Professional Documents
Culture Documents
ربانية التعليم
بقلم
الدكتور عبد ال يوسف الحسن
تعقيب
محمد أحمد الراشد
مقدمة
1
التدريقج ...مقن صقغار العلم إلى قضاياه الكقبيرة يمثقل حقيققة
أساسية في ربانية التعليم.
والتكامل ..يمثل الحقيقة المتممة .
كتكامل ألوان الطيف لتنتج اللون البيض.
إذ كذلك يكون نقاء التربيقة السقلمية البيضاء المتضمنقة للوان
مباهج المعرفة ،الخالية من شوائب اللحاد والبدع والفسوق.
لكنها لن تكون تلقينية فقط بين الجدران ،وإنما هي تأميله وعملية
أي ضا ،تدلف من المحراب إلى دروس الوا قع ومكا من الجمال عبر
نوافقذ الحياة الواسقعة ،فيرق الشعور ،وتمقر العاطفقة ،وتسقكن
القلوب ،فتتفجر معاني الخير.
وتلك هي صورة الغلف.
تمهيد
2
وربانيسة التعليسم ل تتسم بتبلغ الفقسه المجرد فقسط ،وإنمسا باتخاذ الوسسائل
الحكي مة ،وو فق أفضل ها أيضا ،ومن ها :إعطاء صغار العلم ق بل كباره ،و قد
أ خذ هذا المع نى التربوي أ سمه من أ حد معان ية الخا صة الواردة في قول ا بن
عباس رضي ل عنه – كما في كتاب العلم في صحيح البخاري.
( كنوا ربانيين حكماء فقهاء .
ويقال الرباني الذي يربي بصغار العلم قبل كباره ).
وصسفه الربانيسة قسد تكون نسسبة إلى ( الرب) عسز وجسل ،أو إلى التربيسة )
وإطلقها على هذا المفهوم التربوي من باب إطلق الخاص على العام.
و قد سبق ال سلم بهذا الدراك الو عي .أ حد أ هم م سائل وأ سس الترب ية
المعاصرة.
إل ترى أن المناهسج فسي المراحسل الدراسسية المتعددة يسسبق بعضهسا
بعضسا ،والمسسافات الجامعيسة ينبنسي بعضهسا على بعسض ،ول يسسبق تدريسس
ب عض الجزاء أجزاء أخرى ! ف كل ف من ترت بط أجزاؤه و فق ن سق منط قي ،
والعلم ،بشموليته :تنسق فنونه بعضها ببعض ،بحيث ل يتقدم المبهم الدقيق
على الوا ضح ال سهل ،ول النتي جة على المقد مة ،ول ال هم على الم هم ،ول
يتقدم صعب على سهل ،وغ ير ذلك ،و قد أو ضح أ بن ح جر شمول ية مع نى
صغار صعب على سهل ،وغ ير ذلك ،و قد أو ضح ا بن ح جر شمول ية مع نى
صغار العلم وكباره فقال:
( والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله ،وبكباره ما دقّ منها.
وق يل يعل هم جزئيا ته ق بل كليا ته ،أو فروع ية ق بل أ صوله ،أو مقدما ته ق بل
مقاصده).1-
***
3
أن الذي يحدو إلى توضيسح هذا المعنسى التربوي فسي مجال العمسل
السلمي الدعوي .رغم معرفته في عالم التدريس والتربية المنهجية .هو ما
يظ هر أحيا نا من محاولة ب عض الدعاة والمرب ين أو الخط بأ .تزو يد الناشئة أو
مسن هسم دون المتسسويات الملئمسة بكميسة هائلة ن المعلومات الشرعيسة أو
الدعو ية .أو اختيار ما ل ينا سبهم من ناح ية المعا ني ،و قد كون ال مر في
غالب الحوال رغ بة المرب ين بالح صول على ال سريع على طب قة متقد مة من
الدعاة ،أو تبل يغ أ كبر كم ية من المعلومات بأق صر الطرق ،و قد تكون .في
أحيان قليلة كما نرجو .بسبب حب المربي لنوع من الوجاهة والرئاسة ،فيحب
الظهور بمظهسر العالم المتمكسن ،أو لجسل مباهاة القران ،فيسسارع إلى تبليسغ
المعلومات الوافرة والمتقدمة.
سي الخرى تتطلع إ لى
سة هس
سا أن الناشئة أو طبقات الدعاة المختلفس
كمس
الستزادة من كثرة المعلومات والتشوق إليها دون الستفادة العميقة منها .،أو
دون امتلك السستعداد الكافسي لهضمهسا وإدراكهسا وتشوفهسم .يتجاوز العلوم
الساسية ،لمعرفة غيرها من شوارد المعرفة ،أو خصوصيات المسائل وقد
يكون الدا فع لهؤلء .في ب عض الحيان -إخل صهم للدعوة ومحاولة الرتقاء
ال سريع بم ستواهم ،ك ما قد يكون أي ضا – في أحيان أخرى – محاولة من هم
للستشراف الشخصي للتصدر ،أو حبا في الستطلع الفكري ،أو طمعا في
التدخل بما ل يعنيه من أجل إشباع غريزة التطلع.
وقسد ل يقتصسر المسر على الشيوخ والمربيسن مسن جهسة ،أو الجدد
وطبقات الدعاة مسن جهسة أخرى ،بسل قسد يتجاوز المسر للحديسث بكبار العلم
ومهامتسه أحيانسا إلى المجالت العامسة ،والمنتديات المفتوحسة ،وأمام جماهيسر
المسلمين بل وخارج إطار العاملين للسلم.
أن اللتزام بهذا المفهوم يجسسب أن يكون واضحسسا ،ومقررا وسسسط
الجماعة المؤمنة ،فهو ليس كتما للعلم ،ول محاولة للتمييز بين طبقات الدعاة
4
،ومسا هسو بالسستعلء ،على الناس ،بسل هسو منهسج ربانسي يخسم المصسلحة
الدعو ية وب قي من لواء الف تن ،وم صارح الم حن ،ويحقق قواعد الستقرار
الداري للجماعات السلمية.
ول من التوض يح ه نا إلى ما نقله ا بن ح جر في كل مه ال سابق حول
( الفروع قبل الصول) ليست على إطلقها ،ولهذا فسوف توضح فيما بعد
أن شاء ال تعالى.
***
5
( باب :من ترك بعض الختيار مخافة أو يقصر فهم بعض الناس عنه ،فيقعوا
() 1
في أشد منه ).
6
ولهذا المع نى أشار الغزالي ،واعتبر ها من وظائف المر بي والمعلم ،
فحدد ذلك بقوله:
( ...أن يقتصسر بالمتعلم على قدر فهمسه فل يلقسي إليسه مسا ل يبلغسه
ل ل كل ع بد بمعيار عقله،
عقله ،فينفره ،أو يخ بط عل يه عقله ..وذلك ق يل :ك ْ
وزن له بميزان فهمسه ،حتسى تسسلم منسه وينتفسع ب :ول واقسع النكار لتفاوت
المعيار) (.)1
إذ أن طالب العلم إذا مسا أخسذ علما ل يسستوعبه ،أو أن حدود تجاريسه
الحيوية وطبيعته النفسية ل تستطيع إدراكه فأنه يؤدي به إلى عدم توازنه ،بل
وإلى انحرافسه ،ولذلك فإن الفلسسفة والمناظرات الكلميسة أو بعسض أمور
المن طق قادت ب عض طل بة العلم إلى الش طط ،بل إلى النحراف عند ما لم ي تم
بناؤ هم الفكري ولم ي ستكملوا علم الشرع ،ك ما ح صل لمثال ا بن سينا وا بن
ر شد ،م ما اض طر ب عض العلماء – لوجود هذه الظاهرة ،إلى تحر يم درا سة
المنطسق ،كابسن الصسلح وغيره ،بينمسا صسار المنطسق والكلم سسلحا ضسد
العداء السسلم بيسد جهابذة العلماء - ،كابسن تيميسة والغزالي – حرمهمسا ال
تعالى ،ولذلك فقسد يكون فسي معرفسة القليسل مسن الجاهلة انحراف أو ضلل ،
وفي معرفة الكثير منها عند فهم القواعد والصول – مزيد إيمان ويقين.
عدم الوقوع في الترف الفكري
إذ أن تعلم المبتدئ جملة مسن العلوم التسي ل يعمسل بهسا ،ول يسستفاد
منها ،تجعل منه شخصا نظريا ،فتؤدي الظاهرة عند توسعها إلى عيب كبير
في صفوف الدعاة ،إذ يتحول الداعية عندئذ إلى أشبه بباحث نظري يبحث في
الكتب وحسب ،فيفلسف الحداث دون استيعاب ،وبالتالي يحصل الفتور في
العمسل والضعسف فسي اليمان ،وتصسبح بضاعتسه مجموعسة مسن الحاديسث
النظرية والمجادلت ،وتكون متعته في المباحث النظرية والمطالعة المجردة ،
دون تحمل ع بْ المشاكل ،ومشقة المخالطة ،ولو ظل على هذا لهان المر ،
-أحياء علوم الدين .1/57 1
7
بل قد يتحول الداع ية – ك ما تش هد التجارب – إلى كا تب يبرر النحراف ،
ويفلسف الخطاء ،ويدا فع عن الف تن ،وينقد الع مل الجاد ،بل و قد ي كبر ال مر
الصغير ويهون الشأن الكبير ،وكل ذلك لنه أسير تأملته النظرية ،وثقافته
غير المتوازنة.
المان من الخطأ
فإن كثرة الحديسث تورد كثرة الخطسأ واللتباس ،وفسي القلة أمان مسن
ذلك ( وكثرة الكلم ين سي بع ضه بعضا) ،و قد قالت العرب ( من ك ثر كل مه
كثر سقطة ) ،كما أورد مسلم في مقدمه صحيحه قول الرسول – صلى ال
عليه وسلم :
( كفى بالمرء أن يحدث بكل ما سمع)...
وقد علق المام النووي على ذلك بقوله عن هذا الحدث والثار التي في
الباب:
( ففيها الزجر عن التحديث بكل ما سمع النسان ،فإنه يسمع وفي
العادة الصسدق والكذب ،فإذا حدث بكسل مسا سسمع فقسد كذب ،لخباره بمسا لم
يكن.) ..
وكذلك:
( أنه إذا حدث بكل ما سمع كثر الخطأ في روايته ،فترك العتماد عليه
والخذ عنه.)1( ) ...
البتداع في الدين
ما دام عدم الخذ بهذا المفهوم مما نهى عنه الشارع ،فإن عدم الخذ
به من البتداع فقال:
( ...ومن ذلك التحدث مع العوام با ل تفهمه ول تعقل معناه ،فإنه من
باب وضسع الحكمسة فسي غيسر موضعهسا ،فسسامعها إمسا أن يفهمهسا على غيسر
وجهها ،وهو الغالب .و هو فتنة تؤدي إلى التكذ يب بالحق ،والع مل بالبا طل
8
وإما ل يفهم منها شيئا ،وهو أسلم ،ولكن المتحدث لم يعط الحكمة حقها من
الصون ،بل صار في التحدث بها كالعابث بنعمة ال . )1( ) ...
انفضاض الناس
إن الكثار مسن الحديسث ،ومسا قسد يجره مسن ملل على السسامع يجعسل
الناس تاركين للعلم وراءهم ،وبالتالي يفقد العالم هيبته.
سس
سد القلة ،وليس
سا عنس
سة فيهس
والعلم كمعروض للتجارة ،تزداد الرغبس
المقصود حجر الناس على العلم ،وإنما من أجل زيادة حرصهم عليه ،حتى
ل يكون من كثرته وإشاعته تزيدها للناس فيه ،وابتعادهم عنه ،وفي حكمة
لقمان قوله:
( العالم الحكيسم يدعسو الناس إلى عمله بالصسمت والوقار ،وأن العالم الخرق
()2
. يطرد الناس عن عمله بالهذر والكثار)
9
الكلم على قدر الرجال ..و قد قال حك يم العرب الح نف بن ق يس – رح مه
ال.
( حتف الرجل مخبوء تحت لسانه ) (.)1
آفاق الربانبة
وحتى يصبح مفهوم الربانية واضحا ،ل بد من التوسع في ذكر بعض
آفاق هذا المفهوم ،و ما قد يتضم نه من تقد يم ب عض العلوم على ب عض ،أو
أجزاء من ما دون أجزائه الخرى أو تقديم خاصة قبل غيرها ،وما قد يرتبط
بتدريس العلم وتعليم المعرفة من أمور ملزمة .
ومن هذه الفاق:
( )1الجزئيات قبل الكليات:
والمقصود بهذا ما ورد في كتب الفقه من مسائل يطالب المكلف بفعلها
أو ترك ها ،إيجاب يا أو ا ستحبابا ،و قد أوردت الشري عة أدلة تلك الم سائل ،ثم
جاء العلماء ،بعد ذلك ،واستنبطوا من هذه الجزئيات مجموعة قواعد كلية قد
تتخلف آحاد الجزئيات عنسه ،وصسارت عرفسة هذه الكليات طريقسا لضبسط
الجزئيات ،ولكنهسا تظسل غيسر صسالحة لقيام التكليسف عليهسا ،فالمسسلم مكلف
10
بفروع الشريعة ،وهي التي سيحاسب عليها في الخرة ،ومعرفتها – أذن – ل
فهسم الجزئيات التسي قادت إلى التقعيسد كسي يمكسن له التدرب على السستنباط ،
والقياس ،ثم الجتهاد في الفروع المستحدثة.
وكذلك فأن الشريعة لها مقدمات ل بد للمكلف من معرفتها والعمل بها،
ثم يحاسب بمقتضاها ،ولكن خلل الستقراء لمقدمات الشريعة يتبين أن لها
مقاصد وحكمها وعلل ،وأن ال تعالى يشرع لحكمه وعلة ،والشريعة تحفظ
العقل والمال والنفس وغير ذلك من مصالح العباد في المعاش والمعاد ،ولكن
المكلف يبقى محاسبا على المقدمات دون المقاصد ،ويبقى التكليف مبنيا عليه
حتى دون معرفة المقاصد ،بينما تظل معرفة المقاصد ،ويبقى التكليف مبنيا
عل يه ح تى دون معر فة المقا صد ،بين ما ت ظل معر فة المقا صد جزءا من علم
المجتهد لبناء عليه ،والقياس وفقه ،ثم يكون الجتهاد وفق مقصاد الشريعة ،
وكذلك يم كن للمكلف معر فة المقا صد والعلل زيادة له في يقي نه ،وتعمي قا في
إدراكه.
وتضرب مثل على هذا المنهسج أيضسا بأصسول الفقسه الذي دون كعلم تال
للف قه ،فالف قه الحن في على و جه الخ صوص ب ني جملة وتف صيل على فروع
الفقه ،فأصبح رغم أصوليته تابعا للفقه ،وأصول المذاهب الثلثة الخرى رغم
تو سعها وف قا لمنا هج علم الكلم ل أن ها لم تن ضج إل بوا سطة ت طبيق الفروع
الفقي هة الم ستندة على الدلة ،وب قى ال صول عل ما ل بد م نه للمجتهد ين بين ما
الفقه علم سائر المكلفين ،وقواعد الفقه ما هي إل مثل آخر إذ أ نه لم يتبلور
إل في القرن ال سابع ،وا ستفاد م نه العلماء ،ول كن معر فة الفروع ت ظل سابقة
عليه في ضرورة تعلمها كما كانت سابقة عليه زمانا ،رغم أنها تجمع العديد
من الفروع ،وتسهل حفظها وإدراكها.
ولهذا فإن المقدمات قبسل المقاصسد ،والجزئيات قبسل الكليات فسي أمور
الشريعة عموما ،وفي مسائل الفقه خصوصا ،وكل المرين داخلن في قاعدة
11
الفروع قبسل الصسول ،أمسا فيمسا سسوى ذلك فيمسا لو كان الصسل صسلب العلم
والفرع من هوام شه ،أو أن ال صل يب ني عل يه الثواب والعقاب ،والفرع ت بع
له ،فإن القاعدة الصسلية تظسل ( الصسول قبسل الفروع) ،كمسا سستبينه القاعدة
التالية...
( )2الصول قبل الفروع:
وهذا مبدأ وا ضح ضروري ،فتعلم أ صول الشري عة ل بد م نه ق بل
فروعهسا ،وأرفسع الصسول :أصسل العقيدة ،كمعرفسة الباري تعالى وأسسمائه
وصسفاته ،واليمان وبأنسبيائه ورسسله ،ودون معرفسة ذلك فالعمسل يصسيبه
الحباط ،ولذلك قال السسلف :العلم قبسل العلم ،وترجسم المام البخاري لهذا
المعنى فقال:
( باب :العلم ق بل القول والع مل ،لقول ال تعالى :فأعلم أ نه ل إله إل
ال " فبدأ بالعلم ،وأن العلماء هم ورثة النبياء"(.)1
بينما الفقه وفروع الشريعة تبع لذلك ،وكذلك في الفن الواحد ،ففي الفقه
مثلً معرفة ما تصح به العبادة أولى بالمعرفة من سنن العبادات وزوائدها،
وهكذا.
ولهذا نرى بعض الصحابة استشهد في المعارك ،وهم ل يعرفون بعد
من جزئيات الشريعة إل معنى ( ل إله إل ال ) ،كما أن كلمة التوحيد – كما
يحصسل فسي الجهاد -تضهسم دم المرء -وذلك لضرورة تقدم فهسم اليمان
إجمالً ،وبعد دخول النسان في دين ال تعالى ،يبدأ بالستفصال عن الحكام
التي تتضمنها كلمة التوحيد.
وحتسى فسي إطار الداب نجسد أن العمليسة التعليميسة تتخسد هذا المفهوم
التربوي ،فل ينتقسسل المدرس إلى علم الهوامسسش وتعليقات العلماء ،وزوائد
12
الخلن ،ونوادر الظرف حتسى يسستكمل أصسول العلم والمعارف ،ثسم ل بأس
عليه من النتقال.
ونكتفي من ذلك ببعض ما أشار إليه الجاحظ حيث يقول:
( ول تلتمسس الفروع إل بعسد إحكام الصسول ،ول تنظسر فسي الطرف
الغرائب ،وتؤثسر روايسة الملح والنوادر ،وكسل مسا خسف على قلوب الفراغ
وراق أسماع الغمار إل بعد إقامة الحدود ،ولبصر بما يلثم من ذلك العمود،
فإن ب عض من كلف بروا ية الشعار بدأ بروا ية أشعار هذ يل ق بل روا ية ش عر
عباس بن الحنف ..وناس من أصحاب الفتيا نظروا في العين والدين قبل أن
()1
. يرووا الختلف في طلق السنة )
والعمود مسن علم الشريعسة مسا كان المكلف محتاجا إليسه بذاتسه ،ثسم مسا
يحتاج إليه الناس ،في عقيدتهم أولً عباداتهم ثم ما يصحح أمور معاشهم ،ثم
النتقال إلى العادات ،ثم يز يد في معرف ته ما يشاء من زيادة في دل يل أو
تحقيق لمسألة ،أو إكثار لموارد خبر.
وما ينطبق في المجال النظري ينطبق على السلوك أيضا ،فمن الدعاة
من يطيع في صغار المور دون كبارها ،أو ما اعتاد عليه دون ذي الكلفة ،
أو ما يتنا سق مع الهوى دون ما يغل به الهوى ،و قد قال أن الجوزي – رح مه
ال:
( رأيست كثيرا مسن الناس يتحرزون مسن رشاش النجاسسة ول يتحاشون
عسن غيبسه ،ويكثرون مسن الصسداقة ول يبالون بمعاملت الربسا ،ويتهجدون
بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت ،في أشياء يطول عدها من حفظ فروع
وتضي يع أ صول ..فال ال في تضي يع ال صول ،و من إهمال سرح الهوى،
فإنه من أهملت ما شيته نقشت في زروع التقى.)2( ) ...
13
وللتمي يز ب ين قاعد تي ( ال صول ق بل الفروع ) ،و ما سلف ذكره من
أحوال ا ستثنائية :أ نه في ال فن الوا حد ،وع ند ت ساوي ا صلوه وفرو عه في
الف هم :تكون الفروع ق بل ال صول ،ويم كن ال ستشهاد بقاعدة شرع ية ي سهل
اسستقراؤها فسي الكثيسر مسن الشرائع والفرائض والتوجيهات القرآنيسة ،ذكرهسا
ال ستاذ سيد ق طب رح مه ال – ع ند الحد يث عن التدرج في تحر يم الخ مر-
بقوله:
( عندما يتعلق المر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور اليماني ،أي
بمسألة اعتقاديه ،فإن السلم يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الولى..
ولكن عندما يتعلق المر أو النهي بعادة وتقليد ،أو بوضوح اجتماعي معقد ،
فإن السسلم يتريسث بسه ،ويأخسذ المسسالة باليسسر والرفسق والتدرج ،ويهيسء
الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة.
فعندمسا كانست المسسألة مسسألة التوحيسد أو الشرك ،أمضسى أمره منسذ
اللحظسة الولى ،فسي ضربسه حازمسة جازمسة ،ل تردد فيهسا ول تلفست ،ول
مجاملة فيهسا ول م ساومة ،ول لقاء فسي منتصسف الطريسق ،لن الم سألة ه نا
مسألة قاعدة أساسية للتصور ،ل يصلح بدونها إيمان ول يقام إسلم.)1( ) ..
وتطبيقسا لهسا المبدأ فإن تعلم العقيدة قبسل الفقسه ل بسد منسه ،وأصسول
الشريعة كالقرآن والحديث ،قبل فروع خلف والتوسع الفقهي ،كما أن القاعدة
تنطبق في الفن الواحد ،فقراءة القرآن وتلوته قبل معرفة تفسيره ،وتفسيره
العام قبل الغوص بدقائقه ،والغوص بدقائقه النافعة قبل الخوض بالمتشابهات،
أما في الحديث فمعرفة الصحيح قبل الحسن ،والحسن قبل الخوض بمعرفة
الضعيف ،ومعرفة متون الحاديث الصحيحة والطلع على شروح البخاري
وم سلم أولى من النشغال بطرق الجرح والتعد يل ،وتخر يج ال سانيد ،وتعلم
14
الفروض في الفقه أولى من دراسة السنن ،وأبواب الصلة والزكاة مقدمة على
معرفة الوكالة والشركة.
ويتبقى على الداعية معرفة أن ما تسلم به العقيدة ،وتصح به العبادة،
وقواعد الدعوة إلى ال تعالى ،مقدم على الثقافة العامة وحد يث ال سياسة ،ول
بسد كذلك مسن التذكيسر أن بعسض هذه العلوم قسد تتغيسر أفضليتهسا مسن شخسص
ل خر ،أو في زمان دون غيره ،فالداع ية التأ جر يكون تعلم الزكاة وقواعد ها
أو جب عل يه من غيره ،وتعلم قوا عد الجهاد لداع ية يمار سه مقدم على علوم
أخرى ،وتعلم الداعيسة الرد على الشيوعيسة فسي بلد تناطسح الشيوعيسة فيهسا
الحر كة ال سلمية مقدم على غير ها ،بين ما تكون درا سة الشيوع ية في مكان
آخر من الترف الفكري ،وهكذا.
( )3العلوم الشريعة بالنسبة لغيرها من كبار العلم:
و ما عدا علوم الشرع ف هي من صغرها ،ف ما كان من الكتاب وال سنة
والجماع فهو علم مقطوع به أنه من الحق ،وهو الذي عليه الثواب والعقاب،
و هو ما أراد ال تبلي غه لعباده ،وأر سل ل جل هذا التبل يغ ر سوله به ،وأنزل
كتابسه ،وفسي مقابسل ذلك علوم مختل فة ممسا في أيدي أ هل الكتاب ،ومسا قاله
أكابر هذه المسة ،علماؤهسا وأمراؤهسا ،وكذلك تتضمسن القيسسة العقليسة
الشرع ية ،و ما ينقدح في عقول الب شر .كل ف يه ال حق والبا طل ،فل يرد كله
ول يقبل كله ،بل يقبل منه ما وافق الحق ،ويرد منه ما فيه من الباطل.
وبهسا الميزان تصسبح كسل هذه العلوم مسن صسغار العلم مقارنسة بعلوم
الشرعية القطعية التي يجب تقديمها ،وذلك:
( إن الحق الذي ل باطل فيه هو ما جاءت به الرسل عن ال ،وذلك في
حقنا ،ويعرف بالكتاب والسنة والجماع ،وأما ما لتجي به الرسل عن ال ،
أو جاءت به ولكن ليس لنا طريق موصلة إلى العلم به ففيه ،الحق والباطل ،
15
فلهذا كانت الحجة الواجبة التباع :للكتاب والسنة والجماع ،فإن هذا حق ل
باطل فيه ،وأجب التباع ل يجوز تركه بحال.)1( ) ..
بل وحتى العلوم الشرعية لها منازل ومراتب ،ول ينتقل من علم إلى
آخر إل باستكماله ،فقد قال أحدهما لمؤدب ولده:
( ل تخرج هم من علم إلى علم ح تى يحكموه ،فإن ا صطكاك العلم في
السمع وازدحامه في الوهم :مضلة للفهم) (.)2
16
وضعي ل عقي ،فاستوت مع الكليات الشريعة بهذا العتبار ،وارتفع الفرق
()1
. بينهما) ..
وهذا مظهسر آخسر مسن تقدم الصسول على الفروع ،بسل أن الشريعسة
نفسها بتكاليفهما ليس على نمط واحد ،فقد وجد بالستقراء ،أنها على ثلثة
أنواع :استكمالها ،وكل تكليف قد يكون مداره على التقسيمات الثلثة.
( )5الواضح قبل الغاض:
ومن معاني الربانية أن الواضح من المسائل مقدمة على الغامض منها،
وهذا مع نى قول ا بن ح جر أن المراد ( ب صغار العلم ما و ضح من م سائلة،
وبكباره مسا دق منهسا ) ،إذ أن مسن المعلوم أ ،فسي كسل علم جوانسب واضحسة
بسهل فهمها وفيه ما قد يصعب فهمه ،أو يحيطه شيء من الغموض ،فيكون
الواضح أولى بالتعلم من غيره.
والصل في المفتي والكاتب والداعية والخطيب ابلغ العلم لهله على
هذا المنوال ،فل يجوز للمف تي ،ع ند ا بن الق يم ( .تخي ير ال سائل ،والقاؤه في
ل للشكال ،متضمنا لفصسل
الشكال والحيرة ،بسل عليسه أن يسبين بيانا مزي ً
الخطاب ،كافيا في حصول المقصود ،ل يحتاج معه إلى غيره) (.)2
ويقال على المفتي غيره من أهل التربية والتعليم.
و قد ورد في الن صوص ن هي الر سول – صلى ال عل يه و سلم – عن
الغلوطات ،و هي اللغاز الملتو ية ،وهذا الدل يل ،وأن لم ي كن مباشرا إل أن
المام الوزاعسي ،رحمسه ال – أخسذ هذا المعنسى المراد مسن الحديسث ..فقال
مفسرا:
() 3
. ( يعني صعاب المسائل)
-الموافقات للشاطبي ،1/77ويعني باقتباسها من الوجود ،أنها من حقائق الحياة وظواهرها العامة 1
17
وك ما أن ال مر ينط بق على المعا ني ،ف هو أي ضا ينط بق على اللفاظ،
فاختبار الوا ضح من ها أولى من اختيار الغا مض ،والبل غة الح قة في اختيار
المفهوم ،وترك المعقد ،فالبيان في بعض ما قبل عنه:
أن يكون السسم يحيسط بمعناك ،ويحكسي عسن مغزاك ،وتخرجسه مسن
الشركسة ،ول تسستعين عليسه بالفكرة ،ولذي ل بسد منسه أن يكون سسليما مسن
التكلف بعيدا من الصنعة ،بريئا من التعقد ،غنيا عن التأويل) (.)1
ومما يتفرع عن ذلك كراهية التقعر في الكلم ،والبعد عن بسيط القول
والسسهل المفهوم مسن الكلم ،والجدي اختيار أقصسر الطرق ،وأسسهل
ال ساليب ال تي يفهم ها المخا طب ،ويدرك كنه ها ،دون أن يؤدي به ذلك إلى
عدم الفهم ،أو تحميل المعاني غير ما تحتمل.
18
( )7التدرج:
وهذا يقت ضي الترت يب ب ين أجزاء ال فن الوا حد من العلم ،أو ب ين الفنون
المختل فة من العلم ،والق فز دون مراعاة الترت يب يض يع العلم ،ويبع ثر الج هد،
وليكن القصد تحري الترقي باستمرار.
( فإن العلوم مرتبسة ترتيبسا ضروريا ،وبعضهسا طريسق إلى بعسض،
والموفق من راعي ذلك الترتيب والتدريج) (.)1
وهنا موازنة ل بدمن ذكرها ،وهي أن ل يعكف المتعلم على إتقان فن
من فنون العلم بحيث يحيط بكل جوانبه ومسائله وفروعه ،فإن العمر ل يتسع
لكسل ذلك ،بسل أن العمسر ل يكفسي أحيانسا لسستجماع علم واحسد فقسط ،ولكسن
المقصود أخذ قواعد كل فن ،وأحسن ما فيه .ومناهجه العامة ،حتى ل يضيع
غيره ،ولذلك قيل في وصايا المتعلم.
( أن ل يخوض فسي فسن مسن فنون العلم دفعسة ،بسل يراعسي الترتيسب ،
ويبدأ بالهم ،فإن العمر إذا كان ل يتسع لجميع العلوم غالبا أن يأخذ من كل
() 2
. شيء أحسنه)
والتدر يج في العلم مظ هر من مظا هر التي سير ،والتبش ير ،و قد قال
رسول ال صلى ال عليه وسلم – كما في كتاب العلم من صحيح البخاري:
( يسروا ول تعسروا ،بشروا ول تنفروا).
19
( ...وكذا تعليسم العلم يجسب أن يكون بالتدريسج ،لن الشيسء إذا كان
ابتداؤه سهل ح بب إلى من يد خل ف يه ،وتلقاه بانب ساط ،وكا نت عاقب ته غالبا
الزدياد ،بخلف ضده) (.)3
ومن فروع التدرج التدرج مع تلميذك:
( أن تناوله المعلومات وتكسسبه الصسفات بتدرج ،وحسسب أهميتهسا
المطلقة ،شرعا ومصلحة أو أهميتها المرحلية ،أو أهميتها النسبية المنبثقة من
طبيعسة تربيتسه السسابقة قبسل أن يبدأ رحلتسه معسك ،فتبدأ بالهسم ،فالقسل
أهمية.)2( )..
وكذلك ي جب أن تغرس المواز ين ال ساسية ق بل تطبيقات ها الجزئ ية ،أو
المعلومات التكميلية ،وعلي تربيتنا الدعوية:
( أن تهدر الجزئيات والتفاصسيل وتعتنسي بغرس الموازيسن السسلمية
وفسق نظرات شريعسة صسافية بعيدة عسن أطوار التفكيسر الجاهلي ،والغربسي
خصسوصا ..ول يضيسر بعسد ذلك أن يكون التلميسذ مفتقدا لصسفات أخلقيسة
إسسسلمية تكميليسسة ،أو معلومات سسسياسية ثانويسسة ،أو أعرف إداريسسة
ثانوية.)3( )...
ومظاهر التدرج هذه مطلوبة في طلب العلوم الشرعية والدنيوية ،كما
إن ها مطلو بة في الف قه الدعوي ،وبالتالي فإن معر فة صفات الخالق وأ سمائه
ومعرفسة توحيسد الربويسة واللوهيسة أولى وأهسم مسن الخوض فسي الخلفات
الكلمية ،ومناهج علماء الكلم ،والردود على أهل البدع ،وكذلك معرفة علم
التوحيد يجب أن تسبق معرفة علم الفقه ،والجد في فهم القرآن وقراءة الحديث
مقدمة على أصول الفقه والخلف.
20
واستغرب أبن الجوزي كيف أضاع بعض العلماء أعمارهم في تفويت
علوم مه مة نتي جة لنشغال هم بعلم وا حد ،طمعا في ا ستكماله ،وتح صيل كل
فروعسه ،فأدى ذلك إلى تضييسع بقيسة العلوم ،دون الحصسول على فائدة العلم
الواحد ،إذ أن بين العلوم تداخلً ،ول تؤتي الثمرة إل بفهم القليل منكل علم،
ثم ل بأس من الستكثار من أحدها و بعضها.
ومعرفة توحيد الربوية واللوهية أولى وأهم من الخوض في الخلفات
الكلم ية ،ومنا هج علماء ،الكلم ،والردود على أ هل البدع ،وكذلك معر فة
علم التوح يد ي جب أن ت سبق معر فة علم الف قه ،وال جد في ف هم القرآن وقراءة
الحديث مقدمة على أصول الفقه والخلف.
واستغرب ابن الجوزي كيف أضاع بعض العلماء أعمارهم في تفويت
علوم مهمة نتيجة لنشغالهم بعلم واحد ،طمعا في استكمالها ،وتحصيل كل
فروعسه ،فأدى ذلك إلى تضييسع بقيسة العلوم ،دون الحصسول على فائدة العلم
الواحد ،إذ أن بين العلوم تدخل ،ول تؤتي الثمرة إل بفهم القليل من كل علم ،
ثم ل بأس من الستكثار من أحدها أو بعضها:
( أعلم أ نه لو ات سع الع مر لم أم نع من اليغال في كل علم إلى منتهاه،
غير أن العمر قصير ،والعلم كثير ..فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشغيل بما
هو أ هم ..ول ما تشا غل يح يى بن مع ين فأ ته من الف قه الكث ير ..و من أق بح
الشياء أن تجري حادثسة يسسأل عنهسا شيسخ قسد كتسب الحديسث سستين سسنة فل
يعرف حكم ال عز وجل فيها ) (.)1
فأنظر نقد ابن الجوزي ليحيى بن معين عل غزارة علمه في الحديث ،
وفضله ،ولكنه مع عل مه الحديثي في الرجال غابت ع نه بعض مسائل الفقه
الب سيطة ،بل – ور غم عل مه_ لم يدرك ما و صل إل يه أقرا نه كالمام أح مد
وغيره رحمهم ال تعالى.
21
( )8المتفق قبل المفترق:
أن يكون التعليم للمسائل المتفق عليها ول يخوض في مسائل الختلف
،فالختلف للمتعلم مفسدة ،وإضاعة لصل مقاصد التعليم ،كما وأنه يربك
عمليسة التفكيسر ،إضافسة إلى مسا قسد يؤدي إلى إضاعسة الديسن وحفسظ أصسول
الشريعة ،لما في المر من ضياع في متاهة الجدل ولذلك قيل:
( أن يحترز الخائض في العلم في مبدأ المر عن الصغاء إلى اختلف
الناس ،سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الخرة ،فإن ذلك
يدهش عقله ويحير ذهنه ،ويفتر رأيه ،ويؤيسه عن الدراك والطلع.)1( ) ..
ول يع ني ذلك تقل يل أهم ية علم الف قه المقارن ومعر فة أ سباب اختلف
الفقهاء ،فإن هذا العلم مسن الهميسة بمكان ،وهسو العدة الرئيسسية لمسن يطلب
الجتهاد ،أو لمسن يطلب جمسع صسحاح المسسائل وجيسد الفتاء ،إذا عزم على
التحرر من ضيق التقليد المذهبي ،ولكن الكراهة تنصرف إلى تقديم الشتغال
بذلك وولت ها ،من ل زال في مدارج البدا ية بم ثل هذا الختلف ،فإ نه يش تت
فكره ويوهمه أو هاما يليق به أن يكون عنها بمعزل.
وما ينطبق على الفقه ،ينطبق على العمل التربوي أيضا ،وقد أورد ابن
القيم هذا المعنى تمييزا بين المتكلم والسالك إلى ال:
( فترى المتكلم يبحسسث فسسي الزمان والمكان والجواهسسر والعراض
والكوان ..والسسالك إلى ال قسد تجاوزهسا إلى جمسع القلب على ربسه المكون
وعبوديته بمقتضى أسمائه وصفاته ..فالمتكلم متفرق مشتغل في معرفة حقيقة
الزمان والمكان ،والعارف قد شح بالزمان والمكان أن يذهب ضائعا في غير
السير إلى رب الزمان والمكان ) (.)2
فعلى المربي والمعلم مراعاة ذلك وأن ل يسمح لخوانه بالقفز في سلم
المعرفة:
22
( وذلك بأن يمن عه من الت صدي لرت بة ق بل ا ستحقاقها ،والتشا غل بعلم
(. ) 3
خفي قبل الفراغ من الجلي) ..
فهذا الواجسب منصسب على المربسي والمعلم قبسل التلميسذ الطارئ على
طلب العلم ،والذي قد ل يدرك المف سدة في ذلك ،لذلك فالتق صير في تدر يس
العلم و فق مرات به م ما ين قد عل يه العلماء ،ولذلك انت قد ال سلف ب عض العلماء
وقالوا عنهم :
( أبحثُ الناس عن صغير ،وأتركهم لكبير) .
( أعلم الناس بما لم يكن ،وأجهلهم بما كان) .
وقسد تكون هذه الصسفات مسن خصسائص علماء الدنيسا ،الذي يطلبون
بتدريس العلم الشهرة والرئاسة .
ويتض من هذا المع نى أي ضا عدم تت بع شوارد الم سائل ،أو ما ل طائل
وراءه .وقد قال ابن القيم:
( من تتبع غرائب المسائل ،لم يصب من الخير شيئا).
( )9التخصيص:
ومن معاني الربانية في التعليم تخصيص قوم دون قوم بنوع من العلم،
وذلك لختلف المفاه يم والمدارك ،والتجارب والممارا سات ،م ما قد يؤدي
إلى الفهم الخاطئ أحيانا من قبل البعض عند استماعهم أو قراءتهم لعلم دون
مداركهم ،أو أن يقود إلى تأويل واه ،أو تفسير باطل ،بل قد يؤدي إلى تحميل
الكلم أك ثر م ما يحتمله ،والبناء على اللفاظ أك ثر م ما تط يق ،و في حالت
أخرى قسد يكون ظاهسر الحديسث أو المقال يقوى على بدعسة ،أو يقود إلى
مع صية بين ما ظاهرة في ال صل غ ير مراد .ولذلك ورد عن الر سول صلى
ال عليه وسلم – جملة أحاديث يستنبط منها هذا المعنى ..ومنها قوله لمعاذ:
( من لقي ال ل يشرك به شيئا دخل الجنة
23
قال :أل أبشر الناس ؟
قال :ل ،إني أخاف أن يتكلوا ). -
وقد استنبط البخاري المعنى المطلوب فترجم لهذه الحاديث في كتاب العلم
من صحيحه بقوله:
( من خص بالعم قوما دون قوم كراهية أن ل يفهموا .
وقال علي :حدثوا الناس بمسسسسسسا يعرفون ،أتحبون أن يكذب ال
ورسوله؟).
وقال المام مسلم في مقدمة صحيحه ،واعتبرها كقاعدة في منهجه:
( فأما عوام الناس الذي هم بخلف معاني الخاص من أهل التيقظ والمعرفة،
فل معنى لهم في طلب الكثير ،وقد عجزوا عن معرفة القليل).
وفي إطار العمل السلمي يضطر المربي أحيانا أو المعلم ،انطلقا من
هذا المفهوم التربوي ،أن يخسص أفرادا دون غيرهسم ببعسض الحاديسث أو
الكلم ،وليس ذلك تضعيفا لهم أو عدم الثقة بهم ،أو حجزهم عن خير كثير ،
أو حرمانهم من فضل العلم ،ولكن منعا لسوء فهم ،أو إدخالهم في فتنة أو أن
يكون العلم بحاجسة إلى مقدمات أخرى ،ل قسد يكون الغرض أحيانسا مسن منسع
بعض الحاديث عن بعض الدعاة هو حفظ قلوبهم من الوسواس ،ولذانهم من
سسماع الغيبسة ،ولصسدورهم مسن الضغينسة ،وسسد أبواب فضول الكلم عنهسم،
وإعانتهم على عدم التدخل فيما ل يعني ،أو النشغال بما ل يجدي.
واستدل ابن حجر لهذا المعنى بذكر بعض أنواع الحاديث التي يحدث
بها قوم دون قوم ،فورد بعض ما اجتهد به علماء السلف ...فقال:
( وممسن كره التحديسث ببعسض دون بعسض أحمسد فسي الحاديسث التسي
ظاهرها الخروج على السلطان ،ومالك في أحاديث الصفات ،وأبو يوسف في
الغرائب ،ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع
من الفتن ،ونحوه عن حذيفة ،وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج قصة
24
العرين ين ،لنه اتخذ ها و سيلة إلى ما كان يعتمده من المبال غة في سفك الدماء
بتأول يه الوا هي ،وضا بط ذلك أن يكون ظا هر الحد يث يقوي البد عة وظاهره
في ال صل غ ير مراد ،فالم ساك ع نه ع ند من يخ شى عل يه ال خذ بظاهرة
مطلوب) (.)1
ومما روى أيضا ما ذكره مسلم عن ابن مسعود:
( ما أنت بمحدث قوما ل تبلغه عقولهم إل كان لبعضهم فتنة ) (.)2
قال ابن وهب:
( وذلك أن يتأولوه غير تأويله ويحملوه على غير وجهه).
وخرج شعبة عن كثير بن مروة قوله:
( إن عل يك في عملك ح قا ك ما عل يك في مالك ح قا ،ول تحدث بالعلم
غيسر أهله فتجهسل ،ول تمنسع العمسل أهله فتأثسم ،ول تحدث بالحكمسة عنسد
السفهاء ،فيكذبوك ،ول تحدث بالباطل عند الحكماء ،فيمقتوك ) (.)3
ومسن دواعسي التخصسيص أيضسا اختلف قوة الدوافسع إلى تدفسع الدعاة
لتعلم علم من العلوم ،وقد يوافق العلم هوى الداعية وقد ل يكون ،وهذا يؤثر
بدوره على المربسي أو المعلم بإقباله على التدريسس ،وتوفره على التعليسم ،فل
يطوي ما عنده من المكنون ،ول يخ في عن جنوده المخزون .ولذلك فاختيار
المرب ين ل صنوف الدعاة في ا ستماعهم لنواع من الكلم يخ ضع إلى قواعسد
التربية وأصول البناء ،ويحكم ذلك التجارب والممارسات الدعوية ،وقد قيل:
( لكل تربة غرس ،ولكل بناء أس ) .
( ولكل ثوب ل بس ولكل علمٍ قابس ).
و ما أحوج جمهور المرب ين والد عة لهذا المع نى ،وأن يقت صر حديث هم
على مسا ينفسع ،وترك الخوض فسي مسا يقود إلى الخلف أو قسسوة القلب ،مسن
25
حديسث الوجاهات ،وأقاويسل الفتسن ،وحوار القادة ،وخلفات القران ،وأخبار
السوء.
وهذا ل يتم أيضا ،وفوق ذلك كله – إل بفراسة يمنحها ال تعالى لمن
يشاء مسن عبادة العلماء ،حتسى يسستطيع تمييسز الكلم المقال ،واختيار السسامع
له.
( وينبغسي أن يكون للعالم فراسسة يتوسسم بهسا المتعلم ،ليعرف مبلغ
طاق ته ،وقدر ا ستحقاقه ،فإ نه أروح للعالم وأن جح للمتعلم ،وإذا كان العالم في
تو سع المتعلم ين بهذه ال صفة ،وكان بقدر ا ستحقاقهم خبيرا ،لم ي ضع له عناء،
ولم ي خب على يد يه صاحب وأن لم يتو سمهم وخف يت عل يه أحوالهسم ،ومبلغ
() 1
. استحقاقهم ،كانوا واياه في عناء ،مكد ،وتعب غير مجد) ..
وهذا الفراسسة وأن كان للذكاء ،والفطرة منهسا نصسيب ،فإن للتقوى
والتجارب نصيبها الوفر.
و قد اع تبر ب عض العلماء أن من الضرورة كتمان العالم لب عض العلم،
بل وأنها من مظاهر المامة ،فقد قال المام مالك مؤكدا لهذا المعنى:
()2
. ( ل يكون إماما أبدا ،وهو يحدث بكل ما سمع )
فأن ظر لهذا الف قه الوا فر من الفق يه الجل يل ،فالف قه ل يس بكثرة الكلم،
وإنما باختياره لمن يصلح هله ..ولذلك قيل:
( قلوب البرار قبور ال سرار ،فل ينب غي أن يف شي العالم كل ما يعلم
إلى كل أحد) (.)3
ويجسب التنسبيه هنسا – مسع هذا التخصسيص – إلى عدم إشعار الدعاة
الخريسن مسن قبسل المربيسن بوجود دروس خاصسة ،أو بحوث مميزة ،أو
دراسسات معينسة ،وإشاعسة ذلك -وإن كان مسن الضروري تربيتهسم على ذلك،
26
والرضا به – والسبب ما قد يحصل للبعض من فتور في طلب العلم الولى
والسستزادة ،وتشوقسه إلى النهايسة فينشغسل قبله بحسب الطلع ،وقسد أشار
الغزالي لهذا المعنى فقال عن المتعلم القاصر:
( ينبغي أن يقلى إليه الجلي اللئق به ،ول يذكر له وراء هذا تدقيقا ،
فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي ويشوش عليه قلبه ،ويوهم إليه البخل به عنه،
() 1
. إذا يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق )..
( )10سهولة العبارة مقدمة على صعوبتها:
لن ال صل تبل يغ ال سامع بالمع نى ،وتو صيل العلم إل يه بأقرب طر يق
دون التواء ،إذا لو صحت النية من المتحدث أو الكاتب لختار أحسن السبل
ليصال العلم ،ول يختار الطريق الوعر ،لنه ليس بحاجة لثبات فصاحته،
ول لظهار عمله ،بل يطلب بالعلم رضا الرحمن:
( وعلى هذا النحسو مسر السسلف الصسالح فسي بسث الشريعسة للمؤلف
والمخالف ،ومسن نظسر فسي اسستدللهم على إثبات الحكام التكليفيسة علم أنهسم
قصسدوا أيسسر الطرق ،وأقربهسا إلى عقول الطالبيسن ،لكسن مسن غيسر ترتيسب
متكلف ،ول نظسم مؤلف ،بسل كانوا يرمون بالكلم على عواهنسه ،ول يبالون
كيف وقع في ترتيبه ،إذا كان قريب المأخذ ،سهل الملتمس.)2( )..
و من الم سالك الوعرة في ت صعيب اللفاظ ،وإضا عة المعا ني ،ما قد
يلجسأ إليسه البعسض مسن اسستعمال المجاز المبالغ فيسه ،والرموز الشاذة المعقدة،
وجم يع أنواع المواض عة ال صطلحية ،والمواض عة ضربان :أحده ما :عا مة
وهي ما تواضع عليه العلماء في كل علم فيما جعلوه ألقابا لمعان ل يستغني
المتعلم عن ها ،ول ي قف على مع نى الكلم إل ب ها والثان ية :خا صة وهذا هو
الذي ل ينب غي ا ستعماله من ق بل الداع ية ،ل عد فائد ته من ج هة ،ومظ هر من
التخليط في النية من جهة أخرى لنه :
27
( إنمسا يختسص غالبا بأحسد شيئيسن :إمسا بمذهسب شنيسع يخفيسه معتقده،
ويجعل المرمز سببا لتطلع النفوس إليه ،واحتمال التأويل فيه سببا لدفع التهمة
عنه ،وأما لما يدعي أربابه أنه علم معوز ،وأن إدراكه بديع معجز .)1( ) ..
وكل المر ين م ما يتر فع ع نه الداع ية ،وح تى لو احتاج إلي ها ل سبب
ثانوي فير بأ بنف سه عن ها ،سدا للذرائع ،وابتعادا عن قاله ال سوء ،ول كن مع
هذا:
( ....ربمسا اسستعمل الرمسز مسن الكلم فيمسا يراد تفخيمسه مسن المعانسي
وتعظيمسه مسن اللفاظ ،ليكون أحلى فسي القلوب موقعسا ،وأجسل فسي النفوس
موضعا ،فيصير بالرمز سائرا ،وفي الصحف مخلدا.)2( ) ..
وعندئذ ل بأس با ستعماله ما دام مفهو ما ،وي قع في قلب ال سامع موق عا
جميلً ،ما دام ل يقود إلى مف سدة ،على شرط عدم المبال غة والكثار م نه ،أو
التكلف لليتان فيه ،وأن يكون السامعون ممن تدرك عقولهم مثل هذه الرموز،
ومسع هذا فالنقسد هنسا ينصسب على الخطيسب أو الكاتسب إذا تكلف المسر
والصعوبة ،وكان يمكن له التبسيط والتسهيل ،إذ أنه يتعمد التكلف ويسعى إليه
م ما يش عر ال سمع بأ نه يبت غي وراء ذلك شهوة القول ،ول يحرص على تبل يغ
المعنى ،وربما ل يكون مسؤول عن ذلك ،فقد يكون المر بحد ذاته يحتاج
إلى زيادة تأمسل وفضسل معاناة ،حتسى ينجلي ذو الخفاء ،وينكشسف الغامسض ،
وباسستعمال الفكسر فيسه يكون الرتياض بسه فيسسهل منسه الصسعب ،ويقرب بسه
البعيد ،وعندئذ يبرأ القائل به من التهام ،والمر مردودة إلى نفس الكلم ،أو
إلى الع سر في الفهام ،بل وأحيانا كل الق صور في الف هم من ا لم ستمع أو
القارئ ،فقد يمنعه مانع من تصور المعنى وفهمه ،فهذا من قلة الفطنة أحيانا،
ول ذنب لسلوب الكاتب ،وعلى من يبتلي بذلك كثرة المطالعة وإعادة النظر،
والسؤال عما أشكل عليه ،وقد قيل:
-آداب الدنيا والدين للمارودي .61/ 1
28
( ل يدرك العلم من ل يطيل درسه ،ويكد نفسه ،وكثرة الدرس كد ل
يصبر عليه إل من يرى العلم مغنما ،والجهالة مغرما ،فحتمل تعب الدرس ،
ليدرك راحة العلم ،وينفي عنه معرة الجهل.)1( ) ..
وقد يكون السبب شبهة تعترض المعني فتمنع من تصوره ،وتدفع عن
إدراك حقيقتسه ،أو أفكار تعارض الخاطسر ،فتذهسل عسن تصسور المعنسي ل
لنشغال الذهن ،وتعب العقل ،وغياب الوعي ،فهذه المور إذا طرأت على
الن سان لم يقدر على مغال بة قل به ،وإجبار عقله .وه نا يأ تي المع ني التربوي
الذي أقصد من ربانية التعليم ،والتوسط في التقديم ..وقد قيل:
( أن لهذه القلوب تنافرا كتنافسر الوحسش ،فتألفوهسا بالقتصساد فسي
التعليم ،والتوسط في التقديم ،لتحسن طاعتها ،ويدون نشاطها).
وبناء على ما ذكر يظل وأجب المربي منتصبا في ضرورة تخير اللفاظ لكل
طب قة ،ومعر فة طبي عة الم ستمعين جزء م هم من الو عي ،و قد يكون التدق يق
الكثير مضيعة للبساطة المطلوبة ،ولذلك يوصي بأن:
( يكون الخط يب را بط الجأش ،ساكن الجوارح ،قل يل الل حظ متخيرا
للفظ ..ويكون في قواه فضل للتصرف في كل طبقة ،ول يدقق المعاني لكل
التدقيق ،ول ينح اللفاظ كل التنقيح) (.)2
بل أن ال سترسال بالمعا ني أبلغ ح تى في ال سمع ،و ما خرج من القلب
يدخسل إلى القلب ،وكثرة الشرح والتفصسيل تقتسل جمال المعانسي ،ومسن أبيات
الشاعر العالمي فيكتور هيجو:
( أل تشرح ،فإن الشرح يفسد طرافة الموضوع).
29
من الربانية واستعمال الساليب الجميلة الحلوة المؤدية للمعنى ،وعدم
استعمال العبارات الخشنة الجارحة والتي لها نفس الداء ،لن الرفق ما كان
فسي شيسء إل زانسه ،والعبارات الجميلة دليسل على شفافيسة المسسلم ،وحسسن
انتقائه ،وقد قال المصطفى صلى ال عليه وسلم:
( ل يقولن أحدكم خبثت نفسي ،ولكن ليقل لقست نفسي ).
( يؤخسذ مسن الحديسث اسستحباب مجانيسة اللفاظ القبيحسة والسسماء ،
والعدول إلى ما ل قبح فيه ..وإن كان المعنى يتأدى بكل منهما.)1( ) ..
وللت عبير أ ثر في إبراز ال حق و كم من حق يخر جه إلى البا طل سوء
التعبير وما أحسن القائل:
تقسول :هذا جناء النحل تمدحه وإن تشأ ،قلت :ذا قئ الزنابير
مدحا وذما،وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبيسسر
( )12المزج بالرقائق:
و من الربان ية في التعل يم مزج كل علم بالرقائق كي تتح قق ال سكينة
اليمان ية ،ول ي سيطر الع قل وحده على القلب ،والف كر على الروح ،فتتحول
المعا ني اليمان ية إلى فل سفة عقي مة ،وتض يع المقا صد ال صلية لعمل ية التعل يم
التربوي ،إذ أن أصسل المقاصسد فسي التعليسم ربسط المخلوق بربسه ،وتذكيره
بالخرة ،وجعله يشمسر بسساعد الجسد للعبادة والعمسل ،وإل فدراسسة العلم دون
هذه النية مضيعة للوقت ،والتها بالشهوات ،وقد قبل:
( رأيت الشتغال بالفقه وسماع الحديث ل يكاد يكفي في صلح القلب
إل من أن يمزج بالرقائق ولنظر في سير السلف الصالحين ،فأما مجرد العلم
بالحلل فليسس له كسبير عمسل فسي رقسة القلب ،وإنمسا يرق القلب بذكسر رقائق
الحاد يث ،وأخبار ال سلف ال صالحين ،لن هم تناولوا مق صود الن قل وخرجوا
عن صور الفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها.
30
وما أخبرك بهذه إل بعد معالجة وذوق .فأفهم هذا ،وأمزج طلب الفقه
والحديث بمطالعة سير السلف الزهاد في الدنيا ليكون سببا لرقة قلبك .)1( ) ..
ولما كان هدف عملية العلم والتعليم القرب من ال تعالى ،وليس طلب
الدنيا بها ،ففي هذا المعنى صلح للمعلم والمتعلم ،إذا فيه يتذكر المتعلم أن
مال العلم القرب إلى ال ،وقصده في القراءة أو السماع تحليه الباطن ،وأن ل
يق صد به مباهاة القران ،والتفا خر على الغ ير ،ويذ كر المر بي أو العالم نف سه
دائ ما بن فس المعا ني ،ويتذ كر أن تعلي مه :ل تعالى ،دون الرئا سة والمباهاة
والمنافسة ،ويقد تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم
الفاجر بأكثر مما يفسده إذا تجافى عن الصواب ،أو فسدت النية.
وهذا المسسلك فسي التعليسم ل بسد مسن التذكيسر بسه دائمسا ،وعدم الخسذ
بالساليب الغربية الباردة حيث الكتفاء بجوهر الموضوع فقط ،فإنما تصلح
هذه الطريقسة للمباحسث الطبيعيسة لختلف أهدافهسا ومقاصسدها ،أمسا التعليسم
الدعوى فل بد له من حد يث القلب ،وأ سلوب القرآن الكر يم أ كبر دل يل على
هذا ال مر ،فل يس ف يه اقت صار على معان محددة ،وإن ما يخلط الف قه والحكام
يذكسسر الموت والخرة ،وربطهسسا بالثواب والعقاب ،وال تعالى أعلم بقلوب
عباده وما تحتاج إليه.
( )13تحذير المحدث من اللجاج:
يكره التزود بمسا ل طائل بعده ..وكذلك التكلف ،وقسد قال الجاحسظ ي
رسائله يحذر المتحدث والكاتب من ذلك وناصحا له:
( وأ نا أحذرك من اللجاج والتتا بع( ، )2وار غب إلى ال لك في ال سلمة
من التلون والتز يد ،و في ال ستطراف والتكلف ،فإن اللجاج ل يكون إل من
خلل القوة ،وإل مسن نقصسان قسد دخسل على التمكيسن ،واللجوج فسي معنسى
المغلوب.) ..
31
ومع نى هذا ال مر عدم اختيار المعا ني ال تي تقود إلى الجدل ،أو ال تي
ت ستثير الف تن والمشا كل ،أو أن المحدث يختار الرد على ما انت قد عل يه لير يح
نفسسه ،ويشبسع غروره ،ويبلغ النتصسار مسن خصسمه ،وكذلك عدم المبالغسه
بمظاهر التقوى ،وإدعاء الزهد ،والتكلف في الوقار ،وعليه أن يسمع نصيحة
ابن قتيبه في مقدمة عيون الخبار حيث قال:
( وأحببت أن تجري على عادة السلف الصالح في إرساله النفس على
السجية والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع ،ول تستشعر أن القوم قارفوا
وتنزهت ،وثلموا أديانهم وتورعت.) ..
( )14ربانية الجواب:
وأخيرا ،نخ تم المب حث بران ية الجواب ،فإن المتحدث أو الكا تب ل بد
مسن تعرضسه للسسئلة ،فان لزامسا :الجواب عنهسا ،وتكثسر الحاجسة لذلك وسسط
الدعاة ،بل غالبا ما يكون وقت السئلة للمربين والقادة والخطباء ،في كثير
من الحوال ،مساويا الدرس أو المحاضرة.
ويحسسبنا هنسا أن نذكسر أهسم خصسائص الجواب ،قياسسا على مسا ينبغسي
للمفتي أو المام عندما يسأل عن مسألة :
يجوز للمتحدث أو المربي أن يجيب السائل بأكثر
مما سأله:
() 1
. ( وهو من كمال نصحه وعلمه وإرشاده ،ومن عاب ذلك فلقلة علمه)
وقد ترجم المام البخاري في نهاية كتاب العلم من الصحيح ( باب :من
أجاب ال سائل بأك ثر م ما سأله) ع ند إيراده الحد يث المحرم الذي سأله عن ما
يلبس المحرم ،فأجابه صلى ال عليه وسلم:
( إل يلبس القميص ول العمامة ول السراويل ول ثوبا مسه الورس).
ويؤخذ من الحديث:
32
( إن المف تي إذا سئل عن واق عة واحت مل عنده أن يكون ال سائل يتذرع
بجوابة يعديه إلى غير محل السؤال :تعين عليه أن يفصل الجواب) (.)1
ينبغسي للمربسي إذا سسأله إنسسان عسن شيسء يحتاج
ومنعه منه ،أن يدله عل ما يعوض عنه ،وهذا من
تمام شفقسة المربسي والداعيسة على أخيسه ،حتسى ل
يد عه في حيرة من أمره ،أو ي صعب عل يه ال مر ،
أو يجعله يشعر بعدم كفاية المربي.
( فمثاله في العلماء م ثل ال طبيب النا صح في الطباء ،يح مي العل يل
عما يضره ويصف له ما ينفعه ،فهذا شأن أطباء الديان والبدان ) (.)2
ودليل ذلك منع الرسول – صلى ال عليه وسلم – لبلل أن يشتري صاعا من
التمر الجيد بصاعين من الرديء ،فقال له في الحديث المتفق عليه :
( بع الجمع بالدراهم ،ثم أشتر بالدراهم جنيبا).
والجنبيب :هو المنتقي الذي ل رديء فيه ،أو الكبيس.
والجمع :هو الدقل ،أي ردي التمر.
والم نع -فسي إطار الجماعسة المسسلمة – مسن أمسر مسا ،دون تسبيان السسبب أو
اعطاء البد يل ل يقود ف قط إلى الخيرة ،وعدم الشعور بعدم كفا ية المر بي ،بل
قد يقود الداع ية ،والناش يء خا صة – إلى التخ بط والب حث عن الجواب ع ند
شخص آخر ،يوقعه في فتنة.
التنبيه على وجه الحتراز ،إذا شعر المتحدث إن كلمه سوف يؤدي
بالبعض إلى فهم خاطئ ،أو إضافة غير صحيحة عليه ،أو أن هنالك استنثاء
في أسل المسألة.
وكل ما كان كلم المتحدث أو الكا تب مرغو با ف يه ،وم ما يتلق فه الدعاة:
كل ما د عت الضرورة أك ثر من الحذر في العبارات ،والتني به ع ما قد يح صل
-فتح الباري 1
33
من الف هم الخا طئ ،أو التف سير ال سيء حفظا للم صلحة ،فل يس هنالك ما هو
أسوأ من زلة العالم في اختلف العقول وتباين الفهام.
التمهيد للحكم أو القول المستغرب بما يوضح ذلك ،
ويد فع ال سوء ،ح تى ل ي سبب مف سدة ق بل ا ستكمال
الجواب ،وحتى تتنبه النفوس للسماع الكامل ،وحتى
يرجع صاحب الغفلة إلى النتباه فل يقع في الوهم.
( إذا كان الحكم مستغربا جدا مما لم تألفه النفوس ،وإنما ألفت خلفه ،
فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مؤذنا به ،كالدليل عليه ،والمقدمة بين
يديه ،فتأمل ذكره سبحانه قصة ذكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر
الشبيبة وبلوغه السن الذي ل يولد فيه لمثله في العادة ..والمقصود أن المفتي
جديسر أن يذكسر بيسن يدي الحكسم الغريسب الذي لم يؤلف مقدمات تؤنسس بسه ،
وتدل عليه ،وتكون توطئة بين يديه) (.)1
وم ثل هذا تك ثر الحا جة إل يه و سط الدعاة ،كالفتاء في ب عص ال سائل
التسي تختلف باختلف الزمان والمكان ،أو الخروج عسن المألوف مسن الحكام
لمصلحة شرعية ،أو لضرورة ،أو التشديد في أحكام أخرى سدا للذريعة ،أو
بعض الفتاوي التي تصح في دار الكفر دون دار السلم ،أو الخذ بالحوط
حينا وباليسر حينا آخر.
إعطاء الجواب على قدر فهم السائل ،ولذلك قيل :أن
معرفسة الناس ضروريسة ،وتعرف هذه مسن قرائن
الحوال ،فجواب سؤال العالم ليس كسؤال العامي،
والجواب اللزم للداعيسة الملتزم ليسس كجواب مسن
كان جديرا على العمسل السسلمي ،وجواب الباحسث
عسن المعرفسة ليسس كمسن يريسد إفحامسا وتعريضسا ،
34
والجابة في الجمع ليس كالجابة لفرد يمكن النظر
إلى حاج ته ومق صده ،ولهذا اع تبر هذا المن هج من
ملمح البلغة ،فأشترط للبليغ:
( إن ل يكلم سيد المة بكلم المة ،ول الملوك بكلم السوقة) (.)1
ولما ذكرنا بعض خصائص الجابة التي تجب على الداعية الخيطب أو
الكاتب ،أو عموم أحاديث الدعاة من الشيوخ والمربين ،فليس من نافلة القول
أن نذ كر ملخصا للموا ضع ال تي يكره فيها ال سؤال ،تعليما للدعاة وتربية ل هم
وتنبيهسسا ،وأولى المسسسلمين باللتزام بهسسا :جمهرة الدعاة على اختلف
مستوياتهم.
ونكتفسي بعشرة مواطسن مهمسة يكره السسؤال فيهسا :ننقلهسا – بتصسرف
واختصار ،عن الموفقات للمام الشاطبي رحمه ال :
السؤال عما ل ينفع في المور الدينية والدعوية.
ال سؤال عن زيادة ل فائدة ،بعد ما بلغ المرء من
العلم في المسألة حاجته.
السؤال من غير احتياج إليه وقت السؤال.
السؤال عن صعاب المسائل وشرارها ،وغرائب
المور ،والغلوطات.
السسؤال عسن علل الحكام التعبديسة التسي ل يعقسل
لها معنى .
أن يبلغ السسائل بسسؤاله إلى حسد التكلف والتعمسق
الزائد.
أن يظ هر من ال سؤال معار ضة واض حة لظا هر
الكتاب الكريم والسنة بمجرد الرأي.
35
السؤال عن المتشابهات في القرآن الكريم.
ال سؤال ع ما ش جر ب ين ال صحابة الكرام ،وكذلك
السلف الصالح ،وعملء المة .
سؤال الفحام والتعنت وطلب الغلبة في الخصام.
36
المعايير النسبية لربانية
التعليم
يث ير مب حث ( ربان ية التعل يم ) قض ية في التعل يم الدعوي المنه جي هي
على مقدار عظيسم مسن الهميسة ،وبخاصسة أن المذهسب السسائد فيهسا ،القائل
بالتدرج ،يمكسن أن يعاكسس بمذهسب آخسر يقوم على اجتهاد مغايسر ل يمنسع
تجاوز التدرج عند توافر مواصفات وشروط معينة.
وفي مثل هذا المواطن تختلط بعض الصطلحات ،كما هي مختلطة
tفي القول المنقول عن ابن حجر من وجوب بدء المعلم بصغار العلم ومقدماته
وجزيئاتسه قبسل كباره ونتائجسه وكلياتسه .فصسغار العلم تعسبير واضسح ،وبيان
المقدمات ق بل المقا صد أو النتائج أ مر يو جه المن طق ،ول كن تناول الجزئيات
ق بل الكليات ،والفروع ق بل ال صول ،ه ما من المور المنهج ية ال تي يتعدد
فيها الصواب ،وتختلف فيهما النظرات ،وفي كل منها مقدار ل يمكن تجاوزه
من وجوب التدرج الذي يتلءم مع نظرية الربانية هذه ،إنما فيهما أيضا مقدار
من تأخ ير ف تح ذ هن الطالب المتعلم على صنعة التحل يل وال ستقراء ،والقياس
والشتقاق ،وفسي وقست ربمسا تكون فيسه حده ذكائه فسي أقصسى مسستوى لهسا،
وشغ فه وإقباله في اك مل حضوره ما ،وبخا صة ع ند بدا ية التعلم ،ح يث ت ستبد
الشواق وتستعمر الهمم ،ولذلك يمكن ويجوز لبعض المربين أن ينتهج نهج
تدر يس العلوم من أعل ها ،بذ كر الم هم ق بل الثانوي ،وذلك الكليات والقوا عد
والموازين قبل الفروع والجزئيات والمقدمات ،استثمارا لعاملي الذكاء والقبال
من باب ،وقذفا لهذه المعاني في اللشعور من باب آخر وأن لم يدرك الطالب
تمام ما فيها ،وتدريبا له أيضا من باب ثالث على التحليل والتركيب في وقت
مبكر يجعله يلتزم المنهجية في استقبال المعلومات وتصنيفها ومعرفة قيمتها ،
و قد يع طي المر بي طل بة م ثل هذه القوا عد والتمار ين التحليل ية على جرعات
ووجبات بينها فواصل زمنية يرجع خللها إلى تعليمهم الجزئيات.
37
والفروع ،وهذه الطريقة تفرضها حاجة ماسة مرئية مجردة في الواقع
هي مفاد نظرية الربانية ،إذا كيف يستطيع الستقراء من لم تكن له ثروة من
المعلومات الجزئيسة يسستطيع إجالة النظسر عبرهسا ليسستقرئ منهسا شيئا مسن
الملحظات والمور المتكررة على نسسق واحسد ليجمسع منهسا قاعدة ،مثل؟
وكيف يستطيع القياس والشتقاق من لم يحط أول بخبر الحكم الواضح الثابت
الذي يقاس عل يه أو يش تق م نه؟ ولهذا فإن م سألة تقد يم ال صول على الفروع
أو العكس يمازجها اجتهاد منهجي ،ونظر ذوقي فراسي ،كما يتحكم فيها نوع
العلم ،ومسستوى الطالب فسي الذكاء ،والسستعداد ،ول نرى الطلق فسي
صحة أحد المنهجين المتعاكسين ،وإما هو اختيار للمربي تحكمه التجربة ،بل
وتحك مه المغامرة أي ضا في ب عض الحيان ،ك ما هي اختيار كذلك لواض عي
المن هج التربوي ،ول كن هذه الن سبية لي ست نف يا للتدرج ،ول يس هي أ قل أ ثر
وأهم ية في إثبات وجوب نظر ية الربان ية ،فأن ها تتض من هذا التدرج المبت غي
وأن جاز الوجسه الخسر ،وفسي ذلك دفسع وإبطال لغلط الدعاة المربيسن الذيسن
يغفلون ول ينتبهون إلى ضرورة التسسلسل أو التدرج الذي تدعسو إليسه نظريسة
ابن عباس وابن حجر في ربانية التعليم.
لماذا تربية التقليد إذ الجتهاد قريب؟
وجماع القول في هذا المر ينقسم إلى ثلث شعب:
( الشعبة الولى ):
إن السراف في تعليم الفروع ،وتجريدها ،والغلو في عرض المقدمات
بدعوى التدرج :يؤديان إلى نشوء عقل ية تقليد ية مح ضة ت ستولي على التلم يذ
وتجعله سسلبيا ،ل يطمسح إلى إعمال التفكيسر ،ويصسير إتكاليا فسي العلم ،بينمسا
الواجسب على المربسي أن يثيسر فسي التلميسذ كوامسن القابليتيسن المتعاكسستين ،
التحليلية والتركيبية ،من أجل إنماء العقلية الجتهادية فيه ،وإنما يكون ذلك
بطري قة عرض ال صول والقوا عد ،و قد يكون الداع ية المر بي نف سه بحا جة
38
إلى هذه الطري قة من معلم أعلى يعل مه ،أو من خلل المطال عة المكش فة ،إذا
أنه بدوره ضحية منهج الستغناء بالفروع الذي كان سائدا ،بل إن أكثر المة
السسلمية اليوم هسم ضحيسة هذا النمسط الذي اسستولى على طرائق التعليسم فسي
قرون التخلف الخيرة.
( الشعبة الثانية ):
أن المعنسى المغايسر للتدرج يتأكسد فسي المحيسط الدعوي بخاصسة ،وذلك
ب سبب كون الدعاة الذي هم في طور التلمذة رجالً راشد ين وأ صحاب ذكاء،
ولم يقبلوا في الجماعة الدعوية أصلً إل من بعد قيام قرينة على توفره فيهم.
وأيضا لن الكثير منهم أصحاب دراسة جامعية وربما أصحاب شهادة أعلى،
م ما يع ني إطلع هم على أبواب من الع مل التقعيدي والتحليلي ،و هو وأن لم
ي كن في المجال الشر عي إل أ نه مف يد ،إذا يو جد سبيل ا ستراقي مشترك ب ين
العلوم ،وبعضها يؤثر في البعض الخر ويمهد له ،والمقدرة الجتهادية تنمو
جزما لدى دارس للقواعسد الداريسة والقتصسادية ،أو لدى متتبسع للظواهسر
الفيزياويسة والمعادلت الرياضيسة ،ومثسل هؤلء إذا كانوا مسن الدعاة وأردنسا
تعليمهسم العلم الشرعسي فإن الطريسق يختصسر لهسم اختصسارا ،وتقوم علومهسم
التطبيقية أو دراساتهم النسانية مقام الترويض الذي يرجوه المعلم من الفروع
والجزئيات ،ويمكنه أن يبدأ معهم دراسة الكليات والصول.
تأثر التربية بعوامل عديدة غير التدرج
( الشعبة الثالثة ):
أن أمر صياغة العقلية الناضجة الكاملة التي من صفاتها الجتهاد أبعد
من أن ت سأل ع نه هذه الطري قة في التدرج أو عدم ها ،وإن ما هي عا مل وا حد
من جملة عوامل وفنون عديدة تجتمع لتنتج الفق الواسع ،وقد يكون سرد هذه
العوامل مضمرا لدى الباحثين حيث يكتبون ،ولكن القارئ ينحرف بمقاصدهم
إلى أحاد ية التفسسير ،ويجعسل القضيسة المبحو ثة كأنهسا الوحيدة المسسؤولة عسن
الظاهرة المرصودة وسببها المفرد ،وليس ذلك بصحيح ،ول يليق أن نستدرك
39
على م ثل هذا الخلل في التل قي مقدما وابتداء بذ كر جم يع ما هنالك من أخبار
وفنون التربيسة ،لنسا لخاف أن يؤدي اليجاز غيسر المشروح إلى خلط آخسر
وتنزيل للكلم على غير منازلة المقصودة.
الحوار سنة السلف المربين
وإن ما ي سعنا ه نا أن نش ير إلى أن الحوار ب ين المر بي وتلميذه هو أ حد
أهسم الوسسائل الخرى لتكويسن العقليسة الجتهاديسة البداعيسة ،ويأتسي مسساندا
للطريقة المضادة للتدرج ال تي أشر نا إلى نسبية صوابها ،بل وم ساندا لطريقة
التدرج أي ضا ،و قد مالت ( منهج ية الترب ية القياد ية ) في سلسلة الع ين إلى
شرحه وتحبيذه وجعله معلما بارزا من معالم هذه التربية ،وهي تذكرنا بما
كان من حوار ثري دفاق دائم يومي في مجال أبي حنيفة مع أصحابه رحمهم
ال ،مسن أمثال أبسي يوسسف ومحمسد بسن الحسسن الشيبانسي وزفسر بسن الهذيسل
ومحمسد بسن زياد اللؤلؤي والقاضسي الكندي ،أو مجالس الشافعسي بمصسر مسع
أصسحابه رحمهسم ال ،مسن أمثال البويطسي والمزنسي والحميدي ،ومسن قبلهسم
الح سن بن مح مد الزعفرا ني وأ صحابه ببغداد ،ح تى أن كتاب ( الم) الوا سع
كان ثمرة لتلك المحاورات التي رأسها الشافعي ،وليس هو من تأليف الشافعي
كبا حث متأ مل على انفراد ،و قد تل قف الغربيون هذه الطري قة عن الم سلمين
وطوروهسا وجنوا نتائج ها الجيدة ،حتسى أطفالهسم فسي المدارس البتدائ ية اليوم
ليتقنون الحوار ،وبشجاعسة ،وربمسا وقسف أحدهسم أمام التلفزيون وتكلم بكلم
مرتسب واضسح ل يداخله تلعثسم ،فسي الحيسن الذي ل يزال بعسض الدعاة فسي
الشرق يربون أ صحابهم على ال سماع المجرد ،ويكون التلم يذ الدعوي أمام هم
كأنسه وعاء يجهدون أنفسسهم على صسب كسم هائل مسن المعلومات فيسه وهسو
صامت مرا قب فح سب ،فكأ نه قرص كو مبيوتر ي تم ملؤه ،وأ ني للقرص أن
يتناوش الجتهاد من مكان بعيد؟
أهل ...يسابقهم الغرباء
40
لكن منافع المحاورات ،ومسوغات تجاوز التدرج في المحيط الدعوي
ل تنفي حصول فوضى مشهودة تعددت كلمات المعلمين خللها حتى المقادير
الدن يا الواج بة من التدرج ،وتحررت من ضوا بط تجاوز التدرج ،فأضرت ،
ولو كا نت قائ مة على اجتهاد لجازت ،ولكن ها لم تنت سب ل حد المذ هبين ،ولم
تصسدر عسن نظسر وقصسد وعمسد وذوق وفراسسة ،وإنمسا هسي مجرد ارتجال
وإهمال فيه ما غفلة عن المعاي ير المنهج ية ال تي ت ستند إلي ها الراء المتعاك سة
في التدرج أو عدمه.
وساعد على هذه الظاهرة بوجه خاص ما شاع في المؤتمرات الطلبية
السلمية المقامة في أوروبا وأميركا من دعوة كبار الكتاب والمفكرين والقادة
للكلم أمام جمهور عريضسة مسن السسامعين ،أكثرهسم مسن المبتدئيسن وصسغار
الشباب الذي يليق لهم الكلم العاطفي وحديث الحماسة أكثر مما يليق لهم كلم
المفكريسن والقادة الذيسن ربمسا ل يجيدون الخطابسة واللفاظ الرنانسة كإجادتهسم
للمحاضرة والتدريسس وطرح القضايسا ذات العمسق ،وقسد يضطرهسم شعار
المؤتمسر إلى تناول أبعاد تخطيطيسة أو إيراد نقسد شمولي بمسستوى أربسع مسن
إدراك أكثر المشاركين.
وصسحافتنا السسلمية مسسؤولة هسي الخرى أيضسا عسن تسسبب هذه
الظاهسر ،إذ أننسا بسسبب ضمور الحريسة فسي إصسدار الصسحف :انعدمست فسي
أو ساطنا ال صحافة المتخ صصة ،فلي ست هناك صحف خا صة لل سياسة ،ول
للف كر ،ول للشباب ول للطفال ،ول للن ساء ،وإن ما هي صحف قلئل نادرة
تحاول أن ترضسي كسل الهتمامات والمسستويات والوذاق معسا ،فيطلع الشاب
والمسستجد على كثيسر مسن الكلم الذي يتجاوز مرحلتسه البتدائيسة ،فينشسأ عنده
الفضول والخوض المب كر في ما ي ستحسن أن يم سك عن الكلم ف يه ،ومبا حث
مجلتي المجتمع والمة شاهدة على ذلك.
41
وموجسه كتسب ( أيسن الخلل ) و ( النقسد الذاتسي) و ( المذكرات) زادت
رقعسة الفضول اتسساعا واصسبح ابسن البارحسة الذي يحبسو يعتلي المنابر ليعسظ
القادة ،وي صول في ( التأ صيل) ،ويجول في ( الشورى ) ،وو قع أناس في
الخلل إذ هم يبحثون عن الخلل ليبرأوا منه ،وأصبحت الشورى مشجبا تعلق
عليه تطلعات النفس ذات الخلط.
الحيثيات المتضادة في ربانية التعليم
والموقف إزاء هذه الظاهرة بشيء من البرود واللمبالة ،وندعها تمر،
ونترك المتكلمين في المؤتمرات والصحف والمذكرات ليتكلموا على رسلهم ،
وبكلمات كبار يها نقد وتقعيد وتخطيط ،والسبب في ذلك رؤية حيوية قدرية
أقن عت المرب ين بأن المو فق هو من وف قه ال تعالى ،بذكاء يخل قه ف يه ابتداء ،
وبنفس ذكية سوية ،وشخصية قوية ،أو بتيسير في يومياته من بعد خلقه ،من
صحة وعاف ية ،ومال يرف عه عن حد الف قر الم سوس ،وزو جة صالحة ت سره
عشرت ها ،وأمثال ذلك ،وهذه العنا صر بم ثل هذه التوفيقات ينفع ها هذا الكلم
العالي ،وي صعب ح صر ذوات هؤلء وإح صاؤهم لنحت كر ل هم ح يث ،ولذلك
نتلكم للجميع ،فمن كان موفقا انتفع ونفع الدعوة وصار ضمن الجيل الجديد
الوارث لنظرت العلميسن المتكلميسن ،المطبسق لهسا ،وازداد تنميسة لفكره بمسا
يبدع .وأمسا الذي يسسمعون ول ينتفعون فلسسنا نبتئس لسسماعهم ،فإنهسم أمسا أن
ينسسوا مسا سسمعوا ،وهذا خيسر أحوالهسم وأحسسنها ،أو يكون منهسم الفضول
والتد خل في ما ل يعني هم في سلسلة من الذواق ال سيئة ال تي تنت هي ب هم إلى
خارج الدعوة ،وكأن قدر الخيسر هسو الذي جعلهسم يتخلفون ،ولو علم ال فيهسم
خيرا لسسمعهم سسماع المنتفسع الذي يتلمسس طريسق العمسل ،فيثبست ويزداد
رسوخا.
وقد يصح – في رأي أخر – أن نستقبل هذه الظاهرة بنوع من التخوف
والحذر ،فل نتكلم بأصسول وموازيسن ،وغيسر ذلك مسن كبار العلماء فسي
المجالت العامسة ،خوفا أن نفسسد فطرة المبتدئيسن ،ونسساعد على تأسسيس
42
الفضول ،فنكون السبب في إتلف كثير من شباب الدعوة من حيث ل نشعر،
وتكون هذه العنا صر ضح ية خ طأ تربوي يرتك به القادة والمفكرون بتحديث هم
هؤلء أحاديث ل تبلغها عقولهم ،فتكون فتنة لهم.
ولكسل مسن الرأييسن وجاهتسه وحيثياتسه المقنعسة ويبدو – وال أعلم – أن
القول النسسبي فسي ذلك أصسح ،بحيسث نلجسأ إلى احسد الرأييسن حسسب الظروف
المحي طة بالدعوة ،إن كانت شديدة ذات محن ،أو أوقات ي سر ،وبحسب سعة
الجيل السامع الجيد ،إن كان ضخما يحتمل النحت منه من أجل انتقاء الشداء
الذكياء ،مثسل جيسل الصسحوة الحاضسر ،أم هسو جيسل محدودة تحتاج حتسى
أصحاب النقص من أبنائه ،وأيضا بحسب المجموعة القيادية ،إن كانت كبيرة
ومتحدة ومنسسجمة الفكسر ،أم هسي صسغيرة وتعيسش حالة تبايسن فسي الجتهاد،
وعندئذ نحذر أن يستقوي أصحاب أحد الجتهادات بشباب جدد يلفونهم لفا من
ح يث ل يدركون ،فيكون سواد وا سع يؤ يد اجتهاد هم في الظا هر ،بين ما هو
فسي الحقيقسة سسراب فكري وتخطيطسي ل يسستند إلى أركان متينسة ول صسورة
واقعية ،لبدائية مؤيدي هذا الجتهاد وكونهم مجرد مقلدين.
والتأمل الطويل في أوصاف المرحلة الدعوية الراهنة تجعلنا نميل إلى
سي
سى ولو كان ذلك فس
سه بكبار العلم حتس
سل الرأي الول الذي نتكلم فيس
تفضيس
المؤتمرات والصحف والكتب المنشورة ،مع ما يخالط ذلك من سلبيات أكيدة،
إذ أن نظرة الترج يح ب ين الم صالح والمفا سد تجوز ل نا ذلك من ح يث المبدأ،
ول تشترط لتصسرفاتنا أن تكون مجموعسة مصسالح محضسة ،وإنمسا نعمسل
بالمصالحة الراجحة وإن مزاجها شيء من المضرة أقل منها ،ففتنة الفضوليين
حا صلة بش كل أك يد ،ول كن ترب ية ج يل جد يد بأ فق وا سع وعلى سنن البداع
والفهم الحضاري تشكل مصلحة أكبر.
43
كلمات التقوى وصصصصصفات المرونصصصصة :مصصصصصاعد
الجتهاد
ولكن نضبط هذا النفتاح في الكلم بشروط ،منها:
( الشروط الول):
أن يكون كلم الرقائق مشاعا في أوساط الدعاة ،بحيث تميل المواعظ
وأحاديث الخلق اليمانية بالداعية إلى التواضع والدب في التعامل واحترم
المقابل وعفة اللسان إذا أغرته أحاديث الصول والقواعد بإبداء نقد أو التقدم
بين يدي أساتذته.
( الشرط الثاني) :
أن يرا فق ذلك سعي لشرح النظر ية ال سياسية ال سلمية وأبعاد ها ،لن
المعا ني الكل ية والتعميمات إذا لم يفهم ها الداع ية وأخذ ها على ظاهر ها فلرب ما
يذهسب فسي التأول بعيدا ،ويميسل إلى الطلق والحكام الحادة فينفسي بقواعسد
ستقلل مناورات التحالف
سن السس
سي بموازيس
سة ،ويلغس
الجهاد احتمالت الهدنس
وي ستعلي بأحاد يث العزة وال صبر على إفتاء الضرورات ،بين ما تمده النظر ية
السياسية السلمية الشاملة بعقلنية وتوازن مع المحيط ،وتجعله أحفظ للدماء
والموال والعراض ،وأحرص على تقليل الثمن الواجب عليه دفعة ،وتهبة
من المرونة ما يتملص به من المحاصرات ،أو تنفذ به إلى حضور قسمة لها
فيها نصيب إذ يريدها المنافسون أن تكون ضيزي.
القضاة الفاضلون في دار المان
( الشوط الثالث ):
أن تتوافر قدوات كافية في المحيط الدعوي ،من قادة ومربين وعلماء،
يجعلون بالرد والتقو يم وإرجاع المور إلى ن صابها ال صحيح إذا اش تط مغرب
فركسب شذوذا ً ،لن العتماد على الكتابسة يسسبب تسسويفا وتأخيرا ،ولرمبسا
و صلت ال صفحات ب عد الخراب ،بين ما يؤدي ال ستدراك ال سريع من القدوات
النازلة إلى ميدان المخالطة دوره بشكل أكد ،فإن لم ينفع لفظ :نفع آخر ،وإن
44
أنغلق معنى :فتحة تمثيل ،وإذا أشكل قياس :أظهره تعليل ،نقدا ،يدا بيد ،هاء
بها ،غير نسيئة ول محال إلى مؤتمر لحق.
( الشرط الرابع):
أن ل يكون الزمسسن زمسسن فتنسسة وخلف ،فإن حرص النفوس على
حظوظها يجعل بينها وبين الصواب القريب حجابا ،حيث يغلب على الفئدة
أن تطيع أهويتها ،ومن الخير آنزاك أن نجمد الفكار ونقطع لسان الصول
والكليات وكبار العلم ،ليتاح مجال للتقوى أن ته مس في الذان داع ية لنف سها،
ولتكون لحروف الصلح بين الناس قناة جارية.
في الرواق والركن ل في ساحة
( الشرط الخامس):
أن ل يكون قصسد المفكريسن والقادة الكلم بكبار العلم فسي المؤتمرات
وال صحف عن ع مد وا ستمرار يجعل ها هي المو طن ال طبيعي لهذا النوع من
الكلم ،أو الموطسن المختار ،وإنمسا يجعلون ذلك مسن باب السستثناء بقصسد
اكتشاف وأثاره وتشجيع عناصر قوية ذات إبداع ربما ل يصلون لها بطريق
الت صال الخاص ،وأ ما كثا فة ما ينقلو نه من كبار العلم م ما علم هم ال في جب
أن يكون عسبر المدارس القياديسة والمجالس المنهجيسة المتكررة ،ليتسم الشرح
بأو فر ما يكون البيان ،وليكون الحوار المبا شر الم ستخرج من قلب ال ستاذ
لما لم يكن قد زروه سلفا من المعاني والرشادات.
في الرواق والركن ل في الساحة
( الشرط الخامس)
أن ل يكون قصسد المفكريسن والقادة والكلم بكبار العلم فسي المؤتمرات
وال صحف عن ع مد وا ستمرار يجعل ها هي المو طن ال طبيعي لهذا النوع من
الكلم ،أو الموطسن المختار ،وإنمسا يجعلون ذلك مسن باب السستثناء بقصسد
اكتشاف وأثرة وتشج يع عنا صر قو ية ذات إبداع رب ما ل ي صلون ل ها بطر يق
التصال الخاص ،وأما كثافة ما ينقلونه من كبار العم مما علمهم ال فيجب
45
أن يكون عسبر المدارس القياديسة والمجالس المنهجيسة المتكررة ،ليتسم الشرح
بأوفر ما يكون البيان ،وليكون الحوار المباشر المستخرج من قبل الستاذ لما
لم يكن قد زوره سلفا من المعاني والرشادات.
ننتظر رشد الرهط
( الشوط السادس):
أن يشدد في تعليم الفروع وصغار العلم أيام مراهقة العمل الدعوي في
بلد ما ،فكل عمل ير بمرحلة المراهقة هذه ،بعد اكتمال تأسيسه وقبل توسعه
وانفتاحه ،وهي ذات ظواهر نفسيه تعتري المجموعة تشابه إلى حد كبير طباع
الفتسى المراهسق ،مسن تقلب الرأي ،والعناد ،والغراب ،والجنوح إلى الخيال،
و حب المغامرة ،وكراه ية الرقا بة ،فإذا جاءت المبا حث العال ية وحقائق العلم
الكبيرة في أيام المراهقة الحركية هذه فإن المجموعة يمكن أن تنحرف بها إلى
جدل طويسل يصساحبه اختلط الصسوات ،أو تجنسح بسه إلى اجتهادات شاذة
المراهقسة هذه ،إذ تهدأ النفوس ،وتمثسل إلى العقلنيسة ،وتشعسر بضرورة
الواقعيسة ،وعندئذ يؤتسي تعليمهسا نتيجسة المرجوة ،ويسساعد على تفجسر البداع
الشخصي لدى أذكياء الدعاة ،ومثل هذا التعليم في المرحلة المتقدمة يفترض
أن يقوم بسه جيسل مسن المتعلميسن تربسي على كبار العلم مسن قبسل فسي مرحلة
التأسيس من خلل دورات خاصة ورعاية مكثفة.
* والمنهجية ..دوماً
( الشرط السابع)
واللتزام بالمنهجيسة فسي العمسل والموضوعيسة فسي الفكسر تعصسم مسن
النحراف ،فإذا شاعت مجموعة من المبادئ المنهجية ،والعراف الصحيحة،
والموازين الدقيقة في مجموعة الدعاة :ولدت كبحا للفهم الخاطئ ،وبها تمنع
ت سرب التفا سير المشو شة ،والتأويلت المفر طة البعيدة ،وبذلك ت ظل الجواء
نظي فة دائ ما ،وتع مل القوا عد المنهج ية والعراف التنظيم ية كمرشحات تحول
دون سسلبيات النفتاح ،وخصسوصا إذا أضيسف إلى ذلك إشاعسة مفاهيسم أداب
46
الحوار ،وأخلق المناظرة ،وأعتاد عليهسسا الدعاة مسسن خلل الممارسسسة
والتطبيق ،مما يجعل ا لشطط دائما يحصر في أضيق الدوائر.
كوابح ..تمنع التصدر
( الشرط الثامن ):
وكل ما كا نت شروط التوث يق وقوا عد النتقاء أك ثر وضو حا في مح يط
الجماعة ،والضوابط الحازمة أشد سيطرة :كلما قلت سلبيات تعليم كبار العلم
وكلياتسه ،لن حديسث القواعسد والصسول فيسه بلغسة وجمال صسياغة ،وفيسه
دغد غة لعقول الشباب الذكياء ،و قد ي ستغل معلم متطلع إلى مرا كز ال صدارة
هذه الخ صائص في طبي عة هذه القوا عد في ستثير ب ها إعجاب الشباب ،وي صنع
له ( شلة) موال ية ،ويج عل اللذة ال تي ت صاحب كلما ته ثمنا يدف عه لدا مة ولء
هؤلء ،غير ناظر إلى ما يسببه لهم من فتنة بحديث فوق مستواهم ،حتى كأنه
فيلسوف يديم انشداد الناس إليه بغموضه وتمتماته المبهمة ،بينما يؤسس فقه
التوث يق جملة قناعات في نفوس الشباب تمنع هم من ال سير وراء من ل يملك
غير اللسان وتزويق الكلم.
فهذه وأمثال ها شروط ير جى أن تتقلص مع ها سلبيات المبا حث الكل ية،
ويجعلها أن نحتاط لنفسنا ما استطعنا بتعلم صنعة العقلنية ،فإن فيها الرشاد
والئتاد ،وأما العواطف فصنعه لطالما موهت بدعة مبتدع فنشرتها ،أو غلفت
الغراب فأذاع ته ،و كم من ف كر كا سد غناه شا عر متر نم يعزف على أوتار
القلوب فأصبح رائجا.
47
ويؤكسد الظسن فسي لياقسة بعسض المبتدئيسن لسسماع الصسول والقواعسد:
مشاهدات حيوية وتاريخية تشير إلى أن فتنة بعض المبتدعة كانت بسبب فهم
قاصر لبعض الفروع ،وتنزيلهم لها على غير منازلها ،أو قياسهم عليها قياسا
مع الفارق ،ويغنينا عن تبع الشواهد لهه الملحظة في التاريخ السلمي القديم
مسا شاهدناه ومسا زل خسبره حيسا فينسا مسن وهسم التفكيسر لدى بعسض الشباب
المتح مس الصسادق التو جه بل شسك ،فإن ظاهسر النصسوص المفردة الفرع ية
الجزئية في أبوب الردة والكفر هي التي تسببت في شطحاته ومذاهبه القاصية
عن مقاصد أهل السنة والجماعة ،ولذلك كان رد من رد بدعتهم معتمدا على
ال صول والقوا عد بش كل مك ثف ،وجاء م ثل رد الش يخ القرضاوي في ن قض
التطرف مفهومسا مسع أن قلمسه جال فسي ذروة الفقسه وحام حول أعله ،وكلك
كا نت ال صول العشر ين من ق بل ،م ما يمنح نا قنا عة بأن ال مر يتعدى مجرد
ال سلوب التقليدي في درا سة صغار العلم وجزيئا ته ق بل كبارة وكليا ته ،وأن
طرق التدريس ومناورات الكتابة إذا كانت ماهرة واستوعبت أطراف المعاني
فإن عظام المسائل وضخامها تلين قناتها وتصبح سلسلة مفهومة ،ول تستلزم
هذه القناعسة إدعاء هدر العلم الجزئي تماما والبدء بتداول الكليات دون سسابق
أيسة معرفسة بجزئيات الحكام ،كمسا ل يسستقيم العتراض على هذه القناعسة
إدعاء هدر العلم الجزئي تمامسا والبدء بتداول الكليات دون سسابق أيسة معرفسة
بجزئيات الحكام ،كما ل يستقيم العتراض على هذه القناعة بمثل هذا اللزام
لمسا ل يلزم ،بسل قسل أن يوجسد داعيسة برتاد المسساجد ويسسمع خطسب الجمعسة
والمواعسظ على مثسل هذه الدرجسة مسن التعري والتسبري مسن علم الجزئيات،
ول كن قناعت نا تف هم بالح سنى ،وبالحدود الو سطى ،و هي تأك يد لعدم ال سراف
في تدريس الجزئيات والمقدمات أكثر مما هي محاولة تجاوز وهجر لها.
48
عطاء التفاعل الحضاري يعين
على الجتهاد
وتتيسسر محاولت تفهيسم الكليات وأمهات المسسائل هذه اليام بوجود
ظاهرة ( التفاعل الحضاري) في المجتمعات الحديثة ،فإن معظم دعاة السلم
من جيل الصحوة والذين من قبلهم هم من المثقفين الذي يحيون حياة عصرية
فيهسا قراءة للصسحف اليوميسة ومشاهدة للبرامسج التلفزيونيسة ،فوق مسا حازه
أكثرهم من دراسة جامعية وعليا .وهذه الدراسات والسماعات والمشاهدات لها
تأثير مباشر ودور مكثف في صياغة عقلية الداعية ومفاهيمه العامة وأذواقه
كفرد في المجت مع ،ب غض الن ظر عن صفته الدعو ية ،وي صبح بوجود هذه
التأثيرات صاحب استعداد جيد لستقبال علم القواعد والنتائج والصول وفهمه
بسرعة ،وبشكل قد يعجز عنه الطالب الذي يحيا حياة بدائية ،أو الذي اختار
له أستاذه أو اختار لنفسه العزلة اليابسة التي تنحرف بمزاجة وأذواقه ،وكان
أكثسر الكلم المنقول عسن الفقهاء فسي ضرورة التدرج فسي التدريسس وتقديسم
الجزئيات على الكليات كان يراعسي مسن هسم على هذه النمسط مسن اليبوسسة
والعزلة المنتجة للسذاجة والبساطة.
إن إيماء المعادلت الرياضيسة لدارس الرياضيات ،كمثسل مسن أمثلة
التفاعل الحضاري -هو إيماء قوي جدا ،يغرس في اصل عقل الدارس وفي
ل شعوره معاني التعادل والتوازن والتساوي المطلق أو التساوي النسبي ،في
معا ني أخرى هي نف سها مرتكزات لكث ير من القوا عد الفقه ية ،بح يث يتل قف
الداع ية الريا ضي هذه القواعد ح يث روايت ها له بسهولة وي سر ،نتي جة الخلف ية
الذهنية المساعدة التي يملكها.
والداع ية الكث ير الن ظر للشكال الهند سية ،و ما في ها من تنا ظر ،أو
تدرج في الطوال أو تميز بحدود حادة ،أو تجاور للمساحات الصماء وذوات
الثغرات ،وأمثال ذلك :هو داعية طريقة ممهد لمرور معاني الفقه في التدرج
والستثناء والفروق والشروط ،بالتوطئة التي صنعتها الهندسة.
49
وداعية أخر أطال استمتاعه بجدول اللوان وما ينسجم منها وما يتنافر،
ومرت عي نه على مواز ين الجمال الف ني :هو داع ية أ سرع إحا طة ب ما في
النتائج الفقهية من منطق متجانس صحيح.
وهل إيحاء معنى التكامل والتصاعد أقل منه لدى دارس الكيمياء الذي
يحيسط علما بالجدول الدوري للعناصسر ،ويعرف خسبر مسا يفعله كسل بروتون
يضاف لنواة الذرة من خصائص جديدة ؟
وهذه أمثلة فحسب لما عسى أن يسببه التفاعل الحضاري وتناول العلوم
التطبيقيسة والفنون مسن توسسيع للفاق وتفتيسح للذهان يسسهل معهمسا التفهيسم
الفقهيسء ،والداعيسة اليوم أن لم يكسن جامعيسا فهسو مشاهسد للتلفزيون ،قارئ
للصحف ،وحائز من مطالعاته ومشاهداته لنصف العلم ،ثم هو سائح في مدن
وط نه أو مدن العالم يرى نتاج المهند سين والفنان ين مع كل نظرة وإن لم ت كن
عامدة فتنطبسع فسي ل شعوره الموازيسن والظواهسر الحيويسة الممهدة لسستقرار
الموازين الشرعية.
الجمال ..وغرام العقل
وأمسا مسن ل يحيسا حياة العلوم وانعزل فسي قريسة بيسن الخضرة والجبال
والطيسر فليسس هسو بأقسل مسن صساحب التفاعسل الحضاري ،فإن هذا ترق
أحاسسيسه ويحدث له مسا يحدث للشعراء مسن إرهاف والتذاذ بالجمال ،فتزكسو
نفسه ،وتتزن وتطمئن ،حتى تكون سكينتها هي الممهدة لقواعد الفقه الكبيرة ،
وله مع لون وش كل كل وردة خلق ها ال تعالى وتلم سها أنامل ها وتقبل ها شف ته
وينطبسع خيالهسا فسي شغاف قلبسه :عقليسه أخرى لميزان مسن موازيسن الفقسه،
وإطللة عن الجتهاد.
ل كن المحروم هو من حرم هذا وهذا ،فعاش في عزلة عن الحضارة
المدن ية ،و عن آيات ال في الفاق ،و هو من سجن نف سه ب ين الجدران ح تى
يخشوشن طبعه ويتبلد علقه ،أو حبسه أستاذه في مدرسته وجعل له من وظيفة
50
حفظ الحواشي ما يطيل معه حتى ظهره ،ولمثل هذا كانت وصايا تدريس
علم الجزئيات قبل الكليات.
قلوب أمم
ول يظ نن ظان أن هذا الن مط من تأث ير التفا عل الحضاري أو الروح
الشاعرية إنما هو وليد عصرنا الراهن ،بل هو قديم ضارب في القدم ،ولذلك
كان علماء بغداد ودم شق القاهرة وقرط بة وأمثال هم أو عى من علماء النوا حي
القصية ،لتفاعلهم مع معطيات الحضارة السلمية التي كانت عامرة في هذه
العوا صم ،ولذلك أيضا كان شعراء اليمان في تار يخ ال سلم أ صحاب مهارة
في فقه النفوس ووصف خصائصها وأحوالها ،لنعكاسات الحياة الجمالية التي
عاشو ها مع الش جر وترقرق الماء ح تى أن الوا حد من هم لي عد مؤ سسة ثقاف ية
شاملة لوحده ،بما يحوز من أحاسيس وخواطر يصطادها وتأملت في حوادث
الدهور ينتبه لها ،وروي تاريخية ،ولغة ثرية ،وربما يكون أحدهما مقل لم
يترك غير قصائد قلئل أو قطعا متناثرة ،لكنها تشكل اكتشافات لسنن الفطرة
هي في أصول الذوق وأصول حركات القلب أخوات أصول فقه المعاملت.
ربانية التعليم قضية منهجية خططية
ونظرا لهذه الحقائق مسن تأثيسر التفاعسل الحضاري او الجمالي فسي
الصسياغة العقليسة والنفسسية للمتفقسة فإن على التربيسة الدعويسة إذا إرادات
لمتدربي ها إتقان صنعة الجتهاد البدا عي أن تن حى من حى د فع الدعاة ،و فق
منهسج متكامسل – للعيسش فسي البيئة الحضاريسة العلميسة ،والتعامسل معهسا ،
والستلل منها ،مع ما يكملها من سياحة وتعرف على خلصة عقول وعلوم
وفنون البشسر عسبر آلف السسنين ،المعروضسة فسي دور الوثائق والمتاحسف
والما كن الم صانة ،ثم في مطال عة صفحات جمال ما خلق ال في البراري
والبحار ،أو تكثيف مطالعة الخطوط السود في الصفحات البيض مما سطرته
أنامل كل إنسان ،من أدب شعري ونثري فيه رمز وخيال وعاطفيات وانتقاء
51
ألفاظ ،أو تاريسخ يكشسف الحقائق ويحلل دروس الحياة ويقابسل بيسن قبسح الظلم
وإشراق العدل ،أو وصف يعين على تصور البعيد ومعرفة ما غاب ،أو فقه
لغات يطور الشتقاق الذي فيه إلى مهارة في قياس الحكام.
إن قضية ( تداخل) صغار العلم وكبارة ،أو تسلسلهما ،ليست هي مجرد
وصية تقدم إلى المعلمين ترجوهم أن يتقنوا في التربية وفق معيارها ،فمنهم
متقن وقليل إتقان ،وإنما هي – في وجهها الهم – قضية منهجية عميقة ينبغي
أن يحكمها التخطيط التربوي بعيد المدى ،وعلى المنهج الجماعي أن يراعيها
وضسع جداول عمليسة تطبيقيسة لتبليسغ وتفهيسم الثوابست والموازيسن والصسول
والقواعسد لعموم الدعاة بعسد إحصسائها وتصسنيفها نوعيسا ،وكذلك الفروع
ومفردات الحكام ،ل كن طب قة ما يوازي حاجت ها ومقدار ا ستيعابها ،وي ستعين
بلمسات منهجية متناسقة مع اختياراته يلزم بها المجلت الدعوية ،ويطلب من
اللجان والجهزة المركزيسة أن تنسسجم نشرياتهسا وأسساليب كتابتهسا مسع تلك
الختيارات أي ضا ،ثم بأن يتض من المن هج ما نتمناه للداع ية من ذاك الحضور
فسي البيئة الحضاريسة ،والسسياحة ،ونيسل الثقافسة العامسة ،والعيسش التأملي مسع
جمال الخليقة ومع آيات ال في الفاق العريضة ،يتعنى لقصاها ،ويتغنى –
م ثل داود عل يه ال سلم – مع ت سبيحات الجبال والط ير ..ثم يكون آ خر دعائه
أن :الحمد ل رب العالمين.
عيون العيان
إن دعاة السلم هم أعيان الجيل الحاضر ،ل جدال ،بما وهبوا من
همة تحرص على الصلح ،وتجرد يعيد ضرب المثال.
ولهم تصدر مع كل إشراقه جديدة ...تحيه ...
52
إن هدف " رسائل العين " يتركز في كشف الفاق الرحبة للفقه
الدعوة ،وتجارب العمل السلمي ،وأنماط معاناة المربين ،ووضع كل
ذلك بين يدي شباب الصحوة السلمية ،تعليما لهم ،وتمكينا .
لكن البعاد الحضارية مكملة لكل ذلك ،لنا نعيش حياة النفتاح
من جهة ،ونواجه حضارة مغيارة تتدسس بهدوء ولباقة أو تجاهر بالغزو،
من جهة أخرى ،فكان ل بد للداعية المسلم أن يسعى نحو الثقافة
الشمولية ،وأنواع العلوم والفنون ،ليعلو فوق التيار ،مسيطرا مهيمنا،
وكان على هذه السلسلة أو ترافقه في دربه الحضاري هذا ،تعين
وتستكشف له ،وتنبه الخبر ،ووكليها في ذلك :محمد أحمد الراشد ،ينتقي
ويختار ،إن لم يكتب ويعقب ،ومعه على قدم سواء :الدكتور عبد ال
يوسف الحسن ،يكتب وينقح ويطور ويوسع الدوائر.
على إن الستقصاء في إيراد كلم الفقهاء ومراجع ليس من وسيلة
هذه الرسائل ،وإنما هو الستئناس والتبرك بأقوال السلف ،ول نرى أن
يلزمنا داعية ما ألزمته الجامعات أصحاب البحوث ،وإنما نهتم نحت
بالتعليل والقياس والتأويل ،مما يوجب على الممارس التأمل في عباراتنا
على ضوء واقع العمل السلمي ،وأن يدرك المعاني التي نذهب إليها من
خلل الشارات والمجاز.
فرر أن تكون حسن المطالعة والستيعاب ،بمقابل ما ترجوه من
حسن الكتابة والختيار ،وكرر المطالعة :يؤذن لك بمزيد فهم ،وقدم
نسخا أخرى من هذه الرسائل هدية إلى إخوان لك :تنتشر الفوائد ،
ويروج مذهبك في الصلح ،ويقتنع بمثل قناعتك عدد أوفر ،فتكون
النتيجة أقرب.
ثم سبح معنا ربا هاديا ً ..........ونصيرا.
53
54