل يقدر أن يبيعَها .وبهذا قال أبو حنيفة ،ومالكٌ ،والشافعى .والنبىّ
صلى ال عليه وسلم أقرّ عائشة رضى ال عنها على شرائها ،وأهلَها على بيعها ،ولم يسأل:
أعجزت أم ل ،ومجيئُها تستعينُ فى كتابتها ل يستلزِمُ عجزَها ،وليس فى بيع المكاتب محذور ،فإن
عتَقَ ،وإن عجز عن
بيعه ل يُبطل كِتابته ،فإنه يبقى عند المشترى كما كان عند البائع ،إن أدى إليهَ ،
الداء ،فله أن ُيعِيدَه إلى الرّق كما كان عند بائعه ،فلو لم تأت السنةُ بجواز بيعه ،لكان القياسُ
يقتضيه.
ع القديمَ على جواز بيعِ المكاتَب .قالوا :لن قصة بريرة وردت
وقد ادعى غيرُ واحد الجما َ
ف ذلك ،لنها صفقةٌ جرت بين أْمّ المؤمنين ،وبينَ بعضِ
بنقل الكافّة ،ولم يبق بالمدينة منْ لم َي ْع ِر ْ
الصحابة رضي ال عنهم ،وهم موالى بريرة ،ثم خطبَ رسولُ ال صلى ال عليه وسلم الناسَ فى
أمر بيعها خُطبةُ فى غير وقت الخطبة ،ول يكون شىء أشهر مِن هذا ،ثم كان مِن مشى زوجِها
خلفَها باكياً فى أزِقّة المدينةِ ما زاد الم َر شهر ًة عند النساء والصبيان ،قالوا :فظهر يقينًا أنه إجماعٌ
من الصحابة ،إذ ل يُظن بصاحبٍ أنه يُخالف مِن سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم مثلَ هذا
84
المر الظاهر المستفيضِ قالوا :ول يُمكن أن تُوجِدُونا عن أحدٍ من الصحابة رضى ال عنهم المنعَ
من بيع المكاتب إل روايةً شاذة عن ابن عباس ل يُعرف لها إسناد.
ن منع بيعَه بعُذرين .أحدهما :أن بري َرةَ كانت قد عجزَت ،وهذا عذرُ
واعتذر مَ ْ
أصحاب الشافعى ،والثانى :أن البي َع ورد على مال الكِتابة ل علي رقبتها ،وهذا عذرُ أصحابِ
مالك.
ج إلى أن يُعتذر عنهما مِن الحديث ،ول َيصِحّ واحد
وهذان العُذران أحو ُ
س وابنُه عبد ال ،وكانت
ب أن هذه القصة كانت بالمدينة ،وقد شهدها العبا ُ
منهما ،أما الول :فل ري َ
الكِتابة تسع سنين فى كل سنة أوقية ،ولم تكن بع ُد أدّت شيئاً ،ول خلف أن العباس وابنَه إنما سكنا
ض الثالث ،فأين
ش النبىّ صلى ال عليه وسلم بعد ذلك إل عامينِ ،وبع َ
المدينة بعد فتح مكة ،ولم يع ِ
العجزُ وحلولُ النجوم؟،
وأيضاً ،فإن بريرة لم تَقُلْ :عجزتُ ،ول قالت لها عائشةُ :أعجزتِ؟ ول اعترف أهلُها
خ َب َر عنها البتة،
ل ال صلى ال عليه وسلم بعجزها ،ول وَصَفَها به ،ول أ ْ
بعجزها ،ول حكم رسو ُ
جزُونَ عن إثباته؟.
فمن أين لكم هذا العجزُ الذى تع ِ
حبّ
وأيضاً ،فإنها إنما قالت لعائشة :كاتبت أهلى على تسع أواق فى كل سنة أوقية ،وإنى أُ ِ
أن تُعينينى ،ولم تقل :لم أؤدّ لهم شيئاً ،ول مضت علىّ نجوم عِ ّدةٌ عجزت عن الداء فيها ،ول
قالت :عجّزنى أهلى.
وأيضاً فإنهم لو عجّزوها ،لعادت فى الرّق ،ولم تكن حينئذ لِتسعى فى كتابتها ،وتستعِينَ
بعائشة على أمر قد بَطَلَ.
جزِهَا قولُ عائشة :إن أحب أهلك أن اشتريَك وأعِتقَك ،ويكون
فإن قيل :الذى يدل على عَ ْ
عتِقيها))،
ش َترِيهَا فَأَ ْ
ولؤكِ لى فعلتُ .وقول النبى صلى ال عليه وسلم لعائشة رضى ال عنها(( :ا ْ
وهذا يدلّ على إنشاء عتق من عائشة رضى ال عنها ،وعتقُ المكاتب بالداء ل بإنشاء مِن السيد.
ن المعلوم أنها ل تبطلُ إل بعجز
ل ببطلنِ الكِتابة .قالوا :ومِ َ
قيل :هذا هو الذى أوجبَ لهم القو َ
المكاتب أو تعجِيزِه نفسه ،وحينئذ فيعود فى الرّق ،فإنما ورد البيعُ على رقيق ،ل على مكاتَب.
وجوابُ هذا :أن ترتيب العِتق على الشراء ل يدُلّ على إنشائه ،فإنه ترتيبٌ للمسبب على
سببه ،ول سيما فإن عائشة لما أرادت أن تُعجّل كتابتها جملة واحدة كان هذا سبباً فى إعتاقها ،وقد
85
ش َت ِريَهُ
ل يَجِ َد ُه َم ْملُوكاً َفيَ ْ
ل يَجْزى َولَ ٌد وَالِ َدهُ إ ّ
ل النبى صلى ال عليه وسلمَ (( :
قلُتم أنتم :إن قو َ
َف ُي ْعتِقَهُ)).
إن هذا من ترتيب المسبب على سببه ،وأنه بنفس الشراء يُعتق عليه ل يحتاج إلى
إنشاء عتق.
طلُه ،فإن أمّ المؤمنين اشترتْها ،فأعتقتها،
ق القصة يُب ِ
وأما العذ ُر الثانى :فأمرُه أظهرُ ،وسيا ُ
وكان ولؤُها لها ،وهذا مما ل ريبَ فيه ،ولم تشترِ المالَ ،والمال كان تس َع أوراق منجّمة ،فعدّتها
لهم جملةً واحدة ،ولم تتعرّض للمال الذى فى ذمتها ،ول كان غرضها بوجهِ ما ،ول كان لعائشة
غرض في شراء الدراهم المؤجّلة بعددها حالّة.
وفى القصة جوا ُز المعاملة بالنقود عدداً إذا لم يختِلفْ مقدارها ،وفيها أنه ل يجوزُ
ط على الخر شرطًا يُخالف حكم ال ورسوله ،وهذا معنى قوله:
لحدٍ من المتعاقدَين أن يشترِ َ
((ليس فى كتاب ال)) ،أى :ليس فى حكم ال جوازُه ،وليس المرادُ أنه ليس فى القرآن ذِكرُه
ط ال أوثق)).
وإباحته ،ويدل عليه قولُه(( :كتابُ ال أحق وشر ُ
وقد استدل به من صحيح العقد الذى شرط فيه شرط فاسد ،ولم يبطل العقدُ به
وهذا فيه نزاع وتفصيلٌ يظهر الصواب منه فى تبيين معنى الحديث ،فإنه قد أشكل على الناس
قوله(( :اشترطى لهم الولء ،فإن الولء لمن أعتق)) ،فأذن لها فى هذا الشتراط ،وأخبر ل يفيد.
والشافعى طعن فى هذه اللفظة وقال :إن هشام ابن عروة انفردَ بها ،وخالفه غيرُه ،فردها الشافعى،
ولم يثبتْها ،ولكن أصحاب ((الصحيحين)) وغيرَهم أخرجوها ،ولم يطعنوا فيها ،ولم يُعللها أحد
سوى الشافعى فيما نعلم.
ثم اختلفوا فى معناها ،فقالت طائفة :اللم ليست على بابها ،بل هى
ن أَسَ ْأتُمْ َفَلهَا} [السراء ]7 :أى :فعليها،
سكُمْ وإِ ْ
لنْفُ ِ
س ْنتُمْ َ
س ْنتُ ْم أَحْ َ
ن أَحْ َ
بمعنى ((على)) ،كقوله{ :إِ ْ
ن أَسَاءَ َف َعَل ْيهَا} [فصلت.]46 :
ل صَالِحاً َفِلنَفْسِهِ ومَ ْ
عمِ َ
كما قال تعالى{ :مَنْ َ
ورَ ّدتْ طائفة هذا العتذار بخلفه لسياق القصة ،ولموضوع الحرف ،وليس نظير الية،
فإنها قد فرّقت بين ما للنفس وبين ما عليها ،بخلف قوله(( :اشترطى لهم)).
وقالت طائفة :بل اللم على بابها ،ولكن فى الكلم محذوف تقديره :اشترطى لهم ،أو ل
تشترطى ،فإن الشتراط ل يُفيد شيئاً لمخالفته لكتاب ال.
وردّ غيرُهم هذا العتذا َر لستلزامه إضمارَ ما ل دليل عليه ،والعلمُ به مِن نوع علم الغيب.
86
ش ْئتُم}
ع َملُوا مَا ِ
وقالت طائفة أخرى :بل هذا أمرُ تهديد ل إباحة ،كقوله تعالى{ :ا ْ
[فصلت ]40 :وهذا فى البطلن من جنس ما قبله وأظهرُ فساداً ،فما لعائشة ،وما للتهديد هنا؟ ،وأين
فى السياق ما ينقضى التهديد لها؟ نعم هُمْ أحقّ بالتهديد ،ل أ ّم المؤمنين.
ل هذا ،ويكونُ
وقالت طائفة :بل هو أمر إباحة وإذن ،وأنه يجو ُز اشتراط مث ِ
ولءُ المكاتب للبائع ،قاله بعضُ الشافعية ،وهذا أفس ُد مِن جميع ما تقدم ،وصريحُ الحديث يقتضى
بطلنَه وردّه.
وقالت طائفة :إنما أذِنَ لها فى الشتراط ،ليكون وسيلة إلى ظهور
بطلنِ هذا الشرط ،وعلم الخاص والعام به ،وتقررّ حكمه صلى ال عليه وسلم ،وكان القومُ قد
عِلمُوا حكمه صلى ال عليه وسلم فى ذلك ،فلم يقنعوا دون أن يكون الولءُ لهم ،فعاقبهم بأن أذِنَ
لعائشة فى الشتراط ،ثم خطبَ الناس فأذّن فيهم ببطلن هذا الشرط ،وتضمّن حكماً من أحكام
شرِطَ فى العقد ،لم يجز الوفاء به ،ولول الذن فى الشتراط
الشريعة ،وهو أن الشرطَ الباطل إذا ُ
ث تضمّن فسادَ هذا الحكم ،وهو كَونُ الول ِء لغير المعتقِ.
علِمَ ذلك ،فإن الحدي َ
لما ُ
وأما بطلنُه إذا شرط ،فإنما استُفِي َد مِن تصريح النبىّ صلى ال عليه وسلم ببطلنه بعد
ل القومَ اعتقدوا أن اشتراطه يُفيد الوفاءَ به ،وإن كان خلفَ مقتضى العقد المطلق،
اشتراطه ولع ّ
فأبطله النبىّ صلى ال عليه وسلم ،وإن شرط كما أبطله بدون الشرط.
فإن قيل :فإذا فات مقصودُ المشترط ببطلن الشرط ،فإنه إما أن يُسلّط على الفسخ ،أو يُعطى
من الرش بقدر ما فات من غرضه ،والنبىّ صلى ال عليه وسلم لم يَقْضِ بواح ٍد من المرين.
قيل :هذا إنما يثبت إذا كان المشترط جاهلً بفساد الشرط .فأما إذا علم بطلنَه ومخالفتَه
لحكم ال ،كان عاصياً آثماً بإقدامه على اشتراطه ،فل فسخ له ول أرش ،وهذا أظه ُر المرين فى
موالى بريرة ،وال أعلم.
فصل
وفى قوله صلى ال عليه وسلم(( :إنما الولء لمن أعتق)) مِن العموم ما يقتضى ثبوتَه لمن
أعتق سائبةً ،أو فى زكاة ،أو كفارة ،أو عتقٍ واجب ،وهذا قولُ الشافعى وأبى حنيفة ،وأحمد فى
إحدى الروايات ،وقال فى الرواية الخرى :ل ولء عليه ،وقال فى الثالثة :يُرد ولؤه فى عتق
ج بعمومه أحمد ومن وافقه فى أن المسلم إذا أعتق عبداً ذميّاً ،ثم مات العتيق ،ورثه
مثله ،ويحت ّ
سلِ ُم الكَا ِفرَ)) فيخصصه أو يقيده ،وقال الشافعى
بالولء ،وهذا العمومُ أخصّ من قوله(( :ل َي ِرثُ المُ ْ
87
ت العبدُ مسلماً ،ولهم أن يقولوا :إن عموم قوله:
ومالك وأبو حنيفة :ل َي ِرثُه بالولء إل أن يمو َ
سلِ ُم الكَا ِفرَ)).
((الولء لمن أعتق)) ،مخصوص بقوله(( :ل َي ِرثُ المُ ْ
فصل
في فقه قصة بريرة
وفى القصة مِن الفقه تخيي ُر المة المزوّجة إذا أُعتقت وزوجُها عبدٌ ،وقد اختلفت الروايةُ فى
زوج بَريرة ،هل كان عبداً أو حراً؟ فقال القاسم ،عن عائشة رضى ال عنها :كان عبداً ولو كان
حرًا لم يُخيّرها .وقال عروة عنها :كان حراً .وقال ابنُ عباس :كان عبداً أسودَ يقال له :مغيث ،عبداً
لبنى فلن ،كأنى أنظر إليه يطوف وراءها فى سكك المدينة ،وكل هذا فى الصحيح .وفى سنن أبى
ل ال صلى ال عليه وسلم وقال
داود عن عروة عن عائشة :كان عبداً لل أبى أحمد ،فخيّرها رسو ُ
لها(( :إنْ َق ُر َبكِ ،فَلَ خيا َر َلكِ)).
وفى مسند أحمد ،عن عائشة رضى ال عنها ،أن بَريرة كانت تحتَ عبد ،فلما أعتقها ،قال
ش ْئتِ أنْ
ت هذا ال َعبْدِ ،وإن ِ
ح َ
ت أَنْ َت ْم ُكثِى تَ ْ
ش ْئ ِ
لها رسولُ ال صلى ال عليه وسلم(( :اخْتارِى فَإنْ ِ
تُفَارِقِيهِ)).
وقد روى فى ((الصحيح)) :أنه كان حراً.
ن عبداً ،وهذا الخب ُر رواه عن عائشة رضى ال عنها
ح الروايات ،وأكثرُها :أنه كا َ
وأص ّ
ثلثة :السود ،وعروةُ ،والقاسمُ ،أما السود ،فلم يختلفْ عنه عن عائشة أنه كان حراً ،وأما عروة،
فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان ،إحداها :أنه كان حراً ؛ والثانية :أنه كان عبداً ،وأما عبد
الرحمن بن القاسم ،فعنه روايتان صحيحتان ،إحداها :أنه كان حراً ،والثانية :الشك .قال داود بن
ف الروايةُ عن ابن عباس أنه كان عبداً.
مقاتل :ولم تختِل ِ
(يتبع)...
واتفق الفقها ُء على تخيير الم ِة إذا أُعتِقَت وزوجُها عبد ،واختلفوا إذا كان حراً ؛ @
فقال الشافعىّ ومالك وأحمد فى إحدى الروايتين عنه :ل يخيرَ ،وقال أبو حنيفة وأحمد فى الرواية
الثانية :تُخيّر.
وليست الروايتان مبنيتين على كون زوجها عبداً أو حراً ،بل على تحقيق
المناط فى إثبات الخيار لها ،وفيه ثلثةُ مآخذ للفقهاء ؛ أحدها :زوالُ الكفاءة ،وهو المعبّ ُر عنه
ت ناقص ،الثانى :أن عتقها أوجبَ للزوج ملكَ طلقة ثالثة عليها لم تكن مملوكة له
بقولهم :كملت تح َ
88
بالعقد ،وهذا مأخذُ أصحابِ أبى حنيفة ،وبنوا على أصلهم أن الطلقَ معتبرٌ بالنساء ل بالرجال،
الثالث :ملكُها نفسها ،ونحن نبين ما فى هذه.
المأخذ الول :وهو كمالُها تحت ناقص ،فهذا يرجع إلى أن الكفاءَة
خيّرتِ المرأةُ ،كما تخيّر إذا بان الزوجُ
معتبرةٌ فى الدوام ،كما هى معتبرة فى البتداء ،فإذا زالتُ ،
غيرَ كف ٍء لها ،وهذا ضعيف من وجهين.
أحدهما :أن شروطَ النكاح ل يُعتبر دوامُها واستمرارها ،وكذلك توابعه المقا ِرنَةُ لعقدة ل
يُشترط أن تكون توابعَ فى الدوام ،فإن رضى الزوجة غير المجبَرة شرط فى البتداء دونَ الدوامِ،
ح الزانية ،إنما يمنع
وكذلك الولىّ والشاهدانِ ،وكذلك مان ُع الحرام والعدة والزنى عند من يمنع نكا َ
ابتداء العقد دون استدامته ،فل يلزم مِن اشتراط الكفاءة ابتدا ُء اشتراط استمرارها ودوامها..
ث عيب موجبٍ للفسخ ،لم
ق الزوج ،أو حدو ِ
الثانى :أنه لو زالت الكفاءة فى أثناء النكاح بفس ِ
َي ْثبُت الخيا ُر على ظاهر المذهب ،وهو اختيارُ قدماء الصحاب ،ومذهب مالك .وأثبت القاضى
الخيارَ بالعيب الحا ِدثَ ،ويلزم إثباتُه بحدوث فسق الزوج ،وقال الشافعى :إن حدث بالزوج ،ثبت
الخيار ،وإن حدث بالزوجة ،فعلى قولين.
وأما المأخذُ الثانى وهو أن عتقها أوجب للزوج عليها مِلكَ طلقة ثالثة ،فمأخذٌ
ع مِلك
ن ثبوت الخيا ِر لها؟ وهل نصبَ الشار ُ
ى مناسبة بين ثبوت طلقة ثالثة ،وبي َ
ضعيف جداً ،فأ ّ
ن منه باثنتين فصارت ل تَبينُ إل
الطلقة الثالثة سببًا لملك الفسخ ،وما يُتوهم من أنها كانت تَبي ُ
ل يُفارِقَها ألبتة ،ويُمسكها حتى
بثلث ،وهو زيادةُ إمساك وحبس لم يقتضِهِ العقدُ فَاسِدٌ ،فإنه َي ْمِلكُ أ ّ
ك استدامة إمساكِها ،وعتقها ل يسُلبُه هذا
يُفرّق الموتُ بينهما ،والنكاحُ عقد على مدة العمر ،فهو َي ْمِل ُ
الملك ،فكيف يسلبه إياه ملكه عليها طلقةً ثالثة ،وهذا لو كان الطلق معتبراً بالنساء ،فكيف
ح أنه معتبر بمن هو بيده وإليه ،ومشروع فى جانبه.
والصحي ُ
وأما المأخ ُذ الثالث :وهو ملكُها نفسهَا ،فهو أرجح المآخ ِذ وأقربُها إلى أصول
الشرع ،وأبعدُها من التناقض ،وسر هذا المأخذ أن السيد عقدَ عليها بحكم الملك حيث كان مالكاً
ك الرقبة والمنافع للمعتق ،وهذا مقصوده وحكمته ،فإذا ملكت
لرقبتها ومنافعها ،والعتق يقتضى تملي َ
رقبتها ،ملكت بُضعها ومنافعها ،ومن جملتها منافِع البُضع ،فل يملك عليها إل باختيارها ،فخيّرها
ع بين أن تُقيم مع زوجها ،وبين أن تفسخَ نكاحه ،إذ قد ملكت منافع بُضعها ،وقد جاء فى
الشار ُ
ختَارى)).
سكِ فَا ْ
بعض طرق حديث بريرة ،أنه صلى ال عليه وسلم قال لهاَ (( :مَل ْكتِ نَفْ َ
89
فإن قيل :هذا ينت ِقضُ بما لو زوّجها ثم باعها ،فإن المشترى قد ملك رقبتها وبُضعها
ومنا ِفعَه ،ول تسلّطُونه على فسخ النكاح .قلنا ل َيرِدُ هذا نقضاً ،فإن البائع نقل إلى المشترى ما كان
مملوكاً له ،فصار المشترى خليفته ،هو لما زوّجها ،أخرج منفعة البُضع عن ملكه إلى الزوج ،ثم
نقلها إلى المشترى مسلوب ًة منفعة البُضع ،فصار كما لو آجر عبده مدة ،ثم باعه .فإن قيل :فهب أن
هذا يستقيم لكم فيما إذا باعها ،فهل قلتم ذلك إذا أعتقها ،وأنها ملكت نفسَها مسلوبة البُضع ،كما لو
ض عليكم هذا المأخذ؟
آجرها ،ثم أعتقها ،ولهذا ينتقِ ُ
قيل :الفرقُ بينهما :أن العتق فى تمليك العتيق رقبتَه ومنافعه أقوى من البيع ،ولهذا ينفذ فيما
لم يعتقه ويسرى فى حصة الشريك ،بخلف البيع ،فالعتق إسقاطُ ما كان السيد يملِك ُه من عتيقه،
وجعله له محرراً ،وذلك يقتضى إسقاط مُلكِ نفسه ومنافِعها ُكلّها .وإذا كان العتق يسرى في ملك
الغير المحض الذي ل حق له فيه البتة ،فكيف ل يسري إلى مُلكه الذى تعلّق به حقّ الزوج ،فإذا
ق الزوج
ك الذي ل حقّ للمعتق فيه ،فسريانُه إلى مُلك الذى يتعلق به ح ّ
سرى إلى نصيب الشري ِ
ض العدل والقياس الصحيح.
أولى وأحرى ،فهذا مح ُ
ق الزوج من هذه المنفعة بخلف الشريك ،فإنه يرجِ ُع إلى القيمة.
فإن قيل :فهذا فيه إبطال ح ّ
قيل :الزوج قد استوفى المنفعة بالوطء ،فطريانُ ما يُزيل دوامَها ل يُسقط له حقاً ،كما لو
خ به.
طرأ ما يُفسِدُ أو يفسخُه برضاع أو حدوث عيب ،أو زوالِ كفاءة عند من يفس ُ
فإن قيل :فما تقولون فيما رواه النسائى ،من حديث ابن َموْهَب ،عن القاسم بن
ت ذلك
محمد ،قال :كان لعائشة رضى ال عنها غلم وجارية ،قالت :فأردت أن أعتِقَهما ،فذكر ُ
لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال ((ابدَئى بالغُلَم َقبْلَ الجَا ِريَةَ)) .ولول أن التخيير يمنع إذا
كان الزوج حرًا لم يكن للبداءة بعتق الغلم فائدة ،فإذا بدات به ،عتقت تحت حر ،فل يكون لها
اختيار.
عبْدٍ
حتَ َ
ت تَ ْ
وفى سنن النسائى أيضاً :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال(( :أ ّيمَا َأمَ ٍة كَا َن ْ
خيَا ِر مَا لَ ْم يَطَأْهَا َزوْجُها)).
َف ُعتِ َقتَْ ،ف ِهىَ بِال ِ
قيل :أما الحديث الول :فقال أبو جعفر العقيلى وقد رواه :هذا خب ٌر ل يعرف إل بعبيد ال بن
ح لم يكن فيه حجة،
عبد الرحمن بن َموْهَب وهوضعيف .وقال ابن حزم :هو خبر ل يصح .ثم لو ص ّ
لنه ليس فيه أنهما كانا زوجين ،بل قال :كان لها عبدٌ وجارية .ثم لو كانا زوجين لم يكن فى أمره
ت الحر ،وليس فى الخبر أنه أمرها بالبتداء بالزوج
لها بعتق العبد أولً ما يُسقط خيا َر المعتقة تح َ
90
لهذا المعنى ،بل الظاهر أنه أمرها بأن تبتدىء بال ّذ َكرِ لفضل عتقه على النثى ،وأن عتق أنثيين
يقومُ مقامَ عتق َذ َكرٍ ،كما فى الحديث الصحيح مبيناً.
ضعّف ،لنه من رواية الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمرى
وأما الحديث الثانى :ف ُ
وهو مجهول .فإذا تقرر هذا ،وظهر حك ُم الشرع فى إثبات الخيار لها ،فقد روى المام أحمد
لمَةُ فهى بِالخِيا ِر مَا لَ ْم يَطَأْهَا ،إن شَاءتْ
عتِ َقتِ ا َ
بإسناده ،عن النبى صلى ال عليه وسلم ((إِذَا أُ ْ
ستَطِيعُ ِفرَاقَهُ)).ويُستفاد من هذا قضيتان:
ل تَ ْ
طئَها فَلَ خَيا َر لَها وَ َ
ن وَ ِ
فَارَ َقتْهُ ،وإِ ْ
إحداهما :أن خيارَها على التراخى ما لم ُت َم ّكنْ ُه مِن وَطئها ،وهذا مذهب مالك وأبى
حنيفة .وللشافعى ثلثةُ أقوال .هذا أحدُها .والثانى :أنه على الفور ؛ والثالث :أنه إلى ثلثة أيام.
الثانية :أنها إذا مكّنته من نفسها ،فوطئها ،سقط خيارُها ،وهذا إذا علمت
بالعتق وثبوتِ الخيار به ،فلو جهلتهما ،لم يسقط خيارُها بالتمكين من الوطء .وعن أحمد رواية
ثانية :أنها ل تُعذر بجهلها بملك الفسخ ،بل إذا علمت بالعتق ،ومكّنته مِن وطئها ،سقط خيارها ولو
لم تعلم أن لها الفسخ ،والرواية الولى أصح فإن عتق الزوج قبل أن تختار وقلنا :إنه ل خيار
للمعتقة تحت حر بطلَ خيارُها لمساواة الزوج لها ،وحصول الكفاءة قبل الفسخ .قال الشافعى فى
أحد قوليه وليس هو المنصور عند أصحابه :لها الفسخ لتقدّم ملك الخيار على العتق فل يبطله،
ب فى البيع والنكاح قبل الفسخ به ،وكما
س لزوال سبب الفسخ بالعتق ،وكما لو زال العي ُ
والوّل أقي ُ
لو زال العسار فى زمن ملك الزوجة الفسخَ به .وإذا قلنا :العلة ملكها نفسها ،فل أثر لذلك ،فإن
طلقها طلقاً رجعياً ،فعتقت فى عدتها ،فاختارت الفسخَ ،بطلت الرجعةُ ،وإن اختارت المقام معه،
صح ،وسقط اختيارُها للفسخ ،لن الرجعية كالزوجة.
وقال الشافعى وبعضُ أصحاب أحمد :ل يسقُط خيارُها إذا رضيت بالمقام دون الرجعة ،ولها أن
تختار نفسها بعد الرتجاع ،ول َيصِحّ اختيارُها فى زمن الطلق فإن الختيارَ فى زمن هى فيه
صائرة إلى بينوتة ،ممتنع فإذا راجعها ،صحّ حينئذ أن تختارَه وتُقيم معه ،لنها صارت زوجة،
وعمل الختيار عمله ،وتر ّتبَ أثرُه عليه .ونظيرُ هذا إذا ارت ّد زوجُ المة بعد الدخول ،ثم عتقت فى
زمن الرّدّة ،فعلى القول الول لها الخيار قبل إسلمه ،فإن اختارته ،ثم أسلم ،سقط ملكُها للفسخ،
وعلى قول الشافعى :ل َيصِحّ لها خيار قبل إسلمه ،لن العقد صائر إلى البطلن فإذا أسلم ،صحّ
خِيارُها.
فإن قيل :فما تقولون إذا طلقها قبل أن تفسخ ،هل يقع الطلق أم ل؟
91
قيل :نعم يقع ،لنها زوجة ؛ وقال بعضُ أصحاب أحمد وغيرهم :يُوقف الطلق ،فإن
فسخت ،تبينّا أنه لم يقع ،وإن اختارت زوجها تبينّا وقوعه .فإن قيل :فما حكم المهر إذا اختارت
الفسخ؟
قيل :إما أن تفسخ قبل الدخول أو بعده .فإن فسخت بعدَه ،لم يسقط المهر ،وهو لِسيدها سواء
فسخت أو أقامت ،وإن فسخت قبله ففيه قولن ،هما روايتان عن أحمد إحداهما :ل مهر ،لن الفرقة
من جهتها ،والثانية ،يجب نصفُه ،ويكون لسيدها ل لها.
فإن قيل :فما تقولون فى المعتَق نِصفُها ،هل لها خيار؟ قيل :فيه قولن ،وهما روايتان عن
أحمد ،فإن قلنا :ل خيا َر لها كزوج مدبّرة له ل يمِلك غيرها وقيمُتها مائة ،فعقد على مائتين مهراً،
ط المهرُ ،أو انتصف ،فلم تخرُجْ
ثم مات ،عتقت ،وَلم تمِلك الفسخَ قبل الدخول ،لنها لو ملكت ،سق َ
مِن الثلث ،فيرق بعضُها ،فيمتنِعُ الفسخُ قبل الدخول ،بخلف ما إذا لم تملكه ،فإنها تخرُج من الثلث،
فيعتق جميعُها.
فصل
ج ْعتِهِ)) فقالت :أتأمُرنى؟ فقال(( :ل ،إنّما َأنَا شافع))،
فى قوله صلى ال عليه وسلم(( :لو را َ
فقالت :ل حاجة لى فيه ،فيه ثلث قضايا.
إحداها :أن أمره على الوجوب ،لهذا فرّق بين أمره وشفاعته ،ول ريبَ أن امتثال
شفاعته من أعظم المستحبات.
ضبْ على بريرة ،ولم يُنكر عليها إذ لم
الثانية :أنه صلى ال عليه وسلم لم َي ْغ َ
تقبل شفاعته ،لن الشفاعة فى إسقاط المشفوع عنده حقه ،وذلك إليه ،إن شاء أسقطه ،وإن أبقاه
ن أمره.
فلذلك ل يحرُم عصيانُ شفاعته صلى ال عليه وسلم ،ويحرم عصيا ُ
الثالثة :أن اسم المراجعة فى لسان الشارع قد يكونُ مع زوال عقد
النكاح بالكلية ،فيكون ابتداءَ عقد ،وقد يكون مع تشعثه ،فيكون إمساكاً ،وقد سمّى سبحانه ابتداء
جعَا}
ن َي َترَا َ
عَل ْي ِهمَا أَ ْ
جنَاحَ َ
طلّ َقهَا فَلَ ُ
النكاح للمطلق ثلثًا بعد الزوج الثانى مُراجعتةً ،فقالَ { :فإِنْ َ
[البقرة ]230 :أى :إن طلقها الثانى ،فل جناح عليها ،وعلى الول أن يتراجعا نكاحاً مستأنفاً.
فصل
عَل ْيهَا
وفى أكله صلى ال عليه وسلم مِن اللحم الذى تُصدّقَ به على برَيرة ،وقالُ (( :هوَ َ
صَدَقَةٌ ولَنا هَ ِديّةٌ)) ،دليلٌ على جواز أكل الغنى ،وبنى هاشم ،وكل من تحرم عليه الصدقة مما يُهديه
92
إليه الفقير من الصدقة لختلف جهة المأكول ،ولنه قد بلغ محلّه وكذلك يجوزُ له أن يشتريَه منه
بماله .هذا إذا لم تكن صدقَة نفسه ،فإن كانت صدقَته ،لم يجز له أن يشتر َيهَا ،ول يَهبَها ،ول يقبلها
هديةً .كما نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عمر رضى ال عنه عن شِراء صدقته وقال(( :ل
ن أَعْطَاكَ ُه بِ ِدرْهَم)).
ش َترِه وإ ْ
تَ ْ
فصل
ل و َك ُثرَ وقضائه بصحة النكاح على ما مع الزوج
فى قضائه صلى ال عليه وسلم فى الصداق بما ق ّ
مِن القُرآن
ى صلى ال عليه
ن صَدَاقُ النب ّ
ثبت فى ((صحيح مسلم)) :عن عائشة رضى ال عنها :كا َ
وسلم لَزواجه ثنتى عشرة أوقية ونشّاً ،فذلك خمسمائة.
ل ال صلى ال عليه وسلم َنكَحَ شيئًا مِن نسائه،
عِلمْتُ رسو َ
ع َمرُ رضى ال عنه :ما َ
وقال ُ
ول َأ ْنكَحَ شيئًا مِن بناتِه على أكث َر مِن ثِنتى عشر َة أُوقية .قال الترمذى :حديث حسن صحيح .انتهى.
وفى ((صحيح البخارى)) :من حديث سهل بن سعد ،أن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال
لرجلَ (( :ت َزوّجْ َوَل ْو بِخَاتَ ٍم مِنْ حَدِيدٍ)).
وفى سنن أبى داود :مِن حديث جابر ،أن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال(( :مَنْ أعْطى فى
ستَحَلّ)).
صَداقٍ مِلءَ كفيه سَويقًا أ ْو تَمراً ،فَقَدِ ا ْ
ل ال صلى ال عليه
وفى الترمذى :أن امرأةً مِن بنى فَزارة تزوّجت على نعلينِ ،فقال رسو ُ
ك بنعلين))؟ قالت :نعم ،فأجازه .قال الترمذى :حديث حسن
ك ومَاِل ِ
سِت مِنْ نَفْ ِ
وسلم(( :رَضِي ِ
صحيح.
وفى مسند المام أحمد :من حديث عائشة رضىَ ال عنها ،عن النبىّ صلى ال عليه وسلم:
س ُرهُ َمؤُونَة)).
ح َب َركَ ًة َأيْ َ
ن أَعْظَمَ ال ّنكَا ِ
((إ ّ
ى صلى ال عليه وسلم ،فقالت :يا رسولَ ال،
وفى ((الصحيحين)) :أن امرأةً جاءت إلى النب ّ
جنِيهَا إن لم َيكُن َلكَ ِبهَا حَاجَةٌ،
ت نفسى لكَ ،فقامَت طويلً ،فقال رجل :يا رسول الَ ،زوّ ْ
إنى قد وهب ُ
ك مِنْ شَى ٍء ُتصْدِقُها إيّاهُ))؟ قال :ما عندى إل
عنْ َد َ
ل ال صلى ال عليه وسلمَ (( :فهَلْ ِ
فقالَ رسو ُ
ل إزَارَ َلكَ،
ت وَ َ
س َ
جلَ ْ
ط ْيتَها إزَا َركَ َ
ك إنْ أَعْ َ
ل ال صلى ال عليه وسلم(( :إ ّن َ
إزارى هذا ،فقال رسو ُ
شيْئاً)) ،قال :ل أجد شيئاً ،قال(( :فَا ْل َت ِمسْ َوَلوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ)) ،فالتمس فلم يَجِدْ شيئاً ،فقال
فَا ْل َت ِمسْ َ
93
ن ال ُقرْآنِ))؟ قال :نعم سور ُة كذا وسورةُ كذا
ل َم َعكَ شىء مِ َ
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم(( :هَ ْ
ن ال ُقرْآن)).
ك مِ َ
ج ُتكَها ِبمَا َم َع َ
ل ال صلى ال عليه وسلم(( :قَدْ َزوّ ْ
لِسور سماها ،فقال رسو ُ
ك ُيرَدّ ولكنّك
سَليْمٍ ،فقالت :والِّ يا َأبَا طلحة ،ما ِم ْثُل َ
وفى النسائى :أن أبا طلحة خطب أُمّ ُ
سلِم ،فَذاك َم ْهرِى ،وما أسألك غيرَه،
ل لى أن أتزوّجَك ،فإن تُ ْ
رجلٌ كافِر ،وأنا امرأةٌ مسلمة ،ول يَحِ ّ
ك َم ْهرَهَا .قال ثابت :فما سمعنا بامرأةٍ قَطّ كانت أكرمَ مهرًا من أمّ سُليم ،فدخل بها،
فأسلَمَ فكان ذَل َ
فولدت له.
ث أن الصداق ل يتقدّر أقلّه ،وأن قبض َة السويق وخاتمَ الحديد والنعلينِ
فتضمن هذا الحدي ُ
ل بها الزوجة.
َيصِحّ تسميتُها مهراً ،وتَحِ ّ
وتضمّن أن المُغالة فى المهر مكروهة فى النكاح ،وأنها مِن قلة بركته وعُسره.
وتضمّن أن المرأ ًة إذا َرضِيت بعلم الزوج ،وحِفظه للقرآن أو بعضه مِن مهرها ،جاز ذلك،
عتْقَها صداقَها وكان
جعَل السيدُ ِ
وكان ما يحصُل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صَداقها ،كما إذا َ
انتفاعُها بحريّتها ومُلكها لرقبتها هو صداقَها ،وهذا هو الذى اختَارته أمّ سليم من انتفاعها بإسلم
أبى طلحة ،وبذلِها نفسها له إن أسلم ،وهذا أحبّ إليها من المال الذى يب ُذلُه الزوجُ ،فإن الصداقَ
ع فى الصل حقًا للمرأة تنتفع به ،فإذا رضيت بالعلم والدّين ،وإسلم الزوج ،وقراءته للقرآن،
شرِ َ
ُ
كان هذا من أفضل المهور وأنفعها وأجلّها ،فما خل العقد عن مهر ،وأين الحكم بتقدير المهر بثلثة
دراهم ،أو عشرة من النص؟ والقياس إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصاً وقياساً ،وليس
هذا مستوياً بين هذه المرأة وبين الموهبة التى وهبت نفسها للنبى صلى ال عليه وسلم وهى خالصة
له من دون المؤمنين ،فإن تلك وهبت نفسها هبةً مجردة عن ولى وصداق ،بخلف ما نحن فيه ،فإنه
نكاح بولى وصداق ،وإن كان غير مالى ،فإن المرأة جعلته عوضاً عن المال لما يرجع إليها من
نفعه ،ولم تهب نفسها للزوج هِبةً مجرّ َدةً كهبة شىء من مالها بخلف الموهوبة التى خصّ ال بها
رسوله صلى ال عليه وسلم ،هذا مقتضى هذه الحاديث.
وقد خالف فى بعضه من قال :ل يكون الصداقُ إل مالً ،ول تكون منافع أخرى ،ول علمه،
ل مِن ثلثة دراهم
ول تعليمه صداقاً ،كقول أبى حنيفة وأحمد فى رواية عنه .ومن قال :ل يكون أق ّ
كمالك ،وعشرة دراهم كأبى حنيفة ،وفيه أقوال أخر شاذة ل دليل عليها من كتاب ،ول سنة ،ول
إجماع ،ول قياس ،ول قولِ صاحب.
94
ومن ادعى فى هذه الحاديث التى ذكرناها اختصاصَها بالنبى صلى ال عليه وسلم ،أو أنها
ل أهل المدينة على خلفها ،فدعوى ل يقومُ عليها دليلٌ .والصل يردّها ،وقد
منسوخة ،أو أن عم َ
زوّج سي ُد أهل المدينة من التابعين سعي ُد بن المسيب ابنتَه على درهمين ،ولم يُنكر عليه أحد ،بل عُدّ
ذلك فى مناقبه وفضائله ،وقد تزوّج عبد الرحمن بن عوف على صداق خمسة دراهم ،وأقرّه النبى
صلى ال عليه وسلم ،ول سبيل إلى إثبات المقادير إل من جهة صاحب الشرع.
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم ،وخلفائه فى أحد الزوجين يجد بصاحبه برصًا أو جنونًا أو جذاماً،
عنّيناً
أو يكون الزوج ِ
ل ال صلى
فى ((مسند أحمد)) :من حديث يزيد بن كعب بن عُجرة رضى ال عنه ،أن رسو َ
عَل ْيهَاَ ،و َوضَ َع ثوبَه ،و َقعَ َد على الفِراش ،أبصَرَ
ج امرأ ًة من بنى غِفَار ،فلما َدخَلَ َ
ال عليه وسلم تزوّ َ
ك ِثيَا َبكِ ))،ولم يأخذ مما آتاها شيئاً.
علَي ِ
ن ال ِفرَاشِ ،ثم قال(( :خُذِى َ
حهَا بياضاً ؛ فامّاز عَ ِ
ِبكَشْ ِ
ن َأوْ جُذامٌ أ ْو َبرَصُ،
جنُو ُ
وفى ((الموطأ)) :عن عمر أنه قالَ :أيّما ا ْم َراَ ٍة غرّ بها رجُلٌ ،بِها ُ
غ ّرهُ)).
ق الرّجُلِ عَلى مَنْ َ
ب ِم ْنهَا ،وصَدَا ُ
َفَلهَا ال َم ْهرُ بما أصَا َ
ق بينَهما،
وفى لفظ آخر(( :قضَى عمر فى ال َبرْصاء ،والجذماء ،والمجنونة ،إذا دخَل بها َفرّ َ
والصّداقُ لها بمَسِيسِه إياها ،وهو له على َوِليّها))
وفى سنن أبى داود :مِن حديث عِكرمة ،عن ابن عباس رضى ال عنهما :طلّق عب ُد يزيد أبو
ن ُم ِز ْينَةَ ،فجاءت إلى النبىّ صلى ال عليه وسلم فقالت :ما
ح امرأ ًة مِ ْ
رُكانة زوجتَه أ ّم رُكانة ،و َنكَ َ
ن َرأْسِها ،فَ َفرّق بينى وبينَه ،فأخذت النبىّ
ش ْع َرةٍ أَخَ َذتْها مِ ْ
ش ْع َر ُة لِ َ
ل كَما ُت ْغنِى ه ِذ ِه ال ّ
عنّى إ ّ
ُي ْغنِى َ
طلّقْها)) ،ففعل،
ح ِميّةُ ،فذكر الحديثَ .وفيه :أنه صلى ال عليه وسلم قال له (( َ
صلى ال عليه وسلم َ
عِلمْتُ،
ثم قال(( :رَاجِع ا ْم َرَأ ُتكَ أُ ّم ُركَانَةَ)) ،فقال :إنى طلقتُها ثلثاً يا رَسُولَ الِّ ،قال(( :قَدْ َ
ن ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق.]1 :
طلّقُوهُ ّ
طلّ ْقتُمُ النّسَاءَ فَ َ
ج ْعهَا)) ،وتل{ :يََأ ّيهَا ال ّن ِبىّ إِذَا َ
ارْ ِ
علّة لهذا الحديث إل رواي ُة ابن جُريج له عن بعض بنى أبى رافع ،وهو مجهول ،ولكن
ول ِ
هو تابعى ،وابنُ جريج من الئمة الثقات العدولِ ،وروايةُ العدل عن غيره تعديلٌ له ما لم يُعلم فيه
جرحٌ ،ولم يكن الكذبُ ظاهراً فى التابعين ،ول سيما التابعين مِن أهل المدينة ،ول سيما موالى
لّ صلى ال عليه وسلم ،ول سيما مثل هذه السنة التى تشتد حاج ُة النّاس إليها ل يُظن بابن
رسولِ ا ِ
جريج أنه حملها عن كذّاب ،ول عن غي ِر ثقة عنده ،ولم يُبيّنْ حاله.
95
وجاء التفريقُ بال ُعنّ ِة عن عمر ،وعثمانَ ،وعبدِ ال بن مسعود ،وسمر َة بنِ جندب،
ومعاويةَ بن أبى سفيان ،والحارث بن عبد ال بن أبى ربيعة ،والمغيرة بن شعبة ،لكن عمر ،وابن
جلَه
جلُوه سنة ،وعثمان ومعاوية وسمرة لم يؤجّلوه ،والحارث بن عبد ال أ ّ
مسعود ،والمغيرة ،أ ّ
عشرة أشهر.
وذكر سعي ُد بن منصور :حدثنا هُشيم ،أنبأنا عبدُ ال بن عوف ،عن ابن
سعَاية ،فتزوّج امرأةً وكان
ض ال ّ
سيرين أن عم َر بنَ الخطاب رضى ال عنه بعثَ رجلً على بع ِ
عِلمْها ،ثم خيّرها.
عَل ْمتَها أ ّنكَ عَقِيمُ؟ قال :ل ،قال :فانطلق فأ ْ
عقيماً ،فقال له عمرُ :أ ْ
وأجّلَ مجنوناً سنة ،فإن أفاق وإل فرّق بينه وبين امرأته.
ح بعيب ألبتة،
فاختلف الفقهاءُ فى ذلك ،فقال داود ،وابنُ حزم ،ومَنْ وافقهما :ل يُفْسَخْ النكا ُ
ب وال ُعنّةِ خاصة .وقال الشافعى ومالك :يُفْسَخُ بالجنونِ وال َبرَصِ،
ج ّ
وقال أبو حنيفة :ل يفسخ إل بال َ
ب وال ُعنّةِ خاصة ،وزاد المام أحمد عليهما :أن تكونَ المرأة فتقاءَ منخرِقة ما
ج ّ
والجُذامِ وال َقرَن ،وال َ
ن الفرج والفم ،وانخراقِ مخرجى البول والمنى فى الفرج ،والقروح
بينَ السبيلين ،ولصحابه فى َنتَ ِ
ق البول ،والنجو ،والخصى وهو قطعُ
السيالة فيه ،والبواسير ،والنّاصور ،والستحاضة ،واستطل ِ
ل البيضتين ،والوجء وهو رضّهما ،وكونُ أحدهما خُنثى مشكلً ،والعيبِ
البيضتينِ ،والسّل وَهو سَ ّ
الذى بصاحبه مثلُه مِن العيوب السبعة ،والعيبِ الحادث بعد العقد ،وجهان.
ب تُردّ به الجاري ُة فى البيع وأكثرُهم
وذهب بعضُ أصحابِ الشافعى إلى ر ّد المرأة بكُلّ عي ٍ
ظ ّنتَه ،ول مَنْ قاله .وممن حكاه :أبو عاصم العبادانى فى كتاب طبقات
ل َي ْع ِرفُ هذا الوجهَ ول م ِ
أصحاب الشافعى ،وهذا القولُ هو القياس ،أو قولُ ابن حزم ومن وافقه.
وأما القتصارُ على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساو لها ،فل
وجه له ،فالعمى والخرس والطرش ،وكونُها مقطوعة اليدين أو الرجلين ،أو إحداهُما ،أو كونُ
ف للدين،
الرجل كذلك من أعظم المنفّرات ،والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش ،وهو مُنا ٍ
والطلق إنما ينصرف إلى السلمة ،فهو كالمشروط عرفاً ،وقد قال أمير المؤمنين عمر بن
خ ِبرْهَا أ ّنكَ عَقِيمٌ وخ ّيرْهَا .فماذا يقول
الخطاب رضى ال عنه لمن تزوج امرأة وهُو ل يولد له :أَ ْ
رضى ال عنه فى العيوب التى هذا عندها كمالٌ ل نقص؟
ل عيب ين ِفرُ الزوجُ الخر منه ،ول يحصُل به مقصودُ النكاح مِن الرحمة
والقياس :أن كُ ّ
ط المشترطة فى النكاح أولى بالوفا ِء مِن
والمودّة يُوجبُ الخيارَ ،وهو أولى مِن البيع ،كما أن الشرو َ
96
ن به ،ومن تدبّر مقاصد
غبِ َ
غ ّر به و ُ
شروط البيع ،وما ألزم الُّ ورسولُه مغروراً قطّ ،ول مغبوباً بما ُ
الشرع فى مصادره وموارِده وعدله وحِكمته ،وما اشتمل عليه مِن المصالح لم يخفَ عليه رجحانُ
هذا القول ،وقربُه من قواعد الشريعة.
جتْ
وقد روى يحيى بن سعيد النصارى ،عن ابن المسيب قال :قال عمر :أيّما امرأ ٍة ُزوّ َ
وبها جنونٌ أو جُذام أو َبرَصٌ فدخل بها ثم اطّلع على ذلك ،فلها مهرها بمسيسه إياها ،وعلى الولى
الصّداقُ بما دلس كما غرّه.
ورَدّ هذا بأن ابن المسيّب لم يسمع من عمر من باب الهذيان البارد المخالف لجماع أهل
الحديث قاطبة ،قال المام أحمد :إذا لم يُقبل سعيد بن المسيب عن عمر ،فمن يقبل ،وأئمة السلم
ل ال صلى ال عليه وسلم :فكيف بروايته
وجمهورهُم يحتجون بقول سعيد بن المسيب :قال رسو ُ
ع َم َر رضى ال عنه ،وكان عبد ال بن عمر يرسل إلى سعيد يسأله عن قضايا عمر ،فيُفتى
عن ُ
ل معتبر فى رواية
ط من أهل عصره ،ول مَنْ بعدهم ممن له فى السلم قو ٌ
بها ،ولم يطعن أحدٌ ق ّ
سعيد بن المسيب عن عمر ،ول عبرة بغيرهم.
وروى الشعبى عن على :أيّما امرأةٍ نكحت وبها َبرَصٌ أو جُنون أو جُذام أو َقرَنٌ فزوجُها
بالخيار ما لم يمسها ،إن شاء أمسك ،وإن شاء طلق ،وإن مسّها فلها المهرُ بما استحل من فرجها.
ع َمرَ ،قال:
وقال وكيع :عن سفيان الثورى ،عن يحيى بن سعيد ،عن سعيد بن المسّيب ،عن ُ
ن غرّه .وهذا يدل على
إذا تزوّجها برصاء ،أو عميَاء ،فدخل بها ،فلها الصداقُ ،ويرج ُع به على مَ ْ
أن عمر لم يذكر تلك العيوب المتقدّمة على وجه الختصاص والحصر دونَ ما عداها ،وكذلك حكم
قاضى السلم حقًا الذى يُضرب المثلُ بعلمِه ودِينه وحُكمه :شريحٍ قال عبد الرزاق :عن معمر،
ش َريْح ،فقال :إن هؤلء قالوا لى :إنا نُزوّجُك بأحْسَنِ
ل إلى ُ
عن أيوب ،عن ابن سيرين ،خاصم رج ٌ
الناسِ ،فجاؤونى بامرأة عمشاءَ ،فقال شُريح :إن كان دلّس لك بعيب لم يَجُز ،فتأمل هذا القضاء،
وقوله :إن كان دلّس لك بعيب ،كيف يقتضى أن كل عيب دلست به المرأةُ ،فللزوج الردّ به؟ وقال
ى يُردّ النكاح مِن كل داءٍ عُضالٍ.
الزهر ّ
ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف ،علم أنهم لم يخصّوا الردّ بعيب دون عيب إل
رواية رُويت عن عمر رضى ال عنه :ل تُردّ النساء إل من العُيوب الربعة :الجنون ،والجذام،
والبرص ،والداء فى الفرج .وهذه الرواية ل نعلم لها إسنادًا أكثر من أصبغ عن ابن وهب ،عن
ع َمرَ وعَلى .رُوى عن ابن عباسِ ذلك بإسناد متصل ،ذكره سفيان ،عن عمرو بن دينار عنه .هذا
ُ
97
ق الزوجُ ،وأما إذا اشترط السلمةَ ،أو شرطَ الجمَال ،فبانت شوهاء ،أو شرطَها شابةً
ُكلّه إذا أطل َ
حديث َة السن ،فبانت عجوزاً شمطاء ،أو شرطها بيضاءَ ،فبانت سوداء ،أو بِكراً فبانت ثيباً ،فله
الفسخُ فى ذلك ُكلّه.
غرْمٌ على وليها إن
فإن كان قبلَ الدخول ،فل مهرَ لها ،وإن كان بعدَه ،فلها المهرُ ،وهو ُ
كان غرّه ،وإن كانت هى الغارّة ،سقط مهرُها أو رَجَ َع عليها به إن كانت قبضته ،ونص على هذا
أحمد فى إحدى الروايتين عنه ،وهو أقيسُهما وأولهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط.
وقال أصحابُه :إذا شرطت فيه صفةً ،فبان بخلفها ،فل خيار لَها إل فى شرط الحفرية إذا
بان عبداً ،فلها الخيارُ ،وفى شرط النسب إذا بان بخلفه وجهان ،والذى يقتضيه مذهبُه وقواعده،
أنه ل فرق بين اشتراطه واشتراطها ،بل إثباتُ الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى ،لنها ل
خ مع تمكن ِه من الفراق بغيره ،فلن يجوزَ لها الفسخُ
تتمكّنُ من المفارقة بالطلق ،فإذا جاز له الفس ُ
مع عدم تمكّنها أولى ،وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر الزوجُ ذا صناعة دنيئة ل تشينُه فى دِينه ول فى
عرضه ،وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به ،فإذا شرطته شاباً جميلً صحيحاً فبان شيخاً مشوهاً
أعمى أطرش أخرس أسود ،فكيف تلزم به ،وتمنع من الفسخ؟ هذا فى غاية المتناع والتناقض،
ل التوفيق.
والبعدِ عن القياس ،وقواعد الشرع ،وبا ّ
وكيف يمكّن أح ُد الزوجين من الفسخ بقدر العدسَ ِة من ال َبرَصِ ،ول يُمكّن منه بالجرب
المستحكم المتمكّن وهو أش ّد إعدا َء من ذلك البرص اليسير وكذلك غيرُه مِن أنواع الداء العُضال؟
وإذا كان النبىّ صلى ال عليه وسلم حرّم على البائع كِتمانَ عيب سلعته ،وحرّم على مَنْ
علمه أن يك ُتمَه مِن المشترى ،فكيف بالعيوب فى النكاح ،وقد قال النبىّ صلى ال عليه وسلم لفاطمة
ل لَهُ ،وأمّا
ص ْعلُوكٌ ل مَا َ
بنتِ قيس حين استشارته فى نكاح معاوية ،أو أبى الجهم(( :أمّا ُمعَا ِويَةَُ ،ف ُ
ن العيب فى النكاح أولى وأوجب ،فكيف يكون
عصَاهُ عَنْ عَاتِقِه)) ،ف ُعلِمَ أن بيا َ
جهْمِ ،فَل َيضَعُ َ
أبُو َ
كتمانُه وتدليسُه وال ِغشّ الحرَامُ به سببًا للزومه ،وجعل ذا العيب غُلً لزماً فى عُنق صاحبه مع شِدة
نُفرته عنه ،ول سيما مع شرط السلمة منه ،وشرطِ خلفه ،وهذا مما يُعلم يقينًا أن تصرفات
ل أعلم.
الشريعة وقواعدَها وأحكامَها تأباه وا ّ
ى عيبٍ
وقد ذهب أبو محمد ابن حزم إلى أن الزوجَ إذا شرط السلمةَ مِن العيوب ،فوجِ َد أ ّ
كان ،فالنكاح باطل من أصله غير منعقد ،ول خيار له فيه ،ول إجازة ول نفقة ،ول ميراث .قال:
98
لَن التى أدخلت عليه غير التى تزوج ،إذ السالمةُ غي ُر المعيبة بل شك ،فإذا لم يتزوجها ،فل
زوجيةَ بينهما.
فصل
صلّى ال عليه وسلم فى خِ ْدمَ ِة المرأةِ لزوجها
فى حُكم النبىّ َ
ى صلى ال عليه وسلم بين على بن أبى طالب
قال ابنُ حبيب فى ((الواضحة)) :حكم النب ّ
رضى ال عنه ،وبين زوجته فاطمة رضى ال عنها حين اشتكيا إليه الخِدمة ،فحكم على فاطمة
بالخدمة الباطنة خدمة البيت ،وحكم على عليّ بالخدمة الظاهرة ،ثم قال ابنُ حبيب :والخدمة
س البيت ،واستقا ُء الماء ،وعمل البيت كلّه.
الباطنة :العجينُ ،والطبخُ ،والفرشُ ،وكن ُ
ى صلى ال عليه وسلم تشكُو إليه ما
ت النب ّ
فى ((الصحيحين)) :أن فاطمة رضى ال عنها أت ِ
َتلْقى فى يَ َد ْيهَا مِن الرّحى ،وتسألُه خادماً فلم تَجِدْه ،فذكرت ذلك لِعائشة رضى ال عنها ،فلما جاء
ج َعنَا ،فذهبنا نقومُ ،فقال:
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم أخبرتْه .قال على :فجاءنا وقد أخذنا َمضَا ِ
خ ْيرٌ
ل أ ُدّل ُكمَا عَلى مَا ُهوَ َ
(( َمكَان ُكمَا)) ،فجاء فقعَ َد بي َننَا حتى وجدت َبرْدَ قَ َد َميْ ِه على بطْنى ،فقال(( :أَ َ
حمَدا ثلثًا وثلثينَ ،و َكبّرا أربعاً
سبّحا ال ثَلثًَا وثَلثِينَ ،وا ْ
ج َعكُما فَ َ
َل ُكمَا ِممّا سََأ ْل ُتمَا ،إذا أَخَ ْذتُما َمضَا ِ
علّى :فما تركتُها َبعْدُ ،قِيلَ :ول ليل َة صفين؟ قال :ول ليلة
وثلثين ،فهو خير لكما من خادِم .قال َ
صِفّين)).
س و ُك ْنتُ
ت ُكلّه ،وكان لَه َف َر ٌ
وصحّ عن أسماء أنها قالت :كنت أخدِ ُم ال ّز َب ْيرَ خِ ْدمَ َة ال َب ْي ِ
عَليْهِ.
ش لَهُ ،وأَقُومُ َ
أَسُوسُه ،و ُك ْنتُ أَحْت ّ
علَى
خ ِرزُ ال ّد ْل َو و َتعْجِنُ ،و َتنْقُلُ النّوى َ
وصحّ عنها أنها كانت َت ْعِلفُ فرسَه ،وتَسْقِى الماءَ ،وتَ ْ
علَى ُثُلثَى َفرْسَخ.
ض لَهُ َ
سهَا مِنْ أَر ٍ
َرأْ ِ
خَلفِ خِدمَتها له فى مصالح البيت،
فاختلف الفقهاءُ فى ذلك ،فأوجب طائف ٌة مِن السّلفِ وال َ
وقال أبو ثور :عليها أن تَخْدِمَ زوجها فى كل شىء ،ومنعت طائفةً وجوبَ خدمته عليها فى شىء،
وممن ذهب إلى ذلك مالك ،والشافعى ،وأبو حنيفة ،وأهلُ الظاهر ،قالوا :لن عقدَ النكاح إنما
ل على التطوّع
اقتضى الستمتاع ،ل الستخدام وبذل المنافع ،قالوا :والحاديث المذكورة إنما تد ّ
ومكارِمِ الخلق ،فأين الوجوبُ منها؟
واحتج من أوجب الخدمة ،بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم ال سبحانه بكلمه ،وأما
ترفي ُه المرأةِ ،وخدم ُة الزوج ،وكنسُه ،وطحنُه ،وعجنُه ،وغسيلُه ،وفرشُه ،وقيامُه بخدمة البيت،
99
ن ِمثْلُ الّذِى عَليْهنّ بِال َم ْعرُوفِ} [البقرة ]228 :وقال{:الرّجَالُ
ن المنكر ،والّ تعالى يقول{:وَلهُ ّ
َفمِ َ
َقوّامُونَ عَلى النّسَاءِ} [النساء ]34 :وإذا لم تخ ِدمْه المرأةُ ،بل يكون هو الخادِمَ لها ،فهى ال َقوّامَةُ
عليه.
ل مِن الزوجين يقضى وطرَه مِن صاحبه فإنما
وأيضاً :فإن المهر فى مقابلة البُضع ،وكُ ّ
أوجبَ ال سبحانه نفقتَها وكُسوتها ومسكنَها فى مقابلة استمتاعه بها وخدمتها ،وما جرت به عادةُ
الزواج.
ل على العرف ،والعُرفُ خدم ُة المرأة ،وقيامُها بمصالح
وأيضاً فإن العقود المطلقة إنما ُت َنزّ ُ
البيت الداخلة ،وقولُهم :إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعاً وإحسانًا يردّه أن فاطمة كانت تشتكى
ل لعلتى :ل خِدمة عليها ،وإنما هى عليك ،وهو صلى ال عليه وسلم ل
ما تلقى مِن الخِدمة ،فلم يَقُ ْ
يُحابى فى الحكم أحداً ،ولما رأى أسماء والعلفُ على رأسها ،والزبي ُر معه ،يقل له :ل خِدمةَ عليها،
وأن هذا ظلمٌ لها ،بل أقرّه على استخدامها ،وأقرّ سا ِئرَ أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه
بأن منهن الكارِهَة والراضية ،هذا أمر ل ريب فيه.
ح التفريقُ بين شريفة ودنيئة ،وفقير ٍة وغنية ،فهذه أشرفُ نساء العالمين كانت تَخْدِمُ
ول َيصِ ّ
ش ِكهَا ،وقد سمّى النبىّ صلى ال عليه
زوجها ،وجاءته صلى ال عليه وسلم تشكُو إليه الخدمة ،فلم يُ ْ
عنْ َدكُم)).
لّ فى النّساء ،فِإ ّنهُنّ عَوانٍ ِ
وسلم فى الحديث الصحيح المرأة عانيَةُ ،فقال(( :اتّقُوا ا َ
والعانى :السير ،ومرتبة السير خدم ُة من هو تحت يده ،ول ريبَ أن النكاح نوعٌ من الرّق ،كما
ض السلف :النكاح رِق ،فلينظر أحدُكم عند من ُيرِقّ كريمته ،ول يخفى على المنصف
قال بع ُ
الراجحُ من المذهبين ،والقوى من الدليلين.
ل ال صلى ال عليه وسلم َبيْنَ الزوجين يَقَعُ الشّقَاقُ بينهما
حكْمُ رسو ِ
ُ
روى أبو داود فى ((سننه)) :من حديث عائشة رضى ال عنها ،أن حبيب َة بنتَ سهل كانت
ت النبىّ صلى ال عليه وسلم بعدَ
س َر بعضَها ،فَأ َت ِ
عند ثابت بنِ قيس بن شمّاس ،فضربها ،فكَ َ
ض مَالِها وفَارِقْها)) ،فقال :ويصلُح
صبْحِ ،فدعا النبىّ صلى ال عليه وسلم ثابتاً ،فقال(( :خُ ْذ َبعْ َ
ال ّ
ى صلى ال
ذلك يا رسولَ ال؟ قال(( :نعم)) ،قال :فإنى أَصدقتُها حَديقتَينِ ،وهُما بيدها ،فقال النب ّ
عليه وسلم(( :خُذْهُما وفَارِقْها)) ،فَ َفعَل.
100
ق َب ْينِهمَا
ق بينهما بقوله تعالىَ {:وإِنْ خِ ْفتُمْ شِقَا َ
وقد حكم ال تعالى بين الزوجين يق ُع الشّقا ُ
علِيماً خَبيراً}
لّ كَانَ َ
لّ َب ْي َن ُهمَا إنّ ا َ
ن ُيرِيدَا ِإصْلَحًا ُيوَفّقِ ا ُ
ن أ ْهِلهَا إِ ْ
حكَمًا مِ ْ
ن أ ْهلِهِ وَ َ
حكَمًا مِ ْ
فَا ْب َعثْوا َ
[النساء.]35 :
حكَمين :هل هُما حاكمان ،أو وكيلن؟ على قولين.
خَلفُ فى ال َ
وقد اختلف السلفُ وال َ
أحدهما :أنهما وكيلن ،وهو قولُ أبى حنيفة ،والشافعى فى قول ،وأحمد فى رواية.
ل أهلِ المدينة ،ومالك ،وأحمد فى الرواية الخرى،
والثانى :أنهما حاكمان ،وهذا قو ُ
والشافعى فى القول الخر ،وهذا هو الصحيح.
(يتبع)...
ب كُلّ العجب ممن يقول :هما وكيلن ل حاكمان ،والّ تعالى قد نصبهما
والعج ُ @
حكَمين ،وجعل نصَبهما إلى غير الزوجين ،ولو كانا وكيلين ،لقال :فليبعث وكيلً مِن أهله ،ولتبعث
َ
وكيلً من أهلها.
وأيضاً فلو كانا وكيلين ،لم يختصا بأن يكونا مِن الهل.
حكْمَ إليهما فقال{ :إن يُريدَا ِإصْلحًا ُيوَفّقِ ال َب ْي َن ُهمَا} [النساء]35 :
وأيضاً فإنه جعل ال ُ
والوكيلن ل إرادة لهما ،إنما يتصرّفان بإرادة م َوكّليهما.
وأيضاً فإن الوكيل ل يُسمى حَكمًا فى لغة القرآن ،ول فى لسان الشارع ،ول فى العُرف
العام ول الخاص.
حكْ ِم واللزام ،وليس للوكيل شىء من ذلك.
ن له ولية ال ُ
حكَمُ مَ ْ
وأيضاً فال َ
حكَم أبل ُغ مِن حاكم ،لنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت ،ول خلف
وأيضاً فإن ال َ
بين أهل العربية فى ذلك ،فإذا كان اسمُ الحاكم ل يصدُق على الوكيل المحض ،فكيف بما هو أبلغُ
منه.
وأيضاً فإنه سبحانه خاطب بذلك غيرَ الزوجين ،وكيف َيصِحّ أن يُوكّل عن الرجل والمرأة
ق َب ْي ِن ِهمَا} [النساء ]35 :فمروهما أن
ج إلى تقدير الية هكذا{:وإنْ خِ ْفتُمْ شِقَا َ
غيرَهما ،وهذا يُحوِ ُ
ل من أهلها ،ومعلومٌ ُبعْدُ لفظِ الية ومعناها عن هذا التقدير،
ل من أهله ووكي ً
يُوكّل وكيلين :وكي ً
ل عليه بوجه ،بل هى دالة على خلفه ،وهذا بحمد ال واضح.
وأنها ل تد ّ
ح َك َميْنِ بين عقيل بن أبى طالب وامرأته فاطمةَ
ن بنُ عفان عبد ال بنَ عباس ومعاويةَ َ
وبعث عثما ُ
بنت عُتبة بن ربيعة ،فقيل لهما :إن رأيتُما أن تُ َفرّقا فرقتما.
101
عَل ْيكُمَا إن رأيتُما أن تفرّقا،
ن بين الزوجينَ :
ح عن على بن أبى طالب أنه قال لِلح َك َميْ ِ
وص ّ
ج َمعَا ،جمعتُما.
فرّقتما ،وإن رأي ُتمَا أن تَ ْ
فهذا عثمانُ ،وعلىّ ،وابنُ عباس ،ومعاوية ،جعلوا الحكم إلى الحكمين ،ول يُعرف لهم من
ل أعلم.
الصحابة مخالف ،وإنما يُعرف الخلف بين التابعين فمن بعدهم .وا ّ
ض وغيره،
ن على توكيل الزوج فى الفُرقة بعو ٍ
وإذا قلنا :إنهما وكيلن ،فهل يُجبر الزوجا ِ
وتوكيلِ الزوجة فى بذل ال ِعوَضِ ،أو ل يُجبران؟ على روايتين ،فإن قلنا :يجبران ،فلم يوكل ،جعل
الحاك ُم ذلك إلى الحكمين بغير رضى الزوجين وإن قلنا :إنهما حكمان ،لم يحتج إلى رضى
الزوجين.
وعلى هذا النزاع ينبنى ما لو غاب الزوجان أو أحدُهما ،فإن قيل :إنهما وكيلن لم ينقطع
نظرُ الحكمين ،وإن قيل :حكمان ،انقطع نظرهُما لعدم الحكم على الغائب ،وقيل :يبقى نظرهما على
القولين لنهما يتطرفان لحظهما ،فهما كالناظرين .وإن جُنّ الزوجانِ ،انقطع نظرُ الحكمين ،إن
ع الموكلين ،ولم ينقطع إن قيل :إنهما حكمان ،لن الحاكم يلى على
قيل :إنهما وكيلن ،لنهما فر ُ
المجنون ،وقيل :ينقطع أيضاً لنهما منصوبان عنهما ،فكأنهما وكيلنِ ،ول ريبَ أنهما حكمان
فيهما شائبة الوكالة ،ووكيلن منصوبان للحكم ،فمِن العلماء من رجّح جانب الحكم ،ومنهم من
رجح جانب الوكالة ،ومنهم من اعتبر المرين.
حُكم رسول ال صلى ال عليه وسلم في الخُلع
فى صحيح البخارى :عن ابن عباس رضى ال عنه ،أن امرأة ثابت بن قيس بن شمّاس،
خلُقٍ ،ول
ت بنُ قيس ما أَعِيبُ عليه فى ُ
ى صلى ال عليه وسلم فقالت :يا رسولَ ال ،ثاب ُ
َأ َتتِ ال ّن ِب ّ
عَليْهِ حَدِي َقتَه؟))
ل ال صلى ال عليه وسلمَ (( :ترُدّين َ
دِين ،وَل ِكنّى أكُرهُ الكُ ْفرَ فى الِسْلمِ ،فقال رسو ُ
طلِيقَةً)).
طلّ ْقهَا تَ ْ
قالت :نعم ،قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم(( :ا ُقبَل الحَديقَ َة و َ
سرَ
ض َربَ امرأته َفكَ َ
ت ُم َعوّذ ،أن ثابتَ بن قيس بن شماس َ
وفى سنن النسائى ،عن ال ّر َبيّع ِب ْن ِ
ل ال صلى ال عليه وسلم،
يدها ،وهى جميلة بنت عبد ال بن أبى ،فأتى أخوها يشتكيه إلى رسو ِ
ل ال صلى ال عليه
سبِيلَها)) ،قال :نعم ،فأمرها رسو ُ
عَل ْيكَ وخَلّ َ
فأرسل إليه ،فقال(( :خُذْ الذى َلهَا َ
ص حيض ًة وَاحِ َدةً وتلحق بأهلها.
وسلم أن تتربّ َ
ت بن قيسِ بن شمّاس اختلعت من زوجها،
ن امرأة ثَاب ِ
وفى سنن أبى داود :عن ابن عباس ،أ ّ
ح ْيضَة.
فأمرها النبىّ صلى ال عليه وسلم أن تعتدّ َ
102
عَليْهِ حَدِي َقتَهُ
ى صلى ال عليه وسلمَ(( :أ َترُدّين َ
وفى سنن الدارقطنى فى هذه القصة :فقال النب ّ
الّتى أَعْطَاكِ))؟ قالتَ :نعَ ْم َوزِيادَة ،فقال النبىّ صلى ال عليه وسلمَ(( :أمّا الزّيا َدةُ ،فَل ولكِنْ
حَدِي َقتَهُ)) ،قالت :نعم ،فأخذ مالَه ،وخلّى سبيلها ،فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال :قد قبلتُ قضاءَ
رسولِ ال صلى ال عليه وسلم .قال الدارقطنى :إسناده صحيح.
فتضمّن هذا الحكم النبوى عدة أحكام.
ل َلكُ ْم أَنْ تَ ْأخُذُوا ِممّا
ل يَحِ ّ
ل عليه القرآن ،قال تعالى{:وَ َ
خلْع كما د ّ
أحدُها :جوازُ ال ُ
عَل ْي ِهمَا
جنَاحَ َ
ل يُقِيمَا حُدُودَ ال فَل ُ
ل يُقِيما حُدُودَ الِّ فَإِنْ خِ ْفتُ ْم أَنْ َ
ن يَخَافَا أَنْ َ
ل أَ ْ
شيْئاً إ ّ
آ َت ْي ُتمُوهُنّ َ
ت بهِ} [البقرة.]229 :
فِيمَا ا ْفتَ َد ْ
ومنع الخلعَ طائفةٌ شَاذّة من الناس خالفتِ النصّ والجماعَ.
وفى الية دليل على جوازه مطلقاً بإذن السلطان وغيره ،ومنعه طائفة بدون إذنه،
والئمة الربعة والجمهو ُر على خلفه.
وفى الية دليل على حصول البينونة به ،لنه سبحانه سمّاه فدية ،ولو كان رجعيًا كما قاله
عَل ْي ِهمَا
جنَاحَ َ
ض الناسِ لم يحصل للمرأة الفتدا ُء من الزوج بما بذلته له ،ودلّ قولُه سبحانه{ :فَلَ ُ
بع ُ
ت بِه} [البقرة ]229 :على جوازِه بما قل وكثُر وأن له أن يأخُ َذ منها أكثرَ مما أعطاها.
فِيمَا ا ْفتَ َد ْ
وقد ذكر عبد الرزاق ،عن معمر ،عن عبد ال بن محمد بن عقيل ،أن ال ّر َبيّ َع ب ْنتَ ُم َعوّ ِذ بنِ
عفراء حدثته ،أنها اختلعت مِن زوجها ِبكُلّ شىء تملكه ،فخُوصِمَ فى ذلك إلى عثمان بن عفان،
فأجازه ،وأمره أن يأخُذ عِقَاصَ رأسها فما دُونَه.
وذكر أيضًا عن ابن جريج ،عن موسى بن عقبة ،عن نافع ،أن ابن عمر جاءته مولة
لمرأته اختلعت مِن كل شىء لها وكلّ ثوب لها حتى نُقبتِها.
ورفعت إلى عمر بن الخطاب امرأة نشزت عَنْ زوجها ،فقال :اخلعها ولو مِن قُرطها ،ذكره
حماد بن سلمة ،عن أيوب ،عن كثير بن أبى كثير عنه.
وذكر عبد الرزاق ،عن معمر ،عن ليث ،عن الحكم بن عُتيبة عن على بن أبى طالب رضى
ال عنه :ل يأخُذُ منها فوقَ ما أعطاها.
وقال طاووس :ل يَحِلّ أن يأخُذَ منها أكثَر مما أعطاها ،وقال عطاء :إن أخذ زياد ًة على
ل له أن يأخذ منها أكثرَ مما أعطاها .وقال
صداقها فالزياد ُة مردودة إليها .وقال الزهرى :ل يَح ّ
103
سرّحُ بإِحسان .وقال الوزاعي :كانت القضاةُ
ميمون بن مهران :إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يُ َ
ل تُجيز أن يأخُذ منها شيئاً إل ما ساق إليها.
والذين جوّزوه احتجوا بظاهر القرآن ،وآثارِ الصحابة ،والذين منعوه ،احتجوا بحديث أبى
خلْ َع امرأته ،قال النبىّ صلى ال عليه وسلم:
الزبير ،أن ثابت بن قيس بن شماس لما أراد َ
عَليْهِ حَدِي َقتَهُ))؟ قالت :نعم َوزِيادة ،فقال النبى صلى ال عليه وسلم :أما الزيادة ،فل .قال
((أَ َترُدّينَ َ
الدارقطنى :سمعه أبو الزبير من غير واحد ،وإسناده صحيح.
قالوا :والثار من الصحابة مختلِفَة ،فمنهم من ُر ِوىَ عنه تحري ُم الزيادة ،ومنهم من ُر ِوىَ
ى عنه كراهتُها ،كما روى وكيع عن أبى حنيفة ،عن عمار بن عمران
ن ُر ِو َ
عنه إباحتها ،ومنهم مَ ْ
الهمدانى ،عن أبيه ،عن على رضى ال عنه ،أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ،والمامُ أحمد
ص على الكراهة ،وأبو بكر من أصحابه حرّم الزيادة ،وقال :ترد عليها.
أخذ بهذا القولِ ،ون ّ
ل ال صلى ال
وقد ذكر عبد الرزاق ،عن ابن جريج ،قال :قال لى عطاء :أتت امرأة رسو َ
عَليْهِ حَدِي َقتَ ُه التى
حبّ فراقه ،قالَ (( :ف َترُدّينَ َ
ض زوجى وأُ ِ
عليه وسلم ،فقالت :يا رسولَ ال ،إنى ُأ ْبغِ ُ
َأصْدَ َقكِ))؟ قالت :نعم َوزِيادة مِن مالى ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلمَ(( :أمّا الزّيا َد ُة منْ
مَالِك فَل ولكِنِ الحَدِيقَةُ)) ،قالت :نعم ،فقضى بذلك على الزوج وهذا وإن كان مرسلً ،فحديث أبى
الزبير مُ َقوّله ،وقد رواه جريج عنهما.
فصل
وفى تسميتة سبحانه الخلعَ فديةً ،دليل على أن فيه معنى المعاوضةِ ،ولهذا اعتُبر فيه رضى
الزوجين ،فإذا تَقَايَل الخل َع ور ّد عليها ما أخذ منها ،وارتجعها فى العِدة ،فهل لهما ذلك؟ منعه الئمة
الربعة وغيرهم وقالوا قد بانت منه بنفس الخلع ،وذكر عبد الرازق ،عن معمر ،عن قتادة ،عن
جعَها ،فليردّ عليها ما أخذ منها فى العدة،
سعيد بن المسيّب أنه قال فى المختلعة :إن شاء أن يُرا ِ
وليشهد على رجعتها .قال معمر :وكان الزهرى يقول مثل ذلك .قال قتادة :وكان الحسن يقول :ل
يُراجعها إل بخطبة.
ولقولِ سعيد بن المسيب ،والزهرى وجهٌ دقيق مِن الفقه ،لطيفُ المأخذ ،تتلقاه قواعِ ُد الفقِه
ل على خلفه ،فإن المرأة ما دامت فى العدة فهى فى
وأصوله بالقبول ،ول نكارة فيه ،غير أن العم َ
حبسه ،ويلحقُها صريحُ طلقه المنجز عند طائفة من العلماء ،فإذا تقايل عقد الخلع ،وتراجعا إلى ما
كان عليه بتراضيهما ،لم تمنع قواع ُد الشرع ذلك ،وهذا بخلف ما بعدَ العِدة ،فإنها قد صارت منه
104
أجنبية محضة ،فهو خاطبٌ من الخطاب ،ويدل على هذا أن له يتزوجها فى عدتها منه بخلف
غيره.
فصل
وفى أمره صلى ال عليه وسلم المختلعة أن تعت ّد بحيضة واحدة ،دليل على حُكمين
أحدهما :أنه ل يجبُ عليها ثلثُ حيض ،بل تكفيها حيضة واحدة ،وهذا كما أنه صريحُ السنة ،فهو
مذهبُ أمير المؤمنين عثمان بن عفان ،وعبد ال بن عمر بن الخطاب ،وال ّر َبيّع ِبنْت ُم َعوّذ ،وعمها
وهو مِن كبار الصحابة ،ل يُعرف لهم مخالفٌ منهم ،كما رواه الليث بن سعد ،عن نافع مولى ابن
ت معوّ ِذ بن عفراء وهى تُخ ِب ُر عبد ال بن عمر رضى ال عنه أنها اختلعت
عمر ،أنه سمع ال ّر َبيّعَ بن َ
مِن زوجها على عهد عثمان بن عفان ،فجاء عمّها إلى عثمان ابن عفان ،فقال له :إن ابنة ُم َعوّذٍ
اختلعت من زوجها اليوم ،أفتنتقل؟ فقال عثمان :لِتنتقِلْ ول ميراثَ بينهما ،ول عِدة عليها إل أنها ل
ض حيضةُ خشي َة أن يكون بها حبل .فقال عبد ال بن عمر :فعثمان خيرُنا وأعلمُنا ؛
َت ْنكِحُ حتى تحي َ
وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهوية ،والمام أحمد فى رواية عنه ،اختارها ،شيخُ السلم
ابن تيمية.
ت ثلثَ حيضِ
ج ِعَل ْ
قال من نصر هذا القول :هو مقتضى قواعِ ِد الشريعة ،فإن العدة إنما ُ
ليطولَ زمن الرجعة ،فيتروّى الزوج ،ويتمكّن من الرجعة فى مدة العِدة فإذا لم تكن عليها رجعة،
حمِها من الحمل ،وذلك يكفى فيه حيضة ،كالستبراء .قالوا :ول ينتقضُ
فالمقصودُ مجر ُد براءة رَ ِ
جعِلَ حك ُم العدة فيه واحداً بائنة ورجعية.
هذا علينا بالمطلقةِ ثلثاً ،فإن باب الطلق ُ
ب ابن عباس،
قالوا :وهذا دليل على أن الخلع فسخ ،وليس بطلق ،وهو مذه ُ
وعثمان ،وابن عمر ،والرّبيع ،وعمها ،ول َيصِحّ عن صحابى أنه طلق ألبتة ،فروى المام أحمد،
عن يحيى بن سعيد ،عن سفيان ،عن عمرو ،عن طاووس ،عن ابن عباس رضى ال عنهم أنه قال:
خلْعُ تفريقٌ ،وليس بطلق.
ال ُ
وذكر عبد الرزاق ،عن سُفيان ،عن عمرو ،عن طاووس ،أن إبراهيم بن سعد ابن أبى
وقاص سأله عن رجل طلّق امرأته تطليقتين ،ثم اختلعت منه ،أينكِحُها؟ قال ابنُ عباس :نعم ذكر ال
الطلقَ فى أوّل الية وآخِرها ،والخلعَ بين ذلك.
فإن قيل :كيف تقولون :إنه ل مخالف لمن ذكرتُم مِن الصحابة ،وقد روى حما ُد ابن سلمة،
ج ْمهَانَ ،أن أم بكرة السلمية كانت تحتَ عبد ال بن أُسيد
عن هشام بنِ عُروة ،عن أبيه ،عن ُ
105
واختلعت منه ،فَندِما ،فارتفعا إلى عُثمان بن عفان ،فأجاز ذلك ،وقال :هى واحدة إل أن تكونَ سمّت
شيئاً ،فهو على ما سمّت.
ن أبى شيبة :حدثنا على بن هاشم ،عن ابن أبى ليلى ،عن طلحة بن مصرّف ،عن
وذكر اب ُ
إبراهيم النّخعى ،عن علقمة ،عن ابن مسعود ،قال :ل تكون تطليقة بائنة إل فى فدية أو إيلء.
وروُى عن على بن أبى طالب ،فهؤلء ثلث ُة مِن أجلء الصحابة رضى ال عنهم.
ح هذا عن واحد منهم ،أما أثر عثمان رضى ال عنه ،فطعن فيه المام أحمد،
قيل :ل َيصِ ّ
والبيهقى ،وغيرُهما ،قال شيخنا :وكيف َيصِحّ عن عثمان ،وهو ل يرى فيه عِدة ،وإنما يرى
ن الراوى لهذه القصة عن
ج ْمهَا ُ
الستبراء فيه بحيضة؟ فلو كان عنده طلَقاً ،لوجب فيه العدة ،و ُ
عثمان ل نعرفه بأكثر من أنه مولى السلميين.
وأما أثر على بن أبى طالب ،فقال أبو محمد ابن حزم :رويناه من طريق ل يصح عن على
رضى ال عنه .وأمثلها :أثر ابنِ مسعو َد على سوء حفظ ابن أبى ليلى ،ثم غايتُه إن كان محفوظًا أن
ل على أن الطلقة فى الخلع تقع بائنة ل أن الخلع يكون طلقاً بائناً ،وبين المرين فرق ظاهر.
يدُ ّ
ب على الطّلقِ بعد
ل على أنه ليس بطلق أن ال سبحانه وتعالى ر ّت َ
والذى يَدُ ّ
الدّخولِ الذى لم يَستوفِ عدده ثلثة أحكام ،كلّها منتفية عن الخلع .أحدها :أن الزوجَ أحقّ بالرجعة
فيه .الثانى :أنه محسوب مِن الثلث ،فل تَحِلّ بعد استيفاء العدد إل بعد زوج وإصابة .الثالث :أن
العدة فيه ثلثةُ قروء ،وقد ثبت بالنصّ والجماع أنه ل رجعة فى الخُلع وثبت بالسنة وأقوالِ
الصحابة أن العِدة فيه حيضةٌ واحدة ،وثبت بالنص جوازه طلقتين ،ووقوع ثالثة بعده ،وهذا ظاهر
ح بِإِحْسَانٍ
سرِي ٌ
ك ِبمَعرُوفٍ َأ ْو تَ ْ
ق َم ّرتَانِ فَِإمْسَا ُ
جداً فى كونه ليس بطلق ،فإنه سبحانه قال{:الطّلَ ُ
ل يُقِيمَا
ل يُقِيمَا حُدُودَ ال فَإِنْ خِ ْفتُم أنْ َ
ن يَخَافَا أنْ َ
شيْئاً إلّ أ ْ
ل َلكُم أن تَأْخُذُوا ِممّا آ َت ْي ُتمُوهُنّ َ
ل يَحِ ّ
وَ َ
ت بِهِ} [البقرة ]229 :وهذا وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين،
عَل ْي ِهمَا فِيمَا ا ْفتَ َد ْ
حُدُودَ ال فل جُناحَ َ
فإنه يتناولها وغيرَهما ،ول يجو ُز أن يعودَ الضميرُ إلى من لم يذكر ،ويُخلى منه المذكور ،بل إما
ن َبعْدُ} [البقرة ]230 :وهذا
ل لَ ُه مِ ْ
ل تَحِ ّ
طلّقَها فَ َ
أن يختصّ بالسابق أو يتناوله وغيره ،ثم قال{ :فَإِنْ َ
ل مَنْ طلقت بعد فدي ٍة وطلقتين قطعًا لنها هى المذكورة ،فل بُدّ من دخولها تحت اللفظ ،وهكذا
يتناو ُ
ل القُرآن ،وهى
ل ال صلى ال عليه وسلم أن يُعّلمَه الُّ تأوي َ
ن القرآن الذى دعا له رسو ُ
َفهِمَ ترجُما ُ
دعوة مستجابة بل شكّ.
106
ل على أنها من غيرِ جِنسه ،فهذا مقتضى
وإذا كانت أحكا ُم الفدية غيرَ أحكا ِم الطّلقِ ،دَ ّ
ق العقود ومقاصِدها دون ألفاظها َيعُدّ الخلع
النصّ ،والقياسِ ،وأقوالِ الصحابة ،ثم من نظر إلى حقائ ِ
فسخاً بأى لفظٍ كان حتى بلفظ الطّلقِ ،وهذا أحدُ الوجهين لصحاب أحمد ،وهو اختيارُ شيخنا .قال:
وهذا ظاهرُ كلمِ أحمد ،وكلم ابن عباس وأصحابه .قال ابنُ جريج :أخبرنى عمر ُو بنُ دينار ،أنه
سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول :ما أجازَه المالُ ،فليسَ بطلقٍ .قال عبدُ ال بنُ أحمد :رأيتُ
ب إلى قول ابن عباس .وقال عمرو ،عن طاووس عن ابن عباس :الخل ُع تفريقٌ وليس
أبى كان يذه ُ
بطلق ،وقال ابنُ جريج ،عن ابن طاووس :كان أبى ل يرى الفداء طلقًا ويُخّيرُه.
ومن اعتبر اللفاظ ووقفَ معها ،واعتبرها فى أحكام العُقودِ ،جعله بلفظ الطلق طلقاً،
ى فى العقود حقائقُها ومعانيها ل صورُها وألفاظُها ،وبالّ
عّوقوَاعِدُ الفقه وأصولُه تشهد أن الرْ ِ
ت بنَ قيس أن يُطلّق
ل على هذا ،أن النبىّ صلى ال عليه وسلم أمر ثاب َ
ومما يَدُ ّ التوفيق.
امرأتَه فى الخُل ِع تطليقةً ،ومع هذا أمرها أن تعت ّد بحيضة ،وهذا صريحُ فى أنه فسخ ،ولو وقع بلفظ
الطلق.
وأيضاً فإنه سبحانه علّق عليه أحكا َم الفدية بكونه فدية ،ومعلو ُم أنّ الفِدية ل تختص بلفظ،
ق الفداء طلقُ مقيّد ،ول يدخل تحت أحكام الطلق
ولم يُعين ال سبحانه لها لفظًا معيّناً ،وطل ُ
ل التوفيق.
المطلق ،كما ل يدخلُ تحتها فى ثبوت الرجعة والعتداد بثلثة قروء بالسنة الثابتة ،وبا ّ
ذكرُ أحكام رسولِ ال صلى ال عليه وسلم فى الطلق
ذكر حكمه صلى ال عليه وسلم فى طلق الهازل ،وزائل العقل ،والمكرَه والتطليق فى
نفسه
فى ((السنن)) :من حديث أبى هريرة رضى ال عنه(( ،ثَلَثُ جِدّهُنّ جِدّ ،و َه ْزُلهُنّ جِدّ:
جعَةُ)).
ال ّنكَاحُ ،والطّلَقُ ،والرّ ْ
س ُت ْكرِهُوا
سيَانَ َومَا ا ْ
ن ُأ ّمتِى الخَطََأ والنّ ْ
وفيها :عنه من حديث ابن عباس(( :إنّ ال َوضَعَ عَ ْ
عَليْهِ)).
َ
وفيها :عنه صلى ال عليه وسلم(( ،ل طَلَقَ ول عتاق فى إِغْلقٍ)).
جنُونُ))؟
وصح عنه أنه قال للمُ ِقرّ بالزنى(( :أ ِبكَ ُ
وثبت عنه أنه أمرَ بِ ِه أن يُستنكه.
107
ن القلم رُفِ َع عن ثلث:
وذكر البخارى فى ((صحيحه)) :عن على ،أنه قال ِل ُعمَر :ألم تعلم أَ ّ
ص ِبىّ حتى يُد ِركَ ،وعن النائم حتى يستيقظ.
عن المجنونِ حتى يُفيقَ ،وعن ال ّ
عمّا حَدّثت بِ ِه أنفُسَها مَا
ل ّمتِى َ
وفى ((الصحيح)) عنه صلى ال عليه وسلم(( :إنّ ال تَجَا َوزَ ُ
لَمْ ت َكلّمْ ،أَو َتعْملْ بِه)).
فتضمّنت هذه السنن ،أن ما لم َينْطِقْ به اللسان مِن طلق أو عِتاق ،أو يمين ،أو نذر
ل الجمهور ،وفى المسألة قولن آخرانِ.
ونح ِو ذلك ،عف ٌو غيرُ لزم بالنية والقصد ،وهذا قو ُ
أحدهما :التوقف فيها ،قال عبد الرزاق ،عن معمر :سئل ابنُ سيرين عمن طلّق فى نفسه،
علِمَ ال ما فى نفسك؟ قال :بلى ،قال :فل أقولُ فيها شيئاً.
فقال :أليس قد َ
والثانى :وقوعُه إذا جزَم عليه ،وهذا روايةُ أشهب عن مالك ،ورُوى عن الزهرى وحجةُ
هذا القول قوله صلى ال عليه وسلم(( :إنّما العمالُ بال ّنيّاتِ)) ،وأن من كفر فى نفسه ،فهو كفر،
س ْبكُم بِهِ ال} [البقرة ،]284 :وأن المصرّ على
سكُم َأوْ ُتخْفُوهُ يُحَا ِ
وقوله تعالى{:وإنْ ُتبْدُوا مَا فى َأنْفُ ِ
ل الجوارح،
ل القلوب فى الثواب والعقاب كأعما ِ
المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها ،وبأن أعما َ
ولهذا يُثاب على الحبّ والبُغض ،والموالة والمعاداة فى ال ،وعلى التوكّل والرّضى ،والعز ِم على
ب على الكِبر والحَسَدِ ،والعُجب والشكّ ،والرّياءِ وظنّ السوء بالبرياء.
الطاعة ويُعا َق ُ
ع الطلق والعتاق بمجرد النيةِ مِن غير تلفظ أما حديثُ
ول حُجة فى شىء من هذا على وقو ِ
ل مع النية هو المعتبرُ ،ل النية
((العمال بالنيات)) :فهو حجةٌ عليهم ،لنه أخبر فيه أن العم َ
وحدَها ،وأما من اعتقد الكُ ْف َر بقلبه أو شكّ ،فهو كافر لِزوال اليمان الذى هو عق ُد القلب مع
ن أمر وجودى ثابتٌ قائم بالقلب،
ل العقدُ الجازمُ ،كان نفسُ زواله كفراً ،فإن اليما َ
القرار ،فإذا زا َ
حصَلَ ضده وهو كفر ،وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم ،حصل الجهل ،وكذلك
فما لم يَقُمْ بالقلبَ ،
كلّ نقيضين زال أحدُهما خلفه الخر.
أما الية فليس فيها أن المحاسبةَ بما يُخفيه العب ُد إلزامه بأحكامه بالشرع ،وإنما فيها محاسبتُه
بما يُبديه أو يُخفيه ،ثم هو مغفور له أو معذّب ،فأين هذا من وقوع الطلق بالنية .وأما أن المصرّ
ل المعصية ،ثم أصرّ عليها ،فهُنا عمل اتصل به
عمِ َ
على المعصية فاسقٌ مؤاخذ ،فهذا إنما هو فيمن َ
ن عزم على المعصية ولم َي ْع َملْها ،فهو بين أمرينِ ،إما
صرّ ،وأما مَ ْ
العزمُ علي معاودته ،فهذا هو ال ُم ِ
ب على أعمال
أن ل تُكتب عليه ،إما أن تُكتب له حسنة إذا تركها لّ عز وجل .وأما الثوابُ والعقا ُ
ع الطلق والعتاق بالنية من غير تلفّظ أمر
القلوب فحقّ ،والقرآنُ والسنة مملوآن به ،ولكن وقو ُ
108
خارج عن الثواب والعقاب ،ول تلزم بين المرين ،فإن ما يُعاقب عليه مِن أعمال القلوب هو
ق العقوبة عليها ،كما يستحقّه على المعاصى البدنية إذ هى مُنافية لعبودية القلب،
معاصٍ قلبية يستح ّ
ن السوء محرّمات على القلب ،وهى أمور اختيارية يمكن اجتنابُها
فإن الكِبر والعُجب والرياء وظ ّ
فيستحق العقوبة على فعلها ،وهى أسماءٌ لمعان مسمياتها قائمةٌ بالقلب.
وأما العِتاق والطلق ،فاسمان لمسميين قائمين باللسان ،أو ما نابَ عنه من إشارة أو كتابة،
ولبسا اسمين لما فى القلب مجرداً عن النطق.
وتضمنت أن المكلف إذا َهزَلَ بالطلق ،أو النّكاح ،أو الرجعةَ ،ل ِزمَهُ ما َهزَلَ به فدل
ل العقل والمكرَه ،والفرقُ
ذلك على أن كلمَ الهازل معتبر وإن لم يُعتبر كلمُ النائم والناسى ،وزائ ِ
بينهما أن الهازلَ قاص ُد للفظ غيرُ مريد لحكمه ،وذلك ليس إليه ،فإنما إلى المكلّف السباب ،وأما
ف أو ل َم يقصِدْه ،والعبرةُ بقصده السبب
تر ّتبُ مسبّباتها وأحكامها ،فهو إلى الشارع قصده المكل ُ
اختياراً فى حال عقله وتكليفه ،فإذا قصده ،ر ّتبَ الشارعُ عليه حُكمه ج ّد به أو َهزَلَ ،وهذا بخلف
ن وزائل العقل ،فإنهم ليس لهم قصد صحيح ،وليسوا مكلفين،
النائم وال ُم َبرْسَمِ ،والمجنون والسكرا ِ
ظ الطفل الذى ل يعقِلُ معناها ،ول يقصِدُه.
فألفاظُهم لغو بمنزلة ألفا ِ
ق بين من قصد اللفظ ،وهو عالِم به ولم يُرد حكمه ،وبين من لم يَقصِدْ
سرّ المسألة الفر ُ
وِ
ب التى اعتبرها الشارع أربعةُ.
اللفظ ولم يعلم معناه ،فالمرات ُ
إحداها :أن يَقصدَ الحكم ول َي َتلَفّظ به.
الثانية :أن ل يَقصِدَ اللفظ ول حُكمَه.
الثالثة :أن يَ ْقصِدَ دُون حكمه.
الرابعة :أن يقصِ َد اللفظ والحكم .فالوليان لغو ،والخرتان معتبرتان .هذا الذى أستُفِي َد مِن
مجموع نصوصه وأحكامِه ،وعلى هذا فكل ُم المكرَه ُكلّه لغو ل عِبر َة به.
ل القرآن على أن من ُأ ْك ِرهَ على التكلم بكلمة الكفر ل َيكْ ُفرُ ،ومن أكره على
وقد د ّ
السلم ل يصيرُ به مسلماً ،ودّلتِ السن ُة على أن ال سبحانه تجاوز عن المكره ،فلم يُؤاخِذْه بما
ُأ ْك ِرهَ عليه ،وهذا يُراد به كلمه قطعاً ،وأما أفعالهُ ،ففيها تفصيلٌ ،فما أبيح منها بالكراه فهو
متجاوز عنه ،كالكل فى نهار رمضان ،والعملِ فى الصلة ،ولبس المخيط فى الحرام ونحو ذلك،
وما ل يُباح بالكراه ،فهو ُمؤَاخذ به ،كقتل المعصوم ،وإتلفِ ماله ،وما اختلف به كشُرب الخمر
109
والزنى والسرقة هل ُيحَ ّد به أو ل؟ فالختلفُ ،هل يباح ذلك بالكراه أو ل؟ فمن لم ُيبِحْه حدّه به،
ومن أباحه بالكراه لم يحُدّه ،وفيه قولن للعلماء ،وهما روايتان عن المام أحمد.
ل إذا وقعت ،لم ترتفعْ
والفرق بين القوال والفعال فى الكراه ؛ أن الفعا َ
مفسدتُها ،بل مفسدتُها معها بخلف القوال ،فإنها يمكن إلغاؤها .وجعلُها بمنزلة أقوالِ النائم
والمجنون ،فمفسد ُة الفعل الذى ل يُباح بالكراه ثابتة بخلف مفسدة القول ،فإنها إنما تثبت إذا كان
قائلُه عالماً به مختارًا له .وقد روى وكيع عن ابن أبى ليلى ،عن الحكم بن عتيبة ،عن خيثمة ابن
عبد الرحمن ،قال :قالت امرأةٌ لزوجها :سمنى ،فسمّاها الظبية ،فقالت :ما قلت شيئاً ،قال :فهاتِ ما
خِليّةٌ طالق ،فأتت عمر ابن الخطاب ،فقالت :إن
أُسميك به ،قالت :سمنى خليةً طالقاً ،قال :أنت َ
ص عليه القصة ،فأوجع عمر رأسَها ،وقال لزوجها :خذ بيدها،
زوجى طلّقنى ،فجاء زوجُها ،فق ّ
وأوجعْ رأسها.
فهذا الحكمُ من أمير المؤمنين بعدم الوقوع لما لم يقصد الزوجُ اللفظ الذى يقع به الطلقُ ،بل
قصد لفظاً ل يُريد به الطلق ،فهو كما لو قال لمتِه أو غُلمِه :إنها جرة ،وأراد أنها ليست بفاجِرة،
أو قال لمرأته :أنت مسرّحة ،أو سرحتُك ،ومرادُه تسريح الشعر ونحو ذلك ،فهذا ل يقع عتقُه ول
طلقُه بينه وبينَ ال تعالى ،وإن قامت قرينةٌ أو تصادقا فى الحكم لم يقع به.
فإن قيل :فهذا من أى القسام؟ فإنكم جعلتم المراتبَ أربعة ،ومعلومٌ أن هذا ليس بمكرَه ول
زائل العقل ،ول هازل ،ول قاص ٍد لحكم اللفظ؟ قيل :هذا متكلم باللفظ مريد به أحدَ معنييه ،فلزم حكم
ما أراده بلفظه دون ما لم يرده ،فل يلزم بما لم يرده باللفظ إذا كان صالحًا لما أراده ،وقد استحلف
النبىّ صلى ال عليه وسلم رُكانَة لما طلّق امرأته ألبتة ،فقال :ما أردتَ؟ قال :واحدة ،قال :آلِّ ،قال:
هو ما أردتَ ،فقبل منه نيّته فى اللفظ المحتمل.
ف على شىء ثم بدا له،
وقد قال مالك :إذا قال :أنت طالق البتة ،وهو يُريد أن يحِل َ
فترك اليمين ،فليست طالقاً ،لنه لم يُرد أن يطلقها ،وبهذا أفتى الليث بن سعد ،والمامُ أحمد ،حتى
إن أحمد فى رواية عنه :يُقبل منه ذلك فى الحكم.
ث صور.
وهذه المسألة لها ثل ُ
إحداها :أن يرجع عن يمينه ولم يكن التنجيزُ مرادَه ،فهذه ل تطلُق عليه فى الحال ،ول يكون
حالفاً.
الثانية :أن يكون مقصودُه اليمينَ ل التنجيزَ ،فيقول :أنت طالق ،ومقصودُه :إن كلمت زيداً.
110
الثالثة :أن يكونَ مقصودُه اليمينَ مِن أول كلمه ،ثم يرج ُع عن اليمين فى أثناء الكلم،
ويجعل الطلق منجزاً ،فهذا ل يقعُ به ،لنه ل ينو به اليقاع ،وإنما نوى به التعليق ،فكان قاصراً
عن وقوع المنجز ،فإذا نوى التنجيزَ بعد ذلك لم يكن قد أتى فى التنجيز بغير النية المجردة ،وهذا
س َبتْ
ن ُيؤْاخِ ُذكُ ْم ِبمَا كَ َ
لّ بِالّل ْغوِ فى َأ ْيمَا ِنكُم ولكِ ْ
قولُ أصحاب أحمد .وقد قال تعالى{:لَ ُيؤَاخِ ُذكُمُ ا ُ
ُقلُو ُبكُمْ} [البقرة.]225 :
ف على الشىء يظنّه كما حلف عليه ،فيتبينُ بخلفه.
واللغو :نوعان ،أحدهما :بأن يحِل َ
والثانى :أن تجرى اليمين على لِسانه من غير قصد للحلف ،كَلَ والِّ ،و َبلَى والِّ فى أثناء كلمه،
وكلهما رفع ال المؤاخذة به ،لعدم قصد الحالف إلى عقد اليمين وحقيقتها ،وهذا تشريعٌ منه
سبحانَه لعباده أل يرتّبوا الحكامَ على اللفاظ التى لم يقصِدِ المتكلمُ بها حقائقَها ومعانيهَا ،هذا غيرُ
الهازل حقيقةَ وحكماً.
وقد أفتى الصحابةُ بعدم وقوع طلق المكرَه وإقرارِه ،فصحّ عن عمر أنه
ل تدلّى بحبل
ح عنه أن رج ً
ن على نفسه إذا أوجعتَه أو ضربتَه أو أوثقتَه ،وص ّ
قال :ليس الرجلُ بأمي ٍ
ليَشْارَ عسلً ،فأتت امرأته فقالت :لقطعنّ الحبل ،أو لتُطلّقنى ،فناشدها ال ،فأبت ،فطلّقَها ،فأتى
عمر ،فذكر له ذلك ،فقال له :ارجع إلى امرأتك ،فإن هذا ليس بطلق .وكان علىّ ل يُجيز طلقَ
ن الزبير عن طلق المكره ،فقال جميعاً :ليس
ن عمر ،واب َ
الكره ،وقال ثابت العرج :سألت اب َ
بشىءٍ.
جبَلة ،عن صفوان بن عمران الصم ،عن رجلٍ
فإن قيل :فما تصنعون بما رواه الغازى بن َ
ل ال صلى ال عليه وسلم ،أن رجلً جلست امرأتُه على صدره ،وجعلت السكينَ
من أصحاب رسو ِ
على حلقه ،وقالت له :طلقنى أو لذبحنّك ،فناشدها ،فأبت ،فطلقها ثلثاً ،ف ُذ ِك َر ذلك للنبى صلى ال
عليه وسلم ،فقال(( :ل َق ْيلُولَة فى الطّلق)) رواه سعيد بن منصور فى ((سننه)) .وروى عطا ُء ابن
ل الطّلقِ جَا ِئزٌ إلّ
عجلن ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،عن النبى صلى ال عليه وسلم قال(( :كُ ّ
علَى عَ ْقلِهِ)).
طَلقَ ال َم ْعتُو ِه وال َم ْغلُوبِ َ
وروى سعيد بن منصور :حدثنا فرج بن فضَالة ،حدثنى عمرو بن شراحِيل المعافرى ،أن
جهَا ،وقالت :والّ لنفذنّك ،أو لُتطلّقنّى ،فطلقها ثلثاً،
امرأة استّلتْ سيفاً ،فوضعته على بطن َزوْ ِ
ق المعتوه.
فرُفِ َع ذلِك إلى عمر بن الخطاب ،فأمضى طلقها .وقال على .كل الطلقِ جائزٌ إل طل َ
111
قيل :أما خبر الغازى بن جبلة ،ففيه ثلث علل .إحداها :ضعف صفوان بن عمرو،
والثانية :لين الغازى بن جبلة ،والثالثة .تدليس بقية الراوى عنه ،ومثل هذا ل يحتج به .قال أبو
محمد ابن حزم :وهذا خبر فى غاية السقوط.
وأما حديث ابن عباس ((كل الطلق جائز)) فهو من رواية عطاء بن عجلن ،وضعفُه
مشهور ،وقد رُمى بالكذب .قال أبو محمد ابن حزم :وهذا الخبر شر من الول.
وأما أثر عمر ،فالصحيح عنه خلفه كما تقدم ،ول يُعلم معاصرة المعافرى لعمر ،وفرج بن
فضالة فيه ضعف.
وأما أثر على ،فالذى رواه عنه الناس أنه كان ل يُجيز طلق المكره وروى عبد الرحمن بن
مهدى ،عن حماد بن سلمة ،عن حُميد ،عن الحسن ،أن على ابن أبى طالب رضى ال عنه ،كان ل
يُجيز طلق المكره .فإن صح عنه ما ذكرتم ،فهو عام مخصوص بهذا.
فصل
حتّى
سكَارَى َ
ل َة وَأ ْنتُمْ ُ
وأما طلق السّكرانِ ،فقال تعالى{:يَأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا ل تَ ْق َربُوا الصّ َ
َت ْعَلمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء ،]43 :فجعل سُبحانه قول السكران غي َر معتبر ،لنه ل َي ْعلَمُ ما يقولُ،
ح عنه صلى ال عليه وسلم َأنّه أمر بالمُ ِقرّ بالزّنى أن يُسَت ْنكَ َه لِيعتبر قولُه الذى أق ّر به أو يُلغى.
وص ّ
وفى صحيح البخارى فى قصة حمزة ،لما عَ َقرَ َب ْع ِي َرىْ عَلى ،فجاء النبىّ صلى ال عليه
ل َأ ْنتُمْ إل عَبيدٌ لبى،
وسلمَ ،فوَ َقفَ عليه َيلُومُه ،فصعّ َد فيه النّظرَ وصوّبه وهو سكران ،ثم قال :ه ْ
فنكص النبىّ صلى ال عليه وسلم على عَقِبيْةِ .وهذا القولُ لو قاله غي ُر سكران ،لكان رِد ًة وكُفراً،
ولم يُؤاخذ بذلك حمزة.
وصح عن عُثمانَ بنِ عفان رضى ال عنه أنه قال :ليس لِمجنون ،ول سكران طلق .رواه
ابن أبى شيبة ،عن وكيع ،عن ابن أبى ذئب ،عن الزهرى ،عن أبان بن عثمان ،عن أبيه.
(يتبع)...
ق السكران ل
ق السكران ل يجوزُ ،وقال ابنُ طاووس عن أبيه :طل ُ
وقال عطاء :طل ُ @
يجوز .وقال القاسم بن محمد :ل يجوزُ طلقه.
لّ الذى ل إله إل هو :لقد
س ْكرَان طلّق ،فاستحلفه با ِ
ح عن عمر بن عبد العزيز أنه أُتى بِ َ
وص ّ
طلّقها وهو ل َيعْقِلُ ،فحلف ،فرَ ّد إليه امرأته ،وضربه الحد.
112
وهو مذهبُ يحيى بن سعيد النصارى ،وحُمي ِد بن عبد الرحمن ،وربيعة ،والليثِ بن سعد،
وعبدِ ال بن الحسن ،وإسحاق بن راهويه ،وأبى ثور ،والشافعى فى أحد قوليه ،واختاره المزنىّ
وغيرُه من الشافعية ،ومذهب أحمد فى إحدى الروايات عنه ،وهى التى استقرّ عليها مذهبُه،
وصرّح برجوعه إليها ؛ فقال فى رواية أبى طالب :الذى ليأمر بالطلق ،إنما أتى خصلةً واحدة،
والذى يأمر بالطلق ،فقد أتى خصلتيْنِ حرّمها عليه ،وأحلّها لغيره ،فهذا خي ٌر مِن هذا ،وأنا أتقى
جميعاً .وقال فى رواية الميمونى :قد كنتُ أقولُ :إن طلق السكران يجو ُز تبينتُه ،فغلب على :أنه ل
يجوزُ طلقه ،لنه لو أقر ،لم يلزمه ،ولو باع ،لم يجز بيعُه ،قال :وألزمه الجناية ،وما كان من غير
ب أهلِ الظاهر ُكلّهم ،واختاره من
ذلك ،فل يلزمُه .قال أبو بكر عبد العزيز :وبهذا أقولُ ،وهذا مذه ُ
الحنفية أبو جعفر الطحاوىّ ،وأبو الحسن الكرخىّ.
والذين أوقعوه لهم سبعة مآخذ.
أحدُها :أنه مكلّف ،ولهذا يُؤاخذ بجناياته.
والثانى :أن إيقاع الطلق عقوبةٌ له.
والثالث :أنّ ترتب الطلق على التطليق مِن باب ربط الحكام بأسبابها ،فل يُؤثر فيه السُكر.
س ِكرَ ،وإذا
والرابع :أنّ الصحابة أقاموه مقام الصّاحى فى كلمه ،فإنهم قالوا :إذا شربَ ،
س ِكرَ ،هذى ،وإذا هَذَى ،افترى ،وحَ ّد المفترى ثمانون.
َ
والخامس :حديث(( :ل قيلولة فى الطلق)) وقد تقدم.
ق المعتوه)) ،وقد تقدم.
السادس :حديث ((كُلّ طلقٍ جائِز إل طل َ
والسابع :أن الصحابة أوقعوا عليه الطلق ،فرواه أبو عُبيد عن عمر ،معاوية ،ورواه غيرُه
عن ابن عباس .قال أبو عبيد :حدثنا يزيد بن هارون ،عن جرير بن حازم ،عن الزبير بن الحارث،
ل طلّق امرأتَه وهو سكرانَ ،فرُفِ َع إلى عمر بن الخطاب ،وشهد عليه أربعُ
عن أبى لَبيد ،أن رج ً
قال :وحدثنا ابنُ أبى مريم ،عن نافع بن يزيد ،عن جعفر بن ربيعة، نِسوة ففرق عمر بينهما.
ق السكران .هذا جميعُ ما احتجوا به،
عن ابن شهاب ،عن سعيد بن المسيّب ،أن معاوية أجاز طل َ
وليس فى شىء منه حج ٌة أصلً.
ط التكليفِ
فأما المأخ ُذ الوّلُ ،وهو :أنه مكلف ،فباطل ،إذ الجماع منعقِ ٌد على أن شر َ
العقلُ ،ومن ل يعقِلُ ما يقول ،فليس بمكلّف.
113
وأيضاً فلو كان مكلفاً ،لوجب أن يقع طلقُه إذا كان مكرهًا على شُربها ،أو غيرَ عالم بأنها
خمر ،وهم ل يقولون به.
وأما خطابُه ،فيجب حملُه على الذى يعقِلُ الخطاب ،أو على الصاحى ،وأنه نُهى عن السكر
إذا أراد الصلة ،وأما من ل َيعْقِلُ ،فل يُؤمر ول ينهى.
ل نزاع ل محل وفاق ،فقال عثمان ال َبتّى :ل يلزمُه عقدٌ ول بيع،
وأما إلزامُه بجناياته ،فمح ّ
ول حدّ إل حدّ الخمر فقط ،وهذا إحدى الروايتين عن أحمد أنه كالمجنون فى كُلّ فعل يُعتبر له
العقلُ.
ن أقواله ،فرّقوا بفرقين ،أحدهما :أن إسقاطَ أفعاله ذريع ٌة إلى
والذين اعتبروا أفعالَه دو َ
س ِكرَ وفعل ذلك ،فيقام
ل من أراد قتل غيره أو الزنى أو السرقة أو الحِرابَ ،
تعطيل القِصاص ،إذ كُ ّ
عليه الح ّد إذا أتى جرماً واحداً ،فإذا تضاعف جُرمُه بالسكر كيف يسقط عنه الحدّ؟ هذا مما تأباه
ض من يرى طلق السكران
قواعدُ الشريعة وأصولها ،وقال أحمد منكرًا على من قال ذلك :وبع ُ
ليس بجائز ،يزعم أن سكران لو جنى جناية ،أو أتى حداً ،أو تركَ الصيام أو الصلةَ ،كان بمنزلة
ال ْمبَرسَمِ والمجنون ،هذا كَلمْ سوء.
والفرق الثانى :إن إلغاء أقواله ل يتضمّن مفسدة ،لن القول المجر َد مِن غير العاقل ل
مفسدة فيه بخلف الفعال ،فإن مفاسدها ل يُمكن إلغاؤها إذا وقعت ،فإلغا ُء أفعاله ضررٌ محض،
ح هذان الفرقان ،بطلَ اللحاق ،وإن لم يصحا ،كانت التسويةُ
وفسادٌ منتشر بخلف أقواله ،فإن ص ّ
بين أقواله وأفعاله متعينة.
وأما المأخذ الثانى وهو أن إيقاع الطلق به عقوبةٌ له ففى غاية الضعف ،فإن الحدّ يكفيه
عقوبة ،وقد حصل رضى ال سُبحانه من هذه العقوبة بالحد ،ول عهد لنا فى الشريعة بالعُقوبة
بالطلق ،والتفريق بين الزوجين.
ع الطلق به من ربط الحكام بالسباب ،ففى غاية الفساد
وأما المأخ ُذ الثالث :أن إيقا َ
ع الطلق ممن سكر مُكرهاً ،أو جاهلً بأنها خمر ،وبالمجنون
والسقوط ،فإن هذا يُوجب إيقا َ
ق السكران سببٌ حتى يُربط الحكمُ به ،وهل
وال ُمبَرْسَم ،بل وبالنائم ،ثم يُقال :وهل ثبت لكم أن طل َ
النزاعُ إل فى ذلك؟
س ِكرَ ،وإذا
وأما المأخذ الرابع :وهو أن الصحابة جعلوه كالصاحى فى قولهم :إذا شربَ ،
س ِكرَ ،هذى .فهو خبر ل يصح البتة.
َ
114
قال أبو محمد ابن حزم :وهو خبر مكذوب قد نزه ال عليًا وعبد الرحمن بن عوف منه،
وفيه من المناقضة ما يدل على بُطلنه ،فإن فيه إيجاب الحد على من هذى ،والهاذى ل ح ّد عليه.
وأما المأخذْ الخامس ،وهو حديث(( :ل قيلولة فى الطلق)) ،فخبر ل َيصِحّ ،لو صحّ،
ل دون من ل يعقِل ،ولهذا لم يدخل فيه طلقُ المجنون والمُبرْسَم
لوجب حملُه على طلق مكلّف يعقِ ُ
وأما المأخذ السادس ،وهو خبر(( :كلّ طلق جائز إل طلق المعتوه)) ،فمثله والصبى.
ل إما معتوه،
سواء ل يصح ،ولو صح ،لكان فى المكلف ،وجواب ثالث :أن السكران الذى ل يَعقِ ُ
وإما مُلحق به ،وقد ادعت طائفة أنه معتوه .وقالوا :المعتوه فى اللغة :الذى ل عقل له ،ول يدرى ما
وأما المأخذ السابعُ :وهو أن الصحابة أوقعوا عليه الطلقَ ،فالصحابةُ مختلفون فى يتكلم به.
ذلك ،فصح عن عثمان ما حكيناه عنه.
ح عنه ،لنه من طريقين ،فى أحدهما الحجاج بن أرطأة ،وفى الثانية
ن عباس ،فل َيصِ ّ
وأما أثر اب ِ
ن عمر ومعاوية ،فقد خالفهما عثمان بن عفان.
إبراهيم بن أبى يحيى ،وأما اب ُ
فصل
وأما طلق الغلق ،فقد قال المام أحمد فى رواية حنبل :وحديثُ عائشة رضى ال عنها:
سمعت النبى صلى ال عليه وسلم يَقول(( :ل طَلقَ ول عِتاق فى إغلق)) ،يعنى الغضبَ ،هذا
نصّ أحمد حكاه عنه الخلل ،وأبو بكر فى ((الشافى)) و((زاد المسافر)) .فهذا تفسير أحمد.
وقال أبو داود فى سننه :أظنه الغضب ،وترجم عليه(( :باب الطلق على غلط)) وفسره أبو
عُبيد وغيرُه :بأنه الكراه ،وفسره غيرهما :بالجنون ،وقيل :هو نهىُ عن إيقاع الطلقات الثلث
دفعةً واحدة ،فُي ْغلَقُ عليه الطلقُ حتى ل يبقى منه شىء ،ك َغلَقِ الرهن ،حكاه أبو عُبيد الهروى.
قال شيخُنا :وحقيقةُ الغلق :أن يُغلق على الرجل قلبُه ،فل يقصِدُ الكلم ،أو ل يعلم به،
ق الصدر ،وقل ُة الصبر
كأنه انغلق عليه قصدُه وإرادتُه .قلت :قال أبو العباس المبرّد :ال َغلَق :ضي ُ
بحيث ل يجد مخلصاً قال شيخنا :ويدخل فى ذلك طلقُ المكرَه والمجنون ،ومن زال عقلُه بسُكر أو
ل من ل قصد له ول معرفة له بما قال.
غضب ،وكُ ّ
والغضب على ثلثة أقسام.
أحدها :ما يُزيل العقل ،فل يش ُعرُ صاحبُه بما قال ،هذا ل يقعُ طلقه بل نزاع.
ل وقصده ،فهذا يقع
حبَه مِن تصور ما يقو ُ
الثانى :ما يكون فى مباديه بحيث ل يمنع صا ِ
طلقُه.
115
ل بينه وبين نيته بحيث يندَمُ
الثالث :أن يستحكِمَ ويشتدّ به ،فل يُزيل عقله بالكلية ،ولكن يحو ُ
ل نظر ،وعد ُم الوقوع فى هذه الحالة قوى متجه.
على ما فرط منه إذا زال ،فهذا مح ّ
حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم فى الطلق قبل النكاح
فى السنن :من حديث عمرو بن شعيب ،عن أبيه عن جده ،قال :قال رسول ال صلىال
ل َي ْمِلكُ)).
ق لَهُ فِيمَا َ
ل َي ْمِلكُ ،ول طَلَ َ
ق لَهُ فِيمَا َ
عتْ َ
ل َي ْمِلكُ ،ولَ ِ
عليه وسلم(( :ل نَ ْذرَ لبْن آدَمَ فِيمَا َ
قال الترمذى :هذا حديث حسن ،وهو أحسنُ شىء فى هذا الباب ،وسَألت محمد بن إسماعيل .فقلت:
ث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
ح فى الطلق قبل النكاح؟ فقال :حدي ُ
أىّ شىء أص ّ
وروى أبو داود(( :ل َبيْعَ إلّ فِيمَا َي ْمِلكُ ،ول وَفَا َء نَ ْذرِ إلّ فِيما َي ْمِلكُ)).
خ َرمَة رضى ال عنه ،أن رسول ال صلى ال عليه
ن مَ ْ
وفى سنن ابن ماجه :عن المِسور ب ِ
ل ِم ْلكِ)).
عتْق َقبْ َ
ل ال ّنكَاحِ وَلَ ِ
وسلم قال(( :لَ طَلَقَ َقبْ َ
وقال وكيع :حدثنا ابنُ أبى ذئب ،عن محمد بن المنكدِر ،وعطاء بن أبى رباح ،كلهما عن
جابر بن عبد ال يرفعه(( :لَ طَلَقَ َقبْلَ نكاح)).
وذكر عب ُد الرزاق ،عن ابن جريج ،قال :سمعتُ عطا ًء يقول :قال ابنُ عباس رضى ال
ق إل من بعدِ نكاح.
عنه :ل طل َ
قال ابنُ جريج :بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول :إن طلّق ما لم ينكِحْ فهو جائز ،فقال ابن
طلّ ْق ُتمُوهُنّ} [الحزاب،]49 :
ت ثُمّ َ
حتُ ُم ال ُم ْؤمِنَا ِ
عباس :أخطأ فى هذا ،إن ال تعالى يقول{:إذَا َنكَ ْ
ولم يقل :إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.
سئِل عن رجل قال :إن تزوجتُ
وذكر أبو عُبيد :عن على بن أبى طالب رضى ال عنه أنه ُ
ق إل من بعد ملك.
فلنه ،فهى طالق ،فقال على :ليس طل ٌ
وثبت عنه رضى ال عنه أنه قال :ل طلق إل من بعد نكاح وإن سماها.
وهذا قولُ عائشة ،وإليه ذهب الشافعى ،وأحمد ،وإسحاق وأصحابُهم ،وداود وأصحابُه،
وجمهورُ أهل الحديث.
طلّقٌ لجنبية ،وذلك محال،
ومِن حجة هذا القول :أن القائل :إن تزوجتُ فلنه ،فهى طالق مُ َ
ن الطلق المعلّق أجنبية ،والمتجدّدُ هو نِكاحُها ،والنكاح ل يكون طلقاً ،ف ُعلِمَ أنها لو طلقت،
فإنها حِي َ
فإنما يكون ذلك استنادًا إلى الطلق المتقدّم معلقاً ،وهى إذا ذاك أجنبية ،وتجدّ ُد الصفة ل يجعلُه
116
متكلماً بالطلق عند وجودها فإن وجودها مختار للنكاح غي ُر مريد للطلق ،فل َيصِبحّ ،كما لو قال
لجنبية :إن دخلت الدار فأنت طالق ،فدخَلتْ وهى زوجتُه ،لم تطلق بغير خلف.
فإن قيل :فما الفرقُ بين تعليق الطلق وتعليق العِتق؟ فإنه لو قال :إن ملكت فلناً،
فهو حر ،صَحّ التعليقُ ،وعتق بالملك؟
قيل :فى تعليق العِتق قولن ،وهما روايتان عن أحمد ،كما عنه روايتان فى تعليق الطلق،
ح من مذهبه الذى عليه أكثرُ نصوصه ،وعليه أصحابه :صح ُة تعليق العتق دون الطلق،
والصحي ُ
ح أن
ق له قوة وسراية ،ول يعتمِ ُد نفوذ الملك ،فإنه ينفذ فى ملك الغير ،ويَصِ ّ
والفرقُ بينهما أن العِت َ
ل ملكه بالعتق عن ذى رحمه المحرَمِ
يكون الملك سببًا لزواله بالعتق لزواله عقلً وشرعاً ،كما يزو ُ
ل هذا يُشرع فيه
بشرائه ،وكما لو اشترى عبدًا لِيعتقه فى كفارة أو نذر ،أو اشتراه بشرط العِتق ،وكُ ّ
جعل الملك سبباً للعتق ،فإنه قُربة محبوبة لّ تعالى ،فشرع ال سبحانه التوسلَ إليه بكل وسيلة
ض الحلل إليه ،ولم يجعل
مفضية إلى محبوبه ،وليس كذلك الطلقُ ،فإنه بغيضُ إلى ال ،وهو أبغ ُ
ن أن تعليق العتق بالملك من باب نذر ال ُق َربِ
ملك البُضع بالنكاح سببًا لزالته ألبتة ،وفرقٌ ثا ٍ
والطاعات والتبرر ،كقوله :لئن آتانىَ ال مِن فضله ،لتصدقن بكذا وكذا ،فإذا وُجِ َد الشرطُ ،لزمه ما
علقه به من الطاعة المقصودة ،فهذا لونٌ ،وتعليقُ الطلق على الملك لونٌ آخر.
ض والنفساء والموطوءةِ فى
ل ال صلى ال عليه وسلم فى تحريم طلق الحائ ِ
حكْمُ رسو ِ
طُهرها ،وتحريم إيقاع الثلث جملة
فى ((الصحيحين)) :أن ابن عمر رضي ال عنه طلق امرأته وهى حائض على عهد رسول
ل ال صلى ال عليه
ال صلى ال عليه وسلم ،فسأل عمرُ بن الخطاب رضى ال عنه عن ذلك رسو َ
ك َبعْدَ
سَط ُهرَ ،ثُ ّم إنْ شَا َء َأمْ َ
ط ُه َر ثُمّ تَحيضَ ،ثُ ّم تَ ْ
حتّى تَ ْ
سكْها َ
جعْها ثُ ّم ليمْ ِ
وسلم فقالُ (( :م ْرهُ َف ْل ُيرَا ِ
ق لَها النّسَاءُ)).
طلّ َ
ن تُ َ
لّ أَ ْ
ك العِ ّدةُ التى َأ َمرَ ا ُ
ن َيمَسَّ ،ف ِت ْل َ
ل أَ ْ
َذِلكَ ،وإنْ شَا َء يُطلّقُ َقبْ َ
طلّقْها طاهِراً أو حامِلً)).
جعْها ،ثُ ّم ِليُ َ
ولمسلم(( :مُ ْرهُ َف ْل ُيرَا ِ
ق ِل ْلعِدّ ِة َكمَا َأ َم َرهُ ال تَعالى)).
ك الطّل ُ
ن يَمسّ ،فذِل َ
وفى لفظ(( :إنْ شَا َء طلّقَها طاهِراً َقبْل أ ْ
طلّقْها فى ُقبُلِ عِ ّدتِها)).
جعْها ثُ ّم ليُ َ
وفى لفظ للبخارى(( :مُ ْرهُ َف ْل ُيرَا ِ
وفى لفظ لحمد ،وأبى داود ،والنسائى ،عن ابن عمر رضى ال عنهما :قال :طلق عبد ال
بن عمر امرأتَه وهى حائِض ،فردّها عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولم يرها شيئاً ،وقال:
117
سكْ)) .وقال ابن عمر رضى ال عنه :قرأ رسول ال صلى ال عليه
ق َأ ْو ِل ُيمْ ِ
طلّ ْ
ط ُه َرتْ َف ْليُ َ
((إذَا َ
طلّقُوهُنّ} [الطلق ]1 :فى ُقبُلِ عِ ّد ِتهِنّ.
طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ فَ َ
ى إذَا َ
وسلم{ :يَأيّها النّب ّ
ق على أربعة أوجه :وجهانِ حلل ،ووجهان حرام.
فتضمّن هذا الحك ُم أن الطل َ
فالحللن :أن يطلّق امرأته طَاهرًا مِن غير جماع ،أو يُطلّقها حاملً مستبيناً حملها.
طلّقها وهى حائض ،أو يُطلّقها فى طهرٍ جامعها فيه هذا فى طلق المدخول
والحرامان :أن يُ َ
بها.
عَل ْيكُمْ إنْ
جنَاحَ َ
وأما من لم يدخل بها ،فيجوز طلقُها حائضاً وطاهراً ،كما قال تعالى{ :لَ ُ
ن َأوْ تَ ْف ِرضُوا َلهُنّ َفرِيضَةً} [البقرة.]236 :
طلّ ْقتُمُ النّسَا َء مَا لَ ْم َتمَسّوهُ ّ
َ
ن َتمَسّوهُنّ َفمَالكُمْ
لأ ْ
طلّ ْق ُتمُوهُنّ مِنْ َقبْ ِ
حتُ ُم ال ُم ْؤ ِمنَاتِ ثُمّ َ
وقال تعالى{ :يَأيّها الّذِينَ آ َمنُوا إذَا َنكَ ْ
طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ}
عَل ْيهِنّ مِنْ عِ ّدةٍ َت ْعتَدّونَها} [الحزاب ]49 :وقد دل على هذا قولُه تعالى{ :فَ َ
َ
ك العِ ّدةُ الّتى
ل ال صلى ال عليه وسلم بقولهَ (( :ف ِت ْل َ
[الطلق ]1:وهذه ل عِدة لها ،ونبّه عليه رسو ُ
ن اللتان فيهما إباح ُة الطلق قبل الدخول ،لمنع مِن
طلّق َلهَا النّسَاء)) ،ولول هاتان اليتا ِ
لّ أَنْ تُ َ
أَمرَ ا ُ
طلق مَنْ ل عِدة له عليها.
خ ِب َر رسول ال صلى ال عليه
وفى سنن النسائى وغيره :من حديث محمود بن لبيد ،قال :أُ ْ
لّ وَأنَا َبيْنَ
ل طلّق امرأته ثلثَ تطليقاتٍ جمعياً ،فقا َم غضبان ،فقال(( :أ ُي ْل َعبُ ِب ِكتَابِ ا ِ
وسلم عن رجُ ِ
ظ ُه ِركُم)) ،حتى قام رجلٌ ،فقال :يا رسولَ ال ،أفل أق ُتلُه.
أَ ْ
ع َمرَ رضى ال عنه ،أنه كان إذا سئل عن الطلق قالَ :أمّا
وفى ((الصحيحين)) :عن ابن ُ
ن ُك ْنتَ
ك َم ّرةً َأ ْو َم ّرتَين ،فإِنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم أمرنى بهذا ،وإ ْ
ت ا ْمرََأ َت َ
طلّ ْق َ
َأ ْنتَ إن َ
ق ا ْمرََأ ِتكَ.
عَليْكَ حتى َت ْنكِحَ زوجًا غي َركَ ،وعصيتَ ال فِيمَا أ َمرَك مِنْ طَل ِ
ح ُر َمتْ َ
طلّقتها ثلثاً ،فقد َ
ص أن المطلّقة نوعان :مدخولٌ بها ،وغيرُ مدخول بها ،وكلهما ل
فتض ّم َنتْ هذه النصو ُ
يجوز تطليقها ثلثاً مجموعة ،ويجو ُز تطليقُ غيرِ المدخولِ بها طاهراً وحائضاً.
وأما المدخولُ بها ،فإن كانت حائضًا أو نفساء ،حرم طلقُها ،وإن كانت طاهراً فإن كانت
جزْ طلقها بعد الوطء فى طُهر
مستبينَةَ الحمل ،جاز طلقُها بعد الوط ِء وقبله ،وإن كانت حائلً لم يَ ُ
الصابة ،ويجوز قبلَه هذا الذى شرعه الُّ على لسان رسولهِ مِن الطلق ،وأجمعَ المسلمون على
ع الطلق الذى أذن ال فيه ،وأباحه إذا كان مِن مكّلفٍ مختارٍ ،عالم بمدلول اللفظ ،قاصدٍ له.
وقو ِ
واختلفوا فى وقوع المحرّم من ذلك ،وفيه مسألتان.
118
المسألة الولى :الطلق فى الحيض ،أو فى الطهر الذى واقعها فيه.
المسألة الثانية :فى جمع الثلث ،ونحن نذكر المسألتين تحريرًا وتقريراً ،كما ذكرناهما
حجَجَ الفَريقينِ ،ومنتهى أقدام الطائفتينِ ،مع العلم بأن المقلّد المتعصّب ل يتركُ مَنْ
تصويراً ،ونذكر ُ
حكّ ُم إل إياه ،ولِكل من الناس َموْردُ ل
ل آية ،وإن طالبَ الدليل ل يأت ّم بسواه ،ول يُ َ
قَلده ولو جاءته كُ ّ
ل ما انتهت إليه قواه ،وسعى إلى حيث انتهت إليه
حمَ َ
يتعداه ،وسبيل ل يتخطاه ،ولقد عُ ِذرَ مَنْ َ
خُطاه.
فأما المسأل ُة الولى ،فإن الخلفَ فى وقوع الطلق المحرّم لم يزل ثابتًا بين السلف
والخلف ،وقد وَهِ َم من ادعى الجماعَ على وقوعه ،وقال بمبلغ علمه ،وخفى عليه مِن الخلف ما
ل الناسَ
اطلع عليه غيرُه ،وقد قال المامُ أحمد :من ادعى الجماع ،فهو كاذب ،وما يُدريه لع ّ
اختلفوا.
ف بين الناس فى هذه المسألة معلو ُم الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين؟ قال
كيف والخل ُ
محمد بن عبد السلم الخُشنى :حدثنا محمد بن بشار ؛ حدثنا عبد الوهّاب بنُ عبد المجيدِ الثقفى،
حدثنا عُبيد ال بن عمر ،عن نافع مولى ابن عمر ،عن ابن عمر رضى ال عنه أنه قال فى رجل
طلق امرأته وهى حائض .قال ابن عمر :ل يعتد بذلك ،ذكره أبو محمد ابن حزم فى ((المحلى))
بإسناده إليه.
وقال عبد الرزاق فى ((مصنفه)) :عن ابن جريج ،عن ابن طاووس ،عن أبيه أنه قال :كان
طلّقَها طاهِراً مِن
ل يرى طلقاً ما خالفَ وج َه الطّلقِ ،ووجُ َه العِدة ،وكان يقول :وج ُه الطلقِ :أن يُ َ
غير جماع وإذا استبان حملُها.
وقال الخُشنى :حدثنا محمد بنُ المثّنى ،حدثنا عبدُ الرحمن بن مهدى ،حدثنا همّام بن يحيى ،عن
قتادة ،عن خِلس بن عمرو أنه قال فى الرجل يُطلّق امرأته وهى حائض :قال :ل ُي ْعتَدّ بها قال أبو
ن ادّعى الجماعَ على خلف هذا ،وهو ل يجد فيما يُوافق
محمد ابن حزم :والعجبُ من جُرأة م ِ
قوله فى إمضاء الطلق فى الحيض أو فى طهر جامعها فيه كلمة عن أحدٍ من الصحابة رضى ال
عنهم غي َر رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسنُ منها عن ابن عمر ،وروايتين عن عُثمان
وزيدِ بن ثابت رضى ال عنهما .إحداهما :رويناها من طريق ابن وهب عن ابنِ سمعان ،عن رجل
أخبره أن عثمانَ بن عفان رضى ال عنه كان يقضى فى المرأة التى يُطلّقُها زوجها وهى حائض
أنها ل تعتدّ بحيضتها تلك ،وتعتدّ بعدَها بثلثة قروء .قلت :وابن سمعان هو عبد ال بن زياد بن
119
سمعان الكذاب ،وقد رواه عن مجهول ل يُعرف .قال أبو محمد :والخرى من طريق عبد الرزاق،
عن هشام بن حسان ،عن قيس بن سعد مولى أبى علقمة ،عن رجل سماه ،عن زيد بن ثابت أنه قال
فيمن طلّق امرأَته وهى حائض :يلزمه الطلقُ ،وتعتد بثلثِ حيض سوى تلك الحيضة.
قال أبو محمد :بل نحنُ أسعدُ بدعوى الجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزوُن ونعوذُ بالّ
من ذلك ،وذلك أنه ل خلفَ بين أح ٍد من أهل العلم قاطبة ،ومن جملتهم جميع المخالفين لنا فى ذلك
أن الطلق فى الحيض أو فى طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم
مخالفة لمره ،فإذا كان ل شك فى هذا عندهم ،فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التى يقرون
أنها بدعةٌ وضللة ،أليس بحكم المشاهدة مجيزُ البدعة مخالفاً لجماع القائلين بأنها بدعة؟ قال أبو
محمد :وحتي لو لم يبلغنا الخلفُ ،لكان القاط ُع على جميع أهل السلم بما ل يقين عنده ،ول بلغه
عن جميعهم كاذبًا على جميعهم.
ح المتيقنُ إل بيقين مثله من
قال المانعون من وقوع الطلق المحرم :ل ُيزَالُ النكا ُ
حكْ َم النّكاح به ،ول
كتاب ،أو سنة ،أو إجماع متيقّن .فإذا أوجدتمونا واحدًا من هذه الثلثة ،رفعنا ُ
ل إلى رفعه بغير ذلك .قالوا :وكيف والدل ُة المتكاثِرةٌ تدل على عدم وقوعه ،فإن هذا طلق لم
سَبي َ
يشرعه ال تعالى ألبتة ،ول أذن فيه ،فليس من شرعه ،فكيف يُقال بنفوذه وصحته؟
قالوا :وإنما يقع من الطلق المحرم ما ملّكه ال تعالى للمطلّق ،ولهذا ل يقع
به الرابعةُ ،لنه لم يملّكها إياه ،ومن المعلوم أنه لم يملّكه الطلقَ المحرم ،ول أذن له فيه ،فل
يصح ،ول يقع.
ل أن يُطلّق امرأتَه طلقاً جائزاً ،فطلّق طلقاً محرماً ،لم يقع ،لنه غيرُ
قالوا :ولو وكل وكي ً
مأذون له فيه ،فكيف كان إذن المخلوف معتبراً فى صحة إيقاع الطلق دون إذن الشارع ،ومِن
ل للتصرف البتة.
المعلوم أن المكّلفَ إنما يتصرف بالذن ،فما لم يأذن به ال ورسولُه ل يكون مح ً
طلّق فى حال الحيض أو بعد الوطءِ
قالوا :وأيضاً فالشارِعُ قد حجر على الزوج أن يُ َ
فى الطهر ،فلو صح طلقُه لم يكن لحجر الشارع معنى ،وكان حجرُ القاضى على من منعه
ل التصرفَ بحجره.
التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يُبطِ ُ
ت النداءِ يومَ الجمعة ،لنه بيعٌ حجر الشارعُ على بائعه هذا
قالوا :وبهذا أبطلنا البيعَ وق َ
الوقتَ ،فل يجوز تنفيذُه وتصحيحه.
120
ى يقتضى فسا َد المنهى عنه ،فلو
قالوا :ولنه طلقٌ محرم منهى عنه ،فالنه ُ
صححناه ،لكان ل فرق بين المنهى عنه والمأذونِ فيه من جهة الصحة والفساد.
ع إنما نهى عنه وحرمه ،لنه يُب ِغضُه ،ول يُحبّ وقوعه ،بل وقوعُه
قالوا :وأيضاً فالشارِ ُ
مكروه إليه ،فحرّمه لِئل يقع ما يُبغضه ويكرهه ،وفى تصحيحه وتنفيذه ضِد هذا المقصود.
قالوا :وإذا كان النكاحُ المنهى عنه ل َيصِحّ لجل النهى ،فما الفرقُ بينه وبين الطلق،
وكيف أبطلتم ما نهى ال عنه من النكاح ،وصححتم ما حرّمه ونهى عنه من الطلق ،والنهى
يقتضى البطلن فى الموضعين؟
قالوا :ويكفينا من هذا حُكمُ رسولِ ال صلى ال عليه وسلم العام الذى ل تخصيص
فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغاءه ،كما فى ((الصحيح)) عنه ،من حديث عائشة رضى ال
عَليْ ِه َأ ْمرُنا َف ُهوَ
ل َليْس َ
عمَ ً
عمِلَ َ
عَليْهِ َأ ْمرُنا َف ُه َو رَدّ)) وفى رواية(( :مَنْ َ
عمَلٍ َل ْيسَ َ
عنها(( :كُلّ َ
ح أن هذا الطلقَ المحرّم الذى ليس عليه أمرُه صلى ال عليه وسلم مردود باطل،
رَدّ)) .وهذا صري ُ
فكيف يُقال :إنه صحيح لزم نافذ؟ فأين هذا مِن الحكم برده؟
ق لم يشرعه ال أبداً ،وكان مردوداً باطلً كطلق
قالوا :وأيضاً فإنه طل ٌ
ل للطلق بخلف الزوجة ،فإن هذه الزوجة
الجنبية ،ول ينفعُكم الفرقُ بأن الجنبية ليست مح ً
ع إيّاه.
ليست محلً لِلطلق المحرّم ،ول هو مما ملّكه الشّارِ ُ
قالوا :وأيضاً فإن ال سبحان إنما أمر بالتسريح بإحسان ،ول أشر مِن التسريح الذى حرّمه
الُّ ورسُوله ،وموجب عقدِ النكاح أح ُد أمرين :إما إمساك بمعروف ،أو تسريح بإحسان ،والتسريح
ث غيرُهما ،فل عبرة به البتة.
المحرّم أمر ثال ُ
ن ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق:
طلّقُوهُ ّ
طلّ ُقتُمُ النّسَاءَ فَ َ
ى إذا َ
قالوا :وقد قال الُّ تعالى{ :يأيّها النّب ّ
لّ مرادَه مِن كلمه ،أن الطلق المشروع
ى صلى ال عليه وسلم المبيّنِ عن ا ِ
]1وصحّ عن النب ّ
المأذون فيه هو الطلقُ فى زمن الطهر الذى لم يُجامع فيه ،أو بعدَ استبانة الحمل ،وما عداهُما
فليس بطلق للعدة فى حق المدخول بها ،فل يكون طلقاً ،فكيف تحرم المرأة به؟
ق َم ّرتَانِ} [البقرة ،]229:ومعلوم أنه إنما أرادَ
قالوا :وقد قال تعالى{ :الطّلَ ُ
ق للعدة ،فدل على أن ما عداه ليس من الطلق ،فإنه حصر الطلقَ
الطلق المأذونَ فيه ،وهو الطل ُ
المشروع المأذونَ فيه الذى يملك به الرجعة فى مرتين ،فل يكون ما عداه طلقاً .قالُوا :ولهذا كان
الصحاب ُة رضى ال عنهم يقولون :إنهم ل طاقة لهم بالفتوى فى الطلق المحرّم ،كما روى ابنُ
121
وهب ،عن جرير بن حازم ،عن العمش ،أن ابن مسعود رضى ال عنه قال :من طلق كما أمره
ال ،فقد بيّن ال له ،ومن خالف ،فإنا ل نُطِيقُ خِلفه ،ولو وقع طلقُ المخالف لم يكن الفتا ُء به
غير مطاق لهم ،ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعانِ واقعينَ نافذين.
وقال ابن مسعود رضي ال عنه أيضاً :من أتى الم َر على وجهه فقد َبيّنَ ال له وإل فوالِّ
ما لنا طاقةٌ بكل ما تُحْ ِدثُون.
وقال بعض الصحابةِ قد سئل عن الطلق الثلث مجموعة :مَنْ طلّق كما أمر ،فقد ُبيّن له،
ومن لبّس ،تركناه وتلبيسه.
قالوا :ويكفى من ذلك كله ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت :حدثنا أحمد بن
صالح ،حدثنا عبد الرزاق ،حدثنا ابن جريج ،قال :أخبرنى أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن
ن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع :كيف ترى في رجل طلّق امرأته
أيمن مولى عروة يسأل اب َ
ع َم ُر عن ذلك رسول
حائضاً؟ فقال :طلّق ابنُ عمر على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فسأل ُ
ال صلى ال عليه وسلم ،فقال :إن عبد ال بن عمر طلق امرأته وهى حائض ،قال عبد ال :فردّها
لّ صلى ال
سكْ ،قال ابن عُمر :وقرأ رسول ا ِ
ق أو ِليُم ِ
طلّ ْ
علي ولم َيرَهَا شيئاً ،وقال :إذا طهرت فليُ َ
طلّقُوهُنّ} [الطلق ]1 :فى قبلِ عِ ّد ِتهِنّ .قالوا :وهذا إسناد
طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ فَ َ
عليه وسلم{ :يَأ ّيهَا النّبىّ إِذَا َ
فى غاية الصحة ،فإن أبا الزبير غيرُ مدفوع عن الحفظ والثقة ،وإنما يُخشى مِن تدليسه ،فإذا قال:
سمعتُ ،أو حدثنى ،زال محذو ُر التدليس ،وزالت العلةُ المتوهّمة ،وأكث ُر أهلِ الحديث يحتجّون به
إذا قال(( :عن)) ولم ُيصّرحْ بالسماع ،ومسلم يُصحّح ذلك من حديثه ،فأما إذا صرّحَ بالسماع ،فقد
زال الشكالُ ،وصحّ الحديثُ وقامت الحجة.
قالوا :ول نعلم فى خبر أبى الزبير هذا ما يُوجب ردّه ،وإنما رَدّه مَنْ ردّه استبعاداً واعتقاداً
أنه خلفُ الحاديث الصحيحة ،ونحن نحكى كلم من رده ،ونبين أنه ليس فيه ما يُوجب الرّد.
ث ُكلّها على خلف ما قال أبو الزبير.
قال أبو داود :والحادي ُ
ت مِن الحديثين أولى أن يُقال
وقال الشافعىّ :وناف ٌع أثبتُ عن ابن عمر مِن أبى الزبير ،والثب ُ
به إذا خالفه.
ج ْعهَا)) ،وقوله:
ت مِن هذا ،يعنى قوله((:م ْرهُ َف ْل ُيرَا ِ
وقال الخطابىّ :حديثُ يونس بن جبير أثب ُ
((أرأيتَ إن عجز واستحمق))؟ قال :فمه.
122
جلّةٌ ،فلم
قال ابنُ عبدِ البر :وهذا لم ينقله عنه أح ُد غير أبى الزبير ،وقد رواه عنه جماع ٌة أَ ِ
ت منه.
يقل ذلك أح ٌد منهم ،وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثلُه ،فكيف بخلف مَن هو أثب ٌ
ض أهلِ الحديث :لم ير ِو أبو الزبير حديثًا أنكرَ من هذا.
وقال بع ُ
فهذا جملة ما رُد به خب ُر أبى الزبير ،وهو عند التأمل ل يوجب رده ول بطلنه.
ل أبى داود :الحاديثُ كلها على خلفه ،فليس بأيديكم سوى تقليدِ أبى داود،
أما قو ُ
ضوْنَ ذلك ،وتزعمون أن الحج َة مِن جانبكم ،فدعوا التقليدَ ،وأخبرونا أين فى الحاديث
وأنتم ل تر َ
ث أبى الزّبير؟ فهل فيها حديثٌ واحد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
الصحيحة ما يُخالف حدي َ
لّ هذا خلف صريح لحديثِ
احتسب عليه تلك الطلقة ،وأمره أن يعتدّ بها ،فإن كان ذلك ،فنعم وا ِ
أبى الزبير ،ول تَجِدُون إلى ذلك سبيلً ،وغايةُ ما بأيديكم (( ُم ْرهُ فليراجعها)) ،والرجعة تستلزِمُ
وقوع الطلق .وقول ابن عمر .وقد سئل :أتعتد بتلك التطليقة؟ فقال(( :أرأيت إن عجز واستحمق))
ل على وقوعها،
وقول نافع أو مَنْ دونه(( :فحسبت من طلقها)) وليس وراءَ ذلك حرفٌ واحد يدُ ّ
ن كُلّ فى معارضتها،
والعتداد بها ،ول ريبَ فى صحة هذه اللفاظ ،ول مطعن فيها ،وإنما الشأ ُ
لقوله(( :فردّها علىّ ولم يرها شيئاً)) ،وتقديمها عليه ،ومعارضتها لتلك الدلة المتقدمة التى
سقناها ،وعند الموازنة يظهرُ التفاوتُ ،وعدمُ المقاومة ،ونحن نذكرُ ما فى كلِمةٍ كلمةٍ منها.
أما قوله(( :مره فليراجعها)) ،فالمراجعة قد وقعت فى كلم ال ورسول ِه على
ثلث معان.
(يتبع)...
ظنّا أَنْ
جعَا إنْ َ
عَل ْي ِهمَا أَنْ َي َترَا َ
جنَاحَ َ
طلّ َقهَا فَلَ ُ
أحدُها :ابتداءُ النكاح ،كقوله تعالى{:فَإِنْ َ @
ل العلم بالقرآن أن المطلّق هاهنا :هو
ف بينَ أح ٍد من أه ِ
يُقِيمَا حُدُودَ الِّ} [البقرة ،]230 :ول خل َ
الزوج الثانى ،وأن التراجُ َع بينها وبين الزوج الول ،وذلك نكاح مبتدأ.
وثانيهما :الرد الحسى إلى الحالة التى كان عليها أولً ،كقوله لبى النعمان بن بشير لما نَحَلَ
ابنه غلماً خصّه به دون ولده(( :رُدّه)) ،فهذا رد ما لم تصح فيه الهبةُ الجائزة التى سماها رسولُ
ال صلى ال عليه وسلم جوراً ،وأخبر أنها ل تصلُح ،وأنها خلف العدل ،كما سيأتى تقريرُه إن
شاء ال تعالى.
ومِن هذا قوله لمن فرّق بين جارية وولدها فى البيع ،فنهاه عن ذلك ،ورد البيع وليس هذا
الرد مستلزمًا لصحة البيع ،فإنه بيعٌ باطل ،بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا ،وهكذا
123
المر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الجتماع كما كانا قبل الطلق ،وليس فى
ذلك ما يقتضى وقوع الطلق فى الحيض البتة.
ت إن عجز واستحمق)) ،فيا سبحانَ ال أين البيان فى هذا اللفظ بأن تلك
وأما قوله(( :أرأي َ
ل ال صلى ال عليه وسلم ،والحكام ل تُؤخذ بمثل هذا ولو كان رسولُ ال
الطلقة حَسبَها عليه رسو ُ
ل عن الجواب بفعله وشرعه إلى:
صلى ال عليه وسلم قد حسبها عليه ،واعتدّ عليه بها لم َيعْدِ ْ
ل للسائل عن صريح السنة إلى لفظة
أرأيتَ ،وكان ابنُ عمر أكره ما إليه ((أرأيت)) ،فكيف َيعْدِ ُ
((أرأيت)) الدالة على نوع من الرأى سببُه عجز وحمقُه عن إيقاع الطلق على الوجه الذى أذن ال
له فيه ،والظهر فيما هذه صفتُه أنه ل يُعتدى به ،وأنه ساقط من فعل فاعله ،لنه ليس فى دين ال
تعالى حكم نافذ سببُه العجزُ والحمقُ عن امتثال المر ،إل أن يكون فعلً ل يمكن ردّه بخلف
العقود المحرّمة التى مَنْ عقدها على الوجه المحرّم ،فقد عجز واستحمق ،وحينئذ ،فيُقال هذا أدلّ
ف أمر ال ورسوله ،فيكون
على الر ّد منه على الصحة واللزوم ،فإنه عقدُ عاجز أحمق على خل ِ
مردوداً باطلً ،فهذا الرأىُ والقياس أدلّ على بطلن طلق مَن عجز واستحمق منه على صحته
واعتباره.
س ّمىَ فاعله ،ظهر ،وتبين،
ت مِن طلقها .ففعل مبنى لما لم يسم فاعله ،فإذا ُ
س َب ْ
وأما قولُه :فحُ ِ
ل ألبتة .وسواء كان القائلُ:
ل المجهولِ دلي ٌ
هل فى حُسبانه حجة أو ل؟ وليس فى حُسبان الفاع ِ
((فحسبت)) ابن عمر أو نافعًا أو من دونه ،وليس فيه بيان أن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو
الذى حسبها حتى تلتزمَ الحجةُ به ،وتحرم مخالفته ،فقد تبين أن سائرَ الحاديث ل تُخَاِلفُ حديث
أبى الزبير ،وأنه صريح فى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يرها شيئاً ،وسائر الحاديث
مجملة ل بيان فيها.
ى صعباً ،وأبطلتُم أكثرَ طلق
قال الموقعون :لقد ارتقيتُم أيها المانعون مرتق ً
شوْا خِلفَ الجمهور ،وشذذتُم
طلّقين ،فإن غالِبه طلق بدعى ،وجاهرتُم بخلف الئمة ،ولم تتحا َ
المُ َ
ل الذى أفتى جمهو ُر الصحابة ومَنْ بعدهم بخلفه ،والقرآنُ والسنن تدل على بطلنه .قال
بهذا القو ِ
غ ْي َرهُ} [البقرة ،]230:وهذا يعم كُلّ طلق،
ح َزوْجاً َ
حتّى َت ْنكِ َ
ن َبعْدُ َ
ل لَهُ مِ ْ
طلّقَها فَلَ َتحِ ّ
تعالىَ { :فإِنْ َ
لثَةَ ُقرُوءٍ} [البقرة ،]228 :ولم يفرّق ،وكذلك قوله
ن ثَ َ
سهِ ّ
ت َيتَر ّبصْنَ بَأنْفُ ِ
وكذلك قوله{ :والمُطَلّقَا ُ
ت َمتَاعٌ} [البقرة ،]241:وهذه مطلّقة
طلّقَا ِ
ق َم ّرتَانِ} [البقرة ، ]229:وقوله{ :وِل ْلمُ َ
تعالى{ :الطّل ُ
وهى عمومات ل يجوز تَخصيصُها إل بنص أو إجماع.
124
ن عمر دليل على وقوع الطلق المحرّم من وجوه.
ث اب ِ
قالوا :وحدي ُ
أحدها :المرُ بالمراجعة ،وهى لَمّ شعثِ النكاح ،وإنما شعثه وقوعُ الطلق.
ل ابن عمر ،فراجعتُها ،وحسبت لها التطليقة التي طلّقها ،وكيف يُظن بابن عمر
الثانى :قو ُ
أنه يخالف رسول ال صلى ال عليه وسلم فيحسبها مِن طلقها ورسولُ ال صلى ال عليه وسلم لم
يرها شيئاً.
ل ابنِ عمر لما قيل له :أيحتسب بتلك التطليقة؟ قال :أرأيتَ إن عجز واستحمق،
الثالث :قو ُ
أى :عجزُه وحمقُه ل يكون عذراً له فى عدم احتسابه بها.
الرابع :أن ابن عمر قال :وما يمنعُنى أن أعتدّ بها ،وهذا إنكا ٌر منه لعدم العتداد بها ،وهذا
ُيبْطِلُ تلك اللفظة التى رواها عنه أبو الزبير ،إذ كيف يقولُ ابن عمر :وما يمنعُنى أن أعتد بها؟ وهو
يرى رسولَ ال قد ردّها عليه ،ولم يرها شيئاً.
الخامس :أن مذهبَ ابن عمر العتداد بالطلقِ فى الحيض ،وهو صاحبُ القصة وأعلمُ
الناس بها ،وأشدّهم اتباعًا للسنن ،وتحرّجًا من مخالفتها .قالوا :وقد روى ابن وهب فى ((جامعه))،
ع َمرُ
حدثنا ابن أبى ذئب ،أن نافعاً أخبرهم عن ابن عمر ،أنه طلق امرأته وهى حائض ،فسأل ُ
ط ُه َر ثُ ّم تَحيضَ
حتّى تَ ْ
سكْها َ
ج ْعهَا ثُ ّم ِل ُيمْ ِ
رسول ال صلى ال عليه وسلم عن ذلك ،فقالُ (( :مرْهُ َف ْل ُيرَا ِ
طلّقَ
ن تُ َ
لّ أ ْ
ك العِدّ َة التى أ َمرَ ا ُ
ل أَنْ َي َمسَّ ،ف ِت ْل َ
طلّقَ َقبْ َ
ك وإنْ شَاءَ َ
ك َبعْدَ َذِل َ
سَط ُهرَ ،ثُ ّم إنْ شا َء أمْ َ
ثُ ّم تَ ْ
َلهَا النّسَاءُ)) وهى واحدة هذا لفظ حديثه.
قالوا :وروى عبد الرزاق ،عن ابن جريج قال :أرسلنا إلى نافع وهو يترجّلُ فى دار الندوة
ذاهبًا إلى المدينة ،ونحنُ مع عطاء :هل حسبت تطليقة عبد ال بن عمر امرأته حائضًا علي عهد
رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ قال :نعم.
قالوا :وروى حمادُ بن زيد ،عن عبد العزيز بن صهيب ،عن أنس رضى ال عنه قال :قال
عتَهُ)) ،رواه عبد الباقى بن قانع،
طلّقَ فى بدْعَ ٍة َأ ْل ْز َمنْاهُ بِدْ َ
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم(( :مَنْ َ
عن زكريا الساجى حدثنا إسماعيل بن أمية الذارع حدثنا حماد فذكره.
قالوا :وقد تقدّم مذهبُ عثمان بن عفان ،وزيد بن ثابت فى فتواهما بالوقوع.
قالوا :وتحريمُه ل يمنع ترتب أثره ،وحكمه عليه كالظّهار ،فإنه منكر من القول وزور،
ق البدعى
وهو محرّم بل شك ،وترتب أثره عليه وهو تحري ُم الزوجة إلى أن يك ّفرَ ،فهكذا الطل ُ
محرّم ،ويترتب عليه أثره إلى أن يُراجع ،ول فرق بينهما.
125
ح ُر َمتْ عليكَ حتي تنكِحَ زوجًا غيرَك وعصيتَ
ل للمطلق ثلثاًَ :
قالوا :وهذا ابنُ عمر يقو ُ
ربك فيما أمرك به من طلق امرأتك .فأوقع عليه الطلق الذى عصى به المطلق ربه عز وجل.
قالوا :وكذلك القذفُ محرّم ،وترتب عليه أثرهُ من الحدّ ،وردّ الشهادة وغيرهما.
قالوا :والفرقُ بين النكاح المحرم ،والطلق المحرّم ،أن النكاحَ عقد يتضمّن حِلّ
الزوجة ومُلك بُضعها ،فل يكون إل على الوجهِ المأذون فيه شرعاً ،فإن البضَاع فى الصل على
ط لحقه ،وإزالةٌ لملكه ،وذلك
التحريم ،ول يُباح منها إل ما أباحه الشارع ،بخلف الطلق ،فإنه إسقا ٌ
ل يتو ّقفُ على كون السبب المزيل مأذوناً فيه شرعاً ،كما يزولُ ملكه عن العين بالتلف المحرّم،
وبالقرار الكاذب ،وبالتبرع المحرّم ،كهبتها لمن يعلم أنه يستعين بها على المعاصى والثام.
ن أصلُ العقود وأجلّها وأشرفُها ،يزول بالكلم المحرّم إذا كان كفراً فكيف ل
قالوا :واليما ُ
يزولُ عقدُ النكاح بالطلق المحرّم الذى وضع لزالته.
ل له الهزل
قالوا :ولو لَم يكن معنا فى المسألة طلقُ الهازل ،فإنه يقع مع تحريمه لنه ل يَحِ ّ
بآيات ال ،وقد قال النبى صلى ال عليه وسلم(( :ما بالُ أقوا ٍم يتّخِذُون آيات ال هزواً :طلقتُك
راجعتُك ،طلقتُك راجعتُك)) فإذا وقع طلقُ الهازل مع تحريمه ،فطلقُ الجا ّد أولى أن يقع مع
تحريمه.
قالوا :وفرق آخر بين النكاح المحرّم ،والطلق المحرم ،أن النكاحَ نعمة ،فل تُستباح
بالمحرمات ،وإزالتُه وخروجُ البُضع عن ملكه نِقمة ،فيجو ُز أن يكون سببها محرماً.
ط يقتضى وقوعَ الطلق ،وتجديد الرجعة
قالوا :وأيضاً فإن الفروجَ يُحتاط لها ،والحتيا ُ
والعقد.
ب والقبول ،والولى
عهِدْنا النكاحَ ل يُدخل فيه إل بالتشدي ِد والتأكيدِ من اليجا ِ
قالوا :وقد َ
ج الخروج مِنه إلى
خرَجُ منه بأيسر شىء ،فل يحتا ُ
والشاهدين ،ورِضى الزوجة المعتبرِ رضاها ،ويُ ْ
شىء من ذلك ،بل يُدخل فيه بالعزيمة ،ويُخرج منه بالشبهة ،فأين أحدُهما من الخر حتى يُقاسَ
عليه.
ع ُكلّهم قديماً وحديثاً :طلق امرأتَه وهى حائض،
قالوا :ولو لم يكن بأيدينا إل قولُ حملةِ الشر ِ
ق على أربعة
والطلق نوعان :طلق سنة ،وطلق بدعة ،وقول ابن عباس رضى ال عنه :الطل ُ
أوجه :وجهانِ حللٌ ،ووجهانِ حرام ،فهذا الطلق والتقسيمُ دليل على أنه عندهم طلق حقيقة،
وشمولُ اس ِم الطلق له كشموله للطلق الحللِ ،ولو كان لفظاً مجردًا لغواً لم يكن له حقيقة ،ول
126
قيل :طلق امرأته ،فإن هذا اللفظ إذا كان لغواً كان وجودُه كعدمه ،ومثلُ هذا ل يقال فيه :طلق ،ول
يقسم الطلق وهو غيرُ واقع إليه وإلى الواقع ،فإن اللفاظ اللغية التى ليس لها معانٍ ثابتة ل
تكونُ هى ومعانيها قسماً من الحقيقة الثابتة لفظاً ،فهذا أقصى ما تمسّك به الموقعون ،وربما ادعى
بعضهم الجماع لعدم علمه بالنزاع.
قال المانعون من الوقوع :الكل ُم معكم فى ثلث مقاماتٍ بها يستبينُ الحقّ في
المسألة.
المقام الول :بطلنُ ما زعمتم من الجماع ،وأنه ل سبيل لكم إلى إثباته ألبتة بل العلمُ
بانتفائه معلوم.
ل الجمهور ليس بحجة.
ل على صحته ،وقو ُ
المقام الثانى ،أن فتوى الجمهور بالقول ل يد ّ
المقام الثالث :أن الطلق المحرّم ل يدخل تحتَ نصوص الطلق المطلقة التى رتب الشارعُ
عليها أحكام الطلق ،فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلث ،كنا أسع َد بالصواب منكم فى
ن دعوى الجماع،
المسألة.فنقول :أما المقام الول ،فقد تقدم مِن حكاية النزاع ما يُعلم معه بطل ُ
ل إلى إثبات الجماع الذى تقومُ به الحجة ،وتنقطِعُ معه
كيف ولو لم يعلم ذلك ،لم يكن لكم سبي ٌ
ع القطعى المعلوم.
المعذرة ،وتحر ُم معه المخالفة ،فإن الجماع الذى يُوجب ذلك هو الجما ُ
وأما المقام الثانى :وهو أن الجمهورَ على هذا القول ،فَأ ْوجِدُونا فى الدلة الشرعية أن قولَ
الجمهور حجةٌ مضافة إلى كتاب ال وسنة رسوله ،وإجماع أمته.
ومن تأمّل مذاهب العلماء قديماً وحديثًا من عهد الصحابة وإلى الن ،واستقرأ
أحوالهم وجدهم مُجمعين على تسويغ خلف الجمهور ،ووجد لِكل منهم أقوالً عديدة انفرد بها عن
الجمهور ،ول يُستثنى من ذلك أحد قط ،ولكن مستقِلّ ومستكثِر ،فمن شئتم سميتموه من الئمة
تتبّعوا ما له من القوال التى خالف فيها الجمهور ،ولو تتبعنا ذلك وعددناه ،لطال الكتابُ به جداً،
ونحن نُحيلُكم على الكتب المتضمِنة لمذاهب العلماء واختلفهم ،ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم
يأخذُ إجماعَهم على ذلك مِن اختلفهم ،ولكن هذا فى المسائل التى يسوغُ فيها الجتها ُد ول تدفعُها
السنةُ الصحيح ُة الصريحة ،وأما ما كان هذا سبيله ،فإنهم كالمتفقين على إنكارِه وردّه ،وهذا هو
المعلو ُم مِن مذاهبهم فى الموضعين.
وأما المقامُ الثالثُ :وهو دعواكم دخول الطلق المحرم تحت نصوص الطلق ،وشمولها
ل أنواع البيعِ المحرّم ،والنكاح
للنوعين إلى آخر كلمكم ،فنسألُكم :ما تقولُون فيمن ادّعى دخو َ
127
المحرّم تحت نصوص البيع والنكاح ،وقال :شمولُ السم للصحيح من ذلك والفاسد سواء ،بل
وكذلك سائ ُر العقود المحرمة إذا ادّعى دخلوها تحت ألفاظ العقود الشرعية ،وكذلك العباداتُ
المحرّمة المنهى عنها إذا ادعى دخولَها تحت اللفاظ الشرعية ،وحكم لها بالصّحة لشمولِ السم
ل معلومَ
ل لكم إلى ذلك ،كان قو ً
لها ،هل تكون دعواه صحيحة أو باطلة؟ فإن قُلتُم :صحيحة ول سبي َ
الفسا ِد بالضرورة من الدين ،وإن قلتُم :دعواه باطلة ،تركتُم قولكم ورجعتم إلى ما قلناه ،وإن قلتم:
طرِد منع ِكسٍ ،معكم به برهانُ
ن صحيح م ّ
تُقبلُ فى موضع ،وتُردّ فى موضع ،قيل لكم :ففرّقوا بفُرقا ٍ
من ال بينَ ما يدخل من العقود المحرّمة تحتَ ألفاظ النصوص ،فيّثبتُ له حك ُم الصحة ،وبينَ ما ل
يدخل تحتها ،فيثبتُ له حك ُم البطلن ،وإن عجزتُم عن ذلك ،فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى
شفَ الغطاء
ج لِقوله ل بقوله ،وإذا كُ ِ
حتَ ّ
ن كُلّ أحدٍ مقابلتها بمثلها ،أو العتماد على من يُ ْ
التى يُحْسِ ُ
عما قررتموه فى هذه الطريق وُجِ َد عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة فى الدليل ،وذلك عينُ
المصادرة على المطلوب ،فهل وقع النزاعُ إل فى دخول الطلق المحرّم المنهى عنه تحتَ قوله:
لثَةَ ُقرُوءٍ}
ن ثَ َ
سهِ ّ
ت َي َت َر ّبصْنَ بَأنْفُ ِ
{وِل ْلمُطَلقَاتِ َمتَاعٌ} [البقرة ،]241 :وتحت قوله{ :والمُطَلّقَا ُ
[البقرة ]228:وأمثال ذلك ،وهل سلّم لكم منازعوكم قطّ ذلك حتى تجعلوه مقدّم ًة لدليلكم؟
ب منه إلى
قالوا :وأما استدللُكم بحديث ابن عمر ،فهو إلى أن يكون حج ًة عليكم أقر َ
أن يكون حج ًة لكم مِن وجوه.
أحدُها :صريح قوله :فردها علىّ ولم يرها شيئاً ،وقد تقدّم بيانُ صحته.
قالوا :فهذا الصريح ليسَ بأيديكم ما يُقاومه فى الموضعين ،بل جمي ُع تلك اللفاظ أما
صحيحة غيرُ صريحة ،وإما صريحةٌ غيرُ صحيحة كما ستقفون عليه.
الثانى :أنه قد صحّ عن ابن عمر رضى ال عنه بإسناده كالشمس من رواية عبيد ال ،عن
نافع عنه ،فى الرجل يُطلّق امرأته وهى حائض ،قال :ل ُي ْعتَ ّد بذلك وقد تقدم.
الثالث :أنه لو كان صريحاً فى العتداد به ،لما عدل به إلى مجرّد الرأى .وقوله للسائل:
أرأيتَ؟
الرابع :أن اللفاظ قد اضطربت عن ابن عمر فى ذلك اضطراباً شديداً ،وكلها صحيحة
ص صَريح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم فى وقوع
ل على أنه لم يكن عنده ن ّ
عنه ،وهذا يد ّ
تلك الطلقة والعتداد بها ،وإذا تعارضت تلك اللفاظُ ،نظرنا إلى مذهب ابن عمر ،وفتواه ،فوجدناه
128
صريحاً فى عدم الوقوع ،ووجدناه أحد ألفاظ حديثه صريحاً فى ذلك ،فقد اجتمع صريحُ روايته
ظ مجملة مضطربة ،كما تقدم بيانه.
وفتواه على عدم العتداد ،وخالف فى ذلك ألفا ُ
ل ابن عمر رضى ال عنه :وما لى ل أعتدّ بها ،وقوله :أرأيت إن عجزَ واستحمق،
وأما قو ُ
ن رواية صريحة عنه بالوقوع ،ويكون عنه روايتان.
فغاية هذا أن يكو َ
ل ال صلى ال عليه وسلم قد ردّها
وقولكم .كيف يفتى بالوقوع وهو يعلم أن رسو َ
عليه ولم يعت ّد عليه بها؟ فليس هذا بأوّل حديثٍ خالفه راويه ،وله بغيره مِن الحاديث التى خالفها
س َوةٌ حسنةٌ فى تقديم رواية الصحابى ومن بعده على رأيه.
راويها أُ ْ
وقد روى ابن عباس حديثَ برِيرة ،وأن بي َع المة ليس بطلقها ،وأفتى بخلفه ،فأخذ الناس
بروايته ،وتركوا رأيَه ،وهذا هو الصوابُ ،فإن الرواية معصومةُ عن معصوم ،والرأى بخلفها،
كيف وأصرحُ الروايتين عنه موافقتُه لما رواه من عدم الوقوع على أن فى هذا فِقهاً دقيقًا إنما يَعرِفُه
من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم ،وفهمِهم عن الِّ ورسوله ،واحتياطِهم للمة ،ولعلك
تراه قريبًا عند الكلمِ على حُكمه صلى ال عليه وسلم فى إيقاع الطلق الثلث جملة.
وأما قوله فى حديث ابن وهب عن ابن أبى ذئب فى آخره :وهى واحدة ،فلعمرُ ال لو كانت
ل وهلة،
هذه اللفظة من كلم رسول ال صلى ال عليه وسلم ما قدّمنا عليها شيئاً ،ولصِرنا إليها بأوّ ِ
ف إلى رسولِ
ولكن ل ندرى أقالها ابن وهب من عنده ،أم ابن أبى ذئب ،أم نافع ،فل يجوزُ أن ُيضَا َ
ال صلى ال عليه وسلم ما ل يُتيقّن أنه من كلمه ،ويشهد به عليه ،وترتب عليه الحكامُ ،ويقال:
ن دون ابن عمر رضى ال عنه،
ل مَ ْ
هذا من عند ال بِالوهم والحتمال ،والظاهر أنها من قو ِ
ومراده بها أن ابن عمر إنما طلّقها واحدة ،ولم يكن ذلك منه ثلثًا ؛ أى طلق ابن عمر رضى ال
عنه امرأته واحدة على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكره.
س َبتْ عليه ،فهذا غايتُه أن
وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع ،أن تطليقة عبد ال حُ ِ
يكون من كلم نافع ،ول يعرف من الذى حسبها ،أهو عبد ال نفسه ،أو أبوه عمر ،أو رسول ال
صلى ال عليه وسلم؟ ول يجوز أن يشهد على رسول ال صلى ال عليه وسلم بالوهم والحسبان،
وكيف يعارض صريح قوله :ولم يرها شيئاً بهذا المجمل؟ والّ يشهد وكفى بالّ شهيداً أنا لو تيقنا
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو الذى حسبها عليه لم نتعد ذلك ،ولم نذهب إلى سواه.
عتَهُ)) ،فحديث باطل على رسول
طلّقَ فى بِدْعَ ٍة َأ ْل َز ْمنَاه بِدْ َ
وأما حديث أنس(( :مَنْ َ
ال صلى ال عليه وسلم ،ونحن نشهد بالِّ أنه حديث باطل عليه ،ولم يروه أح ُد من الثقات من
129
أصحاب حماد بن زيد ،وإنما هو من حديث إسماعيل ابن أمية الذارع الكذاب الذى يذرَع ويفصل،
ى وغيرُه ،وكان قد اخ ُتلِطَ فى آخر عمره،
ثم الراوى له عنه عبد الباقى بن قانع ،وقد ضعفه البرقان ّ
ل هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثُه حجةً.
وقال الدارقطنى :يخطىء كثيراً ،ومث ُ
ح ذلك ول
وأما إفتاء عثمانَ بن عفان ،وزي ِد بن ثابت رضى ال عنهما بالوقوع ،فلو ص ّ
يصِحّ أبداً ،فإن أثر عثمان ،فيه كذّاب عن مجهول ل يعرف عينه ول حاله ،فإنه من رواية ابن
سمعان ،عن رجل ،وأثر زيد :فيه مجهول عن مجهول :قيس بن سعد ،عن رجل سماه عن زيد،
ن الروايتان مِن رواية عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثقفى ،عن عُبيد ال حافظ
فيالِّ العجب ،أين هاتا ِ
ن عمر أنه قال :ل ُي ْعتَ ّد بهَا .فلو كان هذا الثرُ من قبلكم ،لصُلتم به وجُلتم.
المة ،عن نافع ،عن اب ِ
وأما قولكم :إن تحريمه ل يمنع ترتّب أثره عليه ،كالظهار ،فيقال أولً :هذا قياسُ
يدفعه ما ذكرناه من النص ،وسائر تلك الدلة التى هى أرجح منه ،ثم يقال ثانياً :هذا معارَض بمثله
سواء معارضة القلب بأن يقال :تحريمُه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح ،ويقال ثالثاً :ليس للظهار
ن أن ينقسِ َم إلى
جهتانِ :جهة حل وجهة حرمة ،بل ُكلّه حرام فإنه منكر من القول وزور ،فل ُي ْمكِ ُ
حلل جائز ،وحرام باطل ،بل هو بمنزلة القذف مِن الجنبى والردة ،فإذا وجد لم يُوجد إل مع
مفسدته ،فل يتُصوّر أن يقال :منه حلل صحيح ،وحرام باطل ،بخلف النكاح والطلق والبيع
فالظهار نظيرُ الفعال المحرمة التى إذا وقعت ،قارنتها مفاسدُها فترتبت عليها أحكامُها ،وإلحاقُ
الطلق بالنكاح ،والبيع والجارة والعقود المنقسمة إلى حللٍ وحرامٍ ،وصحيحٍ وباطلٍ ،أولى.
وأما قولكم :إن النكاح عق ٌد يُملك به البُضع ،والطلقُ عقدٌ يخرج به ،فنعم.
مِن أين لكم برهان من الِّ ورسولِه بالفرق بين العقدين فى اعتبار حُكم أحدهما ،واللزام به
وتنفيذه ،وإلغاء الخر وإبطاله؟
وأما زوالُ ملكه عن العين بالتلف المحرّم ،فذلك ملك قَد زال حساً ،ولم يبق له محل .وأما
زوالُه بالقرار الكاذب ،فأبعد وأبعد ،فإنّا صدقناه ظاهراً فى إقراره وألزمنا ُم ْلكَه بالقرار المصدّق
فيه وإن كان كاذباً.
وأما زوال اليمان بالكل ِم الذى هو كفر ،فقد تقدم جوابُه ،وأنه ليس فى الكفر حلل وحرام.
وأما طلقُ الهازِلِ ،فإنما وقع ،لنه صادف محلً ،وهو طهر لم يُجامع فيه فنفذ
وكونُه هزل به إرادة منه أو ل يترتب أثرُه عليه ،وذلك ليس إليه ،بل إلى الشارع ،فهو قد أتى
بالسبب التام ،وأراد أل يكونَ سببه ،فلم ينفعْه ذلك ،بخلف من طلّق فى غير زمن الطلق ،فإنه لم
130
ب الّذى نصَبه الُّ سبحانه مفضيًا إلى وقوع الطلق ،وإنما أتي بسبب مِن عنده ،وجعله
يأت بالسّب ِ
هو مفضيًا إلى حكمه ،وذلك ليس إليه.
وأما قولُكم :إن النكاح نِعمة ،فل يكون سببُه إل طاعةً بخلف الطلق ،فإنه
من باب إزالة النعم ،فيجوزُ أن يكونَ س َببَ ُه معصيةً ،فيقال :قد يكون الطلق من أكبر النعم التى يفك
لّ على عباده
بها المطلق الغُل من عنقه ،والقيد من رِجله ،فليس كُلّ طلقٍ نِقمة ،بل مِن تمام نعمة ا ِ
ن زوج ،والتخلّصَ ممن ل يُحبها
أن مكّنهم مِن المفارقة بالطلق إذا أراد أحدُهم استبدالَ زوج مكا َ
ل الطلق ،ثم كيف يكون نِقمةُ والُّ
ن مث ُ
ن مثلُ النكاح ،ول للمتباغضي ِ
ول يُلئمها ،فلم يُر للمتحا ّبيْ ِ
طلّ ْقتُ ُم النّسَا َء مَا لَ ْم َتمَسّوهُنّ} [البقرة ،]236 :ويقول{ :يََأيّها النّبىّ
عَل ْيكُم إنْ َ
جنَاحَ َ
تعالى يقول{:لَ ُ
طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق]1 :؟.
طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ فَ َ
إذَا َ
ج يُحتاط لها ،فنعم ،وهكذا قلنا سواء ،فإنا
وأما قولُكم :إن الفرو َ
ن على يقينِ النكاح حتى يأتى ما يُزيلُه بيقين فإذا أخطأنا ،فخطؤُنا فى جهة
احتطنا ،وأبقينا الزوجي ِ
واحدة ،وإن أصبنا ،فصوابُنا فى جهتين ،جه ِة الزوج الولِ ،وجه ِة الثانى ،وأنتم ترتكبُون أمرينِ:
ل له بيقين ،وإحللَه لِغيره .فإن كان خطأ ،فهو خطأ مِن جهتين،
تحري َم الفرج على من كان حل ً
فتبيّن أنّا أولى بالحتياط منكم ،وقد قال الما ُم أحمد فى رواية أبى طالب :فى طلق السكران نظير
هذا الحتياط سواء ،فقال :الذى ل يأ ُمرُ بالطلق :إنما أتى خصلةً واحدةً ،والّذى يأمر بالطلق أتى
خصلتينِ حرّمها عليه ،وأحلّها لِغيره ،فهذا خي ٌر مِن هذا.
وأما قولُكم :إن النّكاحَ يدخل فيه بالعزيمة والحتياط ،ويُخرج
منه بأدنى شىء قلنا :ولكن ل يُخرج منه إل بما نصبَه ال سببًا يُخرج به منه ،وأذن فيه :وأما ما
صبُه المؤمِنُ عنده ،ويجعله هو سببًا للخروج منه ،فكلّ .فهذا منتهى أقدام الطائفتين فى هذه
ين ِ
ل لدى
عنّةَ أدلتها الفرسانُ ،وتتضاء ُ
المسألة الضيق ِة المعتركِ ،الوعر ِة المسلك التى يتجاذب أَ ِ
صولتها شجاعةُ الشجعانِ ،وإنما نبهنا على مأخذِها وأدّلتِها ليعلم ال ِغ ّر الذى بِضاعتُه مِن العلم
صرَ فى العلم باعُه ،فضعف خلف
مزجاة ،أن هناك شيئًا آخر وراءَ ما عنده ،وأنه إذا كان ممن َق ُ
ع ْزمِه ،وحامَ حولَ آثار رسول
صرَ عن جنى ثماره ذِراعُهَ ،ف ْل َيعْ ُذرْ مَنْ ش ّمرَ عن ساق َ
الدليل ،وتقا َ
ل همة ،وإن كانَ غيرَ عاذر لمنازعه فى
ال صلى ال عليه وسلم وتحكيمِها ،والتحاكم إليها بكُ ّ
قصورِه ورغبته عن هذا الشأن البعيد ،فليع ِذ ْر مُنازِعَه فى رغبته عما ارتضاه لنفسه مِن محض
ى السعيين أحقّ بأن يكون هو السعى المشكور ،والُّ
التقليد ،ولينظر مع نفسه أيّهما هو المعذورُ ،وأ ّ
131
ح لمن أمّ بابَه طالبًا لمرضاته من الخير كلّ
المستعان وعليه التّكلن ،وهو الموفّقُ للصواب ،الفاتِ ُ
باب.
فصل
فى حكمه صلى ال عليه وسلم فيمن طلق ثلثًا بكلمة واحدة
قد تقدم حديثُ محمود بن لبيد رضى ال عنه :أن رسولَ ال صلى ال عليه وسلم أُخْب َر عن
لّ وَأنَا َبيْنَ
ب ِب ِكتَابِ ا ِ
رجل طلّق امرأته ثلثَ تطليقات جميعاً ،فقام مُغضبَاً ،ثم قالَ(( :أ ُي ْلعَ ُ
ظ ُه ِركُمْ؟!)) ،وإسناده على شرط مسلم ،فإن ابن وهب قد رواه عن مخرمة بن بُكير بن الشج ،عن
أَ ْ
أبيه قال :سمعت محمود بن لبيد فذكره ،ومخرمة ثقة بل شك ،وقد احتج مسلم فى ((صحيحه))
بحديثه عن أبيه.
والذين أعلوه قالوا :لم يسمع منه ،وإنما هو كتابٌ .قال أبُو طالب :سألت أحمد بن حنبل عن
مخرمة بنِ بُكير؟ فقال :هو ثقة ،ولم يسمع من أبيه ،إنما هو كتابُ ،فنظر فيه ،كُلّ شىء يقول:
بلغنى عن سُليمان بن يسار ،فهو مِن كتاب مخرمة .وقال أبو بكر بن أبى خيثمة :سمعتُ يحيى بنَ
معين يقول :مخرم ُة بن بُكير وقع إليه كتابُ أبيه ،ولم يسمعه .وقال فى رواية عباس الدّورى :هو
ضعيفٌ ،وحديثُه عن أبيه كتاب ،ولم يسمعه منه ،وقال أبو داود :لم يسمع من أبيه إل حديثاً واحداً،
ث الوتر ،وقال سعيد بن أبى مريم عن خاله موسى بن سلمة :أتيتُ مخرمة فقلت :حدثك أبُوك؟
حدي َ
ك أبى ،ولكن هذه كتبه.
قال :لم أُ ْد ِر ْ
والجوابُ عن هذا من وجهين:
أحدهما :أن كِتابَ أبيه كان عنده محفوظًا مضبوطاً ،فل فرقَ فى قيامِ الحجة بالحديثِ بينَ ما
حدّثه به ،أو رآه فى كتابه ،بل الخذُ عن النسخة أحوطُ إذا تيقّن الراوى أنها نسخة الشيخ بعينها،
ل ال صلى ال عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك،
وهذه طريق ُة الصحابة والسلف ،وقد كان رسو ُ
وتقوم عليهم بها الحجة ،وكتب كتبه إلى عُماله فى بلد السلم ،فعلموا بها ،واحتجوا بها ،ودفع
ت به
عمَِل ْ
الصديق كتابَ رسول ال صلى ال عليه وسلم فى الزكاة إلى أنسِ بن مالك ،فحمله ،و َ
المةُ ،وكذلك كتابُه إلى عمرو بن حزم فى الصدقات الذى كان عند آل عمرو ،ولم يزل السلفُ
ب إليه :كتب إلى فلن أن فلناً أخبره،
ب بعضهم إلى بعض ،ويقول المكتو ُ
والخلفُ يحتجّون بكتا ِ
ولو بطل الحتجاجُ بال ُكتُب ،لم يبق بأيدى المة إل أيس ُر اليسير ،فإن العتماد إنما هو على النّسْخِ
خوّان ،والنسخة ل تخون ،ول يحفظ فى زمن من الزمان المتقدّمة أن أحداً
ل على الحفظ ،والحفظ َ
132
مِن أهل ال ِعلْ ِم رَدّ الحتجاج بالكتاب ،وقال :لم يُشافهنى به الكاتبُ ،فل أقبلُه ،بل ُكلّهم مجمعون على
قبول الكتابِ والعمل به إذا صح عنده أنه كتابُه.
الجواب الثانى :أن قول من قال :لم يسمع من أبيه ،مُعارَض بقول من قال :سمع منه ،ومعه
زياد ُة علم وإثبات ،قال عبد الرحمن بن أبى حاتم :سئل أبى عن مخرمة بن بُكير؟ فقال :صالحُ
الحديث .قال :وقال ابنُ أبى أويس :وجدت فى ظهر كتاب مالك :سألت مخرمة عما يُحدّث به عن
ب هذه ال َبنِيّةِ يعنى المسجدَ سمعتُ من أبى .وقال علىُ بنُ
أبيه ،سمعها مِن أبيه؟ فحلف لى :و َر ّ
المدينى :سمعتُ معن بن عيسى يقول :مخرمةُ سمع من أبيه ،وعرض عليه ربيعة أشياء مِن رأى
سليمان ابن يسار ،وقال على :ول أظن مخرمَة سمع مِن أبيه كتابَ سليمان ،لعلّه سمع منه الشىءَ
اليسير ،ولم أجد أحداً بالمدينة يخبرنى عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول فى شىء من حديثه:
ج به فى ((موطئه))،
سمعت أبى ،ومخرمة ثقة .انتهى .ويكفى أن مالكاً أخذ كِتابه ،فنظر فيه ،واحت ّ
وكان يقول :حدثنى مخرمة ،وكان رجلً صالحاً .وقال أبو حاتم :سألت إسماعيل بن أبى أويس،
قلت :هذا الذى يقول مالك بن أنس :حدثنى الثقة ،من هو؟ قال :مخرمة بن بكير .وقيل لحمد بن
صالح المصرى :كان مخرمة من ثقات الرجال؟ قال :نعم ،وقال ابنُ عدى عن ابن وهب ومعن ابن
عيسى عن مخرمة :أحاديثُ حِسانٌ مستقيمة وأرجو أنه ل بأس به.
غ ْي َركَ،
حتّى َت ْنكِحَ َزوْجاً َ
عَل ْيكَ َ
ح ُر َمتْ َ
ل ابنِ عمر للمطلّق ثلثاًَ (( :
وفى ((صحيح مسلم)) قو ُ
ك بِ ِه مِنْ طَلقِ ا ْم َرَأ ِتكَ)) .وهذا تفسيرٌ منه للطلق المأمور به ،وتفسيرُ
ت َر ّبكَ فِيمَا َأ َمرَ َ
ص ْي َ
وعَ َ
حجّةٌ ،وقال الحاكم :هو عندنا مرفوع.
الصحابى ُ
ق المشروعَ بع َد الدخول هو
ومن تأمّل القرآن حقّ التأمل ،تبيّن له ذلك ،وعرف أن الطل َ
ع الثلث جمل ٌة واحدة البتة؛ قال تعالى:
الطلقُ الذى يملكُ به الرجعة ،ولم يشرعِ ال سبحانه إيقا َ
ع المرتين إل متعاقبتين ،كما قال
ل العرب فى لغتها وقو َ
{الطّلَقُ َم ّرتَانِ} [البقرة ، ]229 :ول تعقِ ُ
لثِينَ ،وحمِده ثلثًا وثلثين،
لةٍ ثلثًا َوثَ َ
ل صَ َ
سبّحَ الَّ ُد َبرَ كُ ّ
النبى صلى ال عليه وسلم(( :مَنْ َ
ل يتلو بعضهُ
لثِينَ)) ،ونظائره فإنه ل يُعقل من ذلك إل تسبيح وتكبيرٌ وتحميدُ متوا ٍ
و َكبّرهُ أَر ْبعًَا وث َ
ل أكبر أربعًا وثلثين بهذا
بعضاً ،فلو قال :سبحان ال ثلثًا وثلثين ،والحمد لّ ثلثاً وثلثين ،وا ّ
ن َلهُمْ
جهُ ْم ولم َيكُ ْ
ن َي ْرمُونَ َأ ْزوَا َ
ث مرات فقط ،وأصرحُ من هذا قوله سبحانه{ :والّذِي َ
ن ثل َ
اللفظ ،لكا َ
شهَاداتٍ بالِّ} [النور ]6 :فلو قال :أشهدُ بالِّ أربع شهادات
شهَا َد ُة أَحَدِهِ ْم َأ ْربَعُ َ
سهُمْ فَ َ
شهَدَاءُ إلّ َأنْفُ ُ
ُ
لّ ِإنّهُ
شهَادَاتٍ بِا ِ
شهَ َد َأ ْربَعَ َ
ن تَ ْ
ع ْنهَا العَذَابَ أَ ْ
إنى لمن الصادقين ،كانت مرّة ،وكذلك قولُهَ { :ويَ ْدرُؤا َ
133
لّ أربَع شهادات إنه لمن الكاذبين ،كانت واحدة،
لَمنَ الكَا ِذبِينَ} [النور ]8 :فلو قالت :أشه ُد با ِ
س ُنعَ ّذبُهم َم ّر َتيْنِ} [التوبة ]101 :فهذا مرة بعد مرة ،ول ينتقض هذا
ح مِن ذلك قولُه تعالىَ { :
وأصر ُ
لثَةٌ ُي ْؤتَونَ
جرَها َم ّر َتيْنِ} [الحزاب ،]31 :وقولهِ صلى ال عليه وسلم(( :ثَ َ
بقوله تعالىُ { :ن ْؤتِها أَ ْ
جرَهُم َم ّر َتيْنِ)) .فإن المرتين هنا هما الضّعفان ،وهما المِثلن ،وهما مِثلن فى القدر ،كقوله
أَ ْ
ف َلهَا العَذَاب ضِعفَين} [الحزاب .]30 :أي :ضعفي ما يعذب به غيرها ،وضعفي
ع ْ
تعالىُ { :يضَا َ
ما كانت تؤتي ،ومن هذا قول أنس :انشق القمر على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم مرتين ،
أي :شقتين وفرقتين ،كما قال في اللفظ الخر :انشق القمر فلقتين .وهذا أمر معلوم قطعًا أنه إنما
انشق القمر مرة واحدة ،والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان ،وبين ما يكون مثلين
وجزأين ومرتين في المضاعفة .فالثاني :يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد ،والول ل
يتصور فيه ذلك.
لثَةَ
ن ثَ َ
سهِ ّ
ن بَِأنْفُ ِ
ت َي َت َربّصْ َ
طلّقا ُ
ومما يدل على أن ال لم يشرع الثلث جملة ،أنه قال تعالى{ :وَا ْلمُ َ
ن َأرَا ُد َواْ ِإصْلَحاً} [البقرة:
ق ِبرَدّهنّ فِي َذِلكَ إِ ْ
ُق ُروَءٍ} [البقرة ]228 :إلى أن قالَ { :و ُبعُوَل ُتهُنّ أَحَ ّ
، ]228فهذا يدل على أن كل طلق بعد الدخول ،فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة
طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق:
طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ فَ َ
ى إذَا َ
المذكورة بعد هذا ،وكذلك قوله تعالى{ :يََأيّها النّب ّ
ن ِب َم ْعرُوفٍ} [الطلق ،]2 :فهذا
ن ِب َم ْعرُوفٍ َأوْ فَارِقُوهُ ّ
سكُوهُ ّ
جَلهُنّ فََأمْ ِ
]1إلى قوله{ :فَإِذَا َبَلغْنَ أَ َ
هو الطلق المشروع ،وقد ذكر ال سبحانه وتعالى أقسام الطلق كلها في القرآن ،وذكر
أحكامها ،فذكر الطلق قبل الدخول ،وأنه ل عدة فيه ،وذكر الطلقة الثالثة ،وأنها تحرم الزوجة
على المطلق حتى تنكح زوجًا غيره ،وذكر طلق الفداء الذي هو الخلع ،وسماه فدية ،ولم يحسبه
من الثلث كما تقدم ،وذكر الطلق الرجعي الذي المُطلق أحق فيه بالرجعة ،وهو ما عدا هذه
القسام الثلثة.
وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض
بائنة ،وأنه إذا قال لها :أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية ،ويلغو وصفُها بالبينونة ،وأنه ل ملك
إبانتها إل بعوض .وأما أبو حنيفة ،فقال :تبين بذلك ،لن الرجعة حق له ،وقد أسقطها ،
والجمهور يقولون :وإن كانت الرجعة حقًا لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه ،ل يملك إسقاطه
إل باختيارها ،وبذلها العوض ،أو سؤالها أن تفتدي نفسها منه بغير عوض في أحد القولين ،وهو
جواز الخلع بغير عوض.
134
وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ول بذلها العوض ،فخلف النص والقياس.
قالوا :وأيضاً فال سبحانه شرع الطلق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة ،فإنهم كانوا
يطلقون في الجاهلية بغير عدد ،فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ،ويراجعها ،وهذا وإن كان فيه
رفق بالرجل ،ففيه إضرار بالمرأة ،فنسخ سبحانه ذلك بثلث ،وقصر الزوج عليها ،وجعله أحق
بالرجعة ما لم تنقض عدتها ،فإذا استوفى العدد الذي ملكه ،حرمت عليه ،فكان في هذا رفق
بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة ،وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلث ،فهذا شرعه
وحكمته ،وحدوده التي حدها لعباده ،فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها كان خلف شرعه
وحكمته ،وهو لم يملك إيقاع الثلث جملة ،بل إنما ملك واحدة ،فالزائد عليها غير مأذون له فيه.
قالوا :وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة ،إذ هو خلف ما شرعه ،لم يملك إبانتها بثلث
مجموعة ،إذ هو خلف شرعه.
ونكتة المسألة أن ال لم يجعل للمة طلقاً بائنًا قط إل في موضعين .أحدهما :طلق غير المدخول
بها .والثاني :الطلقة الثالثة ،وما عداه من الطلق ،فقد جعل للزوج فيه الرجعة ،هذا مقتضى
الكتاب كما تقدم تقريره ،وهذا قول الجمهور ،منهم :المام أحمد ،والشافعي ،وأهل الظاهر ،
قالوا :ل يملك إبانتها بدون الثلث إل في الخلع.
ولصحاب مالك ثلثة أقوال فيما إذا قال :أنت طالق طلقة ل رجعة فيها .أحدها :أنها ثلث ،قاله
ابن الماجشون لنه قطع حقه من الرجعة ،وهي ل تنقطع إل بثلث ،فجاءت الثلث ضرورة.
الثاني :أنها واحدة بائنة ،كما قال ،وهذا قول ابن القاسم ،لنه يملك إبانتها بطلقة بعوض ،فملكها
بدونه ،والخلع عنده طلق .الثالث :أنها واحدة رجعية ،وهذا قول ابن وهب ،وهو الذي يقتضيه
الكتاب والسنة والقياس ،وعليه الكثرون.
فصل
وأما المسألة الثانية ،وهي وقوع الثلث بكلمة واحدة ،فاختلف الناس فيها على أربعة
مذاهب.
أحدها :أنها تقع ،وهذا قول الئمة الربعة ،وجمهور التابعين ،وكثير من الصحابة رضي
ال عنهم.
135
الثاني :أنها ل تقع ،بل ترد لنها بدعة محرمة ،والبدعة مردودة لقوله صلى ال عليه
ل ليس عليه أمرنا فهو رد)) وهذا المذهب حكاه أبو محمد ابن حزم ،وحكي
وسلم(( :من عمل عم ً
للمام أحمد فأنكره ،وقال :هو قول الرافضة.
الثالث :أنه يقع به واحدة رجعية ،وهذا ثابت عن ابن عباس ،ذكره أبو داود عنه .قال
المام أحمد :وهذا مذهب ابن إسحاق ،يقول :خالف السنة فيرد إلى السنة ،انتهى ،وهو قول
طاووس ،وعكرمة ،وهو اختيار شيخ السلم ابن تيمية.
الرابع :أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها ،فتقع الثلث بالمدخول بها ،ويقع بغيرها
واحدة ،وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس ،وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه
محمد بن نصر المروزي في كتاب ((اختلف العلماء)).
فأما من لم يوقعها جملة ،فاحتجوا بأنه طلق بدعة محرم ،والبدعة مردودة ،وقد
اعترف أبو محمد ابن حزم بأنها لو كانت بدعة محرمة ،لوجب أن ترد وتبطل ،ولكنه اختار
مذهب الشافعي أن جمع الثلث جائز غير محرم ،وستأتي حجة هذا القول.
وأما من جعلها واحدة ،فاحتج بالنص والقياس ،فأما النص ،فما رواه معمر
،وابن جريج عن ابن طاووس ،عن أبيه ،أن أبا الصهباء قال لبن عباس :ألم تعلم أن الثلث
كانت تجعل واحدة على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأبي بكر ،وصدرًا من إمارة عمر؟
قال نعم .رواه مسلم في ((صحيحة)).
وفي لفظ :ألم تعلم أن الثلث كانت على عهد رسول صلى ال عليه وسلم ،وأبي بكر ،
وصدراً من خلفة عمر ترد إلى واحدة؟ قال :نعم.
وقال أبو داود :حدثنا أحمد بن صالح ،حدثنا عبد الرازق ،أن ابن جريج قال :أخبرني
بعض بني أبي رافع مولى رسول صلى ال عليه وسلم ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،قال :طلق
عبد يزيد -أبو ركانة وإخوته -أم ركانة ،ونكح امرأة من مزينة ،فجاءت النبي صلى ال عليه
وسلم فقالت :ما يغني عني إل كما تغني هذه الشعرة ،لشعرة أخذتها من رأسها ،ففرق بيني
وبينه ،فأخذت النبي صلى ال عليه وسلم حمية ،فدعا بركانة وإخوته ،ثم قال لجلسائه( :أل ترون
أن فلناً يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد ،وفلنًا منه كذا وكذا)؟ قالوا :نعم ،قال النبي صلى ال
عليه وسلم لعبد يزيد( :طلقها) ،ففعل ثم قال ((راجع امرأتك أم ركانة وإخوته)) فقال :إني طلقتها
136
طلّقُوهُنّ
طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ فَ َ
ثلثاً يا رسول ال ،قال(( :قد علمت راجعها)) وتل{ :يََأيّها النّبىّ إذَا َ
ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق.]1 :
وقال المام أحمد :حدثنا سعد بن إبراهيم ،قال :حدثنا أبي ،عن ابن عباس ،عن عبد ال
بن عباس ،قال :طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بن المطلب امرأته ثلثاً في مجلس واحد ،فحزن
عليها حزناً شديداً ،قال :فسأله رسول ال صلى ال عليه وسلم ((كيف طلقتها)) ،فقال :طلقتها ثلثاً
،فقال(( :في مجلس واحد؟)) قال :نعم ،قال(( :فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت)) قال :فراجعها.
فكان ابن عباس يرى أنما الطلق عند كل طهر.
قالوا :وأما القياس ،فقد تقدم أن جمع الثلث محرم وبدعة ،والبدعة مردودة ،لنها
ليست على أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قالوا :وسائر ما تقدم في بيان التحريم يدل على
ت بِال}
شهَادَا ٍ
شهَا َد ُة أَحَدِهِ ْم َأ ْربَعُ َ
عدم وقوعها جملة .قالوا :ولو لم يكن معنا إل قوله تعالى{ :فَ َ
ت بِال} [النور ، ]8 :قالوا :وكذلك
شهَادَا ٍ
شهَ َد َأ ْربَعَ َ
ب أَن تَ ْ
ع ْنهَا ا ْلعَذَا َ
[النور ، ]6 :وقولهَ { :ويَ ْد َر ُؤاْ َ
كل ما يعتبر له التكرار من حلف أو إقرار أو شهادة ،وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم:
((تحلفون خمسين يميناً ،وتستحقون دم صاحبكم)) فلو قالوا :نحلف بال يميناً :إن فلناً قتله ،كانت
يميناً واحدة .قالوا :وكذلك القرار بالزنى ،كما في الحديث :إن بعض الصحابة قال لماعز :إن
أقررت أربعاً ،رجمك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فهذا ل يعقل أن تكون الربع فيه مجموعة
بفم واحد.
وأما الذين فرقوا بين المدخول بها وغيرها ،فلهم حجتان.
إحداهما :ما رواه أبو داود بإسناد صحيح ،عن طاووس ،أن رجلً يقال له :أبو الصهباء
كان كثير السؤال لبن عباس ،قال له :أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلثاً قبل أن يدخل
بها جعلوها واحدة على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر؟
فلما رأى عمر الناس قد تتايعوا فيها :قال :أجيزوهن عليهم.
الحجة الثانية :أنها تبين بقوله :أنت طالق ،فيصادقها ذكر الثلث وهي بائن ،فتلغو ورأى
هؤلء أن إلزام عمر بالثلث هو في حق المدخول بها ،وحديث أبي الصهباء في غير المدخول
بها .قالوا :ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين ،وموافقة القياس ،وقال بكل قول من هذه
القوال جماعة من أهل الفتوى ،كما حكاه أبو محمد ابن حزم وغيره ،ولكن عدم الوقوع جملة هو
مذهب المامية ،وحكوه عن جماعة من أهل البيت.
137
قال الموقعون للثلث :الكلم معكم في مقامين.
أحدهما :تحريم جمع الثلث .والثاني :وقوعها جملة ولو كانت محرمة ،ونحن نتكلم معكم
في المقامين .فأما الول:
فقد قال الشافعي ،وأبو ثور ،وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه ،وجماعة من أهل
حتّى
ل لَ ُه مِن َبعْدُ َ
ل تَحِ ّ
طلّقهَا فَ َ
الظاهر :إن جمع الثلث سنة ،واحتجوا عليه بقوله تعالى{ :فَإِنْ َ
غ ْي َرهُ} [البقرة ، ]230 :ولم يفرق بين أن تكون الثلثُ مجموعةً ،أو مفرّقة ،ول يجوز
َت ْنكِحَ َزوْجاً َ
طلّ ْقتُموُهُنّ مِنْ
أن نفرّق بينَ ما جمع ال بينه ،كما ل نجمع بين ما فرّق ال بينه .وقال تعالى{ :وإِنْ َ
طلّ ْقتُم النّسا َء مَا لَم
عَل ْيكُمْ إِنْ َ
ل أنْ تَمسّوهُنّ} [البقرة ،]237 :ولم يفرق وقال{ :ل جُناَحَ َ
َقبْ ِ
ع بِال َم ْعرُوفِ} [البقرة ،]241 :وقالَ { :يَأيّها
ت متَا ٌ
طلّقَا ِ
َتمَسّوهُنّ} الية ،ولم يفرق وقال{ :وَل ْلمُ َ
ل أَن َتمَسّوهُنّ} [الحزاب ،]49 :ولم يفرق.
طلّ ْق ُتمُوهُنّ مِن َقبْ ِ
حتُ ُم ا ْل ُم ْؤ ِمنَاتِ ثُمّ َ
الّذينَ آ َم ُن َواْ إِذَا َنكَ ْ
قالوا :وفي ((الصحيحين)) ،بطلقها .قالوا :فلو كان جمع الثلث معصية لما أقر عليه رسول
صلى ال عليه وسلم ،ول يخلو طلقها أن يكون قد وقع وهي امرأته ،أو حين حرمت عليه
باللعان.
فإن كان الول ،فالحجة منه ظاهرة ،وإن كان الثاني ،فل شك أنه طلقها ،وهو يظنها
امرأته ،فلو كان حراماً ،لبينها له رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وإن كانت قد حرمت عليه.
ل طلق
قالوا :وفي صحيح البخاري ،من حديث القاسم بن محمد ،عن عائشة أم المؤمنين ،أن رج ً
امرأته ثلثاً ،فتزوجت ،فطلقت ،فسئل رسول صلى ال عليه وسلم ،أتحل للول؟ قال(( :ل حتى
يذوق عسيلتها كما ذاق الول)) ،فلم ينكر صلى ال عليه وسلم ذلك ،وهذا يدل على إباحة جمع
الثلث ،وعلى وقوعها ،إذ لو لم تقع ،لم يوقف رجوعها إلى الول على ذوق الثاني عسيلتها.
قالوا :وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن ،أن فاطمة بنت قيس
أخبرته أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلثًا ،ثم انطلق إلى اليمن ،فانطلق خالد
بن الوليد في نفر ،فأتوا رسول ال صلى ال عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين ،فقالوا :إن أبا
حفص طلق امرأته ثلثاً ،فهل لها من نفقة؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :ليس لها نفقة
وعليها العدة)).
وفي ((صحيح مسلم)) في هذه القصة :قالت فاطمة ،فأتيت رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فقال(( :كم طلّقك))؟ قلت :ثلثاً ،فقال(( :صدوق ليس لك نفقة)).
138
وفي لفظ له :قالت :يا رسول ال ،إن زوجي طلقني ثلثاً ،وإني أخاف أن يقتحم علي.
(يتبع)...
وفي لفظ له :عنها ،أن النبي صلى ال عليه وسلم في المطلقة ثلثاً(( :ليس لها سكنى ول @
نفقة)).
قالوا :وقد روى عبد الرازق في ((مصنفه)) عن يحيى بن العلء ،عن عبيد ال بن الوليد
الوصافي ،عن إبراهيم بن عبيد ال بن عبادة بن الصامت ،عن داود بن عبادة بن الصامت ،قال:
طلق جدي امرأة له ألف تطليقة ،فانطلق أبي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فذكر له ذلك ،
فقال النبي صلى ال عليه وسلم(( :ما اتقى ال جدك ،أما ثلث فله ،وأما تسعمائة وسبعة وتسعون
فعدوان وظلم ،إن شاء ال عذبه ،وإن شاء غفر له)).
ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران ،عن إبراهيم بن عبيد ال بن عبادة بن الصامت ،
عن أبيه ،عن جده ،قال طلق بعض آبائي امرأته ،فانطلق بنوه إلى رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فقالوا :يا رسول ال ،إن أبانا طلق أمنَا إلفاً ،فهل له من مخرج؟ فقال(( :إن أباكم لم يتق ال
،فيجعل له مخرجًا ،بانت منه بثلث على غير السنة ،وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقة)).
قالوا :وروى محمد بن شاذان ،عن معلي بن منصور ،عن شعيب ابن زريق ،أن عطاء
الخراساني حدثهم عن الحسن ،قال :حدثنا عبد ال بن عمر رضي ال عنهما ،أنه طلق امرأته
وهي حائض ،ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرءين الباقيين ،فبلغ ذلك رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،فقال(( :يا ابن عمر ،ما هكذا أمرك ال ،أخطأت السنة)) ...وذكر الحديث ،وفيه ،
فقلت :يا رسول ال ،لو كنت طلقتها ثلثاً ،أكان لي أن أجمعها؟ قال(( :ل ،كانت تبين وتكون
معصية)).
قالوا :وقد روى أبو داود في ((سننه)) :عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة ،أن
ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ،فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم بذلك ،فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم(( :وال ما أردت إل واحدة))؟ فقال ركانة :وال ما أردت إل واحدة ،
فردها إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فطلقها الثانية في زمن عمر ،والثالثة في زمن عثمان.
وفي جامع الترمذي :عن عبد ال بن علي بن يزيد بن ركانة ،عن أبيه ،عن جده ،أنه طلق
امرأته ألبته ،فأتى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال(( :ما أردت بها))؟ قال :واحدة ،قال:
139
((آل)) ،قال :آل ،قال(( :هو على ما أردت)) .قال الترمذي :ل نعرفه إل من هذا الوجه ،وسألت
محمداً -يعني البخاري -عن هذا الحديث؟ فقال :فيه اضطراب.
ووجه الستدلل بالحديث ،أنه صلى ال عليه وسلم أحلفه أنه أراد بالبتة واحدة ،
فدل على أنه لو أراد بها أكثر ،لوقع ما أراده ،ولو لم يفترق الحال لم يحلّفه.
قالوا :وهذا أصح من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة ،عن ابن
عباس أنه طلقها ثلثاً .قال أبو داود :لنهم ولد الرجل ،وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلقها البتة.
قالوا :وابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع .فإن كان عبيد ال ،فهو ثقة معروف ،
وإن كان غيره من إخوته ،فمجهول العدالة ل تقوم به حجة.
قالوا :وأما طريق المام أحمد ،ففيها ابن إسحاق ،والكلم فيه معروف ،وقد حكى
الخطابي ،أن المام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها.
قالوا :وأصح ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن العباس ،وقد قال البيهقي :هذا الحديث
أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم ،فأخرجه مسلم وتركه البخاري ،وأظنه تركه لمخالفته سائر
الروايات عن ابن عباس ،ثم ساق الروايات عنه بوقوع الثلث ،ثم قال :فهذه رواية سعيد بن جبير
،وعطاء بن أبي رباح ،ومجاهد وعكرمة ،وعمرو بن دينار ،ومالك بن الحارث ،ومحمد بن
إياس بن البكير ،قال :ورويناه عن معاوية بن أبي عياش النصاري ،كلهم عن ابن عباس ،أنه
أجاز الثلث وأمضاهن.
وقال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى ال عليه وسلم
شيئاً ثم يفتي بخلفه.
وقال الشافعي :فإن كان معنى قول ابن عباس :إن الثلث كانت تحسب على عهد الرسول صلى ال
عليه وسلم واحدة ،يعني أنه بأمر النبي صلى ال عليه وسلم ،فالذي يشبه -وال أعلم -أن يكون
ابن عباس قد علم أنه كان شيئاً فنسخ .قال البيهقي :ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة
هذا التأويل -يريد البيهقي ، -ما رواه أبو داود والنسائي ،من حديث عكرمة في قوله تعالى:
لثَةَ ُق ُروَءٍ} [البقرة ]228 :الية وذلك أن الرجل كان إذا طلق
ن ثَ َ
سهِ ّ
طلّقاتُ َي َت َر ّبصْنَ بَِأنْفُ ِ
{وَا ْلمُ َ
ق َم ّرتَان} [البقرة.]229 :
امرأته فهو أحق برجعتها ،وإن طلقها ثلثاً ،فنسخ ذلك ،فقال{ :الطَلَ ُ
قالوا :فيحتمل أن الثلث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت ،بمعنى أن الزوج كان يتمكن
من المراجعة بعدها ،كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة ،ثم نسخ ذلك.
140
وقال ابن سريج :يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلق الثلث ،وهو أن
يفرق بين اللفاظ ،كأن يقول :أنت طالق ،أنت طالق ،أنت طالق ،وكان في عهد رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،وعهد أبي بكر رضي ال عنه الناس على صدقهم وسلمتهم لم يكن فيهم
الخِب والخداع ،فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد .ول يُريدون به الثلثَ ،فلما رأى عمر
رضى ال عنه فى زمانه أموراً ظهرت ،وأحوالً تغيّرت ،منع من حمل اللفظ على التكرار،
وألزمهم الثلث.
وقالت طائفة :معنى الحديث أنّ الناس كانت عادتُهم على عهدِ رسولِ ال صلى ال عليه
وسلم إيقاعَ الواحدة ،ثم يدعها حتى تنقضىَ عدتُها ،ثم اعتادوا الطلقَ الثلثَ جملة ،وتتا َيعُوا فيه،
ومعنى الحديث على هذا :كان الطلقُ الذى يُوقعه المطلق الن ثلثًا يُوقِع ُه على عهد رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،وأبى بكر واحدة ،فهو إخبا ٌر عن الواقع ،ل عن المشروع.
ل ال صلى ال عليه وسلم هو الذى كان يجعل
ن أن رسو َ
وقالت طائفة :ليس فى الحديث بيا ُ
الثلثَ واحدة ،ول أنه أُعلم بذلك فأَق ّر عليه ،ول حُجة إل فيما قاله أو فعله ،أو علم به فأق ّر عليه،
ول يُعلم صحةُ واحد ًة من هذه المور فى حديث أبى الصهباء.
ل ال صلى ال عليه
قالُوا :وإذا اختلفت علينا الحاديثُ ،نظرنا إلى ما عليه أصحابُ رسو ِ
ت عنه غيره ما رواه
وسلم ،فإنّهم أعلمُ بسنته ،فنظرنا فإذا الثابتُ عن عمر بن الخطاب الذى ل َي ْث ُب ُ
عبد الرزاق ،عن سفيان الثورى ،عن سلمة ابن كُهيل ،حدثنا زيدُ بن وهب ،أنه رُفِ َع إلى عمر بن
ع َمرُ
الخطاب رجل طلق امرأته ألفاً ،فقال له عمر :أطلقتَ امرأتَك؟ فقال :إنما كنتُ ألعب ،فعالجه ُ
وروى وكيع ،عن العمشِ ،عن حبيب بن أبى بال ّد ّرةِ ،وقال :إنما يكفيك من ذلك ثلث.
ثابت ،قال :جاء رجل إلى على ابن أبى طالب ،فقال :إنى طلقتُ امرأتى ألفاً ،فقال له علىّ :بانت
منك بثلث ،واقسِمْ سا ِئرَهن بينَ نسائك.
ل إلى
وروى وكيع أيضاً ،عن جعفر بن بُرقان ،عن معاوية بن أبى يحيى ،قال :جاء رج ٌ
ت منك بثلث.
ت امرأتى ألفاً ،فقال با َن ْ
عثمان بنِ عفان ،فقال :طلق ُ
وروى عب ُد الرزاق ،عن سفيان الثورى ،عن عمرو بن مرة ،عن سعيد بنِ جبير ،قال :قال
ث تُح ّرمُها عليك ،وبقيتُها عليك،
رجلٌ لبنِ عباس :طلقتُ امرأتى ألفاً ،فقال له ابنُ عباس :ثل ٌ
ِوزْر ،اتخذت آيات ال هزواً.
141
وروى عب ُد الرزاق أيضاً ،عن معمر ،عن العمش ،عن إبراهيم ،عن علقمة ،قال :جاء
ت امرأتى تسعاً وتسعين ،فقال له ابنُ مسعود :ثلث تُبينها
رجل إلى ابن مسعود ،فقال :إنى طلق ُ
منك ،وسائُرهن عُدوان.
وذكر أبو داود فى ((سننه)) ،عن محمد ابن إياس ،أن ابن عباس ،وأبا هريرة ،وعبد ال بن
س ِئلُوا عن البِكر يُطلّقُها زوجُها ثلثاًَ ،ف ُكلّهم قال :ل تَحِلّ له حتى تَنكِحَ زوجاً
عمرو بن العاصُ ،
غيرَه.
ب رسول ال صلى ال عليه وسلم كما تسمعون قد أوقعوا الثلثَ جملةً،
قالوا :فهؤلء أصحا ُ
ولو لم يكن فيهم إل عمر المحدّث ال ُملْهَمُ وحدَه ،لكفى ،فإنه ل يُظن به تغييرُ ما شرعه النبى صلى
ال عليه وسلم مِن الطلق الرجعى ،فيجعله محرّماً ،وذلك يتضمّن تحريمَ فرج المرأه على من
ل له ،ولو فعل ذلك عمر ،لما أقرّه عليه الصحابةُ ،فضلً عن أن
حرُ ْم عليه ،وإباحته لمن ل تَحِ ّ
تَ ْ
ل صلى ال عليه وسلم أن الثلثَ واحد ٌة لم
يُوافقوه ،ولو كان عندَ ابنِ عباس حجة عن رسول ا ّ
يُخَالِفْها .ويُفتى بغيرها موافق ًة لعمر ،وقد علم مخالفته له فى ال َعوْل ،وحجب الم بالثنين من الخوة
والخوات ،وغير ذلك.
قالوا :ونحنُ فى هذه المسألة تبع لصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلمَ ،فهُ ْم أعلمُ بسنته
خفَ عليهم،
ث واحدة وتُوفّى والمر على ذلك لم َي ْ
وشرعه ،ولو كان مستقراً مِن شريعته أن الثل َ
ن بعدهم ،ويروى حبرُ المة وفقيهُها خبرَ
ح َرمُوا الصّواب فيه ،ويُوفّق له مَ ْ
ن بعدهم ،ولم يُ ْ
ويعلمه مَ ْ
كونِ الثلث واحدة ويُخالفه.
قال المانعون من وقوع الثلث :التحاكُم فى هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم الُّ
جرَ بيننا ،ثم نَرضى بحُكمِه ،ول
شَح ّكمَه فيما َ
سبحانه وتعالى أصدقَ قَسَمٍ ،وأبره ،أنا ل ُن ْؤمِنُ حتى نُ َ
يلحقُنا فيه حرجٌ ،ونسلّم له تسليمًا ل إلى غيره كائنًا مَنْ كان ،اللهم إل أن تُجمِعَ أمته إجماعاً متيقناً
ل نشكّ فيه على حُكم ،فهو الحقّ الذى ل يجوز خلفُه ،ويأبى ال أن تجتمع المة على خلف سنة
ثابتة عنه أبداً ،ونحن قد أوجدناكُم من الدلة ما تثبتُ المسألة به ،بل وبدُونه ،ونحن نُناظركم فيما
طعنتم به فى تلك الدلة ،وفيما عارضتمونا به على أنا ل نحكّم على أنفسنا إل نصّاً عن ال ،أو
نصاً ثابتاً عن رسول ال صلى ال عليه وسلم،أو إجماعًا متيقّناً ل شكّ فيه ،وما عدا هذا فعُرضة
للنزاع ،وغايتُه أن يكون سائ َغ التّباع ل لزمهَ ،فلتكن هذه المقدمة سلفاً لنا عندكم ،وقد قال تعالى:
عتُمْ فى شَىءٍ َفرُدّوهُ إلى ال وَالرّسُولِ} [النساء ،]59 :فقد تنازعنا نحن وأنتم فى هذه
ن َتنَازَ ْ
{فإ ْ
142
المسألة ،فل سبيلَ إلى ردّها إلى غير ال ورسوله ألبتة ،وسيأتى أننا أحقّ بالصحابة ،وأسع ُد بهم
فيها ،فنقول:
أمّا منعُكم لتحريمِ جم ِع الثلث ،فل ريبَ أنها مسألة نزاع ،ولكن الدلة الدالة
على التحريم حج ٌة عليكم.
أما قولكم :إن القرآن دل على جواز الجمع ،فدعوى غيرُ مقبولة ،بل باطلة ،وغايةُ ما
ق القرآن للفظ الطلق ،وذلك ل يعمّ جائزه ومحرّمه ،كما ل يدخل تحتَه طلقُ
تمسكتم به إطل ُ
ق الموطوءة فى طهرها ،وما َم َثُلكُم فى ذلك إل َك َمثَلِ مَنْ عارض السنة الصحيحةَ
الحائض ،وطل ُ
ل على جواز كل طلق
فى تحريم الطلق المحرم بهذه الطلقات سواء ،ومعلوم أن القرآن لم يد ّ
ل َبيّنَ حَللَه
ل على أحكام الطلق ،والمُبيّنُ عن الِّ عز وج ّ
حتى تُحمّلوه ما ل يُطيقه ،وإنما د ّ
حرَامه ،ول ريب أنا أسعدُ بظاهر القرآن كما بينا فى صدر الستدلل ،وأنه سبحانه لم يشرع قط
وَ
طلقاً بائنًا بغيرِ عوض لمدخول بها ،إل أن يكونَ آخ َر العدد ،وهذا كتابُ ال بيننَا وبينَكم ،وغايةُ ما
تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيّدتْها السنة ،وبينت شروطها وأحكامها.
وأما استدللُكم بأن الملعِنَ طلّق امرأته ثلثًا بحضرة رسولِ ال صلى ال عليه وسلم ،فما
أصحّه مِن حديث ،وما أبع َد ُه مِن استدللكم على جواز الطلق الثلث بكلمة واحدة فى نكاح يقصد
بقاؤه ودوامه ،ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول :إن الفرقة وقعت عقيبَ لِعان الزوج وحده ،كما
يقولُه الشافعى ،أو عَقيبَ لعانهما وإن لم يفرّق الحاكم ،كما يقوله أحمد فى إحدى الروايات عنه،
فالستدللُ به باطل ،لن الطلق الثلث حينئذ لغو لم يفد شيئاً ،وإن كان ممن يُوقف الفرقة على
تفريق الحاكم ،لم يصح الستدلل به أيضاً لن هذا النكاح لم يبق سبيلٌ إلى بقائه ودوامه ،بل هو
ق الثلث مؤكّد لمقصود اللعان ،ومقرّر له ،فإن غايتَه أن
واجبُ الزالة ،ومؤبّدُ التحريم ،فالطل ُ
يُحرّمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره ،وفرقة اللعان تحرّمها عليه على البد ،ول يلزم من نفوذ
ب البقاء والدوام،
ق التحريم على التأبيد نفوذُه فى نكاح قائم مطلو ِ
الطلق فى نكاح قد صار مستح ّ
ولهذا لو طلقها فى هذا الحال وهى حائض ،أو نفساء ،أو فى طُهر جامعها فيه ،لم يكن عاصياً ،لن
هذا النكاح مطلوب الزالة مؤبد التحريم ،ومن العجب أنكم متمسّكون بتقريرِ رسول ال صلى ال
ث مِن غير
عليه وسلم على هذا الطلق المذكور ،ول تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلق الثل ِ
الملعن ،وتسميته لعباً بكتاب ال كما تقدم ،فكم بينَ هذا القرار وهذا النكار؟ ونحن بحمد ال
قائلون بالمرين ،مُ ِقرّون لما أقره رسول ال صلى ال عليه وسلم ،منكرون لما أنكره.
143
ل طلّق امرأته ثلثاً فتزوّجت،
وأما استدللُكم بحديث عائشة رضى ال عنها ،أن رج ً
سيْلة)) ،فهذا ل
حتّى تَذُوقَ العُ َ
ل ال صلى ال عليه وسلم ،هل تحل للزوج؟ قال(( :لَ ،
سئِلَ رسو ُ
فَ ُ
نُنازِعُكم فيه ،نعم هو حج ٌة على من اكتفى بمجرد عقد الثانى ،ولكن أينَ فى الحديث أنه طلّق
الثلثَ بفم واحد ،بل الحديثُ حجة لنا ،فإنّه ل يُقال :فعلَ ذلك ثلثاً ،وقال ثلثاً إل من فعل ،وقال:
مرةً بعد مرةِ ،هذا هو المعقولُ فى لغات المم عِربهم وعجمِهم ،كما يقال :قذفه ثلثاً ،وشتمه ثلثاً،
وسلّم عليه ثلثاً.
ن العجب العُجاب ،فإنكم خالفتُموه فيما هو
قالوا :وأما استدللُكم بحديثِ فاطمة بنت قيسَ ،فمِ َ
صريحٌ فيه ل يقبلُ تأويلً صحيحاً ،وهو سقوطُ النفقة والكِسوة للبائن مع صحته وصراحته ،وعدم
ل تعلّقكم به،
ما يُعا ِرضُه مقاومًا له ،وتمسكتُم به فيما هو مجمل ،بل بيانُه فى نفس الحديث مما يُبطِ ُ
فإن قوله :طلّقها ثلثًا ليس بصريح فى جمعها ،بل كما تقدم ،كيف وفى ((الصحيح)) فى خبرها
نفسِه مِن رواية الزهرى ،عن عبيد ال بن عبد ال ابن عُتبة ،أن زوجَها أرسل إليها بتطليقةٍ كانت
خ َر ثلثٍ تطليقاتٍ ،وهو سند صحيح
بَقيت لها مِن طلقِها وفى لفظ فى ((الصحيح)) :أنه طلقها آ ِ
ل الشمس ،فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجملٍ ،وهو أيضاً حجةٌ عليكم كما
متصل مث ُ
تقدم؟.
ن الصامت الذى رواه عبد الرزاق ،فخبر فى
قالوا :وأما استدللُكم بحديثِ عُبادة ب ِ
غاية السقوط ،لن فى طريقه يحيى بن العلء ،عن عُبيد ال بن الوليد الوصّافى ،عن إبراهيم بن
ل على كذبه وبُطلنه ،أنه لم يعرف فى شىء
عبيد ال ضعيف ،عن هالك ،عن مجهول ،ثم الذى يد ّ
من الثار صحيحها ول سقيمها ،ول متصلها ول منقطعها ،أن والد عبادة بن الصامت أدرك
السلم ،فكيف بجده ،فهذا محال بل شك .وأما حديث عبد ال بن عمر ،فأصلُه صحيحٌ بل شك،
ل ال :لو طلقتُها ثلثاً أكانت تَحِلّ لى؟ إنما جاءت
لكن هذه الزيادة والوصلة التى فيه :فقلتُ :يا رسو َ
من رواية شعيب بن زُريق ،وهو الشامى ،وبعضهم يقلبه فيقولُ :زُريق بن شعيب ،وكيفما كان،
فهو ضعيف ،ولو صحّ ،لم يكن فيه حجة ،لن قوله :لو طلقتها ثلثًا بمنزلة قوله :لو سلمت ثلثاً ،أو
أقررت ثلثاً ،أو نحوه مما ل يُعقل جمعُه.
وأما حديثُ نافِع بن عجير الذى رواه أبو داود ،أن ركانة طلق امرأته ألبتة،
ل ال صلى ال عليه وسلم ما أرادَ إل واحدة ،فمن العجب تقديمُ نافع ابن عجير
فأحلفه رسو ُ
المجهول الذي ل يُعرف حاله ألبتة ،ول يُدرى من هو ،ول ما هو على ابن جريج ،ومعمر ،وعبد
144
ال بن طاووس فى قصة أبى الصهباء ،وقد شهد إمامُ أهل الحديث محمدُ بن إسماعيل البخارى بأن
فيه اضطراباً ،هكذا قال الترمذى فى الجامع ،وذكر عنه فى موضع آخر :أنه مضطرب .فتارةً
يقول :طلقها ثلثاً ،وتار ًة يقول :واحدةً ،وتارة يقول :البتة ،وقال المام أحمد :وطرقه ُكلّها ضعيفة،
ث المضطربُ المجهولُ
ثم كيف يُقدّم هذا الحدي ُ وضعفه أيضاً البخارى ،حكاه المنذرى عنه.
رواية على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لِجهالة بعض بنى أبى رافع ،هذا وأولدُه تابعيون،
وإن كان عبيد ال أشهرَهم ،وليس فيهم متهم بالكذب ،وقد روى عنه ابنُ جُريج ،ومَنْ يقبلُ روايةَ
المجهول ،أو يقولُ :رواي ُة العدل عنه تعديلٌ له ،فهذا حجةٌ عنده ،فأمّا أن يُضعّفَه ويُقَدّ َم عليه روايةَ
من هو مثلُه فى الجهالة ،أو أشدّ ،فكلّ ،فغاي ُة المر أن تتساقَط روايتا هذين المجهولينُ ،يعْدَل إلى
غيرهما ،وإذا فعلنا ذلك ،نظرنا فى حديث سعد بن إبراهيم ،فوجدناه صحيح السناد ،وقد زالت علةُ
تدليسِ محمد ابن إسحاق بقوله :حدثنى داود بن الحصين ،وقد احتج أحمد بإسناده فى مواضع ،وقد
ب على زوجِها أبى
صحح هو وغيرُه بهذا السناد بعينه ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ر ّد زين َ
ح الوّلِ ،ولم يُحدث شيئاً .وأما داودُ بن الحُصين ،عن عكرمة ،فلم تزل
العاص بن الربيع بالنّكا ِ
جزَ ْم به مِن تقديرها بخمسة
شكّ فيه ،ولم يُ ْ
الئمة تحتجّ به ،وقد احتجّوا به فى حديث ال َعرَايا فيما ُ
طبِ بالتمرِ ،فما ذنبه فى
أوسُق أو دونَها مع كونِها على خلف الحاديث التى نهى فيها عن بيع الرّ َ
هذا الحديث سوى رواية ما ل يقولون به ،وإن قدحتُم فى عكرمة ولعلكم فاعِلون جاءكم ما ل ِقبَلَ
لكُم به من التناقض فيما احتججتُم به أنتُم وأئمةُ الحديث مِن روايته ،وارتضاء البخارى لدخال
حديثه فى ((صحيحه)).
فصل
ث أبى الصهباء ،فل َيصِحّ شىء منها.
وأما تلك المسالك الوَعْ َر ُة التى سلكتموها فى حدي ِ
شكَاةٌ ظَا ِهرٌ
أما المسلكُ الول ،وهو انفرادُ مسلم بروايته ،وإعراضُ البخارى عنهَ ،ف ِت ْلكَ َ
عنْهُ عَارُهَا ،وما ضرّ ذلك الحديثَ انفرادُ مسلم به شيئاً ،ثم هل تقبلون أنتم ،أو أحدٌ مثل هذا فى كُلّ
َ
خلْه فى كتابى ،فهو
ث َينْ َفرِدُ به مسلم عن البخارى ،وهل قال البخارىّ قطّ :إن كُلّ حديث لم أُدْ ِ
حدي ٍ
باطل ،أو ليس بحجة ،أو ضعيف ،وكم قد احتج البخارىّ بأحاديث خارجَ الصحيح ليس لها ذكر فى
((صحيحه)) ،وكم صحّح مِن حديث خارجٍ عن صحيحه .فأما مخالفةُ سائ ِر الروايات له عن ابن
ب أن عن ابن عباس روايتين صحيحتين بل شك .إحداهُهما :تُوافق هذا الحديثَ،
عباس ،فل ري َ
ث على أنه بحمد ال سالم .ولو اتفقتِ
سلِمَ الحدي ُ
والُخرى :تُخالفه ،فإن أسقطنا رواية بروايةَ ،
145
ت عنه على مخالفته ،فله أسو ُة أمثاله ،وليس بأوّلِ حديث خالفه روايه ،فنسألكم :هل الخذُ
الروايا ُ
بما رواه الصحابى عندكم ،أو بما رآه؟ فإن قلتم :الخ ُذ بروايته ،وهو قولُ جمهوركم ،بل جمهورُ
المة على هذا ،كفيتُمونا مؤونة الجوابِ .إن قلتُم :الخ ُذ برأيه ،أَريناكُم مِن تناقضكم ما ل حِيلة لكم
فى دفعه ،ول سيما عن ابن عباس نفسِه ،فإنه روى حديث بَريرة وتخييرها ،ولم يكن بيعُها طلقاً،
ورأى خلفَه ،وأن بيعَ بالمة طلقُها ،فأخذتُم وأصبتُم بِروايته ،وتركتم رأيه ،فهل فعلتُم ذلك فيما
ل الصحابى غيرُ معصوم ،ومخالفته لما رواه يحتمِلُ
نحن فيه ،وقلتم :الرواية معصومة ،وقو ُ
احتمالتٍ عديدة من نسيان أو تأويل ،أو اعتقاد مُعارِض راجحٍ فى ظنه ،أو اعتقادِ أنه منسوخ أو
غ ترك روايته مع قيام هذه الحتمالت؟ وهل
مخصوص ،أو غير ذلك من الحتمالت ،فكيف يسو ُ
ث التسبيعِ
ك معلوم لِمظنون ،بل مجهول؟ قالوا :وقد روى أبو هريرة رضى ال عنه حدي َ
هذا إل تر ُ
من ولُوغ الكلب ،وأفتى بخلفه ،فأخذتُم بروايته ،وتركتُم فتواه .ولو تتبعنا ما أخذتُم فيه بروايةِ
ن فتواه ،لطال.
الصحابى دو َ
قالُوا :وأما دعواكم نسخ الحديث ،فموقوفة على ثبوت معارض مُقاوم متراخ ،فأين هذا؟
ث عكرمة ،عن ابن عباس فى نسخ المراجعة بعد الطلق الثلث ،فلو صحّ ،لم
وأما حدي ُ
صرَ
خ ذلك ،و ُق ِ
طلّقُ امرأته ويُراجعها بغير عدد ،فنُسِ َ
يكن فيه حجة ،فإنه إنما فيه أن الرّجل كان يُ َ
على ثلث ،فيها تنقطع الرجعة ،فأين فى ذلك اللزام بالثلث بفم واحد ،ثم كيف يستمرّ المنسوخ
على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبى بكر ،وصدراً من خلفة عمر ،ل تعلم به المة،
وهو من أهم المور المتعلقة بحل الفروج ،ثم كيف يقول عمر :إن الناس قد استعجلوا فى شىء
كانت لهم فيه أناة ،وهل للمة أناة فى المنسوخ بوجه ما؟ ،ثم كيف يُعارض الحديثُ الصحيحُ بهذا
الذى فيه على بن الحسين ابن واقد ،وضعفُه معلوم؟
ت طالق ،ومقصودُه التأكيد
ث على قول المطلّق :أنتِ طالق ،أنتِ طالق ،أن ِ
وأما حملُكم الحدي َ
ث عليه ل يتغيرُ
بما بعد الول ،فسياقُ الحديث مِن أوله إلى آخره يردّه ،فإنّ هذا الذى أوّلتم الحدي َ
ف على عهده وعهدِ خُلفائه ،و َهلُمّ جراً إلى آخر
بوفاةِ رسولِ ال صلى ال عليه وسلم ،ول يختِل ُ
الدهر ،ومن ينويه فى قصد التأكيد ل يُ َفرّقُ بين َبرّ وفاجر ،وصادق وكاذب ،بل يردّه إلى نيته،
وكذلك مَن ل يقبله فى الحكم ل يقبلُه مطلقًا بَراً كان أو فاجراً.
وأيضاً فإن قوله :إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا فى شىء كانت لهم فيه أناة ،فلو أنا
شرَعَهُ
أمضيناه عليهم .إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم ال فى فُسحة منه ،و َ
146
متراخيًا بعضه عن بعض رحمةً بهم ،ورفقاً وأناة لهم ،لئل يندم مطلّق ،فيذهب حبيبُه مِن يديه مِن
أول وهلةَ ،ف َي ِع ّز عليه تدارُكه ،فجعل له أنا ًة ومُهلةً يستع ِتبُه فيها ،ويرضيه ويَزولُ ما أحدثه العتبُ
ل منهما الذى عليه بالمعروف ،فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة
الداعى إلى الفراقُ ،ويُراجع كُ ّ
علِمَ
ومُهلة ،وأوقعوه بفم واحد ،فرأى عمر رضى ال عنه أنه يلزمُهم ما التزموه عقوب ًة لهم ،فإذا َ
المطلّق أن زوجته وسكنه تحرُم عليه من أول مرة بجمعه الثلثَ ،كفّ عنها ،ورجع إلى الطلق
المشروع المأذون فيه ،وكان هذا مِن تأديب عمر لرعيته لما أكثرُوا مِن الطلق الثلث ،كما سيأتى
مزيدُ تقريره عند العتذار عن عمر رضى ال عنه فى إلزامه بالثلث ،هذا وج ُه الحديث الذى ل
وجه له غيرُه ،فأين هذا من تأويلكم المستك َر ِه المستبعَ ِد الذى ل تُوافقه ألفاظُ الحديث ،بل تنبُو عنه،
وتُنافره.
ع الطلق الثلث الن على عهدِ رسول ال صلى ال
ل مَنْ قال :إن معناه كان وقو َ
وأما قو ُ
عليه وسلم واحدةً ،فإن حقيقة هذا التأويل :كان الناس على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم
ل إذا وصل إلى هذا الحد ،كان مِن
طلّقُونَ واحدة ،وعلى عهد عمر صاروا يطلّقون ثلثاً ،والتأوي ُ
يُ َ
ح ذلك بوجه ما ،فإن الناسَ ما زالوا
باب اللغاز والتحريف ،ل من باب بيان المراد ،ول َيصِ ّ
ل ال صلى ال عليه وسلم ثلثاً،
يُطلّقون واحدة وثلثاً ،وقد طلّق رجالٌ نساءهم على عهد رسو ِ
ضبَ،
غ ِ
فمنهم من ردّها إلى واحدة ،كما فى حديث عكرمة عن ابن عباس .ومنهم من أنكر عليه ،و َ
وجعله متلعباً بكتاب ال ،ولم ُي ْع َرفْ ما حكم به عليهم ،وفيهم من أقّره لتأكيد التحريم الذى أوجبه
اللعان ،ومنهم من ألزمه بالثلث ،لكون ما أتى به من الطلق آخر الثلث ،فل َيصِحّ أن يقال :إن
ح أن يقال :إنهم قد
الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلفة عمر ،فطلقوا ثلثاً ،ول َيصِ ّ
استعجلوا فى شىء كانت لهم فيه أناة ،فنمضيه عليهم ،ول يُلئم هذا الكلم الفرق بين عهد رسول
ض منكم على عهده وبعدَ عهده.
ال صلى ال عليه وسلم ،وبين عهده بوجه ما ،فإنه ما ِ
ج ِعَلتْ وَاحِدَة على عهد
ثم إن فى بعض ألفاظِ الحديث الصحيحة :ألم تعلم أنه من طلّق ثلثاً ُ
رسولِ ال صلى ال عليه وسلم.
عِل ْمتَ أن الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة
وفى لفظ :أما َ
على عه ِد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأبى بكر ،وصدراً من خلفة عمر ،فقال ابن عباس:
ل إذا طلّق امرأتَه ثلثاً قبل أن يدخُلَ بها جعلوها واحدة على عهد رسول ال صلى ال
بلى كان الرج ُ
عليه وسلم ،وأبى بكر ،وصدراً من إمارة عمر ،فلما رأى الناس يعنى عمر قد تتايعوا فيها ،قال:
147
ظ الحديث ،وهو بأصح إسناد ،وهو ل يحتمِلُ ما ذكرتُم من التأويل بوجه
أجيزوهن عليهم ،هذا لف ُ
ل من جعل الدلة تبعاً للمذهب ،فاعتقد ،ثم استدل .وأما من جعل المذهب تبعاً
عمَ ُ
ما ،ولكن هذا كله َ
للدليل ،واستدل ،ثم اعتقد ،لم يمكنه هذا العمل.
ل ال صلى ال عليه وسلم كان َهوُ الذى
ن أن رسو َ
وأما قول من قال :ليس فى الحديث بيا ُ
سبْحَانَك هذا بهتان عظيم أن يست ِم ّر هذا
ل ذلك ،ول أنه علم به ،وأقرّه عليه ،فجوابه أن يقالُ :
يجع ُ
ج لمن هو عليه حرامٌ ،وتحريمُه على
ل الحرام المتضمّن لتغيير شرع ال وَدِينه ،وإباحة ال َفرْ ِ
الجع ُ
ل صلى ال عليه وسلم وأصحابه خير الخلف ،وهم يفعلونه،
ل على عهدِ رسول ا ّ
من هو عليه حل ٌ
ب أن رسولَ ال صلى ال
ول يعلمونه ،ول يعلمه هو ،والوحى َي ْنزِلُ عليه ،وهو يُ ِقرّهم عليهَ ،ف َه ْ
لّ يعل ُم ذلك ،ول يُوحيه
عليه وسلم لم يكن يعلمُه ،وكان الصحابةُ يعلمونه ،ويُبدّلون دينَه وشرعَه ،وا ُ
لّ رسولَه صلى ال عليه وسلم ،والم ُر علي ذلك ،فيست ِمرّ هذا
إلى رسوله ،ول يُعلمه به ،ثم يتوفّى ا ُ
ل به ول يُغيّر إلى أن فارق
ل العظيم ،والخطُأ المبين عند كم مدة خِلف ِة الصديق ُكلّهاُ ،ي ْعمَ ُ
الضل ُ
الصديقُ الدنيا ،واستمر الخطأ والضللُ المركّب صدراً مِن خلفة عمر ،حتى رأي بعد ذلك برأيه
أن يُلزِ َم الناسَ بالصّواب ،فهل فى الجهل بالصحابة ،وما كانُوا عليهم فى عهد نبيهم وخلفائه أقبحُ
ل من هذا الخطأ الذى ارتكبتموه،
ل الثَلث واحدةً خطأً محضاً ،لكان أسه َ
لّ لو كان جع ُ
من هذا ،وتَا ِ
والتأويلِ الذى تأولتموه ،ولو تركتم المسألةَ بهيأتها ،لكان أقوى لِشأنها من هذه الدلة والجوبة.
ب للجمهور ،ول مستوحِش
صبٍ ،ول هيّا ٍ
قالُوا :وليس التحاكُم فى هذه المسألة إلى مقلّد متع ّ
خ فى العلم قد طال فيه باعُه،
مِن التفرّد إذا كان الصوابُ فى جانبه ،وإنما التحاكُم فيها إلى راس ٍ
حبَ بنيله ِذرَاعُه ،وفرّق بين الشبهة والدليل ،وتلقّى الحكا َم مِن نفس مِشكاة الرسول ،وعرفَ
ور ُ
ح َكمَها البا ِهرَة ،وما تضمّنته مِن
المراتبَ ،وقام فيها بالواجبِ ،وباشر قلبُه أسرارَ الشريعة و ِ
ججَها،
المصالح الباطنة والظاهرة ،وخاض فى مثل هذه المضايق لُججها ،واستوفى مِن الجانبين حُ َ
والّ المستعانُ ،وعليه التّكلن.
قالوا :وأما قولُكم :إذا اختلفت علينا الحاديثُ ،نظرنا فيما عليه الصحاب ُة رضى ال عنهم،
فنعم والِّ وحيّهل ِب َي َركِ السلم ،وعِصابة اليمان.
ل َي ْرضَى ِب َغ ْيرِهم
فَإِنّ َق ْل ِبىَ َ ض َبعْدَهُمُ
عوَا َ
طّلبْ ِلىَ الَ ْ
ل تَ َ
فَ َ
ولكن ل يليق بكم أن تدعونا إلى شىء ،وتكونُوا أول نافرٍ عنه ،ومخالفٍ له ،فقد تُوفى النبىّ
ح لكُم عن هؤلء
سمِ َع منه ،فهل صَ ّ
ن ُكلّهم قد رآه و َ
عيْ ٍ
صلى ال عليه وسلم عن أكث َر مِن مائة ألف َ
148
شرِهِم القولُ بلزوم الثلثِ بفمٍ واحد؟ هذا ولو
شرِ عُ ْ
شرِ عشرهم ،أو عُشرِ عُ ْ
شرِهم ،أو عُ ْ
ُكلّهم ،أو عُ ْ
ف عنهم فى ذلك ،فقد صحّ عن
جهِ ْدتُم كُلّ الجهد لم تُطيقوا نقلَه عن عشرين نفسًا منهم أبداً مع اختل ٍ
َ
ح عنه التوقف ،ولو كاثرنَاكُم
ل باللزوم ،وص ّ
ابن عباس القولن ،وصحّ عن ابن مسعود القو ُ
ف ذلك ،ونحن
بالصحابة الذين كان الثلثُ على عهدهم واحدةً ،لكانوا أضعافَ من نُقِلَ عنه خل ُ
ل صحابى مات إلى صد ٍر مِن خلفة عمر ،ويكفينا مق ّدمُهم ،وخيرُهم وأفضلُهم ،ومن
نُكا ِثرُكم بكُ ّ
خ َتِلفْ
كان معه من الصحابة على عهده ،بل لو شئنا لقلنا ،ولصدقنا :إن هذا كان إجماعاً قديمًا لم يَ ْ
ض عصرُ المجمعين حتى حدث الختلفُ ،فلم يستقرّ
فيه على عهد الصديق اثنانِ ،ولكن لم ينقرِ ْ
الجماعُ الول حتى صار الصحاب ُة على قولين ،واستمرّ الخلفُ بين المة فى ذلك إلى اليوم ،ثم
عِلمُوا أنه حرام،
ث عقوبةً لهم لما َ
ع من تقدّمه ،بل رأى إلزامَهم بالثل ِ
نقول :لم يُخالف عمر إجما َ
ب أن هذا سائغ للئمة أن يُلزموا الناسَ بما ضيّقوا به على أنفسهم ،ولم يقبلوا
وتتايعُوا فيه ،ول ري َ
فيه رخصةَ ال عز وجل وتسهيلَه ،بل اختاروا الشدة والعُسر ،فكيف بأميرِ المؤمنين عم َر بنِ
ف الزمنة
الخطاب رضى ال عنه ،وكمال نظره للمة ،وتأديبه لهم ،ولكن العقوبة تختلفُ باختل ِ
والشخاص ،والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه ،وأمير المؤمنين عمر رضى
ل ال صلى ال عليه وسلم ،وإنما هو رأي رآه مصلح ًة للمة
ل لهم :إن هذا عن رسو ِ
ال عنه لم يَقُ ْ
يكفّهم بها عن التسارع إلى إيقاع الثلث ،ولهذا قال :فلو أنا أمضيناهُ عليهم ،وفى لفظ آخر:
((فأجيزوهن عليهم)) أفل يُرى أن هذا رأي منه رآه للمصلحة ل إخبارٌ عن رسول صلى ال عليه
وسلم ،ولما علم رضى ال عنه أن تلك الناة والرخصة نعمة من ال على المطلّق ،ورحمةٌ به،
ن إليه ،وأنه قابلها بضدّها ،ولم يقبل رخصةَ ال ،وما جعله له من الناة عاقبه بأن حال بينه
وإحسا ٌ
ق لقواعد الشريعة ،بل هو موافق لحكمة
وبينها ،وألزمه ما ألزمه مِن الشدة والستعجال ،وهذا مواف ٌ
ال فى خلقه قدراً وشرعاً ،فإن الناس إذا تعدّوا حدودَه ،ولم يَقِفُوا عندها ،ضيّق عليهم ما جعله لمن
اتقاه من المخرج ،وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه مَنْ قال مِن الصحابة للمطلّق ثلثاً :إنك لو اتقيتَ
ال ،لجعل لك مخرجاً ،كما قاله ابن مسعود ،وابنُ عباس .فهذا نظر أمير المؤمنين ،ومن معه من
الصحابة ،ل أنه رضى ال عنه غ ّيرَ أحكام ال ،وجعل حللها حراماً ،فهذا غاي ُة التوفيق بين
النصوص ،وفعل أمير المؤمنين ومن معه ،وأنتم لم يُمكنكم ذلك إل بإلغاء أحد الجانبين ،فهذا نهاية
ل التوفيق.
ض ْنكِ ،والمعت َركِ الصّعبِ ،وبا ّ
أقدام الفريقين فى هذا المقام ال ّ
149
ل له
حُكم رسول ال صلى ال عليه وسلم فى العبد يُطلّقُ زوجتَه تطليقتين ،ثم يُعتَقُ بعد ذلك ،هل تَحِ ّ
بدون زوج وإصابة؟
ل السنن :مِن حديث أبى الحسن مولى بنى نوفل ،أنه استفتى ابنَ عباس فى مملوكٍ
روى أه ُ
طبَها؟ قال :نعم قضى
عتِقا بعد ذلك ،هل يصلُح له أن يخ ُ
كانت تحته مملوكة ،فطلقها تطليقتين ،ثم ُ
ل ال صلى ال عليه وسلم.
بذلك رسو ُ
ت لك واحدةٌ ،قضى به رسولُ ال.
ن عباس :بَ ِق َي ْ
وفى لفظ :قال اب ُ
قال المام أحمد :عن عبد الرازق ،أن ابنَ المبارك قال لمعمر :من أبو حسن هذا؟ لقد تحمّل
صخرةً عظيمة انتهى.
قال المنذرى :وأبو حسن هذا قد ُذ ِكرَ بخير وصلح ،وقد قال على بن المدينى :هو منكرُ الحديث،
وقال النسائى :ليس بالقوى.
عتِقَ وقد طلّقها اثنتين ،ففيها
ق العبدُ والزوجة فى حِباله ،ملك تما َم الثلث ،وإن ُ
عتِ َ
وإذا ُ
أربعةُ أقوال للفقهاء.
أحدها :أنها ل تحِلّ له حتى تنكِحَ زوجاً غيره حرة كانت أو أمة ،وهذا قولُ الشافعى ،وأحمد
ك طلقتين ولو كانت زوجتُه
فى إحدى الروايتين بناء على أن الطلقَ بالرجال ،وأن العبدَ إنما يمِل ُ
حرة.
ل عليه
والثانى :أن له أن يعقِ َد عليها عقداً مستأنفًا مِن غير اشتراط زوج وإصابة ،كما د ّ
ل ابن عباس ،وأح ُد الوجهين
حديثُ عُمر بن معتّب هذا ،وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ،وهو قو ُ
ق وهى
عتِ َ
للشافعية ،ولهذا القول فقه دقيق ،فإنها إنما حرمتها عليه التطليقتانِ لنقصه بالرق ،فإذا ُ
فى العدة ،زال النقصُ ،ووُجِدَ سببُ ملك الثلث ،وآثارُ النكاح باقية ،فملك عليها تمامَ الثلث ،وله
ج وإصابة ،فليس هذا القولُ
رجعتُها ،وإن عُتقَ بعد انقضاءِ عدتها ،بانت منه ،وحلّت له بدون زو ٍ
ببعيد فى القياس.
والثالث :أن له أن يَرتَجعَها فى عِدتها ،وأن ينكحها بعدها بدون زوج وإصابة ،ولو لم يعتق،
وهذا مذهبُ أهل الظاهر جميعِهم ،فإن عندهم أن العبد والحرّ فى الطلق سواء.
وذكر سُفيان بن عيينة ،عن عمرو بن دينار ،عن أبى معبد مولى ابن عباس ،عن ابن عباس
جعَها ،فأبى ،فقال ابنُ
رضى ال عنهما :أن عبدًا له طلّق امرأته تطليقتين ،فأمره ابنُ عباس أن يُرا ِ
حلّها بملك اليمين.
عباس :هى لك فاست ِ
150
والقول الرابع :أن زوجتَه إن كانت حرةً ،ملك عليها تما َم الثلث ،وإن كانت أمةً،
حرمت عليه حتى تنكِحَ زوجًا غيره ،وهذا قولُ أبى حنيفة.
ف والخلف على أربعة أقوال.
وهذا موضع اختلف فيه السل ُ
ق العبد والحر سواء ،وهذا مذهبُ أهل الظاهر جميعهم ،حكاه عنهم أبو
أحدها :أن طل َ
محمد بن حزم ،واحتجّوا بعُموم النصوص الواردة فى الطلق ،وإطلقها ،وعدم تفريقها بين حر
وعبد ،ولم تُجمِ ِع الم ُة على التفريق ،فقد صحّ عن ابن عباس أنه أفتى غلماً له برجعة زوجته بعد
ل عن ابن عباس نظر ،فإن عبد الرزاق روى عن ابن جريج،
طلقتين ،وكانت أمة .وفى هذا النق ِ
عن عمرو بن دينار ،أن أبا معبد أخبره ،أن عبداً كان لبن عباس ،وكانت له امرأة جارية لبن
عباس ،فطلقها فبتّها ،فقال له ابنُ عباس :ل طلق لك فارجعها.
قال عب ُد الرزاق :حدثنا معمر ،عن سِماك بن الفضل ،أن العبد سأل ابن عمر رضى ال
سكَ.
ضرِب رأ ُ
عنهما ،فقال :ل ترجع إليها وإن ُ
فمأخذ هذه الفتوى ،أن طلق العبد بيد سيده ،كما أن نِكاحَه بيده ،كما روى عبد الرحمن بن
مهدى ،عن الثورى ،عن عبد الكريم الجزرى ،عن عطاء ،عن ابن عباس قال :ليس طلق العبد
ول فرقته بشىء.
وذكر عبد الرزاق ،عن ابن جريج ،عن أبى الزبير ،أنه سمع جابر بن عبد ال يقول فى
ل المدينة ل
المة والعبد :سيّدُهما يجمعُ بينهما ،ويفرق ،وهذا قول أبى الشعثاء ،وقال الشعبى :أه ُ
يرون للعبد طلقاً إل بإذن سيده ،فهذا مأخ ُذ ابن عباس ،ل أنه يرى طلق العبد ثلثًا إذا كانت تَحته
أمة ،وما علمنا أحداً من الصحابة قال بذلك.
ى الزوجين إن رُق كان الطلقُ بسبب رقه اثنتين ،كما روى حما ُد بن
والقول الثانى :أن َأ ّ
سلمة ،عن عبد ال بن عمر ،عن نافع ،عن ابن عمر رضى ال عنهما قال :الحرّ يُطلق المة
تطليقتين ،وتعت ّد بحيضتين ،والعبدُ يطلّق الحرة تطليقتين ،وتعتد ثلث حِيض ،وإلى هذا ذهب
عثمان البتّى.
والقولُ الثالث :أن الطلق بالرجال ،فيمِلكُ الحرّ ثلثاً .وإن كانت زوجته أمة ،والعبد ثنتين
ل زيد بن
وإن كانت زوجته حرة ،وهذا قولُ الشافعى ومالك وأحمد فى ظاهر كلمه ،وهذا قو ُ
ثابت ،وعائشة ،وأمّ سلمة أمّى المؤمنين ،وعثمانَ بن عفان ،وعبدِ ال بن عباس ،وهذا مذهب
151
القاسم ،وسالم ،وأبى سلمة ،وعمر بن عبد العزيز ،ويحيى بن سعيد ،وربيعة ،وأبى الزناد،وسليمان
ن المسيّب ،وعطاء.
بن يسار ،وعمرو بن شعيب ،واب ِ
والقول الرابع :أن الطلقَ بالنساء كالعِدة ،كما روى شعبة عن أشعث بن سوّار ،عن
الشعبى ،عن مسروق ،عن ابن مسعود .السنة :الطلقُ والعِدةُ بالنساء.
وروى عبد الرزاق :عن محمد بن يحيى وغيرِ واحد ،عن عيسى عن الشعبى عن
اثنى عشر من صحابة النبى صلى ال عليه وسلم ،قالوا :الطلق والعِدة بالمرأة ،هذا لفظُه ،وهذا
قولُ الحسن ،وابن سيرين ،وقتادة ،وإبراهيم ،والشعبى ،وعكرمة ،ومجاهد ،والثورى ،والحسن بن
حى ،وأبى حنيفة وأصحابه.
حكْم رسول ال صلى ال عليه وسلم فى هذه المسألة؟ قيل :قد قال أبو داود:
فإن قيل :فما ُ
حدثنا محمد بن مسعود ،حدثنا أبو عاصم ،عن ابن جريج ،عن مظاهر بن أسلم ،عن القاسم بن
طلِي َقتَانِ،
لمَ ِة تَ ْ
ى صلى ال عليه وسلم قال(( :طَلَقُ ا َ
محمد ،عن عائشة رضى ال عنها ،عن النب ّ
ضتَانِ)).
ح ْي َ
و ُق ْرؤُها َ
ع َمرُ
وروى زكريا بن يحيى الساجى ،حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الحمسى ،حدثنا ُ
بن شبيب المُسْلى ،حدثنا عبد ال بن عيسي ،عن عطيّة ،عن ابن عمر رضى ال عنهما ،قال :قال
ضتَانِ)) .وقال عب ُد الرزاق :حدثنا بن جريج ،قال :كتب
ح ْي َ
لمَةِ ِث ْنتَانِ ،وعِ ّدتُها َ
رسول ال(( :طَلَقُ ا َ
إلىّ عبدُ ال بن زياد بن سمعان ،أن عبد ال بن عبد الرحمن النصارى ،أخبره عن نافع ،عن أمّ
سلمة أم المؤمنين ،أن غلماً لها طلّق امرأةً له حر ًة تطليقتين ،فاستفتت أ ّم سلمة النبى صلى ال
حتّى َت ْنكِحَ َزوْجاً غَيرَه)) ،وقد تقدّم حديثُ عمر بن معتّب ،عن
عَليْهِ َ
ح ُر َمتْ َ
عليه وسلم ،فقالَ (( :
ى صلى ال عليه وسلم غيرُ هذه
أبى حسن ،عن ابن عباس رضى ال عنه ،ول يُعرف عن النب ّ
جرِهَا.
جرِهَا وبُ َ
الثار الربعة على عُ َ
أما الولُ :فقال أبو داود :هو حديث مجهول ،وقال الترمذى :حديث غريب ل نعِرفه إل من
حديث مظاهر بن أسلم ،ومظاهر ل يُعرف له فى العلم غي ُر هذا الحديث انتهى .وقال أبو القاسم ابن
عساكر فى ((أطرافه)) بعد ذكر هذا الحديث :روى أسام ُة بن زيد بن أسلم ،عن أبيه ،أنه كان جالساً
عند أبيه ،فأتاه رسولُ المير ،فأخبره أنه سأل القاسمَ بن محمد ،وسالم بن عبد ال عن ذلك ،فقال
عمِل به
هذا ،وقال له :إن هذا ليسَ فى كتاب ال ،ول سن ِة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولكن َ
المسلمون .قال الحافظ :فدّل على أن الحديث المرفوعَ غيرُ محفوظ .وقال أبو عاصم النبيل :مظاهر
152
ابن أسلم ضعيف ،وقال يحيى بن معين :ليس بشىء ،مع أنه ل يُعرف ،وقال أبو حاتم الرازى:
منكر الحديث .وقال البيهقى :لو كان ثابتًا لقُلنا به إل أنّا نُثبتُ حديثًا يرويه من نجهل عدالته.
وأما الثر الثانى :ففيه عمر بن شبيب المُسْلى ضعيف ،وفيه عطية وهو ضعيف أيضاً.وأما
الثر الثالث :ففيه ابن سمعان الكذاب ،وعبد ال بن عبد الرحمن مجهول.
وأما الثر الرابع :ففيه عمر بن معتّب ،وقد تقدم الكلمُ فيه.
والذى سلم فى المسألة الثار عن الصحابة رضى ال عنهم والقياس.
أما الثار ،فهى متعارضة كما تقدم ،فليس بعضُها أولى من بعض ،بقى القياسُ،
طلّق ،قال :هو الذى يمِلكُ
وتجاذَبه طرفانِ :طرف المطلّق ،وطرف المطلّقة .فمن راعى طرف الم َ
ب المنكوحات برقه ،ومن راعى طرف
ف برقه كما يتنصّف نصا ُ
ص ُ
الطلق ،وهو بيده ،فيتن ّ
المطلّقة ،قال :الطلقُ يقع عليها ،وتلزمُها العدة والتحريم وتوابعُها ،فَتنصّف برقها كالعدة ،ومن
ل الشبهين ،ومن كملهُ وجعله ثلثًا رأى أن
نصف برق أىّ الزوجين كان راعى المرين ،وأعم َ
س كذلك ،فلم يتعلّق بشىء من ذلك،
الثار لم تثبت ،والمنقولُ عن الصحابة ،متعارِض ،والقيا ُ
وتمسّك بإطلق النصوص الدالة على أن الطلق الرجعى طلقتان ،ولم يُفرّقِ الُّ بين حر وعبد ،ول
سيّاً} [مريم ]64 :قالوا :والحكمة التى لجلها جعل الطلق
ك نَ ِ
ن َر ّب َ
بينَ حرة وأمة{ ،ومَا كَا َ
حرّ ،لن حاجتَه
الرجعى اثنتين فى الحر والعبد سواءٌ ،قالوا :وقد قال مالك :إن له أن ينكِحَ أربعاً كال ُ
إلى ذلك كحاجة الحر ،وقال الشافعىّ وأحمدُ :أجله فى اليلء كأجلِ الحر ،لن ضرر الزوجة فى
الصورتين سواء .وقال أبو حنيفة :إن طلقَه وطلقَ الحر سواء إذا كانت امرأتاهما حرتينِ إعمالً
لطلق نصوص الطلق ،وعمومها للحر والعبد.
وقال أحمد بن حنبل والناسُ معه :صيامُه فى الكفارات كلّها ،وصيامُ الحر سواء ،وحدّه فى
السرقة والشراب ،وحدّ الحر سواء .قالوا :ولو كانت هذه الثا ُر أو بعضُها ثابتاً ،لما سبقتُمونا إليه،
ول غلبتُمونا عليه ،ولو اتفقت اثارُ الصحابة لم َنعْدُهَا إلى غيرها ،فإن الحقّ ل يعدُوهم ،وبالّ
التوفيق.
ل ال صلى ال عليه وسلم بأن الطلق بي ِد الزوج ل بي ِد غيره
حُكم رسو ِ
طلّ ْق ُتمُوهُنّ} [الحزاب ،]49 :وقال:
ت ثُمّ َ
حتُمُ ال ُم ْؤ ِمنَا ِ
ن آ َمنُوا إذَا َنكَ ْ
قال ال تعالى{:يََأ ّيهَا الّذِي َ
ن ِب َم ْعرُوفٍ} [البقرة]231 :
سرّحوهُ ّ
سكُوهُنّ ِب َم ْعرُوفٍ َأوْ َ
جلَهنّ َفَأمْ ِ
ن أَ َ
طلّ ْقتُ ُم النّسَاءَ َف َبَلغْ َ
{وإذا َ
فجعل الطلق لمن نكح ،لن له المساك ،وهو الرجعة ،وروى ابن ماجه فى ((سننه)) :من حديث
153
ى صلى ال عليه وسلم رجلٌ فقال :يا رسولَ ال ،سيّدى زوّجنى أمتَه ،وهو
ابن عباس ،قال :أتى النب ّ
صعِدَ رسولُ ال صلى ال عليه وسلم المنبرَ ،فقال(( :يَا َأ ّيهَا النّاسُ
يُريد أن يفرّق بينى وبينَها .قالَ :ف َ
ق ِلمَنْ أَخَ َذ بِالسّاقِ)).
ق َب ْي َن ُهمَا ،إنّما الطّلَ ُ
ن يُ َفرّ َ
عبْ َد ُه َأ َمتَ ُه ثُ ّم ُيرِيدُ أَ ْ
ل أَحَ ِدكُ ْم ُي َزوّجُ َ
مَا بَا ُ
وقد روى عب ُد الرزاق ،عن ابنِ جُريج ،عن عطاء ،عن ابنِ عباس رضى ال عنهما ؛ كان
ق العبدِ بيدِ سيّده ،إن طلّق ،جاز ،إن فرق ،فهى واحدة إذا كانا له جميعاً ،فإن كان العبدُ
يقول :طل ُ
له ،والمةُ لغيره ،طلّق السي ُد أيضاً إن شاء.
ق العبد ول فرقتُه
وروى الثورىّ ،عن عبد الكريم الجزرى ،عن عطاء ،عنه :ليس طل ُ
بشىء.وذكر عب ُد الرزاق ،حدثنا ابن جريج ،أخبرنى أبو الزبير سمع جابراً يقول فى المة والعبد:
سيدُهما يجمعُ بينهما ويُفرّق.
ث ابن عباس رضى ال عنهما
ق أن يُتبع .وحدي ُ
وقضاءُ رسول ال صلى ال عليه وسلم أح ّ
ل الناس.
ن َيعْضُدُه ،وعليه عم ُ
المتقدّم ،وإن كان فى إسناده ما فيه ،فالقرآ ُ
ن الثلث ،ثم راجعها بع َد زوج أنها على
ل ال صلى ال عليه وسلم فيمن طلّق دو َ
حُكم رسو ِ
بقية الطلقِ
ن وهب ،يُحدّث عن رجل
ن مِقْسَمٍ ،أنه أخبره ،أنه سمع ُن َبيْهَ ب َ
نبِ
ن المبارك ،عن عثما َ
ذكر اب ُ
من قومه ،عن رجل من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم :أن رسولَ ال صلى ال عليه
جعُها بعد زوج أنها على ما بقى من
ن الثلث ،ثم يرت ِ
وسلم قضى فى المرأة يُطلّقُها زوجُها دو َ
الطلق.
وهذا الثر وإن كان فيه ضعيف ومجهول ،فعليه أكابرُ الصحابة ،كما ذكر عبد الرزاق فى
((مصنفه)) ،عن مالك ،وابن عيينة ،عن الزّهرى ،عن ابن المسيّب ،وحُميد بن عبد الرحمن،
وعُبيد ال بن عبد ال بن عتبة ابن مسعود ،وسُليمان ابن يسار ،كلهم يقول :سمعتُ أبا هُريرة يقول:
سمعتُ عمر بن الخطاب يقول :أيّما امرأةٍ طلّقها زوجُها تطليق ًة أو تطليقتين ،ثم تركها حتّى َت ْنكِحَ
زوجًا غيره ،فيموتَ عنها ،أو يُطَلقَها ثم ينكحهَا زوجُها الول ،فإنها عنده على ما بقى مِن طلقها.
وعن على بن أبى طالب ،وأبى بن كعب ،وعمران بن حصين رضى ال عنهم مثله.
قال المام أحمد :هذا قولُ الكابر مِن أصحاب النبىّ صلى ال عليه وسلم .
ن عباس ،رضى ال عنهم :تعو ُد على الثلث ،قال ابنُ
ن عمر ،واب ُ
وقال ابنُ مسعود ،واب ُ
عباس رضى ال عنهما :نِكاح جديدٌ ،وطلقٌ جديد .
154
ل أهلُ الحديث ،فيهم أحمدُ ،والشافعىّ ،ومالكُ ،وذهب إلى الثانى
وذهب إلى القولِ الوّ ِ
أبو حنيفة ،هذا إذا أصابها الثانى ،فإن لم يُصبها فهى على ما بقى من طلقها عند الجميع .وقال
النخعى :لم أسمع فيها اختلفاً ،ولو ثبت الحديثُ لكان فصلَ النزاع فى المسألة ،ولو اتفقت اثارُ
ل أيضاً .
الصحابة ،لكانت فص ً
وأما فقه المسألة فمتجاذب ،فإن الزّوج الثانى إذا هَ َد َمتْ إصابتُه الثلثَ ،وأعادتها إلى
الول بطلقٍ جديدٍ ،فما دُونها أولى ،وأصحابُ القول الول يقولون :لما كانت إصابة الثانى
طلّقَت
ل المطلقة ثلثًا للول لم يكن بُ ّد مِن هدمها وإعادتها على طلق جديدٍ ،وأما مَنْ ُ
شرطاً فى حِ ّ
ل للول ،فلم
دونَ الثلث ،فلم تُصادِف إصابة الثانى فيها تحريمًا يُزيلُه ،ول هى شرطٌ فى الحِ ّ
َتهْدِمْ شيئاً ،فوجودُها كعدمها بالنسبة إلى الول ،وإحللها له ،فعادت على ما بقى كما لو لم
يُصبها ،فإن إصابتَه ل أثر لها البتة ،ول نكاحه ،وطلقُه معلّق بها بوجه ما ،ول تأثيرَ لها فيه .
ل ال صلى ال عليه وسلم فى المطلقة ثلثاً ل تَحِلّ للول حتى يطأَهَا الزوجُ
حُكم رسو ِ
الثانى
(يتبع)...
@
ظىّ جاءت إلى
ثبت فى ((الصحيحين)) :عن عائشة رضىَ الُّ عنها ،أن امرأةَ رِفاعة القُر ِ
رسولِ ال صلى ال عليه وسلم ،فقالت :يا رسولَ ال ،إن رِفاعة طلّقنىَ ،ف َبتّ طلقى ،وإنى
ل ال صلى ال
ل الهُ ْدبَةِ ،فقال رسو ُ
نكحتُ بعدَه عب َد الرحمن بنَ الزّبير القُرظى ،وإنّ ما معه مث ُ
س ْيَلتَك)).
س ْيَلتَهُ ويَذُوقَ عُ َ
حتّى تَذُوقى عُ َ
ن َترْجِعى إلى رِفَاعَةَ .لََ ،
ن أَ ْ
عليه وسلمَ(( :ل َعّلكِ تُريدِي َ
ل ال صلى ال عليه وسلم:
وفى سنن النسائى :عن عائش َة رضىَ ال عنها ،قالت :قال رسو ُ
ع َوَل ْو لَ ْم ُي ْنزِل)).
س ْيلَةُ :الجِما ُ
((العُ َ
طلّقُ امرأتَه
ل يُ َ
ن الرّجُ ِ
لّ صلى ال عليه وسلم عَ ِ
سئِلَ رسولُ ا ِ
وفيها عن ابن عمر ،قالُ :
ثلثاً ،فيتزوّجُها الرجُلَ ،ف ُي ْغلِقُ البابَ ،ويُرخى السّتر ،ثم يُطلّقها قبل أن يدخُلَ بها؟ قال(( :لَ
خرُ)).
حتّى يُجا ِمعَها ال َ
لوّلِ َ
ل لِ َ
تَحِ ّ
فتضمن هذا الحكم أموراً.
ل المرأة على الرجل أنه ل يق ِد ُر على جماعها.
أحدهما :أنه ل يُقبل قو ُ
155
الثانى :أن إصاب َة الزوج الثانى شرط فى حلها للول ،خلفًا لمن اكتفى بمجرد العقد ،فإن
قوله مردود بالسنة التى ل مرد لها.
الثالث :أنه ل يُشترط النزال ،بل يكفى مجردُ الجماع الذى هو ذوقُ العسيلة.
الرابع :أنه صلى ال عليه وسلم لم يجعلْ مجر َد العقد المقصود الذى هو نكاح رغبة كافياً،
ول اتصال الخلوة به ،وإغلق البواب ،وإرخاء الستور حتى يتّصل به الوطءُ ،وهذا يدل على
ض للزوج والزوجة فيه سوى صور ِة العقد ،وإحللها
أنه ل يكفى مجرد عقد التحليل الذى ل غر َ
للول بطريق الولى ،فإنه إذا كان عقد الرغبة المقصود للدوام غيرَ كافٍ حتى يوجد فيه الوطء،
فكيف يكفى عق ُد تيسٍ مستعار لِيحلّها ل رغبة له فى إمساكها ،إنما هو عا ِريّة كحمار العشرين
المستعار للضّراب؟
حُكم رسول ال صلى ال عليه وسلم فى المرأة تُقيم شاهداً واحداً على طلقِ زوجها والزّوجُ
منكر
ن وضّاح عن ابن أبى مريم ،عن عمرو بن أبى سلمة ،عن عمرو بن أبى سلمة،
ذكر اب ُ
عن زهير بن محمد ،عن ابن جُريج ،عن عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده ،عن النبىّ
ك بِشَاهِ ٍد وَاحِدٍ عَدْلِ،
علَى ذَل َ
ق َزوْجهَا ،فَجَا َءتْ َ
عتِ ال َم ْرَأةُ طَلَ َ
صلى ال عليه وسلم ،قال(( :إذَا ادّ َ
خرَ ،وَجَازَ
ن َنكَلَ َف ُنكُولُه ِب َم ْن ِزلَةِ شَاهِدٍ آ َ
شهَا َد ُة الشّاهِدِ ،وإ ْ
عنْهُ َ
طَلتْ َ
ف بَ َ
حَل َ
جهَا ،فإِنْ َ
حِلفَ َزوْ ُ
استُ ْ
طَلقُه)) ،فتضمّن هذا الحك ُم أربع َة أمور.
أحدُها :أنه ل يُكتفى بشهادة الشاهد الواحِدِ فى الطلق ،ول مَع يمين المرأة ،قال المام
أحمد :الشاه ُد واليمين إنما يكون فى الموال خاصة ل يقعُ فى حدّ ،ول نِكاح ،ول طلق ،ول
إعتاق ،ول سرقة ،ول قتل .وقد نصّ فى رواية أخرى عنه على أن العبدَ إذا ادّعى أن سيدَه
أعتقه ،وأتى بشاهد ،حلف مع شاهده ،وصار حراً ،واختاره الخِرقى ،ونص أحمد فى شريكين
س َريْنِ عدلين ،فللعبد أن يحلفَ
فى عبد ادّعى كُلّ واحد منهما أن شريكَه أعتق حقّه منه ،وكانا مُع ِ
مع كُلّ واحد منهما ،ويصيرَ حراً ،ويحِلفَ مع أحدهما ،ويصيرَ نصفُه حراً ،ولكن ل يعرف عنه
أن الطلق يثبتُ بشاه ٍد ويمين.
ب إن
ث عمرو بن شعيب هذا على أنه يثُبت بشاهِ ٍد ونكولِ الزوج ،وهو الصوا ُ
وقد دلّ حدي ُ
شاء ال تعالى ،فإن حديث عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده ،ل يُعرف من أئمة السلم إل
ض المواضع ،وزهي ُر بن محمد ،الراوى عن ابن
من احتج به ،وبنى عليه وإن خالفه فى بع ِ
156
جريج ،ثقة محتج به فى ((الصحيحين)) ،وعمرو بن أبى سلمة ،هو أبو حفص التنيسى ،محتج
به فى ((الصحيحين)) أيضاً ،فمن احتجّ بحديث عمرو بن شعيب ،فهذا من أصح حديثه.
ج يُستحلف فى دعوى الطلق إذا لم تَقُ ْم للمرأة به بينة ،لكن إنما استحلفه مع
الثانى :أن الزو َ
قوة جانب الدعوى بالشاهد.
الثالث :أنه يحكم فى الطلق بشاهدٍ ،ونكول المدّعى عليه ،وأحمد فى إحدى الروايتين عنه
يحكُم بوقوعه بمجرّد النكول من غير شاهد ،فإذا ادّعت المرأة على زوجها الطلقَ ،وأحلفناه لها
فى إحدى الروايتينَ ،ف َنكَلَ ،قضى عليه ،فإذا أقامت شاهداً واحدًا ولم يَحلف الزوج على عدم
دعواها ،فالقضاء بالنكول عليه فى هذه الصورة أقوى.
وظاهر الحديث :أنه ل يُحكم على الزوج بالنكول إل إذا أقامت المرأةُ شاهداً واحداً ،كما هو
إحدى الروايتين عن مالك ،وأنه ل يُحكم عليه بمجرد دعواها مع نكوله ،لكن من يقضى عليه به
ض هذا عليه بالنكولِ فى دعوى
يقول :النكولُ إما إقرارٌ ،وإما بينة ،وكلهما يُحكم به ،ولكن ينتقِ ُ
القِصاص ،ويُجاب بأن النكولَ بدل استغنى به فيما يُباح بالبدل ،وهو الموالُ وحقوقها دون النكاح
وتوابعه.
ل بمنزلة البينة ،فلما أقامت شاهداً واحداً وهو شط ُر البينة كان النكولُ
الرابع :أن النكو َ
قائماً ،مقام تمامها.
ونحن نذكرُ مذاهبَ الناس فى هذه المسألة ،فقال أبو القاسم بن الجلب فى ((تفريعه)):
حلّف بدعواها ،فإن أقامت على ذلك شاهداً واحداً ،لم
وإذا ادعت المرأ ُة الطلقَ على زوجها لم يُ َ
ق على زوجها ،وهذا الذى قاله ل يُعلم فيه نزاع بين الئمة
تُحلف مع شاهدها ،ولم يث ُبتِ الطل ُ
الربعة ،قال :ولكن يحلف لها زوجُها ،فإن حلف ،برىءَ من دعواها.
قلتُ :هذا فيه قولن للفقهاء ،وهما روايتان عن المام أحمد .إحداهما :أنه يحِلفُ لدعواها،
وهو مذهب الشافعى ،ومالك ،وأبى حنيفة .والثانية :ل يحلف .فإن قلنا :ل يحلف ،فل إشكال،
وإن قلنا :يحلف ،فنكل عن اليمين ،فهل يقضى عليه بطلق زوجته بالنكول؟ فيه روايتان عن
ق عليه بالشاهد والنكول عملً بهذا الحديث ،وهذا اختيارُ أشهب ،وهذا
مالك ،إحداهما :أنها تطلُ ُ
فيه غاي ُة القوة ،لن الشاهد والنكول سببان مِن جهتين مختلفتين ،فقوى جانبُ المدعى بهما ،فحكم
له ،فهذا مقتضى الثر والقياس.
157
ح ِبسَ ،فإن طال حبسُهُ ،ت ِركَ.
ل عن اليمينُ ،
والرواية الثانية عنه :أن الزوج إذا َنكَ َ
واختلفت الرواية عن المام أحمد ،هل يقضى بالنكول فى دعوى المرأة الطلق؟ على روايتين.
ول أثر عنده لقامة الشاهدِ الواحد ،بل إذا ادعت عليه الطلقَ ،ففيه روايتان فى استحلفه ،فإن
قلنا :ل يُستحلف ،لم يكن لدعواها أثر ،وإن قلنا :يستحلف ،فأبى فهل يُحكم عليه بالطلق؟ فيه
روايتان ،وسيأتى إن شاء ال تعالى الكلمُ فى القضاء بالنكول ،وهل هو إقرار أو بدل ،أو قائم
مقام البينة فى موضعه من هذا الكتاب؟.
حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم فى تخيير أزواجه بين المُقام معه وبين مفارقتهن له
ل ال صلى ال عليه
ثبت فى ((الصحيحين)) عن عائشة رضى ال عنها قالت :لما ُأ ِمرَ رسو ُ
حتّى تَسْت ْأمِرى
ل َتعْجَلى َ
عَل ْيكِ أَ ّ
ك َأمْراً فَلَ َ
وسلم بتخيير أزواجه ،بدأ بى ،فقال(( :إنّى ذَا ِك ٌر َل ِ
جكَ إنْ
ل ْزوَا ِ
َأ َب َو ْيكِ)) .قالت :وقد علم أن أبوى لم يكونا ليأمرانى بفراقه ،ثم قرأ{:يَأ ّيهَا النّبىّ قُلْ َ
ن ُك ْنتُنّ ُترِدْنَ ال
ل * َوإِ ْ
جمِي ً
سرَاحاً َ
حكُنّ َ
سرّ ْ
ن ُأ َم ّت ْعكُنّ َوأُ َ
حيَا َة ال ّدنْيا وزينَتَها َف َتعَاَليْ َ
ُك ْنتُنّ ُترِدْنَ ال َ
ن أَجْراً عَظِيماً} [الحزاب ]29-28 :فقلتُ :فى
ت ِم ْنكُ ّ
سنَا ِ
خ َرةَ فَإِنّ ال أَعَدّ ِل ْلمُحْ ِ
َورَسُولَهُ والدّارَ ال ِ
هذا استأمر أبوى؟ فإنى أريدُ ال ورسولَه والدارَ الخرةَ .قالت عائشة :ثم َفعَل أزواجُ النبى صلى
ال عليه وسلم ِمثْلَ ما فعلتُ ،فلم يكن ذلك طلقاً.
قال ربيع ُة وابنُ شهاب :فاختارت واحدةٌ منهن نفسَها ،فذهبت وكانت ألبتة .قال ابن شهاب:
وكانت بدوية .قال عمرو بن شعيب :وهى ابنة الضحاك العامرية رجعت إلى أهلها ،وقال ابنُ
حبيب :قد كان دخل بها .انتهى.
ط بعد ذلك البعر ،وتقول :أنا الشقيّةُ.
وقيل :لم يدخل بها ،وكانت تلتقِ ُ
واختلف الناسُ فى هذا التخيير ،فى موضعين .أحدهما :فى أى شىء كان؟ والثانى :فى
حكمه ،فأما الول :فالذى عليه الجمهور أنه كان بين المقام معه والفراق ،وذكر عبد الرزاق فى
ن بين الدنيا والخرة ،ولم يُخ ّيرْهُنّ فى الطلق،
((مصنفه)) ،عن الحسن ،أن ال تعالى إنما خ ّيرَهُ ّ
ق القرآن ،وقولُ عائشة رضى ال عنها َيرُدّ قوله ،ول ريب أنه سبحانه خيّرهن بينَ ال
وسيا ُ
جبَ اختيارهن ال ورسولَه والدارَ
ورسوله والدار الخرة ،وبينَ الحياة الدنيا وزينتها ،وجعل مَو ِ
ن ويُسرّحَهن سَراحاً جميلً،
الخرة المقا َم مع رسوله ،وموجبَ اختيارهن الدنيا وزينتها أن يُم ّتعَه ّ
وهو الطلقُ بل شك ول نزاع.
158
وأما اختلفُهم فى حكمه ،ففى موضعين .أحدهما :فى حكم اختيار الزوج ،والثانى:
ن ومعظم المة أن
فى حكم اختيار النفس ،فأما الول :فالذى عليه معظمُ أصحاب النبى ونساؤه ُكّلهُ ّ
من اختارت زوجها لم تطلق ،ول يكون التخييرُ بمجرده طلقاً ،صحّ ذلك عن عمر ،وابن
ل ال صلى ال عليه وسلم فاخترناه ،فلم
مسعود ،وابن عباس ،وعائشة .قالت عائشة :خيّرنا رسو ُ
نعدّه طلقاً ،وعن أمّ سلمة ،وقريبة أختها ،وعبد الرحمن بن أبى بكر.
وصح عن على ،وزيد بن ثابت ،وجماعة من الصحابة :أنها إن اختارت زوجَها ،فهى
ل الحسن ،ورواية عن أحمد رواها عنه إسحاق بن منصور ،قال :إن
طلقة رجعية ،وهو قو ُ
اختارت زوجَها ،فواحدة يمِلكُ الرجعة ،وإن اختارت نفسها ،فثلثٌ ،قال أبو بكر :انفرد بهذا
إسحاق بن منصورِ ،والعملُ على ما رواه الجماعة .قال صاحب ((المغنى)) :ووجه هذه الرواية
أن التخييرَ كناية نوى بها الطلق ،فوقع بمجرّدها كسائر كناياته ،وهذا هو الذى صرّحت به
عائشة رضى ال عنها ،والحق معها بإنكاره وردّه ،فإن رسولَ ال صلى ال عليه وسلم لما
اختاره أزواجُه لم يَقُل :وقع بكن طلقة ،ولم يُراجعهن ،وهى أعلم المة بشزن التخيير ،وقد صح
عن عائشة رضى ال عنها أنها قالت :لم يكن ذلك طلقاً ،وفى لفظ(( :لم نعده طلقاً)) .وفى لفظ:
((خيّرنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،أفكان طلقا ؟ً))
والذى لحظه من قال :إنها طلقة رجعية أن التخيير تمليك ،ول تملك المرأةُ نفسها إل وقد
ك مستلزم لوقوع الطلق ،وهذا مبنى على مقدمتين .إحداهما :أن التخيي َر تمليك.
طلقت ،فالتملي ُ
ع الطلق ،وكِل المقدمتين ممنوعة ،فليس التخيي ُر بتمليك ،ولو
والثانية :أن التمليك يستلزِمُ وقو َ
ع الطلق قبل إيقاع من ملكه ،فإن غاية أمره أن تمِلكَه الزوجةُ كما كان
كان تمليكاً لم يستلزم وقو َ
الزوج يمِلكُه ،فل يقع بدون إيقاع من ملكه ،ولو صحّ ما ذكروه ،لكان بائناً ،لن الرجعية ل
تمِلكُ نفسها.
وقد اختلف الفقهاءُ فى التخيير :هل هو تمليك أو توكيلٌ ،أو بعضُه تمليك ،وبعضُه
توكيل ،أو هو تطليق منجّز ،أو لغوٌ ل أثر له ألبتة؟ على مذاهب خمسة .التفريقُ هو مذهب أحمد
ف على القبول ،وقال صاحب
ومالك .قال أبو الخطاب فى ((رؤوس المسائل)) :هو تمليكٌ يق ُ
ك بيدكِ ،أو اختارى ،فقالت :قبلتُ ،لم يقع شىء ،لن ((أمرك
((المغنى)) فيه :إذا قال :أم ُر ِ
ت ينصرف إلى قبول الوكالة ،فلم يقع شىء ،كما لو قال
بيدك)) توكيل ،فقولُها فى جوابه :قبل ُ
لجنبية :أم ُر امرأتى بيدكِ ،فقالت :قبلت ،وقوله :اختارى :فى معناه ،وكذلك إن قالت :أخذت
159
أمرى ،نص عليهما أحمد فى رواية إبراهيم بن هانئ إذا قال لمرأته :أمُركِ بيدكِ ،فقالت :قبلت،
ليس بشىء حتى يتبيّن ،وقال :إذا قالت :أخذتُ أمرى ،ليس بشىء ،قال :وإذا قال لمرأته:
اختارى ،فقالت :قبلتُ نفسى ،أو اخترت نفسى ،كان أبين .انتهى .وفرق مالك بين ((اختيارى))،
ك بيدكِ)) تمليكاً ،و ((اختيارى)) تخييراً ل تمليكاً .قال
وبين ((أم ُركِ بيدكِ)) ،فجعل ((أم ُر ِ
أصحابُه :وهو توكيلٌ.
وللشافعى قولن .أحدهما :أنه تمليك ،وهو الصحيح عند أصحابه ،والثانى :أنه توكيل وهو
القديم ،وقالت الحنفية :تمليك .وقال الحسنُ وجماعةٌ من الصحابة :هو تطليق تقع به واحدة منجّزة،
وله رجعتُها ،هى رواية ابنِ منصور عن أحمد.
وقال أهلُ الظاهر وجماع ٌة من الصحابة :ل يقع به طلق ،سواءٌ اختارت نفسَها ،أو
اختارت زوجها ،ول أثر للتخيير فى وقوع الطلق.
ونحن نذكر مآخذ هذه القوال على وجه الشارة إليها.
ب التمليك :لما كان البُضع يعود إليها بعد ما كان للزوج ،كان هذا حقيق َة التمليك.
قال أصحا ُ
قالوا :وأيضاً فالتوكيل يستلزِ ُم أهلي َة الوكيل لمباشرة ما ُوكّلَ فيه ،والمرأةُ ليست بأهل ليقاع
الطلق ،ولهذا لو وكّل امرأةً فى طلق زوجته ،لم يصحّ فى أحد القولين ،لنها ل تُباشر الطلق،
ل فى طلق امرأتهَ ،يصِحّ أن يوكّل امرأة فى
والذين صححوه قالوا :كما يصح أن يُوكّلَ رج ً
طلقها.
ن الوكيلَ هو الذى يتصرف لموكله ل لنفسه،
قالُوا :وأيضاً فالتوكيل ل يُعقل معناه هاهنا ،فإ ّ
ف الوكيل.
والمرأة ها هنا إنما تتصرّف لنفسها ولحظها ،وهذا يُنافى تصر َ
ب التوكيل ،واللفظُ لصاحب ((المغنى)) :وقولهم :إنه توكيل ل َيصِحّ،
قال أصحا ُ
فإن الطلقَ ل يصح تمليكه ،ول ينتقِلُ عن الزواج ،وإنما ينوبُ فيه غيرُه عنه ،فإذا استناب غيره
فيه ،كان توكيلً ل غير.
ل الملك إليها فى بُضعها ،وهو محال ،فإنه لم
قالوا :ولو كان تمليكاً لكان مقتضاه انتقا َ
ك البُضعَ ،ل َمَلكَ عِوضه،
يخرُج عنها ،ولهذا لو وُطئت بشبهة كان المهر لها ل للزوج ،ولو َمَل َ
ض تلك المنفعة له.
عوَ ُ
كمن ملك منفعة عينٍ كان ِ
قالوا :وأيضاً فلو كان تمليكاً ،لكانت المرأةُ مالكة للطلق ،وحينئذ يجب أن ل يبقى الزوجُ
مالكاً لستحالة كون الشىء الواحد بجميع أجزائه ملكاً لمالكين فى زمن واحد ،والزوجُ مالك
160
للطلق بعد التخيير ،فل تكونُ هى مالكة له ،بخلف ما إذا قلنا :هو توكيل واستتابة ،كان الزوجُ
مالكاً ،وهى نائبة ووكيلة عنه.
ح ِنثَ ،فدل
قالوا :وأيضاً فلو قال لها :طلّقى نفسَك ،ثم حلف أن ل يُطلّق ،فطلقت نفسَهاَ ،
على أنها نائبة عنه ،وأنه هو المطلّق.
قالوا :وأيضاً فقولُكم :إنه تمليك ،إما إن تُريدوا به أنه ملّكها نفسَها ،أو أنه ملّكها أن تّطلّق،
فإن أردتم الول ،لزمكم أن يقع الطلقُ بمجرد قولها :قبلت ،لنه أتى بما يقتضى خروجَ بُضعها
ت العبارة.
غيّر ِ
عن ملكه ،واتصل به القبولُ ،وإن أردتم الثانى ،فهو معنى التوكيل .وإن ُ
قال المفرّقون بين بعض صوره وبعض ،وهُمْ أصحابُ مالك :إذا قال لها :أم ُركِ
بيدكِ ،أو جعلت أمرَك إليك ،أو ملّكتُك أمرك ،فذاك تمليك .وإذا قال :اختارى فهو تخيير ،قالُوا:
والفرقُ بينهما حقيقةً وحكماً .أما الحقيقةُ ،فلن ((اختارى)) لم يتضمن أكثرَ من تخييرها ،لم
يُملكها نفسها ،وإنما خيّرها بين أمرين ،بخلف قوله :أمرُك بيدك ،فإنه ل يكون بيدها إل وهى
مالكته ،وأما الحكم ،فلنه إذا قال لها :أمرُك بيدك ،وقال :أردتُ به واحدة ،فالقولُ قولُه مع
يمينه ،وإذا قال :اختارى ،فطلقت نفسَها ثلثاً ،وقعت ،ولو قال :أردتُ واحدة إل أن تكونَ غيرَ
مدخول بها ،فالقول قوله فى إرادته الواحدة .قالوا :لن التخيير يقتضى أن لها أن تختارَ نفسها،
ول يحصُل لها ذلك إل بالبينونة ،فإن كانت مدخولً بها لم َتبِنْ إل بالثلث ،وإن لم تكن مدخولً
بها ،بانت بالواحدة ،وهذا بخلفِ :أمرُك بيدك ،فإنه ل يقتضى تخييرها بين نفسها وبين زوجها،
بل تمليكها أمرها ،وهو أعمّ مِن تمليكها البانة بثلث أو بواحدة تنقضى بها عدتها ،فإن أراد بها
أحدَ محتمليهُ ،قبِلَ قولُه ،وهذا بعينه َيرِد عليهم فى ((اختيارى)) ،فإنه أعم من أن تختار البينونة
ح فى تمليك الثلث من
بثلث أو بواحدة تنقضى بها عدتها ،بل(( :أمرك بيدك)) أصر ُ
((اختارى)) ،لنه مضاف ومضاف إليه ،فيعم جميعَ أمرها .بخلف ((اختارى)) فإنه مطلق ل
عموم له ،فمن أين يُستفاد منه الثلث؟ وهذا منصوصُ المام أحمد ،فإنه قال فى اختارى :إنه ل
تمِلكُ به المرأة أكث َر مِن طلقة واحدة إل بني ِة الزوج ،ونص فى ((أمرك بيدك ،وطلقك بيدك
ووكلتك فى الطلق)) :على أنها تملك به الثلث .وعنه رواية أخرى :أنها ل تمِلكُها إل بنيته.
وأما من جعله تطليقاً منجّزاً ،فقد تقدّم وج ُه قوله وضعفه.
وأما من جعله لغواً ،فلهم مأخذان:
161
ق لم يجعله ال بيد النساء ،إنما جعله بيد الرّجال ،ول
أحدهما :أن الطل َ
ل الطلق إلى من لم يجعل ال إليه الطلق
يتغ ّيرُ شرع ال باختيار العبد ،فليس له أن يختار نق َ
البتة.
ب ابن أبى ثابت ،أن
ن عياش ،حدثنا حبي ُ
قال أبو عُبيد القاسم بن سلم :حدثنا أبو بكر ب ُ
ل إلى هذا البيت ،فأمرُ صاحبتك بيدك ،فأدخلتْه ،ثم قالت:
رجلً قال لمرأة له :إن أدخلتِ هذا العِدْ َ
هى طالقَ ،فرُفِ َع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضى ال عنه ،فأبانها منه ،فمرّوا بعبد ال بن
مسعود ،فأخبروه ،فذهب بهم إلى عمر ،فقال :يا أميرَ المؤمنين :إن ال تبارك وتعالى جعل
الرّجال قوامِينَ على النساء ،ولم يجعل النساء قواماتٍ على الرجال ،فقال له عمر :فما ترى؟ قال:
أراها امرأته .قال :وأنا أرى ذلك ،فجعلها واحدة.
قلت :يحتمل أنه جعلها واحدة بقول الزوج :فأمر صاحبتك بيدك ،ويكون كنايةً فى الطلق،
ويحتمل أنه جعلها واحدة بقول ضرتها :هى طالق ،ولم يجعل للضرة إبانتها ،لئل تكون هى
القوامة على الزوج ،فليس فى هذا دليل لما ذهبت إليه هذه الفرقة ،بل هو حجة عليها.
وقال أبو عبيد :حدثنا عبد الغفار بن داود ،عن ابنِ لهيعة ،عن يزيد ابن أبى حبيب ،أن
ُر َم ْيثَةَ الفارسية كانت تحتَ محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر ،فملكها أمرها ،فقالت :أنتَ طالق
طلّقُ.
ثلث مرات ،فقال عثمان بن عفان :أخطأتَ ،ل طلق لها ،لن المرأة ل تُ َ
وهذا أيضاً ل يدل لهذه الفرقة ،لنه إنما لم يوقع الطلق لنها أضافته إلى غير محله وهو
الزوج ،وهو لم يقل :أنا منك طالق ،وهذا نظيرُ ما رواه عبد الرزاق ،حدثنا ابن جريج ،أخبرنى
أبو الزبير ،أن مجاهداً أخبره ،أن رجلً جاء إلى ابن عباس رضى ال عنهما ،فقال :ملّكتُ
امرأتى أمرها ،فطلّقتْنى ثلثاً ،فقال ابنُ عباس(( :خَطّأَ الُّ فوءها ،إنما الطلق لك عليها ،وليس
لها عليك)).
قال الثرم :سألتُ أبا عبد ال ،عن الرجل يقول لمرأته :أم ُركِ بيدك؟ فقال :قال عثمانُ،
وعلىّ رضى ال عنهما :القضاء ما قضت ،قلت :فإن قالت :قد طلقتُ نفسى ثلثاً قال :القضاءُ ما
قضت .قلت :فإن قالت :طلقتُك ثلثاً ،قال :المرأة ل تطلّق ،واحتج بحديث ابن عباس رضى ال
عنهما(( :خَطَّأ ال نوءها)) .ورواه عن وكيع ،عن شعبة ،عن الحكم ،عن ابن عباس رضى ال
عنه ،فى رجل جعل أمر امرأتِه فى يدها ،فقالت :قد طلقتُك ثلثاً ،قال ابنُ عباس :خَطّأَ ال
نوءها ،أفل طلقت نفسها .قال أحمد :صحّف أبو مطر ،فقال(( :خطأ ال فوها)) ولكن روى عبد
162
الرزاق ،عن ابن جريج ،قال :سألتُ عبد ال بن طاووس كيف كان أبوك يقول فى رجل ملّك
امرأتَه أمرَها ،أتمِلكُ أن تُطلّق نفسها ،أم ل؟ قال :كان يقولُ :ليس إلى النساء طلقٌ ،فقلت له:
ل أم َر امرأتِهَ ،أ َي ْمِلكُ الرجلُ أن يُطلّقَها؟ قال :ل .فهذا
فكيف كان أبوك يقول فى رجل ملّك رج ً
صريح من مذهب طاووس أنه ل يُطلق إل الزوج ،وأن تمليكَ الزوجة أمرها لغو ،وكذلك توكيلُه
غيره فى الطلق .قال أبو محمد ابن حزم :وهذا قول سليمان ،وجميع أصحابنا.
الحجة الثانية لهؤلء :أن ال سبحانه إنما جعل أم َر الطلق إلى الزوج دونَ النساء،
لنهن ناقصاتُ عقل ودين ،والغالبُ عليهن السفه ،وتذهب بهن الشهوة والميل إلى الرجال كُلّ
جعِلَ أم ُر الطلق إليهن ،لم يستقِمْ للرجال معهن أمر ،وكان فى ذلك ضرر عظيم
مذهب ،فلو ُ
بأزواجهن ،فاقتضت حِكمتُه ورحمتُه أَنه لم يجعل بأيديهن شيئًا مِن أمر الفراق ،وجعله إلى
ل ذلك إليهن ،لناقض حكمةَ ال ورحمتَه ،ونظره للزواج .قالوا:
الزواج .فلو جاز للزواج نق ُ
ن أزواجه
ل على التخيير فقط ،فإن اخترن ال ورسولَه والدارَ الخرَة كما وقع كُ ّ
والحديث إنما دَ ّ
سهُنّ ،متعهن ،وطلقهن هو بنفسه ،وهو السّراحُ الجميل ،ل أن
ن أنفُ َ
بحالهن ،وإن اختر َ
ن هو نفسَ الطلق ،وهذا فى غاية الظهور كما ترى.
اختيارَهن لنفسهن يكو ُ
قال هؤلء :والثارُ عن الصحابة فى ذلك مختلفة اختلفاً شديداً فصح عن عمر وابن
مسعود ،وزيد بن ثابت فى رجل جعل أم َر امرأته بيدها فطلقت نفسها ثلثاً ،أنها طلقةٌ واحدة
رجعية ،وصح عن عثمان رضى ال عنه .أن القضاء ما قضت ،ورواه سعيد بن منصور ،عن
ابن عمر ،وغيره عن ابن الزبير .وصح وعن على ،وزيد ،وجماعة من الصحابة رضى ال
عنهم :أنها إن اختارت نفسها ،فواحدة بائنة ،وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية.
وصح عن بعض الصحابة :أنها اختارت نفسها ،فثلث بكل حال :وروى عن ابن مسعود
فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها ،فليس بشىء.
قال أبو محمد ابن حزم :وقد تقصّينا مَن روينا عنه مِن الصحابة أنه يقع به الطلقُ ،فلم
ل بعضهم أولى مِن
ح عنه ،ومن لم َيصِحّ عنه إل سبعة ،ثم اختلفوا ،وليس قو ُ
يكونوا بين من ص ّ
قول بعض ول أثر فى شىء منها ،إل ما رويناه من طريق النسائى ،أخبرنا نصر بن على
الجهضمى ،حدثنا سليمانُ بن حرب ،حدثنا حماد بن زيد ،قال :قلت ليوب السختيانى :هل علمتَ
أحداً قال فى ((أمرك بيدك)) :إنها ثلثٌ غير الحسن؟ قال :ل ،اللهم غُفراً إل ما حدثنى به قتادة،
عن كثير مولى ابن سمرة ،عن أبى سلمة ،عن أبى هريرة ،عن النبى صلى ال عليه وسلم قال:
163
ت إلى قتادة ،فأخبرتُه،
ثلث .قال أيوب :فلقيت كثيرًا مولى ابن سمرة ،فسألتُه ،فلم يعرفه ،فرجع ُ
فقال :ننسى .قال أبو محمد :كثير مولى ابن سمرة مجهول ،ولو كان مشهوراً بالثقة والحفظ ،لما
ض رواته على أبى هريرة .انتهى.
خالفنا هذا الخبرَ ،وقد أوقفه بع ُ
خيّرت ،فاختارت نفسَها؟ قال :قال
وقال المروذى :سألت أبا عبد ال ،ما تقول فى امرأة ُ
فيها خمسةٌ من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم :إنها واحدة ولها الرجعة :عمر ،وابن
مسعود ،وابن عمر ،وعائشة .وذكر آخر ،قال غير المروذى :هو زيد ابن ثابت.
قال أبو محمد ،ومن خيّر امرأته ،فاختارت نفسَها ،أو اختارت الطلقَ ،أو اختارت
ل ذلك سواء ،ول تطلق بذلك ،ول تحرُم عليه،
زوجَها ،أو لم تختر شيئاً ،فكل ذلك ل شىء ،وكُ ّ
ول لشىءٍ مِن ذلك حكم ،ولو كرّر التخييرَ ،وكررت هى اختيارَ نفسها ،أو اختيا َر الطلق ألف
مرة ،وكذلك إن ملّكها نفسها ،أو جعل أمرها بيدها .ول فرق.
ت فى القرآن ،ول
ل ال صلى ال عليه وسلم ،وإذ لم يأ ِ
ول حُجة فى أحد دونَ رسو ِ
ك أمركِ ،أو
ل الرجل لمرأته :أمرُك بيدك ،أو قد َملّكت ِ
لّ صلى ال عليه وسلم ،أن قو َ
عن رسولِ ا ِ
حرّمَ
اختارى يُوجب أن يكون طلقاً ،أو أن لها أن تطلّق نفسها ،أو تختارَ طلقاً ،فل يجو ُز أن ُي َ
ل لم يُوجبها ال ،ول
لّ تعالى له ورسولُه صلى ال عليه وسلم بأقوا ٍ
على الرجل فرجٌ أباحه ا ُ
رسولُه صلى ال عليه وسلم ،وهذا فى غاية البيان .انتهى كلمه.
ب أقوال الموقعين ،وتناقُضها ،ومعارضةُ بعضها لبعض يدل على فسادِ
قالوا :واضطرا ُ
أصلها ،ولو كان الصل صحيحاً لطردت فروعُه ،ولم تتناقض ،ولم تختلف ،ونحن نُشير إلى
طرف من اختلفهم.
فاختلفوا :هل يقع الطلقُ بمجرد التخيير ،أو ل يقعُ حتى تختار نفسها؟ على قولين :تقدم
حكايتُهما ،ثم اختلف الذين ل يُوقعونه بمجردِ قوله :أمرك بيدك :هل يختص اختيارُها بالمجلس،
ل أبى
أو يكون فى يدها ما لم يفسح ،أو يطأ؟ على قولين.أحدهما ،أنه يتقيّد بالمجلس ،وهذا قو ُ
حنيفة ،والشافعى ،ومالك فى إحدى الروايتين عنه .الثانى :أنه فى يدها أبداً حتى يفسخَ أو يطأ،
ل أحمد ،وابن المنذر ،وأبى ثور .والرواية الثانية عن مالك .ثم قال بعضُ أصحابه :وذلك
وهذا قو ُ
ما لم تَطُلْ حتى يتبين أنها تركته ،وذلك بأن يتعدّى شهرين ،ثم اختلفوا ،هل عليها يمين :أنها
تركت ،أم ل؟ على قولين.
164
ثم اختلفوا إذا رجع الزوج فيما جعل إليها ،فقال أحمد وإسحاق والوزاعى ،والشعبى،
ومجاهد ،وعطاء :له ذلك ،ويبطلُ خيارها .وقال مالك ،وأبو حنيفة والثورى ،والزهرى :ليس له
ف مبنى على أنه توكيل ،فيمِلكُ الموكل الرجوع ،أو تمليك ،فل يمِلكُه،
الرجوعُ ،وللشافعية خل ٌ
ض أصحاب التمليك :ول يمتِنعُ الرجوعُ .وإن قلنا إنه تمليك ،لنه لم يتصل به القبول،
قال بع ُ
ع فيه كالهبة والبيع.
فجاز الرجو ُ
ل ابن
واختلفوا :فيما يلزَم من اختيارها نفسها .فقال أحمد والشافعى واحدة رجعية وهو قو ُ
عمر ،وابن مسعود ،وابن عباس ،واختاره أبو عبيد ،وإسحاق .وعن على :واحدة بائنة ،وهو
قول أبى حنيفة وعن زيد بن ثابت ،ثلث ،وهو قول الليث ،وقال مالك :إن كانت مدخولً بها،
فثلث ،وإن كانت غير مدخول بهاُ ،قبِل منه دعوى الواحدة.
واختلفوا :هل يفتِقُر قوله :أمرك بيدك إلى نية أم ل؟ فقال أحمد والشافعى وأبو
ع الطلق إلى نية
حنيفة :يفت ِق ُر إلى نية ،وقال مالك ،ل يفت ِق ُر إلى نية ،واختلفوا :هل يفت ِقرُ وقو ُ
المرأة إذا قالت :اخترت نفسى ،أو فسخت نِكاحَك؟ فقال أبو حنيفة :ل يفت ِق ُر وقوع الطلق إلى نيتها
إذا نوى الزوج .وقال أحمد والشافعى :لبد من نيتها إذا اختارت بالكناية ،ثم قال أصحابُ مالك:
إن قالت :اخترتُ نفسى ،أو قبلتُ نفسى ،لزم الطلقُ ،ولو قالت :لم أُرده .وإن قالت .قبلت أمرى،
سئلت عما أرادت؟ فإن أرادت الطلق كان طلقاً ،وإن لم ُترِ ْد ُه لم يكن طلقاً ثم قال مالك :إذا قال
لها :أمُرك بيدك ،وقال :قصدتُ طلقة واحدة ،فالقولُ قوله مع يمينه ،وإن لم تكن له نية ،فله أن
يُوقع ما شاء .وإذا قال :اختارى ،وقال :أردت واحدة ،فاختارت نفسها ،طلقت ثلثاً ،ول يقبل
قوله.
ع كثيرة مضطربة غاي َة الضطرابِ ل دليل عليها من كتابٍ ول سنة ول
ثم هاهنا فرو ٌ
إجماع ،والزوجة زوجته حتى يقو َم دليل على زوال عصمته عنها.
قالوا :ولم يجعل الُّ إلى النساء شيئًا من النكاحِ ،ول من الطلق ،وإنما جعل ذلك
إلى الرجل ،وقد جعل الُّ سبحانه الرجال قوّامينَ على النساء ،إن شاءوا أمسكوا ،وإن شاءوا
طلقوا ،فل يجوز للرجل أن يجعل المرأة قوّامة عليه ،إن شاءت أمسكت ،وإن شاءت طلقت.
قالوا :ولو أجمع أصحابُ رسول ال صلى ال عليه وسلم على شىء لم نتعد إجماعَهم ،ولكن
اختلفوا ،فطلبنا الحُجة لقوالهم مِن غيرها ،فلم نجد الحجةَ تقومُ إل على هذا القول .وإن كان من
روى عنه قد روى عنه خلفه أيضاً ،وقد أبطل من ادعى الجماع فى ذلك ،فالنزاع ثابت بين
165
الصحابة والتابعين كما حكيناه ،والحجةُ ل تقوم بالخلف ،فهذا ابنُ عباس ،وعثمان ابن عفان،
قد قال :إن تمليك الرجل لمرأته أمرها ليس بشىء ،وابنُ مسعود يقول فيمن جعل أمر امرأته بيد
آخر فطلقها :ليس بشىء ،وطاووس يقول فيمن ملك امرأته أمرها :ليس إلى النساء طلق ،ويقول
ل أمر امرأته ،أيملك الرجل أن يطلقها؟ قال :ل.
فيمن ملك رج ً
قلت :أما المنقولُ عن طاووس ،فصحيح صريح ل مطعن فيه سندًا وصراحة .وأما المنقول
عن ابن مسعود ،فمختلفٌ ،فنقل عنه موافقة على وزيد فى الوقوع ،كما رواه ابن أبى ليلى عن
الشعبى :أن أمرك بيدك ،واختارى سواء فى قول على وابن مسعود وزيد ،ونقل عنه فيمن قال
لمرأته :أمُر فلنة بيدك إن أدخلت هذا العدل البيت ،ففعلت ،أنها امرأته ،ولم يطلقها عليه.
ق إلى
وأما المنقول عن ابن عباس ،وعثمان ،فإنما هو فيما إذا أضافت المرأةُ الطل َ
الزوج ،وقالت :أنت طالق .وأحمد ومالك يقولن ذلك مع قولهما بوقوع الطلق إذا اختارت نفسها،
أو طلقت نَفسها ،فل يُعرف عن أحد من الصحابة إلغاء التخيير والتمليك ألبتة ،إل ه ِذ ِه الرواية
ت عن الصحابة ،اعتبا ُر ذلك ،ووقوع الطلق به،
عن ابن مسعود ،وقد ُر ِوىَ عنه خلفُها ،والثاب ُ
وإن اختلفوا فيما َت ْمِلكُ به المرأة كما تقدم ،والقولُ بأن ذلك ل أثر له ل يُعرف عن أحد من
الصحابة ألبتة ،وإنما وهم أبو محمد فى المنقول عن ابن عباس وعثمان ،ولكن هذا مذهب
طاووس ،وقد نقل عن عطاء ما يدل على ذلك ،فروى عبد الرزاق ،عن ابن جريج ،قلت لعطاء:
رجل قال لمرأته :أمرك بيدك بعد يوم أو يومين ،قال :ليس هذا بشىء .قلت :فأرسل إليها رجلً
أن أمرها بيدها يوماً أو ساعة ،قال :ما أدرى ما هذا؟ ما أظن هذا شيئاً .قلت لعطاء :أملّكت عائشة
حفصة حين ملّكها المنذر أمرها ،قال عطاء :ل ،إنما عرضت عليها أتطلقها أم ل ،ولم تُملّكها
أمرها.
ب رسول ال صلى ال عليه وسلم لما عَ َد ْلنَا عن هذا القول ،ولكن
ولول هيبةُ أصحا ِ
أصحابُ رسول ال صلى ال عليه وسلم هم القدوةُ وإن اختلفوا فى حكم التخيير ،ففى ضمن
اختلفهم اتفاقُهم على اعتبار التخيير ،وعدم إلغائه ،ول مفسدة فى ذلك ،والمفسدةُ التى ذكرتمُوها
فى كون الطلق بيد المرأة إنما تكونُ لو كان ذلك بيدها استقللتً ،فأما إذا كان الزوج هو
المستقل بها ،فقد تكونُ المصلحة له فى تفويضها إلى المرأة ليصير حاله معها على بينة إن أخبته،
أقامت معه ،وإن كرهته ،فارقتُه ،فهذا مصلحة له ولها ،وليس فى هذا ما يقتضى تغيير شرع ال
166
ق بين توكيل المرأة فى طلق نفسها وتوكيل الجنبى ،ول معنى لمنع توكيل
وحكمته ،ول فر َ
الجنبى فى الطلق ،كما َيصِحّ توكليه فى النكاح والخلع.
وقد جعل الُّ سبحانَه للحكمين النظرَ فى حال الزوجين عند الشقاق إن رأيا التفريقَ
فرّقا ،وإن رأيا الجمع ،جمعا ،وهو طلق أو فسخ من غير الزوج ،إما برضاه إن قيل :هما
وكيلنِ ،أو بغير رضاه إن قيل :هما حكمان ،وقد جُعلَ للحاكم أن يطلّق على الزوج فى مواضع
ج من يُطلّق عنه ،أو يُخالع ،لم يكن فى هذا تغيير لحكم ال
ل الزو ُ
بطريق النيابة عنه ،فإذا وكّ َ
مخالفةٌ لدينه ،فإن الزوجَ هو الذى يُطلّق إما بنفسه ،أو بوكيله ،وقد يكون أتمّ نظراً للرجل من
نفسه ،وأعلم بمصلحته ،فيفوض إليه ما هو أعل ُم بوجه المصلحة فيه منه ،وإذا جاز التوكيلُ فى
العتقِ والنكاح ،والخلع والبراء ،وسائر الحقوق من المطالبة بها وإثباتها واستيفائها،
ل فى الطلق؟ نعم الوكيلُ يقوم مقام الموكّل فيما يملكه من
والمخاصمة فيها ،فما الذى حرّم التوكي َ
الطلق ،ومال يمِلكُه ،وما يَحلّ له منه ،وما يحرم عليه ،ففى الحقيقة لم يُطلّق إل الزوج إما
بنفسه أو بوكيله.
حُكم رسول ال صلى ال عليه وسلم بيّنه عن ربه تبارك وتعالى فيمن حرّم أمته أو
زوجته أو متاعه
جكَ والُ غَفُورٌ رحيمٌ *
ت َأ ْزوَا ِ
ك َت ْب َتغِى َمرْضَا َ
حرّ ُم مَا أَحَلّ ال َل َ
قال تعالى{ :يََأ ّيهَا ال ّن ِبىّ لِ َم تُ َ
حلّ َة َأ ْيمَا ِنكُم} [التحريم ،]2-1 :ثبت فى ((الصحيحين)) ،أنه صلى ال عليه وسلم
قَدْ َفرَضَ ال َلكُ ْم تَ ِ
ل فى بيت زينب بنت جحش ،فاحتالت عليه عائش ُة وحفصةُ ،حتى قال(( :لَنْ أَعُو َد لَهُ)).
ش ِربَ عس ً
َ
وفى لفظ :وقد حلفت.
وفى ((سنن النسائى)) :عن أنس رضى ال عنه ،أن رسولَ الِّ صلى ال عليه وسلم كانت
له أمة يطؤُها ،فلم تزل به عائش ُة وحفصةُ حتى ح ّرمَها ،فأنزل ال عز وجل{ :يََأ ّيهَا النبىّ لِ َم تُحرّمُ
مَا أَحلّ ال َلكَ} [التحريم.]1:
ل امرأَته ،فهي
حرّمَ الرّجُ ُ
وفى ((صحيح مسلم)) :عن ابنِ عباس رضى ال عنهما ،قال :إذا َ
يَمينٌ ُيكَ ّفرُهَا ،وقال :لقد كان لكُم فى رسولِ ال أسوة حسنة.
ل ال صلى ال عليه وسلم
وفى جامع الترمذى :عن عائشة رضى ال عنها ،قالت :آلى رسو ُ
جعَلَ فى اليمينِ كفارةً .هكذا رواه مسلمة بن علقمة ،عن
حرَامَ حَلَلً ،و َ
جعَلَ ال َ
مِن نسائه وحرّم فَ َ
167
داود ،عن الشعبى ،عن مسروق ،عن عائشة ،ورواه على بن مُسهر ،وغيره ،عن الشعبى ،عن
ل وهو أصح ،انتهى كلم أبى عيسى.
النبى صلى ال عليه وسلم مرس ً
وقولُها :جعل الحرامَ حللً ،أى :جعل الشىء الذى حرّمه وهو العسلُ ،أو الجاريةُ ،حللً
بعد تحريمه إياه.
وقال الليثُ بن سعد :عن يزيد بن أبى حبيب ،عن عبد ال بن هُبيرة عن قَبيصة بن ذُؤيب،
قال :سألت زيد بن ثابت ،وابن عمر رضى ال عنهم ،عمن قال لمرأته :أنت علىّ حرام ،فقال
جميعاً :كفارة يمين .وقال عبد الرزاق ،عن ابن عُيينة ،عن ابن أبى نجيح ،عن مجاهد ،عن ابن
مسعود رضى ال عنه ،قال فى التحريم :هى يمينٌ يكفّرها.
قال ابنُ حزم :وروى ذلك عن أبى بكر الصديق ،وعائشة أ ّم المؤمنين .وقال الحجاج بن
منهال :حدثنا جريرُ بن حازم ،قال :سألت نافعًا مولى ابن عمر رضى ال عنه عن الحرام ،أطلق
هو؟ قال :ل ،أوليس قد حرّم رسول ال صلى ال عليه وسلم جاريته فأمره ال عز وجل أن يُكفّر
عن يمينه ،ولم يحرّمها عليه.
وقال عبد الرزاق :عن معمر ،عن يحيى بن أبى كثير ،وأيوب السختيانى ،كلهما عن
عكرمة أن عمر بن الخطاب قال :هى يمين ،يعنى التحريم.
وقال إسماعيل بن إسحاق :حدثنا المُقَدّمىّ :حدثنا حماد بن زيد ،عن صخر بن جُويرية ،عن
نافع ،عن ابن عمر رضى ال عنهما ،قال :الحرام يمين.
وفى ((صحيح البخارى)) :عن سعيد بن جبير ،أنه سمع ابن عباس رضى ال عنهما
يقول :إذا حرّم امرأته ،ليس بشىء ،وقال :لقد كان لكم فى رسول ال أسوة حسنة فقيل :هذا رواية
أخرى عن ابن عباس .وقيل :إنما أراد أنه ليس بطلق وفيه كفارة يمين ،ولهذا احتجّ بفعل رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،وهذا الثانى أظهر ،وهذه المسألة فيها عشرون مذهبًا للناس ،ونحن
نذكرها ،ونذكر وجوهها ومآخذها ،والراجح منها بعون ال تعالى وتوفيقه.
أحدها :أن التحري َم لغو ل شىء فيه ،ل فى الزوجة ،ول فى غيرها ،ل طلقَ
ظهَار ،روى وكيع ،عن إسماعيل بن أبى خالد ،عن الشعبى ،عن مسروق:
ول إيلءَ ،ول يمينَ ول ِ
ما أبالى حرّمتُ امرأتى أو قصع ًة من ثريد .وذكر عبد الرزاق ،عن الثورى ،عن صالح بن مسلم،
ن على من نعلى و ُذ ِك َر عن ابن جريج ،أخبرنى عبد
عن الشعبى ،أنه قال فى تحريم المرأة :لهن أهو ُ
الكريم ،عن أبى سلمة بن عبد الرحمن ،أنه قال :ما أبالى ح ّرمُتها يعنى امرأته ،أو حرّمتُ ماء
168
النهر .وقال قتادة :سأل رجلٌ حمي َد بن عبد الرحمن الحميرى ،عن ذلك؟ فقال :قال ال تعالى{ :فَإِذَا
غبْ} [الشرح ]8-7 :وأنت رجل تلعب ،فاذهب فالعب ،هذا قول
صبْ * وإلى َر ّبكَ فَارْ َ
غتَ فَا ْن َ
َفرَ ْ
أهلِ الظاهر كلّهم.
المذهب الثانى :أن التحريم فى الزوجة طلق ثلث .قال ابن حزم:
قاله على بن أبى طالب ،وزيدُ بن ثَابت ،وابنُ عمر ،وهو قول الحسن ،ومحمد بن عبد الرحمن ابن
أبى ليلى ،وروى عن الحكم بن عتيبة .قلت :الثابت عن زيد بن ثابت ،وابن عمر ،ما رواه هو من
طريق الليث ابن سعد ،عن يزيد بن أبى حبيب ،عن أبى هُبيرة ،عن قَبيصة ،أنه سأل زي َد بن ثابت
وابنَ عمر عمن قال لمرأته .أنت علىّ حرام ،فقال جميعاً :كفارة يمين ،ولم يصح عنهما خلف
ذلك ،وأما على ،فقد روى أبو محمد بن حزم ،من طريق يحيى القطان ،حدثنا إسماعيل بن أبى
خالد ،عن الشعبى ،قال :يقول رجال فى الحرام :هى حرام حتى تنكِح زوجًا غيره .ول والّ ما قال
ذلك على ،وإنما قال على :ما أنا بمحلّها ول بمحرّمها عليك ،إن شئت فتقدّم ،وإن شئت فتأخر .وأما
الحسن ،فقد روى أبو محمد من طريق قتادة عنه ،أنه قال :كُلّ حلل على حرام ،فهو يمين .ولعل
أبا محمد غلط على على وزيد وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة ،فإن أحمد حكى عنهم أنها
ثلث .وقال هو عن على وابن عمر صحيح ،فوهم أبو محمد ،وحكاه فى :أنت على حرام ،وهو
وهم ظاهر ،فإنهم فرّقوا بين التحريم ،فأفتوا فيه بأنه يمين ،وبين الخلية فأفتوا فيها بالثلث ،ول
أعلم أحداً قال :إنه ثلث بكل حال.
المذهب الثالث :أنه ثلث فى حق المدخول بها ل يُقبل منه
غيرُ ذلك ،وإن كانت غيرَ مدخول بها ،وقع ما نواه من واحدة واثنتين وثلث ،فإن أطلق ،فواحدة،
وإن قال :لم أرد طلقاً ،فإن كان قد تقدّم كلم يجوز صرفه إليه قبل منه ،وإن كان ابتداءً لم يقبل،
حرّم أمته أو طعامه أو متاعه ،فليس بشىء ،وهذا مذهب مالك.
وإن ِ
المذهب الرابع :أنه إن نوى الطلق كان طلقاً ،ثم إن
نوى به الثلث فثلث ،وإن نوى دونها فواحدة بائنة ،وإن نوى يميناً فهو يمين فيها كفارة ،وإن لم
ينو شيئاً فهو إيلء فيه حكمُ اليلء .فإن نوى الكذبَ ،صُدّق فى الفتيا ولم يكن شيئاً ،ويكون فى
القضاء إيلء ،وإن صادف غير الزوجة المةِ والطعام وغيره ،فهو يمين فيه كفارتها ،وهذا مذهب
أبى حنيفة.
169
المذهب الخامس :أنه إن نوى به الطلقَ ،كان
طلقاً ،ويق ُع ما نواه ،فإن أطلق وقعت واحدةً ،وإن نوى الظهارَ ،كان ظهاراً ،وإن َنوَى اليمينَ ،كان
يميناً ،وإن نوى تحري َم عينها مِن غير طلق ول ظِهار ،فعليه كفار ُة يمين ،وإن لم ينوِ شيئاً ،ففيه
قولن .أحدهما :ل يلزمُه شىء .والثانى :يلزمه كفارة يمين .وإن صادف جارية ،فنوى عتقها وقع
العتق ،وإن نوى تحريمها لزمه بنفس اللفظ كفار ُة يمين ،وإن نوى الظهارَ منها ،لم يصح ،ولم
يلزمه شىء ،وقيل :بل يلزمه كفار ُة يمين ،وإن ينو شيئاً ،ففيه قولن ،أحدهما :ل يلزمُه شىء
ف غيرَ الزوجة والمة لم يحرم ،ولم يلزمه به شىء ،وهذا
والثانى :عليه كفار ُة يمين .وإن صاد َ
مذهبُ الشافعى.
المذهب السادس :أنه ظِهار بإطلقه،
نواه أو لم ينوِه ،إل أن يَصرفَه بالنية إلى الطلق ،أو اليمين ،فينصرِف إلى ما نواه ،هذا ظاهر
صرِفَه بالنية إلى الظهار أو الطّلق،
مذهبِ أحمد .وعنه رواية ثانية :أنه بإطلقه يمين إل أن َي ْ
ف إلى ما نواهُ ،وعنه رواية أخرى ثالثة :أنه ظهار بكل حال ولو نوى غيرَه ،وفيه رواية
صرِ ُ
فين َ
رابعة حكاها أبو الحسين فى ((فروعه)) ،أنه طلق بائن،.ولو وصله بقوله :أعنى به الطلق .فعنه
فيه روايتان .إحداهما :أنه طلق ،فعلى هذا هل تلزمُه الثلث ،أو واحدة؟ على روايتين ،والثانية:
ى كظهر أمى أعنى به الطلق ،هذا تلخيصُ مذهبه.
أنه ظهار أيضاً كما لو قال :أنتِ عل ّ
المذهب السابع :أنه إن نوى به
ثلثاً ،فهى ثلثٌ ،وإن نوى به واحدة ،فهى واحدة بائنة ،وإن نوى به يميناً ،فهى يمين ،وإن لم ينوِ
شيئاً ،فهى كذبة ل شىءَ فيها ،وهذا مذهبُ سفيان الثورى ،حكاه عنه أبو محمد ابن حزم.
المذهب الثامن :أنه طلقةٌ
واحدة بائنة بكل حال ،وهذا مذهبُ حماد بن أبى سليمان.
المذهب التاسع:
ب إبراهيم
أنه إن نوى ثلثاً فثلث ،وإن نوى واحدة ،أو لم ينوِ شيئاً ،فواحدة بائنة ،وهذا مذه ُ
النخعى ،حكاه عنه أبو محمد بن حزم.
المذهب
العاشر :أنه طلقة رجعية ،حكاه ابن الصباغ وصاحبُه أبو بكر الشاشى عن الزهرى ،عن عمر بن
الخطاب.
170
الم
ذهب الحادى عشر :أنها حرمت عليه بذلك فقط ،ولم يذكر هؤلء ظهاراً ول طلقاً ول يميناً ،بل
ل من الصحابة لم
ألزموه موجب تحريمه .قال ابن حزم :صح هذا عن على بن أبى طالب ،ورجا ٍ
يُس ّموْا ،وعن أبى هريرة .وصح عن الحسن ،وخِلس بن عمرو ،وجابر بن زيد ،وقتادة ،أنهم
أمروه باجتنابها فقط.
المذهب الثانى عشر :التوقفُ فى ذلك ل يُحرّمها المفتى على الزوج ،ول يحلّلها له ،كما رواه
الشعبى عن على أنه قال :ما أنا بمحلها ول محرّمها عليك إن شئتَ فتقدّم ،وإن شئت فتأخر.
المذهب الثالث عشر :الفرقُ بين أن يُوقع التحريم منجزاً أو معلقاً تعليقًا مقصوداً وبين أن يُخرجه
ج اليمين ،فالول :ظهار بكل حال ولو نوى به الطلقَ ،ولو وصله بقوله :أعنى به الطلقَ.
مخر َ
والثانى :يمين يلزمه به كفار ُة يمين ،فإذا قال :أنت علىّ حرام ،أو إذا دخل رمضان ،فأنتِ علىّ
حرام ،فظهار .وإذا قال :إن سافرتُ ،أو إن أكلتُ هذا الطعامَ أو كلمتُ فلنا ،فامرأتى علىّ حرام،
ل المذاهب فى هذه المسألة وتتفرّعُ
فيمين مكفرة ،وهذا اختيارُ شيخ السلم ابن تيمية ،فهذه أصو ُ
إلى أكثر من عشرين مذهباً.
(يتبع)...
@
فصل
فأما من قال :التحري ُم كلّه لغو ل شىء فيه ،فاحتجوّا بأن ال سبحانه لم يجعل للعبد تحريماً
ل بها العينُ وتحرم ،كالطلق والنكاحِ ،والبيعِ
ول تحليلً ،وإنما جعل له تعاطى السباب التى تَحِ ّ
صفُ
ل تَقُولُوا ِلمَا َت ِ
والعتقِ ،وأما مجردُ قوله :حرّمت كذا وهو علىّ حرام ،فليس إليه .قال تعالى{:وَ َ
لّ الكَ ِذبَ} [النحل ]116 :وقال تعالى{ :يَأ ّيهَا
حرَا ٌم ِلتَ ْف َترُوا عَلى ا ِ
ل وهذَا َ
س َن ِتكُم الكَ ِذبَ هذَا حَلَ ٌ
أَل ِ
ل لرسوله أن يُحّرمَ ما أحل ال
لّ َلكَ} [التحريم ،]1:فَإذا كَانَ سبحانه لم يجع ْ
حرّ ُم مَا أَحَلّ ا ُ
ال ّن ِبىّ ل َم تُ َ
له ،فكيف يجعلُ لِغيره التحريمَ؟
عَليْهِ َأ ْم ُرنَا َفهُو رَدّ)) وهذا
عمَلٍ َليْس َ
ى صلى ال عليه وسلم(( :كُلّ َ
قالوا :وقد قال النب ّ
التحريمُ كذلك ،فيكون رداً باطلً.
171
قالوا :ولنه ل فرق بين تحريمِ الحلل ،وتحليلِ الحرام ،وكما أن هذا الثانى لغو ل أثر له،
فكذلك الولُ.
قالوا :ول فرق بين قوله لمرأته :أنت علىّ حرام ،وبين قول ِه لِطعامه هو علىّ حرام.
ت علىّ حرام ،إما أن يُريد به إنشاء تحريمها ،أو الخبارَ عنها بأنها حرام ،وإنشاء
قالوا :وقوله :أن ِ
تحريم محال ،فإنه ليس إليه ،إنما هو إلى من أحلّ الحلل ،وحرّ َم الحرامَ ،وشرع الحكام ،وإن أراد
الخبار ،فهو كذب ،فهو إما خبرٌ كاذب أو إنشاءٌ باطل ،وكلهما لغو من القول.
ل مضطربة متعارضة يردّ بعضُها بعضاً،
قالوا :ونظرنا فيما سوى هذا القولِ ،فرأيناها أقوا ً
فلم يحرم الزوجة بشىء منها بغير برهان من ال ورسوله ،فنكون قد ارتكبنا أمرين :تحريمَها على
لّ ورسوله على
الول ،وإحللها لغيره ،والصلُ بقاءُ النكاح حتي تُجمع المة ،أو يأتىَ برهان من ا ِ
زواله ،فيتعيّن القولُ به ،فهذا حجة هذا الفريق.
فصل
جعِلَ كناية فى
وأما من قال :إنه ثلث بكل حال ،إن ثبت هذا عنه ،فيحتجّ له بأن التحريمَ ُ
الطلق ،وأعلى أنواعه تحريمُ الثلث ،فُيحمل على أعلى أنواعه احتياطًا للبضاع.
وأيضاً فإنّا تي ّقنّا التحريمَ بذلك ،وشككنا :هل هو تحري ٌم تُزيله الكفارة كالظهار أو يُزيله تجدي ُد العقد
كالخُلع ،أو ل يُزيله إل أوجٌ وإصابة كتحري ِم الثلث؟ وهذا متيقّن ،وما دونه مشكوكٌ فيه ،فل يَحلّ
بالشك.
قالوا :ولن الصحابة أَ ْف َنوْا فى الخلية والبرية بأنها ثلث .قال أحمد :هو عن على وابنِ عمر
صحيح ،ومعلوم أن غاية الخلية والبرية أن تصير إلى التحريم ،فإذا صرّحَ بالغاية ،فهى أولى أن
ن هذا اللفظَ صارَ
ق إلى وهمه تحريمُ امرأته بدون الثلث ،فكأ ّ
تكونَ ثلثاً ،ولن المحرم ل يسب ُ
حقيقةً عُرفية فى إيقاع الثلث.
وأيضاً فالواحدةُ ل تحرمُ إل بعوض ،أو قبلَ الدخول ،أو عندَ تقييدها بكونها بائنة عند من
يراه ،فالتحريمُ بها مقيّد ،فإذا أطلق التحريمُ ،ولم يُقيّيد ،انصرف إلى التحريم المطلق الذى يثبت قبل
الدخول أو بعده ،وبعوض وغيره وهو الثلث.
فصل
وأما من جعله ثلثاً فى حق المدخول بها ،وواحدة بائنة فى حقّ غيرها ،فحجتُه أن المدخولَ
ح ّرمُها إل الثلث ،وغيرُ المدخول بها تحرمها الواحدة ،فالزائدة عليها ليست من لوازم
بها ل يُ َ
172
التحريم ،فأورد على هؤلء أن المدخول بها يمِلكُ إبانتها بواحدة بائنة ،فأجابوا بما ل يُجدى عليهم
شيئاً ،وهو أن البانة بالواحدة الموصوفة بأنها بائنة إبانة مقيّدة ،بخلف التحريم ،فإن البانة به
ن ذلك إل بالثلثِ ،وهذا القدرُ ل يُخّلصُهم من هذا اللزام ،فإن إبانة التحريمِ أعظمُ
مطلقة ،ول يكو ُ
تقييداً من قوله :أنتِ طالق طلقة بائنة ،فإن غاي َة البائنة أن تحرمها ،وهذا قد صرّح بالتحريم ،فهو
أولى بالبانة من قوله :أنت طالق طلقةً بائنة.
فصل
وأما مَن جعلها واحدة بائنة فى حقّ المدخول بها وغيرها ،فمأخ ُذ هذا القول أنها ل تُفيد
بوضعها ،وإنما تقتضى بينونةً يحصلُ بها التحريمُ ،وهو َيمِلكُ إبانتها بعد الدخول بها بواحدة بدون
عوض ،كما إذا قال :أنت طالق طلقة بائنة ،فإن الرجعة حقّ له ،فإذا أسقطها سقطت ،ولنه إذا ملك
إبانتها بعوض يأخذه منها ،ملك البانة بدونه ،فإنه محسن بتركه ،ولن العِوض مستحق له ،ل
عليه ،فإذا أسقطه وأبانها ،فله ذلك.
فصل
ع الملك وهو يصدُق
وأما مَن قال :إنها واحدة رجعية ،فمأخذه أن التحريمَ يُفيد مطلق انقطا ِ
ض فى اللفظ له ،فل يسوغُ إثباتُه بغير موجب.
بالمتيقّنِ منه وهو الواحدةُ ،وما زاد عليها ،فل تعّر َ
ل اللفظ فى الواحدة ،فقد وفى بموجبه ،فالزيادةُ عليه ل موجبَ لها .قالوا :وهذا
وإذا أمكن إعما ُ
ظاهر جدًا على أصل من يجعل الرجعية محرمة ،وحينئذ فنقول :التحري ُم أعمّ مِن تحريم رجعية ،أو
ص أو
ل على العم ل يدُل على الخص ،وإن شئتَ قلت :العمّ ل يستلزِمُ الخ ّ
تحريم بائن ،فالدا ّ
ص مِن لوازم العم ،أو العم ل يُنتج الخصّ.
ليس الخ ّ
فصل
وأما من قال :يُسأل عما أراد من ظهار أو طلق رجعي ،أو محرّم ،أو يمين ،فيكون ما أراد
ل للطلق والظهار
مِن ذلك ،فمأخذُه أن اللفظ لم يوضع ليقاع الطلق خاصة ،بل هو محتمِ ٌ
ف إلى بعضها بالنية فقد استعمله فيما هو صالح له ،وصرفه إليه بنيته،
ص ِر َ
واليلء ،فإذا ُ
ف إلى ما أراده ،ول يتجاوز به ول يقصُ ُر عنه ،وكذلك لو نوى عتق أمته بذلك ،عتقت،
فينصر ُ
وكذلك لو نوى اليلء من الزوجة ،واليمين من المة ،لزمه ما نواه ،قالوا :وأما إذا نوى تحريمَ
عينها ،لزمه بنفس اللفظ كفار ُة يمين اتباعًا لظاهر القرآن ،وحديث ابن عباس الذى رواه مسلم فى
س َوةٌ
ل أُ ْ
ن َلكُم فى رَسولِ ا ِ
ل امرأته فهى يمين يكفّرها ،وتل{ :لَقَ ْد كَا َ
((صحيحه)) :إذا حرّم الرج ُ
173
سنَةٌ} [الحزاب ،]21 :وهذا يُشبه ما قاله مجاهد فى الظّهار :إنه ليزمُه بمجرد التكلم به كفارةُ
حَ َ
الظهار ،وهو فى الحقيقة قولُ الشافعى رحمه ال ،فإنه يُوجب الكفارة إذا لم يُطلّق عقيبَه على الفور.
قالوا :ولن اللفظ يحتمِلُ النشاء والخبار ،فإن أراد الخبار ،فقد استعمله فيما هو صالحٌ له ،فيُقبل
سئِلَ عن السبب الذى حرّمها به .فإن قال :أردت ثلثًا أو واحدة ،أو اثنتين،
منه .وإن أراد النشاء ُ
ل منه لصلحية اللفظ له واقترانه بنيته ،وإن نوى الظهار ،كان كذلك ،لنه صرّح بموجب
ُقبِ َ
ى كظهر أمى موجبُه التحريم ،فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم ،كان ظهاراً،
الظهار ،لن قوله :أنتِ عل ّ
واحتمالُه للطلق بالنية ل يزيدُ على احتماله للظهار بها ،وإن أراد تحريمَها مطلقاً ،فهو يمين
مكفرة ،لنه امتناع منها بالتحريم ،فهو كامتناعه منها باليمين.
فصل
وأما من قال :إنه ظهار إل أن ينوىَ به طلقاً ،فمأخذُ قوله :أن اللفظ موضوعٌ للتحريم ،فهو
منكر من القول وزور ،فإن العب َد ليس إليه التحريمُ والتحليل ،وإنما إليه إنشاء السباب التى يرتب
ت علىّ كظهر أمى،
عليها ذلك ،فإذا حرّم ما أحل ال له ،فقد قال ال ُمنْكر والزّورَ ،فيكون كقوله :أن ِ
بل هذا أولى أن يكون ظهاراً ،لنه إذا شبهها بمن تحرم عليه ،دل على التحريم باللزوم ،فإذا صرّح
بتحريمها ،فقد صرح بموجب التشبيه فى لفظ الظهار ،فهو أولى أن يكون ظهاراً .قالوا :وإنما
جعلناه طلقاً بالنية ،فصرفناه إليه بها ،لنه يصلُح كناي ًة فى الطلق فينصرِف إليه بالنية بخلف
إطلقه ،فإنه ينصرِف إلى الظهار ،فإذا نوى به اليمينَ كان يميناً ،إذ من أصل أرباب هذا القول أن
تحريم الطعام ونحوه ،يمين مكفرة ،فإذا نوى بتحريم الزوجة اليمين ،نوى ما يصلُح له اللفظ ،ف ُقبِلَ
منه.
فصل
وأما من قال :إنه ظهار وإن نوى به الطلقَ ،أو وصله بقوله :أعنى به الطلقَ فمأخذُ قوله
ت علىّ
ما ذكرنا من تقرير كونه ظهاراً ،ول يخُرج عن كونه ظهاراً بنية الطلق كما لو قال :أَن ِ
كظهر أمى ونوى به الطلق ،أو قال :أعنى به الطلق ،فإنه ل يخرُج بذلك عن الظهار ،ويصيرُ
طلقاً عِند الكثرين :إل على قول شاذ ل يُلتفت إليه لموافقته ما كان المر عليه فى الجاهلية مِن
جعل الظهار طلقاً ،ونسخ السلم لذلك ،وإبطلله ،فإذا نوى به الطلقَ ،فقد نوى ما أبطله ال
ورسولُه مما كان عليه أهلُ الجاهلية عند إطلق لفظ الظهار ،وقد نوى مال يحت ِملُه شرعاً ،فل تؤثّر
نيته فى تغيير ما استق ّر عليه حكمُ ال الذى حكم به بينَ عباده ،ثم جرى أحم ُد وأصحابُه على أصله
174
من التسوية بين إيقاع ذلك ،والحلف به كالطلق والعتاق وفرّق شيخ السلم بين البابين على أصله
فى التفريق بين اليقاع والحلف ،كما فرّق الشافعى وأحمد رحمهما ال ،ومَنْ وافقهما بين البابين
ن أن يحلف به ،فيكون يمينًا مكفرة ،وبين أن ينجزه أو يعلّقه بشرط يقصد وقوعه،
فى النذر بي َ
فيكون نذراً لزم الوفاء كما سيأتى تقريرُه فى اليمان إن شاء ال تعالى .قال :فيلزمهم على هذا أن
يفرّقوا بين إنشاء التحريم ،وبين الحلف ،فيكون فى الحلف به حالفًا يلزمه كفارة يمين ،وفى تنجيزه
أو تعليقه بشرط مقصود مظاهرًا يلزمُه كفارةُ الظهار ،وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضى
ال عنهما ،فإنه مرة جعله ظهاراً ومرة جعله يميناً.
فصل
ن مكفرة بكلّ حال ،فمأخذ قوله :أن تحريم الحلل من الطعام والشراب
وأما من قال :إنه يمي ٌ
حرّ ُم مَا
واللباس يمينٌ تُكفّر بالنصّ ،والمعنى ،وآثار الصحابة ،فإن ال سبحانه قال{ :يََأيّها النّبىّ لِ َم تُ َ
حلّ َة َأ ْيمَا ِنكُم} [التحريم:
لّ َلكُ ْم تَ ِ
جكَ والُّ غَفُو ٌر رَحِيمٌ * قَدْ َفرَضَ ا ُ
ت َأزْوا ِ
ك َت ْبتَغى َم ْرضَا َ
لّ َل َ
أَحَلّ ا ُ
،]2-1ولبد أن يكون تحريم الحلل داخلً تحت هذا الفرض ،لنه س ُببُه ،وتخصيصُ محل السبب
خصّ لخل سببُ الحكم عن البيان،
من جملة العام ممتنع قطعاً ،إذ هو المقصودُ بالبيان أولً ،فلو ُ
وهو ممتنع ،وهذا استدلل فى غاية القوة ،فسألتُ عنه شيخ السلم رحمه ال تعالى ،فقالَ :نعَم
التحريمُ يمين كُبرى فى الزوجة كفارتُها كفارةُ الظهار ،ويمين صغرى فيما عداها كفارتُها كفارةُ
ل ابن عباس وغيرِه من الصحابة ومَنْ َبعْدَهم ،إن التحرِيمَ يمين
اليمين بالّ .قال :وهذا معنى قو ِ
تكفر ،فهذا تحري ُر المذاهب فى هذه المسألة نقلً،وتقريرها استدللً ،ول يخفى -على من آثر العِلم
ح مِن المرجوح وبالّ
والنصاف ،وجانب التعصّب ونصرة ما بنى عليه من القوال -الراج ُ
المستعان.
فصل
وقد تبين بما ذكرنا ،أن من حرّم شيئًا غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته
حرُ ْم عليه بذلك ،وعليه كفارةُ يمين ،وفى هذا خلف فى ثلثة مواضع.
يَ ْ
أحدها :أنه ل يحرم ،وهذا قول الجمهور ،وقال أبو حنيفة :يحرم تحريمًا مقيدًا تُزيله
ل له وطؤها حتى يُكفّر ،ولن ال سبحانه سمّى الكفارة
الكفارة ،كما إذا ظاه َر من امرأته ،فإنه ل َيحِ ّ
حلّةً ،وهى ما يُوجب الحِلّ ،فدل علي ثبوت التحريم قبلها ،ولنه سبحانه قال لنبيه صلى
فى ذلك َت ِ
175
ل َلكَ} [التحريم ،]1:ولنه تحريمٌ لما أبيح له ،فيحرم بتحريمه
حرّ ُم مَا أَحَلّ ا ُ
ال عليه وسلم{ :لِ َم تُ َ
كما لو حرّم زوجته.
حلّه مِن الحَل الذى هو ضِ ّد العقدِ ل
ومنازعوه يقولون :إنما سُميت الكفارة ت ِ
حرّ ُم مَا أَحَلّ ال
مِن الحِل الذى هو مقابلُ التحريم ،فهى تَحُلّ اليمين بعد عقدها ،وأما قوله{ :لِ َم تُ َ
َلكَ} [التحريم ،]1:فالمرادُ تحري ُم المِة أو العسل ،ومنعُ نفسه منه ،وذلك يُسمى تحريماً ،فهو تحريم
بالقول ،ل إثبات للتحريم شرعاً.
ح هذا القياس ،لوجب
وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهارِ ،أو بقوله :أنتِ علىّ حرام ،فلو ص ّ
تقديمُ التكفير على الحنث قياسًا على الظهارِ ،إذ كان فى معناه ،وعندهم ل يجو ُز التكفيرُ إل بعد
حلّة اليمين ،فيلزم
الحنث ،فعلى قولِهم :يلزم أحد أمرين ،ول بد إما أن يفعله حراماً وقد فرض ال ت ِ
حلّةِ إل بفعل المحلوف
ل إلى التّ ِ
كون المحرم مفروضاً ،أو من ضرورة المفروض ،لنه ل َيصِ ُ
ل له إلى فعله حللً ،لنه ل يجوز تقدي ُم الكفارة ،فيستفيدُ بها الحل ،وإقدامه عليه
عليه ،أو أنه ل سبي َ
وهو حرامٌ ممتنع ،هذا ما قيل فى المسألة من الجانبين ،وبعدُ ،فلها غور ،وفيها دِقة وغموض ،فإن
ل على تركه ،ولو حلف على تركه ،لم يَجز له هتكُ حرمة
حَلفَ با ّ
من حرّم شيئاً ،فهو بمنزلة من َ
المحلوفِ به بفعله إل بالتزام الكفارة ،فإذا التزمها ،جاز له القدا ُم على فعل المحلوف عليه ،فلو
عزم على تركِ الكفارة ،فإن الشارع ل يُبيح له القدامَ على فعل ما حلف عليه ،ويأذن له فيه ،وإنما
ن له فيه ويُبيحه إذا التزم ما فرض ال من الكفارة ،فيكون إذنه له فيه ،وإباحته بعد امتناعه منه
يأذ ُ
بالحلف أو التحريم رُخصةً من ال له ،ونعمة منه عليه بسبب التزامه لحكمه الذى فرض له من
الكفارة ،فإذا لم يلت ِزمْه بقى المن ُع الذى عقدَه على نفسه إصرًا عليه ،فإن ال إنما رفع الصار عمن
اتقاه ،والتزم حُكمه ،وقد كانت اليمينُ فى شرع مَن قبلنا يتحتّم الوفاءُ بها ،ول يجوز الحنثُ ،فوسّع
ال على هذه المة ،وجوّز لها الحنث بشرط الكفارة ،فإذا لم يُك ّفرْ ل قبلُ ول بع ُد لم يُوسّع له فى
الحنث ،فهذا معنى قوله :إنه يحرم حتى يكفّر،.وليس هذا من مفردات أبى حنيفة ،بل هو أحدُ
القولين فى مذهب أحمد يُوضحه :أن هذا التحري َم والحلف قد تعلّق به مانعان :منع من نفسه لفعله،
ومنع من الشارع للحنث بدون الكفارة ،فلو لم يُحرّمه تحريمه أو يمينه ،لم يكن لمنعه نفسه ول لمنع
الشارع له أثره ،بل كان غاي ُة المر أن الشارعَ أوجبَ فى ذمته بهذا المنع صدقةً أو عِتقًا أو صوماً
ل المحلوف عليه ول تحريمه البته ،بل هو قبل المنع وبعده على السواء من غير
ل يتو ّقفُ عليه ح ّ
فرق ،فل يكونُ للكفارة أثر البته ،ل فى المنع منه ،ول فى الذن ،وهذا ل يخفى فسادُه،.وأما إلزامه
176
بالقدام عليه مع تحريمه حيثُ ل يجوزُ تقدي ُم الكفارة ،فجوابه أنه إنما يجوز له القدام عند عزمه
على التكفير ،فعزمُه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه ،وإنما يكونُ التحريمُ ثابتًا إذا لم يلتزم
الكفارة ،ومع التزامها ل يستمرّ التحريم.
فصل
ل مَنْ سميناه من الصحابة،
الثانى :أن يلزمه كفارة بالتحريم ،وهو بمنزلة اليمين ،وهذا قو ُ
وقولُ فقهاء الرأى والحديث إل الشافعىّ ومالكاً ،فإنهما قال :ل كفارة عليه بذلك.
حلّةَ اليمانِ
والذين أوجبوا الكفارةَ أسعدُ بالنص من الذين أسقطوها ،فإن ال سبحانه ذكر تَ ِ
ل َلكَ} [التحريم ،]1 :وهذا صريحٌ فى أن تحريم الحلل قد ُفرِضَ
حرّ ُم مَا أَحَلّ ا ُ
عَقبَ قوله{ :لِ َم تُ َ
فيه تحلّةُ اليمان ،إما مختصاً به ،وإما شاملً له ولغيره ،فل يجوزُ أن يُخلى سببُ الكفارة المذكورة
فى السياق عن حك ِم الكفارة ،ويُعلّق بغيره ،وهذا ظاهرُ المتناع.
ن إن تضمن هتكَ
وأيضاً فإن المنع من فعله بالتحريم كالمنع منه باليمين ،بل أقوى ،فإن اليمي َ
حُرمة اسمه سبحانه ،فالتحري ُم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره ،فإنه إذا شرع الشىء حللً فحرّمه
المكلف ،كان تحريمه هتكاً لحرمة ما شرعه ،ونحن نقولُ :لم يتضمن الحِنث فى اليمين هتكَ حرمِة
السم ،ول التحري ُم هتكَ حرمة الشرع ،كما يقولُه من يقول مِن الفقهاء ،وهو تعليلٌ فاسد جداً ،فإن
الحِنثَ إما جائز ،وإما واجب أو مستحب ،وما جوّز ال لحد البتة أن َي ْه ِتكَ حُرمة اسمه ،وقد شرع
لِعباده الحِنث مع الكفارة ،وأخبره النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه إذا حلف على يمين ورأى غيرها
خيراً منها كفّر عن يمينه ،وأتى المحلوفَ عليه ،ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يُبح
فى شريعة قطّ ،وإنما الكفّارة كما سماها ال تعالى تحلّة وهى تفعلة من الحل ،فهى تَحُلّ ما عقد به
سرّ قوله تعالى{ :قَدْ َفرَضَ الُ
اليمين ليس إل ،وهذا العقدُ كما يكون باليمين يكونُ بالتحريم ،وظهر ِ
لّ َلكَ} [التحريم.]1:
حرّ ُم مَا أَحَلّ ا ُ
حلّةَ َأ ْيمَا ِنكُم} [التحريم ]2 :عقيب قوله{ :لِ َم تُ َ
َلكُم َت ِ
فصل
الثالث :أنه ل فرقَ بينَ التحريم فى غير الزوجة بين المة وغيرها عند الجمهور إل
الشافعىّ وحدَه ،أوجب فى تحريم المة خاصة كفار َة يمين ،إذ التحريمُ له تأثير فى البضاع عنده
دون غيرها.
177
ل السبب عن الحكم ،ويتعلّق بغيره،
وأيضاً فإن سببَ نزول الية تحريمُ الجارية ،فل يخرُجُ مح ّ
حلّة اليمين بتحريم الحلل ،وهو أع ّم من تحريم المة
ومنازعوه يقولون :النص علق فرض تَ ِ
وغيرها ،فتجب الكفارة حيث وجد سببها ،وقد تقدم تقريرهُ.
ل ال صلى ال عليه وسلم فى قول الرّجُلِ لمرأته :الحقى بأَ ْهِلكِ
حكمُ رسو ِ
جوْنِ لما دخلت على رسول ال صلى ال عليه وسلم،
ثبت فى صحيح البخارى :أن ابنةَ ال َ
لّ منكَ ،فقالَ(( :عُ ْذتِ ِبعَظِيمٍ الحَقى بِأَ ْهِلكِ)).
و َدنَا منها قالت :أعوذُ با ِ
ل ال صلى ال
وثبت فى ((الصحيحين)) :أن كعب بنَ مالك رضى ال عنه لما أتاه رسو ُ
عليه وسلم ((يأ ُمرُه أن يعتزِلَ امرأته ،قال لها :الحقى بأهلك)).
ق نواه أو لم
فاختلف الناسُ فى هذا ،فقالت طائفة :ليس هذا بطلق ،ول يق ُع به الطل ُ
جوْنِ ،وإنما
ينوه ،وهذا قولُ أهل الظاهر .قالوا :والنبىّ صلى ال عليه وسلم لم يكن عقد على ابنة ال َ
أرسل إليها ِليَخطُبها .قالواَ :ويَدُلّ على ذلك ما فى صحيح البخارى :من حديث حمزة بن أبى أُسيد،
ج ْونِيةِ ،فأُنزلت فى بيت أُميمة بنت
عن أبيه ،أنه كان مع رسولِ ال صلى ال عليه وسلم وقد ُأ ِتىَ بال َ
ل ال صلى ال عليه وسلم ،فقال:
النعمان بن شراحبيل فى نخل ومعها دابتُها ،فدخل عليها رسو ُ
سكُنَ ،فَقَاَلتْ:
عَل ْيهَا لِت ْ
ب ال َملِكةُ نَفْسَها للسّوقَةِ ،فَأَ ْهوَى ِليَضَ َع يَ َدهُ َ
سكِ)) ،فقالت :وهَلْ َت َه ْ
((هَبى لى نَفْ َ
ن وَألْحِ ْقهَا
سهَا رازِ ِق ّييْ ِ
سيْد :اكْ ُ
خرَجَ فقال(( :يَا أَبا أُ َ
ت ِب َمعَاذ)) ،ثم َ
لّ ِم ْنكَ فقالَ(( :قَدْ عُ ْذ ِ
أَعُوذُ با ِ
بأَ ْهِلهَا)).
ل ال صلى ال عليه وسلم
وفى ((صحيح مسلم)) :عن سهل بن سعد ،قال :ذُك َرتْ لِرسو ِ
سيْ ٍد أن ُيرْسِلَ إليها ،فأرسل إليها،فَقَ ِد َمتْ ،فنزلت فى أُجُ ِم بنى سَاعِدَة،
امرأ ٌة مِن العرب ،فأمر أَبا أُ َ
فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى جاءها فدخل عليها ،فإذا امرأة منكّسة رأسها ،فلمّا
لّ منك ،قال(( :قَ ْد أَعَ ْذ ُتكِ ِمنّى)) ،فقالوا لها :أتدرينَ مَنْ هذا؟ قالتْ :ل ،قالوا:
كلمها ،قالت :أَعوذُ با ِ
طبَك ،قالت :أنا كنتُ أشقى من ذلك.
هذا رسولُ ال صلى ال عليه وسلم جاءَك لِيخْ ُ
قالوا :وهذه ُكّلهَا أخبا ٌر عن قصة واحدة ،فى امرأة واحدة ،فى مقام واحد ،وهى صريحة أن
طبَها.
رسولَ ال صلى ال عليه وسلم لم يكن تزوّجها بعدُ ،وإنما دخل عليها لِيخْ ُ
وقال الجمهور منهم الئمة الربعة وغيرهم :بل هذا من ألفاظ الطلق إذا نوى به
الطلق ،وقد ثبت فى صحيح البخارى :أن أبانا إسماعيل بن إبراهيم طلّق به امرأَته لما قال لها
ع َتبَةَ بابِهِ)) ،فقال لها :أنتِ العتبةُ ،وقد أمرنى أن أُفارِ َقكِ ،الحقى بأهلك
إبراهيمُ (( :مرِيه فلّي َغ ّيرْ َ
178
وحديث عائشة كالصريح ،فى أنه صلى ال عليه وسلم كان عَقَدَ عليها ،فإنه قالت :لما أُدخلت عليه،
ل الزوج بأهِله ،ويُؤكّده قولها :ودنا منها.
فهذا دخو ُ
سكِ)) ،وهذا ل يدل على أنه لم يتقدم
وأما حديث أبى أُسيد ،فغاي ُة ما فيه قوله(( :هِبى لِى نَفْ َ
نِكاحُه لها ،وجاز أن يكون هذا استدعا ًء منه صلى ال عليه وسلم للدّخول ل للعقد.
ن فيه أنه صلى ال عليه
وأما حديث سهل بن سعد ،فهو أصرحُها فى أنه لم يكن وُجدَ عقد ،فإ ّ
ط َبكِ ،والظاهرُ أنها هى الجونية ،لن سهلً قال فى
وسلم لما جاء إليها قالُوا :هذا رسولُ ال جاء لِيخ ُ
حديثه :فأمر أبا أُسيد أن ُيرْسِلَ إليها ،فأرسل إليها .فالقصةُ واحدة دارت على عائشة رضى ال
عنها وأبى أسيد وسهل ،وكُلّ منهم رواها ،وألفاظُهم فيها متقاربة ،ويبقى التعارض بين قوله :جاء
ليخطبك ،وبين قوله :فلما دخل عليها ،ودنا منها :فإما أن يكون أح ُد اللفظين وهماً ،أو الدخولُ ليس
دخول الرجل على امرأته ،بل الدخول العام ،وهذا محتمل.
ث ابنِ عباس رضى ال عنهما فى قصة إسماعيل صريح ،ولم يزل هذا اللفظُ من
وحدي ُ
اللفاظ التى يُطلّقُ بها فى الجاهلية والسلم ،ولم يغيره النبى صلى ال عليه وسلم ،بل أقرهم عليه،
ب رسول ال صلى ال عليه وسلم الطلقَ وهُ ُم القدوةُ :بأنتِ حرام ،وأمرُك بيدك،
وقد أوقع أصحا ُ
ت مني ،وأنت برية وقد أبرأتك ،وأنتِ مبرّأة،
واختاري ،ووهبتُك لهلك ،وأنت خلية وقد خلو ِ
وحبلُك على غاربِك ،وأنتِ الحرجُ .فقال على وابن عمر :الخلي ُة ثلث ،وقال عمر :واحدة ،وهو
ق بهَا .وفرّق معاوية بين رجل وامرأته قال لها :إن خرجت فأنت خلية ،وقال على وابنُ عمر
أح ّ
رضي ال عنهما ،وزيد فى البرية :إنها ثلث .وقال عمر رضى ال عنه :هى واحدة وهو أحق بها،
وقال على في الحرج :هى ثلث ،وقال عمر :واحدة ،وقد تقدم ذكر أقوالهم فى أمرك بيدك ،وأنت
حرام،.والّ سبحانه ذكر الطلقَ ولم يُعين له لفظاً ،فعلم أَنه ر ّد الناسَ إلى ما يتعارفونه طلقاً ،فإن
ق مع النيّة ،واللفاظُ ل تُراد لعينها ،بل للدللة على مقاصد لفظها،
جرى عرفهم به ،وقع به الطل ُ
فإذا تكلّم بلفظ دال على معنى ،وقصد به ذلك المعنى ،ترتّب عليه حكمه ،ولهذا يقع الطلقُ مِن
ح الطلق بالعربية ولم يفهم معناه ،لم
العجمى والتركى والهندى بألسنتهم ،بل لو طلّق أحدهم بصري ِ
ث كعب بن مالك على أن
يقع به شىء قطعاً ،فإنه تكلّم بما ل يفهم معناه ول قصده ،وقدْ دل حدي ُ
الطلقَ ل يق ُع بهذا اللفظ وأمثاله إل بالنية.
والصوابُ أن ذلك جارٍ فى سائر اللفاظ صرِيحِها وكنايِتها ،ول فرق بين ألفاظِ
العتق والطلق ،فلو قال :غلمى غلمٌ حرٌ ل يأتى الفواحش ،أو أمتى أمةٌ حرة ل تبغى الفجورَ،
179
ولم يخطر بباله العتقُ ول نواه ،لم يعتق بذلك قطعاً ،وكذلك لو كانت معه امرأته فى طريق فافترقا،
فقيل له :أين امرأتُكَ؟ فقال :فارقتُها ،أو سرّح شعرها وقال :سرحتُها ولم يُرد طلقاً ،لم تطلق .كذلك
إذا ضربها الطلق وقال لغيره إخباراً عنها بذلك :إنها طالق ،لم تطلق بذلك ،وكذلك إذا كانت المرأة
فى وثَاق فأطلقت منه ،فقال لها :أنتِ طالق ،وأراد من الوثاق .هذا كله مذهبُ مالك وأحمد فى
ق به حتى ينويَه ،ويأتى بلفظ دال
بعض هذه الصور ،وبعضها نظير ما نص عليه ،ول يق ُع الطل ُ
عليه ،فلو انفرد أح ُد المرين عن الخر ،لم يقع الطلق ،ول العتاق ،وتقسيمُ اللفاظ إلى صريح
وكناية وإن كان تقسيماً صحيحًا فى أصل الوضع ،لكن يختِلفُ بإختلف الشخاص والزمنة
ظ صريح ،عند قوم كناية آخرين ،أو صريح فى
والمكنة ،فليس حكماً ثابتًا للفظ لذاته ،فُربّ لف ٍ
زمان أو مكان كنايةٌ فى غير ذلك الزمان والمكان ،والواقعُ شاهد بذلك ،فهذا لفظ السّراحِ ل يكادُ
أح ٌد يستعمله فى الطلق ل صريحاً ول كناية ،فل يسوغُ أن يقال :إن من تكلم به ،لزمه طلقُ
امرأته نواه أو لم ينوه ،ويدّعى أنه ثبت له عُرف الشرع والستعمال ،فإن هذه دعوة باطلة شرعاً
واستعمالً ،أما الستعمال ،فل يكاد أح ٌد يطلق به البتة ،وأما الشرعُ ،فقد استعمله فى غير الطلق،
ن َتمَسّوهُنّ َفمَاَلكُمْ
ن مِنْ َقبْلِ أَ ْ
طلّ ْق ُتمُوهُ ّ
ت ثُمّ َ
حتُم ال ُم ْؤ ِمنَا ِ
كقوله تعالى{ :يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا إِذَا َنكَ ْ
عَل ْيهِنّ مِنْ عِ ّدةٍ َت ْعتَدّونَها َف َم ّتعُوهُنّ وسرّحُوهُنّ سَراحاً جَميلً} [الحزاب ،]49 :فهذا السراح غير
َ
طلّ ْقتُمُ
ى إِذَا َ
ك الفراق استعمله الشرعُ فى غير الطلق ،كقوله تعالى{ :يََأ ّيهَا النّب ّ
الطلق قطعاً ،وكذل َ
سكُوهُنّ ِب َم ْعرُوفٍ َأوْ
جَلهُنّ َفَأمْ ِ
طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق ]1 :إلى قوله تعالى{ :فَإِذَا َبَلغْنَ َأ َ
النّسَاءَ فَ َ
ن ِب َم ْعرُوفٍ} [الطلق ]2 :فالمساك هنا :الرجعة ،والمفارقةُ :تركُ الرجعة ل إنشاء طلقة
فَارقُوهُ ّ
ل يجوز أن يُقال :إن من تكلم به طلقت زوجته ،فهم معناه أو لم
ثانية ،هذا مما ل خلف فيه البتة ،ف َ
ل التوفيق.
يفهم ،وكلهما فى البطلن سواء ،وبا ّ
ل ال صلى ال عليه وسلم فى الظهار ،وبيان ما أنزل ال فيه ،ومعني
حُكم رسو ِ
العودِ الموجبِ للكفارة
لئِى َولَ ْد َنهُمْ
ل ال ّ
ن ُأمّها ِتهِ ْم إنْ ُأمّها ُتهُ ْم إِ ّ
ن نِسَا ِئهِ ْم مَا هُ ّ
ن ِم ْنكُم مِ ْ
ن يُظَا ِهرُو َ
قال تعالى{ :الّذِي َ
ن مِنْ نِسَا ِئهِمْ ثُمّ
لّ َلعَ ُفوّ غَفُو ٌر * والّذِينَ يُظَاهِروُ َ
ل َوزُوراً وإِنّ ا َ
وِإ ّنهُمْ َليَقُولُونَ ُم ْنكَرًا مِنَ ال َقوْ ِ
ن لَمْ
خبِيرٌ * َفمَ ْ
لّ ِبمَا َت ْع َملُونَ َ
حرِي ُر رَ َقبَ ٍة مِنْ َقبْل أَنْ َيتَماسّا َذِلكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وا ُ
َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا َفتَ ْ
ك ِل ُتؤْمنُوا بِالِ
سكِينًا ذِل َ
ستّينَ مِ ْ
طعَامُ ِ
ستَطِعْ َفإِ ْ
ن لَمْ يَ ْ
ل أَنْ َيتَماسّا َفمَ ْ
ن مِنْ َقبْ ِ
ش ْه َريْن ُم َتتَا ِب َعيْ ِ
صيَامُ َ
يَجِدْ َف ِ
ب ألِيمٌ} [المجادلة ،]4-2 :ثبت فى ((السنن)) و
َورَسُولِه َو ِت ْلكَ حُدُودُ ال وِل ْلكَافِرين عَذَا ٌ
180
((المسانيد)) :أن أوس بن الصامت ظاهر مِن زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة ،وهي التى جادلت
ل ال صلى ال عليه وسلم ،واشتكت إلى ال ،وسمع ال شكواها مِن فوقِ سبعِ سماوات،
فيه رسو َ
ن الصامت تزوّجنى وأنا شابة مرغوب فىّ ،فلما خل سنى ،ونثرت
فقالت :يا رسولَ ال ،إن أوسَ ب َ
عنْدِى فى أمرِك
ل ال صلى ال عليه وسلم(( :مَا ِ
له بطنى ،جعلنى كأمّهِ عنده ،فقال لها رسو ُ
شَىءٌ)) فقالت :اللهم إنى أشكو إليك ،ورُوى أنها قالت :إن لى صبي ًة صِغارًا إن ضمّهم إليه،
ل القرآنُ ،وقالت عائشة :الحمدُ لِّ الذى وَسِعَ سمعُه
ضاعُوا وإن ضممتُهم إلىّ جَاعُوا ،فنز َ
سرِ
الصواتَ ،لقد جاءت خول ُة بنتُ ثعلبة تشكو إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وأنا فى كِ ْ
جهَا
ل الّتى ُتجَا ِدُلكَ فى ْزَوْ ِ
سمِعَ الُّ َقوْ َ
ض كلمِها ،فأنزل ال عزّ وجَلّ{:قَدْ َ
البيت يَخْفى علىّ بع ُ
سمَ ُع تَحا ُورَكما إنّ الَّ سمي ٌع َبصِيرٌ} [المجادلة ]1 :فقال النبىّ صلى ال عليه
لّ يَ ْ
وتَشْتكى إلى الِّ وا ُ
ش ْه َريْنِ ُم َتتَا ِب َعيْنِ)) ،قالت :يا رسول ال ،إنه
وسلم ((ِل ُي ْعتِقْ رَ َقبَةً)) ،قالت :ل يجد ،قالَ (( :فيَصُومَ َ
سكِيناً)) قالت :ما عنده من شىء يتصدّقُ به،
ن مِ ْ
ستّي َ
طعِمْ ِ
شيخ كبير ما ب ِه مِنْ صيام ،قالَ (( :ف ْليُ ْ
ن َت ْمرٍ)) قلت :يا رسول ال صلى ال عليه وسلم فإنى أعينه بعَرقٍ آخرَ،
قالت :فأنى ساعتئذ ِبعَرق مِ ْ
ع ّمكِ)).
سكِينًا وارْجِعى إلى ابْنِ َ
ن مِ ْ
ستّي َ
عنْهُ ِ
طعِمى َ
س ْنتِ َفأَ ْ
قالَ(( :أَحْ َ
وفى ((السنن)) :أن سلمة بن صخر البياضى ظاهر مِن امرأته مدةَ شهرِ رمضان ،ثم
ك يَا سَلمة)) ،قال :قلت :أنا
ى صلى ال عليه وسلم(( :أَنتَ بِذَا َ
واقعها ليلةً قبل انسلخه ،فقال له النب ّ
ح ّر ْر رَ َقبَةَ)) ،قلتُ:
ى بما أراك ال قالَ (( :
بِذَاكَ يا رسولَ ال مرتين وأنا صابر لمر ال ،فاحكمْ ف ّ
ش ْه َريْنِ
والذى بعثك بالحقّ نبياً ما أمِلكُ رقبة غيرَها ،وضربتُ صفحة رقبتى ،قال(( :فَصُمْ َ
ت الذى أصبتُ إل فى الصيام ،قال(( :فاطعم ،وسْقًا مِن تمر بين سِتينَ
متتا ِبعَين)) ،قال :وهل أصب ُ
ب صَدَقَةِ
ح ِ
طلِقْ إلى صَا ِ
طعَام ،قال(( :فانْ َ
شيْنِ ما لنا َ
مسكيناً)) قلت :والّذى بعثك بالحقّ لقد ِب ْتنَا وَحْ َ
حتُ
ك بَ ِق ّيتَها)) .قالَ :فرُ ْ
عيَاُل َ
ل َأ ْنتَ و ِ
سكِينًا وَسْقًا مِنْ تَم ِر وكُ ْ
ستّينَ مِ ْ
طعِمْ ِ
َبنِى ُز َريْقٍ َف ْليَدْ َف ْعهَا إِل ْيكَ فَأ ْ
ل ال صلى ال عليه وسلم
ق وسوء الرأى ،ووجدتُ عندَ رسو ِ
إلى قومى ،فقلتُ :وجدت عندكم الضي َ
حسْنَ الرأى ،وقد أمر لى بصدَ َقتِكم،.وفى جامع الترمذى عن ابن عباس ،أنّ رجل أتى
سعَةَ و ُ
ال ّ
ت مِن
النبىّ صلى ال عليه وسلم قد ظا َه َر مِن امرأته فوقع عليها ،فقال :يا رسولَ ال إنى ظاهر ُ
خلْخَالَها
ح ُمكَ ال)) قالَ :رَأ ْيتُ َ
ح َمَلكَ عَلى َذِلكَ َيرْ َ
ل أن أكفّر ،قالَ (( :ومَا َ
امرأتى ،فوقعتُ عليها َقبْ َ
ل مَا َأ َم َركَ ال)) .قال :هذا حديث حسن غريب
حتّى تَ ْفعَ َ
ضوْءِ ال َق َمرِ ،قال(( :فَلَ تَ ْق َربْها َ
فى َ
صحيح،.وفيه أيضاً :عن لسمة بن صخر ،عن النبى صلى ال عليه وسلم ،فى المظاهر يُواقِعُ قبل
181
أن ُيكَفّر ،فقال(( :كَفّا َرةٌ وَاحِ َدةٌ)) .وقال :حسن غريب ،انتهى ،وفيه انقطاع بين سليمان بن يسار،
وسلمة بن صخر ،وفى مسند البزار ،عن إسماعيل بن مسلم ،عن عمرو بن دينار ،عن طاووس،
ل إلى النبى ال صلى ال عليه وسلم ،فقال :إنى
عن ابن عباس رضى ال عنه ،قال :أتى رج ٌ
ت من امرأتى ،ثم وقعتُ عليها قبل أن أُكفِر ،فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم :ألم يقل
ظاهر ُ
حتّى ُتكَ ّفرَ)) قال
سكْ عنها َ
ج َبتْنى ،فقالَ(( :أمْ ِ
ال{:مِنْ َقبْل أَنْ َي َتمَاسّا} [المجادلة]3:؟ فقال :أَعْ َ
ن من هذا ،على أن إسماعيل ابن مسلم قد تُكلّم فيه ،وروى عنه
البزار :ل نعلم ُه يُروى بإسناد أحس َ
جماعة كثيرة من أهل العلم.
فتضمنت هذه الحكام أموراً.
أحدُها :إبطال ما كانوا عليه فى الجاهلية ،وفى صدرِ السلم مِن كون الظهار طلقاً ،ولو
ى كظهر أمى ،أعنى به الطلق ،لم يكن طلقاً وكان ظهاراً ،وهذا
صرّح بنيته له ،فقال :أنتِ عل ّ
بالتفاق إل ما عساه مِن خلف شاذ ،وقد نصّ عليه أحمد والشافعى وغيرهما .قال الشافعى :ولو
ظاهر يُريد طلقاً ،كان ظهاراً ،أو طلّق يُريد ظهاراً كان طلقاً ،هذا لفظه ،فل يجوز أن يُنسب إلى
ف هذا ،ونص أحمد :على أنه إذا قال :أنت علىّ كظهر أمى أعنى به الطلقَ أنه ظهار،
مذهبه خل ُ
ول تطلُق به ،وهذا لن الظهار كان طلقًا فى الجاهلية ،فنسخ ،فلم يج ْز أن يُعاد إلى الحكم
المنسوخ ،وأيضاً فأْوس بن الصامت إنما نوى به الطلقَ على ما كان عليه ،وأجرى عليه حكم
الظهار دون الطلق.وأيضاً فإنه صريح فى حكمه ،فلم يجز جعلُه كناية فى الحكم الذى أبطله عز
وجل بشرعه ،وقضاءُ ال أحقّ ،وحكم الِّ أوجبُ.
ومنها أن الظهار حرام ل يجوزُ القدامُ عليه لنه كما أخبر ال عنه منكر من القول
وزور ،وكلهما حرام ،والفرقُ بين جهة كونه منكراً وجه ِة كونه زورًا أن قوله :أنت علىّ كظهر
أمى يتضمنُ إخباره عنها بذلك ،وإنشاءه تحريمها ،فهو يتضمن إخباراً وإنشاءً ،فهو خبر زُورٌ
وإنشا ٌء منكر ،فإن الزور هو الباطل خلف الحق الثابت ،والمنكر خلف المعروف ،وختم سبحانه
لّ َلعَ ُفوّ غَفُور} [المجادلة ]2:وفيه شعار بقيام سبب الثم الذى لول عفوُ
الية بقوله تعالى{:وَإنّ ا َ
ال ومغفرتُه لخذ به
ومنها :إن الكفارة ل تجب بنفسِ الظهار ،وإنما تجبُ بالعود ،وهذا قولُ
الجمهور ،وروى الثورى ،عن ابن أبى نَجيح ،عن طاووس قال :إذا تكلّم بالظهار ،فقد َل ِزمَه ،وهذه
ن ِلمَا
رواية ابن أبى نجيح عنه ،وروى معمر ،عن طاووس ،عن أبيه فى قوله تعالى{ :ث ّم َيعُودُو َ
182
قَالُوا} [المجادلة ،]3 :قال :جعلها عليه كظهر أمه ،ثم يعودُ ،فيطؤها ،فتحرير رقبة .وحكى الناس
عن مجاهد :أنه تجب الكفارةُ بنفس الظهار ،وحكاه ابنُ حزم عن الثورى ،وعثمان البتي ،وهؤلء
لم يخف عليهم أن العود شرط فى الكفارة ،ولكن العود عندهم هو العود إلى ما كانوا عليه فى
لّ ِمنْهُ} [المائدة ]95 :أى:
الجاهلية من التظاهر ،كقوله تعالى فى جزاء الصيد{:ومَنْ عَادَ َف َي ْنتَقِمُ ا ُ
سَلفَ} [المائدة ]95 :قالوا :ولن
عمّا َ
عاد إلى الصطياد بعد نزول تحريمه ،ولهذا قال{ :عَفَا الُّ َ
الكفارة إنما وجبت فى مقابلة ما تكلم به من المنكر والزور ،وهو الظها ُر دون الوطء ،أو العزم
عليه ،قالوا :ولن ال سبحانه لما حرّم الظهار ،ونهى عنه كان العود هو فعل المنهى عنه ،كما قال
ح َمكُم وإنْ عُ ْدتُم عُ ْدنَا} [السراء ]8:أى :إن عدتم إلى الذنب ،عدنا إلى
تعالى{ :عَسى َر ّبكُم أَنْ َيرْ َ
ل المنهى عنه،
العقوبة ،فالعودُ هنا نفسُ فع ِ
قالوا :ولن الظهارَ كان طلقاً فى الجاهلية ،فنُقِلَ حكمُه من الطلق إلى الظهار ،ورتب
عليه التكفير ،وتحريم الزوجة حتى يكفّر ،وهذا يقتضى أن يكون حكمُه معتبراً بلفظه كالطلق،
ونازعهم الجمهور فى ذلك ،وقالوا :إن العود أمرٌ وراءه مجرد لفظ الظهار ،ول َيصِحّ حمل الية
على العود إليه فى السلم لثلثة أوجه.
أحدها :أن هذه الية بيان لحكم من يُظاهر فى السلم ،ولهذا أتى فيها بلفظ الفعل مستقبلً،
فقال :يُظاهرون ،وإذا كان هذا بياناً لحكم ظِهار السلم ،فهو عندكم نفسُ العود ،فكيف يقول بعده:
ثم يعودون ،وإن معنى هذا العود غير الظهر عندكم؟
الثانى :أنه لو كان العُود ما ذكرتم ،وكان المضا ُر بمعنى الماضي ،كان تقديرُه :والذين
ظاهروا مِن نسائهم ،ثم عادوا فى السلم ،ولما وجبت الكفارةُ إل على من تظاهر فى الجاهلية ثم
عاد فى السلم ،فمن أين تُوجبونها على من ابتدأ الظهار فى السلم غيرَ عائد؟ فإن هنا أمرين:
ظِهار سابق ،وعود إليه ،وذلك يبطلُ حكم الظهار الن بالكلية إل أن تجعلوا ((يظاهرون)) لفرقة
ويعودون لفرقة،ولفظ المضارع نائباً عن لفظ الماضى ،وذلك مخالف للنظم ،ومخرج عن
الفصاحة.
لّ أمر أوسَ بن الصَامت ،وسلمة بن صخر بالكفارة ،ولم يسألهما :هل
الثالث :أن رسولَ ا ِ
تظاهرا فى الجاهلية أم ل؟ فإن قلتُم :ولم يسألهُما عن العود الذى تجعلونه شرطاً ،لسألهما عنه .قبل:
ل العود نفس المساك بعد الظهار زمنًا ُي ْمكِنُ وقوع الطلق فيه ،فهذا جا ٍر على قوله،
أما من يجع ُ
وهو نفسُ حجته ،ومن جعل العودَ هو الوطء والعزم ،قال :سياق القصة بيّن فى أن المتظاهرين
183
كان قصدُهم الوطء ،وإنما أمسكوا له ،وسيأتى تقريرُ ذلك إن شاء ال تعالى ،وأما كون الظهار
منكراً من القول وزوراً ،فنعم هو كذلك ،ولكن ال عز وجل إنما أوجب الكفارة فى هذا المنكر
والزور بأمرين :به ،وبالعود ،كما أن حكم اليلء إنما يترتب عليه وعلى الوطء ل على أحدهما.
فصل
ب الكفارةُ إل بالعود بعد الظهار ،ثم اختلفوا فى معنى العود :هل هو
وقال الجمهور :ل تج ُ
إعادة لفظ الظها ِر بعينه ،أو أمر وراءه؟ على قولين ،فقال أهلُ الظاهر ُكلّهم :هو إعادة لفظِ الظهارِ،
ل لم يُسبقوا إليه ،وإن كانت هذه الشّكاةُ ل يكاد
ولم يحكُوا هذا عن أحد من السلف البتة ،وهو قو ٌ
مذهب من المذاهب يخلو عنها .قالوا :فلم يوجب الُّ سبحانَه الكفارة إل بالظهار المعاد ل المبتدأ.
قالوا :والستدلل بالية من ثلثة وجوه.
أحدهما :أن العرب ل يُعقل فى لغاتها العو ُد إلى الشىء إل فعل مثله مرةً ثانية ،قالوا :وهذا
عنْهُ}
كتابُ ال ،وكلمُ رسوله ،وكل ُم العرب بيننا وبينكم .قال تعالىَ { :وَل ْو رُدّوا َلعَادُوا ِلمَا نُهوا َ
[النعام ،]28 :فهذا نظي ُر الية سواء فى أنه عدّى فعل العود باللم ،وهو إتيانُهم مرة ثانية بمثل ما
أتوا به أولً ،وقال تعالىَ { :وإِنْ عُ ْدتُمْ عُدْنا} [السراء ]8 :أى :إن كررتم الذنب ،كررنا العقوبة،
عنْهُ} [المجادلة ]8 :وهذا
ن ِلمَا ُنهُوا َ
جوَى ثُ ّم َيعُودُو َ
ن ُنهُوا عَن النّ ْ
ومنه قوله تعالىَ{ :ألَمْ َت َر إلى الّذِي َ
ل وإرادة ،والعهد قريب
فى سورة الظهار نفسها ،وهو يُبين المرا َد مِن العود فيه ،فإنه نظيرُه فع ً
بذكره.
قالوا :وأيضاً ،فالذى قالوه :هو لفظُ الظهار ،فالعود إلى القول هو التيانُ به مرة ثانية ل
ل العرب غيرَ هذا .قالوا :وأيضاً فما عدا تكرار اللفظ إما إمساكٌ ،وإما عزم ،وإما فعل ،وليس
تعقِ ُ
واضحٌ منها بقول ،فل يكون التيان به عوداً ،ل لفظًا ول معنى ،ولن العزم والوطء َ والمساكَ
ليس ظهاراً ،فيكون التيان بها عودًا إلى الظهار.
قالوا :ولو أريد بالعودِ الرجوعُ فى الشىء الذى منع منه نفسه كما يُقال ،عاد فى الهبة ،لقال:
ثم يعودون فيما قالوا ،كما فى الحديث(( :العَائِدُ فى هِبتهِ ،كَالعَائِدِ فى َقيْئهِ)) ،واحتج أبو محمد ابن
حزم ،بحديث عائشة رضى ال عنها .أن أوس بن الصامت كان به لمم ،فكان إذا اشت ّد بِه َل َممُه،
ظا َه َر من زوجته ،فأنزل الُّ عز وجَلّ فيه كفارةَ الظهار .فقال :هذا يقتضى التكرارَ ول بُدّ ،قال:
ول يصِحّ فى الظهارِ إل هذا الخبرُ وحدَه .قال :وأما تشنيعُكم علينا بأن هذا القولَ لم يَقُلْ به أحد من
الصحابة ،فأرونا مِن الصحابه من قال :إن العود هو الوطء ،أو العزم ،أو المساك ،أو هو العود
184
إلى الظهار فى الجاهلية ولو عن رجل واح ٍد من الصحابة ،فل تكونون أسعدَ بأصحاب رسول ال
صلى ال عليه وسلم منا أبداً.
فصل
س معنى العود إعادة اللفظ الول ،لن ذلك لو كان هو
ونازعهم الجمهورُ فى ذلك ،وقالوا :لي َ
العود ،لقال :ثُ ّم يعيدون ما قالوا ،لنه يُقال :أعاد كلمَه بعينه ،وأما عاد ،فإنما هو فى الفعال ،كما
يقال :عاد فى فعله ،وفى هبته،فهذا استعماله بـ((فى)) .ويقال :عاد إلى عمله وإلى وليته ،وإلى
حاله ،وإلى إحسانه وإساءتهِ ،ونحو ذلك ،وعاد له أيضاً.
عَلىّ
وأما القول :فإما يقال :أعاده كما قال ضِماد بن ثعلبة للنبى صلى ال عليه وسلم(( :أَعِدْ َ
عَلىّ يا رسول ال)) ،وهذا ليس بلزم ،فإنه يقال :أعاد
َكِلمَا ِتكَ)) وكما قال أبو سعيد(( :أَعِدْهَا َ
مقالته ،وعاد لِمقالته ،وعاد لِمقالته ،وفى الحديث(( :فعاد لمقالته)) ،بمعنى أعادها سواء ،وأفسدُ مِن
ن رَ ّد عليهم بأن إعادةَ القول محال ،كإعادة أمس .قال :لنه ل يتهيأ اجتماعُ زمانين ،وهذا
هذا ردّ مَ ْ
فى غاية الفساد ،فإن إعاد َة القولِ من جنس إعادة الفعل ،وهى التيان بمثل الول ل بعينه ،والعجبُ
ث معهم بمثل هذه البحوث ،ويردّ عليهم بمثل
مِن متعصّب يقول :ل ُي ْعتَدّ بخلف الظاهرية ،ويبح ُ
هذا الردّ ،وكذلك ر ّد من ر ّد عليهم بمثل العائدِ في هبته ،فإنه ليس نظي َر الية ،وإنما نظيرُهاَ{ :ألَمْ
عنْهُ} [المجادلة ،]8 :ومع هذا فه ِذ ِه الية تُبين
جوَى ثُ ّم َيعُودونَ ِلمَا ُنهُوا َ
َترَ إلى الّذِينَ ُنهُوا عَن النّ ْ
المرا َد مِن آية الظهار ،فإن عودَهم ِلمَا ُنهُوا عنه ،هو رجوعُهم إلى نفس المنهى عنه ،وهو النجوى،
وليس المرادُ به إعاد َة تلك النجوي بعينها ،بل رجوعُهم إلى المنهى عنه ،وكذلك قولُه تعالى فى
الظهارَ { :يعُودُونَ ِلمَا قَالُوا} [المجادلة ]3 :أى :لقولهم .فهو مصدر بمعنى المفعول ،وهو تحريمُ
الزوجة بتشبيهها بالمحرّمة ،فالعو ُد إلى المحرم هو العودُ إليه ،وهو فعلُه ،فهذا مأخذُ من قال :إنه
الوطء.
ونكتة المسألة :أن القولَ فى معنى المقول ،والمقول هو التحريم ،والعود له هو العو ُد إليه،
وهو استباحته عائداً إليه بعد تحريمه ،وهذا جار على قواعد اللغة العربية واستعمالها ،وهذا الذى
عليه جمهو ُر السلف والخلف ،كما قال قتادة ،وطاووس ،والحسن ،والزهرىّ ،ومالك ،وغيرُهم ،ول
يُعرف عن أحد مِن السلف أنه فسر الية بإعادة اللفظ البتة ل من الصحابة ،ول مِن التابعين ،ول
ى على مَنْ جعله إعاد َة اللفظ ،وهو أن العودَ إلى الفعل يستلزِمُ مفارقة
مَنْ بعدهم ،وها هنا أمرٌ خف َ
الحال التى هو عليها الن ،وعودَه إلى الحال التى كان عليها أولً،كما قال تعالى{وإنْ عُ ْدتُمْ عُ ْدنَا}
185
[السراء ]8 :أل ترى أن عودهم مفارقة ما هم عليه من الحسان ،وعودُهم إلى الساءة ،وكقول
الشاعر:
حمَدُ.
وإنْ عَا َد لِلِحْسَانِ فَال َعوْدُ َأ ْ
جبِ
ل التى هو عليها الن التحريمُ بالظهار ،والتى كان عليها إباح ُة الوطء بالنكاح المو ِ
والحَا ُ
للحلَ ،ف َعوْدُ المظاهر عودٌ حِلّ كان عليهِ قبلَ الظهار ،وذلك هو الموجبُ للكفارة فتأمله ،فالعودُ
ن العود فى الهبة ،وبينَ العود لما قال
س ّر الفرق بي َ
يقتضى أمراً يعو ُد إليه بعدَ مفارقته ،وظهر ِ
ن الهبة بمعنى الموهوب وهو عين يتضمّن عودُه فيه إدخالَه فى مُلكه وتصرّفَه فيه ،كما
المظاهرُ ،فإ ّ
كان أولً ،بخلف المظاهر ،فإنه بالتحريم قد خرج عن الزوجية ،وبالعودِ قد طلب الرجوعَ إلى
للْيق أن يقال :عاد لكذا ،يعنى :عاد إليه .وفى الهبة:
ل التى كان عليها معها قبلَ التحريم ،فكان ا َ
الحا ِ
عاد إليها ،وقد أمر النبىّ صلى ال عليه وسلم أوسَ بن الصامِت ،وسلم َة ابن صخر بكفارة الظّهار،
ولم يتلفظا به مرتين ،فإنّهما لم يُخبرا بذلك عن أنفسهما ،ول أخبر به أزواجُهما عنهما ،ول أح ٌد من
ى صلى ال عليه وسلم :هَلْ قلُتما ذلك مرة أو مرتين؟ ومثلُ هذا لو كان
الصحابة ،ول سألهما النب ّ
شرطاً لما أهمل بيانه.
وسرّ المسألة أن العودَ يتضمن أمرين :أمرًا يعود إليه ،وأمراً يعود عنه ،ول بُدّ منهما فالذى
يعود عنه يتضمّن نقضَه وإبطاله ،والذى يعودُ إليه يتضمّن إيثاره وإرادته ،فعودُ المظاهر يقتضى
ض الظِهار وإبطاله ،وإيثار ضدّه وإرادته ،وهذا عينُ فهم السلفِ من الية ،فبعضُهم يقول :إن
نق َ
العود هو الصابة ،وبعضُهم يقول :الوطء ،وبعضُهم يقول :اللمس ،وبعضُهم يقول :العزم.
وأما قولُكم :إنه إنما أوجب الكفارة فى الظهار ،إن أردتم به المعاد لفظُه ،فدعوى بحسب ما
ستَلز ْم ذلك إعادة اللفظ الول .وأما
فهمتموه ،وإن أردتم به الظهارَ المعادَ فيه لما قال المظا ِهرُ ،لم يَ ْ
حديث عائشة رضى ال عنها فى ظِهار أوس بن الصامت ،فما أصحّه ،وما أبع َد دللته على
مذهبكم.
فصل
ث ّم الذين جعلوا العودَ أمراً غي َر إعادة اللفظ اختلفُوا فيه :هل هو مجردُ إمساكِها بعد الظهار،
أو أم ٌر غيره؟ على قولين .فقالت طائفة :هو إمساكُها زمنًا يتّس ُع لقوله :أنت طالق ،فمتى لم َيصِل
ظ الظّهار ،وزمنُ
الطلق بالظهار عن كونه موجبَ الكفارة ،ففى الحقيقة لم يُوجب الكفارة إل لف ُ
ب به ممتنع ،ول تُسمى تلك
قوله :أنت طالق ل تأثيرَ له فى الحكم إيجاباً ول نفياً ،فتعليقُ اليجا ِ
186
اللحظةُ والنّفسُ الواحد مِن النفاس عودًا ل فى لغة العرب ول فى عُرف الشارع ،وأىّ شىء فى
هذا الجزء اليسير جدًا مِن الزمان من معنى العود أو حقيقته؟
ل معقول يفهم
قالوا :وهذا ليس بأقوى مِن قول من قال :هو إعادةُ اللفظ بعينه ،فإن ذلك قو ٌ
منه العودُ وحقيقةً ،وأما هذا الجزءُ مِن الزمان ،فل يفهمُ من النسان فيه العود البتة .قالوا :ونحنُ
ب الكفارةَ
نُطالبكم بما طالبتُم به الظاهرية :من قال هذا القولَ قبل الشافعى؟ قالوا :والُّ سبحانه أوج َ
ن بينَ العود وبين الظهار مدةٌ
بالعودِ بحرف ((ثم)) الدالة على التراخى عن الظهار ،فل بد أن يكو َ
متراخية ،وهذا ممتنع عندكم ،وبمجردِ انقضاء قوله :أنت علىّ كظهر أمى صار عائدًا ما لم يصله
بقوله :أنتِ طالق ،فأين التراخى والمهلة بين العود والظهار؟ والشافعى لم ينقل هذا عن أحد من
س ِم ْعتُ فى
ت ممّا َ
الصحابة والتابعين ،وإنما أخبر أنه أولى المعانى بالية ،فقال :الذى عَ َق ْل ُ
((يعودون لما قالوا)) ،أنه إذا أتت على المظا ِه ِر مد ٌة بعد القول بالظهار ،لم يُح ّر ْمهَا بالطلق الذى
يحرم به ،وجبت عليه الكفارةُ ،كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسكَ ما حرّم على نفسه أنه حلل ،فقد
عاد لما قال ،فخالفه ،فأحلّ ما حرم ،ول أعل ُم له معنى أولى به من هذا .انتهى.
فصل
(يتبع)...
@
والذين جعلوه أمراً وراءَ المساك اختلفوا فيه ،فقال مالك فى إحدى الروايات الربع عنه،
وأبو عُبيد :هو العزم على الوطء ،وهذا قول القاضى أبى يعلى وأصحابه ،وأنكره المام أحمد،
وقال مالك :يقول :إذا أجمع ،لزمته الكفارة ،فكيف يكون هذا لو طلّقها بعد ما يُجمع ،أكان عليه
ل الطلق؟
كفارة إل أن يكون يذهبُ إلى قول طاووس إذا تكلم بالظهارِ ،لزمه مث ُ
ب هذا القول فيما لو مات أحدُهما ،أو طلّق بعد العزم ،وقبل الوطء،
ثم اختلف أربا ُ
هل تستقر عليه الكفارة؟ فقال مالك وأبو الخطاب :تست ِقرّ الكفارةُ .وقال القاضى وعامةُ أصحابه :ل
تست ِقرّ ،وعن مالك رواية ثانية :أنه العزم على المساك وحدَه ،وروايةُ ((الموطأ)) خلف هذا كله:
أنه العز ُم على المساك والوطء معاً .وعنه رواية رابعة :أنه الوطء نفسه ،وهذا قولُ أبى حنيفة
ن إذا أراد
وأحمد .وقد قال أحمد فى قوله تعالى{:ثُمّ َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا} [المجادلة ،]3 :قال :الغشيا ُ
أن يغشى ،كَ ّفرَ ،وليس هذا باختلف رواية ،بل مذهبُه الذى ل يُعرف عنه غيره أنه الوطء ويلزمه
إخراجها قبله عند العزم عليه.
187
ل أن
واحتج أرباب هذا القول بأن ال سبحانه قال فى الكفارة{ :مِنْ َقبْ ِ
يتماساً} [المجادلة ]3 :فأوجب الكفارة بعد العودِ ،وقبل التماس ،وهذا صريح فى أن العود غير
التماس ،وأن ما يحرم قبل الكفارة ،ل يجوز كونُه متقدماً عليها .قالوا :ولنه قصد بالظهار
تحريمها ،والعزم على وطئها عود فيما قصده .قالوا :ولن الظّهار تحريم ،فإذا أراد استباحتها ،فقد
رجع فى ذلك التحريم ،فكان عائداً.
ل ضدّ قولِه كما تقدم
قال الذين جعلوه الوطء :ل ريب أن العود فع ُ
ن ِلمَا ُنهُوا
تقريره ،والعائد فيما نهى عنه وإليه وله :هو فاعلُه ل مريدُه ،كما قال تعالى{ :ثُ ّم َيعُودو َ
ب هذا القول ما ألزمهم به
عنْهُ} [المجادلة ،]8 :فهذا فعل المنهى عنه نفسه لرادته ،ول يلزم أربا َ
َ
أصحابُ العزم ،فإن قولهم :إن العودَ يتقدم التكفير ،والوطءُ متأخر عنه ،فهم يقولون :إن قوله
تعالى{ :ثُ ّم َيعُودُونَ ِلمَا قَالُوا} [المجادلة ]3 :أى :يريدون العود كما قال تعالى{ :فَإذَا َق َر ْأتَ ال ُقرْآنَ
سلُوا وجُو َهكُم} [المائدة]6 :
س َتعِ ْذ بالِ} [النحل ،]98 :وكقوله تعالى{ :إذَا ُق ْمتُ ْم إلى الصّلةِ فاغْ ِ
فا ْ
ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها .قالوا :وهذا أولى مِن تفسير العود بنفس اللفظ
ق بعده،
الول ،وبالمساك نَفَساً واحداً بعد الظهار ،وبتكرار لفظ الظهار ،وبالعزم المجرّدِ لو طلّ َ
فإن ه ِذهِ القوال ُكلّها قد تبين ضعفها ،فأقرب القوال إلى دللة اللفظ وقواعد الشريعة وأقوال
ل التوفيق.
المفسرين ،هو هذا ،وبا ّ
فصل
ى صلى ال عليه وسلم أعان أوسَ
ومنها :أن من عجز عن الكفارة ،لم تسقُط عنه ،فإن النب ّ
ابن الصامت ِب َعرَقٍ من تمر ،وأعانته امرأته بمثله ،حتى كفّر ،وأمر سلم َة بن صخر أن يأخذ صدقةَ
قومه ،فيكفّر بها عن نفسه ،ولو سقطت بالعجز ،لما أمرهما بإخراجها ،بل تبقى فى ذمته دينًا عليه،
وهذا قول الشافعى ،وأحد الروايتين عن أحمد.
وذهبت طائفة إلى سقوطِها بالعجز ،كما تسقط الواجبات بعجزه عنها ،وعن إبدالها.
وذهبت طائفة أن كفار َة رمضان ل تبقى فى ذمته ،بل تسقُط ،وغيرُها من الكفارات ل
تسقط ،وهذا الذى صححه أبو البركات ابن تيمية.
صرِفاً
ن َم ْ
ت إليه ،فإن الرجل ل يكو ُ
صرِ َف ْ
واحتجّ من أسقطها بأنها لو وجبت مع العجز ،لما ُ
ب القول الول يقولون :إذا عجز عنها ،وكفر الغيرُ
صرِفا لزكاته ،وأربا ُ
لكفارته ،كما ل يكون َم ْ
صرِ َفهَا إليه ،كما صرف النبى صلى ال عليه وسلم كفارةَ من جامع فى رمضان إليه
عنه ،جاز أن َي ْ
188
وإلى أهله ،وكما أباح لسلمة بن صخر أن يأكُل هو وأهلُه من كفارته التى أخرجها عنه من صدقة
قومه ،وهذا مذهبُ أحمد ،رواية واحدة عنه فى كفارة من وطىء أهله فى رمضان ،وعنه فى سائر
الكفارات ،وك ّفرَ عن غيرُه ،جاز صرف كفارته إليه ،وإلى أهله.
فإن قيل :فهل يجوز له إذا كان فقيرًا له عيال وعليه زكاة يحتاج إليها أن يصرفها إلى نفسه
وعياله؟ قيل :ل يجوز ذلك لعدم الخراج المستحق عليه ،ولكن للمام أو الساعى أن يدفع زكاتَه
إليه بعد قبضها منه فى أصحّ الروايتين عن أحمد ،فإن قيل :فهل له أن يسقطها عنه؟ قيل :ل ،نص
عليه ،والفرق بينهما واضح ،فإن قيل :فإذا أذن السيد لعبده فى التكفير بالعتق ،فهل له أن يعتق
ل عن الصيامِ إليه؟ على
نفسه؟ قيل :اختلفت الرواية فيما إذا أذن له فى التكفير بالمال ،هل له أن ينتق َ
روايتين إحداهما :أنه ليس له ذلك ،وفرضُه الصيام ،والثانية :له النتقال إليه ،ول يلزمُه لنّ المنع
لِحقّ السيد ،وقد أذن فيه .فإذا قلنا :له ذلك ،فهل العتقُ؟ اختلف الروايةُ فيه عن أحمد ،فعنه فى ذلك
روايتان ،ووج ُه المنع :أنه ليس من أهل الولء ،والعتق َي ْع َتمِدُ الولء ،واختار أبو بكر وغيرُه أن له
العتاق ،فعلى هذا ،هل له عِتقُ نفسه؟ فيه قولن فى المذهب ،ووج ُه الجواز إطلقُ الذن ووجهُ
المنع أن الذن فى العتاق ينصرفُ إلى إعتاق غيره ،كما لو أذن له فى الصدقة انصرف الذن
إلى الصدقة على غيره.
فصل
ومنها :أنه ل يجوز وطء المظاهر منها قبل التكفير ،وقد اختلف ها هنا فى موضعين.
ن الفرج قبل التكفير ،أم ل؟ والثانى :أنه إذا كانت كفارتُه الطعام ،فهل
أحدهما :هل له ُمبَاشَرتها دُو َ
له الوطء قبلَه أم ل؟ فى المسألتين قولن للفقهاء ،وهما روايتانِ عن أحمد ،وقولن للشافعى.
ل أَنْ َيتَماسّا} [المجادلة،]3 :
ووجه منع الستمتاع بغير الوطء ،ظاهرُ قوله تعالى{ :مِنْ َقبْ ِ
ولنه شبّهها بمن يحرم وطؤها ودواعيه ،ووج ُه الجواز أن التّماسّ كنايةٌ عن الجماع ،ول يلزم مِن
تحريم الجماع تحريمُ دواعيه ،فإن الحائضَ يحرم جماعُها دون دواعيه ،والصائمُ يحرم منه الوطُء
ل أبى حنيفة.
ن دواعيه ،وهذا قو ُ
دون دواعيه ،والمسبية يحرم وطُؤها دو َ
وأما المسألةُ الثانية وهى وطؤها قبل التكفير :إذا كان بالطعام ،فوجه الجواز أن ال سبحانه
قيّد التكفيرَ بكونه قبل المسيس فى العتق والصيام ،وأطلقه فى الطعام ،ولكل منهما حِكمة ،فلو أراد
التقييدَ فى الطعام ،لذكره ،كما ذكره فى العتق والصيام ،وهو سبحانه لم يقيد هذا ويطلق هذا عبثاً،
بل لِفائدة مقصودة ،ول فائدة إل تقييد ما قيّده ،وإطلقُ ما أطلقه .ووجهُ المنع استفادةُ حكم ما أطلقه
189
مماقيده ،إما بيانًا على الصحيح ،وإما قياساً قد ألغى فيه الفارق بين الصورتين ،وهو سبحانه ل
ل أَنْ َي َتمَاسّا} [المجادلة ]4 :مرتين ،لو أعاده ثالثاً ،لطال به
يُفرّقُ بين المتماثلين ،وقد ذكر{ :مِنْ َقبْ ِ
الكلم ،ونبّه بذكره مرتين على تكرر حكمه فى الكفارات ،ولو ذكره فى آخر الكلم مرةً واحدةً،
لوهم اختصاصه بالكفارة الخيرة ،ولو ذكره فى أول مرة لوهم اختصاصه بالولى ،وإعادته فى
كُلّ كفارة تطويل ،وكان أفصحَ الكلم وابلَغه وأوجزَه ما وقع.
وأيضاً فإنه نبه بالتكفير قبل المسيس بالصوم مع تطاول زمنه ،وشدة الحاجة إلى مسيس
الزوجة على أن اشتراط تقدمه فى الطعام الذى ل يطول زمنه أولى.
فصل
ل ونهاراً ،ول خلف بين
ومنها :أنه سبحانه أمر بالصيام قبل المسيسِ ،وذِلكَ َيعُ ّم المسيسَ لي ً
ن الصوم ليلً ونهاراً ،وإنما اختلفُوا ،هل يبطل التتابُع به؟ فيه
الئمة فى تحريم وطئها فى زم ِ
ل مالك ،وأبى حنيفة ،وأحمد فى ظاهر مذهبه ،والثانى :ل يبطل،
قولن .أحدهما :يبطل وهو قو ُ
ل الشافعى ،وأحمد فى رواية أخرى عنه.
وهو قو ُ
والذين أبطلوا التتاب َع معهم ظاهرُ القرآن ،فإنه سبحانه أمر بشهرين متتابعين قبل المسيسِ،
ولم يوجد ،ولن ذلك يتضمّن النهى عن المسيس قبل إكمال الصيام وتحريمه ،وهو يُوجب عدم
العتدادِ بالصوم ،لنه عمل ليس عليه أمرُ رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فيكون رداً.
وسر المسألة أنه سبحانه أوجب أمرين ،أحدهما :تتابع الشهرين والثانى :وقوعُ صيامهما
قبل التماس ،فل يكون قد أتى بما أمر به إل بمجموع المرين.
فصل
ومنها :أنه سبحانه وتعالى أطلق إطعا َم المساكين ولم يُقيده بقدر ،ول تتابع ،وذلك يقتضى
ب أو تمر ،جاز ،وكان ممتثلً لمر ال ،وهذا قولُ
أنه لو أطعمهم فغدّاهم وعشاهم مِن غير تمليك ح ّ
الجمهور ومالك ،وأبى حنيفة ،وأحمد فى إحدى الروايتين عنه ،وسواء أطعمهم جملة أو متفرقين.
فصل
ومنها :أنه ل بُدّ من استيفاء عدد الستين ،فلو أطعم واحداً ستين يومًا لم يجزه إلّ عن واحدٍ،
هذا قول الجمهور :مالك ،والشافعى ،وأحمد فى إحدى الروايتين عنه .والثانية :أن الواجب إطعام
ستين مسكيناً ،ولو لواح ٍد وهو مذهب أبى حنيفة .والثالثة :إن وجد غيرَه لم يجز ،وإل أجزأه ،وهو
ظاهرُ مذهبه ،وهى أصح القوال.
190
فصل
ومنها :أنه ل يجزئه دفعُ الكفارة إل إلى المساكين ،ويدخُلُ فيهم الفقراء كما يدخل المساكينُ
ل من يأخذ من الزكاة لحاجته،
فى لفظ الفقراء عند الطلق ،وعمم أصحابُنا وغيرهم الحكمَ فى ك ّ
ن السبيل ،والغار ُم لمصلحته ،والمكاتب .وظاهر القرآن
وهم أربعة :الفقراء ،والمساكين ،واب ُ
اختصاصُها بالمساكين ،فل يتعدّاهم.
فصل
ق الرقبةَ هاهنا ،ولم يُقيدها باليمان ،وقيّدها فى كفارة القتل
ومنها :أن ال سبحانه أطل َ
باليمان ،فاختلف الفقهاء فى اشتراط اليمان فى غير كفارة القتل ،على قولين :فشرطه الشافعىّ،
ل الظاهر ،والذين لم يشترطوا
ومالك ،وأحمد فى ظهر مذهبه ،ولم يشترطه أبو حنيفة ،ول أه ُ
اليمان قالوا :لو كان شرطًا لبيّنه ال سبحانه ،كما بينه فى كفارة القتل ،بل يُطلق ما أطلقه ،ويُقيد ما
قيده ،فيعمل بالمطلق والمقيد .وزادت الحنفيّة أن اشتراط اليمان زيادة على النص ،وهو نسخ،
والقرآن ل يُنسخ إل بالقرآن أو خبرٍ متواترٍ ،قال الخرون :واللفظ للشافعى :شرط ال سبحانه فى
ط العدلَ فى الشهادة ،وأطلق الشهو َد فى مواضع ،فاستدللنا به على أن ما
رقبة القتل مؤمنة ،كما شر َ
شرَطَ وإنما رد ال أموال المسلمين على المسلمين ل على
أطلقَ مِن الشهادات على مثل معنى ما َ
ض مِن الرقاب ل يجوزُ إل
المشركين وفرض ال الصدقاتِ ،فلم تجز إل للمؤمنين ،فكذلك ما فر َ
ل المطلق على المقيد إذا كان مِن جنسه،
لمؤمن ،فاستدل الشافعىّ بأن لسان العرب يقتضى حم َ
أحدهما :أن حمل المطلق على ف الشرع على مقتضى لسانهم ،وهاهنا أمران.
ل عر َ
فحم َ
المقيد بيانٌ ل قياس .الثانى :أنه إنما يحمل عليه بشرطين .أحدهما :اتحاد الحكم .والثانى :أن ل
يكون للمطلق إل أصل واحد .فإن كان بين أصلين مختلفين ،لم يُحمل إطلقُه على أحدهما إل بدليل
يُعينه .قال الشافعى :ولو نذر رقبةً مطلق ًة لم يُجزه إل مؤمنة ،وهذا بناء على هذا الصل ،وأن النذر
ب العتق ل يتأدى إل بعتق المسلم .ومما يدل على هذا ،أن النبى
ل على واجب الشرع ،وواج ُ
محمو ٌ
صلى ال عليه وسلم قال لمن استفتى فى عتق رقبة منذورة :ائتنى بها ،فسألها أينَ الُّ؟ فقالت :فى
السماء ،فقال :من أنا؟ قالت :أنتَ رسولُ الِّ ،فقال :أعتقها فإنها مُؤمنة .قال الشافعى :فلما وصفت
اليمانَ ،أمر بعتقها انتهى.
وهذا ظاهر جداً أن العِتقَ المأمورَ به شرعاً ل يُجزىء إل فى رقبة مؤمنة ،وإل لم يكن
للتعليل باليمان فائدة ،فإن العم متى كان عِلة للحكم كان الخصّ عديمَ التأثير ،وأيضاً فإن
191
المقصود من إعتاق المسلم تفريغُه لعبادة ربه ،وتخليصُه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق،
ول ريبَ أن هذا أمرٌ مقصودٌ للشارع محبوب له ،فل يجو ُز إلغاؤُه ،وكيف يستوى عند ال ورسوله
تفريغُ العبد لعبادته وحدَه ،وتفريغُه لعبادة الصليب ،أو الشمس والقمر والنار ،وقد بيّن سبحانه
ط العدالة فى
اشتراط اليمان فى كفارة القتل ،وأحال ما سكتَ عنه على بيانه ،كما بيّن اشترا َ
الشاهدين ،وأحال ما أطلقه ،وسكت عنه على ما بينه ،وكذلك غالبُ مطلقات كلمه سبحانه ومقيداته
لمن تأملها ،وهى أكث ُر من أن تُذكر ،فمنها :قوله تعالى فيمن أمر بصدقة ،أو معروف ،أو إصلح
ف نُؤتِي ِه أَجْراَ عَظِيماً} [النساء ]114 :وفى
س ْو َ
ك ا ْب ِتغَاءَ َم ْرضَاتِ الِّ فَ َ
ل ذِل َ
ن يَ ْفعَ ْ
بين الناسَ { :ومَ ْ
موضع آخر ،بل مواضع يُعلق الجر بنفس العمل اكتفاءً بالشرط المذكور فى موضعه ،وكذلك قولُه
س ْعيِهِ} [النبياء ،]94 :وفى موضع يُعلّق
ن لِ َ
ل كُ ْفرَا َ
ت وَ ُه َو ُم ْؤمِنٌ فَ َ
ن الصّالِحَا ِ
ل مِ َ
ن َي ْعمَ ْ
تعالىَ { :فمَ ْ
الحزاء بنفس العمال الصالحة اكتفاءً بما علم من شرط اليمان ،وهذا غالب فى نصوص الوعد
والوعيد.
فصل
ومنها :أنه لو أعتق نِصفي رقبتين لم يكن معتقاً لرقبة ،وفى هذا ثلث ُة أقوال للناس ،وهى
روايات عن أحمد ،ثانيها الجزاء ،وثالثها وهو أصحها :أنه إن تكملت الحريةُ فى الرقبتين أجزأه،
وإل فل ،فإنه َيصْدُقُ عليه أنه حرّر رقبة ،أى :جعلها حرة بخلف ما إذا لم تكمل الحرية.
فصل
ل التكفير ،ول تتضاعف ،بل هى بحالها كفارةٌ واحدة،
ومنها :أن الكفارة ل تسقُط بالوطء قب َ
ت بنُ دينار :سألتُ عشرة
كما دل عليه حكمُ رسول ال صلى ال عليه وسلم الذى تقدم ،قال الصل ُ
مِن الفقهاء عن المظاهر يُجامع قبل أن يُكفر ،فقالوا :كفارة واحدة .قال :وهم الحسنُ ،وابنُ سيرين،
ومسروق ،وبكر ،وقتادة ،وعطاء ،وطاووس ،ومجاهد ،وعكرمة .قال :والعاشر :أراه نافعاً ،وهذا
ل الئمة الربعة.
قو ُ
ح عن ابن عمر ،وعمرو بن العاص ،أن عليه كفارتين ،وذكر سعيد ابن منصور ،عن
وص ّ
الحسن ،وإبراهيم فى الذى يُظاهر ،ثم يطؤها قبل أن يكفّر :عليه ثلثُ كفارات ،وذكر عن
الزهرى ،وسعيد بن جبير ،وأبى يوسف ،أن الكفارة تسقُطُ ،ووجه هذا أنه فات وقتُها ،ولم يبق له
سبيل إلى إخراجها قبل المسيس.
192
ط الواجب فى الذمّة كالصلةِ والصيام وسائر
وجواب هذا ،أن فوات وقت الداء ل يُسق ُ
العبادات ،ووجهُ وجوب الكفارتين أن إحداهما للظهار الذى اقترن به العودُ ،والثانية للوطء
المحرّم ،كالوطء فى نهار رمضان ،وكوطء المحرِمِ ،ول يُعلم ليجاب الثلثِ وجه ،إل أن يكونَ
عقوبة على إقدامه على الحرام ،وحكم رسول ال صلى ال عليه وسلم يدلّ على خلف هذه
ل أعلم.
القوال ،وا ّ
لّ صلى ال عليه وسلم فى الِيلء
حكْمُ رسولِ ا ِ
ُ
لّ صلى ال عليه وسلم من نسائه،
ثبت فى صحيح البخارى :عن أنس قال :آلى رسولُ ا ِ
ش ُربَةٍ له تِسعًا وعشرين ليلة ،ثم نزل ،فقالُوا :يا رسَولَ ال :آليتَ
وكانت انفكت رجلُه ،فأقام فى مَ ْ
ن نِسَا ِئهِمْ
ن مِ ْ
ن ُي ْؤلُو َ
شرِينَ)) ،وقد قال سبحانه{ :للّذِي َ
ن تِسْعًا وعِ ْ
ش ْهرَ َيكُو ُ
ن ال ّ
شهراً ،فقال(( :إ ّ
علِيمٌ}
سمِيعٌ َ
ع َزمُوا الطّلَقَ َفإِنّ الَّ َ
ش ُهرٍ ،فَإِنْ فَاءُوا َفإِنّ الَّ غَفُورٌ رَحِي ٌم * َوإِنْ َ
ص َأ ْر َبعَةِ أَ ْ
تَربّ ُ
[البقرة.]227-226 :
ن مِن وطء الزوجة،
ص فى عرف الشرع بالمتناعِ باليمي ِ
اليلء :لغة :المتناع باليمين ،وخُ ّ
ولهذا عُدّى فعلُه بأداة ((من)) تضمينًا له ،معنى ((يمتنعون)) من نسائهم ،وهو أحسنُ من إقامةِ
علَى)) ،وجعل سبحانه للزواج مُ ّدةَ أربعة أشهر يمتنعونَ فيها مِن وطء نسائهم
((من)) مقام (( َ
ن عباس ،أن اليلء
باليلء ،فإذا مضت فإما أن يَفىء ،وإما أن يُطلّق ،وفد اشتهر عن على ،واب ِ
إنما يكون فى حال الغضب دون الرضي ،كما وقع لِرسول ال صلى ال عليه وسلم مع نسائه،
وظاه ُر القرآن مع الجمهور.
وقد تناظر فى هذه المسألة محمد بنُ سيرين ،ورجل آخر ،فاحتج على محمد بقول على،
فاحتج عليه محمد بالية ،فسكت.
وقد دلت الية على أحكام.
ل من أربعة أشهر لم يكن مؤلياً ،وهذا
منها :هذا .ومنها :أن من حلف على ترك الوطء أق ّ
ل الجمهور ،وفيه قول شاذ ،أنه مؤل.
قو ُ
ف على أكثر من أربعة أشهر ،فإن كانت مدة
حِل َ
ومنها :أنه ل يثبت له حكم اليلء حتى يَ ْ
المتناع أربعة أشهر ،لم يثبت له حكمُ اليلء ،لن ال جعل لهم مدةَ أربعة أشهر ،وبعدَ انقضائها
ل الجمهور ،منهم ،أحمد ،والشافعى ،ومالك ،وجعله أبو
إما أن يُطلّقوا ،وإما أن يفيؤوا ،وهذا قو ُ
ل لوقوع الطلق
حنيفة مؤلياً بأربعة أشهر سواء ،وهذا بناء على أصله أن المدةَ المضروبة أج ٌ
193
بانقضائها ،والجمهور يجعلون المدة أجلً لستحقاق المطالبة ،وهذا موضع اختلف فيه السلفُ من
الصحابة رضى ال عنهم والتابعين ومَنْ بعدهم ،فقال الشافعى ،حدثنا سفيانَ ،عن يحيى ابن سعيد،
ل مِن الصحابة ،كلهم يُو ِقفُ المؤلى .يعنى :بعد
عن سليمانَ بن يسار ،قال :أدركتُ بضعة عشرَ رج ً
ل مِن أصحابِ
أربعةِ أشهر .وروى سهيل بن أبى صالح ،عن أبيه ،قال :سألتُ اثنى عشر رج ً
ى أربعةُ أشهر .وهذا
رسولِ ال صلى ال عليه وسلم عن المؤلى ،فقالوا :ليس عليه شىء حتى تمض َ
ل الجمهور مِن الصحابة والتابعين ،ومن بعدهم.
قو ُ
وقال عبد ال بن مسعود ،وزيدُ بن ثابت :إذا مضت أربعة أشهر ولم يفىء فيها ،طلقت منه
ق المطالبة
بمضيها ،وهذا قولُ جماع ٍة من التابعين ،وقولُ أبى حنيفة وأصحابه ،فعند هؤلء يستحِ ّ
قبل مضى الربعة الشهر ،فإن فاء وإل طلقت بمضيها .وعند الجمهور ،ل يستحق المطالبة حتى
تمضى الربعة الشهر ،فحينئذ يقال :إما أن تفىء ،وإما أن تُطلق ،وإن لم يفىء ،أُخِذَ بإيقاع
الطلق ،إما بالحاكم ،وإما بحبسه حتى يطلّق.
قال الموقعون للطلق بمضى المدة :آية اليلء تدل على ذلك من ثلثة أوجه.
أحدها :أن عبدَ ال بن مسعود قرأ{:فَإنْ فَاءوا فَإنّ ال غَفُو ٌر رَحِيمٌ} [البقرة ]226 :فإضافة
الفيئة إلى المدة تدل على استحقاق الفيئة فيها ،وهذه القراءة إما أن تُجرى مجرى خبر الواحد،
فتوجب العمل ،وإن لم تُوجب كونها مِن القرآن ،وإما أن تكون قرآناً نسخ لفظه ،وبقى حكمه ل
يجوز فيها غير هذا البتة.
الثانى :أن ال سبحانه جعل مدة اليلء أربعة أشهر ،فلو كانت الفيئةُ بعدها ،لزادت على مدة
النص ،وذلك غيرُ جائز.
الثالث :أنه لو وطئها فى مدة اليلء ،لوقعت الفيئةُ مو ِقعَها ،فدل على استحقاق الفيئة فيها.
ص أربعة أشهر ،ثم قال{ :فَإنْ فَاءوا فَإنّ الَ
قالوا :ولن ال سبحانه وتعالى جعل لهم ترب َ
ع َزمُو الطّلَقَ} [البقرة]227-226 :وظاهر هذا أن هذا التقسيم فى المدة التى
غَفُورٌ رَحِي ٌم * وَإن َ
لهم فيها التربص ،كما إذا قال لغريمه :أصبر عليك بدينى أربعة أشهر ،فإن وفيتنى وإل حبستك،
ول يُفهم من هذا إل أن وفّيتنى فى هذه المدة ،ول يُفهم منه إن وفيتنى بعدها ،وإل كانت مدة الصبر
ل مراتبها أن
أكثر من أربعة أشهر ،وقراءة ابن مسعود صريحة فى تفسير الفيئة بأنها فى المدة ،وأق ّ
ضرِبَ لوقوع
ل مضروب للفرقة ،فتعقبه الفرقة كالعدة ،وكلجل الذى ُ
تكون تفسيراً .قالوا :ولنه أج ٌ
الطلق ،كقوله :إذا مضت أربعة أشهر ،فأنت طالق.
194
قال الجمهور :لنا مِن آية اليلء عشرة أدلة.
أحدها :أنه أضاف مدة اليلء إلى الزواج ،وجعلَها لهم ،ولم يجعلها عليهم ،فوجبَ أل
ب المطالبةَ فيها لم يكن عنده أجلً لهم ،ول
ل الدّين ،ومن أوج َ
يستحق المطالبة فيها ،بل بعدَها ،كأج ِ
يُعقل كونها أجلً لهم ،ويستحق عليهم فيها المطالبة.
الدليل الثانى :قوله{ :فَإنْ فَاءُوا فَإنّ الَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة ،]226 :فذكر الفيئ َة بعد المدة
بفاء التعقيب ،وهذا يقتضى أن يكونَ بع َد المدة ،ونظيرُه قولُه سبحانه{ :الطّلَقُ َم ّرتَانِ فَإمْسَاكٌ
سرِيحٌ بِِإحْسَانٍ} [البقرة ]229 :وهذا بعدَ الطلق قطعاً.
ف َأ ْو تَ ْ
ِب َم ْعرُو ٍ
فإن قيل :فاء التعقيب تُوجب أن يكونَ بعد اليلء ل بع َد المدة؟ قيل :قَد تقدّمَ فى الية ذكر
اليلء ،ثم تله ذكر المدة ،ثم أعقبها بذكر الفيئة ،فإذا أوجبت الفا ُء التعقيبُ بعد ما تقدم ذكرُه ،لم
يجز أن يعود إلى أبعدِ المذكورين ،ووجب عودُها إليهما أو إلى أقربهما.
ع َزمُوا الطّلَقَ} [البقرة ،]227 :وإنما العزم ما عزم العاز ُم على
الدليل الثالث :قوله{ :وإِنْ َ
جلَهُ} [البقرة ]235 :فإن قيل:
حتّى َي ْبلُ َغ ال ِكتَابُ أَ َ
ل َت ْع ِزمُوا عُقْ َدةَ ال ّنكَاحِ َ
فعله ،كقوله تعالى{ :وَ َ
فتركُ الفيئة عزم على الطلق؟ قيل :العزمُ هو إرادة جازمة لفعل المعزوم عليه أو تركه ،وأنتم
ى المدة وإن لم يكن منه عزم ل على وطء ول على تركه ،بل لو عزم
تُوقعون الطلقَ بمجرد مض ّ
على الفيئة ،ولم يُجامع طلقتم عليه بمضىّ المدة ،ولم يعزم الطلق ،فكيفما قدرتم ،فاليةُ حجة
عليكم.
الدليل الرابع :أن ال سبحانه خيّره فى الية بين أمرين :الفيئ ِة أو الطلقِ ،والتخييرُ بين
أمرين ل يكون إل فى حالة واحدة كالكفارات ،ولو كان فى حالتين ،لكانتا ترتيباً ل تخييراً ،وإذا
تقرر هذا ،فالفيئة عندكم فى نفس المدة ،وعزمُ الطلق بانقضاء المدة ،فلم يقع التخييرُ فى حالة
واحدة.
فإن قيل :هو مخيّر بين أن يفىء فى المدة ،وبين أن يترك الفيئة ،فيكون عازمًا للطلق
بمضى المدة.
قيل :ترك الفيئة ل يكون عزمًا للطلق وإنما يكون عزمًا عندكم إذا انقضت المدة ،فل يتأتّى التخييرُ
بين عزم الطلق وبين الفيئة البتة ،فإنه بمضى المدة يقع الطلق عندكم ،فل يُمكنه الفيئة ،وفى
ت عزم الطلق الذى هو مضى المدة ،وحينئذ فهذا دليل خامس
المدة يمكنه الفيئة ،ولم يحضر وق ُ
مستقل.
195
الدليل السادس :أن التخيير بين أمرين يقتضى أن يكون فِعلُهما ،إليه ليصح منه اختيارُ فعل
كل منهما وتركه ،وإل لبطل حكمُ خياره ،ومضى المدة ليس إليه.
علِيمٌ} [البقرة.]227 :
سمِيعٌ َ
ع َزمُوا الطّلَقَ َفإِنّ ال َ
الدليل السابع :أنه سبحانه قال{:وإِنْ َ
ل يُسمع ،ليحسن ختم الية بصفة السمع.
فاقتضى أن يكون الطلقُ قو ً
ت منك ،وإن لم تُوفنى
ل أربعة أشهر ،فإن وفيتنى قبل ُ
الدليل الثامن :أنه لو قال لغريمه :لك أج ُ
ب غي َر هذا.
حبستُك ،كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة ل فيها ،ول َيعْقِلُ المخاط ُ
فإن قيل :ما نحن فيه نظيرُ قوله :لك الخيار ثلثة أيام فإن فسخت البيع وإل لزمك ،ومعلومٌ
ب العقد اللزومُ،
أن الفسخَ إنما يقع فى الثلث ل بعدها؟ قيل :هذا من أقوى حُججنا عليكم فإن موج َ
فجعل له الخيار فى مدة ثلثة أيام ،فإذا انقضت ولم يفسخ عاد العق ُد إلى حكمه وهو اللزومُ وهكذا
عَل ْيهِنّ
ل الّذِى َ
ن ِمثْ ُ
ق على الزوج فى الوطء كما له حقّ عليها ،قال تعالىَ { :وَلهُ ّ
الزوجة لها ح ّ
ع أربعة أشهر ل حقّ لها فيهن ،فإذا انقضت
بالم ْعرُوف} [البقرة ]228 :فجعل له الشارعُ امتنا َ
ب العَقد ،وهو المطالبة ل وقوع الطلق ،وحينئذ فهذا دليل تاسع
المدةُ ،عادت على حقّها بموج ِ
مستقل.
الدليل العاشر :أنه سبحانه جعل للمؤلين شيئاً ،وعليهم شيئين ،فالذى لهم تربّصُ
المدة المذكورة ،والذى عليهم إما الفيئةُ وإما الطلقُ ،وعندكم ليس عليهم إل الفيئةُ فقط ،وأما
الطلقُ ،فليس عليهم ،بل ول إليهم ،وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة ،فيُحكم بطلقها عقيب
انقضاء المدة شاء أو أبى ،ومعلوم أن هذا ليس إلى المؤلى ول عليه ،وهو خلفُ ظاهر النص.
قالوا :ولنها يمين بالّ تعالى توجب الكفارةَ .فلم يقع بها الطلق كسائر اليمان ،ولنها مدة قدرها
ح أن يقع به الطلق
الشرعُ ،لم تتقدمها الفرقة ،فل يقع بها بينونة ،كأجل العنّين ،ولنه لفظ ل َيصِ ّ
المعجّل ،فلم يقع به المؤجّلُ كالظهار ،ولن اليلء كان طلقًا فى الجاهلية ،فنسخ كالظهار ،فل
يجوز أن يقع به الطلق لنه استيفاءٌ للحكم المنسوخ ،ولما كان عليه أهلُ الجاهلية.
ف بثلثة أشياء :بالطّلق ،والظّهار ،واليلء ،فنقل
قال الشافعى :كانت ال ِفرَقُ الجاهلية تَحِل ُ
ال سبحانه وتعالى اليلء والظّهار عما كانا عليه فى الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما
استقّر عليه حكمُهما فى الشرع ،وبقى حك ُم الطلق على ما كان عليه ،هذا لفظه.
قالوا :ولن الطلقَ إنما يقع بالصريح والكناية ،وليس اليلء واحداً منهما ،إذ لو كان
ل إن أطلقه ،أو إلى أجل مسمّى إن قيّده ،ولو كان كنايةٍ ،لرجع فيه إلى نيته ،ول
صريحاً ،لوقع معجّ ً
196
ن الطلق ،والفسخُ يقع بغير قول ،والطلقُ ل يقع إل
خ دو َ
َيرِدُ على هذا اللعان ،فإنه يُوجب الفس َ
بالقول.
ل على جواز الفيئة فى مدة التربّص ،ل على
قالوا :وأما قراء ُة ابن مسعود ،فغايتُها أن تدُ ّ
ق المطالبة بها فى المدة ،وهذا حقّ ل نن ِكرُه.
استحقا ِ
وأما قولُكم :جوا ُز الفيئة فى المدة دليلٌ على استحقاقها فيها ،فهو باطل بال ّديْنِ المؤجّلِ.
وأما قولُكم :إنه لو كانت الفيئة بعد المدة ،لزادت على أربعة أشهر ،فليس بصحيح ،لن
الربعة أشهر مدة لزمن الصبرِ الذي ل يستحِقّ فيه المطالبة ،فبمجرد انقضائها يستحِقّ عليه الحقّ،
ظرَه ،وهذا كسا ِئرِ الحقوق المعلّقة بآجال معدودة ،إنما تُستحق
فلها أن تعجّل المطالبة به .وإمّا أن ُتنْ ِ
عند انقضاء آجالها ،ول يُقال :إن ذلك يستلزِ ُم الزيادةَ على الجل ،فكذا أجلُ اليلء سواء.
فصل
ى يمين حلف ،فهو مؤلٍ حتى َي َبرّ ،إما أن
ن صحّ منه اليلء بأ ّ
ل مَ ْ
ودلت الية على أن ك ّ
يفىءَ ،وإما أن يُطلّقَ ،فكان فى هذا حج ٌة لما ذهب إليه مَن يقول مِن السلف والخلفِ :إن المؤلى
باليمين بالطلق ،إما أن يفىء ،وإما أن يطلّقَ.
ومن يُلزمه الطلق على كل حال لم يُمكنه إدخال هذه اليمين فى حكم اليلء ،فإنه
إذا قال :إن وطئتك إلى سنة ،فأنت طالق ثلثاً ،فإذا مضت أربعةُ أشهر ل يقولون له :إما أن تطأ،
وإما أن تُطلّقَ ،بل يقولون له :إن وطئتها طلقت ،وإن لم تطأها ،طلقنا عليك ،وأكثرُهم ل يُمكنه من
اليلج لوقوع النزع الذى هو جزء الوطء فى أجنبية ،ول جواب عن هذا إل أن يقال :بأنه غير
مؤل ،وحينئذ فيقال :فل تُوقفوه بعد مضى الربعة الشهر ،وقولوا :إن له أن يمتنع مِن وطئها
بيمينِ الطلق دائماً ،فإن ضربتم له الجل ،أثبتم له حكم اليلء مِن غير يمين ،وإن جعلتموه مؤلياً
ولم تجيزوه ،خالفتم حكم اليلء ،وموجب النص ،فهذا بعضُ حجج هؤلء على منازعيهم.
فإن قيل :فما حكمُ هذه المسألة ،وهى إذا قال :إن وطئتُك ،فأنتِ طالق ثلثاً.
قيل :اختلف الفقهاءُ فيها ،هل يكون مؤلياً أم ل؟ على قولين ،وهما روايتان عن أحمد،
وقولن للشافعى فى الجديد :بأنه يكون مؤلياً ،وهو مذهب أبى حنيفة ،ومالك .وعلى القولين :فهل
يُمكّنُ مِن اليلجِ؟ فيه وجهان لصحاب أحمد والشافعى.
أحدهما :أنه ل يُمكن منه ،بل يحر ُم عليه ،لنها باليلج تطلق عندهم ثلثاً ،فيصيرُ ما بعد
اليلج محرماً ،فيكون اليلج محرماً ،وهذا كالصائم إذا تيقن أنه لم يبق إلى طلوع الفجر إل قدر
197
حرُمَ عليه اليلجُ ،وإن كان فى زمن الباحة ،لوجود الخراج فى زمن
إيلج الذكر دون إخراجهَ ،
الحظر ،كذلك ها هنا يحرُم عليه اليلجُ ،وإن كان قبل الطلق لوجود الخراج بعده.
والثانى :أنه ل يحرم عليه اليلج ،قال الماوردى :وهو قولُ سائر أصحابنا ،لنها زوجته،
ول يحرم عليه الخراج ،لنه ترك .وإن طلقت باليلج ،ويكون المحرمُ بهذا الوطء استدامة
اليلج ل البتداء والنزع ،وهذا ظاهر نص الشافعى ،فإنه قال :لو طلع الفجرُ على الصائم وهو
مجامع وأخرجه مكانَه كان على صومه ،فإن مكث بغير إخراجه ،أفطر ،ويك ّفرُ .وقال فى كتاب
اليلء :ولو قال :إن وطئتُك ،فأنتِ طالق ثلثاً ،وقف ،فإن فاء ،فإذا غيّب الحشفة ،طلقت منه ثلثاً،
فإن أخرجه ثم أدخله ،فعليه مهرُ مثلها .قال هؤلء :ويدل على الجواز أن رجلً لو قال لرجل :ادخل
دارى ،ول تقم ،استباح الدخول لوجوده عن إذن ،ووجب عليه الخروجُ لمنعه من المقام ،ويكون
ح أن
الخروجُ وإن كان فى زمن الحظر مباحاً ،لنه تركٌ ،كذلك هذا المؤلى يستبيحُ أن يولج ،ويستبي ُ
ينزع ،ويحرم عليه استدامةُ اليلج ،والخلف فى اليلج قبل الفجر والنزع بعده للصائم،
كالخلف فى المؤلى ،وقيل :يحرم على الصائم اليلج قبل الفجر ،ول يحرم على المؤلى ،والفرق
أن التحريم قد يطرأ على الصائم بغير اليلج ،فجاز أن يحرُ َم عليه اليلج ،والمؤلى ل يطرأ عليه
التحريم بغير اليلج ،فافترقا.
وقالت طائفة ثالثة :ل يحرُ ٌمُ عليه الوطءُ ،ول تطلُق عليه الزوجةُ ،بل يُوقف ،ويقال له :ما
أمر ال إما أن تفىء ،وإما أن تُطلق .قالوا :وكيف يكون مؤلياً ول يُمكن من الفيئة ،بل يلزم
بالطلق ،وإن مكن منها ،وقع به الطلق ،فالطلق واقع به على التقديرين مع كونه مؤلياً؟ فهذا
خلفُ ظاه ِر القرآن ،بل يقال لهذا :إن فاء لم يقع به الطلقُ ،وإن لم يفىء ،أُلزِمَ بالطلق .،وهذا
ل أهل الظاهر،
مذهبُ من يرى اليمينَ بالطلق ل يُوجب طلقاً ،وإنما يُجزئه بكفارة يمين ،وهو قو ُ
وطاووس ،وعكرمة ،وجماعة من أهل الحديث؟ واختيار شيخ السلم ابن تيمية قدس ال روحه.
ل ال صلى ال عليه وسلم فى اللعان
حُكم رسو ِ
شهَا َد ُة أَحَدِهِ ْم َأ ْربَعُ
سهُمْ فَ َ
ل َأنْفُ ُ
شهَدَاءُ إ ّ
ن َلهُمْ ُ
جهُ ْم ولَمْ َيكُ ْ
ن َي ْرمُونَ َأزْوا َ
قال تعالى{:والّذِي َ
ع ْنهَا
ن الكَاذِبينَ * ويَ ْد َر ُؤاْ َ
ن مِ َ
ن كَا َ
عَليْهِ إِ ْ
ن َل ْعنَةَ الِّ َ
ن الصّادِقِينَ * والخَامِسَ ُة أَ ّ
ل ِإنّ ُه َلمِ َ
شهَادَاتٍ با ِ
َ
ن مِنَ
ن كَا َ
عَل ْيهَا إِ ْ
ضبَ الِ َ
غ َ
ن الكَا ِذبِينَ * وَالخَامِس َة أَنّ َ
لّ ِإنّهُ َلمِ َ
ت بِا ِ
شهَادَا ٍ
شهَ َد َأ ْربَعَ َ
ن تَ ْ
ب أَ ْ
العَذَا َ
الصّادِقِينَ} [النور.]9-6 :
198
ع َو ْيمِرًا العجلنىّ قال ِلعَاصم بن
وثبت فى ((الصحيحين)) :من حديث سهل بن سعد ،أن ُ
ل أَيق ُتلُه فتق ُتلُونه ،أم كيف يفعلُ؟ فسل لى رَسولَ الِّ
ل وَجَ َد مَ َع امرأتِهِ رج ً
عدى :أَرأَيتَ لو أن رج ً
لّ صلى ال عليه وسلم
ل ال صلى ال عليه وسلم ،فكره رسولُ ا ِ
صلى ال عليه وسلم ،فسألَ رسو َ
لّ صلى ال عليه وسلم ،ثم إن عويمراً
سمِعَ مِنْ رسولِ ا ِ
ل وعَابَها ،حتى َك ْبرَ على عاصمٍ مَا َ
المَسَائِ َ
ح َب ِتكَ ،فاذْ َهبَْ ،ف ْأتِ
لّ صلى ال عليه وسلم عن ذلك ،فقال(( :قَ ْد َنزَلَ فيكَ وفى صا ِ
سأل رسولَ ا ِ
لّ إن
عَل ْيهَا يا رسولَ ا ِ
عنْ َد رَسُولِ الِّ صلى ال عليه وسلمَ ،فَلمّا َفرَغَا قال :كذبتُ َ
عنَا ِ
ِبهَاَ ،فتَلَ َ
لّ صلى ال عليه وسلم .قال الزهرىّ :فكانت ِت ْلكَ سنةَ
ل أَن يأ ُم َرهُ رسولُ ا ِ
أمسكتُها ،فطلّقها ثلثاً َقبْ َ
سبُ إلى أمه ،ثم جرت السّن ُة أَن َي ِرثَها و َت ِرثَ
عنْينِ .قال سهل :وكانت حَامِلً ،وكان اب ُنهَا ُينْ َ
بالمتل ِ
ِمنْهُ ما َفرَضَ الُّ لها.
ى صلى ال
وفى لفظ :فتلعنا فى المسجد ،ففارقها عن َد النبىّ صلى ال عليه وسلم ،فقال النب ّ
عنَيْن)).
ل ُمتَل ِ
ن كُ ّ
ق َبيْ َ
عليه وسلم(( :ذاكُم التّ ْفرِي ُ
ل إلى آخره ،هو عند البخارى مِن قول الزهرى ،وللبخارى :ثم قالَ
وقولُ سهل :وكانت حام ً
ج ال َع ْي َنيْنِ عَظي َم ال ْل َيتَيْن ،خَ َدلّج
ت بِه أَسْحَ َم أَدْعَ َ
ظرُوا فَإنْ جَاء ْ
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم(( :انْ ُ
ع َو ْيمِراً
سبُ ُ
ل أَحْ ِ
ح َرةٌ فَ َ
ح ْي ِم َر كََأنّهُ و ْ
ت ب ِه أُ َ
عَل ْيهَا ،وإِنْ جَاء ْ
ع َو ْيمِراً إلّ قَ ْد صَدَقَ َ
سبُ ُ
ل أَحْ ِ
السّا َقيْنِ فَ َ
ل ال صلى ال عليه وسلم من
ت الذى نعتَ به رسو ُ
عَل ْيهَا)) ،فجاءت به على ال ّنعْ ِ
إلّ قَ ْد كَ َذبَ َ
تصديق عويمر.
وفى لفظ :وكانت حَامِلً ،فأنكر حملَها.
ن بنَ فلن ،قال :يا رسولَ الِّ ،أرأيتَ لو
وفى صحيح مسلم :من حديث ابن عمر ،أن فل َ
ت على ِمثْل
س َك َ
وجد أحدُنا امرأتَه على فاحِشةٍ ،كيف يصنعُ ،إن تكلم ،تكلّم بأمر عظيم ،وإن سكتَ ،
جبْهُ ،فلما كان بعدَ ذلك ،أتاه فقال(( :إنّ الّذِى سََأ ْل ُتكَ
ى صلى ال عليه وسلم ،فلم ُي ِ
ذِلكَ؟ فسكت النب ّ
جهُمْ}
ن َي ْرمُونَ َأزْوا َ
عزّ وجَلّ هؤلءِ اليات فى سُو َر ِة النّورِ{:والّذِي َ
ت بِهِ)) ،فأنزلَ الُّ َ
عنْهُ قَ ِد اب ُتلِي ُ
َ
ب الدنيا أهونُ مِن عذابِ الخرة ،قال :ل
[النور ،]6 :فتلهن عليه ووعظَه ،وذكّره وأخبره أن عذا َ
ن مِن
ظهَا ،وذكرها ،وأخبرها أن عذابَ الدنيا أهو ُ
والّذِى َب َعثَك بِالحَقّ ما كذبتُ عليها ،ثم دعاها فوع َ
لّ إنه
ت با ِ
عذابِ الخرة ،قالَت :ل والّذِى َب َع َثكَ بالحَقّ إنه لكا ِذبٌ ،فبدأ بالرّجُلِ فَشَه َد أربعَ شهادَا ٍ
ت أربعَ
شهِ َد ْ
لمن الصادقين ،والخامسة أنّ لعنةَ الِّ عليه إن كان مِن الكَا ِذبِينَ ،ثم ثنّى بالمرأةِ ،ف َ
199
غضَبَ الِّ عليها إن كان من الصّادِقينَ ،ثم فرّق
لّ إنّه لمن الكاذبينَ ،والخا مسة أنّ َ
شهادَاتٍ با ِ
بين ُهمَا.
(يتبع)...
لّ صلى ال عليه وسلم للمتُلعنين(( :حِسَا ُبكُما
وفى ((الصحيحين)) عنه ،قال رسولُ ا ِ @
ن ُك ْنتَ
ل َلكَ ،إِ ْ
ل مَا َ
عَل ْيهَا)) ،قال :يا رسولَ الِّ ،مالى؟ قالَ :
ل َلكَ َ
سبِي َ
لّ َأحَ ُد ُكمَا كَا ِذبٌ ،ل َ
عَلى ا ِ
ك ِم ْنهَا)).
عَل ْيهَاَ ،ف ُهوَ َأ ْبعَ ُد َل َ
ت كَ َذ ْبتَ َ
جهَاَ ،وإِنْ ُك ْن َ
ت مِن َفرْ ِ
حَل ْل َ
ستَ ْ
عَل ْيهَاَ ،ف ُه َو ِبمَا ا ْ
صَدَ ْقتَ َ
لّ إِن أَحَ َد ُكمَا
ع َنيْنِ ،وقال :وا ِ
ن ال ُمتَل ِ
لّ صلى ال عليه وسلم َبيْ َ
وفى لفظ لهما :فرّق رسولُ ا ِ
ل ِم ْن ُكمَا تا ِئبٌ))؟.
كَا ِذبٌَ ،فهَ ْ
لّ صلى ال عليه وسلم ،ففرّقَ رسولُ الِّ
عهْ ِد رَسُولِ ا ِ
علَى َ
وفيهما عنه :أن رجلً لعَنَ َ
صلى ال عليه وسلم َب ْي َن ُهمَا ،وألحق الولد بأمّه.
وفى صحيح مسلم :من حديث ابن مسعود رضى ال عنه فى قِص ِة المتلعنين ،فشهد الرجلُ
ن الكَاذِبينَ،
ن مِ َ
لّ عليه إن كا َ
ن لعنةَ ا ِ
ل إنّ ُه َلمِنَ الصادقين ،ثم لعن الخامس َة أ ّ
أربعَ شهادات با ّ
لّ صلى ال عليه وسلم(( :مَهْ)) فََأ َبتَْ ،فَل َع َنتْ ،فلما أدبرا ،قالَ :ل َعّلهَا
ت لتلعنَ ،فقال لها رسولُ ا ِ
فذهب ْ
جعْداً.
سوَدَ َ
ت بهِ أ ْ
جعْ َداً)) ،فجاء ْ
سوَدَ َ
أَنْ َتجِىءَ ب ِه أَ ْ
شرِيك بْنِ
ل بن أمية قذف امرأته بِ َ
وفى ((صحيح مسلم)) من حديث أنس بن مالك ،أن هِل َ
ى صلى ال
حمَاء ،وكان أخا البرَا ِء بنِ مالك لمّه ،وكان أوّلَ رجلٍ لعن فى السلم ،فقال النب ّ
سَ ْ
ت بِ ِه َأ ْبيَضَ سَبطًا قضى َء ال َعيْ َنيْنَِ ،ف ُه َو لهلل بْن ُأ َميّة ،وَإنْ جَاءتْ
صرُوهَا فإنْ جَاء ْ
عليه وسلمَ(( :أ ْب ِ
ت أَنها جاءت به أكحلَ جعداً
حمَاء ،قال :فأُنبئ ُ
سْك ابن َ
شرِي ِ
ح ْمشَ السّا َقيْنَِ ،ف ُه َو لِ َ
جعْداً َ
بِ ِه َأكْحَلَ َ
حمْش السّاقين.
َ
وفى ((الصحيحين)) :من حديث ابن عباس نحوُ هذه القصة ،فقال له ،رجل :أهى المرأةُ
ج ْمتُ ه ِذهِ)) ،فقال ابنُ
ت أَحَدًا ِب َغ ْيرِ َب ّينَ ٍة َلرَ َ
ج ْم ُ
التى قال رسولُ ال صلى ال عليه وسلمَ(( :لوْ رَ َ
ظ ِهرُ فى السْل ِم السّوءَ.
عباس :لِ ،ت ْلكَ امرأَة كانت تُ ْ
لّ صلى ال عليه وسلم َب ْي َنهُما
ولبى داود فى هذا الحديث عن ابن عباس :ففرّق رسولُ ا ِ
وقضى أن ل يُدعى ولدُها لب ،ول تُرمى ،ول يُرمى ولدُها ومَنْ رماها ،أو رمى ولدها ،فعليه
ل َب ْيتَ لها عليه ،ول قوت من أجل أنهما يتفرّقان مِن غير طلق ،ول متوفى عنها.
الحدّ ،وقضَى أ ّ
وفى القصة قال عكرمة :فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يُدعى لب.
200
لّ صلى ال عليه وسلم بشريكِ
ل بن أمية قذف امرأتهُ عند رسولِ ا ِ
وذكر البخارى :أن هل َ
ظ ْه ِركَ)) ،فقال :يا رسولَ الِّ :إذا
ى صلى ال عليه وسلم(( :ال َبيّنَ ُة َأوْ حَدّ فى َ
حمَاء ،فقال النب ّ
بن سَ ْ
ل ال صلى ال عليه وسلم يقول:
ق يلت ِمسُ البينة؟ فجعل رسو ُ
ل ينطلِ ُ
رأى أحدُنا على امرأتِه رج ً
ظ ْهرِى
ظ ْه ِركَ)) ،فقال :والذى بعثك بالحق إنى لصَادِق ،ول ُي ْن ِزلَنّ الُّ ما يُبرّىءُ َ
((ال َب ّينَ ُة وإلّ حَدّ فى َ
جهُم الية} [النور،]6 :
ن َأ ْزوَا َ
ل عليه السلم ،وأنزل عليه{:والّذِينَ َي ْرمُو َ
مِن الحَدّ ،فنزلَ جبري ُ
ى صلى ال عليه وسلم إليها ،فجاء هِلل ،فشهِ َد والنبىّ صلى ال عليه وسلم يقول:
فانصرفَ النب ّ
شهِدَت ،فلما كانت عند الخامِسة وقّفُوهَا،
ل ِم ْن ُكمَا تَائبٌ))؟ فَ َ
لّ َي ْعلَ ُم أَنّ أَحَ َد ُكمَا كَا ِذبٌ َفهَ ْ
((إنّ ا َ
صتْ حتّى ظَننّا أنها َترْجعُ ،ثم
جبَة ،قال ابنُ عباس رضى ال عنهما :فتلكّأَت و َن َك َ
وقالوا :إنها مُو ِ
صرُوهَا فَإنْ
ضتْ ،فقال النبىّ صلى ال عليه وسلمَ(( :أ ْب ِ
قالت :ل أَفْضحُ َق ْومِى سَا ِئ َر اليومَِ ،ف َم َ
حمَاء ،فجاءت به كذلكَ،
شرِيكِ بن سَ ْ
ل ْل َي َتيْنِ ،خَ َدلّج السّا َقيْنَ ،ف ُهوَ لَ َ
ل ال َع ْي َنيْنِ ،سَابغَ ا َ
ت بِ ِه َأكْحَ َ
جَاء ْ
ن ِكتَابِ ال كَانَ لى َوَلهَا شَأْنٌ)).
ل مَا َمضَى مِ ْ
فقال النبى صلى ال عليه وسلم(( :لَوْ َ
ل يَجِ ُد مع امرأتِهِ
وفى ((الصحيحين)) :أن سع َد بنَ عُبادة ،قال :يا رسولَ الِّ ،أرأيتَ الرّجُ َ
سعْدٌ :بلَى والّذِى بعثك بالحقّ ،فقال
ل أيقتلُه؟ فقال رسولُ ال صلى ال عليه وسلم(( :ل)) ،فقال َ
رج ً
خرَ :يا رسولَ الِّ ،إن
سيّ ُدكُم)) :وفى لفظٍ آ َ
س َمعُوا إلى مَا يَقُولُ َ
لّ صلى ال عليه وسلم(( :ا ْ
رسولُ ا ِ
ت مع
ل ُأ ْم ِهلُه حتى آتىَ بأربعة شهداء؟ قال(( :نعم)) .وفى لفظ آخر :لو وجَ ْد ُ
ت مع امرأتى رج ً
وجد ُ
لّ صلى ال عليه وسلم(( :نعم)) ،قال:
شهَدَاءَ؟ قال رسولُ ا ِ
حتّى آتىَ بَأ ْر َبعَةِ ُ
أَهْلى رجلً لم أهجْهُ َ
لّ صلى ال عليه وسلم:
ل ذِلكَ ،قالَ رسولُ ا ِ
س ْيفِ َقبْ ِ
ق نَبيّا إِنْ ُك ْنتُ لُعاجلُهُ بال ّ
ل والّذِى َب َع َثكَ بالحَ ّ
كّ
غ َي ُر ِمنّى)).
لّ أَ ْ
غ َيرُ ِمنْهُ ،وا ُ
سيّ ُدكُم ِإنّه َل َغيُو ٌر وَأنَا أ ْ
سمَعوا إلى ما يقُولُ َ
((ا ْ
غ ْي َر ُمصْفَحٍ ،فقال النبىّ صلى ال
س ْيفِ َ
وفى لَفْظٍ(( :لو رأيتُ مَ َع امرأتى رجلً لضربتُه بال ّ
حرّمَ
ل ذِلكَ َ
ن أَجْ ِ
غ َيرُ ِمنّى ،ومِ ْ
لّ أَ ْ
غ َيرُ ِمنْهُ ،وا ُ
لنَا أَ ْ
سعْدٍَ ،فوَالِّ َ
غ ْي َرةِ َ
جبُونَ مِنْ َ
عليه وسلمَ :أ َتعْ َ
ب ِإَليْهِ العُ ْذ ُر مِنَ الِّ،
ح ّ
ص أَ َ
خ َ
غ َيرُ مِنَ الّ ،ول شَ ْ
ص أَ ٌ
شخْ َ
ظ َه َر ِم ْنهَا ومَا بَطَنَ ،ول َ
ش مَا َ
ال َفوَاحِ َ
ن أَجْلِ
حبّ إَليْ ِه المِدْحَ ُة مِنَ الِّ ،مِ ْ
ن و ُمنْ َذرِينَ ،ول شخص أ َ
شرِي َ
سلِينَ ُمبَ ّ
لّ ال ُمرْ َ
ل ذِلكَ َب َعثَ ا ُ
مِنْ َأجْ ِ
جنّةَ)).
ذِلكَ وَعَدَ الُّ ال َ
فصل
المستفاد من حديث سعد بن عبادة
واستُفيدَ من هذا الحكم النبوىّ ع َدةُ أحكام.
201
ن َيصِحّ من كل زوجين سواءً كانا مسلمين أو كافريْنِ ،عدلين فاسقْينِ
الحكم الول :أن اللعا َ
محدودين فى قذف ،أو غير محدودين ،أو أحدهما كذلك ،قال المام أحمد فى رواية إسحاق بن
منصور :جميعُ الزواج يلت ِعنُونَ ،الحُر من الحرة والمة إذا كانت زوجة ،والعبد من الحرة والمة
إذا كانت زوجة ،والمسلم من اليهودية والنصرانية ،وهذا قول مالك وإسحاق وقولُ سعيد بن
المسيب ،والحسن ،وربيعة ،وسليمان بن يسار.
ل الرأى ،والوزاعى ،والثورى ،وجماعة إلى أن اللّعان ل يكون إل بينَ
وذهب أه ُ
زوجينِ مسلمين عدلين حرين غير محدودين فى قذف ،وهو روايةٌ عن أحمد.
ومأخذ القولين :أن اللعان يجمع وصفين ،اليمينَ والشهادةَ ،وقد سماه ال سبحانه شهادةً،
ل اليمَانَُ ،لكَانَ لى َوَلهَا شَأْنٌ)) ،فمن
لّ صلى ال عليه وسلم يمينًا حيث يقولَ(( :لوْ َ
وسماه رسولُ ا ِ
ح مِن كل من يصح يمينه :قالوا :ولعموم قوله تعالى{ :وَالّذِينَ
غلّب عليه حُكم اليمان قالَ :يصِ ّ
جهُمْ } [النور ]6 :قالوا :وقد سمّاه رسول ال صلى ال عليه وسلم يميناً .قالوا :ولنه
َي ْرمُونَ َأزْوا َ
مفتقِر إلى اسم ال ،وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه .قالوا :ولنه يستوى فيه الذكرُ والنثى ،بخلف
الشهادة .قالوا :ولو كان شهادة ،لما تكرّر لفظُه ،بخلف اليمين ،فإنه قد يشرع فيها التكرار ،كأيمان
ح منه الشهادة إلى اللعان ونفى الولد ،كحاجة من
القسامة .قالوا :ولن حاجة الزوج التى ل َتصِ ّ
تصِحّ شهادته سواء ،والمر الذى ينزل به مما يدعو إلى اللعان ،كالذى ينزلُ بالعدل الحر،
والشريعة ل ترفع ضررَ أح ِد النوعين ،وتجعلُ له فرجاً ومخرجاً مما نزل به ،وتدعُ النوع الخر
فى الصار والغلل ،ل فرج له مما نزل به ،ول مخزج ،بل يستغيثُ فل يُغاث ،ويستجيرُ فل
يُجار ،إن تكلّمَ تكلّم بأمر عظيم ،وإن سكت سكت على مثله ،قد ضاقت عنه الرحم ُة التى وسعت من
َتصِحّ شهادته ،وهذا تأباه الشريعةُ الواسعة الحنيفية السمحةُ.
سهُم
ل َأنْفُ ُ
شهَدَا ُء إِ ّ
ن َلهُمْ ُ
جهُمْ َولَ ْم َيكُ ْ
ن َي ْرمُونَ َأ ْزوَا َ
قال الخرون :قال ال تعالى{ :وَالّذِي َ
شهَادَاتٍ بِالِّ} [النور ،]6 :وفى الية دليل من ثلثة أوجه.
شهَا َد ُة أَحَدِه ْم َأ ْربَعُ َ
فَ َ
أحدها :أنه سبحانه استثنى أنفسَهم مِن الشهادة ،وهذا استثنا ُء م ّتصِلٌ قطعاً ،ولهذا جاء
مرفوعاً.
ب أَنْ
ع ْنهَا العَذَا َ
والثانى :أنه صرح بأن التعانَهم شهادة ،ثم زاد سبحانه هذا بياناً ،فقالَ { :ويَ ْد َر ُؤاْ َ
ن الكَاذِبينَ} [النور.]8 :
ل ِإنّهُ َلمِ َ
ت بِا ِ
شهَادَا ٍ
شهَ َد َأ ْربَعَ َ
تَ ْ
والثالث :أنه جعله بدلً من الشهود ،وقائماً مقامَهم عند عدمهم.
202
ى صلى ال عليه وسلم قال:
قالوا :وقد روى عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده ،أن النب ّ
ل كَا ِف َريْنِ)) ،ذكره أبو عمر بن عبد البر فى ((التمهيد)).
ن وَ َ
ن َم ْملُو َكيْ ِ
ن َبيْ َ
((لَ ِلعَا َ
س َب ْي َنهُمْ ِلعَانٌ:
وذكر الدارقطنى من حديثه أيضاً ،عن أبيه ،عن جده مرفوعاًَ(( :أ ْر َبعَةٌ َل ْي َ
سلِم وَال َيهُو ِديّ ِة ِلعَانٌَ ،وَليْسَ
س َبيْنَ المُ ْ
ح ّرةِ وال َعبْ ِد ِلعَانٌ ،وَل ْي َ
حرّ والم ِة ِلعَانٌَ ،وَل ْيسَ َبيْنَ ال ُ
َل ْيسَ َبيْنَ ال ُ
صرَا ِنيّةِ ِلعَانٌ)).
سلِ ِم والنّ ْ
َبيْنَ المُ ْ
وذكر عبد الرزاق فى ((مصنفه)) ،عن ابن شهاب ،قال :من وصية النبى صلى ال عليه
جعِلَ بدلَ
قالوا :ولن اللّعانَ ُ وسلم لِعتّاب بن أَسِيد :أن ل لِعان بين أربع ،فذكر معناه.
الشهادة ،وقائماً مقامَها عند عدمها ،فَل َيصِحّ إل ممن تصح منه ،ولهذا تُح ّد المرأة بِلعان الزّوج،
ل لللِعانه منزل َة أربعةِ شهود.
ونُكولها تنزي ً
ن لى َوَلهَا شَأْنٌ)) ،فالمحفوظ فيه :لول
ن ال ْيمَانَِ ،لكَا َ
قالُوا :وأما الحديثُ(( :لول مَا َمضَى مِ َ
ل ْيمَانِ،
ما مضى من كتاب ال ،هذا لفظ البخارى فى ((صحيحه)) .وأما قولهَ :لوْلَ مَا َمضَى مِنَ ا َ
فمن رواية عباد ابن منصور ،وقد تكلم فيه غير واحد .قال يحيى بن معين :ليس بشىء .وقال على
بن الحسين بن الجنيد الرازى :متروك قدرى .وقال النسائي :ضعيف.
ن على المدّعَى عليه ،والزوج ها
وقد استقرت قاعدة الشريعة أن البين َة على المدّعي ،واليمي َ
قال الولون :أما تسميتُه شهادةً، هنا مُدّعٍ ،فلِعانُه شهادة ،ولو كان يمينًا لم تُشرع فى جانبه.
فلِقول الملتعِنِ فى يمينه :أشهد بالّ ،فسمى بذلك شهادة ،وإن كان يمينًا اعتباراً بلفظها .قالوا :وكيف
وهو مصرّح فيه بالقسم وجوابه ،وكذلك لو قال :أشهد بالِّ ،انعقدت يمينُه فبذلك ،سواء نوى اليمينَ
ب َتعُ ّد ذلك يميناً فى لغتها واستعمالها .قال قيس:
أو أطلق ،والعر ُ
عنْدَهَا ِليَا
عنْدِى َفمَا ِ
فَهذَا َلهَا ِ ح ّبهَا
لّ َأنّى أُ ِ
عنْدَ ا ِ
شهَدُ ِ
فَأَ ْ
وفى هذا حجة لمن قال :إن قوله(( :أشهد)) تنعقِد به اليمين ،ولو لم يقُلْ :بالِّ ،كما هو إحدى
ل الكثرين .كما أن قوله :أشهد بالّ
الروايتين عن أحمد .والثانية ،ل يكون يميناً إل بالنيةِ ،وهو قو ُ
يمين عند الكثرين بمطلقة.
قالوا :وأما استثناؤُه سبحانه أنفسَهم مِن الشهداء ،فيقال أولً(( :إل)) ها هنا :صفة بمعنى
غير ،والمعنى :ولم يكن لهم شهداء غيرُ أنفسهم ،فإن ((غيراً)) ،و((وإلّ)) يتعارضان الوصفية
ل على ((غير)).
ل على ((إلّ)) ،ويُوصف بـ ((إلّ)) حم ً
والستثناء ،فيُستثنى بـ ((غير)) حم ً
203
ويقال ثانياً :إن ((أنفسهم)) مستثنى من الشهداء ،ولكن يجوز أن يكون منقطعًا على لغة بنى
تميم ،فإنهم يُبذلون فى النقطاع ،كما ُيبْدِل أهلُ الحجاز وهم فى التصال.
ويقال ثالثاً :إنما استثنى ((أنفسهم)) من الشهداء لنه نزّلهم منزلتهم فى قبول قولهم ،وهذا
قوى جدًا على قول من يرجم المرأة بالتعان الزوج إذا نكلت وهو الصحيح ،كما يأتى تقريره إن
شاء ال تعالى .والصحيح :أن لعانهم يجمع الوصفين ،اليمين والشهادة ،فهو شهادة مؤكّدة بالقسم
والتكرار ،ويمين مغلّظة بلفظ الشهادة والتكرار لقتضاء الحال تأكيد المر.
ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع.
أحدها :ذكر لفظ الشهادة.
الثانى :ذكر القسم بأحد أسما ِء الربّ سبحانه وأجمعها لمعانى أسمائه الحسنى ،وهو اسم ال
جَلّ ذِكرُه.
الثالث :تأكي ُد الجواب بِما يُؤكّد به المقسم عليه ،من ((إن ،واللم)) ،وإتيانه باسم الفاعل
الذي هو صادق وكاذب دون الفعل الذى هو صدق وكذب.
الرابع :تكرا ُر ذلك أربع مرات.
الخامس :دعاؤه على نفسه فى الخامسة بلعنة ال إن كان من الكاذبين.
السادس :إخبارُه عند الخامسة أنها الموجِبةُ لعذاب ال ،وهو إما الحدّ أو الحبسُ ،وجعل
لعانها دارئًا للعذاب عنها.
الثامن :أن هذا اللعان يُوجب العذاب على أحدهما إما فى الدنيا ،وإما فى الخرة.
التاسع :التفريقُ بين المتلعنين ،وخرابُ بيتها ،وكسرها بالفراق.
جعِلَ
العاشرُ :تأبيد تلك الفرقة ودوام التحريم بينهما ،فلما كان شأنُ هذا اللعانِ هذا الشأنُ ،
يميناً مقروناً بالشهادة ،وشهادة مقرونة باليمين ،وجعل الملتعن لقبول قوله كالشاهد ،فإن نكلت
المرأةُ ،مضت شهادته وحُ ّدتْ ،وأفادت شهادتُه ويمينهُ شيئين :سقوط الحد عنه ،ووجوبه عليها .وإن
التعنت المرأة وعارضت لعانه بلعان آخر منها ،أفاد لعانُه سقوطَ الحد عنه دون وجبه عليها ،فكان
شهادة ويميناً بالنسبة إليه دونها ،لنه إن كان يميناً محضة فهى ل تحدّ بمجرد حلفه ،وإن كان شهادة
ب الشهادة واليمين فى حقّه
فل تحدّ بمجرد شهادته عليها وحده .فإذا انضم إلى ذلك نكولُها ،قوىَ جان ُ
بتأكّد ِه ونكولها ،فكان دليلً ظاهرًا على صدقة ،فأسقط الحد عنه ،وأوجبه عليها ،وهذا أحسنُ ما
204
يكون من الحكم ،ومن أَحْسنُ من الِّ حكمًا لِقوم يُو ِقنُونَ ،وقد ظهر بهذا أنه يمين فيها معنى الشهادة،
وشهادةٌ فيها معنى اليمين.
ث عمرو بن شُعيب ،عن أبيه ،عن جده ،فما أبينَ دللته لو كان صحيحًا بوصوله
وأما حدي ُ
إلى عمرو ،ولكن فى طريقه إلى عمرو مَهالكُ ومفاوز .قال أبو عمر بن عبد البر :ليس دون عمرو
بن شعيب من يحتج به.
وأما حديثُه الخر الذي رواه الدارقطنى ،فعلى طريق الحديث عثمان بن عبد الرحمن
الوقاصى ،وهو متروك بإجماعهم ،فالطريق به مقطوعة.
ب بنُ أسيد
عتّا ُ
حتَجّ بها ،و َ
ل الزهرىّ عندهم ضعيفة ل ُي ْ
ث عبد الرزاق ،فمراسي ُ
وأما حدي ُ
ى صلى ال عليه وسلم على مكة ،ولم يكن بمكة يهودىٌ ول نصرانى البتة حتى
ل للنب ّ
كان عام ً
يُوصِيُه أن ل يلعِنَ بينهما.
ن لى ولها شأن)) ،وهو حديث رواه أبو
قالوا :وأما ردّكم لقوله(( :لول ما مضى من اليمان ،لكَا َ
داود فى سننه ،وإسناده ل بأس به ،وأما تعلّقكم فيه على عبّاد بن منصور ،فأكثر ما عيب عليه أنه
ن القد ِريّة
ى داعية إلى القدر ،وهذا ل يوجب ردّ حديثهِ ،ففى الصحيح :الحتجاجُ بجماعة مِ َ
قدر ّ
ن قوله(( :لول ما َمضَى مِن كتاب ال تعالى))،
علِ َم صِدْقُه ،ول تنافى بي َ
والمرجئة والشيعة ممن ُ
((ولول ما مضى من اليمان)) ،فيحتاج إلى ترجيح أح ِد اللفظين ،وتقديمه على الخر ،بل اليمان
المذكورة هى فى كتابِ ال ،وكتابُ ال تعالى حكمُه الذى حكم به بين المتلعنين ،وأراد صلى ال
ل بين المتلعنَين ،لكان لها شأن آخر.
لّ الذى فص َ
عليه وسلم :لول ما مضى مِن حكم ا ِ
قالوا :وأما قولُكم :إن قاعد َة الشريعةِ استقرّت على أن الشهادةَ فى جانب المدّعى ،واليمين
فى جانب المدّعَى عليه ،فجوابه مِن وجوه ،أحدها :أن الشريعةَ لم تست ِق ّر على هذا ،بل قد استقرت
فى القَسامة بأن يبدأ بأيمان المدّعينَ ،وهذ لقوة جانبهم بالّل ْوثِ ،وقاعدةُ الشريعة أن اليمين تكون من
ب المدّعى عليه قوياً بالبراءة الصلية ،شرعت اليمينُ فى
جنبة أقوى المتداعيين ،فلما كان جان ُ
جانبه ،فلما قوى جانبُ المدعى فى القسامة باللوث كانت اليمينُ فى جانبه ،فيقال له :احلف
ن مِن
واستحق ،وهذا مِن كمال حكمة الشارع واقتضائه للمصالح بحسب المكان ،ولو شرعت اليمي ُ
جانب واحد دائماً ،لذهبت قوةُ الجانب الراجح هدراً ،وحكمة الشارع تأبى ذلك ،فالذى جاء به هو
غايةُ الحكمة والمصلحة.
205
ع ِرفَ هذا ،فجانب الزوج ها هنا أقوى من جانبها ،فإن المرأة ُت ْن ِكرُ زناها ،وتبهتُه،
وإذا ُ
ج ليس له غرضٌ فى هتك حرمته ،وإفساد فراشه ،ونسبة أهله إلى الفجور ،بل ذلك أشوشُ
والزو ُ
ل المرأة قوى المرُ جداً فى
عليه ،وأكره شىء إليه ،فكان هذا لوثاً ظاهراً ،فإذا انضاف إليه نكو ُ
ت بلعانه ،ولكن لما
ل ذلك بثبوت حكم الزنى عليها شرعاً ،فحف ّد ْ
قلوبِ الناسِ خاصّهم وعامّهم ،فاستق ّ
تكن أيمانُه بمنزلة الشهداء الربعة حقيقةً ،كان لها أن تُعارِضَها بأيمان أخرى مثلِها يدرأ عنها بها
ن ال ُم ْؤ ِمنِينَ} [النور ،]2 :ولو
شهَدْ عَذَا َب ُهمَا طَائِفَ ٌة مِ َ
ب عذابَ الح ّد المذكور فى قوله تعالىَ {:و ْليَ ْ
العذا َ
كان لِعانُه بينةً حقيقةً ،لما دفعت أيمانها عنها شيئاً.
ح بالفصل الثانى المستفاد من قضاء رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهو
وهذا ي ّتضِ ُ
أن المرأةَ إذا لم تلتعِنْ ،فهل ُتحَ ّد أو تُح َبسُ حتى تُ ِقرّ ،أو تُلعن؟ فيه قولن للفقهاء .فقال الشافعى،
ل أهلِ الحجاز .وقال أحمد :تُحبسُ حتى تُ ِق ّر أو تُلعِنَ،
وجماعة من السلف والخلف :تُحَدّ ،وهو قو ُ
س ويُخلّى سبيلُها.
ل أهل العِراق .وعنه رواية ثانية :ل تح َب ُ
وهو قو ُ
جبُ الحدّ عليها ،لم
قال أهل العراق ومَنْ وافقهم :لو كان لِعانُ الرجل بين ًة تُو ِ
تملك إسقاطَه باللعانِ ،وتكذيب البينة ،كما لو شهد عليها أربعة.
قالوا :ولنه لو شهد عليها مع ثلثة غيرِه ،لم تحد بهذه الشهادة ،فلن ل تُحدّ بشهادته وحده
جبُ حدّ الخر ،كما لم يُوجب لِعانُها حدّه.
أولى وأحرى .قالُوا :ولنه أح ُد المتلعنين ،فل يُو ِ
قالوا :وقد قال النبى صلى ال عليه وسلم(( :ال َب ّينَةُ عَلى المُدّعى)) .ول ريب أن الزوج ها
هنا مدّع.
ب لِعانه إسقاط الحد عن نفسه ل إيجابَ الحد عليها ،ولهذا قال النبى صلى
قالوا :ولن موج َ
ف الزوج ،كموجِب قذفِ الجنبى وهو
جبَ قذ ِ
ظ ْه ِركَ)) ،فإن مو ِ
ال عليه وسلم(( :ال َب ّينَ ُة وإل حَدّ فى َ
الحدّ ،فجعل ال سبحانه له طريقاً إلى التخلص منه باللعان ،وجعل طريق إقامة الحد على المرأة
ل عند من يَحُ ّد به مِن الصحابة ،كعمر بن
حبَ ُ
أح َد أمرين :إما أربعة شهود ،أو اعتراف ،أو ال َ
الخطاب ومن وافقه ،وقد قال عمر بن الخطاب على منبر رسول ال صلى ال عليه وسلم :والرجمُ
حبَلُ ،أو
ف من َزنَى مِن الرجال والنساء إذا كان محصَناً إذا قامَت بينةٌ ،أو كان ال َ
جبٌ على ك ّ
وا ِ
العترافُ ،وكذلك قال علىّ رضى ال عنه ،فجعل طريق الحدّ ثلثة لم يجعل فيها اللعان.
ب عليها الحد ،لن تحقق زناها إما أن يكونُ
قالوا :وأيضاً فهذه لم يتحقق زناها ،فل يج ُ
ط بِلعانها الحدّ ،ولما وجب بعد ذلك حد على قاذفها،
بِلعان الزوج وحدَه ،لنه لو تحقق به ،لم يسقُ ْ
206
ول يجوزُ أن يتحقق بنكُولها أيضاً ،لن الحدّ ل يثبُت بالنكول ،فإن الح ّد يُدرأ بالشّبهاتِ ،فكيف يجب
بالنكولِ ،فإن النكولَ ،يحتمل أن يكون لِشدة خَ َفرِهَا ،أو لعُ ْقلَةِ لِسانها ،أو لِدهشها فى ذلك المقام
ع ِبرَ فى بينته من العدد ضعف
الفاضح المخزى ،أو لغير ذلك من السباب ،فكيف يثبتُ الحدّ الذى ا ُ
ما اعتبر فى سائر الحدود ،وفى إقراره أربع مرات بالسنة الصحيحة الصريحة ،واع ُت ِبرَ فى كل من
ف الفعل والتصريح به مبالغة فى الستر ،ودفعاً لثبات الحدّ بأبلغ
القرار والبينة أن يتضمّن وص َ
الطرق وآكِدها ،وتوسلً إلى إسقاط الحدّ بأدنى شُبهة ،فكيف يجوزُ أن يقضى فيه بالنكولِ الذي هو
فى نفسه شبهة ل يُقضي به فى شىء من الحدود والعقوبات البتة ول فيما عد الموال؟
قالوا :والشافعى رحمه ال تعالى ل يرى القضاء بالنكول فى درهم فما دونَه ،ول فى أدنى
تعزير ،فكيف يُقضَى به فى أعظم المور وأبعدِها ثبوتاً ،وأسرعها سقوطاً ،ولنها لو أقرّت
بلسانها ،ثم رجعت ،لم يجب عليها الحدّ ،فلن ل يجب بمجرد امتناعها مِن اليمين على براءتها
أولي ،وإذا ظهر أنه ل تأثير لواحد منهما فى تحقق زناها ،لم يجز أن يُقال بتحققه بهما لوجهين.
أحدهما :أن ما فى كل واحد منهما من الشبهة ل يزول بضم أحدهما إلى الخر ،كشهادة
ل نكولها لفرط حيائها ،وهيبة ذلك المقام ،والجمع ،وشدة الخَ َفرِ ،وعجزها
مائة فاسق ،فإن احتما َ
عن النطق ،وعُقلة لسانها ل يزولُ بلعان الزوج ول بنكولها.
الثانى :أن ما ل يقضى فيه باليمين المفردة ل يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق.
شهَدَ} [النور ،]8 :فالعذاب ها هنا يجوز
ب أَنْ تَ ْ
ع ْنهَا العَذَا َ
قالوا :وأما قوله تعالى{ :ويَ ْدرَؤاْ َ
أن يُراد به الحدّ ،وأن يُرا َد به الحبسُ والعقوبةُ المطلوبة ،فل يتعين إرادة الحدّ به ،فإنّ الدال على
ل على المقيد إل بدليل من خارج ،وأدنى درجاتِ ذلك الحتمال ،فل يثبتُ الح ّد مع
المطلق ل يد ّ
قيامه ،وقد يُرجّحُ هذا بما تقدم مِن قول عمر وعلى رضى ال عنهما :إن الح ّد إنما يكون بالبينة أو
العتراف أو الحبل.
ثم اختلف هؤلء فيما يصنع بها إذا لم تُلعِنْ ،فقال أحمد :إذا أبت المرأة أن تلتعِنَ بعدًَ التعان
حكُمَ عليها بالرجم ،لنها لو أقرت بلسانها ،لم أرجمها إذا
ت أن أ ْ
الرجل ،أجبرتُها عليه ،و ِه ْب ُ
ت اللعان؟ وعنه رحمه ال تعالى رواية ثانية :يخلى سبيلُها ،اختارها أبو بكر،
رجعت ،فكيف إذا أب ِ
لنها ل يجبُ عليها الحد ،فيجب تخلية سبيلها ،كما لو لم تكمل البينة.
فصل
207
ل عن الشهود،
ن الزوج بد ً
قال الموجبون للحدّ :معلومٌ أن ال سبحانه وتعالى جعل التعا َ
وقائماً مقامهم ،بل جعل الزواج الملتعنِينَ شهداءَ كما تقدّم ،وصرّحَ بأن لِعانهم شهادةٌ ،وأوضح
شهَادَاتٍ بِالِ} [النور ،]8 :وهذا يدلّ على أن سببَ
شهَ َد َأ ْربَعَ َ
ن تَ ْ
ع ْنهَا العَذَابَ أَ ْ
ذلك بقوله{ :ويَ ْد َرؤُاْ َ
العذاب الدنيوى قد وُجِدَ ،وأنه ل يدفعه عنها إل لعانُها ،والعذاب المدفوع عنها إل لعانُها ،والعذاب
شهَدْ عَذَا َب ُهمَا طَائِفَ ٌة مِنَ ال ُم ْؤ ِمنِينَ} [النور:
المدفوع عنها بلعنها هو المَذكُور فى قوله تعالى{ :و ْليَ ْ
،]2وهذا عذابُ الحدّ قطعاً ،فذكره مضافاً ،ومعرّفًا بلم العهد ،فل يجو ُز أن ينص ِرفَ إلى عُقوب ٍة لم
ل عليها بوج ٍه مِن حبس أو غيره ،فكيف يُخلّى سبيلُها ،ويدرأ عنها العذابُ
تُذكر فى اللفظ ،ول د ّ
بِغير لِعان ،وهل هذا إلّ مخالف ٌة لِظاهر القرآن؟
ن الزوج دارئاً لح ّد القذف عنه ،وجعل لِعانَ الزوجة دارئاً
قالُوا :وقد جعل الُّ سبحانه لِعا َ
لعذاب ح ّد الزّنى عنها ،فكما أن الزوج إذا لم يُلعن يُحدّ حَدّ القذف ،فكذلك الزوج ُة إذا لم تُلعن
يجب عليها الحدّ.
ن الزوج لو كان بيّنة تُوجب الح ّد عليها لم تملك هى إسقاطه
قالُوا :وأما قولكم :إن لعا َ
باللعان ،كشهادة الجنبى.
فالجواب :أن حكم اللّعان حُكمٌ مستقلٌ بنفسه غي ُر مردود إلى أحكام الدعاوى والبيّنات ،بل
شرَعَه الذى شرع نظيرَه مِن الحكام ،وفصّله الذى فصّل الحللَ والحرام،
هو أصل قائم بنفسه َ
جرَ َم نزل عن مرتبة البينة ،فلم يستقِلّ وحدَه بحكم البينة،
ولما كان لِعانُ الزوج بدلً عن الشهود ل َ
وجعل للمرأة معارضته بلعان نظيره ،وحينئذ فل يظهر ترجيحُ أحد اللعانين على الخر لنا ،والّ
يعلم أن أحدهما كاذب ،فل وجه لحد المرأة بمجردِ لِعان الزوج ،فإذا مُكنت من معارضته وإتيانها
ل المقتضى عمَله ،وانضاف إليه قرينة قوّته
عمِ َ
بما يُبرىء ساحتها ،فلم تفعل ،ونكلت عن ذلكَ ،
قالوا :وأما ل المرأة وإعراضُها عما يُخلّصها مِن العذابَ ،ويَ ْد َرؤُه عنها.
وأكّدته ،وهى نكو ُ
قولُكم :إنه لو شهد عليها مع ثلثة غيره لم تُحَدّ بهذه الشهادة ،فكيف تُحدّ بشهادته وحدَه؟ فجوابُه أنها
س مرات ،ونكولِها عن معارضته مع قدرتها
لم تُحد بشهادة مجرّدة ،وإما حُدّت بمجموع لِعانه خم َ
عليها ،فقامَ من مجموع ذلك دليل فى غاية الظهور والقوة على صحة قوله ،والظنّ المستفاد منه
أقوى بكثره من الظن المستفاد من شهادة الشهود.
وأما قولُكم :إنه أحد اللعانين ،فل يُوجب حد الخر ،كما لم يُوجب لِعانُها حدّه ،فجوابه أن
شهَدَ} [النور،]8 :
ن تَ ْ
ب أَ ْ
ع ْنهَا العَذَا َ
لِعانها إنما شرع للدفع ،ل لليجاب ،كما قال تعالىَ {:ويَ ْدرَ ُؤاْ َ
208
ص على أن لعانه مقتض ليجاب الحد ،ولعانها دافع ودارىء ل موجب ،فقياسُ أحد اللعانينِ
فدلّ الن ّ
ى صلى ال عليه
ل النب ّ
على الخر جمع بين ما فرّق ال سبحانه بينهما وهو باطل .قالُوا :وأما قو ُ
علَى المُدّعِى)) ،فسمعاً وطاع ًة لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،ول ريبَ أن لِعان
وسلم(( :البَ ّينَةُ َ
ج المذكورِ المكرر بينة ،وقد انضم إليها نكولُها الجارى مجرى إقرارها عند قوم ،ومجرى بينة
الزو ِ
المدعين عند آخرين ،وهذا مِن أقوى البينات ،ويدل عليه أن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال له:
((البين ُة وإلّ حَدّ فى ظهرك)) ،ولم يُبطل الُّ سبحانه هذا ،وإنما نقله عند عجزه عن بينة منفصلة
تُسقط الحد عنه يعجز عن إقامتها ،إلى بينة يتمكّن مِن إقامته ،ولما كانت دونها فى الرتبة مع قدرتها
وتمكنها ،قالوا :وأما قولُكم :إن موجب لعانه إسقاط الحد عن نفسه ل إيجابُ الح ّد عليها إلى آخره،
فإن أردتُم أن من موجبه إسقاطُ الحد عن نفسه فحق ،وإن أردتُم أن سقوطَ الحدّ عنه يسقط جميع
موجبه ،ول موجب له سواه ،فباطل قطعاً ،فإن وقوع الفرقة ،أو وجوب التفريق والتحريم المؤبّد،
أو المؤقت ،ونفى الولد المصرح بنفيه ،أو المكتفى فى نفيه باللعان ،ووجوب العذاب على الزوجة
ل ذلك من موجب اللعان ،فل يصح أنه يقال :إنما يوجب سقوط
إما عذاب الحد ،أو عذاب الحبس ،كُ ّ
حد القذف عن الزوج فقط.
قالوا :وأما قولُكم :إن الصحابة جعلُوا ح ّد الزنى بأحد ثلثة أشياء :إما البينة ،أو العترافِ،
ن ليس منها ،فجوابُه :أن منازعيكم يقولُون :إن كان إيجاب الحدّ عليها باللعان
حبَلِ ،واللعا ُ
أو ال َ
خلفاً لقوال هؤلء الصحابة ،فإن إسقاطَ الحدّ بالحبل أدخلُ فى خلفهم وأظهر ،فما الذى سوّغ لكم
إسقاطَ حدّ أوجبوه بالحبل ،وصريح مخالفتهم ،وحرّم على منازعيكم مخالفتَهم فى إيجاب الح ّد بغير
هذه الثلثة ،مع أنهم أعذ ُر منكم ،لثلثة أوجه.
أحدُها :أنهم لم يُخالفوا صريحَ قولهم ،وإنما هو مخالفة لمفهومٍ سكتُوا عنه ،فهو مخالفة
لسكوتهم ،وأنتم خالفتهم صريح أقوالهم.
الثانى :أن غاية ما خالفوه مفهومٌ قد خالفه صريحٌ عن جماعة منهم بإيجاب الحدّ ،فلم يُخالفوا
ما أجم َع عليه الصحابة ،وأنتم خالفتُم منطوقاً ،ل ُي ْعلَمُ لهم فيه مخالف البتة ها هنا ،وهو إيجابُ الحدّ
بالحبل ،فل يُحفظ عن صحابى قطّ مخالفة عمر وعلى رضى ال عنهما فى إيجاب الحد به.
الثالث :أنهم خالفوا هذا المفهومَ لمنطوق تلك ال ِدلّ ِة التى تقدّمت ،ولمفهوم قوله{:ويَ ْد َر ُؤاْ
شهَدَ} [النور ،]8 :ول ر ْيبَ أن هذا المفهومَ أقوى مِن مفهوم سقوط الحد بقولهم:
ن تَ ْ
ب أَ ْ
ع ْنهَا العَذَا َ
َ
ل أو العترافُ ،فهم تركوا مفهومًا لِما هو أقوى منه وأولى ،هذا لو كانوا قد
إذا كانت البين ُة أو الحب ُ
209
ن مع نكولِ المرأة مِن أقوى
ن اللعا َ
خالفوا الصحابة ،فكيف وقولُهم موافق لقوال الصحابة؟ فإ ّ
البينات كما تقرر.
قالوا :وأما قولُكم :لَمْ يتحقق زِناها إلى آخره ،فجوابُه إن أردتم بالتحقيق اليقينَ المقطوعَ به
كالمحرمات ،فهذا ل يُشترط فى إقامة الحد ،ولو كان هذا شرطاً ،لما أقيمَ الحدّ بشهاد ِة أربعة ،إذ
ل الزّنى محققًا بهذا العتبار .وإن أردتُم بعدم التحقق أنه مشكوكٌ فيه على السواء،
شهادتُهم ل تجع ُ
ب أن
بحيث ل يترجّح ثبوته ،فباطل قطعاً ،وإل لما وجب عليها العذابُ المد َرأُ بلعانها ،ول ري َ
التحقّقَ المستفا َد مِن لعانه المؤكد المكرَّْر مع إعراضها عن معارضة ممكنة منه أقوى من التحقق
بأربع شهود ،ولعل لهم غرضاً فى قذفها وهتكِها وإفسادها على زوجها ،والزوجُ ل غرض له فى
ذلك منها.
وقولكم :إنه لو تحقق ،فإما أن يتحقق بلعانِ الزوج ،أو بنكولها ،أو بهما ،فجوابُه :أنه تحقّق
بهما ،ول يلزم مِن عدم استقلل أحدِ المرين بالح ّد وضعفه عنه عد ُم استقللهما معاً ،إذا هذا شأنُ
ل مفرد لم يستقِلّ بالحكم بنفسه ،ويستقل به مع غي ِرهِ لقوته به.
كُ ّ
وأما قولُكم :عجباً للشافعىّ كيف ل يقضى بالنكول فى درهم ،ويقضى به فى إقامة ح ٍد بَالَغَ
ل بيّنة ،فهذا موضع ل يُنتصر فيه للشافعى ول لغيره من الئمة،
الشّرع فى ستره ،واعتبر له أكم َ
وليس لِهذا وُض َع ِكتَا ُبنَا هذا ،ول قصدنا به نُص َرةَ أح ٍد من العالمين ،وإنما قصدنا به مجرّد هدى
رسولِ ال صلى ال عليه وسلم فى سيرته وأقضيته وأحكامه ،وما تضمّن سوى ذلك ،فتبع مقصودٌ
ضرّ ذلك هدى رسول ال صلى ال عليه وسلم.
لغيره ،فهب أن من لم يقض بالنكول تناقض ،فماذ َي ُ
ى رَحمَه ال تعالى لم يتناقض ،فإنه فرّق بين نكولٍ
شكَاةٌ ظَا ِه ٌر عنه عَارُهَا .على أن الشّافِع ّ
و ِت ْلكَ َ
مجرد ل قولة له ،وبين نُكولٍ قد قارنَه التعان مؤكّ ٌد مك ّر ٌر أُقيم فى حق الزوج مقا َم البينة مع شهادة
الحال بكراهة الزوج ،لزنى امرأته ،وفضيحتها ،وخراب بيتها ،وإقامة نفسه وحِبه فى ذلك المقام
العظيم بمشهد المسلمين وخراب بيتها ،وإقامة نفسه وحِبه فى ذلك المقام العظيم بمشهد المسلمين
جهْ َد أيمانه أرب َع مرات إنه لمن الصادقين،
يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذباً بعد حلفه بالّ َ
والشافعى رحمه ال إنما حكم بنكول قد قارنه ما هذا شأنُه ،فمن أين يلزمه أن يحكم بنكول مجرد؟
جبُ بمجرّدِ
قالوا :وأما قولُكم :إنها أقرّت بالزنى ثم رجعت ،لسقط عنها الحدّ ،فكيف ي ِ
امتناعِها من اليمين؟ فجوابه :ما تقرر آنفاً.
210
ن العذاب المُ ْد َرأَ عنها بلعانها هو عذابُ الحبس أو غيره ،فجوابُه :أن
قالوا :وأما قولُكم :إ ّ
ل الية على عذاب الخرة باطل قطعاً،
ب المذكورَ ،إما عذابُ الدنيا ،أو عذابُ الخرة ،وحم ُ
العذا َ
فإن لِعانها ل يدرؤه إذا وجب عليها ،وإنما هو عذابُ الدنيا وهو الحدّ قطعاً فإنه عذابُ المحدود،
وهو فِداء له من عذابِ الخرة ،ولهذا شرعه سبحانه طُهرةً وفدية من ذلك العذاب ،كيف وقد صرّح
ن ال ُم ْؤ ِمنِينَ} [النور ،]2 :ثم أعاده بعينه بقوله:
شهَدْ عَذَا َبهُما طَائِفَ ٌة مِ َ
به فى أول السورة بقوله{ :وَليَ ْ
ع ْنهَا العَذَابَ} [النور ،]8 :فهذا هو العذابُ المشهو ُد مكّنها مِن دفعه بلعانها ،فأين هنا
{ويَ ْد َر ُؤاْ َ
سرَ الي ُة به؟ وإذا تبيّن هذا ،فهذا هو القولُ الصحيح الذى ل نعتقِ ُد سواه ،ول
عذابُ غيره حتّي تُفَ ّ
ل التوفيق.
نرتضي إل إياه ،وبا ّ
فإن قيل :فلو نكل الزوج عن اللعان بعد قذفه ،فما حك ُم نكولِهِ؟ قلنا :يُحَدّ ح ّد القذفِ عند
جمهور العلما ِء مِن السلف والخلف ،وهو قولُ الشافعى ومالك وأحمد وأصحابهم ،وخالف فى ذلك
أبو حنيفة وقال :يُحبس حتى يُلعِنَ ،أو تُ ِقرّ الزوجة .،وهذا الخلف مبنى على أن موجب قذفِ
الزوج لمرأته هَل هو الحد ،كقذف الجنبى ،وله إسقاطه باللعان ،أو موجبه اللعان نفسه؟ فالول:
قول الجمهور .والثانى :قول أبو حنيفة ،واحتجّوا عليه بعموم قوله تعالى{ :وَالّذِينَ َي ْرمُونَ
جلْ َدةً} [النور ،]4 :وبقوله صلى ال عليه
جلِدُوهُم َثمَانِينَ َ
شهَدَاءَ فَا ْ
صنَاتِ ثُ ّم لَ ْم يَ ْأتُوا بَأ ْر َبعَةِ ُ
ح َ
المُ ْ
ن مِنْ عَذَابِ
ب ال ّد ْنيَا أَ ْهوَ ُ
ظ ْه ِركَ)) ،وبقوله له(( :عَذَا ُ
وسلم لهلل بن أمية(( :ال َبيّنَ ُة َأوْحَدّ فى َ
الخ َرةَ)) ،وهذا قاله لِهلل بن أمية قبل شروعه فى اللعان .فلو لم يجب الحدّ بقذفه ،لم يكن لهذا
معنى ،وبأنه قَذف حرة عفيفة يجرى بينَه وبينها القود ،فَحُدّ بقذفها كالجنبى ،وبأنه لو لعنها ،ثم
ب لوجوب الحد عليه ،وله إسقاطُه
أك َذبَ نفسه بعد لعنها ،لوجب عليه الحدّ ،فدل على أن قذفه سب ٌ
باللعان ،إذ لو لم يكن سبباً لما وجب بإكذابه نفسه بعد اللعان ،وأبو حنيفة يقول :قذفه لها دعوى
ح ِبسَ حتى يلعن ،إل أن تُ ِقرّ فيزول
تُوجب أحد أمرين ،إما لعانه ،وإما إقرارها ،فإذا لم يُلعنُ ،
ق له عند المقذوفة ،فكانَ قاذفاً محضاً،
ب الدعوى ،وهذا بخلف قذف الجنبى ،فإنه ل ح ّ
موج ُ
والجمهور يقولون :بل قذفُه جناية منه على عرضها ،فكان موجبهاً الحدّ كقذف الجنبى ،ولما كان
فيها شائب ُة الدعوى عليها بإتلفها لحقه وخيانتها فيه ،ملك إسقاطَ ما يُوجبه القذفُ مِن الحدّ بلعانه،
فإذا لم يُلعِنْ مع قدرته على اللعان ،وتمكنه منه ،عمل مقتضى القذِف عملَه ،واستقل بإيجاب الحدّ،
لّ التوفيق.
إذ ل معارض له ،وبا ِ
فصل
211
ل ال صلى ال عليه وسلم إنما كان يقضى بالوحي ،وبما أراه الُّ ،ل بما رآه هو،
ومنها :أن رسو َ
ع َنيْن حتّى جاءه الوحىُ ،ونزل القرآن ،فقال لِعويمر
ض بين المتل ِ
فإنه صلى ال عليه وسلم لم يَقْ ِ
ل يَسَْألُنى
ت بها)) ،وقد قال صلى ال عليه وسلمَ (( :
حينئذ(( :قد نزل فيك وفى صاحبتك ،فاذهب ف ْأ ِ
سنّ ٍة أَحْ َد ْث ُتهَا فِيكُم لَ ْم أُو َم ْر ِبهَا)) وهذا فى القضية ،والحكام ،والسنن الكلية ،وأما
ع ّز وَجَلّ عَنْ ُ
الُّ َ
المور الجزئية التى ل َترْجِعُ إلى أحكام ،كالنزول فى منزل معيّن ،وتأمير رجل معيّن ،ونحو ذلك
ل ْمرِ} [آل عمران ]159 :فتلك للرأى
مما هو متعلق بالمشاور ِة المأمورِ بها بقوله{ :وشَا ِورْهُم فى ا َ
ى َرَأ ْيتُه)) .فهذا
فيها مدخل ،ومن هذا قولُه صلى ال عليه وسلم فى شأن تلقيح النخلِ(( :إ ّنمَا ُهوَ َر ْأ ٌ
ن الكلية شىء آخر.
القِسم شىء ،والحكا ُم والسن ُ
فصل
ومنها :أن النبىّ صلى ال عليه وسلم أمره بأن يأتىَ بها ،فتلعنا بحضرته ،فكان فى هذا
ن أن اللعان إنما يكونُ بحضرةِ المام أو نائبة ،وأنه ليس لحا ِد الرعية أن يُلعِنَ بينهما ،كما أنه
بيا ُ
ليس له إقامة الحد ،بل هو للمام أو نائبه.
فصل
ومنها :أنُه يسن التلعن بمحضر جماع ٍة من الناس يشهدُونه ،فإن ابن عباس ،وابن عمر،
ل ذلك على أنه حضره جمع كثير ،فإن الصبيان إنما
وسهل بن سعد ،حضروه مع حداثة أسنانهم ،فد ّ
ل هذا المر تبعاً للرجال .قال سهل ابنُ سعد :فتلعنا وأنا مع الناس عند النبى صلى
يحضرون مث َ
ل أعلم ،أن اللعان بنى على التغليظ مبالغ ًة فى الردع والزجر،
ال عليه وسلم .وحكمة هذا وا ّ
وفعلُه فى الجماعة أبلغُ فى ذلك.
فصل
ى صلى ال عليه وسلم قال له:
ومنها :أنهما يتلعنان قياماً ،وفى قصة هلل بن أمية أن النب ّ
((قم فاشهد أربع شهادات بالّ)).
ضرُون،
وفى ((الصحيحين)) :فى قصة المرأة ،ثم قامت فشهدت ،ولنه إذا قام شاهده الحا ِ
فكان أبلغَ فى شهرته ،وأوق َع فى النفوس ،وفيه سِر آخر ،وهو أن الدعوة التى تُطلب إصابتُها إذا
ب على المشركين حين صلبوه ،أخذ أبو
صادفت المدع ّو عليه قائماً نفذت فيه ،ولهذا لما دعا خُبي ٌ
سفيان معاوية فأضجعَه ،وكانوا يرون أن الرجل إذا لطىء بالرض ،زلّت عنه الدعوة.
فصل
212
لّ عز وجل ورسولُه به ،فلو بدأت هى ،لم يُعتدّ
ومنها :البداءة بالرجل فى اللعان ،كما بدأ ا ُ
بلعانها عند الجمهور ،واعتدّ به أبو حنيفة .وقد بدأ ال سبحانه فى الح ّد بذكر المرأة فقال{ :الزّا ِنيَةُ
جلْ َدةٍ} [النور ،]2 :وفى اللعان بذكر الزوج ،وهذا فى غاية
ل وَاحِ ٍد ِم ْن ُهمَا مِائَةَ َ
جلِدُوا كُ ّ
والزّانى فَا ْ
المناسبة ،لن الزِنى من المرأة أقبحُ منه بالرجل ،لنها تزيد على هتكِ حقّ ال إفسا َد فراشِ بعلها،
ب من غيره عليه ،وفضيحةَ أهلها وأقاربها ،وتعييره بإمساك البغى ،وغير ذلك من
وتعليقَ نس ٍ
ج هو الذى قذفها وعرضها
مفاسد زناها ،فكانت البداءة بها فى الحدّث أهمّ ،وأما اللعانُ :فالزو ُ
للّعان ،وهتك عرضها ،ورماها بالعظيمة ،وفضحها عند قومها وأهلها ،ولهذا يجب عليه الح ّد إذا لم
يُلعن ،فكانت البُداءة به فى اللعان أولى من البداءة بها.
فصل
(يتبع)...
ظ ويُذكّر،
ل واحد من المتلعنين عند إرادة الشروع فى اللعان ،فيُوع ُ
ومنها :وعظُ ك ّ @
ن مِن عذاب الخرة ،فإذا كان عند الخامسة ،أُعِي َد ذلك عليهما ،كما
ويقال له :عذاب الدنيا أهو ُ
صحت السنة بهذا وهذا.
فصل
ل من خمس مرات ،ول من المرأة ،ول يُقبل منه إبدالُ
ومنها :أنه ل يُقبل من الرجل أق ّ
اللعنة بالغضب والبعاد والسّخط ،ول منها إبدالُ الغضب باللعنة والبعاد والسخط ،بل يأتى كُلّ
ح القولين فى مذهب أحمد ومالك وغيرهما.
منهما بما قسم ال له من ذلك شرعاً وقدراً ،وهذا أص ّ
ومنها :أنه ل يفت ِق ُر أن يزيد على اللفاظ المذكورة فى القرآن والسنة شيئاً ،بل ل
ل الذى ل إله إل هُو عالم الغيب والشهادة الذى يعلم من
يُستحب ذلك ،فل يحتاج أن يقول :أشهدُ با ّ
لّ إنى لمن الصادقين ،وهى تقول:
السر ما يعلم من العلنية ،ونحو ذلك ،بل يكفيه أن يقول :أشهد با ِ
ج أن يقول :فيما رميتها به من الزنى ،ول أن تقول هى :إنه
ل إنّه لمن الكاذبين ،ول يحتا ُ
أشهد با ّ
لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى ،ول يُشترط أن يقول إذا ادّعى الرؤية :رأيتُها تزنى كالمِروَدِ
ل لذلك فى كتاب ال ،ول سنة رسوله ،فإن ال سبحانه بعلمه وحكمته كفانا بما
حلَةِ ،ول أص َ
فى ال ُمكْ ُ
شرعه لنا وأمرنا به عن تكلّف زيادة عليه.
حيَى بن محمد بن هبيرة فى ((إفصاحه)) :مِن الفقهاء من
قال صاحب ((الفصاح)) وهو َي ْ
اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين :فيما رميتها به من الزنى ،واشترط فى نفيها عن نفسها أن
213
تقول :فيما رمانى به من الزنى .قال :ول أراه يحتاج إليه ،لن ال تعالى أنزل ذلك وبينه ،ولم يذكر
هذا الشتراط.
وظاهر كلم أحمد ،أنه ل يشترط ذكر الزنى فى اللعان ،فإن إسحاق بن منصور قال :قلت
لحمد :كيف يُلعِنُ؟ قال :على ما فى كتاب ال يقول أرب َع مراتٍ :أشهد بالّ إنى فيما رميتُها به
ل ذلك.
لّ عليه إن كان من الكاذبين ،والمرأة مث ُ
لمن الصادقين ،ثم يقف عند الخامسة فيقول :لعنةُ ا ِ
ففى هذا النص أنه ل يُشترط أن يقول :من الزنى ،ول تقولُه هى ،ول يُشترط أن يقولَ عند
الخامسة :فيما رميتُها به ،وتقول هى :فيما رمانى به ،والذين اشترطوا ذلك حجتهم أن قالوا :ربما
نوى :إنى لمن الصادقين فى شهادة التوحيد أو غيره مِن الخبر الصادق ،ونوت :إنه لمن الكاذبين
فى شأن آخر ،فإذا ذكرا ما رُميت به من الزنى ،انتفى هذا التأويل.
قال الخرون :هب أنهما نويا ذلك ،فإنهما ل ينتفعان بنيتهما ،فإن الظالم ل ينفعُه تأويلُه،
ويمينه على نية خصمه ،ويمينُه بما أمر ال به إذا كان مجاهراً فيها بالباطل ،والكذب موجبه عليه
اللعنة أو الغضب ،نوى ما ذكرتم ،أو لم ينوه ،فإنه ل يموّه على من يعلم السر وأخفى بمثل هذا.
فصل
ل منى ،ول يحتاج أن
ج أن يقول :وما هذا الحم ُ
ومنها :أن الحمل ينتفى بلعانه ،ول يحتا ُ
يقول :وقد استبرأتُها ،هذا قول أبى بكر عبد العزيز من أصحاب أحمد ،وقولُ بعضِ أصحاب مالك،
ج المرأة إلى ذِكره ،وقال الخِرقى
ج إلى ذِكر الولد ،ول تحتا ُ
وأهل الظاهر ،وقال الشافعىّ :يحتا ُ
وغيرُه :يحتاجان إلى ذِكره ،وقال القاضى :يشترط أن يقول :هذا الولد من زنى وليس ه َو ِمنّى.
ل الشافعى ،وقول أبى بكر أصح القوال ،وعليه تدل السنة الثابتة.
وهو قو ُ
فإن قيل :فقد روى مالك ،عن نافع ،عن ابن عمر رضى ال عنهما ،أن النبى صلى ال عليه
ن رجل وامرأته ،وانتفى من ولدها ،ففرّق بينهما ،وألحقَ الول َد بالمرأةِ.
وسلم لعن َبيْ َ
وفى حديث سهل بن سعد :وكانت حاملً فأنكر حملَها.
وقد حكم صلى ال عليه وسلم(( :بأن الولد للفراش)) وهذه كانت فِراشاً له حال كونها
حاملً ،فالولُد له ،فل ينتفى عنه إل بنفيه.
قيل :هذا موضعُ تفصيل ل بُ ّد منه ،وهو أن الحملَ إن كان سابقاً على ما رماها به ،وعلم
ل له أن ينفيَه عنه فى
أنها زنت وهى حامل منه ،فالولد له قطعاً ،ول ينتفى عنه بلعانه ،ول يَحِ ّ
اللعان ،فإنها لما علقت به ،كانت فراشاً له ،وكان الحملُ لحقاً به ،فزناها ل يُزيل حكم لحوقه به،
214
ل مِن ستة أشهر
وإن لم يعلم حملَها حالَ زناها الذى قد قذفها به ،فهذا ينظر فيه ،فإن جاءت به لق ّ
من الزنى الذى رماها به ،فالولُد له ،ول ينتفى عنه بلعانه ،وإن ولدته لكثر من ستة أشهر من
الزنى الذى رماها به ،نظر ،فإما أن يكون استبرأها قبل زناها ،أو لم يستبرئها ،فإن كان استبرأها،
انتفى الولد عنه بمجرد اللعان ،سواء نفاه ،أو لم ينفه ،ول بُدّ من ذِكره عند من يشترط ذِكره ،وإن لم
يستبرئها ،فها هنا أمكن أن يكون الولُد منه ،وأن يكون من الزانى ،فإن نفاه فى اللعان ،انتفى ،وإل
لحق به ،لنه أمكن كونُه منه ولم ينفه.
شبِ ُه الزوجَ
فإن قيل :فالنبىّ صلى ال عليه وسلم قد حكم بعدَ اللعان ،ونفى الولد بأنه إن جاء يُ ْ
ب الفراش فهو له ،وإن جاء يُشبه الذى رميت به ،فهو له ،فما قولُكم فى مثل هذه الواقعة إذا
صاح َ
لعن امرأته وانتفى من ولدها ،ثم جاء الولدُ يُشبه ،هل ُتلِحقُونه به بالشبه عملً بالقافة ،أو تحكمون
ع ّنتَه اللعانُ
ض ْنكٌ ،وموضع ضيّق تجاذب أ ِ
بانقطاع نسبه منه عملً بموجب لعانه؟ قيل :هذا مجال َ
المقتضى لنقطاع النسب ،وانتفاء الولد ،وأنه يُدعى لمه ول يدعى لب ،والشبه الدال على ثبوت
نسبه من الزواج ،وأنه ابنُه ،مع شهادة النبىّ صلى ال عليه وسلم بأنها إن جاءت به على شبهه،
ص منه إل المستبص ُر البصير بأدلة الشرع
خلّ ُ
فالول ُد له ،وأنه كذب عليها ،فهذا مضيق ل يت َ
وأسراره ،والخبيرُ بجمعه وفرقه الذي سافرت به ِه ّمتُه إلى مطلع الحكام ،والمشكاة التى منها
ل المستعان وعليه التكلن ،أن حكم اللعان قطع
ل والحرامُ ،والذى يظهر فى هذا ،وا ّ
ظهر الحل ُ
حكم الشبه ،وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفهما ،فل عبرة للشبه بعد مضى حكم اللعان
فى تغيير أحكامه ،والنبىّ صلى ال عليه وسلم لم يُخِبرْ عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم
ب اللعنة والغضب ،فهو
اللعان ،وإنما أخبر عنه ،ليتبين الصادقُ منهما من الكاذب الذي قد استوج َ
إخبار عن أمر قدرى كونى يتبين به الصادقُ مِن الكاذب بعد تقرر الحكم الدينى ،وأن ال سبحانه
ل على ذلك ،ويدل عليه أنه صلى ال عليه وسلم قال ذلك بعد انتفائِه من الود،
سيجعل فى الولد دلي ً
وقال(( :إن جاءت به كذا وكذا ،فل أراه إل صدق عليها ،وإن جاءت به كذا وكذا ،فل أراه إل كذب
عليها)) ،فجاءت به على النعتِ المكروه ،فعلم أنه صَدَقَ عليها ،ولم َي ْعرِضْ لها ،ولم يفسخ حكم
اللعان ،فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها ،فكذلك لو جاءت به على شبه الزوج
يعلم أنه كَ َذبَ عليها ،ول يُغير ذلك حكم اللعان ،فيحد الزوج ويلحق به الولد ،فليس قوله :إن جاءت
به كذا وكذا فهو الهلل بن أمية إلحاقاً له به فى الحكم ،كيف وقد نفاه باللعان ،وانقطع نسبُه به ،كما
أن قوله :وإن جاءت به كذا وكذا ،فهو للذى رميت به .ليس إلحاقاً به ،وجعله ابنه ،وإنما هو إخبارٌ
215
عن الواقع ،وهذا كما لو حكم بأيمان القَسَامَةِ ثمَ أظهر ال سبحانه آي ًة تدل على كذب الحالفين ،لم
ح ْكمُها بذلك ،وكذا لو حكم بالبراءة مِن الدعوى بيمين ،ثم أظهر ال سبحانه آية تدل على
ينتقض ُ
أنها يمينٌ فاجرة ،لم يبطل الحكم بذلك.
فصل
ل إذا قذف امرأَته بالزنى برجل بعينه ،ثم ل عنها ،سقطَ الحدّ عنه لهما ،ول
ومنها :أن الرج َ
ج إلى ذِكر الرجل فى لعانه ،وإن لم يُلعن ،فعليه لكل واحد منهما حَدّه ،وهذا موضعٌ اخ ُتِلفَ
يحتا ُ
فيه ،فقال أبو حنيفة ومالك :يُلعن للزوجة ،ويحد للجنبى ،وقال الشافعى فى أحد قوليه :يجب عليه
حدّ واحد ،ويسقط عنه الحَدّ لهما بلعانه ،وهو قولُ أحمد ،والقول الثانى للشافعى :أنه يحد لِكل واحد
ف اللعان،
حداً ،فإن ذكر المقذوفَ فى لِعانه ،سقط الحدّ ،وإن لم يذكره فعلى قولين ،أحدهما :يستأ ِن ُ
ويذكره فيه ،فإن لم يذكره ،حُ ّد له .والثانى :أنه يسقط حدّه بلعانه ،كما يسقط ح ّد الزوجة.
وقال بعضُ أصحاب أحمد :القذفُ للزوجة وحدها ،ول يتعلّق بغيرها حق المطالبة ول الحد.
وقال بعضُ أصحاب الشافعى :يجبُ الحدّ لهما ،وهل يجب حدّ أو حدّانِ؟ على وجهينِ ،وقال بعض
أصحابه :ل يجب إل حداً واحداً قولً واحداً ،ول خلف بين أصحابه أنه إذا لعن الجنبى فى
لعانه :أنه يسقط عنه حُكمُه ،وإن لم يذكره ،فعلى قولين :الصحيح عندهم :أنه ل يسقط.
والذين أسقطوا حكم قذفِ الجنبى باللعان ،حجتّهم ظاهرة وقوية جداً ،فإنه صلى ال عليه
وسلم لم يحد الزوج بشريك بن سحماء ،وقد سماه صريحاً ،وأجاب الخرون عن هذا بجوابين:
أحدهما :أن المقذوفَ كان يهودياً ،ول يجب الحدّ بقذف الكافر .والثانى :أنه لم يُطالب به ،وحدّ
القذف إنما يُقام بعد المطالبة.
وأجاب الخرون عن هذين الجوابين ،وقالوا :قولُ من قال :إنه يهودى باطل ،فإنه شريك بن
ف النصار ،وهو أخو البراء بن مالك لمه .قال عبد العزيز بن بزيزة
عبدة وأمه سحماء ،وهو حلي ُ
ل العلم فى شريك بن سحماء المقذوف ،فقيل :إنه كان
فى شرحه لحكام عبد الحق :قد اختلفَ أه ُ
يهوديًا وهو باطل ،والصحيح :أنه شريك بن عدة حليف النصار ،وهو أخو البراء بن مالك لمه.
وأما الجواب الثانى ،فهو ينقلب حُجّةَ عليكم ،لنه لما استقرّ عنده أنه ل حق له فى هذا القذف لم
يطالِب به ،ولم يتعرّض له ،وإل كيف يسكت عن براءة عرضه ،وله طريق إلى إظهارها بحدّ
قاذفة ،والقوم كانُوا أشدّ حميّ ًة وأنَفَ ًة مِن ذلك؟ وقد تقدّم أن اللعان أقيمَ مقام البينة للحاجة ،وجعل بدلً
جبُ الح ّد عليها إذا نكلت ،فإذا كان بمنزلة الشهادة
مِن الشهود الربعة ،ولهذا كان الصحيح أنه يُو ِ
216
فى أحد الطرفين كان بمنزلتها فى الطرف الخر ،ومِن المحال أن تح ّد المرأة باللعان إذا َن َكلَت ،ثم
يُحد القاذف ح ّد القذف وقد أقام البينة على صدق قوله ،وكذلك إن جعلناه يميناً فإنها كما درأت عنه
الح ّد مِن طرف الزوجة ،درأت عنه مِن طرف المقذوف ،ول فرق ،لن به حاجة إلى قذف الزانى
ج إلى ذِكره ليستدل بشبه الولد له على صدق قاذفه ،كما
لما أفسد عليه مِن فراشه ،وربما يحتا ٌ
ى صلى ال عليه وسلم على صِدق هلل بشبه الولد بشريك بن سحماء ،فوجب أن يسقط
استدل النب ّ
حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها ،وقد قال النبى صلى ال عليه وسلم للزوج(( :البينة وإل حدّ فى
ظهرك)) ،ولم يقل :وإل حَدّانِ ،هذا والمرأةُ لم تُطاِلبْ بح ّد القذف ،فإن المطالبة شرطٌ فى إقامة
الحدّ ،ل فى وجوبه ،وهذا جواب آخر عن قولهم :إن شريكًا لم يُطالب بالحدّ ،فإن المرأةَ أيضًا لم
ى صلى ال عليه وسلم(( :البينةُ وإل حَ ّد فى ظهرك)).
تُطالب به ،وقد قال له النب ّ
فإن قيل :فما تقولون :لو قذف أجنبية بالزنى برجل سماه؟ فقال :زنى بكِ فلن ،أو زنيتِ به؟
قيل :هاهنا يجب عليه حدانِ ،لنه قاذف لكل واحد منهما ،ولم يأتِ بما يُسقط موجبَ قذفه ،فوجبَ
عليه حكمه ،إذ ليس هنا بينة بالنسبة إلى أحدهما ،ول ما يقومُ مقامَها.
فصل
ج إلى أن يلعن
حتَ ْ
ومنها :أنه إذا لعنها وهى حامل ،وانتفى مِن حملها ،انتفى عنه ،ولم يَ ْ
بعد وضعه كما دلت عليه السنةُ الصحيح ُة الصريحةُ ،وهذا موضع اختلف فيه .فقال أبو حنيفة
رحمه ال :ل يُلعن لِنفيه حتى َتضَعَ لحتمال أن يكون رِيحاً َف َتنْ َفشّ ،ول يكون لِلعان حينئذ معنى،
ف عنه حتى
وهذا هو الذى ذكره الخِرقى فى ((مختصره)) ،فقال :وإن نفى الحمل فى التعانه لم َي ْن َت ِ
ب على ذلك ،وخالفهم أبو محمد المقدسى كما يأتى
بن ِفيَه عند وضعها له ويُلعن ،وتبعه الصحا ُ
كلمُه .وقال جمهورُ أهل العلم :له أن يُلعِنَ فى حال الحمل اعتماداً على قصة هلل بن أمية ،فإنها
صريحةٌ صحيحه فى اللعان حال الحمل ،ونفى الولدِ فى تلك الحال ،وقد قال النبى(( :إن جاءت به
على صِفَ ِة كذا وكَذَا ،فل أراه إل قد صدق عليها )) الحديثَ .قال الشيخ فى ((المغنى)) :وقال
مالك ،والشافعى ،وجماعة من أهل الحجازَ :يصِحّ نفى الحمل ،وينتفى عنه ،محتجين بحديثِ هلل،
وأنه نفى حملها ،فنفاه عنه النبىّ صلى ال عليه وسلم ،وألحقه بالمّ ،ول خَفَاءَ أنه كان حملً ،ولهذا
قال النبىّ صلى ال عليه وسلم(( :انظروها ،فإن جَا َءتْ به كذا وكذا)) ،قال :ولن الحمل مظنون
ل من النفقة والفِطر فى الصيام،
بأمارات تدل عليه ،ولهذا تثبت للحامل أحكا ٌم تُخالف فيها الحائ َ
وتركِ إقامة الحدّ عليها ،وتأخي ِر القِصاص عنها ،وغيرِ ذلك مما يطولُ ِذكُره ،و َيصِحّ استلحاقُ
217
ل هو الصحيح ،لموافقته ظواهر الحاديث ،وما
الحمل ،فكان كالولد بعد وضعه قال :وهذا القو ُ
ج إلى
خالف الحديثَ ل يُعبأ به كائناتً ما كان .وقال أبو بكر :ينتفى الولد يزوالِ الفراش ،ول يحتا ُ
ث لم ينقل نفىُ الحمل ،ول تعرض لنفيه.
ذِكره فى اللعان احتجاجاً بظاهر الحاديث ،حي َ
ح نفىُ الحمل واللعان عليه ،فإن لعنها حاملً،
وأما مذهب أبى حنيفة رحمه ال ،فإنه ل َيصِ ّ
ثم أتت بالولد ،لزمه عنده ،ولم يتمكن من نفيه أصلً ،لن اللعان ل يكون إل بين الزوجين ،وهذه قد
بانت بلعانها فى حال حملها.
قال المنازعون له :هذا فيه إلزامُه ولداً ليس منه ،وسدّ باب النتفاء مِن أولد الزنى ،والُّ
سبحانه قد جعل له إلى ذلك طريقاً ،فل يجوز سَدّها ،قالوا :وإنما تعتبر الزوجية فى الحال التى
أضاف الزنى إليها فيها ،لن الولد الذى تأتى به يلحقُه ،إذا لم ينفه ،فيحتاج إلى نفيه ،وه ِذهِ كانت
زوجتَه فى تلك الحال ،فملك نفىَ ولدها .وقال أبو يوسف .ومحمد :له أن ينفىَ الحمل بين الولدة
إلى تما ِم أربعينَ ليلة منها .وقال عبد الملك بن الماجشُون :ل يُلعن لنفى الحمل إل أن ينفيَهُ ثانية
علِمَ بالحمل فأمكنه الحاكم مِن اللعان ،فلم يلعن ،لم يكن له أن ينفيَهُ
بعد الولدة .وقال الشافعىّ :إذا َ
بعدُ.
فإن قيل :فما تقولون :لو استحلق الحملَ ،وقذفها بالزنى ،فقال :هذا الولدُ منى وقد
زنت ،ما حُكمُ هذه المسألة؟ قيل :قد اختلف العلماء فى هذه المسألة على ثلث أقوال:
أحدها :أنه ُيحَ ّد ويُلحق به الولدُ ،ول يُمكّن من اللعان.
والثانى :أنه يُلعن ،وينتفى الولد.
والثالث :أنه يُلعن للقذف ،ويلحقه الولدُ ،والثلثة روايات عن مالِك ،والمنصوص عن
أحمد :أنه ل َيصِحّ استلحاقُ الولد كما ل يصح نفيه.،قال أبو محمد :وإن استلحق الحمل ،فمن قال:
ل َيصِحّ نفيه ،قال :ل يصح استلحاقُه ،وهو المنصوصُ عن أحمد .ومن أجاز نفيه ،قالَ :يصِحّ
استلحقاقُه ،وهو مذهبُ الشافعى ،لنه محكو ٌم بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث ،فصح
القرار به كالمولود ،وإذا استلحقه ،لم يملك نفيَه بعد ذلك ،كما لو استلحقه بعد الوضع .ومن قال :ل
َيصِحّ استلحاقُه ،قال :لو صح استلحاقُه ،للزمه بترك نفيه كالمولود ،ول يلزمُه ذلك بالجماع،
ث المُلعنة ،وذلك مختص بما بع َد الوضع ،فاختص صحة
شبَه أثرٌ فى اللحاق ،بدليل حدي ِ
وليس لِل ّ
اللحاق به ،فعلى هذا لو استلحقه ،ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك ،فأما إن سكت عنه ،فلم ينفه ،ولم
218
يستلحقه ،لم يلزمه عند أحد علمنا قولَه ،لن تركه محتمل ،لنه ل يتحقّقُ وجودُه إل أن يُلعنها،
فإن أبا حنيفة ألزمه الولَد على ما أسلفناه.
فصل
ل يُدعى ولدها
ل ال صلى ال عليه وسلم بينهما ،وقضي أ ّ
ل ابن عباس :ففرّق رسو ُ
وقو ُ
لب ،ول تُرمى ،ومن رماها ،أو رمى ولدها ،فعليه الحدّ ،وقضى أن ل بيتَ لها عليه ول قوت،
ومن أجل أنهما يفترقان من غير طلق ول متوفى عنها.
وقولُ سهل :فكان ابنُها يُدعى إلى أمه ،ثم جرت السنةُ أنه يرثها وترِث منه ما فرض ال
لها.
وقوله :مضت السنة فى المتلعنين أن يُفرّقَ بينهما ،ثم ل يجتمعان أبداً.
ل ال صلى ال عليه وسلم بينهما ،وقال :ل
وقال الزهرى ،عن سهل بن سعد :فرّق رسو ُ
يجتمعان أبداً.
ت صَدَ ْقتَ عليها ،فهو بما
وقول الزوج :يا رسولَ ال ،مالى؟ قال(( :ل مال لك ،إن ُك ْن َ
ت كذبتَ عليها ،فهو أبع ُد لك منها)).
استحللتَ مِن فرجها ،وإن كن َ
فتضمنت هذه الجملةُ عشرةَ أحكام:
ق بين المتلعنين ،وفى ذلك خمسة مذاهب.
الحكم الول :التفري ُ
ل أبى عبيد ،والجمهورُ
أحدها :أن الفرقةَ تحصلُ بمجرد القذفِ ،هذا قو ُ
خالفوه فى ذلك ،ثم اختلفوا.
فقال جابر بن زيد ،وعثمان ال َبتّى ،ومحمد بن أبى صُفرة ،وطائفة من
فُقهاء البصرة :ل يقع باللعان فرقةٌ البتة ،وقال ابن أبى صفرة :اللعانُ ل يَقْطَعُ العِصمة ،واحتجوا
بأن النبىّ صلى ال عليه وسلم لم يُنكِر عليه الطلقَ بعد اللعانِ ،بل هو أنشأ طلقَها ،ونزّه نفسه أن
ى صلى ال عليه
سكَ من قد اعترف بأنها زنت ،أو أن يقومَ عليه دليل كذب بإمساكها ،فجعل النب ّ
ُيمْ ِ
جبُ الفرقة ،ثم اختلفوا على ثلثة
وسلم فِعلَه سنة ،ونازع هؤلء جمهور العلماء ،وقالوا :اللعانُ يُو ِ
مذاهب.
أحدها :أنها تقع بمجرد لِعان الزوج وحدَه ،وإن لم تلتعِن
المرأة ،وهذا القولُ مما تفرّد به الشافعى ،واحتج له بأنها فُرقة حاصلة بالقول ،فحصلت بقول
الزوج وحدَه كالطلق.
219
المذهب الثانى :أنها ل تحصلُ إل بلعانهما جميعاً ،فإذا
تَ ّم لِعانهما ،وقعت الفرقةُ ،ول يعتبر تفريقُ الحاكم ،وهذا مذهبُ أحمد فى إحدى الروايتين عنه
ع إنما ورد بالتفريق بين
ل مالك وأهلِ الظاهر ،واحتج لهذا القول بأن الشر َ
اختارها أبو بكر ،وقو ُ
المتلعنين ،ول يكونان متلعنين بلعان الزوج وحده ،وإنما فرّق النبىّ صلى ال عليه وسلم بينهما
بعد تما ِم اللعان منهما ،فالقولُ بوقوع الفرقِة قبلَه مخالفٌ لمدلولِ السنة وفعل النبى صلى ال عليه
وسلم ،واحتجّوا بأن لفظ اللعان ل يقتضى فُرقة ،فإنه إما أيمان على زناها ،وإما شهادة به ،وكلهما
ل يقتضى فُرقة ،وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمامِ لعانهما لِمصلحة ظاهرة ،وهى أن الَّ
ل منهما سكناً للخر ،وقد زال هذا بالقذف،
سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة ،وجعل ك ً
وأقامها مقام الخزى والعار والفضيحة ،فإنه إن كان كاذباً فقد فضحها وبهتها ،ورماها بالداء
العُضال ،ون ّكسَ رأسها ورؤوس قومها ،وهتكها على رؤوس الشهاد .وإن كانت كاذبة ،فقد أفسدت
فراشه ،وعرّضته للفضيحة والخزى والعار بكونه زوجَ بغى ،وتعليق ولد غيره عليه ،فل يحصلُ
بعد هذا بينهما مِن المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوبٌ بالنكاح ،فكان مِن محاسن شريعة
السلم التفريقُ بينهما ،والتحري ُم المؤبد على ما سنذكره ،ول يترتب هذا على بعض اللعان كما ل
يتر ّتبُ على بعض لعان الزوج .قالوا :ولنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين ،فلم يثبت بأيمان أحدهما،
كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الختلف.
المذهب الثالث :أن الفرقةَ ل تحصُل إل بتمام
ب أبى حنيفة ،وإحدى الروايتين عن أحمد ،وهى ظاهر كلم
لعانهما ،وتفريق الحاكم ،وهذا مذه ُ
الخِرقى ،فإنه قال :ومتى تلعنا ،وفرق الحاكمُ بينهما ،لم يجتمعا أبداً .واحتج أصحابُ هذا القولِ
بقول ابن عباس فى حديثه :ففرّق رسول ال صلى ال عليه وسلم بينهما .وهذا يقتضى أن الفُرقة لم
تتَحصُلْ قبله ،واحتجوا بأن عويمراً قال :كذبتُ عليها يا رسول ال ،إن أمسكتها ،فطلقها ثلثاً قبل
أن يأ ُم َرهُ رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهذا حج ٌة مِن وجهين ،أحدهما :أنه يقتضى إمكان
إمساكها .والثانى :وقوع الطلق ،ولو حصلت الفرقةُ باللعان وحده ،لما ثبت واح ٌد مِن المرين،
وفى حديث سهل بن سعد :أنه طلقها ثلثاً ،فأنفذه رسولُ ال صلى ال عليه وسلم .رواه أبو داود.
قال الموقعون للفُرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم :اللعان معنىً يقتضى التحري َم المؤبّد،
كما سنذكره ،فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع ،قالوا :ولن الفُرقة لو وقعت على تفريقِ
الحاكم ،لساغ تركُ التفريق إذا كرهه الزوجان ،كالتفريق بالعيب والعسار ،قالوا :وقولُه :فرّق
220
النبى صلى ال عليه وسلم ،يحتمل أموراً ثلثة .أحدها :إنشاء الفرقة .والثانى :العلمُ بها .والثالث:
إلزامُه بموجبها من الفرقة الحسية.
وأما قوله :كذبت عليها إن أمسكتها ،فهذا ل يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه
شرعاً ،بل هو بادر إلى فراقها ،وإن كان المر صائرًا إلى ما بادر إليه ،وأما طلقُه ثلثةً ،فما زاد
الفُرقة الواقعة إل تأكيداً ،فإنها حرمت عليه تحريماً مؤبّداً ،فالطلقُ تأكيد لهذا التحريم ،وكأنه قال:
ل لى بعد هذا وأما إنفا ُذ الطلقِ عليه ،فتقريرٌ لموجبه من التحريم ،فإنها إذا لم تَحِل له باللعان
ل تَحِ ّ
ق الثلث تأكيدًا للتحريم الواقع باللعان ،فهذا معنى إنفاذه ،فلما لم ينكره عليه ،وأَقرّه
أبداً ،كان الطل ُ
ظ النبىّ
ك لف َ
على التكلم به وعلى موجبه ،جعل هذا إنفاذاً من النبىّ صلى ال عليه وسلم وسهل لم يح ِ
صلى ال عليه وسلم أنه قال :وقع طلقُك ،وإنما شاهد ال ِقصّة ،وعد َم إنكار النبى صلى ال عليه
ل أعلم.
وسلم للطلق ،فظن ذلك تنفيذاً ،وهو صحيح بما ذكرنا من العتبار ،وا ّ
فصل
الحكم الثانى :أن فرقة اللعان فسخ ،وليست بطلقٍ ،وإلى هذا ذهب الشافعىّ وأحمد ،ومن
قال بقولهما ،واحتجوا بأنها فرق ٌة تُوجب تحريمًا مؤبّداً ،فكانت فسخاً كفُرقة الرضاع ،واحتجوا بأن
ج به الطلَق ،فل يقع به الطلقُ ،قالوا :ولو كان
اللعان ليس صريحاً فى الطلق ،ول نوى الزو ُ
اللعان صريحاً فى الطلق ،أو كناية فيه ،لوقع بمجرد لعان الزوج ،ولم يتوقف على لِعان المرأة،
قالوا :ولنه لو كان طلقاً ،فهو طلق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلث ،فكأن يكون
ن الطلقَ بيد الزوج ،إن شاء طلقَ ،وإن شاء أمسكَ ،وهذا الفسخُ حاصِل بالشرع
رجعياً .قالوا :ول ّ
وبغير اختياره ،قالوا :وإذا ثبت بالسنة وأقوالِ الصحابة ،ودللةِ القرآن ،أن فرقة الخُلع ليست
بطلقٍ ،بل هى فسخ مع كونها بتراضيهما ،فكيف تكونُ فرق ُة اللعانِ طلقاً؟.
فصل
الحكم الثالث :أن هذه الفُرقة توجب تحريمًا مؤبداً ل يجتمعان بعدها أبداً .قال الوزاعى:
حدثنا الزبيدى ،حدثنا الزهرى ،عن سهل بن سعد ،فذكر قصة الملعنين ،وقال :ففرق رسول ال
صلى ال عليه وسلم بينهما وقال :ل يجتمعان أبداً.
وذكر البيهقى من حديث سعيد بن جبير ،عن ابن عمر ،عن النبى صلى ال عليه وسلم قال:
المتلعنان إذا تفرقا ل يجتمعان أبداً.،قال :وروينا عن على ،وعبد ال بن عباس رضى ال عنهم،
قال :مضت السنة فى المتلعنين أن ل يجتمعا أبداً .قال :وروى عن عمر بن الخطاب رضى ال
221
عنه أنه قال :يفرق بينهما ول يجتمعان أبداً وإلى هذا ذهب أحمد ،والشافعى ومالك ،والثورىّ ،وأبو
عُبيد ،وأبو يوسف.
وعن أحمد رواية أخرى :أنه إن أكذب نفسه ،حلّت له ،وعاد فِراشه بحاله ،وهى رواية شاذة
شذّ بها حنبل عنه .قال أبو بكر :ل نعلَمُ أحداً رواها غيره ،وقال صاحب ((المغنى)) :وينبغى أن
تُحمل هذه الرواية على ما إذا لم يُفّرق بينهما .فأما مع تفريقِ الحاكم بينهما ،فل وجهَ لبقاء النكاح
بحاله.
قلت :الروايةُ مطلقة ،ول أثر لتفريقِ الحاكم فى دوام التحريم ،فإن الفُرقة الواقعة بنفس
اللعان أقوى من الفُرقة الحاصلة بتفريق الحاكم ،فإذا كان إكذاب نفسه مؤثراً فى تلك الفُرقة القوية،
رافعًا للتحريم الناشىء منها ،فلن يُؤ ّثرَ فى الفُرقة التى هى دونها ،ويرفعَ تحريمها أولى.
وإنما قُلنا :إن الفرقة بنفس اللعان أقوى مِن الفرق ِة بتفريق الحاكم ،لن فُرقة اللعان تستنِدُ إلى
ق أو َأ َب ْوهُ ،فهى فُرقة من الشارع بغير
حكم ال ورسوله ،وسوا ٌء رضى الحاك ُم والمتلعِنانِ التفري َ
رِضى أحدٍ منهم ول اختياره ،بخلفِ فُرقة الحاكم فإنه إنما يفرق باختياره.
وأيضاً فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه عليه ،بخلف ما إذا توقّف
على تفريق الحاكم ،فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة ،ول كان له سلطانٌ عليها ،وهذه الروايةُ
ب أبى حنيفة
هى مذهبُ سعي ِد بن المسيب ،قال :فإن أكذب نفسَه ،فهو خاطبٌ من الخُطّاب ،ومذه ُ
ومحمد ،وهذا على أصله اطرد ،لن فُرقة اللعان عنده طلق .وقال سعي ُد بن جبير :إن أكذب نفسه،
رُدّت إليه ما دامت فى العدة.
ل الذى دلت عليه السنةُ الصحيح ُة الصريحةُ ،وأقوالُ الصحابة رضى
ل الوّ ُ
والصحيح :القو ُ
ال عنهم ،وهو الذى تقتضيه حِكمةُ اللعان ،ول تقتضى سواه ،فإن لعنة ال تعالى وغضَبه قد حَلّ
جبَةُ)) ،أى
بأحدهما ل محالة ،ولهذا قال النبى صلى ال عليه وسلم عند الخامسة(( :إنها المو ِ
ن هو الملعونَ
الموجبة لهذا الوعيد ،ونحن ل نعلم عينَ مَنْ حلّت به يقيناً ،ففرق بينهما خشي َة أن يكو َ
الذى قد وجبت عليه لعنةُ ال وباءَ بها ،فيعلُو امرأ ًة غيرَ ملعونه ،وحِكمة الشرع تأبى هذا ،كما أبت
أن َي ْعُلوَ الكا ِفرُ مسلمة والزانى عفيفةً.
فإن قيل :فهذا يوجب أل يتزوج غيرَها لما ذكرتم بعينه؟
قيل :ل يُوجب ذلك ،لنا لم نتحقق أنه هو الملعون ،وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك ،وشككنا
فى عينه ،فإذا اجتمعا ،لزمه أح ُد المرين ولبد ،إما هذا وإما إمساكُه ملعون ًة مغضوباً عليها قد
222
وجب عليها غضبُ ال ،وباءت به ،فأما إذا تزوّجت بغيره ،أو تزوّج بغيرها ،لم تتحقق هذه
المفسدة فيهما.
ل أبداً ،فإن الرجل
وأيضاً فإن النفرة الحاصلة من إساءة كُلّ واح ٍد منهما إلى صاحبه ل تزو ُ
إن كان صادقاً عليها ،فقد أشاعَ فاحِشتها ،وفضحَها على رؤوس الشهاد ،وأقامها مقام الخزى،
وحقق عليها الخزى والغضب ،وقطع نسب ولدها ،وإن كان كاذباً ،فقد أضافَ إلى ذلك بهتَها بهذه
الفرية العظيمة ،وإحراق قلبها بها والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الشهاد،
وأوجبت عليه لعنة ال .وإن كانت كاذبة ،فقد أفسدت فراشه وخانته فى نفسها ،وألزمته العارَ
والفضيحة وأحوجتُه إلى هذا المقام المُخزى ،فحصل ِلكُلّ واحدٍ منهما من صاحبه من النّفرة
ح ْكمَةٌ
شرْعُ ُه ُكلّه ِ
والوحشة ،وسوء الظن ما ل يكاد يلتئم معه شملُهما أبداً ،فاقتضت حِكمة مَنْ َ
ومصلح ٌة وعَدْلٌ ورحمةٌ تحتّم الفرقة بينهما ،وقطع الصحبة المتمحّضةِ مفسدة.
صنَعَ مِن القبيح
وأيضاً فإنه إذا كان كاذباً عليها ،فل ينبغى أن يُسلّطَ على إمساكها مع ما َ
ج بغى.
س َكهَا مع علمه بحالها ،ويرضى لنفسه أن يكون زو َ
إليها ،وإن كان صادقاً ،فل ينبغى أن يُم ِ
ل له وطؤها بملك اليمين؟ قلنا :ل
فإن قيل :فما تقولون :لو كانت أمة ثم اشتراها ،هل يَحِ ّ
تَحِلّ له لنه تحريم مؤبّد ،فحرمت على مشتريها كالرضاع ،ولن المطلّق ثلثًا إذا اشترى مطلقته
ل له قبل زوج وإصابة ،فهاهنا أولى ،لن هذا التحري َم مؤبد ،وتحريم الطلق غير مؤبد.
لم َتحِ ّ
فصل
ط صداقُها بعد الدخول ،فل يَرج ُع به عليها ،فإنه إن كان صادقاً،
الحكم الرابع :أنها ل يَسْقُ ُ
ض الصداق ،وإن كان كاذباً فأولى وأحرى.
فقد استحلّ من فرجها عو َ
فإن قيل :فما تقولون :لو وقع اللعانُ قبلَ الدخول ،هل تحكمون عليه بنصف المهر،
أو تقولون :يسقط جملة؟
قيل :فى ذلك قولنِ للعلماء ،وهما روايتان عن أحمد مأخذهُما :أن الفُرقة إذا كانت بسبب
من الزوجين كلعانهما أو منهما ومن أجنبى ،كشرائها لزوجها قبل الدخول ،فهل يسقط الصداقُ
تغليباً لجانبها كما لو كانت مست ِقلّضة بسبب الفُرقة أو نِصفُه تغليباً لجانبه ،وأنه هو المشاركُ فى
سبب السقاط ،والسيد الذى باعه متسبب إلى إسقاطه ببيعه إياها؟ فهذا الصل فيه قولن .وكُلّ
شرَطَه ،فإنه
ت الصداق كطلقه ،إل فسخه لِعيبها ،أو فواتِ شرطٍ َ
فُرقة جاءت مِن قبل الزوج نصّ َف ِ
ط ُكلّه ،وإن كان هو الذى فسخ ،لن سبب الفسخ منها وهى الحاملة له عليه .ولو كانت الفرقُة
يسق ُ
223
بإسلمه ،فهل يسقط عنه ،أو تُنصفه؟ على روايتين فوجهُ إسقاطه ،أنه فعل الواجب عليه ،وهى
الممتنعة من فعل ما يجبُ عليها ،فهى المتسببة إلى إسقاط صداقها بامتناعها من السلم ،ووجهُ
ف أن سبب الفسخ من جهته.
التنصي ِ
فإن قيل :فما تقولون فى الخلع :هل يُنصفه أو يُسقطه؟
قيل :إن قلنا :هو طلق َنصّفه ،وإن قلنا :هو فسخ ،فقال أصحابنا :فيه وجهان .أحدهما:
كذلك تغليباً لجانبه .والثانى :يسقطه لنه لم يستقل بسبب الفسخ ،وعندى ،أنه إن كان مع أجنبى
نصفه وجهاً واحداً ،وإن كان معها ،ففيه وجهان.
فإن قيل :فما تقولون :لو كانت الفُرقة بشرائه لِزوجته من سيدها :هل يُسقطه أو يُنصفه؟
قيل :فيه وجهان :أحدهما :يسقطه ،لن مستحق مهرها تسبّب إلى إسقاطه ببيعها ،والثانى:
ينصّفه لن الزوج تسبب إليه بالشراء ،وكُلّ فرقة جاءت من قبلها كردتها ،وإرضاعها من يفسَخُ
إرضاعُه ِنكَاحَها ،وفسخها لعسارِه أو عيبه فإنه يسقط مهرُها.
فإن قيل :فقد قلتم :إن المرأة إذا فسخت لعيب فى الزوج سقط مهرها ،إذ الفُرقة من جهتها،
خ من جهته فتنصفوه ،كما
وقلتم :إن الزوجَ إذا فسخ لِعيب فى المرأة سقط أيضًا ولم تجعلوا الفس َ
جعلتموه لِفسخها لعيبه من جهتها ،فأسقطتموه ،فما الفرق؟ قيل :الفرقُ بينهما أنه إنما بذل المهر فى
مقابلة بُضع سليم من العيوب ،فإذا لم يتبين كذلك ،وفسخ ،عاد إليها كما خرج منها ،ولم يستوفه،
ول شيئاً منه ،فل يلزمه شىء من الصداق ،كما أنها إذا فسخت لِعيبه لم تُسلم إليه المعقود عليه ،ول
ق عليه شيئًا من الصداق.
شيئاً منه ،فل تستحِ ّ
فصل
ل ال صلى ال عليه
الحكم الخامس :أنها ل نفقةَ لها عليه ول سكنى ،كما قضى به رسو ُ
وسلم وهذا موافق لحكمه فى المبتوتة التى ل رجعةَ لزوجها عليها ،كما سيأتى بيانُ حكمه فى ذلك،
ط النفقة والسكنى للملعنة أولى مِن سقوطها
وأنه موافقٌ لكتاب ال ،ل مخالف له ،بل سقو ُ
ل إلى أن ينكِحهَا فى عِدتها ،وهذهِ ل سبيل له إلى نكاحها ل فى العدة
للمبتوتة ،لن المبتوتَة له سبي ُ
ول بعدَها ،فل وجه أصلً لوجوب نفقتها وسُكناها ،وقد انقطعت العصمةُ انقطاعاً كلياً.
ن الذى
ب ال والميزا َ
ق بعضُها بعضاً ،وكلها تُوافق كتا َ
فأقضيتُه صلى ال عليه وسلم يُوافِ ُ
أنزل ليقو َم الناسُ بالقسط ،وهو القياسُ الصحيحُ ،كما ستقر عينُك إن شاء ال تعالى بالوقوف عليه
عن قريب
224
وقال مالك ،والشافعي :لها السكنى .وأنكر القاضى إسماعيل بن إسحاق هذا القول إنكاراً
شديداً.
وقوله(( :من أحل أنهما يتفرقان من غير طلق ،ول متوفى عنها)) ل يدل مفهومه على أن
كل مطلقة ،ومتوفى عنها لها النفقةُ والسكنى ،وإنما يدل على أن هاتين الفُرقتين قد يجبُ معهما نفقة
وسكنى ،وذلك إذا كانت المرأة حاملً ،فلها ذلك فى فرقة الطلق اتفاقاً ،وفى فرقة الموت ثلثة
أقوال ،أحدها :أنه ل نفقة لها ول سكنى ،كما لو كانت حائلً ،وهذا مذهبُ أبى حنيفة وأحمد فى
إحدى روايتيه ،والشافعى فى أحد قوله ،لزوال سبب النفقة بالموت على وجه ل يُرجى عودهُ ،فلم
يبق إل نفقةُ قريب ،فهى فى مال الطفل إن كان له مال ،وإل فعلى من تلزمه نفقته من أقاربه.
والثانى :أن لها النفقة والسكنى فى تركته تُقدم بها على الميراث ،وهذا إحدى الروايتين عن
أحمد ،لن انقطاع العصمة بالموت ل يزيد على انقطاعها بالطلق البائن ،بل انقطاعها بالطلق
ل المرأةُ زوجَها بعد موته عند جمهور العلماء حتى المطلقة الرجعية عند أحمد
أشد ،ولهذا تغس ُ
ومالك فى إحدى الروايتين عنه ،فإذا وجبت النفق ُة والسّكنى للبائن الحامل ،فوجوبُها للمتوفى عنها
زوجها أولى وأحرى.
والثالث :أن لها السكنى دون النفقة حاملً كانت أو حائلً ،وهذا قولُ مالك وأحدُ قولى
الشافعى إجراء لها مجرى المبتوتة فى الصحة ،وليس هذا موضعَ بسطِ هذه المسائل وذكر أدلتها،
والتمييز بين راجحها ومرجوحها إذ المقصود أن قوله(( :من أجل أنهما يفترقان من غير طلق ول
ت والبيتُ فى
متوفى عنها زوجها)) إنما يدل على أن المطلقة والمتوفى عنها قد يجب لهما القو ُ
ج مِن قول
ل أعلم أن ُه مُ ْدرَ ٌ
الجملة ،فهذا إن كان هذا الكلم مِن كلم الصحابى ،والظاهر وا ّ
الزهرى.
فصل
ل ال صلى ال عليه وسلم
الحكم السادس :انقطاعُ نسب الولد من جهة الب ،لن رسو َ
قضى أل يدعى ولدُها لب ،وهذا هو الحقّ ،وهو قولُ الجمهور ،وهو أجلّ فوائد اللعان ،وشذ
ى صلى ال عليه وسلم قضى
ض أهل العلم ،وقال :المولود للفراش ل ينفيه اللعانُ البتة ،لن النب ّ
بع ُ
أن الولد لِلفراش ،وإنما ينفى اللعانُ الحمل ،فإن لم يُلعنها حتى ولدت ،لعن لسقاط الحد فقط ،ول
ل ال صلى ال عليه وسلم
ينتفى ولدُها منه ،وهذا مذهبُ أبى محمد بن حزم ،واحتج عليه بأن رسو َ
ن ُولِ َد على فراشه ولد ،فهو ولدُه إل حيثُ نفاه
قضى أن الولد لصاحب الفراش ،قال :فصح أن كل مَ ْ
225
ال على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم ،أو حيث يوقن بل شك أنه ليس ولده ،ولم ينفه صلى ال
عليه وسلم إل وهى حامل باللعان فقط ،فبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب ،قال :ولذلك قلنا :إن
ل َتكْسِب كُلّ
صدقته فى أن الحمل ليس منه ،فإن تصديقها له ل يُلتفت إليه لن ال تعالى يقول{ :وَ َ
عَل ْيهَا} [النعام ]164 :فوجب أن إقرار البوين يصدُق على نفى الولد ،فيكون كسبًا على
نَ ْفسٍ إلّ َ
لّ الول َد إذا أكذبته المّ ،والتعنت هى والزوج فقط ،فل ينتفى فى غير هذا
غيرهما ،وإنما نفى ا ُ
الموضع ،انتهى كلمه.
ب من يقول :إنه ل يصح اللعان على الحمل حتى تضع ،كما يقول أحمد وأبو
وهذا ضد مذه ِ
حنيفة ،والصحيح :صحتُه على الحمل ،وعلى الولد بعد وضعه ،كما قاله مالك والشافعى ،فالقوال
ثلثة.
ول تنافى بين هذا الحكم وبين الحكم بكون الولد للفراش بوجه ما ،فإن الفراش قد زال
ل ال صلى ال عليه وسلم بأن الولدَ للفراش عند تعارض الفراش ،ودعوى
باللعان ،وإنما حكم رسو ُ
ب الفراش قد نفى الولَد
الزانى ،فأبطل دعوى الزانى للولد وحكم به لصاحب الفراش ،وهاهنا صاح ُ
عنه.
فإن قيل :فما تقولون :لو لعن لمجرد نفى الولد مع قيام الفراش ،فقال :لم تزن ،ولكن ليس
هذا الول ُد ولدى؟
قيل :فى ذلك قولن للشافعى ،وهما روايتان منصوصتان عن أحمد.
إحداهما :أنه ل لِعان بينهما ،ويلزمه الولدُ ،وهى اختيار الخرقى.
والثانية :أن له أن يُلعِنَ لنفى الولد ،فينتفى عنه بلعانه وحده ،وهى اختيا ُر أبى البركات ابن
تيمية ،وهى الصحيحة.
فإن قيل :فخالفتم حك َم رسول ال صلى ال عليه وسلم ((أن الولد للفراش)) قلنا :معاذ ال،
بل وافقنا أحكامَه حيث وقع غيرُنا فى خلف بعضها تأويلً ،فإنه إنما حكم بالولد للفراش حيث
ادعاه صاحبُ الفراش ،فرجح دعواه بالفراش ،وجعله له ،وحكم بنفيه عن صاحب الفراش حيث
ل يُدعى لب ،فوافقنا الحكمين ،وقلنا بالمرين ،ولم نفرق
نفاه عن نفسه ،وقطع نسبه منه ،وقضى أ ّ
ل ونفيه مولوداً ،فإن الشريعة ل تأتى على هذا
تفريقاً بارداً جداً سمجًا ل أثر لَهُ فى نفى الولد حم ً
ل نصيبه مِن ذوق الفقه وأسرارِ
الفرق الصّورى الذى ل معنى تحته البتة ،وإنما يرتضى هذا مَنْ قَ ّ
ل المستعان ،وبه التوفيق.
الشريعةِ وحِك ِمهَا ومعانِيها ،وا ّ
226
(يتبع)...
فصل @
ق الولد بأمّه عند انقطاع نسبه مِن جهة أبيه ،وهذا اللحاق يُفيد حكماً
الحكم السابع :إلحا ُ
ج الولدِ منها أمر
زائداً على إلحاقه بها مع ثبوت نسبه من الب ،وإل كان عديمَ الفائدة فإن خرو َ
ل مع ثبوتِ النسب من الب ،وقد
محقق ،فلبد فى اللحاق من أمر زائد عليه ،وعلى ما كان حاص ً
اختُلفَ فى ذلك.
ب الولد من الم ،كما انقط َع مِن الب،
فقالت طائفة :أفادَ هذا اللحاق قط َع توهمِ انقطاعِ نس ِ
ى صلى ال عليه وسلم هذا الوَهم وألحق بالم ،وأكّدَ
وأنه ل يُنسب إلى أمّ ،ول إلى أبٍ ،فقطع النب ّ
هذا بإِيجابه الح ّد على من قذفه أو قذفَ أمه ،وهذا قول الشافعى ومالك ،وأبى حنيفة ،وكُل من ل
يرى أن أمه وعصباتها له.
ل النسب الذى كان إلى أبيه
وقالت طائفة ثانية :بل أفادنا هذا اللحاق فائد ًة زائدة ،وهى تحوي ُ
إلى أمه ،وجعل أمّه قائمةً مقام أبيه فى ذلك ،فهى عصبتُه وعصباتُها أيضاً عصبته ،فإذا مات،
ل هو الصواب ،لما روى أهل
ل ابن مسعود ،ويُروى عن على ،وهذا القو ُ
حازَت ميراثَهُ ،وهذا قو ُ
السنن الربعة ،من حديث واثلة بن السقع ،عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال(( :تَحُوزُ ال َم ْرَأةُ
عَليْهِ)) ،ورواه المام أحمد وذهب إليه.
ع َنتْ َ
عتِيقها ،ولَقِيطَهاَ ،و َولَدَها الّذى لَ َ
ثَلثَةَ َموَارِيثََ :
وروى أبو داود فى ((سننه)) :من حديث عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده عن النبىّ
ن َبعْدِهَا.
عنَةِ لمّه ولِورثِتهَا مِ ْ
ث ابن المُلَ َ
صلى ال عليه وسلم ،أنه جعل مِيرَا َ
ل ال صلى ال عليه وسلم
وفى السنن أيضاً مرسلً :من حديث مكحول ،قال :جعلَ رسو ُ
ن َبعْدِهَا.
لمّه ولوِرثِتها مِ ْ
عنَةِ ُ
ن المُلَ َ
ميراثَ اب ِ
وهذه الثارُ موافقة لمحضِ القياس ،فإن النسَب فى الصل للب ،فإذا انقطع مِن جهته صار
للم ،كما أن الولء فى الصل لمعتق الب ،فإذا كان الب رقيقاً كان لمعتق الم .فلو أعتق البُ
بعد هذا ،انجز الول ُء مِن موالى الم إليه ،ورجع إلى أصله ،وهو نظي ُر ما إذا كذب الملعن نفسه،
ض القياس ،وموجبُ
واستلحق الولد ،رجع النسبُ والتعصيب من الم وعصبتها إليه .فهذا مح ُ
ح ْبرِ المة وعالمِها عبد الِّ بن مسعود ،ومذهبُ إمامى أهل الرض
الحاديث والثار ،وهو مذهبُ َ
ل القرآن بألطف إِيماء وأحسنه ،فإن ال
فى زمانهما ،أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ،وعليه يَدُ ّ
سبحانه جعل عيسى مِن ذرية إبراهيم بواسطة مريم أمّه ،وهَى مِن صَميم ذرية إبراهيم ،وسيأتى
227
ى صلى ال عليه وسلم وأحكامه فى الفرائض إن شاء ال
مزيدُ تقرير لهذا عند ذكر أقضيةِ النب ّ
تعالى.
فإن قيل :فما تصنعون بقوله فى حديث سهل الذى رواه مسلم فى ((صحيحه)) فى قصة
ث ِم ْنهَا و َت ِرثَ منه ما فرضَ ال لها؟ قيل :نتلقاه بالقبول
اللعان :وفى آخره :ثم جرت السنةُ أن ِي َر َ
والتسليم والقول بموجبه ،وإن أمكن أن يكون مدرجاً من كلم ابن شهاب وهو الظا ِهرُ ،فإن تعصيبَ
الم ل يُسقط ما فرض ال لها من ولدها فى كتابه ،وغايتُها أن تكونَ كالب حيث يجتمع له الفرض
والتعصيب ،فهى تأخذ فرضها ولبُدّ فإن فصل شى ٌء أخذته بالتعصيب ،وإل فازت بفرضها ،فنحن
قائلون بالثار ُكلّها فى هذا الباب بحمد ال وتوفيقه.
فصل
الحكمُ الثامن(( :أنها ل تُرمى ول يُرمى ولدُها ،ومَنْ رماها أو َرمَى ولَدَها ،فعليه الحَدّ))
وهذا لن لِعانها نفى عنها تحقيقَ ما ُر ِم َيتْ به ،فيُحدّ قاذِفُها وقا ِذفُ ولدها ،هذا الذى دلّت عليهِ السّنة
الصحيح ُة الصريحةُ ،وهو قولُ جمهور المة ،وقال أبو حنيفة :إن لم يكن هناك ولد نُ ِفىَ نسبُه ،حُدّ
قاذفها ،وإن كان هناك ولد نُفى نسبه ،لم يُحَدّ قاذفها ،والحديثُ إنما هو فيمن لها ولد نفاه الزوجُ،
ق أنه متى نَفَى نسب ولدها ،فقد حكم بزناها بالنسبة إلى الولد فأثر ذلك
والذى أوجب له هذا الفر َ
شبهةً فى سقُوط ح ّد القذف.
فصل
الحكم التاسع :أن هذه الحكام إنما ترتبت على لِعانهما معاً ،وبعد أن تَمّ اللعانانِ ،فل يترتب
شىء منها على لِعان الزوج وحده ،وقد خرّج أبو البركات ابن تيمية على هذا المذهب انتفاء الولد
بلعان الزوج وحدَه ،وهو تخريجٌ صحيح ،فإن لِعانه كما أفاد سقوطَ الحد وعا َر القذف عنه مِن غير
اعتبار لعانها ،أفاد سقوطَ النسب الفاسد عنه ،وإن لم تُلعن هى ،بطريق الولى ،فإنّ تضرره
بدخول النسب الفاسِد عليه أعظمُ مِن تضرره بحدّ القذف ،وحاجته إلى نفيه عنه أش ّد مِن حاجته إلى
ل أعلم.
دفعِ الحد ،فلِعانه كما استقلّ بدفعِ الحد استقلّ بنفى الولد ،وا ّ
فصل
ب النفقة والسكنى للمطلقة والمتوفّى عنها إذا كانتا حا ِملَين فإنه قال:
شرُ :وجو ُ
الحكم العا ِ
((من أجل أنهما يفترقان عن غير طلق ول متوفى عنها)) ،فأفاد ذلك أمريْنِ ،أحدهما :سقوطُ نفقة
228
ل مِن الزوج .والثانى :وجوبهُما لها ،وللمتوفّى عنها إِذا كانتا حاملَين
البائن وسكناها إذا لم تكن حامِ ً
من الزوج.
فصل
ل بن أُميّة ،وإِنْ
وقولُه صلى ال عليه وسلم(( :أَ ْبصِروُها فَإِنْ جَاءَت بِ ِه كَذا وكذاَ ،ف ُه َو ِلهِل ِ
حكْم
حمَاء)) ،إِرشا ٌد منه صلى ال عليه وسلم إلى اعتبارِ ال ُ
ك بن سَ ْ
شرِي ِ
ت بِ ِه كَذا وكَذا فهُو لِ َ
جَا َء ْ
ق الولد بمنزلة الشبه ،وإنما لم يُلحق بالملعن لو
شبَهِ مدخلً فى معرفة النسب ،وإلحا ِ
ن لِل ّ
بالقَافَةِ ،وأَ ّ
قُدّر أن الشب َه له ،لمعارضة اللعان الذى هو أقوى مِن الشبه له كما تقدم.
فصل
وقوله فى الحديثَ(( :ل ْو أنّ رجلً َوجَ َد مع امرأتِهِ رجلً يق ُتلُه فتق ُتلُونه به)) دليل على أن من
ل فى داره ،وادّعى أنه وجده مع امرأتِه أو حريِمه ،قتل فيه ول يُقبل قوله ،إذ لو ُقبِلَ قولُه،
قتل رج ً
لُه ِد َرتِ الدماءُ ،وكان كل من أراد قتلَ رجل أدخله دارَه ،وادعى أنه وجده مع امرأته.
ولكن هاهنا مسألتان يجب التفريقُ بينهما .إحداهما :هل يسعه فيما بينه وبين ال تعالى أن
يق ُتلَه ،أم ل؟ والثانية :هل يُقبل قوله فى ظاهر الحكم أم ل؟ وبهذا التفريق يزولُ الِشكالُ فيما نُقلَ
عن الصحابة رضى ال عنهم فى ذلك ،حتى جعلها بعض العلماء مسألَة نزاع بين الصحابة،
وقالوا :مذهب عمر رضى ال عنه :أنه ل يُقتل به ،ومذهب على :أنه يُقتل به ،والذى غره ما رواه
سعي ُد بن منصور فى ((سننه)) ،أن عمر بن الخطاب رضى ال عنه بينا هو يوماً يتغدى ،إذ جاءه
رجلٌ يعدو وفى يده سيف ملطخ بدم ،ووراءه قوم يعدون ،فجاء حتى جلسَ مع عمر ،فجاء
الخرون ،فقالوا يا أمي َر المؤمنين :إن هذا قتل صاحبنا ،فقال له عمر رضى ال عنه :ما تقول؟
فقال له :يا أميرَ المؤمنين ،إنى ضربت بين فخذى امرأتى ،فإن كان بينَهما أحد فقد قتلتُه ،فقال عمر
س ْيفِ ،فوقع فى وسط الرجل وفخذى المرأة،
ما تقولون؟ فقالوا :يا أمير المؤمنين ،إنه ضرَب بال ّ
فأخذ عم ُر رضى ال عنه سيفَه فهزّه ،ثم دفعه إليه ،وقال :إن عادوا ،فعد .فهذا ما نُقِل عن عُمر
رضى ال عنه.
ل عمن وَجَ َد مع امرأته رجلً فقتله ،فقال :إن لم يأتِ بأربعةِ شُهداء ،فل ُيعْطَ
سئِ َ
وأما على ،ف ُ
ف بينَ الصحابة ،وأنتَ إِذا تأملتَ
ف المنقول عن عمر ،فجعلها مسألةَ خل ٍ
ِب ُر ّمتِهِ ،فظن أن هذا خل ُ
حُكميهما ،لم تَجِدْ بينهما اختلفاً ،فإن عمر إنما أسقط عنه القودَ لما اعترف الولىّ بأنه كان مع
ف الولىّ بذلك ،فل قِصاصَ ول
امرأته ،وقد قال أصحابنا واللفظ لصاحب ((المغنى)) :فإن اعتر َ
229
دِية ،لما رُوى عن عمر ،ثم ساق القِصة ،وكلمه يُعطى أنه ل فرق بين أن يكون محصناً وغيرَ
محصن ،وكذلك حك ُم عمر فى هذا القتيل ،وقولُه أيضاً(( :فإن عادوا فعد)) ولم يفرق بين المحصَن
وغيره ،وهذا هو الصوابُ ،وإن كان صاحب ((المستوعب)) قد قال :وإن وجد مع امرأته رجلً
ينال منها ما يُوجب الرجم ،فقتله ،وادّعى أنه قتله لجل ذلك ،فعليه القصاصُ فى ظاهر الحكم ،إلّ
أن يأتىَ بينّة بدعواه ،فل يلزمه القصاصُ ،قال :وفى عدد البينة روايتان ،إحداهما :شاهدان،
ل مِن أربعة ،والصحيح
اختارها أبو بكر لن البينة على الوجود ل على الزنى ،والخرى ل يُقبل أق ّ
أن البينة متى قامت بذلك ،أو أق ّر به الولىّ ،سقط القصاص محصناً كان أو غيره وعليه يدل كلم
ل فقتله :إن لم يأت بأربعة شهداء فل ُيعْطَ ِب ُر ّمتِهِ)) وهذا لن
على ،فإنه قال فيمن وجد مع امرأته رج ً
هذا القتل ليس بحد للزنى ،ولو كان حداً لما كان بالسيف ولع ُت ِب َر له شروطُ إقامة الحد وكيفيته،
وإنما هو عقوب ٌة لمن تعدّى عليه ،وهتك حريمَه ،وأفسد أهلَه ،وكذلك فعل الزبير رضى ال عنه لما
تخلف عن الجيش ومعه جارية له ،فأتاه رجلن فقال :أعطنا شيئاً ،فأعطاهما طعاماً كان معه،
طلَعَ فى بيت قومٍ من
فقال :خلّ عن الجارية ،فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة وكذلك من ا ّ
ثُقب ،أو شق فى الباب بغير إذنهم ،فنظر حرمة أو عورة ،فلهم خذفه وطعنه فى عينه ،فإن انقلعت
عينُه ،فل ضَمان عليهم .قال القاضى أبو يعلى :هذا ظاه ُر كلم أحمد أنهم يدفعونه ،ول ضمان
عليهم من غير تفصيل.
وفصل ابن حامد فقال :يدفعه بالسهل ،فيبدأ بقوله :انصرف واذهب ،وإل نفعل بك كذا.
ل بل الحاديث
قلت :وليس فى كلم أحمد ،ول فى السنة الصحيحة ما يقتضى هذا التفصي َ
الصحيحة تدل على خلفه ،فإن فى ((الصحيحين)) عن أنس ،أن رجلً أطلع مِن جُحر في بعض
ط ُعنَه ،فأين الدفعُ
خ ِتلُه لي ْ
حُجر النبى صلى ال عليه وسلم ،فقام إليه بمِشْقًص أو بمشَاقِص ،وجعل يَ ْ
ط ُعنَه.
بالسهل وهو صلى ال عليه وسلم يخ ِتلُه ،أو يختبىء له ،ويختفى ِليَ ْ
وفى ((الصحيحين)) أيضاً :من حديث سهل بن سعد ،أن رجلً اطلع فى جُحْر فى باب النبىّ
ك بِ ِه َرأْسَه ،فلمّا رآهُ قالَ(( :لوْ
حّى يَ ُ
صلى ال عليه وسلم ،وفى يد النبىّ صلى ال عليه وسلم مِ ْد َر ً
ل ال َبصَر)).
ن مِنْ أَجْ ِ
جعِلَ الذْ ُ
ع ْينِكِ ،إ ّنمَا ُ
ط َع ْنتُ به فى َ
ك تنظُرنى لَ َ
علَمُ َأ ّن َ
أَ ْ
ل ال صلى ال عليه وسلم:
وفيهما أيضاً :عن أبى هُريرة رضى ال عنه ،قال :قال رسو ُ
جنَاحٌ)).
عَل ْيكَ ُ
ع ْينَهُ لَ ْم َيكُنْ َ
حصَاةٍ ،فَفَقَ ْأتَ َ
ك ِب َغ ْي ِر إِذْنٍَ ،فخَذَ ْفتَ ُه بِ َ
عَليْ َ
طلَعَ َ
ن امْرءًا ا ّ
((لَ ْو أَ ّ
ع ْينَهُ فَلَ ِديَ َة لَ ُه وَلَ ِقصَاصَ)).
طلَعَ فى َب ْيتِ َقوْمٍ ِب َغ ْي ِر إِ ْذ ِنهِمْ ،فَفَقؤوا َ
وفيهما أيضاً(( :مَنْ ا ّ
230
وهذا اختيارُ شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال ،وقال :ليس هذا مِن بابِ دف ِع الصائل ،بل مِن
ل من اعتدى على
باب عقوبةِ المعتدى المؤذى ،وعلى هذا فيجوزُ له فيما بينَه وبين ال تعالى قت ُ
حريمِه ،سواء كان محصَناً أو غي َر محصن ،معروفًا بذلك أو غي َر معروف ،كما دل عليه كلم
الصحاب ،وفتاوى الصحابة ،وقد قال الشافعى وأبو ثور :يسعُه قتلُه فيما بينه وبين ال تعالى إذا
كان الزانى محصناً ،جعله من باب الحدود .وقال أحمد وإسحاق :يُه َدرُ دمُه إذا جاء بشاهدين ولم
يُفصّل بين المحصن وغيره .واخْتلّف قولُ مالك في هذه المسألة ،فقال ابنُ حبيب :إن كان المقتولُ
ج البينة ،فل شىء عليه ،وإل ُقتِل به ،وقال ابنُ القاسم :إذا قامت البينةُ
محصناً ،وأقام الزو ُ
ن وغي ُر المحصَنِ سواء ،ويُهدر دمه ،واستحب ابنُ القاسم الديةَ فى غير المحصَن.
فالمحصَ ُ
فإن قيل :فما تقولون فى الحديث المتفق على صحته ،عن أبى هريرة رضى ال عنه ،أن
ل أيق ُتلُه؟ فقال
سعد بن عبادة رضى ال عنه قال :يا رسولَ ال :أرأيتَ الرجلَ يَجِ ُد مع امرأته رج ً
ل ال صلى
سعْدٌَ :بلَى والّذِى َب َع َثكَ بالحَقّ ،فقال رسو ِ
رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :ل)) ،فقال َ
سيّ ُدكُم)).
س َمعُوا إلى مَا يَقُولُ ً
ال عليه وسلم(( :ا ْ
شهَدَاء؟ قال:
حتّى آتى بَأ ْر َبعَةِ ُ
ل ُأ ْم ِهلُهُ َ
ت مَعَ امرأتِى رَجُ ً
ن وَجَ ْد ُ
وفى اللفظ الخر(( :إِ ْ
ل ال صلى ال عليه
ل ذِلكَ ،قال رسو ُ
س ْيفِ َقبْ َ
جلُهُ بال ّ
ق إِنْ ُك ْنتُ لُعَا ِ
((نعم)) قال :والّذى َب َع َثكَ بالحَ ّ
غ َي ُر ِمنّى؟)).
لّ أَ ْ
غ َيرُ ِمنْهُ ،وا ُ
سيّ ُدكُم ِإنّ ُه َل َغيُورٌ وَأنَا أَ ْ
س َمعُوا إِلى مَا يَقُولُ َ
وسلم(( :ا ْ
خ ُر الحديث دليل على أنه لو قتله لم يُقد به ،لنه قال:
قلنا:نتلقاه بالقبول والتسليم ،والقول بموجبه ،وآ ِ
بلى والذى أكر َمكَ بالحق ،ولو وجب عليه القصاصُ بقتله ،لما أقره على هذا الحلف ،ولما أثنى
غ ْيرَته ،ولقال :لو قتلَته ُقتِلتَ به وحديث أبى هريرة صريحٌ فى هذا ،فإن رسول ال صلى ال
على َ
غ َيرُ ِمنّى)) ،ولم ينكر عليه،
لّ أَ ْ
غيَ ُر ِمنْهُ وا ُ
لنَا أَ ْ
سعْدٍ َفوَالِّ َ
غ ْيرَة َ
ن مِنْ َ
جبُو َ
عليه وسلم قالَ(( :أ َتعْ َ
ول نهاه عن قِتله لن قولَه صلى ال عليه وسلم حُكم ملزم ،وكذلكَ فتواه حكم عام للمة ،فلو أذن له
فى قتله ،لكان ذلك حكماً منه بأن دمه هدرٌ فى ظاهر الشرع وباطنه ،ووقعت المفسد ُة التى درأها
الُّ بالقِصاص ،وتهالك الناس فى قتل من يريدون قتله فى دورهم ،ويدّعونَ أنهم كانُوا َي َر ْو َنهُم على
حريمهم ،فس ّد ال ّذرِيعَةَ ،وحَمى المفسدَة ،وصان الدماء ،وفى ذلك دليل على أنه يُقبل القاتل ،ويُقاد به
ى صلى ال عليه وسلم
جبَ النب ّ
فى ظاهر الشرع ،فلما حلف سعد أنه يقتلُه ول ينتظر به الشهود ،عَ ِ
غيُورٌ ،وأنه صلى ال عليه وسلم أغي ُر منه ،والُّ أشدّ غَيرةً ،وهذا يحتمِلُ
غ ْي َرتِه ،وأخبر أنه َ
من َ
معنيين.
231
أحدهما :إقراره وسكوُته على ما حلف عليه سع ٌد أنه جائز له فيما بينَه و َبيْنَ الِّ ،ونهيه عن
خرَه.
قتله فى ظاهر الشرع ،ول يناقض أولُ الحديث آ ِ
ل ال صلى ال عليه وسلم قال ذلك كالمن ِك ِر على سعد ،فقال(( :أَلَ
والثانى :أن رسو َ
سيّ ُدكُم)) يعنى :أنا أنهاه عن قتلِه وهو يقُول :بلى ،والذى أكرمك بالحق ،ثم
س َمعُونَ إلى مَا يَقُولُ َ
تَ ْ
ل أغيرُ منى .وقد
غ ْي َرتِه ،ثم قال :أنا أغي ُر ِمنْهُ ،وا ّ
أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة ،وأنه شِ ّدةُ َ
شرع إِقامة الشهداء الربعة مع شِ ّد ِة غيرته سبحانه ،فهى مقرون ٌة بحكمة ومصلحة ،ورحمة
وإحسان ،فالّ سبحانه مع شدّة غَيرته أعلم بمصالح عباده ،وما شرعه لهم من إقامة الشهود الربعة
ل ال صلى ال عليه
دون المبادرة إلى القتل ،وأنا أغيرُ من سعد ،وقد نهيته عن قتله ،وقد يُريد رسو ُ
ق بكلمه وسياق القصة.
وسلم كل المرين ،وهو اللي ُ
فصل
ن ولده لونَه
فى حُكمِه صلى ال عليه وسلم فى لُحُوق النسب بالزّوج إذا خالف لو ُ
سوَدَ كأَنه ُي َعرّضُ
ثبت عنه فى ((الصحيحين)) أن رَجلً قال له :إن امرأتى ولدت غلمًا أَ ْ
ن إِبلٍ))؟ قال :نعم .قال(( :مَا َل ْو ُنهَا؟)) قال:
ك مِ ْ
بنفيهِ ،فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم ك ((هَلْ َل َ
لّ صلى ال عليه وسلم(( :فََأنّى َأتَاهَا
ل رَسُولُ ا ِ
ح ْمرٌ .قالَ (( :فهَل فيها مِنْ َأ ْورَق؟)) قالَ :نعَمْ .قَا َ
ُ
عرْقٌ .فقال النبىّ صلى ال عليه وسلم(( :وهذَا َل َعلّهُ
لّ يكونُ َنزَعَهُ ِ
ذِلكَ؟)) قالَ :ل َعلْهُ يَا رَسُول ا ِ
عرْقٌ)).
َيكُونُ َنزَعَهُ ِ
ض إِذا كان على وج ِه السؤالِ
جبُ بالتعرِي ِ
وهذا الحديث مِن الفقه :أن الحدّ ل ي ِ
ض ولو كان على وجه المُقَابَحة والمشاتمة ،فقد َأ ْبعَدَ
والستفتاء ،ومن أخذ منه أنه ل يجبُ بالتعري ِ
جعَةَ ،و ُربّ تعريضٍ أفهمُ ،وأوجعُ للقلب ،وأبلغُ فى النكاية من التصريح ،وبساطُ الكلم وسياقُه
النّ ْ
ى الدّللة على المراد.
ل الكلم قطع ّ
يردّ ما ذكروه من الحتمال ،ويجع ُ
ن ونفى الولد.
سوّغُ اللّعا َ
وفيه أن مجرد الرّيبةِ ل يُ َ
وفيه ضربُ المثال والشباه والنظائر فى الحكام ،ومِن تراجم البخارى فى ((صحيحه))
على هذا الحديث :باب من شبه أصلً معلومًا بأصل مبين قد بيّن ال حكمه ليُفهمَ السائِلَ ،وساق معه
علَى أ ّمكَ َديْنٌ؟)).
حديثََ(( :أ َرَأ ْيتَ َلوْ كانَ َ
فصل
232
فى حُكمه صلى ال عليه وسلم بالولدِ لِلفراش ،وأن المة تكون فراشاً ،وفيمن استلحق بعدَ َم ْوتِ
أبيه
ن أبى
ثبت فى ((الصحيحين)) ،من حديث عائشة رضى ال عنها ،قالت :اختصم سع ُد ب ُ
عهِدَ
ن زمعة فى غلم ،فقال سعد :هذا يا رسولَ ال ابنُ أخى عتبة بن أَبى وقاص َ
وقّاص ،وعب ُد ب ُ
شبَههِ ،وقال عب ُد بنُ زمعة :هذا أخى يا رسولَ ال ُولِدَ على فِراش أبى مِن
ظرْ إِلى َ
إِلىّ أنه ابنُه ،انْ ُ
عبْدُ بْنَ
ل ال صلى ال عليه وسلم ،فرأى شبهاً بينًا بعُتبة ،فقالُ (( :ه َو َلكَ يا َ
وَلي َدتِهِ ،فنظر رسو ُ
سوْ َدةُ قَطّ.
سوْ َدةُ)) ،فلم َت َرهُ َ
حتَجِبى ِمنْهُ يا َ
جرُ وا ْ
َز ْمعَةَ ،ال َولَ ُد لِلفِراشِ ،وِل ْلعَا ِهرِ الحَ َ
ت النسب بالفراش ،وفى أن المة تكون ِفرَاشاً بالوطء ،وفى
ى أصلٌ فى ثبو ِ
فهذا الحكمُ النبو ّ
ض الفِراش ،قُدّ َم عليه الفِراشُ ،وفى أن أحكا َم النسب تتبعّضُ ،فتثبُت من وجهٍ
أن الشّبه إذا عار َ
دُونَ وجه ،وهو الذى يُسميه بعضُ الفقهاء حُكمًَا بينَ حُكمين ،وفى أن القافةَ حقٌ ،وأنها من الشرع.
ت النسب أربعةٌ:
ت ثبو ِ
ت النسبِ بالفِراش ،فأجمعت عليه المةُ ،وجها ُ
فأما ثبو ُ
الفراشُ ،والستلحاقُ ،والبيّنةُ ،والقَافَةُ.
فالثلثة الول ،متفق عليها ،واتفق المسلمون على أن النّكاحَ يثبُت به
الفراشُ ،واختلفوا فى التسرّى ،فجعله جمهورُ المة موجبًا للفراش ،واحتجوا بصريحِ حديثِ عائشة
ى صلى ال عليه وسلم قضى بالول ِد لِزمعة ،وصرّح بأنه صاحبُ الفراش ،وجعل
الصحيح ،وأن النب ّ
ذلك عِلة للحكم بالولد له فس َببُ الحكم ومحلُه إِنما كان فى المة ،فل يجوزُ إِخلءُ الحديث منه
وحملُه على الحرة التى لم تذكر البتة ،وإنما كان الحكمُ فى غيرها ،فإن هذا يستلزِ ُم إِلغاءَ ما اعتبره
ع وعلّق الحك َم به صريحاً ،وتعطيلَ محلّ الحكم الذى كان لجله وفيه.
الشار ُ
ن الذى أنزل له ال تعالى لِيقومَ
ثم لو لم َيرِدِ الحديثُ الصحيح فيه ،لكان هو مقتضى الميزا ِ
ح ّرةَ
حسّاً وحقيقةً وحُكماً ،كما أن ال ُ
س ّريّة فِراشٌ ِ
الناسُ بالقسْطِ ،وهو التسويةُ بين المتماثلين ،فإن ال ّ
كذلك ،وهى تُراد لما تُراد له الزوج ُة مِن الستمتاع والستيلدِ ،ولم يزل الناسُ قديماً وحديثاً
س ّريّةُ
س ّم َيتْ فِراشًا لمعنى هى وال ّ
يرغبون فى السّرارى لستيلدِهن واستفراشهن ،والزوجةُ إِنما ُ
فيه على حدّ سواء.
ل ولد ولدته مِن السيد ،فل يلحقُه الول ُد إل إذا
ن المة فراشاً بأوّ ِ
وقال أبو حنيفة :ل تكو ُ
استلحقه ،فيلحقه حينئذ بالستلحاق ،ل بالفِراشِ ،فما ولدت بعد ذلك لَحقه إل أن َينْ ِفيَه ،فعندهم ولدُ
س َتلْحَقٌ ،ومعلومٌ أن النبىّ صلى ال عليه وسلم
المة ل يلحق السي َد بالفراش ،إل أن يتقدّمه ولد مُ ْ
233
ت له قبل ذلك غيره ،ول سأل
لمَة ولَ َد ْ
ط أن ه ِذهِ ا َ
ألحق الول َد ب َز ْمعَةَ ،وأثبتَ نسبه منه ،ولمْ ي ْث ُبتْ قَ ّ
النبىّ صلى ال عليه وسلم عن ذلك ول استفصل فيه.
قال منازعوهم :ليس لهذا التفصيلِ أصلٌ فى كتابٍ ول سُنة ،ول أثرٍ عن صاحب ،ول
ن المة فراشاً فى الجملة ،ولكنه
تقتضيهِ قواع ُد الشرع وأصوله ،قالت الحنفية :ونحن ل نُنكر كو َ
ن الحرة ،فاعتبرنا ما تعتق به بأن َتلِ َد منه ولداً فيستلحقه ،فما ولدت بعد
فراش ضعيف ،وهى فيه دو َ
ذلك ،لحق به إل أن َينْ ِفيَه ،وأما الولد الوّل ،فل يلحقه إل بالستلحاق ،ولهذا قُلتُم :إنه إذا استحلق
ولداً مِن أمته لم يلحقه ما بعدَه إل باستلحاقٍ مستأنف ،بخلف الزوجة ،والفرقُ بينهما :أن عقدَ
النكاح إنما يُراد للوطء والستفراش ،بخلف مُلك اليمين ،فإن الوطء والستفراش فيه تابع ،ولهذا
يجو ُز ورودُه على من يحرم عليه وطؤُها بخلفِ عقد النكاح .قالوا :والحديثُ ل حُجّةَ لكم فيه ،لن
وطء زمعة لم يث ُبتْ ،وإِنما ألحقه النبىّ صلى ال عليه وسلم لِعبد أخاً ،لنه استلحقه ،فألحقه
باستلحاقه ،ل بفراش الب.
قال الجمهورُ :إذا كانت المةُ موطوءة ،فهى فِراش حقيقة وحُكماً ،واعتبارُ ولدتها السابقة
فى صيرورتها فراشاً اعتبارُ ما ل دليل على اعتباره شرعاً ،والنبىّ صلى ال عليه وسلم لم يعتبره
فى فِراش َز ْمعَة ،فاعتبارُه تحكم.
وقولُكم :إن الم َة ل تفرد للوطء ،فالكلم فى المة الموطوءة التى اتخذت سّريّة وفِراشاً،
ج ِعَلتْ كالزوجة أو أحظى منها ل فى أمته التى هى أختُه من الرضاع ونحوها.
وُ
وقولُكم :إن وطء زمع َة لم يثُبت حتّى يلحق به الولدُ ،ليس علينا جوابُه ،بل جوابُه على من
حكم بلحوق الولد بزمعة ،وقال لبنه :هو أخوك.
وقولكم :إنما ألحقه بالخ لنه استلحقه :باطل ،فإن المستلحق إن لم يُ ِقرّ به جمي ُع الورثة ،لم
عبْدٌ لم يكن يُ ِق ّر له جمي ُع الورثة،
يلحق بالمقر إل أن يشه َد منهم اثنان أنه ُولِ َد على فراش الميت ،و َ
ستَلحقهُ ،وحتى لو أ َقرّت به
فإن سودة زوجة النبى صلى ال عليه وسلم أخته ،وهىَ لم تُ ِق ّر به ،ولم تَ ْ
ى صلى ال عليه وسلم صرّح
ت النسب بالفراش ل بالستلحاق ،فإن النب ّ
مع أخيها عبدٍ ،لكان ثبو ُ
ل هذهِ
عقيب حكمه بإلحاق النسب ،بأن الولد للفراش معللً بذلك ،منبهًا على قضية ُكلّية عامة تتناو ُ
الواقعةَ وغيرها .ثم جوابُ هذا العتراض الباطل المحرّم ،أن ثبوتَ كون المة فراشاً بالقرار من
ى صلى ال عليه وسلم ألحقه به بقوله(( :ابن
الواطىء ،أو وارثه كافٍ فى لحقوق النسب ،فإن النب ّ
234
وليدة أبى ُولِدَ على فراشه)) ،كيف و َز ْمعَةُ كان صِه َر النبىّ صلى ال عليه وسلم ،وابنتُه تحته،
ش الذى يلحق به النسب؟
فكيف ل يثُبت عنده الفِرا ُ
وأما ما نقضتُم به علينا َأنّه إذا استحلق ولداً مِن أمته ،لم يلحقه ما بعدَه إل بإقرارٍ مستأنَف،
فهذا فيه قولن لصحاب أحمد ،هذا أحدُهما ،والثانى :أنه يلحقُه وإن لم يستأ ِنفْ إقراراً ،ومن رجّح
القولَ الول قال :قد يستبرئها السيدُ بعد الوِلدة ،فيزولُ حكمُ الفِراش بالستبراء ،فل يلحقُه ما بعد
الول بإعتراف مستأنف أنه وطئها ،كالحال فى أول ولد.
ومن رجّح الثانى قال :قد يثبت كونُها فراشًا أولً ،والصلُ بقاء الفراش حتى َي ْث ُبتَ ما يُزيله،
إذ ليس هذا نظيرَ قولكم :إنه ل يلحقُه الول ُد مع اعترافه بوطئها حتى يستلحِقَه ،وأبطلُ من هذا
ل بعضهم ،إنه لم يُلحقه به أخاً ،وإنما جعله له عبداً ،ولهذا أتى فيه بلم التمليك فقال:
العتراض قو ُ
(( ُهوَ َلكَ)) ،أى :مملوك لك ،وقوّى هذا العتراض بأن فى بعض ألفاظ الحديث (( ُه َو َلكَ عبد))،
ل على أنه أجنبى
ب منه ،ولو كان أخاً لها لما أمرها بالحتجاب منه ،فد ّ
ج َ
وبأنه أمر سو َدةَ أن تحت ِ
منها .قال :وقوله(( :الولد للِفراش)) ،تنبيه على عدم لحوق نسبه بزمعة أى :لم تكن هذه المة فراشاً
له ،لن المة ل تكون فراشاً ،والولد إنما هو للِفراش ،وعلى هذا َيصِحّ أمرُ احتجاب سودة منه،
قال :ويُؤكده أن فى بعض طرق الحديث(( :احتجبى منه ،فإنه ليس لك بأخ)) قالوا :وحينئذ فتبيّن إنا
أسعدُ بالحديث وبالقضاء النبوى منكم.
ى الوطيسُ ،والتقت حلقتا البطان فنقول والّ المستعان :أمّا قولُكم:
ح ِم َ
قال الجمهورُ :الن َ
إنه لم يُلحقه به أخاً ،وإنما جعله عبداً ،يردّه ما رواه محمد بن إسماعيل البخارى فى ((صحيحه))
فى هذا الحديث(( :هو لك ،هو أخوك يا عبد بن زمعة)) وليس اللم للتمليك ،وإنما هى
للختصاص ،كقوله(( :الولد للفراش)) .فأما لفظة قوله(( :هو لك عبد)) ،فرواية باطلة ل َتصِحّ
أصلً .وأما أمرُه سودة بالحِتجاب منه ،فإما أن يكونَ على طريقِ الحتياطِ لمكان الشبهة التى
أورثها الشّب ُه ال َبيّنُ بعُتبة ،وإما أن يكون مراعاةً للشّب َهيْنِ وإعمالً للدليلين ،فإن الفِراش دليلُ لحوق
النسب ،والشبه بغير صاحبه دليلُ نفيه ،فأعمل أم َر الفراش بالنسبة إِلى المدّعى لقوته ،وأعمل الشّبه
بعُتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبَين سودة ،وهذا مِن أحسن الحكام وأبينها ،وأوضحها ،ول
ت النسبِ مِن وجه دونَ وجه ،فهذا الزانى يثبُت النسبُ منه بينه وبين الولد فى التحريم
يمنع ثبو ُ
والبعضية دون الميراثِ والنفق ِة والوِلية وغيرها ،وقد يتخلّف بعضُ أحكام النسب عنه مع ثبوته
ن سودة وبينَ هذا الغلم لمانع الشبه
لمانع ،وهذا كثيرٌ فى الشريعة ،فل يُفكر مِن تخلّف المحرمية بي َ
235
ك بأخ)) ،لو صحت هذه اللفظة
بعتبة ،وهل هذا إل محضُ الفقه؟ وقد علم بهذا معنى قوله(( :ليس ل ِ
مع أنها ل تصِحّ ،وقد ضعفها أهلُ العلم بالحديث ،ول نُبالى بصحتها مع قوله لعبد(( :هُو َأخُوكَ))،
وإذا جمعت أطرافَ كلم النبى صلى ال عليه وسلم ،وقرنت قوله(( :هو أخوك)) ،بقوله(( :الولد
للفراش ،وللعاهر الحجرُ)) ،تبيّن لك بطلنُ ما ذكروهُ من التأويل ،وأن الحديثَ صريحٌ فى خلفه
ل أعلم .والعجب أن منازعينا فى هذه المسألة يجعلُون الزوجة فراشاً لمجرد
ل يحِتملُه بوجه وا ّ
س ّريّته التى يتكرّر استفراشُه لها ليلً
العقد ،وإن كان بينَها وبين الزوج بعد المشرقين ،ول يجعلونَ ُ
ونهاراً فِراشاً.
فصل
واختلف الفقهاءُ فيما تصي ُر به الزوجة فراشاً ،على ثلثة أقوال:
س العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها ،بل لو طلّقها عقيبَه فى المجلس ،وهذا
أحدُها :أنه نف ُ
مذهب أبى حنيفة.
والثانى :أنه العق ُد مع إمكان الوطء ،وهذا مذهب الشافعى وأحمد.
والثالث :أنه العقدُ مع الدخول المحقّقِ ل إمكانه المشكوك فيه ،وهذا اختيارٌ شيخ السلم ابن
تيمية ،وقال :إن أحمد أشار إليه فى رواية حرب ،فإنه نص فى روايته فيمن طلق قبل البناء ،وأتت
ح المجزوم به ،وإل فكيف تصيرُ
امرأتُه بولد ،فأنكره أنه ينتفى عنه بغير لعان وهذا هو الصحي ُ
ل العرف واللغة المرأة
ل بها الزوجُ ولم َيبْنِ لمجرد إمكان بعيدٍ؟ وهل َيعُ ّد أه ُ
المرأة فراشاً ولم يدخُ ْ
ب بمن لم يبن بامرأته ،ول دخلَ بها ،ول اجتمع
فراشاً قبل البناء بها وكيف تأتى الشريعةُ بإلحاق نس ٍ
بها بمجرّدِ إمكان ذلك؟ وهذا المكانُ قد يقطع بإنتفائه عادة ،فل تصي ُر المرأة فِراشاً إل بدخول
ل التوفيق .وهذا الذى نص عليه فى رواية حرب ،هو الذى تقتضيه قواعِدُه وأصولُ
محقق ،وبا ّ
ل أعلم.
مذهبه وا ّ
واختلفوا أيضاً فيما تصير به المةُ فراشاً ،فالجمهور على أنه ل تصير فراشاً إل
بالوطءِ ،وذهب بعضُ المتأخرين من المالكية إلى أن المة التى تشترى للوطء دونَ الخِدمة،
كالمرتفعة التى يُفهم من قرائن الحوال أنها إنما تُراد للتسرى ،فتصير فِراشاً بنفس الشراء،
والصحيح أن المة والحرة ل تصيران فِراشاً بالدخول.
فصل
فهذا أح ُد المور الربعة التي يثبتُ بها النسب ،وهو الفراش.
236
ب أن يستلحِقَ فأما الجدّ ،فإن كان
الثانى :الستلحاق وقد اتفق أهلُ العلم على أن لل ِ
ل الورثة ،صح إقراره ،وثبت نسبُ
البُ موجودًا لم يؤثر استلحاقه شيئاً ،وإن كان معدوماً ،وهو كُ ّ
ض الورثة وصدّقوه ،فكذلك ،وإل لم ي ْث ُبتْ نسبه إل أن يكون أحد الشاهدين
المُ ِقرّ به ،وإن كان بع َ
فيه.
ل يثبُت النسبُ
والحكم فى الخ كالحكم فى الجد سواء ،والصل فى ذلك أن مَن حاز الما َ
بإقراره واحداً كان أو جماعة ،وهذا أصلُ مذهب أحمد والشافعى ،لن الورثة قامُوا مقا َم الميت،
ع الورثة على إلحاق النسب
وحلّوا محلّه .وأورد بعضُ الناس على هذا الصل ،أنه لو كان إجما ُ
ل مِن أمة وطئها الميت أن يحلوا محلّه فى نفى النسب،
ُي ْث ِبتُ النسب ،للزم إذا اجتمعوا على نفى حم ٍ
جمِعِ
ل َي ْلزَمُ ،لنا اعتبرنا جمي َع الورثة والحمل من الورثة ،فلم يُ ْ
كما حلوا محلّه فى إلحاقه ،وهذا َ
الورثة على نفيه.
فإن قيل :فأنتم اعتبرتُم فى ثبوت النسب إقرارَ جميع الورثة ،والمقر هاهنا إنما هو عبدٌ،
وسودةُ لم تُ ِق ّر به وهى أختُه ،والنبىّ صلى ال عليه وسلم ألحقَهُ بعبد باستلحاقه ،ففيه دليل على
ل على أن استلحاقَ أحدِ الخوة كافٍ.
استلحاق الخ وثبوت النسب بإقراره ،ودلي ٌ
قيل :سود ُة لم تكن منكرة ،فإن عبداً استلحقه ،وأقرته سودةُ على استلحاقه ،وإقرارُها
وسكوتُها على هذا المر المتعدى حكمُه إليها من خلوته بها ،وبرؤيته إياها وصيرورته أخاً لها
عبْدٍ ،وإقرارٌ بما أقر به ،وإل لبادرت إلى النكار والتكذيبِ ،فجرى رِضاها
تصديقٌ لخيها َ
ق صريح ،فالواقعة واقع ُة عين ،ومتى
وإقرارُها مجرى تصدِيقها ،هذا إن كان لَ ْم َيصْ ُدرْ منها تصدي ٌ
ب من لو أقّر به مورثهم لحقه ،ثبت نسبُه ما لم يكن هنا وارثٌ
استلحق الخُ أو الج ّد أو غيرُهما نس َ
ت النسب ،ومنازعة غيره مِن الورثة مان ٌع من الثبوتِ ،فإِذا وُجِدَ
ض لثبو ِ
منازع ،فالستلحاقُ مقت ٍ
المقتضى ،ولم يمنع مانِعٌ من اقتضائه ،ترتّب عليه حكمُه .ولكن هاهنا أمر آخر ،وهو أن إقرا َر من
حاز الميراثَ واستلحاقه :هل هو إقرارُ خلف ٍة عن الميت أو إِقرارُ شهادة؟ هذا فيه خلفٌ ،فمذهبُ
أحمد والشافعى رحمهما ال ،أنه إقرارُ خِلفه ،فل تُشترط عدالة المستلحق ،بل ول إسلمُه ،بل
َيصِحّ ذلك مِن الفاسق وال ّديّن ،وقالت المالكية :هو إقرارُ شهادة ،فتعتب ُر فيه أهليةُ الشهادة ،وحكى
ابن القصار عن مذهب مالك :أن الورثة إذا أقرّوا بالنسب ،لحق ،وإن لم يكونوا عدولً ،والمعروف
من مذهب مالك خلفُه.
فصل
237
ن أنّه ابنه ،أو أنه ُولِ َد على فراشه مِن زوجتِه أو أمته ،وإذا
الثالث :البينة ،بأن يشهد شاهِدا ِ
شهد بذلك اثنان من الورثة لم يلتفت إلى إنكار بقيتهم وثبت نسبة ،ول يُعرف فى ذلك نزاع.
فصل
الرابع :القافة ،حكم رسولِ ال صلى ال عليه وسلم وقضاؤُه باعتبار القافة وإلحاق النسب
بها.
ثبت فى ((الصحيحين)) :من حديث عائشة رضى ال عنها قالت :دخل علىّ رسول ال
جزّزًا المُدْلِجِى
ن مُ َ
ت يو ٍم مسروراً َت ْبرُقٌ أساريرُ وجهه ،فقالَ(( :ألَ ْم َت َرىْ أَ ّ
صلى ال عليه وسلم ذا َ
ت أَقْدَا ُم ُهمَا،
س ُهمَا َوبَ َد ْ
طيَا ُرؤُو َ
عَل ْي ِهمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَ ّ
نَظَر آنفًا إِلى َزيْ ِد بْنِ حَا ِرثَ َة وأُسَامَ َة بْنِ َزيْ ٍد و َ
ى صلى ال عليه وسلم بقول القائف ولو كانت
سرّ النب ّ
ن َبعْضٍ))َ ،ف ُ
ضهَا مِ ْ
فقالِ :إنّا ه ِذهِ الَقْدَامَ َب ْع ُ
ب ِبهَا ،ولكانت بمنزلة
ج َ
سرّ بها ،ول أُعْ ِ
ن مِن أَمر الجاهلية كالكهانة ونحوها لما ُ
كما يقول المُنازِعُو َ
ى صلى ال عليه وسلم أثبته عِلماً،
ح عنه وعيدُ مَن صَدّق كاهناً .قال الشافعي :والنب ّ
الكَهانة .وقد ص ّ
ف المحصَناتِ ،ونفىَ النساب ،انتهى.
ولم ُي ْنكِره ،ولو كان خطأ لنكره ،لن فى ذلك قذ َ
كيف والنبىّ صلى ال عليه وسلم قد صرّح فى الحديث الصحيح بصحتها واعتبارها ،فقال
ل بنِ أمية ،وإن جاءت به كذا وكذا فهو لشريك
فى ولد الملعنة(( :إن جاءت به كذا وكذا فهو لهل ِ
ن لِى َوَلهَا شَأْنٌ)) وهل
ل ال ْيمَانُ َلكَا َ
شبَ ِه الذى ُر ِم َيتْ به قالَ(( :لوْ َ
بن سَحْماء)) ،فلما جاءت به على َ
ف يتب ُع أَثرَ الشبه ،وينظرُ إلى من يتّصِلُ ،فيحكم به
هذا إل اعتبار للشبه وهو عينُ القافة ،فإن القا ِئ َ
لصاحب الشبه ،وقد اعتبر النبى صلى ال عليه وسلم الشبه وبيّن سببه ،ولهذا لما قالت له أمّ سلمة:
شبَهُ)).
أو تحتلم المرأة ،فقال(( :مِ ّم َيكُونُ ال ّ
سبَقَ
شبَهُ لَهُ ،وإِذا َ
سبَقَ ما َء المرأة ،كان ال ّ
وأخبر فى الحديث الصحيح ،أن ماء الرّجُل إذا َ
شبَ ُه َلهَا)) .فهذا اعتبار منه للشبه شرعاً وقدراً ،وهذا أقوى ما يكون مِن طرق
مَأُوهَا مَا َءهُ ،كان ال ّ
ع والقدرُ ولهذا تبعه خلفاؤه الراشِدُونَ فى الحُكم
ق والم ُر والشر ُ
الحكام أن يتوارَ َد عليه الخل ٌ
بالقَافه.
قال سعيد بن منصور :حدثنا سفيان ،عن يحيى بن سعيد ،عن سليمان بن يسار ،عن عمر
فى امرأة وَطئهَا رجلنِ فى طهرٍ ،فقال القائفُ ،قد اشتركا فيه جميعاً ،فجعلَه بينهما.
قال الشعبي :وعلى يقول :هو ابنُهما ،وهما ابواه يرثانه ،ذكره سعيد أيضاً.
238
ط ْه ِر امرأةٍ فحملت،
وروى الثرم بإسناده ،عن سعيد بن المسيّب ،فى رجلين اشتركا فى ُ
فولَ َدتْ غُلمًا يُشبههما ،فرُفِ َع ذلك إلى عمرَ بنِ الخطاب ،فدعا القافة فنظرُوا ،فقالوا :نراه يُشِب ُه ُهمَا،
فألحقه بهما ،وج َعلَه يَرثُهما ويرثانه.
ول ُي ْع َرفُ قطّ فى الصحابة مَنْ خالف عمر وعليًا رضى ال عنهما فى ذلك ،بل حكم عمر
بهذا فى المدينة ،وبحَضرته المهاجرون والنصار ،فلم ُي ْن ِك ْرهُ منهم منكر.
حكُمُ بالقيافة تعويلٌ على
ل والرّجلِ ،وال ُ
قال الحنفية :قد أجلبتم علينا فى القافة بالخي ِ
مجرّد الشّبه والظن والتخمين ،ومعلوم أن الشّبه قد يُوجد من الجانب ،وينتفى عن القارب،
ف لونَهما ،فلم يُمكنه
وذكرتُم قِصة أسامة وزيد ،ونسيتُم قِص َة الذى ولدت امرأتُه غلماً أسود يُخاِل ُ
ل للشبه ول لِعدمه أثراً ،ولو كان للِشبه أثر ،لكتفى به
جعَ َ
النبى صلى ال عليه وسلم من نفيه ،ول َ
ظرُ ولدته ،ثم يُلحق بصاحب الشبه ،ويستغنى
فى وَلدِ الملعنة ،ولم يحتج إلى اللعان ،ولكان ينت ِ
بذلك عن اللعان بل كانَ ل َيصِحّ نفيُه مع وجودِ الشبه بالزوج ،وقد َدلّت السنةُ الصحيح ُة الصريحة
صرُوها فإن
على نفيه عن الملعين ،ولو كان الشبه له ،فإن النبىّ صلى ال عليه وسلم قالَ(( :أبْ ِ
ن أُميّة)) ،وهذا قاله بعد اللّعان ونفى النسب عنه ف ُعلِ َم أنه لو جاء
ت بِ ِه كَذَا وكَذَاَ ،ف ُه َو ِلهِلل بْ ِ
جَا َء ْ
ل على كذبه ،ل على لحوق
على الشبه المذكور ،لم َي ْث ُبتْ نسبُه منه ،وإنما كان مجيئه على شبه دلي ً
الولد به.
قالوا :وأما قصةُ أسام َة وزيدٍ ،فالمنافقون كانوا يطعنون فى نسبه من زيد لمخالفة لونه لون
أبيه ،ولم يكونوا يكتفون بالفِراش ،وحكم ال ورسُولُه فى أنه ابنُه ،فلما شهد به القائفُ وافقت
لّ ورسوله ،فسر به النبى صلى ال عليه وسلم لموافقتِها حكمه ،ولتكذيبها قولَ
شهادتُه حكمَ ا ِ
المنافقين ،ل أنه أثبت نسبه بها ،فأين فى هذا إِثباتُ النسب بقول القائف؟
قالوا :وهذا معنى الحاديث التى ذكر فيها اعتبا ُر الشبه ،فإنها إنما اعتبرت فيه الشبه بنسب
ف على عمر ،فرُوى
ثابت بغير القافة ،ونحن ل نُنك ُر ذلك .قالوا :وأما حكم عمر وعلى ،فقد اخ ُتِل َ
ل أيّهما شئت .فلم يعتبر قولَ
عنه ما ذكرتُم ،ورُوى عنه أن القائف لما قال له :قد اشتركا فيه ،قال وَا ِ
القائف
شبَهُ موجود ،لم
قالوا :وكيف تقولون بالشبه ،ولو أقر أح ُد الورثة بأخ ،وأنكره الباقون ،وال ّ
سبُ؟.
ت النّ َ
تُث ِبتُو النسبَ به ،وقلُتم :إن لم تتفق الورثة على القرارِ به لم يث ُب ِ
239
قال أهلُ الحديث :مِن العجب أن يُن ِك َر علينا القولَ بالقافة ،ويجعلَها مِن باب الحَ ْدسِ
ق ولدَ المشرقى بمن فى أقصى المغرب ،مع القطع بأنهما لم يتلقيا طرف َة عين،
ن ُيلْحِ ُ
والتخمين مَ ْ
ويلُحق الولَد باثنين مع القطع بأنه ليس ابناً لحدهما ،ونحنُ إنما ألحقنا الولدَ بقول القائف المستند
إلى الشبه المعتبر شرعاً وقدراً ،فهو إستناد إلى ظن غالب ،ورأى راجح ،وأمارة ظاهرة بقول من
هو مِن أهل الخبرة ،فهو أولى بالقبول مِن قول المقومين ،وهل يُنكر مجى ُء كثير من الحكام
مستنداً إلى المارات الظاهرة ،واالظنون الغالبة؟
(يتبع)...
وأما وجود الشبه بين الجانب ،وانتفاؤه بين القارب ،وإن كان واقعاً فهو مِن أندر شىء @
وأ َقلّه ،والحكام إنما هى للغالب الكثير ،والنادرُ فى حكم المعدوم.
وأما قصةُ من ولدت امرأتُه غلماً أسود ،فهو حج ٌة عليكم ،لنها دليل على أن العادة التى
فطر ال عليها الناسَ اعتبا ُر الشبه ،وأن خلفَه يُوجب ريبة ،وأن فى طباع الخلق إنكا َر ذلك ولكن
لما عارض ذلك دليلٌ أقوى منه وهو الفِراش ،كان الحكمُ للدليل القوى ،وكذلك نقول نحن وسائر
شبَهِ ،فمخالفةُ ظاهر الشبه لدليلٍ
الناس :إن الفراش الصحيح إذا كان قائماً ،فل يُعارَض بقافة ول َ
ش غيرُ مستنكر ،وإنما المستنكرُ مخالف ُة هذا الدليل الظاهر بغير شىء.
أقوى منه وهو الفِرا ُ
وأما تقديمُ اللعان على الشبه ،وإلغا ُء الشبه مع وجوده ،فكذلك أيضاً هو مِن تقديم أقوى
الدليلين على أضعفهما ،وذلك ل يمنع العملَ بالشبه مع عدم ما يُعارضه ،كالبينة تُقدم على اليد
وأما ثبوتُ نسبِ أسامة من زيد بدون القيافة، والبراءة الصلية ،ويُعمل بهما عند عدمهما.
فنحن لم نُثبت نسبه بالقيافة ،والقياف ُة دليل آخر موافق لدليل الفِراش ،فسرو ُر النبى صلى ال عليه
وسلم ،وفرجُه بها ،واستبشارُه لتعاضُد أدلة النسب وتضافرها ،ل لثبات النسب بقولِ القائف وحدَه،
ل لم يَ ْفرَحْ بها
بل هو من باب الفرح بظهور أعلمِ الحق وأدلته وتكاثرها ،ولو لم تصلُحِ القياف ُة دلي ً
ولم يُسر ،وقد كان النبىّ صلى ال عليه وسلم يقرح ويُسر إذا تعاضدت عنده أدلةُ الحق ،ويُخبر بها
الصحابةَ ،ويُحب أن يسمعوها من المخبر بها ،لن النفوسَ تزدادُ تصديقاً بالحق إذا تعاضدت أدلته،
ل التوفيق.
وتُسّر به وتفرح ،وعلى هذا فطر الُّ عباده ،فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشرعة وبا ّ
وأما ما رُوى عن عمر أنه قال :وَالِ أيهما شئت ،فل تعرف صحته عن عمر ،ولو صحّ عنه
ل عنه ،فإن ما ذكرنا عنه فى غاية الصحة ،مع أن قوله :وال أيهما شئت ليس بصريح فى
لكان قو ً
240
إبطال قول القائف ،ولو كان صريحاً فى إبطال قوله ،لكان فى مثل هذا الموضع إذا ألحقه باثنين،
كما يقوله الشافعى ومن وافقه.
وأما إذا أقر أح ُد الورثة بأخ ،وأنكره الباقون ،فإنما لم يث ُبتْ نسبُه لمجرد القرار ،فأما إذا
كان هناك شبهٌ يستنِ ُد إليه القائف ،فإنه ل يُعتبر إنكارُ الباقين ،ونحن ل نقصُر القَافَ َة على بنى مُ ْدلِج،
ول نعت ِبرُ تعدد القائف ،بل يكفى واحد على الصحيح بناء على أنه خبر ،وعن أحمد رواية أخرى:
أنه شهادة ،فل بد من اثنين ،ولفظُ الشهادة بناء على اشتراط اللفظ.
فإن قيل :فالمنقول عن عمر أنه ألحقه بأبوين ،فما تقولون فيما إذا ألحقته القافة
بأبوين ،هل تُلحِقُونه بهما ،أو ل تُلحقونه إل بواحدٍ ،وإذا ألحقتمُوه بأبوين ،فهل يختصّ ذلك باثنين،
ق بهم وإن كثروا ،وهل حُك ُم الثنين فى ذلك حكم البوين أم ماذا حُكمهما؟
أم يلح ُ
قيل :هذه مسائل فيها نزاع بين أهل العلم ،فقال الشافعى ومن وافقه :ل يُلحق بأبوين ،ول
يكون للرجل إل أبٌ واحد ،ومتى ألحقته القافة باثنين ،سقط قولُها ،وقال الجمهورُ :بل يلحق باثنين،
ثم اختلفوا ،فنص أحمد فى رواية مهنا بن يحيى :أنه يُلحق بثلثة ،وقال صاحب المغنى :ومقتضى
هذا أنه يُلحق بمن أحلقته القاف ُة به وإن كثروا ،لنه إذا جاز إلحاقُه باثنين ،جاز إلحاقه بأكث َر من ذلك
وهذا مذهبُ أبى حنيفة ،لكنه ل يقولُ بالقافة ،فهو يُلحقه بالمدّعين وإن كثروا ،وقال القاضى :يجب
أن ل يُلحق بأكثر من ثلثة ،وهو قولُ محمد بن الحسن ،وقال ابنُ حامد :ل يُلحق بأكث َر من اثنين،
ل أبى يوسف ،فمن لم يُلحقه بأكثرَ من واحد ،قال :قد أجرى ال سبحانه عادته أن للولد أباً
وهو قو ُ
واحداً ،وأمًا واحدة ،ولذلك يُقال :فلنُ ابن فلن ،وفلن ابن فلنه فقط .ولو قيل :فلن ابن فلن
وفلن ،لكان ذلك منكراً ،وعُد قذفاً ،ولهذا إنما يُقال يومَ القيامة :أين فُلن بن فلن؟ وهذه غَ ْد َرةُ
فلن بن فلن ،ولم يُعهد قطّ فى الوجود نسبة ولد إلى أبوين قط ،ومن ألحقه باثنين ،احتج بقول
عمر ،وإقرار الصحابة له على ذلك ،وبأن الولد قد ينعقِدُ من ماء رجلين ،كما ينعقد من ماء الرجل
والمرأة ،ثم قال أبو يوسف :إنما جاء الث ُر بذلك ،فيُقتصر عليه .وقال القاضى :ل يتعدى به ثلثة،
لن أحمد إنما نص على الثلثة ،والصل أل يُلحق بأكثرَ مِن واحد ،وقد دل قول عمر على إلحاقه
باثنين مع انعقاده من ماء الم ،فدل على إمكان انعقاده من ماء ثلثة ،وما زاد على ذلك ،فمشكوكٌ
فيه.
241
قال ال ُملْحِقُونَ له بأكث َر مِن ثلثة :إذا جاز تخليقه من ماء رجلين وثلثة ،جاز خلقُه مِن ماء
أربعة وخمسة ،ول وجه لقتصاره على ثلثة فقط ،بل إما أن يُلحق بهم وإن كُثروا ،وإما أن ل
ل أعلم.
يتعدى به أحد ،ول قول سوى القولين وا ّ
فإن قيل :إذا اشتمل الرح ُم على ماء الرجل ،وأراد ال أن يخلُق منه الولدَ ،انضم عليه أحكمَ
انضمام ،وأتمّه حتى ل يَفٍسُدَ ،فكيف يدخل عليه ماء آخر؟ قيل :ل يمتنِ ُع أن َيصِلَ الماءُ الثانى إلى
لبَويْنِ ،وقد سبق ماءُ الرجل
حيث وصل الول ،فينضم عليهما ،وهذا كما أن الول َد ينعقِد من ماءِ ا َ
ماء المرأة أو بالعكس ،ومع هذا فل يمتنِعُ وصولُ الماء الثانى إلى حيث وصل الول ،وقد علِم
بالعادة أن الحامل إذا تُوبع وطؤها ،جاء الولد عبل الجسم ما لم يُعارِضْ ذلك مانع ،ولهذا ألهم ال
ل النّفار ،وقال المام
ل أن ينزوَ عليها ،بل َتنْ ِفرُ عنه كُ ّ
سبحانَه الدوابّ إذا حملت أن ل تُمكّنَ الفح َ
أحمد :إن الوطء الثانى يزيد فى سمع الولد وبصره ،وقد شبّهه النبىّ صلى ال عليه وسلم بسقى
ل أعلم.
الزرع ،ومعلومٌ أن سقيَه يزيدُ فى ذاته وا ّ
فإن قيل :فقد دلّ الحديثُ على حكم استلحاق الولد ،وعلى أن الولد للفراش ،فما
تقولون لو استلحق الزانى ولداً ل فِراش هُناك يُعارضه ،هل يلحقُه نسبُه ،ويثبتُ له أحكا ُم النسب؟
ب إلى أن المولودَ
ل العلم فيها ،فكان إسحاق بن راهويه يذه ُ
قيل :هذه مسألة جليلة اختلف أه ُ
ق به ،وأوّل قول النبى
مِن الزّنى إذا لم يكن مولوداً على فراش يدّعيه صاحبه ،وادعاه الزانى ،أُلحِ َ
صلى ال عليه وسلم(( :الولد للفراش)) ،على أنه حكم بذلك عند تنازُع الزانى وصاحب الفراش،
كما تقدم ،وهذا مذهب الحسن البصرى ،رواه عنه إسحاق بإسناده ،فى رجل زنى بامرأة ،فولدت
ولداً ،فادّعى ولدَها فقال :يُجلد ويلزمُه الولد ،وهذا مذهبُ عروة بن الزبير ،وسليمانَ بن يسار ذكر
ع ذلك الغلمَ أحد،
عنهما أنهما قال :أيّما رجل أتى إلى غلم يزعم أنه ابن له ،وأنه زنى بأمه ولم يَدّ ِ
ط أولدَ الجاهلية بمن ادعاهم فى السلم،
فهو ابنُه ،واحتج سليمان ،بأن عمر بن الخطاب كان ُيلِي ُ
وهذا المذهبُ كما تراه قوة ووضوحاً ،وليس مع الجمهور أكث ُر مِن ((الولد للفراش)) وصاحبُ هذا
المذهب أوّلُ قائل به ،والقياسُ الصحيح يقتضيه ،فإن البَ أح ُد الزانيين ،وهو إذا كان يلحق بأمه،
وينسب إليها وترثه ويرثُها ،ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به ،وقد وُجِ َد الولدُ
مِن ماء الزانيين ،وقد اشتركا فيه ،واتفقا على أنه ابنهُما ،فما المانِعُ مِن لحوقه بالب إذا لم يدّعِهِ
ض القياس ،وقد قال جريج للغلم الذى زنت أمّه بالراعى :من أبوك يا غلم؟ قال:
غيرُه؟ فهذا مح ُ
فلن الراعى ،وهذا إنطاق من ال ل يُمكن فيه الكذبُ.
242
فإن قيل :فهل لِرسول ال صلى ال عليه وسلم فى هذه المسألة حُكم؟ قيل :قد رُوى عنه فيها
حديثانِ ،نحن نذكرُ شأنهما.
فصل
ق ولد الزنى وتوريثه
ذكر حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم في استلحا ِ
ذكر أبو داود في ((سننه)) :من حديث ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
((ل مساعاة في السلم ،من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته ،ومن ادعى ولدا من غير رشدة،
فل يرث ول يورث)) .المساعاة :الزنى ،وكان الصمعي يجعلها في الماء دون الحرائر ،لنهن
يسعين لمواليهن ،فيكتسبن لهم ،وكان عليهن ضرائب مقررة ،فأبطل النبي صلى ال عليه وسلم
المساعاة في السلم ،ولم يلحق النسب بها ،وعفا عما كان في الجاهلية منها ،وألحق النسب به.
وقال الجوهري :يقال :زنى الرجل وعهر ،فهذا قد يكون في الحرة والمة ،ويقال في المة خاصة:
قد ساعاها .ولكن في إسناد هذا الحديث رجل مجهول ،فل تقوم به حجة .وروى أيضا في ((سننه))
من حديث عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده ((أن النبي صلى ال عليه وسلم ،قضى أن كل
مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ،ادعاه ورثته ،فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم
أصابها ،فقد لحق بمن استلحقه ،وليس له مما قسم قبله من الميراث ،وما أدرك من ميراث لم يقسم،
فله نصيبه ،ول يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره ،وإن كان من أمة لم يملكها ،أو من حرة
عاهر بها ،فإنه ل يلحق ول يرث ،وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه ،فهو من ولد زني من حرة
كان أو أمة)).
وفي رواية(( :وهو ولد زنى لهل أمه من كانوا حرة أو أمة)) .وذلك فيما استلحق في أول
السلم ،فما اقتسم من مال قبل السلم ،فقد مضى)) وهذا لهل الحديث في إسناده مقال ،لنه من
رواية محمد بن راشد المكحولي .وكان قوم في الجاهلية لهم إماء بغايا ،فإذا ولدت أمة أحدهم وقد
وطئها غيره بالزنى ،فربما ادعاه سيدها ،وربما ادعاه الزاني ،واختصما في ذلك ،حتى قام
السلم ،فحكم النبي صلى ال عليه وسلم بالولد للسيد ،لنه صاحب الفراش ،ونفاه على الزاني.
ثم تضمن هذا الحديث أمورا .منها :أن المستلحق إذا استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه
ورثته ،فإن كان الولد من أمة يملكها الواطىء يوم أصابها ،فقد لحق بمن استلحقه ،يعني إذا كان
الذي استلحقه ورثة مالك المة ،وصار ابنه من يومئذ ،ليس له مما قسم قبله من الميراث شيء،
لن هذا تجديد حكم نسبه ،ومن يومئذ يثبت نسبه ،فل يرجع بما اقتسم قبله من الميراث ،إذ لم يكن
243
حكم البنوة ثابتا ،وما أدرك من ميراث لم يقسم ،فله نصيبه منه ،لن الحكم ثبت قبل قسمه الميراث،
فيستحق منه نصيبه ،وهذا نظير من أسلم على ميراث قبل قسمه ،قسم له في أحد قولي العلماء،
وهو إحدى الروايتين عن أحمد ،وإن أسلم بعد قسم الميراث ،فل شيء له ،فثبوت النسب هاهنا
بمنزلة السلم بالنسبة إلى الميراث .قوله(( :ول يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره)) هذا،
يبين أن التنازع بين الورثة ،وأن الصورة الولى أن يستلحقه ورثة أبيه الذي كان يدعى له ،وهذه
الصورة إذا استلحقه ورثته وأبوه الذي يدعى له كان ينكر ،فإنه ل يلحق ،لن الصل الذي الورثة
خلف عنه منكر له ،فكيف يلحق به مع إنكاره؟ فهذا إذا كان من أمة يملكها ،أما إذا كان من أمة لم
يملكها ،أو من حرة عاهر بها ،فانه ل يلحق ،ول يرث ،وإن ادعاه الواطىء وهو ولد زنية من أمة
كان أو من حرة ،وهذا حجة الجمهور على إسحاق ومن قال بقوله :إنه ل يلحق بالزانى إذا ادعاه،
ول يرثه ،وأنه ولد زنى لهل أمه من كانوا حرة كانت أو أمة.
وأما ما اقتسم من مال قبل السلم ،فقد مضى ،فهذا الحديث يرد قول إسحاق ومن وافقه،
لكن فيه محمد بن راشد ،ونحن نحتج بعمرو بن شعيب ،فل يعلل الحديث به ،فإن ثبت هذا الحديث،
تعين القول بموجبه ،والمصير إليه ،وإل فالقول قول إسحاق ومن معه ،وال المستعان.
ذكر الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب رضي ال عنه في الجماعة الذين وقعوا على
امرأة في طهر واحد ،ثم تنازعوا الولد ،فأقرع بينهم فيه ،ثم بلغ النبي صلى ال عليه وسلم فضحك
ولم ينكره
ذكر أبو داود والنسائي في ((سننهما)) ،من حديث عبد ال بن الخليل ،عن زيد بن أرقم
رضي ال عنه قال :كنت جالسا عند النبي صلى ال عليه وسلم ،فجاء رجل من أهل اليمن ،فقال:
إن ثلثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد ،قد وقعوا على امرأة في طهر واحد،
فقال لثنين :طيبا بالولد لهذا فغليا ،ثم قال لثنين :طيبا بالولد لهذا ،فغليا ،ثم قال لثنين :طيبا بالولد
لهذا ،فغليا ،فقال :أنتم شركاء متشاكسون ،إني مقرع بينكم ،فمن قرع ،فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا
الدية ،فأقرع بينهم ،فجعله لمن قرع ،فضحك رسول ال حتى بدت أضراسه أو نواجذه .وفي إسناده
يحيى بن عبد ال الكندي الجلح ول يحتج بحديثه ،لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات
إلى عبد خير ،عن زيد بن أرقم .قال :أتي علي بن أبي طالب بثلثة وهو باليمن وقعوا على امرأة
في طهر واحد ،فسأل اثنين أتقران لهذا بالولد؟ قال :ل ،حتى سألهم جميعا ،فجعل كلما سأل اثنين
قال :ل ،فأقرع بينهم ،فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة ،وجعل عليه ثلثي الدية ،قال :فذكر
244
ذلك للنبي صلى ال عليه وسلم ،فضحك حتى بدت نواجذه .وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن عبد
خير بإسقاط زيد بن أرقم ،فيكون مرسل .قال النسائي :وهذا أصوب .وهذا أعجب ،فإن إسقاط زيد
بن أرقم من هذا الحديث ل يجعله مرسل ،فإنه عبد خير أدرك عليا وسمع منه ،وعلي صاحب
القصة ،فهب أن زيد بن أرقم ل ذكر له في السند فمن أين يجيء الرسال ،إل أن يقال :عبد خير لم
يشاهد ضحك النبي صلى ال عليه وسلم ،وعلي إذ ذاك كان باليمن ،وإنما شاهد ضحكه صلى ال
عليه وسلم زيد بن أرقم أو غيره من الصحابة وعبد خير لم يذكر من شاهد ضحكه ،فصار الحديث
به مرسل .فيقال :إذا :قد صح السند عن عبد خير ،عن زيد بن أرقم ،متصل ،فمن رجح التصال،
لكونه زيادة من الثقة فظاهر ،ومن رجح رواية الحفظ والضبط ،وكان الترجيح من جانبه ولم
يكن علي قد أخبره بالقصة ،فغايتها أن تكون مرسلة ،وقد يقوى الحديث بروايته من طريق أخرى
متصل.
وبعد ،فاختلف الفقهاء في هذا الحكم ،فذهب إليه إسحاق بن راهويه ،وقال :هو السنة
في دعوى الولد ،وكان الشافعي يقول به في القديم ،وأما المام أحمد ،فسئل عن هذا الحديث ،فرجح
عليه حديث القافة ،وقال :حديث القافة أحب إلي .وهاهنا أمران ،أحدهما :دخول القرعة في النسب،
والثاني :تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه .وأما القرعة ،فقد تستعمل عند فقدان
مرجح سواها من بينة أو إقرار ،أو قافة ،وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال ،إذ
هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى ،ولها دخول في دعوى الملك المرسلة التي ل
تثبت بقرينة ول أمارة ،فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف
أولى وأحرى .وأما أمر الدية فمشكل جدا ،فإن هذا ليس بموجب الية ،وإنما هو تفويت نسبه
بخروج القرعة ،فيقال :وطء كل واحد صالح لجعل الولد له ،فقد فوته كل واحد منهم على صاحبيه
بوطئه ،ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم ،فلما أخرجته القرعة لحدهم ،صار مفوّتا لنسبه عن
صاحبيه ،فأجري ذلك مجرى إتلف الولد ،ونزل الثلثة منزلة أب واحد ،فخصة المتلف منه ثلث
الدية ،إذ قد عاد الولد له ،فيغرم لكل من صاحبيه ما يخصه ،وهوثلث الدية.
ووجه آخر أحسن من هذا ،أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به ،وجب عليه ضمان
قيمته ،وقيمة الولد شرعا هي ديته ،فلزمه لهما ثلثا قيمته ،وهي ثلثا الدية ،وصار هذا كمن أتلف
عبدا بينه وبين شريكين له ،فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه ،فإتلف الولد الحر عليهما بحكم
القرعة ،كإتلف الرقيق الذي بينهم.
245
ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية المة قيمة أولده لسيد المة لما فات رقهم
على السيد لحريتهم ،وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء ،وهذا ألطف ما يكون من القياس وأدقه ،وأنت
إذا تأملت كثيرا من أقيسة الفقهاء وتشبيهاتهم ،وجدت هذا أقوى منها ،وألطف مسلكا ،وأدق مأخذا،
ولم يضحك منه النبي صلى ال عليه وسلم سدى .وقد يقال :ل تعارض بين هذا وبين حديث القافة،
بل إن وجدت القافة تعين العمل بها ،وإن لم توجد قافة ،أو أشكل عليهم ،تعين العمل بهذا الطريق،
وال أعلم.
فصل
ذكر حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم في الولد من أحق به في الحضانة
روى أبو داود في ((سننه)) :من حديث عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده عبد ال بن
عمرو بن العاص ،أن امرأة قالت :يا رسول ال إن ابني هذا كان بطني له وعاء ،وثديى له سقاء،
وحجري له حواء ،وإن أبا ُه طلقني ،فأراد أن ينتزعه منى ،فقال لها رسول ال صلى ال عليه وسلم:
((أنت أحق به ما لم تنكحي)) وفي ((الصحيحين)) :من حديث البراء بن عازب ،أن ابنة حمزة
اختصم فيها على وجعفر ،وزيد .فقال على :أنا أحق بها وهي ابنة عمى ،وقال جعفر :ابنة عمي
وخالتها تحتي ،وقال :زيد :ابنة أخي ،فقضى بها رسول ال صلى ال عليه وسلم لخالتها ،وقال:
((الخالة بمنزلة الم)).
وروى أهل السنن :من حديث أبى هريرة رضىال عنه ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
خير غلما بين أبيه وأمه .قال الترمذي :حديث صحيح.
وروى أهل السنن أيضا :عنه ،أن امرأة جاءت ،فقالت يا رسول ال ! إن زوجي يريد أن
يذهب بابني ،وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعني ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
((استهما عليه)) ،فقال زوجها من يحاقني في ولدي ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :هذا
أبوك وهذه أمك خذ بيد أيهما شئت)) ،فأخذ بيد أمه ،فانطلقت به .قال الترمذي :حديث حسن
صحيح .وفي ((سنن النسائي)) :عن عبد الحميد بن سلمة النصاري ،عن أبيه ،عن جده ،أن جدّه
أسلم وأبت امرأتُه أن تسلم ،فجاء بابن له صغير لم يَبلغ ،قال فأجلس النبي صلى ال عليه وسلم
الب هاهنا والم هاهنا ،ثم خير وقال ((الّلهُ ّم اه ِدهِ)) فذهب إلى أبيه.
ورواه أبو داود عنه وقال :أخبرنى جدي رافع بن سنان ،أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم،
فأتت النبى صلى ال عليه وسلم ،فقالت :ابنتى وهي فطيم أو شبهه ،وقال رافع :ابنتي ،فقال له
246
رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :اقعد ناحية)) ،وقال لها(( :اقعدي ناحية)) ،فأقعد الصبية بينهما،
ثم قال(( :ادعواها)) ،فمالت إلى أمها ،فقال النبى صلى ال عليه وسلم(( :اللهم اهدها)) ،فمالت إلى
أبيها ،فأخذها.
فصل
الكلم على هذه الحكام
أما الحديث الول ،فهو حديث احتاج الناس فيه إلى عمرو بن شعيب ،ولم يجدوا بدا من
الحتجاج هنا به ،ومدار الحديث عليه ،وليس عن النبى صلى ال عليه وسلم حديثٌ في سقوط
الحضانة بالتزويج غير هذا ،وقد ذهب إليه الئمةُ الربعة وغيرُهم ،وقد صرح بأن الجد هو عبد
ن يقولُ :لعله محمد والدُ شعيب ،فيكون الحديثُ مرسلً .وقد صحّ سماعُ
ل مَ ْ
ل بن عمرو ،فبطل قو ُ
ا ّ
ل من قال :إنه منقطع ،وقد احتج به البخاريّ خارجَ
ل بن عمرو ،فبطل قو ُ
شعيب من جَدّه عبد ا ّ
ل بن الزّبير الحميدي ،وأحمد وإسحاق وعلي
صحيحه ،ونص على صحة حديثه ،وقال :كان عبدُ ا ّ
س َبعْدَهُم؟! هذا لفظه .وقال إسحاق بن راهويه :هو عندنا،
بن عبد الّ يحتجّون بحديثهَ ،فمَن النّا ُ
كأيوب عن نافع ،عن ابن عمر .وحكى الحاكم في ((علوم الحديث)) له التفاق على صحة حديثه،
وقال أحمد بن صالح :ليختلف على عبد الّ أنها صحيفة.
وقولها :كان بطني وعاء إلى آخره ،إدلءٌ منها ،وتوسّل إلى اختصاصها به ،كما اختصّ
ب لم يُشاركها في ذلك ،فنبهت في هذا الختصاص الذي لم
ن الثلثة ،وال ُ
بها في هذه المواط ِ
ب على الختصاص الذي طلبته بالستفتاء والمخاصمة.
يُشا ِركْها فيه ال ُ
وفي هذا دليل على اعتبار المعاني والعِلل ،وتأثيرها في الحكام ،وإناطتها بها ،وأن
ي أدلت به المرأةُ وجعلته
ف الذ َ
طرِ السّليمةِ حتى فِطَر النساء ،وهذا الوص ُ
ذلك أمر مستقر في الفِ َ
ل ألغاه،
سببًا لتعليق الحكم به ،قد قرّر ُه النبيّ صلى ال عليه وسلم ورتّب عليه أثره ،ولو كان باط ً
بل ترتيبُه الحكمَ عقيبَه دليل على تأثيره فيه ،وأنه سببه.
واستدل بالحديث على القضاء على الغائب ،فإن البَ لم يذكر له حضورول
مخاصمة ،ول دللة فيه لنها واقعةُ عين ،فإن كان البُ حاضراً ،فظاهر ،وإن كان غائباً ،فالمرأة
إنما جاءت مستفتية أفتاها النبيّ صلى ال عليه وسلم بمقتضى مسألتها ،وإل فل يُفبل قولُها على
الزوج :إنه طلقها حتى يُحكم لها بالولد بمجرّدِ قولها.
فصل
247
ق به من الب ما لم يقم بالمّ
ودلّ الحديث على أنه إذا افترق البوانِ ،وبينهما ولد ،فالمّ أح ّ
ما يمنعُ تقديمَها ،أو بالولد وصفٌ يقتضي تخييرَه ،وهذا ما ل يُعرف فيه نزاعٌ ،وقد قضى به خليفةُ
ل صلى ال عليه وسلم أبو بكر على عمر بن الخطاب ،ولم ُي ْن ِك ْر عليهِ ُم ْنكِر .فلما وَليَ
رسولِ ا ّ
عمرُ قضى بمثله ،فروى مالك في ((الموطأ)) عن يحيى بن سعيد أنه قال :سمعت القاسم بن محمد
ل عنه امرأةٌ من النصار ،فولدت له عاص َم بن عمر،
يقول :كانت عند عمرَ بن الخطاب رضي ا ّ
ع َمرُ ُقبَاء ،فوجد ابنه عاصمًا يلعب بفناء المسجد ،فأخذ بعضدهِ ،فوضعه
ثم إن عمرَ فارقها ،فجاء ُ
ل عنه،
بين يديه على الدابة ،فأدركته جدةُ الغلم ،فنازعته إيّاه ،حتّى أتيا أبا بكر الصديق رضي ا ّ
ل بينها وبينه ،فما راجعه
فقال عمر :ابني .وقالت المرأة :ابني ،فقال أبو بكر رضي ال عنه :خَ ّ
ع َمرُ الكَلَم قال ابن عبد البر :هذا خبر مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة ،تلقاه أهل العلم بالقبول
ُ
والعمل ،وزوجة عمر أ ّم ابنه عاصم :هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي القلح النصاري.
ف أبي بكر ،ولكنه سلم للقضاء ممن له
قال :وفيه دليل على أن عمر كان مذهبُه في ذلك خل َ
ن بعْدُ في خلفته يقضي به ويُفتي ،ولم يُخالف أبا بكر في شيء منه ما دام
الحكمُ والِمضاء ،ثم كا َ
ي صغيراً ل يُميز ،ول مخالف لهما مِن الصحابة.
الصب ّ
وذكر عبد الرزاق ،عن ابن جريج ،أنه أخبره عن عطاء الخراساني ،عن ابن عباس قال:
طلق عم ُر بنُ الخطاب امرأتَه النصارية أ ّم ابنه عاصم ،فلقيها تَح ِملُه بمحسر ،وقد فُطِمَ ومشى،
فأخذ بيده لينتزعهُ منها ،ونازعها إياه حتّى أوج َع الغلم وبكى ،وقال:أنا أحقّ بإبني ِم ْنكِ ،فاختصما
شبّ ويختارَ لنفسه،
إلى أبي بكر ،فقضى لها بِهِ وقال :ريحُها وفِراشُها وحجرُهَا خي ٌر له منك حتى يَ ِ
ومحسر :سوق بين قباء والمدينة.
ع َم َر إلى أبي بكر
ع َمرَ ُ
وذكر عن الثوري ،عن عاصم ،عن عكرمة قال :خاصمتِ امرأةُ ُ
ل عنه :الم أعطفُ ،وألطفُ ،وأرحمُ ،وأحنى،
ل أبو بكر رضي ا ّ
رضي الّ عنه ،وكان طلّقها ،فقا َ
وأرأف ،هي أحقّ بولدها ما لم تتزوج.
ع َم َر في ابنه مع أمّه،
ي يقول :إن أبا بكر قضَى على ُ
وذكر عن معمر قال :سمعتُ الزهر ّ
وقال :أمّهُ أحقّ به ما لم تتزوج.فإن قيل :فقد اختلفت الروايةُ :هل كانت المنازعةُ وقعت بينَه وبينَ
الم أولً،ثم بينه وبين الجدة،أو وقعت مرة واحدة بينه وبين إحداهما.
قيل:المر فى ذلك قريب،لنها إن كانت من الم فواضح،وإن كانت من الجدة،فقضاء
الصديق رضى ال عنه لها يدل على أن الم أولى.
248
فصل
ب على الم ومن في جهتها ،وهي ولية المال
والولية على الطفل نوعان :نوع يقدم فيه ال ُ
ل من البوين
ع تُقدّم فيه الم على الب ،وهي ولي ُة الحضانة والرضاع ،وقُدّ َم كُ ّ
والنكاح ،ونو ٌ
فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحة الولد ،وتوقف مصلحته على من يلي ذلك من أبويه ،وتحصل به
كفايته.
ولما كان النساءُ أعرفَ بالتربية ،وأقدرَ عليها ،وأصبَر وأرأفَ وأفرغ لها،لذلك قُ ّد َمتِ الم
فيها على الب.
ولما كان الرجالُ أقومَ بتحصيل مصلحةالولدوالحتياط له في البضع ،قُدّمَ
البُ فيها على الم ،فتقديمُ الم في الحضانة مِن محاسن الشريعة والحتياط للطفال،
والنظر لهم ،وتقديمُ الب في ولية المال والتزويج كذلك.
ع ِرفَ هذا ،فهل قُدّمتِ الُمّ لكون جهتها مقدم ًة على جهة البوة في الحضانة،
إذا ُ
فقدمت لجل المومة ،أو قُدّمت على الب ،لكون النساء أقوم بمقاصد الحضانة والتربية من
الذكور ،فيكون تقديمُها لجل النوثة؟ ففي هذا للناس قولن وهما في مذهب أحمد يظهر أثرهُما في
تقديم نساء العصبة على أقارب الم أو بالعكس ،كأم الم ،وأم الب ،والخت من الب ،والخت
من الم ،والخالة ،والعمة ،وخالة الم ،وخالة الب ،ومن يُدلي من الخالت والعمات بأم ،ومن
ب البِ .والثانية
يُدلي منهن بأب ،ففيه روايتان عن الِمام أحمد .إحداهما تقديمُ أقاربِ الم على أقار ِ
ح دليلً ،واختيار شيخ الِسلم ابن تيمية :تقديمُ أقارب الب وهذا هو الذي ذكره الخرقي
وهيَ أص ّ
ق من الخالة ،وخالة الب
ق من الخت من الم وأح ّ
في ((مختصره)) فقال والختُ من الب أح ّ
ص عليه أحمد في إحدى الروايتين
ق مِن خالة الم ،وعلى هذا فأ ّم البِ مقدّمة على أمّ الم كما ن ّ
أح ّ
عنه..
ب الب من الرجال مقدّمون على أقارب الم،
وعلى هذه الرواية :فأقار ُ
والخ للب أحق من الخ للم،والعم أولى من الخال،هذا إن قلنا:إن لقارب الم من الرجال مدخلً
في الحضانة ،وفي ذلك وجهان في مذهب أحمد والشافعي .أحدهما :أنه ل حضانة إل لرجل مِن
حرَمٍ ،أو لمرأة وارثة،أو مُدلية بعصبة ،أو وارث..
العصبة مَ ْ
ل أبي
والثاني :أن لهم الحضانة والتفريع على هذا الوجه ،وهو قو ُ
حنيفة،
249
وهذا يدل على رجحان جهة البوة على جهة المومة في الحضانة ،وأن الم إنما قدّمت
لكونها أنثى ل لتقديم جهتها ،إذ لو كان جهتها راجحةً لترجّحَ رجالها
ونساؤها على الرجالِ والنساءِ من جهة الب ،ولما لم يترجّح رجالُها اتفاقاًفكذلك النساء،
وما الفرقُ المؤثر؟وأيضاً فإن أصولَ الشرع وقواعِ َدهُ شاهدةٌ بتقديم أقارب الب في الميراث،
وولية النكاح ،وولية الموت وغير ذلك ،ولم يُعهد في الشرع تقديمُ قرابة الم على قرابة الب في
حكم من الحكام ،فمن قدّمها في الحضانة ،فقد خرج عن موجب الدليل.
فالصوابُ في المأخذ هو أن الم إنما قُدّمت ،لن النساءَ أرفقُ بالطفل ،وأخبرُ
بتربيته ،وأصبرُ على ذلك ،وعلى هذا فالج ّد ُة أم الب أولى من أمّ الم ،والخت للب أولى مِن
الخت للم ،والعم ُة أولى من الخالة ،كما نصّ عليه أحمد في إحدى الروايتين ،وعلى هذا فتقدَ ُم أتمُ
الب على أب الب ،كما تُقدّم الم على الب.
طرِد منضبط ل تتناقض فروعُه ،بل إن
وإذا تقرر هذا الصل ،فهو أصل م ّ
اتفقت القراب ُة والدرجةُ واحدة قُدّمت النثى على الذكر ،فتُقدّم الخت على الخ،والعمة على العم،
والخالة على الخال ،والجد ُة على الجد ،وأصلُه تقديم الم على الب .وإن اختلفت القرابةُ ،قُدّمت
قرابةُ الب على قرابة الم ،فتقدم الخت للب على الخت للم ،والعمة على الخالة ،وعمةُ الب
على خالته ،وهلم جراً.
وهذا هو العتبا ُر الصحيح ،والقياسُ المطرد ،وهذا هو الذي قضى
به سيّدُ قُضاةِ الِسلم شريح ،كما روى وكيع في ((مصنفه)) عن الحسن بن عقبة ،عن سعيد بن
ل إلى شُريح في طفل ،فقضى به للعم ،فقال الخال :أنا أُنفق عليه من
الحارث قال :اختصم عمّ وخا ٌ
مالي ،فدفعه إليه شريح.
ك غيرَ هذا المسلك لم يجد بداً من التناقض ،مثاله :أن الثلثة وأحمد في إحدى
ومن سل َ
روايتيه ،يُق ّدمُون أم الم على أم الب ،ثم قال الشافعي في ظاهر مذهبه ،وأحمد في المنصوص
عنه :تُقدّم الخت للب على الخت للم ،فتركوا القياسَ ،وطرّده أبو حنيفة ،والمزني ،وابن سريج،
ت للم على الخت للب .قالوا :لنها تُدلي بالم ،والخت للب بالب ،فلما قُ ّدمَت
فقالوا :تُقدّم الخ ُ
الم على الب ،قُدّ َم من يُدلي بها على من يُدلي به ،ولكن هذا أشدّ تناقضاً من الول لن أصحاب
ج َروْا على القياس والصول في تقديمِ قرابة الب على قرابة الم ،وخالفوا ذلك في أم
القول الول َ
الم وأم الب ،وهؤلء تركوا القياسَ في الموضعينِ ،وقدّموا القراب َة التي أخّرها الشرعُ ،وأخّروا
250
خرُوها في غير ِه مع
ل موضع ،فقدّموها في موضع ،وأ َ
القراب َة التي قدّمها ،ولم يمكنهم تقديمُها في كُ ّ
تساويهما ،ومن ذلك تقديمُ الشافعي في الجديد الخال َة على العمة مع تقديمه الخت للب على الخت
للم ،وطرّد قياسه في تقديم أم الم على أم الب ،فوجب تقديمُ الخت للم ،والخالة على الخت
للب والعمة ،وكذلكَ مَنْ قَدّ َم مِن أصحاب أحمد الخالَة على العمة ،وقدّ َم الخت للب على الخت
للم ،كقول القاضي وأصحابه،وصاحب ((المغني)) فقد تناقضوا.
فإن قيل :الخال ُة تُدلي بالم ،والعمة تُدلي بالب ،فكما قدّمتِ الم على الب ،قُدّم من
يُدلي بها ،ويزيدُه بيانًا كونُ الخالة أمّا كما قال النبيّ صلى ال عليه وسلم ،فالعمةُ بمنزلة الب .قيل:
قد بينا أنه لم يقدم الم على الب لقوة المومة ،وتقديم هذه الجهة ،بل لكونها أنثى ،فإذا وُجِ َد عمةٌ
وخالة ،فالمعنى الذي قُ ّد َمتْ له الم موجود فيهما ،وامتازت العمةُ بأنها تُدلي بأقوى القرابتين ،وهي
قرابةُ الب ،والنبيّ صلى ال عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها ،وقال(( :الخَال ُة أُم))حيث لم
يكن لها مزاحم مِن أقارب الب تُساويها في درجتها.
فإن قيل :فقد كان لها عمة وهى صفي ُة بنت عبد المطلب أختُ حمزة ،وكانت
ل مِن اليهود كان يطوفُ
إذ ذاك موجودة في المدينة ،فإنها هاجرت ،وشهدت الخندقَ ،وقتلت رج ً
ل من المشركين ،وبقيت إلى خلفة عمر رضي
بالحِصن الذي هي فيه ،وهي أوّل امرأة قتلت رج ً
ل على تقديم من في جهة الم على
الّ عنه ،فقدّم النبيّ صلى ال عليه وسلم الخالة عليها ،وهذا يد ّ
من في جهة الب.
ل هذا إذا كانت صفية قد نازعت معهم ،وطلبت الحضانة،
قيل :إنما يد ّ
فلم يقض لها بها بعد طلبها ،وقدّم عليها الخالة ،هذا إذا كانت لم تمنع منها لعجزها عنها،
ت هذه الحكومة بِضعٌ وخمسون
فإنها تُوفيت سنة عشرين عن ثلث وسبعين سنة ،فيكون لها وق َ
ق للمرأة ،فإذا تركتها،
سنة ،فيحتمِلُ أنها تركتها لعجزها عنها ،ولم تطلبها مع قدرتها ،والحضانةُ ح ّ
انتقلت إلى غيرها.
وبالجملة :فإنما يدل الحديث على تقديم الخالة على العمة إذا ثبت أن صفيةَ خاصمت في ابنة
ل إليه.
ل صلى ال عليه وسلم الخالة ،وهذا ل سبي َ
أخيها ،وطلبت كفالَتها ،فقدّم رسولُ ا ّ
فصل
ومن ذلك أن مالكاً لما قدّم أمّ الم على أ ّم الب ،قدم الخالةَ بعدها على الب وأمه ،واختلف
أصحابه في تقديم خالة الخالة على هؤلء ،على وجهين ،فأح ُد الوجهين :تقديم خالة الخالة على
251
الب نفسِه ،وعلى أمه ،وهذا في غاية البعد ،فكيف تُقدم قراب ُة الم وإن بعدت على الب نفسه،
ق على الطفل ،وأرعى لمصلحة من قرابة الم؟ فإنه ليس
وعلى قرابته مع أن البَ وأقاربه أشف ُ
ب أبيه ،وهم أولى
ي منهم ،وإنما نسبه وولؤه إلى أقار ِ
إليهم بحال ،ول يُنسب إليهم ،بل هو أجنب ّ
ت القرابةَ بينهم
به ،يع ِقلُون عنه ،وينفقون عليه عند الجمهور ،ويتوارثون بالتعصيب وإن بعد ِ
بخلف قرابةِ الم ،فإنه ل يثبتُ فيها ذلك ،ول توا ُرثَ فيها إل في أمهاتها ،وأول درجة مِن
فروعها ،وهم ولدُها ،فكيف تقدم هذه القرابة على الب ،ومن في جهته ،ول سيما إذا قيل بتقديم
خالة الخالة على الب نفسه وعلى أمه ،فهذا القولُ مما تأباه أصولُ الشريعة وقواعِدُها.
وهذا نظي ُر إحدى الروايتين عن أحمد في تقديم الخت على الم ،والخالة على الب،
وهذا أيضاً في غاية البعد ،ومخالفة القياس..وحجة هذا القول :أن كلتيهما تُدليان بالم المقدمة على
الب ،فتُقدمان
عليه ،وهذا ليس بصحيح ،فإن الم لما ساوت الب في الدرجة ،وامتازت عليه بكونها أقومَ
ت عليه ،وليس كذلك الختُ من الم ،والخال ُة مع الب،
بالحضانة ،وأقدرَ عليها وأصبرَ ،قُ ّد َم ْ
ت امرأته ،أو أختها؟ وهل
فإنهما ل يُساويانه ،وليس أحدٌ أقربَ إلى ولده منه ،فكيف تُقَدّ ُم عليه بن ُ
جعل الّ الشفقة فيهما أكمل منه؟
ثم اختلف أصحاب الِمام أحمد في فهم نصه هذا على ثلثة أوجه.
أحدها :إنما قدمها على الب لنوثتها ،فعلى هذا تُقدّمُ نساء الحضانة علىكل رجل ،فتُقدّمُ
خالة الخالة وإن علت ،وبنت الخت على الب.
الثاني :أن الخالةَ والخت للم لم تدليا بالب ،وهما من أهل الحضانة،
ل إل على من أدلين به ،فل تُقدمن عليه ،لنهن فرعه،
َفتُقدّمُ نسا ُء الحضانة على كل رج ٍ
فعلى هذا الوجه ل تُقَدّم أمّ الب على الب ،ول الخت والعمة عليه ،وتقدم عليه أم الم ،والخالة،
والخت للم ،وهذا أيضاً ضعيف جداً ،إذ يستلزِمُ تقديم قرابة الم البعيدة على الب وأمه ،ومعلوم
أن البَ إذا قُدّ َم على الخت للب فتقديمُه على الخت للم أولى ،لن الخت للب مقدمة عليها،
فكيف تُقدّم على الب نفسه؟ هذا تناقض بيّن..
الثالث :تقديمُ نساء الم على الب وأمهاته وسائر مَن في جهته ،قالوا.:
فعلى هذا ،فكل امرأة في درجة رجل تُقَدّ ُم عليه ،ويُقدّم من أدلى بها على من أدلى بالرجل،
فلما قُ ّد َمتِ ال ّم على الب وهي في درجته قدمت الخت من الم على الخت من الب ،وقُ ّد َمتِ
252
الخالة على العمة .هذا تقرير ما ذكره أبو البركات بن تيمية في ((محرره)) من تنزيل نص أحمد
على هذه المحامل الثلث ،وهو مخالف لعامة نصوصه في تقديمِ الخت للب على الخت للم،
وعلى الخالة ،وتقديم خالة الب على خالة الم ،وهو الذي لم يذكر الخرقي فى((مختصره)) غيره،
وهو الصحيحُ ،وخرجها ابنُ عقيل على الروايتين في أم الم ،وأم الب ،ولكن نصه ما ذكره
الخرقي ،وهذه الرواية التي حكاها صاحب ((المحرر))ضعيفة مرجوحة ،فلهذا جاءت فروعُها
ولوا ِزمُها أضعفَ منها بخلف سائر نصوصه في جادة مذهبه.
فصل
ل عصبة ،فإنه يقدّ ُم على كل امرأة هي
ب بضابط ،فقال :كُ ّ
وقد ضبط بعض أصحابه هذا البا َ
أبعدُ منه ،ويتأخر عمن هي أقربُ منه ،وإذا تساويا ،فعلى وجهين .فعلى هذا الضابط يُقدّ ُم الب
على أمه ،وعلى أم الم ومن معها ،ويُقدّم الخ على ابنته وعلى العمة ،والعم على عمة الب،
وتقدّم أ ُم الب على جد الب ،في تقديمها على أب الب وجهان .وفي تقديم الخت للب على الخ
للب وجهان ،وفي تقديم العمة على العم وجهان.
والصواب :تقديم النثى مع التساوي ،كما قُ ّد َمتِ المّ على الب لما استويا ،فل وجه لتقديم
الذكر على النثى مع مساواتها له ،وامتيازِها بقوة أسباب الحضانة والتربية فيها.واختُلفَ في بنات
ت والعماتُ عليهن؟ على
الخوة والخوات ،هل يُقدمن على الخالت والعمات،أو تقدم الخال ُ
وجهين مأخذهُما :أن الخالة والعمة تُدليان بأخوة الم والب ،وبنات الخوة والخوات يُدلين ببنوة
الب ،فمن قدّم بنات الِخوة ،راعى قوة البنوة على الخوة ،وليس ذلك بجديد ،بل الصوابُ تقديم
العمة والخالة لوجهين.
أحدهما :أنها أقرب إلى الطفل من بنات أخيه ،فإن العمة أخت أبيه ،وابنةالخ ابنة ابن أبيه،
ب أن العمة
وكذلك الخال ُة أخت أمه ،وبنت الخت من الم ،أو لب بنت بنت أمه أو أبيه ،ول ري َ
والخالة أقرب إليه من هذه القرابة.
الثاني :أن صاحبَ هذا القول إن طرّد أصله ،لزمه ما ل قبل له به من تقديم بنت بنت الخت
ص ذلك ببنت الخت دون من سفل
وإن نزلت على الخالة التي هي أم ،وهذا فاس ٌد من القول ،وإن خ ّ
منها ،تناقض.
253
واختلف أصحابُ أحمد أيضاً في الجد والخت للب أيهما أولى؟ فالمذهب :أن الج ّد أولى
منها وحكى القاضي في((المجرد)) وجهاً :أنها أولى منه ،وهذا يجيء على أحد التأويلت التي
تأوّل عليها الصحابُ نص أحمد ،وقد تقدمت.
فصل
ج َه ِتهِنّ ،انتقلت
ومما يُبين صحة الصل المتقدّم أنهم قالوا :إذا عَدِمَ المهات ،ومن في ِ
حضَانةُ إلى العصبات ،وقُدّمَ القربُ فالقربُ منهم ،كما في الميراث ،فهذا جا ٍر على القياس،
ال َ
ل راعيتُم هذا في جنس القرابة ،فقدمتم القرابة القوية الراجح َة على الضعيفة
فيقال لهم :هَ ّ
المرجوحة كما فعلتم في العصبات؟
وأيضاً فإن الصحيح في الخوات عندكم أنه يُقدّم منهن من كانت لبوين،ثم من كانت لب،
ثم من كانت لم ،وهذا صحيح موافق للصول والقياس ،لكن إذا ضمّ هذا إلى قولهم بتقديم قرابة
ع المشكلة المتناقضة.
الم على قرابة الب جاء التناقضُ ،وتلك الفرو ُ
ت للم،وهو الصوابُ
ت البِ والجدّ على الخالت والخوا ِ
وأيضاً فقد قالوا بتقديم أمها ِ
ق لصول الشرع ،لكنه مناقض لِتقديمهم أمهاتِ الم على أمهاتِ الب ،ويُناقض تقديم الخالة
المواف ُ
والخت للم على الب ،كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الّ ،والقول القديم للشافعي .ول
ريب أن القول به أطر ُد للصل ،لكنه في غاية البُعد من قياس الصول كما تقدم ،ويلزمهم من
طرْده أيضاً تقدي ُم من كان من الخوات لم على من كان منهن لب ،وقد التزمه أبو حنيفة،
َ
طرْدهِ أيضاً تقدي ُم بنت الخالة على الخت للب ،وقد التزمه
والمزني ،وابنُ سريج ،ويلزمهم مِن َ
زفر ،وهو رواية عن أبي حنيفة ،ولكن أبو يوسف استشنع ذلك ،فقدّم الخت للب كقول الجمهور،
ورواه عن أبي حنيفة.
ويلزمهم أيضاً من طرده تقديم الخالة والخت للم على الجدة أم الب،
(يتبع)...
وهذا في غاية البعد والوهن ،وقد التزمه زفر ،ومثلُ هذا من المقاييس التي حذر منها أبو @
حنيفة أصحابه ،وقال ل تأخذوا بمقاييس زفر ،فإنكم إن أخذتم بمقاييس زفر ح ّر ْمتُمُ الحَلَلَ ،وحلّلتمُ
حرَامَ..
ال َ
فصل
254
وقد رام بعضُ أصحاب أحمد ضبط هذا الباب بضابط زعم أنه يتخلّص بِه مِن التناقض،
فقال :العتبارُ في الحضانة بالولدة المتحققة وهي المومة ،ثم الولدة الظاهرة وهي البوة ،ثم
الميراث .قال :ولذلك تُقدّمُ الخت من الب على الخت من الم ،وعلى الخالة ،لنها أقوى إرثاً
منهما .قال :ثم الِدلء ،فتقدّم الخالة على العمة لن الخالة تدلي بالم ،والعمة تدلي بالب ،فذكر
أربع أسباب للحضانة مرتبة :المومة ،ثم بعدها البوة ،ثم بعدها الميراث ،ثم الِدلء ،وهذه طريقة
صاحب ((المستوعب)) ،وما زادتهُ هذه الطريقةُ إل تناقضاًوبعداً عن قواعد الشّريعة ،وهي من
أفسد الطرق ،وإنما يتبينُ فسادُها بلوازمها الباطلة ،فإنه إن أراد بتقديم المومة على البوة تقديمَ من
في جهتها على الب ومَنْ في جهته ،كانت تلك اللوازم الباطلة المتقدمة من تقديم الخت للم،
وبنت الخالة على الب وأمه ،وتقديم الخالة على العمة ،وتقديم خالة الم على الب وأمه ،وتقديم
ف لصول الشرع
بنات الخت من الم على أم الب ،وهذا مع مخالفته لِنصوص إمامه ،فهو مخال ٌ
وقواعده.
وإن أراد أن الم نفسها تُقَدّ ُم على الب ،فهذا حق لكن الشأن في مناط هذا التقديم :هل هو
لكون الم ومن في جهتها تقدم على الب ومن في جهته ،أو لكونها أنثى في درجة ذكر ،وكل أنثى
كانت في درجة ذكر قُ ّد َمتْ عليه مع تقديم قرابة الب على قرابة الم؟ وهذا هو الصواب كما تقدم،
وكذلك قولُه ((ثم الميراث)) إن أراد به أن المقدَم في الميراث مقدم في الحضانة فصحيح ،وطرده
تقديمُ قرابة الب على قرابة الم ،لنها مقدّمة عليها في الميراث ،فتقدم الختُ على العمة والخالة.
وقوله وكذلك تقديمُ الخت للب على الخت للم ،والخالة ،لنها أقوى إرثاً منهما ،فيقال:لم يكن
تقديمُها لجل الِرث وقوته ،ولو كان لجل ذلك ،لكان العصبات أحقّ بالحضانة من النساء ،فيكون
العمّ أولى مِن الخالة والعمة ،وهذا باطل..
فصل
وقد ضبط الشيخ في ((المغني)) هذا الباب بضابط آخر فقال :فصل في بيان الولى فالولى
من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء .وأولى الكلّ بها :المّ ،ثم أمهاتُها وإن علون يُقدّم
منهن القرب فالقرب لنهن نساء ولدتهن متحققة ،فهن في معنى الم :وعن أحمد ،أن أم الب
ن يُدلين به ،فيكون
وأمهاتِها يُقدّمن على أم الم ،فعلى هذه الرواية يكون الب أولى بالتقديم ،لنّه ّ
الب بعد الم ،ثم أمهاته ،والولى هي المشهورة عند أصحابنا ،فإن المقدّم الم ،ثم أمهاتها ،ثم
الب ،ثم أمهاتُه ،ثم الجدّ ،ثم أمهاتُه ،ثم ج ّد الب ،ثم أمهاتُه ،وإن كن غيرَ وارثات لنهن يُدلين
255
بعصبةٍ مِن أهل الحضانة ،بخلف أ ّم أب الم .وحُكي عن أحمد رواية أخرى :أن الختَ من الم
ق منه ،ومنهما ،ومن جميع العصبات،
ت من البوين أح ّ
ق من الب ،فتكون الخ ُ
والخالة أح ّ
والولى هي المشهورة من المذهب ،فإذا انقرض الباء والمهات ،انتقلت الحضانة إلى الخوات
ت من الب ،ثم الختُ من الم ،وتقدّمُ الخت على الخ لنها
ت من البوين ،ثم الخ ُ
وتُقدّم الخ ُ
ت على مَن في درجتها من الرجال ،كالم تُقدّ ُم على الب ،وأ ّم الب
امرأة من أهل الحضانة ،فَقُ ّد َم ْ
على أب الب ،وكُل جدة في درجة جد تُقدّ ُم عليه لنها تلي الحَضانة بنفسها ،والرجلُ ل يليها
بنفسه..
وفيه وجه آخر :أنه يقدم عليها لنه عصبة بنفسه ،والول أولى ،وفي تقديم الخت من
خ للب ،ثم
البوين ،أو من الب على الجد وجهان ،وإذا لم تكن أخت فالخ للبوين أولى ،ثم ال ُ
ابناهما ،ول حَضانة للخ من المّ لما ذكرنا..
فإذا عدموا ،صارت الحضانةُ للخالت على الصحيح ،وترتيبُهن فيها كترتيبِ الخوات ،ول
حضانةَ للخوال ،فإذا عدموا ،صارت للعمات ويقدّمن على العمام كتقديمِ الخوات على الِخوة،
ثم للعم للبوين ،ثم للعم للب ،ول حضانة للعم من الم ،ثم ابناهما ،ثم إلى خالتِ الب على قول
الخرقي ،وعلى القول الخر :إلى خالت الم ،ثم إلى عمات الب ،ول حَضانة لعمات الم ،لنهن
ن أو أكثر مِن أهل الحضانة في درجة قدّمَ
يُدلين بأب الم ،ول حضانة له .وإن اجتمع شخصا ِ
المستحق منهم بالقرعة ،انتهى كلمه..
وهذا خيرٌ مما قبله من الضوابط ،ولكن فيه تقدي ُم أم الم وإن علت علىالب
طرّدَ تقديم من في جهة الم على من في جهة الب جاءت تلك اللوازمُ الباطلة ،وهو
وأمهاته ،فإن َ
ض من في جهة الب على بعض من في جهة الم كما فعل ،طوِلبَ بالفرق،
لم يُطرده ،وإن قَدّمَ بع َ
خ مِن الم ،وهو في درجتها ومساوٍ لها
وب َمنَاط التقديم.وفيه إثباتُ الحضانة للخت من الم دون ال ِ
من كل وجه ،فإن كان ذلك لنوثتها وهو ذكر ،انتقض برجال العصبة كلهم ،وإن كان ذلك لكونه
ليس مِن العصبة ،والحضانة ل تكون لرجل إل أن يكون مِن العصبةِ .قيل :فكيف جعلتمُوها لِنساء
ذوىَ الرحام مع مساواتِ قرابتهن لقرابة مَنْ في درجتهن من الذكو ِر من كل وجه؟ فإما أن
تعت ِبرُوا النوثة فل تجعلُوها للذكر ،أو الميراثَ فل تجعلُوها لغير وارث ،أو القرابة فل تمنعوا منها
الخَ من الم والخال وأبا الم ،أو التعصيبَ ،فل تعطوها لغير عصبة.
فإن قلتم :بقي قسم آخر وهو قولنا ،وهو اعتبار التعصيب في الذكور والقرابة في النساء.
256
قيل :هذا مخالف لباب الوليات ،وباب الميراث ،والحضانة وِلية على الطفل ،فإن سلكتم
ك الميراث ،فل تُعطوها لغير
بها مسلكَ الوليات ،فخصّوها بالب والجد ،وإن سلكتم بها مسل َ
وارث ،وكلهما خلف قولكم وقولِ الناس أجمعين..
وفي كلمه أيضاً :تقدي ُم ابن الخ وإن نزلت درجتُه على الخالة التي هي أم،وهو في غاية
البعد ،وجمهورُ الصحاب إنما جعلوا أولد الِخوة بعد أب الب والعمات وهو الصحيح ،فإن
الخالة أختُ الم ،وبها تُدلي ،والمّ مقدّمة على الب ،وابنُ الخ إنما يُدلي بالخ الذي يُدلي بالب،
ن ابنه عليها.
فكيف يقدّمُ على الخالة ،وكذا العمةُ أختُ الب وشقيقتُه ،فكيف يقد ُم اب ُ
وقد ضبط هذا البابَ شيخُنا شيخُ الِسلم ابن تيمية بضابط آخر .فقال:أقربُ ما
ب الحضانة أن يقال :لما كانت الحضانة وليةً تعتمد الشفقة والتربية والملطفة كان
يُضبط به با ُ
أحق الناس بها أقومَهم بهذه الصفات وهم أقاربُه يقدّم منهم أقربهم إليه وأقومُهم بصفات الحضانة.
فإن إجتمع منهم اثنان فصاعداً ،فإن استوت درجتهم قُدّم النثى على الذكر ،فتُقدّم ال ّم على الب،
والجدة علىالجد ،والخالة على الخال ،والعمة على العم ،والخت على الخ .فإن كانا ذكرين أو
ا ْن َث َييْن ،قُدّمَ أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما ،وإن اختلفت درج ُتهُما من الطفل ،فإن كانوا
من جهة واحدة ،قُدمَ القرب إليه ،فتقدّمُ الخت على ابنتها ،والخال ُة على خالة البوين ،وخالةُ
البوين على خالة الجد والجدة ،والجد أبو الم على الخ للم ،هذا هو الصحيحُ لن جهة البوة
والمومة في الحضانة أقوى مِن جهة الخوة فيها .وقيل :يقدم الخ للم لنه أقوى من أب الم في
الميراث .والوجهان في مذهب أحمد.
وفيه وجه ثالث :أنه ل حضانة للخ من الم بحال ،لنه ليس من العصبات ،ول من نساء
ل أيضاً ،فإن صاحب هذا الوجه يقولُ :ل حضانة له ،ول نِزاع أن أبا الم
الحضانة ،وكذلك الخا ُ
وأمهاته أولى مِن الخال وإن كانوا من جهتين ،كقرابة الم وقرابة الب مثل العمة والخالة ،والخت
للب ،والخت للم ،وأم الب ،وأم الم ،وخالة الب ،وخالة الم قدّم من في جهة الب في ذلك
كله على إحدى الروايتين فيه .هذا كلهُ إذا استوت درجتهم ،أو كانت جهة الب أقربَ إلى الطفل،
وأما إذا كانت جِهةُ الم أقرب ،وقرابة الب أبعد ،كأم الم ،وأم أب الب ،وكخالة الطفل ،وعمة
أبيه ،فقد تقابل الترجيحان ،ولكن يُقدّم القربُ إلى الطفل لقوة شفقته وحنّوه على شفقة البعد ،ومن
قَدّم قراب َة الب ،فإنما يُقدّمها مع مساواةِ قرابة الم لها ،فأما إذا كانت أبعدَ منها ،قُدمت قرابةُ الم
ط يُمكن حصرُ
القريبة ،وإل لزم مِن تقديم القرابة البعيدة لوازم باطلة ل يقولُ بها أحد ،فبهذا الضابِ ِ
257
جميع مسائل هذا الباب وجريها على القياس الشرعي ،واطرادها وموافقتها لصول الشرع ،فأي
مسألة وردت عليك أمكَن أخذُها من هذا الضابط مع كونه مقتضى الدليل ،ومع سلمتِهِ من التناقض
ومناقضة قياس ا لصول ،وبال التوفيق.
فصل
وقوله صلى ال عليه وسلم ((أنتِ أحق به ما لم تنكحي)) فيه دليل على أن الحَضانة حقّ
للم ،وقد اختلف الفقهاءُ ،هل هي للحاضن أم عليه؟ على قولين في مذهب أحمد ومالك ،وينبني
عليهما هل لمن له الحَضانة أن يُسقِطَها فينزل عنها؟ على قولين ..وأنه ل يجب عليه خدم ُة الولد
أيامَ حَضانته إل بالجرة إن قلنا:الحق له ،وإن قلنا الحق عليه ،وجب خدمته مجاناً .وإن كان
الحاضن فقيراً ،فله الجر ُة على القولين.
وإذا وهبت الحضانة للب ،وقلنا :الحق لها ،لزمت الهبة ولم ترجع فيها،وإن قلنا :الحق
عليها ،فلها العود إلى طلبها.والفرق بين هذه المسألة وبين ما لم يثبت بعد كهبة الشفعة قبل البيع
حيث لتلز م في أحد القولين :أن الهبة في الحضانة قد وُجِدَ سببُها ،فصار بمنزلة ما قد وجد،
وكذلك إذا وهبت المرأةُ نفقتها لزوجها شهرًا ألزمت الهبة ،ولم ترجع فيها .هذا كلهُ كلم أصحابِ
ح أن الحضانة حق لها ،وعليها إذا احتاج الطفل إليها ،ولم يُوجد غيرُها،
مالك وتفريعهم ،والصحي ُ
وإن اتفقت هي ،وولي الطفل على نقلها إليه جاز ،والمقصو ُد أن في قوله صلى ال عليه وسلم((أنت
ل على أن الحضانة حقّ لها.
أحق به)) ،دلي ً
فصل
وقوله ((ما لم تنكحي)) ،اختلف فيه :هل هو تعليل أو توقيت ،على قولين ينبغي عليهما :ما
طلّقت ،فهل تعودُ الحضانة؟ فإن قيل :اللفظُ تعليل ،عادت
لو تزوّجت وسقطت حضانتها ،ثم ُ
الحضانة بالطلق ،لن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها ،وعلة سقوط الحضانة التزويج ،فإن
ل الكثرين ،منهم :الشافعي ،وأحمد ،وأبو حنيفة.
طلقت ،زالت العلة ،فزال حكمها ،وهذا قو ُ
ثم اختلفوا فيما إذا كان الطلق رجعياً ،هل يعودُ حقّها بمجرده ،أو يتوقف عودُها على
انقضاء العدة؟ على قولين ،وهما في مذهب أحمد والشافعي ،أحدهما :تعود بمجرده ،وهو ظاهر
مذهب الشافعي .والثاني :ل تعود حتى تنقضيَ العدةِ ،وهو قول أبي جنيفة والمزني ،وهذا كله
ل الكثرين .وقال مالك في المشهور من مذهبه:
تفريع على أن قوله :ما لم تنكحي " تعليل ،وهو قو ُ
ض أصحابه :وهذا بناء على
إذا تزوجت ودخل بها ،لم َيعُد حقها من الحضانة ،وإن طلقت ،قال بع ُ
258
أن قوله" :ما لم تنكحي " ،للتوقيت أي :حقك من الحضانة مُوقّت إلى حين نكاحك ،فإذا نكحت،
انقضى وقت الحضانة ،فل تعودُ بعد انقضاء وقتها ،كما لو انقضى وقتُها ببلوغ الطفل واستغنائه
عنها .وقال بعض أصحابه :يعودُ حقها إذا فارقها زوجُها ،كقول الجمهور ،وهو قول المغيرة ،وابن
أبي حازم .قالُوا :لن المقتضي لحقها من الحضانة هو قرابتُها الخاصة ،وإنما عارضها مانع النكاح
ق الزوج الجنبي منه عن مصالحه ،ولما فيه من
لما يُوجبه من إضاعة الطفل ،واشتغالها بحقو ِ
غضَاضَة ،فإذا انقطع النكاحُ بموتٍ ،أو
تغذيته وتربيته في نعمة غير أقاربه ،وعليهم في ذلك ِمنّ ٌة و َ
فُرقةٍ ،زال المانع ،والمقتضي قائم ،فترتب عليه أثره ،وهكذا كُلّ من قام به من أهل الحضانة مانع
منها ،ككفر ،أورِق ،أو فسق ،أو بدو ،فإنه ل حضانة له ،فإن زالت الموانعُ ،عاد حقّهم من
الحضانة ،فهكذا النكاح والفرقة.
وأما النزاعُ في عود الحضانة بمجرد الطلق الرجعي ،أو بوقفه على انقضاء العدة ،فمأخذُه
ث والنفقة ،و َيصِحّ منها الظهارُ
كون الرجعية زوجة في عامة الحكام ،فإنه يثبت بينهما التوار ُ
واليلء :ويحرم أن يَنكحَ عليها أختها ،أو عمتها ،أو خالتها ،أو أربعاً سواها ،وهي زوجة ،فمن
راعى ذلك ،لم تعد إليها الحضانة بمجرد الطلق الرجعي حتى تنقضي العدة ،فتبينُ حينئذ ،ومن
أعاد الحضانة بمجرد الطلق ،قال :قد عزلها عن فِراشه ،ولم يبق لها عليه قَسْمّ ،ول لها به شغل،
والعِلة التي سقطت الحضانة لجلها قد زالت بالطلق ،وهذا هو الذي رجحه الشيخ في "المغني "
وهو ظاهر كلم الخرقي ،فإنه قال :وإذا أخذ الولد من الم إذا تزوجت ثم طلقت ،رجعت على حقها
من كفالته..
فصل
وقوله ((ما لم تنكحي)) ،اخ ُتِلفَ فيه :هل المراد به مجرد العقد ،أو العقد مع الدخول؟ وفي
ذلك وجهان .أحدهما :أن بمجرد العقد تزول حضانتها ،وهو قول الشافعي ،وأبي حنيفة ،لنه بالعقد
يَمِلكُ الزوج منافع الستمتاع بها ،ويَملِك نفعها من حضانة الولد .والثاني :أنها ل تزول إل
بالدخول ،وهو قولُ مالك ،فإن بالدخول يتحقق اشتغالها عن الحضانة ،والحديث يحتمل المرين،
والشبه سقوطُ حضانتها بالعقد ،لنها حينئذ صارت في مظنة الشتغال عن ،الولد والتهيؤ للدخول،
وأخذها حينئذ في أسبابه ،وهذا قولُ الجمهور.
فصل
واختلف الناسُ في سقوط الحضانة بالنكاح ،على أربعة أقوال.
259
أحدُها :سقوطها به مطلقاً ،سواء كان المحضون ذكراً ،أو أنثى ،وهذا مذهب الشافعي،
ومالك ،وأبي حنيفة ،وأحمد في المشهور عنه .قال ابن المنذر :أجمع على هذا كلُ من أحفظ عنه
من أهل العلم ،وقضى به شريح..
ط بالتزويج بحال ،ول فرق في الحضانة بين اليّم وذوات البعل،
والقولُ الثاني :أنها ل تسق ُ
وحُكي هذا المذهبُ عن الحسن البصري ،وهو قول أبي محمد ابن حزم.
القول الثالث :أن الطفل إن كان بنتاً لم تسقط الحضانة بنكاح أمها ،وإن كان ذكراً سقطت،
ل نص عليه في رواية مهنا بن يحي الشامي ،فقال :إذا
وهذه إحدى الروايتين عن أحمد رحمه ا ّ
تزوجت ال ّم وابنُها صغير ،أُخذَ منها .قيل له :والجارية مثل الصبي؟ قال :ل ،الجاري ُة تكون مع
أمها إلى سبع سنين .وعلى هذه الرواية :فهل تكون عندها إلى سبع سنين أو إلى أن تبلغ؟ على
ن أبي موسى :وعن أحمد ،أن الم أحقّ بحضانة البنت وإن تزوجت إلى أن
روايتين .قال اب ُ
تبلغ.والقول الرابع :أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها ،ثم اختلف أصحاب هذا
القول ،على ثلثة أقوال .أحدها :أن المشترط أن يكون الزوج نسيبًا للطفل فقط ،وهذا ظاهرُ قولِ
أصحاب أحمد .الثاني :أنه يشترط أن يكون مع ذلك ذا رحم محرم ،وهو قولُ أصحاب أبي حنيفة.
الثالث :أنه يشترط أن يكون بين الزوج وبين الطفل إيلد ،بأن يكون جدًا للطفل ،وهذا قولُ مالك،
وبعض أصحاب أحمد ،فهدا تحرير المذاهب في هذه المسألة.
فأما حُج ُة مَنْ أسقط الحضانة بالتزويج مطلقاً ،فثلث حجج:إحداها ،حديث عمرو بن
شعيب المتقدم ذكره .الثانية :اتفاق الصحابة على ذلك ،وقدُ تقدّم قول الصدّيق لعمر :هي أحق به ما
لم تتزوج ،وموافقة عمر له على ذلك ،ول مخالف لهما من الصحابة ألبتة ،وقضى به شريح،
والقضاة بعده إلى اليوم في سائر العصار والمصار.
الثالثة :ما رواه عبد الرزاق :حدثنا ابن جريج ،حدثنا أبو الزبير ،عن رجل صالح من أهل
المدينة ،عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ،قال :كانت امرأةٌ من النصار تحتَ رجل من النصار،
ل آخر إلى أبيها ،فأنكح الخرَ ،فجاءت
ف ُقتِلَ عنها يومَ أحد وله منها ولد ،فخطبها عمّ ولدها َورَجُ ٌ
ل ل أريدُه ،وترك ع ّم ولدي ،فيؤخذ مني
إلى النبيّ صلى ال عليه وسلم ،فقالت :أنكحني أبي رج ً
ولدي ،فدعا رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم أباها ،فقال :أنكحت فلناً فلنة؟ قال :نعم ،قال ((أَنتَ
ح َلكَ ،اذْ َهبِي فَا ْنكِحِي ع ّم َولَ ِدكِ)) ،فلم ينكر أخذَ الولد منها لما تزوجت ،بل أنكحها عم
الذي ل ِنكَا َ
260
الولد لتبقى لها الحضانة ،ففيه دليل على سقوط الحضانة بالنكاح ،وبقائها إذا تزوجت بنسيب من
الطفل.
واعترض أبو محمد بن حزم على هذا الستدلل ،بأن حديث عمرو بن شعيب
صحيفة ،وحديث أبي سلمة هذا مرسل ،وفيه مجهول .وهذان العتراضان ضعيفان ،فقد بينا
ج الئمة بعمرو في تصحيحهم حديثه ،وإذا تعارض معنا في الحتجاج برجل قولُ ابن حزم،
احتجا َ
وقولُ البخاري ،و أحمد ،وابن المديني ،والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم ،لم تلتفت إلى
سواهم.
وأما حديث أبي سلمة هذا ،فإن أبا سلمة مِن كبار التابعين ،وقد حكى القِصة عن النصارية،
ول يُنكر لقاؤه لها ،فل يتحقق الِرسال ،ولو تحقق ،فمرسل جيد ،له شواهد مرفوعة وموقوفة،
وليس العتما ُد عليه وحدَه ،وعنى بالمجهول الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلح ،ول
رَيبَ أن هذه الشهادة ل تُع ّرفُ به ،ولكن المجهول إذا عدّله الراوي عنه الثقة ثبتت عدالته وإن كان
واحداً على أصح القولين ،فإن التعديلَ من باب الِخبار والحكم ل من باب الشهادة،؟ل سيما التعديل
في الرواية ،فإنهُ يكتفى فيه بالواحد ،ول يزيد على أصل نصاب الرواية ،هذا مع أن أحد القولين:
إن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له وإن لم يصرح بالتعديل ،كما هو إحدى الروايتين عن
ح بتعديله ،فقد خرج عن الجهالة التي ترد لجلها روايته ل سيّما إذا
أحمد ،وأما إذا روى عنه وصر ِ
لم يكن معروفَا بالرواية عن الضعفاء والمتهمين ،وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس ،فليس معروفاً
بالتدليس عن المتهمين والضعفاء ،بل تدليسُه من جنس تدليس السلف ،لم يكونوا يُدلّسون عن متهم
ع من التدليس في المتأخرين.
ول مجروح ،وإنما كثر هذا النو ُ
واحتج أبو محمد على قوله ،بما رواه من طريق البخاري ،عن عبد العزيز بن
ل صلى ال عليه وسلم المدينة وليس له خادم ،فأخذ أبو طلحة
صُهيب ،عن أنس قال :قَدِمَ رسولُ ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم ،فقال :يا رسول الّ! إن أنساً غل ٌم ك ّيسٌ،
بيدي ،وانطلق بي إلى رسولِ ا ّ
َف ْليَخْ ُدمْك .قال :فخدمتُه في السفر والحضر .وذكر الخبر.
ل صلى
قال أبو محمد :فهذا أنس في حضانة أمه ،ولها زوج ،وهو أبو طلحة بعلم رسول ا ّ
ال عليه وسلم وهذا الحتجاجُ في غاية السقوط ،والخبرُ في غاية الصحة ،فإن أحداً من أقارب أنس
لم ُينَازعْ أمه فيه إلى النبي صلى ال عليه وسلم وهو طفل صغير لم َي ّثغِز ،ولم يأكل وحدَه ،ولم
يشرب وحدَه ،ولم يميز ،وأمه مزوجة ،فحكم به لمه ،وإنما يَتمّ الستدلل بهذه المقدمات كلها،
261
ي صلى ال عليه وسلم لما قَدِ َم المدينة كان لنس من العمر عشرُ سنين ،فكان عند أمه ،فلما
والنب ّ
تزوّجت أبا طلحة لم يأت أحدٌ من أقارب أنس يُنازعها في ولدها ويقول :قد تزوجتِ فل حضانةَ
ب انتزاعَه ِم ْنكِ ،ول ريبَ أنه ل يحرم على المرأة المزوجة حضان ُة ابنها إذا اتفقت
لكِ ،وأنا أطل ُ
ب أنه ل يجب ،بل ل يجو َز أن يفرّق بين الم وولدها
هي والزوجُ وأقارب الطفل على ذلك ،ول ري َ
ج بهذه القصة
طلُب انتزاع الولد ،فالحتجا ُ
ن له الحضانة ،ويَ ْ
إذا تزوجت من غير أن يُخاصمها مَ ْ
من أبعدِ الحتجاج وأبرده.
ونظيرُ هذا أيضاً ،احتجاجُهم بأن أمّ سلمة لما تزوجت برسول ال صلى ال عليه وسلم لم
تسقط كفالتها لبنها ،بل استمرت على حضانتها ،فيا عجبا من الذى نازع أمّ سلمة في ولدها،
ورغب عن أن يكون في حجر النبيّ صلى ال عليه وسلم.
واحتج لهذا القول أيضاً بأن رسولَ الّ ِصلى ال عليه وسلم قض بابنة حمزة لخالتها وهي
ث مآخذ.
مزوّجة بجعفر ،فل ريب أن للناسِ في قصة ابنة حمزة ثل َ
ح أمهَا ل
أحدها :أن النكاحَ ل يُسقط الحضانة .الثاني :أن المحضون َة إذا كانت بنتاً ،فنكا ُ
يُسقِطُ حضانتها ،ويسقِطُها إذا كان ذكراً .الثالث :أن الزوج إذا كان نسيبًا من الطفل ،لم تسقط
ج بالقصة على أن النكاحَ ل يُسقط الحضانَة مطلقاً ل َيتِمّ إل بعدَ
حضانتها ،وإل سقطت ،فالحتجا ُ
إبطال ذينك الحتمالين الخرين.
فصل
ق بِهِ ما لَم َت ْنكِحي)) ،ل يُستفاد
وقضاؤه صلى ال عليه وسلم بالولد لمه ،وقوله((أ ْنتِ أحَ ُ
منه عمومُ القضاء لكل أمّ حتّى يقضِي به للم .وإن كانت كافرة ،أو رقيقة ،أو فاسقة ،أو مسافِرة،
ل على اعتبار الِسلم والحرية
ل دليلٌ منفصِ ٌ
فل يَصحّ الحتجاج به على ذلك ،ول نفيُه ،فإذا د ّ
والديانة والِقامة ،لم يكن ذلك تخصيصاً ول مخالفة لِظاهر الحديث.
وقد اشترط في الحاضن ستة شروط:
اتفاقهما في الدّين ،فل حضانة لكافر على مسلم لوجهين.
ص على تربيةِ الطفل على دينه ،وأن ينشَأ عليه ،ويتربّى عليه،
أحدهما :أن الحاضن حري ٌ
ل التي فطر عليها عبادَه ،فل يُراجعها
فيصعبُ بعد كِبره وعقله انتقاله عنه ،وقد يُغيره عن فطرة ا ّ
صرَانِهِ،
أبداً ،كما قال النبيّ صلى ال عليه وسلم ((كُلّ َم ْولُود يولَدُ عَلى الفِط َرةِ فََأبَواه َي َهوّدَانِهِ أو ُي َن ّ
أو ُيمَجّسَانِه)) فل يُؤمن تهويدُ الحاضن وتنصيرُه للطفل المسلم.
262
فإن قيل :الحديثُ إنما جاء في البوين خاصة .قيل:الحديث خرجَ مخرج الغالِب إذ الغالب
ن أو أحدُهما قا َم ولي الطفل مِن أقاربه مقامهما.
المعتادُ نشوء الطفل بين أبويه ،فإن فُقِ َد البوا ِ
الوجه الثاني:أن الّ سبحانه قط َع الموالة بين المسلمين والكفار ،وجعلَ المسلمين
بعضهم أولياءَ بعض ،والكفارَ بعضَهم مِن بعض ،والحضان ُة مِن أقوى أسباب الموالة التي قطعها
ل الرأي ،وابنُ القاسم ،وأبو ثور :تثبتُ الحضانة لها مع كُفرها وإسلم
ل بين الفريقين .وقال أه ُ
ا ّ
الولد ،واحتجّوا بما روى النسائي في سننه ،من حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه ،عن جدّه رافع
ي صلى ال عليه وسلم،فقالت :ابنتي وهي فطيمٌ
بن سنان ،أنه أسلم وأبت امرأتُه أن تُسلم ،فأتت النب ّ
حيَةً)) ،وقال لها((:ا ْقعُدِي
أو يشبهُه ،وقال رافع :ابنتي ،فقال النبيُ صلى ال عليه وسلم ((ا ْقعُدْ نا ِ
حيَةً))،وقال لهما((ادْعُواها)) ،فمالت الصبيةُ إلى أمها ،فقال النبيّ صلى ال عليه وسلم((،اللهم
نَا ِ
إهدها)) فمالت إلى أبيها فأخذها
قالوا :ولن الحضانة لمرين :الرضاعِ ،وخدم ِة الطفل ،وكلهما يجوزُ من الكافرة.
ث مِن رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد الّ بن الحكم بن
قال الخرون :هذا الحدي ُ
رافع بن سنان النصاري الوسي ،وقد ضعفه إما ُم العلل يحيى بن سعيد القطان ،وكان سفيان
ل عليه ،وضعف ابنُ المنذر الحديث ،وضعفه غيرُه ،وقد اضطرب في القصة ،فروَى
الثوري يَحمِ ُ
أن المخيّر كان بنتاً ،وروَى أنه كان ابناً .وقال الشيخ في ((المغنى))وأما الحديث ،فقد روي على
غير هذا الوجه ،ول يثبته أهل النقل .وفي إسناده مقال ،قاله ابن المنذر..
ثم إن الحديث قد يحتج به على صحة مذهب من اشترط الِسلم ،فإن الصبيّة لما مالت إلى
أمها دعا النبي صلى ال عليه وسلم لها بالهداية ،فمالت إلى أبيها ،وهذا يدل على أن كونَها مع
ل الذي أراد ُه مِن عبادِه ،ولو استنكر جعلها مع أمها ،لكان فيه حجة ،بل أبطله
الكافر خلفُ هُدى ا ّ
الّ سبحانه بدعوة رسوله.
ومن العجب أنهم يقولون:ل حضانةَ للفاسقِ ،فأيُّ فِسق أكبر مِن الكفر؟ وأينَ
الضّرر المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقّع من الكافر ،مع أن
الصوابَ أنه ل تشترط العدالة في الحاضن قطعاً ،وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم،
واشتراطها في غاية البعد.
263
ولو اشترط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم ،ولعظمت المشقة على المة ،واشتد
العنتُ ،ولم يزل من حين قام الِسلم إلى أن تقومَ الساعة أطفال الفساق بينهم ل يتعرض لهم أحدٌ
في الدنيا ،مع كونهم الكثرين .ومتى وقع في الِسلم انتزاع الطفل من أبويه أو أحدهما بفسقه؟
وهذا في الحرج والعسر -واستمرارُ العمل المتصل في سائر المصار والعصار على خلفه
بمنزلة اشتراط العدالة في ولية النكاح ،فإنه دائمُ الوقوع في المصار والعصار ،والقرى
والبوادي ،مع أن أكثر الولياء الذين يلون ذلك ،فساق ،ولم يزل الفسقُ في الناس ،ولم يمنع النبيِ
صلى ال عليه وسلم ،ول أحدٌ من الصحابة فاسقًا من تربية ابنه وحضانته له ،ول مِن تزويجه
مولّيته ،والعادةُ شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق ،فإنه يحتاط لبنته ،ول يُضيعها ،ويحرص
على الخير لها بجهده ،وإن قُ ّدرَ خلف ذلك ،فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد ،والشارع يكتفي في ذلك
ن هذا للمة من أهم
بالباعث الطبيعي ،ولو كان الفاسق مسلوبَ الحضانة ،وولية النكاح ،لكان بيا ُ
المور ،واعتناء المة بنقله ،وتوارث العملِ به مقدّما على كثير مما نقلوه ،وتوارثوا العمل به،
فكيف يجوز عليهم تضييعُه واتصالُ العمل بخلفه .ولو كان الفِسق !ينافي الحضانة ،لكان من زنى
ل أعلم.
أو شرب خمراً ،أو أتى كبيرةً ،فرق بينه وبين أولده الصغار ،والت ِمسَ لهم غيره وا ّ
نعم ،العقل مشترط في الحضانة ،فل حضَانة لمجنون ول معتوه ول طفل ،لن
هؤلء يحتاجون إلى من يحضنُهم ويك ُفلُهم ،فكيف يكونون كافلين لغيرِهم.
ن القلب إليه ،وقد اشترطه
ل يَركَ ُ
ض عليه دلي ٌ
وأما اشتراطُ الحرية ،فل ينتهِ ُ
ق به إل أن تباع ،فتنتقل،
ح ّر له ولد مِن أمة:إن الم أح ُ
أصحابُ الئمه الثلثة .وقال مالك في ُ
فيكون الب أحق بها ،وهذا هو الصحيح ،لن النبي صلى ال عليه وسلم قال ((ل ُت َولّهُ وال َدةٌ عن
ح ّبتِ ِه َيوْ َم القِيامَةِ)) وقد قالوا :ل
ل َب ْينَ ُه و َبيْنَ أ ِ
ق َبيْنَ الوالدة َو َولَدِهَا ،فَرقَ ا ّ
َولِدِهَا)) ,وقال ((مَنْ َفرّ َ
ق في البيع بين ال ّم وولدها الصغير فكيف يُفرّقون بينهما في الحضانة؟ وعمومُ
يجو ُز التفري ُ
للُهم بكون منافِعها مملوكةً للسيد ،فهي
الحاديث تمن ُع مِن التفريق مطلقاً في الحضانة والبيع ،واستد َ
مستغرِقَة في خدمته ،فل تَفرُغُ ِلحَضانةِ الولد ممنوع ،بل حَقّ الحَضانةِ لها ،تُقدّم به في أوقات
حاجة الولد على حقّ السيد ،كما في البيع سواء .وأما اشتراطُ خلوها من النكاح ،فقد تقدم.
وهاهنا مسألة ينبغي التنبيهُ عليها وهي أنا إذا أسقطنا حقّها مِن الحضانة بالنكاح ،ونقلناها
إلى غيرها فاتّفِق أنه لم يكن له سِواها ،لم يَسقُطْ حقُها من الحضانة ،وهي أحقّ به من الجنبي الذي
ح مِن تربيته في بيتِ أجنبي محض ل قرابة
يدفعه القاضي إليه ،وتربيته في حجر أمه ورأيه أصل ُ
264
ي الشريعة بدفع مفسدة بمفسدة أعظمَ منها
بينهما توجِب شفقته ورحمته وح ُنوّه ،ومنَ المحالِ أن تأت َ
بكثير ،والنبيّ صلى ال عليه وسلم لم يحكم حكماً عاماً كلياً :أن كل امرأة تزوجت سقطت
ت الحضانة للم في هذه الحالة مخالفة للنص.
حضانتُها في جمِيع الحوال حتى يكونَ إثبا ُ
وأما اتحاد الدار ،فإن كان سفرُ أحدهما لحاجة ،ثم يعود والخر مقيم ،فهو أحقّ به،
لن السفر بالولد الطفل ول سيما إن كان رضيعاً إضرارٌ به وتضيي ٌع له ،هكذا أطلقوه ،ولم يستثنوا
ل عن بلد الخر للِقامة ،والبل ُد وطريقُه مخوفان ،أو
سفرَ الحج من غيره ،وإن كان أحدهما منتق ً
أحدهُما ،فالمقيمُ أحقّ ،وإن كان هو وطريقُه آمنين ،ففيه قولنِ ،وهما روايتان عن أحمد ،إحداهما
أن الحضان َة للب ليتمكن من تربية الولد وتأديبه وتعليمِه ،وهو قولُ مالك والشافعي ،وقضى به
ق به ،وإن
شريح .والثانية :أن الم أحقّ .وفيها قول ثالث :أن المنتقل إن كان هو الب ،فالمّ أح ّ
ق به ،وإن انتقلت إلى غيره،
كان الم ،فإن انتقلت إلى البلد الذي كان فيه أصلُ النكاح فهي أح ّ
فالبُ أحق ،وهو قول الحنفية.وحكوا عن أبي حنيفة رواية أخرى أن نقلها إن كان من بلد إلى
قرية ،فالبُ أحق ،وإن كان من بل ٍد إلى بلد ،فهي أحق ،وهذه أقوالٌ كُلها كما ترى ل يقوم عليها
ب إليه ،فالصوابُ النظر والحتياط للطفل في الصلح له والنفع مِن الِقامة أو
دليلٌ يسكن القل ُ
النقلة ،فأيّهما كان أنفعَ له وأصونَ وأحفظَ ،روعي ،ول تأثيرَ لِقامة ول نقلة ،هذا كلّهُ ما لم ُيرِدْ
ل الموفق.
أحدُهما بالنقلة مضارةَ الَخر ،وانتزاعَ الولد منه .فإن أراد ذلك ،لم يُجب إليه ،وا ّ
فصل
ل بك
وقوله ((أنتِ أحق به ما لم تَنكحي)) ،قيل :فيه إضمارٌ تقديره :ما لم تنكحي ،ويدخ ْ
الزوج ،ويحكم الحاكم بسقوط الحضانة .وهذا تعسف بعيد ل يُشع ُر به اللفظ ،ول يدل عليه بوجه،
ول هو من دللة القتضاء التي تتوقف صح ُة المعنى عليها ،والدخولُ داخل في قوله((تنكحي))،
غ ْي َرهً)) ،ومن لم يعتبره ،فالمراد بالنكاح عنده العقد.
ح َزوْجاً َ
حتّى َت ْنكِ َ
عند من اعتبره ،فهو كقوله(( َ
ج إليه عند التنازع والخصومة بين
وأما حكمُ الحاكم بسقوط الحضانة ،فذاك إنما يحتا ُ
ل صلى ال عليه
ل صلى ال عليه وسلم ،ل أن رسولَ ا ّ
المتنازعين ،فيكون منفذًا لِحكم رسول ا ّ
حكّام بعده أو لم
حكَمَ به ال ُ
ط الحضانة على حكمه ،بل قد حكم هو بسقوطهاَ ،
وسلم أوقفَ سقو َ
يحكمُوا .والذي دل عليه هذا الحك ُم النبوي ،أن المّ أحقّ بالطفل ما لم يُوجد منها النكاحُ ،فإذا
ق إلى غيرها .فأما إذا طلبه من له الحق ،وجب على
نكحت ،زال ذلك الستحقاقُ ،وانتقل الح ّ
265
خصمه أن يبذله له ،فإن امتنع ،أجبره الحاك ُم عليه ،وإن أسقط حقّه ،أو لم يطالب به ،بقي على ما
كان عليه أولً ،فهذه قاعدة عامة مستفادَة من غير هذا الحديث.
فصل
وقد احتج من ل يرى التخييرَ بين البوين بظاهر هذا الحديثِ ،ووجهُ الستدلل أنه قال
ق به
ب ل يكون أح ّ
ق به إل إذا اختارها ،كما أن ال َ
خ ّي َر الطفل لم تكن هي أح ّ
((أنت أحق به)) ،ولو ُ
ي صلى ال عليه
ق به إن اختارك ،قُ ّد َر ذلكَ في جانب الب ،والنب ّ
إل إذا اختاره ،فإن قدر :أنت أح ّ
ق به مطلقاً عند المنازعة ،وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك .ونحن نذكر هذه
وسلم جعلها أح ّ
المسألة:ومذاهب الناس فيها ،والحتجاج لقوالهم ،ونرجح ما وافق حكم رسول الّ صلى ال عليه
وسلم.
ل عنه.
ذكر قول أبي بكر الصديق رضي ا ّ
ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج ،عن عطاء الخراساني ،عن ابن عباس رضي الّ عنهما
ل عنه امرأته ،فذكر الث َر المتقدم ،وقال فيه :ريحُها وفراشُها
قال :طلق عمر بن الخطاب رضي ا ّ
ب ويُميز
شبّ ويختار لنفسه ،فحكم به لمّه حين لم يكن له تميي ٌز إلى أن يَش ّ
خير له منك حتى يَ ِ
ويخير حينئذ.
ل عنه
ذكر قول عمر بن الخطاب رضي ا ّ
قال الشافعي:حدثنا ابن عيينة ،عن يزيد بن يزيد بن جابر ،عن إسماعيل بن عُبيد ال بن أبي
خ ّيرَ غلمًا بين أبيه وأمه.
المهاجر ،عن عبد الرحمن بن غَنم ،أن عمر بن الخطاب رضي الّ عنهَ .
وقال عبد الرزاق :أخبرنا ابن جريج،عن عبد ال بن عبيد بن عمير ،قال:خيرَ عمر رضي
الّ عنه غلماً ما بينَ أبيه وأمه ،فاختار أمّه ،فانطلقت به.
وذكر عبد الرزاق أيضاً:عن معمر ،عن أيوب ،عن إسماعيل بن عبيد الّ ،عن عبد الرحمن
بن غنم ،قال :اختُص َم إلى عم َر بنِ الخطاب في غلم ،فقال :هو مع أمه حتى ُي ْع ِربَ عنه لِسانُه
ليختار.وذكر سعيد بن منصور عن هشيم ،عن خالد ،عن الوليد بن مسلم ،قال :اختصموا إلى عمر
ف أمك خيرٌ
ط َ
بن الخطاب رضي الّ عنه في يتيم فخيّره ،فاختار أمه على عمه ،فقال عمر :إنّ لُ ْ
مِن خِصب ع ّمكَ.
ل عنه.
ذكر قول علي بن أبي طالب رضي ا ّ
266
جرْمي ،عن عمارة
قال الشافعي رحمه ال تعالى :أنبأنا ابن عيينة ،عن يونس بن عبد الّ ال َ
عمّي ،ثم قال لخ لي أصغر مني :وهذا أيضًا لو بلغ مبلغ هذا
الجرمي ،قال:خيرني علي بين أمي و َ
لخيرتُه.
قال الشافعي رحمه الّ.قال إبراهيم:عن يونس عن عمارة عن علي مثله قاله في الحديث:
وكنتُ ابن سبع سنين ،أو ثمانِ سنين.
ل الجرمي ،حدثني عُمارة ابن رويبة ،أنه
قال يحيى القطان :حدثنا يونس بنُ عبدِ ا ّ
ل عنه ،قال :فخيرني علي ثلثاًُ ،كّلهُنّ
تخاص َمتْ فيه أمّه وعمّه إلى علي بن أبي طالب رضي ا ّ
خيّر.
خ لي صغير ،فقال علي :هذا إذا بلغ مبلغ هذا ُ
أختا ُر أمي ،ومعي أ ٌ
ل عنه
ذكر قول أبي هريرة رضي ا ّ
ن عيينة ،عن زياد بن سعد ،عن هِلل بن أبي
نبُ
قال أبو خيثمة زهير بن حرب :حدثنا سفيا ُ
ل صلى ال عليه وسلم
ميمونة قال :شهدت أبا هريرة خيّر غلمًا بين أبيه وأمه ،وقال:إنّ رسولَ ا ّ
خ ّيرَ غُلمًا بينَ أبيه وأمه.
َ
فهذا ما ظفرت به عن الصحابة.وأما الئمة ،فقال حرب بن إسماعيل :سألت إسحاق
ب إليّ أن يكونَ مع الم إلى
ح ّ
ي والصبية مع الم إذا طلّقت؟ قال أ َ
بن راهويه ،إلى متى يكون الصب ّ
ل مِن سبع سنين ل يُخير؟ قال :قد
سبع سنين ،ثم يُخيّر .قلت له :أترى التخيير؟ قال شديداً.قلت :فأق ّ
ب إليّ سبع.
ح ّ
قال بعضهم :إلى خمس ،وأنا أ َ
ل ذكراً أو أنثى ،فإن كان ذكراً،
ن الطف ُ
وأما مذهب الِمام أحمد ،فإما أن يكو َ
ن سبع أو دونَها ،فإن كان له دون السبع ،فأمّه أحقّ بحضانته من غير تخيير ،وإن
فإما أن يكونَ اب َ
كان له سبعٌ ،ففيه ثلث روايات.
إحداها -وهي الصحيحة المشهورة من مذهبه -أنه يخير ،وهي اختيار أصحابِه ،فإن لم يختر
ن لمن قرع ،وإذا اختار أحدَهما ،ثم عاد فاختار الخر ،نقل إليه،
واحداً منهما ،أقرع بينهما ،وكا َ
وهكذا أبداً.
ق ب ِه مِن غير تخيير.
والثانية :أن البَ أح ّ
والثالثة :أن الم أحق به كما قبل السبع .وأما إذا كان أنثى ،فإن كان لها دونَ سبع سنين،
فأمّها أحقّ بها من غير تخيير ،وإن بلغت سبعاً ،فالمشهورُ من مذهبه ،أن المّ أحقّ بها إلى تسع
سنين ،فإذا بلغت تسعاً ،فالبُ أحقّ بها من غير تخيير.
267
وعنه رواية رابعة :أن المّ أحقٌ بها حتى تبلغ ،ولو تزوجت الم.
ص عليها ،وأكثر أصحابه إنما حكوا
وعنه رواية خامسة :أنها تخير بعد السبع كالغلم ،ن ّ
ذلك وجهًا في المذهب ،هذا تلخيصُ مذهبه وتحريرُه.
وقال الشافعي :المّ أحقُ بالطفل ذكراً كان أو أنثى إلى أن يبلُغا سبع سنين ،فإذا بلغا
ن أبيه وأمه ،وكان مع من اختار.
سبعاً وهما يعقِلن عقل مثلهما ،خ ّي َر كُلّ منهما بي َ
وقال مالك وأبو حنيفة ل تخيير بحال ،ثم اختلفا فقال أبو حنيفة ،المّ أحق
بالجارية حتى تبلغ ،وبالغلم حتى يأكل وحده ،ويشربَ وحدَه ،ويلبسَ وحده ،ثم يكونان عند الب،
ومن سوى البوين أحقّ بهما حتى يستغنيا ،ول يُعتبر البلوغ ،وقال مالك :المّ أحقُ بالولد ذكراً كان
أو أنثى حتى ي ّثغِر،هذه رواية ابن وهب ،وروى ابنُ القاسم :حتى َي ْبلُغَ ،ول يُخ ّيرُ بحال.
وقال الليثُ بن سعد :المّ أحقّ بالبن حتى َي ْبلُغَ ثمان سنين ،وبالبنت
حتى تبلغ ،ثم البُ أحقّ بهما بعد ذلك.
(يتبع)...
وقال الحسنُ بن حَي :ال ُم أولى بالبنت حتى َي ْك ُعبَ ثدياها، @
حتَى َييْفَعَ ،فيُخيران بع َد ذلك بين أبويهما ،الذكرُ والنثى سواء.
وبالغلم َ
قال المخيّرون في الغلم دون الجارية :قد ثبت التخييرُ
ي صلى ال عليه وسلم في الغلم ،من حديث أبي هريرة:وثبت عن الخلفاء الراشدين ،وأبي
عن النب ّ
هريرة ،ول يُعرف لهم مخالفٌ في الصحابة ألبتة ،ول أنكره منك .قالوا :وهذا غايةٌ في العدل
الممكن ،فإن المّ إنما قُدّمتْ في حال الصغر لحاجة الولد إلى التربية والحمل والرضاع والمداراة
التي ل تتهيأ لِغير النساء ،وإل فالمّ أحد البوين ،فكيف تُقدّم عليه؟ فإذا بلغ الغلم حدًا ُي ْع ِربُ فيه
عن نفسه ،ويستغني عن الحمل والوضع وما تُعانيه النساء ،تساوى البوانِ ،وزال السببُ الموجبُ
لتقديم الم ،والبوانِ متساويانِ فيه ،فل يُقَدّمُ أحدُهما إل بمرجّح ،والمرجّحُ إما من خارج ،وهو
ث أبي
القرعةُ ،وإما من جهة الولد ،وهو اختيارُه ،وقد جاءت السنةُ بهذا وهذا ،وقد جمعهما حدي ُ
هريرة ،فاعتبرناهما جميعاَ ،ولم ندفع أحدهما بالخر.
وقدمنا ما قدمه النبيّ صلى ال عليه وسلم ،وأخّرنا ما أخره ،فقدم التخييرُ ،لن القُرعة إنما
يُصار إليها إذا تساوت الحقوقُ مِن كل وجه ،ولم يبق مرجّحٌ سواها ،وهكذا فعلنا هاهنا قدمنا
أحدَهما بالختيار ،فإن لم يختر ،أو اختارهما جميعاً ،عدلنا إلى القُرعة ،فهذا لو لم يكن فيه موافقة
268
السنة ،لكان مِن أحسن الحكام ،وأعدلها ،وأقطعها للنزاع بتراضي المتنازعين .وفيه وجه آخر في
مذهب أحمد والشافعي :أنه إذا لم يختر واحداً منهما كان عند الم بل قُرعة ،لن الحضانة كانت
لها ،وإنما ننقلُه عنها باختياره ،فإذا لم يختر ،بقي عندها على ما كان.
فإن قيل :فقد قدمتُ ُم التخييرَ على القُرعة ،والحديث فيه تقديمُ القُرعة أولً ،ثم التخيير ،وهذا
أولى ،لن القرعة طريق شرعي للتقديم عند تساوي المستحقين ،وقد تساوى البوانِ ،فالقياسُ تقديمُ
أحدهما بالقُرعة ،فإن أبيا القُرعة ،لم يبق إل اختيارُ الصبي ،فيُرجح به ،فما بالُ أصحابِ أحمد
والشافعي قدّموا التخيي َر على القرعة.
قيل :إنما قُدّم التخيير ،لتفاق ألفاظِ الحديث عليه ،وعملِ الخلفاء الراشدين به ،وأما القُرعة،
ض الرواة ذكرها في الحديث ،وبعضُهم لم يذكرها ،وإنما كانت في بعضِ طُرق أبي هريرة
فبع ُ
رضي الّ عنه وحده ،فَقُدّ َم التخييرُ عليها ،فإذا تعذر القضاء بالتخيير ،تعينت القُرعة طريقاً
للترجيح إذ لم يبق سواها.
ثمّ قال المخيرون للغلم والجارية :روى النسائي في ((سننه)) ،والِمام أحمد في
ي صلى
ل عنه أنه تنازع هو وأمّ في ابنتهما ،وأن النب ّ
((مسنده)) من حديث رافع بن سنان رضي ا ّ
ال عليه وسلم أقعَده ناحية ،وأقعد المرأة ناحية ،وأقعد الصبيةَ بينهما ،وقال(( :ادْعُوَاها)) ،فمالَت
ي صلى ال عليه وسلم ((الّلهُمّ اهْدِهَا)) فمَالَت إلى َأبِيهَا فَأَخَذَهَا قالُوا :ولو لم َيرِدْ
إلى ُأمّها فقال النب ّ
ث أبي هريرة رضي ال عنه ،والثار المتقدمة حجةً في تخيير النثى ،لن
هذا الحديثُ لكان حدي ُ
كون الطفل ذكراً ل تأثير له في الحكم ،بل هي كالذكر في قوله صلى ال عليه وسلم ((مَنْ وَجَدَ
حضَانة أولى
عبْدٍ)) ،بل حديثُ ال َ
شرْكًا لَهُ في َ
عتَقَ ِ
عنْدَ رَجُل قَ ْد أَ ْفَلسَ)) وفي قوله ((مَنْ أَ ْ
َمتَاعهِ ،
بعدم اشتراط الذكورية فيه ،لن لَفظ الصَبي ليس مِن كلم الشارع ،إنما الصحابيّ حكى القِصة،
وأنها كانت في صبي ،فإذا نُقّحَ المناطُ تبين أنه ل تأثير ،لكونه ذكراً.
قالت الحنابلة :الكل ُم معكم في مقامين ،أحد هما :استدللُكم بحديثِ رافع،
والثاني :إلغاؤكم وصفَ الذكورية في أحاديث التخيير.
ث قد ضعّفه ابنُ المنذر وغيرُه ،وضعف يحيى بن سعيد والثوري عبدَ
فأما الول ،فالحدي ُ
الحميد بن جعفر ،وأيضًا لقد اختلف فيه على قولين .أحدهما :أن المخيّر كان بنتاً ،وروي :أنه كان
ابناً .فقال عبد الرزاق :أخبرنا سفيان ،عن عثمان البتي ،عن عبد الحميد بن سلمة ،عن أبيه ،عن
269
جده ،أن أبويه اختصما إلى النبيّ صلى ال عليه وسلم أحدهما مسلم ،والخرُ،كافر ،فتوجه إلى
الكافر ،فقال النبيّ صلى ال عليه وسلم ((اللّهُ ّم اهْ ِدهِ)) ،فتوجه إلى المسلم ،فقضى ،له به.
قال أبو الفرج ابن الجوزي :ورواية من روى أنه كان غلمًا أصحّ ..قالوا :ولو سلم لكم أنه
كان أنثى ،فأنتم ل تقولون به ،فإن فيه أن أحدهما كان مسلماً،
270
قالوا :وأيضاً فالعادة شاهدة بأن اختيار أحدهما يُضعف رغبة الخر فيه بالِحسان إليه
وصيانته ،فإذا اختار أحدَهما ،ثم انتقل إلى الخر لم يبق أحدُهما تامَ الرغبة في حفظه والِحسان
إليه.
فإن قلتم :فهذا بعينه موجو ٌد في الصبي ،ولم يمنع ذلك تخييره .قلنا :صدقتم لكن عارضَه
ب البنين ،واختيارِهم على البناتِ ،فإذا اجتمع نقصُ الرغبة .،ونقصُ
ح ّ
كونُ القلوب مجبولةً على ُ
سرُ تلفِيه ،والواقعُ شاهِدٌ
النوثة ،وكراهةُ البنات في الغالب ،ضاعت الطّفلَةُ ،وصارت إلى فسَاد َيعْ ُ
ج مِن الحفظ والصيانةِ فوقَ ما
س ّر الفرق أن البنتَ تحتا ُ
بهذا ،والفقه تنزيل المشروع على الواقع ،و ِ
ن الستر والخَ َفرِ ما لم يُشرع مثلُه للذكور في
ث مِ َ
شرِعَ في حق الِنا ِ
ج إليه الصبيّ ،ولهذا ُ
يحتا ُ
اللباس وإرخاء الذيل شِبراً أو أكثر ،وجمع نفسِها في الركوع والسجود دونَ التجافي ،ول ترفعُ
شفُ
صوتَها بقراءة القرآن ،ول َت ْرمُلُ في الطواف ،ول تتجرّدُ في الِحرام عن المخيط ،ول تك ِ
ن الصغر .وضعفِ
رأسها ،ول تُسا ِفرُ وحدَها ،هذا كلّه مع كبرها ومعرفتها ،فكيف إذا كانت في س ّ
العقل الذي يقبل فيه النخداع؟ ول ريب أن تردّدها بين البوينِ مما يعودُ على المقصود بالِبطال،
ل به ،أو َينْ ُقصُه لنها ل تستقِر في مكان معين ،فكان الصلحُ لها أن تجعل عند أحد البوين
أو ُيخِ ّ
من غير تخيير ،كما قاله الجمهور :مالك ،وأبو حنيفة ،وأحمد ،وإسحاق ،فتخييرُها ليس منصوصاً
عليه ،ول هو في معناه فيلحق به.
ثم هاهنا حصل الجتهادُ في تعيينِ أح ِد البوين لمقامها عنده ،وأيهما أصلحُ لها،
فمالك ،وأبو حنيفة ،وأحمد في إحدى الروايتين عنه :عيّنوا الم ،وهو الصحيحُ دليلً ،وأحمد رحمه
ل في المشهور عنه ،واختيارُ عامة أصحابه عيّنوا البَ.قال مَن رجّح الم :قد جرت العادةُ بأن
ا ّ
البَ يتصرّف في المعاش ،والخروج ،ولقا ِء الناسِ ،والمّ في خِدرها مقصورة في بيتها ،فالبنت
ب عن
عندها أصونُ وأحفظ بل شك ،وعينُها عليها دائماً بخلف البِ ،فإنه في غالب الوقات غائ ٌ
ظنّةِ ذلك ،فجعلُها عند أمها أصونُ لها وأحفظ.
البنت ،أو في مَ ِ
ض أو أكثرُ منها عند الب ،فإنه إذا
قالوا :وكل مفسدة يعرِضُ وجودُها عند الم ،فإنها تَعرِ ُ
ق عليها
تركها في البيت وحدَها لم يأمن عليها ،وإن ترك عندها امرأته أو غيرها ،فالم أشفَ ُ
وأصونُ لها من الجنبية.
ح البيت ،وهذا
قالوا :وأيضاً فهي محتاجة إلى تعلُم ما يصلُح للنساء من الغزل والقيامِ بمصال ِ
ج إلى أمها لتعلمها ما يصلح للمرأة ،وفي دفعها إلى أبيها
إنما تقوم به النساءُ ل الرجال ،فهي أحو ُ
271
تعطيلُ هذه المصلحة ،وإسلمها إلى امرأة أجنبية تُعلّمها ذلك ،وترديدها بين الم وبينه ،وفي ذلك
تمرين لها على البروز والخروج ،فمصلح ُة البنت والم والبِ أن تكونَ عند أمها ،وهذا القولُ هو
الذي ل نختار سواه.
ل أغيرُ على البنات مِن النِساء ،فل تستوي غيرةُ الرجل على
قال من رجح الب :الرجا ُ
ابنته ،وغيرةُ الم أبداً ،وكم مِن أ ّم تُساعِ ُد ابنتها على ما تهواه ،ويحملُها على ذلك ضعفُ عقلها،
ف الب ،ولهذا المعنى وغيرِه جعل
وسُرعةُ انخداعها ،وضعفُ داعي الغيرةِ في طبعها ،بخل ِ
الشارعُ تزويجَها إلى أبيها دونَ أمها ،ولم يجعل لمها ولية على بُضعها البتة ،ول على مالها،
فكان مِن محاسن الشريعة أن تكون عند أمّها ما دامت محتاج ًة إلى الحضانة والتربية ،فإذا بلغت
حدًا تُشتهى فيه ،وتصلحُ للرجالَِ ،فمِنْ محاسِن الشريعة أن تكونَ عند من هو أغيرُ عليها ،وأحرصُ
على مصلحتها ،وأصونُ لها من الم.قالوا :ونحن نرى في طبيعة الب وغيره من الرجال من
ال َغ ْيرَةِ ،ولو مع فسقه وفجوره ما يحمله على قتل ابنته وأخته وموليته إذا رأى منها ما يُريبه لِشدة
الغيرة ،ونرى في طبيعة النساء من النحلل والنخداع ضدّ ذلك ،قالوا :فهذا هو الغالبُ على
النوعين ،ول عبرة بما خرج عن الغالب ،على أنا إذا قدمنا أحد ا البوين فل بد أن نُراعي صيانته
ت غيرَ
وحفظَه للطفل ،ولهذا قال مالك والليث :إذا لم تحن الم في موضع حر ٍز وتحصين ،أو كا َن ْ
ل في الرواية المشهورة عنه ،فإنه
مرضية ،فللب أخ ُذ البنت منها ،وكذلك الِمامُ أحمد رحمه ا ّ
ل لذلك ،أو عاجزًا عنه ،أو غي َر مرضي ،أو ذا
يعتبر قدرتَه على الحفظ والصيانة .فإن كان مهم ً
دِياثة والم بخلفه ،فهي أحقّ بالبنتِ بل ريب ،فمن قدمناه بتخيير أو قرُعة أو بنفسه ،فإنما نُقدّمه
إذا حصلت به مصلحة الولد ،ولو كانت الم أصون مِن الب وأغي َر منه قدمت عليه ،ول التفات
إلى قرعة ول اختيار الصبي في هذه الحالة ،فإنه ضعيفُ العقل يؤ ِثرُ البطالة واللعب ،فإذا اختار
من يُساعِ ُدهُ على ذلك ،لم يُلتفت إلى اختياره ،وكان عند من هو أنف ُع له وأخيرُ ،ول تحتمِلُ الشريعة
ض ِربُوهُم عَلى َت ْركِها
سبْعٍ وا ْ
غيرَ هذا ،والنبي صلى ال عليه وسلم قد قالُ (( :مرُوهُم بِالصّل ِة لِ َ
سكُم وأَ ْهلِيكُ ْم نَاراً
ن آ َمنُوا قُوا َأنْف ُ
شرٍ و َفرّقُوا بَي َنهُم في المَضَاجِع)) وال تعالى يقول{ :يََأ ّيهَا الّذِي َ
ِلعَ ْ
وَقُودُهَا النّاسُ والحِجَا َرةُ} [التحريم .]6 :وقال الحسن :علّموهُم وأدبوهم وفقهوهم ،فإذا كانت الم
ي يؤثر اللعب ومعاشرةَ أقرانه ،وأبوهُ يُمكنه مِن ذلك ،فإنه
تتركُه في المكتب ،وتعلمه القرآن والصب ّ
ل ورسوله في الصبي
أحق به بل تخيير ،ول قرعة ،وكذلك العكسُ ،ومتى أخل أح ُد البوين بأمر ا ّ
وعطّله ،والخر مُراعٍ له ،فهو أحق وأولى به.
272
ل يقول :تنازع أبوان صبياً عند بعض الحكام ،فخ ّي َرهُ بينهما ،فاختار
وسمعت شيخنا رحمه ا ّ
سلْهُ لي شيء يختار أباه ،فسأله ،فقال :أمي تبعثني كل يوم للكتاب ،والفقيه
أباه ،فقالت له أمهَ :
يضربني ،وأبي يتركني للعب مع الصبيان ،فقضى به للم .قال :أنتِ أحق به.
قال شيخنا :وإذا ترك أح ُد البوين تعليم الصبي ،وأمره الذي أوجبه الّ عليه ،فهو عاصٍ،
ل من لم يقم بالواجب في وليته ،فل ولية له ،بل إما أن تُرفع يدُه عن
ول وِلية له عليه ،بل كُ ّ
الولية ويُقام من يفعل الواجب ،وإما أن يُضم إليه مَنْ يقومُ معه بالواجب ،إذ المقصودُ طاعةُ ال
ق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم،
ورسوله بحسب الِمكان .قال شيخنا :وليس هذا الح ّ
والنكاح ،والولء ،سواء كان الوارث فاسقاً أو صالحاً ،بل هذا مِن جنس الولية التي ل بُدّ فيها من
القدرة على الواجب والعلم به ،وفعله بحسب الِمكان .قال :فلو قدر أن الب تزوج امرأة ل تراعي
مصلحة ابنته ،ول تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة ،فالحضانة للم قطعاً ،قال :ومما
ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد البوين مطلقاً ،ول تخيير الولد بين
البوين مطلقاً ،والعلماء متفقون على أنه ل يتعين أحدهما مطلقاً ،بل ل يقدم ذو العُدوان والتفريط
على ال َبرّ العادل المحسن ،وال أعلم.
قالت الحنفية والمالكية :الكلمُ معكم في مقامين ،أحدهما :بيان الدليل الدال على
بطلن التخيير ،والثاني :بيانُ عدم الدللة في الحاديث التي استدللتم بها على التخيير ،فأما الول:
فيدُل عليه قوله صلى ال عليه وسلم ((أنت أحق به)) ،ولم يُخيره .وأما المقامُ الثاني :فما رويتُم مِن
أحاديث التخيير مطلقة ل تقييد فيها ،وأنتم ل تقولون بها على إطلقها ،بل قيدتم التخيير بالسبع ،فما
ل على ذلك ،ونحن نقول :إذا صار للغلم اختيار معتبر،
فوقها ،وليس في شيء من الحاديث مَا يدُ ّ
خ َي َر بين أبويه ،وإنما يعتبر اختيارُه إذا اعتبر قوله ،وذلك بعد البلوغ ،وليس تقييدكم وقتَ التخيير
ح مِن جانبنا ،لنه حينئذ يعت َبرُ قولُه ويدل عليه قولها
بالسبع أولى مِن تقييدنا بالبلوغ ،بل الترجي ُ
((وقد سقاني من بئر أبي عنبة)) ،وهي على أميال من المدينة ،وغيرُ البالغ ل يتأتى منه عادةً أن
حمِلَ الما َء مِن هذهِ المسافة ويستقي من البئر ،سلمنا أنه ليس في الحديث ما يدل على البلوغ ،فليس
يَ ْ
فيه ما ينفيه ،والواقع ُة واقعة عين ،وليس عن الشارع نص عام في تخيير من هو دونَ البلوغ حتى
ب المصي ُر إليه ،سلمنا أنه فيه ما ينفي البلوغ ،فمن أين فيه ما يقتضي التقييدَ بسبع كما قلتم؟
يج َ
ج بقوله
قالت الشافعية والحنابلة ومن قال بالتخيير :ل يتأتّى لكم الحتجا ُ
ق به ما لم تَنكِحي)) ،بوجه من الوجوه ،فإن منكم من يقول :إذا
صلى ال عليه وسلم ((أنتِ أح ُ
273
ق به بغير تخيير ،ومنكم من يقول :إذا ا َث َغرَ،
استغنى بنفسه ،وأكل بنفسه ،وشرب بنفسه ،فالبُ أح ّ
فالبُ أحق به.
فنقول :النبي صلى ال عليه وسلم قد حكم لها به ما لم تنكح ،ولم يفرق بين أن َت ْنكِحَ قبل
ب يكون مشتركاً بيننا وبينكم ،ونحن فيه
ن الذي يكون عنده أو بعده ،وحينئذ فالجوا ُ
بلوغ الصبيّ السّ ّ
على سواء ،فما أجبتُم به ،أجاب به منازعوكم سواء ،فإن أضمرتُم أضمرُوا ،وإن قيَدتُم قيّدوا ،وإن
صصُوا .وإذا تبين هذا ،فنقول :الحديث اقتضى أمرين.
صتُمْ خ ّ
ص ْ
خ ّ
َ
أحدهما :أنها ل حقّ لها في الولد بعد النكاح .والثاني :أنها أحق به ما لم تنكح ،وكونها أحق
به له حالتان ،إحداهما :أن يكون الول ُد صغيراً لم يميز ،فهي أحق به مطلقًا مِن غير تخيير .الثاني:
ق به أيضاً ،ولكن هذه الولوية مشروطة بشرط ،والحكم إذا عُلقَ
ن التمييز ،فهي أح ّ
أن يبلغ سِ ّ
بشرطٍ صدق إطلقُه اعتماداً على تقدير الشرط ،وحينئذ فهي أحقّ به بشرط اختياره لها ،وغايةُ
هذا أنه تقييد للمطلق بالدلة الدال ِة على تخييره .ولو حمل على إطلقه ،وليس بممكن ألبتة ،لستلزم
ل أحاديث التخيير ،وأيضاً فإذا كنتم قيدتموه بأنها أحق به إذا كانت مقيمة وكانت حرة
ذلك إبطا َ
ورشيدة وغير ذلك من القيود التي ل ذكر لشيء منها في الحاديث ألبتة ،فتقييدُه بالختيار الذي
دلت عليه السنة ،واتفق عليه الصحاب ُة أولى.
وأما حملكم أحاديث التخيير على ما بعد البلوغ ،فل يصح لخمسة أوجه .أحدها :أن
لفظ الحديث أنه خيّر غلمًا بين أبويه ،وحقيق ُة الغلم من لم يبلُغ ،فحمله على البالغ إخراج له عن
حقيقته إلى مجازه بغير موجب ،ول قرينة صارفة.
ح أن يخير ابنُ أربعين سنة بين أبوين؟ هذا مِن
الثاني :أن البالغَ ل حضانة عليه ،فكيف َيصِ ّ
ل الحديث عليه.
الممتنع شرعاً وعادة ،فل يجوز حم ُ
خيّر بين
الثالث :أنه لم يفهم أحدٌ من السامعين أنهم تنازعُوا في رجل كبير بالغ عاقل ،وأنه ُ
أبويه ،ول يسبق إلى هذا فه ُم أحد ألبتة ،ولو فرض تخييرُه ،لكان بين ثلثة أشياء :البوين،
والنفراد بنفسه.
الرابع :أنه ل يُعقل في العادة ول العرف ول الشرع أن تنازع البوان في رجل كبير بالغٍ
عاقل ،كما ل يعقلُ في الشرع تخييرُ من هذه حاله بين أبويه.
274
الخامس :أن في بعض ألفاظِ الحديث أن الولد كان صغيراً لم يبلغ ذكره النسائي ،وهو حديثُ
رافع بن سنان ،وفيه :فجاء ابن لها صغير لم يبلغ ،فأجلس النبي صلى ال عليه وسلم الب هاهنا،
والم هاهنا ثم خيّره.
وأما قولكم :إن بئر أبي عنبة على أميال من المدينة ،فجوابُه مطالبتكم أولً :بصحة هذا
الحديث ومَن ذكره ،وثانياً :بأن مسكن هذه المرأة كان بعيداً مِن هذه البئر ،وثالثاً ،بأن من له نحو
العشر سنين ل يمكنه أن يستقي من البئر المذكور عادة ،وكُلُ هذا مما ل سبيل إليه ،فإن العرب
وأهلَ البوادي يستقي أولدُهم الصغار مِن آبار هي أبعدُ من ذلك.
وأما تقييدنا له بالسبع ،فل ريب أن الحديث ل يقتضي ذلك ،ول هو أمرٌ مجمع عليه ،فإن
لِلمخيّرين قولين ،أحدهما :أنه يخ ّيرُ لخمس ،حكاه إسحاق بن راهويه ،ذكره عنه حرب
ع الصبي ،ويمكن أن يعقل
في((مسائله)) ،ويحتج لهؤلء بأن الخمس هي السن التي يَصح فيها سما ُ
فيها ،وقد قال محمود بن الربيع:
عقلتُ عن النبي صلى ال عليه وسلم مجة مجّها في فيّ وأنا ابن خمس سنين او القول
الثاني :أنه إنما يُخيّر لسبع ،وهو قول الشافعي ،وأحمد وإسحاق رحمهم الّ ،واحتج لهذا القول بأن
التخييرَ يستدعي التميي َز والفهم ،ول ضابطَ له في الطفال ،فضبط بمَظنّتهه وهي السبعُ ،فإنها أول
صبِى بالصلة.
سن التمييز ،ولهذا جعلها النبي صلى ال عليه وسلم حدًا للوقت الذي يُؤمر فيه ال ّ
وقولكم :إن الحاديثَ وقائعُ أعيان ،فنعم هي كذلك ،ولكن يمتنع حملُها على تخيير الرجال البالغين،
كما تقدم .وفي بعضها لفظ :غلم ،وفي بعضها لفظ :صغير لم يبلغ ،وبال التوفيق.
فصل
ل عنهم فيها ،وحكم رسول
وأما قصة بنت حمزة ،واختصام علي ،وزيد ،وجعفر رضي ا ّ
ن هذه الحكومَة كانت عَقِيبَ فراغهم من عُمرة القضاء ،فإنهم
ل صلى ال عليه وسلم بها لجعفر ،فإ ّ
ا ّ
لما خرجُوا مِن مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم ،فأخذ علي بيدها ،ثم تنازع فيها هو
وجعف ٌر وزيدٌ ،وذكر كُلّ واحد من الثلثة ترجيحاً ،فذكر زيد أنها ابنة أخيه للمؤاخاة التي عقدها
ل صلى ال عليه وسلم بينَه وبينَ حمزة ،وذكر علي كونها ابن َة عمّه ،وذكر جعفر
رسولُ ا ّ
مرجّحين :القرابة ،وكونَ خالتها عنده ،فتكون غد خالتها ،فاعتبر النبيّ صلى ال عليه وسلم مرجّحَ
ب إليه من أخذ
ل وَاحد منهم وطيّب قلبَه بما هو أح ّ
جعفر دون مرجّح الخرين ،فحكم له ،وجبر ك ّ
البنت.
275
فأما مرجح المؤاخاة ،فليس بمقتض للحضانة ،ولكنّ زيدًا كان وصي حمزة ،وكان الِخاء
ق بها لذلك.
حينئذ يث ُبتُ به التوارثُ ،فظن زيدٌ أنه أح ّ
وأمّا مرجّحُ القرابة هاهنا وهي بنوة العم ،فهل يُستحق بها الحضانة؟ على قولين.
أحدهما :يُستحق بها وهو منصوص الشافعي ،وقول مالك ،وأحمد ،وغيرهم ،لنه عصبة ،وله
وِلية بالقرابة ،فقدم على الجانب ،كما يُقدّ ُم عليهم في الميراث ،وولية النكاح ،وولية الموت،
ورسولُ الّ صلى ال عليه وسلم يُنكر على جعفر وعلي ادّعاءَهما حضانتها ،ولو لم يكن لهما
ذلك ،لنكر عليهما الدعوى الباطلة ،فإنها دعوى ما ليس لهما ،وهو ل يُ ِقرّ على ،باطل .والقول
الثاني :أنه ل حضانة لحد من الرجال سوى الباء والجداد ،هذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعي،
وهو مخالف لنصه ،وللدليل .فعلى قول الجمهور -وهو الصواب -إذا كان الطفل أنثى ،وكان ابنُ
العم محرماً لها برضاع أو نحوه ،كان له حضانتُها وإن جاوزت السبعَ ،وإن لم يكن محرماً ،فله
سلّم إلى محرمها ،أو امرأة ثقة .وقال
حضانتها صغيرةً حتى تبلُغ سبعاً ،فل يبقى له حضانتُها ،بل تُ َ
أبو البركات في ((محرره)) :ل حضانة له ما لم يكن محرمًا برضاع أو نحوه.
فإن قيل :فالحكمُ بالحضانة مِن النبي صلى ال عليه وسلم في هذه القصة ،هل
وقع للخالة؟ أو لجعفر؟
قيل :هذا مما اخ ُتِلفَ في ِه على قولين ،منشؤهما اختلفُ ألفاظ الحديث في ذلك ،ففي
ي صلى ال عليه وسلم لخالتها.
((صحيح البخاري)) ،من حديث البراء :فقض بها النب ّ
وعن أبي داود :من حديث رافع بن عجير ،عن أبيه ،عن علي في هذه القصة ((وأما
الجاريةُ ،فأقضي بها لجعفر ،تكونُ مع خالتها ،وإنما الخال ُة أم)) ثم ساقه من طريق عبد الرحمن بن
أبي ليلى وقال :قضى بها لجعفر ،لن خالتها عنده ،ثم ساقه من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن
هانىء بن هانىء ،وهبيرة بن يَريم ،وقال(( :فقضى بها النبيّ لخالتها ،وقال الخَالَ ُة ب َم ْن ِزلَةِ ا لُمّ))
واستشكل كثير من الفقهاء هذا وهذا ،فإن القضا َء إن كان لجعفر ،فليس محرما لها،
وهو وعلي في القرابة منها سواء ،وإن كان للخالة ،فهي مزوجه ،والحاضنة إذا تزوّجت ،سقطت
حضانتُها.
ولما ضاق هذا على ابن حزم ،في القصة بجميع طرقها ،وقال :أما حديثُ
البخاري ،فمن رواية إسرائيل ،هو ضعيف ،وأما حديث هانىءِ وهبيرة ،فمجهولن ،وأما حديث
ابن أبي ليلى ،فمرسل ،وأبو فروة الراوي عنه هو مسلم بن سالم الجهني ليس بالمعروف ،وأما
276
حديث نافع ابن عجير ،فهو وأبوه مجهولن ،ول حُجة في مجهول ،قال :إل أن هذا الخب َر بكل وجه
حجة على الحنفية والمالكية والشافعية ،لن خالتها كانت مزوّجة بجعفر ،وهو أجملُ شاب في
قريش ،وليس هو ذا رحم محرم مِن بنت حمزة .قال :ونحن ل نُنكرُ قضاءَه بها لجعفر مِن أجل
خالتها ،لن ذلك أحفظُ لها.
قلت :وهذا من تهورِهِ رحمه الّ ،وإقدامِه على تضعيف ما اتفقت
الناس على صحته ،فخالفهم وحده ،فإن هذِه القصةَ شهرتُها في الصحاح ،والسنن ،والمسانيد،
والسير ،والتواريخ تغني عن إسنادها ،فكيف وقد اتفق عليها صاحب الصحيح ،ولم يحفظ عن أحد
قبله الطعنُ فيها ألبتة ،وقوله :إسرائيل ضعيف ،فالذي غره في ذلك تضعيفُ علي بن المديني له،
ولكن أبى ذلك سائرُ أهلِ الحديث ،واحتجوا به ،ووثّقوه وثبتوه .قال أحمد :ثقة وتعجّب مِن حفظه،
وقال أبو حاتم .وهو من أتقن أصحاب أبي إسحاق ول سيما وقد روى هذا الحديثَ عن أبي إسحاق،
وكان يحفظ حديثَه كما يحفظ السورة من القرآن .وروى له الجماعة كلهم محتجين به.وأما قوله :إن
هانئًا وهبيرة مجهولن ،فنعم مجهولن عنده ،معروفان عند أهل السنن ،وثّقهما الحفاظ ،فقال
النسائي .هانىء بن هانىء ليس به بأس ،وهُبيرة روى له أهل السنن الربعة ،وقد وثق.
وأما قوله :حديث ابن أبي ليلى ،وأبو فروة الراوي عنه مسلم بن مسلم الجهني ليس
بالمعروف ،فالتعليلن باطلن ،فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى روى عن علي غير حديث ،وعن
ل عنهما .والذي غر أبا محمد أن أبا داود قال :حدثنا محمد بن عيسى ،حدثنا
عمر ،ومعاذ رضي ا ّ
سفيان عن أبي فروة ،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الخبر ،وظن أبو محمد ،أن عبد الرحمن لم
يذكر عليًا في الرواية ،فرماه بالِرسال ،وذلك من وهمه ،فإن ابن أبي ليلى روى القصة عن علي،
فاختصرها أبو داود ،وذكر مكان الحتجاج ،وأحال على العلم المشهور برواية عبد الرحمن بن
أبي ليلى ،عن علي ،وهذه القصة قد رواها علي ،وسمعها منه أصحابه :هانىء بن هانىء ،وهُبيرة
ث الثلثة الولين
بن َيرِيم ،وعجير بن عبد يزيد ،وعبد الرحمن بن أبي ليلى ،فذكر أبو داود حدي َ
ث ابن أبي ليلى ،لنه لم يتمه ،وذكر السند منه إليه ،فبطل
لسياقهم لها بتمامها ،وأشار إلى حدي ِ
الِرسال ،ثم رأيتُ أبا بكر الِسماعيلي قد روى هذا الحديث في مسند علي مصرحاً فيه بالتصال،
ف بن عدي ،حدثنا سفيانُ،
ن بنُ سعيد المقري ،حدثنا يوس ُ
فقال :أخبرنا الهيثم بن خلف ،حدثنا عثما ُ
عن أبي فروة ،عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ،عن علي ،أنه اختصم هو وجعفر وزيد ،وذكر
الحديث.
277
ن بن عيينة وغيره ،وخرجا له في
وأما قوله :إن أبا فروة ليس بالمعروف ،فقد عرفه سفيا ُ
((الصحيحين)).
وأما رميه نافع بن عجير وأباه بالجهالة :فنعم ،ول يُعرف حالهما ،وليسا مِن المشهورين
بنقل العلم ،وإن كان نافع أشهرَ مِن أبيه لرواية ثقتين عنه :محمد بن إبراهيم التميمي ،وعبد ال بن
ل التوفيق ،فثبتت صحة الحديث.
علي ،فليس العتمادُ على روايتهما ،وبا ّ
ل التوفيق :ل إشكال،سواء كان
وأما الجواب عن استشكال من استشكله ،فنقول وبا ّ
القضاء لجعفر أو للخالة ،فإن ابنة العم إذا لم يكن لها قرابة سوى ابن عمها ،جاز أن تجعل مع
ن العم مبرزاً في الديانة،
امرأته في بيته ،بل يتعيّن ذلك وهو أولى من الجنبي ل سيما إن كان اب ُ
والعِفة ،والصّيانة ،فإنه في هذه الحال أولى من الجانب بل ريب.
فإن قيل :فالنبيّ صلى ال عليه وسلم كان ابنَ عمها ،وكان محرماً لها ،لن
حمزة كان أخاه مِن الرضاعة ،فهل أَخَذَهَا هو؟
ل صلى ال عليه وسلم كان في شُغل شاغل بأعباء الرسالة ،وتبليغ الوحي،
قيل رسولُ ا ّ
والدعوة إلى الّ ،وجها ِد أعداء الّ عن فراغه للحضانة ،فلو أخذها ،لدفعها إلى بعض نسائه،
فخالتُها أمسّ بها رحمًا وأقربُ.
وأيضاً فإن المرأة من نسائه لم تكن تجيئُها النوبةُ إل بعد تسع ليال ،فإن دارت
الصبيةُ معه حيث دار ،كان مشقةً عليها ،وكان فيه مِن بروزها وظهورِها كُلّ وقت ما ل يخفى،
وإن جلست في بيت إحداهن كانت لها الحضانة وهي أجنبيةٌ .هذا إن كان القضاءُ لجعفر ،وإن كان
للخالة-وهو الصحيح وعليه يدل الحديث الصحيح الصريح -فل إشكال لوجوه .أحدها :أن نكاح
الحاضنة ليُسْقِطُ حضانة البنت كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وأح ُد قولي العلماء ،وحج ُة هذا
س ّر الفرقِ بين الذكر والنثى .الثاني :أن نكاحَها قريبًا من الطفل ل يُسْقِطُ
القول الحديثُ ،وقد تقدم ِ
حضانَتها ،وجعفر ابن عمها.
ن الطفل عنده في حجره ،لم تسقط
الثالث :أن الزوج إذا رضي بالحَضانة ،وآثر كو َ
الحضانة ،هذا هو الصحيحُ ،وهو مبني على أصل ،وهو أن سقوطَ الحضانة بالنكاح هو مراعاةٌ
ب من المرأة لحضانتها لولد غيره ،ويتنكّ ُد عليه
ع المطلو ُ
ق الزوج ،فإنه يتنغص عليه الستمتا ُ
لح ّ
عيشُه مع المرأة ،ل يُؤمن أن يَحصلَ بينهما خلف المودة والرحمة ،ولهذا كان للزوج أَن يمنعها
ق الزوج ،فتضيغ،مصلحة الطفل ،فإذا آثر الزوجُ ذلك وطلبه،
مِن هذا مع اشتغالها هي بحقو ِ
278
حرَص عليه ،زالت المفسدةُ التي لجلها سقطت الحضانة ،والمقتضي قائم ،فيترتب عليه أثُره،
وَ
ق للزوج وللطفل وأقاربه ،فإذا
يوضّحه أن سقوطَ الحضانة بالنكاح ليست حقاً لّ ،وإنما هي ح ّ
ل صلى
ي من له الحق جاز ،فزال الِشكال على كل تقدير،،ظهر أن هذا الحك َم مِن رسولِ ا ّ
رض َ
ال عليه وسلم من أحسن الحكام وأوضحِها وأشدّها موافقة للمصلحة ،والحكمة ،والرحمة،
ل التوفيق.
والعدل ،وبا ّ
فهذه ثلثة مدارك في الحديث للفقهاء .أحدها :أن نكاح الحاضنة ل يُسْقطُ حضانتها،
كما قاله الحسن البصري ،وقضى به يحي بن حمزة ،وهو مذهبُ أبي محمد بن حزمٍ .والثاني :أن
ط حضانة البنت ،ويسقط حضانة البن ،كما قاله أحمد في إحدى روايتيه.
نكاحَها ل يُسقِ ُ
والثالث :أن نِكاحَها لقريب الطِفل ل يُسقط للجنبي يسقطها ،كما هو المشهور من مذهب
أحمد.
وفيه مدرك رابع لمحمد بن جرير الطبري ،وهو أن الحاضنة إن كانت أمّا والمنازعُ
لها الب ،سقطت حضانتها بالتزويج ،وإن كانت خالةً أو غيرَها مِن نساء الحضانة ،لم تسقط
حضانتُها بالتزويج ،وكذلك إن كانت أمّا ،والمنازعُ لها غيرُ الب من أقارب الطفل لم تسقط
حضانتُها.
ونحن نذكر كلمه ،وما له وعليه فيه ،قال في ((تهذيب الثار))بعد ذكر حديث ابنة حمزة:
فيه الدللةُ الواضحة على أن قيّ َم الصبية الصغيرة ،والطفل الصغير من قرابتهما من قبل أمهاتهما
ت أزواج غير الب الذي هما
من النساء أحقُ بحضانتهما مِن عصباتهما من قبل الب ،وإن كُنّ ذوا ِ
ل صلى ال عليه وسلم قضى بابنة حمزةَ لخالتها في الحضانة ،وقد تنازع
منه ،وذلك أن رسولَ ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم آخى بينَه
فيها ابنا عمها عليّ وجعفر ومولها وأخو أبيها الذي كان رسولُ ا ّ
وبينَه ،وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها وذلك بعد مقتل حمزة ،وكان معلومًا بذلك صحة قول من
قال :ل حق لعصبة الصغير والصغيرة من قبل الب في حضانته ما لم تبلغ حد الختيار ،بل
قراب ُتهُما من النساء مِن قبل أمهما أحقُ ،وإن كن ذوات أزواج.
فإن قال قائل :فإن كان المر في ذلك عندك على ما وصفت من أن أمّ الصغير والصغيرة
ن ذوات أزواج من قرابتهما من قبل
وقرابتهما من النساء من قبل أمهاتهما أحقّ بحضانتهما ،وإن كُ ّ
الب من الرجال الذين هم عصبتهما ،فهلّ كانت المّ ذات الزوج كذلك مع والدهما الدنى والبعد،
كما كانت الخالة أحق بهما؟ وإن كان لها زوج غير أبيهما ،وإل فما الفرق؟
279
قيل :الفرقُ بينهما واضح ،وذلك لقيام الحجة بالنقل المستفيض روايته عن النبي صلى ال
عليه وسلم أن الم أحقُ بحضانة الطفال إذا كانت بانت من والدهم ما لَ ْم تَنكِحْ زوجًا غيره ،ولم
ض به على الحجة فيما نعلمه .وقد روي في ذلك خبر ،وإن كان
يُخالف في ذلك من يجوز العترا ُ
ت أمره دال على صحته ،وإن كان واهيَ السند .ثم ساق
في إسناده نظر ،فإن النقل الذي وصف ُ
ق به مَا لَم تَنكِحِي)) من طريق المثنى بن
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدهَ(( :أ ْنتِ أَحَ ّ
الصباح عنه.ثم قال :وأما إذا نازعها فيه عصب ُة أبيه ،فصحة الخبر عن النبي صلى ال عليه وسلم
الذي ذكرناه أنه جعل الخالة ذات الزوج غير أبي الصبية أحقّ بها من بني عمها وهم عصبتُها،
فكانت المّ أحقّ بأن تكون أولى منهم وإن كان لها زوج غير أبيها ،لن النبي صلى ال عليه وسلم
إنما جعل الخالة أولى منهم لقرابتها من الم ،وإذا كان ذلك كالذي وصفنا ،تبيَن أن القول الذي قُلناه
في المسألتين أصلُ إحداهما من جهة النقل المستفيض ،والخرى من جهة نقل الحاد العدول ،فإذا
كان كذلك ،فغيرُ جائز رَدّ حكمِ إحداهما إلى حكم الخرى ،إذ القياسُ إنما يجوز استعمالُه فيما ل
ل صلى ال عليه وسلم
نص فيه من الحكام ،فأما ما فيه نص من كتاب ال ،أو خبر عن رسول ا ّ
برقي ،فل حظَ فيه للقياس.
ت أنك إنما أبطلت حق الم من الحضانة إذا نكحت زوجًا غير أبي
فإن قال قائل :زعم َ
الطفل ،وجعلت الب أولى بحضانتها منها بالنقل المستفيض ،فكيف يكونُ ذلك كما قلت؟ وقد علمتَ
أن الحسن البصري كان يقول :المرأةُ أحقُ بولدها ،وإن تزوجت ،وقضى بذلك يحيى بن حمزة.
قيل :إن النقل المستفيض الذي تلز ُم به الحج ُة في الدين عندنا ليس صفته أل يكونَ له
ب الكذب والخطأ،
ن َي ْنتَفي عنه أسبا ُ
ل من علماء المة مَ ْ
ل وعم ً
مخالف ،ولكن صفته أن ينقلَه قو ً
ل مَنْ صِ َفتُه ذلِك من علماء المة ،أن المرأة إذا نكحت بعد بينونتها من زوجها زوجًا غيره،
وقد نَقَ َ
ب أولى بحضانة ابنتها منها ،فكان ذلك حجًة لزمة غيرَ جائز العتراض عليها بالرأي ،وهو
أن ال َ
قول من يجوز عليه الغلط في قوله ،انتهى كلمه.
ذكر ما في هذا الكلم من مقبول ومردود
فأما قوله :إن فيه الدللة على أن قرابة الطفلِ من قبل أمهاته من النساء أحقُ بحضانته مِن
عصباته من قبل الب وإن كن ذواتِ أزواجٍ ،فل دللة فيه على ذلك ألبتة ،بل أحدُ ألفاظِ الحديثِ
صريحٌ في خلفه ،وهو قولُه صلى ال عليه وسلم :وأما البنة فإني أقضي بها لجعفر ،وأما اللفظ
الخر(( ،فقضى بها لخالتها ،وقال :هي أم)) وهو اللفظ الذي احتج به أبو جعفر ،فل دليل على أن
280
ق من قرابة الب ،بل إقرا ُر النبي علياً وجعفرًا على دعوى الحضانة يدل على
قرابة الم مطلقًا أَحَ ُ
أن لِقرابة الب مدخلً فيها ،وإنما قدم الخالة لكونها أنثى من أهل الحضانة ،فتقديمُها على قرابة
الب كتقديم الم على الب ،والحديث ليس فيه لفظ عام يدل على ما ادّعاه ،ل من أن من كان من
ق من العم،
ق بالحضانة من العصبةِ مِن ِقبَلِ الب ،حتى تكونَ بنتُ الخت للم أح ّ
قرابة الم أح ّ
ق من العم ،والعمة ،فأين في الحديث دللة على هذا فضلً عن أن تكونَ واضحة.
وبنت الخالة أح ّ
قوله :وكان معلومًا بذلك صحة قول من قال :ل حق لعصبة الصغير والصغيرة مِن قبل البِ في
حضانته ما لم يبلغ حد الختيار ،يعني :فيخيّر بين قرابة أبيه وأمه ،فيقال :ليس ذلك معلومًا من
الحديث ،ول مظنوناً ،وإنما دل الحديثُ على أن ابن العم المزوّج بالخالة أولى من ابن العم الذي
ليس تحته خالة الطفل ،ويبقى تحقيقُ المناط :هل كانت جه ُة التعصيب مقتضيةً للحضانة فاستوت
في شخصين؟ فرجح أحدهما بكون خالة الطفل عنده وهي من أهل الحضانة ،كما فهما طائف ٌة من
أهل الحديث ،أو أن قرابةَ الم وهي الخالة أولى بحضانة الطفل مِن عصبة الب ،ولم تسقط
حضانتُها بالتزويج إما لكون الزوج ل يُسقِطُ الحضانة مطلقاً ،كقول الحسن ومن وأفقه ،وإما لكون
المحضونة بنتاً كما قاله أحمد في رواية ،وإما لكون الزوج قراب َة الطفل كالمشهورِ من مذهب
أحمد ،وإما لكون الحاضِن ِة غير أمّ نازعها البُ ،كما قاله أبو جعفر ،فهذه أربعة مدارك ،ولكن
المدرك الذي اختاره أبو جعفر ضعيف جداً ،فإن المعنى الذي أسقط حضانة الم بتزويجها هو
بعينه موجود في سائر نساء الحضانة ،والخالة غايتُها أن تقومَ مقام الم ،وتُشبّه بها ،فل تكون
أقوى منها ،وكذلك سائرُ قرابة الم ،والنبي صلى ال عليه وسلم لم يحكم حكماً عامًا أن سائر
أقارب الم من كن ل تسقط حضانتهن بالتزويج ،وإنما حكم حكماً معيناً لخالة ابنةِ حمزة بالحضانة
مع كونها مزوج ًة بقريب من الطفل ،والطفل ابنة.
ع الذي
وأما الفرق الذي فرق بين الم وغيرها بالنقل المستفيض إلى آخره ،فيريد به الِجما َ
ل ينقضه عنده مخالفة الواحد والثنين ،وهذا أصل تفرد به ،ونازعه فيه الناسُ.
َ
وأما حكمه على حديث عمرو بن شعيب بأنه واهٍ ،فمبني على ما وصل إليه مِن طريقه ،فإن
فيه المثنى بن الصبّاح ،وهو ضعيف أو متروك ،ولكن الحديث قد رواه الوزاعي عن عمرو بن
شعيب ،عن أبيه عن جده رواه أبو داود في ((سننه)).
فصل
281
وفي الحديث مسلك خامس وهو أن النبي صلى ال عليه وسلم قضى بها لخالتها وإن كانت
ي صلى ال
ذاتَ زوج ،لن البنتَ تحرُم على الزوج تحريمَ الجمعِ بين المرأة وخالتها ،وقد نبه النب ّ
عليه وسلم على هذا بعينه في حديث داود بن الحصين ،عن عكرمة ،عن ابن عباس ،فذكر الحديث
علَى
ع ّم ِتهَا ،ولَ َ
علَى َ
ح ال َم ْرَأةُ َ
جعْ َف ُر َأ ْولَى ِبهَا :تَح َتكَ خَاَل ُتهَا ،وَلَ ُت ْنكَ ُ
بطوله ،وقال فيهَ (( :وَأ ْنتَ يَا َ
ص يقتضي أن يكون الحاضن ذا رحم تحرم عليه
خَاَل ِتهَا)) ،وليس عن النبي صلى ال عليه وسلم ن ٌ
البنتُ على التأبيد حتى يُعترض به على هذا المسلك ،بل هذا مما ل تأباه قواعدُ الفقه وأصول
الشريعة ،فإن الخالة ما دامت في عصمة الحاضن ،فبنتُ أختها محرمة عليه ،فإذا فارقها ،فهي مع
خالتها ،فل محذو َر في ذلك أصلً ،ول ريبَ أن القولَ بهذا أخير وأصلحُ للبنتِ مِن رفعها إلى
الحاكم يدفعُها إلى أجنبي تكون عنده ،إذ الحاك ُم غير متصد للحضانة بنفسه ،فهل يشكّ أحد أن ما
حكم به النبي صلى ال عليه وسلم في هذه الواقعة هو عينُ المصلحة والحكمة والعدل ،وغايةُ
ج ْورٍ أو فسادٍ ل تأتي به الشريعةُ ،فل
الحتياط للبنت والنظر لها ،وأن كُلّ حكم خالفه ل ينفك عن َ
ل كُلّ الِشكالِ فيما خالفه ،والّ المستعان ،وعليه
إشكالَ في حكمه صلى ال عليه وسلم ،والِشكا ُ
التكلن.
ذكر حكمه صلى ال عليه وسلم في النفقة على الزوجات
وأنه لم يُقدّرها ،ول ورد عنه ما يَدُلّ على تقديرها ،وإنما ردّ الزواج فيها إلى العرف.
ثبت عنه في ((صحيح مسلم))(( :أنه قال في خطبة حَجة الوداع بمحضر الجمع العظيم قبل
جهُنّ َ
ستَحَل ْلتُمْ ُفرُو َ
ل في النّسَاءِ فَإ َنكُم أخَ ْذ ُتمُوهُنّ بَأمَانَة الّ ،وا ْ
وفاته ببضعة وثمانين يومًا ((واتّقُوا ا ّ
ن بالمعروفِ))
عَل ْيكُم رِزقُهن.ولهنّ عليكم رز ُقهُنّ وكسو ُتهُ ّ
بكَلمَة ِالّ .ولَهنّ َ
وثبت عنه صلى ال عليه وسلم في ((الصحيحين)) :أن هندًا امرأة أبي سفيان قالت له :إن
ت منه وهو ل يعلم،
ح ليس يُعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إل ما أخذ ُ
أبا سُفيان رجلٌ شحي ٌ
فقال(( :خُذِي مَا َيكْفِيكِ َو َولَ َدكِ بِال َم ْعرُوفِ)) .وفي ((سنن أبي داود)) :من حديث حكيم بن معاوية،
ل ! ما تقولُ
ل صلى ال عليه وسلم فقلتُ :يا رسول ا ّ
ل عنه ،قال :أتيت رسول ا ّ
عن أبيه رضي ا ّ
ل تُ َقبّحُوهُنّ)).
ض ِربُوهُنّ وَ َ
ل َت ْ
ن ِممّا َت ْلبَسُونَ ،وَ َ
ن ِممّا تَ ْأ ُكلُونَ ،وَاكْسُوهُ ّ
ط ِعمُوهُ ّ
في نسائنا؟ قال(( :أَ ْ
ل صلى ال عليه وسلم مطابق لكتابِ الّ عز وجل حيث يقول{ :وَالوَالِدَاتُ
وهذا الحكمُ من رسولِ ا ّ
س َو ُتهُنّ
ن ِلمَن َأرَا َد أَن يتِ ّم ال َرضَاعَةَ وَعَلى ال َموْلُو ِد لَه ِرزْقُهنّ َوكِ ْ
ن كَا ِملَي ِ
ن َأوْلَدَهُنّ حَوَليْ ِ
ُي ْرضِعْ َ
282
بالمعروفِ} [البقرة .]233 :والنبي صلى ال عليه وسلم جعل نفقَ َة المَرأة مثل نفقة الخَادم ،وسوّى
س َوتُه بِال َم ْعرُوفِ)).
طعَامُهُ وكِ ْ
بينهما في عدم التقدير ،وردَهما إلى المعروف ،فقالِ(( :ل ْلمَمْلوكِ َ
فجعل نفقتهما بالمعروفِ ،ول ريب أن نفقة الخادم غيرُ مقدّرة ،ولم يقل أحد بتقديرها .وصح عنه
ط ِعمُوهُم ِممّا تَأ ُكلُونَ ،وَأ ْلبِسُوهُ ْم ِممّا َت ْلبَسُونَ)) .رواه مسلم ،كما قال في
في الرقيق أنه قال(( :أَ ْ
الزوجة سواء.
وصح عن أبي هريرة رضي ال عنه أنه قال :امرأتُك تقولُ :إما أن تُط ِعمَنى ،وإما أن
ن تَدَعُني .فجعل نفقة
طلّقَني ،ويقول العبد :أَطْعمني واستعملني .ويقول البن أطعمني إلى مَ ْ
تُ َ
الزوجة والرقيق والولد كلّها الِطعام ل التمليك.وروى النسائي هذا مرفوعاً إلى النبي صلى ال
س َو ُتهُمْ } [المائدة،]89 :
ن أَ ْهلِيكُم أَو كِ ْ
ط ِعمُو َ
ن أوسَطِ مَا ت ْ
عليه وسلم كما سيأتي .وقال تعالى{ :مِ ْ
وصح عن ابن عباس رضي الّ عنهما أنه قال :الخبز والزيت ،وصح عن ابن عمر رضي الّ
عنه :الخبز والسمن ،والخبز والتمر ،ومِن أفضل ما تطعمون الخبز واللحم .ففسر الصحابة إطعامَ
ل ورسولُه ذكرا الِنفاق مطلقاً من غير تحديد ،ول تقدير ،ول
الهلِ بالخبز مع غيره من الدم ،وا ّ
ي صلى ال عليه وسلم ،فكيف وهو الذي رد ذلك
ف لو لم يرده إليه النب ّ
تقييد ،فوجب رَدّه إلى العُر ِ
إلى العرف ،وأرشد أمته إليه؟ ومن المعلوم أن أهلَ العُرف إنما يتعارفون بينهم في الِنفاق على
حبّ ،والنبيّ صلى ال عليه وسلم وأصحابُه
أهليهم حتى من يُوجب التقدير :الخبز والِدام دون ال َ
إنما كانوا يُنفقون على أزواجهم ،كذلك دون تمليك الحب وتقديره ،ولنها نفقة واجبة بالشرع ،فلم
تقدر بالحب كنفقة الرقيق ،ولو كانت مقدرة ،لمر النبي صلى ال عليه وسلم هنداً أن تأخذ المقدّرَ
لها شرعاً ،ولما أمرها أن تأخذ ما يكفيها مِن غير تقدير ،وردّ الجتهادَ في ذلك إليها ،ومن المعلوم
أن قدر كفايتها ل ينحصر في مُدّين ،ول في رطلين بحيث ل يزيد عليهما ول َينْقُص ،ولفظه لم يدل
على ذلك بوجه ،ول إيماء ،ول إشارة ،وإيجاب مدّين أو رطلين خبزاً قد يكون أقلّ من الكفاية،
ل من مد أو
فيكون تركًا للمعروف ،وإيجابُ قدر الكفاية مما يأكل الرجل وولده ورقيقه وإن كان أق ّ
ج إلى
من رطلي خبز ،إنفاق بالمعروف ،فيكون هذا هو الواجبَ بالكتاب والسنة ،ولن الحب يحتا ُ
طحنه وخبزه وتوابع ذلك ،فإن أخرجت ذلك من مالها ،لم تحصل الكفاية بنفقة الزوج ،وإن فرض
عليه ذلك لها من ماله كان الواجب حبًا ودراهم ،ولو طلبت مكان الخبز دراهم أو حباً أو دقيقًا أو
غيرَه ،لم يلزمه بذلُه ،ولو عرض عليها ذلك أيضاً ،لم يلزمها قبولُه لن ذلك معاوضة ،فل يُجبر
أحدُهما على قبولها ،ويجوز تراضيهما على ما اتفقا عليه.
283
والذين قدّروا النفقة اختلفوا ،فمنهم من قدّرها بالحب وهو الشافعي ،فقال :نفقة الفقير
م ٌد بمد النبى صلى ال عليه وسلم ،لن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مُدّ ،والّ سبحانه اعتبر
ن أَ ْهلِيكُم أَو
ط ِعمُو َ
ن َأوْسَطِ مَا تُ ْ
ن مِ ْ
ش َرةِ مَسَاكِي َ
طعَامُ عَ َ
الكفارة بالنفقة على الهل ،فقال{ :فكَفّارتُه إِ ْ
س ِر مُدّانِ ،لن أكثر ما أوجب الّ سبحانه للواحد مُدّانِ في
س َو ُتهُم} [المائدة ]89 :قال :وعلى المُو ِ
كِ ْ
كفارة الذى ،وعلى المتوسط مُ ٌد ونِصفٌ ،نِصف نَفَقَة الموسِر ،ونصف نفقة الفقير.
وقال القاضي أبو يعلى :مقدرة بمقدارٍ ل يختِلفُ في القِلة والكثرة ،والواجب رِطلنِ من
س ِر اعتباراً بالكفارات ،وإنما يختلفان في صفته وجودته،
سرِ وال ُمعْ ِ
الخبز في كل يوم في حق المُو ِ
سرَ سواء في قدر المأكول ،وما تقُو ُم به البنيةُ ،وإنما يختلفان في جودته ،فكذلك
س َر وال ُمعْ ِ
لن المُو ِ
النفقة الواجبة.
والجمهور قالوا :ل يُحفظ عن أحد من الصحابة قطّ تقديرُ النفقة ،ل بمُدّ ،ول برطل،
ل في كل عصر ومصر ما ذكرناه.
والمحفوظ عنهم ،بل الذي اتصل به العم ُ
ل عليه القرآن والسنة أن
قالوا :ومن الذي سلّم لكم التقدير بالمُد والرطل في الكفارة ،والذي د ّ
ش َرةِ
الواجبَ في الكفارة الِطعامُ فقط ل التمليك ،قال تعالى في كفارة اليمين{ :فكفّارتُهُ إطعامُ عَ َ
ستَطعْ
ن لَمْ يَ ْ
ن أَ ْهلِيكُم} [المائدة ،]89 :وقال في كفارة الظهار{ :فَم َ
ط ِعمُو َ
ن مِنْ َأوْسَطِ ما تُ ْ
مَسَاكِي َ
سكٍ}
ن صيَامٍ أ ْو صدَقَ ٍة أَو نُ ُ
سكِينا} [المجادلة ،]4 :وقال في فدية الذى{:فَفِدْي ٌة مِ ْ
ستّينَ م ْ
طعَامُ ِ
فَإ ْ
[البقرة ،]196 :وليس في القرآن في إطعام الكفارات غي ُر هذا ،وليس في موضع واحد منها تقدير
ذلك بمد ول رطل ،وصح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لمن وطىء في نهار رمضان:
سكِيناً)) .وكذلك قال للمظاهرِ ،ولم يَحُ ّد ذلك بمد ول رطل.
ن مِ ْ
ستّي َ
طعِمْ ِ
((أَ ْ
فالذي دل عليه القراَن والسنة ،أن الواجب في الكفارات والنفقات هو الِطعامُ ل
ت عن الصحابة رضي الّ عنهم .قال أبو بكر بن أبي شيبة :حدثنا أبو خالد،
التمليكُ ،وهذا هو الثاب ُ
عن حجاج ،عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي :يُغدّيهم ،ويُعشّيهم خبزاً وزيتاً.
وقال إسحاق ،عن الحارث كان عليّ يقول في إطعام المساكين في كفارة اليمين :يُغدّيهم
ويُعشيهم خبزاً وزيتاً ،أو خبزاً وسمناً.
ل بن مسعود رضي الّ
وقال ابن أبي شيبة :حدثنا يحيى بن يعلى ،عن ليث ،قال :كان عبدُ ا ّ
عنه يقول{:مِن أوسطِ ما تط ِعمُون أهليكم} [المائدة ]89 :قال :الخبز والسمن ،والخبز والزيت،
والخبز واللحم.
284
وصح عن ابن عمر رضي الّ عنهما قال :أوسط ما يُطعم الرجل أهله:الخبز واللبن،والخبز
والزيت،والخبز والسمن،ومن أفضل ما يطعم الرجل أهله:الخبز واللحم.
وقال يزيد بن زريع :حدثنا يونس ،عن محمد بن سيرين ،أن أبا موسى الشعري كفّر عن
يمين له مرة ،فأمر بجيرًا أو جبيرًا يُطعم عنه عشرة مساكين خبزاً ولحمًا وأمر لهم بثوب مُعقَد أو
ظهراني.
وقال ابن أبي شيبة :حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا يحيى بن أيوب ،عن حميد ،أن أنسًا رضي
ل أن يموتَ ،فلم يستط ْع أن يصوم ،وكان يجم ُع ثلثين مسكيناً فيطعمهم خبزاً
الّ عنه مرض قب َ
ولحمًا أكلة واحدة.
وأما التابعون،فثبت ذلك عن السود بن يزيد ،وأبي رزين ،وعبيدةَ ،ومحمد بن
سيرين ،والحسن البصري ،وسعيد بن جُبير ،وشُريح ،وجابر بن زيد ،وطاووس ،والشعبي ،وابن
بريدة،والضحاك،والقاسم ،وسالم ،ومحمد بن إبراهيم ،ومحمد بن كعب ،وقتادة،وإبراهيم النخعي،
والسانيد عنهم بذلك في أحكام القرآن لِسماعيل بن إسحاق ،منهم من يقول :يغذَي المساكينَ
ويُعشّيهم ،ومنهم من يقول :أكلة واحدة ،ومنهم من يقول :خبز ولحمٌ ،خبز وزيت ،خبز وسمن،
وهذا مذهب أهل المدينة ،وأهل العراق ،وأحمد في إحدى الروايتين عنه ،والرواية الخرى :أن
طعامَ الكفارة مقدّر دون نفقة الزوجات.
فالقوال ثلثة :التقدير فيهما ،كقول الشافعي وحدَه ،وعد ُم التقدير فيهما ،كقول مالك وأبي
حنيفة ،وأحمد في إحدى الروايتين .والتقديرُ في الكفارة دون النفقة ،كالرواية الخرى عنه.
ق بين النفقة والكفارة :أن الكفارة ل تختِلفُ باليسار
قال من نصر هذا القول :الفر ُ
والِعسار ،ول هي مقدّرة بالكفاية ،ول أوجبها الشارعُ بالمعروف ،كنفق ِة الزوجة والخادم،
والِطعامُ فيها حق لّ تعالى ل لَدمي معين ،فيُرضى بالعوض عنه ،ولهذا لو أخرج القيمة لم
جزِه ،ورُوي التقديرُ فيها عن الصحابة ،فقال القاضي إسماعيل :حدثنا حجّاج بن المنهال ،حدثنا
يُ ْ
أبو عَوانة ،عن منصور ،عن أبي وائل ،عن يسار بن نمير ،قال :قال عمر :إن ناساً يأتوني
ف أني ل أُعطيهم ،ثم يبدو لي أن أُعْطيهم ،فإذا أمرتُك أن تكَ ّفرَ ،فأطعم عنّي عشرة
يسألوني ،فأَحِل ُ
مساكينِ ،لكُلّ مسكينٍ صاعًا من تمر أو شعير ،أو نصف صاع من بر.
285
حدثنا حجاج بن المنهال وسليمان بن حرب ،قال حدثنا حما ُد بن سلمة ،عن سلمة بن ك َهيْل،
ل عنه قال :يَا َيرْفا! إذا حلفتُ فحنثتُ ،فأطعم عني
عن يحيى بن عباد ،أن عمر بن الخطاب رضي ا ّ
صوُعٍ عشرة مساكين.
ليميني خمسة أ ْ
ل بن
وقال ابن أبي شيبة ،حدثنا وكيع ،عن ابن أبي ليلى ،عن عُمر بن أبي مرة ،عن عبد ا ّ
سلمة ،عن علي قال :كفار ُة اليمين :إطعام عشرةِ مساكين لِكل مسكين نصفُ صاع.
حدثنا عبد الرحيم ،وأبو خالد الحمر ،عن حجاج ،عن قُرط ،عن جدته ،عن عائشة رضي
ال عنها قالت :إنا نُطعِمُ نصفَ صاعٍ مِن بُر ،أو صاعاً من تمر في كفارة اليمين .وقال إسماعيل:
حدثنا مسلم بن إبراهيم ،حدثنا هشام بن أبي عبد ال ،حدثنا يحيى بن أبي كثير ،عن أبي سلمة ،عن
زيد بن ثابت ،قال :يُجزىء في كفارة اليمينِ لِكل مسكين مُدّ حِنطة .حدثنا سليمان بن حرب ،حدثنا
حماد بن يزيد ،عن أيوب ،عن نافع ،أن ابن عمر رضي الّ عنه كان إذا ذكر اليمين ،أعتق ،وإذا لم
ي ْذ ُكرْها ،أطعم عشرةَ مساكين ،لكل مسكين مُ ّد مُدّ.
ح عن ابن عباس رضي الّ عنهما :في كفارة اليمين مُدّ ،ومعه أدمُهُ.
وص ّ
وأما التابعون ،فثبت ذلك عن سعيد بن المسيب ،وسعيد بن جبير ،ومجاهد ،وقال :كل طعام
ن ِلكُلّ مسكين.
ذكر في القرآن للمساكين ،فهو نصف صاع ،وكان يقولُ في كفارة الَيمان كلها :مُدَا ِ
(يتبع)...
س وهم يُعطون
وقال حما ُد بن زيد عن يحيى بن سعيد ،عن سليمان بن يسار :أدركتُ النا َ @
في كفارة اليمين مداً بالمدّ الول .وقال القاسم ،وسالم ،وأبو سلمة ،مُ ّد مُدّ من بر ،وقال عطاء :فرقاً
بين عشرة ،ومرة قال :مُدّ مدٌ.
ج َرةَ في
قالوا :وقد ثبت في ((الصحيحين)) أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ِل َكعْب بن غ ْ
ل مِسْكينٍ .فقدّر رسول
طعَامًا ِلكُ ّ
ف صَاعٍ َ
ع ِنصْ َ
صفَ صا ٍ
ستّ َة مَسَاكِينَ ِن ْ
طعِمْ ِ
كفارة فدية الذى :أَ ْ
ل صلى ال عليه وسلم فِدية الذى ،فجعلنا تقديرها أصلً ،وعدّيناها إلى سائر الكفارات،ثم قال
ا ّ
ت و الكفاراتِ قد اشتركا في الوجوب ،فاعتبرنا إطعامَ النفقة
من قدّر طعام الزوجة :ثم رأينا النفقا ِ
طعَا ُم مَسَاكِينَ} [المائدة:
بإطعام الكفارة ،ورأينا الّ سبحانه قد قال في جزاء الصيد{ :أَو كَفّا َرةٌ َ
،]95وما أجمعت المة أن الطعام مقدّر فيها ،ولهذا لو عَدِمَ الطعام ،صام عن كل مدّ يوماً ،كما
س بعده ،فهذا ما احتجت به هذه الطائف ُة على تقدير طعام الكفارة.
ن عباس والنا ُ
أفتى به اب ُ
286
قال الخرون :ل حُجة في أحد دونَ ال ورسوله وإجماع المة ،وقد أمرنا تعالى أن
َنرُدّ ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله ،وذلك خيرٌ لنا حالً وعاقبةً ،ورأينا الّ سبحانه إنما قال في
ستَينَ مسكِيناً} [المجادلة ،]4 :فعلق
طعَام ِ
ش َرةِ مَسَاكِينَ} [المائدة{ ،]89 :فإِ ْ
طعَامُ عَ َ
الكفارة{ :إ ْ
المر بالمصدر الذي هو الِطعام ،ولم يحد لنا جنسَ الطعام ول قدره ،وح ّد لنا جنس المطعمين
وقدرَهم ،فأطلق الطعام وقيّ َد المطعومين ،ورأيناه سبحانه حيث ذكر إطعامَ المسكين في كتابه ،فإنما
طعَامٌ في
ك مَا العَ َقبَةُ * فَك رَ َقبَ ٍة * أَو إِ ْ
أراد به الِطعا َم المعهود المتعارفَ ،كقوله تعالى{:ومَا أَدرا َ
س َغبَ ٍة * َيتِيماً} [البلد .]15-12 :وقال{ :ويُط ِعمُونَ الطّعامَ عَلى حبّ ِه مِسكِينًا و َيتِيماً
يَومٍ ذي مَ ْ
وأَسيراً}[الِنسان ]8 :وكان من المعلوم يقيناً ،أنهم لو غدّوهم أو عشّوهم أو أطعمُوهم خبزاً ولحماً
أو خبزاً ومرقاً ونحوه لكانوا ممدوحين داخلين فيمن أثنى عليهم ،وهو سبحانه عَدَلَ عن الطعام
الذي هو اسم للمأكول إلى الِطعام الذي هو مصد ٌر صريح ،وهذا نصّ في أنه إذا أطعم المساكينَ،
ولم يُملكهم ،فقد امتثل ما أمر به ،وصحّ في كل لغة وعرف :أنه أطعمهم .قالوا :وفي أي لغة ل
ل عنه :إن النبي صلى ال عليه وسلم أطعَمَ
يصدق لفظُ الِطعام إل بالتمليك؟ ولِما قال أنس رضي ا ّ
الصحابة في وليمة زينب خبزاً ولحماً .كان قد اتخذ طعاماً ،ودعاهم إليه على عادة الولئم ،وكذلك
حيْساً)) ،وهذا أظهر من أن نذكر شواهدَه ،قالوا :وقد زاد ذلك
ط َع َمهُم َ
قولُه في وليمة صفية(( :أ ْ
ط ِعمُونَ أَ ْهلِيكُم} [المائدة ،]89 :ومعلوم يقيناً ،أن الرجل إنما
ط مَا تُ ْ
ن َأوْسَ ِ
إيضاحاً وبيانًا بقوله{ :مِ ْ
يُطعم أهله الخب َز واللحمَ ،والمرق واللبنَ ،ونحو ذلك ،فإذا أطعم المساكينَ مِن ذلك ،فقد أطعمهم مِن
ل على أنه غيرُ
ل عنهم في إطعامِ اله ِ
أوسط ما يُطعم أهلَه بل شك ،ولهذا اتفق الصحاب ُة رضي ا ّ
ل بطريق الولى على أن طعام الكفارة
مقدر ،كما تقدّمَ ،والّ سبحانه جعله أصلً لطعام الكفارة ،فد ّ
غيرُ مقدّر.
وأما من قدّر طعام الهل ،فإنما أخذ من تقدير طعام الكفارة ،فيُقال :هذا خلفُ مقتضى
النص ،فإن الّ أطلق طعامَ الهل ،وجعله أصلً لطعام الكفارة ،ف ُعلِ َم أن طعام الكفارة ل يتقدّر كما
ل يتق َدرُ أصله ،ول يُعرف عن صحابي البتة تقديرُ طعام الزوجة مع عموم هذه الواقعة في كل
وقت .قالوا :فأما الفروق التي ذكرتمُوها ،فليس فيها ما يستلزِمُ تقديرَ طعام الكفارة ،وحاصلُها
خمسةُ فروق ،أنها ل تختِلفُ باليَسار والِعسار ،وأنها ل تتقدّر بالكِفاية ،ول أوجبها الشارعُ
بالمعروف ،ول يجوز إخراجُ ال ِعوَضِ عنها ،وهي حقّ لّ ل تسقُط بالِسقاط بخلف نفقة الزوجة،
287
فيقال :نعم ل شك في صحة هذه الفروق ،ولكن من أين يستلزم وجوب تقديرها بمد ومدين؟ بل هي
طعِ ُم أهله ،ومع ثبوت هذه الحكام ل يدل على تَقديرها بوجه.
إطعامٌ واجب من جنس ما يُ ْ
وأما ما ذكرتم عن الصحابة من تقديرها ،فجوابه من وجهين.
أحدهما :أنا قد ذكرنا عن جماعة ،منهم علي ،وأنس ،وأبو موسى ،وابن مسعود رضي الّ
شيَهم.
عنهم أنهم قالوا :يُجزىء أن يغ ّديَهم ويع ّ
الثاني :أن مَنْ رُوي عنهم المد والمدان لم يذكروا ذلك تقديراً وتحديداً ،بل تمثيلً ،فإن منهم
ي عنه المد ،ورُوي عنه مدان ،ورُوي عنه مكّوك ،وروي عنه جوا ُز التغدية والتعشية،
من رُو َ
ورُوي عنه أكلة ،ورُوي عنه رغيفٌ أو رغيفانِ ،فإن كان هذا اختلفاً ،فل حجة فيه ،وإن كان
بحسب حال المستفتي وبحسب حال الحالف والمكفّر ،فظاهر ،وإن كان ذلك على سبيل التمثيل،
فكذلك .فعلى كُلّ تقدير ل حجة فيه على التقديرين.
ن صِيامٍ
قالوا :وأما الِطعامُ في فِدية الذى ،فليس من هذا الباب ،فإن ال سبحانه{:فَفِ ْديَ ٌة مِ ْ
سكٍ} [البقرة ،]196 :والّ سبحانه أطلق هذه الثلثة ولم يقيدها .وصح عن النبي
َأوْ صَدَقَ ٍة َأ ْو نُ ُ
صلى ال عليه وسلم تقيي ُد الصيام بثلثة أيام ،وتقييد النسك بذبح شاة ،وتقييدُ الِطعام بستة مساكين،
لكل مسكين نِصفُ صاع ،ولم يقل سبحانه في فدية الذى :فإطعام ستة مساكين ،ولكن أوجب صدقة
ي صلى ال عليه وسلم بال َفرْقِ ،والثلثة اليام،
مطلقة ،وصوماً مطلقاً ،ودماً مطلقاً ،فعيّنه النب ُ
والشاة.
خرِجَ إنما يُخرج قيمة الصيد من الطعام،
وأما جزاءُ الصيد ،فإنه مِن غير هذا الباب ،فإن المُ ْ
وهي تختلف بالقلة والكثرة ،فإنها بَدَل ُم ْتَلفٍ ل يُنظر فيها إلف عدد المساكين ،وإنما تنظر فيها إلى
مبلغ الطعام ،فيُطعمه المساكين على ما يرى من إطعامهم وتفضيل بعضهم على بعض ،فتقديرُ
ل ويكثُر ،وليس ما يُعطاه كلّ مسكين مقدراً.
الطعام فيها على حسب المتلف ،وهو يَقِ ّ
ل بيّنَ البُطلن ،فإنه إذا كان الواجبُ لها عليه شرعاً
ب يستلزِمُ أمراً باط ً
ح ّ
ثم إن التقدير بال َ
الحب ،وأكثر الناس إنما يطعم أهله الخبز ،فإن جعلتم هذا معاوضة كان رباً ظاهراً ،وإن لم تجعلوه
معاوضة ،فالحبّ ثابت لها في ذمته ،ولم َت ْعتَضْ عنه ،فلم تبرأ ذمتُه منه إل بإسقاطها وإبرائها ،فإذا
ل يومٍ حاجتها من الخبز والدم،و إن مات
لم تُبرئه طالبته بالحب مد ًة طويلة مع إنفاقه عليها ك ّ
أحدُهما كان الحب دينًا له أو عليه ،يُؤخذ من التركة مع سعة الِنفاق عليها كُلّ يوم.ومعلوم أن
الشريعة الكاملة المشت ِملَةَ على العدل والحكمة والمصلحة تأبى ذلك كُلّ الِباء ،وتدفعُه كُلّ الدفع كما
288
ن أن يُقال :إن النفقة التي في ذمته تسقُط بالذي له عليها من الخبز
يدفعُه العقل والعُرف ،ول يُمكِ ُ
والدم لوجهين ،أحدهما :أنه لم يبعه إياها ،ول اقترضه منها حتى يثبت في ذمتها ،بل هي معه فيه
على حكم الضيف ،لمتناع المعاوضة عن الحب بذلك شرعاً .ولو ق ّد َر ثبوتُه في ذمتها ،لما أمكنت
المقاصة ،لختلف الدينين جنساً ،والمقاصة تعتمِدُ اتفاقهما .هذا وإن قيل بأحد الوجهين :إنه ل
يجوزُ المعاوضة على النفقة مطلقًا ل بدراهم ول بغيرها لنه معاوضة عما لم يستقر ،ولم يجب،
فإنها إنما تجب شيئاً فشيئاً ،فإنه ل َتصِحّ المعاوضةُ عليها حتى تستقر بمُضي الزمان ،فيعاوض
عنها كما يُعاوض عما هو مستقر في الذمة من الديون ،ولما لم يجد بعضُ أصحاب الشافعي من هذا
الِشكال مخلصاً قال :الصحيح أنها إذا أكلت ،سقطت نفقتها .قال الرافعي في ((محرره)) :أولى
الوجهين السقوطُ ،وصححه النووي لجريان الناس عليه في كل عصر ومصر ،واكتفاء الزوجة به.
وقال الرافعي في ((الشرح الكبير)) ،و((الوسط)) :فيه وجهان .أقيسهُما :أنها ل تسقط ،لنه لم
يوفِ الواجب ،وتطوع بما ليس بواجب ،وصرّحوا بأن هذين الوجهين في الرشيدة التي أذن لها
َق ّيمُها ،فإن لم يأذن لها ،لم تسقط وجهاً واحداً.
فصل
وفي حديث هند :دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه ،وأن
ذلك ليسر بغيبة ،ونظيرُ ذلك قول الخر في خصمه :يا رسول الّ ! إنه فاجر ل يُبالي ما حلف
عليه.
وفيه دليل على تفرد الب بنفقة أولده ،ول تُشا ِركُه فيها الم ،وهذا إجماع من
العلماء إل قول شاذ ل يلتفت إليه ،أن على الم من النفقة بقدر ميراثها ،وزعم صاحبُ هذا القول:
أنه طرّ َد القياس على كل من له ذكر وأنثى في درجة واحدة ،وهما وارثان ،فإن النفقة عليهما ،كما
لو كان له أخٌ وأخت ،أو أم وجد ،أو ابن وبنت ،فالنفقةُ عليهما على قدر ميراثهما ،فكذلك البُ
والمّ .والصحيح :انفرادُ العصبة بالنفقة ،وهذا كُلهُ كما ينفرد الب دون الم بالِنفاق ،وهذا هو
مقتضى قواعد الشرع ،فإن العصبة تنفردُ بحمل العقل ،وولية النكاح ،وولية الموت والميراث
ي على أنه إذا اجتمع أم وجد أو أب ،فالنفق ُة على الجد وحده ،وهو إحدى
بالولء ،وقد نص الشافع ّ
الروايات عن أحمد ،وهي الصحيحة في الدليل ،وكذلك إن اجتمع ابن وبنت ،أو أم وابن ،أو بنت
وابن ابن ،فقال الشافعي :النفقةُ في هذه المسائل الثلث على البن لنه العصبة ،وهي إحدى
الروايات عن أحمد .والثانية :أنها على قدر الميراث في المسائل الثلث ،وقال أبو حنيفة :النفقة في
289
مسألة البن والبنت عليهما نصفان لتساويهما في القرب ،وفي مسألة بنت وابن ابن :النفقة على
البنت لنها أقرب ،وفي مسألة أم وبنت على الم الربع ،والباقي على البنت ،وهو قولُ أحمد ،وقال
الشافعي :تنفرد بها البنتُ ،لنها تكون عصبةً مع أخيها ،والصحيحُ :انفراد العصبة بالِنفاق ،لنه
الوارث المطلق.
وفيه دليلٌ على أن نفقة الزوجة ،والقارب مقدّرة بالكفاية ،وأن ذلك بالمعروف ،وأن ِلمَن
له النفقة له أن يأخذها بنفسه إذا منعه إياها مَنْ هي عليه.
وقد احتجّ بهذا على جواز الحكم على الغائب ،ول دليل فيه ،لن أبا سفيان كان
حاضراً في البلد لم يكن مسافراً ،والنبي صلى ال عليه وسلم لم يسألها البينَة ،ول يُعطى المدّعي
بمجرد دعواه ،وإنما كان هذا فتوى منه صلى ال عليه وسلم.
وقد احتج به على مسألة الظّفر ،وأن للِنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا
ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه ،ول يدل لثلثة أوجه ،أحدُها :أن سببَ الحق هاهنا ظاهر ،وهو
ي صلى ال عليه وسلم(( :أَدّ
الزوجية ،فل يكون الخذُ خيانةً في الظاهر ،فل يتناولُه قول النب ّ
ن مَنْ خَا َنكَ)) .ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقاً بينهما ،فمنع
ل تَخُ ْ
المَانَ َة إلى من ا ْئ َت َم َنكَ ،وَ َ
من الخذ في مسألة الظفر ،وجوّز للزوجة الخذَ ،وعمل بكل الحديثين.
الثاني :أنه يشق على الزوجة أن ترفعَه إلى الحاكم ،فيلزمه بالِنفاق أو الفراق ،وفي ذلك
ل يوم فليس هو حقاً واحدًا مستقراً
مضرّة عليها مع تمكنها من أخذ حقها .الثالث :أن حقها يتجد ُد كُ ّ
ن عليه ،أو ترفعه إلى الحاكم بخلف حق الدين.
يُمكن أن تستدي َ
فصل
ط بمضي الزمان ،لنه لم يُمكنها من أخذ
وقد احتج بقصة هند هذه على أن نفقة الزوجة تَسْقُ ُ
ما مضى لها مِن قدر الكفاية مع قولها :إنه ل يُعطيها ما يكفيها ،ول دليلَ فيها ،لنها لم تدع به ول
طلبته ،وإنما استفتته :هل تأخذ في المستقبل ما يكفيها؟ فأفتاها بذلك .وبعد ،فقد اختلف الناسُ في
ن بمضى الزمان كلهما ،أو ل يسقطان ،أو تسقُطُ نفقةُ
نفقة الزوجات والقارب ،هل يسقُطا ِ
القارب دون الزوجات؟ على ثلثة أقوال.
أحدها :أنهما يسقطان بمضي الزمان ،وهذا مذهب أبي حنيفة ،وإحدى الروايتين عن أحمد.
والثاني :أنهما ل يسقُطان إذا كان القريبُ طفلً ،وهذا وجه للشافعية.
290
والثالث :تسقُط نفقةُ القريب دون نفقة الزوجة ،وهذا هو المشهو ُر من مذهب الشافعي وأحمد
ومالك .ثم الذين أسقطوه بمضي الزمان ،منهم من قال :إذا كان الحاكمُ قد فرضها لم تسقط ،وهذا
شيْئًا إذا سقطت
قولُ بعض الشافعية والحنابلة .ومنهم من قال :ل يُؤثّر فرضُ الحاكم في وجوبها َ
بمضى الزمان ،والذي ذكره أبو البركات في ((مح ّر ِرهِ)) ،الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة القريب في
ذلك ،فقال :وإذا غاب مُد ًة ولم يُنفق ،لزمه نفق ُة الماضي ،وعنه :ل يلزمه إل أن يكون الحاكمُ قد
فرضها.
وأما نفقةُ أقاربه ،فل تلزمه لِما مضى وإن فرضت إل أن يستدان عليه بإذن الحاكم وهذا هو
الصوابُ ،وأنه ل تأثير لفرض الحاكم في وجوب نفقة القريب لما مضى من الزمان نقلً وتوجيهاً،
أما النقلُ ،فإنه ل يُعرف عن أحمد ،ول عن قدماء أصحابه استقرا ُر نفقة القريب بمضي الزمان إذا
فرضها الحاكم ،ول عن الشافعي ،وقدماء أصحابه والمحققين لمذهبه منهم ،كصاحب ((المهذب))،
و((الحاوي)) ،و((الشامل)) ،و((النهاية)) ،و((التهذيب)) ،و((البيان)) ،و((الذخائر)) وليس في
هذه الكتب إل السقوطُ بدون استثناء فرض ،وإنما يُوجد استقرارُها إذا َف َرضَها الحاكم في
((الوسيط)) و((الوجيز)) ،وشرح الرافعي وفروعه ،وقد صرح نصر المقدسي في ((تهذيبه))،
والمحاملي في ((العدة)) ،ومحمد بن عثمان في ((التمهيد)) ،والبندنيجي في ((المعتمد)) بأنها ل
جبُ على وجه المواساة لِحياء النفس ،ولهذا ل
تستقر ولو فرضها الحاكم ،وعلّلوا السقوط بأنها ت ِ
ل يُوجب سقوطَها فرضت أو لم تفرض .وقال أبو المعالي:
تجب مع يسار المنفق عليه ،وهذا التعلي ُ
ومما يدل على ذلك أن نفقة القريب إمتاع ل تمليك ،وما ل يجب فيه التمليك ،وانتهى إلى الكفاية،
استحال مصيرُه دينًا في الذمة ،واستبعد لهذا التعليل قول من يقول :إن نفق َة الصغير تست ِقرّ بمضي
الزمان ،وبالغ في تضعيفه من جهة أن إيجابَ الكفاية مع إيجاب عوض ما مضى متناقض ،ثم
اعتذر عن تقديرها في صورة الحمل على الصح .إذا قلنا :إن النفقة له بأن الحامل مستحقة لها أو
منتفعة بها فهي كنفقة الزوجة .قال:ولهذا قُلنا :تتقدر،ثم قال :هذا في الحمل والولد الصغير ،أما نفقة
غيرهما ،فل تصير دينًا أصلً .انتهى.
وهذا الذي قاله هؤلء هو الصوابُ ،فإن في تصورِ فرض الحاكم نظرا ،لنه إما أن يعتقد
سقوطَها بمضي الزمان أو ل ،فإن كان يعتقده ،لم يسغ له الحكم بخلفه ،وإلزام ما يعتقد أنه غيرُ
لزم ،وإن كان ل يعتقد سقوطَها مع أنه ل يعرف بهِ قائل إل في الطفل الصغير على وجه
ت الواجب ،أو تقديرَه أو أمراً رابعاً فإن
لصحاب الشافعي .فإما أن يعني بالفرض الِيجاب ،أو إثبا َ
291
ت الواجب ،ففرضُه
أُريدَ به الِيجابُ ،فهو تحصيلُ الحاصل ول أث َر لفرضه ،وكذلك إن أريد به إثبا ُ
سيّان ،وإن أريد به تقدي ُر الواجب ،،فالتقديرُ إنما ُي َؤثّر في صفة الواجب من الزيادة
وعَ َدمُهُ ِ
والنقصان ،ل في سقوطِه ول ثبوتِه ،فل أثر لفرضه في الواجب البتة ،هذا مع ما في التقدير مِن
ب النفقةُ بالمعروف ،فيُطعمهم مما يأكل ،ويكسوهم مما
مُصادمة الدل ِة التي تقدمت ،على أن الواج َ
يلبس .،وإن أريد به أم ٌر رابع ،فل بد من بيانه لينظر فيه.
فإن قيل :المرُ الرابع المرادُ هو عدمُ السقوط بمضي الزمان ،فهذا هو محلّ الحكم ،وهو
الذي أثر فيه حكمُ الحاكم ،وتعلّق به .قيل :فكيف يُمكنُ أن يعتقِ َد السقوط ،ثم يُلزم ويقضي بخلفه؟
ل الشيءَ عن صفته ،فإذا
وإن اعتقد عد َم السقوط ،فخلف الِجماع ،ومعلو ٌم أن حكم الحاكم ل يزي ُ
كانت صفة هذا الواجِب سقوطه بمضي الزمان شرعًا لم يُزله حكم الحاكم عن صفته .فإن قيل :بقي
قسم آخر ،وهو أن يعتقد الحاك ُم السقوطَ بمضي الزمان ما لم يفرِضْ ،فإن ُفرِضَت ،استقرت فهو
يحكم باستقرارها لجل الفرض ل بنفس مضي الزمان .قيل :هذا ل يُجدي شيئاً ،فإنه إذا اعتقد
سقوطها بمضي الزمان ،وإن هذا هو الحقّ والشرع ،لم يَجُز له أن يلزم بما يعتقد سقوطه وعدم
ب طعام غير مضطر ،فقضي به
ثبوته ،وما هذا إل بمثابة ما لو ترافع إليه مضطر ،وصاح ُ
ض أنه يلزمه
للمضطر بعوضه ،فلم يتفق أَخْ ُذهُ حتى زال الضطرارُ ،ولم يعط صاحبه العو َ
حبُ الطعام ببذله له ،والقريبُ يستحق النفقة لِحياء مُهجته ،فإذا مضى زمنُ
بالعوض ،و ُي ْلزَمُ صا ِ
الوجوب ،حصل مقصودُ الشارع من إحيائه ،فل فائدة في الرجوع بما فات من سبب الِحياء،
ووسيلته مع حصول المقصود والستغناء عن السبب بسبب آخر.
ض عليكم بنفق ِة الزوجة ،فإنها تست ِق ّر بمضي الزمان ،ولو لم
فإن قيل :فهذا ينتقِ ُ
تُفرض مع حصول هذا المعنى الذي ذكرتموه بعينه .قيل :النقضُ ل بُد أن يكون بمعلومِ الحكم
بالنص أو الِجماع ،وسقوطُ نفقة الزوجة بمضي الزمان مسألة نزاع ،فأبو حنيفة وأحمد في رواية
يُسقطانها ،والشافعي وأحمد في الرواية الخرى ل يُسقطانها ،والذين ل يُسقطونها فرّقوا بينها وبين
نفقة القريب بفروق.
أحدها :أن نفقة القريب صلة.
الثالث :أن الثاني :أن نفقة الزوجة تجب مع اليسار والِعسار بخلف نفقة القريب.
نفقة الزوجة تجب مع استغنائها بمالها ،ونفقة القريب ل تجب إل مع إعساره وحاجته.
292
ل عنهم أوجبوا للزوجة نفقة ما مضى ،ول يُعرف عن أحد
الرابع :أن الصحابة رضي ا ّ
منهم قط أنه أوجب للقريب نفقة ما مضى ،فصح عن عمر
رضي ال عنه أنه كتب إلى أمراء الجناد في رجال غابوا عن نسائهم ،فأمرهم بأن يُنفقوا
أو يُطلقوا ،فإن طلقوا ،بعثوا بنفقة ما مضى ،ولم يُخالف عمر رضي الّ عنه في ذلك منهم مخالف.
قال ابن المنذر رحمه الّ :هذه نفقةٌ وجبت بالكتاب والسنة والِجماع ،ول يزول ما وجب بهذه
الحجج إل بمثلها.
قال المسقطون :قد شكت هند إلى النبي صلى ال عليه وسلم أن أبا سفيان ل يُعطيها كفايتها،
جوّز لها أخذ ما مضى ،وقولُكم :إنها نفقة
فأباح لها أن تأخذ في المستقبل قدر الكفاية ،ولم يُ َ
معاوضة ،فالمعاوضة إنما هي بالصداق ،وإنما النفقة لكونها في حبسه ،فهي عانِيةٌ عنده كالسير،
فهى من جملة عياله ،ونفقتها مواساة ،وإل فكل من الزوجين يحصُلُ له من الستمتاع مثلُ ما
يحصل للخر ،وقد عاوضها على المهر ،فإذا استغنت عن نفقة ما مضى فل وجه لِلزام الزوج
ي صلى ال عليه وسلم جعل نفقة الزوجة كنفقة القريب بالمعروف ،وكنفقة الرقيق
به ،والنب ّ
فالنواع الثلثة إنما وجبت بالمعروف مواساة لِحياء نفس من هو في ملكه وحبسه ،ومن بينه وبينه
رحم وقرابة ،فإذا استغنى عنها بمضي الزمان ،فل وجه لِلزام الزوج بها ،وأيّ معروف في
إلزامه نفقة ما مضى وحبسه على ذلك ،والتضييق عليه ،وتعذيبه بطول الحبس ،وتعريض الزوجة
لقضاء أوطارها مِن الدخول والخروج وعُشرةِ الخدان بانقطاع زوجها عنها ،وغيبةِ نظره عليها،
ل من
ج إلى ا ّ
كما هو الواقع ،وفي ذلك من الفساد المنتشر ما ل يعلمه إل الّ ،حتى إن الفروج َل َتعُ ّ
ل أن يأتي شرع الّ لهذا الفساد
حبس حماتها ومن يصونها عنها ،وتسييبها في أوطارها ،ومعاذ ا ّ
ج إذا طلقوا أن يبعثوا
الذي قد استطار شرارُه ،واستعرت نارُه ،وإنما أمر عم ُر بن الخطاب الزوا َ
بنفقة ما مضى ،ولم يأمرهم إذا قَدِموا أن يفرضوا نفقَة ما مضى ،ول ُي ْع َرفُ ذلك عن صحابي
البتة ،ول يلزم من الِلزم بالنفقة الماضية بع َد الطلق وانقطاعها بالكُلية الِلزامُ بها إذا عاد الزوج
إلى النفقة والِقامة ،واستقبل الزوجةَ بكل ما تحتاج إليه ،فاعتبارُ أحدهما بالخر غيرُ صحيح،
ونفقة الزوجة تجب يوماً بيوم ،فهي كنفق ِة القريب ،وما مضى فقد استغنت عنه بمضي وقته ،فل
وجهَ لِلزام الزوج به ،وذلك منشأ العداوة والبغضاء بين الزوجين ،وهو ضِدّ ما جعله ال بينهما من
المودة والرحمة ،وهذا القولُ هو الصحيحُ المختا ُر الذي ل تقتضي الشريع ُة غيره ،وقد صرح
293
أصحابُ الشافعي ،بأن كسوة الزوجة وسكنها يسقُطان بمضى الزمان إذا قيل :إنهما إمتاع ل تمليك،
فإن لهم في ذلك وجهين.
فصل
ض الدراهم ،فل أصل له في كتاب ال تعالى ،ول سنة رسولِه صلى ال عليه
وأما فر ُ
ص عليه
ل عنهم البتة ،ول التابعين ،ول تابعيهم ،ول ن ّ
وسلم ،ول عن أحد من الصحابة رضي ا ّ
أح ّد من الئمة الربعة ،ول غيرُهم من أئمة الِسلم ،وهذه كتبُ الثار والسنن ،وكلمُ الئمة بين
ض الدراهم .والّ سبحانه أوجب نفقة القارب والزوجات والرقيق
أظهرنا ،فأوجِدُونا من ذكر فر َ
ب الشرع أن
ض الدراهم ،بل المعروف الذي نص عليه صاح ُ
بالمعروف ،وليس مِن المعروف فر ُ
ض الدراهم على المنفق من
يُطعمهم مما يأكل ،ويكسوهم مما َي ْل َبسُ ،ليس المعروف سوى هذا ،وفر ُ
المنكر ،وليست الدراه ُم من الواجب ول عوضه ،ول َيصِحّ العتياضُ عما لم يستقر ولم يملك ،فإن
نفقة القارِب والزوجات إنما تجب يوماً فيوماً ،ولو كانت مستقرة لم تصح المعاوضةُ عنها بغير
ل عوضاً عن الواجب الصلي ،وهو إما الب ّر عند
رضى الزوج والقريب ،فإن الدراهم تجع ُ
الشافعي ،أو الطعامُ المعتاد عند الجمهور ،فكيف يُجبر على المعاوضة على ذلك بدراهم مِن غير
رِضاه ،ول إجبار صاحب الشرع له على ذلك ،فهذا مخالف لقواعد الشرع ،ونصوص الئمة،
ق والمنفق عليه على ذلك جاز باتفاقهما ،هذا مع أنه في جواز
ومصالح العباد ،ولكن إن اتفق المنفِ ُ
ض الزوجة عن النفقة الواجبة لها نزاع معروف في مذهب الشافعي وغيره ،فقيل :ل تعتاض،
اعتيا ِ
ض عنه قبل القبض ،كالمسلم فيه ،وعلى هذا فل
لن نفقتها طعام ثبت في الذمة عوضاً ،فل تعتا ُ
ض بغير الخبز والدقيق ،فإن
ض ل بدارهم ول ثياب ،ول شيء البتة ،وقيل :تعتا ُ
يجوزُ العتيا ُ
ض عن الماضي ،فإن كان عن المستقبل ،لم يصح عندهم
العتياضَ بهما رباً ،هذا إذا كان العتيا ُ
وجهاً واحداً ،لنها بصدد السقوط ،فل يُعلم استقرارها.
ل صلى ال عليه وسلم في تمكين المرأة من فراق زوجها إذا
ذكر ما روي من حكم رسول ا ّ
أعسر بنفقتها.
روى البخاري في ((صحيحه)) ،من حديث أبي هريرة رضي الّ عنه ،قال :قال رسول
خ ْي ٌر مِنَ اليَدِ
ظ ْهرِ غِنىً ،واليَدُ الع ْليَا َ
ل الصّدَقَ ِة مَا َت َركَ غِنىً)) ،وفي لفظ(( :ما كان عَنْ َ
الّ(( :أَ ْفضَ ُ
طلّقني ،ويقول العبدُ :أطعمني
السّفلَى ،وابْ َد ْأ بِمن َتعُولُ)) ،تقول المرأةُ :إما أن تُط ِعمَنى،وإما أن تُ َ
واستَعمِلني ،ويقول الولدُ :أطعمني ،إلى من تدعني؟ قالوا :يا أبا هريرة سمعتَ هذا من رسول الّ
294
ن كِيسِ أبي هريرة .وذكر النسائي هذا الحديث في كتابه وقال
صلى ال عليه وسلم؟ قال :ل .هذا مِ ْ
ط ِعمْني وإلّ
ك تَقُولُ :أَ ْ
فيه(( :وابْدَأ بِمن َتعُولُ)) ،فقيل :من أعولُ يا رسول الّ؟ قال(( :ا ْمرَأتُ َ
ط ِعمْني إلى مَن تَترُكني؟)) .وهذا في
س َت ْع ِملْنيَ ،ولَ ُدكَ يَقُولُ :أَ ْ
ط ِعمْني وا ْ
ك يَقُولُ :أَ ْ
فَارِقني ،خَادِم َ
جميع نسخ كتاب النسائي ،هكذا ،وهو عنده من حديث سعيد بن أيوب ،عن محمد بن عجلن ،عن
زيد بن أسلم ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة رضي الّ عنه ،وسعيد ومحمد ثقتان.
وقال الدارقطني :حدثنا أبو بكر الشافعي ،حدثنا محمد بن بشر بن مطر ،حدثنا شيبان بن
فروخ ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن عاصم ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة ،أن النبيّ صلى ال عليه
ط ِعمْني َأوْطَلّقْني))الحديث.
جهَا :أَ ْ
ل ِل َزوْ ِ
وسلم قال(( :ال َم ْرأَ ُة تَقُو ُ
وقال الدارقطني :حدثنا عثمانُ بن أحمد بن السماك ،وعبدُ الباقي ابن قانع ،وإسماعيل بن
علي ،قالوا :أخبرنا أحمد بن علي الخزاز ،حدثنا إسحاق بن إبراهيم الباوردي،حدثنا إسحاق بن
منصور ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن يحيى بن سعيد ،عن سعيد بن المسيب،في الرجل ل يجد ما
ق َب ْي َن ُهمَا .وبهذا الِسناد إلى حماد بن سلمة ،عن عاصم بن بهدلة ،عن
ينفق على امرأته ،قال :يُ َفرّ ُ
أبي صالح ،عن أبي هريرة رضي الّ عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم مثله.
وقال سعيد بن منصور في ((سننه)) :حدثنا سفيان ،عن أبي الزناد ،قال :سألت سعيد بن
ق على امرأتهَ ،أيُفرّقُ بينهما؟ قال :نعم .قلت سنة؟ قال :سنة .وهذا
المسيب عن الرجل ل يَجِدُ ما ُينْفِ ُ
ل صلى ال عليه وسلم ،فغايتُه أن يكون من مراسيل سعيد بن المسيب.
ينصرف إلى سنة رسول ا ّ
واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال.
ق أو يُطلّقَ ،روى سفيان عن يحيى بن سعيد النصاري ،عن
أحدها :أنه يُجبر على أن ُينْفِ َ
ج ِب َر على طلقها.
ابن المسيب ،قال :إذا لم يجد الرجلُ ما يُنفق على امرأته ،أُ ْ
ل مالك ،لكنه قال :يؤجل في عدم النفقة شهرا
الثاني :إنما يُطلّقها عليه الحاكمُ ،وهذا قو ُ
خرَ حتى تطهر ،وفي الصداقة عامين ،ثم يُطلقها عليه
ونحوه ،فإن انقضى الجلُ وهي حائضٌ ،أُ ّ
الحاكمُ طلقة رجعية ،فإن أيسر في العدة ،فله ارتجاعُها ،وللشافعي قولن .أحدهما :أن الزوجة تخير
سرِ ديناً لها في ذمته .قال أصحابه :هذا إذا أمكنته مِن نفسها،
إن شاءت أقامت معه ،وتبقى نفقة ال ُمعْ ِ
وإن لم تُمكنه ،سقطت نفقتها ،وإن شاءت ،فسخت النكاح.
سبَ ،والمذهب أنها تمِلكُ
والقول الثاني :ليس لها أن تفسخ ،لكن يرفع الزوجُ يدَه عنها لتكت ِ
الفسخ.
295
ق أو فسخ؟ فيه وجهان.
قالوا :وهل هو طل ٌ
أحدهما :أنه طلق ،فل بُ ّد من الرفع إلى القاضي حتى يُلزمه أن يطلّقَها أو ينفق ،فإن أبى
ق عليه ثانية ،فإن راجعها ،طلق عليه ثالثة.
طلق الحاكم عليه طلقةً رجعيةً ،فإن راجعها ،طلّ َ
والثاني :أنه فسخ ،فل بد من الرفع إلى الحاكم ليثبتَ الِعسارُ ،ثم تفسخ هي ،وإن اختارت
المقام ،ثم أرادت الفسخَ ،ملكته ،لن النفقة يتجدد وجوبُها كل يوم ،وهل تملك الفسخَ في الحال أول
تمِلكُه إل بعد مضي ثلثة أيام؟ وفيه قولن .الصحيح عندهم :الثاني .قالوا :فلو وجد في اليوم الثالث
ف هذا الِمهال؟ فيه وجهان .وقال حماد بن
نفقتها وتعذّر عليه نفق ُة اليوم الرابع ،فهل يجب استئنا ُ
أبي سليمان :يؤجل سنة ثم يفسخ قياسًا على ال ِعنّين .وقال عمر بن عبد العزيز :يُضرب له شهر أو
شهران .وقال مالك :الشهرُ ونحوه .وعن أحمد روايتان .إحداهما ،وهي ظاهر مذهبه :أن المرأة
تخ ّي ُر بين المقام معه وبين الفسخ .فإن اختارت الفسخ رفعته إلى الحاكم ،فيُخيّر الحاكم بين أن يفسخ
عليه أو يجبره على الطلق ،أو يأذنَ لها في الفسخ ،فإن فسخ أو أذن في الفسخ ،فهو فسخ ل طلق
ول رجعة له ،وإن أيسر في العدة .وإن أجبره على الطلق ،فطلق رجعياً ،فله رجعتُها ،فإن
سرٌ ،أو امتنع من الِنفاق عليها ،فطلبت الفسخ ،فسخ عليه ثانياً وثالثاً ،وإن رضيت
راجعها وهو ُمعْ ِ
المقام معه مع عُسرته ،ثم بدا لها الفسخُ ،أو تزوجته عالمة بعُسرته ،ثم اختارت الفسخ ،فلها ذلك.
خ في الموضعين ،ويبطل خيارُها ،وهو
قال القاضي :وظاهرُ كلم أحمد :أنه ليس لها الفس ُ
عنّينا
قول مالك لنها رضيت بعيبه ،ودخلت في العقد عالمةً به ،فلم تملك الفسخَ ،كما لو تزوّجَت ِ
عنّيناَ .وهذا الذي قاله القاضي :هو مقتضى المذهب
عالم ًة بعنّته .وقالت بعد العقد :قد رضيت به ِ
والحجة.
خ -وإن رضيت بالمقام -قالوا :حقّها متجدّد كل يوم ،فيتجدّدُ لها الفسخُ
والذين قالوا :لها الفس ُ
بتجدّدِ حقها ،قالوا :ولن رضاها يتضمّن إسقاطَ حقها فيما لم يجب فج ِه مِن الزمان ،فلم يسقط
كإسقاط الشفعة قبل البيع .قالوا :وكذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة ،لم تسقط ،وكذلك لو أسقطتها
قبل العقد جملة ورضيت بل نفقة ،وكذلك لو أسقطت المهر قبله ،لم يسقط ،وإذا لم يسقط وجوبُها لم
يسقط الفسخ الثابت به .والذين قالوا بالسقوط أجابُوا عن ذلك بأن حقها في الجماع يتجدّد ،ومع هذا
إذا أسقطت حقها من الفسخ بال ُعنّة سقط ،ولم َت ْمِلكِ الرجوعَ فيه.
ك على إسقاط نفقتها قياسٌ على أصلٍ غي ِر متفق عليه ،ول ثابت بالدليل،
قالوا :وقياسُكم ذل َ
ل على سقوطِ الشفعة بإسقاطها قبل البيع ،كما صحّ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
بل الدليلُ يد ُ
296
ق بِال َبيْعِ)) ،وهذا صريحٌ
شرِيكَهُ ،فإن باعه ولَ ْم يُؤذِه ،فَهوَ أَحَ ّ
ل له أن يبيعَ حتى يُؤذِنَ َ
قال(( :ل يَحِ ّ
ك طلبَها بعده ،وحينئذ فيجعل هذا أصلً لسقوط حقها مِن النفقة
في أنه إذا أسقطها قبل البيع لم يمِل ْ
بالِسقاط ،ونقول :خيارٌ لدفع الضررِ ،فسقط بإسقاطه قبل ثبوته ،كالشفعة ،ثم ينتقضُ هذا بالعيب
ل عليه ،أو علِمَ به ،ثم اختار ترك الفسخ ،لم يكن له الفسخُ
في العين المؤجرة ،فإن المستأج َر إذا دخ َ
بعد هذا ،وتجدّد حقّه بالنتفاع كُلّ وقت ،كتجدد حق المرأة من النفقة سواء ول فرق ،وأما قوله :لو
أسقطها قبل النكاح ،أو أسقط المهرَ قبلُه ،لم يسقط ،فليس إسقاط الحقّ قبل انعقاد سببه بالكليَة
كإسقاطه بعد انعقاد سببه ،هذا إن كان في المسألة إجماع ،وإن كان فيها خلف ،فل فرق بين
الِسقاطين ،وسوينا بين الحُكمين ،وإن كان بينهما فرق امتنع القياس .وعنه رواية أخرى :ليس لها
الفسخ ،وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه .وعلى هذا ل يلزمُها تمكينُه مِن الستمتاعِ ،لنه لم يُسلم
إليها عوضه ،فلم يلزمها تسليمُه ،كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع ،لم يجب تسليمُه إليه ،وعليه
سبَ لها ،وتحصل ماتُنفقه على نفسها ،لن في حبسها بغير نفقة إضراراً بها.
تخليةُ سبيلها لِتكت ِ
ل يملك حبسها؟ قيل قد قالُوا أيضاً :ل يمِلكُ حبسها ،لنه إنما
فإن قيل :فلو كانت موسِرةً ،فه ّ
يملِكهُ إذا كفاها المؤنة ،وأغناها عمّا ل بُدّ لها منه مِن النفقة والكسوة ،ولحاجته إلى الستمتاع
الواجب له عليها ،فإذا انتفى هذا وهذا لم َي ْمِلكْ حبسَها ،وهذا قولُ جماعة من السلف والخلف.
ذكر عبد الرزاق عن ابن جُريج قال :سألتُ عطاء عمن ل يجد ما يصلحُ امرأته مِن النفقة؟
قال :ليس لها إل ما وجدت ،ليس لها أن يُطلقها .وروى حماد بن سلمة ،عن جماعة ،عن الحسن
ل وتص ِبرُ ،ويُنفق عليها ما
جزُ عن نفقة امرأته :قال :تُواسيه وتتّقي ا ّ
البصري أنه قال في الرجل يَع ِ
استطاع .وذكر عبد الرزاق ،عن معمر ،قال :سألتُ الزهري عن رجل ل يجد ما يُنفق على امرأته،
جعَلُ الُ بعد
سيَ ْ
ساً إلّ مَا آتاهَا َ
ل نَفْ َ
ل ُي َكّلفُ ا ُ
أيفرّقُ بينهما؟ قال :تستأني به ول يفرّق بينهما ،وتلَ { :
ل قول الزهري سواء.
عُسْر يُسْراً} [الطلق .]7 :قال معمر :وبلغني عن عمر بن عبد العزيز مث ُ
سرُ زوجُها بنفقتها :قال :هي امرأة ابتُليَت،
وذكر عب ُد الرزاق ،عن سفيان الثوري ،في المرأة ُيعْ ِ
فلتصبر ول تأخذ بقول من فرّق بينهما.
ث روايات ،هذه إحداها.
قلتُ :عن عُمر بن عبد العزيز ثل ُ
ت عمر بن
ن وهب ،عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد ،عن أبيه ،قال :شهد ُ
والثانية :روى اب ُ
ل شهرًا أو شهرين ،فإن
عبد العزيز يقول لزوج امرأة شكت إليه أنه ل يُنفِقُ عليها :أضربوا له أج ً
لم يُنفق عليها إلى ذلك الجل ،فرقوا بينه وبينها.
297
ل شكى إلى عمر
والثالثة :ذكر ابن وهب ،عن ابن لهيعة،عن محمد بن عبد الرحمن ،أن رج ً
بن عبد العزيز بأنه أنكح ابنته رجلً ل يُنفق عليها ،فأرسل إلى الزوج ،فأتى ،فقال :أنكحني وهو
َي ْعلَمُ أنه ليس لي شيء ،فقال عمر :أنكحته وأنت تَعرِفُه؟ قال :نعم .قال :فما الذي أصنع؟ اذهب
بأهلك.
والقول بعدم التفريق مذهبُ أهل الظاهر ُكلّهم ،وقد تناظر فيها مالك وغي ُرهُ ،فقال
س يقولون :إذا لم يُنفق الرجل على امرأته ُفرّقَ بينهما .فقيل له :قد كانت الصحابة
ت النا َ
مالك :أدرك ُ
س اليوم كذلك ،إنما تزوجته رجاءً.
سرُون ويحتاجون ،فقال مالك :ليس النا ُ
ل عنهم يُع ِ
رضي ا ّ
ن ُيرِدْنَ الدارَ الَخرة ،وما عند الّ ،ولم
ل عنهم كُ ّ
ومعنى كلمه :أن نساء الصحابة رضي ا ّ
ن يُبالين بعُسر أزواجهن ،لن أزواجهن كانوا كذلك .وأما النساء اليوم،
يكن مرادُهُنّ الدنيا ،فلم يك ّ
فإنما يتزوجن رجاء دنيا الزواج ونفقتهم وكسوتهم ،فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا،
فصار هذا المعروفُ كالمشروط في العقد ،وكان عرفُ الصحابة ونسائهم كالمشروط في العقد،
والشرط العرفيّ في أصل مذهبه ،كاللفظي ،وإنما أنكر على مالك كلمَه هذا من لم يفهمه ويفهم
غورَه.
ح ِبسَ حتى يجدَ ما يُنفقه،
وفي المسألة مذهب آخر ،وهو أن الزوج إذا أعسر بالنفقةُ ،
وهذا مذهب حكاه الناس عن ابن حزم،وصاحب((المغني))وغيرهما عن عُبيد الّ بن الحسن
العنبري قاضي البصرة .ويالّ العجب! لي شيء يُسجن ويُجمع عليه بين عذاب السجن وعذاب
الفقر ،وعذاب البعد عن أهلِه؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ،وما أظن من ش ّم رائحة العلم يقول هذا.
وفي المسألة مذهب آخر ،وهو أن المرأةَ ت َكّلفُ الِنفاق عليه إذا كان عاجزاً
ب أبي محمد بن حزم ،وهو خي ٌر بل شك من مذهب العنبري .قال في
عن نفقة نفسه ،وهذا مذه ُ
((المحلى)) :فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه ،وامرأتُه غنيةٌُ ،كلّفت النفقة عليه ،ول ترجع بشيء من
ن بِالم ْعرُوف ل
س َو ُتهُ ّ
علَى الموْلُو ِد لَ ُه ِرزْ ُقهُنّ وكِ ْ
ن ذلك قولُ الّ عز وجل {وَ َ
ذلك ،إن أيسر ،برها ُ
ل ذِلكَ} [البقرة:
علَى الوَا ِرثِ ِمثْ ُ
ل مَولُو ٌد لَهُ ِبوَل ِد ِه وَ َ
ل ُتضَارّ وَالِ َدةٌ بولَدهَا و َ
سعَها َ
ل وُ ْ
تكَلفُ نَ ْفسٌ إ ّ
]233فالزوج ُة وارثة ،فعليها النفقةُ بنص القرآن.
ويا عجبًا لبي محمد! لو تأمل سياقَ الية ،لتبين له منها خلفُ ما فهمه ،فإن الّ سبحانه
س َو ُتهُنّ بال َم ْعرُوفِ} [البقرة ]233 :وهذا ضميرُ الزوجات بل
ن َوكِ ْ
علَى المَولُودِ لَ ُه ِرزْ ُقهُ ّ
قال{ :و َ
ل ذِلكَ} [البقرة ،]233 :فجعل سُبحانه على وارث المولود له ،أو
ث ِمثْ ُ
علَى الوَارِ ِ
شك ،ثم قال{ :وَ َ
298
وارثِ الولد من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على المَوروث ،فأين في الية نفقة
على غير الزوجات؟ حتى يحمل عمومها على ما ذهب إليه.
س َعتِ ِه َومَنْ قُ ِدرَ
سعَ ٍة مِنْ َ
واحتج من لَم ير الفسخ بالِعسار بقوله تعالىِ{ :ل ُينْفِقْ ذُو َ
ل نَفْسًا إل مَا أتاهَا} [الطلق ]7 :قالوا :وإذا لم يُكلفه الّ
ق ِممّا آتاهُ الُ ل ُي َكّلفُ ا ُ
عَليْهِ ِرزْقُهُ َف ْل ُينْفِ ْ
َ
النفقة في هذه الحال ،فقد ترك ما ل يجب عليه ،ولم يأثم بتركه ،فل يكون سببًا للتفريق بينه وبين
حبّه وسكَنه وتعذيبه بذلك .قالوا :وقد روى مسلم في ((صحيحه)) :من حديث أبي الزبير ،عن
ل صلى ال عليه وسلم فوجداه جالساً
جابر ،دخل أبو بكر وعمر رضي الّ عنهما على رسول ا ّ
ل أبو بكر :يا رسول الّ! لو رأيتَ بنت خارجة سألتني النفقة فقمتُ
حوله نساؤه واجماً ساكتاً ،فقا َ
ح ْولِي كما ترى يَسألنني
حكَ رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم وقال :هُنّ َ
إليها ،فوجأتُ عنقها ،فضَ ِ
النفقة ،فقام أبو بكر إلى عائشة يجأُ عُنقها ،وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ،كلهما يقولُ :تسألنَ
ل رسول ال صلى ال عليه وسلم
ل صلى ال عليه وسلم ما ليس عنده ،فقلن :وال ل نسأَ ُ
رسولَ ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم شهرًا وذكر الحديث.
شيئًا أبداً ما ليس عنده ،ثم اعتزلهُنّ رسولُ ا ّ
ل صلى ال
قالوا :فهذا أبو بكر وعمر رضي الّ عنهما يضربان ابنتيْهما بحضرة رسولِ ا ّ
ل صلى
عليه وسلم إذ سأله نفقةً ل يجِدُها .ومن المحال أن يضرِبا طالبتين للحق ،ويُقرّهما رسولُ ا ّ
ل على أنه ل حقّ لهما فيما طلبتاه من النفقة في حال الِعسار ،وإذا
ال عليه وسلم على ذلك ،فد ّ
كان طلبُهما لها باطلً ،فكيف تمكن المرأةُ من فسخ النكاح بعدم ما ليس لها طلبُه ،ول يحلّ لها ،وقد
ظ َر ال ُمعْسِ َر إلى الميسرة ،وغاي ُة النفقة أن تكون ديناً ،والمرأةُ
أمر الّ سبحانه صاحب الدّين أن ُينْ ِ
س َرةِ بنص القرآن هذا إن قيل :تثبت في ذمة الزوج ،وإن قيل :تسقط
مأمورة بإنظار الزوج إلى الميْ َ
بمضي الزمان ،فالفسخ أبعد وأبعد.
ق الصب ُر على المعسر ،وندبه إلى الصّدَقَةِ بترك
قالوا :فالّ تعالى أوجب على صاحب الح ّ
ل تعالى لها سواءً
ل له ِذ ِه المرأة كما قال ا ّ
حقه ،وما عدا هذين المرين ،فجو ٌر لم يُبحه له ،ونحن نقو ُ
ق َلكِ فيما عدا هذين المرين.
بسواءٍ؟ إما أن تُنظريه إلى الميسرة ،وإما أن َتصَدّقي ،ول ح َ
ف أضعافِ موسريهم،
سرُوهم أضعا َ
سرُ ،وكان مُع ِ
سرُ والمو ِ
قالوا ولم يزل في الصحابة ال ُمعْ ِ
ط امرأةً واحدة من الفسخ بإعسار زوجها ،ول أعلمها أن
فما مكّن النبيّ صلى ال عليه وسلم ق ُ
ختْ ،وهو يشرعُ الحكام عن الّ تعالى بأمره،
الفسخَ حق لها فإن شاءت ،صبرت ،وإن شاءت ،فَسَ َ
ب أن الزواج تركن حقهن ،أفما كان فيهن امرأةٌ واحد ٌة تُطاِلبُ بحقها ،وهؤلء نساؤه صلى ال
فه ْ
299
ل عليهن شهرًا مِن شدة
عليه وسلم خيرُ نساء العالمين يُطالبنه بالنفقة حتى أغضبنه ،وحلفَ أل يدخُ َ
َموْجِ َدتِ ِه عليهن ،فلو كان مِن المستقر في شرْعِ ِه أن المرأة تمِلكُ الفسخَ بإعسار زوجها لرفع إليه
ذلك ،ولو مِن امرأة واحدة ،وقد رُفع إليه ما ضرورتُه دون ضرورة فقد النفقة من فقد النكاح،
ت بعد رِفاعة عبد الرحمن بن الزبير ،وإن ما معه ِمثْلُ هُ ْدبَةِ
وقالت له امرأة رِفاعة :إني نكح ُ
الثوب .تُريد أن يُ َفرّق بينه وبينها .ومن المعلوم أن هذا كان فيهم في
غاية النّدرة بالنسبة إلى الِعسار ،فما طلبت منه امرأة واحدة أن يفرّقَ بينه وبينها بالِعسار.
ل الفقر والغنى مطيّتينِ للعباد ،فيفت ِقرُ الرجل الوقت ويستغني الوقتَ ،فلو
قالوا :وقد جعل ا ّ
ل من افتقر ،فسخت عليه امرأته ،لعم البلءُ ،وتفاقم الشرّ ،وفسخت أنكحة أكثرِ العالم ،وكان
كان كُ ّ
صبْهُ عُسْرةٌ ،ويعوز النفقة أحياناً.
الفراق بي ِد أكثر النِساء ،فمن الذي لم ُت ِ
قالوا :ولو تعذّر من المرأةِ الستمتاع بمرض متطاول ،وأعسرت بالجماع ،لم يمكن الزوجُ
مِن فسخ النكاح ،بل يُوجبون عليه النفقة كاملة مع إعسار زوجته بالوطء ،فكيف يُمكنونها مِن الفسح
بإعساره عن النفقة التي غايتُها أن تكون عوضاً عن الستمتاع؟
ي وإل طلقني،
ث أبي هريرة ،فقد صرّحَ فيه بأن قوله :امرأتك تقول :أنفق عل ّ
قالوا :وأما حدي ُ
من كِيسه ،ل مِن كلم النبي صلى ال عليه وسلم وهذا في ((الصحيح)) عنه .ورواه عنه سعيد بن
أبي سعيد ،وقال :ثم يقول أبو هريرة .إذا حدث بهذا الحديث :امرأتُك تقول ،فذكر الزيادة.
وأما حديثُ حماد بن سلمة ،عن عاصم بن بهدلة ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة ،عن
النبي صلى ال عليه وسلم بمثله ،فأشار إلى حديث يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في الرجل
ل أن يكونَ عن النبي صلى
ل يجد ما ينفق على امرأته .قال :يُفرق بينهما ،فحديثٌ منكر ل يحتمِ ُ
ال عليه وسلم أصلً ،وأحسنُ أحواله أن يكون عن أبي هريرة رضي ال عنه موقوفاً ،والظاهر:
ل عنه :امرأتك تقول :أطعمني أو طلقني ،وأما
أنه رُوي بالمعنى ،وأراد قوله أبي هريرة رضي ا ّ
ق على
ن عند أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم ،أنه سئل عن الرجل ل يجد ما يُنفِ ُ
أن يكو َ
ل صلى ال عليه وسلم ول سمعه أبو هريرة،
امرأتِه ،فقال :يُفرق بينهما ،فوالّ ما قال هذا رسولُ ا ّ
ول حدّث به ،كيف وأبو هريرة ل يستجي ُز أن يَرويَ عن النبيّ صلى ال عليه وسلم ((امرأتُك
تقول :أطعمني وإل طلقني))،
ي صلى ال عليه وسلم.والذي
ويقول :هذا من كيس أبي هريرة لئل يتوهم نسبته إلى النب ّ
تقتضيه أصولُ الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غ ّر المرأة بأنه ذو مال ،فتزوجته
300
على ذلك ،فظهر ُمعْدماً ل شيء له ،أو كان ذا مالٍ ،وترك الِنفاق على امرأته ،ولم تَقد ْر على أخذ
كفايتها من ماله بنفسها ،ول بالحاكم أن لها الفَسخ ،وإن تزوجته عالم ًة بعُسرته ،أو كان موسِراً ،ثم
أصابته جائحةٌ اجتاحت مالَه ،فل فسخَ لها في ذلك ،ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار ،ولم
ل التوفيق.
ترفعهم أزواجُهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن ،وبا ّ
ل أبي حنيفة
وقد قال جمهورُ الفقهاء :ل يثبت لها الفسخُ بالِعسار بالصداق ،وهذا قو ُ
ل كثير من
وأصحابه ،وهو الصحيحُ من مذهب أحمد رحمه الّ ،اختاره عامة أصحابه ،وهو قو ُ
أصحاب الشافعي .وفصل الشيخ أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة ،فقال :إن كان قبلَ الدخول،
ثبت به الفسخُ ،وبعده ل يثبت ،وهو أح ُد الوجوه من مذهب أحمد هذا مع أنه عِوض محضٌ ،وهو
أحق أن يوفى من ثمن المبيع ،كما دل عليه النص ،كلّ ما تقرر في عدم الفسخ به ،فمثله في النفقة
وأولى.
فإن قيل :في الِعسار بالنفقةِ مِن الضرر اللحق بالزوجة ما ليس في الِعسار بالصّداق،
فإن البِنية تقوم بدونه بخلف النفقة .قيل :والبِنية قد تقوم بدون نفقته بأن تُنفِقَ من مالها ،أو يُنفِق
ش بما تعيشُ به زمن العدة ،وتُقدر زمن
عليها ذو قرابتها ،أو تأكل من غزلها ،وبالجملة ،فتعي ُ
عُسرة الزوج كله عدّة.
ثم الذين يُجوزون لها الفسخ يقولُون :لها أن تفسخ ولو كان معها القناطيرُ المقنطرة مِن
ل مِنجنيق الغرب أبي محمد بن
الذهب والفضة إذا عجز الزوجُ عن نفقتها ،وبإزاء هذا القول قو ُ
حزم :إنه يجب عليها أن تُنفِقَ عليه في هذه الحال ،فتُعطيه مالها ،وتُم ّكنُه من نفسها ،ومن العجب
ل العنبري بأنه يُحبس.
قو ُ
وإذا تأملت أصولَ الشريعة وقواعدَها ،وما اشتملت عليه من المصالح ودرء المفاسد ،ودفعِ
أعلى المفسدتين باحتمالِ أدناهما ،وتفويتِ أدنى المصلحتين لتحصل أعلهما ،تبَين لكَ القولُ
ل التوفيق.
الراجحُ مِن هذه القوال ،وبا ّ
فصل
ل أنه ل نفقة للمبتوتة ول سكنى
ل صلى ال عليه وسلم الموافق لكتابِ ا ّ
في حكم رسول ا ّ
روى مسلم في ((صحيحه)) ،عن فاطمة بنت قيس ،أن أبا عمرو بن حفص طلّقها ألبتةَ وهو
طتْهُ فقال :والّ ماَلكِ علينا مِن شيء ،فجاءت رسولَ الّ
ل إليها وكيلُه بشعير ،فسخِ َ
غائب ،فأرس َ
عَليْهِ نَفَقَةٌ)) ،فأمرها أن تعتد في بيت
س َلكِ َ
صلى ال عليه وسلم فذكرت ذلك له وما قَالَ ،فقالَ(( :ليْ َ
301
عمَى،
ل أَ ْ
عنْ َد ابنِ أُ ّم َم ْكتُوم ،فإنّ ُه رَجُ ٌ
عتَدّي ِ
أمّ شريك ،ثم قالِ (( :ت ْلكَ ا ْم َرَأةٌ َيغْشَاهَا أَصحَابي ،ا ْ
حَل ْلتِ فآذِنيني)) .قالت :فلما حللتُ ،ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم
ن ِثيَا َبكِ ،فَإذا َ
ضعِي َ
َت َ
عصَاهُ عَنْ عاتِقِهِ ،وأمّا
ل َيضَعُ َ
جهْمٍ فَ َ
ل صلى ال عليه وسلم ((َأمّا َأبُو َ
خطباني،فقال رسول ا ّ
ل لَهُ ،ا ْنكِحِي أُسَامَ َة بنَ َزيْدٍ)) فكرهته ،ثم قال(( :ا ْنكِحي أسامة بنَ َزيْدٍ))
ص ْعلُوكٌ ل مَا َ
مُعاوي ُة ف ُ
فنكحته ،فجعلَ الّ فيه خيراً واغتبطتُ .وفي ((صحيحه)) أيضاً :عنها أنها طَلقها زوجها في عهدِ
عِلمَنّ
ل صلى ال عليه وسلم وكان أنفقَ عليها نفقةً دوناً فلما رأت ذلك ،قالت :والّ لُ ْ
رسول ا ّ
ت الذي يُصلِحُني،وإن لم تكُن لي نفقةٌ،لم
ل صلى ال عليه وسلم ،فإن كانت لي نفقةٌ أخذ ُ
رَسولَ ا ّ
سكْنى)).
ك وَلَ ُ
ل نَفَقَ َة ل ِ
ل صلى ال عليه وسلم ،فقالََ (( :
آخذْ منه شيئاً ،قالت :فذكرتُ ذلك لرسول ا ّ
وفي ((صحيحه)) أيضاً عنها ،أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلّقها ثلثاً ،ثم انطلق
ل صلى
عَل ْينَا نفقة ،فانطلق خال ُد بن الوليد في نفرٍ ،فأتوْا رسولَ ا ّ
إلى اليمن ،فقال لها أهلُه :ليس َلكِ َ
ص طلّق
ال عليه وسلم في بيت ميمونة ،فقالوا :إن أبا حَفْ ٍ
ل صلى ال عليه وسلمَ(( :ليْست َلهَا نَفَقَةّ
امرأته ثلثاً ،فهل لها مِن نفقة؟ فقال رسولُ ا َ
ل إلى أمّ شريك ،ثم أرسل
سكِ)) ،وأمرها أن تنتقِ َ
سبِقيني ِبنَفْ ِ
علَيهَا العِ ّدةُ)) ،وأرسل إليها(( :أَنْ ل تَ ْ
وَ
عمَى فَإ ّنكِ إِذَا
لوّلونَ ،فانْطِلقي إلى ابْنِ أُ ّم مَكتُومٍ الَ ْ
إليها(( :أَنّ أُمّ شرِيكٍ يأتيها المهاجِرونَ ا َ
ل صلى ال عليه
حهَا رسول ا ّ
ك لَم َي َركِ)) ،فانطلَقَت إليه ،فلما انقضت ع ّدتُها أنك َ
خمَا َر ِ
وَضعْتِ ِ
وسلم أسامَة بن زيد بن حارثة.
ل بن عبد الّ بن عتبة ،أن أبا عمرو بن حفص بن
وفي ((صحيحه)) أيضاً ،عن عبيد ا ّ
المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن ،فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت
ش بن أبي ربيعة بنفقة ،فقال لها :والّ ما َلكِ
بقيت من طلقها ،وأمر لها الحارث بن هشام ،وعيا ُ
نفقةٌ إل أن تكوني حاملً ،فأتت النبيّ صلى ال عليه وسلمَ ،فذكرت له قولهما ،فقال(( :ل نَفَقَةَ
ن أمّ مَكتوم)) ،وكان
َلكِ)) ،فاستأذنته في النتقال ،فأذنَ لها ،فقالت :أين يا رسولَ الّ؟ قال(( :إلى اب ِ
ي صلى ال عليه وسلم أسامة بن
أعمى َتضَعُ ثيابَها عندهُ ول يَراهَا ،فلما مضت عِدّتها ،أنكحها النب ّ
ل إليهَا مروانُ قَبيصَةَ بنَ ذُؤيب يسأُلهَا عن الحديث ،فحدثته به ،فقال مروان لم نسمع هذا
زيد ،فأرس َ
الحديثَ إل مِن امرأة ،سنأخُذ بالعِصمة التي وجدنا النَاسَ عليها ،فقالت فاطمة حين بلغها قولُ
ل أَنْ يَ ْأتِينَ
خرُجْنَ إ ّ
ل يَ ْ
ن وَ َ
ن بيو ِتهِ ّ
ن مِ ْ
خرِجُوهُ ّ
مروان :بيني وبينكم القرآنُ ،قال الّ عز وجلّ{ :ل تُ ْ
ث َبعْ َد ذِلكَ َأمْراً}[الطلق ،]1 :قالت :هذا لمن كان
ل يُحْ ِد ُ
بِفَاحِشَ ٍة مُبيَنةٍ} إلى قوله{ :ل تَ ْدرِي َلعَلّ ا ّ
302
له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلث؟! فكيف تقولون :ل نفقة لها إذا لم تكن حاملً ،فعلم
تحبسونها؟!.
وروى أبو داود في هذا الحديث بإسناد مسلم عقيب قولِ عياش بن أبي ربيعة والحارث بن
ل أَنْ
ي صلى ال عليه وسلم ،فقال(( :ل نَفَقَ َة َلكِ إ ّ
ت النب ّ
هشام :ل نفقة لك إل أن تكوني حَاملً ،فات ِ
تكوني حَاملً)).
ت قيس ،فسألتُها عن قضاء
وفي ((صحيحه)) أيضًا عن الشعبي قال :دخلتُ على فاطمة بن ِ
ل صلى
ل صلى ال عليه وسلم عليها ،فقالت :طلّقها زوجُها البتة ،فخاصمته إلى رسول ا ّ
رسول ا ّ
ال عليه وسلم في السّكنى والنفقة ،قالت :فلم يجعل لي سُكنى ول نفقة ،وأمرني أن أعتدّ في بيت
ابن أم مكتوم.
وفي ((صحيحه)) عن أبي بكر بن أبي الجهم العدوي ،قال :سمعتُ فاطمة بنت قيس تقولُ:
ل صلى ال عليه وسلم سُكنَى ول نفقة ،قالت :قال لي
طلقها زوجُها ثلثاً ،فلم يجعل لها رسولُ ا ّ
حَل ْلتِ فآذِنيني)) ،فآذنته ،فخطبها معاويةُ ،وأبُو جهم ،وأسامةُ
ل صلى ال عليه وسلم(( :إِذَا َ
رسولُ ا ّ
جهْمٍ
ل صلى ال عليه وسلم ((أمَا معاوية فرجُل ترِب ل مال لهَُ ،وَأمّا َأبُو َ
بن زيد ،فقال رسول ا ّ
ن زيْد)) ،فقالت بيدها هكذا :أسامة! أسامة! فقال لها رسولُ
ل ضرّاب لِلنّساءِ ،ولكِنْ أُسامةُ ب ُ
َفرَجُ ٌ
ل وَطَاعَ ُة رَسُولِهِ خَيرٌ َلكِ)) ،فتزوجتُه ،فاغتبطتُ.
ل صلى ال عليه وسلم(( :طَاعَةُ ا ّ
ا ّ
وفي ((صحيحه)) أيضاً عنها قالت :أرسل إلي زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة
عياشَ بن أبي ربيعة بطلقي ،فأرسل معه بخمسة آصُع تمرٍ ،وخمسة آصعِ شعير ،فقلتُ :أما لي
ل صلى ال عليه
ت عليّ ثيابي ،وأتيتُ رسول ا ّ
نفقة إل هذا؟ ول أعتَ ّد في منزلكم؟ قال :ل ،فشدد ُ
ن أُمّ
ع ّمكِ اب ِ
س َلكِ نَفَقَةٌ ،اعْتدّي في َب ْيتِ ابن َ
طلّ َقكِ؟))قلتُ :ثلثاً .قال(( :صَدَقََ ،ل ْي َ
وسلم ،فقال(( :كَمْ َ
ضتْ عِ ّد ُتكِ فآذِنيني)).
ن َث ْو َبكِ عِن َدهُ ،فَإِذَا انْ َق َ
ضعِي َ
ص ِر َت َ
َم ْكتُوم ،فإنه ضَري ُر البَ َ
وروى النسائي في ((سننه)) هذَا الحَديثَ بطرقه وألفاظه ،وفي بعضِها بإسناد صحيح ل
سكْنى ِللْمرأ ِة إذا كان لِزوجِها عَليْها
مطعن فيه ،فقال لها النبي صلى ال عليه وسلم إنّما النّفَقَةُ وال ّ
ت ذلك له ،قالت:
ل صلى ال عليه وسلم ،فذ َك َر ْ
الرّجْعةُ)) ،ورواه الدارقطني وقال :فأتت رسول ا ّ
جعَةَ)) .وروى النسائي
ن َي ْمِلكُ الرّ ْ
ل لي سكنى ول نفقة ،وقال(( :إِ ّنمَا السكنى والنّفَقَة ِلمَ ْ
جعَ ْ
فلم يَ ْ
أيضاً هذا اللفظ ،وإسنادهما صحيح.
ل عزّ وجل
ذكر موافقة هذا الحكم لكتاب ا ّ
303
ل َربّكم
حصُوا العِ ّدةَ واتّقُوا ا ّ
ن َوأَ ْ
طلّقُوهُنَ ِلعِ ّد ِتهِ ّ
طلّ ْقتُ ُم النَسَاءَ فَ َ
قال الّ تعالى{ :يََأ ّيهَا النّبيّ إِذَا َ
ل َومَنْ َي َتعَدّ حُدًودَ الِ
ن بِفَاحِشَ ٍة مُب ّينَ ٍة َو ِت ْلكَ حُدُودُ ا ّ
ن يَأتِي َ
خرُجْنَ إلّ أَ ْ
ل يَ ْ
ن وَ َ
ن مِنْ ُبيُو ِتهِ ّ
خرِجُوه ّ
ل تُ ْ
ف َأوْ
ن بمعرو ٍ
سكُوهُ ّ
جَلهُنّ فََأمْ ِ
ك َأمْراً * فَإذا َبَلغْنَ أ َ
ث بعْد ذِل َ
ظلَم نفْسَهُ ل ت ْدرِي لعلَ ال يُحْ ِد ُ
فَقَدْ َ
ل ِلكُلّ
ل ِم ْنكُ ُم َوأَقِيمُوا الشّها َدةَ لّ} ،إلى قوله{ :قدْ جعل ا ّ
ن ب َم ْعرُوفٍ وأَشهِدوا ذ َويْ عَدْ ٍ
فَارقُوهُ ّ
شيءَ قَدْراً} [الطلق ]3-1 :فأمر الّ سبحانه الزواج الذين لهم عند بلوغ الجلِ الِمساكُ
ل على جواز
خرُجْنَ ،فد ّ
والتسريحُ بأن ل يُخرجوا أزواجهم مِن بيوتهم ،وأمر أزواجَهن أن ل يَ ْ
إخراج من ليس لزوجها إمساكُها بعدَ الطلق ،فإنه سبحانه ذكر لهؤلء المطلقات أحكامًا متلزمة
ل ينفكّ بعضُها عن بعض.
أحدها :أن الزواج ل يُخرجوهن مِن بيوتهن
(يتبع)...
ن مِن بيوت أزواجهن.
خرُجْ َ
والثاني :أنهن ل يَ ْ @
والثالث :أن لزواجهن إمساكَهن بالمعروف قبلَ انقضاء الجل ،وترك الِمساك،
فيُسرّحوهن بإحسان.
والرابع :إشهاد ذَويْ عدل ،وهو إشها ٌد على الرجعة إما وجوباً ،وإما استحباباً ،وأشار
ث َبعْ َد ذِلكَ َأمْراً}
ل يُحْ ِد ُ
سُبحانه إلى حكمة ذلك ،وأنه في الرجعيات خاصة بقوله{ :ل تَ ْدرِي َلعَلّ ا ّ
[الطلق ]1 :والمر الذي يُرجَى إحداثُه هاهنا :هو المراجعة .هكذا قال السلف ومن بعدهم .قال ابنُ
ث َبعْ َد ذِلكَ
ل يُحْ ِد ُ
أبي شيبة :حدثنا أبو معاوية ،عن داود الودي ،عن الشعبي{:ل تَ ْدرِي َلعَلّ ا ّ
ل إلى الرجعة ،وقال الضحاكَ{ :لعَلّ الّ
َأمْراً} [الطلق ،]1 :قال :لعلك َتنْدَمُ ،فيكون لك سبي ٌ
جعَها في العِ ّدةِ ،وقاله عطاء ،وقتادة ،والحسن،
ث َبعْ َد ذِلكَ َأمْراً} [الطلق ]1 :قال :لعله أن يُرا ِ
يُحْ ِد ُ
ق المذكور :هو
ث بعد الثلث؟ فهذا يدل على أن الطل َ
وقد تقدّم قول فاطمة بنت قيس :أي أمر يح ُد ُ
الرجعيّ الذي ثبتت فيه هذه الحكامُ ،وأن حِكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ،اقتضته لعل
شرّ الذى َنزَغَهُ الشيطانُ بينهما ،فتتبعها نفسه ،فيُراجعَها ،كما قال علي بن
ل ال ّ
الزوج أن يَندَمَ ،ويزو َ
ل عنه :لو أنّ الناسَ أخذوا بأمر الّ في الطّلقِ ،ما تتبع رجل نفسه امرأة يُطلّقها
أبي طالب رضي ا ّ
أبداً.
سكَنتم منْ
ح ْيثُ َ
سكِنوهُنّ مِنْ َ
ثم ذكر سبحانه المر بإسكان هؤلء المطلقاتِ ،فقال{ :أَ ْ
ل النبيّ
وُجْ ِدكُم} [الطلق ]6 :فالضمائر كلّها َيتّحِدُ مفسرها ،وأحكامها كلها متلزمة ،وكان قو ُ
304
جعَةٌ)) ،مشتقاً من كتابِ
علَيهَا رَ ْ
جهَا َ
ن ِل َزوْ ِ
س ْكنَى ِل ْلمَرَأةِ إذَا كَا َ
صلى ال عليه وسلم(( :إنّما النّفَقَ ُة وال ّ
ل صلى ال
الّ عز وجل ،ومفسّراً له ،وبيانًا لمراد المتكلّم به منه ،فقد تبين اتحادُ قضاءِ رسول ا ّ
ل عز وجل ،والميزانُ العادل معهما أيضاً ل يُخَالفهما ،فإن النفقَ َة إنما تكونُ
عليه وسلم ،وكتابِ ا ّ
للزوجة ،فإذا بانت منه ،صارت أجنبيةً حكمُها حكمُ سائر الجنبيات ،ولم يبق إل مجردُ اعتدادها
جبُ لها نفقة ،كالموطوءة بشُبهة أو زنى ،ولن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكنِ
منه ،وذلك ل يُو ِ
من الستمتاع ،وهذا ل يُمكِنُ استمتاعُه بها بعد بينونتها ،ولن النفقة لو وجبت لها عليه لجلِ
ق بينهما البتة ،فإن كُلّ واحد منهما قد بانت عنه،
عدتها ،لوجبت للمتوفّى عنها من ماله ،ول َفرْ َ
وهي معتدة منه ،قد تعذّر منهما الستمتاعُ ،ولنها لو وجبت لها السكنى ،لوجبت لها النفقةُ ،كما
ص والقياسُ يدفعه ،وهذا قولُ عبد الّ
يقوله من يوجبها .فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة ،فالن ّ
بن عباس وأصحابه ،وجابر بن عبد الّ ،وفاطمة بنت قيس إحدى فقهاء نساء الصحابة وكانت
فاطمة تُناظر عليه ،وبه يقول أحمد بن حنبل وأصحابه ،وإسحاق بن راهويه وأصحابه ،وداود بن
علي وأصحابُه ،وسائر أهل الحديث .وللفقهاء في هذه المسألة ثلثة أقوال ،وهي ثلث روايات عن
أحمد :أحدها :هذا .والثاني :أن لها النفقةَ والسكنى ،وهو قولُ عمر بن الخطاب ،وابن مسعود،
وفقهاء الكوفة .والثالث :أن لها السكنى دون النفقة ،وهذا مذهب أهل المدينة ،وبه يقول مالك
والشافعي.
ذكر المطاعن التي طعن بها على حديث فاطمة بنت قيس قديماً وحديثاً
ن أميرِ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،فروى مسلم في ((صحيحه)):
فأولها طع ُ
عن أبي إسحاق،قال :كنت مع السود بن يزيد جالساً في المسجد العظم ،ومعنا الشعبي ،فحدّث
الشعبيّ بحديث فاطمة بنت قيسٍ ،أن رسولَ الّ ِصلى ال عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ول نفقة،
ك ِكتَابَ
ل َن ْت ُر ُ
ثم أخذ السود كفأ مِن حصى ،فحصبه به ،فقالَ :و ْيَلكَ تُحدّث بمثل هذا؟ قال عمرَ :
س ْكنَى والنّفَقَةُ قال الّ عز وجل:
س َيتْ؟ َلهَا ال ّ
ت َأوْ نَ ِ
ظ ْ
سنّ َة نبيّنا! لِقول امرأة ل نَ ْدرِي َل َعّلهَا حَفِ َ
ل وَ ُ
ا ّ
ن بِفَاحِشَ ٍة مُب ًينَةٍ} [الطلق ]1 :قالوا :فهذا عمرُ
ل أَن يَأتِي َ
ن إِ ّ
خرُجْ َ
ن وَل يَ ْ
ن ُبيُو ِتهِ ّ
ن مِ ْ
خرِجُوهُ ّ
{ل تُ ْ
ب أن هذا مرفوعٌ ،فإن
ل صلى ال عليه وسلم أن لها النفقةَ والسكنى ،ول ري َ
يخبر أن سنةَ رسول ا ّ
ل صلى ال عليه
الصحابيّ إذا قال :من السنة كذا ،كان مرفوعاً ،فكيف إذا قال :مِن سنة رسول ا ّ
ل عنه ،وروايةُ
ل عمر بن الخطاب؟ وإذا تعارضت رواية عمر رضي ا ّ
وسلم فكيف إذا كان القائ ُ
فاطمة ،فرواية عمر رضي ال عنه أولى ل سيما ومعها ظاهر القرآن ،كما سنذكر .وقال سعيد بن
305
منصور :حدثنا أبو معاوية،حدثنا العمش ،عن إبراهيم ،قال :كان عُمر بن الخطاب إذا ُذ ِك َر عنده
حديثُ فاطمة بنتِ قيس قال :ما كنا نغير في ديننا بِشَها َد ِة امرأة.
ذكر طعن عائشة رضي الّ عنها في خبر فاطمة بنتِ قيس
في ((الصحيحين)) :من حديث هشام بن عروة ،عن أبيه ،قال :تزوّجَ يحيى بنُ سعيد بن
ب ذلك عليهم عروةُ ،فقالوا :إن
ت عبد الرحمن بن الحكم فطلقها ،فأخرجها مِن عنده ،فعا َ
العاص بن َ
فاطمةَ قد خرجت ،قال عروةُ :فأتيت عائشة رضي الّ عنها ،فأخبرتها بذلك ،فقالت :ما لِفاطمة بنتِ
قيس خ ْيرٌ أن تذكرَ هذَا الحديثَ .وقال البخاري :فانتقلها عب ُد الرحمن ،فأرسلت عائش ُة إلى مروان
ل واردُدْها إلى بيتها .قال مروان :إن عب َد الرحمن بن الحكم غلبني ،وقال
وهو أمي ُر المدينة ،اتّق ا ّ
القاسم بن محمد :أو ما بلغك شأنُ فاطمة بنت قيس؟ قالت :ل يضرك أل تذكر حديثَ فاطمة ،فقال
ن من الشر.
مروان :إن كان بِك شرٌ ،فحسبُك ما بينَ هذي ِ
ومعنى كلمه :إن كان خروجُ فاطمة لما يُقال من شر كان في لسانها،فيكفيك ما بين يحيى
بن سعيد بن العاص وبين امرأتِهِ مِن الشر.
ي إلى فُلنَة بنتِ
ل عنهاَ :ألَم َت َر ْ
وفي ((الصحيحين)) :عن عروة ،أنه قال لعائشة رضي ا ّ
صنَ َعتْ ،فقلتَُ :ألَمْ تسمعي إلى قولِ فاطمة،
الحكم طلّقها زوجُها البتة فخرجت ،فقالتِ :ب ْئسَ مَا َ
خ ْيرَ لها في ذكر ذلك.
فقالت :أما إنّه ل َ
وفي حديث القاسم ،عن عائشة رضي الّ عنها يعني :في قولها :ل سكنى لها ول نفقة .وفي
((صحيح البخاري)) :عن عائشة رضي الّ عنها أنها قالت لفاطمة :أل نتقي الّ ،تعني في قولها ل
حشٍَ ،فخِيفَ
ن وَ ْ
سكنى لها ول نفقة وفي ((صحيحه)) أيضاً :عنها قالت :إن فاطمةَ كا َنتْ في مكا ِ
ي صلى ال عليه وسلم وقال عبد الرزاق :عن ابن جريج ،أخبرني
ص النب ّ
على ناحِيتها ،فلذلكَ أرخ َ
ت قيس ،تعني:
ابن شهاب ،عن عُروة ،أن عائش َة رضي الّ عنها أنكرت ذلك على فاطمة بن ِ
ل المطلقة ثلثاً)).
((انتقا َ
وذكر القاضي إسماعيل حدثنا نصر بن علي ،حدثني أبي ،عن هارون عن محمد بن
سبُه عن محمد بن إبراهيم ،أن عائشة رضي الّ عنها قالت لفاطمة بنت قيس :إنما
إسحاق ،قال :أح ِ
جكِ هذا اللسان.
أخر َ
ل صلى ال عليه وسلم وابنِ حبه على حديث فاطمة
ن زيدٍ حبّ رسول ا ّ
ذكر طعن أسامة ب ِ
306
روى عبد الّ بن صالح كاتب الليث ،قال :حدثني الليثُ بن سعد ،حدثني جعفر ،عن ابن
هرمز ،عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ،قال :كان محمد بنُ أسامة بن زيد يقول :كان أسام ُة إذا
ذكرت فاطمة شيئًا مِن ذلك يعنى انتقالها في عدتها رماها بما في يده.
ذكرُ طعن مروان على حديث فاطمة
ل بن عتبة حديثَ
روى مسلم في ((صحيحه)) :من حديث الزهري ،عن عبيد ال بن عبد ا ّ
فاطمة هذا :أنه حدّث به مروان،فقال مروان ،لم نسمع هذا إل من امرأة سنأخذ بالعِصمة التي
وجدنا الناس عليها.
ذكرُ طعنِ سعي ِد بن المسيّب
ت إلى
ت المدينةَ ،فَدُ ِف ْع ُ
روى أبو داود في ((سننه)) :من حديث ميمون بن مِهران ،قال :قدم ُ
سعي ِد بن المسيبِ ،فقلتُ :فاطمة بنت قيس طلّقت ،فخَرجَت مِن بيتها ،فقال سعيد :تلك امرأة فَت َنتِ
علَى يدي ابنِ أ ّم مكتوم العمى.
ض َعتْ َ
سنَةَ ،ف ُو ِ
الناسَ إنها كانت امرأةً لَ ِ
ذكر طعن سليمان بن يسار
خلُقِ.
روى أبو داود في ((سننه)) أيضاً ،قال في خروج فاطمة :إنما كان مِن سُوءِ ال ُ
ذكر طعن السود بن يزيد
تقدّمَ حديث مسلم :أن الشعبي حدّث بحديث فاطمة ،فأخذ السود كفًا مِن حصباء فحصبه به،
وقال :ويلك تحدث بمثل هذا؟! وقال النسائي :ويلك لِ َم تُفتي بمثل هذا؟ قال عمر لها :إن جئتِ
ك ِكتَابَ َر ّبنَا لِقَولِ
ل صلى ال عليه وسلم ،وإل لم نت ُر ْ
بشاهدين يشهدانِ أنهما سمعاه من رسولِ ا ّ
امرأة.
ذكر طعن أبي سلمة بن عبد الرحمن
قال الليث :حدثني عقيل ،عن ابن شهاب ،قال :أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ،فذكر
حديث فاطمة ثم قال :فأنكر الناسُ عليها ما كانت تُحدّث من خروجها قبل أن تَحِلّ ،قالوا :وقد
ح رواية عُمر في إيجاب النفقة والسكنى ،فروى حماد بن سلمة ،عن
عارض رواية فاطمة صري ُ
حماد بن أبي سليمان ،أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس ،فقال له
ل وقول النبي صلى ال عليه وسلم
خ ِب َر بقولهَا ،فقال :لسنا بتاركي آية من كتاب ا ّ
إبراهيمُ :إن عمر أُ ْ
س ْكنَى والنَفَقَةُ)) ذكره أبو
ي صلى ال عليه وسلم يقولَ(( :لهَا ال ّ
لقول امرأة لعلّها أوهمت ،سمعت النب ّ
307
محمد في ((المحلى)) ،فهذا نص صريح يجب تقديمُه على حديث فاطمة لِجللة رواته ،وتركِ إنكارِ
الصحاب ِة عليه وموافقته لِكتاب الّ.
ذكر الجوبة عن هذه المطاعن وبيان بطلنها
وحاصلها أربعة.
أحدُها :أن راويتها امرأة لم تأتِ بشاهدينِ يتابعانها على حديثها.
الثاني :أن روايتها تضمّنت مخالفةَ القرآن.
الثالث :أن خروجَها من المنزل لم يكن لنه ل حقّ لها في السكنى ،بل لذاها أهلَ زوجها
بلسانها.
الرابع :معارضة روايتِها برواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
ونحن نبين ما في كل واحد من هذه المور الربعة بحول الّ وقوته ،هذا مع أن في بعضها
س ُننَب ُه عليه ،وبعضُها صحيح
مِن النقطاع ،وفي بعضها مِن الضعف ،وفي بعضها من البُطلن ما َ
عمن نسب إليه بل شك.
ل بل شك ،والعلماء قاطبة
ن الراوي امرأة ،فمطعن باط ٌ
ن الول :وهو كو ُ
فأما المطع ُ
ل مبطل له ومخالف له ،فإنهم ل يختلفون في أن
ج بهذا من أتباع الئمة أوّ ُ
على خلفة ،والمحت ّ
السننَ تُؤخذ عن المرأة كما تُؤخذ عن الرجل ،هذا وكم مِن سنة تلقاها الئمة بالقبولِ عن امرأة
واحدة من الصحابة ،وهذه مسانيد نساءِ الصحابة بأيدي الناس ل تشاءُ أن ترى فيها سن ًة تفرّدت بها
ت قيس دون نساء العالمين ،وقد أخذ الناس بحديث فُريعة
امرأ ّة منهن إل رأيتَها ،فما ذنبُ فاطمةَ بن ِ
ت أبي سعيد في اعتدا ِد المتوفّى عنها في بيت زوجها وليست فاطم ُة بدونها
بنت مالِك بن سنان أخ ِ
علماً وجللةً وثقةً وأمانةً ،بل هي أفقهُ منها بل شك ،فإن فُريعة ل تُعرف إل في هذا الخبر وأما
شهرةُ فاطمة ،ودعاؤها من نازعها مِن الصحابة إلى كتاب الّ ،ومناظرتها على ذلك ،فأمر
مشهور ،وكانت أسع َد بهذه المناظرة ممن خالفها كما مضى تقريرُه ،وقد كان الصحابة رضي الّ
عنهم يختلِفونَ في الشيء ،فتروي لهم إحدى أمهات المؤمنين عن النبيّ صلى ال عليه وسلم شيئاً،
ن على فاطمة بنت قيس بكونهن
فيأخذون به ،ويرجعون إليه ،ويتركون ما عندهم له ،وإنما ُفضّلْ َ
ل صلى ال عليه وسلم ،وإل فهي مِن المهاجرات الول ،وقد رضيها رسولُ الّ
أزواجَ رسولِ ا ّ
حبّه أسامة بن زيد ،وكان الذي خطبها له .وإذا شئتَ أن تعرف
حبّه وابنِ ِ
صلى ال عليه وسلم ِل ِ
ل صلى ال عليه
ل الذي حدث به رسول ا ّ
ل الطوي ِ
مقدارَ حفظها وعلمها ،فاعرفه مِن حديث الدّجَا ِ
308
وسلم على المنبر ،فوعته فاطمةُ وحفظته ،وأدته كما سمعته ،ولم ينكره عليها أحد مع طوله
وغرابته ،فكيف بقصة جرت لها وهي سببها ،وخاصمت فيها ،وحكم فيها بكلمتين :وهى ل نفقة ول
سكنى ،والعادة تُوجبُ حفظ مثل هذا وذكره ،واحتمال النسيان فيه أمر مشترك بينها وبين من أنكر
ل صلى ال عليه وسلم
عليها ،فهذا عمرُ قد نسي تيمّ َم الجنب ،وذكرهُ عمار بن ياسر أمر رسول ا ّ
ل عنه ،وأقام على أن الجنب ل يصلي حتى يجد
لهما بالتيمم من الجنابة،فلم يذكره عمر رضي ا ّ
الماء.
ن زَوجٍ َوآْتيتُم إحْدَاهن ِقنْطَاراً فَلَ تَأخُذُوا
ج َمكَا َ
ونسي قولَه تعالى{ :وإِنْ َأرَ ْدتُم اس ِتبْدَالَ زَو ٍ
مِنهُ شَيئا} [النساء.]20 :
ت وَإ ّنهُمْ َميّتون} [الزمر]30 :
ك م ّي ٌ
حتى ذكّرته به امرأَة ،فرج َع إلى قولها.ونسي قوله{ :إ ّن َ
حتى ذُكر بهِ ،فإن كان جوازُ النسيان على الراوي يُوجب سقوطَ روايته ،سقطت رواي ُة عمر التي
ط روايته ،بطلت المعارض ُة بذلك ،فهي باطلة
عارضتم بها خبر فاطمة ،وإن كان ل يُوجب سقو َ
ن بمثل هذا ،لم يبق بأيدي المة منها إل اليسير ،ثم كيف يُعارِضُ
على التقديرين ،ولو رُ ّدتِ السّن ُ
ط للرواية نِصاباً،
ن يرى قبولَ خبرِ الواحد العدل ،ول يشتر ُ
طعَنُ في ِه بمثل هذا مَ ْ
خَبر فاطمة ،ويَ ْ
ل عنه أصابه في مثل هذا ما أصابه في رد خبر أبي موسى في الستئذان حتى شهد
وعمر رضي ا ّ
شهِ َد له مُحمّدُ بن مسلمة ،وهذا
ص المرأةِ حتى َ
له أبو سعيد ،وردّ خب َر المغيرة بنِ شُعبة في إمل ِ
ل في الرواية عن رسول الّ
ب والذّلُو َ
كان تثبيتًا منه رضي الّ عنه حتى ل يركب الناس الصّع َ
صلى ال عليه وسلم ،وإل فقد َقبِلَ خبرَ الضحاك بن سفيان الكلبي وحده وهو أعرابي ،وقبل
ل الراوي
لعائشة رضي الّ عنها عدةَ أخبار تفرّدت بها ،وبالجملة ،فل يقول أحد :إنه ل يقبل قو ُ
الثقة العدل حتى يشهد له شاهدان ل سيما إن كان من ا لصحابة.
فصل
وأما المطعن الثاني :وهو أن روايتها مخالفة للقرآن ،فنجيب بجوابين :مجملٍ ،ومفصلٍ ،أما
المُجمل :فنقولُ :لو كانت مخالفة كما ذكرتم ،لكانت
مخالف ًة لعمومه،فتكون تخصيصاً للعام ،فحكمُها حكمُ تخصيص قوله{ :يُوصِيكُم الُ في
ل َلكُ ْم مَا َورَاءَ ذِلكُم}
َأوْلَ ِدكُم} [النساء ،]11 :بالكافر ،والرقيق ،والقاتل ،وتخصيصِ قولِه{:وأُحِ ّ
ن المرأة وعمتها ،وبينها وبين خالتها ونظائره ،فإن القرآنَ لم يخُصّ
[النساء ]24 :بتحريم الجم ِع بي َ
309
خرَجُ ،وبأنها تسكن من حيث يسكنُ زوجها ،بل إما أن َي ُعمّها و َيعُمّ
خرُج ول تُ ْ
البائن بأنها ل تَ ْ
ص الرجعيةَ.
الرجعية ،وإما أن يخُ ّ
ص لعمومه ،وإن خص الرجعيات وهو الصواب للسياق
ث مخصّ ٌ
فإن ع ّم النوعينِ ،فالحدي ُ
الذي مَنْ تدبّره وتأمله قطع بأنه في الرجعيات من عدة أوجه قد أشرنا إليها ،فالحديث ليس مخالفاً
ل عنه بذلك ،لكان أوّل راجع إليه ،فإن
لكتاب الّ ،بل موافق له ،ولو ُذ ّكرَ أمي ُر المؤمنين رضي ا ّ
الرجل كما يذهَلُ عن النص يذهَلُ عن دخول الواقعة المعينة تحتَ النصّ العام واندراجِه تحتها،
ل مَنْ يشاء من عباده ،ولقد كان أمير المؤمنين
فهذا كثيرٌ جداً ،والتفطُنُ له من الفهم الذي يُؤتيه ا ّ
ل عنه مِن ذلك بالمنزلة التي ل تُجهل ،ول تستغرقها عبارةٌ ،غيرَ أن الغسيان
عمر رضي ا ّ
والذّهولَ عُرضةٌ للِنسان ،وإنما الفاضلُ العال ُم من إذا ُذ ّكرَ َذ َك َر َورَجَعَ.
ل على ثلثة أطباق ل يخرُج عن واحد منها ،إما
فحديثُ فاطمة رضي الّ عنها مع كتاب ا ّ
أن يكون تخصيصاً لعامه .الثاني :أن يكون بياناَ لما لم يتناوله ،بل سكت عنه .الثالث :أن يكون بياناً
لما أريد به وموافِقاً لما أرشد إليه سياقه وتعليله وتنبيهه ،وهذا هو الصوابُ ،فهو إذن موافق له ل
ل صلى ال عليه وسلم بما يُخالف كتاب
مخالف ،وهكذا ينبغي قطعاً ،ومعاذَ الّ أن يحكم رسولُ ا ّ
ل تعالى أو يعارضه ،وقد أنكر المام أحمد رحمه الّ هذا مِن قول عمر رضي الّ عنه ،وجعل
ا ّ
ل إيجاب السكنى والنفقة للمطلقة ثلثاً ،وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة
يتبسّمُ ويقول :أين في كتاب ا ّ
فاطمة ،وقالت :بيني وبينكم كتابُ الّ ،قال الّ تعالى{ :ل تَ ْدرِي َلعَلّ ال ُيحْ ِدثُ َبعْ َد ذلِك َأمْراً}
سكُوهُنّ}
جَلهُنّ فَأمْ ِ
[الطلق ]1 :وأي أمر يحدث بعد الثلث ،وقد تقدم أن قوله{ :فإِذَا َبَلغْنَ أ َ
[الطلق ،]2 :يشهد بأن اليات كلها في الرجعيات.
فصل
وأما المطعن الثالث :وهو أن خروجها لم يكن إل لِفحش من لسانها ،فما أبردَه من تأويل
وأسمجَه ،فإن المرأة مِن خيار الصحاب ِة رضي الّ عنهم وفُضلئهم ،ومِن المهاجرات الول ،وممن
ل يحملها رِقّة الدين وقلة التقوىَ على فُحش يُوجب إخراجَها من دارها ،وأن يمنع حقها الذي جعله
حشَ؟
ي صلى ال عليه وسلم هذا الفُ ْ
الّ لها ،ونهى عن إضاعته ،فيا عجباً! كيف لم ُي ْن ِك ْر عليها النب ّ
ف َيعْدِلُ عن
ويقول لها :اتقي الّ ،وكُفّي لسانَك عن أذى أهل زوجك ،واستقري في مسكنكِ؟ وكَي َ
جهَا
ن ِل َزوْ ِ
هذا إلى قوله(( :ل نفقة لك ول سكنى)) ،إلى قوله(( :إ ّنمَا السّكنَى والنّفَق ُة لِل َم ْرأَ ِة إذا كَا َ
جعَةٌ؟!)) فيا عجباً! كيف يُترك هذا المانع الصريح الذي خرج من بين شفتي النبي صلى ال
عَل ْيهَا َر ْ
َ
310
ل صلى ال عليه وسلم،البتة ول أشار إليه ،ول
عليه وسلم ،ويُعلّل بأَمرٍ موهوم لم يعلل به رسول ا ّ
نبه عليه؟ هذا من المحال البيَن .ثم لو كانت فاحشة اللسان وقد أعاذها الّ من ذلك ،لقال لها النبيّ
صلى ال عليه وسلم ،وسمعت وأطاعتْ :كفي لِسانَك حتى تنقضيَ عِ ّد ُتكِ ،وكان من دونها يسمع
ويطيع لئل تخرج من سكنه.
فصل
ل عنه ،فهذه المعارضةُ
ن الرابع :وهو معارض ُة روايتِها برواية عمر رضي ا ّ
وأما المطع ُ
تُورد مِن وجهين .أحدهما :قوله :ل نَدَعُ كتابَ ربنا وسن َة نبينَا،؟أن هذا مِن حكم المرفوع .الثاني:
س ْكنَى والنّفَقَةُ)) .ونحن نقول :قد أعاذ
ل صلى ال عليه وسلم يقولَ(( :لهَا ال ّ
قوله :سمعتُ رسولَ ا ّ
ح ذلك عن
ل أميرَ المؤمنين مِن هذا الكلم الباطل الذي ل َيصِحّ عنه أبداً .قال الِمام أحمد :ل َيصِ ّ
ا ّ
عمر .وقال أبو الحسن الدارقطني:
ل صلى ال عليه وسلم
بل السنةُ بيد فاطمة بنت قيس قطعاً ،ومن له إلمام بسنة رسولِ ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم أن
ل أنه لم يكن عند عمر رضي الّ عنه سنة عن رسول ا ّ
يشهدُ شهادة ا ّ
ل صلى ال
للمطلقة ثلثاً ،السكنى والنفقة ،وعمر كان أتقى لّ ،وأحرصَ في تبليغ سننِ رسولِ ا ّ
عليه وسلم في أن تكونَ هذه السن ُة عنده ،ثم ليرويها أصلً ،ول تبينها ول يُبلغها عن رسول الّ
صلى ال عليه وسلم.
وأما حديثُ حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان ،عن إبراهيم ،عن عمر رضي الّ
س ْكنَى والنّفَقَةُ)) ،فنحن نشهَدُ بالّ شهاد ًة نُسألُ
ل صلى ال عليه وسلم يقولَ(( :لهَا ال ّ
عنه ،رسولَ ا ّ
ل صلى ال عليه
ع َمرَ رضي الّ عنه ،وكذب على رسولِ ا ّ
عنها إذا لقيناه ،أن هذا كذبٌ على ُ
ط النتصا ِر للمذاهب والتعصب لها على معارضةِ سننِ
وسلم ،وينبغي أن ل يَحمِلَ الِنسانَ فر ُ
ل صلى ال عليه وسلم الصحيح ِة الصريحةِ بالكذب البحت ،فلو يكونُ هذا عند عمر
رسول ا ّ
ل عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم ،لخرستَ فاطمة وذووها ،ولم َي ْنبِسوا بكلمة ،ول
رضي ا ّ
ج إلى ذكر إخراجها لبَذاء لسانها ،ولما فات هذا الحديث أئمةَ
عتْ فاطمة إلى المناظرة ،ول احتِي َ
دَ َ
الحديثِ والمصنفين في السنن والحكام المنتصرين للسنن فقط ل لِمذهب ،ول لرجل ،هذا قبل أن
َنصِلَ به إلى إبراهيم ،ولو قدر؟وصولُنا بالحديث إلى إبراهيم ل نقطع نخَاعُهُ ،فإن إبراهيم لم يُولد
إل بعد موت عمر رضي الّ عنه بسنين ،فإن كان مخبرٌ أخبر به إبراهيم عن عمر رضي الّ عنه،
ل صلى ال
ن أن رسولَ ا ّ
ل عنه بالمعنى ،وظ ّ
وحسنّا به الظن ،كان قد روى له قول عمر رضي ا ّ
311
ل عنه :ل ندع
عليه وسلم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلقة ،حتى قال عمُر رضي ا ّ
كتابَ ربنا لِقول امرأة ،فقد يكون الرجل صالحًا ويكون مغفّلً ،ليس تَحمّلُ الحديثِ وحفظُه وروايتُه
ل التوفيق.
مِن شأنِهِ ،وبا ّ
ن بن مهران ،وسعيدُ بن المسيّب ،فذكر له ميمون
وقد تناظر في هذه المسألة ميمو ُ
ت الناسَ ،فقال له ميمون :لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به
خبر فاطمة ،فقال سعيد :تلك امرأة فتن ِ
ل صلى ال عليه وسلم أسوةً
ل صلى ال عليه وسلم ما َف َت َنتِ الناسَ ،وإن لنا في رسول ا ّ
رسولُ ا ّ
حسنة ،مع أنها أحرمُ الناس عليه ليس لها عليه رجعة ،ول بينهما ميراث .انتهى.
ول يعلم أحدٌ من الفقهاء رحمهم الّ إل وقد احتجّ بحديث فاطمة بنت قيس
هذا ،وأخذ به في بعض الحكام كمالك ،والشافعي .وجمهورُ المة يحتجون به في سقوط نفقة
المبتوتة إذا كانت حائلً ،والشافعي نفسُه احتج به على جواز جمع الثلث ،لن في بعض ،ألفاظه:
ج به من يرى
فطلقني ثلثاً ،وقد بيّنا أنه إنما طلقها آخ َر ثلثٍ كما أخبرت به عن نفسها .واحت ّ
جوازَ نظر المرأة إلى الرجال ،واحتج به الئمة ُكّلهُم على ،جوازِ خِطبة الرجل على خِطبة أخيه إذا
لم تكن المرأةُ قد سكنت إلى الخاطب الول ،واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على
وجه النصيحةِ لمن استشاره أن يزوّجه ،أو يُعا ِملَه ،أو تسا ِفرَ معه ،وأن ذلك ليس بغيبة ،واحتجوا به
ح القرشية من غير القرشي ،واحتجوا به على وقوعِ الطلق في حال غيبة أحدِ
على جواز نكا ِ
الزوجين عن الخر ،وأنه ل يُشترط حضورُه ومواجهتُه به ،واحتجوا به على جواز التعريض
طتْها
بخطبة المعتدة البائن ،وكانت هذه الحكا ُم ُكلُها حاصلةً ببركة روايتها ،وصدقِ حديثها ،فاست ْنبَ َ
المةُ منها ،وعملت بها ،فما بالُ روايتها ترد في حكم واح ٍد من أحكام هذا الحديث ،وتُقبل فيما
عداه؟! فإن كانت حفظته ،قبلت في جميعه ،وإن لم تكن حفظته وجب أن ل يقبل في شيِء من
ل التوفيق.
أحكامه وبا ّ
س ِكنُوهُنّ
فإن قيل :بقي عليكم شيء واحد ،وهو أن قوله سبحانه{ :أَ ْ
ن وُجْ ِدكُم} [الطلق ،]6 :إنما هو في البوائن ل في الرجعيات ،بدليل قوله عقيبه:
س َك ْنتُم مِ ْ
ح ْيثُ َ
مِنْ َ
ضعْنَ حَمَلهُنَ}
حتَى َي َ
عَل ْيهِنّ َ
حمْلٍ فَأنْفِقُوا َ
ن كُن أولتِ َ
عَل ْيهِن َوإِ ْ
ضيّقوا َ
ن ِل ُت َ
{ول تُضارُوهُ َ
[الطلق ،]6 :فهذا في البائن ،إذ لو كانت رجعية ،لما قيد النفقة عليها بالحمل ،ولكان عديم التأثير،
فإنها تستحِقُها حائلً كانت أو حاملً ،والظاهر :أن الضمير في ((أسكنوهن)) هو ،والضمير في
عَل ْيهِنَ} ،واحد.
حمْل َفَأنْفِقُوا َ
ن أولتِ َ
ن كُ َ
قوله{ :وإ ْ
312
ن من الموجبين النفقةَ
فالجواب :أن ُم ْورِدَ هذا السؤالِ إما أن يكو َ
والسكنى ،أو ممن يُوجب السّكنى دون النفقة ،فإن كان الولُ ،فالي ُة على زعمه حجة عليه،
لنه سبحانه شرط في إيجاب النفقة عليهن كونهن حواملَ ،والحكم المعلّق على الشرط ينتفي عند
انتفائه ،فدل على أن البائنَ الحائلَ ل نفقة لها.
فإن قيل :فهذه دللة على المفهوم ،ول يقولُ بها.
قيل :ليس ذلك مِن دللة المفهوم ،بل مِن انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه ،فلو بقي الحكم بعد
انتفائه ،لم يكن شرطاً ،وإن كان فمن يُوجب السكنى وحدها فيقال له :ليس في الية ضمير واحد
جَلهُنّ
ن أَ َ
يخصّ البائن ،بل ضمائرها نوعان :نوع يخص الرجعية قطعاً ،كقوله{ :فَإذَا َبَلغْ َ
ل أن يكون للبائن ،وأن يَكون
ن ب َمعْروفٍ} [الطلق ]2 :ونوع يحَتمِ ُ
ف َأوْ فَارِقُوه ّ
ن ب َم ْعرُو ٍ
سكُوهُ ّ
فََأمْ ِ
خ ُرجْنَ} [الطلق،]1 :
ن بُيو ِتهِنّ وَل يَ ْ
خرِجُوهُنّ مِ ْ
ل ُت ْ
للرجعيةِ ،وأن يَكون لهما ،وهو قولهَ { :
ن مِنْ حيثُ سكنتُ ْم مِنْ وجْ ِدكُم} [الطلق ]6 :فحمله على الرجعية هو المتعين
س ِكنُوهُ ّ
وقوله{ :أَ ْ
لِتتحد الضمائرُ ومفسرها ،وهو خلفُ الصل ،والحمل على الصل أولى.
فإن قيل :فما الفائدة في تخصيص ،نفقة الرجعية بكونها حاملً؟
قيل :ليس في الَية ما يقتضي أنه ،ل نفقة للرجعية الحائل ،بل الرجعيةُ نوعان ،قد بيّن الّ
حكمهما في كتابه :حائل ،فلها النفقة بعقد الزوجية ،إذ حكمُها حكم الزواج ،أو حامل ،فلها النفقة
بهذه الية إلى أن تضع حملها ،فتصير النفق ُه بعد الوضع نفقةَ قريب ل نفقة زوج ،فيخالف حالها
قبل الوضع حالها بعده ،فإن الزوج يُنفق عليها وحدَه إذا كانت حاملً ،فإذا وضعت ،صارت نفقتها
ب عليه نفقة الطفل ،ول يكون حالها في حال حملها كذلك ،بحيث تجب نفقتُها على من
ج ُ
على من ت ِ
تجب عليه نفقة الطفل ،فإنه في حال حملها جزء من أجزائها ،فإذا انفصل ،كان له حكم آخر،
ل أعلم بما أراد من كلمه.
وانتقلت النفقةُ مِن حكم إلى حكم ،فظهرت فائدة التقييد وسر الشتراط وا ّ
ذكر حكم رسول الّ صلى ال عليه وسلم الموافق لكتاب ال تعالى من وجوب النفقة
للقارب
روى أبو داود في ((سننه)) :عن كليب بن منفعة ،عن جده ،أنه أتى النبي صلى ال عليه
ك الّذِي يَلي ذاك ،حَقّ
لَخ َتكَ َوأَخَاكَ َو َموْ َ
ك وأُ ْ
وسلم فقال :يا رسول الّ ! من أ َبرّ؟ قال ((ُأمّك وَأبَا َ
وَاجِب ورَحِ ٌم َم ْوصُولَةٌ))
313
ل صلى ال عليه
ت المدينة ،فإذا رسولُ ا ّ
وروى النسائي عن طارِق المحاربي قال :قدم ُ
ك َوَأبَاكَ،
ن َتعُولُُ :أ ّم َ
س وهو يقول(( :يَدُ ال ُمعْطي ال ُع ْليَا ،وَابْدَأ ِبمَ ْ
وسلم قائ ٌم على المنبر يخطُب،النا َ
ك أَ ْدنَاكَ))
خ َتكَ وأَخَاكَ ،ثُ ّم أَ ْدنَا َ
َوأُ ْ
ل إلى رسول الّ صلى
ل عنه قال :جاء رج ٌ
وفي ((الصحيحين)) :عن أبي هُريرة رضي ا ّ
ق الناسِ بحُسن صَحَابتي؟ قال ((ُأ ُمكّ)) ،قال :ثم من؟
ل ! من أح ّ
ال عليه وسلم ،فقال :يا رسولَ ا ّ
ك أَ ْدنَاكَ)).
ك ثُ َم أَ ْدنَا َ
قال(( :أُ ّمكَ)) ،قال :ثم من؟ قالُ(( :أمّكَ)) ،قال :ثم من؟ قالَ(( :أبُو َ
ن َأ َبرُ؟
وفي الترمذي ،عن معاوية القُشيري رضي الّ عنه ،قال :قلت :يا رسولَ الّ ! مَ ْ
قال(( :أُ ّمكَ)) ،قلتُ :ثم مَنْ؟ قالُ(( :أ ّمكَ)) ،قلت :ثم من؟ قالُ(( :أمّك)) ،قلت :ثم مَن؟ قالَ(( :أبَاكَ
ثُمّ الَ ْق َربَ فَالَق َربَ)).
ك َو َولَدَك بِال َم ْعرُوفِ)).
وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم لِهند(( :خُذي مَا َيكْفِي ِ
وفي ((سنن أبي داود)) ،من حديث عمرو بن شعيبٍ ،عن أبيه ،عن جدّه ،عن النبيّ صلى
س ِبكُمْ ،وإِنّ َأوْلَ َدكُ ْم مِنْ كَس ِبكُم َف ُكلُوهُ هنيئاً)).
ن كَ ْ
ب مَا َأ َكلْتم مِ ْ
ط َي َ
ال عليه وسلم أنه قال(( :إنّ أَ ْ
ورواه أيضاً من حديث،عائشة رضي ال عنها مرفوعاً.
ل صلى ال عليه وسلم ((ابْ َدأْ
وروى النسائي من حديث جابر بن عبد الّ ،قال :قال رسول ا ّ
ن أَ ْهِلكَ شَيءٌَ ،فلِذِي َقرَا َبتِكَ ،فَإنْ َفضَلَ
عَل ْيهَا فَإِنْ َفضَلَ شَيءٌ ،فَل ْهِلكَ ،فَإنْ َفضَلَ عَ ْ
سكَ فَتصَدّقْ َ
ِبنَفْ ِ
عَنْ ذِي َقرَابتكَ ،فهكَذَا وهكَذَا)).
شيْئًا وبِالوَالِدَينِ إحْسَانًا وبذِي
ش ِركُوا بِهِ َ
ل تُ ْ
ل وَ َ
عبُدُوا ا َ
وهذا كله تفسير لقوله تعالى{ :وَا ْ
ال ُق ْربَى} [النساء ]36 :وقوله تعالى{ :وآتِ ذا ال ُقرْبى حَقّهُ} [السراء ]26 :فجعل سبحانه حق ذى
القربى يلي حق الوالدين ،كما جعله النبيّ صلى ال عليه وسلم سواءً بسواء ،وأخبر سبحانه؟ أن
ق النفقةِ ،فل نَ ْدرِي أيّ حقّ ُهوَ.
لذي القربى حقًا على قرابته ،وأمر بإتيانه إياه ،فإن لم يكن ذلك ح ّ
عرْياً ،وهو قادر
وأمر تعالى بالِحسان إلى ذي القربى .ومن أعظم الِسا َء َة أن يراه ،يموت جوعًا و ُ
ع ْورَة إل بأن يقرضه ذلك في ِذ ّمتِهِ،
ستُر له َ
ع ْو َرتِهِ ،ول يطعمه لُقمة ،ول يَ ْ
خلّته وستر َ
على سد َ
وهذَا الحكم من ،النبيّ صلى ال عليه وسلم مطابق لكتاب الّ تعالى حيث يقول{ :وَالوَالِدَاتُ
س َو ُتهُنّ
علَى ال َموْلُو ِد لَ ُه ِرزْقهنّ وكِ ْ
ن لِمنَ َأرَا َد أَنْ يتُ ّم ال ّرضَاعَةَ وَ َ
ن َأوْلدَهُنّ حَوَليْنِ كا ِمَليْ ِ
ُي ْرضِعْ َ
علَى الوَا ِرثِ ِمثْلُ
ل ُتضَارّ وَالِ َد ٌة ِب َولَدِها وَلَ َم ْولُو ٌد لَ ُه ِب َولَدهِ وَ َ
س َعهَا َ
ل وُ ْ
ف نَ ْفسٌ إ ّ
بِال َم ْعرُوفِ ل ن َكّل ُ
َذِلكَ} [البقرة ]233 :فأوجب سبحانه وتعالى على الوارثِ مثل ما أوجب على المولود له ،وبمثلِ
314
ع َييْةً ،عن ابن
ل عنه .فروى سفيان بن ُ
هذا الحكم حكم أمي ُر المؤمنين عمرُ بنُ الخطاب رضي ا ّ
صبَةَ صبيّ
ع َ
ح َبسَ َ
جريج ،عن عمرو بن شعيب ،عن سعيد بن المسّيب ،أن عمر رضي ال عنه َ
على أن ُينْفقوا عليه ،الرجال دون النّساء .وقال عبد الرزاق :حدثنا ابن جريج ،أخبرني عمرو بن
شعيب ،أن ابن المسيّب أخبره ،أن عم َر بنَ الخطاب رضي الّ عنه ،وقف بني عم على َمنْفُوسٍ
كَللة بالنفقة عليه مثل العاقلة ،فقالوا :ل مال له ،فقال :وَلوْ ،وقوفُهم بالنفقة عليه كهيئة العقل ،قال
ابن المديني :قوله :ولو ،أي :ولو لم يكن له مال .وذكر ابن أبي شيبة ،عن أبي خالد الحمر ،عن
حجاج ،عن عمرو ،عن سعيد بن المسيب ،قال :جاء ولي يتيم إلى عم َر بنِ الخطّاب رضي ال
ت عليهم .وحكم بمثل ذلك أيضاً
عنه ،فقالَ :أنْفِق عليه ،ثم قال :لو لم أج ْد إل أقصى عشيرته لَ َف َرضْ ُ
زيدُ بن ثابت.
قال ابن أبي شيبة :حدثنا حميد بن عبد الرحمن ،عن حسن ،عن مطرف،عن إسماعيل ،عن
الحسن ،عن زيد بن ثابت ،قال :إذا كان أُ ّم وَعَمّ ،فعلى الم بقدر مِيراثها ،وعلى العم بقدر مِيراثه،
ول يعرفُ لعمر ،وزيد مخالف في الصحابة البتّةَ.
ل ذِلكَ} [البقرة ،]233 :قال :على ورثة
ث ِمثْ ُ
علَى الوَا ِر ِ
وقال ابن جريج :قلت لعطاء{ :و َ
اليتيم أن ينفقوا عليه كما يرثونه .قلت له :أيحْبسُ وارث المولود إن لم يكن للمولود مال؟ قال:
ل الذي َي ِرثُ
ل ذِلكَ} [البقرة ]233 :قال :على الرج ِ
أفيدعُه يموت؟ وقال الحسن{ :وعَلى الوَا ِرثِ ِمثْ ُ
سرَ الية جمهورُ السلف ،منهم :قتادة ،ومجاهد ،والضحاك،
أن ينفق عليه حتى يستغنيَ .وبهذا ف ّ
ل بن عتبة بن مسعود ،وإبراهيم
ن ذؤيب ،وعبدُ ا ّ
وزيدُ بن أسلم ،وشريح القاضي ،و َقبِيص ُة ب ُ
ب ابن مسعود ،ومن بعدهم :سفيان الثوري ،وعبد الرزاق ،وأبو حنيفة
النخعي ،والشعبي ،وأصحا ُ
وأصحابه ،ومن بعدهم :أحمد ،وإسحاق ،وداود و أصحابهم.
وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على عدة أقوال.
صلَة ،وهذا مذهب ُيعَزى
ج َبرُ أح ٌد على نفقةِ أحدٍ من أقاربه ،وإنما ذلك ِب ٌر و ِ
أحدُها أنه ل يُ ْ
إلى الشعبي .قال عب ُد بنُ حمي ٍد الكَشّي :حدثنا َقبِيصةُ ،عن سفيان الثوري ،عن أشعث ،عن الشعبى،
قال :ما رأيت أحداً أجبرَ أحدًا على أحدٍ ،يعني على نفقته .وفي إثبات هذا المذهب بهذا الكلم نظر،
ي أن يجب َرهُ
ل من أن يحتاج الغن ّ
س كانوا أتقى ّ
والشعبي أفقه من هذا ،والظاهر أنه أراد :أن النا َ
الحاكم على الِنفاق على قريبه المحتاج ،فكان الناس يكتفون بإيجاب الشرع عن إيجاب الحاكم أو
إجباره.
315
المذهب الثاني :انه يجب عليه النفقةُ على أبيه الدنى ،وأمّه التي ولدته خاصة ،فهذان
البوان يجبر الذكر والنثى من الولد على النفقة عليهما إذا كانا فقيرين ،فأما نفقةُ الولدِ ،فالرجل
يُجْب ُر على نفقة ابنهِ الدنى حتى يبلغ فقط ،وعلى نفقة بنته الدنيا حتى ُت َزوّجَ ،ول يجبر على نفقة
ابن ابنه ،ول بنت ابنه وإن سفل ،ول ُتجْبرُ الُ ُم على نفقة ابنها وابنتها ولو كانا في غاية الحاجة
والم في غاية الغنى ،ول تجب على أحد النفق ُة على ابن ابن ،ول جدّ ،ول أخٍ ،ول أختٍ ،ول
عمّ،ول عمةٍ ول خالٍ ول خالةٍ ول أحد من القارب البتة سوى ما ذكرنا .وتجب النفقةُ مع اتحادِ
الدّين واختلفه حيث وجبت ،وهذا مذهب مالك ،وهو أضيقُ المذاهب في النفقات.
المذهب الثالث :أنه تجبُ نفق ُة عمودي النسب خاصة ،دون مَنْ عداهم ،مع اتفاق الدّين،
ن أو زمانةٍ إن
ق عليه ،وعجزه عن الكسب بصغرٍ أو جنو ٍ
ويَسَا ِر المنفِقِ ،وقدرته ،وحاجة ال ُمنْفَ ِ
ن من العمود العلى :فهل يشترط عَجْزهُم عن الكسبِ؟ على قولين.
كان من العمود السفل .وإن كا َ
ومنهم من طرّد القولين أيضاً في العمود السفل .فإذا بلغ الولد صحيحاً ،سقطت نفقته ذكراً كان أو
أنثى ،وهذا مذهب الشافعي ،وهو أوسع من مذهب مالك.
حرَمٍ لذي رحمه فإن كان من الولد
جبُ على كل ذي رحم مَ ْ
المذهب الرابع :أن النفقة تَ ِ
وأولدهم ،أو الباء والجداد ،وجبت نفقتُهم مع اتحاد الدَين واختلفه .وإن كان من غيرهم ،لم
تجب إل مع اتحاد الدّين ،فل يجب على المسلم أن ينفق على ذي رحمه الكافر ،ثم إنما تجب النفقة
ع ُتبِرَ فَ ْق ُرهُ فَقَط ،وإن كان كبيراً ،فإن كان
ق عليه .فإن كان صغيرًا ا ْ
بشرط قدرة المنفِق وحاجة المنفَ ِ
عمَاهُ أو َزمَا َنتِهِ ،فإن كان صحيحًا بصيرا لم تجب
أنثى ،فكذلك ،وإن كان َذكَراً ،فل بُدّ مع فقره من َ
نفقته ،وهي مرتّبة عنده على الميراث إل في نفقة الولد ،فإنها على أبيه ،خاصة على المشهور من
مذهبه.
وروي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي :أنها على أبويه خاصة بقدر ميراثهما طردًا للقياس،
وهذا مذهب أبي حنيفة ،وهو أوسعُ من مذهب الشافعي،
المذهب الخامس :أن القريب إن كان من عمودي النسب وجبتْ نفقته مطلقاً ،سواءً كان
وارثاً أو غير وارث ،وهل يشترط اتحا ُد الدّين بينهم؟ على روايتين وعنه رواية أخرى :أنه ل تجبُ
ض أو َتعْصيب كسائر القارب .وإن كان من غير عمودي النسب،
نفقتُهم إل بشرط أن يرثهم بِ َفرْ ٍ
وجبت نفقتهم بشرط.
316
أن يكون بينه وبينهم توارث .ثم هل يشترط أن يكون التوارث من الجانبين ،أو يكفي أن
يكون من أحدهما؟ على روايتين .وهل يشترط ثبوت التّوا ُرثِ في الحال ،أو أن يكون من أهل
الميراث في الجملة؟ على روايتين :فإن كان القارب من ذوي الرحام الذين ل يرثون ،فل نفقةَ
لهم على المنصوص عنه ،وخرّج بعض أصحابه وجوبَها عليهم من مذهبه من توارثهم ،ول بد
عنده من اتّحاد الدّين بين المنفِق والمنفَقِ عليه حيث وجبت النفقة إل في عمودي النسب في إحدى
الروايتين .فإن كان الميراث بغير القرابة ،كالولء وجبت النفقة به في ظاهر مذهبه على الوارث
ل لزمته نفقةُ زوجتِهِ في ظاهر مذهبه .وعنه :ل تلزمه .وعنه:
دون الموروث ،وإذا لزمتْه نفقةُ رج ٍ
تلزمه في عمودي النسب خاصة دون مَنْ عداهم .وعنه :تلزمه لزوجة الب خاصة ،ويلزمه
س ّر إذا طلبوا ذلك.قال القاضي أبو يعلى :وكذلك يجيءُ في كل مَنْ
إعفاف عمودي نسبه بتزويج أو تَ َ
لزمته نفقتُه :أخ ،أو عم ،أو غيرهما يلزمُه إعفافُه ،لن أحمد رحمه الّ قد نص في العبد يلزمه أن
يزوجه إذا طلب ذلك ،وإل بيع عليه ،وإذا لزمه إعفافُ رجل لزمه نفقة زوجته ،لنه ل ُت َمكّنُ من
الِعفاف إل بذلك ،وهذه غير المسألة المتقدمة ،وهو وجوب الِنفاق على زوجة المنفَق عليه ،ولهذه
مأخذ ،ولتلك مأخذ ،وهذا مذهب الِمام أحمد ،وهو أوسع من مذهب أبي حنيفة ،وإن كان مذهب
ب النفقةَ على ذوي الرحام وهو الصحيح في الدليل،
ج ُ
ث يُو ِ
أبي حنيفة أوسعَ منه من وجه آخر حي ُ
ل أن تُوصَلَ،
وهو الذي تقتضيه أصولُ أحمد ونصوصُه وقواعد الشرع ،وصلةُ الرحم التي أمر ا ّ
ق بشيئين :بالميراث بكتاب الّ ،وبالرحم بسنة رسول
ستَحَ ّ
وحرّمَ الجنة على كل قاطع رحم ،فالنفقةُ تُ ْ
صبَ َة صبيّ أن
ع َ
ل صلى ال عليه وسلم .وقد تقدَ َم أن عمر بن الخطاب رضي الّ عنه حبس َ
ا ّ
ينفقوا عليه ،وكانوا بني عمه ،وتقدّمَ قولُ زيد بن ثابت :إذا كان عَ ّم وأمّ فعلى العم بقدر ميراثه،
وعلى الم بقدر ميراثها ،فإنه ل مخالف لهما في الصحابة البتة ،وهو قولُ جمهو ِر السلف ،وعليه
يدل قوله تعالى{:وآتِ ذا ال ُق ْربَى حَقّه} [السراء ،]26 :وقوله تعالى{ :وَبا ْلوَال َديْن إحْسَانًا وَبذي
ال ُق ْربَى} [النساء.]36 :
خ َتكَ
وقد أوجب النبى صلى ال عليه وسلم للقارب ،العطية وصرّح بأنسابهم ،فقال(( :وأُ ْ
ب َورَحِ ٌم َموْصُولَةٌ)).
ج ٌ
ق وَا ِ
َوأَخَاكَ ،ثُ ّم أَ ْدنَاكَ فأدناكَ ،حَ ّ
فإن قيل :فالمراد بذلك ال ِبرّ والصّلةُ دون الوجوب.
قيلَ :يرُدّ هذا أنه سبحانه أمر به وسمّاهُ حقاً ،وأضافه إليه بقوله(( :حَقّهُ)) ،وأخبر النبى
صلى ال عليه وسلم بأنه حقّ ،وأنه واجبٌ ،وبعض هذا ينادى على الوجوب جهاراً.
317
فإن قيل :المراد بحقه ترك قطيعته.
فالجواب :من وجهين .أحدهما :أن يقال :فأى قطيعة أعظم من أن يراه يتلظّى جُوعاً
س ِكنُهُ
ع ْو َرتَهُ ويقيهِ الح ّر والبردَ ،ويُ ْ
وعَطَشاً ،ويتأذّى غاية الذى بالحر والبرد ،ول يكسوه ما يستر َ
صنْو أبيه ،أو خالته التى هى أمه ،إنما
تحت سقف يُظله ،هذا وهو أخوه ابن أمه وأبيه ،أو عمه ِ
يجب عليه من ذلك ما يجب بَ ْدلُهُ للجنبىّ البعيد ،بأن يعاوضه على ذلك فى ال ّذمّ ِة إلى أن يُوسر ،ثم
سعَ ِة الموال .فإن لم تكن هذه قطيعة ،فإنا
يسترجع به عليه ،هذا مع كونه فى غاية اليَسَارِ والجِ َدةِ ،و َ
صلَةُ التى أمر الّ بها ،وحرّمَ الجنة على قاطعها.
ل ندرى ما هى القطيعة المحرمة ،وال ّ
الوجه الثانى :أن يقال :فما هذه الصلة الواجبة التى نادت عليها النصوصُ ،وبالغت فى
خ ِبرَ به اللسنة،
إيجابها ،و َذ ّمتْ قاطعها؟ فأىّ قَ ْدرٍ زائدٍ فيها على حق الجنبىّ حتى َتعْ ِقلَهُ القلوب ،وتُ ْ
و َت ْعمَلَ به الجوارحُ؟ أهو السل ُم عليه إذا لقيه ،وعيادتُه إذا مرض ،وتشميتُه إذا عطس ،وإجابتُه إذا
ب نظيرُه للجنبىّ على الجنبىّ؟ وإن كانت هذه
دعاهُ ،وإنكم ل تُوجبون شيئًا من ذلك إل ما يج ُ
ب لكل مسلم على كُلّ مسلم،
الصّل ُة ترك ضربِه وسبه وأذاه والزراء به ،ونحو ذلك ،فهذا حق يج ُ
بل للذمّى البعيد على المسلم ،فما خصوصي ُة صلةِ الواجبة؟ ولهذا كان بعضُ فضلء المتأخّرين
س هذا على أصحابِ مالك ،وقالوا لهم:
يقول :أعيانى أن أعرف صلةَ الرحم الواجبة .ولما َأ ْورَ َد النا ُ
ص ّنفَ بعضُهم فى صلة الرحم كتابًا كبيراً ،وأوعب فيه من الثارِ
ما معنى صلةِ الرحم عندكم؟ َ
المرفوعةِ ،وذكر جنسَ الصلة وأنواعها وأقسامها ،ومع هذا فلم يتخلّص من هذا اللزام ،فإن الصلة
معروفة يعرفُها الخاصّ والعام ،والثارُ فيها أشهر من العلم ،ولكن ما الصّل ُة التى تخ َتصّ بها
الرحمُ ،وتجب له الرحمة ،ول يُشاركه فيها الجنبى؟ فل يُمكنكم أن ُت َعيّنوا وجوب شىءٍ إل وكانت
ب منه ،ول يمكنكم أن تَ ْذكُروا مُسْقِطًا لوجوب النّفقة إل وكان ما عداها أولى بالسقوط
النفقةُ أوج َ
خ َتكَ
ك وَأبَاكَ ،وأُ ْ
ى صلى ال عليه وسلم قد َقرَنَ حَقّ الخ والخت بالب والم ،فقال((:أُ ّم َ
منه ،والنب ّ
خ َرهُ للستحبابِ؟
َوأَخَاكَ ،ثُ ّم أَ ْدنَاكَ فَأَ ْدنَاكَ)) ،فما الذى نسخ هذا ،وما الذى جعل َأ ّولَهُ للوجوب ،وآ ِ
س ال ُك ُنفَ ،ويُكارى على الحُمر ،ويُوقِدُ
ع ِرفَ هذا ،فليس من ِب ّر الوالدينِ أن يَدَعَ الرجلُ أبا ُه َي ْكنُ ُ
وإذا ُ
سعَةِ
ج َرتِهِ ،وهو فى غاية الغِنى واليَسَار ،و َ
حمِلُ للناس على رأسه ما َيتَ َق ّوتُ بأُ ْ
حمّامِ ،ويَ ْ
فى أَتوّنِ ال َ
عهَا تَخْدُ ُم النّاسَ ،وتغسلُ ثيابهم ،وتسقى لهم الماء ونحو ذلك ،ول
ذاتِ اليدِ ،وليس مِن ِب ّر ُأمّهِ أن يَدَ َ
ع َم َييْنِ ،فبالِّ
سبَانِ صحيحانِ ،وليسا ِب َز ِم َنيْنِ ول أَ ْ
يصُونُها بما ُينْفِقهُ عليها ،ويقول :البوان ُم ْكتَ ِ
318
ل ورسولهِ فى ب ّر الوالدين ،وصِلَ ِة الرّح ِم أن يكون أحدُهم َزمِنًا أو أعمى،
العجبُ :أين شرطُ ا ّ
ل التوفيق.
صلَ ُة الرّحمِ ول ِب ّر الوالدين موقوف ًة على ذلك شرعًا ول لغةً ول عرفاً ،وبا ّ
وليست ِ
ِذ ْكرُ حكم رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم فى الرضاعة وما يحرم بها ،وما ل يحرم ،وحُكمه
فى القَ ْدرِ المحرّم منها وحُكمه فى إرضاع الكبير ،هل له تأثير ،أم ل؟
(يتبع)...
ل عنها ،عنه صلى ال عليه وسلم أنه
ثبت فى ((الصحيحين)) :من حديث عائشة رضى ا ّ @
ل عنهما أن النبىّ
حرّ ُم الولَدَة)).وثبت فيهما :من حديث ابن عباس رضى ا ّ
ن الرّضَاعَ َة تُ َ
قال(( :إ ّ
صلى ال عليه وسلم أُريد على ابنة حمزَة ،فقال:
حرُ ُم من
حرُ ُم مِن الرّضَاعَةِ ما يَ ْ
ل لى ،إ ّنهَا ابنةُ أخى مِن الرّضاَعَةِ َويَ ْ
((إِ ّنهَا ل تَحِ ّ
ع ّمكِ))
ح أخى أبى ال ُق َعيْسِ ،فَِإنّهُ َ
الرّحِم)).وثبت فيهما :أنه قال لعائشة رضى الّ عنها(( :ائذَنى لَ ْفلَ َ
وكانَت امرَأتُه أرضعت عائش َة رضى الّ عنها.وبهذا أجاب ابنُ عباس لما سئل عن رجل له
ل للغلم أن يتزوجَ الجارية؟ قال :ل
جاريتان ،أرضعت إحداهما جاريةً ،والخرى غُلماً :أَيحِ ّ
اللّقَاحُ واحِدُ.
وثبت فى ((صحيح مسلم)) عن عائشة رضىالّ عنها ،عن النبىّ صلى ال عليه وسلم(( :لَ
حرّ ُم المَصّ ُة والمَصّتانِ)).
تُ َ
جتَانِ)).
حرّمُ الملجَةُ والمل َ
وفى رواية(( :لَ تُ َ
وفى لفظ له :أن رجلً قال :يا رسولَ الّ هل تحرّم الرضعةُ الواحِ َدةُ؟ قال :ل.
ن القُرآنِ:
ل مِ َ
وثبت فى ((صحيحه)) أيضاً :عن عائشة رضى الّ عنها قالت :كَانَ فيما َنزَ َ
ل صلى ال عليه
س َم ْعلُومَاتٍ ،فتو ّفىَ رسولُ ا ّ
خ ْم ٍ
ن بِ َ
ح ّرمْنَ ثم نُسِخْ َ
ت َم ْعلُومَاتٍ ُي َ
ضعَا ٍ
شرُ َر َ
عَ ْ
وسلم ،وهُنّ فيما يقرأ مِن القرآن.
وثبت فى ((الصحيحين)) :من حديث عائشة رضى الّ عنها ،أن النبىّ صلى ال عليه وسلم
قال(( :إ ّنمَا ال ّرضَاعَةُ من المَجَاعَة)).وثبت فى ((جامع الترمذى)) :من حديث أم سلمة رضى الّ
ن ال ّرضَاعَةِ إل ما َفتَقَ ال ْمعَاء فى الثّدْى
حرّمُ مِ َ
لّ صلى ال عليه وسلم قال(( :ل يُ َ
عنها ،أن رسولَ ا ِ
وكَانَ َقبْل الفِطَام)) ،وقال الترمذى :حديث صحيح .وفى سنن الدارقطنى بإسناد صحيح ،عن ابن
عباسٍ يرفعه(( :ل رضاع إل ما كان فى الحولين)).
319
ت اللّحْمَ
وفى سنن أبى داود :من حديث ابن مسعود يرفعه(( :ل يحرم مِن الرضَاع إل مَا َأ ْن َب َ
شرَ العَظْمَ)).
َوَأنْ َ
س َهيْل إلى
س ْهلَة بنتُ ُ
وثبت فى ((صحيح مسلم)) :عن عائشة رضى الّ عنها قالت :جاءت َ
النبىّ صلى ال عليه وسلم ،فقالت :يا رسول الّ ،إنى أرَى فى وجه أبى حُ َذيْفَ َة مِن ُدخُولِ سال ٍم وهو
عَليْهِ)).وفى رواية له عنها قالت:
حرُمى َ
حلِيفُهُ ،فقال النبى صلى ال عليه وسلم(( :أَ ْرضِعيهِ َت ْ
َ
ل صلى ال عليه وسلم ،فقالت :يا رسول الّ ،إنى أرى فى
س َهيْل إلى رسول ا ّ
س ْهلَ ُة بنتُ ُ
جاءت َ
ى صلى ال عليه وسلم(( :أرضعيهِ)) ،فقالت:
وجه أبى حُ َذيْفَة من دخول سالم وهو حليفُه ،فقال النب ّ
عِل ْمتُ أنه
لّ صلى ال عليه وسلم ،وقال(( :قد َ
ضعُهُ وهو رَجُلٌ كبير ،فتبسّم رَسولُ ا ِ
وكيف أُر ِ
كبير)).
وفى لفظ لمسلم :أن أم سلم َة رضى الّ عنها قالت لعائش َة رضى الّ عنها :إنه يدخُل عليك
ل علىّ ،فقالت عائش ُة رضى الّ عنها :أما َلكِ فى رسولِ الّ
ب أن يدخ َ
ح ّ
الغلمُ اليْفَ ُع الذى ما أُ ِ
ل علىّ وهو
صلى ال عليه وسلم أسوةٌ؟ إن امرأة أبى حُذيفة قالت :يا رسولَ الّ ،إن سالماً يدخ ُ
حتّى يَ ْدخُل
ل صلى ال عليه وسلم ((أَ ْرضِعيهِ َ
رَجُل ،وفى نفس أبى حُذيفَة منه شىءٌ ،فقال رسولُ ا ّ
عَل ْيكِ)).
َ
وساقه أبو داود فى ((سننه)) سياقه تامة مطولة ،فرواه من حديث الزهرى ،عن عروة ،عن
عائشة وأم سلمة رضى الّ عنهما ،أن أبا حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنّى سالماً،
ت الوليد بن عتبة ،وهو مولىً لمرأة من النصار ،كما َت َبنّى رسولُ الِّ
وأنكَحَهُ ابنةَ أخيه هندًا بن َ
ن َت َبنّى رجلً فى الجاهلية ،دعا ُه النّاسُ إليهَ ،و َو ِرثَ ميراثَه،
صلى ال عليه وسلم زيداً ،وكان مَ ْ
ن لَ ْم َت ْعَلمُوا آبَاءَهم فَإخْوانُكم فى
عنْدَ الِّ فَإِ ْ
حتى أنزل الّ تعالى فى ذلك{ :ادْعُوهُم لبا ِئهِمْ ُه َو أَقْسَطُ ِ
الدّينِ و َموَالِيكُمْ} [الحزاب ]5 :فردوا إلى آبائهم فمن لم ُيعْل ْم له أبٌ كان مولىً وأخاً فى الدّين،
عمْرو القرشى ،ثم العامرى ،وهى امرأةُ أبى حذيفة ،فقالت :يا رسول
س َهيْل بن َ
س ْهلَة بنتُ ُ
فجاءت َ
الِّ ،إنا ُكنّا نرى سالِمًا ولداً ،وكان يأوى معى ومع أبى حذيفة فى بيتٍ واحدٍ ،ويرانى ُفضُلً ،وقد
ل صلى ال عليه وسلم:
عِلمْتَ ،فكيف َترَى فيه؟ فقال رَسُولُ ا ّ
أنزلَ الُّ تعالى فيهم ما قد َ
((أرضعيه)) فأرْض َعتْهُ خمس رضعاتٍ ،فكان بمنزلةِ ولدِها من الرّضَاعَةِ ،فبذلك كانت عائشةُ
ح ّبتْ عائش ُة رضى الّ عنها أن
ن أَ َ
ضعْنَ مَ ْ
ت أخواتهَا أَن يُر ِ
رضى الّ عنها تأ ُمرُ بناتِ إخوتِها ،وبنا ِ
سَلمَةَ وسائرُ
ت ذلك أُمّ َ
س رضعاتٍ ،ثُمّ يدْخُلُ عليها ،وَأ َب ْ
خ ْم َ
َيرَاهَا ويدخلَ عليها ،وإن كان كبيراً َ
320
ن عليهنّ أحدًا بتلك الرِضاعةِ مِن الناس حتى يرضع فى
خلْ َ
ج النبىّ صلى ال عليه وسلم أن يُدْ ِ
أزوا ِ
ى صلى ال عليه وسلم لسالم دُونَ
خصَ ًة من النب ّ
المهد ،وقلن لعائشة :والّ ما ندرى لعلّها كانت رُ ْ
الناس.
لمّة ،وفى بعضها نِزاع.
سنَنُ الثابتةُ أحكاماً عديدةً ،بعضها متفق عليه بين ا ُ
فتضمنت هذه ال ّ
حرّ ُم الوِلدَةُ)) ،وهذا
حرّمُ ما تُ َ
الحكم الول :قولُه صلى ال عليه وسلم(( :ال ّرضَاعَ ُة تُ َ
سنّةِ،
ق عليه بين المّةِ حتى عِند من قال :إن الزيادة على النص نسخ ،والقرآنُ ل ُينْسخُ بال ّ
الحكم متف ٌ
فإنه اضْطُر إلى قبولِ هذا الحكم وإن كان زائداً على ما فى القرآن ،سواء سماه نسخًا أو لم يُسمه،
كما اضطُر إلى تحريم الجمع بين المرأة وع ّم ِتهَا ،وبينَها وبينَ خالتها ،مع أنه زياد ٌة على نص
ن المرضع َة والزوج
القرآن ،وذكرها هذا مع حديث أبى ال ُقعَيس فى تحريم لبن الفَحْل على أ ّ
حرْمة مِن ه ِذهِ الجهات
ل ولداً لهما ،فانتشرتِ ال ُ
ب الّلبَن قد صارا أبوين للطفل ،وصار الطف ُ
صاح َ
ل وإن نزلوا أولدُ ولدِهما ،وأول ُد كُلّ واحد من المرضعة والزوج من الخر
الثلثِ ،فأول ُد الطف ِ
ومن غيره ،إخوت ُه وأَخواته من الجهات الثلث .فأولدُ أحدهما من الخر إخوتُه وأَخواته لبيه
وأمه ،وأولد الزوج من غيرها إخوته وأخواته من أبيه ،وأول ُد المرضعة من غيره إخوتُه وأخواتُه
لمه ،وصار آباؤها أجدَا َدهُ وجَدّاتِه ،وصارَ إخوة المرأة وأخواتُها أَخوالَه وخالتِه ،وإخوةُ صاحب
ح ْرمَ ُة ال ّرضَاعِ تنتشر من هذه الجهات الثلث فقط .ول يتعدّى
عمّاتِه ،فَ ُ
اللبن وأخَواتُه أعمامه و َ
ن أرضعتْ
ح مَ ْ
التحريمُ إلى غير المرتضع ممن هو فى درجته من إخوته وأَخَواتِهِ ،فيُباح لخيه ِنكَا ُ
شرُ إلى مَنْ فوقه
ب اللبن وأبا ُه وبنيه ،وكذلك ل ينت ِ
ح ِ
ح صَا ِ
أخاهُ وبنا ِتهَا وأمها ِتهَا ،ويُباحُ لُختِه نكا ُ
عمّاتِ ِه وأخوالِهِ وخالتِهِ ،فلبى المرتضعِ مِن
من آبائِهِ وأمهاتِهِ ،ومَنْ فى درجت ِه مِن أعمامِ ِه و َ
النسب ،وأجداد ِه أن َي ْنكِحُوا أُ ّم الطّفْل من الرضاع وأمهاتِها وأخَوا ِتهَا وبنا ِتهَا وبنا ِتهَا ،وأن َي ْنكِحُوا
ُأمّهاتِ صاحبِ اللبن وأخواتِهِ وبناتِهِ ،إذ نظيرُ هذا من النسب حلل ،فللخ من الب أن يت َزوّج
أختَ أخيه من الُمّ ،وللْخ من الم أن َي ْنكِحَ أختَ أخيه من الب ،وكذلك يَنكِحُ الرجل أم ابنه من
النسب وأختها ،وأما أمّها وبنتُها ،فإنما حرمتا بالمصاهرة.
وهل يحرمُ نظي ُر المصاهرة بالرضاع ،فيحر ُم عليه أ ّم امرأتِه مِن الرضاع،
وبنتُها من ال ّرضَاعة ،وامرأةُ ابنه من الرّضاعة ،أو يحرمُ الجمعُ بين الختين من الرّضاعة ،أو بين
المرأة وعمتها ،وبينها وبين خالتها من الرضاعة؟ فحرّمه الئمة الربعة وأتباعهم ،وتوقف فيه
شيخُنا وقال :إن كان قد قال أحد بعدم التحريم ،فهو أقوى.
321
ن ال ّرضَاع مَا
حرُمُ مِ َ
ل فى قوله صلى ال عليه وسلم(( :يَ ْ
قال المحرّمون :تحريمُ هذا يدخ ُ
ل ولد الرضاعة وأبى
سبِ)) فأجرى الرّضاعة مجرى النسب ،وشبّهها به ،فثبت تنزي ُ
حرُ ُم من النّ َ
يَ ْ
ح ُرمَت امرأة
الرضاعة منزلةَ ولد النسب وأبيه ،فما ثبت للنسب من التحريم ،ثبت للرّضاعة ،فإذا َ
حرُ َم الجمع بين أُختى النسب،
ح ُرمْنَ بالرّضاعة .وإذا َ
الب والبن ،وأُمّ المرأة ،وابنتُها من النسبَ ،
حرّمَ
حرُ َم بين أُختى الرضاعة ،هذا تقدير احتجاجهم على التحريم .قال شيخ السلم :الّ سبحانه َ
َ
صهْر ،كذا قال ابن عباس .قال :ومعلوم أن تحري َم الرضاعة ل يُسمّى
سبعاً بالنسب ،وسبعًا بال ّ
ن ال ّرضَاعةِ
حرُمُ مِ َ
حرُ ُم من النسب ،والنبىّ صلى ال عليه وسلم قال(( :يَ ْ
حرُم منه ما يَ ْ
صهْراً ،إنما يَ ْ
ِ
حرُم بالمصاهرة ،ول
سبِ)) .ولم يقل :وما يَ ْ
حرُم من النّ َ
حرُ ُم من الولدة)) .وفى رواية(( :ما يَ ْ
ما يَ ْ
ذكره الُّ سبحانه فى كتابه ،كما ذكر تحريم الصّهرِ ،ول َذكَر تحري َم الجمع فى الرّضَاعِ كما ذكره
جعَلهُ
ن المَاءِ بَشَراً َف َ
ق مِ َ
خلَ َ
صهْر قسيمُ النسب ،وشقيقُه ،قال الّ تعالى{ :و ُه َو الّذِى َ
فى النسب ،وال ّ
صهْر ،وهما سببا التحريم ،والرّضاع
صهْراً} [الفرقان ]54 :فالعلقةُ بين الناس بالنسب وال ّ
نَسَبًا و ِ
حرّمَ الجمعَ بين الُختين،
فرع على النسب ،ول ُتعْقَلُ المصاهرة إل بين النساب ،والُّ تعالى إنما َ
ع ّم ِتهَا ،وبينها وبين خالتها ،لئل يُفضى إلى قطيع ِة الرّح ِم المحرّمة .ومعلوم أن
وبين المرأة و َ
الختين من الرّضاع ليس بينهما رَحِمٌ محرّمة فى غير النكاح ،ول ترتب على ما بينهما من أخوة
الرضاع حكمٌ قطّ غير تحريم أحدهما على الخر ،فل يعتق عليه بالملك ،ول ي ِرثُهُ ،ول يستحق
ل فى الوصية
النفقة عليه ،ول يثبتُ له عليه وليةُ النكاح ول الموتُ ،ول َيعْقِلُ عنه ،ول يدخ ُ
حرُم التفريق بين الم وولدها الصغير من الرضاعة،
والوقف على أقاربه وذوى رحمه ،ول يَ ْ
حرُم من النسب ،والتفريقُ بينهما فى الملك كالجمع بينهما فى النكاح سواء ،ولو ملك شيئًا من
ويَ ْ
ع ّمتُه
ختُه و َ
ت على الرجل ُأمّه وبنتُ ُه وأُ ْ
ح ُر َم ْ
المحرّمات بالرضاع ،لم يعتق عليه بالملك ،وإذا ُ
ب بينه
وخالتُه من الرضاعة ،لم يلزم أن يحرم عليه أ ّم امرأته التى أرضعت امرأته ،فإنه ل نس َ
وبينها ،ول مصاهرة ،ول رضاع ،والرضاعة إذا جعلت كالنسب فى حكم ل يلزم أن تكون مثله فى
كل حكم ،بل ما افترقا فيه من الحكام أضعافُ ما اجتمعا فيه منها ،وقد ثبت جوا ُز الجمع بين اللتين
بينهما مُصاهرة محرّمة ،كما جمع عبدُ الّ بن جعفر بين امرأ ِة علىّ وابنتِه من غيرِهَا .وإن كان
بينهما تحريمٌ يمنع جواز نكاح أحدها للخر لو كان ذكراً ،فهذا نظيرُ الختين من الرضاعة سواء،
ع بينه
لن سبب تحريم النكاح بينهما فى أنفسهما ،ليس بينهما وبين الجنبى منهما الذى ل رضا َ
صهْر ،وهذا مذهب الئمة الربعة وغيرهم.واحتجّ أحمد بأن عبد الّ بن جعفر جمع
وبينهما ول ِ
322
ن بنُ الحسن بن على ،بين
بين امرأ ِة علىّ وابنتِهِ ،ولم ينكر ذلك أحدٌ ،قال البخارى :وجمع الحس ُ
ش ْب ُرمَة :ل بأس به،
ى وابنته ،وقال ابنُ ُ
ل بن جعفر بين امرأة عل ّ
بنتى عم فى ليلة ،وجمع عبدُ ا ّ
وكرهه الحَسَنُ مرة ثم قال :ل بأس به .وكرهه جاب ُر بن زيد للقطيعة ،وليس فيه تحريم ،لقوله عز
ل َلكُم مَا َورَا َء ذِلكُم} [النساء ]24 :هذا كلم البخارى.
وجلَ { :وأُحِ ّ
وبالجملة :فثبوتُ أحكام النسب من وجهٍ ل يستلز ُم ثُبوتَها من كل وجه ،أو من وجه آخر،
حرْمة فقط ،ل فى
ت المؤمنين فى التحريم وال ُ
ن ُأمّها ُ
فهؤلء نسا ُء النبىّ صلى ال عليه وسلم هُ ّ
عمّن حرم عليه
ن ول ينظ َر إليهن ،بل قد أمرهُنّ الّ بالحتجابِ َ
المحرمية ،فليس لحد أن يخلوَ به ّ
نكاحهن من غير أقاربهن ،ومَنْ بينهن وبينه رضاع ،فقال تعالىَ { :وإِذَا سََأ ْل ُتمُوهُنّ َمتَاعاً فَاسْألُوهُنّ
ن البتة ،فليس بنا ُتهُنّ أخوات
مِنْ وراءِ حِجَابٍ} [الحزاب ]53 :ثم هذا الحكم ل يتعدّى إلى أقاربه ّ
ن وإِخوتهنّ
حرُمن على رجالهم ،ول بنوهُنّ إخوة لهم يحرم عَليْهنّ بنا ُتهُنّ ،ول أخوا ُتهُ ّ
المؤمنين يَ ْ
ت ميمونَة زوج
خالتٍ وأخوالً ،بل هن حلل للمسلمين بإتفاق المسلمين ،وقد كانت أُ ّم الفضل أخ ُ
ل صلى ال عليه وسلم تحت العباس ،وكانت أسماء بنتُ أبى بكر أختُ عائشة رضى الّ
رسول ا ّ
ت أبى بكر ،وأمّ حفصةَ تحت عمر رضى
ت الزبير ،وكانت أم عائشة رضى الّ عنها تح َ
عنها تح َ
ل بن عمر وإخوته ،وأولد أبى بكر ،وأولد أبى
ل عنه ،وليس لرجل يتزوج ُأمّة ،وقد تزوّجَ عبدُ ا ّ
ا ّ
ل لهن ،لم يجْز أن ينكحوهن ،فلم تنتشر الحُرمة من أمّهات
سفيان من المؤمنات ،ولو كانوا أخوا ً
ن ثبوتُ غيره من
المؤمنين إلى أقاربهنّ ،وإل لزم من ثبوت حكم من أحكام النسب بين الُمة وبينه ّ
الحكام.
ن أصْل ِبكُمْ}
ل َأ ْبنَائكُ ُم الّذِينَ مِ ْ
لئِ ُ
ك أيضاً قولُه تعالى فى المحرّمات{ :وحَ َ
ل على ذِل َ
ومما يد ّ
[النساء ]23 :ومعلوم أن لفظ البن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرّضاع ،فكيف إذا ُقيّ َد بكونه ابنَ
صلْب ،وقصْدُ إخراجِ ابن التّبنّى بهذا ل يمنع إخراجَ ابن الرضاع ،ويوجب دخلوه ،وقد ثبت فى
ُ
س َهيْل أن ُت ْرضِعَ سالمًا مولَى أبى حذيفة
س ْهلَة بنتَ ُ
((الصحيح)) :أنّ النبى صلى ال عليه وسلم أمر َ
حرَماً لها ،فأرضعت ُه بلبن أبى حذيفة زوجها ،وصار ابنَها ومح َرمَها بنصّ رسول الّ
ليصير مَ ْ
صلى ال عليه وسلم ،سواء كان هذا الحكم مختصاً بسالم أو عاماً كما قالته أ ّم المؤمنين عائشة
صرْ مَحْرماً لها،
حرَمًا لها ،لكونها أرضعتْهُ وصارت ُأمّهُ ،ولم َي ِ
رضى الّ عنها ،فبقى سالم مَ ْ
س ْهلَة له ،بل لو أرض َعتْهُ جاريةٌ له،
لكونها امرأة أبيه من الرّضاعة ،فإن هذا ل تأثيرَ فيه لرضاعة َ
علّل بهذا فى الحديث
أو امرأة أُخرَى ،صارت سهل ُة امرأة أبيه ،وإنما التأثي ُر لِكونه ولدَها نفسِها وقد ُ
323
ضعَات ،وكان
ضعِيه)) ،فأرضعتهُ خمس َر َ
ى صلى ال عليه وسلمَ(( :أرْ ِ
نفسِ ِه ولفظه :فقال النب ّ
بمنزلة ولدِها من الرضاعة ،ول يُمكِنُ دعوى الجماع فى هذه المسألة ،ومن ادعاه فهو كاذب ،فإن
سعيد بن المسيب ،وأبا سلمةَ بن عبد الرحمن ،وسليمانَ بن يسار ،وعطاءَ بن يسار ،وأبا قِلبة ،لم
يكونوا ُي ْث ِبتُون التحري َم بلبن الفحل ،وهو مروىّ عن الزبير ،وجماعة من الصحابة ،كما سيأتى إن
ل تعالى ،وكانوا يرون أن التحريمَ إنما هو من ِقبَلِ الُمهات فقط ،فهؤلء إذا لم يجعلوا
شاء ا ّ
المرتضِع من لبن الفحل ولداً له ،فأن ل يُحرّموا عليه امرأته ،ول على الرضيع امرأةَ الفحل
حرُ ُم على المرأة أبو زوجها من الرّضاعة ،ول ابنُه من
بطريق الولى ،فعلى قول هؤلء فل يَ ْ
الرضاعة.
فإن قيل :هؤلء لم ُي ْث ِبتُوا ال ُبنُوّة بين المرتضِع وبين الفحل ،فلم تثبتِ المصاهرةُ ،لنها فرع
ع من جهة الفحل
ت ُب ُن ّوةَ الرضا ِ
عهَا ،وأما من َأ َث َب َ
ثبوتِ ُب ُن ّو ِة الرّضاع ،فإذا لم تثبت له ،لم يثبت َفرْ ُ
ت المصاهرة بهذه
سنّة الصحيحة الصريحة ،وقال به جمهور أهل السلم ،فإنه َت ْث ُب ُ
كما دلت عليه ال ّ
البنوة ،فهل قال أحد ممن ذهب إلى التحريم بلبن الفحل :إن زوجة أبيه وابن ِه من الرضاعة ل
تحرم؟ قيل :المقصود أن فى تحريم هذه نزاعاً ،وأنه ليس مجمعًا عليه ،وبقى النظرُ فى مأخذه ،هل
هو إلغاء لبن الفحل ،وأنه ل تأثير له ،أو إلغاء المصاهرة من جهة الرّضاع ،وأنه ل تأثير لها،
وإنما التأثير لمصاهرة النسب؟
سنّة الصريحة بالتحريم بلبن الفحل ،وقد بينا أنه ل
ول شك أن المأخذ الول باطل ،لثبوت ال ّ
ت المصاهرة به إل بالقياس ،وقد تقدّمَ أن الفارق بين الصل والفرع
يلزم من القول بالتحريم به إثبا ُ
أضعاف أضعافِ الجامع ،وأنه ل يلزم من ثبوت حكم من أحكام النسب ،ثبوت حكم آخر.
ويدل على هذا أيضاً أنه سبحانه لم يجعل أُ ّم الرّضاع ،وأخت الرّضاعة داخلةً تحت ُأمّهاتنا
خوَا ُتكُمْ} [النساء ،]23 :ثم قال:
عَل ْيكُ ْم ُأ ّمهَا ُتكُم و َبنَا ُتكُ ْم َوأَ َ
ح ّر َمتْ َ
وأخوَاتنا ،فإنه سبحانه قالُ { :
ن الرّضاعَةِ} [النساء ]23 :فدل على أن لفظ أمّها ِتنَا عند
خوَا ُتكُ ْم مِ َ
ض ْع َنكُم َوأَ َ
{وُأ ّمهَا ُتكُمُ اللّتى َأرْ َ
الطلق :إنما يراد بها الم من النسب ،وإذا ثبت هذا ،فقوله تعالى{ :وُأ ّمهَاتُ نِسَا ِئكُم} [النساء:
]23مثل قوله{ :وأمها ُتكُم} [النساء ،]23 :إنما هن أمهات نسائنا من النسب ،فل يتناول أمهّاتهن
من الرضاعة ،ولو أريد تحريمهنّ لقال :وأمهاتهنّ اللتي أرضعنهن ،كما ذكر ذلك فى أُمهاتنا وقد
سبِ)) ،إنما يدل على أن من حرم على الرجل
حرُم من النّ َ
حرُمُ من الرضَاعَةِ ما يَ ْ
بينا أن قوله(( :يَ ْ
من النسب حرم عليه نظيره من الرضاعة ،ول يدل على أن من حرم عليه بالصّهر أو بالجمعِ،
324
ل َلكُ ْم مَا
حرُم عليه نظيره من الرضاعة ،بل يدل مفهومه علي خلف ذلك ،مع عموم قوله{ :وأُحِ ّ
َ
َورَاءَ َذِلكُم} [النساء.]24 :
ن الرّضاع ِة ليس مسألةَ إجماع ،أنه قد
ومما يدل على أن تحريم امرأ ِة أبيه وابنه مِ َ
ج ِرهِ ،كما صحّ عن مالك بن
ت امرأتهِ إذا لم تكن فى ح ْ
ثبت عن جماعة من السلف جوازُ نِكاح بن ِ
أوس بن الحدثان النّصْرى ،قال :كانت عندى امرأة ،وقد ولدت لى ،فتوفيتَْ ،فوَجِ ْدتُ عليهاَ ،فلَقِيتُ
علىّ بنَ أبى طالب رضى الّ عنه ،قال لى :مالك؟ قلتُ :توفيت المرأةُ ،قال :لها ابنةٌ؟ قلت :نعم،
جرِك؟ قلت :ل ،هى فى الطائف .قال :فانكحها ،قلت :فأين قوله تعالىَ { :و َربَا ِئ ُبكُم
قال :كانت فى حَ ْ
ن نِسَا ِئكُم} [النساء ،]23 :قال :إنها لم تكن فى حجرك ،وإنما ذلك إذا كانت
حجُو ِركُم مِ ْ
اللّتى فى ُ
ل بن معبد ،أثنى
ل من بنى سواءة يقال له :عُبيد ا ّ
جرِك.وصح عن إبراهيم بن ميسرة ،أن رج ً
فى حَ ْ
ت ولدٍ من غيرهِ ،ثم اصطحبا ما شاء الّ ،ثم
عليه خيراً ،أخبره أنّ أباه أو جَدّه كان قد نكح امرأةً ذا َ
ت على أ ّمنَا وكَبرت واستغنيتَ عنها بامرأةٍ شابة،
ح َ
نكح امرأة شابة ،فقال :أح ُد بنى الُولى قد َنكَ ْ
لّ إل أن ُتنْكحَنى ابنتَك ،قال :فطلّقها وأنكحه ابنته ،ولم تكن فى حَجره هى ول
فطلّ ْقهَا ،قال :ل وا ِ
ن ابنَ عبد الّ ،فقلت :استفتِ لى عم َر بنَ الخطاب رضى الّ عنه .قال:
أبوها .قال :فجئت سفيا َ
خبَر ،فقال عمرُ :ل بأس
ت عليه ال َ
ن معى ،فأدخلنى على عم َر رضى الّ عنه بمنى ،فقصص ُ
لتَحُجّ ّ
بذلك ،فاذهب فسل فلناً ،ثم تعالَ فأخبرنى .قال :ول أراهُ إل علياً قال :فسألتُه ،فقال :ل بأس بذلك،
وهذا مذهب أهل الظاهر .فإذا كان عمر وعلى رضى الّ عنهما ومن يقول بقولهما قد أباحا الربيبة
إذا لم تكن فى حَجْر الزوج ،مع أنها ابن ُة امرأته من النسب ،فكيف يُحرمان عليه ابنَتها من
الرضاع ،وهذه ثلثة قيود ذكرها الّ سبحانه وتعالى فى تحريمها .أن تكون فى حَجْرهِ ،وأن تكون
من امرأتِهِ ،وأن يكون قد دخل بأمّها .فكيف يحرم عليه مجرد ابنتها من الرّضاعة ،وليست فى
س ّميَا ربيباً
ب ابنُها بإتفاق الناس ،و ُ
ت الزوجة ،والربي ُ
ج ِرهِ ،ول هى ربيبته لغة ،فإن الربيبةَ بن ُ
حْ
وربيبةً لن زوج أمّهما َي ُربّهما فى العادة ،وأمّا مَنْ أرضعتهما امرأتُه بغير لبنه ،ولم َي ُربّها قَطّ ،ول
كانت فى حَجْرهِ ،فدخولها فى هذا النص فى غاية البعد لفظًا ومعنىً ،وقد أشار النبىّ صلى ال عليه
وسلم بتحريم الربيبة بكونها فى الحَجْر .ففى ((صحيح البخارى)) من حديث الزهرى ،عن عروة،
ت أم سلمةَ أخبرت ُه أن أمّ حبيبة بنت أبى سفيان قالت :يا رسول الّ ،أُخ ِب ْرتُ أنك تخطُب
ب بن َ
أن زين َ
حّلتْ
بنتَ أبى سلمة ،فقال :بنتَ أمّ سلمة؟ قالت :نعم ،فقال(( :إ ّنهَا َل ْو َتكُنْ رَبيبَتى فى حَجْرى َلمَا َ
لى)) .وهذا يدل على اعتباره صلى ال عليه وسلم القي َد الذى قيّده الّ فى التحريم ،وهو أن تكون
325
ن الصّلب إذا كانت مُحرّمة برضاع :لو لم
فى حَجْر الزوج .ونظير هذا سواء ،أن يقال فى زوجة اب ِ
ل التوفيق.
تكن حليلة ابنى الذى لصلبى ،لما حلّت لى سواء ،ول فرق بينهما ،وبا ّ
فصل
شرُ مِنه كما
حرّم ،وأن التحريمَ ينت ِ
سنّة ،أَنّ لبن الفحل يُ َ
الحكم الثانى :المستفاد من هذه ال ّ
ف من
ق الذى ل يجوز أن يُقال بغيره ،وإن خالف فيه مَنْ خال َ
ينتشِر من المرأة ،وهذا هو الح ّ
ق أن ُت ّتبَعَ ،ويتركَ ما خالفها لجلها،
لّ صلى ال عليه وسلم أحَ ّ
سنّةُ رسولِ ا ِ
ن َبعْدَهُم ،فَ ُ
الصحابة ومَ ْ
سنَنُ لخلف من خالفها لعدم بلوغها له ،أو
ن كان .ولو تُركت ال ّ
ول ُت ْت َركُ هى لجل قولِ أحد كائنًا مَ ْ
ن كثيرة جداً ،وتُركت الحجّ ُة إلى غيرها ،وقولُ من يجب اتّباعه إلى
سنَ ٌ
لتأويلها ،أو غير ذلكَ ،ل ُت ِركَ ُ
ل غي ِر المعصوم ،وهذه بلية ،نسأل الّ العافية منها،
ل المعصوم إلى قو ِ
قول من ل يجب اتّباعه ،وقو ُ
وأن ل نلقاه بها يوم القيامة.
ن بلبن الفحل بأساً حتى أتاهم الحكم
قال العمش :كان عِمارة ،وإبراهيم ،وأصحابُنا ل َي َروْ َ
ل العلم إذا أ َت ْتهُم
صنَعُ أه ُ
ع َت ْيبَة بخبر أبى ال ُقعَيس ،يعنى :فتركوا قولَهم ،ورجعوا عنه ،وهكذا َي ْ
بنُ ُ
ل صلى ال عليه وسلم ،رجعوا إليها ،وتركوا قولَهم بغيرها.
سنّةُ عن رسول ا ّ
ال ّ
قال الذين ل يحرّمون بلبن الفحل :إنما ذكر الُّ سبحانه فى كتابه التحريم بالرضاعة
ن الرّضَاعَةِ} [النساء ]23 :واللم:
مِنَ جهة الم ،فقال {وأ ّمهَا ُتكُم اللّتى َأ ْرضَعْنكُ ْم َوأَخَوا ُتكُمْ مِ ْ
ل َلكُ ْم مَا َورَاءَ
ل تعالىَ { :وأُحِ ّ
للعهد ترجع إلى الرّضاعة المذكورة ،وهى رَضاعة الم ،وقد قال ا ّ
سنّة ،وهذا -على أصل من
َذِلكُم} [النساء ]24 :فلو أثبتنا التحريمَ بالحديث َل ُكنّا قد نسخنا القرآن بال ّ
ل صلى ال عليه وسلم هم
يقول :الزيادة على النص نسخ _ ألزمُ ،قالوا :وهؤلء أصحابُ رسول ا ّ
ل بن َز ْمعَ َة أن أمّهُ
س ّنتِهِ ،وكانوا ل يرون التحريمَ به ،فصح عن أبى عُبيدة بن عبد ا ّ
لمّة بِ ُ
أعلمُ ا ُ
ل عنه امرأةُ الزبير
ت أمّ سلمةَ أ ّم المؤمنين أرضعتها أسما ُء بنتُ أبى بكر الصّدّيق رضى ا ّ
زينبَ بن َ
بن العوام ،قالت زينب :وكان الزبيرُ يدخل علىّ وأنا َأ ْمتَشِطُ فيأخذ ب َقرْنٍ من قرون رأسى ،ويقول:
ن الزبير أرسل إلىّ
لّ ب َ
أقبلى علىّ فحدّثينى أرى أنه أبى ،وما ولَدَ منه :فهم إخوتي ،ثم إن عبدَ ا ِ
ل له؟
ب أمّ كلثوم ابنتى على حمزة بن الزبير ،وكان حمز ُة للكلبية ،فقالت لرسوله :وهَل تَحِ ّ
ط ُ
يخ ُ
وإنما هى ابنةُ أخته ،فقال عبد الّ :إنما أردتِ بهذا المن َع من ِقبَلكِ .أمّا ما ولدتْ أسماءُ ،فهم إخوتك،
وما كان من غير أسما َء فليسوا لك بإخوةٍ ،فأرسلى فاسألى عن هذا ،فأرسلتْ فسألتْ ،وأصحابُ
326
ل الرّجُل ل تحرّم شيئاً،
ل صلى ال عليه وسلم متوافِرون ،فقالوا لها ،إن الرضاعة من قب ِ
رسول ا ّ
فأنكحيها إياه ،فلم تزل عنده حتى هلك عنها.
قالوا :ولم ينكر ذلك الصحاب ُة رضى الّ عنهم ،قالوا :ومن المعلوم أن الرضاعة من جهة
المرأة ل من الرجل.
سنّة الصحيحة الصريحة ،فل يجوزُ
ض ال ّ
قال الجمهور :ليس فيما ذكرتم ما يُعار ُ
العدولُ عنها .أمّا القرآن ،فإنه بينَ أمرين :إما أن يتناولَ الخت من الب من الرضاعة فيكون دالً
سنّة لها تحريمًا مبتدءاً
على تحريمها ،وإما أن ل يتناولَها فيكون ساكتاً عنها ،فيكون تحري ُم ال ّ
ل َلكُ ْم مَا َورَاءَ َذِلكُمْ} [النساء ]24 :والظاهرُ يتناولُ لفظ الختِ لها،
ومخصصًا لعموم قولهَ {:وأُحِ ّ
ن أطلق عليها أخته ،ول يجوزُ أن
ل مَ ْ
فإنه سبحانه عمم لفظ الخوات من الرّضاعة ،فدخل فيه كُ ّ
ى صلى ال عليه وسلم قال لعائشة
يُقال :إن أخته من أبيه من الرّضاعة ليست أختًا له ،فإن النب ّ
ت العمومةَ بينها وبينه بلبنِ الفحل وحده ،فإذا ثبتت
عمّك ،فأثْب َ
ل عنها :ائذنى لفلح ،فإنه َ
رضى ا ّ
ال ُعمُومة بين المرتضعة ،وبين أخى صاحب اللبن ،فثبوتُ الُخوة بينها وبين ابنه بطريق الولى أو
مثله.
ن أثبتتْ تحريمَ ما سكت عنه ،أو
ت مرادَ الكتاب ،ل أنها خالفته ،وغايتُها أن تكو َ
سنّة بين ْ
فال ّ
تَخصيص ما لم يرد عمومه.
ل صلى ال عليه وسلم ل يرون التحري َم بذلك ،فدعوى
وأما قولكم :إن أصحاب رسول ا ّ
باطلة على جميع الصحابة ،فقد صح عن على رضى الّ عنه إثبات التحريمِ به ،وذكر البخارى فى
((صحيحه)) أن ابن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتانِ أرضعت إحداهما جاريةً ،والخرى
حهَا؟ فقال ابنُ عباس :ل ،اللقاحُ واحد ،وهذا الثر الذى استدللتم به صريح عن
ل أن َي ْنكَ َ
غلماً ،أيحِ ّ
ب ابنته بتلك الرضاعة ،وهذه عائش ُة أُمّ المؤمنين رضى الّ عنها كانت
الزبير أنه كان يعتقدُ أن زين َ
ن الزبير ،وأين يَقَعُ من هؤلء.
لبُ
شرُ الحرمة ،فلم َيبْقَ بأيديكم إل عبدُ ا ّ
تُفتى :أن لبن الفحل ين ُ
ل الراوى :فسألت
سمّين ،ولم يق ِ
وأما الذين سَألتهُم فأفتوها بالحل ،فمجهولون غي ُر مَ َ
سنّةُ
ل صلى ال عليه وسلم وهم متوافرون ،بل لعلها أرسلتْ فسألت من لم َت ْبُلغْهُ ال ّ
أصحابَ رسول ا ّ
ل بن الزبير ،ولم يكن الصحابة إذ ذاك متوافرين
الصحيحة منهم ،فأفتاها بما أفتاها به عبد ا ّ
بالمدينة ،بل كان معظمهم وأكابرُهم بالشام والعراق ومصر.
327
ن للب الذى
وأما قولكم :إن الرّضاعة إنما هى من جهة الم ،فالجواب أن يقال :إنما اللب ُ
ل التوفيق.
ثار بوطئه ،والم وعاء له ،وبا ّ
فإن قيل :فهل َتثْبت أ ُب ّو ُة صاحب اللبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة ،أو ثبوتُ ُأ ُبوّتهِ فرع
على ثبوت أمومة المرضعة؟
قيل :هذا الصلُ فيه قولن للفقهاء ،وهما وجهان فى مذهب أحمد والشافعى ،وعليه مسألة
من له أربعُ زوجات ،فأرضعنَ طفل ًة كُلّ واحد ٍة منهن َرضْعتين ،فإنهن ل َيصِرْنَ أماً لها ،لن كل
ضعَات .وهل يصير الزوج أبًا للطفلة؟ فيه وجهان .أحدهما :ل
ضعْها خمس َر َ
واحدة منهن لم تُر ِ
يصير أباً ،كما لم َتصِر المرضعاتُ ُأمّهاتٍ ،والثانى وهو الصح :يصير أباً ،لكون الولد ارتضع
ن الفَحْل أصلٌ بنفسه ،غير متفرّع على أمومة المرضعة ،فإن البوةَ
ضعَات ،ولب ُ
من لبنه خمس َر َ
صَلىْ أبى حنيفة
إنما تثبُت بحصول الرتضاع من لبنه ،ل لِكون المرضعة أمه ،ول يجى ُء على َأ ْ
ت الربع أمهات للمرتضِع ،فإذا قلنا
ومالك ،فإن عندهما قليل الرضاع وكثيره محرّم ،فالزوجا ُ
ح ُر َمتِ المرضعاتُ على الطفل ،لنه ربيبُهنّ ،وهُنّ موطوءات أبيه،
ل ُب ّو ِة وهو الصحيحَ ،
بثبوت ا ُ
ح ُرمْنَ عليه بهذا الرضاع.
ل ُب ّو ُة لم يَ ْ
فهو ابنُ َبعْلهِنّ .وإن قلنا :ل تثُبت ا ْ
ضعَة ،لم
ل واحدة َر ْ
وعلى هذه المسألة :ما لو كان لِرجل خمسُ بناتٍ ،فأرضعنَ طفْلً ،ك ّ
ت له .وهل يصير الرجل جداً له ،وأولده الذين هم إخو ُة المرضِعات أخوالً له
صرْنَ أمها ٍ
َي ِ
ضعَاتٍ
س َر َ
ل المرتضِع خم َ
وخالت؟ على وجهين ،احدهما :يصير جداً ،وأخوهن خالً ،لنه قد كَم َ
من لبن بناته ،فصار جَدّا ،كما لو كان المرتضِع بنتاً واحدة .وإذا صار جَدّا كان أولدُه الذين هُم
إخوةُ البنات أخوالً وخالت ،لنهن إخوةُ من كمل له منهن خمسُ َرضَعتَات ،فنزلوا بالنسبة إليه
ن ابنته
ع على كو ِ
منزلةَ أم واحدة ،والخر ل يصيرُ جَداً ،ول أخواتُهن خالتٍ ،لن كونَه جداً فر ٌ
ت الصل ،فل يثُبت فرعُه ،وهذا الوجه
أمّاً ،وكونُ أخيها خالً فرع على كون أُخته أمّا ،ولم يثب ِ
ل ُب ّوةِ فيها ل يستلزم ثبوت المومة على
أصحّ فى هذه المسألة ،بخلف التى قبلَها ،فإن ثبوت ا ُ
الصحيح .والفرقُ بينهما :أن الفرعية متحققة فى هذه المسألة بين المرضعات وأبيهن ،فإنهنّ بناتُه،
واللبن ليس له ،فالتحريم هنا بين المرضعة وابنها ،فإذا لم تكن ُأمّا ،لم يكن أبوها جَ ّداً ،بخلفِ تلك،
ن المرتضِع وبينَ صاحب اللبن ،فسوا ٌء ثبتت أموم ُة المرضعة أول ،فعلى هذا إذا
فإن التحريم بي َ
قلنا :يصير أَخُوهنّ خالً ،فهل تكون كل واحدة منهن خالةً له؟ فيه وجهان .أحدهما :ل تكون خالةً،
لنه لم يرتضِ ْع من لبن أخوا ِتهَا خمس رضعات ،فل تثبت الخؤولة .والثانى :تثبت ،لنه قد اجتمع
328
من اللبن المحرّم خمس رضعات ،وكان ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتًا للخؤولة ،ول تثبت
أمومة واحدة منهن إذ لم يرتضع منها خمس رضعات ،ول يستبع ُد ثبوت خؤولة بل أمومة ،كما
ثبت فى لبن الفحل أبوة بل أمومة ،وهذا ضعيف .والفرق بينهما .أن الخؤولة فرع محض على
المومة ،فإذا لم يثبت الصل ،فكيف يثُبت فرعُه؟ بخلف البوة والُمومة ،فإنهما أصلن ل يلزم
من انتفاه أحدهما انتفاء الخر.
وعلى هذا مسألة ،ما لو كان لرجل أُم ،وأخت ،وابنة ،وزوجةُ ابن ،فأرضعن طِ ْفلَةً كُلّ
صرْ واحدةٌ منهن أمها ،وهل تحرم على الرجل؟ على وجهين .أوجههما:
ضعَة ،لم َت ِ
واحدة منهن َر ْ
ما تقدم .والتحريمُ ههنا بعيد ،فإن هذا اللبن الذى كمل للطفل ل يجعل الرجل أباً له ،ول جداً ،ول
ل أعلم.
أخاً ،ول خالً ،وا ّ
فصل
ل التحريم بلبن الفحل على تحريم المخلوقة مِن ماء الزانى دللةَ الولى والحْرى،
وقد د ّ
ق مِن
خلِ َ
ل له أن ينكِحَ من قد ُ
لنه إذا حرم عليه أن ينكِحَ من قد تغذّت بلبن ثار بوطئه ،فكيف يَحِ ّ
ع بنته من الرضاع لما فيها من لبن كان وطء الرجل سبباً فيه،
نفس مائة بوطئه؟ وكيف يحرّم الشار ُ
ضيّةَ التى بينه وبينَ
ت بنفسِ وطئه ومائة؟ هذا من المستحيل ،فإن ال َب ْع ِ
خلِ َق ْ
ح مَنْ ُ
ثم يُبيح له نكا َ
ضيّة التى بينَه وبين من تغذّت بلبنه ،فإن بنت الرضاع فيها
ل وأتمّ مِن ال َب ْع ِ
المخلوقة مِن مائة أكم ُ
جزء ما من البعضية ،والمخلوقة من مائة كاسمها مخلوقة مِن مائة ،فنصفُها أو أكثرها بعضُه
قطعاً ،والشطرُ الخر للم ،وهذا قولُ جمهورِ المسلمين ،ول يُعرف فى الصحابة من أباحها ،ونص
المام أحمد رحمه الّ ،على أن من تزوّجهاُ ،قتِلَ بالسيف محصناً كان أو غيره .وإذا كانت بنتُه من
الرضاعة بنتاً فى حكمين فقط :الحرمة ،والمحرمية ،وتخلف سائر أحكام البنت عنها لم تُخرجها
عن التحريم ،وتُوجب حِلها ،فكذا بنتُه مِن الزنى تكون بنتاً فى التحريم .وتخّلفُ أحكامِ البنت عنها ل
يُوجب حلها ،والّ سبحانه خاطب العرب بما تع ِقلُه فى لغاتِها ،ولفظ البنت لفظ لغوى لم ينقلْه
ل على موضوعه اللغوى
الشارع عن موضعه الصلى ،كلفظ الصلة واليمان ونحوهماَ ،فيُجم ُ
ت كلفظِ الخ والعم والخال ألفاظٌ باقية على
حتى يثبت نقل الشارع له عنه إلى غيره ،فلفظُ البن ِ
ن الراعى الزانى بقوله(( :أبى
ل تعالى أنطق اب َ
موضوعاتها اللغوية .وقد ثبت فى ((الصحيح)) أن ا ّ
ل الكذب ،وأجمعت المةُ على تحريم أمّه عليه .وخلقُه من
ن الرّاعى)) ،وهذا النطاقُ ل يحتمِ ُ
فُل ٌ
ل كونه بعضاً لها ،وإنقطاع
ق واحد ،وإثمهُما فيه سواء ،وكونه بعضًا له مث ُ
مائها ،وماء الزانى خل ٌ
329
ب هذا القول أن
حرّمُ صاح ُ
الرث بين الزانى والبنت ل يُوجب جوازَ نكاحها ،ثم مِن العجب كيف يُ َ
ح لِيده ،ويُج ّوزُ للنسان أن ينكحَ بعضَه ،ثم يُج ّوزُ له أن
يستمنىَ النسان بيده ،ويقول :هو نكا ٌ
ل مِن مائه ،وأخرجَ ُه مِن صُلبه،كما يستفرش الجنبية.
خلَقَهُ ا ّ
يستف ِرشَ بعضه الذى َ
فصل
ل صلى ال عليه
صتَانِ ،كما نص عليه رسول ا ّ
والحكم الثالث :أنه ل تُحرم المصةُ والم ّ
س رضعات ،وهذا موضع اختلف فيه العلماء .فأثبتت طائفة من السلف
وسلم ،ول يُحرّ ُم إل خم ُ
والخلف التحريم بقليل الرضاع وكثيرة ،وهذا يروى عن على وابن عباس ،وهو قولُ سعيد بن
المسيب ،والحسن والزهرى ،وقتادة ،والحكم ،وحماد ،والوزاعى ،والثورى ،وهو مذهبُ مالك،
ث بنُ سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يُحرّم فى
وأبى حنيفة ،وزعم اللي ُ
ط ُر به الصائم ،وهذا رواية عن المام أحمد رحمه الّ .وقالت طائفة أخرى :ل يثبُت
المهد ما يُفْ ِ
ل أبى ثور ،وأبى عبيد ،وابن المنذر ،وداود بن على،
ل مِن ثلث رضعات ،وهذا قو ُ
التحريمُ بأق ّ
وهو روايةٌ ثانية عن أحمد.
ل بن مسعود ،وعبد
ل مِن خمس رضعات ،وهذا قول عبد ا ّ
وقالت طائفة أخرى :ل يثُبت بأق ّ
ل بن الزبير ،وعطاء ،وطاووس ،وهو إحدى الروايات الثلث عن عائشة رضى الّ عنها،
ا ّ
والرواية الثانية عنها :أنه ل يحرم أقل من سبع ،والثالثة :ل يحرم أقل من عشر .والقول بالخمس
ل ابن حزم ،وخالف داود فى هذه المسألة.
مذهب الشافعى ،وأحمد فى ظاهر مذهبه ،وهو قو ُ
فحج ُة الولين أنه سبحانه علّقَ التحريم باسم الرضاعة ،فحيث وجد اسمُها وُجدَ
سبِ)) وهذا موافق
ن النّ َ
حرُمُ مِ َ
ن ال ّرضَاعَة مَا َي ْ
حرُمُ مِ َ
حكمُها ،والنبىّ صلى ال عليه وسلم قال(( :ي ْ
لطلق القرآن.
وثبت فى ((الصحيحين)) ،عن عقبة بن الحارث ،أنه تزوج أمّ يحيى بنت أبى إهاب،
ى صلى ال عليه وسلم ،فأعرض عنى،
فجاءت أمةٌ سوداء ،فقالت :قدأرضعتُكما ،فذكر ذلك للنب ّ
ض َع ْتكُما فنها ُه عنها)) ،ولم يسأل
ع َمتْ َأ ّنهَا قَ ْد َأ ْر َ
قال :فتنحيت فذكرت ذلك له ،قال(( :وكيْف وقَ ْد زَ َ
عن عدد الرضاع ،قالوا :ولنه فعل يتعلق به التحريم ،فاستوى قليل ُه وكثيره ،كالوطء الموجب له،
ب العدد قد اختلفت
قالوا :ولن إنشاز العظم ،وإنبات اللحم يحصُل بقليله وكثيره .قالُوا :ولن أصحا َ
أقوالهم فى الرضعة وحقيقتها ،واضطربت أش ّد الضطراب ،وما كان هكذا لم يجعله الشارعُ نصاباً
لِعدم ضبطه والعلم به.
330
ى صلى ال عليه وسلم أنه قال(( :ل تُحرّمُ
ب الثلث :قد ثبت عن النب ّ
قال أصحا ُ
ل صلى ال عليه وسلم(( :ل
المصّ ُة والمصّتان)) ،وعن أم الفضل بنتِ الحارث قالت :قال رسول ا ّ
حرّ ُم الرضعةُ
جتَانِ)) .وفى حديث آخر :أن رجلً قال :يا رسولَ الّ ،هل تُ َ
حرّ ُم المْلجَ ُة والمْلَ َ
تُ َ
الواحِدة؟ قال(( :ل)) .وهذه أحاديث صحيحة صريحة ،رواها مسلم فى ((صحيحه)) ،فل يجوز
العدولُ عنها فأثبتنا التحري َم بالثلث لِعموم الية ،ونفينا التحريمَ بما دونها بصريحِ السنة قالُوا :ولن
ل مراتب الجمع ،وقد اعتبرها
ما يُعتبر فيه العدد والتكرا ُر يُعتبر فيه الثلث .قالوا :ولنها أو ُ
الشارعُ فى مواضع كثيرة جداً.
ب الخمسِ :الحجةُ لنا ما تقدّم فى أول الفصل من الحاديث
قال أصحا ُ
ل صلى ال عليه وسلم توفى
الصحيحة الصريحة ،وقد أخبرت عائشة رضى الّ عنها أن رسول ا ّ
ل النبى صلى ال عليه وسلم لِسهلة بنت سهيل:
والمرُ على ذلك ،قالُوا :ويكفى فى هذا قو ُ
عَليْهِ)) .قالُوا :وعائشة أعلمُ المة بحكم هذه المسألة هى
ح ُرمِى َ
ت تَ ْ
ضعَا ٍ
خ ْمسَ َر َ
ضعِى سَالِماً َ
((أَر ِ
ل عنها إذا أرادت أن يدْخُلَ عليها أحد
ونسا ُء النبى صلى ال عليه وسلم ،وكانت عائش ُة رضى ا ّ
ضعَاتٍ .قالوا :ونفىُ التحريم بالرضعة
س َر َ
خ ْم َ
أمرت إحدى َبنَاتِ إخوتِها أو أخواتِها فأرضعتهُ َ
والرضعتين صريحٌ فى عدم تعليق التحريم بقليل الرضاع وكثيرة ،وهى ثلثةُ أحاديث صحيحة
صريحة بعضُها خرج جوابًا للسائل ،وبعضُها تأسيسُ حكم مبتدأ .قالُوا :وإذا علقنا التحريمَ
بالخمس ،لم نكن قد خالفنا شيئًا من النصوص التى استدللتُم بها ،وإنما نكونُ قد قيدنا مطلقها
بالخمس ،وتقيي ُد المطلقِ بيانٌ ل نسخ ول تخصيصٌ .وأما من علّق التحريمَ بالقليل والكثير ،فإنه
ب الثلث ،فإنه وإن لم يُخالفها ،فهو
ث نفى التحريم بالرضعة والرضعتين ،وأما صاح ُ
يُخالف أحادي َ
مخالفٌ لحاديث الخمس.
قال من لم يُقيده بالخمس :حديثُ الخمس لم تنقله عائشةُ رضى الّ عنها نقلَ الخبار ،فيحتج
به ،وإنما نقلته نقل القرآن ،والقرآن إنما يثُبت بالتواتر ،والمة لم تنقل ذلك قرآناً ،فل يكون قرآناً،
وإذا لم يكن قرآناً ول خبراً ،امتنع إثباتُ الحكم به .قال أصحابُ الخمس :الكلمُ فيما نقل مِن القرآن
آحادًا فى فصلين ،أحدهما :كونُه من القرآن ،والثانى :وجوبُ العمل به ،ول ريبَ أنهما حكمان
متغايران ،فإن الول يُوجب انعقا َد الصلة به ،وتحريمَ مسه على المحدث ،وقراءتهِ على الجنبِ،
وغير ذلك من أحكام القرآن ،فإذا انتفت هذه الحكا ُم لعدم التواتر ،لم يلزم انتفاءُ العمل به ،فإنه
جّ كُلّ واحد من الئم ِة الربعة به فى موضع ،فاحتج به الشافعى وأحمد فى
يكفى فيه الظّنّ ،وقد احت ً
331
هذا الموضع ،واحتج به أبو حنيفة فى وجوب التتابع فى صيام الكفارة بقراءة ابن مسعود ((فصيامُ
ثلثة أيام متتابعات)) .واحتج به مالك والصحابة قبله فى فرض الواحد من ولد الم أنه السدس
بقراءة أبى(( ،وإن كان رجل يُورث كللة ،أو امرأة وله أخ ،أو أخت من أم ،فلكل واحد منهما
س كلهم احتجّوا بهذه القراءة ،ول مستند للجماع سواها.
السدس)) ،فالنا ُ
قالوا :وأما قولُكم إما أن يكون نقله قرآنًا أو خبراً ،قلنا :بل قرآناً صريحاً .قولُكم :فكان يجب
نقله متواتراً ،قلنا :حتى إذا نسخ لفظُه أو بقى ،أما الول ،فممنوع ،والثانى ،مسلّم ،وغايةُ ما فى
ن له حكمُ قوله(( :الشيخُ والشيخ ُة إذا زنيا
المر أنه قرآن نُسِخَ لفظُه ،وبقى حكمه ،فيكو ُ
فارجمُوهما)) مما اكتفىَ بنقله آحاداً ،وحكمُه ثابت ،وهذا مما ل جواب عنه .وفى المسألة مذهبان
آخران ضعيفان.
ل مِن سبع ،كما سئل طاووس عن قول من يقول :ل
أحدهما :أن التحريم ل يثبت بأق ّ
يحرم من الرضاع دون سبع رضعات ،فقال :قد كان ذلك ،ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم،
المرة الواحدة تُحرّمُ ،وهذا المذهب ل دليل عليه.
ت بعشر رضعات ،وهذا يُروى عن حفصة وعائشة
الثانى :التحريمُ إنما يثب ُ
رضى الّ عنهما.
وفيها مذهب آخر ،وهو الفرق بين أزواج النبى صلى ال عليه وسلم وغيرهن قال طاووس:
كان لزواج النبى صلى ال عليه وسلم رضعات محرمات ،ولسائر الناس رضعات معلومات ،ثم
ل التوفيق.
ح من هذه القوال ،وبا ّ
ُت ِركَ ذلك بعد ،وقد تبين الصحي ُ
فصل
فإن قيل :ما هى الرضع ُة التى تنفصلُ من أختها ،وما حدّها؟ قيل :الرضعةُ فعلة مِن
ص منه ثم تركه
الرضاع ،فهى مرة منه بل شك ،كضربة وجلسة وأكلة ،فمتى التقم الثدىَ ،فامت ّ
ل على العُرف،
باختياره مِن غير عارض كان ذلك رضعة ،لن الشرع ورد بذلك مطلقاً ،فحُم َ
ض لتنفس أو استراحة يسيرة ،أو لشىء يلهيه ثم يعودُ عن قرب ل
والعُرف هذا ،والقطعُ العار ُ
يخرجه عن كونه رضعة واحدة ،كما أن الكل إذا قطع أكلته بذلك ،ثم عاد عن قريب لم يكن ذلك
أكلتين بل واحدة ،هذا مذهب الشافعى ،ولهم فيما إذا قطعت المرضعةُ عليه ،ثم أعادته وجهان.
أحدهما :أنها رضعة واحدة ولو قطعته مراراً حتى يقطع بإختياره ،قالُوا :لن العتبار بفعله ل
332
سبَت رضعة ،فإذا قطعت عليه ،لم يُعتد به،
بفعل المرضعة ،ولهذا لو ا ْرتَضَع منها وهى نائمة حُ ِ
كما لو شرع فى أكلة واحدة أمره بها الطبيبُ ،فجاء شخص فقطعها عليه ،ثم عاد ،فإنها أكلة واحدة.
ع َيصِحّ من المرتضع ،ومن المرضعة،
والوجه الثانى :أنها رضعة أخرى ،لن الرضا َ
ب رضعة.
س َ
ج َرتْهُ وهو نائم احت ِ
ولهذا لو َأوْ َ
ولهم فيما إذا انتقل من ثدى المرأة إلى ثدى غيرها وجهان .أحدهما :ل يعتد بواحد منهما
لنه انتقل من إحداهما إلى الخرى قبل تمام الرضعة ،فلم تتم الرضعة من إحداهما .ولهذا لو انتقل
من ثدى المرأة إلى ثديها الخر كانا رضعةً واحدةً.
والثانى :أنه يحتسب من كل واحد منهما رضعة ،لنه ارتضع ،وقطعه بإختياره من
شخصين.
وأما مذهبُ المام أحمد رحمه الّ ،فقال صاحب ((المغنى)) :إذا قطع قطعاً بيناً بإختيارهِ،
كان ذلك رضعة ،فإن عاد كان رضعةً أخرى ،فأما إن قطع لِضيق نفس ،أو للنتقال من ثدى إلى
ثدى ،أو لشىء يُلهيه ،أو قطعت عليه المرضعة ،نظرنا ،فإن لم َيعُدْ قريباً ،فهى رضعة وإن عاد فى
الحال ،ففيه وجهان ،أحدهما :أن الولى رضعة ،فإذا عاد فهى رضعة أخرى ،قال :وهذا اختيار
أبى بكر ،وظاهر كلم أحمد فى رواية حنبل ،فإنه قال :أما ترى الصبى يرتضع من الثدى ،فإذا
ك عن الثدى ليتنفس ،أو ليستريح ،فإذا فعل ذلك ،فهى رضعة ،قال الشيخ :وذلك
أدركه النّفسُ ،أمس َ
أن الولى رضعةٌ لو لم يعد ،فكانت رضعة ،وإن عاد ،كما لو قطع بإختياره .والوجه الخر أن
جميع ذلك رضعة ،وهو مذهب الشافعى إل فيما إذا قطعت عليه المرضعة ،ففيه وجهان ،لنه لو
ت اليو َم إل أكلةً واحدةً ،فاستدام الكلُ زمناً ،أو انقطع لشرب ماء أو انتقال من لون إلى
حلف :ل أكل ُ
لون ،أو انتظار لما يُحمل إليه من الطعام لم يُع ّد إل أكلة واحدة فكذا ههنا ،والول أصح ،لن
اليسير من السعوط والوَجُور رضعة ،فكذا هذا.
ل أمرين ،أحدهما :ما ذكره الشيخ ،ويكون قوله(( :فهى رضعة))،
قلتُ ،وكلمُ أحمد يحتم ُ
ع رضعة ،فيكون قوله(( :فهى رضعة)) عائداً
عائدًا إلى الرضعة الثانية .الثانى :أن يكون المجمو ُ
إلى الول ،والثانى ،وهذا أظهر محتمليه ،لنه استدل بقطعه للتنفس ،أو الستراحة على كونها
ق بكون الثانية مع الول واحدة من كون الثانية رضعةً
رضعة واحدة .ومعلوم أن هذا الستدلل ألي ُ
مستقلة ،فتأمله.
333
وأما قياسُ الشيخ له على يسير السّعوط والوَجور ،فالفرقُ بينهما أن ذلك مستقل ليس تابعاً
لرضعة قبله ،ول هو مِن تمامها ،فيقال :رضعة بخلف مسألتنا ،فإن الثانية تابعة للولى ،وهى من
تمامها فافترقا.
فصل
والحكم الرابع :أن الرضاع الذى يتعلّق به التحريمُ ما كان قبل الفطام فى زمن الرتضاع
المعتاد ،وقد اختلف الفقهاء فى ذلك ،فقال الشافعى ،وأحمد ،وأبو يوسف ،ومحمد :هو ما كان فى
حرّمُ ما كان بعدهما ،وصح ذلك عن عمر ،وابنِ مسعود ،وأبى هريرة ،وابن عباس،
الحولين ،ول يُ َ
ش ْب ُرمَةَ ،وهو قولُ سفيان .وإسحاق وأبى
وابن عمر ،ورُوى عن سعيد بن المسيّب ،والشعبى وابن ُ
عُبيد ،وابنِ حزم ،وابنِ المنذر ،وداود ،وجمهور أصحابه.
ح ذلك عن أم
وقالت طائفة :الرضاعُ المحرم ما كان قبل الفطام ،ولم يحدوه بزمن ،ص ّ
ل الزهرى ،والحسن ،وقتادة،
سلمة ،وابن عباس ورُوى عن على ،ولم يصح عنه ،وهو قو ُ
وعِكرمة ،والوزاعى .قال الوزاعى :إن فُط َم وله عام واحد واستمر فِطامُه ،ثم رضع فى
حرّم هذا الرضاعُ شيئاً ،فإن تمادى رضاعُه ولم يُفطم ،فما كان فى الحولين فإنه
الحولين ،لم يُ َ
يُحرّمُ .وما كان بعدهما ،فإنه ل يُحرّمُ ،وإن تمادى الرضاعُ .وقالت طائفة :الرضاعُ المحرّمُ ما كان
فى الصغر ،ولم يوقته هؤلء بوقت ،وروى هذا عن ابن عمر ،وابن المسيّب ،وأزواج رسول الّ
صلى ال عليه وسلم خل عائشة رضى الّ عنها .وقال أبو حنيفة وزفر :ثلثون شهراً ،وعن أبى
حنيفة رواية أخرى ،كقول أبى يوسف ومحمد .وقال مالك فى المشهور من مذهبه :يُحرّمُ فى
الحولين ،وما قاربهما ،ول حُرمة له بعد ذلك .ثم روى عنه اعتبارُ أيام يسيرة ،وروى عنه شهران.
وروى شهر ،ونحوه .وروى عنه الوليدُ بن مسلم وغيره :أن ما كان بع َد الحولين مِن رضاعِ بشهر
أو شهرين أو ثلثة أشهر ،فإنه عندى من الحولين ،وهذا هو المشهو ُر عند كثير من أصحابه.
والذى رواهُ عنه أصحابُ الموطأ وكان يُقرأ عليه إلى أن مات قوله فيه :وما كان مِن الرضاع بعد
ل الصبى
الحولين كان قليلُه وكثيرُه ل يُحرّمُ شيئاً ،إنما هو بمنزلة الطعام ،هذا لفظه .وقال :إذا فُص َ
ل الحولين ،واستغنى بالطعام عن الرّضاع ،فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع حرمة .وقال
قب َ
ن بن صالح ،وابن أبى ذِئب وجماع ٌة من أهل الكوفة :مد ُة الرضاع المُحرّم ثلثُ سنين ،فما
الحس ُ
زاد عليها لم يُحرم ،وقال عم ُر بنُ عبد العزيز :مدته إلى سبعِ سنين ،وكان يزيدُ بن هارون يحكيه
334
حكَى عنه ربيعة ،أن مدته حولن ،واثنا عشر
جبِ من قوله .وروى عنه خلفُ هذا ،و َ
عنه كالمتع ّ
يوماً.
وقالت طائفة من السلف والخلف :يحر ُم رضاع الكبير ،ولو أنه شيخ ،فروى مالك،
ث أمر رسول الّ
عن ابن شهاب ،أنه سئل عن رضاع الكبير ،فقال :أخبرنى عروة بن الزبير ،بحدي ِ
صلى ال عليه وسلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم ،ففعلت ،وكانت تراه ابناً لها .قال عروةُ:
ب أن يدخل عليها من الرجال،
فأخذت بذلك عائشة أ ّم المؤمنين رضى الّ عنها فيمن كانت تُح ّ
فكانت تأمر أختَها أ ّم كلثوم ،وبنات أخيها يرضعن من أحبّت أن يدخل عليها من الرجال.
وقال عبد الرزاق :حدثنا ابن جريج ،قال :سمعتُ عطاء بن أبى رباح وسأله رجلٌ فقال:
حهَا ،فقلت له :وذلك
ل كبيراً .أفأنكِحُها؟ قال عطاء :ل َت ْنكِ ْ
سقتنى امرأ ٌة من لبنها بعد ما كنت رج ً
رأيُك؟ قال :نعم ،كانت عائشة رضى الّ عنها تأمر بذلك بنات أخيها .وهذا قولُ ثابت عن عائشة
ل الليث بن
ل عنها .ويروى عن على ،وعروة بن الزبير .وعطاء بن أبى رباح ،وهو قو ُ
رضى ا ّ
سعد ،وأبى محمد ابن حزم ،قال :ورضاعُ الكبير ولو أنه شيخ يُحرّمُ كما يحرّم رضاع الصغير .ول
فرق ،فهذه مذاهب الناس فى هذه المسألة.
ولنذكر مناظرةَ أصحاب الحولين ،والقائلين برضاع الكبير ،فإنهما طرفان ،وسائر القوال
متقاربة.
ن كَا ِمَليْنِ
ح ْوَليْ ِ
ن َأوْلَدَهُنّ َ
ضعْ َ
ت ُيرْ ِ
ل تعالى{ :وَالوَالِدَا ُ
ب الحولين :قال ا ّ
قال أصحا ُ
ل على أنه ل
ِلمَنْ َأرَا َد أَنْ ُيتِ ّم ال ّرضَاعَةَ} [البقرة ]233 :قالوا :فجعل تما َم الرضاعة حولين ،فد ّ
حكم لما بعدهما ،فل يتعلّق به التحريم .قالوا :وهذه المدة هى مدة المجاعة التى ذكرها رسولُ الّ
صلى ال عليه وسلم ،وقصَر الرضاعةَ المحرمة عليها .قالوا :وهذه مدة الثدى الذى قال فيها(( :ل
رضاع إل ما كان فى الثدى)) ،أى فى زمن الثدى ،وهذه لغة معروفة عند العرب ،فإن العرب
يقولون :فلن ماتَ فى الثّدى ،أى :فى زمن الرضاع قبل الفطام ،ومنه الحديث المشهور(( :إِنّ
جنّ ِة ُتتِ ّم َرضَاعَهُ)) .يعنى إبراهيم ابنَه صلواتُ الّ
ن لَ ُه ُم ْرضِعاً فى ال َ
ت فى الثّدْى وإ ّ
إ ْبرَاهِي َم مَا َ
وسلمه عليه .قالوا :وأكّد ذلك بقوله(( :ل رضاع إل ما فتق المعاء)) وكان فى الثدى قبل الفطام،
ع الشيخ الكبير عا ٍر من الثلثة .قالوا:
فهذه ثلثةُ أوصاف للرضاع المُحرّم ،ومعلوم أن رضَا َ
ح مِن هذا حديثُ ابن عباس(( :ل رضاع إل ما كان فى الحولين)).قالوا :وأكدَ ُه أيضاً حديث
وأصر ُ
335
ع الكبير ل ينبت
ش َز العَظْمَ)) ،ورضا ُ
ن الرّضاعةِ إل ما َأ ْن َبتَ اللّحْ َم وَأنْ َ
ابن مسعود(( :ل يُحرّ ُم مِ َ
لحماً ،ول يُنشز عظماً.
قالوا :ولو كان رضاعُ الكبير محرّماً لما قال النبىّ صلى ال عليه وسلم لعائشة وقد تغيّر
ن إخوانكن)) فلو حرّم
وجهُه ،و َكرِه دخولَ أخيها من الرضاعة عليها لما رآ ُه كبيراً(( :انظُرنَ مَ ْ
َرضَاع الكبير ،لم يكن فرق بينه وبين الصغير ،ولما كره ذلك وقال(( :انظرن مَن إخوانُكن)) ثم
ت هذا من المعنى خشي َة أن يكونَ قد ارتضع فى غير
قال(( :فإنّما الرضَاعَ ُة مِنَ المجَاعَة)) وتح َ
زمن الرضاع وهو زمن المجاعة ،فل ينشر الحرمة ،فل يكون أخاً .قالوا :وأما حديثُ سهلة فى
ب نزول قوله تعالى{ :ادْعُوهُم
رضاع سالم ،فهذا كان فى أوّل الهجرة لن قصته كانت عقي َ
لبا ِئهِمْ} [الحزاب ]5 :وهى نزلت فى أول الهجرة.
وأما أحاديث اشتراط الصغر ،وأن يكون فى الثدى قبل الفطام ،فهى من رواية ابن عباس،
ن عباس إنما قدم المدينة قبل الفتح ،وأبو هريرة إنما أسلم عامَ فتح خيبر بل شك،
وأبى هريرة ،واب ُ
كِلهُما قدم المدينة بعد قصة سالم فى رضاعه من امرأة أبى حذيفة.
ى صلى ال عليه وسلم صحة
قال المثبتون للتحريم برضاع الشيوخ :قد صحّ عن النب ّ
ل يمترى فيها أحد أنه أمر سهلة بنتَ سُهيل أن ُت ْرضِع سالمًا مولى أبى حذيفة ،وكان كبيراً ذا لحية،
وقال:
حرُمى)) ،ثم ساقوا الحديث ،وطرقَهَ وألفاظَه وهى صحيح ٌة صريحة بل شك.
((أَرْضعِيهِ تَ ْ
ت أن الرضاعة
ثم قالوا :فهذه الخبارُ ترفع الشكال ،وتُبين مراد الّ عز وجل فى اليات المذكورا ِ
التى َتتِمّ بتمام الحولين ،أو بتراضى البوين قبل الحولين إذا رأيا فى ذلك صلحًا للرضيع ،إنما هى
الموجبة للنفقة على المرأة المرضعة ،والتى يُجبر عليها البوان أحبا أم كرها .ولقد كان فى الية
ن ُيتِمّ
ن ِلمَنْ أرا َد أَ ْ
ح ْوَليْنِ كَا ِمَليْ ِ
ن َأوْلَدَهُنّ َ
ضعْ َ
ت يُر ِ
كفاية من هذا لنه تعالى قال{ :والوَالِدَا ُ
ل تعالى الوالدات
س َو ُتهُنّ بِالمعرُوفِ} [البقرة ،]233 :فأمر ا ّ
ن َوكِ ْ
الرّضَاعَ َة وعلى الم ْولُودِ لَ ُه ِرزْ ُقهُ ّ
ع المولود عامين ،وليس فى هذا تحريمٌ للرضاعة بعد ذلك ول أن التحريم ينقطِعُ بتمام
بإرضا ِ
ن ال ّرضَاعَةِ} [النساء]23 :؟،
ضعْنكُم َوأَخَوا ُتكُمْ مِ َ
لتِى َأ ْر َ
الحولين ،وكان قولُه تعالىَ { :وُأ ّمهَا ُتكُ ُم ال ّ
ولم يقل فى حولين ،ول فى وقت دونَ وقت زائداً على اليات الخر ،وعمومها ل يجو ُز تخصيصُه
إل بنص يبُين أنه تخصيص له ،ل بظن ،ول محتمل ل بيانَ فيه ،وكانت ه ِذهِ الثا ُر يعنى التى فيها
التحريمُ برضاع الكبير قد جاءت مجىء التوا ُترِ ،رواها نساء النبى صلى ال عليه وسلم ،وسهلةُ
336
ب بنت أم سلمة وهى ربيب ُة النبىّ صلى ال عليه وسلم،
بنت سهيل ،وهي من المهاجرات ،وزين ُ
ورواها من التابعين :القاسمُ بن محمد ،وعرو ُة بن الزبير ،وحُميد بن نافع ،ورواها عن هؤلء:
الزهرى ،وابنُ أبى مليكة ،وعبدُ الرحمن بن القاسم ،ويحيى بن سعيد النصارى وربيعة ،ثم رواها
ن بن عيينة ،وشعبةُ ،ومالك ،وابنُ جريج،
ن الثورى ،وسفيا ُ
عن هؤلء :أيوب السّخْتيانى ،وسفيا ُ
وشعيب ،ويونس ،وجعفر بن ربيعة ،ومعمر ،وسليمان بن بلل ،وغيرهم ،ثم رواها عن هؤلء
الج ّم الغفيرُ ،والعددُ الكثير ،فهى نقلُ كافة ل يختلفُ مُؤالف ول مخالف فى صحتها ،فلم يبق مِن
ل صلى ال عليه
ض أزواج رسول ا ّ
العتراض إل قول القائل :كان ذلك خاصاً بسالم ،كما قال بع ُ
ل عنهن .هكذا
ن ممن ظن ذلك منهن رضى ا ّ
ن تبعهن فى ذلك ،فليعل ْم من تعلّق بهذا أنه ظ ٌ
وسلم ومَ ْ
فى الحديث أنهن قُلن :ما نرى هذا إل خاصاً بسالم ،وما ندرى لعلها كانت رخصة لسالم .فإذا هو
ن الظّنّ ل يُغنى مِنَ الحَقّ
ظن بل شك فإن الظن ل يُعارض به السنن الثابتة ،قال الّ تعالى{ :إ ّ
ج أ ّم سلمة رضى الّ عنها بظنها ،وبين احتجاج عائشة
شيْئاً} [يونس ]36 :وشتانَ بين اجتجا ِ
َ
ل صلى ال عليه وسلم
رضى الّ عنها بالسنة الثابتة ،ولهذا لما قالت لها عائشة :أمالكِ في رسول ا ّ
ع إلى مذهب عائشة ،وإما انقطاع
أسوة حسنة ،سكتت أم سلمة ،ولم تنطق بحرف ،وهذا إما رجو ُ
فى يدها.
ل صلى ال عليه وسلم :كيف أرضِع ُه وهو رجل كبير؟ بيان
ل سهلة لرسول ا ّ
قالُوا :وقو ُ
جلى أنه بعد نزول اليات المذكورات.
قالُوا :ونعلم يقينًا أنه لو كان ذلك خاصاً بسالم ،لقطع النبىّ صلى ال عليه وسلم اللحاق،
نص على أنه ليس لحد بعده ،كما بيّن لبى بُردة بن نيار ،أن جذعته تُجزىْء عنه ،ول تجزىْء
ل الفرج وتحريمه،
عن أحد بعده ..وأين يقعُ ذبح جَذع ٍة أضحية من هذا الحكم العظيم المتعلق به ح ّ
وثبوت المحرمية ،والخلة بالمرأة والسفر بها؟ فمعلوم قطعاً ،أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان
خاصاً .قالوا :وقول النبى صلى ال عليه وسلم ((إنّما الرّضاعة من المَجَاعَةِ)) حجة لنا ،لن شُرب
الكبير للبن يُؤثر فى دفع مجاعته قطعاً ،كما يُؤثر فى الصغير أو قريبًا منه.
فإن قلتم :فما فائدة ذكره إذا كان الكبيرُ والصغيرُ فيه سواء؟ قلنا :فائدتُه إبطال تعلق التحريم
بالقطرة من اللبن ،أو المصّة الواحدة التى ل تُغنى من جوع ،ول تُنبت لحماً ،ول تُنشز عظماً.
قالوا :وقولُه صلى ال عليه وسلم(( :ل رضاع إل ما كان فى الحولين ،وكان فى الثدى قبلَ
الفطام)) ليس بأبل َغ مِن قوله صلى ال عليه وسلم(( :ل ربا إلّ فى النسيئة))،
337
((وإنما الربا فى النسيئة)) ،ولم يمنع ذلك ثبوتُ ربا الفضل بالدلة الدالة عليه ،فكذا هذا.
ل صلى ال عليه وسلم ،وسنُنه الثابتة ُكّلهَا حق يجب اتباعُها ل يضرب
فأحاديثُ رسول ا ّ
ل على ذلك أن عائشة أم المؤمنين
بعضها ببعض ،بل تستعمل كلً منها على وجهه .قالوا :ومما يد ّ
رضى الّ عنها ،وأفقه نساء المة هى التى روت هذا وهذا ،فهى التى روت(( :إنّماال َرضَاعَةُ مِنَ
المَجَاعَةِ)) وروت حديث سهلة ،وأخذت به فلو كان عندها حديث ((إنما الرضاعة من المجاعة))
ل صلى ال عليه وسلم،
مخالفاً لحديث سهلة ،لما ذهبت إليه وتركت حديثاً واجهها به رسولُ ا ّ
وتغ ّيرَ وجهه ،وكره الرجل الذى رآه عندها ،وقالت :هو أخى.
ت مِن
ل عليها الكبير إذا أرضعته فى حال كبره أخ ٌ
قالوا :وقد صحّ عنها أنها كانت تُدْخ ُ
أخواتها الرضاع المُحَرم ،ونحن نشهدُ بشهادة الّ ،ونقطع قطعاً نلقاه به يوم القيامة ،أن أ ّم المؤمنين
ل له انتهاكُه ،ولم يكن الّ
ل صلى ال عليه وسلم بحيث ينت ِهكُه من ل َيحِ ّ
لم تكن لِتبيحَ سِترَ رسول ا ّ
سمَاوات ،وقد عصم الّ سبحانه ذلك
عز وجل ليبيح ذلك على ي ِد الصّديقة المبرأةِ من فوق سبع َ
ب الكريم ،والحمى المنيع ،والشرفَ الرفيع أتمّ عِصمة ،وصانه أعظ َم صيانة ،وتولّى صيانته
الجنا َ
ن ونقطعُ ،و َن ُبتّ الشهادة لّ ،بأن فعلَ
وحمايتَه ،والذبّ عنه بنفسه ووحيه وكلمه ،قالوا :فنحن نُوقِ ُ
ع الكبير يقع به من التحريم والمحرميةِ ما يقع برضاع
عائشة رضى الّ عنها هو الحقّ ،وأن رضا َ
الصغير ،ويكفينا أمّنا أفقه نساء المة على الطلق ،وقد كانت تُناظر فى ذلك نساءه صلى ال عليه
ب ابن
ل علينا بتلك الرضاعة ،ويكفينا فى ذلك أنه مذه ُ
ج ْبنَها بغيرِ قولهن :ما أحدٌ داخ ٌ
وسلم ،ول يُ ِ
عم نبينا ،وأعلم أهل الرض على الطلق حين كان خليفة ،ومذهبُ الليث بن سعد الذى شهد له
الشافعى بأنه كان أفقه من مالك ،إل أنه ضيّعهُ أصحابُه ،ومذهبُ عطاء بن أبى رباح ذكره عبدُ
الرزاق عن ابن جريج عنه .وذكر مالك عن الزهرى ،أنه سُئلَ عن رضاع الكبير ،فاحتج بحديثِ
سهلة بنت سهيل فى قصة سالم مولى أبى حذيفة ،وقال عبد الرزاق :وأخبرنى ابن جريج ،قال:
أخبرنى عبد الكريم ،أن سالم ابن أبى جعد المولى الشجعى أخبره أن أباه أخبره ،أنه سأل على بن
ل عنه فقال :أردت أن أتزوّج امرأة قد سقتنى من لبنها وأنا كبير تداويتُ به،
أبى طالب رضى ا ّ
حهَا ،ونهاه عنها.
فقال له على :ل َت ْنكِ ْ
فهؤلء سلفنا فى هذه المسألة ،وتلك نصوصنا كالشمسِ صحة وصراحة .قالوا :وأصرحُ
ل ْمعَا َء فى الثّدْى وكَانَ َقبْلَ
ع إل مَا َفتَقَ ا َ
حرّ ُم مِن الرّضا ِ
ث أم سلمة ترفعه(( :ل يُ َ
أحاديثكم حدي ُ
الفِطَام)) فما أصرحه لو كان سليمًا من العلة ،لكن هذا حديثٌ منقطع ،لنه من رواية فاطمة بنت
338
ن مِن زوجها هشام باثنى عشر عاماً ،فكان
المنذر عن أم سلمة ،ولم تسمع منها شيئاً ،لنها كانت أس ّ
مولده فى سنة ستين ،ومولد فاطمة فى سنة ثمان وأربعين ،وماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين،
وفاطمة صغيرة لم تبلغها ،فكيف تحفظُ عنها ،ولم تسم ْع مِن خالة أبيها شيئًا وهى فى حَجْرها ،كما
حصل سماعُها من جدتها أسماء بنت أبى بكر؟ قالوا :وإذا نظر العالمُ المنصف فى هذا القول،
ووازن بينه وبينَ قول من يحدد مد َة الرضاع المُحرّمِ بخمسة وعشرين شهراً ،أو ستة وعشرين
شهراً أو سبعة وعشرين شهراً ،أو ثلثين شهرًا من تلك القوال التى ل دليل عليها مِن كتاب الّ،
أو سُنة رسوله ،ول قوِلِ أحد من الصحابة ،تبيّن له فضلُ ما بين القولين ،فهذا منتهى أقدام
الطائفتين فى هذه المسألة ،ولعل الواقف عليها لم يكن يخطر له أن هذا القول تنتهى قوتُه إلى هذا
الحد ،وأنه ليس بأيدى أصحابه قدرةٌ على تقديره وتصحيحه ،فاجلس أيها العال ُم المنصف مجِلسَ
حكَم بين هذين المتنازعين ،وافصل بينهما بالحج ِة والبيان ل بالتقليد ،وقال فلن.
ال َ
واختلف القائلون بالحولين فى حديث سهلة هذا على ثلثة مسالك ،أحدها :أنه
ك كثير منهم ،ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى ،فإنهم ل يُمكنهم إثباتُ
منسوخ ،وهذا مسل ُ
ب هذا القول عليهم الدعوى،
التاريخ المعلوم التأخر بينه وبينَ تلك الحاديث .ولو قَلبَ أصحا ُ
خ تلك الحاديث بحديث سهلة ،لكانت نظيرَ دعواهم.
وادعوا نس َ
وأما قولهم :إنها كانت فى أوّلِ الهجرة ،وحين نزول قوله تعالى{:ادْعُوهُمْ لبا ِئهِمْ}
ل عنه ،وأبى هريرة بعد ذلك ،فجوابه من وجوه.أحدها:
[الحزاب ،]5 :ورواية ابن عباس رضى ا ّ
ن عباس إل دونَ
أنهما لم يصرحا بسماعه مِن النبى صلى ال عليه وسلم ،بل لم يسمع منه اب ُ
العشرين حديثاً ،وسائرُها عن الصحابة رضى الّ عنهم.
الثانى :أن نساء النبىّ صلى ال عليه وسلم لم تحتج واحدةٌ منهن ،بل ول غيرُهن على
عائشة رضى الّ عنها بذلك ،بل سلكن فى الحديث بتخصيصه بسالم ،وعدم إلحاق غيره به.
الثالث :أن عائشةَ رضى الّ عنها نفسَها روت هذا وهذا ،فلو كان حديثُ سهلة منسوخاً،
لكانت عائشةُ رضى الّ عنها قد أخذت به ،وتركتِ الناسخَ ،أو خفى عليها تقدّمه مع كونها هى
الراوية له ،وكلهما ممتنع ،وفى غاية البعد.
الرابع :أن عائش َة رضى الّ عنها ابتُليت بالمسألة ،وكانت تعمَلُ بها ،وتُناظر عليها ،وتدعو
إليها صواحباتِها فلها بها مزيدُ اعتناء ،فكيف يكون هذا حُكماً منسوخاً قد بطل كونهُ من الدين جملة،
ويخفى عليها ذلك ،ويخفى على نسا ِء النبى صلى ال عليه وسلم فل تذ ُكرُه لها واحد ٌة منهن.
339
المسلك الثانى :أنه مخصوص بسالم دون من عداه ،وهذا مسلك أ ّم سلمة ومَنْ معها
من نساء النبى صلى ال عليه وسلم ومَنْ تبعهن ،وهذا المسلكُ أقوى مما قبله ،فإن أصحابه قالوا
ل صلى ال عليه وسلم بعد نزول آية
مما يُبين اختصاصَه بسالم أن فيه :أن سهلة سألت رسول ا ّ
س ّمىَ فيها ،ول
ل للمرأة أن تُبدى زينتها إل لمن ذكر فى الية و ُ
الحجاب ،وهى تقتضى أنه ل يَحِ ّ
يُخص من عموم من عداهم أحد إل بدليل .قالُوا :والمرأة إذا أرضعت أجنبياً ،فقد أبدت زينتها له،
ص به .قالوا :وإذا أمر
فل يجو ُز ذلك تمسكاً بعموم الية ،فعلمنا أن إبداء سهلة زينتها لسالم خا ّ
ل صلى ال عليه وسلم واحدًا مِن المة بأمر ،أو أباح له شيئًا أو نهاه عن شىء وليس فى
رسولُ ا ّ
ص على تخصيصه ،وأما إذا أمر
الشريعة ما يُعارضه ثبت ذلك فى حق غيره من المة ما لم ين ّ
الناس بأمرٍ ،أو نهاهم عن شىء ،ثم أمر واحداً من المة بخلف ما أم َر به الناس ،أو أطلقَ له ما
نهاهم عنه ،فإن ذلك يكون خاصاً به وحدَه ،ول يقولُ فى هذا الموضع :إن أمره للواحد أمرٌ للجميع،
وإباحته .للواحد إباحةٌ للجميع ،لن ذلك يُؤدى إلى إسقاط المر الول ،والنهى الول ،بل نقول :إنه
ص وتأتلفَ ول يُعارض بعضها بعضاً ،فحرم الّ فى كتابه أن
خاص بذلك الواحد لتتفق النصو ُ
لّ صلى ال عليه وسلم لسهلة أن تُبدى زينتها لسالم
حرَمٍ ،وأباح رسولُ ا ِ
تبدىَ المرأ ُة زينتها لغير مَ ْ
حرَ ٍم عند إِبداء الزينة قطعاً ،فيكون ذلك رخصةً خاصة بسالم ،مستثناة من عموم
وهو غي ُر مَ ْ
التحريم ،ول نقول :إن حكمها عام ،فيبطل حكم الية المحرمة.
قالوا :ويتعيّن هذا المسلك لنا لو لم نسلكه ،لزمنا أح ُد مسلكين ،ول بد منهما إما نسخ هذا
ل إلى واحد من
ث الدالة على إعتبار الصّغر فى التحريم ،وإما نسخُها به ،ول سبي َ
الحديث بالحادي ِ
المرين لعدم العلم بالتاريخ ،ولعدم تحقق المعارضة ،ولمكان العمل بالحاديث ُكلّها ،فإنا إذا حملنا
ث سهلة على الرخصة الخاصة ،والحاديث الخ َر على عمومها فيما عدا سالماً ،لم تتعارض،
حدي َ
عمِلَ بجميعها.
ولم ينسخ بعضُها بعضاً ،و ُ
قالوا :وإذا كان النبىّ صلى ال عليه وسلم قد بّين أن الرضاع إنما يكون فى الحولين ،وأنه
إنما يكون فى الثدى ،وإنما يكون قبل الفِطام ،كان ذلك ما يَدُلّ على أن حديث سهلة على
صرُ بيانُ الخصوص فى قوله هذا لك وحدك حتى يتعيّن
الخصوص ،سواء تقدم أو تأخر ،فل ينح ِ
طريقاً.
قالوا :وأما تفسي ُر حديث ((إنّما ال ّرضَاعَةُ مِنَ المجَاعَةِ)) بما ذكرتموه ،ففى غاية البُعد من
اللفظ ،ول تتبادر إليه أفهامُ المخاطبين ،بل القولُ فى معناه ما قاله أبو عُبيد والناس ،قال أبو عبيد:
340
قوله(( :إنما الرّضاع ُة مِنَ المجاعة)) يقول :إن الذى إذا جاع كان طعامُه الذى يُشبعه اللبن ،إنما هو
ى الرضيعُ .فأما الذى شبعُه من جوعه الطعامُ ،فإن رضاعه ليس برضاع ،ومعنى الحديث:
الصب ّ
إنّما الرضاعُ فى الحولين قبل الفطام ،هذا تفسير أبى عُبيد والناس ،وهو الذى يتبادر فهمُه مِن
ث التفسيرين على السواء ،لكان هذا المعنى أولى به
الحديث إلى الذهان ،حتى لو احتمل الحدي ُ
ث لهذا المعنى ،وكشفها له ،وإيضاحها ،ومما يبين أن غي َر هذا التفسير خطأ،
لمساعدة سائر الحادي ِ
ح أن يُراد به رضاعة الكبير ،أن لفظة ((المجاعة)) إنما تدل على رضاعة الصغير،
وأنه ل يَص ّ
فهى تُثبتُ رضاعة المجاعة ،وتَنفى غيرها ،ومعلوم يقينًا أنه إنما أراد مجاع َة اللبن ل مجاعةَ الخبز
ل المتكلم ول السامع ،فلو جعلنا حكم الرضاعة عامًا لم يبق لنا ما ينفى
واللحم ،فهذا ل يخطُر ببا ِ
ويُثبت .وسياق قوله :لما رأى الرجل الكبير ،فقال(( :إنما الرضاع ُة مِن المجاعة)) يبينُ المرادِ،
ل اللفظ منزلة الصريح ،فتغيرُ
وأنه إنما يُحرّم رضاعة من يجوعُ إلى لبن المرأة ،والسياق يُنزّ ُ
ن إخوانُكن)) إنما
لّ وسلمه عليه وكراهتُه لذلك الرجل ،وقوله(( :انظرن مَ ْ
وجهه الكريم صلوات ا ِ
حرّمُ وقتًا دون وقت ،ول يفهم أح ٌد من
هو للتَحفظ فى الرضاعة ،وأنها ل تُحرّمُ كلّ وقت ،وإنما تُ َ
هذا أنما الرضاعة ما كان عددُها خمسًا فيعبر عن هذا المعنى بقوله(( :من المجاعة)) ،وهذا ضدّ
البيان الذى كان عليه صلى ال عليه وسلم.
وقولكم :إن الرضاعة تطرُدُ الجوع عن الكبير ،كما تطرد الجوعَ عن الصغير كلم باطل،
ع المرأة ويَطْر ُد عنه الجوع ،بخلف الصغير فإنه ليس له ما يقومُ
فإنه ل يُعهد ذو لحية يُش ِبعُهُ رضا ُ
طرُ ُد عنه الجوع ،فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلً ،والذى يُوضّحُ هذا أنه
مقا َم اللبن ،فهو يَ ْ
ص َغرُ ،فإن
صلى ال عليه وسلم لم ُيرِدْ حقيقة المجاعة ،وإنما أراد مَظنتها وزمنها ،ول شك أنه ال ّ
ع الكبير إل إذا ارتضع وهو جائعٌ،
أبيتم إل الظاهرية ،وأنه أراد حقيقتها ،لزمكم أن ل يُحرّمَ رضا ُ
فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئاً.
ل عن أم
وأما حديث الستر المصون ،والحُرمة العظيمة ،والحِمى المنيع ،فرضىَ ا ّ
ى صلى ال عليه وسلم
المؤمنين ،فإنها وإن رأت أن هذا الرضاع يُثبت المحرمية ،فسائرُ أزواج النب ّ
ل هذا السّتر المصون ،والحِمى الرفيع بهذه الرضاعة ،فهى مسألة
يخالفنها فى ذلك ،ول يرينَ دخو َ
اجتهاد ،وأح ُد الحزبين مأجور أجراً واحداً ،والخر مأجورٌ أجرين ،وأسعدُهما بالجرين من أصاب
ن بهذهِ الرضاعة ،والمانع مِن
لّ ورسوله فى هذه الواقعة ،فكل من المدخل للستر المصو ِ
حكم ا ِ
341
الدخول فائز بالجر ،مجتهد فى مرضاة الّ وطاعة رسوله ،وتنفيذ حكمه ،ولهما أسوة بالنبيين
ن اللذين أثنى الّ عليهما بالحِكمة والحُكم ،وخصّ بفهم الحُكومة أحدَهُما.
سَليْما ِ
الكريمين داودَ و ُ
فصل
(يتبع)...
سفٌ بارد ،فل يلزم انقطاعُ الحديثِ مِن أجل أن فاطمة
وأما ردّكم لحديث أم سلمة ،فتع ّ @
ل الصغيرُ جداً أشياء ،ويحفظُها ،وقد عَقَل محمو ُد بنُ
بنت المنذر لقيت أ ّم سلمة صغيرة ،فقد يعقِ ُ
سبْعِ سِنين ،و َيعْقِلُ أصغر منه .وقد قلتم :إن فاطمة كانت وقتَ وفاة أم سلمة
الربيع المَجّ َة وهو ابنُ َ
بنت إحدى عشرة سنة ،وهذا سِن جيد ،ل سيما للمرأة ،فإنها تَصلح فيه للزوج ،فمن هى فى حد
ل الذى ل تُرد به
الزواج ،كيف يقال :إنها ل تعقِلُ ما تسمع ،ول تدرِى ما تُح ّدثُ به؟ هذا هو الباط ُ
السننُ ،مع أن أم سلمة كانت مصادقةً لجدتها أسماء ،وكانت دارهما واحدة ،ونشأت فاطمة هذه فى
حَجر جدتها أسماء مع خالة أبيها عائشة رضى الّ عنها وأم سلمة ،وماتت عائش ُة رضى الّ عنها
سنة سبع وخمسين ،وقيل :سنة ثمان وخمسين ،وقد يُمكن سماعُ فاطمة منها ،وأما جدتها أسماء،
فماتت سنة ثلث وسبعين ،وفاطمة إذ ذاك بنت خمس وعشرين سنة ،فلذلك كثر سماعُها منها ،وقد
أفتت أمّ سلمة بمثل الحديث الذى روته أسماء .فقال أبو عُبيد :حدثنا أبو معاوية ،عن هشام بن
حرّ ُم مِنَ ال ّرضَاعِ؟
عروة ،عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ،عن أم سلمة ،أنها سُئلت ما يُ َ
ل الفِطَامِ .فروت الحديث ،وأفتت بموجبه.وأفتى به عم ُر بنُ الخطاب
ن فى الثّدْى َقبْ َ
فَقَاَلتْ :مَا كَا َ
ل عنه ،كما رواهُ الدارقطنى من حديث سفيان عن عبد الّ بن دينار ،عن ابن عمر قال:
رضى ا ّ
ص َغرِ)).
ح ْوَليْنِ فى ال ّ
سمعت عم َر يقول(( :لرضاع إل فى ال َ
لّ رضى الّ عنه ،فقال مالك رحمه الّ ،عن نافع ،عن ابن عمر رضى
وأفتى به ابنُه عبد ا ِ
ص َغرِ ،ول َرضَاعَ َة ِل َكبِيرٍ.
الّ عنهما :أنه كان يقول :ل َرضَاعَة إل لمن َأ ْرضَعَ فى ال ّ
وأفتى به ابن عباس رضى الّ عنهما ،فقال أبو عبيد :حدثنا عبد الرحمن ،عن سفيان
ع َبعْدَ
الثورى ،عن عاصم الحول ،عن عكرمة ،عن ابن عباس رضى الّ عنهما ،قال :ل َرضَا َ
فِطَام.
وتناظر فى هذه المسألة عبدُ الّ بن مسعود ،وأبو موسى ،فأفتى ابنُ مسعود بأنه ل
حرّمُ إل فى الصغر ،فرجع إليه أبو موسى ،فذكر الدارقطنى ،أن ابن مسعود قال لبى موسى :أنت
يُ َ
342
ل صلى ال عليه وسلم(( :ل َرضَاع إل ما شَ ّد العَظْمَ وأنبتَ
تُفتى بكذا وكذا ،وقد قال رسولُ ا ّ
اللّحْمَ)).
وقد روى أبو داود :حدثنا محمد بن سليمان النبارى ،حدثنا وكيع ،حدثنا سليمان بن
ل عنه ،قال :قال رسولُ الِّ
المغيرة ،عن أبى موسى الهللى ،عن أبيه ،عن ابن مسعود رضى ا ّ
شزَ العَظْم)).
ن ال ّرضَاعِ إلّ مَا َأ ْن َبتَ اللّحْ َم وَأنْ َ
حرّمُ مِ َ
ل يُ َ
صلى ال عليه وسلمَ (( :
ثم أفتى بذلك كما ذكره عبد الرزاق عن الثورى ،حدثنا أبو بكر ابن عياش ،عن أبى
ل إلى أبى موسى ،فقال :إن امرأتى َورِمَ ثديُها
حُصين ،عن أبى عطية الوادعى ،قال :جاء رَجُ ٌ
صتُهُ ،فدخل حلقى شىء سبقنى ،فشدّد عليه أبو موسى ،فأتى عبدَ الّ بن مسعود ،فقال :سألتَ
َف َمصِ ْ
أحدًا غيرى؟ قال :نعم أبا موسى ،فشدّ َد على ،فأتى أبا موسى ،فقال :أرضيعٌ هذا؟ فقال أبو موسى:
ل تسألونى ما دامَ هذا الحب ُر بينَ أظهركم .فهذه روايتُه وفتواه.
وأما على بن أبى طالب ،فذكر عبد الرزاق ،عن الثورى ،عن جُويبر ،عن الضحاك ،عن
النزّال بن سبرة ،عن على :لرَضاع َبعْ َد الفِصَال.
وهذا خلف رواية عبد الكريم ،عن سالم بن أبى الجعد ،عن أبيه ،عنه .لكن جُويبر ل يُحتج
بحديثه ،وعبد الكريم أقوى منه.
فصل
ق كُلّ أحد،
ث سهلة ليس بمنسوخ ،ول مخصوصٍ ،ول عامٍ فى ح ّ
المسلك الثالث :أن حدي َ
وإنما هو رخصةٌ للحاجة لمن ل يَستغنى عن دخوله على المرأة ،ويَشقّ احتجابُها عنه ،كحال سالم
ن عداه ،فل يُؤثّر إل
مع امرأة أبى حُذيفة ،فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجَ ِة َأثّر رضاعُه ،وأما مَ ْ
رضاعُ الصغير ،وهذا مسلكُ شيخ السلم ابن تيمية رحمه الّ تعالى ،والحاديثُ النافية للرضاع
فى الكبير إما مطلقة ،فتقيّد بحديث سهلة ،أو عامة فى الحوال فتخصيصُ هذه الحال من عمومها،
ث من
وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه ،وأقرب إلى العمل بجميع الحادي ِ
ل الموفق.
الجانبين ،وقواعدُ الشرع تشهد لهُ ،وا ّ
ذكر حكمه صلى ال عليه وسلم فى العدد
هذا البابُ قد تولى ال سبحانه بيانَه فى كتابه أتمّ بيانٍ ،وأوضحَه ،وأجمَعه بحيث ل تَشِ ّذ عنه
معتدة ،فذكر أربعة أنواعٍ من العِدَدِ ،وهى جملة أنواعها.
343
النوع الول :عِ ّد ُة الحامل بوضع الحمل مطلقاً بائنةً كانت أو رجعيةً ،مفارقة فى
ح ْمَلهُنّ} [الطلق ،]4 :وهذا فيه
ضعْنَ َ
ن َي َ
جُلهُنّ أَ ْ
ل أَ َ
الحياة ،أو متوفّى عنها،فقالَ {:وأُولتُ الَحْما ِ
عمومٌ مِن ثلث جهات.
أحدُها :عمومُ المخَب ِر عنه ،وهو أولتُ الحمال ،فإنه يتناولُ جمي َعهُن.
الثانى :عمومُ الجَلِ ،فإنه أضافه إليهن ،وإضافةُ اسمِ الجمع إلى المعرفة َيعُمّ ،فجعل وضعَ
الحمل جميعَ أجلهن ،فلو كان لِبعضهن أجل غيره لم يكن جميعَ أجلهن.
الثالث :أن المبتدأ والخبر معرفتان ،أما المبتدأ :فظاهر ،وأما الخبر وهو قوله تعالى { :أَنْ
ح ْمَلهُنّ} [الطلق ،]4 :ففى تأويل مصدر مضاف ،أى أجلهن وضع حملهن ،والمبتدأ
ضعْنَ َ
َي َ
والخبر إذا كانا معرفتين ،اقتضى ذلك حصرَ الثانى فى الول ،كقوله {:يَا َأ ّيهَا النّاسُ َأ ْنتُ ُم الفُقَراءُ
ل المتوفى
حمِيدُ} [فاطر ،]15 :وبهذا احتج جمهو ُر الصحابة على أن الحامِ َ
لّ وَالُّ ُهوَ ال َغ ِنىّ ال َ
إلى ا ِ
عنها زوجُها عِدتُها وضعُ حملها ،ولو وضعته والزوجُ على المغتسل كما أفتى به النبىّ صلى ال
س َب ْيعَةَ السلمية ،وكان هذا الحك ُم والفتوى منه مشتقاً من كتاب الّ ،مطابقًا له.
عليه وسلم لِ ْ
فصل
طلّقَاتُ
النوع الثانى :عدة المطلقة التى تحيضُ ،وهى ثلثةُ قُروُء ،كما قال الّ تعالى{ :والم َ
ن ثلثة ُقرُوءٍ} [البقرة.]228 :
سهِ ّ
ن بَِأنْفُ ِ
َي َت َربّصْ َ
النوع الثالث :عدة التى ل حيضَ لها ،وهى نوعان :صغيرة ل تحيض ،و َكبِيرة قد
ض مِنْ نِسا ِئكُمْ إن
ن مِنَ المحِي ِ
لئِى َيئِسْ َ
يئست من الحيض .فبيّن الُّ سبحانَه عِدّة النوعين بقوله{ :وال ّ
حضْنَ} [الطلق ،]4 :أى :فعدتهن كذلك.
لئِى لَ ْم يَ ِ
ن ثَلثَ ُة أَشْهر وَال ّ
ا ْر َت ْبتُمْ َفعِ ّد ُتهُ ّ
النوع الرابع :المتوفّى عنها زوجها فبين عدتها سبحانه بقوله{ :وَالّذِين
ش ُه ٍر وَعَشْراً} [البقرة ،]234 :فهذا يتناول
ن َأ ْر َبعَةَ أَ ْ
سهِ ّ
ن بَِأنْفُ ِ
ُي َتوَ ّفوْنَ ِم ْنكُ ْم َويَ َذرُونَ َأ ْزوَاجًا َي َت َر ّبصْ َ
المدخولَ بها وغيرَها ،والصغير َة والكبيرة ،ول تدخل فيه الحامل ،لنها خرجت بقولهَ { :وأُولتُ
ح ْمَلهُنّ} [الطلق ]4 :فجعل وضع حملهن جميع أجلهن ،وحصره فيه،
ضعْنَ َ
ن أَنْ َي َ
جُلهُ ّ
ل أَ َ
الحْما ِ
ل مطلقٌ ل عمو َم له ،وأيضاً
بخلف قوله فى المتوفى عنهنَ { :يتَر ّبصْنَ} [البقرة ،]228 :فِإنّهُ ِفعْ ٌ
حمْلهُنّ} [الطلق ،]4 :متأخر فى النزول عن قولهَ { :يتَر ّبصْنَ}
ضعْنَ َ
ن َي َ
جُلهُنّ أَ ْ
فإن قولهَ{ :أ َ
ش ُهرٍ وَعَشْراً} [البقرة ،]228 :فى
ن َأ ْر َبعَ َة أَ ْ
سهِ ّ
[البقرة ،]228 :وأيضاً فإن قولهَ { :ي َت َر ّبصْنَ بَأنْفُ ِ
غير الحامل بالتفاق ،فإنها لو تمادى حملها فوق ذلك تربصته ،فعمومُها مخصوص اتفاقاً ،وقوله:
344
ح ْمَلهُنّ} [الطلق ]4 :غيرُ مخصوص بالتفاق ،هذا لو لم تأت السن ُة الصحيحةُ
ضعْنَ َ
ن أَنْ َي َ
جُلهُ ّ
{أَ َ
بذلك ،ووقعت الحوالةُ على القرآن ،فكيف والسنة الصحيحة موافقة لذلك ،مقررة له.
ل مفصّل ًة مبينة ،ولكن اختلف فى فهم المراد من القرآن
فهذه أصول العدد فى كتاب ا ّ
ل على مرادِ الّ منها ونحن نذكرها ونذكر
ودللته فى مواضع من ذلك ،وقد دلّت السنةُ بحمد ا ّ
أ ْولَى المعانى وأشبهها بها ،ودللة السنة عليها.
ف السلف فى المتوفّى عنها إذا كانت حاملً ،فقال على ،وابن عباس،
فمن ذلك اختل ُ
وجماعة من الصحابة :أبعدُ الجلين من وضع الحمل ،أو أربعة أشهر وعشراً ،وهذا أحد القولين
فى مذهب مالك رحمه الّ اختاره سحنُون .قال المام أحمد فى رواية أبى طالب عنه :على بن أبى
طالب وابن عباس يقولن فى المعتدة الحامل :أبعد الجلين ،وكان ابن مسعود يقول :من شاء
ضعَتْ ،فَقَدْ
با َه ْلتُهَ ،إنّ سورة النساء القُصرى نزلت بعدُ ،وحديث سبيعة يقضى بينهم ((إذا َو َ
ح ْمَلهُنّ} [الطلق ،]4 :هى فى المتوفّى
ن أَنْ َيضَعنَ َ
جُلهُ ّ
حّلتْ)) .وابنُ مسعود يتأول القرآن{ :أَ َ
َ
ل إذا أسقطت
عنها ،والمطلقة مثلها إذا وضعت ،فقد حلّت ،وانقضت عِدتها ،ول تنقضى عدة الحامِ ِ
حتى يتبين خلقُه ،فإذا بان له يد أو رجل ،عتقت به المة ،وتنقضى به العدة ،وإذا ولدت ولداً وفى
ب عن منزلها الذى أُصيب فيه زوجها أربعة
ض العدةُ حتى َتلِدَ الخر ،ول تغي ُ
بطنها آخر ،لم تنق ِ
أشهر وعشرًا إذا لم تكن حاملً ،والعِدة مِن يو ِم يموت أو يطلق ،هذا كلم أحمد.
وقد تناظر فى هذه المسألة :ابنُ عباس ،وأبو هريرة رضى الّ عنهما ،فقال أبو هريرة:
عِدتُها وضع الحمل ،وقال ابنُ عباس :تعت ّد أقصى الجلين ،فحكّما أ ّم سلمة رضى الّ عنها،
س َب ْيعَة.
فحكمت لبى هريرة ،واحتجت بحديث ُ
وقد قيل :إن ابن عباس رجع.
وقال جمهو ُر الصحابة ومَن بعدهم ،والئمةُ الربعة :إن عدتها وضعُ الحمل ،ولو كان
سلِه فوضعت ،حلّت.
ج على مغت َ
الزو ُ
ج مِن
قال أصحاب الجلين :هذه قد تناولها عمومان ،وقد أمكن دخولُها فى كليهما ،فل تخر ُ
عدتها بيقين حتى تأتى بأقصى الجلين ،قالوا :ول يُمكِنُ تخصيصُ عموم إحداهما بخصوص
ل بعض الصور فى
الخرى ،لن كلّ آية عامةٌ من وجه ،خاصةٌ من وجه ،قالوا :فإذا أمكن دخو ُ
ل للعموم فى مقتضاه.فإذا اعتدت أقصى الجلين دخل أدناهما فى
عموم اليتين ،يعنى إعما ً
أقصاهما.
345
والجمهورُ أجابوا عن هذا بثلثة أجوبة.
أحدها :أن صريحَ السنة يدل على اعتبار الحمل فقط ،كما فى ((الصحيحين)) :أن سُبيعة
السلميةَ توفّى عنها زوجُها وهى حبلى ،فوضعت ،فأرادت أن تنكِحَ ،فقال لها أبو السنابل :ما أنتِ
ب أَبو السّنابِلِ ،قَد
ى صلى ال عليه وسلم ،فقال(( :كَ َذ َ
بناكحة حتى تعتدى آخرَ الجلين ،فسألَت النب ّ
ش ْئتِ)).
حَل ْلتِ فَا ْنكِحِى مَنْ ِ
َ
ح ْمَلهُنّ} [الطلق ،]4 :نزلت بع َد قوله:
ضعْنَ َ
ن أَنْ َي َ
جُلهُ ّ
ل أَ َ
حمَا ِ
لتُ الَ ْ
الثانى أن قولهَ { :وأُو َ
ش ُهرٍ وَعَشْراً} [البقرة،]234 :
سهِنّ َأ ْر َبعَةَ أ ْ
ن َأ ْزوَاجًا َي َت َر ّبصْنَِ ،بَأنْفُ ِ
ن ِم ْنكُمْ َويَذرُو َ
{والّذِينَ ُي َتوَ ّفوْ َ
وهذا جواب عبد الّ بن مسعود ،كما فى صحيح البخارى عنه :أتجعلُون عليها التغليظَ ،ول تجعلون
لها الرخصة ،أشهد لنزلت سورةُ النساء القُصرى بعد الطولى:
ح ْمَلهُنّ} [الطلق.]4 :
ضعْنَ َ
ن َي َ
جُلهُنّ أَ ْ
ل َأ َ
{وَأولتُ الَحْما ِ
وهذا الجوابُ يحتاج إلى تقرير ،فإن ظا ِهرَه أن آي َة الطلق مقدّمة على آي ِة البقرة
لتأخرِها عنها ،فكانت ناسخةً لها ،ولكن النسخ عند الصحابة والسلف أع ّم مِنه عند المتأخرين ،فإنهم
يُريدون به ثلثة معان.
أحدُها :رفعُ الحكم الثابت بخطاب.
الثانى :رفعُ دللة الظاهر إما بتخصيص ،وإما بتقييد ،وهو أعمّ مما قبله.
ن المراد باللفظ الذى بيانه مِن خارج ،وهذا أع ّم مِن المعنيين الولين ،فابن
الثالث :بيا ُ
مسعود رضى الّ عنه أشار بتأخر نزولِ سور ِة الطلق ،إلى أن آية العتداد بوضع الحملِ ناسخة
لية البقرة إن كان عمومُها مراداً ،أو مخصّصة لها إن لم يكن عمومُها مرادًا مبيّنة للمراد منها ،أو
مقيّدة لطلقها ،وعلى التقديرات الثلث ،فيتعينُ تقديمُها على عموم تلك وإطلقها ،وهذا مِن كمال
ل الفقه سجي ٌة للقوم ،وطبيعةٌ ل
فقهه رضى الّ عنه ،ورسوخِه فى العلم ،ومما يُبين أن أصو َ
يتكلفونها ،كما أن العربيةَ والمعانى والبيان وتوابعَها لهم كذلكَ ،فمَنْ بعدهم فإنما يُجهد نفسه ليتعلق
بغُبارهم وأنى له؟
الثالث:أنه لو لم تأت السن ُة الصريحةُ بإعتبار الحمل ،ولم تكن آي ُة الطلق متأخرة ،لكان
تقديمُها هو الواجب لما قررناه أولً من جهات العموم الثلثة فيها ،وإطلق قولهَ { :ي َت َر ّبصْنَ}
[البقرة ،]234 :وقد كانت الحوالةُ على هذا الفهم ممكنة ،ولكن لِغموضه ودِقته على كثيرٍ من
ل التوفيق.
الناس ،أُحيل فى ذلك الحكم على بيان السنة ،وبا ّ
346
فصل
ح ْمَلهُنّ} [الطلق ،]4 :على أنها إذا كانت حاملً
ضعْنَ َ
ن َي َ
جُلهُنّ أَ ْ
ودل قولُه سبحانهَ{ :أ َ
بتوأمين لم تنقض العِدةُ حتى تضعهما جيمعاً ،ودلّت على أن من عليها الستبراء ،فعِدتها وضعُ
الحمل أيضاً ،ودلت على أن العِدة تنقضى بوضع ِه على أىّ صفة كان حياً أو ميتاً ،تامّ الخِلقة أو
ح أو لم يُنفخ.
نا ِقصَها ،نُفِخَ فيه الرو ُ
ش ُهرٍ وَعَشْراً} [البقرة ،]234 :على الكتفاء
ن َأ ْر َبعَ َة أَ ْ
سهِ ّ
ودل قولُهَ { :ي َت َر ّبصْنَ بَِأنْفُ ِ
ض وهذا قول الجمهور ،وقال مالك :إذا كان عادتُها أن تحيض فى كل سنة مرة،
بذلك وإن لم تَح ْ
فتوفى عنها زوجُها ،لم تنقض عدتها حتى تحيضَ حيضتها ،فتبرأ مِن عِدتها .فإن لم تَحِض،
انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم وفاته ،وعنه رواية ثانية :كقول الجمهور ،أنه تعتدّ أربعة أشهر
ظرُ حيضها.
وعشراً ،ول تنت ِ
فصل
ومن ذلك اختلفُهم فى القراء ،هل هى الحيض أو الطهار؟ فقال أكابر الصحابة :إنها
الحيض ،هذا قول أبى بكر ،وعمر ،وعثمان ،وعلى ،وابن مسعود ،وأبى موسى ،وعُبادة بن
الصامت ،وأبى الدرداء ،وابن عباس ،ومعاذ ابن جبل رضى الّ عنهم ،وهو قولُ أصحاب عبد الّ
ابن مسعود ،كلهم كعلقمة ،والسود ،وإبراهيم ،وشُريح وقول الشعبى ،والحسن ،وقتادة ،وقولُ
ل أئمة
أصحاب ابن عباس ،سعي ِد ابن جبير ،وطاووس ،وهو قولُ سعيد بن المسيّب ،وهو قو ُ
الحديث :كإسحاق بن إبراهيم ،وأبى عُبيد القاسم ،والمام أحمد رحمه الّ ،فإنه رجع إلى القول به،
واستقرّ مذهبُه عليه ،فليس له مذهب سواه ،وكان يقول :إنها الطهار ،فقال فى رواية الثرم :رأيتُ
الحاديث عمن قال :القروء الحيض ،تختِلفُ .والحاديث عمن قال :إنه أحقّ بها حتى تدخل فى
الحيضة الثالثة أحاديثُ صحاح قوية ،وهذا النصّ وحدَه هو الذى ظفر به أبو عمر بن عبد البر،
ل هذا أولً ،ثم توقّف فيه،
فقال :رجع أحمد إلى أنّ القراء :الطهار ،وليس كما قال :بل كان يقو ُ
فقال فى رواية الثرم أيضاً :قد كنتُ أقول الطهار ،ثم وقفت كقول الكابر ،ثم جزم أنها الحيضُ،
وصرح بالرجوع عن الطهار ،فقال فى رواية ابن هانىء .كنت أقول :إنها الطهارُ ،وأنا اليوم
أذهبُ إلى أن القراء الحيض ،قال القاضى أبو يعلى :وهذا هو الصحيح عن أحمد رحمه الّ ،وإليه
ذهب أصحابنا ،ورجع عن قوله بالطهار ،ثم ذكر نصّ رجوعه مِن رواية ابن هانىء كما تقدم،
ل أئمة أهل الرأى ،كأبى حنيفة وأصحابه.
وهو قو ُ
347
وقالت طائفة :القراء :الطهار ،وهذا قولُ عائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت ،وعبد
ل بن عمر.
ا ّ
ويُروى عن الفقهاء السبعة ،وأبان بن عثمان والزهرى ،وعامة فقهاء المدينة ،وبه قال
مالك ،والشافعى ،وأحمد فى إحدى الروايتين عنه.
وعلى هذا القول ،فمتى طلقها فى أثناءِ طهر ،فهل تحتسب ببقيته قرءاً؟ على ثلثة أقوال.
أحدها :تحتسب به ،وهو المشهورُ.
ب ببقية الحيضة عند مَنْ يقول:
س ُ
ب به ،وهو قولُ الزهرى .كما ل تحت ِ
س ُ
والثانى :ل تحت ِ
القرء :الحيض اتفاقاً.
ل أبى
والثالث :إن كان قد جامعها فى ذلك الطهر ،لم تحتسِب ببقيته ،وإل احتسبت ،وهذا قو ُ
عبيد .فإذا طعنت فى الحيضة الثالثة أو الرابعة على قول الزهرى ،انقضت عدتها .وعلى قول
الول ،ل تنقضى العدة حتى تنقضى الحيض ُة الثالثة.
وهَلْ ي ِقفُ انقضاء عدتها على اغتسالها منها؟ على ثلثة أقوال .أحدها :ل تنقضى
عدتها حتى تغتسل ،وهذا هو المشهُورُ عن أكاب ِر الصحابة ،قال المام أحمد :وعمر ،وعلى ،وابن
ل مِن الحيضة الثالثة ،انتهى .ورُوى ذلك عن أبى بكر
مسعود يقولون :له رجعتُها قبل أن تغتسِ َ
الصديق ،وعثمان بن عفان ،وأبى موسى ،وعبادة ،وأبى الدرداء ،ومعاذ بن جبل رضى الّ عنهم،
كما فى مصنف وكيع ،عن عيسى الخياط ،عن الشعبى ،عن ثلثة عشر من أصحاب النبى صلى
ل مِن
ال عليه وسلم الخيّر فالخيّر ،منهم :أبو بكر ،وعمر ،وابن عباس :أنه أحقّ بها ما لم تغتسِ ْ
الحيضة الثالثة.
وفى ((مصنفه)) أيضاً ،عن محمد بن راشد ،عن مكحول ،عن معاذ ابن جبل وأبى الدرداء
مثلُه.
ل بن
وفى مصنف عبد الرزاق :عن معمر ،عن زيد بن رفيع ،عن أبى عُبيدة بن عبد ا ّ
ى بن كعب فى ذلك ،فقال أبى بن كعب :أرى أنه أحق بها حتى
مسعود ،قال :أرسل عثمان إلى أب ّ
تغتسل من حَيضتها الثالثة ،وتحل لها الصلةُ ،قال :فما أعلم عثمان إل أخذ بذلك.
وفى ((مصنفه)) أيضاً :عن عمر بن راشد ،عن يحيى بن أبى كثير ،أن عُبادة ابن الصامت
ل لها الصلة.
ح ْيضَة الثالثة ،وتَحِ ّ
قال :ل تبينُ حتى تغتسِلَ من ال َ
348
فهولء بضعة عشر من الصحابة ،وهو قولُ سعيد بن المسيب ،وسفيان الثورى وإسحاق بن
راهوية .قال شريك :له الرجعة وإن فرّطت فى الغسل عشرينَ سنة ،وهذا إحدى الروايات عن
المام أحمد رحمه الّ.
ف على الغسل ،وهذا قولُ
والثانى :أنها تنقضى بمجرد طهرها من الحيضة الثالثة ،ول تَ ِق ُ
سعيد بن جبير والوزاعى ،والشافعى فى قوله القديم حيث كان يقول :القراء :الحيض ،وهو إحدى
الروايات عن المام أحمد اختارها أبو الخطاب.
والثالث :أنها فى عدتها بعد انقطاع الدم ،ولِزوجها رجعتها حتى يمضى عليها وقتُ الصلة
ل الثورى ،والرواية الثالثة عن أحمد :حكاها أبو بكر عنه ،وهو
التى طهرت فى وقتها ،وهذا قو ُ
ت العدة
ل أبى حنيفة رحمه الّ ،لكن إذا انقطع الدم لقلّ الحيض ،وإن انقطع الدم لكثره ،إنقض ِ
قو ُ
عنها بمجردِ انقطاعه.
وأما من قال :إنها الطهار ،اختلفوا فى موضعين ،أحدهما :هل يشترط كون
الطهر مسبوقاً بدم قبله ،أو ل يُشترط ذلك؟ على قولين لهم ،وهما وجهان فى مذهب الشافعى
وأحمد .أحدهما :يُحتسب ،لنه طهر بعده حيض فكان قرءاً ،كما لو كان قبله حيض .والثانى :ل
يُحتسب ،وهو ظاهر نص الشافعى فى الجديد ،لنها ل تُسمى من ذوات القراء إل إذا رأت الدم.
الموضع الثانى :هل تنقضى العدة بالطعن فى الحيضة الثالثة أو ل
تنقضى حتى تحيضَ يومًا وليلةً؟ على وجهين لصحاب أحمد ،وهما قولن منصوصان للشافعى،
ولصحابه وجه ثالث :إن حاضت للعادة ،انقضت العِدةُ بالطعن فى الحيضة .وإن حاضت لِغير
العادة ،بأن كانت عادتها ترى الدم فى عاشر الشهر ،فرأته فى أوله ،لم تنقضِ حتى يمضَى عليها
يوم وليلة .ثم اختلفوا :هل يكون هذا الدم محسوبًا من العدة؟ على وجهين ،تظهرُ فائدتهما فى
رجعتها فى وقته ،فهذا تقرير مذاهب الناس فى القراء.
قال من نص :إنها الحيض :الدليل عليه وجوه.
ن ثَلثَةَ
سهِ ّ
ن بِأنْفُ ِ
أحدها :أن قولَه تعالىَ { :ي َت َربّصْ َ
قُروُء} [البقرة ،]228 :إما أن يراد به الطهار فقط ،أو الحيض فقط ،أو مجموعُهما .والثالث:
ل اللفظ المشترك على معنييه .وإذا تعيّن حمله على أحدهما،
محال إجماعاً ،حتى عند من يَحمِ ُ
فالحيض أولى به لوجوه.
349
أحدها :أنها لو كانت الطهار فالمعتدة بها
يكفيها قَرآنِ ،ولحظ ُة من الثالث ،وإطلق الثلثة على هذا مجاز بعيد لنصية الثلثة فى العدد
المخصوص.
فإن قلتم :بعض الطهر المطلق فيه عندنا قرء كامل ،قيل :جوابه مِن ثلثة أوجه.
أحدها :أن هذا مختلف فيه كما تقدم ،فلم تُجمع المة على أن بعض القَرء قرء قطّ ،فدعوى
هذا يفت ِقرُ إلى دليل.
ل الية عليها إلزامُ كون القراء الطهار،
الثانى :أن هذا دعوى مذهبية ،أوجب حم َ
ط أن اللحظة من
س ُر بها القرآن ،وتُحمل عليها اللغة ،ول يُعقل فى اللغة ق ّ
والدعاوى المذهبية ل يُف ّ
الطّهر تُسمى قرءاً كاملً ،ول اجتمعت المة على ذلك ،فدعواه ل تثبت نقلً ول إجماعاً ،وإنما هو
مجرد الحمل ،ول ريب أن الحمل شىء ،والوضع شىء آخر ،وإنما يُفيد ثبوتُ الوضع لغة أو
شرعًا أو عرفاً.
الثالث :أن القرء إما أن يكون اسمًا لمجموع الطهر ،كما يكون اسمًا لمجموع الحيضة أو
لبعضه ،أو مشتركًا بين المرين اشتراكًا لفظيّا ،أو اشتراكاً معنويّا ،والقسام الثلثة باطلةٌ فتعيّن
ن وضعه لبعض الطهر ،فلنه يلزمُ أن يكون الطه ُر الواحِدُ ع ّد َة أقراء ،ويكون
الول ،أما بطل ُ
ل لفظ ((القرء)) فيه مجازاً .وأما بطلنُ الشتراك المعنوى ،فمن وجهين ،أحدهما :أنه يلزم
استعما ُ
أن يصْدُق على الطهر الواحد أنه عِدة أقراء حقيقة .والثانى :أن نظي َر َه وهو الحيض ل يُسمى
جزؤه قرءاً اتفاقاً ،ووضع القرء لهما لغة ل يختِلفُ ،وهذا لخفاء به.
فإن قيل :تختار من هذه القسام أن يكون مشتركًا بين ُكلّه وجزُئه اشتراكًا لفظيّا ،ويُحمل
ب من وجهين .أحدهما :أنه
المشترك على معنييه ،فإنه أحفظُ ،وبه تحصل البراءة بيقين .قيل :الجوا ُ
ل َيصِحّ اشتراكه كما تقدم .الثانى :أنه لو صح اشتراكه ،لم يجز حملُه على مجموع معنييه.
أما على قول من ل يُج ّوزُ حمل المشترك على معنييه ،فظاهر ،وأما من يُجوّز حمله
عَليهما ،فإنما يُجوزونه إذا دل الدليل على إرادتهما معاً .فإذا لم يدل الدليل وقفوه حتى يقوم الدليل
على إرادة أحدهما ،أو إرادتهما ،وحكى المتأخرون عن الشافعى ،والقاضى أبى بكر ،أنه إذا تجرّد
عن القرائن ،وجب حملُه على معنييه ،كالسم العام لنه أحوط ،إذ ليس أحدهما أولى به من الخر،
ول سبيل إلى معنى ثالث ،وتعطيلُ ُه غير ممكن ،ويمتنِعُ تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة .فإذا جاء
علِمَ أن الحقيقة غيرُ مرادة ،إذ لو أريدت
ت العمل ،ولم يتبيّنْ أن أحدَهما هو المقصود بعينهُ ،
وق ُ
350
لبيّنت ،فتعيّن المجازُ ،وهو مجموع المعنيين ،ومن يقول :إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول :لما لم
يتبين أن المرادَ أحدهما علم أنه أراد كليهما.
قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه الّ :فى هذه الحكاية عن الشافعى والقاضى نظر ،أما
القاضى ،فمن أصله الوقف فى صيغ العموم ،وأنه ل يجوز حملُها على الستغراق إل بدليل ،فمن
ق من غير دليل وإنما الذى ذكره
جزِمُ فى اللفاظ المشتركة بالستغرا ِ
يَ ِقفُ فى ألفاظ العموم كيف يَ ْ
فى كتبه إحالة الشتراك رأساً ،وما يُدعى فيه الشتراك ،فهو عنده من قبيل المتواطىء ،وأما
ل من أن يقول مثل هذا ،وإنما استنبط هذا من قوله :إذا أوصى
الشافعى ،فمنصبُه فى العلم أج ّ
لمواليه تناول المولى مِن فوق ومِنْ أسفل ،وهذا قد يكونُ قاله لعتقاده أن المولى من السماء
المتواطِئة ،وأن موضعه القدر المشترك بينهما ،فإنه من السماء المتضايقة ،كقوله ((منْ ُك ْنتُ
لهُ)) ول يلزمُ مِن هذا أن يُحكى عنه قاعدة عامة فى السماء التى ليس من معانيها
لهُ َفعَلي َموْ َ
َموْ َ
قدرٌ مشترك أن تُحمَلَ عند الطلق على جميع معانيها.
ثم الذى يَدلّ على فساد هذا القول وجوه.
أحدها :أن استعمال اللفظ فى معنييه إنما هو مجاز ،إذ َوضْعهُ لِكل واحد منهما على سبيل
النفراد هو الحقيقة ،واللفظُ المطلق ل يجوزُ حمله على المجاز ،بل يجب حملُه على حقيقته.
الثانى :أنه لو قُ ّد َر أنه موضوع لهما منفردين ،ولكل واحد منهما مجتمعين ،فإنه يكون له
ن غيره بغير موجب ممتنع.
حينئذ ثلثةُ مفاهيم ،فالحمل على أحد مفاهيمه دو َ
الثالث :أنه حينئذ يستحيلُ حملُه على جميع معانيه ،إذ حملُه على هذا وحدَه ،وعليهما معاً
ل له على
مستلزم للجمع بين النقيضين ،فيستحيلُ حملُه على جميع معانيه ،وحملُه عليهما معاً حم ٌ
بعض مفهوماته ،فحملُه على جميعها يُبطِلُ حمله على جميعها.
الرابع :أن ههنا أموراً .أحدها :هذه الحقيقة وحدها ،والثانى :الحقيقة الخرى وحدها،
والثالث :مجموعهما ،والرابع :مجاز هذه وحدها ،والخامس :مجاز الخرىوحدها ،والسادس:
مجازهما معاً ،والسابع :الحقيقة وحدَها مع مجازِها ،والثامن :الحقيقة مع مجاز الخرى .والتاسع:
الحقيق ُة الواحدة مع مجازهما ،والعاشر :الحقيقة الخرى مع مجازها ،والحادى عشر :مع مجاز
ل بعضها على سبيل الحقيقة ،وبعضها
الخرى ،والثانى عشر :مع مجازهما ،فهذه اثنا عشر محم ً
على سبيل المجاز ،فتعيين معنى واحد مجازى دونَ سائر المجازات ،والحقائق ترجيحٌ مِن غير
مرجح ،وهو ممتنع.
351
الخامس :أنه لو وجب حملُه علىالمعنيين جميعًا لصار من صيغ العموم ،لن حكم السم
العام وجوبُ حمله على جميع مفرداته عند التجرد مِن التخصيص ،ولو كان كذلك ،لجاز استثناء
أح ِد المعنيين منه ،ولسبق إلى الذهن منه عند الطلق العموم ،وكان المستعمِلُ له فى أحد معنييه
بمنزلة المستعملِ للسم العام فى بعض معانيه ،فيكون متجوزاً فى خطابه غير متكلم بالحقيقة ،وأن
يكون من استعمله فى معنييه غيرَ محتاج إلى دليل ،وإنما يحتاج إليه من نفى المعنى الخر،
ولوجب أن يفهم منه الشمول قبل البحث عن التخصيص عند من يقول بذلك فى صيغ العموم ،ول
ينفى الجمِال عنه ،إذ يصيرُ بمنزلة سائر اللفاظ العامة ،وهذا باطل قطعاً ،وأحكام السماء
المشتركة ل تُفارق أحكام السماء العامة ،وهذا مما يعلم بالضطرار من اللغة ،ولكانت المة قد
أجمعت فى هذه الية على حملها على خلف ظاهرها ومطلقها إذ لم يصر أح ٌد منهم إلى حمل
((القرء)) على الطهر والحيض معاً ،وبهذا يتبين بطلن قولهم :حمله عليهما أحوطُ ،فإنه لو قُ ّدرَ
ل الية على ثلثةِ من الحيض والطهار ،لكان فيه خروجٌ عن الحتياط .إن قيل :نحمله على
حم ُ
ثلثة من كل منهما ،فهو خلف نص القرآن إذ تصير القراء ستة.
قولهم :إما أن يُحمل على أحدهما بعينه ،أو عليهما إلى آخره قلنا :مثلُ هذا ل يجوز أن
يَعرى عن دللة تُبين المراد منه كما فى السماء المجملة ،وإن خفيت الدللة على بعض
المجتهدين ،فل يلز ُم أن تكون خفية عن مجموع المة ،وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث،
فالكلم ،إذا لم يكن مطلقُه يدل على المعنى المراد ،فل بد من بيان المراد .وإذا تعين أن المراد
بالقرء فى الية أحدُهما ل كلهما ،فإرادة الحيض أولى لوجوه .منها :ما تقدم.
الثانى :أن استعمال القرء فى الحيض أظهر منه فى الطهر ،فإنهم يذكرونه تفسيراً
للفظه ،ثم يُردفونه بقولهم :وقيل ،أو قال فلن ،أو يقال ،على الطهر ،أو وهو أيضاً الطهر،
فيجعلون تفسيره بالحيض كالمستقر المعلوم المستفيض ،وتفسيره بالطهرِ قول قيل .وهاك حكايةُ
قال الجوهرى :القَرء بالفتح :الحيض ،والجمع أقراء وقُروء ،فى الحديث(( :ل صَلَةَ ألفاظهم.
َأيّامَ أقْرائِك)).
القَرء أيضاً :الطهر ،وهو من الضداد.وقال أبو عُبيد :القراء :الحيض ،ثم قال :القراء
ت المرأة :إذا حاضت .وقال ابن فارس :القُروء :أوقات،
الطهار ،وقال الكِسائى :والفَراء أقرأ ِ
يكون للطهر مرة ،وللحيض مرة ،والواحد قَرء ويقال :القرء :وهو الطهر ،ثم قال :وقوم يذهبون
ل مَنْ جعله مشتركاً بين أوقات الطهر والحيض ،وقولَ من جعله
إلى أن القرء الحيض ،فحكي قو َ
352
لوقات الطهر ،وقولَ من جعله لوقات الحيض ،وكأنه لم يختر واحداً منهما ،بل جعله لوقاتهما.
قال :وأقرأت المرأة إذا خرجت من حيض إلى طهر ،ومن طهر إلى حيض ،وهذا يدل على أنه ل
ت الطهر تُسمى قروءاً ،فإنما يريد أوقات
بُ ّد من مسمى الحيض فى حقيقته يُوضح أن من قال :أوقا ُ
الطهر التى يحتوِشُها الدم ،وإل فالصغيرة واليسة ل يقال لزمن طهرهما أقراء ،ول هُما مِن ذوات
القراء بإتفاق أهل اللغة.
الدليل الثانى :أن لفظ القرء لم يستعمل فى كلم الشارع إل للحيض ،ولم يجىء عنه
ف من خطاب الشارع
فى موضع واحد استعمالُه للطهر ،فحملُه فى الية على المعهود المعرو ِ
لةَ َأيّا َم أَ ْقرَا ِئكِ)) وهو
أولى ،بل متعين ،فإنه صلى ال عليه وسلم قال للمستحاضة(( :دَعى الصّ َ
صلى ال عليه وسلم المع ّبرُ عن الّ تعالى ،وبلغة قومِه نزل القرآنُ ،فإذا ورد المشتركُ فى كلمِهِ
على أحد معنييه ،وجب حملُه فى سائر كلمه عليه إذا لم تثبت إرادة الخر فى شىء من كلمه
البتة ،ويصيرُ هو لغ َة القرآن التى خوطبنا بها ،وإن كان له معنى آخر فى كلم غيره ،ويصير هذا
ص المتواطىءُ بأحد أفراده،
المعنى الحقيقة الشرعية فى تخصيص المشترك بأحد معنييه ،كما ُيخَ ّ
بل هذا أولى ،لن أغَلبَ أسباب الشتراك تسمية أح ِد القبيلتين الشىء باسم ،وتسمية الخرى بذلك
السم مسمى آخر ،ثم تشيع الستعمالت ،بل قال المبرّد وغيره :ل يقع الشتراكُ فى اللغة إل بهذا
الوجه خاصة ،والواضع لم يضع لفظاً مشتركاً البتة ،فإذا ثبت استعمالُ الشارع لفظ القروء فى
الحيض ،علم أن هذا لغته ،فيتعينُ حملُه على ما فى كلمه .ويوضح ذلك ما فى سياق الية مِن
خلَقَ الُّ فى َأرْحَا ِمهِنّ} [البقرة ]228 :وهذا هو الحيضُ،
ن َي ْك ُتمْنَ مَا َ
ن أَ ْ
ل َلهُ ّ
ل يَحّ ّ
قوله{ :و َ
والحمل عند عامة المفسرين ،والمخلوق فى الرحم إنما هو الحيض الوجودى ،ولهذا قال السلف
والخلف :هو الحمل والحيض ،وقال بعضُهم :الحمل ،وبعضهم :الحيض ،ولم يقل أحد قطّ :إنه
الطهر ،ولهذا لم ينقله من عُنىَ بجمع أقوال أهل التفسير ،كابن الجوزى وغيره .وأيضاً فقد قال
ى لَمْ
ش ُهرٍ ،واللّئ ْ
لثَةُ أ ْ
ض مِنْ نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُمْ َفعِ ّد ُتهُنّ ثَ َ
ن مِنَ المحي ِ
سبحانه{ :واللّئى َيئِسْ َ
حضْنَ} [الطلق ،]4 :فجعل كُلّ شهر بإزاء حيضة ،وعلّق الحكم بعدم الحيض ل بعدم الطهر من
يَ ِ
الحيض.
وأيضاً فحديث عائشة رضى الّ عنها عن النبى صلى ال عليه وسلم:
ضتَانِ)) ،رواه أبو داود ،ابن ماجه ،والترمذى وقال:
ح ْي َ
لمَ ِة تَطْلي َقتَانِ ،وَعِ ّدتُها َ
((طَلَقُ ا َ
غريب ل نعرفه إلّ من حديث مظاهر ابن أسلم ،ومظاهر ل يُعرف له فى العلم غير هذا الحديث،
353
وفى لفظ للدارقطنى فيه(( :طلقُ ال َعبْ ِد ِثنْتان)) ،وروى ابن ماجه من حديث عَطية ال َعوْفى ،عن ابن
لمَ ِة ا ْث َنتَانِ ،وعِ ّدتُها
ل صلى ال عليه وسلم ((طَلَقُ ا َ
عمر رضى الّ عنهما قال :قال رسول ا ّ
ضتَانِ)) .أيضاً :قال ابن ماجه فى سننه :حدثنا على بن محمد ،حدثنا وكيع ،عن سفيان ،عن
ح ْي َ
َ
منصور ،عن إبراهيم ،عن السود ،عن عائشة رضى الّ عنها قالت :أمرت بريرة أن تعت ّد ثلث
حيض.وفى ((المسند)) :عن ابن عباس رضى الّ عنهما ،أن النبى صلى ال عليه وسلم خير
بريرة ،فاختارت نفسها ،وأمرها أن تعتد عدة الحرة .وقد فسر عدة الحرة بثلث حيض فى حديث
عائشة رضى الّ عنها .فإن قيل :فمذهب عائشة رضى الّ عنها ،أن القراء :الطهار؟ قيل :ليس
ت ُم َعوّذ ،أن
هذا بأول حديث خالفه روايه ،فأخذ بروايته دون رأيه ،وأيضاً ففى حديث ال ّر َبيّعِ ِب ْن ِ
ت بنِ قيس ابن شمّاس لما اختلعت من زوجها أن تتربّص
النبى صلى ال عليه وسلم أمر امرأة ثاب ِ
حيضة واحدة ،وتلحق بأهلها ،رواه النسائى.
خ َتَل َعتْ مِنْ
وفى سنن أبى داود عن ابن عباس رضى الّ عنهما ،أن امرأة ثَابت ابن َقيْس ا ْ
حيْضةٍ.
جهَا ،فأمرها النبىّ صلى ال عليه وسلم أن تعتدّ ب َ
َزوْ ِ
ت معوذ اختلعَت على عهدِ رسول الّ صلى ال عليه
وفى الترمذى :أن ال ّر َبيّعَ بن َ
ت أن تَعتَدّ بحيضة .قال الترمذى :حديث ال ّر َبيّعِ
وسلم ،فأمرها النبىّ صلى ال عليه وسلم أو أ ِمرَ ْ
الصحيحُ أنها ُأ ِم َرتْ أن تعتد بحيضة .وأيضاً ،فإن الستبراء هو عِ ّدةُ المة ،وقد ثبت عن أبى سعيد:
غ ْيرُ ذَاتِ
حتّى َتضَ َع وَلَ َ
ل ُتوَطأُ حَامِلٌ َ
ى صلى ال عليه وسلم قال فى سبايا أوطاسَ (( :
أن النب ّ
ح ْيضَةً)) رواه أحمد وأبو داود.
حتّى تَحيضَ َ
حمْلِ َ
َ
ل الحيضة ،كذلك
فإن قيل :ل نسلّم أن استبراء المة بالحيضة ،وإنما هو بالطهر الذى هو قب َ
ن عبد البر ،وقال :قولهم :إن استبراء المة حيضة بإجماع ليس كما ظنّوا ،بل جائز لها عندنا
قال اب ُ
أن تنكِحَ إذا دخلت فى الحيضة ،واستيقنت أن دمَها دمُ حيض ،كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى
بن أكثم حين أدخل عليه فى مناظرته إياه.
حتَى
حتَى َتضَعَ وَل حَائِلٌ َ
ل تُوطَأُ الحَامِلُ َ
قلنا :هذا يردّه قولُه صلى ال عليه وسلمَ (( :
ح ْيضَةٍ)).
س َتبْرأ بِ َ
تُ ْ
وأيضاً فَالمقصودُ الصلى مِن العدة إنما هو استبراءُ الرحم ،وإن كان لها فوائد أخر،
ولِشرف الحرة المنكوحة وخطرها ،جعل العلم الدال على براءة رحمها ثلثة أقراء ،فلو كان القرء:
هو الطهر ،لم تحصل بالقرء الول دللة ،فإنه لو جامعها فى الطهر ،ثم طلقها ،ثم حاضت كان ذلك
354
قرءاً محسوباً من القراء عند من يقول :القراء الطهار .ومعلوم :أن هذا لم يدل على شىء ،وإنما
ل على البراءة الحيض الحاصل بعد الطلق ،ولو طلقها فى طهر ،لم يُصبها فيه ،فإنما يعلم
الذى يَدُ ّ
ل الطلق ،والعِدة ل تكونُ قبل الطلق لنها حُكمه ،والحكم ل
هنا براءة الرحم بالحيض الموجود قب َ
يسبِقُ سببه ،فإذا كان الطهرُ الموجود بعد الطلق ل دللة له على البراءة أصلً ،لم يجز إدخالهُ فى
العِدد الدالة على براءة الرحم ،وكان مثلُه كمثل شاه ٍد غيرِ مقبول ،ول يجو ُز تعليقُ الحكم بشهادة
شاهد ل شهادة له ،يُوضحه أن العدة فى المنكوحات ،كالستبراء فى المملوكات.
وقد ثبت بصريح السنة أن الستبراء بالحيض ل بالطّهر ،فكذلك العِ ّد ُة إذ ل فرق بينهما إل
بتعدد العِدة ،والكتفاءُ بالستبراء بقرء واحد ،وهذا ل يُوجب اختلفهما فى حقيقة القرء ،وإنما
يختلفان فى القدر المعتبر منهما ،ولهذا قال الشافعى فى أصحّ القولين عنه :إن استبراء المة يكون
بالحيض ،وفرق أصحابه بين البابين ،بأن العدة وجبت قضاء لحق الزوج ،فاختصّت بأزمان حقه،
وهى أزمان الطهر ،وبأنها تتكرر ،فتُعلم معها البراءة بتوسط الحيض بخلف الستبراء ،فإنه ل
يتكرر ،والمقصو ُد منه مجرد البراءة ،فاكتفى فيه بحيضة .وقال فى القول الخر :تُستبرأ بطهر
طرداً لصله فى العِدد ،وعلى هذا ،فهل تُحتسب ببعض الطهر؟ على وجهين لصحابه ،فإذا
ت به ،فل بُد من ض ّم حيضة كاملة إليه .فإذا طعنت فى الطهر الثانى ،حلّت ،وإن لم تحتسب
س َب ْ
احتُ ِ
به ،فل بُ ّد من ض ّم طهر كامل إليه ،ول تحتسب ببعض الطهر عنده قرءاً قولً واحداً.
والمقصود :أن الجمهورَ على أن عدة الستبراء حيضة ل طُهر ،وهذا الستبراء فى
حق المة كالعِدة فى حق الحرة ،قالوا :بل العتداد فى حق الحرة بالحيض أولى من المة من
وجهين.
أحدهما :أن الحتياط فى حقها ثابت بتكرير القرء ثلث استبراءات ،فهكذا ينبغى أن يكونَ
العتدادُ فى حقها بالحيض الذى هو أحوطُ مِن الطهر ،فإنها ل تُحسب بقية الحيضة قرءاً ،وتُحتسب
ببقية الطهر قرءاً.
ح ّرةِ ،وهى الثابتة بنص القرآن ،والستبراء إنما ثبت
الثانى :أن استبراء المة فرع عدة ال ُ
بالسنة ،فإذا كان قد احتاط له الشارعُ بأن جعله بالحيض ،فاستبراء الحرة أولى ،فعِدة الحرة استبراء
لها ،واستبراء المة عِدة لها.
وأيضاً فالدلة والعلمات والحدود والغايات إنما تحصُل بالمور الظاهرة المتميّزة عن
غيرها ،والطه ُر هو المر الصلى ،ولهذا متى كان مستمراً مستصحبًا لم يكن له حكم يُفرد به فى
355
الشريعة ،وإنما المر المتميز هو الحيضُ ،فإن المرأة إذا حاضت تغيّرت أحكامُها مِن بلوغها،
وتحريم العبادات عليها من الصلة والصوم والطواف واللّبث فى المسجد وغيرِ ذلك من الحكام.
ثم إذا إنقطع الدمُ واغتسلت ،فلم تتغير أحكامُها بتجدد الطهر ،لكن لزوال المغير الذى هو
الحيض ،فإنها تعود بعد الطهر إلى ما كانت عليه قبل الحيض من غير أن يُجدد لها الطهر حكماً،
والقرء أمر يُغير أحكام المرأة ،هذا التغييرُ إنما يحصل بالحيض دون الطهر .فهذا الوجه دال على
فساد قول من يحتسب بالطهر الذى قبل الحيضة قرءاً فيما إذا طلقت قبل أن تحيض ،ثم حاضت،
فإن من اعتد بهذا الطهر قرءاً ،جعل شيئًا ليس له حكم فى الشريعة قرءاً من القراء ،وهذا فاسد.
(يتبع)...
فصل @
قال من جعل القراء الطهار :الكلمُ معكم فى مقامين:
أحدهما :بيان الدليل على أنها الطهار.
الثانى :فى الجواب عن أدلتكم.
طلّقُوهُنّ ِلعِدّتهنّ}
طلّقتم النّسَاءَ فَ َ
أما المقام الول :فقوله تعالى{ :يا أيّها النّبىّ إذا َ
[الطلق ،]1 :ووجه الستدلل به :أن اللم هى لم الوقت ،أى :فطلقوهن فى وقت عدتهن ،كما فى
ط ِل َيوْمِ ال ِقيَامَةِ} [النبياء ،]47 :أى :فى يوم القيامة ،وقوله:
قوله تعالىَ { :و َنضَعُ الموَازِينَ القِسْ َ
ش ْمسِ} [السراء ،]78 :أى :وقت الدلوك ،وتقول العرب :جئتك لثلث بقين
ل َة لِ ُدلُوكِ ال ّ
{أَقِم الصّ َ
من الشهر ،أى :فى ثلث بقين منه ،وقد فسر النبى صلى ال عليه وسلم هذه الية بهذا التفسير ،ففى
ل عنه :أنه لما طلّق امرأته وهى حائض ،أمره النبىّ صلى
((الصحيحين)) :عن ابن عمر رضى ا ّ
جعَها ،ثم يُطلّقَها ،وهى طاهر ،قبل أن يمسّها ،ثم قالَ (( :ف ِت ْلكَ العِ ّدةُ الّتى َأ َمرَ
ال عليه وسلم أن يُرا ِ
ل أن تُطلق لها النساءُ
طلّقَ لهَا النّسَاءُ)) فبيّن النبى صلى ال عليه وسلم أن العِدة التى أمر ا ّ
ن تُ َ
لّ أَ ْ
ا ُ
هى الطه ُر الذى بعد الحيضة ،ولو كان القرءُ هو الحيض ،كان قد طلقها قبل العِدة ل فى العِدة،
وكان ذلك تطويلً عليها ،وهو غيرُ جائز ،كما لو طلقها فى الحيض.
لثَةَ ُقرُوءٍ}
ن ثَ َ
سهِ ّ
ت َي َت َر ّبصْنَ بَأنْفُ ِ
قال الشافعى :قال الّ تعالى{:وَالمُطَلّقَا ُ
[البقرة ،]228 :فالقراء عندنا والّ أعلم الطهار ،فإن قال قائل :ما دل على أنها الطهار وقد
ب الذى دلت عليه السنة ،والخرى :اللسان.
قال غي ُركُم :الحيض؟ قيل :له دللتان .إحداهما :الكتا ُ
ن ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق:
طلّقُوهُ ّ
طلّ ْقتُمُ النّسَاءَ فَ َ
فإن قال :وما الكتاب؟ قيل :قال الّ تبارك وتعالى{ :إذا َ
356
ل عنه ،أنه طلّق امرأته وهى حائض فى عهد
،]1وأخبرنا مالك :عن نافع ،عن ابن عمر رضى ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم عن ذلك ،فقال رسول الّ
النبىّ صلى ال عليه وسلم ،فسأل عمر رسول ا ّ
ط ُهرَ ،ثُ ّم إنْ شَاءَ
ط ُهرَ ،ثم تَحِيضَ ،ثم تَ ْ
حتّى تَ ْ
سكْها َ
ج ْعهَا ،ثُ ّم ِل ُيمْ ِ
صلى ال عليه وسلمُ (( :م ْرهُ َف ْليُرا ِ
ق لهَا النّسَاءُ)).
ن تُطلّ َ
لّ أَ ْ
ك العِ ّدةُ الّتى َأ َمرَ ا ُ
ل أَنْ َي َمسَّ ،ف ِت ْل َ
طلّقَ َقبْ َ
سكَ َبعْ ُد وإنْ شاءَ َ
َأمْ َ
أخبرنا مسلم ،وسعيد بن سالم ،عن ابن جُريج ،عن أبى الزبير ،أنه سمع ابن عمر يذكر
سكْ)) ،وتل
طلّقْ أ ْو ُيمْ ِ
ى صلى ال عليه وسلم(( :إذَا طهَرتْ َف ْليُ َ
طلقَ امرأته حائضاً ،فقال :قال النب ّ
ل أو فى ُقبُلِ عِ ّد ِتهِنّ قال
طلّقُوهُنّ} [الطلق ]1 :لِ ُقبُ ِ
طلّ ْقتُ ُم النّساءَ فَ َ
النبىّ صلى ال عليه وسلم{ :إذَا َ
ل صلى ال عليه وسلم عن الّ عز وجَلّ :أن العِدة
الشافعى رحمه الّ :أنا شككت ،فأخبر رسول ا ّ
ن لِ ُقبُلِ عِ ّد ِتهِنّ}وهو أن يُطلقها طاهراً ،لنها حينئذ تستقبِلُ
الطُهر دون الحيض ،وقرأ{ :فَطلّقُوهُ ّ
طلّقت حائضاً ،لم تكن مستقبلة عدتها إل بعد الحيض.
عِدتها ،ولو ُ
فإن قال :فما اللسان؟ قيل :القرء :اسم وُضِ َع لمعنى ،فلما كان الحيضُ دمًا يُرخيه الرحم
فيخرُج ،والطهر دماً يحتبس ،فل يخرج ،وكان معروفاً من لسان العرب ،أن القرء :الحبس .تقولُ
العرب :هو يَقري الماء فى حوضه وفى سقائه ،وتقول العرب :هو يقري الطعام فى شِدقه ،يعنى:
ل العرب :إذا حبس الرجل الشىء ،قرأه .يعنى :خبأه ،وقال عمر بن الخطاب
يحبسه فى شدقه .وتقو ُ
ل عنه :تُقرى فى صحافها ،أى :تُحبس فى صحافها.
رضى ا ّ
قال الشافعى :أخبرنا مالك ،عن ابن شهاب ،عن عروة ،عن عائشة رضى الّ عنها ،أنها
ت عبد الرحمن حين دخلت فى الدّمِ مِن الحيضة الثالثة .قال ابنُ شهاب :فَ ُذ ِك َر ذلك
انتقلت حفص ُة بن ُ
لعمرة بنت عبد الرحمن ،فقالت :صَدَقَ عروة .وقد جادلها فى ذلك ناس .وقالوا :إن الّ تعالى يقول:
ل عنها :صدقتُم ،وهل تدرونَ ما القراء؟
لثَةَ ُقرُوءٍ} [البقرة ،]228فقالت عائشة رضى ا ّ
{ثَ َ
القراء :الطهار .أخبرنا مالك ،عن ابن شهاب قال :سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول :ما
أدركتُ أحداً من فقهائنا إل وهو يقول هذا :يُريد الذى قالت عائشة رضى الّ عنها .قال الشافعى
رحمه الّ :وأخبرنا سفيان ،عن الزهرى ،عن عمرة ،عن عائشة رضى الّ عنها :إذا طع َنتِ
المطلقةُ فى الدم مِن الحيضة الثالثة ،فقد برئت منه.
وأخبرنا مالك رحمه الّ ،عن نافع ،وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار ،أن الحوص يعنى
ابنَ حكيم هلك بالشام حين دخلت امرأتُه فى الحيضة الثالثة ،وقد كان طلقها ،فكتب معاوية إلى زيد
357
بن ثابت يسألُه عن ذلك؟ فكتب إليه زيد :إنها إذا دخلت فى الدّ ِم من الحيضة الثالثة ،فقد برئت منه،
وبرىء منها ،ول ترثه ،ول َي ِرثُها.
وأخبرنا سفيان ،عن الزهرى ،قال :حدثنى سليمان بن يسار ،عن زيد بن ثابت ،قال :إذا
طعنتِ المرأة فى الحيضة الثالثة فقد برئت.
وفى حديث سعيد بن أبى عَروبة ،عن رجل ،عن سليمان بن يسار ،أن عثمان ابن عفان
وابن عمر قال :إذا دخلت فى الحيضة الثالثة فل رجعة له عليها.
ل امرأتَه فدخلت
وأخبرنا مالك :عن نافع ،عن ابن عمر رضى الّ عنهما قال :إذا طلّق الرج ُ
فى الدم مِن الحيضة الثالثة ،فقد برئت منه ،ول ترثه ،ول يرثها.
أخبرنا مالك رحمه الّ ،أنه بلغه عن القاسم بن محمد ،وسالم بن عبد الّ ،وأبى بكر بن عبد
الرحمن ،وسليمان بن يسار ،وابن شهاب ،أنهم كانوا يقولون :إذا دخلت المطلقة فى الدم مِن
ث بينهما .زاد غيرُ الشافعى عن مالك رحمهما الّ :ول
الحيضة الثالثة ،فقد بانت منه ،ول ميرا َ
ل العلم ببلدنا.
رجعة له عليها .قال مالك :وذلك المر الذى أدركتُ عليه أه َ
قال الشافعى رحمه الّ :ول بُعد أن تكون القراء الطهار ،كما قالت عائشة رضى الّ
عنها ،والنساءُ بهذا أعلم ،لنه فيهن ل فى الرجال ،أو الحيض ،فإذا جاءت بثلثِ حيض ،حلّت،
ل للغسل معنى ،ولستم تقولون بواحد من القولين ،يعنى :أن الذين قالوا :إنها
ول نجد فى كتاب ا ّ
الحيض ،قالوا :وهو أحق برجعتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة ،كما قاله على ،وابن مسعود،
وأبو موسى ،وهو قول عمر بن الخطاب أيضاً .فقال الشافعى :فقيل لهم يَعنى للعراقيينَ :لم تقولوا
بقول من احتججتم بقوله ،ورويتُم هذا عنه ،ول بقول أح ٍد من السلف علمناه؟ فإن قال قائل :أين
خالفناهم؟ قلنا .قالوا :حتى تغتسِل وتَحِل لها الصلة ،وقلتم :إن فرطت فى الغسل حتى يذهبَ وقتُ
الصلة حلّت وهى لم تغتسل ،ولم تحل لها الصلة .انتهى كلم الشافعى رحمه الّ.
قالُوا :ويدل على أنها الطهار فى اللسان قولُ العشى:
عزَائِكَــا
عزِيمَ َ
تَشُدّ لِْ ْقصَاهَا َ غ ْزوَ ٍة
أفى كُلّ عَامٍ َأ ْنتَ جَاشِمُ َ
ِلمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ ُقرُو ِء نِسَا ِئكَا حىّ رِ ْفعَــة
ع ّزاً وفى ال َ
ُم َو ّرثّة ِ
فالقروء فى البيت :الطهار ،لنه ضيع اطهارهن فى غزاته ،وآثرها عليهن.
ق إلى الوجود مِن الحيض ،فكان أولى بالسم ،قالُوا :فهذا أحدُ
قالوا :ولن الطهر أسب ُ
المقامين.
358
ل ومفصل.
وأما المقام الخر ،وهو الجواب عن أدلتكم :فنُجيبكم بجوابين مجم ٍ
أما المجمل :فنقولُ :من أنزل عليه القرآن ،فهو أعل ُم بتفسيره ،وبمراد المتكلم
لّ أن تُطلّق لها النساءُ
به من كل أحد سواه ،وقد فسر النبىّ صلى ال عليه وسلم العدة التى أمر ا ُ
ت بعد ذلك إلى شىء خالفه ،بل كُلّ تفسير يُخالف هذا فباطل .قالُوا :وأعلم المة
بالطهار ،فل التفا َ
ل صلى ال عليه وسلم ،وأعلمُهن بها عائشة رضى الّ عنها ،لنها
بهذه المسألة أزواجُ رسول ا ّ
ل تعالى جعل قولَهن فى ذلك مقبولً فى وجود الحيض والحمل ،لنه ل
فيهن ل فى الرجال ،ولن ا ّ
ل عنها:
ن أعلمُ بذلك من الرجال ،فإذا قالت أ ّم المؤمنين رضى ا ّ
ل على أنه ّ
يُعلم إل مِن جهتهن ،فد ّ
إن القراء الطهار.
ل مَا قَاَلتْ حَذَام
ن ال َقوْ َ
فَإ ّ فَقَدْ قَاَلتْ حَذَامِ َفصَدّقُوهَا
قالوا :وأما الجوابُ المفصّلَُ ،فنُ ْفرِدُ كلّ واحد مِن أدلتكم بجواب خاص ،فهاكم الجوبة.
أما قولكم :إما أن يُراد بالقراء فى الية الطهار فقط ،أو الحيض فقط ،أو مجموعُهما إلى
آخره.
فجوابُه أن نقول :الطهار فقط ،لما ذكرنا من الدللة .قولُكم النص اقتضى ثلثة إلى آخره.
قلنا :عنه جوابان.
ث كوامل.
أحدهما :أن بقية الطهر عندنا قرء كامل ،فما اعتدت إل بثل ِ
ض الثالث ،كقوله تعالى:
الثانى :أن العرب تُوقِع اسم الجمع على اثنين ،وبع َ
ش ُهرٌ َم ْعلُومَاتٌ} [البقرة ،]197 :فإنها شوال ،وذو القعدة ،وعشر من ذى الحجة أو تسع،
ج أَ ْ
{الحَ ّ
أو ثلثة عشر .ويقولون :لفلن ثلث عشرة سنة ،إذا دخل فى السنة الثالثة عشر .فإذا كان هذا
ل عليه ،وجب المصي ُر إليه.
معروفاً فى لُغتهم ،وقد دل الدلي ُ
وأما قولكم :إن استعمال القرء فى الحيض أظهر منه فى الطهر ،فمقابَل بقولِ منازعيكم.
قولكم :إن أهل اللغة يُصدرون كتبهم بأن القرء هو الحيض ،فيذكرونه تفسيراً للفظ ،ثم
يُردفونه بقولهم :بقيل ،أو وقال بعضهم :هو الطهر.
قلنا :أهل اللغة يحكون أن له مسميين فى اللغة ،ويُصرحون بأنه يُقال على هذا وعلى هذا،
ومنهم من يجعله فى الحيض أظهر ،ومنهم من يحكى إطلقه عليهما من غير ترجيح ،فالجوهرى:
رجّح الحيض .والشافعى من أئمة اللغة ،وقد رجح أنه الطهر ،وقال أبو عبيد :القرء يصلحُ للطهر
والحيض ،وقال الزجاج :أخبرنى من أثق به ،عن يونس ،أن القرء عنده يصلحُ للطهر والحيض،
359
وقال أبو عمرو بن العلء :القرء الوقت ،وهو يصلُح للحيض ،ويصلح للطهر ،وإذا كانت هذه
نصوص أهل اللغة ،فكيف يحتجون بقولهم :إن القراء الحيض؟
قولكم :إن من جعله الطهر ،فإنه يُريد أوقات الطهر التى يحتوشُها الدم ،وإل فالصغيرة
والية ليستا مِن ذوات القراء ،وعنه جوابان.
أحدهما :المنع ،بل إذا طلقت الصغيرة التى لم تحض ثم حاضت ،فإنها تعتد بالطّهر الذى
طلّقت فيه قرءًا على أصح الوجهين عندنا ،لنه طهر بعده حيض ،وكان قرءاً كما لو كان قبله
ُ
حيض.
الثانى :إنا وإن سلمنا ذلك ،فإن هذا يدل على أن الطهر ل يُسمى قرءاً حتى يحتوِشَهُ
دمانِ ،وكذلك نقولُ :فالدم شرط فى تسميته قرءاً ،وهذا ل يدل على أنّ مسماه الحيض ،وهذا
كالكأس الذى ل يُقال على الناء إل بشرط كون الشراب فيه وإل فهو زُجاجة أو قدح ،والمائدة التى
ل تُقال للخِوان إل إذا كان عليه طعام ،وإل فهو خِوان ،والكوز الذى ل يقال لمسماه :إل إذا كان ذا
عُروة ،وإل فهو كُوب ،والقلم الذى يُشترط فى صحة إطلقه على القصبة كونها مبرية ،وبدون
ن غيره ،وإل فهو
ص منه َأ ْو مِ ْ
البرى ،فهو أنبوب أو قصبة ،والخاتم شرط إطلقه أن يكون ذا َف ّ
َفتْحَةٌ ،والفرو شرطُ إطلقه على مسماه الصوف ،وإل فهو جلد .والرّيطة شرط إطلقها على
مسماها أن تكون قِطعة واحدة ،فإن كانت مُلفقة من قطعتين ،فهى مُلءة ،والحُلة شرط إطلقها أن
جلَة،
حَتكون ثوبين ،إزار ورداء ،وإل فهو ثوب ،والريكة ل تقال على السرير إل إذا كان عليه َ
وهى التى تُسمى بشخانة وخركاه ،وإل فهو سرير ،واللّطيمة ل تُقال للجِمال إل إذا كان فيها طيب،
س َربٌ ،وال ِعهْنُ ل يقال للصوف إل إذا كان
ع ْيرٌ ،والنّفَق ل يقال إل لما له منفذ ،وإل فهو َ
وإل فهى ِ
ستْر .والمِحْجَنُ ل
مصبوغاً ،وإل فهو صوف ،والخِدْر ل يقال إل لما اشتمل على المرأة وإل فهو ِ
حنّي ِة الرأس ،وإل فهى عصا .وال ّر ِكيّةُ ل تقال على البئر إل بشرط كون
يقال للعصا إل إذا كان مَ ْ
الماء فيها ،وإل فهى بئر .والوَقُود ل يقال للحطب إل إذا كانت النار فيه ،وإل فهو حطب ،ول يقال
ت من بلد إلى
ح ِمَل ْ
للتراب َثرَى إل بشرط نداوته ،وإل فهو تراب .ول يقال للرسالةُ :م َغ ْل َغلَة ،إل إذا ُ
بلد ،وإل فهى رسالة ،ول يقال للرض َفرَاح إل إذا هُيئت للزراعة ،ول يقال لهروب العبد :إباق
إل إذا كان هروبُه مِن غير خوف ول جُوع ول جَهد ،وإل فهو هروب ،والريق ل يقال له رُضاب
إل إذا كان فى الفم ،فإذا فارقه فهو بُصاق وبُساق والشجاعُ ل يقال له :كَمى إل إذا كان شاكى
السلح ،وإل فهو بطل وفى تسميته بطلً قولن أحدهما :لنه ُتبْطِلُ شجاعته قِرنه وضربه وطعنه
360
ل بمعنى فاعل ،وعلى الثانىَ ،فعَل
والثانى :لنه َتبْطُلُ شجاعةُ الشجعان عنده ،فعلى الول ،فهو َفعَ َ
بمعنى مفعول ،وهو قياسُ اللغة .والبعير ل يقال له :راوية إل بشرط حمله للماء ،والطبق ل يُسمى
ِمهْدَى إل أن يكون عليه هدية ،والمرأة ل تُسمى ظَعينة إل بشرطِ كونها فى الهودج ،هذا فى
ظعُنٌ
الصل ،وإل فقد تُسمى المرأة ظعينة ،وإن لم تكن فى هودج ،ومنه فى الحديث(( :فَم ّرتْ ُ
جرِينَ)) والدلو ل يُقال له :سَجْل إل ما دام فيه ماء ،ول يُقال لها :ذَنوب ،إل إذا امتلت به،
يَ ْ
عرْق ،إل إذا اشتمل عليه
والسريرُ ل يقال له :نعش ،إل إذا كان عليه ميّت ،والعظمُ ل يقال لهَ :
حبْلَِ :قرَن إل إذا ُقرِنَ فيه اثنان
خرَز ،ول يقال لل َ
لحم ،والخيطُ ل يُسمى سِمطاً إل إذا كان فيه َ
فصاعداً ،والقوم ل يسمون رِفقة إل إذا انضموا فى مجلس واحد ،وسير واحد ،فإذا تفرقوا زال هذا
ح ِم َيتْ بالشمس أو بالنار،
ل عنهم اسمُ الرفيق ،والحجارة ل تسمى َرضْفاً إل إذا ُ
السمُ ،ولم َيزُ ْ
طرَفاً ،إل إذا كان فى طرفيه
والشمسُ ل يُقال لها :غزالة إل عند ارتفاع النهار ،والثوبُ ل يُسمى مِ ْ
عَلمَان ،والمجلس ل يُقِال له :النادى إل إذا كان أهلُه فيه ،والمرأة ل يُقال لها :عاتِق إل إذا كانت فى
َ
بيت أبويها ،ول يسمى الماء ا ْلمِلحُ أجُجاً ،إل إذا كان مع ملوحته ُم ّراً ،ول يُقال للسير :إهطاع إل إذا
حجّل ،إل إذا كان البياض فى قوائمها ُكلّها ،أو أكثرِها ،وهذا
كان معه خوفٌ ،ول يُقال للفرس :مُ َ
باب طويل لو تقصيناه ،فكذلك ل يُقال للطهر :قرء ،إل إذا كان قبلَه دم ،وبَعدَه دم ،فأين فى هذا ما
ل على أنه حيض؟
يُدُ ّ
ن نمنع
قالوا :وأما قولُكم :إنه لم يجىء فى كلم الشارع إل للحيض ،فنح ُ
مجيئَه فى كلم الشارع للحيض البتة ،فضلً عن الحصر .قالوا :إنه قال للمستحاضة(( :دعى
الصلة أيام أقرائك)) ،فقد أجاب الشافعى عنه فى كتاب حرملة بما فيه شفاء ،وهذا لفظه .قال:
وزعم إبراهيم ابن إسماعيل بن عُلية ،أن القراء :الحيض ،واحتج بحديث سفيان ،عن أيوب ،عن
ل صلى ال عليه وسلم قال فى امرأة
ل عنها :أن رسولَ ا ّ
سُليمان بن يسار ،عن أم سلمة رضى ا ّ
استُحيضت(( :تدعَ الصّلةَ أيّا َم أَ ْقرَائِها)) قال الشافعى رحمه الّ :وما حدّث بهذا سفيان قطّ ،إنما
ل صلى ال
قال سفيان ،عن أيوب ،عن سليمان بن يسار ،عن أم سلمة رضى الّ عنها ،أن رسول ا ّ
عليه وسلم قال:
لةَ عَدَ َد الّليَالى واليّام الّتى كَا َنتْ َتحِيضُهُنّ)) .أو قالَ(( :أيّامَ أَ ْقرَا ِئهَا)) ،الشك
((تَدَعُ الصّ َ
من أيوب ل يدرى .قال :هذا أو هذا ،فجعله هو حديثاً على ناحية ما يريد ،فليس هذا بصدق ،وقد
ل عنها ،أن النبى صلى ال عليه
أخبر مالك ،عن نافع ،عن سليمان بن يسار ،عن أم سلمة رضى ا ّ
361
ن ُيصِيبَها الّذِى
لأ ْ
ش ْهرِ َقبْ َ
ن ال ّ
ن مِ َ
ضهُ ّ
ت تَحِي ُ
ظرْ عَدَ َد اللّيالِى واليّا ِم الّتى كَا َن ْ
وسلم قالِ(( :ل َتنْ ُ
ل َولُتصَلّ)) ونافع أحفظ عن سليمان من أيوب وهو يقول :بمثل
لةَ ،ثُ ّم ِل َت ْغتَسِ ْ
ع الصّ َ
َأصَابَها ،ثُ ّم ِلتَدَ ِ
ن أَنْ
ل َلهُ ّ
ل يَحِ ّ
ل بقوله تعالى{ :وَ َ
أح ِد معنيى أيوب اللذين رواهما ،انتهى كلمه .قالوا :وأما الستدل ُ
ل أو كِلهما ،فل ريبَ أن
حبَ ُ
خلَقَ الُّ فى َأرْحَا ِمهِنّ} [البقرة ]228 :وأنه الحيض ،أو ال َ
َي ْك ُتمْنَ مَا َ
ل فى ذلك ،ولكن تحريمُ كتمانه ل يدل على أن القُروء المذكورة فى الية هى الحيض،
الحيض داخِ ٌ
فإنها إذا كانت الطهار ،فإنها تنقضى بالطعن فى الحيضة الرابعة أو الثالثة فإذا أرادت كِتمان
انقضاء العِدة لجل النفقة أو غيرها ،قالت :لم أحض ،فتنقضى عدتى ،وهى كاذبة وقد حاضت
وانقضت عِدتها ،وحينئذ فتكون دللة الية على أن القروء الطهار أظهر ،ونحن نقنع بإتفاق الدللة
بها ،وإن أبيتم إل الستدللَ ،فهو من جانبنا أظهر ،فإن أكثر المفسرين قالوا :الحيض والولدة .فإذا
كانت العِدة تنقضى بظهور الولدة ،فهكذا تنقضى بظهور الحيض تسويةً بينهما فى إتيان المرأة
على كل واحد منهما.
لثَةُ
ن نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُم َفعِ ّد ُتهُنّ ثَ َ
ض مِ ْ
ن مِنَ المحِي ِ
وأما استدللُكم بقوله تعالى{ :والّلئى َيئِسْ َ
ش ُهرٍ} [الطلق.]4 :
أَ ْ
فجعل كل شهر بإزاء حيضة ،فليس هذا بصريح فى أن القروء هى الحيض ،بل غاية الية
أنه جعل اليأسَ من الحيض شرطاً فى العتداد بالشهر ،فما دامت حائضاً ل تنتقل إلى عدة
اليسات ،وذلك أن القراء التى هى الطهار عندنا ل تُوجد إل مع الحيض ،ل تُكون بدونه ،فمن
أين يلزم أن تكون هى الحيض؟
وأما استدللُكم بحديثِ عائشة رضى الّ عنها:
ضتَان)) ،فهو حديث لو استدللنا به عليكم لم تقبلُوا ذلك منا ،فإنه
ح ْي َ
طلْ َقتَانِ وقَرؤُهَا َ
لمِةَ َ
((طَلَقُ ا َ
ث ضعيف معلول ،قال الترمذى :غريب لنعرفه إل من حديث مظاهر بن أسلم ،ومظاهر ل
حدي ٌ
يُعرف له فى العلم غير هذا الحديث ،انتهى .ومظاهر بن أسلم هذا ،قال فيه أبو حاتم الرازى :منكر
الحديث .وقال يحيى بن معين :ليس بشىء ،مع أنه ل يعرف ،وضعفه أبو عاصم أيضاً .وقال أبو
ل الحديث ضعفوا هذا الحديث ،وقال البيهقى :لو كان
داود :هذا حديث مجهول ،وقال الخطابى :أه ُ
ثابتًا لقُلنا به إل أنا ل نُثبت حديثًا يرويه من تُجهل عدالته ،وقال الدارقطنى :الصحيح عن القاسم
بخلف هذا ،ثم روى عن زيد بن أسلم قال :سئل القاسم عن المة كم تطلق؟ قال :طلقها ثنتان،
ل صلى ال عليه وسلم فى هذا؟ فقال :ل.
وعِدتها حيضتان .قال :فقيل له :هل بلغك عن رسولِ ا ّ
362
وقال البخارى فى ((تاريخه)) :مظاهر بن أسلم ،عن القاسم ،عن عائشة رضى الّ عنها يرفعه:
ق المِة طلقتان ،وعِدتُها حيضتَانِ)) .قال أبو عاصم :أخبرنا ابنُ جريج ،عن مظاهر ،ثم
((طل ُ
ض ّعفُ مظاهراً ،وقال يحيى بن سليمان :حدثنا ابنُ
لقيتُ مظاهراً ،فحدثنا به ،وكان أبو عاصم ُي َ
وهب ،قال :حدثنى أسامة بن زيد بن أسلم ،أنه كان جالسًا عند أبيه ،فأتاه رسولُ المير ،فقال :إن
ق العبد
ل لك :كم عِد ُة المة؟ فقال :عِدة المة حيضتان ،وطلقُ الحر المة ثلث ،وطل ُ
الميرَ يقو ُ
الحرة تطليقتان ،وعِدة الحرة ثلثُ حيض ،ثم قال للرسول :أين تذهبُ؟ قال أمرنى أن أسأل القاسم
ت إلىّ فأخبرتنى ما يقولن ،فذهب ورجع
بن محمد ،وسالم بن عبد الّ ،قال :فأقْسِ ُم عليك إل رجع َ
إلى أبى ،فأخبره أنهما قال كما قال ،وقال له :قل له :إن هذا ليس فى كتاب الّ ،ول سنةِ رسول الّ
ل به المسلمون.
عمِ َ
صلى ال عليه وسلم ،ولكن َ
ث المرفوعَ غيرُ
وقال أبو القاسم بن عساكر فى ((أطرافه)) :فدل ذلك على أن الحدي َ
محفوظ.
ضتَانِ)) ،فهو من
ح ْي َ
لمَ ِة ِث ْنتَانِ ،وعِ ّدتُها َ
وأما استدللكم بحديث ابن عمر مرفوعاً(( ،طَلقُ ا َ
رواية عطية بن سع ٍد العَوْفى ،وقد ضعفه ،غيرُ واحد من الئمة .قال الدارقطنى :والصحيح عن ابن
ل عنه ما رواه سالم ،ونافع من قوله ،وروى الدارقطنى أيضاً عن سالم ونافع ،أن ابن
عمر رضى ا ّ
ق الحر المة تطليقتان،
عمر كان يقول :طلقُ العبد الحرة تطليقتان ،وعِدتها ثلثة قروء ،وطل ُ
وعدتها عدة المة حيضتان.
ل عنه ،أن القراء :الطهار.
قالوا :والثابت بل شك ،عن ابن عمر رضى ا ّ
قال الشافعى رحمه الّ :أخبرنا مالك رحمه الّ ،عن نافع ،عن ابن عمر قال :إذا طلّق
الرجل امرأته ،فدخلت فى الدم من الحيضة الثالثة ،فقد برئت منه ،ول ترثه ول يرثها.
ث مدارُه على ابن عمر ،وعائشة ،ومذهبُهما بل شك أن القراء :الطهار،
قالوا :فهذا الحدي ُ
ف ذلك ،ول يذهبان إليه؟ قالوا :وهذا بعينه
فكيف يكون عندهما عن النبى صلى ال عليه وسلم خل ُ
هو الجوابُ عن حديث عائشة الخر :أمرت بريرة أن تعتدّ ثلثَ حيض .قالوا :وقد رُوى هذا
الحديث بثلثة ألفاظ :أمرت أن تعتد ،وأمرت أن تعتد عدة الحرة ،وأمرت أن تعتد ثلثَ حيض،
فلعل رواية من روى ((ثلث حيض)) محمولة على المعنى ،ومن العجب أن يكون عند عائشة
ث بهذا السند
ب منه أن يكون هذا الحدي ُ
ل عنها هذا وهى تقول :القراء :الطهار ،وأعج ُ
رضى ا ّ
المشهور الذى ُكلّهم أئمة ،ول يخرجه أصحاب الصحيح ،ول المسانِد ،ول من اعتنى بأحاديث
363
الحكام وجمعها ،ول الئمة الربعة ،وكيف يصبر عن إخراج هذا الحديث من هو مضطر إليه،
ول سيما بهذا السن ِد المعروف الذى هو كالشمس شُهرةً ول شك بريرَة أمرت أن تعتد ،وأما أنها
أمرت بثلثِ حيض ،فهذا لو صحّ لم نَع ُد ُه إلى غيره ،ولبادرنا إليه.
ح كونه بحيضة ،وهو
قالوا :وأما استدللكم بأن الستبراء ،فل ريب أن الصحي َ
ظاه ُر النص الصحيح ،فل وجه للشتغال بالتعلل بالقول :إنها تُستبرأ بالطهر ،فإنه خلف ظاهر
ص الرسول صلى ال عليه وسلم ،وخلف القول الصحيح من قول الشافعى ،وخلف قول
ن ّ
الجمهور من المة ،فالوجه العدولُ إلى الفرق بين البابين ،فنقولٌ :الفرقُ بينهما ما تقدم أن العِدة
وجبت قضاء لحق الزوج ،فاخ ُتصّت بزمان حقه ،وهو الطهرُ بأنها تتكرر ،فيُعلم منها البراءة
بواسطة الحيض بخلف الستبراء.
قولكم :لو كانت القراء الطهار لم تحصل بالقَرء الول دللة ،لنه لو جامعها ثم طلّقها فيه
س َبتْ بقيته قَرءاً ،ومعلوم قطعًا أن هذا الطهر ل يدل على شىء.
حُ ِ
فجوابه أنها إذا طهرت بعد طُهرين كاملين ،صحت دِللته بإنضمامه إليهما.
ت والدلة إنما تحصل بالمور الظاهرة إلى آخره.
قولُكم :إن الحدودَ والعلما ِ
جوابه أن الطهر إذا احتوشه دمانِ ،كان كذلك ،وإذا لم يكن قبله دم ،ول بَعده دم ،فهذا ل
يُعتد به البتة.
قالوا :ويزيد ما ذهبنا إليه قوة ،أن القَرء هو الجمع ،وزمان الطهر أولى به ،فإنه حينئذ
يجتمع الحيضُ ،وإما يخرج بعد معه .قالوا وإدخال التاء فى ثلثة قروء يدل على أن القَرء مذكر،
وهو الطهر فلو كان الحيض لكان بغير تاء لن واحدها حيضة.
فهذا ما احتج به أربابُ هذا القول استدللً وجواباً ،وهذا موضع ل يُمكن فيه التوسطُ بينَ
الفريقين ،إذ ل توسط بين القولين ،فل بد من التح ّي ِز إلى أحد الفئتين ونحن متحيّزون فى هذه
ل على صحة
المسألة إلى أكابر الصحابة وقائلون فيها بقولهم :إن القَرء الحيضُ ،وقد تقدم الستدل ُ
ل التوفيق.
ب القول الخر ،ليتبين ما رجحناه ،وبا ّ
هذا القول ،فنُجيب عما عارض به أربا ُ
طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق ،]1 :فهو إلى أن
فنقول :أما استدللُكم بقوله تعالى{ :فَ َ
ب منه إلى أن يكون حجة لكم ،فإن المرأة طلقها قبل العدة ضرورة ،إذ ل
يكونَ حجة عليكم أقر ُ
ل الية على الطلق فى العِدة فإن هذا مع تضمنه لكون اللم للظرفية بمعنى -في -فاسد
يمكن حم ُ
ع الطلق فى العِدة ،فإنه سبُبها ،والسببُ يتقدم الحكم ،وإذا تقرر ذلك فمن
معنى ،إذ ل يُمكن إيقا ُ
364
قال :القراء الحيض ،فقد عمل بالية ،وطلّق قبل العدة .فإن قلتم :ومن قال :إنها الطهار فالعِدة
ح أن المراد الطلقُ قبل العدة
تتعقب الطلق ،فقد طلّق قبل العدة ،قلنا :فبطل احتجاجُكم حينئذ ،وص ّ
ل فيها ،وكل المرين يصح أن يُراد بالية ،لكن إرادةُ الحيض أرجحُ ،وبيانُه أن العِدة فعلة مما
حصُوا العِ ّدةَ} [الطلق ،]1 :والطه ُر الذى قبل
يعنى معدودة ،لنها تُعد وتُحصى ،كقولهَ { :وأَ ْ
الحيضة ،مما يعد ويُحصى ،فهو من العِدة ،وليس الكلمُ فيه ،وإنما الكلم فى أمر آخر ،وهو دخولُه
فى مسمى القروء الثلثة المذكورة فى الية أم ل؟ فلو كان النصّ :فطلقوهن لِقروئهن ،لكان فيه
لثَة ُقرُوءٍ} [البقرة ،]228 :والثانى :قوله:
ن ثَ َ
سهِ ّ
تعلق ،فهنا أمران .قوله تعالىَ { :ي َت َر ّبصْنَ بَِأنْفُ ِ
ن مِن الشهر ،إنما يكون
طلّقُوهُنّ ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق ،]1 :ول ريب أن القائل :افعل كذا لثلث بَقِي َ
{فَ َ
ل إذا فعله قبل مجىء الثلث ،وكذلك إذا قال :فعلته لثلث مضين من الشهر ،إنما
المأمور ممتث ً
يصدق إذا فعله بعد مضى الثلث ،وهو بخلف حرف الظرف الذى هو ((فى)) فإنه إذا قال :فعلته
فى ثلث بقين ،كان الفعل واقعاً فى نفس الثلث ،وههنا نكتة حسنة ،وهى أنهم يقولون :فعلُته لثلث
خَلوْن أو بقين من الشهر ،وفعلته فى الثانى أو الثالث من الشهر ،أو فى ثانية أو ثالثة ،فمتى
ليال َ
س ّر ذلك
ع الفعل فيه ،أتوا بفى ،و ِ
أرادوا مضى الزمان أو استقباله ،أ َتوْا باللم ،ومتى أرادوا وقو َ
أنهم إذا أرادوا مضى زمن الفعل أو استقباله أتوا بالعلمة الدالة على اختصاص العدد الذى يلفظون
به بما مضى ،أو بما يُستقبل ،وإذا أرادوا وقوع الفعل فى ذلك الزمان أتوا بالداة المعينة له ،وهى
أداة ((فى)) ،وهذا خير من قول كثير من النحاة :إن اللم تكون بمعنى قبل فى قولهم :كتبته لثلث
طلّقُوهُنّ لِع ّد ِتهِنّ} [الطلق ،]1 :وبمعنى بعد ،كقولهم :لثلث خلون .وبمعنى فى:
بقين ،وقوله{ :فَ َ
ج َم ْعنَاهُمْ
ف إذَا َ
ط ِل َيوْمِ ال ِقيَامَةِ} [النبياء ،]47 :وقولهَ { :ف َك ْي َ
ن القِسْ َ
كقوله تعالى{ :ونضع الموازِي َ
ل َر ْيبَ فِيهِ} [آل عمران ،]25 :والتحقيقُ أن اللم على بابها للختصاص بالوقت المذكور،
ِل َيوْمٍ َ
كأنهم جعلوا الفِعل للزمان المذكور اتساعاً لختصاصه به ،فكأنه له ،فتأمله.
وفرق آخر :وهو أنك إذا أتيت باللم ،لم يكن الزمانُ المذكورُ بعدَه إل ماضيًا أو منتظراً،
ومتى أتيت بفى لم يكن الزمان المجرور بها إل مقارنًا للفعل ،وإذا تقرّر هذا مِن قواعد العربية،
ن ِلعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق ،]1 :معناه :لستقبال عدتهن ل فيها ،وإذا كانت العدة
طلّقُوهُ ّ
فقولُه تعالى{:فَ َ
التى يُطلق لها النساء مستقبلةً بعد الطلق ،فالمستقبَلُ بعدها إنما هو الحيضُ ،فإن الطاهر ل تستَ ْقبِلُ
ل وعُرفاً،
ض بعد حالها التى هى فيها ،هذا المعروفُ لغ ًة وعق ً
الطهر إذ هى فيه ،وإنما تستقبلُ الحي َ
فإنه ل يُقال لمن هو فى عافية :هو مستقبل العافية ،ول لمن هو فى أمن :هو مستقبل المن ،ول
365
لمن هو فى قبض مغله وإحرازه :هو مستقبل المغل ،وإنما المعهودُ لغة وعُرفاً أن يستقبلَ الشىءَ
منْ هو على حال ضِدْ ،وهذا أظهرُ من أن نُكثَر شواهده.
فإن قيل :فيلزم من هذا أن يكون من طلق فى الحيض مطلقًا للعِدة عند مَنْ يقول :القراء
الطهار ،لنها تستقبلُ طهرها بعد حالها التى هى فيها ،قلنا :نعم يلزمهم ذلك ،فإنه لو كان أول
العدة التى تُطلق لها المرأة هو الطهر ،لكان إذا طلقها فى أثناء الحيض مطلقًا للعدة ،لنها تستقبِلُ
الطهرَ بعد ذلك الطلق.
فإن قيل(( :اللم)) بمعنى ((فى)) ،والمعنى :فطلقوهن فى عدتهن ،وهذا إنما يُمكن إذا طلقها
فى الطهر ،بخلف ما إذا طلقها فى الحيض قيل :الجوابُ من وجهين.
أحدهما :أن الصل عدمُ الشتراك فى الحروف ،والصل إفراد كل حرف بمعناه فدعوى
ف ذلك مردودة بالصل.
خل ِ
الثانى :أنه يلزم منه أن يكون بعض العِدة ظرفًا لزمن الطلق ،فيكون الطلق واقعاً فى نفس
العِدة ضرورة صحة الظرفية ،كما إذا قلت :فعلته فى يوم الخميس بل الغالب فى الستعمال مِن
ض الظرف سابقًا على الفعل ،ول ريبَ فى امتناع هذا ،فإن العِدة تتعقب الطلق
هذا ،أن يكون بع ُ
ول تُقارنه ،ول تتقدم عليه.
قالوا :ولو سلمنا أن ((اللم)) بمعنى ((فى)) ،وساعد على ذلك قراءةُ ابن عمر رضى الّ
عنه وغيره(( :فطلقوهن فى ُقبُلِ عدتهن)) ،فإنه ل يلزمُ مِن ذلك أن يكون القَرء :هو الطهر ،فإن
القَرء حينئذ يكون هو الحيضَ ،وهو المعدو ُد والمحسوب ،وما قَبله من الطهر يدخل فى حكمه تبعاً
وضمناً لوجهين.
أحدهما :أن من ضرورة الحيض أن يتقدّمه طهر ،فإذا قيل :تربّصى ثلث حيض،
وهى فى أثناء الطهر كان ذلك الطهر من مدة التربص ،كما لو قيل لرجل :أقم ههنا ثلثة أيام ،وهو
أثناء ليلة ،فإنه يدخُل بقية تلك الليلة فى اليوم الذى يليها ،كما تدخل ليلة اليومين الخرين فى
يوميهما .ولو قيل له فى النهار :أقم ثلث ليال ،دخل تما ُم ذلك النهار تبعًا لليلة التى تليه.
الثانى :أن الحيض إنما يتم بإجتماع الدم فى الرحم قبله ،فكان الطهر مقدمةً
ن لوازمه ما ل يُوجد الحيض إل بوجوده،
وسبباً لوجود الحيض ،فإذا علق الحكم بالحيضَ ،فمِ ْ
وبهذا يظه ُر أن هذا أبل ُغ مِن اليام والليالى ،فإن الليلَ والنهار متلزمان ،وليس أحدهما سبباً لوجود
الخر ،وههنا الطهرُ سببٌ لجتماع الدم فى الرحم ،فقولُه سبحانه وتعالىِ{ :لعِ ّد ِتهِنّ} [الطلق]1 :
366
أى :لستقبال العدة التى تتربصها ،وهى تتربص ثلث حيض بالطهار التى قبلها .فإذا طلقت فى
أثناء الطهر ،فقد طلقت فى الوقت الذى تستقبل فيه العدة المحسوبة ،وتلك العِدة هى الحيض بما
قبلها من الطهار ،بخلف ما لو طلقت فى أثناء حيضة ،فإنها لم تطلق لِعدة تحسبها ،لن بقية ذلك
الحيض ليس هو العِدة التى تعتد بها المرأة أصلً ول تبعًا لصل ،وإنما تسمى عِدة لنها تُحبس فيها
ط ِل َيوْ ِم ال ِقيَامَةِ} [النبياء ،]47 :يجوز
عن الزواج ،إذا عرف هذا ،فقوله{ :و َنضَ ُع المَوازِينَ القِسْ َ
أن تكون اللمُ ل َم التعليل ،أى :لجل يومِ القيامة .وقد قيل :إن القِسط منصوب على أنه مفعول له،
لةَ لِ ُدلُوكِ
ط نصبه ،وأما قوله تعالى{ :أَقِ ِم الصّ َ
أى :نضعها لجل القسط ،وقد استوفى شرو َ
شمْسِ} [السراء ،]78 :فليست اللم بمعنى ((فى)) قطعاً ،بل قيل :إنها لم التعليل ،أى :لجل
ال ّ
ت الدلوك سواء فسر بالزوال أو
دلوك الشمس ،وقيل :إنها بمعنى بعد ،فإنه ليس المرادُ إقامتهَا وق َ
ل آية
الغروب ،وإنما يُؤمر بالصلة بعده ،ويستحيلُ حمل آية العدة على ذلك ،وهكذا يستحيلُ حم ُ
طلّقُوهُنّ َبعْدَ عِ ّد ِتهِنّ .فلم يبق إل أن يكون المعنى :فطلقوهن لستقبال
العِدة عليه ،إذ يصي ُر المعنى :فَ َ
عِدتهن ،ومعلوم أنها إذا طلقت طاهراً استقبلت العدةَ بالحيض .ولو كانت القراء الطهار ،لكانت
السنة أن تطلق حائضًا لتستقبل العدة بالطهار ،فبيّن النبىّ صلى ال عليه وسلم أن العدة التى أمر
ل أن تطلق لها النساء هى أن تطلّق طاهراً لتستقبل عدتها بعد الطلق.
ا ّ
فإن قيل :فإذا جعلنا القراء :الطهار ،استقبلت عدتها بعد الطلق بل فصل ،ومن جعلها
ض لم تستقبلها على قوله حتى ينقضى الطّهرُ.
الحي َ
ل الية على معنى:
قيل :كلم الرب تبارك وتعالى ل بد أن يُحمل على فائدة مستقلة ،وحم ُ
فطلقوهن طلقًا تكون العدةُ بعده ل فائدة فيه ،وهذا بخلف ما إذا كان المعنى :فطلقوهن طلقاً
يستقبلن فيه العدة ل يست ِقبْلنَ فيه طهراً ل تعتد به ،فإنها إذا طُلقت حائضاً استقبلت طهراً ل تعتد به،
ل العدة :هو الوقت
طلّقُوهُنّ فى ُقبُل عِ ّد ِتهِنّ .و ُقبُ ُ
فلم تُطلق لستقبال العدة ،ويُوضحه قراءة من قرأ :فَ َ
الذى يكون بين يدى العدة تستقبل به ،كقبل الحائض ،يوضحه أنه لو أُريد ما ذكروه ،لقيل :فى أوّلِ
ل الشىء وأوله.
ن بينَ ُقبُ ِ
عدتهن ،فالفرق َبيّ ٌ
ل العِدة .قلنا :أجل ،وهذا
وأما قولكم :لو كانت القروء هى الحِيض ،لكان قد طلقها َقبْ َ
ب تأخرها عنه.
هو الواجبُ عقلً وشرعاً ،فإن العِدة ل تُفارق الطلقَ ول تَسبِقُهُ ،بل يج ُ
قولكم :وكان ذلك تطويلً عليها ،كما لو طلّقها فى الحيض ،قيل :هذا مبنى
على أن العِلة فى تحريمِ طلق الحائض خشية التطويل عليها ،وكثيرٌ من الفقهاء ل يرضون هذا
367
التعليلَ ،ويفسدونه بأَنها لو رضيت بالطلق فيه ،واختارت التطويلَ ،لم يُبح له ،ولو كان ذلك لجل
ق المطلّق بتراضيهما بإسقاطها
ط الرجعة الذى هو ح ّ
التطويل ،لم تبح له برضاها ،كما يُباح إسقا ُ
بالعِوض اتفاقاً ،وبدونه فى أحد القولين ،وهذا هو مذهبُ أبى حنيفة ،وإحدى الروايتين عن أحمد
ومالك ،ويقولون :إنما حرم طلقُها فى الحيض ،لنه طلقها فى وقت رغبة عنها ،ولو سلمنا أن
التحريم لجل التطويل عليها ،فالتطويلُ المضر أن يُطلقها حائضاً ،فتنتظ َر مضى الحيضة والطهر
الذى يليها ،ثم تأخُذ فى العدة ،فل تكون مستقبل ًة لِعدتها بالطلق وأما إذا طلقت طاهراً ،فإنها تستقبِلُ
العِدة عقيب انقضاء الطهر ،فل يتحقق التطويلُ.
وقولكم :إن القَرء مشتق من الجمع ،وإنما يُجمع الحيض فى زمن
الطهر .عنه ثلثة أجوبة.
أحدها :أن هذا ممنوع ،والذى هو مشتق من الجمع إنما هو
مِن باب الياء مِن المعتل ،من قرى يقرى ،كقضى يقضى ،والقَرء من المهموز من بنات الهمز ،مِن
قرأ يقرأ ،كنحر يَنحر ،وهما أصلن مختلفان فإنهم يقولون :قريتُ الماء فى الحوض أقريه ،أى:
جمعتُه ،ومنه سميت القرية ،ومنه قرية النمل :للبيت الذى تجتمع فيه ،لنه يقربها ،أى :يضمّها
ويجمعُها .وأما المهموزُ ،فإنه من الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد ،ومنه قراءة
عَل ْينَا
القرآن ،لن قارئه يُظهره ويُخرجه مقداراً محدوداً ل يزيدُ ول ينقُصُ ،ويدل عليه قوله{ :إِنّ َ
ج ْمعَهُ و ُقرْآنَه} [القيامة ،]17 :ففرق بين الجمع وال ُقرْآنِ .ولو كانا واحداً ،لكان تكريراً محضاً،
َ
ولهذا قال ابن عباس رضى الّ عنهما{ :فإذَا قَر ْأنَاهُ فاتّبع ُقرْآنَهُ} [القيامة ،]18 :فإذا بيناه ،فجعل
قراءته نفس إظهاره وبيانه ،ل كما زعم أبو عُبيدة أن القرآن مشتق من الجمع .ومنه قولهم :ما
سلَى قَطّ ،وما قرأت جنينًا هو من هذا الباب ،أى ما ولدته وأخرجته وأظهرته،
قرأت هذه الناقةُ َ
ومنه :فلن يَقرؤك السلم ،ويقرأ عليك السلم ،هو من الظهور والبيان ،ومنه قولهم :قرأت المرأة
حيضة أو حيضتين ،أى :حاضتهما ،لن الحيض ظهورُ ما كان كامناً ،كظهور الجنين ،ومنه:
قروء الثريا ،وقروء الريح :وهو الوقت الذى يظهر المطر والريح ،فإنهما يظهران فى وقت
مخصوص ،وقد ذكر هذا الشتقاق المصنفون فى كتب الشتقاق ،وذكره أبو عمرو وغيره ،ول
ريب أن هذا الم ْعنَى فى الحيض أظه ُر منه فى الطهر.
قولكم :إن عائشة رضى الّ عنها قالت :القُروء:
الطهار ،والنساء أعلم بهذا من الرجال.
368
جعَلَ النساء أعلمَ بمراد الّ من كتابه ،وأفهَم لمعناه مِن أبى بكر
فالجواب أن يُقال :مَنْ َ
ل بن مسعود وأبى الدرداء رضى الّ
الصديق ،وعمر بن الخطاب ،وعلى بن أبى طالب ،وعبد ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم؟ ،فنزولُ ذلك فى شأنهن ل يدل على أنهن
عنهم ،وأكابر أصحابِ رسول ا ّ
ل آية نزلت فى النّسا ِء تكونُ النسا ُء أعلَم بها من الرجال ،ويجبُ
أعلمُ به من الرجال ،وإل كانت كُ ّ
ن أعلَم مِن الرجال بآي ِة الرضاع ،وآيةِ الحيض،
على الرجال تقليدُهن فى معناها وحكمها فيك ّ
وتحريمِ وطء الحائض ،وآية عِدة المتوفى عنها ،وآيةِ الحمل والفِصال ومدتهما ،وآيةِ تحريم إبداء
ب على
الزينة إل لمن ذكر فيها ،وغير ذلك من اليات التى تتعلق بهن ،وفى شأنهن نزلت ،ويج ُ
الرجال تقليدُهن فى حكم هذه اليات ومعناها ،وهذا ل سبيل إليه البتة .وكيف ومدار العلم بالوحى
ق بهذا من النساء ،وأوفر نصيباً منه ،بل ل يكاد
على الفهم والمعرفة ،ووفور العقل والرجال أح ّ
يختِلفُ الرجالُ والنساء فى مسألة إل والصوابُ فى جانب الرجال ،وكيف يُقال :إذا اختلفت عائشة،
وعمر بن الخطاب ،وعلى بن أبى طالب ،وعبد الّ بن مسعود فى مسألة :إن الخذ بقول عائشة
ل عنها أولى ،وهل الولى إل قولٌ فيه خليفتان راشدان؟ وإن كان الصديق معهما كما حُكى
رضى ا ّ
عنه ،فذلك القولُ مما ل يعدوه الصوابُ البتة ،فإن النقل عن عمر وعلى ثابت ،وأما عن الصديق،
ففيه غرابة ،ويكفينا قولُ جماعة من الصحابة فيهم مثلُ :عمر ،وعلى ،وابن مسعود ،وأبى الدرداء،
وأبى موسى ،فكيف نقدم قول أُ ّم المؤمنين وفهمها على أمثال هؤلء؟
شرُ الحُرمة ،ويُثبت المحرمية،
ع الكبير َينْ ُ
ثم يقال :فهذه عائشة رضى الّ عنها ترى رضا َ
ومعها جماعة من الصحابة رضى الّ عنهم ،وقد خالفها غيرُها من الصحابة ،وهى روت حديثَ
التحريم به ،فهلّ قلتم :النساءُ أعلم بهذا من الرجال ،ورجحتم قولَها على قول من خالفها؟
ونقول لصحاب مالك رحمه الّ :وهذه عائشة رضى الّ عنها ل ترى التحريمَ إل بخمس
رضعات ،ومعها جماع ٌة من الصحابة ،وروت فيه حديثين ،فهلّ قلُتم :النساء أعلم بهذا من الرجال،
وقدمتُم قولَها على قول من خالفها؟ فإن قلتم :هذا حكم يتعدّى إلى الرجال ،فيستوى النسا ُء معهم فيه،
قيل :ويتعدى حك ُم العِدة مثله إلى الرجال ،فيجب أن يستوىَ النساءُ معهم فيه ،وهذا لخفا َء به .ثم
ل صلى ال عليه وسلم شهِد لِواح ٍد من هذا
يُرجح قولُ الرجال فى هذه المسألة ،بأن رسول ا ّ
ق على لِسانه وقلبه .وقد وافق ربّه تبارك وتعالى فى عدة مواضع قال
الحزب ،بأن الّ ضرب الح ّ
فيها قولً ،فنزل القرآنُ بمثل ما قال ،وأعطاه النبىّ صلى ال عليه وسلم فضلَ إنائه فى النوم ،وأوله
369
ث ُم ْلهَمٌ ،فإذا لم يكن بُد من التقليد ،فتقليدُه أولى ،وإن كانت الحجة هى التى
بالعلم وشهد له بأنه مُحَ ّد ٌ
تَ ْفصِلُ بين المتنازعين ،فتحكيمُها هو الواجب.
حيَض ،ل يقولُون بقول على وابن مسعود ،ول بقول
قولكم :إن من قال :إن القراء ال ِ
عائشة ،فإن عليًا يقول :هو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل ،وأنتم ل تقولون بواح ٍد من القولين ،فهذا
ع ْنكَ عَارُهَا
شكَاة ظَا ِهرٌ َ
غايتُه أن يكون تناقضًا ممن ل يقول بذلك ،كأصحاب أبى حنيفة ،وت ْلكَ َ
عمن يقول بقول على ،وهو المام أحمد وأصحابه ،كما تقدم حكاية ذلك ،فإن العِدة تبقى عنده إلى
أن تغتسل كما قاله على ،ومن وافقه ،ونحن نعت ِذ ُر عمن يقول :القراء الحِيض فى ذلك ،ول يقول:
هو أحقّ بها ما لم تغتسل فإنه وافق من يقول :القراء الحِيض فى ذلك ،وخالفه فى توقف انقضائها
على الغسل لمعارض أوجب مخالفته ،كما يفعلُه سائر الفقهاء .ولو ذهبنا نعُدّ ما تصرفتم فيه هذا
ف بعينه ،فإن كان هذا المعارض صحيحاً لم يكن تناقضًا منهم ،وإن لم يكن صحيحاً ،لم يكن
التصر َ
ضعفُ قولهم فى إحدى المسألتين عندهم بمانع لهم مِن موافقتهم لهم فى المسألة الخرى ،فإن
موافقة أكابر الصحابة وفيهم مَنْ فيهم مِن الخلفاء الراشدين فى معظم قولهم خيرٌ ،وأولى من
مخالفتهم فى قولهم جميعِه وإلغائه بحيث ليُعتبر البتة.
قالوا :ثم لم نخالفهم فى توقف انقضائها على الغسل ،بل قلنا :ل تنقضى حتى تغتسِلَ ،أو
ت صلة ،فوافقناهم فى قولهم بالغسل ،وزدنا عليهم انقضاءَها بمضى وقت
يمضى عليها وق ُ
الصلة ،لنها صارت فى حكم الطاهرات بدليل استقرار الصلة فى ذمتها ،فأين المخالف ُة الصريحة
ل عليهم.
للخلفاء الراشدين رضوان ا ّ
ل تعالى لم يتعرض للغسل
ل للغسل معنى .فيقال :كتابُ ا ّ
وقولكم :ل نجد فى كتاب ا ّ
ل والبينونة بإنقضاء الجل.
بنفى ول إثبات ،وإنما علّق الحِ ّ
وقد اختلف السلف والخلف فيما ينقضى به الجلُ ،فقيل :بإنقطاع الحيض .وقيل :بالغسل أو
مضى صلة ،أو انقطاعه لكثره .وقيل :بالطعن فى الحيضة الثالثة ،وحجة من وقفه على الغسل
ل من
قضاءُ الخلفاء الراشدين ،قال المام أحمد :عمر ،وعلى ،وابن مسعود يقولون :حتى تغتسِ َ
ى هذا المذهب
الحيضة الثالثة .قالوا :وهم أعلمُ بكتاب الّ ،وحدودِ ما أُنزِل على رسوله ،وقد ُر ِو َ
عن أبى بكر الصديق ،وعثمان بن عفان ،وأبى موسى ،وعُبادة ،وأبى الدرداء ،حكاه صاحب
((المغنى)) وغيره عنهم .ومن ههنا قيل :إن مذهب الصديق ومن ُذ ِك َر معه ،أن القراء :الحِيض.
370
قالوا :وهذا القول له حظ وافر مِن الفقه ،فإن المرأة إذا انقطع حيضها صارت فى حكم
حيّضِ من وجه ،والوجوه التى هى فيها فى حكم الحيض أكثر من
الطاهرات من وجه ،وفى حكم ال ُ
الوجوه التى هى فيها فى حُكم الطاهرات ،فإنها فى حُكم الطاهرات فى صحة الصيام ،ووجوب
حيّضِ فى تحريم قراءة القرآن عند من حرمه على الحائض ،واللبث فى
الصلة ،وفى حُكم ال ُ
المسجد ،والطواف بالبيت ،وتحريم الوطء ،وتحريم الطلق فى أحد القولين ،فاحتاطَ الخلفاءُ
الراشدون وأكابر الصحابة للنكاح ،ولم يُخرجوها منه بعد ثبوته إل بقيد ل ريبَ فيه ،وهو ثبوتُ
حكم الطاهرات فى حقها من كل وجه ،إزال ٌة لليقين بيقين مثله ،إذ ليس جعلها حائضاً فى تلك
الحكام أولى من جعلها حائضاً فى بقاء الزوجية ،وثبوت الرجعة ،وهذا من أدق الفقه وألطفه
مأخذاً.
قالوا :وأما قول العشى:
لِما ضَاعَ فِيهَا مِنْ ُقرُوءِ نِسَائكا.
فغايته استعمال القروء فى الطهر ،ونحن ل ننكره.
قولكم :إن الطهر أسبق من الحيض ،فكان أولى بالسم ،فترجيحٌ طريف جداً فمن أين
يكون أولى بالسم إذا كان سابقاً فى الوجود؟ ثم ذلك السابق ل يُسمى قرءاً ما لم يسبقه دم عند
جمهور من يقوله :القراء الطهار ،وهل يقال فى كل لفظ مشترك :إن أسبق معانيه إلى الوجود
س َعسَ} [التكوير ،]17 :أولى بكونه لقبال الليل
س من قوله{ :والّليْلِ إذَا عَ ْ
س َع َ
أحق به ،فيكون عَ ْ
لسبقه فى الوجود ،فإن الظلم سابق على الضياء.
وأما قولكم :إن النبى صلى ال عليه وسلم فسر القروء بالطهار ،فلعمرُ الّ
لو كان المر كذلك ،لما سبقتمُونا إلى القول بأنها الطهار ،ولبادرنا إلى هذا القول اعتقادًا وعملً،
وهل المعوّل إل على تفسيره وبيانه:
َولَم تَ ْد ِر أَنىّ ِل ْلمُقَا ِم أَطُوفُ سَل ْيمَى َل ْو أَ َق ْمتُمْ بأ ْرضِنَا
تَقُولٌ ُ
فقد بينا مِن صريح كلمه ومعناه ما يدل على تفسيره للقروء بالحيض ،وفى ذلك كفاية.
فصل
فى الجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا
قولكم فى العتراض على الستدلل بقوله(( :ثلثة قروء)) فإنه يقتضى أن تكون كواملَ،
أى بقية الطهر قرء كامل ،فهذا ترجمة المذهب ،والشأن فى كونه قرءاً فى لسان الشارع ،أو فى
371
اللغة ،فكيف تستدلون علينا بالمذهب ،مع منازعة غيرِكم لكم فيه ممن يقول :القراء الطهار كما
تقدم؟ ولكن أوجدونا فى لسان الشارع ،أو فى لغة العرب ،أن اللحظة من الطهر تسمى قَرءاً كاملً،
وغايةُ ما عندكم أن بعض مَنْ قال :القروءُ الطهار ،ل ُكلّهم يقولُون :بقي ُة القرء المطلق فيه قَرء،
ض طه ٍر بل ريب؟ فإذا كان مسمى القَرء فى الية هو
وكَانَ ماذا؟ ،كيف وهذا الجز ُء مِن الطّهر بع ُ
الطهر ،وجب أن يكون هذا بعضَ قرء يقيناً ،أو يكون القرء مشتركًا بينَ الجميع والبعض ،وقد تقدّم
ل ذلك ،وأنه لم يقل به أحد.
إبطا ُ
قولكم :إن العرب تُوقِعُ اسم الجمع على اثنين ،وبعض الثالث ،جوابه من وجوه.
أحدها :أن هذا إن وقع ،فإنما يقع فى أسماء الجموع التى هى ظواهرُ فى
ل وَلمّا ،ولم تَر ْد صيغ ُة العدد إل
مسماها ،وأما صيغ العدد التى هى نصوص فى مسماها ،فك ّ
ش ْه َراً فى ِكتَابِ الِّ} [التوبة]36 :
شرَ َ
لّ ا ْثنَا عَ َ
عنْدَ ا ِ
شهُورِ ِ
مسبوقة بمسماها ،كقوله{ :إنّ عِ ّد َة ال ّ
لثَ ِة أيّامٍ
صيَا ُم ثَ َ
ث مِائةٍ سِنينَ وازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف ]25 :وقولهَ { :ف ِ
وقوله{ :وَل ِبثُوا فى َكهْ ِفهِ ْم ثل َ
سبْ َع َليَالٍ
عَل ْيهِمْ َ
خرَها َ
سّش َر ٌة كَا ِملَةُ} [البقرة .]196 :وقولهَ { :
ج ْعتُ ْم ِت ْلكَ عَ َ
س ْبعَ ٍة إذَا رَ َ
فى الحَجّ وَ َ
و َثمَا ِنيَةَ َأيّامٍ حُسُوماً} [الحاقة ،]15 :ونظائره مما ل يُراد به فى موضع واحد دون مسماه من العدد.
لثَةَ ُقرُوءٍ} [البقرة ،]228 :اسم عدد ليس بصيغة جمع ،فل َيصِحّ إلحاقه بأشهر
وقوله{:ثَ َ
معلومات ،لوجهين.
أحدهما :أن اسم العدد نصّ فى مسماه ل يقبَلُ التخصيصَ المنفصل ،بخلف السم العام،
ص المنفصل ،فل يلزم من التوسعِ فى السم الظاهر التوسعُ فى السم الذى هو
فإنه يقبل التخصي َ
نص فيما يتناولُه.
الثانى :أن اسم الجمع َيصِحّ استعمالُه فى اثنين فقط مجازًا عند الكثرين ،وحقيقة عند
ل تعالى:
ف الثلثة ،ولهذا لما قال ا ّ
بعضهم ،فصحة استعماله فى اثنين ،وبعض الثالث أولى بخل ِ
شهَا َدةُ
خ َوةٌ فَلمّ ِه السّ ُدسُ} [النساء ،]16 :حمله الجمهورُ على أخوين ،ولما قال{ :فَ َ
ن لَهُ إ ْ
ن كَا َ
{فَإ ْ
شهَادَاتٍ} [النور ،]6 :لم يحملها أح ٌد على ما دون الربع.
أَحَدِهِ ْم َأ ْربَعُ َ
والجواب الثانى :أنه وإن صح استعمال الجمع فى اثنين ،وبعض الثالث ،إل أنه مجاز،
والحقيقةُ أن يكون المعنى على وفق اللفظ ،وإذا دار اللفظُ بين حقيقته ومجازه ،فالحقيق ُة أولى به.
(يتبع)...
372
الجواب الثالث :أنه إنما جاء استعمالُ الجمع فى اثنين ،وبعض الثالث فى أسماء اليام @
والشهور والعوام خاصة ،لن التاريخ إنما يكون فى أثناء هذه الزمنة ،فتارة يُدخلون السنة
سعُوا فى ذلك ما لم يتوسعوا فى
الناقصة فى التاريخ ،وتارة ل يُدخلونها .وكذلك اليامُ ،وقد تو ّ
غيره ،فأطلقوا الليالى ،وأرادوا اليامَ معها تارة ،وبدونها أخرى وبالعكس.
ش ُه ٌر َم ْعلُومَاتٌ}.
ج أَ ْ
الجواب الرابع :أن هذا التجوزَ جاء فى جمع القِلة ،وهو قوله{ :الح ّ
لثَةَ قُروُءٍ} [البقرة ،]228 :جم ُع كثرة ،وكان مِن الممكن أن يُقال :ثلثة
[البقرة ]197 :وقوله{ :ثَ َ
أقراء ،إذ هو الغلبُ على الكلم ،بل هو الحقيقة عند أكثر النحاة ،والعدولُ عن صيغة القلة إلى
صيغة الكثرة ل بد له من فائدة ،ونفى التجوز فى هذا الجمع يصلح أن يكون فائدة ،ول يظهر
غيرها ،فوجب اعتبارُها.
الجواب الخامس :أن اسم الجمع إنما يُطلق على اثنين ،وبعض الثالث فيما يقبل
التبعيض ،وهو اليومُ والشهر والعامُ ،ونحو ذلك دونَ ما ل يقبله ،والحيض والطهر ل يتبعضان،
ف القرء ،لجعلت قَرءاً
ت عدة المة ذات القراء قرءين كاملين بالتفاق ،ولو أمكن تنصي ُ
ج ِعَل ْ
ولهذا ُ
ونصفاً ،هذا مع قيام المقتضى للتبعيض ،فأن ل يجوزَ التبعيض مع قيام المقتضى للتكميل أولى،
سرّ المسألة أن القرءَ ليس لبعضه حكم فى الشرع.
وِ
ش ُهرِ} [الطلق]4 :
لثَ ُة أَ ْ
ن ثَ َ
الجواب السادس :أنه سبحانه قال فى اليسة والصغيرةَ { :فعِ ّد ُتهُ ّ
ل المبدل أولى.
ثم اتفقت المة على أنها ثلثة كوامل ،وهى بدلٌ عن الحيض ،فتكمي ُ
قولكم :إن أهل اللغة يُصرحون بأن له مسميين :الحيض والطهر ،ل ننازعكم فيه ،ولكن
ن تُرجّحُ أح َد معانيه،
حمله على الحيض أولى للوجوه التى ذكرناها ،والمشترك إذا اقترن به قرائ ُ
وجب الحملُ على الراجح.
قولكم :إن الطهر الذى لم يسبقه دم ،قَرء على الصح ،فهذا ترجيحٌ وتفسير للفظة
ت أربع سنين يُسمى قرءاً ،ول تُسمى من
بالمذهب ،وإل فل يُعرف فى لغة العرب قط أن طهر بن ِ
ذوات القراء ،ل لغة ول عرفاً ول شرعاً ،فثبت أن الدم داخل فى مسمى القَرء ،ول يكون قرءاً إل
مع وجوده.
قولكم :إن الدم شرط للتسمية ،كالكأس والقلم وغيرهما من اللفاظ المذكورة
تنظِيرٌ فاسد ،فإن مسمى تلك اللفاظَ حقيقة واحدة مشروطة بشروط ،والقَرء مشترك بين الطهر
373
والحيض ،يقال :على كل منهما حقيقة ،فالحيضُ مسماه حقيقة ل أنه شرط فى استعماله فى أحد
مسمييه فافترقا.
قولكم :لم يجىء فى لسان الشارع للحيض ،قلنا ،قد بينا مجيئَه فى
كلمه للحيض ،بل لم يجىء فى كلمه للطهر البتة فى موضع واحد ،وقد تقدّم أن سفيان ابن عيينة
روى عن أيوب ،عن سليمان بن يسار ،عن أم سلمة رضى الّ عنها ،عن النبى صلى ال عليه
لةَ َأيّا َم أَ ْقرَائِها)) .قولكم :إن الشافعى قال :ما حدث بهذا سفيان
وسلم فى المستحاضة ((تَدَعُ الصّ َ
قط ،جوابُه أن الشافعى لم يسمع سفيان يُحدث به ،فقال بموجب ما سمعَه مِن سفيان ،أو عنه من
قوله(( :لتنظر عدد الليالى واليام التى كانت تحيضهن من الشهر)) وقد سمعه من سفيان من ل
يُستراب بحفظه وصدقه وعدالته .وثبت فى السنن ،من حديث فاطمة بنت أبى حُبيش ،أنها سألت
ل صلى ال عليه وسلم(( :إ ّنمَا
ل صلى ال عليه وسلم ،فشكت إليه الدّمَ ،فقال لها رسول ا ّ
رسولَ ا ّ
صلّى مَا َبيْنَ ال َقرْءِ
ط ّهرِى ،ثُ ّم َ
ل ُتصَلّى ،وإذَا َمرّ َق ْر ُؤكَِ ،فتَ َ
عرْقٌ ،فانْظُرى ،فإذا َأتَى َق ْرؤُك ،فَ َ
َذِلكَ ِ
إلى ال َقرْءِ)) .رواه أبو داود بإسناد صحيح ،فذكرفيه لفظ القرء أربع مرات فى كل ذلك يريد به
الحيض ل الطهر ،وكذلك إسناد الذى قبله ،وقد صححه جماعة من الحفاظ.
ظرْ عَدَ َد الليالى واليا َم التى كانت تحيضُهن من
وأما حديث سفيان الذى قال فيه(( :لِتن ُ
الشهر)) ،فل تعارض بينه وبين اللفظ الذى احتججنا به بوجه ما حتى يُطلب ترجيحُ أحدهما على
الخر ،بل أح ُد اللفظين يجرى من الخر مجرى التفسير والبيان ،وهذا يدل على أن القَرء اسم لتلك
ل صلى ال عليه وسلم وهو الظاهر فظاهر ،وإن
الليالى واليام ،فإنه إن كانا جميعاً لفظَ رسول ا ّ
ل للراوى أن
كان قد روى بالمعنى ،فلول أن معنى أح ِد اللفظين معنى الخر لغة وشرعاً ،لم تَحِ ّ
ل اللفظ بما يُوافق
غ له أن ُيبَدّ َ
ل صلى ال عليه وسلم بما ل يقوم مقامه ،ول يسو ُ
ل لفظ رسول ا ّ
يُبدّ َ
ل صلى ال عليه وسلم ،ل سيما والراوى لذلك من ل يُدفع
مذهبه ،ول يكون مرادفًا للفظ رسول ا ّ
ل مِن نافع وأعلم.
عن المامة والصدق والورع ،وهو أيوب السّختيانى ،وهو أج ّ
وقد روى عثمان بن سعد الكاتب ،حدثنا ابن أبى مليكة ،قال :جاءت خالتى فاطمة بنت أبى
ع الصل َة السنة والسنتين،
حُبيش إلى عائشة رضى الّ عنها ،فقالت :إنى أخاف أن أقع فى النار ،أَدَ ُ
ل صلى ال عليه وسلم ،فجاء ،فقالت عائش ُة رضى الّ عنها:
قالت :انتظرى حَتى يجىءَ رسولُ ا ّ
ش ْهرٍ َأيّامَ َق ْر ِئهَا)) .قال الحاكم:
لةَ فى كُلّ َ
ع الصّ َ
هذه فاطم ُة تقول :كذا وكذا ،قال(( :قُولى َلهَا َف ْلتَدَ ِ
هذا حديث صحيح ،وعثمان بن سعد الكاتب بصرى ثقة عزيز الحديث ،يُجمع حديثه ،قال البيهقى:
374
وتكلم فيه غيرُ واحد .وفيه :أنه تابعه الحجاجُ بن أرطاة عن ابن أبى مليكة عن عائشة رضى الّ
عنها.
ت َأيّا ُم أَ ْقرَا ِئكِ
ل صلى ال عليه وسلم قال لِفاطمة(( :إذَا أَ ْق َبَل ْ
وفى ((المسند)) :أن رسول ا ّ
عَل ْيكِ ))...الحديثَ.
فأمْسِكى َ
وفى سنن أبى داود من حديث عدى بن ثابت ،عن أبيه ،عن جدّه ،عن النبى صلى ال عليه
ل و ُتصَلى)).
لةَ َأيّامَ أ ْقرَا ِئهَا ،ثم َت ْغتَسِ ُ
وسلم ،فى المستحاضة ((تَدَعُ الصّ َ
ل صلى ال عليه وسلم،
وفى ((سننه)) أيضاً :أن فاطمة بنت أبى حبيش سألت رسول ا ّ
عرْقٌ فَانْظُرى ،فَإذَا أَتى
ل صلى ال عليه وسلم(( :إنّما ذلكَ ِ
فشكت إليه الدم ،فقال لها رسولُ ا ّ
ن ال َقرْءِ إلى ال َقرْءِ)) .وقد تقدم.
صلّى ما َبيْ َ
طهّرى ثُ ّم َ
صلّى ،فإذا َمرّ َق ْر ُؤكِ َفتَ َ
َق ْر ُؤكِ ،فَلَ ُت َ
قال أبو داود :وروى قتادة ،عن عروة ،عن زينب ،عن أم سلمة رضى الّ عنها ،أن أمّ
ع الصّلة
حبيبة بنت جحش رضى الّ عنها استحيضت ،فأمرها النبىّ صلى ال عليه وسلم أن تَدَ َ
أيّامَ أقرائها.
وتعليل هذه الحاديث ،بأن هذا مِن تغيير الرواة ،رووه بالمعنى ل يُلتفت إليه ،ول يُعرج
عليه ،فلو كانت من جانب مَنْ عللها ،لعاد ذِكرها وأبداه ،وشنّع على من خالفها.
وأما قولكم :إن الّ سبحانه وتعالى جعل اليأس من الحيض شرطاً فى العتداد بالشهر ،فمن
حيَض؟ قلنا :لنه جعل الشه َر الثلثة بدلً عنِ القراءِ الثلثة،
أين يلزم أن تكون القُروء هى ال ِ
ن نِسَا ِئكُمُ} [الطلق ،]4 :فنقلهن إلى الشهر عند تعذّر
ض مِ ْ
ن مِنَ المحِي ِ
وقال{ :واللّئى َيئِسْ َ
ن منه ،ل عن الطهر ،وهذا
ض الذى َيئِسْ َ
مبدلهن ،وهو الحيض ،فدل على أن الشهر بدل عن الحي ِ
واضح.
ل عنها معلول بمظاهر بن أسلم ،ومخالفة عائشة له،
قولكم :حديثُ عائشة رضى ا ّ
ل من صنف
فنحن إنما احتججنا عليكم بما استدللُتم به علينا فى كون الطلق بالنساء ل بالرجال ،فكُ ّ
ل على أن طلق العبد طلقتان ،احتج علينا بهذا الحديث.
من أصحابكم فى طريق الخلف ،أو استد ّ
ق العبد تطليقتين ،فاعتبر الطلقَ بالرجال ل بالنساء،
وقال :جعل النبىّ صلى ال عليه وسلم طل َ
ضتَانِ .فيا سُبحان الّ ،يكونُ الحديث سليمًا من العِلل إذا
ح ْي َ
لمَةِ َ
واعتبر العِدة بالنساء ،فقال :وعدة ا َ
كان حجة لكم ،فإذا احتجّ به منازعوكم عليكم اعتورته العِلل المختلفة ،فما أشبَهه بقول القائل:
إَل ْيكُم تَلقّى نَشْركُمْ َفيَطِيبُ َيكُونُ أُجَاجاً دُو َنكُم فَإذَا ا ْنتَهى
375
ب أن مُظاهراً
فنحن إنما كِلنا لكم بالصاع الذى كِلتم لنا به بخسًا ببخس ،وإيفاءً بإيفاء ،ول ري َ
ل غيرُه.
ممن ل يُحتج به ،ولكن ل يمتنع أن ُي ْع َتضَدَ بحديثه ،ويقوى به ،والدلي ُ
وأما تعليلُه بخلف عائشة رضى الّ عنها له ،فأين ذلك من تقريرِكم ،أن مخالفة الراوى ل
تُوجب ردّ حديثه ،وأن العتبار بما رواه ل بما رآه ،وتكثركم مِن المثلة التى أخذ الناسُ فيها
بالرواية دونَ مخالفة راويها لها ،كما أخذوا برواي ِة ابن عباس المتضمنة لبقاء النكاح مع بيع
الزوجة ،وتركوا رأيه بأن بيع المة طلقُها ،وغير ذلك.
ل عنه(( :طلق المة طلقتان ،وقَرؤها حيضتان)).
وأما ردكم لحديث ابن عمر رضى ا ّ
بعطية العوفى ،فهو وإن ضعفه أكثرُ أهل الحديث ،فقد احتمل الناسُ حديثه ،وخرجوه فى السنن،
وقال يحيى بن معين فى رواية عباس الدورى عنه :صالح الحديث ،وقال أبو أحمد بن عدى رحمه
الّ :روى عنه جماعة من الثقات ،وهو مع ضعفه يُكتب حديثه ،فيُعتضد به وإن لم يُعتمد عليه
وحده.
وأما ردكم الحديث بأن ابن عمر مذهبه :أن القُروء الطهار ،فل ريب أن هذا يُورث شبهة
فى الحديث ،ولكن ليس هذا بأوّل حديث خالفه راويه ،فكان العتبارُ بما رواه ل بما ذهب إليه،
وهذا هو الجوابُ عن ردكم لحديث عائشة رضى الّ عنها بمذهبان ،ول يُعترض على الحاديث
بمخالفة الرواة لها.
وأما ردّكم لحديث المختلعة ،وأمرها أن تعتد بحيضة ،فإنا ل نقول به ،فللناس فى
هذه المسألة قولن ،وهما روايتان عن أحمد أحدهما :أن عدتها ثلثُ حيض ،كقول الشافعى،
ل أمير المؤمنين عثمان بن عفان ،وعبد الّ
ومالك ،وأبى حنيفة .والثانى :أن عدتها حيضة ،وهو قو ُ
ل بن عباس ،وهو مذهب أبان بن عثمان ،وبه يقول إسحاق ابن راهويه ،وابن
بن عمر ،وعبد ا ّ
ض لها ،والقياس يقتضيه
ح فى الدليل ،والحاديث الواردة فيه ل معار َ
المنذر ،وهذا هو الصحي ُ
ل صلى ال عليه وسلم فى عِدة المختلعة.
حكماً ،وسنبين هذه المسألة عند ذكر حكم رسول ا ّ
قالُوا :ومخالفتنا لحديث اعتداد المختلعة بحيضة فى بعض ما اقتضاه من جواز العتداد
ن عذراً لكم فى مخالفة ما اقتضاه من أن القُروء الحيض ،فنحن وإن خالفناه فى حكم،
بحيضة ل يكو ُ
فقد وافقناه فى الحكم الخر ،وهو أن القَرء الحيض ،وأنتم خالفتموه فى المرين جميعاً ،هذا مع أن
سلِ َم مِن هذه المطالبة ،فماذا تردون
من يقول :القراء الحِيض ،ويقول :المختلعة تعتد بحيضة ،قد َ
به قولَه؟
376
وأما قولُكم فى الفرق بين الستبراء والعِدة :إن العِدة وجبت قضاءَ لحق الزوج،
فاختصت بزمان حقه ،كلمٌ ل تحقيق وراءه ،فإن حقّه فى جنس الستمتاع فى زمن الحيض
والطهر ،وليس حقه مختصًا بزمن الطهر ،ول العِدة مختصة بزمن الطهر دون الحيض ،وكل
الوقتين محسوب من العدة ،وعدم تكرر الستبراء ل يمنع أن يكون طهراً محتوشاً بدمين ،كقُرء
المطلقة ،فتبين أن الفرق غيرُ طائل.
قولكم :إن انضمام قرءين إلى الطهر الذى جامع فيه يجعلُه علماً جوابُه أن هذا يُفضى إلى
أن تكون العِدة قرءين حسب ،فإن ذلك الذى جامع فيه لدللة له على البراءة البتة ،وإنما الدالّ
ن بعده ،وهذا خلف موجب النص ،وهذا ل يلزمُ مِن جعل القراء الحِيض ،فإن الحيضة
القَرآ ِ
وحدها علم ،ولهذا اكتفى بها فى استبراء الماء.
قولكم :إن القرء هو الجمع ،والحيض يجتمع فى زمان الطهر ،فقد تقدم جوابُه ،وأن ذلك فى
المعتل ل فى المهموز.
قولكم :دخولُ التاء فى ثلثة ،يدل على أن واحدها مذكر ،وهو الطهر ،جوابُه أن واحد
القروء قَرء ،وهو مذكر ،فأتى بالتاء مراعاةً للفظه ،وإن كان مسماه حيضة ،وهذا كما يُقال :جاءنى
ل أعلم.
ثلثة أنفس ،وهُنّ نساء بإعتبار اللفظ .وا ّ
فصل
ن يرى أن عِدة الحرة والمة سواء ،قال أبو محمد ابن
وقد احتج بعُموم آيات العِدد الثلث مَ ْ
حزم :وعدة المة المتزوجة من الطلق والوفاة ،كعدة الحرة سواء بسواء ،ول فرق ،لن الّ تعالى
لثَة قُروُءٍ} [البقرة ]228 :وقال:
ن ثَ َ
سهِ ّ
ت َي َت َر ّبصْنَ بَِأنْفُ ِ
علّمنا العِدَ َد فى الكِتاب ،فقال{ :وَالمُطَلّقَا ُ
ش ُهرٍ وَعَشْراً} [البقرة،]234 :
سهِنّ َأ ْر َبعَ َة أَ ْ
ن َأ ْزوَاجًا َي َت َر ّبصْنَ ِبَأنْفُ ِ
ن ِم ْنكُم َويَ َذرُو َ
{والّذِينَ ُي َتوَ ّفوْ َ
ش ُهرٍ واللّئى لَم
لثَ ُة أَ ْ
ن ثَ َ
ن نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُم َفعِ ّد ُتهُ ّ
ض مِ ْ
ن مِنَ المَحِي ِ
ل تعالى{ :واللّئى َيئِسْ َ
وقال ا ّ
ح ْمَلهُنّ } [الطلق ،]4 :وقد علم الّ تعالى إذ أباح لنا
ضعْنَ َ
ن أَن َي َ
جُلهُ ّ
ل أَ َ
حمَا ِ
لتُ ال ْ
حضْنَ َوأُو َ
يِ
ح ّرةٍ ول َأمَةٍ فى ذلك ،وما
زواج الماء ،أنه يكون عليهن العِدَدُ المذكورات .وما فرّق عز وجل بين ُ
كان ربك نسياً.
لمَ ِة إل َكعِدّة
وثبت عمن سلف مثل قولنا :قال محمد بن سِيرين رحمه الّ .ما أرى عِدّة ا َ
ق أن ُت ّتبَعَ .قال :وقد ذكر أحمد بن حنبل ،أن
سنّةُ أح ّ
سنّةٌ ،فال ّ
حرّة ،إل أن يكون مضت فى ذلك ُ
ال ُ
377
حرّة ،وهو قول أبى سليمان ،وجميع أصحابنا ،هذا
قول مكحول :إنّ عِدّة المة فى كل شىَ ،كعِدّة ال ُ
كلمه.
لمّةِ ،فقالوا :عِ ّدتُها نصف عِدّة الحرة ،هذا قول فقهاء
وقد خالفهم فى ذلك جمهور ا ُ
ل بن عتبة ،والزهرىّ ،ومالك،
المدينة :سعي ِد بنِ المسيب ،والقاسِم ،وسالِم ،وزيدِ بن أسلم ،وعبدِ ا ّ
ن أبى رباح ،ومسلم بنِ خالد وغيرهما ،وفقها ِء البصرة :كقتادة ،وفقهاءِ
وفقها ِء أهل مكة :كعطا ِء ب ِ
ى وأبى حنيفةَ وأصحابِه رحمهم الّ .وفقهاءِ الحديثِ كأحَمدَ وإسحاق ،والشافعى،
الكوفة ،كالثور ّ
ل وغيرهم ،وسلفُهم فى ذلك الخليفتان الراشدان :عمرُ بنُ الخطاب ،وعلىّ بنُ
وأبى ثور رحمهم ا ّ
ن عمر رضى الّ عنه ،كما
لبِ
أبى طالب ،رضى الّ عنهما ،صح ذلك عنهما ،وهو قولُ عبدِ ا ّ
حيَض ،وهو قول زيد ابن ثابت،
لمَةِ حيضتان ،عِ ّد ُة الحرة ثلث ِ
رواه مالك ،عن نافع ،عنه :عِ ّدةُ ا َ
لمَةِ حيضتان ،وعِدّة الحرة
كما رواه الزهرى ،عن قَبيصة ،بن ُذؤَيب ،عن زيد بن ثابت :عِ ّدةُ ا َ
ل عنه
حيَضِ .وروى حماد بن زيد ،عن عمرو بن أوس الثقفى ،أن عم َر بنَ الخطاب رضى ا ّ
ثلثُ ِ
لمَ ِة حيض ًة ونصفاً لفعلت ،فقال له رجل :يا أمير المؤمنين،
قال :لو استطعتُ أن أجعلَ عِ ّدةَ ا َ
فاجعلها شهرًا ونصفاً.
ل يقول:
وقال عبد الرزاق :حدثنا ابن جريح ،أخبرنى أبو الزبير ،أنه سمع جابر بن عبد ا ّ
طلّقة .وروى عبد الرزاق أيضاً :عن ابن
لمَ َة الم َ
ل عنه حيضتين ،يعنى :ا َ
جعل لها عمرُ رضى ا ّ
ل بن عتبة بن مسعود ،عن
عيينة ،عن محمد بن عبد الرحمن ،عن سليمان بن يسار ،عن عبد ا ّ
لمَ ُة حيضتين ،فإن لم تحض،
ل عنه :ينكح العبد اثنتين ،ويطلّق تطليقتين ،وتعتدّ ا َ
عمر رضى ا ّ
شهْرين أو قال :فشهرًا ونصفاً.
فَ َ
وذكر عبد الرزاق أيضاً :عن معمرَ ،عن المغيرة ،عن إبراهيم النخعى ،عن ابن مسعود
قال :يكون عليها نصف العذاب ،ول يكون لها نصف الرخصة.
سيْطٍ ،ويحيى ابن سيعد،
وقال ابن وهب :أخبرنى رجال من أهل العلم :أن نافعاً ،وابنَ قُ َ
لمَةِ
ل صلى ال عليه وسلم ،والتابعين ،قالوا :عِ ّدةُ ا َ
وربيعة ،وغير واحد من أصحابِ رسولِ ا ّ
حيضتان .قالوا :ولم يزل هذا عمل المسلمين.
سعْد ،عن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصّدّيق رضى الّ
قال ابن وهب :أخبرنى هشام بن َ
لمَةِ حيضتان.
عنهم ،قال :عِدّة ا َ
378
ل صلى ال
سنّةً عَنْ رسول ا ّ
قال القاسم :مع أن هذا ليس فى كتاب الّ عز وجل ،ول نعلمه ُ
عليه وسلم ،ولكن قد مضى أمرُ النّاس على هذا ،وقد تقدّم هذا الحديث بعينه ،وقولُ القاسم وسالم
ل صلى ال عليه وسلم،
سنّةِ رسول ا ّ
فيه لرسول المير ،قل له :إن هذا ليس فى كِتاب الّ ،ول ُ
ل عمر ،وابنِ مسعود ،وزيدِ بن ثابت،
ولكن عمل به المسلمون .قالوا :ولو لم يكن فى المسألة إل قو ُ
ل بن عمر ،لكفى به.
وعبد ا ّ
ل عنه :تجعلون عليها نصف العذاب ،ول تجعلون لها نصف
وفى قول ابن مسعود رضى ا ّ
الرخصة ،دليل على اعتبار الصحابة للَقْيسة والمعانى ،وإلحاق النظير بالنظير.
ولما كان هذا الثر مخالفًا لقول الظاهرية فى الصل والفرع ،طعن ابنُ حزم فيه وقال :ل
ض الناس ،فكيف عن مثل ابن مسعود؟
عرْ ِ
يصح عن ابن مسعود :قال وهذا بعيد على رجل من ُ
ج ّرأَه على الطعن فيه ،أنه من رواية إبراهيم النخعى عنه ،رواه عبد الرزاق عن معمر ،عن
وإنما َ
المغيرة ،عن إبراهيم ،وإبراهيم لم يسمع من عبد الّ ،ولكن الواسطة بينه وبينه أصحاب عبد الّ
كعلقمة ونحوه ،وقد قال إبراهيم :إذا قلتُ :قال عبد الّ ،فقد حدثنى به غير واحد عنه ،وإذا قلت :قال
س ّم ْيتُ ،أو كما قال .ومن المعلوم :أن بين إبراهيم ،وعبد الّ أئمة ثقات ،لم يسمّ
فلن عنه ،فهو عمن َ
ل أئمة أجلء نبلء،
ط ُمتّهماً ،ول مجروحاً ،ول مجهولً ،فشيوخه الذين أخذ عنهم عن عبد ا ّ
قَ ّ
ج الكوفة ،وكل من له َذوْق فى الحديث إذا قال إبراهيم :قال عبد الّ ،لم يتوقف
وكانوا كما قيلُ :مرُ َ
فى ثبوته عنه ،وإن كان غيره ممن فى طبقته ،لو قال :قال عبد الّ ،ل يحصل لنا الثبت بقوله،
ل نظي ُر ابنِ المسيّب عن عمر ،ونظير مالك عن ابن عمر ،فإن الوسائط بين
فإبراهيم عن عبد ا ّ
ل الناس ،وأوثقهم ،وأصدقِهم ،ول
س ّموْهم وُجِدُوا من أَجَ ّ
ل عنهم إذا َ
هؤلء وبين الصحابة رضى ا ّ
ع ابنَ مسعود فى هذه المسألة ،فكيف يخالف عمرَ ،وزيداً ،وابن عمر ،وهم
سمّون سواهم البتة ،وَدَ ِ
يُ َ
ب البتة ،ول إلى حديث
سنّةِ رسوله ،ويخالف عمل المسلمين ،ل إلى قول صاح ٍ
أعلم بكتاب الّ و ُ
لمّةِ ،ليس هو مما تخفى دللته ،ول
صحيح ،ول حسن ،بل إلى عمومٍ أمره ظاهر عند جميع ا ُ
موضعه ،حتى يظفر به الواحد والثنان دون سائر الناس ،هذا من أبين المحال.
ولو ذهبنا نذكر الثار عن التابعين بتنصيف عِدّة المة ،لطالت جدًا ثم إذا تأملتَ سياق
اليات التى فيها ذِكر العِدَد ،وجدتَها ل تتناول الماء ،وإنما تتناول الحرائر ،فإنه سبحانه قال:
ن إنْ كُنّ
خلَقَ الُّ فى َأرْحَا ِمهِ ّ
ن َي ْك ُتمْنَ مَا َ
ل َلهُنّ أَ ْ
لثَةَ ُقرُو ٍء وَلَ َيحِ ّ
ن ثَ َ
سهِ ّ
طلّقَاتُ َيتَر ّبصْنَ بَأنْفُ ِ
{وَالم َ
عَل ْيهِنّ
ل الّذى َ
ن َأرَادُوا إصْلَحًا َوَلهُنّ ِمثْ ُ
كإ ْ
ق ِبرَدّهِنّ فى ذِل َ
ن أَحَ ّ
لّ وا ْل َيوْمِ الخ ِر و ُبعُوَل ُتهُ ّ
ُي ْؤمِنّ بِا ِ
379
ن يَخَافَا
شيْئاً إلّ أَ ْ
ن تَأْخُذُوا ِممّا آ َت ْي ُتمُوهُنّ َ
ل َلكُمْ أَ ْ
ل يَحِ ّ
بِالم ْعرُوفِ} [البقرة ]228 :إلى أن قال{ :وَ َ
ت به} [البقرة:
عَل ْي ِهمَا فِيمَا افتَ َد ْ
جنَاحَ َ
ل يُقِيمَا حُدُودَ الّ فَلَ ُ
ل يُقِيمَا حُدُودَ الِّ فَإنْ خِ ْفتُ ْم أَنْ َ
أَنْ َ
طلّ َقهَا،
]229وهذا فى حق الحرائر دون الماء ،فإن افتدا َء المة إلى سيدها ،ل إليها ثم قال{ :فَإنْ َ
جعَا} [البقرة،]230 :
عَل ْي ِهمَا أَنْ َي َترَا َ
جنَاحَ َ
طلّقَها فَلَ ُ
غ ْي َرهُ فَإنْ َ
ح َزوْجاً َ
حتّى َت ْنكِ َ
ن َبعْدُ َ
ل لَ ُه مِ ْ
ل تَحِ ّ
فَ َ
فجعل ذلك إليهما ،والتراجع المذكور فى حق المة ،وهو العقد ،إنما هو إلى سيدها ،ل إليها،
ن ِم ْنكُم
بخلف الحرة ،فإنه إليها بإذن وليها ،وكذلك قوله سبحانه فى عدة الوفاة{:وَالّذِينَ ُي َتوَ ّفوْ َ
عَل ْيكُمْ فِيمَا َف َعلْنَ
جنَاحَ َ
جَلهُنّ فَلَ ُ
ش ُه ٍر وَعَشْراً فَإذَا َبَلغْنَ أَ َ
ن َأ ْر َبعَةَ أَ ْ
سهِ ّ
ن بَِأنْفُ ِ
ن َأ ْزوَاجًا َي َت َربّص َ
ويَذرُو َ
سهِنّ بِالم ْعرُوفِ} [البقرة ،]234 :وهذا إنما هو فى حق الحرة ،وأما المة ،فل فعل لها فى
فى َأنْفُ ِ
نفسها البتة ،فهذا فى العدة الصلية .وأما عدة الشهر ،ففرع وبدل .وأما عدة وضع الحمل،
ل صلى ال عليه وسلم ،والتابعون ،وعمل به
فيستويان فيها ،كما ذهب إليه أصحابُ رسولِ ا ّ
ل فى تنصيف الحدّ عليها ،ول يعرف فى الصحابة
المسلمون ،وهو محض الفقه ،وموافق لكتاب ا ّ
ل أولى من َفهْ ِم مَنْ شَ ّذ عنهم
ل صلى ال عليه وسلم عن ا ّ
مخالف فى ذلك ،و َفهْمُ أصحابِ رسولِ ا ّ
ل التوفيق.
من المتأخّرين ،وبا ّ
حرّة والمة فى العِدّة عن أح ٍد من السلف إل عن محمد ابن
ول تعرف التسوية بين ال ُ
ل به على عدم
سيرين ،ومكحول .فأما ابنُ سيرين ،فلم يَجزِ ْم بذلك ،وأخبر به عن رأيه ،وعلّق القو َ
سنّة ُت ّتبَعُ .وأما قول مكحول ،فلم يذكر له سنداً ،وإنما حكاه عنه أحمد رحمه الّ ،وهو ل يقبل عند
ُ
ق على عدم
أهل الظاهر ،ول يصح ،فلم يبق معكم أحد من السلف إل رأىُ ابنِ سيرين وحدَه المعلّ ُ
ل عنه فى ذلك ُم ّت َبعَةُ ،ولم يخالفه فى ذلك
سنّةَ عم َر بنِ الخطاب رضى ا ّ
سُن ٍة ُمتّبعةٍ ،ول ريب أن ُ
ل أعلم.
أحد من الصحابة رضى الّ عنهم ،وا ّ
لمّة ،وقد صحّ عن عمرَ
فإن قيل :كَيفَ تَدّعُون إجماع الصحابة وجماهير ا ُ
ل عنه ،أن عِ ّد َة المَ ِة التى لم تبل ْغ ثلثةُ أشهر ،وصح ذلك عن عمرَ بنِ عبد
بنِ الخطاب رضى ا ّ
سعْ ٍد والزهرى ،وبكر ابنِ الشجّ ،ومالكٍ،
العزيز ،ومجاهدِ والحسنِ ،وربيعةَ ،والليثِ بن َ
وأصحابه ،وأحم َد بنِ حنبلٍ فى إحدى الروايات عنه ومعلوم أن الشهر فى حق اليسة والصغيرة
بَدَلٌ عن الَقراء الثلث ،فدل على أن بَدَلها فى حقها ثلثةٌ.
فالجواب :أن القائلين بهذا هم بأنفسهم القائلون :إن عِدّتها حيضتان وقد أَ ْفنُوا بهذا ،وهذا،
ولهم فى العتداد بالشهر ثلثةُ أقوال ،وهى للشافعى ،وهى ثلث روايات عن أحمد .فأكثر
380
الرواياتِ عنه أنها شهران ،رواه عنه جماعة من أصحابه ،وهو إحدى الروايتين عن عم َر بنِ
الخطاب رضى الّ عنه ،ذكرها الثرم وغيره عنه.
وحج ُة هذا القول :أن عِدّتها بالقراء حيضتان ،فجعل كل شهر مكان حيضةٍ.
ى بنِ
والقول الثانى :أن عِدّتها شه ٌر ونصف ،نقلها عنه الثرم ،والميمونى ،وهذا قول عل ّ
ن المسيّب ،وأبى حنيفة ،والشافعىّ فى أحد أقواله .وحجته :أن التنصيف
ن عمر ،واب ِ
أبى طالب ،واب ِ
حرِ َم إذا وجبَ عليه فى جزاء
فى الشهر ممكن ،فتنصفت ،بخلف القروء .ونظير هذا :أن المُ ْ
الصيد نصفَ مدّ أخرجه ،فإن أراد الصيام مكانه ،لم يجزه إل صوم يومٍ كاملٍ.
والقول الثالث :أنّ عِدّتها ثلثةُ أشه ٍر كواملَ ،وهو إحدى الروايتين عن عمر رضى الّ
عنه ،وقول ثالث للشافعى :وهو فيمن ذكرتموه.
والفرق عند هؤلء بين اعتدادها بالقراء ،وبين اعتدادها بالشهور ،أن العتبار بالشهور
للعلم ببراءة رحمها ،وهو ل يحصل بدون ثلثة أشهر فى حق الحرة والمة جميعاً ،لن الحمل
طوْر الثالث الذى يمكن أن
يكون نُطف ُة أربعين يوماً ،ثم عَلق ًة أربعين ،ثم ُمضْغةً أربعين ،وهو ال ّ
علَم
يظهر فيه الحمل ،وهو بالنسبة إلى الحرة والمة سواء ،بخلف القراء ،فإن الحيضة الواحدة َ
جتْ فقد أخذت شَبهًا من الحرائر،
ق المملوكة ،فإذا ُزوّ َ
ظاهر على الستبراء ،ولهذا اكتفى بها فى حَ ّ
ف من ملك اليمين ،فجعلت عِ ّدتُها بين العدتين.
وصارت أشر َ
قال الشيخ فى ((المغنى)) :ومن ر ّد هذا القول ،قال :هو مخالف لجماع الصحابة ،لنهم
ل ّوَليْن ،ومتى اختلفوا على قولين ،لم يجز إحداث قول ثالث ،لنه يفضى إلى
اختلفوا على القولين ا َ
تخطئتهم ،وخروجِ الحق عن قول جميعهم .قلت :وليس فى هذا إحداثُ قولٍ ثالثٍ ،بل هو إحدى
الروايتين عن عمر ،ذكرها ابن وهب وغيره ،وقال به من التابعين من ذكرناهم وغيرهم.
فصل
ن مِنَ
حضْ ،فقد بينها سبحانه فى كتابه فقال{ :وَاللّئى َيئِسْ َ
وأما عِدّة اليسةِ ،والتى لم تَ ِ
حضْنَ} [الطلق.]4 :
ش ُه ٍر واللّئى لَ ْم يَ ِ
لثَ ُة أَ ْ
ن نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُمْ َفعِ ّد ُتهُنّ ثَ َ
ض مِ ْ
المحِي ِ
وقد اضطرب الناس فى حدّه بخمسين سنة ،وقال :ل تحيض المرأة بعد الخمسين.
وهذا قول إسحاق ورواية عن أحمد رحمه الّ ،واحتج أرباب هذا القول بقول
حيّضِ .طائفةٌ بستّين سنةً ،وقالوا:
ل عنها :إذا بلغتْ خمسين سنةً ،خرجت من حَدّ ال ُ
عائشة رضى ا ّ
ض بعد الستين ،وهذه رواية ثانية عن أحمد .وعنه رواية ثالثة :الفرق بين نسا ِء العرب
ل تحي ُ
381
وغيرِهم ،فحدّه ستون فى نسا ِء العرب ،وخمسون فى نسا ِء العجم .وعنه رواية رابعة :أن ما بين
الخمسين والستين دم مشكوك فيه ،تصوم وتصلّى ،وتَقْضى الصو َم المفروضَ ،وهذه اختيار
خرَقىّ .وعنه رواية خامسة :أن الدم إن عاود بعد الخمسين وتكرر ،فهو حيض ،وإل فل.
ال ِ
وأما الشافعى رحمه الّ ،فل نص له فى تقدير الياس بمدة ،وله
قولن بعدُ .أحدهما :أنه ُي ْعرَف بيأس أقاربِها .والثانى :أنه يعتبر بيأس جميع النساء ،فعلى القول
صبَاتِها ،أو نساء بلدِهَا خاصة؟ فيه ثلثة أوجه ،ثم إذا
ع َ
الول :هل المعتبر جميعُ أقاربها ،أو نساءُ َ
قيل :يعتبر بالقارب ،فاختلفتْ عادتُهن ،فهل يعتبر بأقَلّ عاد ٍة منهن ،أو بأكثرهن عادةً ،أو بأقصرِ
امرأة فى العالم عادةً؟ على ثلثة أوجه .والقول الثانى للشافعى رحمه الّ :أن المعتبر جميعُ النساء.
ثم اختلف أصحابه :هل لذلك حَدّ ،أم ل؟ على وجهين .أحدهما :ليس له حَدّ ،وهو ظاهر َنصّه.
والثانى له حَدّ ،ثم اختلفوا فيه على وجهين .أحدهما :أنه ستون سنة ،قاله أبو العباس بن القاص،
سنَةً ،قاله الشيخ أبو إسحاق فى ((المهذب)) ،وابن الصبّاغ
والشيخ أبو حامد .والثانى :اثنان وستون َ
فى ((الشامل)).
وأما أصحاب مالك رحمه الّ ،فلم يَحُدّوا سِنّ الياس بحدّ
البتة.
وقال آخرون ،منهم شيخ السلم ابن تيمية :اليأس يختلف بإختلف النساء ،وليس له حَدّ
َيتّفِقُ فيه النساء .والمراد بالية ،أن يأس كل امرأة من نَفْسها ،لن اليأسَ ضِدّ الرجاء ،فإذا كانت
المرأة قد يئست من الحيض ،ولم ترجُهُ ،فهى آيسةٌ ،وإن كان لها أربعون أو نحوها ،وغيرها ل
تيأس منه وإن كان لها خمسون.
سنَ َة إل عربيةٌ ،ول َتلِدُ
وقد ذكر الزبير بن َبكّار :أن بعضهم قال :ل َتلِدُ لخمسين َ
ل ابن ربيعة ،ولدت موسى بن عبد الّ
سنَةً إل قرشيّةُ .وقال :إن هن َد بنتَ أبى عُبيدة بن عبد ا ّ
لسّتين َ
بن حسن بن حسن بن على بن أبى طالب رضى الّ عنهم ولها ستون سنة .وقد صح عن عمر بن
ح ْيضَتين ،ثم يرتفع حيضها ل تدرى
ح ْيضَ ًة أو َ
طلّقت ،فحاضت َ
ل عنه فى امرأة ُ
الخطاب رضى ا ّ
ت ثلثَة أشهر .وقد وافقه
حمْل ،وإل اعت ّد ْ
ما ر َفعَ ُه أنها تتربّص تسع َة أشهر ،فإن استبان بها َ
الكثرون على هذا ،منهم مالك ،وأحمد ،والشافعى فى القديم .قالوا :تتربّص غالب مدة الحمل ،ثمّ
ل للزواج ولو كانت بنت ثلثين سنةً ،أو أربعين ،وهذا يقتضى أن عم َر بن
تعتدّ عِدّة اليسةِ ،ثم تَحِ ّ
خَلفِ ،تكون المرأةُ آيسةً عندهم قبل الخمسين،
سَلفِ وال َ
ل عنه ،ومن وافقه من ال ّ
الخطاب رضى ا ّ
382
وقبل الربعين ،وأن اليأس عندهم ليس وقتاً محدوداً للنساء ،بل مثل هذه تكون آيس ًة وإن كانت بنت
ثلثين ،وغيرُها ل تكون آيس ُة وإن بلغت خمسين .وإذا كانوا فيمن ارتفع حيضُها ول تدرى ما
رَ َفعَهُ ،جعلوها آيس ًة بعد تسعة أشهر ،فالتى تدرى ما رَ َفعَهُ إما بدواءٍ يعلم أنه ل يعودُ َمعَهُ ،وإما
بعادةٍ مستق ّرةٍ لها من أهلها وأقاربها أولى أن تكون آيسةً .وإن لم تبلغ الخمسين ،وهذا بخلف ما إذا
ارتفع لمرض ،أو رضاع ،أو حمل ،فإن هذه ليست آيسةً ،فإن ذلك يزول.
س معلوم متيقّنٍ ،بأن تنقطع عاماً بعد
فالمراتب ثلثة .أحدها :أن ترتفعَ ِليَأ ٍ
عام ،ويتكرّر انقطاعه أعواماً متتابعة ،ثم يطلّق بعد ذلك ،فهذه تتربص ثلثة أشهر بنص القرآن،
ل أو أكثرَ ،وهى أولى بالتربّص بثلثة أشهر من التى حكم فيها
ت أربعين أو أق ّ
سواء كانت بن َ
ت وهى حائض ،ثم
طلّق ْ
الصحابة والجمهور بتربّصِها تسعة أشهر ثم ثلثة ،فإن تلك كانت تحيض و ُ
ب مدةِ
ارتفع حيضُها بعد طلقها ل تدرى ما رَ َفعَه ،فإذا حكم فيها بحكم اليساتِ بعد انقضاءِ غال ِ
الحمل ،فكيف بهذه؟ ولهذا قال القاضى إسماعيل فى ((أحكام القرآن)) :إذا كان الُّ سبحانه قد ذكر
لثَةُ
ن ثَ َ
ن نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُم َفعِ ّد ُتهُ ّ
ض مِ ْ
ن مِنَ المحِي ِ
اليأسَ مع الرّيبة ،فقال تعالى{ :واللّئى َيئِسْ َ
ش ُهرٍ} [الطلق:
أَ ْ
ل عنه لفظ موافق لظاهر القرآن ،لنه قال :أيّما امرأةٍ
،]4ثم جاء عن عمرَ بن الخطاب رضى ا ّ
ح ْيضَة ،أو حيضتين ،ثم ارتفعتْ حيضتُها ل تدرى ما رَ َف َعهَا ،فإنها تنتظر تسعة
طلّ َقتْ فحاضت َ
ُ
ح ْيضَة ،كان موضع الرتياب ،فحكم
أشهر ،ثم تعت ّد ثلث َة أشهر .فلما كانت ل تدرى ما الذى رَفَعَ ال َ
ل يطلّقُ امرأت ُه تطليقةً أو
فيها بهذا الحكم ،وكان اتّباع ذلك ألزَم وأولى من قول من يقول :إن الرج َ
سنَ ًة معت ّدةً ،وإن جاءت بولد لكثر من
تطليقتين ،فيرتفع حيضُها وهى شابّةٌ :أنها تبقى ثلثين َ
ج ِمعِينَ على أن
ضوْا ،لنهم كانوا مُ ْ
سنتين ،لم يلزمْهُ ،فخالف ما كان من إجماع المسلمين الذى َم َ
ت المرأةُ فى ع ّدتِها ،فكيف يجوزُ أن يقولَ قائلٌ :إن الرجل يطلّق امرأتَهُ
الولدَ يلحق بالبِ ما دام ِ
تطليقَةً أو تطليقتين ،ويكون بينها وبين زوجها أحكامُ الزوجات ما دامتْ فى عِ ّدتِها من الموا َرثَةِ
ج ِعَلتْ من الدخول الذى يكون منه
وغيرها؟ فإن جاءت بولد لم َيلْحَقْه ،وظاهر عِدّة الطلقِ َأنّها ُ
الولدُ ،فكيف تكونُ المرأة مُعت ّد ًة والولد ل يلزم؟
قلت :هذا إلزام منه لبى حنيفة ،فإن عنده أقصر مدة الحمل سنتان ،والمرتابةُ فى أثناءِ
عِ ّدتِها ل تزال فى عِ ّدةٍ حتى تبلغَ سِنّ الياسِ ،فتعت ّد به ،وهو يلزم الشافعى فى قوله الجديد سواء،
إل أن مدةَ الحملِ عنده أربعُ سنينَ .فإذا جاءت به بعدَها لم َيلْحَقْهُ ،وهى فى عِ ّدتِها منه .قال القاضى
383
س يكون بعضُه أكثرَ من بعض ،وكذلك القنوطُ ،وكذلك الرجاءُ ،وكذلك الظن ،ومثل
إسماعيل واليأ ُ
هذا َيتّسع الكلم فيه ،فإذا قيل منه شىء ،أُنزل على قدر ما يظهر من المعنى فيه ،فمن ذلك أن
ت من مريضى ،إذا كان الغلب عنده أنه ل يبرأُ ويئست من غائبى إذا كان
س ُ
النسان يقولُ :قد َيئِ ْ
الغلب عنده أنه ل يَقْدمُ ،ولو قال :إذا مات غائبهُ ،أو مات مريضُه :قد يئستُ منه ،لكان الكلمُ عند
ت وَجِلً فى
جهِهِ ،إل أن يتبيّن معنى ما قصد له فى كلمه ،مثل أن يقول :كن ُ
الناس على غيرِ وَ ْ
ت وقع اليأس ،فينصرف الكلمُ على هذا وما أشبهه ،إل أن أكثر ما
مرضه مخافة أن يموت ،فلما ما َ
يلفظُ باليأس إنما يكون فيما هو الغلبُ عند اليأس أنه ل يكون ،وليس واحد من اليائس والطامع
ل َيرْجُونَ
يعلم يقينًا أن ذلك الشىءَ يكون أو ل يكون ،وقال الّ تعالى{ :وَال َقوَاعِ ُد مِن النّسَا ِء اللّتى َ
ت ِبزِينَةٍ} [النور ،]60 :والرجاء ضِدُ
غ ْي َر ُمتَبرّجَا ٍ
ضعْنَ ِثيَا َبهُنّ َ
ن َي َ
جنَاحٌ أَ ْ
عَل ْيهِنّ ُ
ِنكَاحاً َفَل ْيسَ َ
اليأسِ ،والقاعد ُة من النساءِ قد يمكن أن ُت َزوّجَ ،غير أن الَغلب عند الناس فيها أن الزواج ل
ن َبعْ ِدمَا َقنَطُوا} [الشورى ]28 :والقُنوط
ل ال َغ ْيثَ مِ ْ
يرغبون فيها .وقال الّ تعالى{ :وَ ُه َو الّذى ُي َنزّ ُ
خَلهُم حين تطاول إبطاؤه .وقال
شبْ ُه اليأسِ ،وليس يعلمون يقينًا أن المط َر ل يكون ،ولكن اليأس دَ َ
ِ
صرُنا} [يوسف ،]110 :فلما ذكرَ
ظنّو َأ ّنهُمْ قَد كُ ِذبُوا جَاءَهُمْ َن ْ
س الرّسُلُ وَ َ
س َتيَْأ َ
حتّى إذَا ا ْ
الّ تعالىَ {:
س من غير يقين استيقنوه ،لن
ل هم الذين استيأسوا كان فيه دليل على أنهم دخل قلوبَهم يأ ٌ
أن الرس َ
ن مِنْ
ن ُي ُؤمِ َ
ح أنّهُ لَ ْ
حىَ إلى نُو ٍ
اليقين فى ذلك إنما يأتيهم من عند الّ ،كما قال فى قصة نوحَ { :وأُو ِ
ل َت ْب َت ِئسْ ِبمَا كَانُوا يَ ْف َعلُون} [هود ]36 :وقال الّ تعالى فى قصة إخوة
ل مَنْ قَ ْد آمَنَ فَ َ
َق ْو ِمكَ إ ّ
جيّاً} [يوسف ،]80 :فدل الظاهر على أن يَأسَهم ليس بيقين،
خَلصُوا نَ ِ
س َتيْأَسُوا ِمنْهُ َ
يوسفَ { :فَلمّا ا ْ
وقد حَدّثنا ابن أبى ُأ َويْس ،حدثنا مالك ،عن هشام بن عروة ،عن أبيه ،أن عمر بن الخطاب رضى
الّ عنه كان يقول فى خطبتهَ :ت ْعَلمُنّ أيّها الناس :أن الطمع فَقْر ،وأن اليأسَ غِنى ،وأن المرء إذا
يئس من شىء ،استغنى عنه .فجعل عمر اليأس بإزاء الطمع ،وسمعت أحمد بن المعدّل يُنشد شعراً
لرجل من القدماء يصف ناقة:
ظبْى فى ال ِكنَاسِ
صيّرتُها كَال ّ
َ ن َتلْدِ َبنِى ال َعبّاس
صَ ْفرَا ُء مِ ْ
طمَ ٍع وَياسِ
س َبيْـنَ َ
فَالنّ ْف ُ لبْسَاس
سمَ َع بِا ِ
تَ ِدرّ أن تَ ْ
فجعل الطمع بإزاء اليأس.
وحدثنا سليمان بن حرب ،حدثنا جرير بن حازم ،عن العمش ،عن سلّم بن شُرحبيل ،قال:
ى صلى ال عليه وسلم ،قال :علّمنا شيئاً ،ثم قال:
حبّةَ بن خالد ،وسواء بن خالد ،أنهما أتيا النب ّ
سمع َ
384
ش َرةٌ ثُ ّم َي ْرزُقُهُ الّ
عَليْهِ قِ ْ
ح َم َر َليْسَ َ
عبْ ٍد يُولَ ُد أَ ْ
سكُما فَإنّ كُلّ َ
ت ُرؤُو ُ
خ ْي ِر مَا َت َهزْ َه َز ْ
((لَ َتيْأَسا مِنَ ال َ
ن عبد الملك لبى حازم :يا أبا
و ُيعْطيه)).وحدثنا على بن عبد الّ ،حدثنا ابنُ عُيينة ،قال :قال هشا ُم ب ُ
حازِم ،ما مالُك .قال :خيرُ مالٍ ثقتى بالّ ،ويأسى مما فى أيدى الناس .قال :وهذا أكثر من أن
يحصى ،انتهى.
ض وإن بلغت ،وفيهن
ن مَنْ ل تحي ُ
قال شيخنا :وليس للنساء فى ذلك عادة مستمرة ،بل فيه ّ
ض فى السنة مرةً ،ولهذا اتفق العلماء على
من تَحيضُ حيضًا يسيراً يتباعد ما بين أقرائها حتى تحي َ
ن ُربُع
حضْ َ
حضْنَ كل شهر مرةً ،ويَ ِ
أن أكثر الطهر بين الحيضتين ل حدّ له ،وغالبُ النساء يَ ِ
الشهر ،ويكون طهرهُنّ ثلثةَ أرباعه .ومنهن من تطهر الشهور المتعددة ،لقلِة رطوبتها ،ومنهنّ
مَنْ يسرع إليها الجفاف ،فينقطع حيضها ،وتيأس منه وإن كان لها دون الخمسين ،بل والربعين.
سنّةِ
ومنهن من ل يسرع إليها الجفاف ،فتجاوز الخمسين وهى تحيض .قال :وليس فى الكتاب ول ال ّ
تحديدُ اليأس بوقت ،ولو كان المراد باليسة من المحيض مَنْ لها خمسون سنة أو ستون سنة أو
غير ذلك ،لقيل :واللئى يبلغن من السن كذا وكذا ،ولم يقل :يئسن .وأيضاً ،فقد ثبت عن الصحابة
ل عنهم أنهم جعلوا من ارتفع حيضُها قبل ذلك يائسةً ،كما تقدم .والوجود مختلف فى وقت
رضى ا ّ
ن غير متفِق ،وأيضاً فإنه سبحانه قال{ :واللّئى َيئِسْنَ} [الطلق ،]4 :ولو كان له وقت
سهِ ّ
يأ ِ
محدود ،لكانت المرأة وغيرها سواء فى معرفة يأسِهنّ ،وهو سبحانه قد خص النساء بأنهن اللئى
حضْنَ} [الطلق ]4 :فالتى تحيض ،هى التى َتيَْأسُ ،وهذا
يئسن ،كما خصهن بقوله{ :واللّئى لَمْ َي ِ
بخلف الرتياب ،فإنه سبحانه قال{ :إن ا ْر َت ْبتُم} [الطلق ،]4 :ولم يقل :إن ارتبن ،أى :إن ارتبتم
فى حُكمهنّ ،وشككتم فيه ،فهو هذا ل هذا الذى عليه جماعة أهل التفسير ،كما روى ابن أبى حاتم
فى تفسيره ،من حديث جرير ،وموسى بن أعْين ،واللفظ له ،عن مطّرف بن طريف ،عن عمرو بن
ى ابن كعب ،قال :قلت :يا رسول الّ ،إن ناسًا بالمدينة يقولون فى عِدَد النساء ما لم
سالم ،عن أُب ّ
يَ ْذكُر الّ فى القرآن الصغا َر والكبارَ وأولتِ الحمال ،فأنزل الّ سبحانه فى هذه السورة{ :واللّئى
حمَالِ
لتُ ال ْ
ن وأُو َ
حضْ َ
ش ُهرٍ وَاللّئى لَ ْم يَ ِ
لثَ ُة أَ ْ
ن ثَ َ
ن نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُمْ َفعِ ّد ُتهُ ّ
ض مِ ْ
َيئِسْنَ مِنَ المحِي ِ
ح ْمَلهُنّ} [الطلق ]4 :فأجَلُ إحداهن أن تضعَ حملها ،فإذا وضعتْ ،فقد قضتْ
ضعْنَ َ
ن َي َ
جُلهُنّ أَ ْ
أَ َ
ل المَدينَةِ َلمّا نَزلت هذه الية التى فى البقرة
ن أه ِ
ع ّدتَها .ولفظ جرير :قلت :يا رسول الّ ،إن ناسًا مِ ْ
ن فى القرآنِ ،الصغارُ والكبا ُر التى قد
في عِدّة النساء ،قالوا :لقد بقى من عِدَدِ النساء عِدَ ٌد لم يُ ْذ َكرْ َ
ن مِنَ
انقطع عنها الحيض ،وذواتُ الحمل ،قال :فأُنزلت التى فى النساء القُصرى{ ،واللّئى َيئِسْ َ
385
ن نِسا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُم} [الطلق ]4 :ثم روى عن سعيد بن جبير فى قوله{ :واللّئى َيئِسْنَ
ض مِ ْ
المحِي ِ
ض مِنْ نِسا ِئكُم} [الطلق ]4 :يعنى اليس َة العجو َز التى ل تحيض ،أو المرأة التى َقعَ َدتْ
مِنَ المحِي ِ
عن الحيضة ،فليست هذه من القُروء فى شىء .وفى قوله{ :إن ا ْر َتبْتُمُ} [الطلق ]4 :فى الية يعنى
إن شككتم ،فع ّدتُهن ثلث ُة أشهر ،وعن مجاهد{ :إن ا ْر َت ْبتُم} [الطلق ]4 :لم تعلموا عِدّة التى َقعَ َدتْ
عن الحيض ،أو التى لم َتحِض ،فعدتُهن ثلثةُ أشهر .فقوله تعالى{ :إن ا ْر َتبْتم} [الطلق،]4 :
ح ْك َمهُنّ ،وشككتم فيه ،فقد بيناه لكم ،فهو بيان لنعمته على
يعنى :إن سألتم عن حكمهن ،ولم تعلموا ُ
من طلب عليه ذلك ،ليزول ما عنده من الشك وال ّريْب ،بخلف ال ُم ْعرِض عن طلب العلم .وأيضاً،
فإن النساء ل يستوين فى ابتداء الحيض ،بل منهن من تَحيض لعشر أو اثنتى عشرة ،أو خمس
عشرة ،أو أكثر من ذلك ،فكذلك ل يستوين فى آخر سِنّ الحيض الذى هو سِنّ اليأسِ ،والوجود
حوْل كالتى
شاهد بذلك .وأيضاً ،فإنهم تنازعوا فيمن بلغت ولم تَحِضْ ،هل تعتد بثلثة أشهر ،أو بال َ
ارتَفَع حيضُها ل تدرى ما رَ َفعَه؟ وفيه روايتان عن أحمد.
قلت :والجمهور على أنها تعتد بثلثة أشهر ،ولم يجعلوا للصّغر الموجب للعتداد بها حداً،
فكذلك يجب أن ل يكون لل ِكبَ ِر الموجِب للعتداد بالشهر حداً ،وهو ظاهر ،ولّ الحمد.
فصل
ل عليه عمومُ
وأما عِدةُ الوفاة ،فتجبُ بالموت ،سواءٌ دخل بِها ،أو لم يدخُل اتفاقاً ،كما د ّ
ل الدخول ،وعلى أن الصّداقَ يست ِقرّ إذا كان مسمّى،
القرآن والسنة ،واتفقوا على أنهما يتوارثان قب َ
لن الموتَ لما كان انتهاء العقدِ استقّرت به الحكام فتوارثا ،واستقر المَهر ،ووجبت العِدة.
واختلفوا فى مسألتين إحداهما :وجوبُ مه ِر المثل إذا لم يكن مسمّى ،فأوجبه أحمدُ
وأبو حنيفة ،والشافعى فى أحد قوليه ،ولم يُوجبه مالك والشافعى فى القول الخر ،وقضى بوجوبه
ل صلى ال عليه وسلم ،كما جاء فى السنة الصحيحة الصريح ِة مِن حديث َب ْروَع بنت
رسولُ ا ّ
ج ِرىَ مجرى الدّخولِ
واشق وقد تقدم .ولو لم ترد به السنةُ ،لكان هو محض القياس ،لن الموتَ ُأ ْ
فى تقرير المسمى ،ووجوبِ العدة.
والمسألة الثانية :هل يثبت تحري ُم الربيبة بموتِ الم ،كما يثبت بالدخول بها
وفيه قولن للصحابة ،وهما روايتان عن أحمد.
والمقصود :أن العدة فيه ليست للعلم ببراءة الرحم ،فإنها تجب قبلَ الدخولِ ،بخلف عدة
الطلق.
386
وقد اضطرب الناسُ فى حكمة عدة الوفاة وغيرها ،فقيل :هى لبراءة الرحم ،وأُورِدَ
على هذا القول وجوه كثيرة.
منها :وجوبُها قبل الدخول فى الوفاة ،ومنها :أنها ثلث ُة قروء ،وبراءةُ الرحم يكفى فيها
حيضة ،كما فى المستبرأة ،ومنها :وجوب ثلثة أشهر فى حق من يُقطع ببراءة رحمها لصغرها أو
لكبرها.
ومن الناس من يقول :هو تعبد ل يُعقل معناه ،وهذا فاسد لوجهين:
أحدهما :أنه ليس فى الشريعة حكم إلّ وله حِكمة وإن لم يعقلها كثيرٌ من الناس أو أكثرهم.
الثانى :أن العدد ليست من العبادات المحضة ،بل فيها من المصالح رعاية حق الزوجين
والولد والناكح.
قال شيخنا :والصواب أن يُقال :أما عِدة الوفاة فهى حرم لنقضاء النكاح ،ورعاية
لحق الزوج ،ولهذا تَح ّد المتوفى عنها فى عدة الوفاة رعاية لحق الزوج ،فجعلت العِدة حريماً لحق
هذا العقد الذى له خطر وشأن ،فيحصُل بهذه فصل بين نكاح الول ونكاح الثانى ،ول يتصل
ل صلى ال عليه وسلم لما عظم حقه ،حرم نساؤُه بعده ،وبهذا
الناكحان ،أل ترى أن رسولَ ا ّ
اختص الرسول ،لن أزواجه فى الدنيا هنّ أزواجُه فى الخرة بخلف غيره ،فإنه لو حرم على
المرأة أن تتزوج بغيرِ زوجها ،تضررت المتوفى عنها ،وربما كان الثانى خيراً لها من الول.
ولكن لو تأيمت على أولد الول ،لكانت محمودة على ذلك ،مستحبًا لها ،وفى الحديث ((أنا وا ْمرَأةٌ
صبٍ
ت َم ْن ِ
جهَا ذَا ُ
سَ ْفعَاءُ الخ ّديْنِ ،كهَا َتيْنِ َيوْ َم ال ِقيَامَةِ ،وأوما بالوسطى والسّبابة ،ا ْمرَأةٌ آمت مِنْ َزوْ ِ
حتّى بَانُوا أو ماتُوا)).
سهَا عَلى َيتَامى َلهَا َ
ت نَفْ َ
س ْ
حبَ َ
جمَالٍ ،و َ
وَ
ل مِن مدة تتر ّبصُها ،وقد كانت فى الجاهلية
وإذا كان المقتضى لتحريمها قائماً ،فل أق ّ
تتربّصُ سنة ،فخففها الّ سبحانه بأربعةِ أشهر وعشر ،وقيل لسعيد ابن المسيب :ما بال العشر؟
قال :فيها يُنفخ الروح ،فيحصل بهذه المدة براءةَ الرحم حيث يحتاج إليه ،وقضا ُء حق الزوج إذا لم
يحتج إلى ذلك.
فصل
وأما عِدة الطلق ،فهى التى أشكلت ،فإنه ل يُمكن تعليلُها بذلك ،لنها إنما تجب بعد
صفُ فيه المسمى ،ويسقط فيه مهرُ المثل.
المسيس ،ولن الطلقَ قطع للنكاح ،ولهذا يتن ّ
387
ل الموفق للصواب عِدة الطلق وجبت ليتمكن الزوجُ فيها من الرجعة ،ففيها
فيقال _:وا ّ
ق للزوج ،وحق لّ ،وحق للولد ،وحق للناكح الثانى .فحق الزوجِ ،ل َي َت َمكّن من الرجعة فى العدة،
حّ
ص عليه سبحانه ،وهو منصوصُ أحمد ،ومذهب أبى
وحق الِّ ،لوجوب ملزمتها المنزل ،كما ن ّ
حنيفة .وحق الولد ،لئل َيضِيعَ نسبه ،ول يُدرى لى الواطئين .وحقّ المرأة ،لما لها من النفقة زمن
العدة لكونها زوجة َت ِرثُ وتورث ،ويدل على أن العدة حق للزوج قوله تعالى{ :يا َأيّها الّذِينَ آ َمنُوا
عَل ْيهِنّ مِنْ عِ ّد ٍة َتعْتدّو َنهَا} [الحزاب]49 :
ل أَنْ َتمَسّوهُنّ َفمَالكُمْ َ
طلّ ُقتُموهُنّ َقبْ ِ
ت ثُمّ َ
حتُم المؤ ِمنَا ِ
إِذَا نكَ ْ
فقوله :فما لكم عليهن من عدة ،دليل على أن العدة للرجل على المرأة ،وأيضاً فإنه سبحانه قال:
ق بردّها فى العدة ،وهذا
ق ِبرَدّهِنّ فى ذَلك} [البقرة ]228 :فجعل الزوج أح ّ
ن أَحَ ّ
{ َو ُبعُوَل ُتهُ ّ
ظ َر فى أمره :هل
ص لِينْ ُ
حق له .فإذا كانت العِدة ثلثَة قُروء ،أو ثلثة أشهر ،طالت مد ُة الترب ِ
ص أربع ِة أشهر لينظر فى أمره :هل يُمسك
يُمسكها ،أو يُسرحها كما جعل سبحانه لل ُمؤْلى تربّ َ
ويَفىء ،أو يُطلق ،وكان تخييرُ المطلق كتخيير المؤلى ،لكن المُؤلى جعل له أربعة أشهر ،كما جعل
مدة التسيير أربعةَ أشهر ،لينظروا فى أمرهم.
ن أَنْ
ل َت ْعضُلُوهُ ّ
جَلهُنّ فَ َ
طلّ ْقتُم النّسَاءَ َف َبَلغْنَ أ َ
ومما يُبين ذِلكَ ،أنه سبحانه قال{ :وإذا َ
ضوْا َب ْي َنهُم بالم ْعرُوفِ} [البقرة ]232 :وبلوغُ الجل :هو الوصولُ
ن إذَا َترَا َ
جهُ ّ
ن أ ْزوَا َ
َي ْنكِحْ َ
سكُوهُنّ
جَلهُنّ فَأمْ ِ
والنتهاء إليه ،وبلوغُ الجل فى هذه الية مجاوزتُه ،وفى قوله{ :فإذا بَلغْنَ أَ َ
ِب َم ْعرُوفٍ} [الطلق ،]2 :مقاربتُه ومشارفته ،ثم فيه قولن ،أحدهما :أنه ح ّد مِن الزمان ،وهو
الطعنُ فى الحيضة الثالثة ،أو انقطاع الدم منها ،أو من الرابعة ،وعلى هذا ،فل يكون مقدوراً لها،
ل للزوج
وقيل :بل هو فعلُها ،وهو الغتسالُ كما قاله جمهو ُر الصحابة ،وهذا كما أنه بالغتسال يَحِ ّ
وطوءها ،ويحل لها أن تمكنه من نفسها.
فالغتسالُ عندهم شرط فى النكاح الذى هو العقد ،وفى النكاح الذى هو
الوطء.
وللناس فى ذلك أربعةُ أقوال:
ن يقولُ مِن أهل الظاهر.
أحدهما :أنه ليس شرطاً ،ل فى هذا ،ول فى هذا ،كما يقولُ ُه مَ ْ
والثانى :أنه شرطٌ فيهما ،كما قاله أحمد ،وجمهورُ الصحابة كما تقدّم حكايته عنهم .والثالث:
أنه شرطٌ فى نكاح الوطء ،ل فى نكاح العقد ،كما قاله مالك والشافعى .والرابع :أنه شرط فيهما ،أو
ت صلة ،وانقطاعه لكثر ،كما يقوله أبو حنيفة فإذا
ما يقومُ مقامه ،وهو الحكمُ بالطهر بمضى وق ِ
388
ارتجعها قبلَ غسلها ،كان غسلها ،لجل وطئه لها ،وإلّ كان لجل حِلها لغيره ،وبالغتسال يتحقق
ط ّهرْنَ ف ْأتُوهُنّ مِنْ
ط ُهرْنَ فَإذا تَ َ
حتّى يَ ْ
ل تَ ْق َربُوهُنّ َ
كمالُ الحيض وتمامُه ،كما قال الّ تعالى{ :وَ َ
ث َأمَركُم الّ} [البقرة ]222 :والّ سبحانه أمرها أن تتربّص ثلثَة قُروء ،فإذا مضت الثلثَةُ فقد
ح ْي ُ
َ
بلغت أجلها.
ج عند بلوغ
وهو سبحانه لم يقل :إنها عقيب القرءين َتبِينُ من الزوج ،خيّر الزو َ
ل عنهم ،أنه عند انقضاء
الجل بين المساك والتسريح ،فظاه ُر القرآن كما فهمه الصحابة رضى ا ّ
ج بين المساك بالمعروف ،أو التسريح بالحسان ،وعلى هذا فيكون بلوغ
القروء الثلثة يُخيّر الزو ُ
الجل فى القرآن واحدًا ل يكون قسمين ،بل يكون بإستيفاء المدة واستكمالها ،وهذا كقوله تعالى
جَلهُنّ فَلَ
ن أَ َ
ت َلنَا} [النعام ]128 :وقوله{ :فَإذَا َبَلغْ َ
ج ْل َ
جلَنا الّذى أَ ّ
إخباراً عن أهل النارَ {:و َبَلغْنَا أَ َ
ن بِالم ْعرُوفِ} [البقرة ]234 :وإنما حمل من قال :إن بلوغ الجل
عَل ْيكُم َفيَما َف َعلْنَ فى َأنْفُسِه ّ
جنَاحَ َ
ُ
هو مقارنته أنها بع ْد أن تَحِلّ للخطاب ل يبقى الزوجُ أحقّ برجعتها ،وإنما يكون أحقّ بها ما لم تحل
ل لِغيره أن يتزوج بها صار هو خاطباً من الخطاب ،ومنشأ هذا ظن أنها ببلوغ الجل
لغيره ،فإذا حَ ّ
لثَةَ قُروء ،وذكر أنها إذا
ل على هذا ،بل القرآن جعل عليها أن تتربص ث َ
ل لِغيره ،والقرآن لم يد ّ
تَحِ ّ
بلغت أجلها ،فإما أن تُمسك بمعروف ،وإما أن تُسرح بإحسان .وقد ذكر سبحانه هذا المساك
سرِيح بِإحْسانٍ} [البقرة:
ك ِب َم ْعرُوفٍ َأ ْوتَ ْ
ق َم ّرتَانِ فَإمْسَا ٌ
أوالتسريح عقيبَ الطلق،فقال{الطّل ُ
جهُنّ} [البقرة:
ن َأ ْزوَا َ
ن أَنْ َي ْنكِحْ َ
ضلُوهُ ّ
ل َت ْع ُ
جَلهُنّ فَ َ
طلّ ْقتُمُ النّساءَ َف َبَلغْنَ أَ َ
،]229ثم قال{ :وإذَا َ
،]232وهذا هو تزوّجُها بزوجها الول المطلق الذى كان أحقّ بها ،فالنهى عن عضلهن مؤكّدٌ
لحق الزوج ،وليس فى القرآن أنها بعد بلوغ الجل تَحِلّ للخُطاب ،بل فيه أنه فى هذه الحال ،إما أن
يُمسك بمعروف ،أو يُسرح بإحسان ،فإن سرح بإحسان ،حلت حينئذ للخُطاب ،وعلى هذا ،فدِللة
القرآن بينة أنها إذا بلغت أجلها وهو انقضاء ثلثة قروء بإنقطاع الدم ،فإِما أن يُمسكها قبل أن
تغتسِل ،فتغتسِل عنده وإما أن يُسرحها فتغتسل وتنكِحَ من شاءت ،وبهذا يُعرف قدرُ فهم الصحابة
ل عنهم ،وأن مَنْ بعدهم إنما يكون غايةُ اجتهاده أن يفهم ما فهموه ،ويعرف ما قالوه.فإن
رضى ا ّ
جعَها فى جميع هذه المدة ما لم تغتسِلْ ،فَلم َقيّد التخيير ببلوغ الجل؟ قيل:
قيل :فإذا كان له أن يرت ِ
ق الزوج ،والتربص :النتظار ،وكانت منتظرة،
ليتبين أنها فى مدة العِدة كانت متربصة لجل ح ّ
ن الفيئة
خيّر المُؤلى بي َ
هل يُمسكها أو يُسرحها؟ وهذا التخييرُ ثابت له مِن أول المدة إلى آخرها ،كما ُ
389
وعدم الطلق ،وهنا لما خيّره عند بلوغ الجل كان تخييرُه قبله أولى وأحرى ،لكن التسريح
بإحسان إنما يُمكن إذا بلغت الجل ،وقبل ذلك هى فى العدة.
وقد قيل :إن تسريحَها بإحسان مؤثرٌ فيها حين تنقضى العدة ،ولكن ظاهرُ
القرآن يدل على خلف ذلك ،فإنه سبحانه جعل التسريحَ بإحسان عند بلوغ الجل ،ومعلومٌ أن هذا
ت من أول المدة ،فالصوابُ أن التسريحَ إرسالُها إلى أهلها بعد بلوغ الجل ،ورفع يده
التركَ ثاب ٌ
عنها ،فإنه كان يمِلكُ حبسها مد َة العِدة بلغت أجلها فحينئذ إن أمسكها كان له حبسُها ،وإن لم يُمسكها
علَيهنّ
كان عليه أن يُسرحها بإحسان ،ويدل على هذا قولُه تعالى فى المطلقة قبل المسيسَ { :فمَا َلكُمْ َ
سرّحُوهُنّ سَراحاً جَميلً} [الحزاب ،]49 :فأمر بالسراح الجميل ول
مِنْ عِ ّد ٍة َت ْعتَدّونَها َف َم ّتعُوهُنّ و َ
عدة ،فَعلِمَ أن تخلية سبيلها إرسالُها ،كما يقال :سرّح الماء والناقة :إذا مكنها مِن الذهاب ،وبهذا
الطلق والسراح يكونُ قد تم تطليقُها وتخليتُها ،وقبل ذلك لم يكن الطلق تاماً ،وقبل ذلك كان له
أن يُمسكها وأن يُسرحها ،وكان مع كونه مطلقاً ،قد جعل أحقّ بها مِن غيره مدة التربص ،وجعل
التربص ثلثة قروء لجله ،ويؤيّد هذا أشياء.
أحدُها :أن الشارع جعل عدة المختلِعة حيضة ،كما ثبتت به السنة ،وأقرّ به عثمان بن عفان،
وابن عباس ،وابن عمر رضى الّ عنهم ،وحكاه أبو جعفر النخاس فى ((ناسخه ومنسوخه)) إجماعَ
الصحابة ،وهو مذهب إسحاق ،وأحمد ابن حنبل فى أصح الروايتين عنه دليلً ،كما سيأتى تقريرُ
المسألة عن قرب إن شاء الّ تعالى .فلما لم يكن على المختلعة رجعة ،لم يكن عليها عِدة ،بل
استبراء بحيضة ،لنها لما افتدت منه ،وبانت ،ملكت نفسَها ،فلم يكن أحقّ بإمساكها ،فل معنى
لتطويل العدة عليها ،بل المقصودُ العلم ببراءة رحمها ،فيكفى مجرد الستبراء.والثانى :أن
المهاجرة مِن دار الحرب قد جاءت السنة بأنها إنما تُستبرأ بحيضة ،ثم تزوج كما سيأتى.
الثالث :أن الّ سبحانه لم يشرعْ لها طلقاً بائناً بعد الدخول إل الثالثة ،وكل طلق فى القرآن
سواها فرجعى ،وهو سبحانه إنما ذكر القروء الثلثة فى هذا الطلق الذى شرعه لهذه الحكمة .وأما
المفتدية ،فليس افتداؤها طلقاً ،بل خلعًا غير محسوب من الثلث ،والمشروع فيه حيضة.
(يتبع)...
ض عليكم بصورتين.
فإن قيل :فهذا ينتقِ ُ @
إحداهما :بمن استوفت عدد طلقها ،فإنها تعتد ثلثةَ قروء ،ول يتمكن زوجُها مِن رجعتها.
390
الثانية :بالمخيرة إذا عتقت تحت حر أو عبد ،فإن عِدتها ثلثةُ قروء بالسنة ،كما فى السنن
ل عنهاُ :أ ِمرَت بريرة أن تعتدّ عِدة الحرة.
من حديث عائشة رضى ا ّ
وفى سنن ابن ماجهُ :أ ِمرَت أن تعت ّد ثلث حِيضٍ ول رجعة لزوجها عليها.
ب فيه التربصُ لجل رجع ِة الزوج ،بل
فالجواب :أن الطلق المحرّم للزوجة ل يج ُ
جعِلَ حريماً للنكاح ،وعقوبةً للزوج بتطويل مدة تحريمها عليه ،فإنه لو سوغ لها أن تتزوج بعد
ُ
مجرد الستبراء بحيضة ،لمكن أن يتزوّجها الثانى ويُطلقها بسرعتة ،إما على قصد التحليل أو
بدونه ،فكان تيسير عودها إلى المطلق ،والشارع حرمها عليه بعد الثالثة عقوبة له ،لن الطلق
ح مِنه قدر الحاجة ،وهو الثلثُ ،وحرّم المرأة بعد الثالثة حتى
الذى أَبغضُ الحلل إلى الّ ،إنما أبا َ
تنكِحَ زوجاً غيره ،وكان مِن تمام الحكمة أنها ل تنكِحُ حتى تتربص ثلثة قروء ،وهذا ل ضررَ
عليها به ،فإنها فى كل مرة من الطلق ل تنكح حتى تتربّص ثلثة قروء ،فكان التربصُ هناك
نظراً فى مصلحته ،لما لم يُوقع الثلث المحرمة ،وهنا التربصُ بالثلث مِن تمام عقوبته ،فإنه
عُو ِقبَ بثلثة أشياء :أن حرمت عليه حبيبتُه ،وجعل تربصها ثلثةَ قروء ،ولم يجز أن تعو َد إليه
حتى يحظى بها غيرُه حظو َة الزوج الراغب بزوجته المرغوب فيها ،وفى كل مِن ذلك عقوبة
علِ َم أنه بعد الثالثة ل تحِل له إل بعد تربص،
ل المكروه له ،فإذا ُ
مؤلمة على إيقاع البغيض إلى ا ّ
علِ َم أن
وتُزوج بزوج آخر ،وأن المر بيد ذلك الزوج ،ول بد أن تَذُوقَ عُسيلته ،ويذوقَ عُسيلتهاُ ،
المقصو َد أن ييأسَ منها ،فل تعود إليه إل بإختيارها ل بإختياره ،ومعلومٌ أن الزوجَ الثانى إذا كان
ح الذى شرعه الّ لعباده ،وجعله سبباً لمصالحهم فى المعاش والمعاد،
قد نكح نكح رغبة وهو النكا ُ
ك امرأته ،فل يصير لحد من
سُوسببًا لحصول الرحمة والوداد ،فإنه ل يُطلّقها لجل الول ،بل يُم ِ
الناس اختيارٌ فى عودها إليه ،فإذا اتفق فراقُ الثانى لها بموتٍ أو طلق ،كما يفترقُ الزوجان اللذان
هما زوجان ،أبيح للمطلّق الول نكاحُها ،كما يُباح للرجل نكاح مطلقة الرجل ابتداء ،وهذا أمر لم
يُحرّمه الّ سبحانه فى الشريعة الكاملة المهي ِمنَ ِة على جميع الشرائع ،بخلف الشريعتين قبلنا ،فإنه
ل للول أبداً .وفى شريعة النجيل ،قد
فى شريعة ال َتوْراة قد قيل :إنها متى تزوّجت بزوج آخ َر لم تَحِ ّ
قيل :إنه ليس له أن يُطلقها البتة ،فجاءت هذه الشريعةُ الكاملة الفاضلة على أكملِ الوجوه وأحسنها
وأصلحها للخلق ،ولهذا لما كان التحليلُ مباينًا للشرائع ُكلّها ،والعقل والفطرة ،ثبت عن النبىّ صلى
خبَر عن الّ
حلّل لَهُ)) .ولعنه صلى ال عليه وسلم لهما ،إما َ
ل والمُ َ
حلّ ِ
ن المُ َ
ال عليه وسلم(( :لَع ُ
ل على تحريمه ،وأنه من الكبائر.
تعالى بوقوع لعنته عليهما ،أو دُعاء عليهما باللعنة ،وهذا يد ّ
391
والمقصود :أن إيجاب القُروء الثلث فى هذا الطلق مِن تمام تأكيد تحريمها على الول ،على أنه
ليس فى المسألة إجماع.
ب ((اليجاز)) وغيره ،إلى أن المطلقة ثلثاً
فذهب ابنُ اللبان ال َفرَضِى صاح ُ
ليس عليها غيرُ استبراء بحيضة ،ذكره عنه أبو الحسين بن القاضى أبى يعلى ،فقال مسألة :إذا طلق
الرجلُ امرأته ثلثاً بعدَ الدخول ،فعِدتها ثلثةُ أقراء إن كانت من ذوات القراء ،وقال ابن اللبان:
لثَةَ ُقرُوءٍ} [البقرة:
ن ثَ َ
سهِ ّ
ن بِأنْفُ ِ
ت َي َت َر ّبصْ َ
طلّقَا ُ
عليها الستبراء بحيضة ،دليلُنا قوله تعالى{ :وَالمُ َ
،]228ولم يقف شيخ السلم على هذا القول ،وعلق تسويغه على ثبوتِ الخلف ،فقال :إن كان فيه
ِنزَاعِ كان القولُ بأنه ليس عليها ،ول على المعتقة المخيّرة إل الستبراء قولً متوجهاً ،ثم قال:
ج إلى عدة بعد الطلقة الثالثة .قال :وهذا ل نعلم أحداً قاله.
ولزمُ هذا القول :أن اليسة ل تحتا ُ
وقد ذكر الخلف أبو الحسين ،فقال :مسألة :إذا طلّق الرجلُ زوجته ثلثاً ،وكانت ممن ل
ض لِصغر أو هرم ،فعِدتها ثلثةُ أشهر خلفاً لبن اللبان أنه ل عِدة عليها ،دليلنا :قولُه تعالى:
تحي ُ
حضْنَ}
ش ُه ٍر وَاللّئى لَمْ َي ِ
لثَ ُة أَ ْ
ض مِنْ نِسَا ِئكُم إن ا ْر َت ْبتُم َفعِ ّدتُهنّ ثَ َ
ن المَحِي ِ
ن مِ َ
{واللّئى َيئِسْ َ
[الطلق.]4 :
قال شيخنا :وإذا مضت السّنة بأن على هذه ثلثة أقراء ،لم يجز مخالفتُها ،ولو لم يجمع
ت قيس:
عليها ،فكيف إذا كانَ مع السنة إجماع؟ قال :وقولُه صلى ال عليه وسلم لِفاطمة بن ِ
عتَدّى)) ،قد فهم منه العلماء أنها تعتد ثلثة قروء ،فإن الستبراء قد يُسمى عِدة .قُلت :كما فى
((ا ْ
ن النّسَاءِ} [النساء]24 :
صنَاتُ مِ َ
ح َ
حديث أبى سعيد فى سبايا أوطاس ،أنه فسرقولَه تعالى{:والمْ ْ
بِالسبايا ،ثم قال :أى :فهن لكم حلل إذا انقضت عدتهن ،فجعل الستبراء عدة .قال :فأما حديثُ
ل عنهاُ :أ ِمرَت برير ُة أن تعتد ثلث حِيض ،فحديث منكر .فإذا مذهب عائشة رضى
عائشة رضى ا ّ
الّ عنها أن القراء الطهار.
قلتُ :ومن جَعل أن عِدة المختلعة حيضة ،فبطريق الولى تكونُ عِدة الفسوخ كلها
ق الطلق ،وأشبهُ به ل يجب فيه العتدادُ عنده بثلثة قروء،
عنده حيضة ،لن الخلع الذى هو شقي ُ
فالفسخ أولى ،وأحرى من وجوه.
أحدها :أن كثيرًا مِن الفقهاء يجعل الخلع طلقًا ينقص به عددُه ،بخلف الفسخ لرضاع
ونحوه.
392
الثانى :أن أبا ثور ومن وافقه يقولون :إن الزوج إذا رد العوض ،ورضيت المرأ ُة برده،
وراجعها ،فلهما ذلك بخلف الفسخ.
ع المرأة إلى زوجها فى عِدتها بعقد جديد ،بخلف الفسخ
الثالث :أن الخُلع يُمكن فيه رجو ُ
لِرضاع أو عَدد ،أو محرمية حيث ل يُمكن عودُها إليه ،فهذه بطريق الولى يكفيها استبراء
بحيضة ،ويكون المقصود مجر َد العِلم ببراءة رحمها ،كالمسبية والمهاجرة ،والمختلعة والزانية
على أصحّ القولين فيهما دليلً ،وهما روايتان عن أحمد.
فصل
ومما يُبين الفرق بين عدة الرجعية والبائن ،أن عِدّة الرجعية لجل الزوج وللمرأة فيها النفقة
والسكنى باتفاق المسلمين ،ولكن سُكناها ،هل هى كسكنى الزوجة ،فيجوز أن َينْ ُقلَها المطلقُ حيث
خرَجُ؟ فيه قولن .وهذا الثانى ،هو المنصوص عن
خرُجُ ول تُ ْ
شاء ،أم يتعين عليها المنزلُ ،فل َت ْ
ل بعض أصحاب أحمد.
أحمد ،وأبى حنيفة ،وعليه يدل القرآن .والول :قول الشافعى ،وهو قو ُ
والصواب :ما جاء به القرآن ،فإن سُكنى الرجعية مِن جنس سكنى المتوفى عنها ،ولو
تراضيا بإسقاطها ،لم يجز ،كما أن العِدة فيها كذلك بخلف البائن ،فإنها ل سُكنى لها ،ول عليها،
ج له أن يُخرجها ،ولها أن تخرج ،كما قال النبى صلى ال عليه وسلم لفاطمة بنت قيس:
فالزو ُ
س ْكنَى)).
ك وَلَ ُ
((ل نَفَقَ َة َل ِ
وأما الرجعة :فهل هى حق للزوج يملك إسقاطها بأن يطلقها واحدة بائنة ،أم هى حقّ لّ فل
يملك إسقاطها؟ ولو قال :أنتِ طالق طلقة بائنة ،وقعت رجعية ،أم هى حق لهما فإن تراضيا بالخُلع
بل عِوض ،وقع طلقاً بائناً ،ول رجعة فيه؟ فيه ثلثة أقوال.
فالول :مذهب أبى حنيفة ،وإحدى الروايات عن أحمد.
والثانى :مذهب الشافعى ،والرواية الثانية عن أحمد.والثالث :مذهب مالك ،والرواية الثالثة
عن أحمد.
ل تعالى ليس لهما أن َيتّفِقَا على إسقاطها ،وليس له أن يُطلّقَها
والصواب :أن الرجعة حق ّ
طلقة بائنة ،ولو رضيت الزوجةُ ،كما أنه ليس لهما أن يتراضيا بفسخ النكاح بل عِوض بالتفاق.
فإن قيل :فكيف يجوز الخل ُع بغيرِ عوض فى أحد القولين فى مذهب مالك وأحمد ،وهل هذا
جوّز أحمد فى إحدى الروايتين
إل إتفاقُ مِن الزوجين على فسخ النكاح بغير عوض؟ قيل :إنما ي ُ
الخُلع بل عِوض إذا كان طلقاً ،فأما إذا كان فسخاً ،فل يَجوزُ بالتفاق ،قاله شيخنا رحمه الّ .قال:
393
ص عدد الطلق ،ويكون
ولو جاز هذا ،لجاز أن يتفقا على أن يَبينها مرة بعد مرة من غير أن َينْقُ َ
المر إليهما إذا أراد أن يجعل الفرقة بين الثلث جعلها ،وإن أرادا ،لم يجعلها من الثلث ،ويلزمُ
مِن هذا إذا قالت :فادنى بل طلق ،أن يبينها بل طلق ،ويكون مخيرًا إذا سألته إن شاء أن يجعله
رجعياً ،وإن شاء أن يجعله بائناً ،وهذا ممتنع ،فإن مضمونه أنه يُخير ،إن شاء أن يُحرمها بعد المرة
الثالثة ،وإن شاء لم يُحرمها ،ويمتنع أن يخير الرجل بينَ أن يجعل الشىء حللً ،وأن يجعلَه
حراماً ،ولكن إنما يُخير بين مباحين له ،وله يُباشر أسبابَ الحِل وأسباب التحريم ،وليس له إنشاءُ
نفس التحليل والتحريم ،والُّ سبحانه إنما شرع له الطلق واحدة بعد واحدة ،ولم يشرع له إيقاعه
ل نزغةُ الشيطان التى حملته على الطلق ،فتتبع نفسُه المرأة ،فل يجد
مرة واحدة ،لئل يندم ،وتزو َ
إليها سبيلً ،فلو ملكه الشارع أن يطلقها طلقة بائنة ابتداء ،لكان هذا المحذو ُر بعينه موجوداً،
والشريع ُة المشتمِلةُ على مصالح العباد تأبى ذلك ،فإنه يبقى المرُ بيدها إن شاءت راجعته ،وإن
شاءت فل ،والّ سبحانه جعل الطلق بي ِد الزوج ل بيد المرأة رحمةً منه وإحساناً ،ومراعاةً
لمصلحة الزوجين.نعم له أن يُملكها أمرها بإختياره ،فيخيرها بين القيام معه وفراقها .وأما أن
ج المرُ عن يد الزوج بالكلية إليها ،فهذا ل يمكن .فليس له أن يُسقط حقّه مِن الرجعة ،ول يملك
يخر َ
ذلك ،فإن الشارع إنما يملك العبد ما ينفعُه ملكه ،ول يتضرر به ،ولهذا لم يملكه أكثر من ثلث ،ول
ملكه جمع الثلث ،ول ملّكه الطلق فى زمن الحيض والطهر المواقع فيه ،ول ملكه نكاح أكثر من
جعَلَ الُّ
أربع ،ول ملك المرأ َة الطلق ،وقد نهى سبحانه الرجال :أن يُؤتُوا السّ َفهَا َء أمْوالَهُم الّتى َ
لهم ِقيَاماً ،فكيف يجعلون أمر البضاع إليهن فى الطلق والرجعة ،فكما ل يكون الطلقُ بيدها ل
تكون الرجعة بيدها ،فإن شاءت راجعته ،وإن شاءت فل ،فتبقى الرجعةُ موقوفةً على اختيارها،
وإذا كان ل يملك الطلقَ البائن ،فلن ل يملك الطلقَ المحرم ابتدا ًء أولى وأحرى ،لن الندم فى
الطلق المحرم أقوى منه فى البائن .فمن قال :إنه ل يمِلكُ البانة ،ولو أتى بها لم َتبِنْ ،كما هو قولُ
فقهاء الحديث ،لزمه أن يقول :إنه ل يملك الثلث المحرمة ابتداء بطريق الولى والخرى ،وأن له
رجعتَها .وإن أوقعها ،كان له رجعتُها ..وإن قال :أنت طالق واحدة بائنة ،فإذا كان ل يملِك إسقاط
الرجعة ،فكيف يمِلكُ إثباتَ التحريم الذى ل يعود بعده إل بزوجٍ وإصابة؟
فإن قيل :فلزم هذا أنه ل يملكه ولو بعداثنتين ،قلنا :ليس ذلك بلزم ،فإن الّ سبحانه ملكه
الطلق على وجه معين ،وهو أن يطلق واحدة ،ويكون أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها ،ثم إن
ت عليه ،ول تعود إليه إل أن
ح ُر َم ْ
شاء طلق الثانية كذلك ،ويبقى له واحدةٌ ،وأخبر أنه إن أوقعهاَ ،
394
تتزوج غيره ،ويُصيبها ويُفارقها ،فهذا هو الذى ملكه إياه ،لم يُملّكه أن يُحرمها ابتداء تحريماً تاماً
ل التوفيق.
من غير تقدم تطليقتين .وبا ّ
فصل
ل صلى ال عليه وسلم فى المختلعة أنها تعتد بحيضة ،وأن هذا
قد ذكرنا حكم رسول ا ّ
مذهب عثمان بن عفان ،وابن عباس ،وإسحاق بن راهويه ،وأحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين
عنه ،اختارها شيخنا .ونحن نذكر الحاديث بذلك بإسنادها.
قال النسائى فى ((سننه الكبير)) :باب فى عدة المختلعة .أخبرنى أبو على محمد بن يحيى
عبْدان ،حدثنا أبى ،حدثنا على بن المبارك ،عن
المروزى ،حدثنا شاذان عبد العزيز بن عثمان أخو َ
ن عفراء ،أخبرته أن
يحيى بن أبى كثير ،قال :أخبرنى محمد بن عبد الرحمن ،أن ُر َبيّع بنتَ معوّذ ب ِ
ت ابن قيس بن شماس ضرب امرأته ،فكسرَ يدها وهى جميلة بنت عبد الّ ابن أبى ،فجاء أخوها
ثاب َ
لّ صلى ال عليه وسلم إلى ثابت،
ل صلى ال عليه وسلم ،فأرسل رسولُ ا ِ
يشتكيه إلى رسولِ ا ّ
فقال:
ل صلى ال عليه وسلم أن
((خُذ الذى لها عليك ،وخلّ سبيلها)) فقال :نعم ،فأرسل رسول ا ّ
تتربص حيضة واحدة ،وتلحق بأهلها.
لّ بنُ سعد بن إبراهيم بن سعد ،قال :حدثنى عمي ،قال :أخبرنا أبى ،عن ابن
أخبرنا عُبيدُ ا ِ
إسحاق ،قال :حدثنى عُبادة بن الوليد بن عبادة ابن الصامت ،عن ُر َبيّ ِع بنتِ معوّذ ،قال :قلتُ لها:
ت من زوجى ،ثم جئتُ عثمان ،فسألتُ ماذا علىّ مِن العِدة ،قال :ل
حدثينى حديثَك ،قالت :اختلع ُ
عَليْك إل أن يكونَ حديثَ عهد بك فتمكُثين حتى تحيضى حَيضة .قالت :وإنما تَبعَ فى ذلك
عِدة َ
ل صلى ال عليه وسلم فى مريم ال َمغَاِليّة ،كانت تحتَ ثابتِ بنِ قيس بن شماس،
قضاءَ رسول ا ّ
فاختلعت منه.
ل عنه ،أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه ،فجعل
وروى عكرمةُ عن ابن عباس رضى ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم عِ ّدتَها حيضة .رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحيم البزاز ،عن
رسولُ ا ّ
على بن بحر القطان ،عن هشام بن يوسف ،عن معمر ،عن عمرو بن مسلم ،عن عكرمة .ورواه
الترمذي :عن محمد بن عبد الرحيم بهذا السند بعينه .وقال :حديث حسن غريب.
395
وهذا كما أنه موجبُ السنة وقضاء رسول الّ صلى ال عليه وسلم ،وموافقٌ لقوالِ
الصحابة ،فهو مقتضى القياس ،فإنه استبرا ٌء لمجرد العلم ببراءة الرحم ،فكفت فيه حيضة،
كالمسبية والمة المستبرأة ،والحرة ،والمهاجرة ،والزانية إذا أرادت أن تنكِحَ.
وقد تقدم أن الشارع مِن تمام حكمته جعل عِدة الرجعية ثلثة قروء لمصلحة المطلق،
ص على هذه الحكمة ،والجواب عنه.
والمرأة ليطول زمان الرجعة ،وقد تقدم النق ُ
ذكر حكم رسول الّ صلى ال عليه وسلم بإعتداد المتوفى عنها فى منزلها الذى توفى
زوجها وهى فيه وأنه غيرُ مخالف لِحكمه بخروج المبتوتة واعتدادها حيث شاءت
ب بنتِ كعب بن عجرة ،عن الفُريعة بنت مالك أخت أبى سعيد
ثبت فى ((السنن)) :عن زين َ
ل صلى ال عليه وسلم تسأله أن ترج َع إلى أهلها فى بنى خُدرة،
الخُدرى ،أنها جاءت إلى رسول ا ّ
عبُدٍ له َأبَقُوا ،حتى إذا كانُوا بطرف القُدُوم ،لحقهم فقتلُوه ،فسألتُ رسول
فإن زوجها خرج فى طلب أَ ْ
ل صلى ال عليه وسلم أن أرجع إلى أهلى ،فإنه لم يتركنى فى مسكن َيمِلكُه ول نفقة ،فقال رسولُ
ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم(( :نعم)) فخرجتُ حتى إذا ُك ْنتُ فى الحجرة أو فى المسجد ،دعانى أو أمر
ا ّ
بى فدعيتُ له ،فقال((:كيف قُلتِ))؟ فرددتُ عليه القِصةَ التى ذكرتُ من شأن زوجى ،قالت :فقال:
ت فيه أربعةَ أشهر وعشراً ،قالت :فلما
جلَهُ)) ،قالت :فاعتدد ُ
حتّى َيبْل َغ ال ِكتَابُ َأ َ
((ا ْمكُثى فى َبيْتك َ
كان عثمان ،أرسل إلىّ فسألنى عن ذلك ،فأخبرته ،فقضى به ،واتبعه.
قال الترمذى :هذا حديث حسن صحيح ،وقال أبو عمر بن عبد البر :هذا حديثٌ مشهور
معروف عند علماء الحجاز والعراق .وقال أبو محمد ابن حزم :هذا الحديث ل يثبت ،فإن زينب
هذه مجهولة ،لم يروِ حديثَها غير سعد بن إسحاق بن كعب وهو غير مشهور بالعدالة ،ومالك رحمه
ل وغيره يقول فيه :سعد بن إسحاق ،وسفيان يقول :سعيد .وما قاله أبو محمد غيرُ صحيح،
ا ّ
فالحديث حديث صحيح مشهور فى الحجاز والعراق ،وأدخله مالك فى ((موطئه)) ،واحتج به،
وبنى عليه مذهبه.
ب هذه من
وأما قوله :إن زينب بنت كعب مجهولة ،فنعم مجهول ٌة عنده ،فكان ماذا؟ وزين ُ
التابعيات ،وهى امرأة أبى سعيد ،روى عنها سعد بن إسحاق بن كعب ،وليس بسعيد ،وقد ذكرها
ل على بن المدينى :لم يرو عنها غيرُ سعد بن
ابن حبان فى كتاب الثقات .والذى غر أبا محمد قو ُ
إسحاق وقد روينا فى مسند المام أحمد :حدثنا يعقوب ،حدثنا أبى ،عن ابن إسحاق ،حدثنى عبد الّ
ب بنتِ
بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم ،عن سليمان بن محمد بن كعب بن عُجرة ،عن عمته زين َ
396
كعب بن عُجرة وكانت عند أبى سعيد الخُدرى ،عن أبى سعيد ،قال :اشتكى الناسُ علياً رضى الّ
عِليّا ،فَوالِّ
شكُوا َ
عنه ،فقام النبىّ صلى ال عليه وسلم خطيباً ،فسمعتُه يقول(( :يَا أيّها النّاسُ ل تَ ْ
سبِيلِ الِّ)) ،فهذه امرأة تابعية كانت تحتَ صحابى ،وروى عنها الثقات،
لّ أو فى َ
لَخْشَنٌ فى ذَاتِ ا ِ
ولم يُطعن فيها بحرف ،واحتج الئمة بحديثها وصححوه.وأَما قولُه :إن سعد بن إسحاق غير
مشهور بالعدالة ،فقد قال إسحاق بن منصور ،عن يحيى بن معين :ثقة .وقال النسائى أيضاً،
والدارقطنى أيضاً :ثقة وقال أبو حاتم :صالح ،وذكره ابن حيان فى كتاب الثقات ،وقد روى عنه
ن الثورى ،وعبدُ العزيز الدراوردى ،وابنُ جريج ،ومالكُ بن أنس،
الناس :حمادُ بن زيد ،وسفيا ُ
ويحيى ابن سعيد النصارى ،والزهرى ،وهو أكب ُر منه ،وحات ُم بن إسماعيل وداو ُد بن قيس ،وخلق
سواهم من الئمة ،ولم يُعلم فيه قدح ول جرح البتة ،ومثل هذا يُحتج به اتفاقاً.
ل عنهم ومَنْ بعدهم فى حكم هذه المسألة.
وقد اختلف الصحاب ُة رضى ا ّ
فروى عبد الرزاق ،عن معمر ،عن الزهرى ،عن عروة بن الزبير .عن
عائشة رضى الّ عنها .أنها كانت تُفتى المتوفى عنها بالخروج فى عدتها ،وخرجت بأختها أ ّم كلثُوم
ل إلى مكة فى عمرة.ومن طريق عبد الرزاق أخبرنا ابنُ جريج،
حين ُقتِلَ عنها طلحة بن عبيد ا ّ
لّ عز وجل :تعتد أربعَة أشهر وعشراً ،ولم يقل:
أخبرنى عطاء ،عن ابن عباس أنه قال :إنما قالَ ا ُ
تعتد فى بيتها ،فتعتد حيث شاءت وهذا الحديث سمعه عطاء من ابن عباس ،فإن على بن المدينى:
ت ابنَ عباس يقول :قال الّ
قال :حدثنا سفيان بن عيينة ،عن ابن جريج ،عن عطاء ،قال :سمع ُ
ش ُه ٍر وَعَشْراً} [البقرة:
ن َأ ْر َبعَةَ أَ ْ
سهِ ّ
ن بَِأنْفُ ِ
ن َأ ْزوَاجًا َي َت َربّصْ َ
ن ِم ْنكُم ويَذرُو َ
تعالى{ :والّذِينَ ُي َتوَ ّفوْ َ
ن فى بيوتهن ،تعتَدّ حيث شاءت .قال سفيان :قاله لنا ابن جريج كما أخبرنا.
،]234ولم يقلَ :ي ْعتَدِدْ َ
ل يقول:
وقال عبد الرازق :حدثنا ابن جريج ،أخبرنى أبو الزبير ،أنه سمع جابرَ بن عبد ا ّ
تعتدّ المتوّفى عنها حيثُ شاءت .وقال عبد الرزاق عن الثورى ،عن إسماعيل بن أبى خالد ،عن
ل المتوفّى عنهن فى عدتهن .وذكر عبد
الشعبى ،أن على بن أبى طالب رضى الّ عنه ،كان يُرحّ ُ
الرزاق أيضاً ،عن محمد بن مسلم ،عن عمرو بن دينار ،عن طاووس وعطاء ،قال جميعاً :المبتوتة
ن وتعت ِمرَان ،وتنتقلن وتبيتان.
والمتوفى عنها تَحُجّا ِ
ن اعتدت.
ل يَض ّر المتوفّى عنها أي َ
وذكر أيضًا عن ابن جريج ،عن عطاء قالَ :
وقال ابنُ عُيينة :عن عمرو بن دينار ،عن عطاء وأبى الشعثاء ،قال جميعاً :المتوفّى عنها
تخرُج فى عدتها حيث شاءت.
397
ن أبى شيبة ،حدثنا عبد الوهّاب الثقفى ،عن حبيب المعلم ،قال :سألتُ عطاء عن
وذكر اب ُ
المطلقة ثلثاً ،والمتوفّى عنها ،أتَحُجّان فى عِدتهما؟ قال :نعم .وكان الحسن يقولُ بمثل ذلك.
وقال ابن وهب :أخبرنى ابن لهيعة ،عن حنين بن أبى حكيم ،أن امرأة مُزاحم لما توفى عنها
زوجها بخناصرة ،سألت عمر بن عبد العزيز ،أأمكث حتى تنقضىَ عِدتى؟ فقال لها :بل الحقى
بقرارك ودار أبيك ،فاعتدى فيها.
ن أيوب ،عن يحيى بن سعيد النصارى أنه قال فى رجل
قال ابن وهب :وأخبرنى يحيى ب ُ
توفى بالسكندرية ومعه امرأتُه ،وله بها دار ،وله بالفُسطاط دار ،فقال :إن أحبّت أن تعتدّ حيثُ
ت أن ترجِ َع إلى دار زوجها وقراره بالفُسطاط ،فتعتد فيها فلترجع.
تو ّفىَ زوجُها فلتعتد ،وإن أح ّب ْ
قال ابن وهب :وأخبرنى عمرو بن الحارث ،عن بُكير بن الشج ،قال :سألتُ سالم بن عبد
ل بن عمر عن المرأة يخرج بها زوجُها إلى بلد فيتوفى؟ قال :تعتد حيث توفى عنها زوجها ،أو
ا ّ
ب أهل الظاهر ُكلّهم.ولصحاب هذا القولِ
ترج ُع إلى بيت زوجها حتى تنقضى عدتها وهذا مذه ُ
حُجتان ،احتج بهما ابنُ عباس،وقد حكينا إحداهما ،وهى :أن الّ سبحانه إنما أمرها بإعتداد أربعة
أشهر وعشر ،ولم يأمرها بمكان معين.
والثانية :ما رواه أَبو داود :حدثنا أحمد بن محمد المروزى ،حدثنا موسى بن مسعود ،حدثنا
شِبل ،عن ابن أبى نجيح ،قال :قال عطاء :قال ابن عباس :نسخت هذه الية عدتَها عندَ أهلها ،فتعتد
حيثُ شاءت ،وهو قولُ الّ عز وجل{ :غيرَ إخراجٍ} [البقرة ]240 :قال عطاء :إن شاءت اعتدت
جنَاحَ
خرَجْنَ فَلَ ُ
عند أهله ،وسكنت فى وصيتها ،وإن شاءت ،خرجت لِقول الّ عز وجل{ :فَإنْ َ
عَل ْيكُمْ فَيما ف َعلْنَ} [البقرة ،]234 :قال عطاء :ثم جاء الميراثُ ،فنسخ السكنى ،تعتدّ حيث شاءت.
َ
وقالت طائفة ثانية مِن الصحابة والتابعين بعدهم :تعتدّ فى منزلها التى تُوفى زوجها
وهى فيه ،قال وكيع :حدثنا الثورىّ ،عن منصور ،عن مجاهد ،عن سعيد بن المسيب ان عمر ردّ
ت أو معتمراتٍ توفى عنهن أزواجهن.
نِسوة من ذى الحُليفة حاجّا ٍ
وقال عب ُد الرزاق :حدثنا ابنُ جُريج ،أخبرنا حُميدُ العرج ،عن مجاهد قال :كان عمر
ت ومعتمراتٍ من الجُحفة وذى الحُليفة.
وعثمان يرجعانهن حاجّا ٍ
وذكر عبد الرزاق ،عن معمر ،عن أيوب ،عن يوسف بن ماهك عن أمه مُسيكة ،أن امرأة
متوفّى عنها زارت أهلها فى عِدتها ،فضربها الطلق ،فأتوْا عثمان ،فقال :اح ِملُوها إلى بيتها وهى
طلَقُ.
تُ ْ
398
وذكر أيضًا عن معمر ،عن أيوب ،عن نافع ،عن ابن عمر أنه كانت له ابنة تعت ّد مِن وفاة
زوجها ،وكانت تأتيهم بالنّهارَ ،ف َتتَح ّدثُ إليهم ،فإذا كان الليل ،أمَرها أن ترج َع إلى بيتها.
ن أبى شيبة :حدثنا وكيع ،عن على بن المبارك ،عن يحيى بن أبى كثير عن محمد
وقال اب ُ
بن عبد الرحمن بن ثوبان ،أن عُمر رخّص للمتوفى عنها أن تأتى أهلها بياض يومها ،وأن زي َد بن
ثابت لم ُيرَخّص لها إل فى بياض يومها أو ليلها.
وذكر عبد الرزاق عن سفيان الثورى ،عن منصور بن المعتمِر ،عن إبراهيم النّخَعى ،عن
حشُ ،فقال ابنُ
علقمة ،قال :سأل ابنَ مسعود نساء من همدان ُن ِعىَ إليهن أزواجُهن ،فَ ُقلْنَ :إنا نَستَو ِ
مسعود :تجت ِمعْنَ بالنهارِ ،ثم ترجعُ كلّ امرأة منكن إلى بيتها بالليل.
وذكر الحجاج بن المنهال ،حدثنا أبو عَوانة ،عن منصور ،عن إبراهيم ،أن امرأة بعثت إلى
أمّ سلمة أ ّم المؤمنين رضى الّ عنها :إن أبى مريض ،وأنا فى عِدة ،أفآتيه أُمرضه؟ قالت :نعم
ولكن بيتى أح َد طرفى الليل فى بيتك.
سئِلَ عن
وقال سعيد بن منصور :حدثنا هُشيم ،أنبأنا إسماعيل بن أبى خالد ،عن الشعبى ،أنه ُ
ن أكثرُ أصحاب ابن مسعود أشدّ شىء فى ذلك ،يقولون:
المتوفّى عنها :أتخرج فى عدتها؟ فقال :كا َ
ل عنه يُرحلها.
ل تخرُج ،وكان الشيخ يعنى على بن أبى طالب رضى ا ّ
وقال حمّا ُد بنُ سلمة :أخبرنا هِشام بن عُروة ،أن أباه قال :المتوفّى عنها زوجُها تعتدّ فى بيتها إل أن
ينتوى أهلُها فتنتوى معهم.
وقال سعيد بن منصور :حدثنا هُشيم ،أخبرنا يحيى بن سعيد هو النصارى ،أن القاسم بن
محمد ،وسالم بن عبد الّ ،وسعيد بن المسيّب قالوا فى المتوفّى عنها :ل تبَرحُ حتى تنقضى عِدتُها.
وذكر أيضًا عن ابن عُيينة ،عن عمرو بن دينار ،عن عطاء وجابر ،كِلهما قال فى المتوفّى
عنها :ل تخرُجُ.
وذكر وكيع ،عن المحسن بن صالح ،عن المغيرة ،عن إبراهيم فى المتوفّى عنها :ل بأس أن
تخُرجَ بالنهار ،ول تبيتُ عن بيتها.
وذكر حماد بن زيد ،عن أيوب السّختيانى ،عن محمد بن سيرين ،أن امرأة تُوفى عنها
زوجُها وهى مريضة ،فنقلها أهلُها ،ثم سألواَ ،ف ُكلٌّهم يأمرهم أن تُرد إلى بيت زوجها ،قال ابنُ
سيرين :فرددناها فى َنمَطٍ ،وهذا قولُ المام أحمد .ومالك .والشافعى .وأبى حنيفة رحمهم الّ،
وأصحابهم ،والوزاعى ،وأبى عُبيد ،وإسحاق.
399
قال أبو عُمر بن عبد البر :وبه يَقول جماعةُ فقهاء المصار بالحجاز والشام ،والعراق،
ل عنه بالقبول،
ومصر .وحجة هؤلء حديث الفُريعة بنت مالك ،وقد تلقاه عثمانُ بنُ عفان رضى ا ّ
وقضى به بمحضر المهاجرين والنصار ،وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر
بالقبول ،ولم ُي ْعلَ ْم أن أحداً منهم طعن فيه ،ول فى رواته ،وهذا مالك مع تحريه وتشدّ ِد ِه فى الرواية.
وقوله للسائلِ له عن رجل :أثقة هو؟ فقال :لو كان ثقة لرأيته فى كتبى :قد أدخله فى ((موطئه))،
وبنى عليه مذهبَه.
ع بين السلف فى المسألة ،ولكن السنة تفصِلُ بين المتنازعين .قال
قالوا :ونحن ل نُنكر النزا َ
أبو عمر بن عبد البر :أما السنة ،فثابتة بحمد الّ .وأما الجماع ،فمستغنى عنه مع السنة ،لن
الختلف إذا نزل فى مسألة كانت الحجة فى قول من وافقته السنة.
وقال عبد الرزاق :أخبرنا معمر ،عن الزهرى ،قال أَخَ َذ المترخّصون فى المتوفّى عنها
بقول عائشة رضى الّ عنها ،وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر.
فإن قيل :فهل ملزمة المنزل حقّ عليها ،أو حق لها؟ قيل :بل هو حَق عليها إذا
طلَبوا منها
تركه لها الورثة ،ولم يكن عليها فيه ضر ٌر أو كان المسكن لها ،فلو حّولها الوراث ،أو َ
الجرة ،لم يلزمها السكن ،وجاز لها التحولُ.
ل إلى أقرب
ب هذا القول :هل لها أن تتحول حيثُ شاءت ،أو يلزمُها التحو ُ
ثم اختلف أصحا ُ
غرَقاً ،أو عدواً أو نحو ذلك ،أو حوّلها
المساكن إلى مسكن الوفاة؟ على قولين .فإن خافت هدمًا أو َ
ب المنزل لكونه عا ِريّة رجع فيها ،أو بإجارة انقضت مدتُها ،أو منعها السكنى تعديًا ،أو امتنع
صاح ُ
من إجارته ،أو طلب به أكثر من أجر المثل ،أو لم تَجِدْ ما تكترى به ،أو لم تجِدْ إل من مالها ،فلها
أن تنتقِلَ ،لنها حالُ عذر ،ول يلزمها بذلُ أجر المسكن ،وإنما الواجبُ عليها فِعل السّكنى ل
تحصيلُ المسكن ،وإذا تعذرت السّكنى ،سقطت ،وهذا قول أحمد والشافعى.
ق على الورث ِة تُقدّمُ الزوجة به على الغرماء ،وعلى
فإن قيل :فهل السكان ح ّ
الميراث ،أم ل حق لها فى التركة سوى الميراث؟ قيل:
هذا موضوع اختلف فيه .فقال المام أحمد :إن كانت حائلً ،فل سُكنى لها فى التركة ،ولكن
عليها ملزمة المنزل إذا بُذِلَ لها كما تقدم ،وإن كانت حاملً ،ففيه روايتان إحداهما أن الحكم كذلك.
والثانى :أن لها السّكنى حق ثابت فى المال ،تُقدّ ُم به على الورثة والغرماء ،ويكون من رأس المال،
400
ل تُباع الدار فى دينه بيعًا يمنعُها سكناها حتى تنقضي عدتها ،وإن تعذر ذلك ،فعلى الوارث أن
ل عنه إل لضرورة.
يكترىَ لها سكناً من مال الميت .فإن لم يفعل ،أجبره الحاكمُ ،وليس لها أن تنتقِ َ
جزْ ،لنه يتعلق بهذه السكنى حقّ الّ تعالى،
وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه ،لم يَ ُ
فلم يجز اتفاقُهما على إبطالها ،بخلف سُكنى النكاح ،فإنها حقّ لّ تعالى ،لنها وجبت مِن حقوق
ق للزوجين .والصحيح المنصوص :أن سكنى الرجعية كذلك ،ول يجوز
العِدة ،والعِدة فيها ح ّ
اتفاقهما على إبطالها ،هذا متقضى نص الية ،وهو منصوص أحمد وعنه رواية ثالثة :أن للمتوفّى
ث روايات :وجوبها للحامل،
عنها السّكنى بكل حال ،حاملً كانت أو حائلً ،فصار فى مذهبه ثل ُ
والحائل ،وإسقاطها فى حقهما ووجوبها للحامل دون الحائل ،هذا تحصيلُ مذهب أحمد فى سكنى
المتوفى عنها.
وأما مذهب مالك ،فإيجاب السكنى لها حاملً كانت أو حائلً ،وإيجابُ السكنى عليها مدة
ق بسكناه من الورثة والغرماء،
العِدة ،قال أبو عمر :فإذا كان المسكن بكراءٍ؟ فقال مالك :هى أح ّ
وهو مِن رأس مال المتوفّى ،إل أن يكونَ فيه عقد لزوجها وأراد أهل المسكن إخراجَها .وإذا كان
المسكنُ لزوجها ،لم يُبع فى دينه حتى تنقضى عدتها ،انتهى كلمه.
ق بالسكنى من الورثة والغرماء إذا كان الملك للميت،
وقال غيرُه من أصحاب مالك :هى أح ّ
أو كان قد أدّى كِراءه ،وإن لم يكن قد أدى ،ففى ((التهذيب)) :ل سُكنى لها فى مال الميت ،وإن كان
ق به ،وتُحاصّ
موسِراًَ .و َروَى محمد ،عن مالك :الكراء لزم للميت فى ماله ،ول تكون الزوجةُ أح ّ
حبّ أن تسكن فى حصتها ،وتؤدى كِراء حصتهم.
الورثة فى السكنى ،وللورثة إخراجُها إل أن تُ ِ
وأما مذهب الشافعى :فإن له فى سكنى المتوفى عنها قولين ،أحدُهما :لها السّكنى حاملً
كانت أو حائلً .والثانى :ل سُكنى لها حاملً كانت أو حائلً ،ويجب عنده ملزمتُها للمسكن فى
العِدة بائناً كانت أو متوفى عنها ،وملزمة البائن للمنزل عنده آك ُد مِن ملزمة المتوفىّ عنها ،فإنه
يجوز للمتوفّى عنها الخروجُ نهاراً لقضاء حوائجها ،ول يجو ُز ذلك فى البائن فى أحد قوليه وهو
القديمُ ،ول يُوجبه فى الرجعية بل يستحبه.
وأما أحمد ،فعنده ملزم ُة المتوفّى عنها آك ُد مِن الرجعية ،ول يُوجبه فى البائن .وأورد
ل على نصه بوجوب ملزمة المنزل على المتوفّى عنها مع نصه فى أحد
أصحاب الشافعى رحمه ا ّ
القولين ،على أنه ل سكنى لها سؤالً وقالوا :كيف يجتمع النّصّان ،وأجابوا بجوابين .أحدهما :أنه ل
401
ث أجرة المسكن ،وجبت عليها
ب عليها ملزم ُة المسكن على ذلك القول ،لكن لو ألزم الوار ُ
ج ُ
تِ
الملزمةُ حينئذ ،وأطلق أكثرُ أصحابه الجواب هكذا.
والثانى :أن ملزمة المنزل واجبة عليها ما لم يكن عليها فيه ضرر بأن تُطالب بالجرة ،أو
يُخرجها الوارث ،أو المالك ،فتسقط حينئذ .وأما أصحاب أبى حنيفة ،فقالوا :ل يجو ُز للمطلقة
الرجعية ،ول للبائن الخروجُ مِن بيتها ليلً ول نهاراً ،وأما المتوفى عنها ،فتخرج نهاراً وبعض
ق أن المطلقة نفقتُها فى مال زوجها .فل يجوز لها
الليل ،ولكن ل تبيتُ فى منزلها ،قالوا :والفر ُ
خرُجَ بالنهار لصلح حالها،
الخروجُ كالزوجة ،بخلف المتوفى عنها ،فإنها ل نَفَقَةَ لها ،فل بد أن ت ْ
قالوا :وعليها أن تعتد فى المنزل الذى يُضاف إليها بالسكنى حالَ وقوع الفرقة ،قالوا :فإن كان
نصيبُها مِن دار الميت ل يكفيها ،أو أخرجها الورثةُ من نصيبهم ،انتقلت ،لن هذا عذر ،والكونُ فى
بيتها عبادة ،والعبادةُ تسقط بالعذر قالوا :فإن عجزت عن كراء البيت الذى هى فيه لكثرته ،فلها أن
ل كراء منه ،وهذا مِن كلمهم يدل على أن أجرة السكن عليها ،وإنما يَسقط السكن
تنتقِلَ إلى بيت أق ّ
عنها لعِجزها عن أجرته ،ولهذا صرّحوا بأنها تسكن فى نصيبها من التركة إن كفاها ،وهذا لنه ل
سُكنى عندهم للمتوفى عنها حاملً كانت أو حائلً ،وإنما عليها أن تلزم مسكنها الذى توفّى زوجُها،
وهى فيه ليلً ل نهاراً ،فإن بذله لها الورثةُ وإلّ كانت الجرة عليها ،فهذا تحري ُر مذاهب الناس فى
ل التوفيق .ولقد أصاب فريعَة بنتَ مالك فى هذا الحديث نظيرُ
هذه المسألة ،ومأخذُ الخلف فيها وبا ّ
ض المنازعين فى هذه المسألة :ل ندعُ كتابَ ربنا
ما أصاب فاطمة بنت قيس فى حديثها ،فقال بع ُ
لقول امرأة ،فإن الّ سبحانه إنما أمرها بالعتداد أربعة أشهر وعشراً ،ولم يأمرها بالمنزل .وقد
ب المنزل ،وأفتت المتوفّى عنها بالعتداد حيث
أنكرت عائش ُة أ ّم المؤمنين رضى الّ عنها وجو َ
شاءت كما أنكرت حديثَ فاطمة بنت قيس ،وأوجبت السكنى للمطلقة.
ل عنهم على عهد
ل مِن الصحابة رضى ا ّ
وقال بعضُ من نازع فى حديث الفُريعة :قد ُقتِ َ
ل صلى ال عليه وسلم خلقٌ كثير يوم أحد ،ويومَ بئر مَعونة ،ويومَ مؤتة وغيرِها ،واعتدّ
رسول ا ّ
ل امرأة منهن تُلزم منزلها زمن العدة ،لكان ذلك من أظهرِ الشياء،
أزواجُهم بعدهم ،فلو كان ك ّ
وأبينها بحيثُ ل يخفى على من هو دونَ ابن عباس وعائشة ،فكيف خفى هذا عليهما وعلى غيرهما
من الصحابة الذين حكى أقوالهم ،مع استمرار العمل به استمراراً شائعاً ،هذا من أبعد الشياء ،ثم
لو كانت السنّةُ جارية بذلك ،لم تأت الفُريعة تستأذن ُه صلى ال عليه وسلم أن تلحق بأهلها ،ولمَا أذِنَ
لها فى ذلك ،ثم يأمرُ بردها بعد ذهابها ،ويأمرها بأن تمكث فى بيتها فلو كان ذلك أمرًا مستمراً
402
ثابتاً ،لكان قد نسخ بإذنه لها فى اللحاق بأهلها ،ثم نسخ ذلك الذن بأمره لها بالمُكث فى بيتها،
فُيفضى إلى تغيير الحكم مرتين ،وهذا ل عهد لنا به فى الشريعة فى موضع متيقن.
قال الخرون :ليس فى هذا ما يوجب رد هذه السنة الصحيحة الصريحة التى تلقّاها أمي ُر المؤمنين
عثمان بن عفان ،وأكاب ُر الصحابة بالقبول ،ونفذها عثمان ،وحكم بها ،ولو كنا ل نقبلُ رواية النساء
ن كثيرة مِن سُنن السلم ل يُعرف أنه رواها عنه إل
عن النبى صلى ال عليه وسلم ،لذهبت سن ٌ
ل ليس فيه ما ينبغى وجوب العتداد فى المنزل حتى تكون السنةُ مخالفة له،
النساء ،وهذا كتابُ ا ّ
بل غايتُها أن تكونَ بياناً لحكم سكت عنه الكتاب ،ومثل هذا ل تُرد به السننُ ،وهذا الذى حذّر منه
ل صلى ال عليه وسلم بعينه أن تترك السنة إذا لم يكن نظيرُ حكمها فى الكتاب.
رسولُ ا ّ
وأما تركُ أ ّم المؤمنين رضى الّ عنها لحديث الفُريعة ،فلعله لم يَبُلغْها ،ولو بلغها فلعلها
تأولته ،ولو لم تتأولْه ،فلعله قام عندها معارض له ،وبكل حال فالقائلون به فى تركهم لتركها لهذا
ل مع النبى
الحديث أعذ ُر من التاركين له لترك أ ّم المؤمنين له ،فبين التركَين فرقٌ عظيم.وأما من ُقتِ َ
صلى ال عليه وسلم ،ومن مات فى حياته ،فلم يأتِ قطّ أن نساءكم كن يعتَدِدْنَ حيث شِئن ،ولم يأت
عنهن ما يُخالف حُكمَ حديثِ فُريعة البتة ،فل يجوز تركُ السنة الثابتة لمر ل يُعلم كيف كان ،ولو
علِمَ أَنهن كن يَعتَدِدْنَ حيث شئن ،ولم يأت عنهن ما يخالف حكم حديث الفريعة ،فلعل ذلك قبل
ُ
استقرار هذا الحكم وثبوته حيث كان الصلُ براءة الذمة ،وعدم الوجوب.
ل بن كثير ،قال :قال مجاهد :استشهد رجال
وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج ،عن عبد ا ّ
حشُ يا رسول الّ صلى
ل صلى ال عليه وسلم ،فقلن :إنا نستو ِ
يوم أحد ،فجاء نساؤهم إلى رسول ا ّ
ل صلى ال
ال عليه وسلم بالليل ،فنبيت عند إحدانا ،حتى إذا أصبحنا تبددنا فى بيوتتنا فقال رسولُ ا ّ
ل ا ْمرَأ ٍة إلى َب ْيتِها)) وهذا
ن النّوْمَ فَل َت ُؤبْ كُ ّ
عنْدَ إحْدَاكُنّ مَا بَدَا َلكُنّ ،فَإذَا َأرَ ْدتُ ّ
عليه وسلم(( :تَحَ ّدثْنَ ِ
وإن كان مرسلً ،فالظاهِر أن مجاهدًا إما أن يكون سمعه مِن تابعى ثقة ،أو مِن صحابى ،والتابعون
ل صلى ال
لم يكن الكذبُ معروفاً فيهم ،وهم ثانى القرون المفضلة ،وقد شاهدُوا أصحابَ رسول ا ّ
ل صلى
ب على رسول ا ّ
عليه وسلم ،وأخذوا العِلمَ عنهم ،وهم خيرُ المة بعدهم ،فل يُظن بهم الكذ ُ
ل صلى ال
ال عليه وسلم ،ول الروايةُ عن الكذابين ،ول سيما العالمُ منهم إذا جز َم على رسولِ ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم ،وفعلَ رسولُ الّ
شهِدَ له بالحديث ،فقال :قال رسولُ ا ّ
عليه وسلم بالرواية ،و َ
ل البعد أن يُقْدِ َم على ذلك مع كون الواسطة بينه وبينَ
صلى ال عليه وسلم ،وأم َر ونهى ،فيبعد كُ ّ
ل صلى ال عليه وسلم كذاباً أو مجهولً ،وهذا بخلف مراسيل من بعدهم ،فكلما تأخرت
رسولِ ا ّ
403
ل صلى ال عليه وسلم ،وبالجملة فليس
القرونُ ساء الظن بالمراسيل ،ولم يشهد بها على رسول ا ّ
ل التوفيق.
العتماد على هذا المرسل وحَده ،وبا ّ
ذِكرُ حكمِ رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم فى إحداد المعتدةِ نفياً وإثباتاً
ثبت فى ((الصحيحين)) :عن حُميد بن نافع ،عن زينب بنت أبى سلمة ،أنها أخبرته هذه
ل عنها زوج النبى صلى ال عليه
ث الثلثة ،قالت زينبُ :دخلت على أمّ حبيبة رضى ا ّ
الحادي َ
خلُوقٌ أو
وسلم حين تُوفى أبوها أبو سفيان ،فدعت أ ّم حبيبة رضى الّ عنها بطيبٍ فيه صُفرةٌ َ
غيرُه ،فدهنت منه جاريةً ،ثم مسّت بعارضيها ،ثم قالت :والّ مالى بالطّيبِ من حاجة ،غير أنى
لّ وال َيوْم الخرِ
ل صلى ال عليه وسلم يقول على المنبر(( :ل يَحِلّ ل ْم َرَأةٍ ُت ْؤمِنُ با ِ
سمعت رسولَ ا ّ
ش ُه ٍر وَعَشْراً)) .قالت زينب :ثم دخلت على زينب
ج َأ ْر َبعَةَ أَ ْ
ق ثلث إلّ عَلى َزوْ ٍ
تُحِدّ عَلى َم ّيتٍ َفوْ َ
ب من حاجة،
بنت جحش حين تُوفى أخوها فدعت بطيب ،فمسّت منه ،ثم قالت :والِّ مالى بالطي ِ
ل يَحِلّ ل ْم َرَأ ٍة ُت ْؤمِنُ بالّ
ل صلى ال عليه وسلم يقول على المنبرَ (( :
غير أنى سمعت رسولَ ا ّ
ش ُه ٍر وَعَشْراً)).
ج أ ْر َبعَةَ أَ ْ
لثٍ إلّ عَلى َزوْ ٍ
ق ثَ َ
خ ِر تُحِدّ عَلى َم ّيتٍ َفوْ َ
وَاليَوْمِ ال ِ
ل صلى
قالت زينبُ :وسمعت ُأمّى أ ّم سلمة رضى الّ عنها تقولُ :جاءت امرأة إلى رسول ا ّ
حلُها؟ فقال
ال عليه وسلم ،فقالت :يا رسول الّ :إن بنتى توفى عنها زوجها ،وقد اشتكت عينُها ،أَفَتكْ َ
ل صلى ال عليه وسلم(( :ل)) ،مرتين ،أو ثلثاً ،كل ذلك يقول:
رسولُ ا ّ
ش ُه ٍر وَعَشْراً ،وقَ ْد كَا َنتْ إحْدَاكُنّ فى الجَا ِهِليّ ِة َترْمى بال َب ْعرَةِ عَلى
ى َأ ْر َبعَةُ أَ ْ
((ل)) ،ثم قال(( :إنّما ه َ
حوْلِ)).
َرأْسِ ال َ
ش ّر ثِيابِها ،ولم َت َمسّ
ستْ َ
ت المرأة إذا تُوفى عنها زوجُها ،دخلت حِفْشاً ،وَلبِ َ
فقالت زينب :كان ِ
طِيباً ول شيئاً حتى َي ُمرّ بها سنة ،ثُم تُؤتى بدابةٍ حمارٍ ،أو شا ٍة أو طير ،فتفتَضّ به ،فقلما تفتضّ
بشىء إل مات ،ثم تَخْرجُ ،فُتعطى بعرة ،فترمى بها ،ثم تُراجع بعدُ ما شاءت مِن طيب أو غيره.
قال مالك تفتض :تمسح به جلدها.
ل عنها :أن امرأة تُوفى عنها زوجُها ،فخافوا على
وفى ((الصحيحين)) :عن أ ّم سلمة رضى ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم:
عينها ،فَأتْوا النبى صلى ال عليه وسلم ،فاستأذنوه فى الكُحْل ،فقال رسول ا ّ
ب َر َمتْ
حوْلً ،فإذَا َم ّر َك ْل ٌ
شرّ أحْلَسِها فى َب ْيتِها َ
شرّ َب ْيتِهاَ ،أوْ فى َ
ن تكُونُ فى َ
((قَدْ كَا َنتْ إحْدَاكُ ّ
ش ُه ٍر وَعَشْراً)).
ل َأ ْر َبعَ َة أَ ْ
جتْ أفَ َ
خرَ َ
ب َب ْع َرةٍَ ،ف َ
404
ل صلى ال عليه
وفى ((الصحيحين)) عن أَمّ عَطيّة النصارية رضى الّ عَنها ،أن رسول ا ّ
ل َت ْل َبسُ َثوْباً
ش ُه ٍر وَعَشْراً ،و َ
ج َأ ْربَعةَ أَ ْ
لثٍ إلّ عَلى َزوْ ٍ
ق ثَ َ
ل تُحِ ّد الم ْرَأةُ عَلى َم ّيتٍ َفوْ َ
وسلم قالَ (( :
ط َأ ْو أَظْفَارٍ)).
ط ُهرَت ُنبْذةً مِنْ قُسْ ٍ
ل وَلَ َت َمسّ طيبًا إل إذا َ
ل َت ْكتَحِ ُ
صبٍ ،وَ َ
ع ْ
ل َث ْوبَ َ
صبُوغاً إ ّ
َم ْ
وفى سنن داود :من حديث الحسن بن مسلم ،عن صفيّةبنت شيبة ،عن أ ّم سلمة زوج النبى
ن الثياب وَلَ ال ُممَشّقَةَ،
ل َت ْل َبسُ ال ُم َعصْ َفرَ مِ َ
عنْها َزوْجها َ
صلى ال عليه وسلم أنه قال(( :ال ُم َتوَفىّ َ
ضبُ)).وفى ((سننه)) أيضاً :من حديث ابن وهب ،أخبرنى مخرمة،
خ َت ِ
ل تَ ْ
ل ت ْكتَحِلُ ،وَ َ
وَلَ الحُلىّ وَ َ
سيَدٍ ،عن أمها ،أن زوجَها
ن الضحاك يقول :أخبرتنى أمّ حكيم بنت أَ ْ
ت المغير َة ب َ
عن أبيه قال :سمع ُ
تُوفى ،وكانت تشتكى عينيها فتكتحِلُ بالجَلء .قال أحمد بن صالح رحمه الّ :الصوابُ :الصوابُ:
ِبكُحْلِ الجلء فأرسلت مولةً لها إلى أمّ سلمة رضى الّ عنها ،فسألتها عن كُحل الجَلء ،فقالت :ل
تكتحِلىْ به إل مِن أمرٍ ل بد منه يشتدّ عليك ،فتكتحلين بالليل ،وتمسحينه بالنهار ،ثم قالت عند ذلك
ع ْي َنىّ
ل صلى ال عليه وسلم حين تُوفى أبو سلمة وقد جعلت على َ
أمّ سلمة :دخل علىّ رسول ا ّ
سوُلَ الّ ،ليس فيه طِيب .فقال:
ص ِبرٌ يا ر َ
صبِراً ،فقال(( :ما هذا يَا أُمّ سلمة))؟ فقلت :إنما هو َ
َ
حنّاءِ
ل بِال ِ
جعَليه إلّ بالّليْلَ ،و َتنْزعيهِ بِالنّهار ،ول َت ْمتَشِطى بِالطّيب وَ َ
ل تَ ْ
ب الوَجْهَ فَ َ
ش ّ
((إنّه يَ ُ
خضَابٌ)) ،قالت :قلت :بأى شىء أمتَشِطُ يا رسول الّ؟ قال(( :بالسّدْر ُت َغلّفِينَ بِ ِه َرأْسَك)).
فَإنّهُ ِ
وقد تضمنت هذه السنة أحكاماً عديدة .أحدها :أنه ل يجوزُ الحدا ُد على مّيتٍ فوقَ
ثلثة أيامِ كائنًا من كان ،إل الزوجَ وحدَه.
وتضمن الحديثُ الفرقَ بين الحدادين من وجهين.
أحدهما :من جهة الوجوب والجواز ،فإن الحداد على الزوج واجب ،وعلى غيره
جائز.
الثانى :من مقدار مدة الحداد ،فالحدادُ على الزوج عزيمة ،وعلى غيره
رخصة وأجمعت المة على وجوبه على المتوفّى عنها زوجُها إل ما حُكى عن الحسن ،والحكم بن
عتيبة .أما الحسن ،فروى حماد بن سلمة ،عن حميد ،عنه ،أن المطلقة ثلثاً ،والمتوفّى عنها زوجُها
ن وتختضِبان ،وتنتقلن ،وتصنعان ما شاءتا ،وأما الحكم :فذكر عنه
تكتحلن وتمتشِطَان ،وتتطيّبا ِ
شعبةُ :أن المتوفى عنها ل تُحِدّ.
قال ابنُ حزم :واحتج أهل هذه المقالة ،ثم ساق مِن طريق أبى الحسن محمد بن عبد السلم ،حدثنا
محم ُد بنُ بشار ،حدثنا محمد بن جعفر ،حدثنا شُعبة ،حدثنا الحكم بن عتيبة ،عن عبد الّ بن شداد بن
405
ن ثلثَة أيّامٍ
ل صلى ال عليه وسلم قال لمرأة جعفر بن أبى طالب(( :إذا كَا َ
الهاد ،أن رسولَ ا ّ
ن َبعْ َد ثلثة أيام)) شعبة شك.
فالبَسى ما شئتِ ،أو إذا كَا َ
ل بن
ومن طريق حماد بنِ سلمة ،حدثنا الحجّاج بنُ أرطاة ،عن الحسن ابن سَعدِ ،عن عبد ا ّ
ت النبىّ صلى ال عليه وسلم أن تبكى على جعفر وهى امرأتُه،
شداد ،أن أسما َء بنت عُميس استأذن ِ
فَأذِنَ لها ثلثةَ أيام ،ثم بعث إليها بعد ثلثة أيام أن تطهرى واكتحلى.
(يتبع)...
قالوا :وهذا ناسخ لحاديث الحداد ،لنه بعدها ،فإن أم سلمة رضى الّ عنها روت @
ت أبى سلمة ول خلف أن موت أبى
ل عليه وسلم أمرها به إثر مو ِ
حديث الحداد ،وأنه صلّى ا ّ
سلمة كان قبل موتِ جعفر رضى الّ عنهما.
وأجاب الناسُ عن ذلك بأن هذا حديث منقطع ،فإن عبد الّ بن شداد بن الهاد لم يسمع من
ل صلى ال عليه وسلم ،ول رآه ،فكيف يُقَدّمُ حديثُه على الحاديث الصحيحة المسندة التى
رسول ا ّ
ث الئمة الذين هم
ل مطعن فيها؟ وفى الحديث الثانى :الحجاج بن أرطاة ،ول يُعارض بحديثه حدي ُ
فرسانُ الحديث.
فصل
الحكم الثانى :أن الحداد تابع للعِدة بالشهور ،أما الحامل ،فإذا انقضى حملُها ،سقط وج ْوبُ
الحداد عنها اتفاقاً ،فإن لها أن تتزوج ،وتتجمّل ،وتتطيّب لزوجها ،وتتزيّن له ما شاءت.
فإن قيل :فإذا زادت مدةُ الحمل على أربع ِة أشهر وعشر ،فهل يسقطُ وجوبُ الحداد ،أم
يست ِمرّ إلى الوضع؟ قيل :بل يست ِمرُ الحداد إلى حين الوضع ،فإنه من توابع العدة ،ولهذا ُقيّد
بمدتها ،وهو حُكم من أحكام العِدة ،وواجب من واجباتها ،فكان معها وجوداً وعدماً.
فصل
الحكم الثالث :أن الحداد تستوى فيه جمي ُع الزوجات المسلمة والكافرة ،والحُرة والمة،
ل الجمهور :أحمد ،والشافعى ،ومالك .إل أن أشهب ،وابنَ نافع قال :ل
والصغيرة والكبير ،وهذا قو ُ
ل أبى حنيفة ،ول إحداد عنده على الصغيرة.
إحداد على الذمية ،ورواه أشهب عن مالك ،وهو قو ُ
ى صلى ال عليه وسلم جعل الحداد من أحكام من يؤمن
ب هذا القول بأن النب ّ
واحتج أربا ُ
ل واليوم الخر ،فل تدخُلُ فيه الكافرةُ ،ولنها غي ُر مكلّفة بأحكام الفروع.
با ّ
406
قالوا :وعدو لُه عن اللفظ العام المطلق إلى الخاص المقيّد باليمان يقتضى أن هذا من أحكام
ق أن
اليمان ولوازِمه وواجباته ،فكأنه قال :من التزم اليمان فهذا من شرائعه وواجباته .والتحقي ُ
ت لهم أيضاً ،وإنما يقتضى
ل الفعل عن المؤمنين ل يقتضى نفىَ حُكمه عن الكفار ،ول إثبا َ
نفى حِ ّ
أن من التزم اليمان وشرائعه ،فهذا ل يَحِلُ له ،ويجب على كل حال أن يلزم اليمان وشرائعه،
ولكن ل يلزمه الشارعُ شرائعَ اليمان إل بعد دخلوه فيه ،وهذا كما لو قيل :ل يحِل لمؤمن أن يترُك
الصلة والحجّ والزكاة ،فهذا ل يدل على أن ذلك حِلّ للكافر .وهذا كما قال فى لباس الحرير(( :لَ
ن َلعّاناً)).
ن أَنْ َيكُو َ
ل َي ْنبَغى ِل ْل ُم ْؤمِ ِ
َي ْنبَغى هذَا لِل ُمتّقِينَ)) ،فل يدل أنه ينبغى لغيرهم .وكذا قولهَ (( :
ت لمن التزم اليمان ،ومن لم
ع ْ
وسر المسألة :أن شرائ َع الحلل والحرام واليجاب ،إنما شُر َ
خّلىَ بينه وبين
يلتَزمه وخلى بينه وبين دينه ،فإنه يُخلى بينَه وبينَ شرائع الدين الذى التزمه ،كما ُ
أصله ما لم يُحاكم إلينا ،وهذه القاعدة متفق عليها بين العلماء ،ولكن عذ ُر الذين أوجبوا الحداد على
ج المسلم ،وكان منه إلزامها به كأصل العدة ،ولهذا ل يُلزمونها به فى
ق الزو ِ
الذمية ،أنه يتعلق به ح ّ
عِدتها مِن الذمى ،ول يُتعرض لها فيها ،فصار هذا كعقودهم مع المسلمين ،فإنهم يُلزمون فيها
بأحكام السلم وإن لم يتعرض لِعقودِهم مع بعضهم بعضاً ،ومن يُنازعهم فى ذلك يقولون :الحدادُ
حق لّ تعالى ،ولهذا لو اتفقت هى والولياء والمتوفّى على سقوطه بأن أوصاها بتركه ،لم يسقط،
ولزمها التيانُ به فهو جا ٍر مجرى العِبادات وليست الذمية من أهلها ،فهذا سر المسألة.
فصل
ب على المة ،ول أ ّم الولد إذا مات سيدُهما ،لنهما ليسا
الحكم الرابع :أن الحداد ل يج ُ
بزوجين .قال ابنُ المنذر :ل أعلمهم يختلِفُون فى ذلك.
فإن قيل :فهل لهما تُحِدّا ثلثَةَ أيام؟ قيل :نعم لهما ذلك ،فإن النصّ إنما حرم الحداد فوق
جبَه أربعة أَشهر وعشرًا على الزوج ،فدخلت الم ُة وأ ّم الولد فيمن
الثلث على غير الزوج ،وأوْ َ
حرُ ُم عليهن ،ول فيمن يجب.
يحل لهن الحداد ،ل فيمن يَ ْ
فإن قيل :فهل يجب على المعتدة مِن طلق أو وطءِ شبهة ،أو زنى ،أو استبراء
إحداد؟
قلنا :هذا هو الحك ُم الخامس الذى دلّت عليه السنة ،أنه ل إحداد على واحدةٍ من هؤلء ،لن
جبِ الزوجاتِ ،وبالجائز غيرَهن على المواتِ خاصة،
السنة أثبتت ونفت ،فخصّت بالحدادِ الوَا ِ
وما عداهما ،فهو داخل فى حُكم التحريم على الموات ،فمن أين لكم دخولُه فى الحداد على
407
المطلقة البائن؟ وقد قال سعي ُد بن المسيب ،وأبو عبيد ،وأبو ثور ،وأبو حنيفة وأصحابُه ،والمام
ض القياس،
أحمد فى إحدى الروايتين عنه اختارها الخِرقى :إن البائن يجب عليها الحدادُ ،وهو مح ُ
لنها معتدة بائن مِن نكاح ،فلزمها الحداد كالمتوفّى عنها ،لنهما اشتركا فى العِدة ،واختلفا فى
ل المعنى ،وهو
ب أن الحداد معقو ُ
ح ُر َمتْ دواعيه .قالوا :ول ري َ
سببها ،ولن العِدة تُحرّمُ النكاح ،فَ َ
أن إظها َر الزينة والطّيب والحُلى ،مما يدعو المرأة إلى الرجال ،ويدعُو الرجال إليها :فل يُؤمن أن
تك ِذبَ فى انقضاء عدتها استعجالً لذلك ،ف ُم ِن َعتْ مِن دواعى ذلك ،وسدت إليه الذريعة ،هذا مع أن
ن العِدة أيّامً معدودة ،بخلف عِدة الطلق،
الكذب فى عدة الوفاة يتعذّر بظهو ِر موت الزوج ،وكو ِ
ط لها أولى.
فإنها بالقراء وهى ل تُعلم إل من جهتها ،فكان الحتيا ُ
ت مِنَ
طيّبا ِ
ج ِل ِعبَا ِد ِه وال ّ
خرَ َ
حرّ َم ِز ْي َنتَ ُه الّتى أَ ْ
قيل قد أنكر الُّ سبحانَه وتعالى على مَنْ َ
ال ّرزْقِ .وهذا يدل على أنه ل يجوز أن يُحرّ َم من الزينة إل ما حرّمه الّ ورسولُه ،والّ سبحانه قد
حرّم على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم زينة الحداد على المتوفّى عنها مدة العدة ،وأباح
رسولُه الحدادَ بتركها على غير الزوج ،فل يجوز تحريمُ غير ما حرمه ،بل هو على أصلِ
الباحة ،وليس الحدا ُد مِن لوازم العدة ،ول توابعها ،ولهذا ل يجب على الموطوءة بشبهة ،ول
س أولى مِن قياسها على المتوفى عنها لما
المزنى بها ،ول المستبرَأة ،ول الرجعيّةِ اتفاقاً ،وهذا القيا ُ
بين العِدتين من القُروء قدرًا أو سبباً وحكماً ،فإلحاقُ عِدة القراء بالقراء أولى من إلحاق عِدة
القراء بعِدة الوفاة ،وليس المقصودُ من الحداد على الزوج الميت مجرّدَ ما ذكرتم مِن طلب
ل الدخول ،وإنما هو مِن
جبُ قب َ
الستعجال ،فإن العدة فيه لم تكن لمجرد العلم ببراء ِة الرّحِم ،ولهذا ت ِ
تعظيم هذا العقد وإظهار خطره وشرفه ،وأنه عند الّ بمكان ،فجعلت العدة حريماً له ،وجعل
الحداد مِن تمام هذا المقصود وتأكده ،ومزيدِ العتناء به ،حتى جُعلت الزوجة أولى بفعله على
زوجها مِن أبيها وابنها وأخيها وسائرِ أقاربها ،وهذا مِن تعظيم هذا العقدِ وتشريفِه ،وتأك ِد الفرقِ بينه
شرِعَ فى ابتدائه إعلنُه ،والشها ُد عليه ،والضّربُ بالدّف
وبين السّفاح من جميع أحكامه ،ولهذا ُ
لتحقق المضادة بينَه وبينَ السّفاح ،وشرع فى آخره ،وانتهائه من العدة والحداد ما لم يُشرع فى
غيره.
فصل
ص دون الراءِ
الحكم السادس فى الخصال التى تجتنِبها الحادةُ ،وهى التى دل عليها الن ّ
والقوال التى ل دليل عليها وهى أربعة:
408
ل تَمسّ طِيباً)) ،ول خلفَ فى تحريمه
أحدها :الطيب بقوله فى الحديث الصحيحَ (( :
عند من أوجب الحداد ،ولهذا لما خرجت أ ّم حبيبة رضى الّ عنها من إحدادها على أبيها أبى
سفيان ،دعت بطيب ،فدهنت منه جارية ،ثم مست بعارضيها ،ثم ذكرتِ الحديثَ ،ويدخل فى
الطيب :المسكُ ،والعنبرُ ،والكافورُ ،والند ،والغالِية ،والزّباد ،والذّريرة ،والبخور ،والدهان ،كدُهن
البان ،والورد والبنفسج ،والياسمين ،والمياه المعتصرة من الدهان الطيبة ،كماء الورد ،وماء
ل فيه الزيتُ ،ول الشيرج ،ول السمن ،ول
القرنفل ،وماء زهر النارنج ،فهذا ُكلّه طِيب ،ول يدخُ ُ
تُمتع من الدهان بشىء من ذلك.
فصل
الحكم السابع :وهى ثلثة أنواع .أحدها :الزينة فى بدنها ،فيحرم عليها الخضابُ ،والنّقشُ،
ى صلى ال عليه وسلم نص على الخِضاب منبهًا به
والتطريفُ ،والحُمرة ،والسفيدَاجُ ،فإن النب ّ
على هذه النواع التى هى أكثرُ زينة منه ،وأعظمُ فتنة ،وأشدّ مضادة لمقصود الحداد ،ومنها:
الكُحل ،والنهى عنه ثابت بالنص الصريح الصحيح.
ل ولو
ثم قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف :منهم أبو محمد ابن حزم :ل تكتحِ ُ
ذهبت عيناها ل ليلً ول نهاراً ،ويُساعد قولَهم ،حديثُ أم سلمة المتفق عليه :أن امرأة توفى عنها
زوجها ،فخافوا على عينها ،فَأ َتوُا النبى صلى ال عليه وسلم ،فاستأذنوه فى الكحل ،فما أذن فيه ،بل
قال(( :ل)) مرتين أو ثلثاً ،ثم ذكر لهم ما كانوا يفعلونه فى الجاهلية من الحداد البليغ سنَةً،
ويصبِرن على ذلك ،أفل يصبرن أربعة أشهر وعشراً .ول ريب أن الكحل من أبلغ الزينة ،فهو
كالطيب أو أشد منه .وقال بعض الشافعية :للسوداء أن تكتحل ،وهذا تصرف مُخَاِلفٌ للنص
ل صلى ال عليه وسلم ل تُفرّق بين السود والبيض ،كما ل تُفرق بين
والمعنى ،وأحكامُ رسول ا ّ
االطِوال والقِصار ،ومثلُ هذا القياس بالرأى الفاسد الذى اشتد نكيرُ السلف له وذمّهم إياه.وأما
جمهور العلماء ،كمالك ،وأحمد ،وأبى حنيفة والشافعى ،وأصحابهم ،فقالوا :إن اضطرت إلى
ث أم سلمة
ل به ليلً وتمسحه نهاراً ،وحجتُهم :حدي ُ
الكحل بالثمد تداوياً ل زينة ،فلها أن تكتحِ َ
عَل ْيكِ
شتَ ّد َ
المتقدم رضي الّ عنها ،فإنها قالت فى كحل الجلء :ل تكتَحِلُ إل لما ل بُدّ منه ،يَ ْ
فتكتحلين بالليل ،وتغسلينه بالنهار .ومن حجتهم :حديث أم سلمة رضى الّ عنها الخر أن رسول
ل صلى ال عليه وسلم دخل عليها ،وقد جعلت عليها صَبراً فقال :ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت :صبر
ا ّ
ب الوَجْهَ ،فقال :لَ تجعليه إل بالّليْل َو َت ْنزِعيه بال ّنهَار))،
يا رسول الّ ،ليس فيه طيب فقال :إنه يُش ّ
409
وهما حديثٌ واحد ،فّرقه الرواةُ ،وأدخل مالك هذا القدر منه فى ((موطئه)) بلغاً ،وذكر أبو عمر
ل السنن فى كتبهم،
فى ((التَمهيد)) له طرقًا يَش ّد بعضُها بعضاً ،ويكفى احتجاجُ مالك به ،وأدخله أه ُ
واحتج به الئمةُ ،وأقلّ درجاته أن يكون حسناً ،ولكن حديثُها لهذا مخالف فى الظاهر لحديثها
ل على أن المتوفى عنها ل تكتحِلُ بحال ،فإن النبى صلى ال عليه وسلم
المسند المتفق عليه ،فإنه يَدُ ّ
لم يأذن للمشتكية عينها فى الكحل ل ليلً ول نهاراً ،ول مِن ضرورة ول غيرِها ،وقال(( :ل))،
مرتين أو ثلثاً ،ولم يقل :إل أن تضطر .وقد ذكر مالك عن نافع ،عن صفية ابنة عبيد ،أنها اشتكت
عينها وهى حَا ّد على زوجها عبد الّ بن عمر ،فلم تكتحِل حتى كادت عيناها َت ْرمَصَانِ.
قال أبو عمر :وهذا عندى وإن كان ظاهره مخالفاً لحديثها الخر ،لما فيه من إباحته بالليل.
ل أعلم أن
وقوله فى الحديث الخر(( :ل)) ،مرتين أو ثلثًا على الطلق ،أن ترتِيبَ الحديثَين وا ّ
ل أعلم مِنها مبلغاً ل بُدّ لها فيه
الشكاة التى قال فيها رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم :ل ،لم تبلغ وا ّ
ب بصرها ،لباح لها ذلك ،كما فعل
مِن الكحل ،فلذلك نهاها ،ولو كانت محتاجة مضطرة تخافُ ذها َ
بالتى قال لها(( :اجعليه بالّليْلِ وامْسَحيهِ بالنّهارِ)) ،والنظر يشهد لهذا التأويل ،لن الضرورات
المحظورات إلى حال المباح فى الصول ،ولهذا جعل مالك فتوى أم سلمة رضى الّ عنها تفسيراً
للحديث المسند فى الكحل ،لن أم سلمة رضى الّ عنها روته ،وما كانت لِتخالِفَه إذا صحّ عندها،
وهى أعلمُ بتأويله ومخرجه ،والنظ ُر يشهد لذلك ،لن المضطر إلى شىء ل يُحكم له بحكم المرفّه
المتزين بالزينة ،وليس الدواء والتداوى من الزينة فى شىء ،وإنما نُهيت الحادة عن الزينة ل عن
ل الفقه ،وبه قال
التداوى ،وأمّ سلم َة رضى الّ عنها أعلم بما روت مع صحته فى النظر ،وعليه أه ُ
مالك والشافعى ،وأكثر الفقهاء.
ل فى ((موطئه)) :أنه بلغه عن سالم بن عبد الّ ،وسليمان بن يسار،
وقد ذكر مالك رحمه ا ّ
أنهما كانا يقولن فى المرأة يُتوفى عنها زوجُها :إنها إذا خشيت على بصرها مِن رمدٍ بعينيها ،أو
شكوى أصابتها ،أنها تكتحل وتتداوى بالكحل وإن كان فيه طيب .قال أبو عمر :لن القصد إلى
التداوى ل إلى التطيب ،والعمال بالنيات.
وقال الشافعى رحمه الّ ،الصبر يصفر ،فيكون زينة ،وليس بطيب ،وهو كحل الجلء،
ل عنها للمرأة بالليل حيث ل ترى ،وتمسحه بالنهار حيث يرى ،وكذلك ما
فأذنت أم سلمة رضى ا ّ
أشبهه.
410
وقال أبو محمد بن قدامة فى ((المغنى)) :وإنما تُمنع الحاد ُة مِن الكُحل بالثمد ،لنه تحصل
به الزينة ،فأما الكُحل بالتوتيا والعنزَروت ونحوهما ،فل بأس به ،لنه ل زينةَ فيه ،بل يُ َقبّح العين
صبِ ِر على غير وجهها من بدنها ،لنه إنما ُمنِ َع منه فى
ويزيدها َمرَهاً .قال :ول تُمنع مِن جعل ال ّ
ى صلى ال عليه وسلم :إنه يُشب الوجه.
الوجه ،لنه يُصفره ،فيشبه الخضاب ،فلهذا قال النب ّ
قال :ول تُمنع مِن تقليم الظفار ،ونتفِ البط ،وحلقِ الشعر المندوب إلى حلقه ،ول من
ث أم سلمة رضى الّ عنها ،ولنه يراد للتنظيف ل للتطيب،
الغتسال بالسّدر ،والمتشاط به ،لحدي ِ
وقال إبراهيم بن هانىء النيسابورى فى ((مسائله)) قيل لبى عبد الّ :المتوفى عنها تكتحِلُ بالثمد؟
صبِر إذا خافت على عينها واشتكت شكوى شديدة.
قال :ل ،ولكن إن أرادت ،اكتحلت بال ّ
فصل
النوع الثانى :زينةُ الثياب ،فيحرُم عليها ما نهاها عنه النبى صلى ال عليه وسلم ،وما هو
صبُوغاً)) .وهذا يعم
س َثوْبًا َم ْ
أولى بالمنع منه ،وما هو مثلُه .وقد صح عنه أنه قال(( :ولَ َت ْل َب ُ
المعصفر والمزعفر ،وسائرَ المصبوغ بالحمر والصفر ،والخضر ،والزرق الصافى ،وكل ما
ن الثّيابِ،ول ال ُممَشّق)).
ل َت ْل َبسُ ال ُم َعصْفَ َر مِ َ
يُصبغ للتحسين والتزيين .وفى اللفظ الخر(( :وَ َ
وههنا نوعان آخران .أحدهما :مأذون فيه ،وهو ما نُسج من الثياب على وجهه ولم يدخل
فيه صبغ من خز ،أو قز ،أو قطن ،أو كتان ،أو صوف ،أو وبر ،أو شعر ،أو صبغ غزله ونسج مع
غيره كالبروُد.
والثانى :ما ل يُراد بصبغه الزينة مثل السواد ،وما صُبغ لتقبيح ،أو ليستر الوسخ ،فهذا ل
يمنع منه.
قال الشافعى رحمه الّ :فى الثياب زينتان .إحداهما :جمال الثياب على اللبسين ،والسترة
ب زينة لمن يلبسُها ،وإنما نُهيت الحادةُ عن زينة بدنها ،ولم تُنه عن ستر عورتها ،فل
للعورة .فالثيا ُ
ف والوبر ،وكل ما
ل ثوبٍ من البياض ،لن البياض ليس بمزين ،وكذلك الصو ُ
بأس أن تلبس كُ ّ
ل صبغ لم يرد تزيين الثوب مثل
يُنسج على وجهه ولم يدخل عليه صِبغ من خز أو غيره ،وكذلك كُ ّ
السواد ،وما صبغ لتقبيحه ،أو لنفى الوسخ عنه ،فأما كان مِن زينة ،أو وشى فى ثوبه أو غيره فل
تلبسه الحادة ،وذلك لِكل حرة أو أمة ،كبيرة أو صغيرة ،مسلمة أو ذمية .انتهى كلمه.
قال أبو عمر :وقول الشافعى رحمه الّ فى هذا الباب نحو قول مالك ،وقال أبو حنيفة :ل
س ثوب عصب ول خز وإن لم يكن مصبوغًا إذا أرادت به الزينة ،وإن لم تُرد بلبس الثوب
تلبَ ُ
411
المصبوغ الزينة ،فل بأس أن تلبسه .وإذا اشتكت عينُها ،اكتحلت بالسود وغيره ،وإن لم تشتكِ
عينُها ،لم تكتحل.
فصل
وأما المام أحمد رحمه الّ ،فقال فى رواية أبى طالب :ول تتزين المعتدة ،ول تتطيب
ل بكُحل زِينة ،وتدّهنُ بدُهن ليس فيه طيب ،ول تُق ّربُ مسكاً ،ول
بشىء من الطيب ،ول تكتحِ ُ
زعفرانًا للطيب ،والمطلقة واحدة أو اثنتين تتزيّن ،وتتش ّوفُ لعله أن يُراجعها.
وقال أبو داود فى مسائله :سمعت أحمد قال :المتوفّى عنها زوجُها ،والمطلقةُ ثلثاً،
ن الطيبَ والزينة.
والمحرمة يجتنْب َ
وقال حرب فى ((مسائله)) :سألتُ أحمد رحمه الّ ،قلت :المتوفى عنها زوجها والمطلقة،
هل تلبسان البُرد ليس بحرير؟ فقال :ل تتطيب المتوفى عنها ،ول تتزين بزينة ،وشدد فى الطيب،
ل عند طُهرها .ثم قال :وشبهت المُطَلّقَة ثلثاً بالمتوفّى عنها ،لنه ليس لزوجها
إل أن يكون قلي ً
عليها رجعة ،ثم ساق حرب بإسناده إلى أمّ سلمة قال :المتوفّى عنها ل تلبس المعصفر من الثياب،
ول تختضب ،ول تكتحِلُ ،ول تتطيب ،ول تمتشط بطيب.
ل عن المرأة تنت ِقبُ فى
وقال إبراهيم بن هانىء النيسابورى فى ((مسائله)) :سألتُ أبا عبد ا ّ
عدتها ،أو تدهن فى عدتها؟ قال :ل بأس به ،وإنما ُك ِر َه للمتوفّى عنها زوجُها أن تتزين .وقال أبو
عبد الّ :كل دُهن فيه طيب ،فل تدهِنُ به ،فقد دار كلم المام أحمد ،والشافعى ،وأبى حنيفة رحمهم
ل على أن الممنوع منه مِن الثياب ما كان من لباس الزينة من أى نوع كان ،وهذا هو الصوابُ
ا ّ
قطعاً ،فإن المعنى الذى مُنعت مِن المعصفر والممشّق لجله مفهوم ،والنبى صلى ال عليه وسلم
ض والبرود
خصه بالذكر مع المصبوغ تنبيهًا على ما هو مثلُه ،وأولى بالمنع ،فإذا كان البي ُ
المحبرّة الرفيعة الغالية الثمان مما يُراد للزينة لرتفاعِهما وتناهى جودتهما ،كان أولى بالمن ِع مِن
ل ورسوله لم يَس َت ِربْ فى ذلك ،ل كما قال أبو محمد ابن
الثوب المصبوغ .وكل من عقل عن ا ّ
حزم :إنها تجتنب الثياب المصبغة فقط ،ومباحٌ لها أن تلبس بعدُ ما شاءت من حرير أبيض وأصفر
مِن لونه الذى لم يُصبغ ،وصوف البحر الذى هو لونُه ،وغير ذلك .ومباح لها أن تلبسَ المنسوجَ
بالذهب والحُلى كله مِن الذهب والفضة ،والجوهر والياقوت ،والزمرد وغير ذلك ،فهى خمستةُ
أشياء تجتنبها فقط ،وهى :الكحل كله لضرورة أو لغير ضرورة ،ولو ذهبت عيناها ل ليلً ول
ل ثوب مصبوغ مما يُلبس فى الرأس والجسد ،أو على شىء منه ،سواء فى
نهاراً ،وتجتنب فرضًا كُ ّ
412
ذلك السواد والخضرة ،والحُمرة والصفرة ،وغير ذلك ،إل العصب وحدَه وهى ثياب موشّاة تُعمل
فى اليمن ،فهو مباح لها .وتجتنب أيضاً :فرضاً الخضابَ ُكلّه جملة ،وتجتنب المتشاط حاشا
التسريح بالمشط فقط ،فهو حللٌ لها ،وتجتنب أيضاً :فرضًا الطيبَ ُكلّه ،ول تقرب شيئاً حاشا شيئاً
من قسط أو أظفار عند طهرها فقط ،فهذه الخمسة التى ذكرها حكينا كلمه فيها بنصه.
وليس بعجيبٍ منه تحريمُ لبس ثوب أسودَ عليها ليس من الزينة فى شىء ،وإباح ُة ثوب يتقد
ذهبًا ولؤلؤًا وجوهراً ،ول تحري ُم المصبوغ الغليظ لحمل الوسخ ،وإباحة الحرير الذى يأخذ بالعيون
حسنُه وبهاؤه ورُواؤه ،وإنما العجب منه أن يقولَ :هذا دينُ الّ فى نفس المر ،وأنه ل يَحلّ لحد
ب من هذا إقدامه على خلفِ الحديث الصحيح فى نهيه صلى ال عليه وسلم لها عن
خلفه .وأعج ُ
ح ذلك ،لنه من رواية إبراهيم
حلِى .وأعجبُ من هذا ،أنه ذكر الخبرَ بذلك ،ثم قال :ول َيصِ ّ
لباس ال ُ
بن طهمان ،وهو ضعيف ،ولو صح لقلنا به.
َفِللّه ما لقى إبراهيم بن طهمان من أبى محمد ابن حزم ،وهو مِن الحفاظ الثبات
ب الصحيح ،وفيهم الشيخان على
الثقات الذين اتفق الئم ُة الستة على إخراج حديثه ،واتفق أصحا ُ
الحتجاج بحديثه ،وشهد له الئمةُ بالثقة والصدق ،ولم يُحفظ عن أحد منهم فيه جرح ول خدش،
ول يُحفظ عن أحد من المحدثين قط تعليلُ حديث رواه ،ول تضعيفُه به .وقرىء على شيخنا أبى
الحجاج الحافظ فى ((التهذيب)) وأنا أسمع :قال :إبراهيم بن طهمان بن سعيد الخراسانى أبو سعيد
الهروى ولد بهراة ،وسكن نيسابور وقَدِمَ بغداد ،وحدث بها ،ثم سكن بمكة حتى مات بها ،ثم ذكر
عمن روى ،ومن روى عنه ،ثم قال :قال نوح بن عمرو بن المروزى ،عن سفيان بن عبد الملك،
عن ابن المبارك :صحيحُ الحديث ،وقال عبد الّ بن أحمد بن حنبل ،عن أبيه ،وأبى حاتم :ثقة ،وقال
ل بن أحمد بن حنبل ،عن يحيى بن معين :ل بأس به ،وكذلك قال العِجلى ،وقال أبو حاتم:
عبد ا ّ
صدوقٌ حسن الحديث ،وقال عثمان بن سعيد الدارمى :كان ثقة فى الحديث ،ثم لم تزل الئمة
يشتهون حديثه ،ويرغبون فيه ،ويوثقونه .وقال أبو داود :ثقة وقال إسحاق بن راهويه :كان صحيحَ
س الرواية ،كثيرَ السماع ،ما كان بخُراسان أكثر حدثًا منه ،وهو ثقة ،وروى له
الحديث ،ح َ
الجماعة .وقال يحيى بن أكثم القاضى :كان مِن أنبل مَنْ حدّث بخُراسان والعراق والحجاز،
وأوثقهم ،وأوسعهم علماً .وقال المسعودى :سمعت مالك ابن سليمان يقول :مات إبراهيم بنُ طهمان
سنة ثمان وستين ومائة بمكة ولم يخلف مثله.
413
ل عنهم بما هو مطابق لهذه النصوص ،وكاشف عن معناها
وقد أفتى الصحاب ُة رضى ا ّ
خ َتضِب ،ول تل َبسُ
ومقصودها ،فصّح عن ابن عمر أنه قال :ل تكتحِلُ ،ول تتطيب ،ول َت ْ
ل بكُحل
المعصفر ،ول ثوبًا مصبوغاً ،ول برداً ،ول تتزين بِحلى ،شيئًا تُريد به الزينة ،ول تكتحِ ُ
تُريد به الزينة ،إل أن تشتكى عينها.
ل ابن عمر ،عن نافع،
ح عنه من طريق عبد الرزاق ،عن سفيان الثورى ،عن عُبيد ا ّ
وص ّ
ضبُ ول تكتحل ،ول تلبس ثوباً مصبوغًا إل ثوب
عن ابن عمر :ول تمسّ عنها طيباً ،ول تخت ِ
ب به.
عصب تتجلب ُ
صبَ ،ول تمس طيباً إل أدنى الطيب
س الثيابَ المصبغة إل ال َع ْ
وصح عن أمّ عطية :ل تلب ُ
بالقُسط والظفار ،ول تكتحِلُ بكحل زينة.
ب والزينة.
ب الطي َ
وصح عن ابن عباس رضى الّ عنه أنه قال :تجت ِن ُ
س مِن الثياب المصبغة شيئاً ،ول تكتحِلُ ،ول تلبس
وصح عن أمّ سلمة رضى الّ عنها ل تلبَ ُ
حُلياً ،ول تختضب ،ول تتط ّيبُ.
س معصفراً ،ول تُق ّربُ طيباً ،ول تكتحل،
وقالت عائشة أمّ المؤمنين رضى الّ عنها :ل تل َب ُ
ب ال َعصْبِ.
ول تلبس حُلياً ،وتلبس إن شاءت ثيا َ
فصل
ب الزوج ُة المتوفّى عنها زوجها الطيبَ،
وأما النّقابُ ،فقال الخِرقى فى ((مختصره)) :وتجت ِن ُ
والزينة ،والبيتوتة فى غير منزلها ،والكُحلَ بالثمد ،والنّقاب .ولم أج ْد بهذا نصاً عن أحمد.وقد قال
ل عن المرأة تنت ِقبُ فى عِدتها ،أو تدهِن فى
إسحاق ابن هانىء فى ((مسائله)) :سألت أبا عبد ا ّ
عدتها؟ قال :ل بأس به ،وإنما ُك ِر َه للمتوفى عنها زوجها أن تتزيّن .ولكن قد قال أبو داود فى
ب والزينة .فجعل
((مسائله)) عن المتوفى عنها زوجها ،والمطلقة ثلثاً ،والمحرمة :تجتنبن الطي َ
المتوفى عنها بمنزلة المحرمة فيما تجتنبه ،فظاهر هذا أنها تجتنب النقاب ،فلعل أبا القاسم أخذ مِن
ل أعلم وبهذا علله أبو محمد فى ((المغنى)) فقال :فصل الثالث فيما تجتنبه الحادة
نصه هذا وا ّ
ح ِرمَة ،والمحرمة تمتنع من ذلك.
النقاب ،وما فى معناه مثل البرقع ونحوه ،لن المعتدة مشبهة بالمُ ْ
وإذا احتاجت إلى ستر وجهها،سدلت عليه كما تفعل المحرمة.
فصل
414
فإن قيل :فما تقولون فى الثوب إذا صُب َغ غزلُه ثم نسج ،هل لها لبسه؟ قيل :فيه وجهان،
وهما احتمالت فى المغنى أحدهما يحرم لبسه ،لنه أحسن وأرفع ولنه مصبوغٌ للحسن ،فأشبه ما
ل صلى ال عليه وسلم فى حديث أمّ سلمة رضي
صُبغَ بعد نسجه ،والثانى :ل يحرم لقول رسول ا ّ
صبٍ)) ،وهو ما صُبغَ غزلُه قبل نسجه ،ذكره القاضى ،قال الشيخ :والول
ع ْ
ل َث ْوبَ َ
الّ عنها(( :إ ّ
أصح ،وأما العَصَب :فالصحيح :أنه نبتٌ تصبغ به الثياب ،قال السهيلى :الورس والعصب نبتان
باليمن ل ينبتان إل به ،فرخص النبى صلى ال عليه وسلم للحا ّدةِ فى لبس ما يُصبغ بالعَصب ،لنه
فى معنى ما يصبغ لغير تحسين ،كالحمر والصفر ،فل معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة
ل أعلم.
بصبغه ،كحصولها بما صُبغ بعد نسجه .وا ّ
ذِكرُ حكمِ رسول الِّ صلى ال عليه وسلم فى الستبراء
ل صلى ال
ل عنه ،أن رسول ا ّ
ثبت فى صحيح مسلم :من حديث أبى سعيد الخُدرى رضى ا ّ
عليه وسلم يومَ حُنين بعث جيشًا إلى أوطاس ،فلقى عدواً ،فقاتلوهم ،فظهروا عليهم ،وأصابُوا سبايا،
ل أزواجهن
ل صلى ال عليه وسلم تحرّجوا من غِشيانهن مِن أج ِ
فكأن ناسًا مِن أصحابِ رسول ا ّ
ت أ ْيمَا ْنكُمْ }
ل مَا َمَل َك ْ
ن النّسَاءِ إ ّ
صنَاتُ مِ َ
ح َ
لّ عزّ وجلّ فى ذلك{ :والمُ ْ
من المشركين ،فأنزل ا ُ
ن لكُمْ حَلَلٌ إذا انقضت عدتهن.وفى ((صحيحه)) أيضاً :من حديث أبى
[النساء ،]24 :أىَ :فهُ ّ
علَى بابِ فُسطاط ،فقال:
ل عنه ،أن النبىّ صلى ال عليه وسلم م ّر بامرأةٍ مُجحّ َ
الدرداء رضى ا ّ
ن َأ ْل َعنَهُ
ل صلى ال عليه وسلم(( :لَقَدْ َه َم ْمتُ أَ ْ
ل رَسولُ ا ّ
ن ُيلِ ّم بها)) .فقالوا :نعم ،فقا َ
((لَ َعلّ ُه يُريد أَ ْ
ل لَهُ)).
ل يَحِ ّ
ستَخْ ِدمُ ُه و ُهوَ َ
ف يَ ْ
ل لَهَُ ،ك ْي َ
ل يَحِ ّ
ف ُي َو ّرثُ ُه و ُهوَ َ
ل َمعَهُ َق ْب َرهَُ ،ك ْي َ
َلعْنًا يَدْخُ ُ
وفى الترمذي :من حديث عِرباض بن سارية ،أن النبىّ صلى ال عليه وسلم حرّم وَطْءَ
ضعْنَ مَا فى بُطُو ِنهِنّ.
حتّى َي َ
السّبايَا َ
ل عنه ،أن النبىّ
وفى ((المسند)) ،وسنن أبى داود :من حديث أبى سعيد الخُدري رضى ا ّ
حتّى
حمْلٍ َ
غ ْيرُ ذَاتِ َ
حتّى َتضَعَ ،وَلَ َ
ل تُوطَأُ حَامِلٌ َ
صلى ال عليه وسلم قال فى سبايا أَوطاسَ (( :
ح ْيضَةً)).
تَحِيضَ َ
ى صلى ال عليه وسلم
ل عنه ،أن النب ّ
وفى الترمذى :من حديث رُويفع بن ثابت رضى ا ّ
غ ْيرِه)) .قال الترمذى :حديث حسن.
ل يَسْقى مَا َء ُه َولَد َ
لّ وَال َيوْمِ الخر ،فَ َ
ن يُؤمِنُ بِا ِ
ن كَا َ
قال(( :مَ ْ
علَى ا ْمرََأةٍ
ن يَقَعَ َ
خرِ أَ ْ
لّ وَال َيوْمِ ال ِ
ن بِا ِ
ولبى داود ،من حديثه أيضاً(( :لَ َيحِلّ ل ْمرِىءٍ ُي ْؤمِ ُ
س َتبْرئَها)).
حتّى يَ ْ
سبْى َ
مِنَ ال ّ
415
حتّى َتحِيضَ)) .وذكر
سبَايَا َ
ن َثيّبًا مِنَ ال ّ
ل َي ْنكِحَ ّ
خرِ فَ َ
لّ واليَوْمِ ال ِ
ن ُي ْؤمِنُ با ِ
ن كَا َ
ولحمد(( :مَ ْ
ت الوَليد ُة التى تُوطَأ ،أو بيعَت ،أو عَتقت،
البخارى فى ((صحيحه)) :قال ابن عمر :إذا وُ ِه َب ِ
فلُتستبرأ بحيضة ،ول تُستبرأ العذراءُ.
ل صلى
وذكر عبد الرزاق ،عن معمر ،عن عمرو بن مسلم ،عن طاووس :أرسل رسول ا ّ
حتّى َتحِيضَ)).
ل يَ َقعَنّ رَجُلٌ عَلى حَامِلٍ ،وَلَ حَائِلِ َ
ال عليه وسلم منادياً فى بعض مغازيهَ (( :
وذكر عن سفيان الثورى :عن زكريا ،عن الشعبى ،قال :أصاب المسلمون سبايا يومَ
ل صلى ال عليه وسلم أن ل يقعوا على حامِلٍ حتى َتضَعَ ،ول على غير
أوطاس ،فأمرهم رسولُ ا ّ
حامل حتّى تحيض.
فصل
فتضمنت هذه السنن أحكاماً عديدة:
أحدها :أنه ل يجوز وط ُء المسبية حتى يُعلم براءةُ رحمها ،فإن كانت حاملً فبوضع حملها،
وإن كانت حائلً فبأن تحيضَ حيضة .فإن لم تكن مِن ذوات الحيض فل نصّ فيها ،واخ ُتِلفَ فيها
وفى البِكر ،وفى التى يُعلم براءةُ رحمها بأن حاضت عند البائع ،ثم باعها عقيبَ الحيض ولم
يطأها ،ولم يُخرجها عن ملكه ،أو كانت عند امرأ ٍة وهى مصونة ،فانتقلت عنها إلى رجل ،فأوجب
ى وأبو حنيفة وأحمد الستبراءَ فى ذلك كله ،أخذًا بعموم الحاديث ،واعتباراً بالعِدة حيث
الشافع ّ
تجب مع العلم ببراءة الرحم ،واحتجاجاً بآثار الصحابة ،كما ذكر عبد الرزاق :حدثنا ابنُ جريج،
ل عنه
قال :قال عطاء :تداولَ ثلثةٌ من التجار جارِيةً ،فولَدت ،فدعا عمر بن الخطاب رضى ا ّ
ل عنه :من ابتاع جارية قد بلغت المحيضَ،
القافة ،فألحقوا ولدها بأحدهم ،ثم قال عمر رضى ا ّ
فليتربّصنْ بها حتى تحيض ،فإن كانت لم تحض فليتربّصنْ بها خمسًا وأربعين ليلة.
ل العدة على من يئست من المحيض ،وعلى من لم تبلغ سن المحيض،
قالوا :وقد أوجب ا ّ
ب على اليسة ،ومن لم تبلغ سنَ المحيض .وقال
وجعلها ثلثة أشهر ،والستبراءُ عدة المة ،فيج ُ
ك براءة رحم المة ،فله
آخرون :المقصو ُد من الستبراء العلمُ ببراءة الرحم ،فحيث تيقن المال ُ
وطؤُها ول استبراء عليه ،كما رواه عبد الرزاق ،عن معمر ،عن أيوب ،عن نافع ،عن ابن عمر
رضى الّ عنه قال :إذا كانت المة عذرا َء لم يستبرئها إن شاء ،وذكره البخارى فى ((صحيحه))
عنه.
416
ل اللخمى ،عن ابن عمر قال:
وذكر حماد بن سلمة ،حدثنا على بن زيد ،عن أيوب بن عبد ا ّ
عنُقَها إبريقُ ِفضّة ،قال ابن عمر :فما ملكتُ نفسى أن
جلُولَء ،كأنّ ُ
وقعت فى سهمى جاريةٌ يومَ َ
س ينظرون.
ت أقبلها والنا ُ
جعل ُ
ومذهب مالك إلى هذا يرجع ،وهاك قاعدته وفروعها :قال أبو عبد الّ المازَرى وقد عقد
قاعدة لباب الستبراء فنذكرها بلفظها.
ل مَنْ
والقول الجامع فى ذلك :أن كل َأمَ ٍة ُأمِنَ عليها الحملُ ،فل يلزم فيها الستبراءُ ،وكُ ّ
غلب على الظن كونها حاملً ،أو شك فى حملها ،أو تردد فيه ،فالستبراءُ لزم فيها ،وكل من غلّب
الظن ببراءة رحمها ،لكنه مع الظن الغالب يجوز حصولُه ،فإن المذهب على قولين فى ثبوتِ
الستبراء وسقوطِه.
ثم خرج على ذلك الفروعَ المختلفة فيها ،كاستبرا ِء الصغيرة التى تُطيق الوطْء ،واليسَة،
وفيه روايتان عن مالك ،قال صاحب ((الجواهر)) :ويجبُ فى الصغيرة إذا كانت ممن قارب سن
الحمل ،كبنت ثلث عشرة ،أو أربع عشرة ،وفى إيجاب الستبراء إذا كانت ممن تُطيق الوطءَ ،ول
حمِلُ مثلها كبنت تسع وعشر ،روايتان أثبته فى رواية ابن القاسم ،ونفاه فى رواية ابن عبد الحكم،
يَ ْ
وإن كانت ممن ل يُطبق الوطء ،فل استبراء فيها .قال :ويجب الستبراء فيمن جاوزت سنّ
الحيض ،ولم تبلغ سنّ اليسة ،مثل ابنة الربعين والخمسين .وأما التى قعدت عن المحيض،
ويئست عنه ،فهل يجب فيها الستبرا ُء أو ل يجب؟ روايتان لبن القاسم ،وابنِ عبد الحكم .قال
ل على الندور ،أو
المازَرى :ووج ُه الصغيرة التى تُطيق الوطء واليسة ،أنه يُمكن فيهما الحم ُ
لِحماية الذريعة ،لئل يدعى فى مواضع المكان أن ل إمكان.
قال :ومِن ذلك استبراءُ المة خوفًا أن تكون زنت ،وهو المعّبر عنه بالستبراء لسوء الظن،
وفيه قولن ،والنفى لشهب.
خشِ ،فيه قولن ،الغالبُ :عَدمُ وطءِ السادات لهن ،وإن كان
قال :ومِن ذلك استبراءُ المَ ِة الوَ ْ
يقع فى النادر.
ومِن ذلك استبراءُ مَنْ باعها مجبوبٌ ،أو امرأة ،أو ذو محرم ،ففى وجوبه روايتان عن
مالك.
ف ثم عجزت ،فرجعت إلى سيدها ،فابنُ القاسم يُث ِبتُ
ومِن ذلك استبراءُ المكاتبة إذا كانت تتص ّر ُ
ب ينفيه.
الستبراءَ ،وأشه ُ
417
ومن ذلك استبراءُ البِكر ،قال أبو الحسن اللخمى :هو مستحب على وجه الحتياط غيرُ
واجب ،وقال غيرُه من أصحاب مالك :هو واجب.
علِ َم المشترى أنه قد استبرأها ،فإنه يُجزىء استبراءُ
ومن ذلك إذا استبرأ البائ ُع المة ،و َ
البائع عن استبراء المشترى.
ومن ذلك إذا أودعه ،فحاضت عند المُودَع حيضة ،ثم استبرأها لم يحتج إلى استبراءٍ ثانٍ،
وأجزأت تلك الحيضة عن استبرائها ،وهذا بشرط أن ل تخرُج ،ول يكون سيدُها يدخلُ عليها.
ومن ذلك أن يشت ِريَها مِن زوجته ،أو ولد له صغير فى عياله وقد حاضت عند البائع ،فابنٌ
القاسم يقول :إن كانت ل تخرج ،أجزأه ذلك ،وأشهبُ يقول :إن كان مع المشترى فى دار وهو
الذابّ عنها ،والناظرُ فى أمرها ،أجزأه ذلك ،سواء كانت تخرج أو ل تخرج.
ومن ذلك إن كان سي ُد المةِ غائباً ،فحين قدم ،اشتراها منه رجل قبل أن تخرج ،أو خرجت
وهى حائض ،فاشتراها قبل أن تطهر ،فل استبراء عليه.
ومِنْ ذلك إذا بيعت وهى حائض فى أوّلِ حيضها ،فالمشهورُ من مذهبه أن ذلك يكون
استبراءً لها ل يحتاجُ إلى حيضة مستأنفَة.
ت يد المشترى منهما ،وقد
ومن ذلك ،الشريكُ يشترى نصيبَ شريكه مِن الجارية وهى تح َ
حاضت فى يده ،فل استبرا َء عليه.
ع كلّها مِن مذهبه تُنبيك عن مأخذه فى الستبراء ،وأنه إنما يجب حيث ل يعلم
وهذه الفرو ُ
ول يُظن براءة الرحم ،فإن عُلمت أو ظُنت ،فَلَ استبراء ،وقد قال أبو العباس ابن سريج وأبو
العباس ابن تيمية :إنه ل يجب استبراءُ البكر ،كما صح عن ابن عمر رضى الّ عنها ،وبقولهم
نقول ،وليس عن النبى صلى ال عليه وسلم نص عام فى وجوب استبراء كل من تجدّد له عليها
ملك على أى حالة كانت ،وإنما نهى عن وطءِ السبايا حتى تضعَ حواملُهن ،وتحيض حوائلهن.
فإن قيل :فعمومُه يقتضى تحريم وطء أبكارهن قبل الستبراء ،كما يمتنع وطء الثيب؟.
قيل :نعم ،وغايتُه أنه عموم أو إطلق ظهر القصدُ منه ،فيُخص أو يُقيد عند انتفاء موجبِ
ن يُؤمِنُ بِالّ
ن كَا َ
الستبراء ،ويخص أيضًا بمفهوم قوله صلى ال عليه وسلم فى حديث رويفع(( :مَ ْ
حتّى تحِيضَ)) .ويخص أيضًا بمذهب الصحابى ،ول يعلم له
ن السّبايَا َ
ل َي ْنكِحْ َثيّبًا مِ َ
خرِ فَ َ
وَاليَوْمِ ال ِ
مخالف.
418
ل صلى ال عليه وسلم علياً
وفى صحيح البخارى :من حديث بريدة ،قال :بعث رسول ا ّ
س ِبيّةً ،فأصبح وقد
خ ُمسَ ،فاصطفى علىٌ منها َ
ل عنه إلى خالد يعنى باليمن لِيقبض ال ُ
رضى ا ّ
صنَ َع هذا؟ قال
اغتسل ،فقلتُ لخالد :أما ترى إلى هذا؟ وفى رواية :فقال خالد لبُريدة :أل ترى ما َ
ت ذلك له،
ى صلى ال عليه وسلم ،ذكر ُ
ل عنه ،فلما قدمنا إلى النب ّ
بريدة :و ُك ْنتُ ُأ ْبغِضُ عليًا رضى ا ّ
س َأ ْك َثرَ مِنْ َذِلكَ)).
خ ُم ِ
ل ُت ْب ِغضْهُ فَإنّ له فى ال ُ
عِليّا))؟ قلت :نعم ،قالَ (( :
فقال(( :يا ُب َريْ َد َة َأ ُت ْبغِضُ َ
فهذه الجاريةُ إما أن تكون بكراً فلم ير علي وجوب استبرائها ،وإما أن تكون فى آخر حيضها،
فاكتفى بالحيضة قبل تملّكه لها .وبكل حال ،فل بد أن يكون تحقق براءَة رحمها بحيث أغناه عن
الستبراء.
(يتبع)...
ل النبى صلى ال عليه وسلم حقّ التأمل ،وجدت قوله(( :وَلَ ُتوْطَأُ حَامِلٌ
فإذا تَأملتَ قو َ @
حتّى َتحِيضَ)) ،ظهر لك منه أن المراد بغير ذاتِ الحمل مَنْ يجوزُ
حمْلٍ َ
غ ْيرُ ذَاتِ َ
حتّى َتضَعَ ،وَلَ َ
َ
أن تكون حاملً ،وأَن ل تكون ،فيُمسك عن وطئها مخافة الحمل ،لنه ل علم له بما اشتمل عليه
رحمها ،وهذا قاله فى المسبيات لعدم علم السابى بحالهنّ.
ل من ملك أمة ل يعلم حالها قبل الملك ،هل اشتمل رحمها على حمل أم ل؟ لم
وعلى هذا َفكُ ّ
يطأها حتى يستبرئها بحيضة ،هذا أمر معقول ،وليس بتعبد محض ل معنى له ،فل معنى لستبراء
ل مثلُها ،والتى اشتراها من امرأته وهى فى بيته ل تخرُج أصلً،
حمِ ُ
العذراء والصغير ِة التى ل يَ ْ
ت المرأة وأرادت أن تتزوج ،استبرأها بحيضة ،ثم
ونحوها ممن يُعلم براءة رحمها ،فكذلك إذا زن ِ
تزوجت ،وكذلك إذا زنت وهى متزوجة ،أمسك عنها زوجها حتى تحيض حيضة.
وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدُها ،اعتدت بحيضة.
قال عبدُ الّ بن أحمد :سألت أبى ،كم عدة أم الولد إذا توفى عنها مولها أو أعتقها؟ قال:
عِدتها حيضة ،وإنما هى أمة فى كل أحوالها ،إن جنت ،فعلى سيدها قيمتها ،وإن جُني عليها ،فعلى
الجانى ما نقص مِن قيمتها .وإن ماتت ،فما تركت مِن شىء فلسيدها ،وإن أصابت حداً ،فح ّد أمة،
وإن زوجها سيدها ،فما ولدت ،فهم بمنزلتها يُعتقون بعتقها ،ويُرقون برقها.
ض الناس :أربعة أشهر وعشراً ،فهذه عِدة الحرة،
وقد اختلف الناس فى عِدتها ،فقال بع ُ
وهذه عِدة أمة خرجت مِن الرق إلى الحرية ،فيلزم من قال :أربعة أشهر وعشراً أن يُورّثها ،وأن
يجعل حُكمها حكم الحرة ،لنه قد أقامها فى العِدة مقا َم الحرة .وقال بعضُ الناس :عدتها ثلث
419
حيض ،وهذا قول ليس له وجه ،إنما تعتد ثلثَ حيض المطلقةُ ،وليست هى بمطلقة ول حُرة ،وإنما
ش ُه ٍر وَعَشْراً}
ن َأ ْر َبعَةَ أ ْ
سهِ ّ
ن َأ ْزوَاجًا َي َت َربّصن بَأنْفُ ِ
ل العدة فقال{ :والّذِينَ ُي َتوَ ّفوْنَ ِم ْنكُم َويَ َذرُو َ
ذكر ا ّ
طلّقَاتُ
[البقرة ،]234 :وليست أم الولد بحرة ول زوجة ،فتعتد بأربعة أشهر وعشر .قال{ :والمُ َ
لثَةَ ُقرُوءٍ} [البقرة ،]228 :وإنما هى أمة خرجت مِن الرّق إلى الحرية ،وهذا
ن ثَ َ
سهِ ّ
ن بَِأنْفُ ِ
َي َت َربّصْ َ
لفظ أحمد رحمه الّ.
وكذلك قال فى رواية صالح :تعتد أ ّم الولد إذا تُوفى عنها مولها ،أو أعتقها حيضة ،وإنما
ى أمة فى كل أحوالها.
هَ
وقال فى رواية محمد بن العباس :عِدة أ ّم الولد أربعة أشهر وعشر إذا توفى عنها سيدها.
وقال الشيخ فى ((المغنى)) :وحكي أبو الخطاب رواية ثالثة عن أحمد :أنها تعتد بشهرين
ل فى ((الجامع)) ،ول أظنها صحيحة عن
وخمسة أيام.قال :ولم أجِده هذه الرواية عن أحمد رحمه ا ّ
أحمد رحمه الّ ،ورُوى ذلك عن عطاء وطاووس وقتادة ،لنها حين الموت أمة ،فكانت عِدتها عدةَ
المة ،كما لو مات رجل عن زوجته المة ،فعتقت بعد موته ،فليست هذه رواية إسحاق بن منصور
عن أحمد.
قال أبو بكر عبد العزيز فى ((زاد المسافر)) :باب القول فى عدة أم الولد من الطلق
ل فى رواية ابن القاسم :إذا مات السيد وهى عند زوج ،فل عِدة عليها ،كيف
والوفاة .قال أبو عبد ا ّ
تعتد وهى مع زوجها؟ وقال فى رواية مهنا :إذا أعتق أمّ الولد ،فل يتزوج أختها حتى تخرج من
عدتها .وقال فى رواية إسحاق ابن منصور :وعِدة أم الولد عدة المة فى الوفاة والطلق والفرقة،
انتهى كلمه.وحُجة من قال :عدتها أربعة أشهر وعشر ،ما رواه أبو داود عن عمرو بن العاص،
عَل ْينَا سنة نبينا محمد صلى ال عليه وسلم ،عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها
أنه قال :ل تُفْسِدُوا َ
أربعة أشهر وعشر :وهذا قول السّعيدين ،ومحمد بن سيرين ،ومجاهد ،وعمر بن عبد العزيز،
وخِلس بن عمرو ،والزهرى ،والوزاعى ،وإسحاق .قالوا :لنها حرة تعتد للوفاة ،فكانت عِدتُها
أربعة أشهر وعشراً ،كالزوجة الحرة.
وقال عطاء ،والنخعى ،والثورى ،وأبو حنيفة ،وأصحابه :تعت ّد بثلثِ حيض ،وحُكىَ عَن
على ،وابن مسعود ،قالوا :لنها ل بد لها مِن عدة ،وليست زوجة ،فتدخل فى آية الزواج المتوفّى
ل فى نصوص استبراء المَاء بحيضة ،فهى أشبه شىء بالمطلقة ،فتعتد بثلثة
عنهن ،ول أمة ،فتدخُ ُ
أقراء.
420
والصوابُ من هذه القوال :أنها تُستَبرأ بحيضة ،وهو قولُ عثمان بن عفان ،وعائشة ،وعبد
ل بن عمر ،والحسن ،والشعبى ،والقاسم ابن محمد ،وأبى قِلبة ،ومكحول ،ومالك ،والشافعى،
ا ّ
وأحمد بن حنبل فى أشهر الروايات عنه ،وهو قول أبى عبيد ،وأبى ثور ،وابن المنذر ،فإن هذا إنما
هو لمجرد الستبراء لزوال الملك عن الرقية ،فكان حيضة واحدة فى حق من تحيض ،كسائر
استبراءات المعتقات ،والمملوكات ،والمسبيات .وأما حديث عمرو بن العاص ،فقال ابن المنذر:
ضعف أحمد وأبو عُبيد حديث عمرو بن العاص .وقال محمد بن موسى :سألت أبا عبد الّ عن
ب مِن حديث عمرو
ج ُ
حديث عمرو بن العاص ،فقال :ل يصح .وقال الميمونى :رأيت أبا عبد الّ يع َ
ل صلى ال عليه وسلم فى هذا؟ وقال :أربعة أشهر
بن العاص هذا ،ثم قال :أين سنةُ رسول ا ّ
وعشراً إنما هى عدة الحرة من النكاح ،وإنما هذه أمة خرجت من الرّق إلى الحرية ،ويلزم من قال
بهذا أن يُورثها ،وليس لقول من قال :تعتد ثلثَ حيض وجه ،إنما تعتد بذلك المطلقة ،انتهى كلمه.
وقال المنذرى :فى إسناد حديث عمرو ،مطرُ بن طهمان أبو رجاء الوراق ،وقد ضعفه غير واحد،
وأخبرنا شيخنا أبو الحجاج الحافظ فى كتاب ((التهذيب)) قال أبو طالب :سألت أحمد بن حنبل عن
مطر الوراق .فقال :كان يحيى بن سعيد يُضعف حديثه عن عطاء ،وقال عبد الّ ابن أحمد بن
حنبل :سألتُ أبى عن مطر الوراق ،قال :كان يحيى بن سعيد يُشبه حديث مطر الوراق بابن أبى
ليلى فى سوء الحفظ ،قال عبد الّ :فسألت أبى عنه؟ فقال :ما أقربَه مِن ابن أبى ليلى فى عطاء
خاصة ،وقال :مطر فى عطاء :ضعيف الحديث ،قال عبد الّ :قلت ليحيى بن معين :مطر الوراق؟
فقال :ضعيف فى حديث عطاء بن أبى رباح ،وقال النسائى :ليس بالقوى .وبعد ،فهو ثقة ،قال أبو
حاتم الرازى :صالح الحديث ،وذكره ابن حبان فى كتاب الثقات ،واحتج به مسلم ،فل وجه لضعف
الحديث به.
وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب ،عن عمرو بن العاص رضى الّ عنه،
ولم يسمع منه ،قاله الدارقطنى ،وله عِلة أخرى ،وهى أنه موقوف لم يقل :ل تُلبسوا علينا سنة نبينا.
قال الدارقطنى :والصوابُ :ل تُلبّسوا علينا ديننا .موقوف .وله علة أخرى ،وهى اضطرابُ
الحديث ،واختلفه عن عمرو على ثلثة أوجه .أحدها :هذا .والثانى :عدة أم الولد عدة الحرة.
والثالث :عدتها إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا ،فإذا أعتقت ،فعدتها ثلث حيض،
والقاويل الثلثة عنه ذكرها البيهقى .قال المام أحمد :هذا حديث منكر حكاه البيهقى عنه ،وقد
روى خِلس ،عن على مثل رواية قبيصة عن عمرو ،أن عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر ،ولكن
421
خِلس بن عمرو قد ُت ُكلّم فى حديثه ،فقال أيوب :ل يُروى عنه ،فإنه صَحَفى ،وكان مغيرة ل ُي ْعبَأُ
بحديثه .وقال أحمد :روايته عن على يقال :إنه كتاب ،وقال البيهقى :روايات خِلس عن على
ضعيفة عند أهل العلم بالحديث ،فقال :هى من صحيفة .ومع ذلك فقد روى مالك ،عن نافع ،عن ابن
عمر فى أم الولد يُتوفى عنها سيدها ،قال :تعتد بحيضة .فإن ثبت عن على وعمرو ما رُوى عنهما،
فهى مسألة نزاع بين الصحابة ،والدليلُ هو الحاكم ،وليس مع مَنْ جعلها أربعةَ أشهر وعشراً إل
ط عموم المعنى تساوى الفراد فى
ق بعموم المعنى ،إذ لم يكن معهم لفظ عام ،ولكن شر ُ
التعل ُ
المعنى الذى ثبت الحكم لجله ،فما لم يُعلم ذلك ل يتحقّقُ الِلحاق ،والذين ألحقوا أ ّم الولد بالزوجة
ن المة من جهة أنها
رأوا أن الشّبهَ الذى بين أم الولد وبينَ الزوجة أقوى من الشبه الذى بينها وبي َ
ت له عِدة
ج ِعَل ْ
بالموت صارت حرة ،فلزمتها العِدة مع حُريتها ،بخلف المة ،ولن المعنى الذى ُ
ق الولد،
الزوجة أربعة أشهر وعشراً ،موجودٌ فى أمّ الولد ،وهو أدنى الوقات الذى يُتيقن فيها خل ُ
ن الزوجة وأم الولد والشريعةُ ل تُفرق بين متماثلين ،ومنازعوهم
وهذا ل يفترق الحالُ فيه بَي َ
صفُ
يقولون :أمّ الولد أحكامُها أحكام الماء ،ل أحكامُ الزوجات ،ولهذا لم تدخل فى قولهَ { :وَلكُمْ ِن ْ
ن ِم ْنكُ ْم ويَ َذرُون
جكُم } [النساء ،]12 :وغيرها ،فكيف تدخل فى قوله{ :والّذِينَ ُي َتوَ ّفوْ َ
مَا َت َركَ َأ ْزوَا ُ
َأزْواجًا } [البقرة ،]240 :قالوا :والعِدة لم تُجعل أربعة أشهر وعشراً لجل مجرد براءة الرحم،
ن براءة رحمها ،وتجب قبل الدخول والخلوة ،فهى مِن حريم عقد النكاح
فإنها تجب على من ُي َتيَقّ ُ
وتمامه .وأما استبراء المة ،فالمقصود منه العلم ببراءة رحمها ،وهذا يكفى فيه حيضة ،ولهذا لم
يُجعل استبراؤها ثلثَة قروء ،كما جعلت عِدة الحرة كذلك تطويلً لزمان الرجعة ،ونظرًا للزوج،
وهذا المعنى مقصو ٌد فى المستبرأة ،فل نصّ يقتضى إلحاقها بالزوجات ول معنى ،فأولى المورِ
ل التوفيق.
بها أن يُشرع لها ما شرعه صاحبُ الشرع فى المسبيات والمملوكات ،ول تتعداه ،وبا ّ
فصل
ل الجمهور،
الحكم الثانى :أنه ل يحصُل الستبراءُ بطُهر البتة ،بل ل بُدّ مِن حيضة ،وهذا قو ُ
ل بطهر كامل ،ومتى طعنت فى
وهو الصوابُ ،وقال أصحابُ مالك ،والشافعى فى قول له :يحص ُ
الحيضة ،تم استبراؤُها بناء على قولهما :إن القراء :الطهار ،ولكن َيرُدّ هذا ،قول رسولِ الّ
ح ْيضَةٍ)) .وقال رُويفع
س َتبْرأَ بِ َ
حتّى تُ ْ
حتّى َتضَعَ ،ولَ حَائِلٌ َ
ل تُوطأ حَامِلٌ َ
صلى ال عليه وسلمَ (( :
لّ وَاليَوْمِ
ن ُي ْؤمِنُ بِا ِ
ن كَا َ
ل صلى ال عليه وسلم يقول يوم حنين(( :مَ ْ
بن ثابت :سمعتُ رسول ا ّ
422
س َت ْبرِئها بِحَيضَة)) رواه المام أحمد وعنده فيه ثلثة ألفاظ:
حتّى يَ ْ
سبْى َ
ن ال ّ
ل يَطَأْ جَا ِريَ ًة مِ َ
خرِ فَ َ
ال ِ
هذا أحدها.
حبَالى
الثانى :نهى رسولُ الّ صلى ال عليه وسلم أن ل توطأ المة حتى تحيض ،وعن ال َ
حتى تضعن.
حتّى تَحِيضَ)) .فعلق
سبَايَا َ
ن ال ّ
ن َثيّبًا مِ َ
ل َي ْنكِحَ ّ
لّ وَال َيوْمِ الخرِ فَ َ
ن بِا ِ
ن يُؤمِ ُ
الثالث(( :مَنْ كَا َ
الحِلّ فى ذلك كله بالحيض وحده ل بالطهر ،فل يَجوز إلغاء ما اعتبره ،واعتبار ما ألغاه ،ول
ب هو الستبراء ،والذى يدل
تعويل على ما خالف نصه ،وهو مقتضى القياس المحض ،فإن الواج َ
على البراءة هو الحيض ،فأما الطهر ،فل دِللة فيه على البراءة ،فل يجوز أن يُعوّلَ فى الستبراء
على ما ل دللة له فيه عليه دون ما يدل عليه ،وبناؤُهم هذا على أن القراء هى الطهار ،بناء على
الخلف للخلف ،وليس بحجة ول شبهة ،ثم لم يُمكنهم بناء هذا على ذاك حتى خالفوه ،فجعلوا
الطهر الذى طلقها فيه قرءاً ،ولم يجعلوا طهر المستبرأة التى تجدد عليها الملكُ فيه ،أو ماتَ سيدها
ث أيضاً كما تبين ،وحتى خالفوا المعنى كما بيناه ،ولم يُمكنهم هذا
فيه قرءاً ،وحتّى خالفُوا الحدي َ
ض الحيضة المقترن بالطهر
البناء إل بعد هذه النواع الثلثة من المخالفة ،وغاية ما قالوا :أن بع َ
يدل على البراءة ،فيقال لهم :فيكون العتماد عليهم حينئذ على بعض الحيضة ،وليس ذلك قرءاً عند
أحد؟ فإن قالوا :هو اعتماد على بعض حيضة وطهر .قلنا :هذا قول ثالث فى مسمى القروء ،ول
يعرف ،وهو أن تكون حقيقته مركب ًة من حيض وطهر.
فإن قالوا :بل هو اسم للطهر بشرط الحيض .فإذا انتفى الشرط ،انتفى المشروط ،قلنا :هذا
إنما يمكن لو علق الشارع الستبراء بقرء ،فأما مع تصريحه على التعليق بحيضة ،فل.
فصل
الحكم الثالث :أنه ل يحصُل ببعض حيضة فى ي ِد المشترى اكتفاء بها .قال صاحب
((الجواهر)) :فإن بِيعت المة فى آخرِ أيام حيضها ،لم يكن ما بقَى مِن أيام حيضها استبراءً لها مِن
غير خلف ،وإن بِيعَت وهى فى أول حيضتها ،فالمشهور من المذهب أن ذلك يكون استبراءً لها.
وقد احتج من نازع مالكاً بهذا الحديث ،فإنه علق الحل بحيضة ،فل بُدّ من تمامها ،ول دليل
فيه على بطلن قوله ،فإنه ل بُ ّد من الحيضة بالتفاق ،ولكن النزاع فى أمر آخر ،وهو أنه هل
ن معظمُها فى مُلكه ،فهذا ل ينفيه
يشترط أن يكون جميع الحيضة وهى فى ملكه ،أو يكفى أن يكو َ
الحديثُ ،ول يُثبته ،ولكن لمنازعيه أن يقولوا :لما اتفقنا على أنه ل يكفى أن يكون بعضُها فى ملك
423
المشترى وبعضُها فى ملك البائع إذا كان أكثرُها عند البائع ،علم أن الحيضة المعتبرة أن تكون،
وهى عند المشترى ،ولهذا لو حاضت عند البائع ،لم يكن ذلك كافياً فى الستبراء.
ومن قال بقول مالك ،يُجيب عن هذا بأنها إذا حاضت قبل البيع وهى مودَعة عند المشترى،
ثم باعها عقيب الحيضة ،ولم تخرج من بيته ،اكتُفى بتلك الحيضة ،ولم يجب على المشترى
استبراء ثان ،وهذا أحد القولين فى مذهب مالك كما تقدم ،فهو يجوز أن يكون الستبراء واقعاً قبل
البيع فى صور ،منها هذه.
ومنها إذا وضعت للستبراء عند ثالث ،فاستبرأها ،ثم بيعت بعده .قال فى ((الجواهر)) :ول
يجزىء الستبراء قبل البيع إل فى حالت منها أن تكونَ تحتَ يدِه للستبراء ،أو بالوديعة ،فتحيضُ
عنده ،ثم يشتريها حينئذ ،أو بعدَ أيام ،وهى ل تخرُجُ ،ول يدخل عليها سيدُها .ومنها :أن يشتريها
ممن هو ساكن معه من زوجته ،أو ولد له صغير فى عياله .وقد حاضت ،فابن القاسم يقول :إن
كانت ل تخرج أجزأه ذلك .وقال أشهب :إن كانت معه فى دار وهو الذاب عنها ،والناظرُ فى
أمرها ،فهو استبراء ،سواء كانت تخرُج أو ل تخرُج .ومنها :إذا كان سيدُها غائباً ،فحين قدم
استبرأها قبل أن تخرُج ،أو خرجت وهى حائض ،فاشتراها منه قبل أن تطهر.
ومنها :الشريكُ يشترى نصيب شريكه من الجارية وهى تحتَ يد المشترى منهما وقد
حاضت فى يده .وقد تقدمت هذه المسائل ،فهذه وما فى معناها تضمنت الستبراء قبل البيع ،واكتفى
به مالك عن استبراء ثان.
فإن قيل :فكيف يجتمع قولُه هذا ،وقوله :إن الحيضة إذا وجد معظمها عند البائع لم يكن
ض بينهما ،وهذه لها موضع وهذه لها موضع ،فكل موضع يحتاج فيه
استبراءاً؟ قيل :ل تناقُ َ
المشترى إلى استبراء مستقل ل يُجزىء إل حيضة لم يوجد معظمُها عند البائع ،وكل موضع ل
يحتاج فيه إلى استبراء مستقل ل يحتاج فيه إلى حيضة ول بعضها ،ول اعتبارَ بالستبراء قبل
البيع ،كهذه الصور ونحوها.
فصل
الحكم الرابع :أنها إذا كانت حاملً ،فاستبراؤها بوضع الحمل ،وهذا كما أنه حكم النص،
فهو مجمع عليه بين المة.
فصل
424
الحكم الخامس :أنه ل يجوزُ وطؤها قبلَ وضع حملها ،أى حمل كان ،سواء كان يلحق
بالواطىء ،كحمل الزوجة والمملوكة ،والموطوءة بشبهة ،أو ل يلحق به كحمل الزانية ،فل يحل
وطءُ حامل مِن غير الواطىء البتة ،كما صرّح به النص ،وكذلك قوله صلى ال عليه وسلم(( :مَنْ
غ ْي ِرهِ)) وهذا َيعُ ّم الزرعَ الطيب والخبيث ،ولن
خرِ فَل يَسْقى مَاءَه َزرْعَ َ
لّ وَال َيوْمِ ال ِ
ن ُي ْؤمِنُ با ِ
كَا َ
ط به أولى مِن صيانته عن الماء الطيب ،ولن
صِيانة ماء الواطىء عن الماء الخبيث حتى ل يختلِ َ
ل هذا الواطىء وماؤه محترم ،فل يجوزُ له خلطه
حمل الزانى وإن كان ل حُرمة له ول لمائه ،فحم ُ
ث من الطيب ،وتخليصه منه ،وإلحاق كل قسم
بغيره ولن هذا مخالف لسنة الّ فى تمييز الخبي ِ
بمجانسه ومشاكله.
والذى يقضى منه العجب ،تجوي ُز من جوز من الفقهاء الربعة العقد على الزانية قبل
استبرائها ووطئها عقيبَ العقد ،فتكون الليلة عند الزانى وقد علقت منه ،والليلة التى تليها فراشاً
للزوج.
ل المنع.
ومن تأمل كمال هذه الشريعة ،علم أنها تأبى ذلك كُلّ الِباء ،وتَمنع منه كُ ّ
ومِن محاسن مذهب المام أحمد ،أن حرّم نكاحها بالكُلية حتى تتوب ،ويرتفعَ عنها
اس ُم الزانية والبغىّ والفاجرة ،فهو رحمه الّ ل يجوز أن يكون الرجل زوجَ بغى ،ومنازعوه
يجوزون ذلك ،وهو أسعدُ منهم فى هذه المسألة بالدلة ُكلّها من النصوصِ والثار ،والمعانى
والقِياس ،والمصلحة والحكمة ،وتحريم ما رآه المسلمون قبيحاً .والناس إذا بلغوا فى سبّ الرجل
صرّحوا له بالزاى والقاف ،فكيف تجوز الشريعةُ مثل هذا ،مع ما فيه من تعرّضه لفساد فراشه،
وتعليق أولد عليه من غيره ،وتعرضه للسم المذموم عند جميع المم؟ وقياسُ قولِ من ج ّوزَ العقد
على الزانية ووطئها قبل استبرائها حتى لو كانت حاملً ،أن ل يوجب استبراء المة إذا كانت
ف لصريح السنة .فإن أوجب استبراءها ،نقض
ل من الزنى ،بل يطؤها عقيب ملكها ،وهو مخاِل ٌ
حام ً
قوله بجواز وطء الزانية قبل استبرائها ،وإن لم يوجب استبراءها ،خالف النصوصَ ،ول ينفعُه
الفرق بينهما ،بأن الزوجَ ل استبراء عليه ،بخلفِ السيد فإن الزوجَ إنما لم يجب عليه الستبراءُ،
لنه لم يعقد على معتدة ،ول حامل من غيره بخلف السيد ،ثم إن الشارع إنما حرم الوطء ،بل
ل من غيره ،وساقياً ماءَه لزرع غيره مع
العقد فى العدة خشيةَ إمكان الحمل ،فيكون واطئاً حام ً
احتمال أن ل يكون كذلك ،فكيف إذا تحقق حملها.
425
وغاية ما يقال :إن ولد الزانية ليسَ لحقًا بالواطىء الول ،فإن الولَد لِلفراش ،وهذا ل يجوزُ
إقدامه على خلط مائه ونسبه بغيره ،وإن لم يلحق بالواطىء الول ،فصيانةُ مائه ونسبه عن نسب ل
يُلحق بواضعه لصيانته عن نسب يلحق به .والمقصود :أن الشرعَ حرّم وطء المة الحامل حتى
ى صلى ال عليه وسلم بين الرجل
تضع ،سواء كان حملُها محرمًا أو غير محرم وقد فرّق النب ّ
والمرأة التى تزوج بها ،فوجدها حُبلى ،وجلدها الحدّ ،وقضى لها بالصّداق ،وهذا صريحٌ فى بطلن
سيّدها
ح على باب فسطاط ،فقالَ(( :لعَلّ َ
العقد على الحامل من الزنى .وصح عنه أنه مر بامرأة مُجِ ّ
ستَخْ ِدمُ ُه وَ ُهوَ لَ
ف يَ ْ
ل َمعَهُ َق ْب َرهَُ ،ك ْي َ
ت أَنْ أَلعْنه لعنًا يَدْخُ ُ
ن ُيلِ ّم بِها))؟ قالوا :نعم.قال(( :لَقَدْ َه َم ْم ُ
ُيرِيدُ أَ ْ
ل لَهُ)).فجعل سبب همّه بلعنته وطأه للمة الحامل ،ولم يستفصِلْ
ل يَحِ ّ
ل لَهَُ ،ك ْيفَ ُي َو ّرثُ ُه وَ ُهوَ َ
يَحِ ّ
عن حملها ،هل هو لحق بالواطِىء أم غيرُ لحق به؟ وقوله:
((كيف يستخ ِدمُه وهو ل يحل له)) أى :كيف يجعلُه عبدًا له يستخ ِدمُه ،وذلك ل يحِل ،فإن
ماء هذا الواطىء يزيدُ فى خلق الحمل ،فيكون بعضُه منه ،قال المام أحمد يزيدُ وطؤه فى سمعه
وبصره.
ل له)) ،سمعت شيخ السلم ابن تيمية يقول فيه :أى :كيف
وقوله(( :كيف يورثه وهو ل يَحِ ّ
ل له ذلك ،لن ماءه
يجعله تركة موروثة عنه ،فإنه يعتقده عبده ،فيجعله ترك ًة تُورث عنه ،ول يَحِ ّ
زاد فى خلقه ،ففيه جزء منه.
ل مِن غيره ،وهو
ل له ذلك ،لن الحم َ
وقال غيره :المعنى :كيف يورثه على أنه ابنُه ،ول يحِ ّ
بوطئه يريد أن يجعله منه ،فيورثه ماله ،وهذا يردّه أولُ الحديث ،وهو قوله(( :كيف يستعبده))؟
أى :كيف يجعله عبده؟ وهذا إنما يدل على المعنى الول .وعلى القولين ،فهو صريح فى تحريم
ل مِن زنى أو من غيره ،وأن فاعل ذلك جدير باللعن ،بل قد
وطء الحامل من غيره ،سواء كان الحم ُ
صرّح جماعة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم :بأن الرجل إذا ملك زوجتَه المة ،لم يطأها
ل منه فى صلب النكاح ،فيكون على ولده الولء لموالى أمه
حتى يستبرئها خشية أن تكون حام ً
بخلف ما علقت به فى ملكه ،فإنه ل ولء عليه ،وهذا كله احتياط لولده :هل هو صريحُ الحرية ل
ل من غيره؟
ولء عليه ،أو عليه ولء؟ فكيف إذا كانت حام ً
فصل
س َت ْب َرأَ
حتّى تُ ْ
حتّى َتضَعَ ،وَلَ حَائِلٌ َ
الحكم السادس :استنبط من قوله(( :ول تُوطَأُ حَامِلٌ َ
ح ْيضَةٍ)) ،أن الحامل ل تحيض ،وأن ما تراه من الدم يكون دمَ فساد بمنزلة الستحاضة ،تصومُ
بِ َ
426
وتُصلى ،وتطوف بالبيت ،وتقرأ القرآن ،وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء ،فذهب عطاءٌ والحسن،
وعكرمة ومكحول ،وجاب ُر بن زيد ،ومحمد بن المنكدر ،والشعبى ،والنخعى ،والحكم ،وحماد،
والزهرى ،وأبو حنيفة وأصحابُه ،والوزاعى ،وأبو عُبيد ،وأبو ثور ،وابن المنذر ،والمام أحمد
فى المشهور من مذهبه ،والشافعى فى أحد قوليه :إلى أنه ليس دمَ حيض .وقال قتادة ،وربيعةُ،
ومالك ،والليث بن سعد ،وعبد الرحمن ابن مهدى ،وإسحاق بن راهوية :إنه دم حيض ،وقد ذكره
البيهقى فى ((سننه)) وقال إسحاق ابن راهويه :قال لى أحمد بن حنبل :ما تقول فى الحامل ترى
الدم؟ فقلت :تصلى ،واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضى الّ عنها .قال :فقال أحمد بن حنبل،
أين أنت عن خبر المدنيين ،خبر أمّ علقمة مولة عائشة رضى الّ عنها؟ فإنه أصح .قال إسحاق:
فرجعت إلى قول أحمد ،وهو كالتصريح من أحمد ،بأن دمَ الحامل دم حيض ،وهو الذى فهمه
إسحاق عنه ،والخبرُ الذى أشار إليه أحمد ،وهو ما رويناه من طريق البيهقى ،أخبرنا الحاكم ،حدثنا
أبو بكر بن إسحاق ،حدثنا أحم ُد بن إبراهيم ،حدثنا ابن بكير ،حدثنا الليث ،عن بكير بن عبد الّ،
عن أ ّم علقمة مولةِ عائشة ،أن عائشة رضى الّ عنها سئلت عن الحامل ترى الدم فقالت :ل
صلّى ،قال البيهقى :ورويناه عن أنس بن مالك ،وروينا عن عمر بن الخطاب ،ما يدل على ذلك.
ُت َ
ل صلى ال عليه وسلم بيت أبى كبير
وروينا عن عائشة رضى الّ عنها ،أنها أنشدت لرسول ا ّ
الهذلى:
ضعَ ٍة وَدَاءٍ ُم ْغيِلِ
وَفَسَا ِد ُم ْر ِ غ ّبرِ ح ْيضَ ٍة
ن كُلّ ُ
و ُم َب ّرأً مِ ْ
ش ْعرَ.
قال :وفى هذا دليل على ابتداء الحمل فى حال الحيض حيث لم ينكر ال ّ
ل عنها أنها قالت :الحبلى ل
قال :وروينا عن مطر ،عن عطاء ،عن عائشة رضى ا ّ
تحيضُ ،إذا رأت الدم ،صلّت .قال :وكان يحيى القطان ينكر هذه الرواية ،ويُضعف رواية ابن أبى
ليلى ،ومطر عن عطاء.
ل عنها
قال :وروى محمد بن راشد ،عن سليمان بن موسى ،عن عطاء ،عن عائشة رضى ا ّ
نحو رواية مطر ،فإن كانت محفوظة ،فيشبه أن تكون عائشة كانت تراها ل تحيض ،ثم كانت تراها
ل أعلم.
تحيض ،فرجعت إلى ما رواه المدنيون ،وا ّ
قال المانعون مِن كون دم الحامل دمَ حيض :قد قسم النبىّ صلى ال عليه وسلم الماء
قسمين :حاملً وجعل عدتها وضع الحمل ،وحائلً فجعل عدتها حَيضة ،فكانت الحيضة علمًا على
ض يُجامع الحمل ،لما كانت الحيضةُ علمًا على عدمه ،قالوا :ولذلك
براءة رحمها ،فلو كان الحي ُ
427
جعل عدة المطلقة ثلثة أقراء ،لِيكون دليلً على عدم حملها ،فلو جامع الحملُ الحيضَ ،لم يكن دليلً
على عدمه :قالوا :وقد ثبت فى ((الصحيح)) ،أن النبى صلى ال عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب
ط ُهرَ ،ثُمّ
حتّى تَ ْ
سكْها َ
جعْها ثُمّ ِل ُيمْ ِ
رضى الّ عنه حين طلق ابنُه امرأتَه وهى حائض(( :مُ ْرهُ َف ْل ُيرَا ِ
لّ أَنْ
ك العِدّ ُة التى َأ َمرَ ا ُ
ل أَنْ َي َمسَّ ،فتِل َ
طلّقَ َقبْ َ
سكَها َبعْدُ ،وإنْ شَاءَ َ
ط ُهرَ ،ثُمّ إنْ شَا َء َأمْ َ
ض ثُ ّم تَ ْ
تَحِي َ
طلّق َلهَا النّسَاءُ)).
تُ َ
ووجه الستدلل به ،أن طلقَ الحامل ليس ببدعةٍ فى زمن الدم وغيره
إجماعاً ،فلو كانت تحيضُ ،لكان طلقُها فيه ،وفى طهرها بعد المسيس بدعة عملً بعموم الخبر،
طلّ ْقهَا طَاهِراً
ج ْعهَا ثُ ّم ليُ َ
قالوا :وروى مسلم فى ((صحيحه)) من حديث ابن عمر أيضًا (( ُمرْهُ َف ْل ُيرَا ِ
َأوْ حَامِلً)) ،وهذا يدل على أن ما تراه من الدم ل يكون حيضاً ،فإنه جعل الطلق فى وقته نظير
الطلق فى وَقت الطهر سواء .فلو كان ما تراه من الدم حيضاً ،لكان لها حالن ،حال طهر ،وحال
حيض ،ولم يجز طلقها فى حال حيضها ،فإنه يكون بدعة قالوا :وقد روى أحمد فى ((مسنده)) من
غ ْي ِرهِ ،وَلَ
ن يَسْقى مَاءه َزرْعَ َ
حديث رويفع ،عن النبى صلى ال عليه وسلم ،قال(( :ل يَحِلّ لحَ ٍد أَ ْ
ح ْملُها)) .فجعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم من
ض َأ ْو َي َتبّينَ َ
حتّى تَحِي َ
يقع عَلى أمَةٍ َ
الحمل .قالوا :وقد ُر ِوىَ عن على أنه قال :إن الّ رفع الحيض عن الحبلى ،وجعل الدم مما تغيض
الرحام.
ل عنه :إن الّ رفع الحيض عن الحبلى ،وجعل الدم رزقًا للولد،
وقال ابنُ عباس رضى ا ّ
رواهما أبو حفص بن شاهين.
قالُوا :وروى الثرم ،والدارقطنى بإسنادهما ،عن عائشة رضى الّ عنها فى الحامل ترى
الدم ،فقالت :الحامل ل تحيض ،وتغتسل ،وتصلى.
وقولها :وتغتسل ،بطريق الندب لكونها مستحاضة ،قالوا :ول يُعرف عن غيرهم خلفهم،
لكن عائشة قد ثبت عنها أنها قالت :الحامل ل تُصلى .وهذا محمول على ما تراه قريبًا من الولدة
باليومين ونحوهما ،وأنه نفاس جمعًا بين قوليها ،قالوا :ولنه دم ل تنقضى به العدة ،فلم يكن حيضاً
كالستحاضة.
وحديث عائشة رضى الّ عنها يدل على أن الحائض قد تحبل ،ونحن نقول بذلك ،لكنه يقطع
حيضَها ويرفعُه .قالوا :ولن الّ سبحانه أجرى العادة بإنقلب دم الطمث لبناً غذاءً للولد ،فالخارجُ
وقت الحمل يكون غيره ،فهو دم فساد.
428
قال المحيضون :ل نزاع أن الحاملَ قد ترى الدَم على عادتها ،ل سيما فى أول
حملها ،وإنما النزاعُ فى حكم هذا الدم ،ل فى وجوده .وقد كان حيضاً قبل الحمل بالتفاق ،فنحن
حبُ حكمَه حتى يأتىَ ما يرفعه بيقين .قالوا :والحك ُم إذا ثبت فى محل ،فالصلُ بقاؤه حتى
نستص ِ
يأتى ما يرفعه ،فالول استصحابٌ لحكم الجماع فى محل النزاع ،والثانى استصحابٌ للحكم الثابت
ى صلى ال عليه وسلم:
فى المحل حتى يتحقق ما يرفعه ،والفرقُ بينهما ظاهر .قالوا :وقد قال النب ّ
سوَ ُد ُي ْع َرفُ)) .وهذا أسود يُعرف ،فكان حيضاً.
حيْضِ فَإنّهُ أ ْ
((إذَا كَانَ دَمُ ال َ
ت لَمْ َتصُ ْم ولم
ض ْ
ن إذَا حَا َ
ستْ إحْدَاكُ ّ
ى صلى ال عليه وسلم(( :أَليْ َ
قالُوا :وقد قال النب ّ
ض المرأة خروج دمها فى أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعاً ،وهذا كذلك لغة
ُتصَلّ؟)) وحي ُ
والصل فى السماء تقريرُها ل تغييرُها.
قالوا :ولن الدم الخارج من الفرج الذى رتّب الشارع عليه الحكام قسمان :حيض
واستحاضة ،ولم يجعل لهما ثالثاً ،وهذا ليس بإستحاضة ،فإن الستحاضة الدمُ المطبق ،والزائد
على أكثر الحيض ،أو الخارج عن العادة ،وهذا ليس واحداً منها ،فبطل أن يكون استحاضة ،فهو
حيض ،قالوا :ول يمكنكم إثباتُ قسم ثالث فى هذا المحل ،وجعله دَم فساد ،فإن هذا ل يثبتُ إل
بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه ،وهو منتف قالوا :وقد رد النبي صلى ال عليه وسلم
جلِسى قَ ْد َر اليّا ِم التى ُك ْنتِ تَحِيضِينَ)) .فدل على أن عادة النساء
المستحاضة إلى عادتها ،وقال(( :ا ْ
معتبرة فى وصف الدمِ وحُكمه ،فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة ،ووقتها من غير زيادة
ول نقصان ول انتقال ،دلّت عادتُها على أنه حيض ،ووجب تحكيمُ عادتها ،وتقديمُها على الفساد
الخارج عن العبادة .قالوا :وأعل ُم المة بهذه المسألة نسا ُء النبى صلى ال عليه وسلم ،وأعلمُهن
عائشة ،وقد صح عنها من رواية أهل المدينة ،أنها ل تُصلى ،وقد شهد له المام أحمد بأنه أصح
من الرواية الخرى عنها ،ولذلك رجع إليه إسحاق وأخبر أنه قولُ أحمد بن حنبل ،قالوا :ول تُعرف
صحة الثار بخلف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة ،ولو صحت فهى مسألة نزاع بين الصحابة،
ول دليل يفصل.
قالوا :ولن عدمَ مجامعة الحيضِ للحمل ،إما أن يُعلم بالحسّ أو بالشرع ،وكلهما منتف،
أما الوّل :فظاهر ،وأما الثانى :فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما ل يجتمعان.
وأما قولُكم :إنه جعله دليلً على براءة الرحم من الحمل فى العدة والستبراء .قلنا :جعل
دليلً ظاهراً أو قطعياً ،الول :صحيح .والثانى :باطل ،فإنه لو كان دليلً قطعياً لما تخلف عنه
429
ل المدةِ مِن حين
مدلُوله ،ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض ،وهذا لم يقله أحد ،بل أو ُ
الوطء ،ولو حاضت بعده عدة حيض ،فلو وطئها ،ثم جاءت بولد لكثرَ من ستة أشهر من حين
الوطء ،ولقل منها من حين انقطاع الحيض ،لحقه النسبُ اتفاقاً ،ف ُعلِ َم أنه أمارة ظاهرة ،قد يتخلف
ف المطر عن الغيم الرطب ،وبهذا يخرج الجوابُ عما استدللُتم به من السنة ،فإنا
عنها مدلولُها تخّل َ
ى صلى ال عليه وسلم قسم
ن المتنازعين .والنب ّ
حكَ ُم بي َ
بها قائلون ،وإلى حكمها صائرون ،وهى ال َ
النساء إلى قسمين :حامل فعِدتُها وضعُ حملها ،وحائل فعِدتها بالحيض ،ونحن قائلون بموجب هذا
غير منازعين فيه ،ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصومُ معه
وتُصلى؟ هذا أمر آخر ل تَعرّضَ للحديث به ،وهذا يقول القائلون :بأن دمَها دمُ حيض ،هذه العبارة
بعينها ،ول يُعد هذا تناقضاً ول خللً فى العبارة.
طلّقْها
جعْها ثُ ّم ِليُ َ
ل عنهُ (( :م ْرهُ َف ْليُرا ِ
ل بن عمر رضى ا ّ
قالوا :وهكذا قولُه فى شأن عبد ا ّ
ل أَنْ َيمَسّها)) ،إنما فيه إباح ُة الطلق إذا كانت حائلً بشرطين :الطهر وعدم المسيس،
طَاهِراً َقبْ َ
فأين فى هذا التعرف لحكم الدم الذى تراه على حملها؟
س على
وقولُكم :إن الحامل لو كانت تحيض ،لكان طلقُها فى زمن الدم بدعة ،وقد اتفق النا ُ
أن طلق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم؟
قلنا :إن النبىّ صلى ال عليه وسلم قسم أحوال المرأة التى يُريد طلقَها إلى حال حمل،
وحالِ خلو عنه ،وجوّز طلق الحامل مطلقاً من غير استثناء ،وأما غي ُر ذات الحمل ،فإنما أباح
طلقها بالشرطين المذكورين ،وليس فى هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد ،بل على أن
الحامل تخالف غيرها فى الطلق ،وأن غيرها إنما تطلق طاهرًا غير مصابة ،ول يُشترط فى
الحامل شىء من هذا ،بل تطلُق عقيبَ الصابة ،وتطلُق وإن رأت الدم ،فكما ل يحرُمُ طلقُها عقيبَ
إصابتها ،ل يحرُم حالَ حيضها وهذا الذى تقتضيه حِكمةُ الشارع فى وقت الطلق إذناً ومنعاً ،فإن
المرأة متى استبان حملُها كان المطلق على بصيرة من أمره ،ولم يعرض له مِن الندم ما يعرِضُ
لهن كلهن بعد الجماع ،ول يشعر بحملها ،فليس ما ُمنِ َع منه نظير ما أُذِنَ فيه ،ل شرعاً ،ول واقعاً،
ن علل المنع من الطلق فى الحيض بتطويل العِدة ،فهذا ل أثر له فى
ول اعتباراً ،ول سيما مَ ْ
الحامل.
430
قالوا :وأما قولُكم :إنه لو كان حيضاً ،لنقضت به العِدة ،فهذا ل يلزمُ ،لن الَّ سبحانه جعل
عِدة الحامل بوضع الحمل ،وعدة الحائل بالقراء ،ول يُمكن انقضاءُ عِدة الحامل بالقراء لفضاء
ع غيره.
ذلك إلى أن يملكها الثانى ويتزوجها وهى حامل من غيره ،فيسقى مَا َء َزرْ َ
قالوا :وإذا كنتُم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل ،وحملتُم على ذلك حديثَ عائشة رضى الّ
عنها ول يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به ،فقد أعطيتُم أن الحيض والحبل يجتمعان ،فبطل
استدللُكم من رأسه ،لن مداره على أن الحيض ل يُجامع الحبل.
فإن قلتم :نحن إنما جوزنا ورودَ الحمل على الحيض ،وكلمُنا فى عكسه ،وهو ورودُ
الحيض على الحمل ،وبينهما فرق.
قيل :إذا كانا متنافيين ل يجتمعان ،فأىّ فرق بين ورودها هذا على هذا وعكسه؟
وأما قولكم :إن الّ سبحانه أجرى العادة بإنقلب د ِم الطمث لبنًا يتغذّى به الولد ولهذا ل
تحيض المراضع .قلنا :وهذا من أكبر حجتنا عليكم ،فإن هذا النقلب والتغذية باللبن إنما يستحكم
ل العادة بأن المرضع ل
بعد الوضع ،وهو زمن سلطان اللبن ،وارتضاع المولود وقد أجرى ا ّ
تحيض .ومع هذا ،فلو رأت دماً فى وقت عادتها ،لحكم له بحكم الحيض بالتفاق ،فلن يحكم له
بحكم الحيض فى الحال التى لم يستحكم فيها انقلبه ،ول تغذى الطفل به أولى وأحرى .قالوا :وهب
أن هذا كما تقولون ،فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن ،وهذا بع َد أن يُنفخ فيه
الروح .فأما قبل ذلك ،فإنه ل ينقلب لبناً لعدم حاجة الحمل إليه.
وأيضاً ،فإنه ل يستحيل كله لبناً ،بل يستحيل بعضه ،ويخرج الباقى ،وهذا القول هو الراجح
ل ودليلً ،والّ المستعان.
كما تراه نق ً
ستَبرأة بغير الوطء فى الموضع الذى يجب
فإن قيل :فهل تمنعون من الستمتاع بالمُ ْ
فيه الستبراء؟ قيل :أما إذا كانت صغيرة ل يوطأ مثلها ،فهذه ل تحرم قبلتها ول مباشرتها ،وهذا
منصوص أحمد فى إحدى الروايتين عنه ،اختارها أبو محمد المقدسى ،وشيخنا وغيرُهما ،فإنه قال:
إن كانت صغيرة بأى شىء تستبرأ إذا كانت رضيعة؟ وقال فى رواية أخرى :تستبرأ بحيضة إن
كانت تحيض ،وإل ثلثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل .قال أبو محمد :فظاهر هذا أنه ل يجب
استبراؤها ،ول تحرم مباشرتها ،وهذا اختيار ابن أبى موسى ،وقولُ مالك وهو الصحيح ،لن سبب
الباحة متحقق ،وليس على تحريمها دليل ،فإنه ل نص فيها ول معنى نص ،فإن تحريم مباشرة
431
الكبيرة إنما كان لكونه داعيًا إلى الوطء المحرم ،أو خشية أن تكون أمّ ولد لغيره ،ول يتوهم هذا فى
هذه ،فوجب العمل بمقتضى الباحة ،انتهى كلمه.
فصل
وإن كانت ممن يُوطأ مثلُها ،فإن كانت بكراً ،وقلنا :ل يجبُ استبراؤها ،فظاهر ،وإن قلنا:
يجب استبراؤُها فقال أصحابنا :تحرم قبلُتها ومباشرتها ،وعندى أنه ل يحرم ،ولو قلنا بوجوب
استبرائها ،لنه ل يلزم من تحريم الوطء تحريم دواعيه ،كما فى حق الصائم ،ل سيما وهم إنما
حرّموا تحريم مباشرتها لنها قد تكون حاملً ،فيكون مستمتعًا بأمة الغير ،هكذا عللوا تحريم
المباشرة ،ثم قالوا :ولهذا ل يحرم الستمتاع بالمسبية بغير الوطء قبل الستبراء فى إحدى
الروايتين ،لنها ل يُتوهم فيها انفساخ الملك ،لنه قد استقرّ بالسبى ،فلم يبق لمنع الستمتاع بالقبلة
وغيرها مِن البِكر معنى .وإن كانت ثيباً ،فقال أصحاب أحمد ،والشافعى وغيرهم :يحرم الستمتاعُ
بها قبل الستبراء ،قالوا :لنه استبراءٌ يحرم الوطء ،فحرم الستمتاع بها قبل الستبراء كالعِدة،
ولنه ل يأمن كونها حاملً ،فتكون أم ولد ،والبيع باطل ،فيكون مستمتعاً بأ ّم ولد غيره .قالوا :ولهذا
فارق وطء تحريم الحائض والصائم.
وقال الحسن البصرى :ل يحرم من المستبرأة إل فرجُها ،وله أن يستمتِعَ منها بما شاء ما لم
يطأ ،لن النبى صلى ال عليه وسلم إنما منع من الوطء قبل الستبراء ،ولم يمنع مما دونه ول يلزمُ
مِن تحريم الوطء تحريمُ ما دونه ،كالحائض والصائمة وقد قيل :إن ابن عمر قبّل جاريتَه من السبى
حين وقعت فى سهمه قبل استبرائها .ولمن نصر هذا القول أن يقولَ :الفرقُ بين المشتراة والمعتدة:
ل وطؤها ول دواعيه ،بخلف المملوكة ،فإن وطأها إنما
ل يَحِ ّ
أن المعتدة قد صارت أجنبية منه ،ف ً
يحرم قبل الستبراء خشيةَ اختلط مائه بماء غيره ،وهذا ل يُوجب تحري َم الدواعى ،فهى أشبهُ
بالحائض والصائمة ،ونظيرُ هذا أنه لو زنت امرأتُه أو جاريتُه ،حرم عليه وطؤها قبل الستبراء،
ول يحرمُ دواعيه ،وكذلك المسبية كما سيأتى .وأكثرُ ما يتوهم كونها حاملً من سيدها ،فينفسخ
ت الولد على عِلّته ،ول يلزم القائل به ،لنه لما استمتع بها،
البيع ،فهذا بناء على تحريم بيع أمها ِ
كانت ملكه ظاهرًا وذلك يكفى فى جواز الستمتاع ،كما يخلو بها ويُح ّدثُها ،وينظر منها ما ل يُباح
من الجنبية ،وما كان جوابُكم عن هذه المور ،فهو الجوابُ عن القُبلة والستمتاع ،ول يُعلم فى
جواز هذا نزاع ،فإن المشترىَ ل يُمنع مِن قبض أمته وحوزها إلى بيته وإن كان وحدَه قبلَ
432
الستبراء ،ول يجبُ عليها أن تس ُترَ وجهها منه ،ول يحرم عليه النظرُ إليها والخلوةُ بها ،والكلُ
ج ْز له ذلك فى ملك الغير.
معها ،واستخدامها ،والنتفاعُ بمنافعها ،وإن لم يَ ُ
فصل
س ِبيّةً ،ففى جواز الستمتاع بغير الوطء قولن للفقهاء ،وهما روايتان عن أحمد
وإن كانت مَ ْ
رحمه الّ.
إحداهما :أنها كغير المسبية ،فيحرم الستمتاع منها بما دون ال َفرْج ،وهو ظاهر كلم
خرَقى ،لنه قال :ومن َملَك أمةً ،لم يصبْها ولم يُ َق ّبلْها حتى يستبرئهَا بعد تمام ملكه لها.
ال ِ
ل عنه .والفرق بينها وبين المملوكة بغير
والثانية :ل يحرم ،وهو قول ابن عمر رضى ا ّ
السبى ،أن المسبيّةَ ل يتوهم فيها كونها أُ ّم ولد ،بل هى مملوكة له على كل حال ،بخلف غيرها كما
ل أعلم.
تقدّم وا ّ
ل مدة الستبراء من حين البيع ،أو من حين القبض؟
فإن قيل :فهل يكونُ أو ُ
قيل :فيه قولن ،وهما وجهان فى مذهب أحمد رحمه الّ .أحدهما :من حين البيع ،لن الملك
ينتقل به .والثانى :من حين القبض لن القصد معرفة براءة رحمها من ماء البائع وغيره ،ول
يحصل ذلك مع كونها فى يده ،وهذا على أصل الشافعى وأحمد .أما على أصل مالك ،فيكفى عنده
الستبراءُ قبل البيع فى المواضع التى تقدّمت .فإن قيل :فإن كان فى البيع خيار ،فمتى يكون ابتداء
مدة الستبراء؟
قيل :هذا ينبنى على الخلف فى انتقال الملك فى مدة الخيار ،فمن قال :ينتقل فابتداء المدة
عنده من حين البيع ،ومن قال :ل ينتقل ،فابتداؤها عنده من حين انقطاع الخيار.
ع ْيبٍ؟ قيل :ابتداء المدة من حين البيع قولً واحداً،
فإن قيل :فما تقولون لو كان الخيارُ خيارَ َ
ل أعلم.
خيَا َر العيب ل يمنع نقل الملك بغير خلف ،وا ّ
لن ِ
فصل
سنّ ُة على استبراء الحامل بوضع الحمل ،وعلى استبراء الحائل بحيضةٍ
فإن قيل :قد دلت ال ّ
فكيف سكتت عن استبراء اليس ِة والتى لم تحض ولم تسكت عنهما فى العدة؟
قيل :لم تسكت عنهما بحمد الّ ،بل بينتْهما بطريق اليماء والتنبيه ،فإن الّ سبحانه جعل
عِ ّدةَ الحرة ثلثةَ قُروء ،ثم جعل عِدّة اليسة والتى لم تحض ثلثة أشهر ،فعلم أنه سبحانه جعل فى
مقابلة كل قرْء شهراً .ولهذا أجرى سبحانه عادته الغالبةَ فى إمائه ،أن المرأة تحيض فى كل شهر
433
سنّ ُة أن المة الحائض بحيضة ،فيكون الشهر قائماً مقام الحيضة ،وهذا إحدى
حيضة ،وبينت ال ّ
س َتبَرُأ بثلثة أشهر ،وهى
الروايات عن أحمد ،وأحد قولى الشافعى .وعن أحمد رواية ثانية :أنها تُ ْ
المشهورة عنه ،وهو أحد قولى الشافعى .ووجه هذا القول ،ما احتج به أحمد فى رواية أحمد بن
ت ثلثةَ أشهر مكان حيضةٍ ،وإنما جعل الّ سبحانه
القاسم ،فإنه قال :قلت لبى عبد الّ :كيف جعل َ
ل حيضةٍ شهراً؟.
فى القرآن مكان كُ ّ
فقال أحمد :إنما قلنا :ثلثة أشهر من أجل الحمل ،فإنه ل يتبين فى أقلّ من ذلك ،فإن عمر بن
ل العلم والقوابلَ ،فأخبروا أن الحملَ ل يتبين فى أقل من ثلثة
عبد العزيز سأل عن ذلك ،وجمع أه َ
أشهر ،فأعجبه ذلك ،ثم قال :أل تسمع قول ابن مسعود :إن النطفة تكون أربعين يومًا علقة ،ثم
أربعين يومًا مضغة بعد ذلك ،فإذا خرجت الثمانون ،صارت بعدها مضغةً ،وهى لحم ،فيتبين
حينئذ.
قال ابن القاسم :قال لى :هذا معروف عند النساء .فأما شهر ،فل معنى فيه انتهى كلمه.
ح ْنبَل :قال عطاء :إن كانت
س َت ْب َرأُ بشهر ونصف ،فإنه قال فى رواية َ
وعنه رواية ثالثة :أنها تُ ْ
ل تحيض ،فخمسة وأربعون ليلة .قال حنبل :قال عمى :لذلك أذهب ،لن عدة المطلقة اليسة كذلك،
انتهى كلمه.
س َت ْب َرأَ
ن تُ ْ
ووجه هذا القول :أنها لو طلقت وهى آيسة ،اعتدت بشهر ونصفٍ فى رواية ،فَلَ ْ
المةُ بهذا القدر أولى .وعن أحمد رواية رابعة :أنها تُستب َرأُ بشهرين ،حكاها القاضى عنه،
واستشكلها كثير من أصحابه ،حتى قال صاحب ((المغنى)) :ولم أر لذلك وجهاً .قال :ولو كان
ت القُروء ب َقرْءيْن ،ولم نعلم به قائلً.
استبراؤُها بشهرين ،لكان استبرا ُء ذا ِ
طلّقتْ وهى أمة لكانت عدتُها شهرين ،هذا
ووجه هذه الرواية ،أنها اعتبرت بالمطلّقة ،ولو ُ
ل عنه ،وهو الصواب ،لن
هو المشهور عن أحمد رحمه الّ ،واحتج فيه بقول عمر رضى ا ّ
الش ُهرَ قائمةٌ مقام القُروء ،وعِدّتة ذاتِ القُروء قَرءان ،فبدلهما شهران ،وإنما صرنا إلى استبراءِ
ل ذلك بشهر واحد ،فل بدّ
حصُ ُ
علَم ظاهر على براءتها من الحمل ،ول يَ ْ
ذاتِ القَرء بحيضة ،لنها َ
ج ِعَلتْ عَلماً
من مدة تظهر فيها براءتها ،وهى إما شهران أو ثلثة ،فكانت الشهران أولى ،لنها ُ
س َتبْرأَ ِة أولى ،فهذا وجه هذه الرواية .وبعدُ ،فالراجح من
على البراءة فى حق المطلّقة ،ففى حق المُ ْ
الدليل :الكتفاء بشهر واحد ،وهو الذى دل عليه إيماء النص وتنبيهه ،وفى جعل مدة استبرائها
ثلثة أشهر تسويةٌ بينها وبين الحرة ،وجعلها بشهرين تسوي ٌة بينها وبين المطلّقة ،فكان أولى المُدد
434
بها شهراً ،فإنه البدل التامّ ،والشارع قد اعتبر نظي َر هذا البدل فى نظي ِر المة ،وهى الحرة،
واعتبره الصحابة فى المة المطلّقة ،فصح عن عمر بن الخطاب رضى الّ عنه أنه قال :عِ ّدتُها
حيضتان ،فإن لم تكن تحيض ،فشهران ،احتج به أحمد رحمه الّ .وقد نص أحمد رحمه الّ فى
أشهر الروايات عنه على أنها إذا ارتفع حيضُها ل تدرى ما رَ َفعَهُ ،اعتدت بعشرة أشهر ،تسعةٍ
للحمل ،وشهرٍ مكان الحيضة.
سنَةٍ ،هذه طريقة الشيخ أبى محمد ،قال :وأحمد ههنا جعل مكان
وعنه رواية ثانية :تعت ّد بِ َ
الحيضة شهراً ،لن اعتبارَ تكرارِها فى اليس ِة ِل ُت ْعلَم براءتُها من الحمل ،وقد علم براءتها منه ههنا
خرَقىّ
بمضى غالب مُدّته ،فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس ،وهذا هو الذى ذكره ال ِ
مفرّقاً بين اليسة ،وبين من ارتفع حيضُها ،فقال :فإن كانت آيسةً ،فبثلثة أشهر ،وإن ارتف َع حيضُها
ل تدرى ما رَ َفعَهُ ،اعتدت بتسعة أشهر للحمل ،وشهر مكان الحيضة.
وأما الشيخُ أبو البركات ،فجعل الخلف فى الذى ارتفع حيضُها ،كالخلفِ فى اليسةِ،
وجعل فيها الروايات الربع بعد غالب مدةِ الحملِ تسويةً بينها وبين اليسة فقال فى ((محرره)):
واليسة ،والصغيرة بمضى شهر .وعنه :بمضى ثلثة أشهر وعنه :شهرين ،وعنه :شهر ونصف.
وإن ارتفع حيضها ل تدرى ما رَ َفعَهُ ،فبذلك بعد تسعة أشهر.
خرَقى ،والشيخ أبى محمد أصح ،وهذا الذى اخترناه من الكتفاء بشهر ،هو الذى
وطريقة ال ِ
ح ْيضَةِ،
مال إليه الشيخ فى ((المغنى)) فإنه قال :ووجه استبرائها بشهرٍ ،أن الّ جعل الشهرَ مكان ال َ
ن الثلثة
ولذلك اختلفت الشهورُ باختلف الحيضات ،فكانت عِدة الحُرة اليس ِة ثلثَة أشهر مكا َ
قُروء ،وعِدّة المة شهرين ،مكان ال َقرْءيْن ،وللَمةِ المستبرأةِ التى ارتفع حيضها عشرة أشهر،
ن الحيضة هنا شهرٌ ،كما فى حق من ارتفع
تِسعةٌ للحمل ،وشهر مكان الحيضة ،فيجب أن يكون مكا َ
حيضها.
قال :فإن قيل :فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر.
قلنا :وههنا ما يدل على البراءة وهو الياس ،فاستويا.
435
ذكر أحكامه صلى ال عليه وسلم فى البيوع
ذكر حكمه صلى ال عليه وسلم فيما يحرم بيعه
ل رضى الّ عنهما ،أنه سمع النبىّ
ثبت فى ((الصحيحين)) :من حديث جابر بن عبد ا ّ
صنَام)).
لّ ورسولَه حرّم بيع الخمر ،والميتةِ ،والخِنزير ،وال ْ
صلى ال عليه وسلم يقول(( :إن ا َ
صبِحُ بها
س َت ْ
فقيل :يا رَسُول الّ :أرأيت شُحوم الميتة ،فإنها يُطلى بها السّفن ،ويُدهَنُ بها الجلودُ ،ويَ ْ
لّ ال َيهُودَ
لّ صلى ال عليه وسلم عند ذلك (( :قاتَلَ ا ُ
ل رَسُولُ ا َ
حرَامٌ)) ثم قَا َ
الناسُ؟ فقال(( :لَُ ،هوَ َ
ج َملُو ُه ثُ ّم بَاعُوهُ فأَكلوا َث َمنَهُ)).
عَل ْيهِم شُحُومَها َ
حرّمَ َ
لّ لمّا َ
إنّ ا َ
س ُم َرةَ باع خمراً فقال :قاتلَ
ل عنه أنّ ً
ع َمرَ رضى ا ّ
وفيها أيضاً :عن ابن عباسٍ ،قال :بَلغَ ُ
عَل ْيهِمُ الشّحُومُ،
ح ّر َمتْ َ
لّ ال َيهُودَ ُ
لّ صلى ال عليه وسلم قالَ(( :لعَنَ ا ُ
س ُم َرةَ ،ألم يعل ْم أنّ رسولَ ا ِ
الُّ َ
فَجَملُوهَا َفبَاعُوهَا)).
فهذا من مسند عمر رضى الّ عنه ،وقد رواه البيهقىّ ،والحاكم فى ((مستدركه)) ،فجعله
ى صلى ال عليه وسلم
من ((مسند ابن عباس)) ،وفيه زيادة ،ولفظه :عن ابن عباس ،قال :كان النب ّ
لّ ال َيهُودَ،
لّ ال َيهُودََ ،لعَنَ ا ُ
فى المسجد ،يعنى الحرامَ ،فرفع بص َرهُ إلى السماءِ ،فتبسّم فقال َ(( :لعَنَ ا ُ
عَليْهمُ الشّحُومََ ،فبَاعُوهَاَ ،وَأ َكلُوا َأثْمانها ،إنّ
حرّمَ َ
عزّ وجَلّ َ
لّ ال َيهُودَ ،إنّ الُّ َ
لّ ال َيهُودََ ،لعَنَ ا ُ
َلعَنَ ا ُ
عَل ْيهِمْ َث َمنَهُ)) .وإسناده صحيح ،فإن البيهقى رواه عن ابن
حرّمَ َ
حرّمَ عَلى َقوْ ٍم َأكْلَ شَىءٍ َ
لّ إذَا َ
ا ُ
عبدان ،عن الصفار ،عن إسماعيل القاضى ،حدثنا مُسدّد ،حدثنا بشر بن المفضل ،حدثنا خالد
الحذّاء ،عن بركة أبى الوليد ،عن ابن عباس.
ل إذا
وفى ((الصحيحين)) من حديث أبى هريرة رضى الّ عنه .نحوه ،دون قوله(( :إن ا ّ
حرّمَ َث َمنَهُ)).
حرّم َأكْلَ شَىءٍ َ
َ
ب تُفْسِ ُد العقول
فاشتملت هذه الكلمات الجوامع على تحريم ثلثة أجناس :مشار َ
شرْك.
طبَاع وتغذّى غِذاءً خبيثاً ؛ وأعيانٍ تُفْسِدُ الديان ،وتدعو إلى الفِتنةِ وال ّ
ومطاعِمَ تُفْسِ ُد ال ّ
فصانَ بتحريم النوع الول العقولَ عما يُزيلها ويُفْسِدُها ،وبالثانى :القلوبَ عما يُفْسِدها من
ل أث ِر الغذا ِء الخبيثِ إليها ،والغاذى شبيهُ بالمغتذى ،وبالثالث :الديانَ عما وُضِعَ لفسادها.
ُوصُو ِ
ل والقلوبِ والديان
فتضمن هذا التحريمُ صِيان َة العقو ِ
ل عليه ،وما يدخل فيه ،وما ل يدخل فيه،
ولكن الشّأنَ فى معرفة حدود كلمه صلوات ا ّ
ش ِملَها عمومُ كلماتِهِ ،وتأويلها بجميع
ج ْم ِعهَا ،وتنا ُولِها لجميع النواع التى َ
لِتستبين عمومُ كلماته و َ
436
صيّةُ الفهم عن الِّ ورسولِه التى تفاوت فيه العلماءُ
ش ِملَها عمومُ لفظه ومعناه ،وهذه خا ِ
النواع التى َ
ويُؤتيه الّ من يشاء.
فأمّا تحري ُم بيعِ الخمرِ ،فيدخل فيه تحري ُم بيعِ كلّ مسكر ،مائعاً كان ،أو جامداً
شعِيرِ ،والعَسَل
عصيراً ،أو مطبوخاً ،فيدخل فيه عَصيرُ ال ِع َنبِ ،وخَم ُر الزبيبِ ،والتمر ،والذّ َرةِ ،وال ّ
ن إلى أَخبثِ الماكن ،فإن
حنْطَةِ ،واللقم ِة الملعونة ،لقمة الفسق والقلب التى تُحرّك القلبَ الساك َ
وال ِ
طعَنَ فى سنده ،ول
ل صلى ال عليه وسلم الصحيح الصَريح الذى ل مَ ْ
خ ْمرٌ بنص رسول ا ّ
هذا ُكلّه َ
خمْر)).
س ِكرٍ َ
ل مُ ْ
إجمالَ فى متنه ،إذ صح عنه قوله(( :كُ ّ
خ ْمرَ مَا خَا َمرَ
لمّةِ بخطابه ومُراده :أنّ ال َ
ل عنهم الذين هم أعلمُ ا ُ
وصح عن أصحابه رضى ا ّ
العَقْلَ فدخولُ هذه النواع تحت اسم الخمر ،كدخول جميع أنواع الذهب والفضّةِ ،وال ُب ّر والشعيرِ،
والتم ِر والزبيب ،تحت قوله(( :ل تبيعوا الذهبَ بالذهب ،والفِض َة بالفضة ،وال ُبرّ بال ُبرّ ،والشّعيرَ
ل بمثل)).
بالشّعيرِ ،والتمرِ ،والملحَ بالملحِ إل ِمثْ ً
صنْف من هذه الصناف عن تناوُل اسمه له ،فهكَذا ل يجوزُ إخراجُ
فكما ل يجوز إخراجُ ِ
صِنف من أَصناف المسكر عن اسم الخمر ،فإنه يتضمّن محذورين.
ج مِن كلمه ما قصَدَ دخولَه فيه.
أحدهما :أن يُخْر َ
والثانى :أن يُشرع لذلك النوعِ الذى أخرج حك ٌم غير حكمه ،فيكون تغييراً للفاظ الشارع
سمّاه به الشارع ،أزال عنه حكم ذلك المسمّى،
ومعانيه ،فإنه إذا سمّى ذلك النوعَ بغير السم الذى َ
ن ُي ْبتَلى بهذا ،كما قال:
وأعطاه حكماً آخر .ولما علم النبىّ صلى ال عليه وسلم أن مِنْ ُأ َمتِ ِه مِ ْ
سمِها)) .قضى قضية كليةً عامةً ل يتطرّق إليها
سمّونَها ِب َغ ْيرِ ا ْ
خ ْمرَ يُ َ
ن ُأمّتى ال َ
ن ناسٌ مِ ْ
شرَب ّ
((ليَ ْ
عبَيدة ،والخليلَ
خمْر)) ،هذا ولو أن أبا ُ
سكِر َ
ل مُ ْ
إجمال ،وَلَ احتمال ،بل هى شافيةٌ كافيةُ ،فقال(( :كُ ّ
ن كُلّ مسكرٍ
ص أئم ُة اللغة على أ ّ
وأضرابَهما مِن أئمة اللغة ذكروا هذه الكلمة هكذا ،لقالوا :قد ن ّ
خمر ،وقولُهم حجة ،وسيأتى إن شاء الّ تعالى عندَ ِذ ْكرِ هَدْيهِ فى الطعمة والشربة مزي ُد تقرير
ع مِن كل وجه
س الصريح الذى استوى فيه الصلُ والفر ُ
لهذا ،وأنه لو لم يتناوله لفظُه ،لكان القيا ُ
ق بين
ن نوع ونوع ،تفري ٌ
ق بي َ
شرْب ،فالتفري ُ
حاكمًا بالتسوية بين أنواع المسكر فى تحريم البيع وال ّ
متماثلين من جميع الوجوه.
فصل
437
وأما تحريمُ بيع الميتة ،فيدخل فيه كُلّ ما يسمّى ميتةً ،سواء مات حتف أنفه ،أو ُذ ّكىَ ذكَاةً ل
حلّه .ويدخل فيه أبعاضُها أيضاً.
تُفيد ِ
ولهذا استشكل الصحاب ُة رضى الّ عنهم تحري َم بيع الشحم ،مع ما لهم فيه من
ى صلى ال عليه وسلم أنّه حرامٌ وإن كان فيه ما ذكروا مِن المنفعة وهذا
المنفعة ،فأخبرهم النب ّ
موضعٌ اختلف الناسُ فيه لختلفهم فى فهم مرادِه صلى ال عليه وسلم ،وهو أنّ قوله(( :ل ،هوَ
حرام)) :هل هو عائد إلى البيع ،أو عائد إلى الفعال التى سألوا عنها؟ فقال شيخُنا :هو راجع إلى
حرّم بيع الميتة ،قالوا :إن فى شحومها مِن المنافع
البيع ،فإنه صلى ال عليه وسلم َلمّا أخبرهم أنّ َ
حرَام)).
كذا وكذا ،يعنون ،فهل ذلك مسوغ لبيعها؟ فقال(( :ل ،هو َ
قلت :كأنهم طلبوا تخصيصَ الشحوم من جملة الميتة بالجواز ،كما طلب العباسُ رضى الّ
حرَمِ بالجواز ،فلم يجبهم إلى ذلك ،فقال(( :ل ،هو
عنه تخصيصَ الذْخر من جملة تحريم نَبات ال َ
حرام)).
وقال غيرُه من أصحاب أحمد وغيرهم :التحريمُ عائد إلى الفعال المَسؤول عنها ،وقال :هو
حرام ،ولم يقل :هى ،لنه أراد المذكورَ جميعَه ،ويرجح قولهم عود الضمير إلى أقرب مذكور،
ويرجحه من جهة المعنى أن إباحة هذه الشياء ذريعةٌ إلى اقتناء الشحوم وبيعها ،ويُرجحه أيضاً:
أن فى بعض ألفاظ الحديث ،فقال(( :ل ،هى حرام)) ،وهذا الضمير إما أن يرجع إلى الشحوم ،وإما
إلى هذه الفعال ،وعلى التقديرين ،فهو حُجّةٌ على تحريم الفعال التى سألوا عنها.
ل عنه فى الفأرة التى وقعت فى السمن:
ويرجحه أيضاً قولُه فى حديث أبى هريرة رضى ا ّ
ن مَائِعاً فَل تَ ْق َربُوهُ)) .وفى النتفاع به فى
حوْلها و ُكلُوهُ ،وإنْ كَا َ
ن كَانَ جَامِداً َفأَلقُوهَا ومَا َ
((إ ْ
الستصباح وغيره قُربان له .ومن رجّح الول يقولَ :ث َبتَ عن النبىّ صلى ال عليه وسلم أنه قال:
ن ال َم ْيتَةِ َأ ْكلُها)) ،وهذا صريحُ فى أنه ل يحرم النتفاعُ بها فى غير الكل ،كالوقيدِ،
حرُ َم مِ َ
((إنّما َ
وسَ ّد البُثوقِ ،ونحوهما .قالوا :والخبيث إنما تحرُمُ ملبسته باطناً وظاهراً ،كالكل والّل ْبسِ ،وأما
ع به من غير مُلبسة ،فَلىّ شىءٍ يحرم؟
النتفا ُ
قالوا :ومن تأمل سياقَ حديث جابر ،علم أن السؤالَ إنما كان منهم عن البيع ،وأنّهم طلبوا
منه أن يُرخّص لهم فى بيع الشحوم ،لما فِيها من المنافع ،فأبى عليهم وقال(( :هو حرام)) ،فإنهم لو
سألوه عن حكم هذه الفعال ،لقالوا :أرأيتَ شحو َم الميتة ،هل يجوز أن يَستصبحَ بها الناسُ ،وتُدهَنَ
بها الجلودُ ؛ ولم يقولوا :فإنه يفعل بها كذا وكذا ،فإن هذا إخبار منهم ،ل سؤال ،وهم لم يُخبروه
438
بذلك عقيبَ تحريم هذه الفعال عليهم ،ليكون قوله(( :ل ،هو حرام)) صريحاً فى تحريمها ،وإنما
أخبروه به عقيبَ تحريم بيع الميتة ،فكأنهم طلبوا منه أن يرخّص لهم فى بيع الشحوم لهذه المنافع
التى ذكروها ،فلم يفعل .ونهاي ُة المر أن الحديثَ يحتمل المرين ،فل يحرم ما لم يعلمْ أنّ الّ
حرّمه.
ورسوله َ
ط ِعمُوا ما عجنُوا
قالوا :وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الستسقاء مِن آبار ثمود ،وأباح لهم أن يُ ْ
مِنه من تلك البار للبهائم ،قالوا :ومعلوم أن إيقادَ النجاسةِ والستصباحَ بها انتفاعٌ خالٍ عن هذه
المفَسْ َدةِ ،وعن ملبستها باطناً وظاهراً ،فهو نَفْ ٌع َمحْضٌ ل مفسدة فيه .وما كان هكذا ،فالشريعةُ ل
تحرّمه ،فإن الشريعة إنما تحرّم المفاسدَ الخالص َة أو الراجحةَ ،وطرقَها وأسبابهَا الموصلةَ إليها.
قالوا :وقد أجاز أحمد فى إحدى الروايتين الستصباحَ بشحوم الميتة إذا خالطت دُهناً
طاهراً ،فإنه فى أكثر الروايات عنه يجوز الستصباحُ بالزيت النجِس ،وطلىُ السفن به ،وهو
اختيارُ طائفة من أصحاب ،منهم :الشيخ أبو محمد ،وغيره ،واحتج بأن ابن عمر أمر أن يُستصبحَ
به.
ح به إذا لم يمسوه،
وقال فى رواية ابنيه :صالح وعبد الّ :ل يعجبنى بيع النّجس ،ويستصب ُ
جسَ ،والمتنجّس ،ولو قُ ّد َر أنه إنما أراد به المتنجّس ،فهو صريحٌ فى القول
لنه نجس ،وهذا يعم الن ّ
بجواز الستصباح بما خالطه نجاسة ميتة أو غيرها ،وهذا مذهبُ الشافعى ،وأىّ فرق بين
الستصباح بشحم الميتة إذا كان منفرداً ،وبين الستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فنجسه؟
س العين ،وإذا خالطه غيره تنجس به ،فأمكن تطهيره
ج ُ
فإن قيل :إذا كان مفرداً ،فهو نَ ِ
جسِ ،ولهذا يجوز بيع الدّهْن المتنجّس على أحد القولين دون دهن الميتة.
بالغسل ،فصار كالثوب النّ ِ
عوّل عليه المفرّقون بينهما ،ولكنه ضعيف لوجهين.
ب أنّ هذا هو الفرق الذى َ
قيل :ل ري َ
أحدهما :أنه ل يعرف عن المام أحمد ،ول عن الشافعى البتة غسل الدهن النجّس ،وليس
طهُر
عنهم فى ذلك كلمةٌ واحدةٌ ،وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين ،وقد رُوى عن مالك ،أنه يَ ْ
بالغسل ،هذه رواية ابن نافع ،وابن القاسم عنه.
الثانى :أن هذا الفرق وإن تأتّى لصحابه فى الزيت والشيرج ونحوهما ،فل يتأتّى لهم فى
جميع الدهان ،فإن منها ما ل يُمكن غسله ،وأحمد والشافعى قد أطلقا القولَ بجواز الستصباح
بالدهن النجس من غير تفريق.
439
ل للخبيث والنجاسة ،سواء كانت عيني ًة أو
وأيضاً فإنّ هذا ال َفرْق ل يُفيد فى دفع كونه مستعم ً
طارئةً ،فإنه إن حرم الستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث ،فل فرق ،وإن حرم لجل دُخان
النجاسة ،فل فرق ،وإن حرم لكون الستصباح به ذريعة إلى اقتنائه ،فل فرق ،فالفرق بين
المذهبين فى جواز الستصباح بهذا دونَ هذا ل معنى له.
وأيضاً فقد جوز جمهورُ العلماءِ النتفاعَ بالسّرقين النّجس فى عمارةِ الرض لل ّزرْع،
والثمر ،والبقل مع نجاسة عينِه ،وملبس ِة المستعمل له أكثر من ملبسة الموقَدِ ،وظهورِ أثره فى
البقول والزروع ،والثمار ،فوق ظهور أثر الوقيد ،وإحال ُة النار أتم من إحالة الرض ،والهواء
سلّ َم أن دُخَان النجاس ِة نجس ،وبأىّ
والشمس للسّرقين ،فإن كان التحريم لجل ُدخَان النّجَاسَةِ ،فَمن َ
ب عينِ السرقينِ والماءِ
سنّةٍ ثبت ذلك؟ وانقلبُ النجاس ِة إلى الدّخَان أتمّ من انقل ِ
كتاب ،أم بأيّةِ ُ
شكّ فيه ،بل معلوم بالحسّ والمشاهدةِ ،حتى جوز بعضُ
النجس ثمرًا أو زرعاً ،وهذا أمر ل يُ َ
ل َب ْيعَه ،فقال ابن الماجشون :ل بأس ببيع العَذِرةِ ،لن ذلك
أصحاب مالك ،وأبى حنيفة رحمهما ا ّ
من منافع الناس .وقال ابن القاسم :ل بأس ببيع ال ّزبْل .قال اللخمىّ :وهذا يدل من قوله على أنه يرى
بيع العَذِرةِ .وقال أشهب فى ال ّزبْل :المشترى أعذر فيه من البائع ،يعنى فى اشترائه .وقال ابن عبد
سيّان فى الِثم.
الحكم :لم َيعْذُر الّ واحداً منهما ،وهما ِ
حرَامٌ وإن جاز النتفاع به ،والمقصود :أنه ل يلزم
قلت :وهذا هو الصوابُ ،وأن بيع ذلك َ
ل ورسولُه منها كالوقيد ،وإطعام الصقورِ
من تحريم بيع الميتة تحريمُ النتفاع بها فى غير ما حرّم ا ّ
والبُزا ِة وغير ذلك .وقد نص مالك على جواز الستصباح بال ّز ْيتِ النّجس فى غير المساجد ،وعلى
حرُم
ل مَا َ
ب البيعِ ،فليس كُ ّ
ع أوسعُ من با ِ
ل الصابون منه ،وينبغى أن ُي ْعلَ َم أنّ بَابَ النتفا ِ
جوازِ عم ِ
حرُمَ النتفاع به ،بل ل تلزم بينهما ،فل يؤخذ تحريمُ النتفاع مِن تحريم البيع.
بيعه َ
فصل
ويدخل فى تحري ِم بيعِ الميتة بي ُع أجزائها التى تحلّها الحياة ،وتُفارقها بالموت ،كاللحم
والشحم والعصب ،وأما الشع ُر والوب ُر والصوف ،فل يدخل فى ذلك ،لنه ليس بميتة ،ول تحله
الحياة .وكذلك قال جمهورُ أهل العلم :إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارَها طاهرة إذا كانت من
حيوان طاهر ،هذا مذهب مالك وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل ،والليث ،والوزاعى ،والثورى،
وداود ،وابن المنذر ،والمزنى ،ومن التابعين :الحسن ،وابن سيرين ،وأصحاب عبد الّ بن مسعود،
وانفرد الشافعى بالقول بنجاستها ،واحتجّ له بأن اس َم الميتة يتناولُها كَما يتناول سائر أجزائها بدليل
440
الثر والنظر ،أما الثرُ ،ففى ((الكامل)) لبن عدى :من حديث ابن عمر يرفعه(( :ادْفِنوا الَظْفَارَ،
ش َعرَ ،فَإنّها َم ْيتَةٌ)) .وأما النظر ،فإنه متصل بالحيوان ينمو بنمائه ،فينجس بالموت كسائر
والدّمَ وال ّ
أعضائه ،وبأنه شعر نابت فى محل نجس ،فكان نجساً كشعر الخنزير ،وهذا لن ارتباطه بأصله
خِلقة يقتضى أن يثبت له حكمُه تبعاً ،فإنه محسوب منه عرفاً ،والشارع أجرى الحكامَ فيه على
وفق ذلك ،فأوجب غسله فى الطهارة ،وأوجبَ الجزاء بأخذه من الصيد كالعضاء ،وألحقه بالمرأة
ع له تشوف إلى إصلح الموالِ
فى النكاح والطلقِ حلً وحرمة ،وكذلك ههنا ،وبأن الشار َ
وحفظها وصيانتها ،وعدم إضاعتها .وقد قال لهم فى شاة ميمونة(( :هلّ أَخَ ْذتُم إهَابهَا فَ َد َب ْغ ُتمُوه
فَا ْنتَ َف ْعتُم بِهِ)) .ولو كان الشعر طاهراً ،لكان إرشادُهم إلى أخذه أولى ،لنه أقلّ كلفة ،وأسهل تناولً.
شعَارِها َأثَاثًا و َمتَاعًا إلى
ن َأصْوَا ِفهَا وَأ ْوبَارِهَا وأ ْ
قال المط ّهرُونَ للشعور :قال الّ تعالى{ :ومِ ْ
حين} [النحل ،]80 :وهذا يعم أحياءها وأمواتَها ،وفى مسند أحمد :عن عبد الرزاق ،عن معمر،
ل عنه ،قال :م ّر النبىّ
ل ابن عتبة ،عن ابن عباس رضى ا ّ
عن الزهرى ،عن عبيد الّ بن عبد ا ّ
صلى ال عليه وسلم بشاة لميمونة ميتة ،فقال(( :أل انتفعتم بإهابها)) ،قالوا :وكيفَ وهى ميتة؟ قال:
ح ُمهَا)) .وهذا ظاهرٌ جداً فى إباحة ما سوى اللحم ،والشحمُ ،والكب ُد والطحال ،واللية
حرُ َم لَ ْ
((إنّما َ
ض هذا بالعظم والقَرن ،والظفر
ُكلّها داخلة فى اللحم ،كما دخلت فى تحريم لحم الخنزير ،ول ينتقِ ُ
والحافِر ،فإن الصحيحَ طهارة ذلك كما سنقرره عقيب هذه المسألة.
قالوا :ولنه لو أُخِذَ حال الحياة ،لكان طاهراً فلم ينجس بالموت كالبيض ،وعكسه العضاء.
قالُوا :ولنه لما لم ينجس بجزه فى حال حياة الحيوان بالجماع دل على أنه ليس جزءاً مِن
حىَّ ،ف ُه َو َم ْيتَةٌ))،
الحيوان ،وأنه ل روح فيه لن النبى صلى ال عليه وسلم قال(( :ما ُأبِينَ مِنْ َ
رواه أهل السنن .ولنه ل يتألّم بأخذه ،ول يُحس بمسه ،وذلك دليلُ عدم الحياة فيه ،وأما النماء ،فل
يدل على الحياة والحيوانية التى يتنجّس الحيوان بمفارقتها ،فإن مجرد النماء لو دلّ على الحياة،
ع بُيبسه ،لمفارقة حياة النمو والغتذاء له.
ونجس المحل بمفارقة هذه الحياة ،لتنجس الزر ُ
قالوا :فالحياةُ نوعان :حياة حس وحركة ،وحياة نمو واغتذاء ،فالولى :هى التى يُؤثر فقدُها
فى طهارة الحى دون الثانية.
قالوا :واللحمُ إنما ينجُس لحتقان الرطوبات والفضلت الخبيثة فيه ،والشعو ُر والصواف
بريئة مِن ذلك ،ول ينتقض بالعظام والظفار لما سنذكره.
441
قالوا :والصلُ فى العيان الطهارة ،وإنما يطرأ عليها التنجيس بإستحالتها ،كالرجيع
المستحيل عن الغذاء ،وكالخمر المستحيل عن العصير وأشباهها ،والشعور فى حال استحالتها
كانت طاهرة ،ثم لم يعرض لها ما يُوجب نجاستَها بخلف أعضاء الحيوان ،فإنها عرض لها ما
ن الفضلت الخبيثة.
يقتضى نجاستها ،وهو احتقا ُ
ل بن عبد العزيز بن أبى َروّاد .قال أبو
ل بن عمر ،ففى إسنادِه عبد ا ّ
قالوا :وأما حديثُ عبد ا ّ
حاتم الرازى :أحاديثُه منكرة ليس محله عندى الصدق ،وقال على بن الحسين بن الجنيد :ل يُساوى
فلساً ،يُحدث بأحاديث كذب.
وأما حديثُ الشاة الميتة ،وقوله(( :أل انتفعتم بإهابها)) ،ولم يتعرض للشعر فعنه ثلثةُ
أجوبة:
أحدها :أنه أطلق النتفاع بالهاب ،ولم يأمرهم بإزالة ما عليه من الشعر ،مع أنه ل بُدّ فيه
ب المنتفع به بوجه دون وجه ،فدل على أن
من شعر ،وهو صلى ال عليه وسلم لم يُقيد الها َ
النتفاع به فرواً وغيره مما ل يخلو من الشعر.
والثانى :أنه صلى ال عليه وسلم قد أرشدهم إلى النتفاعِ بالشعر فى الحديث نفسِه حيث
حمُها)).
ن ال َم ْيتَ ِة َأ ْكلُها َأوْ ل ْ
حرُمَ مِ َ
يقول(( :إ ّنمَا َ
ت وتعليلُهم
والثالث :أن الشع َر ليس من الميتة ليتعرض له فى الحديث ،لنه ل يحلّه المو ُ
ن الشعر عندهم ،وتمسكهم بغسله فى
ل بجلد الميتة إذا دُبغَ ،وعليه شعر ،فإنه يطهرُ دو َ
بالتبعية يبط ُ
الطهارة َيبْطُلُ بالجبيرة ،وتمسكهم بضمانه مِن الصيد يبطُل بالبيض ،وبالحمل .وأما فى النكاح،
فإنه يتبع الجملة لتصاله ،وزوال الجملة بإنفصاله عنها ،وههنا لو فارق الجملة بعد أن تبعها فى
التنجس ،لم يُفارقها فيه عندهم ،فعلم الفرق.
فصل
فإن قيل :فهل يدخُل فى تحريم بيعها تحريمُ بيع عظمها وقرنها وجلدها بعدَ الدباغ لشمول
اسم الميتة لذلك؟ قيل :الذى يحرم بيعُه منها هو الذى يحرم أكلُه واستعمالُه ،كما أشار إليه النبىّ
حرّمَ
حرّ َم َث َمنَهُ)) .وفى اللفظ الخر(( :إذَا َ
حرّمَ شيئاً َ
ل َتعَالى إذَا َ
صلى ال عليه وسلم بقوله(( :إنّ ا ّ
حرّمَ َث َمنَهُ)) .فنّبه على أن الذى يحرم بيعهُ يحرم أكله.
َأكْلَ شَىءٍَ ،
وأما الجلد إذا دبغ ،فقد صار عيناً طاهرة ينتفع به فى اللبس والفرش ،وسائِر وجوه
الستعمال ،فل يمتنع جوازُ بيعه ،وقد نص الشافعى فى كتابه القديم على أنه ل يجوز بيعُه،
442
واختلف أصحابُه ،فقال القفال :ل يتجه هذا إل بتقدير قول يُوافق مالكاً فى أنه يطهر ظاهرُه دون
باطنه ،وقال بعضُهم :ل يجوز بيعُه ،وإن طهر ظاهره وباطنه على قوله الجديد ،فإنه جز ٌء من
الميتة حقيقة ،فل يجوزُ بيعه كعظمها ولحمها .وقال بعضُهم :بل يجو ُز بيعه بعد الدبغ لنه عين
طاهرة يُنتفع بها فجاز بيعها كالمذكّى ،وقال بعضهم :بل هذا ينبنى على أن الدبغ إزالة أو إحالة،
فإن قلنا :إحالة ،جاز بَيعُه لنه قد استحال من كونه جزء ميتة إلى عين أخرى ،وإن قلنا :إزالة ،لم
يجزء بيعُه ،لن وصف الميتة هو المحرمُ لبيعه ،وذلك باق لم يستحل.
وبنوا على هذا الخلف جواز أكله ،ولهم فيه ثلثة أوجه :أكله مطلقاً ،وتحريمه مطلقاً،
ل بين جلد المأكول وغير المأكول ،فأصحاب الوجه الول ،غّلبُوا حكم الحالة ،وأصحاب
والتفصي ُ
الوجه الثانى ،غلّبوا حكم الزالة ،وأصحاب الوجه الثالث أجروا الدباغَ مجرى الذكاة ،فأباحوا بها
ما يُباح أكله بالذكاة إذا ذكى دون غيره ،والقولُ بجواز أكله باطل مخالف لصريح السنة ،ولهذا لم
يُمكن قائلُه القول به إل بعد منعه كونَ الجلد بعد الدبغ ميتة ،وهذا منع باطل ،فإنه جلد ميتة حقيقة
وحساً وحكماً ،ولم يحدث له حياةٌ بالدبغ ترفع عنه اسم الميتة ،وكون الدبغ إحالةً باطل حساً ،فإن
الجلد لم يستحل ذاتُه وأجزاؤه ،وحقيقته بالدباغ ،فدعوى أن الدباغ إحالة عن حقيقة إلى حقيقة
أخرى ،كما تُحيل النارُ الحطب إلى الرماد ،والملّحة ما يُلقى فيها من الميتات إلى الملح دعوى
باطلة.
وأما أصحاب مالك رحمه الّ ففى ((المدونة)) لبن القاسم المن ُع من بيعها وإن دبغت ،وهو
الذى ذكره صاحب ((التهذيب)) .وقال المازَرى :هذا هو مقتضى القول بأنها ل تطهرُ بالدباغ .قال:
وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة ،فإنا نُجيز بيعها لباحة جملة منافعها.
قلت :عن مالك فى طهارة الجلد المدبوغ روايتان .إحداهما :يطهر ظاهرُه وباطنُه ،وبها قال
وهب ،وعلى هذه الرواية جوز أصحابُه بيعه والثانية :وهى أشهر الروايتين عنه أنه يطهر طهارة
مخصوصة يجوز معها استعمالُه فى اليابسات ،وفى الماء وحده دون سائر المائعات ،قال أصحابه:
وعلى هذه الرواية ل يجوز بيعُه ،ول الصلة فيه ،ول الصلةُ عليه.
وأما مذهب المام أحمد :فإنه ل يصح عنده بيع جلد الميتة قبل دبغه .وعنه فى جوازه بعد
الدبغ روايتان ،هكذا أطلقهما الصحابُ ،وهما عندى مبنيتان على اختلف الرواية عنه فى طهارته
بعد الدباغ.
وأما بيعُ الدهن النجس ،ففيه ثلثة أوجه فى مذهبه.
443
أحدها :أنه ل يجوز بيعه.
والثانى :أنه يجوز بيعُه لكافر يعلم نجاسته ،وهو المنصوص عنه .قلت :والمراد بعلم
النجاسة :العلم بالسبب المنجس ل اعتقاد الكافر نجاسته.
والثالث :يجوز بيعه لكافر ومسلم .وخرج هذا الوجه من جواز إيقاده ،وخرج أيضًا من
طهارته بالغسل ،فيكون كالثوب النجس ،وخرج بعضُ أصحابه وجهًا ببيع السرقين النجس للوقيد
مِن بيع الزيت النجس له ،وهو تخريجٌ صحيح.
وأما أصحاب أبى حنيفة فجوزوا بيع السرقين النجس إذا كان تبعًا لغيره ،ومنعوه إذا
كان مفرداً.
فصل
وأما عظمُها ،فمن لم ينجسه بالموت ،كأبى حنيفة ،وبعض أصحاب أحمد ،واختيار ابن
وهب من أصحاب مالك ،فيجوز بيعُه عندهم ،وإن اختلف مأخذ الطهارة ،فأصحاب أبى حَنيفة
قالوا :ل يدخل فى الميتة ،ول يتناولُه اسمها ،ومنعوا كونَ اللم دليلَ حياته ،قالُوا :وإنما تؤلمه لما
ن يُحْيى العِظَا َم وَ ِهىَ َرمِيمٌ} [يس:
ل مَ ْ
جاوره من اللحم ل ذات العظم ،وحملوا قوله تعالى{ :قَا َ
،]78على حذف مضاف ،أى أصحابها .وغيرهُم ضعّف هذا المأخذ جداً ،وقال :العظم يألم ،وألمه
أش ّد من ألم اللحم ،ول َيصِحّ حمل الية على حذف مضاف ،لوجهين ،أحدهما :أنه تقدير ما ل دليل
عليه ،فل سبيل إليه .الثانى :أن هذا التقدير يستلزم الضراب عن جواب سؤال السائل الذى
استشكل حياة العظام ،فإن أُبىّ ابْنَ خَلف أخذ عظماً بالياً ،ثم جاء به إلى النبى صلى ال عليه وسلم،
لّ صلى ال عليه وسلم:
ففته فى يده ،فقال :يا محمد ،أترى الّ يحيى هذا بعد ما رُمّ؟ فقالَ رسولُ ا ِ
ك النّار)).
خُل َ
((نعم ،و َي ْب َع ُثكَ ،ويُدْ ِ
ب تنجيس الميتة منتفٍ فى العظام ،فلم يُحكم بنجاستها ،ول يصح
فمأخذ الطهارة أن سب َ
قياسها على اللحم ،لن احتقانَ الرطوبات والفضلت الخبيثة يختص به دونَ العظام ،كما أن ما ل
نفس له سائلة ل ينجس بالموت ،وهو حيوان كامل ،لِعدم سبب التنجيس فيه .فالعظم أولى ،وهذا
المأخ ُذ أصح وأقوى من الول ،وعلى هذا ،فيجوز بيعُ عظام الميتة إذا كانت من حيوان طاهر
العين.
وأما من رأى نجاستها ،فإنه ل يجوز بيعها ،إذ نجاستها عينية ،قال ابن القاسم :قال مالك :ل
أري أن تُشترى عِظام الميتة ول تباع ،ول أنياب الفيل ،ول يتجر فيها ،ول يمتشط بأمشاطها ،ول
444
يدهن بمداهنها ،وكيف يجعل الدهن فى الميتة ويمشط لحيته الميتة ،وهى مبلولة ،وكره أن يُطبخ
بعظام الميتة ،وأجاز مطرّف ،وابن الماجِشون بيعَ أنياب الفيل مطلقاً ،وأجازه ابن وهب ،وأصبغ
سلِقت ،وجعل ذلك دباغاً لها.
إن غُليت و ُ
فصل
وأما تحريمُ بيع الخنزير ،فيتناولُ جملته ،وجميعَ أجزائه الظاهرة والباطنة ،وتأمل كيف ذكر
لحمه عند تحريم الكل إشارة إلى تحريم أكله ومعظمه اللحم ،فذكر اللحم تنبيهاً على تحريم أكلِه
دونَ ما قبله ،بخلف الصيد ،فإنه لم يقل فيه :وحرم عليكم لحم الصيد ،بل حرم نفس الصيد،
ليتناول ذلك أكله وقتله .وههنا لما حرم البيع ذكر جملته ،ولم يخص التحريمَ بلحمه ليتناول بيعه حياً
وميتاً.
فصل
وأما تحريمُ بيع الصنام ،فُيستفاد منه تحري ُم بيع كُلّ آلة متخذة للشرك على أى وجه كانت،
ومن أى نوع كانت صنماً أو وثنًا أو صليباً ،وكذلك الكُتب المشت ِملَةُ على الشرك ،وعبادة غير الّ،
فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها ،وبيعُها ذريع ٌة إلي اقتناعها واتخاذها ،فهو أولى بتحريم البيع مِن
كل ما عداها ،فإن مفسدةَ بيعها بحسب مفسدتها فى نفسها ،والنبىّ صلى ال عليه وسلم لم يُؤخر
ل مِن
ذِكرها لخفة أمرها ،ولكنه تدرّج من السهل إلى ما هو أغلظ منه ،فإن الخمرَ أحسنُ حا ً
الميتة ،فإنها تصيرُ مالً محترماً إذا قلبها الُّ سبحانه ابتداء خّل ،أو قلبها الدمى بصنعته عند طائفة
من العلماء ،تُضمن إذا أتلفت على الذمى عند طائفة بخلف الميتة ،وإنما لم يجعل الّ فى أكل
الميتة حداً اكتفاء بالزاجر الذى جعله الّ فى الطباع مِن كراهتها والنفرة عنها ،وإبعادها عنها،
بخلف الخمر .والخنزير أشدّ تحريمًا من الميتة ،ولهذا أفرده الّ تعالى بالحكم عليه أنه رجس فى
ن َيكُونَ َم ْيتَ ًة َأوْ دَمًا مَسْفُوحًا َأوْ
ل أَ ْ
ط َعمُهُ إ ّ
ى إلىّ مُحرّماً عَلى طَاعِ ٍم يَ ْ
حَل أَجدُ فِيمَا أُو ِ
قوله{ :قُلْ َ
جسٌ َأوْ فِسْقاً} [النعام ،]145 :فالضمير فى قوله(( :فإنه)) وإن كان عوده إلى
خ ْنزِيرٍ فَإنّ ُه رِ ْ
لَحْمَ ِ
الثلثة المذكورة بإعتبار لفظ المحرم ،فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلثة أوجه .أحدها:
قربُه منه ،والثانى :تذكيرُه دون قوله ،فإنها رجس ،والثالث :أنه أتى
س عنه ،ويقابل هذه العلة ما فى طباع
((بالفاء)) و((إنّ)) تنبيهًا على علة التحريم لتزجر النفو ُ
بعض الناس من استلذاذه ،واستطابته ،فنفى عنه ذلك ،وأخبر أنه رجس ،وهذا ل يحتاج إليه فى
الميتة والدم لن كونهما رجسًا أمر مستقر معلوم عندهم ،ولهذا فى القرآن نظائر ،فتأملها .ثم ذكر
445
بعدُ تحريمُ بيع الصنام ،وهو أعظمُ تحريماً وإثماً ،وأشد منافاة للسلم من بيع الخمر والميتة
والخنزير.
فصل
حرّ َم ثمنه)) ،يُراد به أمران ،أحدهُما:
حرّم أكل شَىءٍ َ
شيْئاً أو َ
حرّم َ
وفى قوله(( :إنّ الّ إذا َ
ما هو حرام العين والنتفاع جملة ،كالخمر ،والميتة ،والدم ،والخنزير ،وآلت الشرك ،فهذه ثمنها
حرام كيفما اتفقت.
والثانى :ما يُباح النتفاعُ به فى غير الكل ،وإنما يحرم أكلُه ،كجلد الميتة بعد الدباغ،
وكالحمر الهلية ،والبغال ونحوها مما يحرم أكلُه دونَ النتفاع به ،فهذا قد يُقال :إنه ل يدخل فى
الحديث ،وإنما يدخل فيه ما هو حرام على الطلق .وقد يقال :إنه داخل فيه ،ويكون تحريم ثمنه إذا
بيع لجل المنفعة التى حرمت منه ،فإذا بيع البغل والحمار لكلهما ،حرم ثمنهما بخلف ما إذا بيعا
للركوب وغيره ،وإذا بيع جلد الميتة للنتفاع به ،حل ثمنه .وإذا بيع لكله ،حرم ثمنه ،وطرد هذا ما
قاله جمهور من الفقهاء ،كأحمد ،ومالك وأتباعهما :إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمراً ،حرم أكل
ح إذا بيع لمن يُقاتل به مسلماً ،حرم أكل ثمنه ،وإذا
ثمنه .بخلف ما إذا بيع لمن يأكله ،وكذلك السل ُ
ب الحرير إذا بيعت لمن يلبسُها ممن
بيع لمن يغزو به فى سبيل الّ ،فثمنه من الطيبات ،وكذلك ثيا ُ
يحرم عليه ،حرم أكل ثمنها بخلف بيعها ممن يحل له لبسها.
فإن قيل :فهل تُجوّزون للمسلم بيعَ الخمر والخنزير مِن الذمى لعتقاد الذمى حلهما،
كما جوزتم بيعه الدهن المتنجس إذا بين حاله لعتقاده طهارته وحله؟ قيل :ل يجوز ذلك ،وثمنُه
حرام ،والفرقُ بينهما :أن الدهن المتنجس عين طاهرة خالطها نجاسة ،ويسوغ فيها النزاعُ .وقد
ذهبت طائفة من العلماء إلى أنه ل ينجس إل بالتغير .وإن تغير ،فذهب طائفة إلى إمكان تطهيره
ل ملة ،وعلى لسان كل رسول ،كالميتة ،والدم،
بالغسل ،بخلف العين التى حرمها الّ فى كُ ّ
حلّه ،فهو كبيع
ل على تحريمه ،وإن اعتقد الكافرُ ِ
والخنزير ،فإن استباحته مخالفة لما أجمعت الرس ُ
ل ورسولُه بعينه ،وإل فالمسلمُ ل يشترى صنماً.
الصنام للمشركين ،وهذا هو الذى حرّمه ا ّ
فإن قيل :فالخمر حلل عند أهل الكتاب ،فجوّزوا بيعها منهم.
قيل :هذا هو الذى توهمه من توهمه من عمال عمر بن الخطاب رضى الّ عنه ،حتى كتب
إليهم عمر رضى الّ عنه ينهاهم عنه ،وأمر عماله أن يُولوا أهل الكتاب بَيعها بأنفسهم ،وأن يأخذوا
ما عليهم من أثمانها ،فقال أبو عبيد :حدثنا عبد الرحمن ،عن سفيان بن سعيد ،عن إبراهيم بن عبد
446
العلى الجعفى ،عن سويد بن غفلة ،قال :بلغ عمر بن الخطاب رضى الّ عنه ،أن ناساً يأخذون
ل عنه :ل تفعلُوا ،ولّوهم
الجزية من الخنازير ،فقام بلل ،فقال :إنهم ليفعلون ،فقال عمر رضى ا ّ
بيعها.
قال أبو عبيد :وحدثنا النصارى ،عن إسرائيل ،عن إبراهيم ابن عبد العلى ،عن سويد بن
ل عنه :إن عُماَلك يأخذون الخمر والخنازير فى الخراج ،فقال :ل
ل قال لعمر رضى ا ّ
غفلة ،أن بل ً
تأخذوا منهم ،ولكن ولوهم بيعها ،وخذوا أنتم من الثمن.
قال أبو عبيد :يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير مِن جزية
رؤوسهم ،وخراج أرضهم بقيمتها ،ثم يتولّى المسلمون بيعها ،فهذا الذى أنكره بلل ،ونهى عنه
ل الذمة هم المتولين لبيعها ،لن الخمر
عمرُ ،ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أه ُ
ل للمسلمين.
ل من أموال أهل الذمة ،ول تكون ما ً
والخنازير ما ٌ
ل بن
قال :ومما يُبين ذلك حديثُ آخ ُر لعمر رضى الّ عنه حدثنا على ابن معبد ،عن عبيد ا ّ
ل عنه كتب إلى العمال يأمرهم بقتل
عمرو ،عن ليث بن أبى سليم ،أن عمر بن الخطاب رضى ا ّ
الخنازير وقبض أثمانها لهل الجزية مِن جزيتهم .قال أبو عُبيد :فهو لم يجعلها قِصاصًا من الجزية
ب له أن
إل وهو يراها من أموالهم .فأما إذا مر الذمى بالخمر والخنازير على العاشر ،فإنه ل يطي ُ
يُعشّرها ،ول يأخذ ثمن العشر منها .وإن كان الذمى هو المتولى لبيعها أيضاً ،وهذا ليس مِن الباب
الول ،ول يشبهه ،لن ذلك حقٌ وجب على رقابهم وأرضيهم ،وأن العشر ههنا إنما هو شىء
ل صلى ال عليه وسلم:
ب لقول رسول ا ّ
يُوضع على الخمر والخنازير أنفسها ،وكذلك ثمنها ل يطي ُ
((إن الّ إذا حرم شيئًا حرم ثمنه)) .وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الّ عنه ،أنه أفتى فى
مثلِ هذا بغير ما أفتى به فى ذاك ،وكذلك قال عم ُر بن عبد العزيز.
سبَائِى أن عُتبة
ل بن هُبيرة ال ّ
ل بن لهيعة ،عن عبد ا ّ
حدثنا أبو السود المصرى ،حدثنا عبدُ ا ّ
ن ألفَ درهم صدقة الخمر ،فكتب إليه عمر رضى الّ
بن فرقد بعث إلى عمرَ بنِ الخطاب بأربعي َ
عنه :بعثت إلىّ بصدَقِة الخمر ،وأنت أحقّ بها من المهاجرين ،وأخب َر بذلك الناس ،وقال :والّ ل
استعملتُك على شىءِ بعدها ،قال :فتركه.
حدثنا عبد الرحمن ،عن المثنى بن سعيد الضبعى ،قال :كتب عم ُر بن عبد العزيز إلى عدىّ
ب إليه بذلك وصنفه له،
ى بتفصيل الموال التى قِبلَك ،من أين دخلت؟ فكت َ
بن أرطاة ،أن ابعث إل ّ
وكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلف درهم .قال :فلبثنا ما شاءَ الّ ،ثم جاءه جوابُ
447
ى تذكر من عشور الخمر أربعة آلف درهم ،وإن الخمر ل يُعشرها مسلم ،ول
كتابه :إنك كتبتَ إل ّ
يشتريها ،ول يبيعُها ،فإذا أتاك كتابى هذا ،فاطلب الرجلَ ،فاردُدْها عليه ،فهو أولى بما كان فيها.
ت عليه.
فطلب الرجلَ ،فرَ ّد ْ
قال أبو عُبيد :فهذا عندى الذى عليه العمل ،وإن كان إبراهيم النخعى قد قال غير ذلك .ثم
ذكر عنه فى الذمى يمرّ بالخمر على العاشر ،قال :يضاعف عليه العشور.
شرَ الخمر،
قال أبو عُبيد :وكان أبو حنيفة يقول :إذا ُمرّ على العاشر بالخمر والخنازير ،عَ ّ
شرِ الخنازيرَ ،سمعتُ محمد بن الحسن يُحدّث بذلك عنه ،قال أبو عبيد :وقول الخليفتين عمر
ولم يُع ّ
ل أعلم.
ل عنهما أولى بالتباع ،وا ّ
بن الخطاب ،وعمر بن عبد العزيز رضى ا ّ
سنّورِ
ل صلى ال عليه وسلم فى ثمن ال َك ْلبِ وال ّ
حَكمُ رسولِ ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم نهى عَنْ َثمَن
فى ((الصحيحين)) :عن أبى مسعود ،أن رسول ا ّ
ح ْلوَانِ الكَاهِنِ.
ب َو َم ْهرِ ال َب ِغىّ ،و ُ
ال َكلْ ِ
جرَ
وفى صحيح مسلم :عن أبى الزبير ،قال :سألتُ جابرًا عن ثمن الكلب والسّنور فقال :زَ َ
النبى صلى ال عليه وسلم عن ذلك.
س ّن ْورِ.
ب وال ّ
ى صلى ال عليه وسلم نهى عن ثمن ال َكلْ ِ
وفى سنن أبى داود :عنه أن النب ّ
ل صلى ال عليه وسلم قال:
وفى صحيح مسلم :من حديث رافع بن خَديج ،عن رسول ا ّ
سبُ الحَجّامِ)).
ى و َثمَنُ ال َك ْلبِ وكَ ْ
ب َم ْهرُ ال َب ِغ ّ
س ِ
شرّ الكَ ْ
(( َ
فتضمنت هذه السنن أربعة أمور.
(يتبع)...
ن أو كبيراً للصيد ،أو
ل كل كلب صغيراً كا َ
أحدُها :تحري ُم بيع الكلب ،وذلك بتناو ُ @
للماشية ،أو للحرث ،وهذا مذهبُ فقها ِء أهلِ الحديثِ قاطبة ،والنزاعُ فى ذلك معروف عن أصحاب
ب أبى حنيفة بيعَ الكلب ،وأكل أثمانها ،وقال القاضى عبد
مالك ،وأبى حنيفة ،فجوز أصحا ُ
الوهّاب :اختلف أصحابُنا فى بيع ما أذن فى اتخاذه من الكلب ،فمنهم من قال :يُكره ،ومنهم من
قال :يَحرم ،انتهى.
وعقدَ بعضُهم فصلً لما يصح بيعُه ،وبنى عليه اختلفهم فى بيع الكلب ،فقال :ما كانت
منافعُه كلّها محرمة لم يجز بيعه ،إذ ل فرق بين المعدوم حساً ،والممنوع شرعاً ،وما تنوّعَتْ
منا ِفعُه إلى محللة ومحرمة ،فإن كان المقصودُ مِن العين خاصة كان العتبارُ بها ،والحكم تابع لها،
448
فاع ُت ِب َر نوعُها ،وصار الخر كالمعدوم .وإن توزعت فى النوعين ،لم َيصِحّ البيعُ ،لن ما يُقابل ما
حرم منها أكل مال بالباطل ،وما سواه من بقية الثمن يصير مجهولً.
قال :وعلى هذا الصل مسألةُ بي ِع كلب الصيد ،فإذا بُنى الخلفُ فيها على هذا الصل ،قيل:
فى الكلب من المنافع كذا وكذا ،وعُددت جملة منافعه ،ثم نظر فيها ،فمن رأى أن جملتها محرمة،
حّللَة ،أجاز ،ومن رآها متنوعة ،نظر :هل المقصودُ المحلل ،أو المحرم،
منع ،ومن رأى جميعَها مُ َ
فجعل الحك َم للمقصود ،ومن رأى منفعة واحدة منها محرمة وهى مقصودة ،منع أيضاً ،ومن التبس
ل والتفصيل ،وطابق بينهما يظهر لك ما
عليه كونُها مقصودة ،وقف أو كره ،فتأمل هذا التأصي َ
فيهما مِن التناقض والخلل ،وأن بنا َء بيع كلب الصيد على هذا الصل مِن أفسد البناء ،فإن قوله :من
رأى أن جملة منافع كلب الصيد محرمة بعد تعديدها ،لم يجز بيعُه ،فإن هذا لم يقله أحدٌ من الناس
قط ،وقد اتفقت المة على إباحة منافع كلب الصيد من الصطياد والحراسة ،وهما جُلّ منافعه ،ول
يُقتنى إل لذلك ،فمن الذى رأى منافعه ُكلّها محرمة ،ول يصح أن تراد منافعه الشرعية؟ فإن إعارتَه
جائزة.
وقوله :ومن رأى جميعها محللة ،أجاز ،كلمٌ فاسِ ٌد أيضاً ،فإن منافعه المذكورة محللة اتفاقاً،
والجمهور على عدم جواز بيعه.وقوله :ومن رآها متنوعة ،نظر ،هل المقصود المحلل أو المحرم؟
كلمٌ ل فائدة تحته البتة ،فإن منفع َة كلب الصيد هى الصطيادُ دون الحراسة ،فأين التنوعُ وما يُق ّدرُ
فى المنافع من التحريم يُق ّد ُر مثلُه فى الحمار والبغل؟ وقوله :ومن رأى منفعة واحدة محرمة وهى
مقصودة ،منع .أظهرُ فساداً مما قبله ،فإن هذه المنفعةَ المحرمة ليست هى المقصود َة من كلب
الصيد ،وإن قُ ّدرَ أن مشتريَه قصدها ،فهو كما لو قصد منفعة محرمة من سائر ما يجوز بيعه،
ص الصريح الذى ل معارض
وتبين فساد هذا التأصيل ،وأن الصل الصحيح هو الذى دل عليه الن ّ
له البتة من تحريم بيعه.
ل صلى ال عليه
فإن قيل :كلبُ الصيد مستثنى من النوع الذى نهى عنه رسول ا ّ
ل عنه ،أن النبىّ صلى ال عليه وسلم َنهَى
وسلم ،بدليل ما رواه الترمذى ،من حديث جابر رضى ا ّ
صيْدِ.
ب ال ّ
ن ال َك ْلبِ ،إل كل َ
عَنْ َثمَ ِ
وقال النسائى :أخبرنى إبراهيم بن الحسن المصيصى ،حدثنا حجاج ابن محمد ،عن حماد بن
ل صلى ال عليه وسلم نهى عن َثمَنِ
سلمة ،عن أبى الزبير ،عن جابر رضى الّ عنه ،أن رسولَ ا ّ
ب الصيد.
سنّورِ ،إل كل َ
ب وال ّ
ال َكلْ ِ
449
ن أبى مريم ،أخبرنا يحيى بن
وقال قاسم بن أصبغ :حدثنا محمد بن إسماعيل ،حدثنا اب ُ
ل عنه ،أن
أيوب ،حدثنا المثّنى بن الصبّاح ،عن عطاء بن أبى رباح ،عن أبى هُريرة رضى ا ّ
صيْدٍ)).
ل َك ْلبَ َ
حتٌ إ ّ
ن ال َكلْبِ سُ ْ
ل صلى ال عليه وسلم قالَ (( :ثمَ ُ
رسول ا ّ
عمّن أخبره ،عن ابن شهاب ،عن أبى بكر الصّديق رضى الّ عنه ،عن
وقال ابن وهب َ
ن الكلبِ
حلْوانُ الكاهِنِ ،و َم ْهرُ الزانِية ،و َثمَ ُ
حتٌُ :
النبى صلى ال عليه وسلم قال(( :ثَلثٌ هُنّ س ْ
العَقُور)).
ش ْمرُ بن عبد اللّته بن ضميرة ،عن أبيه ،عن جده ،عن على بن
وقال ابن وهب :حدثنى ال ّ
ن ال َك ْلبِ العَقُورِ .ويدل على
ن النَبىّ صلى ال عليه وسلم َنهَى عَنْ َثمَ ِ
ل عنه ،أ ّ
أبى طالب رضى ا ّ
صحة هذا الستثناء أيضاً ،أن جابراً أحد من روى عن النبىّ صلى ال عليه وسلم النهىَ عن ثمنِ
الكلب ،وقد رخّص جابر نفسُه فى ثمن كلب الصيد ،وقولُ الصحابى صالح لتخصيص عمومِ
الحديث عند من جعله حجة ،فكيف إذا كان معه النصّ بإستثنائه والقياس؟ وأيضاً لنه يُباح النتفاع
ل اليد فيه بالميراث ،والوصية ،والهبة ،وتجوزُ إعارته وإجارته فى أحد قولى
به ،ويَصِحّ نق ُ
العلماء ،وهما وجهان للشافعية ،فجاز بيعه كالبغل والحمار.
فالجواب :أنه ل َيصِحّ عن النبى صلى ال عليه وسلم استثنا ُء كلب الصيد بوجه :أما حديث
جابر رضى الّ عنه ،فقال المام أحمد وقد سئل عنه :هذا مِن الحسن بن أبى جعفر ،وهو ضعيف،
وقال الدارقطنى :الصواب أنه موقوف على جابر .وقال الترمذى :ل يصح إسناد هذا الحديث.
ل عنه :هذا ل يصح ،أبو المهزّم ضعيف ،يريد روايه
وقال فى حديث أبى هريرة رضى ا ّ
عنه .وقال البيهقى :روى عن النبىّ صلى ال عليه وسلم النهىَ عن ثمن الكلب جماعةٌ ،منهم :ابن
عباس ،وجابر بن عبد الّ ،وأبو هريرة ،ورافع بن خديج ،وأبو جُحيفة ،اللفظ مختلف ،والمعنى
ن رواه أراد حديث النهى عن
واحد .والحديث الذى روُى فى استثناء كلب الصيد ل يصح وكأن مَ ْ
ل أعلم.
شبّ َه عليه ،وا ّ
اقتنائه ،فَ ُ
وأما حديثُ حماد بن سلمة ،عن أبى الزبير ،فهو الذى ضعفه المام أحمد رحمه الّ بالحسن
بن أبى جعفر ،وكأنّه لم يقع له طريق حجاج ابن محمد ،وهو الذى قال فيه الدارقطنى :الصواب أنه
موقوف ،وقد أعله ابن حزم ،بأن أبا الزبير لم يصرح فيه بالسماع من جابر ،وهو مدلس ،وليس
ى عن
من رواية الليث عنه .وأعلّه البيهقىّ بأن أح َد رواته وهم من استثناء كلب الصيد مما ُن ِه َ
ط عليه
خلّ َ
اقتنائه من الكلب ،فنقله إلى البيع .قلت :ومما يدل على بطلنِ حديثِ جابر هذا ،وأنه ُ
450
ن الكلب ،و َم ْهرُ البغىّ ،وكسب
ضرَابُ الفَحْل ،وثم ُ
ح عنه ،أنه قال :أربعٌ من السحتِ :
أنه صَ ّ
الحجام .وهذا علة أيضًا للموقوف عليه من استثناء كلب الصيد ،فهو علة للموقوف والمرفوع.
ل عنه ،فباطل ،لن فيه
ث المثّنى بن الصبّاح ،عن عطاء ،عن أبى هريرة رضى ا ّ
وأما حدي ُ
يحيى بن أيوب ،وقد شهد مالك عليه بالكذب ،وجرّحه المام أحمد .وفيه المثنى بن الصباح،
وضعفه عندهم مشهور ،ويدل على بطلن الحديث ما رواه النسائى ،حدثنا الحسن بن أحمد بن
ل بن نمير حدثنا أسباط ،حدثنا العمش ،عن عطاء بن أبى رباح ،قال:
حبيب ،حدثنا محمدبن عبد ا ّ
ن ال َكلْبِ ،و َم ْهرُ البَغىّ،
ضرَابُ الفَحْلِ ،و َثمَ ُ
ل عنه :أرب ٌع مِن السّحتِ ،
قال أبو هريرة رضى ا ّ
حجّامِ.
سبُ ال َ
وكَ ْ
ل عنه ،فل يُدرى من أخبر ابنَ وهب عن ابن
وأما الثر عن أبى بكر الصديق رضى ا ّ
شهاب ،ول من أخب َر ابنَ شهاب عن الصديق رضى الّ عنه ،ومثل هذا ل يُحتج به.
ل عنه :ففيه ابن ضميرة فى غاية الضعف ،ومثلُ هذه الثار
وأما الثرُ عن على رضى ا ّ
الساقطة المعلولة ل تُقدم على الثار التى رواها الئمة الثقاتُ الثبات ،حتى قال بعضُ الحفاظ :إن
ل تواتر ،وقد ظهر أنه لم َيصِحّ عن صحابى خلفها البتة ،بل هذا جابر ،وأبو هريرة ،وابن
نقلها نق ُ
ن الكلب خبيث.
عباس يقولون :ثم ُ
ح ْب َترٍ ،عن ابن عباس رضى الّ
قال وكيع :حدثنا إسرائيل ،عن عبد الكريم ،عن قيس بن َ
حرَامٌ)).
خ ْمرِ َ
عنهما يرفعهَ (( :ثمَنُ ال َك ْلبِ ،و َم ْه ُر ال َب ِغىّ ،و َثمَنُ ال َ
ل ابن عباس.
وهذا أقل ما فيه أن يكون قو َ
وأما قياسُ الكلب على البغل والحمار ،فمن أفسد القياس ،بل قياسُه على الخنزير أصحّ من
قياسه عليهما ،لن الشبَه الذى بينه وبَين الخنزير أقربُ مِن الشبه الذى بينَه وبينَ البغل والحمار،
ح وأولى من القياس المخالف له.
ص الموافق له ،أص ّ
س المؤيّد بالن ّ
ولو تعارض القياسانِ لكان القيا ُ
حرُمَ قتلُها ،وأبيحَ اتخا ُذ بعضها،
فإن قيل :كان النهىُ عن ثمنها حينَ كان المر بقتلها ،فلما َ
خ النهىُ ،فنسخ تحري ُم البيع.
نُسِ َ
قيل :هذه دعوى باطلة ليس مع مدعيها لصحتها دليل ،ول شُبهة ،وليس فى الثر ما يدل
عوَى البتة بوجه من الوجوه ،ويدل على بطلنها :أن أحاديثَ تحري ِم بيعها وأكل
على صحة هذه الدَ ْ
ث المر بقتلها ،والنهى عن اقتنائها نوعان :نوع كذلك وهو المتقدم،
ثمنها مطلقة عامة ُكلّها ،وأحادي ُ
451
ونوع مقيّد مخصص وهو المتأخر ،فلو كان النهى عن بيعها مقيدًا مخصوصاً ،لجاءت به الثارُ
ل أعلم.
كذلك ،فلما جاءت عامة مطلقة ،عُلث َم أن عمومَها وإطلقَها مراد ،فل يجوز إبطالُه .وا ّ
فصل
ث الصحيح الصريح الذى رواه جابر،
الحكم الثانى :تحريمُ بيع السّنور ،كما دل عليه الحدي ُ
وأفتى بموجبه ،كما رواه قاسم بن أصبغ ،حدثنا محمد بن وضّاح ،حدثنا محمد بن آدم ،حدثنا عبد
ل بن المبارك ،حدثنا حماد بن سلمة ،عن أبى الزبير ،عن جابر بن عبد الّ ،أنه كره ثمن الكلب
ا ّ
والسنور .قال أبو محمد :فهذه فتيا جابر بن عبد الّ ،أنه كره بما رواه ،ول يُعرف له مخالف مِن
ل عنه ،وهو مذهبُ طاووس ،ومجاهد ،وجابر بن زيد،
الصحابة ،وكذلك أفتى أبو هريرة رضى ا ّ
وجميع أهل الظاهر ،وإحدى الروايتين عن أحمد ،وهى اختيا ُر أبى بكر عبد العزيز ،وهو الصواب
لصحة الحديث بذلك ،وعدم ما يُعارضه ،فوجب القولُ به.
قال البيهقى :ومن العلماء من حمل الحديث على أن ذلك حين كان محكوماً بنجاستها ،فلما
جسٍ)) .صار ذلك منسوخًا فى البيع .ومنهم من
ستْ ِبنَ َ
قال النبى ّ صلى ال عليه وسلم(( :ال ِه ّر ُة َليْ َ
ل الخبر الواقع
حمله على السنور إذا توحّش ،ومتابعة ظاهر السنة أولى .ولو سمع الشافعى رحمه ا ّ
فيه ،لقال به إن شاء الّ ،وإنما ل يقول به مَنْ توقّف فى تثبيت روايات أبى الزبير ،وقد تابعه أبو
سفيان عن جابر على هذه الرواية من جهة عيسى بن يونس ،وحفص بن غياث عن العمش ،عن
أبى سفيان انتهى كلمه.
ومنهم من حمله على اله ّر الذى ليس بمملوك ،ول يخفى ما فى هذه المحامل مِن الوهن.
فصل
والحكم الثالث :مهر البغى ،وهو ما تأخذُه الزانية فى مقابل الزنى بها ،فحكم رسولُ الّ
ث على أى وجه كان ،حر ًة كانت أو أمةً ،ول سيما فإن البغاء إنما
صلى ال عليه وسلم أن ذلك خبي ٌ
كان على عهدهم فى الماء دون الحرائر ،ولهذا قالت هند :وقت البيعة(( :أو تزنى الحُرة؟)) ول
ل من نفسها فزنى بها أنه ل مهرَ لها.
نزاع بين الفقهاء فى أن الحرة البالغة العاقلة إذا مكنت رج ً
واختلف فى مسألتين .إحداهما :الحرة المكرهة .والثانية :المة المطاوعة ،فأما الحرة
المكرهة على الزنى ،ففيها أربعة أقوال ،وهى روايات منصوصات عن أحمد.
أحدها :أن لها المهر بكراً كانت أو ثيباً ،سواء وطئت فى قبلها أو دبرها.
452
والثانى :أنها إن كانت ثيباً ،فل مهر لها ،وإن كانت بكراً ،فلها المهرُ ،وهل يجب معه أرشُ
البكارة؟ على روايتين منصوصتين ،وهذا القولُ اختيارُ أبى بكر.
والثالث :أنها إن كانت ذاتَ محرم ،فل مهر لها ،وإن كانت أجنبية ،فلها المهر.
الرابع :أن من تحرم ابنتها كالم والبنت والخت ،فل مهر لها ،ومن تحل ابنتها كالعمة
والخالة ،فلها المهر.
وقال أبو حنيفة رحمه الّ :ل مهر للمكرهة على الزنى بحال ،بكراً كانت أو ثيباً.
فمن أوجب المهر .قال :إن استيفاء هذه المنفعة جعل مقوماً فى الشرع بالمهر ،وإنما لم يجب
للمختارة ،لنها باذلة للمنفعة التى عوضها لها ،فلم يجب لها شىء ،كما لو أذنت فى إتلف عضو
من أعضائها لمن أتلفه.
ومن لم يُوجبه قال :الشارعُ إنما جعل هذه المنفعة متقومة بالمهرِ فى عقد أو شبهة عقد ،ولم
يُقومها بالمهر فى الزنى البتة ،وقياس السفاح على النكاح من أفسد القياس .قالوا :وإنما جعل
ن ضمان المهر .قالوا :والوجوب
الشارعُ فى مقابلة هذا الستمتاع الح ّد والعُقوبة ،فل يجمع بينَه وبي َ
إنما يُتلقى من الشرع من نص خطابه أو عمومه ،أو فحواه ،أو تنبيهه ،أو معنى نصّه ،وليس شىء
من ذلك ثابتاً متحققًا عنه .وغاية ما يُدعى قياسُ السفاح على النكاح ،ويا بُعد ما بينهما .قالوا:
والمهر إنما هو مِن خصائص النكاح لفظًا ومعنى ،ولهذا إنما يُضاف إليه فيقال :مهر النكاح ،ول
يُضاف إلى الزنى ،فل يقال :مهر الزنا ،وإنما أطلق النبى صلى ال عليه وسلم المهر وأراد به
ل بَاعَ
لصْنَامِ)) .وكما قال(( :ورَجُ ٌ
خ ْمرِ والم ْيتَةِ والخِنزِي ِر وا َ
حرّ َم َبيْعَ ال َ
العقد ،كما قال(( :إنّ الَّ َ
ل َث َمنَهُ)) .ونظائرُه كثيرة.
حُراً فَأكَ َ
ل فى هذه المنفعة ،أن تقوّم بالمهر ،وإنما أسقطه الشارعُ فى حق
والولون يقولون :الص ُ
البغى ،وهى التى تزنى بإختيارها ،وأما المكرهة على الزنى فليست بغياً ،فل يجوز إسقاطُ بدلِ
منفعتها التى أُكرهت على استيفائها ،كما لو أُك ِرهَ الحر على استيفاء منافعه ،فإنه يلزمُه عوضها،
وعوضُ هذه المنفعة شرعًا هو المهر ،فهذا مأخذ القولين .ومن فرّق بين البكر والثيب ،رأى أن
الواطىء لم يذهب على الثيب شيئاً ،وحسبُه العقوبة التى ترتبت على فعله ،وهذه المعصية ل يُقابلها
شرعاً مال يلزم من أقدم عليها ،بخلف البكر ،فإنه أزال بكارتها ،فل بُد من ضمان ما أزاله،
فكانت هذه الجناي ُة مضمون ًة عليه فى الجملة ،فضمن ما أتلفه مِن جزء منفعة ،وكانت المنفعة تابعة
للجزء فى الضمان ،كما كانت تابعة له فى عدمه من البكر المطاوعة.
453
ومن فرّق بين ذوات المحارم وغيرهن ،رأى أن تحريمهن لما كان تحريماً مستقراً ،وأنهن
غيرُ محل الوطء شرعاً ،كان استيفا ُء هذه المنفعة منهن بمنزلة التلوط ،فل يوجب مهرًا وهذا قولُ
الشعبى ،وهذا بخلف تحريم المصاهرة ،فإنه عارض يُمكن زوالُه.
لنَّهُ طَارىءُ
قال صاحب ((المغنى)) :وهكذا ينبغى أن يكون الحكم فيمن حرمت بالرضاعَ ،
ن مَنْ تحرم ابنتها ،وبين من ل تحرُم ،فكأنه رأى أن من ل
أيضاً .ومن فرّق فى ذوات المحارم ،بي َ
تحرم ابنتها تحريمها أخف مِن تحريم الخرى ،فأشبه العارض.
فإن قيل :فما حك ُم المكرهة على الوطء فى دُبرها ،أو المة المطاوعة على ذلك؟ قيل :هو
أولى بعدم الوجوب ،فهذا كاللواط ل يجب فيه المهر اتفاقاً.
وقد اختلف فى هذه المسألة الشيخانِ ،أبو البركات ابن تيمية ،وأبو محمد بن قدامة ،فقال أبو
البركات فى ((محرره)) :ويجب مه ُر المثل للموطوءة بشبهة ،والمكرَهَة على الزنى فى قبل أو
دبر ،وقال أبو محمد فى ((المغنى)) :ول يجب المهرُ بالوطء فى الدبر ،ول اللواط ،لن الشرع لم
ن الفرج ،وهذا القولُ هو الصوابُ قطعاً،
َيرِدُ ببَ َدلِه ،ول هو إتلفٌ لشىء ،فأشبه القبلة والوطءَ دو َ
ع قيمة أصلً ،ول قدّر له مهراً بوجه من الوجوه ،وقياسُه على
فإن هذا الفعل لم يجعل له الشار ُ
ب المهر لمن فعلت به اللوطية مِن الذكور ،وهذا
وطء الفرج مِن أفسد القياس ،ولزم من قاله إيجا ُ
لم يقل به أحد البتة.
فصل
وأما المسألة الثانية :وهى المة المطاوعة ،فهل يجب لها المَهر؟ فيه قولن .أحدُهما :يِجبُ،
ل الشافعى ،وأكثر أصحاب أحمد رحمه الّ .قالوا :لن هذه المنفعة لغيرها ،فل يسقط بدلها
وهو قو ُ
مجاناً ،كما لو أذنت فى قطع طرفها .والصوابُ المقطوع به :أنه ل مهر لها ،وهذه هى البغىّ التى
ن الكلب،
ل صلى ال عليه وسلم عن مهرها ،وأخبر أنه خبيثٌ ،وحكم عليه وعلى ثم ِ
نهى رسولُ ا ّ
ل أولياً ،فل يجوز تخصيصُها مِن
وأجرِ الكاهن بحكم واحد ،والمة داخلة فى هذا الحكم دخو ً
عمومه لن الماء هن اللتى كُن يُعرفن بالبغاء ،وفيهن وفى ساداتهن أنزل الُّ تعالى{ :ول
حصّناً} [النور ،]33 :فكيف يجوز أن تُخرج الماء مِن نص
ن َأرَدْنَ َت َ
ُت ْكرِهُوا َفتَيا ِتكُم عَلى ال ِبغَاءِ إ ْ
أردن به قطعاً ،ويُحمل على غيرهن.
وأما قولكم :إن منفعتها لسيدها ،ولم يأذن فى استيفائها ،فيقال :هذه المنفعةُ يملك السيدُ
ح أو شبهته ،ول يمِلكُ المعاوضَ َة عليها إل إذا
استيفاءها بنفسه ،ويمِلكُ المعاوضة عليها بعقد النكا ِ
454
لّ ورسوله للزنى عوضاً قط غير العقوبة ،فيفوت على السيد حتى يُقضى له ،بل
أذنت ،ولم يجعل ا ُ
ن الكلب،
لّ ورسولُه ،وإثباتُ عِوض حكم الشارعُ بخبثه ،وجعله بمنزلة ثم ِ
هذا تقويمُ مال أهدره ا ُ
وأجرِ الكاهن ،وإن كان عوضاً خبيثاً شرعاً ،لم يجز أن يقضى به.
ول يقال :فأجر الحجام خبيث ،ويُقضى له به ،لن منفعة الحِجامة منفعة مباحة ،وتجوز ،بل
ب على مستأجره أن يُوفيه أجره ،فأين هذا مِن المنفعة الخبيثة المحرمة التى عِوضها مِن
يج ُ
جنسها ،وحُكمه حكمها ،وإيجابُ عوض فى مقابلة هذه المعصية ،كإيجابِ عوض فى مقابلة اللواط،
إذ الشارع لم يجعل فى مقابلة هذا الفعل عوضاً.
فإن قيل :فقد جعل فى مقابلة الوطء فى الفرج عوضاً ،وهو المهرُ مِن حيث الجملة ،بخلف
اللواطة.
قلنا :إنما جعل فى مقابلته عوضاً ،إذا استوفى بعقد أو بشبهة عقد ،ولم يجعل له عوضاً إذا
ل التوفيق .ولم يُعرف فى السلم قط أن زانيًا قضى عليه
استوفى بزنى محض ل شُبهة فيه ،وبا ّ
ب أن المسلمين يرون هذا قبيحاً ،فهو عند الّ عز وجل قييح.
بالمهر للمزنى بها ،ول ري َ
فصل
فإن قيل :فما تقولون فى كسب الزانية إذا قبضته ،ثم تابت ،هل يجبُ عليها ردّ ما قبضته
إلى أربابه ،أم يطيبُ لها ،أم تصّدق به؟
قيل :هذا ينبنى على قاعدة عظيمة مِن قواعد السلم ،وهى أن مَن قبض ما ليس له قبضُه
شرعاً ،ثم أراد التخلصَ منه ،فإن كان المقبوضُ قد أُخِ َذ بغير رضى صاحبه ،ول استوفى عِوضَه،
ردّه عليه .فإن تعذّر ردّه عليه ،قضى به دينًا يعلمه عليه ،فإن تعذّر ذلك ،رده إلى ورثته ،فإن تعذّر
ب الحق ثوابَه يوم القيامة ،كان له .وإن أبى إل أن يأخذ مِن
ذلك ،تصدق به عنه ،فإن اختار صاح ُ
ب الصدقة للمتصدق بها ،كما ثبت عن الصحابة
حسنات القابض ،استوفى منه نظيرَ ماله ،وكان ثوا ُ
رضى الّ عنهم.
ض برضى الدافع وقد استوفى عِوضه المحرم ،كمن عاوض على خمر أو
وإن كان المقبو ُ
خنزير ،أو على زنى أو فاحشة ،فهذا ل يجبُ ردّ العوض على الدافع ،لنه أخرجه بإختياره،
واستوفى عوضه المحرم ،فل يجو ُز أن يجمع له بينَ العوض والمعوض ،فإن فى ذلك إعانة له
على الثم والعدوان ،وتيسير أصحاب المعاصى عليه .وماذا يريد الزانى وفاعل الفاحشة إذا علم
ل به ،وهو
أنه ينال غرضه ،ويسترِد ماله ،فهذا مما تُصان الشريعة عن التيان به ،ول يسوغُ القو ُ
455
ح أن يستوفى عوضه من المزنى بها ،ثم
يتضمن الجمْع بين الظلم والفاحشة والغدر .ومن أقبح القبي ِ
يرجع فيما أعطاها قهراً ،وقبح هذا مستقر فى فِطر جميع العقلء ،فل تأتى به شريعة ،ولكن ل
ل صلى ال عليه وسلم ،ولكن خبثه لخبث
يطيب للقابض أكله ،بل هو خبيث كما حكم عليه رسولُ ا ّ
مكسبه ،ل لظلم من أخذ منه ،فطريقُ التخلص منه ،وتمام التوبة بالصدقة به ،فإن كان محتاجًا إليه،
فله أن يأخذ قدر حاجته ،ويتصدق بالباقى ،فهذا حكمُ كل كسب خبيث لِخبث عوضه عيناً كان أو
ب رده على الدافع ،فإن النبى صلى ال عليه وسلم حكم بخُبثِ
منفعة ،ول يلزم من الحكم بخبثه وجو ُ
كسبِ الحجام ،ول يجب ردّه على دافعه.
فإن قيل :فالدافع مَالَه فى مقابلة العوض المحرم دفع ما ل يجوزُ دفعه ،بل حجر عليه فيه
الشارع ،فلم يقع قبضُه موقعه ،بل وجو ُد هذا القبض كعدمه ،فيجب ردّه على مالكه ،كما لو تبرع
المريضُ لوارثه بشىء ،أو لجنبى بزيادة على الثلث ،أو تبرّْع المحجو ُر عليه بفلس ،أو سفه ،أو
تبرع المضطرُ إلى قوته بذلك ،ونحو ذلك .وسر المسألة أنه محجورٌ عليه شرعاً فى هذا الدفع
فيجب ردّه.
قيل :هذا قياس فاسد ،لن الدفع فى هذه الصور تبرعٌ محض لم يُعاوض عليه ،والشارع قد
منعه منه لتعلق حق غيره به ،أو حق نفسه المقدمة على غيره ،وأما نحن فيه ،فهو قد عاوض بماله
على استيفاء منفعة ،أو استهلك عينٍ محرمة ،فقد قبض عوضاً محرماً ،وأقبض مالً محرماً،
فاستوفى ما ل يجوز استيفاؤه ،وبذل فيه ما ل يجوزُ بذلُه ،فالقابضُ قبض مالً محرماً ،والدافعُ
استوفى عِوضاً محرماً ،وقضي ُة العدل ترا ّد العوضين ،لكن قد تعذر ردّ أحدهما ،فل يُوجب رد
الخر من غير رجوع عوضه .نعم لو كان الخمر قائمًا بعينه لم يستهلكه ،أو دفع إليها المال ولم
يفجر بها ،وجب ردّ المال فى الصورتين قطعاً كما فى سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبضُ.
فإن قيل :وأىّ تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة ،ومعلوم أن قبضَ ما ل يجوز
قبضُه بمنزلة عدمه ،إذ الممنوعُ شرعًا كالممنوع حساً ،فقابضُ المال قبضه بغير حق ،فعليه أن
َيرُ ّدهُ إلى دافعه؟
قيل :والدافع قبض العين ،واستوفى المنفعة بغير حق ،كلهما قد اشتركا فى دفع ما ليس
لهما دفعه ،وقبض ما ليس لهما قبضه ،وكلهما عاصٍ لّ ،فكيف يُخص أحدهما بأن يجمع له بين
العوض والمعوض عنه ،ويفوتُ على الخر العوض والمعوض.
456
ت المنفعة على نفسه بإختياره .قيل :والخر فوّت العوض على نفسه
فإن قيل :هو ف ّو َ
بإختياره ،فل فرق بينهما ،وهذا واضح بحمد الّ.
وقد توقف شيخنا فى وجوب ردّ عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله ،أو الصدقة به فى
كتاب ((اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)) ،وقال :الزانى ،ومستمع الغناء
ض المحرم ،والتحريم الذى فيه ليس
والنوح قد بذلوا هذا المالَ عن طيب نفوسهم ،فاستوفوا العو َ
ل تعالى ،وقد فاتت هذه المنفعةُ بالقبض ،والصول تقتضى أنه إذا رد أحدَ
لحقهم ،وإنما هو لحقّ ا ّ
العوضين ،ردّ الخر ،فإذا تعذر على المستأجر ردّ المنفعة لم يرد عليه المال ،وهذا الذى استوفيت
منفعتُه عليه ضرر فى أخذ منفعته ،وأخذ عوضها جميعًا منه ،بخلف ما إذا كان العوض خمرًا أو
ميتة ،فإن تلك ل ضرر عليه فى فواتها ،فإنها لو كانت باقية لتلفناها عليه ،ومنفعة الغناء والنوح
لو لم تفت ،لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة فى أمر آخر ،أعنى من صرف
القوة التى عمل بها .ثم أورد على نفسه سؤالً ،فقال :فيقال على هذا فينبغى أن تقضوا بها إذا طالب
بقبضها .وأجاب عنه بأن قال :قيل :نحن ل نأمر بدفعها ول بردها كعقود الكفار المحرمة ،فإنهم إذا
أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض ،ولو أسلموا بعد القبض لم يُحكم بالرد ،ولكن المسلم تحرم عليه
هذه الجرة ،لنه كان معتقداً لتحريمها بخلف الكافر ،وذلك لنه إذا طلب الجرة ،فقلنا له :أنت
فرطت حيث صرفت قوتَك فى عمل يحرم ،فل يُقضى لك بالجرة .فإذا قبضها ،وقال الدافع هذا
المال :اقضوا لى برده ،فإنى أقبضته إياه عوضاً عن منفعة محرمة ،قلنا له :دفعته معاوضة
رضيتَ بها ،فإذا طلبت استرجاع ما أخذ ،فاردد إليه ما أخذت إذا كان له فى بقائه معه منفعة ،فهذا
محتمل .قال :وإن كان ظاهرُ القياس ،ردها لنها مقبوضة بعقد فاسد ،انتهى.
وقد نص أحمد فى رواية أبى النضر ،فيمن حمل خمراً ،أو خنزيراً ،أو ميتة
ل كرائه ،ولكن يُقضى للحمال بالكراء .وإذا كان لمسلم ،فهو أشدّ كراهة .فاختلف
لنصرانى :أكرهُ أك َ
أصحابه فى هذا النص على ثلث طرق.
ن أبى موسى :وكره أحمد أن
إحداها :إجراؤه على ظاهره ،وأن المسألة رواية واحدة .قال اب ُ
ب له أم
يُؤجر المسلم نفسَه لحمل ميتة أو خنزير لنصرانى .فإن فعل ،قضى له بالكراء ،وهل يطي ُ
ب له ،ويتصدّقُ به ،وكذا ذكر أبو الحسن المدى ،قال :إذا
ل؟ على وجهين .أوجههما :أنه ل يطي ُ
أجر نفسه من رجل فى حمل خمر ،أو خنزير ،أو ميتة ،كره ؛ نص عليه ،وهذه كراهة تحريم ،لن
النبى صلى ال عليه وسلم لعن حاملها .إذا ثبت ذلك ،فيقضى له بالكراء ،وغير ممتنع أن يُقضى له
457
بالكراء وإن كان محرماً ،كإجارة الحجام انتهى .فقد صرّح هؤلء ،بأنه يستحق الجرة مع كونها
محرمة عليه على الصحيح.
ل هذه الرواية بما يُخالف ظاهرها ،وجعل المسألة رواية واحدة ،وهى
الطريق الثانية :تأوي ُ
أن هذه الجارة ل تصِح ،وهذه طريقة القاضى فى ((المجرد)) ،وهى طريقة ضعيفة ،وقد رجع
عنها فى كتبه المتأخرة ،فإنه صنف ((المجرد)) قديماً.
الطريقة الثالثة :تخريجُ هذه المسألة على روايتين إحداهما :أن هذه الجارة صحيحة يستحق
بها الجرة مع الكراهة للفعل والجرة .والثانية :ل تصح الجارة ،ول يستحق بها أجرة وإن حمل.
وهذا على قياس قوله فى الخمر :ل يجوز إمساكُها ،وتجب إراقتها .قال فى رواية أبى طالب :إذا
أسلم وله خمر أو خنازير تُصب الخمرُ ،وتسرّحُ الخنازير ،وقد حرما عليه ،وإن قتلها ،فل بأس.
ص فى رواية ابن منصور :أنه يكره أن يُؤاجر
فقد نص أحمد ،أنه ل يجوز إمساكُها ،ولنه قد ن ّ
نفسه لنطارة كرم لنصرانى ،لن أصل ذلك يرجع إلى الخمر ،إل أن يعلم أنه يُباع لغير الخمر ،فقد
منع من إجارة نفسه على حمل الخمر ،وهذه طريقة القاضى فى ((تعليقه)) وعليها أكثر أصحابه،
والمنصور عندهم :الرواية المخرجة ،وهى عد ُم الصحة ،وأنه ل يستحق أجرة ،ول يقضى له بها،
وهى مذهبُ مالك ،والشافعى ،وأبى يوسف ،ومحمد .وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب
أو لكل الخنزير ،أو مطلقاً ،فأما إذا استأجره لحملها ِليُريقها ،أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئل
يتأذّى بها ،فإن الجارة تجوزُ حينئذ لنه عمل مباح ،لكن إن كانت الجرة جلد الميتة لم تصح،
واستحق أجرة المثل ،وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه ،رده على صاحبه ،هذا قول شيخنا ،وهو
مذهب مالك .والظاهر :أنه مذهب الشافعى .وأما مذهب أبى حنيفة رحمه الّ :فمذهبه كالرواية
الولى ،أنه تصح الجارة ،ويُقضى له بالجرة ،ومأخذه فى ذلك ،أن الحمل إذا كان مطلقاً ،لم يكن
المستحق نفسَ حمل الخمر ،فذكرُه وعدمُ ذكره سواء ،وله أن يحمل شيئاً آخر غيره كخل وزيت،
وهكذا قال :فيما لو أجره داره ،أو حانوته ليتخذها كنيسة ،أو لبيع فيها الخمر ،قال أبو بكر الرازى:
ل فرق عند أبى حنيفة بين أن يشترط أن يبيعَ فيها الخمر ،أو ل يشترط وهو يعلم أنه يبيعُ فيه
الخمر :أن الجارة َتصِحّ ،لنه ل يستحق عليه بعقد الجارة فعل هذه الشياء ،وإن شرط ذلك ،لن
له أن ل يبيعَ فيه الخمر ،ول يتخذ الدار كنيسة ،ويستحق عليه الجرة بالتسليم فى المدة ،فإذا لم
يستحق عليه فعل هذه الشياء ،كان ذكرها وتركها سواء ،كما لو اكترى داراً لينام فيها أو ليسكنها،
فإن الجرة تستحق عليه ،وإن لم يفعل ذلك ،وكذا يقول :فيما إذا استأجر رجلً ليحمل خمرًا أو
458
ميتة ،أو خنزيراً :أنه يصح ،لنه ل يتعين حمل الخمر ،بل لو حمله بدلَه عصيراً استحق الجرة،
فهذا التقييدُ عندهم لغو ،فهو بمنزلة الجارة المطلقة ،والمطلقة عنده جائزة .وإن غلب على ظنه أن
المستأجر يعصى فيها ،كما يجوز بي ُع العصير لمن يتخذه خمراً ،ثم إنه كره بيع السلح فى الفتنة.
قال :لن السلح معمول للقتال ل يصلح لغيره ،وعامة الفقهاء خالفوه فى المقدمة الولى ،وقالوا:
ليس المقيد كالمطلق ،بل المنفعة المعقودُ عليها هى المستحقةُ ،فتكون هى المقابلة بالعوض ،وهى
منفعة محرمة ،وإن كان للمستأجر أن يُقيم غيرهَا مقامَها ،وألزموه فيما لو اكترى داراً لِيتخذها
ق عليه فعل المعقودِ عليه ،ومع هذا فإنه أبطل هذه الجارة بناء على أنها اقتضت
مسجداً ،فإنه يستحِ ّ
ل الصلة ،وهى ل تستحقّ بعقد إجارة.
فع َ
ونازعه أصحاب أحمد ومالك فى المقدمة الثانية ،وقالوا :إذا غلب على ظنه أن المستأجر
صرَ الخمر
ينتفع بها فى محرم ،حرمت الجارة ،لن النبىّ صلى ال عليه وسلم لعن عا ِ
ص َر يريد أن يتخذه خمراً،
صرُ عصيراً ،ولكن لما علم أن المعت ِ
ومعتصرها ،والعاصر إنما يع ِ
فيعصره له ،استحق اللعنة.
لّ ويُبغضه ،ويلعنُ فاعله ،فأصولُ
قالوا :وايضاً فإن فى هذا معاونة على نفس ما يَسْخَطُهُ ا ُ
الشرع وقواعدُه تقتضى تحريمَه وبطلن العقد عليه ،وسيأتى مزيد تقرير هذا عند الكلم على
حكمه صلى ال عليه وسلم بتحريم العينة وما يترتب عليها من العقوبة.
قال شيخنا :والشبهُ طريقةُ ابن موسى ،يعنى أنه يُقضى له بالجرة وإن كانت المنفعة
ب إلى القياس ،وذلك لن
ب له أكلُها .قال :فإنها أقربُ إلى مقصود أحمد ،وأقر ُ
محرمة ،ولكن ل يطي ُ
النبى صلى ال عليه وسلم لعن عاصر الخمر ،ومعتصرها ،وحا ِملَها والمحمولة إليه .فالعاصر
ح ُرمَت
والحامِل ،قد عاوضا على منفعة تستحق عوضاً ،وهى ليست محرمةً فى نفسها ،وإنما َ
بقصد المعتصر والمستحمل ،فهو كما لو باع عنبًا وعصيراً لمن يتخذه خمراً ،وفات العصيرُ
والخمر فى يد المشترى ،فإن مال البائع ل يذهب مجاناً ،بل يُقضى له بعوضه .كذلك هنا المنفعة
التى وفاها المؤجر ل تذهب مجاناً ،بل يُعطى بدلها ،فإن تحريم النتفاعِ بها إنما كان من جهة
المستأجر ،ل من جهة المؤجر ،فإنه لو حملها للراقة ،أو لخراجها إلى الصحراء خشية التأذى
بها ،جاز .ثم نحن نحرم الجرة عليه لحق الّ سبحانه ل لحق المستأجر والمشترى ،بخلف من
استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة ،فإن نفس هذا العمل محرم لجل قصد المستأجر ،فهو
459
كما لو باع ميتة أو خمراً ،فإنه ل يقضى له بثمنها ،لن نفس هذه العين محرمة ،وكذلك ل يُقضى له
بعوض هذه المنفعة المحرمة.
قال شيخنا :ومثلُ هذه الجارة ،والجعالة ،يعنى الجارة على حمل الخمر والميتة ،ل
تُوصف بالصحة مطلقاً ،ول بالفساد مطلقاً ،بل يقال :هى صحيحة بالنسبة إلى المستأجر ،بمعنى أنه
يجب عليه العوض ،وفاسدة بالنسبة إلى الجير ،بمعنى أنه يحرم عليه النتفاعُ بالجر ،ولهذا فى
الشريعة نظائر .قال :ول يُنافى هذا نصّ أحمد على كراهة نطارة كرم النصرانى ،فإنا ننهاه عن
هذا الفعل وعن عوضه ،ثم نقضى له بكرائه ،قال :ولو لم يفعل هذا ،لكان فى هذا منفعة عظيمةٌ
للعصاة ،فإن كل من استأجروه على عمل يستعينُون به على المعصية قد حصلوا غرضَهم منه ،فإذا
ل أن
لم يعطوه شيئاً ،ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم ،كان ذلك أعظ َم العون لهم ،وليسوا بأه ٍ
سلّم إليهم عملً ل قيمة له بحال ،يعنى كالزانية ،والمغنى ،والنائحة،
يُعاونوا على ذلك ،بخلف من َ
فإن هؤلء ل يُقضى لهم بأجرة ،ولو قبضوا منهم المال ،فهل يلزمُهم ردّه عليهم ،أم يتصدقون به؟
ب لهم أكله ،والّ
فقد تقدم الكلم مستوفى فى ذلك ،وبينا أن الصواب أنه ل يلزمهم رده ،ول يطي ُ
الموفق للصواب.
فصل
الحكم الخامس :حلوان الكاهن .قال أبو عمر بن عبد البر :ل خلف فى حُلوان الكاهن أنه ما
يُعطاه على كهانته ،وهو مِن أكل المال بالباطل ،والحلوان فى أصل اللغة :العطية .قال علقمةُ:
ش ْع َر إ ْذ مَاتَ قَا ِئلُهُ
ُي َبلّ ُغ عنّى ال ّ حلُوهُ رَحْلى ونَا َقتِى
ل أَ ْ
ن رَجُ ٌ
َفمَ ْ
انتهى.
وتحريمُ حُلوان الكاهن تنبيه على تحريم حُلوان المنجم ،والزاجر ،وصاحب القُرعة التى هى
شقيقة الزلم ،وضاربة الحصا ،والعرّاف ،وال ّرمّال ونحوهم ممن تطلب منهم الخبارُ عن
عرّافاً
المغيبات ،وقد نهى النبىّ صلى ال عليه وسلم عن إتيان الكهّان ،وأخبر أن(( :مَنْ َأتَى َ
َفصَدّقه بما يَقُولُ ،فَقَ ْد كَفَر ِبمَا أنزل عليه صلى ال عليه وسلم)) ول ريبَ أن اليمانَ بما جاء به
محّم ٌد صلى ال عليه وسلم ،وبما يجىء به هؤلء ،ل يجتمعان فى قلب واحد ،وإن كان أحدُهم قد
ل من كثير ،وشيطانُه الذى يأتيه بالخبار ل بُد له أن
َيصْدُقُ أيحاناً ،فصِدقُه بالنسبة إلى كذبه قلي ٌ
َيصْدُقَه أحيانًا ِليُغوىَ به الناس ،ويفتنهم به.
460
وأكثرُ الناسِ مستجيبون لهؤلء ،مؤمنون بهم ،ول سيما ضعفاء العقول ،كالسّفهاء،
علْمَ لهم بحقائق اليمان ،فهؤلء هم المفتونون بهم،
جهّالِ ،والنّساء ،وأهل البوادى ،ومن ل ِ
وال ُ
ن الظنّ بأحدهم ،ولو كان مشركاً كافرًا بالّ مجاهرًا بذلك ،ويزوره ،وينذر له،
وكثيرٌ منهم يُحْسِ ُ
ل به رسوله من
ويلتمِسُ دعاءه .فقد رأينا وس ِم ْعنَا من ذلك كَثيراً ،وسببُ هذا كله خفاءُ ما بعث ا ّ
لّ له نوراً فما له من نور} [النور،]40 :
الهدى ودين الحق على هؤلء وأمثالهم{ ،ومَنْ لم يجعل ا ُ
ل عنهم للنبى صلى ال عليه وسلم :إنّ هؤل ِء يُحدثوننا أحياناً بالمر،
وقد قال الصحابة رضى ا ّ
ن ِإَل ْيهِم ال َكِلمَ َة تكُونُ حَقاً فَيزِيدُون هُمْ
شيَاطِينُ ،يلْقُو َ
جهَ ِة ال ّ
ك مِنْ ِ
فيكونُ كما قالوا ،فأخبرهم أنّ ذِل َ
ك الكَِلمَةِ.
ل ِت ْل َ
ن أَجْ ِ
َمعَها مائَة كَ ْذبَةٍ َف ُيصَدّقُونَ مِ ْ
حمَهم من أشياء.
وأما أصحابُ الملحم ،فر ّكبُوا مل ِ
أحدها :من أخبارِ الكهان.
ن أهل الكتاب.
والثانى :من أخبا ٍر منقولة عن الكتب السالفة متوارثة بي َ
خ َب َر نبيّنا صلى ال عليه وسلم بها جملة وتفصيلً.
والثالث :من أمور أ ْ
والرابع :من أمور أخبر بها من له كشف مِن الصحابة ومَن بعدهم.
والخامس :من منامات متواطئة على أمر كُلى وجزئى .فالجزئى :يذكرونه بعينه والكُلى:
يُفصلونه بحدس وقرائن تكون حقاً أو تقارب.
والسادس :مِن استدلل بآثار علوية جعلها الّ تعالى علمات وأدلة وأسبابًا لحوادث أرضية
ل يعلمُها أكث ُر الناس ،فإن الّ سبحانه لم يخلق شيئاً سدى ول عبثاً .وربط سبحانه العالمَ العُلوى
بالسّفلى ،وجعل عُلويه مؤثراً فى سُفليه دون العكسِ ،فالشمس ،والقمرُ ل ينكسفان لموت أحد ول
لحياته ،وإن كان كسوفُهما لِسبب شر يحدث فى الرض ،ولهذا شرع سُبحانه تغييرَ الشرِ عند
كُسوفهما بما يدفع ذلك الشرّ المتوقّ َع مِن الصلة والذكر والدعاء والتوبة والستغفار والعتق ،فإن
هذه الشياء تُعارضُ أسباب الشر ،وتُقاومها ،وتدفع موجباتها إن قويت عليها.
وقد جعل الُّ سبحانه حرك َة الشمس والقمر ،واختلفَ مطالعهما سببًا للفصول التى هى
سببُ الحر والبرد ،والشتاء والصيف ،وما يحدُث فيهما مما يليق بكُلّ فصل منها ،فمن له اعتناء
ل بذلك على ما يحدث فى النبات والحيوان وغيرهما ،وهذا
بحركاتهما ،واختلف مطالعهما ،يستدِ ّ
أمر يعرفه كثي ٌر من أهل الفلحة والزراعة ،ونواتى السفن لهم استدللتٌ بأحوالهما وأحوالِ
ختَلّ.
ب مِن اختلف الرياح وقوتها وعُصوفها ،ل تكاد َت ْ
الكواكب على أسباب السلم ِة والعط ِ
461
والطباءُ لهم استدللت بأحوال القمر والشمس على اختلف طبيعة النسان وتهيئها لِقبول
التغير ،واستعدادها لمور غريبة ونحو ذلك.
وواضعو الملحم لهم عناية شديدة بهذا ،وأمور متوارثَة عن قدماء المنجمين ،ثم يستنتجون
مِن هذا ُكلّه قياسات وأحكاماً تشبه ما تقدم ونظيره .وسنة الّ فى خلقه جارية على سنن اقتضته
حكمته ،فحكم النظير حكمُ نظيره ،وحك ُم الشىء حكم مثله ،وهؤلء صرفوا قوى أذهانهم إلى أحكام
القضا ِء والقدر ،واعتبار بعضه ببعض ،والستدلل ببعضه على بعض ،كما صرف أئمة الشرع
قوى أذهانهم إلى أحكام المر والشرع ،واعتبار بعضه ببعض ،والستدلل ببعضه على بعض،
ض ومن
والّ سبحانه له الخلق والمر ،ومصدر خلقه وأمره عن حكمه ل تختل ول تتعطل ول تنتقِ ُ
صرف قوى ذهنه وفكره ،واستنفد ساعاتِ عمره فى شى ٍء مِن أحكام هذا العالم وعلمه ،كان له فيه
من النفوذ والمعرفة والطلع ما ليس لغيره.
ويكفى العتبارُ بفرع واحدٍ من فروعه ،وهو عبارة الرؤيا ،فإن العبد إذا نفذ فيها ،و َكمُل
اطلعه ،جاء بالعجائب .وقد شاهدنا نحن وغيرُنا مِن ذلك أموراً عجيبةً ،يحكم فيها المع ّبرُ بأحكام
متلزمة صادقة ،سريعة وبطيئة ،ويقول سامعها :هذه علم غيب .وإنما هى معرفة ما غاب عن
غيره بأسبابٍ انفرد هو بعلمها ،وخفيت على غيره ،والشارع صلوات الّ عليه حرم من تعاطى
ذلك ما مضرتُه راجحة على منفعته ،أو ما ل منفعة فيه ،أو ما يُخشى على صاحبه أن يجرّه إلى
الشرك ،وحرم بذل المال فى ذلك ،وحرم أخذه به صيانة للمة عما يُفسد عليها اليمان أو يخدِشُه،
بخلف علم عبارة الرؤيا ،فإنه حقٌ ل باطل ،لن الرؤيا مستندة إلى الوحى المنامى ،وهى جزء من
أجزاء النبوة ،ولهذا ُكلّما كان الرائى أصدقَ ،كانت رؤياه أصدقَ ،وكلما كان المعبرُ أصدق ،وأبر
وأعلم ،كان تعبيرُه أصحّ ،بخلف الكاهن والمنجم وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من
الشياطين ،فإن صناعتهم ل َتصِحّ مِن صادق ول بار ،ول متقيد بالشريعة ،بل هم أشبهُ بالسحرة
ل ورسوله ودينه ،كان السح ُر معه أقوى وأشدّ
الذين كلما كان أحدُهم أكذبَ وأفجرَ ،وأبعدَ عن ا ّ
تأثيراً ،بخلف علم الشرع والحق ،فإن صاحبَه كلما كان أب ّر وأصدقَ وأدينَ ،كان علمه به ونفوذه
ل التوفيق.
فيه أقوى ،وبا ّ
فصل
الحكم السادس :خبثُ كسبِ الحجّام ،ويدخُلُ فيه الفاصد والشارط ،وكل من يكون كسبُه من
إخراج الدم ،ول يدخل فيه الطبيبُ ،ول الكحّال ول البيطارُ ل فى لفظه ول فى معناه ،وصحّ عن
462
ح عنه
ن َي ْعلِقَه نَاضِحَه َأ ْو رَقِيقَهُ)) وص ّ
حبِه أَ ْ
النبىّ صلى ال عليه وسلم(( :أنّه حكم بخُبثه وَأ َمرَ صَا َ
أنه احتج َم وأعطى الحجامَ أج َرهُ)).
فأشكل الجم ُع بينَ هذين على كثير من الفقهاء ،وظنوا أن النهىَ عن كسبه منسوخٌ بإعطائه
أجره ،وممِن سلك هذا المسلكَ الطحاوى ،فقال فى احتجاجه للكوفيين فى إباحة بيع الكِلب ،وأكلِ
أثمانها :لما أمر النبىّ صلى ال عليه وسلم بقتل الكلبِ ،ثم قال(( :ما لى وللكلب)) ،ثم رخص فى
ع به حراماً ،وكان قاتله مؤدياً للفرض
ب الغنم ،وكان بي ُع الكلب إذ ذاك والنتفا ُ
كلب الصيد ،وكل ِ
عليه فى قتله ،ثم نُسِخَ ذلك ،وأباح الصطيادَ به ،فصار كسائر الجوارح فى جواز بيعه ،قال :ومثلُ
ذلك نهيُه صلى ال عليه وسلم عن كسبِ الحجّام ،وقال(( :كسبُ الحجام خبيث)) ثم أعطى الحجام،
أجرَه ،وكان ذلك ناسخًا لمنعه وتحريمه ونهيه .انتهى كلمه.
وأسهلُ ما فى هذه الطريقة أنها دعوى مجردة ل دليلَ عليها ،فل تُقبل ،كيف وفى الحديث
ل الكلب)) ثم
ل الكلب ،ثم قال(( :ما بالُهم وبا ُ
نفسه ما يُبطلها ،فإنه صلى ال عليه وسلم أمر بقت ِ
رخّص لهم فى كلب الصيد.
ب الصيدِ أو كلب غَنمٍ
ل الكِلبِ إل َك ْل َ
ل صلى ال عليه وسلم بقت ِ
ن عمر أمرَ رسولُ ا ّ
وقال اب ُ
أو ماشِية.
ل صلى ال عليه وسلم بقتل الكلبِ ثم قال ما بالُهم
ل بن مغفّل :أمرنا رسولُ ا ّ
وقال عبدُ ا ّ
ص فى كلب الصيد ،وكلب الغنم .والحديثانِ فى
ل الكِلَب ،ثم رخّ َ
وبَا ُ
ل على أن الرخصة فى كلب الصيد وكلب الغنم وقعت بعد المر بقتل الكلب،
((الصحيح)) فد ّ
ل صلى ال عليه وسلم فى اقتنائه هو الذى حرّم ثمنه ،وأخبر أنه خبيثٌ
ب الذى أذن رسولُ ا ّ
فالكل ُ
دونَ الكلب الذى أمر بقتله ،فإن المأمورَ بقتله غيرُ مستبقى حتى تحتاج المة إلى بيان حكم ثمنه،
ولم تجر العاد ُة ببيعه وشرائه بخلف الكلب المأذون فى اقتنائه ،فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم
ثمنه أولى مِن حاجتهم إلى بيان ما لم تجرِ عادتُهم ببيعه ،بل قد ُأ ِمرُوا بقتله.
ومما يُبين هذا أنه صلى ال عليه وسلم ذكر الربعة التى تُبذل فيها الموال عادة لحرص
النفوس عليها وهى ما تأخذُه الزانية والكاهِنُ والحجّا ُم وبائع الكلب فكيف يُحمل هذا على كلب لم
جرِ العادةُ ببيعه ،وتخرج منه الكلب التى إنما جرت العادة ببيعها هذا من الممتنع البينِ امتناعُه،
تَ ْ
وإذا تبين هذا ،ظهر فساد ما شبه به من نسخ خُبثِ أجرة الحجام ،بل دعوى النسخ فيها أبعد.
(يتبع)...
463
وأما إعطا ُء النبىّ صلى ال عليه وسلم الحجام أجره ،فل يُعارض قوله ((كسب الحجام @
خبيث)) فإنه لم يقل :إن إعطاءه خبيث ،بل إعطاؤه إما واجب ،وإما مستحب ،وإما جائز ولكن هو
ث الكسب ،ولم يلزم مِن ذلك تحريمُه،
خبيثٌ بالنسبة إلى الخذ ،وخبثُه بالنسبة إلى أكله ،فهو خبي ُ
فقد سمى النبىّ صلى ال عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما ،ول يلزم من إعطاء
النبىّ صلى ال عليه وسلم الحجّام أجرَه حِل أكلِه فضلً عن كون أكله طيباً ،فإنه قال(( :إنّى لُعْطِى
ج ِبهَا َيتََأبّطُ َه نَا َراً)) ،والنبىّ صلى ال عليه وسلم قد كان يُعطى المؤلفةَ قلوبُهم
خرُ ُ
طيّ َة يَ ْ
الرّجُلَ العَ ِ
ب عليهم
ج ُ
مِن مال الزكاة والفىء مع غناهم ،وعدم حاجتهم إليه ،ليبذُلوا من السلم والطاعة ما يَ ِ
ل لهم توقُف بذله على الخذ ،بل يجبُ عليهم المبادرةُ إلى بذله بل
بذلُه بدون العطاء ،ول يَحِ ّ
عوض.
وهذا أصل معروف مِن أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكونُ جائزاً ،أو مستحباً ،أو واجباً
ل أن َيبْذُلَ ويحرم على
من أحد الطرفين ،مكروهًا أو محرمًا من الطرف الخر ،فيجب على الباذ ِ
الخذ أن يأخذه.
ث الرائحة،
وبالجملة فخبثُ أجرِ الحجّام من جنس خُبث أكل الثوم والبصل ،لكن هذا خبي ُ
وهذا خبيثٌ لكسبه.
فإن قيل :فما أطيبُ المكاسب وأحلّها؟ قيل هذا فيه ثلث ُة أقوال للفقهاء.
أحدها :أنه كسبُ التجارة.
ل اليد فى غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوِها.
والثانى :أنّه عم ُ
ل مِن هذه وجه مِن الترجيح أثراً ونظراً ،والراجح أن أحلّها
والثالث :أنه الزّراعةُ ،ولكل قو ٍ
ب الغانمين وما أُبيح لهم على
ل صلى ال عليه وسلم وهو كس ُ
الكسبُ الذى جعل منه رِزق رسولِ ا ّ
لسان الشارع ،وهذا الكسبُ قد جاء فى القرآن مدحُه أكثرَ مِن غيره ،وأثنى على أهله ما لم ُيثْنَ على
ن يَدَى
س ْيفِ َبيْ َ
غيرهم ،ولهذا اختاره الّ لخيرِ خلقه ،وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقولُُ (( :ب ِع ْثتُ بال ّ
صغَارُ
ل ال ّذلّ ُة وال ّ
جعِ َ
ل ُرمْحى ،وَ ُ
حتَ ظِ ّ
ل ِرزْقى تَ ْ
جعِ َ
شرِيكَ لَهُ ،و ُ
لّ وَحْ َدهُ لَ َ
حتّي ُي ْعبَدَ ا ُ
السّاعَةِ َ
ف َأ ْمرِى)) ،وهو الرزقُ المأخو ُذ بعزة وشرف وقهر لعداء الّ ،وجعل أحب شىء
عَلىَ مَنْ خَاَل َ
ل أعلم.
إلى الّ ،فل يُقاومه كسب غيره .وا ّ
فصل
ل وضِرابِه
ب الفَحْ ِ
س ِ
فى حُكمه صلى ال عليه وسلم فى بيع عَ ْ
464
ب الفَحْلِ.
س ِ
ى صلى ال عليه وسلم نهى عن عَ ْ
فى صحيح البخارى عن ابن عمر أن النب ّ
ضرَابِ الفحل .وهذا
ى صلى ال عليه وسلم نهى عن َبيْ ِع ِ
وفى صحيح مسلمٍ عن جابر أن النب ّ
ن مبذول
الثانى تفسير للول ،وسمى أجرة ضِرابه بيعًا إما لكون المقصودِ هو الماءَ الذى له ،فالثم ُ
فى مقابلة عين مائه ،وهو حقيق ُة البيع ،وإما أنه سمى إجارته لذلك بيعاً ،إذ هى عقد معاوضة وهى
ضرَابِ ،وهذا هو الذى ُنهِى عنه ،والعقدُ الوارد عليه
جرُون الفحل لل ّ
بيع المنافع ،والعادة أنهم يستأ ِ
ل جمهور العلماء ،منهم أحمدُ والشافعى ،وأبو حنيفة
باطل ،سواء كان بيعًا أو إجارة ،وهذا قو ُ
وأصحابهم.
وقال أبو الوفاء بن عقيل :ويحتمِلُ عندي الجواز ،لنه عقد على منافع الفحل ،ونزوه على
النثى وهى منفعة مقصودة ،وماء الفحل يدخل تبعاً ،والغالب حصولُه عقيبَ نزوه ،فيكون كالعقد
على الظئر ،ليحصُلَ اللبنُ فى بطن الصبى ،وكما لو استأجر أرضاً ،وفيها بئر ماء ،فإن الماء
يدخل تبعاً وقد يغتفر فى التباع ما ل يُغتفر فىالمتبوعات.
ى عنه جوازُه ،والذى ذكره أصحابه التفصيل ،فقال صاحب ((الجواهر)) فى
وأما مالك فَحُك َ
باب فساد العقد من جهة نهى الشارع :ومنها بيعُ عَسْب الفَحْلِ ،ويُحمل النهى فيه على استئجار
جرَه على أن ينزو
الفحل على لِقاح النثى وهو فاسد ،لنه غيرُ مقدورعلى تسليمه ،فأما أن يستأ ِ
عليه دفعاتٍ معلومة ،فذلك جائز ،إذ هو أمَدٌ معلوم فى نفسه ،ومقدورٌ على تسليمه.
والصحيحُ تحريمُه مطلقاً وفسا ُد العقد به على كل حال ،ويحرُم على الخر أخذُ أجرةِ
ضرابه ،ول يحرم على المعطى ،لنه بذل ماله فى تحصيل مباح يحتاج إليه ول يمنع من هذا كما
فى كسب الحجام ،وأجرة الكسّاح ،والنبى صلى ال عليه وسلم نهى عما يعتادونه من استئجار
سبِهِ ،فل يجوزُ حمل كلمه على غير الواقع والمعتاد وإخلء
الفحل للضّراب ،وسمي ذلك بيع عَ ْ
الواقع من البيان مع أنه الذى قصد بالنهى ،ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح فى نزو
الفحل على النثى الذى له دفعات معلومة ،وإنما غرضُه نتيجة ذلك وثمرته ،ولجله بذل ماله.
وقد علّل التحري َم بعدة علل.
إحداها :أنه ل يقدر على تسليم المعقود عليه ،فأشبه إجارة البق ،فإن ذلك متعلق بإختيار
الفحل وشهوته.
ل القدر والعين
الثانية :أن المقصودَ هو الماءُ وهو مما ل يجوز إفرادُه بالعقد ،فإنه مجهو ُ
س عليها غيرُها ،وقد يقال والّ
وهذا بخلف إجارة الظئر ،فإنها احتملت بمصلحة الدمى ،فل يُقا ُ
465
أعلم إن النهى عن ذلك مِن محاسن الشريعة وكما لها فإن مقابلة ماء الفحل بالثمان ،وجعله محلً
لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجَن عند العقلء ،وفاعل ذلك عندهم ساقط مِن أعينهم فى
طرَ عباده ل سيما المسلمين ميزانًا للحسن والقبيح ،فما رآه
أنفسهم ،وقد جعل الّ سبحانه فِ َ
المسلمون حسناً ،فهو عند الّ حسن ،وما رآه المسلمون قبيحاً ،فهو عند الّ قبيح.
ويزيد هذا بياناً أن ماء الفحل ل قيمة له ،ول هو مما يُعاوض عليه ،ولهذا لو نزا فحلُ
الرجل على َر َمكَة غيره ،فأولدها ،فالولد لِصاحب ال ّر َمكَةِ اتفاقاً ،لنه لم ينفصِلْ عن الفحل إل مجردُ
الماء وهو ل قيمة له ،فحرمت هذه الشريعةُ الكامل ُة المعاوضةَ على ضِرابه ليتناوله الناس بينهم
مجاناً ،لما فيه مِن تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل ،ول نقصان من ماله،
ل هذا مجاناً ،كما قال النبى صلى ال عليه وسلم(( :إِنّ مِنْ حَ ّقهَا
فمن محاسن الشريعة إيجابُ بذ ِ
حِلهَا وإعَا َرةَ َد ْلوِهَا)) فهذه حقوقٌ يضر بالناس منعُها إل بالمعاوضة ،فأوجبت الشريعة
إطْراقَ فَ ْ
بذلها مجاناً.
ب النثى إلى صاحب الفحل هديةً ،أو ساق إليه كرامة ،فهل له
فإن قيل :فإذا أهدى صاح ُ
ل له أخذُه ،وإن لم يكن
أخذُها؟ قيل :إن كان ذلك على وجه المعاوضة والشتراط فى الباطن لم َيحِ ّ
كذلك فل بأس به ،قال أصحابُ أحمد والشافعى :وإن أعطى صاحبَ الفحل هدية ،أو كرامة من
ل عنه ،عن النبىّ صلى ال عليه
غيرِ إجارة ،جاز ،واحتج أصحابُنا بحديث رُوى عن أنس رضى ا ّ
وسلم أنه قال :إذا كان إكراماً ،فل بأس ،ذكره صاحب ((المغنى)) ول أعرف حالَ هذا الحديث،
ول من خرّجه ،وقد نص أحمد فى رواية ابن القاسم على خلفه ،فقيل له :أل يكونُ مثلَ الحجّامِ
ى صلى ال عليه وسلم أعطى فى مثل هذا شيئاً
يُعطى ،وإن كان منهيًا عنه؟ فقال :لم يبلغنا أن النب ّ
كما بلغنا فى الحجام.
واختلف أصحابنا فى حمل كلم أحمد رحمه الّ على ظاهره ،أو تأويله ،فحمله القاضي
على ظاهره ،وقال :هذا مقتضى النظر ،لكن ترك مقتضاه فى الحجام ،فبقى فيما عداه على مقتضى
القياس .وقال أبو محمد فى ((المغنى)) :كلم أحمد يُحمل على الورع ل على التحريم ،والجواز
ق للقياس.
أرفقُ بالناس ،وأوف ُ
ذكرُ حكم رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم فى المنع مِن بيع الماء الذى يشترك فيه الناسُ
ل صلى ال عليه
ثبت فى صحيح مسلم من حديث جابر رضى الّ عنه قال :نهى رسولُ ا ّ
ل المَاء.
ن َبيْعِ َفضْ ِ
وسلم عَ ْ
466
ن َبيْ ِع المَاءِ
ضرَابِ الفَحْلِ ،وَعَ ْ
لّ صلى ال عليه وسلم عن َبيْع ِ
وفيه عنه قال :نهى رسولُ ا ِ
ل صلى ال عليه وسلم.
حرَث ،فعن ذلك نهى رسولُ ا ّ
ض ِلتُ ْ
لرْ ِ
وا َ
ل عنه أن رسولَ الِّ صلى ال عليه وسلم قال:
وفى ((الصحيحين)) عن أبى هُريرة رضى ا ّ
ل المَا ِء ِليُمنَعَ ب ِه الكَلُ)) وفى لفظ آخر ((لَ َت ْم َنعُوا َفضْلَ المَا ِء ِل َت ْم َنعُوا به الكَلَ))،
((لَ ُي ْمنَعُ َفضْ ُ
ل الكَلِ)).
ل المَا ِء ِل َت ْم َنعُوا بِهِ َفضْ َ
ل َت ْم َنعُوا َفضْ َ
وقال البخارى فى بعض طرقهَ (( :
ل عنه عن النبى
وفى ((المسند)) من حديث عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جدّه رضى ا ّ
ضلَهُ َيوْ َم ال ِقيَامَةِ)).
ن َمنَعَ َفضْل مَائِ ِه َأوْ َفضْل َكَلئِهَِ ،م َنعَهُ الُّ َف ْ
صلى ال عليه وسلم قال(( :مَ ْ
ل صلى ال عليه
لّ عنه قال :قال رسولُ ا ّ
وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى ا ُ
ل ُي ْم َنعْنَ :المَا ُء والكَلُ والنّارُ)).
وسلم(( :ثَلثٌ َ
لّ صلى ال عليه
وفى ((سننه)) أيضًا عن ابن عباس رضى الّ عنهما قال :قال رسولُ ا ِ
حرَامٌ)).
لثٍ :المَا ُء والنّارُ والكَلُ ،و َث َمنُهُ َ
وسلم(( :المسلمونَ شُركَاءُ فى ثَ َ
لّ صلى ال
وفى صحيح البخاري من حديث أبى هُريرة رضى الّ عنه قال :قال رسولُ ا ِ
ل كَانَ
ب َألِيمٌ :رَجُ ٌ
ل ُي َزكّيهِمَْ ،وَلهُمْ عَذَا ٌ
ل إَليْهمْ َيوْ َم ال ِقيَامَةِ ،وَ َ
ع ّز وَجَ ّ
ظرُ الُّ َ
ل َينْ ُ
لثَةٌ َ
عليه وسلم ((ثَ َ
ن أَعْطَاهُ
ل بَايَع إمامَه ل ُيبَايعُ ُه إل لِل ّد ْنيَا فإ ْ
سبِيلِ ،وَرجُ ٌ
ن ال ّ
طرِيقِ َف َم َنعَ ُه من اب ِ
ل مَا ٍء بِال ّ
لضهُ َفضْ ُ
غ ْي ُرهُ
ل ِإلَهَ َ
لّ الذِى َ
س ْلعَ ًة َبعْ َد ال َعصْرِ فَقَالَ :وا ِ
ل أَقَامَ ِ
ط َورَجُ ٌ
ِم ْنهَاَ ،رضِىَ ،وإنْ لَ ْم يعْطِ ِه ِم ْنهَا ،سَخ َ
لّ َوَأ ْيمَا ِنهِ ْم َثمَناً َقلِيلً}
ش َترُون ِب َعهْدِ ا ِ
ن يَ ْ
ن الّذِي َ
أُعْطِيتُ ِبهَا كَذَاَ ،فصَدّقَ ُه رَجُلٌ ،ثُمّ َق َرأَ ه ِذهِ اليةَ{ :إ ّ
ى صلى ال عليه وسلم،
[آل عمران ،]77 :وفى سنن أبى داود عن ُب َهيْسَة قالت :استأذن أبى النب ّ
ل منعُه؟ قال :الماء قَالَ(( :يا نبىّ
ل يدنو منه ويلتزمُه ،ثم قال :يانبى الّ ما الشىءُ الذى ل يَحِ ّ
فَجَع َ
ل َم ْنعُهُ؟ قال :أن
ل ال ِملْحُ ،قال :يان ِبىّ الِّ ما الشّى ُء الّذى لَ يحِ ّ
ل َم ْنعُهُ؟ قَا َ
ل يَحِ ّ
الِّ ما الشى ُء الذى َ
خ ْي ٌر َلكَ)).
خ ْيرَ َ
تَ ْفعَلَ ال َ
ل فى الصل مشتركًا بين العباد والبهائم ،وجعله سقيا لهم ،فل يكون أحدٌ أخصّ
الماء خلقه ا ّ
ق مِن
ن السبيل أح ّ
ل عنه اب ُ
به مِن أحد ،ولو أقام عليه ،و َتنََأ عليه ،قال عمرُ ابن الخطاب رضى ا ّ
التّانىء عليه ،ذكره أبو عبيد عنه.
ل أول شاربٍ.
وقال أبو هريرة :ابنُ السبي ِ
فأما من حازه فى قِربته أو إنائه ،فذاك غي ُر المذكور فى الحديث ،وهو بمنزلة سائر
المباحات إذا حازها إلى ملكه ،ثم أراد بيعَها كالحطب والكل والملح ،وقد قال النبى صلى ال عليه
467
خ ْيرٌ
جهَهَ َ
لّ ِبهَا وَ ْ
ظ ْه ِرهِ فيبيعها فَي ُكفّ ا ُ
ب على َ
ط ٍ
ح ْزمَةِ حَ َ
ح ْبلَهَُ ،فيَ ْأتَى ،ب ُ
وسلم(( :لنَ يَأخُ َذ أَحَ ُدكُمْ َ
طوْ ُه َأ ْو َم َنعُوهُ)) رواه البخارى.
س أَعْ َ
ل النّا َ
ن يَسْأَ َ
لَ ُه منْ أَ ْ
ل صلى ال
ل عنه قال :أصبتُ شَارِفَاً مع رسولِ ا ّ
وفى ((الصحيحين)) عن على رضى ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم شَارِفاً آخر ،فأنختُهما يوماً
عليه وسلم فى مغنم َيوْم بدر ،وأعطانى رسولُ ا ّ
حمِلَ عَليهما إذخراً لبيعه .وذكر الحديثَ فهذا فى الكل
ن أَ ْ
عِند بابِ رجل من النصار وأنا أُريدُ أ ْ
ل النهى
والحطب المباح بعد أخذه وإحرازه ،وكذلك السمكُ وسائر المباحات ،وليس هذا مح ّ
ل النهى أيضًا بيعُ مياه النهار الكِبار المشتركة بين الناس ،فإن هذا ل يُمكن
بالضرورة ول مح ّ
منعُها ،والحجرُ عليها ،وإنما محل النهى صور ،أحدها :المياه المنتقعة مِن المطار إذا اجتمعت فى
أرض مباحة ،فهى مشتركة بينَ الناس ،وليس أحد أحقّ بها مِن أحد إل بالتقديمِ لقُرب أرضه كما
ب لوعيد الّ
ل بيعُه ول منعُه ،ومانعُه عاصٍ مستوج ٌ
سيأتى إن شاء الّ تعالى ،فهذا النوعُ ل يَحِ ّ
ومنع فضله إذ منع فضل ما لم تعمل يداه.
فإن قيل :فلو اتخذ فى أرضه المملوكة له حفرةً يجمع فيها الماء ،أو حفر بئراً ،فهل يمِلكُه
ق به مِن غيره ،ومتى كان الما ُء النابع فى ملكه ،والكل
بذلك ،ويحل له بيعُه؟ قيل :ل ريب أنه أح ّ
ب عليه بذلُه ،نص عليه أحمد ،وهذا ل
والمعدن فوقَ كفايته لشربه وشرب ماشيته ودوابه ،لم يج ُ
ى صلى ال عليه وسلم ،فإنه إنما توعّد مَنْ منع فضل الماء ،ول فضلَ فى هذا.
ت وعيدِ النب ّ
يدخُلُ تح َ
فصل
وما َفضَل منه عن حاجته وحاج ِة بهائمه وزرعه ،واحتاج إليه آدمى مثلُه أو بهائمه ،وبَ َذلَه
بغير عوض ،ولكل واحد أن يتقدّم إلى الماء ويشربَ ويسقى ما شيته ،وليس لصاحب الماء منعُه
ل له الدل َو والبَكرة والحبلَ
ض وهل يلزمُه أن يبذُ َ
عوَ ٌ
مِن ذلك ،ول يلزم الشارب وساقى البهائم ِ
مجاناً ،أو له أن يأخُذَ أجرته؟ على قولين وهما وجهان لصحاب أحمد فى وجوب إعارة المتاع عند
الحاجة إليه ،أظهرهُما دليلً وجوبُه ،وهو مِن الماعون .قال أحمد :إنما هذا فى الصحارى والبرية
ن يعنى :أن البنيان إذا كان فيه الماءُ ،فليس لحد الدخولُ إليه إل بإذن صاحبه ،وهل
دون البنيا ِ
يلزمُه بذْل فضل مائه لزرعِ غيره؟ فيه وجهان ،وهما روايتان عن أحمد.
أحدهما ل يلزمُه ،وهو مذهب الشافعى ،لن الزرع ل حُرمة له فى نفسه ،ولهذا ل يجبُ
على صاحبه سقيه بخلف الماشيةَ.
468
ث المتقدمة وعمومِها وبما رُوى عن عبيد
والثانى :يلزمه بذلُه ،واحتج لهذا القول بالحادي ِ
ل بن عمرو أنّ َقيّ َم أرضه بالوهط كتب إليه يُخبره أنه سقى أرضه ،و َفضَل له مِن الماء فضلٌ
ا ّ
ل بن عمرو رضى الّ عنهما :أقم ِقلْ َدكَ ،ثم اسق الدنى،
يُطلب بثلثين ألفاً ،فكتب إليه عبد ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم ينهَى عن َبيْعِ َفضْلِ المَاءِ.
فالدنى ،فإنى سمعتُ رسول ا ّ
قالُوا :وفى منعه من سقى الزرع إهلكُه وإفسادُه ،فحرم كالماشية .وقولُكم :ل حرمة له،
فلصاحبه حُرمة ،فل يجو ُز التسبّب إلى إهلك ماله ،ومن سلّم لكم أنه ل حُرمة للزرع؟ قال أبو
ل أن يمنع نفى الحرمة عنه ،فإن إضاعةَ المال منهى عنها ،وإتلفَه محرم،
محمد المقدسى :ويحتمِ ُ
وذلك دليل على حرمته.
فإن قيل :فإذا كان فى أرضه أو داره بئر نابعة ،أو عين مستنبطة ،فهل تكون ملكًا له
تبعًا لملك الرض والدار؟ قيل :أما نفسُ البئر وأرض العين ،فمملوكةً لمالك الرض ،وأما الماءُ،
ففيه قولن ،وهما روايتان عن أحمد ،ووجهان لصحاب الشافعى.
أحدهما :أنه غي ُر مملوك ،لنه يجرى مِن تحت الرض إلى مُلكه ،فأشبه الجارى فى النهر
إلى ملكه.
والثانى :أنه مملوك له ،قال أحمد فى رجل له أرضٌ ولخر ماء ،فاشترك صاحبُ الرض
وصاحبُ الماء فى الزرع :يكون بينهما؟ فقال :ل بأس ،وهذا القولُ اختيارُ أبى بكر.
وفى معنى الماء المعادنُ الجارية فى الملك كالقَا ِر والنّفط والمُوميا ،والمِلح ،وكذلك الكل
النابتُ فى أرضه كُلّ ذلك يُخرج على الروايتين فى الماء ،وظاهر المذهب أن هذا الماء ل يُملك،
وكذلك هذه الشياء قال أحمد :ل يُعجبنى بيعُ الماء البتة ،وقال الثرم :سمعتُ أبا عبد الّ يسأل عن
قوم بينهم نهر تشرب منه أرضُهم لهذا يوم ،ولهذا يومان يتّفِقُون عليه بالحصص ،فجاء يومى ول
أحتاج إليه أكريه بدراهم؟ قال :ما أدرى ،أما النبىّ صلى ال عليه وسلم ،فنهى عن بيع الماء ،قيل:
سنُوه ،فأى شىء هذا إل البيع ..انتهى.
إنه ليس يبيعُه ،إنما يكريه ،قال :إنّما احتالُوا بهذا ِليُح ّ
ك الناسِ فى الماء دليلٌ ظاهر على المنع من بيعه ،وهذه المسألة التى
ث اشترا ِ
وأحادي ُ
سئل عنها أحمد هى التى قد ابتُلىَ بها الناسُ فى أرض الشام وبساتينه وغيرها ،فإن الرضَ
ق مِن الشّرب مِن نهر ،فيفصل عنه ،أو يبنيه دوراً ،وحوانيت ،ويُؤجر ماءَه،
والبستان يكونُ له ح ّ
ى صلى ال عليه وسلم نهى عن بيع الماءِ ،فلما قيل له :إن
ب بأن النب ّ
فقد توقف أحمد أولً ،ثم أجا َ
ن اللفظ ،وحقيقة العقد البيعُ ،وقواعِ ُد الشريعة
هذه إجارة ،قال :هذه التسميةُ حِيلة ،وهى تحسي ُ
469
ق التقديم فى سقى أرضه من هذا الماء المشترك
تقتضى المَنع من بيع هذا الماء فإنه إنما كان له ح ّ
بينه وبين غيره ،فإذا استغنى عنه ،لم يجز له المعاوض ُة عنه ،وكان المحتاج إليه أولى به بعده،
ج ْز له أن يبيعَ باقيَهُ بع َد نزعه عنه.
وهذا كمن أقام على معدن ،فأخذ منه حاجته ،لم يَ ُ
حبَةٍ أو طريق واسعة ،فهو أحقّ بها ما دام جالساً ،فإذا
ن سبق إلى الجلوس فى َر ْ
وكذلك مَ ْ
جزْ ،وكذلك الرضُ المباحة إذا كان فيها كل أو عشب ،فسبق
استغنى عنها ،وأجر مقعده ،لم يَ ُ
ق ِبرَعْيهِ ما دامت دوابّه فيه ،فإذا طلب الخروج مِنها ،وبيعَ ما َفضَل عنه ،لم
بدوابه إليه ،فهو أح ّ
يكن له ذلك وهكذا هذا الماءُ سواء ،فإنّه إذا فارق أرضَه ،لم يبق له فيه حقّ ،وصار بمنزلة الكل
الذى ل اختصاص له به ،ول هو فى أرضه.
فإن قيل :الفرقُ بينهما أن هذا الماء فى نفس أرضه ،فهو منفع ٌة مِن منافعها ،فملكه بملكها
كسا ِئرِ منافعها بخلف ما ذكرتم مِن الصور ،فإن تلك العيان ليست من ملكه ،وإنما له حقّ
النتفاع والتقديم إذا سبق خاصة.
قيل :هذه النكتة التى لجلها ج ّوزَ من جوّز بيعه ،وجعل ذلك حقًا مِن حقوق أرضهَ ،ف َمَلكَ
ق أرضه فى النتفاع ل فى
ك المعاوضة عليه مع الرض ،فُيقال :ح ّ
المعاوضة عليه وحدَه كما يمِل ُ
ملك العين التى أودعها الّ فيها بوصف الشتراك ،وجعل حقّه فى تقديم النتفاع على غيره فى
التحجر والمعاوضة ،فهذا القولُ هو الذى تقتضيه قواعدُ الشرع وحكمته واشتماله على مصالح
العالم ،وعلى هذا فإذا دخل غيره بغير إذنه ،فأخذ منه شيئاً ،لنه مباح فى الصل ،فأشبه ما لو
ششَ فى أرضه طائر ،أو حصل فيها ظبى ،أو نضب ماؤها عن سمك ،فدخل إليه ،فأخذه.
عّ
فإن قيل :فهل له منعُه مِن دخول ملكه ،وهل يجوزُ دخولُه فى ملكه بغير إذنه؟
قيل :قد قال بعضُ أصحابنا :ل يجو ُز له دخولُ ملكه لخذ ذلك بغير إذنه ،وهذا ل أصل له
ض غيرِ
فى كلم الشارع ،ول فى كلم المام أحمد ،بل قد نص أحمد على جواز الرعى فى أر ٍ
مباحة مع أن الرض ليست مملوكة له ول مستأجرة ودخولُها لغير الرعى ممنوع منه .فالصوابُ
أنه يجوز له دخولُها لخذ ما له أخذُه ،وقد يتع ّذرُ عليه غالبًا استئذان مالكها ،ويكون قد احتاج إلى
الشرب وسقى بهائمه ورعى الكل ،ومالك الرض غائب ،فلو منعناه من دخولها إل بإذنه كان فى
ذلك إضرار ببهائمه.
470
ب عليه
وأيضاً فإنه ل فائدة لهذا الذن ،لنه ليس لصاحب الرض منعُه مِن الدخول ،بل يج ُ
ل له منعُه من الدخول ،فل فائدة
تمكينُه ،فغايةُ ما يقدر أنه لم يأذن له ،وهذا حرامٌ عليه شرعاً ل يَحِ ّ
فى توقف دخوله على الذن.
وأيضاً فإنه إذا لم يتمكن مِن أخذ حقّه الذى جعله له الشارعُ إل بالدخول فهو مأذون فيه
ل بغير إذن،
شرعاً ،بل لو كان دخولُه بغير إذنه لِغيرة على حريمه وعلى أهله ،فل يجوزُ له الدخو ُ
ن وغيرِه ،وقد قال الُّ
فأما إذا كان فى الصحراء ،أو دار فيها بئر ول أنيسَ بها ،فله الدخولُ بإذ ٍ
ع َلكُمْ} [النور ،]29 :وهذا الدخولُ
سكُونَةٍ فِيهَا َمتَا ٌ
غ ْي َر مَ ْ
خلُوا ُبيُوتَاً َ
ن تَدْ ُ
ح أَ ْ
جنَا ٌ
عَل ْيكُمْ ُ
تعالىَ{ :ل ْيسَ َ
ل بل إذن ،فإنه قد منعهم قبل مِن الدخول لغير بيوتهم حتى
الذى رفع عنه الجناح هو الدخو ُ
ض السلف كذلك ،ثم
يستأنِسُوا ويُسلّموا على أهلها ،والستئناس هنا :الستئنذان ،وهى فى قراءة بع ِ
ل ذلك على جواز الدخول إلى
رفع عنهم الجُناح فى دخول البيوت غير المسكونة لخذ متاعهم ،فد ّ
بيت غيره وأرضه غيرِ المسكونة ،لخذ حقّه من الماء والكل ،فهذا ظاه ُر القرآن ،و ُه َو مقتضى
ل التوفيق.
نص أحمد وبا ّ
فإن قيل :فما تقولُون فى بيع البئر والعين نفسها :هل يجوزُ؟ قال المام أحمد :إنما
نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون فى قراره ،ويجوز بيع البئر نفسِها والعين ،ومشتريها أحقّ
بمائها ،وهذا الذى قاله المام أحمد هو الذى دلّت عليه السنة ،فإن النبىّ صلى ال عليه وسلم قال:
ن بن عفان
جنّةُ)) أو كما قال ،فاشتراها عثما ُ
علَى المُسلِمينَ َولَهُ ال َ
شتَرى ِب ْئرَ رُومَ َة ُيوَس ُع ِبهَا َ
ن يَ ْ
((مَ ْ
ل عنه مِن يهودى بأم ِر النبىّ صلى ال عليه وسلم وَس ّبلَها لِلمُسلمِينَ وكان اليهودىّ يبيعُ
رضى ا ّ
ل عنه اشترى منه نصفها باثنى عشر ألفاً ،ثم قال لليهودى
ماءَها .وفى الحديث أن عثمان رضى ا ّ
ب عليها دلواً ،فاختار
ص َ
ب لك عليها دلواً ،وَأنْ ِ
ص َ
اختر إما أن تأخُذَهَا يوماً وآخذَهَا يوماً ،وإما أنْ َت ْن ِ
ى بئرى،
ت عل ّ
يوماً ويوماً ،فكان الناسُ يستقون منها فى يوم عثمان لِليومين ،فقال اليهودىّ :أفسد َ
فاشترى باقيها ،فاشتراه بثمانية آلف ،فكان فى هذا حج ٌة على صحة بيعِ البئر وجوازِ شرائها،
وتسبيلها ،وصحةِ بيع ما يُسقى منها ،وجواز قسمةِ الماء بالمهايأة ،وعلى كون المالك أحقّ بمائها،
وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك.
فإن قيل :فإذا كان الماءُ عندكم ل يملك ،ولكل واحد أن يستقى منه حاجَته،
س البئر وكانت
ن البئرَ وس ّبلَها ،فإن قلتم :اشترى نف َ
جرَه حتى اشترى عثما ُ
فكيف أمكن اليهودى تح ّ
مملوكةً ،ودخل الماءُ تبعاً ،أشكل عليكم مِن وجه آخر وهو أنكم قررتم أنه يجوزُ للرجل دخولُ
471
أرض غيره لخذ الكل والماء ،وقضيةُ بئر اليهودى تدل على أحد أمرين ول بُد ،إما ملك الماء
بملك قراره ،وإما على أنه ل يجوز دخولُ الرض لخذ ما فيها من المباح إل بإذن مالكها.
ن المذهبين ،ومن منع
قيل :هذا سؤال قوى ،وقد يتمسك به من ذهب إلى واحد مِن هذي ِ
المرين ،يُجيب عنه بأن هذا كان فى أوّلِ السلم ،وحين قدم النبى صلى ال عليه وسلم وقبل تقرر
الحكام ،وكان اليهود إذ ذاك لهم شوكةُ بالمدينة ،ولم تكن أحكامُ السلم جاري ًة عليهم ،والنبىّ
صلى ال عليه وسلم لما قدم ،صالحهم ،وأقرّهم على ما بأيديهم ،ولم يتعرّض له ،ثم استقرت
الحكام ،وزالت شوك ُة اليهود لعنهم الّ ،وجرت عليهم أحكامُ الشريعة ،وسباق قصة هذه البئر
ى صلى ال عليه وسلم المدينة فى أول المر.
ظاهر فى أنها كانت حينَ مقدمِ النب ّ
فصل
وأما المياهُ الجاريةُ ،فما كان نابعًا من غير ملك كالنهار الكبار وغي ِر ذلك ،لم يملك بحال،
ولو دخل إلى أرض رجل ،لم يملكه بذلك وهو كالطير يدخل إلى أرضه ،فل يملك بذلك ،ولكل
واحدة أخذُه وصيده ،فإن جعل له فى أرضه مصنعًا أو بركة يجتمع فيها ،ثم يخرج منها ،فهو كنقع
ق به للشرب والسقى ،وما فضل
البئر سواه ،وفيه من النزاع ما فيه وإن كان ل يخرج منها ،فهو أح ّ
عنه ،فحكمه حكم ما تقدم.
وقال الشيخ فى ((المغنى)) :وإن كان ماءٌ يسي ٌر فى البركة ل يخرج منها ،فالولى أنه يملكه
بذلك على ما سنذكره فى مياه المطار.
ثم قال :فأما المصانعُ المتخذة لمياه المطار تجتمعُ فيها ونحوها مِن البرك وغيرها فالولى
أن يُملك ماؤها ،ويصح بيعه إذا كان معلوماً ،لنه مباح حصله فى شى ٍء ُمعَدّ له ،فل يجوز أخذُ
شىء منه إل بإذن مالكه.
وفى هذا نظر ،مذهبًا ودليلً ،أما المذهبُ ،فإن أحمد قال :إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر
والعيون فى قراره ،ومعلوم أن ما َء البئر ل يُفارقها ،فهو كالبِركة التى اتخذت مقراً كالبئر سواء،
ول فرقَ بينهما ،وقد تقدم مِن نصوص أحمد ما يدل على المنع مِن بيع هذا ،وأما الدليل فما تقدم من
علَى
النّصوص التى سقناها ،وقوله فى الحديث الذى رواه البخارى فى وعيد الثلثة(( ،والرّجُلُ َ
ل فى أرضه المختصة به ،أو فى
سبِيلِ)) ولم يُفرق بين أن يكونَ ذلك الفض ُ
ن ال ّ
َفضْلٍ مَا ٍء َي ْم َنعُهُ ابْ َ
لثٍ)) ولم يشترط فى هذه الشركة كون مقره
الرض المباحة ،وقوله(( :النّاسُ شُركَاءُ فى ثَ َ
472
مشتركاً ،وقوله وقد سئل :ما الشىء الذى ل يَحِلّ منعه؟ فقال :الماء ،ولم يشترط كون مقره مباحاً،
فهذا مقتضى الدليل فى هذه المسألة أثراً ونظراً.
ل مِن بيع ما ليس عنده
ذِكرُ حُكمِ رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم فى منع الرج ِ
سنَنِ)) و((المسند)) من حديث حَكيم بن حزام قال :قلتُ يا رسولَ الِّ يأتينى الرجلُ
فى ((ال ّ
عنْ َدكَ))
ل تَب ْع مَا َل ْيسَ ِ
يسألنى من البيع ما ليس عندى ،فأبيعه منه ،ثم أبتاعُه مِن السوق ،فقال (( َ
قال الترمذى :حديث حسن.
سَلفٌ َو َبيْعٌ،
ل يَحِلّ َ
ل عنه ،ولفظهَ (( :
وفى ((السنن)) نحوه من حديث ابن عمرو رضى ا ّ
عنْ َدكَ)) قال الترمذى :حديث حسن
ل َبيْ ُع مَا َل ْيسَ ِ
ضمَنْ ،و َ
ح مَا لَم ُي ْ
ل ربْ ُ
شرْطَانِ فى َبيْع ،وَ َ
وَلَ َ
صحيح.
فاتفق لفظُ الحديثين على نهيه صلى ال عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده ،فهذا هو المحفوظُ
مِن لفظه صلى ال عليه وسلم وهو يتضمن نوعًا مِن ال َغ َررِ ،فإنه إذا باعه شيئاً معيناً ،ولَيس فى
ملكه ثم مضى لِيشتريه ،أو يسلمه له ،كان مترددًا بينَ الحصول وعدمه ،فكان غررًا يشبه ال ِقمَار،
ض الناس أنه إنما نهى عنه ،لكونه معدوماً ،فقال :ل َيصِحّ بي ُع المعدوم،
ى عنه .وقد ظنّ بع ُ
َف ُن ِه َ
ن َبيْ ِع ال َمعْدُومِ ،وهذا الحديثُ ل يُعرف فى
وروى فى ذلك حديثًا أنه صلى ال عليه وسلم نهى عَ ْ
ظ مَنْ ظَنّ
غلِ َ
شىء مِن كتب الحديث ،ول له أصلَ ،والظاهر أنه مروى بالمعنى من هذا الحديث ،و َ
ل عنه ل يلزمُ أن
أن معناهما واحد ،وأن هذا المنهى عنه فى حديث حكيم وابن عمرو رضى ا ّ
حبَلةِ وهو معدوم يتضمن غرراً
حبَلِ ال َ
يكون معدوماً ،وإن كان ،فهو معدوم خاص ،فهو كبيع َ
وتردداً فى حصوله.
والمعدوم ثلثةُ أقسام :معدوم موصوف فى الذمة ،فهذا يجوز بيعُه اتفاقاً ،وإن كان
سلَمُ،
أبو حنيفة شرط فى هذا النوع أن يكون وقت العقد فى الوجود من حيثُ الجملة ،وهذا هو ال ّ
وسيأتى ذكره إن شاء الّ تعالى.
والثانى :معدوم تبع للموجود ،وإن كان أكث َر منه وهو نوعانِ :نوع متفق
س على
عليه ونوع مختلَف فيه ،فالمتّفَق عليه بيعُ الثمار بعد بدو صلح ثمرة واحدة منها ،فاتفق النا ُ
جواز بيع ذلك الصنف الذى بدا صلحُ واحدة منه ،وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومةً وقتَ
العقد ،ولكن جاز بيعها للموجود ،وقد يكون المعدومُ متصلً بالموجود ،وقد يكون أعياناً أخر
منفصلة عن الوجود لم تُخلق بعد.
473
والنوع المختلف فيه كبيع المقاثىء والمباطخ إذا طابت ،فهذا فيه
قولن ،أحدهما :أنه يجو ُز بيعُها جملة ،ويأخذها المشترى شيئاً بعد شىء ،كما جرت به العادة،
ح مِن القولين الذى استقر عليه عمل
ويجرى مجرى بيع الثمرة بعد بُ ُدوّ صلحها ،وهذا هو الصحي ُ
المة ،ول غنى لهم عنه ،ولم يأتِ بالمنع منه كتابٌ ول سنة ول إجماع ،ول أثر ول قياس صحيح،
ل المدينة ،وأحد القولين فى مذهب أحمد ،وهو اختيارُ شيخ السلم ابن تيمية.
وهو مذهب مالك وأه ٍ
والذين قالوا :ل يُباع إل لُقْطَ ًة ل ينضبِطُ قولُهم شرعاً ول عُرفًا ويتع ّذرُ العملُ به غالباً ،وإن
أمكن ،ففى غاية العسر ،ويؤدى إلى التنازع والختلف الشديد ،فإن المشترى يُريد أخ َذ الصغار
والكِبار ،ول سيما إذا كان صغاره أطيب من كباره والبائع ل يُؤثر ذلك ،وليس فى ذلك عرف
ب المشترى اللّقطة الظاهرة حتى يحدث فيها لُقطة
منضبط ،وقد تكون المقثأة كثيرةً ،فل يستوعِ ُ
ضرَ لها
ح ِ
أخرى ،ويختلط المبيع بغيره ،ويتع ّذرُ تمييزُه ،ويتعذر أو يتعسّر على صاحب المقثأة أن يُ ْ
كُلّ وقت مَن يشترى ما تجدّد فيها ،ويُفرده بعقد ،وما كان هكذا ،فإن الشريعة ،ل تأتى به ،فهذا غيرُ
مقدورٍ ول مشروع ،ولو أُلزم الناسُ به ،لفسدت أموالُهم وتعطلّت مصالِحُه ْم ثم إنّه يتضمن التفريقَ
بينَ متماثلين مِن كل الوجوه ،فإن بُدو الصّلحِ فى المقاثىء بمنزلة بُد ّو الصلح فى الثمار ،وتلحقُ
خلِقَ فى الصورتين واحدٌ ،فالتَفريقُ
جعْلُ ما لم يُخلق منها تبعاً لما ُ
أجزائها كتلحُقِ أجزاءِ الثّمارِ ،و َ
بينهما تفريق بين متماثلين.
ولما رأى هؤلء ما في بيعها لُقْطَ ًة لُقْطَ ًة مِن الفساد والتع ّذرِ قالوا :طريقُ رفع ذلك بأن يبيعَ
أصلَها معها ،ويقال :إذا كان بيعُها جملةً مفسدة عندكم ،وهو بي ٌع معدوم وغرر ،فإن هذا ل يرتفعُ
ق التي ل قيمة لها ،وإن كان لها قيمة ،فيسيرة جداً بالنسبة إلى الثمن المبذول ،وليس
ببيع العرو ِ
للمشتري قص ٌد في العروق ،ول يدفع فيها الجمل َة مِن المال ،وما الذي حصل ببي ِع العُروق معها مِن
المصلحة لهما حتى شرط ،وإذا لم يكن بيعُ أصول الثمارِ شرطًا في صِحة بي ِع الثمرة المتلحقةِ
ن بيعُ أصولِ المقاثىء شرطاً في صحة بيعها وهي غيرُ
كالتينِ والتُوت وهي مقصودة ،فكيف يكو ُ
مقصودة ،والمقصو ُد أن هذا المعدومَ يجوزُ بيعُه تبعاً للموجود ،ول تأثيرَ للمعدُومِ ،وهذا كالمنافع
المعقودِ عليها في الِجارة ،فإنها معدومة ،وهي مورد العقدَ ،لنها ل يُمكِنُ أن تَحْ ُدثَ دفعةً واحدة،
والشَرائعُ مبناها على رعاية مصالح العباد ،وعدم الحجر عليهم فيما ل بُ ّد لهم منه ،ول تتمّ
مصالِحُهم في معاشهم إل به.
فصل
474
ن المشتري
الثالث :معدوم ل يُدرى يحصُل أو ل يحصُل ،ول ثقة لبائعه بحصوله ،بل يكو ُ
غرَراً ،فمنه صورةُ النهي
ع بيعَه ل لِكونه معدوماً ،بل لكونه َ
منه على خطر ،فهذا الذي منع الشار ُ
التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي ال عنهما ،فإن البائ َع إذا باعَ ما ليس في
مُلكه ،ول له قُدرة على تسليمه ،ليذهب ويحصله ،ويسلمه إلى المشتري ،كان ذلك شبيهاً بالقمار
ح َبلَةِ-
حبَلِ ال َ
ف مصلحتُهما عليه ،وكذلك بيعُ َ
والمخاطرة مِن غير حاجة بهما إلى هذا العقدِ ،ول تتو ّق ُ
ص هذا النهي بحمل الحمل ،بل لو باعه ما تحمِلُ ناقتُه أو
وهو بيعُ حمل ما تحمِلُ ناقتُه ،-ول يخت ّ
بقرتُه أو أمتُه ،كان مِن بيوع الجاهلية التي يعتادونها.
س عنده ،وليس هو
سلَمِ مخصوصٌ مِن النهي عن بيع ما لي َ
وقد ظنّ طائفة أن بي َع ال ّ
كما ظنّوه ،فإن السلمَ يرد على أمر مضمون في الذمة ،ثابتٍ فيها ،مقدورٍ على تسليمه عند محله،
ول غرر في ذلك ،ول خطر ،بل هو جعل المال في ذمة المسلّم إليه ،يجب عليه أداؤُه عند محله،
ل لِذمة المشتري بالثمن المضمون ،وهذا شغلٌ
ل الثمن في ذمة المشتري ،فهذا شغ ٌ
فهو يُشبه تأجي َ
لذمة البائع بالمبيع المضمون ،فهذا لون ،وبيعُ ما ليس عنده لونٌ ،ورأيتُ لشيخنا في هذا الحديث
فصلً مفيداً وهذه سياقته.
ث أقوالٌ قيل :المرادُ بذلك أن يبي َع السّلع َة المعينة
قال :للناس في هذا الحدي ِ
عنْدَك من
التي هي مال الغير ،فيبيعُها ،ثم يتمّلكُها ،ويُسلمها إلى المشتري ،والمعنى :ل تَب ْع ما ليسَ ِ
العيان ،ونقل هذا التفسير عن الشافعي ،فإنه يُجوّز السلمَ الحال ،وقد ل يكون عند المسلم إليه ما
ل أو مؤجلً.
باعه ،فحمله على بيع العيان ،ليكون بيع ما في الذمة غَير داخل تحته سواءً كان حا ً
وقال آخرون :هذا ضعيف جداً ،فإن حكيم بن حزام ما كان يبغ شيئاً معينًا هو ملك لغيره ،ثم
ينطلِقُ فيشتريه منه ،ول كان الذين يأتونه يقولون :نطلبُ عبد فلن ،ول دارَ فلن ،وإنما الذي يفعلُه
الناسُ أن يأتيَه الطالبُ ،فيقولُ :أريدُ طعاماً كذا وكذا ،أو ثوباً كذا وكذا ،أو غير ذلك ،فيقول :نعم
أعطيك ،فيبيعه منه ،ثم يذهب ،فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده ،هذا هو الذي يفعله من يفعلُه
مِن الناس ،ولهذا قال(( :يأتيني فيطلب مني المبيع ليس عندي)) لم يقل يطلب مني ما هو مملوك
لغيري ،فالطالبُ طلب الجنسَ لم يطُلبْ شيئا معيناً ،كما جرت به عادةُ الطالب لما يُؤكل ويُلبس
ويُركب ،إنما يطلب جنس ذلك ،ليس له غرض في ملك شخص بعينه دون ما سواه ،مما هو مثلُه أو
خي ٌر منه ،ولهذا صار الِمامُ أحمد وطائفةٌ إلى القول الثاني ،فقالوا :الحديثُ على عمومه يقتضي
475
النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده ،وهو يتناول النهي عن السّلم إذا لم يكن عنده ،لكن
سلَمِ الحالَ.
سلَمِ المؤجلِ ،فبقي هذا في ال َ
جاءت الحاديثُ بجوا ِز ال ّ
ث لم يرد به النهي عن السلم المؤجّل ،ول
والقول الثالث -وهو أظهر القوال :-إن الحدي َ
الحال مطلقاً ،وإنما أريد به أن يبيعَ ما في الذمة مما ليس هو مملوكاً له ،ول يق ِد ُر على تسليمه،
ويربح فيه قبل أن يَملِكه ،ويضمنه ،ويقدر على تسليمه ،فهو نهي عن السلم الحالى إذا لم يكن عند
المستسِلفِ ما باعه ،فليزم ذمته بشيء حالّ ،ويربح فيه ،وليس هو قادرًا على إعطائه ،وإذا ذهب
يشتريه ،فقد يحصُل وقد ل يحصُل ،فهو مِن نوع الغرر والمخاطرة ،وإذا كان السلم حالّ ،وجب
عليه تسليمُه في الحال ،وليس بقاد ٍر على ذلك ،ويربح فيه على أن يَملكه ويضمنه ،وربما أحاله
على الذي ابتاع منه ،فل يكونُ قد عمل شيئاً ،بل أكل المال بالباطل ،وعلى هذا فإذا كان السّلم
ل والمسلم إليه قادرًا على الِعطاء ،فهو جائز ،وهو كما قال الشافعي إذا جاز المؤجّل ،فالحالّ
الحا ّ
أولى بالجواز.
ي صلى ال عليه وسلم أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق
ومما يُبين أن هذا مرادُ النب ّ
في الذمة كما تقدم ،لكن إذا لم يجز بيعُ ذلك ،فبي ُع المعين الذي لم يملكْه أولى بالمنع ،وإذا كان إنما
سأله عن بيع شيء في الذمة ،فإنما سأله عن بيعه حالّ ،فإنه قال :أبيعُه ،ثم أذهب فأبتاعه ،فقال له:
عنْ َدكَ)) ،فلو كان السلفُ الحال ل يجوزُ مطلقاً ،لقال له ابتداء :ل تبع هذا سواء
((لَ َتبْع ما َليْس ِ
ب هذا القول يقول :بيعُ ما في الذمة حالّ ل يجوز ،ولو كان عنده
كان عنده أو ليس عنده ،فإن صاح َ
ما يُسلمه ،بل إذا كان عنده ،فإنه ل يبيع إل معيناً ل يبيع شيئاً في الذمة ،فلما لم ينه النبيُ صلى ال
ل تَبعْ ما ليس عندك)) ،علم أنه صلى ال عليه وسلم فرّق
عليه وسلم عن ذلك مطلقاً ،بل قالَ (( :
بين ما هو عنده ويملِكه ويقدِر على تسليمه ،وما ليس كذلك ،وإن كان كلهما في الذمة.
ث هو الصوابُ ،فإن قيل :إن بي َع المؤجّل جائزٌ
ومن تدبّر هذا تبيّن له أن القولَ الثال َ
للضرورة وهو بيعُ المفاليس ،لن البائع احتاج أن يبي َع إلى أجل ،وليس عنده ما يبيعه الن ،فأما
الحال ،فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه ،فل حاجة إلى بيع موصوف في الذمة ،أو بيع عين غائبة
ل المبيع كتأجيل
موصوفة ل يبيع شيئاً مطلقاً؟ .قيل :ل نسلم أن السّلمَ على خلف الصل ،بل تأجي ُ
الثمن ،كلهما مِن مصالح العالم.
والناسُ لهم في مبيع الغائب ثلث ُة أقوال :منهم من يُجوّزه مطلقاً ،ول يجوزه معيناً
موصوفاً كالشافعي في المشهور عنه ،ومنهم من يجوّزه معيناً موصوفاً ،ول يجوزه مطلقاً كأحمد
476
وأبي حنيفة ،والظهرُ جوازُ هذا وهذا ،ويقال لِلشافِعي مثل ما قال هو لغيره :إذا جاز بي ُع المطلق
ن الموصوفُ أولى بالجواز ،فإن المطلق فيه مِن الغرر والخطر
الموصوف في الذمة ،فالمعي ُ
والجهل أكثرُ مما في المعيّن ،فإذا جاز بيعُ حنطة مطلقة بالصفة ،فجوازُ بيعها معينة بالصفة أولى،
بل لو جَا َز بيع المعين بالصفة ،فللمشتري الخيار إذا رآه ،جاز أيضاً ،كما نقل عن الصحابة ،وهو
سلَمَ
مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين ،وقد جوز القاضي وغيره من أصحاب أحمد ال ّ
الحال بلفظ البيع.
ظ ولفظٍ ،فالعتبا ُر في العقود بحقائقها ومقاصدها
والتحقيقُ :أنه ل فرقَ بينَ لف ٍ
س بيعِ العيان الحاضرة التي يتأخر قبضُها يُسمى سلفًا إذا عجل له الثمن،
ل بمجرد ألفاظها ،ونف ُ
ل أَنْ َيكُونَ
ط ِب َعيْنهِ إ ّ
سلِمَ في الحَائِ ِ
كما في ((المسند)) عن النبي صلى ال عليه وسلم(( :أنّه َنهَى أن يُ ْ
قَ ْد بَدَا صَلَحُهُ)) ،فإذا بَدَا صَلحُهُ ،وقال :أسلمت إليك في عشرة أوسق مِن تمر هذا الحائط ،جاز
كما يجوز أن يقول :ابتعت عشرة أوسق مِن هذه الصّبرة ،ولكن الثمن يتأخَر قبضُه إلى كمال
صلحه ،فإذا عجّل له الثمن قيل له :سلف ،لن السلفَ هو الذي تقدم ،والسالف المتقدم قال الثه
سلَفًا ومَثلً لِلخِرين} [الزخرف ]56 :والعرب تُسمي أوَل الرواحل السالفة،
تعالىَ { :فجَع ْلنَاهُمْ َ
ظعُونٍ)) .وقول الصديق
سلَ ِفنَا الصَالِحِ عُثمَان بن مَ ْ
ي صلى ال عليه وسلم(( :ألحق بِ َ
ل النب ّ
ومنه قو ُ
رضي ال عنه :لقاتلنّهم حتى تنفرِ َد سالفتي .وهي العنق.
ولفظ السلف يتناولُ القرضَ والسلم ،لن المقرض أيضًا أسلف القرض ،أي :قدمه ،ومنه
سَلفَ
ستَ ْ
ث الخر(( :أن النبي صلى ال عليه وسلم ا ْ
ف و َبيْعٌ)) ومنه الحَدي ُ
سَل ٌ
ل يَحِلّ َ
هذا الحديث (( َ
س َتِلفُ
ل َربَاعِياً)) والذي يبيعُ ما ليس عنده ل يقصِ ُد إل الربح ،وهو تاجرَ ،فيَ ْ
جمَ ً
َبكْراً ،و َقضَى َ
بسعر ،ثم يذهب فيشتري بمثل ذلك الثمن ،فإنه يكون قد أتعبَ نفسه لغيره بل فائدة ،وإنما يفعل هذا
من يتوكل لغيره فيقول :أعطني ،فأنا أشتري لك فذه السلعة ،فيكون أميناً ،أما أنه يبيعها بثمنٍ معين
يقبضه ،ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك الثمن مِن غير فائدة في الحال ،فهدا ل يفعلُه عاقل ،نعم إذا
سلِفُ ُه وينتف ُع به مدة إلى أن يحصل تلك السلعة،
ستَ ْ
كان هناك تاجرٌ ،فقد يكون محتاجًا إلى الثمنَ ،فيَ ْ
فهذا يقع في السلم المؤجّل ،وهو الذي يسمى بيعَ المفاليس ،فإنه يكون محتاجًا إلى الثمن وهو
ل أو غيره ،فيبيعه في الذمة ،فهذا
مفلس ،وليس عنده في الحال ما يبيعُه ،ولكن له ما ينتظره مِن َمغَ ّ
جرَ بالثمن في الحال ،أو يرى أنه يحصل به
يفعل مع الحاجة ،ول يُفعل بدونها إل أن يقصد أن يتّ ِ
مِن الربح أكثر مما يفوتُ بالسلم ،فإن المستسلف يبيعُ السلعة في الحال بدون ما تساوي نقداً،
477
والمسلف يرى أن يشتريَها إلى أجل بأرخصَ مما يكون عند حصولها ،وإل فلو علم أنها عند طرد
الصل تُباع بمثل رأس مال السلم لم يُسلم فيها ،فيذهب نفعُ ماله بل فائدة ،وإذا قصد الجر ،أقرضه
سلَمًا إل إذا ظنّ أنه في الحال أرخصُ منه وقتَ حلول الجل ،فالسلمُ
ذلك قرضاً ،ول يجعل ذلك َ
المؤجّل في الغالب ل يكون إل مع حاجة المستسلِف إلى الثمن ،وأما الحال ،فإن كان عنده ،فقد
يكونُ محتاجًا إلى الثمن ،فيبيعُ ما عنده معيناً تارة ،وموصوفًا أخرى ،وأما إذا لم يكن عنده ،فإنه ل
يفعلُه إل إذا قصد التجارة والربحَ ،فيبيعه بسعر ،ويشتريه بأرخص منه.
ثم هذا الذي قدّره قد يحصُل كما قدره ،وقد ل يحصُل له تلك السلعة التي يُسلف فيها إل
ص مِن ذلك ،قدم السلف إذ كان يُمكنه أن
بثمن أغنى مما أسلف فيندم ،وإن حصلت بسعر أرخ َ
يشت ِريَه هو بذلك الثمن ،فصار هذا مِن نوع الميسر والقمار والمخاطرة ،كبيع العبد البق ،والبعير
حبَلِ
الشارد يُباع بدون ثمنه ،فإن حصل ،نَدِم البائع ،وإن لم يحصل ،نَدِمَ المشتري ،وكذلك بيعُ َ
ح َبلَةِ ،وبيعُ الملقِيحِ والمضامينِ ،ونحو ذلك مما قد يحصُل ،وقد ل يحصل ،فبائعُ ما ليس عنده
ال َ
من جنس بائع الغرر الذي قد يحصل ،وقد ل يحصل وهو من جنس القمار والميسر .والمخاطرة
مخاطرتان :مخاطرة التجارة وهو أن يشتريَ السلعة بقصد أن يبيعَها ويربحَ ويتوكّل على الّ في
ذلك ،والخطر الثاني :الميسر الذي يتضمن أكلَ المال بالباطل ،فهذا الذي حرّمه الّ تعالى ورسوله
ح َبلَة والملقيح والمضامين ،وبيع الثمار قبل بُدو صلحها،
حبَلِ ال َ
مثل بيعِ الملمسة والمنابذة ،و َ
ومن هذا النوع يكونُ أحدهما قد َق َمرَ الخرَ ،وظلمه ،ويتظلم أحدُهما مِن الخر بخلف التاجر الذي
قد اشترى السلعة ،ثم بعد هذا نقص سعرُها ،فهذا من الّ سبحانه ليس لحد فيه حِيلة ،ول يتظلّم مثلُ
هذا مِن البائع ،وبيعُ ما ليس عنده مِن قسم القمار والميسر ،لنه قصد أن يربح على هذا لما باعه ما
عِلمُوا ذلك لم يشتروا
ليس عنده ،والمشتري ل يعلم أنه يبيعه ،ثم يشتري مِن غيره ،وأكثرُ الناس لو َ
منه ،بل يذهبون ويشترون مِن حيث اشترى هو ،وليست هذه المخاطرة مخاطرة التجار بل
مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم ،فإذا اشترى التاجر السلعة ،وصارت عنده ملكاً
ل تَأ ُكلُوا َأ ْموَاَلكُم
ل بقولهَ { :
وقبضاً ،فحينئذ دخل في خطر التجارة ،وباع بيع التجارة كما أحله ا ّ
ل أعلم.
ض مِنكُم} [النساء ،]29 :وا ّ
ن َترَا ٍ
ن تكُونَ ِتجَا َرةً عَ ْ
ل أَ ْ
َبيْنكُم بِالبَاطِلِ إ ّ
حصَا ِة والغَ َر ِر والمُلمسة والمنَابَ َذةِ
ذكر حُكمِ رسولِ الّ صلى ال عليه وسلم في بيع ال َ
ل صلى ال عليه
ل عنه قال(( :نهى رسولُ ا ّ
في ((صحيح مسلم)) عن أبي هريرة رضي ا ّ
ن َبيْ ِع ال َغ َررِ)).
حصَاةِ وعَ ْ
ن َبيْعِ ال َ
وسلم عَ ْ
478
ل ال صلى ال عليه وسلم نهى عن المُلمَسَةِ
وفي ((الصحيحين)) عنه(( :أن رسو َ
حبِه ِب َغ ْي ِر تَأمُلٍ ،وال ُمنَابَ َذةُ :أَن
ب صَا ِ
ل ِم ْن ُهمَا َث ْو َ
س كُ ّ
لمَسَةُ :فأنَ َي ْل ِم َ
والمنَابَ َذةِ)) زاد مسلم(( :أمّا المُ َ
خرِ)) .وفي
ظرْ وَاحِ ٌد م ْن ُهمَا إلى َثوْب صَاحبه ال َ
خرِ ،ولَ ْم َينْ ُ
ل وَاحِ ٍد ِم ْن ُهمَا َث ْوبَه إلى ال َ
يَنبِذَ كُ ّ
ستَينِ:
ن َب ْي َع َتيْنِ وُلبْ َ
ل ال صلى ال عليه وسلم عَ ْ
((الصحيحين)) عن أبي سعيد قال(( :نهى رسو ُ
لمَسَةُ :لمسُ الرجلِ ثوبَ الخر بيده بالليلِ أو بالنهارِ
لمَسَ ِة وال ُمنَابَ َذ ِة في البَيعِ .والمُ َ
ن المُ َ
َنهَى عَ ِ
ل إلى الرجل ثوبَه ،وينبذ الخر ثوبَه ،ويكون ذلك بيعَهما
ول ي ْقِلبُه إل بذلك ،والمنابذة :أن َي ْنبِذَ الرج ُ
مِن غير نظر ول تراض)).
أما بيعُ الحصاةِ ،فهو من باب إضافة المصدر إلى نوعه ،كبيع الخيار ،وبيع النسيئة
ونحوهما ،وليس مِن باب إضافة المصدر إلى مفعوله ،كبيع الميتة والدم.
س َر بيعُ الحصاة بأن يقول :ارمِ هذه
ع المنهى عنها ترج ُع إلى هذين القِسمين ،ولهذا فُ ّ
والبيو ُ
ي ثوبِ وقعت ،فهو لك بِدرهم ،وفسر بأن بيعَه مِن أرضه قد َر ما انتهت إليه رميةُ
الحصاةَ ،فعلى أ ّ
سرَ بأن يقبض على كف من حصا ،ويقول :لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء
الحصاة ،وفُ ّ
سرَ بأن
المبيع ،أو يبيعه سلعة ،ويَ ْقبِض على كف مِن الحصا ،ويقول :لي بكُلّ حصاة درهم ،وفُ ّ
سرَ بأن يتبايعا،
يمسك أحدهما حصاة في يده ،ويقول :أي وقت سقطت الحصاة ،وجب البيعُ ،وفُ ّ
ض القطيع مِن الغنم ،فيأخذ
سرَ بأن يعترِ َ
ويقول أحدهما :إذا نبذت إليك الحصاة ،فقد وجب البيعُ ،وفُ ّ
ي شاة أصبتها ،فهي لك بكذا ،وهذه الصو ُر كلُها فاسدة لما تتضمنه من أكل المال
حصاة ،ويقول :أ ّ
بالباطل ،ومِن ال َغ َررِ والخطر الذي هو شبيه بالقمار.
فصل
(يتبع)...
وأما بي ُع ال َغ َررِ ،فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملقيح والمضامين وال َغ َررُ :هو @
المَبيع نفسه ،وهو فعل بمعنى مفعول ،أي :مغرور به كالقبض والسلب بمعنى المقبوض
والمسلوب ،وهذا كبيع العبد البق الذي ل يقدر على تسليمه ،والفرس الشارد ،والطير في الهواء،
وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته ،أو ما يرضى له به زيد ،أو يهبه له ،أو يورثه
إياه ونحو ذلك مما ل يعلم حصولُه أو ل يقدر على تسليمه ،أو ل يُعرف حقيقته ومقداره ،ومنه بيعُ
ي صلى ال عليه وسلم نهى عنه ،وهو نتاج النتاج
ح َبلَةِ ،كما ثبت في ((الصحيحين)) أن النب ّ
حبَلِ ال َ
َ
في أحد القوال ،والثاني :أنه أجل ،فكانوا يتبايعون إليه هكذا رواه مسلم ،وكِلهما غرر ،والثالث:
479
أنه بيعُ حمل الكرم قبل أن يبلغ ،قاله المبرد .قال :والحبْلة :الكرم بسكون الباء وفتحها ،وأما ابنُ
عمر رضي ال عنه ،فإنه فسره بأنه أجلٌ كانوا يتبايعون إليه ،وإليه ذهب مالك والشافعي ،وأما أبو
عبيدة ،ففسره ببيع نتاج النتاج ،وإليه ذهب أحمد ،ومنه بي ُع الملقيح والمضامين ،كما ثبت في
ي صلى ال عليه وسلم نهى عَن
حديث سعيد بن المسيّب ،عن أبي هريرة رضي ال عنه أن النب ّ
ن والملقيح .قال أبو عُبيد :الملقيح ما في البطون من الجنّةِ ،والمضامين :ما في أَصلب
المضامي ِ
الفحول ،وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة ،وما يضربه الفحل في عام أو أعوام وأنشد:
ظهُورِالحُ ْدبِ
مَا ُء الفُحُولِ في ال ّ ب
إنّ ال َمضَامِينَ الّتي في الصّ ْل ِ
عنْه .قال ابن العرابي :المجر ما في
جرِ ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم َنهَى َ
ومِنه بي ُع المَ ْ
بطن الناقة ،والمجر :الربا ،والمجر :القِمار ،والمجر :المحاقلَة والمزابنة.
ومنه بي ُع الملمسة والمنابذة وقد جاء تفسيرُهما في نفس الحديث ،ففي ((صحيح
لمَسَةُ فَأَنْ
لمَسَ ِة وَال ُمنَابَ َذةَِ ،أمَا المُ َ
ل عنه َنهَى عَنْ َب ْي َع َتيْنِ :المُ َ
مسلم)) عن أبي هُريرة رضي ا ّ
ل وَاحِ ٍد ِم ْنهُما ثَوبَ صاحبه بغير تأمل والمنابذة :أن ينبِذ كُلّ واحد منهما ثوبَه إلى الخر،
س كُ ّ
ي ْلمِ َ
ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه ،هذا لفظ مسلم.
ل صلى ال عليه وسلم عن بيعيين
وفي ((الصحيحين)) عن أبي سعيد قال :نهانا رسولُ ا ِ
س الرجل ثوبَ الخر بيده بالليل أو بالنهار ،ول يَ ْقِلبُهُ إل بذلك،
ولبستين في البيع ،والملمسة :لم ُ
والمُنابذة :أن يَنبذ الرجل إلى الرجل ثوبَه ،وينبِذَ الخر إليه ثوبه ،ويكون ذلك بيعَهما مِن غير نظر
ول تراض.
س َرتِ الملمسةُ بأن يقول :بعتُك ثوبي هذا على أنك متى لمسته ،فهو عليك بكذا ،والمنابذة
وفُ ّ
بأن يقول :أي ثوب نبذته إلي ،فهو علي بكذا ،وهذا أيضًا نوع من الملمسة والمنابذة ،وهو ظاهر
ق البيعِ شرط ،بل ما تضمنه مِن
حمَهُ ال ،والغرر في ذلك ظاهر ،وليس العلة تعلي َ
كلم أحمد َر ِ
الخطر والغرر.
فصل
ج َزرِ والفِجل والقَلقَاس والبَصل
ت وال َ
وليس مِن بيع ال َغ َر ِر بيع المغ ّيبَات في الرض كاللف ِ
ونحوها ،فإنها معلومة بالعادة َي ْعرِفُها أهل الخبرة بها ،وظاهرُها عنوانُ باطنها ،فهو كظاهر
ص ْب َر ِة مع باطنها ،ولو قُ ّدرَ أن في ذلك غرراً ،فهو غرر يسير يُغتفر في جنب المصلحة العامة
ال ّ
التي ل بد للناس منها ،فإن ذلك غرر ل يكون موجبًا للمنع ،فإن إجارة الحيوان والدار والحانوت
480
ت الحيوان ،وانهدام الدار ،وكذا دخولُ الحمام ،وكذا
مساناة ل تخلُو عن غرر ،لنه يعرض فيه مو ُ
ع السّلم ،وكذا بيع
الشربُ من فم السقاء ،فإنه غيرَ مقدر مع اختلف الناس في قدره ،وكذا بيو ُ
ض وال ّرمّان والبطيخ والجوز واللوز والفستق،
صبْر ِة العظيمة التي ل يُعلم مكيلُها ،وكذا بيعُ البي ِ
ال ُ
وأمثال ذلك مما ل يخلو مِن الغرر ،فليس كُلُ غرر سببًا للتحريم ،والغر ُر إذا كان يسيرًا أو ل يُمكن
الحترازُ منه ،لم يكن مانعًا مِن صحة العقد ،فإن الغررَ الحاصِل في أساسات الجدران ،وداخل
بطون الحيوان ،أو آخر الثمار التي بدا صلحُ بعضِها دونَ بعض ل يُمكن الحترا ُز منه ،والغررُ
ن البيع
الذي في دخولِ الحمام ،والشرب من السّقاء ونحوه غرر يسير ،فهذان النوعان ل يمنعا ِ
بخلف الغرر الكثير الذي يمكن الحترا ُز منه ،وهو المذكور في النواع التي نهى عنها رسول الّ
ق بينها وبينَه ،فهذا هو المان ُع مِن صحة العقد.
صلى ال عليه وسلم ،وما كان مساوياً لها ل فر َ
ع ِرفَ هذا ،فبيعُ المغيبات في الرض ،انتفى عنه المرانِ ،فإن غررَه يسير ،ول يُمكن
فإذا ُ
الحترازُ منه ،فإن الحقول الكِبار ل يُمكن بيعُ ما فيها مِن ذلك إل وهو في الرض ،فلو شرط لبيعه
إخراجَه دفعة واحدة كان في ذلك من المشقة ،وفساد الموال ما ل يأتي به شرع ،وإن منع بيعه إل
شيئاً فشيئاً كلما أخرجَ شيئاً باعه ،ففي ذلك مِن الحرج والمشقة ،وتعطيلِ مصالح أربابِ تلك
الموالِ ،ومصالح المشتري ما ل يخفى ،وذّلك مما ل يُوجبه الشارعُ ،ول تقو ُم مصالحُ الناس بذلك
ج كذلك ،أو كان ناظرًا عليه،
خرَا ٌ
البتة حتى إن الذين يمنعون مِن بيعها في الرض إذا كان لحدهم َ
لم يجد بُداً مِن بيعه في الرض اضطرارًا إلى ذلك ،وبالجملة ،فليس هذا مِن الغرر الذي نهى عنه
ل صلى ال عليه وسلم ،ول نظير لما نهى عنه من البيوع.
رسولُ ا ّ
فصل
وليس منه بي ُع المسك في فأرته ،بل هو نظيرُ ما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز والفُستق
وجوز الهند ،فإن فأرته وعاء له تصونُه مِن الفات ،وتحفظ عليه رطوبته ورائحتَه ،وبقاؤه فيها
أقربُ إلى صيانته مِن الغش والتغير ،والمسك الذي في الفأرة عند الناس خير من المنفوض،
وجرت عادة التجار بيعه وشرائه فيها ،ويعرفون قدره وجنسه معرفة ل تكاد تختلِف ،فليس مِن
الغرر في شيء ،فإن الغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات ،وعلى القاعدة الخرى :هو ما
ت عينُه ،وأما هذا ونحوه ،فل يُسمى غررًا ل لغةً ول شرعًا ول عُرفاً ،ومن
ج ِهَل ْ
ط ِو َيتْ معرفتُه ،و ُ
ُ
غ ّررَ ،طُولِب بدخوله في مسمى الغرر لغة وشرعاً ،وجوازُ بيع المسك
حرّ َم بيعَ شيء ،وادعى أنه ُ
َ
ح دليلً ،والذين منعوه جعلوه مثل بيع النوى
في الفأرة أحد الوجهين لصحاب الشافعي ،وهو الراج ُ
481
في التمر ،والبيض في الدجاج ،واللبن في الضرع ،والسمن في الوعاء ،والفرقُ بين النوعين
ظاهر.
ل بيع قلب الجوز واللوز والفستق في صِوانه ،لنه من مصلحته،
ومنازعوهم يجعلونه مث َ
ول ريبَ أنه أشبهُ بهذا منه بالول ،فل هو مما نهى عنه الشارعُ ،ول في معناه ،فلم يش َملْ ُه نهيُه
لفظًا ول معنى.
وأما بيعُ السمن في الوعاء ،ففميه تفصيل ،فإنه إن فتحه ،ورأى رأسه بحيث ي ُدلُه
على جنسه ووصفه ،جاز بيعُه في السّقاء ،لكنه يصي ُر كبيع الصّبرة التي شاهد ظاهرها وإن لم
يره ،ولم يُوصف له ،لم يجز بيعُه ،لنه غرر ،فإنه يختِلفُ جنساً ونوعًا ووصفاً ،وليس مخلوقاً في
ض والجوز واللوز والمسك في أوعيتها ،فل يصح إلحاقُه بها.
وعائه كالبي ِ
وأما بيعُ اللبن في الضرع ،فمنعه أصحابُ أحمد والشافعي وأبي حنيفة والذي
يجب فيه التفصيلُ ،فإن باع الموجودَ المشاهدَ في الضرع ،فهذا ل يجوز مفرداً ،ويجوز تبعاً
للحيوان ،لنه إذا بيعَ مفرداً تعذر تسليمُ المبيع بعينه ،لنه ل يُعرف مقدارُ ما وقع عليه البيع ،فإنه
وإن كان مشاهدًا كاللبن في الظرف ،لكنه إذا حلبه خلفه مثله مما لم يكن في الضرع ،فاختلط المبيعُ
جمِهِ)) من حديث ابن
ث الذي رواه الطّبرانِي في ((مُعْ َ
بغيره على وجه ل يتميز ،وإن صح الحدي ُ
ضرْعٍ))
ن في َ
ل صلى ال عليه وسلم(( :نهى أن يُباع صوفٌ على ظهر ،أو َلبَ ٌ
عباس أن رسول ا ّ
فهذا إن شاء الّ محمله ،وأما إن باعه آصعًا معلومة من اللبن يأخذه مِن هذه الشاة ،أو باعه لبنَها
أيامًا معلومة ،فهذا بمنزلة بيع الثمار قبل بُ ُدوّ صلحها ل يجوزُ ،وأما إن باعه لبناً مطلقًا موصوفاً
في الذمة ،واشترط كونه مِن هذه الشاة أو البقرة ،فقال شيخنا :هذا جائز ،واحتج بما في ((المسند))
من أن النبي صلى ال عليه وسلم نهى أن يُسلم في حائط بعينه إل أن يكون قد بدا صلحُه .قال فإذا
ت إليك في عشرة أوسق مِن تمرِ هذا الحائط ،جاز كما يجوز أن يقول:
بدا صلحه ،وقال :أسلم ُ
ابتعتُ منك عشرَة أوسق مِن هذه الصّبرة ،ولكن الثمن يتأخر قبضُه إلى كمال صلحه ،هذا لفظه.
فصل
ج ّوزُه
وأما إن أجره الشا َة أو البقرة أو النَاقة مدةً معلومة لخذ لبنها في تلك المدة ،فهذا ل يُ َ
ل لبعض أهل العلم ،وله فيها مص ّنفٌ مفرد ،قال :إذا
الجمهورُ؟ واختار شيخُنا جوازه ،وحكاه قو ً
استأجر غنمًا أو بقراً ،أو نوقاً أيا َم اللبن بأجرة مسماة ،وعلفُها على المالِك ،أو بأجرة مسماة مع
علفها على أن يأخُ َذ اللبن ،جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظّئر قال :وهذا يُشبه البيع،
482
ويُشبه الِجارة ،ولهذا يذكرُه بعضُ الفقهاء في البيع ،وبعضُهم في الِجارة ،لكن إذا كان اللبن
يحصُل بعلف المستأجر وقيامه على الغنم ،فإنه يشبه استئجار الشجر ،وإن كان المالك هو الذي
يَعلِفُها ،وإنما يأخ ُذ المشتري لبنًا مقدراً ،ففذا بيعٌ محضٌ ،وإن كان يأخذ اللبن مطلقاً ،فهو بي ٌع أيضاً،
فإن صاحب اللبن يُوفيه اللبن بخلف الظئر ،فإنما هي تسقي الطفل ،وليس فذا داخلً فيما نهى عنه
صلى ال عليه وسلم مِن بيع ال َغ َررِ ،لن الغرر تردّ ٌد بين الوجود والعدم ،فنهى عن بيعه ،لنه مِن
جنس القمار الذي هو الميسر ،وال حرم ذلك لما فيه مِن أكل المال بالباطل ،وذلك مِن الظلم الذي
حرمه الّ تعالى ،وهذا إنما يكون قمارًا إذا كان أح ُد المتعاوضين يحصلُ له مال ،والخر قد يحصُل
ح َبلَةِ،
حبَلِ ال َ
له وقد ل يحصل ،فهذا الذي ل يجوزُ كما في بيع العبد البق ،والبعير الشارد ،وبيع َ
فإن البائع يأخذُ مال المشتري ،والمشتري قد يحصل لَهُ شَيء ،وقد ل يَحصُل ،ول يعرف قدر
الحاصل ،فأما إذا كان شيئاً معروفاً بالعادة كمنافع العيان بالِجارة مثل منفعة الرض والدابة،
ومثلِ لبن الظئر المعتاد ،ولبنِ البهائم المعتاد ،ومثلِ الثمر والزرع المعتاد ،فهذا ُكلّهُ من باب واحد
وهو جائز.
ثم إن حصل على الوجه المعتاد ،وإل حطّ عن المستأجر بقدر ما فات مِن المنفعة
ض المبيع قبل التمكن مِن القبض
ل وضع الجائحة في البيع ،ومثلُ ما إذا تلف بع ُ
المقصودة ،وهو مث ُ
في سائر البيوع.
فإن قيلَ :م ْورِدُ عقد الِجارة إنما هو المنافع ،ل العيان ،ولفذا ل َيصِحُ استئجارُ
الطعامِ ليأكله ،والماء ليشربه ،وأما إجارة الظئر ،فعلى المنفعة وهي وضع الطفل في حَجرها،
وإلقامُه ثديها ،واللبنُ يدخل ضمناً وتبعاً ،فهو كنقع البئر في إجارة الدار ،ويغتفر فيما دخل ضمناً
وتبعاً ما ل يُغتفر في الصول والمتبوعات.
قيل :الجواب عن هذا من وجوه.
أحدها :منع كون عقد الِجارة ل َيرِدُ إل على منفعة ،فإن هذا ليس
ثابتاً بالكتاب ول بالسنة ول بالِجماع ،بل الثابتُ عن الصحابة خلفه ،كما صحّ عن عمر رضي
ل عنه أنه َقبَل حديقة أسي ِد بنِ حضير ثلث سنين ،وأخذ الجرة فقضى بها دينَه ،والحديقة :هي
ا ّ
ب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الّ
النخل ،فهذه إجارة الشجر لخذ ثمرها ،وهو مذه ُ
عنه ،ول يُعلم له في الصحابة مخالف ،واختاره أبو الوفاء بن عقيل من أَصحَابِ أحمد ،واختيار
شيْخنا ،فقولُكم :إن مورد عقد الِجارة ل يكون إل منفعة غيرُ مسلم ،ول ثابت بالدليل ،وغاية ما
َ
483
معكم قياس محل النزاع على إجارة الخبز للكل ،والماء للشرب ،وهذا مِن أفسد القياس ،فإن الخبز
ف مثله بخلف اللبن ونقع البئر ،فإنه لما كان يستخلف ويحدث شيئاً فشيئاً،
خَل ُ
ستَ ْ
تذهب عينُه ول يُ ْ
كان بمنزلة المنافع.
يوضحه الوجه الثاني :وهو أن الثمر يجري مجرى المنافع
ل الوقف بثمراتها كمَا يقفُ
والفوائد في الوقف والعا ِريّة ونحوها فيجو ُز أن يقف الشّجَرة لِينتفع أه ُ
ل الوقف بِغّلتِها ،ويجوز إعارةُ الشجرة ،كما يجوز إعارة الظهر ،وعاريّة الدارِ،
الرض ،لينتفعَ أه ُ
ومنيح ُة اللبن ،وهذا كُلُ تبرع بنماء المال وفائدته ،فإن من دفع عقاره إلى مَنْ يسكنُه ،فهو بمنزلة
مَنْ دفع دابتَه إلى من يركبها ،وبمنزلة مَن دفع شجرة إلى من يستث ِمرُها ،وبمنزلة مَنْ دفع أرضَه
ل في عقود التبرع،
إلى من يزرَعُها ،وبمنزلة مَنْ دفع شاته إلى من يشربُ لبنها ،فهذه الفوائدُ تدخُ ُ
حبّساً بالوقف ،أو غير محبس .ويدخل أيضاً في عقود المشاركات ،فإنه إذا دفع
سواء كان الصل مُ َ
ح على أصح الروايتين عن
شاة ،أو بقرة ،أو ناقة إلى من يعمل عليها بجزء مِن َدرّها ونسلها ،ص ّ
ل في العقود للِجارات.
أحمد فكذلك يدخ ُ
يوضحه الوجه الثالث :وهو أن العيانَ نوعانِ :نوع ل
خَلفُ شيئاً فشيئاًُ ،كلّما ذهبَ منه شيء،
ستَ ْ
يستخلف شيئاً فشيئاً ،بل إذا ذهب ،ذهب جملة ،ونوع يُ ْ
خَلفْ ،فينبغي أن ينظر في
ستَ ْ
خلفه شيء مثله ،فهذا رتب ٌة وسطى بين المنافع وبين العيان التي ل تُ ْ
ش َبهَهُ بالمنافع أقوى ،فإلحاقه بها أولى.
ي النوعين ،فيُلحق به ،ومعلوم أن َ
ش َبهِهِ بأ ّ
َ
يوضحه الوجه الرابع :وهو أن الّ سبحانه
نصّ في كتابه على إجارة الظئر ،وسمّى ما تأخذه أجراً ،وليس في القرآن إجارة منصوص عليها
ن أُجُورَهنّ وأ َت ِمرُوا بَي َنكُمْ
ضعْنَ َلكُم فآتُوهُ ّ
ن َأ ْر َ
في شريعتنا إل إجارة الظّئ ِر بقوله تعالى{ :فَإ ْ
ِبمَعروفٍ} [الطلق ،]6 :قال شيخنا :وإنما ظن الظانّ أنها خلفُ القياس حيث توهّم أن الِجارة ل
تكون إل على منفعة ،وليس الم ُر كذلك ،بل الِجارة تكونُ على كل ما يُستوفى مع بقاء أصله،
ن هي التي تُوقف وتُعار فيما استوفاه الموقوف عليه
سواء كان عيناً أو منفعة ،كما أن هذه العي َ
والمستعيرُ بل عوض يستوفيه المستأجرُ وبالعوض ،فلما كان لبن الظئر ،مستوفى مع بقاء الصل،
ن يُحدثها ال
ض القياس ،فإن هذه العيا َ
جازت الِجارة عليه كما جازت على المنفعة ،وهذا مح ُ
شيئاً بعد شيءٍ ،وأصلُها باقٍ كما يُح ِدثُ الُ المنافعَ شيئًا بعد شيء ،وأصلُها باقٍ.
484
ويوضحه الوجهُ الخا ِمسُ :وهو أن
ل ورسولُه ،فإن المسلمين على شروطهم إل شرطاً
الصل في العقود وجوبُ الوفاء إل ما حرّمه ا ُ
ل ورسولُه ،وليس مع
أحلّ حراماً ،أو حرّم حللً ،فل يحرُم مِن الشروط والعقود إل ما حرّمه ا ُ
ن الصل والفرع فيه مِن الفرق ما يمنع
علِ َم أن بي َ
المانعين نصّ بالتحريم البتة ،وإنما معهم قياسٌ قد ُ
س الذي مع مَنْ أجاز ذلك أقربُ إلى مساواة الفرع لصله ،وهذا ما ل حيلة فيه،
الِلحاق ،وأن القيا َ
ل التوفيق.
وبا ّ
يوضحه الوجه السادس :وهو أن
الذين منعوا فذه الِجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتةً بالنص والِجماع ،والمقصودَ بالعقد إنما هو
حلُوا لجوازها أمراً يعلمون هم والمرضعةُ والمستأج ُر بطلنَه ،فقالوا :العقدُ إنما
اللبنُ ،وهو عينٌ ،تم ّ
وقع على وضعها الطفل في حَجرها وإلقامه ثديها فقط ،واللبن يدخل تبعاً ،وال يعلم والعقلء قاطبة
أن المر ليسَ كذلك ،وأن وضع الطفل في حَجرها ليس مقصودا أصلً ،ول ورد عليه عقدُ
ل وهو في حَجر غيرها ،أو في مهده،
الِجارة ،ل عرفاً ول حقيقةً ول شرعاً ،ولو أرضعت الطف َ
لستحقت الجرة ،ولو كان المقصودُ إلقا َم الثدي المجرد ،لستؤجر له كل امرأة لها ثدي ،ولو لم
يكن لها لبن ،فهذا هو القياسُ الفاسِدُ حقاً ،والفقه البارد ،فكيف يقال :إن إجار َة الظّئر على خلف
القياس ،ويُدعى أن هذا هو القياسُ الصحيح.
الوجه السابع :أن النبي
ض على ذلك ،وذكر ثوابَ فاعله
صلى ال عليه وسلم ،ندب إلى منيحة ال َعنْز والشاة للبنها ،وح ّ
ومعلوم أن هذا ليس ببيع ول هبة ،فإن هِبة المعدوم المجهول ل َتصِحّ ،وإنما هو عاريّة الشاة
للنتفاع بلبنها كما يُعيره الدابة لركوبها ،فهذا إباحة للنتفاع بدرها ،وكلهما في الشرع واحد ،وما
جاز أن يُستوفى بالعاريّة جاز أن يُستوفى بالِجارة ،فإن موردَهما واحد ،وإنما يختلفان في التبرع
بهذا والمعاوضة على الخر.
والوجه الثامن:
ما رواه حرب الكرماني في ((مسائله)) :حدثنا سعيد بن منصور ،حدثنا عباد بن عباد ،عن هشام
بن عروة ،عن أبيه أن أسيد بن حضير تُوفّي وعليه سِت ُة آلفِ ِدرْهمٍ دَين ،فدعا عمر بن الخطاب
ق المدينة الغالب
ل عنه ((غُرماءَه ،فَ َق َبَلهُ ْم أرضَه سنتينِ)) ،وفيها الشجر والنخلُ ،وحدائ ُ
رضي ا ّ
ض البيضاء فيها قليل ،فهذا إجارة الشجر لخذ ثمرها ،ومن ادعى أن ذلك
عليها النخلُ والر ُ
485
خلف الِجماعَ ،فمِنْ عد ِم علمه ،بل ادعاء الِجماع على جواز ذلك أقربُ ،فإن عمر رضي الّ
ظنّةِ الشتهار ،ولم
عنه فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد المهاجرين والنصار وهي قصة في مَ ِ
يُقابلها أحد بالِنكار ،بل تلقاها الصحابةُ بالتسليم والِقرار ،وقد كانوا يُنكرون ما هو دُونَها وإن فعله
ن بن حصين وغيرُه شأن متعة الحج ولم ينكر أحد هذه
عمرُ رضي الّ عنه ،كما أنكر عليه عِمرا ُ
ض القياس ،وأن المانعين منها ل بد لهم منها ،وأنهم
الواقعة ،وسنبين إن شاء الّ تعالى أنها مح ُ
يتح ّيلُون عليها بحيل ل تجوز.
الوجه
ن مِن العيان وهو المغلّ الذي يستغله
التاسع :أن المستوفَى بعقد الِجارة على زرعِ الرض هو عي ٌ
ض غير ذلك ،وإن كان له قصد جرى في النتفاع بغير
المستأجرُ ،وليس له مقصودٌ في منفعة الر ِ
الزرع ،فذلك َتبَعٌ.
فإن قيل :المعقو ُد عليه هو منفعة شَقّ الرضِ وبذرها وفلحتها والعينُ تتولّد من هذه
المنفعة ،كما لو استأجر لحفر بئر ،فخرج منها الماء ،فالمعقو ُد عليه هو نفس العمل ل الماء.
ل وسيلة مقصودةٌ لغيرها ،ليس
قيل :مستأجرُ الرض ليس له مقصود في غير المغل ،والعم ُ
حبّ بسقيه وعمله ،وهكذا
له فيه منفعة ،بل هو تعب ومشقة ،وإنما مقصودُه ما يُح ِدثُه ال مِن ال َ
ج ُر الشاة للبنها سواء مقصودُه ما يُحدثه ال من لبنها بعلفها وحفظها والقيامِ عليها ،فل فرقَ
مستأ ِ
بينهما البتة إل ما ل تُناط به الحكا ُم مِن الفروق الملغاة ،وتنظيرُكم بالستئجار لحفر البئر تنظيرٌ
فاسد ،بل نظيرُ حف ِر البئر أن يستأجر أكاراً لحرث أرضه ويبذرها ويسقيها ،ول ريب أن تنظيرَ
إجارة الحيوان للبنه بإجارة الرض لمغلها هو محضُ القياس وهو كما تقدّم أصحُ مِن التنظير
بإجارة الخبز للكل.
يوضحه الوجه العاشر وهو أن الغرر والخطر الذي في إجارة الرض لحصول
مغلها أعظمُ بكثر مِن ال َغ َر ِر الذي في إجارة الحيوان للبنه ،فإن الفات والموانعَ التي تعرض للزرع
أكثرُ مِن آفات اللبن ،فإذا اغتفر ذلك في إجارة الرض ،فلن يُغفر في إجارة الحيوان للبنه أولى
وأحرى.
فصل
فالقوال في العقد على اللبن في الضرع ثلثة.
أحدها :منعه بيعًا وإجارة وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة.
486
والثاني :جوازه بيعاً وإجارة.
والثالث :جوازه إجارة ل بيعاً ،وهو اختيار شيخنا رحمه الّ.
وفي المنع من بيع اللبن في الضرع حديثان ،أحدهما حديث عمر بن فروخ وهو ضعيف
عن حبيب بن الزبير ،عن عكرمة ،عن ابن عباس رضي الّ عنهما مرفوعاًَ (( :نهَى أن يُباع
ضرْعٍ)) ،وقد رواه أبو إسحاق عن عكرمة ،عن
سمْنٌ في َلبَنٍ ،أ ْو َلبَنٌ في َ
ظ ْهرٍ ،أو َ
صُوفٌ عَلى َ
ابن عباس رضي الّ عنهما من قوله دون ذكر السمن رواه البيهقي وغيره.
ث رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار ،حدثنا حاتم بن إسماعيل ،حدثنا
والثاني حدي ٌ
ج ْهضَمُ بن عبد الّ اليماني ،عن محمد بن إبراهيم البَاهِلي ،عن محمد بن زيد العبدي ،عن شهر بن
َ
ل صلى ال عليه وسلم عن
ل عنه قال(( :نهى رسولُ ا ّ
حوشب ،عن أبي سعيد الخُدري رضي ا ّ
شراء ما في بطون النعام حتى تضع ،وعما في ضروعها إل بكيل أو وزن ،وعن شراء العبد وهو
آبق ،وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض ،وعن ضربة الغائص))،
ولكن لهذا الِسناد ل تقومُ به حجة ،والنهي عن شراء ما في بطون النعام ثابتٌ بالنهي عن الملقيح
والمضامين ،والنهي عن شراء العبد البق ،وهو آبق معلومٌ بالنهي عن بيع الغرر ،والنهي عن
شراء المغانم حتى تُقْسَمَ داخل في النهي عن بيع ما ليس عنده ،فهو بي ُع غررٍ ومخاطرة ،وَكذلك
ل قبضه مع انتقاله
ي صلى ال عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قب َ
الصدقاتُ قبلَ قبضها ،وإذا كان النب ّ
إلى المشتري وثبوت ملكه عليه ،وتعيينه له ،وانقطاع تعلق غيره به ،فالمغانمُ والصدقات قبل
قبضها أولى بالنهي .وأما ضربةُ الغائِص ،فغرر ظاهر ل خفا َء به.
وأما بيعُ اللبن في الضرع ،فإن كان معينًا لم يمكن تسلي ُم المبيع بعينه ،وإن
كان بي َع لبن موصوف في الذمة ،فهو نظيرُ بيع عشرة أقفزة مطلقة مِن هذه الصبرة وهذا النوع له
جهتان :جهة إطلق وجهةُ تعيين ،ول تنافي بينهما ،وقد دل على جوازه نهي النبي صلى ال عليه
وسلم أن يُسلم في حائط بعينه إل أن يكون قد بدا صلحُه ،رواه الِمام أحمد .فإذا أسلم إليه في كيل
معلوم مِن لبن هذه الشاة وقد صارت لبوناً ،جاز ،ودخل تحت قوله(( :ونهى عن بيع ما في
ن لبيعه بالكيل والوزن معيناً أو مطلقاً ،لنه لم يُفصّل ،ولم
ضروعها إل بكيل أو وزن)) ،فهذا إذ ٌ
ل والوزنِ ،ولو كان التعيين شرطًا لذكره.
يشترط سوى الكي ِ
فإن قيل فما تقولون لو باعه لبنها أيامًا معلومة من غير كيل ول وزن.
487
قيل :إن ثبت الحديثُ ،لم يجز بيعُه إل بكيل أو وزن ،وإن لم يثبت ،وكان لبنُها معلوماً ل
يختِلفُ بالعادة ،جاز بيعُه أياماً ،وجرى حكمُه بالعادة مجرى َك ْيلِهِ أو وزنه ،وإن كان مختلفاَ فمرة
يزيدُ ،ومرة َينْقُصُ ،أو ينقطعُ ،فهذا غرر ل يجوز ،وهذا بخلفِ الِجارة ،فإنّ اللبن يحدُث على
ص اللبنُ عن
غ َررَ في ذلك ،نعم إن نَقَ َ
مُلكه بعلفه الدابة كما يحدُث الحبُ على ملكه بالسّقي ،فل َ
العادة ،أو انقطع ،فهو بمنزلة نُقصان المنفعة في الِجارة ،أو تعطيلها يثبت للمستأجر حق الفسخ،
أو ينقص عنه من الجرة بقدر ما نقص عليه من المنفعة ،هذا قياسُ المذهب ،وقال ابن عقيل،
وصاحب ((المغني)) :إذا اختار الِمساك لزمته جميعُ الجرة ،لنه رضي بالمنفعة ناقصةَ ،فل ِزمَه
ص مِن
ط عنه من الجرة بقدر ما نَقَ َ
جمي ُع ال ِعوَض ،كما لو رضي بالمبيع معيبا ،والصحيحُ أنه يسقُ ُ
المنفعة ،لنه إنما بذل العوضَ الكامِلَ في منفعة كاملةٍ سليمة ،فإذا لم تسلم له ،لم يلزمه جميعُ
العوض.
وقولهم :إنه رضي بالمنفعة معيبة ،فهو كما لو رضي بالبيع معيباً ،جوابه مِن وجهين.
أحدهما :أنه إن رضي به معيباً ،بأن يأخذ أرشه كان له ذلك على ظاهر المذهبَ ،ف ِرضَاهُ
بالعيب مع الرش ل يُسقط حقه.
الثاني :إن قلنا :إنه ل أرش لممسك له الرد ،لم يلزم سقوط الرش في الِجارة ،لنه قد
ن عليه ضرر في رد
ض المعقود عليه ،فلم يُمكنه ر ّد المنفعة كما قبضها ،ولنه قد يكو ُ
استوفى بع َ
باقي المنفعة ،وقد ل يتمكن من ذلك ،فقد ل يجد بداً من الِمساك ،فإلزامُه بجميع الجرة مع العيب
المنقص ظاهراً ،ومنعه من استدراك ظلمته إل بالفسخ ضرر عليه ،ول سيما لمستأجر الزرع
ب أنه ل أرش في المبيع
ب في الطريق ،فالصوا ُ
والغرس والبناء ،أو مستأجر دابة للسفر فتتعي ُ
لممسك له الرد ،وأنه في الِجارة له الرش.
والذي يُوضح هذا أن النبيّ صلى ال عليه وسلم حكم بوضع الجوائح وهي أن يسقط عن
مشتري الثمار من الثمرة ،بقدر ما أذهبت عليه الجائحة مِن ثمرته ويُمسك الباقي بقسطه من الثمن،
وهذا لن الثمار لم تستكمل صلحها دفعة واحدة ،ولم تجر العادةُ بأخذها جملة واحدة ،وإنما تؤخذ
شيئاً فشيئأ ،فهي بمنزلة المنافع في الِجارة سواء ،والنبي صلى ال عليه وسلم في المصرّاة خيّر
المشتري بين الرد وبين الِمساك بل أرشٍ ،وفي الثمار جعل له الِمساك مع الرش ،والفرقُ ما
ذكرناه ،والِجارة أشب ُه ببيع الثمار ،وقد ظهر اعتبا ُر هذا الشبه في وضع الشارع الجائحة قبل
قبض الثمن .فإن قيل :فالمنافع ل تُوضع فيها الجائحةُ باتفاق العلماء.
488
ن ذلك ،فقد وهم ،قال شيخُنا :وليس
قيل ليس هذا مِن باب وضع الجوائح في المنافع ،ومَن ظ ّ
هذا مِن باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثمر المشترى ،بل هو من باب تلف المنفعة
المقصودة بالعقد أو فواتها ،وقد اتفق العلماءُ على أن المنفعة في الِجارة إذا تلفت قبل التمكن مِن
ل التمكن ،مِن قبضه وهو بمنزلة
استيفائها ،فإنه ل تجب الجرة مثل أن يستأجر حيواناً فيموت قب َ
أن يشتريَ قفيزًا مِن صُبرة فتتلفَ الصّبرةُ قبل القبض والتمييز ،فإنه مِن ضمان البائع بل نزاع،
ولهذا لو لم يتمكن المستأجر مِن ازدراع الرض لِفة حصلت لم يكن عليه الجرةُ.
وإن نبت الزرع ،ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن مِن حصاده ،ففيه نزاع ،فطائفة
ن الثمرة والمنفعة قالوا :الثمرة هي
ألحقته بالثمرة والمنفعة ،وطائفة فرقت ،والذين فرّقوا بينه وبي َ
المعقود عليها وكذلك المنفعة ،وهنا الزرع ليس معقودًا عليه ،بل المعقو ُد عليه هو المنفعة وقد
س ّووْا بينهما ،قالوا المقصودُ بالِجارة هو الزرعُ ،فإذا حالت الفةُ السماوية بينَه
استوفاها ،والذين َ
وبينَ المقصودِ بالِجارة ،كان قد تلف المقصودُ بالعقد قبل التمكن مِن قبضه ،وإن لم يُعاوض على
زرع ،فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها المستأجر مِن حصول الزرع ،فإذا حصلت الفةُ
ل التمكن مِن حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها ،بل تلفت قبل التمكن
السماوية المفسد ُة للزرع قب َ
ن تعطيل منفعة الرض في أول المدة أو في آخرها إذا لم يتمكن من
مِن النتفاع ،ول فرق بي َ
استيفاء شيء من المنفعة ،ومعلوم أن الفة السماوية إذا كانت بع َد الزرع مطلقاً بحيث ل يتمكن من
النتفاع بالرض مع تلك الفة ،فل فرق بين تقدمها وتأخرها.
فصل
ل به ،ولم تسغ
ب القو ُ
وأما بيعُ الصوف على الظهر ،فلو صحّ فذا الحديثُ بالنهي عنه ،لوج َ
ج ّزهِ في الحال ،ووجه
مخالفته وقد اختلف الروايةُ فيه عن أحمد ،فمر ًة منعه ،ومرّة أجازه بشرط َ
هذا القول أنه معلوم يُمكن تسليمُه ،فجاز بيعُه كالرطبة ،وما يقدر من اختلط المبيع الموجود
بالحادث على ملك البائع يزولُ بج ّزهِ في الحال ،والحادث يسير جدًا ل يمكن ضبطُه ،هذا ولو قيل
بعدم اشتراط جزّه في الحال ،ويكون كالرطبة التي تؤخذ شيئاً فشيئاً ،وإن كانت تطول في زمن
أخذها كان له وجه صحيح ،وغايته بيع معدوم .لم يخلق تبعاً للموجود ،فهو كأجزاء الثمار التي لم
تُخلق ،فإنها تتبع الموجود منها ،فإذا جعل للصوف وقتاً معينًا يُؤخذ فيه كان بمنزلة أخذ الثمرة
وقتَ كمالها.
489
ويُوضح هذا أن الذين منعوه قاسوه على أعضاء الحيوان وقالوا :متصلٌ بالحيوان فلم يجز
إفراده بالبيع كأعضائه ،وهذا من أفسدِ القياس ،لن العضاء ل يُمكن تسليمها مع سلمة الحيوان.
فإن قيل :فما الفرق بينه وبين اللبن في الضرع وقد سوغتم هذا دونه؟ قيل :اللبن في
الضرع ،يختلط ملك المشتري فيه بملك البائع سريعاً ،فإن اللبن سريع الحدوث كلما حلبهَ ،درّ،
بخلف الصوف .وال أعلم وأحكم.
490