Professional Documents
Culture Documents
الرحالة ك
طبائع الستبداد
و
مصارع الستعباد
2
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة الكتاب
صلة الحمد للّه ،خالق الكون على نظام ٍ محكم متين ،وال ّ
سلم على أنبيائه العظام ،هداة المم إلى الحقّ المبين، وال ّ
ي الذي أرسله رحمة للعالمين ي العرب ّ لسيما منهم على النب ّ
ليرقى بهم معاشا ً ومعادا ً على سلّم الحكمة إلى علّيين.
ضعيف ل وأنا مسلم عربي مضطر للكتتام شأن ال ّ أقو ُ
صادع بالمر ،المعلن رأيه تحت سماء الشرق ،الّراجي اكتفاء ال ّ
من قال :وتعرف الحقّ في ذاته ل بالرجال، المطالعين بالقول ع ًّ
ت دياري إنني في سنة ثماني عشر وثلثمائة وألف هجرية هجر ُ
ت مصر ،واتخذتها لي مركزا ً أرجع إليه شرق ،فزر ُ سرحا ً في ال ّ
ي عم النّبي مغتنما ً عهد الحّريّة فيها على عهد عزيزها حضرة سم ًّ
ت
( العباس الثاني ) النّاشر لواء المن على أكناف ملكه ،فوجد ُ
ة
شرق خائض ٌ أفكار سراة القوم في مصر كما هي في سائر ال ّ
عباب البحث في المسألة الكبرى ،أعني المسألة الجتماعية في
شرق عموما ً وفي المسلمين خصوصاً ،إنما هم كسائر الباحثين، ال ّ
ث ل يذهب مذهبا ً في سبب النحطاط وفي ما هو الدواء .وحي ُ ك ّ
ن أصل الدّاء هو الستبداد حص عندي أ ّ إني قد تم ّ
ََ
شورى الدّستورية .وقد استق َّر سياسي ودواؤه دفعه بال ّ ال ّ
ل نبأ مستقراًـ بعد بحث ثلثين عاماً... ن لك ُ ّ فكري على ذلك ـكما أ ّ
مل ما يخطُر على البال من سبب يتوهّ ُ ه يكاد يشمل ك ّ بحثا ً أظن ّ ُ
م
ه ظفر بأصل الدّاء أو بأه ّ فيه الباحث عند النظرةِ الولى ،أن ُ
ن يكشف له التّدقيق أنّه لم يظفر بشيء، ن؛ ل يلبث أ ْ أصوله ،ولك ْ
ن ذلك فرع ٌ ل أصل ،أو هو نتيجة ل وسيلة . أو أ ّ
ن ن أصل الدّاء التّهاون في الدّين ،ل يلبث أ ْ ل مثلً :إ ّ
فالقائ ُ
يقف حائرا ً عندما يسأل نفسه لماذا تهاون النّاس في الدّين؟
ن الدّاء اختلف الراء ،يقف مبهوتا ً عند تعليل سبب والقائل :إ ّ
ل عليه وجود الختلف شك ُ ُ
الختلف .فإن قال :سببه الجهل ،ي َ ْ
بين العلماء بصورة أقوى وأشدّ ...وهكذا؛ يجد نفسه في حلقة
مفرغة ل مبدأ لها ،فيرجع إلى القول :هذا ما يريده الله بخلقه، ُ
م... ل رحي ٌ م عاد ٌ ن الله حكي ٌغير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأ ّ
3
ة لفكر المطالعين ،أعدّد لهم المباحث التي وإنّي ،إراح ً
ت حتّى بحياتي في ت نفسي في تحليلها ،وخاطر ُ طالما أتعب ُ
ت على الّرأي القائل درسها وتدقيقها ،وبذلك يعلمون أنّي ما وافق ُ
ح
سياسي إل بعد عناءٍ طويل يرج ُ ن أصل الدّاء هو الستبداد ال ّ بأ ّ
ن نيَّتي شفيع
حس َ ن يجعل ُ ت الغرض .وأرجو الله أ ْ قد أصب ُ
سيئاتي ،وهاهي المباحث:
ت في أشهر جرائدها بعض في زيارتي هذه لمصر ،نشر ُ
مقالت سياسية تحت عنوانات الستبداد :ما هو الستبداد وما
تأثيره على الدّين ،على العلم ،على التّربية على الخلق ،على
المجد ،على المال ...إلى غير ذلك.
ت تكليف بعض الشبيبة، ة أجب ُ ثم في زيارتي إلى مصر ثاني ً
ت تلك المباحث خصوصا ً في الجتماعيات كالتربية سع ُفو ّ
ُّ
توالخلق ،وأضفت إليها طرائق التخلص من الستبداد ،ونشر ُ
ميته (طبائع الستبداد ومصارع الستعباد) ذلك في كتاب س َّ
ة مني للنّاشئة العربية المباركة البية المعقودة آمال وجعلته هدي ً
ن نواصيهم .ول غروَ ،فل شباب إل بالشباب. م ِ المة بي ُ ْ
ت الكتاب قد نفد في م في زيارتي هذه ،وهي الثالثة ،وجد ُ ث ّ
ت أن أعيد النّظر فيه ،وأزيده زيدا ً مما درست ُ ُ
ه برهةٍ قليلة ،فأحبب ُ
ت في هذا السبيل فضبطتُه ،أو ما اقتبستُه وطبَّقتُه ،وقد صرف ُ
عمرا ً عزيزا ً وعناءً غير قليل ...وأنا ل أقصد في مباحثي ظالماً
ت بيان طبائع الستبداد مة مخصصة ،وإنما أرد ُ ة وأ َّ بعينه ول حكوم ً
وما يفعل ،وتشخيص مصارع الستعباد وما يقضيه ويمضيه على
ذويه ...ولي هناك قصد ٌ آخر؛ وهو التنبيه لمورد الداء الدّفين،
لَ
عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم ،أنهم هم المتسببون لما ح ّ
بهم ،فل يعتبون على الغيار ول على القدار ،إنما يعتبون على
ق من الجهل وفَقْد ِ الهمم والتّواكل ..وعسى الذين فيهم بقية رم ٍ
الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات...
ت في النشاء أسلوب القتضاب ،وهو السلوب وقد تخيّر ُ
سهل المفيد الذي يختاره كُتَّاب سائر اللغات ،ابتعادا ً عن قيود ال ّ
التعقيد وسلسل التّأصيل والتّفريغ .هذا وإنّي أخالف أولئك
المؤل ِّفين ،فل أتمنى العفو عن الزلل؛ إنما أقول:
هذا جهدي ،وللناقد الفاضل أن يأتي قومه بخير منه .فما أنا
سعه، إل فاتح باب صغير من أسوار الستبداد .عسى الزمان يو ِّ
ي المهتدين. والله ول ُّ
1320هـ1902 -م
4
مقدمة
5
سموا كل ً منها إلى أبواب اقتصادية ،وسياسة حقوقية ،إلخ .وق ّ
شتَّى وأصول وفروع.
خرون من الشرقيين ،فقد وُجد من التّرك كثيرون ما المتأ ِّوأ ّ
ألّفوا في أكثر مباحثه تآليف مستقلة وممزوجة مثل :أحمد جودة
ّ
باشا ،وكمال بك ،وسليمان باشا ،وحسن فهمي باشا ،والمؤلّفون
من العرب قليلون ومقلّون ،والذين يستحقّون الذكر منهم فيما
نعلم :رفاعة بك ،وخير الدّين باشا التّونسي ،وأحمد فارس،
وسليم البستاني،والمبعوث المدني.
سياسيين من العرب قد ن المحّرِرين ال ّ ن؛ يظهر لنا أ ّ ولك ْ
كثروا ،بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلت في
ن أُذكّر حضراتهم على مواضع كثيرة .ولهذا ،لح لهذا العاجز أ ْ
سياسية، م المباحث ال ّ لسان بعض الجرائد العربية بموضوع هو أه ّ
ل من طرق بابه منهم إلى الن ،فأدعوهم إلى ميدان وق َّ
المسابقة في خير خدمة ينيرون بها أفكار إخوانهم الشرقيين
وينبِّهونهم ـ لسيما العرب منهم ـ لما هم عنه غافلون ،فيفيدونهم
شرق وما بالبحث والتّعليل وضرب المثال والتّحليل (ما هو داء ال ّ
هو دواؤه؟).
شؤون سياسة بأنّه هو «إدارة ال ّ ما كان تعريف علم ال ّ ول ّ
سياسة المشتركة بمقتضى الحكمة» يكون بالطّبع أوّل مباحث ال ّ
شؤون المشتركة مها بحث (الستبداد)؛ أي التّصُّرف في ال ّ وأه ّ
بمقتضى الهوى.
ن المتكل ِّم في الستبداد عليه أن يلحظ تعريف وإنّي أرى أ ّ
وتشخيص ((ما هو الستبداد؟ ما سببه؟ ما أعراضه؟ ما سيره؟ ما
مل تفصيلت إنذاره؟ ما دواؤه؟)) وك ُّ
ل موضوع من ذلك يتح ّ
كثيرة ،وينطوي على مباحث شتّى من أمهاتها :ما هي طبائع
الستبداد؟ لماذا يكون المستبد ُّ شديد الخوف؟ لماذا يستولي
الجبن على رعية المستبدّ؟ ما تأثير الستبداد على الدّين؟ على
العلم؟ على المجد؟ على المال؟ على الخلق؟ على التَّرقِّي؟
على التّربية؟ على العمران؟
مل الستبداد؟ كيف يكون ن هم أعوان المستبدّ؟ هل يُتح ّ م ْ
َ
التّخلص من الستبداد؟ بماذا ينبغي استبدال الستبداد؟
قبل الخوض في هذه المسائل يمكننا أن نشير إلى النّتائج
التي تستقُّر عندها أفكار الباحثين في هذا الموضوع ،وهي نتائج
متَّحدة المدلول مختلفة التعبير على حسب اختلف المشارب
والنظار في الباحثين ،وهي:
يقول المادي :الدّاء :القوة ،والدّواء :المقاومة.
6
سياسي :الدّاء :استعباد البرية ،والدّواء: ويقول ال ّ
استرداد الحّريّة.
ويقول الحكيم :الدّاء :القدرة على العتساف ،والدّواء:
القتدار على الستنصاف.
شريعة، سلطة على ال ّ ويقول الحقوقي :الدّاء :تغلّب ال ّ
سلطة. شريعة على ال ّ والدّواء :تغليب ال ّ
ويقول الّربّاني :الدّاء :مشاركة الله في الجبروت،
والدّواء :توحيد الله حقّاً.
ما أهل العزائم:وهذه أقوال أهل النظر ،و أ ّ
ي :الدّاء :مد ُّ الّرقاب للسلسل ،والدّواء: فيقول الب ُّ
شموخ عن الذ ّل. ال ّ
ويقول المتين :الدّاء :وجود الّرؤساء بل زمام ،والدّواء:
ربطهم بالقيود الثّقال.
ويقول الحّر :الدّاء :التّعالي على النّاس باطلً ،والدّواء:
تذليل المتكبّرين.
بُ
ب الحياة ،والدّواء :ح ّ ُ ويقول المفادي :الدّاء :ح ّ
الموت.
7
ما هو الستبداد
8
ن الستبداد ل يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط وعن قوَّة المراقِبة؛ ل َّ
شّرِعين، م َمنَفِّذ ُون مسؤولين لدى ال ُ في المسؤولية ،فيكون ال ُ
مة التي تعرف أنَّها صاحبة مة ،تلك ال َّ وهؤلء مسؤولين لدى ال َّ
ن تتقاضى الحساب. ن تراقب وأ ْ شأن كلّه ،وتعرف أ ْ ال ّ
شيطان هي وأشد ّ مراتب الستبداد التي يُتعوَّذ بها من ال ّ
حكومة الفرد المطلق ،الوارث للعرش ،القائد للجيش ،الحائز
ن هذه ن نقول كلّما ق َّ
فم ْ ص ٌ ل َو ْ على سلطة دينية .ولنا أ ْ
ن ينتهي بالحاكم المنتخب الموقت ف الستبداد إلى أ ْ الوصاف؛ خ َّ
ل عدد ف الستبداد ـ طبعاًـ كلّما ق َّ المسؤول فعلً .وكذلك يخ ُّ
ل التّفاوت في ل الرتباط بالملك الثّابتة ،وق َّ نفوس الَرعية ،وق َّ
ّ
شعب في المعارف. َ ّ
الثّروة وكلما ترقّى ال ّ
ن الحكومة من أيّ نوع كانت ل تخرج عن وصف الستبداد؛ إ َّ
شديدة والحتساب الّذي ل تسامح ما لم تكن تحت المراقبة ال َّ
م على فيه ،كما جرى في صدر السلم في ما نُقِم على عثمان ،ث َّ
ي رضي الله عنهما ،وكما جرى في عهد هذه الجمهورية عل ّ
الحاضرة في فرنسا في مسائل النّياشين وبناما ودريفوس.
ة وتاريخاـً أنَّه؛ ما من حكومة ومن المور المقَّررة طبيع ً
ُ
مة أو التَّمك ّن عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة ال ّ
من إغفالها إل ّ وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الستبداد ،وبعد أ ْ
ن
تتمكَّن فيه ل تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين:
َ
المنظ ّمة .وهما أكبر مصائب المم وأه ّ
م
َ
مة ،والجنود جهالة ال َّ
معائب النسانية ،وقد تخل ّصت المم المتمدُّنة ـ نوعا ً ماـ من
شدة ن؛ بُليت بشدة الجندية الجبرية العمومية؛ تلك ال ّ الجهالة ،ولك ْ
التي جعلتها أشقى حياة ً من المم الجاهلة ،وألصق عاراً
ح أن يقال :إ َّ
ن بالنسانية من أقبح أشكال الستبداد ،حتَّى ربَّما يص ّ
شيطان؛ فقد انتقم من آدم في مخترع هذه الجندية إذا كان هو ال ّ
ن ينتقم! نعم؛ إذا ما دامت هذه الجندية أولده أعظم ما يمكنه أ ْ
ُّ
التي مضى عليها نحو قرنَيْن إلى قرن آخر أيضا ً تنهك تجلد المم،
وتجعلها تسقط دفعة واحدة .ومن يدري كم يتعجب رجال
الستقبال من تََرقِّي العلوم في هذا العصر ترقِّيا ً مقرونا ً باشتداد
هذه المصيبة التي ل تترك محل ً لستغراب إطاعة المصريين
ن تلك ل تتجاوز التّعب للفراعنة في بناء الهرامات سخرة؛ ل َّ
ثمة؛ حي ُ ما الجندية فتُفسد أخلق ال ّ وضياع الوقات وأ ّ
شراسة والطّاعة العمياء والتِّكال ،وتُميت تُعل ِّمها ال ّ
مة النفاق الذي النّشاط وفكرة الستقلل ،وتُكل ِّف ال ّ
ل ذلك منصرف لتأييد الستبداد المشؤوم: ل يطاق؛ وك ُ ُّ
9
وة من جهة، استبداد الحكومات القائدة لتلك الق َّ
واستبداد المم بعضها على بعض من جهة أخرى.
ولنرجع لصل البحث فأقول :ل يُعهد في تاريخ الحكومات
المدنية استمرار حكومة مسؤولة مدَّة أكثر من نصف قرن إلى
غاية قرن ونصف ،وما شذ َّ من ذلك سوى الحكومة الحاضرة في
سبب يقظة النكليز الذين ل يُسكرهم انتصار ،ول إنكلترا ،وال ّ
نَ َ
يُخملهم انكسار ،فل يغفلون لحظة عن مراقبة ملوكهم ،حت ّى أ ّ
ه فضل ً عن الّزوجة م ُ ش َ ح َ هو َم ُ خد َ َ
الوزارة هي تنتخب للملك َ
ل شيء ما عدا َ صهر ،وملوك النكليز الذين فقدوا منذ قرون ك ّ وال ّ
ن؛ هيهات ه حالً ،ولك ْ م ُ َ
التّاج ،لو تسنّى الن لحدهم الستبداد لغَن ِ َ
ن يظفر بغرة من قومه يستلم فيها زمام الجيش. أ ْ
َ
ما الحكومات البدويّة التي تتأل ّف رعيتها كلّها أو أكثرها من أ ّ
ت
س ْ َ
عشائر يقطنون البادية ،يسهل عليهم الّرحيل والت ّفّرق متى م َّ
شخصية ،وسامتْهم ضيماً ،ولم يقووا على حكومتُهم حّريّتهم ال ّ
الستنصاف؛ فهذه الحكومات قلّما اندفعت إلى الستبداد .وأقرب
مثال لذلك أهل جزيرة العرب ،فإنَّهم ل يكادون يعرفون الستبداد
حميْر وغسان إلى الن إل ّ فترات قليلة. من قبل عهد ملوك تبّع و ُ
ن الحالة البدوية بعيدة بالجملة عن الوقوع وأصل الحكمة في أ َّ
ن نشأة البدويّ نشأة استقللية؛ بحيث تحت نير الستبداد ،وهو أ َّ
ن يعتمد في معيشته على نفسه فقط ،خلفاً ل فرد يمكنه أ ْ ك ُّ
ي الطبع ،تلك القاعدة التي أصبحت سخرية لقاعدة النسان المدن ّ
ن النسان من خرين ،القائلين بأ َّ عند علماء الجتماع المتأ ِّ
الحيوانات التي تعيش أسرابا ً في كهوف ومسارح مخصوصة،
ما الن فقد صار من الحيوان الذي متى انتهت حضانته؛ عليه وأ ّ
ل الرتباط، ن يعيش مستقل ً بذاته ،غير متعلّق بأقاربه وقومه ك ّ أ ْ
ُّ ول مرتبط ببيته وبلده ك ّ
ل التّعلق ،كما هي معيشة أكثر النكليز
ُّ والمريكان الذين يفتكر الفرد منهم أ َّ
ن تعلقه بقومه وحكومته
ليس بأكثر من رابطة شريك في شركة اختيارية ،خلفا ً للمم
التي تتبع حكوماتها حتى فيما تدين.
ن السراء يعيشون متلصقين ُ النّاظر في أحوال المم يرى أ َّ
ظ بعضهم ببعض من سطوة الستبداد ،كالغنم متراكمين ،يتحفَّ ُ
ما العشائر والمم الحّرة ف حول بعضها إذا ذعرها الذ ّئب ،أ ّ تلت ُّ
متَفّرِقين.ل النّاجز فيعيشون ُ المالك أفرادها الستقل َ
َ
خرون منهم ـ في وقد تكل ّم بعض الحكماء ـ ل سيَّما المتأ ِّ
وصف الستبداد ودوائه بجمل بليغة بديعة تُصوِّر في الذهان
شقاء النسان ،كأنَّها تقول له هذا عدوَّك فانظر ماذا تصنع ،ومن
هذه الجمل قولهم:
10
«المستبدّ :يتحكَّم في شؤون النّاس بإرادته ل بإرادتهم،
ويحكمهم بهواه ل بشريعتهم ،ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب
المتعدِّي فيضع كعب رجله على أفواه المليين من النَّاس يسدُّها
عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمطالبته».
حيّة وقاتلهما ،والحق أبو «المستبدّ :عدوّ الحقّ ،عدوّ ال ّ
مهم ،والعوام صبية أيتام ل يعلمون شيئاً، البشر ،والحّريّة أ ّ
ن دعوهم ن أيقظوهم هبّوا ،وإ ْ والعلماء هم إخوتهم الّراشدون ،إ ْ
لبّوا ،وإل فيتَّصل نومهم بالموت».
«المستبدّ :يتجاوز الحد ّ ما لم يَر حاجزا ً من حديد ،فلو رأى
الظّالم على جنب المظلوم سيفا ً لما أقدم على الظّلم ،كما
يقال :الستعداد للحرب يمنع الحرب».
شر وباللجاء للخير، ن مستعد ٌّ بالطّبع لل ّ «المستبدّ :إنسا ٌ
شر فتلجئ حاكمها ن تعرف ما هو الخير وما هو ال ّ فعلى الّرعية أ ْ
َّ
للخير رغم طبعه ،وقد يكفي لللجاء مجَّرد الطلب إذا علم الحاكم
ن مجرد الستعداد للفعل ن وراء القول فعلً .ومن المعلوم أ َّ أ َّ
فعل يكفي شَّر الستبداد».
ة ،وكالكلب ن تكون رعيته كالغنم دّرا ً وطاع ً «المستبدّ :يود ُّ أ ْ
ُ ُ
ت، خدم ْ مت َ خد ِ َ
ن ُ ن تكون كالخيل إ ْ تذل ّل ً وتمل ّقاً ،وعلى الَّرعية أ ْ
شرست ،وعليها أن تكون كالصقور ل تُلعب ول ضربت َ ن ُ ِ
وإ ْ
صيد كل ِّه ،خلفا ً للكلب التي ل فرق عندها يُستأثر عليها بال ّ
حرمت حتَّى من العظام .نعم؛ على الّرعية أن تعرف َ
أطُعِمت أو ُ ِ
خلق ن عدل أو جار ،و ُ خلِقت خادمة لحاكمها ،تطيعه إ ْ مقامها :هل ُ
هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف؟ أم هي جاءت به
ليخدمها ل يستخدمها؟ ..والَّرعية العاقلة تقيَّد وحش الستبداد
بزمام تستميت دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه ،فإن شمخ
ن صال ربطتْه». هَّزت به الّزمام وإ ْ
من أقبح أنواع الستبداد استبداد الجهل على العلم،
مى استبداد المرء على نفسه، واستبداد النّفس على العقل ،ويُس ّ
خلَقَ النسان حّراً ،قائده العقل ،فكفََر ت نعمه َ ن الله جل ّ ْ وذلك أ َّ
ما ً وأباًخر له أ َّ خلَقَه وس َّ ن يكون عبدا ً قائده الجهلَ . وأبى إل أ ْ
ما ً والعمل م جعل له الرض أ ّ يقومان بأوده إلى أن يبلغ أشدّه ،ث َّ
خلَقَ له مه وحاكمه أباهَ . متُه أ ّ أباً ،فَكَفَر وما رضي إل أن تكون أ َّ
إدراكا ً ليهتدي إلى معاشه ويتّقي مهلكه ،وعيْنَيْن ليبصر ،ورجليْن
ليسعى ،ويديْن ليعمل ،ولسانا ً ليكون ترجمانا ً عن ضميره ،فكَفََر
ل ،الكذوب، ن يكون كالبله العمى ،المقعد ،الش ّ ب إل أ ْ وما أح َّ
ه منفرداً َ ينتظر ك ُ َّ
خلَقَ ُ ي من غيره ،وقل ّما يطبق لسانه جنانهَ . لش ْ
غير متَّصل بغيره ليملك اختياره في حركته وسكونه ،فكَفََر وما
11
ماها الوطن ،وتشابك استطاب إل الرتباط في أرض محدودة س َّ
خلَقَهبالنّاس ما استطاع اشتباك تظالُم ل اشتباك تعاونَ ...
ليشكره على جعله عنصرا ً حيّا ً بعد أن كان تراباً ،وليلجأ إليه عند
الفزع تثبيتا ُ للجنان ،وليستند عليه عند العزم دفعا ً للتردُّد ،وليثق
ط في خل َ َ
شكَْره و َ بمكافأته أو مجازاته على العمال ،فكَفََر وأبى ُ
خلَقَه يطلب صحيح بالباطل ليغالط نفسه وغيرهَ . دين الفطرة ال ّ
ل المنفعة بأي وجه َ منفعته جاعل ً رائده الوجدان ،فكَفََر ،واستح ّ
محَّرم كبير .خلقه صل ً ل ُ كان ،فل يتعفّف عن محظور صغير إل تو ُّ
وبذل له مواد الحياة ،من نور ونسيم ونبات وحيوان ومعادن
وعناصر مكنوزة في خزائن الطّبيعة ،بمقادير ناطقة بلسان
ن واهب الحياة حكيم خبير جعل مواد الحياة أكثر لزوماً الحال ،بأ َّ
ة الله وأبى أن ن نعم َ في ذاته ،أكثر وجودا ً وابتذالً ،فكَفََر النسا ُ
ه ربُّه إلى نفسه ،وابتله بظلم نفسه َ
يعتمد كفالة رزقه ،فوك ّل ُ
وظُلْم جنسه ،وهكذا كان النسان ظلوما ً كفوراً.
الستبداد :يَد ُ الله القويّة الخفيّة يصفعُ بها رقاب البقين من
جنّة عبوديَّته إلى جهنَّم عبودية المستبدِّين الذين يشاركون الله
في عظمته ويعاندونه جهاراً ،وقد ورد في الخبر« :الظّالم سيف
ن أعان م ْينتقم منه» ،كما جاء في أثرٍ آخرَ « : مالله ينتقم به ،ث َّ
َ سل ّطَه الله عليه» ،ول ش ّ َ
ن إعانة ك في أ َّ ظالما ً على ظلمه َ
الظّالم تبتدئ من مجَّرد القامة على أرضه.
الستبداد :هو نار غضب الله في الدّنيا ،والجحيم هو نار
غضبه في الخرة ،وقد خلق الله النّار أقوى المطهِّرات ،فَيُطَهِّر
ط لهم الرض واسعة، س َ ن خلقهم أحراراً ،وب َ َ سم ْ بها في الدّنيا دَن َ َ
ل فيها رزقهم ،فكَفَروا بنعمته ،ورضخوا للستعباد والتَّظالم. وبذ َ
جل الله به النتقام من عباده الستبداد :أعظم بلء ،يتع َّ
الخاملين ،ول يرفعه عنهم حتَّى يتوبوا توبة النفة .نعم؛ الستبداد
ب مستمٌّر بتعطيل العمال، جد ْ ٌ أعظم بلء؛ لنَّه وباء دائم بالفتن و َ
ف للعمران، ل جار ٌ صب ،وسي ْ ٌ سلب والغ ْ ل بال َّ وحريقٌ متواص ٌ
م ل يفتر ،وصائ ٌ
ل م يعمي البصار ،وأل ٌ ف يقطع القلوب ،وظل ٌ وخو ٌ
ل :لماذا يبتلي الله ل يرحم ،وقصة سوء ل تنتهي .وإذا سأل سائ ٌ
ق
ل مطل ٌ ن الله عاد ٌ سكِت هو :إ َّ م ْ عبادَه بالمستبدِّين؟ َفأبلغُ جواب ُ
ل يظلم أحداً ،فل يُول ّى المستبد ّ إل على المستبدِّين .ولو نظر
ل فرد من أُسراء الستبداد سائل نظرة الحكيم المدقِّق لوجد ك ُ َّ ال ّ
مستبدّا ً في نفسه ،لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه ُ
َ َ ُ َّ
ه تابعين لرأيه وأمره. والبشر كلهم ،حت ّى ورب ّه الذي خلقَ ُ
فالمستبدُّون يتولهم مستبدّ ،والحرار يتولهم الحرار ،وهذا
َ
صريح معنى« :كما تكونوا يُول ّى عليكم».
12
ض أن يتحوَّل عنها إلى حي ُ
ث يملك ما أليقَ بالسير في أر ٍ
ن الكلب الطّليق خيُر حياة ً من السد المربوط.
حّريّته ،فإ َّ
الستبداد والدّين
13
ن ل خلص ول مناص لهم إل باللتجاء إلى سكان يرشدونهم إلى أ ْ
القبور الذين لهم دالة ،بل سطوة على الله فيحمونهم من غضبه.
سياسيين يبنون كذلك استبدادهم على ن ال ّ ويقولون :إ َّ
شخصي س من هذا القبيل ،فهم يسترهبون النّاس بالتّعالي ال ّ أسا ٍ
ب الموال حتَّى سي ،ويُذل ِّلونهم بالقهر والقوّة وسل ِ والتّشامخ الح ّ
يجعلونهم خاضعين لهم ،عاملين لجلهم ،يتمتَّعون بهم كأنَّهم نوع
من النعام التي يشربون ألبانها ،ويأكلون لحومها ،ويركبون
ظهورها ،وبها يتفاخرون.
ن هذا التَّشاكل في بناء ونتائج الستبدادَيْن؛ الدِّيني ويرون أ َّ
سياسي ،جعلهما في مثل فرنسا خارج باريس مشتركَيْن في وال ّ
َ
نالعمل ،كأن ّهما يدان متعاونتان ،وجعلهما في مثل روسيا مشتبكَي ْ ِ
جلن الشقاء على المم. في الوظيفة ،كأنَّهما اللوح والقلم يُس ِّ
ن هذا التَّشاكل بين القوّتَيْن ينجُّر بعوام البشرـ ويُقّرِرون أ َّ
ن يلتبس عليهم الفرق بين الله وهم السواد العظم ـ إلى نقطة أ ْ
مطاع بالقهر ،فيختلطان في مضايق المعبود بحقّ وبين المستبد ّ ال ُ
َ
أذهانهم من حيث التَّشابه في استحقاق مزيد الت ّعظيم ،والّرِفعة
سؤال وعدم المؤاخذة على الفعال؛ بناءً عليه؛ ل يرون عن ال ّ
لنفسهم حقّا ً في مراقبة المستبد ّ لنتفاء النّسبة بين عظمته
ودناءتهم؛ وبعبارة أخرى :يجد العوام معبودهم وجبَّارهم مشتركَي ْ ِ
ن
صفات ،وهم ليس من شأنهم في كثيرٍ من الحالت والسماء وال ِّ
ن يُفّرِقوا مثل ً بين ( الفعَّال المطلق) ،والحاكم بأمره ،وبين (ل أ ْ
ي النعم، (المنعم) وول ّ ما يفعل) وغير مسؤول ،وبين يُسأل ع ّ
شأن .بناءً عليه؛ يُعظ ِّمون الجبابرة ل شأنه) وجليل ال َّ َ وبين (ج ّ
م تعظيمهم لله ،ويزيدون تعظيمهم على التَّعظيم لله؛ لنَّه حلي ٌ
ل حاضر. ما انتقام الجبَّار فعاج ٌ ب ،وأ َّ ل غائ ٌ ن عذابه آج ٌ كريم ،ول َّ
والعوام ـ كما يقال ـ عقولهم في عيونهم ،يكاد ل يتجاوز فعلهم
ن يُقال فيهم :لول رجاؤهم حأ ْ مشاهَد ،حتَّى يص ّ المحسوس ال ُ
َ
بالله ،وخوفهم منه فيما يتعل ّق بحياتهم الدّنيا ،لما صلّوا ول
جحوا قراءة الدّلئل والوراد صاموا ،ولول أملهم العاجل ،لما ر َّ
جحوا اليمين بالولياء ـ المقَّربين كما على قراءة القرآن ،ول ر َّ
يعتقدون ـ على اليمين بالله.
َّ
وهذه الحال؛ هي التي سهَّلت في المم الغابرة المنحطة
دّين اللوهية على مراتب مختلفة ،حسب دعوى بعض المستب ِ
ي إلى استعداد أذهان الَّرعية ،حتَّى يُقال :إنَّه ما من مستبدٍّ سياس ّ
م ذي الن إل ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله ،أو تعطيه مقا َ
دّين
ة ال ِ
م ِ ن يتَّخذ بطانة من َ علقة مع الله .ول أق َّ
خد َ َ ل من أ ْ
ل ما يعينون به الستبداد، يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله ،وأق ُّ
14
تفريق المم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً،
مة ويذهب ريحها ،فيخلو الجوّ للستبداد ليبيض فتتهاتر قوَّة ال ّ
ويُفّرِخ ،وهذه سياسة النكليز في المستعمرات ،ل يُؤيِّدها شيء
مثل انقسام الهالي على أنفسهم ،وإفنائهم بأسهم بينهم بسبب
اختلفهم في الديان والمذاهب.
ن قيام المستبدِّين من أمثال (أبناء داود) و ويُعَل ِّلُون أ َّ
دّين بين رعاياهم ،وانتصار مثل (فيليب (قسطنطين) في نشر ال ِ
دّين ،حتَّى بتشكيل الثّاني) السباني و (هنري الثّامن) النكليزي لل ِ
سلطين ي وال َّ مجالس (انكيزيسيون) وقيام الحاكم الفاطم ّ
صوفيّة ،وبنائهم لهم التّكايا، العاجم في السلم بالنتصار لغلة ال ُّ
ن إل بقصد الستعانة بممسوخ الدِّين وببعض أهله المغفَّلين لم يك ْ
على ظلم المساكين ،وأعظم ما يلئم مصلحة المستبد ّ ويُؤيّدها
ن النّاس يتلقّون قواعده وأحكامه بإذعان بدون بحث وجدال، أ َّ
مة على تلقّي أوامرهم بمثل ذلك ،ولهذا القصد فيودّون تأليف ال ّ
عيْنه ،كثيرا ً ما يحاولون بناء أوامرهم أو تفريعها على شيءٍ من
قواعد الدِّين.
ي مقارنة ل ي والدّين ّ سياس ّ ن بين الستبدادَيْن :ال ّ ويحكمون بأ َّ
مة جَّر الخر إليه ،أو متى زال ،زال تنف ُّ
جد أحدهما في أ ّ ك متى وُ ِ
ن صلح ،أي ضعف الوّل ،صلح ،أي ضعف الثّاني. رفيقه ،وإ ْ
ن ول مكان. ن شواهد ذلك كثيرة ٌ جدّا ً ل يخلو منها زما ٌ ويقولون :إ َّ
سياسة إصلحاً ن الدّين أقوى تأثيرا ً من ال ّ ويُبرهنون على أ َّ
سكسون؛ أي النكليز والهولنديين وإفساداً ،ويُمثّلون بال ّ
والميركان واللمان الذين قبلوا البروتستنتيّة ،فأثر التّحّرر الدّيني
سياسي والخلق أكثر من تأثير الحّريّة المطلقة في الصلح ال ّ
سياسيّة في جمهور اللتين؛ أي الفرنسيين والطّليان ال ّ
مدقِّقون، سياسيون ال ُ والسبانيول والبرتغال .وقد أجمع الكتّاب ال ّ
مة أو عائلة أو ن ما من أ ّ بالستناد على التّاريخ والستقراء ،من أ َّ
ل نظام دنياه وخسر شخص تَنَطَّعَ في الدّين أي تشدَّد فيه إل واخت َّ
أولده وعقباه.
سياسة ن ال ّ سياسيين يرون أ َّ ن كل المدقِّقين ال ّ والحاصل أ َّ
ن إصلح الدّين هو أسهل والدّين يمشيان متكاتفَيْن ،ويعتبرون أ َّ
سياسي. وأقوى وأقرب طريق للصلح ال ّ
دّين وربما كان أوّل من سلك هذا المسلك؛ أي استخدم ال ِ
سياسي؛ هم حكماء اليونان ،حيث تحيَّلوا على في الصلح ال ّ
سياسة ملوكهم المستبدِّين في حملهم على قبول الشتراك في ال ّ
بإحيائهم عقيدة الشتراك في اللوهية ،أخذوها عن الشوريين،
ومزجوها بأساطير المصريين بصورة تخصيص العدالة بإله،
15
والحرب بإله ،والمطار بإله ،إلى غير ذلك من التّوزيع ،وجعلوا
لله اللهة حقّ النّظارة عليهم ،وحقّ التّرجيح عند وقوع الختلف
م بعد تمكُّن هذه العقيدة في الذهان بما أُلبست من بينهم .ث َّ
ل على أولئك الحكماء دفعهم سهُ َ جللة المظاهر وسحر البيان َ
ن
النّاس إلى مطالبة جبابرتهم بالنّزول من مقام النفراد ،وبأ ْ
سماء ،فانصاع ملوكهم إلى ذلك تكون إدارة الرض كإدارة ال ّ
مكْرهين .وهذه هي الوسيلة العظمى التي مكَّنت اليونان أخيراً ُ
من إقامة جمهوريات أثينا وإسبارطة ،وكذلك فعل الّرومان .وهذا
الصل لم يزل المثال القديم لصول توزيع الدارة في الحكومات
الملكية والجمهوريات على أنواعها إلى هذا العهد.
إنَّما هذه الوسيلة؛ أي التَّشريك ،فضل ً عن كونها باطلة في
ت للمشعوذين ل أضَّر كثيراً ،وذلك أنَّها فتح ْ ج عنها رد ُّ فع ٍ ذاتها ،نَت َ َ
ً
من سائر طبقات النّاس بابا واسعا لدعوى شيء من خصائص ً
صفات القُدْسيّة والتّصُّرفات الُّروحيّة ،وكان قبل ذلك اللوهية ،كال ّ
جم على مثلها غير أفراد من الجبابرة ،كنمرود وإبراهيم ل يته ّ
ي.صوف ّ ي والبادريّ وال ُّ َ
م صار يد ّعيها البرهم ّ وفرعون وموسى ،ث َّ
ولملئمة هذه المفسدة لطباع البشر من وجوه كثيرة ـليس بحثنا
مت وجنَّدت جيشا ً عرمرما ً يخدم هذا محلّهاـ انتشرت وع ّ
المستبدِّين.
َّ
وقد جاءت التّوراة بالنَّشاط ،فخلصتهم من خمول التِّكال
ن يُكل ِّفوا الله ونبيّه يقاتلن عنهم ،وجاءتهم بعد أن بلغ فيهم أ ْ
ةمستبدل ً بالنّظام بعد فوضى الحلم ،ورفعت عقيدة التّشريكُ ،
ض ملوك آل ن؛ لم ير َ ـمثلًـ أسماء اللهة المتعدِّدة بالملئكة ،ولك ْ
م جاء النجيل بسلسبيل الدّعة كوهين بالتَّوحيد فأفسدوه .ث َّ
ة بنار القساوة والستبداد ،وكان حلْم ،فصادف أفئدة ً محروق ً وال ِ
ن؛ لم يقْوَ دُعاته الوَّلون على وحيد ،ولك ْ أيضا ً مؤيّدا ً لناموس الت ّ
َ
تفهيم تلك القوام المنحط ّة ،الذين بادروا لقبول النَّصرانيّة قبل
ن البوّة والبنوّة صفتان مجازيَّتان يُعبَّر بهما عن المم المترقِّية ،أ َّ
معنى ل يقبله العقل إل تسليماً؛ كمسألة القدر التي ورثت
السلمية التّفلسف فيها عن أديان اليهود وأوهام اليونان .ولهذا؛
ي؛ لنّه أقرب َ
تلقّت تلك المم البوّة والبنوّة بمعنى توالد حقيق ّ
إلى مداركهم البسيطة التي يصعب عليها تناول ما فوق
المحسوسات ،ولنّهم كانوا قد ألفوا العتقاد في بعض جبابرتهم
ن يعتقدوا في موسى عليه الوّلين أنَّهم أبناء الله ،فكَبَُر عليهم أ ْ
ما انتشرت سلم صفة هي دون مقام أولئك الملوك .ث َّ
مل ّ ال ّ
النّصرانية ودخلها أقوام مختلفون ،تلبَّست ثوبا ً غير ثوبها ،كما
سعت برسائل بولس ونحوها، سائر الديان التي سلفتها ،فتو َّ
16
مضافة على فامتزجت بأزياء وشعائر وثنية للُّرومان والمصريين ُ
شعائر السرائيليين وأشياء من الساطير وغيرها ،وأشياء من
مظاهر الملوك ونحوها .وهكذا صارت النّصرانية تُعظ ِّم رجال
الكهنوت إلى درجة اعتقاد النّيابة عن الله والعصمة عن الخطأ
ما رفضه أخيرا ً البروتستان؛ أي وقوَّة التَّشريع ،ونحو ذلك م ّ
الّراجعون في الحكام لصل النجيل.
سسا على ً مؤ َّ ذّبا ً لليهوديّة والنّصرانيّةُ ، م جاء السلم مه ِ ث َّ
محكِما ً لقواعد الحّريّة الحكمة والعزم ،هادما ً للتّشريك بالكُل ِّية ،و ُ
سس دّيموقراطية والرستقراطية ،فأ َّ سطة بين ال ِ سياسية المتو ّ ال ّ
َ
ل سلطة دينية أو تغلبيّة تتحك ّم في النّفوس أو ّ َ التّوحيد ،ونزع َ ك ّ
ل زمان في الجسام ،ووضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لك ِّ
وقوم ومكان ،وأوجد مدنيّة فطريّة سامية ،وأظهر للوجود حكومة
كحكومة الخلفاء الّراشدين التي لم يسمح الّزمان بمثال لها بين
البشر حتَّى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف؛ إل
ي ونور الدّين بعض شواذ؛ كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العبّاس ّ
ن هؤلء الخلفاء الّراشدين فهموا معنى ومغزى القرآن شهيد .فإ َّ ال ّ
ت
ض ْ النّازل بلغتهم ،وعملوا به واتَّخذوه إماماً ،فأنشؤوا حكومة ق َ
مة في نعيم الحياة بالتّساوي حتَّى بينهم أنفسهم وبين فقراء ال ّ
وشظفها ،وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة
باجتماعية اشتراكية ل تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أ ٍ
ل منهم وظيفة شخصية ،ووظيفة م ٍ واحدة ،لك ُ ٍّ واحد وفي حضانة أ ّ
سامي من الّرياسة ن هذا الطّراز ال ّ عائلية ،ووظيفة قومية .على أ َّ
مدي الذي لم يخلفه فيه حقّا ً غير أبي بكر هو الط ِّراز النّبوي ال ُ
مح َّ
مة تطلبه وتبكيه من عهد م أخذ بالتّناقص ،وصارت ال ّ وعمر ،ث َّ
عثمان إلى الن ،وسيدوم بكاؤها إلى يوم الدِّين إذا لم تنتبه
ي شوريّ؛ ذلك الطّراز الذي اهتدت إليه لستعواضه بطراز سياس ّ
ن نقول ،قد حأ ْ بعض أمم الغرب؛ تلك المم التي ،لربّما يص ُّ
ما استفاده المسلمون. استفادت من السلم أكثر م ّ
ن بتعاليم إماتة الستبداد وهذا القرآن الكريم مشحو ٌ
وإحياء العدل والتّساوي حتّى في القصص منه؛ ومن جملتها قول
ب أشراف قومها :يا أيُّها بلقيس ملكة سبأ من عرب تُبَّع تخاط ُ
ة أمرا ً حتى المل ُ أفتوني في أمري ما كنت قاطع ً
د ُ
س شدي ٍ ة وأولوا بأ ٍ هدون * قالوا نحن أولوا قو ٍ تَش َ
ن الملوك إذا ك فانظري ماذا تأمرين * قالت إ َّ والمر إلي ِ
ة وكذلك ة أفسدوها وجعلوا أعّزة أهلها أِذل ً دخلوا قري ً
يفعلون.
17
فهذه القصة تُعل ِّم كيف ينبغي أن يستشير الملوك المل؛ أي
أشراف الَّرعية ،وأن ل يقطعوا أمرا ً إل برأيهم ،وتشير إلى لزوم
أن تُحفظ القوّة والبأس في يد الّرعية ،وأن يخصص الملوك
بالتّنفيذ فقط ،وأن يكرموا بنسبة المر إليهم توقيراً ،وتقبّح شأن
الملوك المستبدين.
ومن هذا الباب أيضا ً ما ورد في قصة موسى عليه السلم
مع فرعون في قوله تعالى :قال المل من قوم فرعون إ َّ
ن
هذا لساحٌر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا
تأمرون؛ أي قال الشراف بعضهم لبعض :ماذا رأيكم؟ (قالوا)
َ
سل في جه وأخاه وأر ِ خطابا ً لفرعون وهو قرارهم :أر ِ
م وصف ر عليم؛ ث ّل ساح ٍ المدائن حاشرين * يأتوك بك ِّ
مذاكراتهم بقوله تعالى :فتنازعوا أمرهم؛ أي رأيهم بينهم
وأسُّروا النجوى؛ أي أفضت مذاكراتهم العلنية إلى النّزاع
فأجروا مذاكرة سرية طبق ما يجري إلى الن في مجالس
الشورى العمومية.
بناءً على ما تقدّم؛ ل مجال لرمي السلمية بتأييد الستبداد
مع تأسيسها على مئات اليات البيِّنات التي منها قوله تعالى :
وشاورهم في المر؛ أي في الشأن ،ومن قوله تعالى :يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
المر منكم؛ أي أصحاب الرأي والشأن منكم ،وهم العلماء
سرين ،وهم الشراف في والرؤساء على ما اتَّفق عليه أكثر المف ِّ
اصطلح السياسيين .ومما يؤيِّد هذا المعنى أيضا ً قوله تعالى :
وما أمُر فرعون؛ أي ما شأنه ،وحديث «أميري من الملئكة
جبريل»؛ أي مشاوري.
ُ
وليس بالمر الغريب ضياع معنى وأولي المر على كثير
م عن من الفهام بتضليل علماء الستبداد الذي يحّرِفون الكَل ِ َ
منكم؛ أي المؤمنين منعا ً لتطُّرق مواضعه ،وقد أغفلوا معنى قيد
ن الظالمين ل يحكمونهم بما أنزل أفكار المسلمين إلى التفكير بأ ّ
م التدُّرج إلى معنى آية إن الله يأمر بالعدل ،أي الله ،ث َّ
بالتساوي؛ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ،أي
م ينتقل إلى معنى آية:ومن لم يحكم بما أنزل التساوي؛ ث ّ
م يستنتج عدم وجوب طاعة الله فأولئك هم الكافرون .ث َّ
الظالمين وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعا ً للفتنة
التي تحصد أمثالهم حصداً .والغرب من هذا جسارتهم على
تضليل الفهام في معنى (أمر) في آية :وإذا أردنا أن نهلك
ق عليها القول ة أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فح َّ قري ً
18
مرناها تدميراً ؛ فإنهم لم يبالوا أن ينسبوا إلى الله المر فد َّ
بالفسق ...تعالى الله عن ذلك علوّا ً كبيراً ،والحقيقة في معنى
(أمرنا) هنا أنَّه بمعنى أمرِنا -بكسر الميم أو تشديدها-؛ أي جعلنا
أمراءها مترفيها ففسقوا فيها (أي ظلموا أهلها) فحقّ عليهم
العذاب؛ أي (نزل بهم العذاب).
ى َ
والغرب من هذا وذاك؛ أن ّهم جعلوا للفظة العدل معن ً
ع ُرفياً؛ وهو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء؛ حتى أصبحت لفظة
ة للتسوية؛ ن العدل لغ ً ل على غير هذا المعنى ،مع أ ّ العدل ل تد ُّ
فالعدل بين النّاس هو التسوية بينهم ،وهذا هو المراد في آية :إن
الله يأمر بالعدل ،وكذلك القصاص في آية :ولكم في
القصاص حياةٌ المتواردة مطلقاً ،ل المعاقبة بالمثل فقط على
ما يتبادر إلى أذهان الُسراء ،الذين ل يعرفون للتّساوي موقعا ً في
الدِّين غير الوقوف بين يدي القضاة.
وقد عدّد الفقهاء من ل تُقبَل شهادتهم لسقوط
عدالتهم ،فذكروا حتّى من يأكل ماشيا ً في السواق؛
سقوا المراء ن شيطان الستبداد أنساهم أن يُف ِّ ولك ّ
ل الفقهاء يُعذ َرون بسكوتهم الظالمين فيردّوا شهادتهم .ولع ّ
هنا مع تشنيعهم على الظالمين في مواقع أخرى؛ ولكن ،ما
ة يدعون إلى م ٌ
عذرهم في تحويل معنى الية :ولتكن منكم أ ّ
ن هذا الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إلى أ ّ
الفرض هو فرض كفاية ل فرض عين؟ والمراد منه سيطرة أفراد
المسلمين بعضهم على بعض؛ ل إقامة فئة تسيطر على حكامهم
صصت منها كما اهتدت إلى ذلك المم الموفقة للخير؛ فخ ّ
جماعات باسم مجالس نّواب ،وظيفتها السيطرة والحتساب
على الدارة العمومية :السياسية والمالية والتشريعية ،فتخلّصوا
بذلك من شآمة الستبداد .أليست هذه السيطرة وهذا الحتساب
بأهم من السيطرة على الفراد؟ ومن يدري من أين جاء فقهاء
الستبداد بتقديس الحكّام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد
ل معارضة صبر عليهم إذا ظلموا ،وعدّوا ك ّ إذا عدلوا ،وأوجبوا ال ّ
لهم بغيا ً يبيح دماء المعارضين؟!
دّين دّين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير ال ِ ن المستب ِ اللهم؛ إ ّ
الذي أنزلت ،فل حول ول قوّة إل بك!
كذلك ما ع ُذر الصوفية الذين جعلتهم النعامات على
زاوياتهم أن يقولوا :ل يكون المير العظم إل وليّا ً من أولياء الله،
ول يأتي أمرا ً إل بإلهام من الله ،وإنه يتصَّرف في المور ظاهراً،
ويتصَّرف قطب الغوث باطناً! أل سبحان الله ما أحلمه!
19
ث أرسل لهم حلم الله لخسف الرض بالعرب؛ حي ُ نعم؛ لول ُ
ُ
ست في النّاس، س َ
سس لهم أفضل حكومة أ ِّ رسول ً من أنفسهم أ ّ
ل عن ع وكلُّكم مسؤو ٌ ُّ
جعل قاعدتها قوله« :كلكم را ٍ
ن عام ومسؤول عن المة .وهذه ل منكم سلطا ٌ رعيّته»؛ أي ك ٌّ
الجملة التي هي أسمى وأبلغ ما قاله مشّرِع سياسي من الولين
والخرين ،فجاء من المنافقين من حَّرف المعنى عن ظاهره
ن المسلم راٍع على عائلته ومسؤول عنها فقط. وعموميته؛ إلى أ َّ
ضهم كما حَّرفوا معنى الية :والمؤمنون والمؤمنات بع ُ
أولياءُ بعض على ولية الشهادة دون الولية العامة .وهكذا
غيّروا مفهوم اللغة ،وبدَّلوا الدِّين ،وطمسوا على العقول حتى
جعلوا النّاس ينسون لغة الستقلل ،وعّزة الحريّة؛ بل جعلوهم ل
ن قاهر.ة نفسها بنفسها دون سلطا ٍ م ٌيعقلون كيف تحكم أ ّ
ن المسلمين لم يسمعوا بقول النّبي عليه السلم: وكأ ّ
ي على «النّاس سواسية كأسنان المشط ،ل فضل لعرب ٍ ّ
ح الحاديث لمطابقته أعجمي إل بالتّقوى» .وهذا الحديث أص ُّ
أتقاكم
ن أكرمكم عند الله سرا ً الية إ َّ للحكمة ومجيئه مف ِّ
ل شأنه ساوى بين عباده مؤمنين وكافرين في ن الله ج َّ فإ َّ
م جعل الفضلية في ي آدم ث َّالمكرمة بقوله :ولقد كَّرمنا بن َ
ة ليس كثرة العبادة ،كما الكرامة للمتَّقين فقط .ومعنى التَّقوى لغ ً
صار إلى ذلك حقيقة ع ُرفية غرسها علماء الستبداد القائلين في
ة هي تفسير (عند الله)؛ أي في الخرة دون الدنيا؛ بل التَّقوى لغ ً
التِّقاء؛ أي البتعاد عن رذائل العمال احترازا ً من عقوبة الله.
ن أفضل النّاس أتقاكم كقوله :إ َّ ن أكرمكم عند الله فقوله :إ َّ
أكثرهم ابتعادا ً عن الثام وسوء عواقبها.
ن السلمية مؤسسة على أصول وقد ظهر مما تقدَّم أ َّ
ل سيطرة وتحك ّم ،بأمرها بالعدل والمساواة ُ الحّرية برفعها ك ّ
ضها على الحسان والتحابب .وقد جعلت والقسط والخاء ،وبح ِّ
شورى الريستوقراطية؛ أي شورى أهل الح ِّ
ل أصول حكومتها :ال ّ
والعقد في المة بعقولهم ل بسيوفهم .وجعل أصول إدارة المة:
التشريع الديمقراطي؛ أي الشتراكي حسبما يأتي فيما بعد .وقد
مضى عهد النبي (عليه السلم) وعهد الخلفاء الراشدين على
م وأكمل صورها .ومن المعلوم أنّه ل يوجد في هذه الصول بأت ّ
السلمية نفوذ ديني مطلقا ً في غير مسائل إقامة شعائر الدين،
حكم، ومنها القواعد العامة التشريعية التي ل تبلغ مائة قاعدة و ُ
ُ
ل وأحسن ما اهتدى إليه المشّرِعون من قبل ومن ج ّ كل ّها من أ َ
بعد .ولكن؛ واأسفاه على هذا الدين الحّر ،الحكيم ،السهل،
السمح ،الظاهر فيه آثار الرقي على غيره من سوابقه ،الدين
20
الذي رفع الصر والغلل ،وأباد الميزة والستبداد .الدين الذي
ظلمه الجاهلون ،فهجروا حكمة القرآن ودفنوها في قبور الهوان.
الدّين الذي فقد النصار البرار والحكماء الخيار ،فسطا عليه
المستبدون والمترشحون للستبداد ،واتَّخذوا وسيلة لتفريق
الكلمة وتقسيم المة شيَعاً ،وجعلوه آلهة لهوائهم السياسية،
فضيّعوا مزاياه ،وحيّروا أهله بالتقريع والتوسيع ،والتشديد
والتشويش ،وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل قبلهم أصحاب
ن ك َّ
ل الديان السائرة ،حتى جعلوه دينا ً حرجا ً يتوهّم الناس فيه أ َّ
َ
سب لسم إسلمي هو من ما دوَنَّه المتفنون بين دفّتي كتاب يُن َ
الدين ،وبمقتضاها أن ل يقوى على القيام بواجباته وآدابه
ومزيداته ،إل من ل علقة له بالحياة الدنيا؛ بل أصبحت بمقتضاها
ُ
ل عمل ،ل تفي بتعل ّم حياة النسان الطويل العمر ،العاطل عن ك ِّ
ما هي السلمية عجزا ً عن تمييز الصحيح من الباطل من تلك
الراء المتشعبة التي أطال أهلها فيها الجدال والمناظرة؛ وما
ل منهم في موقفه الول يظهر أنه ألزم خصمه افترقوا إل وك ٌّ
ن كل ً منهم قد سكت تعباً جة وأسكته بالبرهان؛ والحقيقة إ َّ الح ّ
وكلل ً من المشاغبة.
وبهذا التّشديد الذي أدخله على الدّين منافسو المجوس؛
مة باب التلوّم على النفس فضل ً عن محاسبة انفتح على ال ّ
الحكام المنوط بهم قيام العدل والنِّظام .وهذا الهمال للمراقبة،
هو إهمال المر بالمعروف والنّهي عن المنكر ،وقد أوسع لمراء
حكم السلم مجال الستبداد وتجاوَز الحدود .وبهذا وذاك ظهر ُ
ن الله ن عن المنكر أو ليستعمل ّ ن بالمعروف ولتنهو ّحديث« :لتأمر ّ
عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب» ،وإذا تتبعنا سيرة
مة ،نجد أنّهما مع كونهما أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع ال ّ
مفطوَرين خير فطرة ،ونائلين التربية النبوية ،لم تترك المة
ة عمياء.معهما المراقبة والمحاسبة ،ولم تطعهما طاع ً
وقد جمع بعضهم جملة مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن
غيرهم ،وليس هو من دينهم بالنّظر إلى القرآن والمتواترات من
الحديث وإجماع السلف الول فقال:
(اقتبسوا) من النصرانية مقام البابوية باسم الغوثية،
و(ضاهوا) في الوصاف والعداد أوصاف وأعداد البطارقة،
والكردينالية والشهداء والساقفة ،و(حاكوا) مظاهر القديسين
شرين وصبرهم ،والّرهبنات ورؤسائها، وعجائبهم ،والدعاة المب ّ
وحالة الديرة وبادريتها .والرهبنات ورسومها والحميَّة وتوقيتها،
و(قلّدوا) الوثنيين الرومانيين في الّرقص على أنغام الناي
والتغالي في تطييب الموتى والحتفال الزائد في الجنائز وتسريح
21
الذبائح معها ،وتكليلها وتكليل القبور بالزهور .و(شاكلوا) مراسم
الكنائس وزينتها ،والبِيَع واحتفالتها ،والترنّحات ووزنها ،والترنُّمات
وأصولها ،وإقامة الكنائس على القبور ،وشد ّ الّرِحال لزيارتها،
والسراج عليها ،والخضوع لديها ،وتعليق المال بسكانها.
و(أخذوا) التبّرك بالثار :كالقدح والحربة والدستار ،من احترام
صدر عند ذكر الذخيرة وقدسية العكاز ،وكذلك إمرار اليد على ال ّ
الصالحين ،من إمرارها على الصدر لشارة الصليب .و(انتزعوا)
الحقيقة من السّر ،ووحدة الوجود من الحلول ،والخلفة من
سقيا من تناول القربان ،والمولد من الميلد ،وحفلته الّرسم ،وال ّ
من العياد ،ورفع العلم من حمل الصلبان ،وتعليق ألواح
صور السماء المصدَّرة بالنّداء على الجدران من تعليق ال ّ
جه بالقلوب انحناءً أمام والتماثيل ،والستفاضة والمراقبة من التو ّ
سن ّة كحظر َ الصنام .و(منعوا) الستهداء من نصوص الكتاب وال ُ
الكاثوليك التفهّم من النجيل ،وامتناع أحبار اليهود عن إقامة
الدّليل من التوراة في الحكام .و(جاءوا) من المجوسية
باستطلع الغيب من الفلك ،وبخشية أوضاع الكواكب وباتِّخاذ
أشكالها شعارا ً للملك ،وباحترام النار ومواقدها .و(قلّدوا)
البوذيين حرفا ً بحرف في الطريق والرياضة وتعذيب الجسم بالنار
والسلح ،واللعب بالحيّات والعقارب وشرب السموم ،ودقّ
الطبول والصنوج وجعل رواتب من الدعية والناشيد والحزاب،
واعتقاد تأثير العزائم ونداء السماء وحمل التمائم ،إلى غير ذلك
سند إلى مشاهد في بوذيي الهند ومجوس فارس وال ّ مما هو ُ
يومنا هذا .وقد قيل إنّه نقله إلى السلمية :جون وست ،وسلطان
علي منل ،والبغدادي ،وحاشية فلن الشيخ وفلن الفارسي ،على
ن إسناد ذلك إلى أشخاص معينين يحتاج إلى تثبيت .و(لفَّقوا) أ ّ
موها من الساطير والسرائيليات أنواعا ً من القربات ،وعلوما ً س ّ
لدنيات.
ن أكثر ما اعتبره كذلك يُقال عن مبتدعي النصارى ،من أ ّ
المتأخرون منهم من الشعائر الدينية -حتى مشكلة التثليث -ل
أصل له فيما ورد عن نفس المسيح عليه السلم؛ إنما هو
مبتدَع وكثيرها متَّبع .وقد اكتشف العلماء مزيدات وترتيبات قليلها ُ
صحف الثاريون من الصفائح الحفرية الهندية والشورية ومن ال ّ
التي وُجدت في نواويس المصريين القدمين ،على مآخذ أكثرها.
وكذلك وجدوا لمزيدات التلمود وبدع الحبار أصول ً في الساطير
والثار واللواح الشورية ،وترقّوا في التطبيق والتدقيق إلى أن
وجدوا معظم الخرافات المضافة إلى أصول عامة الديان في
الشرق الدنى مقتبسة من الوضعيات المنسوبة لنحل الشرق
22
ن الستبداد أخفى تاريخ الديان القصى ،وقد كشفت الثار أ ّ
ن أعداء الديان وجعل أخبار منشئها في ظلم مطبق ،حتّى إ َّ
المتأخرين أمكنهم أن ينكروا أساسا ً وجود موسى وعيسى عليهما
السلم ،كما شوّش الستبداد في المسلمين تاريخ آل البيت
عليهم الرضوان؛ المر الذي تولّد عنه ظهور الفَِرق التي تشيَّعت
لهم كالمامية والسماعيلية والزيدية والحاكمية وغيرهم.
ن البِدَع التي شوَّشت اليمان وشوَّهت الديان والخلصة أ ّ
ُ
تكاد كُل ّها تتسلسل بعضها من بعض ،وتتولّد جميعها من غرض
واحد هو المراد ،أل وهو الستعباد.
والنّاظر المدقّق في تاريخ السلم يجد للمستبدّين من
الخلفاء والملوك الولين ،وبعض العلماء العاجم ،وبعض مقلّديهم
من العرب المتأخرين أقوال ً افتروها على الله ورسوله تضليلً
للمة عن سبيل الحكمة ،يريدون بها إطفاء نور العلم وإطفاء نور
م نوره ،فحفظ للمسلمين كتابه الله ،ولكن؛ أبى الله إل أن يت ّ
سه يد الكريم الذي هو شمس العلوم وكنز الحكم من أن تم ّ
التحريف؛ وهي إحدى معجزاته لنَّه قال فيها :إنّا نحن نَّزلنا
سه المنافقون إل بالتأويل، ذّكر وإنَّا له لحافظون فما م ّ ال ِ
وهذا أيضا ً من معجزاته ،لنه أخبر عن ذلك في قوله :فأما
غ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء قلُوبهم َزي ٌ الَّذين في ُ
الفتنة وابتغاء تأويله.
وإني أُمث ِّل للمطالعين ما فعله الستبداد في السلم ،بما
مي اللء والخلق سروا قس َ حجر على العلماء الحكماء من أن يف ِّ
َ
تفسيرا ً مدقِّقَاً ،لنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغُفّل
السالفين أو بعض المنافقين المقَّربين المعاصرين ،فيُكفَّرون
فيُقتَلون .وهذه مسألة إعجاز القرآن ،وهي أهم مسألة في الدِّين
لم يقدروا أن يوفوها حقّها من البحث ،واقتصروا على ما قاله
سلف قول ً مجمل ً من أنَّها قصور الطاقة عن التيان فيها بعض ال ّ
ن الّروم بعد غلبهم بمثله في فصاحته وبلغته ،وأنّه أخبر عن أ ّ
سيغلبون .مع أنه لو فُتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الرأي
حكم، ُ
والتأليف ،كما أطلق عنان التخريف لهل التأويل وال ُ
لظهروا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات العجاز ،ولرأوا
ل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق فيه ك ّ
ب مبين ولجعلوا المة س إل في كتا ٍ ب ول ياب ٍ قوله :ول َرط ٍ
تؤمن بإعجازه عن برهان وعيان ل مجرد تسليم وإذعان.
ن العلم كشف في هذه القرون الخيرة ومثال ذلك :أ َّ
حقائق وطبائع كثيرة تُعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوربا
وأمريكا؛ والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التّصريح أو
23
التلميح في القرآن منذ ثلثة عشر قرناً؛ وما بقيت مستورة تحت
غشاء من الخفاء إل لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة
ن ب ل يعلم الغيب سواه؛ ومن ذلك أنّهم قد كشفوا أ ّ بأنّه كلم ر ٍّ
مادة الكون هي الثير ،وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال :ث َّ
م
ن الكائنات في استوى إلى السماء وهي دخان وكشفوا أ ّ
ة
ة لهم الرض الميت ُ حركة دائمة دائبة والقرآن يقول:وآي ٌ
يسبحون.
ك
ل في فل ٍ أحييناها إلى أن يقول:وك ٌّ
ة في النظام الشمسي ،والقرآن ن الرض منفتق ً وحققوا أ َّ
سموات والرض كانتا رتقا ً ففتقناهما. ن ال ّ يقول :أ َّ
ن القمر منشقٌّ من الرض ،والقرآن يقول :أفل وحققوا أ َّ
يرون أنّا نأتي الرض ننقصها من أطرافها .ويقول :
ق القمر. ساعة وانش َّ ت ال ّ اقترب ِ
ن طبقات الرض سبع ،والقرآن يقول :الله الذي وحققوا أ َّ
ت ومن الرض مثلهن خلق سبع سموا ٍ
وحققوا أنّه لول الجبال لقتضى الثّقل النوعي أن تميد
ج في دورتها ،والقرآن يقول :وألقى في الرض الرض؛ أي ترت ّ
ي أن تميد بكم. رواس َ
ن سر التركيب الكيماوي -بل والمعنوي -هو وكشفوا أ َّ
ء
ل شي ٍ تخالف نسبة المقادير وضبطها ،والقرآن يقول :وك ُّ
عنده بمقدار.
ن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور والقرآن َ وكشفوا أ ّ
حي.
ء
ل شي ٍ يقول:وجعلنا من الماء ك َّ
ن العالم العضوي ،ومنه النسان ،ترقّى من وحققوا أ ّ
ة من الجماد ،والقرآن يقول :ولقد خلقنا النسان من سلل ٍ
طين.
وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات ،والقرآن يقول :
خلق الزواج كلّها مما تنبت الرض ويقول :فأخرجنا به أزواجاً
ج بهيج. ل زو ٍ ت شتّى ،ويقول :اهتّزت وربَت من ك ِّ من نبا ٍ
ل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين. ويقول :ومن ك ِّ
وكشفوا طريقة إمساك الظ ِّل؛ أي التصوير الشمسي،
ل ولو شاء والقرآن يقول :ألم ت َر إلى رب ّك كيف مدَّ الظِّ َّ
ِ َ
س عليه دليلً . َ شم ّ ال جعلنا ملجعله ساكنا ً ث َّ
سفن والمركبات بالبخار والكهرباء وكشفوا تسيير ال ّ
والقرآن يقول ،بعد ذكره الدواب والجواري بالريح :وخلقنا لهم
من مثله ما يركبون.
24
وكشفوا وجود الميكروب ،وتأثيره وغيره من المراض،
أبابيل؛ أي متتابعة
والقرآن يقول:وأرسل عليهم طيرا ً
جيل؛ أي من طين
ة من س ّ متجمعة ترميهم بحجار ٍ
المستنقعات اليابس .إلى غير ذلك من اليات الكثيرة المحققة
لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية .وبالقياس على
ن كثيرا ً من آياته سينكشف سُّرها في ما تقدَّم ذكره؛ يقتضي أ َّ
ما في الغيبالمستقبل في وقتها المرهون ،تجديدا ً لعجازه ع ّ
مادام الزمان وما كَّر الجديدان؛ فل بُد َّ أن يأتي يوم يكشف العلم
ن الجمادات أيضا ً تنمو باللقاح كما تشير إلى ذلك آية ومن فيه أ َّ
ء خلقنا زوجين. ل شي ٍ ك ِّ
25
الستبداد والعلم
26
ترتعد فرائص المستبد ُّ من علوم الحياة مثل الحكمة
النظرية ،والفلسفة العقلية ،وحقوق المم وطبائع الجتماع،
صل ،والخطابة الدبية ،ونحو ذلك والسياسة المدنية ،والتاريخ المف ّ
سع العقول ،وتعّرف النسان من العلوم التي تُكبر النفوس ،وتو ّ
ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها ،وكيف الطلب ،وكيف النّوال،
وكيف الحفظ .وأخوف ما يخاف المستبد ّ من أصحاب هذه
العلوم ،المندفعين منهم لتعليم النّاس الخطابة أو الكتابة وهم
المعبَّر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله
ن الرض يرثها عباديَ الصالحون وفي قوله :وما كان ربُّك تعالى :أ ّ
ن كان علماء الستبداد ليهلك القرى بظلم ٍ وأهلها مصلحون ،وإ ْ
سرون مادة الصلح والصلح بكثرة التعبُّد كما حوّلوا معنى يف ِّ
مادة الفساد والفساد :من تخريب نظام الله إلى التشويش على
المستبدين.
ن المستبد ّ يخاف من هؤلء العاملين الراشدين والخلصة :أ َّ
المرشدين ،ل من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم
ت كثيرة كأنّها مكتبات مقفلة! محفوظا ٌ
م ونتائجه؛ يبغضه أيضا ً لذاته ،لن كما يبغض المستبد ُّ العل َ
دّ من أنل سلطان ،فل بد َّ للمستب ِ للعلم سلطانا ً أقوى من ك ِّ
يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماً.
ب المستبد ُّ أن يرى وجه عالم ٍ عاقل يفوق عليه فكراً، ولذلك ل يح ُّ
فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر
المتمل ِّق .وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله( :فاز
ل المتكبرين ،بل في غالب الناس، المتملقون) ،وهذه طبيعة ك ِّ
ل من يكون مسكينا ً خامل ً ل يُرجى وعليها مبنى ثنائهم على ك ِّ
لخيرٍ ول لشّرٍ.
ة وطراداً ن بين الستبداد والعلم حربا ً دائم ً وينتج مما تقدَّم أ َّ
مستمراً :يسعى العلماء في تنوير العقول ،ويجتهد المستبد ُّ في
إطفاء نورها ،والطرفان يتجاذبان العوام .ومن هم العوام؟ هم
أولئك الذين إذا جهلوا خافوا ،وإذا خافوا استسلموا ،كما أنَّهم هم
الذين متى علموا قالوا ،ومتى قالوا فعلوا.
ه .بهم عليهم يصول ويطول؛ العوام هم قوة المستبد ُّ وقُ ْ
وت ُ ُ
يأسرهم فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم فيحمدونه على
إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على
بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون
كريماً؛ وإذا قتل منهم لم يمثِّل يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إلى
خطر الموت ،فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض
الباة قاتلهم كأنهم بُغاة.
27
ن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف والحاصل أ َّ
الناشئ عن الجهل والغباوة ،فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال
الخوف ،وأصبح الناس ل ينقادون طبعا ً لغير منافعهم ،كما قيل:
العاقل ل يخدم غير نفسه ،وعند ذلك ل بد َّ للمستبدِّ من العتزال
أو العتدال .وكم أجبرت المم بترقّيها المستبد َّ اللئيم على
ل أمين يهاب الترقّي معها والنقلب –رغم طبعه -إلى وكي ٍ
ب حليم ٍ يتلذذ س عادل يخشى النتقام ،وأ ٍ الحساب ،ورئي ٍ
بالتحابب .وحينئذ ٍ تنال المة حياة ً رضيّة هنية ،حياة رخاء ونماء،
ظ الرئيس من ذلك رأس الحظوظ، حياة عّز وسعادة ،ويكون ح ّ
بعد أن كان في دور الستبداد أشقى العباد؛ لنه على الدوام
ملحوظا ً بالبغضاء ،محاطا ً بالخطار ،غير أمين على رياسته ،بل
ط أمامه من يسترشده وعلى حياته طرفة عين؛ ولنه ل يرى ق ّ
ن الواقف بين يديه مهما كان عاقل ً متيناً ،ل بد َّ أن فيما يجهل؛ ل َّ
ل رأيه ،فل يهتدي يهابه ،فيضطرب باله ،فيتشوش فكره ،ويخت ّ
على الصواب ،وإن اهتدى فل يجسر على التصريح به قبل
استطلع رأي المستبدّ ،فإن رآه متصل ِّبا ً فيما يراه فل يسعه إل
ل مستشار غيره يدَّعي أنَّه غير هيّاب تأييده راشدا ً كان أو غيّاً ،وك ُّ
ن الصدق ل يدخل قصور الملوك؛ بناءً فهو كذَّاب؛ والقول الحقُّ :إ َّ
ُّ
ط من رأي غيره ،بل يعيش في ضلل عليه؛ ل يستفيد المستبد ُّ ق
ب وخوف ،وكفى بذلك انتقاما ً منه على استعباده وتردد ٍ وعذا ٍ
النّاس وقد خلقهم ربهم أحراراً.
ن خوف المستبد ّ من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من إ َّ
ن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقُّه منهم ،وخوفهم بأسه؛ ل َّ
ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجزٍ حقيقي فيه ،وخوفهم عن توهّم
التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه ،وخوفهم على
ن يألفون غيره في أيام؛ وخوفه لقيمات من النّبات وعلى وط ٍ
ل شيء تحت سماء ملكه ،وخوفهم على حياةٍ تعيسة على ك ِّ
فقط.
كلما زاد المستبد ُّ ظلما ً واعتسافا ً زاد خوفه من رعيّته وحتّى
من حاشيته ،وحتى ومن هواجسه وخيالته .وأكثر ما تُختم حياة
ن المستبد َّ ل يخلو من المستبدِّ بالجنون التّام .قلت( :التام) ل ّ
ط ،لنفوره من البحث عن الحقائق ،وإذا صادف وجود الحمق ق ّ
مستبدٍّ غير أحمق فيسارعه الموت قهرا ً إذا لم يسارعه الجنون أو
ن أكثر ما يبطش ت :إنه يخاف من حاشيته؛ ل َّ العته؛ وقل ُ
ن هؤلء أشقى خلق الله حياةً ،يرتكبون بالمستبدين حواشيهم؛ ل َّ
ل جريمةٍ وفظيعة لحساب المستبدِّ الذي يجعلهم يمسون ك َّ
ويصبحون مخبولين مصروعين ،يُجهدون الفكر في استطلع ما
28
يريد منهم فعله بدون أن يطلب أو يصّرِح .فكم ينقم عليهم
ويهينهم لمجَّرد أنهم ل يعلمون الغيب ،ومن ذا الذي يعلم الغيب،
النبياء والولياء؟ وما هؤلء إل أشقياء؛ أستغفرك اللهم! ل يعلم
ن صدقه إلّ جال ،ول يظ ُّ ي ،ول يدّعي ذلك إل ّ د ّ ي ول ول ٌّ غيبك نب ٌّ
مغ َّفل ،فإنَّك اللهم قلت وقولك الحقّ :فل يظهر على غيبه أحداً
ت الخير لستكثرت منه». وأفضل أنبيائك يقول« :لو علم ُ
ن أحدهم إذا أراد الموازنة َ من قواعد المؤّرِخين المدققين :إ ّ
بين مستبدَّين كنيرون وتيمور مثلً ،يكتفي أن يوازن درجة ما كانا
عليه من التحذُّر والتحفُّظ .وإذا أراد المفاضلة بين عادلين كأنو
شروان وعمر الفاروق ،يوازن بين مرتبتي أمنهما في قوميهما.
لما كانت أكثر الديانات مؤسسة على مبدأي الخير والشر
كالنور والظلم ،والشمس وزحل ،والعقل والشيطان ،رأت بعض
ن أضَّر شيء على النسان هو الجهل ،وأضّر آثار المم الغابرة أ َّ
الجهل هو الخوف ،فعملت هيكل ً مخصصا ً للخوف يُعبد اتقاءً
لشّرِه.
قال أحد المحررين السياسيين :إني أرى قصر المستبدِّ في
ل زمان هو هيكل الخوف عينه :فالملك الجبار هو المعبود، ك ِّ
وأعوانه هم الكهنة ،ومكتبته هي المذبح المقدَّس ،والقلم هي
السكاكين ،وعبارات التعظيم هي الصلوات ،والناس هم السرى
الذين يُقدَّمون قرابين الخوف ،وهو أهم النواميس الطبيعية في
النسان ،والنسان يقرب من الكمال في نسبة ابتعاده عن
الخوف ،ول وسيلة لتخفيف الخوف أو نفيه غير العلم بحقيقة
ن المستبد َّ امرؤٌ المخيف منه ،وهكذا إذا زاد علم أفراد الرعية بأ ّ
عاجز مثلهم ،زال خوفهم منه وتقاضوه حقوقهم.
ن خير ما يستبدل به على درجة ويقول أهل النظر :إ َّ
استبداد الحكومات؛ هو تغاليها في شنآن الملوك ،وفخامة
القصور ،وعظمة الحفلت ،ومراسيم التشريفات ،وعلئم البَّهة،
ونحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم
عوضا ً عن العقل والمفاداة ،وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبدُّ
صدق للتصوف ،وقليل ال ِّ ُّ كما يلجأ قليل العّزِ للتكبُّر ،وقليل العلم
لليمين ،وقليل المال لزينة اللباس.
ل على عراقة المة في الستعباد ويقولون :إنَّه كذلك يُستد ُّ
أو الحرية باستنطاق لغتها؛ هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية
مثلً؟ أم هي غنية في عبارات الخضوع كالفارسية ،وكتلك اللغة
التي ليس فيها بين المتخاطبين أنا وأنت ،بل سيدي وعبدكم؟!
ل إدارة ن الستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فك ُّ والخلصة أ َّ
مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم ،وحصر الرعية في
29
حالك الجهل .والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحيانا ً في مضايق
صخور الستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار النّاس ،والغالب
ن رجال الستبداد يُطاردون رجال العلم وينكلون بهم ،فالسعيد أ َّ
ل النبياء ن ك َّ منهم من يتمكّن من مهاجرة دياره ،وهذا سبب أ َّ
العظام -عليهم الصلة والسلم وأكثر العلماء العلم والدباء
َ
والنبلء -تقل ّبوا في البلد وماتوا غرباء.
نض على العلم ،وكفى شاهدا ً أ َّ ل دين ح َّ ن السلمية أو َّ إ َّ
أول كلمة أُنزلت من القرآن هي المر بالقراءة أمرا ً مكرراً ،وأوَّل
َ َ منَّةٍ أجلَّها الله وامت َّ
ن بها على النسان هي أنَّه عل ّمه بالقلم .عل ّمه ِ
سلف الول من مغزى هذا المر وهذا به ما لم يعلم .وقد فهم ال َّ
ل مسلم ،وبذلك المتنان وجوب تعلُّم القراءة والكتابة على ك ِّ
م ،وبذلك صار مت القراءة والكتابة في المسلمين أو كادت تع ُّ ع َّ
ص به رجال الدّين أو ل ل يخت ُّ العلم في المة حرا ً مباحا ً للك ِّ
الشراف كما كان في المم السابقة ،وبذلك انتشر العلم في
ن؛ قاتل الله الستبداد الذي سائر المم أخذا ً على المسلمين! ولك ْ
استهان بالعلم حتى جعله كالسلعة يُعطى ويُمنح للميين ،ول
يجرؤ أحد على العتراض ،أجل؛ قاتل الله الستبداد الذي رجع
بالمة إلى المية ،فالتقى آخرها بأول ِّها ،ول حول ول قوة إل بالله.
ن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون قال المدققون :إ َّ
ن الحرية أفضل من الحياة، من العلم أن يعرف الناس حقيقة أ َّ
شرف وعظمته ،والحقوق وكيف وأن يعرفوا النفس وعَّزها ،وال ّ
تُحفظ ،والظلم وكيف يُرفع ،والنسانية وما هي وظائفها،
والّرحمة وما هي لذ ّاتها.
أما المستبدون الشرقيون فأفئدتهم هواء ترتجف من صولة
ن العلم نار وأجسامهم من بارود .المستبدون يخافون العلم ،كأ ّ
من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة (ل إله إل الله) ،ولماذا
كانت أفضل الذكر ،ولماذا بُني عليها السلم .بُني السلم ،بل
وكافة الديان على (ل إله إل الله) ،ومعنى ذلك أنّه ل يُعبد حقاً
سوى الصانع العظم ،ومعنى العبادة الخضوع ومنها لفظة العبد،
فيكون معنى ل إله إل الله" :ل يستحق الخضوع شيءٌ غير الله".
وما أفضل تكرار هذا المعنى على الذاكرة آناء الليل وأطراف
النهار تحذُّرا ً من الوقوع في ورطة شيء من الخضوع لغير الله
وحده .فهل –والحالة هذه -يناسب غرض المستبدين أن يعلم
ن ل سيادة ول عبودية في السلم ول ولية فيه ول عبيدهم أ ْ
خضوع ،إنما المؤمنون بعضهم أولياء بعض؟ كل؛ ل يلئم ذلك
غرضهم ،وربما عدّوا كلمة (ل إله إل الله) شتما ً لهم! ولهذا؛ كان
شرك وأعداء العلم. المستبدون –ول زالوا -من أنصار ال ّ ِ
30
مة الديان ن العلم ل يناسب صغار المستبدين أيضا ً ك َ
خد َ َ إ َّ
لجهَلء ،والزواج الحمقى ،وكرؤساء ك ِّ المتكب ِّرين وكالباء ال ُ
الجمعيات الضعيفة .والحاصل :أنَّه ما انتشر نور العلم في أمةٍ
سرت فيها قيود السر ،وساء مصير المستبدّين من ط إل وتك َّق ّ
رؤساء سياسة أو رؤساء دين.
31
الستبداد والمجد
ل لك ِّ
ل حكَم البالغة للمتأخرين قولهم" :الستبداد أص ٌ من ال ِ
ن الباحث المدقق في أحوال البشر وطبائع داء" ،ومبنى ذلك أ َّ
ل واد ،وقد سبق أ َّ
ن ن للستبداد أثرا ً سيئا ً في ك ِّ الجتماع كشف أ َّ
الستبداد يضغط على العقل فيفسده ،وإني الن أبحث في أنَّه
جد. كيف يُغالب الستبداد المجد فيفسده ،ويقيم مقامه التم ُّ
ب واحترام في القلوب ،وهو المجد :هو إحراز المرء مقام ح ٍّ
ي أو زاهد ،ول َ
ل إنسان ،ل يترفّع عنه نب ٌّ مطلب طبيعي شريف لك ِّ
ُّ
ي أو خامل .للمجد لذَّة ٌ روحية تقارب لذَّة العبادة ط عنه دن ٌّ ينح
َ
عند الفانين في الله تعالى ،وتعادل لذ ّة العلم عند الحكماء ،وتربو
على لذَّة امتلك الرض مع قمرها عند المراء ،وتزيد على لذَّة
مفاجأة الثراء عند الفقراء .ولذا؛ يزاحم المجد في النفوس
منزلة الحياة.
ل على بعض الباحثين أيّ الحرصين أقوى؟ حرص وقد أشك َ َ
خرون الحياة أم حرص المجد؟ والحقيقة التي عوَّل عليها المتأ ِّ
ن المجد وميَّزوا بها تخليط ابن خلدون هي التفضيل؛ وذلك أ َّ
ة ،وعند النُّجباء ضل على الحياة عند الملوك والقُوَّاد وظيف ً مف َّ
ُ
ب الحياة ممتاز على المجد عند السراء ة ،وح ُّ والحرار حمي ّ ً
ة ،وعند الجبناء والنساء ضرورةً .وعلى هذه القاعدة والذِّلء طبيع ً
يكون أئمة آل البيت –عليهم السلم -معذورين في إلقاء أنفسهم
ما كانوا نجباء أحراراً ،فحميّتهم جعلتهم في تلك المهالك؛ لنَّهم ل ّ
ل مثل حياة ابن خلدون الذي ضلون الموت كراما ً على حياة ذ ٍّ يف ِّ
خطّأ أمجاد البشر في إقدامهم على الخطر إذا هدَّد مجدهم ،ذاهلً
جدت فيها طبيعة الحيوان ،ومنها البلبل ،وُ ِ ن بعض أنواع على أ َّ
ن أكثر سباع الطير ل ،وأ َّ اختيار النتحار أحيانا ً تخلُّصا ً من قيود الذ ُّ ِّ
حَّرة سَرت كبيرة تأبى الغذاء حتى تموت ،وأ َّ ُ
ن ال ُ والوحوش إذا أ ِ
ضها ،والماجدة تموت ول تأكل بثدييها! تموت ول تأكل بعِر ِ
المجد ل يُنال إل بنوٍع من البذل في سبيل الجماعة ،وبتعبير
الشرقيين في سبيل الله أو سبيل الدّين ،وبتعبير الغربيين في
قُ
سبيل المدنية أو سبيل النسانية .والمولى تعالى –المستح ّ
التّعظيم لذاته -ما طالب عبيده بتمجيده إل وقرن الطلب بذكر
نعمائه عليهم.
وهذا البذل إما بذل مال للنفع العام ويسمى مجد الكرم؛
مى وهو أضعف المجد ،أو بذل العلم النّافع المفيد للجماعة؛ ويس ّ
مجد الفضيلة ،أو بذل النّفس بالتعُّرض للمشاقّ والخطار في
ق وحفظ النِّظام؛ ويُسمى مجد النّبالة ،وهذا سبيل نصرة الح ِ ّ
32
أعلى المجد؛ وهو المراد عند الطلق ،وهو المجد الذي تتوق إليه
ن إليه أعناق النبلء .وكم له من عشاق تلذُّ النفوس الكبيرة ،وتح ُّ
لهم في حبه المصاعب والمخاطرات ،وأكثرهم يكون من مواليد
صدف من عيون الظالمين المذلّين ،أو يكون بيوت نادرة حمتها ال ُّ
من نجباء بيوت ما انقطعت فيها سلسلة المجاهدين وما انقطعت
عجائزها عن بكائهم .ومن أمثلة المجد قولهم :خلق الله للمجد
رجال ً يستعذبون الموت في سبيله ،ول سبيل إليه إل بعظيم اله ّ
مة
والقدام والثّبات ،تلك الخصال الثّلث التي بها تقدَّر قيم الرجال.
وهذا نيرون الظالم سأل أغربين الشاعر وهو تحت النَّطع:
من أشقى الناس؟ فأجابه معّرِضا ً به :من إذا ذكر الناس
َ
الستبداد كان مثال ً له في الخيال .وكان ترايان العادل إذا قل ّد
سيفا ً لقائد يقول له" :هذا سيف المة أرجو أن ل أتعدّى القانون
ب في عنقي" .وخرج قيس من مجلس الوليد فيكون له نصي ٌ
ن نعال الصعاليك مغضبا ً يقول" :أتريد أن تكون جباراً؟ والله؛ إ َّ
لطول من سيفك! .وقيل لحد الباة" :ما فائدة سعيك غير جلب
الشقاء على نفسك؟" .فقال" :ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص
ي ضمان ي أن أفي بوظيفتي وما عل َّ الظالمين!" .وقال آخر" :عل َّ
القضاء" .وقيل لحد النبلء" :لماذا ل تبني لك داراً؟" فقال" :ما
أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في
القبر" ،وهذه ذات النطاقين (أسماء بنت أبي بكر رضي الله
عنها) وهي امرأة عجوز تودِّع ابنها بقولها" :إن كنت على الحقّ
فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت" .وهذا مكماهون رئيس
جمهورية فرنسا استبد َّ في أمر فدخل عليه صديقه غامبتا وهو
يقول" :المر للمة ل إليك ،فاعتدل ،أو اعتزل ،وإل فأنت
المخذول المهان الميت!!
ب للنفوس ،ل تفتأ تسعى ن المجد هو المجد ُ محب َّ ٌ والحاصل أ َّ
ل إنسان على سٌر في عهد العدل لك ِّ وراءه وترقى مراقيه ،وهو مي َّ
مته ،وينحصر تحصيله في زمن الستبداد حسب استعداده وه َّ
بمقاومة الظّلم على حسب المكان.
جد؟ جد .وما هو التم ّ يقابل المجد ،من حيث مبتناه ،التم ُّ
ظ هائل المعنى ،ولهذا أراني أتعثَّر جد لف ٌ جد؟ التم ُّ وماذا يكون التم ّ
بالكلم وأتلعثم في الخطاب ،ول سيما من حيث أخشى مساس
إحساس بعض المطالعين .إن لم يكن من جهة أنفسهم فمن جهة
أجدادهم الولين ،فأناشدهم الوجدان والحقّ المهان ،أن يتجَّردوا
م هم مثلي ومثل سائر الجانين دقيقتين من النّفس وهواها ،ث َّ
على النسانية ل يعدمون تأويلً .وإنني أعل ِّل النّفس بقبولهم
تهويني هذا ،فأنطلق وأقول:
33
جد خاص بالدارات المستبدَّة ،وهو القربى من المستبدِّ التم ّ
بالفعل كالعوان والعمال ،أو بالقوة كالملقَّبين بنحو دوق وبارون،
ب الصولة ،أو الموسومين ب العزة ور ّ والمخاطبين بنحو ر ِّ
جد هو أن ُ ف آخر ،التم ّبالنياشين ،أو المطوَّقين بالحمائل ،وبتعري ٍ
ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبدِّ ليحرق بها شرف
المساواة في النسانية.
ً ّ
ف أجلى :هو أن يتقلد الّرجل سيفا من قِبَل الجبارين وبوص ٍ
يبرهن به على أنَّه جلد في دولة الستبداد ،أو يعل ِّق على صدره
وساما ً مشعرا ً بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان ،أو
يتزين بسيور مزركشة تنبئ بأنّه صار مخنَّثا ً أقرب إلى النساء منه
إلى الرجال ،وبعبارة أوضح وأخصر ،هو أن يصير النسان مستبداً
صغيرا ً في كنف المستبدِّ العظم.
ص بالدارات الستبدادية ،وذلك ل َّ
ن جد خا ٌّ ن التم ُّ
ت :إ َّ قل ُ
ل الباء إخلل َ الحكومة الحرة التي تمثِّل عواطف المة تأبى ك ّ
ل حقيقي ،فل ترفع قدر أحد منها إل التساوي بين الفراد إل لفض ٍ
رفعا ً صوريا ً أثناء قيامه في خدمتها؛ أي الخدمة العمومية ،وذلك
تشويقا ً له على التفاني في الخدمة ،كما أنَّها ل تميّز أحدا ً منها
ب إل ما كان علميا ً أو ذكرى لخدمة مهمة بوسام أو تشّرِفه بلق ٍ
َ
ض
ه الناس بعضهم فوق بع ٍ وفّقه الله إليها .وبمثل هذا يرفع الل ُ
درجات في القلوب ل في الحقوق.
وهذا لقب اللوردية مثل ً عند النكليز هو من بقايا عهد
مته خدمة الستبداد ،ومع ذلك ل يناله عندهم غالبا ً إل من يخدم أ َّ
عظيمة ،ويكون من حيث أخلقه وثروته أهل ً لن يخدمها خدمات
مهمة غيرها ،ومن المقرر أن ل اعتبار للورد في نظر المة إل إذا
كان مؤسسا ً أو وارثاً ،أو كانت المة تقرأ في جبهته سطرا ً محرراً
ي بدمه يقسم فيه بشرفه أنه بقلم الوطنية وبمداد الشهامة ممض ٍ ّ
ضمين بثروته وحياته ناموس المة؛ أي قانونها الساسي ،حفيظ
على روحها؛ أي حريتها.
جد ل يكاد يوجد له أثر في المم القديمة إل في دعوى التم ُّ
اللوهية وما معناها من نفع الناس بالنفاس ،أو في دعوى النّجابة
بالنسب التي يهول بها الصلء نسل الملوك والمراء ،وإنما نشأ
شارات في القرون الوسطى ،وراج سوقه جد باللقاب وال ّ التم ّ
م قامت فتاة الحرية تتغنّى بالمساواة في القرون الخيرة ،ث َّ
وتغسل أدرانه على حسب قوتها وطاقتها ،ولم تبلغ غايتها إلى
الن في غير أمريكا.
جدون يريدون أن يخدعوا العامة ،وما يخدعون غير المتم ِّ
نسائهم اللتي يتفحفحن بين عجائز الحي بأنهم كبار العقول؛ كبار
34
النفوس؛ أحرار في شؤونهم ل يُزاح لهم نقاب ،ول تُصفع منهم
مل الساءات والهانات رقاب ،فيحوجهم هذا المظهر الكاذب لتح ُّ
التي تقع عليهم من قِبَل المستبدّ ،بل تحوجهم للحرص على
كتمها ،بل على إظهار عكسها ،بل على مقاومة من يدّعي خلفها،
ق المستبدِّ وإبعادهم عن بل على تغليط أفكار النّاس في ح ِ ّ
ن من شأنه الظلم. اعتقاد أ َّ
جدين أعداء للعدل أنصارا ً للجور ،ل دين وهكذا يكون المتم ّ
ول وجدان ول شرف ول رحمة ،وهذا ما يقصده المستبد ُّ من
إيجادهم والكثار منهم ليتمكَّن بواسطتهم من أن يغّرِر المة على
إضرار نفسها تحت اسم منفعتها ،فيسوقها مثل ً لحرب اقتضاها
محض التجبُّر والعدوان على الجيران ،فيوهمها أنَّه يريد نصرة
الدين ،أو يُسرف بالمليين من أموال المة في ملذاته وتأييد
استبداده باسم حفظ شرف المة وأبهة المملكة ،أو يستخدم
المة في التنكيل بأعداء ظلمه باسم أنهم أعداء لها ،أو يتصَّرف
ن ذلك من في حقوق المملكة والمة كما يشاؤه هواه باسم أ َّ
مقتضى الحكمة والسياسة.
جدين سماسرة لتغرير ن المستبد يتّخذ المتم ّ والخلصة :أ َّ
ب الوطن ،أو توسيع المملكة ،أو المة باسم خدمة الدين ،أو ح ّ
تحصيل منافع عامة ،أو مسؤولية الدولة ،أو الدفاع عن
ل هذه الدواعي الفخيمة العنوان في نك ّ الستقلل ،والحقيقة أ َّ
السماع والذهان ما هي إل تخييل وإيهام يقصد بها رجال
الحكومة تهييج المة وتضليلها ،حتى إنَّه ل يُستثنى منها الدّفاع عن
الستقلل؛ لنّه ما الفرق على أمةٍ مأسورة لزيد أن يأسرها
عمرو؟ وما مثلها إل الدّابة التي ل يرحمها راكب مطمئن ،مالكاً
كان أو غاصباً.
المستبد ُّ ل يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف
القلوب الذين هم كبقر الجنة ل ينطحون ول يرمحون ،يتّخذهم
كأنموذج البائع الغشاش ،على أنّه ل يستعملهم في شيء من
مارة أو سبحة في يد مهامه ،فيكونون لديه كمصحف في خ ّ
زنديق ،وربما ل يستخدم أحيانا ً بعضهم في بعض الشؤون تغليطاً
لذهان العامة في أنَّه ل يعتمد استخدام الراذل والسافل فقط،
ولهذا يُقال :دولة الستبداد دولة بُلهٍ وأوغاد.
المستبد ُّ يجّرِب أحيانا ً في المناصب والمراتب بعض العقلء
الذكياء أيضا ً اغترارا ً منه بأنّه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم
شكل الذي يريد ،فيكونوا له أعوانا ً خبثاء ينفعونه بدهائهم ،ث َّ
م بال ّ
هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر إبعادهم أو
35
ينكّل بهم .ولهذا ل يستقّر عنه المستبد ّ إل الجاهل العاجز الذي
يعبده من دون الله ،أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله.
ن هذه الفئة من العقلء وهنا أنبِّه فكر المطالعين إلى أ َّ
المناء بالجملة ،الذين يذوقون عسيلة مجد الحكومة وينشطون
ن بينم يضرب على يدهم لمجَّرد أ َّ لخدمة ونيل مجد النّبالة ،ث َّ
أضلعهم قبسة من اليمان وفي أعينهم بارقة من النسانية ،هي
الفئة التي تتكهرب بعداوة الستبداد وينادي أفرادها بالصلح.
وهذا النقلب قد أعيا المستبدين؛ لنهم ل يستغنون عن التجربة
ول يأمنون هذه المغبّة .ومن هنا نشأ اعتمادهم غالبا ً على
العريقين في خدمة الستبداد ،الوارثين من آبائهم وأجدادهم
الخلق المرضية للمستبدّين ،ومن هنا ابتدأت في المم نغمة
جد بالصالة والنساب ،والمستبدّون المحنّكون يطيلون أمد التم ّ
التجربة بالمناصب الصغيرة فيستعملون قاعدة الترقّي مع
م يختمون مون ذلك برعاية قاعدة القدم ،ث ّ التراخي ،ويس ّ
التجريب بإعطاء المتمّرن خدمة يكون فيها رئيسا ً مطلقا ً ولو في
قرية ،فإن أظهر مهارة في الستبداد ،وذلك ما يسمونه حكمة
الحكومة فبها نعمت ،وإل قالوا عنه :هذا حيوان ،يا ضيعة المل
فيه.
جد فل بد َّ أن نبحث ن للصالة مشاكلة قوية للمجد والتم ّ إ َّ
جدين فأقول: م نعود لموضوع المستبد ّ وأعوانه المتم ّ فيها قليلً ،ث َّ
الصالة صفة قد يكون لها بعض المزايا من حيث الميال
التي يرثها البناء من الباء ،ومن حيث التربية التي تكون
ن الصالة تكون مستحكمة في البيت ولو رياءً ،ومن حيث إ َّ
شهامة مقرونة غالبا ً بشيء من الثروة المعينة على مظاهر ال ّ
والرحمة ،ومن حيث تقويتها العلقة بالمة والوطن خوف مذلّة
ن أهلها يكونون منظورين دائما ً فيتحاشون الغتراب ،ومن حيث إ َّ
المعائب والنقائص بعض التحاشي.
وبيوت الصالة تنقسم إلى ثلثة أنواع :بيوت علم وفضيلة،
وبيوت مال وكرم ،وبيوت ظلم وإمارة .وهذا الخير هو القسم
م موقعاً ،وهم –كما سبقت الشارة إليه -مطمح الكثر عددا ً واله ّ
نظر المستبد ّ في الستعانة وموضع ثقته ،وهم الجند الذي تجتمع
ن يضحك في وجههم ضحكة. تحت لوائه بسهولة ،وربما يكفيه أ ْ
فلننظر ما هو نصيب أهل هذا القسم من تلك المزايا الموروثة:
هل يرث البن عن جده المؤسس لمجده أميالَه في العدالة
ب على غير التّرف المصغِّر للعقول، ب ويش ُّ ولم توجد؟ أم يد ُّ
المميت للهمم؟ أم يتربّى على غير الوقار المضحك للباطل،
سائد فيما بين العائلة في بيتهم؟ أم يستخدم الثروة في غير ال ّ
36
الملذ الجسمية الدنيئة البهيمية وتلك البّهة الطاووسية الباطلة؟
أم يتمثَّل بغير أقران السوء المتملقين المنافقين؟ أم ل يستحقر
خلق منها جنابه؟ أم ل قومه لجهلهم قدر النُّطفة الملعونة التي ُ
دّرونه قدره حسبما هو قائم في مخيلة يبغض العلماء الذين ل يق ِ
ُ
خيلئه؟ أم يرى لجنابه مقّرا ً يليق به غير مقعد التحك ّم ومستراح
التآمر؟ أم يستحي من النّاس؟ ومن هم النّاس؟ وما النّاس عند
خلقت لخدمته! حضرته غير أشباح عندها أرواح ُ
وهذه حالة الكثرين من الصلء ،على أننا ل نبخس حقَّ من
نال منهم حظا ً من العلم وأوتي الحكمة وأراد الله به خيرا ً فأصابه
ن هؤلء – وقليل ما بنصيب من القهر انخفض به شاموخ أنفه ،فإ َّ
هم -ينجبون نجابة عظيمة ،فيصدق عليهم أنَّهم قد ورثوه قوّة
شر ،واستفادوا من أنفة القلب يستعملونها في الخير ل في ال ّ
الكبرياء كالجسارة على العظماء ،وهكذا تتحول فيهم ميزة الشّرِ
ب شامخ من نحو الحنين إلى الوطن وأهله، س ٍح َ
على فائض خير و َ
والنين لمصابه ،والقدام على العظائم في سبيل القوم ،وأمثال
جباء إذا كثروا في أمة يوشك أن يترقّى منهم آحاد هؤلء النوابغ الن ُ َ
إلى درجة الخوارق فيقودوا أممهم إلى درجة النجاح والفلح ،ول
ن اجتماع نفوذ النسب وقوة الحسب يفعلن ول عجب غرو فإ َّ
ه فعل المستبدِّ العادل الذي ينشده الشرقيون ،وخصوصاً َ
شب َ َ
المسلمون؛ وإن كان العقل ل يجوز أن يتَّصف بالستبداد مع
ساقطة التي قد مة ال ّ
العدل غير الله وحده ،أل قاتل الله اله ّ
تتسفّل بالنسان إلى عدم إتعاب الفكر فيما يطلب هل هو ممكن
أم هو محال؟!
ل قبيلة الصلء ،باعتبار أكثريتهم ،هم جرثومة البلء في ك ِّ
ن ميَّزت ن بني آدم داموا إخوانا ً متساوين إلى أ ْ ل قبيل .ل َّ ومن ك ِّ
صدفة بعض أفرادهم بكثرة النّسل ،فنشأت منها القوات ال ُّ
ظ هذه حفْ ُ
العصبية ،ونشأ من تنازعها تميُّز أفراد على أفراد ،و ِ
الميزة أوجد الصلء .فالصلء في عشيرة أو أمة إذا كانوا
متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة
أشراف ،ومتى وُجد بيت من الصلء يتميز كثيرا ً في القوة على
باقي البيوت يستبد ُّ وحده ويؤسس الحكومة الفردية المقيدة إذا
لباقي البيوت بقية بأس ،أو المطلقة إذا لم يبقَ أمامه من يتَّقيه.
مة أصلء بالكلية ،أو وجد، بناءً عليه ،إذا لم يوجد في أ ّ
ت غالب ،أقامت تلك لنفسها حكومة ولكن؛ كان لسواد الناس صو ٌ
انتخابية ل وراثة فيها ابتداءً؛ ولكن ،ل يتوالى بعض متولين إل
ل فريق منهم يسعى لجتذاب ويصير أنسالهم أصلء يتناظرون ،ك ُّ
طرف من المة استعدادا ً للمغالبة وإعادة التاريخ الول.
37
ومن أكبر مضاّر الصلء أنهم ينهمكون أثناء المغالبة على
إظهار البَّهة والعظمة ،سترهبون أعين الناس ويسحرون عقولهم
م إذا غلب غالبهم واستبد َّ بالمر ل يتركها ويتكبّرون عليهم .ث َّ
دّ في نظر الناس. الباقون للفتهم لذتها ولمضاهاة المستب ِ
والمستبد ُّ نفسه ل يحملهم على تركها ،بل يدُّر عليهم المال
ويعينهم عليها ،ويعطيهم اللقاب والُّرتب وشيئا ً من النّفوذ
ُ
والتسل ّط على الناس ليتلهّوا بذلك عن مقاومة استبداده ،ولجل
أن يألفوها مديداً ،فتفسد أخلقهم ،فينفر منهم الناس ،ول يبقى
لهم ملجأ غير بابه ،فيصيرون أعوانا ً له بعد أن كانوا أضداداً.
ويستعمل المستبد ُّ أيضا ً مع الصلء سياسة الشد ّ والّرخاء،
والمنع والعطاء ،واللتفات والغضاء كي ل يبطروا ،وسياسة
إلقاء الفساد وإثارة الشحناء فيما بينهم كي ل يتفقوا عليه ،وتارة
يعاقب عقابا ً شديدا ً باسم العدالة إرضاءً للعوام ،وأخرى يقرنهم
بأفراد كانوا يقبِّلون أذيالهم استكبارا ً فيجعلهم سادة عليهم
يفركون آذانهم استحقاراً ،يقصد بذلك كسر شوكتهم أمام إمام
ن المستبد ّ يذلل الناس وعصر أنوفهم أمام عظمتهم .والحاصل أ َّ
ل وسيلة حتى يجعلهم مترامين بين رجليه كي يتَّخذهم الصلء بك ِّ
لجاما ً لتذليل الرعية ،ويستعمل عين هذه السياسة مع العلماء
م من أحدهم رائحة الغرور بعقله أو ورؤساء الديان الذين متى ش َّ
علمه ينكل به أو يستبدله بالحمق الجاهل إيقاظا ً له ولمثاله من
ن من أن إدارة الظلم محتاجة إلى شيء من العقل أو ك ِّ
ل ظا ٍ ّ
الجو
ّ القتدار فوق مشيئة المستبدِّ .وبهذه السياسة ونحوها يخلو
ش يقلبه الصرصر في فيعصف وينسف ويتصَّرف في الرعية كري ٍ
جوٍّ محرق.
المستبد ُّ في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه
الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنسانا ً فصار إلهاً .ثم يُرجع
ل عاجز وأنَّه ما النظر فيرى نفسه في نفس المر أعجز من ك ِّ
نال ما نال إل بواسطة من حوله من العوان ،فيرفع نظره إليهم
فيسمع لسان حالهم يقول له :ما العرش؟ وما التاج؟ وما
الصولجان؟ ما هذه إل أوهام في أوهام .هل يجعلك هذا الريش
في رأسك طاووسا ً وأنت غراب؟ أم تظن الحجار البراقة في
ن زينة صدرك ومنكبيك تاجك نجوما ً ورأسك سماء؟ أم تتوهم أ َّ
ن من هذه الرض؟ والله ما مكَّنك أخرجتك عن كونك َقطعة طي ٍ
في هذا المقام وسل ّطك على رقاب النام إل شعوذتنا وسحرنا
وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا ،فانظر أيها
الصغير المكبَّر الحقير الموقّر كيف تعيش معنا!
38
م يلتفت إلى جماهير الّرعية المتفرجين ،منهم الطائشين ث َّ
المهللين المسب ِّحين بحمده ،ومنهم المسحورين المبهوتين كأنهم
ن خلل الساكتين بعض أموات من حين ،ولكن؛ يتجلّى في فكره أ َّ
مة شؤوناً ن لنا معاشر ال َّ أفراد عقلء أمجاد يخاطبونه بالعيون؛ بأ َّ
عمومية وكَّلناك في قضائها على ما نريد ونبغي ،ل على ما تريد
حقَّ لك الحترام ،وإن مرت مكَْرنا ن وفَّيت حقَّ الوكالة ُ فتبغي .فإ ْ
ن مكر الله عظيم. َ وحاقت بك العاقبة ،أل إ ّ
وعندئذ ٍ يرجع المستبد ُّ إلى نفسه قائلً :العوان العوان،
ش من الوغاد أحارب سدنة أسلمهم القياد وأردفهم بجي ٍ ملَة ال َّ ح َ
ال َ
ك كيفما ْ
مل ٌ بهم هؤلء العبيد العقلء ،وبغير هذا الحزم ل يدوم لي ُ
رضا ً للمناقشة منغِّصا ً في نعيم أكون ،بل أبقى أسيرا ً للعدل مع ّ ِ
الملك ،ومن العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطاناً
جبارا ً متفّرِدا ً قهّاراً.
الحكومة المستبدّة تكون طبعا ً مستبدّة في كل فروعها من
المستبد ّ العظم إلى الشرطي ،إلى الفّراش ،إلى كنائس
ف إل من أسفل أهل طبقته أخلقاً، ل صن ٍ الشوارع ،ول يكون ك ُّ
لن السافل ل يهمهم طبعا ً الكرامة وحسن السمعة ،إنما غاية
مسعاهم أن يبرهنوا لمخدوهم بأنهم على شاكلته ،وأنصار لدولته،
ي كان ولو بشرا ً أم خنازير ،آبائهم وشرهون لكل السقطات من أ ٍ ّ
أم أعدائهم ،وبهذا يأمنهم المستبد ُّ ويأمنونه فيشاركهم
ل حسب ويشاركونه .وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويق ُّ
شدة الستبداد وخفّته ،فكلما كان المستبد ُّ حريصا ً على العسف
جدين العاملين له المحافظين عليه، احتاج إلى زيادة جيش المتم ّ
واحتاج إلى مزيد الدقّة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين
مة ،واحتاج لحفظ النسبة بينهم في ن أو ذ ّ ل أثر عندهم لدي ٍ
المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعاً
ة وقرباً ،ولهذا ،ل بد َّ أن يكون الوزير العظم وخصال ً أعلهم وظيف ً
للمستبد ّ هو اللئيم العظم في المة ،ثم من دونه لؤماً ،وهكذا
تكون مراتب الوزراء والعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في
التشريفات والقربى منه .وربما يغتُّر المطالع كما اغتَّر كثير من
المؤّرِخين البسطاء بأن بعض وزراء المستبد ّ يتأوهون من
المستبد ّ ويتشكّون من أعماله ويجهرون بملمه ،ويظهرون لو أنّه
ساعدهم المكان لعملوا وفعلوا وافتدوا المة بأموالهم ،بل
وحياتهم ،فكيف – والحالة هذه -يكون هؤلء لؤماء؟ بل كيف ذلك
جد منهم الذين خاطروا بأنفسهم والذين أقدموا فعل ً على وقد وُ ِ
مقاومة الستبداد فنالوا المراد أو بعضه أو هلكوا دونه؟
39
ف
ن خائ ٌ ط عن أنّه خائ ٌ ن المستبد َّ ل يخرج ق ّ فجواب ذلك أ ّ
ج لعصابة تعينه وتحميه ،فهو ووزراؤه كزمرة لصوص :رئيس محتا ٌ
وأعوان .فهل يجوِّز العقل أن يُنتخب رفاق من غير أهل الوفاق،
وهو هو الذي ل يستوزر إل بعد تجربة واختبار عمرا ً طويلً؟!
ر هل يمكن أن يكون الوزير متخل ِّقا ً بالخير حقيقة ،وبال َّ
ش ِّ
ظاهرا ً فيخدع المستبد ّ بأعماله ،ول يخاف من أنَّه كما نصبه
وأعَّزه بكلمة يعزله ويذلّه؟!
ن الناس أعداؤه بناءً عليه ،فالمستبد ّ وهو من ل يجهل أ َّ
لظلمه ،ل يأمن على بابه إل من يثق به أنَّه أظلم منه للناس،
وأبعد منه على أعدائه ،وأما تلوُّم بعض الوزراء على لوم المستب ّ
د
فهو إن لم يكن خداعا ً للمة فهو حنقٌ على المستبدّ؛ لنه بخس
ذلك المتلوّم حقه ،فقدَّم عليه من هو دونه في خدمته بتضحية
دينه ووجدانه .وكذلك ل يكون الوزير أمينا ً من صولة المستبد ّ في
صحبته ما لم يسبق بينهما وفاق واتِّفاق على خيرة الشيطان؛ لن
ل شّر ،ويبغضه الوزير محسود ٌ بالطبع ،يتوقّع له المزاحمون ك َّ
ل ساعةٍ للشكايات ف في ك ِّ الناس ولو تبعا ً لظالمهم ،وهو هد ٌ
والوشايات .كيف يكون عند الوزير شيءٌ من التقّوى أو الحياء أو
شفقة على المة ،وهو العالم العدل أو الحكمة أو المروءة أو ال ّ
ل سوء ،وتشمت بمصائبه، ن المة تبغضه وتمقته وتتوقّع له ك َّ بأ َّ
لفل ترضى عنه ما لم يتّفق معها على المستبدّ ،وما هو بفاع ٍ
ذلك أبدا ً إل إذا يئس من إقباله عنده ،وإن يئس وفعل فل يقصد
ب لمستجدٍّ جديد عساه يستوزره ط ،إنما يريد فتح با ٍ نفع المة ق ّ
فيؤازره على وزره.
مة ن وزير المستبد ّ هو وزير المستبدّ ،ل وزير ال ّ والنتيجة أ َّ
د
كما في الحكومات الدستورية .كذلك القائد يحمل سيف المستب ّ
ليغمده في الرقاب بأمر المستبد ّ ل بأمر المة ،بل هو يستعيذ أن
مة ل تقل ِّدن ال ّ تكون المة صاحبة أمر ،لما يعلم من نفسه أ َّ
القيادة لمثله.
بناءً عليه؛ ل يغتُّر العقلء بما يتشدَّق به الوزراء والقوّاد من
النكار على الستبداد والتفلسف بالصلح وإن تل َّهفوا وإن تأففوا،
ول ينخدعون لمظاهر غيرتهم وإن ناحوا وإن بكوا ،ول يثقون بهم
ن ذلك كلّه ينافي سيرهم ول بوجدانهم مهما صلّوا وسبّحوا ،ل َّ
وسيرتهم ،ول دليل على أنّهم أصبحوا يخالفون ما شبّوا وشابوا
عليه ،هم أقرب أن ل يقصدوا بتلك المظاهر غير إقلق المستبدِّ
وتهديد سلطته ليشاركهم في استدرار دماء الّرعية؛ أي أموالها.
نعم ،كيف يجوز تصديق الوزير والعامل الكبير الذي قد ألف عمراً
كبيرا ً لذ ّة البذخ وعّزة الجبروت في أنَّه يرضى بالدخول تحت
40
مة ،ويخاطر بعرض سيفه عليها فتحلّه أو تكسره تحت حكم ال ّ
أرجلها .أليس هو عضوا ً ظاهر الفساد في جسم تلك المة التي
ل الميال الشريفة العالية فأبعدها عن النس قتل الستبداد فيها ك َّ
والنسانية ،حتّى صار الفلح التعيس منها يؤخذ للجندية وهو
م السترة العسكرية إل ويتلبَّس بش ّ ِ
ر يبكي ،فل يكاد يلبس ك َّ
مر على أمه وأبيه ،ويتمّرد على أهل قريته وذويه، الخلق ،فيتن ّ
َ ً ُّ
ن أكابر خ وعدو؟! إ ّ ويكظ أسنانه عطشا للدماء ل يميّز بين أ ٍ
ل ما يتظاهرون به رجال عهد الستبداد ل أخلق لهم ول ذمة ،فك ُّ
ّ
ش المة المسكينة التي َ مر والتألّم يقصدون به غ ّ أحيانا ً من التذ ّ
ن الستبداد القائم يطمعهم في انخداعها وانقيادها لهم علمهم بأ َّ
متهم قد أعمى أبصارها وبصائرها ،وخدَّر بهم والمستعمر به َّ
أعصابها ،فجعلها كالمصاب ببحران العمى ،فهي ل ترى غير هول
ن من البلء ول تدري ما هو تداويه ،ول وظلم وشدة وآلم ،فتئ ُّ
من أين جاءها لتصدَّه ،فتواسيها فئة من أولئك المتعاظمين باسم
الدين يقولون :يا بؤساء؛ هذا قضاءٌ من السماء ل مرد َّ له،
فالواجب تلقّيه بالصبر والرضاء واللتجاء إلى الدعاء ،فاربطوا
ألسنتكم عن اللغو والفضول ،واربطوا قلوبكم بأهل السكينة
والخمول ،وإياكم والتدبير فإن الله غيور ،وليكن وِْردُكم :اللهم
انصر سلطاننا ،وآمنّا في أوطاننا ،واكشف عنا البلء ،أنت حسبنا
ونعم الوكيل .ويغرر المة آخرون من المتكبرين بأنهم الطباء
الرحماء المهتمون بمداواة المرض ،إنَّما هم يترقَّبون سنوح
الفرص ،وكل الفريقين –والله -إما أدنياء جبناء ،أو هم خائنون
مخادعون ،يريدون التثبيط والتلبيد والمتنان على الظالمين.
من دلئل أن أولئك الكابر مغّرِرون مخادعون يظهرون ما ل
يُبطنون ،أنَّهم ل يستصنعون إل السافل الراذل من الناس ،ول
يميلون لغير المتملقين المنافقين من أهل الدين ،كما هو شأن
صاحبهم المستبد ّ الكبر ،ومنها أنَّه قد يوجد فيهم من ل يتنَّزل
ن؛ ليس فيهم العفيف عن الكثير، لقليل الرشوة أو السرقة ،ولك ْ
وكفى بما يتمتعون من الثروات الطائلة التي ل منبت لها غير
المستبيح الفاخر بمشاركة المستبد َّ في امتصاصه دم المة ،وذلك
بأخذهم العطايا الكبيرة ،والرواتب الباهظة ،التي تعادل أضعاف
ما تسمح به الدارة العادلة لمثالهم؛ لنها إدارة راشدة ل تدفع
أجورا ً زائدة .ومنها أنهم ل يصرفون شيئا ً ولو سرا ً من هذا
السحت الكثير في سبيل مقاومة الستبداد الذي يزعمون أنهم
أعداؤه ،إنما يصرف بعضهم منه شيئا ً في الصدقات الطفيفة
ة ورياءً ،وكأنهم يريدون أن يسرقوا أيضا ً قلوب وبناء المعابد سمع ً
الناس بعد سلب أموالهم أو أنهم يرشون الله ،أل ساء ما
41
ذّرون ،فل تكفي أحدهم ن أكثرهم مسرفون مب ِ يتوهمون .ومنها أ َّ
الرواتب المعتدلة التي يمكن أن ينالها أجرة خدمة ل ثمن ذمة.
لُ
ومنها أنه قد يكون أحدهم شحيحا ً مقتِّرا ً في نفقاته؛ بحيث يخ ّ
في شرف مقامه ،فل يصرف نصف أو ربع راتبه مع أنَّه يقبضه
زائدا ً على أجر مثله لجل حفظ شرف المقام ،العائد لشرف
ن الكابر ح يكون خائنا ً ومهيناً .والحاصل أ َّ ش ّ المة ،وبهذا ال ُّ
حريصون على أن يبقى الستبداد مطلقا ً لتبقى أيديهم مطلقة في
الموال.
هذا ول ينكر التاريخ أن الزمان أوجد نادرا ً بعض وزراء
م ندموا على ما فَّرطوا فتابوا وازروا الستبداد عمرا ً طويلً ،ث َّ
وأنابوا ،ورجعوا نصف المة واستعدوا بأموالهم وأنفسهم لنقاذها
من داء الستبداد .ولهذا؛ ل يجوز اليأس من وجود بعض أفراد من
الوزراء والقواد عريقين في الشهامة ،فيظهر فيهم سّر الوراثة
ولو بعد بطون أو بعد الربعين وربما السبعين من أعمارهم
ظهورا ً بيّنا ً تلل في محيا صاحبه ثريا صدق النجابة .ول ينبغي لمةٍ
ن وجودهم من أن تتكل على أن يظهر فيها أمثال هؤلء ،ل َّ
صدف التي ل تُبنى عليها آمال ول أحلم. ال ُّ
ن المستبد فرد ٌ عاجز ل حول له ول وقوة إل والنتيجة أ َّ
ك جلدها غير ُ بالمتمجدين ،والمة؛ أي أمة كانت ،ليس لها من يح ّ
ظفرها ،ول يقودها إل العقلء بالتنوير والهداء والثبات ،حتى إذا
ما اكفهَّرت سماء عقول بينها قيَّض الله لها من جمعهم الكبير
أفرادا ً كبار النفوس قادة أبرار يشترون لها السعادة بشقائهم
والحياة بموتهم؛ حيث يكون الله جعل في ذلك لذتهم ،ولمثل تلك
ساقاًالشهادة الشريفة خلقهم ،كما خلق رجال عهد الستبداد ف ّ
جارا ً مهالكهم الشهوات والمثالب .فسبحان الذي يختار من فُ ّ
يشاء لما يشاء ،وهو الخلّق العظيم.
42
الستبداد والمجد
ل لك ِّ
ل حكَم البالغة للمتأخرين قولهم" :الستبداد أص ٌ من ال ِ
ن الباحث المدقق في أحوال البشر وطبائع داء" ،ومبنى ذلك أ َّ
ل واد ،وقد سبق أ َّ
ن ن للستبداد أثرا ً سيئا ً في ك ِّ الجتماع كشف أ َّ
الستبداد يضغط على العقل فيفسده ،وإني الن أبحث في أنَّه
جد. كيف يُغالب الستبداد المجد فيفسده ،ويقيم مقامه التم ُّ
ب واحترام في القلوب ،وهو المجد :هو إحراز المرء مقام ح ٍّ
ي أو زاهد ،ول َ
ل إنسان ،ل يترفّع عنه نب ٌّ مطلب طبيعي شريف لك ِّ
َ َ ط عنه دن ٌّ ُّ
ي أو خامل .للمجد لذ ّة ٌ روحية تقارب لذ ّة العبادة ينح
عند الفانين في الله تعالى ،وتعادل لذَّة العلم عند الحكماء ،وتربو
على لذَّة امتلك الرض مع قمرها عند المراء ،وتزيد على لذَّة
مفاجأة الثراء عند الفقراء .ولذا؛ يزاحم المجد في النفوس
منزلة الحياة.
ل على بعض الباحثين أيّ الحرصين أقوى؟ حرص وقد أشك َ َ
خرون الحياة أم حرص المجد؟ والحقيقة التي عوَّل عليها المتأ ِّ
ن المجد وميَّزوا بها تخليط ابن خلدون هي التفضيل؛ وذلك أ َّ
ة ،وعند النُّجباء ضل على الحياة عند الملوك والقُوَّاد وظيف ً مف َّ
ب الحياة ممتاز على المجد عند الُسراء ة ،وح ُّ والحرار حمي ّ ً
ة ،وعند الجبناء والنساء ضرورةً .وعلى هذه القاعدة والذِّلء طبيع ً
يكون أئمة آل البيت –عليهم السلم -معذورين في إلقاء أنفسهم
ما كانوا نجباء أحراراً ،فحميّتهم جعلتهم في تلك المهالك؛ لنَّهم ل ّ
ل مثل حياة ابن خلدون الذي ضلون الموت كراما ً على حياة ذ ٍّ يف ِّ
خطّأ أمجاد البشر في إقدامهم على الخطر إذا هدَّد مجدهم ،ذاهلً
جدت فيها طبيعة الحيوان ،ومنها البلبل ،وُ ِ ن بعض أنواع على أ َّ
ل ،وأ َّ ُ
اختيار النتحار أحيانا ً تخل ّصا ً من قيود الذ ُّ ِّ
ن أكثر سباع الطير
حَّرة سَرت كبيرة تأبى الغذاء حتى تموت ،وأ َّ ُ
ن ال ُ والوحوش إذا أ ِ
ضها ،والماجدة تموت ول تأكل بثدييها! تموت ول تأكل بعِر ِ
43
المجد ل يُنال إل بنوٍع من البذل في سبيل الجماعة ،وبتعبير
الشرقيين في سبيل الله أو سبيل الدّين ،وبتعبير الغربيين في
سبيل المدنية أو سبيل النسانية .والمولى تعالى –المستحقُّ
التّعظيم لذاته -ما طالب عبيده بتمجيده إل وقرن الطلب بذكر
نعمائه عليهم.
وهذا البذل إما بذل مال للنفع العام ويسمى مجد الكرم؛
مى وهو أضعف المجد ،أو بذل العلم النّافع المفيد للجماعة؛ ويس ّ
مجد الفضيلة ،أو بذل النّفس بالتعُّرض للمشاقّ والخطار في
قّ وحفظ النِّظام؛ ويُسمى مجد النّبالة ،وهذا سبيل نصرة الح ِ
أعلى المجد؛ وهو المراد عند الطلق ،وهو المجد الذي تتوق إليه
ن إليه أعناق النبلء .وكم له من عشاق تلذُّ النفوس الكبيرة ،وتح ُّ
لهم في حبه المصاعب والمخاطرات ،وأكثرهم يكون من مواليد
صدف من عيون الظالمين المذلّين ،أو يكون بيوت نادرة حمتها ال ُّ
من نجباء بيوت ما انقطعت فيها سلسلة المجاهدين وما انقطعت
عجائزها عن بكائهم .ومن أمثلة المجد قولهم :خلق الله للمجد
رجال ً يستعذبون الموت في سبيله ،ول سبيل إليه إل بعظيم اله ّ
مة
والقدام والثّبات ،تلك الخصال الثّلث التي بها تقدَّر قيم الرجال.
وهذا نيرون الظالم سأل أغربين الشاعر وهو تحت النَّطع:
من أشقى الناس؟ فأجابه معّرِضا ً به :من إذا ذكر الناس
َ
الستبداد كان مثال ً له في الخيال .وكان ترايان العادل إذا قل ّد
سيفا ً لقائد يقول له" :هذا سيف المة أرجو أن ل أتعدّى القانون
ب في عنقي" .وخرج قيس من مجلس الوليد فيكون له نصي ٌ
ن نعال الصعاليك مغضبا ً يقول" :أتريد أن تكون جباراً؟ والله؛ إ َّ
لطول من سيفك! .وقيل لحد الباة" :ما فائدة سعيك غير جلب
الشقاء على نفسك؟" .فقال" :ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص
ي ضمان ي أن أفي بوظيفتي وما عل َّ الظالمين!" .وقال آخر" :عل َّ
القضاء" .وقيل لحد النبلء" :لماذا ل تبني لك داراً؟" فقال" :ما
أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في
القبر" ،وهذه ذات النطاقين (أسماء بنت أبي بكر رضي الله
عنها) وهي امرأة عجوز تودِّع ابنها بقولها" :إن كنت على الحقّ
فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت" .وهذا مكماهون رئيس
جمهورية فرنسا استبد َّ في أمر فدخل عليه صديقه غامبتا وهو
يقول" :المر للمة ل إليك ،فاعتدل ،أو اعتزل ،وإل فأنت
المخذول المهان الميت!!
ب للنفوس ،ل تفتأ تسعى ن المجد هو المجد ُ محب َّ ٌ والحاصل أ َّ
ل إنسان على سٌر في عهد العدل لك ِّ وراءه وترقى مراقيه ،وهو مي َّ
44
مته ،وينحصر تحصيله في زمن الستبداد حسب استعداده وه َّ
بمقاومة الظّلم على حسب المكان.
جد؟جد .وما هو التم ّ يقابل المجد ،من حيث مبتناه ،التم ُّ
ظ هائل المعنى ،ولهذا أراني أتعثَّر جد لف ٌ جد؟ التم ُّ وماذا يكون التم ّ
بالكلم وأتلعثم في الخطاب ،ول سيما من حيث أخشى مساس
إحساس بعض المطالعين .إن لم يكن من جهة أنفسهم فمن جهة
أجدادهم الولين ،فأناشدهم الوجدان والحقّ المهان ،أن يتجَّردوا
م هم مثلي ومثل سائر الجانين دقيقتين من النّفس وهواها ،ث َّ
على النسانية ل يعدمون تأويلً .وإنني أعل ِّل النّفس بقبولهم
تهويني هذا ،فأنطلق وأقول:
جد خاص بالدارات المستبدَّة ،وهو القربى من المستبدِّ التم ّ
َ
بالفعل كالعوان والعمال ،أو بالقوة كالملقّبين بنحو دوق وبارون،
ب الصولة ،أو الموسومين ب العزة ور ّ والمخاطبين بنحو ر ِّ
جد هو أن ف آخر ،التم ُّبالنياشين ،أو المطوَّقين بالحمائل ،وبتعري ٍ
ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبدِّ ليحرق بها شرف
المساواة في النسانية.
ف أجلى :هو أن يتقلّد الّرجل سيفا ً من قِبَل الجبارين وبوص ٍ
يبرهن به على أنَّه جلد في دولة الستبداد ،أو يعل ِّق على صدره
وساما ً مشعرا ً بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان ،أو
يتزين بسيور مزركشة تنبئ بأنّه صار مخنَّثا ً أقرب إلى النساء منه
إلى الرجال ،وبعبارة أوضح وأخصر ،هو أن يصير النسان مستبداً
صغيرا ً في كنف المستبدِّ العظم.
نص بالدارات الستبدادية ،وذلك ل َّ جد خا ٌّ ن التم ُّ
ت :إ َّقل ُ
ل الباء إخلل َ الحكومة الحرة التي تمث ِّل عواطف المة تأبى ك ّ
ل حقيقي ،فل ترفع قدر أحد منها إل التساوي بين الفراد إل لفض ٍ
رفعا ً صوريا ً أثناء قيامه في خدمتها؛ أي الخدمة العمومية ،وذلك
تشويقا ً له على التفاني في الخدمة ،كما أنَّها ل تميّز أحدا ً منها
ب إل ما كان علميا ً أو ذكرى لخدمة مهمة بوسام أو تشّرِفه بلق ٍ
َ
ض
ه الناس بعضهم فوق بع ٍ وفّقه الله إليها .وبمثل هذا يرفع الل ُ
درجات في القلوب ل في الحقوق.
وهذا لقب اللوردية مثل ً عند النكليز هو من بقايا عهد
مته خدمة الستبداد ،ومع ذلك ل يناله عندهم غالبا ً إل من يخدم أ َّ
عظيمة ،ويكون من حيث أخلقه وثروته أهل ً لن يخدمها خدمات
مهمة غيرها ،ومن المقرر أن ل اعتبار للورد في نظر المة إل إذا
كان مؤسسا ً أو وارثاً ،أو كانت المة تقرأ في جبهته سطرا ً محرراً
ي بدمه يقسم فيه بشرفه أنه بقلم الوطنية وبمداد الشهامة ممض ٍ ّ
45
ضمين بثروته وحياته ناموس المة؛ أي قانونها الساسي ،حفيظ
على روحها؛ أي حريتها.
جد ل يكاد يوجد له أثر في المم القديمة إل في دعوى التم ُّ
اللوهية وما معناها من نفع الناس بالنفاس ،أو في دعوى النّجابة
بالنسب التي يهول بها الصلء نسل الملوك والمراء ،وإنما نشأ
شارات في القرون الوسطى ،وراج سوقه جد باللقاب وال ّ التم ّ
م قامت فتاة الحرية تتغنّى بالمساواة في القرون الخيرة ،ث َّ
وتغسل أدرانه على حسب قوتها وطاقتها ،ولم تبلغ غايتها إلى
الن في غير أمريكا.
جدون يريدون أن يخدعوا العامة ،وما يخدعون غير المتم ِّ
نسائهم اللتي يتفحفحن بين عجائز الحي بأنهم كبار العقول؛ كبار
النفوس؛ أحرار في شؤونهم ل يُزاح لهم نقاب ،ول تُصفع منهم
مل الساءات والهانات رقاب ،فيحوجهم هذا المظهر الكاذب لتح ُّ
التي تقع عليهم من قِبَل المستبدّ ،بل تحوجهم للحرص على
كتمها ،بل على إظهار عكسها ،بل على مقاومة من يدّعي خلفها،
ق المستبدِّ وإبعادهم عن بل على تغليط أفكار النّاس في ح ِ ّ
ن من شأنه الظلم. اعتقاد أ َّ
جدين أعداء للعدل أنصارا ً للجور ،ل دين وهكذا يكون المتم ّ
ول وجدان ول شرف ول رحمة ،وهذا ما يقصده المستبد ُّ من
إيجادهم والكثار منهم ليتمكَّن بواسطتهم من أن يغّرِر المة على
إضرار نفسها تحت اسم منفعتها ،فيسوقها مثل ً لحرب اقتضاها
محض التجبُّر والعدوان على الجيران ،فيوهمها أنَّه يريد نصرة
الدين ،أو يُسرف بالمليين من أموال المة في ملذاته وتأييد
استبداده باسم حفظ شرف المة وأبهة المملكة ،أو يستخدم
المة في التنكيل بأعداء ظلمه باسم أنهم أعداء لها ،أو يتصَّرف
ن ذلك من في حقوق المملكة والمة كما يشاؤه هواه باسم أ َّ
مقتضى الحكمة والسياسة.
جدين سماسرة لتغرير ن المستبد يتّخذ المتم ّ والخلصة :أ َّ
ب الوطن ،أو توسيع المملكة ،أو المة باسم خدمة الدين ،أو ح ّ
تحصيل منافع عامة ،أو مسؤولية الدولة ،أو الدفاع عن
ل هذه الدواعي الفخيمة العنوان في نك ّ الستقلل ،والحقيقة أ َّ
السماع والذهان ما هي إل تخييل وإيهام يقصد بها رجال
الحكومة تهييج المة وتضليلها ،حتى إنَّه ل يُستثنى منها الدّفاع عن
الستقلل؛ لنّه ما الفرق على أمةٍ مأسورة لزيد أن يأسرها
عمرو؟ وما مثلها إل الدّابة التي ل يرحمها راكب مطمئن ،مالكاً
كان أو غاصباً.
46
المستبد ُّ ل يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف
القلوب الذين هم كبقر الجنة ل ينطحون ول يرمحون ،يتّخذهم
كأنموذج البائع الغشاش ،على أنّه ل يستعملهم في شيء من
مارة أو سبحة في يد مهامه ،فيكونون لديه كمصحف في خ ّ
زنديق ،وربما ل يستخدم أحيانا ً بعضهم في بعض الشؤون تغليطاً
لذهان العامة في أنَّه ل يعتمد استخدام الراذل والسافل فقط،
ه وأوغاد. ولهذا يُقال :دولة الستبداد دولة بُل ٍ
المستبد ُّ يجّرِب أحيانا ً في المناصب والمراتب بعض العقلء
الذكياء أيضا ً اغترارا ً منه بأنّه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم
شكل الذي يريد ،فيكونوا له أعوانا ً خبثاء ينفعونه بدهائهم ،ث َّ
م بال ّ
هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر إبعادهم أو
ينكّل بهم .ولهذا ل يستقّر عنه المستبد ّ إل الجاهل العاجز الذي
يعبده من دون الله ،أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله.
ن هذه الفئة من العقلء وهنا أنبِّه فكر المطالعين إلى أ َّ
المناء بالجملة ،الذين يذوقون عسيلة مجد الحكومة وينشطون
م يضرب على يدهم لمجَّرد أ َّ
ن بين لخدمة ونيل مجد النّبالة ،ث َّ
أضلعهم قبسة من اليمان وفي أعينهم بارقة من النسانية ،هي
الفئة التي تتكهرب بعداوة الستبداد وينادي أفرادها بالصلح.
وهذا النقلب قد أعيا المستبدين؛ لنهم ل يستغنون عن التجربة
ول يأمنون هذه المغبّة .ومن هنا نشأ اعتمادهم غالبا ً على
العريقين في خدمة الستبداد ،الوارثين من آبائهم وأجدادهم
الخلق المرضية للمستبدّين ،ومن هنا ابتدأت في المم نغمة
جد بالصالة والنساب ،والمستبدّون المحنّكون يطيلون أمد التم ّ
التجربة بالمناصب الصغيرة فيستعملون قاعدة الترقّي مع
م يختمون مون ذلك برعاية قاعدة القدم ،ث ّ التراخي ،ويس ّ
التجريب بإعطاء المتمّرن خدمة يكون فيها رئيسا ً مطلقا ً ولو في
قرية ،فإن أظهر مهارة في الستبداد ،وذلك ما يسمونه حكمة
الحكومة فبها نعمت ،وإل قالوا عنه :هذا حيوان ،يا ضيعة المل
فيه.
جد فل بد َّ أن نبحث ن للصالة مشاكلة قوية للمجد والتم ّ إ َّ
جدين فأقول: م نعود لموضوع المستبد ّ وأعوانه المتم ّ فيها قليلً ،ث َّ
الصالة صفة قد يكون لها بعض المزايا من حيث الميال
التي يرثها البناء من الباء ،ومن حيث التربية التي تكون
ن الصالة تكون مستحكمة في البيت ولو رياءً ،ومن حيث إ َّ
شهامة مقرونة غالبا ً بشيء من الثروة المعينة على مظاهر ال ّ
والرحمة ،ومن حيث تقويتها العلقة بالمة والوطن خوف مذلّة
47
ن أهلها يكونون منظورين دائما ً فيتحاشون الغتراب ،ومن حيث إ َّ
المعائب والنقائص بعض التحاشي.
وبيوت الصالة تنقسم إلى ثلثة أنواع :بيوت علم وفضيلة،
وبيوت مال وكرم ،وبيوت ظلم وإمارة .وهذا الخير هو القسم
م موقعاً ،وهم –كما سبقت الشارة إليه -مطمح الكثر عددا ً واله ّ
نظر المستبد ّ في الستعانة وموضع ثقته ،وهم الجند الذي تجتمع
ن يضحك في وجههم ضحكة. تحت لوائه بسهولة ،وربما يكفيه أ ْ
فلننظر ما هو نصيب أهل هذا القسم من تلك المزايا الموروثة:
هل يرث البن عن جده المؤسس لمجده أميالَه في العدالة
ب على غير التّرف المصغِّر للعقول، ب ويش ُّ ولم توجد؟ أم يد ُّ
المميت للهمم؟ أم يتربّى على غير الوقار المضحك للباطل،
سائد فيما بين العائلة في بيتهم؟ أم يستخدم الثروة في غير ال ّ
الملذ الجسمية الدنيئة البهيمية وتلك البّهة الطاووسية الباطلة؟
أم يتمثَّل بغير أقران السوء المتملقين المنافقين؟ أم ل يستحقر
خلق منها جنابه؟ أم ل قومه لجهلهم قدر النُّطفة الملعونة التي ُ
يبغض العلماء الذين ل يقدِّرونه قدره حسبما هو قائم في مخيلة
خيلئه؟ أم يرى لجنابه مقّرا ً يليق به غير مقعد التحكُّم ومستراح
التآمر؟ أم يستحي من النّاس؟ ومن هم النّاس؟ وما النّاس عند
خلقت لخدمته! حضرته غير أشباح عندها أرواح ُ
وهذه حالة الكثرين من الصلء ،على أننا ل نبخس حقَّ من
نال منهم حظا ً من العلم وأوتي الحكمة وأراد الله به خيرا ً فأصابه
ن هؤلء – وقليل ما بنصيب من القهر انخفض به شاموخ أنفه ،فإ َّ
هم -ينجبون نجابة عظيمة ،فيصدق عليهم أنَّهم قد ورثوه قوّة
شر ،واستفادوا من أنفة القلب يستعملونها في الخير ل في ال ّ
الكبرياء كالجسارة على العظماء ،وهكذا تتحول فيهم ميزة الشّرِ
ب شامخ من نحو الحنين إلى الوطن وأهله، س ٍ
ح َ
على فائض خير و َ
والنين لمصابه ،والقدام على العظائم في سبيل القوم ،وأمثال
جباء إذا كثروا في أمة يوشك أن يترقّى منهم آحاد هؤلء النوابغ الن ُ َ
إلى درجة الخوارق فيقودوا أممهم إلى درجة النجاح والفلح ،ول
ن اجتماع نفوذ النسب وقوة الحسب يفعلن ول عجب غرو فإ َّ
ه فعل المستبدِّ العادل الذي ينشده الشرقيون ،وخصوصاً َ
شب َ َ
المسلمون؛ وإن كان العقل ل يجوز أن يتَّصف بالستبداد مع
ساقطة التي قد مة ال ّ
العدل غير الله وحده ،أل قاتل الله اله ّ
تتسفّل بالنسان إلى عدم إتعاب الفكر فيما يطلب هل هو ممكن
أم هو محال؟!
ل قبيلةالصلء ،باعتبار أكثريتهم ،هم جرثومة البلء في ك ِّ
ن ميَّزت ن بني آدم داموا إخوانا ً متساوين إلى أ ْ ل قبيل .ل َّ ومن ك ِّ
48
صدفة بعض أفرادهم بكثرة النّسل ،فنشأت منها القوات ال ُّ
ظ هذه حفْ ُ
العصبية ،ونشأ من تنازعها تميُّز أفراد على أفراد ،و ِ
الميزة أوجد الصلء .فالصلء في عشيرة أو أمة إذا كانوا
متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة
أشراف ،ومتى وُجد بيت من الصلء يتميز كثيرا ً في القوة على
باقي البيوت يستبد ُّ وحده ويؤسس الحكومة الفردية المقيدة إذا
لباقي البيوت بقية بأس ،أو المطلقة إذا لم يبقَ أمامه من يتَّقيه.
مة أصلء بالكلية ،أو وجد، بناءً عليه ،إذا لم يوجد في أ ّ
ت غالب ،أقامت تلك لنفسها حكومة ولكن؛ كان لسواد الناس صو ٌ
انتخابية ل وراثة فيها ابتداءً؛ ولكن ،ل يتوالى بعض متولين إل
ل فريق منهم يسعى لجتذاب ويصير أنسالهم أصلء يتناظرون ،ك ُّ
طرف من المة استعدادا ً للمغالبة وإعادة التاريخ الول.
ومن أكبر مضاّر الصلء أنهم ينهمكون أثناء المغالبة على
إظهار البَّهة والعظمة ،سترهبون أعين الناس ويسحرون عقولهم
م إذا غلب غالبهم واستبد َّ بالمر ل يتركها ويتكبّرون عليهم .ث َّ
الباقون للفتهم لذتها ولمضاهاة المستبدِّ في نظر الناس.
والمستبد ُّ نفسه ل يحملهم على تركها ،بل يدُّر عليهم المال
ويعينهم عليها ،ويعطيهم اللقاب والُّرتب وشيئا ً من النّفوذ
ُ
والتسل ّط على الناس ليتلهّوا بذلك عن مقاومة استبداده ،ولجل
أن يألفوها مديداً ،فتفسد أخلقهم ،فينفر منهم الناس ،ول يبقى
لهم ملجأ غير بابه ،فيصيرون أعوانا ً له بعد أن كانوا أضداداً.
ويستعمل المستبد ُّ أيضا ً مع الصلء سياسة الشد ّ والّرخاء،
والمنع والعطاء ،واللتفات والغضاء كي ل يبطروا ،وسياسة
إلقاء الفساد وإثارة الشحناء فيما بينهم كي ل يتفقوا عليه ،وتارة
يعاقب عقابا ً شديدا ً باسم العدالة إرضاءً للعوام ،وأخرى يقرنهم
بأفراد كانوا يقبِّلون أذيالهم استكبارا ً فيجعلهم سادة عليهم
يفركون آذانهم استحقاراً ،يقصد بذلك كسر شوكتهم أمام إمام
ن المستبد ّ يذلل الناس وعصر أنوفهم أمام عظمتهم .والحاصل أ َّ
ل وسيلة حتى يجعلهم مترامين بين رجليه كي يتَّخذهم الصلء بك ِّ
لجاما ً لتذليل الرعية ،ويستعمل عين هذه السياسة مع العلماء
م من أحدهم رائحة الغرور بعقله أو ورؤساء الديان الذين متى ش َّ
علمه ينكل به أو يستبدله بالحمق الجاهل إيقاظا ً له ولمثاله من
ن من أن إدارة الظلم محتاجة إلى شيء من العقل أو ل ظا ٍ ّك ِّ
الجو
ّ القتدار فوق مشيئة المستبدِّ .وبهذه السياسة ونحوها يخلو
ش يقلبه الصرصر في فيعصف وينسف ويتصَّرف في الرعية كري ٍ
جوٍّ محرق.
49
المستبد ُّ في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه
الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنسانا ً فصار إلهاً .ثم يُرجع
ل عاجز وأنَّه ما النظر فيرى نفسه في نفس المر أعجز من ك ِّ
نال ما نال إل بواسطة من حوله من العوان ،فيرفع نظره إليهم
فيسمع لسان حالهم يقول له :ما العرش؟ وما التاج؟ وما
الصولجان؟ ما هذه إل أوهام في أوهام .هل يجعلك هذا الريش
في رأسك طاووسا ً وأنت غراب؟ أم تظن الحجار البراقة في
ن زينة صدرك ومنكبيك تاجك نجوما ً ورأسك سماء؟ أم تتوهم أ َّ
ن من هذه الرض؟ والله ما مكَّنك أخرجتك عن كونك َقطعة طي ٍ
في هذا المقام وسل ّطك على رقاب النام إل شعوذتنا وسحرنا
وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا ،فانظر أيها
الصغير المكبَّر الحقير الموقّر كيف تعيش معنا!
م يلتفت إلى جماهير الّرعية المتفرجين ،منهم الطائشين ث َّ
المهللين المسبِّحين بحمده ،ومنهم المسحورين المبهوتين كأنهم
ن خلل الساكتين بعض أموات من حين ،ولكن؛ يتجلّى في فكره أ َّ
مة شؤوناً ن لنا معاشر ال َّ أفراد عقلء أمجاد يخاطبونه بالعيون؛ بأ َّ
عمومية وكَّلناك في قضائها على ما نريد ونبغي ،ل على ما تريد
حقَّ لك الحترام ،وإن مرت مكَْرنا ن وفَّيت حقَّ الوكالة ُ فتبغي .فإ ْ
ن مكر الله عظيم. وحاقت بك العاقبة ،أل إ َّ
وعندئذ ٍ يرجع المستبد ُّ إلى نفسه قائلً :العوان العوان،
ش من الوغاد أحارب سدنة أسلمهم القياد وأردفهم بجي ٍ ملَة ال َّح َ
ال َ
ك كيفما مل ْ ٌ بهم هؤلء العبيد العقلء ،وبغير هذا الحزم ل يدوم لي ُ
رضا ً للمناقشة منغِّصا ً في نعيم أكون ،بل أبقى أسيرا ً للعدل مع ّ ِ
الملك ،ومن العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطاناً
جبارا ً متفّرِدا ً قهّاراً.
الحكومة المستبدّة تكون طبعا ً مستبدّة في كل فروعها من
المستبد ّ العظم إلى الشرطي ،إلى الفّراش ،إلى كنائس
ف إل من أسفل أهل طبقته أخلقاً، ل صن ٍ الشوارع ،ول يكون ك ُّ
لن السافل ل يهمهم طبعا ً الكرامة وحسن السمعة ،إنما غاية
مسعاهم أن يبرهنوا لمخدوهم بأنهم على شاكلته ،وأنصار لدولته،
ي كان ولو بشرا ً أم خنازير ،آبائهم وشرهون لكل السقطات من أ ٍ ّ
أم أعدائهم ،وبهذا يأمنهم المستبد ُّ ويأمنونه فيشاركهم
ل حسب ويشاركونه .وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويق ُّ
شدة الستبداد وخفّته ،فكلما كان المستبد ُّ حريصا ً على العسف
جدين العاملين له المحافظين عليه، احتاج إلى زيادة جيش المتم ّ
واحتاج إلى مزيد الدقّة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين
مة ،واحتاج لحفظ النسبة بينهم في ن أو ذ ّ ل أثر عندهم لدي ٍ
50
المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعاً
ة وقرباً ،ولهذا ،ل بد َّ أن يكون الوزير العظم وخصال ً أعلهم وظيف ً
للمستبد ّ هو اللئيم العظم في المة ،ثم من دونه لؤماً ،وهكذا
تكون مراتب الوزراء والعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في
التشريفات والقربى منه .وربما يغتُّر المطالع كما اغتَّر كثير من
المؤّرِخين البسطاء بأن بعض وزراء المستبد ّ يتأوهون من
المستبد ّ ويتشكّون من أعماله ويجهرون بملمه ،ويظهرون لو أنّه
ساعدهم المكان لعملوا وفعلوا وافتدوا المة بأموالهم ،بل
وحياتهم ،فكيف – والحالة هذه -يكون هؤلء لؤماء؟ بل كيف ذلك
جد منهم الذين خاطروا بأنفسهم والذين أقدموا فعل ً على وقد وُ ِ
مقاومة الستبداد فنالوا المراد أو بعضه أو هلكوا دونه؟
ف
ن خائ ٌ ط عن أنّه خائ ٌ ن المستبد َّ ل يخرج ق ّ فجواب ذلك أ ّ
ج لعصابة تعينه وتحميه ،فهو ووزراؤه كزمرة لصوص :رئيس محتا ٌ
وأعوان .فهل يجوِّز العقل أن يُنتخب رفاق من غير أهل الوفاق،
وهو هو الذي ل يستوزر إل بعد تجربة واختبار عمرا ً طويلً؟!
ر هل يمكن أن يكون الوزير متخل ِّقا ً بالخير حقيقة ،وبال َّ
ش ِّ
ظاهرا ً فيخدع المستبد ّ بأعماله ،ول يخاف من أنَّه كما نصبه
وأعَّزه بكلمة يعزله ويذلّه؟!
ن الناس أعداؤه بناءً عليه ،فالمستبد ّ وهو من ل يجهل أ َّ
لظلمه ،ل يأمن على بابه إل من يثق به أنَّه أظلم منه للناس،
وأبعد منه على أعدائه ،وأما تلوُّم بعض الوزراء على لوم المستب ّ
د
فهو إن لم يكن خداعا ً للمة فهو حنقٌ على المستبدّ؛ لنه بخس
ذلك المتلوّم حقه ،فقدَّم عليه من هو دونه في خدمته بتضحية
دينه ووجدانه .وكذلك ل يكون الوزير أمينا ً من صولة المستبد ّ في
صحبته ما لم يسبق بينهما وفاق واتِّفاق على خيرة الشيطان؛ لن
ل شّر ،ويبغضه الوزير محسود ٌ بالطبع ،يتوقّع له المزاحمون ك َّ
ل ساعةٍ للشكايات ف في ك ِّ الناس ولو تبعا ً لظالمهم ،وهو هد ٌ
والوشايات .كيف يكون عند الوزير شيءٌ من التقّوى أو الحياء أو
شفقة على المة ،وهو العالم العدل أو الحكمة أو المروءة أو ال ّ
ل سوء ،وتشمت بمصائبه، َ ن المة تبغضه وتمقته وتتوقّع له ك ّ بأ َّ
لفل ترضى عنه ما لم يتّفق معها على المستبدّ ،وما هو بفاع ٍ
ذلك أبدا ً إل إذا يئس من إقباله عنده ،وإن يئس وفعل فل يقصد
دّ جديد عساه يستوزره ب لمستج ٍ ط ،إنما يريد فتح با ٍ نفع المة ق ّ
فيؤازره على وزره.
مةن وزير المستبد ّ هو وزير المستبدّ ،ل وزير ال ّ والنتيجة أ َّ
د
كما في الحكومات الدستورية .كذلك القائد يحمل سيف المستب ّ
ليغمده في الرقاب بأمر المستبد ّ ل بأمر المة ،بل هو يستعيذ أن
51
مة ل تقل ِّد ن ال ّ تكون المة صاحبة أمر ،لما يعلم من نفسه أ َّ
القيادة لمثله.
بناءً عليه؛ ل يغتُّر العقلء بما يتشدَّق به الوزراء والقوّاد من
النكار على الستبداد والتفلسف بالصلح وإن تل َّهفوا وإن تأففوا،
ول ينخدعون لمظاهر غيرتهم وإن ناحوا وإن بكوا ،ول يثقون بهم
ن ذلك كلّه ينافي سيرهم ول بوجدانهم مهما صلّوا وسبّحوا ،ل َّ
وسيرتهم ،ول دليل على أنّهم أصبحوا يخالفون ما شبّوا وشابوا
عليه ،هم أقرب أن ل يقصدوا بتلك المظاهر غير إقلق المستبدِّ
وتهديد سلطته ليشاركهم في استدرار دماء الّرعية؛ أي أموالها.
نعم ،كيف يجوز تصديق الوزير والعامل الكبير الذي قد ألف عمراً
كبيرا ً لذ ّة البذخ وعّزة الجبروت في أنَّه يرضى بالدخول تحت
مة ،ويخاطر بعرض سيفه عليها فتحلّه أو تكسره تحت حكم ال ّ
أرجلها .أليس هو عضوا ظاهر الفساد في جسم تلك المة التي ً
ل الميال الشريفة العالية فأبعدها عن النس قتل الستبداد فيها ك َّ
والنسانية ،حتّى صار الفلح التعيس منها يؤخذ للجندية وهو
م السترة العسكرية إل ويتلبَّس بش ّ ِ
ر يبكي ،فل يكاد يلبس ك َّ
مر على أمه وأبيه ،ويتمّرد على أهل قريته وذويه، الخلق ،فيتن ّ
ظ أسنانه عطشا ً للدماء ل يميّز بين أخ وعدو؟! إ َّ ُّ
ن أكابر ٍ ويك
ل ما يتظاهرون به رجال عهد الستبداد ل أخلق لهم ول ذمة ،فك ُّ
ّ
ش المة المسكينة التي َ مر والتألّم يقصدون به غ ّ أحيانا ً من التذ ّ
ن الستبداد القائم يطمعهم في انخداعها وانقيادها لهم علمهم بأ َّ
متهم قد أعمى أبصارها وبصائرها ،وخدَّر بهم والمستعمر به َّ
أعصابها ،فجعلها كالمصاب ببحران العمى ،فهي ل ترى غير هول
ن من البلء ول تدري ما هو تداويه ،ول وظلم وشدة وآلم ،فتئ ُّ
من أين جاءها لتصدَّه ،فتواسيها فئة من أولئك المتعاظمين باسم
الدين يقولون :يا بؤساء؛ هذا قضاءٌ من السماء ل مرد َّ له،
فالواجب تلقّيه بالصبر والرضاء واللتجاء إلى الدعاء ،فاربطوا
ألسنتكم عن اللغو والفضول ،واربطوا قلوبكم بأهل السكينة
والخمول ،وإياكم والتدبير فإن الله غيور ،وليكن وِْردُكم :اللهم
انصر سلطاننا ،وآمنّا في أوطاننا ،واكشف عنا البلء ،أنت حسبنا
ونعم الوكيل .ويغرر المة آخرون من المتكبرين بأنهم الطباء
الرحماء المهتمون بمداواة المرض ،إنَّما هم يترقَّبون سنوح
الفرص ،وكل الفريقين –والله -إما أدنياء جبناء ،أو هم خائنون
مخادعون ،يريدون التثبيط والتلبيد والمتنان على الظالمين.
من دلئل أن أولئك الكابر مغّرِرون مخادعون يظهرون ما ل
يُبطنون ،أنَّهم ل يستصنعون إل السافل الراذل من الناس ،ول
يميلون لغير المتملقين المنافقين من أهل الدين ،كما هو شأن
52
صاحبهم المستبد ّ الكبر ،ومنها أنَّه قد يوجد فيهم من ل يتنَّزل
ن؛ ليس فيهم العفيف عن الكثير، لقليل الرشوة أو السرقة ،ولك ْ
وكفى بما يتمتعون من الثروات الطائلة التي ل منبت لها غير
المستبيح الفاخر بمشاركة المستبد َّ في امتصاصه دم المة ،وذلك
بأخذهم العطايا الكبيرة ،والرواتب الباهظة ،التي تعادل أضعاف
ما تسمح به الدارة العادلة لمثالهم؛ لنها إدارة راشدة ل تدفع
أجورا ً زائدة .ومنها أنهم ل يصرفون شيئا ً ولو سرا ً من هذا
السحت الكثير في سبيل مقاومة الستبداد الذي يزعمون أنهم
أعداؤه ،إنما يصرف بعضهم منه شيئا ً في الصدقات الطفيفة
ة ورياءً ،وكأنهم يريدون أن يسرقوا أيضا ً قلوب وبناء المعابد سمع ً
الناس بعد سلب أموالهم أو أنهم يرشون الله ،أل ساء ما
ن أكثرهم مسرفون مبذِّرون ،فل تكفي أحدهم يتوهمون .ومنها أ َّ
الرواتب المعتدلة التي يمكن أن ينالها أجرة خدمة ل ثمن ذمة.
لُ
ومنها أنه قد يكون أحدهم شحيحا ً مقتِّرا ً في نفقاته؛ بحيث يخ ّ
في شرف مقامه ،فل يصرف نصف أو ربع راتبه مع أنَّه يقبضه
زائدا ً على أجر مثله لجل حفظ شرف المقام ،العائد لشرف
ن الكابرح يكون خائنا ً ومهيناً .والحاصل أ َّ ش ّ المة ،وبهذا ال ُّ
حريصون على أن يبقى الستبداد مطلقا ً لتبقى أيديهم مطلقة في
الموال.
هذا ول ينكر التاريخ أن الزمان أوجد نادرا ً بعض وزراء
م ندموا على ما فَّرطوا فتابوا وازروا الستبداد عمرا ً طويلً ،ث َّ
وأنابوا ،ورجعوا نصف المة واستعدوا بأموالهم وأنفسهم لنقاذها
من داء الستبداد .ولهذا؛ ل يجوز اليأس من وجود بعض أفراد من
الوزراء والقواد عريقين في الشهامة ،فيظهر فيهم سّر الوراثة
ولو بعد بطون أو بعد الربعين وربما السبعين من أعمارهم
ظهورا ً بيّنا ً تلل في محيا صاحبه ثريا صدق النجابة .ول ينبغي لمةٍ
ن وجودهم من أن تتكل على أن يظهر فيها أمثال هؤلء ،ل َّ
صدف التي ل تُبنى عليها آمال ول أحلم. ال ُّ
ن المستبد فرد ٌ عاجز ل حول له ول وقوة إل والنتيجة أ َّ
ك جلدها غير بالمتمجدين ،والمة؛ أي أمة كانت ،ليس لها من يح ُّ
ظفرها ،ول يقودها إل العقلء بالتنوير والهداء والثبات ،حتى إذا
ما اكفهَّرت سماء عقول بينها قيَّض الله لها من جمعهم الكبير
أفرادا ً كبار النفوس قادة أبرار يشترون لها السعادة بشقائهم
والحياة بموتهم؛ حيث يكون الله جعل في ذلك لذتهم ،ولمثل تلك
ساقاًالشهادة الشريفة خلقهم ،كما خلق رجال عهد الستبداد ف ّ
جارا ً مهالكهم الشهوات والمثالب .فسبحان الذي يختار من فُ ّ
يشاء لما يشاء ،وهو الخلّق العظيم.
53
الستبداد والمال
54
وينهى عمروا ً عن الشراء ،ويغصب بكرا ً ماله ،ويحابي خالدا ً من
مال الناس.
المال تعتوره الحكام ،فمنه الحلل ومنه الحرام وهما بيِّنان،
م الحاكم فيها الوجدان ،فالحلل الطيب ما كان عوض أعيان، ولَنِعْ َ
أو أجرة أعمال ،أو بدل وقت ،أو مقابل ضمان .والمال الخبيث
م المأخوذ م المسروق ،ث َّ
م المغصوب ،ث َّ شرف ،ث َّ الحرام هو ثمن ال ّ
م المحتال فيه.إلجاءً ث َّ
سمك ل الحيوانات حتى في ال ّ ن النظام الطبيعي في ك ِّ إ َّ
ن النوع الواحد منها ل يأكل بعضه والهوام ،إل أنثى العنكبوت ،إ َّ
بعضاً ،والنسان يأكل النسان .ومن غريزة سائر الحيوان أن
يلتمس الّرزق من الله؛ أي من مورده الطبيعي ،وهذا النسان
ص على اختطافه من يد أخيه ،بل من فيه ،بل الظّالم نفسه حري ٌ
كم أكل النسان النسان!
الستبداد والنسان:
55
ن البشر المقدَّر مجموعهم بألف وخمسمائة مليون نصفهم إ َّ
ل نساء ل على النّصف الخر ،ويشكِّل أكثرية هذا النصف الك َ ّ ك َ ٌّ
ن النّوع الذي عرف مقامه في المدن .ومن النّساء؟ النّساء ه َّ
الطبيعة بأنَّه هو الحافظ لبقاء الجنس ،وأنَّه يكفي لللف منه
ن باقي الذكور حظهم أن يُساقوا للمخاطر ملقح واحد ،وإ َّ
والمشاقّ ،أو هم يستحقّون ما يستح ُّقه ذكر النحل ،وبهذا النظر
َ
منة ضيزى ،وتحك ّ ْ اقتسمت النساء مع الذكور أعمال الحياة قسم ً
ضعف، ن هي ِّن الشغال بدعوى ال ّ ن عام؛ به جعلن نصيبه َّ ن قانو ٍ بس ِ ّ
ن مطلوبا ً عزيزا ً بإيهام العفّة ،وجعلن الشجاعة وجعلن نوعه َّ
ن يُهين ن محمدتين في الرجال ،وجعلن نوعه َّ والكرم سيئتين فيه َّ
ول يُهان ،ويظلم أو يُظلَم فيُعان؛ وعلى هذا القانون يرب ِّين البنات
والبنين ،ويتلعبن بعقول الّرِجال كما يشأن حتى أنهن جعلن
الذكور يتوهمون أنَّهن أجمل منهم صورةً .والحاصل أنَّه قد أصاب
ن ضرر النساء ن بالنصف المضّرِ! ومن المشاهد أ َّ ماه َّ من س َّ
بالرجال يترقّى مع الحضارة والمدنية على نسبة التَّرقي
ة في العمال المضاعف .فالبدوية تشارك الرجل مناصف ً
والثمرات ،فتعيش كما يعيش ،والحضرية تسلب الّرجل لجل
معيشتها وزينتها اثنين من ثلث .وتُعينه في أعمال البيت.
والمدنية تسلب ثلثة من أربعة ،وتود ُّ أن ل تخرج من الفراش،
وهكذا تترقَّى بنات العواصم في أسر الّرِجال .وما أصدق بالمدنية
ن الّرِجال فيها مى المدنية النسائية ،ل َّ الحاضرة في أوروبا؛ أن تس ّ
صاروا أنعاما ً للنِّساء.
ة أيضاً، ة ظالم ً ن الّرِجال تقاسموا مشاقَّ الحياة قسم ً م إ َّ ث َّ
ن أهل السياسة والديان ومن يلتحق بهم – وعددهم ل يبلغ فإ َّ
مد في دم البشر أو الخمسة في المائة – يتمتعون بنصف ما يتج َّ
زيادة ،يُنفقون ذلك في الَّرفه والسراف ،مثال ذلك :أنَّهم يزيِّنون
الشوارع بمليين من المصابيح لمرورهم فيها أحيانا ً متراوحين بين
الملهي والمواخير ول يفكِّرون في مليين من الفقراء يعيشون
في بيوتهم في ظلم.
شرهون َ م أهل الصنائع النفيسة والكمالية ،والتجار ال ّ ث َّ
المحتكرون وأمثال هذه الطبقة –ويقدَّرون كذلك بخمسة في
المائة -يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو
صنّاع والُّزّراع .وجرثومة هذه القسمة المتفاوتة اللوف من ال ُّ
المتباعدة الظّالمة هي الستبداد ل غيره .وهناك أصناف من
النّاس ل يعملون إل قليلً ،إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة
والمشعوذين باسم الدب أو الدين ،وهؤلء يُقدَّرون بخمسة عشر
في المائة ،أو يزيدون على أولئك.
56
نعم؛ ل يقتضي أن يتساوى العالم الذي صرف زهوة حياته
في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذاك الجاهل النائم
ل الحائط ،ول ذاك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول في ظ ِّ
الخامل ،ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت ،بل تقتضي
سافل ،فيقّرِبه من منزلته ،ويقاربه النسانية أن يأخذ الراقي بيد ال ّ
من منزلته ،ويُقاربه في معيشته ،ويعينه على الستقلل في
حياته.
ل! ل! ل يطلب الفقير معاونة الغني ،إنما يرجوه أن ل
مل منه يظلمه ،ول يلتمس منه الّرحمة ،إنما يلتمس العدالة ،ل يؤ ِّ
النصاف ،إنما يسأله أن ل يُميته في ميدان مزاحمة الحياة.
ط المولى –جلّت حكمته -سلطان النسان على الكوان، س َبَ َ
فطغى ،وبغى ،ونسي ربَّه وعبد المال والجمال ،وجعلهما منيته
خلق خادما ً لبطنه وعضوه فقط ،ل شأن له غير ومبتغاه ،كأنَّه ُ
ن المال هو الوسيلة الموصلة الغذاء والتّحاك .وبالنظر إلى أ َّ
م ٍ للنسان في جمع المال ،ولهذا يُكنَّى للجمال كاد ينحصر أكبر ه ّ
عنه بمعبود المم وبسّرِ الوجود ،وروى كريسكوا المؤّرِخ
ن كاترينا شكت كسل رعيّتها ،فأرشدها شيطانُها إلى الروسي :إ َّ
حمل النِّساء على الخلعة ،ففعلت وأحدثت كسوة المراقص،
ب الشبّان للعمل وكسب المال لصرفه على ربّات الجمال، فه َّ
وفي ظرف خمس سنين؛ تضاعف دخل خزينتها ،فاتَّسع لها مجال
السراف .وهكذا المستبدّون ل تهمهم الخلق ،إنَّما يهمهم المال.
المال عند القتصاديين :ما ينتفع به النسان ،وعند
الحقوقيين :ما يجري فيه المنع والبذل؛ وعند السياسيين :ما
تُستعاض به القوة؛ وعند الخلقيين :ما تُحفظ به الحياة الشريفة.
المال يستمد ُّ من الفيض الذي أودعه الله تعالى في الطبيعة
ونواميسها ،ول يملك؛ أي ل يتخصص بإنسان ،إل بعمل فيه أو في
مقابله.
والمقصود من المال هو أحد اثنين ل ثالث لهما وهما:
ل مقاصد النسان، تحصيل لذ ّة أو دفع ألم ،وفيهما تنحصر ك ُّ
وعليهما مبنى أحكام الشرائع كلها ،والحاكم المعتدل في طيّب
ة للنّفس ،وعبَّر المال وخبيثه؛ هو الوجدان الذي خلقه الله صبغ ً
عنه القرآن بإلهامها فجورها وتقواها ،فالوجدان خيَّر بين المال
الحلل والمال الحرام.
ن أعمال البشر في تحصيل المال ترجع إلى ثلثة م إ َّث َّ
أصول -1 :استحضاره المواد الصلية -2 .تهيئته المواد للنتفاع-3 .
مى بالزراعة والصناعة توزيعها على الناس .وهي الصول التي تس ّ
57
ل وسيلة خارجة عن هذه الصول وفروعها الولية، والتجارة ،وك ُّ
فهي وسائل ظالمة ل خير فيها.
التموُّل؛ أي ادِّخار المال ،طبيعة في بعض أنواع الحيوانات
الدنيئة كالنمل والنحل ،ول أثر له في الحيوانات المرتقية غير
النسان .النسان تطبَّع على التموُّل لدواعي الحاجة المحقَّقة أو
الموهومة ،ول تحقُّق للحاجة إل عند سكان الراضي الضيّقة
الثمرات على أهلها ،أو الراضي المعَّرضة للقحط في بعض
السنين ،ويلتحق بالحاجة المحقَّقة حاجة العاجزين جسما ً عن
الرتزاق في البلد المبتلة بجور الطبيعة أو جور الستبداد ،وربما
يلتحق بها أيضا ً الصرف على المضطرين وعلى المصارف
العمومية في البلد التي ينقصها النتظام العام.
والمراد بالنتظام العام ،معيشة الشتراك العمومي التي
أسسها النجيل بتخصيصه عشر الموال للمساكين ،ولكن؛ لم يكد
سنَّة الشتراك م أحدث السلم ُ يخرج ذلك من القوة إلى الفعل ،ث َّ
ن واحد كان فيه م ِ نظام ،ولكن؛ لم تدم أيضا ً أكثر من قر ٍ على أت ّ
المسلمون ل يجدون من يدفعون لهم الصدقات والكفّارات ،وذلك
ن السلمية – كما سبق بيانه -أسست حكومة أرستقراطية أ َّ
المبنى ،ديمقراطية الدارة ،فوضعت للبشر قانونا ً مؤسسا ً على
ن المال هو قيمة العمال ،ول يجتمع في يد الغنياء إل قاعدة :إ َّ
بأنواع من الغَلَبة والخداع.
م من مال ويُرد ّ على فالعدالة المطلقة تقتضي أن يؤخذ قس ٌ
الفقراء؛ بحيث يحصل التعديل ول يموت النشاط للعمل .وهذه
القاعدة يتمنّى ما هو من نوعها أغلب العالم المتمدن الفرنجي،
مكونة من مليين َّ وتسعى وراءها الن جمعيات منهم منتظمة
كثيرة .وهذه الجمعيات تقصد حصول التساوي أو التقارب في
الحقوق المعاشية بين البشر ،وتسعى ضد َّ الستبداد المالي،
ن تكون الراضي والملك الثابتة وآلت المعامل فتطلب أ ْ
ن العمال الصناعية الكبيرة مشتركة الشيوع بين عامة المة ،وأ َّ
ن الحكومة والثمرات تكون موزعة بوجوهٍ متقاربة بين الجميع ،وأ َّ
تضع قوانين لكافة الشؤون حتى الجزئيات ،وتقوم بتنفيذها.
وهذه الصول مع بعض التعديل قررتها السلمية ديناً ،وذلك
أنها قررت:
أولً -أنواع العشور والزكاة وتقسيمها على أنواع المصارف
العامة وأنواع المحتاجين حتى المدينين .ول يخفى على المدققين
ن جزءا ً من أربعين من رؤوس الموال يقارب نصف الرباح أ َّ
المعتدلة باعتبار أنها خمسة بالمائة سنوياً ،وبهذا النظر يكون
ة .وهكذا يلحق فقراء المة الغنياء مضاربين للجماعة مناصف ً
58
بأغنيائها ،ويمنع تراكم الثروات المفرطة المول ِّدة للستبداد،
والمضَّرة بأخلق الفراد.
م محكمة تمنع محذور التواكل في ثانياً -قررت أحكا ٌ
ل فرد من المة متى اشتد َّ ساعده ،أو ملك الرتزاق ،وتُلزم ك َّ
ِ
صاب على الكثر؛ أن يسعى لرزقه بنفسه ،أو َ
قوت يومه ،أو الن ّ ّ
يموت الفرد جوعاً؛ إذا لم تكن حكومته مستبدّة تضرب على يده
وسعيه ونشاطه بمدافع استبدادها ،وقد قيل :يبدأ النقياد للعمل
عند نهاية الخوف من الحكومة ونهاية التِّكال على الغير.
ثالثاً -قررت السلمية ترك الراضي الزراعية ملكا ً لعامة
المة ،يستنبتها ويستمتع بخيراتها العاملون فيها بأنفسهم فقط،
وليس عليهم غير العشر أو الخراج الذي ل يجوز أن يتجاوز
الخمس لبيت المال.
رابعاً -جاءت السلمية بقواعد شرعية كليّة تصلح للحاطة
بأحكام كافة الشؤون حتى الجزئية الشخصية ،وأناطت تنفيذها
ن هذا بالحكومة ،كما تطلبه أغلب جمعيات الشتراكيين .على أ َّ
النظام الذي جاء به السلم ،صعب الجراء جداً ،لنَّه منوط
ن القانون الكثير الفروع يتعذَّر ل ورضاء النفوس ،ول َّ بسيطرة الك ّ
حفظه بسيطاً ،ويكون معَّرضا ً للتأويل حسب الغراض ،وللختلف
في تطبيقه حسب الهواء ،كما وقع فعل ً في المسلمين ،فلم
م تشعَّبت يمكنهم إجراء شريعتهم ببساطة وأمان إل عهدا ً قليلً ،ث َّ
معهم المور بطبيعة اتِّساع الملك واختلف طبائع المم ،وفَقَدَ
الرجال الذين يمكنهم أن يسوقوا مئات مليين من أجناس الناس:
البيض والصفر ،والحضري والبدوي ،بعصا واحدة قرونا ً عديدة.
ول غَْروَ إذا كانت المعيشة الشتراكية من أبدع ما يتصوَّره
العقل ،ولكن؛ مع السف لم يبلغ البشر بعد الترقّي ما يكفي
لتوسيعهم نظام التعاون والتضامن في المعيشة العائلية إلى
إدارة المم الكبيرة .وكم جَّربت المم ذلك فلم تنجح فيها إل
المم الصغيرة مدة قليلة .والسبب كما تقدَّم هو مجّرد صعوبة
التحليل والتركيب بين الصوالح والمصالح الكثيرة المختلفة.
مل في عدم انتظام حالة العائلت الكبيرة ،يقنع حال ً بأ َّ
ن والمتأ ِّ
التكافل والتضامن غير ميسورين في المم الكبيرة؛ ولهذا يكون
ل مقدور للمسألة الجتماعية هو ما يأتي: خير ح ٍّ
خلِق ً
-1يكون النسان حّرا ً مستقل ّ في شؤونه ،كأنه ُ
وحده.
-2تكون العائلة مستقلة ،كأنها أمة وحدها.
-3تكون القرية أو المدينة مستقلة كأنها قاّرة واحدة
ل علقة لها بغيرها.
59
-4تكون القبائل في الشعب أو القاليم في المملكة
ل في ذاته ،ل يربطها ل منها مستق ٌّكأنها أفلك؛ ك ٌّ
بمركز نظامها الجتماعي؛ وهو الجنس أو الدين أو
الملك غير محض التجاذب المانع من الوقوع في
نظام آخر ل يلئم طبائع حياتها.
ن التموُّل لجل الحاجات السالفة الذِّكر وبقدرها فقط م إ َّ
ث َّ
محمودة بثلثة شروط ،وإل ّ كان التموّل من أقبح الخصال:
الشرط الول :أن يكون المال بوجه مشروع حلل؛ أي
بإحرازه من بذل الطبيعة ،أو بالمعاوضة ،أي في مقابل عمل ،أو
في مقابل ضمان على ما تقوم بتفصيله الشرائع المدنية.
والشرط الثاني :أن ل يكون في التموّل تضييق على
حاجيات الغير كاحتكار الضروريات ،أو مزاحمة الصنّاع والعمال
ُ
الضعفاء ،أو التغل ّب على المباحات؛ مثل امتلك الراضي التي
جعلها خالقها ممرحا ً لكافة مخلوقاته ،وهي أمهم ترضعهم لبن
جهازاتها ،وتغذ ّيهم بثمراتها ،وتأويهم في حضن أجزائها ،فجاء
المستبدّون الظالمون الولون ووضعوا أصول ً لحمايتها من أبنائها
وحالوا بينهما .فهذه إيرلندة –مثلً -قد حماها ألف مستبد ّ مالي
من النكليز ،ليتمتعوا بثلثي أو ثلثة أرباع ثمرات أتعاب عشرة
خلِقوا من تربة إيرلندة .وهذه مصر مليين من البشر الذين ُ
وغيرها تقرب من ذلك حال ً وستفوقها مالً ،وكم من البشر في
أوربا المتمدنة ،وخصوصا ً في لندرة وباريس ،ل يجد أحدهم أرضاً
ينام عليها متمدداً ،بل ينامون في الطبقة السفلى من البيوت؛
حيث ل ينام البقر ،وهم قاعدون صفوفا ً يعتمدون بصدورهم على
ة ويسرة. ل من مسد منصوبة أفقية يتلوون عليها يمن ً حبا ٍ
وحكومة الصين المختلّة النظام في نظر المتمدنين ،ل تجيز
شخص الواحد أكثر من مقدار معين من قوانينها أن يمتلك ال ّ
الرض ل يتجاوز العشرين كيلومترا ً مربعاً؛ أي نحو خمسة أفدن
مصرية أو ثلثة عشر دونما ً عثمانياً .وروسيا المستبدّة القاسية
في ع ُرف أكثر الوربيين وضعت –أخيراً -لوليتها البولونية الغربية
قانونا ً أشبه بقانون الصين ،وزادت عليه أنَّها منعت سماع دعوى
جل على فلح ،ول تأذن لفلٍح أن يستدين أكثر من نحو ن مس ّ دي ٍ
شرق إذا لم تستدرك المر فتضع خمسمائة فرنك .وحكومات ال ّ
قانونا ً من قبيل قانون روسيا ،تصبح الراضي الزراعية بعد
خمسين عاما ً أو قرن على الكثر كإيرلندة النكليزية المسكينة،
التي وجدت لها في مدى ثلثة قرون شخصا ً واحدا ً حاول أن
ن الشرق ربما ل يرحمها فلم يُفلح؛ وأعني به غلدستون ،على أ َّ
يجد في ثلثين قرنا ً من يلتمس له الَّرحمة.
60
مول ،هو :أل يتجاوز المال قدر والشرط الثالث لجواز الت ّ
الحاجة بكثير ،لن إفراط الثروة مهلكة للخلق الحميدة في
ن النسان ليطغى*أن رآه النسان ،وهذا معنى الية :كل إ َّ
ُ
استغنى ،والشرائع السماوية كل ّها ،وكذلك الحكمة الخلقية
نة لخلق المرابين من الفساد ،ل َّ والعمرانية حَّرمت الربا؛ صيان ً
الربا :هو كسب بدون مقابل مادي؛ ففيه معنى الغصب ،وبدون
ن المرابي يكسب وهو نائم؛ ففيه الُلفة على البطالة، عمل؛ ل َّ
ومن دون تعُّرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والملك؛
ففيه النماء المطلق المؤدي لنحصار الثروات .ومن القواعد
ن ليس من كسب ل عار ول احتكار فيه القتصادية المتَّفق عليها أ ْ
ن بالربا تربو الثروات فيخت ُّ
ل أربح من الربا مهما كان معتدلً ،وأ َّ
التساوي أو التقارب بين النّاس.
وقد نظر المالّيون وبعض القتصاديين من أنصار الستبداد
ن المعتدل منه نافع ،بل ل بد َّ منه .أولً: ربا ،فقالوا :إ َّفي أمر ال ّ ِ
ن النقود الموجودة ل لجل قيام المعاملت الكبيرة ،وثانياً :لجل أ َّ
تكفي للتداول ،فكيف إذا أمسك المكتنزون قسما ً منها أيضاً؟!
ن كثيرين من المتمولين ل يعرفون طرائق وثالثاً :لجل أ َّ
ن كثيرا ً من العارفين بها ل السترباح أو ل يقدرون عليها ،كما أ َّ
يجدون رؤوس أموال ول شركاء عنان .فهذا النظر صحيح من
وجه إنماء ثروات بعض الفراد .أما السياسيون الشتراكيو
ن ضرر الثروات الفرادية المبادئ والخلقيون ،فينظرون إلى أ َّ
في جمهور المم أكبر من نفعها .لنها تمكِّن الستبداد الداخلي،
فتجعل الناس صنفين :عبيدا ً وأسياداً ،وتقوّي الستبداد الخارجي،
فتسهِّل للمم التي تغنى بغناء أفرادها التعدّي على حرية استقلل
المم الضعيفة .وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة؛
َ
ربا تحريما ً مغل ّظاً. ولذلك يقتضي تحريم ال ّ ِ
ف كثيرا ً عند أهالي حْرص التموُّل ،وهو الطمع القبيح ،يخ ُّ ِ
ً
الحكومات العادلة المنتظمة ما لم يكن فساد الخلق منغلبا على
ن فساد الخلق يزيد دّنة في عهدنا؛ ل َّ الهالي ،كأكثر المم المتم ِ
ن تحصيل في الميل إلى التموُّل في نسبة الحاجة السرافية ،ولك َّ
الثروة الطائلة في عهد الحكومة العادلة عسيٌر جداً ،وقد ل يتأتى
إل من طريق المراباة مع المم المنحطّة ،أو التجارة الكبيرة التي
فيها نوع احتكار ،أو الستعمار في البلد البعيدة مع المخاطرات،
ن هذه الصعوبة تكون مقرونة بلذ ّة عظيمة من نوع لذ ّة من على أ َّ
يأكل ما طبخ ،أو يسكن ما بنى.
حْرص التموّل القبيح يشتد ُّ في رؤوس الناس في عهد و ِ
الحكومات المستبدِّة؛ حيث يسهل فيها تحصيل الثروة بالسرقة
61
من بيت المال ،وبالتعدّي على الحقوق العامة ،وبغصب ما في
ن يترك النسان الدِّين أيدي الضعفاء ،ورأس مال ذلك هو أ ْ
َّ
ط في أخلقه إلى ملئمة المستبدّ والوجدان والحياء جانبا ً وينح
ة أن يتّصل بباب العظم ،أو أحد أعوانه وعماله ،ويكفيه وسيل ً
أحدهم ويتقَّرب من أعتابه ،ويظهر له أنَّه في الخلق من أمثاله
ُ
وعلى شاكلته ،ويبرهن له ذلك بأشياء من التمل ّق وشهادة الزور،
سلب ونحو ذلك. وخدمة الشهوات ،والتجسس ،والدللة على ال ّ
م قد يطلع هذا المنتسب على بعض الخفايا والسرار التي يخاف ث َّ
رجال الستبداد من ظهورها خوفا ً حقيقيا ً أو وهمياً ،فيكسب
المنتسب رسوخ القدم ويصير هو بابا ً لغيره ،وهكذا يحصل على
الثروة الطائلة إذا ساعدته الظروف على الثّبات طويلً .وهذا
أعظم أبواب الثروة في الشرق والغرب ،ويليه التِّجار بالدّين ،ث َّ
م
م الربا الفاحش ،وهي بئس المكاسب وبئس ما تؤثِّر الملهي ،ث َّ
في إفساد أخلق المم.
ن ثروة بعض الفراد في الحكومات وقد ذكر المدققون أ َّ
ن الغنياء في العادلة أضّر كثيرا ً منها في الحكومات المستبدَّة؛ ل َّ
قوتهم المالية في إفساد أخلق الناس وإخلل الولى يصرفون ّ
ما الغنياء في الحكومات المستبدّة المساواة وإيجاد الستبداد ،أ ّ
فيصرفون ثروتهم في البَّهة والتعاظم إرهابا ً للناس ،وتعويضاً
سفالة المنصبّة عليهم بالتغالي الباطل ،ويسرفون الموال في لل ّ
الفسق والفجور.
جلها الزوال؛ حيث يغصبها القوى بناءً عليه؛ ثروة هؤلء يتع ّ
منهم من الضعف ،وقد يسلبها المستبد ُّ العظم في لحظةٍ
وبكلمة .وتزول أيضا ً – والحمد لله– قبل أن يتعلّم أصحابها أو
ورثتهم كيف تُحفظ الثروات ،وكيف تنمو ،وكيف يستعبدون بها
الناس استعبادا ً أصوليا ً مستحكماً ،كما هو الحال في أوربا
المتمدنة المهدَّدة بشروط الفوضويين بسبب اليأس من مقاومة
الستبداد المالي فيها.
ومن طبائع الستبداد أنَّه ل يظهر فيه أثُر فقر المة ظهوراً
ن الناس بيانا ً إل فجأة ً قَُريب قضاء الستبداد نحبه .وأسباب ذلك أ َّ
يقتصدون في النسل ،وتكثر وفياتهم ،ويكثر تغّربهم ،ويبيعون
أملكهم من الجانب ،فتتقلّص الثروة ،وتكثر النقود بين اليدي.
وبئست من ثروة ونقود تشبه نشوة المذبوح.
ولنرجع إلى بحث طبيعة الستبداد في مطلق المال فأقول:
ة لسلب المستبدّ ن الستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرض ً إ َّ
ة أيضا ً لسلب ة باطلة ،وعرض ً ماله غصباً ،أو بحج ٍ وأعوانه وع ّ
ل أمان الدارة المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظ ِّ
62
صل إل بالمشقّة ،فل تختار الستبدادية .وحيث المال ل يُح َ
ن على النتفاع النفوس القدام على المتاعب مع عدم الم ِ ّ
بالثمرة.
حفْظ المال في عهد الدارة المستبدّة أصعب من كسبه؛ ُ ِ
ن ظهور أثره على صاحبه مجلبة لنواع البلء عليه ،ولذلك ل َّ
يُضطر الناس زمن الستبداد لخفاء نعمة الله والتّظاهر بالفقر
ن حفظ درهم من الذهب والفاقة ،ولهذا ورد في أمثال الُسراء أ َّ
ن العاقل من يخفي ذهبه وذهابه يحتاج إلى قنطار من العقل ،وأ َّ
ن أسعد الناس الصعلوك الذي ل يعرف الحكّام ول ومذهبه ،وأ َّ
يعرفونه.
ن الغنياء أعداؤه فكرا ً وأوتاده عملً، ومن طبائع الستبداد ،أ َّ
ُ
فهم ربائط المستبدِّ ،يذل ّهم فيئنّون ،ويستدّرهم فيحنّون ،ولهذا
ل في المم التي يكثر أغنياؤها .أما الفقراء فيخافهم يرسخ الذ ُّ
المستبد ُّ خوف النعجة من الذئاب ،ويتحبب إليهم ببعض العمال
التي ظاهرها الرأفة ،يقصد بذلك أن يغصب أيضا ً قلوبهم التي ل
يملكون غيرها .والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءةٍ ونذالة ،خوف
البغاث من العقاب ،فهم ل يجسرون على الفتكار فضل ً عن
ن داخل رؤوسهم جواسيس عليهم .وقد همون أ َّ النكار ،كأنهم يتو َّ
يبلغ فساد الخلق في الفقراء أن يسّرهم فعل ً رضاء المستبدِّ
ي وجهٍ كان رضاؤه. عنهم بأ ِ ّ
خرون أسلفهم في قولهم ،ليس وقد خالف الخلقيون المتأ ِّ
الفقراء بعيب ،فقالوا :الفقر أبو المعائب؛ لنه مفتقٌر للغير،
م قالوا :الفقر يذهب بعّزة النفس، والغناء استغناءٌ عن النّاس ،ث َّ
ن لحسن اللباس والمتعة ويفضي إلى خلع الحياء ،وقالوا :إ َّ
والتنعّم في المعيشة تأثيرا ً مهما ً على نفوس البشر ،خلفا ً لمن
يقول :ليس المرء بطيلسانه ،وحديث (اخشوشنوا ،فإن النعم ل
تدوم) هو لنّه يحمل على التعوّد جسما ً على المشاقّ في
ن رغد العيش ونعيمه الحروب والسفار وعند الحاجة .فقالوا :إ َّ
لمن أعظم الحاجات ،به تعلو الهمم ،ولجله تُقتَحم العظائم.
ل المشكلت الزمان والمال. ن ما يح ُّ يُقال في مدح المال :إ َّ
م صارت للمال .العلم م صارت للعلم ،ث َّ القوة كانت للعصبية ،ث َّ
والمال يُطيلن عمر النسان؛ حيث يجعلن شيخوخته كشبابه .ل
م ،ول يتأتى العُّز إل بالمال .وقد مضى مجد شرف إل بالد ّ يُصان ال ّ
ن اليد العليا خيٌر من الرجال وجاء مجد المال .وورد في الثر :إ َّ
ن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر .ولم اليد السفلى .وأ َّ
يكن قديما ً أهمية للثروة العمومية ،أما الن وقد صارت
المحاربات محض مغالبة وعلم ومال ،فأصبح للثروة العمومية
63
ن المم المأسورة ل أهمية عظمى لجل حفظ الستقلل ،على أ َّ
نصيب لها من الثروة العمومية ،بل منزلتها في المجتمع النساني
كأنعام تتناقلها اليدي ،ول تعارض هذه القاعدة ثروة اليهود؛ لنها
ثروة غير مزاحمين عليها ،لنها فيما يقوله أعداؤه فيها :ثروة
ش
رأسمالها الناموس ،ومصرفها الملهي والمقامرة والربا والغ ّ
والمضاربات ،ول يخلو هذا القول من التحامل عليهم حسدا ً ممن
يقدمون إقدامهم ول ينالون منالهم.
هذا وللمال الكثير آفات على الحياة الشريفة ترتعد منها
فرائص أهل الفضيلة والكمال ،الذين يفضلون الكفاف من الّرِزق
سرف، مع حفظ الحرية والشرف على امتلك دواعي الترف وال ّ
وينظرون إلى المال الزائد عن الحاجة الكمالية أنّه بلء في بلء
في بلء؛ أي أنّه بلءٌ من حيث الفتكار بإنمائه ،وأما المكتفي
فيعيش مطمئنا ً مستريحا ً أمينا ً بعض المن على دينه وشرفه
وأخلقه.
ن النسان ل يكون حرا ً تماما ً ما لم تكن له قرر الخلقيون أ َّ
ل فيها؛ أي غير مرؤوس لحد ،لن حريته الشخصية صنعة مستق ٌّ
تكون تابعة لرتباطه بالرؤساء .وعليه تكون أقبح الوظائف هي
ن للصنعة تأثيرا ً في الخلق والميال، وظائف الحكومة .وقالوا :إ َّ
ل به على أحوال الفراد والقوام. وهي من أصدق ما يُستَد ُّ
فالموظفون في الحكومة مثل ً يفقدون الشفقة والعواطف العالية
تبعا ً لصنعتهم التي من مقتضاها عدم الشعور بتبعة أعمالهم،
ن العاجز يجمع المال بالتقتير ،والكريم يجمعه وقال الحكماء :إ َّ
ن أقل كسب يرضى به العاقل ما يكفي بالكسب ،وقالوا :إ َّ
ل القلةمعاشه باقتصاد ،وقالوا :خير المال ما يكفي صاحبه ذ ّ
وطغيان الكثرة .وهذا معنى الحديث (فاز المخففون) وحديث
(اسألوا الله الكفاف من الرزق) .ويُقال :الغنى غنى القلب،
َ
والغني من قل ّت حاجته ،والغني من استغنى عن الناس .وقال
ن فقير بالطبع ينقصه مثل ما يملك ،فمن بعض الحكماء :ك ُّ
ل إنسا ٍ
يملك عشرة يرى نفسه محتاجا ً لعشرة أخرى ،ومن يملك ألفاً
ف أخرى .وهذا معنى الحديث( :لو كان لبن يرى نفسه محتاجا ً لل ٍ
ب أن يكون له واديان). آدم واد ٍ من ذهب أح َّ
ول يقصد الخلقيون من التزهيد في المال التثبيط عن
كسبه ،إنما يقصدون أن ل يتجاوز كسبه بالطرائق الطبيعية
الشريفة .أما السياسيون فل يهمهم إل أن تستغني الرعية بأي
وسيلة كانت ،والغربيون منهم يُعينون المة على الكسب
ليشاركوها ،والشرقيون ل يفتكرون في غير سلب الموجود ،وهذه
من جملة الفروق بين الستبدادين الغربي والشرقي ،التي منها
64
ن؛ معن الستبداد الغربي يكون أحكم وأرسخ وأشد ّ وطأةً ،ولك ْ أ َّ
اللّين ،والشرقي يكون مقلقل ً سريع الزوال ،ولكنّه يكون مزعجاً.
ن الستبداد الغربي إذا زال تبدّل بحكومة عادلة تُقيم ما ومنها أ َّ
ساعدت الظروف أن تقيم ،أما الشرقي فيزول ويخلفه استبداد
ن من دأب الشرقيين أن ل يفتكروا في مستقبل شٌّر منه؛ ل َّ
ن أكبر همهم منصرف إلى ما بعد الموت فقط ،أو أنهم قريب ،كأ َّ
مبتلون بقصر النظر.
ن الستبداد داءٌ أشد ُّ وطأة ً من الوباء ،أكثر وخلصة القول :إ َّ
ل للنفوس من سيل ،أذ ُّهول ً من الحريق ،أعظم تخريبا ً من ال ّ
السؤال .داءٌ إذا نزل بقوم ٍ سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي
القضاء القضاء ،والرض تناجي ربّها بكشف البلء .الستبداد عهدٌ؛
أشقى الناس فيه العقلء والغنياء ،وأسعدهم بمحياه الجهلء
جلون الموت فيحسدهم والفقراء ،بل أسعدهم أولئك الذين يتع ّ
الحياء.
الستبداد والخلق
65
ن لبلء الستبداد عليه ،وفاقداً ويجعله حاقدا ً على قومه؛ لنهم عو ٌ
ب وطنه؛ لنَّه غير آمن على الستقرار فيه ،ويود ُّ لو انتقل منه، ح ّ
ب لعائلته؛ لنه يعلم منهم أنَّهم مثله ل يملكون وضعيف الح ِّ
التكافؤ ،وقد يُضطّرون لضرار صديقهم ،بل وقتله وهم باكون.
أسيُر الستبداد ل يملك شيئا ً ليحرص على حفظه؛ لنَّه ل يملك
سلب ول شرفا ً غير معَّرض للهانة .ول يملك مال ً غير معَّرض لل ّ
الجاهل منه آمال ً مستقبلة ليتبعها ويشقى كما يشقى العاقل في
سبيلها.
وهذه الحال تجعل السير ل يذوق في الكون لذة ً نعيم ،غير
بعض الملذ ّات البهيمية .بناءً عليه؛ يكون شديد الحرص على حياته
ن كانت تعيسة ،وكيف ل يحرص عليها وهو ل يعرف الحيوانية وإ ْ
غيرها؟! أين هو من الحياة الدبية؟! أين هو من الحياة
ما الحرار فتكون منزلة حياتهم الحيوانية عندهم الجتماعية؟! أ َّ
بعد مراتب عديدة ،ول يعرف ذلك إل من كان منهم ،أو كشف عن
بصيرته.
َ
ومثال السراء في حرصهم على حياتهم الشيوخ ،فإن ّهم
ُ
عندما تمسي حياتهم كل ّها أسقاما ً وآلما ً ويقربون من أبواب
القبور ،يحرصون على حياتهم أكثر من الشباب في مقتبل العمر،
في مقتبل الملذ ،في مقتبل المال.
الستبداد يسلب الّراحة الفكرية ،فيضني الجسام فوق
ل الشعور على درجات ضناها بالشقاء ،فتمرض العقول ،ويخت ُّ
متفاوتة في الناس .والعوام الذين هم قليلو المادة في الصل قد
يصل مرضهم العقلي إلى درجة قريبة من عدم التمييز بين الخير
ل ما ليس من ضروريات حياتهم الحيوانية .ويصل والشر ،في ك ِّ
ن مجّرد آثار البَّهة والعظمة التي يرونها تسفُّل إدراكهم إلى أ َّ
على المستبد ّ وأعوانه تبهر أبصارهم ،ومجّرد سماع ألفاظ
التفخيم في وصفه وحكايات قوته وصولته يزيغ أفكارهم ،فيرون
ن الدواء في الداء ،فينصاعون بين يدي الستبداد ويفكرون أ َّ
انصياع الغنم بين أيدي الذئاب؛ حيث هي تجري على قدميها
جاهدة ً إلى مقّرِ حتفها.
ولهذا كان الستبداد يستولي على تلك العقول الضعيفة
فضل ً عن الجسام فيفسدها كما يريد ،ويتغلّب على تلك الذهان
الضئيلة ،فيشوش فيها الحقائق ،بل البديهيات كما يهوى ،فيكون
مثَلُهم في انقيادهم العمى للستبداد ومقاومتهم للرشد َ
والرشاد ،مثل تلك الهوام التي تترامى على النار ،وكم هي
تغالب من يريد حجزها على الهلك .ول غرابة في تأثير ضعف
ن في المرضى وخفّة الجسام على الضعف في العقول ،فإ َّ
66
عقولهم ،وذوي العاهات ونقص إدراكهم ،شاهدا ً بيّنا ً كافيا ً يُقاس
عليه نقص عقول الُسراء البؤساء بالنسبة إلى الحرار السعداء،
ل فرق بين الفئتين ،من الفرق البيّن في كما يظهر الحال أيضا ً بأق ّ
قوة الجسام وغزارة الدّم واستحكام الصحة وجمال الهيئات.
ربما يستريب المطالع اللبيب الذي لم يُتعب فكره في
ن الستبداد المشؤوم كيف يقوم درس طبيعة الستبداد ،من أ َّ
ن الستبداد على قلب الحقائق ،مع أنَّه إذا دقّق النظر يتجلى له أ َّ
يقلب الحقائق في الذهان .يرى أنَّه كم مكّن بعض القياصرة
والملوك الولين من التلعب بالديان تأييدا ً لستبدادهم فاتَّبعهم
ن الناس وضعوا الحكومات لجل خدمتهم، الناس .ويرى أ َّ
والستبداد قلب الموضوع ،فجعل الرعية خادمة للرعاة ،فقبلوا
ن طالب ن الستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أ َّ وقنعوا .ويرى أ َّ
ق فاجٌر ،وتارك حقّه مطيع ،والمشتكي المتظل ِّم مفسد، الح ِ ّ
والنّبيه المدقق ملحد ،والخامل المسكين صالح أمين .وقد اتَّبع
الناس الستبداد في تسميته النصح فضولً ،والغيرة عداوة،
شهامة عتوّاً ،والحمية حماقة ،والرحمة مرضاً ،كما جاروه على وال ّ
ن النِّفاق سياسة ،والتحيُّل كياسة ،والدناءة لطف ،والنذالة اعتبار أ َّ
دماثة.
ُ
ول غرابة في تحك ّم الستبداد على الحقائق في أفكار
البسطاء ،إنما الغريب إغفاله كثيرا ً من العقلء ،ومنهم جمهور
مون الفاتحين الغالبين بالّرِجال العظام، المؤّرِخين الذين يُس ّ
وينظرون إليهم نظر الجلل والحترام لمجّرد أنَّهم كانوا أكثر في
قتل النسان ،وأسرفوا في تخريب العمران .ومن هذا القبيل في
الغرابة إعلء المؤّرِخين قدر من جاروا المستبدين ،وحازوا القبول
والوجاهة عند الظالمين .وكذلك افتخار الخلق بأسلفهم
المجرمين الذين كانوا من هؤلء العوان الشرار.
ت مفقودة في ن للستبداد حسنا ٍ ن بعض الناس أ َّ وقد يظ ُّ
الدارة الحّرة ،فيقولون مثلً :الستبداد يليّن الطباع ويلط ِّفها،
ن ذلك يحصل فيه عن فقد الشهامة ل عن فقد والحقُّ أ َّ
الشراسة .ويقولون :الستبداد يُعل ِّم الصغير الجاهل حسن الطاعة
ن هذا فيه عن خوف وجبانة ل عن والنقياد للكبير الخبر ،والحقُّ أ َّ
اختيارٍ وإذعان .ويقولون :هو يربّي النفوس على العتدال
ش
ن ليس هناك غير انكما ٍ والوقوف عند الحدود ،والحقُّ أ ْ
وتقهقر .ويقولون :الستبداد يقلل الفسق والفجور ،والحقُّ أنَّه
عن فقر وعجر ،ل عن عفّةٍ أو دين .ويقولون :هو يقلل التعديات
ل تعديدها ل والجرائم ،والحقُ أنَّه يمنع ظهورها ويخفيها ،فيق ُّ
ّ
عدادها.
67
سقياها العلم، الخلق أثمار بذرها الوراثة ،وتربتها التربية ،و ُ
والقائمون عليها هم رجال الحكومة ،بناءً عليه؛ تفعل السياسة
في أخلق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر.
نعم :القوام كالجام ،إن تُرِكت مهملة تزاحمت أشجارها
َ
وأفلذها ،وسقُم أكثرها ،وتغل ّب قويّها على ضعيفها فأهلكه ،وهذا
حشة .وإن صادفت بستانيا ً يهمه بقاؤها وزهوها مثل القبائل المتو ِّ
سنت ثمارها، فدبّرها حسبما تطلبه طباعها ،قويت وأينعت وح ُ
مى ي جدير بأن يس ّ وهذا مثل الحكومة العادلة .وإذا بُليت ببستان ٍ ّ
حطّابا ً ل يعنيه إل عاجل الكتساب ،أفسدها وخّربها ،وهذا مثل
الحكومة المستبدّة .ومتى كان الحطّاب غريبا ً لم يُخلق من تراب
مهتلك الديار وليس له فيها فخار ول يلحقه منها عار ،إنّما ه ّ
الحصول على الفائدة العاجلة ولو باقتلع الصول ،فهناك الطّامة
ل الستبداد في وهناك البوار .فبناءً على هذا المثال ،يكون فِع ُ
أخلق المم فِعل ذلك الحطّاب الذي ل يُرجى منه غير الفساد.
مطردة على قانون ل تكون الخلق أخلقا ً ما لم تكن ملكة ُ
فطري تقتضيه أول ً وظيفة النسان نحو نفسه؛ وثانيا ً وظيفته نحو
عائلته؛ وثالثا ً وظيفته نحو قومه؛ ورابعا ً وظيفته نحو النسانية؛
مى عند الناس بالناموس. وهذا القانون هو ما يس ّ
ومن أين لسير الستبداد أن يكون صاحب ناموس ،وهو
ب،كالحيوان المملوك العنان ،يُقاد حيث يُراد ،ويعيش كالريش ،يه ُّ
ب الريح ،ل نظام ول إرادة؟ وما هي الرادة؟ هي أ ُّ
م حيث يه ُّ
الخلق ،هي ما قيل فيها تعظيما ً لشأنها :لو جازت عبادة غير الله
لختار العقلء عبادة الرادة! هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان
عن النّبات في تعريفه بأنّه متحرك بالرادة .فالسير ،إذن ،دون
الحيوان لنّه يتحّرك بإرادة غيره ل بإرادة نفسه .ولهذا قال
الفقهاء :ل نيّة للرقيق في كثير من أحواله ،إنما هو تابع لنيّة
ن فاقد الخيار غير موله .وقد يُعذر السير على فساد أخلقه؛ ل َّ
مؤاخذ عقل ً وشرعاً.
أسير الستبداد ل نظام في حياته ،فل نظام في أخلقه ،قد
يصبح غنيا ً فيضحي شجاعا ً كريماً ،وقد يمسي فقيرا ً فيبيت جباناً
ل شؤونه تشبه الفوضى ل ترتيب فيها ،فهو خسيساً ،وهكذا ك ُّ
يتبعها بل وجهة .أليس السير قد يُرهق ،ويسيء كثيرا ً فيُعفى،
وقليل ً فيُشنق ،ويجوع يوما ً فيضوى ،ويخصب يوما ً فيتخم ،يريد
أشياء فيُمنَع ،ويأبى شيئا ً فيُرغم؟! وهكذا يعيش كما تقتضيه
صدف أن يعيش ،ومن كانت هذه حاله كيف يكون له أخلق، ال ُّ
ن وجد ابتداء يتعذر استمراره عليه؟! ولهذا ل تجوّز الحكمة وإ ْ
م على السراء بخيرٍ أو شّر. حك َ ال ُ
68
ل ما يؤثّره الستبداد في أخلق الناس ،أنَّه يرغم حتى أق ُّ
الخيار منهم على إلفة الّرياء والنفاق ولبئس السيّئتان ،وإنه يعين
ل تبعة ولو أدبية ،فل ي نفوسهم آمنين من ك ِّ الشرار على إجراء غ ّ
ن أكثر أعمال الشرار تبقى َ اعتراض ول انتقاد ول افتضاح ،ل ّ
مستورة ،يلقي عليها الستبداد رداء خوف الناس من تبعة
الشهادة على ذي شّر وعقبى ذكر الفاجر بما فيه .ولهذا ،شاعت
بين السراء قواعد كثيرة باطلة كقولهم :إذا كان الكلم من فضة
ل بالمنطق .وقد تغالى فالسكوت من ذهب ،وقولهم :البلء موكو ٌ
وع ّاظهم في سدِّ أفواههم حتى جعلوا لهم أمثال هذه القوال من
حكَم النبوية ،وكم هجوا لهم الهجو والغيبة بل قيد ،فهم يقرؤون: ال ِ
سوء من القول ويغفلون بقية الية ،وهي : ه الجهر بال ّ ب الل ُ ل يح ُّ
إل ّ من ظُلِم.
أقوى ضابط للخلق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ؛
أي بحرص الفراد على حراسة نظام الجتماع ،وهذه الوظيفة
غير مقدور عليها في عهد الستبداد لغير ذوي المنعة وقليل ما
هم ،وقليل ً ما يفعلون ،وقليل ً ما يفيد نهيهم؛ لنه ل يمكنهم توجيهه
لغير المستضعفين الذين ل يملكون ضررا ً ول نفعاً ،بل ول
يملكون من أنفسهم شيئاً ،ولنَّه ينحصر موضوع نهيهم فيما ل
تخفى قباحته على أحد ٍ من الّرذائل النفسية الشخصية فقط ،ومع
ل للقواعد العامة ذلك فالجسور ل يرى بُدّا ً من الستثناء المخ ِّ
سرقة قبيحة إل إذا كانت استردادا ً منها ،والكذب حرام كقوله :ال ّ
َّ
إل للمظلوم .والموظفون في عهد الستبداد للوعظ والرشاد
يكونون –مطلقاً -ول أقول غالباً ،من المنافقين الذين نالوا
ن النصح الذي ل الوظيفة بالتملّق ،وما أبعد هؤلء عن التأثير ،ل َّ
من نبت كان رياءً كأصله ،ث َّ إخلص فيه هو بذر عقيم ل ينبت ،وإ ْ
ن النُّصح ل يفيد شيئا ً إذا لم يصادف أذنا ً تتطلّب سماعه؛ ل َّ
ن إ َّ
ي: م البذر الح ّ حك ْ َ النصيحة وإن كانت عن إخلص فهي ل تتجاوز ُ
ض قاحلة مات. ُ إ ُ
ض صالحة نبت ،وإن ألقي في أر ٍ ن ألقي في أر ٍ ْ
لما النهي عن المنكرات في الدارة الحرة ،فيمكن لك ِّ أ ّ
جه
ن وإخلص ،وأن يو ِّ غيورٍ على نظام قومه أن يقوم به بأما ٍ
ص بها الفقير سهام قوارصه على الضعفاء والقوياء سواء ،فل يخ ُّ
ن
شوكة والعناد .وأ ْ المجروح الفؤاد ،بل تستهدف أيضا ً ذوي ال ّ
ُّ يخوض في ك ِّ
ل واد ٍ حتى في مواضيع تخفيف الظلم ومؤاخذة
حكّام ،وهذا هو النصح النكاري الذي يُعدي ويُجدي ،والذي ال ُ
أطلق عليه النّبي عليه السلم اسم (الدّين) تعظيما ً لشأنه ،فقال:
"الدين النصيحة".
69
ط أخلق الطبقات العليا من النّاس أهم المور، ما كان ضب ُ ل ّ
أطلقت المم الحّرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات
ة القذف فقط ،ورأت أن تحمل مضَّرة الفوضى في ذلك مستثني ً
شعرة من التقييد ن يجعلوا ال ّ َ
خير التحديد؛ لن ّه ل مانع للحكّام أ ْ
عدوتهم الطبيعة ،أي الحريّة .وقد ّ سلسلة من حديد ،ويخنقون بها
ب ول حمى القرآن قاعدة الطلق بقوله الكريم :ول يُضاُّر كات ٌ
شهيد.
70
ونقص مروءته ،ويبقى طول عمره جاهل ً مورد هذا الخلل ،فيتَّهم
ل شأنه -لم يُنقصه شيئاً .ويتَّهم تارة ً دينه، الخالق،والخالق –ج َّ
ُ
لّ
قومه ،والحقيقة بعيدة عن ك ِ وتارة ً تربيته ،وتارة ً زمانه ،وتارةً
ُ
خلق حّرا فأسر. ً ذلك ،وما الحقيقة غير أنّه ُ
ن المتلب ِّس بشائبةٍ من أصول القبائح أجمع الخلقيون على أ َّ
الخلقية ل يمكنه أن يقطع بسلمة غيره منها ،وهذا معنى" :إذا
ساءت فِعال المرء ساءت ظنونه" .فالمرائي –مثلً -ليس من
ن البراءة في غيره من شائبة الرياء ،إل ّ إذا بَعُدَ شأنه أن يظ َّ
تشابه النشأة بينهما بُعدا ً كبيراً ،كأن يكون بينهما مغايرة في
م في المنزلة كصعلوك وأمير كبير. الجنس أو الدّين أو تفاوت مه ٌّ
ي الخائن ،يأمن الفرنجي في معاملته ،ويثق ومثال ذلك الشرق ّ
بوزنه وحسبانه ،ول يأمن ويثق بابن جلدته .وكذلك الفرنجي
الخائن قد يأمن الشرقي ،ول يأمن مطلقا ً ابن جنسه .وهذا الحكم
ن الناس أمناء ن المين يظ ُّ صادق على عكس القضية أيضاً؛ أي أ َّ
خصوصا ً أشباهه في النشأة ،وهذا معنى "الكريم يُخدَع" ،وكم
ن
يذهل المين في نفسه عن اتِّباع حكمة الحزم في إساءة الظ ِ ّ
في مواقعه اللزمة.
ن من طبيعة الستبداد ألفة الناس بعض الخلق إذا علمنا أ َّ
ن منها ما يُضعف الثّقة بالنفس ،علمنا سبب قلة أهل الرديئة ،وأ َّ
سراء ،وعلمنا أيضا ً حكمة فقد الُسراء العمل وأهل العزائم في ال ّ
ن السراء محرومون – ُ ثقتهم بعضهم ببعض .فينتج من ذلك أ َّ
طبعاً -من ثمرة الشتراك في أعمال الحياة،يعيشون مساكين
بائسين متواكلين متخاذلين متقاعسين متفاشلين ،والعاقل
الحكيم ل يلومهم ،بل يشفق عليهم ،ويلتمس لهم مخرجاً .ويتبع
ب ارحم قومي ،فإنهم ل يعلمون"، أثر أحكم الحكماء القائل :ر ِّ
"اللهم اهد ِ قومي ،فإنهم ل يعلمون".
مل في ما هي وهنا أستوقف المطالع وأستلفته إلى التأ ّ
ن الشتراك هو ثمرة الشتراك التي يحرمها السراء ،فأذكره بأ َّ
ل شيء ما عدا الله وحده .به أعظم سّرٍ في الكائنات ،به قيام ك ِّ
ل حياة؛ به قيام المواليد؛ به قيام الجرام السماوية؛ به قيام ك ِّ
قيام الجناس والنواع؛ به قيام المم والقبائل؛ به قيام العائلت؛
به تعاون العضاء .نعم ،الشتراك فيه سُّر تضاعف القوة بنسبة
ناموس التربيع؛ فيه سُّر الستمرار على العمال التي ل تفي بها
ل السّر في نجاح المم أعمار الفراد .نعم؛ الشتراك هو السُر ك ُّ
ّ
المتمدنة .به أكملوا ناموس حياتهم القومية ،به ضبطوا نظام
حكوماتهم ،به قاموا بعظائم المور ،به نالوا كل ما يغبطهم عليه
أُسراء الستبداد الذين منهم العارفون بقدر الشتراك ويتشوَّقون
71
ل منهم يُبطن لغبن شركائه باتِّكاله عليهم عملً، إليه ،ولكن؛ ك ٌّ
واستبداده عليهم رأياً ،حتى صار من أمثالهم قولهم" :ما من
ب للخر". متَّفقين إل واحدهما مغلو ٌ
ي ،وقد ن سَّر الشتراك ليس بالمر الخف ّ ل يقول إ َّ ب قائ ٍ وُر َّ
ن الكُتَّاب طالما كتب اليابانيين والبوير ،فما السبب؟ فأجيبه بأ َّ
ن؛ قاتل الله صلوا وصوّروا ،ولك ْ كتبوا وأكثروا وأحسنوا فيما ف ّ
الستبداد وشؤمه ،جعل الكتّاب يحصرون أقوالهم في الدعوة إلى
الشتراك ،وما بمعناه من التعاون والتحاد والتحابب والتِّفاق،
ومنعهم من التعُّرض لذكر أسباب التفّرق والنحلل كليّاً ،أو
اضطرهم إلى القتصار على بيان السباب الخيرة فقط .فمن
ل :الجهل بلء ض وسببه الجهل ،ومن قائ ٍ ل مثلً :الشرق مري ٌ قائ ٍ
ل :قلّة المدارس عاٌر وسببه عدم وسببه قلّة المدارس ،ومن قائ ٍ
التعاون على إنشائها من قبل الفراد أو من قبل ذوي الشأن.
ُ
وهذا أعمق ما يخط ّه قلم الكاتب الشرقي كأنّه وصل إلى
ن هناك سلسلة السبب المانع الطبيعي أو الختياري .والحقيقة ،أ َّ
أسباب أخرى حلقتها الولى الستبداد.
سك وكاتب آخر يقول :الشرق مريض وسببه فقد التم ّ
نم يقف ،مع أنَّه لو تتبَّع السباب لبلغ إلى الحكم بأ َّ بالدين ،ث َّ
نالتهاون في الدين أول ً وآخرا ً ناشئ من الستبداد .وآخر يقول :إ َّ
ن أنَّه
السبب فساد الخلق ،وغيره يرى أنّه فقد التربية ،وسواء ظ َّ
ل هو الستبداد ،الذي ن المرجع الول في الك ّ الكسل ،والحقيقة أ َّ
يمنع حتى أولئك الباحثين عن التصريح باسمه المهيب.
وقد اتَّفق الحكماء الذين أكرمهم الله تعالى بوظيفة الخذ
ن فساد بيد المم في بحثهم عن المهلكات والمنجيات ،على أ َّ
ن معاناة الخلق يُخرج المم عن أن تكون قابلة للخطاب ،وأ َّ
إصلح الخلق من أصعب المور وأحوجها إلى الحكمة البالغة
م المستبد َّ وأعوانه ن فساد الخلق يع ُّ والعزم القوي ،وذكروا أ َّ
ل البيوت ،ول سيما بيوت م يدخل بالعدوى إلى ك ّ وعماله ،ث َّ
الطبقات العليا التي تتمث ّل بها السفلى .وهكذا يغشو الفساد، َ
ب ويشمت بها العدو ،وتبيت وداؤها وتمسي المة يبكيها المح ُّ
عياء يتعاصى على الدواء.
وقد سلك النبياء عليهم السلم ،في إنقاذ المم من فساد
ك العقول من تعظيم غير الله الخلق ،مسلك البتداء أول ً بف ِ ّ
والذعان لسواه .وذلك بتقوية حسن اليمان المفطور عليه
م جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة، ل إنسان ،ث َّ وجدان ك ُّ
وتعريف النسان كيف يملك إرادته؛ أي حريته في أفكاره،
72
واختياره في أعماله ،وبذلك هدموا حصون الستبداد وسدّوا منابع
الفساد.
م بعد إطلق زمام العقول ،صاروا ينظرون إلى النسان ث َ
ّ َّ
بأنَّه مكلف بقانون النسانية ،ومطالب بحسن الخلق ،فيعلمونه
ث التربية التهذيبية. ذلك بأساليب التعليم المقنع وب ّ
والحكماء السياسيون القدمون اتَّبعوا النبياء –عليهم
السلم -في سلوك هذا الطريق وهذا الترتيب؛ أي بالبتداء من
م باتِّباع طريق نقطة دينية فطرية تؤدي إلى تحرير الضمائر ،ث َّ
التربية والتهذيب بدون فتورٍ ول انقطاع.
أما المتأخرون من قادة العقول في الغرب ،فمنهم فئة
سلكوا طريقة الخروج بأممهم من حظيرة الدين وآدابه النفسية،
ن الفطرة في إلى فضاء الطلق وتربية الطبيعة ،زاعمين أ َّ
النسان أهدى سبيلً ،وحاجته إلى النظام تغنيه عن إعانة الدين،
م تذهب س بالهموم ،ث ّ التي هي كالمخدرات سموم تعط ِّل الح َّ
بالحياة ،فيكون ضررها أكبر من نفعها.
َ
وقد ساعدهم على سلوك هذا المسلك ،أن ّهم وجدوا أممهم
قد فشا فيها نور العلم ،ذلك العلم الذي كان منحصرا ً في خدمة
الدين عند المصريين والشوريين ،ومحتَكَرا ً في أبناء الشراف
شبان عند الغرناطيين والرومان ،ومخصصا ً في أعداد من ال ّ
المنتخبين عند الهنديين واليونان ،حتى جاء العرب بعد السلم،
ل متعلم ،فانتقل إلى أوربا وأطلقوا حرية العلم ،وأباحوا تناوله لك ِّ
حرا ً على رغم رجال الدين ،فتنوَّرت به عقول المم على درجات،
وفي نسبتها ترقَّت المم في النعيم ،وانتشرت وتخالطت ،وصار
َ
دّم ويتنغَّص من حالته ،ويتطل ّب اللحاق، خر منها يغبط المتق ِ المتأ ِّ
ويبحث عن وسائله .فنشأ من ذلك حركة قوية في الفكار،
وحركة معرفة الخير والغيرة على نواله ،حركة معرفة الشّر
والنَفَة من الصبر عليه ،حركة السير إلى المام رغم ك ِّ
ل
معارض .اغتنم زعماء الحرية في الغرب قوة هذه الحركة
وأضافوا إليها قوات أدبية شتّى ،كاستبدالهم ثقالة وقار الدين
بزهوة عروس الحرية ،حتى إنَّهم لم يبالوا بتمثيل الحرية بحسناء
خليعة تختلب النفوس .وكاستبدالهم رابطة الشتراك في الطاعة
للمستبدين برابطة الشتراك في الشؤون العمومية ،ذلك
ب الوطن .وهكذا جعلوا قوة حركة الشتراك الذي يتولّد منه ح ُّ
الفكار تيارا ً سلّطوه على رؤوس الرؤوس من أهل السياسة
ن هؤلء الزعماء استباحوا القساوة أيضاً ،فأخذوا من م إ َّ
والدين .ث َّ
مهجورات دينهم قاعدة (الغاية تبرر الواسطة) ،كجواز السرقة إذا
كانت الغاية من صرف المال في سبيل الخير ،وقاعدة (تثقيل
73
مة الكاهن التي الذمة يبيح الفعل القبيح) كشهادة الزور على ذ ّ
مل عنها خطيئتها ،ودفعوا الناس بهما إلى ارتكاب الجرائم يتح َّ
الفظيعة التي تقشعُّر منها النسانية ،التي ل يستبيحها الحكيم
الشرقي لما بين أبناء الغرب وأبناء الشرق من التباين في
الغرائز والخلق.
الغربي :ماديُّ الحياة ،قويُّ النفس ،شديد المعاملة ،حري ٌ
ص
على النتقام ،كأنَّه لم يبقَ عنده شيء من المبادئ العالية
والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق .فالجرماني
ن العضو الضعيف من البشر يستحق مثلً :جاف الطبع ،يرى أ َّ
ل القوة في المال ،فهو ل فضيلة في القوة ،وك َّ الموت ،ويرى ك َّ
ب المجد ،ولكن لجل المال. ب العلم ،ولكن ،لجل المال؛ ويح ُّ يح ُّ
وهذا اللتيني مطبوع على العجب والطيش ،يرى العقل في
شرف في التّرف ،والكياسة الطلق ،والحياة في خلع الحياء ،وال ّ
في الكسب ،والعّز في الغلبة ،واللذَّة في المائدة والفراش.
أما أهل الشرق فهم أدبيون ،ويغلب عليهم ضعف القلب
ب ،والصغاء للوجدان ،والميل للّرحمة ولو في غير الح ِّ وسلطان
ُ
موقعها ،والل ّطف ولو مع الخصم .ويرون العَّز في الفتوة
والمروءة ،والغنى في القناعة والفضيلة ،والراحة في النس
سكينة ،واللذة في الكرم والتحبب ،وهم يغضبون ،ولكن؛ وال ّ
للدين فقط ،ويغارون ،ولكن؛ على العِْرض فقط.
ق
ليس من شأن الشرقي أن يسير مع الغربي في طري ٍ
واحدة ،فل تطاوعه طباعه على استباحة ما يستحسنه الغربي،
َ
وإن تكل ّف تقليده في أمر فل يُحسن التقليد ،وإن أحسنه فل
يثبت ،وإن ثبت فل يعرف استثماره ،حتى لو سقطت الثمرة في
م في شأن كفِّه تمنّى لو قفزت على فمه! ..فالشرقي مثل ً يهت ُّ
م ل يفكر فيمن يخلفه ول ظالمه إلى أن يزول عنه ظلمه ،ث َّ
ة ،فيعيد الكّرة ويعود الظلم إلى ما ل يراقبه ،فيقع في الظلم ثاني ً
نهاية .وكأولئك الباطنة في السلم :فتكوا بمئات أمراء على غير
جحرٍطائل ،كأنَّهم لم يسمعوا بالحكمة النبوية" :ل يُلدَغ المرء من ُ
ب المتَّقين .أما الغربي ن الله يح ُّ مرتين" ،ول بالحكمة القرآنية" إ َّ
َّ
إذا أخذ على يد ظالمه فل يفلته حتى يشلها ،بل حتى يقطعها
ويكوي مقطعها.
ق كثيرة ،قد يفضل في وهكذا بين الشرقيين والغربيين فرو ٍ
الفراديات الشرقي على الغربي ،وفي الجتماعيات يفضل
الغربي على الشرقي مطلقاً .مثال ذلك :الغربيون يستحلفون
أميرهم على الصداقة في خدمته لهم والتزام القانون .والسلطان
الشرقي يستحلف الرعية على النقياد والطاعة! الغربيون يَمنّون
74
على ملوكهم بما يرتزقون من فضلتهم ،والمراء الشرقيون
يتكَّرمون على من شاؤوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات! الغربي
ي يعتبر نفسه يعتبر نفسه مالكا ً لجزءٍ مشاع من وطنه ،والشرق ّ
وأولده وما في يديه ملكا ً لميره! الغربي له على أميره حقوق،
وليس عليه حقوق؛ والشرقي عليه لميره حقوق وليس له
حقوق! الغربيون يضعون قانونا ً لميرهم يسري عليه ،والشرقيون
يسيرون على قانون مشيئة أمرائهم! الغربيون قضاؤهم وقدرهم
من الله؛ والشرقيون قضاؤهم وقدرهم ما يصدر من بين شفتي
المستعبدين! الشرقي سريع التصديق ،والغربي ينفي ول يثبت
ن شرفه حتى يرى ويلمس .الشرقي أكثر ما يغار على الفروج كأ َّ
كلّه مستودَع ٌ فيها ،والغربي أكثر ما يغار على حريته واستقلله!
ص على ص على الدين والرياء فيه ،والغربي حري ٌ الشرقي حري ٌ
ن الشرقي ابن الماضي َ القوة والعّز والمزيد فيهما! والخلصة :أ ّ
والخيال ،والغربي ابن المستقبل والجد!...
الحكماء المتأخرون الغربيون ساعدتهم ظروف الزمان
والمكان ،وخصوصية الحوال ،لختصار الطريق فسلكوه،
واستباحوا ما استباحوا ،حتى إنَّهم استباحوا في التمهيد السياسي
تشجيع أعوان المستبد َّ على تشديد وطأة الظلم والعتساف
بقصد تعميم الحقد عليه ،وبمثل هذه التدابير القاسية نالوا المراد
أو بعضه ،من تحرير الفكار وتهذيب الخلق وجعل النسان
إنساناً.
وقد سبق هؤلء الغُلة فئة اتَّبعت أثر النبيين ،ولم تحفل
بطول الطريق وتعبه ،فنجحت ورسخت ،وأعني بتلك الفئة أولئك
ل دين، سكوا بمعاداة ك ِّ ن جديد ،ول تم ّ الحكماء الذين لم يأتوا بدي ٍ
كمؤسسي جمهورية الفرنسيس ،بل رتقوا فُتوق الدّهر في دينهم
بما نقَّحوا ،وهذَّبوا ،وسهَّلوا ،وقَّربوا ،حتى جدَّدوه ،وجعلوه صالحاً
لتجديد خليق أخلق المة.
وما أحوج الشرقيين أجمعين من بوذيين ومسلمين
ومسيحيين وإسرائيليين وغيرهم ،إلى حكماء ل يبالون بغوغاء
العلماء المرائين الغبياء ،والرؤساء القساة الجهلء .فيجددون
ق الصريح ،نظر من النّظر في الدّين ،نظر من ل يحفل بغير الح ِ ّ
ل يضيع النتائج بتشويش المقدمات ،نظر من يقصد إظهار
الحقيقة ل إظهار الفصاحة ،نظر من يريد وجه ربِّه ل استمالة
َ
الناس إليه ،وبذلك يعيدون النواقص المعط ّلة في الدين ،ويهذِّبونه
ن يتقادم عهده، ل دي ٍ من الزوائد الباطلة مما يطرأ عادة ً على ك ِّ
فيحتاج إلى مجددين يرجعون به إلى أصله المبين البريء من
حيث تمليك الرادة ورفع البلدة من كل ما يشين ،المخفِّف شقاء
75
صر بطرائق التعليم والتعلّم الصحيحين، الستبداد والستعباد ،المب ِّ
المهيّئ قيام التربية الحسنة واستقرار الخلق المنتظمة مما به
يصير النسان إنساناً ،وبه ل بالكفر يعيش الناس إخواناً.
والشرقيون ما داموا على حاضر حالهم بعيدين عن المجد
والعزم ،مرتاحين للهو والهزل تسكينا ً للم إسارة النفس ،وإخلداً
إلى الخمول والتسفُّل ،طلبا ً لراحة الفكر المضغوط عليه من ك ِّ
ل
جانب ،يتألمون من تذكيرهم بالحقائق ،ومطالبتهم بالوظائف،
ينتظرون زوال العناد بالتواكل ،أو مجرد التمنّي والدعاء .أو
يتربصون صدفة مثل التي نالتها بعض المم ،فليتوقّعوا إذن أن
يفقدوا الدين كلياً ،فيمسوا –وما مساؤهم ببعيد -دهريين ،ل
يدرون أي الحياتين أشقى ،فلينظروا ما حاق بالشوريين
والفينيقيين وغيرهم من المم المنقرضة المندمجة في غيرها
خدما ً و َ
خوَلً.
ل المم المنحطّة من جميع الديان ن ك َّوالمر الغريب ،أ َّ
تحصر بلية انحطاطها السياسي في تهاونها بأمور دينها ،ول ترجو
سك بعروة الدين تمسكا ً مكيناً، تحسين حالتها الجتماعية إل بالتم ُّ
ويريدون بالدين العبادة ،ولنِعم العتقاد لو كان يفيد شيئاً ،لكنه ل
ن الدين ل ل يمكن أن يكون وراءه فعل ،وذلك أ َّ يفيد أبداً؛ لنه قو ٌ
بذٌر جيد ل شبهة فيه ،فإذا صدقت مغرسا ً طيبا ً نبت ونما ،وإن
صادف أرضا ً قاحلة مات وفات ،أو أرضا ً مغراقا ً هاف الستبداد
بصرها وبصيرتها ،وأفسد أخلقها ودينها ،حتى صارت ل تعرف
للدين معنى غير العبادة والنسك اللذين زيادتهما عن حدِّهما
المشروع أضُّر على المة من نقصهما كما هو مشاهد في
المتنسكين.
نعم! الدين يفيد الترقّي الجتماعي إذا صادف أخلقا ً فطرية
لم تفسد ،فينهض بها كما نهضت السلمية بالعرب ،تلك النهضة
التي نتطلبها منذ ألف عام عبثاً.
ن أكثر الناس ل وقد علَّمنا هذا الدهر الطويل –مع السف -أ َّ
يحفلون بالدين إل إذا وافق أغراضهم ،أو لهوا ً ورياءً ،وعلمنا أ َّ
ن
ن العقل ل يفيد العزم الناس عبيد منافعهم وعبيد الزمان ،وأ َّ
عندهم ،إنما العزم عندهم يتولّد من الضرورة أو يحصل بالسائق
المجبر .ول يستحي الناس من أن يُلزموا أنفسهم باليمين أو
النذر .بناءً عليه؛ ما أجدر بالمم المنحطّة أن تلتمس دواءها من
طريق إحياء العلم وإحياء الهمة مع الستعانة بالدين والستفادة
والمنكر ،ل أن يتَّكِلوا
صلة تنهى عن الفحشاء منه بمثل :إ َّ
ن ال ّ
ن الصلة تمنع الناس عنهما بطبعها. على أ َّ
76
الستبداد والتربية
77
ن
م لدِ ٌ النسان في نشأته كالغصن الَّرطب ،فهو مستقي ٌ
بطبعه ،ولكنّها أهواء التربية تميل به إلى يمين الخير أو شمال
ب يبس وبقي على أمياله ما دام حياً ،بل تبقى الشّر ،فإذا ش َّ
روحه إلى أبد البدين في نعيم السرور بإيفائه حقَّ وظيفة الحياة
أو في جحيم الندم على تفريطه .وربما كان ل غرابة في تشبيه
النسان بعد الموت بالمرء الفرح الفخور إذا نام ولذَّت له الحلم،
ُ
أو بالمجرم الجاني إذا نام فغشيته قوارص الوجدان بهواجس كل ّها
ملم وآلم.
ة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والقتباس، التربية ملك ٌ
م فروعها وجود الدين .وجعلت م أصولها وجود المرابين ،وأه ُّ فأه ُّ
م ل يفيد العمل إذا لم يكن ن الدين عل ٌ الدين فرعا ً ل أصلً؛ ل َّ
مقرونا ً بالتمرين .وهذا هو سبب اختلف الخلف من علماء الدين
عند السلم عن أمثالهم من البراهمة والنصارى ،وهو سبب إقبال
المسلمين في القرن الخامس ،وفيما بعده ،على قبول أصول
الطرائق التي كانت لبّا ً محضا ً لما كانت تعليما ً وتمريناً؛ أي تربية
م صار م صارت قشرا ً محضاً ،ث َّ م خالطها القشر ،ث َّ للمريدين ،ث َّ
أكثرها لهوا ً أو كفراً.
ن كانت شرا ً تضافرت مع النّفس ملكة التربية بعد حصولها إ ْ
ووليها الشيطان الخنّاس فرسخت ،وإن كانت خيرا ً تبقى مقلقلة
ر
كالسفينة في بحر الهواء ،ل يرسو بها إل فرعها الديني في الس ّ ِ
والعلنية ،أو الوازع السياسي عند يقين العقاب.
ل ساعة ح صرصر فيه إعصار يجهل النسان ك ّ والستبداد ري ٌ
م ِ قسميه؛ أي الخلق ،أما سد ٌ للدين في أه ّ مف ِ شأنه ،وهو ُ
سها لنها تلئمه أكثر .ولهذا تبقى الديان في العبادات منه فل يم ّ
المم المأسورة عبارة عن عبادات مجّردة صارت عادات ،فل
تفيد في تطهير النفوس شيئاً ،ول تنهى عن فحشاء ول منكر لفقد
الخلص فيها تبعا ً لفقده في النفوس ،التي ألفت أن تتلجأ وتتلوّى
بين يدي سطوة الستبداد في زوايا الكذب والّرياء والخداع
والنفاق ،ولهذا ل يُستغرب في السير الليف تلك الحال؛ أي
مه ومع قومه الّرياء ،أن يستعمله أيضا ً مع ربِّه ،ومع أبيه وأ ِّ
وجنسه ،حتى ومع نفسه.
التربية تربية الجسم وحده إلى سنتين ،هي وظيفة الم أو
م تُضاف إليها تربية النفس إلى السابعة ،وهي وظيفة الحاضنة ،ث َّ
م تُضاف إليها تربية العقل إلى البلوغ ،وهي البوين والعائلة معاً ،ث ّ
م تأتي تربية القدوة بالقربين وظيفة المعل ِّمين والمدارس ،ث َّ
م تأتي تربية صدفة ،ث َّ والخلطاء إلى الزواج ،وهي وظيفة ال ُّ
المقارنة ،وهي وظيفة الزوجين إلى الموت أو الفراق.
78
ول بد َّ أن تصحب التربية من بعد البلوغ ،تربية الظروف
المحيطة ،وتربية الهيئة الجتماعية ،وتربية القانون أو سير
السياسي ،وتربية النسان نفسه.
ّ
الحكومات المنتظمة هي التي تتولى ملحظة تسهيل تربية
ن قوانين المة من حين تكون في ظهور الباء ،وذلك بأن تس ّ
م تفتح النكاح ،ثم تعتني بوجود القابلت والملقّحين والطباء ،ث َّ
بيوت اليتام اللقطاء ،ثم تعد ُّ المكاتب والمدارس للتعليم من
م تسهِّل الجتماعات، البتدائي الجبري إلى أعلى المراتب ،ث َّ
وتمهِّد المسارح ،وتحمي المنتديات ،وتجمع المكتبات والثار،
وتقيم النُّصب المذكرات ،وتضع القوانين المحافظة على الداب
والحقوق ،وتسهر على حفظ العادات القومية ،وإنماء
منسر العمال ،وتؤ ِّ الحساسات المللية ،وتقوّي المال ،وتي ِّ
ً
العاجزين فعل ً عن الكسب من الموت جوعا ،وتدفع سليمي
الجسام إلى الكسب ولو في أقصى الرض ،وتحمي الفضل
ل شؤون المرء؛ ولكن ،من بعيد، وتقدِّر الفضيلة .وهكذا تلحظ ك َّ
ل بحريته واستقلله الشخصي ،فل تقرب منه إل إذا جنى كي ل تخ ّ
جرما ً لتعاقبه ،أو مات لتواريه.
وهكذا ،المة تحرص على أن يعيش ابنها راضيا ً بنصيبه من
ط كيف تكون بعده حالة صبية ضعاف يتركهم حياته ل يفتكر ق ّ
وراءه ،بل يموت مطمئنا ً راضيا ً مرضيا ً آخر دعائه :فلتحي المة،
فلتحي الهمة.
أما المعيشة الفوضى في الدارات المستبدّة فهي غنية عن
ض نماء يشبه الشجار الطبيعية في الغابات التربية؛ لنها مح ُّ
والحراش ،يسطو عليها الحرق والغرق .وتحط ِّمها العواصف
واليدي القواصف ،ويتصَّرف في فسائلها وفروعها الفأس
العمى ،فتعيش ما شاءت رحمة الحطّابين أن تعيش ،والخيار
صدفة تعوج أو تستقيم ،تثمر أو تعقم. لل ُّ
ل العدالة والحرية نشيطا ً على العمل يعيش النسان في ظ ِّ
بياض نهاره ،وعلى الفكر سواد ليله ،إن طعم تلذَّذ ،وإن تلهّى
تروَّح وتريّض؛ لنّه هكذا رأى أبويه وأقرباءه ،وهكذا يرى قومه
الذين يعيش بينهم .يراهم رجال ً ونساءً ،أغنياء وفقراء ،ملوكاً
ُ
وصعاليك ،كل ّهم دائبين على العمال ،يفتخر منهم كاسب الدينار
دّه .نعم؛ يعيش دّه وجدّه ،على مالك المليار إرثا ً عن أبيه وج ِ بك ِ
العامل ناعم البال يسُّره النجاح ول تقبضه الخيبة ،إنّما ينتقل من
ن لم ل إلى غيره ،ومن فكرٍ إلى آخر ،فيكون متلذذا ً بآماله إ ْ عم ٍ
سعد في أعماله ،وكيفما كان يبلغ العذر عن نفسه يسارعه ال ّ
79
والناس بمجرد إيفائه وظيفة الحياة؛ أي العمل .ويكون فرحاً
فخورا ً نجح أو لم ينجح ،لنَّه بريء من عار العجز والبطالة.
أما أسير الستبداد ،فيعيش خامل ً خامدا ً ضائع القصد ،حائراً
ل يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته ويدرج أيامه وأعوامه ،كأنَّه
ص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب .ويخطئ ،والله من حري ٌ
ن أكثر السراء ل سيما منهم الفقراء ل يشعرون بآلم ن أ َّ
يظ ُّ
السر .مستدل ً بأنهم لو كانوا يشعرون لبادروا إلى إزالته،
والحقيقة في ذلك أنهم يشعرون بأكثر اللم ولكنهم ل يدركون ما
هو سببها ،ومن أين جاءتهم؟ فيرى أحدهم نفسه منقبضا ً عن
سلب ن ال ّ العمل ،لنه غير أمين على اختصاصه بالثمرة .وربما ظ َّ
م يعمل تارةً، ن لو كان منهم .ث َّ حقا ً طبيعيا ً للقوياء فيتمنّى أ ْ
ولكن؛ بدون نشاط ول إتقان ،فيفشل ضرورةً ،ول يدري أيضا ً ما
ميه سعدا ً أو حظا ً أو طالعا ً أو قدراً. السبب ،فيغضب على ما يس ّ
ن النشاط والتقان ل يتأتيان إل والمسكين من أين له أن يعرف أ َّ
مع لذة انتظار نجاح العمل ،تلك اللذة التي قدَّر الحكماء أنَّها
اللذة الكبرى ،لستمرار زمانها من حين العزم إلى تمام العمل،
والسير ل اطمئنان فيه على الستمرار ،ول تشجيع له على الصبر
والجلد.
السير المعذَّب المنتسب إلى دين يسلّي نفسه بالسعادة
الخروية ،فيعدها بجنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعدَّه له الرحمن،
ن ربما كان خاسراً ن الدنيا عنوان الخرة ،وأ َّ ويبعد عن فكره أ َّ
الصفقتين ،بل ذلك هو الكائن غالباً .ولبسطاء السلم مسليات
صة بهم يعطفون مصائبهم عليها ،وهي نحو قولهم :الدنيا أظنُّها خا ّ
ب الله عبدا ً ابتله ،هذا سجن المؤمن ،المؤمن مصاب ،إذا أح َّ
ت يقمن صلبه .ويتناسون شأن آخر الزمان ،حسب المرء لقيما ٍ
ن الله يكره العبد البطّال" ،والحديث المفيد معنى "إذا حديث" :إ َّ
ة فليغرسها" ،ويتغافلون عن قامت الساعة وفي يد أحدكم غرس ً
جل قيام الساعة إلى ما بعد استكمال الرض النص القاطع المؤ ّ
زخرفتها وزينتها .وأين ذلك بعد؟
م وك ُّ
ل هذه المسميات المثبطات تهون عند ذلك الس ّ
القاتل ،الذي يحوّل الذهان عن التماس معرفة سبب الشقاء،
فيرفع المسؤولية عن المستبدّين ،ويلقيها على عاتق القضاء
والقدر ،بل على عاتق الُسراء المساكين أنفسهم .وأعني بهذا
م ،فهم العوام ،وبله الخواص ،لما ورد في التوراة من نحو: الس ّ
"اخضعوا للسلطان ول سلطة إل من الله" ،و"الحاكم ل يتقلّد
السيف جزافاً ،إنه مقام للنتقام من أهل الشر" ،وقد صاغ وع ّاظ
ل الله في دّثوهم من ذلك قولهم" :السلطان ظ ُّ المسلمين ومح ِ
80
م ينتقم منه" ،و"الملوك الرض" ،و"الظالم سيف الله ينتقم به ،ث َّ
ح فهو مقيّد ن ص َّ ل ما ورد في هذا المعنى إ ْ ملهمون" .هذا وك ُّ
بالعدالة أو محتمل للتأويل بما يعقل ،وبما ينطبق على حكم الية
الكريمة التي فيها فصل الخطاب ،وهي :أل لعنة الله على
الظالمين ،وآية فل عدوان إل على الظالمين.
م وعمل .وليس من شأن المم المملوكة التربية عل ٌ
نَن يوجد فيها من يعلم التربية ول من يعلمها .حتى إ ّ شؤونها ،أ ْ
الباحث ل يرى عند السراء علما ً في التربية مدفونا ً في الكتب
ما العمل ،فكيف يُتصوَّر وجوده بل سبق عزم، فضل ً عن الذهان .أ ّ
وهو بل سبق يقين ،وهو بل سبق علم .وقد ورد في الثر "النيّة
سابقة العمل" .وورد في الحديث" :إنّما العمال بالنيّات" .بناءً
عليه؛ ما أبعد الناس المغصوبة إرادتهم ،المغلولة أيديهم ،عن
لتوجيه الفكر إلى مقصد مفيد كالتربية ،أو توجيه الجسم إلى عم ٍ
نافع كتمرين الوجه على الحياء والقلب على الشفقة.
نعم؛ ما أبعد السراء عن الستعداد لقبول التربية ،وهي
قصر النظر على المحاسن والعِبَر ،وقصر السمع على الفوائد
حكَم ،وتعويد اللسان على قول الخير ،وتعويد اليد على وال ِ
التقان ،وتكبير النفس عن السفاسف ،وتكبير الوجدان عن نصرة
الباطل ،ورعاية الترتيب في الشؤون ،ورعاية التوفير في الوقت
والمال .والندفاع بالكلّية لحفظ الشرف ،لحفظ الحقوق،
ب العائلة، ب الوطن ،لح ِّ ولحماية الدين ،لحماية الناموس ،ولح ِّ
ولعانة العلم ،لعانة الضعيف ،ولحتقار الظالمين ،لحتقار الحياة.
على غير ذلك مما ل ينبت إل في أرض العدل ،تحت سماء
الحرية ،في رياض التربيتين العائلية والقومية.
الستبداد يُضطُّر النّاس إلى استباحة الكذب والتحيُّل
س وإماتة النفس ونبذ والخداع والنِّفاق والتذلل .وإلى مراغمة الح ِّ
ن الستبداد الجد ّ وترك العمل ،إلى آخره .وينتج من ذلك أ َّ
المشؤوم هو يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال
ن تعبهم في تربية البناء التربية الملعونة .بناءً عليه ،يرى الباء أ َّ
ن يذهب عبثا ً تحت أرجل تربية الولى على غير ذلك ل بد َّ أ ْ
الستبداد ،كما ذهبت قبلها تربية آبائهم لهم ،أو تربية غيرهم
لبنائهم سدىً.
ن عبيد السلطان التي ل حدود لها هم غير مالكين م إ َّ
ث َّ
أنفسهم ،ول هم آمنون على أنَّهم يربّون أولدهم لهم .بل هم
يربّون أنعاما ً للمستبدّين ،وأعوانا ً لهم عليهم .وفي الحقيقة ،إ َّ
ن
الولد في عهد الستبداد ،هم سلسل من حديد يرتبط بها الباء
على أوتاد الظلم والهوان والخوف التضييق .فالتوالد من حيث هو
81
زمن الستبداد حمق ،والعتناء بالتربية حمقٌ مضاعف! وقد قال
الشاعر:
ت
ك مي ٌ لم يُب ِ ن دام هذا ولم تحدث له ِغيٌَر إ ْ
ولم يُفرح بمولو ِد
وغالب الُسراء ل يدفعهم للزواج قصد التوالد ،إنما يدفعهم
لإليه الجهل المظلم ،وأنَّهم حتى الغنياء منهم محرومون من ك ِّ
الملذ ّات الحقيقية :كلذ ّة العلم وتعليمه ،ولذ ّة المجد والحماية،
ولذ ّة اليثار والبذل ،ولذ ّة إحراز مقام في القلوب ،ولذ ّة نفوذ
الرأي الصائب ،ولذ ّة كِبَر النفس عند السفاسف ،إلى غير ذلك
من الملذ ّات الروحية.
أما ملذ ّات هؤلء التعساء فهي مقصورة على لذتين اثنتين؛
الولى منها لذة الكل ،وهي جعلهم بطونهم مقابر للحيوانات إن
سرت ،وإل فمزابل للنباتات ،أو بجعلهم أجسامهم في الوجود تي َّ
كما قيل :أنابيب بين المطبخ و(الكنيف) ،أو جعلها معامل لتجهيز
الخبثين .واللذ ّة الثانية هي الّرعشة باستفراغ الشهوة ،كأن
أجسامهم خلقت دمامل جرب على أديم الرض ،يطيب لها الح ّ
ك
ووظيفتها توليد الصديد ودفعه .وهذا الشره البهيمي في البِعال
هو ما يعمي السراء ويرميهم بالزواج والتوالد.
العِرض –زمن الستبداد -كسائر الحقوق غير مصون ،بل هو
ساق من المستبدين والشرار من أعوانهم، معَّرض لهتك ال ُف ّ
فإنهم ،كما أخبر القرآن عن الفراعنة ،يأسرون الولد ويستحيون
النساء ،خصوصا ً في الحواضر الصغيرة والقرى المستضعف
ن المم التي تقع تحت أسر أمةٍ أهلها .ومن المور المشاهدة أ َّ
تغايرها في السيماء ،ل يمضي عليها أجيال إل وتغشو فيها سيماء
السرين :كسواد العيون في السبانيول ،وبياض البشرة في
ب الذي ل الفريقيين .وعدم الطمئنان على العِرض يُضعف الح ّ
م إل بالختصاص ،ويُضعف لصقة الولد بأزواج أمهاتهم، يت ُّ
مل مشاق التربية ،تلك الغيرة التي لجلها فتضعف الغَيرة على تح ّ
سفاح. شَّرع الله النكاح ،وحَّرم ال ِّ
ل كبير في تسهيل التربية ،وأين سعة والفقر أيضا ً دخ ٌ لل ّ
ن لنتظام المعيشة ولو مع الفقر سعة؟! كما أ َّ السراء من ال ّ
ُ
علقة قوية في التربية ،ومعيشة السراء أغنياء كانوا أو معدمين،
ل في خلل ،وضيقٌ في ضيق ،وذلك يجعل السير هيّن كلُّها خل ٌ
النفس ،وهذا أول دركات النحطاط ،يرى ذاته ل يستحقُّ المزيد
في النعيم مطعما ً ومشربا ً وملبسا ً ومسكناً ،وهذا ثاني الدركات
ويرى استعداده قاصرا ً عن الترقّي في العلم ،وهذا ثالثها ،ويرى
82
حياته على بساطتها ل تقوى إل بمعاونة غيره له ،وهذا رابعها،
م جّرا!.وهل َّ
م لماذا بناءً عليه؛ ما أبعد الُسراء عن النشاط للتربية ،ث َّ
ن نوَّروا أولدهم بالعلم جنوا عليهم ملون مشاقَّ التربية ،وهم إ ْ يتح َّ
بتقوية إحساسهم ،فيزيدونهم شقاءً ،ويزيدونهم بلءً ،ولهذا ل غرو
أن يختار السراء الذين فيهم بقية من الدراك ،ترك أولدهم هملً
تجرفهم البلهة إلى حيث تشاء.
وإذا افتكرنا كيف ينشأ السير في البيت الفقير ،وكيف
يتربَّى،نجد أنَّه يُلقَّح به ،وفي الغالب أبواه متناكدان متشاكسان،
مه فتشتمه ،أو زاد آلم حياتها م إذا تحَّرك جنينا ً حَّرك شراسة أ ِّ ث َّ
فتضربه ،فإذا ما ضيَّقت عليه بطنها للفتها النحناء خمول ً والتصرر
ُ
صغاراً ،والتقل ّص لضيق فراش الفقر ،ومتى ولدته ضغطت عليه
َ
بالقماط اقتصادا ً وجهلً ،فإذا تأل ّم وبكى سدَّت فمه بثديها ،أو
ضا ً أو بدوار السرير ،أو سقته مخدرا ً عجزا ً عن قطعت نفسه خ ّ
نفقة الطبيب ،فإذا ما فُطِم ،يأتيه الغذاء الفاسد يضيق معدته،
ويفسد مزاجه ،فإذا كان قوي البنية طويل العمر وترعرع ،يُمنع
من رياضة اللعب لضيق البيت ،فإذا سأل واستفهم ماذا وما هذا
خلُق أبويه ،وإن جالسهما ليألف جر ويلكم لضيق ُ ليتعلّم ،يُز َ
جس يبعدانه كي ل يقف على المعاشرة ،وينتفي عنه التو ّ
أسرارهما ،فيسترقها منه الجيران الخلطاء ،فتنمى أعوان
الظالمين وما أكثرهم ،فإذا قويت رجله يُدفع به إلى خارج الباب،
إلى مدرسة اللفة على القذارة ،وتعلّم صيغ الشتائم والسباب،
ن عاش ونشأ وُضع في مكتب أو عند ذي صنعة ،فيكون أكبر فإ ْ
سراح والمراح .فإذا بلغ الشباب ،ربطه القصد ربطه عن ال ّ
أولياؤه على وتد الزواج كي ل يفّر من مشاكلتهم في شقاء
م هو يتولى الحياة ،ليجني هو على نسله كما جنى عليه أبواه ،ث َّ
التضييق على نفسه بأطواق الجهل وقيود الخوف ،ويتولى
المستبدّون التضييق على عقله ولسانه وعمله وأمله.
وهكذا يعيش السير في حين يكون نسمة في ضيق
مٍ ،يو ِدّع سقما ً ويستقبل م ٍ ووادي غ ّ وضغط ،يهرول ما بين عتبة ه ّ
سقما ً إلى أن يفوز بنعمة الموت مضيعا ً دنياه مع آخرته ،فيموت
غير آسف ول مأسوف عليه.
وما أظلم من يؤاخذ السراء على عدم اعتنائهم بلوازم
حته وهو الحياة .فالنظافة مثلً :لماذا يهتم بها السير؟ هل لجل ص َّ
َ
ض مستمّر؟ أم لجل لذَّته وهو المتألم كيفما تقل ّب جسمه في مر ٍ
َ
أو نظره؟ أم لجل ذوق من يجالس أو يؤاكل ،وهو من عفّت
نفسه صحبة الحياة؟
83
ل شرا ً من ن حالة أغنياء السراء هي أق ُّ ن المطالع أ َّول يظن َّ
ة ،وأقصر عمرا ً من هذا ،إذا هذا؛ كل ،بل هم أشقى وأق ّ
ل عافي ً
نقصتهم بعض المنغِّصات ،تزيد فيهم مشاق التظاهر بالراحة
ح قليله فكثيره الكاذب والرفاه والعّزة والمنعة ،تظاهرا ً إن ص َّ
ل ثقيل على عواتقهم كالسكران يتصاحى فيُبتلى بالصداع ،أو حم ٌ
كالعاهرة البائسة تتضاحك لترضي الزاني.
حياة السير تشبه حياة النائم المزعوج بالحلم ،فهي حياة
ل روح فيها ،حياة وظيفتها تمثيل مندرسات الجسم فقط ،ول
علقة لها بحفظ المزايا البشرية ،وبناءً على هذا؛ كان فاقد
ي بالنسبة لغيره؛ ت بالنسبة لنفسه ،ح ٌّ الحرية ل أنانية له لنه مي ٌ
كأنَّه ل شيء في ذاته ،إنَّما هو شيء بالضافة .ومن كان وجوده
في الوجود بهذه الصورة وهي الفناء في المستبدين ،حقَّ له أن
نل يشعر بوظيفة شخصية فضل ً عن وظيفة اجتماعية .ولول أ ْ
ليس في الكون شيء غير تابع لنظام حتى الجماد ،حتى فلتات
نصدف التي هي مسببات لسباب نادرة ،لحكمنا بأ َّ الطبيعة وال ُّ
معيشة السراء هي محض فوضى ،ل شبه فوضى.
ن للسراء ،قوانين غريبة ن التدقيق العميق ،يفيدنا بأ َّ على أ َّ
في مقاومة الفناء يصعب ضبطها وتعريفها ،إنما السير يرضعها
مع لبن أمه ،ويتربَى عليها ،وقد يبدع فيها بسائق الحاجة ،ويكون
منهم الحاذق فيها علماً ،الماهر في تطبيقها عملً ،هو الموفَّق في
ما ميدان حرب الحياة مع الذل ،كالهنود واليهود .والعاجز عنها ،إ ّ
جاهل هذا القانون أو العاجز فطرة ً عن اتِّباعه كالعرب مثلً ،فل
يخرج عن كونه كرة يلعب بها صبيان الستبداد ،تارةً يضربون بها
الرض أو الحيطان ،وأما إذا كان عجزه كما يقال عن عرق
هاشمي ،أي عن شيءٍ من كرامة نفس أو قوة إحساس أو
سر ول تلين. جسارة جنان ،فيكون كالحجارة تتك َّ
قوانين حياة السير هي مقتضيات الشؤون المحيطة به،
التي تضطره لن يطبق إحساساته عليها ،ويدبِّر نفسه على
موجبها ،وذلك نحو مقابلة التجبُّر عليه بالتذلل والتّصاغر ،وتعديل
لالشدة عليه بالتلين والمطاوعة ،وإعطاء المطلوب منه بعد قلي ٍ
ن المطلوب هو ابنه لمجزرة الجندية أو ابنته من التمنُّع ،ولو أ َّ
لفراش شيٍخ شرير ،والمطالبة في الحقوق بصفة استعطاف كأنَّه
حفظ المال طالب صدقة ،وكسب المعاش مع شكاية الحاجة ،و ِ
بإخفائه عن العين ،والتعامي عن زلّت المستبدين ،والتصامم
س أو تعطيله عن سماع ما يُهان به ،والتظاهر بفقد الح ّ
بالمخدرات القوية كالفيون والحشيش ،وتعطيل العقل بالتّباله
وستر العلم بالتجاهل ،والرتداء بالتدين والرياء ،وتعويد اللسان
84
ل خير إلى فضل على الّزلقة في عبائر التصاغر والتملّق ،وعزو ك ّ
المستبدين حتى إذا كان الخير طبيعيا ً نحو مطر السماء ،فعزوه
ل شّرٍ ولو من نوع إلى يُمن الحكام أو دعاء الكهنة .ويسند ك َّ
ُ
التسل ّط على العراض ،على الستحقاق من جانب الله .إلى غير
لذلك من أحكام ذلك القانون ،الذي رؤوس مسائله فقط تم ّ
القارئ فضل ً عن تفصيلتها.
ن أخوف ما يخافه السير هو أن يظهر عليه أثر نعمة الله إ َّ
في الجسم أو المال ،فتصيبه عين الجواسيس (وهذا أصل عقيدة
إصابة العين)! أو أن يظهر له شأن في علم ٍ أو جاهٍ أو نعمةٍ
مهمة ،فيسعى به حاسدوه إلى المستبدِّ (وهذا أصل شر الحسد
الذي يُتعوَّذ منه)! وقد يتحيّل السير على حفظ ماله الذي ل
يمكنه إخفاؤه كالزوجة الجميلة ،أو الدابة الثمينة ،أو الدار
الكبيرة ،فيحميها بإسناد الشؤم( ،وهذا أصل التشاؤم بالقدام
والنواصي والعتاب).
ن السراء يبغضون المستبدَّ ،ول ُ ومن غريب الحوال أ َّ
يقوون على استعمالهم معه البأس الطبيعي الموجود في النسان
إذا غضب ،فيصرفون بأسهم في وجهة أخرى ظلماً :فيُعادون من
ة ،أو الغرباء ،أو يظلمون نساءهم ونحو ذلك. ة مستضعف ً بينهم فئ ً
مثَلُهم في ذلك مثل الكلب الهلية ،إذا أريد منها الحراسة و َ
والشراسة ،فأصحابها يربطونها نهارا ً ويطلقونها ليل ً فتصير
َ
شرسة عقورة ،وبهذا التعليل تعل ّل جسارة السراء أحيانا ً في
محارباتهم ،ل أنها جسارة عن شجاعة .وأحيانا ً تكون جسارة
السراء عن التناهي في الجبانة أمام المستبدِّ الذي يسوقهم إلى
الموت ،فيطيعونه انذعارا ً كما تطيع الغنمة الذئب فتهرول بين
يديه إلى حيث يأكلها.
ن التربية غير مقصودة ،ول مقدورة وقد اتَّضح مما تقدَّم أ َّ
في ظلل الستبداد إل ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة،
وهذا النوع يستلزم انخلع القلوب ل تزكية النفوس .وقد أجمع
ن القناع خير من علماء الجتماع والخلق والتربية على أ َّ
ن التعليم مع الحرية بين المعل ِّم الترغيب فضل ً عن الترهيب ،وإ َّ
ن التعليم عن رغبة في والمتعل ِّم أفضل من التعليم مع الوقار ،وأ َّ
مل أرسخ من العلم الحاصل طمعا ً في المكافأة ،أو غيرة من التك ُّ
ن المدارس تقلل القران .وعلى هذه القاعدة بنوا قولهم :إ َّ
َّ الجنايات ل السجون ،وقولهم :إ َّ
ن القصاص والمعاقبة قلما يفيدان
في زجر النفس كما قال الحكيم العربي:
ما لم يكن ل ترجع النفس عن غيّها
منها لها زاجُر
85
ومن يتأمل جيدا ً في قوله تعالى :ولكم في القصاص حياة ٌ يا
ة :هو التساوي مطلقاً، ن معنى القصاص لغ ً أولي اللباب ملحظا ً أ َّ
ل مقصورا ً على المعاقبة بالمثل في الجنايات فقط ،ويدقق النظر
في القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية ،ويتَّبع مسالك الُّرسل
ن العتناء في طريق العظام –عليهم الصلة والسلم -يرى أ َّ
م إلى الطماع عاجل ً أو آجلً، ف إلى القناع ،ث َّ الهداية فيها منصر ٌ
ً
م إلى الترهيب الجل غالبا ومع ترك أبواب تُدلي إلى النجاة. ث َّ
ن التربية التي هي ضالّة المم ،وفقدها هي المصيبة م إ َّ ث َّ
العظيمة ،التي هي المسألة الجتماعية؛ حيث النسان يكون
إنسانا ً بتربيته ،وكما يكون الباء يكون البناء ،وكما تكون الفراد
مة ،والتربية المطلوبة هي التربية المرتَّبة على إعداد تكون ال ّ
م على تقوية م على حسن التفهيم والقناع ،ث َّ العقل للتمييز ،ث َّ
م على حسن القدوة م على التمرين والتعويد ،ث َّ مة والعزيمة ،ث َّ اله ّ
سط والعتدال، م على التو ّ م على المواظبة والتقان ،ث َّ والمثال ،ث َّ
ة بتربية الجسم ،لنهما متصاحبان ن تكون تربية العقل مصحوب ً وأ ْ
صحة واعتللً ،فإنه يقتضي تعويد الجسم على النظافة وعلى
مل المشاقّ ،والمهارة في الحركات ،والتوقيت في النوم تح ّ
والغذاء والعبادة ،والترتيب في العمل وفي الرياضة والراحة .وأن
تكون تلكما التربيتين مصحوبتين أيضا ً بتربية النفس على معرفة
خالقها ومراقبته والخوف منه .فإذا كان ل مطمع في التربية
مة على هذه الصول بمانع طبيعة الستبداد ،فل يكون لعقلء العا ّ
المبتلين به إل أن يسعوا أول ً وراء إزالة المانع الضاغط على هذه
م بعد ذلك يعتنوا بالتربية؛ حيث يمكنهم حينئذ ٍ أن ينالوها العقول ،ث َّ
على توالي البطون ،والله الموفق.
86
الستبداد والتر ِّ
قي
87
مة تؤث ِّر في الفرد الواحد من ال ّ ن حالة هيئتها الجتماعية ،حتى إ َّ
مجموع تلك المة .كما إذا لو اختلَّت حجرة من حصن يخت ُّ
ل
ن كان ل يشعر بذلك ،كما لو وقفت بعوضة على مجموعه وإ ْ
ن لم يُدَرك ذلك طرف سفينة عظيمة أثقلتها وأمالتها وإ ْ
بالمشاعر .وبعض السياسيين بنى على هذه القاعدة :أنَّه يكفي
ل فرد منها في ترقية نفسه بدون أن يفتكر المة رقيّا ً أن يجتهد ك ُّ
في ترقّي مجموع المة.
مته هو الترقّي الحيوي الذي يجتهد فيه النسان بفطرته وه ّ
ة وتلذُّذاً ،ثانياً :الترقّي في القوّة أولً :الترقّي في الجسم ص ّ
ح ً
بالعلم والمال ،ثالثاً :الترقّي في النفس بالخصال والمفاخر،
رابعاً :الترقّي بالعائلة استئناسا ً وتعاوناً ،خامساً :الترقّي بالعشيرة
تناصرا ً عند الطوارئ ،سادساً :الترقّي بالنسانية ،وهذا منتهى
الترقّي.
وهناك نوع ٌ آخر من الترقّي ويتعلق بالروح وبالكمال ،وهو
ن لها وراء حياتها هذه حياةً ن النسان يحمل نفسا ً ملهمة بأ َّ أ َّ
أخرى يترقّى بها على سلّم العدل والرحمة والحسنات .فأهل
الديان –ما عدا أهل التوراة -يؤمنون بالبعث أو التناسخ ،فيأتون
بالعدل والرحمة رجاء المكافأة أو خوف المجازاة ،وهم من قبيل
الطبيعيين يعتبرون أنفسهم مدينين للنسانية بحفظها تاريخ الحياة
حسن الطبيعية ،فيلتزمون بخدمتها اهتماما ً بحياتهم التاريخية ب ُ
الذ ّكر أو قبحه.
وهذه الترقّيات ،على أنواعها الستّة ،ل يزال النسان يسعى
ما هو وراءها ما لم يعترضه مانع غالب يسلب إرادته ،وهذا المانع إ َّ
مى عند البعض بالعجز الطبيعي ،أو هو القدر المحتوم ،المس ّ
مة ،ث َّ ن القدر يصدم سير الترقّي لمح ً الستبداد المشؤوم .على أ َّ
يطلقه فيكُّر راقياً .وأما الستبداد فإنَّه يقلب السير من الترقّي
إلى النحطاط ،ومن التقدم إلى التأخر ،من النماء إلى الفناء،
ويلزم المة ملزمة الغريم الشحيح ،ويفعل فيها دهرا ً طويلً
أفعاله التي تقدَّم وصف بعضها في البحاث السابقة ،أفعاله التي
تبلغ بالمة حطّة العجماوات فل يهمها غير حفظ حياتها الحيوانية
ة ظاهرة فقط ،بل قد تبيح حياتها هذه الدنيئة أيضا ً الستبداد إباح ً
ن يختار الموت على الذل ،وهذه أو خفيّة .ول عار على النسان أ ْ
سَرت كبيرة قد تأبى الغذاء حتى ُ
سباع الطير والوحوش إذا أ ِ
الموت.
وقد يبلغ فعل الستبداد بالمة أن يحوِّل ميلها الطبيعي من
طلب الترقّي إلى التسفُّل ،بحيث لو دُفِعَت إلى الّرِفعة لبت
ُ َ َ
مت بالحرية تشقى، وتأل ّمت كما يتأل ّم الجهر من النور ،وإذا ألزِ َ
88
وربما تفنى كالبهائم الهلية إذا أُطلِق سراحها .عندئذ ٍ يصير
الستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم المة ،فل
ك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها. ينف ُّ
وتوصف حركة الترقّي والنحطاط في الشؤون الحيوية
للنسان؛ أنها من نوع الحركة الدودية ،التي تحصل بالندفاع
ن النسان يولد وهو أعجز حراكا ً وإدراكا ً من والنقباض ،وذلك أ َّ
م يأخذ في السير ،تدفعه الرغائب النفسية والعقلية ل حيوان ،ث َّ ك ِّ
وتقبضه الموانع الطبيعية والمزاحمة .وهذا سُّر أن النسان ينتابه
الخير والشر .وهو سُّر ما ورد في القرآن الكريم من ابتلء الله
ن الخيرالناس بالخير والشر ،وهو معنى ما ورد في الثر بأ َّ
ط بذيل الخير ،وهو المراد من مربوط بذيل الشر ،والشر مربو ٌ
أقوال الحكماء نحو :على قدر النّعمة تكون النقمة ،على قدر
سجال ،العاقل ب ِ الهمم تأتي العزائم ،بين السعادة والشقاء حر ٌ
من يستفيد من مصيبته ،والكيِّس من يستفيد من مصيبته ومصيبة
غيره ،والحكيم من يبتهج بالمصائب ليقطف منها الفوائد ،ما كان
في الحياة لذ ّة لو لم يتخللها آلم.
ن سبيل النسان هو الرقي ،ما فإذا تقرر هذا فليعلم أيضا ً أ َّ
دام جناحا الندفاع والنقباض فيه متوازيين كتوازن اليجابية
والسلبية في الكهربائية ،وسبيله القهقرى إن غلبته الطبيعة أو
ن الندفاع إذا غلب فيه العقل النفس ،كانت م إ َّالمزاحمة .ث َّ
ن غلبت النفس العقل ،كانت الوجهة إلى الوجهة إلى الحكمة ،وإ ْ
الزيغ .أما النقباض؛ فالمعتدل منه هو السائق للعمل ،والقوي
ك للحركة ،والستبداد المشؤوم الذي نبحث فيه هو مهل ِ ٌ منه ُ
قابض ضاغط مسكن ،والمبتلون به هم المساكين .نعم :أسراء
الستبداد أحقُّ بوصف المساكين من عجزة الفقراء.
ولو ملك الفقهاء حرية النظر لخرجوا من الختلف في
تعريف المساكين الذين جعل لهم الله نصيبا ً من الزكاة فقالوا:
ك الرقاب تشمل هذا الرقّ هم عبيد الستبداد ،ولجعلوا كفَّارات ف ِ ّ
الكبر.
ُّ ُ
أسراء الستبداد حتى الغنياء منهم كلهم مساكين ل حراك
فيهم ،يعيشون منحطّين في الدراك ،منحط ِّين في الحساس،
منحطّين في الخلق .وما أظلم توجيه اللوم عليهم بغير لسان
الرأفة والرشاد ،وقد أبدع من شبَّه حالتهم بدود تحت صخرة،
فما أليق باللئمين أن يكونوا مشفقين يسعون في رفع الصخرة
ولو حتّا ً بالظافر ذَّرة ً بعد ذّرة.
ن أهم ما يجب عمله على الخذين وقد أجمع الحكماء على أ َّ
مة ،الذين فيهم نسمة مروءة وشرار حمية ،الذين يعرفون بيد ال َّ
89
ما هي وظيفتهم بإزاء النسانية ،الملتمسين لخوانهم العافية ،أن
النمو
ِّ يسعوا في رفع الضغط عن العقول لينطلق سبيلها في
فتمّزِق غيوم الوهام التي تمطر المخاوف ،شأن الطبيب في
اعتنائه أول ً بقوة جسم المريض ،وأن يكون الرشاد متناسبا ً مع
ة وقوة :كالساهي ينب ِّهه الصوت الخفيف ،والنّائم يحتاج الغفلة خفَّ ً
ح وزجر .فالشخاص من ت لقوى ،والغافل يلزمه صيا ٌ إلى صو ٍ
هذا النوع الخير ،يقتضي ليقاظهم الن بعد أن ناموا أجيال ً طويلة
َ
أن يسقيهم النطاسي البارع مّرا ً من الزواجر والقوارس عل ّهم
يفيقون ،وإل فهم ل يفيقون ،حتى يأتي القضاء من السماء:
فتبرق السيوف ،وترعد المدافع وتمطر البنادق ،فحينئذ ٍ يصحون،
ولكن؛ صحوة الموت!.
ن الدِّين يؤث ِّر على بعض الجتماعيين في الغرب يرون أ َّ
م الجتماعي تأثيرا ً معط ِّل ً كفعل الفيون في الترقّي الفرادي ،ث َّ
س ،أو حاجبا ً كالغيم يغشى نور الشمس .وهناك بعض الغلة الح ِّ
ن أول يقولون :الدين والعقل ضدّان متزاحمان في الرؤوس ،وإ َّ
ن أصدق ما نقطة من الترقّي تبتدئ عند آخر نقطة من الدين .وإ َّ
ل به على مرتبة الُّرقي والنحطاط في الفراد أو في المم يُستد َّ ُّ
الغابرة والحاضرة ،هو مقياس الرتباط بالدين قوة ً وضعفاً.
ُ
هذه الراء كل ّها صحيحة ل مجال للردِّ عليها ،ولكن؛ بالنظر
إلى الديان الخرافية أساسا ً أو التي لم تقف عند حدِّ الحكمة،
ن الواحد ثلثة والثلثة كالدين المبني على تكليف العقل بتصوُّر أ َّ
ن مجَّرد الذعان لما يعقل برهان على فساد بعض مراكز واحد .ل َّ
العقل ،ولهذا أصبح العالم المتمدن يعد ُّ النتساب إلى هذه
حمق.العقيدة من العار؛ لنه شعار ال ُ
ض كالسلم الموصوف أما الديان المبنية على العقل المح ّ
بدين الفطرة ،ول أعني بالسلم ما يدين به أكثر المسلمين الن،
إنَّما أريد بالسلم :دين القرآن؛ أي الدين الذي يقوى على فهمه
صح زيد أو تحكُّم عمرو. ن غير مقيَّد الفكر بتف ُّ ل إنسا ٍ
من القرآن ك ُّ
ن الدِّين إذا كان مبنيا ً على العقل ،يكون أفضل فل شك أ َّ
صارف للفكر عن الوقوع في مصائد المخّرِفين ،وأنفع وازع
بضبط النَّفس من الشطط ،وأقوى مؤثِّر لتهذيب الخلق ،وأكبر
شط على العمال مل مشاقّ الحياة ،وأعظم من ّ ِ معين على تح ُّ
ل مثبِّت على المبادئ الشريفة ،وفي النتيجة مة الخطرة .وأج َّ المه َّ
ل به على الحوال النفسية في المم ح مقياس يُستد ُّ يكون أص َّ
والفراد رقيّا ً وانحطاطاً.
هذا القرآن الكريم إذا أخذناه وقرأناه بالتّروي في معاني
ألفاظه العربية وأسلوب تركيبه القرشي ،مع تفهُّم أسباب نزول
90
صر في مقاصده الدقيقة وتشريعه آياته وما أشارت إليه ،ومع التب ُّ
سنَّة العملية النبوية أو السامي ،ومع أخذ بعض التوضيحات من ال ُّ
َ
الجماع إن وجدا ،وقل ّما يوجدان ،فحينئذ ٍ ل نرى فيه من أول ِّه إلى
حكَم ٍ يتلقّاها العقل بالجلل والعظام ،إلى درجة انقياد آخره غير ِ
م عزيزة حك َ ٌ
حكَم ِ ن تلك ال ِ العقل طوعا ً أو كرها ً لليمان إجمال ً بأ َّ
ن الذي أنزلها الله على قلبه هو افضل من أرسله الله إلهية ،وأ َّ
مرشدا ً لعباده.
ن الناظر في القرآن حقّ النظر يرى أنَّه ل وتوضيح ذلك :أ َّ
ط بالذعان لشيء فوق العقل ،بل يحذِّره وينهاه يكل ِّف النسان ق ّ
من اليمان اتِّباعا ً لرأي الغير أو تقليدا ً للباء .ويراه طافحا ً بالتنبيه
إلى أعمال النسان فكره ونظره في هذه الكائنات وعظيم
ن لهذه الكائنات صانعا ً أبدعها م الستدلل بذلك إلى أ َّ انتظامها ،ث َّ
صفات التي يستلزم العقل م النتقال إلى معرفة ال ِّ من العدم ،ث َّ
م يرى القرآن صفا ً بها ،أو منَّزها ً عنها ،ث َّ أن يكون هذا الصانع مت َّ ِ
يعل ِّم النسان بعض أعمال وأحكام وأوامر ونواهي كلّها ل تبلع
ُ
المائة عدداً ،وكل ّها بسيطة معقولة ،إل قليل ً من المور التعبُّدية
شّرِعت لتكون شعارا ً يعرف به المسلم أخاه ،أو يستطلع التي ُ
ل مثل ً بالتّكاسل ُ من خلل قيامه بها أو تهاونه فيها أخلقه ،فيستد ّ
عن الصلة على فَقد ِ النشاط ،وبترك الصوم على عدم الصبر،
سكر على غلبة النفس والعقل ونحو ذلك. وبال ُّ
وكفى بالسلمية رقيّا ً في التشريع ،رقيّها بالبشر إلى منزلة
حصرها أسارة النسان في جهة شريفة واحدة وهي (الله)،
وعتقها عقل البشر عن توهُّم وجود قوة ما ،في غير الله ،من
شأنها أن تأتي للنسان بخيرٍ ما ،أو تدفع عنه شّرا ً ما .فالسلمية
ك أو ي ،أو مل ٍ ل أو نب ّ تجعل النسان ل يرجو ول يهاب من رسو ٍ
ن أو سلطان. ي أو جنّي ،أو ساحرٍ أو كاهن ،أو شيطا ٍ فلك ،أو ول ٍ ّ
وأعظم بهذا التعليم الذي يرمي النسان عن عاتقه جبالً
من الخوف والوهام والخيالت ،جبال ً اعتقلها منذ كان يسرح مع
الغيلن ،أو ورثها من أبيه آدم الذي طغاه شيطان النفس .أو ليس
العتيق من الوهام يصبح صحيح العقل ،قوي الرادة ،ثابت
العزيمة ،قائده الحكمة ،سائقه الوجدان ،فيعيش حراً ،فرحاً
صبورا ً فخوراً .ل يبالي حتى بالموت لعلمه بالسعادة التي
يستقبلها ،التي يمث ِّلها له القرآن بالجنان ،فيها الّروح والريحان،
والحور والغلمان ،فيها كل مل تشتهي النفس وتقُّر به العينان؟!
ن أن هؤلء المنكرين فائدة الدين ،ما أنكروا ذلك إل وأظ ُّ
ن صحيح مع يأسهم من إصلح ما ّ
من عدم اطِلعهم على دي ٍ
ن هؤلء لديهم ،عجزا ً عن مقاومة أنصار الفساد .وإذا نظرنا في أ َّ
91
دّين من جهة، ن واحد يشددون النَّكير على ال ِ أنفسهم هم في آ ٍ
ن ضرره أكبر من نفعه ،ويهيجون من جهةٍ أخرى قائلين :إ َّ
مؤث ِّرات أدبية وهمية محضا ً يرون أنه ل بد َّ منه في بناء المم،
ب النسانية والساءة إليها ب الوطن وخيانته ،وح ِّ وذلك مثل ح ِّ
شر ونحو سمعة الحسنة وعكسها ،والذِّكر التاريخي بالخير أو ال َّ وال ُّ
ذلك مما هو ل شيء في ذاته ،ول شيء أيضا ً بالنسبة إلى تأثير
ن (الله) حقيقة ل ريب فيها ،بل ول طاعة الله والخوف منه ،ل َّ
خلف إل في السماء بين (الله) وبين (مادة) أو (طبيعة) .ولول
ن الماديين والطبيعيين يأبون السترسال في البحث في صفات أ َّ
ما يسمونه مادة أو طبيعة ،للتقوا –ول شك -مع السلم في
ل لله. نقطة واحدة ،فارتفع الخلف العلمي وأسلم الك ُّ
ن أصوِّر الرقي وعلى ذكر اللوم الرشادي لح لي أ ْ
والنحطاط في النَّفس ،وكيف ينبغي للنسان العاقل أن يعاني
خلِقوا لغير ما هم عليه من إيقاظ قومه ،وكيف يرشدهم إلى أنهم ُ
سفالة ،فيذكِّرهم ،ويحّرِك قلوبهم ،ويناجيهم، ل وال َّ صبر على الذ ُّ ِّ ال َّ
وينذرهم بنحو الخطابات التية:
م :ينازعني والله الشعور ،هل موقفي هذا في جمع "يا قو ُ
ي فأحيّيه بالسلم؟ أم أنا أخاطب أهل القبور فأحييهم بالرحمة؟ ح ٍّ
يا هؤلء ،لستم بأحياء عاملين ،ول أموات مستريحين ،بل أنتم بين
مى التنبُّت ،ويصرح تشبيهه بالنّوم! يا ربّاه :إني بين :في برزٍخ يس ّ
أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة ،وهم في الحقيقة موتى ل
يشعرون ،بل هم موتى؛ لنهم ل يشعرون".
"يا قوم :هداكم الله ،إلى متى هذا الشقاء المديد والنّاس
خر ،وقد في نعيم مقيم ،وعّز كريم ،أفل تنظرون؟ وما هذا التأ ُّ
ٍ ٍ
سبقتكم القوام ألوف مراحل ،حتى صار ما بعد ورائكم أماما!ً
أفل تتبعون؟ وما هذا النخفاض والناس في أوج الّرفعة ،أفل
تغارون؟ أناشدكم الله؛ هل طابت لكم طول غيبة الصواب
م قاموا ،وإذا عنكم؟ أم أنتم كأهل ذلك الكهف ناموا ألف عام ث َّ
بالدنيا غير الدنيا ،والناس غير الناس ،فأخذتهم الدهشة والتزموا
السكون؟".
"يا قوم :وقاكم الله من الشر ،أنتم بعيدون عن مفاخر
فكر
ٍ مبتلون بداء التقليد والتبعية في ك ِّ
ل البداع وشرف القدوةُ ،
خلِقتم للماضي ل ل عتيق كأنَّكم ُ وعمل ،وبداء الحرص على ك ِّ
للحاضر :تشكون حاضركم وتسخطون عليه ،ومن لي أن تدركوا
ن حاضركم نتيجة ماضيكم ،ومع ذلك أراكم تقل ِّدون أجدادكم في أ َّ
الوساوس والخرافات والمور السافلت فقط ،ول تقل ِّدونهم في
محامدهم! أين الدين؟ أين التربية؟ أين الحساس؟ أين الغيرة؟
92
أين الجسارة؟ أين الثبات؟ أين الرابطة؟ أين المنعة؟ أين
الشهامة؟ أين النخوة؟ أين الفضيلة؟ أين المواساة؟ هل
م لهون؟" ص ٌّ تسمعون؟ أم أنتم ُ
م :عافاكم الله ،إلى متى هذا النوم؟ وإلى متى هذا يا قو ُ
ُ
ة عيونكم التقل ّب على فراش البأس ووسادة اليأس؟ أنتم مفتَّح ٌ
ولكنكم نيام ،لكم أبصار ولكنكم ل تنظرون ،وهكذا ل تعمى
ع
صدور! لكم سم ٌ ن؛ تعمى القلوب التي في ال ّ البصار ،ولك ْ
س ولكنكم ل تشعرون م ،ولكم شبيه الح ِّ م بُك ٌ ص ٌّ
ن ولكنكم ُ ولسا ٌ
س كبيرة ولكنها به ما هي اللذائذ حقا ً وما هي اللم ،ولكم رؤو ٌ
س حقُّها أن تكون مشغولة بمزعجات الوهام والحلم ،ولكم نفو ٌ
ن؛ أنتم ل تعرفون لها قدرا ً ومقاماً". عزيزة ،ولك ْ
م :قاتل الله الغباوة ،فإنها تمل القلوب رعبا ً من ل "يا قو ُ
ً
ل شيء ،وتفعم الرؤوس تشويشا وسخافة. ً
شيء ،وخوفا من ك ِّ
سكم الشيطان ،فتخافون أليست هي الغباوة جعلتكم كأنكم قد م َّ
من ظل ِّكم وترهبون من قوتكم ،وتجيّشون منكم عليكم جيوشاً
ليقتل بعضكم بعضاً؟ تترامون على الموت خوف الموت،
وتحسبون –طول العمر -فكركم في الدِّماغ ونطقكم في اللسان
وإحساسكم في الوجدان خوفا ً من أن يسجنكم الظالمون ،وما
يسجنون غير أرجلكم أياماً ،فما بالكم يا أحلس النساء مع الذ ّ
ل
جلَّس الرجال في السجون؟" تخافون أن تصيروا ُ
"يا قوم :أُعيذكم بالله من فساد الرأي ،وضياع الحزم ،وفقد
الثقة بالنفس ،وترك الرادة للغير ،فهل ترون أثرا ً للُّرشد في أن
يوكِّل النسان عنه وكيل ً ويُطلق له التصُّرف في ماله وأهله،
والتحكُّم في حياته وشرفه والتأثير على دينه وفكره ،مع تسليف
ف وإتلف؟ أم ترون ث وخيانة وإسرا ٍ ل عب ٍ هذا الوكيل العفو عن ك ِّ
ن هذا النوع من الجنة به أن يظلم النسان نفسه؟ هل خلق الله أ َّ
نل شيء؟ أم لتهملوه كأنَّه ل شيء؟ إ َّ لكم عقول ً لتفهموا به ك َّ
ن الناس أنفسهم يظلمون. ه ل يَظلم النّاس شيئا ً ولك َّ الل َ
"يا قوم :شفاكم الله ،قد ينفع اليوم النذار واللوم ،وأما غداً
ل القضاء ،فل يبقى لكم غير النّدب والبكاء .فإلى متى هذا إذا ح َّ
التخادع والتخاذل؟ وإلى متى هذا الهمال؟ هل طاب لكم النوم
على الوسادة اللينة ،وسادة الخمول؟ أم طاب لكم السكون
وتودُّون لو تسكنون القبور؟ أم عاهدتم أنفسكم أن تصلوا غفلة
سبات قبل صباح يوم النشور، الحياة بالممات ،فل تفيقوا من ال ُّ
يوم تعلو السيوف رقابكم وتصمي المدافع آذانكم فتمسون
الذلّء حقاً ،وحقَّ لكم أن تذلوا؟".
93
ة
م :رحمكم الله ،ما هذا الحرص على حياةٍ تعيس ٍ "يا قو ُ
دنيئة ل تملكونها ساعة! ما هذا الحرص على الراحة الموهومة
ُ
صبر فخٌر أو لكم صب! هل لكم في هذا ال َّ وحياتكم كل ّها تع ٌ
ب ون َ
عليه أجر؟ كلّ؛ واللهِ ساء ما تتوهمون ،ليس لكم إل القهر في
الحياة ،وقبيح الذِّكر بعد الممات؛ لنَّكم ما أفدتم الوجود شيئاً .بل
خلَف. سلف وصرتم بئس الواسطة لل َ أتلفتم ما ورثتم عن ال ّ
ل ما أنتم فيه من الترقّي عن ألستم يا ناس مديونين للسلف بك ِّ
حفْظ، إنسان الغابات؟ فإذا لم تكونوا أهل ً للمزيد فكونوا أخل ً لل ِ
وهذه العجماوات تنقل رقيها لنسلها بأمانة".
بل حد ٍ م :حماكم الله ،قد جاءكم المستمتعون من ك ِّ "يا قو ُ
ينسلون ،فإن وجدوكم أيقاظا ً عاملوكم كما يتعامل الجيران
ويتجامل القران ،وإن وجدوكم رقودا ً ل تشعرون سلبوا أموالكم،
وزاحموكم على أرضكم ،وتحيَّلوا تذليلكم ،وأوثقوا ربطكم،
واتَّخذوكم أنعاماً ،وعندئذ ٍ لو أردتم حراكا ً ل تقوون ،بل تجدون
القيود مشدودة ً والبواب مسدودة ل نجاة ول مخرج".
م :هوَّن الله مصابكم ،تشكون من الجهل ول تنفقون "يا قو ُ
على التعليم نصف ما تصرفون على التدخين ،تشكون من
الحكَّام ،وهم اليوم منكم ،فل تسعون في إصلحهم ،تشكون فقد
الرابطة ،ولكم روابط من وجوهٍ ل تفكِّرون في إحكامها .تشكون
صلح وأنتم يُخادع الفقر ول سبب له غير الكسل .هل ترجون ال َّ
بعضكم بعضا ً ول تخدعون إل أنفسكم؟ .ترضون بأدنى المعيشة
مونه توكُّلً! مونه قناعة ،وتهملون شؤونكم تهاونا ً تُس ّ عجزا ً تُس ّ
تموِّهون على جهلكم السباب بقضاء الله وتدفعون عار
المسببات بعطفها على القدر ،أل والله ما هذا شأن البشر!".
م :سامحكم الله ،ل تظلموا القدار ،وخافوا غيرة "يا قو ُ
المنعم الجبّار .ألم يخلقكم أكفاءً أحرارا ً طلقاء ل يثقلكم غير
النّور والنسيم ،فأبيتم إل أن تحملوا على عواتقكم ظلم الضعفاء
مل صغيركم كرة الرض وقهر القوياء؟! لو شاء كبيركم أن يُح ِّ
لحنى له ظهره ،ولو شاء أن يركبه لطأطأ له رأسه .ماذا استفدتم
من هذا الخضوع والخشوع لغير الله؟ وماذا ترجون من تقبيل
الذيال والعتاب وخفض الصوت ونكس الرأس؟ أليس منشأ هذا
صغار كل ِّه هو ضعف ثقتكم بأنفسكم ،كأنِّكم عاجزون عن ال ّ
ت يقمن ت من نبا ٍ تحصيل ما تقوم به الحياة ،وحسب الحياة لُقيما ٍ
ضلع ابن آدم ،وقد بذلها الخلّق لضعف الحيوان ،وهذه الوحوش
َ
تجد فرائسها أينما حل ّت ،وهذه الهوام ل تفقد قوتها؟ فما بال
الَّرجل منكم يضع نفسه مقام الطفل الذي ل ينال حاجته إل
94
ُ
بالتذل ّل والبكاء ،أو موضع الشيخ الفاني الذي ل ينال حاجته إل
ُ
بالتمل ّق والدُّعاء؟".
"يا قوم :رفع الله عنكم المكروه ،ما هذا التفاوت بين
أفرادكم وقد خلقكم ربكم أكفاء في البنية ،أكفاء في القوة ،أكِّفاء
في الطبيعة ،أكفَّاء في الحاجات ،ل يفضل بعضكم بعضا ً إل
بالفضيلة ،ل ربوبية بينكم ول عبودية؟ والله؛ ليس بين صغيركم
وكبيركم غير برزٍخ من الوهم .ولو درى الصغير بوهمه ،العاجز
بوهمه ،ما في النفس الكبير المتآله من الخوف منه لزال
الشكال وقضي المر الذي فيه تشقون! يا أعزاء الخلقة ،جهلء
المقام ،كان الناس في دور الهمجية ،فكان دُهاتهم بينهم آلهة
م ترقّى النّاس ،فهبط هؤلء لمقام الجبابرة والولياء ،ث َّ
م وأنبياء ،ث َّ
َ
حكَّام والحكماء ،حتى صار ط أولئك إلى مرتبة ال ُ زاد الّرقي فانح ّ
ل أكفاء. ن الك َّ
النّاس ناسا ً فزال العماء ،وانكشف الغطاء ،وبان أ َّ
فأناشدكم الله في أي الدوار أنتم؟ أل تفكِّرون؟".
م :جعلكم الله من المهتدين ،كان أجدادكم ل ينحنون "يا قو ُ
إل ركوعا ً لله ،وأنتم تسجدون لتقبيل أرجل المنعِمين ولو بلقمةٍ
مغموسةٍ بدم الخوان ،وأجدادكم ينامون في قبورهم مستوين
معوجة رقابكم أذلّء! البهائم تود ُّ لو تنتصب َّ أعزاء ،وأنتم أحياء
قاماتها وأنتم من كثرة الخضوع كادت تصير أيديكم قوائم .النبات
يطلب العلو وأنتم تطلبون النخفاض .لفَظَتكم الرض لتكونوا
ن
على ظهرها وأنتم حريصون على أن تنغرسوا في جوفها ،فإ ْ
كانت بطن الرض بغيتكم ،فاصبروا قليل ً لتناموا فيها طويلً".
م :ألهمكم الله الّرشد ،متى تستقيم قاماتكم وترتفع "يا قو ُ
من الرض إلى السماء أنظاركم ،وتميل إلى التعالي نفوسكم،
ل فيشعر أحدكم بوجوده في الوجود ،فيعرف معنى النانية ليستق ّ
بذاته لذاته ،ويملك إرادته واختياره ويثق بنفسه وربّه ،ل يتكِّل
على أحد من خلق الله اتِّكال الناقص في الخلق على الكامل
ل على سعي فيه ،أو اتِّكال الغاصب على مال الغافل أو الك ِّ
العامل ،بل يرى أحدكم نفسه إنسانا ً كريما ً يعتمد على المبادلة
م يستوفي ،ويستوفي على أن يفي ،بل والتعاوض فيسلف ،ث َّ
مة وحده ،وما أجدر بأحدكم أن يعمل ينظر في نفسه أنَّه هو ال ّ
لدنياه بنفسه لنفسه ،فل يتَّكل على غيره ،كما يعمل النسان
ليعبد الله بشخصه ل ينيب عنه غيره؟ فإذا فعلتم ذلك أظهر الله
بينكم ثمرة التضامن بل اشتراط ،والتقاضي بل محاشرة،
فتصيرون بنعمة الله إخواناً".
صركم بالعواقب .إن "يا قوم :أبعد الله عنكم المصائب وب َّ
َ
كانت المظالم غل ّت أيديكم ،وضيَّقت أنفسكم ،حتى صغرت
95
نفوسكم ،وهانت عليكم هذه الحياة وأصبحت ل تساوي عندكم
الجهد والجد ّ وأمسيتم ل تبالون أتعيشون أم تموتون ،فهلّ
كّمون فيكم الظالمين حتى في الموت؟ أليس أخبرتموني لماذا تح ِ
لكم من الخيار أن تموتوا كما تشاؤون ،ل كما يشاء الظالمون؟
هل سلب الستبداد إرادتكم حتى في الموت؟ كل والله :إن أنا
أحببت الموت أموت كما أحب ،لئيما ً أو كريماً ،حتفا ً أو شهيداً،
فإن كان الموت ول بدَّ ،فلماذا الجبانة؟ وإن أردت الموت ،فليكن
اليوم قبل الغد ،ولكن بيدي ل بيد عمرو .أليس:
كطعم الموت في وطعم الموت في أمرٍ صغير
عظيم
ِ أمرٍ
ت إنَّكم ل تحبُّون م :أناشدكم الله ،أل أقول حقا ً إذا قل ُ "يا قو ُ
الموت ،بل تنفرون منه ،ولكنكم تجهلون الطريق فتهربون من
ن الهرب الموت إلى الموت ،ولو اهتديتم إلى السبيل لعلمتم أ َّ
ن الخوف من ت ،وطلب الموت حياة ،ولعرفتم أ َّ من الموت مو ٌ
ن الحرية ة ،ولفطنتم إلى أ َّ ب ،والقدام على التعب راح ٌ التعب تع ٌ
سقياها قطرات من الدم الحمر المسفوح، هي شجرة الخلد ،و ُ
والسارة هي شجرة الزقّوم ،وسقياها أنهر من الدم البيض؛ أي
الدموع ،ولو كبرت نفوسكم لتفاخرتم بتزيين صدوركم بورد
الجروح ل بوسامات الظالمين؟!".
م :وأعني منكم المساكين ..،أيها المسلمون :إني "يا قو ُ
كّر في شأننا الجتماعي ،عسى أهتدي نشأت وشبت وأنا أف ِ
تصى السبب بعد السبب ،حتى إذا وقع ُ ت أتق ّ لتشخيص دائنا ،فكن ُ
مق فيه ل هذا هو جرثومة الدّاء ،فأتع َّ َ على ما أظنُّه عاماً ،أقول :لع ّ
ن ما قام في تمحيصا ً وأحل ِّله تحليلً ،فينكشف التحقيق عن أ َّ
الفكر هو سبب من جملة السباب ،أو هو سبب فرعي ل أصلي،
تت وأصبح ُ فأخيب وأعود إلى البحث والتنقيب .وطالما أمسي ُ
ت لستطلع ت وسافر ُ أجهد الفكر في الستقصاء ،وكثيرا ً ما سعي ُ
آراء ذوي الراء ،عسى أهتدي إلى ما يشفي صدري من آلم بحث
أتعبني به ربِّي .وآخر ما استقَّرت عليه سفينة فكري هو:
ن جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن كونه دين الفطرة إ َّ
والحكمة ،دين النظام والنشاط ،دين القرآن الصريح البيان ،إلى
صيغة أنَّا جعلناه دين الخيال والخبال ،دين الخلل والتشويش ،دين
ب فينا هذا المرض منذ ألف البِدَع والتشديد ،دين الجهاد .وقد د َّ
ل شؤوننا ،حتى بلغ فينا استحكام عام ،فتمكَّن فينا وأثَّر في ك ِّ
ل شأنه -نظاماً الخلل في الفكر والعمل أننا ل نرى في الخالق –ج َّ
فيما اتَّصف ،نظاما ً فيما قضى ،نظاما ً فيما أمر ،ول نطالب أنفسنا
ب واط ِّراد ومثابرة. فضل ً عن آمرنا أو مأمورنا بنظام ٍ وترتي ٍ
96
وهكذا أصبحنا واعتقادنا مشوَّش ،وفكرنا مشوَّش،
وسياستنا مشوَّشة ،ومعيشتنا مشوَّشة .فأين منا والحالة هذه؛
الحياة الفكرية ،الحياة العملية ،الحياة العائلية ،الحياة الجتماعية،
الحياة السياسية؟!".
م :قد ضيَّع دينكم ودنياكم ساستكم الولون "يا قو ُ
ل إفرادي ل حرج وعلماؤكم المنافقون ،وإنّي أرشدكم إلى عم ٍ
ل فرد ٍ منكم وجدان يميز فيه علما ً ول عملً :أليس بين جنبي ك ِّ
الخير من الشّر ،والمعروف من المنكر ولو تمييزا ً إجمالياً؟ أما
بلغكم قول معل ِّم الخير نبيكم الكريم عليه أفضل الصلة
ن عن المنكر أو ليسل ِّط َّ
ن ن بالمعروف ولتنهو َّ والتسليم" :لتأمر َّ
الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فل يستجاب لهم" ،وقوله:
"من رأى منكم منكرا ً فليغيّره بيده ،وإن لم يستطع فبلسانه ،وإن
لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اليمان"؟!
ن أنكر"وأنتم تعلمون إجماع أئمة مذاهبكم كل ِّها على أ َّ
م قتل النَّفس، المنكرات بعد الكفر هو الظُّلم الذي فشا فيكم ،ث َّ
ن تغيير المنكر بالقلب هو بغض م ...،وقد أوضح العلماء أ َّ م ،وث َّ
ث َّ
المتلب ِّس فيه بغضا ً في الله .بناءً عليه؛ فمن يعامل الظالم أو
الفاسق غير مضطر ،أو يجامله ولو بالسلم ،يكون قد خسر
أضعف اليمان والعياذ بالله".
ن كلمة الشهادة ،والصوم والصلة، "ول أظنكم تجهلون أ َّ
والحج والزكاة ،كلّها ل تغني شيئا ً مع فقد اليمان ،إنما يكون
ت وتقليدات وهوسات شعائر ،قياما ً بعادا ٍ القيام حينئذ ٍ بهذه ال ّ
تضيع بها الموال والوقات".
"بناءً عليه؛ فالدين يكل ِّفكم إن كنتم مسلمين ،والحكمة
تُلزِمكم إن كنتم عاقلين :أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر
ل في هذا الباب من إبطانكم البغضاء للظالمين جهدكم ،ول أق ّ
ملتم قليل ً ترون هذا الدواء السهل والفاسقين ،وأظنّكم إذا تأ َّ
ن منكم ،يكفي لنقاذكم مما تشكون .والقيام ل إنسا ٍ المقدور لك ِّ
ل فرد منكم بنفسه ،ولو أهمله كافّة بهذا الواجب متعيّن على ك ِّ
ن أجدادكم الولين قاموا به لما وصلتم إلى ما المسلمين .ولو أ َّ
أنتم عليه من الهوان .فهذا دينكم ،والدّين ما يدين به الفرد ل ما
ظ في الذهان. حف ٌ مو ِن وعمل ،ل عل ٌ يدين به الجمع ،والدين يقي ٌ
أليس من قواعد دينكم فرض الكفاية وهو أن يعمل المسلم ما
عليه غير منتظرٍ غيره؟!".
"فأناشدكم الله يا مسلمين :أن ل يغَّركم دين ل تعملون به
مة،مة خير أو خير أ ّ وإن كان خير دين ،ول تغرنَّكم أنفسكم بأنَّكم أ ّ
وأنتم المتواكلون المقتصرون على شعار :ل حول ول قوّة إل بالله
97
شعار شعار المؤمنين ،ولكن؛ أين هم؟ إني م ال ّ ِالعلي العظيم .ونِعْ َ
ة ة تعرف حقا ً معنى ل إله إل الله ،بل أرى أ َّ
م ً م ً ل أرى أمامي أ َّ
خبلتها عبادة الظالمين!".
م :وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين، "يا قو ُ
أدعوكم إلى تناسي الساءات والحقاد ،وما جناه الباء والجداد،
ُ
فقد كفى ما فُعل ذلك على أيدي المثيرين ،وأجل ّكم من أن ل
تهتدوا لوسائل التِّحاد وأنتم المهتدون السابقون .فهذه أمم
أوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتّى وأصول راسخة
للتِّحاد الوطني دون الديني ،والوفاق الجنسي دون المذهبي،
والرتباط السياسي دون الداري .فما بالنا نحن ل نفتكر في أن
نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها .فيقول عقلؤنا لمثيري
شحناء من العاجم والجانب :دعونا يا هؤلء نحن ندبِّر شأننا، ال َّ
نتفاهم بالفصحاء ،ونتراحم بالخاء ،ونتواسى في الضّراء،
سراء. ونتساوى في ال َّ
دعونا ندبِّر حياتنا الدنيا ،ونجعل الديان تحكم في الخرى
ت سواء ،أل وهي :فلتحي المة، فقط .دعونا نجتمع على كلما ٍ
فليحي الوطن ،فلنحي طلقاء أعّزاء".
صر والتبصير فيما آل إليه ص منكم النُّجباء للتب ُّ "أدعوكم وأخ ُّ
ف استحقارا ً لخيه الغربي؟ هذا المصير ،أليس مطلق العربي أخ ّ
الغربي قد أصبح مادّيا ً ل دين له غير الكسب ،فما تظاهُره مع
ة وكَذِباً .هؤلء الفرنسيس بعضنا بالخاء الديني إل مخادع ً
يطاردون أهل الدين ،ويعملون على أنَّهم يتناسونه ،بناءً عليه؛ ل
صياد وراء تكون دعواهم الدِّين في ال َّ
شرق ،إل كما يغّرِد ال ّ
الشباك!
لو كان للدين تأثير عند الغربي لما كانت البغضاء بين اللتين
والسكسون ،بل بين الطليان والفرنسيس ،ولما كانت بين
اللمان والفرنسيين الغربيين.
الغربي أرقى من الشرقي علما ً وثروة ومنعة ،فله على
الشرقيين إذا واطنهم السيادة الطبيعية .أما الشرقيون فيما
بينهم ،فمتقاربون ل يتغابنون.
الغربي يعرف كيف يسوس ،وكيف يتمتَّع ،وكيف يأسر،
وكيف يستأثر .فمتى رأى فيكم استعدادا ً واندفاعا ً لمجاراته أو
سبقه ،ضغط على عقولكم لتبقوا وراءه شوطا ً كبيرا ً كما يفعل
الروس مع البولونيين ،واليهود والتتار ،وكذلك شأن ك ِّ
ل
المستعمرين .الغربي مهما مكث في الشرق ل يخرج عن أنَّه
تاجر مستمتع ،فيأخذ فسائل الشرق ليغرسها في بلده التي ل
ن إلى أرباضها. يفتأ يفتخر برياضها ويح ُّ
98
قد مضى على الهولنديين في الهند وجزائرها ،وعلى
ن؛ ما خدموا الروس في قاوزان ،مثل ما أقمنا في الندلس ،ولك ْ
العلم والعمران بعشر ما خدمناها ،ودخل الفرنساويون الجزائر
منذ سبعين عاماً ،ولم يسمحوا بعد لهلها بجريدةٍ واحدة تُقَرأ.
ضل قديد بلده ،وسمك بحاره ،على نرى النكليزي في بلدنا يُف ِّ
يّ لحمنا وسمكنا .فهل والحالة هذه تبصرون يا أولي طر ِ
اللباب؟".
"وأنت أيها الشرق الفخيم رعاك الله .ماذا دهاك؟ ماذا
أقعدك عن مسراك؟ أليست أرضك تلك الرض ذات الجنان
والقنان ،ومنبت العلم والعرفان ،وسماؤك تلك السماء مصدر
النوار ،ومهبط الحكمة والديان ،وهواؤك ذاك النسيم العدل ،ل
العواصف والضباب .وماؤك ذاك العذب الغدق ،ل الكدر ول
الجاج؟".
ل نظامك ،والدهر ذاك َ "رعاك الله يا شرق ،ماذا أصابك فأخ ّ
الدهر ما غيَّر وضعك ،وبدَّل شرعه فيك؟ ألم تزل مناطقك هي
المعتدلة ،وبَنوك هم الفائقون فطرة ً وعدداً؟ أليس نظام الله
محكمة قويمة، فيك على عهده الول ،ورابطة الديان في بنيك ُ
مؤسسة على عبادة الصانع الوازع؟ أليست معرفة المنعم حقيقة
راهنة أشرقت فيك شمسها ،أيَّدت بها عّز النفس ،وأحكمت بها
ب الجنس؟". ب الوطن وح َّ ح َّ
"رعاك الله يا شرق ،ماذا عراك وسكَّن منك الحراك؟ ألم
تزل أرضك واسعة خصبة ،ومعادنك وافية غنية ،وحيوانك رابياً
متناسلً ،وعمرانك قائما ً متواصلً ،وبَنوك على ما ربَّيتهم أقرب
مى عند غيرهم ضعفاً شر؟ أليس عندهم الحلم المس ّ للخير من ال َّ
مى بالجبانة ،وعندهم الكرم في القلب ،وعندهم الحياء المس ّ
ماة بالعجز ،وعندهم مى بالتلف ،وعندهم القناعة المس ّ المس ّ
ل؟ نعم؛ ماة بالذ ّ
ماة بالبلهة ،وعندهم المجاملة المس ّ العفّة المس ّ
ما هم بالسالمين من الظلم ،ولكن؛ فيما بينهم ،ول من الخدع،
ولكن؛ ل يفتخرون به ،ول من الضرار ،ولكن؛ مع الخوف من
الله".
"رعاك الله يا شرق ،ل نرى من غير الدّهر فيك ما
َ
شقاء لبنيك ،ويستلزم ذل ّهم لبني أخيك .فلماذا قد يستوجب هذا ال ّ
أصبحت إذا انقطع عنك مدد أخيك بمصنوعاته ،يبقى أبناؤك ع ُراة
حفاة في ظلم ،بل يمنّيهم فقد ُ الحديد بالرجوع إلى العصر
النّحاسي ،بل الحجري الموصوف بعصر التعفين؟".
"رعاك الله يا شرق ،بل راعى الله أخاك الغرب ،العائل
بنفسه والعائل فيك ،وقاتل الله الستبداد ،بل لعن الله الستبداد،
99
ط بالمم إلى أسفل المانع من التّرقّي في الحياة ،المنح ّ
الدركات .أل بُعدا ً للظالمين".
"رعاك الله يا غرب ،وحيّاك وبيّاك ،قد عرفت لخيك سابق
فضله عليك ،فوفيت ،وكفيت ،وأحسنت الوصاية وهديت ،وقد
اشتد َّ ساعد بعض أولد أخيك ،فهل ينتدب بعض شيوخ أحرارك
سور ،سور الشؤم والشرور، لعانة أنجاب أخيك على هدم ذاك ال ّ
ليخرجوا إلى أرض الحياة ،أرض النبياء الهداة ،فيشكرون فضلك
والدهر مكافأة؟".
ن دامت حياته ب ،ل يحفظ لك الدِّين غير الشرق إ ْ "يا غر ُ
بحريته ،وفقد ُ الدّين يهدِّدك بالخراب القريب .فماذا أعددت
للفوضيين إذا صاروا جيشا ً جراراً؟ وماذا أعددت لديارك الحبلى
بالثورة الجتماعية؟ هل تُعِد ُّ المواد المتفرقعة ،وقد جاوز ْ
ت
أنواعها اللف؟ أن تُعِد ُّ الغازات الخانقة وقد سهل استحضارها
على الصبيان؟".
"يا قوم :وأريد بكم شباب اليوم؛ رجال الغد ،شباب الفكر؛
رجال الجد ،أُعيذكم من الخزي والخذلن بتفرقة الديان ،وأُعيذكم
ي السرائر ن الدينونة لله ،وهو سبحانه ول ُّ من الجهل ،جهل أ َّ
ة واحدة. والضمائر ولو شاء ربُّك لجعل الناس أ ّ
م ً
"أناشدكم يا ناشئة الوطان ،أن تعذروا هؤلء الواهنة
َ
الخائرة قواهم إل في ألسنتهم ،المعط ّل عملهم إل في التثبيط،
الذين اجتمع فيهم داء الستبداد والتواكل فجعلهما آلة تُدار ول
تدير .وأسألكم عفوهم من العتاب والملم ،لنَّهم مرضى مبتلون،
مثقلون بالقيود ،ملجمون بالحديد ،يقضون حياة خير ما فيها أنَّهم
آباؤكم!".
جباء من طبائع الستبداد ومصارع الستعباد "قد علمتم يا ن ُ َ
مل ً كافية للتدبُّر ،فاعتبروا بنا واسألوا الله العافية: ج َ
ُ
نحن ألِفنا الدب مع الكبير ولو داس رقابنا .ألِفنا الثبات
ثبات الوتاد تحت المطارق ،ألِفنا النقياد ولو إلى المهالك .ألِفنا
ُ ُ
ة ،واللكنةأن نعتبر التَّصاغر أدبا ً والتذل ّل لطفاً ،والتمل ّق فصاح ً
ة ،وقبول الهانة تواضعاً ،والّرِضا رزانة ،وترك الحقوق سماح ً
ُ
بالظ ّلم طاعة ،ودعوى الستحقاق غروراً ،والبحث عن العموميات
فضولً ،ومد َّ النَّظر إلى الغد أمل ً طويلً ،والقدام تهوُّراً ،والحمية
شهامة شراسة ،وحريَّة القول وقاحة ،وحريّة الفكر حماقة ،وال ّ
ب الوطن جنوناً. كُفراً ،وح َّ
أما أنتم ،حماكم الله من السوء ،فنرجو لكم أن تنشؤوا
سك بأصول الدين ،دون أوهام على غير ذلك ،أن تنشؤوا على التم ُّ
المتفننين ،فتعرفوا قدر نفوسكم في هذه الحياة فتكرموها،
100
سنن وتعرفوا قدر أرواحكم وأنَّها خالدة تُثاب وتُجزى ،وتتَّبعوا ُ
النبيين فل تخافون غير الصانع الوازع العظيم .ونرجو لكم أن
تبنوا قصور فخاركم على معالي الهمم ومكارم الشيَّم ،ول على
خلِقتم أحرارا ً لتموتوا كراماً، عظام نخرة .وأن تعلموا أنَّكم ُ
فاجهدوا على أن تحيوا ذلكما اليومين حياة ً رضيّة ،يتسنّى فيها
ل منكم أن يكون سلطانا ً مستقل ً في شؤونه ل يحكمه غير لك ٍّ
ن عليهم بعين أو عون ،وولدا ً باّراً الحقّ ،ومدينا ً وفيّا ً لقومه ل يض ُّ
ٍ
لوطنه ،ل يبخل عليه بجزءٍ من فكره ووقته وماله ،ومحبَّاً
ن خير الناس أنفعهم للناس ،يعلم أ َّ
ن للنسانية ويعمل على أ َّ
الحياة هي العمل ووباء العمل القنوط ،والسعادة هي المل،
ن القضاء والقدر هما عند الله ما ووباء المل التردد ،ويفقه أ َّ
ن ك َّ
ل يعلمه ويمضيه ،وهما عند الناس السعي والعمل ،ويوقن أ َّ
ل أثر على ظهر الرض هو من عمل إخوانه البشر ،وك َّ
ل عم ٍ ٍ
ن كمل ،فل يتخيل م تعاوََره ُ غيره إلى أ ْ َ عظيم قد ابتدأ به فردٌ ،ث ّ
َ
النسان في نفسه عجزاً ،ول يتوقّع إل خيراً ،وخير الخير للنسان
حّرا ً مقداماً ،أو يموت". أن يعيش ُ
"وكأنّي بسائلكم يسألني تاريخ التغالب بين الشرق
والغرب ،فأجيب :بأنَّا كنّا أرقى من الغرب علماً ،فنظاماً ،فقوَّة،
ن من الدَّهر لحق بنا الغرب ،فصارت م جاء حي ٌ فكنَّا له أسياداً! ث َّ
ة فاقنا عدداً ،وإ ْ
ن ن فُقْناه شجاع ً سجالً :إ ْ مزاحمة الحياة بيننا ِ
م جاء الّزمن الخير ترقّى فيه فُقناه ثروة ً فاقنا باجتماع كلمته .ث َّ
م إلى ذلك أولً :قوة اجتماعه الغرب علماً ،فنظاماً ،فقوّةً .وانض َّ
شعوبا ً كبيرةً .ثانياً :قوَّة البارود؛ حيث أبطل الشجاعة وجعل
العبرة للعدد .ثالثاً :قوَّة كشفه أسرار الكيمياء والميكانيك .رابعاً:
قوَّة الفحم الذي أهدته له الطبيعة .خامساً :قوَّة النشاط بكسره
قيود الستبداد .سادساً :قوَّة المن على عقد الشركات المالية
شرق ما يقابلها الكبيرة .فاجتمعت هذه القوات فيه وليس عند ال َّ
ّ
جة عليه ،والغرور بالدّين خلفاً غير الفتخار بالسلف ،وذلك ح َّ
للدّين ،فالمسلمون يقابلون تلك القوات بما يُقال عند اليأس
م الوكيل ،ويخالفون أمر القرآن لهم بأن سبُنا الله ونِعْ َوهو :ح ْ
قوة ،ل ما استطاعوا من صلةٍ وصوم. يُعِدّوا ما استطاعوا من َّ
وكأني بسائلكم يقول :هل بعد اجتماع هذه القوات في
شرق من سبيل لنجاة البقية؟ الغرب واستيلئه على أكثر ال َّ
َ
ن المر مقدور ولعل ّه ميسور .ورأس فأجيب قاطعا ً غير متردِّد :إ َّ
ن يكتب الناشئون على الحكمة فيه كسر قيود الستبداد .وأ ْ
جباههم عشر كلمات ،وهي:
-1ديني ما أُظهر وما أخفي.
ُ
101
ث يكون الحقُّ ول أبالي. -2أكون؛ حي ُ
-3أنا حٌّر وسأموت حّراً.
ل ل أتِّكل على غير نفسي وعقلي. -4أنا مستق ٌّ
-5أنا إنسان الجد ّ والستقبال ،ل إنسان الماضي
والحكايات.
ل شيء. -6نفسي ومنفعتي قبل ك ِّ
ُ
ب لذيذ. -7الحياة كل ّها تع ٌ
ل عزيز. -8الوقت غا ٍ
شرف في العلم فقط. -9ال َّ
-10أخاف الله ل سواه.
"وأنـت أيهـا الوطـن المحبوب :أنـت العزيـز على النفوس،
ن الرواح... ن الشباح وعليــك تئ ّـُ المقدَّس فــي القلوب ،إليــك تح ّـُ
أيهــا الوطــن الباكــي ضعافــه :عليــك تبكــي العيون ،وفيــك يحلو
المنون .إلى متـــى يعبـــث خللك اللئام الطّغام؟ يظلمون بنيـــك
ُ
ويذل ّون ذويـــــــك .يطاردون أنجالك الحباب ويمســـــــكون على
ُ
المساكين الط ّرق والبواب ،يُخرجون العمران ويُقفرون الدّيار؟.
أيها الوطن العزيز :هل ضاعت رحابك عن أولدك؟ أم
ضاقت أحضانك عن أفلذك؟ ...كل؛ إنَّما فقدت الُباة ،فقدت
حماة ،فقدت الحرار .أيها الوطن الملتهب فؤاده :أما رويت من ال ُ
ن؛ دموع بناتك الثاكلت ودماء أبنائك سقيا الدموع والدِّماء؟ ولك ْ ُ
البرياء ،ل دموع النادمين ول دماء الظالمين .أل فاشرب هنيئا ً ول
تأسف على البُلْهِ الخاملين ،ول تحزن ،فما هم كرائما ً وكراماً،
ن كرائما ً باكيات محمسات ،وليسوا هم كراما ً أعَّزة ن ه َّ
س َ ل ْ
ل فيهم الحُّر َ شهداء ،إنَّما هم –غفر الله لهم -من علمت ،ق ّ
ل فيهم من يقول أنا ل أخاف الظالمين. الغيور ،ق َّ
ن الله عناصر أجسامنا منك ،وجعل أيها الوطن الحنون :كَوَّ َ
المهات حواضن ،ورزقنا الغذاء منك ،وجعل المرضعات
ب أجزاءك وأن مجهزات ،نعم؛ خلقنا الله منك فحقَّ لك أن تح َّ
بن ل تح َّ ن على أفلذك .كما يحقّ لكفي شرع الطبيعة أ ْ تح َّ
الجنبي الذي يأبى طبعه حبَّك ،الذي يؤذيك ول يواليك ،ويزاحم
بنيك عليك ويشاركهم فيك ،وينقل إلى أرضه ما في جوفك من
نفيس العناصر وكنوز المعادن ،فيفقرك ليغني وطنه ،ول لوم
عليه ،بل بارك الله فيه!".
م :جعلكم الله خيرة اليوم وعدَّة الغد ،هذا خطابي "يا قو ُ
إليكم فيما هو الترقّي وما هو النحطاط ،فإن وعيتم ولو شذرات،
فيا بشراي والسلم عليكم ،وإل فيما ضياع النفس ،وعلى الَّرفاه
السلم".
102
مة إلى غاية أن الستبداد الذي يبلغ في النحطاط بال َّ
تموت ،ويموت هو معها ،كثير الشواهد في قديم الزمان وحديثه،
سامية التي تليق أما بلوغ الترقّي بالمم إلى المرتبة القصوى ال ّ
مةٍ تصلح مثال ً له، بالنسانية ،فهذا لم يسمح الزمان حتَّى الن بأ َّ
حكما ً ل مة حكمت نفسها برأيها العام ُ لنَّه إلى الن لم توجد أ َّ
يشوبه نوع ً من الستبداد ولو باسم الوقار والحترام ،أو بنوٍع من
شقاق الديني أو الجنسي بين الناس. الغفال ولو ببذر ال ّ ِ
ن الحكمة اللهية لم تزل ترى البشر غير متأهِّلين لنوال فكأ َّ
سعادة الخوة العمومية بالتحابب بين الفراد ،والقناعة بالمساواة
الحقوقية بين الطبقات .نعم؛ وُجد للترقّي القريب من الكمال
بعض أمثال قليلة في القرون الغابرة ،كالجمهورية الثانية
للرومان ،وكعهد الخلفاء الراشدين ،وكالزمنة المتقط ِّعة في عهد
الملوك المنظّمين ل الفاتحين مثل أنوشروان وعبد الملك الموي
شهيد وبطرس الكبير .وكبعض الجمهوريات ونور الدين ال َّ
الصغيرة والممالك الموفَّقة لحكام التقييد الموجودة في هذا
الَّزمان .وإنّي أقتصر على وصف منتهى الترقّي الذي وصلت إليه
تلك المم وصفا ً إجمالياً ،واترك للمطالع أن يوازنها ويقيس عليها
درجات سائر المم.
وربما يستريب في ذلك المطالع المولود في أرض
الستبداد ،الذي لم يدرس أحوال المم في الوجود ،ول عتب عليه
فإنَّه كالمولود أعمى ل يُدرك للمناظر البهية معنى.
قد بلغ الترقّي في الستقلل الشخصي في ظلل
ن يعيش النسان المعيشة التي تشبه في الحكومات العادلة ،ل ْ
بعض الوجوه ما وعدته الديان لهل السعادة في الجنان .حتى إ َّ
ن
ن على ك ِّ
ل ك ًّ
ل فرد ٍ يعيش كأنه خالد ٌ بقومه ووطنه ،وكأنه أمي ٌ
مطلب ،فل هو يكل ِّف الحكومة شططا ً ول هي تهمله استحقاراً:
ن على السلمة في جسمه وحياته بحراسة الحكومة -1أمي ٌ
ل قوتها في حضره وسفره بدون التي ل تغفل عن محافظته بك ِّ
أن يشعر بثقل قيامها عليه ،فهي تحيط به إحاطة الهواء ،ل
إحاطة السور يلطمه كيفما التفت أو سار.
ن على الملذَّات الجسمية والفكرية باعتناء الحكومة -2أمي ٌ
في الشؤون العامة ،المتعل ِّقة بالترويضات الجسمية والنظرية
ن الطرقات المسهلة ،والتزيينات البلدية، والعقلية حتى يرى أ َّ
والمتنزهات ،والمنتديات ،والمدارس ،والمجامع ،ونحو ذلك ،قد
ُ
جدت كل ّها لجل ملذ ّاته ،ويعتبر مشاركة الناس له فيها لجل وُ ِ
إحسانه ،فهو بهذا النظر والعتبار ل ينقص عن أغنى الناس
سعادةً.
103
خلِق وحده على سطح هذه ن على الحرية ،كأنَّه ُ -3أمي ٌ
ن وفكرٍ ص شخصه من دي ٍ الرض ،فل يعارضه معارض فيما يخ ُّ
ل وأمل. وعم ٍ
ن عزيز ،فل ممانع له ول َ
ن على النفوذ ،كأن ّه سلطا ٌ -4أمي ٌ
معاكس في تنفيذ مقاصده النافعة في المة التي هو منها.
مةٍ يساوي جميع أفرادها ن على المزيّة ،كأنَّه في أ َّ -5أمي ٌ
ة وشرفا وقوةً ،فل يفضل هو على أحد ول يفضل أحد ٌ عليه، ً منزل ً
إل بمزيّة سلطان الفضيلة فقط.
ن على العدل ،كأنَّه القابض على ميزان الحقوق ،فل -6أمي ٌ
ً
من فل يحذر بخسا ،وهو المطمئن على ً
يخاف تطفيفا ،وهو المث ّ
ة نالأنَّه إذا استحقَّ أن يكون ملكا ً صار ملكاً ،وإذا جنة جناي ً
جزاءه ل محالة.
ن ما أحرزه بوجهه المشروع َ ن على المال والملك ،كأ ّ -7أمي ٌ
قليل ً كان أو كثيراً ،قد خلقه الله لجله فل يخاف عليه ،كما أنَّه
ن نظر إلى مال غيره. تقلع عينه إ ْ
ن على الشف بضمان القانون ،بنصرة المة ،ببذل -8أمي ٌ
الدم ،فل يرى تحقيرا ً إل لدى وجدانه ،ول يعرف طمعا ً لمرارة
ل والهوان. الذ ُ ِّ
أما السير –ول أحزن المطالع بوصف حالته -فأكتفي ُ
ن حتى على عظامه في َ
بالقول :إن ّه ل يملك ول نفسه ،وغير أمي ٍ
رمسه ،إذا وقع نظره على المستبدِّ أو أحد من جماعته على
كثرتهم يتعوَّذ بالله ،وإذا مَّر من قرب إحدى دوائر حكومته أسرع
ن هذا الدار ،بئس الدار ،هي ب ،إ َّوهو يكرر قوله« :حمايتك يا ر ّ
ن هذه الدار كالكنيف ل من فيها إما ذابح أو مذبوح .إ َّ كالمجزرة ك ُّ
ل يدخله إل المضطر».
وقد يبلغ الترقّي في الستقلل الشخصي مع التركيب
بالعائلة والعشيرة ،أن يعيش النسان معتبرا ً نفسه من وجه غنياً
ي هو العائلة، عن العالمين ،ومن وجه عضوا ً حقيقيا ً من جسم ٍ ح ٍ ّ
م البشر. مة ،ث َّ
م ال َّ ث َّ
ويُنظر إلى انقسام البشر إلى أمم ،ثم إلى عائلت ،ثم إلى
ن ،وهي إلى بيوت، أفراد ،وهو من قبيل انقسام الممالك إلى مد ٍ
ق من وظيفةٍ معينة ل مرف ٍ وهي إلى مرافق ،وكما أنَّه ل بد َّ لك ِّ
يصلح لها وإل كان بناؤه عبثا ً يستحقُّ الهدم ،كذلك أفراد النسان
ل منهم نفسه لوظيفة في قيام حياة عائلته أولً ،ث َّ
م ل بد َّ أن يعد َّ ك ٌّ
حياة قومه ثانياً.
ولهذا يكون العضو الذي ل يصلح لوظيفة ،أو ل يقوم بما
ل من يريد أن يعيش كَل ًّ على غيره ،ل يصلح له ،حقيرا ً مهاناً .وك ُّ
104
ه كالدَّرن في ي ،يستحقُّ الموت ل الشفقة ،لن َّ عن عجزٍ طبيع ٍ ّ
ُّ
الجسم أو كالزائد من الظفر يستحقان الخراج والقطع ،ولهذا
المعنى حَّرمت الشرائع السماوية الملهي التي ليس فيها
سكر المعط ِّل عن العمل عقل ً وجسماً ،والمقامرة ترويض ،وال ُّ
ضل الله والّرِبا لنهما ليسا من نوع العمل والتبادل فيه .وقد ف َّ
شعر؛ ل َّ
ن جام وصانع الخبز على ناظم ال ّ ِ الكنَّاس على الح َّ
صنعتهما أنفع للجمهور.
ل فردٍ ن يصير ك ُّ وقد يبلغ ترقّي التركيب في المم درجة أ ْ
مة التي مة مالكا ً لنفسه تماماً ،ومملوكا ً لقومه تماماً .فال َّ من ال َّ
ل فرد ٍ منها مستعدا ً لفتدائها بروحه وبماله ،تصير تلك يكون ك ُّ
جة هذا الستعداد في الفراد ،غنية عن أرواحهم مة بح َّ ال َّ
وأموالهم.
َ
الترقّي في القوة بالعلم والمال يتمي ّز على باقي أنواع
الترقّيات السالفة البيان تميُّز الرأس على باقي أعضاء الجسم،
ن الرأس بإحرازه مركزية العقل ،ومركزية أكثر الحواس، فكما أ َّ
تميّز على باقي العضاء واستخدمها في حاجاته ،فكذلك
الحكومات المنتظم يترقّى أفرادها ومجموعها في العلم والثروة،
َّ
ط بها ن طبيعي على الفراد أو المم التي انح فيكون لهم سلطا ٌ
الستبداد المشؤوم إلى حضيض الجهل والفقر.
بقي علينا بحث الترقّي في الكمالت بالخصال والثرة،
وبحث الترقّي الذي يتعلق بالروح؛ أي بما وراء هذه الحياة،
َ
سل ّم الَّرحمة والحسنات ،فهذه أبحاث ويرقى إليه النسان على ُ
طويلة الذيل ،ومنابعها حكميات الكتب السماوية ومدوِّنات
الخلق ،وتراجم مشاهير المم.
وأكتفي بالقول في هذا النوع :إنَّه يبلغ بالنسان مرتبة أن ل
مه ،ث َّ
م يرى لحياته أهمية إل بعد درجات ،فيهُّمه أملً :حياة أ ِّ
م محافظته على عائلته ،ث َّ
م م أمنه على شرفه ،ث َّ امتلك حريته ،ث َّ
م ...وقد تشمل إحساساته عالم م ،وث َّ م ماله ،ث َّ وقايته حياته ،ث َّ
ن قومه البشر ل قبيلته ،ووطنه الرض ل بلده، النسانية كل ِّه ،كأ َّ
ومسكنه؛ حيث يجد راحته ،ل يتقيَّد بجدران بيت مخصوص يستتر
فيه ويفتخر به كما هو شأن الُسراء.
وقد يترفَّع النسان عن المارة لما فيها من معنى الكبر،
وعن التِّجارة لما فيها من التمويه والتبذُّل ،فيرى الشرف في
م القلم ،ويرى اللذَّة في التجديد م المطرقة ،ث َّ المحراث ،ث َّ
ن له وظيفة في والختراع ،ل في المحافظة على العتيق ،كأ َّ
ترقّي مجموع البشر.
105
ن المم التي يُسعدها جدُّها لتبديد وخلصة القول :إ َّ
سي والمعنوي ما ل يخطر على شرف الح ّ استبدادها ،تنال من ال َّ
فكر أُسراء الستبداد .فهذه بلجيكا أبطلت التكاليف الميرية
ة في نفقاتها بنماء فوائد بنك الحكومة .وهذه متها ،مكتفي ً بر َّ
س واحد. سويسرا يصادفها كثيرا ً أن ل يوجد في سجونها محبو ٌ
وهذه أمريكا أثرت حتى كادت تخرج الفضة من مقام النقد إلى
مقام المتاع .وهذه اليابان أصبحت تستنزف قناطير الذهب من
َ
أوربا وأمريكا ثمن امتيازات اختراعاتها وطبع تراجم مؤل ّفاتها.
وقد تنال تلك المم حظّا ً من الملذَّات الحقيقية ،التي ل
تخطر على فكر الُسراء ،كلذَّة العلم وتعليمه ،ولذَّة المجد
والحماية ،ولذَّة الثراء والبذل ،ولذَّة إحراز الحترام في القلوب،
َ َ
ب الطاهر ،إلى غير هذه ولذ ّة نفوذ الرأي الصائب ،ولذ ّة الح ِّ
ما السراء والجهلء فملذَّاتهم مقصورة على الملذَّات الروحية .وأ َّ
مشاركة الوحوش الضارية في المطاعم والمشارب واستفراغ
ن أجسامهم ظروف تُمل وتُفرغ ،أو هي دمامل تولد الشهور ،كأ َّ
الصديد وتدفعه.
وأنفع ما بلغه الترقّي في البشر؛ هو إحكامهم أصول
الحكومات المنتظمة ببنائهم سدّا ً متينا ً في وجه الستبداد،
ل فساد ،وبجعلهم أل ّ قوة ول نفوذ فوق قوة والستبداد جرثومة ك ِّ
شرع هو حبل الله المتين .وبجعلهم قوَّة التشريع في شرع ،وال َّ ال َّ
مة ل تجتمع على ضلل .وبجعلهم المحاكم تحاكم مة ،وال َّ يد ال َّ
سواء ،فتحاكي في عدالتها الكبرى صعلوك على ال َّ سلطان وال ُّ ال ُّ
اللهية .وبجعلهم العمال ل سبيل لهم على تعدّي حدود وظائفهم،
مة يقظة ساهرة على كأنهم ملئكة ل يعصون أمراً ،وبجعلهم ال َّ
ن الله –عَّز مراقبة سير حكومتها ،ل تغفل طرفة عين ،كما أ َّ
ما يفعل الظالمون. ل -ل يغفل ع َّ وج ّ
هذا مبلغ الترقّي الذي وصلت إليه المم منذ ع ُرِف التاريخ،
على أنَّه لم يقم دليل إلى الن على ترقّي البشر في السعادة
ما كانوا عليه في العصور الخالية حتى الحجرية ،حتّى الحيوية ع ّ
ل على ُ منذ كانوا عراة ً يسرحون أسراباً ،والثار المشهودة ل تد ّ
أكثر من ترقّي العلم والعمران؛ وهما آلتان كما يصلحان للسعاد،
سنَّة الكون التي أرادها الله يصلحان للشقاء ،وترقِّيها هو من ُ
تعالى لهذه الرض وبنيها ،ووصف لنا ما سيبلغ إليه ترقّي زينتها
واقتدار أهلها بقوله عَّز شأنه :حتى إذا أخذت الرض ُزخرفها
ن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليل ً أو نهاراً واَّزينت وظ َّ
ن الدنيا ل على أ َّ فجعلناها حصيدا ً كأن لم تَغْن بالمس .وهذا يد ُّ
َ
ن ما مضى َ وبنيها لم يزال في مقتبل الترقّي ،ول يعارض هذا أ ّ
106
من عمرها هو أكثر مما بقي حسبما أخبرت به الكتب السماوية،
ل َّ
ن العمر شيء ،والترقّي شيءٌ آخر.
ُ
الستبداد والتخل ّص منه
107
ضعاف الحيوان في البّرِ والبحر ،وتسوسه الرادة فقط ،ويقوده
ث يكثر الرزق. من بنيته أقوى إلى حي ُ
َ
مى ثم ترقّى الكثير من النسان إلى الحالة البدوية التي تس ّ
"دور القتناء" :فكان عشائر وقبائل ،يعتمد في رزقه على ا ِدّخار
الفرائس إلى حين الحاجة ،فصارت تجمعه حاجة التحفُّظ على
المال العام والنعام ،وحماية المستودعات والمراعي والمياه من
م انتقل –ول يُقال ترقّى -قسم كبير من النسان المزاحمين ،ث َّ
إلى المعيشة الحضرية :فسكن القرى يستنبت الرض الخصبة
َ
في معاشه ،فأخصب ،ولكن؛ في الشقاء ،ولعل ّه استحقَّ ذلك
بفعله؛ لنَّه تعدَّى قانون الخالق ،فإنَّه خلقه حّرا ً جوَّالً ،يسير في
ل ،وخلق ن ،وسكن إلى الجهل والذ ُّ ّ الرض ،ينظر آلء الله ،فسك َ
َّ
ة ،فاستأثر بها ،فسلط الله عليه من يغصبها منه الله الرض مباح ً
ويأسره .وهذا القسم يعيش بل جامعة ،تحكمه أهواء أهل المدن
وقانونه :أن يكون ظالما ً أو مظلوماً.
ما في المادة م ترقّى قسم من النسان إلى التصُّرف إ ّ ث َّ
ما في النظريات وهم أهل المعارف والعلوم. صناع ،وإ َّ وهم ال ُّ
ن سجنوا وهؤلء المتصّرِفون هم سكان المدن الذين هم إ ْ
أجسامهم بين الجدران ،لكنهم أطلقوا عقولهم في الكوان ،وهم
ن أكثرهم لم سعوا في الحاجات ،ولك َّ سعوا في الّرِزق كما تو َّ قد تو َّ
يهتدوا حتى الن للطريق المثلى في سياسة الجمعيات الكبرى.
ة على م ٍ وهذا هو سبب تنوُّع أشكال الحكومات وعدم استقرار أ َّ
ُ شكل مرض عام .إنَّما ك ُّ
ت سياسية على سبيل ل المم في تقل ّبا ٍ ٍ ُ
ُّ
التجريب ،وبحسب تغلب أحزاب الجتهاد أو رجال الستبداد.
وتقرير شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر،
ل في وهو المعترك الكبر لفكار الباحثين ،والميدان الذي ق َّ
ل من البشر من ل يجول فيه على فيل من الفكر ،أو على جم ٍ
مق، ح ْ س من الفراسة ،أو على حمارٍ من ال ُ الجهل ،أو على فر ٍ
حتى جاء الزمن الخير فجال فيه إنسان الغرب جولة المغوار
الممتطي في التدقيق مراكب البخار .فقرر بعض قواعد أساسية
في هذا الباب تضافر عليها العقل والتجريب ،وحصحص فيها
الحقّ اليقين ،فصارت تُعَد ُّ من المقررات الجتماعية عند المم
المترقية ،ول يعارض ذلك كون المم لم تزل أيضا ً منقسمة إلى
ن اختلفهم هو في وجوه تطبيق أحزاب سياسية يختلفون شيعاً؛ ل َّ
تلك القواعد وفروعها على أحوالهم الخصوصية.
وهذه القواعد التي قد صارت قضايا بديهية في الغرب ،لم
تزل مجهولة أو غريبة ،أو منفورا ً منها في الشرق؛ لنَّها عند
الكثرين منهم لم تطرق سمعهم ،وعند البعض لم تنل التفاتهم
108
وتدقيقهم ،وعند آخرين لم تحز قبولً؛ لنَّهم ذوو غرض ،أو
مسروقة قلوبهم ،أو في قلوبهم مرض.
وإنّي أطرح لتدقيق المطالعين رؤوس مسائل بعض
المباحث التي تتعلَّق بها الحياة السياسية .وقبل ذلك أذكِّرهم بأن ّهَ
قد سبق في تعريف الستبداد بأنَّه" :هو الحكومة التي ل يوجد
مة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم". بينها وبين ال َّ
سلطة أياً كما أستلفت نظرهم إلى أنَّه ل يوثق بوعد من يتولى ال ُّ
كان ،ول بعهده ويمينه على مراعاة الدين ،والتقوى ،والحق،
والشرف ،والعدالة ،ومقتضيات المصلحة العامة ،وأمثال ذلك من
ل بّرٍ وفاجر .وماالقضايا الكلية المبهمة التي تدور على لسان ك ِّ
ن المجرم ل يعدم تأويلً؛ م مبهم فارغ؛ ل َّ
هي في الحقيقة إل كل ٌ
ن القوة ل تُقابل إل بالقوة. ن من طبيعة القوة العتساف؛ ول َّ ول َّ
ث َّ
م فلنرجع للمباحث التي أريد طرحها لتدقيق
المطالعين ،وهي:
-2مبحث ما هي الحكومة:
هل هي سلطة امتلك فرد لجمع ،يتصَّرف في رقابهم،
ويتمتَّع بأعمالهم ويفعل بإرادته ما يشاء؟ أم هي وكالة تُقام بإرادة
مة لجل إدارة شؤونها المشتركة العمومية؟. ال َّ
109
-4مبحث التساوي في الحقوق:
صرف في الحقوق العامة المادية والدبية هل للحكومة الت ّ
كما تشاء بذل ً وحرماناً؟ أم تكون الحقوق محفوظة للجميع على
التساوي والشيوع ،وتكون المغانم والمغارم العمومية موَّزعة
على الفصائل والبلدان والصنوف والديان بنسبةٍ عادلة ،ويكون
ق الستنصاف؟ الفراد متساوين في ح ِ ّ
-5مبحث الحقوق الشخصية:
هل الحكومة تملك السيطرة على العمال والفكار؟ أم
أفراد المة أحرار في الفكر مطلقاً ،وفي الفعل ما لم يخالف
القانون الجتماعي؛ لنَّهم أدرى بمنافعهم الشخصية ،والحكومة ل
تتداخل إل في الشؤون العمومية؟
110
عمياء بل فهم ول اقتناع؟ أم عليها العتناء بوسائل التفهيم
والذعان لتتأتَّى الطاعة بإخلص وأمانة؟
111
كالدين ،والجنسية ،واللغة ،والعادات ،والداب العمومية على
استعمال الحكمة ما أغنت الزواجر ،ول تتداخل الحكومة في أمر
الدين ما لم تُنتَهَك حرمته؟ وهل السياسة السلمية سياسة
دينية؟ أم كان ذلك في مبدأ ظهور السلم ،كالدارة العرفية
عقب الفتح؟
112
ص واحد؟ أم
هل يُجمع بين سلطتين أو ثلث في شخ ٍ
ل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم صص ك ُّ
تُخ َّ
بإتقان ،ول إتقان إل بالختصاص ،وفي الختصاص ،كما جاء في
ل قلبين في جوفه ،ولذلك له لرج ٍ
الحكمة القرآنية :ما جعل الل ُ
يجوز الجمع منعا ً لستفحال السلطة.
113
-3يجب قبل مقاومة الستبداد ،تهيئة ما يُستَبدَل به
الستبداد.
هذه قواعـد رفـع السـتبداد ،وهـي قواعـد تُبعـد آمال السـراء،
ن ظاهرهـا يؤمن ّ ِـهم على اسـتبدادهم .ولهذا وتسـُّر المسـتبدّين؛ ل َّـ
ث قال" :ل أذكِــّر المســتبدّين بمــا أنذرهــم الفياري المشهور؛ حي ُ ـ
جن ِّدن المستبد ُّ بعظيم قو َّته ومزيد احتياطه ،فكم جبّارٍ عنيد ٍ ُ يفرح َّ
م صـغير" ،وإنـي أقول :كـم مـن جبّار قهّار أخذه الله أخـذ له مظلو ٌـ
عزيزٍ منتقم.
مة التي ل يشعر أكثرها بآلم الستبداد مبنى قاعدة كون ال َّ
ل تستحقُّ الحريّة هو:
َّ ن ال َّ إ َّ
ضرِبَت عليها الذِّلة والمسكنة ،وتوالت على مة إذا ُ
مة سافلة الط ِّباع حسبما ذلك القرون والبطون ،تصير تلك ال َّ
سالفة ،حتى إنَّها تصير كالبهائم ،أو سبق تفصيله في البحاث ال َّ
دون البهائم ،ل تسأل عن الحرية ،ول تلتمس العدالة ،ول تعرف
للستقلل قيمة ،أو للنظام مزية ،ول ترى لها في الحياة وظيفة
ن أو أساء على حدٍّ سواء ،وقد غير التابعية للغالب عليها ،أحس َ
ن ،طلبا ً للنتقام من شخصه ل طلباً تنقم على المستبدِّ نادراً ،ولك ْ
للخلص من الستبداد ،فل تستفيد شيئاً ،إنما تستبدل مرضاً
ص بصداع. بمرض؛ كمغ ٍ
سم فيه أنَّه أقوى سوق مستبدٍّ آخر تتو َّ وقد تقاوم المستبد َّ ب َ
دّ الول ،فإذا نجحت ل يغسل هذا السائق يديه ة من المستب ِ شوك ً
إل بماء الستبداد ،فل تستفيد أيضا ً شيئاً ،إنما تستبدل مرضاً
مزمنا ً بمرض حديث ،وربما تُنال الحرية عفواً ،فكذلك ل تستفيد
م بحفظها ،فل تلبث منها شيئاً؛ لنَّها ل تعرف طعمها ،فل تهت ُّ
دُ
الحرية أن تنقلب إلى فوضى ،وهي إلى استبداد ٍ مشوَّش أش ّ
ن الحرية التي وطأة ً كالمريض إذا انتكس .ولهذا؛ قَّرر الحكماء أ َّ
ما التي مة هي التي تحصل عليها بعد الستعداد لقبولها ،وأ َّ تنفع ال َّ
ن الثورة –غالباً- تحصل على أثر ثورةٍ حمقاء فقلّما تفيد شيئاً؛ ل َّ
تكتفي بقطع شجرة الستبداد ول تقتلع جذورها ،فل تلبث أن
تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولً.
مة الميتة من تدفعه شهامته للخذ بيدها جد في ال َّ فإذا وُ ِ
ث فيها الحياة وهي العلم؛ أي علمها والنهوض بها فعليه أولً :أن يب َّ
ن حالتها سيئة ،وإنَّما بالمكان تبديلها بخيرٍ منها ،فإذا هي علمت بأ َّ
بطبعه من الحاد إلى العشرات ،إلى إلى ،...حتى يشمل أكثر
مس ويبلغ بلسان حالها إلى منزلة قول مة ،وينتهي بالتح ُّ ال َّ
الحكيم المعّري:
114
فنحن ة
إذا لم تقُم بالعدل فينا حكوم ٌ
على تغييرها قُدَراء
مة في واد ٍ ظاهر الحكمة يسير وهكذا ينقذف فِكُر ال َّ
كالسيل ،ل يرجع حتى يبلغ منتهاه.
ن
شهامة ،إنما السف أ ْ ن المم الميتة ل يندر فيها ذو ال َّ م إ َّث َّ
يندر فيها من يهتدي في أوَّل نشأته إلى الطريق الذي به يحصل
على المكانة التي تمكِّنه في مستقبله من نفوذ رأيه في قومه.
ن من يرى منهم في نفسه وإنِّي أنب ِّه فكر الناشئة العزيزة أ َّ
استعدادا ً للمجد الحقيقي فليحرص على الوصايا التية البيان:
-1أن يجهد في ترقية معارفه مطلقا ً ل سيما في العلوم
النّافعة الجتماعية كالحقوق والسياسة والقتصاد والفلسفة
العقلية ،وتاريخ قومه الجغرافي والطبيعي والسياسي ،والدارة
الحربية ،فيكتسب من أصول وفروع هذه الفنون ما يمكنه إحرازه
بالتلقِّي ،وإن تعذَّر فبالمطالعة مع التدقيق.
-2أن يتقن أحد العلوم التي تكسبه في قومه موقعا ً محترماً
ب.وعلميا ً مخصوصاً؛ كعلم الدين والحقوق أو النشاء أو الط ّ
-3أن يحافظ على آداب وعادات قومه غاية المحافظة
ن فيها بعض أشياء سخيفة. ولو أ َّ
-4أن يقلل اختلطه مع الناس حتى رفقائه في المدرسة،
وذلك حفظا ً للوقار وتحفُّظا ً من الرتباط القوي مع أحد كيل
ب له. يسقط تبعا ً لسقوط صاح ٍ
-5أن يتجن َّـب كليّا ً مصـاحبة الممقوت عنـد الناس ل سـيما
الحكّام ولو كان ذلك المقت بغير حقّ.
-6أن يجتهد ما أمكنه في كتم مزيّته العلمية على الذين هم
دونه في ذلك العلم لجل أن يأمن غوائل حسدهم ،إنما عليه أن
ت كثيرة. يظهر مزيّته لبعض من هم فوقه بدرجا ٍ
-7أن يتخيَّر له بعض من ينتمي إليه من الطبقة العليا،
ن ل يُكثر التردد عليه ،ول يشاركه شؤونه ،ول يظهر له بشرط :أ ْ
الحاجة ،ويتكتَّم في نسبته إليه.
-8أن يحرص على القلل من بيان آرائه وإل يؤخذ عليه
تبعة رأي يراه أو خبرٍ يرويه.
-9أن يحرص على أن يُعرف بحسن الخلق ،ل سيما
صدق والمانة والثبات على المبادئ. ال ّ
-10أن يُظهر الشفقة على الضعفاء والغيرة على الدين
والعلقة بالوطن.
-11أن يتباعد ما أمكنه من مقاربة المستبد ّ وأعوانه إل
بمقدار ما يأمن به فظائع شّرِهم إذا كان معَّرضا ً لذلك.
115
ن الثلثين فما فوق حائزا ً على الصفات فمن يبلغ س َّ
المذكورة ،يكون قد أعد َّ نفسه على أكمل وجه لحراز ثقة قومه
عندما يريد في برهة قليلة ،وبهذه الث ِّقة يفعل ما ل تقوى عليه
صفات يُنقص من مكانته، الجيوش والكنوز .وما ينقصه من هذه ال ِّ
ن؛ قد يستغني بمزيد كمال بعضها عن فقدان بعضها الخر أو ولك ْ
صفات الخلقية قد تكفي في بعض الظروف عن نقصه .كما أ َّ
ن ال ِّ
الصفات العلمية كلّها ول عكس ،وإذا كان المتصدّي للرشاد
السياسي فاقد الثِّقة فقدانا ً أصليا ً أو طارئاً ،يمكنه أن يستعمل
مة والصفات العلمية. غيره ممن تنقصه الجسارة واله ّ
ن الراغب في نهضة قومه ،عليه أن يهيئ نفسه والخلصة :أ َّ
م يعزم متوكِّل ً على الله في خلق النَّجاح. ويزن استعداده ،ث َّ
ن الستبداد ل يُقاوم بالشدة ،إنما يُقاوم ومبنى قاعدة أ َّ
ن الوسيلة الوحيدة الفعّالة لقطع دابر بالحكمة والتدريج هو :أ َّ
مة في الدراك والحساس ،وهذا ل يتأتى الستبداد هي ترقّي ال َّ
ن اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير م إ َّ إل بالتعليم والتحميس .ث َّ
ن العوام مهما ترقّوا في ن طويل ،ل َّ مألوفه ،ل يتأتّى إل في زم ٍ
الدراك ل يسمحون باستبدال القشعريرة بالعافية إل بعد التّروي
المديد ،وربما كانوا معذورين في عدم الوثوق والمسارعة؛ لنَّهم
ش والخداع غالباً. ألِفوا أن ل يتوقعوا من الرؤوساء والدُّعاة إل الغ ّ
ب الُسراء المستبد َّ العظم إذا كان يقهر معهم ولهذا كثيرا ً ما يح ُّ
بالسوية الرؤساء والشراف ،وكثيرا ً ما ينتقم الُسراء من العوان
سون المستبد َّ بسوء؛ لنَّهم يرون ظالمهم مباشرة ً هم فقط ول يم ّ
ض
العوان دون المستبدِّ ،وكم أحرقوا من عاصمة لجل مح ّ
التشفّي بإضرار أولئك العوان.
ف بأنواٍع القوات التي فيها قوّة ن الستبداد محفو ٌ م إ َّ
ث َّ
جند ،ل سيما إذا كان الجند غريب الرهاب بالعظمة وقوّة ال ُ
الجنس ،وقوة المال ،وقوة اللفة على القسوة ،وقوّة رجال
الدين ،وقوّة أهل الثروات ،وقوّة النصار من الجانب ،فهذه
القوات تجعل الستبداد كالسيف ل يُقابَل بعصا الفكر العام الذي
هو في أوَّل نشأته يكون أشبه بغوغاء ،ومن طبع الفكر العام أنَّه
إذا فار في سنة يغور في سنة ،وإذا فار في يوم يغور في يوم.
بناءً عليه؛ يلزم لمقاومة تلك القوات الهائلة مقابلتها بما يفعله
الثبات والعناد المصحوبان بالحزم والقدام.
الستبداد ل ينبغي أن يُقاوَم بالعنف ،كي ل تكون فتنة تحصد
الناس حصداً .نعم؛ الستبداد قد يبلغ من الشدَّة درجة تنفجر
مة عقلء يتباعدون عندها الفتنة انفجارا ً طبيعياً ،فإذا كان في ال َّ
عنها ابتداءً ،حتى إذا سكنت ثورتها نوعا ً وقضت وظيفتها في
116
حصد المنافقين ،حينئذ ٍ يستعملون الحكمة في توجيه الفكار نحو
سس يكون بإقامة حكومة ل عهد تأسيس العدالة ،وخير ما تؤ َّ
لرجالها بالستبداد ،ول علقة لهم بالفتنة.
دّ غالبا إل عقب أحوال ً العوام ل يثور غضبهم على المستب ِ
مخصوصة مهي ِّجة فورية ،منها:
-1عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبد ُّ على
المظلوم يريد النتقام لناموسه.
َ
-2عقب حرب يخرج منها المستبد ُّ مغلوباً ،ول يتمك ّن
ُ
من إلصاق عار التغل ّب بخيانة القوّاد.
ة
ة مصحوب ً -3عقب تظاهر المستبدِّ بإهانة الدّين إهان ً
باستهزاء يستلزم حدَّة العوام.
ل كثير ل -4عقب تضييق شديد عام مقاضاة ً لما ٍ
سر إعطاؤه حتّى على أواسط الناس. يتي َّ
مة ل يرى الناس فيها -5في حالة مجاعة أو مصيبة عا ّ
مواساة ً ظاهرة من المستبدّ.
-6عقب عمل للمستبدِّ يستفُّز الغضب الفوري،
كتعُّرضه لناموس العرض ،أو حرمة الجنائز في
الشرق ،وتحقيره القانون أو الشرف الموروث في
الغرب.
-7عقب حادث تضييق يوجب تظاهر قسم كبير من
النساء في الستجارة والستنصار.
-8عقب ظهور موالة شديدة من المستبدِّ لمن تعتبره
مة عدوّا ً لشرفها. ال َّ
إلى غير ذلك من المور المماثلة لهذه الحوال التي عندها
يموج الناس في الشوارع والساحات ،وتمل أصواتهم الفضاء،
وترتفع فتبلغ عنان السماء ،ينادون :الحقّ الحقّ ،النتصار للحقّ،
الموت أو بلوغ الحقّ.
المستبد ُّ مهما كان غبيا ً ل تخفى عليه تلك المزالق ،ومهما
ن هذه المور يعرفها أعوانه كان عتيا ً ل يغفل عن اتِّقائها ،كما أ َّ
ووزراؤه.
جد منهم بعض يريدون له التهلكة يهوِّرونه على فإذا وُ ِ
الوقوع في إحداها ،ويُلصقونها به خلفا ً لعادتهم في إبعادها عنه
ن رئيس وزراء المستبدِّ أو رئيس قُوَّاده ،أو بالتمويه على الناس .إ َّ
دّين عنده ،هم أقدر الناس على اليقاع به ،وهو يداريهم رئيس ال ِ
تحذُّرا ً من ذلك ،وإذا أراد إسقاط أحدهم فل يوقعه إل بغتة.
لمثيري الخواطر على الستبداد طرائق شتّى يسلكونها
سّر ،والبطء ،يستقّرون تحت ستار الدين ،فيستنبتون غابة بال ّ
117
الثورة من بذرة أو بذورات يسقونها بدموعهم في الخلوات .وكم
شهوات ،وكم يلهون المستبد َّ بسوقه إلى الشتغال بالفسوق وال َّ
سرونه على مزيد التشديد ،وكم مة عنه ،ويج ِّ يغرونه برضاء ال َّ
يحملونه على إساءة التدبير ،ويكتمونه الُّرشد ،وكم يشوِّشون
فكره بإرباكه مع جيرانه وأقرانه .يفعلون ذلك وأمثاله لجل غاية
واحدة ،هي إبعاده عن النتباه إلى سدِّ الطريق التي فيها
ما أعوانه ،فل وسيلة لغفالهم عن إيقاظه غير تحريك يسلكون ،أ َّ
أطماعهم المالية مع تركهم ينهبون ما شاؤوا أن ينهبوا.
ومبنى قاعدة أنَّه يجب قبل مقاومة الستبداد ،تهيئة ماذا
ط طبيعي للقدام ن معرفة الغاية شر ٌ يُستبدل به الستبداد هو :إ َّ
ن معرفة الغاية ل تفيد شيئا ً إذا جهل ل عمل ،كما أ َّ على ك ِّ
الطريق الموصل إليها ،والمعرفة الجمالية في هذا الباب ل تكفي
مطلقاً ،بل ل بد َّ من تعيين المطلب والخطة تعيينا ً واضحا ً موافقاً
ل ،أو الكثرية التي هي فوق الثلثة أرباع عددا ً أو قوة ي الك ِّ لرأ ِ ّ
م المر ،حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعاً ،يكون بأس وإل فل يت ّ
القدام ناقصا ً نوعا ،وإذا كانت مجهولة بالكليّة عند قسم من
ً
مون إلى المستبدِّ ،فتكون الناس أو مخالفة لرأيهم ،فهؤلء ينض ّ
ة شعواء ،وإذا كانوا يبلغون مقدار الثلث فقط ،تكون حينئذٍ فتن ً
الغلبة في جانب المستبدِّ.
لم إذا كانت الغاية مبهمة ولم يكن السير في سبي ٍ ث َّ
معروف ،ويوشك أن يقع الخلف في أثناء الطريق ،فيفسد العمل
أيضا ً وينقلب إلى انتقام وفتن .ولذلك يجب تعيين الغاية بصراحة
وإخلص وإشهارها بين الكافّة ،والسعي في إقناعهم واستحصال
رضائهم بها ما أمكن ذلك ،بل الَولى حمل العوام على النداء بها
وطلبها من عند أنفسهم .وهذا سبب عدم نجاح المام علي ومن
ل ذلك كان منهم ل وليه من أئمة آل البيت رضي الله عنهم ،ولع َّ
عن غفلة ،بل مقتضى ذلك الزمان من صعوبة المواصلت
وفقدان البوستات المنتظمة والنشريات المطبوعة إذ ذاك.
ن من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يراد والمراد أ َّ
ن يُستبدل بها الستبداد ،وليس هذا بالمر الهيّن الذي ويمكن أ ْ
تكفيه فكرة ساعات ،أو فطنة آحاد ،وليس هو بأسهل من ترتيب
ن
المقاومة والمغالبة .وهذا الستعداد الفكري النظري ل يجوز أ ْ
يكون مقصورا ً على الخواص ،بل ل بد َّ من تعميمه وعلى حساب
المكان ليكون بعيدا ً عن الغايات ومعضودا ً بقبول الرأي العام.
مة بآلم س ال َّوخلصة البحث أنَّه يلزم أول ً تنبيه ح ّ
م يلزم حملها على البحث في القواعد الساسية الستبداد ،ث َّ
ل طبقاتها، للسياسة المناسبة لها؛ بحيث يشغل ذلك أفكار ك ِّ
118
والولى أن يبقى ذلك تحت مخض العقول سنين ،بل عشرات
السنين حتى ينضج تماماً ،وحتى يحصل ظهور التلهّف الحقيقي
على نوال الحرية في الطبقات العليا ،والتمنّي في الطبقات
السفلى ،والحذر كل الحذر من أن يشعر المستبد بالخطر ،فيأخذ
بالتحذُّر الشديد ،والتنكيل بالمجاهدين ،فيكثر الضجيج ،فيزيغ
المستبد ُّ ويتكالب ،فحينئذ ٍ إما أن تغتنم الفرصة دولة أخرى
ل من التعب، دّد السر على العباد بقلي ٍ فتستولي على البلد ،وتج ِ
قّ المنحوس ،وهذا نصيب أكثر مة في دورٍ آخر من الر ِ فتدخل ال َّ
ظ على ما أن يساعد الح ّ المم الشرقية في القرون الخيرة ،وإ َّ
مة قد تأهَّلت للقيام بأن تحكم عدم وجود طامع أجنبي ،وتكون ال َّ
مة أن يكل ِّفوا نفسها بنفسها ،وفي هذه الحال يمكن لعقلء ال َّ
المستبد َّ ذاته لترك أصول الستبداد ،واتِّباع القانون الساسي
الذي تطلبه المة .والمستبد ُّ الخائر القوى ل يسعه عند ذلك إل
الجابة طوعاً ،وهذا أفضل ما يصادَف .وإن أصَّر المستبد ُّ على
ل منهم راعياً ،وك ٌّ
ل القوة ،قضوا بالزوال على دولته ،وأصبح ك ٌّ
ّ
منهم مسؤول ً عن رعيته ،وأضحوا آمنين ،ل يطمع فيهم طامع ،ول
ل المم التي تحيا حياة ً كاملة يُغلبون عن قلّة ،كما هو شأن ك ِّ
ق الله المغرون ،وليعلم َ حقيقية ،بناءً عليه؛ فليب َّ
صر العقلء ،وليت ّ ِ
ن المر صعب ،ولكن تصوُّر الصعوبة ل يستلزم القنوط ،بل يثير أ َّ
م.
همم الرجل الش ّ
َّ ونتيجة البحث ،أ َّ
ن الله –جلت حكمته -قد جعل المم
مسؤولة عن أعمال من تُحكِّمه عليها .وهذا حقٌّ .فإذا لم تحسن
مة أخرى تحكمها ،كما تفعل مة سياسة نفسها أذلَّها الله ل َّ أ ّ
الشرائع بإقامة القيّم على القاصر أو السفيه ،وهذه حكمة .ومتى
ة رشدها ،وعرفت للحرية قدرها ،استرجعت عَّزها ،وهذا بلغت أ َّ
م ٌ
عد ٌ
ل.
وهكذا ل يظلم ربُّك أحداً ،إنما هو النسان يظلم نفسه ،كما
َّ َ ل يذ ُّ
ل عل ّة. ل الله قط أمة عن قلّة ،إنما هو الجهل يسبِّب ك
ن بواسق العلم وإني أختم كتابي هذا بخاتمة بشرى ،وذلك أ َّ
ل فيه ن يوم الله قريب .ذلك اليوم الذي يق ُّ ل علىأ َّوما بلغ إليه ،تد ُّ
القوة ،وعندئذ ٍ تتكافأ القوات بين ّ التفاوت في العلم وما يفيده من
ل السلطة ،ويرتفع التغالب ،فيسود بين الناس العدل البشر ،فتنح ُّ
والتوادد ،فيعيشون بشرا ً ل شعوباً ،وشركات ل دولً ،وحينئ ٍ
ذ
يعلمون ما معنى الحياة الطيبة :هل هي حياة الجسم وحصر
مة في خدمته؟ أم حياة الروح وغذاؤها الفضيلة؟ ويومئذٍ اله ّ
ٌ
ل خالد ،كأنَّه نج ٌ
م يتسنّى للنسان أن يعيش كأنَّه عالم مستق ّ
119
ك في النظام ،كأنَّه مل ٌ
ك ،وظيفته تنفيذ ص في شأنه ،مشتر ٌ
مخت ٌّ
أوامر الرحمن الملهمة للوجدان.
ت َّ
م الكتاب بعونه تعالى
120