You are on page 1of 20

‫السلم‬

‫الستاذ ممود ممد طه‬


‫نقلً عن الطبعة الثانية جادى الثان ‪1388‬هـ‬
‫الوافق أغسطس ‪1968‬م‬
‫الهداء‬
‫إل النسانية‬

‫مقدمة الطبعة الثانية ‪1968‬م‬


‫هذا كتاب خر جت الطب عة الول م نه ف مارس عام ‪ ،1960‬وكان الناس يومئذ ت ت وطأة ((ح كم الع ساكر))‪ ،‬ل‬
‫أحوجهم ال إل ذكراه بالي‪ ،‬وقشع ال‪ ،‬عن أمم الرض الت ل تزل بأمثاله مرزوءة‪ ،‬سحابة ظلمته وجهله‪.‬‬
‫ولقد خرج هذا الكتاب عقيب حادث فصل الطلبة المهوريي الثلثة من العهد العلمي‪ ،‬وما صحب ذلك الفصل من‬
‫تشو يه شد يد للفكرة المهور ية‪ .‬ول قد حاول نا ت صحيح ذلك التشو يه فلم يتي سر ل نا الن شر‪ ،‬ول قد منع نا الحاضرات ف‬
‫الندية‪ ،‬وف دور العلم الختلفة‪.‬‬
‫خرج هذا الكتاب ف طبعته الول مركزا‪ ،‬شديد التركيز‪ ،‬مضغوطا‪ ،‬كأشد ما يكون الضغط‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فهو الكتاب‬
‫((الم)) بالنسبة للحزب المهوري‪ ..‬فيه كل ما نريد أن نقول عن السلم‪ ،‬فلم يبق أمر مستأنف‪ ،‬إل أن يكون زيادة‬
‫شرح‪ ،‬وزيادة توسيع لا جاء فيه موجزا‪.‬‬
‫والن‪ ،‬وقد نفذت الطبعة الول‪ ،‬منذ زمن بعيد‪ ،‬فإنا ندفع بالكتاب إل الطبعة لنخرج الطبعة الثانية‪ ،‬من غي أن نري‬
‫فيها تعديل‪ .‬اللهم إل إدخال العناوين الفرعية عليه‪ ،‬لتكون للقارئ متوكأ‪ ،‬يعينه على حسن متابعة معانيه ال ّدقَاق‪ ،‬من‬
‫غي إملل‪ ،‬ول سأم‪.‬‬
‫وال‪ ،‬وحده‪ ،‬السئول أن يعل هذا الكتاب بشيا بعودة السلم‪ ،‬وعمدة لعودته‪..‬‬
‫إنه سيع ميب‪.‬‬

‫مقدمة الطبعة الول ‪1960‬م‬


‫بسم ال الرحن الرحيم‬
‫((اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمت ورضيت لكم السلم دينا))‪.‬‬
‫صدق ال العظيم‬

‫تعالوا إل كلمة سواء‬


‫إن الضطراب الذي نشاهده ف عال اليوم ير جع إل أ سباب كثية‪ ،‬تر جع جيع ها إل سبب أ ساسي وا حد‪ ،‬هو مدى‬
‫التخلف بي تقدم العلم التجريب‪ ،‬وتلف الخلق البشرية‪.‬‬
‫إن العلم التجر يب الد يث قد رد مظا هر الادة الختل فة‪ ،‬ال ت تز خر ب ا العوال جيع ها‪ ،‬إل أ صل وا حد‪ ،‬فإذا ل ترت فع‬
‫قواعد الخلق البشرية إل هذا الستوى فترد جيعها إل أصل واحد‪ ،‬فإن التواؤم بي البيئة الطبيعية‪ ،‬وبي الياة البشرية‪،‬‬
‫سيظل ناقصا‪ ،‬وسيبقى الضطراب الاضر مهددا الياة النسانية على هذا الكوكب بالعجز‪ ،‬والقصور‪ ،‬ف أول المر‪ ،‬ث‬
‫بالفناء والدثور‪ ،‬ف آخر المر‪..‬‬

‫العلم الادي التجريب‬


‫أما عن العلم التجريب فاستمع إل العال العرب الكبي الدكتور أحد زكي يدثك ف كتابه ‪ :‬مع ال ف ال سماء تت‬
‫عنوان ((لو انفرط هذا الكون)) فيقول‪-:‬‬
‫(ث نعود إل الكون‪ ،‬إن هذه عناصر الرض‪ ،‬وهذه مركباتا‪ ،‬وهى كل شئ فيها‪ ،‬وقد بناها بانيها من لبنات ثلث‪:‬‬
‫إلكترونات فبوتونات فنيترونات‪.‬‬
‫وتدثنا عن الكواكب السيارة‪ ،‬فقلنا أن عناصرها من عناصر الرض‪..‬‬
‫وتدث نا عن النجوم‪ ،‬فقل نا أن عنا صرها من عنا صر الرض‪ ،‬ت ستوي ف ذلك نوم ف مرت نا هذه‪ ،‬دنيا نا‪ ،‬سكة التبا نة‪،‬‬
‫ونوم ف مرات نركب إليها الضوء فل نبلغها إل بعد مئات الليي من السني‪..‬‬
‫الكون أجع إذن يتألف من عناصر هي بعض هذه التسعي‪.‬‬
‫الكون أجع إذن يتألف من تلك اللبنات الثلث‪..‬‬
‫فلو أن نا أمر نا الرض أن ينفرط عقد ها ‪ :‬أمر نا أج سام الن سان أن تنفرط‪ ،‬وأج سام اليوان‪ ،‬وأج سام النبات‪ ،‬وأج سام‬
‫الصخر بذه الرض‪ ،‬والصخور بذه الكواكب‪ ،‬وأمرنا كل غاز الشمس أن ينفرط‪ ،‬وأن تنفرط غازات النجوم جيعها‪،‬‬
‫مـا قرب منهـا ومـا بعـد‪ ،‬واختصـارا أن ينفرط كـل شـئ فـ الوجود‪ ،‬لنتـج عـن انفراطـه كومات هائلة ثلث مـن ‪:‬‬
‫إلكترونات‪ -‬وبروتونات‪ -‬ونيوترونات‪ ،‬فهل ف معان الوحدة أبلغ من هذا العن؟ ونقول ثلث لبنات‪ ،‬وهل هي حقا‬
‫ثلث؟ وف الوقت الذي ترد فيه الادة إل ثلث لبنات‪ ،‬يرد العلماء ((القوى)) إل أصل واحد‪ :‬الضوء‪ ،‬الرارة‪ ،‬الشعة‬
‫السـينية‪ ،‬الشعـة اللسـلكية‪ ،‬الشعـة اليميـة‪ ،‬وكـل إشعاع فـ الدنيـا‪ ،‬كلهـا صـور متعددة لقوة واحدة‪ ،‬تلك القوة‬
‫الغناطيسية الكهربائية‪ ،‬إنا جيعا تسي بسرعة واحدة‪ ،‬وما اختلفها إل اختلف موجة‪.‬‬
‫الادة ثلث لبنات‪ ،‬والقوى موجات متآصلت‪..‬‬
‫ويأت أينشتي‪ ،‬وف نظريته النسبية الاصة‪ ،‬يكافئ بي الادة والقوى‪..‬‬
‫ويقول‪ :‬أن الادة‪ ،‬والقوى‪ ،‬شـئ سـواء‪ ،‬وترج التجارب تصـدق دعواه‪ ،‬وخرجـت تربـة أخية صـدقت دعواه بأعلى‬
‫صوت سعته الدنيا‪ :‬ذلك انفلق الذرة ف القنبلة اليورنيومية‪..‬‬
‫الادة والقوى‪ ،‬إذن‪ ،‬شئ سواء‪.‬‬

‫فماذا بقي من أشياء هذا الكون؟‬


‫بقيت الاذبية‪ ،‬ذلك الرباط الذي يربط الكون أجع‪ ،‬وبقي الكان ‪ ،SPACE‬وبقي الزمان‪ ،‬وياول أينشتي أن يوحد‬
‫بينها‪ ،‬أن يربط بينها‪ ،‬وهو ف نظريته‪ ،‬نظرية النسبية العامة‪ ،‬يربط بي الزمان والكان‪ ،‬فيجعل منهما شيئا متواصلً‪ ،‬غي‬
‫متفا صل و ف نظري ته الديدة‪ ،‬نظر ية ال قل الوا حد ‪ UNITED FIELD THEORY‬يهدف أينشت ي إل أن‬
‫يثبت أن القوى الغناطيسية الكهربائية‪ ،‬تلك الت تتمثل ف الضوء والرارة وصور الشعاع عامة‪ ،‬هي وقوى الاذبية شئ‬
‫سواء‪.‬‬
‫وأقول السواء وما أعن به السوية‪ .‬ولكن أعن أنما ف الصول ف أعماق القيقة الطبيعية‪ ،‬متواصلن‪ ،‬قال أينشتي‪:‬‬
‫((إن روح العال النظري ل تتمل أن يكون ف الوجود الواحد شكلن للقوى ل يلتقيان‪ ،‬شكل للجاذبية القياسية‪،‬‬
‫وشكل للمغناطيسية الكهربائية))‪.‬‬
‫وهكذا يتحلل الر كب‪ ،‬ويتب سط الع قد‪ ،‬وتتشا كل القائق ال ت تت ستر وراء الظوا هر الختل فة‪ ،‬وتتشا به‪ ،‬وتت مع كل ها‬
‫لتصب ف مرى واحد‪ ،‬تلك الوحدة العظمى الت تري ف الكون أجع‪ ،‬ولكن‪ ،‬هل قضى النسان من ذلك وطرا؟‬
‫إن النسان ما زال يتساءل ‪ :‬وما وراء كل هذا؟‬
‫إن النسان إن كان وجد جوابا لبعض ((كيف)) تساءل عنه‪ ،‬فهو ما زال يتساءل ((لاذا)) وهو يسأل ف شئ من اللع‬
‫الفكري‪ ،‬والتقد يس الدي ن‪ ،‬قال أينشت ي‪(( :‬إن أع ظم جائشة من جائشات النفس وأجلها تلك الت تستشعرها النفس‬
‫عند الوقوف ف روعة أمام هذا الفاء الكون‪ ،‬والظلم‪ ،‬إن الذي ل تيش نفسه لذا ول تتحرك عاطفته‪ ،‬حي كميت‪،‬‬
‫إنه خفاء ل نستطيع أن نشق حجبه‪ ،‬وإظلم ل نستطيع أن نطلع فجره‪ ،‬ومع هذا نن ندرك أن وراءه شيئا هو الكمة‪،‬‬
‫أحكم ما تكون‪ ،‬ونس أن وراءه شيئا هو المال‪ ،‬أجل ما يكون‪ ،‬وهي حكمة‪ ،‬وهو جال‪ ،‬ل تستطيع أن تدركهما‬
‫عقولنا القاصرة‪ ،‬إل ف صور لما بدائية أولية‪ ،‬وهذا الدراك للحكمة‪ ،‬وهذا الحساس بالمال‪ ،‬ف روعة‪ ،‬هو جوهر‬
‫التعبد عند اللئق))‪ .‬ويقول أينشتي‪ ،‬وهو أعلم علماء الرض ف الكون وظواهره‪ ،‬وأحقهم بالكفر‪ ،‬إن كان علم يدعو‬
‫إل كفر‪ ،‬وأولهم باتباع ما اعتاد بعض علماء الغرب ومقلدوهم من أهل الشرق‪ ،‬من إغفالم ذكر ال‪ ،‬يقول أينشتي‪:‬‬
‫((إن الشعور الدين الذي يستشعره الباحث ف الكون‪ ،‬هو أقوى حافز على البحث العلمي‪ ،‬وأنبل حافز)) وهو يقول‪:‬‬
‫((إن دين هو إعجاب‪ ،‬ف تواضع‪ ،‬بتلك الروح السامية الت ل حد لا‪ ،‬تلك الت تتراءى ف التفاصيل الصغية القليلة الت‬
‫تستطيع إدراكها عقولنا الضعيفة العاجزة‪ ،‬وهو إيان العاطفي العميق بوجود قدرة عاقلة‪ ،‬مهيمنة‪ ،‬تتراءى حيثما نظرنا ف‬
‫هذا الكون العجز للفهام‪ ،‬إن هذا اليان يؤلف عندي معن ال))!!) انتهى حديث الدكتور العال أحد زكي‪.‬‬

‫الفيزيقيا وسيلة إل اليتافيزيقيا‬


‫فأنتم ترون‪ ،‬من هذا الديث‪ ،‬كيف رد العلم التجر يب الظوا هر الختلفة إل أ صل وا حد‪ ،‬وكيف ح ل هذا العلم أكب‬
‫علمائنا العاصرين ‪ -‬أينشتي ‪ -‬ليقول هذه الكلمة الالدة‪ ،‬الت أوردناها ف آخر ما اقتبسناه من كتاب الدكتور أحد‬
‫زكي‪ ،‬فكأن العلم التجريب ل يريد أن يكتفي بأن يظهر لنا وحدة العال الحسوس‪ ،‬وإنا يذهب إل أبعد من ذلك‪ ،‬فيينا‬
‫ك يف أن العال الح سوس‪ ،‬إذا أح سن ا ستقصاؤه‪ ،‬ي سوقنا إل عت بة عال وراءه‪ ،‬غ ي م سوس‪ ،‬ويترك نا هناك وقو فا‪ ،‬ف‬
‫خشوع‪ ،‬وإجلل‪ ،‬نلت مس و سائل‪ ،‬غ ي و سائل العلم التجر يب الادي‪ ،‬ب ا نتدي ف ماه يل الوادي القدس‪ ،‬الذي ي قع‬
‫وراء عال الادة‪ .‬أقرأوا‪ ،‬مرة ثان ية‪ ،‬الكل مة الالدة ال ت ح ل العلم التجر يب الادي الد يث أ كب علمائ نا العا صرين على‬
‫قول ا!! وأقرأوا‪ ،‬بش كل خاص‪ ،‬قوله في ها ((و هو إيا ن العاط في‪ ،‬العم يق‪ ،‬بوجود قدرة عاقلة‪ ،‬مهيم نة‪ ،‬تتراءى حيث ما‬
‫نظرنا‪ ،‬ف هذا الكون العجز للفهام))!!‬
‫إن العال الادي إن ا هو بثا بة الظلل للعال الرو حي‪ ،‬أو قل بت عبي أدق‪ ،‬أن الادة روح‪ ،‬ف حالة من الهتزاز تتأ ثر ب ا‬
‫حواسـنا‪ ،‬وأن الروح مادة‪ ،‬فـ حالة مـن الهتزاز ل تتأثـر باـ حواسـنا‪ ،‬فالختلف‪ ،‬على ذلك‪ ،‬بيـ عال الادة‪ ،‬وعال‬
‫الروح هو اختلف مقدار وليس اختلف نوع‪ ،‬وهذا يفتح الباب على الوحدة‪ ..‬وحدة جيع العوال‪.‬‬
‫وحي ينتهي بنا العلم التجريب الادي إل رد جيع ظواهر الكون الادي إل وحدة هي ((الطاقة))‪ ،‬يبز لنا من جديد‪،‬‬
‫وبصـورة خلبـة‪ ،‬العلم التجريـب الروحـي‪ ،‬ليتول قيادنـا فـ شعاب الوادي القدس‪ ،‬الذي يقـع وراء الادة‪ ،‬ونسـتطيع‪،‬‬
‫بوا صلة الب حث وال ستقصاء‪ ،‬ف العلم التجر يب الرو حي‪ ،‬أن نرى هل ي كن أن ترد ظوا هر الخلق البشر ية إل أ صل‬
‫وا حد‪ ،‬كما ردت ظواهر الكون الادي إل أصل وا حد‪ ،‬ويتم بذلك التساق‪ ،‬والتلؤم‪ ،‬بي سلوك البشر‪ ،‬وبي البيئة‬
‫الادية الت يعيشون فيها‪ ،‬فينتهي بذلك القلق الاضر‪ ،‬ويعم الرض السلم؟؟‪.‬‬

‫الدين والعلم توأمان‬


‫والعلم التجريب الروحي ليس جديدا‪ ،‬وإنا هو قدي قدم العلم الادي‪ ،‬وبق‪ ،‬إنما توأمان‪ ،‬ولدا ف وقت واحد‪ ،‬ودرجا‬
‫م عا‪ ،‬وظل يتعاونان ف مدارج الن مو‪ ،‬فإن الن سان الول عند ما و قف على رجل يه‪ ،‬لول مرة‪ ،‬أمام قوى الكون الادي‬
‫الائلة امتل قلبه بالوف‪ ،‬والتقديس‪ ،‬فأما القوى الت أخافته هونا ما‪ ،‬واستطاع مناجزتا فقد هدته إل العلم التجريب‬
‫الادي‪ ،‬وأمـا القوى التـ اسـترهبته‪ ،‬واسـتغرقته خشيتهـا‪ ،‬فقـد تزلف إليهـا‪ ،‬وتلقهـا‪ ،‬وهدتـه بذلك إل العلم التجريـب‬
‫الروحي‪ .‬ونن نسمي هذين التوأمي اليوم‪ ،‬العلم‪ ،‬والدين‪ ،‬وقد قفز العلم قفزة واسعة جدا ف العصر الديث‪ ،‬وتلف‬
‫الدين‪ ،‬وبذلك حدث الختلل ف التوازن‪ ،‬وظهر الضطراب‪ ،‬والقلق الذي أشرنا إليه‪ ،‬ف صدر هذه الكلمة‪ ،‬وليس إل‬
‫إعادة التوازن من سبيل‪ ،‬إل إذا ق فز الد ين هذه القفزة الريئة نف سها‪ ،‬فرد قوا عد الخلق البشر ية إل أ صلها ال صيل‪،‬‬
‫على نفس النحو‪ ،‬وبنفس القدر‪ ،‬الذي به ردت مظاهر الكون الادي إل أصلها الصيل‪..‬‬

‫الفهم الذري للدين يعله يناسب عصر الذرة‬


‫‪ ..‬نعم فالعلم التجريب الروحي ‪ -‬الدين ‪ -‬ليس جديدا ولكنه سيعود جديدا‪ ،‬لن عصر الذرة يتطلب فهما ذريا للدين‬
‫‪ -‬أعن فهما دقيقا‪ ،‬يصل إل نواة الدين‪ ،‬ويفجر تلك النواة تفجيا يسمع له دوي أعت من دوي تفجي النواة الادية‪،‬‬
‫ول قد ساير الد ين طفولة البشر ية ف سحيق الماد‪ ،‬وأح سن م سايرتا‪ ،‬وكان ب ا رفي قا‪ ،‬شفي قا‪ ،‬ي د ل ا ف الوهام‪،‬‬
‫والباطيل‪ ،‬الت كانت تكتنف تفكيها‪ ،‬ريثما ينقلها‪ ،‬على مكث‪ ،‬وف أناة‪ ،‬من وهم غليظ‪ ،‬إل وهم أدق‪ ،‬ومن باطل‬
‫غليظ إل باطل أدق‪ ،‬وهكذا‪ ،‬دواليك‪ ،‬حت قطعت النسانية عهد الطفولة‪ ،‬ووقفت اليوم‪ ،‬ف طور الراهقة‪ ،‬تستشرف‬
‫إل عهـد الرجولة‪ ،‬والكتمال‪ .‬وأصـبح على الديـن دور جديـد‪ ،‬هـو أن يقفـز بالنسـانية عـب هذا الطور القلق الائر‬
‫الضطرب ‪ -‬طور الراه قة ‪ -‬ليد خل ب ا ع هد الرجولة‪ ،‬والكتمال‪ .‬ول ا كان الفرق ب ي الط فل والر جل كبيا شا سعا‪،‬‬
‫فالرجل يتحمل مسئولية عمله‪ ،‬بينما الطفل يطلب الماية من تلك السئولية‪ ،‬فقد أصبح على الدين‪ ،‬منذ اليوم‪ ،‬أل ينبن‬
‫على الغموض‪ ،‬وأل يفرض الذعان‪ ،‬على ن و ما كان يف عل ف عهود طفولة الع قل البشري‪ ..‬وإن ا ي ب عل يه أن يقدم‬
‫منها جا متكامل للحياة‪ ،‬يا طب الع قل‪ ،‬ويتر مه‪ ،‬وياول إقنا عه بدوى مار سة ذلك النهاج ف الياة اليوم ية‪ ،‬ف كل‬
‫مضطربا‪.‬‬
‫الرادة البشرية مادة الدين‬
‫والعلم التجريب الروحي ‪ -‬الدين ‪ -‬مادته الطاقة‪ ،‬أيضا‪ ،‬ولكنها ف هذه الالة ((الرادة)) البشرية‪ ..‬هل هي ((مية)) أم‬
‫((مسية)) كالطاقة الادية؟؟ ونن ألفنا‪ ،‬عند التحدث عن الدين‪ ،‬أن نتحدث عن أديان التوحيد‪ ،‬والوثنيات التعدديات‪،‬‬
‫والقي قة أن الب شر‪ ،‬ف ج يع ع صورهم‪ ،‬ل يعبدوا غ ي هذه الرادة البشر ية‪ ،‬وهذا يف سر ل نا ال سر ف أن ج يع الوثان‬
‫كا نت تن حت على ش كل الي كل البشري‪ ..‬وح ت اليوم‪ ،‬و ف أر قى الديان التوحيد ية‪ ،‬وأع ن به ال سلم‪ ،‬فإن أر قى‬
‫معتنق يه يعبدون من دون ال إل ا آ خر‪ ،‬هو ((إرادت م البشر ية)) ولكن هم ل يفطنون إل ذلك‪ ،‬ويظنون أن م ي سنون‬
‫صنعا‪ ..‬ويسخرون من باقي عباد ال من أصحاب اللل الخرى‪ .‬فلو أنم تفطنوا إل حقيقة أمرهم إذن لشتغلوا‪ ،‬عن‬
‫الزراية على الخرين‪ ،‬بتحصيل ما فاتم‪ ،‬هم‪..‬‬
‫إن العال الطبيعي الكبي‪ ،‬أينشتي‪ ،‬يقف عاجزا‪ ،‬حائرا‪ ،‬على عتبة معضلة الب‪ ،‬والختيار‪ ،‬ويقول‪ ،‬فيما يدثنا الدكتور‬
‫أح د ز كي‪(( :‬إن دي ن هو إعجا ب‪ ،‬ف توا ضع‪ ،‬بتلك الروح ال سامية ال ت ل حد ل ا‪ ،‬تلك ال ت تتراءى ف التفا صيل‬
‫الصغية‪ ،‬القليلة‪ ،‬الت تستطيع إدراكها عقولنا الضعيفة‪ ،‬العاجزة‪ ،‬وهو إيان العاطفي العميق بوجود قدرة عاقلة‪ ،‬مهيمنة‪،‬‬
‫تتراءى حيثمـا نظرنـا‪ ،‬فـ هذا الكون العجـز للفهام‪ ،‬إن هذا اليان يؤلف عندي معنـ ال)) وننـ‪ ،‬بعلمنـا التجريـب‬
‫الروحي‪ ،‬نبدأ من حيث انتهى هذا العال الليل بعلمه التجريب الادي‪ ،‬ومع أنه واضح أن أينشتي قد قرر الب‪ ،‬وذلك‬
‫بقوله‪(( :‬وهو إيان العاطفي‪ ،‬العميق‪ ،‬بوجود قدرة عاقلة‪ ،‬مهيمنة‪ ،‬تتراءى حيثما نظرنا‪ ،‬ف هذا الكون العجز للفهام))‪،‬‬
‫إل أ نه وا ضح أي ضا أ نه يت ساءل ت ساؤل صامتا‪ :‬ما هي هذه القدرة العاقلة الهيم نة؟؟ و ما مدى هيمنت ها؟؟ ونعت قد أن‬
‫الجابة على هذين السؤالي هي الجابة على مسألة الب والختيار‪ ،‬وبا ترد مظاهر الخلق البشرية إل أصل واحد‪،‬‬
‫كما ردت من قبل مظاهر الكون الادي إل أصل واحد‪.‬‬
‫قلنا أن العلم التجريب الادي‪ ،‬والعلم التجريب الروحي توأمان‪ ،‬ولدا ف يوم واحد ودرجا ف مراقي الياة معا‪ ،‬على تواد‬
‫حينـا وعلى تدابر حينـا‪ ،‬ولكـن على تعاون فـ جيـع الحيان‪ .‬ومادة العلم التجريـب الادي الكون الادي‪ ،‬وإن كانـت‬
‫الرادة البشر ية تتد خل ف يه‪ ،‬وو سيلته العادلت الرياض ية‪ ،‬ومعدات التجارب ف العا مل‪ ،‬ومادة العلم التجر يب الرو حي‬
‫الكون الادي‪ ،‬والرادة البشرية معا‪ ،‬ووسيلته القرآن‪ ،‬ومعدات العبادة‪ ،‬ف اللوات‪ ،‬واللوات‪ .‬وأنتم ترون‪ ،‬من هنا‪ ،‬أن‬
‫الد ين الذي أعن يه ف صدر حدي ثي هو ال سلم‪ .‬وأ حب أن أعترف أ ن بدأت عن ت صديق‪ ،‬ل ن ولدت من أبو ين‬
‫مسلمي‪ ،‬ولكن التصديق ل يبلغ ب درجة التعصب والعمى‪ ،‬فيلتوي بنتائج تربت وإنا استطعت‪ ،‬بتوفيق ال‪ ،‬أن أسي‬
‫مفتوح العيني‪ ،‬إل النتائج الت رسخت تصديقي البدائي‪ ،‬وانتقلت ب إل اليقي‪.‬‬

‫وسائل العلم التجريب الروحي‬


‫ول بد من كلمة قصية عن وسائل التجربة الدينية‪ ،‬وأولا وأولها‪ ،‬القرآن‪ ،‬ونن نسمع الناس يقولون أن القرآن كلم‬
‫ال‪ ،‬فما معن هذا؟؟ إن ال ليس كأحدنا‪ ،‬وليس كلمه ككلمنا‪ ،‬بأصوات تنسل من الناجر‪ ،‬فتقرع الذان‪ ..‬إن كلم‬
‫ال خلق‪ ..‬فالشمس تطلع‪ ،‬فترسل الضوء‪ ،‬والرارة‪ ،‬فتبخر الرارة الاء‪ ،‬وتثي الرياح‪ ،‬وترك الواء‪ ،‬وتمل الرياح بار‬
‫الاء‪ ،‬ف سحب كثي فة‪ ،‬إل بلد بع يد‪ ،‬فينل ال طر‪ ،‬فيوي الرض‪ ،‬وييي ها بعـد موت ا‪ ،‬فين بت الزرع‪ ،‬وتدب الياة‪،‬‬
‫بختلف صورها‪ ،‬وشكول ا‪ ..‬هذه صورة موجزة‪ ،‬قا صرة‪ ،‬مفك كة اللقات‪ ،‬لكلم ال‪ .‬فالقرآن صورة هذا الكلم‪ ،‬أو‬
‫قل هذا العلم‪ ،‬مفرغ ف قوالب الت عبي العرب ية‪ ..‬وي ظن كث ي من كبار العلماء أن القرآن هو الل غة العرب ية‪ ،‬وذلك خ طأ‬
‫شن يع‪ ..‬و هو خ طأ جعل هم يلتم سون معا ن القرآن ف الل غة العرب ية‪ ،‬فانجبوا بالكلمات‪ ،‬و هم يظنون أن م على شئ‪..‬‬
‫واللغة أساسا‪ ،‬نشأت بدوافع الاجة اليومية‪ ،‬ف الياة السدية‪ ،‬فهي‪ ،‬مهما تطورت‪ ،‬فإنا تعجز‪ ،‬كل العجز‪ ،‬عن تمل‬
‫معن كلم ال‪ .‬وهي‪ ،‬على خي حالتا‪ ،‬ل تقوم منه إل مقام الرمز‪ ،‬والشارة‪ ..‬والقرآن ل يدع لنا مال للشك طويل‪،‬‬
‫فهو يقول ((ال* ذلك الكتاب ل ريب فيه‪ ،‬هدى للمتقي)) والشارة هنا ((بـذلك)) إل ((ال))‪.‬‬
‫ث ت ئ الو سيلة الثان ية‪ ،‬و هي تق يق ((ل إله إل ال م مد ر سول ال)) وتقيق ها يبدأ بالث قة بح مد‪ ،‬وبت صديقه التام‪،‬‬
‫وبتقليده التقن‪ ،‬ف أسلوب عبادته‪ ،‬وفيما تيسر من أسلوب عادته‪ ،‬ويشمل تقليده كل ما صح عنه‪ ،‬بعد بعثه‪ ،‬وقبله‪،‬‬
‫أثناء تنثه ف غار حراء‪ ،‬ولست أريد أن أطيل هنا‪ ،‬فإن الياز ف ذلك يكفي‪ ،‬على القل ف هذه العجالة‪ ،‬وقد أعود ف‬
‫وقت آخر‪ ،‬ومال آخر‪ ،‬للفاضة ف القول‪..‬‬
‫قلت أن مادة العلم التجريب الروحي الكون الادي‪ ،‬والرادة البشرية‪ ..‬والق أن عناية العلم الروحي بالكون الادي‪ ،‬ف‬
‫جيع صوره‪ ،‬هي ف مرتبة الوسيلة‪ ،‬ف حي أن عنايته بالرادة البشرية ف مرتبة الغاية‪ ،‬ولذلك يقول القرآن‪(( ،‬سنريهم‬
‫آياتنا ف الفاق‪ ،‬وف أنفسهم‪ ،‬حت يتبي لم أنه الق‪ ،‬أول يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟)) وف العلم الدين إن‬
‫الرادة البشرية هي صورة مصغرة للكون الادي‪ ،‬النظور منه‪ ،‬وغي النظور‪ .‬فنحن كلما كونا لفكارنا صورة صحيحة‬
‫عن الكون الادي‪ ،‬كلما انبعثت‪ ،‬بقابل هذه الصورة الكونية‪ ،‬صورة تضارعها‪ ،‬ف الصحة والدقة‪ ،‬عن حقيقة إرادتنا‪ ،‬أو‬
‫قل شخصيتنا الفردية‪ ،‬ولذلك فإن القرآن يقول ((قل انظروا ماذا ف السموات والرض)) بنفس الصيغة الت يقول لنا با‬
‫((وأقم الصلة))‪..‬‬

‫ما هي الرادة البشرية؟‬


‫وي كن القول إذن بأن موضوع العلم التجر يب الرو حي هو الرادة البشر ية‪ ..‬ف ما هي هذه الرادة البشر ية؟؟ سنرجئ‬
‫الجا بة على هذا ال سؤال إل و قت قر يب‪ ،‬ونعال ف إياز الجا بة على ت ساؤل العال ال كبي أينشت ي‪ - ،‬ما هي هذه‬
‫القدرة العاقلة الهيمنة‪ ،‬وما مدى هيمنتها؟ فأما السؤال الول فإن القرآن يبنا بأنا ذات ال ((أول يروا إل ما خلق ال‬
‫من شئ يتفيؤ ظلله عن اليمي والشمائل سجدا ل‪ ،‬وهم داخرون؟؟))‬
‫وأما السؤال الثان فإن القرآن ييبنا عليه ((إن توكلت على ال‪ ،‬رب وربكم‪ ،‬ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها‪ ،‬إن رب‬
‫على سراط مستقيم)) وهكذا فإن هيمنته تعال على الوجود هيمنة تامة‪ ،‬ل يرج عنها صغي‪ ،‬ول كبي‪ ،‬من اللئق‪ ،‬ف‬
‫دقيق‪ ،‬ول جليل‪ ،‬من حركاته‪ ،‬وسكونه‪..‬‬

‫إرادة الياة دون إرادة الرية‬


‫ولكن ال تعال سي المادات‪ ،‬والغازات‪ ،‬والسوائل‪ ،‬تسييا قاهرا ومباشرا‪ ،‬ث خلق الياة ف مراتب النبات‪ ،‬واليوان‪،‬‬
‫فسيها ((بإرادة الياة))‪ ،‬وهي إرادة تعمل بدوافع البقاء للحتفاظ بالياة‪ ..‬وقانونا اجتلب اللذة‪ ،‬ودفع الل‪ ،‬وأصبح‬
‫تسيي ال تعال للمخلوقات ف هذا الستوى من وراء حجاب ((إرادة الياة)) الت تتمتع با يسمى الركة التلقائية‪ ،‬لن‬
‫دوافع حركتها‪ ،‬وقوى حركتها كالودعة فيها‪ ..‬ث لا ارتقى ال تعال بالياة إل مرتبة النسان زاد عنصر جديد على‬
‫((إرادة الياة))‪ ،‬هذا العنصر هو ((إرادة الرية))‪ ،‬وهو عنصر يتلف عن إرادة الياة اختلف مقدار‪ ،‬ل اختلف نوع‪.‬‬
‫ث سي ال تعال البشر بإرادة الياة‪ ،‬وإرادة الرية معا‪ ،‬وأصبح بذلك تسييه إيانا غي مباشر‪ ،‬وتدخله ف أمرنا‪ ،‬هو من‬
‫اللطف والدقة‪ ،‬بيث تورطنا ف الوهم الكب‪ ،‬وذلك باعتقادنا أننا نلك إرادة حرة‪ ،‬مستقلة بالترك أو العمل‪ ..‬وإليكم‬
‫آية هي آية ف الدللة على لطف تدخل إرادة ال ف توجيه إرادتنا‪(( :‬إذ يريكهم ال ف منامك قليل‪ ،‬ولو أراكهم كثيا‬
‫لفشلتم‪ ،‬ولتنازعتم ف المر‪ ،‬ول كن ال سلم‪ ،‬إ نه عليم بذات الصدور * وإذ يريكموهم‪ ،‬إذ التقيتم‪ ،‬ف أعينكم قليل‪،‬‬
‫ويقلل كم ف أعين هم ليق ضي ال أمرا كان مفعول وإل ال تر جع المور)) فانظروا إل هذا الل طف اللط يف من جا نب‬
‫الرادة اللية القدية‪ ،‬إذ تتدخل ف تسيي الرادة البشرية الحدثة!!‪.‬‬

‫الرادة البشرية هي إرادة الرية‬


‫فال نب يرى أعداءه ف منا مه قليل ي‪ ،‬في صمم على مقاتلت هم‪ ،‬ولو رآ هم غ ي ذلك ما قاتل هم‪ ،‬ث‪ ،‬ع ند اللقاء‪ ،‬يرى فر يق‬
‫الؤمني فريق الشركي قليل‪ ،‬فيصمموا على قتالم‪ ،‬ويرى فريق الشركي فريق الؤمني قليل‪ ،‬فيصمموا‪ ،‬بدورهم‪ ،‬على‬
‫قتالم‪ ،‬وال هو الذي يري النب أعداءه‪ ،‬ف منامه‪ ،‬قليل‪ ،‬وال هو الذي يري كل فريق من الفريقي أعداءه قليل‪ ،‬ليقضي‬
‫ال أمرا كان مفعول‪ .‬كل ذلك من غ ي أن تن عج الرادة البشر ية‪ ،‬و من غ ي أن تش عر بتد خل خار جي ف أ مر من‬
‫أمورها‪ ،‬فالرادة البشرية هي ((إرادة الرية)) هذه‪ ،‬وبا تيز النسان عن اليوان‪ ،‬وهي الرادة الت بمارستها عصى آدم‬
‫ربه‪ ،‬إذ ناه عن أكل الشجرة‪ ،‬فقال ال تعال فيه ((فأكل منها‪ ،‬فبدت لما سوآتما‪ ،‬وطفقا يصفان عليهما من ورق‬
‫النة‪ ،‬وعصى آدم ربه فغوى)) وقال تعال عنه مذرا رسوله من استعمال هذه الرادة الادعة‪ ،‬إستعمال مدوعا كما‬
‫اتفق لبيه من قبل‪(( ،‬فتعال ال اللك الق‪ ،‬ول تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه‪ ،‬وقل رب زدن علما *‬
‫ولقد عهدنا إل آدم من قبل فنسي‪ ،‬ول ند له عزما‪ )).‬بدأ الية بقوله ((فتعال ال اللك الق))‪ ،‬تذكيا بأن ال متفرد‬
‫بالرادة الكاملة‪ ،‬وأن الرادة البشرية يب أن تذعن لرادته‪ ،‬وتنقاد‪ ،‬عن استسلم‪ ،‬وعن رضا‪ ،‬فل تعجل أمرا قبل أن‬
‫يئ وقته‪ ،‬لن ((ال ل يعجل بعجلة أحدكم)) كما قال العصوم‪ .‬والرادة البشرية‪ ،‬أو ((إرادة الرية))‪ ،‬قبس من ال‬
‫العظ يم‪ ،‬وإلي ها الشارة بقوله تعال ((إذ قال ر بك للملئ كة إ ن خالق بشرا من ط ي‪ ،‬فإذا سويته‪ ،‬ونف خت ف يه من‬
‫روحي‪ ،‬فقعوا له ساجدين)) فكلمة ((سويته)) إشارة إل ((إرادة الياة)) وعبارة ((ونفخت فيه من روحي)) إشارة إل‬
‫((إرادة الرية))‪..‬‬

‫معان القرآن صور تؤدى بالكلمة‬


‫وأحب أن أنبه القارئ إل ما سبق تقريره عن القرآن من أنه كلم ال بعن أنه صورة لفظية لياد ال الوجود‪ ،‬وخلقه‬
‫اللق ف الزمان والكان‪ ،‬واليتان السابقتان مثل بليغ ف هذا‪ ،‬فإن الشارة إل ((الطي)) تعن اللق ف طور المادات‪،‬‬
‫وال سوائل‪ ،‬والغازات‪ ،‬تلك ال ت قلت أن ال سيها ت سييا مباشرا‪ ،‬والشارة بكل مة (( سويته)) تع ن اللق ف طوري‬
‫النبات‪ ،‬واليوان‪ ،‬بميع صوره‪ ،‬وهو ما قلنا أن ال سيه‪ ،‬بإرادة الياة‪ ،‬تسييا شبه مباشر‪ ،‬والشارة بقوله ((ونفخت‬
‫فيه من روحي)) تعن اللق ف مرتبة النسان‪ ،‬وهو ما قلنا أن ال سيه‪ ،‬بإرادة الرية‪ ،‬تسييا غي مباشر‪ ..‬وهذه اليات‬
‫الثلث أوضح ف الدللة على حقيقة القرآن‪ ،‬استمعوا إليها ((الذي أحسن كل شئ خلقه‪ ،‬وبدأ خلق النسان من طي *‬
‫ث جعل نسله من سللة من ماء مهي * ث سواه‪ ،‬ونفخ فيه من روحه‪ ،‬وجعل لكم السمع‪ ،‬والبصار‪ ،‬والفئدة‪ ،‬قليل ما‬
‫تشكرون))‪.‬‬
‫وهذا اللق‪ ،‬والياد‪ ،‬ا ستغرق آمادا سحيقة‪ ،‬ف الزمان والكان‪ ،‬و هو صورة من التطور الذي يت بع بع ضه بع ضا‪ ،‬ف‬
‫حلقات متصلت‪ ،‬والتسيي الذي أشرنا إل أنه شبه مباشر ف مرتبة النبات‪ ،‬واليوان‪ ،‬وغي مباشر ف مرتبة النسان‪ ،‬إنا‬
‫هو بال صراع ب ي الحياء في ما بين ها‪ ،‬وب ي الحياء والبيئة الطبيع ية ال ت وجدوا في ها‪ .‬وإرادة الر ية ماذا تر يد؟؟ تر يد‬
‫الر ية‪ ..‬والر ية الطل قة من كل ق يد‪ ،‬ول كن الر ية ل ا ث ن‪ ،‬و هو أن يتح مل ال ر نتائج عمله‪ ،‬وإل أ صبحت الر ية‬
‫فوضى‪ ..‬وأدن مراتب الرية الطلقة هي أن يفكر الرجل كما يريد‪ ،‬وأن يقول كما يفكر‪ ،‬وأن يعمل كما يقول‪ ،‬بشرط‬
‫أل تتدخل حريته ف حريات الخرين‪.‬‬
‫ولا كانت الياة مسية بإرادة الياة‪ ،‬قبل ظهور البشر على مسرحها‪ ،‬كان قانونا اللذة‪ ،‬بكل سبيل‪ ،‬ث لا ظهر البشر‪،‬‬
‫ودخلت إرادة الر ية لتع مل عمل ها ف الت سيي‪ ،‬ظ هر الجت مع البشري وظهرت الق يم‪ ،‬ال ت ت عل الفرد يض حي باللذة‬
‫الاضرة‪ ،‬ف سبيل لذة مرتقبة‪ ،‬أو يضحي باللذة السية‪ ،‬ف سبيل لذة معنوية‪ ،‬وبعن آخر‪ ،‬دخل تشريع اللل والرام‪،‬‬
‫أو‪ ،‬إن أردت الدقة‪ ،‬فقل العرف الذي يرم أمورا‪ ،‬ويلل أمورا أخرى‪ ،‬ف سبيل غاية بعينها‪..‬‬

‫نشأة الجتمع والقانون ونشأة السلم‬


‫والقصة‪ ،‬ف إياز‪ ،‬هي أن الفرد البشري لا وجد نفسه أمام قوة طبيعية عنيفة‪ ،‬هائلة‪ ،‬ل قبل له با‪ ،‬وضح له أنه ل بد له‬
‫من اللتجاء إل جلة حيل با يستطيع أن يافظ على حياته‪ ،‬فبن البيوت فوق الشجار‪ ،‬وعلى قمم البال‪ ،‬وف الماكن‬
‫الحصـنة الخرى‪ .‬واتذـ اللة‪ ،‬مـن الشـب‪ ،‬والجـر‪ ،‬وادخـر طعامـه ثـ اهتدى إل أكـب اختراع فـ الوجود‪ ،‬وهـو‬
‫الجتمع‪ ..‬ولكي يكون الجتمع مكنا قام العرف‪ ،‬الذي هو القانون الول‪ ،‬ولربا يكون أول عرف نشأ هو العرف الذي‬
‫ينظم العلقات النسية‪ ،‬فيحرم الخت على الخ‪ ،‬ويرم البنت على الب‪ ،‬ويرم الم على البن‪ ،‬ال ال‪ ..‬وأعان هذا‬
‫العرف على تدئة الغية النسية‪ ،‬الت كانت تفرق السرة البشرية كلما بلغ البناء فيها مبلغ الرجال‪ .‬فقد أصبح‪ ،‬بعد‬
‫هذا العرف‪ ،‬من المكن أن يتعايش ف منل واحد‪ ،‬وف منازل متجاورة‪ ،‬الب‪ ،‬والبن البالغ‪ ،‬والصهر‪ ،‬والبن التزوج‪،‬‬
‫وكل منهم آمن على زوجته من الخرين‪ .‬ولربا يكون العرف الذي ينظم احترام اللكية الفردية قد نشأ مع هذا العرف‪،‬‬
‫من الوهلة الول‪ .‬فإنه‪ ،‬ف الجتمعات البدائية‪ ،‬ل فرق‪ ،‬كبيا‪ ،‬بي ملكية الزوجة‪ ،‬وملكية اللة‪ ،‬أو الكهف‪ ،‬وإذا كان‬
‫ل بد للمجتمعات ال صغية أن تع يش ف وئام‪ ،‬ت صيد م عا‪ ،‬وتارب م عا‪ ،‬وتقا بل صروف اليام متحدة‪ ،‬فإ نه ل بد من‬
‫هذين العرفي اللذين ينظمان السلوك ف الماعة ويصونان كيانا‪ .‬وليس معن هذا أن الجتمعات نشأت بصورة واحدة‬
‫ف كل مكان‪ ،‬ولكنه‪ ،‬ما ل شك فيه‪ ،‬أن الجتمع البشري‪ ،‬حيث نشأ‪ ،‬فقد نشأ حول طائفة من العادات‪ ،‬والعرف‪،‬‬
‫الذي ين ظم عل قة الفراد ببعض هم الب عض‪ ،‬وبذا العرف دخلت إرادة الر ية ف صراع مع إرادة الياة‪ ،‬ذلك بأن الفرد‬
‫البشري قد رضي‪ ،‬طوعا أو كرها‪ ،‬أن يتنازل للمجتمع عن قسط من حريته ليستمتع بباقيها‪ ،‬بفضل حياته ف متمع‬
‫يميه‪ ،‬ويعينه‪ .‬وتنازله‪ ،‬عن هذا القسط من حريته‪ ،‬ينظمه العرف‪ ،‬وما تفرضه أوضاع متمعه‪ ،‬وأصبح عليه أن يسيطر‬
‫على نف سه‪ ،‬وأن ينع ها م ا ينع ها م نه القانون‪ ،‬الذي سنه متم عه‪ .‬وكل ما انت صر الفرد‪ ،‬ف هذا ال صراع‪ ،‬على غرائزه‬
‫البدائ ية‪ ،‬كل ما قو يت إراد ته‪ ،‬وانتقلت لذا ته‪ ،‬من اللذة ال سية العاجلة الحر مة‪ ،‬إل اللذة ال سية ال ت ينظم ها العرف‪،‬‬
‫ويقر ها‪ ،‬ب عد ا ستيفاء قواعده‪ ،‬أو قد تنت قل لذ ته من ح سية عاجلة‪ ،‬إل معنو ية عاجلة‪ ،‬أو مؤجلة كر ضا الجت مع ع نه‪،‬‬
‫وثنائه عليه‪ ،‬أو كرضا اللة عنه‪ ،‬ومازاتا إياه‪ ،‬ف هذه الياة‪ ،‬أو ف الياة القبلة‪ .‬ولا كان الفرد البشري الول غليظ‬
‫الط بع‪ ،‬قا سي القلب‪ ،‬حيوا ن الن عة‪ ،‬ف قد احتاج إل ع نف عن يف لتروي ضه‪ ،‬وكذلك كان العرف الجتما عي شديدا‪،‬‬
‫عني فا‪ ،‬إل الدود ال ت تض حي بياة الفراد على مذا بح معا بد الما عة‪ ،‬ا ستجلبا لر ضا الل ة‪ ،‬أو دف عا لغضب ها‪ .‬وهذا‬
‫العنف العنيف اضطر الفرد البشري ليسيطر على نزعاته‪ ،‬وليكبت ف صدره كثيا من رغائبه الت ل يقره عليها العرف‪،‬‬
‫ول ترضا ها الل ة‪ ،‬و ف ن فس الو قت الذي خدم ف يه العرف الول الفرد بأن قوى إراد ته‪ ،‬و سيطرته على نف سه‪ ،‬خدم‬
‫الجتمع بأن صان حقوقه‪ ،‬وجعل تاسكه‪ ،‬وتضامنه‪ ،‬مكنا‪ :‬ولقد سار الجتمع من تلك البداية سيا وئيدا وسار معه‬
‫الفراد‪ ،‬وكلما ترقى الجتمع‪ ،‬كلما قلت التكاليف الباهظة الت يفرضها على حريات أفراده‪ ،‬بواسطة عرفه‪ ،‬وقوانينه‪،‬‬
‫وأديانه‪ ،‬وسنرى ذلك‪ ،‬بعد قليل‪ ،‬عند الديث عن مرحلت اليهودية والسلم‪ .‬ومنذ نشأة العرف الول نشأ السلم‪،‬‬
‫وذلك لن الفرد البشري بدأ ف هذا الطور يدرك أن إرادته ليست حرة‪ ،‬وإن كان هذا الدراك يكاد يكون ل شعوريا‪..‬‬
‫ولست أريد أن أتابع مراحل السلم من هذه البدايات‪ ،‬ولكن سأقفز قفزة واحدة إل مراحله الثلث الخية‪ :‬اليهودية‬
‫والسيحية والسلم‪ ،‬فأتدث عنها ف شئ يسي من الطناب‪ ،‬ذلك لن هذه العجالة ل تتمل التطويل‪ ،‬ولكن‪ ،‬قبل أن‬
‫أنصرف إل هذه الراحل‪ ،‬أناقشها‪ ،‬أحب أن أقرر هنا أن السلم‪ ،‬كدين‪ ،‬فكرة واحدة كبية‪ ،‬تشمل البداية والنهاية‪،‬‬
‫وقـد بدأ يوم بدأ الصـراع بيـ إرادة الياة‪ ،‬وإرادة الريـة‪ ،‬وهـو مـا أسـيه بنشأة العرف‪ ،‬وهذه الفكرة ل تزال تواصـل‬
‫سيها‪ ،‬و ستبلغ نايت ها على هذا الكو كب يوم ي قق الفراد البشريون ال سلم‪ ،‬كل مع نف سه‪ ،‬وذلك بت سليم إرادت م‬
‫الحدثة‪ ،‬إل الرادة القدية‪ .‬وسنعود إل هذه العبارة ف ناية هذه العجالة‪ .‬ولتقرير أن السلم‪ ،‬كدين ف عمر البشرية‪،‬‬
‫فكرة واحدة‪ ،‬كبية‪ ،‬تشمل البداية والنهاية‪ ،‬يكن أن ننظر ف السلم ف عمر الفرد البشري‪ ،‬فإنه من القرر أن حياة‬
‫الفرد البشري تكي‪ ،‬بصورة عاجلة‪ ،‬حياة النوع كله‪ ..‬فالسلم‪ ،‬ف عمر الفرد البشري‪ ،‬يبدأ بالقول باللسان‪ ،‬والعمل‬
‫بالوارح‪ ،‬ث يترقى حت يصبح إذعانا واعيا‪ ،‬وانقيادا راضيا‪ ،‬بإرادة ال وحسن تدبيه‪ .‬وأول مراتب ترقيه‪ ،‬بعد السلم‪،‬‬
‫اليان‪ ،‬ث الحسان براتبه الثلث ث السلم من جديد‪ .‬وهذه اليات الكريات تفيدنا ف هذا الباب ((قالت العراب‬
‫آمنا‪ ،‬قل ل تؤمنوا‪ ،‬ولكن قولوا أسلمنا‪ ،‬ولا يدخل اليان ف قلوبكم))‪ .‬فالسلم هنا هو البداية الت هي مرحلة دون‬
‫مرحلة اليان‪ .‬ث ا سع هذه ال ية الكري ة ‪(( :‬يأي ها الذ ين آمنوا اتقوا ال‪ ،‬حق تقا ته‪ ،‬ول تو تن إل وأن تم م سلمون))‬
‫والسلم هنا هو ناية الطاف‪ ،‬ولقد ندب إليه الؤمنون فلم يطيقوه‪ .‬فلما بدا عجزهم خفف ال عنهم فنل ((فاتقوا ال‬
‫ما استطعتم‪ ،‬واسعوا وأطيعوا)) فاستبدل لم تقوى ال حق تقاته با يطيقون‪ ،‬واستبدل لم السلم‪ ،‬الذي هو تسليم‬
‫الرادة الحدثة إل الرادة القدية‪(( :‬ومن يسلم وجهه إل ال‪ ،‬وهو مسن‪ ،‬فقد استمسك بالعروة الوثقى)) استبدل لم‬
‫هذا السلم بالسمع للنب‪ ،‬والطاعة‪ ،‬وهي مرتبة سامية‪ ،‬ول ريب‪ ،‬ولكنها دون السلم الذي عناه ال بقوله ((ومن يبتغ‬
‫غي السلم دينا فلن يقبل منه‪ ،‬وهو ف الخرة من الاسرين))‪.‬‬

‫السلم بي اليهودية والنصرانية‬


‫وهذه الفكرة السلمية الكبية جاءت مرحلة اليهودية ف طرف البداية منها‪ ،‬وجاءت السيحية ف طرف النهاية‪ ،‬وجاء‬
‫السلم وسطا بي اليهودية والنصرانية‪ .‬فإن السيح قد قال لتلميذه‪(( :‬ل تظنوا أن جئت لنقض الناموس‪ ،‬أو النبياء‪..‬‬
‫ما جئت لنقض‪ ،‬بل لكمل))‪ ،‬ث أخذ يعلمهم‪ ،‬فقال‪(( :‬سعتم أنه قيل عي بعي‪ ،‬وسن بسن‪ ،‬وأما أنا فأقول لكم ل‬
‫تقاوموا الشر‪ ،‬بل من لطمك على خدك الين‪ ،‬فحول له الخر أيضا‪ )).‬فالسيح‪ ،‬ف هذا الديث‪ ،‬يعرض علينا طرف‬
‫البدا ية‪ ،‬والنها ية‪ .‬فالعي بالع ي‪ ،‬وال سن بالسن أقرب إل الطبيعة البشر ية البتدئة‪ ،‬وأما عدم مقاومة ال شر فهو غا ية ف‬
‫التسامح‪ ،‬وهو أدخل ف نايات سي النفس الرتاضة‪.‬‬
‫ول ا كان ال سلم و سطا ب ي اليهود ية‪ ،‬والن صرانية‪ ،‬ك ما يب نا ال تبارك وتعال ح ي يقول ‪(( :‬وكذلك جعلنا كم أ مة‬
‫و سطا لتكونوا شهداء علىالناس)) فإن القرآن قد جاء ف سياقه بال مع ب ي خ صائص اليهود ية وخ صائص ال سيحية‪،‬‬
‫فاسعه يقول ((وجزاء سيئة سيئة مثلها‪ ،‬فمن عفا وأصلح‪ ،‬فأجره على ال‪ ،‬إنه ل يب الظالي)) ث قارن هذا بديث‬
‫السيح السابق تد أن ((جزاء سيئة سيئة مثلها)) تعبي شامل لقول التوراة الذي حكاه السيح ((عي بعي‪ ،‬وسن بسن))‬
‫وتد أيضا قوله ((ف من عفا وأ صلح‪ ،‬فأجره على ال)) أبلغ ف التسامح من قول السيح ((ل تقاوموا الشر)) الوارد ف‬
‫هذا الد يث‪ ،‬وإن كان للم سيح حد يث آ خر يرت فع إل م ستوى ((ف من ع فا وأ صلح‪ ،‬فأجره على ال)) وذلك ح يث‬
‫يقول‪(( :‬أحبوا أعداءكم‪ ،‬باركوا لعنيكم‪ .‬أحسنوا إل مبغضيكم‪ .‬وصلوا لجل الذين يسيئون إليكم‪ ،‬و يطردونكم‪)).‬‬

‫السلم رسالتان‬
‫وكون السلم وسطا بي طرفي‪ ،‬وجامعا لصائص الطرفي‪ ،‬من البداية والنهاية‪ ،‬جعل السلم نفسه ذا طرفي‪ ،‬طرفا‬
‫أقرب إل البداية‪ ،‬وطرفا أقرب إل النهاية‪ .‬ويلحظ هذا بوضوح‪ ،‬عند قراءة الية السابقة‪ ،‬ومثيلتا‪ ،‬ف القرآن‪ ،‬ولذه‬
‫الظاهرة معن بعيد الثر‪ ،‬وذلك أن السلم‪ ،‬كما هو ف القرآن‪ ،‬ليس رسالة واحدة‪ ،‬وإنا هو رسالتان‪ :‬رسالة ف طرف‬
‫البدا ية‪ ،‬أو هي م ا يلي طرف اليهود ية‪ .‬ور سالة ف طرف النها ية أو هي م ا يلي طرف ال سيحية‪ .‬و قد بلغ الع صوم‬
‫الرسالتي معا‪ ،‬بالقرآن‪ ،‬وبالسية الت سارها بي الناس‪ ،‬ولكنه فصل الرسالة الول ف تشريعه‪ ،‬وأجل الرسالة الثانية‪،‬‬
‫اللهم إل ما يكون من أمر التشريع التداخل بي الول والثانية‪ ،‬فإن ذلك يعتب تفصيل ف حق الرسالة الثانية أيضا‪ ،‬ومن‬
‫ذلك‪ ،‬بشكل خاص‪ ،‬تشريع العبادات جيعه‪ ..‬وظاهرة الرسالة الول أنا تبدأ بقول ((ل إله إل ال‪ ،‬ممد رسول ال))‪،‬‬
‫وتنتهي بقول ((ل إله إل ال‪ ،‬ممد رسول ال)) فهي كالصورة الفوتغرافية الثابتة‪ ،‬إل قليل‪ ،‬وأما ظاهرة الرسالة الثانية‬
‫فإناـ تبدأ بقول ((ل إله إل ال‪ ،‬ممـد رسـول ال)) وتنتهـي بقول ((ل إله إل ال)) الجردة‪ ،‬فهـي كالفلم السـينمائي‬
‫يتحرك من بداية إل ناية‪ ،‬ف تطور مستمر‪ .‬ومعن تريد الشهادة معرفة مكانة ال‪ ،‬من مكانة ممد‪ .‬وهو تام التوحيد‪،‬‬
‫وال تعال يقول لنبيه الكري‪(( :‬وأنزلنا إليك الذكر لتبي للناس ما نزل إليهم‪ ،‬ولعلهم يتفكرون‪)).‬‬
‫والتأمل ف هذه الية الكرية يدرك كيف أن السلم رسالتان‪ ،‬فإن أول الية ‪((:‬وأنزلنا إليك الذكر)) يعن الرسالتي‬
‫م عا‪ ،‬الول والثان ية‪ .‬ووسط ال ية‪(( :‬ل تبي للناس ما نزل إليهم)) يش ي إل تف صيل الر سالة الول الت هي‪ ،‬كما قل نا‪،‬‬
‫أقرب إل جا نب البدا ية‪ ،‬وآ خر ال ية‪(( :‬ولعل هم يتفكرون)) يش ي إل ماولة الرتفاع من الر سالة الول‪ ،‬إل م ستوى‬
‫الرسالة الثانية‪ ،‬وذلك بإتقان العبادة الت اخطتها ال‪ ،‬تبارك وتعال‪ ،‬للمسلمي‪ ،‬أو قل إن أردت الدقة‪(( ،‬للمؤمني))‪.‬‬
‫أمة الرسالة الول الؤمنون‬
‫وح ي ي سمي القرآن ال سلمي ف مرحلة الر سالة الو سوية ((يهودا)) وي سمي ال سلمي ف مرحلة الر سالة العي سوية‬
‫((نصارى))‪ ،‬يسمي السلمي ف مرحلة رسالة ممد الول ((الؤمني))‪ ،‬أو ((الذين آمنوا)) اسعه‪(( :‬قل يا أهل الكتاب‬
‫لستم على شئ حت تقيموا التوراة‪ ،‬والنيل‪ ،‬وما أنزل إليكم من ربكم‪ ،‬وليزيدن كثيا منهم ما أنزل إليك من ربك‬
‫طغيا نا وكفرا‪ ،‬فل تأس على القوم الكافر ين * إن الذ ين آمنوا‪ ،‬والذ ين هادوا‪ ،‬وال صابئون‪ ،‬والن صارى‪ ،‬من آ من بال‪،‬‬
‫واليوم الخر‪ ،‬وعمل صالا‪ ،‬فل خوف عليهم‪ ،‬ول هم يزنون))‪.‬‬
‫واسعه أيضا‪(( :‬إن الذين آمنوا‪ ،‬والذين هادوا‪ ،‬والنصارى‪ ،‬والصابئي‪ ،‬من آمن بال‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬وعمل صالا‪ ،‬فلهم‬
‫أجرهم عند ربم‪ ،‬ول خوف عليهم ول هم يزنون))‪.‬‬
‫والتفاوت بي مراحل السلم الختلفة‪ :‬ف الوسوية‪ ،‬والعيسوية‪ ،‬وف رسالت ممد‪ ،‬إنا هو تفاوت مقدار‪ ،‬هو ترق من‬
‫بداية غليظة‪ ،‬بليدة جافية‪ ،‬إل ناية رفيعة‪ ،‬ذكية‪ ،‬رقيقة‪ ،‬ويعكس لنا هذا الترقي التشريع النل بي البداية والنهاية‪ ،‬فإنه‪،‬‬
‫م ا ل شك ف يه‪ ،‬أن التشر يع‪ ،‬سواء كان تشر يع عادة‪ ،‬أو تشر يع عبادة‪ ،‬إن ا هو منهاج تربوي‪ ،‬يرت فع بالجتمعات‪،‬‬
‫وبالفراد‪ ،‬من الغل ظة‪ ،‬والفوة‪ ،‬إل الل طف‪ ،‬والن سانية‪ ،‬وكل ما كان الناس غلظ الكباد‪ ،‬بليدي ال س‪ ،‬كل ما شدد‬
‫عليهم ف التشريع وكبلوا بالقيود والثقال ولو أن الناس رعوا ما عليهم‪ ،‬حق رعايته‪ ،‬لا أعنتوا ف أمر من أمورهم‪ .‬وال‬
‫تعال يقول‪(( :‬ما يفعل ال بعذابكم إن شكرت‪ ،‬وآمنتم؟ وكان ال شاكرا عليما)) لكن حاجة الناس إل الترويض هي‬
‫الت حرمت الحرمات‪ ،‬وعزمت العزائم‪ ،‬وجاءت الحرمات‪ ،‬والعزائم‪ ،‬وفق الاجة إليها‪ .‬فحي كان السلم ف طور‬
‫اليهود ية‪ ،‬وح ي كان الناس غل ظا‪ ،‬جفاة‪ ،‬قال ال تعال عن هم‪(( :‬فبظلم من الذ ين هادوا حرم نا علي هم طيبات أحلت‬
‫لم‪ ،‬وبصدهم عن سبيل ال كثيا‪ ،‬وأخذهم الربا‪ ،‬وقد نوا عنه‪ ،‬وأكلهم أموال الناس بالباطل‪ ،‬وأعتدنا للكافرين منهم‬
‫عذابا أليما))‪.‬‬
‫وقال عنهـم‪(( :‬وإذ قال موسـى لقومـه يـا قومـي إنكـم ظلمتـم أنفسـكم باتاذكـم العجـل‪ ،‬فتوبوا إل بارئكـم‪ ،‬فاقتلوا‬
‫أنفسكم‪ ،‬ذلكم خي لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم‪.)).‬‬

‫الناس مفف عليهم كلما عقلوا‬


‫وح ي بلغ ال سلم طور ر سالة م مد الول قال تعال‪ (( :‬قل ل أ جد في ما أو حي إل مر ما على طا عم يطع مه‪ ،‬إل أن‬
‫يكون ميتة‪ ،‬أو دما مسفوحا‪ ،‬أو لم خنير فإنه رجس‪ ،‬أو فسقا أهل لغي ال به‪ .‬فمن اضطر‪ ،‬غي باغ ول عاد‪ ،‬فإن‬
‫ربك غفور رحيم))‪.‬‬
‫وقال تعال‪(( :‬يأيهـا الذيـن آمنوا ل تأكلوا أموالكـم بينكـم بالباطـل إل أن تكون تارة عـن تراض منكـم‪ ،‬ول تقتلوا‬
‫أنفسكم‪ ،‬إن ال كان بكم رحيما‪)).‬‬
‫فقد رد الحرمات على المة الحمدية‪ ،‬إل أربعة‪ ،‬كلها خبيث‪ ،‬ث تاوز‪ ،‬حت عن هذه الربعة للمضطر‪ ،‬إذا ل يكن‬
‫باغ يا‪ ،‬ول عاد يا‪ ،‬ف ح ي أنه شدد على اليهود‪ ،‬حت ف الطيبات‪ .‬وقال للمة الحمد ية‪(( :‬ول تقتلوا أنفسكم‪ ،‬إن ال‬
‫كان ب كم رحي ما‪ )).‬ف ح ي أ نه قال تعال لليهود‪(( :‬فتوبوا إل بارئ كم‪ ،‬فاقتلوا أنف سكم‪ )).‬والق صود‪ ،‬بالط بع‪ ،‬الق تل‬
‫السي‪.‬‬
‫الرمة السية ماز لتنقية السلوك‬
‫ث يطرد هذا التفاوت‪ ،‬بي التشديد والتضييق ف القاعدة‪ ،‬والترخيص والتوسيع ف القمة‪ ،‬حي يبلغ السلم بالناس طور‬
‫رسالة ممد الثانية‪ ،‬وهي قمة السلم‪ ،‬وناية الطاف‪ ،‬تقريبا‪ ،‬فينتقل التحري‪ ،‬من العيان الحسوسة‪ ،‬إل صور السلوك‬
‫العنو ية‪ .‬فا سع القرآن الكر ي يقول (( يا ب ن آدم خذوا زينت كم ع ند كل م سجد‪ ،‬وكلوا‪ ،‬واشربوا‪ ،‬ول ت سرفوا‪ ،‬إ نه ل‬
‫ي ب ال سرفي * قل من حرم زي نة ال ال ت أخرج لعباده‪ ،‬والطيبات من الرزق‪ ،‬قل هي للذ ين آمنوا ف الياة الدن يا‪،‬‬
‫خالصة يوم القيامة‪ ،‬كذلك نفصل اليات لقوم يعلمون * قل إنا حرم رب الفواحش‪ ،‬ما ظهر منها‪ ،‬وما بطن‪ ،‬والث‪،‬‬
‫والبغي بغي الق‪ ،‬وأن تشركوا بال ما ل ينل به سلطانا‪ ،‬وأن تقولوا على ال ما ل تعلمون‪ )).‬ويقول‪(( :‬وذروا ظاهر‬
‫ال ث‪ ،‬وباط نه‪ ،‬إن الذ ين يك سبون ال ث سيُجزون ب ا كانوا يقترفون‪ )).‬فإذا الحرم ح قا‪ ،‬و ف آ خر ال مر‪ ،‬هو ع يب‬
‫السلوك‪ ،‬ونقص الخلق‪ ،‬وإنا حرم الحسوس كوسيلة إل تري عيوب السلوك العنوية‪ ،‬وذلك على القاعدة الكيمة‬
‫ف التربية‪ ،‬والتعليم الت تطالعنا با الية الكرية‪(( :‬سنريهم آياتنا‪ ،‬ف الفاق‪ ،‬وف أنفسهم‪ ،‬حت يتبي لم أنه الق‪ ،‬أول‬
‫يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟))‪.‬‬
‫ولقد سبق القول بأن رسالة ممد الثانية تئ أقرب إل جانب النهاية‪ ،‬منها إل جانب البداية‪ ،‬أو هي ما يلي النصرانية‪.‬‬
‫واليات الكثية الت تع ن بعيوب ال سلوك وال ت أوردت ل كم منها نوذ جا ه نا‪ ،‬أد خل ف ر سالة ممد الثان ية‪ ،‬منها ف‬
‫رسالته الول‪ ،‬وتذكرنا بآيات من أقوال السيح‪ .‬فقد قال ف الصحاح الامس‪ ،‬من إنيل مت ما يلي‪(( :،‬قد سعتم أنه‬
‫قيل للقدماء ل تزن‪ ،‬وأما أنا فأقول لكم أن كل من ينظر إل امرأة ليشتهيها فقد زن با ف قلبه‪ )).‬وقال أيضا لتلميذه‪:‬‬
‫((ا سعوا‪ ،‬وافهموا‪ ،‬ل يس ما يدخل الفم ينجس النسان‪ ،‬بل ما يرج من ال فم‪ ،‬هذا ينجس النسان‪ )).‬يش ي إل أن‬
‫النجا سة ال سية‪ ،‬من التبول‪ ،‬والتغوط‪ ،‬ل تن جس الن سان‪ ،‬وإن ا تنج سه أخطاء الل سان‪(( .‬وأن تقولوا على ال ما ل‬
‫تعلمون)) ك ما يقول القرآن‪ ،‬ف ال ية الاض ية‪ .‬أو ((إذ تلقو نه بأل سنتكم‪ ،‬وتقولون بأفواه كم ما ل يس ل كم به علم‪،‬‬
‫وت سبونه هي نا‪ ،‬و هو ع ند ال عظ يم‪ )).‬ك ما يقول القرآن أي ضا ف مو ضع آ خر‪ .‬وعند ما ين سحب التحر ي من ال صور‬
‫السية الغليظة‪ ،‬إل الصور العنوية الدقيقة‪ ،‬ف عيوب السلوك والسية‪ ،‬يواصل هذا النسحاب حت يصل خفايا السريرة‪،‬‬
‫وما يوك فيها من خواطر الث‪ ،‬كما تدثنا الية الكرية‪ ،‬الت سبقت الشارة إليها‪(( :‬وذروا ظاهر الث وباطنه))‪ .‬ومع‬
‫أن ترك ظاهر الث جاء بكان الوسيلة‪ ،‬والغاية منه ترك باطن الث‪ ،‬إل أن رسالة ممد الول قد تاوزت عن باطن الث‬
‫لنه ل يكن الوقت يومئذ ناضجا لتحريه‪ ،‬وف حديث نبوي شريف أن النب قال‪((:‬إن ال تاوز لمت عما حدثت به‬
‫نفوسهم‪ ،‬حت يقولوا‪ ،‬أو يعملوا‪ )).‬أو كما قال‪.‬‬

‫لكل معن شكل هرمي‬


‫وليس هناك شك ف أن لكل معن حسا‪ ،‬أو بتعبي آخر‪ ،‬فإن للمعان شكل هرميا‪ ،‬له قاعدة‪ ،‬وقمة‪ ،‬وكلما دق العن‪،‬‬
‫دق ال س‪ ،‬أو قل كل ما دق الش كل الر مي د قت قاعد ته‪ ،‬تب عا لذلك‪ .‬وعلى ن فس هذا العتبار ل كل سريرة‪ ،‬سية‪،‬‬
‫وكل ما تن قت ال سريرة‪ ،‬كل ما ا ستقامت ال سية‪ ،‬لن الطيئة إن ا تبدأ ف ال سريرة‪ ،‬أول‪ ،‬أو قل ف الف كر‪ ،‬ث ترج إل‬
‫السية ثانيا‪ ،‬أو قل إل صور السلوك الحسوسة‪ ،‬بي الناس‪.‬‬
‫أسلوب القرآن ف التربية فريد‬
‫وأسلوب القرآن ف شفاء الناس من الطيئة أسلوب عك سي يبدأ من الارج‪ ،‬وي سي إل الداخل‪(( ،‬سنريهم آياتنا‪ ،‬ف‬
‫الفاق‪ ،‬وف أنفسهم‪ ،‬حت يتبي لم أنه الق)) وهو أسلوب غاية الغايات ف الدقة‪ ،‬والكمة‪ ،‬ويفضي بالذين يتقنونه إل‬
‫ال سلوب ال صحيح‪ ،‬و هو ال سلوب الطردي‪ ،‬الذي يبدأ من الدا خل‪ ،‬وي سي إل الارج‪ .‬وإل هذا الشارة اللطي فة‪ ،‬ف‬
‫ال ية ال سابقة‪ ،‬ح ي قال‪ ،‬جل من قائل‪(( ،‬أول يكف بر بك أ نه على كل شئ شه يد؟)) وكلما تنقت ال سريرة‪ ،‬كل ما‬
‫ا ستقامت ال سية‪ ،‬فضا قت دائرة الحرمات‪ ،‬لذلك‪ ،‬وات سعت دائرة الباحات‪ ،‬على قاعدة ال ية الكري ة‪ (( :‬ما يف عل ال‬
‫بعذابكم إن شكرت وآمنتم؟ وكان ال شاكرا عليما)) فإذا استمر السي بالسائر إل نايته الرجوة‪ ،‬وهي نقاء السريرة‪،‬‬
‫واستقامة السية‪ ،‬تاما‪ ،‬عادت جيع الحسوسات إل أصلها من الل وانطبقت الية الكرية‪(( :‬ليس على الذين آمنوا‪،‬‬
‫وعملوا الصالات‪ ،‬جناح فيما طعموا‪ ،‬إذا ما اتقوا‪ ،‬وآمنوا‪ ،‬وعملوا الصالات‪ ،‬ث اتقوا وآمنوا‪ ،‬ث اتقوا وأحسنوا‪ ،‬وال‬
‫يب الحسني)) وهذه مرتبة من الكمال تؤدي إليها رسالة ممد الثانية‪ ،‬حي قصرت عنها رسالته الول‪.‬‬

‫أمة الرسالة الثانية السلمون‬


‫ولقد طال الديث عن رسالت ممد‪ ،‬وقلنا أنه بلغهما جيعا ف معن ما بلغ القرآن‪ ،‬وسار السية‪ ،‬ولكنه أجل الثانية‬
‫إجال‪ ،‬وفصل الول‪ ،‬تفصيل‪ ،‬وأوردنا الية الكرية ف ذلك‪(( :‬وأنزلنا إليك الذكر لتبي للناس ما نزل إليهم‪ ،‬ولعلهم‬
‫يتفكرون)) وقلنـا أن الرسـالتي مشتملتان‪ ،‬ومبلغتان فـ‪(( :‬وأنزلنـا إليـك الذكـر))‪ ،‬ولكـن الرسـالة الول ورد المـر‬
‫بتف صيلها ف ((ل تبي للناس ما نزل إلي هم)) فم ما ((أنزل)) و هو أد خل ف الر سالة الثان ية‪ ،‬قوله تعال ((ي سألونك ماذا‬
‫ينفقون؟ قل العفو!!)) وعليها‪ ،‬وعلى غيها‪ ،‬انبن الندب إل الصدقة ف الرسالة الول‪ ،‬وم ا ((نزل))‪ ،‬وهو أدخل ف‬
‫الرسالة الول ((خذ من أموالم صدقة‪ ،‬تطهرهم‪ ،‬وتزكيهم با‪ ،‬وصل عليهم إن صلتك سكن لم وال سيع عليم))‬
‫وعليها انبن تشريع الزكاة فيها‪ ،‬وما ((أنزل)) وهو أدخل ف الرسالة الثانية‪ ،‬قوله تعال ((يأيها الذين آمنوا اتقوا ال‪ ،‬حق‬
‫تقاته‪ ،‬ول توتن إل وأنتم مسلمون)) وتلك مرتبة السلمي‪ ،‬فلما ل يطيقوها ((نزل)) عليهم‪(( :‬فاتقوا ال ما استطعتم‪،‬‬
‫واسعوا‪ ،‬وأطيعوا‪ ،‬وأنفقوا‪ ،‬خيا لنفسكم‪ ،‬ومن يوق شح نفسه فأولئك هم الفلحون)) وهي أدخل ف الرسالة الول‪،‬‬
‫وتلك مرت بة الؤمن ي ك ما سبق بذلك القول‪ ،‬وهناك آيات كثية ي كن إيراد ها‪ ،‬فم ما ((أنزل)) مثل‪ ،‬قوله تعال‪(( :‬ل‬
‫إكراه ف الدين‪ ،‬قد تبي الرشد من الغي)) وما ((نزل)) قوله تعال‪(( :‬فاقتلوا الشركي حيث وجدتوهم))‪.‬‬
‫وأحب أن أنبه القارئ‪ ،‬دائما‪ ،‬إل الفرق بي كلمت ((أنزل)) و((نزل)) اللتي استعملتهما كثيا أخذا من الية الكرية‬
‫((وأنزلنا إليك الذكر لتبي للناس ما نزل إليهم‪ ،‬ولعلهم يتفكرون))‪.‬‬

‫إرهاص الرسالة الثانية‬


‫وأ نت ح ي تقرأ قول ال تعال ((واتبعوا أح سن ما أنزل إلي كم من رب كم‪ ،‬من ق بل أن يأتي كم العذاب‪ ،‬بغ تة‪ ،‬وأن تم ل‬
‫تشعرون)) تعلم أنه أمر دقيق‪ ،‬وجليل‪ ،‬ولكن‪ ،‬اعلم‪ ،‬أيضا‪ ،‬أن حكمة ال أرجأته تفيفا على الذين آمنوا‪ ،‬حت يئ اليوم‬
‫الذي تفصل فيه الرسالة الثانية ويصبح السرح معدا ليحقق الذين آمنوا السلم‪ ،‬بأن يتقوا ال‪(( ،‬حق تقاته)) وبأن يتبعوا‬
‫أحسن ما أنزل إليهم من ال‪ .‬وستقول وماذا تعن بإعداد السرح؟؟ وأقول إقامة الجتمع الصال‪ ،‬ونظام الكم الصال‪،‬‬
‫الذي يعل ماهدة الفرد ف سبيل اتباع أحسن ما أنزل ماهدة ميسرة السباب‪.‬‬
‫ولقد وردت الشارة‪ ،‬مرات عديدات‪ ،‬إل القول بأن رسالة ممد الثانية ستجئ أقرب إل جانب النهاية‪ ،‬منها إل جانب‬
‫البداية‪ ،‬أو هي ما يلي النصرانية‪ ،‬والق أن الشبه النظري بي وصايا السيح‪ ،‬ووصايا القرآن‪ ،‬ف الرسالة الثانية‪ ،‬كبي‬
‫ولكن الفرق العملي أكب‪ ،‬فإن السيح حي أوصى بتلك الوصايا الرفيعة‪ ،‬ل يقم نظاما اجتماعيا‪ ،‬ول نظاما حكوميا‪،‬‬
‫يعل تقيق تلك الوصايا أمرا ميسورا للفراد‪ ،‬وأما السلم فإنه‪ ،‬حت برسالته الول‪ ،‬قد أقام نظاما اجتماعيا‪ ،‬ونظاما‬
‫حكوميا فيهما من التكافل‪ ،‬والساح‪ ،‬ما يعل الفرد يستشرف‪ ،‬استشرافا عمليا‪ ،‬لتحقيق بعض وصايا القرآن الرفيعة‪،‬‬
‫ونن الن نستقبل عهدا جديدا فيه نريد لفراد متمعنا أن يققوا كل وصايا القرآن ولذلك نسعى لقامة نظام اجتماعي‬
‫ونظام حكومي‪ ،‬أرقى ما كان لدينا ف عهد الرسالة الول‪ ،‬وهذا هو ما عنيناه بإعداد السرح الذي وردت الشارة إليه‬
‫آنفا‪.‬‬

‫الرسالة الثانية‬
‫الساواة القتصادية‬
‫لقد آن الوان لتف صيل الر سالة الثانية‪ ،‬وذلك بالن ظر ف تكم يل تشريع الرسالة الول‪ ،‬بتطويره ليحقق قسطا أكب من‬
‫الدف الدين‪ ،‬والعمدة ف التطوير أمران‪ ،‬حاجة الجتمع الاضر‪ ،‬وروح السلم‪ ،‬كما كان يعيشها العصوم‪ .‬فأما روح‬
‫السلم‪ ،‬كما كان يعيشها العصوم‪ ،‬فهي الرية الفردية الطلقة‪ ،‬وأما حاجة الجتمع الاضر فهي العدالة الجتماعية‬
‫الشاملة‪ ،‬ول تتم العدالة الجتماعية الشاملة إل إذا قامت على ثلث مساويات‪ :‬الساواة القتصادية‪ ،‬والساواة السياسية‪،‬‬
‫وال ساواة الجتماع ية‪ ،‬فأ ما ال ساواة القت صادية‪ ،‬ف هي أن يكون هناك حد أعلى لدخول الفراد‪ ،‬و حد أد ن‪ ،‬على أن‬
‫يكون ال د الد ن مكفول لم يع الواطن ي‪ ،‬ب ا ف ذلك الطفال‪ ،‬والعجائز‪ ،‬والعاجز ين عن النتاج‪ ،‬وأن يكون كاف يا‬
‫ليعيش الواطن ف مستواه معيشة تفظ عليه كرامته البشرية‪ ،‬وأل يكون الفرق بي الد الدن‪ ،‬والد العلى‪ ،‬أكب من‬
‫سبعة الضعاف‪ ،‬حت ل يكون هناك تفاوت طبقي‪ ،‬يعل الطبقة العليا تستنكف أن تتزاوج مع الطبقة السفلى‪ ،‬وتقق‬
‫ال ساواة القت صادية بالشتراك ية‪ ،‬و هي عبارة عن زيادة النتاج‪ ،‬با ستخدام اللة‪ ،‬وبتجو يد ال بة الدار ية‪ ،‬والفن ية‪ ،‬ث‬
‫عدالة توزيع هذا النتاج‪ ،‬على السس الت سبق ذكرها‪ ،‬ول تقوم الشتراكية إل على تديد اللكية الفردية با ل يتعدى‬
‫إل وسائل النتاج‪ .‬فللمواطن أن يلك النل‪ ،‬والديقة حوله‪ ،‬والثاث داخله‪ ،‬والسيارة وما إل ذلك‪ ،‬ما ل يتعدى إل‬
‫ملكية الرض‪ ،‬أو الصنع‪ ،‬أو أي من وسائل النتاج‪ ،‬وحت ف هذه الدود الضيقة‪ ،‬تكون اللكية ملكية ارتفاق ل ملكية‬
‫ع ي‪ .‬وهذا يع ن أن ينت قل التشر يع من آ ية الزكاة ال صغرى (( خذ من أموال م صدقة‪ ،‬تطهر هم‪ ،‬وتزكي هم ب ا‪ ،‬و صل‬
‫عليهم)) إل آية الزكاة الكبى ((يسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو!!)) و ((العفو)) كل ما زاد عن حاجتك الاضرة‪،‬‬
‫من غي ادخار‪ ،‬ول كن‪ ،‬وهذا ما كان يفعله العصوم‪ ،‬وهو روح السلم‪ ،‬ويب أن يكون مفهوما‪ ،‬فإن اللكية الفردية‬
‫تدد ب ا حددنا ها به‪ ،‬لتكون اللك ية للجما عة‪ ،‬ل للدولة‪ ،‬و ف ذلك احتراز من نشوء الكو مة الركز ية‪ ،‬القو ية‪ ،‬ذات‬
‫الدارة التشعبة‪ ،‬الكبية التغولة‪ ،‬الت تفوت على الناس فرص الساواة السياسية ف سبيل الساواة القتصادية‪ ..‬فاللكية‬
‫للجما عة‪ ،‬تدار بأ ساليب التعاون‪ ،‬يقوم في ها الناس بدمة أنفسهم‪ ،‬ل ينتظرون من الدولة إل التدر يب الهن والداري‪،‬‬
‫والشورة الفن ية‪ ،‬والشراف العام النسق للتعاون ب ي أجزاء الق طر الختلفة‪ ،‬و كل أ مر ي ستطيع الناس أداءه بدون تو سط‬
‫الدولة يترك لم أداؤه‪ ،‬ويتبع الساواة القتصادية الساواة ف جيع الفرص وجيع القوق‪.‬‬

‫الساواة السياسية والساواة الجتماعية‬


‫وأمـا السـاواة السـياسية فأن يكون لكـل مواطـن‪ ،‬ومواطنـة‪ ،‬فوق سـن العشريـن مثل‪ ،‬حـق اختيار مـن يقومون بإدارة‬
‫حكومتهم الحلية‪ ،‬والركزية ووسائلهم النتاجية‪ ،‬على نو متساو‪ .‬فإذا ما تت الساواة القتصادية‪ ،‬والساواة السياسية‬
‫فإن الساواة الجتماعية تصبح كالنتيجة‪ ،‬الت تتبع القدمة‪ .‬اللهم إل مسائل يسية تتوقف على الرأي العام ف الجتمع‪،‬‬
‫وحت هذا فإن القدمات الت تنتج عن الساواة القتصادية‪ ،‬والساواة السياسية‪ ،‬تعله يتبع‪ ،‬بعد حي‪ ،‬يطول‪ ،‬أو يقصر‪،‬‬
‫ولكنه يأت‪ ،‬على التحقيق‪ ،‬وسيكون من واجب الدولة توجيه التطور وحفزه‪ ،‬وذلك بالتعليم‪ ،‬والتثقيف حت يكتسب‬
‫الرأي العام حرية‪ ،‬وإساحا‪ ،‬يعلنه ل يضيق بأناط السلوك الختلفة‪ ،‬ما دامت هذه الناط تتسامى إل الرفعة والتجويد‪.‬‬

‫العبادة ف الرسالة الثانية ألزم منها ف الرسالة الول‬


‫والدولة‪ ،‬بالتعليم الهن‪ ،‬والفن‪ ،‬والدين‪ ،‬وبالتثقيف العام والريات العامة‪ ،‬تعي الفراد إعانة كبية‪ ،‬ول كن هناك حدا‬
‫يبدأ ف يه الفراد مهود هم الفردي ف الترب ية‪ ،‬وال سلم يقدم النهاج التعبدي النقول عن الع صوم‪ ،‬و هو أك مل منهاج‬
‫تعبدي عرفته البشرية‪ ،‬وهو ف الرسالة الثانية ألزم منه ف الرسالة الول‪ ،‬وذلك لن العقل البشري العاصر أكثر تطلعا إل‬
‫الرية منه ف أي وقت سلف‪ ،‬ولن الرية ما إليها من سبيل إل عن طريق تقليد العصوم‪ ،‬ف منهاج عبادته‪ ،‬وكل ما‬
‫هناك من فرق بي الوقفي‪:‬موقف العبادة ف الرسالة الول‪ ،‬وموقفها ف الرسالة الثانية‪ ،‬أن الفراد البالغي‪ ،‬الرشيدين‪ ،‬ل‬
‫يملون علي ها بالق سر والكراه وإن ا يملون علي ها بالقدوة والقناع‪(( ،‬ل إكراه ف الد ين‪ ،‬قد تبي الر شد من ال غي))‬
‫وال سبب ف ذلك أ نه‪ ،‬ف الر سالة الثان ية‪ ،‬كل شئ و سيلة إل إناب الفرد ال ر‪ ،‬حر ية مطل قة ‪ -‬الجت مع‪ ،‬وال سلم‬
‫والقرآن ‪ -‬والعبادات من باب أول‪ .‬فإذا ما قهرنا الفرد‪ ،‬وحلناه على العبادة بالقسر‪ ،‬والكراه نكون قد جعلنا الوسيلة‬
‫تزم الغاية منها‪ ،‬وهو وضع معكوس بطبيعة الال‪.‬‬

‫الترقي بي الرسالتي‬
‫إن كل فرد يبدأ بالسلم الذي هو مرد الشهادة باللسان‪ ،‬والعمل بالوارح ف تقليد النب‪ ،‬ث يتمكن التصديق من قلبه‪،‬‬
‫بتوكيد العمل‪ ،‬فيصي مؤمنا‪ ،‬ث يزيد اليان‪ ،‬فيدخل ف طرف الحسان‪ ،‬الغليظ‪ ،‬ث يترقى ف مراحل الحسان‪ .‬وقد‬
‫سئل العصوم عن الحسان فقال ((الحسان أن تعبد ال كأنك تراه‪ ،‬فإن ل تكن تراه فإنه يراك)) فهذه ثلث مراحل‪.‬‬
‫الرحلة الول ما يلي اليان وهي أن يؤمن الساير بأن ال يراه‪ ،‬وهو ما عب عنه النب ((فإنه يراك)) والرحلة الثانية تأت‬
‫بعد ذلك‪ ،‬ح ي يقوى اليان بالرحلة الول‪ ،‬و هي أن يبدأ يق ي ال ساير بأ نه يرى ال‪ ،‬و هو ما عب ع نه ال نب ((كأ نك‬
‫تراه)) ث الرحلة الخية‪ ،‬وهي أن يرى الساير ال وهو ما أشار إليه النب بقوله ((فإن ل تكن تراه)) ولذلك قال بعض‬
‫العارفيـ ((الحسـان أن تع بد ال كأ نك تراه‪ ،‬فإن ل ت كن‪ ،‬فإ نك تراه)) يش ي بذلك إل أن الن سان مجوب بأوهام‬
‫نفسه‪ ،‬عن ال فإن فن عنها‪ ،‬فإنه يرى ال‪ .‬ورؤية ال هي مرتبة الحسان الت هي قمة السلم‪ ،‬وإليها الشارة ف قوله‬
‫تعال ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا‪ ،‬وإن ال لع الحسني)) وإليها الشارة أيضا بقوله تعال ((ليس على الذين‬
‫آمنوا‪ ،‬وعملوا الصـالات‪ ،‬جناح فيمـا طعموا‪ ،‬إذا مـا اتقوا‪ ،‬وآمنوا‪ ،‬وعملوا الصـالات‪ ،‬ثـ اتقوا وآمنوا‪ ،‬ثـ اتقوا‬
‫وأح سنوا‪ ،‬وال ي ب الح سني)) فإذا بلغ ال ساير مرت بة الح سان هذه‪ ،‬ف قد أ صبح م سلما ف ال ستوى الق صود بقوله‬
‫تعال‪(( :‬ومن أحسن دينا من أسلم وجهه ل وهو مسن‪ ،‬واتبع ملة إبراهيم حنيفا؟ واتذ ال إبراهيم خليل))‪.‬‬
‫وبقوله تعال‪(( :‬و من ي سلم وج هه إل ال و هو م سن‪ ،‬ف قد ا ستمسك بالعروة الوث قى)) فإن ج يع الخلوقات م سلمة‬
‫وجه ها إل ال‪ ،‬ولكن ها غ ي م سنة‪ ،‬أي غ ي عال ة بذلك‪ .‬والقرآن يدث نا با ستسلم ج يع الخلوقات‪ ،‬فيقول‪(( :‬ول‬
‫ي سجد من ف ال سموات‪ ،‬والرض‪ ،‬طو عا وكر ها‪ ،‬وظلل م بالغدو وال صال‪ )).‬ويقول‪(( :‬إ ن توكلت على ال‪ ،‬ر ب‬
‫وربكم‪ ،‬ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها‪ ،‬إن رب على سراط مستقيم)) ويقول ((وإن من شئ إل يسبح بمده‪ ،‬ولكن‬
‫ل تفقهون تسبيحهم‪)).‬‬

‫السلم علم وعمل بقتضى العلم‪ :‬وإل فل‬


‫و ف ال سلم العلم معناه الع مل وأي علم ل ي ستتبع الع مل ف هو علم نا قص‪ ،‬ولذلك فإن مرت بة الح سان مرت بة تقت ضي‬
‫الستسلم‪ ،‬الراضي‪ ،‬بإرادة ال‪ ،‬الادية‪ ،‬ومعن ذلك ف الياة اليومية أن النسان يعمل الواجب الباشر‪ ،‬جهد التقان‪،‬‬
‫والحسان‪ ،‬فإن جاءت النتيجة وفق ما يريد فذاك‪ ،‬ول المد‪ ،‬وإن جاءت النتيجة على خلف ما ير يد‪ ،‬ج عل إراد ته‬
‫تابعة لرادة ال وحده‪ ،‬ورضي بإرادته‪ ،‬ثقة به‪ ،‬وإيثارا له‪ ،‬فإن ل يقدر على الرضا‪ ،‬ففي الصب خي كثي‪ ،‬وليس وراء‬
‫الصب إل السخط‪ ،‬وكل ساخط معذب‪ .‬ويضرن‪ ،‬ف هذا‪ ،‬حديث قدسي طريف‪ ،‬فإنه قيل أن ال‪ ،‬تبارك‪ ،‬وتعال‪ ،‬قال‬
‫لداوُد ((يا داود! إنك تريد‪ ،‬وأريد‪ ،‬وإنا يكون ما أريد‪ ،‬فإن سلمت لا أريد‪ ،‬كفيتك ما تريد‪ ،‬وإن ل تسلم لا أريد‪،‬‬
‫أتعبتك فيما تريد‪ ،‬ث ل يكون إل ما أريد))‪.‬‬
‫فالصب على إرادة ال مرتبة من الحسان ف طرف البداية‪ ،‬والرضى بإرادة ال مرتبة من الحسان رفيعة‪ .‬قال تعال لنبيه‬
‫الكري ‪((:‬فاصب على ما يقولون‪ ،‬وسبح بمد ربك‪ ،‬قبل طلوع الشمس‪ ،‬وقبل غروبا‪ ،‬ومن آناء الليل فسبح‪ ،‬وأطراف‬
‫النهار‪ ،‬لعلك تر ضى‪ )).‬ف هو يأمره بال صب على الرادة الل ية ح ي تري ب ا ل ير يد‪ ،‬ويهد يه إل ال مد‪ ،‬ويرشده إل‬
‫ال ستعانة على ال صب وال مد بال صلة‪ ،‬وين يه الر ضا‪(( ،‬لعلك تر ضى))‪ ،‬بر ضا ال ع نك‪ ،‬و من ر ضي ال ع نه غمره‬
‫باللطاف‪ ،‬وأغدق عليه الفيوضات‪ ،‬وجعله مستغرقا ف لظته الت هو فيها‪ ،‬غي مشتغل بالستقبل بالتمن‪ ،‬ول بالاضي‬
‫بالسف‪ .‬ومن كان كذلك فهو الر‪ ،‬الطلق الرية‪.‬‬

‫التوفيق بي حاجة الفرد وحاجة الماعة‬


‫قل نا‪ ،‬ع ند الد يث عن نشأة الجت مع البشري‪ ،‬و ف ن فس الو قت الذي خدم ف يه العرف الول الفرد‪ ،‬بأن قوى إراد ته‬
‫وسيطرته على نفسه‪ ،‬خدم الجتمع بأن صان حقوقه وجعل تاسكه وتضامنه مكنا‪ ،‬فكأن الجتمع البسيط‪ ،‬ف حدوده‬
‫البسيطة‪ ،‬قد وفق بي حاجة الفرد‪ ،‬وحاجة الماعة‪ .‬ومنذ ذلك اليوم‪ ،‬وإل يوم الناس هذا‪ ،‬ل يستقم ميزان التوفيق بي‬
‫هاتي الاجتي‪ ،‬ف أي فلسفة اجتماعية معاصرة‪ ،‬أو سالفة‪ ،‬ولكن السلم‪ ،‬ف أعلى مستويات الجتمع العقدة‪ ،‬يقدم‬
‫صورة متقنة من هذا التوفيق الدقيق‪.‬‬
‫أ سلفنا القول بأن حا جة الفرد البشري هي الر ية‪ ،‬الفرد ية‪ ،‬الطل قة‪ .‬ونقرر الن أن حا جة الجت مع هي أن ي صبح أداة‪،‬‬
‫صالة لتحقيق الفرد الر‪ ،‬حرية مطلقة‪ ،‬ذلك بأن الجتمع وسيلة إل هذا الفرد‪ ،‬وكل ما يكن الوسيلة من تقيق غايتها‬
‫فهو من حاجتها وقد خططنا الجتمع القبل قبل قليل ف هذه العجالة ونتحدث الن عن الفرد الر حرية فردية مطلقة‪.‬‬

‫الفرد الر حرية فردية مطلقة‬


‫ول يس هناك أد ن شك أ نه‪ ،‬ب عد كل ما يقال عن الجتمع‪ ،‬وم ساعدته للفرد‪ ،‬فإن الفرد‪ ،‬ف آ خر الطاف‪ ،‬ل ي كن أن‬
‫يتحرر إل بجهوده الفردي‪ ،‬ذلك بأنك يكنك أن تؤمن حياة الفرد من الوف‪ ،‬ومن الفقر‪ ،‬ومن الهل‪ ،‬ومن الرض‪،‬‬
‫وستبقى بعد كل هذا العقد النفسية الوروثة والكتسبة ‪ -‬العقد الوروثة منذ ف جر الياة النسانية‪ ،‬حي بدأ الجتمع‪،‬‬
‫وأوجبت على الفراد الواجبات ‪ -‬وهي عقد ل حد لا‪ ،‬وإن كانت حدتا تقل كلما ارتقى الجتمع وقلت‪ ،‬تبعا لرقيه‪،‬‬
‫العقد الكتسبة ف حياة الفرد البشري‪ ..‬فإن هذه العقد النفسية‪ ،‬بنوعيها هي غول الرية‪ ،‬لنا قسمت الشخصية البشرية‬
‫إل ظا هر‪ ،‬يُرْضِي مقاي يس الجت مع‪ ،‬وإل با طن‪ ،‬لو اطلعوا عل يه الناس لتقاطعوا‪ ،‬وتدابروا‪ ..‬فهذه الق سمة النكرة‪ ،‬ف‬
‫الشخ صية البشر ية‪ ،‬هي ال ت تتاج إل الجهود الفردي لتلتئم‪ ،‬وتكون بالتئام ها كل واحدا‪ ،‬متكامل‪ ،‬فإ نه‪ ،‬ك ما قال‬
‫السيح‪(( ،‬البيت النقسم ل يقوم))‪.‬‬
‫وقد سلف القول بأن القرآن‪ ،‬والعبادات الأثورة عن العصوم‪ ،‬هي وسيلة تنفيس هذه العقد‪ ،‬فإن تقليد النب ف أسلوب‬
‫حيا ته‪ ،‬تقليدا متقنا‪ ،‬يف تح مغال يق القرآن‪ .‬وف هم القرآن ير سل النور ف سراديب الع قل البا طن‪ ،‬ح يث تك بل الرغائب‬
‫ال سجينة من ملي ي ال سني‪ ،‬بعيدة عن النور‪ ،‬والرارة‪ ،‬والياة‪ ،‬وكل ما تغل غل النور ف تلك ال سراديب‪ ،‬كل ما انبع ثت‬
‫الشخ صية البشر ية‪ ،‬حرة‪ ،‬طلي قة‪ ،‬كأن ا نش طت من عقال‪ .‬وي ب أن يكون مفهو ما‪ ،‬أن تقليد نا ممدا ل يس نا ية القوة‬
‫اللقة‪ ،‬الودعة فينا‪ ،‬وإنا تقليدنا إياه‪ ،‬تقليدا متقنا‪ ،‬وسيلتنا للتحرر عن التقليد‪ ،‬لن عبادتنا إن هي إل وسيلة لتحقيق‬
‫فرديتنا‪ ،‬الت ل يشابنا فيها أي فرد‪ ،‬من أفراد القطيع البشري‪ ،‬والتقليد‪ ،‬ف أرفع صوره‪ ،‬وعلى خي ما يكون‪ ،‬إنا هو‬
‫إنكار للفردية‪ .‬ول تقق الفردية بإنكارها‪ ،‬بالطبع‪ ..‬فكما أن الكبت‪ ،‬ف أول أطوار النشوء البشري‪ ،‬وسيلة إل التحرر‬
‫من الكبت‪ ،‬ف أعلى مراقي هذا النشوء‪ ،‬فكذلك التقليد‪ ،‬ف أول طريق السالك الجود‪ ،‬وسيلة إل التحرر عن التقليد‪،‬‬
‫عند الستواء‪.‬‬
‫وكل سالك طريق الرية يبدأ بالسلم‪ ،‬ث يرتفع إل اليان‪ ،‬ث يرقى ف مراقي الحسان الختلفة‪ ،‬كما بينا ذلك قبل‬
‫حي‪ ،‬حت ينتهي إل السلم‪ ،‬مرة ثانية‪ ..‬والقرآن ياطبه‪ ،‬ف كل مقام من مقامات سيه‪ ،‬خطابا فرديا‪ ،‬فمثل عندما‬
‫يقرأ السالك الجود قوله تعال ((لن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إل أن يشاء ال‪ ،‬رب العالي)) يفهم منها‪ ،‬ف‬
‫أول الطريق‪ ،‬أن له مشيئة مستقلة بالستقامة‪ ،‬أو اللتواء‪ ،‬فيجتهد ف الستقامة‪ ،‬ف تشمي‪ ،‬وجد‪ ،‬فإذا نضجت تربته‪،‬‬
‫واسـتوى‪ ،‬يعلم‪ ،‬يقينـا‪ ،‬أنـه ل يلك‪ ،‬مـع ال‪ ،‬مشيئة‪ ،‬ويصـبح الطاب فـ حقـه ((ومـا تشاءون إل أن يشاء ال‪ ،‬رب‬
‫العال ي)) مع ف هم أك يد للحك مة ف قوله تعال ((ل ن شاء من كم أن ي ستقيم)) وت صبح هذه القولة‪ ،‬ف ح قه‪ ،‬من سوخة‬
‫بالقولة الثانية‪..‬‬

‫الصلة الشرعية‬
‫والطاب بالصلة وارد هكذا ف القرآن‪(( :‬اتل ما أوحي إليك من الكتاب‪ ،‬وأقم الصلة‪ ،‬إن الصلة تنهى عن الفحشاء‪،‬‬
‫والنكر‪ ،‬ولذكر ال أكب‪ ،‬وال يعلم ما تصنعون‪ )).‬و ((ذكر ال)) القرآن‪ ،‬وقد قلنا أن الصلة وسيلة إل فتح مغاليقه‪،‬‬
‫ولذلك قال ((ولذكر ال أكب))‪ ..‬وكل العلم موجود ف قوله تعال ف آخر الية ((وال يعلم ما تصنعون))‪ ،‬وهي إشارة‬
‫إل تام التسيي الذي باستيقانه يتم السلم‪ ..‬وقال تعال ماطبا الؤمني‪(( :‬فاذكرون أذكركم‪ ،‬واشكروا ل ول تكفرون‬
‫* يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصب‪ ،‬والصلة إن ال مع الصابرين)) ((استعينوا بالصب‪ ،‬والصلة)) يستعينون على ماذا؟‬
‫على الرضا بإرادة ال‪ ،‬كما سبق القول عن الية ((فاصب على ما يقولون‪ ،‬وسبح بمد ربك‪ ،‬قبل طلوع الشمس‪ ،‬وقبل‬
‫غروبا‪ ،‬ومن آناء الليل فسبح‪ ،‬وأطراف النهار‪ ،‬لعلك ترضى))‪.‬‬
‫وقال تعال‪ ،‬ماطبا الؤمني ((إن الصلة كانت على الؤمني كتابا موقوتا)) ومعن ((موقوتا)) هنا‪ ،‬أنا‪ ،‬على الؤمني‬
‫فرض له أوقات يؤدى فيهـا‪ ،‬فإذا ارتفعوا باـ‪ ،‬وبالعبادات‪ ،‬والعمال جيعـا‪ ،‬وبالقرآن‪ ،‬عـن مرتبـة اليان‪ ،‬إل مرتبـة‬
‫الح سان‪ ،‬ح يث يرون ال‪ ،‬تبارك‪ ،‬وتعال‪ ،‬ف قد أ صبحوا أك ثر من مؤمن ي ‪ -‬أ صبحوا م سلمي ‪ -‬وأ صبح علي هم أن‬
‫يقلدوا ال‪ ،‬ل أن يقلدوا ممدا‪ ،‬كمـا قال العصـوم ((تلقوا بأخلق ال‪ ،‬إن ربـ على سـراط مسـتقيم)) وأصـبح معنـ‬
‫((كتابا موقوتا)) ف هذه الالة‪ ،‬أنا فرض له وقت ينتهي فيه‪ .‬ويب أن يلحظ أن انتهاءها ل يكون تشريعا عاما‪ ،‬لن‬
‫تلك مرت بة فرد ية‪ ،‬ل مرت بة عموم‪ .‬ولرُبّ قائل يقول‪ ،‬ولاذا ل تن ته ال صلة بح مد؟؟ والواب هو أن ممدا ل يس مقلدا‬
‫وإنا هو أصيل‪ ،‬وكل من عداه مقلد له‪ .‬وهو ف أصالته يستطيع أن يقق فرديته بأسلوب الصلة‪ ،‬كما يطلب من كل‬
‫منا أن يقق فرديته بطريق خاص ينفتح له لسياسة حياته‪ ،‬وفق الق والصدق‪ .‬ولقد أشار القرآن إل تقيق النب الكري‬
‫لفرديته بقوله تعال ((ومن الليل فتهجد به نافلة لك‪ ،‬عسى أن يبعثك ربك مقاما ممودا)) وهذا القام الحمود هو الذي‬
‫قامه يوم عرج به‪ ،‬وانتهى إل سدرة النتهى‪ ،‬حيث قال ال فيه ((ما زاغ البصر وما طغى))‪(( .‬ما زاغ البصر)) أي ما‬
‫ارتد الاطر إل الاضي‪(( ،‬وما طغى)) أي ما امتد إل الستقبل‪ ،‬ينشغل به‪ ،‬وإنا استغرقته اللحظة الاضرة‪ ،‬بالشهود‪،‬‬
‫والرؤية فكأنه كان وحدة ذاتية‪ ،‬ف وحدة مكانية‪ ،‬ف وحدة زمانية‪ .‬ولقد فرضت عليه الصلة ف ذلك القام‪ ،‬ولا عاد‬
‫إل طبيعته البشر ية أ صبحت ال صلة معرا جا يوم يا له ولم ته‪ ،‬إل ذلك القام الرف يع الذي قا مه ب ي يدي ال‪ ،‬تبارك‪،‬‬
‫وتعال‪ ،‬ول ا كان هذا القام هو مقام تق يق الفرد ية‪ ،‬أو قل‪ ،‬مقام وحدة الذات البشر ية‪ ،‬وهذا القام مطلوب من كل‬
‫مسلم أن يسعى إليه‪ ،‬فقد أصبحت الصالة والتحرر من التقليد‪ ،‬ف أخريات السي إليه‪ ،‬أمرا ل مناص منه‪..‬‬

‫وحدة الوجود‬
‫قلنا‪ ،‬ف صدر هذا السفر‪ ،‬أنا نريد أن نرى‪ ،‬هل يستطيع العلم التجريب الروحي أن يرد ظواهر الخلق البشرية إل أصل‬
‫واحد‪ ،‬كما رد العلم التجريب الادي ظواهر الكون الادي إل أصل واحد‪ ،‬فيتم بذلك التساق‪ ،‬والتلؤم‪ ،‬بي الخلق‬
‫البشر ية‪ ،‬وال سلوك البشري‪ ،‬وب ي البيئة الاد ية ال ت يعيشون في ها‪ ،‬وينت هي بذا التلؤم‪ ،‬هذا النشوز الذي بدد ال ساعي‬
‫البشر ية أيدي سبأ‪ ،‬وق طع أرحام الن سانية ب ي الناس؟ ولعله قد ات ضح‪ ،‬شيئا ما‪ ،‬أن ال سلم يقوم‪ ،‬من الوهلة الول‪،‬‬
‫على ت سليم الرادة البشر ية الحد ثة إل الرادة الل ية القدي ة ((و من ي سلم وج هه إل ال و هو م سن‪ ،‬ف قد ا ستمسك‬
‫بالعروة الوث قى‪ )).‬وترب ت الا صة ل تدع ل مال لل شك ف صحة هذا ال مر‪ ،‬و من ث فإ نه عندي أن ج يع ظوا هر‬
‫السلوك البشري‪ ،‬من خي وشر‪ ،‬يرجع إل أصل واحد هو ((إرادة ال القدير))‪ .‬وف الق‪ ،‬ليس الشر أصل‪ ،‬وإنا الصل‬
‫الي‪ ،‬وما الشر إل نتيجة جهلنا الذي أوهنا أننا نستقل بإرادة‪ ،‬فإذا ارتفع هذا الهل بالتجربة الروحية‪ ،‬فسيصبح عملنا‬
‫تويد الواجب الباشر‪ ،‬والنشغال بإحسانه‪ ،‬وتويده‪ ،‬عن الَتمَنّي‪ ،‬والتأسف‪ ،‬وبذلك نقق السلم‪ ،‬كل مع نفسه‪ ،‬ومن‬
‫ث يتحقق ف الرض السلم‪..‬‬
‫ا ستمع إل القرآن‪ ،‬ك يف يدث نا‪ ،‬ويهدي نا إل ال سلوك البشري الر صي‪ (( :‬ما أ صاب من م صيبة‪ ،‬ف الرض‪ ،‬ول ف‬
‫أنفسكم‪ ،‬إل ف كتاب‪ ،‬من قبل أن نبأها‪ ،‬إن ذلك على ال يسي * لكيل تأسوا على ما فاتكم‪ ،‬ول تفرحوا با آتاكم‬
‫وال ل يب كل متال فخور * الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل‪ ،‬ومن يتول‪ ،‬فإن ال هو الغن الميد))‪.‬‬

‫حسن اللق حسن التصرف ف الرية‬


‫وما هي الخلق؟؟ هي‪ ،‬ف سبحاتا العليا‪ ،‬حسن التصرف ف الرية الفردية الطلقة! ولذلك قال العصوم‪(( :‬حسن‬
‫الل ِق خلق ال العظم)) ومن حسن التصرف ف الرية الفردية الطلقة تركك ما ل يعنيك وما ل يعنيك اللحظة القبلة‪،‬‬
‫واللحظة الاضية‪ ،‬ول يعنيك إل اللحظة الاضرة‪ ،‬فإذا ملتا بالعمل الثمر التقن‪ ،‬ث سرت بياتك جيعها مشتغل‪ ،‬فقط‪،‬‬
‫بالوا جب البا شر‪ ،‬م سنا له‪ ،‬ج هد طاق تك‪ ،‬فإ نك ترز وحدة شخ صيتك‪ ،‬وتنت صر على الوف‪ ،‬والقلق‪ ،‬وت قق‪ ،‬مع‬
‫نفسك‪ ،‬السلم‪ .‬وتكون حياتك بركة عليك‪ ،‬وعلى النسانية جيعا‪ ،‬من حيث تشعر أنت‪ ،‬أو ل تشعر‪ ..‬فإن كل حياة‬
‫سليمة‪ ،‬خصبة‪ ،‬تصب الياة جيعها‪ ،‬بجرد وجودها فيها‪..‬‬

‫خاتة‬
‫أما بعد‪ ،‬فقد يرى أناس أن هذا الديث غريب‪ .‬فل يعجلوا أنفسهم‪ ،‬ول يصدروا الحكام‪ ،‬و‪ ،‬قبل أن يتهموا أنفسهم‪،‬‬
‫يبادروا باتام الخرين‪ .‬فإن هذا الديث حق‪ ،‬عندي‪ ،‬وصدق‪ ،‬وإن لرجو ال له‪ ،‬أن يكون حقا‪ ،‬عنده‪ ،‬وصدقا‪ ..‬وما‬
‫ذلك على ال بعزيز‪.‬‬

You might also like