الفسق والنفاق
تأليف
فضيلة الشيخ الدكتور
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
شبكة نور السلم
www.islamlight.net
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
بسم الله الرحمن الرحيم
أول ً :الفسق
مقدمة
إن الحمد لله ،نحمده ،ونستعينه ،ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور
ل فل ل له ،ومن ُيضل ِ ْ مض ّ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من يهده الله فل ُ
هاديَ له ،وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمدا ً
عبده ورسوله .
أما بعد :
فتظهر أهمية دراسة موضوع ))الفسق(( عندما نعلم أن أول نزاع ظهر في
السلم كان في مسألة الفاسق الملي) ،(1فقد أحدث الخوارج القول
حدين وتخليدهم في النار ،وزعمت المرجئة أن أولئك عصاة المو ّ بتكفير ُ
الُعصاة كاملو اليمان ،وقالت المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين في الدنيا ،مع
الّتخليد في النار في الخرة.
وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه ،فقالوا عن أولئك
الُعصاة :إنهم مؤمنون ،ناقصو اليمان ،أو مؤمنون بإيمانهم ،فاسقون
بمعاصيهم ،وأنهم تحت مشيئة الله في الخرة ،إن شاء عذبهم بعدله ،وإن
شاء غفر لهم برحمته.
ن الفسق من الوعيد الذي يترّتب عليه نتائج وتبعات ،كما قال ابن كما أ ّ
تيمية )) :اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل ))السماء
والحكام(( التي يتعّلق بها الوعد والوعيد في الدار الخرة ،وتتعلق بها
ذر النبي ـ صلى الله الموالة والمعاداة .(2)((...إضافة إلى ذلك فقد ح ّ
جة،
عليه وسلم ـ من الحكم بالفسق على شخص ما دون بينة ،وإقامة للح ّ
لَ)) :ل فَعن أ َبي ذ َر رضي الل ّه ع َن َ
قو ُ م يَ ُسل ّ َ
ه ع َل َي ْهِ وَ َصّلى الل ّ ُ ي َ معَ الن ّب ِ ّ
س ِه َ ه أن ّ ُُ ْ ُ ّ َ ِ َ َ ْ ِ
م ي َك ُ ْ
ن َ
نل ْ َ
ت ع َلي ْهِ إ ِ ْ ّ
فرِ إ ِل اْرت َد ّ ْ ْ
ميهِ ِبالك ُ ْ َ
ق وَل ي َْر ِ سو ِ
ف ُ ْ
جل ِبال ًُ ل َر ُ ج ٌ مي َر ُ ي َْر ِ
ك(( ).(3 ه ك َذ َل ِ َ حب ُ ُ
صا َِ
• يقول الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث :قوله )) :إل ارتدت
عليه (( ،يعني :رجعت عليه ،وهذا يقتضي أن من قال لخر :أنت
فاسق ،فإن كان ليس كما قال ،كان هو المستحق للوصف المذكور ،
وأنه إذا كان كما قال لم يرجع عليه شيء ،لكونه صدق فيما قال :
ولكن ل يلزم من كونه ل يصير بذلك فاسقا ً ،أن ل يكون آثما ً في
- 1انظر :مجموع الفتاوى لبن تيمية ). (3/182) (7/479
-2مجموع الفتاوى ).(12/468
-3أخرجه البخاري،كتاب الدب ح)،(6045ولمسلم نحوه،كتاب اليمان ح)(61
- 4فتح الباري ) (10/466باختصار.
-5مجموع الفتاوى ) ، (3/229وانظر :الروض الباسم لبن الوزير ). (2/112
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
صورة قوله له :أنت فاسق ،بل في هذه الصورة تفصيل :إن قصد
نصحه ،أو نصح غيره ببيان حاله جاز ،وإن قصد تعييره بذلك ومحض
أذاه لم يجز ؛ لنه مأمور بالستر عليه ،وتعليمه وعظته بالحسنى ،
فمهما أمكنه ذلك بالّرفق ل يجوز له أن يفعله بالعنف ؛ لنه قد يكون
سببا ً لغرائه وإصراره على ذلك الفعل ،كما في طبع كثير من الناس
من النفة ،ل سيما إذا كان المر دون المأمور في المنزلة (( ). (4
• يقول ابن تيمية )) :إني من أعظم الناس نهيا ً عن أن ُينسب معين إلى
جةعلم أنه قد قامت عليه الح ّ
تكفير ،وتفسيق ،ومعصية ،إل إذا ُ
الرسالّية التي من خالفها كان كافرا ً تارة ،وفاسقا ً أخرى ،وعاصيا ً
أخرى (( ). (5
ومما يؤكد أهمية دراسة هذا الموضوع ،أن الفسق اسم عام يشمل الكفر،
والكبائر ،وبقية المعاصي،كما سيأتي بيانه –إن شاء الله تعالى -ولذا يتعين
العلم بحد الفسق وإطلقاته ،ولعل في الصفحات التالية ما يحقق شيًئا من
ذلك والله حسبنا ونعم الوكيل .
معنى الفسق
الفسق لغة :الخروج عن الشيء ،أو القصد ،وهو الخروج عن الطاعة .
والفسق :الفجور ،والعرب تقول :إذا خرجت الرطبة من قشرها :قد
فسقت الرطبة من قشرها .
ون على نفسه ،واتسعوفسق فلن في الدنيا فسقا ً :إذا اتسع فيها ،وه ّ
بركونها لها ،لم يضّيقها عليه .
سق .ف ْ
سق :دائم ال ِ ورجل فاسق ،وفسيق وفُ َ
والفويسقة الفأرة :تصغر فاسقة ،لخروجها من جحرها على الناس
وإفسادها ،والتفسيق ضد ّ الّتعديل ). (1
حا :فقد تنوعت عبارات العلماء في ذلك، وأما المقصود بالفسق اصطل ً
فنذكر منها ما يلي :
* يقول ابن عطية':الفسق في عرف الستعمال الشرعي :الخروج من
طاعة الله ـ عز وجل ـ فقد يقع على من خرج بكفر ،وعلى من خرج
بعصيان ((. 2
3
وكذا قال القرطبي
-12انظر :اللسان ) (10/308ومعجم مقاييس اللغة ) ، (2/502والمصباح المنير
للفيومي ص ) ، (568وترتيب القاموس المحيط للزاوي ) ، (4/502ومفردات الراغب
ص ). (572
- 2تفسير ابن عطية).(1/155
- 33تفسير القرطبي).(1/245
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
• وقال الشوكاني :عن هذا التعريف )) :وهذا هو أنسب بالمعنى اللغوي
4
،ول وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض ((
5
• وقال البيضاوي )) :الفاسق الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ((
عا :خروج العقلء عن الطاعة ،فيشمل الكفر وقال اللوسي)) :الفسق شر ً
ودونه من الكبيرة والصغيرة ،واختص في العرف والستعمال بارتكاب
الكبيرة ،فل يطلق على ارتكاب الخرين إل نادًرا بقرينة (( .6
من خلل التعريفات السابقة :ندرك عموم مصطلح الفسق ،فهو في
م من الكفر 7 -حيث يشمل الكفر وما دونه من المعاصي ، الصل – أع ّ
صه العرف بمرتكب الكبيرة ،ولذا يقول الراغب الصفهاني : ولكن خ ّ
)) والفسق يقع بالقليل من الذنوب والكثير ،ولكن تعورف فيما كان
8
كثيرا ً ((
أقسام الفسق وإطلقاته:
الفسق له عدة أقسام باعتبارات مختلفة .
فهو ينقسم إلى:
فسق يخرج عن السلم ،وفسق ل يخرج عن السلم.
• قال ابن عباس – رضي الله عنهما )) : -كل شيء نسبه الله إلى غير
أهل السلم من اسم مثل خاسر ،ومسرف ،وظالم ،وفاسق ،فإنما
9
يعني به الكفر ،وما نسبه إلى أهل السلم فإنما يعني به ال ّ
ذنب ((
)) وقد روي عن ابن عباس وطاووس وعطاء وغير واحد من أهل العلم ،
قالوا :كفر دون كفر ،وفسوق دون فسوق (( .10
قال محمد بن نصر المروزي رحمه الله )) :والفسق فسقان :فسق ينقل
قا ،والفاسق من عن الملة ،وفسق ل ينقل عن الملة ،فيسمى الكافر فاس ً
قا(( .11
المسلمين فاس ً
-44فتح القدير ). (1/57
-55تفسر البيضاوي )(1/41وانظر :تفسير أبي السعود ). (1/131
- 66تفسير اللوسي ).(1/210
-77انظر :تفسير ابن كثير ) ، (1/63ومفردات الراغب ص ) ، (572ونزهة العين
النواظر لبن الجوزي ) ، (2/72والكلّيات للكفوي ص ). (693
-88المفردات ص ).(572
-99انظر :تفسير ابن جرير ) ، (1/142والدرر المنثور للسيوطي ). (1/105
-1010أخرجه الترمذي في السنن ،كتاب اليمان .
-1111تعظيم قدر الصلة ). (2/526
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
م ل بد من التنويه به ،وهو أن اليمان لما كان شعبا ً • وها هنا أمر مه ّ
صادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في حديث ددة كما أخبر ال ّ متع ّ
12
شعب اليمان
فإن ما يقابله ويضاده كذلك ،فالكفر شعب ومراتب ،فمنه ما ُيخرج من
المّلة ،ومنه كفر دون كفر ،وكذا النفاق ،والشرك ،والفسق ،والظلم ،
13
وهذا أصل عظيم تمّيز به أهل السنة عن المبتدعة من الوعيدية والمرجئة
وفسق الكفر قد يكون اعتقاديا ً ،وقد يكون عملي ّا ً .
ومثال العتقادي :فسق المنافقين زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
وما ً م قَ ْ م ُ
كنت ُ ْ م إ ِن ّك ُ ْ
منك ُ ْ
ل ِ وعا ً أ َوْ ك َْرها ً ّلن ي ُت َ َ
قب ّ َ ل َأنفِ ُ
قوا ْ ط َ ْ قال تعالى )) :قُ ْ
ن (( )التوبة . (53: قي َ َفا ِ
س ِ
ن ( )التوبة . (53:تعليل لعدم قبول نفقاتهم قي َ س ِوما ً َفا ِم قَ ْ م ُ
كنت ُ ْ فقوله ) :إ ِن ّك ُ ْ
14
ن (( )التوبة . (67 :
قو َ
س ُ م ال ْ َ
فا ِ ن هُ ُ
قي َ ن ال ْ ُ
مَنافِ ِ وقال تعالى )) :إ ِ ّ
* قال الشوكاني )) :وهذا الترتيب ُيفيد أنهم هم الكاملون في الفسق ((
15
ومثال الفسق العملي المخرج عن الملة :فسق إبليس ،حيث قال الله
دوا إ ِّل إ ِب ِْلي َ
س ج ُ م فَ َ
س َ دوا ِلد َ َ ج ُ
س ُ مَلئ ِك َةِ ا ْ ل )) : -وَإ ِذ ْ قُل َْنا ل ِل ْ َ تعالى – عّز وج ّ
َ َ َ
م
دوِني وَهُ ْ من ُ ه أوْل َِياء ِ ه وَذ ُّري ّت َ ُذون َ ُ مرِ َرب ّهِ أفَت َت ّ ِ
خ ُ نأ ْ سقَ ع َ ْ ف َ ن فَ َ ن ال ْ ِ
ج ّ م َ ن ِكا َ َ
ن ب َد َل ً (( ).الكهف . (50: مي َ ظال ِ ِس ِلل ّ م ع َد ُوّ ب ِئ ْ َ ل َك ُ ْ
ففسق إبليس إنما كان بتركه للسجود ،وامتناعه عن اتباع أمر ربه – عّز
16
ل – وهذا الّترك يعد ّ فعل ً وعمل ً – كما هو مقّرر في كتب الصول - وج ّ
• وفسق الكفر هو المذكور في غالب آيات القرآن الكريم ،وكما قال ابن
الوزير )) :قد ورد في السمع ما يدل على أن الفاسق في زمان النبي،
ن
صلى الله عليه وسلم ،يطلق على الكافر كثيًرا ،كقوله تعالى )) :إ ِ ّ
ن (( )التوبة . (67 : قو َ س ُ فا ِ م ال ْ َ
ن هُ ُ قي َمَنافِ ِال ْ ُ
ن
قو َ س ُفا ِ فُر ب َِها إ ِّل ال ْ َ
ما ي َك ْ ُ ت وَ َ ت ب َي َّنا ٍك آَيا ٍ قد ْ أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ • وقوله تعالى )) :وَل َ َ
(( )البقرة . (99 :
-1212وهو قوله صلى الله عليه وسلم :اليمان بضع وستون شعبة أعلها قول ل إله إل
الله وأدناها إماطة الذى عن الطريق (( ..أخرجه البخاري ،كتاب اليمان ح ). (9
ومسلم ،كتاب اليمان ح). (35
-1313انظر :كتاب الصلة لبن القيم ص ). (58-53
-1414انظر :فتح القدير للشوكاني ) . (2/369
-1515فتح القدير ). (2/379
-1616انظر :روضة الناظر لبن قدامة ص ) ، (54وإرشاد الفحول للشوكاني ص )(52
.والقواعد الصولية لبن اللحام ص ) ، (62ويقول الشوكاني في تفسيره ): (2/158
)) وإطلق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعا ً (( .
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
دوا َأن َ قوا فَ ْ َ
ما أَرا ُ م الّناُر ك ُل ّ َ مأَواهُ ُ َ س ُ ن فَ َ ذي َ ما ال ّ ِ • وقوله تعالى )) :وَأ ّ
ه
كنُتم ب ِ ِ ذي ُ ب الّنارِ ال ّ ِ ذا َ ذوُقوا ع َ َ م ُ ل ل َهُ ْ دوا ِفيَها وَِقي َ عي ُ من َْها أ ُ ِ جوا ِ خُر ُ يَ ْ
ن (( ) السجدة . (20 : ت ُك َذ ُّبو َ
وذكر آيات كثيرة ثم قال:
)) فهذه اليات دالة على أن الفاسق في العرف الول يطلق على الكافر،
17
ويسبق إلى الفهم (( .
وسنورد إضافة إلى ما سبق بعض الدلة كأمثلة على فسق الكفر .
وما ً كاُنوا قَ ْ م َ ل إ ِن ّهُ ْ من قَب ْ ُ ح ّ قال الله تعالى عن قوم نوح )) :وَقَوْ َ
م ُنو ٍ
ن (( )الذاريات . (46: قي َ س ِ َفا ِ
ن
م ْ ضاء ِ ج ب َي ْ َ خُر ْ ك تَ ْ جي ْب ِ َ ك ِفي َ ل ي َد َ َ خ ْ وقال تعالى عن فرعون وقومه )) :وَأ َد ْ ِ
ن (( قي َ س ِ وما ً َفا ِ كاُنوا قَ ْ م َ مهِ إ ِن ّهُ ْ ن وَقَوْ ِ ت إ َِلى فِْرع َوْ َ سِع آَيا ٍ سوٍء ِفي ت ِ ْ غ َي ْرِ ُ
)النمل . (12 :
ب إ ِّني ل َر ّ ل عن اليهود على لسان موسى عليه السلم َ)) :قا َ وقال عّز وج ّ
ل فَإ ِن َّها ن * َقا َ قوْم ِ ال ْ َ ن ال ْ َ َ ك إ ِل ّ ن َ ْ مل ِ ُ َ
قي َ س ِ فا ِ َ خي َفافُْرقْ ب َي ْن ََنا وَب َي ْ سي وَأ ِ ف ِ لأ ْ
قوْم ِ ال ْ َ س ع ََلى ال ْ َ ْ َ ة ع َل َيه َ
ن
قي َ س ِ فا ِ ض فَل َ ت َأ َ ن ِفي الْر ِ ة ي َِتيُهو َ سن َ ً ن َ م أْرب َِعي َ ِْ ْ م ٌ حّر َ م َ
ُ
(( ) المائدة . (26-25 :
م إ ِّل اب ْت َِغاء ها ع َل َي ْهِ ْ ما ك َت َب َْنا َ ها َ عو َ ة اب ْت َد َ ُ وقال سبحانه عن النصارى )) :وََرهَْبان ِي ّ ً
َ
م وَك َِثيٌر جَرهُ ْ مأ ْ من ْهُ ْ مُنوا ِ نآ َ ذي َ عاي َت َِها َفآت َي َْنا ال ّ ِ حقّ رِ َ ها َ ما َرع َوْ َ ن الل ّهِ فَ َ وا ِ ض َ رِ ْ
ن (( ) الحديد . (27 : قو َ س ُم َفا ِ من ْهُ ْ ّ
ً ً
وجاء في حديث لبن مسعود – رضي الله عنه – مرفوعا تفسيرا لهذه
ذبوا دقوا بي ،والفاسقون الذين ك ّ الية )) فالمؤمنون الذين آمنوا بي ،وص ّ
بي وجحدوا بي (( . 18
ف وَِإن ي َظ ْهَُروا ساقا ً ،فقال سبحانه )) :ك َي ْ َ مى الله تعالى المشركين ف ّ وس ّ
َ ْ َ
مم وَأك ْث َُرهُ ْ م وَت َأَبى قُُلوب ُهُ ْ واه ِهِ ْ كم ب ِأفْ َ ضون َ ُ ة ي ُْر ُ م ًم إ ِل ّ وَل َ ذ ِ ّ م ل َ ي َْرقُُبوا ْ ِفيك ُ ْ ع َل َي ْك ُ ْ
ن(( ) التوبة . (8 : قو َ س ُ َفا ِ
شرك فسقا ً ،فقال سبحانه : ص القرآني بتسمية بعض أفراد ال ّ وجاء ْالن ّ
سقٌ (( ) النعام . (121 : ف ْ ه لَ ِ م الل ّهِ ع َل َي ْهِ وَإ ِن ّ ُ س ُ م ي ُذ ْك َرِ ا ْ ما ل َ ْ م ّ ))وَل َ ت َأك ُُلوا ْ ِ
19
فقد حمل الشافعي – رحمه الله – ذلك على ما ذبح لغير الله
ُ م ال ْ ِ
ما أه ِ ّ
ل زيرِ وَ َ خن ْ ِ ح ُ م وَل َ ْ ة َوال ْد ّ ُ مي ْت َ ُ م ال ْ َ ت ع َل َي ْك ُ ُ م ْ حّر َ ل ُ )) : - وقال – عّز وج ّ
َ
ماسب ُعُ إ ِل ّ َ ل ال ّ ما أك َ َ ة وَ َ ح ُطي َ ة َوالن ّ ِ مت ََرد ّي َ ُ موُْقوذ َة ُ َوال ْ ُ ة َوال ْ َ ق ُ خن ِ َمن ْ َ ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ َوال ْ ُ
-1717العواصم والقواصم ) (161-2/160باختصار ،وانظر إيثار الحق على الخلق لبن
الوزير ص ) ، (451وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا ). (1/238
-1818أخرجه ابن أبي عاصم في السنة ح ) ، (71والطبراني في الكبير )، (10357
وقواه ابن كثير في تفسيره ). (4/338
-1919انظر :تفسير ابن كثير ). (2/161
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
َ َ
سقٌ (( ) المائدة موا ْ ِبالْزل َم ِ ذ َل ِك ُ ْ
م فِ ْ س ُ
ق ِ ست َ ْ
ب وَأن ت َ ْ ح ع ََلى الن ّ ُ
ص ِ ما ذ ُب ِ َ
م وَ َذ َك ّي ْت ُ ْ
. (3 :
ق( إشارة إلى الستسقام بالزلم أو س ٌ م فِ ْ يقول الشوكاني )) :قوله ) :ذ َل ِك ُ ْ
إلى جميع المحّرمات المذكورة هنا .
والفسق :الخروج عن الحد ّ ،وفي هذا وعيد شديد ؛ لن الفسق هو أشد ّ
الكفر ل ما وقع عليه اصطلح قوم من أنه منزلة متوسطة بين اليمان
20
والكفر
وإذا انتقلنا إلى الفسق الذي ل يخرج من الملة فيمكن تقسيمه إلى فسق
العتقاد ،وفسق العمل.
• ومثال فسق العتقاد ها هنا :ما قاله ابن القيم )) :فسق أهل البدع
الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الخر ،ويحرمون ما حرم الله،
ويوجبون ما أوجب الله ،ولكن ينفون كثيًرا مما أثبت الله ورسوله ،جهل ً
دا للشيوخ ،ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك . ل ،وتقلي ً وتأوي ً
• وهؤلء كالخوارج المارقة ،وكثير من الروافض ،والقدرية ،والمعتزلة
غلة في التجهم . وكثير من الجهمية الذين ليسوا ُ
• وأما غلة الجهمية فكغلة الرافضة ،ليس للطائفتين في السلم
نصيب(( . 21
فالفسق أعم من البدعة ،حيث ُيطلق الفسق على البدعة وغيرها؛ ولذا •
عا (( . 22
قال ابن الصلح)) كل مبتدع فاسق ،وليس كل فاسق مبتد ً
ويدل على ذلك ما ورد عن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – من •
تسمية الخوارج فاسقين . 23
وكذا كان شعبة بن الحجاج رحمه الله يسميهم الفاسقين 24لن •
الخوارج خرجوا عن طريق الحق ،ومرقوا من الدين بشهادة رسول
الله صلى الله عليه وسلم كما خرجوا على خيار المسلمين .
وأما فسق العمل فأمثلته كثيرة :وإطلقاته متعددة ،كما جاء ذلك في
النصوص الشرعية ،وآثار أهل العلم ،ولعل ما يضبط ذلك ما قاله النووي
فتح القدير ). (2/10 -2020
مدارج السالكين ). (1/362 -2121
فتاوى ابن الصلح ص ) (28ضمن مجموعة الرسائل المنبرية ج ). (4 -2222
أخرجه البخاري ،كتاب التفسير ح ). (4728 -2323
انظر :العتصام للشاطبي ) ، (1/84تحقيق :سليم الهللي . -2424
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
رحمه الله )) :وأما الفسق فيحصل بارتكاب الكبيرة ،أو الصرار على
الصغيرة (( . 25
فأما ضابط الكبيرة فقد اختلف في ذلك العلماء اختلفا ً كثيرا ً 26ولعل أصح
القوال في هذه المسألة أن الكبيرة :هي ما فيها حد في الدنيا ،أو وعيد
خاص في الخرة ،كالوعيد بالنار ،والغضب ،واللعنة ،وأن الصغيرة ما ليس
له حد في الدنيا ول وعيد في الخرة.
وهذا المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما ،وابن عيينة ،وأحمد بن حنبل،
27
وأبي عبيد القاسم بن سلم
ً
قال ابن الصلح ) :الكبيرة كل ذنب كبر وعظم عظما يصح مع أن ُيطلق
عليه اسم الكبيرة ،ووصف بكونه عظيما ً على الطلق ،فهذا فاصل لها عن
الصغيرة التي وإن كانت كبيرة بالضافة إلى ما دونها فليست كبيرة يطلق
عليها الوصف بالكبر والعظم إطلقا ً ،ثم إن لكبر الكبيرة وعظمها أمارات
معّرفة بها ،منها إيجاب الحد ،ومنها اليعد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في
صا ً ،ومنها اللعن كما فيالكتاب والسنة ،ومنها وصف فاعلها بالفسق ن ّ
28
قوله صلى الله عليه وسلم )) :لعن الله من غّير منار الرض (( في
29
أشباه لذلك ل نحصيها ((
• وقال العز بن عبد السلم )) :إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر
والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها ،
ل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر ،وإن ساوت فإذا نقصت عن أق ّ
30
أدنى مفاسد الكبائر وأربت عليها فهي من الكبائر ((
• ويقول في موضوع آخر )) :والولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر
بتهاون مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك ((
31
-2525فتاوى النووي ص ). (261
-2626انظر :صحيح مسلم بالنووي ) ، (87-2/84ومجموع فتاوى ابن تيمية )-11/650
(660وشرح الطحاوية ) ، (527-2/525ومدارج السالكين ) ، (327-1/320والجواب
الكافي ص ) (171-168وشرح رسالة الصغائر والكبائر لبن نجيم ،وفتح الباري )
، (412-10/409والزواجر للهيتمي ). (10-1/5
-2727انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ) ،( 650/ 11وشرح الطحاوية )،( 2/526
وأضواء البيان للشنقيطي ).(7/199
أخرجه مسلم ،كتاب الضاحي ،ح ). (1978 -2828
فتاوى ابن الصلح ص ) (8ضمن مجموعة الرسائل المنبرية ج ). (4 -2929
قواعد الحكام ). (1/19 -3030
قواعد الحكام ). (1/22 -3131
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
32
• قال ابن حجر ) )هو ضابط جّيد ((
طن له ،وهو أن الكبيرة قد وإذا تقرر ضابط الكبيرة ،فهاهنا أمر ينبغي التف ّ
يقترن بها من الحياء ،والخوف ،والستعظام لها – ما يلحقها بالصغائر ،
وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالة وترك الخوف والستهانة
بها ما يلحقها بالكبائر ،بل يجعلها في أعلى رتبها .
وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب ،وهو قدر زائد على مجرد
33
الفعل (( ...
وأما ضابط الصرار على الصغيرة ،فكما قال العّز بن عبد السلم )) :إذا
تكّررت منه الصغيرة تكررا ً يشعر بقلة مبالت بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة
بذلك ،وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة النواع بحيث يشعر مجموعها بما
يشعر أصغر الكبائر (( . 34
ومن خلل استقراء جملة من النصوص والثار ،فإننا نسوق طرفا ً من
الطلقات على هذا الفسق العملي ،كما يلي :
ن
مو َ ن ي َْر ُ قا ،كما جاء في قوله تعالىَ )) :وال ّ ِ
ذي َ فيسمى القاذف فس ً
قب َُلوا ل َهُ ْ
م جل ْد َة ً َول ت َ ْ ن َ ماِني َ م ثَ َدوهُ ْجل ِ ُ داَء َفا ْ
شه َ َ م ي َأ ُْتوا ب ِأْرب َعَةِ ُ
َ
م لَ ْ ت ثُ ّ صَنا ِ
ح َ م ْ ال ْ ُ
ن (( ) النور . (4 : قو َ س ُفا ِ م ال ْ َ شَهاد َة ً أ ََبدا ً وَُأول َئ ِ َ
ك هُ ُ َ
َ
ن
مُنوا إ ِ ْ نآ َ ذي َ قا ،كما في قوله تعالىَ )) :يا أي َّها ال ّ ِ 35
ويطلق على الكاذب فاس ً
َ
مما فَعَل ْت ُ ْ حوا ع ََلى َ جَهال َةٍ فَت ُ ْ
صب ِ ُ وما ً ب ِ َصيُبوا قَ ْ ن تُ ِ سقٌ ب ِن َب َأ ٍ فَت َب َي ُّنوا أ ْ م َفا ِ جاَءك ُ ْ َ
ن (( ) الحجرات . (6 : مي َ َناد ِ ِ
• ويقول الللكائي :عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
36
)) سباب المسلم فسوق ((
ب المسلم وقذفه فقد كذب ،والكذاب فاسق ، • إن المسلم إذا س ّ
37
فيزول عنه اسم اليمان
َ
شهٌُر جأ ْ ح ّ * وتسمى محظورات الحرام فسوًقا ،حيث يقول تعالى)) :ال ْ َ
ل ِفي دا َج َسوقَ َول ِ ث َول فُ ُ ج َفل َرفَ َ ح ّ ن ال ْ َ ض ِفيهِ ّ ن فََر َ م ْ ت فَ َ ما ٌ معُْلو َ َ
ج ) (( ..البقرة . (197 :فالفسوق ها هنا محظورات الحرام كما ح ّ ال َ ْ
اختاره ابن جرير وغيره.
ب ْ َ ْ َ
* ويعد التنابز باللقاب فسوًقا ،كما في قوله تعالى )) :وَل ت ََناب َُزوا ِبالل َ
قا ِ
ن ( ) الحجرات . (11 : ما ِ سوقُ ب َعْد َ ا ْ ِ
لي َ ف ُ م ال ْ ُ س ُس اِل ْ ب ِئ ْ َ
فتح الباري ). (10/411 -3232
مدارج السالكين ). (1/328 -3333
قواعد الحكام ). (23 ،1/22 -3434
انظر :نزهة العين النواظر لبن الجوزي . (02/72 -3535
أخرجه البخاري ،كتاب اليمان ، (48) ،ومسلم ،كتاب اليمان ،ح ). (116 -3636
أصول الللكائي ). (6/1023 -3737
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
* وكما في الحديث السابق حيث قال صلى الله عليه وسلم ) :سباب
المسلم فسوق (( .
مى النبي صلى الله عليه وسلم كافر النعمة فاسقا ً ،كما جاء في قوله وس ّ
ساق هم أهل النار (( قيل :يا رسول صلى الله عليه وسلم )) :إن الف ّ
ساق ؟ قال )) :النساء (( قال رجل :يا رسول الله أولسن من الف ّالله ! و َ
أمهاتنا وأخواتنا وأزواجنا ؟ قال )) :بلى ولكنهن إذا أعطين لم يشكرن ،
38
وإذا ابتلين لم يصبرن ((
39
فيجوز أن يسمى الفاسق كافر نعمة ،حيث أطلقته الشريعة
*ويسمى السارق فاسقا ً ،حيث سئل حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه –
فقيل له :ما بال هؤلء الذين يبقرون 40بيوتنا ،ويسرقون أعلقنا 41؟
قال :حذيفة ) :أولئك الفساق( . 42
ً 43
* ويعد ّ صاحب النفاق الصغر فاسقا
* يقول ابن تيمية )) :يسمى الفاسق منافقا ً النفاق الصغر ،ل النفاق
الكبر ،والنفاق ُيطلق على النفاق الكبر الذي هو إضمار الكفر ،وعلى
44
النفاق الصغره ،الذي هو اختلف السر والعلنية في الواجبات ((
* ويقول _أيضًا_ )) :وإن أظهر أنه صادق ،أو موف،أوأمين،وأبطن الكذب
والغدر والخيانة ونحو ذلك ،فهذا هو النفاق الصغر الذي يكون صاحبه فاسقا ً
((
ويدل على ذلك جملة من الثار :منها )) أن هرم بن حيان قال :إياكم
والعالم الفاسق ،فبلغ عمر بن الخطاب ،فكتب إليه وأشفق منها ! ما
العالم الفاسق ؟ قال :فكتب إليه هرم :يا أمير المؤمنين ! والله ما أدرت
به إل الخير ،يكون إمام يتكلم بالعلم ،ويعمل بالفسق ،فيشبه على الناس
45
فيضلون ((
-3838أخرجه أحمد ) ، (444-3/428وقال الهيثمي في المجمع ) ، (4/73و)) ورجاله
ثقات (( :وصححه اللباني في )) الصحيحة (( ح ) . (260
-3939كتاب اليمان لبن تيمية ص ). (235
-4040ينقبون .
-4141أعلقنا :نفائس أموالنا .
-4242أخرجه البخاري ،كتاب التفسير ،ح ). (4658
-4343رد ابن حزم في الفصل ) (28 ،3/287على من سمى صاحب الكبيرة منافقا،
وكذا القاضي أبو يعلى نفى ذلك في كتابه )) :مسائل اليمان (( ص )(364 -355
وانظر :الللكائي ). (6/1025
-4444مجموع الفتاوى ) ، (11/140يقول الحسن البصري – رحمه الله )) : -من
النفاق اختلف اللسان والقلب واختلف السر والعلنية (( .أخرجه الفريابي في صفة
المنافق ص ). (61
-4545أخرجه الدارمي في سننه ). (1/90
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
مى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – هذا الفاسق منافقا ً ،فقال : وس ّ
)) إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم ؟ قالوا :وكيف يكون المنافق
46
عليما ً ،قال :يتكّلم بالحكمة ،ويعمل بالجور ،أو قال المنكر ((
ن المنافق؟ قال :الذي يصف السلم ول يعمل م ِ وسئل حذيفة بن اليمان َ :
47
به
قا ،فقال عليه الصلة وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الرويبضة فويس ً
والسلم )) :إ َ
صد ّقُ ِفيَها صاد ِقُ وَي ُ َ ب ِفيَها ال ّ ة ي ُك َذ ّ ُ داع َ ً خ ّ ن َ سِني َ ل ِ جا ِ م الد ّ ّ ما َ نأ َ ِ ّ
ة (( ِقي َ ّ َ ْ َ ْ ال ْ َ
ل ض ُ م ِفيَها الّروَي ْب ِ َ ن وَي َت َكل ُ خائ ِ ُ ن ِفيَها ال َ م ُ ن وَي ُؤ ْت َ َ مي ُ ن ِفيَها ال ِ خو ّ ُ ب وَي ُ َ كاذ ِ ُ
َ
مرِ ال َْعا ّ سقُ ي َت َك َل ّ ُ ل)) :ال ْ ُ ة َقا َ
48
مةِ (( م ِفي أ ْ فوَي ْ ِ ض ُما الّروَي ْب ِ َ وَ َ
والرويبضة تصغير الرابضة ،وهو العاجز الذي ربض عن معالي المور ،وقعد
عن طلبها.49
قا عملًيا أعظم وفي الجملة ،فقد يقال :إن هذه المعاصي التي سميت فس ً
قا ،وكما قال البيضاوي )) :والفسق إذا ص لم تسم فس ً ممن دونها من معا ٍ
استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمته كأنه متجاوز عن حده ((
. 50
51
وقال اللوسي :الفاسق 0 :المتمّرد من معصية ما ((
• وإضافة إلى ما سبق ،فإن فسق العمل نوعان 0باعتبار آخر – كما
بّينه ابن القّيم بقوله ) :فسق العمل نوعان :مقرون بالعصيان ،
ومفرد ،فالمقرون بالعصيان :هو ارتكاب ما نهى الله عنه ،
م ب إ ِل َي ْك ُ ُ حب ّ َ ه َن الل ّ َ والعصيان :هو عصيان أمره ،قال تعالى )) :وَل َك ِ ّ
كن أ ُوْل َئ ِ َ صَيا َ سوقَ َوال ْعِ ْ ف ُ فَر َوال ْ ُ م ال ْك ُ ْ م وَك َّره َ إ ِل َي ْك ُ ُ ه ِفي قُُلوب ِك ُ ْ ن وََزي ّن َ ُ ما َ لي َاِْ
ن (( ))الحجرات . ((7 : دو َ ش ُ م الّرا ِ هُ ُ
َ
ن (( مُرو َ ما ي ُؤ ْ َ
ن َ فعَُلو َ م وَي َ ْ مَرهُ ْ ما أ َ ه َ ن الل ّ َ صو َ وكما قال تعالى َ)) :ل ي َعْ ُ
)التحريم .(6:
ّ َ من َعَ َ
ضلوا م َ ك إ ِذ ْ َرأي ْت َهُ ْ ما َ وقال موسى لخيه هارون – عليهما السلم َ )) : -
َ * أ َّل تتبع َ
ري (( ) طه . (93-92 : م ِ تأ ْ صي ْ َ ن أفَعَ َ ََِّ ِ
ص بارتكاب النهي ،ولهذا يطلق عليه كثيرا ً ،كقوله تعالى )) : فالفسق أخ ّ
م (( ) البقرة . (282 : سوقٌ ب ِك ُ ْ ه فُ ُ فعَُلوا ْ فَإ ِن ّ ُ وَِإن ت َ ْ
-4646أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلة ). (2/633
-4747أخرجه الفريابي في صفة المنافق ص ) ، (67-66ومحمد بن نصر في تعظيم
قدر الصلة ) ، (2/631وابن بطة في البانة الكبرى ). (696 ،2/691
-4848أخرجه أحمد ) ، (3/220وقال ابن كثير في النهاية ) (1/57عن هذا الحديث
)) وهذا إسناد جيد تفّرد به أحمد من هذا الوجه (( .
-4949انظر :النهاية في غريب الحديث ). (2/185
-5050تفسير البيضاوي .(72/)1
-5151روح المعاني ). (1/335
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
ص بمخالفة المر ،ويطلق كل منهما على صاحبه ،كقوله والمعصية أخ ّ
َ
ه(( ) الكهف . (50 : مرِ َرب ّ ِ نأ ْ سقَ ع َ ْ ف َ ن فَ َ ج ّ ن ال ْ ِ م َ ن ِ س َ
كا َ تعالى )) :إ ِّل إ ِب ِْلي َ
وى (( )طه : ه فَغَ َ م َرب ّ ُ صى آد َ ُ فسمى مخالفته للمر فسقا ً ،وقال )) :وَع َ َ
. (121
فسمى ارتكابه للنهي معصية ،فهذا عند الفراد ،فإذا اقترنا كان أحدهما
52
لمخالفة المر ،والخر لمخالفة النهي
وفي ختام هذه الوريقات ننبه إلى ضرورة عدم الخلط بين مفهوم الفسق
عند أهل السنة ،ومخالفيهم .
فمرتكب الكبيرة عند أهل السنة مع أنه فاسق بكبيرته ،إل أنه ل يخرج من
اليمان بالكلية ،فيمكن اجتماع اليمان مع هذا الفسق الصغر ـ كما هو
مقرر عند أهل السنة ـ ،ومن ثم فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته)،(53
وأمره إلى الله تعالى ،إن شاء غفر له برحمته ،وإن شاء عذبه بعدله ،ومآله
إلى الجنة فيما بعد؛ فأهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن
دخلوا النار ،أو استحقوا دخولها ـ فإنهم لبد أن يدخلوا الجنة).(54
• يقول ابن تيمية ـ مقرًرا هذه المسألة ـ )) ومن أصول أهل السنة
والجماعة :أن الدين واليمان قول وعمل ،قول القلب واللسان،وعمل
القلب والجوارح ،وأن اليمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،وهم مع
ذلك ل يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله
الخوارج ،بل الخوة اليمانية ثابتة مع المعاصي ،كما قال سبحانه:
ف ) (( .البقرة (178 : معُْرو ِ يٌء َفات َّباع ٌ ِبال ْ َ ْ ش خيهِ َ ن أَ ِْ م
ه ِ ي لَ ُ ف َ ن عُ ِ م ْ ))فَ َ
َ
ما فَإ ِ ْ
ن حوا ب َي ْن َهُ َ صل ِ ُن اقْت َت َُلوا فَأ ْ مِني َ مؤ ْ ِن ال ْ ُ م َ ن ِ فَتا ِ ن َ
طائ ِ َ وقال سبحانه )) :وَإ ِ ْ
ّ َ َ ّ ُ ما ع ََلى اْل ُ ْ
مرِ اللهِ فَإ ِ ْ
ن فيَء إ ِلى أ ْ حّتى ت َ ِ قات ِلوا الِتي ت َب ِْغي َ خَرى فَ َ داهُ َ ح َ ت إِ ْ ب َغَ ْ
َ َ
ما
ن][9إ ِن ّ َ طي َ س ِ ق ِ م ْ ب ال ْ ُ ح ّ ه يُ ِ ن الل ّ َ طوا إ ِ ّ س ُ ل وَأقْ ِ ما ِبال ْعَد ْ ِ حوا ب َي ْن َهُ َ ت فَأ ْ
صل ِ ُ َفاَء ْ
َ َ
م ) ((..الحجرات . (9،10 : خوَي ْك ُ ْ نأ َ حوا ب َي ْ َ صل ِ ُخوَة ٌ فَأ ْ ن إِ ْمُنو َ مؤ ْ ِ ال ْ ُ
ول يسلبون الفاسق المّلي السلم بالكلية ،ول يخلدونه في النار ،كما تقول
المعتزلة ،بل الفاسق يدخل في اسم اليمان المطلق كما في قوله:
ة ) ((.النساء . (92 : من َ ٍمؤ ْ ِ ريُر َرقَب َةٍ ُ ح ِ)) فَت َ ْ
ماوقد ل يدخل في اسم اليمان المطلق كما في قوله تعالى )) :إ ِن ّ َ
مه َزاد َت ْهُ ْ م آَيات ُ ُ ت ع َل َي ْهِ ْ ذا ت ُل ِي َ ْ م وَإ ِ َ ت قُُلوب ُهُ ْ جل َ ْ ه وَ ِ ذا ذ ُك َِر الل ّ ُ ن إِ َ ذي َ ن ال ّ ِ مُنو َ مؤ ْ ِ ال ْ ُ
مانًا ) ((.النفال . (2 : ِإي َ
-5252مدارج السالكين ) . (362 ،1/361بتصرف .
-53هذا بالنسبة للحكم العام المطلق،فنطلق القول بنصوص الوعيد والتكفير
والتفسيق ،ول نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي ل
معارض له .انظر:مجموع فتاوى ابن تيمية).(28/499)،(4/484)،(10/332
-54انظر:مجموع الفتاوى لبن تيمية ).(4/486
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
ن ،وََل م ٌ مؤ ْ ِ
ن ي َْزِني وَهُوَ ُ حي َوقوله صلى الله عليه وسلمَ )) :ل ي َْزِني الّزاِني ِ
ن وََل م ٌمؤ ْ ِ ب وَهُوَ ُ شَر ُ ن يَ ْ
حي َ مَر ِخ ْ ب ال ْ َ ن ،وََل ي َ ْ
شَر ُ م ٌمؤ ْ ِ
سرِقُ وَهُوَ ُ ن يَ ْ
حي َ سرِقُ ِ يَ ْ
َ
و
ن ي َن ْت َهِب َُها وَهُ َ
حي َ م ِ صاَرهُ ْس إ ِل َي ْهِ ِفيَها أب ْ َ
ة ذات شرف ي َْرفَعُ الّنا ُ ب ن ُهْب َ ًي َن ْت َهِ ُ
53
ن (( م ٌمؤ ْ ِ ُ
ونقول :هو مؤمن ناقص اليمان ،أو مؤمن بإيمانه ،فاسق بكبيرته ،فل
54
يعطي السم المطلق ،ول يسلب مطلق السم
فارتكاب الكبير يعد ّ فسقا ً ينافي كمال اليمان الواجب ،وهذا الفسق يمكن
اجتماعه مع اليمان ،وصاحبه متعّرض للوعيد ،فأهل السنة يقولون بجواز
التبعض في السم والحكم ،بمعنى أن يكون مع الرجل بعض اليمان ل
كله ،ويثبت له من حكم أهل اليمان وثوابهم بحسب ما معه ،كما يثبت له
55
من العقاب بحسب ما عليه
وإذا تقرر مفهوم الفسق عند أهل السنة ،فإننا نورد مفهومه عند المخالفين:
فأما الشاعرة :فنجد فيهم من يجعل الفاسق الملي مؤمًنا بإطلق،
قا.
ويعتبرونه مؤمًنا ح ً
• كما قال أحدهم – وهو المدي )) : -فعلى هذا مهما كان مصدقا ً
قا ً ،وانتفاء الكفر ل بشيء من الركان ،فهو مؤمن ح ّ بالجنان وإن أخ ّ
ل به من عنه واجب ،وإن صح تسميته فاسقا ً بالنسبة إلى ما أخ ّ
56
الطاعات ،وارتكب من المنهّيات ((
57
وسمى اليجي مرتكب الكبيرة مؤمنا ً بإطلق
وقد سبق أن ذكرنا أن مرتكب الكبيرة ـ عند أهل السنة ـ ل يعطي اليمان
المطلق ،فل يقال عن الزاني ،أو شارب الخمر ـ مثًل ـ :إنه مؤمن بإطلق،
ولكن نقيده ،فنقول :مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ،أو مؤمن ناقص اليمان.
* وقد عاب إبراهيم النخعي – رحمه الله – تلك المقولة ،فقال )) :ما
ل، أعلم قوما ً أحمق في رأيهم من هذه المرجئة ؛ لنهم يقولون :مؤمن ضا ّ
ومؤمن فاسق (( .58
ل فإن مقالة أولئك الشاعرة متفرعة من قول جمهورهم بأن وعلى ك ّ
اليمان هو التصديق ،حيث أخرجوا العمال عن مسمى اليمان.
أما المعتزلة :فمفهوم الفسق عندهم على عكس المقالة السابقة،
فالفاسق عندهم ليس مؤمًنا ،كما أنه ليس كافًرا ،بل هو في منزلة بين
-5353أخرجه البخاري ومسلم ،كتاب المظالم ح ) (2475ومسلم ،كتاب اليمان ،ح )
. (76
-5454العقيدة الواسطية بشرح محمد خليل هراس ص ). (156-152
-5555انظر :شرح الصفهانية :مخلوف ص ). (144
-5656غاية المرام في علم الكلم ص ). (312
-5757انظر :المواقف في علم ِ الكلم ص ). (389
-5858السنة للمام عبد الله بن المام أحمد حنبل ). (1/341
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
المنزلتين ،ولم يقل أحد من المعتزلة بإيمان مرتكب الكبيرة سوى الصم
.59
• يقول عبد الجبار الهمداني المعتزلي :
)) صاحب الكبيرة له اسم بين السمين ،وحكم بين الحكمين ،ل يكون
اسمه اسم الكافر ،ول اسمه اسم المؤمن ،وإنما يسمى فاسقا ً ،وكذلك
فل يكون حكمه حكم الكافر ،ول حكم المؤمن ،بل يفرد له حكم ثالث ،
وهو المنزلة بين المنزليتن (( 60ولما كان مرتكب الكبيرة ـ عندهم ـ فاس ً
قا
غير مؤمن ،لذا حكموا عليه بالخلود في النار.
• وكما قال عبد الجبار المعتزلي )) :والذي يدل على أن الفاسق ُيخّلد
ذب فيها أبدا ً ما ذكرناه من عمومات الوعيد ،فإنها كما
في النار ،وُيع ّ
تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة ،تدل على أنه
61
ُيخّلد ((
ة المعتزلة في مفهوم الفسق ،ووافقهوهم على ما سبق وقد تبع الزيدي ُ
62
ذكره
هذا ما تيسر جمعه في هذا المبحث ،وبالله تعالى التوفيق ،وصلى الله
وسلم على نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
-5959انظر :مقالت السلميين ). (1/333
-6060شرح الصول الخمسة ص ). (697
-6161شرح الصول الخمسة ص ). (666
-6262انظر :مثل ً العقد الثمين في معرفة رب العالمين للحسين بن بدر الدين ص )
ي القيوم للرصاص ،ص ). (20 (57ومصباح العلوم في معرفة الح ّ
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
الرسالة الثانية
النفاق والمنافقون تنبيهات وأخطار
إن بلية السلم بالمنافقين شديدة جد ًّا؛ لنـهـم منسوبون إليه ،وهم أعداؤه
في الحقيقة ،يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علـم وصلح،
وهو غاية الجهل والفساد.
فلله كم من معقل للسلم قد هدموه؟ ،وكم من حصن له قد قلعوا أساسه
وخربوه؟ ،وكم من ع ََلم له قد طمسوه؟،وكم لواء مرفوع قد وضعوه ،وكم
شبه في أصول غراسه ليقلعوها ،فل يزال السلم وأهله ضربوا بمعاول ال ّ
منهم في محنة وبلية ،ول يزال يطرقه من شـبـهـهـم سرّية بعد سرّية،
َ
ن((شعُُرو َ كن ل ّ ي َ ْ ن وَل َ ِ
دو َس ُ ف ِ
م ْ
م ال ُ م هُ ُ يزعمون أنهم بذلك مصلحون )) ،أل إن ّهُ ْ
]البقرة.[12:
طره ابن القيم )رحمه الله( في التحذير من النفاق هذا بعض ما س ّ
والمنافقين،63والذي هو موضوع هذه الرسالة ،وسيكون الحديث عن خطر
النفاق والـمنافقين من خلل ما يلي:
-1خطر المنافقين داهم :
فالمنافقون أعظم خطرا ً وضررا من الكفار المجاهرين ،كما أن المنافقين ً
أغلظ كفرا ً وأشد عذابًا.
قال ابن القيم عنهم) :طبقة الزنادقة ،وهم قوم أظهروا السلم ومتابعة
الرسل ،وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسـلـه ،وهؤلء المنافقون ،وهم في
ل قين ِفي الد ّر ِ َ
ف ِ
سـ َ
ك ال ْ ْ مَنافِ ِ َ ن ال ُ الدرك السفل من النار ،قال تعالى )) :إ ّ
صيرًا(( ]النساء.[145 : م نَ ِ جد َ ل َهُ ْن الّنارِ وََلن ت َ ِ
م َ
ِ
فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف ،وهم فوقهم في دركات النار؛ لن
الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله ،وزاد المنافقون عليهم
ة المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، بالكذب والنفاق ،وبلي ُ
َ
ه أّنى ي ُؤ ْفَ ُ ّ َ
ن(( كو َ م الل ُ م َقات َلهُ ُ حذ َْرهُ ْم العَد ُوّ َفا ْولهذا قال تعالـى )) :هُ ُ
]المنافقون. [4 :
ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر ،والمراد :إثبات الولوية والحقية لهم في
هذا الوصف ،ل على معنى أنه ل عدو لكم سواهم ،بل على معنى أنهم أحق
بأن يكونوا لكم عدوّا ً من الكفار المجاهرين ،فإن الحرب مع أولئك ساعة أو
أيامًا ،ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر ،وهؤلء معهم في الديار والمنازل،
صباحا ً ومساًء ،يدلون العدو على عوراتهم ،ويتربصون بهم الدوائر ،ول
يمكنهم مناجزتهم ..
وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك السفل من النار لغلظ كفرهم ،فإنهم
خالطوا المسلمين وعاشروهم ،ووصل إليهم من معرفة اليمان ما لم يصل
(63)63انظر :مدارج السالكين 1/347 ،
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
إلى المنابذين بالعدواة ،فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ
كفرًا ،وأخبث قلوبًا ،وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداء
فُروا فَط ُب ِعَ ع ََلى
م كَ َ عـنهـم ،قال تعالى عـن المنافقين)) :ذ َل َ َ
مُنوا ث ُ ّ
مآ َك ب ِأن ّهُ ِْ
قُُلوب ِهِ ْ
م فَهُ ْ
64
ن(( ]المنافقون. ([3 : قُهو َ
ف َ
م ل يَ ْ
-2تحذير القرآن منهم:
ذر القرآن الكريم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة ،فكان ح ّ
الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سـبع عشرة سورة مدنية
من ثلثين سورة ،واستغرق ذلك قرابة ثلثمائة وأربعين آية ،حتى قال ابن
القيم رحمه الله ) :كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم(.65
-3تحذير الرسول -صلى الله عليه وسلم -من النفاق
خاف النبي -صلى الله عليه وسلم -على أمته من النفاق والمنافقين ،وح ّ
ذر
شَعب النفاق في أحاديث وأنذر من سلوك المنافقين ،وحذر من الوقوع في ُ
كثيرة.
فعن عمران بن حصين رضي الله عنهما مرفوعا ً )) :إن أخوف ما أخاف
عليكم بعدي :منافق عليم اللسان((.66
قال المناوي في التيسير ] ) :[1/52كل منافق عليم اللسان :أي :عالم
للعلم ،منطلق اللسان به ،لكنه جاهل القلب والعمل ،فاسد العقيدة ،مغر
للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلم(.67
.
وقال المناوي ـ أيضا ً ـ ) :أي :كثير علم اللسان ،جاهل القلب والعمل،
اتخذ العلم حرفة يتأكل بها ،وأبهة يتعزز بها ،يدعو الناس إلى الله ،ويفّر هو
منه(.68
-4خوف السلف الصالح على أنفسهم من النفاق :
كان سلفنا الصالح )رحمهم الله( -مع عمق إيمانهم وكمال علمهم ـ يخافون
النفاق أيما خوف ،فقد أخرج البخاري -تعليقا ً -أن ابن أبي مليكة رحمه
الله قال ) :أدركت ثلثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم -كلهم
يخاف النفاق على نفسه(.
قال الحافط ابن حجر) :والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة ،مـن
أجّلهـم :عائشـة ،وأختها أسمـاء ،وأم سلمـة ،والعبادلة الربعـة ،وأبو
ل من هؤلء، هريرة ...،فهؤلء ممن سمع منهم ،وقد أدرك بالسن جماعة أج ّ
(64)64طريق الهجرتين ،ص ، 404 402باختصار يسير .
(65)65مدارج السالكين . 1/347 ،
(66)66أخرجه الفريابي في )صفة المنافق( ،ص ، 23والطبراني في الكبير ، 18/237 ،
عب ، 2/161 ،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ) : (187 /1) ،رجاله رجال والبيهقي في ال ّ
ش َ
الصحيح( ،وصححه اللباني في الجامع الصغير .
(67)67التيسير(1/52):
(68)68التيسير)(1/309
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
ي ،وسعد بن أبي وقاص ،وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في كعل ّ
العمال ،ولم ينقل عن غيرهم خلف ذلك ،فكأنه إجماع ،وذلك لن المؤمن
قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الخلص ،ول يلزم من
69
خوفهم من ذلك وقوعه منهم(..
وكان أبو الدرداء )رضي الله عنه( إذا فرغ من التشهد ـ في الصلة ـ يتعوذ
بالله من النفاق ،ويكثر التعوذ منه ،فقال له أحدهم :ومالك ـ يا أبا الدرداء ـ
أنت والنفاق؟ ،فقال دعنا عنك ،فو الله إن الرجل ليقلب عن دينه في
70
الساعة الواحدة فُيخلع منه .
وكان الحسن البصري رحمه الله يقول ) :ما خافه -النفاق -إل مؤمن ،ول
أمنه إل منافق(.71
وسئل المام أحمد :ما تقول فيمن ل يخاف على نفسه النفاق؟ قال) :ومن
يأمن على نفسه النفاق( ؟!.72
يقول ابن القيم ) :وبحسب إيمان العبد ومعرفته يكون خوفه أن يكون من
أهل هذه الطبقة ،ولهذا اشتد خوف سادة المة وسابقيها على أنفسهم أن
يكونوا منهم ،فكان عمر يقول لحذيفة :ناشدتك الله ،هل سماني رسول
ً 73
ي هذا
الله مع القوم؟ فيقول :ل ،ول أزكي بعدك أحدا ،يعني ل أفتح عل ّ
الباب في تزكية الناس ،وليس معناه أنه لم َيبرأ من النفاق غيرك(.74
فتأمل رحمك الله ما عليه أولئك السلف البرار من خوف شديد من
النفاق ودواعيه ،ثم انظر إلى حال الكثرين منا في هذا الزمان ،فمع ضعف
اليمان وغلبة الجهل تجد المن من النفاق والغفلة عنه! ..فالله المستعان.
-5ومما يوجب مزيد الخوف من النفاق والحذر من المنافقين :أنهم كثيرون،
منتشرون في بقاع الرض.
كما قال الحسن البصري )رحمه الله() :لول المنافقون لستوحشتم في
الطرقات(.75
وقال ابن القيم) :كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم ،لكثرتهم على ظهر
الرض ،وفي أجواف القبور ،فل خلت بقاع الرض منهم لئل يستوحش
ب المعايش ،وتخطفهم الوحوش المؤمنون في الطرقات ،وتتعطل بهم أسبا ُ
والسباع في الفلوات ،سمع حذيفة رضي الله عنه رجل ً يقول :اللهم
(69)69الفتح )(1/111
(70)70أخرجه الفريابي في )صفة المنافق( ،ص ، 69وقال الذهبي في السير ): (382/ 6
إسناده صحيح.
(71)71أخرجه البخاري تعليقا ً وأخرجه الخلل في السنة )(5/68
(72)72انظر :جامع العلوم والحكم ،لبن رجب . 2/493 ،
(73)73كان عمر الفاروق )رضي الله عنه( يخاف من نفاق العمل ل نفاق الكفر ،كما أن عمر
يخاف هذا النفاق الصغر على نفسه في الحال وليس عند الموت فحسب ،انظر تفصيل
ذلك في جامع العلوم ، 2/492 ،وفتح الباري . 1/90 ،
(74)74طريق الهجرتين ،ص . 409
(75)75أخرجه ابن بطة في )البانة الكبرى( . 2/698 ،
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
أهلك المنافقين ،فقال :يا ابن أخي ،لو هلك المنافقون لستوحشتم في
طرقاتكم من قلة السالك(.76
ول يعني ذلك تعميم الحكم بالنفاق على الكثرية والغلبية ،فإن النفاق
شَعب وأنواع ،كما أن الكفر شعب وأنواع ،والمعاصي بريد الكفر ،فكذا من ُ
كان متهما ً بنفاق فهم على أنواع متعددة ،كما وضحه شيخ السلم ابن تيمية
بقوله) :ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعا ً واحدًا ،بل فيهم المنافق
من إيمانه غالب وفيه شعبة من فيه إيمان ونفاق ،وفيهم َ المحض ،وفيهم َ
من النفاق ،ولما قوي اليمان وظهر اليمان وقوته عام تبوك :صاروا
يعاتبون من النفاق على ما لم يكن يعاتبون عليه قبل ذلك.77(..
-6سهولة النخداع بهم :
فالمنافقون أصحاب تذبذب وتقلب ،وأرباب خداع وتلبيس ،فيتكلمون
بمعسول الكلم ،وفصيح الخطاب ،ويظهرون للناس في هيئة حسنة،
ومظهر جذاب ،فربما انخدع لهم الفئام من المسلمين ،فمالوا إليهم وأصغوا
م(( ]التوبة،[47 : ن ل َهُ ْ
عو َ ما ُس ّ
م َ إلى قولهم وتدليسهم ،قال تعالى )) :وَِفيك ُ ْ
م(( ]المنافقون.[4 : قوْل ِهِ ْ
معْ ل ِ َ قوُلوا ت َ ْ
س َ وقال سبحانه َ )) :وإن ي َ ُ
ً ً
إن هذا التلون والتذبذب يجعل خطرهم كبيرا ،وشرهم مستطيرا ،حيث
يخفون كفرهم وضللهم ،ويتظاهرون باليمان والهتداء.
ولذا :خفي على كثير من المسلمين حال بعض الزنادقة )المنافقين( في
القديم والحديث ،وكما قال الذهبي رحمه الله في شأن الحلج ) :فهو
صوفي الزي والظاهر ،متستر بالنسب إلى العارفين ،وفي الباطن :فهو من
صوفية الفلسفة أعداء الرسل ،كما كان جماعة في أيام النبي -صلى الله
عليه وسلم -منتسبون إلى صحبته وإلى ملته ،وهم في الباطن من مردة
المنافقين ،قد ل يعرفهم النبي -صلى الله عليه وسلم -ول يعلم بهم ،قال
تعالى )) :وم َ
م(( ]التوبة.[101 : مه ُ ْق ل ت َعْل َ ُ فا ِ دوا ع ََلى الن ّ َ مَر ُدين َةِ َم ِل ال َ
ن أهْ ِ
َ ِ ْ
فإذا جاز على سيد البشر أن ل يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة
سنوات ،فبالولى :أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين
السلم بعده عليه الصلة والسلم على العلماء من أمته(.78
-7انتشار النفاق الصغر في مجتمعاتنا:
ومما يؤكد خطر النفاق :أن الكثير من شعب النفاق الصغر ـ الذي ل ُيخرج
عن الملة ـ قد عمت وطمت في مجتمعات المسلمين ،كالكذب ،وخلف
(76)76مدارج السالكين . 1/358 ،
) (77مجموع الفتاوي . 7/523 ،
)(78السير . 14/343 ،
77
78
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
الوعد ،والرياء ،والخيانة ،والجبن ،وترك الجهاد في سبيل الله تعالى ،وعدم
تحديث النفس بذلك.
ومع أن هذه الخصال من النفاق الصغر ،لكنها قد تؤول إلى النفاق الكبر
المخرج من الملة .وفي هذا يقول ابن رجب ) :والنفاق الصغر وسيلة
وذريعة إلى النفاق الكبر ،كما أن المعاصي بريد الكفر ،فكما ُيخشى على
من أصّر على المعصية أن ُيسلب اليمان عند الموت ،كذلك يخشى على
من أصر على خصال النفاق أن يسلب اليمان ،فيصير منافقا ً خالصًا(.79
بل استفحل المر ،وعظم النفاق حتى صرنا نشاهد صورا ً أو أنواعا ً من
النفاق الكبر في بلد المسلمين ،ومن ذلك :الستهزاء بدين الله تعالى ،
والفرح والسرور بانخفاض دين السلم وهزيمة المسلمين ،والعراض التام
عن حكم الله تعالى ،ومظاهرة الكفار ضد المسلمين...
حذروا مكايد المنافقين ومسالكهم ،فل إن على الدعاة إلى الله أن ي َ ْ
ينخدعوا بهم ،أو يتساهلوا معهم ،وأن يعنى الدعاة بمعرفة النفاق وخطره
وشعبه؛ مخافة أن يصيبهم ،وأن يتعرفوا على مكايد المنافقين ومخططاتهم
في الماضي والحاضر لكي ل يقعوا في شراكهم ،وأن يجتهد المصلحون في
تحقيق تزكية النفوس وتربية الجيال على اليمان الصحيح ،والقيام بالعبادة
ظاهرا ً وباطنًا،
فالمنافقون أرباب ظواهر ل بواطن ،وسيدرك الصادقون في إيمانهم أولئك
َ المنافقين من خلل لحن القول ،كما قال سبحانه)) :وَل َوْ ن َ َ
مشاُء لَري َْناك َهُ ْ
ل(( ]محمد.[30 : قو ْ ِ
ن ال َ م ِفي ل َ ْ
ح ِ م وَل َت َعْرِفَن ّهُ ْ
ماهُ ْ
سي َفَل َعََرفْت َُهم ب ِ ِ
سم عليها ،لكن هذا يكون ق َ
م ْ
قال شيخ السلم ) :فمعرفة المنافقين ثابتة ُ
80
إذا تكلموا ،وأما معرفتهم بالسيما فهو موقوف على مشيئة الله( .
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه :ما أسّر أحد سريرة
إل أظهرها الله على وجهه وفلتات لسانه.
ً
وأشير إلى مسألة مهمة ،وهي :أن النفاق موجود وواقع ،خلفا لمن أنكره
من طوائف المرجئة ،فقد زعم صنف من المرجئة أنه ليس في هذه المة
نفاق.81
79
80
) (79جامع العلوم . 2/492 ،
) (80مجموع الفتاوي . 17/118 ،
انظر ) :التنبيه والرد( للملطي ،ص 164 )(81
أخرجه الخلل في السنة ) ، (5/72والفريابي في صفة المنافق ). (85 ، 72 )(82
أخرجه الفريابي في )صفة المنافق( ،ص . 93 )(83
انظر :جامع العلوم والحكم ،لبن رجب . 2/480 ، )(84
81
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
قيل للحسن البصري :إن قوما ً يزعمون أن ل نفاق ،ول يخافون النفاق،
ي من ب إل ّ فقال الحسن :والله لن أكون أعلم أني بريء من النفاق أح ّ
طلع )ملء( الرض ذهبا ً.82
وقال سفيان الثوري :خلف ما بيننا وبين المرجئة ثلثة ..،وذكر منها :نحن
نقول :النفاق ،وهم يقولون :ل نفاق.83
وحمل أولئك المرجئة حديث عبد الله بن عمرو )) :أربع من كن فيه كان
منافقًا ((...على المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم ،-حيث تلبسوا بهذه الخصال الربع.84
وليس لهم أن يحتجوا بما أخرجه البخاري عن حذيفة )رضي الله عنه( ،حيث
قال) :إنما كان النفاق على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم ،-فأما اليوم
فإنما هو الكفر بعد اليمان(.
حيث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ) :والذي يظهر :أن حذيفة لم يرد
نفي الوقوع ،وإنما أراد نفي اتفاق الحكم؛ لن النفاق إظهار اليمان وإخفاء
الكفر ،ووجود ذلك ممكن في كل عصر ،وإنما اختلف الحكم؛ لن النبي
-صلى الله عليه وسلم -كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من السلم ولو ظهر
منهم احتمال خلفه ،وأما بعده :فمن أظهر شيئا ً فإنه يؤاخذ به ول يترك
لمصلحة التآلف لعدم الحتياج إلى ذلك(.85
ص حذيفة على وقوع النفاق بعد عهد النبوة في وبالضافة إلى ذلك :فقد ن ّ
عدة أقوال ،ومن ذلك قوله رضي الله عنه ) :المنافقون الذين فيكم شّر
من المنافقين الذين كانوا على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم،-
فقيل له :وكيف ذاك ؟ ،فقال :إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم ،وإن هؤلء
يعلنون(.86
وجاء رجل من المرجئة ليوب السختياني ،فقال :إنما هو الكفر واليمان،
جو َ َ
بما ي َُتو ُ
م َوإ ّ مرِ الل ّهِ إ ّ
ما ي ُعَذ ّب ُهُ ْ نل ْ مْر َ ْن ُ
خُرو َ
فقال أيوب :أرأيت قولهَ)) :وآ َ
م(( ]التوبة ،[106 :أمؤمنون هم أم كفار؟ فسكت الرجل ،فقال أيوب: ع َل َي ْهِ ْ
اذهب فاقرأ القرآن ،فكل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على
نفسي!.87
82
83
84
(85)85فتح الباري .13/74 ،
(86)86أخرجه الفريابي في )صفة المنافق( ،ص . 53
(87)87أخرجه الفريابي في )صفة المنافق( ،ص . 92
) (88أخرجه الفريابي في )صفة المنافق( ،ص ، 4وقال الذهبي في السير ): (11/362
)هذا حديث حسن السناد( .
) (89سير أعلم النبلء . 11/362 ،
) (90مجموع الفتاوى . 28/433 ،
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
ولعل هذا الثر يكشف سبب إنكار أولئك المرجئة للنفاق ،فهذا المرجئ
يقول :إنما هو الكفر واليمان ،ومقصوده :أن اليمان شيء واحد إذا ثبت
بعضه ثبت جميعه ،وإذا زال بعضه زال جميعه ،فل يجتمع ـ عندهم ـ في
العبد إيمان وكفر أو نفاق أصغر ،ولذا :احتج عليه أيوب بالية الكريمة
مرِ الل ّ ِ
ه(( . جو َ َ
نل ْ مْر َ ْ ن ُ خُرو َ ))َوآ َ
ص ،وخلطوا عمل ً صالحا ً وآخر سيئًا، فهذا صنف جمعوا بين إيمان ومعا ٍ
مرهم إلى الله )تعالى( ،فليسوا من أهل اليمان المطلق التام ،كما أنهم فأ ْ
ليسوا كفارا ً مطلقًا.
وقد غلط المرجئة في ذلك ،فليس اليمان شيئا ً أو شعبة واحدة ،بل إن
اليمان شعب متعددة ـ كما في حديث شعب اليمان ـ وكذلك الكفر
والنفاق شعب متعددة.
ويدل على ذلك :ما رواه أبو هريرة مرفوعًا )) :ثلث من كن فيه فهو
منافق :إذا حدث كذب ،وإذا وعد أخلف ،وإذا أؤتمن خان ،فقال رجل :يا
رسول الله ،ذهبت اثنتان وبقيت واحدة ؟ قال :فإن عليه شعبة من نفاق ما
بقي منهن شيء((.88
قال الذهبي) :وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب ،كما أن اليمان ذو
شعب ويزيد وينقص 89(..وقال شيخ السلم ) :وكل واحد من اليمان
والكفر والنفاق له دعائم وشعب ،كما دلت عليه دلئل الكتاب والسنة.90(..
وأمر آخر ،وهو :أن مقالة الكرامية ،وهم من طوائف المرجئة ،بأن اليمان:
قول باللسان ،قد تكون سببا ً في إنكارهم النفاق ونفيه ،فالمنافق -عندهم
– مؤمن بالنسبة إلى أحكام الدنيا ،مع أن الله )تعالى( قد نفى اليمان عن
ر مّنا ِبالل ّهِ وَِبال ْي َوْم ِ ال ِ
خ ِ قو ُ
لآ َ من ي َ ُ
س َ
ن الّنا ِ
م َ
المنافقين بقوله )سبحانه()) :وَ ِ
ن(( ]البقرة.[8 : مؤ ْ ِ
مِني َ هم ب ِ ُ
ما ُ وَ َ
كما أن غلة المرجئة -الجهمية ومن تبعهم -ينكرون العمال القلبية،
فيخرجونها عن مسمى اليمان ،فاليمان ـ عندهم ـ معرفة أو تصديق بل
عمل قلبي.
ل ،فالتصديق بل نية أو عمل قلبي نفاق ،91 وهذا ل يعد ّ إيمانا ً صحيحا ً ول مقبو ً
فجعلوا اليمان مجرد ومن ثم سينكرون النفاق ،والله أعلم.
أما عن الموقف والواجب تجاه المنافقين ،فيتمثل في جملة أمور ،منها:
88
89
90
(91)91انظر :مجموع الفتاوى لبن تيمية . 7/171 ،
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
َ
مُنوا نآ َ ذي َ -1النهي عن موالتهم والركون إليهم ،كما قال تعالى َ )) :يا أي َّها ال َ ِ
ضاُء ت الب َغْ َ م قَد ْ ب َد َ ِ ما ع َن ِت ّ ْ دوا َ خَبال ً وَ ّ م َ م ل ي َا ًُلون َك ُ ْ دون ِك ُ ْ من ُ ة ّ طان َ ً ذوا ب ِ َ خ ُ ل ت َت ّ ِ
َ م َ
ها
ن* َ قُلو َ م ت َعْ ِ كنت ُ ْ ت إن ُ م الَيا ِ م أك ْب َُر قَد ْ ب َي ّّنا ل َك ُ ُ دوُرهُ ْ ص ُ في ُ خ ِ ما ت ُ ْ م وَ َ واه ِهِ ْ ن أفْ َ ِ ْ
ُ َ
مّنا م َقاُلوا آ َ قوك ُ ْ ذا ل َ ُ ب ك ُل ّهِ َوإ َ ن ِبال ْك َِتا ِ مُنو َ م وَت ُؤ ْ ِ حّبون َك ُ ْ م َول ي ُ ِ حّبون َهُ ْ م أْولِء ت ُ ِ أنت ُ ْ
م
ه ع َِلي ٌ ن الل ّ َ مإ ّ موُتوا ب ِغَي ْظ ِك ُ ْ ل ُ ظ قُ ْ ن الغَي ْ ِ م َ ل ِ م َ م ال ََنا ِ ضوا ع َل َي ْك ُ ُ وا ع َ ّ خل َ ْ ذا َ َوإ َ
دوِر(( ]آل عمران.[119 ،118 : ص ُ ت ال ّ ذا ِ بِ َ
ُ
ما ِفي قُُلوب ِهِ ْ
م ه َ م الل ّ ُ ن ي َعْل َ ُ ذي َ ك ال َ ِ -2زجرهم ووعظهم :لقوله تعالى )) :أوْل َئ ِ َ
م قَوْل ً ب َِليغًا(( ]النساء.[63 : م ِفي َأن ُ َ
سه ِ ْ ف ِ م وَُقل ل ّهُ ْ عظ ْهُ ْ م وَ ِ ض ع َن ْهُ ْ فَأع ْرِ ْ
ب ك الك َِتا َ -3عدم المجادلة أو الدفاع عنهم ،حيث قال تعالى )) :إّنا أنَزل َْنا إل َي ْ َ
ر
ف ِ ست َغْ ِ صيما ً * َوا ْ خ ِ ن َ خائ ِِني َ كن ل ّل ْ َ ه َول ت َ ُ ك الل ّ ُ ما أ ََرا َ س بِ َ ن الّنا ِ م ب َي ْ َ حك ُ َ حقّ ل ِت َ ْ ِبال َ
َ
ن
مإ ّ سه ُ ْ ف َ ن أن ُ خَتاُنو َ ن يَ ْ ذي َ ن ال َ ِ ل عَ ِ جاد ِ ْ حيما ً * َول ت ُ َ فورا ً ّر ِ ن غَ ُ كا َ ه َ ن الل ّ َ هإ ّ الل ّ َ
وانا ً أ َِثيمًا(( ]النساء.[107 -105 : خ ّن َ كا َ من َ ب َ ح ّ ه ل يُ ِ الل ّ َ
فاَر جاه ِد ِ الك ُ ّ َ
ي َ -4جهادهم والغلظة عليهم :لقوله تعالى َ)) :يا أي َّها الن ّب ِ ّ
صيُر(( ]التوبة.[73 : م ِ س ال َ م وَب ِئ ْ َ جهَن ّ ُ م َ ما ًَواهُ ْم وَ َ ظ ع َل َي ْهِ ْ ن َواغ ْل ُ ْ قي َ مَنافِ ِ َوال ْ ُ
-5تحقيرهم وعدم تسويدهم :فعن بريدة بن الحصيب مرفوعًا) :ل تقولوا
ن يك سيدا ً فقد أسخطتم ربكم عز وجل(.92 للمنافق )سّيد( ،فإنه إ ّ
93
وكان حذيفة يؤيس )يحتقر( المنافقين .
َ
ت ما َ من ُْهم ّ حد ٍ ّ ل ع ََلى أ َ ص ّ -6عدم الصلة عليهم ،امتثال ً لقوله تعالى َ)) :ول ت ُ َ
ه(( ]التوبة.[84 : م ع ََلى قَب ْرِ ِ ق ْ أ ََبدا ً َول ت َ ُ
ونذكر في نهاية هذه المقالة جملة من التنبيهات:
ل :علينا أن نفرق بين المداهنة -وهي من خصال المنافقين وشعب أو ً
النفاق – و بين المداراة ،فالمداهنة :مجاراة أهل الكفر والفسق في
باطلهم ،وأما المداراة فهي :مداراة أهل الكفر والفسق اتقاء شرهم ،أو
تأليفا ً لقلوبهم.
فالمداهن صاحب تلون وتذبذب ،وي َْلقى كل طائفة بما تهوى ،كما في حديث
أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال )) :تجدون
شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين ،الذي يأتي هؤلء بوجه ،وهؤلء
بوجه((.94
(92)92أخرجه أبو داود والنسائي .
) (93أخرجه الخلل في السنة . 5/70 ،
) (94أخرجه البخاري ومسلم .
) (95فتح الباري . 10/454 ،
93
94
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
قال القرطبي) :إنما كان ذو الوجهين شر الناس؛ لن حاله حال المنافق ،إذ
هو متعلق بالباطل وبالكذب ،مدخل للفساد بين الناس ،وقال النووي :هو
الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها ،فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها،
وصنيعه نفاق ومحض كذب(.95
فالمداهنة محرمة ومذمومة ،بخلف المداراة؛ فقد سلكها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم ،-كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
عندما )) :استأذن رجل في الدخول على النبي -صلى الله عليه وسلم،-
فقال :بئس أخو العشيرة فلما جلس َتطّلق له النبي -صلى الله عليه
وسلم -في وجهه ،وانبسط له ،فسألته عائشة ،فقال :يا عائشة متى
عهدتيني فاحشا ً ؟ إن شر الناس عند الله :من ت ََركه الناس مخافة
فحشه ((.96
وقد بّين أهل العلم الفرق بين المداراة والمداهنة ،ومراد النبي -صلى الله
عليه وسلم -في مسلكه تجاه ذلك الرجل ) ..قال القاضي عياض :الفرق
بين المداراة والمداهنة :أن المداراة :بذل الدنيا لصلح الدين ،أو الدنيا ،أو
هما معًا ،وهي مباحة ،وربما استحبت ،والمداهنة :ترك الدين لصلح الدنيا،
والنبي -صلى الله عليه وسلم -إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق
في مكالمته ،ومع ذلك فلم يمدحه بقول ،فلم يناقض قوله فيه فعله ،فإن
قوله فيه قول حق ،وفعله معه حسن عشرة(.97
قاه بالبشر وقال ابن بطال) :حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله ،وحيث ت َل َ ّ
كان لتأليفه ،أو لتقاء شره ،فما قصد بالحالتين إل نفع المسلمين ،ويؤيده
أنه لم يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ول صالح(.98
إذا تقرر ذلك فليتق الله قوم يداهنون أنظمة طاغوتية ،وحكاما ً مضلين ،ثم
يسمون صنيعهم مدارة وحكمة وسياسة ،فإن العبرة بالحقائق ،والله عّز
ل مطلع على السرائر وما تخفى الصدور.وج ّ
ثانيًا :ينبغي أن نفّرق بين النفاق وبين ما يعرض للقلب من الغفلة والتغير
بعد الخشوع والخبات.
يقول ابن رجب ) :لما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو
اختلف السر والعلنية ،خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه
حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والشتغال
بالهل والولد والموال ..أن يكون ذلك منه نفاقًا ،كما في صحيح مسلم
95
) (96أخرجه البخاري ومسلم . 96
(97)97فتح الباري . 10/454 ،
(98)98فتح الباري . 13/171 ،
) (99جامع العلوم والحكم . 2/94 ،
) (100صحيح مسلم بالنووي . 17/67 ،
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif
الفسق والنفاق
لسْيديّ أنه مّر بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ) فقال :كيف عن حنظلة ا ُ
أنت يا حنظلة ،قلت :نافق حنظلة ،قال :سبحان الله! ما تقول ،قال :نكون
عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي
العين ،فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عافسنا
] اشتغلنا بـ [ الزواج والولد والضيعات ،فنسينا كثيرًا ،فقال أبو بكر :فوالله
إنا لنلقى مثل هذا ،فانطلقا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم ،-وأخبره
حنظلة بحاله ،فقال عليه الصلة
والسلم )) :والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي
لصافحتكم الملئكة على فرشكم وفي طرقكم ،ولكن يا حنظلة ساعة
وساعة((.99
وقال النووي ) :وأصل النفاق :إظهار ما يكتم خلفه من الـشـــر ،فخـاف
أن يكــون ذلك منافقًا ،فأعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه ليس
بنـفــاق ،وأنهم ل يكلفون الدوام على ذلك(.100
والمقصود :أن أمر النفاق شيء ،وأما الغفلة والذهول شـيء آخــــر ،حيث
يرد هذا التغير على القلب ،لكنه أمر عارض يصيب القلب ساعة ،فيستغفر
العبد ربه وينيب.
ثالثا ً :أن نفّرق بين قبول الحق من كل شخص ســواًء أكان مؤمنا ً أو كافرا ً
أو منافقًا ،وبين موالة ذلك الشخص ومودته ،فالمنافق إذا قال صوابــًا،
فإنه يقبل هذا الصواب منه ،ومع ذلك فله حق العداوة والبغضاء بحسب
نفاقه ،وفي المقابل :فإن العالم الفاضل أو الداعية الصادق ،وإن وقع في
واَفق على زلته وعثرته ،لكن يبقى له حق الولء والنصرة زلة أو عثرة ،فل ي ُ َ
حسب إيمانه وتقواه.
كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه)) :واحذروا زيغة الحكيم ،وقد يقول
المنافق كلمة الحق ،فاقبلوا الحق؛ فإن على الحق نورًا((. 101
فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من النفاق ،وأن يختم لنا باليمان
وبالله التوفيق ,
99
100
101
) (101أخرجه أبو نعيم في الحلية . 233 ، 1/232 ،
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
www.islamlight.net/alabdullatif