Professional Documents
Culture Documents
الحميد ل الذي وسيع كيل شيءٍ علماً ،وأوسيع كيل حادثٍي حكماً،سيبحانه هيو السيميع البصيير العلييم
الخبير الذي علّم بالقلم ،علّم النسان ما لم يعلم .أحمده تعالى بما هو له أهلٌ من الحمد وأثني عليه،
وأسيتغفره مين جمييع الذنوب وأتوب إلييه ،وأومين بيه وأتوكيل عليه ،مين يهده ال فل مضيل له ومين
يضلل فل هادي له ،وأشهييييد أن ل إله إل ال وحده ل شريييييك له ،خلق فسييييوى وقدّر فهدى وله
الخرة والولى .وأشهييد أن سيييدنا ونبينييا محمداً عبده ورسييوله ،أرسييله إلى خلقييه بشيراً ونذيراً،
وداعيًا إلى ال بإذنه وسراجًا منيراً ،فبلغ الرسالة وأدى المانة ونصح المة وكشف الغمة ،صلى
ال وسلم تسليماً عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أميا بعيد ،،،فإنيي أحييي مين حضير هنيا مين المشاييخ الجلء حملة العلم ومين البناء العزة طلبية
العلم بتحية السلم الخالدة ،فالسلم عليكم جميعاً ورحمة ال وبركاته...
وإنها لفرصة أن أتشرّف بالجتماع بكم في مطلع هذا العام الدراسي وفي هذا الصرح العلمي ،في
هذا المكان الذي تنبيع مين بيين جنباتيه ينابييع الحكيم التيي تفييض بهيا أفواه مشائخ العلم فتروى بيه
القلوب الظامئة مين طلبية العلم العزة الكرام المسيافرين على الخيير .وكيم أتمنيى ولو أنيي كنيت فيي
بدايية سيير الحياة لتشرف فيي القعود هنيا على مقاعيد الطلبية لسيتفيد بعيض ميا يسيتفيده غيري مين
هذه الحكييم وميين هذه العلوم وأسييتنير بهذه الفكار النيرة وإنمييا قاطرة الزميين قييد مشييت بييي مشياً
حثيثاً ،ومع سير الزمان ل يمكن للنسان أن يظفر بكل أمانيّه التي ربما كان يظفر بها لو كان في
بداية الطريق .أما ما سمعتموه من أوصاف وُصفت بها وأُلبستها على رغ ٍم مني ولست بأهلها فإن
ذلك مميا يسيوء نفسيي إذ أنيا جديرٌ بأن أكون طالب علميٍ صيغير ل أن أكون مين بيين مشائخ العلم
فضلً عن أن أُرفع إلى تلك المنزلة التي رُفعتها ،فأستغفر ال من ذلك ،وأقول كما قال الصدّيق –
رضيي ال تعالى عنيه ( : -اللهيم اجعلنيي خيرًا مميا يظنون واغفير لي ميا ل يعلمون ول تؤاخذنيي
بمييا يقولون ).وإنييي لهنئكييم جميعاً بمطلع هذا العام الدراسييي بهذه الفترة الزمنييية التييي يبدأ فيهييا
الجهاد ،جهاد الدارسين والمدرسين..جهاد المدرسين بالتحضير والتلقين ،وجهاد الدارسين بالتلقي
والتحصيل .فأسأل ال أن يكون عام خير ،وأن يجعلنا جميعاً من المستفيدين فيه وأن يلهمنا رشدنا
جميعاً.
ول شيك أن طلبية العلم هيم أجدر ميا يكونون بمعرفية قيمتيه ،فقيمية العلم قيمية عاليية فيي موازيين
السلم ،ذلك لن ال سبحانه وتعالى خلق النسان خلقاً عجيبًا يختلف عن خلق بقية مخلوقاته ومن
أجييل ذلك كان العلم ضرورياً بالنسييبة لحياة النسييان ،فإن النسييان يتعاميل ميع هذا الكون الواسيع
الرجاء المترامي الطراف وبسبب تعامله مع هذا الكون ل بد أن يكون على خبرةٍ من أمره وبينةٍ
مين ربيه ،فإن الكون هيو خلق ال فهيو ملك ال سيبحانه وتعالى ،والمنافيع التيي فييه إمتنّي بهيا ال
سييييبحانه وتعالى فسييييخرها لهذا النسييييان ،فجدي ٌر بالنسيييان أن يعرف هذه الكائنات وطبائعهييييا
وخواصيها وطريقية التعاميل معهيا ،كميا أنيه جدي ٌر بأن يعرف حكيم ميا يتعاميل معيه مين ضرورات
حياته في هذا الكون.
وقيد اختار ال النسيان مين بيين سيائر الخلق لن يكون خليف ًة فيي هذه الرض التيي هيي مرك ٌز لهذا
الكون فيي الحقيقية نظراً للترابيط العجييب بيين أرجاء الكون وبيين هذه الرض ،وعندميا خاطيب ال
سيبحانه وتعالى النسيان بأن يعبده ذكره بنعمية خلقيه وذكره بنعمية خلق أصيوله وذكره بنعمية خلق
هذه الرض على طبيعتها التي هي في الحقيقة منسجمةٌ مع وضع النسان وطبيعته ،وذكره بخلق
هذا الكون الذي يرتبييط ارتباطاً وثيقًا بهذه الرض ،وذلك عندمييا قال سييبحانه " :يييا أيهييا الناس
1
عظمة العلم
محاضرة لسماحة الشيخ الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان
اعبدوا ربكيم الذي خلقكيم والذيين مين قبلكيم لعلكيم تتقون * الذي جعيل لكيم الرض فراشاً والسيماء
بناءً وأنزل مين السيماء ما ًء فأخرج بيه مين الثمرات رزقًا لكيم فل تجعلوا ل أنداداً وأنتيم تعلمون *
" .ثيم عجّب مين شأن أولئك الذيين يتصياممون عين هذا النداء الذي هيو فييي الحقيقية نداء الفطرة
ويستجيبون لداعي الشيطان فيكفرون بالرحيم الرحمن معرضين عن حكمه غير لوين على شيءٍ
مميا سيخره لهيم وأعطاه إياهيم مميا ينادي بوجوب طاعتيه والنقياد لمره والتزام عبادتيه عندميا قال
تعالى " :كيف تكفرون بال وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون * هو الذي
خلق لكم ما في الرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماواتٍ وهو بكل شيءٍ عليم *
".
وعندميا أراد ال سيبحانه تكرييم هذا النسيان بإيلئه هذا المنصيب الرفييع ،منصيب الخلفية فيي هذه
الرض ،آذن المل العلى بهذا الحدث التأريخيي ،وال تعالى يقيص علينيا نبيأ ذلك عندميا قال " :
وإذ قال ربك للملئكة إني جاعلٌ في الرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء
ونحين نسيبح بحمدك ونقدس لك قال إنيي أعلم ميا ل تعلمون * وعلم آدم السيماء كلهيا ثيم عرضهيم
على الملئكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك ل علم لنا إل ما علمتنا
إنيك أنيت العلييم الحكييم * قال ييا آدم أنبئهيم بأسيمائهم فلميا أنبأهيم بأسيمائهم قال ألم أقيل لكيم إنيي أعلم
غييب السيماوات والرض وأعلم ميا تبدون وميا كنتيم تكتمون * " .فيي تضاعييف هذه القصية ميا
ل قيمية هذا النسيان الذي اختاره ال تعالى لهذا المنصيب لميا علميه مين الخواص التيي يكشيف أو ً
أودعهييا فيييه سييبحانه ،وآذن بذلك المل العلى ،فكان ميين سييؤال المل العلى مييا كان وكان ميين
جواب الحيق تعالى ميا كان ،ثيم أراد ال سيبحانه أن ييبين قيمية هذا النسيان مين بيين خلقيه عنيد المل
العلى فاختيبرهم بميا اختيبرهم بيه ،ثيم وجّه هذا الختبار إلى النسيان فنجيح فييه وعندئ ٍذ أمير ال
سيبحانه وتعالى المل العلى للسيجود لهذا النسيان بعدميا تيبينت مكانتيه وعُرفيت منزلتيه ونجيح فيي
اختباره وكان أساس هذا الختبار العلم ،فإذن خلفة النسان إنما تقوم على العلم.
وعندميا أراد ال سيبحانه وتعالى بعيد تطاول الحدود ومرور الحقاب والناس فيي ظلمات بعضهيا
فوق بعيض أن ينيير لهيم السيبيل وييبين لهيم الدلييل أرسيل رسيوله محمدًا صيلى ال علييه وسيلم على
فترةٍ من الرسل ،وكانت رسالته عليه أفضل الصلة والسلم رسالة علم ،فإن ال سبحانه ناداه أول
ميا ناداه بقوله " :إقرأ باسيم ربيك الذي خلق * خلق النسيان مين علقٍي * إقرأ وربيك الكرم * الذي
علم بالقلم * علم النسييان مييا لم يعلم * " .كانييت الكلميية التييي افتُتتييح بهييا الوحييي الشريييف كلميية
"اقرأ" ،وهيي ذات مدلولٍ واسيع وأبعا ٍد متراميية الطراف ،فإن ال سيبحانه وتعالى اختصيها مين
بين الكلمات التي تدنو من معناها لن تكون فاتحة هذا الوحي ،لم يقل لرسوله صلى ال عليه وسلم
( افهيم ) ،ولم يقيل له ( اعلم ) ولم يقيل له ( أدرك ) ولم يقيل له ( اطّلع ) ولم يقيل له أي شيءٍ آخير
مين هذه اللفاظ وإنميا قال له ( اقرأ) .والنيبي صيلى ال علييه وسيلم كان ُأ ّميّا ميا كان يتلو مين كتابٍي
ول يخطه بيمينه ،وإنما في هذا النداء الموجّه إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم تنبيهٌ لهذه المة
بأن العهد الجديد إنما جاء لطي سجات الجهل ولنشر أنوار المعرفة ،فالعهد عهد علم ،عل ٌم يُتوصل
إليييه بالجهييد والدأب والطلب والتحصيييل ل يُتوصييل إليييه بمجرد اللهام الفطري ،ولذلك قال ال
تعالى للنيبي الميي " :اقرأ" ،والقراءة إنميا هيي فيي الصيل قراءة ميا يُكتيب عادة ،فإذن جاء هذا
النبي برسالة تُكتب وتُدوّن ،وجاء بعهد جديد ،هذا العهد تُنشر فيه أنوار المعرفة بين الناس ،وتقوم
الجهود المتضافرة على تحصييل العلم وتدوينيه ونشره بيين الناس ،ومين أجيل ذلك أتبيع ال سيبحانه
وتعالى بعييد هذا الميير المرَ بالقراءة مرة أخرى مييع التذكييير بمبدأ خلق النسييان ومييع المتنان
بتعليمه بالقلم وتعليمه ما لم يعلم.
فالعلم الذي جاءت به هذه الرسالة عل مٌ يقوم على الطلب وبذل الجهد ،على يقوم على عرق الجبين
وسيهر الليالي وعدم العتماد على مجرد اللهام الفطري .هذا العلم قام رسيول ال صيلى ال علييه
وسييلم بنشره بييين أصييحابه رضوان ال تعالى عليهييم ،فكانوا خييير أم ٍة أخرجييت للناس حملوا إلى
العالم المتمدن فيي ذلك الوقيت رسيالة الرحمية والمبادئ النسيانية بعدميا كانيت النسيانية تعانيي ميا
تعانييه مين شقاقٍي واختلف ومين سيطو القوي على الضعييف ومين التهام الكيبير للصيغير كميا هيو
2
عظمة العلم
محاضرة لسماحة الشيخ الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان
شأن البهائم العجماء..كانت النسانية تعاني من الويلت في ظل الحضارات النسانية المختلفة ولم
س ماديية ولم تكين على صيل ٍة بتعالييم الحيق تكين تلك الحضارات لتجدي شيئاً لنهيا قاميت على أسي ٍ
سبحانه وتعالى التي أنزلها على رسله.وقد غاضت ينابيع الهداية التي تدفقت من الرسالت السابقة
فبعُد الناس عين الرشيد وضلوا طرييق القصيد وبعدوا عين سيواء الصيراط فارتكسيوا فيي أوحال
الضللت المختلفية ،ضلوا فيي تشخييص العبادة التيي يتقربون بهيا إلى المعبود ،وضلوا فيي تعييين
المعبود نفسه فعبدوا آله ًة أخرى متعددةً من دون ال ،وتعالى النسان على النسان حتى جعل من
ن مثلهييا كمييا حصييل ذلك فييي المييبراطوريتين نفسييه إلهًا يُعبييد وظلت النسييانية تركييع أمام إنسييا ٍ
الكيبريين :المبراطوريية القيصيرية والمبراطوريية الكسيروية ،بحييث كان الباطرة فيي مسيتوى
اللهية التيي تُعبيد ،ول دلييل أدل على ذلك مين ذلك النشييد الذي كان يرتّل باللغية الفارسيية تمجيداً
لميبراطور فارس الذي يقول فيي وصيفه ( :فيي اللهية إنسيانٌ غيير فانٍي وفيي الناس إلهٌي لييس له ثان
ارتفع اسمه وتعالى مجده يطلع مع الشمس بضيائه وينير الليالي المظلمة بنوره ).
والناس الذين كانوا يعيشون في جزيرة العرب التي هي بعيدة عن سلطات هاتين المبراطوريتين
لم يكونوا بأحسين وضعٍي مين غيرهيم ،فقيد كان بينهيم السيطو والنهيب والذلل والقهير والحرمان
بسيبب انحسيار مبادئ الحيق وانقلب المقايييس وتبدل الموازيين وتحول العراب ،فأصيبح الحيق
عندهيييم باطلً والباطيييل حقاً والقو ُة ضعفاً والضعيييف قوةً والذلةُ عزةً والعزةُ ذلةً ،وهكذا كانيييت
الوضاع منقلبة على رؤوسها في جزيرة العرب التي بُعث فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم،
وفي العالم بأسره.
وقيد تفشيت المّيّة فيي الجزيرة العربيية التيي بُعيث فيهيا رسيول ال صيلى ال علييه وسيلم ،وكانيت
الحياة فيهيا حياة بدائيية إذ لم تكين العرب تعرف من الحضارة إل طعيم الماء البارد وإل السيتظلل
بظيل الخيام أوالشجار مين بعيد عين لفيح الصييف فيي أيام شدة القييظ .هكذا كانيت الوضاع فيي هذه
الجزيرة العربيية .وإذا بالرسيول النيبي الميي ينفيخ روح العلم بيين هؤلء المييين ،وإذا بهيم فجأة
يتحولون ميين الجهييل إلى العلم ويتحولون ميين التشتييت إلى الجتماع ويتحولون ميين الحيرة إلى
البصيرة ،فاجتمع شتات هذا العدد المتناثر من العرب وانتظموا جميعاً في سلك العقيدة الحقة التي
جاء بهيا رسيول ال صيلى ال علييه وسيلم واسيتنارت بصيائرهم بنور العلم والمعرفية ،فخرجوا فيي
أصيييقاع الرض ينشرون مبادئ الرحمييية بيييين الناس يأمرون بالمعروف وينهون عييين المنكييير
ويؤمنون بال ،يدعون إلى سيواء الصيراط ،لم يكين همهيم ميا ينالونيه مين الغنائم الماديية إذ الدنييا
عندهيم ل تسياوي شيئًا بيل تسياوى فيي موازينهيم تبرهيا وترابهيا كميا تسياوى فيي نفوسيهم عذبهيا
وعذابهيا ،فكانوا يهدفون إلى إقامية الحيق فيي الرض ،كيل همهيم إقام الصيلة وإيتاء الزكاة والمير
بالمعروف والنهيي عين المنكير ،ولذلك قال قائلهيم عندميا قييل لهيم ميا الذي جاء بكيم؟ ( :إن ال قيد
بعثنييا لنخرج ميين شاء ميين عبادة العباد إلى عبادة ال وميين جور الديان إلى عدل السييلم وميين
ضييق الدنييا إلى سيعة الدنييا والخرة ).فذاقيت النسيانية طعيم العدل وعرفيت قيمية حياتهيا وأدركيت
أسيرار خلقهيا بإجشار هذا النور على أيدي أولئك المييين فيي أصيقاع الرض .أولئك قومٌي رباهيم
رسول ال صلى ال عليه وسلم على هذا القرآن الذي أُنزل عليه ،فكان القرآن يتمثل في كل جزئية
ميين جزئيات حياتهييم فضلً عيين كلياتهييا ،لن خلقهييم كان انعكاسيًا لخلق الرسييول صييلى ال عليييه
وسيلم ،وخلق النيبي صيلى ال علييه وسيلم كميا قالت السييدة عائشية -رضيي ال تعالى عنهيا -كان
القرآن .فإذا بهؤلء الذين كانوا أميين يتحول كل واحد منهم إلى قرآن يمشي على الرض ،تتجسد
هداية القرآن في جميع تصرفاتهم وأعمالهم..في أخذهم وعطائهم..في ردهم وقبولهم..في إقدامهم
وإحجامهيم..فيي سيرهم وجرهيم..فيي غضبهيم ورضاهيم..فيي جمييع أحوالهيم ميا كانوا ينأون فيي أي
شيءٍ عين هدايية القرآن .وقيد صيدق مين وصيفهم مين أعدائهيم بقوله ( :هيم رهبانٌي باللييل وفرسيانٌ
بالنهار ل يأكلون فييي ذمتهييم إل بثميين ول يدخلون إل بسييلم يقضون على ميين حاربوا حتييى يأتوا
عليه ) ،وكما قال الخر أيضاً من أعدائهم الذين واجهوهم في ميادين المعركة ( :أما الليل فرهبان
وأما النهار ففرسان يريشون النبل ويروونها ويثقفون القنا ،لو حدثت جليسك حديثاً ما فهمه عنك
لما عل من أصواتهم بالقرآن والذكر ).
3
عظمة العلم
محاضرة لسماحة الشيخ الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان
هذه هي صفات الجيل الذي رباه رسول ال صلى ال عليه وسلم على القرآن .كانت جواهر الحكم
تتناثر من أفواههم ،عندما ينطقون كانت كلماتهم تخرج من أفواههم جامع ًة بين للء النور ولهيب
النار ،كانيت كالنار فيي قلوب أعدائهيم وكانيت كالنور بالنسيبة إلى الذيين يريدون أن يهتدوا بهداهيا،
وكانوا عندميا يصيمتون ل يصيمتون عين عيّ وحصير ولكنهيا العيبرة والذكرى وعندميا ينطقون ل
ينطقون بثرثرة وإنميا ينطقون بحكمية ،أولئك هيم أصيحاب رسيول ال صيلى ال علييه وسيلم الذيين
أثنيى ال تعالى عليهيم فيي كتابيه بقوله " :محم ٌد رسيول ال والذيين معيه أشداء على الكفار رحماء
بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلً من ال ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك
مثلهييم فييي التوراة ومثلهييم فييي النجيييل كزرعيٍ أخرج شطأه فآزره فاسييتغلظ فاسييتوى على سييوقه
يعجييب الزراع ليغيييظ بهييم الكفار وعييد ال الذييين ءامنوا وعملوا الصييالحات منهييم مغفرةً وأجراً
عظيماً ".
على أن جُل أولئك القوم الذيين رباهيم الرسيول صيلى ال علييه وسيلم كانوا عندميا انضموا إلى لواء
النبي صلى ال عليه وسلم وتحت كنفه في سن الشباب ،فإن الشباب دائماً هم المُستهدفون من قبل
دعاة الخيير ودعاة الشير ،فدعاة الشير يريدون أن يجروا الشباب إلى صيفوفهم ودعاة الخيير كذلك
يريدون أن يجروا الشباب إلى صييفوفهم لن مرحلة الشباب هييي مرحلة القوة والفتوة التييي تنضييح
بالفتوة وتتدفييق بالطموحات المختلفيية .على أن الشيييب دائماً يكونون أصييلب عودًا فقلمييا يتأثرون
بدعوات الخير إن كانوا ألفوا الشر وقلما يتأثرون بدعوات الشر إن كانوا ألفوا الخير.
والرسيول صيلى ال علييه وسيلم اسيتجاب له الشباب ،فهيم الذيين انضموا إلى لوائه صيلى ال علييه
وسلم ودخلوا تحت كنفه ،ولكنه عليه أفضل الصلة والسلم ربى أولئك الشباب على الطموح إلى
معالي المور ولم يربهيم على سيفاسف المور ،كييف وهيو – صيلى ال علييه وسيلم – جاء رحمةً
للعالميين ،وقيد اختار ال تعالى أولئك الفتيية الذيين التفوا مين حوله لن يكونوا هيم حملة هذه الهدايية
التي جاء بها رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى العالم؛ فكانت ألسنتهم الطرية هي وسائل العلم
لهذا الديين وهذه الدعوة ،وكانيت سيواعدهم القويية هيي التيي بنيت صيرح هذا الديين ورفعيت دعائميه
إلى الوج الشامييخ" ،كانوا قليلً ميين الليييل مييا يهجعون * وبالسييحار هييم يسييتغفرون * " ،فكان
نهارهيم جهاداً وصيياماً ،وكان ليلهيم تهجداً وقياماً ،لم يكونوا يسيارعون إلى الشهوات وينغمسيون
فييي الموبقات وإنمييا أدركوا قيميية الشباب وعرفوه بأنييه المرحلة الذهبييية ميين العميير التييي تتميييز
بالطموحات المختلفية ،فكانيت طموحاتهيم نحيو الخيير وسيخروا جمييع قوى شبابهيم لجيل خدمية هذا
الدين الحنييف ،فانطلقوا فيي أرجاء الرض كالسيل الت يّ الذي يغمر الرض ليخصبها بعد جدبهيا
وليكسييوها خضر ًة بعييد اغبرارهييا .هكذا كان شأن أولئك الذييين رباهييم رسييول ال صييلى ال عليييه
وسلم ،وهم الذين حملوا أمانة هذا العلم ،وأدوها إلى من بعدهم ،إلى الجيل الذي بعدهم ،تصديقًا لما
روي عن النبي صلى ال عليه وسلم من قوله (( :يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه
تحريف الغاوين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين )).
واسييتنارت البصييائر بهذا النور الذي جاء بييه رسييول ال صييلى ال عليييه وسييلم .وإن ميين المعالم
البارزة في رسالة النبي صلى ال عليه وسلم تميزها من بين سائر الرسالت بكون إعجازها يكمن
في جوهرها ،فإعجاز هذه الرسالة يكمن في القرآن الذي جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم،
وميين وجوه إعجاز هذا القرآن الذي نزل على قلب النييبي محمدٍ عليييه أفضييل الصييلة والسييلم
العجاز العلميي الذي حيّر علماء هذا العصير تصيديقاً لقول ال تعالى " :قيل أرأيتيم إن كان مين
عند ال ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاقٍ بعيدٍ * سنريهم آياتنا في الفاق وفي أنفسهم حتى
يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شي ٍء شهيد * أل إنهم في مريةٍ من لقاء ربهم أل
إنه بكل شيءٍ محيط * ".
وهذا يعنييي أن هذه الميية عليهييا أن تضطلع بالعلوم النسييانية المختلفيية ،فإن العلوم البشرييية إن لم
تكين فيي يدٍ أمين ٍة تعرف كييف تتصيرف فيهيا وتعرف كييف تقدم بهيا وكييف تحجيم بهيا ل بيد مين أن
تكون وبالً على النسيانية كميا هيو الواقيع فيي عالم اليوم ،فعندميا تأخير المسيلمون وتقهقروا بسيبب
بعدهييم عيين دينهييم وبسييبب تسييليمهم الزمام إلى أيدي أعدائهييم أخذت بزمام القافلة البشرييية أعلميُ
4
عظمة العلم
محاضرة لسماحة الشيخ الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان
الجاهليية الحديثية ،فاقتادوا هذه القافلة إلى مهاوي الهلك – والعياذ بال – والمسيلمون مين ضمين
الركيب ل يسيتطيعون حيلةً ول يهتدون سيبيلً .فالمية السيلمية عليهيا أن تضطلع بالعلوم المختلفية
سوا ًء كانت هذه العلوم علوماً دنيوية أو كانت هذه العلوم علومًا دينية على أن تكون الدنيا مسخرةً
للديييين ومضبوط ًة بضوابطيييه ومقيد ًة بأحكاميييه ،فإن هذه الدنييييا إن لم تكييين مقيدةً بقيود الديييين
ومضبوط ًة بضوابطيه هيي – والعياذ بال – مرتعٌي وخييم وهيي مرعىً وبييء ،ومين أجيل ذلك وقيع
الناس فيميا وقعوا فييه مين المهالك بسيبب عدم انضباطهيم فيي حياتهيم الدنييا بميا تفرضيه الشريعية
السلمية الحقة المنزلة من عند ال من ضوابط تُقيد بها تحركات النسان في حياته هذه.
وإذا كانيت العلوم على اختلفهيا ذات أثير بالغ فيي حياة النسيان لن النسيان حياتيه مرهونية بالعلم
ولنيه فيي جمييع تقلباتيه وفيي جمييع أطواره هيو بحاجية إلى العلم ،فإن مقياس قيمية العلوم عطاؤهيا
لهذا النسيان وتأثيرهيا فيي حياتيه النفسيية والجتماعيية .ول رييب أن العلوم الشرعيية بجمييع فنونهيا
هي أعمق أثراً وأغزر عطاءً وأعم فائدة لعظم الحاجة إليها ،ومن هنا كانت الحاجة لِن يتزود كل
أحيد مين هذه المية بميا يبصيره بأمير دينيه مين علوم شرع ال تعالى ،فإن كيل أح ٍد مطالبٌي بأن يعبيد
ال على بصييرة وكيل أح ٍد مطالبيٌ بأن يتقييد فيي تصيرفاته وأعماله بحكيم شرع ال سيبحانه ،فإن
الرض التيي هيي قرار النسيان هيي أرض ال وهيي جزءٌ مين مملكتيه ،وميا سيُخر للنسيان مين
منافعها إنما هو ملك ال ليس للنسان أن يتصرف في هذه المنافع وفق ما يقتضيه هواه وإنما عليه
ف فيهيا
أن يتصيرف بحسيب ميا يقتضييه حكيم ال تعالى ،والنسيان مؤتمين فيي هذه الرض ومسيتخل ٌ
ل فما عليه إل أن يتصرف وفق تعاليم مُستخلفه وهو ال من قبل ال عز وجل ،والخليفة ليس أصي ً
سيبحانه وتعالى الذي يعلم السير وأخفيى .على أنيه سيبحانه لم يترك الناس فيي حير ٍة مين أمرهيم ،بيل
أنزل إليهييم مييا يبصييرهم بمييا يأتون ومييا يذرون ،فهذا كتاب ال سييبحانه وتعالى هييو الموجّه لهذه
النسيانية إلى سيواء الصيراط ،يقول ال تعالى فييه " :إن هذا القرآن يهدي للتيي هيي أقوم ويبشير
المؤمنييين الذييين يعملون الصييالحات أن لهييم أجرًا كييبيراً * " ،ويقول ال تبارك وتعالى " :كتاب يٌ
أنزلناه إلييك لتخرج الناس مين الظلمات إلى النور ،ويقول سيبحانه وتعالى " :وكذلك أنزلناه حكماً
عربياً " ،ويقول تبارك وتعالى فييي هذا الكتاب الكريييم " :هدىً للمتقيين " ،ويقول " :هدىً ورحمةً
ى وبشرى للمؤمنين " ،فالقرآن الكريم كله هداية. للمحسنين " ،ويقول " :هد ً
وقد جاءت سنة الرسول صلى ال عليه وسلم مفصلة لمجملت هذا الكتاب ومبينة لمبهماته ،فل بد
مين اسيتلهام تفسييره واسيتبيان معانييه مين خلل دراسية السينة النبويية على صياحبها أفضيل الصيلة
والسيلم .وهذا يعنيي أن طلبية علم الشريعية عليهيم أن يتضلعوا بعلوم القرآن وعليهيم أن يتبصيروا
فيي تفسييره مقتبسيين معانييه مين إيضاح الرسيول صيلى ال علييه وسيلم ،وعليهيم أن يسيتبصروا فيي
حياتهيم بهدي القرآن وهدي رسيوله علييه وعلى آله وصيحبه أفضيل الصيلة والسيلم ميع دراسية
العلوم المختلفيية التييي تُعييد وسييائل ليصييال النسييان إلى هذا العلم .وإذا كان الناس مييع اختلف
تخصييصاتهم العلميية واختصيياصاتهم العمليية بحاجةٍ إلى أن يتعلموا مين علم الشرع ميا ينييير لهيم
السييبيل ويعرفهييم بمييا يأتون ومييا يذرون فإنييه ل بييد بأن تكون هنالك طائفيية تتخصييص فييي العلوم
الشرعية على اختلفها لتحمل مشعل الهداية إلى الناس ولتبصر الناس بما يأتون وما يذرون ،هذه
الطائفية هيي التيي يشيير إليهيا كتاب ال عندميا قال سيبحانه " :وميا كان المؤمنون لينفروا كافية فلول
نفر من كل فرق ٍة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ".
على أن هذه الدراسية يجيب أن ل تكون محصيورة فيميا يسيمى بعلم الفقيه وأصيول الفقيه وأصيول
الدين وعلم التفسير وعلم الحديث ومصطلحه ،بل ل بد أيضاً من فهم اللغة التي اختارها ال تعالى
لن تكون وعاءً للقرآن ،واختارهييا ال سييبحانه لن تكون وعاءً لسيينة الرسييول عليييه وعلى آله
وصحبه أفضل الصلة والسلم ،وهي اللغة العربية بآدابها وفنونها فإن هذه اللغة هي لغة الدين؛
وقيد قلت غيير مرة بأن هذه اللغية ليسيت حكراً على العرب وحدهيم فإنهيا لغية جمييع المسيلمين مين
أقصيى الشرق إلى أقصيى الغرب..نعيم كانيت لغية العرب وحدهيم عندميا كانيت هذه اللغية خاصية
بالعرب قبييل أن ينزل بهييا القرآن على قلب النييبي محمييد عليييه وعلى آله وصييحبه أفضييل الصييلة
والسلم ،أما بعدما نزل بها القرآن فصارت وعا ًء لكلم ال وخاطب ال سبحانه وتعالى بها عباده
5
عظمة العلم
محاضرة لسماحة الشيخ الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان
إذ عرفهيم بأحكاميه وعرّفهيم بأوامره نواهييه وعرّفهيم بميا شاء أن يعرّفهيم بيه مين علم الغييب مين
خلل هذه اللغية ،صيارت لغية عامية غيير خاصي ٍة بالعرب؛ ثيم إن الناس أيضًا يخاطبون ال تعالى
بهذه اللغة في عباداتهم وفي أذكارهم وفي دعائهم ،فعندما يمثلون بين يديه – تعالى – يقولون له:
" إياك نعبيد وإياك نسيتعين " .وقيد قلت فيي المؤتمرات والملتقيات غيير مر ٍة إنيه مين العار أن يتقين
المسييلم لغيية المسييتعمر الذي غزاه وجاء لسييتعباده واسييتذلله ول يتقيين مييع ذلك لغيية القرآن التييي
خاطبيه ال تعالى بهيا والتيي يخاطيب ال سيبحانه وتعالى بهيا فيي صيلواته وأذكاره ودعائه ،فإنيه
ليجدر بكيل مسيلم أن يحرص على دراسية هذه اللغية .على أن اللغية العربيية يجيب أن تكون وسييلة
التفاهيم بيين المسيلمين جميعًا فيي جمييع أصيقاع الرض ،وهذا ميا ينافيي أن يحرص كيل قومٍي على
لغتهيم القوميية بجانيب هذه اللغية ،إذ لو تمسيك كيل أحيد بلغتيه القوميية ونبيذ هذه اللغية التيي نزل بهيا
القرآن على الرسول عليه أفضل الصلة والسلم لعادت القطيعة بين الناس ،إذ ل يمكن أن يتنازل
أحدٌ منهم عن لغته لجل لغة غيره ،أما إن كان التقاؤهم على لغة القرآن فل ريب أنهم جميعًا ل بد
من أن يكونوا راضين بذلك إذ هي اللغة التي شرّفهم ال سبحانه وتعالى بأن خاطبهم بها وشرّفهم
ال عيز وجيل بأن أمرهيم بأن يخاطبوه بهيا .وأنتيم تدركون كييف تبحّر العجيم فيي هذه اللغية وكييف
بحثوا عيين علومهييا وفنونهييا وغاصييوا فييي أعماقهييا فولّدوا ميين الفنون مييا لم يكيين معروفًا لجييل
حرصهم على معرفتها ،وقد كانوا يباهون بها ،فالزمخشري يحمد ال تبارك وتعالى على أن شرّفه
بأن جعله مين علماء العربيية كميا جاء ذلك فيي مقدمية كتابيه المفصيّل؛ وسييبويه والكسيائي والفرّاء
وغيرهيم مين علماء العربيية قيد كانوا عجماً ولكنهيم ميع ذلك حرصيوا على هذه اللغية وصياروا أشيد
غيرة عليهيا مين العرب أنفسيهم لنهيم أدركوا قيمتهيا .وإن مميا يدعيو إلى العتزاز أن نجيد رجلً
أفريقياً قبل نحو أربعة عشر عاماً من الن يبز بلغة العرب في لغتهم ،ففي مطلع القرن الخامس
عشر الهجري ونهاية القرن الرابع عشر عقد القسم العربي بهيئة الذاعة البريطانية مسابقة ما بين
الشعراء فيي مدح الرسيول صيلى ال علييه وسيلم باللغية العربيية ،فكان الفائز الول الذي تقدم على
ألف ومئتين ( )1200من الشعراء الذين اشتركوا في هذه المسابقة رجلً أفريقياً من السنغال ،وهو
الشاعر عبد ال با الذي نظم قصيدته وافتتحها بقوله:
هجرت بطاح مكة والهضابا...........وودّعت المنازل والرحابا
تخذت من الدجى يا بد ُر ستراً..........ومن رهبوت حلكته ثيابا
ووصف هجرة الرسول صلى ال عليه وسلم بأبلغ عبارة بهذه اللغة العربية الفصيحة من غير أن
يشوب صيفاءها شي ٌء مين اللكنية العجميية ،كيل ذلك دلييل على أن هذه اللغية هيي لغية المسيلمين
جميعًا وليست حكراً على العرب وحدهم.
فل بيد لطالب الشريعية مين أن يحرص على دراسية هذه اللغية ودرسية فنونهيا ومصيطلحاتها وإل
كييف يتأتّى له أن يفهيم كلم ال وأن يفهم كلم رسوله محم ٍد صيلى ال عليه وسلم الذي هو أفصح
العرب والعجم جميعاً؟!!
ومع هذه الدراسة للغة العربية وللعلوم الشرعية فإنه أيضاً مما يجب أن ل يعزب عن ذهن طالب
العلوم الشرعييية أنييه حريييٌ بأن يكون عارفاً بأوضاع عصييره وأن يكون مدركًا للتطورات التييي
يفرزهيا التقدم الحضاري فيي هذا العصير حتيى يكون عنده اسيتعدادٌ لمواجهية هذه التطورات ،فإن
النسيانية كلهيا اليوم بحاجةٍ إلى الحلول التيي تنبيع مين الشريعية السيلمية وبحاجية إلى هذا النور
الذي يسيطع عليهيا مين أفيق هذه الشريعية ليبدد هذه الظلمات المتراكمية عليهيا ،فالنسيانية أدركيت
الن إفلس القيم المادية على اختلفها ،وأدركت أنه ل بد من أن تكون هنالك قيادة جديدة .بيد من
تكون هذه القيادة إن لم تكيين هذه القيادة بأيدي المسييلمين العارفييين بالسييلم العاملييين ميين أجييل
السلم ،فل بد من يرتكس العالم ارتكاس ًة جديدة كما ارتكس من قبل .وهذه كارثة ،فمنا هنا كان
الواجيب على المسييلمين أن يحيطوا علمًا بمجريات الحداث فيي العالم .فقيد قلت لكيم بأن الرسييالة
التي بُعث بها الرسول صلى ال عليه وسلم كانت رسالة تؤذن الناس بعالميتها من أول المر.منذ
كان الرسول صلى ال عليه وسلم بمكة المكرمة وهو يعاني ما يعانيه من تحديات الجاهلية ويعاني
أصيحابه رضيي ال تعالى عنهيم الذيين كانوا قلة مين هذه التحديات ،يتجرعون الغصيص ويكابدون
6
عظمة العلم
محاضرة لسماحة الشيخ الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان
الويلت بسيبب حقيد الجاهليية عليهيم ،وميع ذلك كان القرآن الكرييم على النيبي صيلى ال علييه وسيلم
بمييا يؤذن أن هذه الدعوة دعوة عالمييية ،ليسييت دعوة إقليمييية وليسييت دعوة قومييية وليسييت دعوة
محصورة في طائفة من الناس دون غيرهم ،فال سبحانه وتعالى أخبر النبي صلى ال عليه وسلم
وأخبر المؤمنين الذين كانوا قلة في ذلك الوقت بما كان يدور في العالم المتحضر من صراعٍ على
السييلطة وعلى البقاء بييين دولتييين كييبريين ،إذ أنزل ال على نييبيه صييلى ال عليييه وسييلم فييي العام
الخاميس مين بعثتيه علييه أفضيل الصيلة والسيلم قوله " :بسيم ال الرحمين الرحييم * ألم *غلبيت
الروم * فيي أدنيى الرض وهيم مين بعيد غلبهيم سييغلبون * فيي بضيع سينين ل المير مين قبيل ومين
بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون * بنصر ال " ،ما كان الداعي لن ينزل قرآنٌ يُتلى في الصلوات وفي
غيرهيا ويُدوّن فيي المصياحف إلى أن يرث الرضَي خالقُهيا؟!! ميا كان الداعيي لنزال هذا القرآن
بهذه الحالة ليخيبر الناس بميا يجري بيين دولتيين كافرتيين فيي ذلك الوقيت لول أن هذه الدعوة دعوة
عالميية وأن ال تعالى يرييد أن يُفتّحي أذهان المسيلمين لدراك ميا عسيى أن يضطلعوا بيه مين قيادة
النسيانية .هكذا كان القرآن الكرييم يربيي هذه المية مين أول وهلة ،فالنطواء وعدم فهيم ميا يجري
فيي العالم وعدم تتبيع الحداث كيل ذلك لييس مين شأن المسيلم القوي الذي يحيب أن تكون العزة ل
ولرسوله وللمؤمنين ،الذي يريد أن تسود كلمة الحق وأن تخمد كلمة الباطل.
ومييع ذلك كله فإن هذا العلم الي ُيتَعلّم يجييب أن ندرك جميعاً أنييه ليييس نظريات وإنمييا هييو منهييج
تربوي ،منهجٌي ربانيي يجيب علييه النسيان؛ فالعلم الشرعيي لييس هيو مسيائل يتعلمهيا النسيان ليتقين
حفظها وفهمها فحسب ،وإنما هو منهج رباني يجب أن يعيش النسان عليه وأن يموت عليه ،وال
حمّلوا
سبحانه وتعالى قد نعى على أهل الكتاب أنهم لم يتحملوا أمانته بحق عندما قال " :مثل الذين ُ
التوراة ثييم لم يحملوهييا كمثييل الحمار يحمييل أسييفاراً بئس مثييل القوم الذييين كذبوا بآيات ال وال ل
يهدي القوم الظالمين " .هذا المثل كما انطبق على أهل الكتاب ينطبق على هذه المة إن لم تتحمّل
أمانة القرآن بحق وإن لم يكن هذا القرآن يتمثل واضحًا جلياً في تصرفاتها وفي أعمالها؛ ومن هنا
كان الواجيييب على طالب العلم أن يتقيييي ال سيييبحانه وتعالى وأن يخلص له عمله وأن يخلص له
طلبه للعلم وأن يعيش ما بين زملئه وما بين إخوانه وفي مجتمعه وما بين أمته مشعل هداية يرى
الناسُ الحق ماثلً في سلوكه ويدعو الناس إلى الحق بأعماله أكثر مما يدعوهم بأقواله ،وهكذا كان
السلف الصالح ،فالذين رباهم رسول ال صلى ال عليه وسلم على مائدة القرآن إنما كانوا يتمثلون
هذا القرآن ،كانوا أحرص ما يكونون على تجسيد تعاليمه وقيمه وترجمة هدايته ومراشده في كل
تصرفاتهم وفي كل أعمالهم ،فلذلك انساق الناس إلى اعتناق هذا الدين ودخلوا فيه أفواجاً بقناعتهم
بأن هذا الديين الذي شاهدوه فيي سيلوك الدعاة إلييه هيو الحيق الميبين ،والذيين دخلوا فيي هذا الديين
معظمهيم ميا كانوا يحسينون لغية القرآن التيي كان ينطيق بهيا أولئك الدعاة وأولئك الدعاة ميا كانوا
يحسنون لغة أولئك المدعوين ،ولكن كان سلوك الدعاة ذا أثر بالغ في نفوس الناس ،فتسابق الناس
إلى اتباع هذا الديين ودخلوا فييه أفواجًا بمشيئة ال سيبحانه وتعالى ،ميع أن ذلك العهيد كميا تعلمون
جميعًا لم تكين تتوفير فييه الوسيائل التيي تتوفير فيي عصيرنا هذا ،لم تكين تتوفير فييه وسيائل العلم
التيي تتوفير فيي هذا العصير وإنميا كانيت وسييلة العلم الكلمية وحدهيا ولكين الكلمية كانيت تنبيع مين
أعماق النفيس فل تقيف حتيى تغوص فيي أعماق النفيس أيضاً؛ وميا كانيت عندهيم وسيائل مواصيلت
التي هي متوفرة في هذا الوقت وإنما كانت وسائل بدائية إما أن يكونوا مشا ًة على القدام وإما أن
يكونوا ركباناً على ظهور الدواب وإمييييا أن يكونوا ركاباً على ألواح البحيييير ،هكذا كانوا يكابدون
غصيص الحياة فيي ذلك الوقيت ويعانون شدائدهيا وميع ذلك نشروا كلمية ال فيي أصيقاع الرض،
وكانوا كميا يقول نابليون القائد الفرنسيي الشهيير ( :لقيد افتتيح العرب نصييف الكرة الرضيية فيي
نصيف قرنٍي مين الزمان ) .هذا أم ٌر يحيير اللباب ،ولكين الذي يدرك السير يعرف أبعاده ويكشيف
طواياه ،فالسيير إنمييا يكميين فييي اتباع أولئك الناس الذييين كانوا دعاة وكانوا فاتحييين لتعاليييم الحييق،
فالناس كانوا ظامئييين بفطرتهييم إلى مثييل هذه التعاليييم وأدركوا بغيتهييم مين خلل اتصييالهم بهؤلء
الدعاة واتصال الدعاة بهم ورأوا الحق ماثلً في سلوك الدعاة.
7
عظمة العلم
محاضرة لسماحة الشيخ الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان
وميين هنييا كان الواجييب على طالب العلم قبييل كييل شيييء أن يكون حسيين الخلق فييي تعامله مييع
مدرسيه ،وأن يكون حسين الخلق فيي تعامله ميع إخوانيه وزملئه الطلبية فل يسيتعلي الكيبير على
الصغير ول يحتقر الفاهم غير الفاهم ول يحتقر الذكيُ الغبي ،وإنما يحرص على تعليمه ويحرص
على مساعدته في المذاكرة ويحرص على إرشاده بحسب ما يمكنه ،على الجميع أن يكونوا إخواناً
كميا يقول الرسيول صيلى ال علييه وسيلم (( :ترى المؤمنيين فيي توادهيم وتراحمهيم وتعاطفهيم كمثيل
الجسييد إذا اشتكييى له عضوٌ تداعييى له سييائر الجسييد بالحمييى والسييهر )) .وإذا كان هذا فيمييا بييين
المؤمنيين جميعًا ميع بعيد فناء ديارهيم وميع عدم اجتماعهيم جميعاً فيي مكانٍي واحيد فكييف إخوانٍي
زملء فيييي طلب العلم ،كييييف ل يكونون متعاونيييين على الخيييير يحرص كيييبيرهم على إرشاد
صيغيرهم ويحرص ذكيهيم على تنيبيه غيبيهم حتيى يكونوا جميعًا فيي الرشيد وفيي الخيير سيواء؟!!
على أن الرسييول صييلى ال عليييه وسييلم يقول (( :ل يؤميين أحدكييم حتييى يحييب لخيييه مييا يحييب
لنفسيه )) ،فمحبية الخيير للخ إنميا هيي مين معالم اليمان وهيي دلييل لتصيال هذا المؤمين بربيه
سيبحانه وتعالى ،فإن ال سيبحانه وتعالى يحيب مين عباده أن يكونوا متعاونيين على الخيير متآزريين
عليه يشد بعضهم أزر بعض.
وميع حسين المعاملة المطلوبية فيميا بيين الطلبية أنفسيهم يُطلب منهيم أيضاً أن يحسينوا التعاميل ميع
الخريين ،فإذا واجهوا العوام الذيين ل يعرفون مين أمير دينهيم شيئًا ل يحتقروهيم مين أجيل عاميّتهيم
وجهلهيم بيل عليهيم أن يذكّروهيم ويدركوا أن تعلييم أولئك وإرشادهيم ودعوتهيم إلى الخيير أمان ٌة فيي
أعناقهم ،وأن ال سبحانه وتعالى يسألهم عن ذلك يوم القيامة.
ثم أريد أن أعود مر ًة أخرى إلى ما بدأته من قبل عندما قلت بأن في قول الحق سبحانه وتعالى" :
إقرأ باسييم ربييك الذي خلق * خلق النسييان ميين علق * " تذكيراً لهذه الميية وتنييبيهًا لهييا بأن هذه
الرسالة هي رسالة عل ٍم يُطلب ويُحصّل ولذلك أمر ال سبحانه وتعالى رسوله صلى ال عليه وسلم
بالقراءة عندمييا قال له " :اقرأ " ،أريييد أن أعود إلى ذلك مر ًة أخرى فأقول إن وقييت الطالب هييي
غنيمةٌ له فإن أضاعوا وقتيه فقيد فرّط فيي غنيمتيه..فراغ الطالب غنيمية ،فعلى الطالب أن يسيتغل
وقتيه فيي المذاكرة؛ وقيد سيمعت أحيد شيوخنيا – رحمهيم ال – يقول :إن طالب العلم كمثيل الجميل
يأكيييل بالنهار ويجترّ باللييييل ،فهيييو يحرص على أن يدرس فيييي النهار ويحرص بعيييد ذلك على
ل ول نهاراً..ما تلقاه من العلم في نهاره يعود إليه في الليل المذاكرة في الليل ،ل يفرط في وقته لي ً
ويحرص على مذاكرتيه ليرسيخ فيي قرارة نفسيه ،فإن السيلف يقولون :حرفٌي بقلبيك خي ٌر مين ألفٍي
بكتبيك..ويقول العلماء المعاصيرون :حرفٌي برأسيك خي ٌر مين ألفٍي فيي كتاب .فحرص النسيان على
دراسية العلم فيي جمييع أوقاتيه ميع عدم التفرييط فيي شي ٍء مين هذه الوقات مميا ل بيد منيه لطالب
العلم ،وعلى طلبيية العلم أن يدركوا أن المشائخ إنمييا عليهييم أن يأخذوا بأيديهييم إلى طريييق العلم،
فالمشائخ ل يلقنونهيم كيل شيءٍ ،إنميا المشائخ يلقنونهيم ميا ُقرّر فيي الدراسية مميا يتسيع له الوقيت،
ولكين على طالب العلم بعيد ذلك أن يجهيد بنفسيه ،أن يجهيد فيي المذاكرة ،وأن يجهيد فيي المطالعية،
فيي مطالعية ميا لم يتلقيه مين الشييخ؛ فالشييخ إنميا يفتيح له باب المطالعية مين خلل تلقينيه ميا يلقّنهي فيي
المادة التييي يعلمييه إياهييا ،وليييس على الشيييخ أن يعلمييه كييل شيييء ،إنمييا الطالب يعتمييد على
اجتهاده..يعتمييد على دأبييه ..يعتمييد على ذكائه الذي ينمّيييه بكثرة الجتهاد والسييير قدماً فييي طريييق
تحصيل العلم.
فأسيأل ال سيبحانه وتعالى أن يوفقنيا وإياكيم لن يعلمنيا ميا لم نكين نعلم وأن يفهمنيا ميا لم نكين نفهيم
وأن يهدينيا إلى الطرييق القوم وأن يوفقنيا للعميل بميا نعلم ،إنيه بالجابية جديير نعيم المولى ونعيم
النصير.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت ال ل إله إل أنت الواحد الحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد
ولم يكين له كفوًا أحيد ،نسيألك ربنيا أن تبدلنيا بكيل جهلٍ علميا ،وبكيل غيٍي رشداً وبكيل ضلل ٍة هدىً
وأن تجعيل لنيا إلى كيل خيرٍ سيبيل .اللهيم علمنيا ميا لم نكين نعلم وفهمنيا ميا لم نكين نفهيم واهدنيا إلى
الطريييق القوم ووفقنييا إلى العمييل بمييا نعلم يييا ال يييا ذا الجلل والكرام .اللهييم آت أنفسيينا تقواهييا
وزكهيا أنيت وليهيا ومولهيا لك مماتهيا ومحياهيا أنيت خيير مين زكاهيا ،وصيلى اللهيم وسيلم وبارك
8
عظمة العلم
محاضرة لسماحة الشيخ الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان
على عبدك ورسييولك سيييدنا محمييد وعلى آله وصييحبه أجمعييين .سييبحان ربييك رب العزة عمييا
يصفون ،وسلمٌ على المرسلين والحمد ل رب العالمين.
وشكراً لكم والسلم عليكم ورحمة ال وبركاته.
9