Professional Documents
Culture Documents
يُسلّي الحق تبارك وتعالى رسوله صلى ال عليه وسلم ،ويثبت له حِ ْرصَه على أمته ،وأنه يُحمّل
سكَ َألّ َيكُونُواْ
خعٌ ّنفْ َ
حمّله ال ،كما قال له في آية أخرىَ {:لعَّلكَ بَا ِ
نفسه في سبيل هدايتهم فوق ما َ
ُم ْؤمِنِينَ }[الشعراء.]3 :
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ
ويقول تعالىَ {:لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
رّحِيمٌ }[التوبة.]128 :
ثم بعد ذلك يقطع الحق سبحانه المل أمام المكذبين المعاندين ،فيقول تعالى:
ضلّ[ } ...النحل.]37 :
{ فَإِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي مَن ُي ِ
أي :ل يضل إل مَنْ لم يقبل اليمان به فَيَدعُه إلى كفره ،بل ويطمس على قلبه غيْر مأسُوف عليه،
فهذه إرادته ،وقد أجابه ال إلى ما يريد.
{ َومَا َلهُمْ مّن نّاصِرِينَ[ } ....النحل.]37 :
إذن :المسألة ليستْ مجرد عدم الهداية ،بل هناك معركة ل يجدون لهم فيها ناصرا أو معينا
حمِيمٍ }[الشعراء.]101-100 :
ل صَدِيقٍ َ
يُخلّصهم منها ،كما قال تعالىَ {:فمَا لَنَا مِن شَا ِفعِينَ * َو َ
إذن :ل يهدي ال مَن اختار لنفسه الضلل ،بل سيُعذّبه عذابا ل يجد مَنْ ينصُره فيه.
سمُواْ بِاللّهِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه عنهم { :وََأقْ َ
()1922 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالتلفزيون مثلً قبل أن يوجد لم يكن له اسم ،ثم بعد أن وُجد أوجدوا له اسما.
أذن :توجد المعاني أولً ،ثم توضع للمعاني أسماء ،فإذا رأيت اسما يكون معناه قبله أم بعده؟ يكون
قبله ..فإذا قالوا :ال غير موجود نقول لهم :كذبتم؛ لن كلمة ال لفظ موجود في اللغة ،ول ُبدّ أن
لها معنىً سبق وجودها.
ق للكفر ..وجاء الكفر منطقيا؛ لن معنى الكفر :السّتْر ..والسؤال إذن :ماذا
إذن :فاليمان ساب ٌ
ستر؟ ستر اليمان ،ول يستر إل موجودا ،وبذلك نقول :إن الكفر دليل على اليمان.
جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ[ } ...النحل.]38 :
سمُواْ بِاللّهِ َ
{ وََأقْ َ
أي :مبالغين في اليمين مُؤكّدينه ،وما أقربَ غباءَهم هنا بما قالوه في آية أخرى {:الّلهُمّ إِن كَانَ
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال.]32 :
حجَا َرةً مّنَ ال ّ
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا ِ
هَـاذَا ُهوَ الْ َ
فليس هذا بكلم العقلء .وكان ما أقسموا عليه بال أنه:
{ لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن َيمُوتُ[ } ...النحل.]38 :
وهذا إنكار للبعث ،كما سبق وأنْ قالوا {:قَالُواْ أَِإذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }
[المؤمنون.]82 :
فيرد عليهم الحق سبحانه { بَلَىا }.
وهي أداة لنفي السابق عليها ،وأهل اللغة يقولون :نفي النفي إثبات ،إذا " بلى " تنفي النفي قبلها
وهو قولهم:
{ لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن َيمُوتُ[ } ...النحل.]38 :
ن يموت.
فيكون المعنى :بل يبعث ال مَ ْ
حقّا[ } ...النحل.]38 :
{ وَعْدا عَلَيْهِ َ
والوَعْد هو الخبار بشيء لم ي ْأتِ زمنه بعد ،فإذا جاء وَعْدٌ بحدَث يأتي َبعْد ننظر فيمَنْ وعد :أقادرٌ
على إيجاد ما وعد به؟ أم غير قادر؟
فإن كان غيرَ قادر على إنفاذ ما وعد به لنه ل يضمن جميع السباب التي تعينه على إنفاذ وعده،
عذْرا ،وحتى ل
قُلْنا له ُقلْ :إنْ شاء ال ..حتى إذا جاء موعد التنفيذ فلم َتفِ بوعدك التمسْنا لك ُ
تُوصف ساعتها بالكذب ،فقد نسبتَ المر إلى مشيئة ال.
خطّط كما تحب،
والحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يمنعنا أن نُخطّط للمستقبل ونعمل كذا ونبني كذاَ ..
عدَته ،لكن أردف هذا بقولك :إنْ شاء ال؛ لنك ل تملك جميع السباب التي تمكّن
واعْدُدْ للمستقبل ِ
علٌ ذاِلكَ غَدا *
شيْءٍ إِنّي فَا ِ
من عمل ما تريد مستقبلً ،وقد قال الحق تبارك وتعالى {:وَلَ َتقْولَنّ ِل َ
ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ} ...
[الكهف.]24-23 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونضرب لذلك مثلًَ :هبْ أنك أردتَ أن تذهب غدا إلى فلن لتكلمه في أمر ما ..هل ضمنت
لنفسك أن تعيش لغد؟ وهل ضمنت أن هذا الشخص سيكون موجودا غدا؟ وهل ضمنتَ أل يتغير
الداعي الذي تريده؟ وربما توفرت لك هذه الظروف كلها ،وعند الذهاب أَلَمّ بك عائق منعك من
الذهاب .إذن :يجب أن نُردف العمل في المستقبل بقولنا :إن شاء ال.
أما إذا كان الوعد من ال تعالى فهو قادر سبحانه على إنفاذ ما َيعِد به؛ لنه ل قوة تستطيع أن
تقفَ أمام مُراده ،ول شيءَ يُعجزه في الرض ول في السماء ،كان الوعد منه سبحانه (حقا) أنْ
يُوفّيه.
ثم يقول الحق سبحانه:
س لَ َيعَْلمُونَ { [النحل.]38 :
} وَلـاكِنّ َأكْثَرَ الْنّا ِ
أي :ل يعلمون أن ال قادر على البعث ،كما قال تعالىَ {:وقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي
جدِيدٍ[} ...السجدة.]10 :
خَ ْلقٍ َ
جدِيدا }[السراء.]49 :
وقالَ {:وقَالُواْ أَِإذَا كُنّا عِظَاما وَ ُرفَاتا أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ خَلْقا َ
فقد استبعد الكفار أمر البعث؛ لنهم ل يتصورون كيف يبعث ال الخلْق من لَدُن آدم ـ عليه
السلم ـ حتى تقوم الساعة ..ولكن ِلمَ تستبعدون ذلك؟ وقد قال تعالى {:مّا خَ ْل ُقكُ ْم َولَ َبعْ ُثكُمْ ِإلّ
كَ َنفْسٍ وَاحِ َدةٍ[} ...لقمان.]28 :
فالمر ليس مزاولة يجمع ال سبحانه بها جزئيات البشر كل على حدة ..ل ..ليس في المر
مزاولة أو معالجة تستغرق وقتا {.إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ َلهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس.]82 :
ونضرب لذلك مثلً ـ ول المثل العلى ـ فنحن نرى مثل هذه الوامر في عالم البشر عندما
يأتي المعلّم أو المدرب الذي يُدرّب الجنود نراه يعلّم ويُدرّب أولً ،ثم إذا ما أراد تطبيق هذه
الوامر فإنه يقف أمام الجنود جميعا وبكلمة واحدة يقولها يمتثل الجميع ،ويقفون على الهيئة
المطلوبة ،هل أمسك المدرب بكل جندي وأوقفه كما يريد؟! ل ..بل بكلمة واحدة تَمّ له ما يريد.
وكأن انضباط المأمور وطاعته للمر هو الصل ،كذلك كل الجزئيات في الكون منضبطة لمره
سبحانه وتعالى ..هي كلمة واحدة بها يتم كل شيء ..فليس في المر ُمعَالجة ،لن المعالجة أنْ
يُباشر الفاعل بجزئيات قدرته جزئيات الكائن ،وليس البعث هكذا ..بل بالمر النضباطي :كن.
ولذلك يقول تعالى:
س لَ َيعَْلمُونَ { [النحل.]38 :
} وَلـاكِنّ َأكْثَرَ الْنّا ِ
نقول :الحمد ل أن هناك قليلً من الناس يعلمون أمر البعث ويؤمنون به.
ثم يقول الحق سبحانه } :لِيُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي.{ ...
()1923 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لِيُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي َيخْتَِلفُونَ فِي ِه وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّنهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ()39
()1924 /
إذن :أمر البعث ليس علجا لجزئيات كل شخص وضمّ أجزائه وتسويته من آدم حتى قيام الساعة،
بل المسألة منضبطة تماما مع المر اللهي (كُنْ).
وبمجرد صدوره ،ودون حاجة لوقت ومُزاولة يكون الجميع ماثلً طائعا ،كل واحد منتظرٌ دوره،
منتظر الشارة؛ ولذلك جاء في الخبر " :أمور يبديها ول يبتديها ".
فالمر يتوقف على الذن :اظهر يظهر.
ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ من يعد القنبلة الزمنية مثلً ،ويضبطها على وقت معين ..تظل
القنبلة هذه إلى وقت النفجار الذي ُوضِع فيها ،ثم تنفجر دون تدخّل من صناعها ..مجرد الذن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لها بالنفجار تنفجر.
وحتى كلمة (كُنْ) نفسها تحتاج لزمن ،ولكن ليس هناك أقرب منها في الذن ..وإن كان المر في
حقّه تعالى ل يحتاج إلى كُنْ ول غيره.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ.} ...
()1925 /
وَالّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ َبعْدِ مَا ظُِلمُوا لَنُ َبوّئَ ّنهُمْ فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة وَلَأَجْرُ الَْآخِ َرةِ َأكْبَرُ َلوْ كَانُوا
َيعَْلمُونَ ()41
المهاجرون قوم آمنوا بال إيمانا صار إلى مرتبة من مراتب اليقين جعلتهم يتحمّلون الذى والظلم
والضطهاد في سبيل إيمانهم ،فل يمكن أن يُضحّي النسان بماله وأهله ونفسه إل إذا كان لمر
يقينيّ.
وقد جاءت هذه الية بعد آية إثبات البعث الذي أنكره الكافرون وألحّوا في إنكاره وبالغوا فيه ،بل
جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِ ْم لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن َيمُوتُ[} ..النحل.]38 :
سمُواْ بِاللّهِ َ
وأقسموا على ذلك {:وََأقْ َ
وهم يعلمون أن من الخلق مَنْ يُسيء ،ومنهم من يُحسِن ،فهل يعتقدون ـ في عُرْف العقل ـ أن
يتركَ ال من أساء ليُعربد في خَلْق ال دون أن يُجازيه؟
ذلك يعني أنهم خائفون من البعث ،فلو أنهم كانوا محسنين لَتَمنّوا البعث ،أمَا وقد أسرفوا على
أنفسهم إسرافا يُشفِقون معه على أنفسهم من الحساب والجزاء ،فمن الطبيعي أنْ يُنِكروا البعث،
ويلجأوا إلى تمنية أنفسهم بالماني الكاذبة ،ليطمئنوا على أن ما أخذوه من مظالم الناس ودمائهم
وكرامتهم وأمنهم أمرٌ ل يُحاسبون عليه.
وإذا كانوا قد أنكروا البعث ،ويوجد رسول ومعه مؤمنون به يؤمنون بالبعث والجزاء إيمانا يصل
إلى درجة اليقين الذي يدفعهم إلى التضحية في سبيل هذا اليمان ..إذن :ل ُبدّ من وجود معركة
شرسة بين أهل اليمان وأهل الكفر ،معركة بين الحق والباطل.
ومن حكمة ال أن ينشر السلم في بدايته بين الضعفاء ،حتى ل يظن ظَانّ أن المؤمنين فرضوا
إيمانهم بالقوة ،ل ..هؤلء هم الضعفاء الذين ل يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ،والكفار هم السادة..
إذن :جاء السلم ليعاند الكبارَ الصناديدَ العتاة.
وكان من الممكن أن ينصرَ ال هؤلء الضعفاء ويُعلي كلمة الدين من البداية ،ولكن أراد الحق
تبارك وتعالى أن تكون الصيحةُ اليمانية في مكّة أولً؛ لن مكة مركز السيادة في جزيرة العرب،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقريش هم أصحاب المهابة وأصحاب النفوذ والسلطان ،ول تقوى أيّ قبيلة في الجزيرة أن
تعارضها ،ومعلوم أنهم أخذوا هذه المكانة من رعايتهم لبيت ال الحرام وخدمتهم للوافدين إليه.
فلو أن السلم اختار بقعة غير مكة َلقَالوا :إن السلم استضعفَ جماعة من الناس ،وأغرَاهم
بالقول حتى آمنوا به .ل ،فالصيحة السلميةُ جاءت في أُذن سادة قريش وسادة الجزيرة الذين
أمّنهم ال في رحلة الشتاء والصيف ،وهم أصحاب القوة وأصحاب المال.
وإذا كان المر كذلك ،فلماذا لم ينصر ال دينه في بلد السادة؟ نقول :ل ..الصيحة في أذن الباطل
تكون في بلد السادة في مكة ،لكن ُنصْرة الدين ل تأتي على يد هؤلء السادة ،وإنما تأتي في
المدينة.
وهذا من حكمة ال تعالى حتى ل يقول قائل فيما بعد :إن العصبية لمحمد في مكة فرضتْ اليمان
بمحمد.
.ل بل يريد أن يكون اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد ،فجاء له
بعصبية بعيدة عن قريش ،وبعد ذلك دانتْ لها قريش نفسها.
وما دامت هناك معركة ،فمَن المطحون فيها؟ المطحون فيها هو الضعيف الذي ل يستطيع أنْ
يحميَ نفسه ..وهؤلء هم الذين ظُلِموا ..ظُلِموا في المكان الذي يعيشون فيه؛ ولذلك كان ول بُدّ أن
يرفع ال عنهم هذا الظلم.
وقد جاء َرفْع الظلم عن هؤلء الضعفاء على مراحل ..فكانت المرحلة الولى أن ينتقلَ
المستضعفون من مكة ،ل إلى دار إيمان تحميهم وتساعدهم على َنشْر دينهم ،بل إلى دار َأمْن فقط
يأمنون فيها على دينهم ..مجرد َأمْن يتيح لهم فرصة أداء أوامر الدين.
ولذلك استعرض رسول ال صلى ال عليه وسلم البلد كلها لينظر أيّ الماكن تصلح دار َأمْن
يهاجر إليها المؤمنون بدعوته فل يعارضهم أحد ،فلم يجد إل الحبشة؛ ولذلك قال عنها " :إن
بأرض الحبشة ملكا ل يُظلم عنده أحد ،فالحقوا ببلده حتى يجعل ال لكم فرجا ومخرجا مما أنتم
فيه ".
وتكفي هذه الصفة في ملك الحبشة ليهاجر إليه المؤمنون ،ففي هذه المرحلة من ُنصْرة الدين ل
نريد أكثر من ذلك ،وهكذا تمت الهجرة الولى إلى الحبشة.
ثم يسّر ال لدينه أتباعا وأنصارا التقوْا برسول ال صلى ال عليه وسلم وبايعوه على الّنصْرة
والتأييد ،ذلكم هم النصار من أهل المدينة الذين بايعوا رسول ال صلى ال عليه وسلم عند العقبة
و َمهّدوا للهجرة الثانية إلى المدينة ،وهي هجرةٌ ـ هذه المرة ـ إلى دار َأمْن وإيمان ،يأمن فيها
المسلمون على دينهم ،ويجدون الفرصة لنشره في رُبُوع المعمورة.
ونقف هنا عند قوله تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} وَالّذِينَ هَاجَرُواْ[ { ...النحل.]41 :
ومادة هذا الفعل :هجر ..وهناك فَرْق بين هجر وبين هاجر:
هجر :أن يكره النسانُ القامةَ في مكان ،فيتركه إلى مكان آخر يرى انه خَيْرٌ منه ،إنما المكان
نفسه لم يكرهه على الهجرة ..أي المعنى :ترك المكان مختارا.
أما هاجر :وهي تدل على المفاعلة من الجانبين ،فالفاعل هنا ليس كارها للمكان ،ولكن المفاعلة
التي حدثتْ من القوم هي التي اضطرتْه للهجرة ..وهذا ما حدث في هجرة المؤمنين من مكة؛
لنهم لم يتركوها إلى غيرها إلّ بعد أن تعرضوا للضطهاد والظُلْم ،فكأنهم بذلك شاركوا في
الفعل ،فلو لم يتعرّضوا لهم ويظلموهم لما هاجروا.
ولذلك قال الحق تبارك وتعالى:
} مِنْ َب ْعدِ مَا ظُِلمُواْ[ { ...النحل.]41 :
وينطبق هذا المعنى على قول المتنبي:إِذَا ترح ْلتَ عن َقوْ ٍم َوقَدْ َقدَرُوا ألّ تُفارِقهم فَالرّاحِلُون
ُهمُوايعني :إذا كنت في جماعة وأر ْدتَ الرحيل عنهم ،وفي إمكانهم أن يقدموا لك من المساعدة ما
يُيسّر لك القامة بينهم ولكنهم لم يفعلوا ،وتركوك ترحل مع مقدرتهم ،فالراحلون في الحقيقة هم،
لنهم لم يساعدوك على القامة.
كذلك كانت الحال عندما هاجر المؤمنون من مكة؛ لنه أيضا ل يعقل أن يكره هؤلء مكة وفيها
البيت الحرام الذي يتمنى كل مسلم القامة في جواره.
إذن :لم يترك المهاجرون مكة ،بل اضطروا إلى تركها وأجبروا عليه ،وطبيعي إذن أن يلجأوا
إلى دار أخرى حتى تقوى شوكتهم ثم يعودون للقامة ثانية في مكة إقامة طبيعية صحيحة.
ثم إن الحق تبارك وتعالى قال:
} وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ[ { ...النحل.]41 :
ونلحظ في الحديث الشريف الذي يوضح معنى هذه الية " :فمن كانت هجرته إلى ال ورسوله
فهجرته إلى ال ورسوله ،ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر
إليه ".
فما الفرق هنا بين :هاجر في ال ،وهاجر إلى ال؟
هاجر إلى مكان تدل على أن المكان الذي هاجر إليه افضل من الذي تركه ،وكأن الذي هاجر منه
ليس مناسبا له.
أما هاجر في ال فتدل على أن القامة السابقة كانت أيضا في ال ..إقامتهم نفسها في مكة
وتحمّلهم الذى والظلم والضطهاد كانت أيضا في ال.
أما لو قالت الية " هاجروا إلى ال " لدلّ ذلك على أن إقامتهم الولى لم تكن ل ..إذن :معنى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الية:
} هَاجَرُواْ فِي اللّهِ[ { ...النحل.]41 :
أي :أن إقامتهم كانت ل ،وهجرتهم كانت ل.
ومثل هذا قوله تعالى {:وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن رّ ّب ُكمْ[} ...آل عمران.]133 :
أي :إذا لم تكونوا في مغفرة فسارعوا إلى المغفرة ،وفي الية الخرى {:يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ..
}[المؤمنون.]61 :
ذلك لنهم كانوا في خير سابق ،وسوف يسارعون إلى خير آخر ..أي :أنتم في خير ولكن
سارعوا إلى خير منه.
وهناك ملمح آخر في قوله تعالى:
} وَالّذِينَ هَاجَرُواْ[ { ..النحل.]41 :
نلحظ أن كلمة " الذين " جمع ..لكن هل هي خاصة بمَنْ نزلت فيهم الية؟ أم هي عامة في ُكلّ
ي مكان ـ في ال ـ ثم هاجر منه؟
مَنْ ظُلِم في أ ّ
الحقيقة أن العبرة هنا بعموم اللفظ ل بخصوص السبب ،فهي عامة في كل مَنْ انطبقت عليه هذه
الظروف ،فإن كانت هذه الية نزلت في نفر من الصحابة منهم :صُهيب ،وعمار ،وخباب ،وبلل،
إل أنها تنتظم غيرهم ِممّن اضطروا إلى الهجرة فِرارا بدينهم.
" ونعلم قصة صهيب رضي ال عنه ـ وكان رجلً حدادا ـ لما أراد أنْ يهاجر بدينه ،عرض
المر على قريش :وال أنا رجل كبير السّنّ ،إنْ كنت معكم فلن أنفعكم ،وإنْ كنت مع المسلمين
صهَيب وتركوه
ضوْا بذلك ،وأخذوا مال ُ
فلن أضايقكم ،وعندي مال ..خذوه واتركوني أهاجر ،فر َ
لهجرته.
صهَيْب "
ولذلك قال له صلى ال عليه وسلم " :ربح البيع يا ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النسان ،وما أعدّه ال له.
ن كان المؤمنون سيخرجون الن من مكة مغلوبين مضطهدين فسوف نعطيهم ونُحِلهم ونُنزِلهم
فإ ْ
منزلةً أحسن من التي كانوا فيها ،فقد كانوا مُضطهدين في مكة ،فأصبحوا آمنين في المدينة ،وإنْ
كانوا تركوا بلدهم فسوف نُمهّد لهم الدنيا كلها ينتشرون فيها بمنهج ال ،ويجنُون خير الدنيا كلها،
ثم بعد ذلك نُرجعهم إلى بلدهم سادة أعزّة بعد أن تكون مكة بلدا ل خالصة من عبادة الوثان
والصنام ..هذه هي الحسنة في الدنيا.
ثم يقول تعالى:
} َولَجْرُ الخِ َرةِ َأكْبَرُ[ { ..النحل.]41 :
ما ذكرناه من حسنة الدنيا وخيرها للمؤمنين هذا من المعجّلت للعمل ،ولكن حسنات الدنيا مهما
كانت ستؤول إلى زوال ،إما أنْ تفارقها ،وإما أن تُفارقك ،وقد أنجز ال وَعْده للمؤمنين في الدنيا،
فعادوا منتصرين إلى مكة ،بل دانتْ لهم الجزيرة العربية كلها بل العالم كله ،وانساحوا في الشرق
في فارس ،وفي الغرب في الرومان ،وفي نصف قرن كانوا سادة العالم أجمع.
وإنْ كانت هذه هي حسنة الدنيا المعَجّلة ،فهناك حسنة الخرة المؤجلة:
} َولَجْرُ الخِ َرةِ َأكْبَرُ[ { ...النحل.]41 :
أي :أن ما أعدّ لهم من نعيم الخرة أعظم مما وجدوه في الدنيا.
ولذلك كان سيدنا عمر ـ رضي ال عنه ـ إذا أعطى أحد الصحابة نصيب المهاجرين من
العطاء يقول له " :بارك ال لك فيه ..هذا ما وعدك ال في الدنيا ،وما ادخر لك في الخرة اكبر
من هذا " .فهذه حسنة الدنيا.
} َولَجْرُ الخِ َرةِ َأكْبَرُ[ { ..النحل.]41 :
وساعة أنْ تسمع كلمة (أكبر) فاعلم أن مقابلها ليس أصغر أو صغير ،بل مقابلها (كبير) فتكون
حسنة الدنيا التي بوّأهم ال إياها هي (الكبيرة) ،لكن ما ينتظرهم في الخرة (أكبر).
وكذلك قد تكون صيغةُ أفعل التفضيل أقلّ في المدح من غير أفعل التفضيل ..فمن أسماء ال
الحسنى (الكبير) في حين أن الكبر صفةٌ من صفاته تعالى ،وليس اسما من أسمائه ،وفي شعار
ندائنا ل نقول :ال اكبر ول نقول :ال كبير ..ذلك لن كبير ما عداه يكون صغيرا ..إنما أكبر ،ما
ق المؤمن كبيرة من حيث هي
حّعداه يكون كبيرا ،فنقول في الذان :ال أكبر لن أمور الدنيا في َ
وسيلة للخرة.
فإياك أنْ تظنّ أن حركةَ الدنيا التي تتركها من أجل الصلة أنها صغيرة ،بل هي كبيرة بما فيها
من وسائل تُعينك على طاعة ال ،فبها تأكل وتشرب وتتقوّى ،وبها تجمع المال لِتسُدّ به حاجتك،
وتُؤدّي الزكاة إلى غير ذلك ،ومن هنا كانت حركة الدنيا كبيرة ،وكانت الصلة والوقوف بين يدي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال أكبر.
س َعوْاْ
ج ُمعَةِ فَا ْ
لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ
ولذلك حينما قال الحق تبارك وتعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا نُو ِديَ لِلصّ َ
إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَيْعَ[} ..الجمعة.]9 :
لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ
أخرجنا بهذا النداء من عمل الدنيا وحركتها ،ثم قال {:فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ
ضلِ اللّهِ[} ...الجمعة.]10 :
وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ
فأمرنا بالعودة إلى حركة الحياة؛ لنها الوسيلةُ للدار الخرة ،والمزرعة التي نُعد فيها الزاد للقاء
ال تعالى ..إذن :الدنيا أهم من أنْ تُنسَى من حيث هي معونة للخرة ،ولكنها أتفَهُ من أن تكونَ
حدّ ذاتها.
غاية في َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :لوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ[ { ..النحل.]41 :
الخطاب هنا عن مَنْ؟ الخطاب هنا يمكن أن يتجه إلى ثلثة أشياء:
يمكن أنْ يُراد به الكافرون ..ويكون المعنى :لو كانوا يعلمون عاقبة اليمان وجزاء المؤمنين
لثروه على الكفر.
ويمكن أنْ يُراد به المهاجرون ..ويكون المعنى :لو كانوا يعلمون لزدادوا في عمل الخير.
وأخيرا قد يُرَاد به المؤمن الذي لم يهاجر ..ويكون المعنى :لو كان يعلم نتيجة الهجرة لسارع
إليها.
وهذه الوجه التي يحتملها التعبير القرآني دليل على ثراء الداء وبلغة القرآن الكريم ،وهذا ما
يسمونه تربيب الفوائد.
ن صَبَرُواْ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :الّذِي َ
()1926 /
الحق تبارك وتعالى يريد أن يعطينا تشريحا لحال المهاجرين ،فقد ظُلِموا واضْطهِدوا وأُوذُوا في
سبيل ال ،ولم يفتنهم هذا كله عن دينهم ،بل صبروا وتحملّوا ،بل خرجوا من أموالهم وأولدهم،
وتركوا بلدهم وأرضهم في سبيل دينهم وعقيدتهم ،حدث هذا منهم اتكالً على أن ال تعالى لن
يُضيّعهم.
ولذلك جاء التعبير القرآني هكذا { صَبَرُواْ } بصيغة الماضي ،فقد حدث منهم الصبر فعلً ،كأن
اليذاء الذي صبروا عليه فترة مضتْ وانتهت ،والباقي لهم عِزّة ومنَعة وقوة ل يستطيع أحد أنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يضطهدهم بعد ذلك ،وهذه من البشارات في الداء القرآني.
أما في التوكل ،فقال تعالى في حقهم:
{ وَعَلَىا رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ } [النحل.]42 :
بصيغة المضارع؛ لن التوكّل على ال حدث منهم في الماضي ،ومستمرون فيه في الحاضر
والمستقبل ،وهكذا يكون حال المؤمن.
وبعد ذلك تكلّم القرآن الكريم عن قضية وقف منها الكافرون أيضا موقف العناد والمكابرة
والتكذيب ،وهي مسألة إرسال الرسل ،فقال تعالىَ { :ومَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ.} ...
()1927 /
َومَا أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ إِلّا ِرجَالًا نُوحِي إِلَ ْيهِمْ فَاسْأَلُوا أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ ()43
وقد اعترض المعاندون من الكفار على كون الرسول بشرا .وقالوا :إذا أراد ال أن يرسل رسولً
فينبغي أن يكون مَلَكا فقالوا {:وََلوْ شَآءَ اللّ ُه لَن َزلَ مَلَ ِئكَةً[} ..المؤمنون.]24 :
وكأنهم استقلّوا الرسالة عن طريق بشر؛ وهذا أيضا من غباء الكفر وحماقة الكافرين؛ لن الرسول
حين يُبلّغ رسالة ال تقع على عاتقه مسئوليتان :مسئولية البلغ بالعلم ،ومسئولية التطبيق بالعمل
ونموذجية السلوك ..فيأمر بالصلة ويُصلّي ،وبالزكاة ويُزكّي ،وبالصبر ويصبر ،فليس البلغ
بالقول فقط ،ل بل بالسلوك العمليّ النموذجيّ.
ولذلك كانت السيدة عائشة رضي ال عنها تقول عن رسول ال صلى ال عليه وسلم " :كان خلقه
القرآن ".
وكان قرآنا يمشي على الرض ،والمعنى :كان تطبيقا كاملً للمنهج الذي جاء به من الحق تبارك
وتعالى.
س َوةٌ حَسَ َنةٌ[} ..الحزاب:
ويقول تعالى في حقّه صلى ال عليه وسلمّ {:لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ
.]21
فكيف نتصور أن يكون الرسول مَلَكا؟ وكيف يقوم بهذه الرسالة بين البشر؟ قد يؤدي الملك مهمة
البلغ ،ولكن كيف يُؤدّي مهمة القدوة والتطبيق العملي النموذجي؟ كيف ونحن نعلم أن الملئكة
خَلْق جُبِلوا على طاعة ال {:لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم.]6 :
ومن أين تأتيه منافذ الشهرة وهو ل يأكل ول يشرب ول يتناسل؟
فلو جاء مَلَك برسالة السماء ،وأراد أن ينهى قومه عن إحدى المعاصي ،ماذا نتوقع؟ نتوقع أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول قائلهم :ل ..ل أستطيع ذلك ،فأنت ملَك ذو طبيعة علوية تستطيع ترْك هذا الفعل ،أما أنا فل
أستطيع.
إذن :طبيعة الُسْوة تقتضي أن يكون الرسول بشرا ،حتى إذا ما أمر كان هو أول المؤتمرين ،وإذا
ما نهى كان هو أول المنتهين.
ن بعثَ فيهم رسولً من أنفسهمَ {:لقَدْ
ومن هنا كان من امتنان ال على العرب ،ومن فضله عليهم أ ْ
سكُمْ[} ...التوبة.]128 :
جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
فهو أولً من أنفسكم ،وهذه تعطيه المباشرة ،ثم هو بشر ،ومن العرب وليس من أمة أعجمية ..بل
من بيئتكم ،ومن نفس بلدكم مكة ومن قريش؛ ذلك لتكونوا على علم كامل بتاريخه وأخلقه
وسلوكه ،تعرفون حركاته وسكناته ،وقد كنتم تعترفون له بالصدق والمانة ،وتأتمنونه على كل
غَال ونفيس لديكم لعلمكم بأمانته ،فكيف تكفرون به الن وتتهمونه بالكذب؟!
لذلك َردّ عليهم الحق تبارك وتعالى في آية أخرى فقالَ {:ومَا مَ َنعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ إِذْ جَآ َءهُمُ
ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ بَشَرا رّسُولً }[السراء.]94 :
فالذي صَدّكم عن اليمان به َكوْنه بشرا!!
ثم نأخذ على هؤلء مأخذا آخر؛ لنهم تنازلوا عن دعواهم هذه بأنْ يأتيَ الرسول من الملئكة
عظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
وقالواَ {:لوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
فهذا تردّد عجيب من الكفار ،وعدم ثبات على رأي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجاءتْ هنا كلمة } ِرجَالً { لتفيد البشرية أولً كجنس ،ثم لتفيد النوع المذكّر ثانيا؛ ذلك لن طبيعة
الرسول قائمة على المخالطة والمعاشرة لقومه ..يظهر للجميع ويتحدث إلى الجميع ..أما المرأة
فمبنية على التستّر ،ول تستطيع أن تقوم بدور الُسْوة للناس ،ولو نظرنا لطبيعة المرأة لوجدنا في
طبيعتها أمورا كثيرة ل تناسب دور النبوة ،ول تتمشّى مع مهمة النبي ،مثل انقطاعها عن الصلة
والتعبد لنها حائض أو ُنفَساء.
كذلك جاءت كلمة } رِجَالً { مُقيّدة بقوله:
} نّوحِي إِلَ ْي ِهمْ[ { ...النحل.]43 :
ن تقول :هو رجل مثْلي وبشر مثْلي ..ل هناك مَيْزة أخرى أنه يُوحَى
فالرسول رجل ،ولكن إياك أ ْ
إليه ،وهذه منزلة عالية يجب أن نحفظها للنبياء ـ صلوات ال وسلمه عليهم أجمعين.
ثم يقول الحق سبحانه:
} فَاسْأَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ { [النحل.]43 :
أي :إذا غابتْ عنكم هذه القضية ،قضية إرسال الرسل من البشر ـ ول أظنها تغيب ـ لنها عامة
في الرسالت كلها .وما كانت لتخفَى عليكم خصوصا وعندكم أهل العلم بالديان السابقة ،مثل
ورقة بن نوفل وغيره ،وعندكم أهل السّيَر والتاريخ ،وعندكم اليهود والنصارى ..فاسألوا هؤلء
جميعا عن بشرية الرسل.
فهذه قضية واضحة ل تُنكر ،ول يمكن المخالفة فيها ..وماذا سيقول اليهود والنصارى؟ ..موسى
وعيسى ..إذنْ بشر.
وقوله تعالى:
} إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ { [النحل.]43 :
شكّ في هذه القضية ..مثل لو قلتَ لمخاطبك :اسأل عن كذا إنْ
يوحي بأنهم يعلمون ،وليس لديهم َ
شكّ فنقول :اسأل عن كذا دون أداة
كنت ل تعرف ..هذا يعني أنه يعرف ،أما إذا كان في القضية َ
الشرط ..إذن :هم يعرفون ،ولكنه الجدال والعناد والستكبار عن قبول الحق.
()1928 /
بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِمْ وََلعَّلهُمْ يَ َتفَكّرُونَ ()44
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول أهل اللغة :إن الجار والمجرور ل بُدّ له من متعلق ..فبماذا يتعلق الجار والمجرور هنا؟
قالوا :يجوز أنْ يتعلّق بالفعل (نُوحِي) ويكون السياق :وما أرسلنا من قبلك إل رجالً نُوحِي إليهم
بالبينات والزبر.
وقد يتعلق الجار والمجرور بأهل الذكر ..فيكون المعنى :فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر،
فهذان وجهان لعودة الجار والمجرور.
صدْق
والبينات :هي المر البيّن الواضح الذي ل يشكّ فيه أحد ..وهو إما أن يكون أمارة ثُبوت ِ
الرسالة كالمعجزة التي تتحدى المكذّبين أنْ يأتوا بمثلها ..أو :هي اليات الكونية التي تلفِتُ الخَلْق
إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى ،مثل آيات الليل والنها َر والشمس والقمر والنجوم.
أما الزّبُر ،فمعناها :الكتب المكتوبة ..ول يُكتب عادة إل الشيء النفيس مخافة أنْ يضيعَ ،وليس
هنا أنفَسُ مما يأتينا من منهج ال لِيُنظّم لَنا حركة حياتنا.
ونعرف أن العرب ـ قديما ـ كانوا يسألون عن ُكلّ شيء مهما كان حقيرا ،فكان عندهم عِلمٌ
بالسهم ومَنْ أول صانع لها ،وعن القوس والرّحْل ،ومثل هذه الشياء البسيطة ..ألَ يسألون عن
آيات ال في الكون وما فيها من أسرار وعجائب في خَلْقها تدلّ على الخالق سبحانه وتعالى؟
ثم يقول الحق تبارك وتعالى:
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِمْ[ } ..النحل.]44 :
كلمة الذكر وردتْ كثيرا في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة ،وأَصلْ الذكر أنْ يظلّ الشيءُ على البال
بحيث ل يغيب ،وبذلك يكون ضِدّه النسيان ..إذن :عندنا ِذكْر ونسيان ..فكلمة " ذكر " هنا معناها
وجود شيء ل ينبغي لنا نسيانه ..فما هو؟
الحق سبحانه وتعالى حينما خلق آدم ـ عليه السلم ـ أخذ العهد على ُكلّ ذرّة فيه ،فقال تعالى{:
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا
سهِمْ أَلَ ْ
شهَ َدهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ
وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ُ
شهِدْنَآ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[العراف.]172 :
َ
عهْد على جميع ذريته ،ذلك لن في ُكلّ واحد من بني آدم ذَرّة من أبيه
وأخْذ العهد على آدم هو َ
آدم ..وجزءا حيّا منه نتيجة التوالُد والتناسُل من َلدُن آدم حتى قيام الساعة ،وما ُدمْنا كذلك فقد
ستُ بِرَ ّبكُمْ }.
شهدنا أخذ العهد { :أَلَ ْ
وكأن كلمة (ذكر) جاءت لتُذكّرنا بالعهد المطمور في تكويننا ،والذي ما كان لنا أنْ ننساه ،فلما
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ
حدث النسيان اقتضى المرُ إرسالَ الرسل وإنزالَ الكتب لتذكّرنا بعهد ال لنا {:أَلَ ْ
بَلَىا }[العراف.]172 :
سمّينا الكتب المنزلة ذكرا ،لكن الذكْر يأتي تدريجيا وعلى مراحل ..كلّ رسول يأتي
ومن هنا َ
حسْب ما لديهم من غفلة.
ليُذكّر قومه على َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.أما الرسول الخاتم صلى ال عليه وسلم الذي جاء للناس كافّة إلى قيام الساعة ،فقد جاء بالذكر
الحقيقي الذي ل ِذكْر بعده ،وهو القرآن الكريم.
وقد تأتي كلمة (الذكْر) بمعنى الشّرَف وال ّرفْعة كما في قوله تعالى للعربَ {:لقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكُمْ كِتَابا
فِيهِ ِذكْ ُركُمْ }[النبياء ]10 :وقد أصبح للعرب مكانة بالقرآن ،وعاشت لغتهم بالقرآن ،وتبوءوا مكان
الصدارة بين المم بالقرآن.
وقد يأتي الذكْر من ال للعبد ،وقد يأتي من العبد ل تعالى كما في قوله سبحانه {:فَا ْذكُرُونِي
أَ ْذكُ ْركُمْ[} ..البقرة.]152 :
والمعنى :فاذكروني بالطاعة واليمان أذكركم بالفيوضات والبركة والخير والمداد وبثوابي.
وإذا أُطلقت كلمة الذكر انصرفت إلى ما نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه الكتاب
الجامع ل ُكلّ ما نزل على الرسُل السابقين ،ولكل ما تحتاج إليه البشرية إلى أنْ تقومَ الساعة.
كما أن كلمة كتاب تطلق على أي كتاب ،لكنها إذا جاءت بالتعريف (الكتاب) انصرفت إلى القرآن
الكريم ،وهذا ما نسميه (عَلَم بالغلبة).
والذكْر هو القرآن الذي نزل على محمد صلى ال عليه وسلم ،وهو معجزته الخالدة في الوقت
نفسه ،فهو منهج ومعجزة ،وقد جاء الرسُل السابقون بمعجزات لحالها ،وكتب لحالها ،فالكتاب
منفصل عن المعجزة.
فموسى كتابه التوراة ومعجزته العصا ،وعيسى كتابه ومنهجه النجيل ومعجزته إبراء الكمه
والبرص وإحياء الموتى بإذن ال.
أما محمد صلى ال عليه وسلم فمعجزته هي نفس كتاب منهجه ،ل ينفصل أحدهما عن الخر
لتظلّ المعجزة مُسَاندة للمنهج إلى قيام الساعة.
وهذا هو السّر في أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وحمايته ،فقال تعالى {:إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا
ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر.]9 :
حفْظ كتابه ،كما قال تعالى {:إِنّآ أَنزَلْنَا
أما الكتب السابقة فقد عُهد إلى التابعين لكل رسول منهم ب ِ
ن وَالَحْبَارُ ِبمَا
ح ُكمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسَْلمُواْ لِلّذِينَ هَادُو ْا وَالرّبّانِيّو َ
ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَ ْ
حفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ[} ...المائدة.]44 :
اسْ ُت ْ
ومعنى اسْتُحفِظوا :أي طلبَ ال منهم أنْ يحفظوا التوراة ،وهذا أمْرُ تكليف قد يُطاع وقد يُعصى،
صوْا وبدّلوا وحَرّفوا في التوراة ..أما القرآن فقد تعهّد ال تعالى بحفْظه
ع َ
والذي حدث أن اليهود َ
ولم يترك هذا لحد؛ لنه الكتاب الخاتَم الذي سيصاحب البشرية إلى قيام الساعة.
ومن ال ّذكْر أيضا ما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم مع القرآن ،وهو الحديث الشريف،
ي وحديثه الشريف الذي جاء من مِشْكاة القرآن مبيّنا له
فللرسول ُمهِمة أخرى ،وهي منهجه الكلم ّ
ومُوضّحا له ...كما قال صلى ال عليه وسلمَ " :ألَ وإنّي قد أُوتيتُ القرآن ومِثْله معه ،يُوشك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رجل شبعان يتكيء على أريكته يُحدّث بالحديث عنّي فيقول :بيننا وبينكم كتاب ال ،فما وجدنا فيه
حلّلْناه ،وما وجدنا فيه من حرام حَرّمناهَ ،ألَ وإنّه ليس كذلك ".
من حلل َ
ويقول الحق سبحانه:
} لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِمْ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يتفكرون ..في أي شيء؟ يتفكرون في حال الرسول صلى ال عليه وسلم قبل البعثة ،حيث لم ُيؤْثَر
عنه أنه كان خطيبا أو أديبا شاعرا ،ولم ُيؤْثَر عنه أنه كان كاتبا مُتعلّما ..لم يُعرف عنه هذا أبدا
طيلة أربعين عاما من عمره الشريف ،لذلك أمرهم بالتفكّر والتدبّر في هذا المر.
فليس ما جاء به محمد عبقرية تفجّرت هكذا مرّة واحدة في الربعين من عمره ،فالعمر الطبيعي
للعبقريات يأتي في أواخر ال ِعقْد الثاني وأوائل ال ِعقْد الثالث من العمر.
ول يُعقل أنْ تُؤجّل العبقرية عند رسول ال إلى هذا السن وهو يرى القوم ُيصْرعون حوله..
ن يضمن
جدّه ،فمَ ْ
فيموت أبوه وهو في بطن أمه ،ثم تموت أمه وما يزال طفلً صغيرا ،ثم يموت َ
له الحياة إلى سِنّ الربعين ،حيث تتفجّر عنده هذه العبقرية؟!
إذن :تفكّروا ،فليستْ هذه عبقرية من محمد ،بل هي أمْر من السماء؛ ولذلك أمره ربّه تبارك
وتعالى أن يقول لهم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غيري خطأ يحتمل الصواب .وهكذا يتعايش الجميع وتُحتَرم الراء.
ومن رحمة ال بعباده أن يأمرهم بالتفكّر والتدبّر والنظر؛ ذلك لنهم خَلْقه سبحانه ،وهم أكرم عليه
ن يتركهم للضلل والكفر ،بعد أن أكرمهم بالخَلْق والعقل ،فأراد سبحانه أن يكرمهم إكراما
من أ ْ
آخر بالطاعة واليمان.
وكأنه سبحانه يقول لهمُ :ردّوا عقولكم ونفوسكم عن كبرياء الجدل وَلجَج الخصومة ،وإنْ كنتم ل
تؤمنون بالبعث في الخرة ،وبما أُعدّ للظالمين فيها من عقاب ،فانظروا إلى ما حدث لهم وما
عُجّل لهم من عذاب في الدنيا.
انظروا للذين سبقوكم من المم المكذّبة وما آل إليه مصيرهم ،أم أنتم آمنون من العذاب ،بعيدون
عنه؟!
ثم يقول تبارك وتعالىَ } :أفََأمِنَ الّذِينَ َمكَرُواْ.{ ...
()1929 /
شعُرُونَ (
سفَ اللّهُ ِبهِمُ الْأَ ْرضَ َأوْ يَأْتِ َي ُهمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ حَ ْيثُ لَا يَ ْ
َأفََأمِنَ الّذِينَ َمكَرُوا السّيّئَاتِ أَنْ يَخْ ِ
)45
قوله تعالى:
{ َأفََأمِنَ[ } ...النحل.]45 :
عبارة عن همزة الستفهام التي تستفهم عن مضمون الجملة بعدها ..أما الفاء بعدها فهي حَرْف
عَطْف يعطف جملة على جملة ..إذن :هنا جملة قبل الفاء تقديرها :أجهلوا ما وقع لمخالفي النبياء
السابقين من العذاب ،فأمِنُوا مكر ال؟
أي :أن َأمْنهم لمكر ال ناشيءٌ عن جهلهم بما وقع للمكَذّبين من المم السابقة.
ثم يقول تعالى:
{ َمكَرُواْ السّيّئَاتِ[ } ....النحل.]45 :
المكر :هو التبييت الخفيّ للنيْل ممّنْ ل يستطيع مجابهته بالحق ومجاهرته به ،فأنت ل تُبيّت لحد
إل إذا كانت قدرتُك عاجزة عن ُمصَارحته مباشرة ،فكوْنُك تُبيّت له وتمكر به دليل على عَجْزك؛
ولذلك جعلوا المكر أول مراتب الجُبْن؛ لن الماكر ما مكر إل لعجزه عن المواجهة ،وعلى َقدْر ما
يكون المكْر عظيما يكون الضعف كذلك.
وهذا ما نلحظه من قوله تعالى في حَقّ النساء {:كَيْ ِدكُنّ إِنّ كَ ْي َدكُنّ عَظِيمٌ[} ..يوسف.]28 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضعِيفا }[النساء.]76 :
ن َ
حقّ الشيطان {:إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَا َ
وقال في َ
ضعْفُهن أيضا عظيم ،وكذلك في كيد
فالمكر دليل على الضعف ،وما دام كَيْدهُن عظيما إذنَ :
الشيطان.
عكَ تُفلت
ن يملكَك الضعيف؛ ذلك لنه إذا تمكّن منك وواتَتْه الفرصة فلن يد َ
وقديما قالوا :إياك أ ْ
منه؛ لنه يعلم ضعفه ،ول يضمن أن تُتاحَ له الفرصة مرة أخرى؛ لذلك ل يضيعها على عكس
خصْمه،
حتْ له الفرصة وربما َفوّتها لقُوته وقُدرته على َ
القويّ ،فهو ل يحرص على النتقام إذا أُتي َ
ضعِيفة فإذَا َأصَابتْ فُرْصةً
ي وقت يريد ،وفي نفس المعنى جاء قول الشاعرَ :و َ
وتمكّنه منه في أ ّ
ضعَفاءِإذن :قدرة الضعفاء قد تقتل ،أما قدرة القويّ فليستْ كذلك.
قتَلتْ كذِلكَ قُدرةُ ال ّ
ثم لنا وقْفة أخرى مع المكْر ،من حيث إن المكر قد ينصرك على مُساويك وعلى مثلك من بني
ضتَ لمن هو أقوى منك وأكثر منك حَيْطة ،وأحكم منك مكْرا ،فربما ل يُجدِي
النسان ،فإذا ما تعر ْ
مكرُك به ،بل ربما غلبك هو بمكْره واحتياطه ،فكيف الحال إذا كَان الماكر بك هو ربّ العالمين
تبارك وتعالى؟
ن وَ َي ْمكُرُ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[ النفال.]30 :
وصدق ال العظيم حيث قال {:وَ َي ْمكُرُو َ
وقالَ {:ولَ يَحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّيّىءُ ِإلّ بَِأهْلِهِ }[فاطر.]43 :
فمكْر العباد مكشوف عند ال ،أما مكْرُه سبحانه فل يقدر عليه أحد ،ول يحتاط منه أحد؛ لذلك كان
الحق سبحانه خَيْر الماكرين.
والمكْر السّيء هو المكْر البطّال الذي ل يكون إل في الشر ،كما حدث من َمكْر المكذّبين للرسل
حقّا.
على مَرّ العصور ،وهو أن تكيد للغير كيْدا يُبطل َ
وكل رسول قابله قومه المنكرون له بالمكر والخديعة ،دليل على أنهم ل يستطيعون مواجهته
مباشرة ،وقد تعرّض الرسول صلى ال عليه وسلم لمراحل متعددة من الكَيْد والمكْر والخديعة،
وذلك لحكمة أرادها الحق تبارك وتعالى وهي أن يُوئس الكفار من النتصار عليه صلى ال عليه
وسلم ،فقد بيّتوا له ودَبّروا لقتله ،وحَاكُوا في سبيل ذلك الخطط ،وقد باءتْ خُطتهم ليلة الهجرة
بالفشل.
وفي مكيدة أخرى حاولوا أن َيسْحروه صلى ال عليه وسلم ،ولكن كشف ال أمرهم وخيّب
سعيهم ..إذن :فأيّ وسيلة من وسائل َدحْض هذه الدعوة لم تنجحوا فيها ،ونصره ال عليكم .كما
قال تعالى {:كَ َتبَ اللّ ُه لَغْلِبَنّ أَنَ ْا وَرُسُلِي[} ...المجادلة.]21 :
وقوله تعالى:
سفَ اللّهُ ِبهِ ُم الَ ْرضَ[ { ...النحل.]45 :
} أَن يَخْ ِ
الخسْف :هو تغييب الرض ما على ظهرها ..فانخسفَ الشيء أيْ :غاب في باطن الرض ،ومنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سفْنَا بِ ِه وَ ِبدَا ِرهِ
ضوْئه .ومن ذلك أيضا قوله تعالى عن قارون {:فَخَ َ
خُسوف القمر أي :غياب َ
الَ ْرضَ }[القصص.]81 :
وهذا نوع من العذاب الذي جاء على صُور متعددة كما ذكرها القرآن الكريمَ {:فكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ
سفْنَا ِب ِه الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ
خَح ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ َ
َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِنْهُمْ مّنْ أَخَذَ ْتهُ الصّيْ َ
أَغْ َرقْنَا[} ..العنكبوت.]40 :
هذه ألوان من العذاب الذي حاقَ بالمكذبين ،وكان يجب على هؤلء أن يأخذوا من سابقيهم عبرة
وعظة ،وأنْ يحتاطوا أن يحدث لهم كما حدث لسابقيهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى:
شعُرُونَ { [النحل.]45 :
ث لَ يَ ْ
} َأوْ يَأْتِ َيهُمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ حَ ْي ُ
والمراد أنهم إذا احتاطوا لمكْر ال وللعذاب الواقع بهم ،أتاهم ال من وجهة ل يشعرون بها ،ولم
تخطُر لهم على بال ،وطالما لم تخطُرْ لهم على بال ،إذن :فلم يحتاطوا لها ،فيكون أَخْذهم يسيرا،
كما قال تعالى {:فَأَتَا ُهمُ اللّهُ مِنْ حَ ْيثُ َلمْ يَحْ َتسِبُواْ[} ...الحشر.]2 :
خذَهُمْ فِي.{ ...
ويتابع الحق سبحانه ،فيقولَ } :أوْ يَأْ ُ
()1930 /
التقلب :النتقال من حال إلى حال ،أو من مكان إلى مكان ،والنتقال من مكان القامة إلى مكان
ل القوة والمقدرة ،حيث ينتقل النسان من مكانه حاملً متاعه وعَتَاده وجميع ما يملك؛
آخر دلي ُ
لينشيء له حركةَ حياة جديدة في مكانه الجديد.
إذن :التقلّب في الحياة مظهر من مظاهر القوة ،بحيث يستطيع أن يقيم حياة جديدة ،ويحفظ ماله
في رحلة تقلّبه ..ول شكّ أن هذا مظهر من مظاهر العزة والجاه والثراء ل يقوم به إل القوي.
جعَلْنَا بَيْ َنهُمْ وَبَيْنَ ا ْلقُرَى الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا
ولذلك نرى في قول الحق تبارك وتعالى عن أهل سبأ {:وَ َ
سفَارِنَا }
عدْ بَيْنَ أَ ْ
قُرًى ظَاهِ َر ًة َوقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَاِليَ وَأَيّاما آمِنِينَ * َفقَالُواْ رَبّنَا بَا ِ
[سبأ.]19-18 :
فهؤلء قوم جمع ال لهم ألوانا شتى من النعيم ،وأمّن بلدهم وأسفارهم ،وجعل لهم محطات
ن يتميزوا
للراحة أثناء سفرهم ،ولكنهم للعجب طلبوا من ال أن يُباعد بين أسفارهم ،كأنهم أرادوا أ ْ
سفَارِنَا }[سبأ.]19 :
عن الضعفاء غير القادرين على مشقة السفر والترحال ،فقالوا {:بَاعِدْ بَيْنَ أَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خوْض هذه المسافات.
حتى ل يقدر الضعفاء منهم على َ
ظعْن وقدرة على أن
إذن :الذي يتقلّب في الرض دليل على أن له من الحال حال إقامة وحال َ
ينقل ما لديه ليقيم به في مكان آخر؛ ولذلك قالوا :المال في الغربة وطن ..ومَنْ كان قادرا يفعل ما
يريد.
والحق سبحانه يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم {:لَ َيغُرّ ّنكَ َتقَلّبُ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي الْبِلَدِ }[آل
عمران.]196 :
فل يخيفنك انتقالهم بين رحلتي الشتاء والصّيْف ،فال تعالى قادر أن يأخذَهم في تقلّبهم.
وقد يُراد تقلّبهم في الفكار والمكْر السيء بالرسول صلى ال عليه وسلم وصحابته كما في قوله
لمُورَ }[التوبة.]48 :
كاُ
تعالىَ {:لقَدِ ابْ َت َغوُاْ ا ْلفِتْنَةَ مِن قَ ْبلُ َوقَلّبُواْ َل َ
فقد قعدوا يُخطّطون ويمكُرون ويُدبّرون للقضاء على الدعوة في َمهْدها.
ويقول تعالى:
{ َفمَا هُم ِب ُمعْجِزِينَ } [النحل.]46 :
المعجز :هو الذي ل ي َمكّنك من أنْ تغلبه ،وهؤلء لن يُعجِزوا ال تعالى ،ولن يستطيعوا الفلتَ
من عذابه؛ لنهم مهما بَيّتوا فتبييتهم وكَيْدهم عند ال ..أما كيْد ال إذا أراد أنْ يكيد لهم فلن يشعروا
ن وَ َي ْمكُرُ اللّهُ }[النفال.]30 :
به {:وَ َيمْكُرُو َ
وقال {:إِ ّنهُمْ َيكِيدُونَ كَيْدا * وََأكِيدُ كَيْدا * َف َمهّلِ ا ْلكَافِرِينَ َأ ْمهِ ْلهُمْ ُروَيْدا }[الطارق.]17-15 :
فمَنْ ل يستطيع أن يغلبك يخضع لك ،وما دام يخضع لك يسيطر عليه المنهج الذي جِ ْئتَ به.
وقد يكون العجز أمام القوىّ دليلَ قوة ،كما عجز العرب أمام تحدّي القرآن لهم ،فكان عجزهم أمام
كتاب ال دليلَ قوتهم في المجال الذي تحدّاهم القرآن فيه؛ لن ال تعالى حين يتحدّى وحين يُنازل
ل ينازل الضعيف ،ل بل ينازل القوي في مجال هذا التحدّي.
()1931 /
التخوّف :هو الفزع من شيء لم يحدث بعد ،فيذهب فيه الخيال مذاهبَ شتّى ،ويتوقع النسان ألوانا
متعددة من الشر ،في حين أن الواقع يحدث على وجه واحد.
َهبْ أنك في انتظار حبيب تأخّر عن موعد وصوله ،فيذهب بك الخيال والحتمال إلى أمور
كثيرة ..يا تُرى حدث كذا أو حدث كذا ،وكل خيال من هذه الخيالت له أثر ولذعة في النفس،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبذلك تكثر المخاوف ،أما إن انتظرتَ لتعرفَ الواقع فإنْ كان هناك فزع كان مرة واحدة.
ولذلك يقولون في المثال( :نزول البل ول انتظاره) ذلك لنه إنْ نزل سينزل بلون واحد ،أما
انتظاره فيُشيع في النفس ألوانا متعددة من الفزع والخوف ..إذن :التخّوف أشدّ وأعظم من وقوع
الحَدث نفسه.
وكان هذا الفزع يعتري الكفار إذا ما عَلِموا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث سرية من
السّرايا ،فيتوقع كل جماعة منهم أنها تقصدهم ،وبذلك يُشيع ال الفزع في نفوسهم جميعا ،في حين
أنها خرجتْ لناحية معينة.
ن ينقص ال من ُرقْعة الكفر بدخول القبائل في
وبعض المفسرين قال :التخوّف يعني التنقّص بأ ْ
السلم قبيلةً بعد أخرى ،فكلّ واحدة منها تنقص من رقعة الكفر ..كما جاء في قوله تعالى{:
س وَال ّثمَرَاتِ[} ...البقرة.]155 :
ل وَالَنفُ ِ
ل َموَا ِ
ناَ
ع وَ َنقْصٍ مّ َ
ف وَالْجُو ِ
خوْ ِ
شيْءٍ مّنَ ا ْل َ
وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ بِ َ
ثم يقول الحق تبارك وتعالى في تذييل هذه الية:
{ فَإِنّ رَ ّب ُكمْ لَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ } [النحل.]47 :
وهل هذا التذييل مناسب للية وما قبلها من التهديد والوعيد؟ فالعقل يقول :إن التذييل المناسب لها:
إن ربكم لشديد العقاب مثلً.
لكن يجب هنا أنْ نعلمَ أن هذا هو عطاء الربوبية الذي يشمل العباد جميعا مؤمنهم وكافرهم ،فال
تعالى استدعى الجميع للدنيا ،وتكفّل للجميع بما يحفظ حياتهم من شمس وهواء وأرض وسماء ،لم
تُخلَق هذه الشياء لواحد دون الخر ،وقد قال تعالى {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ َلهُ فِي
حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى.]20 :
وكأن في الية َلوْنا من ألوان رحمته سبحانه بخَلْقه وحِرْصه سبحانه على نجاتهم؛ لنه يُنبّههم إلى
ما يمكن أن يحدث لَهم إذا أصرّوا على كفرهم ،ويُبصّرهم بعاقبة كفرهم ،والتبصرة عِظَة ،والعِظَة
رأفة بهم ورحمة حتى ل ينالهم هذا التهديد وهذا الوعيد.
ن وَ َربّ
ومثال هذا التذييل كثير في سورة الرحمن ،يقول الحق تبارك وتعالىَ {:ربّ ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ
ا ْل َمغْرِبَيْنِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن.]18-17 :
فهذه نعمة ناسبت قوله تعالى {:فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن.]18 :
خ لّ يَ ْبغِيَانِ }[الرحمن.]20-19 :
وكذلك في قوله تعالى {:مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ * بَيْ َن ُهمَا بَرْزَ ٌ
فهذه نعمة من نعم ال ناسبت تذييل الية {:فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن.]21 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نعم ،يكون الموت نعمة من ِنعَم ال على عباده؛ لنه يقول للمحسن :سيأتي الموت لتلقَى جزاء
إحسانك وثواب عملك ،ويقول أيضا للكافر :انتبه واحذر ..الموت قادم ،كأنه سبحانه يُوقِظ الكفار
و َيعِظهم لينتهوا عما هم فيه ..أليست هذه نعمة من نعم ال ورحمة منه سبحانه بعباده؟
شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ *
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
وكذلك انظر إلى قول الحق تبارك وتعالى {:يُرْ َ
فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن.]36-35 :
شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ }[الرحمن.]35 :
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
فأيّ نعمة في {:يُرْ َ
أيّ نعمة في هذا العذاب؟
نعم المتدبّر لهذه الية يجد فيها نعمة عظيمة؛ لن فيها تهديدا ووعيدا بالعذاب إذا استمروا على ما
هم فيه من الكفر ..ففي طيّاتها تحذير وحِرْص على نجاتهم كما تتوعد ولدك :إذا أهملتَ دروسك
ستفشل وأفعل بك كذا وكذا .وأنت ما قلت ذلك إل لحِرصك على نجاحه وفلحه.
إذن :فتذييل الية بقوله:
} فَإِنّ رَ ّب ُكمْ لَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ { [النحل.]47 :
ل من المؤمن
تذييل مناسب لما قبلها من التهديد والوعيد ،وفيها بيان لرحمة ال التي يدعو إليها ك ً
والكافر.
خلَقَ.{ ..
ثم يقول الحق سبحانهَ } :أوَلَمْ يَ َروْاْ إِلَىا مَا َ
()1932 /
قوله تعالى:
{ َأوََلمْ يَ َروْاْ[ } ...النحل.]48 :
عمُوا ولم يَ َروْا ولم يتدبروا فيها خلق ال؟
المعنى :أَ َ
شيْءٍ } [النحل.]48 :
{ مِن َ
كلمة شيء يسمونها جنس الجناس ،و { مِن } تفيد ابتداء ما يُقال له شيء ،أي :أتفه شيء
موجود ،وهذا يسمونه أدنى الجناس ..وتفيد أيضا العموم فيكون:
شيْءٍ[ } ...النحل.]48 :
{ مِن َ
أي :كل شيء.
فانظر إلى أيّ شيء في الوجود مهما كان هذا الشيء تافها ستجد له ظِلً:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ يَ َتفَ ّيؤُاْ ظِلَُلهُ[ } ...النحل.]48 :
يتفيأ :من فاءَ أي :رجع ،والمراد عودة الظل مرة أخرى إلى الشمس ،أو عودة الشمس إلى الظل.
فلو نظرنا إلى الظل نجده نوعين :ظل ثابت مستمر ،وظل مُتغيّر ،فالظل الثابت دائما في الماكن
ظلّ ثابت ل تأتيه أشعة
التي ل تصل إليها أشعة الشمس ،كقاع البحار وباطن الرض ،فهذا ِ
الشمس في أي وقت من الوقات.
والظلّ المتحرك الذي يُسمّى ال َفيْء لنه يعود من الظل إلى الشمس ،أو من الشمس إلى الظل،
إذن :ل يُسمّى الظل فَيْئا إل إذا كان يرجع إلى ما كان عليه.
ولكن ..كيف يتكّون الظل؟ يتكّون الظل إذا مَا استعرض الشمسَ جسم كثيف يحجب شعاع
الشمس ،فيكون ظِلً له في الناحية المقابلة للشمس ،هذا الظل له طُولن وله استواء واحد.
طول عند الشروق إلى أنْ يبل َغ المغرب ،ثم يأخذ في التناقص مع ارتفاع الشمس ،فإذا ما استوتْ
ظلّ الشيء في نفسه ،وهذه حالة الستواء ،ثم تميل الشمس إلى
الشمس في السماء يصبح ِ
ل الول من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق.
الغروب ،وينعكس طول الظ ّ
ظلّ
ويلفتنا الحق تبارك وتعالى إلى هذه الية الكونية في قوله تعالى {:أَلَمْ تَرَ إِلَىا رَ ّبكَ كَ ْيفَ َمدّ ال ّ
شمْسَ عَلَ ْيهِ دَلِيلً * ثُمّ قَ َبضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضا يَسِيرا }[الفرقان-45 :
جعَلْنَا ال ّ
جعَلَهُ سَاكِنا ُثمّ َ
وََلوْ شَآءَ َل َ
.]46
ذلك لنك لو نظرتَ إلى الظلّ وكيف يمتدّ ،وكيف ينقبض وينحسر لوجدتَ شيئا عجيبا حقا ..ذلك
لنك تلحظ الظل في الحالتين يسير سَيْرا انسيابيا.
ما معنى( :انسيابي)؟ هو نوع من أنواع الحركة ،فالحركة إما حركة انسيابية ،أو حركة عن توالي
سكونات بين الحركات.
وهذه الخيرة نلحظها في حركة عقارب الساعة ،وهي أوضح في عقرب الثواني منها في عقرب
الدقائق ،ول تكاد تشعر بها في عقرب الساعات ..فلو لحظت عقرب الثواني لوجدتَه يسير عن
طريق قفزات منتظمة ،تكون حركة فسكونا فحركة ،وهكذا..
ومعنى ذلك أنه يجمع الحركة في حال سكونه ،ثم ينطلق بها ،وبذلك تمرّ عليه لحظة لم يكن
مُتحركا فيها ،وهذا ما نسميه بالحركة القفزية ..هذه الحركة ل تستطيع َرصْدها في عقرب
الساعات؛ لن القفزة فيه دقيقة لدرجة أن العين المجردة تعجز عن َرصْدها وملحظتها ،هذه هي
الحركة القفزية.
أما الحركة النسيابية ،فتعني أن كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة ..أي :حركة مستمرة
ومُوزّعة بانتظام على الزمن.
ونضرب لذلك مثلً بنمو الطفل ..الطفل الوليد ينمو باستمرار ،لكن أمه لملزمتها له ل تلحظ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا النمو؛ لن نظرها عليه دائما ..فكيف تكون حركة النمو في الطفل؟ هل حركة قفزية يتجمع
طفْرة واحدة؟
فيها نمو الطفل كل أسبوع أو كل شهر مثلً ،ثم ينمو َ
لو كان نموه هكذا لَلَحظنا نمو الطفل ،لكنه ليس كذلك ،بل ينمو بحركة انسيابية تُوزّع المِلّي
الواحد من النمو على طول الزمن .فل نكاد نشعر بنموه.
وهكذا حركة الشمس حركة انسيابية ،بحيث تُوزع جزئيات الحركة على جُزئيات الزمن ،فالشمس
ليست مركونة إلى ميكانيكا تتحرك عن التروس كالساعة مثلً ،ل ..بل مركونة إلى أمر ال،
موصولة بكُنْ الدائمة.
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يلِفتَ خَلْقه إلى ظاهرة كونية في الوجود مُحسّة ،يدركها كلّ مِنّا
ظلّ التي يعجز النسان عن إدراك
في ذاته ،وفيما يرى من المرائي ،ومن هذه المظاهر ظاهرة ال َ
حركته.
وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى {:وَظِلُلهُم بِا ْلغُ ُد ّو وَالصَالِ }[الرعد.]15 :
شيْءٍ ِإلّ
فالحق سبحانه يريد أن يُعمم الفكرة التسبيحية في الكون كله ،كما قال تعالى {:وَإِن مّن َ
حهُمْ[} ...السراء.]44 :
حمْ ِد ِه وَلَـاكِن لّ َت ْف َقهُونَ تَسْبِي َ
يُسَبّحُ ِب َ
فكل ما يُطلَق عليه شيء فهو يُسبّح مهما كان صغيرا.
وقوله تعالى:
شمَآ ِئلِ[ { ...النحل.]48 :
ن وَالْ ّ
} يَ َتفَ ّيؤُاْ ظِلَُلهُ عَنِ الْ َيمِي ِ
لنا هنا وقفة مع الداء القرآني ،حيث أتى باليمين ُمفْردا ،في حين أتى بالشمائل على صورة
الجمع؛ ذلك لن الحق تبارك وتعالى لما قال:
شيْءٍ[ { ...النحل.]48 :
} َأوََلمْ يَ َروْاْ إِلَىا مَا خََلقَ اللّهُ مِن َ
شيْءٍ { ...وهو مفرد ،ثم قال سبحانه:
أتى بأقلّ ما يُتصوّر من مخلوقاته سبحانه } مِن َ
} ظِلَلُهُ[ { ..النحل.]48 :
ظلّ أشياء
ظلّ شيء واحد ،ل ..بل ِ
بصيغة الجمع .أي :مجمع هذه الشياء ،فالنسان ل يتفيأ ِ
متعددة.
و } مِن { هنا أفادت العموم:
شيْءٍ[ { ..النحل.]48 :
} مِن َ
أي :كل شيء .فليناسب المفرد جاء باليمين ،وليناسب الجمع جاء بالشمائل.
ثم يقول تعالى:
} سُجّدا لِلّ ِه وَ ُهمْ دَاخِرُونَ { [النحل.]48 :
فما العلقة بين حركة الظلّ وبين السجود؟
سجّدا أي :خضوعا ل ،وكأن حركة الظل وامتداده على امتداد الزمن دليلٌ على أنه
معنىُ :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
موصول بالمحرك العلى له ،والقائل العلى لـ " كُنْ " ،والظل آية من آياته سبحانه مُسخّرة له
ن فيكون.
ساجدة خاضعة لقوله :كُ ْ
وقلنا :إن هناك فرقا بين الشيء ُتعِده إعدادا َكوْنيا ،والشيء ُتعِده إعدادا قدريا ..فصانع القنبلة
الزمنية ُيعِدّها لنْ تنفجرَ في الزمن الذي يريده ،وليس المر كذلك في إعداد الكون.
الكون أعدّه ال إعدادا قدريا قائما على قوله كُنْ ،وفي انتظار لهذا المر اللهي باستمرار (كن
فيكون).
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سجُدُ.{ ...
الكافر ظِلّك ساجد وأنت جاحد ..جاء هذا الترقّي في قوله تعالى } :وَلِلّهِ يَ ْ
()1933 /
ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ دَابّ ٍة وَا ْلمَلَا ِئكَةُ وَهُمْ لَا َيسْ َتكْبِرُونَ ()49
سمَاوَا ِ
سجُدُ مَا فِي ال ّ
وَلِلّهِ يَ ْ
فأجناس الكون التي يعرفها النسان أربعة :إما جماد ،فإذا وجدتَ خاصية النمو كان النبات ،وإذا
وجدتَ خاصية الحركة والحسّ كان الحيوان ،فإذا وجدتَ خاصية ال ِفكْر كان النسان ،وإذا وجدتَ
خاصية العلم الذاتي النوراني كان المَلَك ..هذه هي الجناس التي نعرفها.
الحق تبارك وتعالى ينقلُنا هنا َنقْلة من الظلل الساجدة ،للجمادات الثابتة ،إلى الشيء الذي يتحرك،
وهو وإنْ كان مُتحركا إل أن ظلّه أيضا على الرض ،فإذا كان الحق سبحانه قد قال:
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ[ } ..النحل.]49 :
جدُ مَا فِي ال ّ
{ وَلِلّهِ يَسْ ُ
فقد فصّل هذا الجمال بقوله:
{ مِن دَآبّةٍ وَا ْلمَل ِئكَةُ[ } ...النحل.]49 :
أي :من أقلّ الشياء المتحركة وهي الدابة ،إلى أعلى الشياء وهي الملئكة..
وقد يقول قائل :وهل ما في السماوات وما في الرض يسجد ل؟
نقول له :نعم ..لنك فسرتَ السجود فيك أنت بوضْع جبهتك على الرض ،ليدلّ على أن الذات
بعُلوّها ود ُنوّها ساجدة ل خاضعة تمام الخضوع ،حيث جعلتَ الجبهة مع القدم.
والحق تبارك وتعالى يريد منّا أن نعرف استطراق العبودية في الوجود كله؛ لن الكافر وإنْ كانَ
ن يؤمن أو يكفر ،في أن يطيع أو يعصي،
مُتمرّدا على ال فيما جعل ال له فيه اختيارا ،في أ ْ
ولكن ال أعطاه الختيار.
ب منك يا مؤمن أن
نقول له :إنك قد أل ْفتَ التمرّد على ال ،فطلب منك أن تؤمن لكنك كفرتَ ،وطل َ
تطيعَ فعصيتَ ،إذن :فلكَ إ ْلفٌ بالتمرّد على الحق ..ولكن ل تعتقد أنك خرجتَ من السجود
والخضوع ل؛ لن ال يُجري عليك أشياء تكرهها ،ولكنها تقع عليك رغم أنفك وأنت خاضع.
وهذا معنى قوله تعالى في الية السابقة {:وَ ُهمْ دَاخِرُونَ }[النحل.]48 :
أي :صاغرون مُستذلّون مُنقَادُونَ مع أنهم أَِلفُوا التمرّد على الحق سبحانه.
وإل فهذا الذي أَلِف الخروج عن مُرادات ال فيما له فيه اختيار ،هل يستطيع أنْ يتأبّى على ال إذا
أراد أنْ يُمرضه ،أو يُفقره ،أو يميته؟
ل ،ل يستطيع ،بل هو داخر صاغر في كل ما يُجريه عليه من مقادير ،وإنْ كان يأباها ،وإنْ كان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قد أَلِف الخروج عن مُرادات ال.
إذن :ليس في كون ال شيء يستطيع الخروج عن مرادات ال؛ لنه ما خرج عن مرادات ال
الشرعية في التكليف إل بما أعطاه ال من اختيار ،وإل لو لم ُيعْطه الختيار لما استطاع التمرّد،
كما في المرادات الكونية التي ل اختيارَ فيها.
لذلك نقول للكافر الذي تمرّد على الحق سبحانه :تمرّد إذا أصابك مرض ،و ُقلْ :لن أمرض ،تمرّد
ت ل تقدر وسوف تخضع راغما فلتخضعْ راضيا وتكسب
على الفقر و ُقلْ :لن أفتقر ..وما ُد ْم َ
المر ،وتنتهي مشكلة حياتك ،وتستقبل حياة أخرى أنظف من هذه الحياة.
وقوله تعالى:
} مِن دَآبّةٍ[ { ...النحل.]49 :
هو كل ما يدبّ على الرض ،وال ّدبّ على الرض معنا الحركة والمشي ..وقوله:
} وَا ْلمَل ِئكَةُ[ { ...النحل.]49 :
سعْيها في المور بأجنحة فقال تعالىُ {:أوْلِي
أي :أن الملئكة ل يُقال لها دابة؛ لن ال جعل َ
لثَ وَرُبَاعَ[} ..فاطر.]1 :
أَجْ ِنحَةٍ مّثْنَىا وَثُ َ
ض َولَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ} ...
وقال في آية أخرىَ {:ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْر ِ
[النعام.]38 :
فخلق ال الطائر يطير بجناحيه مقابلً للدابة التي تدب على الرض ،فاستحوذ على المرين:
الدابة والملئكة.
و } مَا { في الية تُطلق على غير العالمين وغير العاقلين؛ ذلك لن أغلبَ الشياء الموجودة في
لمَانَةَ عَلَى
الكون ليس لها عِلْم أو معرفة؛ ولذلك قال تعالى في آية أخرى {:إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
حمِلْ َنهَا[} ..الحزاب.]72 :
ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
ال ّ
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
} وَ ُه ْم لَ يَسْ َتكْبِرُونَ { [النحل.]49 :
خلْق من
أي :أن الملئكة الذين هم أعلى شيء في خَلْق ال ل يستكبرون؛ لن علوّهم في ال َ
نورانية وكذا وكذا ل يعطيهم إدللً على خالقهم سبحانه؛ لن الذي أعطاهم هذا التكريم هو ال
سبحانه وتعالى.
وما دام ال هو الذي أعطاهم هذا التكريم فل يجوز الدلل به؛ لن الذي يُ ِدلّ إنما يُ ِدلّ بالذاتيات
غير الموهوبة ،أما الشيء الموهوب من الغير فلَ يجوز أن تُ ِدلّ به على مَنْ وهبه لك.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى {:لّن يَسْتَن ِكفَ ا ْلمَسِيحُ أَن َيكُونَ عَبْدا للّ ِه َولَ ا ْلمَل ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ} ..
[النساء.]172 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلن يمتنعوا عن عبادة ال والسجود له رغم أن ال كرّمهم ورفعهم.
ثم يقول تعالىَ } :يخَافُونَ رَ ّبهُمْ.{ ..
()1934 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :الفوقية هنا فوقية مكانة ،بدليل أننا نرى الحرس الذين يحرسون القصور ويحرسون الحصون
يكون الحارس أعلى من المحروس ..فوقه ،فهو فوقه مكانا ،إنما هل هو فوقه مكانة؟ بالطبع ل.
وقوله تعالى:
{ وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } [النحل.]50 :
وهذه هي الطاعة ،وهي أن تفعلَ ما ُأمِرتْ به ،وأنْ تجتنبَ ما نُهيتَ عنه ،ولكن الية هنا ذكرت
جانبا واحدا من الطاعة ،وهو:
{ وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } [النحل.]50 :
ولم ت ُقلْ الية مثلً :ويجتنبون ما ينهوْنَ عنه ،لماذا؟ ..نقول :لن في الية ما يسمونه بالتلزم
المنطقي ،والمراد بالتلزم المنطقي أن كلّ نهي عن شيء فيه أمر بما يقابله ،فكل نهي يؤول إلى
أمر بمقابله.
فقوله سبحانه:
} وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ { [النحل.]50 :
تستلزم منطقيا " ويجتنبون ما يُن َهوْن عنه " وكأن الية جمعت الجانبين.
والحق سبحانه وتعالى خلق الملئكة ل عمل لهم إل أنهم هُيّموا في ذات ال ،ومنهم ملئكة
مُوكّلون بالخلق ،وهم {:فَا ْلمُدَبّرَاتِ َأمْرا }[النازعات.]5 :
حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ[} ..الرعد.]11 :
ويقول تعالىَ {:لهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ
ومنهم {:وَإِنّ عَلَ ْيكُمْ َلحَافِظِينَ * كِرَاما كَاتِبِينَ }[النفطار.]11-10 :
إذن :فهناك ملئكة لها علقة بِنَا ،وهم الذين أمرهم الحق سبحانه أن يسجدوا لدم حينما خلقه ال،
وصوّره بيده ،ونفخ فيه من رُوحه ..وكأن ال سبحانه يقول لهم :هذا هو النسان الذي ستكونون
في خدمته ،فالسجود له بأمر ال إعلنٌ بأنهم يحفظونه من أمر ال ،ويكتبون له كذا ،ويعملون له
كذا ،ويُدبّرون له المور ..الخ.
أما الملئكة الذين ل علقة لهم بالنسان ،ول يدرون به ،ول يعرفون عنه شيئا ،هؤلء المعْنِيون
في قوله سبحانه لبليسَ {:أسْ َتكْبَ ْرتَ َأمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص.]75 :
أي :أستكبرتَ أنْ تسجدَ؟ أم كنتَ من الصّنْف الملَكي العالي؟ ..هذا الصنف من الملئكة ليس لهم
ل وَال ّنهَارَ
علقة بالنسان ،و ُكلّ مهمتهم التسبيح والذكْر ،وهم المعنيون بقوله تعالى {:يُسَبّحُونَ الّي َ
لَ َيفْتُرُونَ }[النبياء.]20 :
كلّ شيء ـ إذن ـ في الوجود خاضع لمرادات الحق سبحانه منه ،إل ما استثنى ال فيه النسان
بالختيار ،فال سبحانه لم يقهر أحدا ،ل النسان ول الكون الذي يعيش فيه ،فقد عرض ال
ن منها ..وكأنها قالت:
سبحانه المانة على السماوات والرض والجبال ،فأبيْنَ أن يحملنها وأشفقْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خلَ لنا في موضوع المانة
ل نريد أن نكون مختارين ،بل نريد أن نكون مُسخّرين ،ول َد ْ
والتكليف!!
لماذا ـ إذن ـ يأبى الكون بسمائه وأرضه تحمّل هذه المسئولية؟
نقول :لن هناك فَرْقا بين تقبّل الشيء وقت تحمّله ،والقدرة على الشيء وقت أدائه ..هناك فَرْق..
عندنا تحمّل وعندنا أداء ..وقد سبق أنْ ضربنا مثلً لتحمّل المانة وقُلْناَ :هبْ أن إنسانا أراد أن
يُودع عندك مبلغا من المال مخافة تبديده لتحفظه له لحين الحاجة إليه ،وأنت في هذا الوقت قادر
على التحمل وتنوي أداء أمانته إليه عند طلبها وذمّتك قوية ،ونيتك صادقة.
وهذا وقت تحمّل المانة ،فإذا ما جاء وقت الداء ،فربما تضطرك الظروف إلى إنفاق هذا المال،
أو يعرض لك عارضٌ يمنعك من الداء أو تتغيّر ذمتك.
إذن :وقت الداء شيء آخر.
لذلك ،فالذي يريد أنْ يُبريء ذمته ل يضمن وقت الداء ويمتنع عن تحمّل المانة ويقول لنفسه:
ل ،إن كنت أضمن نفسي وقت التحمل فل أضمن نفسي وقت الداء.
هذا مثال لما حدثَ من السماء والرض والجبال حينما رفضت تحمّل المانة ،ذلك لنها تُقدّر
مسئوليتها وثقلها وعدم ضمان القيام بحقها ،لذلك رفضت تحمّلها من بداية المر.
()1935 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدٌ فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ ()51
َوقَالَ اللّهُ لَا تَتّخِذُوا إَِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِ ّنمَا ُهوَ إِلَ ٌه وَا ِ
وقد جاء النهي في الية نتيجة خروج النسان عن مُراد ربّه سبحانه ،فالعجيب أن البشر والجن
أيضا ـ يعني الثقلين ـ هم المختارون في الكون كله ،اختيار في أشياء وقَهْر في أشياء أخرى..
ومع ذلك لم يشذّ من خَلْق ال غيرهما.
فالسماوات والرض والجبال كان لها اختيار ،وقد اختارت التسخير ،وانتهت المسألة في بداية
المر ،ومع ذلك فهي مُسخّرة وتُؤدّي مهمتها لخدمة النسان ،فالشمس لم تعترض يوما ولم
ترفض ..فهي تشرق على المؤمن كما تشرق على الكافر ..وكذلك الهواء والرض والدابة
الحلوب ،وكل ما في كون ال مُسخّر للجميع ..إذن :كل هذه الشياء لها مهمة ،وتؤدي مُهمتها
على أكمل وجه.
سمَاوَاتِ َومَن فِي
سجُدُ َلهُ مَن فِي ال ّ
ولذلك يقول تعالى في حقّ هذه الشياء {:أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ
ل وَالشّجَرُ وَال ّدوَآبّ[} ...الحج]18 :
شمْسُ وَالْ َقمَ ُر وَالنّجُومُ وَالْجِبَا ُ
الَ ْرضِ وَال ّ
هكذا بالجماع ،ل يتخلّف منها شئ عن مُراد ربه.
فما الحال في النسان؟ يقول تعالىَ {:وكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ }[الحج.]18 :
حقّ عَلَيْهِ ا ْلعَذَابُ }[الحج.]18 :
ولم َي ُقلْ :والناس .ثم قالَ {:وكَثِيرٌ َ
هذا هو الحال في النسان المكرّم الذي اختاره ال وترك له الختيار ..إنما كل الجناس مُؤدّيه
واجبها؛ لنها أخذتْ حظّها من الختيار الول ،فاختارت أن تكون مُسخّرة ،وأن تكون مقهورة.
فالنسان ..واحد يقول :ل إلهَ في الوجود ..العالم خُلِق هكذا بطبيعته ،وآخر يقول :بل هناك آلهة
متعددة؛ لن العالم به مصالح كثيرة وأشياء ل ينهض بها إله واحد ..يعني :إله للسماء ،وإله
للرض ،وإله للشمس ..الخ.
إذن :هذا رأي في العالم أشياء كثيرة بحيث ل ينهض بها في نظره إله واحد ،ونقول له :أنت
شيْءٌ }[الشورى:
أخذتَ قدرة الله من قدرة الفردية فيك ..ل ..خُذها من قدرة من {:لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
.]11
لن القدرة اللهية ل تعالج الشياء كما تفعل أنت ،وتحتاج إلى مجهود وعمل ..بل في حقّه تعالى
يتم هذا كله بكلمة كُنْ ..كُنْ كذا وانتهت المسألة.
ونعجب من تناقض هؤلء ،واحد يقول :الكون خُلِق هكذا لحاله دون إله .والخر يقول :بل له
آلهة متعددة ..نقول لهم :أنتم متناقضون ،فتعاَلوْا إلى دين ال ،وإلى الوسطية التي تقول بإله واحد،
ل تنفي اللوهية ول تثبت التعددية.
ب الكون يقتضي أجهزة كثيرة لدارته ،فاعلم أن ال تعالى ل يباشر تدبير
ن كنتَ تظنّ أن دول َ
فإ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أمر الكون بعلج ..يفعل هذه ويفعل هذه ،كما يُزاول البشر أعمالهم ،بل يفعلها بـ " كُنْ "؛ ولذلك
فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي " :يا عبادي ،لو أن أولكم وآخركم ،وحيّكم
وميتكم ،ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد ،فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته،
فأعطيت كل سائل منكم ما سأل ما نقص ذلك من مُلْكي إل كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه
إبرة ثم رفعها إليه ،ذلك بأنّي جواد ماجد ،افعل ما أريد ،عطائي كلم ،وعذابي كلم ،إنما أمري
بشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون ".
فيا مَنْ تُشفْق على الله الواحد أن يتعبَ من إدارته للكون بشتى نواحيه ،ارتفع بمستوى اللوهية
عن أمثال البشر؛ لن ال تعالى ل يباشر سلطانه علجا في الكون ،وإنما يباشره بكلمة " كُنْ ".
إذن :إله واحد يكفي ،وما ُدمْنا سلّمنا بإله واحد ،فإياك أن تقول بتعدّد اللهة ..وإذا كان الحق
تبارك وتعالى نفى إلهين اثنين ،ف َنفْي ما هو أكثر من ذلك َأوْلَى ..واثنان أقل صُور التعدد.
ومعنى } إِلـاهَيْنِ { أي :معبودين ،فيكون لهما أوامر ونواه ،والوامر والنواهي تحتاج إلى طاعة،
والكون يحتاج إلى تدبير ،فأيّ اللهين يقوم بتدبير أمور الكون؟ أم أنه يحتاج إلى مُسَاعد؟ إنْ كان
يحتاج إلى مساعد فهذا نقْص فيه ،ول يصلح أن يكون إلها.
ل منهما في عمل ما ،هذا لكذا وهذا لكذا ،فقد أصبح أحدهما عاجزا فيما
وكذلك إنْ تخصّص ُك ّ
يقوم به الخر ..وأي ناحية إذن من نواحي الحياة تكون هي المسيطرة؟ ومعلوم أن نواحي الحياة
مشتركة ومتشابكة.
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالىَ {:ومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذا لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَقَ وََلعَلَ
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ[} ...المؤمنون.]91 :
َب ْع ُ
وقالَ {:لوْ كَانَ فِي ِهمَآ آِلهَةٌ ِإلّ اللّهُ َلفَسَدَتَا }[النبياء.]22 :
فكيف الحال إذا أراد الول شيئا ،وأراد الخر ألّ يكون هذا الشيء؟ فإنْ كان الشيء كان عجزا
عجْز في الخر.
في الثاني ،وإن لم يكُن كان عجزا في الول ..إذن :فقوة أحدهما َ
ونلحظ في قوله تعالى:
} َوقَالَ اللّ ُه لَ تَتّخِذُواْ إِلـاهَيْنِ اثْنَيْنِ { [النحل.]51 :
عظة بليغة ،كأنه سبحانه حينما دعانا إلى توحيده يقول لنا :أريحوا أنفسكم بالتوحيد ،وقد أوضح
ن وَرَجُلً
الحق سبحانه وتعالى هذه الراحة في قوله {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُتَشَاكِسُو َ
ح ْمدُ للّهِ َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ }[الزمر.]29 :
جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً الْ َ
سَلَما لّ َر ُ
يعني رجل خُلّص لسيد واحد ،ورجل أسياده كثيرون ،وهم شركاء مختلفون ،فإنْ أرضى هذا
أغضب ذاك ،وإن احتاجه أحدهما تنازعه الخر .فهو دائما مُتْعبٌ مُثقَلٌ ،أما المملوك لسيد واحد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فل يخفي ما فيه من راحة.
ففي أمره سبحانه بتوحيده راحةٌ لنا ،وكأنه سبحانه يقول :لكم وِجْهة واحدة تكفيكم ُكلّ الجهات،
وتضمن لكم أن الرضا واحد ،وأن ال ُبغْض واحد.
ش ِهدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ
إذن :فطلبُه سبحانه راحةٌ لنا؛ لذلك قبل أن يطلبها مِنّا شهد بها لذاته تعالى ،فقالَ {:
إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك كان يكفي في الية الكريمة أن يقول تعالى :ل تتخذوا إلهين؛ لنها دّلتْ على العدد وعلى
المعدود معا ،ولكن الحق تبارك وتعالى أراد هذا تأكيدا للمر العقديّ لهميته.
ومن أساليب العرب إذا أحبّوا تأكيد الكلم أن يأتوا بعده بالمراد .فيقولون :فلن قسيم وسيم ،وفلن
حَسن بَسَن ،وفلن شيطان ليطان ،يريدون تأكيد الصفة ..وكذلك في قوله } :إِلـاهَيْنِ { فقط تثبت
اللوهية ،ولتأكيد هذه القضية العقدية لنها أهمّ القضايا بالنسبة للنسان ،وهي قضية القمة ،فقال
تعالى:
} إِلـاهَيْنِ اثْنَيْنِ { [النحل.]51 :
وكذلك أيضا في قوله:
} إِ ّنمَا ُهوَ إِلـاهٌ وَاحِدٌ { [النحل.]51 :
فجاء بقوله تعالى } وَاحِدٌ { لتأكيد وحدانية ال تعالى.
وفي الية مَلْحظ آخر يجب تأمّله ،وهو أن الكلم هنا في حالة الغيبة:
} إِ ّنمَا ُهوَ إِلـاهٌ وَاحِدٌ { [النحل.]51 :
فكان القياس في اللغة هنا أن يقول " :فإياه فارهبون ".
ولكن وراء تحويل السياق من الغيبة إلى المجابهة للمتكلم قال:
} فَإيّايَ فَارْهَبُونِ { [النحل.]51 :
وهذا وراءه حكمة ،ومَلْحظ بلغي ،فبعد أنْ أكّد اللوهية بقوله تعالى:
} إِ ّنمَا ُهوَ إِلـاهٌ وَاحِدٌ { [النحل.]51 :
صَحّ أنْ يُجا ِبهَهم بذاته؛ لن المسألة ما دامتْ مسألة رَهْبة ،فالرهبة من المتكلم خير من الرهبة من
الغائب ..وكأن السياق يقول :ها هو سبحانه أمامك ،وهذا َأدْعى للرهْبة.
حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * الرّحْمـانِ الرّحِيمِ * مَـاِلكِ َيوْمِ الدّينِ }
وكذلك في فاتحة الكتاب نقرأ {:ا ْل َ
[الفاتحة.]4-2 :
ولم َي ُقلْ :إياه نعبد ،متابعة للغيبة ،بل تحوّل إلى ضمير الخطاب فقال {:إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ }
[الفاتحة.]5 :
ذلك لن العبد بعد أن استحضر صفة الجلل والعظمة أصبح أَهْلً للمواجهة والخطاب المباشر مع
ال عز وجل.
فقوله:
} فَإيّايَ فَارْهَبُونِ { [النحل.]51 :
بعد ما استحضر العبد عظمة ربه ،وأقرّ له بالوحدانية وعَلِم أنه إله واحد ،وليس إلهين .واحد
يقول :نُعذّبه .والخر يقول :ل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليس المر كذلك ،بل إله واحد بيده أنْ يُعذّب ،وبيده أنْ يعفو ،فناسب السياق هنا أنْ يُواجههم
فيقول:
} فَإيّايَ فَارْهَبُونِ { [النحل.]51 :
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ.{ ...
ثم يقول تعالى } :وََلهُ مَا فِي الْ ّ
()1936 /
عندنا هنا اللم ..وقد تكون (اللم) للمِلْك كما في الية .وكما في :المال لزيد ،وقد تكون
للتخصيص إذا دخلتْ اللم على ما ل يملك ،كما نقول :اللجام للفرس ،والمفتاح للباب ،فالفرس ل
يملك اللجام ،والباب ل يملك المفتاح .فهذه للتخصيص.
والحق سبحانه يقول هنا:
ت وَالَ ْرضِ[ } ...النحل.]52 :
سمَاوَا ِ
{ وَلَهُ مَا فِي ا ْل ّ
سمَاوَات َومَا فِي الَ ْرضِ }[يونس.]68 :
وفي موضع آخر يقولَ {:لهُ مَا فِي ال ّ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }[الحشر.]24 :
وكذلك في {:يُسَبّحُ َلهُ مَا فِي ال ّ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ }[الجمعة.]1 :
ومرة يقول {:يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
حينما تكون اللم للملكية قد يكون المملوك مختلفا ففي قوله:
ت وَالَرْضِ[ } ...النحل.]52 :
سمَاوَا ِ
{ مَا فِي الْ ّ
يعني :القدر المشترك الموجود فيهما .أي :الشياء الموجودة في السماء وفي الرض.
سمَاوَات َومَا فِي الَ ْرضِ }[يونس.]68 :
أما في قوله {:مَا فِي ال ّ
أي :الشياء الموجودة في السماء وليست في الرض ،والشياء الموجودة في الرض وليست في
السماء ،أي :المخصّص للسماء والمخصّص للرض ،وهذا ما يُسمّونه استيعاب الملكية.
وما دام سبحانه له ما في السماوات وما في الرض ،فليس لحد غيره مِلْكية مستقلة ،وما دام ليس
لحد غيره ملكية مستقلة .إذن :فليس له ذاتية وجود؛ لن وجوده الول موهوبٌ له ،وما به قيام
وجوده موهوب له ..ولذلك يقولون :مَنْ أراد أن يعاند في اللوهية يجب أن تكون له ذاتية
وجود ..وليست هذه إل ل تعالى.
ونضرب لذلك مثلً بالولد الصغير الذي يعاند أباه ،وهو ما يزال عَالةً عليه .فيقول له :انتظر إلى
شبّ الولد وبلغ وبدأ في الكَسْب أمكن له العتماد على نفسه،
أن تكبر وتستقلّ بأمرك ..فإذا ما َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والستغناء عن أبيه.
لذلك نقول لمن يعاند في اللوهية :أنت ل تقدر؛ لن وجودك هِبَة ،وقيام وجودك هِبَة ،كل شيء
يمكن أنْ يُنزع منك.
طغَىا *
ن الِنسَانَ لَيَ ْ
ولذلك ،فالحق سبحانه وتعالى يُنبّهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى {:كَلّ إِ ّ
أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق.]7-6 :
فهذا الذي رأى نفسه استغنى عن غيره ـ من وجهة نظره ـ إنما هل استغنى حقا؟ ..ل .لم
يستغن ،بدليل أنه ل يستطيع أنْ يحتفظَ بما يملك.
قوله تعالى:
ت وَالَ ْرضِ[ } ...النحل.]52 :
سمَاوَا ِ
{ وَلَهُ مَا فِي ا ْل ّ
الذي له ما في السماوات والرض ،وبه قيام وجوده بقيوميته ،فهو سبحانه يُطمئِنك ويقول لك :أنا
قيّوم ـ يعني :قائم على أمرك ..ليس قائما فقط ..بل قيّوم بالمبالغة في ال ِفعْل ،وما دام هو سبحانه
القائم على أمرك إيجادا من عَدَم ،وإمدادا من عُدم .إذن :يجب أن تكون طاعتُك له سبحانه ل
لغيره.
وفي المثال يقولون " اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي " فإذا كنتَ أنت عالة في الوجود.
.وجودك من ال ،وإمدادك من ال ،وإبقاء مُقوّمات حياتك من ال؛ لذلك قال تعالى:
ن وَاصِبا { [النحل.]52 :
} وَلَهُ الدّي ُ
أي :هذه نتيجة؛ لن ل ما في السماوات والرض ،فَلَه الدين واصبا ،أي :له الطاعة والخضوع
دائما مستمرا ،ومُلْك ال دائم ،وهو سبحانه ل يُسلم مُ ْلكَه لحد ،ول تزال يد ال في مُلْكه ..وما دام
المر هكذا فالحق سبحانه يسألهم:
} َأ َفغَيْرَ اللّهِ تَ ّتقُونَ { [النحل.]52 :
حمْق ل يليق بك ،وقد
ن تتقيَ غير ال ،لنه ُ
والهمزة هنا استفهام للنكار والتوبيخ ،فل يجوز أ ْ
علمتَ أن ل ما في السماوات وما في الرض ،وله الطاعة الدائمة والنقياد الدائم ،وبه سبحانه
قامت السماوات والرض ومنه سبحانه اليجاد من عَدَم والمداد من عُدم.
حمْق في التصرّف
حمْق أنْ تتقي غيره ،وهو َأوْلى بالتقوى ،فإنِ اتقيتُم غيره فذلك ُ
إذن :فمن ال ُ
يؤدّي إلى العطَب والهلك ،إنِ اغتررتم بأن ال تعالى أعطاكم ِنعَما ل ُتعَ ّد ول تُحصَى.
حتْ
ومن نعم ال أن يضمن لعباده سلمة الملكَات وما حولها ،فلو سَلِم العقل مثلً سَلِمت وصَ ّ
المور التي تتعلق به ،فيصحّ النظام ،وتصحّ التصَرّفات ،ويصحّ القتصاد ..وهذه نعمة.
فالنعمة تكون للقلب وتكون للقالب ،فللقالب المتعة المادية ،وللقلب المتعة المعنوية ..وأهم المتَع
المعنوية التي تريح القالب أن يكون للنسان دينٌ يُوجّهه ..أن يكون له ربّ قادر ،ل يُعجِزه شيء،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن ضاقتْ به الدنيا ،وضاقتْ به السباب فإن له ربا يَلجأ إليه فيُسعفه ويكيفه ،وهذه هي الراحة
فإ ْ
الحقيقة.
وقد ضمن لنا الحق ـ سبحانه وتعالى ـ سلمة القالب بما أودع في الكون من مُقوّمات الحياة في
قولهَ {:وقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا[} ..فصلت.]10 :
أي :اطمئنوا إلى هذا المر ،فال سبحانه ل يريد منكم إل أنْ تُعمِلوا عقولكم المخلوقة ل لِتُفكّروا
في المادة المخلوقة ل ،وتنفعلوا لها بالطاقة المخلوقة ل في جوارحكم ،وسوف تجدون كلّ شيء
مُيسّرا لكم ..فال تعالى ما أراد منكم أنْ تُوجِدوا رزقا ،وإنما أراد أن تُعمِلوا العقل ،وتتفاعلوا مع
ُمعْطيات الكون.
ولكن كيف يتفاعل النسان في الحياة؟
هناك أشياء في الوجود خلقها ال سبحانه برحمته وفضله ،فهي تفعل لك وإنْ لم تطلب منها أن
تفعل ،فأنت ل تطلب من الشمس أنْ تطلُع عليك ،ول من الهواء أنْ َي ُهبّ عليك ..الخ.
ن فعلتَ بيدك فحر ْثتَ
ت معها ،كالرض إ ْ
ت منها ،وتفاعل َ
وهناك أشياء أخرى تفعل لك إنْ طلب َ
عتَ ورو ْيتَ تعطيك ما تريد.
وزر ْ
وفي هذا المجال من التفاعل يتفاضل الناس ،ل يتفاضلون فيما يُفعل لهم دون انفعال منهم ..ل بل
ارتقاء الناس وتفاضُلهم يكون بالشياء التي تنفعل لهم إنْ فعلوا ..أما الخرى فتَفعل لكل الناس،
فالشمس والهواء والمياه للجميع ،للمؤمن وللكافر في أيّ مكان.
إذن :يترقّى النسان بالشياء التي خلقها ال له ،فإذا انفعل معها انفعلتْ له ،وإذا تكاسل وتخاذل لم
ُتعْطِه شيئا ،ول يستفيد منها بشيء ..ولذلك قد يقول قائل :الكافر عنده كذا وكذا ،ويملك كذا وكذا،
وهو كافر ..ويتعجّب من القدر الذي أَعطَى هذا ،وحرَم المؤمن الموحد منه.
نقول له :نعم أخذ ما أخذ؛ لنه يشترك معك فيما يُفعل لك وإنْ لم تطلب ،ويزيد عليك أنه يعمل
ويك ّد وينفعل مع الكون وما أعطاه ال من مُقوّمات وطاقة ،فتنفعل معه وتعطيه ،في حين أنك قاعد
ل ِهمّة لك.
وكذلك قد يتسامى الرتقاء في النسان ،فيجعل الشيء الذي يُفعل له دون أن يطلب منه ـ أي:
الشيء المسخّر له ـ يجعله ينفعل له ،كما نرى فيما توصّل إليه العلم من استخدام الطاقة الشمسية
جهْد مِنّا ،ولكن ترقّي النسان وطموحه
مثلً في تسخين المياه ..هذه الطاقة مُسخّرة لنا دون َ
أوصله إلى هذا الرتقاء ..و ُكلّ هذه ِنعَم من ال؛ ولذلك قال تعالىَ } :ومَا ِبكُم مّن ّن ْعمَةٍ.{ ...
()1937 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُمُ الضّرّ فَإِلَيْهِ َتجْأَرُونَ ()53
َومَا ِب ُكمْ مِنْ ِن ْعمَةٍ َفمِنَ اللّهِ ثُمّ ِإذَا مَ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َلفْتة وتذكير به ..والنبي صلى ال عليه وسلم يُرشِدنا إلى هذه الحقيقة ،فالمصاب الحقيقي ليس مَنْ
نزل به ضُرّ أو أصابه بلء ..ل ..بل المصاب الحقيقي مَنْ حُرِم الثواب.
إذن :نقول لمن عنده نعمة :احذر أن تُنسيِك النعمة وتُذهلك عن المنعم ،أما صاحب البلء والضر،
فسوف يردّك هذا البلء ،ويُذكّرك هذا الضرّ بال تعالى ،ولن تجدَ غيره تلجأ إليه.
فقوله تعالى:
{ فَإِلَ ْيهِ تَجْأَرُونَ } [النحل.]53 :
أي :تضْرَعون بصراخ وصوت عالٍ كخُوار البقر ،ل يُس ّرهِ أحد ول يستحي منه أنْ يُفتضح أمره
أمام مَنْ تكبّر عليهم ..ويا ليتكم حين ينتابكم مثل ذلك تعتبرون به وتتعِظُون ،وتقولون في لحظة
من اللحظات :سوف تلجئنا الحداث إلى ربنا ..بل بالعكس حينما نكشف عنكم الضر سوف
تعودون إلى ما كنتم عليه.
ثم يقول الحق سبحانه:
شفَ الضّرّ.} ....
{ ُثمّ إِذَا كَ َ
()1938 /
شفَ الضّرّ عَ ْنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِ ْنكُمْ بِرَ ّبهِمْ ُيشْ ِركُونَ ()54
ثُمّ ِإذَا كَ َ
فمن الناس مَنْ إذا أصابه ال بضُرّ أو نزل به ب ْأسٌ تضرّع وصرخ ولجأ إلى ال ودعاه ،وربما
سالتْ دموعه ،وأخذ يُصلّي ويقول :يا فلن ا ْدعُ لي ال وكذا وكذا ..فإذا ما كشف ال عنه ضُرّه
س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ
عاود الكَرّة من جديد؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى {:وَإِذَا مَ ّ
شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ[} ...يونس.]12 :
قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ
ومن ُلطْف الداء القرآني هنا أن يقول:
{ ِإذَا فَرِيقٌ مّ ْنكُم بِرَ ّبهِمْ ُيشْ ِركُونَ } [النحل.]54 :
أي :جماعة منكم وليس كلكم ،أما الباقي فيمكن أنْ يثبتُوا على الحق ،ويعتبروا بما نزل بهم فل
يعودون ..فالناس ـ إذن ـ مختلفون في هذه القضية :فواحد يتضرّع ويلتفت إلى ال من ضُرّ
واحد أصابه ،وآخر يلتفت إلى ال من ضُرّيْن ،وهكذا.
وقد وجدنا في الحداث التي م ّرتْ ببلدنا على أكابر القوم أحداثا عظاما تلفتهم إلى ال ،فرأينا مَنْ
ل يعرف طريق المسجد يُصلّي ،ومَنْ ل يفكر في حج بيت ال ،ويسرع إليه ويطوف به ويبكى
هناك عند الملتزم ،وما ألجأهم إلى ال ولفتهم إليه سبحانه إل ما مرّت بهم من أحداث.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أليست هذه الحداث ،وهذه الزمات والمصائب خيرا في حقهم؟ ..بلى إنها خير.
وأيضا قد يُصاب النسان بمرض يُِلمّ به ،وربما يطول عليه ،فيذهب إلى الطباء ،ويدعو ال
ويلجأ إليه ،ويطلب من الناس الدعاء له بالشفاء ،ويعمل كذا وكذا ..فإذا ما كشف ال عنه المرض
ت وعملتُ ..سبحان ال!
وأَذِن له بالشفاء قال :أنا اخترتُ الطبيب الحاذق ،الطبيب النافع ،وعمل ُ
لماذا ل تترك المر ل ،وتُعفِي نفسك من هذه العملية؟
وفي قوله تعالى:
شفَ الضّرّ عَ ْنكُمْ ِإذَا فَرِيقٌ مّ ْنكُم بِرَ ّبهِمْ يُشْ ِركُونَ } [النحل.]54 :
{ ُثمّ إِذَا كَ َ
صمام َأمْن اجتماعي في الكون ،يقول للناس :إياكم أن تأخذوا على غيركم حين تُقدمون إليهم
جميلً فيُنكرونه ..إياكم أنْ تكّفوا عن عمل الجميل على غيركم؛ لن هذا النكار للجميل قد فعلوه
مع أعلى منكم ،فعلوه مع ال سبحانه ،فل يُزهدك إنكارهم للجميل في ِفعْله ،بل تمسّك به لتكون
من أهله.
ل لنكار الجميل في قصة سيدنا موسى عليه السلم {:ياأَ ّيهَا
والحق تبارك وتعالى يضرب لنا مث ً
الّذِينَ آمَنُواْ لَ َتكُونُواْ كَالّذِينَ آ َذوْاْ مُوسَىا فَبرَّأهُ اللّهُ ِممّا قَالُواْ َوكَانَ عِندَ اللّ ِه َوجِيها }[الحزاب:
.]69
فقد اتهمه قومه وقعدوا يقولون فيه كذبا و ُبهْتانا ،فقال موسى :يا ربّ أسألك ألّ ُيقَال فيّ ما ليس
فيّ ..فقال تعالى لموسى :أنا لم افعل ذلك لنفسي ،فكيف أفعلها لك؟
ولماذا لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه؟ ..لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه ليعطينا نحن ُأسْوة في تحمّل
هذا النكار ،فقد خلق ال الخَلْق ورزقهم ووَسِعهم ،ومع ذلك كفروا به ،ومع ذلك ما يزال الحق
سبحانه خالقا رازقا واسعا لهم.
إذن :في الية تقنين وأمان للمجتمع أن يتفشى فيه مرض الزّهْد في عمل الخير.
وقَوْل الحق سبحانه:
{ بِرَ ّب ِهمْ يُشْ ِركُونَ } [النحل.]54 :
تشمل الية مَنْ أنكر الجميل من المؤمنين ،ومن الكافرين.
ولكن لماذا يشركون؟
يقول الحق تبارك وتعالى { :لِ َي ْكفُرُواْ ِبمَآ آتَيْنَاهُمْ.} ...
()1939 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علْمٍ عِندِي }[القصص.]78 :
أي :مُسْتعظمين كقارون الذي قال {:إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا ِ
ن تقول له :الحمد ل الذي وفّقك في المتحان ،فيقول :أنا
أخذتُ هذا َبجْهدي وعملي ..ومثله مَ ْ
كنت ُمجِدا ..ذاكرتُ وسهرتُ ..نعم أنت ذاكرتَ ،وأيضا غيرك ذاكر وجَدّ واجتهد ،ولكن أصابه
مرض ليلة المتحان فأقعده ،وربما كنت مثله.
فهذه نغمة مَنْ أَنكر الفضل ،وتكبّر على صاحب النعمة سبحانه.
وقوله:
{ لِ َي ْكفُرُواْ[ } ...النحل.]55 :
هل فعلوا ذلك ليكفروا ،فتكون اللم للتعليل؟ ل بل قالوا :اللم هنا لم العاقبة ..ومعناها أنك قد
تفعل شيئا ل لشيء ،ولكن الشيء يحدث هكذا ،وليس في بالك أنت ..إنما حصل هكذا.
عوْنَ لِ َيكُونَ َل ُهمْ عَ ُدوّا
ومثال هذه اللم في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون {:فَالْ َتقَطَهُ آلُ فِرْ َ
وَحَزَنا[} ..القصص.]8 :
ففرعون حينما أخذ موسى من البحر وتبنّاه وربّاه ،هل كان يتبناّه ليكون له عدوا؟ ل ..إنما هكذا
كانت النهاية ،لكي يثبت الحق سبحانه أنهم كانوا مُغفّلين ،وأن ال حالَ بين قلوبهم وبين ما
يريدون ..إذن :المسألة ليستْ مرادة ..فقد أخذْته وربّيته في الوقت الذي تقتل فيه الطفال ..ألم
يخطر ببالك أن أحدا خاف عليه ،فألقاه في البحر؟!
لذا يقول تعالى {:وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيحُولُ بَيْنَ ا ْلمَ ْر ِء َوقَلْبِهِ[} ..النفال.]24 :
خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ} ...
ضعِيهِ فَِإذَا ِ
وكذلك أم موسى {:وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
[القصص.]7 :
كيف يقبل هذا الكلم؟ وأنّى للم أن ترمي ولدها في البحر إنْ خافت عليه؟! كيف يتأتّى ذلك؟!
ولكن حالَ ال بين أم موسى وبين قلبها ،فذهب الخوف عليه ،وذهب الحنان ،وذهبت الرأفة ،ولم
تكذّب المر الموجّه إليها ،واعتقدت أن نجاة وليدها في هذا فألقتْه.
س ْوفَ َتعَْلمُونَ } [النحل.]55 :
وقوله { :فَ َتمَ ّتعُواْ فَ َ
أي :اكفروا بما آتيناكم من النعم ،وبما كشفنا عنكم من الضر ،وتمتعوا في الدنيا؛ لنني لم اجعل
الدنيا دار جزاء ،إنما الجزاء في الخرة.
ن يكفر بنعمته ،وإلّ فلو
وكلمة { َتمَ ّتعُواْ } هنا تدل على أن ال تعالى قد يُوالي نعمه حتى على مَ ْ
حجَب عنهم ِنعَمه فلن يكون هناك تمتّع.
َ
ويقول تعالى:
سوْفَ َتعَْلمُونَ } [النحل.]55 :
{ َف َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :سوف تروْنَ نتيجة أعمالكم ،ففيها تهديد ووعيد.
جعَلُونَ ِلمَا لَ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :وَ َي ْ
()1940 /
أي :الذين يكفرون بال ويتخذون الصنام والشركاء ،يجعلون لها نصيبا.
وقول الحق سبحانه:
{ لَ َيعَْلمُونَ[ } ..النحل.]56 :
ما العلم؟
العلم أن تعرفَ قضية ،هذه القضية صِدْق أي :مطابقة للواقع وتستطيع أن تُدلّل عليها ،فإذا اختلّ
ن علما ..وهؤلء حينما جعلوا للصنام نصيبا ،فقد أَ َتوْا بأشياء ل وجودَ لها في
واحد منها لم تكُ ْ
الواقع ول في العلم ،وليست حقائق ..وهل للصنام وجود؟ وهل عليها دليل؟
سمّيْ ُتمُوهَآ أَن ُت ْم وَآبَآ ُؤكُم مّآ أَن َزلَ اللّهُ ِبهَا مِن سُ ْلطَانٍ[} ...النجم:
سمَآءٌ َ
قال تعالى {:إِنْ ِهيَ ِإلّ أَ ْ
.]23
جعَلُواْ للّهِ ِممّا
هذه الصنام ليست لها وجود في الحقيقة ،وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه {:وَ َ
ع ِمهِمْ وَهَـاذَا لِشُ َركَآئِنَا َفمَا كَانَ ِلشُ َركَآ ِئهِمْ فَلَ
ث وَالَ ْنعَامِ َنصِيبا فَقَالُواْ هَـاذَا للّهِ بِزَ ْ
ذَرَأَ مِنَ الْحَ ْر ِ
ح ُكمُونَ }[النعام.]136 :
صلُ إِلَىا شُ َركَآ ِئهِمْ سَآءَ مَا َي ْ
صلُ إِلَىا اللّ ِه َومَا كَانَ للّهِ َفهُوَ َي ِ
َي ِ
حتى لمّا جعلوا للصنام نصيبا جعلوه مما رزقهم الَ ،ألَ جعلتم نصيب الصنام مما تعطيكم
الصنام؟ ونصيب ال مما رزقكم ال؟ فهذا اعتراف منكم بعجز أصنامكم ،وأنكم أخذتم رزق ال
وجعلتموه لصنامكم.
وهذا دليل على أن الصنام ل تعطيكم شيئا ،وشهادة منكم عليهم ..وهل درت الصنام بهذا؟
إذن:
{ ِلمَا لَ َيعَْلمُونَ[ } ...النحل.]56 :
أي :للصنام؛ لنها ل وجودَ لها في الحقيقة ،وهم يأخذون ما رزقناهم ،ويجعلونه لصنامهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى:
عمّا كُنْتُمْ َتفْتَرُونَ } [النحل.]56 :
{ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التاء هنا في { تَاللّهِ } للقسم أي :وال لَتُسْألُنّ عما افتريتم من أمر الصنام .والفتراء :هو الكذب
المتعمد.
()1941 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َعلُ مَن
ج ُهمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ
يَخُْلقُ مَا يَشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َيهَبُ ِلمَن يَشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ
عقِيما[} ..الشورى.]50-49 :
يَشَآءُ َ
أول ما بدأ الحق سبحانه بدأ بالناث ..ثم أعطانا هذه الصورة من الخَلْق :إناث ،ذكور ،ذكور
وإناث ،عقيم ..إذن :هِبَات ال تعالى لها أربعة أنواع ،ومن هنا كان ال ُعقْم أيضا هبةً من ال لحكمة
أرادها سبحانه ..لكن الناس ل تأخذ ال ُعقْم على أنه هِبَة ..لكن تأخذه على أنه ِنقْمة وغضب.
لماذا؟ لماذا تأخذه على أنه ِنقْمة وبلء؟ فربما وهبك الولد ،وجاء عاقّا ،كالولد الذي جاء فتنة
لبويْه ،يدعوهما إلى الكفر.
ولو أن صاحب العقم رضي بما قسمه ال له من هبة العقم واعتبره هبة ورضي به لرأى كل ولد
حمْله وولدته وتربيته .فيرى جميع الولد من حوله أولده
في المجتمع ولده من غير تعب في َ
ويعطف ال قلوبهم إليه كأنه والدهم ..وكأن الحق تبارك وتعالى يقول له :ما ُد ْمتَ رضيتَ بهبة
ال لك في العقم لجعلنّ كل ولدٍ ولدا لك.
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
{ وََلهُمْ مّا َيشْ َتهُونَ } [النحل.]57 :
أي :من ال ّذكْران؛ لن الولد عِزْوة لبيه ينفعه في الحرب والقتال وينفعه في المكاثرة ..الخ إنما
حدُ ُهمْ.} ...
البنت تكون عالةً عليه؛ ولذلك قال تعالى بعد هذا { :وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ
()1942 /
نعرف أن البشارة تكون بخير ،فكان يجب عليهم أن يستقبلوها استقبالَ البشارة ،ولكنهم استقبلوها
استقبال الناقمين الكارهين لما بُشّروا به ،فتجد وجه الواحد منهم.
س َودّا[ } ...النحل.]58 :
{ مُ ْ
ومعنى اسوداد الوجه انقباضه من الغيظ؛ لذلك يقول تعالى:
{ وَ ُهوَ كَظِيمٌ[ } ...النحل.]58 :
الكظم هو كَتْم الشيء.
ظمِينَ ا ْلغَ ْيظَ[} ..آل عمران.]134 :
ولذلك يقول تعالى في آية أخرى {:وَا ْلكَا ِ
وهو مأخوذ من كَظْم القِرْبة حين تمتليء بالماء ،ثم يكظمها أي :يربطها ،فتراها ممتلئة كأنها
ستنفجر ..هكذا الغضبان تنتفخ عروقه ،ويتوارد الدم في وجهه ،ويحدث له احتقان ،فهو مكظوم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ممنوع أنْ ينفجر.
ثم يقول الحق سبحانه واصفا حاله { :يَ َتوَارَىا مِنَ.} ..
()1943 /
ح ُكمُونَ (
علَى هُونٍ َأمْ يَ ُدسّهُ فِي التّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا َي ْ
سكُهُ َ
يَ َتوَارَى مِنَ ا ْلقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشّرَ ِبهِ أَ ُيمْ ِ
)59
قوله تعالى:
{ يَ َتوَارَىا مِنَ ا ْل َقوْمِ[ } ..النحل.]59 :
أي :يتخفّى منهم مخافَة أنْ يُقال :أنجب بنتا.
{ مِن سُوءِ مَا بُشّرَ ِبهِ[ } ..النحل.]59 :
نلحظ إعادة البشارة في هذه الية أيضا ،وكأنه سبحانه وتعالى يُحنّن قلبه عليها ،ويدعوه إلى
الّرْفق بها.
فهو متردد ل يدري ماذا يفعل؛ لذلك يقول تعالى:
سكُهُ عَلَىا هُونٍ َأمْ يَدُسّهُ فِي التّرَابِ[ } ..النحل.]59 :
{ أَ ُي ْم ِ
أي :ماذا يفعل فيما وُلِد له .أيحتفظ به على هُونٍ ـ أي :هوان ومذلة ـ أم يدسّه في التراب ـ
أي :يدفنها فيه حية؟
ح ُكمُونَ } [النحل.]59 :
{ َألَ سَآءَ مَا يَ ْ
أي :ساء ما يحكمون في الحالتين .حالة المساك على هُون ومذلّة ،أو حالة دَسّها في التراب،
فكلهما إساءة .وكان بعض هؤلء إذا وُلدتْ له بنت كرهها ،فإن أمسكها أمسكها على حال كونها
ذليلةً عنده ،مُحتقرة ُمهَانة ،وهي مسكينة ل ذنبَ لها.
ولذلك ،فإن المرأة العربية التي عاصرتْ هذه الحداث فطِ َنتْ إلى ما لم نعرفه نحن إل قريبا،
حيث اكتشف العالم الحديث أن أمر إنجاب الولد أو البنت راجع إلى الرجل وليس إلى المرأة..
وكان أبو حمزة كثيرا ما يترك زوجته ويغضب منها ،لنها ل تلد إل البنات ..فماذا قالت هذه
غضْـبانَ ألّ نَِلدَ البَنِـيناتَالِ مَا
المرأة العربية التي هجرها زوجها؟ قالت:مَا لبي حمز َة لَ يأتِينَا َ
عطِينَا والحق سبحانه وتعالى حينما
ذَلكَ فِـي أَيْدينا فَنَحنُ كَالَ ْرضِ لغارسينانُعطِي َلهُم مِثْل الذِي أُ ْ
يريد توازنا في الكون يصنع هذا التوازن من خلل مقتضيات النفس البشرية ،ومن مقتضياتها أن
يكون للنسان جاه ،وأن يكون له عِزّ ،لكن النسان يخطيء في تكوين هذا الجاه والعِزّ ،فيظن أنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قادر على صنع ما يريد بأسبابه وحدها.
إنما لو علم أن تكوين الجاه والعِزّ بشيء فوق أسبابه هو ،بشيء مخلوق ل تعالى ،بقدر مخلوق ل
تعالى ،لو علم هذه الحقيقة لجاء المسألة من بابها.
ذلك لن العزة ليست بما تُنجِب ..العزة هنا ل وللرسول وللمؤمنين ،اعتزّ هنا بُعصْبة اليمان،
اعتز بأنك في بيئة مؤمنة متكافلة ،إذا أصابك فيها ضَيْم فزِع إليك الجميع.
ول تعتزّ بالنسال والنجال ،فقد يأتي الولد عاقّا ل يُسعِف أبويْه في شدة ،ول يعينهما في حاجة؛
عصَبية اليمان
عصَبية الدم وعَصَبيّة الدم قد تتخلّف ،أما عَصبِيّة العقيدة و َ
ذلك لنك لجأتَ إلى َ
والدين فل.
ولنأخذ على ذلك مثالً ..ما حدث بين النصار والمهاجرين من تكافل وتعاون فاق كُل ما يتصوره
البشر ،ولم يكُنْ بينهم سوى رابطة العقيدة وعصبية اليمان ..ماذا حدث بين هؤلء الفذاذ؟
وجدنا أن العصبية اليمانية جعلت الرجل يُضحّي بأنفَس شيء يضِنّ به على الغير ..نتصور في
هذا الموقف أن يعود النصار بفضل ما عندهم من نعم على إخوانهم المهاجرين ،فَمنْ كانت عنده
ل يقول لخيه المهاجر :تفضل اركب هذه الركوبة ،أو اجلس في هذا المنزل.
ركوبة أو منزلة مث ً
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإيمانك به سبحانه ..أما أن تعتز بطريقتك أنت ،فتطلب العزة في الولد الذكَر ،فمَنْ يُدرِيك أن تجد
فيه العزة والعِزوة والمكاثرة؟!
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :لِلّذِي َ
()1944 /
حكِيمُ ()60
سوْ ِء وَلِلّهِ ا ْلمَ َثلُ الْأَعْلَى وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
لِلّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالَْآخِ َرةِ مَ َثلُ ال ّ
قوله تعالى:
سوْءِ[ } ...النحل.]60 :
{ مَ َثلُ ال ّ
صفة السوء أي :الصفات السيئة الخسيسة من الكفر والجحود والنكْران ،ومن عَمي البصيرة،
وغيرها من صفات السوء.
لماذا كان للذين ل يؤمنون بالخرة م َثلُ السوء؟ لن المعادلة التي َأجْ َروْها معادلة خاطئة؛ لن
الذي ل يؤمن بالخرة قصّر عمره ..ف ُعمْر الدنيا بالنسبة له قصير ،وقد قلنا :إياك أن تقيسَ الدنيا
بعمرها ..ولكن قِسْ الدنيا بعمرك أنت ،فعمر الدنيا مدة بقا ِئكَ أنت فيها ..إنما هي باقية من بعدك
لغيرك ،وليس لك أنت فيها نصيب بعد انقضاء عمرك.
إذن :عمر الدنيا عمرك أنت فيها ..عمرك :شهر ،سنة ،عشر سنوات ،مائة ..هذا هو عمر الدنيا
الحقيقي بالنسبة لك أنت.
ن ل يؤمن بال ول يؤمن بالخرة قد اختار
ومع ذلك ،فعمر الدنيا مهما طال مُنْتَ ٍه إلى زوال ،فَم ْ
شتَ في الدنيا إلى
عْالخاسرة؛ لنه ل يضمن أن يعيش في الدنيا حتى متوسط العمار ..و َهبْ أنك ِ
متوسط العمار ،بل إلى أرذل العمر ..و َهبْ أنك استمتعتَ في دنياك بكل أنواع المعاصي ،ماذا
ن تفوتَ هذا كله إلى الموت.
ستكون النهاية؟ أ ْ
قارن ـ إذن ـ حال هذا بمَنْ آمن بال وآمن بالخرة ..نقول لمَنْ ل يؤمن بالخرة :دنياك
مظنونة ،يمكن أن تعيش فيها ،أو يعاجلك الموت ..حتى مَنْ عاش إلى متوسط العمار ،فالنهاية
إلى زوال.
وما نِ ْلتَ من مُتَع في دنياك أخذتها على َقدْر إمكاناتك أنت.
إذن :أنت أخذت صفقة محدودة غير مُتيقّنة ،وتركتَ صفقة غير محدودة ومُتيقّنة ..أليستْ هذه
الصفقة خاسرة؟
أما مَنْ آمن بالخرة فقد ربحتَ صفقته ،حيث اختار حياة ممتدة يجد المتعة فيها على قَدْر إمكانات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المنعِم سبحانه وتعالى.
إذن:
سوْءِ[ } ...النحل.]60 :
{ مَ َثلُ ال ّ
أي :الصفة شديدة السوء ،ذلك لنهم خاسرون ل محالة.
وقوله تعالى:
{ وَلِلّهِ ا ْلمَ َثلُ الَعْلَىا[ } ...النحل.]60 :
ل الصفة العليا ،وكأن الية تقول لك :اترك صفة السوء ،وخُذ الصفة العلى التي تجد المتعة فيها
على قَدْر إمكانات الحق سبحانه وتعالى.
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
حكِيمُ } [النحل.]60 :
{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
العزيز أي :الذي ل يُغلَب على أمره ،فإذا قيل :قد يوجد مَنْ ل يُغلب على أمره ..نعم؛ لكنه
سبحانه عزيز حكيم يستعمل القهر والغلبة بحكمة.
خذُ اللّهُ.} ...
ثم يقول الحق تبارك وتعالى { :وََلوْ ُيؤَا ِ
()1945 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك؛ فالحق تبارك وتعالى يقول هنا:
خذُ اللّهُ النّاسَ[ } ...النحل.]61 :
{ وََلوْ ُيؤَا ِ
ولم َي ُقلْ :يأخذ الناس.
شدِيدٌ }
وفي آية أخرى قال تعالىَ {:وكَذاِلكَ َأخْذُ رَ ّبكَ إِذَا َأخَذَ ا ْلقُرَىا وَ ِهيَ ظَاِل َمةٌ إِنّ َأخْ َذهُ أَلِيمٌ َ
[هود.]102 :
لماذا أخذها ال؟ أخذها لنها أخذتْ منه حقوقه في أن يكون إلها واحدا فأنكرتها ،وحقوقه في
تشريع الصالح فأنكرنها.
ويُبيّن الحق سبحانه أن هذه المؤاخذة لو حدثت ستكون بسبب من الناس أنفسهم ،فيقول سبحانه:
{ ِبظُ ْل ِمهِمْ[ } ..النحل.]61 :
عظِيمٌ }[لقمان.]13 :
أول الظلم أنهم أنكروا الوحدانية ،يقول تعالى {:إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ
فكأنهم أخذوا من ال تعالى حقّه في الوحدانية ،وأخذوا من الرسول صلى ال عليه وسلم ،فقالوا
كذاب ،وأخذوا من الكتاب فقالوا " سحر مبين ".
كل هذا ظلم..
فالحق تبارك وتعالى لو آخذهم بما أخذوا ،أخذوا شيئا فأخذ ال شيئا ،لو عاملهم هذه المعاملة ما
ترك على ظهرها من دابة.
لذلك نجد في آيات الدعاء {:رَبّنَا لَ ُتؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ َأوْ َأخْطَأْنَا }[البقرة.]286 :
أي :أننا أخذنا منك يا ربّ الكثير بما حدث مِنّا من إسراف وتقصير وعمل على غير مقتضى
أمرك ،فل تؤاخذنا بما بدر منا.
فلو آخذ ال الناس بما اقترفوا من ظلم..
{ مّا تَ َركَ عَلَ ْيهَا مِن دَآبّةٍ[ } ..النحل.]61 :
قد يقول قائل :ال عز وجل سَيُؤاخذ الناس بظلمهم ،فما ذنب الدابة؟ ماذا فعلت؟ نقول :لن الدابة
خُِل َقتْ من أجلهم ،وسُخّرتْ لهم ،وهي من نعم ال عليهم ،فليست المسألة إذن نكايةً في الدابة ،بل
فيمَنْ ينتفع بها ،وقد يُراد العموم لكل الخلق.
فإذا لم يؤاخذ ال الناس بظلمهم في الدنيا فهل يتركهم هكذا؟ ل بل:
سمّىا[ } ...النحل.]61 :
جلٍ مّ َ
{ وَلكِن ُيؤَخّرُهُمْ إلَىا أَ َ
هذا الجل انقضاء دُنيا ،وقيام آخرة ،حتى لو لم يؤمنوا بالخرة ،فإن ال تعالى يُمهلهم في الدنيا،
كما قال تعالى في آية أخرى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن يقتلوا أهل الكفر فلنا وفلنا ،ثم ل يتمكنون من ذلك ول يصيبونهم ،فيحزنون لذلك.
أْ
ولكن أَجَل هؤلء لم يَ ْأتِ َبعْد ،وفي علم ال تعالى أن هؤلء الكفار سيؤمنون ،وأن إيمانهم سينفع
ن يؤمنوا ،وإما أن تؤمنَ ذرياتهم.
المسلمين ،وكأن القدر يدّخرهم :إما أ ْ
جوْا كان خالد بن
وقد آمن عمرو بن العاص ،وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم .ومن هؤلء الذين نَ َ
الوليد سيف ال المسلول.
جُلهُ ْم لَ يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ { [النحل.]61 :
} فَِإذَا جَآءَ أَ َ
أي :إذا جاءت النهاية فل تُؤخّر ،وهذا شيء معقول ،ولكن كيف :ول يستقدمون؟ إذا جاء الجل
كيف ل يستقدِمون؟ المسألة ـ إذن ـ ممتنعة مستحيلة ..كيف إذا جاء الجل يكون قد أتى قبل
ذلك؟ ...هذا ل يستقيم ،لكن يستقيم المعنى تماما على أن:
} َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ { [النحل.]61 :
ليست من جواب إذا ،بل تم الجواب عند (ساعة) ،فيكون المعنى :إذا جاء أجلهم ل يستأخرون
ساعة ،وإذا لم يجيء ل يستقدمون .وال أعلم.
جعَلُونَ ِللّهِ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :وَ َي ْ
()1946 /
صفُ َألْسِنَ ُتهُمُ ا ْل َك ِذبَ أَنّ َلهُمُ ا ْلحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنّ َلهُمُ النّا َر وَأَ ّنهُمْ
ن وَ َت ِ
جعَلُونَ لِلّهِ مَا َيكْرَهُو َ
وَيَ ْ
ُمفْرَطُونَ ()62
قوله تعالى:
جعَلُونَ لِلّهِ مَا َيكْرَهُونَ[ } ...النحل.]62 :
{ وَيَ ْ
الليق أن الذي يُخرج ل يجب أن يكون من أطيب ما أعطاه ال ،فإذا أردت أن تتصدقَ تصدّقْ
بأحسن ما عندك ،أو على القل من أوسط ما عندك ..لكن أنْ تتصدّق بأخسّ الشياء وأرذلها ..أن
تتصدق مما تكرهه ،كالذي يتصدق بخبز غير جيد أو لحم تغيّر ،أو ملبس ُمهَ ْلهَلة ،فهذا يجعل ل
ما يكره.
طوْا ربهم أفضل ما يُحبون..
والحقيقة أن الناس إذا وثِقوا بجزاء ال على ما يعطيه العبد لَع َ
لماذا؟ لن ذلك دليلٌ على حبّك للخرة ،وأنك من أهلها ،فأنت تعمرها بما تحب ،أما صاحب الدنيا
المحبّ لها فيعطي أقل ما عنده؛ لن الدنيا في نظره أهمّ من الخرة.
وبهذا يستطيع النسان أنْ يقيسَ نفسه :أهو من أهل الخرة ،أم من أهل الدنيا بما يعطي ل عز
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجل؟
قوله تعالى:
جعَلُونَ لِلّهِ مَا َيكْرَهُونَ[ } ...النحل.]62 :
{ وَيَ ْ
أي :مما ذكر في اليات السابقة من قولهم {:لِلّهِ الْبَنَاتِ[} ..النحل.]57 :
وأن الملئكة بنات ال ،وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا ،إلى غير ذلك من أقوالهم ،وجعلوا ل البنات
سوَدّا وَ ُهوَ َكظِيمٌ }[النحل.]58 :
جهُهُ مُ ْ
ل وَ ْ
ظّحدُ ُهمْ بِالُنْثَىا َ
وهم يكرهون البنات؛ لذلك {:وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ
جعْل منهم مردود عليهم ،فلو جعلوا ل ما
جعْل البنات ل ،بل مُطْلق ال َ
والمسألة هنا ليستْ مسألة َ
يحبون من الذكْران ما تُقبّل منهم أيضا؛ لنهم جعلوا ل ما لم يجعل لنفسه.
فالذين قالوا :عزير ابن ال .والذين قالوا :المسيح ابن ال .ل يُقبَل منهم؛ لنهم جعلوا ل سبحانه ما
لم يجعلْه لنفسه ،فهذا مرفوض ،وذلك مرفوض؛ لننا ل نجعل ل إل ما جعله ال لنفسه سبحانه.
فنحن نجعل ل ما نحب مما أباح ال ،كما جاء في قوله تعالى {:لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْنفِقُواْ ِممّا
تُحِبّونَ[} ...آل عمران.]92 :
طعَامَ عَلَىا حُبّهِ[} ..النسان.]8 :
ط ِعمُونَ ال ّ
وقوله {:وَيُ ْ
ن وَلَدٌ فَأَنَاْ َأ ّولُ
حمَـا ِ
ولذلك قال الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلمُ {:قلْ إِن كَانَ لِلرّ ْ
ا ْلعَابِدِينَ }[الزخرف.]81 :
جعْل ما
فلو كان له ولد لمنتُ بذلك ،لكن الحقيقة أنه ليس له ولد ..إذن :ليست المسألة في َ
طلَق الجعلْ ،ذلك لننا عبيد نتقرّب إلى ال بالعبادة ،والعابد يتقرّب إلى
يكرهون ل بل في مُ ْ
المعبود بما يحب المعبود أن يتقرّب به إليه ،فلو جعل ال لنفسه شيئا فهو على العين والرأس ،كما
في أمره أن ننفق مما نُحب ،ومن أجود ما نملك.
ولذلك قوله تعالى {:لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْن ِفقُواْ ِممّا تُحِبّونَ }[آل عمران.]92 :
رَاعِ حق الفقير وضرورة أنْ تجعله كنفسك ،ل يكُنْ هيّنا عليك فتعطيه أردأ ما عندك ..والحق
تبارك وتعالى لما أراد أن نتقرّب إليه بالّنسُك وذَبْح الهَدْي والضاحي قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ
شهَدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ ُه وَاللّهُ َي ْ
جَآ َءكَ ا ْلمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَ ْ
َلكَاذِبُونَ }[المنافقون.]1 :
صدْق أم ل؟ إنها قضية صادقة ..أنت رسول ال وقد وافق كلمهم ما يعلمه
بال ،أهذه القضية ِ
ال ..فلماذا شهد عليهم الحق تبارك وتعالى أنهم (كاذبون)؟
وفي أيّ شيء هم كاذبون؟
ش َهدُ إِ ّنكَ
قالوا :الحقيقة أنهم صادقون في قولهم :إنك لرسول ال ،ولكنهم كذبوا في شهادتهم {:نَ ْ
لَرَسُولُ اللّهِ[} ...المنافقون.]1 :
ئ القلبُ اللسانَ ويسانده ،وهذه الشهادة منهم
لنهم ل يشهدون فعلً؛ لن الشهادة تحتاج أنْ يُواط َ
من اللسان فقط ل يساندها القلب.
النسان عُرْضة لن يقول الصدق مرة والكذب مرة ،لكن هؤلء بمجرد أن يقولوا (نشهد) فهم
كاذبون ،وهذا معنى:
صفُ أَلْسِنَ ُتهُمُ ا ْلكَ ِذبَ { [النحل.]62 :
} وَ َت ِ
لنهم حينما يقولون مثلً :العزير ابن ال ،المسيح ابن ال ،الملئكة بنات ال .هذه كلها قضايا
باطلة ليس لها واقع يوافق منطوق اللسان ..فألسنتهم تصف الكذب.
وإنْ أردتَ أن تعرف الكذب الذي ل يطابق الواقع فاستمع إليه فبمجرد أنْ يُقال تعلم أنه كذب..
ن قال :أنا نبي قلنا :مسيلمة الكذاب.
مثل ما حدث مع مُسيْلمة الذي ادّعى النبوة ،مجرد أ ْ
ويقول الحق سبحانه:
} أَنّ َلهُمُ ا ْلحُسْنَىا[ { ..النحل.]62 :
أي :أن الكذب في قولهم (لهم الحسنى) فهذا اغترار وتمنّ على ال دون حق ،ومثل هذه المقولة
خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ ظَاِلمٌ لّ َنفْسِهِ قَالَ مَآ
في سورة الكهف ،في قصةِ أصحاب الجنتين ،يقول تعالى {:وَدَ َ
أَظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا * َومَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَ ًة وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَجِدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }
[الكهف.]36-35 :
فهذه مقولت ثلث كاذبة:
قوله {:مَآ َأظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا }[الكهف.]35 :
هذه الولى ،فكم من أشياء تغيّرت ،ومن يضمن لك بقاء ما أنت فيه ،والحق تبارك وتعالى يقول
سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ * َولَ َيسْتَثْنُونَ
في آية أخرى {:إِنّا َبَلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ ِإذْ َأقْ َ
حتْ كَالصّرِيمِ }[القلم.]20-17 :
ك وَ ُهمْ نَآ ِئمُونَ * فََأصْبَ َ
* فَطَافَ عَلَ ْيهَا طَآ ِئفٌ مّن رّ ّب َ
الكذبة الثانيةَ {:ومَآ َأظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَةً }[الكهف.]36 :
فقد أنكر الساعة.
جدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف.]36 :
الكذبة الثالثة {:وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا هو الشاهد في الية هنا ،ففيها اغترار وتمنّ على ال دون حقّ ،كمن ادعوْا أن لهم الحسنى،
وهم ليسوا أهلً لها.
وفي موضع آخر تأتي نفس المقولة:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومنه قوله تعالى عن فرعونَ {:يقْدُمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ[} ..هود.]98 :
أي :يتقدمهم إلى النار ..كما كنتَ مُقدّما عليهم ،وإماما لهم في الدنيا ،فسوف تتقدمهم هنا وتسبقهم
إلى النار.
()1947 /
عذَابٌ أَلِيمٌ (
عمَاَل ُهمْ َف ُهوَ وَلِ ّيهُمُ الْ َيوْ َم وََلهُمْ َ
تَاللّهِ َلقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ُأمَمٍ مِنْ قَبِْلكَ فَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ
)63
نعلم أن الحق سبحانه وتعالى يُقسِم بما يشاء على ما يشاء ،أما نحن فل نقسم إل بال ،وفي
الحديث الشريف " :مَنْ كان حالفا ،فليحلف بال أو ليصمت ".
والحق تبارك وتعالى هنا يحلف بذاته سبحانه { تَاللّهِ } ،مثل :وال وبال.
وقد جاء القسم لتأكيد المعنى؛ ولذلك يقول أحد الصالحين :من أغضب الكريم حتى ألجأه أن
يقسم؟!
وقد يؤكد الحق سبحانه القسم بذاته ،أو القسم ببعض خَلْقه ،وقد ينفي القسم وهو يُقسِم ،كما في قوله
تعالى {:لَ ُأقْسِمُ ِبهَـاذَا الْبَلَدِ }[البلد.]1 :
عظِيمٌ }[الواقعة.]76-75 :
سمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَسَمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ َ
وقوله {:فَلَ ُأقْ ِ
ومعنى :ل أقسم أن هذا المر واضح جَليّ وضوحا ل يحتاج إلى القسم ،ولو كنت مُقسِما لقسمتُ
عظِيمٌ }[الواقعة.]76 :
سمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ َ
به ،بدليل قوله {:وَإِنّهُ َلقَ َ
إذن :الحق سبحانه يُقسِم بذاته ليؤكد لنا المر تأكيدا ،وتأكيد المر عند الحكم في القضاء مَثلً :إما
بالقرار ،وإما باليمين ..فإذا ما أقسمت له وحلفتَ فقد سد ْدتَ عليه منافذ التكذيب.
والحق سبحانه يقول:
{ َلقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىا ُأ َممٍ مّن قَبِْلكَ } [النحل.]63 :
ستَ بِدْعا في أنْ تُكذّب من قومك ،فهذه طبيعة الذين يستقبلون الدعوة من ال على ألسنة
أي :ل ْ
الرسل؛ لن الرسل ل يرسلهم ال إل حينما يطمّ الفساد ويعُم.
حلّ إل أنْ تتدخلَ السماء؛ ذلك لن النسان فيه مناعات
ومعنى إرسال الرسل ـ إذن ـ أنه ل َ
يقينية في ذاته ،وهي نفسه اللوامة التي تلومه إذا أخطأ وتُعدّل من سلوكه ،فهي رادع له من نفسه.
ن ل تُردِعه
فإذا ما تبلّدتْ هذه النفس ،وتعوّدتْ على الخطأ قام المجتمع من حولها بهذه المهمة ،فمَ ْ
نفسه اللوامة يُردعه المجتمع من حوله ..فإذا ما فسدَ المجتمع أيضا ،فماذا يكون الحل؟ الحل أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تتدخل السماء لنقاذ هؤلء.
إذن :تتدخل السماء بإرسال الرسل حينما يعُمّ الفسادُ المجتمعَ كله؛ ولذلك فأمة محمد صلى ال
عليه وسلم من شرفها عند ربها أنْ قال لهم :أنتم مأمونون على رعاية منهجي في ذواتكم ،لوّامون
لنفسكم ،آمرون بالمعروف ،ناهون عن المنكر في غيركم؛ لذلك لن أرسل فيكم رسولً آخر ،فأنتم
سوف تقومون بهذه المهمة.
ف وَتَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ} ...
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
لذلك قال الحق سبحانه {:كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
[آل عمران.]110 :
فقد آمن أمة محمد صلى ال عليه وسلم على أن تكون حارسة لمنهجه ،إما بالنفس اللوامة ،وإما
بالمجتمع المر بالمعروف الناهي عن المنكر ،وهذا شرف عظيم لهذه المة.
إذن :يأتي الرسول حينما يعُمّ الفساد ..فما معنى الفساد؟ ..الفساد :أن تُوجد مصالح طائفة على
حساب طائفة أخرى ،فأهل الفساد والمنتفعون به إذا جاءهم رسول ليُخلّص الناس من فسادهم،
كيف يقابلونه؟ أيقابلونه بالترحاب؟ بالطبع ل.
.ل بُ ّد وأن يقابلوه بالكراهية والنكار ،ويعلنوا عليه الحرب دفاعا عن مصالحهم.
ويُتبع الحق سبحانه هذا بقوله:
عمَاَلهُمْ[ { ..النحل.]63 :
} فَزَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ
هنا يتدخل الشيطان ،ويُزيّن لهل الفساد أعمالهم ،ويحثّهم على محاربة الرسل؛ فهؤلء الذين
سيقضون على نفوذكم ،سوف يأخذون ما في أيديكم من مُتَع الدنيا ،سوف يهزّون مراكزكم،
سفْلة والعبيد..
ويحطّون من مكانتكم بين الناس ..هؤلء سوف يرفعون عليكم ال ّ
وهكذا يتمسّك أهل الفساد والظلم بظلمهم ،ويعضون عليه بالنواجذ ،ويقفون من الرسل موقف
العداء ،فوطّنْ نفسك على هذا ،فلن تُقابلَ من السادة إل بالجحود وبالنكار وبالمحاربة.
ثم يقول تعالى:
} َف ُه َو وَلِ ّيهُمُ الْ َيوْمَ[ { ...النحل.]63 :
أي :في الخرة ،فما دام الشيطان تولّهم في الدنيا ،وزيّن لهم ،وأغراهم بعداء الرسل ،فَلْيتولّهم
الن ،وليدافع عنهم يوم القيامة ..وقد عرض لنا القرآن الكريم هذا الموقف في قوله تعالىَ {:كمَ َثلِ
الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِلِنسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّنكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الحشر:
.]16
وفي جدالهم يوم القيامة مع الشيطان يقولون له :أنت أغويتَنا وزيّنْتَ لنا ..ماذا يقول؟ يقولَ {:ومَا
سكُمْ[} ..إبراهيم:
عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ
كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
.]22
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والسلطان هنا :إمّا بالحجة التي تُقنع ،وإما بالقهر والغلبة والقوة التي تفرض ما تريد ،وليس
ن تفعل وأنت
للشيطان شيء من ذلك ..ل يملك حُجة يُقنعك بها لتفعل ،ول يملك قوة يُجبرك بها أ ْ
كاره.
وهكذا يجادلهم الشيطان ويردّ عليهم دعواهم ،فليس له عليكم سلطان ،بل مجرد الشارة أوقعتْكم
في المعصية.
عمَاَلهُ ْم َوقَالَ لَ غَاِلبَ َل ُكمُ الْ َيوْمَ مِنَ
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه {:وَإِذْ زَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ
عقِبَيْ ِه َوقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّ ْنكُمْ إِنّي أَرَىا مَا لَ
س وَإِنّي جَارٌ ّل ُكمْ فََلمّا تَرَآ َءتِ ا ْلفِئَتَانِ َن َكصَ عَلَىا َ
النّا ِ
تَ َروْنَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ[} ..النفال.]48 :
وقوله:
عذَابٌ أَلِيمٌ { [النحل.]63 :
} وََلهُمْ َ
يَصف العذاب هنا بأنه أليم شديد مُهلِك،وقد وصف ال العذاب بأنه أليم ،عظيم ،مُهين ،شديد..
والعذاب شعور باللم وإحساسٌ به ،وقد توصّل العلماء إلى أن الحساس كله في الجلد؛ لذلك قال
جلُودُهُمْ َبدّلْنَا ُهمْ جُلُودا غَيْرَهَا لِ َيذُوقُواْ
جتْ ُ
الحق سبحانه لِيُديمَ على هؤلء العذاب {:كُّلمَا َنضِ َ
ا ْلعَذَابَ[} ..النساء.]56 :
وهكذا يستمر العذاب باستمرار الجلود وتبديلها.
علَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ.{ ..
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومَآ أَنْزَلْنَا َ
()1948 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واضحة في أذهانهم ما حدث هذا الخلف.
وكذلك السلطة الزمنية حدثت في أتباع الرسل الذين أخذوا يكتبون الصكوك ،ويذكرون ما يحبون
وما يرونه صوابا من وجهة نظرهم ،كل هؤلء كان لهم نفوذ بما نُسميه السلطة الزمنية.
فكيف ـ إذن ـ يتركون محمدا صلى ال عليه وسلم يأخذ منهم هذه السلطة ،ويُضيع عليهم ما هم
فيه من سيادة ،فقد جاء الرسول صلى ال عليه وسلم لِيُبيّن لهم .أي :يردّهم إلى جَادّة الحق ،وإلى
الطريق المستقيم.
وقوله تعالى:
حمَةً[ } ..النحل.]64 :
{ وَ ُهدًى وَرَ ْ
الهدى :معناه بيان الطريق الواضح للغاية النافعة ،والطريق ل يكون واضحا إل إذا خَل من
الصّعاب والعقبات ،وخل أيضا من المخاوف ،فهو طريق واضح مأمون سهل ،وأيضا يكون
قصيرا يُوصّلك إلى غايتك من أقصر الطرق.
وضد الهدى :الضلل .وهو أنْ يُضلّك ،فإنْ أردتَ طريقا وجّهك إلى غيره ،ودَلّك على سواه ،أو
دَلّك على طريق به مخاوف وعقبات.
أما الرحمة ،فقد وصف الحق تبارك وتعالى القرآن بأنه رحمة فقال {:وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ
حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ[} ...السراء .]82 :فكيف يكون القرآن شفاءً؟ وكيف يكون رحمة؟
شفَآ ٌء وَرَ ْ
ِ
الشفاء :إذا أصابنا داء ربنا سبحانه وتعالى يقول :طيّبوا داءكم وداووا أمراضكم بكذا وكذا ،ورُدّوا
الحكم إلى ال ..هذا شفاء.
أما الرحمة :فهي أن يمنع أن يأتي الداء مرة أخرى ،فتكون وقاية تقتلع الداء من أصله فل يعود.
ومِثْل هذا يحدث في عالم الطب ،فقد تذهب إلى طبيب لِيُعالجك من داء معين ..بثور في الجلد
مثلً ،فل يهتم إل بما يراه ظاهرا ،ويصف لك ما يداوي هذه البثور ..ثم بعد ذلك تُعاودك مرة
أخرى.
أما الطبيب الحاذق الماهر فل ينظر إلى الظاهر فقط ،بل يبحث عن سببه في الباطن ،ويحاول أن
يقتلع أسباب المرض من جذورها ،فل تُعاودك مرة أخرى.
ولذلك ،لو نظرنا إلى قصة أيوب ـ عليه السلم ـ وما ابتله ال به نرى فيها مثالً رائعا لعلج
الظاهر والباطن معا ،فقد ابتله ربّه ببلء ظهر أثره على جسمه واضحا ،ولما أذن له سبحانه
بالشفاء قال له:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك الحال في علج المجتمع ،فقد جاء القرآن الكريم وفي العَالَم فساد كبير ،وداءاتٌ متعددة ،ل
بُدّ لها من منهج لشفاء هذه الداءاتِ ،ثم نعطيها مناعاتٍ تمنع عودة هذه الداءات مرة أخرى.
وقوله تعالى:
} ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [النحل.]64 :
أي :أن هذا القرآن فيه هدى ورحمة لمَنْ آمن بك وبرسالتك؛ لن الطبيب الذي ضربناه مثلً هنا
ل يعالج كل مريض ،بل يعالج مَنْ وثق به ،وذهب إليه وعرض عليه نفسه ففحصه الطبيب
وعرف عِلّته.
ى ورحمة ،ويترك في نفسه إشراقات نورانية
وهكذا القرآن الكريم يسمعه المؤمن به ،فيكون له هد ً
تتسامى به وترتفع إلى أعلى الدرجات ،في حين يسمعه آخر فل يَعي منه شيئا ،ويقول كما حكى
القرآن الكريمَ {:ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ ِإلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ
آنِفا[} ...محمد.]16 :
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْ ٌر وَ ُهوَ
شفَآءٌ[} ..فصلت {.]44 :وَالّذِي َ
وقالُ {:قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ ُهدًى وَ ِ
عمًى[} ..فصلت.]44 :
عَلَ ْيهِمْ َ
إذن :فالقرآن واحد ،ولكن الستقبال مختلف.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَاللّهُ أَنْ َزلَ مِنَ.{ ...
()1949 /
س َمعُونَ ()65
سمَاءِ مَاءً فََأحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً ِل َقوْمٍ يَ ْ
وَاللّهُ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
الحق تبارك وتعالى في هذه الية ينقلنا إلى آية مادية مُحسّة ل ينكرها أحد ،وهي إنزال المطر من
السماء ،وإحياء الرض الميتة بهذا المطر؛ ليكون ذلك دليلً محسوسا على قدرته تعالى ،وأنه
مأمون على خَلْقه.
وكأنه سبحانه يقول لهم :إذا كنتُ أنا أعطيكم كذا وكذا ،وأُوفّر لكم المر المادي الذي يفيد عنايتي
بكم ،فإذا أنزلتُ لكم منهجا ينفعكم ويُصلح أحوالكم فصدّقوه.
فهذا دليل ماديّ مُحَسّ يُوصّلهم إلى تصديق المنهج المعنوي الذي جاء على يد الرسول صلى ال
حمَةٌ لّ ْل ُمؤْمِنِينَ[} ..السراء.]82 :
شفَآ ٌء وَرَ ْ
عليه وسلم في قوله تعالى {:وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
سمَآءِ مَآءً[ } ...النحل.]65 :
وقوله { :وَاللّهُ أَنْ َزلَ مِنَ الْ ّ
هذه آية كونية مُحسّة ل ينكرها أحد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول { :فَأَحْيَا ِب ِه الَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَآ[ } ...النحل.]65 :
ع فيها ول نبات ،وهذا هو الهلك بعينه بالنسبة
موت الرض ،أي حالة كَونْها جدباء مُقفرة ل زر َ
لهم ،فإذا ما أجدبتْ الرض استشرفوا لسحابة ،لغمامة ،وانتظروا منها المطر الذي يُحيي هذه
الرض الميتة ..يُحييها بالنبات والعُشْب بعد أنْ كانت هامدة ميتة.
فلو قبض ماء السماء عن الرض َلمُتّمْ جوعا ،فخذوا من هذه الية المحسّة دليلً على صدق الية
المعنوية التي هي منهج ال إليكم على يد رسوله صلى ال عليه وسلم ،فكما أمِنْتَنِي على الولى
ف ْأمَنّي على الثانية.
س َمعُونَ } [النحل.]65 :
وقوله { :إِنّ فِي ذاِلكَ ليَةً ِلقَوْمٍ َي ْ
مع أن هذه الية تُرَى بالعين ول تُسْمع ،قال القرآن:
س َمعُونَ } [النحل.]65 :
{ ِل َقوْمٍ يَ ْ
..لماذا؟
قالوا :لن ال سبحانه أتى بهذه الية لِيلْفتَهم إلى المنهج الذي سيأتيهم على يد الرسول صلى ال
عليه وسلم ،وهذا المنهج سَيُسمع من الرسول المبلّغ لمنهج ال.
ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمُ الْلّ ْيلَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ
مثال ذلك أيضا في قوله تعالىُ {:قلْ أَرَأَيْتُمْ إِن َ
س َمعُونَ }[القصص.]71 :
إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبضِيَآءٍ َأفَلَ َت ْ
س َمعُونَ } لنه يتكلم عن الليل ،ووسيلة الدراك في
فالضياء يُرى ل يُسمع ..لكنه قالَ { :أفَلَ تَ ْ
الليل هي السمع.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى { :وَإِنّ َل ُكمْ فِي.} ...
()1950 /
الكون الذي خلقه ال تعالى فيه أجناس متعددة ،أدناها الجماد المتمثل في الرض والجبال والمياه
وغيرها ،ثم النبات ،ثم الحيوان ،ثم النسان.
وفي الية السابقة أعطانا الحق ـ تبارك وتعالى ـ نموذجا للجماد الذي اهتزّ بالمطر وأعطانا
النبات ،وهنا تنقلنا هذه الية إلى جنس أعلى وهو الحيوان.
{ وَإِنّ َل ُكمْ فِي الَ ْنعَامِ َلعِبْ َرةً[ } ...النحل.]66 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمقصود بالنعام :البل والبقر والغنم والماعز ،وقد ُذكِرتْ في سورة النعام في قوله تعالى{:
ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأ ِم الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَ ْيهِ
َثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ
ن َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ[} ...النعام:
أَرْحَا ُم الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ * َومِنَ الِ ْبلِ اثْنَيْ ِ
.]144-143
هذه هي النعام.
وقوله سبحانهَ { :لعِبْ َرةً } العِبْرة :الشيء الذي تعتبرون به ،وتستنجون منه ما يدلكم على قدرة
الصانع الحكيم سبحانه وتعالى ،وتأخذون من هذه الشياء دليلً على صِدْق منهجه سبحانه
فتصدقونه.
ومن معاني العبرة :العبور والنتقال من شيء لخر ..أي :أن تأخذ من شيء عبرة تفيد في شيء
آخر .ومنها العَبْرة (الدمعة) ،وهي :شيء دفين نب ْهتَ عنه وأظهرتَهُ.
والمراد بالعبرة في خلق النعام:
سقِيكُمْ ّممّا فِي ُبطُونِهِ مِن بَيْنِ فَ ْرثٍ وَدَمٍ لّبَنا خَالِصا سَآئِغا لِلشّارِبِينَ } [النحل.]66 :
{ نّ ْ
مادة :سقى جاءت في القرآن مرة " سقى " .ومرة " َأسْقى " ،وبعضهم قال :إن معناهما واحد،
سقَا ُهمْ
ولكن التحقيق أن لكل منهما معنًى ،وإن اتفقا في المعنى العام .سقى :كما في قوله تعالى {:وَ َ
طهُورا }[النسان.]21 :
رَ ّبهُمْ شَرَابا َ
أي :أعطاهم ما يشربونه ..ومضارعه يَسقي .ومنها قوله تعالى في قصة موسى عليه السلم{:
سقَىا َل ُهمَا[} ...القصص.]24 :
فَ َ
سقَيْنَا ُكمُوهُ َومَآ أَنْ ُتمْ لَهُ ِبخَازِنِينَ }[الحجر:
سمَآءِ مَاءً فََأ ْ
أما أسقى :كما في قوله تعالى {:فَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ
.]22
فمعناه أنه سبحانه أنزل الماء من السماء ل يشربه الناس في حال نزوله ،ولكن ليكون في الرض
لمن أراد أنْ يشربَ ..فالحق تبارك وتعالى لم يفتح أفواه الناس أثناء نزول المطر ليشربوا منه..
ل ..بل هو مخزون في الرض لمن أراده .والمضارع من أَسْقى :يُسقي.
ن اتفقنا في المعنى العام ..وفرْق بين أن تُعطي ما يُستفَادُ منه في
إذن :هناك فَرْق بين الكلمتين ،وإ ِ
سقَاهُمْ رَ ّبهُمْ[} ..النسان.]21 :
ساعته ،مثل قوله {:وَ َ
سقَيْنَا ُكمُوهُ }
سمَآءِ مَاءً فَأَ ْ
وبين أنْ تعطي ما يمكن الستفادة منه فيما بعد كما في قوله {:فَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ
[الحجر.]22 :
لذلك يقولون :إن الذي يصنع الخير قد يصنعه عاجلً ،فيعطي المحتاج مثلً رغيفا يأكله ،وقد
يصنعه مؤُجّلً فيعطيه ما يساعده على الكسْب الدائم ليأكل هو متى يشاء من كسْبه.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ أعطانا هذه الفكرة في سورة الكهف ،في قصة ذي القرنين ،قال
تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جدَ مِن دُو ِن ِهمَا َقوْما لّ َيكَادُونَ َي ْف َقهُونَ َق ْولً }[الكهف.]93 :
ن وَ َ
{ حَتّىا إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْ ِ
فما داموا ل يفقهون َق ْولً ..فكيف تفاهم معهم ذو القرنين ،وكيف قالوا {:ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُوجَ
ج َعلَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنهُمْ سَدّا }[الكهف:
ج َعلُ َلكَ خَرْجا عَلَىا أَن َت ْ
سدُونَ فِي الَ ْرضِ َف َهلْ َن ْ
َومَأْجُوجَ مُفْ ِ
.]94
نقول :الذي يريد أن يفعل الخير والمعروف يسعى إليه ويحتال للوصول إليه وكأنه احتال أنْ
يفهمهم ،وصبر عليهم حتى توصّل إلى طريقة للتفاهم معهم ،في حين أنه كان قادرا على ترْكهم
حجّته أنهم ل يفقهون ول يتكلمون.
والنصراف عنهم ،و ُ
فلما أراد ذو القرنين أن يبني لهم السد لن يَبْنِ هو بنفسه ،بل علّمهم كيف يكون البناء ،حتى يقوموا
به بأنفسهم متى أرادوا ول يحتاجون إليه ..فقال {:آتُونِي زُبَرَ ا ْلحَدِيدِ حَتّىا ِإذَا سَاوَىا بَيْنَ
جعَلَهُ نَارا قَالَ آتُونِي ُأفْ ِرغْ عَلَيْهِ ِقطْرا }[الكهف.]96 :
ل انفُخُواْ حَتّىا ِإذَا َ
الصّ َدفَيْنِ قَا َ
إذن :علّمهم وأحسن إليهم إحسانا دائما ل ينتهي.
وقولهّ } :ممّا فِي بُطُونِهِ[ { ...النحل.]66 :
أي :مما في بطون النعام ،فقد ذكّر الضمير في (بطونه) باعتبار إرادة الجنس.
وقد أراد الحق سبحانه أن يخرج هذا اللبن:
ث وَ َدمٍ لّبَنا خَالِصا { [النحل.]66 :
} مِن بَيْنِ فَ ْر ٍ
والفَرْث في كرش الحيوان من فضلت طعامه.
فالعبرة هنا أن ال تعالى أعطانا من بين الفَرْث ،وهو َر َوثُ النعام وبقايا الطعام في كرشها ،وهذا
له رائحة كريهة ،وشكل قذر مُنفّر ،ومن بين دم ،والدم له لونه الحمر ،وهو أيضا غير مستساغ؛
ومنهما يُخرِج لنا الخالق سبحانه لبنا خالصا من الشوائب نقيا سليما من لون الدم ورائحة الفَرْث.
ومَنْ يقدر على ذلك إل الخالق سبحانه؟
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله واصفا هذا اللبن:
} لّبَنا خَالِصا سَآئِغا لِلشّارِبِينَ { [النحل.]66 :
سهْل النزلق أثناء الشّرْب؛
أي :يسيغه شاربه ويستلذّ به ،ول ُي َغصّ به شاربه ،بل هو مُسْتساغ َ
لن من الطعام أو الشراب ما يحلو لك ويسُوغ وتهنأ به ،ولكنه قد ل يكون مريئا.
ولذلك ،فالحق سبحانه يقولَ {:فكُلُوهُ هَنِيئا مّرِيئا }[النساء.]4 :
هنيئا أي :تستلِذّون به ،ومريئا :أي نافعا للجسم ،يمري عليك؛ لنك قد تجد لَذة في شيء أثناء َأكْله
أو شُرْبه ،ثم يسبّب لك متاعب فيما َبعْد ،فهو هَنِيءٌ ولكنه غير مَرِيء.
فاللبن من ِنعَم ال الدالة على قدرته سبحانه ،وفي إخراجه من بين فَرْث ودم عبرة وعِظَة ،وكأن
الحق سبحانه يعطينا هذه العبرة لينقلنا من المعنى الحسيّ الذي نشاهده إلى المعنى القيميّ في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المنهج ،فالذي صنع لنا هذه العبرة لصلح قالبنا قادرٌ على أن يصنعَ لنا من المنهج ما يُصلِح
قلوبنا.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومِن َثمَرَاتِ.{ ...
()1951 /
سكَرًا وَرِ ْزقًا حَسَنًا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً ِلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ ()67
َومِنْ َثمَرَاتِ النّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ َ
ثمرات النخيل هي :البلح .والعناب هو :العنب الذي نُسمّيه الكَرْم .والتعبير القرآني هنا وإن امتنّ
سكِرا ،ولكن
على عباده بالرزق الحسن ،فإنه ل يمتنّ عليهم بأن يتخذوا من العناب سكرا :أي ُم ْ
يعطينا الحق سبحانه هنا عبرةً فقد نزلتْ هذه اليات قبل تحريم الخمر.
وكأن الية تحمل مُقدّمة لتحريم الخمر الذي يستحسنونه الن ويمتدحونه؛ ولذلك يقول العلماء :إن
حكْما في السّكر سيأتي.
الذي يقرأ هذه الية بفِطنة المستقْبِل عن ال يعلم أن ل ُ
حكْما سيأتي في السّكر؟
كيف توصّلوا إلى أن ل تعالى ُ
صفْ السّكر بأنه حسن ،فمعنى ذلك أنه
قالوا :لنه قال في وصف الرزق بأنه حسن ،في حين لم َي ِ
ليس حسنا؛ ذلك لننا نأكل ثمرات النخيل (البلح) كما هو ،وكذلك نأكل العنب مباشرة دون تدخّل
مِنّا فيما خلق ال لنا.
أما أنْ نُغيّر من طبيعته حتى يصير خمرا مُسْكرا ،فهذا إفساد في الطبيعة التي اختارها ال لنا
لتكون رزقا حَسنا.
وكأنه سبحانه يُنبّه عباده ،أنَا ل أمتنّ عليكم بما ح ّر ْمتُ ،فأنا لم أُحرّمه َبعْد ،فاجعلوا هذا السّكر ـ
حسْن؛ لنه إنْ لم يكُنْ حَسَنا فهو
صفْه بال ُ
كما ترونه ـ متعةً لكم ،ولكن خذوا منه عبرة أَنّي لم َأ ِ
قبيح ،فإذا ما جاء التحريم فقد نبهتكم من بداية المر.
ثم يقول تعالى:
ك ليَةً ّل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ } [النحل.]67 :
{ إِنّ فِي ذاِل َ
لن العقل يقتضي أنْ نُوازِنَ بين الشيئين ،وأن نسأل :لماذا لم يوصف السّكر بأنه حَسَن؟ ..أليس
معناه أن ال تعالى ل يحب هذا المر ول يرضاه لكم؟
إذن :كأن في الية نيّة التحريم ،فإذا ما أنزل ال تحريم الخمر كان هذا تمهيدا له.
والية هي :المر العجيب الذي يُنبئكم ال الذي خلق لكم هذه الشياء لسلمة مبانيكم وقوالبكم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المادية ،قادر ومأمون على أن يُشرّع لكم ما يضمن سلمة معانيكم وقلوبكم القيمية الروحية.
ثم يقول الحق سبحانه { :وََأوْحَىا رَ ّبكَ.} ..
()1952 /
حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتًا َومِنَ الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْرِشُونَ ()68
وََأوْحَى رَ ّبكَ ِإلَى النّ ْ
النحل خَلْق من خَلْق ال ،وكل خَلْق ل أودع ال فيه وفي غرائزه ما يُقيم مصالحه ،يشرح ذلك
سوّىا * وَالّذِي قَدّرَ َفهَدَىا }[العلى.]3-2 :
قوله تعالى {:الّذِي خََلقَ فَ َ
أي :خلق هذه كذا ،وهذه كذا حَسْب ما يتناسب مع طبيعته؛ ولذلك تجد ما دون النسان يسير على
منهج ل يختلف ..فالنسان مثلً قد يأكل فوق طاقته ،وقد يصل إلى حَدّ التّخْمة ،ثم بعد ذلك يشتكي
مرضا ويطلب له الدواء.
أما الحيوان فإذا ما أكل وجبته ،وأخذ ما يكفيه فل يزيد عليه أبدا ،وإنْ أجبرته على الكل؛ ذلك
لنه محكوم بالغريزة الميكانيكية ،وليس له عقل يختار به.
سقْتَه
وضربنا مثلً للغريزة في الحيوان بالحمار الذي يتهمونه دائما ويأخذونه مثلً للغباء ،إذا ُ
ليتخطى قناة ماء مثلً وجدته ينظر إليها وكأنه يقيس المسافة بدقة ..فإذا ما وجدها في مقدوره
قفزها دون تردد ،وإذا وجدها فوق طاقته ،وأكبر من قدرته تراجع ولم يُقدِم عليها ،وإنْ ضربتَه
حتَ به ..فل تستطيع أبدا إجباره على شيء فوق قدرته.
وصِ ْ
ذلك لنه محكوم بالغريزة اللية التي جعلها ال سبحانه فيه ،على خلف النسان الذي يفكر في
مثل هذه المور ليختار منها ما يناسبه ،فهذه تكون كذا ،وهذه تكون كذا ،فنستطيع أن نُشبّه هذه
الغريزة في الحيوان بالعقل اللكتروني الذي ل يعطيك إل ما غذّيته به من معلومات ..أما العقل
البشري الرباني فهو قادر على التفكير والختيار والمفاضلة بين البدائل.
يقول الحق سبحانه:
حلِ[ } ...النحل.]68 :
{ وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ
الحق تبارك وتعالى قد يمتنّ على بعض عبادة ويُعلّمهم لغة الطير والحيوان ،فيستطيعون التفاهم
معه ومخاطبته كما في قصة سليمان عليه السلم ..وال سبحانه الذي خلقها وأبدعها يُوحِي إليها
ما يشاء ..فما هو الوحي؟
الوحي :إعلم من ُمعْلِم أعلى ل ُمعْلَم أدنى بطريق خفيّ ل نعلمه نحن ،فلو أعلمه بطريق صريح فل
يكون َوحْيا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حىً إليه وهو الَدْنَى ،ومُوحًى به وهو المعنى
فالوَحْي إذن يقتضي :مُوحِيا وهو العلى ،ومُو َ
المراد من الوَحْي.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ له طلقة القدرة في أنْ يُوحي ما يشاء لما يشاء من خَلْقه ..وقد أوحى
ت الَ ْرضُ
ج ِ
ت الَ ْرضُ زِلْزَاَلهَا * وََأخْرَ َ
الحق سبحانه وتعالى إلى الجماد في قوله تعالى {:إِذَا زُلْزَِل ِ
ل الِنسَانُ مَا َلهَا * َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ َأخْبَارَهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة.]5-1 :
أَ ْثقَاَلهَا * َوقَا َ
أعلمها بطريق خفيّ خاص بقدرة الخالق في مخلوقه.
وهنا أوحى ال إلى النحل.
وأوحى ال إلى الملئكة {:إِذْ يُوحِي رَ ّبكَ إِلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ[} ...النفال:
.]12
ح وَالنّبِيّينَ مِن َبعْ ِد ِه وََأوْحَيْنَآ إِلَىا إِبْرَاهِيمَ
وأوحى إلى الرسل {:إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ إِلَىا نُو ٍ
ن وَسُلَ ْيمَانَ} ...
ب وَيُونُسَ وَهَارُو َ
ق وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَاطِ وَعِيسَىا وَأَيّو َ
سمَاعِيلَ وَإسْحَا َ
وَإِ ْ
[النساء.]163 :
حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي[} ..المائدة:
وأوحى إلى المقربين من عباده {:وَإِذْ َأوْحَ ْيتُ إِلَى ا ْل َ
.]111
وقد أوحى إليهم بخواطر نورانية تم ّر بقلوبهم
ضعِيهِ[} ..القصص.]7 :
وأوحى سبحانه إلى أم موسى {:وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
هذا هو وَحْي ال إلى ما يشاء من خَلْقه :إلى الملئكة ،إلى الرض ،إلى الرسل ،إلى عباده
المقرّبين ،إلى أم موسى ،إلى النحل ..الخ.
وقد يكون الوحي من غيره سبحانه ،ويُسمّى وَحْيا أيضا ،كما في قوله تعالى {:وَإِنّ الشّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ[} ..النعام.]121 :
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ غُرُورا[} ..النعام.]112 :
وقوله {:يُوحِي َب ْع ُ
لكن إذا أُطِل َقتْ كلمة (الوَحْي) مُطْلقا بدون تقييد انصرفتْ إلى الوحي من ال إلى الرسل؛ لذلك
يقول علماء الفقه :الوحي هو إِعلمُ ال نبيه بمنهجه ،ويتركون النواع الخرى :وَحْي الغرائز،
وَحْي التَكوينَ ،وحْي الفطرة ..الخ.
وقوله } :أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتا َومِنَ الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْرِشُونَ { [النحل.]68 :
كثير من الباحثين شغوفون بدراسة النحل ومراحل حياته منذ القدم ،ومن هؤلء باحث تتبّع
المراحل التاريخية للنحل ،فتوصّل إلى أن النحل أول ما وُجِد عاش في الجبال ،ثم اتخذ الشجر،
وجعل فيها أعشاشه ،ثم اتخذ العرائش التي صنعها له البشر ،وهي ما نعرفه الن باسم الخلية
الصناعية أو المنحل ،ووَجْه العجب هنا أن هذا الباحث ل يعرف القرآن الكريم ،ومع ذلك فقد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تطابق ما ذهب إليه مع القرآن تمام التطابق.
وكذلك توصّل إلى أن أقدمَ أنواع العسل ما وُجِد في كهوف الجبال ،وقد تَوصّلوا إلى هذه الحقيقة
عن طريق حَرْق العسل وتحويله إلى كربون ،ثم عن طريق قياس إشعاع الكربون يتم التوصّل
إلى عمره ..وهكذا وجدوا أن عسل الكهوف أقدم أنواع العسل ،ثم عسل الشجر ،ثم عسل الخليا
والمناحل.
إذن :أوحى ال تعالى إلى النحل بطريق خفيّ ل نعلمه نحن ،وعملية الوحي تختلف باختلف
الموحِي والموحَي إليه ،ويمكن أنْ نُمثّل هذه العملية بالخادم الفَطِن الذي ينظر إليه سيده مُجرد
نظرة فيفهم منها كل شيء :أهو يريد الشراب؟ أم يريد الطعام؟ أم يريد كذا؟
ثم يقول الحق سبحانهُ } :ثمّ كُلِي مِن.{ ...
()1953 /
شفَاءٌ
ثُمّ كُلِي مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ فَاسُْلكِي سُ ُبلَ رَ ّبكِ ذُلُلًا َيخْرُجُ مِنْ ُبطُو ِنهَا شَرَابٌ ُمخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ فِيهِ ِ
لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ ()69
عِلّة َكوْن العسل فيه شفاء للناس أنْ يأكلَ النحل من ُكلّ الثمرات ذلك لن تنوّع الثمرات يجعل
العسل غنيّا بالعناصر النافعة ،فإذا ما تناوله النسان ينصرف كل عنصر منه إلى شيء في
الجسم ،فيكون فيه الشفاء بإذن ال.
ولكن الن ماذا حدث؟ نرى بعض الناس يقول :أكلتُ كثيرا من العسل ،ولم أشعر له بفائدة..
نقول :لننا تدخّلنا في هذه العملية ،وأفسدنا الطبيعة التي خلقها ال لنا ..فالصل أن نتركَ النحل
ل الثمرات ..ولكن الحاصل أننا نضع له السكر مثلً بدلً من الزّهْر والنوار الطبيعي،
يأكل من ُك ّ
ولذلك تغيّر طعم العسل ،ولم َت ُعدْ له مَيْزته التي ذكرها القرآن الكريم.
لذلك؛ فالمتتبع لسعار عسل النحل يجد تفاوتا واضحا في سعره بين نوع وآخر ،ذلك حَسْب
جودته ومدى مطابقته للطبيعة التي حكاها القرآن الكريم.
والحق سبحانه يقول:
{ فَاسُْلكِي سُ ُبلَ رَ ّبكِ ذُلُلً[ } ..النحل.]69 :
أي :تنقّلي حُرّة بين الزهار هنا وهناك؛ ولذلك ل نستطيع أنْ نَبني للنحل بيوتا يقيم فيها ،ل ُبدّ له
ج ّفتْ الزراعات يتغذّى النحل من عسله ،ولكن الناس الن
من التنقّل من بستان لخر ،فإذا ما َ
يأخذون العسل كله ل يتركون له شيئا ،ويضعون مكانه السكر ليتغذّى منه طوال هذه الفترة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله تعالى { :ذُلُلً[ } ..النحل.]69 :
أي :مُذلّلة مُمهّدة طيّعة ،فتخرج النحل تسعى في هذه السّبل ،فل يردها شيء ،ول يمنعها مانع،
تطير هنا وهناك من زهرة لخرى ،وهل رأيت شجرة مثلً رَ ّدتْ نحلة؟! ..ل ..قد ذَّللَ ال لها
حياتها ويسّرها.
ومن حكمته تعالى ورحمته بنا أنْ ذّللَ لنا سُبُل الحياة ..وذلّل لنَا ما ننتفع به ،ولول تذليله هذه
الشياء ما انتفعنا بها ..فنرى الجمل الضخم يسوقه الصبي الصغير ،ويتحكّم فيه يُنيخه ،ويُحمّله
الثقال ،ويسير به كما أراد ،في حين أنه إذا ثار الجمل أو غضب ل يستطيع أحدٌ التحكم فيه..
وما تحكّم فيه الصبي الصغير بقوته ولكن بتذليل ال له.
صغَر حجمه يمثّل خطرا يفزع منه الجميع ويهابون القتراب منه ،ذلك
ل فهو على ِ
أما الثعبان مث ً
صغَر حجمه ..كذلك لو تأمنا البرغوث مثلً ..كم هو
لن ال سبحانه لم يُذلّلْه لنا ،فأفزعنا على ِ
صغير حقير ،ومع ذلك يقضّ مضاجعنا ،ويحرمنا لذة النوم في هدوء ..فهل يستطيع أحدٌ أنْ يُذلّل
له البرغوث؟!
وفي ذلك حكمة بالغة وكأن الحق سبحانه يقول لنا :إذا ذللتُ لكم شيئا ،ولو كان اكبر المخلوقات
كالجمل والفيل تستطيعون النتفاع به ،وإن لم أذلّله لكم فل قدرة لكم على تذليله مهما كان حقيرا
صغيرا ..إذن :المور ليست بقدرتك ،ولكن خُذْها كما خلقها ال لك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا ما توفّر لنا العسل الطبيعي الذي خلقه ال تجّلتْ حكمة خالقه فيه بالشفاء ،ولكنه إذا تدخّل
خلَ للنسان فيه يسير سَيْرا مستقيما ل
النسان في هذه العملية أفسدها ..فالكون كله الذي ل دَ ْ
يتخلّف ،كالشمس والقمر والكواكب ..الخ إل النسان فهو المخلوق الوحيد الذي يخرج عن منهج
ال.
خلٌ فيه ،إما أنْ تتدخّل فيه بمنهج خالقه أو تتركه؛ لنك إذا تدخ ْلتَ فيه بمنهج
فالشيء الذي لك َد ْ
خالقه يعطيك السلمة والخير ،وإنْ تدخ ْلتَ فيه بمنهجك أنت أفسدتَه.
والحق سبحانه وتعالى يقول {:وَإِذَا قِيلَ َلهُ ْم لَ ُتفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ قَالُواْ إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ }
[البقرة.]11 :
إنهم ل يعرفون ..ل يُفرّقون بين الفساد والصلح.
وفي القرآن أمثلة للناس الذين يُفسِدون في الرض ويحسَبون أنهم يُحسِنون صُنْعا ،يقول تعالى{:
حسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُيحْسِنُونَ
سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ ُهمْ يَ ْ
ضلّ َ
ن َ
عمَالً * الّذِي َ
ُقلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ
صُنْعا }[الكهف.]104-103 :
فالذي اخترع السيارة وهذه اللت التي تنفث سمومها وتُلوّث البيئة التي خلقها ال ..صحيح وفّر
عطَب بسبب هذه
لنا الوقت والمجهود في الحمل والتنقّل ،ولكن انظر إلى ما أصاب الناس من َ
اللت ..انظر إلى عوادم السيارات وآثارها على صحة النسان.
كان يجب على مخترع هذه اللت أنْ يوازنَ بين ما تؤديه من منفعة وما تُسبّبه من ضرر،
وأضاف إلى الضرار الصحية ما يحدث من تصادمات وحوادث مُروّعة تزهق بسببها الرواح..
وبال هل رأيت أن تصادمَ جملن في يوم من اليام ..فل بُدّ إذن أن نقيسَ المنافع والضرار قبل
أنْ نُقدِم على الشيء حتى ل ُنفِسد الطبيعة التي خلقها ال لنا.
وقوله تعالى:
شفَآءٌ لِلنّاسِ[ { ....النحل.]69 :
} فِيهِ ِ
جمْعٌ مختلفُ الداءات باختلف الفراد وتعاطيهم لسباب الداءات ،فكيف يكون هذا الشراب
الناسَ :
شفاءٌ لجميع الداءات على اختلف أنواعها؟ ..نقول :لن هذا الشراب الذي أعدّه ال لنا بقدرته
سبحانه جاء مختلفا ألوانه ..من رحيق مُتعدّد النواع والشكال والطّعوم والعناصر ..ليس مزيجا
واحدا يشربه كل الناس ،بل جاء مختلفا متنوعا باختلف الناس ،وتنوّع الداءات عندهم ..وكأن كل
عنصر منه يُداوِي داءً من هذه الدّاءات.
وقوله تعالى:
ك ليَةً ّل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ { [النحل .]69 :التفكّر :أنْ تُفكّر فيما أنت بصدده لتستنبطَ منه
} إِنّ فِي ذاِل َ
شيئا لستَ بصدده ،وبذلك تُثري المعلومات؛ لن المعلومات إذا لم تتلقح ،إذا لم يحدث فيها توالد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تقف وتتجمّد ،ويُصاب النسان بالجمود الطموحي ،وإذا أصيب النسان بهذا الجمود توقّف
الرتقاء؛ لن الرتقاءات التي نراها في الكون هي نتيجة التفكّر وإعمال العقل.
لذلك فالحق سبحانه يُنبّهنا حينما نمرّ على ظاهرة من ظواهر الكون ،أل نمر عليها غافلين
سمَاوَاتِ
مُعرضين ،بل نفكر فيها ونأخذها بعين العتبار ..يقول تعالىَ {:وكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي ال ّ
وَالَرْضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف.]105 :
حثّ على التفكّر في ظواهر الكون ،وفيها تحذير من العراض والغفلة عن آيات ال،
ففي الية َ
فبالفكر نستنبط من الكون ما نستفيد به.
ولو أخذنا مثلً الذي اخترع اللة البخارية ..كيف توصل إلى هذا الختراع الذي أفاد البشرية؟
نجد أنه توصل إليه حينما رأى القِدْر الذي يغلي على النار يرتفع غطاؤه مع بخار الماء المتصاعد
أثناء الغليان ..فسأل نفسه :لماذا يرتفع الغطاء؟ واستعمل عقله وأعمل تفكيره حتى توصّل إلى قوة
البخار المتصاعد ،واستطاع توظيف هذه القوة في تسيير ودفع العربات.
وكذلك أرشميدس ـ وغيره كثيرون ـ توصلوا بالعتبار والتفكّر في ظواهر الكون ،إلى قوانين
في الطبيعة أدت إلى اختراعات نافعة نتمتع نحن بها الن ،فالذي اخترع العجلة ،كم كانت مشقة
حمْل الثقال؟ وما أقصى ما يمكن أنْ يحمله؟ فبعد أنْ اخترعوا العجلت واستُخدِمت
النسان في َ
حمْل وتحريك أضعاف أضعاف ما كان يحمله.
في الحمل تمكّن النسان من َ
الذي اخترع خزانات المياه ..كم كانت المشقة في استخراج الماء من البئر؟ أو من النهر؟ فبعد
عمل الخزانات وضَخّ المياه أصبحنا نجد الماء في المنازل بمجرد فَتْح الصنبور.
هذه كلها ثمرات العقل حينما يتدبّر ،وحينما يُفكّر في ظواهر الكون ،ويستخدم المادة الخام التي
خلقها ال وحثّنا على التفكّر فيها والستنباط منها ..وكأن الحق سبحانه يقول لنا :لقد أعطيتكم
ضروريات الحياة ،فإنْ أردتُم ترفَ الحياة وكمالياتها فاستخدموا نعمة العقل والتفكير والتدبّر
لتصلوا إلى هذه الكماليات.
وهنا الحق سبحانه يلفتنا َلفْتةً أخرى ..وهي أنه سبحانه يجعل من المحسّات ما يُقرّب لنا المعنويّات
ليلفتنا إلى منهجه سبحانه؛ ولذلك ينقلنا هذه ال ّنقْلة من المحسوس إلى المعنوي ،فيقول تعالى} :
وَاللّهُ خََل َقكُمْ.{ ...
()1954 /
وَاللّهُ خََل َقكُمْ ثُمّ يَ َت َوفّاكُ ْم َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َردّ إِلَى أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ ِل َكيْ لَا َيعْلَمَ َب ْعدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
()70
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قوله { :وَاللّهُ خََل َقكُمْ[ } ..النحل.]70 :
هذه حقيقة ل يُنكرها أحد ،ولم يَدّعِها أحدٌ لنفسه ،وقد أمدّكم بمقوّمات حياتكم في الرض والنبات
والحيوان ،والنعام التي تعطينا اللبن صافيا سائغا للشاربين ،ثم النحل الذي فيه شفاء للناس.
فالحق سبحانه أعطانا الحياة ،وأعطانا مٌقوّمات الحياة ،وأعطانا ما يُزيل معاطبَ الحياة ..وما ُدمْتم
صدّقتم بهذه المحسّات فاسمعوا:
{ وَاللّهُ خََل َقكُمْ ُثمّ يَ َت َوفّاكُ ْم َومِنكُم مّن يُرَدّ إِلَىا أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ[ } ...النحل.]70 :
وساعة أن نسمع (خلقكم) ،فنحن نعترف أن ال خلقنا ،ولكنْ كيف خلقنا؟ هذه ل نعرفها نحن؛
لنها ليستْ عملية معملية ..فالذين خلق هو الحق سبحانه وحده ،وهو الذي يُخبرنا كيف خلق ..أما
ن يقول إن النسان أَصلْه قرد ..إلى
أنْ يتدخّل النسان ويُقحِمَ نفسه في مسألة ل يعرفُها ،فنرى مَ ْ
صلَ له في الحقيقة.
آخر هذا الهُراء الذي ل َأ ْ
ولذلك ،فالحق سبحانه يقول لنا :إذا أردتُمْ أن تعرفوا كيف خُِلقْتُم فاسمعوا ِممّنْ خلقكم ..إياكم أنْ
سهِمْ }[الكهف:
ت وَالَ ْرضِ َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ
سمَاوَا ِ
شهَدّت ُهمْ خَ ْلقَ ال ّ
تسمعوا من غيره؛ ذلك لنني {:مّآ أَ ْ
.]51
عضُدا }[الكهف.]51 :
هذه عملية لم يُطلع ال عليها أحداَ {:ومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
أي :ما اتخذتُ مساعدا يعاونني في مسألة الخَلْق.
ضلّ هو الذي يقول لك الكلم على أنه حقيقة ،وهو يُضلّك.
وما هو المضلّ؟ الم ِ
إذن :ربنا سبحانه وتعالى هنا يعطينا فكرة مُقدّما :احذروا ،فسوف يأتي أناس يُضلونكم في
موضوع الخَلْق ،وسوف يُغيّرون الحقيقة ،فإياكم أنْ تُصدّقوهم؛ لنهم ما كانوا معي وقت أنْ
خلقتكم فيدّعُون العلم بهذه المسألة.
ونفس هذه القضية في مسألة خَلْق السماوات والرض ،فال سبحانه هو الذي خلقهما ،وهو سبحانه
الذي يُخبرنا كيف خلق.
فحين يقول سبحانه:
{ وَاللّهُ خََل َقكُمْ[ } ..النحل.]70 :
سمْعا وطاعة ،وعلى العين والرأس ..يا ربّ أنت خلقتنا ،وأنت تعلم كيف خلقتنا،
فعلينا أن نقولَ :
ول نسأل في هذا غيرك ،ول نُصدّق في هذا غير َقوْلك سبحانك.
ثم يقول تعالى:
{ ُثمّ يَ َت َوفّاكُمْ[ } ..النحل.]70 :
أي :منه سبحانه كان المبدأ ،وإليه سبحانه يعود المرجع ..وما دام المبدأ من عنده والمرجع إليه،
وحياتك بين هذين القوسين؛ فل تتمرد على ال فيما بين القوسين؛ لنه ل يليق بك ذلك ،فأنت منه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإليه ..فلماذا التمرد؟
ربّنا سبحانه وتعالى هنا يُعطينا دليلً على طلقة قدرته سبحانه في أمر الموت ،فالموت ليس له
قاعدة ،بل قد يموت الجنين في بطن أمه ،وقد يموت وهو طفل ،وقد يموت شابا أو شيخا ،وقد يرد
إلى أرذل العمر ،أي :يعيش عمرا طويلً ..وماذا في أرذل العمر؟!
يُرَدّ النسان بعد القوة والشباب ،بعد المهابة والمكان ،بعد أنْ كان يأمر وينهي ويسير على
ضعْف في كل شيء ،حتى في َأمْيز شيء في تكوينه ،في فكره ،فبعد
الرض ُمخْتالً ،يُ َردّ إلى ال ّ
حفْظ وقوة الذاكرة يعود كالطفل الصغير ،ل يذكر شيئا ول يقدر على شيء.
العِلْم وال ِ
ذلك لتعلم أن المسألة ليست ذاتية فيك ،بل موهوبة لك من خالقك سبحانه ،ولتعلم أنه سبحانه حينما
يقضي علينا بالموت فهذا رحمة بنا وستْر لنا من الضعف والشيخوخة ،قبل أن نحتاج لمن يساعدنا
ويُعينُنا على أبسط أمور الحياة ويأمر فينا مَنْ كُنّا نأمره.
ومن هنا كان التوفّي نعمة من ِنعَم ال علينا ،ولكي تتأكد من هذه الحقيقة انظر إلى مَنْ أم ّد ال في
أعمارهم حتى بلغوا ما سماه القرآن " أرذل العمر " وما يعانونه من ضعف وما يعانيه ذووهم في
خدمتهم حتى يتمنى له الوفاة أقرب الناس إليه.
الوفاة إذن نعمة ،خاصة عند المؤمن الذي قدّم صالحا يرجو جزاءه من ال ،فتراه مُسْتبشرا
بالموت؛ لنه عمّر آخرته فهو يُحب القدوم عليها ،على عكس المسرف على نفسه الذي لم ُي ِعدّ
العُدّة لهذا اليوم ،فتراه خائفا جَزِعا لعلمه بما هو قادم عليه.
و(ثُمّ) حَرْف للعطف يفيد الترتيب مع التراخي ..أي :مرور وقت بين الحدثين ..فهو سبحانه
خلقكم ،ثم بعد وقت وتراخٍ يحدث الحدَث الثاني (يتوفّاكم) .على خلف حرف (الفاء) ،فهو حرف
عطف يفيد الترتيب مع التعقيب أي :تتابع الحدثين ،كما في قوله تعالىَ {:أمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ }[عبس:
.]21
فبعد الموت يكون القبار دون تأخير.
وقوله تعالىَ } :ومِنكُم مّن يُرَدّ إِلَىا أَ ْر َذلِ ا ْل ُعمُرِ[ { ...النحل.]70 :
وأرذل العمر :أردؤه وأقلّه وأخسّه؛ ذلك أن ال سبحانه وتعالى أخرج النسان من بطن أمه ل يعلم
سمْ َع وَالَ ْبصَارَ
ج َعلَ َلكُمُ ا ْل ّ
جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
شيئا ،فقال {:وَاللّهُ َأخْرَ َ
وَالَفْئِ َدةَ[} ...النحل.]78 :
ض ُعفَ
وهذه هي وسائل العلم في النسان ،فإذا رُدّ إلى أرذل العمر فقدتْ هذه الحواسّ قدرتها ،و َ
عملها ،وعاد النسان كما بدأ ل يعلم شيئا بعد ما أصابه من الخَرف والهرم ،فقد توقفتْ آلت
المعرفة ،وبدأ النسان ينسى ،وتضعف ذاكرته عن استرجاع ما كان يعلمه.
ي لَ َيعَْلمَ َبعْدَ عِ ْلمٍ شَيْئا[ { ..النحل.]70 :
وقولهِ } :ل َك ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك يُسمّون هذه الحواس الوارث.
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
} إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ { [النحل.]70 :
لنه سبحانه بيده الخَلْق من بدايته ،وبيده سبحانه الوفاة والمرجع ،وهذا يتطلّب عِلْما ،كما قال
سبحانهَ {:ألَ َيعَْلمُ مَنْ خََلقَ[} ..الملك.]14 :
فل بُدّ من عِلم ،لن الذي يصنع صَنْعة ل ُبدّ أن يعرفَ ما يُصلحها وما يُفسِدها ،وذلك يتطلّب
قدرة للدراك ،فالعلم وحده ل يكفي.
ضلَ.{ ..
ثم يقول الحق سبحانه } :وَاللّهُ َف ّ
()1955 /
ضكُمْ عَلَى َب ْعضٍ فِي الرّ ْزقِ َفمَا الّذِينَ ُفضّلُوا بِرَادّي رِ ْز ِقهِمْ عَلَى مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ
ضلَ َب ْع َ
وَاللّهُ َف ّ
جحَدُونَ ()71
سوَاءٌ َأفَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ يَ ْ
َفهُمْ فِيهِ َ
لو نظرنا إلى الكون من حولنا لوجدنا أننا ل نتساوى إل في شيء واحد فقط ،هو أننا عبيدٌ ل..
نحن سواسية في هذه فقط ،وما دون ذلك فنحن مختلفون فيه ،تختلف ألواننا ،تختلف أجسامنا..
صورنا ..مواهبنا ..أرزاقنا.
والعجيب أن هذا الختلف هو عَيْنُ التفاق؛ ذلك لن الختلف قد ينشأ عنه التفاق ،والتفاق قد
ينشأ عنه الختلف.
ت أنت وصديقك أحد المطاعم وطلبتما دجاجة ..أنت بطبيعتك تحب صدر الدجاجة
مثلً :إذا دخل َ
وصديقك يحب جزاءً آخر منها ..هذا خلف ..فساعة أن يأتي الطعام تجد هذا الخلف هو عين
الوفاق حيث تأخذ أنت ما تحب ،وهو كذلك ..هذا خلف أدى إلى وفاق ..فلو فرضنا أن كلنا
يحب الصدر مثلً ..هذا وفاق قد يؤدي إلى خلف إذا ما حضر الطعام وجلسنا :أينا يأخذ
الصدر؟!
فالحق سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين في أشياء ،وأراد أن يكون هذا الختلف تكاملً فيما بيننا..
فكيف يكون التكامل إذن؟
هل نتصور مثلً أن يُوجَد إنسان مجمعا للمواهب ،بحيث إذا أراد بنا بيت مثلً كان هو المهندس
الذي يرسم ،والبنّاء الذي يبني ،والعامل الذي يحمل ،والنجار والحداد والسباك ..الخ .هل نتصور
أن يكون إنسان هكذا؟ ..ل..
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن الخالق سبحانه نثَر هذه المواهب بين الناس نَثْرا لكي يظل كل منهم محتاجا إلى غيره فيما
ليس عنده من مواهب ،وبهذا يتم التكامل في الكون.
جلّ وعَل،
إذن :الخلف بيننا هو عَين الوفاق ،وهو آية من آياته سبحانه وحكمة أرادها الخالق َ
فقالَ {:ولَ يَزَالُونَ مُخْتَِلفِينَ }[هود.]118 :
فقد خلقنا هكذا.
وإل فلو اتحدنا واتفقنا في المواهب ،فهل يعقل أن نكون جميعا فلسفة ،أطباء ،علماء ،فمَنْ يبني؟
ومَنْ يزرع؟ ومَنْ يصنع؟ ..الخ.
إذن :من رحمة ال أنْ جعلنا مختلفين متكاملين.
فالحق سبحانه يقول:
{ فِي الْرّ ْزقِ[ } ...النحل.]71 :
ينظر الناس إلى الرزق من ناحية واحدة ،فهو عندهم المال ،فهذا غنيّ وهذا فقير ..والحقيقة أن
الرزق ليس المال فقط ،بل ُكلّ شيء تنتفع به فهو رِزْقك ..فهذا رِزْقه عقله ،وهذا رِزْقه قوته
العضلية ..هذا يفكر وهذا يعمل.
إذن :يجب ألّ ننظر إلى الرزق على أنه َلوْن واحد ،بل ننظر إلى كل ما خلق ال لخَلْقه من
مواهب مختلفة :صحة ،قدرة ،ذكاء ،حِلْم ،شجاعة ..كل هذا من الرزق الذي يحدث فيه التفاضل
بين الناس.
والحق سبحانه وتعالى حينما تعرّض لقضية الرزق جعل التفاضل هنا مُبْهما ،ولم تحدد الية مَنِ
ن البعاض فاضل في
الفاضل ومَنِ المفضول ،فكلمة ـ َب ْعضٍ ـ مُبْهمة لنفهم منها أن كل بعض م َ
ناحية ،ومفضول في ناحية أخرى.
.فالقوي فاضل على الضعيف بقوته ،وهو أيضا مفضول ،فربما كان الضعيف فاضلً بما لديه
من علم أو حكمة ..وهكذا.
ل واحد من خَلْق ال رَزَقه ال موهبة ،هذه الموهبة ل تتكرر في الناس حتى يتكامل الخَلْق
إذن :فك ّ
ول يتكررون ..وإذا وجدت موهبة في واحد وكانت مفقودة في الخر فالمصلحة تقتضي أن يرتبط
الطرفان ،ل ارتباط تفضّل ،وإنما ارتباط حاجة ..كيف؟
ي يعمل للضعيف الذي ل قوةَ له يعمل بها ،فهو إذن فاضل في قوته ،والضعيف فاضل بما
القو ّ
يعطيه للقوي من مال وأجر يحتاجه القوي ليقُوتَ نفسه وعياله ،فلم يشأ الحق سبحانه أنْ يجعلَ
المر تفضّلً من أحدهما على الخر ،وإنما جعله تبادلً مرتبطا بالحاجة التي يستبقي بها النسان
حياته.
وهكذا يأتي هذا المر ضرورة ،وليس تفضّلً من أحد على أحد؛ لن التفضّل غير مُلْزَم به ـ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فليس كل واحد قادرا على أن يعطي دون مقابل ،أو يعمل دون أجر ..إنما الحاجة هي التي تحكم
هذه القضية.
إذن :ما الذي ربط المجتمع؟ هي الحاجة ل التفضّل ،وما دام العالم سيرتبط بالحاجة ،فكل إنسان
يرى نفسه فاضلً في ناحية ل يغترّ بفاضليته ،بل ينظر إلى فاضلية الخرين عليه؛ وبذلك تندكّ
ل منهما يُكمل الخر.
سمَة الكبرياء في الناس ،فك ّ
ِ
وقد ضربنا لذلك مثلً بالباشا الغني صاحب العظمة والجاه ..والذي قد تُلْجِئه الظروف وتُحوجه
لعامل بسيط يُصلح له عُطْلً في مرافق بيته ،وربما لم يجده أو وجده مشغولً ،فيظل هذا الباشا
العظيم َنكِدا مُؤرّقا حتى يُسعفه هذا العامل البسيط ،ويقضي له ما يحتاج إليه.
ن يقضي مثل هذه
هكذا احتاج صاحب الغنى والجاه إلى إنسان ليس له من مواهب الحياة إل أ ْ
المهام البسيطة في المنزل ..وهو في نفس الوقت فاضل على الباشا في هذا الشيء.
فالجميع ـ إذن ـ في الكون سواسية ،ليس فينا مَنْ بينه وبين ال سبحانه نسب أو قرابة فيجامله..
كلنا عبيد ل ،وقد نثر ال المواهبَ في الناس جميعا ليتكاملوا فيما بينهم ،وليظل ُكلّ منهم محتاجا
إلى الخر ،وبهذا يتم الترابط في المجتمع.
سمْنَا
ح َمتَ رَ ّبكَ نَحْنُ َق َ
سمُونَ رَ ْ
ضتْ هذه القضية في آية أخرى في قوله تعالى {:أَ ُهمْ َيقْ ِ
وقد عُ ِر َ
سخْرِيّا} ..
ضهُم َبعْضا ُ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ َب ْع ُ
بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
[الزخرف.]32 :
ل منهما مُسخّر للخر ..فالفقير مُسخّر
البعض يفهم أن الفقير مُسخّر للغنيّ ،لكن الحقيقة أن ك ً
للغني حينما يعمل له العمل ،والغني مُسخّر للفقير حينما يعطي له أجره..
ض لبعضٍ وإن لم يشعروا
ولذلك فالشاعر العربي يقول:النّاسُ لِلْناسِ مِنْ بَ ْدوٍ وحاضرة َب ْع ٌ
خ َدمُونضرب هنا مثلً بأخسّ الحرف في عُرْف الناس ـ وإنْ كانت الحِرف كلها شريفة ،وليس
َ
فيها خِسّة طالما يقوت النسان منها نفسه وعياله من الحلل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وربّنا سبحانه وتعالى لم يجعل هذه المهن طبيعية فينا ..يعني هذا لكذا وهذا لكذا ..ل ..الذي
يرضى بقدر ال فيما يُناسبه من عمل مهما كان حقيرا في نظر الناس ،ثم يُتقن هذا العمل ويجتهد
ت رضيتَ بقدري في هذا العمل لرفعنّك به
فيه ويبذل فيه وُسْعه يقول له الحق سبحانه :ما ُد ْم َ
ِرفْعة يتعجّب لها الخَلْق..
وفعلً تراهم ينظرون إلى أحدهم ويشيرون إليه :كان شيالً ..كان أجيرا ..نعم كان ..لكنه َرضِي
بما قسم ال وأتقن وأجاد ،فعوّضه ال ورفعه وأعلى مكانته.
ولذلك يقولون :مَنْ عمل بإخلص في أيّ عمل عشر سنين يُسيّده ال بقية عمره ،ومَنْ عمل
بإخلص عشرين سنة يُسيّد ال أبناءه ،ومَنْ عمل ثلثين سنة سيّد ال أحفاده ..ل شيء يضيع عند
ال سبحانه.
فليس فينا أَعْلى وأَدْنى ،وإياك أنْ تظنّ أنك أعلى من الناس ،نحن سواسية ،ولكن مِنّا من يُتقِن
ن ل يتقن عمله؛ ولذلك قالوا :قيمة كل امرئ ما يُحسِنه.
عمله ،ومِنّا مَ ْ
ول تنظر إلى زاوية واحدة في النسان ،ولكن انظر إلى مجموع الزوايا ،وسوف تجد أن الحق
سبحانه عادلٌ في تقسيم المواهب على الناس.
وقد ذكرنا أنك لو أجريتَ معادلة بين الناس لوجدتَ مجموع كل إنسان يساوي مجموع ُكلّ إنسان،
بمعنى أنك لو أخذتَ مثلً :الصحة والمال والولد والقوة والشجاعة وراحة البال والزوجة
الصالحة والجاه والمنزلة ..الخ لوجدت نصيب ُكلّ منّا في نهاية المعادلة يساوي نصيب الخر،
فأنت تزيد عني في القوة ،وأنا أزيد عنك في العلم ،وهكذا ..لننا جميعا عبيدٌ ل ،ليس مِنّا مَنْ بينه
وبين ال نسب أو قرابة.
وقوله تعالى:
} َفمَا الّذِينَ ُفضّلُواْ بِرَآدّي رِ ْز ِق ِهمْ عَلَىا مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ[ { ...النحل.]71 :
فما ملكت أيمانهم :هم العبيد المماليك ..والمعنى :أننا لم نَرَ أحدا منكم فضّله ال بالرزق ،فأخذه
ووزّعه على عبيده ومماليكه ،أبدا ..لم يحدث ذلك منكم ..وال سبحانه ل يعيب عليهم هذا
التصرف ،ول يطلب منهم أنْ يُوزّعوا رزق ال على عبيدهم ،ولكن في الية إقامةٌ للحجة عليهم،
واستدلل على سُوء فعلهم مع ال سبحانه وتعالى.
وكأن القرآن يقول لهم :إذا كان ال قد ُفضّل بعضكم في الرزق ،فهل منكم مَنْ تطوع برزق ال
له ،ووزّعه على عبيده؟ ..أبدا ..لم يحدث منكم هذا ..فكيف تأخذون حق ال في العبودية
واللوهية وحقّه في الطاعة والعبادة والنذر والذبح ،وتجعلونه للصنام والوثان؟!
فأنتم لم تفعلوا ذلك فيما تملكون ..فكيف تسمحون لنفسكم أنْ تأخذوا حقّ ال ،وتعطوه للصنام
والوثان؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُمْ َهلْ ّلكُمْ مّن مّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مّن شُ َركَآءَ
ويقول تعالى في آية أخرى {:ضَرَبَ َلكُمْ مّثَلً مّنْ أَنفُ ِ
فِي مَا رَ َزقْنَا ُكمْ[} ..الروم.]28 :
أي :أنكم لم تفعلوا هذا مع أنفسكم ،فكيف تفعلونه مع ال؟ فهذه َلقْطة :أنكم تُعاملون ال بغير ما
تُعاملون به أنفسكم:
سوَآءٌ[ { ...النحل.]71 :
} َفهُمْ فِيهِ َ
أي :أنكم سوّيتُم بين ال سبحانه وبين أصنامكم ،وجعلتموهم شركاء له سبحانه وتعالى وتعبدونهم
مع ال.
والحق سبحانه وإنْ رزقنا وفضّلَنا فقد حفظ لنا المال ،وحفظ لنا الملكية ،ولم يأمرنا أن نعطي
أموالنا للناس دون عمل وتبادل منافع ،فإذا ما طلب منك أن تعطي أخاك المحتاج فوق ما افترض
عفَهُ لَهُ[} ..البقرة.]245 :
عليك من زكاة يقول لك {:مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَا ِ
مع أن الحق سبحانه واهب الرزق وال ّنعَم ،يطلب منك أنْ تُقرِضه ،وكأنه سبحانه يحترم عملك
ومجهودك ،ويحترم ملكيتك الخاصة التي وهبها لَك ..فيقول :أقرضني .لعلمه سبحانه بمكانة المال
في النفوس ،وحِرْص المقرض على التأكد من إمكانية الداء عند المقترض ،فجعل القرض له
سبحانه لتثقَ أنت أيها المقرض أن الداء مضمون من ال.
ويختم الحق سبحانه الية بقوله:
حدُونَ { [النحل.]71 :
} َأفَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ َيجْ َ
أي :بعد أنْ أنعم ال عليهم بالرزق ،ولم يطلب منهم أنْ ينثروه على الغير ،جحدوا هذه النعمة،
حقّ ال في العبودية
وأنكروا َفضْل ال ،وجعلوا له شركاء من الصنام والوثان ،وأخذوا َ
واللوهية وأعط ْوهُ للصنام والوثان ،وهذا عَيْنُ الجحود وإنكار الجميل.
ج َعلَ َلكُمْ مّنْ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :وَاللّهُ َ
()1956 /
الحق سبحانه في الية السابقة قنّن لنا قضية القمة ـ قضية العقيدة ـ في أننا ل نعطي شيئا جعله
حتْ
صّال لنفسه سبحانه من العبودية واللوهية والطاعة وغيرها ،ل نعطيها لغيره سبحانه ..وإذا َ
حتْ كل قضايا الكون.
هذه القضية العَقدية صَ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم بيّن سبحانه أنه خلقنا من واحد ،ثم خلق من الواحد زوجة له ،ليتم التناسل والتكاثر ..إذ إن
استمرارَ بقائكم خاضعٌ لمرين:
المر الول :استبقاء الحياة ،وقد ضمنه سبحانه بما أنعم به علينا من الرزاق ،فنأكل ونشرب
فنستبقي الحياة ،فبعد أنْ تحدّث عن استبقاء الحياة بالرزق في الية السابقة ذكر:
المر الثاني :وهو استبقاء الحياة ببقاء النوع ،فقال سبحانه:
س ُكمْ أَ ْزوَاجا[ } ...النحل.]72 :
ج َعلَ َلكُمْ مّنْ أَ ْنفُ ِ
{ وَاللّهُ َ
والزواج :جمع زوج ،والزوج ل يعني الرجل فقط ،بل يعني الرجل والمرأة؛ لن كلمة (زوج)
تُطلَق على واحد له نظير من مثله ،فكلّ واحد منهما َزوْج ..الرجل زوج ،والمرأة زوج ،فتُطلق
إذن ـ على ُمفْرد ،لكن له نظير من مثل.
سكُمْ } [النحل.]72 :
و { مّنْ أَ ْنفُ ِ
جهَا} ...
ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ
أي :من َنفْس واحدة ،كما قال في آية أخرى {:خََل َقكُمْ مّن ّنفْسٍ وَاحِ َدةٍ ُثمّ َ
[الزمر.]6 :
يعني :أخذ قطعة من الزوج ،وخلق منها الزوجة ،كما خلق سبحانه حواء من آدم ـ عليهما
السلم.
أو {:وَخََلقَ مِ ْنهَا[} ..النساء.]1 :
سكُمْ[} ..التوبة.]128 :
أي :من جنسها ،كما قال تعالىَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
أي :من جنسكم.
فالمسألة تحتمل المعنيين ..مَن اتسع ظنّه إلى أن ال خلق حواء من ضِلع آدم أي :منه ،من بعضه
فل مانع ،ومَنْ قال :خلق ال حواء كما خلق آدم خَلْقا مستقلً ،ثم زَاوَج بينهما بالزواج فل مانع..
فالول على معنى ال َبعْضية ،والثاني على معنى من جنسكم.
قلنا :إن الجمع إذا قابل الجمع اقتضت القسمةُ آحادا ..كما لو قال المعلم لتلميذه :أخرجوا كتبكم،
فهو يخاطب التلميذ وهم جمع .وكتبهم جمع ،فهل سيُخرِج كل تلميذ كُتب الخرين؟! ..ل ..بل
كل منهم سيُخرج كتابه هو فقط ..إذن :القسمة هنا تقتضي آحادا ..وكذلك المعنى في قوله تعالى{:
سكُمْ أَ ْزوَاجا[} ...الروم.]21 :
خََلقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
أي :خلق لكل منكم َزوْجا.
ولكي نتأكد من هذه الحقيقة ،وأن الخَلْق بدأ بآدم عليه السلم ـ نردّ الشياء إلى الماضي ،وسوف
سكّان العالم اليوم أكثر من العام
نجد أن ُكلّ متكاثر في المستقبل يتناقص في الماضي ..فمثلً ُ
الماضي ..وهكذا تتناقص العداد كلما أوغلنا في الماضي ،إلى أن نصلَ إلى إنسان واحد هو آدم
عليه السلم ـ ومعه زوجه حواء ،لن أقلّ التكاثر من اثنين.
جهَا} ..
إذن :قوله سبحانه {:خََل َقكُمْ مّن ّنفْسٍ وَاحِ َد ٍة وَخََلقَ مِ ْنهَا َزوْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[النساء.]1 :
كلم صحيح يؤيّده الستقراء والحصاء.
لذلك يمتنّ ربّنا سبحانه علينا أنْ خلقَ لنا أزواجا ،ويمتنّ علينا أن جعل هذا الزوج من أنفسنا،
وليس من جنس آخر ،لن إ ْلفَ النسان وأنْسه ل يتم إل بجنسه ،وهذه من أعظم نعم ال علينا،
ولك أن تتصوّر الحال إذا جعل ال لنا أزواجا من غير جنسنا!! كيف يكون؟!
هذا الزوج اشترك معنا في أشياء ،واختلف عنّا في شيء واحد ،اتفقنا في أشياء :فالشكل واحد،
والقالب واحد ،والعقل واحد ،والجزاء واحدة :عينان وأذنان ..يدان ورجْلن ..الخ ،وهذا
الشتراك يُعين على الرتقاء والمودة والنْس واللْفة.
واختلفنا في شيء واحد هو النوع :فهذا ذكر ،وهذه أنثى .إذن :جمعنا جنس ،وفرّقنا النوع لِيتمّ
بذلك التكامل الذي أراده سبحانه لعمارة الرض.
وهناك احتمال أن يتحوّل الذكر إلى أنثى أو النثى إلى ذكر ،لذلك خلق ال الحتياط لهذه
عتْ
الظاهرة ،كأنْ يكونَ للرجل ثَدْي صغير ،أو غيره من العضاء القابلة للتحويل ،إذا ما دَ َ
الحاجة لتغيير النوع ..فهذا تركيب حكيم وقدرة عالية.
إذن:
سكُمْ[ { ...النحل.]72 :
} مّنْ أَ ْنفُ ِ
ليزداد اللْف والمحبة والُنْس والمودّة بينكم؛ ولذلك نجد في قصة سيدنا سليمان عليه السلم ـ
والهدهد ،حينما تفقّد الطير وعرف غياب الهدهد قال {:لُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا َأوْ لَذْبَحَنّهُ َأوْ لَيَأْتِيَنّي
بِسُ ْلطَانٍ مّبِينٍ }[النمل.]21 :
وهذا سلطان الملْك الذي أعطاه ال لسليمان ..قالوا في {:لُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا[} ..النمل.]21 :
أي :يضعه في غير جنْسه ..إذنَ :وضْعه في غير جنسه نوع من العذاب ..وتكون (من أنفسكم)
نعمة ورحمة من ال.
وفي الية الخرى يذكر سبحانه عناصر ثلثة لستبقاء العلقة الزوجية ،فيقول تعالىَ {:ومِنْ آيَا ِتهِ
ك ليَاتٍ ّلقَوْمٍ
حمَةً إِنّ فِي ذَِل َ
ج َعلَ بَيْ َنكُم ّموَ ّد ًة وَرَ ْ
سكُنُواْ إِلَ ْيهَا وَ َ
سكُمْ أَ ْزوَاجا لّتَ ْ
خلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
أَنْ َ
يَ َت َفكّرُونَ }[الروم.]21 :
ولو تأملنا هذه المراحل الثلثة لوجدنا السكن بين الزوجين ،حيث يرتاح ُكلّ منهما إلى الخر،
ويطمئن له ويسعد به ،ويجد لديه حاجته ..فإذا ما اهتزتْ هذه الدرجة ونفرَ أحدهما من الخر جاء
دور المودّة والمحبة التي تُمسِك بزمام الحياة الزوجية وتوفر لكليهما قَدْرا كافيا من القبول.
فإذا ما ضعف أحدهما عن القيام بواجبه نحو الخر جاء دور الرحمة ،فيرحم كل منهما صاحبه..
ضعْفه ..يرحم مرضه ..وبذلك تستمر الحياة الزوجية ،ول تكون عُرْضة للعواصف في
يرحم َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رحلة الحياة.
سكَن ول مودّة ،ول حتى يرحم أحدهما صاحبه فقد
فإذا ما استنفدنا هذه المراحل ،فلم َي ُعدْ بينهما َ
استحالتْ بينهما العِشرة ،وأصبح من الحكمة مفارقة أحدهما للخر.
وهنا شرع الحق سبحانه الطلق ليكون حلً لمثل هذه الحالت ،ومع ذلك جعله ربنا سبحانه
أبغض الحلل ،حتى ل نقدم عليه إل مُضطرّين مُجْبرين.
وقوله تعالى:
حفَ َدةً.
جكُم بَنِينَ وَ َ
ج َعلَ َلكُمْ مّنْ أَ ْزوَا ِ
} وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القيم.
جدّه؛
إذن :الحفيد يلتقط لونا من النشاط والحركة في جيل أبيه ،ويلتقط لونا من القيم في جيل َ
ولذلك فإن ابتعاد الجيال يُسبّب نقصا في تكوين الطفال ،والحق سبحانه يريد أنْ تلتحمَ الجيال
لتكتمل للطفل عناصر التربية بين القيم المعنوية والحركة والنشاط.
وقوله تعالى:
} وَرَ َز َقكُم مّنَ الطّيّبَاتِ[ { ...النحل.]72 :
الطيبات في الرزق الذي جعله ال لستبقاء الحياة ،وفي الزواج الذي جعله ال لستبقاء النوع.
ثم يقول تعالى:
ن وَبِ ِن ْع َمتِ اللّهِ ُهمْ َي ْكفُرُونَ { [النحل.]72 :
طلِ ُي ْؤمِنُو َ
} َأفَبِالْبَا ِ
الباطل :هو الصنام التي اتخذوها من دون ال.
وفي الية استفهام للتعجّب والنكار ..كيف تكفرون بنعمة ال وقد خلقكم في البَدْء من نفس واحدة،
وخلق منها زوجها.
.وجعل لكم من أنفسكم أزواجا ..وجعل بينكم سكنا ومودة ورحمة ،ثم جعل لكم البنين والحفدة،
ورزقكم من نِعم الحياة ما يستبقي حياتكم ،ومن ِنعَم الزواج ما يستبقي نوعكم ،وجعلكم في نعمة
ورفاهية ..خلقكم من عدم ،وأمدّكم من عُدم.
أبعد ذلك كله تجحدون نعمته وتكفرونها ،وبدل أنْ تُقبِلوا عليه وتلتفتوا إليه تنصرفون إلى عبادة
الصنام التي ل تض ّر ول تنفع ..وهل عملتْ لكم الصنامُ شيئا من ذلك؟! هل أنعمتْ عليكم بنعمة
من هذه النعم؟!
هذه الصنام محتاجة إليكم ..تأخذ منكم ول تعطيكم ..فهذا مائل يريد مَنْ يقيمه ..وهذا ُكسِر يحتاج
لمن يُصلحه ..انقل الله ..ضَع الله في مكان كذا ..الخ.
ولذلك يقول تعالى في الية بعدها } :وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ.{ ...
()1957 /
والعبادة أن يطيع العابد معبوده ،وهذه الطاعة تقتضي تنفيذ المر واجتناب النهي ..فهل العبادة
تنفيذ المر واجتناب النهي فقط؟ نقول :ل بل كل حركة في الحياة تُعين على عبادة فهي عبادة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما ل يتم الواجب إل به فهو واجب ،ولتوضيح هذه القضية نضرب هذا المثل:
إذا أردتَ أن تُؤدّي فرض ال في الصلة مثلً ،فأنت تحتاج إلى قوة لتؤدي هذه الفريضة ،ولن
تجد هذه القوة إل بالطعام والشراب ،ولنأخذ أبسط ما يمكن تصوّره من الطعام ..رغيف العيش..
فانظر كم يّدٌ شاركتْ فيه منذ كان حبةَ قمح تلقى في الرض إلى أنْ أصبح رغيفا شهيا.
إن هؤلء جمعيا الذين أداروا دولب هذه العملية يُؤدّون حركة إيجابية في الحياة هي في حَدّ ذاتها
عبادة لنها أعانتْك على عبادة.
أيضا إذا أردت أنْ تُصلّي ،فواجب عليك أنْ تستر عورتك ..انظر إلى هذا القماش الذي ل تتم
الصلة إل بهُ ..كلّ مَنْ أسهم في زراعته وصناعته حتى وصل إليك ..جميعهم يؤدون عبادة
بحركتهم في صناعة هذا القماش.
إذن :كل شيء يُعينك على عبادة ال فهو عبادة ،وكل حركة في الكون تؤدي إلى شيء من هذا
فهي عبادة.
والحق سبحانه وتعالى حينما استدعى المؤمنين لصلة الجمعة ،قال سبحانه {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا
س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَ ْيعَ[} ...الجمعة.]9 :
ج ُمعَةِ فَا ْ
لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ
نُو ِديَ لِلصّ َ
لم يأخذهم من فراغ ،بل من عمل ،ولكن لماذا قال سبحانه( :وَذَرُوا البَيْعَ) ..لماذا البيع بالذات؟
قالوا :لن البيع هو غاية كل حركات الحياة ،فهو واسطة بين مُنتج ومُسْتهلك ..ولم َيقُل القرآن:
اتركوا المصانع أو الحقول ،لن هناك أشياء ل تأتي ثمرتها في ساعتها ..فمَنْ يزرع ينتظر
شهورا ليحصد ما زرع ،والصانع ينتظر إلى أن يبيعَ صناعته ..لكن البيع صفقة حاضرة ،فهي
محلّ الهتمام ..وكذلك لم َيقُلْ :ذروا الشراء ،قالوا :لن البائع يحب أن يبيعَ ،ولكن المشتري قد
يشتري وهو كاره ..فأتى القرآن بأدقّ شيء يمكن أن يربطك بالزمن ،وهو البيع.
لةُ
فإذا ما انقضتْ الصلة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الرض {:فَإِذَا ُقضِيَتِ الصّ َ
ض وَابْ َتغُواْ مِن َفضْلِ اللّهِ[} ...الجمعة.]10 :
فَانتَشِرُواْ فِي الَرْ ِ
فقوله تعالى:
{ وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ[ } ..النحل.]73 :
أراد الحق سبحانه أن يتكلم عن الجهة التي يُؤثِرونها على ال ..وهي الصنام ..فال سبحانه الذي
خلقهم ورزقهم من الطيبات ،وجعل لهم من أنفسهم أزواجا ،وجعل لهم بنين وحفدة ..كان يجب أن
يعبدوه لنعمته و َفضْله ..فالذي ل يعبد ال لذاته سبحانه يعبده لنعمه وحاجته إليه ..فعندنا عبادة
للذات لنه سبحانه يستحق العبادة لذاته ،وعبادة لصفات الذات في معطياتها ،فمَنْ لم يعبده لذاته
عبده لنعمته.
وطالما أن العبادة تقتضي تنفيذ الوامر واجتناب النواهي ..فكيف تكون العبادة إذن في حق هذه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصنام التي اتخذوها؟! كيف تعبدونها وهي لم تأمركم بشيء ولم تنهكُمْ عن شيء؟!.
وهذا أول َنقْد لعبادة غير ال من شمس أو قمر أو صنم أو شجر.
وكذلك ..ماذا تعطي الصنام ـ أو غيرها من معبوداتكم ـ لمن عبدها ،وماذا أع ّدتْ لهم من
ن كفر بها؟ ..إذن :فهو إله بل منهج.
ثواب؟! وبماذا تعاقب مَ ْ
والتديّن غريزة في النفس يلجأ إليها النسان في وقت ضعفه وحاجته ..وال سبحانه هو الذي يحب
أن نلجأ إليه وندعو ونطلب منه قضاء الحاجات ..وله منهج يقتضي مطلوبات تدكّ السيادة
والطغيان في النفوس ويقتضي تكليفات شاقة على النفس.
إذن :لجأ الكفار إلى عبادة الصنام والوثان لنها آلهة بل تكليف ،ومعبودات بل مطلوبات.
ما أسهل أن يتمحّك إنسان في إله ويقول :أنا أعبده دون أن يأمر بشيء أو ينهى عن شيء! ما
أسهل أن يُرضي في نفسه غريزة التدين بعبادة مثل هذا الله.
لكن يجب ألّ تنسوا أن هذا الله الذي ليس له تكليف لن تستطيعوا أنْ تطلبوا منه شيئا ،أو تلجأوا
إليه في شدة ..فهذا غير معقول فكما أنهم ل يطلبوا منكم شيئا ،كذلك ل يملكون لكم َنفْعا ول
ضرا.
لذلك وجدنا الذين يدّعُون النبوة ..هؤلء الكذابون يُيسّرون على الناس سُبُل العبادة ،ويُبيحون لهم
ما حرّمه الدين مثل اختلط الرجال والنساء وغيره؛ ذلك لستقطاب اكبر عدد ممكن من التباع.
فجاء مسيلمة الكذاب وأراد أن يُسهّل على الناس التكليف فقال بإسقاط الصلة ،وجاء الخر فقال
بإسقاط الزكاة ..وقد جذب هذا التسهيل كثيرا من المغفلين الذين َيضِيقون بالتكليف ،ويميلون لدين
سهْل يناسب ِهمَمهم الدّنية.
َ
وهكذا وجدنا لهؤلء الكذابين أنصارا يُؤيّدونهم ويُناصرونهم ..ولكن سرعان ما تتكشف الحقائق،
ويقف هؤلء المخدوعون على حقيقة أنبيائهم.
وقوله تعالى:
} وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ َيمِْلكُ َلهُمْ رِزْقا[ { ..النحل.]73 :
نلحظ في هذه الية َنوْعا من الرتقاء في الستدلل على بطلن عبادة الصنام؛ ذلك لن الحق
تبارك وتعالى قال عنهم في آية أخرى {:لَ َيخُْلقُونَ شَيْئا وَهُمْ ُيخَْلقُونَ }[النحل.]20 :
فنفى عنهم القدرة على الخَلْق ،بل إنهم هم المخلوقون ..يذهب الواحد منهم فيُعجبه حجر ،فيأخذه
ويُعمل فيه ِمعْوله حتى يُصوّره على صورة ما ،ثم يتخذه إلها يعبده من دون ال.
ن يملكوا،
فلما نفى عنهم القدرة على الخَلْق أراد هنا أنْ يترقّى في الستدلل ،فنفى عنهم مجرد أ ْ
فقد يملك الواحد ما ل يخلقه ،فتُقرّر الية هنا أنهم ل يملكون ..مجرد الملك.
وقوله تعالى:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ شَيْئا.
} مّنَ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[ { .النحل.]73 :
فالرزق من السماء بالمطر ،ومن الرض بالنبات ،ومن المصدرين يأتي رزق ال ،وبذلك يضمن
لنا الحق تبارك وتعالى مُقوّمات الحياة وضرورياتها من ماء السماء ونبات الرض.
فإنْ أرد ُتمْ ترفَ الحياة فاجتهدوا فيما أعطاكم ال من مُقوّمات الحياة لِتصلوا إلى هذا الترف.
فالرزق الحقيقي المباشر ما أنزله ال لنا من مطر السماء فأنبت لنا نبات الرض.
ونُوضّح ذلك فنقولَ :هبْ أن عندك جبلً من ذهب ،أو جبلً من فضة ،وقد عضّك الجوع في يوم
ن تأكلَ من الذهب أو الفضة؟
من اليام ..هل تستطيع أ ْ
إنك الن في حاجة لرغيف عيش ،ل لجبل من ذهب أو فضة ..رغيف العيش الذي يحفظ لك
حياتك في هذا الموقف افضل من هذا كله.
وهذا هو الرزق المباشر الذي رزقه ال لعباده ،أما المال فهو رِزْق غير مباشر ،ل تستطيع أن
تأكل منه أو تعيش عليه.
وكلمة( :شَيْئَا) أي :أقلّ ما ُيقَال له شيء ،فالصنام والوثان ل تملك لهم رزقا مهما َقلّ؛ لنه قد
يقول قائل :ل يملكون رِزْقا يكفيهم ..ل ..بل ل يملكون شيئا.
ثم يعطينا الحق سبحانه لمحة أخرى في قوله تعالى:
} َولَ يَسْ َتطِيعُونَ { [النحل.]73 :
أي :ل يملكون لهم رِزْقا في الحاضر ،ولن يملكوا في المستقبل ،وهذا يقطع المل عندهم ،فهُ ْم ل
يملكون اليوم ،ولن يملكوا غدا؛ ذلك لن هناك أشياء ينقطع الحكم فيها َوقْتا ..وأشياء مُعلّقة يمكن
أن تُسْتأنفَ فيما بعد ،فهذه الكلمة:
} َولَ يَسْ َتطِيعُونَ { [النحل.]73 :
حكْم قاطع ل استئناف له فيما َبعْد.
ُ
ولذلك؛ نجد هؤلء الذين يُحِبّون أنْ يجدوا في القرآن مَأْخذا يجادلون في قوله تعالىُ {:قلْ ياأَ ّيهَا
ا ْلكَافِرُونَ * لَ أَعْ ُبدُ مَا َتعْبُدُونَ * َولَ أَنتُمْ عَا ِبدُونَ مَآ أَعْبُدُ * َولَ أَنَآ عَا ِبدٌ مّا عَبَدتّمْ * َولَ أَن ُتمْ
عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ }[الكافرون.]5-1 :
فهؤلء يروْن في السورة تكرارا يتنافى وبلغةَ القرآن الكريم ..نقول :ليس في السورة تكرار لو
تأملتُم ..ففي السورة َقطْع علقات على سبيل التأبيد والستمرار ،فالحق سبحانه يقولَ {:ل ُكمْ دِي ُنكُمْ
وَِليَ دِينِ }[الكافرون.]6 :
في الحاضر ،وفي المستقبل ،وإلى يوم القيامة.
فقوله {:لَ أَعْبُدُ مَا َتعْبُدُونَ * َولَ أَنتُمْ عَا ِبدُونَ مَآ أَعْبُدُ }[الكافرون.]3-2 :
وهذا َقطْع علقات في الوقت الحاضر ..ولكن مَنْ يُدرِينا لعلّنا نستأنف علقات أخرى فيما بعد..
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فجاء قوله تعالىَ {:ولَ أَنَآ عَا ِبدٌ مّا عَبَدتّمْ * َولَ أَنتُمْ عَا ِبدُونَ مَآ أَعْبُدُ }[الكافرون.]5-4 :
ل للتكرار ،ولكن لقطع المل في إعادة العلقات في المستقبل ،فالقضية ـ إذن ـ منتهية من الن
على سبيل القَطْع.
كذلك المعنى في قوله تعالى:
} َولَ يَسْ َتطِيعُونَ[ { ...النحل.]73 :
أي :ل يستطيعون الن ،ول في المستقبل.
ثم يقول الحق سبحانه } :فَلَ َتضْرِبُواْ لِلّهِ.{ ...
()1958 /
فَلَا َتضْرِبُوا لِلّهِ الَْأمْثَالَ إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ ()74
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ عَلَيِمٌ }[النور.]35 :
س وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
لمْثَالَ لِلنّا ِ
اللّ ُه ا َ
سيّ مثل نور
نور السماوات والرض؛ لنه بالنور تكون الهداية حِسّية أو معنوية ..فالنور الح ّ
الشمس والقمر وغيرهما من مصادر الضوء ..هذا النور الحسي هو الذي يُبيّن لنا الشياء لتسير
ضوْء يهديك فسوف تصطدم بالشياء
في الكون على بصيرة وهدى ..فلو حاولتَ السّيْر ليلً دون َ
من حولك :إما أقوى منك يُحطّمك ويُؤذيك ،وإما تكون أنت أقوى منه فتُحطّمه أنت ..فالذي يهدي
خطَاك هو النور الحسيّ.
ُ
وقد يكون النور معنويا ،وهو نور القيَم والخلق ،وهذا النور يجعلك أيضا تسير في الحياة على
بصيرة وهُدًى ،ويحميك من التخبّط في مجاهل الفكار والنظريات ،هذا هو النور القِيَمي الذي
خفُونَ مِنَ
أنزله ال لنا في كتابه الكريم ،وقال عنهَ {:قدْ جَآ َءكُمْ َرسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ كَثِيرا ّممّا كُنْتُمْ ُت ْ
ضوَانَهُ
ا ْلكِتَابِ وَ َيعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآ َءكُمْ مّنَ اللّهِ نُو ٌر َوكِتَابٌ مّبِينٌ * َي ْهدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ ِر ْ
جهُمْ مّنِ الظُّلمَاتِ ِإلَى النّورِ بِِإذْنِ ِه وَ َيهْدِيهِمْ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[المائدة-15 :
ل ِم وَيُخْ ِر ُ
سُ ُبلَ السّ َ
.]16
فهو نور لكن معنوي ..بالقيم والخلق والفضائل ..ول ت ُقلْ في هذا المثل :إنه مَ َثلٌ لنور ال ..بل
مَ َثلٌ لسلطان تنويره للكون ،ولو تأمّلنا بقية الية لدركنا ذلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك قال تعالى في وصف هذا المصباح {:نّورٌ عَلَىا نُورٍ[} ..النور.]35 :
ت على أوصاف هذا المصباح ،وأنه يُوضَع في ُكوّة صغيرة ،بال عليك هل يمكن
ن وقف َ
وبعد أ ْ
وجود نقطة مظلمة في هذه ال ُكوّة؟
إذن :فهذا مَ َثلٌ ليس لنوره سبحانه ..فنُوره ل يُد َركُ ،وإنما هو م َثلٌ لتنويره للكون ،الذي هو كال ُكوّة
ت وَالَرْضِ[} ..النور.]35 :
سمَاوَا ِ
والطاقة في هذا المثل ..فمعنى قوله تعالى {:اللّهُ نُورُ ال ّ
أي :مُنّورهما ،فكما أنه ل يُعقل وجود نقطة مظلمة في هذه ال ُكوّة ،فكذلك نوره سبحانه وتنويره
للكون ..وهذا هو النور الحسيّ الذي أمدّ ال به الكون.
ثم تحدّث القرآن بعد ذلك عن النور المعنوي الذي يُنزِل على عباد ال الصالحين تجليّاتٍ نورانية،
سمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا
وفيُوضاتٍ ربانية نتلقّاها في بيوت ال {:فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُ ْر َف َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
بِا ْلغُ ُد ّو وَالصَالِ * رِجَالٌ[} ...النور.]37-36 :
ي والنور المعنوي صلى ال عليه وسلم.
وهكذا نجمع بين النور الحس ّ
ولذلك ،فأبو تمام حينما أراد أن يمدح الخليفة شبّهه بمشاهير العرب في الشجاعة والكرم والحِلْم
سمَاحَةِ حَاتِم فِي حِلْم أَحْ َنفَ في َذكَاءِ إِيَاسِفاعترض على هذا
عمْـروٍ في َ
والذكاء ،فقال:إقْدام َ
حسّاد أبي تمام ،وقال له :كيف تُشبّه الخليفة بأجلف العرب؟ ففي جيشه ألف واحد
التشبيه أحد ُ
كعمرو ،ومن خَزَنته ألف واحد كحاتم ..ولكن يخرج أبو تمام من هذا المأزق ،ويُفلِت من هذا الفخ
الذي نصبه له حاسده ،قال على البديهة:لَ تُنكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مَثَلً شَرُودا في النّدى
سفَالُ َق ْد ضربَ القَـلّ لِنُورِه مثَلً مِـنَ المشْـكَاةِ وَالنّـبْراسِوالحق سبحانه وتعالى وإنْ
والبَا ِ
نهانا نحن أن نضربَ له مثلً لِقلّة عِلْمنا ،فهو سبحانه القادر على ضَرْب المثال حتى بأقلّ
المخلوقات ،وأتفهها في نظرنا.
.فيقول تعالى {:إِنّ اللّ َه لَ َيسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ...البقرة.]26 :
فل تستقلّ أمر هذه البعوضة ،ول تستحقر أنْ يجعلها ال مثَلً؛ لنه سبحانه ل يستحي أن يضرب
بها المثل؛ لن في هذه البعوضة كل أجهزة تكوين الحياة التي فيك ،وفي أضخم الحيوانات مثل
الفيل والجمل؛ ولن هذه البعوضة التي تستحقرها قد تكون أقوى منك ،وقد تُعجِزك أنت على
قوتك وحيلتك وجبروتك.
ض ُعفَ الطّاِلبُ وَا ْل َمطْلُوبُ }[الحج.]73 :
يقول تعالى {:وَإِن يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْ ُه َ
بال عليك ،هل تستطيع على قوتك وإمكاناتك أنْ تستردَ من الذبابة ما أخذتْه من طعامك؟ هل تقدر
على هذه العملية؟
إذن :حينما يضرب ال لك مَثَلً يجب أن تحترم ضَرْب ال للمثل ،وأنْ تبحثَ فيما وراء المثل من
الحكمة ..وأنه سبحانه جاء بهذا المثَل لهذا المخلوق الحقير في نظرك لِيُوضّح لك قضية غامضة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُنبّهك إليها.
ولهمية ضَرْب المثَل في توضيح الغامض يلجأ إليه الشعراء ليُقرّبوا المعنى من الفهام ،فقد يقف
الشاعر أمام قضية معقدة ل يدركها إل العقلء ،ويريد الشاعر الوصول بها إلى أفهام العامة..
مثل قضية الحاسد الذي يُظهر بحسده مزايا محسوده ومكارمه ،فقد يتهم البريء بتهمة ظلما،
فتكون سببا في ِرفْعته بين قومه.
أخذ الشاعر العربي هذا المعنى ،وصاغه شعرا ،وضرب له مثلً توضيحيا ،فقال:وَإِذَا أَرَادَ الُ
نَشْرَ َفضِيلةٍ طُو َيتْ أَتَاحَ َلهَا لِسَانَ حَسُودَِل ْولَ اشْتِعالُ النّارِ فِيمَا جَاورَتْ مَا كانَ يُع َرفُ طِيبُ عَ ْرفِ
العُودِفانظر كيف وصل بالقضية المعنوية إلى قضية عامة يعرفها الرجل العادي ،فقد يكون لديك
فضيلة مكتومة مغمورة ل يعرفها أحد ،حتى تتعرض لحاسد يتهمك ويُشوّه صورتك ،فإذا بالحقيقة
تتكشف للجميع ويُظهر ما عندك من مواهب ،وما لديك من فضائل ..وما أشبه ذلك بالعود طيب
الرائحة الذي ل نشمّ رائحته إل إذا حرقناه.
وقد كان سبب هذا المثَل الشّعريّ أن أحد أهل الخير كان يتردد من حين لخر على أحد بُيوت
البلدة وبها عجوز ُمقْعدة في حاجة إلى مساعدة ،فكان يساعدها بما يستطيع ،وكان بجوارها منزل
إحدى الجميلت التي قد تكون مطمعا ..فاستغل أحد الحُسّاد هذه الجيرة ،واتهم الرجل الصالح بأنه
يذهب إلى هذه الحسناء ..وفعلً تتبعه الناس ،فإذا به يذهب لبيت العجوز المقعدة ..ومن هنا عرف
الناس عنه فضيلةً لم يكن يعرفها أحد.
وقد رأينا على مَرّ التاريخ مَنِ ات ِهمُوا ظلما ،وقيل في حقهم ما يندي له الجبين ..ثم أنصفهم
القضاء العادل ،وأظهر أنهم أبطال يستحقون التكريم ،ولول ما تعرضوا له من اتهام ما عرفنا
مزاياهم ومكارمهم.
وقوله تعالى:
} إِنّ اللّهَ َيعَْل ُم وَأَنْتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ { [النحل.]74 :
وهذه عِلّة النهي عن ضَرْب المثال لننا ل نعلم ،أما الحق سبحانه وتعالى فيضرب لنا المثال؛
لنه سبحانه يعلم ،ويأتي بالمثَل في محلّه.
وبعد أنْ هيّأنا ربنا سبحانه لتلقّي المثال ،وأعدّ أذهاننا لستقبال المثال منه سبحانه ..أتى بهذا
المثل.
فيقول الحق سبحانه } :ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً.{ ...
()1959 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْ ٍء َومَنْ رَ َزقْنَاهُ مِنّا رِ ْزقًا حَسَنًا َفهُوَ يُ ْنفِقُ مِنْهُ سِرّا
ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا عَ ْبدًا َممْلُوكًا لَا َيقْدِرُ عَلَى َ
حمْدُ لِلّهِ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ()75
جهْرًا َهلْ يَسْ َتوُونَ ا ْل َ
وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مملوكين ،وفي عديد من السادة أصحاب الرزق الحسن ،ذلك لِيُعمّم ضَرْب المثل.
إذن :ليس في اختلف الضمير هنا ما يتعارض وبلغة القرآن الكريم ،بل هي ِدقّة أداء؛ لن
المتكلّم هو الحق سبحانه وتعالى.
وكذلك في قوله تعالى:
{ وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا[} ..الحجرات.]9 :
بعضهم يرى في الية مَأخذا ،حيث تتحدث عن المثنى ،ثم بضمير الجمع في (اقْتَتَلُوا) ،ثم تعود
للمثنى في (بَيْ َن ُهمَا).
نقول لهؤلء :لو تدبرتُم المعنى لَعرفتم أن ما تتخذونه مأخذا ،وتعتبرونه اختلفا في السلوب هو
منتهى الدقة في التعبير القرآني ..ذلك أن الحديث عن طائفتين :مُثنّى ..نعم ..فلو تقاتل ،هل
ستمسك كل طائفة سَيْفا لتقاتل الخرى؟
ل ..بل سيُمسِك ُكلّ جندي منها سَيْفا ..فالقتال هناك بالمجموع ..مجموع كل طائفة لمجموع
الطائفة الخرى ،فناسب أن يقول :اقتتلوا؛ لن القتال حركة ذاتية من ُكلّ فرد في الطائفتين.
فإذا ما جاء وقت الصُلّح ،هل نصالح كل جندي من هذه على كل جندي من هذه؟ ل ..بل الصّلْح
شأْنُ السادة والزعماء والقادة لكل طائفة ،ففي الصّلْح نعود للمثنى ،حيث ينوب هؤلء عن طائفة،
وهؤلء عن طائفة ،ويتم الصّلْح بينهما.
إذن :اختلف الضمير هنا آية من آيات العجاز البياني؛ لن المتكلم هو الحق سبحانه وتعالى.
حمْدُ لِلّهِ[ { ...النحل.]75 :
وقوله } :ا ْل َ
حكْمكم ما أريد ،فقد نطقتُم أنتم وحكمتُمْ.
كأن الحق سبحانه يقول :الحمد ل أنْ وافقَ ُ
} َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ { [النحل.]75 :
قوله :أكثرهم ل يعلمون يدل على أن القلية تعلم ،وهذا ما يُسمّونه " صيانة الحتمال "؛ لنه لما
نزلَ القرآن الكريم كان هناك جماعة من الكفار ومن أهل الكتاب يُفكّرون في اليمان واعتناق هذا
عمّا يُفكّرون فيه من
الدين ،فلو نفى القرآن العلم عن الجميع فسوف يُصدَم هؤلء ،وربما صرفهم َ
أمر اليمان ،فالقرآن يصون الحتمال في أن أُنَاسا منهم عندهم عِلْم ،ويرغبون في اليمان.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً.{ ...
()1960 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صمَمٌ؛ لن
وهذا مَ َثلٌ آخر لرجلين أحدهما أبكم ،والبكم هو الذي ل يتكلم ..ول ُبدّ أن يسبق البكم َ
سمْع ،فإذا أخذنا طفلً عربيا وربّيناه في بيئة إنجليزية نجده يتكلم النجليزية ،والعكس
الكلم وليد ال ّ
صحيح؛ ذلك لن الكلم ليس جنسا أو دما أو لحما ،بل هو وليد البيئة ،وما تسمعه الذن ينطق به
اللسان ..فإذا لم يسمع شيئا فكيف يتكلم؟
صمّ ُبكْمٌ[} ..البقرة.]18 :
لذلك ،فربنا سبحانه تعالى يقول عن الكفارُ {:
هذا البكم ل يقدر على شيء من العمل والنفع لك ،يقول تعالى { :وَ ُهوَ َكلّ عَلَىا َموْلهُ} ..
[النحل.]76 :
أي :عَالَة على سيده ،ل ينفع حتى نفسه ،ومع ذلك قد يكون عنده حكمة يقضي بها شيئا لسيده،
حتى هذه ليست عنده.
{ أَيْ َنمَا ُي َوجّه ّه لَ يَ ْأتِ ِبخَيْرٍ[ } ..النحل.]76 :
إذن :ل خيرَ فيه ،ول منفعةَ ألبتة ،ل له ول لغيره ،هذه صفات الرجل الول.
فماذا عن مقابله؟
{ َهلْ َيسْ َتوِي ُهوَ َومَن يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْدلِ[ } ...النحل.]76 :
وهذه أول صفات الرجل الخر ،أنه يأمر بالعدل ،وصفة المر بالعدل تقتضي أنه سمح منهجا،
ووعتْهُ أذنه ،وانطلق به لسانه آمرا بالعدل ،وهذه الصفة تقابل :البكم الذي ل يقدر على شيء.
{ وَ ُهوَ عَلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ } [النحل.]76 :
أي :أنه يذهب إلى الهدف مباشرة ،ومن أقصر الطرق ،وهذه تقابل :أينما يوجهه ل يَ ْأتِ بخير.
والسؤال هنا أيضا :هل يستويان؟ والجابة التي يقول بها العقل :ل.
وهذا م َثلٌ آخر للصنام ..فهي ل تسمع ،ول تتكلم ،ول تُفصح ،وهي ل تقدر على شيء ل لَها
ول لعابديها ..بل هي عَالَة عليهم ،فهم الذين يأتون بها من حجارة الجبال ،وينحتونها وينصبونها،
ويُصلِحون كَسْرها ،وهكذا هم الذين يخدمونها ول ينتفعون منها بشيء.
فإذا كنتم ل تُسوّون بين الرجل الول والرجل الخر الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم،
فكيف تسوون بين إله له صفة الكمال المطلق ،وأصنام ل تملك لكم نفعا ول ضرا؟!
أو نقول :إن هذا م َثلٌ للمؤمن والكافر ،بدليل أن الحق سبحانه في المثل السابق قال {:ضَ َربَ اللّهُ
مَثَلً عَبْدا ّممْلُوكا[} ...النحل.]75 :
حسَنا[} ...النحل.]75 :
وفي مقابله قالَ {:ومَن رّ َزقْنَاهُ مِنّا رِزْقا َ
ولم ي ُقلْ عبد أو رجل.
إنما هنا قال { :رّجُلَيْنِ[ } ...النحل.]76 :
فيمكن أن نفهم منه أنه مَ َثلٌ للرجل الكافر الذي يمثله البكم ،وللرجل المؤمن الذي يمثله مَنْ يأمر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالعدل ،وهو على صراط مستقيم.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ.} ...
والحق سبحانه يقول { :وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ
()1961 /
شيْءٍ
علَى ُكلّ َ
ت وَالْأَ ْرضِ َومَا َأمْرُ السّاعَةِ إِلّا كََلمْحِ الْ َبصَرِ َأوْ ُهوَ َأقْ َربُ إِنّ اللّهَ َ
سمَاوَا ِ
وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ
قَدِيرٌ ()77
أراد الحق سبحانه أنْ يُعلمنا منه عالم المُلْك ،ومنه عالم الملكوت ..عالم المُلْك هو العالم المحسّ
لنا ،وعالم الملكوت المخفي عنّا فل نراه.
ولذلك ،فربنا سبحانه وتعالى لما تكرّم على سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ قالَ {:وكَذَِلكَ نُرِي
ض وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ }[النعام.]75 :
ت وَالَرْ ِ
سمَاوَا ِ
إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
إذن :ل تعالى في كونه ظاهر وغَيْب ..الظاهر له نواميس كونية يراها كل الناس ،وله أشياء
غيبيّة ل يراها أحد ،ول يطّلع عليها ..حتى في ذاتك أنت أشياء غَيْب ل يعلمها أحد من الناس،
وكذلك عند الناس أشياء غَيْب ل تعرفها أنت ..وهذا الغيب نُسميّه :غَيْب النسان.
إذن :فأنا غائب عنّي أشياء ،وغيري غائب عنه أشياء ..هذا الغيب الذي ل نعرفه َيعُدّه بعض
الناس َنقْصا فينا ،وهو في الحقيقة نوع من الكمال في النفس البشرية؛ لنك إنْ أردتَ أنْ تعلمَ
غ ْيبَ الناس فاسمح لهم أنْ يعلموا غَيْبك.
ولو خُيّرت في هذه القضية لخترتَ أنْ يحتفظ كلّ منكم بغَيْبه ل يطلع عليه أحد ..ل أعرف غَيْب
الناس ،ول يعرفون غَيْبي؛ ولذلك يقولون " :المغطى مليح ".
فسَتْر الغيب كمال في الكون؛ لنه يُربّي ويُثري الفائدة فيه ..كيف؟
َهبْ أنك تعرف رجلً مستقيما كثير الحسنات ،ثم اطلعتَ على سيئة واحدة عنده كانت مستورة،
فسو فترى هذه السيئة كفيلة بأن تُزهّدك في كل حسناته وتُكرّهك فيه ،وتدعوك إلى الّنفْرة منه ،فل
تستفيد منه بشيء ،في حين لو سُترتْ عنك هذه السيئةُ لستطعت النتفاع بحسناته ..وهكذا يُنمي
الغيبُ الفائدةَ في الكون.
وفي بعض الثار الواردة يقول الحق سبحانه " :يا ابْنَ آدمَ ست ْرتُ عنك وست ْرتُ مِنك ،فإنْ شئتَ
فضحْنَا لك وفضحناك ،وإنْ شئت أسبلنَا عليك سِبالَ السّتر إلى يوم القيامة " فاجعل نفسك الن
المخاطب بهذا الحديث ،فماذا تختار؟
أعتقد أن الجميع سيختار الستْر ..فما ُد ْمتَ تحب الستر وتكره أنْ يطلعَ الناس على غَيْبك فإياك أنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تتطاول لتعرفَ غَيْب الخرين.
والغيب :هو ما غاب عن المدركات المحسّة من السمع والبصر والشّمّ وال ّذوْق ،وما غاب عن
العقول من الدراكات المعنوية.
وهناك غيْب وضع ال في كونه مقدمات تُوصّل إليه وأسبابا لئل يكونَ غَيْبا ..كالكهرباء والجاذبية
وغيرها ..كانت غَيْبا قبل أنْ تُكتشفَ ..وهكذا كل الكتشافات والسرار التي يكشفها لنا العلم،
كانت غَيْبا عنّا في وقت ،ثم صارت مُشَاهدة في وقت آخر.
ذلك ،لن الحق سبحانه ل ينثر لنا ُكلّ أسرار َكوْنه مرة واحدة ،بل يُنزِله بقَدرٍ ويكشفه لنا بحساب،
شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائِنُ ُه َومَا نُنَزّلُهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }
فيقول سبحانه {:وَإِن مّن َ
[الحجر.]21 :
فالذي كان غَيْبا في الماضي أصبح ظاهرا ُمشَاهدا اليوم؛ لن ال سبحانه كشف لنا أسبابه فتوصّلْنا
إليه ..فهذا غَيْب جعل ال له مُقدّمات يصل إليها مَنْ يبحث في الكون ،فإذا ما أذن ال به ،وحان
وقت ميلده َوفّق ال أحد الباحثين إلى اكتشافه ،إما عن طريق البحث ،أو حتى الخطأ في
المحاولة ،أو عن طريق المصادفة.
ت في كل المخترعات والمكتشفات لوجدت %90منها جاءت مصادفة ،لم يكونوا
ولذلك إذا بحث َ
بصدد البحث عنها أو التوصل إليها ،وهذا ما نسميه " غيب الكوان ".
حلّ التمرين أنْ يصلَ الولدُ إلى
ومثال هذا الغيب :إذا كلفتَ ولدك بِحلّ تمرين هندسيّ ..ومعنى َ
ن يصلَ إليها ..ماذا يفعل الولد؟ يأخذ ما تعطيه من ُمعْطيات ،ثم يستخدم ما لديْه
نقطة تريد أنت أ ْ
من نظريات ،وما يملكه من ذكاء ويستخرج منها المطلوب.
فالولد هنا لم يَ ْأتِ بجديد ،بل استخدم المعطيات ،وهكذا الشياء الموجودة في الكون هي المعطيات
ث فيها توصّل إلى غيبيّات الكون وأسراره.
مَنْ بح َ
خ ُذهُ سِنَةٌ وَلَ
حيّ ا ْلقَيّو ُم لَ تَأْ ُ
وهذا النوع من الغيب يقول عنه الحق سبحانه {:اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ الْ َ
شفَعُ عِنْ َدهُ ِإلّ بِإِذْ ِنهِ َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِ ْم َومَا
ت َومَا فِي الَ ْرضِ مَن ذَا الّذِي َي ْ
سمَاوَا ِ
َنوْمٌ لّهُ مَا فِي ال ّ
ت وَالَ ْرضَ َولَ َيؤُو ُدهُ
سمَاوَا ِ
شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآ َء وَسِعَ كُ ْرسِيّهُ ال ّ
خَ ْل َفهُ ْم َولَ يُحِيطُونَ ِب َ
ظ ُهمَا وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلعَظِيمُ }[البقرة.]255 :
حفْ ُ
ِ
فإذا أذنَ ال لهم تكشفتْ لهم السرار :إما بالبحث ،وإما بالخطأ ،أو حتى بالمصادفة ..فطالما حان
وقت ميلد هذا الغيْب واكتشافه؛ فإن صادف َبحْثا من البشر التقيا ،وإلّ أظهره ال لنَا دون َبحْث
سعْي مِنّا.
ودون َ
وهناك نوع آخر من الغيب ،وهو الغَيْب المطلق ،وهو غَيْب عن كل البشر استأثر ال به ،وليس
له مُقدّمات وأسباب تُوصّل إليه ،كما في النوع الول ..هذا الغَيْب ،قال تعالى في شأنه {:عَالِمُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ[} ...الجن.]27-26 :
ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ
فإذا ما أعلمنا الرسول غَيْبا من الغيبيات فل نقول :إنه يعلم الغيب ..لنه ل يعلم إل ما أعلمه ال
من الغيب ..إذن :هذا غَيْب ل يدركه أحد بذاته أبدا.
ومن هذا الغَيْب المطلق غَ ْيبٌ استأثر ال به ،ول يُطلع عليه أحدا حتى الرسل " ..ولما سُئِل
الرسول صلى ال عليه وسلم عن الساعة ،قال " :ما المسئول عنها بأعلم من السائل ".
وفي السراء والمعراج يحدثنا صلى ال عليه وسلم أن ال قد أعطاه ثلثة أوعية :وعاء أمره
بتبليغه وهو وعاء الرسالة ،ووعاء خَيّره فيه فل يعطيه إل لهل الستعداد السلوكي الذين يتقبلون
أسرار ال ول تنكرها عقولهم ،ووعاء منعه فهو خصوصية لرسول ال صلى ال عليه وسلم.
ولذلك يقول راوي الحديث :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم أعطاني وعاءين ،أما أحدهما فقد
بثثْتُه أي رويْته وقُلْته للناس ،وأما الخر فلو بُحْت به َلقُطِع حلقومي هذا ،فهذا من السرار التي
يختار الرسول صلى ال عليه وسلم لها مَنْ يحفظها.
قوله تعالى:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ { ..النحل.]77 :
} وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ
هذا يُسمّونه أسلوب َقصْر بتقديم الجار والمجرور ،أي قصر غيب السماوات والرض عليه
سبحانه ،فلو قلنا مثلً :غيب السماوات والرض ل ،فيحتمل أن يقول قائل :ولغير ال ،أما:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ { ..النحل.]77 :
} وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ
أي :له وحده ل شريك له.
ومعنى السماوات والرض ،أي :وما بينهما وما وراءهما ،ولكن المشهور من مخلوقات ال:
السماء ،والرض.
ثم يقول تعالى:
} َومَآ َأمْرُ السّاعَةِ ِإلّ كََلمْحِ الْ َبصَرِ َأوْ ُهوَ َأقْ َربُ[ { ...النحل.]77 :
جاءت الية بهذا الغَيْب الوحيد؛ لنه الغيب الذي استأثر ال به ..ول يُجلّيها لوقتها إل هو ..فناسب
الحديث عن الغيب أنْ يأتيَ بهذا الغَيْب المطلق الذي ل يعلمه إل ال.
وما هو َلمْح البصر؟
ن كان لكل منها معنًى خاصّ بها نقول :رأى
عندنا أفعال متعددة تدلّ كلّها على الرؤية العامة ،وإ ْ
ونظر ورَمق ولحظ ولمح ..فرأى مثلً أي بجُمع عينه ،ورمق بأعلى ،ولحظَ بجانب ،فكلّها
مرتبطة بحركة الحدقة ،هذه الحركة ما نسميه باللمح.
إذن :لمح البصر هو تحرّك حَدقة العين إلى ناحية الشيء المرئي ..فإنْ أردتَ أن ترى ما فوقك
تحركتْ الحدقة إلى أعلى ،وإنْ أردتَ أن ترى ما هو أسفل تحركتْ الحدقة إلى أسفل وهكذا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه الحركة هي َلمْح البصر ،انتقال الحدقة من وضع إلى وضع.
إذن :شبّه الحق تبارك وتعالى أمر الساعة عنده سبحانه بلمح البصر ،ولكن اللمح حدث،
والحداث تحتاج إلى أزمان ،وقد تطول الزمان في ذاتها ولكنها تقصر عند الرائي.
وقد قرّب إلينا العلم الحديث هذه القضية بما توصّل إليه من إعادة المشاهد المصوّرة على البطيء
ليعطيك فرصة متابعتها بدقة ،فنراهم مثلً يُعيدون لك مَشْهدا كرويا لترى كل تفاصيله ،فتجد
المشهد الذي مَرّ كلمح البصر يُعرَض أمامك بطيئا في زمن أطول ،في حين أن الزمن في السرعة
يتجمع تجمّعا ل تدركه أنت بأيّ معيار ،ل بالدقيقة ول بالثانية.
إذن :فهي جزئيات حركة في جزئيات زمان ،فَلمْح البصر الذي هو تحرّك حَدقة العين تحتاج
لوقت ولزمن متداخل ،وليس هكذا أمْر الساعة ،بل هذا أقرب ما يعرفه النسان ،وأقرب تشبيه
ِل َفهْم أمْر الساعة بالنسبة له سبحانه.
إذا قيل لك :ما أمر فلن؟ وما شأنه؟ .تأخذ في سَرْد الحداث ..حدث كيت وكيت ..فإذا قلنا :ما
أمْر الساعة؟ ما شأنها ساعةَ تقوم ،حيث يموت الحياء أولً ،ثم يحيا الجميع من لَدُنْ آدم عليه
السلم ثم حَشْر وحساب وثواب وعقاب.
أحداث كثيرة وعظيمة لخلْق متعددين من النس والجن ..يحدث هذا كله كلمح البصر بالنسبة لنا،
ن تتصوّر أن هذا يحتاج إلى وقت بالنسبة ل سبحانه.
ولكن إياك أ ْ
ن مكوّنة من حرفين :الكاف لفظ
فالشياء بالنسبة له سبحانه ل تعالج ،وإنما هي كُنْ فيكون ،حتى كُ ْ
وله زمن ،والنون لفظ وله زمن ،إنما َأمْر الساعة أقرب من الكاف والنون ،ولكن ليس هناك أقلّ
من هذا في َفهْمنا.
والحق سبحانه وتعالى حينما تكلّم عن أهل القبور ،قال {:كَأَ ّنهُمْ َي ْومَ يَ َروْ َنهَا َلمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ عَشِيّةً َأوْ
ضُحَاهَا }[النازعات.]46 :
في حين أننا نرى أنهم غابوا كثيرا في قبورهم ..إذن :كيف ُيقَاسُ الزمن؟ ..يُقاس بتتبّعك
للحداث ،فحينما ل يُوجد حَدَث ل يُوجَد زمن ..وهذا ما نراه في حال النائم الذي ل يستطيع
تحديد الزمن الذي نامه إل على غالب ما يكون في البشر.
ولذلك ،في قصة أهل الكهف الذين ناموا ثلث مائة عام وتسعة أعوام قالوا {:لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ
َيوْمٍ[} ...المؤمنون.]113 :
فهذا هو الغالب في عُرْف الناس؛ ذلك لنهم استيقظوا فلم يجدوا شيئا حولهم يدل على زمن
طويل ..الحال كما هو لم يتغيّر فيهم شيء ..فلو استيقظوا فوجدوا أنفسهم شيوخا بعد أن كانوا فتية
لَعلِموا بمرور الزمن ..إذن :الزمن بالنسبة لعدم الحدث زمن مَلْغيّ.
أو نقول :إن َأمْر الساعة في أن الحق سبحانه يجعلها جامعة للناس إل كلمْح البصر ،فكلّ ما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحدث فيها ل تقيسه بزمن ،لن الذي يُقاسُ بالزمن إنما هي الحداث الناشئة من فاعل له قدرة
وقوة تتوزع على الزمن.
فلو أر ْدتَ َنقْل هذا الشيء من هنا إلى هنا فسوف يحتاج منك وقتا ومجهودا ،أما لو كلفتَ طفلً
بنقل هذا الشيء فسوف يأخذ وقتا أكثر ويحتاج مجهودا أكثر ..إذن :فالزمن يتناسب مع قدرة
الفاعل تناسبا عكسيا.
ولذلك فالرسول صلى ال عليه وسلم حينما حدّث الناس بالسراء والمعراج قالوا :أتدّعي أنك
أتيتها في ليلة ،ونحن نضرب إليها أكباد البل شهرا ..هذا لن انتقالهم يحتاج لعلج ومُزَاولة،
تأخذ َوقْتا يتناسب وقدراتهم في النتقال بالبل من مكة إلى بيت المقدس ..ومحمد صلى ال عليه
وسلم لم يقل :أسر ْيتُ ،بل قال :أُسْرِي بي ،الذي أَسْرى به هو ال سبحانه ،فالزمن يُقاس بالنسبة
للحق سبحانه وتعالى.
وكذلك إذا قِيسَ زَمن َأمْر الساعة بالنسبة لقدرته سبحانه فإنه يكون كلمح البصر ،أو هو أقرب من
ذلك ..إنما هو تشبيه لِنُقرّب لكم الفهم.
شيْءٍ َقدِيرٌ { [النحل.]77 :
وقوله } :إِنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ
أي :يكون أمر الساعة كذلك؛ لن ال قادر على كل شيء ،وما دامت الحداث تختلف باختلف
القدرات ،فقدرة ال هي القدرة العُلْيا التي ل تحتاج لزمن لفعل الحداث.
جكُم مّن ُبطُونِ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :وَاللّهُ أَخْ َر َ
()1962 /
(مِنْ بُطُونِ أُمهَا ِتكُم) المراد الرحام؛ لنها في البطون ،والمظروف في مظروف يعتبر مظروفا،
كما لو قلت :في جيبي كذا من النقود أو في حافظتي كذا من النقود ..العبارتان معناهما واحد.
جكُم مّن
وأمهاتكم :جمع أم ،والقياس يقتضي أن نقول في جمع أُمُ :أمّات ولكنه قال { :وَاللّهُ َأخْرَ َ
بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ } [النحل.]78 :
بزيادة الهاء.
وساعةَ يكون الجنين في بطن أمه تكون حياته حياة تبعية ،فكل أجهزته تابعة لمه ..فإذا شاء ال
أن يولد جعل له حياة ذاتية مستقلة ..وعند الولدة نرى أطباء التوليد يقولون :الجنين في الوضع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الطبيعي أو في غير الوضع الطبيعي ..فما معنى الوضع الطبيعي للجنين عند الولدة؟
الوضع الطبيعي أن يكون رأس الجنين عند الولدة إلى أسفل ،هذا هو الوضع الطبيعي؛ لن الحق
سبحانه أراد أن يُخرجه خَلْقا آخرُ {:ثمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ }[المؤمنون.]14 :
كأنه كان خلقا لكنه كان تابعا لمه فيُخرجه ال خَلْقا آخر ُمسْتقلً بذاته ..فتكون الرأس إلى أسفل،
وهي أول ما ينزل من المولود ،وبمجرد نزوله تبدأ عملية التنفس.
ومن هذه اللحظة ينفصل الجنين عن أمه ،وبالتنفس تكون له ذاتية ،فإذا ما تعسّر خروج باقي
جسمه فتكون له فرصة التنفس وهذا من لُطْف ال سبحانه؛ لن الجنين في هذه الحالة ل يختنق
أثناء معالجة باقي جسمه.
أما إذا حدث العكس فكان الرأس إلى أعلى ،ونزل الجنين بقدميْه ،فبمجرد نزول الرّجْليْن ينفصل
عن أمه ،ويحتاج إلى حياة ذاتية ويحتاج إلى تنفس ،فإذا ما تعسّرت الولدة حدث اختناق ،ربما
يؤدي إلى موت الجنين.
العلم َأخْذ قضية من قضايا الكون مجزوم بها وعليها دليل؛ وقوله تعالى:
{ لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا[ } ...النحل.]78 :
ذلك لن وسائل العلم والدراك لم تعمل َبعْد ،فإذا أراد ال له أنْ يعلم يخلق له وسائل العلم ،وهي
الحواس الخمس :السمع والبصر والشّم واللمس والتذوّق ،هذه هي الحواس الظاهرة التي بها
يكتسب النسان العلوم والمعارف ،وبها يُدرِك ما حوله.
وإنْ كان العلم الحديث قد أظهر لنا بعض الحواسّ الخرى ،ففي علم وظائف العضاء يقولون:
إنك إذا حملتَ قطعتين من الحديد مثلً فبأيّ حاسة تُميّز بينهما من حيث الثقل؟
هذه ل تُعرف باللمس أو السمع أو البصر أو التذوّق أو الشّم ..إذن :هناك حاسة جديدة تُميّز الثقَل
هي حاسة العضَل.
سمْك القماش مثل وأنت في محل القمشة،
وكذلك تُوجَد حاسة البَيْن ،التي تتمكن بها من معرفة ُ
حيث تفركُ القماش بين أصابعك ،وتستطيع أن تُميّز بين الرقيق والسّميك.
فالطفل المولود إذن ل يعلم شيئا ،فهذا أمر طبيعي لن وسائل العلم والدراك لديه لم تُؤ ّد مهمتها
َبعْد.
وقوله تعالى:
لفْئِ َدةَ.
سمْ َع وَالَ ْبصَارَ وَا َ
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
{ وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الطفل يفزع من الصوت العالي بعد أيام من ولدته ،ولكن إذا وضعت أصبعك أمام عينيه ل
يطرف؛ لنه لم يَرَ بعد.
ومن السمع والبصر ـ وهما السادة على جميع الحواس ـ تتكون المعلومات التي في الفئدة ،هذا
الترتيب القرآني الوجودي ،وهو الترتيب الطبيعي الذي وافق العلمَ الحديث.
ونلحظ في الية إفراد السمع ،وجمع البصار والفئدة:
لفْئِ َدةَ[ { ...النحل.]78 :
سمْ َع وَالَ ْبصَارَ وَا َ
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
} وَ َ
جمْعا؟
فلماذا لم ي ْأتِ السمع َ
المتحدث هنا هو الحق سبحانه؛ لذلك تأتي اللفاظ دقيقة معجزة ..ولننظر لماذا السمع هنا مفرد؟
فَرٌْق بين السمع وغيره من الحواس ،فحين يوجد صوت في هذا المكان يسمعه الجميع ،فليس في
الذن ما يمنع السمع ،وليس عليها قفل نقفله إذا أردنا ألّ نسمع ،فكأن السمع واحد عند الجميع ،أما
المرئي فمختلف؛ لننا ل ننظر جميعا إلى شيء واحد ..بل المرائي عندنا مختلفة فهذا ينظر
للسقف ،وهذا ينظر للعمدة ..إلى آخره.
إذن :المرائي لدينا مختلفة ..كما أن للعين قفلً طبيعيا يمكن إسْداله على العين فل ترى ،فكأن
البصار لدينا مختلفة متعددة.
جمْعا؛ لنها متعددة مختلفة ،فواحد َيعِي ويُدرك ،وآخر ل يعي
وكذلك الحال في الفئدة ،جاءت َ
ول يدرك ،وقد يعي واحد أكثر من الخر.
إذن :إفراد السمع هنا آيةٌ من آيات الدقة في التعبير القرآني المعجز؛ لن المتكلمَ هو ربّ العزة
سبحانه.
ونلحظ أيضا تقديم السمع على باقي الحواس؛ لنه أول الدراكات ويصاحب النسان منذ أنْ يُولدَ
إلى أنْ يفارق الحياة ،ول يغيب عنه حتى لو كان نائما؛ لن بالسمع يتم الستدعاء من النوم.
وقد قُلْنا في قصة أهل الكهف أنهم ما كان لهم أن يناموا في سُبات عميق ثلثمائة وتسع سنين إل
إذا حجب ال عنهم هذه الحاسة ،فل تزعجهم الصوات .فقال تعالىَ {:فضَرَبْنَا عَلَىا آذَا ِنهِمْ فِي
ا ْل َك ْهفِ سِنِينَ عَدَدا }[الكهف.]11 :
أي :قُلْنا للذن تعطّلي هذه المدة حتى ل تزعجهم أصوات الصحراء ،وتقلق مضاجعهم ،وال
تعالى يريد لهم السّبات والنوم العميق.
وفي قوله تعالى:
سمْعَ[ { ..النحل.]78 :
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
} وَ َ
هل توجد هذه الدراكات بعد الخراج (الميلد) أم هي موجودة قبله؟ ..يجب أنْ نُفرّق بين السمع
وآلته ،فقبل الخراج تتكون للجنين آلت البصر والسمع والتذوّق وغيرها ..لكنها آلت ل تعمل،
فالجنين في بطن أمه تابع لها ،وليست له حياة ذاتية ،فإذا ما نزل إلى الدنيا واستقلّ بحياته يجعل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال له هذه اللت تعمل عملها.
إذن :فمعنى:
سمْعَ[ { ...النحل.]78 :
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
} وَ َ
()1963 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالنظر إلى َكوْن ال الفسيح ،كم فيه من كواكب ونجوم وأجرام .كم هو مليء بالحركة والسكون
والستدارة .ومع ذلك لم يحدث فيه تصادم ،ولم تحدث منه مضرة أبدا في يوم من اليام ..الكون
كله يسير بنظام دقيق وتناسق عجيب؛ ولكي تتجلى لك هذه الحقيقة انظر إلى صَنْعة النسان ،كم
فيها من تصادم وحوادث يروح ضحيتها اللف.
هذا مَثلٌ مُشَاهَد للجميع ،الطير في السماء ..ما الذي يُمسكها أنْ تق َع على الرض؟ وكأن الحق
ل وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ
ت وَالَ ْرضَ أَن تَزُو َ
سمَاوَا ِ
سكُ ال ّ
سبحانه يجب أنْ يُلفتنا إلى قضية اكبر {:إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ
حدٍ مّن َبعْ ِدهِ[} ..فاطر.]41 :
س َك ُهمَا مِنْ أَ َ
َأمْ َ
فعلينا أن نُصدّق هذه القضية ..فنحن ل ندرك بأعيننا جرْم الرض ،ول جرْم الشمس والنجوم
والكواكب ..نحن ل نقرر على معرفة كل مَا في الكون ..إذن :يجب علينا أن نُصدّق قوْل ربنا
ول نجادل فيه.
وإليكم هذا المثل الذي تشاهدونه كل يوم:
س ُكهُنّ ِإلّ اللّهُ[ } ...النحل.]79 :
سمَآءِ مَا ُي ْم ِ
جوّ ال ّ
سخّرَاتٍ فِي َ
{ أََلمْ يَ َروْاْ إِلَىا الطّيْرِ مُ َ
ن تقول إنها َرفْرفة الجنحة ،فنحن نرى الطائر يُثبّت أجنحته في الهواء ،ومع ذلك ل يقع
إياك أ ْ
إلى الرض ،فهناك إذن ما يمسكه من الوقوع؛ لذلك قال تعالى في آية أخرىَ {:أوَلَمْ يَ َروْا إِلَى
ت وَ َيقْبِضْنَ[} ...الملك.]19 :
الطّيْرِ َف ْوقَهُ ْم صَافّا ٍ
أي :أنها في حالة بَسْط الجنحة ،وفي حالة ق ْبضِها تظل مُعلّقة ل تسقط.
وكذلك نجد من الطيور ما له أجنحة طويلة ،لكنه ل يطير مثل الوز وغيره من الطيور.
جوّ السماء..
إذن :ليست المسألة مسألة أجنحة ،بل هي آية من آيات ال تمسك هذا الطير في َ
فتراه حُرا طليقا ل يجذبه شيء إلى الرض ،ول يجذبه شيء إلى السماء ،بل هو حُرّ يرتفع إنْ
أراد الرتفاع ،وينزل إنْ أراد النزول.
فهذه آية مُحسّة لنستدلّ بها على قدرة ال غير المحسّة إل بإخبار ال عنها ،فإذا ما قال سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جانب ،بدليل أنك لو فَرّغتَ جانبا منها من الهواء لنهارتْ فورا نحو هذا الجانب؛ لن للهواء
غتَ جانبا منها َقلّ فيه الضغط فانهارتْ.
ضغطا ،فإذا ما فرّ ْ
فالهواء ـ إذن ـ هو الضابط لهذه المسألة ،وبالهواء يتوازن الطير في السماء ،ويسير كما يهوى،
ويتحرك كما يحب.
ثم يقول تعالى:
ك ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [النحل.]79 :
} إِنّ فِي ذاِل َ
خلْق ،يجب
أي :أن الطير الذي يطير في السماء فيه آيات أي عجائب ،عجائب صَنْعة وعجائب َ
ن تتفكّرُوا فيها وتعتبروا بها.
أْ
ولكي نقف على هذه الية في الطير نرى ما حدث لول إنسان حاول الطيران ..إنه العربي عباس
بن فرناس ،أول مَنْ حاول الطيران في الندلس ،فعمل لنفسه جناحين ،وألقى بنفسه من مكان
مرتفع ..فماذا حدث لول طائر بشرى؟
طار مسافة قصيرة ،ثم هبط على مُؤخرته فكُسرت؛ لنه نسي أن المسألة ليست مجرد الطيران،
فهناك الهبوط الذي نسي الستعداد له ،وفاته أن يعمل له (زِمكّي) ،وهو الذيل الذي يحفظ التوازن
عند الهبوط.
وكذلك الذين يصنعون الطائرات كم تتكلف؟ وكم فيها من أجهزة ومُعدِات قياس وانضباط؟ وبعد
ذلك تحتاج لقائد يقودها أو مُوجّه يُوجّهها ،وحينما أرادوا صناعة الطائرة جعلوها على شكل الطير
في السماء له جناحان ومقدمة وذيل ،ومع ذلك ماذا يحدث لو تعطلّ محركها ..أو اختلّ توازنها؟!
إذن :الطير في السماء آية تستحق النظر والتدبّر؛ لنعل َم منها قدرة الخالق سبحانه.
ويقول تعالى:
} ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [النحل.]79 :
يؤمنون بوجود واجب الوجود ،يؤمنون بحكمته ودقّة صنعه ،وأنها ل مثيلَ لها من صنعة البشر
مهما بلغتْ من الدقة والحكام.
ج َعلَ َلكُمْ مّن.{ ..
ثم يقول الحق سبحانه } :وَاللّهُ َ
()1964 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قوله:
سكَنا[ } ...النحل.]80 :
ج َعلَ َلكُمْ مّن بُيُو ِتكُمْ َ
{ وَاللّهُ َ
كلمة سكن مأخوذة من السكون ،والسكون ضد الحركة ،فالبيت نُسمّيه سكنا؛ لن النسان يلجأ إليه
ليرتاح فيه من حركة الحياة خارج البيت ،إذن :في الخارج حركة ،وفي البيت سكن.
حقّ
والسكن قد يكون ماديا كالبيت وهو سكن القالب ،وقد يكون معنويا ،كما قال تعالى في َ
سكُنُواْ ِإلَ ْيهَا[} ..الروم.]21 :
س ُكمْ أَ ْزوَاجا لّ َت ْ
الزواج {:خََلقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
ن معنويّ لزوجها ،وهذا يُسمّونه سكن القلب.
فالزوجة سكَ ٌ
فإنْ قال قائل:
{ مّن بُيُو ِتكُمْ[ } ...النحل.]80 :
يعني :نحن الذين صنعناها وأقمناها .فكيف جعلها ال لنا؟.
نقول :وأنت كيف صنعتها؟ ومِمَ بنيْتها؟ صنعتَها من غابٍ أو خشب ،أو بنيْتها من طين أو طوب..
كل هذه المواد من مادةَ الرض من عطاء ال لك ،وكذلك العقل الذي يُفكّر ويرسم ،والقوة التي
تبني وتُشيّد كلها من ال.
ن يكون غير مباشر ..فال سبحانه جعل لنا
جعْلً مباشرا ،وإما أ ْ
ج َعلَ َلكُمْ } إما أنْ يكون َ
إذنَ { :
ج ْعلٌ غير مباشر.
جعْل مباشر ،وأعاننا وقوّانا على البناء ..هذا َ
هذه المواد ..هذا َ
لكن في أيّ الماكن تُبنى البيوت؟
البيوت ل تُبنَى إل في أماكن الستقرار ،التي تتوفّر لها مُقوّمات الحياة ..فقبل أن نُنظّم مدينة
سكنية نبحث أولً عن مُقوّمات الستقرار فيها من مأكل ومشرب ومرافق وخدمات ومياه
وصرف ..إلى آخره.
فإن وجدت هذه المقوّمات فل مانعَ من البناء هنا ..فإذا لم توجد المرافق في الصحراء ومناطق
البدو ،هنا ل يناسبها البيوت والبناء الدائم ،بل يناسبها:
ظعْ ِنكُ ْم وَ َيوْمَ ِإقَامَ ِتكُمْ[ } ..النحل .]80 :فنرى
خفّو َنهَا َيوْمَ َ
ج َعلَ َلكُمْ مّن جُلُو ِد الَ ْنعَامِ بُيُوتا َتسْتَ ِ
{ وَ َ
أهل البدو يتخذون من الجلود بُيُوتا مثل الخيمة والفسطاط ..حيث نراهم كثيري التنقّل يبتغون
مواطن الكل والعشب ،ويرحلون طَلبا للمرعى والماء ،وهكذا حياتُهم دائمة التنقّل من مكان
حمْل ،يضعونه أيْنما حَطّوا
لخر ..فيناسبهم بيت من جلد أو من صوف أو من وَبَر خفيف ال َ
ظعْن هو التنقّل من مكان لخر.
رحالهم ،ويرفعونه أينما ساروا ..وال ّ
إذن :كلمة (سكن) تفيد الستقرار ،وتُوفّر كل مُقوّمات الحياة؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول
جكَ الْجَنّةَ[} ..البقرة.]35 :
ت وَ َزوْ ُ
سكُنْ أَ ْن َ
لدم {:ا ْ
أي :المكان الذي فيه راحتكم ،وفي نعيمكم ،فحدّد له مكان إقامة وسكَن..
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومكان القامة هذا قد يكون عَامّا ،وقد يكون خاصا ،مثل لو قُلْت :أسكن السكندرية ..هذا سكَنٌ
عام ،فلو أردتَ السكن الحقيقي الخاص بك َلقُ ْلتَ :أسكن في شارع كذا ،وفي عمارة رقم كذا ،وفي
شقة رقم كذا ،وربما كان لك حجرة خاصة من الشقة هذه.
إذن :هذا سكَنٌ خاص بك ..سكنُك الحقيقي الذي تشعر فيه بالهدوء والراحة والخصوصية ،فالسكن
ي ل يشاركك فيه أحد؛ ولذلك نرى بعض سكان العمارات يشكُون من
يحتاج إلى استقرار ذات ّ
الزعاج والضوضاء ،ويتمنوْنَ أن يعيشوا في بيوت مستقلة تُحقّق لهم الراحة الكافية التي ل
يضايقهم فيها أحد.
إذن :حينما ننظر إلى السكون ..إلى السكن ،نحتاج المكان الضيق الذي يُحقّق لن الخصوصية
التامة التي تصل إلى حجرة ،مجرد حجرة ،ولكنها تعني السكن الحقيقي الخاص بي ،وقد تصل
الخصوصية أنْ نجعلَ لكل ولد من الولد سريرا خاصا به في نفس الحجرة.
فإذا ما نظرنا إلى الحركة في الحياة وجدنا النسان على العكس يطلب السعة؛ لن الحركة تقتضي
السعة في المكان ،فمَنْ كان عنده مزرعة يطلب عزبة ،ومن كان عنده عزبة يتمنى ثانية وثالثة
وهكذا لن حركة الحياة تحتاج مجالً واسعا فسيحا.
هذا عن النوع الول ،وهو السكن المادي سكن القالب ،وهو من أعظم ِنعَم ال على عباده ..أن
يكون لهم سكَن يأوون إليه ،ويرتاحون فيه من عناء وحركة الحياة.
ولذلك حينما أراد الحق سبحانه أن يُعذّب بني إسرائيل ،أشاع سكنهم في الرض كلها ،وحرمهم
سكُنُو ْا الَ ْرضَ} ...
من نعمة السكن الحقيقي الخاص ،فقال تعالىَ {:وقُلْنَا مِن َب ْع ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ
[السراء.]104 :
فالرض هي المكان العام الذي يسكن فيه كل الناس ..فليس لهم بلد تجمعهم ،بل بدّدهم ال في
طعْنَاهُمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما[} ...العراف:
الرض ولم يجعل لهم وطنا ،كما قال في آية أخرىَ {:وقَ ّ
.]168
حتى في البلد التي يعيشون فيها تراهم معزولين عن الناس في أماكن خاصة بهم ل يذوبون في
غيرهم ،وهكذا سكنوا الرض ولم تحدد لهم بلد.
أما النوع الثاني من السكن ،وهو السكن المعنوي أو سكن القلب ،فهو سكن الزوج إلى زوجته
الصالحة التي تُخفّف عنه عناء الحياة وهمومها ،تبتسم في وجهه إنْ كان مسرورا وتُهدّيء من
غضبه إنْ كان ُم ْغضَبا ،تحتويه بما لديها من حُب وحنان وإخلص ..هذا هو السكن المعنوي،
سكن القلب.
وقوله:
شعَارِهَآ أَثَاثا َومَتَاعا إِلَىا حِينٍ { [النحل.]80 :
صوَا ِفهَا وََأوْبَارِهَا وَأَ ْ
} َومِنْ َأ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصواف للغنم ،والوبار للبل ،والشعر للماعز ..فما الفرْق بين هذه الثلث في الستعمال؟
ل من الصوف والوبر؛ لن الشّعيرات فيها دقيقة جدا يمكن َندْفها وغَزْلها
يستعمل الناس ك ً
والنتفاع بها في الفُرش والبسطة واللحفة والملبس وغيرها مما يحتاجه الناس.
أما شعر الماعز فالشعيرات فيه ثخينة ل يمكن َندْفها أو غَزْلها ،فل يمكن النتفاع به في هذه
المنسوجات ،وقوله تعالى:
} أَثَاثا َومَتَاعا إِلَىا حِينٍ { [النحل.]80 :
الثاث :هو ما يوجد في البيت مما تتطلبه حركة الحياة كالبسطة والمفارش والملبس والستائر.
والمتاع :هو ما يُستمتع ويُنتفع به ..والفرْق بينهما أن الثاث قد يكون ثابتا ل يتغير كثيرا ،أما
المتاع فقد يتغير حسب الحاجة.
فأنت مثلً قد تحتاج إلى تغيير التلفاز القديم لتأتي بآخر حديث ،مُلوّن مثلً ،لكن قلّما تُغير الثلجة
أو الغسالة مثلً.
()1965 /
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن أصحاب البيوت الذين يناسبهم الستقرار ،ويجدون مُقوّمات الحياة،
وتكلم عن أهل الترحال والتنقّل وما يناسبهم من بيوت خفيفة يحملونها عند ترحالهم .ثم تحدث هنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عن هؤلء الذين ل يملكون شيئا ،ول حتى جلود النعام ..ماذا يفعل هؤلء؟
الحق سبحانه جعل لهم الظل يستظِلّون به من وهج الشمس ،وجعل لهم من الكهوف والسراديب
في الجبال ما يأوون إليه ويسكنون فيه .وهكذا استوعبتْ اليات جميع الحالت التي يمكن أن
يكون عليها بشر ،فقد نثر الحق سبحانه نعمه على الناس ،بحيث يأخذ كل واحد منهم ما يناسبه من
نعم ال.
أما مَنْ ل يملك بيتا يأويه ،وليس عنده من النعام ما يتخذ من جلودها بيتا ،فقد جعل ال له
الشجار يستظل بها من حَرّ الشمس ،وجعل له كهوف الجبال ُتكِنّه وتأويه.
ونلحظ هنا أن الية ذكرتْ الظل الذي يقينا حَرّ الشمس ،ولم تذكر مثلً البرد؛ ذلك لن القرآن
الكريم نزل بجزيرة العرب وهي بلد حارة ،وحاجتها إلى الظل أكثر من حاجتها إلى الدّفء.
وقوله:
للً[ } ..النحل.]81 :
{ ظِ َ
الظلل جمع ظِل ،وهو الواقي من الشمس ومن إشعاعاتها ،وقد يُوصَف الظل بأنه ظِل ظليل..
أي :الظل نفسه مُظلل ،وهذا ما نراه في صناعة الخيام مَثلً ،حيث يجعلونه لها سقفا من طبقة
جعْل
واحدة تتلقّى حرارة الشمس ،وإنْ حجبت أشعة الشمس فل تحجب الحرارة ،وهنا يلجأون إلى َ
السقف من طبقتين بينهما مسافة لتقليل حرارة الشمس.
وهنا نقول :إن الظلّ نفسه مُظلّل ،وكذلك الحال في ظِل الشجار حيث يظلّل الورق بعضه بعضا،
ظلّ ظليل يحجب عنك ضوء الشمس،
ظلّ الشجار بجوّ لطيف بارد حيث يغطيك ِ
فتشعر تحت ِ
ويسمح بمرور الهواء فل تشعر بالضيق.
سقَاهُ مضاعف الغ ْيثِ ال َعمِيمِ َيصُدّ
لذلك فالشاعر يقول في وصف روضةَ :وقَانَا َلفْحَةَ الر ْمضَا ِء وَادٍ َ
الشمسَ أَنّى وَاجهتْنا فَيحجُبُها وَيأذنُ للنسِيمِوقولهَ { :أكْنَانا[ } ...النحل.]81 :
جمع كِنْ ،وهو الكهف أو المغارة في الجبل تكون سكنا وساترا لمن يلجأ إليها ويحتمي بها ،والكِنّ
من الستر؛ لنها تستر الناس ونحن نقول مثلً للولد :انكنْ يعني :اسكُنْ وانستر.
ويقول تعالى:
سكُمْ[ } ...النحل.]81 :
ج َعلَ َلكُمْ سَرَابِيلَ َتقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ َتقِيكُم بَ ْأ َ
{ وَ َ
السرابيل :هي ما يُلبس من الثياب أو الدروع:
{ َتقِيكُمُ ا ْلحَرّ[ } ...النحل.]81 :
أي :تحميكم من الحر ..فقال هنا الحر أيضا؛ لذلك وجدنا بعض العلماء يحاول أن يجد مخرجا
لهذه الية فقال :المعنى تقيكم الحر وتقيكم البرد ،ففي الية اكتفاءٌ بالحر عن البرد؛ لن الشيء إذا
جاء يأتي مقابله ..فليس بالضرورة ذِكر الحالتين ،فإحداهما تعني الخرى.
هذا دفاع مشكور منهم ،ومعنى مقبول حول هذه الية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.لكن لو فَطنّا إلى باقي اليات التي تحدثتْ في هذا الموضوع لوجدناها :واحدة تتكلم عن الحر،
وهي هذه الية ،وأخرى تتكلّم عن البرد في قوله تعالى {:وَالَنْعَامَ خََل َقهَا َلكُمْ فِيهَا ِدفْءٌ} ...
[النحل.]5 :
أي :من جلود النعام وأصوافها نتخذ ما يقينا البرد ،وما نستدفئ به ..وهكذا تتكامل اليات
وينسجم المعنى.
والمتأمل في تدفئة النسان يجد أن ما يرتديه من ملبوسات ل يعطي للنسان حرارة تُدفِئه ،بل
تحفظ للنسان حرارة جسمه فقط ،فحرارة النسان ذاتية من داخله ،وبهذه الحرارة يحفظ الخالق
سبحانه النسان.
والطباء يقولون :إن الجسم السليم حرارته 37درجة ل تختلف إنْ عاش عند خط الستواء أو
عاش في بلد السكيمو في القطب الشمالي ،فهذه هي الحرارة العامة للجسم.
في حين أن أجهزة الجسم المختلفة ربما اختلفتْ درجة حرارتهاُ ،كلّ حَسب ما يناسبه :فالكبد مثلً
درجة حرارته 40درجة ،وتختلّ وظيفته إذا نقصت عن هذه الدرجة ،في حين أن درجة حرارة
جفْن العين مثلً 9درجة ،ولو ارتفعت درجة حرارتها تذوب حبّة العين ،ويفقد النسان البصر..
َ
فسبحان ال الذي حفظ حرارة هذه العضاء في الجسم ل يطغى أحدها على الخر.
لذلك حينما سافرنا إلى أمريكا ،وفي إحدى مناطق البرودة الشديدة كانت أول نصائحهم لنا ألّ
نمسك آذاننا بأيدينا ..لماذا؟ قالوا :لن درجة حرارة اليد أقلّ من درجة حرارة الذن ،و َوضْع اليد
الباردة على الذن قد تُسبّب كثيرا من الضرار.
إذن :كل ما نستخدمه من ملبس وأعطية تقينا برد الشتاء ل تعطينا حرارة ،بل تحفظ علينا
حرارتنا الطبيعية فل تتسرب ،وبذلك تتم التدفئة ..وتستطيع أنْ تضعَ يدك على فراشك قبل أن تنام
فسوف تجده باردا ،أما في الصباح فتجده دافئا ..فالفراش اكتسب الحرارة من حرارة جسمك،
وليس العكس.
وقوله:
س ُكمْ[ { ...النحل.]81 :
} وَسَرَابِيلَ َتقِيكُم بَأْ َ
البأس هنا :أي الحرب ،والسرابيل التي تقي من البأس هي الدروع التي يلبسها الجنود في الحرب
لتقيهم الضربات.
ولكن هذه الية في سياق الحديث عن بعض ِنعَم ال علينا في الستقرار والسكن وما جعله لنا من
بيوت وظلل ..حياة دَعَة وسلم ونعمة ،فما الداعي لذكر الحرب هنا؟
ذلك لن الحياة لها منطق سلمة للجميع ،فإن اختلّ منطق السلمة فعلى الناس أنْ يقفوا في وجه
خلّ بسلمة المجتمع ..وأن يكون على استعداد لذلك في كل وقت ،ل بُدّ في وقت السّلْم أنْ
مَنْ يُ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َنعُدّ ال ُعدّة للحرب؛ لذلك تحدث عن الحرب وعُدتها ،وهو يتحدث عن السكون والستقرار والنعمة.
والحق سبحانه وتعالى حين يُنزِل اليات البينات التي تحمل لنا منهج السماء يقولَ {:لقَدْ أَرْسَلْنَا
سطِ[} ...الحديد.]25 :
ب وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِ ْ
ت وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَا َ
رُسُلَنَا بِالْبَيّنَا ِ
هذا هو المنهج الذي يعتمد على الحجة والقناع ..فإن لم يصلح هذا المنهج لبعض الناس وتمردوا
عليه أتى إذن دور القوة والقهر ،يقول تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكْمه لحكمته ،فتقول :أنا رضيتُ بحكمك يا رب.
ُ
حمْد الرّضا بحكمك لليقين
ل قضائك ،وجميع قَدرِك َ
ولذلك نقول في الدعاء :أحمدك على ُك ّ
بحكمتك.
أي :لك حكمة يارب فيما أجريتَ عليّ من أحداث ،ولكني ل أراها.
والذي يعلم مكانة التسليم ل تعالى فيما يُجرى عليه من أحداث وما يقع به من بلء ل يضجر ول
يسخط؛ لنه بذلك يُطيل على نفسه أمدَ القضاء؛ لن ال ل يرفع قضاءه عن عبده حتى يرضى به،
فال تعالى ل مُجبر له.
فإن أردت َرفْع القضاء فا ْرضَ به أولً ،وإذا لم يرفع عنك القضاء فاعلم أن مكان الرضى من
ن مقبولً ،قد ترضى بلسانك ولكن قلبك ل يزال ساخطا ضَجِرا.
نفسك لم يكُ ْ
فالذي يُسلم زَمامه إلى ال ويردّ كل حدث وقع أو بلء نزل بهِ يردّه إلى ال ،وإلى حكمة مُجريه،
ال تعالى يقول له :لقد فهمتَ عني ،ويرفع عنه البلء.
وفي مقام التسليم ل دائما نذكر قصة سيدنا إبراهيم حينما أمره ربه بذبح ولده إسماعيل ـ عليهما
السلم ..وهل هناك بلء أكثر من أن يُبتلَى الرجل بذبح ولده الذي رُزِقه على كِبَر ،ويذبحه هو
بيده.
إنه ابتلء من مراتب مُتعدّدة ،ومن نَواحٍ مختلفة ،ول ْيتَ المر بوحي ظاهر ،ولكنه بمنام كان
يستطيع أن يتأوّل فيه ،ولكن رؤيا النبياء حق.
ونرى إبراهيم ـ عليه السلم ـ يقصّ على ولده المسألة حِرْصا عليه أنْ يتحوّل قلبه عن أبيه
ساعةَ يأخذه ليذبحه ،وأيضا لكي يشاركه ولده في الرضا بقدر ال ،ول يحرم ثواب هذا البتلء..
حكَ[} ...الصافات.]102 :
فقال له {:إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي أَذْ َب ُ
فليس الغرض هنا أنْ يزعجه أو يُخيفه ،ولكن ليقول له :هذه مسألة تعبدية أمرنا بها الخالق سبحانه
ليكون على بصيرة هو أيضا ،ول يتغير قلبه على أبيه.
ولذلك كان الولد حكيما في الرد ،فقال {:قَالَ ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ[} ..الصافات.]102 :
ما دام المر من ال فافعل ،وهكذا سلّم إسماعيلُ كما سلّم إبراهيم ،فقال تعالى {:فََلمّا أَسَْلمَا وَتَلّهُ
لِلْجَبِينِ }[الصافات.]103 :
أسلما :أي الب والبن ،ورَضيا بقضاء ال ،جاء الفرج و ُرفِع القضاء ،فقد فهم كل منهما المر
عن ال ،فلم يرفع القضاء وفقط ،بل وفديناه بذبح عظيم ،ليس هذا وفقط ،بل ومنّنا عليه بولد
آخر {:وَبَشّرْنَاهُ بِِإسْحَاقَ }[الصافات.]112 :
إذن :لعلكم تُسْلِمون زمامكم إلى ال ،وتعلمون أنه خلق لكم الكون قبل أن يُوجِدكم فيه ،وأمدّكم بكل
متطلبات الحياة ضمانا لبقاء حياتكم ،وضمانا لبقاء نوعكم ،ومتّعكم هذه المتع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالذي أنعم عليكم بهذا كله عن غير حاجة له عندكم جديرٌ أنْ تُسلِموا له زمام أمركم وتُسلموا له.
ثم يقول الحق سبحانه } :فَإِن َتوَلّوْاْ.{ ...
()1966 /
أي :ل تحزن يا محمد إذا أعرض قومك ،فلست مأمورا إل بالبلغ ،ويخاطبه الحق سبحانه في
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُمؤْمِنِينَ }[الشعراء.]3 :
آية أخرىَ {:لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ضعِينَ }
سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ
أي :مهلكها .وقال تعالى {:إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْي ِهمْ مّنَ ال ّ
[الشعراء.]4 :
لكن الدين ل يقوم على السيطرة على القالب ،وفَرْق بين السيطرة على القالب والسيطرة على
القلب ،فيمكنك بمسدس في يدك أنْ تُرغمني على ما تريد ،لكنك ل تستطيع أبدا أن تُرغم قلبي
على شيء ل يؤمن به ،وال يريد مِنّا القلوب ل القوالب ،ولو أراد مِنّا القوالب لجعلها راغمة
خاضعة ل يشذّ منها واحد عن مراده سبحانه.
ولذلك حينما أرسل ال سليمان ـ عليه السلم ـ وجعله ملكا رسولً لم يقدر أحد أن يقف في
وجهه ،أو يعارضه لما له من السلطان والقوة إلى جانب الرسالة ..أمّا المر في دعوته صلى ال
عليه وسلم فقائم على البلغ فقط دون إجبار.
لغُ ا ْلمُبِينُ } [النحل.]82 :
وقوله { :الْبَ َ
أي :البلغ التام الكامل الذي يشمل كل جزئيات الحياة وحركاتها ،فقد جاء المنهج اللهي شاملً
للحياة بداية بقول :ل إله إل ال حتى إماطة الذى عن الطريق ،فلم يترك شيئا إل حدّثنا فيه ،فهذا
بلغ مبين محيط لمصالح الناس ..فل يأتي الن مَنْ يتمحّك ويقول :ربنا ترك كذا أو كذا ..فمنهج
ال كامل ،فلو لم تأخذوه دينا لوجب عليكم أن تأخذوه نظاما.
ل في
ونرى الن المم التي تُعادي السلم تتعرّض لمشاكل في حركة الحياة ل يجدون لها حَ ّ
حلّ القرآن ومنهج الحق سبحانه
قوانينهم ،فيضطرون لحلول أخرى تتوافق تماما أو قريبا من َ
وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :يعْ ِرفُونَ ِن ْع َمتَ اللّهِ.} ..
()1967 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َيعْ ِرفُونَ ِن ْعمَةَ اللّهِ ُثمّ يُ ْنكِرُو َنهَا وََأكْثَرُ ُهمُ ا ْلكَافِرُونَ ()83
وقد حكى القرآن عنهم في آيات أخرى {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ }
[الزخرف.]87 :
سهُمْ[} ...النمل.]14 :
جحَدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
وقال عنهم {:وَ َ
ذلك لنهم يعلمون تماما أن ال خلقهم ،وأنه خلق السماوات والرض ..يعلمون كل ِنعَم ال عليهم،
ومع ذلك يُنكرونها ويجحدونها ..لماذا؟
لن اليمان بال والعتراف بنعمه مسألة شاقة عليهم ،ولو كانت مجرد كلمة تُقال لقالوها ..ما
ن يقولوا " ل إله إل ال " لكنهم يعلمون أن :ل إله إل ال لها مطلوبات ،فما دام ل إله إل
أسهل أ ْ
حلّ إل ال ،ول يُحرّم إل ال.
ال ،فل يُشرّع إل ال ،ول يأمر إل ال ،ول يَنْهى إل ال ،ول ُي ِ
إذن :مطلوبات ل إله إل ال جعلتهم في قالب من حديد ،منضبطين بمنهج يهدم سيادتهم ،ويمنع
الطغيان والجبروت ،منهج يُسوّي بين السادة والعبيد.
إذن :الدين الحق يُقيّد حركتهم ،وهم ل يريدون ذلك ،فتراهم يعرفون ال ول يؤمنون به؛ لنهم
يعلمون مطلوبات ل إله إل ال محمد رسول ال ،وإل لو كانت مجرد كلمة لقالوها.
وقوله:
{ وََأكْثَرُ ُهمُ ا ْلكَافِرُونَ } [النحل.]83 :
بعض العلماء يقولون :أكثرهم يعني كلهم ..ل ..بل هذا أسلوب قرآني لصيانة الحتمال وللحتياط
للقلة التي تفكر في السلم ويراودها أمر هذا الدين الجديد من هؤلء الكفار ،ل بُدّ أنْ نُراعي أمر
هذه القلة ،ونترك لهم الباب مفتوحا ،فالحتمال هنا قائم..
فلو قال القرآن :كلهم كافرون لتعارض ذلك مع هؤلء الذين يفكرون في أنْ يُسلِموا ..وكذلك
حدّ التكليف من أبناء الكفار.
مراعاة لهؤلء الذين لم يبلُغوا َ
إذن :قوله { وََأكْثَرُهُمُ } تعبير دقيق ،فيه ما نُسميّه صيانة الحتمال.
ثم يقول تعالى { :وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ.} ..
()1968 /
شهِيدًا ُثمّ لَا ُيؤْذَنُ لِلّذِينَ َكفَرُوا وَلَا ُهمْ يُسْ َتعْتَبُونَ ()84
وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َ
الحق تبارك وتعالى يُنبّهنا هنا إلى أن المسألة ليست دينا ،وتنتهي القضية آمن مَنْ آمن ،وكفر مَنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كفر ..إنما ينتظرنا بعث وحساب وثواب وعقاب ..مرجع إلى ال تعالى ووقوف بين يديه ،فإنْ لم
تذكر ال بما أنعم عليك سابقا فاحتط للقائك به لحقا.
والشهيد :هو نبيّ المة الذي يشهد عليهم بما بلّغهم من منهج ال.
شهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَ َيكُونَ الرّسُولُ
جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطا لّ َتكُونُواْ ُ
وقال تعالى في آية أخرىَ {:وكَذَِلكَ َ
شهِيدا[} ...البقرة.]143 :
عَلَ ْيكُمْ َ
فكأن أمة محمد صلى ال عليه وسلم أعطاها ال أمانة الشهادة على الخَلْق لنها بلغتهم ،فكل مَنْ
آمن برسول ال صلى ال عليه وسلم مطلوب منه أن يُبلّغ ما بلّغه الرسول ،ليكون شاهدا على مَنْ
بلغه أنه بلّغه:
{ ُث ّم لَ ُيؤْذَنُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ[ } ..النحل.]84 :
فحينما يشهد عليهم الشهيد ل ُيؤْذَن لهم في العتذار ،كما قال تعالى في آية أخرىَ {:ولَ ُيؤْذَنُ َلهُمْ
فَ َيعْتَذِرُونَ }[المرسلت.]36 :
ل صَالِحا فِيمَا تَ َر ْكتُ[} ..المؤمنون.]100-99 :
ع َم ُ
جعُونِ * َلعَلّي أَ ْ
أو حينما يقول أحدهمَ {:ربّ ا ْر ِ
فل يُجَاب لذلك؛ لنه لو عاد إلى الدنيا لفعل كما كان يفعل من قبل ،فيقول تعالى {:وََلوْ ُردّواْ
َلعَادُواْ ِلمَا ُنهُواْ عَنْهُ[} ...النعام.]28 :
وقوله:
{ َولَ هُمْ يُسْ َتعْتَبُونَ[ } ..النحل.]84 :
يستعتبون :مادة استعتب من العتاب ،والعتاب مأخوذ من العَتْب ،وأصله الغضب والموجدة تجدها
على شخص آخر صدر منه نحوك ما لم يكن مُتوقّعا منه ..فتجد في نفسك موجدة وغضبا على
مَنْ أساء إليك.
فإن استقرّ العَتْب الذي هو الغضب والموجدة في النفس ،فأنت إمّا أنْ تعتب على مَنْ أساء إليك
وتُوضّح له ما أغضبك ،فربما كان له عُذْر ،أو أساء عن غير قصد منه ،فإن أوضح لك المسألة
وأرضاك وأذهب غضبك فقد أعتبك ..فنقول :عتَب فلن على فلن فأعتبه ،أي :أزال عَتْبه.
والنسان ل يُعاتب إل عزيزا عليه يحرص على علقته به ،ويضعه موضعا ل تتأتى منه الساءة،
ومن حقه عليك أن تعاتبه ول تدعْ هذه الساءة تهدم ما بينكما.
إذن :معنى:
{ َولَ هُمْ يُسْ َتعْتَبُونَ } [النحل.]84 :
أي :ل يطلب أحد منهم أنْ يرجعوا عما أوجب العَتْب وهو كفرهم ..فلم َيعُد هناك وقت لعتاب؛
لن الخرة دار حساب ،وليست دار عمل أو توبة ..لم َتعُدْ دا َر تكليف.
ويقول الحق تبارك وتعالى { :وَإِذَا رَأى الّذِينَ ظََلمُواْ.} ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1969 /
()1970 /
وَإِذَا رَأَى الّذِينَ أَشْ َركُوا شُ َركَاءَهُمْ قَالُوا رَبّنَا َهؤُلَاءِ شُ َركَاؤُنَا الّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُو ِنكَ فَأَ ْل َقوْا إِلَ ْيهِمُ
ا ْل َقوْلَ إِ ّنكُمْ َلكَاذِبُونَ ()86
ذلك حينما يجمع ال المشركين وشركاءهم من شياطين النس والجن والصنام ،وكل مَنْ أشركوه
مع ال وَجْها لوجه يوم القيامة ،وتكون بينهما هذه الواجهة ..حينما يرى المشركون شركاءهم
الذين أضلّوهم وزيّنوا لهم المعصية ،وزيّنوا لهم الشرك والكفر بال ..يقولون :هؤلء هم سببُ
ضللنا وكُفْرنا ..كما قال تعالى عنهم في آية أخرى {:إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُو ْا وَرََأوُاْ
ط َعتْ ِب ِه ُم الَسْبَابُ }[البقرة.]166 :
ب وَ َتقَ ّ
ا ْلعَذَا َ
ضعِفُواْ لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ َلوْلَ أَنتُمْ َلكُنّا ُم ْؤمِنِينَ }[سبأ.]31 :
ويقول تعالىَ {:يقُولُ الّذِينَ اسْ ُت ْ
وقوله:
{ فَأ ْل َقوْا إِلَ ْيهِمُ ا ْل َق ْولَ[ } ...النحل.]86 :
أي :ردّوا عليهم بالمثل ،وناقشوهم بالحجة ،كما قال تعالى في حَقّ الشيطانَ {.ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْي ُكمْ
خ ُك ْم َومَآ أَنتُمْ
سكُمْ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ
مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
خيّ[} ..إبراهيم.]22 :
ِب ُمصْرِ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :ردّوا عليهم القول :ما كان عليكم سلطان .نحن دعوناكم فاستجبتم لنا ،ولم يكن لنا قوة
تُرغمكم على الفعل ،ول حُجّة تُقنعكم بالكفر؛ ولذلك يتهمونهم بالكذب:
{ إِ ّن ُكمْ َلكَاذِبُونَ } [النحل.]86 :
أي :كاذبون في هذه الدعوى.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَأَ ْل َقوْاْ إِلَىا اللّهِ.} ...
()1971 /
وَأَ ْلقَوْا إِلَى اللّهِ َي ْومَئِذٍ السَّل َم َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ ()87
السّلَم :أي الستسلم ..فقد انتهى وقت الختيار ومضى زمن المهْلة ،تعمل أو ل تعمل .إنما الن{
ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ }؟ المر والملك ل ،وما داموا لم يُسلّموا طواعية واختيارا ،فَلْيُسلّموا له َقهْرا
ورَغْما عن أنوفهم.
وهنا تتضح لنا مَيْزة من مَيْزات اليمان ،فقد جعلني استسلم ل عز وجل مختارا ،بدل أنْ استسلمَ
َقهْرا يوم أنْ تتكشّف الحقيقة على أنه ل إله إل ال ،وسوف يُواجهني سبحانه وتعالى في يوم ل
اختيار لي فيه.
وقوله:
ضلّ عَ ْنهُم مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [النحل.]87 :
{ َو َ
كلمة :الضلل تردُ بمعانٍ متعددة ،منها :ضلّ أي غاب عنهم شفعاؤهم ،فأخذوا يبحثون عنهم فلَم
يجدوهم ،ومن هذا المعنى قوله تعالىَ {:أإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ[} ..السجدة:
.]10
أي :يغيبوا في الرض ،حيث تأكل الرض ذرّاتهم ،وتُغيّبهم في بطنها ..وكذلك نقول :الضالة أي
الدابة التي ضّلتْ أي :غابتْ عن صاحبها.
حدَا ُهمَا الُخْرَىا} ..
ضلّ ِإحْدَا ُهمَا فَ ُت َذكّرَ إِ ْ
ومن معاني الضلل :النسيان ،ومنه قوله تعالى {:أَن َت ِ
[البقرة.]282 :
ك ضَآلّ َفهَدَىا }[الضحى.]7 :
ومن معانيه :التردد ،كما في قوله تعالىَ {:ووَجَ َد َ
فلم يكُنْ لرسول ال صلى ال عليه وسلم منهج ثم تركه وانصرف عنه وفارقه ،ثم هداه ال ..بل
كان صلى ال عليه وسلم مُتحيّرا مُتردّدا فيما عليه سادة القوم وأهل العقول الراجحة من أفعال
تتنافى مع العقل السليم والفطرة النّيرة ،فكانت حيرة الرسول صلى ال عليه وسلم فيما يراه من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أفعال هؤلء وهو ل يعرف حقيقتها.
فقوله:
ضلّ عَ ْنهُم[ } ..النحل.]87 :
{ َو َ
أي :غاب عنهم:
{ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [النحل.]87 :
أي :يكذبون من ادعائهم آلهة وشفعاءَ من دون ال.
ثم يقول الحق سبحانه { :الّذِينَ َكفَرُواْ.} ..
()1972 /
الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَا ُهمْ عَذَابًا َف ْوقَ ا ْلعَذَابِ ِبمَا كَانُوا ُيفْسِدُونَ ()88
هنا فرْق بين الكفر والصّدّ عن سبيل ال ،فالكفر ذنب ذاتيّ يتعلق بالنسان نفسه ،ل يتعدّاه إلى
غيره ..فَاكفُرْ كما شئت والعياذ بال ـ أنت حر!!
أما الصدّ عن سبيل ال فذنبٌ مُتعدّ ،يتعدّى النسان إلى غيره ،حيث يدعو غيره إلى الكفر،
ويحمله عليه ويُزيّنه له ..فالذنب هنا مضاعف ،ذنب لكفره في ذاته ،وذنب لصدّه غيره عن
حمِلُنّ أَ ْثقَاَلهُ ْم وَأَ ْثقَالً مّعَ أَ ْثقَاِلهِمْ[} ..العنكبوت.]13 :
اليمان ،لذلك يقول تعالى في آية أخرى {:وَلَيَ ْ
فإنْ قال قائل :كيف وقد قال تعالى {:وَلَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَىا[} ..النعام.]164 :
نقول :ل تعارضَ بين اليتين ،فكل واحد سيحمل وزْره ،فالذي صَدّ عن سبيل ال يحمل وِزْرَيْن،
أما مَنْ صدّه عن سبيل ال فيحمل وِزْر كفره هو.
وقوله:
{ ِزدْنَاهُمْ عَذَابا َفوْقَ ا ْلعَذَابِ[ } ..النحل.]88 :
العذاب الول على كفرهم ،وزِدْناهم عذابا على كفر غيرهم ِممّنْ صدّوهم عن سبيل ال.
ن عمل بها إلى
ولذلك فالنبي صلى ال عليه وسلم يقول " :مَنْ سَنّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر مَ ْ
يوم القيامة ،ومَنْ سَنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة ".
فإياك أنْ تقعَ عليك عيْن المجتمع أو أُذنه وأنت في حال مخالفة لمنهج ال؛ لن هذه المخالفة
ستؤثر في الخرين ،وستكون سببا في مخالفة أخرى بل مخالفات ،وسوف تحمل أنتَ قِسْطا من
هذا ..فأنت مسكين تحمل سيئاتك وسيئات الخرين.
وقوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ ِبمَا كَانُواْ ُيفْسِدُونَ } [النحل.]88 :
والفساد :أنْ تعمدَ إلى شيء صالح أو قريب من الصلح فتُفسده ،ولو تركتَه وشأنه لربما يهتدي
إلى منهج ال ..إذن :أنت أفسدتَ الصالح ومنعت القابل للصلح أن يُصلح.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى { :وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ فِي.} ...
()1973 /
قوله:
سهِمْ[ } ..النحل.]89 :
{ مّنْ أَ ْنفُ ِ
يعني من جنسهم .والمراد :أهل الدعوة إلى ال من الدّعَاة والوعاظ والئمة الذين بلّغوا الناس
ن قصّر في منهج ال.
منهج ال ،هؤلء سوف يشهدون أمام ال سبحانه على مَ ْ
وقد يكون معنى:
سهِمْ[ } ..النحل.]89 :
{ مّنْ أَ ْنفُ ِ
ش َهدُ عَلَ ْيهِمْ َألْسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِي ِهمْ
أي :جزء من أجزائهم وعضوا من أعضائهم ،كما قال تعالىَ {:يوْمَ تَ ْ
وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النور.]24 :
شهِدتّمْ عَلَيْنَا[} ...فصلت.]21 :
وقولهَ {:وقَالُواْ لِجُلُودِ ِهمْ ِلمَ َ
والشهيد إذا كان من ذات النسان وبعض من أبعاضه فل شكّ أن حجته قوية وبيّنته واضحة.
وقوله:
علَىا هَـاؤُلءِ } [النحل.]89 :
شهِيدا َ
{ وَجِئْنَا ِبكَ َ
أي :شهيدا على أمتك كأنه صلى ال عليه وسلم شهيد على الشهداء.
شيْءٍ[ } ..النحل.]89 :
{ وَنَزّلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ تِبْيَانا ّل ُكلّ َ
الكتاب :القرآن الكريم ..تبيانا :أي بيانا تاما لكل ما يحتاجه النسان ،وكلمة (شيء) تُسمّى جنس
الجناس .أي :كل ما يُسمّى " شيء " فبيانُه في كتاب ال تعالى.
حكْما مُعيّنا؟
فإنْ قال قائل :إنْ كان المر كذلك ،فلماذا نطلب من العلماء أن يجتهدوا لِيُخرجوا لنا ُ
نقول :القرآن جاء معجزة ،وجاء منهجا في الصول ،وقد أعطى الحق تبارك وتعالى لرسوله
صلى ال عليه وسلم حق التشريع ،فقال تعالىَ {:ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ َفخُذُو ُه َومَا َنهَاكُمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ..
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
}[الحشر.]7 :
إذن :فسُنة الرسول صلى ال عليه وسلم َق ْولً أو ِفعْلً أو تقريرا ثابتة بالكتاب ،وهي شارحة له
ومُوضّحة ،فصلة المغرب مثلً ثلث ركعات ،فأين هذا في كتاب ال؟ نقول في قوله تعالىَ {:ومَآ
آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ[} ...الحشر " .]7 :وقد بيّن الرسول صلى ال عليه وسلم هذه القضية حينما
أرسل معاذ بن جبل رضي ال عنه ـ قاضيا لهل اليمن ،وأراد أن يستوثق من إمكانياته في
القضاء .فسألهِ " :ب َم تقضي؟ قال :بكتاب ال ،قال :فإنْ لم تجد؟ قال :فبُسنة رسول ال ،قال :فإنْ
لم تجد؟ قال :أجتهد رأيي ول آلو ـ أي ل أُقصّر في الجتهاد.
فقال صلى ال عليه وسلم " :الحمد ل الذي وفّق رسولَ رسولِ ال لما يُرضي ال ورسوله ".
إذن :فالجتهاد مأخوذ من كتاب ال ،وكل ما يستجد أمامنا من قضايا ل نصّ فيها ،ل في الكتاب
ول في السنة ،فقد أبيح لنا الجتهادُ فيها.
حدّث عنه وهو في باريس أن أحد المستشرقين
ونذكر هنا أن المام محمد عبده ـ رحمه ال ـ ُ
شيْءٍ[} ..النعام.]38 :
قال له :أليس في آيات القرآن {:مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
قال :بلى ،قال له :فهات لي من القرآن :كم رغيفا يوجد في أردب القمح؟
فقال الشيخ :نسأل الخباز فعنده إجابة هذا السؤال ..فقال المستشرق :أريد الجواب من القرآن الذي
ما فرط في شيء ،فقال الشيخ :هذا القرآن هو الذي علّمنا فيما ل نعلم أن نسأل أهل الذكر فقال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن يعلمها ،فهو ينتفع بها سواء علمها أو جهلها ،فكوْنُ الرض كُروية الشكل ،و َكوْنها
النسان بها بأ ْ
ن علمها فبها ونعمتْ ،وإنْ جهلها ل يمنعه
تدور حول الشمس ،وغير هذه المور من الكونيات إ ْ
جهله من النتفاع بها.
فالُميّ الذي يعيش في الريف مثلً ينتفع بالكهرباء ،وهو ل يعلم شيئا عن طبيعتها وكيفية عملها،
ومع ذلك ينتفع بها ،مجرد أن يضع أصبعه على زِرّ الكهرباء تُضيء له.
صدّ العرب الذين ل يعرفون
فلو أن الحق تبارك وتعالى أبان اليات الكونية إبانةً واضحة ربما َ
شيئا عن حركة الكون ،وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مقاصد القرآن حول اليات الكونية؛
ولذلك سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الهِلّة ،كما حكى القرآن الكريم {:يَسْأَلُو َنكَ عَنِ
الَهِلّةِ[} ..البقرة.]189 :
والهلة :جمع هلل ،وهو ما يظهر من القمر في بداية الشهر حيث يبدو مثل قلمة الظفر ،ثم
يزداد تدريجيا إلى أنْ يصل إلى مرحلة البدر عند تمام استدارته ،ثم يتناقص تدريجيا أيضا إلى أنْ
يعودَ إلى ما كان عليه ،هذه عجيبة يرونها بأعينهم ،ويسألون عنها.
ولكن ،كيف رَدّ عليهم القرآن؟ لم يُوضح لهم القرآن الكريم كيف يحدث الهلل ،وأن الرض إذا
حالتْ بين الشمس والقمر وحجبت عنه ضوء الشمس نتج عن ذلك وجود الهلل ومراحله
المختلفة.
فهذا التفصيل ل تستوعبه عقولهم ،وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مثل هذه القضايا الكونية؛
لذلك يقول لهم :اصرفوا نظركم عن هذه ،وانظروا إلى حكمة الخالق سبحانه في الهلة:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلى ال عليه وسلم قال " :أنتم أعلم بشئون دنياكم ".
فهذا أمر دنيوي خاضع للتجربة ووليد َبحْث معمليّ ،وليس من مهمة الرسول صلى ال عليه وسلم
توضيح هذه المور التي يتفق فيها الناس وتتفق فيها الهواء ،إنما الحكام التكليفية التي تختلف
فيها الهواء فحسمها الحق بالحكم.
فمثلً في العالم موجاتٌ مادية تهتم بالكتشافات والختراعات والستنباطات التي تُسخر أسرار
الكون لخدمة النسان ،فهل يختلف الناس حول ُمعْطيات هذه الموجة المادية؟ هل نقول مثلً :هذه
كهرباء أمريكاني ،وهذه كهرباء روسي؟ هل نقول :هذه كيمياء إنجليزي ،وهذه كيمياء ألماني؟
فهذه مسألة وليدة المعمل والتجربة يتفق فيها كل الناس ،في حين نجدهم يختلفون في أشياء نظرية
ويتحاربون من أجلها ،فهذه اشتراكية ،وهذه رأسمالية ،وهذه وجودية ،وتلك علمانية ..الخ ،فجاء
الدين ليحسمَ ما تختلف فيه الهواء.
ق ما توصّل إليه المعسكر الخر من اكتشافات واختراعات،
لذلك نرى كل معسكر يحاول أنْ يسر َ
ويرسل جواسيسه ليتابعوا أحداث ما توصّل إليه غيرهم ،فهل يسرقون المور النظرية أيضا؟ ل..
بل على العكس تجدهم يضعون الحواجز والحتياطات لكي ل تنتقل هذه المبادئ إلى بلدهم وإلى
أفكار مواطنيهم.
وقد جعل الرسول صلى ال عليه وسلم من نفسه مثالً ونموذجا لتوضيح هذه المسألة ،مع أنه قد
حقّ رسول ال أن يُشير على الناس بشيء ويتضح خطأ مشورته ،إنما
يقول قائل :ل يصح في َ
الرسول هنا يريد أنْ يُؤصّل قاعدة في نفوس المتكلمين في شئون الدين :إياكم أنْ تُقحِموا أنفسكم
في المور المادية المعملية التطبيقية ،فهذه أمور يستوي فيها المؤمن والكافر.
ولذلك عندما اكتشف العلماء كُروية الرض ،وأنها تدور حول الشمس اعترض على ذلك بعض
رجال الدين ووضعوا أنوفهم في قضية ل دَخْل للدين فيها ،وقد حذرهم رسول ال صلى ال عليه
وسلم من ذلك.
وما قولكم بعد أن صعد العلماء إلى كواكب أخرى ،وصوروا الرض ،وجاءت صورتها كُروية
فعلً؟ فل تفتحوا على أنفسكم باسم الدين بابا ل تستطيعون غَلْقه.
وقوله تعالى:
سِلمِينَ { [النحل.]89 :
حمَ ًة وَبُشْرَىا لِ ْلمُ ْ
} وَ ُهدًى وَرَ ْ
الحق تبارك وتعالى وصف القرآن هنا بأنه (هُدىً) ،فإذا كان القرآن قد نزل تبيانا فكان التوافق
يقتضي أن يقول :وهاديا ،لكن لم يَصف القرآن بأنه هادٍ ،بل هُدىً ،وكأنه نفس الهدى؛ لن هاديا
ذاتٌ ثبت لها الهداية ،إنما هُدى :يعني هو جوهر الهدى ،كما نقول :فلن عادل .وفي المبالغة
نقول :فلن عَدْل .كأن العَدْل مجسّم فيه ،وليس مجرد واحد ثبتت له صفة العدل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك مثل قولنا عالم وعليم ،وقد قال تعالىَ {:و َفوْقَ ُكلّ ذِي عِ ْلمٍ عَلِيمٌ }[يوسف.]76 :
فما معنى الهدى؟ هو الدللة على الطريق الموصّل للغاية من أقرب الطرق.
حمَةٌ }[السراء.]82 :
شفَآ ٌء وَرَ ْ
ح َمةً { مرّة يُوصَف القرآن بأنه رحمة ،ومرة بأنهِ {:
} وَرَ ْ
والشفاء :أن يُوجد داء يعالجه القرآن ،والرحمة :هي الوقاية التي تمنع وجود الداء ،وما دام القرآن
كذلك فمَنْ عمل بمنهجه فقد ُبشّر بالثواب العظيم من ال تعالى ،الثواب الخالد في نعيم دائم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى } :إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ.{ ...
()1974 /
ظكُمْ َلعَّلكُمْ
حشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَ ِر وَالْ َب ْغيِ َي ِع ُ
ن وَإِيتَاءِ ذِي ا ْلقُرْبَى وَيَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَ ْ
حسَا ِ
ل وَالْإِ ْ
إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْد ِ
تَ َذكّرُونَ ()90
للحق تبارك وتعالى في هذه الية ثلثة أوامر :العدل ،والحسان ،وإيتاء ذي القُرْبى .وثلثة نَواهٍ:
عن الفحشاء والمنكر والبغي .ولما نزلت هذه الية قال ابن مسعود :أجمعُ آيات القرآن للخير هذه
الية لنها جمعتْ كل الفضائل التي يمكن أن تكون في القرآن الكريم.
" ولذلك سيدنا عثمان بن مظعون كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحب له أن يُسلِم ،وكان
يعرض عليه السلم دائما ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم ل يحب عَرْض السلم على أحد إل
إذا كان يرى فيه مخايل وشِيَما تحسن في السلم.
وكأنه ـ صلى ال عليه وسلم ـ ضَنّ بهذه المخايل أن تكون في غير مسلم ،لذلك كان حريصا
على إسلمه وكثيرا ما يعرضه عليه ،إل أن سيدنا عثمان بن مظعون تريّث في المر ،إلى أن
جلس مع الرسول صلى ال عليه وسلم في مجلس ،فرآه رفع بصره إلى السماء ثم تنبه ،فقال له
ابن مظعون :ما حدث يا رسول ال؟ فقال :إن جبريل ـ عليه السلم ـ قد نزل عليّ الساعة بقول
ال تعالى:
ظكُمْ
ن وَإِيتَآءِ ذِي ا ْلقُرْبَىا وَيَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَالْ َب ْغيِ َيعِ ُ
حسَا ِ
{ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْل َع ْدلِ وَال ْ
َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ } [النحل.]90 :
ب اليمان في قلبي بهذه الية الجامعة لكل خصال
قال ابن مظعون ـ رضي ال عنه :فاستقر ح ّ
الخير.
ثم ذهب فأخبر أبا طالب ،فلما سمع أبو طالب ما قاله ابن مظعون في هذه الية قال :يا معشر
قريش آمِنُوا بالذي جاء به محمد ،فإنه قد جاءكم بأحسن الخلق ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" ويُروى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يعرض نفسه على قبائل العرب ،وكان معه أبو
بكر وعلي ،قال علي :فإذا بمجلس عليه وقار و َمهَابة ،فأقبل عليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم
ودعاهم إلى شهادة أل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ،فقام إليه مقرون بن عمرو وكان من
شيبان ابن ثعلبة فقال :إلى أي شيء تدعونا يا أخا قريش؟ فقال صلى ال عليه وسلم:
ظكُمْ
ن وَإِيتَآءِ ذِي ا ْلقُرْبَىا وَيَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَالْ َب ْغيِ َيعِ ُ
حسَا ِ
{ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْل َع ْدلِ وَال ْ
َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ } [النحل.]90 :
فقال مقرون :إنك دعوت إلى مكارم الخلق وأحسن العمال ،أفِكتْ قريش إن خاصمتْك
وظاهرتْ عليك ".
أخذ عثمان بن مظعون هذه الية ونقلها إلى عكرمة بن أبي جهل ،فأخذها عكرمة ونقلها إلى الوليد
بن المغيرة ،وقال له :إن آية نزلت على محمد تقول كذا وكذا ،فأفكر الوليد بن المغيرة ـ أي:
فكّر فيما سمع ـ وقال :وال إن له لحلوةً ،وإن عليه لطلوة ،وإن أعله لمثمر ،وإن أسفله
لمغدق ،وأنه يعلو ول ُيعْلَى عليه ،وما هو بقول بشر.
ومع شهادته هذه إل أنه لم يؤمن ،فقالوا :حَسْبُه أنه شهد للقرآن وهو كافر.
عتْ
وهكذا دخلتْ هذه الي ُة قلوبَ هؤلء القوم ،واستقرتْ في أفئدتهم؛ لنها آيةٌ جامعةٌ مانعةٌ ،د َ
لكل خير ،ونَهتْ عن كل شر.
قوله } :إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْل َع ْدلِ[ { ..النحل.]90 :
ما العدل؟ العدل هو النصاف والمساواة وعدم الميْل؛ لنه ل يكون إل بين شيئين متناقضين ،لذلك
سمّي الحاكم العادل مُ ْنصِفا؛ لنه إذا مَ َثلَ الخصمان أمامه جعل لكل منهما نصفَ تكوينه ،وكأنه
ُ
قسَم نفسه نصفين ل يميل لحدهما ول قَيْد شعرة ،هذا هو النصاف.
جعِل الميزان ،والميزان تختلف ِدقّته حَسْب الموزون ،فحساسية ميزان البُرّ
ومن أجل النصاف ُ
غير حساسية ميزان الجواهر مثلً ،وتتناهى دقّة الميزان عند أصحاب صناعة العقاقير الطبية،
سمّ ،وقد شاهدنا تطورا كبيرا في الموازين،
حيث أقلّ زيادة في الميزان يمكن أن تحوّل الدواء إلى ُ
حتى أصبحنا نزن أقلّ ما يمكن تصوّره.
والعدل دائر في كل أقضية الحياة من القمة في شهادة أل إله إل ال إلى إماطة الذى عن
الطريق ،فالعدل مطلوب في أمور التكليف كلها ،في المور العقدية التي هي عمل القلب ،وكذلك
مطلوب في المور العملية التي هي أعمال الجوارح في حركة الحياة.
فكيف يكون العدل في المور العقدية؟
لو نظرنا إلى معتقدات الكفار لوجدنا بعضهم يقول بعدم وجود إله في الكون ،فأنكروا وجوده
سبحانه مطلقا ،وآخرون يقولون بتعدّد اللهة ،هكذا تناقضتْ القوال وتباعدتْ الراء ،فجاء العدل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ف العدل في صفاته
عمّا يُشبه الحوادث ،كما وقف موق َ
في السلم ،فالله واحد ل شريك له ،مُنزّه َ
سبحانه وتعالى.
سمْع ،ولكن ليس كأسماع المحدثات ،ل ننفي عنه سبحانه مثل هذه الصفات فنكون من
فلله َ
المعطّلة ،ول نُشبّهه سبحانه بغيره فنكون من المشبّهة ،بل نقول :ليس كمثله شيء ،ونقف موقف
العَدْل والوسطية.
كذلك من المور العقدية التي تجلّى فيها عدل السلم قضية الجبر والختيار ،حيث اختار موقفا
وسطا بين مَنْ يقول إن النسان يفعل أفعاله باختياره دون دَخْل ل سبحانه في أعمال العبد؛ ولذلك
ر ّتبَ عليها ثوابا وعقابا .ومن يقول :ل؛ بل كل العمال من ال والعبد ُمجْبَر عليها.
فيأتي السلم بالعدالة والوسطية في هذه القضية فيقول :بل النسان يعمل أعماله الختيارية بالقوة
التي خلقها ال فيه للختيار.
وفي التشريع والحكام حدث تبايُن كبير بين شريعة موسى عليه السلم وبين شريعة عيسى عليه
السلم ـ في القصاص مثلً :في شريعة موسى حيث طغتْ المادية على بني إسرائيل حتى قالوا
جهْ َرةً[} ..النساء.]153 :
لموسى عليه السلم {:أَرِنَا اللّهَ َ
فهم ل يفهمون الغيب ول يقتنعون به ،فكان المناسب لهم ال ِقصَاص ول بُدّ ،ولو تركهم الحق
حكْم الرادع :مَنْ قتَل يُقتلُ ،والقتل أنْفى للقتل.
سبحانه َلكَثُر فيهم القتل ،فهم ل ينتهون إل بهذا ال ُ
وقد تعدّى بنو إسرائيل في طلبهم رؤية ال ،فكوْنُك ترى الله تناقض في اللوهية؛ لنك حين تراه
عينُك فقد حددّتَه في حيّز.
جلّ وعلَ ،ونحن ل
إذن :كونه ل يرى عَيْن الكمال فيه سبحانه وتعالى .وكيف نطمع في رؤيته َ
نستطيع رؤية حتى بعض مخلوقاته ،فالروح التي بين جَنْبي كل مِنّا ماذا نعرف عن طبيعتها وعن
مكانها في الجسم ،وبها نتحرك ونزاول أعمالنا ،وبها نفكّر ،وبها نعيش ،أين هي؟!
فإذا ما فارقتْ الروح الجسم وأخذ ال سره تحول إلى جيفة يسارع الناس في مواراتها التراب .هل
رأيت هذه الروح؟ هل سمعتها؟ هل أدركتها بأي حاسّة من حواسّك؟!
فإذا كانت الروح وهي مخلوقة ل يعجز العقل عن إدراكها ،فكيف بمَنْ خلق هذه الروح؟ فمن
عظمته سبحانه أنه ل تُدركه البصار ،وهو يدرك البصار.
كذلك هناك أشياء مما يتطلبها الدين كالحق مثلً ،وهو معنًى من المعاني التي يدّعيها كل الناس،
شكْله؟ ما لونه؟ طويل أم قصير؟! فإذا كُنّا ل نستطيع أن
ويطلبون العمل بها ،هذا الحق ما َ
نتصوّر الحق وهو مخلوق ل سبحانه ،فكيف نتصور ال ونطمع في رؤيته؟!
ومن إسراف بني إسرائيل في المادية أن جعلوا ل تعالى في التلمود جماعة من النقباء ،وجعلوه
سبحانه قاعدا على صخرة يُدلي ِرجْليْه في قصعة من المرمر ،ثم أتى حوت ..الخ ..سبحان ال؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ألهذا الحدّ وصلتْ بهم المادية؟
ومن هنا كان الكون في حاجة إلى طاقة روحية ،تكون هي أيضا مُسرفة في الروحانية ليحدث
نوع من التوازن في الكون ،فجاءت شريعة عيسى ـ عليه السلم ـ بعد مادية ُمفْرطة وإسراف
حكْم القصاص فيها وهي تهدف إلى أنْ تسموَ بروحانيات الناس؟
في الموسَوية ،فكيف يكون ُ
جاءت شريعة عيسى عليه السلم تُهدّيء الموقف إذا حدث قتل ،فيكفي أن قُتِل واحد ولنستبقي
عتْ هذه الشريعة إلى العفو عن القاتل.
الخر ول نثير ضجّة ،ونهيج الحقاد والترة بين الناس ،فدَ َ
ثم جاء السلم ووقف موقف العدل والوسطية في هذا الحكم ،فأقرّ القصاص ودعا إلى العفو،
ع ِفيَ
فأعطى وليّ المقتول حَقّ القصاص ،ودعاه في نفس الوقت إلى العفو في قوله تعالىَ {:فمَنْ ُ
شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِِإحْسَانٍ[} ..البقرة.]178 :
لَهُ مِنْ َأخِيهِ َ
ونلحظ هنا أن القرآن جعلهم إخوة لِيُرقّق القلوب ويُزيل الضغائن.
وللقصاص في السلم حكَم عالية ،فليس الهدف منه أن يُضخّم هذه الجريمة ،بل يهدف إلى حفظ
حياة الناس كما قال تعالى {:وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الَلْبَابِ }[البقرة.]179 :
فمن أراد أنْ يحافظَ على حياته فل يُهدد حياة الخرين.
وحينما يُعطي ربّنا تبارك وتعالى حقّ القصاص لوليّ المقتول ويُمكّنه منه تبردُ ناره ،وتهدأ
ثورته ،فيفكر في العفو وهو قادر على النتقام ،وهكذا ينزع هذا الحكمُ ال ِغلّ من الصدور ويُطفِيء
نار الثأر بين الناس.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ
طهُرْنَ فَإِذَا َت َ
ض َولَ َتقْرَبُوهُنّ حَتّىا َي ْ
النّسَآءَ فِي ا ْلمَحِي ِ
طهّرِينَ }[البقرة.]222 :
حبّ ا ْلمُ َت َ
ن وَيُ ِ
حبّ ال ّتوّابِي َ
يُ ِ
وكذلك لو أخذنا الناحية القتصادية في حياتنا ،والتي هي عصب الحياة ،والتي بها يتم استبقاء
الحياة بالطعام والشراب والملْبس وغيره ،وبها يتم استبقاء النوع بالزواج ،وكُل هذا يحتاج إلى
حركة إنتاج ،وإلى حركة استهلك ،وبالنتاج والستهلك تستمر الحياة ،ولو توقف أحدهما لحدث
في المجتمع بطالة وفساد.
وبناء عليه وزّع الحق سبحانه وتعالى المواهب بين العباد ،فما أعرفه أنا أخدم به الكل ،وما يعرفه
الكل يَخدمني به ،وهكذا تستمر حركة الحياة.
والكون الذي تعيش فيه أنت لك فيه مصالح وتُراودك فيه آمال ،فإنْ شاركتَ في حركة الحياة
واكتسبتَ المال الذي هو عصبُ الحياة فعليك أن تُوازنَ بين متطلباتك العاجلة وآمالك في
المستقبل.
فلو أنفقتَ جميع ما اكتسبت في نفقاتك الحاضرة فقد ضيّعتَ على نفسك تحقيق المال في
المستقبل ،فلن تجد ما تبني به بيتا مثلً أو تشتري به سيارة ،أو ترتقي بمستواك ببعض كماليات
الحياة .وهذا ما نسميه السراف.
وفي المقابل ،كما ل يليق بك السراف حتى ل يبقى عندك شيء ،وكذلك ل يليق بك التقتير
والبخل والمساك فتكنز كل ما تكتسب ،ول تنفق إل ما يُمسِك الرمَق؛ لنك في هذه الحالة لن
تساهم في عملية الستهلك ،فتكون سببا في بطالة المجتمع وفساد حاله.
ك َولَ
ج َعلْ يَ َدكَ َمغْلُولَةً إِلَىا عُ ُنقِ َ
وقد عالج القرآن هذه القضية علجا دقيقا في قوله تعالىَ {:ولَ تَ ْ
طهَا ُكلّ الْ َبسْطِ فَ َت ْقعُدَ مَلُوما مّحْسُورا }
س ْ
تَبْ ُ
[السراء.]29 :
أي :ل تُمسك يدك ُبخْلً وتقتيرا ،فتكون ملُوما من أهلك وأولدك ،ومن الدنيا من حولك ،فيكرهك
حدّ السراف والتبذير ،فيفوتك تحقيق
الجميع ،وكذلك ل تبسط يدك بالنفاق َبسْطا يصل إلى َ
المال وتتحسّر حينما ترى المقتصد قد حقّق ما لم تستطع أنت تحقيقه من آمال الحياة ،وترقّى هو
في حياته وأنت ُمعْدم ل تملك شيئا ،فكان عليك أن تدّخر جُزْءا من كَسْبك يمكنك أن ترتقي به
حينما تريد.
خوَانَ الشّيَاطِينِ }[السراء.]27 :
ولذلك قال تعالى {:إِنّ ا ْلمُبَذّرِينَ كَانُواْ ِإ ْ
وقال {:وَالّذِينَ إِذَآ أَن َفقُواْ لَمْ يُسْ ِرفُو ْا وَلَمْ َيقْتُرُواْ َوكَانَ بَيْنَ ذَِلكَ َقوَاما }[الفرقان.]67 :
عقَديا ،أو تكليفا بواسطة العمال
إذن :فال َعدْل أمر دائر في كل حركات التكليف ،سواء كان تكليفا َ
في حركة الحياة ،فالمر قائم على الوسطية والعتدال ،ومن هنا قالوا :خَيْر المور الوسط.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله } :وَالحْسَانِ[ { ..النحل.]90 :
ما الحسان؟
إذا كان العدل أن تأخذ حقّك ،وأنْ تُعاقب بمثل ما عُوقبت به كما قال تعالىَ {:فمَنِ اعْتَدَىا عَلَ ْيكُمْ
فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَىا عَلَ ْيكُمْ[} ..البقرة.]194 :
وقوله {:وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ[} ..النحل.]126 :
ظمِينَ
ل بقوله تعالى {:وَا ْلكَا ِ
فالحسان أنْ تتركَ هذا الحق ،وأنْ تتنازلَ عنه ابتغا َء وجه ال ،عم ً
حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ }[آل عمران.]134 :
س وَاللّهُ ُي ِ
ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ
ا ْلغَيْ َ
والناس في الحسان على مراتب مختلفة حسب قدرة النسان واستِعداده الخُلقي.
وأول هذه المراتب كظم الغيظ ،من كَظْم القِرْبة المملوءة ،فالنسان يكظم غَيْظه في نفسه ،ويحتمل
ما يَعتلج بداخله على المذنب دون أن يتعدّى ذلك إلى النفعال والر ّد بالمثل ،ولكنه يظل يعاني ألم
الغيظ بداخله وتتأجج ناره في قلبه.
لذلك يحسُن الترقي إلى المرتبة العلى ،وهي مرتبة العفو ،فيأتي النسان ويقول :لماذا أ َدعْ نفسي
فريسة لهذا الغيظ؟ لماذا أشغل به نفسي ،وُأقَاسي ألمه ومرارته؟ فيميل إلى أنْ يُريح نفسه ويقتلع
جذور الغيظ من قلبه ،فيعفو عمّنْ أساء إليه ،ويُخرِج المسألة كلها من قلبه.
فإنِ ارتقى النسان في العفو ،سعى المرتبة الثالثة ،وهي مرتبة أن تُحسن إلى مَنْ أساء إليك،
وتزيد عما فرضَ لك حيث تنازلتَ عن الردّ بالمثل ،وارتقيتَ إلى درجة العارفين بال ،فالذي
اعتدى اعتدى بقدرته ،وانتقم بما يناسبه ،والذي ترقّى في درجات الحسان ترك المر لقدرة ال
تعالى ،وأيْن قدرتُك من قدرة ربك سبحانه وتعالى؟
إذن :فالحسان اجمل بالمؤمن ،وأفضل من النتقام.
لكن كيف يصل المر إلى أنْ تعفوَ عمّنْ أساء ،بل إلى أنْ تُحسِن إليه؟
نقولَ :هبْ أن لك ولديْن اعتدى أحدهما على الخر وأساء إليه ،فماذا يكون موقفك منهما؟ وإلى
أيّهما يميل قلبك؟
ل شكّ أن القلب هنا يميل إلى المعتدى عليه ،وقد يتعدّى المر إلى أنْ تُرضيه بهدية وتُريه من
حنانك وألطافك ما يُذهِب عنه ما يُعاني ،والسبب في ذلك إساءة أخيه له فهي التي عطفَتْ قلبك
إليه ،وعادتْ عليه بالهدايا واللطاف.
ن المعتَدى عليه إلى المعتدِي ،وأنْ يشكرَ له أنْ تسبّب له في هذه النعم؛
إذن :من الطبيعي أنْ يُحسِ َ
ولذلك يقول الحسن البصري ـ رحمه ال :أفل أُحسِن لمن جعل ال في جانبي؟
فالحسان :أنْ تصنع فوق ما فرض ال عليك ،بشرط أن يكونَ من جنس ما فرض ال عليك،
ومن جنس ما تعبّدنا ال به ،فمثلً تعبدنا ال بخمس صلوات في اليوم والليلة فل مانعَ من الزيادة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليها من جنسها ،وكذلك المر في الزكاة والصيام والحج .والحسان هنا يكون بزيادة ما فرضه
ال علينا.
وقد يكون الحسان في الكيفية دون زيادة في العمل ،فل أزيد مثلً عن خمس صلوات ،ولكن
أُحسِن ما أنا بصدده من الفرْض ،وأُتقِن ما أنا فيه من العمل ،وأُخلِص في ذلك عملً بحديث
جبريل عليه السلم ـ حينما سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الحسان ،فقال " :الحسان
أن تعبد ال كأنك تراه ،فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراك ".
فعليك أن تستحضر في عبادتك ربك عز وجل بجلله وجماله وكماله ،فإنْ لم تصل إلى هذه
المرتبة فل أقلّ من أن تؤمن أنه يراك ويطلع عليك ،وهذه كافية لنْ تُعطي العبادة حقّها ول
تسرق منها ،فاللصّ ل يجرؤ على سرقة البيت وهو يعلم أن صاحبه يراه ،فإذا كنا نفعل ذلك مع
بعضنا البعض فيخشى أحدنا نظر الخرين ،أيليق بنا أنْ نتجرأ على ال ونحن نعلم نظره إلينا؟!
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي " :يا عبادي ،إنْ كنتم تعتقدون أَنّي ل أراكم
فالخلَل في إيمانكم ،وإنْ كنتم تعتقدون أني أراكم ،فَِلمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟ ".
وقال بعضهم في معنى العدل والحسان:
العدل :أن تستوي السريرة مع العلنية.
والحسان :أن تعلو السريرة وتكون افضل من العلنية.
والمنكر :إنْ عَلتْ العلنية على السريرة.
وقوله تعالى } :وَإِيتَآءِ ذِي ا ْلقُرْبَىا { [النحل.]90 :
إيتاء :أي إعطاء.
حلَقات مقترنة ،فكل قادر حوله أقرباء ضُعفَاء محتاجون ،فلو أعطاهم من خيْره،
قالوا :لن العالم َ
وأفاض عليهم ِممّا أفاض ال عليه َل َعمّ الخير كل المجتمع ،وما وجدنا ُمعْوزا محتاجا؛ ذلك لن
هذه الدوائر ستشمل المجتمع كله ،كل قادر يُعطي مَنْ حوله.
وقد تتداخل هذه الدوائر فتلتحم العطاءات وتتكامل ،فل نرى في مجتمعنا فقيرا ،وقد حثتْ الية
على القريب ،وحنّ َنتْ عليه القلوب؛ لن البعيد عنك قريب لغيرك ،وداخل في دائرة عطاء أخرى.
وقد يكون الفقير قريبا لعدة أطراف يأخذ من هذا ويأخذ من هذا ،وبذلك تتكامل الحياة وتستطرق
موارد العيش لكل الناس.
وقالوا :المراد هنا قرابة النبي صلى ال عليه وسلم؛ لن قرابة النبي صلى ال عليه وسلم حرّمتْ
عليهم الزكاة التي ُأحِلّت لغيرهم من الفقراء ،وأصبح لهم مَيْزة يمتازون بها عن قرابة الرسول،
ول يليق بنا أن نجعل قرابة رسول ال صلى ال عليه وسلم في حاجة إلى الزكاة ،وإنْ كان
أقرباؤكم أصحابَ رحم ،فل تنسوا أن قرابة رسول ال صلى ال عليه وسلم َأوْلى من أرحامكم،
كما قال تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سهِمْ[} ..الحزاب.]6 :
{ النّ ِبيّ َأوْلَىا بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْ أَ ْنفُ ِ
هذه هي مجموعة الوامر الواردة في هذه الية ،وإنّ مجتمعا يُنفّذ مثل هذه الوامر ويتحلّى بها
أفراده ،مجتمع ترتقي فيه الستعدادات الخُلقية ،إلى أن يترك النسان العقوبة والنتقام ويتعالى عن
العتداء إلى العفو ،بل إلى الحسان ،مجتمع تعمّ فيه النعمة ،ويستطرق فيه الخير إلى كل إنسان.
إن مجتمعا فيه هذه الصفات لَمجتمعٌ سعيد آمِنٌ يسوده الحب واليمان والحسان ،إنه لجدير
بالصدارة بين أمم الرض كلها.
وقوله:
} وَيَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَالْ َبغْيِ[ { ..النحل.]90 :
وهذه مجموعة من النواهي تمثل مع الوامر السابقة منهجا قرآنيا قويما يضمن سلمة المجتمع،
وأُولى هذه النواهي النهي عن الفحشاء أو الفاحشة ،والمتتبع ليات القرآن الكريم سيجد أن الزنا
حكْما من أحكام
هو الذنب الوحيد الذي سماه القرآن فاحشة ،فهي إذن الزنا ،أو كل شيء يخدش ُ
ال تعالى ،ولكن لماذا الزنا بالذات؟
نقول :لن كل الذنوب الخرى غير الزنا إنما تتعلق بمحيطات النفس النسانية ،أما الزنا فيتعلّق
بالنفس النسانية ذاتها ،ويترتب عليه اختلط النساب وبه تدنَسُ العراض ،وبه يشكّ الرجل في
أهله وأولده ،ويحدث بسبب هذا من الفساد ما ل يعلمه إل ال؛ لذلك نصّ عليه القرآن صراحة
في قوله تعالى {:وَلَ َتقْرَبُواْ الزّنَىا إِنّهُ كَانَ فَاحِشَ ًة وَسَآءَ سَبِيلً }[السراء.]32 :
ومن أقوال العلماء في الفاحشة :أنها الذنب العظيم الذي يخجل صاحبه منه ويستره عن الناس ،فل
يستطيع أنْ يُجاهر به ،كأنه هو نفسه حينما يقع فيه يعلم أنه ل يصحّ ،ول ينبغي لحد أن يطلع
عليه.
(والمنكر) هو الذنب يتجرّأ عليه صاحبه ،ويُجاهر به ،ويستنكره الناس.
إذن :لدينا هنا مرتبتان من الذنب:
الولى :أن صاحبه يتحرّج أن يعرفه المجتمع فيستره في نفسه ،وهذا هو الفحشاء.
والثانية :ما تعالم به صاحبه وأنكره المجتمع ،وهذا هو المنكر.
(والبغْي) هو الظلم في أيّ َلوْنٍ من ألوانه ،وهو داخل في أشياء كثيرة أعظمها ما يقع في العقيدة
من الشرك بال ،كما قال تعالى {:إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان.]13 :
والظلم هنا أنْ تسلبَ الحق ـ تبارك وتعالى ـ صِفة من صفاته ،وتشرك معه غيره وهو خلقك
ورزقك ،ومنه ظلم الرسول صلى ال عليه وسلم حيث لم يُجرّب عليه في يوم من اليام أنْ قال
خطبة أو ألقى قصيدة ،كما لم يُجرّب عليه الكذب أو غيره من الصفات الذميمة ،ومع هذا كله قالوا
عنه حينما نزل عليه القرآن كذاب وساحر ومجنون ،وأيّ ظلم أعظم من هذا؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسْرة وألما
ومن الظلم ظُلْم النسان لنفسه حينما يُحقّق لها شهوة عاجلة ومُتعةً زائفة ،تُورثه ندما و َ
آجلً ،وبذلك يكون قد ظلم نفسه ظلما كبيرا وجَرّ عليها ما ل تطيق ،ذلك َفضْلً عن ظلم النسان
لغيره بشتى أنواع الظلم وأشكاله.
إذن :الية انتظمتْ مجموعة من الوامر والنواهي التي تضمن سلمة المجتمع بما جمعتْ من
مكارم الخلق ،والخلق أعمّ من أن تكون في العتقادات ،وأعمّ من أن تكون في المعجزة إيمانا
ح ْك َم ول إثم.
بها ،وأعمّ من أن تكون في التكاليف ،وأعمّ من أن تكون في أمر ل حَدّ فيه ول ُ
وقوله:
ظكُمْ[ { ..النحل.]90 :
} َي ِع ُ
الوعظ :تذكير بالحكم ،فعندنا أولً إعلم بالحكم لكي نعرفه ،ولكنه عُرْضة لنْ نغفلَ عنه ،فيكون
الوعظ والتذكير به ،ونحتاج إلى تكرار ذلك حتى ل نغفل.
وعادة ل تكون ال ِعظَة إل فيما له قيمة ،وما دام الشيء له قيمة فل تصطفي له إل مَنْ تحب ،كذلك
الحق ـ تبارك وتعالى ـ يحب خَلْقه وصَنْعته؛ لذلك َيعِظهم ويُذكّرهم باستمرار لكي يكونوا دائما
على الجادة ليتمتعوا بنعم المسبّب في الخرة ،كما تمتعوا بنعمة السباب في الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه } :وََأ ْوفُواْ ِب َعهْدِ اللّهِ.{ ...
()1975 /
ن ت ِفيَ بما تعاهدتَ عليه ،والعهود ل تكون في المفروض عليك ،إنما تكون في المباحات،
الوفاء :أ ْ
فأنت حُرّ أن تلقاني غدا وأنا كذلك ،لكن إذا اتفقنا وتعاهدنا على اللقاء غدا في الساعة كذا ومكان
كذا فقد تحوّل المر من المباح إلى المفروض ،وأصبح ُكلٌ مِنّا ملزما بأن يفي بعهده؛ لن كل
واحد مِنّا عطّل مصالحه ورتّب أموره على هذا اللقاء ،فل يصح أنْ يفيَ أحدنا ويُخلِف الخر ،لن
ذلك يتسبب في عدم تكافؤ الفُرص ،ومعلوم أن مصالح العبادِ في الدنيا قائمة على الوفاء بالعهد.
عبْءٌ عليه دون غيره ،لكنه
وقد ينظر البعض إلى الوفاء بالعهد على أنه مُلْ َزمٌ به وحده ،أو أنه ِ
في الحقيقة عليك وعلى غيرك ،فكما طلب منك الوفاء طلبه كذلك من الخرين ،فكلّ تكليف لك ل
تنظر إليه هذه النظرة ،بل تنظر إليه على أنه لصالحك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فمن أخذ التكليف وأحكام ال من جانبه فقط يتعب ،فالحق ـ تبارك وتعالى ـ كما كلفك لصالح
الناس فقد كلّف الناس جميعا لصالحك ،فحين نهاك عن السرقة مثلً إياك أنْ تظنّ أنه قيّد حريتك
أمام الخرين؛ لنه سبحانه نهى جميع الناس أن يسرقوا منك ،فمَنِ الفائز إذن؟ أنا قيّدت حريتك
بالحكم ،وأنت فرْد واحد ،ولكني قيّدتُ جميع الخلق من أجلك.
كذلك حين أمرك الشرع بغضّ بصرك على محارم الناس ،أمر الناس جميعا بغضّ أبصارهم عن
محارمك .إذن :ل تأخذ التكليف على أنه عليك ،بل هو لك ،وفي صالحك أنت.
كثيرون من الغنياء يتبرّمون من النفاق ،ويضيقون بالبذْل ،ومنهم مَنْ َيعُد ذلك َمغْرما لنه ل
يدري الحكمة من تكليف الغنياء بمساعدة الفقراء ،ل يدري أننا نُؤمّن له حياته.
وها نحن نرى الدنيا ُدوَلً وأغيارا ،فكم من غنيّ صار فقيرا ،وكم من قوي صار ضعيفا.
خفْ إذا ضاقتْ بك الحال ،وإذا تبدّل غِنَاك فقرا،
إذن :فحينما يأخذ منك وأنت غنيّ نُطمئنك :ل ت َ
فكما أخذنا منك في حال الغنى سنُعطيك في حال الفقر ،وهكذا يجب أن تكون نظرتنا إلى المور
التكليفية.
وقوله تعالى:
{ ِب َعهْدِ اللّهِ[ } ...النحل.]91 :
عهْد لك مع ال تعالى هو اليمان به ،وما ُد ْمتَ
عهد ال :هو الشيء الذي تعاهد ال عليه ،وأول َ
خلّ بأمر من أموره؛ لن الختلل
قد آمنتَ بال فانظر إلى ما طلبه منك وما كلّفك به ،وإياك أن ُت ِ
في أي أمر تكليفي من ال ُيعَدّ َنقْصا في إيمانك؛ لنك حينما آمنت بال شهدتَ بما شهد ال به
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ[} ..آل عمران.]18 :
لنفسه سبحانه في قوله تعالىَ {:
فأوّل مَنْ شهد ال سبحانه لنفسه ،وهذه شهادة الذات للذات (والملَئِكة) أي :شهادة المشاهدة
(وَأُولُوا العِلْم) أي :بالدليل والحجة.
عهْد بينك وبين ال تعالى أنك آمنتَ به إلها حكيما قادرا خالقا مُربّيا ،فاستمع إلى ما
إذن :فأوّل َ
يطلبه منك ،فإنْ لم تستمع وتُنفّذ فاعلم أن العهد اليماني الول قد اختلّ.
ولذلك ،فالحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يُكلّف الكافر ،لنه ليس بينه وبينه عهد ،إنما يُكلّف مَنْ آمن،
فتجد كل آية من آيات الحكام تبدأ بهذا النداء اليماني {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ[} ...البقرة.]183 :
كما في قوله تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ[} ...البقرة.]183 :
فيا مَنْ آمن بي رَبا ،ورضيتني إلها اسمع مِنّي؛ لني سأعطيك قانون الصيانة لحياتك ،هذا القانون
الذي يُسعدك بالمسبّب في الخرة بعد أن أسعدك بالسباب في الدنيا.
وقوله:
} َولَ تَنقُضُو ْا الَ ْيمَانَ َبعْدَ َت ْوكِيدِهَا[ { ..النحل.]91 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الَيْمان :جمع يمين ،وهو الحلف الذي نحلفه ونُؤكّد عليه فنقول :وال ،وعهد ال ..الخ .إذن :فل
يليق بك أنْ تنقضَ ما أكّدته من الَيْمان ،بل يلزمك أنْ تُوفّي بها؛ لنك إنْ وفّيت بها ُوفّي لك بها
أيضا ،فل تأخذ المر من جانبك وحدك ،ولكن انظر إلى المقابل.
وكذلك العهد بين الناس بعضهم البعض مأخوذ من باطن العهد اليماني بال تعالى؛ لننا حينما
عهْد ال ،فنُدخل بيننا الحق سبحانه وتعالى
نتعاهد نُشهد ال على هذا العهد ،فنقول :بيني وبينك َ
جعَلْتُمُ اللّهَ عَلَ ْي ُكمْ َكفِيلً[ { ...النحل:
لِنُوثّق ما تعاهدنا عليه ،وربنا سبحانه وتعالى يقولَ } :وقَدْ َ
.]91
أي :شاهدا ورقيبا وضامنا.
وقوله:
} إِنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا َت ْفعَلُونَ { [النحل.]91 :
أي :اعلم أن ال مُطّلع عليك ،يعلم خفايا الضمائر وما ُتكِنّه الصدور ،فاحذر حينما تعطي العهد أن
تعطيه وأنت تنوي أن تخالفه ،إياك أنْ تُعطي العهد خِدَاعا ،فربّك سبحانه وتعالى يعلم ما تفعل.
ثم يُعقّب الحق سبحانه } :وَلَ َتكُونُواْ كَالّتِي.{ ...
()1976 /
ضتْ غَزَْلهَا مِنْ َبعْدِ ُق ّوةٍ أَ ْنكَاثًا تَتّخِذُونَ أَ ْيمَا َنكُمْ دَخَلًا بَيْ َن ُكمْ أَنْ َتكُونَ ُأمّةٌ ِهيَ
وَلَا َتكُونُوا كَالّتِي َنقَ َ
أَرْبَى مِنْ ُأمّةٍ إِ ّنمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِ ِه وَلَيُبَيّنَنّ َل ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْ َتِلفُونَ ()92
الحق تبارك وتعالى يضرب لنا في هذه الية مثلً توضيحيا للذين ينقضون العهد والَيْمان ،ول
يُوفون بها ،بهذه المرأة القرشية الحمقاء ريْطة بنت عامر ،وكانت تأمر جواريها بغزل الصوف
ن بنقض ما غزلنه من الظهر حتى العصر ،والمتأمل في هذا
من الصبح إلى الظهر ،ثم تأمرهُ ّ
المثل يجد فيه دروسا متعددة.
أولً :ما الغزل؟
الغَزْل عملية كان يقوم بها النساء قديما ،فكُنّ يُحضِرْن المادة التي تصلح للغزل مثل الصوف أو
الوبر ومثل القطن الن ،وهذه الشياء عبارة عن شعيرات دقيقة تختلف في طولها من نوع لخر
يُسمّونها التيلة ،فيقولون " هذه تيلة قصيرة " وهذه طويلة ".
عقَد فيه لكي يصلح
والغَزْل هو أن نُكوّن من هذه الشعيرات خَيْطا طويلً ممتدا وانسيابيا دون ُ
للنسجْ بعد ذلك ،وتتم هذه العملية بآلة بدائية تسمى المغزل .تقوم المرأة بخلط هذه الشعيرات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عقَد فيه.
الدقيقة ثم بَ ْرمِها بالمغزل ،ليخرج في النهاية خيطٌ طويل مُنْسابٌ متناسق ل ُ
والية هنا ذكرتْ المرأة في هذا العمل؛ لنه عمل خاص بالنساء في هذا الوقت دون الرجال،
فكانت المرأة تكنّ في بيتها وتمارس مثل هذه الصناعات البسيطة التي تكوّن منها أثاث بيتها من
فَرْش وملبس وغيره.
وإلى الن نرى المرأة التي تحافظ على كرامتها من زحمة الحياة و ُمعْترك الختلط ،نراها تقوم
بمثل هذا العمل النسائي.
وقد تطور المغزل الن إلى ماكينة تريكو أو ماكينة خياطة ،مما يُيسّر للنساء هذه العمال،
ويحفظهُنّ في بيوتهن ،وينشر في البيت جَوا من التعاون بين الم وأولدها ،وأمامنا مثلً مشروع
السر المنتجة حيث تشارك المرأة بجزء كبير في ُرقّي المجتمع ،فل مانع إذن من عمل المرأة إذا
كان عملً شريفا يحفظ عليها كرامتها ويصُون حرمتها.
جهْد ووقت في الغزل،
فالقرآن ضرب لنا مثلً بعمل المرأة الجاهلية ،هذا العمل الذي يحتاج إلى َ
ويحتاج إلى أكثر منه في َنقْضه وفكّه ،فهذه عملية شاقة جدا ،وربما أمرت الجواري بفكّ الغزل
والنسيج أيضا؛ ولذلك أطلقوا عليها حمقاء قريش.
وقوله:
{ مِن َب ْعدِ ُق ّوةٍ[ } ...النحل.]92 :
كلمة قوة هنا تدلّنا على المراحل التي تمرّ بها عملية الغَزْل ،وكم هي شاقة ،بداية من جَزّ الصوف
من الغنم أو الوبر من الجمال ،ثم خَلْط أطراف كل تيلة من هذه الشعيرات ،بحيث تكون طرف
كل تيلة منها في وسط الخرى لكي يتم التلحم بينها بهذا المزج ،ثم تدير المرأة المغزل بين
أصابعها لتخرج لنا في النهاية بضعة سنتيمترات من الخيط ،ولو قارنّا بين هذه العملية اليدوية،
وبين ما توصلتْ إليه صناعة الغزل الن لَتبيّن لنا كم كانت شاقة عليهم.
فكأن القرآن الكريم شبّه الذي يُعطِي العهد ويُوثّقه باليْمان المؤكدة ،ويجعل ال وكيلً وشاهدا على
ت فنقضت ما أنجزته ،وف ّكتْ ما غزلته.
ما يقول بالتي غزلتْ هذا الغزل ،وتحملت مشقته ،ثم راح ْ
وكذلك كلمة (قوة) تدلّناَ على أن كل عمل يحتاج إلى قوة ،هذه القوة إما أنْ تُحرّك الساكن أو تُسكّن
خذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ[} ..البقرة.]63 :
المتحرّك؛ لذلك قال تعالى في آية أخرىُ {:
لن ساكن الخير نريد أن نحركك إليه ،ومتحرك الشر نريد أن نكفك عنه.
ن يعرضَ له شيء
وهذه يسمونها في عالم الحركة (قانون العطالة) المتحرك يظل مُتحرّكا إلى أ ْ
يُسكنه ،والساكن يظل ساكنا إلى أنْ يع ِرضَ له شيء يُحرّكه.
ومن هنا يتعجّب الكثيرون من القمار الصناعية التي تدور أعواما عدة في الفضاء :ما الوقود
الذي يُحرّك هذه القمار طوال هذه العوام؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والواقع أنه ل يوجد وقود يحركها ،الوقود في مرحلة النطلق فقط ،إلى أن يخرج من منطقة
الهواء والجذْب ،فإذا ما استقرّ القمر أو السفينة الفضائية في منطقة عدم الجذب تدور وتتحرك
بنفسها دون وقود ،فهناك الشيء المتحرك يظل متحركا ،والساكن يظل ساكنا.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ بهذا المثَل المشَاهد يُحذرنا من إخلف العهد ونقْضه؛ لنه سبحانه
يريد أن يصونَ مصالح الخلق؛ لنها قائمة على التعاقد والتعاهد واليْمان التي تبرم بينهم ،فمَنْ
خان العهد أو نقضَ اليْمان ل يُوثق فيه ،ول يُطْمأنُ إلى حركته في الحياة ،ويُسقطه المجتمع من
نظره ،ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس.
وقوله } :أَنكَاثا[ { ..النحل.]92 :
حلّ فَتْله من الغزل.
جمع ِنكْث ،وهو ما ُنقِض و ُ
وقوله:
} تَتّخِذُونَ أَ ْيمَا َنكُمْ دَخَلً بَيْ َن ُكمْ[ { ..النحل.]92 :
الدّخَل :أنْ تدخل في الشيء شيئا أدنى منه من جنسه على سبيل الغِشّ والخداع ،كأن تدخل في
خلَ في اللوز مثلً نَوى
الذهب عيار 24قيراطا مثلً ذهبا من عيار 18قيراطا ،أو كأن تُد ِ
المشمش على أنه منه .فكأن الَيْمان القائمة على الصدق والوفاء يعطيها صاحبها وهو ينوي بها
الخداع والغش ،فيحلف لصاحبه وهو يقصد تنويمه والتغرير به.
وقوله:
} أَن َتكُونَ ُأمّةٌ ِهيَ أَرْبَى مِنْ ُأمّةٍ[ { ...النحل.]92 :
هذه هي العلة في أنْ نتخ َذ الَيْمان َدخَلً فيما بيننا ،الَيْمان الزائفة الخادعة؛ ذلك لن الذي باع
ق الخرين ،فالعلة
نوى المشمش مثلً على أنه لوز ،فقد أَرْبى أي :أخذ أزيْد من حقه ونقص حَ ّ
إذن في الخداع بالَيْمان الطمع وطلب الزيادة على حساب الخرين.
وقد تأتي الزيادة بصورة أخرى ،كأن تُعاهِد شخصا على شيء ما ،وأدّ ْيتَ له بالعهود واليْمان
والمواثيق ،ثم عنّ لك مَنْ هو أقوى منه سواء كان بالقهر والسلطان أو بالغراء ،فنقضت العهد
الول لن الثاني أرْبى منه وأزيد.
حذْره ،فمَنْ يُدريك لعله يُفعل بك كما فعلت ،ويُكال
وفي مثل هذه المواقف يجب أن يأخذ النسان ِ
خلْق ال أن يُجَرّيء ال عليك مَنْ
لك بنفس المكيال الذي كِ ْلتَ به لغيرك ،فاحذر إذا تجرأتَ على َ
يسقيك من نفس الكأس.
وإذا كنت صاحب حرفة أو صناعة ،فإياك أنْ تغُشّ الناس ،وتذكّر أن لك عندهم مصالح ،وفي
أيديهم لك حرف وصناعات ،فإذا تجر ْأتَ عليهم جرّأهم ال عليك؛ لنه سبحانه يقول :أنا القيّوم،
أي :القائم على أمركم ،فناموا أنتم فأنا ل أنام ،فهذه مسألة يجب أن نلحظها جيدا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مَنْ تَجرّأ على الناس جرّأهم ال عليه ،ومَنْ أخلص عمله وأتقنه قذف ال في قلوب الخلق أنْ
يُتقنوا له حاجته.
وقوله:
} إِ ّنمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ ِبهِ[ { ...النحل.]92 :
أي :يختبركم ال تعالى بهذا العهد ،فهو سبحانه يعلم ما أنتم عليه ساعة أنْ عقدتم العهدَ ،أفِي نيتكم
الوفاء ،أم في نيتكم الغدر والخداع؟
و َهبْ أنك تنوي الوفاء ثم عرضَ لك ما حال بينك وبينه ،فال سبحانه يعلم حقائق المور ول
يخفَى عليه شيء.
إذن :البتلء هنا ل يعني النكبة والبلء ،بل يعني مجرد الختبار والنكبة والبلء على الذي يفشل
في الختبار ،فالعبرة هنا بالنتيجة.
وقوله:
} وَلَيُبَيّنَنّ َل ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ { [النحل.]92 :
فيوم القيامة تجتمع الخصوم ،وتتكشّف الحقائق ،ويأتي القضاء فيما اختلفنا فيه في الدنيا ،و َهبْ أن
عمّ ْيتَ على قضاء الرض فلن تُعمىَ
إنسانا عمّى على قضاء الرض في أشياء ،نقول له :إن َ
على قضاء السماء ،وانتظر يوما نجتمع فيه ونحكم هذه المسائل.
ثم يقول الحق سبحانه } :وََلوْ شَآءَ اللّهُ.{ ...
()1977 /
لو حرف امتناع لمتناع .أي :امتناع وجود الجواب لمتناع وجود الشرط ،كما في قوله تعالى{:
َلوْ كَانَ فِي ِهمَآ آِلهَةٌ ِإلّ اللّهُ َلفَسَدَتَا }[النبياء.]22 :
فقد امتنع الفساد لمتناع تعدّد اللهة.
فلو شاء ال لجعلَ العالم كله أم ًة واحدة على الحق ،ل على الضلل ،أمة واحدة في اليمان
والهداية ،كما جعل الجناس الخرى أم ًة واحدة في النصياع لمرادات ال منها.
ذلك لن كل أجناس الوجود المخلوقة للنسان قبل أن يفِدَ إلى الحياة مخلوقة بالحق خَلْقا تسخيريا،
فل يوجد جنس من الجناس تأَبّى عما قصد منه ،ل الجماد ول النبات ول الحيوان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كل هذه الكوان تسير سَيْرا سليما كما أراد ال منها ،والعجيب أن يكون النسان هو المخلوق
الوحيد المختلّ في الكون ،ذلك لما له من حرية الختيار ،يفعل أو ل يفعل.
ت َومَن فِي الَ ْرضِ
سمَاوَا ِ
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى {:أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َيسْجُدُ لَهُ مَن فِي ال ّ
حقّ عَلَ ْيهِ ا ْلعَذَابُ} ..
س َوكَثِيرٌ َ
ب َوكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ
ل وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآ ّ
س وَا ْل َقمَرُ وَالنّجُو ُم وَالْجِبَا ُ
شمْ ُ
وَال ّ
[الحج.]18 :
هكذا تسجد كل هذه المخلوقات ل دون استثناء ،إل في النسان فقال تعالىَ {:وكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ
َوكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ ا ْل َعذَابُ[} ..الحج.]18 :
ل أو
فلماذا حدث هذا الختلف عند الناس؟ لنهم أصحاب الختيار ،فيستطيع الواحد منهم أن يفع َ
ل يفعل ،هل هذه المسألة خرجت عن إرادة ال ،أم أرادها ال سبحانه وتعالى؟
قالوا بأن ال زاول قدرته المطلقة في خَلْق الشياء المُسخرة ،بحيث ل يخرج شيء عما أريد منه،
وكان من الممكن أنْ يأتيَ النسان على هذه الصورة من التسخير ،لكنه في هذه الحالة لن يزيد
شيئا ،ولن يضيف جديدا في الكون ،أليستْ الملئكة قائمة على التسخير؟
فالتسخير يُثبِت القدرة ل تعالى ،فل يخرج عن قدرته ول عن مراده شيء ،لكن الختيار يثبت
المحبوبية ل تعالى ،وهذا فَرْقٌ يجب أنْ نتدبّره.
فمثلً لو كان عندك عبدان أو خادمان أحدهما سعيد ،والخر مسعود ،فأخذت سعيدا وقيّدته إليك
ل منهما لَبّى وأطاع ،فأيّ طاعة
في حبل ،في حين تركت مسعودا حرا طليقا ،وحين أمرت ك ً
ستكون أحبّ إليك :طاعة القهر والتسخير ،أم الطاعة بالختيار؟
ن يعصيَ ،فإذا
فكأن الحق تبارك وتعالى خلق النسان وكرّمه بأنْ جعلَه مختارا في أنْ يطيعَ أو أ ْ
ما أتى طائعا مختارا ،وهو قادر على المعصية ،فقد أثبتَ المحبوبية لربه سبحانه وتعالى.
ول ُبدّ أنْ تتوافرَ للختيار شروطٌ .أولها العقل ،فهو آلة الختيار ،كذلك ل يُكلّف المجنون ،فإذا
توفّر العقل فل بُدّ له من الّنضْج والبلوغ ،ويتمّ ذلك حينما يكون النسان قادرا على إنجاب مِثْله،
وأصبحتْ له ذاتية مولده.
سمَة اكتمال الذات؛ فهو قبل هذا الكتمال ناقص التكوين ،وليس أَهْلً للتكليف ،فإذا كان
وهذه ِ
عاقلً ناضجا بالبلوغ واكتمال الذات ،فل ُبدّ له أن يكون مختارا غَيْرَ ُمكْرهٍ ،فإنْ ُأكْرِه على الشيء
فلن يسأل عنه ،فإنِ اختلّ شَرْط من هذه الثلثة فل معنى للختيار ،وبذلك يضمن الحق تبارك
وتعالى للنسان السلمة في الختيار.
والحق تبارك وتعالى وإن كرّم النسان بالختيار ،فمن رحمته به أنْ يجعلَ فيه بعض العضاء
خلَ له فيها.
اضطرارية مُسخّرة ل دَ ْ
ولو تأملنا هذه العضاء لوجدناها جوهرية ،وتتوقف عليها حياة النسان ،فكان من رحمة ال بنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنْ جعل هذه العضاء تعمل وتُؤدّي وظيفتها دون أنْ نشعرَ.
ل يعمل بانتظام في اليقظة والمنام دون أن نشعرَ به ،وكذلك التنفس والكُلَى والكبد
فالقلب مث ً
والمعاء وغيرها تعمل بقدرته سبحانه مُسخّرة ،كالجماد والنبات والحيوان.
طفِ ال بخَلْقه أنْ جعلَ هذه العضاء مُسخّرة ،لنه بال لو أنت مختار في عمل هذه
ومن ُل ْ
العضاء ،كيف تتنفس مثلً وأنت نائم؟!
إذن :من رحمة ال أنْ جعلكَ مختارا في العمال التي تع ِرضُ لك ،وتحتاج فيها إلى النظر في
البدائل؛ ولذلك يقولون :النسان أبو البدائل .فالحيوان مثلً وهو أقرب الجناس إلى النسان ليس
لديْه هذه البدائل ول يعرفها ،فإذا آذيتَ حيوانا فإنه يُؤذيك ،وليس لديه بديل آخر.
ولكن إذا آذيْت إنسانا ،فيحتمل أن يردّ عليك بالمثل ،أو بأكثر مما فعلتَ ،أو أقلّ ،أو يعفو ويصفح،
والعقل هو الذي يُرجّح أحد هذه البدائل.
إذن :لو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلها ،كما قال تعالى {:أَن ّلوْ َيشَآءُ
اللّهُ َلهَدَى النّاسَ }[الرعد.]31 :
ولكنه سبحانه وتعالى لم يشَأْ ذلك ،بدليل قوله:
ضلّ مَن َيشَآ ُء وَ َيهْدِي مَن َيشَآءُ[ { ...النحل.]93 :
} وَلـاكِن ُي ِ
وهذه الية يقف عندها المتمحّكون ،والذين َقصُ َرتْ أنظارهم في فهْم كتاب ال ،فيقولون :طالما أن
ضلّ الناس ،فلماذا يُعذّبهم؟ ونتعجّب من هذا الفهم لكتاب ال ونقول لهؤلء :لماذا
ال هو الذي ي ِ
أخذتُمْ جانب الضلل وتركتُم جانب الهدى؟ لماذا لم تقولوا :طالما أن ال بيده الهداية ،وهو الذي
يهدي ،فلماذا يُدخِلنا الجنة؟ إذن :هذه كلمة يقولها المسرفون؛ لن معنى:
ضلّ مَن يَشَآ ُء وَ َيهْدِي مَن يَشَآءُ[ { ..النحل.]93 :
} ُي ِ
أي :يحكم على هذا من خلل عمله بالضلل ،ويحكم على هذا من خلل عمله بالهداية ،مثل ما
يحدث عندنا في لجان المتحان ،فل نقول :اللجنة أنجحت فلنا وأرسبت فلنا ،فليست هذه
مهمتها ،بل مهمتها أن تنظر أوراق الجابة ،ومن خللها تحكم اللجنة بنجاح هذا وإخفاق ذاك.
وكذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يجعل العبد ضالً ،بل يحكم على عمله أنه ضلل وأنه ضَالّ؛
ل المر إلى
فالمعنى إذن :يحكم بضلل مَنْ يشاء ،ويحكم ب ُهدَى مَنْ يشاء ،وليس لحد أن ينق َ
عكس هذا الفهم ،بدليل قوله تعالى بعدها:
عمّا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ { [النحل.]93 :
} وَلَتُسْأَلُنّ َ
عمّا عملتْ يداه ،والسؤال هنا معناه حرية الختيار في العمل ،وكيف تسأل عن
فالعبد ل يُسأل إل َ
شيء ل َدخْل لك فيه؟ فلنفهم ـ إذن ـ عن الحق تبارك وتعالى مُرَا َدهُ من الية.
خذُواْ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ولَ تَتّ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1978 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمعة طيبة وأمانة ونزاهة ووفاء ،هذا هو رأس مالهم ،فإنْ دخل شريك بما لديْه من رأس المال،
فهذا شريك بما لديْه من شرف الكلمة وشرف السلوك ،ووجاهة بين الناس ،وماضٍ مُشرّف من
التعامل.
وهذه يسمونها " شركة الوجوه والعيان " وهذا الوجيه في دنيا المال والتجارة لم يأخذ هذه
الوجاهة إل بما اكتسبه من احترام الناس وثقتهم ،وبما له من سوابق فضائل ومكارم.
وكذلك ،قد نرى هذه الثقة ل في شخص من الشخاص ،بل نراها في ماركة من الماركات أو
العلمات التجارية ،فنراها تُبَاع وتُشْتري ،ولها قيمة غالية في السوق بما نالتْه من احترام الناس
وتقديرهم ،وهذا أيضا نتيجة الصدق واللتزام والمانة وشرف الكلمة.
وقوله تعالى:
عظِيمٌ { [النحل.]94 :
} وَتَذُوقُواْ الْسّوءَ ِبمَا صَدَدتّمْ عَن سَبِيلِ اللّ ِه وََلكُمْ عَذَابٌ َ
السوء :أي العذاب الذي يسُوء صاحبه في الدنيا من مهانة واحتقار بين الناس ،وكسَاد في الحال،
بعد أنْ سقط من نظر المجتمع ،وهدم جِسْر الثقة بينه وبين مجتمعه.
وقوله تعالى:
} ِبمَا صَدَدتّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ { [النحل.]94 :
صدّ عن سبيل ال؟
الحديث هنا عن الذين ينقضون العهود والَيْمان ول يُوفُونَ بها ،فهل في هذا َ
نقول :أولً إن معنى سبيل ال :كل شيء يجعل حركة الحياة منتظمة ُتدَار بشرف وأمانة وصِدْق
ونفاذ عهد.
ومن هنا ،فالذي يُخلف العهد ،ول يفي بالمواثيق يعطي للمجتمع قدوة سيئة تجعل صاحب المال
يضنّ بماله ،وصاحب المعروف يتراجع ،فلو أقرضتَ إنسانا وغدرَ بكَ فل أظنّك مُقرِضا لخر.
شكّ أن في هذا صدا عن سبيل ال ،وتزهيدا للناس في فعْل الخير.
إذن :ل َ
وقوله تعالى:
عذَابٌ عَظِيمٌ { [النحل.]94 :
} وََلكُمْ َ
فبالضافة إلى ما حاقَ بهم من خسارة في الدنيا ،وبعد أنْ َزّلتْ بهم القدم ،ونزل بهم من عذاب
الدنيا ألوانٌ ما زال ينتظرهم عذاب عظيم أي في الخرة.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ولَ تَشْتَرُواْ ِب َعهْدِ.{ ...
()1979 /
وَلَا تَشْتَرُوا ِب َعهْدِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا إِ ّنمَا عِ ْندَ اللّهِ ُهوَ خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ ()95
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق تبارك وتعالى في هذه الية ينهانا ويُحذّرنا :إياك أنْ تجعلَ عهد ال الذي أكدته للناس،
وجعلت ال عليه كفيلً ،فبعد أن كنت حُرا في أن تعاهد أو ل تعاهد ،فبمجرد العهد أصبح نفاذه
واجبا ومفروضا عليك.
أو :عهد ال ـ أي ـ شرعه الذي تعاهدتَ ـ على العمل به والحفاظ عليه ،وهو العهد اليماني
العلى ،وهو أن تؤمنَ بال وبصدق الرسول في البلغ عن ال ،وتلتزم بكل ما جاء به الرسول
ضتَ عهد ال لشيء آخر من
ن نق ْ
من أحكام ،إياك أنْ تقابله بشيء آخر تجعله أغْلى منه؛ لنك إ ْ
متاع الدنيا الزائل فقد جعلتَ هذا الشيء أغلى من عهد ال؛ لن الثمن مهما كان سيكون قليلً.
ثم يأتي تعليل ذلك في قوله:
{ إِ ّنمَا عِ ْندَ اللّهِ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ[ } ..النحل.]95 :
فالخير في الحقيقة ليس في متاع الدنيا مهما كَثُر ،بل فيما عند ال تعالى ،وقد أوضح ذلك في قوله
تعالى {:مَا عِن َدكُمْ يَنفَدُ َومَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }[النحل.]96 :
ولنا وقفة مع قوله تعالى:
{ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ[ } ...النحل.]95 :
فهذا أسلوب توكيد بالقصر بإعادة الضمير (هو) ،فلم َيقُلِ الحق سبحانه إنما عند ال خير لكم،
فيحتمل أن ما عند غيره أيضا خيْرٌ لكم ،أما في تعبير القرآن { ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ } أي :الخير فيما عند
شفِينِ }[الشعراء.]80 :
ضتُ َف ُهوَ َي ْ
ال على سبيل ال َقصْر ،كما في قوله تعالى {:وَإِذَا مَ ِر ْ
فجاء بالضمير " هو " ليؤكد أن الشافي هو ال لوجود مَظنّة أن يكون الشفاء من الطبيب ،أما في
الشياء التي ل يُظَنّ فيها المشاركة فتأتي دون هذا التوكيد كما في قوله تعالى {:وَالّذِي ُيمِيتُنِي ثُمّ
يُحْيِينِ }[الشعراء.]81 :
فلم يقل :هو يميتني هو يُحيين؛ لنه ل يميت ول يُحيي إل ال ،فل حاجةَ للتوكيد هنا.
ما الذي يُخرج النسان عن الوفاء بالعهد؟
الذي يُخرج النسان عن الوفاء بالعهد أنْ يرى مصلحة سطحية فوق ما تعاقد عليه تجعله يخرج
عما تعاهد عليه إلى هذه السطحية ،ولكنه لو عقل وتدبّر المر لعلم أنّ ما يسعى إليه ثمن َبخْسٌ،
ومكسب قليل زائل إذا ما قارنه بما ادخِر له في حالة الوفاء؛ لن ما أخذه حظا من دنياه ل بُدّ له
من زوال.
والعقل يقول :إن الشيء ،إذا كان قليلً باقيا يفضل الكثير الذي ل يبقى ،فما بالك إذا كان القليل هو
الذي يفنى ،والكثير هو الذي يبقى.
ومثال ذلك :لو أعطيتُك فاكهة تكفيك أسبوعا أو شهرا فأكلتها في يوم واحد ،فقد تمت ْعتَ بها مرة
ك منها مُتَ ٌع وأكلتٌ متعددة لو أكلتَها في وقتها.
واحدة ،وفا َت َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك؛ فالحق سبحانه وتعالى يُنبّهك أنّ ما عند ال هو الخير الحقيقي ،فجعل موازينك اليمانية
حمْق أن تبيع الكثير الباقي بالقليل الفاني:
دقيقة ،فمن ال ُ
{ إِن كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } [النحل.]95 :
حلّ المعادلت القتصادية.
في الية ِدقّة الحساب ،و ِدقّة المقارنة ،و ِدقّة َ
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى { :مَا عِن َدكُمْ يَنفَدُ.} ..
()1980 /
يُوضّح الحق تبارك وتعالى أن حظّ النسان من دُنْياه عَ َرضٌ زائل ،فإمّا أن تفوته بالموت ،أو
يفوتك هو بما يجري عليك من أحداث ،أما ما عند ال فهو بَاق ل نفاد له.
ن صَبَرُواْ[ } ..النحل.]96 :
{ وَلَ َنجْزِيَنّ الّذِي َ
كلمة { صَبَرُواْ } تدلّ على أن النسان سيتعرّض لِهزّاتٍ نفسية نتيجة ما يقع فيه من التردد بين
الوفاء بالعهد أو َنقْضه ،حينما يلوح له بريق المال وتتحرّك بين جنباته شهوات النفس ،فيقول له
الحق تبارك وتعالى :اصبر ..اصبر ل تكُنْ عَجُولً ،وقارن المسائل مقارنة هادئة ،وتحمّل كل
مشقة نفسية ،وتغلّب على شهوة النفس؛ لتصل إلى النتيجة المحمودة.
فالتلميذ الذي يجتهد ويتعب ويتحمّل مشقة الدرس والتحصيل يصبر على الشهوات العاجلة لما
ينتظره من شهوات باقية آجلة ،فوراء الدرس والتحصيل غايةٌ أكبر و َه َدفٌ أَسْمى.
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:
ن صَبَرُواْ[ } ..النحل.]96 :
{ وَلَ َنجْزِيَنّ الّذِي َ
أي :على مشقّات الوفاء بالعهود.
حسَنِ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ } [النحل.]96 :
{ َأجْرَ ُهمْ بِأَ ْ
أي :أجرا بالزيادة في الجزاء على أحسن ما يكون؛ فالنسان حين يعمل مفروضا أو مندوبا فله
الجزاء ،أما المباح فالمفروض أل جزاء له ،ولكنّ فضل ال يجزي عليه أيضا.
ل صَالِحا.} ...
ع ِم َ
ثم يقول الحق سبحانه { :مَنْ َ
()1981 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسَنِ مَا
ع ِملَ صَاِلحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَ ُنحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّ َب ًة وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ أَجْرَ ُهمْ بِأَ ْ
مَنْ َ
كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()97
الحق تبارك وتعالى يُعطينا قضية عامة ،هي قضية المساواة بين الرجل والمرأة ،فالعهود كانت
عادةً تقع بين الرجال ،وليس للمرأة تدخّل في إعطاء العهود ،حتى إنها لما دخلتْ في عهد مع
النبي صلى ال عليه وسلم يوم بيعة العقبة جعل واحدا من الصحابة يبايع النساء نيابة عنه.
إذن :المرأة بعيدة عن هذا المعتَرك نظرا لن هذا من خصائص الرجال عادةً ،أراد سبحانه أن
يقول لنا :نحن ل نمنع أن يكونَ للنثى عملٌ صالح.
ول تظنّ أن المسألة منسحبة على الرجال دون النساء ،فالعمل الصالح مقبول من الذكر والنثى
ن يتوفّر له اليمان ،ولذلك يقول تعالى:
على حدّ سواء ،شريطة أ ْ
{ وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ[ } ..النحل.]97 :
جدْوى ويكون مقبولً عند ال؛ ولذلك نرى كثيرا من الناس الذين يُقدّمون
وبذلك يكون العمل له َ
أعمالً صالحة ،ويخدمون البشرية بالختراعات والكتشافات ،ويداوون المرضى ،ويبنون
المستشفيات والمدارس ،ولكن ل يتوفر لهم شرط اليمان بال.
حظّ لهم في
فنرى الحق تبارك وتعالى ل يبخس هؤلء حقهم ،ولكن يُعجّله لهم في الدنيا؛ لنه ل َ
أجر الخرة ،يقول تعالى {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ َلهُ فِي حَرْثِهِ َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ
الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى.]20 :
ويقول الحق سبحانه وتعالىَ {:فمَن َي ْعمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـ َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا
يَ َرهُ }[الزلزلة.]8-7 :
وهذا كله خاصّ بأمور الدنيا ،فالذي يحسن شيئا ينال ثمرته ،لكن في جزاء الخرة نقول لهؤلء:
ل حَظّ لكم اليوم ،وخذوا أجركم ِممّنْ عملتُم له فقد عملتُم الخير للنسانية للشهرة وخلود الذكْر،
وقد أخذتم ذلك في الدنيا فقد خَلّدوا ِذكْراكم ،ورفعوا شأنكم ،وصنعوا لكم التماثيل ،ولم يبخسوكم
شهْرة والتكريم.
حقّكم في ال ّ
َ
ويوم القيامة يواجههم الحق سبحانه وتعالى :فعلتم ليقال ..وقد قيل ،فاذهبوا وخذوا ممّنْ عملتم لهم.
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا
حسَبُهُ ال ّ
عمَاُل ُهمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ
هؤلء الذين قال ال في حقهم {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
حسَابِ }[النور.]39 :
جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَابَ ُه وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ
ن يؤمن به ويعمل ابتغاء وجهه ومرضاته.
يُفاجأ يوم القيامة أن له إلها كان ينبغي أ ْ
ط لقبول العمل الصالح ،فإذا ما توفر اليمان فقد استوى ال ّذكَر والنثى في
إذن :فاليمان شَ ْر ٌ
الثواب والجزاء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول تعالى:
{ فَلَ ُنحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّ َبةً[ } ..النحل.]97 :
هذه هي النتيجة الطبيعة للعمل الصالح الذي يبتغي صاحبه وجه ال والدار الخرة ،فيجمع ال له
حظين من الجزاء ،حظا في الدنيا بالحياة الطيبة الهانئة ،وحظا في الخرة:
{ وَلَ َنجْزِيَ ّنهُمْ َأجْرَهُم بَِأحْسَنِ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ } [النحل.]97 :
ويقول الحق سبحانه { :فَإِذَا قَرَ ْأتَ.} ...
()1982 /
فَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآَنَ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ ()98
الستعاذة :اللجوء والعتصام بال من شيء تخافُه ،فأنت ل تلجأ ول تعتصم ،ول تستجير ول
تستنجد إل إذا استشعرتَ في نفسك أنك ضعيف عن مقاومة عدوك.
فإذا كان عدوك الشيطان بما جعل ال له من قوة وسلطان ،وما له من مداخل للنفس البشرية فل
ل لك ول ُقوّة في مقاومته إل أنْ تلجأ إلى ال القوي الذي خلقك وخلق هذا الشيطان ،وهو
ح ْو َ
َ
القادر وحده على َردّه عنك؛ لن الشيطان في معركة مع النسان تدور رحاها إلى يوم القيامة.
ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ
وقد أقسم الشيطان للحق تبارك وتعالى ،فقال {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص.]83-82 :
فما عليك إل أن تكون من هؤلء ،ما عليك إل أنْ ترتمي في حضن ربك عز وجل وتعتصم به،
فهو سبحانه القوي القادر على أنْ يدفعَ عنك ما لم تستطع أنت َدفْعه عن نفسك ،فل تقاومه بقوتك
أنت؛ لنه ل طاقة لك به ،ول تدعه ينفرد بك؛ لنه إن انفرد بك وأبعدك عن ال فسوف تكون له
الغلبة.
ل ول قوةَ إل بال ،أي :ل حول :ل تحوّل عن المعصية .ول قوة .أي:
حوْ َ
ولذلك نقول دائما :ل َ
على الطاعة إل بال.
ونحن نرى الصبي الصغير الذي يسير في الشارع مثلً قد يتعرّض لمَنْ يعتدي عليه من أمثاله
من الصبية ،أما إذا كان في صُحْبة والده فل يجرؤ أحد منهم أنْ يتعرضَ له ،فما بالك بمَنْ يسير
صحْبة ربه تبارك وتعالى ،ويُلْقي بنفسه في حماية ال سبحانه؟!
في ُ
وفي مقام الستعاذة بال نذكر قاعدة إيمانية علّمنا إياها الرسول صلى ال عليه وسلم في حديثه
الشريف " :من استعاذ بال فأعيذوه ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيلزم المؤمن أنْ يعيذ من استعاذ بال ،وإنْ كان في أحب الشياء إليه " ،والرسول صلى ال عليه
وسلم يعطينا القدوة في ذلك ،حينما تزوج من فتاة على قدر كبير من الحسن والجمال لدرجة أن
ن في الكَيْد لها وزحزحتها من أمامهن حتى ل تغلبهن على قلب النبي
نساءه غِرْنَ منها ،وأخذْ َ
صلى ال عليه وسلم ،ولكن كيف لهُنّ ذلك؟
حاولْنَ استغلل أن هذه الفتاة ما تزال صغيرة غِرة ،تتمتع بسلمة النية وصفاء السريرة ،ليس
لديها من تجارب الحياة ما تتعلم منه ُلؤْما أو مكْرا ،وهي أيضا ما تزال في نشوة فرحتها بأنْ
أصبحت أما للمؤمنين ،وتحرص كل الحرص على إرضاء النبي صلى ال عليه وسلم فاستغل
ت على رسول ال فقولي
نساء النبي صلى ال عليه وسلم هذا كله ،وقالت لهن إحداهن :إذا دخل ِ
له :أعوذ بال منك ،فإنه يحب هذه الكلمة.
أخذت الفتاة هذه الكلمة بما لديها من سلمة النية ،ومحبة لرسول ال ،وحرص على إرضائه،
عذْت
وقالت له :أعوذ بال منك ،وهي ل تدري معنى هذه العبارة فقال صلى ال عليه وسلم " :لقد ُ
بمعاذ ،الحقي بأهلك ".
أي :ما ُدمْت استعذت بال فأنا قبلت هذه الستعاذة؛ لنكِ استعذت بمعاذ أي :بمن يجب علينا أن
نترككِ من أجله ،ثم طلقها النبي صلى ال عليه وسلم امتثالً لهذه الستعاذة.
إذن :مَن استعاذ بال ل بُدّ للمؤمن أنْ يُعيذه ،ومن استجار بال ل ُب ّد للمؤمن أن يكون جنديا من
جنود ال ،ويجيره حتى يبلغ مأمنه.
وفي الية الكريمة أسلوب شرط ،اقترن جوابه بالفاء في قوله تعالى:
} فَاسْ َتعِذْ[ { ...النحل.]98 :
فإذا رأيت الفاء فاعلم أن ما بعدها مترتبٌ على ما قبلها ،كما لو قُ ْلتَ :إذا قابلت محمدا ف ُقلْ له
كذا ..فل يتم القول إل بعد المقابلة .أما في الية الكريمة فالمراد :إذا أردت قراءة القرآن فاستعِذْ؛
لن الستعاذة هنا تكون سابقة على القراءة ،كما جاء في قَول الحق تبارك وتعالى {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ
آمَنُواْ إِذَا ُقمْتُمْ إِلَى الصّلةِ فاغْسِلُو ْا وُجُو َهكُمْ[} ..المائدة.]6 :
فالمعنى :إذا أرد ُتمْ إقامة الصلة فاغسلوا وجوهكم ،وكذلك إذا أردتَ قراءة القرآن فاستعذ بال من
الشيطان الرجيم؛ لن القرآن كلم ال.
ولو آمنّا أن ال سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم لعلمنا أن قراءة القرآن تختلف عن أي قراءة
أخرى ،فأنت كي تقرأ القرآن تقوم بعمليات متعددة:
أولها :استحضار قداسة المُنْزِل سبحانه الذي آمنتَ به وأقبلتَ على كلمه.
ثانيها :استحضار صدق الرسول في بلغ القرآن المنزّل عليه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثالثها :استحضار عظمة القرآن الكريم ،بما فيه من أوجه العجاز ،وما يحويه من الداب
والحكام.
إذن :لديك ثلث عمليات تستعد بها لقراءة كلم ال في قرآنه الكريم ،وكل منها عمل صالح لن
يدعكَ الشيطانُ تؤديه دون أنْ يتعرّض لك ،ويُوسوس لك ،ويصرفك عما أنت مُق ِبلٌ عليه.
وساعتها لن تستطيع منعه إل إذا استعنت عليه بال ،واستعذتَ منه بال ،وبذلك تكون في معية ال
منزل القرآن سبحانه وتعالى ،وفي رحاب عظمة المنزل عليه محمد صدقا ،ومع استقبال ما في
القرآن من إعجاز وآداب وأحكام.
ومن هنا وجب علينا الستعاذة بال من الشيطان قبل قراءة القرآن.
حمْل المعنى على الستعاذة أيضا بعد قراءة القرآن ،فيكون المراد :إذا قرأتَ
ومع ذلك ل مانع من َ
القرآن فاستعذ بال ..أي :بعد القراءة؛ لنك بعد أن قرأتَ كتاب ال خرجتَ منه بزاد إيماني
ضتَ لداب وأحكام طُلبت منك ،فعليك ـ إذن ـ أن تستعيذ بال من
وتجليّات ربانية ،وتع ّر ْ
الشيطان أن يفسِد عليك هذا الزاد وتلك التجليات أو يصرفك عن أداء هذه الداب والحكام.
وقوله تعالى:
} مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ { [النحل.]98 :
أي :الملعون المطرود من رحمة ال؛ لن الشيطان ليس مخلوقا جديدا يحتاج أنْ نُجرّبه لنعرف
طبيعته وكيفية التعامل معه ،بل له معنا سوابق عداء منذ أبينا آدم عليه السلم.
جكَ[} ..طه.]117 :
ك وَلِ َزوْ ِ
ع ُدوّ ّل َ
وقد حذر ال تعالى آدم منه فقال {:يآءَادَمُ إِنّ هَـاذَا َ
وسبق أنْ رُجم وُلعِن وأُبعِد من رحمة ال ،فقد هددنا بقوله {:لَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّ َتهُ[} ..السراء.]62 :
إذن :هناك عداوة مسبقة بيننا وبينه منذ خُلِق النسان ،وإلى قيام الساعة.
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّهُ لَيْسَ لَهُ.{ ..
()1983 /
إِنّهُ لَ ْيسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الّذِينَ َآمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ ()99
لحكمة أرادها الخالق سبحانه أنْ جعل للشيطان سلطانا .أي :تسلطا.
وكلمة (السلطان) مأخوذة من السّليط ،وهو الزيت الذي كانوا يُوقِدون به السّرج والمصابيح قبل
اكتشاف الكهرباء ،فكانوا يضعون هذا الزيت في إناء مغلق مثل السلطانية يخرج منه فتيلة،
سمّيتْ الحجة سُلْطانا؛ لنها تنير لصاحبها
وعندما توقد تمتصّ من هذا الزيت وتُضيء؛ ولذلك ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَجْه الحق.
والسلطان ،إما سلطان حجة تقنعك بالفعل ،فتفعل وأنت راضٍ مقتنع به .وإما سلطان َقهْر وغلبة
يجبرك على الفعل ويحملك عليه َقهْرا دون اقتناع به.
إذن :تنفيذ المطلوب له قوتان :قوة الحجة التي تُضيء لك وتُوضّح أمامك معالم الحق ،وقوة القهر
التي تُجبرك على تنفيذ المطلوب عن غير اقتناع وإنْ لم ترهَا.
والحقيقة أن الشيطان ل يملك أيّا من هاتين القوتين ،ل قوة الحجة والقناع ،ول قوة القهر .وهذا
ضيَ
واضح في قول الحق تبارك وتعالى على لسان الشيطان يوم القيامةَ {:وقَالَ الشّ ْيطَانُ َلمّا ُق ِ
عوْ ُتكُمْ
ق َووَعَدّتكُمْ فَأَخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
لمْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َد ُك ْم وَعْدَ ا ْلحَ ّ
اَ
خيّ إِنّي َكفَ ْرتُ ِبمَآ
خكُ ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْ ِر ِ
سكُمْ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ
أَشْ َركْ ُتمُونِ مِن قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[إبراهيم.]22 :
هذا حوار يدور يوم القيامة بعد أن انتهتْ المسألة وتكشفتْ الحقيقة ،وجاء وقت المصارحة
والمواجهة .يقول الشيطان لوليائه مُتنصلً من المسئولية :ما كان عندي من سلطان عليكم ،ل
ن تفعلوا عن رضا ،ول سلطان َقهْر أجبركم به أن تفعلوا وأنتم كارهون ،أنا
سلطان حجة تقنعكم أ ْ
خيّ[} ..إبراهيم.]22 :
خكُ ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ
ت ووسوستُ فأتيتموني طائعين {.مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
فقط أشر ُ
خ يكون من
أي :نحن في الخيبة سواء ،فل أستطيع نجدتكم ،ول تستطيعون نجدتي؛ لن الصّرا َ
شخص وقع في ضائقة أو شدة ل يستطيع الخلص منها بنفسه ،فيصرخ بصوت عالٍ لعله يجد
مَنْ يُغيثه ويُخلّصه ،فإذا ما استجاب له القوم فقد أصرخوه .أي :أزالوا سبب صُرَاخه.
إذن :فالمعنى :ل أنا أستطيع إزالة سبب صراخكم ،ول أنتم تستطيعون إزالة سبب صُرَاخي.
وكذلك في حوار آخر دار بين أهل الباطل الذين تكاتفوا عليه في الدنيا ،وها هي المواجهة يوم
ضهُمْ
القيامةَ {:و ِقفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ * مَا َلكُمْ لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ ُهمُ الْ َيوْمَ مُسْ َتسِْلمُونَ * وََأقْبَلَ َب ْع ُ
عَلَىا َب ْعضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُواْ إِ ّن ُكمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْ َيمِينِ * قَالُواْ َبلْ لّمْ َتكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * َومَا
كَانَ لَنَا عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ َبلْ كُن ُتمْ َقوْما طَاغِينَ }[الصافات.]30-24 :
والمراد بقوله( :عَنِ ال َيمِينِ) أن النسان يزاول أعماله بكلتا يديه ،لكن اليد اليمنى هي ال ُعمْدة في
العمل ،فأتيته عن اليمين أي :من ناحية اليد الفاعلة.
وقولهَ {:ومَا كَانَ لَنَا عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ َبلْ كُنتُمْ َقوْما طَاغِينَ }[الصافات.]30 :
أي :في انتظار إشارة منّا ،مجرد إشارة ،فسارعتم ووقعتم فيما وقعتُم فيه.
فعلى مَنْ يكون تسلط الشيطان وتلك الغلبة والقهر؟
يُوضّح الحق تبارك وتعالى أن تسلّط الشيطان ل يقع على مَنْ آمن به ربا ،ولجأ إليه واعتصم به،
حفْظه ،ول يستطيع الشيطان وهو مخلوق ل تعالى أنْ
وما ُدمْت آمنتَ بال فأنت في مَعيّته و ِ
يتسلط عليك أو يغلبك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :الحصن الذي يقينا كيْدَ الشيطان هو اليمان بال والتوكّل عليه سبحانه.
فعلى مَنْ إذن يتسلّط الشيطان؟
يُوضّح الحق تبارك وتعالى الجانب المقابل ،فيقول { :إِ ّنمَا سُلْطَانُهُ.} ..
()1984 /
إِ ّنمَا سُ ْلطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَ َتوَّلوْنَ ُه وَالّذِينَ ُهمْ بِهِ ُمشْ ِركُونَ ()100
معنى يتولونه :أي يتخذونه وَليّا يطيعون أمره ،ويخضعون لوسوسته ،ويتبعون خطواته:
{ الّذِينَ يَ َتوَّلوْنَ ُه وَالّذِينَ هُم ِبهِ مُشْ ِركُونَ } [النحل.]100 :
أي :مشركون بال ،أو يكون المعنى :وهُمْ به أي بسببه أشركوا؛ لنه أصبح له أوامر ونواه وهم
يطيعونه ،وهذه هي العبادة بعينها ،فكأنهم عبدوه من دون ال بما قدّموه من طاعته في أمره
و َنهْيه.
صوْت
سمّى ال طريقة الشيطان في الضلل والغواية وَسْوسةً ،والوسوسة في الحقيقة هي َ
وقد َ
الحُليّ حينما يتحرك في أيدي النساء ،فيُحدِث صوتا رقيقا فيه جاذبية وإغراء تهيج له النفس،
وكذلك الشيطان يدخل إليك عن طريق الغراء والتزيين ،فإذا ما هاجتْ عليك نفسُك وحدّثتْك
بالمعصية تركك لها ،فعند هذه النقطة تنتهي مُهمته.
ولكن ،هل النفس ل تفعل المعصية إل بوسوسة الشيطان؟
قالوا :ل ،فالنفس ـ والمراد هنا النفس المّارة بالسوء ـ قد تفعل المعصية من نفسها دون
سوِسُ الشيطان لها ،وينزغها نَزغا ويُؤلّبها ،ويُزّين لها معصية ما
وسوسة من الشيطان ،وقد يُو ْ
كانت على بالها.
فكيف ـ إذن ـ يُفرّق بين هاتين المعصيتين؟
النفس حينما ترغب في معصية أو شهوة تراها تقف عند معصية بعينها ل تتزحزح عنها ،وإذا
حتْ عليك بها ،وطلبتها بعينها ،فشهوة النفس
قاومتَ نفسك ،وحاولتَ صَرْفها عن هذه الشهوة أل ّ
إذن ثابتة؛ لنها تشتهي شيئا واحدا تُلح عليه.
ولكن حينما يُوسوِسُ الشيطان لك بشهوة فوجد منك مقاومة وقدرة على مجابهته صرف نظرك
إلى أخرى؛ لنه يريدك عاصيا بأيّ شكل من الشكال ،فتراه يُزيّن لك معصية أخرى وأخرى،
إلى أنْ ينال منك ما يريد.
ن رفضتَ رشوة المال زيّن لك رشوة
ومن ذلك ما نراه في الرشوة مثلً ـ والعياذ بال ـ فإ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الهدية ،وإنْ رفضتَ رشوة الهدية زيّنَ لك الرشوة بقضاء مصلحة مقابلة.
ضعْف فيك ،إذن :فهو ليس كالنفس يقف بك
وهكذا يظل هذا اللعين وراءك حتى يصل إلى نقطة َ
ي صورة من الصور.
عند شهوة واحدة ،ولكنه يريد أن يُوقِع بك على أ ّ
ولكي نقفَ على مداخل الشيطان ونكون منه على حَذر يجب أنْ نعلم أن الشيطان على علم كبير
سمّوه " طاووس الملئكة " ،ويمكن أن نقف على شيء من
وصل به إلى صفوف الملئكة ،بل َ
علم الشيطان في ِدقّة قَسَمه ،حينما أقسم للحق تبارك وتعالى أن يُغوي بني آدم ،فقال {:فَ ِبعِزّ ِتكَ
ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص.]83-82 :
لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
هكذا عرف الشيطان أنْ يُقسِم القسَم المناسب ،فلم َي ُقلْ :بقوتي ول بحجتي سأغوي الخَلْق ،بل
عرف ل تعالى صفة العزة ،فهو سبحانه عزيز ل يُغلب؛ لذلك ترك لخلْقه حرية اليمان به،
فقالَ {:فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف.]29 :
خلْقك :يؤمن مَنْ يؤمن ،ويكفر مَنْ يكفر ،سوف أدخل من هذا الباب لغواء
فالمعنى :فبعزتك عن َ
البشر ،ولكني ل أجرؤ على القتراب ممّنْ اخترتَهم واصطفيتَهم ،لن أتع ّرضَ لعبادك المخلصين،
خلَ لي بهم ،ول سلطان لي عليهم.
ول دَ ْ
كذلك يجب أن نعلم أن الشيطان دقيق في تخطيطه ،وهذا من مداخله وتلبيسه الذي يدعونا إلى
الحذر من هذا اللعين .فالشيطان ل حاجة له في أن يذهب إلى الخمارات مثلً ،فقد كفاه أهلُها مشقة
الوَسْوسة ،ووفّروا عليه المجهود ،هؤلء هم أولياؤه وأحبابه ومُريحوه بما هم عليه من معصية
ال ،ولكنه في حاجة إلى أن يكون في المساجد ليُفسِد على أهل الطاعة طاعتهم.
وقد أوضح هذه القضية وفطن إليها المام الجليل أبو حنيفة النعمان ،وكان مشهورا بالفِطْنة ،وعلى
دراية بمداخل الشيطان وتلبيسه ،وكل هذا جعل له باعا طويلً في الفتاء ،وقد عرض عليه أحدهم
هذه المسألة:
قال :يا إمام كان لديّ مال دفنته في مكان كذا ،وجعلتُ عليه علمة ،فجاء السّيْل وطمس هذه
العلمة ،فلم أَهتدِ إليه ،فماذا أفعل؟
فتبسّم أبو حنيفة وقال :يا بُني ليس في هذا علم ،ففي أيّ باب من أبواب الفقه سيجد أبو حنيفة هذه
القضية؟! ولكني سأحتال لك.
ت في الليل
وفعلً تفتقتْ قريحة المام عن هذه الحيلة التي تدل على عِلْمه وفقهه ،قال له :إذا جئ َ
فتوضّأ ،وقُمْ بين يدي ربّك مُتهجّدا .وفي الصباح أخبرني خبرك.
ت المال ،فقال :كيف؟ قال الرجل :حينما
وفي صلة الفجر قابله الرجل مُبتسِما .يقول :لقد وجد ُ
وقفتُ بين يديْ ربي في الصلة تذكرت المكان وذهبتُ فوجدت مالي ،فضحك المام وقال :وال
لقد علمت أن الشيطان لن يدعَك تُتِم ليلتك مع ربك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول الحق سبحانه } :وَِإذَا بَدّلْنَآ آيَةً ّمكَانَ آيَةٍ.{ ..
()1985 /
وَإِذَا َبدّلْنَا آَ َيةً َمكَانَ آَيَ ٍة وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ قَالُوا إِ ّنمَا أَ ْنتَ ُمفْتَرٍ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ()101
قولهَ { :بدّلْنَآ } ومنها :أبدلت واستبد ْلتُ ،أي :رفعتُ آية وطرحتُها .وجئت بأخرى بدلً منها ،وقد
تدخل الباء على الشيء المتروك ،كما في قوله تعالى {:أَتَسْتَ ْبدِلُونَ الّذِي ُهوَ َأدْنَىا بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ..
}[البقرة.]61 :
أي :تتركون ما هو خير ،وتستبدلون به ما هو أدنى.
وما معنى الية؟ كلمة آية لها َمعَانٍ متعددة منها:
ـ الشيء العجيب الذي يُلفت النظار ،ويُبهر العقول ،كما نقول :هذا آية في الجمال ،أو في
الشجاعة ،أو في الذكاء ،أي :وصل فيه إلى حَدّ يدعو إلى التعجّب والنبهار.
ـ ومنها اليات الكونية ،حينما تتأمل في كون ال من حولك تجد آياتٍ تدلّ على إبداع الخالق
سبحانه وعجيب صنعته ،وتجد تناسقا وانسجاما بين هذه اليات الكونية.
شمْسُ وَالْ َقمَرُ }[فصلت{.]37 :
يقول تعالى عن هذا النوع من الياتَ {:ومِنْ آيَاتِهِ الّيلُ وَال ّنهَا ُر وَال ّ
جوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالَعْلَمِ }[الشورى.]32 :
َومِنْ آيَاتِهِ ا ْل َ
جدَ لِسُنّةِ
ونلحظ أن هذه اليات الكونية ثابتة دائمة ل تتبّدل ،كما قال الحق تبارك وتعالى {:وَلَن تَ ِ
اللّهِ تَ ْبدِيلً[} ..الفتح.]23 :
ـ ومن معاني الية :المعجزة ،وهي المر العجيب الخارق للعادة ،وتأتي المعجزة على أيدي
حجّة لهم ،ودليلً على صدق ما جاءوا به من عند ال.
النبياء لتكون ُ
ونلحظ في هذا النوع من اليات أنه يتبدّل ويتغيّر من نبي لخر؛ لن المعجزة ل يكون لها أثرها
إل إذا كان في شيء نبغ فيه القوم؛ لن هذا هو مجال العجاز ،فلو أتيناهم بمعجزة في مجال ل
عِلْمَ لهم به لقالوا :لو أن لنا عِلْما بهذا لتيْنا بمثله؛ لذلك تأتي المعجزة فيما نبغُوا فيه ،وعَلموه جيدا
حتى اشتهروا به.
فلما نبغَ قوم موسى عليه السلم في السحر كانت معجزته من نوع السحر الذي يتحدى سحرهم،
فلما جاء عيسى ـ عليه السلم ـ ونبغ قومه في الطب والحكمة كانت معجزته من نفس النوع،
فكان ـ عليه السلم ـ يبريء الكمه والبرص ويحي الموتى بإذن ال.
فلما ُبعِث محمد صلى ال عليه وسلم ،ونبغ قومه في البلغة والفصاحة والبيان ،وكانوا يقيمون لها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السواق ،ويُعلّقون قصائدهم على أستار الكعبة اعتزازا بها ،فكان ل بُدّ أنْ يتحدّاهم بمعجزة من
جنس ما نبغوا فيه وهي القرآن الكريم ،وهكذا تتبدّل المعجزات لتناسب ُكلّ منها حال القوم،
وتتحدّاهم بما اشتهروا به ،لتكون أَدْعى للتصديق وأثبت للحجة.
ـ ومن معاني كلمة آية :آيات القرآن الكريم التي نُسميّها حاملة الحكام ،فإذا كانت الية هي
المر العجيب ،فما وجه العجب في آيات القرآن؟
وجه العجب في آيات القرآن أن تجدَ هذه اليات في ُأمّة أُمية ،وأُنزِلتْ على نبي أُميّ في قوم من
البدو الرّحل الذين ل يجيدون شيئا غير صناعة القول والكلم الفصيح ،ثم تجد هذه اليات تحمل
من القوانين والحكام والداب ما يُرهب أقوى حضارتين معاصرتين ،هما حضارة فارس في
الشرق ،وحضارة الرومان في الغرب ،فنراهم يتطلّعون للسلم ،ويبتغون في أحكامه ما ينقذهم،
أليس هذا عجيبا؟
وهذا النوع الخير من اليات التي هي آيات الكتاب الكريم ،والتي نُسمّيها حاملة الحكام ،هل
تتبدّل هي الخرى كسابقتها؟
نقول :آيات الكتاب ل تتبدّل؛ لن أحكام ال المطلوبة ِممّن عاصر رسول ال صلى ال عليه وسلم
كالحكام المطلوبة ِممّنْ تقوم عليه الساعة.
وقد سُبق السلم باليهودية والمسيحية ،فعندنا أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بتحويل القبلة
من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة .اعترض على ذلك اليهود وقالوا :ما بال محمد ل يثبتُ على
حال ،فيأمر بالشيء اليوم ،ويأمر بخلفه غدا ،فإنْ كان البيت الصحيح هو الكعبة فصلتكم لبيت
المقدس باطلة ،وإنْ كان بيت المقدس هو الصحيح ،فصلتكم للكعبة باطلة.
لذلك قال الحق تبارك وتعالى:
} وَإِذَا بَدّلْنَآ آيَةً ّمكَانَ آيَ ٍة وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ قَالُواْ إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ[ { ..النحل.]101 :
فالمراد بقوله الحق سبحانه:
} آيَةً ّمكَانَ آ َيةٍ[ { ...النحل.]101 :
أي :جِئْنا بآية تدلّ على حكم يخالف ما جاء في التوراة ،فقد كان استقبال الكعبة في القرآن بدل
استقبال بيت المقدس في التوراة.
وقوله } :وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ[ { ..النحل]101 :
أي :يُنزل كل آية حَسْب ظروفها :أمةً وبيئ ًة ومكانا وزمانا.
وقوله } :قَالُواْ إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ[ { ..النحل.]101 :
أي :اتهموا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالكذب المتعمد ،وأن هذا التحويل من عنده ،وليس
وَحْيا من ال تعالى؛ لن أحكام ال ل تتناقض .ونقول :نعم أحكام ال سبحانه وتعالى ل تتناقض
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الدين الواحد ،أما إذا اختلفتْ الديان فل مانعَ من اختلف الحكام.
إذن :فآيات القرآن الكريم ل تتبدّل ،ولكن يحدث فيها َنسْخ ،كما قال الحق تبارك وتعالى {:مَا
سهَا نَ ْأتِ ِبخَيْرٍ مّ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا[} ..البقرة.]106 :
نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ نُن ِ
وإليك أمثلة للنسْخ في القرآن الكريم:
طعْتُمْ[} ..التغابن.]16 :
حينما قال الحق سبحانه {:فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْ َت َ
جعل الستطاعة ميزانا للعمل ،فالمشرّع سبحانه حين يرى أن الستطاع َة ل تكفي يُخفّف عنّا
الحكم ،حتى ل يُكلّفنا فوق طاقتنا ،كما في صيام المريض والمسافر مثلً ،وقد قال تعالى {:لَ
س َعهَا[} ...البقرة.]286 :
ل وُ ْ
ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ
وقال {:لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإلّ مَآ آتَاهَا }[الطلق.]7 :
فليس لنا بعد ذلك أنْ نلويَ اليات ونقول :إن الحكم الفلني لم َتعُدْ النفس تُطيقه ولم َيعُد في
وُسْعنا ،فالحق سبحانه هو الذي يعلم الوُسْع ويُكلّف على قَدْره ،فإنْ كان قد كلّف فقد علم الوُسْع،
خ ّففَ
بدليل أنه سبحانه إذا وجد مشقة خفّف عنكم من تلقاء نفسه سبحانه ،كما قال تعالى {:النَ َ
ضعْفا[} ..النفال.]66 :
اللّهُ عَن ُك ْم وَعَلِمَ أَنّ فِي ُك ْم َ
ففي بداية السلم حيث شجاعة المسلمين وقوتهم ،قال تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكْم قاطع ل جدال فيه.
عقَديا يحتاج إلى ُ
ليس أمرا َ
ل وَالَعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ
فانظر إلى هذا التدرج في تحريم الخمر :قال تعالىَ {:ومِن َثمَرَاتِ النّخِي ِ
حسَنا }[النحل.]67 :
سكَرا وَرِزْقا َ
َ
أهل التذوق والفهم عن ال حينما سمعوا هذه الية قالوا :لقد بيّت ال للخمر أمرا في هذه الية؛
سكَر فلم يصفه بالحُسْن ،فدلّ ذلك على أن الخمر
حسَن ،وسكت عن ال ّ
ذلك لنه وصف الرزق بأنه َ
سيأتي فيه كلم فيما بعد.
خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ
وحينما سُئِل صلى ال عليه وسلم عن الخمر رَدّ القرآن عليهمَ {:يسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ
س وَإِ ْث ُم ُهمَآ َأكْبَرُ مِن ّن ْف ِعهِمَا[} ..البقرة.]219 :
فِي ِهمَآ إِثْمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّا ِ
جاء هذا على سبيل النصح والرشاد ،ل على سبيل الحكم والتشريع ،فعلى كل مؤمن يثق بكلم
ربه أن يرى له مَخْرجا من أَسرْ هذه العادة السيئة.
ثم لُوحِظ أن بعض الناس يُصلي وهو مخمور ،حتى قال بعضهم في صلته :أعبد ما تعبدون،
سكَارَىا حَتّىا َتعَْلمُواْ مَا َتقُولُونَ} ..
لةَ وَأَنْتُمْ ُ
فجاء الحكم {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ َتقْرَبُواْ الصّ َ
[النساء.]43 :
سكْر إل إذا
ومقتضى هذا الحكم أنْ يصرفهم عن الخمر معظم الوقت ،فل تتأتى لهم الصلة دون ُ
امتنعوا عنها قبل الصلة بوقت كافٍ ،وهكذا عوّدهم على تركها معظم الوقت ،كما يحدث الن مع
الطبيب الذي يعالج مريضه من التدخين مثلً ،فينصحه بتقليل الكمية تدريجيا حتى يتمكّن من
التغلب على هذه العادة.
وبذلك وصل الشارع الحكيم سبحانه بالنفوس إلى مرحلة أل َفتْ فيها تَرْك الخمر ،وبدأت تنصرف
عنها ،وأصبحت النفوس مُهيّئة لتقبّل التحريم المطلق ،فقال تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيقول } :نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مّ ْنهَا { فيها عِلّة للتبديل ،وضرورة تقتضي النسخ وهي الخيرية ،فما عِلّة
التبديل في قولهَ } :أوْ مِثِْلهَا {؟
أولً :في قوله تعالى } :نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مّ ْنهَا { قد يقول قائل :ولماذا لم يَ ْأتِ بالخيرية من البداية؟
حقّ ُتقَاتِهِ[} ..آل عمران.]102 :
نقول :لن الحق سبحانه حينما قال {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّهَ َ
شقّتْ هذه الية على
وهذه منزلة عالية في التقوى ،ل يقوم بها إل الخواصّ من عباد الَ ،
الصحابة وقالوا :ومَنْ يستطيع ذلك يا رسول ال؟
طعْتُمْ[} ..التغابن.]16 :
فنزلت {:فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْ َت َ
وجعل ال تعالى التقوى على قدر الستطاعة ،وهكذا نسخت الية الولى مطلوبا ،ولكنها بقيت
ارتقاء ،فَمنْ أراد أنْ يرتقي بتقواه إلى (حَقّ ُتقَاتِهِ) فبها و ِنعْمت ،وأكثر ال من أمثاله وجزاه خيرا،
ومَنْ لم يستطع أخذ بالثانية.
حقّ ُتقَاتِهِ[} ...آل عمران:
ولو نظرنا إلى هاتين اليتين نظرة أخرى لوجدنا الولى {:ا ّتقُواْ اللّهَ َ
.]102
وإنْ كانت تدعو إلى كثير من التقوى إل أن العاملين بها قِلّة ،في حين أن الثانية {:فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا
طعْتُمْ[} ..التغابن.]16 :
اسْ َت َ
ت التقوى على قَدْر الستطاعة إل أن العاملين بها كثير ،ومن هنا كانت الثانية خَيْرا من
وإنْ جعل َ
الولى ،كما نقول :قليل دائم خير من كثير منقطع.
أما في قوله تعالىَ } :أوْ مِثِْلهَا { أي :أن الولى مِثْل الثانية ،فما وَجْه التغيير هنا ،وما سبب
التَبديل؟
نقول :سببه هنا اختبار المكلّف في مدى طاعته وانصياعه ،إنْ ُنقِل من أمر إلى مثله ،حيث ل
مشقّة في هذا ،ول تيسيرَ في ذاك ،هل سيمتثل ويطيع ،أم سيجادل ويناقش؟
مثل هذه القضية واضحة في حادث تحويل القبلة ،حيث ل مشقة على الناس في التجاه نحو بيت
المقدس ،ول تيسير عليهم في التجاه نحو الكعبة ،المر اختبار للطاعة والنصياع لمر ال ،فكان
من الناس مَنْ قال :سمعا وطاعة ونفّذوا أمر ال فورا دون جدال ،وكان منهم مَن اعترض وأنكر
واتهم رسول ال بالكذب على ال.
ومن ذلك أيضا ما نراه في مناسك الحج مما سنّه لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حيث نُقبل
الحجر السعد وهو حجر ،ونرمي الجمرات وهي أيضا حجر ،إذن :هذه أمور ل مجال للعقل
فيها ،بل هي لختبار الطاعة والنقياد للمشرع سبحانه وتعالى.
ثم يقول تعالى:
} َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ { [النحل.]101 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بل :حرف يفيد الضراب عن الكلم السابق وتقرير كلم جديد ،فالحق سبحانه وتعالى يُلغي
كلمهم السابق:
} قَالُواْ إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ[ { ...النحل.]101 :
ويقول لهم :ل ليس بمفتر ول كذاب ،فهذا اتهام باطل ،بل أكثرهم ل يعلمون.
وكلمة } َأكْثَرُ ُهمْ { هنا ليس بالضرورة أنْ تقابل بالقل ،فيمكن أن نقول :أكثرهم ل يعلمون.
سمَاوَاتِ
جدُ لَهُ مَن فِي ال ّ
وأيضا :أكثرهم يعلمون كما جاء في قول الحق سبحانه {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َيسْ ُ
حقّ
س َوكَثِيرٌ َ
ب َوكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ
ل وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآ ّ
س وَا ْل َقمَرُ وَالنّجُو ُم وَالْجِبَا ُ
شمْ ُ
َومَن فِي الَ ْرضِ وَال ّ
عَلَيْهِ ا ْل َعذَابُ[} ..الحج.]18 :
هكذا بالجماع ،تسجد ل تعالى جميع المخلوقات إل النسان ،فمنه كثير يسجد ،يقابله أيضا كثير
حقّ عليه العذاب ،فلم ي ُقلْ القرآن :وقليل حَقّ عليه العذاب.
َ
وعلى فَرْض أن:
} َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ { [النحل.]101 :
إذن :هناك أقلية تعلم صِدْق رسول ال صلى ال عليه وسلم في البلغ عن ربه ،وتعلم كذبهم
وافتراءهم على رسول ال حينما اتهموه بالكذب ،ويعلمون صِدْق كل آية في مكانها ،وحكمة ال
المرادة من هذه الية.
فَمنْ هم هؤلء الذين يعلمون في صفوف الكفار والمشركين؟
قالوا :لقد كان بين هؤلء َقوْم أصحاب عقول راجحة ،و َفهْم للمور ،ويعلمون وجه الحق
حدُواْ ِبهَا
والصواب في هذه المسألة ،ولكنهم أنكروها ،كما قال الحق تبارك وتعالى {:وَجَ َ
سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا }[النمل.]14 :
وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
وأيضا من هؤلء أصحاب عقول يفكرون في الهدى ،ويُراودهم السلم ،وكأن لديهم مشروعَ
إسلم ُيعِدون أنفسهم له ،وهم على علم أن كلم الكفار واتهامهم لرسول ال باطل وافتراء.
وأيضا من هؤلء مؤمنون فعلً ،ولكن تنقصهم القوة الذاتية التي تدفع عنهم ،والعصبية التي تردّ
عنهم كَيْد الكفار ،وليس عندهم أيضا طاقة أنْ يهاجروا ،فهم ما يزالون بين أهل مكة إل أنهم
مؤمنون ويعلمون صِدْق رسول ال وافتراء الكفار عليه ،لكن ل قدرة لهم على إعلن إيمانهم.
وفي هؤلء يقول الحق تبارك وتعالى {:وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ عَنكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ عَ ْنهُم بِ َبطْنِ َمكّةَ مِن
جدِ
ظفَ َركُمْ عَلَ ْيهِ ْم َوكَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرا * هُمُ الّذِينَ َكفَرُواْ َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَسْ ِ
َبعْدِ أَنْ َأ ْ
ن وَنِسَآءٌ ّم ْؤمِنَاتٌ لّمْ َتعَْلمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ
حلّ ُه وََل ْولَ ِرجَالٌ ّمؤْمِنُو َ
الْحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفا أَن يَبْلُغَ مَ ِ
فَ ُتصِي َبكُمْ مّ ْنهُمْ ّمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ عِلْمٍ[} ...الفتح.]25-24 :
أي :تدخلوا على أهل مكة وقد اختلط الحابل بالنابل ،والمؤمن بالكافر ،فتقتلوا إخوانكم المؤمنين
حمَتِهِ مَن يَشَآءُ َلوْ تَزَيّلُواْ َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُواْ مِ ْنهُمْ عَذَابا أَلِيما }[الفتح:
خلَ اللّهُ فِي َر ْ
دون علم {.لّيُ ْد ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]25
أي :لو كانوا مُميّزين ،الكفار في جانب ،والمؤمنون في جانب لَعذّبْنا الذين كفروا منهم عذابا أليما.
إذن :فإن كان أكثرهم ل يعلمون ويتهمونك بالكذب والفتراء فإنّ غير الكثرية يعلم أنهم كاذبون
في قولهم:
} إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ { [النحل.]101 :
وما داموا اتهموك بالفتراء ف ُقلْ ردا عليهمُ } :قلْ نَزّلَهُ رُوحُ.{ ...
()1986 /
ُقلْ نَزّلَهُ رُوحُ ا ْلقُدُسِ مِنْ رَ ّبكَ بِا ْلحَقّ لِيُثَ ّبتَ الّذِينَ َآمَنُوا وَ ُهدًى وَبُشْرَى لِ ْلمُسِْلمِينَ ()102
الحق تبارك وتعالى في هذه الية يرد على الكفار افتراءهم على رسول ال ،واتهامهم له بالكذب
المتعمد ،وأنه جاء بهذه اليات من نفسه ،فقال له :يا محمد ُقلْ لهؤلء :بل نزّله روح القُدس.
والقدس :أي المطهّر ،من إضافة الموصوف للصفة ،كما نقول :حاتم الجود مثلً .والمراد بـ "
روح القُدُس " سفير الوحي جبريل عليه السلم ،وقد قال عنه في آية أخرى {:نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ
لمِينُ }[الشعراء.]193 :
اَ
وقال عنه {:إِنّهُ َلقَ ْولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي ُق ّوةٍ عِندَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ * مّطَاعٍ ثَمّ َأمِينٍ }[التكوير:
.]21-19
وقوله الحق سبحانه:
{ مِن رّ ّبكَ بِا ْلحَقّ[ } ...النحل.]102 :
أي :أن جبريل لم ي ْأتِ بهذا القرآن من عنده هو ،بل من عند ال بالحق ،فمُحمد صلى ال عليه
وسلم لم يَ ْأتِ بالقرآن من عنده ،وكذلك جبريل ،فالقرآن من عند ال ،ليس افتراءً على ال ،ل من
محمد ،ول من جبريل عليهما السلم.
وقوله تعالى:
{ لِيُثَ ّبتَ الّذِينَ آمَنُو ْا وَهُدًى وَبُشْرَىا لِ ْلمُسِْلمِينَ } [النحل.]102 :
أي :ليُث ّبتَ الذين آمنوا على تصديق ما جاء به الرسول من اليات ،أن ال تعالى أعلمُ بما يُنزل
من اليات ،وأن كل آية منها مُناسِبة لزمانها ومكانها وبيئتها ،وفي هذا دليلٌ على أن المؤمنين
طائعون مُنصَاعون ل تعالى مُصدّقون للرسول صلى ال عليه وسلم في ُكلّ ما بلغ عن ربه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلقَدْ َنعَْلمُ.} ...
()1987 /
وفي هذه الية اتهام آخر لرسول ال صلى ال عليه وسلم وافتراء جديد عليه ،ل يأنف القرآن من
ن يفضحَ أمر هؤلء،
إذاعته ،فمَنْ سمع التهام والفتراء يجب أن يسمع الجواب ،فالقرآن يريد أ ْ
وأنْ يُظهِر إفلس حُججهم وما هم فيه من تخبّط.
يقول الحق تبارك وتعالى:
{ وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّنهُمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ[ } ..النحل.]103 :
وقد سبق أنْ قالوا عن رسول ال " مجنون " وبرّأه ال بقوله تعالى {:وَإِ ّنكَ َلعَلَىا خُُلقٍ عَظِيمٍ }
[القلم.]4 :
والخلقُ العظيم ل يكون في مجنون؛ لن الخلُق الفاضل ل يُوضع إل في مكانه ،بدليل قوله
تعالى {:مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبمَجْنُونٍ }[القلم.]2 :
وسبق أنْ قالوا :ساحر وهذا دليل على أنهم مغفلون يتخبّطون في ضللهم ،فلو كان محمد ساحرا،
فَلِمَ لم يسحركم كما سحر المؤمنين به وتنتهي المسألة؟
شعْرا ونثرا وخطابة ،ولم يُجرّبوا على
وسبق أنْ قالوا " شاعر " مع أنهم أدْرى الناس بفنون القول ِ
محمد صلى ال عليه وسلم شيئا من ذلك ،لكنه الباطل حينما يَلجّ في عناده ،ويتكبّر عن قبول
الحق.
وهنا جاءوا بشيء جديد يُكذّبون به رسول ال ،فقالوا:
{ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ[ } ...النحل.]103 :
أي :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم يتردد على أحد أصحاب العلم ليعلمه القرآن فقالوا :إنه
غلم لبي عامر بن لؤي اسمه (يعيش) ،وكان يعرف القراءة والكتاب ،وكان يجلب الكتب من
السواق ،ويقرأ قصص السابقين مثل عنترة وذات الهمة وغيرها من كتب التاريخ.
وقد تضاربتْ أقوالهم في تحديد هذا الشخص الذي يزعمون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
تعلّم على يديه ،فقالوا :اسمه " عداس " وقال آخرون :سلمان الفارسي .وقال آخرون :بَلْعام وكان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدادا روميا نصرانيا يعلم كثيرا عن أهل الكتاب ..الخ.
والحق تبارك وتعالى يردّ على هؤلء ،ويُظهِر إفلسهم الفكري ،وإصرارهم على تكذيب رسول
ال صلى ال عليه وسلم فيقول:
ي وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ } [النحل.]103 :
جمِ ّ
عَ{ لّسَانُ الّذِي ُيلْحِدُونَ إِلَ ْيهِ أَ ْ
اللسان هنا :اللغة التي يُتحدّث بها.
ويُلحِدون إليه :يميلون إليه وينسبون إليه أنه يُعلّم رسول ال صلى ال عليه وسلم.
أعجمي :أي لغته خفية ،ل يُفصح ول يُبين الكلم ،كما نرى الجانب يتحدثون العربية مثلً.
ونلحظ هنا أن القرآن الكريم لم يقُلْ (عجمي) ،لن العجم جنس يقابل العرب ،وقد يكون من
العجم مَنْ يجيد العربية الفصيحة ،كما رأينا سيبوَيْه صاحب (الكتاب) أعظم مراجع النحو حتى
الن وهو عَجمي.
أما العجمي فهو الذي ل يُفصح ول يُبين ،حتى وإنْ كان عربيا .وقد كان في قبيلة لؤي رجل
اسمه زياد يُقال له " زياد العجمي " لنه ل يُفصح ول يُبين ،مع أنه من أصل عربي.
إذن :كيف يتأتّى لهؤلء العاجم الذين ل يُفصحون ،ول يكادون ينطقون اللغة العربية ،كيف
لهؤلء أنْ يُعلّموا رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد جاء بمعجزة في الفصاحة والبلغة والبيان؟
كيف يتعلم من هؤلء ،ولم يثبت أنه صلى ال عليه وسلم التقى بأحد منهم إل (عداس) يُقال :إنه
قابله مرة واحدة ،ولم يثبت أنه صلى ال عليه وسلم تردّد إلى معلم ،ل من هؤلء ،ول من
غيرهم؟
كما أن ما يحويه القرآن من آيات وأحكام ومعجزات ومعلومات يحتاج في تعلّمه إلى وقت طويل
يتتلمذ فيه محمد على يد هؤلء ،وما جرّبْتم على محمد شيئا من هذا كله.
وهل يُعقل أن ما في القرآن يمكن أن يطويه صَدْ ُر واحدٍ من هؤلء؟! لو حدث لكان له من المكانة
والمنزلة بين قومه ما كان للنبي صلى ال عليه وسلم من منزلة ،ولشاروا إليه بالبنان ولذَاع
صِيتُه ،واشتُهر أمره ،وشيء من ذلك لم يحدث.
وقوله تعالى:
} وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ { [النحل.]103 :
س فيها ول
أي :لغته صلى ال عليه وسلم ،ولغة القرآن الكريم عربية واضحة مُبِينة ،ل لَبْ َ
غموض.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ.{ ..
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّ الّذِي َ
()1988 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآَيَاتِ اللّهِ لَا َيهْدِي ِهمُ اللّهُ وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ()104
()1989 /
إِ ّنمَا َيفْتَرِي ا ْل َك ِذبَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآَيَاتِ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ ()105
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كأن الحق سبحانه وتعالى يقول :وإن افتريتم على رسول ال واتهمتموه بالكذب الحقيقي أنْ تُكذّبوا
بآيات ال ،ول تؤمنوا بها.
ونلحظ في تذييل هذه الية أن الحق سبحانه لم َي ُقلْ :وأولئك هم الكافرون .بل قال :الكاذبون.
ليدل على شناعة الكذب ،وأنه صفة ل تليق بمؤمن.
ولذلك حينما " سُئِل رسول ال صلى ال عليه وسلم :أيسرق المؤمن؟ قال " :نعم " لن ال قال{:
وَالسّارِقُ وَالسّا ِرقَةُ }[المائدة.]38 :
حكْما ،وجعل عليه عقوبة فقد أصبح المر واردا ومحتمل الحدوث " .وسئل:
فما دام قد شرّع ُ
أيزني المؤمن؟ قال " :نعم " ،لن ال قال {:الزّانِ َي ُة وَالزّانِي }[النور " .]2 :وسئل :أيكذب
المؤمن؟ قال " :ل ".
والحديث يُوضّح لنا فظاعة الكذب وشناعته ،وكيف أنه أعظم من كل هذه المنكرات ،فقد جعل ال
لكل منها عقوبة معلومة في حين ترك عقوبة الكذب ليدل على أنها جريمة أعلى من العقوبة
وأعظم.
حقّه؛ ذلك لنه إذا اش ُتهِر عن واحد أنه كذاب
إذن :الكذب صفة ل تليق بالمؤمن ،ول تُتصوّر في َ
لما اعتاده الناس من كذبه ،فنخشى أن يقول مرة :أشهد ألّ إله إل ال ،وأن محمدا رسول ال
فيقول قائل :إنه كذاب وهذه كذبة من أكاذيبه.
ثم يقول الحق سبحانه { :مَن َكفَرَ بِاللّهِ.} ...
()1990 /
صدْرًا
طمَئِنّ بِالْإِيمَانِ وََلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِا ْل ُكفْرِ َ
مَنْ َكفَرَ بِاللّهِ مِنْ َبعْدِ إِيمَا ِنهِ إِلّا مَنْ ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ ُم ْ
عذَابٌ عَظِيمٌ ()106
ضبٌ مِنَ اللّ ِه وََلهُمْ َ
غ َ
َفعَلَ ْيهِمْ َ
الحق سبحانه وتعالى سبق وأنْ تحدث عن حكم المؤمنين وحكم الكافرين ،ثم تحدّث عن الذين
يخلفون العهد ول يُوفون به ،ثم تحدث عن الذين افت َروْا على رسول ال والذين كذّبوا بآيات ال،
وهذه كلها قضايا إيمانية كان ل بُدّ أنْ تُثار.
وفي هذه الية الكريمة يوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن اليمان ليس مجرد أن تقول :ل إله إل
ال محمد رسول ال .فالقول وحده ل يكفي ول ُبدّ وأنْ تشهدَ بذلك ،ومعنى تشهد أنْ يُواطِيء
القلب واللسان كل منهما الخر في هذه المقولة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمتأمل لهذه القضية يجد أن القسمة المنطقية تقتضي أن يكون لدينا أربع حالت:
الولى :أنْ يُواطِيءَ القلب اللسان إيجابا باليمان؛ ولذلك نقول :إن المؤمن منطقيّ في إيمانه؛ لنه
يقول ما يُضمره قلبه.
الثانية :أنْ يُواطِي َء القلب اللسان سلبا أي :بالكفر ،وكذلك الكافر منطقي في كفره بالمعنى السابق.
الثالثة :أنْ يؤمن بلسانه ويُضمِرَ الكفر في قلبه ،وهذه حالة المنافق ،وهو غير منطقي في إيمانه
حيث أظهر خلف ما يبطن ليستفيد من مزايا اليمان.
الرابعة :أن يؤمن بقلبه ،وينطق كلمة الكفر بلسانه.
ل لمن كفر
وهذه الحالة الرابعة هي المرادة في هذه الية .فالحق تبارك وتعالى يعطينا هنا تفصي ً
بعد إيمان ،وما سبب هذا الكفر؟ وما جزاؤه؟
قوله:
{ مَن َكفَرَ بِاللّهِ مِن َب ْعدِ إيمَانِهِ[ } ..النحل.]106 :
هذه جملة الشرط تأخّر جوابها إلى آخر الية الكريمة ،لنقف أولً على تفصيل هذا الكفر ،فإما أن
خلَ للنسان فيه ،فيُجبر على كلمة الكفر ،في حين قلبه مطمئن باليمان.
يكون عن إكراه ل دَ ْ
طمَئِنّ بِالِيمَانِ[ } ..النحل.]106 :
{ مَن َكفَرَ بِاللّهِ مِن َب ْعدِ إيمَانِهِ ِإلّ مَنْ ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ ُم ْ
ثم سكت عنه القرآن الكريم ليدلّنا على أنه ل شيءَ عليه ،ول بأسَ أن يأخذ المؤمن بالتقية ،وهي
رخصة تقي النسان موارد الهلك في مثل هذه الحوال.
وفي تاريخ السلم نماذج متعددة أخذت بهذه الرخصة ،ونطقتْ كلمة الكفر وهي مطمئنة باليمان.
وفي الحديث الشريف " :رفع عن أمتي :الخطأ ،والنسيان ،وما استكرهوا عليه ".
ويذكر التاريخ أن ياسر أبا عمار وزوجه سُمية أول شهيدين في السلم ،فكيف استشهدا؟ كانا من
المسلمين الوائل ،وتعرّضوا لكثير من التعذيب حتى عرض عليهم الكفار النطق بكلمة مقابل العفو
عنهما ،فماذا حدث من هذين الشهيدين؟ صَدَعا بالحق وأصرّا على اليمان حتى نال الشهادة في
سبيل ال ،ولم يأخذا برخصة التقية.
وكان ولدهما عمار أول مَنْ أخذ بها ،حينما تعرّض لتعذيب المشركين " .وقد بلغ رسول ال صلى
ال عليه وسلم أن عمار بن ياسر كفر ،فأنكر صلى ال عليه وسلم هذا ،وقال " :إن إيمان عمار
من مفرق رأسه إلى قدمه ،وإن اليمان في عمار قد اختلط بلحمه ودمه ".
فلما جاء عمار أقبل على رسول ال وهو يبكي ،ثم قص عليه ما تعرّض له من أذى المشركين،
وقال :وال يا رسول ال ما خلّصني من أيديهم إل أنّي تناولتك وذكرت آلهتهم بخير ،فما كان من
النبي صلى ال عليه وسلم إل أن مسح دموع عمار بيده الشريفة وقال له " إنْ عادوا إليك َف ُقلْ لهم
ما قلت ".
وقد أثارت هذه الرخصة غضب بعض الصحابة ،فراجعوا فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقالوا :فما بال بلل؟ فقال " :عمار استعمل رخصة ،وبلل صدع بالحق ".
ول شكّ أن هاتين منزلتان في مواجهة الباطل وأهله ،وأن الصّ ْدعَ بالحق والصبر على البلء
سمَى درجة من الَخْذ بالرخصة؛ لن الول آمن بقلبه ولسانه ،والخر آمن بقلبه
أعْلَى منزلةً ،وأَ ْ
فقط ونطق لسانه الكفر.
لذلك " ،ففي حركة الردة حاول مسيلمة الكذاب أن يطوف بالقبائل لينتزع منهم شهادة بصدق
نُبوّته ،فقال لرجل :ما تقول في محمد؟ قال :رسُول ال ،قال :فما تقول فّي؟ فقال الرجل في لباقة:
وأنت كذلك ،يعني أخرج نفسه من هذا المأزق دون أن يعترف صراحة بنبوة هذا الكذاب.
فقابل آخر وسأله :ما تقول في محمد؟ قال :رسول ال ،قال :وما تقول فّي؟ فقال الرجل متهكما:
اجهر لني أصبحت أصمّ الن ،وأنكر على مسيلمة ما يدعيه فكان جزاؤه القتل .فلما علم رسول
ال صلى ال عليه وسلم خبرهما قال " :أحدهما استعمل الرخصة ،والخر صدع بالحق ".
وقد تحدّث العلماء عن الكراه في قوله تعالى:
طمَئِنّ بِالِيمَانِ[ { ..النحل.]106 :
} ِإلّ مَنْ ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ ُم ْ
وأوضحوا وجوه الكراه وحكم كل منها ،على النحو التالي:
ـ إذا أكره النسان على أمر ذاتيّ فيه .كأن قيل له :اشرب الخمر وإلّ قتلتُك أو عذبتُك قالوا:
ن يعصون ال
يجب عليه في هذه الحالة أنْ يشربها وينجو بنفسه؛ لنه أمر يتعلق به ،ومن الناس مَ ْ
بشربها .فإنْ قيل له :اكفر بال وإلّ قتلتُك أو عذبتُك ،قالوا :هو مُخيّر بين أن يأخذ بالتقيّة هنا،
ويستخدم الرخصة التي شرعها ال له ،أو يصدع بالحق ويصمد.
ـ أما إذا تعلّق الكراه بحقّ من حقوق الغير ،كأنْ قيل لك :اقتل فلنا وإل قتلتك ،ففي هذه الحالة
ل يجوز لك قَتْله؛ لنك لو قتلت ُه لقُتِلْت ِقصَاصا ،فما الفائدة إذن؟.
وبعد أن تحدّث الحق تبارك وتعالى عن حكم مَنْ أكرهَ وقلبه مطمئن باليمان ،يتحدث عن النوع
الخر:
} وَلَـاكِن مّن شَرَحَ بِا ْل ُكفْ ِر صَدْرا[ { ..النحل.]106 :
أي :نطق كلمة الكفر راضيا بها ،بل سعيدة بها نفسه ،مُنْشرِحا بها صدره ،وهذا النوع هو
المقصود في جواب الشرط.
عظِيمٌ { [النحل.]106 :
غضَبٌ مّنَ اللّ ِه وََلهُمْ عَذَابٌ َ
} َفعَلَ ْيهِمْ َ
عمّنْ أُكرهَ ،ولم تجعل له عقوبة لنه مكره ،فقد بيّنت أن من شرح
فإنْ كانت اليات قد سكتت َ
بالكفر صدرا عليه غضب من ال أي :في الدنيا .ولهم عذاب عظيم أي :في الخرة.
وكما رأينا في تاريخ السلم نماذج للنوع الول الذي ُأكْرِه وقلبه مطمئن باليمان ،كذلك رأينا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسُن إسلمه ،ومنهم
نماذج لمن شرح بالكفر صَدْرا ،وهم المنافقون ،ومنهم مَنْ أسلم بعد ذلك و َ
عبد ال ابن سعد بن أبي السرح من عامر بن لؤي.
ثم يقول الحق سبحانه } :ذاِلكَ بِأَ ّنهُمُ اسْتَحَبّواْ.{ ..
()1991 /
ذَِلكَ بِأَ ّنهُمُ اسْ َتحَبّوا الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الْآَخِ َرةِ وَأَنّ اللّهَ لَا َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ ()107
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن ذلك قوله تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْ َتجِيبُواْ للّهِ وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا يُحْيِي ُكمْ[} ..النفال:
.]24
ما معنى (ِلمَا ُيحْييكُمْ) والقرآن يخاطبهم وهم أحياء يُر َزقُون؟ قالوا :يُحييكم أي :الحياة الحقيقية
الباقية التي ل تزول.
وقوله:
{ عَلَىا الخِ َرةِ[ } ...النحل.]107 :
لقائل أن يقول :إن الية تتحدث عن غير المؤمنين بالخرة ،فكيف ُيقَال عنهم:
{ اسْتَحَبّواْ ا ْلحَيَاةَ الْدّنْيَا عَلَىا الخِ َرةِ[ } ..النحل.]107 :
نقول :من غير المؤمنين بالخرة مَنْ قال ال فيهم:
جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِ ْم لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن َيمُوتُ } [النحل.]38 :
سمُواْ بِاللّهِ َ
{ وََأقْ َ
جدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف.]36 :
وأيضا منهم مَنْ قال {:وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَ ِ
إذن :من هؤلء مَنْ يؤمن بالخرة ،ولكنه يُفضّل عليها الدنيا.
قوله تعالى:
{ وَأَنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ } [النحل.]107 :
أي :ل يهديهم هداية معونة وتوفيق .وسبق أنْ قُلْنا :إن الهداية نوعان :هداية دللة ،ويستوي فيها
المؤمن والكافر ،وهداية معونة خاصة بالمؤمن.
إذن :إذا نفيتَ الهداية ،فالمراد هداية المعونة ،فعدم هداية ال انصبتْ على الكافر لكونه كافرا،
فكأن كُفْره سبق عدم هدايته ،أو نقول :لكونه كافرا لم َيهْده ال.
ولذلك يحكم ال على هؤلء بقوله سبحانه { :أُولَـا ِئكَ الّذِينَ طَ َبعَ.} ..
()1992 /
طبع :أي ختم عليها ،وإذا تأملتَ الختْم وجدتَ المقصود منه أن الشيء الداخل يظلّ داخلً ل
يخرج ،وأن الخارج يظل خارجا ل يدخل.
وفَرْقٌ بين ختم البشر وختم ربّنا سبحانه ،فقصارى ما نفعله أن نختم الشياء المهمة كالرسائل
السرية مثلً ،أو نريد إغلق مكان ما نختم عليه بالشمع الحمر لنتأكد من غلقه ،ومع ذلك نجد مَنْ
يحتال على هذا الختم ويستطيع فضّه وربما أعاده كما كان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما إذا ختم الحق سبحانه وتعالى على شيء فل يستطيع أحد التحايل عليه سبحانه.
فالمراد ـ إذن ـ بقوله تعالى:
{ طَبَعَ اللّهُ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ[ } ..النحل.]108 :
أن ما فيها من الكفر ل يخرج منها ،وما هو خارجها من اليمان ل يدخل فيها؛ ذلك لن القلب هو
الوعاء الذي تصبّ فيه الحواس التي هي وسائل الدراكات المعلومية ،وأهمها السمع والبصر.
فالبسمع تسمع الوحي والتبليغ عن ال ،وبالبصر ترى دلئل قدرة ال في كونه وعجيب صُنْعه مما
يلفتك إلى قدرة ال ،ويدعوك لليمان به سبحانه ،فإذا ما انحرفتْ هذه الحواسّ عما أراده ال منها،
وبدل أن تم ّد القلب بدلئل اليمان تعطّلتْ وظيفتها.
سمْع اعتباريّ ،وكذلك البصر
فالسمع موجود كآلة تسمع ولكنها تسمع الفارغ من الكلم ،فل يوجد َ
موجود كآلة تُبصر ما حرم ال فل يوجد بصر اعتباري ،فما الذي سيصل إلى القلب ـ إذن ـ
من خلل هذه الحواس؟
فما دام القلب ل يسمع الهداية ،ول يرى دلئل قدرة ال في كونه فلن نجد فيه غير الكفر ،فإذا أراد
اليمان قلنا له :ل بُدّ أن تُخرِج الكفر من قلبك أولً ،فل يمكن أن يجتمع كفر وإيمان في قلب
واحد؛ لذلك عندنا قانون موجود حتى في الماديات يسمونه (عدم التداخل) يمكن أن تشاهده حينما
تمل زجاجة فارغة بالماء ،فترى أن الماء ل يدخل إل بقدر ما يخرج من الهواء.
فكذلك الحال في الوعية المعنوية.
فإن أردت اليمان ـ أيها الكافر ـ فأخرجْ أولً ما في قلبك من الكفر؛ واجعله مُجرّدا من كل
هوى ،ثم ابحث بعقلك في أدلة الكفر وأَدلة اليمان ،وما تصل إليه وتقتنع به أدْخله في قلبك ،لكن
أنْ تبحث أدلة اليمان وفي جوفك الكفر فهذا ل يصحّ ،ل بُدّ من إخلء القلب أولً وتجعل المريْن
على السواء.
ج ْوفِهِ }[الحزاب.]4 :
جلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي َ
ج َعلَ اللّهُ لِ َر ُ
لذلك يقول الحق سبحانه {:مّا َ
وفي الثر " :ل يجتمع حب الدنيا وحب ال في قلب واحد ".
لن النسان قلبا واحدا ل يجتمع فيه نقيضان ،هكذا شاءت قدرة ال أن يكون القلب على هذه
الصورة ،فل تجعلْه مزدحما بالمظروف فيه.
كما أن طَبْع ال على قلوب الكفار فيه إشارة إلى أن الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده مراده ،حتى
وإنْ كان مراده الكفر ،وكأنه سبحانه يقول لهؤلء :إنْ كنتم تريدون الكفر وتحبونه وتنشرح له
صدوركم فسوف اطبع عليها ،فل يخرج منها الكفر ول يدخلها اليمان ،بل وأزيدكم منه إنْ
أحبب ُتمْ ،كما قال تعالى:
{ فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَ ُهمُ اللّهُ مَرَضا[} ..البقرة.]10 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهنيئا لكم بالكفر ،واذهبوا غَيْرَ مأسوف عليكم.
وقوله } :وَأُولَـا ِئكَ هُمُ ا ْلغَافِلُونَ { [النحل.]108 :
الغافل :مَنْ كان لديه أمر يجب أن يتنبه إليه ،لكنه غفل عنه ،وكأنه كان في انتظار إشارة تُنبّه
عقله ليصل إلى الحق.
ثم يُنهي الحق سبحانه الكلم عن هؤلء بقوله تعالى } :لَ جَ َرمَ أَ ّنهُمْ.{ ...
()1993 /
فقوله تعالى:
{ لَ جَرَمَ[ } ..النحل.]109 :
أي :حقا ول ُبدّ ،أولً جريمة في أن يكون هؤلء خاسرين في الخرة ،بما اقترفوه من مُوجبات
الخسارة ،وبما أَ َتوْا به من حيثيّات تر ّتبَ عليها الحكم بخسارتهم في الخرة ،فقد حقّ لهم وثبت لهم
ذلك.
والمتتبع لليات السابقة يجد فيها هذه الحيثيات ،بدايةً من َقوْلهم عن رسول ال {:إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ...
}[النحل.]101 :
وقولهم {:إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ[} ...النحل.]103 :
وعدم إيمانهم بآيات ال ،وكونهم كاذبين مفترين على ال ،واطمئنانهم بالكفر ،وانشراح صدورهم
به ،واستحبابهم الحياة الدنيا على الخرة.
هذه كلها حيثيات وأسباب أوجبتْ لهم الخسران في الخرة يوم تُصفّي الحسابات ،وتنكشف الرباح
والخسائر ،وكيف ل يكون عاقبته خُسْرانا مَن اقتراف كل هذه الجرائم؟!
ثم يقول الحق سبحانهُ { :ثمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ هَاجَرُواْ.} ...
()1994 /
ثُمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ َبعْدِ مَا فُتِنُوا ُثمّ جَاهَدُوا َوصَبَرُوا إِنّ رَ ّبكَ مِنْ َب ْعدِهَا َل َغفُورٌ َرحِيمٌ (
)110
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قوله تعالى { :فُتِنُواْ[ } ...النحل.]110 :
أي :ابتلوا وعُذّبوا عذابا أليما؛ لنهم أسلموا.
وقوله { :إِنّ رَ ّبكَ مِن َب ْعدِهَا َل َغفُورٌ رّحِيمٌ } [النحل.]110 :
من رحمة ال تعالى أن يفتح باب التوبة لعبادة الذين أسرفوا على أنفسهم ،ومن رحمته أيضا أن
ن يتوب؛ لنه لو لم يفتح ال باب التوبة للمذنب ليئسَ من رحمة ال ،ولتحوّل ـ وإن
يقبل توبة مَ ْ
أذنب ولو ذنبا واحدا ـ إلى مجرم يشقَى به المجتمع ،فلم يَرَ أمامه بارقة أمل تدعوه إلى الصلح،
ول دافعا يدفعه إلى القلع.
أما إذا رأى باب ربه مفتوحا ليل نهار يقبل توبة التائب ،ويغفر ذنب المسيء ،كما جاء في
الحديث الشريف " :إن ال يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار ،ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء
الليل ،حتى تطلع الشمس من مغربها ".
بل ويزيده ربنا سبحانه وتعالى من فضله إنْ أحسن التوبة ،وندم على ما كان منه ،بأن يُبدّل
ل صَالِحا فَُأوْلَـا ِئكَ يُ َب ّدلُ اللّهُ
عمَ ً
ع ِملَ َ
ن وَ َ
ب وَآمَ َ
سيئاته حسناتٍ ،كما قال سبحانهِ {:إلّ مَن تَا َ
غفُورا رّحِيما }[الفرقان.]70 :
ت َوكَانَ اللّهُ َ
سَيّئَا ِتهِمْ حَسَنَا ٍ
جدَى في انتشاله من الوَهْدة التي تردّى فيها.
لو رأى المذنب ذلك كان أَدْعى لصلحه ،وأ ْ
إذن :تشريع التوبة من الحق سبحانه رحمة ،وقبولها من المذنب رحمة أخرى؛ لذلك قال سبحانه{:
ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ[} ..التوبة.]118 :
أي :شرع لهم التوبة ودَلّهم عليها ،ليتوبوا هم.
فإنْ اغترّ ُمغْترّ برحمة ال وفضله فقال :سأعمل سيئات كثيرة حتى يُبدّلها ال لي حسنات .نقول
له :ومَنْ يدريك لعله ل ينطبق عليك شروط الذين يُبدّل ال سيئاتهم حسنات ،وهل تضمن أنْ
يُمهِلك الجل إلى أن تتوب ،وأنت تعلم أن الموت يأتي بغتة؟
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ي ْومَ تَأْتِي.} ...
()1995 /
ظَلمُونَ ()111
ت وَ ُهمْ لَا يُ ْ
عمَِل ْ
سهَا وَ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا َ
َيوْمَ تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ ُتجَا ِدلُ عَنْ َنفْ ِ
قد يكون المعنى في هذه الية على اتصال بالية السابقة ،ومتعلق بها ،فيكون المراد {:إِنّ رَ ّبكَ مِن
َبعْدِهَا َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }[النحل.]110 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحدث هذا:
سهَا[ } ...النحل.]111 :
{ َيوْمَ تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ تُجَا ِدلُ عَن ّنفْ ِ
أي :يوم القيامة .أو يكون المعنى :اذكر يا محمد:
سهَا } [النحل.]111 :
{ َيوْمَ تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ تُجَا ِدلُ عَن ّنفْ ِ
وهل للنسان أكثر من نفس ،فتجادل إحداهما عن الخرى؟
الحقيقة أن للنسان نفسا واحدة في الدنيا والخرة ،ولكنها تختلف في الدنيا عنها يوم القيامة؛ لن
الحق سبحانه منحها في الدنيا الختيار ،وجعلها حرة في أن تفعل أو ل تفعل ،فكان من النفوس:
الطائعة ،والعاصية ،والمنصاعة ،والمكابرة.
فإذا ما وقفت النفس في موقف القيامة ،وواجهتْ الحق الذي كانت تخالفه علمت أن الموقف ل تفيد
فيه مكابرة ،ول حيلة لها إل أن تجادل وتدافع عن نفسها ،فكأن النفس القيامة تجادل عن نفس
الدنيا في موقف ينادي فيه الحق تبارك وتعالىّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َي ْومَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْلقَهّارِ }[غافر.]16 :
وقد حكى القرآن الكريم نماذج من جدال النفس يوم القيامة ،فقال تعالى {:وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا
مُشْ ِركِينَ }[النعام.]23 :
خذُواْ مِن دُونِهِ َأوْلِيَآءَ مَا َنعْبُدُهُمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى[} ..الزمر.]3 :
{ وَالّذِينَ اتّ َ
حتَ َأقْدَامِنَا[} ...فصلت.]29 :
جعَ ْل ُهمَا َت ْ
ن وَالِنسِ نَ ْ
{ رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ الْجِ ّ
إذن :هي نفس واحدة ،تجادل عن نفسها في يوم ل تجزي فيه نفس عن نفس ،فكلّ مشغول بكَرْبه،
مُحاسَب بذنبه ،كما قال تعالىَ {:يوْمَ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ َأخِيهِ * وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ
امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }[عبس.]37-34 :
وقوله تعالى:
ت وَهُ ْم لَ ُيظَْلمُونَ } [النحل.]111 :
عمَِل ْ
{ وَ ُت َوفّىا ُكلّ َنفْسٍ مّا َ
عدْل وقسطاس
الحق سبحانه يعطينا لقطة سريعة للحساب والجزاء يوم القيامة ،فالميزان ميزان َ
مستقيم ل يظلم أحداَ {.فمَن َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـ َملْ مِثْقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }
[الزلزلة.]8-7 :
وقوله تعالى { :وَ ُتوَفّىا[ } ..النحل.]111 :
جوْر ،فالجميع عبيد ال ،ل يتفاضلون
يدلّ على أن الجزاء من ال يكون وافيا ،ل نقص فيه ول َ
إل بأعمالهم ،فإنْ رحمهم فبفضله ،وإنْ عذّبهم فبعدْله ،وقد قال تعالىَ {:ومَا ظََلمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ
سهُمْ َيظِْلمُونَ }[النحل.]118 :
أَ ْنفُ َ
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً.} ..
()1996 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غدًا مِنْ ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَ َرتْ بِأَ ْن ُعمِ اللّهِ
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَ َ
َوضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَا َنتْ َآمِنَةً مُ ْ
خوْفِ ِبمَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ ()112
فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ تكلّم عن اليمان بال واليمان بصدق رسوله في البلغ عنه،
واستقبال منهج ال في الكتاب والسنة ،وتكلم عن المقابل لذلك من الكفر واللجاج والعناد ل
وللرسول وللمنهج .أراد سبحانه أنْ يعطينا واقعا ملموسا في الحياة لكل ذلك ،فضرب لنا هذا
المثل.
ومعنى المثل :أن يتشابه أمران تشابها تاما في ناحية معينة بحيث تستطيع أن تقول :هذا مثل هذا
تماما.
والهدف من ضرب المثال أنْ يُوضّح لك مجهولً بمعلوم ،فإذا كنتَ مثلً ل تعرف شخصا نتحدث
عنه فيمكن أن نقول لك :هو مثل فلن ـ المعلوم لك ـ في الطول ومثل فلن في اللون ..إلخ من
الصور المعلومة لك ،وبعد أن تجمع هذه الصور تُكوّن صورة كاملة لهذا الشخص الذي ل تعرفه.
لذلك ،فالشيء الذي ل مثيلَ له إياك أن تضرب له مثلً ،كما قال الحق سبحانه {:فَلَ َتضْرِبُواْ لِلّهِ
لمْثَالَ }[النحل.]74 :
اَ
لنه سبحانه ل مثيل له ،ول نظير له ،ل في ذاته ،ول في صفاته ،ول في أفعاله ،وهو سبحانه
الذي يضرب المثل لنفسه ،أما نحن فل نضرب المثل إل للكائنات المخلوقة له سبحانه.
لذلك نجد في القرآن الكريم أمثالً كثيرة توضح لنا المجهول بمعلوم لنا ،وتوضح المر المعنوي
بالمر الحسيّ الملموس لنا.
ومن ذلك ما ضربه ال لنا مثلً في النفاق في سبيل ال ،وأن ال يضاعف النفقة ،ويُخلِف على
صاحبها أضعافا مضاعفة ،فانظر كيف صوّر لنا القرآن هذه المسألة {:مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبَُلةٍ مّئَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَاعِفُ ِلمَن َيشَآ ُء وَاللّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة.]261 :
وهكذا أوضح لنا المثل المر الغيبي المجهول بالمر المحسّ المُشَاهد الذي يعلمه الجميع ،حتى
استقرّ هذا المجهول في الذهن ،بل أصبح أمرا مُتيقّنا شاخصا أمامنا.
والمتأمل في هذا المثل التوضيحي يجد أن المر الذي وضّحه الحق سبحانه أقوى في العطاء من
المر الذي أوضح به ،فإنْ كانت هذه الضعاف المضاعفة هي عطاء الرض ،وهي مخلوقة ل
تعالى ،فما بالك بعطاء الخالق سبحانه وتعالى؟
وكلمة (ضَرَبَ) مأخوذة من ضَرْب العملة ،حيث كانت في الماضي من الذهب أو الفضة ،ولخوف
الغش فيها حيث كانوا يخلطون الذهب مثلً بالنحاس ،فكان النقاد أي :الخبراء في تمييز العملة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يضربونها أي :يختمون عليها فتصير مُعتمدة موثوقا بها ،ونافذة وصالحة للتداول.
كذلك إذا ضرب ال مثلً لشيء مجهول بشيء معلوم استقرّ في الذهن واع ُتمِد.
فقال تعالى في هذا المثل:
{ َوضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْيَةً[ } ..النحل.]112 :
الهدف من ضرب هذا المثل أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا أن النسان إذا أنعم ال
عليه بشتى أنواع النعم فجحدها ،ولم يشكره عليها ،ولم يُؤدّ حق ال فيها ،واستعمل نعمة ال في
معصيته فقد عرّضها للزوال ،وعرّض نفسه لعاقبة وخيمة ونهاية سيئة ،فقيّد النعمة بشكرها وأداء
حق ال فيها ،لذلك قال الشاعر:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبهذا الفهم للية الكريمة يكون فيها إعجاز من إعجازات الداء القرآني.
طمَئِنّةً[ { ...النحل.]112 :
وقوله تعالى } :كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ
آمنةً :أي في مَ ْأمَن من الغارة عليها من خارجها ،والمن من أعظم ِنعَم ال تعالى على البلد
والعباد.
طمَئِنّةً[ { ..النحل.]112 :
وقوله } :مّ ْ
أي :لديها مُقوّمات الحياة ،فل تحتاج إلى غيرها ،فالحياة فيها مُستقرّة مريحة ،والنسان ل يطمئن
إل في المكان الخالي من المنغّصات ،والذي يجد فيه كل مقومات الحياة ،فالمن والطمأنينة هما
سِرّ سعادة الحياة واستقرارها.
ل ِفهِمْ رِحَْلةَ الشّتَآ ِء وَالصّ ْيفِ *
وحينما امتنّ ال تعالى على قريش قال {:لِيلَفِ قُرَيْشٍ * إِي َ
خوْفٍ }
ع وَآمَ َنهُم مّنْ َ
ط َع َمهُم مّن جُو ٍ
فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي َأ ْ
[قريش.]4-1 :
فطالما شبعت البطن ،وأمنتْ النفس استقرت بالنسان الحياة.
ن أصبح معافىً في
والرسول صلى ال عليه وسلم يعطينا صورة مُثْلى للحياة الدنيا ،فيقول " :مَ ْ
بدنه ،آمنا في سربه ،عنده قوت يومه ،فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ".
ويصف الحق سبحانه هذه القرية بأنها:
} يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ[ { ...النحل.]112 :
معلوم أن الناس هم الذين يخرجون لطلب الرزق ،لكن في هذه القرية يأتي إليها الرزق ،وهذا
يُرجّح القول بأنها مكة؛ لن ال تعالى قال عنهاَ {:أوَلَمْ ُن َمكّن ّلهُمْ حَرَما آمِنا يُجْبَىا ِإلَيْهِ َثمَرَاتُ ُكلّ
شيْءٍ رّزْقا مّن لّدُنّا وَلَـاكِنّ َأكْثَرَهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }[القصص.]57 :
َ
ومن تيسّر له العيش في مكة يرى فيها الثمرات والمنتجات من كل أنحاء العالم ،وبذلك ت ّمتْ لهم
النعمة واكتملتْ لديهم وسائل الحياة الكريمة المنة الهانئة ،فماذا كان منهم؟ هل استقبلوها بشكر
ال؟ هل استخدموا نعمة عليهم في طاعته ومَرْضاته؟ ل ..بل:
} َف َكفَ َرتْ بِأَ ْن ُعمِ اللّهِ[ { ..النحل.]112 :
أي :جحدت بهذه النعم ،واستعملتها في مصادمة منهج ال وشريعته ،فكانت النتيجة:
خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ { [النحل.]112 :
ع وَالْ َ
} فََأذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُو ِ
وكأن في الية تحذيرا من الحق سبحانه لكل مجتمع كفر بنعمة ال ،واستعمل النعمة في مصادمة
منهجه سبحانه ،فسوف تكون عاقبته كعاقبة هؤلء.
} فََأذَا َقهَا اللّهُ[ { ..النحل.]112 :
من الذوق ،نقول :ذاق وتذوّق الطعام إذا وضعه على لسانه وتذوّقه .وال ّذوْق ل يتجاوز حلمات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللسان .إذن :الذوْق خاصّ بطعْم الشياء ،لكن ال سبحانه لم يقُلْ :أذاقها طعم الجوع ،بل قال:
خ ْوفِ[ { ..النحل.]112 :
ع وَالْ َ
} لِبَاسَ الْجُو ِ
فجعل الجوع والخوف وكأنهما لباسٌ يلبسه النسان ،والمتأمل في الية يطالع دقّة التعبير القرآني،
فقد يتحول الجوع والخوف إلى لباس يرتديه الجائع والخائف ،كيف ذلك؟
الجوع يظهر أولً كإحساس في البطن ،فإذا لم يجد طعاما عوّض من المخزون في الجسم من
شحوم ،فإذا ما انتهتْ الشحوم تغذّى الجسم على اللحم ،ثم بدأ ينحت العظام ،ومع شدة الجوع
ل وذبولً ،ثم ينكمش ويجفّ ،وبذلك يتحول الجوع
نلحظ على البشرة شحوبا ،وعلى الجلد هُزَا ً
إلى شكل خارجي على الجلد ،وكأنه لباس يرتديه الجائع.
وتستطيع أن تتعرف على الجوع ليس من بطن الجائع ،ولكن من هيئته وشُحوب لونه وتغيّر
بشرته ،كما قال تعالى عن الفقراء الذين ل يستطيعون ضربا في الرضَ {:تعْ ِر ُفهُم ِبسِيمَاهُ ْم لَ
يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافا[} ..البقرة.]273 :
وكذلك الخوف وإنْ كان موضعه القلب ،إل أنه يظهر على الجسم كذلك ،فإذا زاد الخوف ترتعد
الفرائص ،فإذا زاد الخوف يرتعش الجسم كله ،فيظهر الخوف عليه كثوب يرتديه.
وهكذا جَسّد لنا التعبير القرآني هذه الحاسيس الداخلية ،وجعلها محسوسة تراها العيون ،ولكنه
أدخلها تحت حاسّة التذوق؛ لنها أقوى الحواسّ.
وفي تشبيه الجوع والخوف باللباس ما يُوحي بشمولهما الجسم كله ،كما يلفّه اللباس فليس الجوع
في المعدة فقط ،وليس الخوف في القلب فقط.
ومن ذلك ما اش ُتهِر بين المحبين والمتحدثين عن الحب أن محله القلب ،فنراهم يتحدثون عن
خطَرَاتُ ِذكْ ِركَ تَسْ َتسِيغُ مَودّتي فَأُحِسّ مِنْها في الفُؤادِ دَبِيبَافإذا ما زاد
القلوب ،كما قال الشاعرَ :
الحب وتسامى ،وارتقت هذه المشاعر ،تحوّل الحب من القلب ،وسكَن جميع الجوارح ،وخالط كل
عضَائِي خُِلقْنَ قُلُوبَاوقوله} :
عضْو لِي ِإلّ َوفِي ِه صَبَابةٌ فَكأنّ أَ ْ
العضاء ،على حَدّ قول الشاعر:لَ ُ
ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ { [النحل.]112 :
أي :أن الحق سبحانه ما ظلمهم وما تجنّى عليهم ،بل ما أصابهم هو نتيجة عملهم وصدودهم عن
سبيل ال ،وكفرهم بأنعمه ،فحبسها ال عنهم ،فهم الذين قابلوا رسول ال صلى ال عليه وسلم
بالصّدود والجحود والنكران ،وتعرّضوا له ولصحابه باليذاء وبيّتوا لقتله ،حتى دعا عليهم قائلً:
" اللهم اشْ ُددْ وطأتك على مضر ،واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ".
فاستجاب الحق سبحانه لنبيه ،وألبسهم لباس الجوع والخوف ،حتى إنهم كانوا يأكلون الجيف،
ويخلطون الشعر والوبر بالدم فيأكلوه.
جهْد والضّنْك مُنْتهاه ،فأرسلوا وفدا منهم
وظلوا على هذا الحال سبع سنين حتى ضَجّوا ،وبلغ بهم ال َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لرسول ال ،فقالوا :هذا عملك برجال مكة ،فما بال صبيانها ونسائها؟ فكان صلى ال عليه وسلم
يرسل لهم ما يأكلونه من الحلل الطيب.
أما لباس الخوف فتمثّل في السرايا التي كان يبعثها رسول ال صلى ال عليه وسلم من المدينة
لترهبهم وتزعجهم؛ ليعلموا أن المسلمين أصبحتْ لهم قوة وشوكة.
ثم يقول الحق سبحانه } :وََلقَدْ جَآءَ ُهمْ رَسُولٌ.{ ...
()1997 /
رأينا كيف كانت النعمة تامة على أهل مكة ،وقد تمثلت هذه النعمة في َكوْنها آمنة مطمئنة ،وهذه
نعمة مادية يحفظ ال بها القالب النساني ،لكنه ما يزال في حاجة إلى ما يحفظ قِيَمه وأخلقه.
وهذه هي نعمة النعم ،وقد امتنّ ال عليهم بها حينما أرسل فيهم رسولً منهم ،فما فائدة النعم
المادية في بلد مهزوزة القيم ،مُنْحلة الخلق ،فجاءهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ليُقوّم ما
اعوجّ من سلوكهم ،ويُصلح ما فسد من قِيَمهِم ومبادئهم.
وقوله { :مّ ْنهُمْ[ } ...النحل.]113 :
أي :من جنسهم ،وليس غريبا عنهم ،وليس من مُطْلق العرب ،بل من قريش أفضل العرب
وأوسطها.
يقول تعالىَ { :فكَذّبُوهُ[ } ..النحل.]113 :
وكان المفترض فيهم أن يستقبلوه بما علموا عنه من صفات الخير والكمال ،وبما اشتهر به بينهم
من الصدق والمانة ،ولكنهم كما كفروا بالنعم المادية كفروا أيضا بالنعم القيمية متمثلة في رسول
خذَهُمُ ا ْلعَذَابُ[ } ..النحل.]113 :
ال صلى ال عليه وسلم .وقوله { :فَأَ َ
مَنِ الذي أخذهم؟
لم ت ُقلْ الية :أخذهم ال بالعذاب ،بل :أخذهم العذاب ،كأن العذابَ نفسه يشتاق لهم ،وينقضّ عليهم،
ويسارع لخذهم ،ففي الية تشخيص يُوحي بشدة عذابهم.
لتِ وَ َتقُولُ َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق.]30 :
جهَنّمَ َهلِ امْتَ َ
كما قال تعالى في آية أخرىَ {:ي ْومَ َنقُولُ لِ َ
ثم يقول تعالىَ { :فكُلُواْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ.} ...
()1998 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْ ُبدُونَ ()114
َفكُلُوا ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ حَلَالًا طَيّبًا وَا ْ
قُلْنا :إن الرسول صلى ال عليه وسلم حينما اشتد الحال بأهل مكة حتى أكلوا الجيف ،كان يرسل
إليهم ما يأكلونه من الحلل الطيب رحمة منه صلى ال عليه وسلم بهم فيقول:
{ َفكُلُواْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ[ } ..النحل.]114 :
أي :أن هذا الرزق ليس من عندي ،بل من عند ال.
{ حَللً طَيّبا[ } ...النحل.]114 :
ذلك لنهم كانوا قبل ذلك ل يتورّعون عن أكل ما حرم ال ،ول عن أكل الخبيث ،فأراد أن يُنبّههم
أن رِزْق ال لهم من الحلل الطيب الهنيئء ،فيبدلهم الحلل بدل الحرام ،والطيب بدل الخبيث.
شكُرُواْ ِن ْعمَتَ اللّهِ[ } ...النحل.]114 :
وقوله تعالى { :وَا ْ
ن يقعوا فيما وقعوا فيه من قَبْل من جُحود النعمة ونكْرانها والكفر بها ،فقد
وهنا إشارة تحذير لهم أ ْ
جَرّبوا عاقبة ذلك ،فنزع ال منهم المْنَ ،وألبسهم لباسَ الخوف ،ونزع منهم الشّبَع ورَغَد العيش،
وألبسهم لباس الجوع ،فخذوا إذن عبرة مما سلف:
{ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ[ } ...النحل.]114 :
ثم يقول الحق سبحانه { :إِ ّنمَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ.} ...
()1999 /
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ قالَ {:فكُلُواْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ حَللً طَيّبا }[النحل.]114 :
أراد أن يُكرّر معنًى من المعاني سبق ذكره في البقرة والمائدة ،فقال في البقرة {:إِ ّنمَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ
غ َولَ عَادٍ فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ
حمَ ا ْلخِنزِي ِر َومَآ ُأ ِهلّ بِهِ ِلغَيْرِ اللّهِ َفمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَا ٍ
ا ْلمَيْتَ َة وَالدّ َم وَلَ ْ
غفُورٌ رّحِيمٌ }[البقرة.]173 :
َ
وقال تعالى في سورة المائدة {:حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَةُ وَالْدّ ُم وََلحْمُ ا ْلخِنْزِي ِر َومَآ أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ} ..
[المائدة.]3 :
وهذه الشياء كنتم تأكلونها وهي مُحرّمة عليكم ،والن ما ُدمْنَا ننقذكم ،ونجعل لكم معونة إيمانية
من رسول ال ،فكلوا هذه الشياء حللً طيبا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن ،لماذا كرّر هذا المعنى هنا؟
التكرار هنا لمرين:
الول :أنه سبحانه ل يريد أنْ يعطيهم صورة عامة بالحكم ،بل صورة مُشخّصة بالحالة؛ لنهم
جوْعى يريدون ما يأكلونه ،حتى وإنْ كانت الجيف ،ولكن السلم يُحرّم الميتة ،فأوضح لهم
كانوا َ
أنكم بعد ذلك ستأكلون الحلل الطيب.
ثانيا :أن النص يختلف ،ففي البقرةَ {:ومَآ ُأ ِهلّ ِبهِ ِلغَيْرِ اللّهِ[} ..البقرة.]173 :
وهناَ { :ومَآ أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ[ } ..النحل.]115 :
وليس هنا من قبيل التفنّن في السلوب ،بل المعنى مختلف تماما؛ ذلك لن الهلل هو َرفْع
الصوت عند الذبح ،فكانوا يرفعون أصواتهم عند الذبح ،ولكن والعياذ بال يقولون :باسم اللت ،أو
باسم العُزّى ،فيُهلون بأسماء الشركاء الباطلين ،ول يذكرون اسم ال الوهاب.
فمرّة يُهلّون به لغير ال ،ومرة ُيهِلّون لغير ال به .كيف ذلك؟
قالوا :لن الذبْح كان على نوعين :مرة يذبحون للتقرّب للصنام ،فيكون الصل في الذبح أنه أُ ِهلّ
لغير ال به .أي :للصنام.
ومرّة يذبحون ليأكلوا دون تقرّب لحد ،فالصل فيه أنه ُأ ِهلّ به لغير ال.
إذن :تكرار الية لحكمة ،وسبحان مَنْ هذا كلمه.
وقولهَ { :فمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ َولَ عَادٍ[ } ..النحل.]115 :
الضطرارَ :ألّ تجد ما تأكله ،ول ما يقيم حياتك.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا هنا رخصة عندما تُلجِئنا الضرورة أن نأكل من هذه الشياء
المحرّمة بقدر ما يحفظ الحياة ويسُدّ الجوع ،فمَعنى (غَيْر بَاغٍ) غير مُتجاوزٍ للحدّ ،فلو اضطر ْرتَ
وعندك مَيْتة وعندك طعام حلل ،فل يصحّ أن تأكل الميتة في وجود الحلل.
{ َولَ عَادٍ } [النحل.]115 :
أي :ول ُمعْتَدٍ على القدر المرخّص به ،وهو ما يمسك الحياة ويسُدّ جوعك فقط ،دون شِبَع منها.
غفُورٌ رّحِيمٌ } [النحل.]115 :
ويقول تعالى { :فَإِنّ اللّهَ َ
وفي البقرة {:فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ[} ...البقرة.]173 :
فالمعنى واحد ،ولكن هنا ذكر المغفرة والرحمة ،وهناك ذكر سببهما.
وتجد الشارة هنا إلى ما يتشدّق به البعض من الملحدة الذين يبحثون في القرآن عن َمغْمز،
فيقولون :طالما أن ال حرّم هذه الشياء ،فما فائدتها في الكون؟
نقول :أتظنون أن كل موجود في الكون وُجِد ليُؤكل ،أليس له مهمة أخرى؟ ومن ورائه مصلحة
لكْل ،فإنْ حرّم السلم أكْله فقد أباح النتفاع به من وجه آخر.
أخرى غير ا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالخنزير مثلً حَرّم ال أكْله ،ولكن خَلقه لمهمة أخرى ،وجعل له َدوْرا في نظافة البيئة ،حيث
يلتهم القاذورات ،فهو بذلك يُؤدّي مهمة في الحياة.
وكذلك الثعابين ل نأكلها ،ولها مهمة في الحياة أيضا ،وهي أنْ تُجهّز لنا السّم في جوفها ،وبهذا
السم تعالج بعض الداءات والمراض ،وغير ذلك من المثلة كثير.
وكذلك يجب أنْ نعلمَ أن الحق سبحانه ما حرّم علينا هذه الشياء إل لحكمة ،وعلى النسان أن
يأخذ من واقع تكوينه المادي وتجاربه ما يُقرّب له المعاني القيمية الدينية ،فلو نظر إلى اللت
التي تُدار من حوله من ماكينات وسيارات وطائرات وخلفه لوجد لكل منها وقودا ،ربما ل
يناسب غيرها ،حتى في النوع الواحد نرى أن وقود السيارات وهو البنزين مثلً ل يناسب
الطائرات التي تستخدم نفس الوقود ،ولكن بدرجة نقاء أعلى.
إذن :لكل شيء وقود مناسب ،وكذلك أنت أيها النسان لك وقودك المناسب لك ،وبه تستطيع أداء
حركتك في الحياة ،وأنت صَنْعة ربك سبحانه ،وهو الذي يُحدّد لك ما تأكله وما ل تأكله ،ويعلم ما
يُصلحك وما يضرّك.
والشيء المحرّم قد يكون مُحرّما في ذاته كالميتة لما فيها من ضرر ،وقد يكون حللً في ذاته،
ولكنه مُحرّم بالنسبة لشخص معين ،كأن يُمنَع المريض من تناول طعام ما؛ لنه يضرّ بصحته أو
يُؤخّر شفاءه ،وهو تحريم طاريء لحين زوال سببه.
وصورة أخرى للتحريم ،وهي أن يكون الشيء حللً في ذاته ول ضررَ في تناوله ،ومع ذلك
تحرمه عقوبةً ،كما تفعل في معاقبة الطفل إذا أساء فنحرمه من قطعة الحلوى مثلً.
إذن :للتحريم أسباب كثيرة ،سوف نرى أمثلة منها قريبا.
ثم يقول الحق تبارك وتعالىَ } :ولَ َتقُولُواْ ِلمَا.{ ..
()2000 /
ل وَهَذَا حَرَامٌ لِ َتفْتَرُوا عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ
صفُ َألْسِنَ ُتكُمُ ا ْل َك ِذبَ هَذَا حَلَا ٌ
وَلَا َتقُولُوا ِلمَا َت ِ
عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ لَا ُيفْلِحُونَ ()116
صفُ أَ ْلسِنَ ُتكُمُ ا ْل َك ِذبَ } :تُظهِره على أوضح وجوهه ،فليس كلمهم كذبا فقط ،بل يصفه،
معنى { َت ِ
فمَنْ ل يعرف الكذب فليعرفه من كلم هؤلء.
والمراد بالكذب هنا قولهم:
للٌ وَهَـاذَا حَرَامٌ[ } ..النحل.]116 :
{ هَـاذَا حَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهذا كذب وافتراء على ال سبحانه؛ لنه وحده صاحب التحليل والتحريم ،فإياك أنْ تُحلّل شيئا من
عند نفسك ،أو تُحرّم شيئا حَسْب هواك؛ لن هذا افتراءٌ على ال:
{ لّ َتفْتَرُواْ عَلَىا اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ[ } ...النحل.]116 :
وقوله تعالى:
ب لَ ُيفِْلحُونَ } [النحل.]116 :
{ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَىا اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ
فإن انطلى كذبهم على بعض الناس ،فأخذوا من ورائه منفعة عاجلة ،فعمّا قليل سيُفتضح أمرهم،
وينكشف كذبهم ،وتنقطع مصالحهم بين الخلق.
ويصف الحق سبحانه ما يأخذه هؤلء من دنياهم بأنه { :مَتَاعٌ قَلِيلٌ.} ..
()2001 /
أي :ما أخذتموه بكذبكم وافترائكم على ال متاعٌ قليل زائل ،سيحرمكم من المتاع الكثير الباقي
الذي قال ال عنه {:مَا عِن َد ُكمْ يَنفَ ُد َومَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }[النحل.]96 :
ليس هذا فقط بل:
عذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل.]117 :
{ وََلهُمْ َ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَعَلَىا الّذِينَ هَادُواْ.} ..
()2002 /
سهُمْ َيظِْلمُونَ (
صصْنَا عَلَ ْيكَ مِنْ قَ ْبلُ َومَا ظََلمْنَاهُ ْم وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ
وَعَلَى الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا مَا َق َ
)118
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله تعالى:
صصْنَا عَلَ ْيكَ مِن قَ ْبلُ[ } ..النحل.]118 :
{ مَا َق َ
ظفُرٍ َومِنَ
المراد ما ُذكِر في سورة النعام من قوله تعالى {:وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ
ظمٍ ذاِلكَ
حوَايَآ َأوْ مَا اخْتََلطَ ِبعَ ْ
ظهُورُ ُهمَا َأوِ ا ْل َ
حمََلتْ ُ
شحُومَ ُهمَآ ِإلّ مَا َ
الْ َبقَرِ وَا ْلغَنَمِ حَ ّرمْنَا عَلَ ْي ِهمْ ُ
جَزَيْنَاهُم بِ َبغْ ِيهِ ْم وِإِنّا َلصَا ِدقُونَ }[النعام.]146 :
كل ذي ظفر :الحيوان ليس منفرجَ الصابع ،والحوايا :هي المصارين والمعاء ،ونرى أن كل
هذه الشياء المذكورة في الية حلل في ذاتها ،ومُحلّلة لغير اليهود ،ولكن ال حرّمها عليهم
عقوبةً لهم على ظلمهم وبغيهم ،كما قال تعالى {:فَبِظُ ْلمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِّلتْ
طلِ
خذِ ِهمُ الرّبَا َوقَدْ ُنهُواْ عَنْ ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ
َلهُ ْم وَ ِبصَدّ ِهمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا * وَأَ ْ
عذَابا أَلِيما }[النساء.]161-160 :
وَأَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ مِ ْنهُمْ َ
أي :بسبب ظلمهم حَرّمنا عليهم هذه الطيبات.
ذلك لن مَنْ أخذ حكما افتراءً على ال فحرّم ما أحلّ ال .أو حلّل ما حرّم ال ل بُدّ أنْ يُعاقبَ
حلّ لغيره ،وقد وقع الظلم من اليهود لنهم اجترأوا على حدود ال وتعاليمه،
بمثله فيُحرّم عليه ما أ ِ
وأول الظلم وقمته الشرك بال تعالى {:إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان.]13 :
والظلم َنقْل الحق من صاحبه إلى غيره.
ومن ظلمهم :ما قالوه لموسى ـ عليه السلم ـ بعد أن عبر بهم البحر ،ومرّوا على قوم يعكفون
على أصنام لهم ،فقالوا :يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة .قال تعالى {:وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ
ج َعلْ لّنَآ إِلَـاها َكمَا َلهُمْ آِلهَةٌ }
الْبَحْرَ فَأَ َتوْاْ عَلَىا َقوْمٍ َي ْعكُفُونَ عَلَىا َأصْنَامٍ ّلهُمْ قَالُواْ يامُوسَىا ا ْ
[العراف.]138 :
ومن ظلمهم :أنهم عبدوا العجل من دون ال.
ومن ظلمهم لموسى ـ عليه السلم ـ :أنهم لم يؤمنوا به .كما قال تعالىَ {:فمَآ آمَنَ ِلمُوسَىا ِإلّ
عوْنَ َومَلَ ِئهِمْ أَن َيفْتِنَهُمْ }[يونس.]83 :
خ ْوفٍ مّن فِرْ َ
ذُرّيّةٌ مّن َق ْومِهِ عَلَىا َ
طلِ }[النساء.]161 :
ومن ظلمهم {:وَأَخْذِ ِهمُ الرّبَا َوقَدْ ُنهُواْ عَ ْن ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ
حقّهم حرّم ال عليهم أشياء كانت حللً لهم؛ قال تعالى:
إذن :بسبب ظلمهم وأخذهم غير َ
سهُمْ يَظِْلمُونَ } [النحل.]118 :
ظَلمْنَاهُ ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ
{ َومَا َ
ظلموا أنفسهم بأن أعطوا لنفسهم متاعا قليلً عاجلً ،وحرموها من المتعة الحقيقية الباقية.
ثم يقول الحق سبحانهُ { :ثمّ إِنّ رَ ّبكَ.} ..
()2003 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ك وََأصْلَحُوا إِنّ رَ ّبكَ مِنْ َب ْعدِهَا َل َغفُورٌ
جهَاَلةٍ ثُمّ تَابُوا مِنْ َبعْدِ ذَِل َ
عمِلُوا السّوءَ بِ َ
ثُمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ َ
رَحِيمٌ ()119
الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده فرصة ،ويفتح له باب التوبة والرجاء ،فمن رحمته سبحانه
بعباده أنْ شرع لهم التوبة من الذنوب ،ومن رحمته أيضا أن يقبلها منهم فيتوب عليهم .ولو أغلق
باب التوبة لَتحوّل المذنب ـ ولو لمرة واحدة ـ إلى مجرم يُعربد في المجتمع ،وبفتح باب التوبة
يقي ال المجتمع من هذه العربدة.
ويبين الرسول صلى ال عليه وسلم مكانة التوبة فيقول " :ل أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه
من أحدكم كان على راحلته بأرض فلة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة
فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ،فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال
من شدة الفرح :اللهم أنت عبدي وأنا ربك .أخطأ من شدة الفرح ".
وقوله تعالى في بداية الية { :ثُمّ } تدلّ على كثرة ما تقدم من ذنوب ،ومع ذلك غفرها ال لهم
لِيُبيّن لك ال َبوْن الشاسع بين رحمة ال وإصرار ال ُعصَاة على الكفران بال ،وعلى المعصية.
جهَالَةٍ }.
وقوله تعالى { :بِ َ
سفَه ،وجميعها داخلة في الجهل بمعنى أنْ تعتقد شيئا وهو غير واقع ،فالجهل
حمْق و َ
أي :بطيش و ُ
هنا ليس المراد منه عدم العلم ،إنما الجاهل مَنْ كانت لديه قضية مخالفة للواقع وهو متمسك بها،
ل في نظر الشرع.
والمراد أن ينظر إلى خير عاجل في نظره ،ويترك خيرا آج ً
جهَالَةٍ ثُمّ
وقد ورد هذا المعنى في قول الحق سبحانه {:إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ بِ َ
يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ }[النساء.]17 :
سفَه وطيْش ،فالعاصي يعلم الحكم تماما ،ولكنه في غفلة عنه ،وعدم
بجهالة :يعني في لحظة َ
تبصّر بالعواقب ،ولو فكّر في عاقبة أمره ما تجرّأ على المعصية.
لذلك نقول :إن صاحب المعصية ل يُقدِم عليها إل في غيبة العقل.
ولذلك قال صلى ال عليه وسلم " :ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ،ول يسرق السارق حين
يسرق وهو مؤمن ،ول يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
ولو استحضر قسوة الجزاء لما أقدم على معصيته ،ولكن سفهه وطيْشه يُغلّف الجزاء ويستره عنه
ويُزيّن له ما ينتظره من لذة ومتعة عاجلة.
و َهبْ أن شخصا ألحتْ عليه غريزة الجنس ،وهي أشرس الغرائز في النسان ،ففكّر في الفاحشة
والعياذ بال ،وقبل أنْ يقع في هذه الوهدة السحيقة أخذناه إلى موقد النار ،وذكّرناه بما غفل عنه
من جزاء وعقوبة هذه الجريمة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بال عليك ،ماذا تراه يفعل؟ هل ُيصِرّ على جريمته؟ ل ،لنه كان ذاهلً غافلً ،وبمجرد أن تذكره
يرجع.
إذن :طيشه وسفهه صرفه عن التفكر في العاقبة وأذهله عن رَ ّد الفعل ،وجعله ينظر إلى المور
نظرة سطحية متعجّلة.
()2004 /
إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ()120
بعد أن ذكرتْ اليات طرفا من سيرة اليهود ،وطرفا من سيرة أهل مكة تعرّضتْ لخليل ال
إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلة والسلم.
والسؤال :لماذا إبراهيم بالذات دون سائر النبياء؟
ذلك لنه أبو النبياء ،ولو مكانته بين النبياء ،والجميع يتمحكون فيه ،حتى المشركون يقولون:
نحن على دين إبراهيم ،والنصارى قالوا عنه :إنه نصراني .واليهود قالوا :إنه يهودي.
فجاءت الية الكريمة تحلل شخصية إبراهيم عليه السلم ،وتُوضّح مواصفاتها ،وتر ّد وتُبطِل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مزاعمهم في إبراهيم عليه السلم ،وهاكم مواصفاته:
{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً[ } ..النحل.]120 :
ُأمّة :المة في معناها العام :الجماعة ،وسياق الحديث هو الذي يُحدّد عددها ،فنقول مثلً :أمة
الشعراء .أي :جماعة الشعراء ،وقد تكون المة جماعة قليلة العدد ،كما في قوله تعالى {:وََلمّا
سقُونَ[} ..القصص.]23 :
علَيْهِ ُأمّةً مّنَ النّاسِ يَ ْ
ن وَجَدَ َ
وَرَدَ مَآءَ َمدْيَ َ
سقْي دوابهم.
فسمي جماعة من الرعاة أمة؛ لنهم خرجوا لغرض واحد ،وهو َ
وتُطلَق المة على جنس في مكان ،كأمة الفرس ،وأمة الروم ،وقد تُطلِق على جماعة تتبع نبيا من
النبياء ،كما قال سبحانه {:وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر.]24 :
وحين نتوسّع في معنى نجدها في رسالة محمد صلى ال عليه وسلم تشمل جميع المم؛ لنه أُرسِل
للناس كافّة ،وجمع المم في أمة واحدة ،كما قال تعالى {:إِنّ هَـا ِذهِ ُأمّ ُتكُمْ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً }[النبياء:
.]92
ومعنى أمة واحدة .أي :جامعة لكل المم.
فالمعنى ـ إذن ـ أن إبراهيم عليه السلم ـ يقوم مقام أمة كاملة؛ لن الكمالت المطلقة ل وحده،
والكمالت الموهوبة من ال لخلْقه في الرسل تُسمّى كمالت بشرية موهوبة من ال.
أما ما دون الرسل فقد وُزّعت عليهم هذه الكمالت ،فأخذ كل إنسان واحدا منها ،فهذا أخذ الحلم،
وهذا الشجاعة ،وهذا الكرم ،وهكذا ل تجتمع الكمالت إل في الرسل.
فإذا نظرتَ إلى إبراهيم ـ عليه السلم ـ وجدتَ فيه من المواهب ما ل يُوجد إل في أمة كاملة.
كذلك رسولنا محمد صلى ال عليه وسلم حينما حَدّد موقعه بين رسالت ال في الرض يقول" :
الخير فيّ ـ وهذا هو الكمال البشري الذي أعطاه ال إياه ـ وفي أمتي ".
أي :أن كل واحد منهم أخذ جزءًا من هذا الكمال ،فكأن كماله صلى ال عليه وسلم مُبعثر في أمته
كلها.
لذلك حين تتتبع تاريخ إبراهيم ـ عليه السلم ـ في كتاب ال تعالى تجد كل موقف من مواقفه
خصْلة من خصال الخير ،وصِفة من صفات الكمال ،فإذا جمعتَ هذه الصفات وجدتها ل
يعطيك َ
توجد إل في أمة بأسْرها ،فهو إمام وقدوة جامعة لكل خصال الخير.
ومن معاني أمة :أنه عليه السلم يقوم مقام أمة في عبادة ال وطاعته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تكوين القيم ،فمال إبراهيم عن هذا العوجاج ،وحَاد عن هذا الفساد.
طمّ الفساد ،إذن :ميْله عن العوجاج والفساد ،فمعناه
والحق سبحانه وتعالى ل يبعث الرسل إل إذا َ
أنه كان مستقيما معتدلً على الدين الحق ،مائلً عن العوجاج حائدا عن الفساد.
ثم يُنهي الحق سبحانه الية بقوله } :وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ { [النحل.]120 :
وهذه هي الصفة الرابعة لخليل ال إبراهيم بعد أن وصفه بأنه كان أمة قانتا ل حنيفا ،وجميعها
تنفي عنه الشرك بال ،فما فائدة َنفْي الشرك عنه مرة أخرى في:
} وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { [النحل.]120 :
يجب أنْ نُفرّق بين أنواع الشرك ،فمنه الشرك الكبر ،وهو أن تجعل ل شركاء ،وهو القمة في
الشرك .ومنه الشرك الخفي ،بأن تجعل للسباب التي خلقها َدخْل في تكوين الشياء.
فالية هنا } :وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { [النحل.]120 :
أي :الشرك الخفي ،فالوصاف السابقة نفتْ عنه الشرك الكبر ،فأراد سبحانه أن ينفي عنه شركَ
السباب أيضا ،وهو دقيق خفيّ.
ولذلك عندما أُلقِيَ ـ عليه السلم ـ في النار لم يلتفت إلى السباب وإنْ جاءت على يد جبريل ـ
عليه السلم ـ ،فقال له حينما عرض عليه المساعدة :أما إليك فل .فأين الشرك الخفي ـ إذن ـ
والسباب عنده معدومة من البداية؟
ثم يقول الحق سبحانه } :شَاكِرا لَ ْن ُعمِهِ.{ ..
()2005 /
شَاكِرًا لِأَ ْن ُعمِهِ اجْتَبَا ُه وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ ()121
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ِإمَاما }[البقرة.]124 :
ل َومِن ذُرّيّتِي }[البقرة.]124 :
ولكنه لحبه أن تتصل المامة في ذريته قال {:قَا َ
عهْدِي
فعدّل ال له هذه الرغبة ،وصحّح له ،بأن ذريتك ستكون منها الظالم ،فقال {:لَ يَنَالُ َ
الظّاِلمِينَ }[البقرة.]124 :
لذلك تعلّم إبراهيم ـ عليه السلم ـ من هذا الموقف ،وأراد أن يحتاط لنفسه بعد ذلك ،فعندما أراد
ج َعلْ هَـاذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أَهْلَهُ
أن يطلب من ربه أن يرزق أهل مكة من الثمرات قالَ {:ربّ ا ْ
مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ[} ..البقرة.]126 :
فصحّح ال له أيضا هذا المطلب ،فالموقف هنا مختلف عن الول ،الول كان في إمامة القيم
والدين ،وهذه ل يقوم بها ظالم ،أما هذه فرزق وعطاء ربوبية يشمل المؤمن والكافر والطائع
والعاصي ،فالجميع في الرزق سواء ،فقال تعالىَ {:ومَن َكفَرَ[} ..البقرة.]126 :
أي :سأرزق الكافر أيضا.
وهنا تتجلى عظمة الربوبية التي تُربّي النبياء ،وتصنعهم على عَيْنها ،فكل مواقف النبياء تتجمع
في النهاية ،وتعطينا خلصة الكمال البشري.
ويدل على دقة إبراهيم ـ عليه السلم ـ في أداء ما طُلِب منه موقفه في بناء البيت ،فبعد أن دَلّه
ال على مكانه أخذ يُزيح عنه آثار السيول ،ويكشف عن قواعده ،وكان يكفي إبراهيم لتنفيذ أمر
ربه أنْ يرفع البناء إلى ما تناله يده من ارتفاع ،ولكنه أحب أن يأتي بالمر على أتمّ وجوهه،
وينفذه بدقة واحتياط ،ففكّر أن يأتي بحجر مرتفع ،ويقف عليه ليزيد من ارتفاع البناء ،فجاء
بالحجر الذي هو مقام إبراهيم ،كل ذلك وولده يساعده؛ لذلك لما أتى بالحجر جاء بحجر ل يرفعه
إل رجلن.
وكذلك موقفه اليماني وتخلّيه عن السباب ،حينما ترك زوجه هاجر وصغيره إسماعيل في وادٍ
غير ذي زرع ،وفي مكان خالٍ من مُقوّمات الحياة وأسباب العيش.
إنه ل يؤمن بالسباب ،إنما يؤمن بمُسبّبها ،وطالما أنه سبحانه موجود فسوف يُوفّر لهم من
السباب ما يحفظ حياتهم؛ لذلك حينما سألته هاجر :أهذا منزل أنزلكه ال أم من عندك؟
فلما علمت أنه من ال قالت :إذن لن يُضيّعنا .وكأن إيمان إبراهيم نضح على زوجته ،ومل قلبها
يقينا في ال تعالى.
وقوله سبحانه:
{ وَ َهدَاهُ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ } [النحل.]121 :
كيف ..بعد كل هذه الوصاف اليمانية تقول اليات (وَ َهدَاهُ) أليست هذه كلها هداية؟
نقول :المراد زاده هداية ،كما قال تعالى {:وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد.]17 :
ثم يقول الحق سبحانه { :وَآتَيْنَاهُ فِي ا ْلدّنْيَا.} ..
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2006 /
وَآَتَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَإِنّهُ فِي الْآَخِ َرةِ َلمِنَ الصّالِحِينَ ()122
الحق سبحانه يُبيّن أن جزاء إبراهيم ـ عليه السلم ـ عظيم في الدنيا قبل جزاء الخرة ،والمراد
بحسنة الدنيا محبة جميع أهل الديان له ،وكثرة النبياء في ذريته والسيرة الطيبة والذكر الحسن.
وها نحن نتحدث عن صفاته ومناقبه ونفخر ونعتز به .وهذا العطاء من ال لبراهيم في الدنيا؛
لنه بالغ في طاعة ربه وعبادته.
حقْنِي
حكْما وَأَلْ ِ
وقد طلب إبراهيم ـ عليه السلم ـ من ربه هذه المكانة ،فقالَ {:ربّ َهبْ لِي ُ
ن صِدْقٍ فِي الخِرِينَ }[الشعراء.]84-83 :
جعَل لّي ِلسَا َ
بِالصّالِحِينَ * وَا ْ
حكْما :أي :حكمة أضع بها الشياء في مواضعها.
ُ
ولسان صدق :هو الذكر الطيب والثناء الحسن بعد أن أموت.
وقوله تعالى:
{ وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّالِحِينَ } [النحل.]122 :
فإنْ كان هذا جزاءَه في الدنيا ،فل شكّ أن جزاء الخرة أعظم.
ثم يقول الحق سبحانهُ { :ثمّ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ.} ..
()2007 /
ثُمّ َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ()123
الحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر بعضا من صفات الخليل إبراهيم من كونه أمة قانتا ل حنيفا،
ولم يك من المشركين ،وأنه شاكر لنعمه ،واجتباه ربه وهداه ..الخ قال:
{ ُثمّ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ } [النحل.]123 :
يا محمد:
{ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا } [النحل.]123 :
كأن قمة مناقب إبراهيم وحسناته أننا أوحينا إليك يا خاتم الرسل أن تتبع ملته.
وملة إبراهيم :أي شريعة التوحيد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يُؤكّد الحق سبحانه براءة إبراهيم من الشرك فيقول:
{ َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [النحل.]123 :
ج ِعلَ السّ ْبتُ.} ..
ثم يقول الحق سبحانه { :إِ ّنمَا ُ
()2008 /
بعد أن تحدّث الحق سبحانه عن إبراهيم أبي النبياء ،وذكر جانبا من صفاته ومناقبه تكلّم عن بني
إسرائيل في قضية خالفوا فيها أمر ال بعد أن طلبوها بأنفسهم ،وكأن القرآن يقول لهم :لقد زعمتم
أن إبراهيم كان يهوديا ،فهاهي صفات إبراهيم ،فماذا عن صفاتكم أنتم؟ وأين أنتم من إبراهيم عليه
السلم؟
ويعطينا الحق سبحانه مثالً عن مخالفتهم لربهم فيما يأمر به ،وأنهم ليسوا كإبراهيم في اتباعه،
فيذكر ما كان منهم في أمر السبت.
و (السبت) هو يوم السبت المعروف التالي للجمعة السابق للحد ،والسبت مأخوذ من سَ َبتَ َيسْبِت
جعَلْنَا َن ْو َمكُمْ سُبَاتا }[النبأ.]9 :
سَبْتا .يعني :سكن واستقرّ ،ومنه قوله تعالى {:وَ َ
ذلك أن بني إسرائيل طلبوا يوما يرتاحون فيه من العمل ،ويتفرغون فيه لعبادة ال ،وقد اقترح
عليهم نبيهم موسى ـ عليه السلم ـ أن يكون يوم الجمعة ،فهو اليوم الذي أتمّ ال فيه خَلْق الكون
في ستة أيام ،وهو اليوم الذي اختاره الخليل إبراهيم ،ولكنهم رفضوا الجمعة واختاروا هم يوم
السبت وقالوا:
إن ال خلق الدنيا في ستة أيام بدأها بيوم الحد ،وانتهى منها يوم الجمعة ،وارتاح يوم السبت،
وكذلك نحن نريد أن نرتاح ونتفرغ لعبادة ال يوم السبت ،وهكذا كانت هذه رغبتهم واختيارهم.
أما العيسويون فرفضوا أن يتبعوا اليهود في يوم السبت ،أو إبراهيم عليه السلم في يوم الجمعة،
واختاروا الحد على اعتبار إنه أول بَدْء الخلق.
أما أمة محمد صلى ال عليه وسلم فقد اختار لها ال يوم الجمعة يوم النتهاء وتمام النعمة.
إذن :اليهود طلبوا يوم السبت واختاروه للراحة من العمل والتفرغ للعبادة ،فهذا مطلبهم ،وقد
وافقهم ربّهم سبحانه وتعالى عليه ،وأمرهم أنْ يتفرغوا لعبادته في هذا اليوم ،وافقهم ليُبيّن لجاجتهم
وعنادهم ،وأنهم لن يُوفُوا بما التزموا به وإن اختاروه بأنفسهم ،ووافقهم ليقطع حجتهم ،فلو اختار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لهم يوما لعترضوا عليه ،ولكن هاهم يختارونه بأنفسهم.
كما أن قصة السبت مع اليهود جاءت لتخدم قضية عقدية عامة ،هي أن اليات التي تأتي مُصدّقة
للرسل في البلغ عن ال تعالى قد تكون من عند ال وباختياره سبحانه ،وقد تكون باختيار
المرسَل إليهم أنفسهم ،وقد كان من بني إسرائيل أنْ كذّبوا بهذه وهذه ولذلك قال تعالىَ {:ومَا مَ َنعَنَآ
لوّلُونَ }[السراء.]59 :
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن كَ ّذبَ ِبهَا ا َ
أَن نّرْ ِ
أي :لكونهم يقترحون الية ثم يُكذّبونها ،فأمْرهم تكذيب في تكذيب.
وقصة السبت ُذكِ َرتْ في مواضع كثيرة ،مثل قوله تعالى {:وَسْئَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ
الْبَحْرِ إِذْ َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ ِإذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَا ُنهُمْ َيوْمَ سَبْ ِتهِمْ شُرّعا وَ َيوْ َم لَ َيسْبِتُونَ لَ تَأْتِي ِهمْ كَذَِلكَ
سقُونَ }[العراف.]163 :
نَبْلُوهُم ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ
لقد نقض اليهود عهدهم مع ال كعادتهم ،وأخلفوا ما التزموا به ،وذهبوا للصيد في يوم السبت،
فكادهم ال وأغاظهم ،فكانت تأتيهم الحيتان والسماك تطفو على سطح الماء كالشراع ،ول
ينتفعون منها بشيء إل الحسرة والسف ،فيقولون :لعلها تأتي في الغد فيخيب ال رجاءهم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رَ ّبكَ لَذُو َم ْغفِ َرةٍ لّلنّاسِ عَلَىا ظُ ْل ِم ِهمْ[} ..الرعد.]6 :
أي :أن المغفرة عَلَت على الظلم ،فالظلم يتطلب العقاب ،ولكن رحمة ال ومغفرته عََلتْ على أنْ
تُعامِل الظالم بما يستحق ،فرحمة ال سبقتْ غضبه ،ونفس الملحظ نجده في قول الحق سبحانه{:
ل وَإِسْحَاقَ }[إبراهيم.]39 :
سمَاعِي َ
ح ْمدُ للّهِ الّذِي وَ َهبَ لِي عَلَى ا ْلكِبَرِ إِ ْ
الْ َ
فالكبر كان يقتضي عدم النجاب ولكن هبة ال علت على سنة الكِبَر.
ثم يقول الحق سبحانه } :ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ.{ ..
()2009 /
ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِظَةِ ا ْلحَسَنَةِ وَجَادِ ْل ُهمْ بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَنْ
ا ْدعُ إِلَى سَبِيلِ رَ ّبكَ بِا ْل ِ
ضلّ عَنْ سَبِيلِ ِه وَ ُهوَ أَعَْلمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ ()125
َ
فبعد أن تحدثتْ اليات عن النموذج اليماني العلى في النسان في شخص أبي النبياء إبراهيم،
وجعلتْ من أعظم مناقبه أن ال أمر خاتم رسُله باتباعه ،أخذتْ في بيان الملمح العامة لمنهج
الدعوة إلى ال.
قوله { :ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ[ } ..النحل.]125 :
الحق تبارك وتعالى ل يُوجّه هذا المر بالدعوة إلى رسوله صلى ال عليه وسلم إل وهو يعلم أنه
سيُنفّذ ما ُأمِر به ،وسيقوم بأمر الدعوة ،ويتحمل مسئوليتها.
{ ا ْدعُ } :بمعنى ُدلّ الناس وارشدهم.
{ سَبِيلِ رَ ّبكَ } [النحل.]125 :
السبيل هو الطريق والمنهج ،والحكمةَ :وضْع الشيء في موضعه المناسب ،ولكن لماذا تحتاج
الدعوةُ إلى ال حكمةً؟
لنك ل تدعو إلى منهج ال إل مَنِ انحرف عن هذا المنهج ،ومَنِ انحرف عن منهج ال تجده َألِف
المعصية وتعوّد عليها ،فل بُدّ لك أنْ ترفقَ به لِتُخرجه عما ألف وتقيمه على المنهج الصحيح،
فالشدة والعنف في دعوة مثل هذا تنفره ،لنك تجمع عليه شدتين:
شدة الدعوة والعنف فيها ،وشدة تَرْكه لما أحبّ وما أَِلفَ من أساليب الحياة ،فإذا ما سلكتَ معه
مَسْلَك اللّين والرّفق ،وأحسنت عَرْض الدعوة عليه طاوعك في أنْ يترك ما كان عليه من مخالفة
المنهج اللهي.
ومعلوم أن النصْح في عمومه ثقيل على النفس ،وخاصة في أمور الدين ،فإياك أن تُشعِر مَنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تنصحه أنك أعلم منه أو افضل منه ،إياك أن تواجهه بما فيه من النقص ،أو تحرجه أمام
الخرين؛ لن كل هذه التصرّفات من الداعية ل تأتي إل بنتيجة عكسية ،فهذه الطريقة تثير
حفيظته ،وربما دَعَتْه إلى المكابرة والعناد.
وهذه الطريقة في الدعوة هي المرادة من قوله تعالى:
ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِظَةِ الْحَسَ َنةِ[ } ..النحل.]125 :
{ بِا ْل ِ
ويُروى في هذا المقام ـ مقام الدعوة إلى ال بالحكمة والموعظة الحسنة ـ قصة دارت بين
ن يكون عليه الداعية.
الحسن والحسين رضي ال عنهما ،هذه القصة تجسيدٌ صادق لما ينبغي أ ْ
فيُروى أنهما رَأيَا رجلً ل يُحسِن الوضوء ،وأراد أنْ يُعلّماه الوضوء الصحيح دون أنْ يجرحَا
مشاعره ،فما كان منهما إل أنهما افتعل خصومة بينهما ،كل منهما يقول للخر :أنت ل تُحسِن أنْ
تتوضأ ،ثم تحاكما إلى هذا الرجل أنْ يرى كلً منهما يتوضأ ،ثم يحكم :أيهما أفضل من الخر،
حكْم من الرجل يقول :كل منكما أحسن ،وأنا الذي
وتوضأ كل منهما فأحسن الوضوء ،بعدها جاء ال ُ
ما أحس ْنتُ.
إنه الوعظ في أعلى صورة ،والقدوة في أحكم ما تكون.
" مثال آخر للدعوة يضربه لنا الرسول صلى ال عليه وسلم ،حينما أتاه شاب في َفوْرة شبابه،
يشتكي عدم صَبْره عن رغبة الجنس ،وهي ـ كما قلنا ـ من أشرس الغرائز في النسان.
جاء الشاب وقال " :يا رسول ال إئذن لي في الزنا ".
خفِ عِلّته ،هكذا لجأ إلى الطبيب ليطلب الدواء صراحة ،ومعرفة العلة أولَ
هكذا تجرأ الشاب ولم يُ ْ
خَطوات الشفاء .فماذا قال رسول ال؟
انظر إلى منهج الدعوة ،كيف يكون ،وكيف استلّ رسول ال صلى ال عليه وسلم الداء من نفس
هذا الشاب؟ فلم يزجره ،ولم ينهره ،ولم يُؤذه ،بل أخذه وربّت على كتفه في لطف ولين ،ثم قال" :
جعِ ْلتَ فِدَاك .قال :فكذلك الناس ل يحبونه لمهاتهم ،قال:
أتحبه لمك؟ قال :ل يا رسول الُ ،
أَتُحبه لختكَ؟
جعِ ْلتُ ِفدَاك ،قال :فكذلك الناس ل يحبونه لخواتهم ".
قال :ل يا رسول ال ُ
وهكذا حتى ذكر العمة والخالة والزوجة ،ثم وضع رسول ال صلى ال عليه وسلم يده الشريفة
حصّن فَرْجه " فقام الشاب وأبغض ما يكون إليه
على صدر الشاب ودعا له " :اللهم نَقّ صدره ،و َ
أن يزني ،وهو يقول :فوال ما َه ّمتْ نفسي بشيء من هذا ،إل ذك ْرتُ أمي وأختي وزوجتي ".
فلنتأمل هذا التلطّف في بيان الحكم الصحيح ،فمعالجة الداءات في المجتمع تحتاج إلى فقه ولباقة
ولين وحُسْن تصرف ،إننا نرى حتى الكفرة حينما يصنعون دواءً مُرّا يغلفونه بغُللة رقيقة حُلْوة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المذاق ليستسيغه المريض ،ويسهل عليه تناوله .وما أشبه علج البدان بعلج القلوب في هذه
المسألة.
ويقول أهل الخبرة في الدعوة إلى ال :النصح ثقيل فل تُرْسِله جبلً ،ول تجعله جدلً ..والحقائق
خفّة البيان.
مُرّة فاستعيروا لها ِ
وكان صلى ال عليه وسلم إذا سمع عن شيء ل يرضيه من ذنب أو فاحشة في مجتمع اليمان
بالمدينة كان يصعد منبره الشريف ،ويقول " :ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ".
ويكتفي بالتوجيه العام دون أنْ يجرحَ أحدا من الناس على حَدّ قولهم في المثال :إياك أعني
واسمعي يا جاره.
ومن ذلك ما كان يلجأ إليه العقلء في الريف حينما يتعرض أحدٌ للسرقة ،أو يضيع منه شيء ذو
قيمة ،فكانوا يعتلون عن َفقْد الشيء الذي ضاع أو سُرِق ويقول :ليلة كذا بعد غياب القمر سوف
نرمي التراب.
ومعنى " نرمي التراب " أن يحضر كل منهم كمية من التراب يلقيها أمام بيت صاحب هذا الشيء
المفقود ،وفي الصباح يبحثون في التراب حتى يعثروا على ما فقد منهم ،ويصلوا إلى ضالّتهم دون
أنْ يُفتضحَ المر ،ودون أن يُحرَج أحد ،وربما لو واجهوا السارق لنكر وتعقدت المسألة.
وقوله سبحانه:
} وَجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ[ { ..النحل.]125 :
ن يعرضَ حُجّته بالتي هي
والجدل مناقشة الحجج في قضية من القضايا ،وعلى ُكلّ من الطرفين أ ْ
غطْرسة.
احسن .أي :في رفق ولين ودون تشنّج أو َ
ضبَ الخصْم ،فقد يتمحّك في كلمة منك ،ويأخذها ذريعة
ويجب عليك في موقف الجدال هذا ألّ تُغ ِ
للنصراف من هذا المجلس.
وقوله سبحانه:
ضلّ عَن سَبِيلِ ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ { [النحل.]125 :
} إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعْلَمُ ِبمَن َ
قد يتساءل البعض :ما علقة هذا التذييل للية بموضوع الدعوة إلى ال؟
يريد الحق سبحانه أن يُبيّن لنا حساسية هذه المهمة ،وأنها تُبنى على الخلص ل في توجيه
النصيحة ،ول ينبغي للداعية أبدا أنْ يغُشّ في دعوته ،فيقصد من ورائها شيئا آخر ،وقد تقوم
بموعظة وفي نفسه استكبار على الموعوظ ،أو شعور أنك أفضل منه أو أعلم منه.
ومن الناس ـ والعياذ بال ـ مَنْ يجمع القشور عن موضوع ما ،فيظن أنه أصبح عالما ،فيضر
الناس أكثر ِممّا ينفعهم.
إذن :إنْ قُبِل الغش في شيء فإنه ل يُقبل في مجال الدعوة إلى ال ،فإياك أنْ تغشّ بال في ال؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لنه سبحانه وتعالى أعلم بمَنْ يضل الناس ،ويصدهم عن سبيل ال ،وهو أعلم بالمهتدين.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ.{ ...
()2010 /
نلحظ أن هذا المعنى ورد في قوله تعالىَ {:فمَنِ اعْتَدَىا عَلَ ْيكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَىا
عَلَ ْيكُمْ[} ..البقرة.]194 :
وبمقارنة اليتين نرى أنهما يقرران المثلية في رد العتداء:
{ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ[ } ...النحل.]126 :
و{ فَاعْتَدُواْ عَلَ ْيهِ ِبمِ ْثلِ }[البقرة.]194 :
إذن :الحق سبحانه ،وإنْ شرع لنا الرد على العتداء بالمثل ،إل أن جعله صعبا من حيث التنفيذ،
فمن الذي يستطيع تقدير المثلية في الرد ،بحيث يكون مثله تماما دون اعتداء ،ودون زيادة في
العقوبة ،وكأن في صعوبة تقدير المثلية إشارةً إلى استحباب النصراف عنها إلى ما هو خير
منها ،كما قال تعالى:
{ وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ } [النحل.]126 :
فقد جعل ال في الصبر سَعة ،وجعله خيرا من رَ ّد العقوبة ،ومقاساة تقدير المثلية فيها ،فضلً عما
في الصبر من تأليف القلوب ونَزْع الحقاد ،كما قال الحق سبحانه {:ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَِإذَا
حمِيمٌ }[فصلت.]34 :
عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
ك وَبَيْنَهُ َ
الّذِي بَيْ َن َ
سدّ لمنافذ النتقام ،وقضاء على الضغائن والحقاد.
ففي ذلك َدفْع لشراسة النفس ،و َ
وقولهَ { :ل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ } [النحل.]126 :
الخيرية هنا من وجوه:
أولً :في الصبر وعدم رَدّ العقوبة بمثلها إنهاءٌ للخصومات ،وراحة للمجتمع أن تفزعه سلسلة ل
تنتهي من العداوة.
ثانيا :مَنْ ظُلِم من الخلق ،فصبر على ظلمهم ،فقد ضمن أن ال تعالى في جواره؛ لن ال يغار
على عبده المظلوم ،ويجعله في معيته وحفظه؛ لذلك قالوا :لو علم الظالم ما أعدّه ال للمظلوم
لَضنّ عليه بالظلم.
والمتتبع ليات الصبر في القرآن الكريم يجد تشابها في تذييل بعض اليات.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمُورِ }[لقمان.]17 :
يقول تعالى {:وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ ا ُ
لمُورِ }[الشورى.]43 :
وفي آية أخرى {:وََلمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم ا ُ
ول ننسى أن المتكلم هو ال ،إذن :ليس المعنى واحدا ،فلكل حرف هنا معنى ،والمواقف مختلفة،
فانظر إلى ِدقّة التعبير القرآني.
ولما كانت المصائب التي تصيب النسان على نوعين:
النوع الول :هناك مصائب تلحق النسان بقضاء ال وقدره ،وليس له غريم فيها ،كمن أُصيب في
صحته أو تعرّض لجائحة في ماله ،أو انهار بيته ..الخ.
وفي هذا النوع من المصائب يشعر النسان بألم ال َفقْد ولذْعة الخسارة ،لكن ل ضغن فيها على
أحد.
إذن :الصبر على هذه الحداث قريب؛ لنه ابتلء وقضاء وقدر ،فل يحتاج المر بالصبر هنا إلى
لمُورِ }[لقمان.]17 :
توكيد ،ويناسبه قوله تعالى {:وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْ ِم ا ُ
أما النوع الخر :فهو المصائب التي تقع بفعل فاعل ،كالقتل مثلً ،فإلى جانب الفَقْد يوجد غريم
لك ،يثير حفيظتك ،ويهيج غضبك ،ويدعوك إلى النتقام كلما رأيته ،فالصبر في هذه أصعب
حمْل النفس عليه يحتاج إلى توكيد كما في الية الثانية:
وَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الدعوة إلى منهج يلفت النسان ـ خليفة ال في أرضه ـ أنْ يلتزمَ بمنهج ال الذي استخلفه،
ووضع له هذا المنهج لِيُنظّم حركة حياته ،والداعية يواجه هؤلء الذين يُفسدون في الرض،
ويحققون لنفسهم مصالح على حساب الغير ،والذي يحقق لنفسه مصلحة على حساب غيره ل ُبدّ
أن يكون له قوة وقدرة ،بها يطغى ويستعلي ويظلم.
فإذا جاء منهج ال تعالى ليعدل حركة هؤلء ويُخرجهم مما أَلفُوه ،وينزع منهم سلطان الطغيان
والظلم ،ويسلبهم هذا السوط الذي يستفيدون به ،فل بُدّ أنْ يُجادلوه ويصادموه ويقفوا في وجهه،
فقد جمع عليهم شدة النصح والصلح ،وشدة تَرْك ما ألفوه.
فعلَى الداعية ـ إذن ـ أن يتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة ،وأن يجادلهم بالتي هي احسن ،فإذا
ما تعدّى أمرُهم إلى العتداء على الداعية ،إذا ما استشرى الفساد وغلبت شراسة الطباع ،فسوف
نحتاج إلى أسلوب آخر ،حيث لم َي ُعدْ يُجدي أسلوب الحكمة.
ول ُبدّ لنا أن نقفَ الموقف الذي تقتضيه الرجولة العادية ،فضلً عن الرجولة اليمانية ،وأن يكون
لدينا القدرة على الرد الذي شرعه لنا الحق سبحانه وتعالى ،دون أن يكون عندنا لَدَد في
الخصومة ،أو إسراف في العقوبة.
فجاء قوله تعالى:
} وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ[ { ..النحل.]126 :
وفي الية تحذير أن يزيدَ الردّ على مثله ،وبذلك يتعلم الخصوم أنك خاضع لمنهج رباني عادل
يستوي أمامه الجميع ،فهم وإن انحرفوا وأجرموا فإن العقاب بالمثل ل يتعداه ،ولعل ذلك يلفتهم
إلى أن الذي أمر بذلك لم يطلق لشراسة النتقام عنانها ،بل هَدّأَها ودعاها إلى العفو والصفح،
ليكون هذا أدعى إلى هدايتهم.
وهذا التوجيه اللهي في تقييد العقوبة بمثلها قبل أن يتوجه إلى أمته صلى ال عليه وسلم توجّه
إليه صلى ال عليه وسلم في تصرّف خاص ،ل يتعلق بمؤمن على عموم إيمانه ،ولكن بمؤمن
حبيب إلى رسول ال ،وصاحب منزلة عظيمة عنده ،إنه عمه وصاحبه حمزة بن عبد المطلب سيد
الشهداء رضي ال عنه.
فقد مثّل به الكفار في ُأحُد ،وش ّقتْ هند بطنه ،ولكت كبده ،فشقّ المر على رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،وأثّر في نفسه ،وواجه هذا الموقف بعاطفتين :عاطفته اليمانية ،وعاطفة الرحم
والقرابة فهو عمه الذي آزره ونصره ،ووقف إلى جواره ،فقال في انفعاله بهذه العاطفة " :لئن
أظهرني ال عليهم لُمثّلنّ بثلثين رجلً منهم ".
ولكن الحق سبحانه العادل الذي أنزل ميزان العدل والحق في الخلق هَدّأ من َروْعه ،وعدّل له هذه
المسألة ولمته من بعده ،فقال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ[ { ..النحل.]126 :
والمتأمل للسلوب القرآني في هذه الية يلحظ فيها دعوة إلى التحنّن على الخصم والرأفة به،
فالمتحدث هو ال سبحانه ،فكل حرف له معنى ،فل تأخذ الكلم على إجماله ،ولكن تأمل فيه
وسوف تجد من وراء الحرف مرادا وأن له مطلوبا .لماذا قال الحق سبحانه( :وإنْ) ولم يستخدم
(إذا) مثلً؟
ل تعاقبوا.
إن عاقبتم :كأن المعنى :كان يحب أ ّ
أما (إذا) فتفيد التحقيق والتأكيد ،والحق سبحانه يريد أنْ يُحنّن القلوب ،ويضع ردّ العقوبة بمثلها
في أضيق نطاق ،فهذه رحمة حتى من العداء ،هذه الرحمة تُحبّبهم في السلم ،وتدعوهم إليه،
وبها يتحوّل هؤلء العداء إلى جنود في صفوف الدعوة إلى ال.
كما أن في قوله( :عَاقَبْتُمْ) دليل على أن ر ّد العقوبة يحتاج إلى قوة واستعداد ،كما قال تعالى{:
طعْتُمْ مّن ُق ّوةٍ َومِن رّبَاطِ الْخَ ْيلِ تُرْهِبُونَ ِبهِ عَ ْدوّ اللّ ِه وَعَ ُد ّوكُ ْم وَآخَرِينَ مِن دُو ِنهِمْ
وَأَعِدّواْ َلهُمْ مّا اسْتَ َ
لَ َتعَْلمُو َنهُمُ اللّهُ َيعَْل ُمهُمْ[} ..النفال.]60 :
كأنه يقول :كونوا دائما على استعداد ،وفي حال قوة تُمكنكم من الردّ إذا اعتُدِي عليكم ،كما أن في
وجود القوة والستعداد ما يردع العدو ويرهبه ،فل يجرؤ على العتداء من البداية ،وبالقوة
والستعداد يُحفظ التوازن في المجتمع ،فالقوي ل يفكّر أحد في العتداء عليه.
وهذا ما نراه الن بين دول العالم في صراعها المحموم حول التسلّح بأسلحة فاتكة.
وكلمة } :مَا عُوقِبْتُمْ ِبهِ[ { ..النحل.]126 :
نلحظ أن الردّ على العتداء يُسمّى عقوبة ،لكن العتداء الول لماذا نُسميه أيضا عقوبة؟
قالوا :لن هذه طريقة في التعبير تسمّى " المشاكلة " ،أي :جاءت الفعال كلها على شاكلة واحدة.
ومن ذلك قوله تعالى {:وَجَزَآءُ سَيّ َئةٍ سَيّ َئةٌ مّثُْلهَا }[الشورى.]40 :
لن ردّ السيئة ل يُسمّى سيئة.
ولسائل في هذه القضية أن يسأل :طالما أن السلم يسعى في هذه المسألة إلى العفو ،فلماذا لم
يُقرّره من البداية؟ وما فائدة الكلم عن العقوبة بالمثل؟
نقول :لن المجتمع ل يكون سليم التكوين إل إذا َأمِن كل إنسان فيه على نفسه وعِرْضه وماله.
.الخ .وهذا المن ل يتأتّى إل بقوة تحفظه ،كما أن للمجتمع توازنا ،هذا التوازن في المجتمع ل
يُحفظ إل بقوة تضمن أداء الحقوق والواجبات ،وتضمن أن تكون حركة النسان في المجتمع دون
ظلم له.
كما أن للحق سبحانه حكمة سامية في تشريع العقوبة على الجرائم ،فهدف الشارع الحكيم أن َيحُدّ
من الجريمة ،ويمنع حدوثها ،فلو علم القاتل أنه سيُقتل ما تجرّأ على جريمته ،ففي تشريع العقوبة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رحمة بالمجتمع وحفظ لسلمته وأمْنه.
ونرى البعض يعترض على عقوبة الردة ،فيقول :كيف تقتلون مَن يرتد عن دينكم؟ وأين حرية
العقيدة إذن؟
نقول :في تشريع قتل المرتد عن السلم تضييق لمنافذ الدخول في هذا الدين ،بحيث ل يدخله أحد
إل بعد اقتناع تام وعقيدة راسخة ،فإذا علم هذا الحكم من البداية فللمرء الحرية يدخل أو ل يدخل،
ل يغصبه أحد ،ولكن ليعلم أنه إذا دخل ،فحكم الردة معلوم.
إذن :شرعَ السل ُم العقوبةَ ليحفظ للمجتمع توازنه ،وليعمل عملية ردع حتى ل تقع الجريمة من
ل والحقاد والضغائن من المجتمع.
البداية ،لكن إذا وقعتْ يلجأ إلى علج آخر يجتثّ جذور ال ِغ ّ
لذلك سبق أن قلنا عن عادة الخذ بالثأر في صعيد مصر :إنه يظل في سلسلة من القتل والثأر ل
تنتهي ،وتفزّع المجتمع كله ،حتى المنين الذين ل جريرة لهم ،وتنمو الحقاد والكراهية بين
العائلت في هذا الجو الشائك ،حتى إذا ما تشجّع واحد منهم ،فأخذ كفنه على يديه وذهب إلى وليّ
القتيل ،وألقى بنفسه بين يديه قائلً :ها أنا بين يديك وكفني معي ،فاصنع بي ما شئت ،وعندها
تأبى عليهم كرامتهم وشهامتهم أنْ يثأروا منه ،فيكون العفو والصفح والتسامح نهاية لسلسلة الثأر
التي ل تنتهي.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَاصْبِ ْر َومَا صَبْ ُركَ ِإلّ.{ ..
()2011 /
وَاصْبِرْ َومَا صَبْ ُركَ إِلّا بِاللّ ِه وَلَا تَحْزَنْ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا َتكُ فِي ضَ ْيقٍ ِممّا َي ْمكُرُونَ ()127
بعد أن ذكرتْ اليات فضل الصبر وما فيه من خيرية ،وكأن الية السابقة تمهد للمر هنا
(وَاصْبِرْ) ليأتمر الجميع بأمر ال ،بعد أنْ قدّم لهم الحيثيات التي تجعل الصبر شجاعة ل ضعفا،
كمَا يقولون في الحكمة :من الشجاعة أنْ تجبُنَ ساعة.
فإذا ما وسوس لك الشيطان ،وأغراك بالنتقام ،وثارت نفسُك ،فالشجاعة أنْ تصبر ول تطاوعهما.
قوله تعالى { :وَاصْبِ ْر َومَا صَبْ ُركَ ِإلّ بِاللّهِ[ } ..النحل.]127 :
من حكمة ال ورحمته أنْ جعلك تصبر على الذى؛ لن في الصبر خيرا لك ،وال هو الذي يُعينك
على الصبر ،ويمنع عنك وسوسة الشيطان وخواطر السوء التي تهيج غضبك ،وتجرّك إلى
النتقام.
والحق سبحانه وتعالى يريد من عبده أن يتجه لنفاذ أمره ،فإذا علم ذلك من نيته تولّى أمره
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأعانه ،كما قال تعالى {:وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد.]17 :
إياك أن تعتقد أن الصبر من عندك أنت ،فال يريد منك أن تتجه إلى الصبر مجرد اتجاه ونية،
وحين تتجه إليه يُجنّد ال لك الخواطر الطيبة التي تُعينك عليه وتُيسّره لك وتُرضيك به ،فيأتي
صبرك جميلً ،ل سخطَ فيه ول اعتراضَ عليه.
ثم يقول تعالى:
{ َولَ تَحْزَنْ عَلَ ْي ِهمْ[ } ..النحل.]127 :
لقد امتنّ ال على أمة العرب التي استقبلتْ دعوة ال على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم ،بأنْ
بعث فيهم رسولً من أنفسهم ومن أوسطهم ،يعرفون حَسبَه ونَسبَه وتاريخه وأخلقه ،وقد كان
صلى ال عليه وسلم مُحبا لقومه حريصا على هدايتهم ،كما قال تعالىَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة.]128 :
أَنفُ ِ
أي :تعز عليه مشقتكم ،ويؤلمه عَنَتكم وتعبكم ،حريص عليكم ،يريد أن يستكمل لكل كل أنواع
الخير؛ لن معنى الحرص :الضّنّ بالشيء ،فكأنه صلى ال عليه وسلم يضِنّ بقومه.
وقد أوضح هذا المعنى في الحديث الشريف " :إنما مثلي ومثَل أمتي كمثل رجل استوقد نارا،
فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه ،فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحّمون فيه ".
لذلك حزن رسول ال صلى ال عليه وسلم على قومه لما رأى من كفرهم وعنادهم وتكبّرهم عن
قبول الحق ،وهو يريد لهم الهداية والصلح؛ لنك إذا أحببتَ إنسانا أحببتَ له ما تراه من الخير،
كمن ذهب إلى سوق ،فوجدها رائجة رابحة ،فدلّ عليها من يحب من أهله ومعارفه.
كذلك لما ذاق رسول ال صلى ال عليه وسلم حلوة اليمان أحبّ أنْ يُشاركه قومه هذه المتعة
اليمانية.
والحق سبحانه وتعالى هنا يُسلّي رسوله ،ويخفف عنه ما صُدم في قومه ،يقول له :ل تحزن عليهم
ول تُحمّل نفسك فوق طاقتها ،فما عليك إل البلغ .ويخاطبه ربه في آية أخرى:
سكَ عَلَىا آثَا ِرهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ أَسَفا }[الكهف.]6 :
{ فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
أي :ل تكن ُمهْلكا نفسَك أسَفا عليهم.
وقولهَ } :ولَ َتكُ فِي ضَيْقٍ ّممّا َي ْمكُرُونَ { [النحل.]127 :
الضيق :تأتي بالفتح وبالكسر ،ضِيْق ،ضَيْق.
والضيق :أن يتضاءل الشيء الواسع أمامك عما كنت تُقدّره ،والضيق يقع للنسان على درجات،
فقد تضيق به بلده فينتقل إلى بلد آخر.
وربما ضاقت عليه الدنيا كلها ،وفي هذه الحالة يمكن أنْ تسعه نفسه ،فإذا ضاقتْ عليه نفْسه فقد
بلغ أقصى درجات الضيق ،كما قال تعالى عن الثلثة الذين تخلفوا في الجهاد مع رسول ال{:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س ُهمْ} ..
ت َوضَاقَتْ عَلَ ْيهِمْ أَنفُ ُ
وَعَلَى الثّلَ َثةِ الّذِينَ خُّلفُواْ حَتّىا ِإذَا ضَا َقتْ عَلَ ْي ِه ُم الَ ْرضُ ِبمَا َرحُ َب ْ
[التوبة.]118 :
فالحق سبحانه ينهى رسوله صلى ال عليه وسلم أنْ يكون في ضيق من مكر الكفار؛ لن الذي
يضيق بأمر ما هو الذي ل يجد في مجال فكره وبدائله ما يخرج به من هذا الضيق ،إنما الذي
يعرف أن له منفذا ومَخْرجا فل يكون في ضَيْق.
فالمعنى :ل َتكُ في ضيق يا محمد ،فال معك ،سيجعل لك من الضيق مخرجا ،ويرد على هؤلء
ن وَ َي ْمكُرُ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال.]30 :
مكرهم {:وَ َيمْكُرُو َ
ولذلك يقول :ل كرب وأنت رب .فساعة أن تضيق بك الدنيا والهل والحباب ،وتضيق بك نفسك
فليسعْك ربك ،ولتكُنْ في معيته سبحانه؛ ولذلك قال تعالى بعد ذلك } :إِنّ اللّهَ مَعَ.{ ..
()2012 /
هذه قضية معيّة ال لمن اتقاه ،فمَنِ اتقى ال فهو في جواره ومعيته ،وإذا كنت في معية ربك فمَنْ
يجرؤ أن يكيدك ،أو يمكرُ بك؟
وفي رحلة الهجرة تتجلى معية ال تعالى وتتجسد لنا في الغار ،حينما أحاط به الكفار ،والصّدّيق
يقول للرسول صلى ال عليه وسلم :لو نظر أحدهم تحت قدميه لَرَآنا ،فيجيبه الرسول صلى ال
عليه وسلم وهو واثق بهذه المعية " :يا أبا بكر ،ما ظنك باثنين ال ثالثهما ".
فما علقة هذه الجابة من رسول ال بما قال أبو بكر؟
المعنى :ما دام أن ال ثالثهما إذن فهما في معية ال ،وال ل تدركه البصار ،فمَنْ كان في معيته
كذلك ل تدركه البصار.
وقوله { :ا ّتقَواْ[ } ..النحل.]128 :
التقوى في معناها العام :طاعة ال باتباع أوامره واجتناب نواهيه ،ومن استعمالتها نقول :اتقوا
ال ،واتقوا النار ،والمتأمل يجد معناها يلتقي في نقطة واحدة.
فمعنى " اتق ال " :اجعل بينك وبين عذاب ال وقاية وحاجزا يحميك ،وذلك باتباع أمره واجتناب
نهيه؛ لن للحق سبحانه صفات رحمة ،فهو :الرؤوف الرحيم الغفور ،وله صفات جبروت فهو:
المنتقم الجبار العزيز ،فاجعل لنفسك وقاية من صفات النتقام.
ونقول :اتقوا النار ،أي :اجعلوا بينكم وبين النار وقاية ،والوقاية من النار ل تكون إل بطاعة ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
باتباع أوامره ،واجتناب نواهيه ،إذن :المعنى واحد ،ولكن جاء مرّة باللزم ،ومرّة بلزم اللزم.
وقوله { :وّالّذِينَ هُم مّحْسِنُونَ } [النحل.]128 :
المحسن :هو الذي يُلزم نفسه في عبادة ال بأكثر مما ألزمه ال ،ومن جنس ما ألزمه ال به ،فإنْ
كان الشرع فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة ،فالحسان أن تزيدها ما تيسّر لك من
النوافل ،وإنْ كان الصوم شهرَ رمضان ،فالحسان أنْ تصومَ من باقي الشهور كذا من اليام،
وكذلك في الزكاة ،وغيرها ِممّا فرض ال.
لذلك نجد أن الحسان أعلى مراتب الدين ،وهذا واضح في حديث جبريل حينما سأل رسول ال
صلى ال عليه وسلم عن السلم واليمان والحسان ،فقال " :الحسان أن تعبد ال كأنك تراه ،فإن
لم تكُنْ تراه فإنه يراك ".
والية الكريمة تُوحِي لنا بأن الذي اتقوا لهم جزاء ومعيّة ،وأن الذين هم محسنون لهم جزاء
ومعيّةُ ،كلّ على حسب درجته؛ لن الحق سبحانه يعطي من صفات كمال لخَلْقه على مقدار
معيتهم معه سبحانه ،فالذي اكتفى بما فرض عليه ،ل يستوي ومَنْ أحسن وزاد ،ل بُدّ أن يكون
للثاني مزيّة وخصوصية.
خذِينَ مَآ آتَا ُهمْ رَ ّبهُمْ إِ ّن ُهمْ كَانُواْ
وفي سورة الذاريات يقول تعالى {:إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آ ِ
حسِنِينَ }[الذاريات.]16-15 :
قَ ْبلَ ذَِلكَ مُ ْ
لم يقل " مؤمنين "؛ لن المؤمن يأتي بما فُرِض عليه فحسب ،لكن ما وجه الحسان عندهم؟
جعُونَ * وَبِالَسْحَارِ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ
يقول تعالى {:كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ
ل وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات.]19-17 :
لّلسّآ ِئ ِ
وكلها أمور نافلة تزيد عما فرض ال عليهم.
ل وَا ْلمَحْرُومِ }
ويجب أن نتنبه هنا إلى أن المراد من قوله تعالىَ {:وفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئ ِ
[الذاريات.]19 :
حقّ ّمعْلُومٌ[} ..المعارج.]24 :
ليست الزكاة ،بل هي الصدقة ،لنه في الزكاة قال سبحانهَ {:
()2013 /
استهل الحق سبحانه هذه السورة بقوله (سُ ْبحَانَ)؛ لنها تتحدث عن حدث عظيم خارق للعادة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى سبحانه :أي تنزيها ل تعالى تنزيها مطلقا ،أن يكون له شبه أو مثيل فيما خلق ،ل في
الذات ،فل ذاتَ كذاته ،ول في الصفات فل صفات كصفاته ،ول في الفعال ،فليس في أفعال خَلْقه
ما يُشبِه أفعاله تعالى.
فإن قيل لك :ال موجود وأنت موجود ،فنزّه ال أن يكون وجوده كوجودك؛ لن وجودك من عدم،
وليس ذاتيا فيك ،ووجوده سبحانه ليس من عدم ،وهو ذاتي فيه سبحانه.
سمْع وال سمع .فنزّه ال أنْ
فذاته سبحانه ل مثيلَ لها ،ول شبيه في ذوات خلقه .وكذلك إن قيلَ :
يُشابه سمعُه سمعَك ،وإن قيل :لك ِفعْل ،ول ِفعْل فنزّه ال أن يكون فعله كفعلك.
ومن معاني (سُ ْبحَان) أي :أتعجب من قدرة ال.
إذن :كلمة (سُبْحَان) جاءت هنا لتشير إلى أنّ ما بعدها أمرٌ خارج عن نطاق قدرات البشر ،فإذا ما
سمعتَه إياك أنْ تعترضَ أو تقول :كيف يحدث هذا؟ بل نزّه ال أن يُشابه ِفعْلُه ِف ْعلَ البشر ،فإن قال
لك :إنه أسرى بنبيه محمد صلى ال عليه وسلم من مكة إلى بيتَ المقدس في ليلة ،مع أنهم
يضربون إليها أكباد البل شهرا ،فإياك أن تنكر.
فربك لم ي ُقلْ :سَرَى محمد ،بل ُأسْرِي به .فالفعل ليس لمحمد ولكنه ل ،وما دام الفعل ل فل
تُخضعْه لمقاييس الزمن لديك ،ففِعْل ال ليس علجا ومزاولة كفعل البشر.
ولو تأملنا كلمة (سُبْحَان) نجدها في الشياء التي ضاقتْ فيها العقول ،وتحيّرتْ في إدراكها وفي
سهِمْ
ت الَ ْرضُ َومِنْ أَنفُ ِ
الشياء العجيبة ،مثل قوله تعالى {:سُ ْبحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِب ُ
َو ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس.]36 :
فالزواج أي :الزوجين الذكر والنثى ،ومنهما يتم التكاثر في النبات ،وفي النسان وقد فسر لنا
العلم الحديث قولهَ { :و ِممّا لَ َيعَْلمُونَ } بما توصّل إليه من اكتشاف الذرة والكهرباء ،وأن فيهما
شيْءٍ خََلقْنَا َزوْجَيْنِ
السالب والموجب الذي يساوي الذكر والنثى؛ لذلك قال تعالىَ {:ومِن ُكلّ َ
َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ }[الذاريات.]49 :
ن وَحِينَ ُتصْبِحُونَ }[الروم.]17 :
ومنها قوله تعالىَ {:فسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ ُتمْسُو َ
حلّ الظلم محلّ
فمَنْ يطالع صفحة الكون عند شروق الشمس وعند غروبها ،ويرى كيف ي ُ
الضياء ،أو الضياء محل الظلم ،ل يملك أمام هذه الية إل أن يقول :سبحان ال.
سخّرَ لَنَا هَـاذَا َومَا كُنّا لَهُ ُمقْرِنِينَ }[الزخرف.]13 :
ومنها قوله تعالى {:سُبْحَانَ الّذِي َ
هذه كلها أمور عجيبة ،ل يقدر عليها إل ال ،وردتْ فيها كلمة (سبحان) في خلل السور وفي
طيّات اليات.
و(سُبْحَان) اسم يدلّ على الثبوت والدوام ،فكأن تنزيه ال موجود وثابت له سبحانه قبل أن يوجد
المنزّه ،كما نقول في الخلق ،فال خالق ومُتصف بهذه الصفة قبل أنْ يخلق شيئا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكما تقول :فلن شاعر ،فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة ،فلو لم يكن شاعرا ما قالها.
إذن :تنزيه ال ثابت له قبل أن يوجد مَنْ يُنزّهه سبحانه ،فإذا وُجِد المنزّه تحوّل السلوب من السم
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ }[الحشر.]1 :
إلى الفعل ،فقال سبحانه {:سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
ت َومَا فِي الَ ْرضِ }[الجمعة:
سمَاوَا ِ
وهل سبّح وسكت وانتهى التسبيح؟ ل ،بلُ {:يسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
.]1
على سبيل الدوام والستمرار ،وما دام المر كذلك والتسبيح ثابت له ،وتُسبّح له الكائنات في
سمَ رَ ّبكَ
الماضي والحاضر ،فل تتقاعس أنت أيّها المكلّف عن تسبيح ربك ،يقول تعالى {:سَبّحِ ا ْ
الَعْلَىا }[العلى.]1 :
حكَم( :عند الصباح يحمَدُ القوم السّرى).
وقولهُ( :أسْرِي) من السّرى ،وهو السير ليلً ،وفي ال ِ
فالحق سبحانه أسرى بعبد ،فالفعل ل تعالى ،وليس لمحمد صلى ال عليه وسلم فل َتقِسْ الفعل
بمقياس البشر ،ونزّه ِفعْل ال عن ِفعْلك ،وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذّب .فقالوا:
كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد البل شهرا ،وهم كاذبون في قولهم؛ لن رسول ال لم َيدّع أنه
سَرَى بل قال :أُسْرِي بي.
ومعلوم أن قَطْع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة .أي :أن
الزمن يتناسب عكسيا مع القوة ،فلو أردنا مثلً الذهاب إلى السكندرية سيختلف الزمن لو سِرْنا
على القدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة ،فكلما زادت القوة َقلّ الزمن ،فما بالك لو نسب الفعل
والسرعة إلى ال تعالى ،إذا كان الفعل من ال فل زمن.
فإنْ قال قائل :ما دام الفعل مع ال ل يحتاج إلى زمن ،لماذا لم يَ ْأتِ السراء لمحةً فحسْب ،ولماذا
استغرق ليلة؟
ضتْ على النبي صلى
نقول :لن هناك فرْقا بين قطْع المسافات بقانون ال سبحانه وبين مَرَاءٍ عُ ِر َ
ال عليه وسلم في الطريق ،فرأى مواقف ،وتكلّم مع أشخاص ،ورأى آيات وعجائب ،هذه هي
التي استغرقت الزمن.
وقلنا :إنك حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قَدْر قوة الفاعلَ .هبْ أن
قائلً قال لك :أنا صعدتُ بابني الرضيع قمة جبل " إفرست " ،هل تقول له :كيف صعد ابنك
الرضيع قمة " إفرست "؟
هذا سؤال إذن في غير محلّه ،وكذلك في مسألة السراء والمعراج يقول تعالى :أنا أسريتُ بعبدي،
فمن أراد أنْ يُحيل المسألة ويُنكرها ،فليعترض على ال صاحب الفعل ل على محمد.
لكن كيف فاتتْ هذه القضية على كفار مكة؟
ومن تكذيب كفار مكة لرسول ال صلى ال عليه وسلم في رحلة السراء والمعراج نأخذ َردّا
جميلً على هؤلء الذين يخوضون في هذا الحادث بعقول ضيقة وبإيمانية سطحية في عصرنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحاضر ،فيطالعونا بأفكار سقيمة ما أنزل ال بها من سلطان.
ن يقول :إن السراء كان منَاما ،أو كان بالروح دون الجسد.
ونسمع منهم مَ ْ
ونقول لهؤلء :لو قال محمد لقومه :أنا رأيتُ في الرؤيا بيت المقدس ،هل كانوا يُكذّبونه؟ ولو قال
لهم :لقد سبحتْ روحي الليلة حتى أتتْ بيت المقدس ،أكانوا يُكذّبونه؟ أتُكذّب الرّؤى أو حركة
الرواح؟!
إذن :في إنكار الكفار على رسول ال وتكذيبهم له دليل على أن السراء كان حقيقة تمت لرسول
ال صلى ال عليه وسلم برُوحه وجسده ،وكأن الحق سبحانه ادّخر الموقف التكذيبي لمكذبي
المس ،ليردّ به على مُكذّبي اليوم.
وقوله سبحانهِ } :بعَ ْب ِدهِ[ { ..السراء.]1 :
العبد كلمة تُطلق على الروح والجسد معا ،هذا مدلولها ،ل يمكن أن تُطلَق على الروح فقط.
لكن ،لماذا اختار الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم هذه الصفة بالذات؟
نقول :لن ال تعالى جعل في الكون قانونا عاما للناس ،وقد يُخرَق هذا القانون أو الناموس العام
خلْق ،فكأن كلمة (عبده) هي حيثية السراء.
ليكون معجزةً للخاصة الذين ميّزهم ال عن سائر ال َ
أي :أُسْرِي به؛ لنه صادق العبودية ل ،وما دام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه ،فاستحق
ن يكون له مَيْزة وخصوصية عن غيره ،فالسراء والمعراج عطاء من ال استحقّه رسوله بما
أْ
حقّق من عبودية ل.
وفَرْق بين العبودية ل والعبودية للبشر ،فالعبودية ل عِزّ وشرف يأخذ بها العبدُ خَيْرَ سيده ،وقال
حتَ قوِلكَ يَا عِبَادِي وَأنْ
خ ُمصِي أَطَأَ الثّريّا ُدخُولِي َت ْ
الشاعرَ :و ِممّا زَادَني شَرَفا وَعِزّا وكِ ْدتُ بأ ْ
صَيّرت أحمدَ لِي نبيّاأما عبودية البشر للبشر فن ْقصٌ ومذلّة وهوان ،حيث يأخذ السيد خَيْر عبده،
ويحرمه ثمره كَدّه.
لذلك ،فالمتتبّع ليات القرآن يجد أن العبودية ل تأتي إل في المواقف العظيمة مثل:
} سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَ ْب ِدهِ[ { ..السراء.]1 :
وقوله {:وَأَنّهُ َلمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ[} ..الجن.]19 :
ن تتوضأ
ويكفيك عِزا وكرامة أنك إذا أردتَ مقابلة سيدك أن يكون المر في يدك ،فما عليكَ إل أ ْ
وتنوي المقابلة قائلً :ال أكبر ،فتكون في معية ال عز وجل في لقاء تحدد أنت مكانه ومُوعده
ومُدّته ،وتختار أنت موضوع المقابلة ،وتظل في حضرة ربك إلى أن تنهي المقابلة متى أردتَ.
سبُ َنفْسِي عِزّا بِأَنّي عَبْدٌ َيحْ َتفِي بِي بِلَ مَواعِيدَ رَ ّبهُو في قُدْسِه العَزّ
وما أحسنَ ما قال الشاعر:حَ ْ
ولكِنْ أنَا أَ ْلقَى متَى وَأَيْنَ أُحِبّفما بالك لو حاولت لقاء عظيم من عظماء الدنيا؟ وكم أنت مُلقٍ من
المشقة والعنت؟ وكم دونه من الحجّاب والحرّاس؟ ثم بعد ذلكَ ليس لك أن تختار ل الزمان ول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المكان ،ول الموضوع ول غيره.
وقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم وهو المتخلّق بأخلق ال إذا سلّم على أحد ل ينزع يده من
يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده.
وقوله } :لَيْلً.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فمن حيث :أكان السراء بالروح فقط أم بالروح والجسد؟ فقد أوضحنا َوجْه الصواب فيه ،وأنه
كان بالروح والجسد جميعا ،فهذا مجال العجاز ،ولو كان بالروح فقط ما كان عجيبا ،وما كذّبه
كفار مكة.
أما مَنْ ذهب إلى أن السراء كان رؤيا منام ،فيجب أن نلحظ أن أول الوحي لرسول ال صلى
ال عليه وسلم كان الرؤيا الصادقة ،فكان صلى ال عليه وسلم ل يرى ُرؤْيَا إل وجاءت كفلَق
الصبح ،فرؤيا النبي صلى ال عليه وسلم ليست كرؤيانا ،بل هي صِدْق ل بُدّ أن يتحقّق .ومثال
ذلك ما حدث ،مَنْ إرادةِ الِ لهُ رؤْيا الفتح.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ[} ..التوبة.]18 :
ويختلف المسجد الحرام عن غيره من المساجد ،أنه بيت ل باختيار ال تعالى ،وغيره من المساجد
بيوت ل باختيار خَلْق ال؛ لذلك كان بيت ال باختيار ال قِبْلة لبيوت ال باختيار خَلْق ال.
وقد يُراد بالمسجد المكان الذي نسجد فيه ،أو المكان الذي يصلح للصلة ،كما جاء في الحديث
جعَِلتْ لي الرض مسجدا وطهورا ".
الشريف .." :و ُ
أي :صالحة للصلة فيها.
خصّص كمسجد مستقل ،وبين أرض تصلح للصلة فيها
ول ُبدّ أن نُفرّق بين المسجد الذي حُيّز و ُ
ومباشرة حركة الحياة ،فالعامل يمكن أن يصلي في مصنعه ،والفلح يمكن أن يصلي في
مزرعته ،فهذه أرض تصلح للصلة ولمباشرة حركة الحياة.
أما المسجد فللصلة ،أو ما يتعلق بها من أمور الدين كتفسير آية ،أو بيان حكم ،أو تلوة قرآن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالمسجد القصى :أي :البعد ،وهو مسجد بيت المقدس.
حوْلَهُ[ { ..السراء.]1 :
وقوله سبحانه } :بَا َركْنَا َ
البركة :أن يُؤتي الشيءُ من ثمره فوقَ المأمول منه ،وأكثر مما يُظنّ فيه ،كأن ُتعِد طعاما
لشخصين ،فيكفي خمسة أشخاص فتقول :طعام مبارَك.
وقول الحق سبحانه:
حوْلَهُ[ { ...السراء.]1 :
} بَا َركْنَا َ
دليل على المبالغة في البركة ،فإنْ كان سبحانه قد بارك ما حول القصى ،فالبركة فيه من باب
َأوْلى ،كأن تقول :مَنْ يعيشون حول فلن في نعمة ،فمعنى ذلك أنه في نعمة أعظم.
لكن بأيّ شيء بارك ال حوله؟
لقد بارك ال حول المسجد القصى ببركة دنيوية ،وبركة دينية:
خصْبة عليها الحدائق والبساتين التي تحوي مختلف الثمار،
بركة دنيوية بما جعل حوله من أرض ِ
وهذا من عطاء الربوبية الذي يناله المؤمن والكافر.
وبركة دينية خاصة بالمؤمنين ،هذه البركة الدينية تتمثل في أن القصى َمهْد الرسالت و َمهْبط
النبياء ،تعطّ َرتْ أرضه بأقدام إبراهيم وإسحق ويعقوب وعيسى وموسى وزكريا ويحيى ،وفيه
هبط الوحي وتنزلتْ الملئكة.
وقوله } :لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ[ { ...السراء.]1 :
اللم هنا للتعليل.
كأن مهمة السراء من مكة إلى بيت المقدس أن نُرِي رسول ال اليات ،وكلمة :اليات ل تُطلق
على مطلق موجود ،إنما تطلق على الموجود العجيب ،كما نقول :هذا آية في الحُسْن ،آية في
الشجاعة ،فالية هي الشيء العجيب.
ول عز وجل آيات كثيرة منها الظاهر الذي يراه الناس ،كما قال تعالىَ {:ومِنْ آيَا ِتهِ الّيلُ
جوَارِ فِي الْ َبحْرِ كَالَعْلَمِ }[الشورى.]32 :
وَال ّنهَارُ[} ..فصلتَ {.]37 :ومِنْ آيَاتِهِ ا ْل َ
وال سبحانه يريد أن يجعل لرسوله صلى ال عليه وسلم خصوصية ،وأن يُريه من آيات الغيب
الذي لم يَ َرهُ أحد ،ليرى صلى ال عليه وسلم حفاوة السماء به ،ويرى مكانته عند ربه الذي قال
له {:وَلَ َتكُ فِي ضَيْقٍ ّممّا َي ْمكُرُونَ }[النحل.]127 :
لنك في سَعة من عطاء ال ،فإن أهانك أهل الرض فسوف يحتفل بك أهل السماء في المل
خلْق فأنت في سَعة من الخالق.
ن كنت في ضيق من ال َ
العلى ،وإ ْ
سمِيعُ ال َبصِيرُ { [السراء.]1 :
وقوله } :إِنّهُ ُهوَ ال ّ
أي :الحق سبحانه وتعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السمع :إدراك يدرك الكلم .والبصر :إدراك يدرك الفعال والمرائي ،فلكل منهما ما يتعلق به.
لكن سميع وبصير لمن؟
جاء هذا في ختام آية السراء التي بيّ َنتْ أن الحق سبحانه جعل السراء تسلية للرسول صلى ال
عليه وسلم بعد ما لقاه من أذى المشركين وعنتهم ،وكأن معركة دارت بين رسول ال والكفار
حدثتْ فيها أقوال وأفعال من الجانبين.
سمِيعٌ) لقوال الرسول ( َبصِيرٌ) بأفعاله ،حيث آذاه قومه وكذبوه
ومن هنا يمكن أن يكون المعنىَ ( :
وألجؤوه إلى الطائف ،فكان أهلها أشدّ قسوة من إخوانهم في مكة ،فعاد مُنكَرا داميا ،وكان من
دعائه " :اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ،وقلة حيلتي ،وهواني على الناس يا أرحم الراحمين،
أنت رب المستضعفين وأنت ربي ،إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟
إن لم يكن بك علي غضب فل أبالي ،ولكن عافيتك هي أوسع لي ،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت
له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا والخرة من أن تُنزل بي غضبك ،أو يحل عليّ سخطك ،لك
العتبى حتى ترضى ،ول حول ول قوة إل بك ".
فال سميع لقول نبيه صلى ال عليه وسلم .وبصير لفعله.
فقد كان صلى ال عليه وسلم في أشدّ ظروفه حريصا على دعوته ،فقد قابل في طريق عودته من
الطائف عبدا ،فأعطاه عنقودا من العنب ،وأخذ يحاوره في النبوات ويقول :أنت من بلد نبي ال
يونس بن متى.
سمْع رسول ال وكذّبوه وتجهّموا له،
أو يكون المعنى :سميع لقوال المشركين ،حينما آذوا َ
وبصير بأفعالهم حينما آذوه و َرمَوْه بالحجارة.
الحق تبارك وتعالى تعرّض لحادث السراء في هذه الية على سبيل الجمال ،فذكر بدايته من
المسجد الحرام ،ونهايته في المسجد القصى ،وبين البداية والنهاية ذكر كلمة اليات هكذا مُجْملة.
وجاء صلى ال عليه وسلم ففسّر لنا هذا المجمل ،وذكر اليات التي رآها ،فلو لم يذكر لنا رسول
ال صلى ال عليه وسلم ما رأى من آيات ال َلقُلْنا :وأين هذه اليات؟ فالقرآن يعطينا اللقطة
ج ْمعَ ُه َوقُرْآنَهُ * فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ *
الملزمة لبيان الرسول صلى ال عليه وسلم {:إِنّ عَلَيْنَا َ
ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }[القيامة.]19-17 :
إذن :كان ل بُدّ لتكتمل صورة السراء في نفوس المؤمنين أن يقول الرسول صلى ال عليه وسلم
ما قال من أحاديث السراء.
لكن يأتي المش ّككُون وضعَاف اليمان يبحثون في أحاديث السراء عن مأخذ ،فيعترضون على
المرائي التي رآها رسول ال ،وسأل عنها جبريل عليه السلم.
فكان اعتراضهم أن هذه الحداث في الخرة ،فكيف رآها محمد صلى ال عليه وسلم؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونقول لهؤلء :لقد قصُ َرتْ أفهامكم عن إدراك قدرة ال في خَلْق الكون ،فالكون لم يُخلَق هكذا ،بل
خُلِق بتقدير أزلي له ،ولتوضيح هذه المسألة نضرب هذا المثل:
َهبْ أنك أردتَ بناء بيت ،فسوف تذهب إلى المهندس المختص وتطلب منه رَسْما تفصيليا له ،ولو
كنت ميسور الحال تقول له :اعمل لي (ماكيت) للبيت ،فيصنع لك نموذجا مُصغّرا للبيت الذي
تريده.
فالحق سبحانه خلق هذا الكون أزلً ،فالشياء مخلوقة عند ال (كالماكيت) ،ثم يبرزها سبحانه على
َوفْق ما قدّره.
وتأمل قول الحق سبحانه وتعالى {:إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس.]82 :
انظر } :أَن َيقُولَ َلهُ { كأن الشيء موجود وال تعالى يظهره فحسب ،ل يخلقه بداية ،بل هو
مخلوق جاهز ينتظر المر ليظهر في عالم الواقع؛ لذلك قال أهل المعرفة :أمور يُبديها ول
يبتديها.
وإن كان الحق تبارك وتعالى قد ذكر السراء صراحة في هذه الية ،فقد ذكر المعراج باللتزام
في سورة النجم ،في قوله تعالى {:وََلقَدْ رَآهُ نَزْلَةً ُأخْرَىا * عِندَ سِدْ َرةِ ا ْلمُن َتهَىا * عِندَهَا جَنّةُ
طغَىا * َلقَدْ رَأَىا مِنْ آيَاتِ رَبّهِ
ا ْلمَ ْأوَىا * إِذْ َيغْشَىا السّدْ َرةَ مَا َي ْغشَىا * مَا زَاغَ الْ َبصَرُ َومَا َ
ا ْلكُبْرَىا }[النجم.]18-13 :
ففي السراء قال تعالى:
} لِنُرِ َيهُ مِنْ آيَاتِنَآ[ { ..السراء.]1 :
وفي المعراج قالَ {:لقَدْ رَأَىا مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَىا }[النجم.]18 :
ذلك لن السراء آية أرضية استطاع الرسول صلى ال عليه وسلم بما آتاه ال من اللهام أنْ يُدلّل
على صِدْقه في السراء به من المسجد الحرام إلى المسجد القصى؛ لن قومه على علم بتاريخه،
صفْه لنا وهذه شهادة منهم أنه لم
وأنه لم يسبق له أنْ رأى بيت المقدس أو سافر إليه ،فقالوا لهِ :
يَ َرهْ ،فتح ّد ْوهُ أن يصفه.
والرسول صلى ال عليه وسلم حينما يأتي بمثل هذه العملية ،هل كان عنده استحفاظ كامل لصورة
بيت المقدس ،خاصة وقد ذهب إليه ليلً؟
إذن :صورته لم تكن واضحة أمام النبي صلى ال عليه وسلم بكل تفاصيلها ،وهنا تدخلتْ قدرة ال
فجلّه ال له ،فأخذ يصفه لهم كأنه يراه الن.
كما أن الطريق بين المسجد الحرام والمسجد القصى طريق مسلوك للعرب ،فهو طريق تجارتهم
إلى الشام ،فأخبرهم صلى ال عليه وسلم أن عيرا لهم في الطريق ،ووصفها لهم وصفا دقيقا،
وأنها سوف تصلهم مع شروق الشمس يوم مُعين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفعلً تجمعوا في صبيحة هذا اليوم ينتظرون العير .وعند الشروق قال أحدهم :ها هي الشمس
أشرقتْ .فردّ الخر :وها هي العير قد ظهرتْ.
إذن :استطاع صلى ال عليه وسلم أن يُدلّل على صدق السراء؛ لنه آية أرضية يمكن التدليل
عليها ،بما َيعْلمه الناس عن بيت المقدس ،وبما يعلمونه من عِيرهم في الطريق.
أما ما حدث في المعراج ،فآيات كبرى سماوية ل يستطيع الرسول صلى ال عليه وسلم التدليل
عليها أمام قومه ،فأراد الحق سبحانه أنْ يجعل ما يمكن الدليل عليه من آيات الرض وسيلة
لتصديق ما ل يوجد دليل عليه من آيات الصعود إلى السماء ،وإل فهل صعد أحد إلى سدرة
المنتهى ،فيصفها له رسول ال؟
إذن :آية الرض أمكن أنْ يُدلّل عليها ،فإذا ما قام عليها الدليل ،وثبت للرسول خَرْق نواميس
الكون في الزمن والمسافة ،فإنْ حدّثكم عن شيء آخر فيه خَرْق للنواميس فصدّقوه ،فكأن آية
السراء جاءت لِتُقرّب للناس آية المعراج.
فالذي خرق له النواميس في آيات الرض من الممكن أنْ يخرق له النواميس في آيات السماء،
فال تعالى يُقرّب الغيبيات ،التي ل تدركها العقول بالمحسّات التي تدركها.
ومن ذلك ما ضربه إليه مثلً محسوسا لمضاعفة النفقة في سبيل ال إلى سبعمائة ضعف ،فأراد
الحق سبحانه أنْ يُبيّن ذلك ويُقرّبه للعقول ،فقال {:مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ
سعٌ عَلِيمٌ }[البقرة:
حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبَُلةٍ مّئَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَاعِفُ ِلمَن يَشَآ ُء وَاللّ ُه وَا ِ
.]261
خلْقه أنْ جعل آيات السراء بالنصّ الملزم الصريح ،لكن آيات
ومن ُلطْف ال سبحانه بعقول َ
المعراج جاءت باللتزام في سورة النجم؛ لذلك قال العلماء :إن الذي يُكذّب بالسراء يكفر ،أما مَنْ
يكذّب بالمعراج فهو فاسق.
لكن أهل التحقيق يذهبون إلى تكفير مَنْ يُكذّب المعراج أيضا؛ لن المعراج وإنْ جاء باللتزام فقد
بيّنه الرسول صلى ال عليه وسلم في حديثه الشريف ،والحق سبحانه يقولَ {:ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ[} ..الحشر.]7 :
فَ ُ
والمتأمل في السراء والمعراج يجده إلى جانب أنه تسلية لرسول ال وتخفيف عنه ،إل أن لهم
هدفا آخر أبعد أثرا ،وهو بيان أن رسول ال صلى ال عليه وسلم مُؤيّد من ال ،وله معجزات،
وتُخرَق له القوانين والنواميس العامة؛ ليكون ذلك كله تكريما ودليلً على صدق رسالته.
فالمعجزة :أمر خارق للعادة الكونية يُجريه ال على يد رسوله؛ ليكون دليلً على صدقه ،ومن ذلك
ما حدث لبراهيم الخليل ـ عليه السلم ـ حيث ألقاه قومه في النار ،ومن خواص النار
الحراق ،فهل كان المراد نجاة إبراهيم من النار؟
لو كان القصد نجاته من النار ما كان ال مكّنهم من المساك به ،ولو أمسكوا فيمكن أنْ يُنزِل ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المطر فيطفيء النار.
إذن :المسألة ليست نجاة إبراهيم ،المسألة إثبات خَرْق النواميس لبراهيم عليه السلم ،فشاء ال أنْ
تظلّ النار مشتعلة ،وأن يُمسكوا به ويرموه في النار ،وتتوفر كل السباب لحرقه ـ عليه السلم.
وهنا تتدخل عناية ال لتظهر المعجزة الخارقة للقوانين ،فمن خواصّ النار الحراق ،وهي خَلْق
من خَ ْلقِ ال ،يأتمر بأمره ،فأمر الُ النا َر ألّ تحرق ،سلبها هذه الخاصية ،فقال تعالى {:قُلْنَا يانَارُ
كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء.]69 :
وربما يجد المشكّكون في السراء والمعراج ما يُقرّب هذه المعجزة لفهامهم بما نشاهده الن من
ن يغزوَ الفضاء ،ويصعد إلى
تقدّم علمي يُقرّب لنا المسافات ،فقد تمكّن النسان بسلطان العلم أ ْ
كواكب أخرى في أزمنة قياسية ،فإذا كان في مقدور البشر الهبوط على سطح القمر ،أتستبعدون
السراء والمعراج ،وهو ِفعْل ل سبحانه؟!
شقّ الصدر التي
وكذلك من المور التي وقفتْ أمام المعترضين على السراء والمعراج حادثة َ
حكاها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والمتأمل فيه يجده عملً طبيعيا لعداد الرسول صلى ال
عليه وسلم لما هو مُقبِل عليه من أجواء ومواقف جديدة تختلف في طبيعتها عن الطبيعة البشرية.
كيف ونحن نفعل مثل هذا العداد حينما نسافر من بلد إلى آخر ،فيقولون لك :البس ملبس كذا.
وخذ حقنة كذا لتساير طبيعة هذا البلد ،وتتأقلم معه ،فما بالك ومحمد صلى ال عليه وسلم سيلتقي
بالملئكة وبجبريل وهم ذوو طبيعة غير طبيعة البشر ،وسيلتقي بإخوانه من النبياء ،وهم في حال
الموت ،وسيكون قاب قوسيْن أو أدنى من ربه عز وجل؟
إذن :ل غرابة في أنْ يحدث له تغيير ما في تكوينه صلى ال عليه وسلم ليستطيع مباشرة هذه
المواقف.
وإذا استقرأنا القرآن الكريم فسوف نجد فيه ما يدلّ على صدق رسول ال فيما أخبر به من لقائه
بالنبياء في هذه الرحلة ،قال تعالى {:وَسْ َئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ مِن رّسُلِنَآ[} ..الزخرف.]45 :
والرسول صلى ال عليه وسلم إذا أمره ربّه أمرا نفّذه ،فكيف السبيل إلى تنفيذ هذا المر :واسأل
مَن سبقك من الرسل؟
ل سبيل إلى تنفيذه إل في لقاء مباشر ومواجهة ،فإذا حدّثنا بذلك رسول ال في رحلة السراء
ك إل إلى قلوب ضعاف اليمان واليقين.
والمعراج نقول له :صدقت ،ول يتسلل الش ّ
فالفكرة في هذه القضية ـ السراء والمعراج ـ دائرة بين يقين المؤمن بصدق رسول ال ،وبين
تحكيم العقل ،وهل استطاع عقلك أنْ يفهم كل قضايا الكون من حولك؟
فما أكثر المور التي وقف فيها العقل ولم يفهم كُ ْنهَها ،ومع مرور الزمن وتقدّم العلوم رآها
تتكشّف له تدريجيا ،فما شاء ال أنْ يُظهره لنا من قضايا الكون يسّر لنا أسبابه باكتشاف أو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اختراع ،وربما بالمصادفة.
وما العقل إل وسيلة إدراك ،كالعين والذن ،وله قوانين محددة ل يستطيع أنْ يتعداها ،وإياك أنْ
تظنّ أن عقلك يستطيع إدراك كل شيء ،بل هو محكوم بقانون.
ولتوضيح ذلك ،نأخذ مثلً العين ،وهي وسيلة إدراك يحكمها قانون الرؤية ،فإذا رأيت شخصا مثلً
تراه واضح الملمح ،فإذا ما ابتعد عنك تراه يصغُر تدريجيا حتى يختفي عن نظرك ،كذلك السمع
تستطيع بأذنك أنْ تسمعَ صوتا ،فإذا ما ابتعد عنك َقلّ سمعك له ،حتى يتوقف إدراك الذن فل
تسمع شيئا.
كذلك العقل كوسيلة إدراك له قانون ،وليس الدراك فيه مطلقا.
ومن هنا لما أراد العلماء التغلّب على قانون العيْن وقانون الذن حينما تضعف هذه الحاسة وتعجز
عن أداء وظيفتها صنعوا للعين النظارة والميكروسكوب والمجهر ،وهذه وسائل حديثة تُمكّن العين
من رؤية ما ل تستطيع رؤيته .وكذلك صنعوا سماعة الذن لتساعدها على السمع إذا ضعفت عن
أداء وظيفتها.
إذن :فكل وسيلة إدراك لها قانونها ،وكذلك العقل ،وإياك أنْ تظنّ أن عقلك يستطيع أن يدرس كل
شيء ،ولكن إذا حُدّ ْثتَ بشيء فعقلك ينظر فيه ،فإذا وثقته صادقا فقد انتهت المسألة ،وخذ ما حدثت
به على أنه صدق.
وهذا ما حدث مع الصّدّيق أبي بكر رضي ال عنه حينما حدثوه عن صاحبه صلى ال عليه وسلم،
وأنه أُسرِي به من مكة إلى بيت المقدس ،فما كان منه إل أن قال " :إن كان قال فقد صدق ".
فالحجة عنده إذن قول الرسول ،وما دام الرسول قد قال ذلك فهو صادق ،ول مجال لعمل العقل
في هذه القضية ،ثم قال " كيف ل أُصدقه في هذا الخبر ،وأنا أصدقه في أكثر من هذا ،أصدقه في
خبر الوحي يأتيه من السماء ".
فآية السراء ـ إذن ـ كانت آية أرضية ،يمكن أنْ يُقام عليها الدليل ،ويمكن أن يفهم الناس عنها
أن القانون قد خُرِق لمحمد في السراء ،فإذا ما أتى المعراج وخرق له القانون فيما ل يعلم الناس
كان أَدْعى لتصديقه.
والمتأمل في هذه السورة يجدها تسمى سورة السراء ،وتسمى سورة بني إسرائيل ،وليس فيها
عن السراء إل الية الولى فقط ،وأغلبها يتحدث عن بني إسرائيل ،فما الحكمة من ِذكْر بني
إسرائيل بعد السراء؟
سبق أن قلنا :إن الحكمة من الكلم عن السراء بعد آخر النحل أن رسول ال صلى ال صلى ال
عليه وسلم كان في ضيق مما يمكرون ،فأراد الحق سبحانه أنْ يُخفّف عنه ويُسلّيه ،فكان حادث
السراء ،ولما أَِلفَ بنو إسرائيل أن الرسول يُب َعثُ إلى قومه فحسب ،كما رأَوا موسى عليه السلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فعندما يأتي محمد صلى ال عليه وسلم ويقول :أنا رسول للناس كافّة سيعترض عليه هؤلء
ن كنتَ رسولً فعلً وسلّمنا بذلك ،فأنت رسول للعرب دون غيرهم ،ول دَخْل لك
وسيقولون :إ ْ
ببني إسرائيل ،فَلَنا رسالتنا وبيت المقدس عَلَم لنا.
لذلك أراد الحق سبحانه أن يلفت إسرائيل إلى عموم رسالة محمد صلى ال عليه وسلم ،ومن هنا
جعل بيت المقدس قبلةً للمسلمين في بداية المر ،ثم أسرى برسوله صلى ال عليه وسلم إليه:
حوْزة
ليدلل بذلك على أن بيت المقدس قد دخل في مقدسات السلم ،وأصبح منذ هذا الحدث في َ
المسلمين.
ثم يبدأ الحديث عن موسى عليه السلم وعن بني إسرائيل ،فيقول تعالى } :وَآتَيْنَآ مُوسَى ا ْلكِتَابَ...
{.
()2014 /
قوله { :وَآتَيْنَآ } أي :أوحينا إليه معانيه ،كما قال تعالىَ {:ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّل َمهُ اللّهُ ِإلّ وَحْيا َأوْ
حيَ بِإِذْ ِنهِ مَا يَشَآءُ[} ..الشورى.]51 :
سلَ َرسُولً فَيُو ِ
مِن وَرَآءِ حِجَابٍ َأوْ يُرْ ِ
فليس في هذا المر مباشرة.
و (الكتاب) هو التوراة ،فلو اقترن بعيسى فهو النجيل ،وإنْ أُطلِق دون أن يقترنَ بأحد ينصرف
إلى القرآن الكريم.
والوَحْي قد يكون بمعاني الشياء ،ثم يُعبّر عنها الرسول بألفاظه ،أو يعبر عنها رجاله وحواريوه
بألفاظهم.
ومثال ذلك :الحديث النبوي الشريف ،فالمعنى فيه من الحق سبحانه ،واللفظ من عند الرسول
صلى ال عليه وسلم ،وهكذا كان المر في التوراة والنجيل.
فإن قال قائل :ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه ،في حين نزلت التوراة والنجيل بالمعنى فقط؟
نقول :لن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والنجيل ،ولكنه نزل أيضا كتاب معجزة ل
ل لحد فيه ،ول بُدّ أنْ يظلّ لفظه كما نزل من عند ال سبحانه
خَيستطيع أحد أنْ يأتيَ بمثله ،فل دَ ْ
وتعالى.
ظ ومعنى القرآن الكريم ،وأُوحِي إليه معنى الحديث
حيَ إليه َلفْ ُ
فالرسول صلى ال عليه وسلم أُو ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النبوي الشريف.
والحق سبحانه يقول:
جعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي إِسْرَائِيلَ[ } ..السراء.]2 :
{ وَ َ
فهذا الكتاب لم ينزل لموسى وحده ،بل لِيُبلّغه لبني إسرائيل ،وليرسمَ لهم طريق الهدى ال سبحانه،
جعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي
وقال تعالى في آية أخرى {:وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ فَلَ َتكُن فِي مِرْيَةٍ مّن ّلقَآئِ ِه وَ َ
إِسْرَائِيلَ }[السجدة.]23 :
والهُدَى :هو الطريق الموصّل للغاية من أقصر وجه ،وبأقلّ تكلفة ،وهو الطريق المستقيم ،ومعلوم
عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين.
ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلصة هذا الكتاب ،وخلصة هذا الهُدى لبني إسرائيل في قوله
تعالى:
{ َألّ تَتّخِذُواْ مِن دُونِي َوكِيلً } [السراء.]2 :
جمَاعه.
ففي هذه العبارة خلصة الهُدى ،وتركيز المنهج و ِ
والوكيل :هو الذي يتولّى أمرك ،وأنت ل تُولّي أحدا أمرك إل إذا كنتَ عاجزا عن القيام به ،وكان
مَنْ تُوكّله أحكمَ منك وأقوى ،فإذا كنت ترى الغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم،
فالغني يصير فقيرا ،والقوي يصير ضعيفا ،والصحيح يصير سقيما.
وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحدا تِلْو الخر ،فاعلم أن هؤلء ل يصلحون لِتولّي أمرك
والقيام بشأنك ،فربما َوكّ ْلتَ واحدا منهم ففاجأك خبر موته.
إذن :إذا كنتَ لبيبا فوكّل مَنْ ل تنتابه الغيار ،ول يدركه الموت؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما
حيّ الّذِي لَ َيمُوتُ }
يُعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق المور ،يقول {:وَ َت َو ّكلْ عَلَى ا ْل َ
[الفرقان.]58 :
وما دام المر كذلك ،فإياك أنْ تتخذَ من دون ال وكيلً ،حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك
وبين ربك كالنبياء؛ لنهم ل يأتون بشيء من عند أنفسهم ،بل يناولونك ويُبلّغونك عن ال
سبحانه.
ولذلك الحق سبحانه يقول {:وَلَئِن شِئْنَا لَ َنذْهَبَنّ بِالّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ[} ..السراء.]86 :
ولو شئنا ما أوحينا إليك أبدا ،فمن أين تأتي بالمنهج إذن؟
وقد تحدث العلماء طويلً في (أن) في قوله:
} َألّ تَتّخِذُواْ مِن دُونِي َوكِيلً { [السراء.]2 :
ن قال :إنها ناهية .ومنهم من قال :نافية ،وأحسن ما يُقال فيها :إنها مُفسّرة لما قبلها من
فمنهم مَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قوله تعالى:
جعَلْنَاهُ ُهدًى[ { ..السراء.]2 :
ب وَ َ
} وَآتَيْنَآ مُوسَى ا ْلكِتَا َ
سوَسَ إِلَ ْيهِ الشّ ْيطَانُ قَالَ ياآدَمُ َهلْ َأدُّلكَ
ففسرت الكتاب والهدى ولخّصتْه ،كما في قوله تعالىَ {:فوَ ْ
شجَ َرةِ الْخُ ْل ِد َومُ ْلكٍ لّ يَبْلَىا }[طه.]120 :
عَلَىا َ
فقوله } :قَالَ ياآ َدمُ { تُفسّر لنا مضمون وسوسة الشيطان.
ضعِيهِ[} ..القصص.]7 :
ومثله قوله تعالى {:وََأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
(فأنْ) هنا مُفسّرة لما قبلها .وكأن المعنى :وأوحينا إليه ألّ تتخذوا من دوني وكيلً.
أو نقول :إن فيها معنى المصدرية ،وأنْ المصدرية قد تُجرّ بحرف جر كما نقول :عجبت أنْ
تنجحَ ،أي :من أنْ تنجح ،ويكون معنى الية هنا :وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل
لنْ ل تتخذوا من دوني وكيلً.
حمَلْنَا.{ ..
ثم يقول الحق سبحانه } :ذُرّيّةَ مَنْ َ
()2015 /
شكُورًا ()3
حمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنّهُ كَانَ عَبْدًا َ
ذُرّيّةَ مَنْ َ
(ذرية) منصوبة هنا على الختصاص لِقصْد المدح ،فالمعنى :أخصّكم أنتم يا ذرية نوح ،ولكن
لماذا ذرية نوح بالذات؟
ذلك لننا نجّيْنَا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق ،وحافظنا على حياتهم ،وأنتم ذريتهم ،فل بُدّ
لكم أنْ تذكروا هذه النعمة ل تعالى ،أن أبقاكم الن من بقاء آبائكم.
فكأن الحق سبحانه يمتنّ عليهم بأنْ نجّى آباءهم مع نوح ،فليستمعوا إلى منهج ال الذي جَرّبه
ن يؤمن بال تكون له النجاة والمن من عذاب ال.
آباؤهم ،ووجدوا أن مَ ْ
ويقول تعالى:
شكُورا } [السراء.]3 :
{ إِنّهُ كَانَ عَبْدا َ
أي :أن الحق سبحانه أكرم ذريته؛ لنه كان عبدا شكورا ،والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه؛
ولذلك سنلحظ ذرية نوح بعنايتنا ،ولن نتركهم يتخبّطون في متاهات الحياة ،وسنرسل لهم الهدى
الذي يرسم لهم الطريق القويم ،ويُجنّبهم الزّلل والنحراف.
ودائما ما ينشغل الباء بالبناء ،فإذا ما توفّر للنسان قُوت يومه تطلّع إلى قُوت العام كله ،فإذا
توفّر له قوت عامه قال :أعمل لولدي ،فترى خير أولده أكثر من خَيْره ،وتراه ينشغل بهم،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويُؤثِرهم على نفسه ،ويترقّى في طلب الخير لهم ،ويودّ لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها.
ومع ذلك ،فالنسان عُ ْرضَة للغيار ،وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء؛ ولذلك فالحق سبحانه
خشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّةً
يدلّنا على وَجْه الصواب الذي ينفع الولد ،فيقول تعالى {:وَلْيَ ْ
ضعَافا خَافُواْ عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُواّ اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َق ْولً سَدِيدا }[النساء.]9 :
ِ
والحق تبارك وتعالى حينما يُعلّمنا أن تقوى ال تتعدّى بركتها إلى أولدك من بعدك ،يعطينا مثلً
واقعيا في قصة موسى والخضر عليهما السلم ـ التي حكاها لنا القرآن الكريم.
والشاهد فيها أنهما حينما مرّا على قرية ،واستطعما أهلها فأ َبوْا أنْ يُضيّفوهما ،وسؤال الطعام يدل
على صِدْق الحاجة ،فلو طلب منك السائل مالً فقد تتهمه بكَنْزِه ،أما إذا طلب منك رغيفا يأكله فل
شكّ أنه صادق في سؤاله ،فهذا دليل على أنها قرية لِئَام ل يقومون بواجب الضيافة ،ول يُقدّرون
حاجة السائل.
خضْر إلى بناء الجدار الذي أوشك على
جبَ موسى ـ عليه السلم ـ من مبادرة ال ِ
ومن هنا تع ّ
ط َعمَآ أَهَْلهَا فَأَ َبوْاْ
السقوط دون أنْ يأخذ أَجْره من هؤلء اللئام {:فَانطََلقَا حَتّىا ِإذَآ أَتَيَآ أَ ْهلَ قَرْيَةٍ اسْ َت ْ
جدَارا يُرِيدُ أَن يَن َقضّ فََأقَامَهُ قَالَ َلوْ شِ ْئتَ لَتّخَ ْذتَ عَلَ ْيهِ أَجْرا }[الكهف:
جدَا فِيهَا ِ
أَن ُيضَ ّيفُو ُهمَا َفوَ َ
.]77
وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة المر ،ويُظهِر له ما أطلعه ال عليه من بواطن المور التي ل
لمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ا ْلمَدِي َن ِة َوكَانَ َتحْتَهُ كَنزٌ
يدركها موسى عليه السلم ،فيقول {:وََأمّا ا ْلجِدَارُ َفكَانَ ِلغُ َ
حمَةً مّن رّ ّبكَ} ..
شدّ ُهمَا وَيَسْتَخْ ِرجَا كَنزَ ُهمَا َر ْ
ّل ُهمَا َوكَانَ أَبُو ُهمَا صَالِحا فَأَرَادَ رَ ّبكَ أَن يَبُْلغَآ أَ ُ
[الكهف.]82 :
فالجدار مِلْك لغلمين صغيرين ل يقدران على حماية مالهما من هؤلء اللئام ،ولن أباهما كان
صالحا سخّر ال لهما مَنْ يخدمهما ،ويحافظ على مالهما.
إذن :فِعلّة هذا العمل أن أباهما كان صالحا ،فأكرمهم ال من أجله ،وجعلهما في حيازته وحفظه.
وهنا قد يسأل سائل :ومن أين للغلمين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما؟
والظاهر أن الخضر بما أعطاه ال من الحكمة بنى هذا الجدار بنا ًء موقوتا ،بحيث ينهدم بعد بلوغ
الغلمين ،فيكونان قادريْنِ على حمايته والدفاع عنه.
والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه {:وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ
شيْءٍ }[الطور.]21 :
عمَِلهِم مّن َ
حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم َومَآ أَلَتْنَا ُهمْ مّنْ َ
ذُرّيّ ُتهُم بِإِيمَانٍ أَلْ َ
فكرامةً للباء نلحق بهم البناء ،حتى وإنْ َقصّروا في العمل عن آبائهم ،فنزيد في أجر البناء،
ول ننقص من أجر الباء.
شكُورا { [السراء.]3 :
وقوله } :إِنّهُ كَانَ عَبْدا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وشكور صيغة مبالغة في الشكر ،فلم يقل شاكر؛ لن الشاكر الذي يشكر مرة واحدة ،أما الشكور
فهو الدائب على الشكر المداوم عليه ،وقالوا عن نوح عليه السلم :إنه كان ل يتناول شيئا من
مُقوّمات حياته إل شكر ال عليها .ول تنعّم بنعمة من ترف الحياة إل حمد ال عليها ،فإذا أكل
قال :الحمد ل الذي أطعمني من غير حول مني ول قوة ،وإذا شرب قال :الحمد ل الذي سقاني
من غير حول مني ول قوة ،وهكذا في جميع أمره.
ويقول بعض العارفين :ما أكثر ما غفل النسان عن شكر ال على نعمه.
جهْدهم أن يقولوا :بسم ال في أول الطعام والحمد ل في آخره ،ثم
ونرى كثيرا من الناس قصارى َ
حصَى ،تستوجب الحمد والشكر.
هم غافلون عن نعم كثيرة ل ُتعَ ّد ول ُت ْ
حمْد
لذلك حينما يعقل النسان ويفقه ِنعَم ال عليه ،ويعلم أن الحمد قَيْد للنعمة ،تجده يعمل ما نُسميّه َ
القضاء مثل الصلة القضاء أي :حمد ال على نعم فاتت لم يحمده عليها ،فيقول :الحمد ل على
كل نعمة أنعمتَها عليّ يا ربّ ،ونسيت أنْ أحمدَك عليها ،ويجعل هذا الدعاء دَأَبه وديدنه.
وقد يتعدى حمدَ ال لنفسه ،فيحمد ال عن الناس الذين أنعم ال عليهم ولم يحمدوه ،فيقول :الحمد ل
عن كل ذي نعمة أنعمتَ عليه ،ولم يحمدك عليها.
حمْد
ولذلك يقولون :إن النعمة التي تحمد ال عليها ل تُسأل عنها يوم القيامة؛ لنك أدّ ْيتَ حقها من َ
ال والثناء عليه.
والحمد والشكر وإنْ كان شكرا للمنعم سبحانه وثناء عليه ،فهو أيضا تجارة رابحة للشاكر؛ لن
شكَرْ ُت ْم لَزِيدَ ّنكُمْ }[إبراهيم.]7 :
الحق سبحانه يقول {:لَئِن َ
فمَنْ أراد الخير لنفسه وأحب أن نواصل له النعم فليداوم على حمدنا وشكرنا.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :و َقضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ.{ ..
()2016 /
قوله تعالى:
{ َو َقضَيْنَآ[ } ..السراء.]4 :
حكْما ل رجعةَ فيه ،وأعلنّا به المحكوم عليه ،والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه
أي :حكمنا ُ
وتعالى.
والقضاء يعني ال َفصْل في نزاع بين متخاصمين ،وهذا الفَصْل ل ُبدّ له من قاضٍ مُؤهّل ،وعلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علم بالقانون الذي يحكم به ،ويستطيع الترجيح بين الدلة.
إذن :ل بُدّ أن يكون القاضي مُؤهّلً ،ولو عُرْف المتنازعين ،ويمكن أن يكونوا جميعا أميّين ل
يعرفون عن القانون شيئا ،ولكنهم واثقون من شخص ما ،ويعرفون عنه َقوْل الحق والعدل في
حكومته ،فيرتضونه قاضيا ويُحكّمونه فيما بينهم.
ثم إن القاضي ل يحكم بعلمه فحسب ،بل ل بُدّ له من بينة على المدعي أن يُقدّمها أو اليمين على
مَنْ أنكر ،والبينة تحتاج إلى سماع الشهود ،ثم هو بعد أن يحكم في القضية ل يملك تنفيذ حكمه،
بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه ،ثم هو في أثناء ذلك عُرْضة للخداع والتدليس وشهادة
الزور وتلعب الخصوم بالقوال والدلة.
وقد يستطيع الظالم أنْ يُعمّي عليه المر ،وقد يكون لبقا متكلما يستميل القاضي ،فيحوّل الحكم
لصالحه ،كل هذا يحدث في قضاء الدنيا.
فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى؟
إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي ل يحتاج إلى بيّنة ول شهود ،ول يقدر أحد أنْ يُعمّي عليه
أو يخدعه ،وهو سبحانه صاحب كل السلطات ،فل يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به ،فكل
حيثيات المور موكولة إليه سبحانه.
وقد حدث هذا فعلً في قضاء قضاه النبي صلى ال عليه وسلم ،وهل القضاة أفضل من رسول
ال؟!
ففي الحديث الشريف " :إنما أنا بشر مثلكم ،وإنكم تختصمون إليّ ،ولعل أحدكم أن يكون ألحنَ
بحجته فأقضي له ،فمَنْ قضيت له من حق أخيه شيئا ،فل يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار ".
فردّ صلى ال عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له ،ونصحه أنْ يراجعَ نفسه وينظر فيما
يستحق ،فالرسول صلى ال عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر ،ولكن إنْ عمّ ْيتَ على قضاء
الرض فلن تُعمّي على قضاء السماء.
ولذلك يقول صلى ال عليه وسلم فيمَنْ يستفتي شخصا فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب:
ن أفت ْوكَ ".
ن أفت ْوكَ ،وإ ْ
ن أفت ْوكَ ،وإ ْ
" استفتِ قلبك ،وإ ْ
قالها ثلثا ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون النسان واعيا مُميّزا بقلبه بين الحلل والحرام ،وعليه أن
يُراجع نفسه ويتدبر أمره.
وقوله { :فِي ا ْلكِتَابِ[ } ..السراء.]4 :
أي :في التوراة ،كتابهم الذي نزل على نبيهم ،وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر ،فالحق
حكْما وأعلمهم به ،حيث أوحاه إلى موسى ،فبلّغهم به في
سبحانه قضى عليهم .أي :حكم عليهم ُ
التوراة ،وأخبرهم بما سيكون منهم من ملبسات استقبال منهج ال على ألسنة الرسل ،أَيُنفذونه
وينصاعون له ،أم يخرجون عنه ويفسدون في الرض؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذا كان رسولهم ـ عليه السلم ـ قد أخبرهم بما سيحدث منهم ،وقد حدث منهم فعلً ما أخبرهم
به الرسول وهم مختارون ،فكان عليهم أنْ يخجلوا من ربهم عز وجل ،ول يتمادوا في تصادمهم
بمنهج ال وخروجهم عن تعاليمه ،وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به ،وأنْ يُطيعوا
أمره.
وقوله تعالى:
سدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْنِ[ { ..السراء.]4 :
} لَ ُتفْ ِ
جاءتْ هذه العبارة هكذا مُؤكّدة باللم ،وهذا يعني أن في الية قَسَما َدلّ عليه جوابه ،فكأن الحق
سبحانه يقول :ونفسي لتفسدن في الرض ،لن القسَم ل يكون إل بال.
حكْما مُؤكّدا ،ل يستطيع أحد الفِكَاك منه ،ففي هذا
أو نقول :إن المعنى :ما ُدمْنا قد قضينا وحكمنا ُ
معنى القسَم ،وتكون هذه العبارة جوابا لـ " قضينا "؛ لن القسَم يجيء للتأكيد ،والتأكيد حاصل في
قوله تعالى:
} َو َقضَيْنَآ[ { ...السراء.]4 :
فما هو الفساد؟
الفساد :أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتُخرجه عن صلحه ،فكُلّ شيء في الكون خلقه ال تعالى
لغاية ،فإذا تركتَه ليؤديَ غايته فقد أبقيته على صلحه ،وإذا أخل ْلتَ به يفقد صلحه ومهمته،
والغاية التي خلقه ال من أجلها.
والحق سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلقنا على هذه الرض خلق لنا مُقوّمات حياتنا في السماء
والرض والشمس والهواء ..الخ وليس مقومات حياتنا فحسب ،بل وأعدّ لنا في َكوْنه ما يُمكّن
النسان بعقله وطاقته أن يَزيدَ الصالح صلحا ،فعلى القل إنْ لم تستطع أن تزيد الصالح صلحا
فأبْقِ الصالح على صلحه.
فمثلً ،عندك بئر محفورة تخرج لك الماء ،فإما أنْ تحتفِظَ بها على حالها فل تطمسها ،وإما أنْ
تزيدَ في صلحها بأنْ تبنيَ حولها ما يحميها من زحف الرمال ،أو تجعل فيها آلة رفع للماء
تضخّه في مواسير لتسهّل على الناس استعمال ،وغير ذلك من َأوْجُه الصلح.
ض وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود.]61 :
ن الَ ْر ِ
ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقولُ {:هوَ أَنشََأكُمْ مّ َ
أي :أنشأكم من الرض ،وجعل لكم فيها مُقوّمات حياتكم ،فإنْ أحببتَ أنْ تُثري حياتك فأع ِملْ
عقلك المخلوق ل ليفكر ،والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة ل في الكون،
فأنت ل تأتي بشيء من عندك ،فقط تُعمِل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة ل ،وتتفاعل مع الرض
المخلوقة ل ،فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يُثرِي حياتك ،ويُوفّر لك الرفاهية والترقي.
فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملُوا عقولهم ،وزادوا الصالح صلحا ،وكم فيها من مَيْزات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفّرت علينا عناء رفع المياه إلى الدوار العليا ،وقد استنبط هؤلء فكرة الصهاريج من ظواهر
الكون ،حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان ،فأخذوا هذه الفكرة ،وأفلحوا
في عمل يخدم البشرية.
وكما يكون الفساد في الماديات كمَنْ أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوّثات ،كذلك يكون في
المعنويات ،فالمنهج اللهي الذي أنزله ال تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه ،فكوْنُك ل تنفذ هذا
المنهج ،أو تكتمه ،أو تُحرّف فيه ،فهذا كله إفساد لمنهج ال تعالى.
ويقول تعالى لبني إسرائيل:
سدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْنِ[ { ..السراء.]4 :
} لَ ُتفْ ِ
وهل أفسد بنو إسرائيل في الرض مرتين فقط؟
ن كانوا كذلك فقد خلهم ذم ،والمر إذن هَيّن ،لكنهم أفسدوا في الرض إفسادا كثيرا
وال إ ْ
متعددا ،فلماذا قال تعالى :مرتين؟
تحدّث العلماء كثيرا عن هاتين المرتين ،وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا ،وذهبوا إلى أنهما قبل
السلم ،والمتأمل لسورة السراء يجدها قد ربطتهم بالسلم ،فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ
حدثتْ منهم في حضْن السلم.
فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر السراء ذكر قصة بني إسرائيل ،فدلّ ذلك على أن السلم
تعدّى إلى مناطق مُقدّساتهم ،فأصبح بيت المقدس قِبْلة للمسلمين ،ثم أُسْرِي برسول ال صلى ال
حوْزة السلم؛ لنه جاء مهيمنا على الديان السابقة ،وجاء للناس
عليه وسلم إليه ،وبذلك دخل في َ
كافة.
إذن :كان من الوْلى أن يُفسّروا هاتين المرتين على أنهما في حضن السلم؛ لنهم أفسدوا كثيرا
خلَ للسلم في إفسادهم السابق؛ لن الحق سبحانه يقول:
قبل السلم ،ول دَ ْ
ن وَلَ َتعْلُنّ عُُلوّا كَبِيرا { [السراء:
} َو َقضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ لَ ُتفْسِدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْ ِ
.]4
فإنْ كان الفساد ُمطْلقا .أي :قبل أن يأتي السلم فقد تعدّد فسادهم ،وهل هناك أكثر من قولهم بعد
ج َعلْ
أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل ،فقالوا لموسى ـ عليه السلم {:ا ْ
لّنَآ إِلَـاها َكمَا َل ُهمْ آِلهَةٌ }[العراف.]138 :
هل هناك فساد أكثر من أنْ قتلوا النبياء الذين جعلهم ال مُثُلً تكوينية وأُسْوة سلوكية ،وحرّفوا
كتاب ال؟
والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرّفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة،
فمن التوراة ما نسوه ،كما قال تعالى {:وَنَسُواْ حَظّا ّممّا ُذكِرُواْ ِبهِ[} ..المائدة.]13 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س ْوهُ لم يتركوه على حاله ،بل كتموا بعضه ،والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله ،بل
والذي لم ين َ
ضعِهِ[} ..المائدة.]13 :
حرّفوه ،كما قال تعالىُ {:يحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَن ّموَا ِ
ولم يقف المر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف ،بل تعدّى إلى أن أَتَوا بكلم من عند
أنفسهم ،وقالوا هو من عند ال ،قال تعالىَ {:فوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ُثمّ َيقُولُونَ هَـاذَا
مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ ِبهِ َثمَنا قَلِيلً[} ..البقرة.]79 :
فهل هناك إفساد في منهج ال أعظم من هذا الفساد؟
ومن العلماء مَنْ يرى أن الفساد الول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى {:أََلمْ تَرَ
إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن َبعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَ ِبيّ ّل ُهمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَلِكا ّنقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ
َهلْ عَسَيْ ُتمْ إِن كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ َألّ ُتقَاتِلُواْ} ..
[البقرة.]246 :
ضوْه وحكموا به ،ومع ذلك حينما جاء القتال تنصّلوا منه ولم يقاتلوا.
فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارت َ
ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قو َيتْ دولتهم ،واتسعتْ رقعتها من الشمال إلى الجنوب،
فأغار عليهم بختنصّر وهزمهم ،وفعل بهم ما فعل.
لوْلى أن نقول :إنهما بعد السلم ،وسوف
وهذه التفسيرات على أن الفساديْن سابقان للسلم ،وا َ
نجد في هذا رَبْطا لقصة بني إسرائيل بسورة السراء.
كيف ذلك؟
قالوا :لن السلم حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى ال عليه وسلم،
ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا ،فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار
والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم :لقد أظلّ زمان نبي يأتي فنتبعه ،ونقتلكم به قتل عاد
وإرم.
لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم :إنهم ينكرون عليك أن ال يشهد ومَنْ عنده
علم الكتاب ،فمَنْ عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك ،وأنك صادق ،ويعرف علمتك ،بدليل أن
الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى ال عليه وسلم.
ويقول أحدهم :لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لبني ،ومعرفتي لمحمد أشد ،لنه قد يشك في نسبة
ولده إليه ،ولكنه ل يشك في شخصية الرسول صلى ال عليه وسلم ِلمَا قرأه في كتبهم ،وما يعلمه
من أوصافه ،لنه صلى ال عليه وسلم موصوف في كتبهم ،ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
إذن :كانوا يستفتحون برسول ال على الذين كفروا ،وكانوا مستشرفين لمجيئه ،وعندهم مُقدّمات
لبعثته صلى ال عليه وسلم.
ومع ذلك {:فََلمّا جَآ َءهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ[} ..البقرة.]89 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلما كفروا به ،ماذا كان موقفه صلى ال عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة؟
في المدينة أبرم رسول ال صلى ال عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها ،ووفّى لهم
رسول ال ما وفّوا ،فلما غدروا هم ،واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم ،جاس رسول ال
صلى ال عليه وسلم خلل ديارهم ،وقتل منهم مَنْ قَتل ،وأجلهم عن المدينة إلى الشام وإلى
خيبر؛ وكان هذا بأمر من ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم ،فقال تعالىُ {:هوَ الّذِي َأخْرَجَ
لوّلِ ا ْلحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْ ُرجُواْ َوظَنّواْ أَ ّنهُمْ مّا ِنعَ ُتهُمْ
الّذِينَ َكفَرُواْ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مِن دِيَارِ ِه ْم َ
عبَ يُخْرِبُونَ بُيُو َتهُمْ بِأَيْدِي ِهمْ
حصُو ُنهُم مّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَ ْيثُ لَمْ َيحْتَسِبُو ْا َوقَ َذفَ فِي قُلُو ِبهِمُ الرّ ْ
ُ
وَأَيْدِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياُأوْلِي الَ ْبصَارِ }[الحشر.]2 :
وهذا هو الفساد الول الذي حدث من يهود بني النضير ،وبني قَيْنقاع ،وبني قريظة ،الذين خانوا
العهد مع رسول ال ،بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا ،ونصّ الية القادمة يُؤيّد ما
نذهب إليه من أن الفسادتين كانتا بعد السلم.
()2017 /
ن وَعْدًا َم ْفعُولًا
خلَالَ الدّيَا ِر َوكَا َ
شدِيدٍ َفجَاسُوا ِ
فَإِذَا جَا َء وَعْدُ أُولَا ُهمَا َبعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ َ
()5
معلوم أن (إذَا) ظرف لما يستقبل من الزمان ،كما تقول :إذا جاء فلن أكرمته ،فهذا دليل على أن
أولى الفسادتين لم تحدث بعد ،فل يستقيم القول بأن الفساد الول جاء في قصة طالوت وجالوت،
وأن الفساد الثاني جاء في قصة بختنصر.
وقوله { :وَعْدُ } .والوعد كذلك ل يكون بشيء مضى ،وإنما بشيء مستقبل .و { أُول ُهمَا } أي:
الفساد الول.
وقولهَ { :بعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادا لّنَآ[ } ...السراء]5 :
وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الفسادتين كانتا في حضن السلم؛ لن كلمة { عِبَادا } ل
تطلق إل على المؤمنين ،أما جالوت الذي قتله طالوت ،وبختنصر فهما كافران.
وقد تحدّث العلماء في قوله تعالى { :عِبَادا لّنَآ[ } ..السراء ]5 :فمنهم من رأى أن العباد والعبيد
سواء ،وأن قوله (عِبَادا) ُتقَال للمؤمن وللكافر ،وأتوا بالدلة التي تؤيد رأيهم حَسْب زعمهم.
ومن أدلتهم قول الحق سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلم {:وَإِذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأ ّميَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكَ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ
حقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي وَلَ أَعَْلمُ مَا فِي َنفْ ِ
لَيْسَ لِي بِ َ
شهِيدا مّا ُد ْمتُ
ا ْلغُيُوبِ * مَا قُ ْلتُ َل ُهمْ ِإلّ مَآ َأمَرْتَنِي ِبهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُ ْم َوكُنتُ عَلَ ْي ِهمْ َ
شهِيدٌ * إِن ُت َعذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُدكَ
شيْءٍ َ
فِيهِمْ فََلمّا َت َوفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ ال ّرقِيبَ عَلَ ْيهِ ْم وَأَنتَ عَلَىا ُكلّ َ
حكِيمُ }[المائدة]118-116 :
وَإِن َتغْفِرْ َلهُمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
والشاهر في قوله تعالى {:إِن ُت َعذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُدكَ[} ..المائدة]118 :
فأطلق كلمة " عبادي " على الكافرين ،وعلى هذا القول ل مانع يكون جالوت وبختنصر ،وهما
كافران قد سُلّطا على بني إسرائيل.
ثم استدلوا بآية أخرى تحكي موقفا من مواقف يوم القيامة ،يقول تعالى للشركاء الذين اتخذوهم من
دون الَ {:أأَنتُمْ َأضْلَلْ ُتمْ عِبَادِي َه ُؤلَءِ[} ..الفرقان]17 :
فأطلق كلمة (عباد) على الكافرين أيضا.
إذن :قوله تعالىَ { :بعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادا لّنَآ[ } ...السراء]5 :
ليس من الضروري أن يكونوا مؤمنين ،فقد يكونون من الكفار ،وهنا نستطيع أن نقول :إن الحق
سبحانه وتعالى يريد أن ينتقم منهم ،ويُسلّط عليهم أمثالهم من الكفرة والظالمين ،فإذا أراد سبحانه
أن ينتقم من الظالم سلّط عليه مَنْ هو أكثر منه ظلما ،وأشدّ منه بطشا ،كما قال سبحانهَ {:وكَذاِلكَ
ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[النعام]129 :
وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الدلة ما يثبت أن كلمة عباد تُطلَق على المؤمنين وعلى
الكافرين ،فسوف نأتي بما يدل على أنها ل تُطلَق إل على المؤمنين.
حمَـانِ الّذِينَ َيمْشُونَ عَلَىا الَ ْرضِ َهوْنا وَإِذَا خَاطَ َبهُمُ الجَاهِلُونَ
ومن ذلك قوله تعالى {:وَعِبَادُ الرّ ْ
جهَنّمَ
عذَابَ َ
سجّدا َوقِيَاما * وَالّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَا اصْ ِرفْ عَنّا َ
قَالُواْ سَلَما * وَالّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَ ّب ِهمْ ُ
إِنّ عَذَا َبهَا كَانَ غَرَاما * إِ ّنهَا سَآ َءتْ مُسْ َتقَرّا َو ُمقَاما * وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْ ِرفُو ْا وَلَمْ َيقْتُرُواْ َوكَانَ
بَيْنَ ذَِلكَ َقوَاما }
[الفرقان]67-63 :
إلى آخر ما ذكرت اليات من صفا المؤمنين الصادقين ،فأطلق عليهم " عباد الرحمن ".
دليل آخر في قول الحق سبحانه في نقاشه لبليس {:إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ عَلَ ْي ِهمْ سُ ْلطَانٌ[} ..الحجر:
]42
ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ
غوِيَنّهُمْ أَ ْ
ك لُ ْ
والمراد هنا المؤمنون ..وقد قال إبليس {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِت َ
ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص]83-82 :
إذن :هنا إشكال ،حيث أتى ُكلٌ بأدلّته وما يُؤيّد قوله ،وللخروج من هذا الشكال نقول :كلمة " عباد
" و " عبيد " كلهما جمع ومفردهما واحد (عبد) .فما الفرق بينهما؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لو نظرتَ إلى الكون كله مؤمنه وكافره لوجدتهم جميعا لهم اختيارات في أشياء ،ومقهورين في
أشياء أخرى ،فهم جميعا عبيد بهذا المعنى يستوي في القهر المؤمن والكافر ،إذن :كل الخَلْق عبيد
فيما ل اختيارَ لهم فيه.
ثم بعد ذلك نستطيع أن نُقسّمهم إلى قْسمين :عبيد يظلون عبيدا ل يدخلون في مظلة العباد ،وعبيد
تسمو بهم أعمالهم وانصياعهم لمر ال فيدخلون في مظلة عباد ال .كيف ذلك؟
لقد جعل ال تعالى لك في أفعالك منطقة اختيار ،فجعلك قادرا على ال ِفعْل ومقابله ،وخلقك صالحا
لليمان وصالحا للكفر ،لكنه سبحانه وتعالى يأمرك باليمان تكليفا.
ففي منطقة الختيار هذه يتمايز العبيد والعباد ،فالمؤمنون بال يخرجون عن اختيارهم إلى اختيار
ربهم ،ويتنازلون عن مُرادهم إلى مُراد ربهم في المباحات ،فتراهم يُنفّذون ما أمرهم ال به،
ويجعلون الختيار كالقهر .ولسان حالهم يقول لربهم :سمعا وطاعة.
وهؤلء هم العباد الذين سَلّموا جميع أمرهم ل في منطقة الختيار ،فليس لهم إرادة أمام إرادة ال
عز وجل.
إذن :كلمة عباد تُطلق على مَنْ تنازل عن منطقة الختيار ،وجعل نفسه مقهورا ل حتى في
المباحات.
أما الكفار الذين اختاروا مُرادهم وتركوا مُراد ال ،واستعملوا اختيارهم ،ونسوا اختيار ربهم ،حيث
خَيّرَهم :تُؤمن أو تكفر قال :أكفر ،تشرب الخمر أو ل تشرب قال :أشرب ،تسرق أو ل تسرق،
قال :أسرق .وهؤلء هم العبيد ،ول يقال لهم " عباد " أبدا؛ لنهم ل يستحقون شرف هذه الكلمة.
حلّ ما أشكل في هذه المسألة ل ُبدّ لنا أن نعلم أن منطقة الختيار هذه ل تكون إل
ولكي نستكمل َ
في الدنيا في دار التكليف؛ لنها محل الختيار ،وفيها نستطيع أن ُنمَيّز بين العباد الذين انصاعوا
لربهم وخرجوا عن مرادهم لمراده سبحانه ،وبين العبيد الذين تمرّدوا واختاروا غير مراد ال عز
وجل في الختياريات ،أما في القهريات فل يستطيعون الخروج عنها.
فإذا جاءت الخرة فل محلّ للختيار والتكليف ،فالجميع مقهور ل تعالى ،ول مجالَ فيها للتقسيم
السابق ،بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته.
إذن :نستطيع أن نقول :إن الكل عباد في الخرة ،وليس الكل عبادا في الدنيا .وعلى هذا نستطيع
فهم معنى (عباد) في اليتين {:إِن ُتعَذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُدكَ[} ..المائدة]118 :
وقوله {:أَأَنتُمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َه ُؤلَءِ[} ..الفرقان]17 :
فسمّاهم الحق سبحانه عبادا؛ لنه لم َيعُدْ لهم اختيار يتمردون فيه ،فاست َووْا مع المؤمنين في عدم
الختيار مع مرادات ال عز وجل.
إذن :فقول الحق سبحانه } :فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ أُول ُهمَا َبعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادا لّنَآ[ { ..السراء]5 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظلّ السلم ،حيث نقضوا عهدهم مع رسول
المقصود بها الفساد الول الذي حدث من اليهود في ِ
ال صلى ال عليه وسلم ،والعباد هم رسول ال والذين آمنوا معه عندما جَاسُوا خلل ديارهم،
ن قتلوه ،وسَ َبوْا مَنْ سَ َبوْه.
وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم مَ ْ
شدِيدٍ[ { ..السراء]5 :
وقولهُ } :أوْلِي بَأْسٍ َ
أي :قوة ومنَعة ،وهذه كانت حال المؤمنين في المدينة ،بعد أن أصبحت لهم دولة وشوكة يواجهون
بها أهل الباطل ،وليس حال ضعفهم في مكة.
للَ الدّيَارِ[ { ..السراء]5 :
وقوله سبحانهَ } :فجَاسُواْ خِ َ
جاسُوا من جاسَ أي :بحث واستقصى المكان ،وطلب مَنْ فيه ،وهذا المعنى هو الذي يُسمّيه رجال
المن " تمشيط المكان ".
وهو اصطلح يعني ِدقّة البحث عن المجرمين في هذا المكان ،وفيه تشبيه لتمشيط الشعر ،حيث
يتخلل المشط جميع الشعر ،وفي هذا ما يدل على ِدقّة البحث ،فقد يتخلل المشط تخلّلً سطحيا ،وقد
يتخلل بعمق حتى يصل إلى البشرة فيخرج ما لصق بها.
إذن :جاسُوا أي :تتبعوهم تتبعا بحيث ل يخفي عليهم أحد منهم ،وهذا ما حدث مع يهود المدينة:
بني قينقاع ،وبني قريظة ،وبني النضير ،ويهود خيبر.
ونلحظ هنا أن القرآن آثر التعبير بقولهَ } :بعَثْنَا[ { ..السراء]5 :
والبعث يدل على الخير والرحمة ،فرسول ال صلى ال عليه وسلم لم يكن في حال اعتداء ،بل في
حالة دفاع عن السلم أمام مَنْ خانوا العهد ونقضوا الميثاق.
وكلمة } :عَلَ ْيكُمْ { تفيد العلو والسيطرة.
ن وَعْدا ّم ْفعُولً { [السراء]5 :
وقولهَ } :وكَا َ
أي :وَعْد صدق لبد أن يتحقق؛ لنه وعد من قادر على النفاذ ،ول توجد قوة تحول بينه وبين
إنفاذ ما وعد به ،وإياك أن تظن أنه كأي وَعْد يمكن أنْ َيفِي به صاحبه أو ل يفي به؛ لن النسان
إذا وعد وَعْدا :سألقاك غدا مثلً.
فهذا الوعد يحتاج في تحقيقه أن يكون لك قدرة على بقاء طاقة النفاذ ،لكن قد يطرأ عليك من
العوارض ما يحول بينك وبين إنفاذ ما وعدت به ،إنما إذا كان الوعد ممّنْ يقدر على النفاذ ،ول
تجري عليه مِثْل هذه العوارض ،فوعْدُه مُتَحقّق النفاذ.
فإذا قال قائل :الوعد ل تُقال إل في الخير ،فكيف س َمىّ القرآن هذه الحداثَ } :بعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادا
شدِيدٍ.
لّنَآ ُأوْلِي بَأْسٍ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شرا في ظاهره ،وهو خير في باطنه ،وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده ،إذا أراد الحق سبحانه
أنْ يُؤ ّدبَ هؤلء الذين انحرفوا عن منهجه ،فقد نرى أن هذا شر في ظاهره ،لكنه في الحقيقة خير
بالنسبة لهم ،إنْ حاولوا هم الستفادة منه.
ونضرب لذلك مثلً بالولد الذي يعاقبه والده على إهماله أو تقصيره ،فيقسو عليه حِرْصا على ما
حمُثم
يُصلحه ،وصدق الشاعر حين قالَ :فقَسَا لِيزْ َدجِرُوا َومَنْ َيكُ حَازِما فَلْ َيقْسُ أَحْيَانا على مَنْ يَ ْر َ
يقول الحق سبحانه } :ثُمّ َردَدْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْيهِمْ{ ...
()2018 /
الخطاب في هذه الية مُوجّه لبني إسرائيل ،والية تمثل نقطة تحوّل وانقلب للوضاع ،فبعد أن
تحدثنا عنه من غلبة المسلمين ،وأن ال سلّطهم لتأديب بني إسرائيل ،نرى هنا أن هذا الوضع لم
يستمر؛ لن المسلمين تخّلوْا عن منهج ال الذي ارتفعوا به ،وتَنصّلوا من َكوْنهم عبادا ل ،فدارت
عليهم الدائرة ،وتسلّط عليهم اليهود ،وتبادلوا الدور معهم؛ لن اليهود أفاقوا لنفسهم بعد أن أدبهم
رسول ال والمسلمون في المدينة ،فأخذوا ينظرون في حالهم وما وقعوا فيه من مخالفات.
ول ُبدّ أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج ال ،أو على القل حدث من المسلمين انصراف
ت المور اليمانية في نفوس المسلمين ،وانقسموا ُد َولً،
عن المنهج وتنكّب للطريق المستقيم ،فانحّل ْ
صفَة عباد ال.
لكل منها جغرافيا ،ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى السلم ،فانحّلتْ عنهم ِ
فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج ال ،وبعد أن استحقوا أن يكونوا عبادا ل بحق تراجعت كِفتهم
وتخّلوْا عن منهج ربهم ،وتحاكموا إلى قوانين وضعية ،فسلّط عليهم عدوهم ليؤدّبهم ،فأصبحتْ
الغلبة لليهود؛ لذلك يقول تعالىُ { :ثمّ رَ َددْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْي ِهمْ[ } ..السراء]6 :
و { ُثمّ } حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي ،على خلف الفاء مثلً التي تفيد الترتيب مع
التعقيب ،ومن ذلك قوله تعالىُ {:ثمّ َأمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ * ُثمّ إِذَا شَآءَ أَنشَ َرهُ }[عبس]22-21 :
فلم َيقُل الحق سبحانه :فرددنا ،بل { ُثمّ رَ َددْنَا } ذلك لن بين الكَرّة الولى التي كانت للمسلمين في
عهد رسول ال ،وبين هذه الكَرّة التي كانت لليهود وقتا طويلً.
فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون ،منذ عصر الرسول إلى أن حدث وَعْد بلفور ،الذي
أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين ،وكانت الكَرّة لهم علينا في عام ،1967فناسب
العطف بـ " ثم " التي تفيد التراخي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه يقول { :ثُمّ َردَدْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْيهِمْ[ } ..السراء]6 :
أي :جعلنا لبني إسرائيل الغَلَبَة والقوة والنصر على المسلمين وسلّطناهم عليهم؛ لنهم تخلوْا عن
منهج ربهم ،وتنازلوا عن الشروط التي جعلتْهم عبادا ل.
و(الكَرّة) أي :الغلبة من الكَ ّر والفَرّ الذي يقوم به الجندي في القتال ،حيث ُيقِدم مرة ،ويتراجع
أخرى.
جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ َنفِيرا } [السراء]6 :
ن وَ َ
ل وَبَنِي َ
وقوله تعالى { :وََأمْدَدْنَاكُم بَِأ ْموَا ٍ
وفعلً أمدّهم ال بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله ،وأمدّهم بالبنين الذين
يُعلّمونهم ويُثقّفونهم على أعلى المستويات ،وفي كل المجالت.
ولكن هذا كله ل يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كَرّة على المسلمين ،فهم في ذاتهم ضعفاء رغم
ما في أيديهم من المال والبنين ،ول ُبدّ لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من
الدول الخرى ،وهذا واضح ل يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي
جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ َنفِيرا } [السراء]6 :
المزعوم في فلسطين ،وهذا معنى قوله تعالى { :وَ َ
فالنفير مَنْ يستنفره النسان لينصره ،والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت
المسلمين.
ومازالت الكَرّة لهم علينا ،وسوف تظل إلى أنْ نعود كما كُنّا ،عبادا ل ُمسْتقيمين على منهجه،
حسَنْتُمْ َأحْسَنْ ُتمْ
مُحكّمين لكتابه ،وهذا وَعْد سيتحقّق إنْ شاء ال ،كما ذكرتْ الية التالية { :إِنْ أَ ْ
سكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فََلهَا.} ...
لَنْفُ ِ
()2019 /
جدَ
سكُ ْم وَإِنْ َأسَأْتُمْ فََلهَا فَِإذَا جَا َء وَعْدُ الَْآخِ َرةِ لِيَسُوءُوا وُجُو َهكُمْ وَلِيَدْخُلُوا ا ْل َمسْ ِ
إِنْ َأحْسَنْتُمْ أَحْسَنْ ُتمْ لِأَ ْنفُ ِ
عَلوْا تَتْبِيرًا ()7
خلُوهُ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَلِيُتَبّرُوا مَا َ
َكمَا دَ َ
ومازال الخطاب مُوجّها إلى بني إسرائيل ،هاكم سُنّة من سنن ال الكونية التي يستوي أمامها
المؤمن والكافر ،وهي أن مَنْ أحسن فله إحسانه ،ومَنْ أساء فعليه إساءته.
فها هم اليهود لهم الغَلبة بما حدث منهم من شبه استقامة على المنهج ،أو على القل بمقدار ما
تراجع المسلمون عن منهج ال؛ لن هذه سُنّة كونية ،مَنِ استحق الغلبة فهي له؛ لن الحق سبحانه
وتعالى مُنزّه عن الظلم ،حتى مع أعداء دينه ومنهجه.
والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله تعالى { :إِنْ َأحْسَنْتُمْ[ } ..السراء]7 :
عكَ من قضية الحسان هذه.
شكّ أنْ يُحسِنوا ،وكأن أحدهم يقول للخر :دَ ْ
فيه إشارة إلى أنهم في َ
فإذا كانت الكَرّة الن لليهود ،فهل ستظل لهم على طول الطريق؟ ل ..لن تظل لهم الغَلبة ،ولن
تدوم لهم الكرّة على المسلمين ،بدليل قول الحق سبحانه وتعالى { :فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ} ..
[السراء]7 :
أي :إذا جاء وقت الفسادة الثانية لهم ،وقد سبق أنْ قال الحق سبحانه عنهم {:لَ ُتفْسِدُنّ فِي الَ ْرضِ
مَرّتَيْنِ[} ..السراء]4 :
وبينّا الفساد الول حينما نقضوا عهدهم مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في المدينة.
وفي الية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا ،وستكون لنا يقظة وصَحْوة نعود بها إلى منهج
ال وإلى طريقه المستقيم ،وعندها ستكون لنا الغَلبة والقوة ،وستعود لنا الكَرّة على اليهود.
وقوله تعالى { :لِيَسُوءُو ْا وُجُو َهكُمْ[ } ..السراء]7 :
أي :نُلحق بهم من الذى ما يظهر أثره على وجوههم؛ لن الوجه هو السّمة المعبرة عن نوازع
النفس النسانية ،وعليه تبدو النفعالت والمشاعر ،وهو أشرف ما في المرء ،وإساءته أبلغ أنواع
الساءة.
جدَ َكمَا َدخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّرةٍ[ } ..السراء ]7 :أي :أن المسلمين سيدخلون
وقوله تعالى { :وَلِيَدْخُلُواْ ا ْلمَسْ ِ
المسجد القصى وسينقذونه من أيدي اليهود.
{ َكمَا دَخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّرةٍ[ } ..السراء]7 :
المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخولَ المسلمين للمسجد القصى أول مرة كان في عهد الخليفة
عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،ولم يكن القصى وقتها في أيدي اليهود ،بل كان في أيدي
الرومان المسيحيين.
فدخوله الول لم يكُنْ إساءةً لليهود ،وإنما كان إساءة للمسيحيين ،لكن هذه المرة سيكون دخول
القصى ،وهو في حوزة اليهود ،وسيكون من ضمن الساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد
القصى ،ونُطهّره من رِجْسهم.
ونلحظ كذلك في قوله تعالىَ { :كمَا َدخَلُوهُ َأوّلَ مَ ّرةٍ[ } ..السراء ]7 :أن القرآن لم ي ُقلْ ذلك إل إذا
كان بين الدخولين خروج.
إذن :فخروجنا الن من المسجد القصى تصديق لِنُبوءَة القرآن ،وكأن الحق سبحانه يريد أنْ
يلفتنا :إنْ أرد ُتمْ أنْ تدخلوا المسجد القصى مرة أخرى ،فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله تعالى } :وَلِيُتَبّرُواْ مَا عََلوْاْ تَتْبِيرا[ { ..السراء]7 :
يتبروا :أي :يُهلكوا ويُدمّروا ،ويُخرّبوا ما أقامه اليهود وما ب َن ْوهُ وشيّدوه من مظاهر الحضارة التي
نشاهدها الن عندهم.
لكن نلحظ أن القرآن لم ي ُقلْ :ما علوتُم ،إنما قال } مَا عََلوْاْ { ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه
ليس بذاتهم ،وإنما بمساعدة من وراءهم من أتباعهم وأنصارهم ،فاليهود بذاتهم ضعفاء ،ل تقوم
لهم قائمة ،وهذا واضح في َقوْل الحق سبحانه عنهم {:ضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ُثقِفُواْ ِإلّ ِبحَ ْبلٍ
مّنَ اللّ ِه َوحَ ْبلٍ مّنَ النّاسِ[} ..آل عمران]112 :
فهم أذلء أينما وُجدوا ،ليس لهم ذاتية إل بعهد يعيشون في ظِلّه ،كما كانوا في عهد رسول ال
صلى ال عليه وسلم في المدينة ،أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويُعاونونهم.
واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهُويّة ل تذوب في غيرهم من المم ،ول ينخرطون في البلد
التي يعيشون فيها؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى " حارة اليهود " ،ولم يكن
طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما[} ..العراف:
لهم م ْيلٌ للبناء والتشييد؛ لنهم كما قال تعالى عنهمَ {:وقَ ّ
]168
كل جماعة منهم في أمة تعيش عيشة انعزالية ،أما الن ،وبعد أنْ أصبح لهم وطن قومي في
فلسطين على حَدّ زعمهم ،فنراهم يميلون للبناء والتعمير والتشييد.
ونحن الن ننتظر وَعْد ال سبحانه ،ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا ،ونعود إلى ساحة ربنا،
وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد القصى ،وتكون لنا الكرّة الخيرة عليهم ،سيتحقق
لنا هذا عندما ندخل معهم معركة على أسس إسلمية وإيمانية ،ل على عروبة وعصبية سياسية،
صفَة العباد ،ونكون أَهْلً لِ ُنصْرة ال تعالى:
لتعود لنا ِ
إذن :طالما أن الحق سبحانه قال } :فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الخِ َرةِ[ { ..السراء]7 :
شكّ فيه ،بدليل أن هذه العبارة جاءت بنصّها في آخر السورة في قوله تعالى{:
فهو وَعْد آتٍ ل َ
سكُنُو ْا الَ ْرضَ فَإِذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا }[السراء]104 :
َوقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ
والمتأمل لهذه الية يجد بها بشارة بتحقّق وَعْد ال ،ويجد أن ما يحدث الن من تجميع لليهود في
أرض فلسطين آية مُُرادة ل تعالى.
ومعنى الية أننا قُلْنا لبني إسرائيل من بعد موسى:
اسكنوا الرض وإذا قال لك واحد :اسكُنْ فل بُدّ أن يُحدد لك مكانا من الرض تسكن فيه فيقول
لك :اسكن بورسعيد ..اسكن القاهرة ..اسكن الردن.
أما أن يقول لك :اسكن الرض!! فمعنى هذا أن ال تعالى أراد لهم أنْ يظلّوا مبعثرين في جميع
النحاء ،مُفرّقين في كل البلد ،كما قال عنهم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما[} ..العراف]168 :
{ َوقَ ّ
فتجدهم منعزلين عن الناس منبوذين بينهم ،كثيرا ما تُثار بسببهم المشاكل ،فيشكو الناس منهم
ويقتلونهم ،وقد قال تعالى {:وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ ِإلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَن يَسُو ُمهُمْ سُوءَ
ا ْلعَذَابِ }[العراف]167 :
وهكذا سيظل اليهود خميرة عكننة ونكَدٍ بين سكان الرض إلى يوم القيامة ،وهذه الخميرة هي في
نفس الوقت عنصر إثارة وإهاجة لليمان والخير؛ لن السلم ل يلتفت إليه أهله إل حين ُيهَاج
السلم ،فساعة أنْ ُيهَاجَ تتحرك النزعة اليمانية وتتنبّه في الناس.
إذن :فوجود اليهود كعنصر إثارة له حكمة ،وهي إثارة الحيوية اليمانية في النفوس ،فلو لم تُثَر
الحيوية اليمانية لَبهتَ السلم.
وهذه هي رسالة الكفر ورسالة الباطل ،فلوجودهما حكمة؛ لن الكفر الذي يشقي الناس به يُلفِت
الناس إلى اليمان ،فل يروْنَ راحة لهم إل في اليمان بال ،ولو لم يكُنْ الكفر الذي يؤذي الناس
ويُقلق حياتهم ما التفتوا إلى اليمان.
وكذلك الباطل في الكون بعض الناس ويُزعجهم ،فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه.
حوْا إليهم
وبعد أن أسكنهم ال الرض وبعثرهم فيها ،أهاج قلوب أتباعهم من جنود الباطل ،فأو َ
بفكرة الوطن القومي ،وزيّنُوا لهم أولى خطوات نهايتهم ،فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا
منها وطنا يتجمعون فيه من شتى البلد.
وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمّع اليهود بها نكاية في السلم والمسلمين ،ولكن
الحقيقة غير هذا ،فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة اليمانية من جنود
موصوفين بأنهم {:عِبَادا لّنَآ[} ..السراء]5 :
يلفتنا إلى أن هذه الضربة ل تكون وهم مُفرّقون مُبعْثرون في كل أنحاء العالم ،فلن نحارب في
العالم كله ،ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي ،فكيف لنا أن نتتبعهم وهم
مبعثرون ،في كل بلد شِرْذمة منهم؟
إذن :ففكرة التجمّع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيّدتْها الدول الكبرى المساندة لليهود
والمعادية للسلم ،هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية السلم ،وتُسهّل علينا تتبعهم وتُمكّننا
من القضاء عليهم؛ لذلك يقول تعالى {:فَإِذَا جَآ َء وَعْ ُد الخِ َرةِ جِئْنَا ِب ُكمْ َلفِيفا }[السراء]104 :
أي :أتينا بكم جميعا ،نض ّم بعضكم إلى بعض ،فهذه إذن بُشرى لنا معشر المسلمين بأن الكَرّة
ستعود لنا ،وأن الغلبة ستكون في النهاية للسلم والمسلمين ،وليس بيننا وبين هذا الوعد إل أن
نعود إلى ال ،ونتجه إليه كما قال سبحانه {:فََلوْل إِذْ جَآءَ ُهمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُواْ }[النعام]43 :
والمراد بقوله هنا } :وَعْدُ الخِ َرةِ[ { ..السراء]7 :
هو الوعد الذي قال ال عنه } :فَإِذَا جَآ َء وَعْ ُد الخِ َرةِ لِيَسُوءُو ْا وُجُو َهكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ا ْل َمسْجِدَ َكمَا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َدخَلُوهُ َأوّلَ مَ ّرةٍ[ { ..السراء]7 :
حصِيرا
جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ
جعَلْنَا َ
عدْنَا وَ َ
ح َمكُ ْم وَإِنْ عُدتّمْ ُ
عسَىا رَ ّبكُمْ أَن يَ ْر َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :
{.
()2020 /
حصِيرًا ()8
جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ
جعَلْنَا َ
عدْنَا وَ َ
عدْتُمْ ُ
ح َمكُ ْم وَإِنْ ُ
عَسَى رَ ّبكُمْ أَنْ يَ ْر َ
و(عَسَى) حَرْف يدلّ على الرجاء ،وكأن في الية إشارةً إلى أنهم سيظلون في مذلّة ومَسْكنة ،ولن
عهْد منه ،وحبل من الناس الذين يُعاهدونهم على
ظلّ حبل من ال و َ
ترتفع لهم رأس إل في ِ
الّنصْرة والتأييد والحماية.
وقوله { :رَ ّبكُمْ[ } ..السراء]8 :
انظر فيه إلى العظمة اللهية ،ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين
المعاندين لرسوله ،وهو آخر رسول يأتي من السماء ،ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله { :رَ ّب ُكمْ} ..
[السراء]8 :
لن الربّ هو المتولّي للتربية والمتكفّل بضمان مُقومات الحياة ،ل يضنّ بها حتى وإنْ كان العبد
كافرا ،فالكلّ أمام عطاء الربوبية سواء :المؤمن والكافر ،والطائع والعاصي.
الجميع يتمتع بِنعَم ال :الشمس والهواء والطعام والشراب ،فهو سبحانه ل يزال ربهم مع كل ما
حدث منهم.
ح َم ُكمْ[ } ..السراء]8 :
وقوله تعالى { :أَن يَرْ َ
والرحمة تكون للنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة ،واليهود لن تكون لهم دولة ،ولن
حضْن الرحمة اليمانية السلمية التي تُعطي لهم فرصة التعايش
يكون لهم كيان ،بل يعيشون في ِ
مع السلم معايشة ،كالتي كانت لهم في مدينة رسول ال ،يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم.
ن يقترضَ ل
وقد وصلتْ هذه المعايشة لدرجة أن النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا أراد أ ْ
ن نعيهَا ،وهي أن المسلم قد
يقترض من مسلم ،بل كان يقترض من اليهود ،وفي هذا حكمة يجب أ ْ
يستحي أن يطالب رسول ال إذا نسى مثلً ،أما اليهودي فسوف يُلِحّ في طلب حقّه وإذا نسى
رسول ال سَيُذكّره.
لذلك كان اليهود كثيرا ما يجادلون رسول ال صلى ال عليه وسلم ويُغالطونه مِرَارا ،وقد حدث
أن وفّى رسول ال لحدهم دَيْنه ،لكنه أنكره وأتى يطالب به من جديد ،وأخذ يراجع رسول ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويغالطه وينكر ويقول :ا ْبغِني شاهدا.
ولم يكن لرسول ال شاهد وقت السداد ،وهكذا تأزّم الموقف في حضور أحد الصحابة ،واسمه
خزيمة ،ف َهبّ خزيمة قائلً :أنا يا رسول ال كنت شاهدا ،وقد أخذ هذا اليهودي دَيْنه ،فسكت
اليهودي ولم يرد ولم يجادل ،فَدل ذلك على كذبه .ويكاد المريب أن يقول :خذوني.
لكن رسول ال صلى ال عليه وسلم عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال :يا خزيمة
ما حملك على هذا القول ،ولم يكن أحد معنا ،وأنا أقضي لليهودي دَيْنه؟ فضحك خزيمة وقال :يا
رسول ال أَأُص ّدقُك في خبر السماء ،وأُكذّبك في عِدّة دراهم؟
حسْبه ".
فَسُرّ رسول ال من اجتهاد الرجل ،وقال " :مَنْ شهد له خزيمة ف َ
عدْنَا[ } ..السراء]8 :
ثم يُهدّد الحق سبحانه بني إسرائيل ،فيقول { :وَإِنْ عُدتّمْ ُ
عدْنا ،وهذا جزاء الدنيا ،وهو ل ينجيكم من جزاء الخرة ،فهذه مسألة وتلك
إنْ عُدتّم للفسادُ ،
أخرى حتى ل يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يُبرّئهم من عذاب الخرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مسافة بين العود والخر.
لكن لماذا نفرش الحصير؟ نفرش الحصير؛ لنه يحبس عَنّا القذَر والوساخ ،فل تصيب ثيابنا.
إذن :الحصر معناه المنع والحبس والتضييق.
شهُرُ
خ الَ ْ
والمتتبع لمادة (حصر) في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني ،يقول تعالى {:فَإِذَا انسَلَ َ
حصُرُوهُمْ[} ..التوبة]5 :
الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُواْ ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْيثُ َوجَدّتمُوهُ ْم َوخُذُوهُ ْم وَا ْ
أي :ضَيّقوا عليهم.
حصِرْ ُتمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ[} ..البقرة ]196 :أي :حُبِسْتم
وقال تعالى في فريضة الحج {:فَإِنْ أُ ْ
ومَنعْتم من أداء الفريضة.
حصِيرا { [السراء]8 :
جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ
جعَلْنَا َ
إذن :فقوله تعالى } :وَ َ
أي :تحبسهم فيها وتحصرهم ،وتمنعهم الخروج منها ،فهي لهم سجن ل يستطيعون الفرار منه؛
لنها تحيط بهم من كل ناحية ،كما قال تعالى {:إِنّا أَعْ َتدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارا َأحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا} ..
[الكهف]29 :
فل يستطيعون الخروج ،فإنْ حاولوا الخروج ُردّوا إليها ،كما قال تعالى {:كُّلمَآ أَرَادُواْ أَن َيخْرُجُواُ
مِ ْنهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا[} ..السجدة]20 :
حصِيرا { [السراء]8 :
جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ
جعَلْنَا َ
وفي قوله تعالىَ } :و َ
إشارة إلى أنهم كانوا إذا أجرموا في الدنيا يحتمُون في أنصارهم وأتباعهم من القوياء ،ويدخلون
في حضانة أهل الباطل ،أما في الخرة فلن يجدوا ناصرا أو مدافعا.
يقول تعالى {:مَا َلكُ ْم لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َيوْمَ مُسْتَسِْلمُونَ }
[الصافات]26-25 :
جعْله آيةً يمكن إقامة الدليل
وبعد أن تكلّم الحق سبحانه عن السراء بالرسول الخاتم الرحمة ،و َ
عليها ،حيث خرق له الناموس في أمور يعلمها قومه ،فإذا جاءت آية المعراج وخرَق له الناموس
فيها ل يعلمه القوم كان أَدْعى إلى تصديقه.
ثم أوضح الحق سبحانه أن عبودية محمد صلى ال عليه وسلم لربه هي التي أعطتْه هذه المنزلة،
وكذلك كان نوح ـ عليه السلم ـ عبدا شكورا ،فهناك فَرْق بين عبودية الخَلْق للخالق ،وعبودية
خلْق مذمومة ،حيث يأخذ السيد خيْر عبده ،أما العبودية ل فالعبد يأخذ
الخَلْق للخَلْق؛ لن العبودية لل َ
خَيْر سيده.
ثم تحدّث الحق سبحانه عن بني إسرائيل ،وما وقعوا فيه من إفساد في الرض ،فأعطانا بذلك
جوْر.
نماذج للعمال لمن أحسن ولمن أساء ،وكُلّ له عمله دون ظُلْم أو َ
لذلك ينقلنا السياق القرآني إلى بيان المنهج اللهي المنزّل من السماء ليوضح عبودية النسان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لربه ،وكيف يكون عبدا مُخْلِصا ل تعالى ،فيقول الحق سبحانه } :إِنّ هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ َيِهْدِي لِلّتِي ِهيَ
َأ ْقوَ ُم وَيُبَشّرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ.{ ..
()2021 /
إِنّ َهذَا ا ْلقُرْآَنَ َيهْدِي ِللّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ وَيُبَشّرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َل ُهمْ أَجْرًا كَبِيرًا (
)9
فمَنْ كان يريد الُسْوة الطيبة في عبودية الرسول لربه ،هذه العبودية التي جعلتْه يسري به إلى
بيت المقدس ،ثم يصعد به إلى السماء ،ومَنْ كان يريد أن يكون مثل نوح في عبوديته لربه فأكرم
ذريته من أجله ،فعليه أنْ يسيرَ على دَرْبهم ،وأنْ يقتديَ بهم في عبوديتهم ل تعالى ،وليحذر أن
يكون مثل اليهود الذين أفسدوا في الرض مرتين.
والذي يرسم لنا الطريق ويُوضّح لنا الحق من الباطل هو القرآن الكريم { :إِنّ هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ َيِ ْهدِي
لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ[ } ..السراء]9 :
قول الحق تبارك وتعالى { :إِنّ هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ[ } ..السراء]9 :
هل عند نزول هذه الية كان القرآن كله قد نزل ،ليقول :إن هذا القرآن؟
نقول :لم يكن القرآن كله قد نزل ،ولكن كل آية في القرآن تُسمّى قرآنا ،كما قال تعالى {:فَِإذَا
قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآ َنهُ }[القيامة]18 :
فليس المراد القرآن كله ،بل الية من القرآن قرآن .ثم لما اكتمل نزول القرآن ،واكتملتْ كل
المسائل التي تضمن لنا استقامة الحياة ،قال تعالى {:الْ َيوْمَ َأ ْكمَ ْلتُ َلكُمْ دِي َن ُك ْم وَأَ ْت َممْتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي
وَ َرضِيتُ َلكُ ُم الِسْلمَ دِينا[} ..المائدة]3 :
فإن استشرف مُسْتشرف أنْ يستزيد على كتاب ال ،أو يأتي بجديد فليعلم أن منهج ال مُنزّه عن
النقص ،وفي غِنىً عن زيادتك ،وما عليك إل أن تبحث في كتاب ال ،وسوف تجد فيه ما تصبو
إليه من الخير.
قولهَ { :يِ ْهدِي[ } ..السراء]9 :
الهداية هي الطريق الموصّل للغاية من أقرب وَجْه ،وبأقل تكلفة وهي الطريق المستقيم الذي ل
التواءَ فيه ،وقلنا :إن الحق سبحانه يهدي الجميع ويرسم لهم الطريق ،فمن اهتدى زاده هُدى ،كما
قال سبحانه {:وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد]17 :
ومعنىَ { :أ ْقوَمُ[ } ..السراء]9 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أكثر استقامة وسلما .هذه الصيغة تُسمّى أفعل التفضيل ،إذن :فعندنا (أقوم) وعندنا أقل منه
منزلة (قَيّم) كأن نقول :عالم وأعلم.
فقوله سبحانه { :إِنّ هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ َيِ ْهدِي لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ[ } ..السراء]9 :
يدل على وجود (القيّم) في نُظم الناس وقوانينهم الوضعية ،فالحق سبحانه ل يحرم البشر من أن
شقُون بها ،فيُقنّنون تقنيات تمنع هذا الظلم.
يكون لهم قوانين وشرائع حينما تعضّهم المظالم وي ْ
ول مانع من ذلك إذا لم ينزل لهم منهج من السماء ،فما وضعوه وإنْ كان قَيّما فما وضعه ال
أقوم ،وأنت ل تضع القيم إل بعد أن تُعضّ بشيء مُعوج غير قيّم ،وإل فماذا يلفتُك للقيم؟
أما منهج السماء فإنه يضع الوقاية ،ويمنع المرض من أساسه ،فهناك فَرْق بين الوقاية من المرض
شقَون
وبين العلج للمرض ،فأصحاب القوانين الوضعية يُعدّلون نُظمهم لعلج المراض التي َي ْ
بها.
أما السلم فيضع لنا الوقاية ،فإن حَدثْت غفلة من المسلمين ،وأصابتهم بعض الداءات نتيجة
انصرافهم عن منهج ربهم نقول لهم :عودوا إلى المنهج { :إِنّ هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ َيِ ْهدِي لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعلوم أن تقنينهم للطلق ليس حُبا في السلم أو اقتناعا به ،بل لن لديهم مشاكل ل حَّل لها إل
بالطلق ،وهذا هو الظهور المراد في اليتين الكريمتين ،وهو ظهور بشهادتكم أنتم؛ لنكم
ستلجأون في حل قضاياكم لقوانين السلم ،أو قريبا منها.
ومن هذه القضايا أيضا قضية تحريم الربا في السلم ،فعارضوه وأنكروا هذا التحريم ،إلى أن
جاء " كِنز " وهو زعيم اقتصادي عندهم ،يقول لهم :انتبهوا ،لن المال ل يؤدي وظيفته كاملة في
الحياة إل إذا انخفضتْ الفائدة إلى صفر.
سبحان ال ،ما أعجب لجَجَ هؤلء في خصومتهم مع السلم ،وهل تحريم الربا يعني أكثر من أن
تنخفض الفائدة إلى صفر؟ إنهم يعودون لمنهج ال تعالى رَغْما عنهم ،ومع ذلك ل يعترفون به.
ول يخفي ما في التعامل الربوي من سلبيات ،وهل رأينا دولة اقترضت من أخرى ،واستطاعت
على مَرّ الزمن أنْ تُسدد حتى أقساط الفائدة؟ ثم نراهم يغالطوننا يقولون :ألمانيا واليابان أخذت
قروضا بعد الحروب العالمية الثانية ،ومع ذلك تقدمت ونهضت.
نقول لهم :كفاكم خداعا ،فألمانيا واليابان لم تأخذ قروضا ،وإنما أخذت معونة ل فائدة عليها،
تسمى معونة (مارشال).
عضّتهم قَنّنُوا
وأيضا من هذه القضايا التي ألجأتهم إليها مشاكل الحياة قضية ميراث المرأة ،فلما َ
لها.
فظهور دين ال هنا يعني ظهورَ نُظم وقوانين ستضطرهم ظروف الحياة إلى الخذ بها ،وليس
المقصود به ظهور اتّباع.
إذن :فمنهج ال أقوم ،وقانون الحق سبحانه أعظم من قوانين البشر وأَهْدى ،وفي القرآن الكريم ما
يُوضّح أن حكم ال وقانونه أقوم حتى من حكم رسوله صلى ال عليه وسلم.
وهذا في قصة موله " زيد بن حارثة " ،وزيد لم يكن عبدا إلى أن خطفه بعض تجار الرقيق
وباعوه ،وانتهى به المطاف إلى السيدة خديجة ـ رضي ال عنها ـ التي وهبتْه بدورها لخدمة
رسول ال صلى ال عليه وسلم.
فكان زيد في خدمة رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى أن علم أهله بوجوده في مكة فأتوا
ليأخذوه ،فما كان من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،إل أن خَيّره بين البقاء معه وبين الذهاب
إلى أهله ،فاختار زيد البقاء في خدمة رسول ال وآثره على أهله .فقال صلى ال عليه وسلم" :
فما كنت لختار على مَنِ اختارني شيئا ".
وفي هذه القصة دليل على أن الرقّ كان مباحا في هذا العصر ،وكان الرقّ حضانةَ حنانٍ ورحمة،
يعيش فيها العبد كما يعيش سيده ،يأكل من طعامه ،ويشرب من شرابه ،يكسوه إذا اكتسى ،ول
يُكلّفه ما ل يطيق ،وإنْ كلّفه أعانه ،فكانت يده بيده.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا كانت العلقة بين محمد صلى ال عليه وسلم وبين زيد؛ لذلك آثره على أهله ،وأحب البقاء
في خدمته ،فرأى رسول ال أن يُكافئ زيدا على إخلصه له وتفضيله له على أهله ،فقال " :ل
تقولوا زيد بن حارثة ،قولوا زيد بن محمد ".
وكان التبني شائعا في ذلك الوقت .فلما أراد الحق سبحانه أنْ يُحرّم التبني ،وأنْ يُحرّم نسبة الولد
إلى غير أبيه بدأ برسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال {:ادْعُوهُ ْم لبَآ ِئهِمْ ُهوَ َأقْسَطُ عِندَ اللّهِ فَإِن
لّمْ َتعَْلمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَا ُنكُمْ فِي الدّينِ َومَوَالِيكُمْ }[الحزاب]5 :
والشاهد هناُ {:هوَ َأقْسَطُ عِندَ اللّهِ }[الحزاب]5 :
فكأن الحكم الذي أنهى التبني ،وأعاد زيدا إلى زيد بن حارثة هو القسط والعدل ،إذن :حكم
جوْرا ،بل كان ِقسْطا وعدلً ،لكنه قسط بشري َي ْفضُله ما كان
الرسول صلى ال عليه وسلم لم يكن َ
من عند الحق سبحانه وتعالى.
وهكذا عاد زيد إلى نسبة الصلي ،وأصبح الناس يقولون " زيد ابن حارثة " ،فحزن لذلك زيد،
لنه حُرِم من شرف النتساب لرسول ال صلى ال عليه وسلم فعوّضه ال تعالى عن ذلك وساما
لم يَنَلْه صحابي غيره ،هذا الوسام هو أن ُذكِر اسمه في القرآن الكريم ،وجعل الناس يتلونه،
ويتعبدون به في قوله تعالى {:فََلمّا َقضَىا زَ ْيدٌ مّ ْنهَا وَطَرا َزوّجْنَا َكهَا[} ..الحزاب]37 :
إذن :عمل الرسول قسط ،وعمل ال أقسط.
قوله تعالىَ } :يِهْدِي لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ[ { ..السراء]9 :
لن المتتبع للمنهج القرآني يجده يُقدّم لنا القوم والعدل والوسط في كل شيء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لوجدنا فيها منافع شتى منها :أنها تُذّكرنا بعظمة الخالق سبحانه ،ثم هي بعد ذلك ستفتح لنا الباب
الذي يُثري حياتنا ،ويُوفّر لنا ترف الحياة ومتعتها.
فالحق سبحانه أعطانا مُقوّمات الحياة ،وضمن لنا برحمته ضروريات البقاء ،فمَنْ أراد الكماليات
فعليه أنْ يُعمِل عقله فيما أعطاه ال ليصل إلى ما يريد.
والمثلة كثيرة على مشاهدات متأملة في ظواهر الكون ،اهتدى بها أصحاب إلى اكتشافات
سهَّلتْ عليها كثيرا من المعاناة.
واختراعات خدمت البشرية ،و َ
فالذي اخترع العجلة في نقل الثقال بنى فكرتها على ثِقل وجده يتحرك بسهولة إذا وُضع تحته
شيء قابل للدوران ،فتوصل إلى استخدام العجلت التي مكّنَتْهُ من نقل أضعاف ما كان يحمله.
والذي أدخل العالم عصر البخار استنبط فكرة البخار ،وأنه يمكن أن يكون قوةً مُحرّكة عندما
شاهد القِدْر وهو يغلي ،ولحظ أن غطاءه يرتفع إلى أعلى ،فاهتدى إلى استخدام البخار في تسيير
القطارات والعربات.
والعالِم الذي اكتشف دواء " البنسلين " اهتدى إليه عندما شاهد طبقة خضراء نسميها " الريم "
تتكون في أماكن استخدام الماء ،وكان يشتكي عينه ،فعندما وصلت هذه المادة إلى عينه ربما
مصادفة ،لحظ أن عينه قد برئت ،فبحث في هذه المسألة حتى توصّل إلى هذا الدواء.
إلى غير ذلك من اليات والعجائب في كون ال ،التي يغفل عنها الخَلْق ،ويمرّون عليها وهم
معرضون.
أما هؤلء العلماء الذين أثروا حياة البشرية بنظرتهم الثاقبة ،فقد استخدموا عقولهم في المادة التي
خلقها ال ،ولم يأتوا بشيء من عند أنفسهم؛ لن الحق سبحانه حينما استخلف النسان في الرض
أعدّ له ُكلّ متطلبات حياته ،وضمن له في الكون جنودا إن أعمل عقله وطاقته يستطيع أن يستفيد
منها ،وبعد ذلك طلب منه أن يعمر الرض:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي هذا الدب اللهي رحمة بالخلق جميعا؛ لن ال تعالى يريد أن يُثري حياة الناس في الكون،
و َهبْ أن إنسانا له حسنات كثيرة ،وعنده مواهب متعددة ،ولكن له سيئة واحدة ل يستطيع التخلّي
عنها ،فلو تتبعتَ هذه السيئة الواحد فربما أزهدتْك في كل حسناته ،حرمتْك النتفاع به ،والستفادة
من مواهبه ،أما لو تغاضيت عن هذه السيئة فيه لمكنك النتفاع به.
و َهبْ أن صانعا بارعا في صنعته وقد احتجْتَه ليؤديَ لك عملً ،فإذا عرفت عنه ارتكاب معصية
ما ،أو اشتهر عنه سيئة ما لزهدك هذا في صَنْعته ومهارته ،ولرغبت عنه إلى غيره ،وإنْ كان
أقلّ منه مهارة.
وهذا قانون عام للحق سبحانه وتعالى ،فالذي نهاك عن تتبّع غيب الناس ،والبحث عن أسرارهم
نهاهم أيضا عن تتبّع غَيْبك والبحث عن أسرارك؛ ولذلك ما أنعم ال على عبيده نعمة أعظمَ من
حفْظ الغيب عنده هو؛ لنه ربّ ،أما البشر فليس فيهم ربوبية ،أمر البشر قائم على العبودية ،فإذا
ِ
انكشف لحدهم غَ ْيبُ أخيه أو عيبٌ من عيوبه أذاعه وفضحه به.
إذن :فالحق تبارك وتعالى يدعونا إلى أن نكون طُلَعة في استنباط أسرار الكون والبحث عن غيبه،
وفي الوقت نفسه ينهانا أن نكون طُلَعة في تتبّع أسرار الناس والبحث عن غيبهم؛ لنك إنْ تتبعتَ
ستَ عيوبهم حر ْمتَ نفسك من مصادر يمكن أنْ تنتفع بها.
غيب الناس والتم ْ
فالحق سبحانه يريد في الكون حركة متبادلة ،وهذه الحركة المتبادلة ل تنشأ إل بوجود نوع من
التنافس الشريف البنّاء ،التنافس الذي يُثري الحياة ،ول يثير شراسة الحتكاك ،كما قال تعالى{:
َوفِي َذِلكَ فَلْيَتَنَافَسِ ا ْلمُتَنَافِسُونَ[} ..المطففين]26 :
كما يتنافس طالب العلم مع زميله المجدّ ليكون مِثْله أو أفضل منه ،وكأن الحق سبحانه يعطينا
حافزا للعمل والرّقي ،فالتنافس المقصود ليس تنافس ال ِغلّ والحقد والكراهية ،بل تنافس مَنْ يحب
للناس ما يحب لنفسه ،تنافس مَنْ ل يشمت لفشل الخرين.
وقد يجد النسان هذا الحافز للمنافسة حتى في عدوه ،ونحن نرى الكثير منا يغضب وتُثَار حفيظته
إنْ كان له عدو ،ويراه مصدر شرّ وأذى ،ويتوقع منه المكروه باستمرار.
وهو مع ذلك لو استغل حكمة ال في إيجاد هذا العدو ل تنفع به انتفاعا ل يجده في الصديق ،لن
صديقك قد يُنافقك أو يُداهنك أو يخدعك.
أما عدوك فهو لك بالمرصاد ،يتتبع سقطاتك ،ويبحث عن عيوبك ،وينتظر منك كَبْوة ليذيعها
ويُسمّع بك ،فيحملك هذا من عدوك على الستقامة والبعد عما يشين.
ومن ناحية أخرى تخاف أن يسبقك إلى الخير ،فتجتهد أنت في الخير حتى ل يسبقك إليه.
حمَنُ عَنّي
ي ومِنّةٌ فَلَ أبعَدَ الر ْ
ضلٌ عل ّ
وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى:عِدَايَ َل ُهمْ َف ْ
العَادِياَ ُهمُو بحثُوا عَنْ زَلّتي فَاجْتنبْتُها وهُمْ نَافَسُـوني فاكْتَس ْبتُ المعَالِياوهكذا نجد لكل شيء في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منهج ال فائدة ،حتى في العداء ،ونجد في هذا التنافس المثمر الذي يُثري حركة الحياة دليلً على
أن منهج السماء هو القوم والنسب لتنظيم حركة الحياة.
أيضا لكي يعيش المجتمع آمنا سالما ل بُدّ له من قانون يحفظ توازنه ،قانون يحمي الضعيف من
حقّه ،وبعد
بطش القوي ،فجاء منهج ال تعالى لِيُقنّن لكل جريمة عقوبتها ،ويضمن لصاحب الحق َ
ذلك ترك الباب مفتوحا للعفو والتسامح بين الناس.
ثم حذّر القوي أنْ تُطغيه قوته ،وتدعوه إلى ظلم الضعيف ،وذكّره أن قوته ليست ذاتية فيه ،بل
ضعْف يحتاج معه إلى العون
هي عَ َرضٌ سوف يزول وسوف تتبدل قوته في يوم ما إلى َ
والمساعدة والحماية.
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنا :أنا أحمي الضعيف من قوتك الن ،لحمي ضعفك من قوة
غيرك غدا.
أليس في هذا كله ما هو أقوم؟
ونقف على جانب آخر من جوانب هذه القوامة لمنهج ال في مجال النفاق ،وتصرّف المرء في
ماله ،والمتأمل في هذا المنهج القوم يجده يختار لنا طريقا وسطا قاصدا ل تبذيرَ فيه ول تقتير.
ولشك أن النسان بطبعه يُحب أن يُثري حياته ،وأن يرتقي بها ،ويتمتع بترفها ،ول يُتاح له ذلك
إنْ كان مُبذّرا ل يُبقي من دخله على شيء ،بل ل بُدّ له من العتدال في النفاق حتى يجد في
جعبته ما يمكنه أن يُثري حياته ويرتقي بها ويُوفّر لسرته كماليات الحياة ،فضلً عن
ضرورياتها.
جاء هذا المنهج القوم في قول الحق تبارك وتعالى {:وَالّذِينَ إِذَآ أَن َفقُواْ َلمْ يُسْ ِرفُو ْا وَلَمْ َيقْتُرُواْ َوكَانَ
بَيْنَ ذَِلكَ َقوَاما }[الفرقان]67 :
سطِ فَ َت ْقعُدَ مَلُوما مّحْسُورا }
طهَا ُكلّ الْبَ ْ
ك َولَ تَ ْبسُ ْ
ج َعلْ يَ َدكَ َمغْلُولَةً إِلَىا عُ ُن ِق َ
وفي قوله تعالىَ {:ولَ تَ ْ
[السراء]29 :
فللنسان في حياته طموحات تتتابع ول تنتهي ،خاصة في عصر كثُرت فيه المغريات ،فإنْ وصل
إلى هدف تطلع لما هو أكبر منه ،فعليه إذن ألّ يُبدّد كل طاقته ،وينفق جميع دَخْله.
وكما نهى السلم عن التبذير نهى أيضا عن ال ُبخْل والمساك؛ لن البُخْل مذموم ،والبخيل مكروه
من أهله وأولده ،كما أن ال ُبخْل سبب من أسباب الركود والبطالة والكساد التي تصيب المجتمع،
فالممسك ل يتعامل مع المجتمع في حركة البيع والشراء ،فيسهم ب ُبخْله في تفاقم هذه المشاكل،
ويكون عنصرا خاملً َيشْقى به مجتمعه.
إذنْ :فالتبذير والمساك كلهما طرف مذموم ،والخير في أوسط المور ،وهذا هو القوم الذي
ارتضاته لنا المنهج اللهي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك في مجال المأكل والمشرب ،يرسم لنا الطريق المعتدل الذي يحفظ للمرء سلمته وصحته،
حبّ
ويحميه من أمراض الطعام والتّخْمة ،قال تعالى {:وكُلُو ْا وَاشْرَبُو ْا َولَ ُتسْ ِرفُواْ إِنّ ُه لَ يُ ِ
ا ْلمُسْ ِرفِينَ }[العراف]31 :
فقد علّمنا السلم أن النسان إذا أكل وشرب على قَدْر طاقة الوقود الذي يحتاجه جسمه ل يشتكي
ما يشتكيه أصحاب السراف في المأكل والمشرب.
والمتأمل في حال هؤلء الذين يأكلون كلّ مَا َلذّل وطاب ،ول يَحْرمون أنفسهم مما تشتهيه ،حتى
وإن كان ضارا ،نرى هؤلء عند كِبَرهم وتقدّم السّنّ بهم ُيحْرمون بأمر الطبيب من تناول هذه
الملذّات ،فترى في بيوت العيان الخادم يأكل أطيب الطعام ويتمتع بخير سيده ،في حين يأكل
سيده أنواعا محددة ل يتجاوزها ،ونقول له:
لنك أكلتها وأسرفتَ فيها في بداية المر ،فل ُبدّ أنْ تُحرَم منها الن.
وصدق رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال " :كُلُوا واشربوا وتصدقوا ،والبسوا في غير
إسراف ول مخيلة "
وأيضا من أسباب السلمة التي رسمها لنا المنهج القرآني ،ألّ يأكل النسان إل على جوع،
فالطعام على الطعام يرهق المعدة ،ويجرّ على صاحبه العطب والمراض ،ونلحظ أن النسان
يجد لذة الطعام وحلوته إذا أكل بعد جوع ،فمع الجوع يستطيب كل شيء ولو كان الخبز الجاف.
وهكذا نجد المنهج اللهي يرسم لنا الطريق القوم الذي يضمن لنا سلمة الحياة واستقامتها ،فلو
تدب ْرتَ هذا المنهج لوجدته في أيّ جانب من جوانب الحياة هو القوم والنسب.
في العقائد ،في العبادات ،في الخلق الجتماعية العامة ،في العادات والمعاملت ،إنه منهج ينتظم
شيْءٍ }[النعام]38 :
الحياة كلها ،كما قال الحق سبحانه {:مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
هذا المنهج اللهي هو َأقْوم المناهج وأصلحها؛ لنه منهج الخالق سبحانه الذي يعلم مَنْ خلق،
ويعلم مَا يصلحهم ،كما قلنا سابقا :إن الصانع من البشر يعلم صَنْعته ،ويضع لها من تعليمات
التشغيل والصيانة ما يضمن لها سلمة الداء وأمن الستعمال.
ت مهمتها بدقة ،وسلَمتْ من العطال ،فالذي خلق
ب قانون صانعها أ ّد ْ
فإذا ما استعم ْلتَ اللة حَس ْ
النسان أعلم بقانون صيانته ،فيقول له :افعل كذا ول تفعل كذا:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالمنفذ لهذا المنهج اللهي يتمتع باستقامة الحياة وسلمتها ،وينعم بالمن اليماني ،وهذه نعمة في
الدنيا ،وإن كانت وحدها لكانت كافية ،لكن الحق سبحانه وتعالى يُبشّرنا بما هو أعظم منها ،وبما
ينتظرنا من نعيم الخرة وجزائها ،فجمع لنا ربنا تبارك وتعالى نَعيمَيْ الدنيا والخرة.
نعيم الدنيا لنك سِ ْرتَ فيها على منهج معتدل ونظام دقيق ،يضمن لك فيها الستقامة والسلم
والتعايش المن مع الخَلْق.
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ
ومن ذلك قول الحق سبحانه {:فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُم مّنّي ُهدًى َفمَن تَبِعَ ُهدَايَ فَلَ َ
يَحْزَنُونَ }[البقرة]38 :
شقَىا }[طه]123 :
ضلّ َولَ يَ ْ
وقوله تعالى في آية أخرىَ {:فمَنِ اتّبَعَ ُهدَايَ فَلَ َي ِ
ل صَالِحا مّن َذكَرٍ َأوْ أُنْثَىا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَ ُنحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّ َب ًة وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ
ع ِم َ
ويقول تعالى {:مَنْ َ
أَجْ َرهُم بَِأحْسَنِ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النحل]97 :
وفي الجانب المقابل يقول الحق سبحانهَ {:ومَنْ أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِيشَ ًة ضَنكا وَنَحْشُ ُرهُ
عمَىا َوقَدْ كُنتُ َبصِيرا * قَالَ كَذاِلكَ أَتَ ْتكَ آيَاتُنَا
عمَىا * قَالَ َربّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَ ْ
َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ أَ ْ
فَنَسِي َتهَا َوكَذاِلكَ الْ َيوْمَ تُ ْنسَىا }[طه]126-124 :
فكما أن الحق تبارك وتعالى جمع لعباده الصالحين السائرين على منهجه خيري الدنيا والخرة،
ففي المقابل جمع لعدائه المعرضين عن منهجه عذاب الدنيا وعذاب الخرة ،ل ظُلْما منه ،فهو
ع ْدلً وقِسطا بما نَسُوا آيات ال وانصرفوا عنها.
جوْر ،بل َ
سبحانه مُنَزّه عن الظلم وال َ
ومعنىَ } :ي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ { [السراء]9 :
وعمل الصالحات يكون بأن تزيد الصالح صلحا ،أو على القل تبقي الصالح على صلحه ،ول
تتدخل فيه بما يُفسده.
وقوله } :أَنّ َل ُهمْ أَجْرا كَبِيرا { [السراء]9 :
ت بصيغة أفعل التفضيل منها (أكبر)،
نلحظ هنا أن الحق سبحانه وصف الجر بأنه كبير ،ولم يَ ْأ ِ
فنقول :لن كبير هنا أبلغ من أكبر ،فكبير مقابلها صغيرَ ،ف َوصْف الجر بأنه كبير يدل على أن
غيره أصغر منه ،وفي هذا دللة على عِظَم الجر من ال تعالى.
أما لو قال :أكبر فغيره كبير ،إذن :فاختيار القرآن أبلغ وأحكم.
كما قلنا سابقا :إن من أسماء الحق تبارك وتعالى (الكبير) ،وليس من أسمائه أكبر ،إنما هي
وصف له سبحانه .ذلك لن (الكبير) كل ما عداه صغير ،أما (أكبر) فيقابلها كبير.
ومن هنا كان نداء الصلة (ال أكبر) معناه أن الصلة وفَرْض ال علينا أكبر من أي عمل دنيويّ،
وهذا يعني أن من أعمال الدنيا ما هو كبير ،كبير من حيث هو مُعين على الخرة.
فعبادة ال تحتاج إلى طعام وشراب وإلى مَلْبس ،والمتأمل في هذه القضية يجد أن حركة الحياة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كلها تخدم عمل الخرة ،ومن هنا كان عمل الدنيا كبيرا ،لكن فَرْض ال أكبر من كل كبير.
ولهمية العمل الدنيوي في حياة المسلم يقول تعالى عن صلة الجمعة {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا
س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَ ْيعَ ذَِلكُمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ *
ج ُمعَةِ فَا ْ
لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ
نُو ِديَ لِلصّ َ
ض وَابْ َتغُواْ مِن َفضْلِ اللّ ِه وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيرا ّلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }
لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَرْ ِ
فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ
[الجمعة]10-9 :
والمتأمل في هذه اليات يجد الحق تبارك وتعالى أمرنا قبل الجمعة أن نترك البيع ،واختار البيع
دون غيره من العمال؛ لنه الصفقة السريعة الربح ،وهي أيضا الصورة النهائية لمعظم العمال،
كما أن البائع يحب دائما البيع ،ويحرص عليه ،بخلف المشتري الذي ربما يشتري وهو كاره،
فتجده غير حريص على الشراء؛ لنه إذا لم يشْتَرِ اليوم سيشتري غدا.
إذن :فالحق سبحانه حينما يأمرنا بترك البيع ،فتَرْك غيره من العمال َأوْلَى.
فإن ما ُقضِيَت الصلة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الرض ،فأخرجنا للقائه سبحانه
في بيته من عمل ،وأمرنا بعد الصلة بالعمل.
إذن :فالعمل وحركة الحياة (كبير) ،ولكن نداء ربك (أكبر) من حركة الحياة؛ لن نداء ربك هو
الذي سيمنحك القوة والطاقة ،ويعطيك الشحنة اليمانية ،فتُقبِل على عملك ب ِهمّة وإخلص.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ أَعْ َتدْنَا َلهُمْ عَذَابا أَلِيما {.
ثم يقول الحق سبحانه } :وأَنّ الّذِي َ
()2022 /
وَأَنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالَْآخِ َرةِ أَعْتَدْنَا َل ُهمْ عَذَابًا أَلِيمًا ()10
ل واحدا {:وَيُبَشّرُ
وهذه الية امتداد للية السابقة ،ومعطوفة عليها؛ لن ال تعالى ذكر فع ً
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ[} ..السراء]9 :
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ[ } ..السراء]10 :
ثم عطف عليه { :وأَنّ الّذِي َ
إذن :فالية داخلة في البشارة السابقة ،ولكن كيف ذلك ،والبشارة السابقة تُبشّر المؤمنين بأن لهم
أجرا كبيرا ،والبشارة إخبار بخيْر يأتي في المستقبل ،فكيف تكون البشارة بالعذاب؟
قالوا :نعم ،هذه بشارة على سبيل التهكّم والستهزاء بهم ،كما قال تعالى في آية أخرى {:فَبَشّرْ ُهمْ
ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[التوبة]34 :
وكما قال الحق سبحانه متهكما {:ذُقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان]49 :
وكما تقول للولد الذي أهمل فأخفق في المتحان :مبروك عليك الفشل ،أو تقول :بشّر فلنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالرسوب.
وقد تكون البشارة للمؤمن بالجنة ،وللكافر بالعذاب ،كلهما بشارة للمؤمن ،فبشارة المؤمن بالجنة
تسرّه وتُسعده ،وتجعله يستشرف ما ينتظره من نعيم ال في الخرة.
وبشارة الكافر بالعذاب تسُرّ المؤمن؛ لنه لم يقع في مصيدة الكفر ،وتزجر مَنْ لم يقع فيه وتُخيفه،
وهذا رحمة به وإحسان إليه.
ن وَ َربّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ *
وهذا المعنى واضح في قول الحق سبحانه في سورة الرحمنَ {:ربّ ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ
خ لّ يَ ْبغِيَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا
فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ * بَيْ َن ُهمَا بَرْزَ ٌ
جوَارِ ا ْلمُنشَئَاتُ فِي
ُتكَذّبَانِ * َيخْرُجُ مِ ْن ُهمَا الّلؤُْلؤُ وَالمَ ْرجَانُ * فَبَِأيّ آلَءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * وَلَهُ ا ْل َ
الْبَحْرِ كَالَعْلَمِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن]25-17 :
فهذه كلها ِنعَم من نعَم ال تعالى علينا ،فناسب أن تُذيّل بقوله تعالى {:فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
[الرحمن]18 :
شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
أما قوله تعالى {:يُرْ َ
[الرحمن]36-35 :
فأيّ نعمة في أنْ يُرسل ال عليهما شواظ من نار ونحاس فل ينتصران؟
نعم ،المتأمل في هذه الية يجد فيها نعمة من أعظم ِنعَم ال ،أل وهي زَجْر العاصي عن المعصية،
ومسرّة للطائع.
ثم يقول الحق سبحانه عن طبيعة النسان البشرية { :وَيَ ْدعُ الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِا ْلخَيْ ِر َوكَانَ
الِنْسَانُ عَجُولً }.
()2023 /
وَيَ ْدعُ الْإِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَا َءهُ بِالْخَيْ ِر َوكَانَ الْإِ ْنسَانُ عَجُولًا ()11
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فعل أمر ،فال ل يأمره أحد.
ل على صفة العجز والضعف في العبد ،وأنه قد اندكتْ فيه ثورة
فأوّل ما يُفهم من الدعاء أنه َد ّ
الغرور ،فعَلِم أنه ل يقدر على هذا إل ال فتوجه إليه بالدعاء.
(بِالشّرّ) بالمكروه ،والنسان ل يدعو على نفسه ،أو على ولده ،أو على ماله بالشر إل في حالة
الحنَق والغضب وضيق الخلق ،الذي يُخرِج النسان عن طبيعته ،ويُفقِده التمييز ،فيتسرّع في
الدعاء بالشر ،ويتمنى أن يُنّفذ ال له مَا دعا به.
حمْق وغباء
ومن رحمة ال تعالى بعباده ألّ يستجيب لهم هذا الدعاء الذي إنْ دلّ فإنما يدل على ُ
من العبد.
وكثيرا ما نسمع أما تدعو على ولدها بما لو استجاب ال له لكانت قاصمة الظهر لها ،أو نسمع أبا
ن يفوت لنا هذا الحمق ،ول يُنفّذ لنا ما
يدعو على ولده أو على ماله ،إذن :فمن رحمة ال بنا أ ْ
جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِت ْعجَاَلهُمْ بِا ْلخَيْرِ َل ُقضِيَ إِلَ ْي ِهمْ
تعجّلناه من دُعاءٍ بالشر .قال تعالى {:وََلوْ ُيعَ ّ
أَجَُل ُهمْ }[يونس]11 :
أي :لو استجاب ال لهم في دعائهم بالشر لكانت نهايتهم.
وإن كنت تُسَرّ وتسعد بأن ربك سبحانه وتعالى ف ّوتَ لك دعوة بالشر فلم يَسْتجب لها ،وأن لعدم
استجابته سبحانه حكمةً بالغةً.
ب لي،
ج ْ
فاعلم أن ل حكمة أيضا حينما ل يستجيب لك في دعوة الخير ،فل تقُلْ :دعوتُ فلم يست ِ
واعلم أن ل حكمة في أن يمنعك خيرا تُريده ،ولعله لو أعطاك هذا الخير لكان وبالً عليك.
إذن :عليك أن تقيسَ المريْن بمقياس واحد ،وترضى بأمر ال في دعائك بالخير ،كما رضيت
بأمره حين صرف عنك دعاء الشر ،ولم يستجب لك فيه .فكما أن له سبحانه حكمة في الولى،
فلَه حكمة في الثانية.
وقد دعا الكفار على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم على أنفسهم ،فقالوا {:الّل ُهمّ إِن كَانَ
سمَآءِ[} ..النفال]32 :
حجَا َرةً مّنَ ال ّ
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا ِ
هَـاذَا ُهوَ الْ َ
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا[} ..السراء]92 :
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
وقالواَ {:أوْ تُ ْ
ولو استجاب ال لهم هذا الدعاء َلقَضى عليهم ،وقطع دابرهم ،لكن ل تعالى حكمة في تفويت هذا
حمْقى ،وها هم الكفار باقون حتى اليوم ،وإلى أن تقوم الساعة.
الدعاء لهؤلء ال َ
وكان المنتظر منهم أن يقولوا :اللهم إنْ كان هذا هو الحقّ من عندك فاهْدنا إليه ،لكن المسألة
عندهم ليست مسألة كفر وإيمان ،بل مسألة كراهية لمحمد صلى ال عليه وسلم ،ولما جاء به،
بدليل أنهم قَبلوا الموت في سبيل الكفر وعدم اليمان برسالة محمد صلى ال عليه وسلم.
جلٍ سَُأوْرِيكُمْ ءَايَاتِي فَلَ
عَومن طبيعة النسان العجلة والتسرّع ،كما قال تعالى {:خُِلقَ النْسَانُ مِنْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تَسْ َتعْجِلُونِ }[النبياء]37 :
فكثيرا ما يدعو النسان بالخير لنفسه أو بما يراه خيرا ،فل يجد وراءه إل الشر والتعب والشقاء،
وفي المقابل قد يُنزل ال بك ما تظنه شرا ،ويسوق ال الخير من خلله.
إذن :أنت ل تعلم َوجْه الخير على حقيقته ،فدع المر لربك عز وجل ،واجعل حظك من دعائك ل
أنْ تُجابَ إلى ما دعوت ،ولكن أن تظهر ضراعة عبوديتك لِعزّة ربك سبحانه وتعالى.
ومعنى } :دُعَآ َءهُ بِا ْلخَيْرِ[ { ..السراء]11 :
أي :أن النسان يدعو بالشر في إلحاح ،وكأنه يدعو بخير.
جعَلْنَآ آيَةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً...
ل وَ َ
حوْنَآ آيَةَ الّي ِ
ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ َفمَ َ
جعَلْنَا الّي َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :و َ
{.
()2024 /
جعَلْنَا آَ َيةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً لِتَبْ َتغُوا َفضْلًا مِنْ رَ ّب ُكمْ
حوْنَا آَيَةَ اللّ ْيلِ وَ َ
ل وَال ّنهَارَ آَيَتَيْنِ َف َم َ
جعَلْنَا اللّ ْي َ
وَ َ
شيْءٍ َفصّلْنَاهُ َت ْفصِيلًا ()12
ب َو ُكلّ َ
ن وَالْحِسَا َ
عدَدَ السّنِي َ
وَلِ َتعَْلمُوا َ
الحق سبحانه وتعالى جعل الزمن ليلً ونهارا ظرفا للحداث ،وجعل لكل منهما مهمة ل تتأتّى مع
الخر ،فهما متقابلن ل متضادان ،فليس الليل ضد النهار أو النهار ضد الليل؛ لن لكل منهما
مهمة ،والتقابل يجعلهما متكاملين.
ولذلك أراد ال تعالى أن يُنظّر بالليل والنهار في جنس النسان من الذكورة والنوثة ،فهما أيضا
متكاملن ل متضادان ،حتى ل تقوم عداوة بين ذكورة وأنوثة ،كما نرى البعض من الجنسين
يتعصّب لجنسه تعصبّا أعمى خاليا من َفهْم طبيعة العلقة بين الذكر والنثى.
فالليل والنهار كجنس واحد لهما مهمة ،أما من حيث النوع فلكل منهما مهمة خاصة به ،وإياك أن
تخلط بين هذه وهذه.
وتأمل قول الحق سبحانه {:وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَجَلّىا * َومَا خَلَقَ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا *
سعْ َيكُمْ لَشَتّىا }[الليل]4-1 :
إِنّ َ
فل تجعل الليل ضِدا للنهار ،ول النهار ضدا لليل ،وكذلك ل تجعل الذكورة ضِدا للنوثة ،ول
النوثة ضدا للذكورة.
ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ[ } ..السراء]12 :
جعَلْنَا الّي َ
قوله تعالى { :وَ َ
جعلنا :بمعنى خلقنا ،والليل والنهار هما المعروفان لنا بالمعايشة والمشاهدة ،ومعرفتنا هذه أوضح
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من أنْ نعرّفهما ،فنقول مثلً :الليل هو َمغِيب الشمس عن نصف الكرة الرضية ،والنهار هو
شروق الشمس على نصف الكرة الرضية.
إذن :قد يكون الشي أوضح من تعريفه.
والحق سبحانه خلق لنا الليل والنهار ،وجعل لكل منهما حكمة ومهمة ،وحينما يتحدّث عنهما،
يقول تعالى {:وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ إِذَا سَجَىا }[الضحى]2-1 :
ويقول {:وَالْلّ ْيلِ إِذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا َتجَلّىا }[الليل ]2-1 :فبدأ بالليل.
ج َعلَ الظُّلمَاتِ وَالنّورَ }[النعام]1 :
ومرة يتحدث عن اللزم لهما ،فيقول {:وَ َ
لن الحكمة من الليل تكمن في ظُلْمته ،والحكمة من النهار تكمُن في نوره ،فالظّلْمة سكَنٌ واستقرار
وراحة .وفي الليل تهدأ العصاب من الشعة والضوء ،ويأخذ البدن راحته؛ لذلك قال صلى ال
عليه وسلم " :أطفئوا المصابيح إذا رقدتم ".
في حين نرى الكثيرين يظنون أن الضواء المبهرة ـ التي نراها الن ـ مظهر حضاري ،وهم
غافلون عن الحكمة من الليل ،وهي ظلمته.
سعْي ،فمَن ارتاح في الليل يُصبح نشيطا للعمل ،ول يعمل النسان إل
والنور للحركة والعمل وال ّ
إذا أخذ طاقة جديدة ،وارتاحت أعضاؤه ،ساعتها تستطيع أن تطلب منه أن يعمل.
ل وَال ّنهَارَ[} ..القصص]73 :
ج َعلَ َلكُمُ الّي َ
حمَتِهِ َ
لذلك قال الحق سبحانهَ {:ومِن رّ ْ
سكُنُواْ فِيهِ[} ..القصص]73 :
لماذا؟{ لِتَ ْ
أي :في الليل {.وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ[} ..القصص ]73 :أي :في النهار.
إذن :لليل مهمة ،وللنهار مهمة ،وإياك أنْ تخلط هذه بهذه ،وإذا ما وُجد عمل ل يُؤدّي إل بالليل
كالحراسة مثلً ،نجد الحق سبحانه يفتح لنا بابا لنخرج من هذه القاعدة العامة.
ل وَال ّنهَارِ[} ..الروم]23 :
فيقول تعالىَ {:ومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالّي ِ
فجعل النهار أيضا محلً للنوم ،فأعطانا ُفسْحة ورُخْصة ،ولكن في أضيق نطاقَ ،فمَنْ ل يقومون
بأعمالهم إل في الليل ،وهي نسبة ضئيلة ل تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه
لتنظيم حركة حياتنا.
فإذا خرج النسان عن هذه القاعدة ،وتمرّد على هذا النظام اللهي ،فإن الحق سبحانه يَردعه بما
يكبح جماحه ،ويحميه من إسرافه على نفسه ،وهذا من ُلطْفه تعالى ورحمته بخَلْقه.
هذا الردْع إما رَدْع ذاتيّ اختياري ،وإما رَدْع َقهْريّ الردع الذاتي يحدث للنسان حينما يسعى في
حركة الحياة ويعمل ،فيحتاج إلى طاقة ،هذه الطاقة تحتاج إلى دم متدفق يجري في أعضائه ،فإنْ
زادتْ الحركة عن طاقة النسان يلهث وتتلحق أنفاسه ،وتبدو عليه أمارات التعب والرهاق ،لن
الدم المتوارد إلى رئته ل يكفي هذه الحركة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا نلحظه مثلً في صعود السّلّم ،حيث حركة الصعود مناقضة لجاذبية الرض لك ،فتحتاج
إلى قوة أكثر ،وإلى دم أكثر وتنفس فوق التنفس العادي.
فكأن الحق سبحانه وتعالى جعل التعب والميل إلى الراحة رادعا ذاتيا في النسان ،إذا ما تجاوز
حدّ الطاقة التي جعلها ال فيه.
َ
أما الردْع القهري فهو النوم ،يلقيه ال على النسان إذا ما كابر وغالط نفسه ،وظن أنه قادر على
مزيد من العمل دون راحة ،فهنا يأتي دور الرادع القَسْري ،فينام رغما عنه ول يستطيع المقاومة،
وكأن الطبيعة التي خلقها ال فيه تقول له :ارحم نفسك ،فإنك لم َتعُدْ صالحا للعمل.
فالحق تبارك وتعالى ل يُسلِم النسان لختياره ،بل يُلقي عليه النوم وفقدان الوعي والحركة ليحميه
من حماقته وإسرافه على نفسه.
لذلك نرى الواحد مِنّا إذا ما تعرّض لمناسبة اضطرته لعدم النوم لمدة يومين مثلً ،ل ُبدّ له بعد أن
حقّه من الراحة التي حُرم
ينتهي من مهمته هذه أنْ ينَام مثل هذه المدة التي سهرها؛ ليأخذ الجسم َ
منها.
وقوله تعالى } :آيَتَيْنِ[ { ..السراء]12 :
قلنا :إن الية هي الشيء العجيب الذي يدعو إلى التأمل ،ويُظهِر قدرة الخالق وعظمته سبحانه،
والية تُطلَق على ثلثة أشياء:
ـ تُطلَق على اليات الكونية التي خلقها ال في كونه وأبدعها ،وهذه اليات الكونية يلتقي بها
س وَا ْل َقمَرُ }[فصلت]37:
شمْ ُ
ل وَال ّنهَارُ وَال ّ
المؤمن والكافر ،ومنها كما قال تعالىَ {:ومِنْ آيَا ِتهِ الّي ُ
جوَارِ فِي الْ َبحْرِ كَالَعْلَمِ }[الشورى]32 :
{ َومِنْ آيَا ِتهِ ا ْل َ
وهذه اليات تلفتنا إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى.
-وتُطلق اليات على المعجزات التي تصاحب الرسل ،وتكون دليلً على صدْقهم ،فكل رسول
يُبعَث ليحمل رسالة الخالق لهداية الخَلْق ،ل بُدّ أن يأتي بدليل على صِدْقه وأمارة على أنه رسول.
وهذه هي المعجزة ،وتكون مما نبغ فيه قومه ومهروا؛ لتكون أوضح في إعجازهم وأدْعَى إلى
تصديقهم.
لوّلُونَ[} ..السراء]59 :
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن كَ ّذبَ ِبهَا ا َ
قال تعالىَ {:ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّ ْر ِ
ـ وتُطلق اليات على آيات القرآن الكريم الحاملة للحكام.
إذن :هذه أنواع ثلثةـ في كل منها عجائب تدعوك للتأمل ،ففي الولى :هندسة الكون ونظامه
العجيب البديع الدقيق ،وفي الثانية :آيات العجاز ،حيث أتى بشيء نبغ فيه القوم ،ومع ذلك لم
يستطيعوا التيان بمثله ،وفي الثالثة :آيات القرآن وحاملة الحكام؛ لنها أقوم نظام لحركة الحياة.
ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ[ { ..السراء]12 :
جعَلْنَا الّي َ
فقول الحق سبحانه } :وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :كونيتين ،ول مانع أنْ تفسر الياتُ الكونية آيات القرآن.
حوْنَآ آيَةَ الّيلِ[ { ..السراء]12 :
وقولهَ } :فمَ َ
حلّ الظلم ،أو مَحوْناهَا :أي جعلناها هكذا ،كما قلنا:
أي :بعد أنْ كان الضوء غابت الشمس فَ َ
سبحان مَنْ بيّض اللبن.
أي خلقه هكذا ،فيكون المراد :خلق الليل هكذا مظلما.
جعَلْنَآ آيَةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً[ { ..السراء]12 :
} وَ َ
أي :خلقنا النهار مضيئا ،ومعنى مبصرة أو مضيئة أي :نرى بها الشياء؛ لن الشياء ل تُرى في
حلّ الضياء والنور رأيناها ،وعلى هذا كان ينبغي أن يقول :وجعلنا آية النهار مُ ْبصَرا
الظلم ،فإذا َ
فيها ،وليست هي مبصرة.
وهذه كما في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون {:فََلمّا جَآءَ ْت ُهمْ آيَاتُنَا مُ ْبصِ َرةً[} ..النمل]13 :
فنسب البصر إلى اليات ،كما نسب البصر هنا إلى النهار.
وهذه مسألة حيّرتْ الباحثين في فلسفة الكون وظواهره ،فكانوا يظنون أنك ترى الشياء إذا انتقل
الشعاع من عينك إلى المرئي فتراه .إلى أن جاء العالم السلمي " ابن الهيثم " الذي َنوّر ال
بصيرته ،وهداه إلى سِرّ رؤية الشياء ،فأوضح لهم ما وقعوا فيه من الخطأ ،فلو أن الشعاع ينتقل
من العين إلى المرئي لمكنك أن ترى الشياء في الظّلمة إذا كنتَ في الضوء.
إذن :الشعاع ل يأتي من العين ،بل من الشيء المرئي ،ولذلك نرى الشياء إنْ كانت في الضوء،
ول نراها إن كانت في الظلم.
وعليه يكون الشيء المرئيّ هو الذي يبصرك من حيث هو الذي يتضح لك ،ويساعدك على
رؤيته ،ولذلك نقول :هذا شيء يُلفت النظر أي :يرسل إليك مَا يجعلك تلتفت إليه.
جعَلْنَآ آ َيةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً[ { ..السراء]12 :
إذن :التعبير القرآني } :وَ َ
ق َوفِي
على مستوى عال من الدقة والعجاز ،وصدق ال تعالى حين قال {:سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
حقّ }[فصلت]53 :
سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ الْ َ
أَنفُ ِ
وقوله تعالى } :لِتَبْ َتغُواْ َفضْلً مّن رّ ّب ُكمْ[ { ..السراء]12 :
وهذه هي العلة الولى لية الليل والنهار.
أي :أن السعي وطلب الرزق ل يكون إل في النهار؛ لذلك أتى طلب فضل ال ورزقه بعد آية
النهار ،ومعلوم أن النسان ل تكون له حركة نشاطية وإقبال على السّعي والعمل إل إذا كان
مرتاحا ول تتوفر له الراحة إل بنوم الليل.
ج َعلَ َلكُمُ الّيلَ
حمَ ِتهِ َ
وبهذا نجد في الية الكريمة نفس الترتيب الوارد في قوله تعالىَ {:ومِن رّ ْ
سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ} ..
وَال ّنهَارَ لِتَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[القصص]73 :
سكُنُواْ فِيهِ[} ..القصص]73 :
فالترتيب في الية يقتضي أن نقول {:لِتَ ْ
أي :في الليل {،وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ[} ..القصص ]73 :أي :في النهار ،وعمل النهار ل يتم إل
براحة الليل ،فهما ـ إذن ـ متكاملن.
ي وتفاعل
والحق سبحانه وتعالى جعل النهار مَحلً للحركة وابتغاء فضل ال؛ لن الحركة أمرٌ ماد ّ
ماديّ بين النسان ومادة الكون من حوله ،كالفلح وتفاعله مع أرضه ،والعامل تفاعله مع آلته.
هذا التفاعل المادي ل يتم إل في ضوء؛ لن الظلمة تغطي الشياء وتُعميها ،وهذا يتناسب مع
الليل حيث ينام الناس ،أما في السعي والحركة فل بُدّ من ضوء أتبين به الفاعل والمنفعل له ،ففي
الظلمة قد تصطدم بما هو أقوى منك فيحطمك ،أو بما هو أضعف منك فتحطمه.
إذن :فأول خطوات ابتغاء فضل ال أن يتبيّن النسان المادة التي يتفاعل معها .لذلك ،فالحق
ج َعلَ الظُّلمَاتِ وَالنّورَ }[النعام]1 :
سبحانه جعل الظلمة سابقة للضياء .فقال تعالى {:وَ َ
لن النور محلّ للحركة ،ول يمكن للنسان أن يعمل إل بعد راحة ،والراحة ل تكون إل في ظُلْمة
الليل.
ن وَالْحِسَابَ[ { ..السراء]12 :
عدَدَ السّنِي َ
وقوله تعالى } :وَلِ َتعَْلمُواْ َ
وهذه هي العِلّة الخرى لليل والنهار ،حيث بمرورهما يتمّ حساب السنين.
عدَدَ { تقتضي شيئا له وحدات ،ونريد أن نعرف كمية هذه الوحدات؛ لن الشيء إنْ لم
وكلمة } َ
تكُنْ له كميات متكررة فهو واحد.
ن وَالْحِسَابَ[ { ..السراء]12 :
وقوله } :السّنِي َ
لنها من لوازم حركتنا في الحياة ،فعن طريق حساب اليام نستطيع تحديد وقت الزراعات
المختلفة ،أو وقت سقوط المطر ،أو هبوب الرياح .وفي العبادات نحدد بها أيام الحج ،وشهر
الصوم ،ووقت الصلة ،ويوم الجمعة ،هذه وغيرها من لوازم حياتنا ل نعرفها إل بمرور الليل
والنهار.
ولو تأملتَ عظمة الخالق سبحانه لوجدتَ القمر في الليل ،والشمس في النهار ،ولكل منهما مهمة
في حساب اليام والشهور والسنين ،فالشمس ل تعرف بها إل اليوم الذي أنت فيه ،حيث يبدأ اليوم
بشروقها وينتهي بغروبها ،أما بالقمر فتستطيع حساب اليام والشهور؛ لن الخالق سبحانه جعل
فيه علمة ذاتية يتم الحساب على أساسها ،فهو في أول الشهر هلل ،ثم يكبر فيصير إلى تربيع
أول ،ثم إلى تربيع ثان ،ثم إلى بدر ،ثم يأخذ في التناقص إلى أن يصل إلى المحاق آخر الشهر.
إذن :نستطيع أن نحدد اليوم بالشمس والشهور بالقمر ،ومن هنا تثبت مواقيت العبادة بالليل دون
النهار ،فتثبت رؤية رمضان ليلً أولً ،ثم يثبت نهارا ،فنقول :الليلة أول رمضان ،لذلك قال
حسَابَ }
ن وَالْ ِ
عدَدَ السّنِي َ
س ضِيَآ ًء وَا ْل َقمَرَ نُورا َوقَدّ َرهُ مَنَا ِزلَ لِ َتعَْلمُواْ َ
شمْ َ
ج َعلَ ال ّ
تعالىُ {:هوَ الّذِي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[يونس]5 :
فقولهَ {:وقَدّ َرهُ[} ..يونس ]5 :أي :القمر؛ لن به تتبين أوائل الشهور ،وهو أدقّ نظام حسابي يُعتمد
عليه حتى الن عند علماء الفلك وعلماء البحار وغيرهم.
و{ مَنَا ِزلَ[} ..يونس ]5 :هي البروج الثنى عشر للقمر التي أقسم ال بها في قوله تعالى{:
شهُودٍ }[البروج]3-1 :
سمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْ َيوْمِ ا ْل َموْعُودِ * وَشَا ِه ٍد َومَ ْ
وَال ّ
ولن حياة الخَلْق ل تقوم إل بحساب الزمن ،فقد جعل الخالق سبحانه في َكوْنه ضوابط تضبط لنا
الزمن ،وهذه الضوابط ل تصلح لضبط الوقت إل إذا كانت هي في نفسها منضبطة ،فمثلً أنت ل
تستطيع أن تضبط مواعيدك على ساعتك إذا كانت غير منضبطة (تُقدّم أو تُأخّر).
س وَا ْلقَمَرُ ِبحُسْبَانٍ }
شمْ ُ
لذلك يقول الخالق المبدع سبحانه عن ضوابط الوقت في َكوْنه {:ال ّ
[الرحمن]5 :
أي :بحساب دقيق ل يختلّ ،وطالما أن الخالق سبحانه خلقها بحساب فاجعلوها ضوابط لحساباتكم.
شيْءٍ َفصّلْنَاهُ َت ْفصِيلً[ { ..السراء]12 :
وقوله تعالىَ } :وكُلّ َ
معنى التفصيل أن تجعل بَيْنا بين شيئين ،وتقول :فص ْلتُ شيئا عن شيء ،فالحق سبحانه فصّل لنا
كل ما يحتاج إلى تفصيل ،حتى ل يلتبس علينا المر في كل نواحي الحياة.
ل يقول سبحانه {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ُقمْ ُتمْ إِلَى الصّلةِ فاغْسِلُواْ
ومثال ذلك في الوضوء مث ً
وُجُو َهكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ إِلَى ا ْلمَرَافِقِ }[المائدة]6 :
فأطلق غَسْل الوجه؛ لنه ل يختلف عليه أحد ،وحدّد اليدي إلى المرافق ،لن اليدي يُختلف في
تحديدها ،فاليد قد تكون إلى الرّسْغ ،أو إلى المرفق ،أو إلى الكتف ،لذلك حددها ال تعالى ،لنه
سبحانه يريدها على شكل مخصوص.
سكُ ْم وَأَرْجَُل ُكمْ إِلَى ا ْل َكعْبَينِ }[المائدة]6 :
وكذلك في قوله تعالى {:وَامْسَحُواْ بِ ُرؤُو ِ
فالرأس يناسبها المسْح ل الغَسْل ،والرّجْلَن كاليد ل ُبدّ أنْ ُتحَدّد .فإذا لم يوجد الماء أو تعذّر
سحُواْ
صعِيدا طَيّبا فَامْ َ
استعماله شرع لنا سبحانه التيمم ،فقال تعالى {:فَلَمْ َتجِدُواْ مَآءً فَتَ َي ّممُو ْا َ
ِبوُجُو ِهكُ ْم وَأَيْدِي ُكمْ[} ..النساء]43 :
والتيمم يقوم مقام الوضوء ،من حيث هو استعداد للصلة ولقاء الحق سبحانه وتعالى ،وقد يظن
البعض أن الحكمة من الوضوء الطهارة والنظافة ،وكذلك التيمّم؛ لذلك يقترح بعضهم أن نُنظّف
أنفسنا بالكولونيا مثلً.
نقول :ليس المقصود بالوضوء أو التيمم الطهارة أو النظافة ،بل المراد الستعداد للصلة وإظهار
الطاعة والنصياع لشرع ال تعالى ،وإل كيف تتم الطهارة أو النظافة بالتراب؟
هذا الستعداد للصلة هو الذي جعل سيدنا علي زين العابدين رضي ال عنه َيصْفرّ وجهه عند
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوضوء ،وعندما سُئِل عن ذلك قال :أتعلمون على مَنْ أنا مُقبل الن؟
فللقاء الحق سبحانه وتعالى رهبة يجب أن يعمل لها المؤمن حسابا ،وأنْ يستعدّ للصلة بما شرعه
له ربه سبحانه وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :و ُكلّ إِنْسَانٍ َألْ َزمْنَاهُ طَآئِ َرهُ فِي عُ ُنقِهِ.{ ...
()2025 /
َوكُلّ إِنْسَانٍ أَلْ َزمْنَاهُ طَائِ َرهُ فِي عُ ُنقِ ِه وَنُخْرِجُ َلهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابًا يَ ْلقَاهُ مَنْشُورًا ()13
كلمة (طائره) أي :عمله وأصلها أن العرب كانوا في الماضي يزجرون الطير ،أي :إذا أراد
أحدهم أنْ يُمضيَ عملً يأتي بطائر ثم يطلقه ،فإنْ مَرّ من اليسار إلى اليمين يسمونه " السانح "
ويتفاءلون به ،وإنْ مَرّ من اليمين إلى اليسار يسمونه " البارح " ويتشاءمون به ،ثم يتهمون الطائر
وينسبون إليه العمل ،ول ذنب له ول جريرة.
إذن :كانوا يتفاءلون باليمين ،ويتشاءمون باليسار ،وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم يحب الفأل
الحسن ،ول يحب التشاؤم؛ لن الفَأْل الطيب يُنشّط أجهزة الجسم انبساطا للحركة ،أما التشاؤم
فيدعو للتراجع والحجام ،ويقضي على الحركة والتفاعل في الكون.
والحق سبحانه هنا يُوضّح :ل تقوّلوا الطائر ول تتهموه ،بل طائرك أي :عملك في عنقك يلزمك
ول ينفكّ عنك أبدا ،ول يُسأل عنه غيره ،كما أنه ل يُسأل عن عمل الخرين ،كما قال تعالىَ {:ولَ
تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَىا[} ..السراء]15 :
فل تُلقي بتبعة أفعالك على الحيوان الذي ل ذنب له.
وقوله تعالى { :وَنُخْرِجُ لَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابا يَ ْلقَاهُ مَنْشُورا } [السراء]13 :
وهو كتاب أعماله الذي سجّلتْه عليه الحفظة الكاتبون ،والذي قال ال عنه {:وَ َيقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَالِ
ظلِمُ رَ ّبكَ
عمِلُواْ حَاضِرا وَلَ يَ ْ
حصَاهَا َووَجَدُواْ مَا َ
صغِي َر ًة َولَ كَبِي َرةً ِإلّ َأ ْ
هَـاذَا ا ْلكِتَابِ لَ ُيغَادِ ُر َ
أَحَدا }[الكهف]49 :
هذا الكتاب سيلقاه يوم القيامة منشورا .أي :مفتوحا مُعدّا للقراءة.
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا }.
ثم يقول الحق سبحانه { :اقْ َرأْ كِتَا َبكَ كَفَىا بِ َنفْ ِ
()2026 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبًا ()14
اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ
الحق تبارك وتعالى يُصوّر لنا موقفا من مواقف يوم القيامة ،حيث يقف العبد بين يديْ ربه عزّ
وجل ،فيدعوه إلى أن يقرأ كتابه بنفسه ،ليكون هو حجة على نفسه ،ويُقِر بما اقترف ،والقرار
سيد الدلة.
فهذا موقف ل مجالَ فيه للعناد أو المكابرة ،ول مجالَ فيه للجدال أو النكار ،فإن حدث منه إنكار
جعل ال عليه شاهدا من جوارحه ،فيُنطقها الحق سبحانه بقدرته:
ش َهدُ عَلَ ْيهِمْ أَ ْلسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِي ِه ْم وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النور]24 :
يقول تعالىَ {:يوْمَ تَ ْ
شيْءٍ }[فصلت:
طقَ ُكلّ َ
طقَنَا اللّهُ الّذِي أَن َ
شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ
ويقول سبحانهَ {:وقَالُواْ لِجُلُو ِدهِمْ ِلمَ َ
]21
وقد جعل الخالق سبحانه للنسان سيطرةً على جوارحه في الدنيا ،وجعلها خاضعة لرادته ل
تعصيه في خير أو شر ،فبيده يضرب ويعتدي ،وبيده يُنفق ويقيل عثرة المحتاج ،وبرجْله يسعى
إلى بيت ال أو يسعى إلى مجلس الخمر والفساد.
وجوارحه في كل هذا مُسخّرة طائعة ل تتأبى عليه ،حتى وإن كانت كارهة للفعل؛ لنها منقادة
لمراداتك ،ف ِفعْلها لك ليس دليلً على الرضى عنك؛ لنه قد يكون رضى انقياد.
وقد ضربنا مثلً لذلك بقائد السرية ،فأمره نافذ على جنوده ،حتى وإن كان خطئا ،فإذا ما فقد هذا
القائد السيطرة وأصبح الجنود أمام القائد العلى باحوا له بكل شيء.
كذلك في الدنيا جعل ال للنسان إرادة على جوارحه ،فل تتخلف عنه أبدا ،لكنها قد تفعل وهي
كارهة وهي لعنةٌ له ،وهي مُبغِضة له ولِفعْله ،فإذا كان
سكَ
القيامة وانحلّت من إرادته ،وخرجتْ من سجن سيطرته ،شهدتْ عليه بما كان منهَ { .كفَىا بِ َنفْ ِ
الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا } [السراء]14 :
أي :كفانا أن تكون أنت قارئا وشاهدا على نفسك.
سهِ.} ..
ثم يقول الحق سبحانه { :مّنِ اهْتَدَىا فَإِ ّنمَا َيهْتَدي لِ َنفْ ِ
()2027 /
ضلّ عَلَ ْيهَا وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَى َومَا كُنّا
ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ
ن َ
مَنِ اهْتَدَى فَإِ ّنمَا َيهْ َتدِي لِ َنفْسِ ِه َومَ ْ
ُمعَذّبِينَ حَتّى نَ ْب َعثَ رَسُولًا ()15
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قوله تعالى { :مّنِ اهْ َتدَىا فَإِ ّنمَا َيهْتَدي لِ َنفْسِهِ[ } ..السراء]15 :
لن الحق سبحانه ل تنفعه طاعة ،ول تضره معصية ،وهو سبحانه الغنيّ عن عباده ،وبصفات
كماله وضع منهج الهداية للنسان الذي جعله خليفة له في أرضه ،وقبل أنْ يخلقه أعدّ له مُقوّمات
الحياة كلها من أرض وسماء ،وشمس وقمر ،وهواء وجبال ومياه.
فصفات الكمال ثابتة له سبحانه قبل أن يخلق الخَلْق ،إذن :فطاعتهم لن تزيده سبحانه شيئا ،كما أن
معصيتهم لن تضره سبحانه في شيء.
وهنا قد يسأل سائل :فلماذا التكليفات إذن؟
نقول :إن التكليف من ال لعباده من أجلهم وفي صالحهم ،لكي تستمر حركة حياتهم ،وتتساند ول
تتعاند؛ لذلك جعل لنا الخالق سبحانه منهجا نسير عليه ،وهو منهج واجب التنفيذ لنه من ال ،من
الخالق الذي يعلم من خلق ،ويعلم ما يصلحهم ويُنظم حياتهم ،فلو كان منهج بشر لبشر لكان لك أنْ
تتأبّى عليه ،أما منهج ال فل ينبغي الخروج عليه.
لذلك نسمع في المثال الدارجة عند أهل الريف يقولون :الصبع الذي يقطعه الشرع ل ينزف،
والمعنى أن الشرع هو الذي أمر بذلك ،فل اعتراض عليه ،ولو كان هذا بأمر البشر لقامت الدنيا
ولم تقعُدْ.
ن أو تقصير؛
ومن كماله سبحانه وغِنَاهُ عن الخَلْق يتحمل عنهم ما يصدر عنهم من أحكام أو تج ّ
ذلك لن كل شيء عنده بمقدار ،ول يُقضى أمر في الرض حتى يُقضى في السماء ،فإذا كّل ْفتَ
واحدا بقضاء مصلحة لك ،فقصّر في قضائها ،أو رفض ،أو سعى فيها ولم يُوفّق نجدك غاضبا
عليه حانقا.
وهنا يتحمّل الخالق سبحانه عن عباده ،ويُعفيهم من هذا الحرج ،ويعلمهم أن الحاجات بميعاد
وبقضاء عنده سبحانه ،فل تلوموا الناس ،فلكل شيء ميلد ،ول داعيَ لنْ نسبق الحداث،
ولننتظر الفرج وقضاء الحوائج من ال تعالى أولً.
ومن هنا يُعلّمنا السلم قبل أن َنعِد بعمل شيء ل ُبدّ أنْ نسبقه بقولنا :إنْ شاء ال لنحمي أنفسنا،
ونخرج من دائرة الحرج أو الكذب إذا لم نستطع الوفاء ،فأنا ـ إذن ـ في حماية المشيئة اللهية
ن ُو ّفقْتُ فبها ونِعمت ،وإن عجزت فإن الحق سبحانه لم يشأ ،وأخرج أنا من أوسع البواب.
إْ
إذن :تشريعات ال تريد أن تحمي الناس من الناس ،تريد أن تجتث أسباب الضّغن على الخر ،إذا
لم تقض حاجتك على يديه ،وكأن الحق سبحانه يقول لك :تمهل فكل شيء وقته ،ول تظلم الناس،
سعْيُه
فإذا ما قضيتَ حاجتك فاعلم أن الذي كّلفْته بها ما قضاها لك في الحقيقة ،ولكن صادف َ
ميلدَ قضاء هذه الحاجة ،فجاءت على يديه ،فالخير في الحقيقة من ال ،والناس أسباب ل غير.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتتضح لنا هذه القضية أكثر من مجال الطب وعلج المرضى ،فالطبيب سبب ،والشفاء من ال،
وإذا أراد ال لحد الطباء التوفيق والقبول عند الناس جعل مجيئه على ميعاد الشفاء فيلتقيان.
ومن هنا نجد بعض الطباء الواعين لحقيقة المر يعترفون بهذه الحقيقة ،فيقول أحدهم :ليس لنا
إل في (الخضرة).
والخضرة معناها :الحالة الناجحة التي حان وقت شفائها.
لقْدَارِفقول الحق
خطَأُ الطّبِيبِ إصَابَ ُة ا َ
وصدق الشاعر حين قال:والناسُ يلْحون الطّب ِيبَ وإنّما َ
تبارك وتعالى } :مّنِ اهْتَدَىا فَإِ ّنمَا َيهْتَدي لِ َنفْسِهِ[ { ..السراء]15 :أي :لصالح نفسه.
والهتداء :يعني اللتزام بمنهج ال ،والتزامك عائد عليك ،وكذلك التزام الناس بمنهج ال عائد
عليك أيضا ،وأنت المنتفع في كل الحوال بهذا المنهج؛ لذلك حينما ترى شخصا مستقيما عليك أن
تحمد ال ،وأن تفرحَ باستقامته ،وإياك أن تهزأ به أو تسخر منه؛ لن استقامته ستعود بالخير عليك
في حركة حياتك.
ضلّ عَلَ ْيهَا[ { ..السراء]15 :
ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ
وفي المقابل يقول الحق سبحانهَ } :ومَن َ
أي :تعود عليه عاقبةُ انصرافه عن منهج ال؛ لن شرّ النسان في عدم التزامه بمنهج ال يعود
عليك ويعود على الناس من حوله ،فيشقى هو بشرّه ،ويشقى به المجتمع.
ومن العجب أن نرى بعض الحمقى إذا رأى مُنحرفا أو سيء السلوك ينظر إليه نظرة ُبغْض
وكراهية ،ويدعو ال عليه ،وهو ل يدري أنه بهذا العمل يزيد الطين بلة ،ويُوسّع الخُرْق على
الراقع كما يقولون.
فهذا المنحرف في حاجة لمَنْ يدعو ال له بالهداية ،حتى تستريح أولً من شرّه ،ثم لتتمتع بخير
هدايته ثانيا .أما الدعاء عليه فسوف يزيد من شرّه ،ويزيد من شقاء المجتمع به.
ومن هذا المنطلق علّمنا السلم أن مَنْ كانت لديه قضية علمية تعود بالخير ،فعليه أنْ يُعديها إلى
الناس؛ لنك حينما تُعدّي الخير إلى الناس ستنتفع بأثره فيهم ،فكما انتفعوا هم بآثار خِلَلك
الحميدة ،فيمكنك أنت أيضا النتفاع بآثار خللهم الحميدة إن نقلتها إليهم.
لذلك حرّم السلم كَتْم العلم لما يُسبّبه من أضرار على الشخص نفسه وعلى المجتمع.
يقول صلى ال عليه وسلم " :من كتم علما ألجمه ال بلجام من نار يوم القيامة ".
وكذلك من الكمال الذي يدعونا إليه المنهج اللهي أن يُتقِن كل صاحب مهنة مهنته ،وكل صاحب
ل واحدا ،لكن حاجاته في الحياة كثيرة ومتعددة.
صَنْعة صَنْعته ،فالنسان في حركة حياته يُتقِن عم ً
فالخياط مثلً الذي يخيط لنا الثياب ل يتقن غير هذه المهنة ،وهو يحتاج في حياته إلى ِمهَن
وصناعات كثيرة ،يحتاج إلى :الطبيب والمعلم والمهندس والحداد والنجار والفلح ..الخ.
فلو أتقن عمله وأخلص فيه لَسخّر ال له مَنْ يتقن له حاجته ،ولو رَغْما عنه ،أو عن غير قصد ،أو
حتى بالمصادفة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :من كمالك أن يكون الناس في كمال ،فإنْ أتقنتَ عملك فأنت المستفيد حتى إنْ كان الناس من
حولك أشرارا ل يتقنون شيئا فسوف يُيسّر ال لهم سبيل إتقان حاجتك ،من حيث ل يريدون ول
يشعرون.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا ما اتضحت هذه الركان في أذهان الناس كان للعقوبة معنى ،وقامت الحجة على المخالفين،
أما أنْ نعاقب شخصا على جريمة هو ل يعلم بها ،فله أن يعترضَ عليك من منطلق هذه الية.
أما أنْ يُجرّم هذا العمل ،ويُعلَن عنه في الصحف الرسمية ،فل حجة لمَنْ جهله بعد ذلك؛ لن
الجهل به بعد العلم عنه ل يُعفِي من العقوبة.
فكأن قول ال تعالىَ } :ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ َرسُولً { [السراء ]15 :يجمع هذه الركان
السابقة :الجريمة ،والعقوبة ،والنص ،والعلم ،حيث أرسل ال الرسول يُعلّم الناس منهج الحق
سبحانه ،ويُحدّد لهم ما جرمه الشرع والعقوبة عليه.
لذلك يقول تعالى في آية أخرى {:وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا َنذِيرٌ }[فاطر]24 :
سلِ أَن َتقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن
ويقول {:يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ قَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ عَلَىا فَتْ َرةٍ مّنَ الرّ ُ
بَشِي ٍر َولَ نَذِيرٍ َفقَدْ جَا َءكُمْ َبشِي ٌر وَنَذِيرٌ[} ..المائدة]19:
إذن :قد انقطعت حجتكم برسالة محمد البشير النذير صلى ال عليه وسلم.
وقد وقف العلماء أمام هذه القضية فقالوا :إن كانت الحجة قد قامت على مَن آمن برسالة محمد
صلى ال عليه وسلم ،فما بال الكافر الذي لم يؤمن ولم يعلم منهج ال؟ وكأنهم يلتمسون له العذر
بكفره.
ل بعقله ،وبما ركّبه فيه خالقه سبحانه من ميزان إيماني
نقول :لقد عرف النسان ربه عز وجل أو ً
هو الفطرة ،هذه الفطرة هي المسئولة عن اليمان بقوة قاهرة وراء الوجود ،وإنْ لم يأتِ رسول،
والمثلة كثيرة لتوضيح هذه القضية:
َهبْ أنك قد انقطعتْ بك السّبل في صحراء واسعة شاسعة ل تجد فيها أثرا لحياة ،وغلبك النومُ
فن ْمتَ ،وعندما استيقظتَ فوجئت بمائدة منصوبة لك عليها أطايب الطعام والشراب.
عمّنْ أتى بها
ل تلفت انتباهك وتثير تساؤلتك َ
بال َألَ تفكّر في أمرها قبل أن تمتدّ يدُك إليها؟ أ َ
إليك؟
وهكذا النسان بعقله وفطرته ل بُدّ أنْ يهتديَ إلى أن للكون خالقا مُبْدِعا ،ول يمكن أن يكون هذا
النظام العجيب المتقن وليدَ المصادفة ،وهل عرف آدم ربه بغير هذه الدوات التي خلقها ال فينا؟
لقد جئنا إلى الحياة فوجدنا عالما مستوفيا للمقوّمات والمكانيات ،وجدنا أمام أعيننا آياتٍ كثيرة
دالّة على الخالق سبحانه ،كل منها خيط لو تتبعته لوصلك .خذ مثلً الشمس التي تنير الكون على
ت يوما ،ول تأخرت لحظة عن موعدهاَ ،ألَ
ُبعْدها تطلع في الصباح وتغرب في المساء ،ما تخلّف ْ
تسترعي هذه الية الكونية انتباهك؟
وقد سبق أنْ ضربنا مثلً بـ " أديسون " الذي اكتشف الكهرباء ،وكم أخذ من الهتمام والدراسة
في حين أن الضاءة بالكهرباء تحتاج إلى أدوات وأجهزة وأموال ،وهي عُرْضة للعطال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومصدر للخطار ،فما بالنا نغفل عن آية الضاءة الربانية التي ل تحتاج إلى مجهود أو أموال أو
صيانة أو خلفه؟
والعربي القُحّ الذي ما عرف غير الصحراء حينما رأى َبعْر البعير وآثار القدام استدلّ بالثر
على صاحبه ،فقال في بساطة العرب :ال َبعْرة تدلّ على البعير ،والقدم تدلّ على المسير ،سماء
ذات أبراج ،وأرض ذات فجاج ،ونجوم تزهر ،وبحار تزخر ،أل يدل ذلك على وجود اللطيف
الخبير؟
إذن :بالفطرة التكوينية التي جعلها ال في النسان يمكن له أن يهتدي إلى أن للكون خالقا ،وإنْ لم
يعرف مَنْ هو ،مجرد أن يعرف القوة الخفية وراء هذا الكون.
وحينما يأتي رسول من عند ال يساعده في الوصول إلى ما يبحث عنه ،ويدلّه على ربه وخالقه،
وأن هذه القوة الخفية التي حيّرتْك هي (ال) خالقك وخالق الكون كله بما فيه ومَن فيه.
وهو سبحانه واحد ل شريك له ،شهد لنفسه أنه ل إله إل هو ولم يعارضه أحد ولم َي ّدعِ أحد أنه إله
سِل َمتْ له سبحانه هذه الدعوى؛ لن صاحب الدعوة حين يدّعيها تسلم له إذا لم
مع ال ،وبذلك َ
يوجد معارض لها.
وهذه الفطرة اليمانية في النسان هي التي عنَاهَا الحق سبحانه في قوله تعالى {:وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن
ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا[} ..العراف]172 :
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ
بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
وهذا هو ال َعهْد اللهي الذي أخذه ال على خَلْقه وهم في مرحلة الذّرّ ،حيث كانوا جميعا في آدم ـ
عليه السلم ـ فالنْسَال كلها تعود إليه ،وفي كل إنسان إلى يوم القيامة ذرة من آدم ،هذه الذرة
هي التي شهدتْ هذا العهد ،وأق ّرتْ أنه ل إله إل ال ،ثم ذابتْ هذه الشهادة في فطرة كل إنسان؛
لذلك نسميها الفطرة اليمانية.
ونقول للكافر الذي أهمل فطرته اليمانية وغفل عنها ،وهي تدعوه إلى معرفة ال :كيف تشعر
ش َممْته؟
بالجوع فتطلب الطعام؟ وكيف تشعر بالعطش فتطلب الماء؟ أرأيت الجوع أو لمسْتَه أو َ
إنها الفطرة والغريزة التي جعلها ال فيك ،فلماذا استخدمت هذه ،وأغفلت هذه؟
والعجيب أن ينصرف النسان العاقل عن ربه وخالقه في حين أن الكون كله من حوله بكل ذراته
ت الكون وذراتُ التكوين في المؤمن وفي الكافر تُسبّح بحمد ربها ،كما قال
يُسبّح بحمد ربّه ،فذرا ُ
حهُمْ[ { ..السراء ]44 :فكيف بك
حمْ ِد ِه وَلَـاكِن لّ َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ
شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ بِ َ
تعالى } :وَإِن مّن َ
يا سيد الكون تغفل عن ال والذرات فيك مُسبّحة ،فإن كانت ذرات المؤمن حدث بينه وبين ذرات
تكوينه انسجام واتفاق ،وتجاوب تسبيحه مع تسبيح ذراته وأعضائه وتوافقت إرادته اليمانية مع
إيمان ذراته ،فترى المؤمن مُنْسجما مع نفسه مع تكوينه المادي.
ويظهر هذا النسجام بين إرادة النسان وبين ذرّاته وأعضائه في ظاهرة النوم ،فالمؤمن ذرّاته
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأعضائه راضية عنه تُحبه وتُحب البقاء معه ل تفارقه؛ لن إرادته في طاعة ال ،فترى المؤمن
ل ينام كثيرا مجرد أن تغفل عينه ساعةً من ليل أو نهار تكفيه ذلك؛ لن أعضاءه في انسجام مع
جعُونَ[} ..الذاريات]17 :
إرادته ،وهؤلء الذين قال ال فيهم {:كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ
وكان النبي صلى ال عليه وسلم تنام عينه ول ينام قلبه ،لنه في انسجام تام مع إرادته صلى ال
عليه وسلم.
وما أشبه النسان في هذه القضية بسيد شرس سيء الخُلق ،لديه عبيد كثيرون ،يعانون من سُوء
معاملته ،فيلتمسون الفرصة للبتعاد عنه والخلص من معاملته السيئة.
على خلف الكافر ،فذراته مؤمنة وإرادته كافرة ،فل انسجام ول توافق بين الرادة والتكوين
المادي له ،لذا ترى طبيعته قلقة ،ليس هناك تصالح بينه وبين ذراته ،لنها تبغضه وتلعنه ،وتود
مفارقته.
ولول أن الخالق سبحانه جعلها مُنْقادةً له لما طاوعتْه ،وإنها لتنتظر يوم القيامة يوم أنْ تفكّ من
إرادته ،وتخرج من سجنه ،لتنطق بلسان مُبين ،وتشهد عليه بما اقترف في الدنيا من كفر وجحود؛
لذلك ترى الكافر ينام كثيرا ،وكأن أعضاءه تريد أن ترتاح من شره.
ول ُبدّ أن نعلم أن ذرات الكون وذرات النسان في تسبيحها للخالق سبحانه ،أنه تسبيح فوق
حهُمْ[} ..السراء]44 :
مدارك البشر؛ لذلك قال تعالى {:وَلَـاكِن لّ َت ْف َقهُونَ تَسْبِي َ
فل يفقهه ول يفهمه إل مَنْ منحه ال القدرة على هذا ،كما منح هذه الميزة لداود ـ عليه السلم ـ
ن وَالطّيْرَ َوكُنّا فَاعِلِينَ }[النبياء]79 :
سخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْ َ
فقال {:وَ َ
وهنا قد يقول قائل :ما الميزة هنا ،والجبال والطير تُسبّح ال بدون داود؟
والميزة هنا لداود ـ عليه السلم ـ أن ال تعالى أسمعه تسبيح الجبال وتسبيح الطير ،وجعلها
تتجاوب معه في تسبيحه وكأنه (كورس) أو نشيد جماعي تتوافق فيه الصوات ،وتتناغم بتسبيح
ال تعالى ،ألم يقل الحق سبحانه في آية أخرى {:ياجِبَالُ َأوّبِي َمعَهُ وَالطّيْرَ[} ..سبأ]10 :
أي :رَجّعي معه وردّدي التسبيح.
ومن ذلك أيضا ما وهبه ال تعالى لنبيه سليمان عليه السلم من معرفة منطق الطير أي لغته،
فكان يسمع النملة وهي تخاطب بني جنسها ويفهم ما تريد ،وهذا فضل من ال يهبه لمَنْ يشاء من
عباده ،لذلك لما فهم سليمان عليه السلم لغة النملة ،وفهم ما تريده من تحذير غيرها تبسم
ي وَعَلَىا وَاِل َديّ[} ..النمل]19 :
شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َع ْمتَ عََل ّ
ضاحكاَ {:وقَالَ َربّ َأوْزِعْنِي أَنْ َأ ْ
إذن :لكل مخلوق من مخلوقات ال لغة ومنطق ،ل يعلمها ول يفهمها إل مَنْ يُيسّر ال له هذا العلم
وهذا الفهم.
وحينما نقرأ عن هذه القضية نجد بعض كُتّاب السيرة مثلً يقولون :سبّح الحصى في يد النبي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلى ال عليه وسلم نقول لهم :تعبيركم هذا غير دقيق ،لن الحصى يُسبّح في يده صلى ال عليه
وسلم كما يُسبّح في يد أبي جهل ،لكن الميزة أنه صلى ال عليه وسلم سمع تسبيح الحصى في يده،
وهذه من معجزاته صلى ال عليه وسلم.
والحق سبحانه يريد أنْ يلفتنا إلى حقيقة من حقائق الكون ،وهي كما أن لك حياة خاصة بك ،فاعلم
شيْءٍ هَاِلكٌ
أن لكل شيء دونك حياة أيضا ،لكن ليستْ كحياتك أنت ،بدليل قول الحق سبحانهُ {:كلّ َ
جهَهُ[} ..القصص]88 :
ل وَ ْ
ِإ ّ
ل فهو هالك ،والهلك ضد الحياة؛ لن ال تعالى قال {:لّ َيهِْلكَ مَنْ
فكل ما يُطلق عليه شيء مهما َق ّ
حيّ عَن بَيّ َنةٍ[} ..النفال ]42 :فدلّ على أن له حياة تُناسبه.
هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ
ونعود إلى قوله الحق سبحانهَ } :ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً { [السراء]15 :
فإن اهتدى النسان بفطرته إلى وجود الخالق سبحانه ،فمن الذي ُيعْلِمه بمرادات الخالق سبحانه
منه ،إذن :ل ُبدّ من رسول يُبلّغ عن ال ،ويُنبّه الفطرة الغافلة عن وجوده تعالى.
علَ ْيهَا ا ْلقَ ْولُ
سقُواْ فِيهَا َفحَقّ َ
ثم يقول الحق سبحانه } :وَِإذَآ أَ َردْنَآ أَن ّنهِْلكَ قَرْيَةً َأمَرْنَا مُتْ َرفِيهَا َففَ َ
فَ َدمّرْنَاهَا َت ْدمِيرا {.
()2028 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا