You are on page 1of 252

‫تفسير الشعراوي‬

‫ل َومَا َل ُهمْ مِنْ نَاصِرِينَ (‪)37‬‬


‫ضّ‬‫إِنْ تَحْ ِرصْ عَلَى ُهدَا ُهمْ فَإِنّ اللّهَ لَا َيهْدِي مَنْ ُي ِ‬

‫يُسلّي الحق تبارك وتعالى رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويثبت له حِ ْرصَه على أمته‪ ،‬وأنه يُحمّل‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ‬
‫خعٌ ّنفْ َ‬
‫حمّله ال‪ ،‬كما قال له في آية أخرى‪َ {:‬لعَّلكَ بَا ِ‬
‫نفسه في سبيل هدايتهم فوق ما َ‬
‫ُم ْؤمِنِينَ }[الشعراء‪.]3 :‬‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ‬
‫ويقول تعالى‪َ {:‬لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫رّحِيمٌ }[التوبة‪.]128 :‬‬
‫ثم بعد ذلك يقطع الحق سبحانه المل أمام المكذبين المعاندين‪ ،‬فيقول تعالى‪:‬‬
‫ضلّ‪[ } ...‬النحل‪.]37 :‬‬
‫{ فَإِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي مَن ُي ِ‬
‫أي‪ :‬ل يضل إل مَنْ لم يقبل اليمان به فَيَدعُه إلى كفره‪ ،‬بل ويطمس على قلبه غيْر مأسُوف عليه‪،‬‬
‫فهذه إرادته‪ ،‬وقد أجابه ال إلى ما يريد‪.‬‬
‫{ َومَا َلهُمْ مّن نّاصِرِينَ‪[ } ....‬النحل‪.]37 :‬‬
‫إذن‪ :‬المسألة ليستْ مجرد عدم الهداية‪ ،‬بل هناك معركة ل يجدون لهم فيها ناصرا أو معينا‬
‫حمِيمٍ }[الشعراء‪.]101-100 :‬‬
‫ل صَدِيقٍ َ‬
‫يُخلّصهم منها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬فمَا لَنَا مِن شَا ِفعِينَ * َو َ‬
‫إذن‪ :‬ل يهدي ال مَن اختار لنفسه الضلل‪ ،‬بل سيُعذّبه عذابا ل يجد مَنْ ينصُره فيه‪.‬‬
‫سمُواْ بِاللّهِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عنهم‪ { :‬وََأقْ َ‬

‫(‪)1922 /‬‬

‫حقّا وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ‬


‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ لَا يَ ْب َعثُ اللّهُ مَنْ َيمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ َ‬
‫سمُوا بِاللّهِ َ‬
‫وََأقْ َ‬
‫(‪)38‬‬

‫سمُواْ بِاللّهِ‪[ } ...‬النحل‪.]38 :‬‬


‫{ وََأقْ َ‬
‫سبحان ال!! كيف تُقسِمون بال وأنتم ل تؤمنون به؟! وما مدلول كلمة ال عندكم؟‪ ..‬هذه علمة‬
‫غباء عند الكفار ودليل على أن موضوع اليمان غير واضح في عقولهم؛ لن كلمة ال نفسها‬
‫ل على اليمان به سبحانه‪ ،‬ول توجد الكلمة في اللغة إل بعد وجود ما تدل عليه أولً‪..‬‬
‫دلي ٌ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالتلفزيون مثلً قبل أن يوجد لم يكن له اسم‪ ،‬ثم بعد أن وُجد أوجدوا له اسما‪.‬‬
‫أذن‪ :‬توجد المعاني أولً‪ ،‬ثم توضع للمعاني أسماء‪ ،‬فإذا رأيت اسما يكون معناه قبله أم بعده؟ يكون‬
‫قبله‪ ..‬فإذا قالوا‪ :‬ال غير موجود نقول لهم‪ :‬كذبتم؛ لن كلمة ال لفظ موجود في اللغة‪ ،‬ول ُبدّ أن‬
‫لها معنىً سبق وجودها‪.‬‬
‫ق للكفر‪ ..‬وجاء الكفر منطقيا؛ لن معنى الكفر‪ :‬السّتْر‪ ..‬والسؤال إذن‪ :‬ماذا‬
‫إذن‪ :‬فاليمان ساب ٌ‬
‫ستر؟ ستر اليمان‪ ،‬ول يستر إل موجودا‪ ،‬وبذلك نقول‪ :‬إن الكفر دليل على اليمان‪.‬‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ‪[ } ...‬النحل‪.]38 :‬‬
‫سمُواْ بِاللّهِ َ‬
‫{ وََأقْ َ‬
‫أي‪ :‬مبالغين في اليمين مُؤكّدينه‪ ،‬وما أقربَ غباءَهم هنا بما قالوه في آية أخرى‪ {:‬الّلهُمّ إِن كَانَ‬
‫سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال‪.]32 :‬‬
‫حجَا َرةً مّنَ ال ّ‬
‫حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا ِ‬
‫هَـاذَا ُهوَ الْ َ‬
‫فليس هذا بكلم العقلء‪ .‬وكان ما أقسموا عليه بال أنه‪:‬‬
‫{ لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن َيمُوتُ‪[ } ...‬النحل‪.]38 :‬‬
‫وهذا إنكار للبعث‪ ،‬كما سبق وأنْ قالوا‪ {:‬قَالُواْ أَِإذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }‬
‫[المؤمنون‪.]82 :‬‬
‫فيرد عليهم الحق سبحانه { بَلَىا }‪.‬‬
‫وهي أداة لنفي السابق عليها‪ ،‬وأهل اللغة يقولون‪ :‬نفي النفي إثبات‪ ،‬إذا " بلى " تنفي النفي قبلها‬
‫وهو قولهم‪:‬‬
‫{ لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن َيمُوتُ‪[ } ...‬النحل‪.]38 :‬‬
‫ن يموت‪.‬‬
‫فيكون المعنى‪ :‬بل يبعث ال مَ ْ‬
‫حقّا‪[ } ...‬النحل‪.]38 :‬‬
‫{ وَعْدا عَلَيْهِ َ‬
‫والوَعْد هو الخبار بشيء لم ي ْأتِ زمنه بعد‪ ،‬فإذا جاء وَعْدٌ بحدَث يأتي َبعْد ننظر فيمَنْ وعد‪ :‬أقادرٌ‬
‫على إيجاد ما وعد به؟ أم غير قادر؟‬
‫فإن كان غيرَ قادر على إنفاذ ما وعد به لنه ل يضمن جميع السباب التي تعينه على إنفاذ وعده‪،‬‬
‫عذْرا‪ ،‬وحتى ل‬
‫قُلْنا له ُقلْ‪ :‬إنْ شاء ال‪ ..‬حتى إذا جاء موعد التنفيذ فلم َتفِ بوعدك التمسْنا لك ُ‬
‫تُوصف ساعتها بالكذب‪ ،‬فقد نسبتَ المر إلى مشيئة ال‪.‬‬
‫خطّط كما تحب‪،‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يمنعنا أن نُخطّط للمستقبل ونعمل كذا ونبني كذا‪َ ..‬‬
‫عدَته‪ ،‬لكن أردف هذا بقولك‪ :‬إنْ شاء ال؛ لنك ل تملك جميع السباب التي تمكّن‬
‫واعْدُدْ للمستقبل ِ‬
‫علٌ ذاِلكَ غَدا *‬
‫شيْءٍ إِنّي فَا ِ‬
‫من عمل ما تريد مستقبلً‪ ،‬وقد قال الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَلَ َتقْولَنّ ِل َ‬
‫ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ‪} ...‬‬

‫[الكهف‪.]24-23 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونضرب لذلك مثلً‪َ :‬هبْ أنك أردتَ أن تذهب غدا إلى فلن لتكلمه في أمر ما‪ ..‬هل ضمنت‬
‫لنفسك أن تعيش لغد؟ وهل ضمنت أن هذا الشخص سيكون موجودا غدا؟ وهل ضمنتَ أل يتغير‬
‫الداعي الذي تريده؟ وربما توفرت لك هذه الظروف كلها‪ ،‬وعند الذهاب أَلَمّ بك عائق منعك من‬
‫الذهاب‪ .‬إذن‪ :‬يجب أن نُردف العمل في المستقبل بقولنا‪ :‬إن شاء ال‪.‬‬
‫أما إذا كان الوعد من ال تعالى فهو قادر سبحانه على إنفاذ ما َيعِد به؛ لنه ل قوة تستطيع أن‬
‫تقفَ أمام مُراده‪ ،‬ول شيءَ يُعجزه في الرض ول في السماء‪ ،‬كان الوعد منه سبحانه (حقا) أنْ‬
‫يُوفّيه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫س لَ َيعَْلمُونَ { [النحل‪.]38 :‬‬
‫} وَلـاكِنّ َأكْثَرَ الْنّا ِ‬
‫أي‪ :‬ل يعلمون أن ال قادر على البعث‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬وقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي‬
‫جدِيدٍ‪[} ...‬السجدة‪.]10 :‬‬
‫خَ ْلقٍ َ‬
‫جدِيدا }[السراء‪.]49 :‬‬
‫وقال‪َ {:‬وقَالُواْ أَِإذَا كُنّا عِظَاما وَ ُرفَاتا أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ خَلْقا َ‬
‫فقد استبعد الكفار أمر البعث؛ لنهم ل يتصورون كيف يبعث ال الخلْق من لَدُن آدم ـ عليه‬
‫السلم ـ حتى تقوم الساعة‪ ..‬ولكن ِلمَ تستبعدون ذلك؟ وقد قال تعالى‪ {:‬مّا خَ ْل ُقكُ ْم َولَ َبعْ ُثكُمْ ِإلّ‬
‫كَ َنفْسٍ وَاحِ َدةٍ‪[} ...‬لقمان‪.]28 :‬‬
‫فالمر ليس مزاولة يجمع ال سبحانه بها جزئيات البشر كل على حدة‪ ..‬ل‪ ..‬ليس في المر‬
‫مزاولة أو معالجة تستغرق وقتا‪ {.‬إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ َلهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪.]82 :‬‬
‫ونضرب لذلك مثلً ـ ول المثل العلى ـ فنحن نرى مثل هذه الوامر في عالم البشر عندما‬
‫يأتي المعلّم أو المدرب الذي يُدرّب الجنود نراه يعلّم ويُدرّب أولً‪ ،‬ثم إذا ما أراد تطبيق هذه‬
‫الوامر فإنه يقف أمام الجنود جميعا وبكلمة واحدة يقولها يمتثل الجميع‪ ،‬ويقفون على الهيئة‬
‫المطلوبة‪ ،‬هل أمسك المدرب بكل جندي وأوقفه كما يريد؟! ل‪ ..‬بل بكلمة واحدة تَمّ له ما يريد‪.‬‬
‫وكأن انضباط المأمور وطاعته للمر هو الصل‪ ،‬كذلك كل الجزئيات في الكون منضبطة لمره‬
‫سبحانه وتعالى‪ ..‬هي كلمة واحدة بها يتم كل شيء‪ ..‬فليس في المر ُمعَالجة‪ ،‬لن المعالجة أنْ‬
‫يُباشر الفاعل بجزئيات قدرته جزئيات الكائن‪ ،‬وليس البعث هكذا‪ ..‬بل بالمر النضباطي‪ :‬كن‪.‬‬
‫ولذلك يقول تعالى‪:‬‬
‫س لَ َيعَْلمُونَ { [النحل‪.]38 :‬‬
‫} وَلـاكِنّ َأكْثَرَ الْنّا ِ‬
‫نقول‪ :‬الحمد ل أن هناك قليلً من الناس يعلمون أمر البعث ويؤمنون به‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬لِيُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي‪.{ ...‬‬

‫(‪)1923 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لِيُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي َيخْتَِلفُونَ فِي ِه وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ َكفَرُوا أَ ّنهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (‪)39‬‬

‫فمعنى قوله تعالى‪:‬‬


‫{ لِيُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي يَخْتَِلفُونَ فِيهِ‪[ } ..‬النحل‪ .]39 :‬أي‪ :‬من أمر البعث؛ لن القضية ل تستقيم بدون‬
‫البعث والجزاء؛ ولذلك كنت في جدالي للشيوعيين أقول لهم‪ :‬لقد أدركتم رأسماليين شرسين‬
‫ومفترين‪ ،‬شربوا دم الناس وعملوا كذا وكذا‪ ..‬فماذا فعلتُم بهم؟ يقولون‪ :‬فعلنا بهم كيت وكيت‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬ومن قبل وجود الشيوعية سنة ‪ ،1917‬ألم يكن هناك ظلمة مثل هؤلء؟ قالوا‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذن من مصلحتكم أن يوجد بعث وحساب وعقاب ل يفلت منه هؤلء الذين سبقوكم‪ ،‬ولم‬
‫تستطيعوا تعذيبهم‪.‬‬
‫ثم يأتي َفصْل الخطاب في قوله تعالى‪:‬‬
‫{ وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ َكفَرُواْ أَ ّنهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } [النحل‪ .]39 :‬أي‪ :‬كاذبين في قولهم‪ {:‬لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن‬
‫َيمُوتُ‪[} ...‬النحل‪.]38 :‬‬
‫وذلك علم يقين ومعاينة‪ ،‬ولكن بعد فوات الوان‪ ،‬فالوقت وقت حساب وجزاء ل ينفع فيه‬
‫العتراف ول يُجدي التصديق‪ ،‬فالن يعترفون بأنهم كانوا كاذبين في قَسَمهم‪ :‬ل يبعث ال مَنْ‬
‫يموت وبالغوا في الَيمان وأكّدوها؛ ولذلك يقول تعالى عنهم في آية أخرى‪َ {:‬وكَانُواْ ُيصِرّونَ عَلَى‬
‫الْحِنثِ ا ْل َعظِيمِ }[الواقعة‪.]46 :‬‬
‫شيْءٍ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِ ّنمَا َقوْلُنَا ِل َ‬

‫(‪)1924 /‬‬

‫شيْءٍ ِإذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ َنقُولَ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ (‪)40‬‬


‫إِ ّنمَا َقوْلُنَا لِ َ‬

‫إذن‪ :‬أمر البعث ليس علجا لجزئيات كل شخص وضمّ أجزائه وتسويته من آدم حتى قيام الساعة‪،‬‬
‫بل المسألة منضبطة تماما مع المر اللهي (كُنْ)‪.‬‬
‫وبمجرد صدوره‪ ،‬ودون حاجة لوقت ومُزاولة يكون الجميع ماثلً طائعا‪ ،‬كل واحد منتظرٌ دوره‪،‬‬
‫منتظر الشارة؛ ولذلك جاء في الخبر‪ " :‬أمور يبديها ول يبتديها "‪.‬‬
‫فالمر يتوقف على الذن‪ :‬اظهر يظهر‪.‬‬
‫ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ من يعد القنبلة الزمنية مثلً‪ ،‬ويضبطها على وقت معين‪ ..‬تظل‬
‫القنبلة هذه إلى وقت النفجار الذي ُوضِع فيها‪ ،‬ثم تنفجر دون تدخّل من صناعها‪ ..‬مجرد الذن‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لها بالنفجار تنفجر‪.‬‬
‫وحتى كلمة (كُنْ) نفسها تحتاج لزمن‪ ،‬ولكن ليس هناك أقرب منها في الذن‪ ..‬وإن كان المر في‬
‫حقّه تعالى ل يحتاج إلى كُنْ ول غيره‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ‪.} ...‬‬

‫(‪)1925 /‬‬

‫وَالّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ َبعْدِ مَا ظُِلمُوا لَنُ َبوّئَ ّنهُمْ فِي الدّنْيَا حَسَ َن ًة وَلَأَجْرُ الَْآخِ َرةِ َأكْبَرُ َلوْ كَانُوا‬
‫َيعَْلمُونَ (‪)41‬‬

‫المهاجرون قوم آمنوا بال إيمانا صار إلى مرتبة من مراتب اليقين جعلتهم يتحمّلون الذى والظلم‬
‫والضطهاد في سبيل إيمانهم‪ ،‬فل يمكن أن يُضحّي النسان بماله وأهله ونفسه إل إذا كان لمر‬
‫يقينيّ‪.‬‬
‫وقد جاءت هذه الية بعد آية إثبات البعث الذي أنكره الكافرون وألحّوا في إنكاره وبالغوا فيه‪ ،‬بل‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِ ْم لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن َيمُوتُ‪[} ..‬النحل‪.]38 :‬‬
‫سمُواْ بِاللّهِ َ‬
‫وأقسموا على ذلك‪ {:‬وََأقْ َ‬
‫وهم يعلمون أن من الخلق مَنْ يُسيء‪ ،‬ومنهم من يُحسِن‪ ،‬فهل يعتقدون ـ في عُرْف العقل ـ أن‬
‫يتركَ ال من أساء ليُعربد في خَلْق ال دون أن يُجازيه؟‬
‫ذلك يعني أنهم خائفون من البعث‪ ،‬فلو أنهم كانوا محسنين لَتَمنّوا البعث‪ ،‬أمَا وقد أسرفوا على‬
‫أنفسهم إسرافا يُشفِقون معه على أنفسهم من الحساب والجزاء‪ ،‬فمن الطبيعي أنْ يُنِكروا البعث‪،‬‬
‫ويلجأوا إلى تمنية أنفسهم بالماني الكاذبة‪ ،‬ليطمئنوا على أن ما أخذوه من مظالم الناس ودمائهم‬
‫وكرامتهم وأمنهم أمرٌ ل يُحاسبون عليه‪.‬‬
‫وإذا كانوا قد أنكروا البعث‪ ،‬ويوجد رسول ومعه مؤمنون به يؤمنون بالبعث والجزاء إيمانا يصل‬
‫إلى درجة اليقين الذي يدفعهم إلى التضحية في سبيل هذا اليمان‪ ..‬إذن‪ :‬ل ُبدّ من وجود معركة‬
‫شرسة بين أهل اليمان وأهل الكفر‪ ،‬معركة بين الحق والباطل‪.‬‬
‫ومن حكمة ال أن ينشر السلم في بدايته بين الضعفاء‪ ،‬حتى ل يظن ظَانّ أن المؤمنين فرضوا‬
‫إيمانهم بالقوة‪ ،‬ل‪ ..‬هؤلء هم الضعفاء الذين ل يستطيعون الدفاع عن أنفسهم‪ ،‬والكفار هم السادة‪..‬‬
‫إذن‪ :‬جاء السلم ليعاند الكبارَ الصناديدَ العتاة‪.‬‬
‫وكان من الممكن أن ينصرَ ال هؤلء الضعفاء ويُعلي كلمة الدين من البداية‪ ،‬ولكن أراد الحق‬
‫تبارك وتعالى أن تكون الصيحةُ اليمانية في مكّة أولً؛ لن مكة مركز السيادة في جزيرة العرب‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقريش هم أصحاب المهابة وأصحاب النفوذ والسلطان‪ ،‬ول تقوى أيّ قبيلة في الجزيرة أن‬
‫تعارضها‪ ،‬ومعلوم أنهم أخذوا هذه المكانة من رعايتهم لبيت ال الحرام وخدمتهم للوافدين إليه‪.‬‬
‫فلو أن السلم اختار بقعة غير مكة َلقَالوا‪ :‬إن السلم استضعفَ جماعة من الناس‪ ،‬وأغرَاهم‬
‫بالقول حتى آمنوا به‪ .‬ل‪ ،‬فالصيحة السلميةُ جاءت في أُذن سادة قريش وسادة الجزيرة الذين‬
‫أمّنهم ال في رحلة الشتاء والصيف‪ ،‬وهم أصحاب القوة وأصحاب المال‪.‬‬
‫وإذا كان المر كذلك‪ ،‬فلماذا لم ينصر ال دينه في بلد السادة؟ نقول‪ :‬ل‪ ..‬الصيحة في أذن الباطل‬
‫تكون في بلد السادة في مكة‪ ،‬لكن ُنصْرة الدين ل تأتي على يد هؤلء السادة‪ ،‬وإنما تأتي في‬
‫المدينة‪.‬‬
‫وهذا من حكمة ال تعالى حتى ل يقول قائل فيما بعد‪ :‬إن العصبية لمحمد في مكة فرضتْ اليمان‬
‫بمحمد‪.‬‬

‫‪ .‬ل بل يريد أن يكون اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد‪ ،‬فجاء له‬
‫بعصبية بعيدة عن قريش‪ ،‬وبعد ذلك دانتْ لها قريش نفسها‪.‬‬
‫وما دامت هناك معركة‪ ،‬فمَن المطحون فيها؟ المطحون فيها هو الضعيف الذي ل يستطيع أنْ‬
‫يحميَ نفسه‪ ..‬وهؤلء هم الذين ظُلِموا‪ ..‬ظُلِموا في المكان الذي يعيشون فيه؛ ولذلك كان ول بُدّ أن‬
‫يرفع ال عنهم هذا الظلم‪.‬‬
‫وقد جاء َرفْع الظلم عن هؤلء الضعفاء على مراحل‪ ..‬فكانت المرحلة الولى أن ينتقلَ‬
‫المستضعفون من مكة‪ ،‬ل إلى دار إيمان تحميهم وتساعدهم على َنشْر دينهم‪ ،‬بل إلى دار َأمْن فقط‬
‫يأمنون فيها على دينهم‪ ..‬مجرد َأمْن يتيح لهم فرصة أداء أوامر الدين‪.‬‬
‫ولذلك استعرض رسول ال صلى ال عليه وسلم البلد كلها لينظر أيّ الماكن تصلح دار َأمْن‬
‫يهاجر إليها المؤمنون بدعوته فل يعارضهم أحد‪ ،‬فلم يجد إل الحبشة؛ ولذلك قال عنها‪ " :‬إن‬
‫بأرض الحبشة ملكا ل يُظلم عنده أحد‪ ،‬فالحقوا ببلده حتى يجعل ال لكم فرجا ومخرجا مما أنتم‬
‫فيه "‪.‬‬
‫وتكفي هذه الصفة في ملك الحبشة ليهاجر إليه المؤمنون‪ ،‬ففي هذه المرحلة من ُنصْرة الدين ل‬
‫نريد أكثر من ذلك‪ ،‬وهكذا تمت الهجرة الولى إلى الحبشة‪.‬‬
‫ثم يسّر ال لدينه أتباعا وأنصارا التقوْا برسول ال صلى ال عليه وسلم وبايعوه على الّنصْرة‬
‫والتأييد‪ ،‬ذلكم هم النصار من أهل المدينة الذين بايعوا رسول ال صلى ال عليه وسلم عند العقبة‬
‫و َمهّدوا للهجرة الثانية إلى المدينة‪ ،‬وهي هجرةٌ ـ هذه المرة ـ إلى دار َأمْن وإيمان‪ ،‬يأمن فيها‬
‫المسلمون على دينهم‪ ،‬ويجدون الفرصة لنشره في رُبُوع المعمورة‪.‬‬
‫ونقف هنا عند قوله تعالى‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫} وَالّذِينَ هَاجَرُواْ‪[ { ...‬النحل‪.]41 :‬‬
‫ومادة هذا الفعل‪ :‬هجر‪ ..‬وهناك فَرْق بين هجر وبين هاجر‪:‬‬
‫هجر‪ :‬أن يكره النسانُ القامةَ في مكان‪ ،‬فيتركه إلى مكان آخر يرى انه خَيْرٌ منه‪ ،‬إنما المكان‬
‫نفسه لم يكرهه على الهجرة‪ ..‬أي المعنى‪ :‬ترك المكان مختارا‪.‬‬
‫أما هاجر‪ :‬وهي تدل على المفاعلة من الجانبين‪ ،‬فالفاعل هنا ليس كارها للمكان‪ ،‬ولكن المفاعلة‬
‫التي حدثتْ من القوم هي التي اضطرتْه للهجرة‪ ..‬وهذا ما حدث في هجرة المؤمنين من مكة؛‬
‫لنهم لم يتركوها إلى غيرها إلّ بعد أن تعرضوا للضطهاد والظُلْم‪ ،‬فكأنهم بذلك شاركوا في‬
‫الفعل‪ ،‬فلو لم يتعرّضوا لهم ويظلموهم لما هاجروا‪.‬‬
‫ولذلك قال الحق تبارك وتعالى‪:‬‬
‫} مِنْ َب ْعدِ مَا ظُِلمُواْ‪[ { ...‬النحل‪.]41 :‬‬
‫وينطبق هذا المعنى على قول المتنبي‪:‬إِذَا ترح ْلتَ عن َقوْ ٍم َوقَدْ َقدَرُوا ألّ تُفارِقهم فَالرّاحِلُون‬
‫ُهمُوايعني‪ :‬إذا كنت في جماعة وأر ْدتَ الرحيل عنهم‪ ،‬وفي إمكانهم أن يقدموا لك من المساعدة ما‬
‫يُيسّر لك القامة بينهم ولكنهم لم يفعلوا‪ ،‬وتركوك ترحل مع مقدرتهم‪ ،‬فالراحلون في الحقيقة هم‪،‬‬
‫لنهم لم يساعدوك على القامة‪.‬‬

‫كذلك كانت الحال عندما هاجر المؤمنون من مكة؛ لنه أيضا ل يعقل أن يكره هؤلء مكة وفيها‬
‫البيت الحرام الذي يتمنى كل مسلم القامة في جواره‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لم يترك المهاجرون مكة‪ ،‬بل اضطروا إلى تركها وأجبروا عليه‪ ،‬وطبيعي إذن أن يلجأوا‬
‫إلى دار أخرى حتى تقوى شوكتهم ثم يعودون للقامة ثانية في مكة إقامة طبيعية صحيحة‪.‬‬
‫ثم إن الحق تبارك وتعالى قال‪:‬‬
‫} وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ‪[ { ...‬النحل‪.]41 :‬‬
‫ونلحظ في الحديث الشريف الذي يوضح معنى هذه الية‪ " :‬فمن كانت هجرته إلى ال ورسوله‬
‫فهجرته إلى ال ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر‬
‫إليه "‪.‬‬
‫فما الفرق هنا بين‪ :‬هاجر في ال‪ ،‬وهاجر إلى ال؟‬
‫هاجر إلى مكان تدل على أن المكان الذي هاجر إليه افضل من الذي تركه‪ ،‬وكأن الذي هاجر منه‬
‫ليس مناسبا له‪.‬‬
‫أما هاجر في ال فتدل على أن القامة السابقة كانت أيضا في ال‪ ..‬إقامتهم نفسها في مكة‬
‫وتحمّلهم الذى والظلم والضطهاد كانت أيضا في ال‪.‬‬
‫أما لو قالت الية " هاجروا إلى ال " لدلّ ذلك على أن إقامتهم الولى لم تكن ل‪ ..‬إذن‪ :‬معنى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الية‪:‬‬
‫} هَاجَرُواْ فِي اللّهِ‪[ { ...‬النحل‪.]41 :‬‬
‫أي‪ :‬أن إقامتهم كانت ل‪ ،‬وهجرتهم كانت ل‪.‬‬
‫ومثل هذا قوله تعالى‪ {:‬وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن رّ ّب ُكمْ‪[} ...‬آل عمران‪.]133 :‬‬
‫أي‪ :‬إذا لم تكونوا في مغفرة فسارعوا إلى المغفرة‪ ،‬وفي الية الخرى‪ {:‬يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ‪..‬‬
‫}[المؤمنون‪.]61 :‬‬
‫ذلك لنهم كانوا في خير سابق‪ ،‬وسوف يسارعون إلى خير آخر‪ ..‬أي‪ :‬أنتم في خير ولكن‬
‫سارعوا إلى خير منه‪.‬‬
‫وهناك ملمح آخر في قوله تعالى‪:‬‬
‫} وَالّذِينَ هَاجَرُواْ‪[ { ..‬النحل‪.]41 :‬‬
‫نلحظ أن كلمة " الذين " جمع‪ ..‬لكن هل هي خاصة بمَنْ نزلت فيهم الية؟ أم هي عامة في ُكلّ‬
‫ي مكان ـ في ال ـ ثم هاجر منه؟‬
‫مَنْ ظُلِم في أ ّ‬
‫الحقيقة أن العبرة هنا بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪ ،‬فهي عامة في كل مَنْ انطبقت عليه هذه‬
‫الظروف‪ ،‬فإن كانت هذه الية نزلت في نفر من الصحابة منهم‪ :‬صُهيب‪ ،‬وعمار‪ ،‬وخباب‪ ،‬وبلل‪،‬‬
‫إل أنها تنتظم غيرهم ِممّن اضطروا إلى الهجرة فِرارا بدينهم‪.‬‬
‫" ونعلم قصة صهيب رضي ال عنه ـ وكان رجلً حدادا ـ لما أراد أنْ يهاجر بدينه‪ ،‬عرض‬
‫المر على قريش‪ :‬وال أنا رجل كبير السّنّ‪ ،‬إنْ كنت معكم فلن أنفعكم‪ ،‬وإنْ كنت مع المسلمين‬
‫صهَيب وتركوه‬
‫ضوْا بذلك‪ ،‬وأخذوا مال ُ‬
‫فلن أضايقكم‪ ،‬وعندي مال‪ ..‬خذوه واتركوني أهاجر‪ ،‬فر َ‬
‫لهجرته‪.‬‬
‫صهَيْب "‬
‫ولذلك قال له صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ربح البيع يا ُ‬

‫أي‪ :‬بيعة رابحة‪.‬‬


‫خفِ ال لم َي ْعصِه "‪.‬‬
‫ويقول له عمر ـ رضي ال عنه‪ِ " :‬نعْم العب ُد صُهيب‪ ،‬لو لم ي َ‬
‫وكأن عدم عصيانه ليس خوفا من العقاب‪ ،‬بل حُبّا في ال تعالى‪ ،‬فهو سبحانه ل يستحق أنْ‬
‫يُعصى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪:‬‬
‫حسَنَةً‪[ { ..‬النحل‪.]41 :‬‬
‫} لَنُ َبوّئَ ّنهُمْ فِي الدّنْيَا َ‬
‫نُبوّئ‪ ،‬مثل قوله تعالى‪ {:‬وَإِذْ َبوّأْنَا لِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ‪[} ..‬الحج‪.]26 :‬‬
‫أي‪ :‬بيّنا له مكانه‪ ،‬ونقول‪ :‬باء النسان إلى بيته إذا رجع إليه‪ ،‬فالنسان يخرج للسعي في مناكب‬
‫الرض في زراعة أو تجارة‪ ،‬ثم يأوي ويبوء إلى بيته‪ ،‬إذن‪ :‬باء بمعنى رجع‪ ،‬أو هو مسكن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النسان‪ ،‬وما أعدّه ال له‪.‬‬
‫ن كان المؤمنون سيخرجون الن من مكة مغلوبين مضطهدين فسوف نعطيهم ونُحِلهم ونُنزِلهم‬
‫فإ ْ‬
‫منزلةً أحسن من التي كانوا فيها‪ ،‬فقد كانوا مُضطهدين في مكة‪ ،‬فأصبحوا آمنين في المدينة‪ ،‬وإنْ‬
‫كانوا تركوا بلدهم فسوف نُمهّد لهم الدنيا كلها ينتشرون فيها بمنهج ال‪ ،‬ويجنُون خير الدنيا كلها‪،‬‬
‫ثم بعد ذلك نُرجعهم إلى بلدهم سادة أعزّة بعد أن تكون مكة بلدا ل خالصة من عبادة الوثان‬
‫والصنام‪ ..‬هذه هي الحسنة في الدنيا‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫} َولَجْرُ الخِ َرةِ َأكْبَرُ‪[ { ..‬النحل‪.]41 :‬‬
‫ما ذكرناه من حسنة الدنيا وخيرها للمؤمنين هذا من المعجّلت للعمل‪ ،‬ولكن حسنات الدنيا مهما‬
‫كانت ستؤول إلى زوال‪ ،‬إما أنْ تفارقها‪ ،‬وإما أن تُفارقك‪ ،‬وقد أنجز ال وَعْده للمؤمنين في الدنيا‪،‬‬
‫فعادوا منتصرين إلى مكة‪ ،‬بل دانتْ لهم الجزيرة العربية كلها بل العالم كله‪ ،‬وانساحوا في الشرق‬
‫في فارس‪ ،‬وفي الغرب في الرومان‪ ،‬وفي نصف قرن كانوا سادة العالم أجمع‪.‬‬
‫وإنْ كانت هذه هي حسنة الدنيا المعَجّلة‪ ،‬فهناك حسنة الخرة المؤجلة‪:‬‬
‫} َولَجْرُ الخِ َرةِ َأكْبَرُ‪[ { ...‬النحل‪.]41 :‬‬
‫أي‪ :‬أن ما أعدّ لهم من نعيم الخرة أعظم مما وجدوه في الدنيا‪.‬‬
‫ولذلك كان سيدنا عمر ـ رضي ال عنه ـ إذا أعطى أحد الصحابة نصيب المهاجرين من‬
‫العطاء يقول له‪ " :‬بارك ال لك فيه‪ ..‬هذا ما وعدك ال في الدنيا‪ ،‬وما ادخر لك في الخرة اكبر‬
‫من هذا "‪ .‬فهذه حسنة الدنيا‪.‬‬
‫} َولَجْرُ الخِ َرةِ َأكْبَرُ‪[ { ..‬النحل‪.]41 :‬‬
‫وساعة أنْ تسمع كلمة (أكبر) فاعلم أن مقابلها ليس أصغر أو صغير‪ ،‬بل مقابلها (كبير) فتكون‬
‫حسنة الدنيا التي بوّأهم ال إياها هي (الكبيرة)‪ ،‬لكن ما ينتظرهم في الخرة (أكبر)‪.‬‬
‫وكذلك قد تكون صيغةُ أفعل التفضيل أقلّ في المدح من غير أفعل التفضيل‪ ..‬فمن أسماء ال‬
‫الحسنى (الكبير) في حين أن الكبر صفةٌ من صفاته تعالى‪ ،‬وليس اسما من أسمائه‪ ،‬وفي شعار‬
‫ندائنا ل نقول‪ :‬ال اكبر ول نقول‪ :‬ال كبير‪ ..‬ذلك لن كبير ما عداه يكون صغيرا‪ ..‬إنما أكبر‪ ،‬ما‬
‫ق المؤمن كبيرة من حيث هي‬
‫حّ‬‫عداه يكون كبيرا‪ ،‬فنقول في الذان‪ :‬ال أكبر لن أمور الدنيا في َ‬
‫وسيلة للخرة‪.‬‬

‫فإياك أنْ تظنّ أن حركةَ الدنيا التي تتركها من أجل الصلة أنها صغيرة‪ ،‬بل هي كبيرة بما فيها‬
‫من وسائل تُعينك على طاعة ال‪ ،‬فبها تأكل وتشرب وتتقوّى‪ ،‬وبها تجمع المال لِتسُدّ به حاجتك‪،‬‬
‫وتُؤدّي الزكاة إلى غير ذلك‪ ،‬ومن هنا كانت حركة الدنيا كبيرة‪ ،‬وكانت الصلة والوقوف بين يدي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال أكبر‪.‬‬
‫س َعوْاْ‬
‫ج ُمعَةِ فَا ْ‬
‫لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ‬
‫ولذلك حينما قال الحق تبارك وتعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا نُو ِديَ لِلصّ َ‬
‫إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَيْعَ‪[} ..‬الجمعة‪.]9 :‬‬
‫لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ‬
‫أخرجنا بهذا النداء من عمل الدنيا وحركتها‪ ،‬ثم قال‪ {:‬فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ‬
‫ضلِ اللّهِ‪[} ...‬الجمعة‪.]10 :‬‬
‫وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ‬
‫فأمرنا بالعودة إلى حركة الحياة؛ لنها الوسيلةُ للدار الخرة‪ ،‬والمزرعة التي نُعد فيها الزاد للقاء‬
‫ال تعالى‪ ..‬إذن‪ :‬الدنيا أهم من أنْ تُنسَى من حيث هي معونة للخرة‪ ،‬ولكنها أتفَهُ من أن تكونَ‬
‫حدّ ذاتها‪.‬‬
‫غاية في َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬لوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ‪[ { ..‬النحل‪.]41 :‬‬
‫الخطاب هنا عن مَنْ؟ الخطاب هنا يمكن أن يتجه إلى ثلثة أشياء‪:‬‬
‫يمكن أنْ يُراد به الكافرون‪ ..‬ويكون المعنى‪ :‬لو كانوا يعلمون عاقبة اليمان وجزاء المؤمنين‬
‫لثروه على الكفر‪.‬‬
‫ويمكن أنْ يُراد به المهاجرون‪ ..‬ويكون المعنى‪ :‬لو كانوا يعلمون لزدادوا في عمل الخير‪.‬‬
‫وأخيرا قد يُرَاد به المؤمن الذي لم يهاجر‪ ..‬ويكون المعنى‪ :‬لو كان يعلم نتيجة الهجرة لسارع‬
‫إليها‪.‬‬
‫وهذه الوجه التي يحتملها التعبير القرآني دليل على ثراء الداء وبلغة القرآن الكريم‪ ،‬وهذا ما‬
‫يسمونه تربيب الفوائد‪.‬‬
‫ن صَبَرُواْ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬الّذِي َ‬

‫(‪)1926 /‬‬

‫ن صَبَرُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ (‪)42‬‬


‫الّذِي َ‬

‫الحق تبارك وتعالى يريد أن يعطينا تشريحا لحال المهاجرين‪ ،‬فقد ظُلِموا واضْطهِدوا وأُوذُوا في‬
‫سبيل ال‪ ،‬ولم يفتنهم هذا كله عن دينهم‪ ،‬بل صبروا وتحملّوا‪ ،‬بل خرجوا من أموالهم وأولدهم‪،‬‬
‫وتركوا بلدهم وأرضهم في سبيل دينهم وعقيدتهم‪ ،‬حدث هذا منهم اتكالً على أن ال تعالى لن‬
‫يُضيّعهم‪.‬‬
‫ولذلك جاء التعبير القرآني هكذا { صَبَرُواْ } بصيغة الماضي‪ ،‬فقد حدث منهم الصبر فعلً‪ ،‬كأن‬
‫اليذاء الذي صبروا عليه فترة مضتْ وانتهت‪ ،‬والباقي لهم عِزّة ومنَعة وقوة ل يستطيع أحد أنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يضطهدهم بعد ذلك‪ ،‬وهذه من البشارات في الداء القرآني‪.‬‬
‫أما في التوكل‪ ،‬فقال تعالى في حقهم‪:‬‬
‫{ وَعَلَىا رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ } [النحل‪.]42 :‬‬
‫بصيغة المضارع؛ لن التوكّل على ال حدث منهم في الماضي‪ ،‬ومستمرون فيه في الحاضر‬
‫والمستقبل‪ ،‬وهكذا يكون حال المؤمن‪.‬‬
‫وبعد ذلك تكلّم القرآن الكريم عن قضية وقف منها الكافرون أيضا موقف العناد والمكابرة‬
‫والتكذيب‪ ،‬وهي مسألة إرسال الرسل‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬ومَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ‪.} ...‬‬

‫(‪)1927 /‬‬

‫َومَا أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ إِلّا ِرجَالًا نُوحِي إِلَ ْيهِمْ فَاسْأَلُوا أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ (‪)43‬‬

‫وقد اعترض المعاندون من الكفار على كون الرسول بشرا‪ .‬وقالوا‪ :‬إذا أراد ال أن يرسل رسولً‬
‫فينبغي أن يكون مَلَكا فقالوا‪ {:‬وََلوْ شَآءَ اللّ ُه لَن َزلَ مَلَ ِئكَةً‪[} ..‬المؤمنون‪.]24 :‬‬
‫وكأنهم استقلّوا الرسالة عن طريق بشر؛ وهذا أيضا من غباء الكفر وحماقة الكافرين؛ لن الرسول‬
‫حين يُبلّغ رسالة ال تقع على عاتقه مسئوليتان‪ :‬مسئولية البلغ بالعلم‪ ،‬ومسئولية التطبيق بالعمل‬
‫ونموذجية السلوك‪ ..‬فيأمر بالصلة ويُصلّي‪ ،‬وبالزكاة ويُزكّي‪ ،‬وبالصبر ويصبر‪ ،‬فليس البلغ‬
‫بالقول فقط‪ ،‬ل بل بالسلوك العمليّ النموذجيّ‪.‬‬
‫ولذلك كانت السيدة عائشة رضي ال عنها تقول عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬كان خلقه‬
‫القرآن "‪.‬‬
‫وكان قرآنا يمشي على الرض‪ ،‬والمعنى‪ :‬كان تطبيقا كاملً للمنهج الذي جاء به من الحق تبارك‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫س َوةٌ حَسَ َنةٌ‪[} ..‬الحزاب‪:‬‬
‫ويقول تعالى في حقّه صلى ال عليه وسلم‪ّ {:‬لقَدْ كَانَ َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ ُأ ْ‬
‫‪.]21‬‬
‫فكيف نتصور أن يكون الرسول مَلَكا؟ وكيف يقوم بهذه الرسالة بين البشر؟ قد يؤدي الملك مهمة‬
‫البلغ‪ ،‬ولكن كيف يُؤدّي مهمة القدوة والتطبيق العملي النموذجي؟ كيف ونحن نعلم أن الملئكة‬
‫خَلْق جُبِلوا على طاعة ال‪ {:‬لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم‪.]6 :‬‬
‫ومن أين تأتيه منافذ الشهرة وهو ل يأكل ول يشرب ول يتناسل؟‬
‫فلو جاء مَلَك برسالة السماء‪ ،‬وأراد أن ينهى قومه عن إحدى المعاصي‪ ،‬ماذا نتوقع؟ نتوقع أن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يقول قائلهم‪ :‬ل‪ ..‬ل أستطيع ذلك‪ ،‬فأنت ملَك ذو طبيعة علوية تستطيع ترْك هذا الفعل‪ ،‬أما أنا فل‬
‫أستطيع‪.‬‬
‫إذن‪ :‬طبيعة الُسْوة تقتضي أن يكون الرسول بشرا‪ ،‬حتى إذا ما أمر كان هو أول المؤتمرين‪ ،‬وإذا‬
‫ما نهى كان هو أول المنتهين‪.‬‬
‫ن بعثَ فيهم رسولً من أنفسهم‪َ {:‬لقَدْ‬
‫ومن هنا كان من امتنان ال على العرب‪ ،‬ومن فضله عليهم أ ْ‬
‫سكُمْ‪[} ...‬التوبة‪.]128 :‬‬
‫جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫فهو أولً من أنفسكم‪ ،‬وهذه تعطيه المباشرة‪ ،‬ثم هو بشر‪ ،‬ومن العرب وليس من أمة أعجمية‪ ..‬بل‬
‫من بيئتكم‪ ،‬ومن نفس بلدكم مكة ومن قريش؛ ذلك لتكونوا على علم كامل بتاريخه وأخلقه‬
‫وسلوكه‪ ،‬تعرفون حركاته وسكناته‪ ،‬وقد كنتم تعترفون له بالصدق والمانة‪ ،‬وتأتمنونه على كل‬
‫غَال ونفيس لديكم لعلمكم بأمانته‪ ،‬فكيف تكفرون به الن وتتهمونه بالكذب؟!‬
‫لذلك َردّ عليهم الحق تبارك وتعالى في آية أخرى فقال‪َ {:‬ومَا مَ َنعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ إِذْ جَآ َءهُمُ‬
‫ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ بَشَرا رّسُولً }[السراء‪.]94 :‬‬
‫فالذي صَدّكم عن اليمان به َكوْنه بشرا!!‬
‫ثم نأخذ على هؤلء مأخذا آخر؛ لنهم تنازلوا عن دعواهم هذه بأنْ يأتيَ الرسول من الملئكة‬
‫عظِيمٍ }[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ‬
‫وقالوا‪َ {:‬لوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ‬
‫فهذا تردّد عجيب من الكفار‪ ،‬وعدم ثبات على رأي‪.‬‬

‫ن كنتَ كذوبا فكُنْ َذكُورا‪.‬‬


‫‪ .‬مجرد لَجَاجة وإنكار‪ ،‬وقديما قالوا‪ :‬إ ْ‬
‫سمَآءِ مَلَكا‬
‫طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ‬
‫ويرد عليهم القرآن‪ {:‬قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ مُ ْ‬
‫رّسُولً }[السراء‪.]95 :‬‬
‫فلو كان في الرض ملئكة لنزّلنا لهم ملكا حتى تتحقّق الُسْوة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل بُدّ في القدوة من اتحاد الجنس‪ ..‬ولنضرب لذلك مثلً‪َ :‬هبْ أنك رأيتَ أسدا يثور ويجول‬
‫في الغابة مثلً يفترس ُكلّ ما أمامه‪ ،‬ول يستطيع أحد أنْ يتعرّض له‪ ..‬هل تفكر ساعتها أن تصير‬
‫أسدا؟ ل‪ ..‬إنما لو رأيتَ فارسا يمسك بسيفه‪ ،‬ويطيح به رقاب العداء‪ ..‬أل تحب أن تكون فارسا؟‬
‫بلى أحب‪.‬‬
‫فهذه هي القدوة الحقيقية النافعة‪ ،‬فإذا ما اختلف الجنس فل تصلح القدوة‪.‬‬
‫وهنا يردّ الحق تبارك وتعالى على افتراءات الكفار بقوله تعالى‪:‬‬
‫} َومَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ ِإلّ ِرجَالً نّوحِي إِلَ ْيهِمْ‪[ { ...‬النحل‪.]43 :‬‬
‫ستَ بَدْعا في الرسل‪َ ،‬فمْن سبقوك كانوا رجالً طيلة القرون الماضية‪ ،‬وفي‬
‫أي‪ :‬أنك يا محمد لَ ْ‬
‫موكب الرسالت جميعا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وجاءتْ هنا كلمة } ِرجَالً { لتفيد البشرية أولً كجنس‪ ،‬ثم لتفيد النوع المذكّر ثانيا؛ ذلك لن طبيعة‬
‫الرسول قائمة على المخالطة والمعاشرة لقومه‪ ..‬يظهر للجميع ويتحدث إلى الجميع‪ ..‬أما المرأة‬
‫فمبنية على التستّر‪ ،‬ول تستطيع أن تقوم بدور الُسْوة للناس‪ ،‬ولو نظرنا لطبيعة المرأة لوجدنا في‬
‫طبيعتها أمورا كثيرة ل تناسب دور النبوة‪ ،‬ول تتمشّى مع مهمة النبي‪ ،‬مثل انقطاعها عن الصلة‬
‫والتعبد لنها حائض أو ُنفَساء‪.‬‬
‫كذلك جاءت كلمة } رِجَالً { مُقيّدة بقوله‪:‬‬
‫} نّوحِي إِلَ ْي ِهمْ‪[ { ...‬النحل‪.]43 :‬‬
‫ن تقول‪ :‬هو رجل مثْلي وبشر مثْلي‪ ..‬ل هناك مَيْزة أخرى أنه يُوحَى‬
‫فالرسول رجل‪ ،‬ولكن إياك أ ْ‬
‫إليه‪ ،‬وهذه منزلة عالية يجب أن نحفظها للنبياء ـ صلوات ال وسلمه عليهم أجمعين‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} فَاسْأَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ { [النحل‪.]43 :‬‬
‫أي‪ :‬إذا غابتْ عنكم هذه القضية‪ ،‬قضية إرسال الرسل من البشر ـ ول أظنها تغيب ـ لنها عامة‬
‫في الرسالت كلها‪ .‬وما كانت لتخفَى عليكم خصوصا وعندكم أهل العلم بالديان السابقة‪ ،‬مثل‬
‫ورقة بن نوفل وغيره‪ ،‬وعندكم أهل السّيَر والتاريخ‪ ،‬وعندكم اليهود والنصارى‪ ..‬فاسألوا هؤلء‬
‫جميعا عن بشرية الرسل‪.‬‬
‫فهذه قضية واضحة ل تُنكر‪ ،‬ول يمكن المخالفة فيها‪ ..‬وماذا سيقول اليهود والنصارى؟‪ ..‬موسى‬
‫وعيسى‪ ..‬إذنْ بشر‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ { [النحل‪.]43 :‬‬
‫شكّ في هذه القضية‪ ..‬مثل لو قلتَ لمخاطبك‪ :‬اسأل عن كذا إنْ‬
‫يوحي بأنهم يعلمون‪ ،‬وليس لديهم َ‬
‫شكّ فنقول‪ :‬اسأل عن كذا دون أداة‬
‫كنت ل تعرف‪ ..‬هذا يعني أنه يعرف‪ ،‬أما إذا كان في القضية َ‬
‫الشرط‪ ..‬إذن‪ :‬هم يعرفون‪ ،‬ولكنه الجدال والعناد والستكبار عن قبول الحق‪.‬‬

‫(‪)1928 /‬‬

‫بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِمْ وََلعَّلهُمْ يَ َتفَكّرُونَ (‪)44‬‬

‫استهل الحق سبحانه الية بقوله‪:‬‬


‫ت وَالزّبُرِ‪[ } ...‬النحل‪.]44 :‬‬
‫{ بِالْبَيّنَا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويقول أهل اللغة‪ :‬إن الجار والمجرور ل بُدّ له من متعلق‪ ..‬فبماذا يتعلق الجار والمجرور هنا؟‬
‫قالوا‪ :‬يجوز أنْ يتعلّق بالفعل (نُوحِي) ويكون السياق‪ :‬وما أرسلنا من قبلك إل رجالً نُوحِي إليهم‬
‫بالبينات والزبر‪.‬‬
‫وقد يتعلق الجار والمجرور بأهل الذكر‪ ..‬فيكون المعنى‪ :‬فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر‪،‬‬
‫فهذان وجهان لعودة الجار والمجرور‪.‬‬
‫صدْق‬
‫والبينات‪ :‬هي المر البيّن الواضح الذي ل يشكّ فيه أحد‪ ..‬وهو إما أن يكون أمارة ثُبوت ِ‬
‫الرسالة كالمعجزة التي تتحدى المكذّبين أنْ يأتوا بمثلها‪ ..‬أو‪ :‬هي اليات الكونية التي تلفِتُ الخَلْق‬
‫إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى‪ ،‬مثل آيات الليل والنها َر والشمس والقمر والنجوم‪.‬‬
‫أما الزّبُر‪ ،‬فمعناها‪ :‬الكتب المكتوبة‪ ..‬ول يُكتب عادة إل الشيء النفيس مخافة أنْ يضيعَ‪ ،‬وليس‬
‫هنا أنفَسُ مما يأتينا من منهج ال لِيُنظّم لَنا حركة حياتنا‪.‬‬
‫ونعرف أن العرب ـ قديما ـ كانوا يسألون عن ُكلّ شيء مهما كان حقيرا‪ ،‬فكان عندهم عِلمٌ‬
‫بالسهم ومَنْ أول صانع لها‪ ،‬وعن القوس والرّحْل‪ ،‬ومثل هذه الشياء البسيطة‪ ..‬ألَ يسألون عن‬
‫آيات ال في الكون وما فيها من أسرار وعجائب في خَلْقها تدلّ على الخالق سبحانه وتعالى؟‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪:‬‬
‫{ وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِمْ‪[ } ..‬النحل‪.]44 :‬‬
‫كلمة الذكر وردتْ كثيرا في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة‪ ،‬وأَصلْ الذكر أنْ يظلّ الشيءُ على البال‬
‫بحيث ل يغيب‪ ،‬وبذلك يكون ضِدّه النسيان‪ ..‬إذن‪ :‬عندنا ِذكْر ونسيان‪ ..‬فكلمة " ذكر " هنا معناها‬
‫وجود شيء ل ينبغي لنا نسيانه‪ ..‬فما هو؟‬
‫الحق سبحانه وتعالى حينما خلق آدم ـ عليه السلم ـ أخذ العهد على ُكلّ ذرّة فيه‪ ،‬فقال تعالى‪{:‬‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا‬
‫سهِمْ أَلَ ْ‬
‫شهَ َدهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ‬
‫وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ُ‬
‫شهِدْنَآ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[العراف‪.]172 :‬‬
‫َ‬
‫عهْد على جميع ذريته‪ ،‬ذلك لن في ُكلّ واحد من بني آدم ذَرّة من أبيه‬
‫وأخْذ العهد على آدم هو َ‬
‫آدم‪ ..‬وجزءا حيّا منه نتيجة التوالُد والتناسُل من َلدُن آدم حتى قيام الساعة‪ ،‬وما ُدمْنا كذلك فقد‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ }‪.‬‬
‫شهدنا أخذ العهد‪ { :‬أَلَ ْ‬
‫وكأن كلمة (ذكر) جاءت لتُذكّرنا بالعهد المطمور في تكويننا‪ ،‬والذي ما كان لنا أنْ ننساه‪ ،‬فلما‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ‬
‫حدث النسيان اقتضى المرُ إرسالَ الرسل وإنزالَ الكتب لتذكّرنا بعهد ال لنا‪ {:‬أَلَ ْ‬
‫بَلَىا }[العراف‪.]172 :‬‬
‫سمّينا الكتب المنزلة ذكرا‪ ،‬لكن الذكْر يأتي تدريجيا وعلى مراحل‪ ..‬كلّ رسول يأتي‬
‫ومن هنا َ‬
‫حسْب ما لديهم من غفلة‪.‬‬
‫ليُذكّر قومه على َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪ .‬أما الرسول الخاتم صلى ال عليه وسلم الذي جاء للناس كافّة إلى قيام الساعة‪ ،‬فقد جاء بالذكر‬
‫الحقيقي الذي ل ِذكْر بعده‪ ،‬وهو القرآن الكريم‪.‬‬
‫وقد تأتي كلمة (الذكْر) بمعنى الشّرَف وال ّرفْعة كما في قوله تعالى للعرب‪َ {:‬لقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكُمْ كِتَابا‬
‫فِيهِ ِذكْ ُركُمْ }[النبياء‪ ]10 :‬وقد أصبح للعرب مكانة بالقرآن‪ ،‬وعاشت لغتهم بالقرآن‪ ،‬وتبوءوا مكان‬
‫الصدارة بين المم بالقرآن‪.‬‬
‫وقد يأتي الذكْر من ال للعبد‪ ،‬وقد يأتي من العبد ل تعالى كما في قوله سبحانه‪ {:‬فَا ْذكُرُونِي‬
‫أَ ْذكُ ْركُمْ‪[} ..‬البقرة‪.]152 :‬‬
‫والمعنى‪ :‬فاذكروني بالطاعة واليمان أذكركم بالفيوضات والبركة والخير والمداد وبثوابي‪.‬‬
‫وإذا أُطلقت كلمة الذكر انصرفت إلى ما نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه الكتاب‬
‫الجامع ل ُكلّ ما نزل على الرسُل السابقين‪ ،‬ولكل ما تحتاج إليه البشرية إلى أنْ تقومَ الساعة‪.‬‬
‫كما أن كلمة كتاب تطلق على أي كتاب‪ ،‬لكنها إذا جاءت بالتعريف (الكتاب) انصرفت إلى القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وهذا ما نسميه (عَلَم بالغلبة)‪.‬‬
‫والذكْر هو القرآن الذي نزل على محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو معجزته الخالدة في الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬فهو منهج ومعجزة‪ ،‬وقد جاء الرسُل السابقون بمعجزات لحالها‪ ،‬وكتب لحالها‪ ،‬فالكتاب‬
‫منفصل عن المعجزة‪.‬‬
‫فموسى كتابه التوراة ومعجزته العصا‪ ،‬وعيسى كتابه ومنهجه النجيل ومعجزته إبراء الكمه‬
‫والبرص وإحياء الموتى بإذن ال‪.‬‬
‫أما محمد صلى ال عليه وسلم فمعجزته هي نفس كتاب منهجه‪ ،‬ل ينفصل أحدهما عن الخر‬
‫لتظلّ المعجزة مُسَاندة للمنهج إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫وهذا هو السّر في أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وحمايته‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا‬
‫ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر‪.]9 :‬‬
‫حفْظ كتابه‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬إِنّآ أَنزَلْنَا‬
‫أما الكتب السابقة فقد عُهد إلى التابعين لكل رسول منهم ب ِ‬
‫ن وَالَحْبَارُ ِبمَا‬
‫ح ُكمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسَْلمُواْ لِلّذِينَ هَادُو ْا وَالرّبّانِيّو َ‬
‫ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَ ْ‬
‫حفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ‪[} ...‬المائدة‪.]44 :‬‬
‫اسْ ُت ْ‬
‫ومعنى اسْتُحفِظوا‪ :‬أي طلبَ ال منهم أنْ يحفظوا التوراة‪ ،‬وهذا أمْرُ تكليف قد يُطاع وقد يُعصى‪،‬‬
‫صوْا وبدّلوا وحَرّفوا في التوراة‪ ..‬أما القرآن فقد تعهّد ال تعالى بحفْظه‬
‫ع َ‬
‫والذي حدث أن اليهود َ‬
‫ولم يترك هذا لحد؛ لنه الكتاب الخاتَم الذي سيصاحب البشرية إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫ومن ال ّذكْر أيضا ما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم مع القرآن‪ ،‬وهو الحديث الشريف‪،‬‬
‫ي وحديثه الشريف الذي جاء من مِشْكاة القرآن مبيّنا له‬
‫فللرسول ُمهِمة أخرى‪ ،‬وهي منهجه الكلم ّ‬
‫ومُوضّحا له‪ ...‬كما قال صلى ال عليه وسلم‪َ " :‬ألَ وإنّي قد أُوتيتُ القرآن ومِثْله معه‪ ،‬يُوشك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رجل شبعان يتكيء على أريكته يُحدّث بالحديث عنّي فيقول‪ :‬بيننا وبينكم كتاب ال‪ ،‬فما وجدنا فيه‬
‫حلّلْناه‪ ،‬وما وجدنا فيه من حرام حَرّمناه‪َ ،‬ألَ وإنّه ليس كذلك "‪.‬‬
‫من حلل َ‬
‫ويقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِمْ‪.‬‬

‫‪[ { .‬النحل‪.]44 :‬‬


‫إذن‪ :‬جاء القرآن كتابَ معجزة‪ ،‬وجاء كتابَ منهج‪ ،‬إل أنه ذكر أصول هذا المنهج فقط‪ ،‬ولم يذكر‬
‫التعريفات المنهجية والشروح اللزمة لتوضيح هذا المنهج‪ ،‬وإلّ لَطالتْ المسألة‪ ،‬وتضخّم القرآن‬
‫وربما َبعُد عن مُرَاده‪.‬‬
‫فجاء القرآن بالصول الثابتة‪ ،‬وترك للرسول صلى ال عليه وسلم مهمة أنْ يُبيّنه للناس‪ ،‬ويشرحه‬
‫ويُوضّح ما فيه‪.‬‬
‫ن فعلها ول يُعاقب‬
‫وقد يظن البعض أن ُكلّ ما جاءتْ به السّنة ل يلزمنا القيام به؛ لنه سنة يُثَاب مَ ْ‬
‫مَنْ تركها‪ ..‬نقول‪ :‬ل‪ ..‬ل بُدّ أن نُفرّق هنا بين سُنّية الدليل وسُنّية الحكم‪ ،‬حتى ل يلتبس المر‬
‫على الناس‪.‬‬
‫فسُنّية الدليل تعني وجود فَرْض‪ ،‬إل أن دليله ثابت من السنة‪ ..‬وذلك كبيان عدد ركعات الفرائض‪:‬‬
‫الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء‪ ،‬فهذه ثابتة بالسنة وهي فَرْض‪.‬‬
‫أما سُنيّة الحكم‪ :‬فهي أمور وأحكام فقهية وردت عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يُثَاب فاعلها‬
‫حكْما ننظر‪ :‬هل هي سُنّية الدليل‬
‫ول يُعاقب تاركها‪ ..‬فحين يُبيّن لنا الرسول بسلوكه وأُسْوته ُ‬
‫فيكون فَرْضا‪ ،‬أم سُنّية الحكم فيكون سُنة؟ ويظهر لنا هذا أيضا من مواظبة الرسول على هذا‬
‫ن واظب عليه والتزمه فهو فَرْض‪ ،‬وإنْ لم يواظب عليه فهو سُنة‪.‬‬
‫المر‪ ،‬فإ ْ‬
‫إذن‪ :‬مهمة الرسول ليست مجرد مُنَاولة القرآن وإبلغه للناس‪ ،‬بل وبيان ما جاء فيه من المنهج‬
‫اللهي‪ ،‬فل يستقيم هنا البلغ دون بيان‪ ..‬ول ُبدّ أن نفرّق بين العطائين‪ :‬العطاء القرآني‪ ،‬والعطاء‬
‫النبوي‪.‬‬
‫ويجب أن نعلم هنا أن من المَيْزات التي مُيّز بها النبي صلى ال عليه وسلم عن سائر إخوانه من‬
‫الرّسُل‪ ،‬أنه الرسول الوحيد الذي أمنه ال على التشريع‪ ،‬فقد كان الرسل السابقون يُبلّغون أوامر‬
‫السماء فَقط وانتهتْ المسألة‪ ،‬أما محمد صلى ال عليه وسلم فقد قال الحق تبارك وتعالى في حقّه‪{:‬‬
‫َومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ َفخُذُو ُه َومَا َنهَا ُكمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ‪[} ..‬الحشر‪.]7 :‬‬
‫إذن‪ :‬أخذ مَيْزة التشريع‪ ،‬فأصبحت سُنّته هي التشريع الثاني بعد القرآن الكريم‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫} وََلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ { [النحل‪.]44 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يتفكرون‪ ..‬في أي شيء؟ يتفكرون في حال الرسول صلى ال عليه وسلم قبل البعثة‪ ،‬حيث لم ُيؤْثَر‬
‫عنه أنه كان خطيبا أو أديبا شاعرا‪ ،‬ولم ُيؤْثَر عنه أنه كان كاتبا مُتعلّما‪ ..‬لم يُعرف عنه هذا أبدا‬
‫طيلة أربعين عاما من عمره الشريف‪ ،‬لذلك أمرهم بالتفكّر والتدبّر في هذا المر‪.‬‬
‫فليس ما جاء به محمد عبقرية تفجّرت هكذا مرّة واحدة في الربعين من عمره‪ ،‬فالعمر الطبيعي‬
‫للعبقريات يأتي في أواخر ال ِعقْد الثاني وأوائل ال ِعقْد الثالث من العمر‪.‬‬
‫ول يُعقل أنْ تُؤجّل العبقرية عند رسول ال إلى هذا السن وهو يرى القوم ُيصْرعون حوله‪..‬‬
‫ن يضمن‬
‫جدّه‪ ،‬فمَ ْ‬
‫فيموت أبوه وهو في بطن أمه‪ ،‬ثم تموت أمه وما يزال طفلً صغيرا‪ ،‬ثم يموت َ‬
‫له الحياة إلى سِنّ الربعين‪ ،‬حيث تتفجّر عنده هذه العبقرية؟!‬
‫إذن‪ :‬تفكّروا‪ ،‬فليستْ هذه عبقرية من محمد‪ ،‬بل هي أمْر من السماء؛ ولذلك أمره ربّه تبارك‬
‫وتعالى أن يقول لهم‪:‬‬

‫عمُرا مّن قَبْلِهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[يونس‪:‬‬


‫{ قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَدْرَا ُكمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ‬
‫‪.]16‬‬
‫ن تتهافتوا على‬
‫ن تفكّروا في هذه المسألة‪ ..‬ولو فكر ُتمْ فيها كان يجب عليكم أ ْ‬
‫فكان عليكم أ ْ‬
‫السلم‪ ،‬فأنتم أعلم الناس بمحمد‪ ،‬وما جرّبتم عليه ل كذبا ول خيانةً‪ ،‬ول اشتغالً بالشعر أو‬
‫الخطابة‪ ،‬فما كان لِيْصدق عندكم ويكذب على ال‪.‬‬
‫ول ُبدّ أن نُفرّق بين العقل والفكر‪ .‬فالعقل هو الداة التي تستقبل المحسّات وتُميّزها‪ ،‬وتخرج منها‬
‫القضايا العامة التي ستكون هي المباديء التي يعيش النسان عليها‪ ،‬والتي ستكون عبارة عن‬
‫معلومات مُخْتزنة‪ ،‬أما الفكر فهو أن تفكر في هذه الشياء لكي تستنبط منها الحكم‪.‬‬
‫وال سبحانه وتعالى ترك لنا حُرية التفكير وحرية العقل في أمور دنيانا‪ ،‬لكنه ضبطنا بأمور‬
‫قَسْرية يفسَد العالم بدونها‪ ،‬فالذي يفسد العالم أن نترك ما شرعه ال لنا‪ ..‬والباقي الذي ل يترتب‬
‫ل للتفكير والتجربة؛ لن الفشل فيه ل يضر‪.‬‬
‫عليه ضرر يترك لنا فيه مجا ً‬
‫حكْما قسْريا فرضه بنصّ صريح ل خلفَ فيه‪ ،‬وما أراده على وجوه متعددة يتركه‬
‫فما أراده ال ُ‬
‫للجتهاد حيث يحتمل الفعل فيه أوجها متعددة‪ ،‬ول يؤدي الخطأ فيه إلى فساد‪.‬‬
‫فالمسألة ميزان فكري يتحكم في المحسّات ويُنظم القضايا‪ ،‬لنرى أولً ما يريده ال بتا وما يريده‬
‫اجتهادا‪ ،‬وما دام اجتهادا فما وصل إليه المجتهد يصح أنْ يعبد ال به‪ ،‬ولكن آفة الناس في المور‬
‫الجتهادية أن منهم مَنْ يتهم مخالفه‪ ،‬وقد تصل الحال بهؤلء إلى َرمْي مخالفيهم بالكفر والعياذ‬
‫بال‪.‬‬
‫ونقول لمثل هذا‪ :‬اتق ال‪ ،‬فهذا اجتهادٌ مَنْ أصاب فيه فََلهُ أجران‪ ،‬ومَنْ أخطأ فله أجر‪ ..‬ولذلك نجد‬
‫من العلماء مَنْ يعرف طبيعة المور الجتهادية فنراه يقول‪ :‬رَأْيي صواب يحتمل الخطأ‪ ،‬ورَأْي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غيري خطأ يحتمل الصواب‪ .‬وهكذا يتعايش الجميع وتُحتَرم الراء‪.‬‬
‫ومن رحمة ال بعباده أن يأمرهم بالتفكّر والتدبّر والنظر؛ ذلك لنهم خَلْقه سبحانه‪ ،‬وهم أكرم عليه‬
‫ن يتركهم للضلل والكفر‪ ،‬بعد أن أكرمهم بالخَلْق والعقل‪ ،‬فأراد سبحانه أن يكرمهم إكراما‬
‫من أ ْ‬
‫آخر بالطاعة واليمان‪.‬‬
‫وكأنه سبحانه يقول لهم‪ُ :‬ردّوا عقولكم ونفوسكم عن كبرياء الجدل وَلجَج الخصومة‪ ،‬وإنْ كنتم ل‬
‫تؤمنون بالبعث في الخرة‪ ،‬وبما أُعدّ للظالمين فيها من عقاب‪ ،‬فانظروا إلى ما حدث لهم وما‬
‫عُجّل لهم من عذاب في الدنيا‪.‬‬
‫انظروا للذين سبقوكم من المم المكذّبة وما آل إليه مصيرهم‪ ،‬أم أنتم آمنون من العذاب‪ ،‬بعيدون‬
‫عنه؟!‬
‫ثم يقول تبارك وتعالى‪َ } :‬أفََأمِنَ الّذِينَ َمكَرُواْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1929 /‬‬

‫شعُرُونَ (‬
‫سفَ اللّهُ ِبهِمُ الْأَ ْرضَ َأوْ يَأْتِ َي ُهمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ حَ ْيثُ لَا يَ ْ‬
‫َأفََأمِنَ الّذِينَ َمكَرُوا السّيّئَاتِ أَنْ يَخْ ِ‬
‫‪)45‬‬

‫قوله تعالى‪:‬‬
‫{ َأفََأمِنَ‪[ } ...‬النحل‪.]45 :‬‬
‫عبارة عن همزة الستفهام التي تستفهم عن مضمون الجملة بعدها‪ ..‬أما الفاء بعدها فهي حَرْف‬
‫عَطْف يعطف جملة على جملة‪ ..‬إذن‪ :‬هنا جملة قبل الفاء تقديرها‪ :‬أجهلوا ما وقع لمخالفي النبياء‬
‫السابقين من العذاب‪ ،‬فأمِنُوا مكر ال؟‬
‫أي‪ :‬أن َأمْنهم لمكر ال ناشيءٌ عن جهلهم بما وقع للمكَذّبين من المم السابقة‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫{ َمكَرُواْ السّيّئَاتِ‪[ } ....‬النحل‪.]45 :‬‬
‫المكر‪ :‬هو التبييت الخفيّ للنيْل ممّنْ ل يستطيع مجابهته بالحق ومجاهرته به‪ ،‬فأنت ل تُبيّت لحد‬
‫إل إذا كانت قدرتُك عاجزة عن ُمصَارحته مباشرة‪ ،‬فكوْنُك تُبيّت له وتمكر به دليل على عَجْزك؛‬
‫ولذلك جعلوا المكر أول مراتب الجُبْن؛ لن الماكر ما مكر إل لعجزه عن المواجهة‪ ،‬وعلى َقدْر ما‬
‫يكون المكْر عظيما يكون الضعف كذلك‪.‬‬
‫وهذا ما نلحظه من قوله تعالى في حَقّ النساء‪ {:‬كَيْ ِدكُنّ إِنّ كَ ْي َدكُنّ عَظِيمٌ‪[} ..‬يوسف‪.]28 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضعِيفا }[النساء‪.]76 :‬‬
‫ن َ‬
‫حقّ الشيطان‪ {:‬إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَا َ‬
‫وقال في َ‬
‫ضعْفُهن أيضا عظيم‪ ،‬وكذلك في كيد‬
‫فالمكر دليل على الضعف‪ ،‬وما دام كَيْدهُن عظيما إذن‪َ :‬‬
‫الشيطان‪.‬‬
‫عكَ تُفلت‬
‫ن يملكَك الضعيف؛ ذلك لنه إذا تمكّن منك وواتَتْه الفرصة فلن يد َ‬
‫وقديما قالوا‪ :‬إياك أ ْ‬
‫منه؛ لنه يعلم ضعفه‪ ،‬ول يضمن أن تُتاحَ له الفرصة مرة أخرى؛ لذلك ل يضيعها على عكس‬
‫خصْمه‪،‬‬
‫حتْ له الفرصة وربما َفوّتها لقُوته وقُدرته على َ‬
‫القويّ‪ ،‬فهو ل يحرص على النتقام إذا أُتي َ‬
‫ضعِيفة فإذَا َأصَابتْ فُرْصةً‬
‫ي وقت يريد‪ ،‬وفي نفس المعنى جاء قول الشاعر‪َ :‬و َ‬
‫وتمكّنه منه في أ ّ‬
‫ضعَفاءِإذن‪ :‬قدرة الضعفاء قد تقتل‪ ،‬أما قدرة القويّ فليستْ كذلك‪.‬‬
‫قتَلتْ كذِلكَ قُدرةُ ال ّ‬
‫ثم لنا وقْفة أخرى مع المكْر‪ ،‬من حيث إن المكر قد ينصرك على مُساويك وعلى مثلك من بني‬
‫ضتَ لمن هو أقوى منك وأكثر منك حَيْطة‪ ،‬وأحكم منك مكْرا‪ ،‬فربما ل يُجدِي‬
‫النسان‪ ،‬فإذا ما تعر ْ‬
‫مكرُك به‪ ،‬بل ربما غلبك هو بمكْره واحتياطه‪ ،‬فكيف الحال إذا كَان الماكر بك هو ربّ العالمين‬
‫تبارك وتعالى؟‬
‫ن وَ َي ْمكُرُ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[ النفال‪.]30 :‬‬
‫وصدق ال العظيم حيث قال‪ {:‬وَ َي ْمكُرُو َ‬
‫وقال‪َ {:‬ولَ يَحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّيّىءُ ِإلّ بَِأهْلِهِ }[فاطر‪.]43 :‬‬
‫فمكْر العباد مكشوف عند ال‪ ،‬أما مكْرُه سبحانه فل يقدر عليه أحد‪ ،‬ول يحتاط منه أحد؛ لذلك كان‬
‫الحق سبحانه خَيْر الماكرين‪.‬‬
‫والمكْر السّيء هو المكْر البطّال الذي ل يكون إل في الشر‪ ،‬كما حدث من َمكْر المكذّبين للرسل‬
‫حقّا‪.‬‬
‫على مَرّ العصور‪ ،‬وهو أن تكيد للغير كيْدا يُبطل َ‬
‫وكل رسول قابله قومه المنكرون له بالمكر والخديعة‪ ،‬دليل على أنهم ل يستطيعون مواجهته‬
‫مباشرة‪ ،‬وقد تعرّض الرسول صلى ال عليه وسلم لمراحل متعددة من الكَيْد والمكْر والخديعة‪،‬‬
‫وذلك لحكمة أرادها الحق تبارك وتعالى وهي أن يُوئس الكفار من النتصار عليه صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فقد بيّتوا له ودَبّروا لقتله‪ ،‬وحَاكُوا في سبيل ذلك الخطط‪ ،‬وقد باءتْ خُطتهم ليلة الهجرة‬
‫بالفشل‪.‬‬

‫وفي مكيدة أخرى حاولوا أن َيسْحروه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن كشف ال أمرهم وخيّب‬
‫سعيهم‪ ..‬إذن‪ :‬فأيّ وسيلة من وسائل َدحْض هذه الدعوة لم تنجحوا فيها‪ ،‬ونصره ال عليكم‪ .‬كما‬
‫قال تعالى‪ {:‬كَ َتبَ اللّ ُه لَغْلِبَنّ أَنَ ْا وَرُسُلِي‪[} ...‬المجادلة‪.]21 :‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫سفَ اللّهُ ِبهِ ُم الَ ْرضَ‪[ { ...‬النحل‪.]45 :‬‬
‫} أَن يَخْ ِ‬
‫الخسْف‪ :‬هو تغييب الرض ما على ظهرها‪ ..‬فانخسفَ الشيء أيْ‪ :‬غاب في باطن الرض‪ ،‬ومنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سفْنَا بِ ِه وَ ِبدَا ِرهِ‬
‫ضوْئه‪ .‬ومن ذلك أيضا قوله تعالى عن قارون‪ {:‬فَخَ َ‬
‫خُسوف القمر أي‪ :‬غياب َ‬
‫الَ ْرضَ }[القصص‪.]81 :‬‬
‫وهذا نوع من العذاب الذي جاء على صُور متعددة كما ذكرها القرآن الكريم‪َ {:‬فكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ‬
‫سفْنَا ِب ِه الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ‬
‫خَ‬‫ح ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ َ‬
‫َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِنْهُمْ مّنْ أَخَذَ ْتهُ الصّيْ َ‬
‫أَغْ َرقْنَا‪[} ..‬العنكبوت‪.]40 :‬‬
‫هذه ألوان من العذاب الذي حاقَ بالمكذبين‪ ،‬وكان يجب على هؤلء أن يأخذوا من سابقيهم عبرة‬
‫وعظة‪ ،‬وأنْ يحتاطوا أن يحدث لهم كما حدث لسابقيهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪:‬‬
‫شعُرُونَ { [النحل‪.]45 :‬‬
‫ث لَ يَ ْ‬
‫} َأوْ يَأْتِ َيهُمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ حَ ْي ُ‬
‫والمراد أنهم إذا احتاطوا لمكْر ال وللعذاب الواقع بهم‪ ،‬أتاهم ال من وجهة ل يشعرون بها‪ ،‬ولم‬
‫تخطُر لهم على بال‪ ،‬وطالما لم تخطُرْ لهم على بال‪ ،‬إذن‪ :‬فلم يحتاطوا لها‪ ،‬فيكون أَخْذهم يسيرا‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪ {:‬فَأَتَا ُهمُ اللّهُ مِنْ حَ ْيثُ َلمْ يَحْ َتسِبُواْ‪[} ...‬الحشر‪.]2 :‬‬
‫خذَهُمْ فِي‪.{ ...‬‬
‫ويتابع الحق سبحانه‪ ،‬فيقول‪َ } :‬أوْ يَأْ ُ‬

‫(‪)1930 /‬‬

‫خذَهُمْ فِي َتقَلّ ِبهِمْ َفمَا ُهمْ ِب ُمعْجِزِينَ (‪)46‬‬


‫َأوْ يَأْ ُ‬

‫التقلب‪ :‬النتقال من حال إلى حال‪ ،‬أو من مكان إلى مكان‪ ،‬والنتقال من مكان القامة إلى مكان‬
‫ل القوة والمقدرة‪ ،‬حيث ينتقل النسان من مكانه حاملً متاعه وعَتَاده وجميع ما يملك؛‬
‫آخر دلي ُ‬
‫لينشيء له حركةَ حياة جديدة في مكانه الجديد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬التقلّب في الحياة مظهر من مظاهر القوة‪ ،‬بحيث يستطيع أن يقيم حياة جديدة‪ ،‬ويحفظ ماله‬
‫في رحلة تقلّبه‪ ..‬ول شكّ أن هذا مظهر من مظاهر العزة والجاه والثراء ل يقوم به إل القوي‪.‬‬
‫جعَلْنَا بَيْ َنهُمْ وَبَيْنَ ا ْلقُرَى الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا‬
‫ولذلك نرى في قول الحق تبارك وتعالى عن أهل سبأ‪ {:‬وَ َ‬
‫سفَارِنَا }‬
‫عدْ بَيْنَ أَ ْ‬
‫قُرًى ظَاهِ َر ًة َوقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَاِليَ وَأَيّاما آمِنِينَ * َفقَالُواْ رَبّنَا بَا ِ‬
‫[سبأ‪.]19-18 :‬‬
‫فهؤلء قوم جمع ال لهم ألوانا شتى من النعيم‪ ،‬وأمّن بلدهم وأسفارهم‪ ،‬وجعل لهم محطات‬
‫ن يتميزوا‬
‫للراحة أثناء سفرهم‪ ،‬ولكنهم للعجب طلبوا من ال أن يُباعد بين أسفارهم‪ ،‬كأنهم أرادوا أ ْ‬
‫سفَارِنَا }[سبأ‪.]19 :‬‬
‫عن الضعفاء غير القادرين على مشقة السفر والترحال‪ ،‬فقالوا‪ {:‬بَاعِدْ بَيْنَ أَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خوْض هذه المسافات‪.‬‬
‫حتى ل يقدر الضعفاء منهم على َ‬
‫ظعْن وقدرة على أن‬
‫إذن‪ :‬الذي يتقلّب في الرض دليل على أن له من الحال حال إقامة وحال َ‬
‫ينقل ما لديه ليقيم به في مكان آخر؛ ولذلك قالوا‪ :‬المال في الغربة وطن‪ ..‬ومَنْ كان قادرا يفعل ما‬
‫يريد‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ {:‬لَ َيغُرّ ّنكَ َتقَلّبُ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي الْبِلَدِ }[آل‬
‫عمران‪.]196 :‬‬
‫فل يخيفنك انتقالهم بين رحلتي الشتاء والصّيْف‪ ،‬فال تعالى قادر أن يأخذَهم في تقلّبهم‪.‬‬
‫وقد يُراد تقلّبهم في الفكار والمكْر السيء بالرسول صلى ال عليه وسلم وصحابته كما في قوله‬
‫لمُورَ }[التوبة‪.]48 :‬‬
‫كاُ‬
‫تعالى‪َ {:‬لقَدِ ابْ َت َغوُاْ ا ْلفِتْنَةَ مِن قَ ْبلُ َوقَلّبُواْ َل َ‬
‫فقد قعدوا يُخطّطون ويمكُرون ويُدبّرون للقضاء على الدعوة في َمهْدها‪.‬‬
‫ويقول تعالى‪:‬‬
‫{ َفمَا هُم ِب ُمعْجِزِينَ } [النحل‪.]46 :‬‬
‫المعجز‪ :‬هو الذي ل ي َمكّنك من أنْ تغلبه‪ ،‬وهؤلء لن يُعجِزوا ال تعالى‪ ،‬ولن يستطيعوا الفلتَ‬
‫من عذابه؛ لنهم مهما بَيّتوا فتبييتهم وكَيْدهم عند ال‪ ..‬أما كيْد ال إذا أراد أنْ يكيد لهم فلن يشعروا‬
‫ن وَ َي ْمكُرُ اللّهُ }[النفال‪.]30 :‬‬
‫به‪ {:‬وَ َيمْكُرُو َ‬
‫وقال‪ {:‬إِ ّنهُمْ َيكِيدُونَ كَيْدا * وََأكِيدُ كَيْدا * َف َمهّلِ ا ْلكَافِرِينَ َأ ْمهِ ْلهُمْ ُروَيْدا }[الطارق‪.]17-15 :‬‬
‫فمَنْ ل يستطيع أن يغلبك يخضع لك‪ ،‬وما دام يخضع لك يسيطر عليه المنهج الذي جِ ْئتَ به‪.‬‬
‫وقد يكون العجز أمام القوىّ دليلَ قوة‪ ،‬كما عجز العرب أمام تحدّي القرآن لهم‪ ،‬فكان عجزهم أمام‬
‫كتاب ال دليلَ قوتهم في المجال الذي تحدّاهم القرآن فيه؛ لن ال تعالى حين يتحدّى وحين يُنازل‬
‫ل ينازل الضعيف‪ ،‬ل بل ينازل القوي في مجال هذا التحدّي‪.‬‬

‫(‪)1931 /‬‬

‫خوّفٍ فَإِنّ رَ ّبكُمْ لَرَءُوفٌ َرحِيمٌ (‪)47‬‬


‫خذَهُمْ عَلَى َت َ‬
‫َأوْ يَأْ ُ‬

‫التخوّف‪ :‬هو الفزع من شيء لم يحدث بعد‪ ،‬فيذهب فيه الخيال مذاهبَ شتّى‪ ،‬ويتوقع النسان ألوانا‬
‫متعددة من الشر‪ ،‬في حين أن الواقع يحدث على وجه واحد‪.‬‬
‫َهبْ أنك في انتظار حبيب تأخّر عن موعد وصوله‪ ،‬فيذهب بك الخيال والحتمال إلى أمور‬
‫كثيرة‪ ..‬يا تُرى حدث كذا أو حدث كذا‪ ،‬وكل خيال من هذه الخيالت له أثر ولذعة في النفس‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبذلك تكثر المخاوف‪ ،‬أما إن انتظرتَ لتعرفَ الواقع فإنْ كان هناك فزع كان مرة واحدة‪.‬‬
‫ولذلك يقولون في المثال‪( :‬نزول البل ول انتظاره) ذلك لنه إنْ نزل سينزل بلون واحد‪ ،‬أما‬
‫انتظاره فيُشيع في النفس ألوانا متعددة من الفزع والخوف‪ ..‬إذن‪ :‬التخّوف أشدّ وأعظم من وقوع‬
‫الحَدث نفسه‪.‬‬
‫وكان هذا الفزع يعتري الكفار إذا ما عَلِموا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعث سرية من‬
‫السّرايا‪ ،‬فيتوقع كل جماعة منهم أنها تقصدهم‪ ،‬وبذلك يُشيع ال الفزع في نفوسهم جميعا‪ ،‬في حين‬
‫أنها خرجتْ لناحية معينة‪.‬‬
‫ن ينقص ال من ُرقْعة الكفر بدخول القبائل في‬
‫وبعض المفسرين قال‪ :‬التخوّف يعني التنقّص بأ ْ‬
‫السلم قبيلةً بعد أخرى‪ ،‬فكلّ واحدة منها تنقص من رقعة الكفر‪ ..‬كما جاء في قوله تعالى‪{:‬‬
‫س وَال ّثمَرَاتِ‪[} ...‬البقرة‪.]155 :‬‬
‫ل وَالَنفُ ِ‬
‫ل َموَا ِ‬
‫ناَ‬
‫ع وَ َنقْصٍ مّ َ‬
‫ف وَالْجُو ِ‬
‫خوْ ِ‬
‫شيْءٍ مّنَ ا ْل َ‬
‫وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ بِ َ‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى في تذييل هذه الية‪:‬‬
‫{ فَإِنّ رَ ّب ُكمْ لَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ } [النحل‪.]47 :‬‬
‫وهل هذا التذييل مناسب للية وما قبلها من التهديد والوعيد؟ فالعقل يقول‪ :‬إن التذييل المناسب لها‪:‬‬
‫إن ربكم لشديد العقاب مثلً‪.‬‬
‫لكن يجب هنا أنْ نعلمَ أن هذا هو عطاء الربوبية الذي يشمل العباد جميعا مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬فال‬
‫تعالى استدعى الجميع للدنيا‪ ،‬وتكفّل للجميع بما يحفظ حياتهم من شمس وهواء وأرض وسماء‪ ،‬لم‬
‫تُخلَق هذه الشياء لواحد دون الخر‪ ،‬وقد قال تعالى‪ {:‬مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ َلهُ فِي‬
‫حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى‪.]20 :‬‬
‫وكأن في الية َلوْنا من ألوان رحمته سبحانه بخَلْقه وحِرْصه سبحانه على نجاتهم؛ لنه يُنبّههم إلى‬
‫ما يمكن أن يحدث لَهم إذا أصرّوا على كفرهم‪ ،‬ويُبصّرهم بعاقبة كفرهم‪ ،‬والتبصرة عِظَة‪ ،‬والعِظَة‬
‫رأفة بهم ورحمة حتى ل ينالهم هذا التهديد وهذا الوعيد‪.‬‬
‫ن وَ َربّ‬
‫ومثال هذا التذييل كثير في سورة الرحمن‪ ،‬يقول الحق تبارك وتعالى‪َ {:‬ربّ ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ‬
‫ا ْل َمغْرِبَيْنِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن‪.]18-17 :‬‬
‫فهذه نعمة ناسبت قوله تعالى‪ {:‬فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن‪.]18 :‬‬
‫خ لّ يَ ْبغِيَانِ }[الرحمن‪.]20-19 :‬‬
‫وكذلك في قوله تعالى‪ {:‬مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ * بَيْ َن ُهمَا بَرْزَ ٌ‬
‫فهذه نعمة من نعم ال ناسبت تذييل الية‪ {:‬فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن‪.]21 :‬‬

‫لكْرَامِ * فَبَِأيّ آلءِ‬


‫ل وَا ِ‬
‫لِ‬‫أما في قوله تعالى‪ُ {:‬كلّ مَنْ عَلَ ْيهَا فَانٍ * وَيَبْقَىا وَجْهُ رَ ّبكَ ذُو الْجَ َ‬
‫رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن‪.]28-26 :‬‬
‫فما النعمة في{ ُكلّ مَنْ عَلَ ْيهَا فَانٍ }؟ هل الموت نعمة؟!‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نعم‪ ،‬يكون الموت نعمة من ِنعَم ال على عباده؛ لنه يقول للمحسن‪ :‬سيأتي الموت لتلقَى جزاء‬
‫إحسانك وثواب عملك‪ ،‬ويقول أيضا للكافر‪ :‬انتبه واحذر‪ ..‬الموت قادم‪ ،‬كأنه سبحانه يُوقِظ الكفار‬
‫و َيعِظهم لينتهوا عما هم فيه‪ ..‬أليست هذه نعمة من نعم ال ورحمة منه سبحانه بعباده؟‬
‫شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ *‬
‫سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ‬
‫وكذلك انظر إلى قول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬يُرْ َ‬
‫فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن‪.]36-35 :‬‬
‫شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ }[الرحمن‪.]35 :‬‬
‫سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ‬
‫فأيّ نعمة في‪ {:‬يُرْ َ‬
‫أيّ نعمة في هذا العذاب؟‬
‫نعم المتدبّر لهذه الية يجد فيها نعمة عظيمة؛ لن فيها تهديدا ووعيدا بالعذاب إذا استمروا على ما‬
‫هم فيه من الكفر‪ ..‬ففي طيّاتها تحذير وحِرْص على نجاتهم كما تتوعد ولدك‪ :‬إذا أهملتَ دروسك‬
‫ستفشل وأفعل بك كذا وكذا‪ .‬وأنت ما قلت ذلك إل لحِرصك على نجاحه وفلحه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فتذييل الية بقوله‪:‬‬
‫} فَإِنّ رَ ّب ُكمْ لَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ { [النحل‪.]47 :‬‬
‫ل من المؤمن‬
‫تذييل مناسب لما قبلها من التهديد والوعيد‪ ،‬وفيها بيان لرحمة ال التي يدعو إليها ك ً‬
‫والكافر‪.‬‬
‫خلَقَ‪.{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬أوَلَمْ يَ َروْاْ إِلَىا مَا َ‬

‫(‪)1932 /‬‬

‫شمَا ِئلِ سُجّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (‪)48‬‬


‫شيْءٍ يَ َتفَيّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْ َيمِينِ وَال ّ‬
‫خلَقَ اللّهُ مِنْ َ‬
‫َأوَلَمْ يَ َروْا إِلَى مَا َ‬

‫قوله تعالى‪:‬‬
‫{ َأوََلمْ يَ َروْاْ‪[ } ...‬النحل‪.]48 :‬‬
‫عمُوا ولم يَ َروْا ولم يتدبروا فيها خلق ال؟‬
‫المعنى‪ :‬أَ َ‬
‫شيْءٍ } [النحل‪.]48 :‬‬
‫{ مِن َ‬
‫كلمة شيء يسمونها جنس الجناس‪ ،‬و { مِن } تفيد ابتداء ما يُقال له شيء‪ ،‬أي‪ :‬أتفه شيء‬
‫موجود‪ ،‬وهذا يسمونه أدنى الجناس‪ ..‬وتفيد أيضا العموم فيكون‪:‬‬
‫شيْءٍ‪[ } ...‬النحل‪.]48 :‬‬
‫{ مِن َ‬
‫أي‪ :‬كل شيء‪.‬‬
‫فانظر إلى أيّ شيء في الوجود مهما كان هذا الشيء تافها ستجد له ظِلً‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ يَ َتفَ ّيؤُاْ ظِلَُلهُ‪[ } ...‬النحل‪.]48 :‬‬
‫يتفيأ‪ :‬من فاءَ أي‪ :‬رجع‪ ،‬والمراد عودة الظل مرة أخرى إلى الشمس‪ ،‬أو عودة الشمس إلى الظل‪.‬‬
‫فلو نظرنا إلى الظل نجده نوعين‪ :‬ظل ثابت مستمر‪ ،‬وظل مُتغيّر‪ ،‬فالظل الثابت دائما في الماكن‬
‫ظلّ ثابت ل تأتيه أشعة‬
‫التي ل تصل إليها أشعة الشمس‪ ،‬كقاع البحار وباطن الرض‪ ،‬فهذا ِ‬
‫الشمس في أي وقت من الوقات‪.‬‬
‫والظلّ المتحرك الذي يُسمّى ال َفيْء لنه يعود من الظل إلى الشمس‪ ،‬أو من الشمس إلى الظل‪،‬‬
‫إذن‪ :‬ل يُسمّى الظل فَيْئا إل إذا كان يرجع إلى ما كان عليه‪.‬‬
‫ولكن‪ ..‬كيف يتكّون الظل؟ يتكّون الظل إذا مَا استعرض الشمسَ جسم كثيف يحجب شعاع‬
‫الشمس‪ ،‬فيكون ظِلً له في الناحية المقابلة للشمس‪ ،‬هذا الظل له طُولن وله استواء واحد‪.‬‬
‫طول عند الشروق إلى أنْ يبل َغ المغرب‪ ،‬ثم يأخذ في التناقص مع ارتفاع الشمس‪ ،‬فإذا ما استوتْ‬
‫ظلّ الشيء في نفسه‪ ،‬وهذه حالة الستواء‪ ،‬ثم تميل الشمس إلى‬
‫الشمس في السماء يصبح ِ‬
‫ل الول من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق‪.‬‬
‫الغروب‪ ،‬وينعكس طول الظ ّ‬
‫ظلّ‬
‫ويلفتنا الحق تبارك وتعالى إلى هذه الية الكونية في قوله تعالى‪ {:‬أَلَمْ تَرَ إِلَىا رَ ّبكَ كَ ْيفَ َمدّ ال ّ‬
‫شمْسَ عَلَ ْيهِ دَلِيلً * ثُمّ قَ َبضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضا يَسِيرا }[الفرقان‪-45 :‬‬
‫جعَلْنَا ال ّ‬
‫جعَلَهُ سَاكِنا ُثمّ َ‬
‫وََلوْ شَآءَ َل َ‬
‫‪.]46‬‬
‫ذلك لنك لو نظرتَ إلى الظلّ وكيف يمتدّ‪ ،‬وكيف ينقبض وينحسر لوجدتَ شيئا عجيبا حقا‪ ..‬ذلك‬
‫لنك تلحظ الظل في الحالتين يسير سَيْرا انسيابيا‪.‬‬
‫ما معنى‪( :‬انسيابي)؟ هو نوع من أنواع الحركة‪ ،‬فالحركة إما حركة انسيابية‪ ،‬أو حركة عن توالي‬
‫سكونات بين الحركات‪.‬‬
‫وهذه الخيرة نلحظها في حركة عقارب الساعة‪ ،‬وهي أوضح في عقرب الثواني منها في عقرب‬
‫الدقائق‪ ،‬ول تكاد تشعر بها في عقرب الساعات‪ ..‬فلو لحظت عقرب الثواني لوجدتَه يسير عن‬
‫طريق قفزات منتظمة‪ ،‬تكون حركة فسكونا فحركة‪ ،‬وهكذا‪..‬‬
‫ومعنى ذلك أنه يجمع الحركة في حال سكونه‪ ،‬ثم ينطلق بها‪ ،‬وبذلك تمرّ عليه لحظة لم يكن‬
‫مُتحركا فيها‪ ،‬وهذا ما نسميه بالحركة القفزية‪ ..‬هذه الحركة ل تستطيع َرصْدها في عقرب‬
‫الساعات؛ لن القفزة فيه دقيقة لدرجة أن العين المجردة تعجز عن َرصْدها وملحظتها‪ ،‬هذه هي‬
‫الحركة القفزية‪.‬‬

‫أما الحركة النسيابية‪ ،‬فتعني أن كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة‪ ..‬أي‪ :‬حركة مستمرة‬
‫ومُوزّعة بانتظام على الزمن‪.‬‬
‫ونضرب لذلك مثلً بنمو الطفل‪ ..‬الطفل الوليد ينمو باستمرار‪ ،‬لكن أمه لملزمتها له ل تلحظ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا النمو؛ لن نظرها عليه دائما‪ ..‬فكيف تكون حركة النمو في الطفل؟ هل حركة قفزية يتجمع‬
‫طفْرة واحدة؟‬
‫فيها نمو الطفل كل أسبوع أو كل شهر مثلً‪ ،‬ثم ينمو َ‬
‫لو كان نموه هكذا لَلَحظنا نمو الطفل‪ ،‬لكنه ليس كذلك‪ ،‬بل ينمو بحركة انسيابية تُوزّع المِلّي‬
‫الواحد من النمو على طول الزمن‪ .‬فل نكاد نشعر بنموه‪.‬‬
‫وهكذا حركة الشمس حركة انسيابية‪ ،‬بحيث تُوزع جزئيات الحركة على جُزئيات الزمن‪ ،‬فالشمس‬
‫ليست مركونة إلى ميكانيكا تتحرك عن التروس كالساعة مثلً‪ ،‬ل‪ ..‬بل مركونة إلى أمر ال‪،‬‬
‫موصولة بكُنْ الدائمة‪.‬‬
‫وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يلِفتَ خَلْقه إلى ظاهرة كونية في الوجود مُحسّة‪ ،‬يدركها كلّ مِنّا‬
‫ظلّ التي يعجز النسان عن إدراك‬
‫في ذاته‪ ،‬وفيما يرى من المرائي‪ ،‬ومن هذه المظاهر ظاهرة ال َ‬
‫حركته‪.‬‬
‫وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَظِلُلهُم بِا ْلغُ ُد ّو وَالصَالِ }[الرعد‪.]15 :‬‬
‫شيْءٍ ِإلّ‬
‫فالحق سبحانه يريد أن يُعمم الفكرة التسبيحية في الكون كله‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَإِن مّن َ‬
‫حهُمْ‪[} ...‬السراء‪.]44 :‬‬
‫حمْ ِد ِه وَلَـاكِن لّ َت ْف َقهُونَ تَسْبِي َ‬
‫يُسَبّحُ ِب َ‬
‫فكل ما يُطلَق عليه شيء فهو يُسبّح مهما كان صغيرا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫شمَآ ِئلِ‪[ { ...‬النحل‪.]48 :‬‬
‫ن وَالْ ّ‬
‫} يَ َتفَ ّيؤُاْ ظِلَُلهُ عَنِ الْ َيمِي ِ‬
‫لنا هنا وقفة مع الداء القرآني‪ ،‬حيث أتى باليمين ُمفْردا‪ ،‬في حين أتى بالشمائل على صورة‬
‫الجمع؛ ذلك لن الحق تبارك وتعالى لما قال‪:‬‬
‫شيْءٍ‪[ { ...‬النحل‪.]48 :‬‬
‫} َأوََلمْ يَ َروْاْ إِلَىا مَا خََلقَ اللّهُ مِن َ‬
‫شيْءٍ‪ { ...‬وهو مفرد‪ ،‬ثم قال سبحانه‪:‬‬
‫أتى بأقلّ ما يُتصوّر من مخلوقاته سبحانه } مِن َ‬
‫} ظِلَلُهُ‪[ { ..‬النحل‪.]48 :‬‬
‫ظلّ أشياء‬
‫ظلّ شيء واحد‪ ،‬ل‪ ..‬بل ِ‬
‫بصيغة الجمع‪ .‬أي‪ :‬مجمع هذه الشياء‪ ،‬فالنسان ل يتفيأ ِ‬
‫متعددة‪.‬‬
‫و } مِن { هنا أفادت العموم‪:‬‬
‫شيْءٍ‪[ { ..‬النحل‪.]48 :‬‬
‫} مِن َ‬
‫أي‪ :‬كل شيء‪ .‬فليناسب المفرد جاء باليمين‪ ،‬وليناسب الجمع جاء بالشمائل‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫} سُجّدا لِلّ ِه وَ ُهمْ دَاخِرُونَ { [النحل‪.]48 :‬‬
‫فما العلقة بين حركة الظلّ وبين السجود؟‬
‫سجّدا أي‪ :‬خضوعا ل‪ ،‬وكأن حركة الظل وامتداده على امتداد الزمن دليلٌ على أنه‬
‫معنى‪ُ :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫موصول بالمحرك العلى له‪ ،‬والقائل العلى لـ " كُنْ " ‪ ،‬والظل آية من آياته سبحانه مُسخّرة له‬
‫ن فيكون‪.‬‬
‫ساجدة خاضعة لقوله‪ :‬كُ ْ‬
‫وقلنا‪ :‬إن هناك فرقا بين الشيء ُتعِده إعدادا َكوْنيا‪ ،‬والشيء ُتعِده إعدادا قدريا‪ ..‬فصانع القنبلة‬
‫الزمنية ُيعِدّها لنْ تنفجرَ في الزمن الذي يريده‪ ،‬وليس المر كذلك في إعداد الكون‪.‬‬
‫الكون أعدّه ال إعدادا قدريا قائما على قوله كُنْ‪ ،‬وفي انتظار لهذا المر اللهي باستمرار (كن‬
‫فيكون)‪.‬‬

‫وهكذا‪ ..‬فليست المسألة مضبوطة ميكانيكا‪ ،‬ل‪ ..‬بل مضبوطة قَدريا‪.‬‬


‫لذلك يحلو لبعض الناس أن يقول‪ :‬باقٍ للشمس كذا من السنين ثم ينتهي ضوؤها‪ ،‬ويُرتّب على هذا‬
‫ي منضبطةٌ به‬
‫الحكم أشياء أخرى‪ ..‬نقول‪ :‬ل‪ ..‬ليس المر كذلك‪ ..‬فالشمس خاضعة للعداد القدر ّ‬
‫ومنتظرة لـ " كُنْ " التي يُصغِي لها الكون كله؛ ولذلك يقول تعالى‪ُ {:‬كلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ }‬
‫[الرحمن‪.]29 :‬‬
‫هكذا بيّنت الية الكريمة أن كل ما يُقال له " شيء " يسجد ل عز وجل‪ ،‬وكلمة " شيء " جاءت‬
‫ُمفْردة دالّة على العموم‪ ..‬وقد عرفنا السجود فيما كلّفنا ال به من ركن في الصلة‪ ،‬وهو مُنْتَهى‬
‫الخضوع‪ ،‬خضوع الذات من العابد للمعبود‪ ،‬فنحن نخضع واقفين‪ ،‬ونخضع راكعين‪ ،‬ونخضع‬
‫قاعدين‪ ،‬ولكن أتمّ الخضوع يكون بأنْ نسجدَ ل‪ ..‬ولماذا كان أتمّ الخضوع أن نسج َد ل؟‬
‫نقول‪ :‬لن النسان له ذات عامة‪ ،‬وفي هذا الذات سيد للذات‪ ،‬بحيث إذا أُطلِق انصرف إلى الذات‪،‬‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ‬
‫والمراد به الوجه؛ لذلك حينما يعبّر الحق تبارك وتعالى عن فَنَاء الوجود يقول‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫جهَهُ‪[} ..‬القصص‪.]88 :‬‬
‫ل وَ ْ‬
‫ِإ ّ‬
‫س ْوفَ يَ ْرضَىا }[الليل‪.]21-20 :‬‬
‫جهِ رَبّ ِه الَعْلَىا * وَلَ َ‬
‫وكذلك في قوله‪ِ {:‬إلّ ابْ ِتغَآ َء وَ ْ‬
‫فيُطلَق الوجه ويُراد به الذات‪ ،‬فإذا ما سجد الوجه ل تعالى دلّ ذلك على خضوع الذات كلها؛ لن‬
‫أشرف ما في النسان وجهه‪ ،‬فإذا ما ألصقه بالرض فقد جاء بمنتهى الخضوع بكل ذاته للمعبود‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫كما دَّلتْ الية على أن الظل أيضا يسجد لربه وخالقه سبحانه‪ ،‬والظلل قد تكون لجمادات كالشجر‬
‫ظلّ النسان أو‬
‫مثلً‪ ،‬أو بناية أو جبل‪ ،‬وهذه الشياء الثابتة يكون ظِلّها أيضا ثابتا ل يتحرك‪ ،‬أما ِ‬
‫الحيوان فهو ظل متحرك‪ ،‬وقد ضرب لنا الحق تبارك وتعالى مثلً في الخضوع التام بالظلل؛‬
‫لن ظل كل شيء ل يفارق الرض أبدا‪ ،‬وهذا مثال للخضوع الكامل‪.‬‬
‫ثم يرتفع الحق تبارك وتعالى بمسألة السجود من الجمادات في الظلل في قوله‪ {:‬وَظِلُلهُم بِا ْلغُ ُدوّ‬
‫وَالصَالِ }[الرعد‪.]15 :‬‬
‫يعني الذوات تسجد‪ ،‬وكذلك الظلل تسجد؛ ولذلك يتعجب بعض العارفين من الكافر‪ ..‬يقول‪ :‬أيها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سجُدُ‪.{ ...‬‬
‫الكافر ظِلّك ساجد وأنت جاحد‪ ..‬جاء هذا الترقّي في قوله تعالى‪ } :‬وَلِلّهِ يَ ْ‬

‫(‪)1933 /‬‬

‫ت َومَا فِي الْأَ ْرضِ مِنْ دَابّ ٍة وَا ْلمَلَا ِئكَةُ وَهُمْ لَا َيسْ َتكْبِرُونَ (‪)49‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سجُدُ مَا فِي ال ّ‬
‫وَلِلّهِ يَ ْ‬

‫فأجناس الكون التي يعرفها النسان أربعة‪ :‬إما جماد‪ ،‬فإذا وجدتَ خاصية النمو كان النبات‪ ،‬وإذا‬
‫وجدتَ خاصية الحركة والحسّ كان الحيوان‪ ،‬فإذا وجدتَ خاصية ال ِفكْر كان النسان‪ ،‬وإذا وجدتَ‬
‫خاصية العلم الذاتي النوراني كان المَلَك‪ ..‬هذه هي الجناس التي نعرفها‪.‬‬
‫الحق تبارك وتعالى ينقلُنا هنا َنقْلة من الظلل الساجدة‪ ،‬للجمادات الثابتة‪ ،‬إلى الشيء الذي يتحرك‪،‬‬
‫وهو وإنْ كان مُتحركا إل أن ظلّه أيضا على الرض‪ ،‬فإذا كان الحق سبحانه قد قال‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ‪[ } ..‬النحل‪.]49 :‬‬
‫جدُ مَا فِي ال ّ‬
‫{ وَلِلّهِ يَسْ ُ‬
‫فقد فصّل هذا الجمال بقوله‪:‬‬
‫{ مِن دَآبّةٍ وَا ْلمَل ِئكَةُ‪[ } ...‬النحل‪.]49 :‬‬
‫أي‪ :‬من أقلّ الشياء المتحركة وهي الدابة‪ ،‬إلى أعلى الشياء وهي الملئكة‪..‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬وهل ما في السماوات وما في الرض يسجد ل؟‬
‫نقول له‪ :‬نعم‪ ..‬لنك فسرتَ السجود فيك أنت بوضْع جبهتك على الرض‪ ،‬ليدلّ على أن الذات‬
‫بعُلوّها ود ُنوّها ساجدة ل خاضعة تمام الخضوع‪ ،‬حيث جعلتَ الجبهة مع القدم‪.‬‬
‫والحق تبارك وتعالى يريد منّا أن نعرف استطراق العبودية في الوجود كله؛ لن الكافر وإنْ كانَ‬
‫ن يؤمن أو يكفر‪ ،‬في أن يطيع أو يعصي‪،‬‬
‫مُتمرّدا على ال فيما جعل ال له فيه اختيارا‪ ،‬في أ ْ‬
‫ولكن ال أعطاه الختيار‪.‬‬
‫ب منك يا مؤمن أن‬
‫نقول له‪ :‬إنك قد أل ْفتَ التمرّد على ال‪ ،‬فطلب منك أن تؤمن لكنك كفرتَ‪ ،‬وطل َ‬
‫تطيعَ فعصيتَ‪ ،‬إذن‪ :‬فلكَ إ ْلفٌ بالتمرّد على الحق‪ ..‬ولكن ل تعتقد أنك خرجتَ من السجود‬
‫والخضوع ل؛ لن ال يُجري عليك أشياء تكرهها‪ ،‬ولكنها تقع عليك رغم أنفك وأنت خاضع‪.‬‬
‫وهذا معنى قوله تعالى في الية السابقة‪ {:‬وَ ُهمْ دَاخِرُونَ }[النحل‪.]48 :‬‬
‫أي‪ :‬صاغرون مُستذلّون مُنقَادُونَ مع أنهم أَِلفُوا التمرّد على الحق سبحانه‪.‬‬
‫وإل فهذا الذي أَلِف الخروج عن مُرادات ال فيما له فيه اختيار‪ ،‬هل يستطيع أنْ يتأبّى على ال إذا‬
‫أراد أنْ يُمرضه‪ ،‬أو يُفقره‪ ،‬أو يميته؟‬
‫ل‪ ،‬ل يستطيع‪ ،‬بل هو داخر صاغر في كل ما يُجريه عليه من مقادير‪ ،‬وإنْ كان يأباها‪ ،‬وإنْ كان‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قد أَلِف الخروج عن مُرادات ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ليس في كون ال شيء يستطيع الخروج عن مرادات ال؛ لنه ما خرج عن مرادات ال‬
‫الشرعية في التكليف إل بما أعطاه ال من اختيار‪ ،‬وإل لو لم ُيعْطه الختيار لما استطاع التمرّد‪،‬‬
‫كما في المرادات الكونية التي ل اختيارَ فيها‪.‬‬
‫لذلك نقول للكافر الذي تمرّد على الحق سبحانه‪ :‬تمرّد إذا أصابك مرض‪ ،‬و ُقلْ‪ :‬لن أمرض‪ ،‬تمرّد‬
‫ت ل تقدر وسوف تخضع راغما فلتخضعْ راضيا وتكسب‬
‫على الفقر و ُقلْ‪ :‬لن أفتقر‪ ..‬وما ُد ْم َ‬
‫المر‪ ،‬وتنتهي مشكلة حياتك‪ ،‬وتستقبل حياة أخرى أنظف من هذه الحياة‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} مِن دَآبّةٍ‪[ { ...‬النحل‪.]49 :‬‬
‫هو كل ما يدبّ على الرض‪ ،‬وال ّدبّ على الرض معنا الحركة والمشي‪ ..‬وقوله‪:‬‬
‫} وَا ْلمَل ِئكَةُ‪[ { ...‬النحل‪.]49 :‬‬
‫سعْيها في المور بأجنحة فقال تعالى‪ُ {:‬أوْلِي‬
‫أي‪ :‬أن الملئكة ل يُقال لها دابة؛ لن ال جعل َ‬
‫لثَ وَرُبَاعَ‪[} ..‬فاطر‪.]1 :‬‬
‫أَجْ ِنحَةٍ مّثْنَىا وَثُ َ‬
‫ض َولَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ‪} ...‬‬
‫وقال في آية أخرى‪َ {:‬ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْر ِ‬
‫[النعام‪.]38 :‬‬
‫فخلق ال الطائر يطير بجناحيه مقابلً للدابة التي تدب على الرض‪ ،‬فاستحوذ على المرين‪:‬‬
‫الدابة والملئكة‪.‬‬
‫و } مَا { في الية تُطلق على غير العالمين وغير العاقلين؛ ذلك لن أغلبَ الشياء الموجودة في‬
‫لمَانَةَ عَلَى‬
‫الكون ليس لها عِلْم أو معرفة؛ ولذلك قال تعالى في آية أخرى‪ {:‬إِنّا عَ َرضْنَا ا َ‬
‫حمِلْ َنهَا‪[} ..‬الحزاب‪.]72 :‬‬
‫ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪:‬‬
‫} وَ ُه ْم لَ يَسْ َتكْبِرُونَ { [النحل‪.]49 :‬‬
‫خلْق من‬
‫أي‪ :‬أن الملئكة الذين هم أعلى شيء في خَلْق ال ل يستكبرون؛ لن علوّهم في ال َ‬
‫نورانية وكذا وكذا ل يعطيهم إدللً على خالقهم سبحانه؛ لن الذي أعطاهم هذا التكريم هو ال‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وما دام ال هو الذي أعطاهم هذا التكريم فل يجوز الدلل به؛ لن الذي يُ ِدلّ إنما يُ ِدلّ بالذاتيات‬
‫غير الموهوبة‪ ،‬أما الشيء الموهوب من الغير فلَ يجوز أن تُ ِدلّ به على مَنْ وهبه لك‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬لّن يَسْتَن ِكفَ ا ْلمَسِيحُ أَن َيكُونَ عَبْدا للّ ِه َولَ ا ْلمَل ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ‪} ..‬‬
‫[النساء‪.]172 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فلن يمتنعوا عن عبادة ال والسجود له رغم أن ال كرّمهم ورفعهم‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪َ } :‬يخَافُونَ رَ ّبهُمْ‪.{ ..‬‬

‫(‪)1934 /‬‬

‫يَخَافُونَ رَ ّبهُمْ مِنْ َف ْو ِقهِ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ (‪)50‬‬

‫جلَ‪ ،‬والخوف والفزع والوجل ل يكون إل من ترقب شيء‬


‫ما هو الخوف؟ الخوف هو الفزع والو َ‬
‫من أعلى منك ل تقدر أنت على َرفْعه‪ ،‬ولو أمكنك َرفْعه لما كان هناك داعٍ للخوف منه؛ لذلك‬
‫فالمور التي تدخل في مقدوراتك ل تخاف منها‪ ،‬تقول‪ :‬إنْ حصل كذا افعل كذا‪ ..‬الخ‪:‬‬
‫وإذا كان الملئكة الكرام‪ {:‬لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَ ُه ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم‪.]6 :‬‬
‫فما داعي الخوف إذن؟ نقول‪ :‬إن الخوف قد يكون من تقصير حدث منك تخاف عاقبته‪ ،‬وقد يكون‬
‫الخوف عن مهابة للمخُوف وإجلله وتعظيمه دون ذنب ودون تقصير‪ ،‬ولذلك نجد الشاعر العربي‬
‫ي ولكِنْ ِملْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهاإذن‪ :‬مرّة يأتي‬
‫ل ومَا ِبكَ قُدْرة عل ّ‬
‫لً‬‫يقول في تبرير هذا الخوف‪:‬أَهَا ُبكَ إِجْ َ‬
‫الخوف لتوقّع أذى لتقصير منك‪ ،‬ومرّة يأتي لمجرد المهابة والجلل والتعظيم‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ مّن َف ْو ِقهِمْ } [النحل‪.]50 :‬‬
‫ما المراد بالفوْقية هنا؟ نحن نعرف أن الجهات ستّ‪ :‬فوق‪ ،‬وتحت‪ ،‬ويمين‪ ،‬وشمال‪ ،‬وأمام‪،‬‬
‫وخلف‪ ..‬بقيتْ جهة الفَوقْية لتكون هي المسيطرة؛ ولذلك حتى في بناء الحصون يُشيّدونها على‬
‫الماكن العالية لتتحكم بعُلوّها في متابعة جميع الجهات‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالفوقية هي محلّ العُلو‪ ،‬وهذه الفوقية قد تكون فوقية مكان‪ ،‬أو فوقية مكانة‪.‬‬
‫فالذي يقول‪ :‬إنها فوقية مكان‪ ،‬يرى أن ال في السماء‪ ،‬بدليل أن الجارية التي سُئِلت‪ :‬أين ال؟‬
‫أشارتْ إلى السماء‪ ،‬وقالت‪ :‬في السماء‪.‬‬
‫فأشارت إلى جهة العُلُو؛ لنه ل يصح أن نقول‪ :‬إن ال تحت‪ ،‬فال سبحانه مُنزّه عن المكان‪ ،‬وما‬
‫نُزّه عن المكان نُزّه عن الزمان‪ ،‬فال عز وجل مُنزّه عن أنْ تُحيّزه‪ ،‬ل بمكان ول بزمان؛ لن‬
‫المكان والزمان به خُلِقا‪ ..‬فمَن الذي خلق الزمان والمكان؟‬
‫إذن‪ :‬ما داما به خُلِقا فهو سبحانه مُنزّه عن الزمان والمكان‪.‬‬
‫وهم قالوا بأن الفوقية هنا فوقية حقيقية‪ ..‬فوقية مكان‪ ،‬أي‪ :‬أنه تعالى أعلى مِنّا‪ ..‬ونقول لمن يقول‬
‫بهذه الفوقية‪ :‬ال أَعْلى مِنّا‪ ..‬من أيّ ناحية؟ من هذه أم من هذه؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬الفوقية هنا فوقية مكانة‪ ،‬بدليل أننا نرى الحرس الذين يحرسون القصور ويحرسون الحصون‬
‫يكون الحارس أعلى من المحروس‪ ..‬فوقه‪ ،‬فهو فوقه مكانا‪ ،‬إنما هل هو فوقه مكانة؟ بالطبع ل‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } [النحل‪.]50 :‬‬
‫وهذه هي الطاعة‪ ،‬وهي أن تفعلَ ما ُأمِرتْ به‪ ،‬وأنْ تجتنبَ ما نُهيتَ عنه‪ ،‬ولكن الية هنا ذكرت‬
‫جانبا واحدا من الطاعة‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫{ وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ } [النحل‪.]50 :‬‬
‫ولم ت ُقلْ الية مثلً‪ :‬ويجتنبون ما ينهوْنَ عنه‪ ،‬لماذا؟‪ ..‬نقول‪ :‬لن في الية ما يسمونه بالتلزم‬
‫المنطقي‪ ،‬والمراد بالتلزم المنطقي أن كلّ نهي عن شيء فيه أمر بما يقابله‪ ،‬فكل نهي يؤول إلى‬
‫أمر بمقابله‪.‬‬

‫فقوله سبحانه‪:‬‬
‫} وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ { [النحل‪.]50 :‬‬
‫تستلزم منطقيا " ويجتنبون ما يُن َهوْن عنه " وكأن الية جمعت الجانبين‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى خلق الملئكة ل عمل لهم إل أنهم هُيّموا في ذات ال‪ ،‬ومنهم ملئكة‬
‫مُوكّلون بالخلق‪ ،‬وهم‪ {:‬فَا ْلمُدَبّرَاتِ َأمْرا }[النازعات‪.]5 :‬‬
‫حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ‪[} ..‬الرعد‪.]11 :‬‬
‫ويقول تعالى‪َ {:‬لهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ‬
‫ومنهم‪ {:‬وَإِنّ عَلَ ْيكُمْ َلحَافِظِينَ * كِرَاما كَاتِبِينَ }[النفطار‪.]11-10 :‬‬
‫إذن‪ :‬فهناك ملئكة لها علقة بِنَا‪ ،‬وهم الذين أمرهم الحق سبحانه أن يسجدوا لدم حينما خلقه ال‪،‬‬
‫وصوّره بيده‪ ،‬ونفخ فيه من رُوحه‪ ..‬وكأن ال سبحانه يقول لهم‪ :‬هذا هو النسان الذي ستكونون‬
‫في خدمته‪ ،‬فالسجود له بأمر ال إعلنٌ بأنهم يحفظونه من أمر ال‪ ،‬ويكتبون له كذا‪ ،‬ويعملون له‬
‫كذا‪ ،‬ويُدبّرون له المور‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫أما الملئكة الذين ل علقة لهم بالنسان‪ ،‬ول يدرون به‪ ،‬ول يعرفون عنه شيئا‪ ،‬هؤلء المعْنِيون‬
‫في قوله سبحانه لبليس‪َ {:‬أسْ َتكْبَ ْرتَ َأمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص‪.]75 :‬‬
‫أي‪ :‬أستكبرتَ أنْ تسجدَ؟ أم كنتَ من الصّنْف الملَكي العالي؟‪ ..‬هذا الصنف من الملئكة ليس لهم‬
‫ل وَال ّنهَارَ‬
‫علقة بالنسان‪ ،‬و ُكلّ مهمتهم التسبيح والذكْر‪ ،‬وهم المعنيون بقوله تعالى‪ {:‬يُسَبّحُونَ الّي َ‬
‫لَ َيفْتُرُونَ }[النبياء‪.]20 :‬‬
‫كلّ شيء ـ إذن ـ في الوجود خاضع لمرادات الحق سبحانه منه‪ ،‬إل ما استثنى ال فيه النسان‬
‫بالختيار‪ ،‬فال سبحانه لم يقهر أحدا‪ ،‬ل النسان ول الكون الذي يعيش فيه‪ ،‬فقد عرض ال‬
‫ن منها‪ ..‬وكأنها قالت‪:‬‬
‫سبحانه المانة على السماوات والرض والجبال‪ ،‬فأبيْنَ أن يحملنها وأشفقْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خلَ لنا في موضوع المانة‬
‫ل نريد أن نكون مختارين‪ ،‬بل نريد أن نكون مُسخّرين‪ ،‬ول َد ْ‬
‫والتكليف!!‬
‫لماذا ـ إذن ـ يأبى الكون بسمائه وأرضه تحمّل هذه المسئولية؟‬
‫نقول‪ :‬لن هناك فَرْقا بين تقبّل الشيء وقت تحمّله‪ ،‬والقدرة على الشيء وقت أدائه‪ ..‬هناك فَرْق‪..‬‬
‫عندنا تحمّل وعندنا أداء‪ ..‬وقد سبق أنْ ضربنا مثلً لتحمّل المانة وقُلْنا‪َ :‬هبْ أن إنسانا أراد أن‬
‫يُودع عندك مبلغا من المال مخافة تبديده لتحفظه له لحين الحاجة إليه‪ ،‬وأنت في هذا الوقت قادر‬
‫على التحمل وتنوي أداء أمانته إليه عند طلبها وذمّتك قوية‪ ،‬ونيتك صادقة‪.‬‬
‫وهذا وقت تحمّل المانة‪ ،‬فإذا ما جاء وقت الداء‪ ،‬فربما تضطرك الظروف إلى إنفاق هذا المال‪،‬‬
‫أو يعرض لك عارضٌ يمنعك من الداء أو تتغيّر ذمتك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬وقت الداء شيء آخر‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالذي يريد أنْ يُبريء ذمته ل يضمن وقت الداء ويمتنع عن تحمّل المانة ويقول لنفسه‪:‬‬
‫ل‪ ،‬إن كنت أضمن نفسي وقت التحمل فل أضمن نفسي وقت الداء‪.‬‬
‫هذا مثال لما حدثَ من السماء والرض والجبال حينما رفضت تحمّل المانة‪ ،‬ذلك لنها تُقدّر‬
‫مسئوليتها وثقلها وعدم ضمان القيام بحقها‪ ،‬لذلك رفضت تحمّلها من بداية المر‪.‬‬

‫حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ‬


‫وكذلك يجب أن يكون النسان عاقلً عند تحمّل المانات؛ ولذلك يقول تعالى‪َ {:‬و َ‬
‫جهُولً }[الحزاب‪.]72 :‬‬
‫كَانَ ظَلُوما َ‬
‫ما الذي جهله النسان؟ جهل تقدير حالة وقت أداء المانة‪ ،‬فظلم نفسه‪ ،‬ولو أنه خرج من باب‬
‫الجمال كما يقولون لَقالَ‪ :‬يا ربّ اجعلني مثل السماء والرض والجبال‪ ،‬وما تُجريه عليّ‪ ،‬فأنا‬
‫طوْع أمرك‪.‬‬
‫َ‬
‫ولذلك‪ ،‬فمن عباد ال مَنْ قَبِل الختيار وتحمّل التكليف‪ ،‬ولكنه خرج عن اختياره ومراده لمراد ربّه‬
‫وخالقه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رب أنت خل ْقتَ فينا اختيارا‪ ،‬ونحن به قادرون أن نفعل أو ل نفعل‪ ،‬ولكنّا تنازلنا‬
‫طوْع أمرك‪ ..‬هؤلء هم عباد ال الذين‬
‫عن اختيارنا لختيارك‪ ،‬وعن مرادنا لمرادك‪ ،‬ونحن َ‬
‫استحقوا هذه النسبة إليه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ن يفعل بالقهر والتسخير‪..‬‬
‫ل يفعل‪ ،‬وبين مَ ْ‬
‫ن يفعل اختيارا مع قدرته على أ ّ‬
‫إذن‪ :‬هناك فَرْق بين مَ ْ‬
‫ل يفعل‪ ،‬فقد غلّب مُراد ربّه في التكليف على مراد نفسه في الختيار‪.‬‬
‫فالول مع أنه قادر أ ّ‬
‫ثم ينتقل الحق ـ تبارك وتعالى ـ إلى قمة القضايا العقدية بالنسبة للنسان‪ ،‬فيقول تعالى‪َ } :‬وقَالَ‬
‫اللّ ُه لَ تَتّخِذُواْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1935 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدٌ فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ (‪)51‬‬
‫َوقَالَ اللّهُ لَا تَتّخِذُوا إَِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِ ّنمَا ُهوَ إِلَ ٌه وَا ِ‬

‫وقد جاء النهي في الية نتيجة خروج النسان عن مُراد ربّه سبحانه‪ ،‬فالعجيب أن البشر والجن‬
‫أيضا ـ يعني الثقلين ـ هم المختارون في الكون كله‪ ،‬اختيار في أشياء وقَهْر في أشياء أخرى‪..‬‬
‫ومع ذلك لم يشذّ من خَلْق ال غيرهما‪.‬‬
‫فالسماوات والرض والجبال كان لها اختيار‪ ،‬وقد اختارت التسخير‪ ،‬وانتهت المسألة في بداية‬
‫المر‪ ،‬ومع ذلك فهي مُسخّرة وتُؤدّي مهمتها لخدمة النسان‪ ،‬فالشمس لم تعترض يوما ولم‬
‫ترفض‪ ..‬فهي تشرق على المؤمن كما تشرق على الكافر‪ ..‬وكذلك الهواء والرض والدابة‬
‫الحلوب‪ ،‬وكل ما في كون ال مُسخّر للجميع‪ ..‬إذن‪ :‬كل هذه الشياء لها مهمة‪ ،‬وتؤدي مُهمتها‬
‫على أكمل وجه‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ َومَن فِي‬
‫سجُدُ َلهُ مَن فِي ال ّ‬
‫ولذلك يقول تعالى في حقّ هذه الشياء‪ {:‬أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ‬
‫ل وَالشّجَرُ وَال ّدوَآبّ‪[} ...‬الحج‪]18 :‬‬
‫شمْسُ وَالْ َقمَ ُر وَالنّجُومُ وَالْجِبَا ُ‬
‫الَ ْرضِ وَال ّ‬
‫هكذا بالجماع‪ ،‬ل يتخلّف منها شئ عن مُراد ربه‪.‬‬
‫فما الحال في النسان؟ يقول تعالى‪َ {:‬وكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ }[الحج‪.]18 :‬‬
‫حقّ عَلَيْهِ ا ْلعَذَابُ }[الحج‪.]18 :‬‬
‫ولم َي ُقلْ‪ :‬والناس‪ .‬ثم قال‪َ {:‬وكَثِيرٌ َ‬
‫هذا هو الحال في النسان المكرّم الذي اختاره ال وترك له الختيار‪ ..‬إنما كل الجناس مُؤدّيه‬
‫واجبها؛ لنها أخذتْ حظّها من الختيار الول‪ ،‬فاختارت أن تكون مُسخّرة‪ ،‬وأن تكون مقهورة‪.‬‬
‫فالنسان‪ ..‬واحد يقول‪ :‬ل إلهَ في الوجود‪ ..‬العالم خُلِق هكذا بطبيعته‪ ،‬وآخر يقول‪ :‬بل هناك آلهة‬
‫متعددة؛ لن العالم به مصالح كثيرة وأشياء ل ينهض بها إله واحد‪ ..‬يعني‪ :‬إله للسماء‪ ،‬وإله‬
‫للرض‪ ،‬وإله للشمس‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هذا رأي في العالم أشياء كثيرة بحيث ل ينهض بها في نظره إله واحد‪ ،‬ونقول له‪ :‬أنت‬
‫شيْءٌ }[الشورى‪:‬‬
‫أخذتَ قدرة الله من قدرة الفردية فيك‪ ..‬ل‪ ..‬خُذها من قدرة من‪ {:‬لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫‪.]11‬‬
‫لن القدرة اللهية ل تعالج الشياء كما تفعل أنت‪ ،‬وتحتاج إلى مجهود وعمل‪ ..‬بل في حقّه تعالى‬
‫يتم هذا كله بكلمة كُنْ‪ ..‬كُنْ كذا وانتهت المسألة‪.‬‬
‫ونعجب من تناقض هؤلء‪ ،‬واحد يقول‪ :‬الكون خُلِق هكذا لحاله دون إله‪ .‬والخر يقول‪ :‬بل له‬
‫آلهة متعددة‪ ..‬نقول لهم‪ :‬أنتم متناقضون‪ ،‬فتعاَلوْا إلى دين ال‪ ،‬وإلى الوسطية التي تقول بإله واحد‪،‬‬
‫ل تنفي اللوهية ول تثبت التعددية‪.‬‬
‫ب الكون يقتضي أجهزة كثيرة لدارته‪ ،‬فاعلم أن ال تعالى ل يباشر تدبير‬
‫ن كنتَ تظنّ أن دول َ‬
‫فإ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أمر الكون بعلج‪ ..‬يفعل هذه ويفعل هذه‪ ،‬كما يُزاول البشر أعمالهم‪ ،‬بل يفعلها بـ " كُنْ "؛ ولذلك‬
‫فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي‪ " :‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم‪ ،‬وحيّكم‬
‫وميتكم‪ ،‬ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد‪ ،‬فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته‪،‬‬
‫فأعطيت كل سائل منكم ما سأل ما نقص ذلك من مُلْكي إل كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه‬
‫إبرة ثم رفعها إليه‪ ،‬ذلك بأنّي جواد ماجد‪ ،‬افعل ما أريد‪ ،‬عطائي كلم‪ ،‬وعذابي كلم‪ ،‬إنما أمري‬
‫بشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون "‪.‬‬

‫فيا مَنْ تُشفْق على الله الواحد أن يتعبَ من إدارته للكون بشتى نواحيه‪ ،‬ارتفع بمستوى اللوهية‬
‫عن أمثال البشر؛ لن ال تعالى ل يباشر سلطانه علجا في الكون‪ ،‬وإنما يباشره بكلمة " كُنْ "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إله واحد يكفي‪ ،‬وما ُدمْنا سلّمنا بإله واحد‪ ،‬فإياك أن تقول بتعدّد اللهة‪ ..‬وإذا كان الحق‬
‫تبارك وتعالى نفى إلهين اثنين‪ ،‬ف َنفْي ما هو أكثر من ذلك َأوْلَى‪ ..‬واثنان أقل صُور التعدد‪.‬‬
‫ومعنى } إِلـاهَيْنِ { أي‪ :‬معبودين‪ ،‬فيكون لهما أوامر ونواه‪ ،‬والوامر والنواهي تحتاج إلى طاعة‪،‬‬
‫والكون يحتاج إلى تدبير‪ ،‬فأيّ اللهين يقوم بتدبير أمور الكون؟ أم أنه يحتاج إلى مُسَاعد؟ إنْ كان‬
‫يحتاج إلى مساعد فهذا نقْص فيه‪ ،‬ول يصلح أن يكون إلها‪.‬‬
‫ل منهما في عمل ما‪ ،‬هذا لكذا وهذا لكذا‪ ،‬فقد أصبح أحدهما عاجزا فيما‬
‫وكذلك إنْ تخصّص ُك ّ‬
‫يقوم به الخر‪ ..‬وأي ناحية إذن من نواحي الحياة تكون هي المسيطرة؟ ومعلوم أن نواحي الحياة‬
‫مشتركة ومتشابكة‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى‪َ {:‬ومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذا لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَقَ وََلعَلَ‬
‫ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ‪[} ...‬المؤمنون‪.]91 :‬‬
‫َب ْع ُ‬
‫وقال‪َ {:‬لوْ كَانَ فِي ِهمَآ آِلهَةٌ ِإلّ اللّهُ َلفَسَدَتَا }[النبياء‪.]22 :‬‬
‫فكيف الحال إذا أراد الول شيئا‪ ،‬وأراد الخر ألّ يكون هذا الشيء؟ فإنْ كان الشيء كان عجزا‬
‫عجْز في الخر‪.‬‬
‫في الثاني‪ ،‬وإن لم يكُن كان عجزا في الول‪ ..‬إذن‪ :‬فقوة أحدهما َ‬
‫ونلحظ في قوله تعالى‪:‬‬
‫} َوقَالَ اللّ ُه لَ تَتّخِذُواْ إِلـاهَيْنِ اثْنَيْنِ { [النحل‪.]51 :‬‬
‫عظة بليغة‪ ،‬كأنه سبحانه حينما دعانا إلى توحيده يقول لنا‪ :‬أريحوا أنفسكم بالتوحيد‪ ،‬وقد أوضح‬
‫ن وَرَجُلً‬
‫الحق سبحانه وتعالى هذه الراحة في قوله‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُتَشَاكِسُو َ‬
‫ح ْمدُ للّهِ َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ }[الزمر‪.]29 :‬‬
‫جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً الْ َ‬
‫سَلَما لّ َر ُ‬
‫يعني رجل خُلّص لسيد واحد‪ ،‬ورجل أسياده كثيرون‪ ،‬وهم شركاء مختلفون‪ ،‬فإنْ أرضى هذا‬
‫أغضب ذاك‪ ،‬وإن احتاجه أحدهما تنازعه الخر‪ .‬فهو دائما مُتْعبٌ مُثقَلٌ‪ ،‬أما المملوك لسيد واحد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فل يخفي ما فيه من راحة‪.‬‬
‫ففي أمره سبحانه بتوحيده راحةٌ لنا‪ ،‬وكأنه سبحانه يقول‪ :‬لكم وِجْهة واحدة تكفيكم ُكلّ الجهات‪،‬‬
‫وتضمن لكم أن الرضا واحد‪ ،‬وأن ال ُبغْض واحد‪.‬‬
‫ش ِهدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ‬
‫إذن‪ :‬فطلبُه سبحانه راحةٌ لنا؛ لذلك قبل أن يطلبها مِنّا شهد بها لذاته تعالى‪ ،‬فقال‪َ {:‬‬
‫إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }‬

‫[آل عمران‪.]18 :‬‬


‫فلو قال معترض‪ :‬كيف يشهد لذاته؟ نقول‪ :‬نعم‪ ،‬يشهد لذاته سبحانه؛ لنه ل أحدَ غيره‪ ..‬ل أحد‬
‫معه‪ ،‬فشهادة الذات للذات هنا شيء طبيعي‪ ..‬وكأنه سبحانه يقول‪ :‬ل أحدَ غيري‪ ،‬وإنْ كان هناك‬
‫إله غيري فَلْيُرني نفسه‪ ،‬وليُفصِح عن وجوده‪.‬‬
‫أنا ال خلقت الكون وأخذته وفعلتُ كذا وكذا‪ ،‬فإما أنْ أكون صادقا فيما قلت وتنتهي المسألة‪ ،‬وإما‬
‫أنْ أكون غير صادق‪ ،‬وهناك إله آخر هو الذي خلق‪ ..‬فأين هو؟ لماذا ل يعارضني؟‬
‫وهذا لم يحدث ولم ينازع ال في خَلْقه أحد‪ ،‬وحين تأتي الدعوى بل معاند ول معارض تَسْلَم‬
‫لصاحبها‪.‬‬
‫ن كان المر كذلك فهم‬
‫فإنْ قال قائل‪ :‬لعل اللهة الخرى لم تَدْرِ بأن أحدا قد أخذ منهم اللوهية‪ ،‬فإ ْ‬
‫ل يصلُحون لللوهية لعدم درايتهم‪ ،‬وإنْ دَ َروْا ولم يعارضوا فهُمْ جُبناء ل يستحقون هذه المكانة‪.‬‬
‫وبشهادته سبحانه لذاته بأنه ل إله إل هو أقبل على خَلْق الخَلْق؛ لنه مادام يعرف أنه ل إله غيره‪،‬‬
‫فإذا قال‪ " :‬كن " فهو واثق أنه سيكون‪.‬‬
‫ن تفعلوا أو‬
‫حكْما غيبيا يقول‪ :‬أنا حكمت هذا الحكم مع أنكم مختارون في أ ْ‬
‫ولذلك ساعة يحكم ال ُ‬
‫ل تفعلوا‪ ،‬ولكني حكمتُ بأنكم ل تفعلون‪ ،‬وما ُد ْمتُ حكمت بأنكم ل تفعلون ولكم قدرة أن تفعلوا‪،‬‬
‫ن تفعلوا‪.‬‬
‫ولكن ما فعلتم‪ ،‬فهذا دليل على أنه ل إله غيري يُعينكم على أ ْ‬
‫شهِدَ اللّهُ‬
‫ثم شهدتْ الملئكة على شهادة الذات‪ ،‬وشهد أولو العلم شهادةَ الستدلل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬‬
‫أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُه َو وَا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَُأوْلُواْ ا ْلعِلْمِ‪[} ..‬آل عمران‪.]18 :‬‬
‫لنا هنا َوقْفة مع قوله تعالى‪:‬‬
‫} إِلـاهَيْنِ اثْنَيْنِ‪[ { ...‬النحل‪.]51 :‬‬
‫فعندنا العدد‪ ،‬وعندنا المعدود‪ ،‬فإذا قُلْنا مثلً‪ :‬قابلت ثلثة رجال‪ ،‬فكلمة " ثلثة " دلتْ على العدد‪،‬‬
‫وكلمة " رجال " دّلتْ على جنس المعدود‪ ،‬وهكذا في جميع العداد ما عدا المفرد والمثنى‪ ،‬فلفظ‬
‫كل منهما يدل على العدد والمعدود معا‪.‬‬
‫كما لو قلت‪ :‬إله‪ .‬فقد دّلتْ على الوحدة‪ ،‬ودلتْ على الجنس‪ ،‬وكذلك " إلهين " دّلتْ على المثنى‬
‫وعلى جنس المعدود‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولذلك كان يكفي في الية الكريمة أن يقول تعالى‪ :‬ل تتخذوا إلهين؛ لنها دّلتْ على العدد وعلى‬
‫المعدود معا‪ ،‬ولكن الحق تبارك وتعالى أراد هذا تأكيدا للمر العقديّ لهميته‪.‬‬
‫ومن أساليب العرب إذا أحبّوا تأكيد الكلم أن يأتوا بعده بالمراد‪ .‬فيقولون‪ :‬فلن قسيم وسيم‪ ،‬وفلن‬
‫حَسن بَسَن‪ ،‬وفلن شيطان ليطان‪ ،‬يريدون تأكيد الصفة‪ ..‬وكذلك في قوله‪ } :‬إِلـاهَيْنِ { فقط تثبت‬
‫اللوهية‪ ،‬ولتأكيد هذه القضية العقدية لنها أهمّ القضايا بالنسبة للنسان‪ ،‬وهي قضية القمة‪ ،‬فقال‬
‫تعالى‪:‬‬
‫} إِلـاهَيْنِ اثْنَيْنِ { [النحل‪.]51 :‬‬
‫وكذلك أيضا في قوله‪:‬‬
‫} إِ ّنمَا ُهوَ إِلـاهٌ وَاحِدٌ { [النحل‪.]51 :‬‬
‫فجاء بقوله تعالى } وَاحِدٌ { لتأكيد وحدانية ال تعالى‪.‬‬

‫وفي الية مَلْحظ آخر يجب تأمّله‪ ،‬وهو أن الكلم هنا في حالة الغيبة‪:‬‬
‫} إِ ّنمَا ُهوَ إِلـاهٌ وَاحِدٌ { [النحل‪.]51 :‬‬
‫فكان القياس في اللغة هنا أن يقول‪ " :‬فإياه فارهبون "‪.‬‬
‫ولكن وراء تحويل السياق من الغيبة إلى المجابهة للمتكلم قال‪:‬‬
‫} فَإيّايَ فَارْهَبُونِ { [النحل‪.]51 :‬‬
‫وهذا وراءه حكمة‪ ،‬ومَلْحظ بلغي‪ ،‬فبعد أنْ أكّد اللوهية بقوله تعالى‪:‬‬
‫} إِ ّنمَا ُهوَ إِلـاهٌ وَاحِدٌ { [النحل‪.]51 :‬‬
‫صَحّ أنْ يُجا ِبهَهم بذاته؛ لن المسألة ما دامتْ مسألة رَهْبة‪ ،‬فالرهبة من المتكلم خير من الرهبة من‬
‫الغائب‪ ..‬وكأن السياق يقول‪ :‬ها هو سبحانه أمامك‪ ،‬وهذا َأدْعى للرهْبة‪.‬‬
‫حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * الرّحْمـانِ الرّحِيمِ * مَـاِلكِ َيوْمِ الدّينِ }‬
‫وكذلك في فاتحة الكتاب نقرأ‪ {:‬ا ْل َ‬
‫[الفاتحة‪.]4-2 :‬‬
‫ولم َي ُقلْ‪ :‬إياه نعبد‪ ،‬متابعة للغيبة‪ ،‬بل تحوّل إلى ضمير الخطاب فقال‪ {:‬إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ }‬
‫[الفاتحة‪.]5 :‬‬
‫ذلك لن العبد بعد أن استحضر صفة الجلل والعظمة أصبح أَهْلً للمواجهة والخطاب المباشر مع‬
‫ال عز وجل‪.‬‬
‫فقوله‪:‬‬
‫} فَإيّايَ فَارْهَبُونِ { [النحل‪.]51 :‬‬
‫بعد ما استحضر العبد عظمة ربه‪ ،‬وأقرّ له بالوحدانية وعَلِم أنه إله واحد‪ ،‬وليس إلهين‪ .‬واحد‬
‫يقول‪ :‬نُعذّبه‪ .‬والخر يقول‪ :‬ل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ليس المر كذلك‪ ،‬بل إله واحد بيده أنْ يُعذّب‪ ،‬وبيده أنْ يعفو‪ ،‬فناسب السياق هنا أنْ يُواجههم‬
‫فيقول‪:‬‬
‫} فَإيّايَ فَارْهَبُونِ { [النحل‪.]51 :‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وََلهُ مَا فِي الْ ّ‬

‫(‪)1936 /‬‬

‫ن وَاصِبًا َأ َفغَيْرَ اللّهِ تَ ّتقُونَ (‪)52‬‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَلَهُ الدّي ُ‬
‫وَلَهُ مَا فِي ال ّ‬

‫عندنا هنا اللم‪ ..‬وقد تكون (اللم) للمِلْك كما في الية‪ .‬وكما في‪ :‬المال لزيد‪ ،‬وقد تكون‬
‫للتخصيص إذا دخلتْ اللم على ما ل يملك‪ ،‬كما نقول‪ :‬اللجام للفرس‪ ،‬والمفتاح للباب‪ ،‬فالفرس ل‬
‫يملك اللجام‪ ،‬والباب ل يملك المفتاح‪ .‬فهذه للتخصيص‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول هنا‪:‬‬
‫ت وَالَ ْرضِ‪[ } ...‬النحل‪.]52 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ وَلَهُ مَا فِي ا ْل ّ‬
‫سمَاوَات َومَا فِي الَ ْرضِ }[يونس‪.]68 :‬‬
‫وفي موضع آخر يقول‪َ {:‬لهُ مَا فِي ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }[الحشر‪.]24 :‬‬
‫وكذلك في‪ {:‬يُسَبّحُ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ }[الجمعة‪.]1 :‬‬
‫ومرة يقول‪ {:‬يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫حينما تكون اللم للملكية قد يكون المملوك مختلفا ففي قوله‪:‬‬
‫ت وَالَرْضِ‪[ } ...‬النحل‪.]52 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ مَا فِي الْ ّ‬
‫يعني‪ :‬القدر المشترك الموجود فيهما‪ .‬أي‪ :‬الشياء الموجودة في السماء وفي الرض‪.‬‬
‫سمَاوَات َومَا فِي الَ ْرضِ }[يونس‪.]68 :‬‬
‫أما في قوله‪ {:‬مَا فِي ال ّ‬
‫أي‪ :‬الشياء الموجودة في السماء وليست في الرض‪ ،‬والشياء الموجودة في الرض وليست في‬
‫السماء‪ ،‬أي‪ :‬المخصّص للسماء والمخصّص للرض‪ ،‬وهذا ما يُسمّونه استيعاب الملكية‪.‬‬
‫وما دام سبحانه له ما في السماوات وما في الرض‪ ،‬فليس لحد غيره مِلْكية مستقلة‪ ،‬وما دام ليس‬
‫لحد غيره ملكية مستقلة‪ .‬إذن‪ :‬فليس له ذاتية وجود؛ لن وجوده الول موهوبٌ له‪ ،‬وما به قيام‬
‫وجوده موهوب له‪ ..‬ولذلك يقولون‪ :‬مَنْ أراد أن يعاند في اللوهية يجب أن تكون له ذاتية‬
‫وجود‪ ..‬وليست هذه إل ل تعالى‪.‬‬
‫ونضرب لذلك مثلً بالولد الصغير الذي يعاند أباه‪ ،‬وهو ما يزال عَالةً عليه‪ .‬فيقول له‪ :‬انتظر إلى‬
‫شبّ الولد وبلغ وبدأ في الكَسْب أمكن له العتماد على نفسه‪،‬‬
‫أن تكبر وتستقلّ بأمرك‪ ..‬فإذا ما َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والستغناء عن أبيه‪.‬‬
‫لذلك نقول لمن يعاند في اللوهية‪ :‬أنت ل تقدر؛ لن وجودك هِبَة‪ ،‬وقيام وجودك هِبَة‪ ،‬كل شيء‬
‫يمكن أنْ يُنزع منك‪.‬‬
‫طغَىا *‬
‫ن الِنسَانَ لَيَ ْ‬
‫ولذلك‪ ،‬فالحق سبحانه وتعالى يُنبّهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى‪ {:‬كَلّ إِ ّ‬
‫أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق‪.]7-6 :‬‬
‫فهذا الذي رأى نفسه استغنى عن غيره ـ من وجهة نظره ـ إنما هل استغنى حقا؟‪ ..‬ل‪ .‬لم‬
‫يستغن‪ ،‬بدليل أنه ل يستطيع أنْ يحتفظَ بما يملك‪.‬‬
‫قوله تعالى‪:‬‬
‫ت وَالَ ْرضِ‪[ } ...‬النحل‪.]52 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ وَلَهُ مَا فِي ا ْل ّ‬
‫الذي له ما في السماوات والرض‪ ،‬وبه قيام وجوده بقيوميته‪ ،‬فهو سبحانه يُطمئِنك ويقول لك‪ :‬أنا‬
‫قيّوم ـ يعني‪ :‬قائم على أمرك‪ ..‬ليس قائما فقط‪ ..‬بل قيّوم بالمبالغة في ال ِفعْل‪ ،‬وما دام هو سبحانه‬
‫القائم على أمرك إيجادا من عَدَم‪ ،‬وإمدادا من عُدم‪ .‬إذن‪ :‬يجب أن تكون طاعتُك له سبحانه ل‬
‫لغيره‪.‬‬
‫وفي المثال يقولون " اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي " فإذا كنتَ أنت عالة في الوجود‪.‬‬

‫‪ .‬وجودك من ال‪ ،‬وإمدادك من ال‪ ،‬وإبقاء مُقوّمات حياتك من ال؛ لذلك قال تعالى‪:‬‬
‫ن وَاصِبا { [النحل‪.]52 :‬‬
‫} وَلَهُ الدّي ُ‬
‫أي‪ :‬هذه نتيجة؛ لن ل ما في السماوات والرض‪ ،‬فَلَه الدين واصبا‪ ،‬أي‪ :‬له الطاعة والخضوع‬
‫دائما مستمرا‪ ،‬ومُلْك ال دائم‪ ،‬وهو سبحانه ل يُسلم مُ ْلكَه لحد‪ ،‬ول تزال يد ال في مُلْكه‪ ..‬وما دام‬
‫المر هكذا فالحق سبحانه يسألهم‪:‬‬
‫} َأ َفغَيْرَ اللّهِ تَ ّتقُونَ { [النحل‪.]52 :‬‬
‫حمْق ل يليق بك‪ ،‬وقد‬
‫ن تتقيَ غير ال‪ ،‬لنه ُ‬
‫والهمزة هنا استفهام للنكار والتوبيخ‪ ،‬فل يجوز أ ْ‬
‫علمتَ أن ل ما في السماوات وما في الرض‪ ،‬وله الطاعة الدائمة والنقياد الدائم‪ ،‬وبه سبحانه‬
‫قامت السماوات والرض ومنه سبحانه اليجاد من عَدَم والمداد من عُدم‪.‬‬
‫حمْق في التصرّف‬
‫حمْق أنْ تتقي غيره‪ ،‬وهو َأوْلى بالتقوى‪ ،‬فإنِ اتقيتُم غيره فذلك ُ‬
‫إذن‪ :‬فمن ال ُ‬
‫يؤدّي إلى العطَب والهلك‪ ،‬إنِ اغتررتم بأن ال تعالى أعطاكم ِنعَما ل ُتعَ ّد ول تُحصَى‪.‬‬
‫حتْ‬
‫ومن نعم ال أن يضمن لعباده سلمة الملكَات وما حولها‪ ،‬فلو سَلِم العقل مثلً سَلِمت وصَ ّ‬
‫المور التي تتعلق به‪ ،‬فيصحّ النظام‪ ،‬وتصحّ التصَرّفات‪ ،‬ويصحّ القتصاد‪ ..‬وهذه نعمة‪.‬‬
‫فالنعمة تكون للقلب وتكون للقالب‪ ،‬فللقالب المتعة المادية‪ ،‬وللقلب المتعة المعنوية‪ ..‬وأهم المتَع‬
‫المعنوية التي تريح القالب أن يكون للنسان دينٌ يُوجّهه‪ ..‬أن يكون له ربّ قادر‪ ،‬ل يُعجِزه شيء‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن ضاقتْ به الدنيا‪ ،‬وضاقتْ به السباب فإن له ربا يَلجأ إليه فيُسعفه ويكيفه‪ ،‬وهذه هي الراحة‬
‫فإ ْ‬
‫الحقيقة‪.‬‬
‫وقد ضمن لنا الحق ـ سبحانه وتعالى ـ سلمة القالب بما أودع في الكون من مُقوّمات الحياة في‬
‫قوله‪َ {:‬وقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا‪[} ..‬فصلت‪.]10 :‬‬
‫أي‪ :‬اطمئنوا إلى هذا المر‪ ،‬فال سبحانه ل يريد منكم إل أنْ تُعمِلوا عقولكم المخلوقة ل لِتُفكّروا‬
‫في المادة المخلوقة ل‪ ،‬وتنفعلوا لها بالطاقة المخلوقة ل في جوارحكم‪ ،‬وسوف تجدون كلّ شيء‬
‫مُيسّرا لكم‪ ..‬فال تعالى ما أراد منكم أنْ تُوجِدوا رزقا‪ ،‬وإنما أراد أن تُعمِلوا العقل‪ ،‬وتتفاعلوا مع‬
‫ُمعْطيات الكون‪.‬‬
‫ولكن كيف يتفاعل النسان في الحياة؟‬
‫هناك أشياء في الوجود خلقها ال سبحانه برحمته وفضله‪ ،‬فهي تفعل لك وإنْ لم تطلب منها أن‬
‫تفعل‪ ،‬فأنت ل تطلب من الشمس أنْ تطلُع عليك‪ ،‬ول من الهواء أنْ َي ُهبّ عليك‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫ن فعلتَ بيدك فحر ْثتَ‬
‫ت معها‪ ،‬كالرض إ ْ‬
‫ت منها‪ ،‬وتفاعل َ‬
‫وهناك أشياء أخرى تفعل لك إنْ طلب َ‬
‫عتَ ورو ْيتَ تعطيك ما تريد‪.‬‬
‫وزر ْ‬
‫وفي هذا المجال من التفاعل يتفاضل الناس‪ ،‬ل يتفاضلون فيما يُفعل لهم دون انفعال منهم‪ ..‬ل بل‬
‫ارتقاء الناس وتفاضُلهم يكون بالشياء التي تنفعل لهم إنْ فعلوا‪ ..‬أما الخرى فتَفعل لكل الناس‪،‬‬
‫فالشمس والهواء والمياه للجميع‪ ،‬للمؤمن وللكافر في أيّ مكان‪.‬‬

‫إذن‪ :‬يترقّى النسان بالشياء التي خلقها ال له‪ ،‬فإذا انفعل معها انفعلتْ له‪ ،‬وإذا تكاسل وتخاذل لم‬
‫ُتعْطِه شيئا‪ ،‬ول يستفيد منها بشيء‪ ..‬ولذلك قد يقول قائل‪ :‬الكافر عنده كذا وكذا‪ ،‬ويملك كذا وكذا‪،‬‬
‫وهو كافر‪ ..‬ويتعجّب من القدر الذي أَعطَى هذا‪ ،‬وحرَم المؤمن الموحد منه‪.‬‬
‫نقول له‪ :‬نعم أخذ ما أخذ؛ لنه يشترك معك فيما يُفعل لك وإنْ لم تطلب‪ ،‬ويزيد عليك أنه يعمل‬
‫ويك ّد وينفعل مع الكون وما أعطاه ال من مُقوّمات وطاقة‪ ،‬فتنفعل معه وتعطيه‪ ،‬في حين أنك قاعد‬
‫ل ِهمّة لك‪.‬‬
‫وكذلك قد يتسامى الرتقاء في النسان‪ ،‬فيجعل الشيء الذي يُفعل له دون أن يطلب منه ـ أي‪:‬‬
‫الشيء المسخّر له ـ يجعله ينفعل له‪ ،‬كما نرى فيما توصّل إليه العلم من استخدام الطاقة الشمسية‬
‫جهْد مِنّا‪ ،‬ولكن ترقّي النسان وطموحه‬
‫مثلً في تسخين المياه‪ ..‬هذه الطاقة مُسخّرة لنا دون َ‬
‫أوصله إلى هذا الرتقاء‪ ..‬و ُكلّ هذه ِنعَم من ال؛ ولذلك قال تعالى‪َ } :‬ومَا ِبكُم مّن ّن ْعمَةٍ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1937 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكُمُ الضّرّ فَإِلَيْهِ َتجْأَرُونَ (‪)53‬‬
‫َومَا ِب ُكمْ مِنْ ِن ْعمَةٍ َفمِنَ اللّهِ ثُمّ ِإذَا مَ ّ‬

‫حصَى‪ ،‬ولكن لرتابة النعمة‬


‫أمدّنا ال سبحانه بهذه النعم رحمة منه وفضلً‪ِ ..‬نعَم تترى ل ُتعَد ول تُ ْ‬
‫وحلولها في وقتَها يتعوّدها النسان‪ ،‬ثم يذهل عن المنعم سبحانه‪.‬‬
‫ل كل أول شهر‪ ،‬تجده ل يحرص‬
‫ونستطيع أن نضرب لذلك مثلً بالولد الذي تعطيه مصروفه مث ً‬
‫على أنْ يلقاك بعد ذلك إل كل أول شهر‪ ،‬إنما إذا عوّدته أن يأخذ مصروفه كل يوم تراه في‬
‫الصباح يحوم حولك‪ ،‬ويُظهِر لك نفسه ليُذكّرك بالمعلوم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬رتابة النعمة قد تُذهِلك عن المُنعِم‪ ،‬فل تتذكره إل حين الحاجة إليه؛ لذا يُنبّهنا الحق تبارك‬
‫وتعالى‪ :‬إذا أعطيتُ لكم نعمة فإياكم أنْ تغتروا بها‪ ..‬إياكم أن تُذهِلكم النعمة عن المنعم؛ لنكم‬
‫سوف تحكمون على أنفسكم أنه ل مُنعِم غيري‪ ،‬بدليل أنني إذا سل ْبتُ النعمة منكم فلن تجدوا غيري‬
‫تلجأون إليه فستقولون‪ :‬يا ربّ يا ربّ‪.‬‬
‫فأنت ستكون شاهدا على نفسك‪ ،‬لن تكذب عليها‪ ،‬فَِلمَنْ تتوجّه إذا أصابك فقر؟ ولمن تتوجّه إذا‬
‫أصابك مرض؟ لن تتوجّه إل إلى ال تقول‪ :‬يا رب‪.‬‬
‫سكُمُ الضّرّ فَإِلَ ْيهِ تَجْأَرُونَ } [النحل‪.]53 :‬‬
‫{ ُثمّ إِذَا مَ ّ‬
‫فترة الضّر التي تمرّ بالنسان هي التي تلفته إلى ال‪ ،‬والحاجة هي التي تُلجئه إلى المصدر‬
‫الحقيقي للمداد‪ ،‬فإذا كانت النعمة قد تُذهِله وتُنسِيه‪ ،‬فالضر يُذكّره بربّه الذي يملك وحده كَشْف‬
‫الضر عنه‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فالناس أصحاب اليقين في ال تعالى ساعةَ أنْ يصيبهم ضُرّ‪ ،‬يقول‪ :‬ذكّرتني بك يا ربّ‪،‬‬
‫يأخذها على أنها نعمة‪ ..‬كأنها نجدة نجدتْه مما هو فيه من غفلة‪ ..‬يا ربّ أنت ذكّرتني بك‪ ..‬أنا‬
‫كنتُ ناسيا ذاهلً‪ ..‬كنت في غفلة‪.‬‬
‫وساعةَ أنْ يعودَ ويشعر بالتقصير يرفع ال عنه البلء؛ وذلك يُرفع القضاء عن العبد إنْ رضي به‬
‫وعلم أن فيه خيرا له‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فالرسول صلى ال عليه وسلم يُنبّهنا لهذه الحداث التي تصيبنا‪ ،‬فإياكم أن تستقبلوها‬
‫بالجزع والفزع‪ ..‬ولكن استقبلوها باليمان والرضا‪ ،‬واعلموا أن ربكم يغار عليكم‪ ،‬وهو بهذه‬
‫الحداث يلفتكم إليه قهرا عنكم؛ لكي تعودوا إليه وتلجأوا إليه‪ ..‬لكي تقولوا يا رب‪.‬‬
‫يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم عن رب العزة في الحديث القدسي‪ " :‬مِنْ عبادي مِنْ أحبهم‬
‫فأنا أبتليهم ليقولوا يا رب‪." ...‬‬
‫ويقول تعالى في الية الخرى‪ {:‬فََلوْل إِذْ جَآ َءهُمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُواْ‪[} ...‬النعام‪.]43 :‬‬
‫أي‪ :‬أنه سبحانه يريد منا إذا نزل بنا بلء وبأس أنْ نتضرّع إليه سبحانه؛ لن الضراعة إلى ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َلفْتة وتذكير به‪ ..‬والنبي صلى ال عليه وسلم يُرشِدنا إلى هذه الحقيقة‪ ،‬فالمصاب الحقيقي ليس مَنْ‬
‫نزل به ضُرّ أو أصابه بلء‪ ..‬ل‪ ..‬بل المصاب الحقيقي مَنْ حُرِم الثواب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نقول لمن عنده نعمة‪ :‬احذر أن تُنسيِك النعمة وتُذهلك عن المنعم‪ ،‬أما صاحب البلء والضر‪،‬‬
‫فسوف يردّك هذا البلء‪ ،‬ويُذكّرك هذا الضرّ بال تعالى‪ ،‬ولن تجدَ غيره تلجأ إليه‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪:‬‬
‫{ فَإِلَ ْيهِ تَجْأَرُونَ } [النحل‪.]53 :‬‬
‫أي‪ :‬تضْرَعون بصراخ وصوت عالٍ كخُوار البقر‪ ،‬ل يُس ّرهِ أحد ول يستحي منه أنْ يُفتضح أمره‬
‫أمام مَنْ تكبّر عليهم‪ ..‬ويا ليتكم حين ينتابكم مثل ذلك تعتبرون به وتتعِظُون‪ ،‬وتقولون في لحظة‬
‫من اللحظات‪ :‬سوف تلجئنا الحداث إلى ربنا‪ ..‬بل بالعكس حينما نكشف عنكم الضر سوف‬
‫تعودون إلى ما كنتم عليه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫شفَ الضّرّ‪.} ....‬‬
‫{ ُثمّ إِذَا كَ َ‬

‫(‪)1938 /‬‬

‫شفَ الضّرّ عَ ْنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِ ْنكُمْ بِرَ ّبهِمْ ُيشْ ِركُونَ (‪)54‬‬
‫ثُمّ ِإذَا كَ َ‬

‫فمن الناس مَنْ إذا أصابه ال بضُرّ أو نزل به ب ْأسٌ تضرّع وصرخ ولجأ إلى ال ودعاه‪ ،‬وربما‬
‫سالتْ دموعه‪ ،‬وأخذ يُصلّي ويقول‪ :‬يا فلن ا ْدعُ لي ال وكذا وكذا‪ ..‬فإذا ما كشف ال عنه ضُرّه‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ‬
‫عاود الكَرّة من جديد؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى‪ {:‬وَإِذَا مَ ّ‬
‫شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ‪[} ...‬يونس‪.]12 :‬‬
‫قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ‬
‫ومن ُلطْف الداء القرآني هنا أن يقول‪:‬‬
‫{ ِإذَا فَرِيقٌ مّ ْنكُم بِرَ ّبهِمْ ُيشْ ِركُونَ } [النحل‪.]54 :‬‬
‫أي‪ :‬جماعة منكم وليس كلكم‪ ،‬أما الباقي فيمكن أنْ يثبتُوا على الحق‪ ،‬ويعتبروا بما نزل بهم فل‬
‫يعودون‪ ..‬فالناس ـ إذن ـ مختلفون في هذه القضية‪ :‬فواحد يتضرّع ويلتفت إلى ال من ضُرّ‬
‫واحد أصابه‪ ،‬وآخر يلتفت إلى ال من ضُرّيْن‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وقد وجدنا في الحداث التي م ّرتْ ببلدنا على أكابر القوم أحداثا عظاما تلفتهم إلى ال‪ ،‬فرأينا مَنْ‬
‫ل يعرف طريق المسجد يُصلّي‪ ،‬ومَنْ ل يفكر في حج بيت ال‪ ،‬ويسرع إليه ويطوف به ويبكى‬
‫هناك عند الملتزم‪ ،‬وما ألجأهم إلى ال ولفتهم إليه سبحانه إل ما مرّت بهم من أحداث‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أليست هذه الحداث‪ ،‬وهذه الزمات والمصائب خيرا في حقهم؟‪ ..‬بلى إنها خير‪.‬‬
‫وأيضا قد يُصاب النسان بمرض يُِلمّ به‪ ،‬وربما يطول عليه‪ ،‬فيذهب إلى الطباء‪ ،‬ويدعو ال‬
‫ويلجأ إليه‪ ،‬ويطلب من الناس الدعاء له بالشفاء‪ ،‬ويعمل كذا وكذا‪ ..‬فإذا ما كشف ال عنه المرض‬
‫ت وعملتُ‪ ..‬سبحان ال!‬
‫وأَذِن له بالشفاء قال‪ :‬أنا اخترتُ الطبيب الحاذق‪ ،‬الطبيب النافع‪ ،‬وعمل ُ‬
‫لماذا ل تترك المر ل‪ ،‬وتُعفِي نفسك من هذه العملية؟‬
‫وفي قوله تعالى‪:‬‬
‫شفَ الضّرّ عَ ْنكُمْ ِإذَا فَرِيقٌ مّ ْنكُم بِرَ ّبهِمْ يُشْ ِركُونَ } [النحل‪.]54 :‬‬
‫{ ُثمّ إِذَا كَ َ‬
‫صمام َأمْن اجتماعي في الكون‪ ،‬يقول للناس‪ :‬إياكم أن تأخذوا على غيركم حين تُقدمون إليهم‬
‫جميلً فيُنكرونه‪ ..‬إياكم أنْ تكّفوا عن عمل الجميل على غيركم؛ لن هذا النكار للجميل قد فعلوه‬
‫مع أعلى منكم‪ ،‬فعلوه مع ال سبحانه‪ ،‬فل يُزهدك إنكارهم للجميل في ِفعْله‪ ،‬بل تمسّك به لتكون‬
‫من أهله‪.‬‬
‫ل لنكار الجميل في قصة سيدنا موسى عليه السلم‪ {:‬ياأَ ّيهَا‬
‫والحق تبارك وتعالى يضرب لنا مث ً‬
‫الّذِينَ آمَنُواْ لَ َتكُونُواْ كَالّذِينَ آ َذوْاْ مُوسَىا فَبرَّأهُ اللّهُ ِممّا قَالُواْ َوكَانَ عِندَ اللّ ِه َوجِيها }[الحزاب‪:‬‬
‫‪.]69‬‬
‫فقد اتهمه قومه وقعدوا يقولون فيه كذبا و ُبهْتانا‪ ،‬فقال موسى‪ :‬يا ربّ أسألك ألّ ُيقَال فيّ ما ليس‬
‫فيّ‪ ..‬فقال تعالى لموسى‪ :‬أنا لم افعل ذلك لنفسي‪ ،‬فكيف أفعلها لك؟‬
‫ولماذا لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه؟‪ ..‬لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه ليعطينا نحن ُأسْوة في تحمّل‬
‫هذا النكار‪ ،‬فقد خلق ال الخَلْق ورزقهم ووَسِعهم‪ ،‬ومع ذلك كفروا به‪ ،‬ومع ذلك ما يزال الحق‬
‫سبحانه خالقا رازقا واسعا لهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬في الية تقنين وأمان للمجتمع أن يتفشى فيه مرض الزّهْد في عمل الخير‪.‬‬
‫وقَوْل الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ بِرَ ّب ِهمْ يُشْ ِركُونَ } [النحل‪.]54 :‬‬
‫تشمل الية مَنْ أنكر الجميل من المؤمنين‪ ،‬ومن الكافرين‪.‬‬
‫ولكن لماذا يشركون؟‬
‫يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬لِ َي ْكفُرُواْ ِبمَآ آتَيْنَاهُمْ‪.} ...‬‬

‫(‪)1939 /‬‬

‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ (‪)55‬‬


‫لِ َي ْكفُرُوا ِبمَا آَتَيْنَاهُمْ فَ َتمَ ّتعُوا فَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫علْمٍ عِندِي }[القصص‪.]78 :‬‬
‫أي‪ :‬مُسْتعظمين كقارون الذي قال‪ {:‬إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا ِ‬
‫ن تقول له‪ :‬الحمد ل الذي وفّقك في المتحان‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا‬
‫أخذتُ هذا َبجْهدي وعملي‪ ..‬ومثله مَ ْ‬
‫كنت ُمجِدا‪ ..‬ذاكرتُ وسهرتُ‪ ..‬نعم أنت ذاكرتَ‪ ،‬وأيضا غيرك ذاكر وجَدّ واجتهد‪ ،‬ولكن أصابه‬
‫مرض ليلة المتحان فأقعده‪ ،‬وربما كنت مثله‪.‬‬
‫فهذه نغمة مَنْ أَنكر الفضل‪ ،‬وتكبّر على صاحب النعمة سبحانه‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫{ لِ َي ْكفُرُواْ‪[ } ...‬النحل‪.]55 :‬‬
‫هل فعلوا ذلك ليكفروا‪ ،‬فتكون اللم للتعليل؟ ل بل قالوا‪ :‬اللم هنا لم العاقبة‪ ..‬ومعناها أنك قد‬
‫تفعل شيئا ل لشيء‪ ،‬ولكن الشيء يحدث هكذا‪ ،‬وليس في بالك أنت‪ ..‬إنما حصل هكذا‪.‬‬
‫عوْنَ لِ َيكُونَ َل ُهمْ عَ ُدوّا‬
‫ومثال هذه اللم في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون‪ {:‬فَالْ َتقَطَهُ آلُ فِرْ َ‬
‫وَحَزَنا‪[} ..‬القصص‪.]8 :‬‬
‫ففرعون حينما أخذ موسى من البحر وتبنّاه وربّاه‪ ،‬هل كان يتبناّه ليكون له عدوا؟ ل‪ ..‬إنما هكذا‬
‫كانت النهاية‪ ،‬لكي يثبت الحق سبحانه أنهم كانوا مُغفّلين‪ ،‬وأن ال حالَ بين قلوبهم وبين ما‬
‫يريدون‪ ..‬إذن‪ :‬المسألة ليستْ مرادة‪ ..‬فقد أخذْته وربّيته في الوقت الذي تقتل فيه الطفال‪ ..‬ألم‬
‫يخطر ببالك أن أحدا خاف عليه‪ ،‬فألقاه في البحر؟!‬
‫لذا يقول تعالى‪ {:‬وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيحُولُ بَيْنَ ا ْلمَ ْر ِء َوقَلْبِهِ‪[} ..‬النفال‪.]24 :‬‬
‫خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ‪} ...‬‬
‫ضعِيهِ فَِإذَا ِ‬
‫وكذلك أم موسى‪ {:‬وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ‬
‫[القصص‪.]7 :‬‬
‫كيف يقبل هذا الكلم؟ وأنّى للم أن ترمي ولدها في البحر إنْ خافت عليه؟! كيف يتأتّى ذلك؟!‬
‫ولكن حالَ ال بين أم موسى وبين قلبها‪ ،‬فذهب الخوف عليه‪ ،‬وذهب الحنان‪ ،‬وذهبت الرأفة‪ ،‬ولم‬
‫تكذّب المر الموجّه إليها‪ ،‬واعتقدت أن نجاة وليدها في هذا فألقتْه‪.‬‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ } [النحل‪.]55 :‬‬
‫وقوله‪ { :‬فَ َتمَ ّتعُواْ فَ َ‬
‫أي‪ :‬اكفروا بما آتيناكم من النعم‪ ،‬وبما كشفنا عنكم من الضر‪ ،‬وتمتعوا في الدنيا؛ لنني لم اجعل‬
‫الدنيا دار جزاء‪ ،‬إنما الجزاء في الخرة‪.‬‬
‫ن يكفر بنعمته‪ ،‬وإلّ فلو‬
‫وكلمة { َتمَ ّتعُواْ } هنا تدل على أن ال تعالى قد يُوالي نعمه حتى على مَ ْ‬
‫حجَب عنهم ِنعَمه فلن يكون هناك تمتّع‪.‬‬
‫َ‬
‫ويقول تعالى‪:‬‬
‫سوْفَ َتعَْلمُونَ } [النحل‪.]55 :‬‬
‫{ َف َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي‪ :‬سوف تروْنَ نتيجة أعمالكم‪ ،‬ففيها تهديد ووعيد‪.‬‬
‫جعَلُونَ ِلمَا لَ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ َي ْ‬

‫(‪)1940 /‬‬

‫عمّا كُنْ ُتمْ َتفْتَرُونَ (‪)56‬‬


‫جعَلُونَ ِلمَا لَا َيعَْلمُونَ َنصِيبًا ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنّ َ‬
‫وَيَ ْ‬

‫أي‪ :‬الذين يكفرون بال ويتخذون الصنام والشركاء‪ ،‬يجعلون لها نصيبا‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ لَ َيعَْلمُونَ‪[ } ..‬النحل‪.]56 :‬‬
‫ما العلم؟‬
‫العلم أن تعرفَ قضية‪ ،‬هذه القضية صِدْق أي‪ :‬مطابقة للواقع وتستطيع أن تُدلّل عليها‪ ،‬فإذا اختلّ‬
‫ن علما‪ ..‬وهؤلء حينما جعلوا للصنام نصيبا‪ ،‬فقد أَ َتوْا بأشياء ل وجودَ لها في‬
‫واحد منها لم تكُ ْ‬
‫الواقع ول في العلم‪ ،‬وليست حقائق‪ ..‬وهل للصنام وجود؟ وهل عليها دليل؟‬
‫سمّيْ ُتمُوهَآ أَن ُت ْم وَآبَآ ُؤكُم مّآ أَن َزلَ اللّهُ ِبهَا مِن سُ ْلطَانٍ‪[} ...‬النجم‪:‬‬
‫سمَآءٌ َ‬
‫قال تعالى‪ {:‬إِنْ ِهيَ ِإلّ أَ ْ‬
‫‪.]23‬‬
‫جعَلُواْ للّهِ ِممّا‬
‫هذه الصنام ليست لها وجود في الحقيقة‪ ،‬وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه‪ {:‬وَ َ‬
‫ع ِمهِمْ وَهَـاذَا لِشُ َركَآئِنَا َفمَا كَانَ ِلشُ َركَآ ِئهِمْ فَلَ‬
‫ث وَالَ ْنعَامِ َنصِيبا فَقَالُواْ هَـاذَا للّهِ بِزَ ْ‬
‫ذَرَأَ مِنَ الْحَ ْر ِ‬
‫ح ُكمُونَ }[النعام‪.]136 :‬‬
‫صلُ إِلَىا شُ َركَآ ِئهِمْ سَآءَ مَا َي ْ‬
‫صلُ إِلَىا اللّ ِه َومَا كَانَ للّهِ َفهُوَ َي ِ‬
‫َي ِ‬
‫حتى لمّا جعلوا للصنام نصيبا جعلوه مما رزقهم ال‪َ ،‬ألَ جعلتم نصيب الصنام مما تعطيكم‬
‫الصنام؟ ونصيب ال مما رزقكم ال؟ فهذا اعتراف منكم بعجز أصنامكم‪ ،‬وأنكم أخذتم رزق ال‬
‫وجعلتموه لصنامكم‪.‬‬
‫وهذا دليل على أن الصنام ل تعطيكم شيئا‪ ،‬وشهادة منكم عليهم‪ ..‬وهل درت الصنام بهذا؟‬
‫إذن‪:‬‬
‫{ ِلمَا لَ َيعَْلمُونَ‪[ } ...‬النحل‪.]56 :‬‬
‫أي‪ :‬للصنام؛ لنها ل وجودَ لها في الحقيقة‪ ،‬وهم يأخذون ما رزقناهم‪ ،‬ويجعلونه لصنامهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪:‬‬
‫عمّا كُنْتُمْ َتفْتَرُونَ } [النحل‪.]56 :‬‬
‫{ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التاء هنا في { تَاللّهِ } للقسم أي‪ :‬وال لَتُسْألُنّ عما افتريتم من أمر الصنام‪ .‬والفتراء‪ :‬هو الكذب‬
‫المتعمد‪.‬‬

‫(‪)1941 /‬‬

‫جعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وََلهُمْ مَا يَشْ َتهُونَ (‪)57‬‬


‫وَيَ ْ‬

‫عمّا ل يليق‪ ،‬فهي هنا تنزيهٌ ل سبحانه‬


‫ساعة أنْ تسمع كلمة { سُبْحَانَهُ } فاعلم أنها تنزيهٌ ل تعالى َ‬
‫وتعالى عما سبق من نسبة البنات له‪ ..‬تعالى ال عن ذلك عُلوا كبيرا‪ ..‬أي‪ :‬تنزيها ل عن أن‬
‫يكونَ له بنات‪.‬‬
‫فهل يمكن أن يكون له أولد ذكور؟‬
‫إنهم جعلوا ل البنات‪ ،‬وجعلوا لنفسهم الذكور‪ ،‬وهذه قسمة قال عنها القرآن الكريم‪َ {:‬أَلكُمُ ال ّذكَرُ‬
‫سمَ ٌة ضِيزَىا }[النجم‪.]22-21 :‬‬
‫وَلَ ُه الُنْثَىا * تِ ْلكَ إِذا قِ ْ‬
‫أي‪ :‬جائرة‪.‬‬
‫لم تجعلوها عادلة‪ ،‬يعني لي ولد ولكم ولد‪ ،‬ولي بنت ولكم بنت‪ ،‬إنما تجعلون ل مَا تكرهون وهي‬
‫جعْلهم ل البنات عيبان‪:‬‬
‫البنات ل‪ ،‬وتجعلون لكم ما تحبون‪ ..‬لذلك كان في َ‬
‫الول‪ :‬أنهم نَسبُوا ل الولد ـ ولو كان ذكرا فهو افتراء باطل يتنزه ال عنه‪.‬‬
‫س النواع في نظرهم‪ ..‬ول يستطيع أحد أن يقول‪ :‬إن البنات أخسّ‬
‫الثاني‪ :‬أنهم اختاروا أخ ّ‬
‫النواع‪ ..‬لماذا؟‬
‫لن بالبنات يكون بقاء النوع؛ ولذلك قال العباس‪ :‬لو سمع ال ما قال الناس في الناس لما كان‬
‫الناس‪ ..‬أي‪ :‬لو استجاب ال لرغبة الناس في أنهم ل يريدون البنات فاستجاب ولم ُيعْطهم‪ ..‬ماذا‬
‫طلَب غبيّ‪ ،‬فالبنت هي التي تَلِد الولد‪ ،‬وبها بقاء النوع واستمرار‬
‫سيحدث؟ سينقطع النسل‪ ،‬فهذا م ْ‬
‫النسل‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ سُبْحَانَهُ‪[ } ...‬النحل‪.]57 :‬‬
‫أي‪ :‬تنزيها له أن يكون له ولد‪ ،‬وتنزيها له سبحانه أن يكون له أخسّ النوعين في نظرهم‬
‫س َودّا وَ ُهوَ‬
‫جهُهُ مُ ْ‬
‫ل وَ ْ‬
‫ظّ‬‫وعرفهم‪ ،‬وقد قال عنهم القرآن في الية التالية‪ {:‬وَإِذَا بُشّرَ َأحَدُ ُهمْ بِالُنْثَىا َ‬
‫كَظِيمٌ * يَ َتوَارَىا مِنَ ا ْلقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشّرَ ِبهِ‪[} ..‬النحل‪.]59-58 :‬‬
‫ت وَالَ ْرضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ولذلك فالحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يُحدّثنا عن النجاب يقول‪ {:‬لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ج َعلُ مَن‬
‫ج ُهمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ‬
‫يَخُْلقُ مَا يَشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َيهَبُ ِلمَن يَشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ‬
‫عقِيما‪[} ..‬الشورى‪.]50-49 :‬‬
‫يَشَآءُ َ‬
‫أول ما بدأ الحق سبحانه بدأ بالناث‪ ..‬ثم أعطانا هذه الصورة من الخَلْق‪ :‬إناث‪ ،‬ذكور‪ ،‬ذكور‬
‫وإناث‪ ،‬عقيم‪ ..‬إذن‪ :‬هِبَات ال تعالى لها أربعة أنواع‪ ،‬ومن هنا كان ال ُعقْم أيضا هبةً من ال لحكمة‬
‫أرادها سبحانه‪ ..‬لكن الناس ل تأخذ ال ُعقْم على أنه هِبَة‪ ..‬لكن تأخذه على أنه ِنقْمة وغضب‪.‬‬
‫لماذا؟ لماذا تأخذه على أنه ِنقْمة وبلء؟ فربما وهبك الولد‪ ،‬وجاء عاقّا‪ ،‬كالولد الذي جاء فتنة‬
‫لبويْه‪ ،‬يدعوهما إلى الكفر‪.‬‬
‫ولو أن صاحب العقم رضي بما قسمه ال له من هبة العقم واعتبره هبة ورضي به لرأى كل ولد‬
‫حمْله وولدته وتربيته‪ .‬فيرى جميع الولد من حوله أولده‬
‫في المجتمع ولده من غير تعب في َ‬
‫ويعطف ال قلوبهم إليه كأنه والدهم‪ ..‬وكأن الحق تبارك وتعالى يقول له‪ :‬ما ُد ْمتَ رضيتَ بهبة‬
‫ال لك في العقم لجعلنّ كل ولدٍ ولدا لك‪.‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪:‬‬
‫{ وََلهُمْ مّا َيشْ َتهُونَ } [النحل‪.]57 :‬‬
‫أي‪ :‬من ال ّذكْران؛ لن الولد عِزْوة لبيه ينفعه في الحرب والقتال وينفعه في المكاثرة‪ ..‬الخ إنما‬
‫حدُ ُهمْ‪.} ...‬‬
‫البنت تكون عالةً عليه؛ ولذلك قال تعالى بعد هذا‪ { :‬وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ‬

‫(‪)1942 /‬‬

‫سوَدّا وَ ُهوَ َكظِيمٌ (‪)58‬‬


‫جهُهُ مُ ْ‬
‫ل وَ ْ‬
‫ظّ‬‫حدُهُمْ بِالْأُنْثَى َ‬
‫وَإِذَا بُشّرَ أَ َ‬

‫نعرف أن البشارة تكون بخير‪ ،‬فكان يجب عليهم أن يستقبلوها استقبالَ البشارة‪ ،‬ولكنهم استقبلوها‬
‫استقبال الناقمين الكارهين لما بُشّروا به‪ ،‬فتجد وجه الواحد منهم‪.‬‬
‫س َودّا‪[ } ...‬النحل‪.]58 :‬‬
‫{ مُ ْ‬
‫ومعنى اسوداد الوجه انقباضه من الغيظ؛ لذلك يقول تعالى‪:‬‬
‫{ وَ ُهوَ كَظِيمٌ‪[ } ...‬النحل‪.]58 :‬‬
‫الكظم هو كَتْم الشيء‪.‬‬
‫ظمِينَ ا ْلغَ ْيظَ‪[} ..‬آل عمران‪.]134 :‬‬
‫ولذلك يقول تعالى في آية أخرى‪ {:‬وَا ْلكَا ِ‬
‫وهو مأخوذ من كَظْم القِرْبة حين تمتليء بالماء‪ ،‬ثم يكظمها أي‪ :‬يربطها‪ ،‬فتراها ممتلئة كأنها‬
‫ستنفجر‪ ..‬هكذا الغضبان تنتفخ عروقه‪ ،‬ويتوارد الدم في وجهه‪ ،‬ويحدث له احتقان‪ ،‬فهو مكظوم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ممنوع أنْ ينفجر‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه واصفا حاله‪ { :‬يَ َتوَارَىا مِنَ‪.} ..‬‬

‫(‪)1943 /‬‬

‫ح ُكمُونَ (‬
‫علَى هُونٍ َأمْ يَ ُدسّهُ فِي التّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا َي ْ‬
‫سكُهُ َ‬
‫يَ َتوَارَى مِنَ ا ْلقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشّرَ ِبهِ أَ ُيمْ ِ‬
‫‪)59‬‬

‫قوله تعالى‪:‬‬
‫{ يَ َتوَارَىا مِنَ ا ْل َقوْمِ‪[ } ..‬النحل‪.]59 :‬‬
‫أي‪ :‬يتخفّى منهم مخافَة أنْ يُقال‪ :‬أنجب بنتا‪.‬‬
‫{ مِن سُوءِ مَا بُشّرَ ِبهِ‪[ } ..‬النحل‪.]59 :‬‬
‫نلحظ إعادة البشارة في هذه الية أيضا‪ ،‬وكأنه سبحانه وتعالى يُحنّن قلبه عليها‪ ،‬ويدعوه إلى‬
‫الّرْفق بها‪.‬‬
‫فهو متردد ل يدري ماذا يفعل؛ لذلك يقول تعالى‪:‬‬
‫سكُهُ عَلَىا هُونٍ َأمْ يَدُسّهُ فِي التّرَابِ‪[ } ..‬النحل‪.]59 :‬‬
‫{ أَ ُي ْم ِ‬
‫أي‪ :‬ماذا يفعل فيما وُلِد له‪ .‬أيحتفظ به على هُونٍ ـ أي‪ :‬هوان ومذلة ـ أم يدسّه في التراب ـ‬
‫أي‪ :‬يدفنها فيه حية؟‬
‫ح ُكمُونَ } [النحل‪.]59 :‬‬
‫{ َألَ سَآءَ مَا يَ ْ‬
‫أي‪ :‬ساء ما يحكمون في الحالتين‪ .‬حالة المساك على هُون ومذلّة‪ ،‬أو حالة دَسّها في التراب‪،‬‬
‫فكلهما إساءة‪ .‬وكان بعض هؤلء إذا وُلدتْ له بنت كرهها‪ ،‬فإن أمسكها أمسكها على حال كونها‬
‫ذليلةً عنده‪ ،‬مُحتقرة ُمهَانة‪ ،‬وهي مسكينة ل ذنبَ لها‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن المرأة العربية التي عاصرتْ هذه الحداث فطِ َنتْ إلى ما لم نعرفه نحن إل قريبا‪،‬‬
‫حيث اكتشف العالم الحديث أن أمر إنجاب الولد أو البنت راجع إلى الرجل وليس إلى المرأة‪..‬‬
‫وكان أبو حمزة كثيرا ما يترك زوجته ويغضب منها‪ ،‬لنها ل تلد إل البنات‪ ..‬فماذا قالت هذه‬
‫غضْـبانَ ألّ نَِلدَ البَنِـيناتَالِ مَا‬
‫المرأة العربية التي هجرها زوجها؟ قالت‪:‬مَا لبي حمز َة لَ يأتِينَا َ‬
‫عطِينَا والحق سبحانه وتعالى حينما‬
‫ذَلكَ فِـي أَيْدينا فَنَحنُ كَالَ ْرضِ لغارسينانُعطِي َلهُم مِثْل الذِي أُ ْ‬
‫يريد توازنا في الكون يصنع هذا التوازن من خلل مقتضيات النفس البشرية‪ ،‬ومن مقتضياتها أن‬
‫يكون للنسان جاه‪ ،‬وأن يكون له عِزّ‪ ،‬لكن النسان يخطيء في تكوين هذا الجاه والعِزّ‪ ،‬فيظن أنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قادر على صنع ما يريد بأسبابه وحدها‪.‬‬
‫إنما لو علم أن تكوين الجاه والعِزّ بشيء فوق أسبابه هو‪ ،‬بشيء مخلوق ل تعالى‪ ،‬بقدر مخلوق ل‬
‫تعالى‪ ،‬لو علم هذه الحقيقة لجاء المسألة من بابها‪.‬‬
‫ذلك لن العزة ليست بما تُنجِب‪ ..‬العزة هنا ل وللرسول وللمؤمنين‪ ،‬اعتزّ هنا بُعصْبة اليمان‪،‬‬
‫اعتز بأنك في بيئة مؤمنة متكافلة‪ ،‬إذا أصابك فيها ضَيْم فزِع إليك الجميع‪.‬‬
‫ول تعتزّ بالنسال والنجال‪ ،‬فقد يأتي الولد عاقّا ل يُسعِف أبويْه في شدة‪ ،‬ول يعينهما في حاجة؛‬
‫عصَبية اليمان‬
‫عصَبية الدم وعَصَبيّة الدم قد تتخلّف‪ ،‬أما عَصبِيّة العقيدة و َ‬
‫ذلك لنك لجأتَ إلى َ‬
‫والدين فل‪.‬‬
‫ولنأخذ على ذلك مثالً‪ ..‬ما حدث بين النصار والمهاجرين من تكافل وتعاون فاق كُل ما يتصوره‬
‫البشر‪ ،‬ولم يكُنْ بينهم سوى رابطة العقيدة وعصبية اليمان‪ ..‬ماذا حدث بين هؤلء الفذاذ؟‬
‫وجدنا أن العصبية اليمانية جعلت الرجل يُضحّي بأنفَس شيء يضِنّ به على الغير‪ ..‬نتصور في‬
‫هذا الموقف أن يعود النصار بفضل ما عندهم من نعم على إخوانهم المهاجرين‪ ،‬فَمنْ كانت عنده‬
‫ل يقول لخيه المهاجر‪ :‬تفضل اركب هذه الركوبة‪ ،‬أو اجلس في هذا المنزل‪.‬‬
‫ركوبة أو منزلة مث ً‬

‫‪ .‬هذا كله أمر طبيعي‪.‬‬


‫أما نعيم المرأة‪ ،‬فقد طُبِع في النفس البشرية أن النسان ل يحب أن تتعدّى نعمته فيها إلى غيره‪..‬‬
‫لكن انظر إلى اليمان‪ ،‬ماذا صنع بالنفوس؟‪ ..‬فقد كان النصاري يقول للمهاجر‪ :‬انظر لزوجاتي‪،‬‬
‫أيّهن أعجبتْك أُطلّقها لتتزوجها أنت‪ ،‬وما حمله على ذلك ليس عصبية الدم أو عَصبيّة الجنس‪ ،‬بل‬
‫عَصبيّة اليقين واليمان‪.‬‬
‫ولذلك تنتفي جميع العصبيات في قصة نوح ـ عليه السلم ـ وولده الكافر‪ ،‬حينما ناداه نوح ـ‬
‫صمُنِي مِنَ‬
‫عليه السلم ـ‪ {:‬يابُ َنيّ ا ْر َكبَ ّمعَنَا َولَ َتكُن مّعَ ا ْلكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىا جَ َبلٍ َي ْع ِ‬
‫ل لَ عَاصِمَ الْ َيوْمَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ ِإلّ مَن رّحِمَ‪[} ..‬هود‪.]43-42 :‬‬
‫ا ْلمَآءِ قَا َ‬
‫ن وَعْ َدكَ‬
‫ويتمسّك نوح بولده‪ ،‬ويحرص كل الحرص على نجاته فيقول‪َ {:‬ربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِ ّ‬
‫حقّ‪[} ..‬هود‪.]45 :‬‬
‫الْ َ‬
‫ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ فَلَ َتسْئَلْنِ مَا لَيْسَ‬
‫فيأتي َفصْل الخطاب في هذه القضية‪ {:‬إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ‬
‫ظكَ أَن َتكُونَ مِنَ ا ْلجَاهِلِينَ }[هود‪.]46 :‬‬
‫َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ إِنّي أَعِ ُ‬
‫إذن‪ :‬هذا الولد ليس من أهلك؛ لن البُنُوة هنا بُنُوة العمل‪ ،‬ل بُنُوة الدم والنّسَب‪.‬‬
‫صحيح أن النسان يحب العزة ويطلبها لنفسه‪ ،‬ولكن يجب أن تنظر كيف تكون العزة الحقيقية؟‬
‫وما أسبابها؟‬
‫خذْ العزة بال وبالرسول وبالبيئة اليمانية‪ ،‬يصبح كل الولد أولدك؛ لنهم معك في يقينك بال‬
‫ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإيمانك به سبحانه‪ ..‬أما أن تعتز بطريقتك أنت‪ ،‬فتطلب العزة في الولد الذكَر‪ ،‬فمَنْ يُدرِيك أن تجد‬
‫فيه العزة والعِزوة والمكاثرة؟!‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬لِلّذِي َ‬

‫(‪)1944 /‬‬

‫حكِيمُ (‪)60‬‬
‫سوْ ِء وَلِلّهِ ا ْلمَ َثلُ الْأَعْلَى وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫لِلّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالَْآخِ َرةِ مَ َثلُ ال ّ‬

‫قوله تعالى‪:‬‬
‫سوْءِ‪[ } ...‬النحل‪.]60 :‬‬
‫{ مَ َثلُ ال ّ‬
‫صفة السوء أي‪ :‬الصفات السيئة الخسيسة من الكفر والجحود والنكْران‪ ،‬ومن عَمي البصيرة‪،‬‬
‫وغيرها من صفات السوء‪.‬‬
‫لماذا كان للذين ل يؤمنون بالخرة م َثلُ السوء؟ لن المعادلة التي َأجْ َروْها معادلة خاطئة؛ لن‬
‫الذي ل يؤمن بالخرة قصّر عمره‪ ..‬ف ُعمْر الدنيا بالنسبة له قصير‪ ،‬وقد قلنا‪ :‬إياك أن تقيسَ الدنيا‬
‫بعمرها‪ ..‬ولكن قِسْ الدنيا بعمرك أنت‪ ،‬فعمر الدنيا مدة بقا ِئكَ أنت فيها‪ ..‬إنما هي باقية من بعدك‬
‫لغيرك‪ ،‬وليس لك أنت فيها نصيب بعد انقضاء عمرك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬عمر الدنيا عمرك أنت فيها‪ ..‬عمرك‪ :‬شهر‪ ،‬سنة‪ ،‬عشر سنوات‪ ،‬مائة‪ ..‬هذا هو عمر الدنيا‬
‫الحقيقي بالنسبة لك أنت‪.‬‬
‫ن ل يؤمن بال ول يؤمن بالخرة قد اختار‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فعمر الدنيا مهما طال مُنْتَ ٍه إلى زوال‪ ،‬فَم ْ‬
‫شتَ في الدنيا إلى‬
‫عْ‬‫الخاسرة؛ لنه ل يضمن أن يعيش في الدنيا حتى متوسط العمار‪ ..‬و َهبْ أنك ِ‬
‫متوسط العمار‪ ،‬بل إلى أرذل العمر‪ ..‬و َهبْ أنك استمتعتَ في دنياك بكل أنواع المعاصي‪ ،‬ماذا‬
‫ن تفوتَ هذا كله إلى الموت‪.‬‬
‫ستكون النهاية؟ أ ْ‬
‫قارن ـ إذن ـ حال هذا بمَنْ آمن بال وآمن بالخرة‪ ..‬نقول لمَنْ ل يؤمن بالخرة‪ :‬دنياك‬
‫مظنونة‪ ،‬يمكن أن تعيش فيها‪ ،‬أو يعاجلك الموت‪ ..‬حتى مَنْ عاش إلى متوسط العمار‪ ،‬فالنهاية‬
‫إلى زوال‪.‬‬
‫وما نِ ْلتَ من مُتَع في دنياك أخذتها على َقدْر إمكاناتك أنت‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أنت أخذت صفقة محدودة غير مُتيقّنة‪ ،‬وتركتَ صفقة غير محدودة ومُتيقّنة‪ ..‬أليستْ هذه‬
‫الصفقة خاسرة؟‬
‫أما مَنْ آمن بالخرة فقد ربحتَ صفقته‪ ،‬حيث اختار حياة ممتدة يجد المتعة فيها على قَدْر إمكانات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المنعِم سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫إذن‪:‬‬
‫سوْءِ‪[ } ...‬النحل‪.]60 :‬‬
‫{ مَ َثلُ ال ّ‬
‫أي‪ :‬الصفة شديدة السوء‪ ،‬ذلك لنهم خاسرون ل محالة‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ وَلِلّهِ ا ْلمَ َثلُ الَعْلَىا‪[ } ...‬النحل‪.]60 :‬‬
‫ل الصفة العليا‪ ،‬وكأن الية تقول لك‪ :‬اترك صفة السوء‪ ،‬وخُذ الصفة العلى التي تجد المتعة فيها‬
‫على قَدْر إمكانات الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪:‬‬
‫حكِيمُ } [النحل‪.]60 :‬‬
‫{ وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫العزيز أي‪ :‬الذي ل يُغلَب على أمره‪ ،‬فإذا قيل‪ :‬قد يوجد مَنْ ل يُغلب على أمره‪ ..‬نعم؛ لكنه‬
‫سبحانه عزيز حكيم يستعمل القهر والغلبة بحكمة‪.‬‬
‫خذُ اللّهُ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬وََلوْ ُيؤَا ِ‬

‫(‪)1945 /‬‬

‫سمّى فَإِذَا جَاءَ‬


‫جلٍ ُم َ‬
‫وََلوْ ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ ِبظُ ْل ِمهِمْ مَا تَ َركَ عَلَ ْيهَا مِنْ دَابّ ٍة وََلكِنْ ُيؤَخّرُ ُهمْ إِلَى َأ َ‬
‫أَجَُل ُهمْ لَا يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَةً وَلَا َيسْ َتقْ ِدمُونَ (‪)61‬‬

‫قول الحق تبارك وتعالى‪:‬‬


‫خذُ اللّهُ النّاسَ‪[ } ..‬النحل‪.]61 :‬‬
‫{ وََلوْ ُيؤَا ِ‬
‫عندنا هنا‪ :‬الخْذ والمؤاخذة‪ ..‬الخْذ‪ :‬هو تحصيل الشيء واحتواؤه‪ ،‬ويدل هذا على أن الخذ له‬
‫حمْل حصاة‪ ،‬لكن ل تستطيع حمل حجر‬
‫قدرةٌ على المستمسك بنفسه أو بغيره‪ ،‬فمثلً تستطيع َ‬
‫كبير‪ ،‬وقد يكون شيئا بسيطا إل أنه مربوط بغيره ومستمسك به فيُؤخَذ منه قوة‪.‬‬
‫فمعنى الخذ‪ :‬أن تحتوي الشيء‪ ،‬واحتواؤك له معناه أنك أقوى من تماسكه في ذاته‪ ،‬أو استمساك‬
‫غيره به‪ ،‬وقد يكون الَخْذ بل ذنب‪.‬‬
‫أما المؤاخذة فتعني‪ :‬هو أخذَ منك فأنت تأخذُ منه‪ ..‬ومنه َقوْل أحدنا لخيه " ل مؤاخذة " في موقف‬
‫من المواقف‪ ..‬والمعنى‪ :‬أنني فعلتُ شيئا استحق عليه الجزاء والمؤاخذة‪ ،‬فأقول‪ :‬ل تؤاخذني‪ ..‬لم‬
‫أقصد‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك؛ فالحق تبارك وتعالى يقول هنا‪:‬‬
‫خذُ اللّهُ النّاسَ‪[ } ...‬النحل‪.]61 :‬‬
‫{ وََلوْ ُيؤَا ِ‬
‫ولم َي ُقلْ‪ :‬يأخذ الناس‪.‬‬
‫شدِيدٌ }‬
‫وفي آية أخرى قال تعالى‪َ {:‬وكَذاِلكَ َأخْذُ رَ ّبكَ إِذَا َأخَذَ ا ْلقُرَىا وَ ِهيَ ظَاِل َمةٌ إِنّ َأخْ َذهُ أَلِيمٌ َ‬
‫[هود‪.]102 :‬‬
‫لماذا أخذها ال؟ أخذها لنها أخذتْ منه حقوقه في أن يكون إلها واحدا فأنكرتها‪ ،‬وحقوقه في‬
‫تشريع الصالح فأنكرنها‪.‬‬
‫ويُبيّن الحق سبحانه أن هذه المؤاخذة لو حدثت ستكون بسبب من الناس أنفسهم‪ ،‬فيقول سبحانه‪:‬‬
‫{ ِبظُ ْل ِمهِمْ‪[ } ..‬النحل‪.]61 :‬‬
‫عظِيمٌ }[لقمان‪.]13 :‬‬
‫أول الظلم أنهم أنكروا الوحدانية‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ‬
‫فكأنهم أخذوا من ال تعالى حقّه في الوحدانية‪ ،‬وأخذوا من الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالوا‬
‫كذاب‪ ،‬وأخذوا من الكتاب فقالوا " سحر مبين "‪.‬‬
‫كل هذا ظلم‪..‬‬
‫فالحق تبارك وتعالى لو آخذهم بما أخذوا‪ ،‬أخذوا شيئا فأخذ ال شيئا‪ ،‬لو عاملهم هذه المعاملة ما‬
‫ترك على ظهرها من دابة‪.‬‬
‫لذلك نجد في آيات الدعاء‪ {:‬رَبّنَا لَ ُتؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ َأوْ َأخْطَأْنَا }[البقرة‪.]286 :‬‬
‫أي‪ :‬أننا أخذنا منك يا ربّ الكثير بما حدث مِنّا من إسراف وتقصير وعمل على غير مقتضى‬
‫أمرك‪ ،‬فل تؤاخذنا بما بدر منا‪.‬‬
‫فلو آخذ ال الناس بما اقترفوا من ظلم‪..‬‬
‫{ مّا تَ َركَ عَلَ ْيهَا مِن دَآبّةٍ‪[ } ..‬النحل‪.]61 :‬‬
‫قد يقول قائل‪ :‬ال عز وجل سَيُؤاخذ الناس بظلمهم‪ ،‬فما ذنب الدابة؟ ماذا فعلت؟ نقول‪ :‬لن الدابة‬
‫خُِل َقتْ من أجلهم‪ ،‬وسُخّرتْ لهم‪ ،‬وهي من نعم ال عليهم‪ ،‬فليست المسألة إذن نكايةً في الدابة‪ ،‬بل‬
‫فيمَنْ ينتفع بها‪ ،‬وقد يُراد العموم لكل الخلق‪.‬‬
‫فإذا لم يؤاخذ ال الناس بظلمهم في الدنيا فهل يتركهم هكذا؟ ل بل‪:‬‬
‫سمّىا‪[ } ...‬النحل‪.]61 :‬‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫{ وَلكِن ُيؤَخّرُهُمْ إلَىا أَ َ‬
‫هذا الجل انقضاء دُنيا‪ ،‬وقيام آخرة‪ ،‬حتى لو لم يؤمنوا بالخرة‪ ،‬فإن ال تعالى يُمهلهم في الدنيا‪،‬‬
‫كما قال تعالى في آية أخرى‪:‬‬

‫عذَابا دُونَ ذَِلكَ }[الطور‪.]47 :‬‬


‫ظَلمُواْ َ‬
‫{ وَإِنّ لِلّذِينَ َ‬
‫وقد يكون في هذا الجل المسمى خير للحق‪ ،‬فكثير من الصحابة كانوا يدخلون المعارك‪ ،‬ويُحبون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن يقتلوا أهل الكفر فلنا وفلنا‪ ،‬ثم ل يتمكنون من ذلك ول يصيبونهم‪ ،‬فيحزنون لذلك‪.‬‬
‫أْ‬
‫ولكن أَجَل هؤلء لم يَ ْأتِ َبعْد‪ ،‬وفي علم ال تعالى أن هؤلء الكفار سيؤمنون‪ ،‬وأن إيمانهم سينفع‬
‫ن يؤمنوا‪ ،‬وإما أن تؤمنَ ذرياتهم‪.‬‬
‫المسلمين‪ ،‬وكأن القدر يدّخرهم‪ :‬إما أ ْ‬
‫جوْا كان خالد بن‬
‫وقد آمن عمرو بن العاص‪ ،‬وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم‪ .‬ومن هؤلء الذين نَ َ‬
‫الوليد سيف ال المسلول‪.‬‬
‫جُلهُ ْم لَ يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ { [النحل‪.]61 :‬‬
‫} فَِإذَا جَآءَ أَ َ‬
‫أي‪ :‬إذا جاءت النهاية فل تُؤخّر‪ ،‬وهذا شيء معقول‪ ،‬ولكن كيف‪ :‬ول يستقدمون؟ إذا جاء الجل‬
‫كيف ل يستقدِمون؟ المسألة ـ إذن ـ ممتنعة مستحيلة‪ ..‬كيف إذا جاء الجل يكون قد أتى قبل‬
‫ذلك؟‪ ...‬هذا ل يستقيم‪ ،‬لكن يستقيم المعنى تماما على أن‪:‬‬
‫} َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ { [النحل‪.]61 :‬‬
‫ليست من جواب إذا‪ ،‬بل تم الجواب عند (ساعة)‪ ،‬فيكون المعنى‪ :‬إذا جاء أجلهم ل يستأخرون‬
‫ساعة‪ ،‬وإذا لم يجيء ل يستقدمون‪ .‬وال أعلم‪.‬‬
‫جعَلُونَ ِللّهِ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَ َي ْ‬

‫(‪)1946 /‬‬

‫صفُ َألْسِنَ ُتهُمُ ا ْل َك ِذبَ أَنّ َلهُمُ ا ْلحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنّ َلهُمُ النّا َر وَأَ ّنهُمْ‬
‫ن وَ َت ِ‬
‫جعَلُونَ لِلّهِ مَا َيكْرَهُو َ‬
‫وَيَ ْ‬
‫ُمفْرَطُونَ (‪)62‬‬

‫قوله تعالى‪:‬‬
‫جعَلُونَ لِلّهِ مَا َيكْرَهُونَ‪[ } ...‬النحل‪.]62 :‬‬
‫{ وَيَ ْ‬
‫الليق أن الذي يُخرج ل يجب أن يكون من أطيب ما أعطاه ال‪ ،‬فإذا أردت أن تتصدقَ تصدّقْ‬
‫بأحسن ما عندك‪ ،‬أو على القل من أوسط ما عندك‪ ..‬لكن أنْ تتصدّق بأخسّ الشياء وأرذلها‪ ..‬أن‬
‫تتصدق مما تكرهه‪ ،‬كالذي يتصدق بخبز غير جيد أو لحم تغيّر‪ ،‬أو ملبس ُمهَ ْلهَلة‪ ،‬فهذا يجعل ل‬
‫ما يكره‪.‬‬
‫طوْا ربهم أفضل ما يُحبون‪..‬‬
‫والحقيقة أن الناس إذا وثِقوا بجزاء ال على ما يعطيه العبد لَع َ‬
‫لماذا؟ لن ذلك دليلٌ على حبّك للخرة‪ ،‬وأنك من أهلها‪ ،‬فأنت تعمرها بما تحب‪ ،‬أما صاحب الدنيا‬
‫المحبّ لها فيعطي أقل ما عنده؛ لن الدنيا في نظره أهمّ من الخرة‪.‬‬
‫وبهذا يستطيع النسان أنْ يقيسَ نفسه‪ :‬أهو من أهل الخرة‪ ،‬أم من أهل الدنيا بما يعطي ل عز‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وجل؟‬
‫قوله تعالى‪:‬‬
‫جعَلُونَ لِلّهِ مَا َيكْرَهُونَ‪[ } ...‬النحل‪.]62 :‬‬
‫{ وَيَ ْ‬
‫أي‪ :‬مما ذكر في اليات السابقة من قولهم‪ {:‬لِلّهِ الْبَنَاتِ‪[} ..‬النحل‪.]57 :‬‬
‫وأن الملئكة بنات ال‪ ،‬وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا‪ ،‬إلى غير ذلك من أقوالهم‪ ،‬وجعلوا ل البنات‬
‫سوَدّا وَ ُهوَ َكظِيمٌ }[النحل‪.]58 :‬‬
‫جهُهُ مُ ْ‬
‫ل وَ ْ‬
‫ظّ‬‫حدُ ُهمْ بِالُنْثَىا َ‬
‫وهم يكرهون البنات؛ لذلك‪ {:‬وَإِذَا ُبشّرَ أَ َ‬
‫جعْل منهم مردود عليهم‪ ،‬فلو جعلوا ل ما‬
‫جعْل البنات ل‪ ،‬بل مُطْلق ال َ‬
‫والمسألة هنا ليستْ مسألة َ‬
‫يحبون من الذكْران ما تُقبّل منهم أيضا؛ لنهم جعلوا ل ما لم يجعل لنفسه‪.‬‬
‫فالذين قالوا‪ :‬عزير ابن ال‪ .‬والذين قالوا‪ :‬المسيح ابن ال‪ .‬ل يُقبَل منهم؛ لنهم جعلوا ل سبحانه ما‬
‫لم يجعلْه لنفسه‪ ،‬فهذا مرفوض‪ ،‬وذلك مرفوض؛ لننا ل نجعل ل إل ما جعله ال لنفسه سبحانه‪.‬‬
‫فنحن نجعل ل ما نحب مما أباح ال‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْنفِقُواْ ِممّا‬
‫تُحِبّونَ‪[} ...‬آل عمران‪.]92 :‬‬
‫طعَامَ عَلَىا حُبّهِ‪[} ..‬النسان‪.]8 :‬‬
‫ط ِعمُونَ ال ّ‬
‫وقوله‪ {:‬وَيُ ْ‬
‫ن وَلَدٌ فَأَنَاْ َأ ّولُ‬
‫حمَـا ِ‬
‫ولذلك قال الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ُ {:‬قلْ إِن كَانَ لِلرّ ْ‬
‫ا ْلعَابِدِينَ }[الزخرف‪.]81 :‬‬
‫جعْل ما‬
‫فلو كان له ولد لمنتُ بذلك‪ ،‬لكن الحقيقة أنه ليس له ولد‪ ..‬إذن‪ :‬ليست المسألة في َ‬
‫طلَق الجعلْ‪ ،‬ذلك لننا عبيد نتقرّب إلى ال بالعبادة‪ ،‬والعابد يتقرّب إلى‬
‫يكرهون ل بل في مُ ْ‬
‫المعبود بما يحب المعبود أن يتقرّب به إليه‪ ،‬فلو جعل ال لنفسه شيئا فهو على العين والرأس‪ ،‬كما‬
‫في أمره أن ننفق مما نُحب‪ ،‬ومن أجود ما نملك‪.‬‬
‫ولذلك قوله تعالى‪ {:‬لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْن ِفقُواْ ِممّا تُحِبّونَ }[آل عمران‪.]92 :‬‬
‫رَاعِ حق الفقير وضرورة أنْ تجعله كنفسك‪ ،‬ل يكُنْ هيّنا عليك فتعطيه أردأ ما عندك‪ ..‬والحق‬
‫تبارك وتعالى لما أراد أن نتقرّب إليه بالّنسُك وذَبْح الهَدْي والضاحي قال‪:‬‬

‫ط ِعمُواْ الْبَآئِسَ ا ْل َفقِيرَ }[الحج‪.]28 :‬‬


‫{ َفكُلُواْ مِ ْنهَا وَأَ ْ‬
‫لنك إذا علمتَ أنك ستأكل منها سوف تختار أجود ما عندك‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫صفُ أَلْسِنَ ُتهُمُ ا ْلكَ ِذبَ‪[ { ..‬النحل‪.]62 :‬‬
‫} وَ َت ِ‬
‫الكذب‪ :‬قضية ينطق بها اللسان ليس لها واقع في الوجود‪ ،‬أي مخالفة للواقع المشهود به من‬
‫القلب‪ ..‬ولماذا يشهد عليه القلب؟‬
‫قالوا‪ :‬لنه قد يطابق الكلم الواقع‪ ،‬ونحكم عليه مع ذلك بالكذب‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬إِذَا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ‬
‫شهَدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ ُه وَاللّهُ َي ْ‬
‫جَآ َءكَ ا ْلمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَ ْ‬
‫َلكَاذِبُونَ }[المنافقون‪.]1 :‬‬
‫صدْق أم ل؟ إنها قضية صادقة‪ ..‬أنت رسول ال وقد وافق كلمهم ما يعلمه‬
‫بال‪ ،‬أهذه القضية ِ‬
‫ال‪ ..‬فلماذا شهد عليهم الحق تبارك وتعالى أنهم (كاذبون)؟‬
‫وفي أيّ شيء هم كاذبون؟‬
‫ش َهدُ إِ ّنكَ‬
‫قالوا‪ :‬الحقيقة أنهم صادقون في قولهم‪ :‬إنك لرسول ال‪ ،‬ولكنهم كذبوا في شهادتهم‪ {:‬نَ ْ‬
‫لَرَسُولُ اللّهِ‪[} ...‬المنافقون‪.]1 :‬‬
‫ئ القلبُ اللسانَ ويسانده‪ ،‬وهذه الشهادة منهم‬
‫لنهم ل يشهدون فعلً؛ لن الشهادة تحتاج أنْ يُواط َ‬
‫من اللسان فقط ل يساندها القلب‪.‬‬
‫النسان عُرْضة لن يقول الصدق مرة والكذب مرة‪ ،‬لكن هؤلء بمجرد أن يقولوا (نشهد) فهم‬
‫كاذبون‪ ،‬وهذا معنى‪:‬‬
‫صفُ أَلْسِنَ ُتهُمُ ا ْلكَ ِذبَ { [النحل‪.]62 :‬‬
‫} وَ َت ِ‬
‫لنهم حينما يقولون مثلً‪ :‬العزير ابن ال‪ ،‬المسيح ابن ال‪ ،‬الملئكة بنات ال‪ .‬هذه كلها قضايا‬
‫باطلة ليس لها واقع يوافق منطوق اللسان‪ ..‬فألسنتهم تصف الكذب‪.‬‬
‫وإنْ أردتَ أن تعرف الكذب الذي ل يطابق الواقع فاستمع إليه فبمجرد أنْ يُقال تعلم أنه كذب‪..‬‬
‫ن قال‪ :‬أنا نبي قلنا‪ :‬مسيلمة الكذاب‪.‬‬
‫مثل ما حدث مع مُسيْلمة الذي ادّعى النبوة‪ ،‬مجرد أ ْ‬
‫ويقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫} أَنّ َلهُمُ ا ْلحُسْنَىا‪[ { ..‬النحل‪.]62 :‬‬
‫أي‪ :‬أن الكذب في قولهم (لهم الحسنى) فهذا اغترار وتمنّ على ال دون حق‪ ،‬ومثل هذه المقولة‬
‫خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ ظَاِلمٌ لّ َنفْسِهِ قَالَ مَآ‬
‫في سورة الكهف‪ ،‬في قصةِ أصحاب الجنتين‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬وَدَ َ‬
‫أَظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا * َومَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَ ًة وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَجِدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }‬
‫[الكهف‪.]36-35 :‬‬
‫فهذه مقولت ثلث كاذبة‪:‬‬
‫قوله‪ {:‬مَآ َأظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا }[الكهف‪.]35 :‬‬
‫هذه الولى‪ ،‬فكم من أشياء تغيّرت‪ ،‬ومن يضمن لك بقاء ما أنت فيه‪ ،‬والحق تبارك وتعالى يقول‬
‫سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ * َولَ َيسْتَثْنُونَ‬
‫في آية أخرى‪ {:‬إِنّا َبَلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ ِإذْ َأقْ َ‬
‫حتْ كَالصّرِيمِ }[القلم‪.]20-17 :‬‬
‫ك وَ ُهمْ نَآ ِئمُونَ * فََأصْبَ َ‬
‫* فَطَافَ عَلَ ْيهَا طَآ ِئفٌ مّن رّ ّب َ‬
‫الكذبة الثانية‪َ {:‬ومَآ َأظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَةً }[الكهف‪.]36 :‬‬
‫فقد أنكر الساعة‪.‬‬
‫جدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف‪.]36 :‬‬
‫الكذبة الثالثة‪ {:‬وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذا هو الشاهد في الية هنا‪ ،‬ففيها اغترار وتمنّ على ال دون حقّ‪ ،‬كمن ادعوْا أن لهم الحسنى‪،‬‬
‫وهم ليسوا أهلً لها‪.‬‬
‫وفي موضع آخر تأتي نفس المقولة‪:‬‬

‫ح َمةً مّنّا مِن َبعْدِ‬


‫{ لّ يَسَْأ ُم الِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ا ْلخَيْ ِر وَإِن مّسّهُ الشّرّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ َأ َذقْنَاهُ رَ ْ‬
‫ج ْعتُ إِلَىا رَبّي إِنّ لِي عِن َدهُ َللْحُسْنَىا‬
‫ضَرّآءَ َمسّتْهُ لَ َيقُولَنّ هَـاذَا لِي َومَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَآ ِئمَ ًة وَلَئِن رّ ِ‬
‫}[فصلت‪.]50-49 :‬‬
‫وهكذا النسان في طَبْعه أنه ل يسأم من طلب الخير‪ ،‬وكلما وصل فيه إلى مرتبة تمنّى أعلى منها‪،‬‬
‫ل قلتَ‪:‬‬
‫يقنط إنْ مسّه شر‪ ،‬وإنْ رفع ال عنه ورحمه قال‪ :‬هذا لي‪ ..‬أنا استحقه‪ ،‬وأنا جدير به‪ ..‬أ َ‬
‫هذا فضل من ال ونعمة‪ ،‬ثم بعد ذلك هو يتمنى على ال الماني ويقول‪ {:‬إِنّ لِي عِن َدهُ لَ ْلحُسْنَىا }‬
‫[فصلت‪.]50 :‬‬
‫ويُروى أن سيدنا داود ـ عليه السلم ـ مع ما أعطاه ال من الملْك والعظمة أنه صعد يوما سطح‬
‫منزله‪ ،‬فابتله ال بسِرْب من الجراد الذهب‪ ،‬فحينما رآه داود جعل يجمع منه في ثوبه‪ ،‬فقال له‬
‫ربه‪ :‬ألم أُغْنِك يا داود؟ قال‪ :‬نعم ولكن ل غِنَى لي عن فضلك‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} لَ جَرَمَ أَنّ َل ُهمُ الْنّارَ‪[ { ...‬النحل‪.]62 :‬‬
‫ل جرم‪ :‬أي حقا أن لهم النار على ما تقدم منهم أن جعلوا ل ما يكرهون‪ ،‬وتصف ألسنتهم الكذب‪،‬‬
‫وهذه أفعال يستحقون النار عليها‪.‬‬
‫وكلمة } لَ جَ َرمَ { منها جارم بمعنى مجرم‪ ،‬فالمعنى‪ :‬ل جريمة في عقاب هؤلء‪ ،‬لنه ل يُقال‬
‫على عقوبة الجريمة أنها جريمة‪ ..‬إذن‪ :‬لها معنيان‪ ،‬ل ُبدّ أن لهم النار‪ ،‬أو ل جريمة في أن لهم‬
‫النار جزاء أعمالهم‪.‬‬
‫} وَأَ ّنهُمْ ّمفْرَطُونَ { [النحل‪.]62 :‬‬
‫جاءت في كلمة ُمفْرطون عدة قراءات‪ :‬مفرَطون‪ ،‬مفرِطون‪ ،‬مفرّطون‪ ،‬مفرّطون‪ .‬وجمعيها تلتقي‬
‫في المعنى‪.‬‬
‫نحن حينما نصلي على جنازة مثلً‪ ،‬إذا كان الميت مكلّفا نقول في الدعاء له‪ " :‬اللهم اغفر له‪،‬‬
‫اللهم ارحمه‪ ..‬اللهم إنْ كان مُحسنا فزِ ْد في إحسانه‪ ،‬وإنْ كان مُسِيئا فتجاوز عن سيئاته "‪ .‬فإنْ كان‬
‫صغيرا غير مُكلّف قُلْنا في الدعاء له " اللهم اجعله فرَطا وذخرا "‪ .‬فما معنى فرَطا هنا؟‬
‫معناه‪ :‬أن يكون الطفل فَرَطا لبويه ومُقدّمة لهما إلى الجنة‪ ..‬يمرّ بين يديْ والديْه ويسبقهما إلى‬
‫الجنة‪ ،‬وكأنه يقدم عليهما لِيُمهد لهما الطريق ليغفر ال لهما‪ ..‬إذن‪ :‬معنى ُمفْرطون أي مُقدّمون‪.‬‬
‫ولكن إلى النار‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومنه قوله تعالى عن فرعون‪َ {:‬يقْدُمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ‪[} ..‬هود‪.]98 :‬‬
‫أي‪ :‬يتقدمهم إلى النار‪ ..‬كما كنتَ مُقدّما عليهم‪ ،‬وإماما لهم في الدنيا‪ ،‬فسوف تتقدمهم هنا وتسبقهم‬
‫إلى النار‪.‬‬

‫(‪)1947 /‬‬

‫عذَابٌ أَلِيمٌ (‬
‫عمَاَل ُهمْ َف ُهوَ وَلِ ّيهُمُ الْ َيوْ َم وََلهُمْ َ‬
‫تَاللّهِ َلقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ُأمَمٍ مِنْ قَبِْلكَ فَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ‬
‫‪)63‬‬

‫نعلم أن الحق سبحانه وتعالى يُقسِم بما يشاء على ما يشاء‪ ،‬أما نحن فل نقسم إل بال‪ ،‬وفي‬
‫الحديث الشريف‪ " :‬مَنْ كان حالفا‪ ،‬فليحلف بال أو ليصمت "‪.‬‬
‫والحق تبارك وتعالى هنا يحلف بذاته سبحانه { تَاللّهِ } ‪ ،‬مثل‪ :‬وال وبال‪.‬‬
‫وقد جاء القسم لتأكيد المعنى؛ ولذلك يقول أحد الصالحين‪ :‬من أغضب الكريم حتى ألجأه أن‬
‫يقسم؟!‬
‫وقد يؤكد الحق سبحانه القسم بذاته‪ ،‬أو القسم ببعض خَلْقه‪ ،‬وقد ينفي القسم وهو يُقسِم‪ ،‬كما في قوله‬
‫تعالى‪ {:‬لَ ُأقْسِمُ ِبهَـاذَا الْبَلَدِ }[البلد‪.]1 :‬‬
‫عظِيمٌ }[الواقعة‪.]76-75 :‬‬
‫سمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَسَمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ َ‬
‫وقوله‪ {:‬فَلَ ُأقْ ِ‬
‫ومعنى‪ :‬ل أقسم أن هذا المر واضح جَليّ وضوحا ل يحتاج إلى القسم‪ ،‬ولو كنت مُقسِما لقسمتُ‬
‫عظِيمٌ }[الواقعة‪.]76 :‬‬
‫سمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ َ‬
‫به‪ ،‬بدليل قوله‪ {:‬وَإِنّهُ َلقَ َ‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه يُقسِم بذاته ليؤكد لنا المر تأكيدا‪ ،‬وتأكيد المر عند الحكم في القضاء مَثلً‪ :‬إما‬
‫بالقرار‪ ،‬وإما باليمين‪ ..‬فإذا ما أقسمت له وحلفتَ فقد سد ْدتَ عليه منافذ التكذيب‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫{ َلقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىا ُأ َممٍ مّن قَبِْلكَ } [النحل‪.]63 :‬‬
‫ستَ بِدْعا في أنْ تُكذّب من قومك‪ ،‬فهذه طبيعة الذين يستقبلون الدعوة من ال على ألسنة‬
‫أي‪ :‬ل ْ‬
‫الرسل؛ لن الرسل ل يرسلهم ال إل حينما يطمّ الفساد ويعُم‪.‬‬
‫حلّ إل أنْ تتدخلَ السماء؛ ذلك لن النسان فيه مناعات‬
‫ومعنى إرسال الرسل ـ إذن ـ أنه ل َ‬
‫يقينية في ذاته‪ ،‬وهي نفسه اللوامة التي تلومه إذا أخطأ وتُعدّل من سلوكه‪ ،‬فهي رادع له من نفسه‪.‬‬
‫ن ل تُردِعه‬
‫فإذا ما تبلّدتْ هذه النفس‪ ،‬وتعوّدتْ على الخطأ قام المجتمع من حولها بهذه المهمة‪ ،‬فمَ ْ‬
‫نفسه اللوامة يُردعه المجتمع من حوله‪ ..‬فإذا ما فسدَ المجتمع أيضا‪ ،‬فماذا يكون الحل؟ الحل أن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تتدخل السماء لنقاذ هؤلء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬تتدخل السماء بإرسال الرسل حينما يعُمّ الفسادُ المجتمعَ كله؛ ولذلك فأمة محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم من شرفها عند ربها أنْ قال لهم‪ :‬أنتم مأمونون على رعاية منهجي في ذواتكم‪ ،‬لوّامون‬
‫لنفسكم‪ ،‬آمرون بالمعروف‪ ،‬ناهون عن المنكر في غيركم؛ لذلك لن أرسل فيكم رسولً آخر‪ ،‬فأنتم‬
‫سوف تقومون بهذه المهمة‪.‬‬
‫ف وَتَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ‪} ...‬‬
‫جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫لذلك قال الحق سبحانه‪ {:‬كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ‬
‫[آل عمران‪.]110 :‬‬
‫فقد آمن أمة محمد صلى ال عليه وسلم على أن تكون حارسة لمنهجه‪ ،‬إما بالنفس اللوامة‪ ،‬وإما‬
‫بالمجتمع المر بالمعروف الناهي عن المنكر‪ ،‬وهذا شرف عظيم لهذه المة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬يأتي الرسول حينما يعُمّ الفساد‪ ..‬فما معنى الفساد؟‪ ..‬الفساد‪ :‬أن تُوجد مصالح طائفة على‬
‫حساب طائفة أخرى‪ ،‬فأهل الفساد والمنتفعون به إذا جاءهم رسول ليُخلّص الناس من فسادهم‪،‬‬
‫كيف يقابلونه؟ أيقابلونه بالترحاب؟ بالطبع ل‪.‬‬

‫‪ .‬ل بُ ّد وأن يقابلوه بالكراهية والنكار‪ ،‬ويعلنوا عليه الحرب دفاعا عن مصالحهم‪.‬‬
‫ويُتبع الحق سبحانه هذا بقوله‪:‬‬
‫عمَاَلهُمْ‪[ { ..‬النحل‪.]63 :‬‬
‫} فَزَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬
‫هنا يتدخل الشيطان‪ ،‬ويُزيّن لهل الفساد أعمالهم‪ ،‬ويحثّهم على محاربة الرسل؛ فهؤلء الذين‬
‫سيقضون على نفوذكم‪ ،‬سوف يأخذون ما في أيديكم من مُتَع الدنيا‪ ،‬سوف يهزّون مراكزكم‪،‬‬
‫سفْلة والعبيد‪..‬‬
‫ويحطّون من مكانتكم بين الناس‪ ..‬هؤلء سوف يرفعون عليكم ال ّ‬
‫وهكذا يتمسّك أهل الفساد والظلم بظلمهم‪ ،‬ويعضون عليه بالنواجذ‪ ،‬ويقفون من الرسل موقف‬
‫العداء‪ ،‬فوطّنْ نفسك على هذا‪ ،‬فلن تُقابلَ من السادة إل بالجحود وبالنكار وبالمحاربة‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫} َف ُه َو وَلِ ّيهُمُ الْ َيوْمَ‪[ { ...‬النحل‪.]63 :‬‬
‫أي‪ :‬في الخرة‪ ،‬فما دام الشيطان تولّهم في الدنيا‪ ،‬وزيّن لهم‪ ،‬وأغراهم بعداء الرسل‪ ،‬فَلْيتولّهم‬
‫الن‪ ،‬وليدافع عنهم يوم القيامة‪ ..‬وقد عرض لنا القرآن الكريم هذا الموقف في قوله تعالى‪َ {:‬كمَ َثلِ‬
‫الشّ ْيطَانِ إِذْ قَالَ لِلِنسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّنكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الحشر‪:‬‬
‫‪.]16‬‬
‫وفي جدالهم يوم القيامة مع الشيطان يقولون له‪ :‬أنت أغويتَنا وزيّنْتَ لنا‪ ..‬ماذا يقول؟ يقول‪َ {:‬ومَا‬
‫سكُمْ‪[} ..‬إبراهيم‪:‬‬
‫عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ‬
‫كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ‬
‫‪.]22‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والسلطان هنا‪ :‬إمّا بالحجة التي تُقنع‪ ،‬وإما بالقهر والغلبة والقوة التي تفرض ما تريد‪ ،‬وليس‬
‫ن تفعل وأنت‬
‫للشيطان شيء من ذلك‪ ..‬ل يملك حُجة يُقنعك بها لتفعل‪ ،‬ول يملك قوة يُجبرك بها أ ْ‬
‫كاره‪.‬‬
‫وهكذا يجادلهم الشيطان ويردّ عليهم دعواهم‪ ،‬فليس له عليكم سلطان‪ ،‬بل مجرد الشارة أوقعتْكم‬
‫في المعصية‪.‬‬
‫عمَاَلهُ ْم َوقَالَ لَ غَاِلبَ َل ُكمُ الْ َيوْمَ مِنَ‬
‫وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه‪ {:‬وَإِذْ زَيّنَ َلهُمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬
‫عقِبَيْ ِه َوقَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّ ْنكُمْ إِنّي أَرَىا مَا لَ‬
‫س وَإِنّي جَارٌ ّل ُكمْ فََلمّا تَرَآ َءتِ ا ْلفِئَتَانِ َن َكصَ عَلَىا َ‬
‫النّا ِ‬
‫تَ َروْنَ إِنّي َأخَافُ اللّهَ‪[} ..‬النفال‪.]48 :‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ { [النحل‪.]63 :‬‬
‫} وََلهُمْ َ‬
‫يَصف العذاب هنا بأنه أليم شديد مُهلِك‪،‬وقد وصف ال العذاب بأنه أليم‪ ،‬عظيم‪ ،‬مُهين‪ ،‬شديد‪..‬‬
‫والعذاب شعور باللم وإحساسٌ به‪ ،‬وقد توصّل العلماء إلى أن الحساس كله في الجلد؛ لذلك قال‬
‫جلُودُهُمْ َبدّلْنَا ُهمْ جُلُودا غَيْرَهَا لِ َيذُوقُواْ‬
‫جتْ ُ‬
‫الحق سبحانه لِيُديمَ على هؤلء العذاب‪ {:‬كُّلمَا َنضِ َ‬
‫ا ْلعَذَابَ‪[} ..‬النساء‪.]56 :‬‬
‫وهكذا يستمر العذاب باستمرار الجلود وتبديلها‪.‬‬
‫علَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ‪.{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومَآ أَنْزَلْنَا َ‬

‫(‪)1948 /‬‬

‫حمَةً ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ (‪)64‬‬


‫َومَا أَنْ َزلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ إِلّا لِتُبَيّنَ َل ُهمُ الّذِي اخْتََلفُوا فِي ِه وَهُدًى وَرَ ْ‬

‫فالكتاب هو القرآن الكريم‪.‬‬


‫وقَوْل الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ لِتُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي اخْتََلفُواْ فِيهِ‪[ } ..‬النحل‪.]64 :‬‬
‫دليل على أن أتباع الرسل السابقين نشأ بينهم خلف‪ ،‬فأيّ خلف هذا طالما أنهم تابعون لنبي‬
‫واحد؟ ما سببه؟‬
‫قالوا‪ :‬سبب هذا الخلف ما يُسمّونه بالسلطة الزمنية‪ ..‬ولتوضيح معنى السلطة الزمنية نضرب‬
‫مثلً بواحد كان شيخا لطريقة مثلً‪ ،‬بواحد كان شيخا لطريقة مثلً‪ ،‬فلما مات تنازع الخلفة أبناؤه‬
‫من بعده‪ُ ..‬كلٌ يريدها له‪ ،‬وأخذ يجمع حوله مجموعة من أتباع أبيه‪ ..‬فلو كانت الخلفة هذه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫واضحة في أذهانهم ما حدث هذا الخلف‪.‬‬
‫وكذلك السلطة الزمنية حدثت في أتباع الرسل الذين أخذوا يكتبون الصكوك‪ ،‬ويذكرون ما يحبون‬
‫وما يرونه صوابا من وجهة نظرهم‪ ،‬كل هؤلء كان لهم نفوذ بما نُسميه السلطة الزمنية‪.‬‬
‫فكيف ـ إذن ـ يتركون محمدا صلى ال عليه وسلم يأخذ منهم هذه السلطة‪ ،‬ويُضيع عليهم ما هم‬
‫فيه من سيادة‪ ،‬فقد جاء الرسول صلى ال عليه وسلم لِيُبيّن لهم‪ .‬أي‪ :‬يردّهم إلى جَادّة الحق‪ ،‬وإلى‬
‫الطريق المستقيم‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫حمَةً‪[ } ..‬النحل‪.]64 :‬‬
‫{ وَ ُهدًى وَرَ ْ‬
‫الهدى‪ :‬معناه بيان الطريق الواضح للغاية النافعة‪ ،‬والطريق ل يكون واضحا إل إذا خَل من‬
‫الصّعاب والعقبات‪ ،‬وخل أيضا من المخاوف‪ ،‬فهو طريق واضح مأمون سهل‪ ،‬وأيضا يكون‬
‫قصيرا يُوصّلك إلى غايتك من أقصر الطرق‪.‬‬
‫وضد الهدى‪ :‬الضلل‪ .‬وهو أنْ يُضلّك‪ ،‬فإنْ أردتَ طريقا وجّهك إلى غيره‪ ،‬ودَلّك على سواه‪ ،‬أو‬
‫دَلّك على طريق به مخاوف وعقبات‪.‬‬
‫أما الرحمة‪ ،‬فقد وصف الحق تبارك وتعالى القرآن بأنه رحمة فقال‪ {:‬وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ‬
‫حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ‪[} ...‬السراء‪ .]82 :‬فكيف يكون القرآن شفاءً؟ وكيف يكون رحمة؟‬
‫شفَآ ٌء وَرَ ْ‬
‫ِ‬
‫الشفاء‪ :‬إذا أصابنا داء ربنا سبحانه وتعالى يقول‪ :‬طيّبوا داءكم وداووا أمراضكم بكذا وكذا‪ ،‬ورُدّوا‬
‫الحكم إلى ال‪ ..‬هذا شفاء‪.‬‬
‫أما الرحمة‪ :‬فهي أن يمنع أن يأتي الداء مرة أخرى‪ ،‬فتكون وقاية تقتلع الداء من أصله فل يعود‪.‬‬
‫ومِثْل هذا يحدث في عالم الطب‪ ،‬فقد تذهب إلى طبيب لِيُعالجك من داء معين‪ ..‬بثور في الجلد‬
‫مثلً‪ ،‬فل يهتم إل بما يراه ظاهرا‪ ،‬ويصف لك ما يداوي هذه البثور‪ ..‬ثم بعد ذلك تُعاودك مرة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫أما الطبيب الحاذق الماهر فل ينظر إلى الظاهر فقط‪ ،‬بل يبحث عن سببه في الباطن‪ ،‬ويحاول أن‬
‫يقتلع أسباب المرض من جذورها‪ ،‬فل تُعاودك مرة أخرى‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬لو نظرنا إلى قصة أيوب ـ عليه السلم ـ وما ابتله ال به نرى فيها مثالً رائعا لعلج‬
‫الظاهر والباطن معا‪ ،‬فقد ابتله ربّه ببلء ظهر أثره على جسمه واضحا‪ ،‬ولما أذن له سبحانه‬
‫بالشفاء قال له‪:‬‬

‫سلٌ بَا ِر ٌد وَشَرَابٌ }[ص‪.]42 :‬‬


‫{ ا ْر ُكضْ بِ ِرجِْلكَ هَـاذَا ُمغْتَ َ‬
‫سلٌ)‪ :‬أي‪ .‬يغسل ويُزيل ما عندك من آثار هذا البلء‪.‬‬
‫( ُمغْتَ َ‬
‫(وَشَرَابٌ)‪ :‬أي‪ .‬شراب يشفيك من أسباب هذا البلء فل يعود‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكذلك الحال في علج المجتمع‪ ،‬فقد جاء القرآن الكريم وفي العَالَم فساد كبير‪ ،‬وداءاتٌ متعددة‪ ،‬ل‬
‫بُدّ لها من منهج لشفاء هذه الداءاتِ‪ ،‬ثم نعطيها مناعاتٍ تمنع عودة هذه الداءات مرة أخرى‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [النحل‪.]64 :‬‬
‫أي‪ :‬أن هذا القرآن فيه هدى ورحمة لمَنْ آمن بك وبرسالتك؛ لن الطبيب الذي ضربناه مثلً هنا‬
‫ل يعالج كل مريض‪ ،‬بل يعالج مَنْ وثق به‪ ،‬وذهب إليه وعرض عليه نفسه ففحصه الطبيب‬
‫وعرف عِلّته‪.‬‬
‫ى ورحمة‪ ،‬ويترك في نفسه إشراقات نورانية‬
‫وهكذا القرآن الكريم يسمعه المؤمن به‪ ،‬فيكون له هد ً‬
‫تتسامى به وترتفع إلى أعلى الدرجات‪ ،‬في حين يسمعه آخر فل يَعي منه شيئا‪ ،‬ويقول كما حكى‬
‫القرآن الكريم‪َ {:‬ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ ِإلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ‬
‫آنِفا‪[} ...‬محمد‪.]16 :‬‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْ ٌر وَ ُهوَ‬
‫شفَآءٌ‪[} ..‬فصلت‪ {.]44 :‬وَالّذِي َ‬
‫وقال‪ُ {:‬قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ ُهدًى وَ ِ‬
‫عمًى‪[} ..‬فصلت‪.]44 :‬‬
‫عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫إذن‪ :‬فالقرآن واحد‪ ،‬ولكن الستقبال مختلف‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَاللّهُ أَنْ َزلَ مِنَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1949 /‬‬

‫س َمعُونَ (‪)65‬‬
‫سمَاءِ مَاءً فََأحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً ِل َقوْمٍ يَ ْ‬
‫وَاللّهُ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬

‫الحق تبارك وتعالى في هذه الية ينقلنا إلى آية مادية مُحسّة ل ينكرها أحد‪ ،‬وهي إنزال المطر من‬
‫السماء‪ ،‬وإحياء الرض الميتة بهذا المطر؛ ليكون ذلك دليلً محسوسا على قدرته تعالى‪ ،‬وأنه‬
‫مأمون على خَلْقه‪.‬‬
‫وكأنه سبحانه يقول لهم‪ :‬إذا كنتُ أنا أعطيكم كذا وكذا‪ ،‬وأُوفّر لكم المر المادي الذي يفيد عنايتي‬
‫بكم‪ ،‬فإذا أنزلتُ لكم منهجا ينفعكم ويُصلح أحوالكم فصدّقوه‪.‬‬
‫فهذا دليل ماديّ مُحَسّ يُوصّلهم إلى تصديق المنهج المعنوي الذي جاء على يد الرسول صلى ال‬
‫حمَةٌ لّ ْل ُمؤْمِنِينَ‪[} ..‬السراء‪.]82 :‬‬
‫شفَآ ٌء وَرَ ْ‬
‫عليه وسلم في قوله تعالى‪ {:‬وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫سمَآءِ مَآءً‪[ } ...‬النحل‪.]65 :‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَاللّهُ أَنْ َزلَ مِنَ الْ ّ‬
‫هذه آية كونية مُحسّة ل ينكرها أحد‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يقول‪ { :‬فَأَحْيَا ِب ِه الَ ْرضَ َب ْعدَ َموْ ِتهَآ‪[ } ...‬النحل‪.]65 :‬‬
‫ع فيها ول نبات‪ ،‬وهذا هو الهلك بعينه بالنسبة‬
‫موت الرض‪ ،‬أي حالة كَونْها جدباء مُقفرة ل زر َ‬
‫لهم‪ ،‬فإذا ما أجدبتْ الرض استشرفوا لسحابة‪ ،‬لغمامة‪ ،‬وانتظروا منها المطر الذي يُحيي هذه‬
‫الرض الميتة‪ ..‬يُحييها بالنبات والعُشْب بعد أنْ كانت هامدة ميتة‪.‬‬
‫فلو قبض ماء السماء عن الرض َلمُتّمْ جوعا‪ ،‬فخذوا من هذه الية المحسّة دليلً على صدق الية‬
‫المعنوية التي هي منهج ال إليكم على يد رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكما أمِنْتَنِي على الولى‬
‫ف ْأمَنّي على الثانية‪.‬‬
‫س َمعُونَ } [النحل‪.]65 :‬‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّ فِي ذاِلكَ ليَةً ِلقَوْمٍ َي ْ‬
‫مع أن هذه الية تُرَى بالعين ول تُسْمع‪ ،‬قال القرآن‪:‬‬
‫س َمعُونَ } [النحل‪.]65 :‬‬
‫{ ِل َقوْمٍ يَ ْ‬
‫‪ ..‬لماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن ال سبحانه أتى بهذه الية لِيلْفتَهم إلى المنهج الذي سيأتيهم على يد الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وهذا المنهج سَيُسمع من الرسول المبلّغ لمنهج ال‪.‬‬
‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمُ الْلّ ْيلَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ‬
‫مثال ذلك أيضا في قوله تعالى‪ُ {:‬قلْ أَرَأَيْتُمْ إِن َ‬
‫س َمعُونَ }[القصص‪.]71 :‬‬
‫إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبضِيَآءٍ َأفَلَ َت ْ‬
‫س َمعُونَ } لنه يتكلم عن الليل‪ ،‬ووسيلة الدراك في‬
‫فالضياء يُرى ل يُسمع‪ ..‬لكنه قال‪َ { :‬أفَلَ تَ ْ‬
‫الليل هي السمع‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬وَإِنّ َل ُكمْ فِي‪.} ...‬‬

‫(‪)1950 /‬‬

‫ث وَدَمٍ لَبَنًا خَاِلصًا سَا ِئغًا لِلشّارِبِينَ (‬


‫سقِيكُمْ ِممّا فِي ُبطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَ ْر ٍ‬
‫وَإِنّ َلكُمْ فِي الْأَ ْنعَامِ َلعِبْ َرةً ُن ْ‬
‫‪)66‬‬

‫الكون الذي خلقه ال تعالى فيه أجناس متعددة‪ ،‬أدناها الجماد المتمثل في الرض والجبال والمياه‬
‫وغيرها‪ ،‬ثم النبات‪ ،‬ثم الحيوان‪ ،‬ثم النسان‪.‬‬
‫وفي الية السابقة أعطانا الحق ـ تبارك وتعالى ـ نموذجا للجماد الذي اهتزّ بالمطر وأعطانا‬
‫النبات‪ ،‬وهنا تنقلنا هذه الية إلى جنس أعلى وهو الحيوان‪.‬‬
‫{ وَإِنّ َل ُكمْ فِي الَ ْنعَامِ َلعِبْ َرةً‪[ } ...‬النحل‪.]66 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمقصود بالنعام‪ :‬البل والبقر والغنم والماعز‪ ،‬وقد ُذكِرتْ في سورة النعام في قوله تعالى‪{:‬‬
‫ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأ ِم الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَ ْيهِ‬
‫َثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ‬
‫ن َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ‪[} ...‬النعام‪:‬‬
‫أَرْحَا ُم الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ * َومِنَ الِ ْبلِ اثْنَيْ ِ‬
‫‪.]144-143‬‬
‫هذه هي النعام‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ { :‬لعِبْ َرةً } العِبْرة‪ :‬الشيء الذي تعتبرون به‪ ،‬وتستنجون منه ما يدلكم على قدرة‬
‫الصانع الحكيم سبحانه وتعالى‪ ،‬وتأخذون من هذه الشياء دليلً على صِدْق منهجه سبحانه‬
‫فتصدقونه‪.‬‬
‫ومن معاني العبرة‪ :‬العبور والنتقال من شيء لخر‪ ..‬أي‪ :‬أن تأخذ من شيء عبرة تفيد في شيء‬
‫آخر‪ .‬ومنها العَبْرة (الدمعة)‪ ،‬وهي‪ :‬شيء دفين نب ْهتَ عنه وأظهرتَهُ‪.‬‬
‫والمراد بالعبرة في خلق النعام‪:‬‬
‫سقِيكُمْ ّممّا فِي ُبطُونِهِ مِن بَيْنِ فَ ْرثٍ وَدَمٍ لّبَنا خَالِصا سَآئِغا لِلشّارِبِينَ } [النحل‪.]66 :‬‬
‫{ نّ ْ‬
‫مادة‪ :‬سقى جاءت في القرآن مرة " سقى "‪ .‬ومرة " َأسْقى " ‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬إن معناهما واحد‪،‬‬
‫سقَا ُهمْ‬
‫ولكن التحقيق أن لكل منهما معنًى‪ ،‬وإن اتفقا في المعنى العام‪ .‬سقى‪ :‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَ َ‬
‫طهُورا }[النسان‪.]21 :‬‬
‫رَ ّبهُمْ شَرَابا َ‬
‫أي‪ :‬أعطاهم ما يشربونه‪ ..‬ومضارعه يَسقي‪ .‬ومنها قوله تعالى في قصة موسى عليه السلم‪{:‬‬
‫سقَىا َل ُهمَا‪[} ...‬القصص‪.]24 :‬‬
‫فَ َ‬
‫سقَيْنَا ُكمُوهُ َومَآ أَنْ ُتمْ لَهُ ِبخَازِنِينَ }[الحجر‪:‬‬
‫سمَآءِ مَاءً فََأ ْ‬
‫أما أسقى‪ :‬كما في قوله تعالى‪ {:‬فَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫‪.]22‬‬
‫فمعناه أنه سبحانه أنزل الماء من السماء ل يشربه الناس في حال نزوله‪ ،‬ولكن ليكون في الرض‬
‫لمن أراد أنْ يشربَ‪ ..‬فالحق تبارك وتعالى لم يفتح أفواه الناس أثناء نزول المطر ليشربوا منه‪..‬‬
‫ل‪ ..‬بل هو مخزون في الرض لمن أراده‪ .‬والمضارع من أَسْقى‪ :‬يُسقي‪.‬‬
‫ن اتفقنا في المعنى العام‪ ..‬وفرْق بين أن تُعطي ما يُستفَادُ منه في‬
‫إذن‪ :‬هناك فَرْق بين الكلمتين‪ ،‬وإ ِ‬
‫سقَاهُمْ رَ ّبهُمْ‪[} ..‬النسان‪.]21 :‬‬
‫ساعته‪ ،‬مثل قوله‪ {:‬وَ َ‬
‫سقَيْنَا ُكمُوهُ }‬
‫سمَآءِ مَاءً فَأَ ْ‬
‫وبين أنْ تعطي ما يمكن الستفادة منه فيما بعد كما في قوله‪ {:‬فَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫[الحجر‪.]22 :‬‬
‫لذلك يقولون‪ :‬إن الذي يصنع الخير قد يصنعه عاجلً‪ ،‬فيعطي المحتاج مثلً رغيفا يأكله‪ ،‬وقد‬
‫يصنعه مؤُجّلً فيعطيه ما يساعده على الكسْب الدائم ليأكل هو متى يشاء من كسْبه‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ أعطانا هذه الفكرة في سورة الكهف‪ ،‬في قصة ذي القرنين‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جدَ مِن دُو ِن ِهمَا َقوْما لّ َيكَادُونَ َي ْف َقهُونَ َق ْولً }[الكهف‪.]93 :‬‬
‫ن وَ َ‬
‫{ حَتّىا إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْ ِ‬
‫فما داموا ل يفقهون َق ْولً‪ ..‬فكيف تفاهم معهم ذو القرنين‪ ،‬وكيف قالوا‪ {:‬ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُوجَ‬
‫ج َعلَ بَيْنَنَا وَبَيْ َنهُمْ سَدّا }[الكهف‪:‬‬
‫ج َعلُ َلكَ خَرْجا عَلَىا أَن َت ْ‬
‫سدُونَ فِي الَ ْرضِ َف َهلْ َن ْ‬
‫َومَأْجُوجَ مُفْ ِ‬
‫‪.]94‬‬
‫نقول‪ :‬الذي يريد أن يفعل الخير والمعروف يسعى إليه ويحتال للوصول إليه وكأنه احتال أنْ‬
‫يفهمهم‪ ،‬وصبر عليهم حتى توصّل إلى طريقة للتفاهم معهم‪ ،‬في حين أنه كان قادرا على ترْكهم‬
‫حجّته أنهم ل يفقهون ول يتكلمون‪.‬‬
‫والنصراف عنهم‪ ،‬و ُ‬
‫فلما أراد ذو القرنين أن يبني لهم السد لن يَبْنِ هو بنفسه‪ ،‬بل علّمهم كيف يكون البناء‪ ،‬حتى يقوموا‬
‫به بأنفسهم متى أرادوا ول يحتاجون إليه‪ ..‬فقال‪ {:‬آتُونِي زُبَرَ ا ْلحَدِيدِ حَتّىا ِإذَا سَاوَىا بَيْنَ‬
‫جعَلَهُ نَارا قَالَ آتُونِي ُأفْ ِرغْ عَلَيْهِ ِقطْرا }[الكهف‪.]96 :‬‬
‫ل انفُخُواْ حَتّىا ِإذَا َ‬
‫الصّ َدفَيْنِ قَا َ‬
‫إذن‪ :‬علّمهم وأحسن إليهم إحسانا دائما ل ينتهي‪.‬‬
‫وقوله‪ّ } :‬ممّا فِي بُطُونِهِ‪[ { ...‬النحل‪.]66 :‬‬
‫أي‪ :‬مما في بطون النعام‪ ،‬فقد ذكّر الضمير في (بطونه) باعتبار إرادة الجنس‪.‬‬
‫وقد أراد الحق سبحانه أن يخرج هذا اللبن‪:‬‬
‫ث وَ َدمٍ لّبَنا خَالِصا { [النحل‪.]66 :‬‬
‫} مِن بَيْنِ فَ ْر ٍ‬
‫والفَرْث في كرش الحيوان من فضلت طعامه‪.‬‬
‫فالعبرة هنا أن ال تعالى أعطانا من بين الفَرْث‪ ،‬وهو َر َوثُ النعام وبقايا الطعام في كرشها‪ ،‬وهذا‬
‫له رائحة كريهة‪ ،‬وشكل قذر مُنفّر‪ ،‬ومن بين دم‪ ،‬والدم له لونه الحمر‪ ،‬وهو أيضا غير مستساغ؛‬
‫ومنهما يُخرِج لنا الخالق سبحانه لبنا خالصا من الشوائب نقيا سليما من لون الدم ورائحة الفَرْث‪.‬‬
‫ومَنْ يقدر على ذلك إل الخالق سبحانه؟‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله واصفا هذا اللبن‪:‬‬
‫} لّبَنا خَالِصا سَآئِغا لِلشّارِبِينَ { [النحل‪.]66 :‬‬
‫سهْل النزلق أثناء الشّرْب؛‬
‫أي‪ :‬يسيغه شاربه ويستلذّ به‪ ،‬ول ُي َغصّ به شاربه‪ ،‬بل هو مُسْتساغ َ‬
‫لن من الطعام أو الشراب ما يحلو لك ويسُوغ وتهنأ به‪ ،‬ولكنه قد ل يكون مريئا‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فالحق سبحانه يقول‪َ {:‬فكُلُوهُ هَنِيئا مّرِيئا }[النساء‪.]4 :‬‬
‫هنيئا أي‪ :‬تستلِذّون به‪ ،‬ومريئا‪ :‬أي نافعا للجسم‪ ،‬يمري عليك؛ لنك قد تجد لَذة في شيء أثناء َأكْله‬
‫أو شُرْبه‪ ،‬ثم يسبّب لك متاعب فيما َبعْد‪ ،‬فهو هَنِيءٌ ولكنه غير مَرِيء‪.‬‬
‫فاللبن من ِنعَم ال الدالة على قدرته سبحانه‪ ،‬وفي إخراجه من بين فَرْث ودم عبرة وعِظَة‪ ،‬وكأن‬
‫الحق سبحانه يعطينا هذه العبرة لينقلنا من المعنى الحسيّ الذي نشاهده إلى المعنى القيميّ في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المنهج‪ ،‬فالذي صنع لنا هذه العبرة لصلح قالبنا قادرٌ على أن يصنعَ لنا من المنهج ما يُصلِح‬
‫قلوبنا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومِن َثمَرَاتِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1951 /‬‬

‫سكَرًا وَرِ ْزقًا حَسَنًا إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً ِلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ (‪)67‬‬
‫َومِنْ َثمَرَاتِ النّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ َ‬

‫ثمرات النخيل هي‪ :‬البلح‪ .‬والعناب هو‪ :‬العنب الذي نُسمّيه الكَرْم‪ .‬والتعبير القرآني هنا وإن امتنّ‬
‫سكِرا‪ ،‬ولكن‬
‫على عباده بالرزق الحسن‪ ،‬فإنه ل يمتنّ عليهم بأن يتخذوا من العناب سكرا‪ :‬أي ُم ْ‬
‫يعطينا الحق سبحانه هنا عبرةً فقد نزلتْ هذه اليات قبل تحريم الخمر‪.‬‬
‫وكأن الية تحمل مُقدّمة لتحريم الخمر الذي يستحسنونه الن ويمتدحونه؛ ولذلك يقول العلماء‪ :‬إن‬
‫حكْما في السّكر سيأتي‪.‬‬
‫الذي يقرأ هذه الية بفِطنة المستقْبِل عن ال يعلم أن ل ُ‬
‫حكْما سيأتي في السّكر؟‬
‫كيف توصّلوا إلى أن ل تعالى ُ‬
‫صفْ السّكر بأنه حسن‪ ،‬فمعنى ذلك أنه‬
‫قالوا‪ :‬لنه قال في وصف الرزق بأنه حسن‪ ،‬في حين لم َي ِ‬
‫ليس حسنا؛ ذلك لننا نأكل ثمرات النخيل (البلح) كما هو‪ ،‬وكذلك نأكل العنب مباشرة دون تدخّل‬
‫مِنّا فيما خلق ال لنا‪.‬‬
‫أما أنْ نُغيّر من طبيعته حتى يصير خمرا مُسْكرا‪ ،‬فهذا إفساد في الطبيعة التي اختارها ال لنا‬
‫لتكون رزقا حَسنا‪.‬‬
‫وكأنه سبحانه يُنبّه عباده‪ ،‬أنَا ل أمتنّ عليكم بما ح ّر ْمتُ‪ ،‬فأنا لم أُحرّمه َبعْد‪ ،‬فاجعلوا هذا السّكر ـ‬
‫حسْن؛ لنه إنْ لم يكُنْ حَسَنا فهو‬
‫صفْه بال ُ‬
‫كما ترونه ـ متعةً لكم‪ ،‬ولكن خذوا منه عبرة أَنّي لم َأ ِ‬
‫قبيح‪ ،‬فإذا ما جاء التحريم فقد نبهتكم من بداية المر‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫ك ليَةً ّل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ } [النحل‪.]67 :‬‬
‫{ إِنّ فِي ذاِل َ‬
‫لن العقل يقتضي أنْ نُوازِنَ بين الشيئين‪ ،‬وأن نسأل‪ :‬لماذا لم يوصف السّكر بأنه حَسَن؟‪ ..‬أليس‬
‫معناه أن ال تعالى ل يحب هذا المر ول يرضاه لكم؟‬
‫إذن‪ :‬كأن في الية نيّة التحريم‪ ،‬فإذا ما أنزل ال تحريم الخمر كان هذا تمهيدا له‪.‬‬
‫والية هي‪ :‬المر العجيب الذي يُنبئكم ال الذي خلق لكم هذه الشياء لسلمة مبانيكم وقوالبكم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المادية‪ ،‬قادر ومأمون على أن يُشرّع لكم ما يضمن سلمة معانيكم وقلوبكم القيمية الروحية‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََأوْحَىا رَ ّبكَ‪.} ..‬‬

‫(‪)1952 /‬‬

‫حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتًا َومِنَ الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْرِشُونَ (‪)68‬‬
‫وََأوْحَى رَ ّبكَ ِإلَى النّ ْ‬

‫النحل خَلْق من خَلْق ال‪ ،‬وكل خَلْق ل أودع ال فيه وفي غرائزه ما يُقيم مصالحه‪ ،‬يشرح ذلك‬
‫سوّىا * وَالّذِي قَدّرَ َفهَدَىا }[العلى‪.]3-2 :‬‬
‫قوله تعالى‪ {:‬الّذِي خََلقَ فَ َ‬
‫أي‪ :‬خلق هذه كذا‪ ،‬وهذه كذا حَسْب ما يتناسب مع طبيعته؛ ولذلك تجد ما دون النسان يسير على‬
‫منهج ل يختلف‪ ..‬فالنسان مثلً قد يأكل فوق طاقته‪ ،‬وقد يصل إلى حَدّ التّخْمة‪ ،‬ثم بعد ذلك يشتكي‬
‫مرضا ويطلب له الدواء‪.‬‬
‫أما الحيوان فإذا ما أكل وجبته‪ ،‬وأخذ ما يكفيه فل يزيد عليه أبدا‪ ،‬وإنْ أجبرته على الكل؛ ذلك‬
‫لنه محكوم بالغريزة الميكانيكية‪ ،‬وليس له عقل يختار به‪.‬‬
‫سقْتَه‬
‫وضربنا مثلً للغريزة في الحيوان بالحمار الذي يتهمونه دائما ويأخذونه مثلً للغباء‪ ،‬إذا ُ‬
‫ليتخطى قناة ماء مثلً وجدته ينظر إليها وكأنه يقيس المسافة بدقة‪ ..‬فإذا ما وجدها في مقدوره‬
‫قفزها دون تردد‪ ،‬وإذا وجدها فوق طاقته‪ ،‬وأكبر من قدرته تراجع ولم يُقدِم عليها‪ ،‬وإنْ ضربتَه‬
‫حتَ به‪ ..‬فل تستطيع أبدا إجباره على شيء فوق قدرته‪.‬‬
‫وصِ ْ‬
‫ذلك لنه محكوم بالغريزة اللية التي جعلها ال سبحانه فيه‪ ،‬على خلف النسان الذي يفكر في‬
‫مثل هذه المور ليختار منها ما يناسبه‪ ،‬فهذه تكون كذا‪ ،‬وهذه تكون كذا‪ ،‬فنستطيع أن نُشبّه هذه‬
‫الغريزة في الحيوان بالعقل اللكتروني الذي ل يعطيك إل ما غذّيته به من معلومات‪ ..‬أما العقل‬
‫البشري الرباني فهو قادر على التفكير والختيار والمفاضلة بين البدائل‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫حلِ‪[ } ...‬النحل‪.]68 :‬‬
‫{ وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ‬
‫الحق تبارك وتعالى قد يمتنّ على بعض عبادة ويُعلّمهم لغة الطير والحيوان‪ ،‬فيستطيعون التفاهم‬
‫معه ومخاطبته كما في قصة سليمان عليه السلم‪ ..‬وال سبحانه الذي خلقها وأبدعها يُوحِي إليها‬
‫ما يشاء‪ ..‬فما هو الوحي؟‬
‫الوحي‪ :‬إعلم من ُمعْلِم أعلى ل ُمعْلَم أدنى بطريق خفيّ ل نعلمه نحن‪ ،‬فلو أعلمه بطريق صريح فل‬
‫يكون َوحْيا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حىً إليه وهو الَدْنَى‪ ،‬ومُوحًى به وهو المعنى‬
‫فالوَحْي إذن يقتضي‪ :‬مُوحِيا وهو العلى‪ ،‬ومُو َ‬
‫المراد من الوَحْي‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ له طلقة القدرة في أنْ يُوحي ما يشاء لما يشاء من خَلْقه‪ ..‬وقد أوحى‬
‫ت الَ ْرضُ‬
‫ج ِ‬
‫ت الَ ْرضُ زِلْزَاَلهَا * وََأخْرَ َ‬
‫الحق سبحانه وتعالى إلى الجماد في قوله تعالى‪ {:‬إِذَا زُلْزَِل ِ‬
‫ل الِنسَانُ مَا َلهَا * َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ َأخْبَارَهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة‪.]5-1 :‬‬
‫أَ ْثقَاَلهَا * َوقَا َ‬
‫أعلمها بطريق خفيّ خاص بقدرة الخالق في مخلوقه‪.‬‬
‫وهنا أوحى ال إلى النحل‪.‬‬
‫وأوحى ال إلى الملئكة‪ {:‬إِذْ يُوحِي رَ ّبكَ إِلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ‪[} ...‬النفال‪:‬‬
‫‪.]12‬‬
‫ح وَالنّبِيّينَ مِن َبعْ ِد ِه وََأوْحَيْنَآ إِلَىا إِبْرَاهِيمَ‬
‫وأوحى إلى الرسل‪ {:‬إِنّآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ َكمَآ َأوْحَيْنَآ إِلَىا نُو ٍ‬
‫ن وَسُلَ ْيمَانَ‪} ...‬‬
‫ب وَيُونُسَ وَهَارُو َ‬
‫ق وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَاطِ وَعِيسَىا وَأَيّو َ‬
‫سمَاعِيلَ وَإسْحَا َ‬
‫وَإِ ْ‬

‫[النساء‪.]163 :‬‬
‫حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي‪[} ..‬المائدة‪:‬‬
‫وأوحى إلى المقربين من عباده‪ {:‬وَإِذْ َأوْحَ ْيتُ إِلَى ا ْل َ‬
‫‪.]111‬‬
‫وقد أوحى إليهم بخواطر نورانية تم ّر بقلوبهم‬
‫ضعِيهِ‪[} ..‬القصص‪.]7 :‬‬
‫وأوحى سبحانه إلى أم موسى‪ {:‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ‬
‫هذا هو وَحْي ال إلى ما يشاء من خَلْقه‪ :‬إلى الملئكة‪ ،‬إلى الرض‪ ،‬إلى الرسل‪ ،‬إلى عباده‬
‫المقرّبين‪ ،‬إلى أم موسى‪ ،‬إلى النحل‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫وقد يكون الوحي من غيره سبحانه‪ ،‬ويُسمّى وَحْيا أيضا‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَإِنّ الشّيَاطِينَ‬
‫لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ‪[} ..‬النعام‪.]121 :‬‬
‫ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ غُرُورا‪[} ..‬النعام‪.]112 :‬‬
‫وقوله‪ {:‬يُوحِي َب ْع ُ‬
‫لكن إذا أُطِل َقتْ كلمة (الوَحْي) مُطْلقا بدون تقييد انصرفتْ إلى الوحي من ال إلى الرسل؛ لذلك‬
‫يقول علماء الفقه‪ :‬الوحي هو إِعلمُ ال نبيه بمنهجه‪ ،‬ويتركون النواع الخرى‪ :‬وَحْي الغرائز‪،‬‬
‫وَحْي التَكوين‪َ ،‬وحْي الفطرة‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتا َومِنَ الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْرِشُونَ { [النحل‪.]68 :‬‬
‫كثير من الباحثين شغوفون بدراسة النحل ومراحل حياته منذ القدم‪ ،‬ومن هؤلء باحث تتبّع‬
‫المراحل التاريخية للنحل‪ ،‬فتوصّل إلى أن النحل أول ما وُجِد عاش في الجبال‪ ،‬ثم اتخذ الشجر‪،‬‬
‫وجعل فيها أعشاشه‪ ،‬ثم اتخذ العرائش التي صنعها له البشر‪ ،‬وهي ما نعرفه الن باسم الخلية‬
‫الصناعية أو المنحل‪ ،‬ووَجْه العجب هنا أن هذا الباحث ل يعرف القرآن الكريم‪ ،‬ومع ذلك فقد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تطابق ما ذهب إليه مع القرآن تمام التطابق‪.‬‬
‫وكذلك توصّل إلى أن أقدمَ أنواع العسل ما وُجِد في كهوف الجبال‪ ،‬وقد تَوصّلوا إلى هذه الحقيقة‬
‫عن طريق حَرْق العسل وتحويله إلى كربون‪ ،‬ثم عن طريق قياس إشعاع الكربون يتم التوصّل‬
‫إلى عمره‪ ..‬وهكذا وجدوا أن عسل الكهوف أقدم أنواع العسل‪ ،‬ثم عسل الشجر‪ ،‬ثم عسل الخليا‬
‫والمناحل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أوحى ال تعالى إلى النحل بطريق خفيّ ل نعلمه نحن‪ ،‬وعملية الوحي تختلف باختلف‬
‫الموحِي والموحَي إليه‪ ،‬ويمكن أنْ نُمثّل هذه العملية بالخادم الفَطِن الذي ينظر إليه سيده مُجرد‬
‫نظرة فيفهم منها كل شيء‪ :‬أهو يريد الشراب؟ أم يريد الطعام؟ أم يريد كذا؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬ثمّ كُلِي مِن‪.{ ...‬‬

‫(‪)1953 /‬‬

‫شفَاءٌ‬
‫ثُمّ كُلِي مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ فَاسُْلكِي سُ ُبلَ رَ ّبكِ ذُلُلًا َيخْرُجُ مِنْ ُبطُو ِنهَا شَرَابٌ ُمخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ فِيهِ ِ‬
‫لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ (‪)69‬‬

‫عِلّة َكوْن العسل فيه شفاء للناس أنْ يأكلَ النحل من ُكلّ الثمرات ذلك لن تنوّع الثمرات يجعل‬
‫العسل غنيّا بالعناصر النافعة‪ ،‬فإذا ما تناوله النسان ينصرف كل عنصر منه إلى شيء في‬
‫الجسم‪ ،‬فيكون فيه الشفاء بإذن ال‪.‬‬
‫ولكن الن ماذا حدث؟ نرى بعض الناس يقول‪ :‬أكلتُ كثيرا من العسل‪ ،‬ولم أشعر له بفائدة‪..‬‬
‫نقول‪ :‬لننا تدخّلنا في هذه العملية‪ ،‬وأفسدنا الطبيعة التي خلقها ال لنا‪ ..‬فالصل أن نتركَ النحل‬
‫ل الثمرات‪ ..‬ولكن الحاصل أننا نضع له السكر مثلً بدلً من الزّهْر والنوار الطبيعي‪،‬‬
‫يأكل من ُك ّ‬
‫ولذلك تغيّر طعم العسل‪ ،‬ولم َت ُعدْ له مَيْزته التي ذكرها القرآن الكريم‪.‬‬
‫لذلك؛ فالمتتبع لسعار عسل النحل يجد تفاوتا واضحا في سعره بين نوع وآخر‪ ،‬ذلك حَسْب‬
‫جودته ومدى مطابقته للطبيعة التي حكاها القرآن الكريم‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫{ فَاسُْلكِي سُ ُبلَ رَ ّبكِ ذُلُلً‪[ } ..‬النحل‪.]69 :‬‬
‫أي‪ :‬تنقّلي حُرّة بين الزهار هنا وهناك؛ ولذلك ل نستطيع أنْ نَبني للنحل بيوتا يقيم فيها‪ ،‬ل ُبدّ له‬
‫ج ّفتْ الزراعات يتغذّى النحل من عسله‪ ،‬ولكن الناس الن‬
‫من التنقّل من بستان لخر‪ ،‬فإذا ما َ‬
‫يأخذون العسل كله ل يتركون له شيئا‪ ،‬ويضعون مكانه السكر ليتغذّى منه طوال هذه الفترة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬ذُلُلً‪[ } ..‬النحل‪.]69 :‬‬
‫أي‪ :‬مُذلّلة مُمهّدة طيّعة‪ ،‬فتخرج النحل تسعى في هذه السّبل‪ ،‬فل يردها شيء‪ ،‬ول يمنعها مانع‪،‬‬
‫تطير هنا وهناك من زهرة لخرى‪ ،‬وهل رأيت شجرة مثلً رَ ّدتْ نحلة؟!‪ ..‬ل‪ ..‬قد ذَّللَ ال لها‬
‫حياتها ويسّرها‪.‬‬
‫ومن حكمته تعالى ورحمته بنا أنْ ذّللَ لنا سُبُل الحياة‪ ..‬وذلّل لنَا ما ننتفع به‪ ،‬ولول تذليله هذه‬
‫الشياء ما انتفعنا بها‪ ..‬فنرى الجمل الضخم يسوقه الصبي الصغير‪ ،‬ويتحكّم فيه يُنيخه‪ ،‬ويُحمّله‬
‫الثقال‪ ،‬ويسير به كما أراد‪ ،‬في حين أنه إذا ثار الجمل أو غضب ل يستطيع أحدٌ التحكم فيه‪..‬‬
‫وما تحكّم فيه الصبي الصغير بقوته ولكن بتذليل ال له‪.‬‬
‫صغَر حجمه يمثّل خطرا يفزع منه الجميع ويهابون القتراب منه‪ ،‬ذلك‬
‫ل فهو على ِ‬
‫أما الثعبان مث ً‬
‫صغَر حجمه‪ ..‬كذلك لو تأمنا البرغوث مثلً‪ ..‬كم هو‬
‫لن ال سبحانه لم يُذلّلْه لنا‪ ،‬فأفزعنا على ِ‬
‫صغير حقير‪ ،‬ومع ذلك يقضّ مضاجعنا‪ ،‬ويحرمنا لذة النوم في هدوء‪ ..‬فهل يستطيع أحدٌ أنْ يُذلّل‬
‫له البرغوث؟!‬
‫وفي ذلك حكمة بالغة وكأن الحق سبحانه يقول لنا‪ :‬إذا ذللتُ لكم شيئا‪ ،‬ولو كان اكبر المخلوقات‬
‫كالجمل والفيل تستطيعون النتفاع به‪ ،‬وإن لم أذلّله لكم فل قدرة لكم على تذليله مهما كان حقيرا‬
‫صغيرا‪ ..‬إذن‪ :‬المور ليست بقدرتك‪ ،‬ولكن خُذْها كما خلقها ال لك‪.‬‬

‫} َيخْرُجُ مِن بُطُو ِنهَا‪[ { ..‬النحل‪.]69 :‬‬


‫طهْي ربانية تجعل من هذا‬
‫ذلك أن النحلة تمتصّ الرحيق من هنا ومن هنا‪ ،‬ثم تتم في بطنها عملية َ‬
‫شهْدا مُصفّى؛ لنه قد يظن أحدهم أنها تأخذ الرحيق‪ ،‬ثم تتقيؤه كما هو‪ ..‬فلم َي ُقلْ القرآن‪:‬‬
‫الرحيق َ‬
‫من أفواهها‪ ،‬بل قال‪ :‬من بطونها‪ ..‬هذا المعمل اللهي الذي يعطينا عسلً فيه شفاء للناس‪.‬‬
‫} شَرَابٌ مّخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ‪[ { ..‬النحل‪.]69 :‬‬
‫ما دام النحل يأكل من ُكلّ الثمرات‪ ،‬والثمرات لها عطاءاتٌ مختلفة باختلف مادتها‪ ،‬واختلف‬
‫ألوانها‪ ،‬واختلف طُعومها وروائحها‪ ..‬إذن‪ :‬ل ُبدّ أن يكون شرابا مختلفا ألوانه‪.‬‬
‫شفَآءٌ لِلنّاسِ‪[ { ...‬النحل‪.]69 :‬‬
‫} فِيهِ ِ‬
‫لذلك وجدنا كثيرا من الطباء‪ ،‬جزاهم ال خيرا يهتمون بعسل النحل‪ ،‬ويُجْرون عليه كثيرا من‬
‫التجارب لمعرفة قيمته الطبية‪ ،‬لكن يعوق هذه الجهود أنهم ل يجدون العسل الطبيعي كما خلقه‬
‫ال‪.‬‬
‫ومع ذلك ومع تدخّل النسان في غذاء النحل بقيت فيه فائدة‪ ،‬وبقيت فيه صفة الشفاء‪ ،‬وأهمها‬
‫ن تقضيَ عليه قم بامتصاص المائية منه يموت‬
‫ي ميكروب تريد أ ْ‬
‫امتصاص المائية من الجسم‪ ،‬وأ ّ‬
‫فورا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا ما توفّر لنا العسل الطبيعي الذي خلقه ال تجّلتْ حكمة خالقه فيه بالشفاء‪ ،‬ولكنه إذا تدخّل‬
‫خلَ للنسان فيه يسير سَيْرا مستقيما ل‬
‫النسان في هذه العملية أفسدها‪ ..‬فالكون كله الذي ل دَ ْ‬
‫يتخلّف‪ ،‬كالشمس والقمر والكواكب‪ ..‬الخ إل النسان فهو المخلوق الوحيد الذي يخرج عن منهج‬
‫ال‪.‬‬
‫خلٌ فيه‪ ،‬إما أنْ تتدخّل فيه بمنهج خالقه أو تتركه؛ لنك إذا تدخ ْلتَ فيه بمنهج‬
‫فالشيء الذي لك َد ْ‬
‫خالقه يعطيك السلمة والخير‪ ،‬وإنْ تدخ ْلتَ فيه بمنهجك أنت أفسدتَه‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪ {:‬وَإِذَا قِيلَ َلهُ ْم لَ ُتفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ قَالُواْ إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ }‬
‫[البقرة‪.]11 :‬‬
‫إنهم ل يعرفون‪ ..‬ل يُفرّقون بين الفساد والصلح‪.‬‬
‫وفي القرآن أمثلة للناس الذين يُفسِدون في الرض ويحسَبون أنهم يُحسِنون صُنْعا‪ ،‬يقول تعالى‪{:‬‬
‫حسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُيحْسِنُونَ‬
‫سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ ُهمْ يَ ْ‬
‫ضلّ َ‬
‫ن َ‬
‫عمَالً * الّذِي َ‬
‫ُقلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ‬
‫صُنْعا }[الكهف‪.]104-103 :‬‬
‫فالذي اخترع السيارة وهذه اللت التي تنفث سمومها وتُلوّث البيئة التي خلقها ال‪ ..‬صحيح وفّر‬
‫عطَب بسبب هذه‬
‫لنا الوقت والمجهود في الحمل والتنقّل‪ ،‬ولكن انظر إلى ما أصاب الناس من َ‬
‫اللت‪ ..‬انظر إلى عوادم السيارات وآثارها على صحة النسان‪.‬‬
‫كان يجب على مخترع هذه اللت أنْ يوازنَ بين ما تؤديه من منفعة وما تُسبّبه من ضرر‪،‬‬
‫وأضاف إلى الضرار الصحية ما يحدث من تصادمات وحوادث مُروّعة تزهق بسببها الرواح‪..‬‬
‫وبال هل رأيت أن تصادمَ جملن في يوم من اليام‪ ..‬فل بُدّ إذن أن نقيسَ المنافع والضرار قبل‬
‫أنْ نُقدِم على الشيء حتى ل ُنفِسد الطبيعة التي خلقها ال لنا‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫شفَآءٌ لِلنّاسِ‪[ { ....‬النحل‪.]69 :‬‬
‫} فِيهِ ِ‬
‫جمْعٌ مختلفُ الداءات باختلف الفراد وتعاطيهم لسباب الداءات‪ ،‬فكيف يكون هذا الشراب‬
‫الناس‪َ :‬‬
‫شفاءٌ لجميع الداءات على اختلف أنواعها؟‪ ..‬نقول‪ :‬لن هذا الشراب الذي أعدّه ال لنا بقدرته‬
‫سبحانه جاء مختلفا ألوانه‪ ..‬من رحيق مُتعدّد النواع والشكال والطّعوم والعناصر‪ ..‬ليس مزيجا‬
‫واحدا يشربه كل الناس‪ ،‬بل جاء مختلفا متنوعا باختلف الناس‪ ،‬وتنوّع الداءات عندهم‪ ..‬وكأن كل‬
‫عنصر منه يُداوِي داءً من هذه الدّاءات‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫ك ليَةً ّل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ { [النحل‪ .]69 :‬التفكّر‪ :‬أنْ تُفكّر فيما أنت بصدده لتستنبطَ منه‬
‫} إِنّ فِي ذاِل َ‬
‫شيئا لستَ بصدده‪ ،‬وبذلك تُثري المعلومات؛ لن المعلومات إذا لم تتلقح‪ ،‬إذا لم يحدث فيها توالد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تقف وتتجمّد‪ ،‬ويُصاب النسان بالجمود الطموحي‪ ،‬وإذا أصيب النسان بهذا الجمود توقّف‬
‫الرتقاء؛ لن الرتقاءات التي نراها في الكون هي نتيجة التفكّر وإعمال العقل‪.‬‬
‫لذلك فالحق سبحانه يُنبّهنا حينما نمرّ على ظاهرة من ظواهر الكون‪ ،‬أل نمر عليها غافلين‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫مُعرضين‪ ،‬بل نفكر فيها ونأخذها بعين العتبار‪ ..‬يقول تعالى‪َ {:‬وكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي ال ّ‬
‫وَالَرْضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪.]105 :‬‬
‫حثّ على التفكّر في ظواهر الكون‪ ،‬وفيها تحذير من العراض والغفلة عن آيات ال‪،‬‬
‫ففي الية َ‬
‫فبالفكر نستنبط من الكون ما نستفيد به‪.‬‬
‫ولو أخذنا مثلً الذي اخترع اللة البخارية‪ ..‬كيف توصل إلى هذا الختراع الذي أفاد البشرية؟‬
‫نجد أنه توصل إليه حينما رأى القِدْر الذي يغلي على النار يرتفع غطاؤه مع بخار الماء المتصاعد‬
‫أثناء الغليان‪ ..‬فسأل نفسه‪ :‬لماذا يرتفع الغطاء؟ واستعمل عقله وأعمل تفكيره حتى توصّل إلى قوة‬
‫البخار المتصاعد‪ ،‬واستطاع توظيف هذه القوة في تسيير ودفع العربات‪.‬‬
‫وكذلك أرشميدس ـ وغيره كثيرون ـ توصلوا بالعتبار والتفكّر في ظواهر الكون‪ ،‬إلى قوانين‬
‫في الطبيعة أدت إلى اختراعات نافعة نتمتع نحن بها الن‪ ،‬فالذي اخترع العجلة‪ ،‬كم كانت مشقة‬
‫حمْل الثقال؟ وما أقصى ما يمكن أنْ يحمله؟ فبعد أنْ اخترعوا العجلت واستُخدِمت‬
‫النسان في َ‬
‫حمْل وتحريك أضعاف أضعاف ما كان يحمله‪.‬‬
‫في الحمل تمكّن النسان من َ‬
‫الذي اخترع خزانات المياه‪ ..‬كم كانت المشقة في استخراج الماء من البئر؟ أو من النهر؟ فبعد‬
‫عمل الخزانات وضَخّ المياه أصبحنا نجد الماء في المنازل بمجرد فَتْح الصنبور‪.‬‬
‫هذه كلها ثمرات العقل حينما يتدبّر‪ ،‬وحينما يُفكّر في ظواهر الكون‪ ،‬ويستخدم المادة الخام التي‬
‫خلقها ال وحثّنا على التفكّر فيها والستنباط منها‪ ..‬وكأن الحق سبحانه يقول لنا‪ :‬لقد أعطيتكم‬
‫ضروريات الحياة‪ ،‬فإنْ أردتُم ترفَ الحياة وكمالياتها فاستخدموا نعمة العقل والتفكير والتدبّر‬
‫لتصلوا إلى هذه الكماليات‪.‬‬
‫وهنا الحق سبحانه يلفتنا َلفْتةً أخرى‪ ..‬وهي أنه سبحانه يجعل من المحسّات ما يُقرّب لنا المعنويّات‬
‫ليلفتنا إلى منهجه سبحانه؛ ولذلك ينقلنا هذه ال ّنقْلة من المحسوس إلى المعنوي‪ ،‬فيقول تعالى‪} :‬‬
‫وَاللّهُ خََل َقكُمْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1954 /‬‬

‫وَاللّهُ خََل َقكُمْ ثُمّ يَ َت َوفّاكُ ْم َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َردّ إِلَى أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ ِل َكيْ لَا َيعْلَمَ َب ْعدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ‬
‫(‪)70‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قوله‪ { :‬وَاللّهُ خََل َقكُمْ‪[ } ..‬النحل‪.]70 :‬‬
‫هذه حقيقة ل يُنكرها أحد‪ ،‬ولم يَدّعِها أحدٌ لنفسه‪ ،‬وقد أمدّكم بمقوّمات حياتكم في الرض والنبات‬
‫والحيوان‪ ،‬والنعام التي تعطينا اللبن صافيا سائغا للشاربين‪ ،‬ثم النحل الذي فيه شفاء للناس‪.‬‬
‫فالحق سبحانه أعطانا الحياة‪ ،‬وأعطانا مٌقوّمات الحياة‪ ،‬وأعطانا ما يُزيل معاطبَ الحياة‪ ..‬وما ُدمْتم‬
‫صدّقتم بهذه المحسّات فاسمعوا‪:‬‬
‫{ وَاللّهُ خََل َقكُمْ ُثمّ يَ َت َوفّاكُ ْم َومِنكُم مّن يُرَدّ إِلَىا أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ‪[ } ...‬النحل‪.]70 :‬‬
‫وساعة أن نسمع (خلقكم)‪ ،‬فنحن نعترف أن ال خلقنا‪ ،‬ولكنْ كيف خلقنا؟ هذه ل نعرفها نحن؛‬
‫لنها ليستْ عملية معملية‪ ..‬فالذين خلق هو الحق سبحانه وحده‪ ،‬وهو الذي يُخبرنا كيف خلق‪ ..‬أما‬
‫ن يقول إن النسان أَصلْه قرد‪ ..‬إلى‬
‫أنْ يتدخّل النسان ويُقحِمَ نفسه في مسألة ل يعرفُها‪ ،‬فنرى مَ ْ‬
‫صلَ له في الحقيقة‪.‬‬
‫آخر هذا الهُراء الذي ل َأ ْ‬
‫ولذلك‪ ،‬فالحق سبحانه يقول لنا‪ :‬إذا أردتُمْ أن تعرفوا كيف خُِلقْتُم فاسمعوا ِممّنْ خلقكم‪ ..‬إياكم أنْ‬
‫سهِمْ }[الكهف‪:‬‬
‫ت وَالَ ْرضِ َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شهَدّت ُهمْ خَ ْلقَ ال ّ‬
‫تسمعوا من غيره؛ ذلك لنني‪ {:‬مّآ أَ ْ‬
‫‪.]51‬‬
‫عضُدا }[الكهف‪.]51 :‬‬
‫هذه عملية لم يُطلع ال عليها أحدا‪َ {:‬ومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫أي‪ :‬ما اتخذتُ مساعدا يعاونني في مسألة الخَلْق‪.‬‬
‫ضلّ هو الذي يقول لك الكلم على أنه حقيقة‪ ،‬وهو يُضلّك‪.‬‬
‫وما هو المضلّ؟ الم ِ‬
‫إذن‪ :‬ربنا سبحانه وتعالى هنا يعطينا فكرة مُقدّما‪ :‬احذروا‪ ،‬فسوف يأتي أناس يُضلونكم في‬
‫موضوع الخَلْق‪ ،‬وسوف يُغيّرون الحقيقة‪ ،‬فإياكم أنْ تُصدّقوهم؛ لنهم ما كانوا معي وقت أنْ‬
‫خلقتكم فيدّعُون العلم بهذه المسألة‪.‬‬
‫ونفس هذه القضية في مسألة خَلْق السماوات والرض‪ ،‬فال سبحانه هو الذي خلقهما‪ ،‬وهو سبحانه‬
‫الذي يُخبرنا كيف خلق‪.‬‬
‫فحين يقول سبحانه‪:‬‬
‫{ وَاللّهُ خََل َقكُمْ‪[ } ..‬النحل‪.]70 :‬‬
‫سمْعا وطاعة‪ ،‬وعلى العين والرأس‪ ..‬يا ربّ أنت خلقتنا‪ ،‬وأنت تعلم كيف خلقتنا‪،‬‬
‫فعلينا أن نقول‪َ :‬‬
‫ول نسأل في هذا غيرك‪ ،‬ول نُصدّق في هذا غير َقوْلك سبحانك‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫{ ُثمّ يَ َت َوفّاكُمْ‪[ } ..‬النحل‪.]70 :‬‬
‫أي‪ :‬منه سبحانه كان المبدأ‪ ،‬وإليه سبحانه يعود المرجع‪ ..‬وما دام المبدأ من عنده والمرجع إليه‪،‬‬
‫وحياتك بين هذين القوسين؛ فل تتمرد على ال فيما بين القوسين؛ لنه ل يليق بك ذلك‪ ،‬فأنت منه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإليه‪ ..‬فلماذا التمرد؟‬
‫ربّنا سبحانه وتعالى هنا يُعطينا دليلً على طلقة قدرته سبحانه في أمر الموت‪ ،‬فالموت ليس له‬
‫قاعدة‪ ،‬بل قد يموت الجنين في بطن أمه‪ ،‬وقد يموت وهو طفل‪ ،‬وقد يموت شابا أو شيخا‪ ،‬وقد يرد‬
‫إلى أرذل العمر‪ ،‬أي‪ :‬يعيش عمرا طويلً‪ ..‬وماذا في أرذل العمر؟!‬
‫يُرَدّ النسان بعد القوة والشباب‪ ،‬بعد المهابة والمكان‪ ،‬بعد أنْ كان يأمر وينهي ويسير على‬
‫ضعْف في كل شيء‪ ،‬حتى في َأمْيز شيء في تكوينه‪ ،‬في فكره‪ ،‬فبعد‬
‫الرض ُمخْتالً‪ ،‬يُ َردّ إلى ال ّ‬
‫حفْظ وقوة الذاكرة يعود كالطفل الصغير‪ ،‬ل يذكر شيئا ول يقدر على شيء‪.‬‬
‫العِلْم وال ِ‬

‫ذلك لتعلم أن المسألة ليست ذاتية فيك‪ ،‬بل موهوبة لك من خالقك سبحانه‪ ،‬ولتعلم أنه سبحانه حينما‬
‫يقضي علينا بالموت فهذا رحمة بنا وستْر لنا من الضعف والشيخوخة‪ ،‬قبل أن نحتاج لمن يساعدنا‬
‫ويُعينُنا على أبسط أمور الحياة ويأمر فينا مَنْ كُنّا نأمره‪.‬‬
‫ومن هنا كان التوفّي نعمة من ِنعَم ال علينا‪ ،‬ولكي تتأكد من هذه الحقيقة انظر إلى مَنْ أم ّد ال في‬
‫أعمارهم حتى بلغوا ما سماه القرآن " أرذل العمر " وما يعانونه من ضعف وما يعانيه ذووهم في‬
‫خدمتهم حتى يتمنى له الوفاة أقرب الناس إليه‪.‬‬
‫الوفاة إذن نعمة‪ ،‬خاصة عند المؤمن الذي قدّم صالحا يرجو جزاءه من ال‪ ،‬فتراه مُسْتبشرا‬
‫بالموت؛ لنه عمّر آخرته فهو يُحب القدوم عليها‪ ،‬على عكس المسرف على نفسه الذي لم ُي ِعدّ‬
‫العُدّة لهذا اليوم‪ ،‬فتراه خائفا جَزِعا لعلمه بما هو قادم عليه‪.‬‬
‫و(ثُمّ) حَرْف للعطف يفيد الترتيب مع التراخي‪ ..‬أي‪ :‬مرور وقت بين الحدثين‪ ..‬فهو سبحانه‬
‫خلقكم‪ ،‬ثم بعد وقت وتراخٍ يحدث الحدَث الثاني (يتوفّاكم)‪ .‬على خلف حرف (الفاء)‪ ،‬فهو حرف‬
‫عطف يفيد الترتيب مع التعقيب أي‪ :‬تتابع الحدثين‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬أمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ }[عبس‪:‬‬
‫‪.]21‬‬
‫فبعد الموت يكون القبار دون تأخير‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬ومِنكُم مّن يُرَدّ إِلَىا أَ ْر َذلِ ا ْل ُعمُرِ‪[ { ...‬النحل‪.]70 :‬‬
‫وأرذل العمر‪ :‬أردؤه وأقلّه وأخسّه؛ ذلك أن ال سبحانه وتعالى أخرج النسان من بطن أمه ل يعلم‬
‫سمْ َع وَالَ ْبصَارَ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ ا ْل ّ‬
‫جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ‬
‫شيئا‪ ،‬فقال‪ {:‬وَاللّهُ َأخْرَ َ‬
‫وَالَفْئِ َدةَ‪[} ...‬النحل‪.]78 :‬‬
‫ض ُعفَ‬
‫وهذه هي وسائل العلم في النسان‪ ،‬فإذا رُدّ إلى أرذل العمر فقدتْ هذه الحواسّ قدرتها‪ ،‬و َ‬
‫عملها‪ ،‬وعاد النسان كما بدأ ل يعلم شيئا بعد ما أصابه من الخَرف والهرم‪ ،‬فقد توقفتْ آلت‬
‫المعرفة‪ ،‬وبدأ النسان ينسى‪ ،‬وتضعف ذاكرته عن استرجاع ما كان يعلمه‪.‬‬
‫ي لَ َيعَْلمَ َبعْدَ عِ ْلمٍ شَيْئا‪[ { ..‬النحل‪.]70 :‬‬
‫وقوله‪ِ } :‬ل َك ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك يُسمّون هذه الحواس الوارث‪.‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪:‬‬
‫} إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ { [النحل‪.]70 :‬‬
‫لنه سبحانه بيده الخَلْق من بدايته‪ ،‬وبيده سبحانه الوفاة والمرجع‪ ،‬وهذا يتطلّب عِلْما‪ ،‬كما قال‬
‫سبحانه‪َ {:‬ألَ َيعَْلمُ مَنْ خََلقَ‪[} ..‬الملك‪.]14 :‬‬
‫فل بُدّ من عِلم‪ ،‬لن الذي يصنع صَنْعة ل ُبدّ أن يعرفَ ما يُصلحها وما يُفسِدها‪ ،‬وذلك يتطلّب‬
‫قدرة للدراك‪ ،‬فالعلم وحده ل يكفي‪.‬‬
‫ضلَ‪.{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَاللّهُ َف ّ‬

‫(‪)1955 /‬‬

‫ضكُمْ عَلَى َب ْعضٍ فِي الرّ ْزقِ َفمَا الّذِينَ ُفضّلُوا بِرَادّي رِ ْز ِقهِمْ عَلَى مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ‬
‫ضلَ َب ْع َ‬
‫وَاللّهُ َف ّ‬
‫جحَدُونَ (‪)71‬‬
‫سوَاءٌ َأفَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ يَ ْ‬
‫َفهُمْ فِيهِ َ‬

‫لو نظرنا إلى الكون من حولنا لوجدنا أننا ل نتساوى إل في شيء واحد فقط‪ ،‬هو أننا عبيدٌ ل‪..‬‬
‫نحن سواسية في هذه فقط‪ ،‬وما دون ذلك فنحن مختلفون فيه‪ ،‬تختلف ألواننا‪ ،‬تختلف أجسامنا‪..‬‬
‫صورنا‪ ..‬مواهبنا‪ ..‬أرزاقنا‪.‬‬
‫والعجيب أن هذا الختلف هو عَيْنُ التفاق؛ ذلك لن الختلف قد ينشأ عنه التفاق‪ ،‬والتفاق قد‬
‫ينشأ عنه الختلف‪.‬‬
‫ت أنت وصديقك أحد المطاعم وطلبتما دجاجة‪ ..‬أنت بطبيعتك تحب صدر الدجاجة‬
‫مثلً‪ :‬إذا دخل َ‬
‫وصديقك يحب جزاءً آخر منها‪ ..‬هذا خلف‪ ..‬فساعة أن يأتي الطعام تجد هذا الخلف هو عين‬
‫الوفاق حيث تأخذ أنت ما تحب‪ ،‬وهو كذلك‪ ..‬هذا خلف أدى إلى وفاق‪ ..‬فلو فرضنا أن كلنا‬
‫يحب الصدر مثلً‪ ..‬هذا وفاق قد يؤدي إلى خلف إذا ما حضر الطعام وجلسنا‪ :‬أينا يأخذ‬
‫الصدر؟!‬
‫فالحق سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين في أشياء‪ ،‬وأراد أن يكون هذا الختلف تكاملً فيما بيننا‪..‬‬
‫فكيف يكون التكامل إذن؟‬
‫هل نتصور مثلً أن يُوجَد إنسان مجمعا للمواهب‪ ،‬بحيث إذا أراد بنا بيت مثلً كان هو المهندس‬
‫الذي يرسم‪ ،‬والبنّاء الذي يبني‪ ،‬والعامل الذي يحمل‪ ،‬والنجار والحداد والسباك‪ ..‬الخ‪ .‬هل نتصور‬
‫أن يكون إنسان هكذا؟‪ ..‬ل‪..‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولكن الخالق سبحانه نثَر هذه المواهب بين الناس نَثْرا لكي يظل كل منهم محتاجا إلى غيره فيما‬
‫ليس عنده من مواهب‪ ،‬وبهذا يتم التكامل في الكون‪.‬‬
‫جلّ وعَل‪،‬‬
‫إذن‪ :‬الخلف بيننا هو عَين الوفاق‪ ،‬وهو آية من آياته سبحانه وحكمة أرادها الخالق َ‬
‫فقال‪َ {:‬ولَ يَزَالُونَ مُخْتَِلفِينَ }[هود‪.]118 :‬‬
‫فقد خلقنا هكذا‪.‬‬
‫وإل فلو اتحدنا واتفقنا في المواهب‪ ،‬فهل يعقل أن نكون جميعا فلسفة‪ ،‬أطباء‪ ،‬علماء‪ ،‬فمَنْ يبني؟‬
‫ومَنْ يزرع؟ ومَنْ يصنع؟‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬من رحمة ال أنْ جعلنا مختلفين متكاملين‪.‬‬
‫فالحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫{ فِي الْرّ ْزقِ‪[ } ...‬النحل‪.]71 :‬‬
‫ينظر الناس إلى الرزق من ناحية واحدة‪ ،‬فهو عندهم المال‪ ،‬فهذا غنيّ وهذا فقير‪ ..‬والحقيقة أن‬
‫الرزق ليس المال فقط‪ ،‬بل ُكلّ شيء تنتفع به فهو رِزْقك‪ ..‬فهذا رِزْقه عقله‪ ،‬وهذا رِزْقه قوته‬
‫العضلية‪ ..‬هذا يفكر وهذا يعمل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬يجب ألّ ننظر إلى الرزق على أنه َلوْن واحد‪ ،‬بل ننظر إلى كل ما خلق ال لخَلْقه من‬
‫مواهب مختلفة‪ :‬صحة‪ ،‬قدرة‪ ،‬ذكاء‪ ،‬حِلْم‪ ،‬شجاعة‪ ..‬كل هذا من الرزق الذي يحدث فيه التفاضل‬
‫بين الناس‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى حينما تعرّض لقضية الرزق جعل التفاضل هنا مُبْهما‪ ،‬ولم تحدد الية مَنِ‬
‫ن البعاض فاضل في‬
‫الفاضل ومَنِ المفضول‪ ،‬فكلمة ـ َب ْعضٍ ـ مُبْهمة لنفهم منها أن كل بعض م َ‬
‫ناحية‪ ،‬ومفضول في ناحية أخرى‪.‬‬

‫‪ .‬فالقوي فاضل على الضعيف بقوته‪ ،‬وهو أيضا مفضول‪ ،‬فربما كان الضعيف فاضلً بما لديه‬
‫من علم أو حكمة‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫ل واحد من خَلْق ال رَزَقه ال موهبة‪ ،‬هذه الموهبة ل تتكرر في الناس حتى يتكامل الخَلْق‬
‫إذن‪ :‬فك ّ‬
‫ول يتكررون‪ ..‬وإذا وجدت موهبة في واحد وكانت مفقودة في الخر فالمصلحة تقتضي أن يرتبط‬
‫الطرفان‪ ،‬ل ارتباط تفضّل‪ ،‬وإنما ارتباط حاجة‪ ..‬كيف؟‬
‫ي يعمل للضعيف الذي ل قوةَ له يعمل بها‪ ،‬فهو إذن فاضل في قوته‪ ،‬والضعيف فاضل بما‬
‫القو ّ‬
‫يعطيه للقوي من مال وأجر يحتاجه القوي ليقُوتَ نفسه وعياله‪ ،‬فلم يشأ الحق سبحانه أنْ يجعلَ‬
‫المر تفضّلً من أحدهما على الخر‪ ،‬وإنما جعله تبادلً مرتبطا بالحاجة التي يستبقي بها النسان‬
‫حياته‪.‬‬
‫وهكذا يأتي هذا المر ضرورة‪ ،‬وليس تفضّلً من أحد على أحد؛ لن التفضّل غير مُلْزَم به ـ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فليس كل واحد قادرا على أن يعطي دون مقابل‪ ،‬أو يعمل دون أجر‪ ..‬إنما الحاجة هي التي تحكم‬
‫هذه القضية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ما الذي ربط المجتمع؟ هي الحاجة ل التفضّل‪ ،‬وما دام العالم سيرتبط بالحاجة‪ ،‬فكل إنسان‬
‫يرى نفسه فاضلً في ناحية ل يغترّ بفاضليته‪ ،‬بل ينظر إلى فاضلية الخرين عليه؛ وبذلك تندكّ‬
‫ل منهما يُكمل الخر‪.‬‬
‫سمَة الكبرياء في الناس‪ ،‬فك ّ‬
‫ِ‬
‫وقد ضربنا لذلك مثلً بالباشا الغني صاحب العظمة والجاه‪ ..‬والذي قد تُلْجِئه الظروف وتُحوجه‬
‫لعامل بسيط يُصلح له عُطْلً في مرافق بيته‪ ،‬وربما لم يجده أو وجده مشغولً‪ ،‬فيظل هذا الباشا‬
‫العظيم َنكِدا مُؤرّقا حتى يُسعفه هذا العامل البسيط‪ ،‬ويقضي له ما يحتاج إليه‪.‬‬
‫ن يقضي مثل هذه‬
‫هكذا احتاج صاحب الغنى والجاه إلى إنسان ليس له من مواهب الحياة إل أ ْ‬
‫المهام البسيطة في المنزل‪ ..‬وهو في نفس الوقت فاضل على الباشا في هذا الشيء‪.‬‬
‫فالجميع ـ إذن ـ في الكون سواسية‪ ،‬ليس فينا مَنْ بينه وبين ال سبحانه نسب أو قرابة فيجامله‪..‬‬
‫كلنا عبيد ل‪ ،‬وقد نثر ال المواهبَ في الناس جميعا ليتكاملوا فيما بينهم‪ ،‬وليظل ُكلّ منهم محتاجا‬
‫إلى الخر‪ ،‬وبهذا يتم الترابط في المجتمع‪.‬‬
‫سمْنَا‬
‫ح َمتَ رَ ّبكَ نَحْنُ َق َ‬
‫سمُونَ رَ ْ‬
‫ضتْ هذه القضية في آية أخرى في قوله تعالى‪ {:‬أَ ُهمْ َيقْ ِ‬
‫وقد عُ ِر َ‬
‫سخْرِيّا‪} ..‬‬
‫ضهُم َبعْضا ُ‬
‫ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ َب ْع ُ‬
‫بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ‬
‫[الزخرف‪.]32 :‬‬
‫ل منهما مُسخّر للخر‪ ..‬فالفقير مُسخّر‬
‫البعض يفهم أن الفقير مُسخّر للغنيّ‪ ،‬لكن الحقيقة أن ك ً‬
‫للغني حينما يعمل له العمل‪ ،‬والغني مُسخّر للفقير حينما يعطي له أجره‪..‬‬
‫ض لبعضٍ وإن لم يشعروا‬
‫ولذلك فالشاعر العربي يقول‪:‬النّاسُ لِلْناسِ مِنْ بَ ْدوٍ وحاضرة َب ْع ٌ‬
‫خ َدمُونضرب هنا مثلً بأخسّ الحرف في عُرْف الناس ـ وإنْ كانت الحِرف كلها شريفة‪ ،‬وليس‬
‫َ‬
‫فيها خِسّة طالما يقوت النسان منها نفسه وعياله من الحلل‪.‬‬

‫خسّة في العاطل الخرق الذي يُتقِن عملً‪.‬‬


‫‪ .‬فال ِ‬
‫هذا العامل البسيط ماسح الحذية ينظر إليه الناس على أنهم افضل منه‪ ،‬وأنه أقل منهم‪ ،‬ولو‬
‫نظروا إلى علبة الورنيش التي يستخدمها لوجدوا كثيرين من العمال والعلماء والمهندسين‬
‫والغنياء يعملون له هذه العلبة‪ ،‬وهو فاضل عليهم جميعا حينما يشتري علبة الورنيش هذه‪ ..‬لكن‬
‫الناس ل ينظرون إلى تسخير كل هؤلء لهذا العامل البسيط‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ {:‬لّيَتّخِذَ َب ْعضُهُم َبعْضا سُخْرِيّا‪[} ..‬الزخرف‪.]32 :‬‬
‫مَنْ مِنّا يُسخّر الخر؟! ُكلّ منا مُسخّر للخر‪ ،‬أنت مُسخّر لي فيما تتقنه‪ ،‬وأنا مُسخّر لك فيما‬
‫أتقنه‪ ..‬هذه حكمة ال في خَلْقه ليتم التوازن والتكامل بين أفراد المجتمع‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وربّنا سبحانه وتعالى لم يجعل هذه المهن طبيعية فينا‪ ..‬يعني هذا لكذا وهذا لكذا‪ ..‬ل‪ ..‬الذي‬
‫يرضى بقدر ال فيما يُناسبه من عمل مهما كان حقيرا في نظر الناس‪ ،‬ثم يُتقن هذا العمل ويجتهد‬
‫ت رضيتَ بقدري في هذا العمل لرفعنّك به‬
‫فيه ويبذل فيه وُسْعه يقول له الحق سبحانه‪ :‬ما ُد ْم َ‬
‫ِرفْعة يتعجّب لها الخَلْق‪..‬‬
‫وفعلً تراهم ينظرون إلى أحدهم ويشيرون إليه‪ :‬كان شيالً‪ ..‬كان أجيرا‪ ..‬نعم كان‪ ..‬لكنه َرضِي‬
‫بما قسم ال وأتقن وأجاد‪ ،‬فعوّضه ال ورفعه وأعلى مكانته‪.‬‬
‫ولذلك يقولون‪ :‬مَنْ عمل بإخلص في أيّ عمل عشر سنين يُسيّده ال بقية عمره‪ ،‬ومَنْ عمل‬
‫بإخلص عشرين سنة يُسيّد ال أبناءه‪ ،‬ومَنْ عمل ثلثين سنة سيّد ال أحفاده‪ ..‬ل شيء يضيع عند‬
‫ال سبحانه‪.‬‬
‫فليس فينا أَعْلى وأَدْنى‪ ،‬وإياك أنْ تظنّ أنك أعلى من الناس‪ ،‬نحن سواسية‪ ،‬ولكن مِنّا من يُتقِن‬
‫ن ل يتقن عمله؛ ولذلك قالوا‪ :‬قيمة كل امرئ ما يُحسِنه‪.‬‬
‫عمله‪ ،‬ومِنّا مَ ْ‬
‫ول تنظر إلى زاوية واحدة في النسان‪ ،‬ولكن انظر إلى مجموع الزوايا‪ ،‬وسوف تجد أن الحق‬
‫سبحانه عادلٌ في تقسيم المواهب على الناس‪.‬‬
‫وقد ذكرنا أنك لو أجريتَ معادلة بين الناس لوجدتَ مجموع كل إنسان يساوي مجموع ُكلّ إنسان‪،‬‬
‫بمعنى أنك لو أخذتَ مثلً‪ :‬الصحة والمال والولد والقوة والشجاعة وراحة البال والزوجة‬
‫الصالحة والجاه والمنزلة‪ ..‬الخ لوجدت نصيب ُكلّ منّا في نهاية المعادلة يساوي نصيب الخر‪،‬‬
‫فأنت تزيد عني في القوة‪ ،‬وأنا أزيد عنك في العلم‪ ،‬وهكذا‪ ..‬لننا جميعا عبيدٌ ل‪ ،‬ليس مِنّا مَنْ بينه‬
‫وبين ال نسب أو قرابة‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} َفمَا الّذِينَ ُفضّلُواْ بِرَآدّي رِ ْز ِق ِهمْ عَلَىا مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ‪[ { ...‬النحل‪.]71 :‬‬
‫فما ملكت أيمانهم‪ :‬هم العبيد المماليك‪ ..‬والمعنى‪ :‬أننا لم نَرَ أحدا منكم فضّله ال بالرزق‪ ،‬فأخذه‬
‫ووزّعه على عبيده ومماليكه‪ ،‬أبدا‪ ..‬لم يحدث ذلك منكم‪ ..‬وال سبحانه ل يعيب عليهم هذا‬
‫التصرف‪ ،‬ول يطلب منهم أنْ يُوزّعوا رزق ال على عبيدهم‪ ،‬ولكن في الية إقامةٌ للحجة عليهم‪،‬‬
‫واستدلل على سُوء فعلهم مع ال سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫وكأن القرآن يقول لهم‪ :‬إذا كان ال قد ُفضّل بعضكم في الرزق‪ ،‬فهل منكم مَنْ تطوع برزق ال‬
‫له‪ ،‬ووزّعه على عبيده؟‪ ..‬أبدا‪ ..‬لم يحدث منكم هذا‪ ..‬فكيف تأخذون حق ال في العبودية‬
‫واللوهية وحقّه في الطاعة والعبادة والنذر والذبح‪ ،‬وتجعلونه للصنام والوثان؟!‬
‫فأنتم لم تفعلوا ذلك فيما تملكون‪ ..‬فكيف تسمحون لنفسكم أنْ تأخذوا حقّ ال‪ ،‬وتعطوه للصنام‬
‫والوثان؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكُمْ َهلْ ّلكُمْ مّن مّا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ مّن شُ َركَآءَ‬
‫ويقول تعالى في آية أخرى‪ {:‬ضَرَبَ َلكُمْ مّثَلً مّنْ أَنفُ ِ‬
‫فِي مَا رَ َزقْنَا ُكمْ‪[} ..‬الروم‪.]28 :‬‬
‫أي‪ :‬أنكم لم تفعلوا هذا مع أنفسكم‪ ،‬فكيف تفعلونه مع ال؟ فهذه َلقْطة‪ :‬أنكم تُعاملون ال بغير ما‬
‫تُعاملون به أنفسكم‪:‬‬
‫سوَآءٌ‪[ { ...‬النحل‪.]71 :‬‬
‫} َفهُمْ فِيهِ َ‬
‫أي‪ :‬أنكم سوّيتُم بين ال سبحانه وبين أصنامكم‪ ،‬وجعلتموهم شركاء له سبحانه وتعالى وتعبدونهم‬
‫مع ال‪.‬‬
‫والحق سبحانه وإنْ رزقنا وفضّلَنا فقد حفظ لنا المال‪ ،‬وحفظ لنا الملكية‪ ،‬ولم يأمرنا أن نعطي‬
‫أموالنا للناس دون عمل وتبادل منافع‪ ،‬فإذا ما طلب منك أن تعطي أخاك المحتاج فوق ما افترض‬
‫عفَهُ لَهُ‪[} ..‬البقرة‪.]245 :‬‬
‫عليك من زكاة يقول لك‪ {:‬مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَا ِ‬
‫مع أن الحق سبحانه واهب الرزق وال ّنعَم‪ ،‬يطلب منك أنْ تُقرِضه‪ ،‬وكأنه سبحانه يحترم عملك‬
‫ومجهودك‪ ،‬ويحترم ملكيتك الخاصة التي وهبها لَك‪ ..‬فيقول‪ :‬أقرضني‪ .‬لعلمه سبحانه بمكانة المال‬
‫في النفوس‪ ،‬وحِرْص المقرض على التأكد من إمكانية الداء عند المقترض‪ ،‬فجعل القرض له‬
‫سبحانه لتثقَ أنت أيها المقرض أن الداء مضمون من ال‪.‬‬
‫ويختم الحق سبحانه الية بقوله‪:‬‬
‫حدُونَ { [النحل‪.]71 :‬‬
‫} َأفَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ َيجْ َ‬
‫أي‪ :‬بعد أنْ أنعم ال عليهم بالرزق‪ ،‬ولم يطلب منهم أنْ ينثروه على الغير‪ ،‬جحدوا هذه النعمة‪،‬‬
‫حقّ ال في العبودية‬
‫وأنكروا َفضْل ال‪ ،‬وجعلوا له شركاء من الصنام والوثان‪ ،‬وأخذوا َ‬
‫واللوهية وأعط ْوهُ للصنام والوثان‪ ،‬وهذا عَيْنُ الجحود وإنكار الجميل‪.‬‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مّنْ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَاللّهُ َ‬

‫(‪)1956 /‬‬

‫حفَ َد ًة وَرَ َز َقكُمْ مِنَ الطّيّبَاتِ‬


‫ن وَ َ‬
‫ج ُكمْ بَنِي َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنْ أَ ْزوَا ِ‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجًا وَ َ‬
‫ج َعلَ َل ُكمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫وَاللّهُ َ‬
‫طلِ ُي ْؤمِنُونَ وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ ُهمْ َي ْكفُرُونَ (‪)72‬‬
‫َأفَبِالْبَا ِ‬

‫الحق سبحانه في الية السابقة قنّن لنا قضية القمة ـ قضية العقيدة ـ في أننا ل نعطي شيئا جعله‬
‫حتْ‬
‫صّ‬‫ال لنفسه سبحانه من العبودية واللوهية والطاعة وغيرها‪ ،‬ل نعطيها لغيره سبحانه‪ ..‬وإذا َ‬
‫حتْ كل قضايا الكون‪.‬‬
‫هذه القضية العَقدية صَ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم بيّن سبحانه أنه خلقنا من واحد‪ ،‬ثم خلق من الواحد زوجة له‪ ،‬ليتم التناسل والتكاثر‪ ..‬إذ إن‬
‫استمرارَ بقائكم خاضعٌ لمرين‪:‬‬
‫المر الول‪ :‬استبقاء الحياة‪ ،‬وقد ضمنه سبحانه بما أنعم به علينا من الرزاق‪ ،‬فنأكل ونشرب‬
‫فنستبقي الحياة‪ ،‬فبعد أنْ تحدّث عن استبقاء الحياة بالرزق في الية السابقة ذكر‪:‬‬
‫المر الثاني‪ :‬وهو استبقاء الحياة ببقاء النوع‪ ،‬فقال سبحانه‪:‬‬
‫س ُكمْ أَ ْزوَاجا‪[ } ...‬النحل‪.]72 :‬‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫{ وَاللّهُ َ‬
‫والزواج‪ :‬جمع زوج‪ ،‬والزوج ل يعني الرجل فقط‪ ،‬بل يعني الرجل والمرأة؛ لن كلمة (زوج)‬
‫تُطلَق على واحد له نظير من مثله‪ ،‬فكلّ واحد منهما َزوْج‪ ..‬الرجل زوج‪ ،‬والمرأة زوج‪ ،‬فتُطلق‬
‫إذن ـ على ُمفْرد‪ ،‬لكن له نظير من مثل‪.‬‬
‫سكُمْ } [النحل‪.]72 :‬‬
‫و { مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫جهَا‪} ...‬‬
‫ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫أي‪ :‬من َنفْس واحدة‪ ،‬كما قال في آية أخرى‪ {:‬خََل َقكُمْ مّن ّنفْسٍ وَاحِ َدةٍ ُثمّ َ‬
‫[الزمر‪.]6 :‬‬
‫يعني‪ :‬أخذ قطعة من الزوج‪ ،‬وخلق منها الزوجة‪ ،‬كما خلق سبحانه حواء من آدم ـ عليهما‬
‫السلم‪.‬‬
‫أو‪ {:‬وَخََلقَ مِ ْنهَا‪[} ..‬النساء‪.]1 :‬‬
‫سكُمْ‪[} ..‬التوبة‪.]128 :‬‬
‫أي‪ :‬من جنسها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬لقَدْ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫أي‪ :‬من جنسكم‪.‬‬
‫فالمسألة تحتمل المعنيين‪ ..‬مَن اتسع ظنّه إلى أن ال خلق حواء من ضِلع آدم أي‪ :‬منه‪ ،‬من بعضه‬
‫فل مانع‪ ،‬ومَنْ قال‪ :‬خلق ال حواء كما خلق آدم خَلْقا مستقلً‪ ،‬ثم زَاوَج بينهما بالزواج فل مانع‪..‬‬
‫فالول على معنى ال َبعْضية‪ ،‬والثاني على معنى من جنسكم‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬إن الجمع إذا قابل الجمع اقتضت القسمةُ آحادا‪ ..‬كما لو قال المعلم لتلميذه‪ :‬أخرجوا كتبكم‪،‬‬
‫فهو يخاطب التلميذ وهم جمع‪ .‬وكتبهم جمع‪ ،‬فهل سيُخرِج كل تلميذ كُتب الخرين؟!‪ ..‬ل‪ ..‬بل‬
‫كل منهم سيُخرج كتابه هو فقط‪ ..‬إذن‪ :‬القسمة هنا تقتضي آحادا‪ ..‬وكذلك المعنى في قوله تعالى‪{:‬‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجا‪[} ...‬الروم‪.]21 :‬‬
‫خََلقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬
‫أي‪ :‬خلق لكل منكم َزوْجا‪.‬‬
‫ولكي نتأكد من هذه الحقيقة‪ ،‬وأن الخَلْق بدأ بآدم عليه السلم ـ نردّ الشياء إلى الماضي‪ ،‬وسوف‬
‫سكّان العالم اليوم أكثر من العام‬
‫نجد أن ُكلّ متكاثر في المستقبل يتناقص في الماضي‪ ..‬فمثلً ُ‬
‫الماضي‪ ..‬وهكذا تتناقص العداد كلما أوغلنا في الماضي‪ ،‬إلى أن نصلَ إلى إنسان واحد هو آدم‬
‫عليه السلم ـ ومعه زوجه حواء‪ ،‬لن أقلّ التكاثر من اثنين‪.‬‬
‫جهَا‪} ..‬‬
‫إذن‪ :‬قوله سبحانه‪ {:‬خََل َقكُمْ مّن ّنفْسٍ وَاحِ َد ٍة وَخََلقَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[النساء‪.]1 :‬‬
‫كلم صحيح يؤيّده الستقراء والحصاء‪.‬‬
‫لذلك يمتنّ ربّنا سبحانه علينا أنْ خلقَ لنا أزواجا‪ ،‬ويمتنّ علينا أن جعل هذا الزوج من أنفسنا‪،‬‬
‫وليس من جنس آخر‪ ،‬لن إ ْلفَ النسان وأنْسه ل يتم إل بجنسه‪ ،‬وهذه من أعظم نعم ال علينا‪،‬‬
‫ولك أن تتصوّر الحال إذا جعل ال لنا أزواجا من غير جنسنا!! كيف يكون؟!‬
‫هذا الزوج اشترك معنا في أشياء‪ ،‬واختلف عنّا في شيء واحد‪ ،‬اتفقنا في أشياء‪ :‬فالشكل واحد‪،‬‬
‫والقالب واحد‪ ،‬والعقل واحد‪ ،‬والجزاء واحدة‪ :‬عينان وأذنان‪ ..‬يدان ورجْلن‪ ..‬الخ‪ ،‬وهذا‬
‫الشتراك يُعين على الرتقاء والمودة والنْس واللْفة‪.‬‬
‫واختلفنا في شيء واحد هو النوع‪ :‬فهذا ذكر‪ ،‬وهذه أنثى‪ .‬إذن‪ :‬جمعنا جنس‪ ،‬وفرّقنا النوع لِيتمّ‬
‫بذلك التكامل الذي أراده سبحانه لعمارة الرض‪.‬‬
‫وهناك احتمال أن يتحوّل الذكر إلى أنثى أو النثى إلى ذكر‪ ،‬لذلك خلق ال الحتياط لهذه‬
‫عتْ‬
‫الظاهرة‪ ،‬كأنْ يكونَ للرجل ثَدْي صغير‪ ،‬أو غيره من العضاء القابلة للتحويل‪ ،‬إذا ما دَ َ‬
‫الحاجة لتغيير النوع‪ ..‬فهذا تركيب حكيم وقدرة عالية‪.‬‬
‫إذن‪:‬‬
‫سكُمْ‪[ { ...‬النحل‪.]72 :‬‬
‫} مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫ليزداد اللْف والمحبة والُنْس والمودّة بينكم؛ ولذلك نجد في قصة سيدنا سليمان عليه السلم ـ‬
‫والهدهد‪ ،‬حينما تفقّد الطير وعرف غياب الهدهد قال‪ {:‬لُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا َأوْ لَذْبَحَنّهُ َأوْ لَيَأْتِيَنّي‬
‫بِسُ ْلطَانٍ مّبِينٍ }[النمل‪.]21 :‬‬
‫وهذا سلطان الملْك الذي أعطاه ال لسليمان‪ ..‬قالوا في‪ {:‬لُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا‪[} ..‬النمل‪.]21 :‬‬
‫أي‪ :‬يضعه في غير جنْسه‪ ..‬إذن‪َ :‬وضْعه في غير جنسه نوع من العذاب‪ ..‬وتكون (من أنفسكم)‬
‫نعمة ورحمة من ال‪.‬‬
‫وفي الية الخرى يذكر سبحانه عناصر ثلثة لستبقاء العلقة الزوجية‪ ،‬فيقول تعالى‪َ {:‬ومِنْ آيَا ِتهِ‬
‫ك ليَاتٍ ّلقَوْمٍ‬
‫حمَةً إِنّ فِي ذَِل َ‬
‫ج َعلَ بَيْ َنكُم ّموَ ّد ًة وَرَ ْ‬
‫سكُنُواْ إِلَ ْيهَا وَ َ‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجا لّتَ ْ‬
‫خلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬
‫أَنْ َ‬
‫يَ َت َفكّرُونَ }[الروم‪.]21 :‬‬
‫ولو تأملنا هذه المراحل الثلثة لوجدنا السكن بين الزوجين‪ ،‬حيث يرتاح ُكلّ منهما إلى الخر‪،‬‬
‫ويطمئن له ويسعد به‪ ،‬ويجد لديه حاجته‪ ..‬فإذا ما اهتزتْ هذه الدرجة ونفرَ أحدهما من الخر جاء‬
‫دور المودّة والمحبة التي تُمسِك بزمام الحياة الزوجية وتوفر لكليهما قَدْرا كافيا من القبول‪.‬‬
‫فإذا ما ضعف أحدهما عن القيام بواجبه نحو الخر جاء دور الرحمة‪ ،‬فيرحم كل منهما صاحبه‪..‬‬
‫ضعْفه‪ ..‬يرحم مرضه‪ ..‬وبذلك تستمر الحياة الزوجية‪ ،‬ول تكون عُرْضة للعواصف في‬
‫يرحم َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رحلة الحياة‪.‬‬
‫سكَن ول مودّة‪ ،‬ول حتى يرحم أحدهما صاحبه فقد‬
‫فإذا ما استنفدنا هذه المراحل‪ ،‬فلم َي ُعدْ بينهما َ‬
‫استحالتْ بينهما العِشرة‪ ،‬وأصبح من الحكمة مفارقة أحدهما للخر‪.‬‬
‫وهنا شرع الحق سبحانه الطلق ليكون حلً لمثل هذه الحالت‪ ،‬ومع ذلك جعله ربنا سبحانه‬
‫أبغض الحلل‪ ،‬حتى ل نقدم عليه إل مُضطرّين مُجْبرين‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫حفَ َدةً‪.‬‬
‫جكُم بَنِينَ وَ َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مّنْ أَ ْزوَا ِ‬
‫} وَ َ‬

‫‪[ { .‬النحل‪.]72 :‬‬


‫البنون هم الحلقة الولى لستبقاء الحياة‪ ،‬والحفَدة وهم وَلَ ُد الولد‪ ،‬هم الحلقة الثانية لستبقاء الحياة؛‬
‫حوْله‪..‬‬
‫ذلك لن النسان بطبْعه يحب الحياة ويكره الموت‪ ،‬وهو يراه كل يوم يحصد النفوس من َ‬
‫فإيمانه بالموت مسألة محققة‪ ،‬فإذا ما تيقّن أن الحياة تفوته في نفسه أراد أنْ يستبقيَها في وَلَده‪..‬‬
‫حبّ الكثيرين مِنّا‪ ،‬للذكور الذين يُمثّلون امتدادا للباء‪.‬‬
‫ومن هنا جاء ُ‬
‫فإذا ما رزقه ال البناء‪ ،‬وضمن له الجيل الول تطلّع إلى أنْ يرى أبناء البناء؛ ليستبقي الحياة له‬
‫ولولده من بعده؛ ولذلك فالشاعر الذي يخاطب ابنه يقول له‪:‬أبُنيّ‪ ..‬يَا أنَا َبعْ َدمَا َأ ْقضِي وهذه هي‬
‫نظرة الناس إلى الولد‪ ،‬أنهم ِذكْر لهم بعد موتهم‪ ..‬وكأن اسمه موصولٌ ل ينتهي‪.‬‬
‫ويقول ال تبارك وتعالى‪:‬‬
‫حفَ َدةً‪[ { ...‬النحل‪.]72 :‬‬
‫ن َو َ‬
‫} بَنِي َ‬
‫تدلّنا على ضرورة الحرص على اندماج الجيال‪ ..‬زوجين‪ ،‬ثم أبناء وحفدة‪ ..‬فما فائدة اندماج‬
‫الجيال؟ ما فائدة المعاصرة والمخالطة بين الجدّ وحفيده؟‬
‫ن تعملَ وسائل الدراك عنده‪ ،‬فيبدأ يلتقط ِممّنْ‬
‫نلحظ أن الوليد الصغير يبدأ عنده الدراك بمجرد أ ْ‬
‫حوله ويتعلّم منهم‪ ..‬فإذا كان له أخوة اكبر منه تعلّم منهم مثلً بابا‪ ..‬ماما‪ ..‬فإذا لم يكُنْ له أخوة‬
‫نُعلّمه نحن هذه الكلمات‪.‬‬
‫ولذلك نرى الطفل الثاني أذكى من الول‪ ،‬والثالث أذكى من الثاني‪ ..‬وهكذا لنه يأخذ ممّنْ قبله‬
‫وممّنْ حوله‪ ،‬فيزداد بذلك إدراكه‪ ،‬وتزداد خبراته ومعلوماته‪.‬‬
‫ولنتصور أن هذا البن أصبح أبا‪ ،‬وجاء الحفيد الذي يعاصر الجيلين؛ جيل الب وجيل الجدّ‪ ،‬يشبّ‬
‫سعْيه للرزق‪.‬‬
‫الصغير في أحضانهما‪ ،‬فتراه يأخذ من أبيه نشاطه في حركة الحياة و َ‬
‫جدّه القيم الدينية حيث الجد في البيت باستمرار بعد أن تقدّم به العمر فأقبل‬
‫في حين أنه يأخذ من َ‬
‫على الطاعة والعبادة‪ ..‬فيسمع منه الصغير قراءة القرآن‪ ..‬متى يؤذن للظهر‪ ..‬يا ولد هات‬
‫المصحف‪ ..‬يا ولد هات السجادة لصلي‪ ،‬إلى غير هذه من الكلمات التي يأخذ منها الصغير هذه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫القيم‪.‬‬
‫جدّه؛‬
‫إذن‪ :‬الحفيد يلتقط لونا من النشاط والحركة في جيل أبيه‪ ،‬ويلتقط لونا من القيم في جيل َ‬
‫ولذلك فإن ابتعاد الجيال يُسبّب نقصا في تكوين الطفال‪ ،‬والحق سبحانه يريد أنْ تلتحمَ الجيال‬
‫لتكتمل للطفل عناصر التربية بين القيم المعنوية والحركة والنشاط‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} وَرَ َز َقكُم مّنَ الطّيّبَاتِ‪[ { ...‬النحل‪.]72 :‬‬
‫الطيبات في الرزق الذي جعله ال لستبقاء الحياة‪ ،‬وفي الزواج الذي جعله ال لستبقاء النوع‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫ن وَبِ ِن ْع َمتِ اللّهِ ُهمْ َي ْكفُرُونَ { [النحل‪.]72 :‬‬
‫طلِ ُي ْؤمِنُو َ‬
‫} َأفَبِالْبَا ِ‬
‫الباطل‪ :‬هو الصنام التي اتخذوها من دون ال‪.‬‬
‫وفي الية استفهام للتعجّب والنكار‪ ..‬كيف تكفرون بنعمة ال وقد خلقكم في البَدْء من نفس واحدة‪،‬‬
‫وخلق منها زوجها‪.‬‬

‫‪ .‬وجعل لكم من أنفسكم أزواجا‪ ..‬وجعل بينكم سكنا ومودة ورحمة‪ ،‬ثم جعل لكم البنين والحفدة‪،‬‬
‫ورزقكم من نِعم الحياة ما يستبقي حياتكم‪ ،‬ومن ِنعَم الزواج ما يستبقي نوعكم‪ ،‬وجعلكم في نعمة‬
‫ورفاهية‪ ..‬خلقكم من عدم‪ ،‬وأمدّكم من عُدم‪.‬‬
‫أبعد ذلك كله تجحدون نعمته وتكفرونها‪ ،‬وبدل أنْ تُقبِلوا عليه وتلتفتوا إليه تنصرفون إلى عبادة‬
‫الصنام التي ل تض ّر ول تنفع‪ ..‬وهل عملتْ لكم الصنامُ شيئا من ذلك؟! هل أنعمتْ عليكم بنعمة‬
‫من هذه النعم؟!‬
‫هذه الصنام محتاجة إليكم‪ ..‬تأخذ منكم ول تعطيكم‪ ..‬فهذا مائل يريد مَنْ يقيمه‪ ..‬وهذا ُكسِر يحتاج‬
‫لمن يُصلحه‪ ..‬انقل الله‪ ..‬ضَع الله في مكان كذا‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫ولذلك يقول تعالى في الية بعدها‪ } :‬وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1957 /‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ شَيْئًا وَلَا َيسْتَطِيعُونَ (‪)73‬‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫وَ َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيمِْلكُ َلهُمْ رِ ْزقًا مِنَ ال ّ‬

‫والعبادة أن يطيع العابد معبوده‪ ،‬وهذه الطاعة تقتضي تنفيذ المر واجتناب النهي‪ ..‬فهل العبادة‬
‫تنفيذ المر واجتناب النهي فقط؟ نقول‪ :‬ل بل كل حركة في الحياة تُعين على عبادة فهي عبادة‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وما ل يتم الواجب إل به فهو واجب‪ ،‬ولتوضيح هذه القضية نضرب هذا المثل‪:‬‬
‫إذا أردتَ أن تُؤدّي فرض ال في الصلة مثلً‪ ،‬فأنت تحتاج إلى قوة لتؤدي هذه الفريضة‪ ،‬ولن‬
‫تجد هذه القوة إل بالطعام والشراب‪ ،‬ولنأخذ أبسط ما يمكن تصوّره من الطعام‪ ..‬رغيف العيش‪..‬‬
‫فانظر كم يّدٌ شاركتْ فيه منذ كان حبةَ قمح تلقى في الرض إلى أنْ أصبح رغيفا شهيا‪.‬‬
‫إن هؤلء جمعيا الذين أداروا دولب هذه العملية يُؤدّون حركة إيجابية في الحياة هي في حَدّ ذاتها‬
‫عبادة لنها أعانتْك على عبادة‪.‬‬
‫أيضا إذا أردت أنْ تُصلّي‪ ،‬فواجب عليك أنْ تستر عورتك‪ ..‬انظر إلى هذا القماش الذي ل تتم‬
‫الصلة إل به‪ُ ..‬كلّ مَنْ أسهم في زراعته وصناعته حتى وصل إليك‪ ..‬جميعهم يؤدون عبادة‬
‫بحركتهم في صناعة هذا القماش‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كل شيء يُعينك على عبادة ال فهو عبادة‪ ،‬وكل حركة في الكون تؤدي إلى شيء من هذا‬
‫فهي عبادة‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى حينما استدعى المؤمنين لصلة الجمعة‪ ،‬قال سبحانه‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا‬
‫س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَ ْيعَ‪[} ...‬الجمعة‪.]9 :‬‬
‫ج ُمعَةِ فَا ْ‬
‫لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ‬
‫نُو ِديَ لِلصّ َ‬
‫لم يأخذهم من فراغ‪ ،‬بل من عمل‪ ،‬ولكن لماذا قال سبحانه‪( :‬وَذَرُوا البَيْعَ)‪ ..‬لماذا البيع بالذات؟‬
‫قالوا‪ :‬لن البيع هو غاية كل حركات الحياة‪ ،‬فهو واسطة بين مُنتج ومُسْتهلك‪ ..‬ولم َيقُل القرآن‪:‬‬
‫اتركوا المصانع أو الحقول‪ ،‬لن هناك أشياء ل تأتي ثمرتها في ساعتها‪ ..‬فمَنْ يزرع ينتظر‬
‫شهورا ليحصد ما زرع‪ ،‬والصانع ينتظر إلى أن يبيعَ صناعته‪ ..‬لكن البيع صفقة حاضرة‪ ،‬فهي‬
‫محلّ الهتمام‪ ..‬وكذلك لم َيقُلْ‪ :‬ذروا الشراء‪ ،‬قالوا‪ :‬لن البائع يحب أن يبيعَ‪ ،‬ولكن المشتري قد‬
‫يشتري وهو كاره‪ ..‬فأتى القرآن بأدقّ شيء يمكن أن يربطك بالزمن‪ ،‬وهو البيع‪.‬‬
‫لةُ‬
‫فإذا ما انقضتْ الصلة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الرض‪ {:‬فَإِذَا ُقضِيَتِ الصّ َ‬
‫ض وَابْ َتغُواْ مِن َفضْلِ اللّهِ‪[} ...‬الجمعة‪.]10 :‬‬
‫فَانتَشِرُواْ فِي الَرْ ِ‬
‫فقوله تعالى‪:‬‬
‫{ وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ‪[ } ..‬النحل‪.]73 :‬‬
‫أراد الحق سبحانه أن يتكلم عن الجهة التي يُؤثِرونها على ال‪ ..‬وهي الصنام‪ ..‬فال سبحانه الذي‬
‫خلقهم ورزقهم من الطيبات‪ ،‬وجعل لهم من أنفسهم أزواجا‪ ،‬وجعل لهم بنين وحفدة‪ ..‬كان يجب أن‬
‫يعبدوه لنعمته و َفضْله‪ ..‬فالذي ل يعبد ال لذاته سبحانه يعبده لنعمه وحاجته إليه‪ ..‬فعندنا عبادة‬
‫للذات لنه سبحانه يستحق العبادة لذاته‪ ،‬وعبادة لصفات الذات في معطياتها‪ ،‬فمَنْ لم يعبده لذاته‬
‫عبده لنعمته‪.‬‬

‫وطالما أن العبادة تقتضي تنفيذ الوامر واجتناب النواهي‪ ..‬فكيف تكون العبادة إذن في حق هذه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الصنام التي اتخذوها؟! كيف تعبدونها وهي لم تأمركم بشيء ولم تنهكُمْ عن شيء؟!‪.‬‬
‫وهذا أول َنقْد لعبادة غير ال من شمس أو قمر أو صنم أو شجر‪.‬‬
‫وكذلك‪ ..‬ماذا تعطي الصنام ـ أو غيرها من معبوداتكم ـ لمن عبدها‪ ،‬وماذا أع ّدتْ لهم من‬
‫ن كفر بها؟‪ ..‬إذن‪ :‬فهو إله بل منهج‪.‬‬
‫ثواب؟! وبماذا تعاقب مَ ْ‬
‫والتديّن غريزة في النفس يلجأ إليها النسان في وقت ضعفه وحاجته‪ ..‬وال سبحانه هو الذي يحب‬
‫أن نلجأ إليه وندعو ونطلب منه قضاء الحاجات‪ ..‬وله منهج يقتضي مطلوبات تدكّ السيادة‬
‫والطغيان في النفوس ويقتضي تكليفات شاقة على النفس‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لجأ الكفار إلى عبادة الصنام والوثان لنها آلهة بل تكليف‪ ،‬ومعبودات بل مطلوبات‪.‬‬
‫ما أسهل أن يتمحّك إنسان في إله ويقول‪ :‬أنا أعبده دون أن يأمر بشيء أو ينهى عن شيء! ما‬
‫أسهل أن يُرضي في نفسه غريزة التدين بعبادة مثل هذا الله‪.‬‬
‫لكن يجب ألّ تنسوا أن هذا الله الذي ليس له تكليف لن تستطيعوا أنْ تطلبوا منه شيئا‪ ،‬أو تلجأوا‬
‫إليه في شدة‪ ..‬فهذا غير معقول فكما أنهم ل يطلبوا منكم شيئا‪ ،‬كذلك ل يملكون لكم َنفْعا ول‬
‫ضرا‪.‬‬
‫لذلك وجدنا الذين يدّعُون النبوة‪ ..‬هؤلء الكذابون يُيسّرون على الناس سُبُل العبادة‪ ،‬ويُبيحون لهم‬
‫ما حرّمه الدين مثل اختلط الرجال والنساء وغيره؛ ذلك لستقطاب اكبر عدد ممكن من التباع‪.‬‬
‫فجاء مسيلمة الكذاب وأراد أن يُسهّل على الناس التكليف فقال بإسقاط الصلة‪ ،‬وجاء الخر فقال‬
‫بإسقاط الزكاة‪ ..‬وقد جذب هذا التسهيل كثيرا من المغفلين الذين َيضِيقون بالتكليف‪ ،‬ويميلون لدين‬
‫سهْل يناسب ِهمَمهم الدّنية‪.‬‬
‫َ‬
‫وهكذا وجدنا لهؤلء الكذابين أنصارا يُؤيّدونهم ويُناصرونهم‪ ..‬ولكن سرعان ما تتكشف الحقائق‪،‬‬
‫ويقف هؤلء المخدوعون على حقيقة أنبيائهم‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ َيمِْلكُ َلهُمْ رِزْقا‪[ { ..‬النحل‪.]73 :‬‬
‫نلحظ في هذه الية َنوْعا من الرتقاء في الستدلل على بطلن عبادة الصنام؛ ذلك لن الحق‬
‫تبارك وتعالى قال عنهم في آية أخرى‪ {:‬لَ َيخُْلقُونَ شَيْئا وَهُمْ ُيخَْلقُونَ }[النحل‪.]20 :‬‬
‫فنفى عنهم القدرة على الخَلْق‪ ،‬بل إنهم هم المخلوقون‪ ..‬يذهب الواحد منهم فيُعجبه حجر‪ ،‬فيأخذه‬
‫ويُعمل فيه ِمعْوله حتى يُصوّره على صورة ما‪ ،‬ثم يتخذه إلها يعبده من دون ال‪.‬‬
‫ن يملكوا‪،‬‬
‫فلما نفى عنهم القدرة على الخَلْق أراد هنا أنْ يترقّى في الستدلل‪ ،‬فنفى عنهم مجرد أ ْ‬
‫فقد يملك الواحد ما ل يخلقه‪ ،‬فتُقرّر الية هنا أنهم ل يملكون‪ ..‬مجرد الملك‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ شَيْئا‪.‬‬
‫} مّنَ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪[ { .‬النحل‪.]73 :‬‬
‫فالرزق من السماء بالمطر‪ ،‬ومن الرض بالنبات‪ ،‬ومن المصدرين يأتي رزق ال‪ ،‬وبذلك يضمن‬
‫لنا الحق تبارك وتعالى مُقوّمات الحياة وضرورياتها من ماء السماء ونبات الرض‪.‬‬
‫فإنْ أرد ُتمْ ترفَ الحياة فاجتهدوا فيما أعطاكم ال من مُقوّمات الحياة لِتصلوا إلى هذا الترف‪.‬‬
‫فالرزق الحقيقي المباشر ما أنزله ال لنا من مطر السماء فأنبت لنا نبات الرض‪.‬‬
‫ونُوضّح ذلك فنقول‪َ :‬هبْ أن عندك جبلً من ذهب‪ ،‬أو جبلً من فضة‪ ،‬وقد عضّك الجوع في يوم‬
‫ن تأكلَ من الذهب أو الفضة؟‬
‫من اليام‪ ..‬هل تستطيع أ ْ‬
‫إنك الن في حاجة لرغيف عيش‪ ،‬ل لجبل من ذهب أو فضة‪ ..‬رغيف العيش الذي يحفظ لك‬
‫حياتك في هذا الموقف افضل من هذا كله‪.‬‬
‫وهذا هو الرزق المباشر الذي رزقه ال لعباده‪ ،‬أما المال فهو رِزْق غير مباشر‪ ،‬ل تستطيع أن‬
‫تأكل منه أو تعيش عليه‪.‬‬
‫وكلمة‪( :‬شَيْئَا) أي‪ :‬أقلّ ما ُيقَال له شيء‪ ،‬فالصنام والوثان ل تملك لهم رزقا مهما َقلّ؛ لنه قد‬
‫يقول قائل‪ :‬ل يملكون رِزْقا يكفيهم‪ ..‬ل‪ ..‬بل ل يملكون شيئا‪.‬‬
‫ثم يعطينا الحق سبحانه لمحة أخرى في قوله تعالى‪:‬‬
‫} َولَ يَسْ َتطِيعُونَ { [النحل‪.]73 :‬‬
‫أي‪ :‬ل يملكون لهم رِزْقا في الحاضر‪ ،‬ولن يملكوا في المستقبل‪ ،‬وهذا يقطع المل عندهم‪ ،‬فهُ ْم ل‬
‫يملكون اليوم‪ ،‬ولن يملكوا غدا؛ ذلك لن هناك أشياء ينقطع الحكم فيها َوقْتا‪ ..‬وأشياء مُعلّقة يمكن‬
‫أن تُسْتأنفَ فيما بعد‪ ،‬فهذه الكلمة‪:‬‬
‫} َولَ يَسْ َتطِيعُونَ { [النحل‪.]73 :‬‬
‫حكْم قاطع ل استئناف له فيما َبعْد‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولذلك؛ نجد هؤلء الذين يُحِبّون أنْ يجدوا في القرآن مَأْخذا يجادلون في قوله تعالى‪ُ {:‬قلْ ياأَ ّيهَا‬
‫ا ْلكَافِرُونَ * لَ أَعْ ُبدُ مَا َتعْبُدُونَ * َولَ أَنتُمْ عَا ِبدُونَ مَآ أَعْبُدُ * َولَ أَنَآ عَا ِبدٌ مّا عَبَدتّمْ * َولَ أَن ُتمْ‬
‫عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ }[الكافرون‪.]5-1 :‬‬
‫فهؤلء يروْن في السورة تكرارا يتنافى وبلغةَ القرآن الكريم‪ ..‬نقول‪ :‬ليس في السورة تكرار لو‬
‫تأملتُم‪ ..‬ففي السورة َقطْع علقات على سبيل التأبيد والستمرار‪ ،‬فالحق سبحانه يقول‪َ {:‬ل ُكمْ دِي ُنكُمْ‬
‫وَِليَ دِينِ }[الكافرون‪.]6 :‬‬
‫في الحاضر‪ ،‬وفي المستقبل‪ ،‬وإلى يوم القيامة‪.‬‬
‫فقوله‪ {:‬لَ أَعْبُدُ مَا َتعْبُدُونَ * َولَ أَنتُمْ عَا ِبدُونَ مَآ أَعْبُدُ }[الكافرون‪.]3-2 :‬‬
‫وهذا َقطْع علقات في الوقت الحاضر‪ ..‬ولكن مَنْ يُدرِينا لعلّنا نستأنف علقات أخرى فيما بعد‪..‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فجاء قوله تعالى‪َ {:‬ولَ أَنَآ عَا ِبدٌ مّا عَبَدتّمْ * َولَ أَنتُمْ عَا ِبدُونَ مَآ أَعْبُدُ }[الكافرون‪.]5-4 :‬‬
‫ل للتكرار‪ ،‬ولكن لقطع المل في إعادة العلقات في المستقبل‪ ،‬فالقضية ـ إذن ـ منتهية من الن‬
‫على سبيل القَطْع‪.‬‬
‫كذلك المعنى في قوله تعالى‪:‬‬
‫} َولَ يَسْ َتطِيعُونَ‪[ { ...‬النحل‪.]73 :‬‬
‫أي‪ :‬ل يستطيعون الن‪ ،‬ول في المستقبل‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَلَ َتضْرِبُواْ لِلّهِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1958 /‬‬

‫فَلَا َتضْرِبُوا لِلّهِ الَْأمْثَالَ إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ (‪)74‬‬

‫المثال‪ :‬جمع مِثْل‪ ،‬وهو النّد والنظير‪.‬‬


‫وفي الية َنهْي عن أن نُشبّه ال سبحانه بشيء آخر؛ لن الحق تبارك وتعالى واحدٌ في ذاته‪ ،‬واحد‬
‫في صفاته‪ ،‬واحد في أفعاله‪ ..‬إياك أن تقول عن ذات‪ :‬إنها تشبه ذاته سبحانه‪ ،‬أو صفات تشبه‬
‫صفاته سبحانه‪ ،‬فإنْ وجدت صفة ل تعالى يُوجد مثلها في البشر فاعلم أنها على مقياس‪ {.‬لَيْسَ‬
‫شيْءٌ }[الشورى‪.]11 :‬‬
‫َكمِثْلِهِ َ‬
‫فالحق سبحانه ينهانا أنْ نضرب له المثال‪ ،‬إنما هو سبحانه يضرب المثال؛ لنه حكيم يضرب‬
‫المثَل في محلّه لِيُوضّح القضية الغامضة بالقضية المشاهدة؛ ولذلك يقول تعالى‪ {:‬وَلِلّهِ ا ْلمَ َثلُ‬
‫الَعْلَىا‪[} ..‬النحل‪.]60 :‬‬
‫أي‪ :‬الصفة العليا في كل شيء‪ ،‬فإذا وجدتَ صفات مشتركة بينكم وبين الحق سبحانه فنزّه ال عن‬
‫الشبيه والنظير والنّد والمثيل وقل‪( :‬ليس كمثله شيء)‪.‬‬
‫فأنت موجود وال موجود‪ ،‬ولكن وجودك مسبوقٌ بعدم ويلحقه العدم‪ ،‬ووجوده سبحانه ل يسبقه‬
‫عدم ول يلحقه العدم‪.‬‬
‫ل لنوره كما‬
‫وقد ضرب ال لنا مثلً لنفسه سبحانه لِيُوضّح لنا تنويره سبحانه للكون‪ ،‬وليس مثَ ً‬
‫نظنّ‪ ..‬بل هو مثَل لتنويره ل لنوره‪.‬‬
‫شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ‬
‫ت وَالَ ْرضِ مَ َثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫يقول تعالى في سورة النور‪ {:‬اللّهُ نُورُ ال ّ‬
‫شجَ َرةٍ مّبَا َركَةٍ زَيْتُونَ ٍة لّ شَ ْرقِيّ ٍة َولَ‬
‫جةٍ الزّجَاجَةُ كَأَ ّنهَا َك ْو َكبٌ دُ ّريّ يُوقَدُ مِن َ‬
‫ا ْل ِمصْبَاحُ فِي ُزجَا َ‬
‫سهُ نَارٌ نّورٌ عَلَىا نُورٍ َيهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن َيشَآ ُء وَ َيضْ ِربُ‬
‫غَرْبِيّةٍ َيكَادُ زَيْ ُتهَا ُيضِي ُء وََلوْ َلمْ َتمْسَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيْءٍ عَلَيِمٌ }[النور‪.]35 :‬‬
‫س وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫لمْثَالَ لِلنّا ِ‬
‫اللّ ُه ا َ‬
‫سيّ مثل نور‬
‫نور السماوات والرض؛ لنه بالنور تكون الهداية حِسّية أو معنوية‪ ..‬فالنور الح ّ‬
‫الشمس والقمر وغيرهما من مصادر الضوء‪ ..‬هذا النور الحسي هو الذي يُبيّن لنا الشياء لتسير‬
‫ضوْء يهديك فسوف تصطدم بالشياء‬
‫في الكون على بصيرة وهدى‪ ..‬فلو حاولتَ السّيْر ليلً دون َ‬
‫من حولك‪ :‬إما أقوى منك يُحطّمك ويُؤذيك‪ ،‬وإما تكون أنت أقوى منه فتُحطّمه أنت‪ ..‬فالذي يهدي‬
‫خطَاك هو النور الحسيّ‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقد يكون النور معنويا‪ ،‬وهو نور القيَم والخلق‪ ،‬وهذا النور يجعلك أيضا تسير في الحياة على‬
‫بصيرة وهُدًى‪ ،‬ويحميك من التخبّط في مجاهل الفكار والنظريات‪ ،‬هذا هو النور القِيَمي الذي‬
‫خفُونَ مِنَ‬
‫أنزله ال لنا في كتابه الكريم‪ ،‬وقال عنه‪َ {:‬قدْ جَآ َءكُمْ َرسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ كَثِيرا ّممّا كُنْتُمْ ُت ْ‬
‫ضوَانَهُ‬
‫ا ْلكِتَابِ وَ َيعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآ َءكُمْ مّنَ اللّهِ نُو ٌر َوكِتَابٌ مّبِينٌ * َي ْهدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ ِر ْ‬
‫جهُمْ مّنِ الظُّلمَاتِ ِإلَى النّورِ بِِإذْنِ ِه وَ َيهْدِيهِمْ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[المائدة‪-15 :‬‬
‫ل ِم وَيُخْ ِر ُ‬
‫سُ ُبلَ السّ َ‬
‫‪.]16‬‬
‫فهو نور لكن معنوي‪ ..‬بالقيم والخلق والفضائل‪ ..‬ول ت ُقلْ في هذا المثل‪ :‬إنه مَ َثلٌ لنور ال‪ ..‬بل‬
‫مَ َثلٌ لسلطان تنويره للكون‪ ،‬ولو تأمّلنا بقية الية لدركنا ذلك‪.‬‬

‫شكَاةٍ‪[} ...‬النور‪.]35 :‬‬


‫{ مَ َثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْ‬
‫البعض يقولون‪ :‬المشكاة هي المصباح‪ ..‬ل‪ ..‬المشكاة هي ال ُكوّة أو الطاقة المسدودة في الجدار‬
‫يعرفها أهل الريف في بِنَاياتهم القديمة‪ ،‬وهي تجويف غير نافذ في الجدار يُوضَع فيه المصباح‪{.‬‬
‫جةٍ }[النور‪.]35 :‬‬
‫ا ْل ِمصْبَاحُ فِي ُزجَا َ‬
‫ضوْء المصباح أنْ يبعثره الهواء من كل‬
‫أي‪ :‬ليس مصباحا عاديا بل في زجاجة‪ ،‬وهي تحمي َ‬
‫ناحية‪ ،‬وفي نفس الوقت تسمح له بالقدر الكافي من الهواء لستمرار الشتعال‪ ،‬وبذلك يكون‬
‫صفْو الزجاجة‪.‬‬
‫الضوء ثابتا صافيا ل يصدر عنه دُخان يُعكّر َ‬
‫وأهل الريف يعرفون شعلة الجاز التي ليس لها زجاجة‪ ،‬وما يصدر عنها من دُخان أسود ضارّ‪..‬‬
‫إذن‪ :‬المصباح هنا في غاية الصفاء والقوة؛ لن الزجاجة أيضا ليستْ زجاجة عادية‪ ،‬بل زجاجة‬
‫كأنها كوكب دُريّ‪ ،‬و َكوْنها كالكوكب الدريّ يعني أنها ُتضِيء بنفسها‪ {.‬الزّجَاجَةُ كَأَ ّنهَا َك ْو َكبٌ دُ ّريّ‬
‫شجَ َرةٍ مّبَا َركَةٍ‪[} ...‬النور‪.]35 :‬‬
‫يُوقَدُ مِن َ‬
‫هذا المصباح يُوقد بزيت ليس عاديا‪ ،‬بل هو زيت من زيتونه‪ ..‬شجرة زيتون معتدلة المناخ‪ {.‬لّ‬
‫شَ ْرقِيّ ٍة َولَ غَرْبِيّةٍ‪[} ...‬النور‪.]35 :‬‬
‫هذا الزيت وصل من الصفاء والنقاء أنه يُضيء‪ ،‬ولو لم تمسسه نار؛ ولذلك أعطانا منتهى القوة‪{:‬‬
‫سسْهُ نَارٌ‪[} ..‬النور‪.]35 :‬‬
‫َيكَادُ زَيْ ُتهَا ُيضِي ُء وََلوْ لَمْ َتمْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولذلك قال تعالى في وصف هذا المصباح‪ {:‬نّورٌ عَلَىا نُورٍ‪[} ..‬النور‪.]35 :‬‬
‫ت على أوصاف هذا المصباح‪ ،‬وأنه يُوضَع في ُكوّة صغيرة‪ ،‬بال عليك هل يمكن‬
‫ن وقف َ‬
‫وبعد أ ْ‬
‫وجود نقطة مظلمة في هذه ال ُكوّة؟‬
‫إذن‪ :‬فهذا مَ َثلٌ ليس لنوره سبحانه‪ ..‬فنُوره ل يُد َركُ‪ ،‬وإنما هو م َثلٌ لتنويره للكون‪ ،‬الذي هو كال ُكوّة‬
‫ت وَالَرْضِ‪[} ..‬النور‪.]35 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫والطاقة في هذا المثل‪ ..‬فمعنى قوله تعالى‪ {:‬اللّهُ نُورُ ال ّ‬
‫أي‪ :‬مُنّورهما‪ ،‬فكما أنه ل يُعقل وجود نقطة مظلمة في هذه ال ُكوّة‪ ،‬فكذلك نوره سبحانه وتنويره‬
‫للكون‪ ..‬وهذا هو النور الحسيّ الذي أمدّ ال به الكون‪.‬‬
‫ثم تحدّث القرآن بعد ذلك عن النور المعنوي الذي يُنزِل على عباد ال الصالحين تجليّاتٍ نورانية‪،‬‬
‫سمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا‬
‫وفيُوضاتٍ ربانية نتلقّاها في بيوت ال‪ {:‬فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُ ْر َف َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫بِا ْلغُ ُد ّو وَالصَالِ * رِجَالٌ‪[} ...‬النور‪.]37-36 :‬‬
‫ي والنور المعنوي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وهكذا نجمع بين النور الحس ّ‬
‫ولذلك‪ ،‬فأبو تمام حينما أراد أن يمدح الخليفة شبّهه بمشاهير العرب في الشجاعة والكرم والحِلْم‬
‫سمَاحَةِ حَاتِم فِي حِلْم أَحْ َنفَ في َذكَاءِ إِيَاسِفاعترض على هذا‬
‫عمْـروٍ في َ‬
‫والذكاء‪ ،‬فقال‪:‬إقْدام َ‬
‫حسّاد أبي تمام‪ ،‬وقال له‪ :‬كيف تُشبّه الخليفة بأجلف العرب؟ ففي جيشه ألف واحد‬
‫التشبيه أحد ُ‬
‫كعمرو‪ ،‬ومن خَزَنته ألف واحد كحاتم‪ ..‬ولكن يخرج أبو تمام من هذا المأزق‪ ،‬ويُفلِت من هذا الفخ‬
‫الذي نصبه له حاسده‪ ،‬قال على البديهة‪:‬لَ تُنكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مَثَلً شَرُودا في النّدى‬
‫سفَالُ َق ْد ضربَ القَـلّ لِنُورِه مثَلً مِـنَ المشْـكَاةِ وَالنّـبْراسِوالحق سبحانه وتعالى وإنْ‬
‫والبَا ِ‬
‫نهانا نحن أن نضربَ له مثلً لِقلّة عِلْمنا‪ ،‬فهو سبحانه القادر على ضَرْب المثال حتى بأقلّ‬
‫المخلوقات‪ ،‬وأتفهها في نظرنا‪.‬‬

‫‪ .‬فيقول تعالى‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ َيسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا‪[} ...‬البقرة‪.]26 :‬‬
‫فل تستقلّ أمر هذه البعوضة‪ ،‬ول تستحقر أنْ يجعلها ال مثَلً؛ لنه سبحانه ل يستحي أن يضرب‬
‫بها المثل؛ لن في هذه البعوضة كل أجهزة تكوين الحياة التي فيك‪ ،‬وفي أضخم الحيوانات مثل‬
‫الفيل والجمل؛ ولن هذه البعوضة التي تستحقرها قد تكون أقوى منك‪ ،‬وقد تُعجِزك أنت على‬
‫قوتك وحيلتك وجبروتك‪.‬‬
‫ض ُعفَ الطّاِلبُ وَا ْل َمطْلُوبُ }[الحج‪.]73 :‬‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وَإِن يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْ ُه َ‬
‫بال عليك‪ ،‬هل تستطيع على قوتك وإمكاناتك أنْ تستردَ من الذبابة ما أخذتْه من طعامك؟ هل تقدر‬
‫على هذه العملية؟‬
‫إذن‪ :‬حينما يضرب ال لك مَثَلً يجب أن تحترم ضَرْب ال للمثل‪ ،‬وأنْ تبحثَ فيما وراء المثل من‬
‫الحكمة‪ ..‬وأنه سبحانه جاء بهذا المثَل لهذا المخلوق الحقير في نظرك لِيُوضّح لك قضية غامضة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يُنبّهك إليها‪.‬‬
‫ولهمية ضَرْب المثَل في توضيح الغامض يلجأ إليه الشعراء ليُقرّبوا المعنى من الفهام‪ ،‬فقد يقف‬
‫الشاعر أمام قضية معقدة ل يدركها إل العقلء‪ ،‬ويريد الشاعر الوصول بها إلى أفهام العامة‪..‬‬
‫مثل قضية الحاسد الذي يُظهر بحسده مزايا محسوده ومكارمه‪ ،‬فقد يتهم البريء بتهمة ظلما‪،‬‬
‫فتكون سببا في ِرفْعته بين قومه‪.‬‬
‫أخذ الشاعر العربي هذا المعنى‪ ،‬وصاغه شعرا‪ ،‬وضرب له مثلً توضيحيا‪ ،‬فقال‪:‬وَإِذَا أَرَادَ الُ‬
‫نَشْرَ َفضِيلةٍ طُو َيتْ أَتَاحَ َلهَا لِسَانَ حَسُودَِل ْولَ اشْتِعالُ النّارِ فِيمَا جَاورَتْ مَا كانَ يُع َرفُ طِيبُ عَ ْرفِ‬
‫العُودِفانظر كيف وصل بالقضية المعنوية إلى قضية عامة يعرفها الرجل العادي‪ ،‬فقد يكون لديك‬
‫فضيلة مكتومة مغمورة ل يعرفها أحد‪ ،‬حتى تتعرض لحاسد يتهمك ويُشوّه صورتك‪ ،‬فإذا بالحقيقة‬
‫تتكشف للجميع ويُظهر ما عندك من مواهب‪ ،‬وما لديك من فضائل‪ ..‬وما أشبه ذلك بالعود طيب‬
‫الرائحة الذي ل نشمّ رائحته إل إذا حرقناه‪.‬‬
‫وقد كان سبب هذا المثَل الشّعريّ أن أحد أهل الخير كان يتردد من حين لخر على أحد بُيوت‬
‫البلدة وبها عجوز ُمقْعدة في حاجة إلى مساعدة‪ ،‬فكان يساعدها بما يستطيع‪ ،‬وكان بجوارها منزل‬
‫إحدى الجميلت التي قد تكون مطمعا‪ ..‬فاستغل أحد الحُسّاد هذه الجيرة‪ ،‬واتهم الرجل الصالح بأنه‬
‫يذهب إلى هذه الحسناء‪ ..‬وفعلً تتبعه الناس‪ ،‬فإذا به يذهب لبيت العجوز المقعدة‪ ..‬ومن هنا عرف‬
‫الناس عنه فضيلةً لم يكن يعرفها أحد‪.‬‬
‫وقد رأينا على مَرّ التاريخ مَنِ ات ِهمُوا ظلما‪ ،‬وقيل في حقهم ما يندي له الجبين‪ ..‬ثم أنصفهم‬
‫القضاء العادل‪ ،‬وأظهر أنهم أبطال يستحقون التكريم‪ ،‬ولول ما تعرضوا له من اتهام ما عرفنا‬
‫مزاياهم ومكارمهم‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} إِنّ اللّهَ َيعَْل ُم وَأَنْتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ { [النحل‪.]74 :‬‬
‫وهذه عِلّة النهي عن ضَرْب المثال لننا ل نعلم‪ ،‬أما الحق سبحانه وتعالى فيضرب لنا المثال؛‬
‫لنه سبحانه يعلم‪ ،‬ويأتي بالمثَل في محلّه‪.‬‬
‫وبعد أنْ هيّأنا ربنا سبحانه لتلقّي المثال‪ ،‬وأعدّ أذهاننا لستقبال المثال منه سبحانه‪ ..‬أتى بهذا‬
‫المثل‪.‬‬
‫فيقول الحق سبحانه‪ } :‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً‪.{ ...‬‬

‫(‪)1959 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيْ ٍء َومَنْ رَ َزقْنَاهُ مِنّا رِ ْزقًا حَسَنًا َفهُوَ يُ ْنفِقُ مِنْهُ سِرّا‬
‫ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا عَ ْبدًا َممْلُوكًا لَا َيقْدِرُ عَلَى َ‬
‫حمْدُ لِلّهِ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ (‪)75‬‬
‫جهْرًا َهلْ يَسْ َتوُونَ ا ْل َ‬
‫وَ َ‬

‫الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلً له طرفان‪:‬‬


‫الطرف الول‪ :‬عبد‪ :‬أي َموْلى‪ ،‬وصفه بأنه مملوك التصرّف‪ ،‬وأنه ل يقدر على شيء من العمل؛‬
‫ذلك لن العبد قد يكون عَبْدا ولكنه يعمل‪ ،‬كمَنْ تسمح له بالعمل في التجارة مثلً وهو عبد‪ ،‬وهناك‬
‫العبد المكاتب الذي يتفق مع سيده على مال يُؤدّيه إليه لينال حريته‪ ،‬فيتركه سيده يعمل بحريته‬
‫سعْي والعمل‪.‬‬
‫حتى يجمعَ المال المتفق عليه‪ ..‬فهذا عَبْد‪ ،‬ومملوك‪ ،‬ول يقدر على شيء من ال ّ‬
‫والطرف الثاني‪ :‬سيد حُرّ‪ ،‬رزقه ال وأعطاه رِزْقا حَسنا أي‪ :‬حللً طيّبا‪ ..‬ثم وفّقه ال للنفاق منه‬
‫جهْرا‪ ..‬وهذه منزلة عالية‪ :‬رِزْق من ال وصفه بأنه حلل طَيب ل‬
‫بشتى أنواع النفاق‪ :‬سِرا و َ‬
‫شُبْهة فيه‪ ،‬بعد ذلك وفّقه ال للنفاق منه‪ُ ..‬كلّ حَسْب ما يناسبه‪ ،‬فمن النفاق ما يناسبه السّرّ‪ ،‬ومنه‬
‫خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا ا ْلفُقَرَآءَ َف ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ }‬
‫ي وَإِن تُ ْ‬
‫جهْر‪ {:‬إِن تُبْدُواْ الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِه َ‬
‫ما يُناسبه ال َ‬
‫[البقرة‪.]271 :‬‬
‫هذان هما طَرَفا المثَل المضروب لَنَا‪ ..‬ويترك لنا السياق القرآني الحكْم بينهما‪ ..‬وكأن الحق‬
‫سبحانه يقول‪ :‬أنا أرتضي حكمكم أنتم‪ :‬هل يستوون؟‬
‫والحق سبحانه ل يترك لنا الجواب‪ ،‬إل إذا كان الجواب سيأتي على َوفْق ما يريد‪ ..‬ول جوابَ‬
‫يُعقل لهذا السؤال إل أن نقولَ‪ :‬ل يستوون‪ ..‬وكأن الحق سبحانه جعلنا ننطق نحن بهذا الحكم‪.‬‬
‫وقد ضرب ال هذا المثل لعبدة الصنام‪ ،‬الذين أكلوا رزق ال وعبدوا غيره‪ ،‬فمثّل الحق سبحانه‬
‫الصنامَ بالعبد المملوك الذي ل يقدر على شيء‪.‬‬
‫جهْرا‪ ،‬ألم تَرَ إلى قوله‬
‫وضرب المثل الخر للسيد الذي رزقه ال رزقا حسنا‪ ،‬فهو ينفق منه سِرّا و َ‬
‫تعالى في آية أخرى‪ {:‬وَأَسْبَغَ عَلَ ْي ُكمْ ِن َعمَهُ ظَاهِ َر ًة وَبَاطِنَةً‪[} ...‬لقمان‪.]20 :‬‬
‫ليُبين لهم خطأهم في النصراف عن عبادة ال مع ما أعطاهم من رزق إلى عبادة الصنام التي ل‬
‫تعطيهم شيئا‪.‬‬
‫ومن هنا تتضح الحكمة في أن ال تعالى ترك الحكم بنفسه في هذا المثَل‪ ،‬وأتى به على صورة‬
‫سؤال ليأخذ الحكم من أفواههم ويشهدوا هم على أنفسهم؛ ليقطع عليهم سبيل النكار والجدال‪ .‬ولنا‬
‫هنا َوقْفة مع قوله تعالى‪:‬‬
‫{ َهلْ َيسْ َتوُونَ‪[ } ...‬النحل‪.]75 :‬‬
‫فالحديث عن مُثّنى‪ ،‬وكان القياس أن يقول‪ :‬هل يستويان‪ ،‬فلماذا عدل عن المثنى إلى الجمع؟‬
‫ن ضُرِب بمفرد مقابل مفرد إل أنه ينطبق على عديدين‪ ..‬مفرد شائع في عديد‬
‫نقول‪ :‬لن المثل وإ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مملوكين‪ ،‬وفي عديد من السادة أصحاب الرزق الحسن‪ ،‬ذلك لِيُعمّم ضَرْب المثل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ليس في اختلف الضمير هنا ما يتعارض وبلغة القرآن الكريم‪ ،‬بل هي ِدقّة أداء؛ لن‬
‫المتكلّم هو الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وكذلك في قوله تعالى‪:‬‬

‫{ وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا‪[} ..‬الحجرات‪.]9 :‬‬
‫بعضهم يرى في الية مَأخذا‪ ،‬حيث تتحدث عن المثنى‪ ،‬ثم بضمير الجمع في (اقْتَتَلُوا)‪ ،‬ثم تعود‬
‫للمثنى في (بَيْ َن ُهمَا)‪.‬‬
‫نقول لهؤلء‪ :‬لو تدبرتُم المعنى لَعرفتم أن ما تتخذونه مأخذا‪ ،‬وتعتبرونه اختلفا في السلوب هو‬
‫منتهى الدقة في التعبير القرآني‪ ..‬ذلك أن الحديث عن طائفتين‪ :‬مُثنّى‪ ..‬نعم‪ ..‬فلو تقاتل‪ ،‬هل‬
‫ستمسك كل طائفة سَيْفا لتقاتل الخرى؟‬
‫ل‪ ..‬بل سيُمسِك ُكلّ جندي منها سَيْفا‪ ..‬فالقتال هناك بالمجموع‪ ..‬مجموع كل طائفة لمجموع‬
‫الطائفة الخرى‪ ،‬فناسب أن يقول‪ :‬اقتتلوا؛ لن القتال حركة ذاتية من ُكلّ فرد في الطائفتين‪.‬‬
‫فإذا ما جاء وقت الصُلّح‪ ،‬هل نصالح كل جندي من هذه على كل جندي من هذه؟ ل‪ ..‬بل الصّلْح‬
‫شأْنُ السادة والزعماء والقادة لكل طائفة‪ ،‬ففي الصّلْح نعود للمثنى‪ ،‬حيث ينوب هؤلء عن طائفة‪،‬‬
‫وهؤلء عن طائفة‪ ،‬ويتم الصّلْح بينهما‪.‬‬
‫إذن‪ :‬اختلف الضمير هنا آية من آيات العجاز البياني؛ لن المتكلم هو الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫حمْدُ لِلّهِ‪[ { ...‬النحل‪.]75 :‬‬
‫وقوله‪ } :‬ا ْل َ‬
‫حكْمكم ما أريد‪ ،‬فقد نطقتُم أنتم وحكمتُمْ‪.‬‬
‫كأن الحق سبحانه يقول‪ :‬الحمد ل أنْ وافقَ ُ‬
‫} َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ { [النحل‪.]75 :‬‬
‫قوله‪ :‬أكثرهم ل يعلمون يدل على أن القلية تعلم‪ ،‬وهذا ما يُسمّونه " صيانة الحتمال "؛ لنه لما‬
‫نزلَ القرآن الكريم كان هناك جماعة من الكفار ومن أهل الكتاب يُفكّرون في اليمان واعتناق هذا‬
‫عمّا يُفكّرون فيه من‬
‫الدين‪ ،‬فلو نفى القرآن العلم عن الجميع فسوف يُصدَم هؤلء‪ ،‬وربما صرفهم َ‬
‫أمر اليمان‪ ،‬فالقرآن يصون الحتمال في أن أُنَاسا منهم عندهم عِلْم‪ ،‬ويرغبون في اليمان‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً‪.{ ...‬‬

‫(‪)1960 /‬‬

‫جهْهُ لَا يَ ْأتِ‬


‫شيْ ٍء وَ ُهوَ َكلّ عَلَى َموْلَاهُ أَيْ َنمَا ُيوَ ّ‬
‫حدُ ُهمَا أَ ْبكَم لَا َيقْدِرُ عَلَى َ‬
‫َوضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَ َ‬
‫بِخَيْرٍ َهلْ َيسْ َتوِي ُهوَ َومَنْ يَ ْأمُرُ بِا ْل َع ْدلِ وَ ُهوَ عَلَى صِرَاطٍ ُمسْ َتقِيمٍ (‪)76‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صمَمٌ؛ لن‬
‫وهذا مَ َثلٌ آخر لرجلين أحدهما أبكم‪ ،‬والبكم هو الذي ل يتكلم‪ ..‬ول ُبدّ أن يسبق البكم َ‬
‫سمْع‪ ،‬فإذا أخذنا طفلً عربيا وربّيناه في بيئة إنجليزية نجده يتكلم النجليزية‪ ،‬والعكس‬
‫الكلم وليد ال ّ‬
‫صحيح؛ ذلك لن الكلم ليس جنسا أو دما أو لحما‪ ،‬بل هو وليد البيئة‪ ،‬وما تسمعه الذن ينطق به‬
‫اللسان‪ ..‬فإذا لم يسمع شيئا فكيف يتكلم؟‬
‫صمّ ُبكْمٌ‪[} ..‬البقرة‪.]18 :‬‬
‫لذلك‪ ،‬فربنا سبحانه تعالى يقول عن الكفار‪ُ {:‬‬
‫هذا البكم ل يقدر على شيء من العمل والنفع لك‪ ،‬يقول تعالى‪ { :‬وَ ُهوَ َكلّ عَلَىا َموْلهُ‪} ..‬‬
‫[النحل‪.]76 :‬‬
‫أي‪ :‬عَالَة على سيده‪ ،‬ل ينفع حتى نفسه‪ ،‬ومع ذلك قد يكون عنده حكمة يقضي بها شيئا لسيده‪،‬‬
‫حتى هذه ليست عنده‪.‬‬
‫{ أَيْ َنمَا ُي َوجّه ّه لَ يَ ْأتِ ِبخَيْرٍ‪[ } ..‬النحل‪.]76 :‬‬
‫إذن‪ :‬ل خيرَ فيه‪ ،‬ول منفعةَ ألبتة‪ ،‬ل له ول لغيره‪ ،‬هذه صفات الرجل الول‪.‬‬
‫فماذا عن مقابله؟‬
‫{ َهلْ َيسْ َتوِي ُهوَ َومَن يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْدلِ‪[ } ...‬النحل‪.]76 :‬‬
‫وهذه أول صفات الرجل الخر‪ ،‬أنه يأمر بالعدل‪ ،‬وصفة المر بالعدل تقتضي أنه سمح منهجا‪،‬‬
‫ووعتْهُ أذنه‪ ،‬وانطلق به لسانه آمرا بالعدل‪ ،‬وهذه الصفة تقابل‪ :‬البكم الذي ل يقدر على شيء‪.‬‬
‫{ وَ ُهوَ عَلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ } [النحل‪.]76 :‬‬
‫أي‪ :‬أنه يذهب إلى الهدف مباشرة‪ ،‬ومن أقصر الطرق‪ ،‬وهذه تقابل‪ :‬أينما يوجهه ل يَ ْأتِ بخير‪.‬‬
‫والسؤال هنا أيضا‪ :‬هل يستويان؟ والجابة التي يقول بها العقل‪ :‬ل‪.‬‬
‫وهذا م َثلٌ آخر للصنام‪ ..‬فهي ل تسمع‪ ،‬ول تتكلم‪ ،‬ول تُفصح‪ ،‬وهي ل تقدر على شيء ل لَها‬
‫ول لعابديها‪ ..‬بل هي عَالَة عليهم‪ ،‬فهم الذين يأتون بها من حجارة الجبال‪ ،‬وينحتونها وينصبونها‪،‬‬
‫ويُصلِحون كَسْرها‪ ،‬وهكذا هم الذين يخدمونها ول ينتفعون منها بشيء‪.‬‬
‫فإذا كنتم ل تُسوّون بين الرجل الول والرجل الخر الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم‪،‬‬
‫فكيف تسوون بين إله له صفة الكمال المطلق‪ ،‬وأصنام ل تملك لكم نفعا ول ضرا؟!‬
‫أو نقول‪ :‬إن هذا م َثلٌ للمؤمن والكافر‪ ،‬بدليل أن الحق سبحانه في المثل السابق قال‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ‬
‫مَثَلً عَبْدا ّممْلُوكا‪[} ...‬النحل‪.]75 :‬‬
‫حسَنا‪[} ...‬النحل‪.]75 :‬‬
‫وفي مقابله قال‪َ {:‬ومَن رّ َزقْنَاهُ مِنّا رِزْقا َ‬
‫ولم ي ُقلْ عبد أو رجل‪.‬‬
‫إنما هنا قال‪ { :‬رّجُلَيْنِ‪[ } ...‬النحل‪.]76 :‬‬
‫فيمكن أن نفهم منه أنه مَ َثلٌ للرجل الكافر الذي يمثله البكم‪ ،‬وللرجل المؤمن الذي يمثله مَنْ يأمر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالعدل‪ ،‬وهو على صراط مستقيم‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‪.} ...‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪ { :‬وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ‬

‫(‪)1961 /‬‬

‫شيْءٍ‬
‫علَى ُكلّ َ‬
‫ت وَالْأَ ْرضِ َومَا َأمْرُ السّاعَةِ إِلّا كََلمْحِ الْ َبصَرِ َأوْ ُهوَ َأقْ َربُ إِنّ اللّهَ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ‬
‫قَدِيرٌ (‪)77‬‬

‫أراد الحق سبحانه أنْ يُعلمنا منه عالم المُلْك‪ ،‬ومنه عالم الملكوت‪ ..‬عالم المُلْك هو العالم المحسّ‬
‫لنا‪ ،‬وعالم الملكوت المخفي عنّا فل نراه‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فربنا سبحانه وتعالى لما تكرّم على سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ قال‪َ {:‬وكَذَِلكَ نُرِي‬
‫ض وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ }[النعام‪.]75 :‬‬
‫ت وَالَرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬
‫إذن‪ :‬ل تعالى في كونه ظاهر وغَيْب‪ ..‬الظاهر له نواميس كونية يراها كل الناس‪ ،‬وله أشياء‬
‫غيبيّة ل يراها أحد‪ ،‬ول يطّلع عليها‪ ..‬حتى في ذاتك أنت أشياء غَيْب ل يعلمها أحد من الناس‪،‬‬
‫وكذلك عند الناس أشياء غَيْب ل تعرفها أنت‪ ..‬وهذا الغيب نُسميّه‪ :‬غَيْب النسان‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فأنا غائب عنّي أشياء‪ ،‬وغيري غائب عنه أشياء‪ ..‬هذا الغيب الذي ل نعرفه َيعُدّه بعض‬
‫الناس َنقْصا فينا‪ ،‬وهو في الحقيقة نوع من الكمال في النفس البشرية؛ لنك إنْ أردتَ أنْ تعلمَ‬
‫غ ْيبَ الناس فاسمح لهم أنْ يعلموا غَيْبك‪.‬‬
‫ولو خُيّرت في هذه القضية لخترتَ أنْ يحتفظ كلّ منكم بغَيْبه ل يطلع عليه أحد‪ ..‬ل أعرف غَيْب‬
‫الناس‪ ،‬ول يعرفون غَيْبي؛ ولذلك يقولون‪ " :‬المغطى مليح "‪.‬‬
‫فسَتْر الغيب كمال في الكون؛ لنه يُربّي ويُثري الفائدة فيه‪ ..‬كيف؟‬
‫َهبْ أنك تعرف رجلً مستقيما كثير الحسنات‪ ،‬ثم اطلعتَ على سيئة واحدة عنده كانت مستورة‪،‬‬
‫فسو فترى هذه السيئة كفيلة بأن تُزهّدك في كل حسناته وتُكرّهك فيه‪ ،‬وتدعوك إلى الّنفْرة منه‪ ،‬فل‬
‫تستفيد منه بشيء‪ ،‬في حين لو سُترتْ عنك هذه السيئةُ لستطعت النتفاع بحسناته‪ ..‬وهكذا يُنمي‬
‫الغيبُ الفائدةَ في الكون‪.‬‬
‫وفي بعض الثار الواردة يقول الحق سبحانه‪ " :‬يا ابْنَ آدمَ ست ْرتُ عنك وست ْرتُ مِنك‪ ،‬فإنْ شئتَ‬
‫فضحْنَا لك وفضحناك‪ ،‬وإنْ شئت أسبلنَا عليك سِبالَ السّتر إلى يوم القيامة " فاجعل نفسك الن‬
‫المخاطب بهذا الحديث‪ ،‬فماذا تختار؟‬
‫أعتقد أن الجميع سيختار الستْر‪ ..‬فما ُد ْمتَ تحب الستر وتكره أنْ يطلعَ الناس على غَيْبك فإياك أنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تتطاول لتعرفَ غَيْب الخرين‪.‬‬
‫والغيب‪ :‬هو ما غاب عن المدركات المحسّة من السمع والبصر والشّمّ وال ّذوْق‪ ،‬وما غاب عن‬
‫العقول من الدراكات المعنوية‪.‬‬
‫وهناك غيْب وضع ال في كونه مقدمات تُوصّل إليه وأسبابا لئل يكونَ غَيْبا‪ ..‬كالكهرباء والجاذبية‬
‫وغيرها‪ ..‬كانت غَيْبا قبل أنْ تُكتشفَ‪ ..‬وهكذا كل الكتشافات والسرار التي يكشفها لنا العلم‪،‬‬
‫كانت غَيْبا عنّا في وقت‪ ،‬ثم صارت مُشَاهدة في وقت آخر‪.‬‬
‫ذلك‪ ،‬لن الحق سبحانه ل ينثر لنا ُكلّ أسرار َكوْنه مرة واحدة‪ ،‬بل يُنزِله بقَدرٍ ويكشفه لنا بحساب‪،‬‬
‫شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائِنُ ُه َومَا نُنَزّلُهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }‬
‫فيقول سبحانه‪ {:‬وَإِن مّن َ‬

‫[الحجر‪.]21 :‬‬
‫فالذي كان غَيْبا في الماضي أصبح ظاهرا ُمشَاهدا اليوم؛ لن ال سبحانه كشف لنا أسبابه فتوصّلْنا‬
‫إليه‪ ..‬فهذا غَيْب جعل ال له مُقدّمات يصل إليها مَنْ يبحث في الكون‪ ،‬فإذا ما أذن ال به‪ ،‬وحان‬
‫وقت ميلده َوفّق ال أحد الباحثين إلى اكتشافه‪ ،‬إما عن طريق البحث‪ ،‬أو حتى الخطأ في‬
‫المحاولة‪ ،‬أو عن طريق المصادفة‪.‬‬
‫ت في كل المخترعات والمكتشفات لوجدت ‪ %90‬منها جاءت مصادفة‪ ،‬لم يكونوا‬
‫ولذلك إذا بحث َ‬
‫بصدد البحث عنها أو التوصل إليها‪ ،‬وهذا ما نسميه " غيب الكوان "‪.‬‬
‫حلّ التمرين أنْ يصلَ الولدُ إلى‬
‫ومثال هذا الغيب‪ :‬إذا كلفتَ ولدك بِحلّ تمرين هندسيّ‪ ..‬ومعنى َ‬
‫ن يصلَ إليها‪ ..‬ماذا يفعل الولد؟ يأخذ ما تعطيه من ُمعْطيات‪ ،‬ثم يستخدم ما لديْه‬
‫نقطة تريد أنت أ ْ‬
‫من نظريات‪ ،‬وما يملكه من ذكاء ويستخرج منها المطلوب‪.‬‬
‫فالولد هنا لم يَ ْأتِ بجديد‪ ،‬بل استخدم المعطيات‪ ،‬وهكذا الشياء الموجودة في الكون هي المعطيات‬
‫ث فيها توصّل إلى غيبيّات الكون وأسراره‪.‬‬
‫مَنْ بح َ‬
‫خ ُذهُ سِنَةٌ وَلَ‬
‫حيّ ا ْلقَيّو ُم لَ تَأْ ُ‬
‫وهذا النوع من الغيب يقول عنه الحق سبحانه‪ {:‬اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ الْ َ‬
‫شفَعُ عِنْ َدهُ ِإلّ بِإِذْ ِنهِ َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِ ْم َومَا‬
‫ت َومَا فِي الَ ْرضِ مَن ذَا الّذِي َي ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫َنوْمٌ لّهُ مَا فِي ال ّ‬
‫ت وَالَ ْرضَ َولَ َيؤُو ُدهُ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآ َء وَسِعَ كُ ْرسِيّهُ ال ّ‬
‫خَ ْل َفهُ ْم َولَ يُحِيطُونَ ِب َ‬
‫ظ ُهمَا وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلعَظِيمُ }[البقرة‪.]255 :‬‬
‫حفْ ُ‬
‫ِ‬
‫فإذا أذنَ ال لهم تكشفتْ لهم السرار‪ :‬إما بالبحث‪ ،‬وإما بالخطأ‪ ،‬أو حتى بالمصادفة‪ ..‬فطالما حان‬
‫وقت ميلد هذا الغيْب واكتشافه؛ فإن صادف َبحْثا من البشر التقيا‪ ،‬وإلّ أظهره ال لنَا دون َبحْث‬
‫سعْي مِنّا‪.‬‬
‫ودون َ‬
‫وهناك نوع آخر من الغيب‪ ،‬وهو الغَيْب المطلق‪ ،‬وهو غَيْب عن كل البشر استأثر ال به‪ ،‬وليس‬
‫له مُقدّمات وأسباب تُوصّل إليه‪ ،‬كما في النوع الول‪ ..‬هذا الغَيْب‪ ،‬قال تعالى في شأنه‪ {:‬عَالِمُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ‪[} ...‬الجن‪.]27-26 :‬‬
‫ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ‬
‫فإذا ما أعلمنا الرسول غَيْبا من الغيبيات فل نقول‪ :‬إنه يعلم الغيب‪ ..‬لنه ل يعلم إل ما أعلمه ال‬
‫من الغيب‪ ..‬إذن‪ :‬هذا غَيْب ل يدركه أحد بذاته أبدا‪.‬‬
‫ومن هذا الغَيْب المطلق غَ ْيبٌ استأثر ال به‪ ،‬ول يُطلع عليه أحدا حتى الرسل‪ " ..‬ولما سُئِل‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم عن الساعة‪ ،‬قال‪ " :‬ما المسئول عنها بأعلم من السائل "‪.‬‬
‫وفي السراء والمعراج يحدثنا صلى ال عليه وسلم أن ال قد أعطاه ثلثة أوعية‪ :‬وعاء أمره‬
‫بتبليغه وهو وعاء الرسالة‪ ،‬ووعاء خَيّره فيه فل يعطيه إل لهل الستعداد السلوكي الذين يتقبلون‬
‫أسرار ال ول تنكرها عقولهم‪ ،‬ووعاء منعه فهو خصوصية لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ولذلك يقول راوي الحديث‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم أعطاني وعاءين‪ ،‬أما أحدهما فقد‬
‫بثثْتُه أي رويْته وقُلْته للناس‪ ،‬وأما الخر فلو بُحْت به َلقُطِع حلقومي هذا‪ ،‬فهذا من السرار التي‬
‫يختار الرسول صلى ال عليه وسلم لها مَنْ يحفظها‪.‬‬
‫قوله تعالى‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‪[ { ..‬النحل‪.]77 :‬‬
‫} وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ‬
‫هذا يُسمّونه أسلوب َقصْر بتقديم الجار والمجرور‪ ،‬أي قصر غيب السماوات والرض عليه‬
‫سبحانه‪ ،‬فلو قلنا مثلً‪ :‬غيب السماوات والرض ل‪ ،‬فيحتمل أن يقول قائل‪ :‬ولغير ال‪ ،‬أما‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‪[ { ..‬النحل‪.]77 :‬‬
‫} وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ‬
‫أي‪ :‬له وحده ل شريك له‪.‬‬
‫ومعنى السماوات والرض‪ ،‬أي‪ :‬وما بينهما وما وراءهما‪ ،‬ولكن المشهور من مخلوقات ال‪:‬‬
‫السماء‪ ،‬والرض‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫} َومَآ َأمْرُ السّاعَةِ ِإلّ كََلمْحِ الْ َبصَرِ َأوْ ُهوَ َأقْ َربُ‪[ { ...‬النحل‪.]77 :‬‬
‫جاءت الية بهذا الغَيْب الوحيد؛ لنه الغيب الذي استأثر ال به‪ ..‬ول يُجلّيها لوقتها إل هو‪ ..‬فناسب‬
‫الحديث عن الغيب أنْ يأتيَ بهذا الغَيْب المطلق الذي ل يعلمه إل ال‪.‬‬
‫وما هو َلمْح البصر؟‬
‫ن كان لكل منها معنًى خاصّ بها نقول‪ :‬رأى‬
‫عندنا أفعال متعددة تدلّ كلّها على الرؤية العامة‪ ،‬وإ ْ‬
‫ونظر ورَمق ولحظ ولمح‪ ..‬فرأى مثلً أي بجُمع عينه‪ ،‬ورمق بأعلى‪ ،‬ولحظَ بجانب‪ ،‬فكلّها‬
‫مرتبطة بحركة الحدقة‪ ،‬هذه الحركة ما نسميه باللمح‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لمح البصر هو تحرّك حَدقة العين إلى ناحية الشيء المرئي‪ ..‬فإنْ أردتَ أن ترى ما فوقك‬
‫تحركتْ الحدقة إلى أعلى‪ ،‬وإنْ أردتَ أن ترى ما هو أسفل تحركتْ الحدقة إلى أسفل وهكذا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه الحركة هي َلمْح البصر‪ ،‬انتقال الحدقة من وضع إلى وضع‪.‬‬
‫إذن‪ :‬شبّه الحق تبارك وتعالى أمر الساعة عنده سبحانه بلمح البصر‪ ،‬ولكن اللمح حدث‪،‬‬
‫والحداث تحتاج إلى أزمان‪ ،‬وقد تطول الزمان في ذاتها ولكنها تقصر عند الرائي‪.‬‬
‫وقد قرّب إلينا العلم الحديث هذه القضية بما توصّل إليه من إعادة المشاهد المصوّرة على البطيء‬
‫ليعطيك فرصة متابعتها بدقة‪ ،‬فنراهم مثلً يُعيدون لك مَشْهدا كرويا لترى كل تفاصيله‪ ،‬فتجد‬
‫المشهد الذي مَرّ كلمح البصر يُعرَض أمامك بطيئا في زمن أطول‪ ،‬في حين أن الزمن في السرعة‬
‫يتجمع تجمّعا ل تدركه أنت بأيّ معيار‪ ،‬ل بالدقيقة ول بالثانية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهي جزئيات حركة في جزئيات زمان‪ ،‬فَلمْح البصر الذي هو تحرّك حَدقة العين تحتاج‬
‫لوقت ولزمن متداخل‪ ،‬وليس هكذا أمْر الساعة‪ ،‬بل هذا أقرب ما يعرفه النسان‪ ،‬وأقرب تشبيه‬
‫ِل َفهْم أمْر الساعة بالنسبة له سبحانه‪.‬‬
‫إذا قيل لك‪ :‬ما أمر فلن؟ وما شأنه؟‪ .‬تأخذ في سَرْد الحداث‪ ..‬حدث كيت وكيت‪ ..‬فإذا قلنا‪ :‬ما‬
‫أمْر الساعة؟ ما شأنها ساعةَ تقوم‪ ،‬حيث يموت الحياء أولً‪ ،‬ثم يحيا الجميع من لَدُنْ آدم عليه‬
‫السلم ثم حَشْر وحساب وثواب وعقاب‪.‬‬

‫أحداث كثيرة وعظيمة لخلْق متعددين من النس والجن‪ ..‬يحدث هذا كله كلمح البصر بالنسبة لنا‪،‬‬
‫ن تتصوّر أن هذا يحتاج إلى وقت بالنسبة ل سبحانه‪.‬‬
‫ولكن إياك أ ْ‬
‫ن مكوّنة من حرفين‪ :‬الكاف لفظ‬
‫فالشياء بالنسبة له سبحانه ل تعالج‪ ،‬وإنما هي كُنْ فيكون‪ ،‬حتى كُ ْ‬
‫وله زمن‪ ،‬والنون لفظ وله زمن‪ ،‬إنما َأمْر الساعة أقرب من الكاف والنون‪ ،‬ولكن ليس هناك أقلّ‬
‫من هذا في َفهْمنا‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى حينما تكلّم عن أهل القبور‪ ،‬قال‪ {:‬كَأَ ّنهُمْ َي ْومَ يَ َروْ َنهَا َلمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ عَشِيّةً َأوْ‬
‫ضُحَاهَا }[النازعات‪.]46 :‬‬
‫في حين أننا نرى أنهم غابوا كثيرا في قبورهم‪ ..‬إذن‪ :‬كيف ُيقَاسُ الزمن؟‪ ..‬يُقاس بتتبّعك‬
‫للحداث‪ ،‬فحينما ل يُوجد حَدَث ل يُوجَد زمن‪ ..‬وهذا ما نراه في حال النائم الذي ل يستطيع‬
‫تحديد الزمن الذي نامه إل على غالب ما يكون في البشر‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬في قصة أهل الكهف الذين ناموا ثلث مائة عام وتسعة أعوام قالوا‪ {:‬لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ‬
‫َيوْمٍ‪[} ...‬المؤمنون‪.]113 :‬‬
‫فهذا هو الغالب في عُرْف الناس؛ ذلك لنهم استيقظوا فلم يجدوا شيئا حولهم يدل على زمن‬
‫طويل‪ ..‬الحال كما هو لم يتغيّر فيهم شيء‪ ..‬فلو استيقظوا فوجدوا أنفسهم شيوخا بعد أن كانوا فتية‬
‫لَعلِموا بمرور الزمن‪ ..‬إذن‪ :‬الزمن بالنسبة لعدم الحدث زمن مَلْغيّ‪.‬‬
‫أو نقول‪ :‬إن َأمْر الساعة في أن الحق سبحانه يجعلها جامعة للناس إل كلمْح البصر‪ ،‬فكلّ ما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يحدث فيها ل تقيسه بزمن‪ ،‬لن الذي يُقاسُ بالزمن إنما هي الحداث الناشئة من فاعل له قدرة‬
‫وقوة تتوزع على الزمن‪.‬‬
‫فلو أر ْدتَ َنقْل هذا الشيء من هنا إلى هنا فسوف يحتاج منك وقتا ومجهودا‪ ،‬أما لو كلفتَ طفلً‬
‫بنقل هذا الشيء فسوف يأخذ وقتا أكثر ويحتاج مجهودا أكثر‪ ..‬إذن‪ :‬فالزمن يتناسب مع قدرة‬
‫الفاعل تناسبا عكسيا‪.‬‬
‫ولذلك فالرسول صلى ال عليه وسلم حينما حدّث الناس بالسراء والمعراج قالوا‪ :‬أتدّعي أنك‬
‫أتيتها في ليلة‪ ،‬ونحن نضرب إليها أكباد البل شهرا‪ ..‬هذا لن انتقالهم يحتاج لعلج ومُزَاولة‪،‬‬
‫تأخذ َوقْتا يتناسب وقدراتهم في النتقال بالبل من مكة إلى بيت المقدس‪ ..‬ومحمد صلى ال عليه‬
‫وسلم لم يقل‪ :‬أسر ْيتُ‪ ،‬بل قال‪ :‬أُسْرِي بي‪ ،‬الذي أَسْرى به هو ال سبحانه‪ ،‬فالزمن يُقاس بالنسبة‬
‫للحق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وكذلك إذا قِيسَ زَمن َأمْر الساعة بالنسبة لقدرته سبحانه فإنه يكون كلمح البصر‪ ،‬أو هو أقرب من‬
‫ذلك‪ ..‬إنما هو تشبيه لِنُقرّب لكم الفهم‪.‬‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ { [النحل‪.]77 :‬‬
‫وقوله‪ } :‬إِنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫أي‪ :‬يكون أمر الساعة كذلك؛ لن ال قادر على كل شيء‪ ،‬وما دامت الحداث تختلف باختلف‬
‫القدرات‪ ،‬فقدرة ال هي القدرة العُلْيا التي ل تحتاج لزمن لفعل الحداث‪.‬‬
‫جكُم مّن ُبطُونِ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَاللّهُ أَخْ َر َ‬

‫(‪)1962 /‬‬

‫سمْعَ وَالْأَ ْبصَارَ وَالَْأفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ‬


‫ج َعلَ َل ُكمُ ال ّ‬
‫جكُمْ مِنْ بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ لَا َتعَْلمُونَ شَيْئًا َو َ‬
‫وَاللّهُ َأخْرَ َ‬
‫شكُرُونَ (‪)78‬‬
‫تَ ْ‬

‫(مِنْ بُطُونِ أُمهَا ِتكُم) المراد الرحام؛ لنها في البطون‪ ،‬والمظروف في مظروف يعتبر مظروفا‪،‬‬
‫كما لو قلت‪ :‬في جيبي كذا من النقود أو في حافظتي كذا من النقود‪ ..‬العبارتان معناهما واحد‪.‬‬
‫جكُم مّن‬
‫وأمهاتكم‪ :‬جمع أم‪ ،‬والقياس يقتضي أن نقول في جمع أُم‪ُ :‬أمّات ولكنه قال‪ { :‬وَاللّهُ َأخْرَ َ‬
‫بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُمْ } [النحل‪.]78 :‬‬
‫بزيادة الهاء‪.‬‬
‫وساعةَ يكون الجنين في بطن أمه تكون حياته حياة تبعية‪ ،‬فكل أجهزته تابعة لمه‪ ..‬فإذا شاء ال‬
‫أن يولد جعل له حياة ذاتية مستقلة‪ ..‬وعند الولدة نرى أطباء التوليد يقولون‪ :‬الجنين في الوضع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الطبيعي أو في غير الوضع الطبيعي‪ ..‬فما معنى الوضع الطبيعي للجنين عند الولدة؟‬
‫الوضع الطبيعي أن يكون رأس الجنين عند الولدة إلى أسفل‪ ،‬هذا هو الوضع الطبيعي؛ لن الحق‬
‫سبحانه أراد أن يُخرجه خَلْقا آخر‪ُ {:‬ثمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ }[المؤمنون‪.]14 :‬‬
‫كأنه كان خلقا لكنه كان تابعا لمه فيُخرجه ال خَلْقا آخر ُمسْتقلً بذاته‪ ..‬فتكون الرأس إلى أسفل‪،‬‬
‫وهي أول ما ينزل من المولود‪ ،‬وبمجرد نزوله تبدأ عملية التنفس‪.‬‬
‫ومن هذه اللحظة ينفصل الجنين عن أمه‪ ،‬وبالتنفس تكون له ذاتية‪ ،‬فإذا ما تعسّر خروج باقي‬
‫جسمه فتكون له فرصة التنفس وهذا من لُطْف ال سبحانه؛ لن الجنين في هذه الحالة ل يختنق‬
‫أثناء معالجة باقي جسمه‪.‬‬
‫أما إذا حدث العكس فكان الرأس إلى أعلى‪ ،‬ونزل الجنين بقدميْه‪ ،‬فبمجرد نزول الرّجْليْن ينفصل‬
‫عن أمه‪ ،‬ويحتاج إلى حياة ذاتية ويحتاج إلى تنفس‪ ،‬فإذا ما تعسّرت الولدة حدث اختناق‪ ،‬ربما‬
‫يؤدي إلى موت الجنين‪.‬‬
‫العلم َأخْذ قضية من قضايا الكون مجزوم بها وعليها دليل؛ وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا‪[ } ...‬النحل‪.]78 :‬‬
‫ذلك لن وسائل العلم والدراك لم تعمل َبعْد‪ ،‬فإذا أراد ال له أنْ يعلم يخلق له وسائل العلم‪ ،‬وهي‬
‫الحواس الخمس‪ :‬السمع والبصر والشّم واللمس والتذوّق‪ ،‬هذه هي الحواس الظاهرة التي بها‬
‫يكتسب النسان العلوم والمعارف‪ ،‬وبها يُدرِك ما حوله‪.‬‬
‫وإنْ كان العلم الحديث قد أظهر لنا بعض الحواسّ الخرى‪ ،‬ففي علم وظائف العضاء يقولون‪:‬‬
‫إنك إذا حملتَ قطعتين من الحديد مثلً فبأيّ حاسة تُميّز بينهما من حيث الثقل؟‬
‫هذه ل تُعرف باللمس أو السمع أو البصر أو التذوّق أو الشّم‪ ..‬إذن‪ :‬هناك حاسة جديدة تُميّز الثقَل‬
‫هي حاسة العضَل‪.‬‬
‫سمْك القماش مثل وأنت في محل القمشة‪،‬‬
‫وكذلك تُوجَد حاسة البَيْن‪ ،‬التي تتمكن بها من معرفة ُ‬
‫حيث تفركُ القماش بين أصابعك‪ ،‬وتستطيع أن تُميّز بين الرقيق والسّميك‪.‬‬
‫فالطفل المولود إذن ل يعلم شيئا‪ ،‬فهذا أمر طبيعي لن وسائل العلم والدراك لديه لم تُؤ ّد مهمتها‬
‫َبعْد‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫لفْئِ َدةَ‪.‬‬
‫سمْ َع وَالَ ْبصَارَ وَا َ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫{ وَ َ‬

‫‪[ { ..‬النحل‪.]78 :‬‬


‫وقد بيّن لنا علماء وظائف العضاء أن هذا الترتيب القرآني للعضاء هو الترتيب الطبيعي‪،‬‬
‫فالطفل بعد الولدة يسمع أولً‪ ،‬ثم بعد حوالي عشرة أيام يُبصر‪ ..‬وتستطيع تجربة ذلك‪ ،‬فترى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الطفل يفزع من الصوت العالي بعد أيام من ولدته‪ ،‬ولكن إذا وضعت أصبعك أمام عينيه ل‬
‫يطرف؛ لنه لم يَرَ بعد‪.‬‬
‫ومن السمع والبصر ـ وهما السادة على جميع الحواس ـ تتكون المعلومات التي في الفئدة‪ ،‬هذا‬
‫الترتيب القرآني الوجودي‪ ،‬وهو الترتيب الطبيعي الذي وافق العلمَ الحديث‪.‬‬
‫ونلحظ في الية إفراد السمع‪ ،‬وجمع البصار والفئدة‪:‬‬
‫لفْئِ َدةَ‪[ { ...‬النحل‪.]78 :‬‬
‫سمْ َع وَالَ ْبصَارَ وَا َ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫} وَ َ‬
‫جمْعا؟‬
‫فلماذا لم ي ْأتِ السمع َ‬
‫المتحدث هنا هو الحق سبحانه؛ لذلك تأتي اللفاظ دقيقة معجزة‪ ..‬ولننظر لماذا السمع هنا مفرد؟‬
‫فَرٌْق بين السمع وغيره من الحواس‪ ،‬فحين يوجد صوت في هذا المكان يسمعه الجميع‪ ،‬فليس في‬
‫الذن ما يمنع السمع‪ ،‬وليس عليها قفل نقفله إذا أردنا ألّ نسمع‪ ،‬فكأن السمع واحد عند الجميع‪ ،‬أما‬
‫المرئي فمختلف؛ لننا ل ننظر جميعا إلى شيء واحد‪ ..‬بل المرائي عندنا مختلفة فهذا ينظر‬
‫للسقف‪ ،‬وهذا ينظر للعمدة‪ ..‬إلى آخره‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المرائي لدينا مختلفة‪ ..‬كما أن للعين قفلً طبيعيا يمكن إسْداله على العين فل ترى‪ ،‬فكأن‬
‫البصار لدينا مختلفة متعددة‪.‬‬
‫جمْعا؛ لنها متعددة مختلفة‪ ،‬فواحد َيعِي ويُدرك‪ ،‬وآخر ل يعي‬
‫وكذلك الحال في الفئدة‪ ،‬جاءت َ‬
‫ول يدرك‪ ،‬وقد يعي واحد أكثر من الخر‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إفراد السمع هنا آيةٌ من آيات الدقة في التعبير القرآني المعجز؛ لن المتكلمَ هو ربّ العزة‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫ونلحظ أيضا تقديم السمع على باقي الحواس؛ لنه أول الدراكات ويصاحب النسان منذ أنْ يُولدَ‬
‫إلى أنْ يفارق الحياة‪ ،‬ول يغيب عنه حتى لو كان نائما؛ لن بالسمع يتم الستدعاء من النوم‪.‬‬
‫وقد قُلْنا في قصة أهل الكهف أنهم ما كان لهم أن يناموا في سُبات عميق ثلثمائة وتسع سنين إل‬
‫إذا حجب ال عنهم هذه الحاسة‪ ،‬فل تزعجهم الصوات‪ .‬فقال تعالى‪َ {:‬فضَرَبْنَا عَلَىا آذَا ِنهِمْ فِي‬
‫ا ْل َك ْهفِ سِنِينَ عَدَدا }[الكهف‪.]11 :‬‬
‫أي‪ :‬قُلْنا للذن تعطّلي هذه المدة حتى ل تزعجهم أصوات الصحراء‪ ،‬وتقلق مضاجعهم‪ ،‬وال‬
‫تعالى يريد لهم السّبات والنوم العميق‪.‬‬
‫وفي قوله تعالى‪:‬‬
‫سمْعَ‪[ { ..‬النحل‪.]78 :‬‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫} وَ َ‬
‫هل توجد هذه الدراكات بعد الخراج (الميلد) أم هي موجودة قبله؟‪ ..‬يجب أنْ نُفرّق بين السمع‬
‫وآلته‪ ،‬فقبل الخراج تتكون للجنين آلت البصر والسمع والتذوّق وغيرها‪ ..‬لكنها آلت ل تعمل‪،‬‬
‫فالجنين في بطن أمه تابع لها‪ ،‬وليست له حياة ذاتية‪ ،‬فإذا ما نزل إلى الدنيا واستقلّ بحياته يجعل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال له هذه اللت تعمل عملها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمعنى‪:‬‬
‫سمْعَ‪[ { ...‬النحل‪.]78 :‬‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫} وَ َ‬

‫أي‪ :‬جعل لكم الستماع‪ ،‬ل آلة السمع‪.‬‬


‫وقوله‪:‬‬
‫شكُرُونَ { [النحل‪.]78 :‬‬
‫} َلعَّل ُكمْ تَ ْ‬
‫تُوحي الية بأن السمع والبصار والفئدة ستعطي لنا كثيرا من المعلومات الجديدة والدراكات‬
‫التي تنفعنا في حياتنا وفي مُقوّمات وجودنا‪ ،‬وننفع بها غيرنا‪ ،‬وهذه النعم تستحقّ منا الشكر‪.‬‬
‫صوْتا أو حكمة تحمد ال أن جعل لك أُذنا تسمع‪ ،‬وكلما أبصرتَ منظرا بديعا تحمد‬
‫فكلما سمعتَ َ‬
‫ال أنْ جعلَ لك عينا ترى‪ ،‬وكلما شممتَ رائحة زكية تحمد ال أنْ جعل لك أنفا تشمّ‪ ..‬وهكذا‬
‫شكْر المنعم سبحانه‪.‬‬
‫تستوجب النعم ُ‬
‫ولكي تقف على ِنعَم ال عليك انظر إلى مَنْ حُرِموا منها‪ ،‬وتأمّل حالك وحالهم‪ ،‬وما أنتَ فيه من‬
‫نعم الحياة ولذّاتها‪ ،‬وما هُمْ فيه من حِ ْرمَان‪.‬‬
‫ثم ينقلنا الحق سبحانه نقلة أخرى في قوله تعالى‪َ } :‬ألَمْ يَ َروْاْ إِلَىا الطّيْرِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1963 /‬‬

‫س ُكهُنّ إِلّا اللّهُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ (‬


‫سمَاءِ مَا ُيمْ ِ‬
‫جوّ ال ّ‬
‫سخّرَاتٍ فِي َ‬
‫أَلَمْ يَ َروْا ِإلَى الطّيْرِ مُ َ‬
‫‪)79‬‬

‫صوَر الكون‪ ..‬بعد أن حدّثنا عن النسان وما‬


‫فالحق سبحانه ينقلنا هنا إلى صورة أخرى من ُ‬
‫حوله‪ ..‬فالنسان قبل أنْ يخلقه ال في هذا الوجود أعدّ له مُقوّمات حياته‪ ،‬فالشمس والقمر والنجوم‬
‫والرض والسماء والمياه والهواء‪ ،‬كل هذه أشياء ُوجِدتْ قبل النسان‪ ،‬لِتُهيئ له الوجود في هذا‬
‫الكون‪.‬‬
‫ن كفلَ لنا استبقاء الحياة بالرزق‪ ،‬واستبقاء النوع بالزواج والتكاثر‪،‬‬
‫وال سبحانه يريد منّا بعد أ ْ‬
‫يريد منّا إثراء عقائدنا بالنظر في ملكوت ال وما فيه من العجائب؛ لنستدل على أنه سبحانه هندسَ‬
‫ك ال َقمَرَ‬
‫شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ‬
‫َكوْنه هندسة بديعة متداخلة‪ ،‬وأحكمه إحكاما ل تصادم فيه‪ {.‬لَ ال ّ‬
‫وَلَ الّيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس‪.]40 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالنظر إلى َكوْن ال الفسيح‪ ،‬كم فيه من كواكب ونجوم وأجرام‪ .‬كم هو مليء بالحركة والسكون‬
‫والستدارة‪ .‬ومع ذلك لم يحدث فيه تصادم‪ ،‬ولم تحدث منه مضرة أبدا في يوم من اليام‪ ..‬الكون‬
‫كله يسير بنظام دقيق وتناسق عجيب؛ ولكي تتجلى لك هذه الحقيقة انظر إلى صَنْعة النسان‪ ،‬كم‬
‫فيها من تصادم وحوادث يروح ضحيتها اللف‪.‬‬
‫هذا مَثلٌ مُشَاهَد للجميع‪ ،‬الطير في السماء‪ ..‬ما الذي يُمسكها أنْ تق َع على الرض؟ وكأن الحق‬
‫ل وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ‬
‫ت وَالَ ْرضَ أَن تَزُو َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫سبحانه يجب أنْ يُلفتنا إلى قضية اكبر‪ {:‬إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ‬
‫حدٍ مّن َبعْ ِدهِ‪[} ..‬فاطر‪.]41 :‬‬
‫س َك ُهمَا مِنْ أَ َ‬
‫َأمْ َ‬
‫فعلينا أن نُصدّق هذه القضية‪ ..‬فنحن ل ندرك بأعيننا جرْم الرض‪ ،‬ول جرْم الشمس والنجوم‬
‫والكواكب‪ ..‬نحن ل نقرر على معرفة كل مَا في الكون‪ ..‬إذن‪ :‬يجب علينا أن نُصدّق قوْل ربنا‬
‫ول نجادل فيه‪.‬‬
‫وإليكم هذا المثل الذي تشاهدونه كل يوم‪:‬‬
‫س ُكهُنّ ِإلّ اللّهُ‪[ } ...‬النحل‪.]79 :‬‬
‫سمَآءِ مَا ُي ْم ِ‬
‫جوّ ال ّ‬
‫سخّرَاتٍ فِي َ‬
‫{ أََلمْ يَ َروْاْ إِلَىا الطّيْرِ مُ َ‬
‫ن تقول إنها َرفْرفة الجنحة‪ ،‬فنحن نرى الطائر يُثبّت أجنحته في الهواء‪ ،‬ومع ذلك ل يقع‬
‫إياك أ ْ‬
‫إلى الرض‪ ،‬فهناك إذن ما يمسكه من الوقوع؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى‪َ {:‬أوَلَمْ يَ َروْا إِلَى‬
‫ت وَ َيقْبِضْنَ‪[} ...‬الملك‪.]19 :‬‬
‫الطّيْرِ َف ْوقَهُ ْم صَافّا ٍ‬
‫أي‪ :‬أنها في حالة بَسْط الجنحة‪ ،‬وفي حالة ق ْبضِها تظل مُعلّقة ل تسقط‪.‬‬
‫وكذلك نجد من الطيور ما له أجنحة طويلة‪ ،‬لكنه ل يطير مثل الوز وغيره من الطيور‪.‬‬
‫جوّ السماء‪..‬‬
‫إذن‪ :‬ليست المسألة مسألة أجنحة‪ ،‬بل هي آية من آيات ال تمسك هذا الطير في َ‬
‫فتراه حُرا طليقا ل يجذبه شيء إلى الرض‪ ،‬ول يجذبه شيء إلى السماء‪ ،‬بل هو حُرّ يرتفع إنْ‬
‫أراد الرتفاع‪ ،‬وينزل إنْ أراد النزول‪.‬‬
‫فهذه آية مُحسّة لنستدلّ بها على قدرة ال غير المحسّة إل بإخبار ال عنها‪ ،‬فإذا ما قال سبحانه‪:‬‬

‫حدٍ مّن َبعْ ِدهِ‪[} ...‬فاطر‪:‬‬


‫س َك ُهمَا مِنْ أَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ أَن تَزُولَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ َأمْ َ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫{ إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ‬
‫‪.]41‬‬
‫آمنا وصَدّقنا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫سمَآءِ‪[ { ...‬النحل‪.]79 :‬‬
‫جوّ ال ّ‬
‫} فِي َ‬
‫أي‪ :‬في الهواء المحيط بالرض‪ ،‬والمتأمل في الكون يجد أن الهواء هو العامل الساسي في ثبات‬
‫الشياء في الكون‪ ،‬فالجبال والعمارات وغيرها‪ ..‬ما الذي يمسكها أنْ تقع؟‬
‫إياك أن تظن أنه السمنت والحديد وهندسة البناء‪ ..‬ل‪ ..‬بل يمسكها الهواء الذي يحيط بها من كل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جانب‪ ،‬بدليل أنك لو فَرّغتَ جانبا منها من الهواء لنهارتْ فورا نحو هذا الجانب؛ لن للهواء‬
‫غتَ جانبا منها َقلّ فيه الضغط فانهارتْ‪.‬‬
‫ضغطا‪ ،‬فإذا ما فرّ ْ‬
‫فالهواء ـ إذن ـ هو الضابط لهذه المسألة‪ ،‬وبالهواء يتوازن الطير في السماء‪ ،‬ويسير كما يهوى‪،‬‬
‫ويتحرك كما يحب‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫ك ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [النحل‪.]79 :‬‬
‫} إِنّ فِي ذاِل َ‬
‫خلْق‪ ،‬يجب‬
‫أي‪ :‬أن الطير الذي يطير في السماء فيه آيات أي عجائب‪ ،‬عجائب صَنْعة وعجائب َ‬
‫ن تتفكّرُوا فيها وتعتبروا بها‪.‬‬
‫أْ‬
‫ولكي نقف على هذه الية في الطير نرى ما حدث لول إنسان حاول الطيران‪ ..‬إنه العربي عباس‬
‫بن فرناس‪ ،‬أول مَنْ حاول الطيران في الندلس‪ ،‬فعمل لنفسه جناحين‪ ،‬وألقى بنفسه من مكان‬
‫مرتفع‪ ..‬فماذا حدث لول طائر بشرى؟‬
‫طار مسافة قصيرة‪ ،‬ثم هبط على مُؤخرته فكُسرت؛ لنه نسي أن المسألة ليست مجرد الطيران‪،‬‬
‫فهناك الهبوط الذي نسي الستعداد له‪ ،‬وفاته أن يعمل له (زِمكّي)‪ ،‬وهو الذيل الذي يحفظ التوازن‬
‫عند الهبوط‪.‬‬
‫وكذلك الذين يصنعون الطائرات كم تتكلف؟ وكم فيها من أجهزة ومُعدِات قياس وانضباط؟ وبعد‬
‫ذلك تحتاج لقائد يقودها أو مُوجّه يُوجّهها‪ ،‬وحينما أرادوا صناعة الطائرة جعلوها على شكل الطير‬
‫في السماء له جناحان ومقدمة وذيل‪ ،‬ومع ذلك ماذا يحدث لو تعطلّ محركها‪ ..‬أو اختلّ توازنها؟!‬
‫إذن‪ :‬الطير في السماء آية تستحق النظر والتدبّر؛ لنعل َم منها قدرة الخالق سبحانه‪.‬‬
‫ويقول تعالى‪:‬‬
‫} ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [النحل‪.]79 :‬‬
‫يؤمنون بوجود واجب الوجود‪ ،‬يؤمنون بحكمته ودقّة صنعه‪ ،‬وأنها ل مثيلَ لها من صنعة البشر‬
‫مهما بلغتْ من الدقة والحكام‪.‬‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مّن‪.{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَاللّهُ َ‬

‫(‪)1964 /‬‬

‫ظعْ ِنكُ ْم وَ َيوْمَ‬


‫خفّو َنهَا َيوْمَ َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَ ْنعَامِ بُيُوتًا تَسْ َت ِ‬
‫سكَنًا وَ َ‬
‫ج َعلَ َل ُكمْ مِنْ بُيُو ِتكُمْ َ‬
‫وَاللّهُ َ‬
‫شعَارِهَا أَثَاثًا َومَتَاعًا إِلَى حِينٍ (‪)80‬‬
‫صوَافِهَا وََأوْبَارِهَا وَأَ ْ‬
‫ِإقَامَ ِتكُ ْم َومِنْ َأ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قوله‪:‬‬
‫سكَنا‪[ } ...‬النحل‪.]80 :‬‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مّن بُيُو ِتكُمْ َ‬
‫{ وَاللّهُ َ‬
‫كلمة سكن مأخوذة من السكون‪ ،‬والسكون ضد الحركة‪ ،‬فالبيت نُسمّيه سكنا؛ لن النسان يلجأ إليه‬
‫ليرتاح فيه من حركة الحياة خارج البيت‪ ،‬إذن‪ :‬في الخارج حركة‪ ،‬وفي البيت سكن‪.‬‬
‫حقّ‬
‫والسكن قد يكون ماديا كالبيت وهو سكن القالب‪ ،‬وقد يكون معنويا‪ ،‬كما قال تعالى في َ‬
‫سكُنُواْ ِإلَ ْيهَا‪[} ..‬الروم‪.]21 :‬‬
‫س ُكمْ أَ ْزوَاجا لّ َت ْ‬
‫الزواج‪ {:‬خََلقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬
‫ن معنويّ لزوجها‪ ،‬وهذا يُسمّونه سكن القلب‪.‬‬
‫فالزوجة سكَ ٌ‬
‫فإنْ قال قائل‪:‬‬
‫{ مّن بُيُو ِتكُمْ‪[ } ...‬النحل‪.]80 :‬‬
‫يعني‪ :‬نحن الذين صنعناها وأقمناها‪ .‬فكيف جعلها ال لنا؟‪.‬‬
‫نقول‪ :‬وأنت كيف صنعتها؟ ومِمَ بنيْتها؟ صنعتَها من غابٍ أو خشب‪ ،‬أو بنيْتها من طين أو طوب‪..‬‬
‫كل هذه المواد من مادةَ الرض من عطاء ال لك‪ ،‬وكذلك العقل الذي يُفكّر ويرسم‪ ،‬والقوة التي‬
‫تبني وتُشيّد كلها من ال‪.‬‬
‫ن يكون غير مباشر‪ ..‬فال سبحانه جعل لنا‬
‫جعْلً مباشرا‪ ،‬وإما أ ْ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ } إما أنْ يكون َ‬
‫إذن‪َ { :‬‬
‫ج ْعلٌ غير مباشر‪.‬‬
‫جعْل مباشر‪ ،‬وأعاننا وقوّانا على البناء‪ ..‬هذا َ‬
‫هذه المواد‪ ..‬هذا َ‬
‫لكن في أيّ الماكن تُبنى البيوت؟‬
‫البيوت ل تُبنَى إل في أماكن الستقرار‪ ،‬التي تتوفّر لها مُقوّمات الحياة‪ ..‬فقبل أن نُنظّم مدينة‬
‫سكنية نبحث أولً عن مُقوّمات الستقرار فيها من مأكل ومشرب ومرافق وخدمات ومياه‬
‫وصرف‪ ..‬إلى آخره‪.‬‬
‫فإن وجدت هذه المقوّمات فل مانعَ من البناء هنا‪ ..‬فإذا لم توجد المرافق في الصحراء ومناطق‬
‫البدو‪ ،‬هنا ل يناسبها البيوت والبناء الدائم‪ ،‬بل يناسبها‪:‬‬
‫ظعْ ِنكُ ْم وَ َيوْمَ ِإقَامَ ِتكُمْ‪[ } ..‬النحل‪ .]80 :‬فنرى‬
‫خفّو َنهَا َيوْمَ َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مّن جُلُو ِد الَ ْنعَامِ بُيُوتا َتسْتَ ِ‬
‫{ وَ َ‬
‫أهل البدو يتخذون من الجلود بُيُوتا مثل الخيمة والفسطاط‪ ..‬حيث نراهم كثيري التنقّل يبتغون‬
‫مواطن الكل والعشب‪ ،‬ويرحلون طَلبا للمرعى والماء‪ ،‬وهكذا حياتُهم دائمة التنقّل من مكان‬
‫حمْل‪ ،‬يضعونه أيْنما حَطّوا‬
‫لخر‪ ..‬فيناسبهم بيت من جلد أو من صوف أو من وَبَر خفيف ال َ‬
‫ظعْن هو التنقّل من مكان لخر‪.‬‬
‫رحالهم‪ ،‬ويرفعونه أينما ساروا‪ ..‬وال ّ‬
‫إذن‪ :‬كلمة (سكن) تفيد الستقرار‪ ،‬وتُوفّر كل مُقوّمات الحياة؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول‬
‫جكَ الْجَنّةَ‪[} ..‬البقرة‪.]35 :‬‬
‫ت وَ َزوْ ُ‬
‫سكُنْ أَ ْن َ‬
‫لدم‪ {:‬ا ْ‬
‫أي‪ :‬المكان الذي فيه راحتكم‪ ،‬وفي نعيمكم‪ ،‬فحدّد له مكان إقامة وسكَن‪..‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومكان القامة هذا قد يكون عَامّا‪ ،‬وقد يكون خاصا‪ ،‬مثل لو قُلْت‪ :‬أسكن السكندرية‪ ..‬هذا سكَنٌ‬
‫عام‪ ،‬فلو أردتَ السكن الحقيقي الخاص بك َلقُ ْلتَ‪ :‬أسكن في شارع كذا‪ ،‬وفي عمارة رقم كذا‪ ،‬وفي‬
‫شقة رقم كذا‪ ،‬وربما كان لك حجرة خاصة من الشقة هذه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هذا سكَنٌ خاص بك‪ ..‬سكنُك الحقيقي الذي تشعر فيه بالهدوء والراحة والخصوصية‪ ،‬فالسكن‬
‫ي ل يشاركك فيه أحد؛ ولذلك نرى بعض سكان العمارات يشكُون من‬
‫يحتاج إلى استقرار ذات ّ‬
‫الزعاج والضوضاء‪ ،‬ويتمنوْنَ أن يعيشوا في بيوت مستقلة تُحقّق لهم الراحة الكافية التي ل‬
‫يضايقهم فيها أحد‪.‬‬

‫إذن‪ :‬حينما ننظر إلى السكون‪ ..‬إلى السكن‪ ،‬نحتاج المكان الضيق الذي يُحقّق لن الخصوصية‬
‫التامة التي تصل إلى حجرة‪ ،‬مجرد حجرة‪ ،‬ولكنها تعني السكن الحقيقي الخاص بي‪ ،‬وقد تصل‬
‫الخصوصية أنْ نجعلَ لكل ولد من الولد سريرا خاصا به في نفس الحجرة‪.‬‬
‫فإذا ما نظرنا إلى الحركة في الحياة وجدنا النسان على العكس يطلب السعة؛ لن الحركة تقتضي‬
‫السعة في المكان‪ ،‬فمَنْ كان عنده مزرعة يطلب عزبة‪ ،‬ومن كان عنده عزبة يتمنى ثانية وثالثة‬
‫وهكذا لن حركة الحياة تحتاج مجالً واسعا فسيحا‪.‬‬
‫هذا عن النوع الول‪ ،‬وهو السكن المادي سكن القالب‪ ،‬وهو من أعظم ِنعَم ال على عباده‪ ..‬أن‬
‫يكون لهم سكَن يأوون إليه‪ ،‬ويرتاحون فيه من عناء وحركة الحياة‪.‬‬
‫ولذلك حينما أراد الحق سبحانه أن يُعذّب بني إسرائيل‪ ،‬أشاع سكنهم في الرض كلها‪ ،‬وحرمهم‬
‫سكُنُو ْا الَ ْرضَ‪} ...‬‬
‫من نعمة السكن الحقيقي الخاص‪ ،‬فقال تعالى‪َ {:‬وقُلْنَا مِن َب ْع ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫[السراء‪.]104 :‬‬
‫فالرض هي المكان العام الذي يسكن فيه كل الناس‪ ..‬فليس لهم بلد تجمعهم‪ ،‬بل بدّدهم ال في‬
‫طعْنَاهُمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما‪[} ...‬العراف‪:‬‬
‫الرض ولم يجعل لهم وطنا‪ ،‬كما قال في آية أخرى‪َ {:‬وقَ ّ‬
‫‪.]168‬‬
‫حتى في البلد التي يعيشون فيها تراهم معزولين عن الناس في أماكن خاصة بهم ل يذوبون في‬
‫غيرهم‪ ،‬وهكذا سكنوا الرض ولم تحدد لهم بلد‪.‬‬
‫أما النوع الثاني من السكن‪ ،‬وهو السكن المعنوي أو سكن القلب‪ ،‬فهو سكن الزوج إلى زوجته‬
‫الصالحة التي تُخفّف عنه عناء الحياة وهمومها‪ ،‬تبتسم في وجهه إنْ كان مسرورا وتُهدّيء من‬
‫غضبه إنْ كان ُم ْغضَبا‪ ،‬تحتويه بما لديها من حُب وحنان وإخلص‪ ..‬هذا هو السكن المعنوي‪،‬‬
‫سكن القلب‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫شعَارِهَآ أَثَاثا َومَتَاعا إِلَىا حِينٍ { [النحل‪.]80 :‬‬
‫صوَا ِفهَا وََأوْبَارِهَا وَأَ ْ‬
‫} َومِنْ َأ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الصواف للغنم‪ ،‬والوبار للبل‪ ،‬والشعر للماعز‪ ..‬فما الفرْق بين هذه الثلث في الستعمال؟‬
‫ل من الصوف والوبر؛ لن الشّعيرات فيها دقيقة جدا يمكن َندْفها وغَزْلها‬
‫يستعمل الناس ك ً‬
‫والنتفاع بها في الفُرش والبسطة واللحفة والملبس وغيرها مما يحتاجه الناس‪.‬‬
‫أما شعر الماعز فالشعيرات فيه ثخينة ل يمكن َندْفها أو غَزْلها‪ ،‬فل يمكن النتفاع به في هذه‬
‫المنسوجات‪ ،‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫} أَثَاثا َومَتَاعا إِلَىا حِينٍ { [النحل‪.]80 :‬‬
‫الثاث‪ :‬هو ما يوجد في البيت مما تتطلبه حركة الحياة كالبسطة والمفارش والملبس والستائر‪.‬‬
‫والمتاع‪ :‬هو ما يُستمتع ويُنتفع به‪ ..‬والفرْق بينهما أن الثاث قد يكون ثابتا ل يتغير كثيرا‪ ،‬أما‬
‫المتاع فقد يتغير حسب الحاجة‪.‬‬
‫فأنت مثلً قد تحتاج إلى تغيير التلفاز القديم لتأتي بآخر حديث‪ ،‬مُلوّن مثلً‪ ،‬لكن قلّما تُغير الثلجة‬
‫أو الغسالة مثلً‪.‬‬

‫وقوله‪ } :‬إِلَىا حِينٍ { [النحل‪.]80 :‬‬


‫لن النسان قد يغتر حين يستوفي متطلبات حياته‪ ،‬وقد تلهيه هذه النعم عن مطلوب المنعم‬
‫سبحانه‪ ،‬فينشغل بالنعمة التي هو فيها عن المنعم الذي أنعم عليه بها‪ ..‬فتأتي هذه الية مُحذّرة‪.‬‬
‫ع موقوت ل يدوم‪ ،‬ومهما استوفيت حظّك‬
‫إياك أنْ تغت ّر بالمتاع والثاث؛ لنها متاع إلى حين‪ ..‬متا ٌ‬
‫منها في الدنيا فإنها صائرة إلى أمرين‪:‬‬
‫إما أن تفوتها بالموت‪ ،‬وإما أنْ تفوتَك بالفقر والحاجة‪ ..‬إذن‪ :‬هي ذاهبة ذاهبة‪ ..‬فتذكّروا دائما قوله‬
‫تعالى‪:‬‬
‫} إِلَىا حِينٍ‪[ { ...‬النحل‪ .]80 :‬فمتاع النعمة موقوت‪ ،‬لكن متاع المنعِم سبحانه خالد‪.‬‬
‫ج َعلَ َلكُمْ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَاللّهُ َ‬

‫(‪)1965 /‬‬

‫ج َعلَ َلكُمْ سَرَابِيلَ َتقِيكُمُ ا ْلحَ ّر وَسَرَابِيلَ‬


‫ج َعلَ َلكُمْ مِنَ ا ْلجِبَالِ َأكْنَانًا وَ َ‬
‫ج َعلَ َل ُكمْ ِممّا خََلقَ ظِلَالًا وَ َ‬
‫وَاللّهُ َ‬
‫علَ ْيكُمْ َلعَّلكُمْ ُتسِْلمُونَ (‪)81‬‬
‫سكُمْ َكذَِلكَ يُتِمّ ِن ْعمَتَهُ َ‬
‫َتقِيكُمْ بَأْ َ‬

‫بعد أن تكلم الحق سبحانه عن أصحاب البيوت الذين يناسبهم الستقرار‪ ،‬ويجدون مُقوّمات الحياة‪،‬‬
‫وتكلم عن أهل الترحال والتنقّل وما يناسبهم من بيوت خفيفة يحملونها عند ترحالهم‪ .‬ثم تحدث هنا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عن هؤلء الذين ل يملكون شيئا‪ ،‬ول حتى جلود النعام‪ ..‬ماذا يفعل هؤلء؟‬
‫الحق سبحانه جعل لهم الظل يستظِلّون به من وهج الشمس‪ ،‬وجعل لهم من الكهوف والسراديب‬
‫في الجبال ما يأوون إليه ويسكنون فيه‪ .‬وهكذا استوعبتْ اليات جميع الحالت التي يمكن أن‬
‫يكون عليها بشر‪ ،‬فقد نثر الحق سبحانه نعمه على الناس‪ ،‬بحيث يأخذ كل واحد منهم ما يناسبه من‬
‫نعم ال‪.‬‬
‫أما مَنْ ل يملك بيتا يأويه‪ ،‬وليس عنده من النعام ما يتخذ من جلودها بيتا‪ ،‬فقد جعل ال له‬
‫الشجار يستظل بها من حَرّ الشمس‪ ،‬وجعل له كهوف الجبال ُتكِنّه وتأويه‪.‬‬
‫ونلحظ هنا أن الية ذكرتْ الظل الذي يقينا حَرّ الشمس‪ ،‬ولم تذكر مثلً البرد؛ ذلك لن القرآن‬
‫الكريم نزل بجزيرة العرب وهي بلد حارة‪ ،‬وحاجتها إلى الظل أكثر من حاجتها إلى الدّفء‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫للً‪[ } ..‬النحل‪.]81 :‬‬
‫{ ظِ َ‬
‫الظلل جمع ظِل‪ ،‬وهو الواقي من الشمس ومن إشعاعاتها‪ ،‬وقد يُوصَف الظل بأنه ظِل ظليل‪..‬‬
‫أي‪ :‬الظل نفسه مُظلل‪ ،‬وهذا ما نراه في صناعة الخيام مَثلً‪ ،‬حيث يجعلونه لها سقفا من طبقة‬
‫جعْل‬
‫واحدة تتلقّى حرارة الشمس‪ ،‬وإنْ حجبت أشعة الشمس فل تحجب الحرارة‪ ،‬وهنا يلجأون إلى َ‬
‫السقف من طبقتين بينهما مسافة لتقليل حرارة الشمس‪.‬‬
‫وهنا نقول‪ :‬إن الظلّ نفسه مُظلّل‪ ،‬وكذلك الحال في ظِل الشجار حيث يظلّل الورق بعضه بعضا‪،‬‬
‫ظلّ ظليل يحجب عنك ضوء الشمس‪،‬‬
‫ظلّ الشجار بجوّ لطيف بارد حيث يغطيك ِ‬
‫فتشعر تحت ِ‬
‫ويسمح بمرور الهواء فل تشعر بالضيق‪.‬‬
‫سقَاهُ مضاعف الغ ْيثِ ال َعمِيمِ َيصُدّ‬
‫لذلك فالشاعر يقول في وصف روضة‪َ :‬وقَانَا َلفْحَةَ الر ْمضَا ِء وَادٍ َ‬
‫الشمسَ أَنّى وَاجهتْنا فَيحجُبُها وَيأذنُ للنسِيمِوقوله‪َ { :‬أكْنَانا‪[ } ...‬النحل‪.]81 :‬‬
‫جمع كِنْ‪ ،‬وهو الكهف أو المغارة في الجبل تكون سكنا وساترا لمن يلجأ إليها ويحتمي بها‪ ،‬والكِنّ‬
‫من الستر؛ لنها تستر الناس ونحن نقول مثلً للولد‪ :‬انكنْ يعني‪ :‬اسكُنْ وانستر‪.‬‬
‫ويقول تعالى‪:‬‬
‫سكُمْ‪[ } ...‬النحل‪.]81 :‬‬
‫ج َعلَ َلكُمْ سَرَابِيلَ َتقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ َتقِيكُم بَ ْأ َ‬
‫{ وَ َ‬
‫السرابيل‪ :‬هي ما يُلبس من الثياب أو الدروع‪:‬‬
‫{ َتقِيكُمُ ا ْلحَرّ‪[ } ...‬النحل‪.]81 :‬‬
‫أي‪ :‬تحميكم من الحر‪ ..‬فقال هنا الحر أيضا؛ لذلك وجدنا بعض العلماء يحاول أن يجد مخرجا‬
‫لهذه الية فقال‪ :‬المعنى تقيكم الحر وتقيكم البرد‪ ،‬ففي الية اكتفاءٌ بالحر عن البرد؛ لن الشيء إذا‬
‫جاء يأتي مقابله‪ ..‬فليس بالضرورة ذِكر الحالتين‪ ،‬فإحداهما تعني الخرى‪.‬‬
‫هذا دفاع مشكور منهم‪ ،‬ومعنى مقبول حول هذه الية‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪ .‬لكن لو فَطنّا إلى باقي اليات التي تحدثتْ في هذا الموضوع لوجدناها‪ :‬واحدة تتكلم عن الحر‪،‬‬
‫وهي هذه الية‪ ،‬وأخرى تتكلّم عن البرد في قوله تعالى‪ {:‬وَالَنْعَامَ خََل َقهَا َلكُمْ فِيهَا ِدفْءٌ‪} ...‬‬
‫[النحل‪.]5 :‬‬
‫أي‪ :‬من جلود النعام وأصوافها نتخذ ما يقينا البرد‪ ،‬وما نستدفئ به‪ ..‬وهكذا تتكامل اليات‬
‫وينسجم المعنى‪.‬‬
‫والمتأمل في تدفئة النسان يجد أن ما يرتديه من ملبوسات ل يعطي للنسان حرارة تُدفِئه‪ ،‬بل‬
‫تحفظ للنسان حرارة جسمه فقط‪ ،‬فحرارة النسان ذاتية من داخله‪ ،‬وبهذه الحرارة يحفظ الخالق‬
‫سبحانه النسان‪.‬‬
‫والطباء يقولون‪ :‬إن الجسم السليم حرارته ‪ 37‬درجة ل تختلف إنْ عاش عند خط الستواء أو‬
‫عاش في بلد السكيمو في القطب الشمالي‪ ،‬فهذه هي الحرارة العامة للجسم‪.‬‬
‫في حين أن أجهزة الجسم المختلفة ربما اختلفتْ درجة حرارتها‪ُ ،‬كلّ حَسب ما يناسبه‪ :‬فالكبد مثلً‬
‫درجة حرارته ‪ 40‬درجة‪ ،‬وتختلّ وظيفته إذا نقصت عن هذه الدرجة‪ ،‬في حين أن درجة حرارة‬
‫جفْن العين مثلً ‪ 9‬درجة‪ ،‬ولو ارتفعت درجة حرارتها تذوب حبّة العين‪ ،‬ويفقد النسان البصر‪..‬‬
‫َ‬
‫فسبحان ال الذي حفظ حرارة هذه العضاء في الجسم ل يطغى أحدها على الخر‪.‬‬
‫لذلك حينما سافرنا إلى أمريكا‪ ،‬وفي إحدى مناطق البرودة الشديدة كانت أول نصائحهم لنا ألّ‬
‫نمسك آذاننا بأيدينا‪ ..‬لماذا؟ قالوا‪ :‬لن درجة حرارة اليد أقلّ من درجة حرارة الذن‪ ،‬و َوضْع اليد‬
‫الباردة على الذن قد تُسبّب كثيرا من الضرار‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كل ما نستخدمه من ملبس وأعطية تقينا برد الشتاء ل تعطينا حرارة‪ ،‬بل تحفظ علينا‬
‫حرارتنا الطبيعية فل تتسرب‪ ،‬وبذلك تتم التدفئة‪ ..‬وتستطيع أنْ تضعَ يدك على فراشك قبل أن تنام‬
‫فسوف تجده باردا‪ ،‬أما في الصباح فتجده دافئا‪ ..‬فالفراش اكتسب الحرارة من حرارة جسمك‪،‬‬
‫وليس العكس‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫س ُكمْ‪[ { ...‬النحل‪.]81 :‬‬
‫} وَسَرَابِيلَ َتقِيكُم بَأْ َ‬
‫البأس هنا‪ :‬أي الحرب‪ ،‬والسرابيل التي تقي من البأس هي الدروع التي يلبسها الجنود في الحرب‬
‫لتقيهم الضربات‪.‬‬
‫ولكن هذه الية في سياق الحديث عن بعض ِنعَم ال علينا في الستقرار والسكن وما جعله لنا من‬
‫بيوت وظلل‪ ..‬حياة دَعَة وسلم ونعمة‪ ،‬فما الداعي لذكر الحرب هنا؟‬
‫ذلك لن الحياة لها منطق سلمة للجميع‪ ،‬فإن اختلّ منطق السلمة فعلى الناس أنْ يقفوا في وجه‬
‫خلّ بسلمة المجتمع‪ ..‬وأن يكون على استعداد لذلك في كل وقت‪ ،‬ل بُدّ في وقت السّلْم أنْ‬
‫مَنْ يُ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َنعُدّ ال ُعدّة للحرب؛ لذلك تحدث عن الحرب وعُدتها‪ ،‬وهو يتحدث عن السكون والستقرار والنعمة‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى حين يُنزِل اليات البينات التي تحمل لنا منهج السماء يقول‪َ {:‬لقَدْ أَرْسَلْنَا‬
‫سطِ‪[} ...‬الحديد‪.]25 :‬‬
‫ب وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِ ْ‬
‫ت وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَا َ‬
‫رُسُلَنَا بِالْبَيّنَا ِ‬
‫هذا هو المنهج الذي يعتمد على الحجة والقناع‪ ..‬فإن لم يصلح هذا المنهج لبعض الناس وتمردوا‬
‫عليه أتى إذن دور القوة والقهر‪ ،‬يقول تعالى‪:‬‬

‫{ وَأَنزَلْنَا ا ْلحَدِيدَ فِيهِ بَ ْأسٌ شَدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ‪[} ..‬الحديد‪.]25 :‬‬


‫وقوله‪:‬‬
‫} َكذَِلكَ يُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي ُكمْ‪[ { ...‬النحل‪.]81 :‬‬
‫كأن من تمام نعمة ال أنْ نحفظها ممنْ يُفسدها علينا‪ ،‬ونقف له بالمرصاد ونضرب على يده؛ لنه‬
‫لو تركنا هؤلء المفسدين في مجتمعنا فسوف يُفسِدون علينا هذه النّعم‪ ،‬وسنظل مُهددّين‪ ،‬ل نشعر‬
‫بلذة الحياة ومُتعِها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل تتم النعمة إل بحفظ السلمة العامة للمجتمع‪.‬‬
‫وقوله‪َ } :‬لعَّلكُمْ ُتسِْلمُونَ‪[ { ..‬النحل‪.]81 :‬‬
‫تُسلِمون‪ :‬أي تُلْقون زمام الستسلم إلى ال الذي أسلمتَ له‪ ،‬وأنت لَ تُلقي زمامك إل لمنْ تثق‬
‫ت في‬
‫فيه‪ ..‬والنسان قد يُلقي زمامه في أمر ل يجيده إلى إنسان مثله يُجيد هذا المر‪ ،‬فإذا كن َ‬
‫حاجات نفسك تُلقي زمامك لمن هو مثلك‪ ،‬ويساويك في قِلّة المعلومات‪ ،‬ويساويك في قِلّة الحكمة‪،‬‬
‫ومع ذلك تُسلِم إليه أمرك لمجرد أنه يجيد شيئا ل تجيده أنت‪ ،‬أفل تُلقي زمامك وتُسلِم أمرك إلى‬
‫ربك وخالقك‪ ،‬وخالق ُكلّ هذه النعم من أجلك؟‬
‫إذن‪ :‬جاء ِذكْر هذه النعم‪ ،‬ثم المر بإسلم الوجه ل والتسليم له سبحانه حتى نُسلمَ عن يقين‬
‫واقتناع‪ ،‬فالحق تبارك وتعالى ليس له مصلحة في طاعتنا‪ ،‬ول تضره معصيتنا‪ ،‬إنْ أطعناه فلن‬
‫نزيد في مُ ْلكِه سبحانه‪ ،‬وإنْ عصيناه فلن ننقصَ من مُلْكه سبحانه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬تسليمنا المر والزمام ل من مصلحتنا نحن‪ ..‬فالنسان حينما يُسلِم زمامه إلى غيره قد يكون‬
‫حكْما فليس له مصلحة‬
‫للغير مصلحة تَلْوي رَأْيه في المسألة‪ ،‬إنما ربّنا سبحانه حينما يُوجّه إلينا ُ‬
‫فيه فل يُ ْلوَى‪ ،‬ل يكون إلّ لصالحك‪.‬‬
‫وبعد أنْ عدّد هذه النعم في الذات والمحيطات وفي السكن وفي النطباعات‪ .‬قال‪ :‬إياك بعد ذلك أن‬
‫تُسِلمَ زمامك لغيري‪ ،‬وإنْ أجريتُ عليك ما يُخرجك عن نفع السلمة؛ لنني ل أجري عليك ما‬
‫يُخرجك عن نفس السلمة إل لغرض أسلم منه‪.‬‬
‫ح ْكمِه تسليمٌ لحكيم‪ ،‬تسليمٌ لغير منتفع‪ ..‬وما ُد ْمتَ قد‬
‫لذلك نقول‪ :‬ل عبادة كالتسليم؛ لن التسليم ل ُ‬
‫سل ْمتَ زمامك لربك عز وجل يُجلّي لك الحكمة فيما جرى لك من الحداث لتعلمَ رضاك عن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكْمه لحكمته‪ ،‬فتقول‪ :‬أنا رضيتُ بحكمك يا رب‪.‬‬
‫ُ‬
‫حمْد الرّضا بحكمك لليقين‬
‫ل قضائك‪ ،‬وجميع قَدرِك َ‬
‫ولذلك نقول في الدعاء‪ :‬أحمدك على ُك ّ‬
‫بحكمتك‪.‬‬
‫أي‪ :‬لك حكمة يارب فيما أجريتَ عليّ من أحداث‪ ،‬ولكني ل أراها‪.‬‬
‫والذي يعلم مكانة التسليم ل تعالى فيما يُجرى عليه من أحداث وما يقع به من بلء ل يضجر ول‬
‫يسخط؛ لنه بذلك يُطيل على نفسه أمدَ القضاء؛ لن ال ل يرفع قضاءه عن عبده حتى يرضى به‪،‬‬
‫فال تعالى ل مُجبر له‪.‬‬
‫فإن أردت َرفْع القضاء فا ْرضَ به أولً‪ ،‬وإذا لم يرفع عنك القضاء فاعلم أن مكان الرضى من‬
‫ن مقبولً‪ ،‬قد ترضى بلسانك ولكن قلبك ل يزال ساخطا ضَجِرا‪.‬‬
‫نفسك لم يكُ ْ‬

‫فالذي يُسلم زَمامه إلى ال ويردّ كل حدث وقع أو بلء نزل بهِ يردّه إلى ال‪ ،‬وإلى حكمة مُجريه‪،‬‬
‫ال تعالى يقول له‪ :‬لقد فهمتَ عني‪ ،‬ويرفع عنه البلء‪.‬‬
‫وفي مقام التسليم ل دائما نذكر قصة سيدنا إبراهيم حينما أمره ربه بذبح ولده إسماعيل ـ عليهما‬
‫السلم‪ ..‬وهل هناك بلء أكثر من أن يُبتلَى الرجل بذبح ولده الذي رُزِقه على كِبَر‪ ،‬ويذبحه هو‬
‫بيده‪.‬‬
‫إنه ابتلء من مراتب مُتعدّدة‪ ،‬ومن نَواحٍ مختلفة‪ ،‬ول ْيتَ المر بوحي ظاهر‪ ،‬ولكنه بمنام كان‬
‫يستطيع أن يتأوّل فيه‪ ،‬ولكن رؤيا النبياء حق‪.‬‬
‫ونرى إبراهيم ـ عليه السلم ـ يقصّ على ولده المسألة حِرْصا عليه أنْ يتحوّل قلبه عن أبيه‬
‫ساعةَ يأخذه ليذبحه‪ ،‬وأيضا لكي يشاركه ولده في الرضا بقدر ال‪ ،‬ول يحرم ثواب هذا البتلء‪..‬‬
‫حكَ‪[} ...‬الصافات‪.]102 :‬‬
‫فقال له‪ {:‬إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي أَذْ َب ُ‬
‫فليس الغرض هنا أنْ يزعجه أو يُخيفه‪ ،‬ولكن ليقول له‪ :‬هذه مسألة تعبدية أمرنا بها الخالق سبحانه‬
‫ليكون على بصيرة هو أيضا‪ ،‬ول يتغير قلبه على أبيه‪.‬‬
‫ولذلك كان الولد حكيما في الرد‪ ،‬فقال‪ {:‬قَالَ ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ‪[} ..‬الصافات‪.]102 :‬‬
‫ما دام المر من ال فافعل‪ ،‬وهكذا سلّم إسماعيلُ كما سلّم إبراهيم‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬فََلمّا أَسَْلمَا وَتَلّهُ‬
‫لِلْجَبِينِ }[الصافات‪.]103 :‬‬
‫أسلما‪ :‬أي الب والبن‪ ،‬ورَضيا بقضاء ال‪ ،‬جاء الفرج و ُرفِع القضاء‪ ،‬فقد فهم كل منهما المر‬
‫عن ال‪ ،‬فلم يرفع القضاء وفقط‪ ،‬بل وفديناه بذبح عظيم‪ ،‬ليس هذا وفقط‪ ،‬بل ومنّنا عليه بولد‬
‫آخر‪ {:‬وَبَشّرْنَاهُ بِِإسْحَاقَ }[الصافات‪.]112 :‬‬
‫إذن‪ :‬لعلكم تُسْلِمون زمامكم إلى ال‪ ،‬وتعلمون أنه خلق لكم الكون قبل أن يُوجِدكم فيه‪ ،‬وأمدّكم بكل‬
‫متطلبات الحياة ضمانا لبقاء حياتكم‪ ،‬وضمانا لبقاء نوعكم‪ ،‬ومتّعكم هذه المتع‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالذي أنعم عليكم بهذا كله عن غير حاجة له عندكم جديرٌ أنْ تُسلِموا له زمام أمركم وتُسلموا له‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَإِن َتوَلّوْاْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1966 /‬‬

‫فَإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ (‪)82‬‬

‫أي‪ :‬ل تحزن يا محمد إذا أعرض قومك‪ ،‬فلست مأمورا إل بالبلغ‪ ،‬ويخاطبه الحق سبحانه في‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُمؤْمِنِينَ }[الشعراء‪.]3 :‬‬
‫آية أخرى‪َ {:‬لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫ضعِينَ }‬
‫سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ‬
‫أي‪ :‬مهلكها‪ .‬وقال تعالى‪ {:‬إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْي ِهمْ مّنَ ال ّ‬
‫[الشعراء‪.]4 :‬‬
‫لكن الدين ل يقوم على السيطرة على القالب‪ ،‬وفَرْق بين السيطرة على القالب والسيطرة على‬
‫القلب‪ ،‬فيمكنك بمسدس في يدك أنْ تُرغمني على ما تريد‪ ،‬لكنك ل تستطيع أبدا أن تُرغم قلبي‬
‫على شيء ل يؤمن به‪ ،‬وال يريد مِنّا القلوب ل القوالب‪ ،‬ولو أراد مِنّا القوالب لجعلها راغمة‬
‫خاضعة ل يشذّ منها واحد عن مراده سبحانه‪.‬‬
‫ولذلك حينما أرسل ال سليمان ـ عليه السلم ـ وجعله ملكا رسولً لم يقدر أحد أن يقف في‬
‫وجهه‪ ،‬أو يعارضه لما له من السلطان والقوة إلى جانب الرسالة‪ ..‬أمّا المر في دعوته صلى ال‬
‫عليه وسلم فقائم على البلغ فقط دون إجبار‪.‬‬
‫لغُ ا ْلمُبِينُ } [النحل‪.]82 :‬‬
‫وقوله‪ { :‬الْبَ َ‬
‫أي‪ :‬البلغ التام الكامل الذي يشمل كل جزئيات الحياة وحركاتها‪ ،‬فقد جاء المنهج اللهي شاملً‬
‫للحياة بداية بقول‪ :‬ل إله إل ال حتى إماطة الذى عن الطريق‪ ،‬فلم يترك شيئا إل حدّثنا فيه‪ ،‬فهذا‬
‫بلغ مبين محيط لمصالح الناس‪ ..‬فل يأتي الن مَنْ يتمحّك ويقول‪ :‬ربنا ترك كذا أو كذا‪ ..‬فمنهج‬
‫ال كامل‪ ،‬فلو لم تأخذوه دينا لوجب عليكم أن تأخذوه نظاما‪.‬‬
‫ل في‬
‫ونرى الن المم التي تُعادي السلم تتعرّض لمشاكل في حركة الحياة ل يجدون لها حَ ّ‬
‫حلّ القرآن ومنهج الحق سبحانه‬
‫قوانينهم‪ ،‬فيضطرون لحلول أخرى تتوافق تماما أو قريبا من َ‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬يعْ ِرفُونَ ِن ْع َمتَ اللّهِ‪.} ..‬‬

‫(‪)1967 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َيعْ ِرفُونَ ِن ْعمَةَ اللّهِ ُثمّ يُ ْنكِرُو َنهَا وََأكْثَرُ ُهمُ ا ْلكَافِرُونَ (‪)83‬‬

‫وقد حكى القرآن عنهم في آيات أخرى‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ }‬
‫[الزخرف‪.]87 :‬‬
‫سهُمْ‪[} ...‬النمل‪.]14 :‬‬
‫جحَدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ‬
‫وقال عنهم‪ {:‬وَ َ‬
‫ذلك لنهم يعلمون تماما أن ال خلقهم‪ ،‬وأنه خلق السماوات والرض‪ ..‬يعلمون كل ِنعَم ال عليهم‪،‬‬
‫ومع ذلك يُنكرونها ويجحدونها‪ ..‬لماذا؟‬
‫لن اليمان بال والعتراف بنعمه مسألة شاقة عليهم‪ ،‬ولو كانت مجرد كلمة تُقال لقالوها‪ ..‬ما‬
‫ن يقولوا " ل إله إل ال " لكنهم يعلمون أن‪ :‬ل إله إل ال لها مطلوبات‪ ،‬فما دام ل إله إل‬
‫أسهل أ ْ‬
‫حلّ إل ال‪ ،‬ول يُحرّم إل ال‪.‬‬
‫ال‪ ،‬فل يُشرّع إل ال‪ ،‬ول يأمر إل ال‪ ،‬ول يَنْهى إل ال‪ ،‬ول ُي ِ‬
‫إذن‪ :‬مطلوبات ل إله إل ال جعلتهم في قالب من حديد‪ ،‬منضبطين بمنهج يهدم سيادتهم‪ ،‬ويمنع‬
‫الطغيان والجبروت‪ ،‬منهج يُسوّي بين السادة والعبيد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الدين الحق يُقيّد حركتهم‪ ،‬وهم ل يريدون ذلك‪ ،‬فتراهم يعرفون ال ول يؤمنون به؛ لنهم‬
‫يعلمون مطلوبات ل إله إل ال محمد رسول ال‪ ،‬وإل لو كانت مجرد كلمة لقالوها‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫{ وََأكْثَرُ ُهمُ ا ْلكَافِرُونَ } [النحل‪.]83 :‬‬
‫بعض العلماء يقولون‪ :‬أكثرهم يعني كلهم‪ ..‬ل‪ ..‬بل هذا أسلوب قرآني لصيانة الحتمال وللحتياط‬
‫للقلة التي تفكر في السلم ويراودها أمر هذا الدين الجديد من هؤلء الكفار‪ ،‬ل بُدّ أنْ نُراعي أمر‬
‫هذه القلة‪ ،‬ونترك لهم الباب مفتوحا‪ ،‬فالحتمال هنا قائم‪..‬‬
‫فلو قال القرآن‪ :‬كلهم كافرون لتعارض ذلك مع هؤلء الذين يفكرون في أنْ يُسلِموا‪ ..‬وكذلك‬
‫حدّ التكليف من أبناء الكفار‪.‬‬
‫مراعاة لهؤلء الذين لم يبلُغوا َ‬
‫إذن‪ :‬قوله { وََأكْثَرُهُمُ } تعبير دقيق‪ ،‬فيه ما نُسميّه صيانة الحتمال‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ‪.} ..‬‬

‫(‪)1968 /‬‬

‫شهِيدًا ُثمّ لَا ُيؤْذَنُ لِلّذِينَ َكفَرُوا وَلَا ُهمْ يُسْ َتعْتَبُونَ (‪)84‬‬
‫وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َ‬

‫الحق تبارك وتعالى يُنبّهنا هنا إلى أن المسألة ليست دينا‪ ،‬وتنتهي القضية آمن مَنْ آمن‪ ،‬وكفر مَنْ‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كفر‪ ..‬إنما ينتظرنا بعث وحساب وثواب وعقاب‪ ..‬مرجع إلى ال تعالى ووقوف بين يديه‪ ،‬فإنْ لم‬
‫تذكر ال بما أنعم عليك سابقا فاحتط للقائك به لحقا‪.‬‬
‫والشهيد‪ :‬هو نبيّ المة الذي يشهد عليهم بما بلّغهم من منهج ال‪.‬‬
‫شهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَ َيكُونَ الرّسُولُ‬
‫جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطا لّ َتكُونُواْ ُ‬
‫وقال تعالى في آية أخرى‪َ {:‬وكَذَِلكَ َ‬
‫شهِيدا‪[} ...‬البقرة‪.]143 :‬‬
‫عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫فكأن أمة محمد صلى ال عليه وسلم أعطاها ال أمانة الشهادة على الخَلْق لنها بلغتهم‪ ،‬فكل مَنْ‬
‫آمن برسول ال صلى ال عليه وسلم مطلوب منه أن يُبلّغ ما بلّغه الرسول‪ ،‬ليكون شاهدا على مَنْ‬
‫بلغه أنه بلّغه‪:‬‬
‫{ ُث ّم لَ ُيؤْذَنُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ‪[ } ..‬النحل‪.]84 :‬‬
‫فحينما يشهد عليهم الشهيد ل ُيؤْذَن لهم في العتذار‪ ،‬كما قال تعالى في آية أخرى‪َ {:‬ولَ ُيؤْذَنُ َلهُمْ‬
‫فَ َيعْتَذِرُونَ }[المرسلت‪.]36 :‬‬
‫ل صَالِحا فِيمَا تَ َر ْكتُ‪[} ..‬المؤمنون‪.]100-99 :‬‬
‫ع َم ُ‬
‫جعُونِ * َلعَلّي أَ ْ‬
‫أو حينما يقول أحدهم‪َ {:‬ربّ ا ْر ِ‬
‫فل يُجَاب لذلك؛ لنه لو عاد إلى الدنيا لفعل كما كان يفعل من قبل‪ ،‬فيقول تعالى‪ {:‬وََلوْ ُردّواْ‬
‫َلعَادُواْ ِلمَا ُنهُواْ عَنْهُ‪[} ...‬النعام‪.]28 :‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫{ َولَ هُمْ يُسْ َتعْتَبُونَ‪[ } ..‬النحل‪.]84 :‬‬
‫يستعتبون‪ :‬مادة استعتب من العتاب‪ ،‬والعتاب مأخوذ من العَتْب‪ ،‬وأصله الغضب والموجدة تجدها‬
‫على شخص آخر صدر منه نحوك ما لم يكن مُتوقّعا منه‪ ..‬فتجد في نفسك موجدة وغضبا على‬
‫مَنْ أساء إليك‪.‬‬
‫فإن استقرّ العَتْب الذي هو الغضب والموجدة في النفس‪ ،‬فأنت إمّا أنْ تعتب على مَنْ أساء إليك‬
‫وتُوضّح له ما أغضبك‪ ،‬فربما كان له عُذْر‪ ،‬أو أساء عن غير قصد منه‪ ،‬فإن أوضح لك المسألة‬
‫وأرضاك وأذهب غضبك فقد أعتبك‪ ..‬فنقول‪ :‬عتَب فلن على فلن فأعتبه‪ ،‬أي‪ :‬أزال عَتْبه‪.‬‬
‫والنسان ل يُعاتب إل عزيزا عليه يحرص على علقته به‪ ،‬ويضعه موضعا ل تتأتى منه الساءة‪،‬‬
‫ومن حقه عليك أن تعاتبه ول تدعْ هذه الساءة تهدم ما بينكما‪.‬‬
‫إذن‪ :‬معنى‪:‬‬
‫{ َولَ هُمْ يُسْ َتعْتَبُونَ } [النحل‪.]84 :‬‬
‫أي‪ :‬ل يطلب أحد منهم أنْ يرجعوا عما أوجب العَتْب وهو كفرهم‪ ..‬فلم َيعُد هناك وقت لعتاب؛‬
‫لن الخرة دار حساب‪ ،‬وليست دار عمل أو توبة‪ ..‬لم َتعُدْ دا َر تكليف‪.‬‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬وَإِذَا رَأى الّذِينَ ظََلمُواْ‪.} ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1969 /‬‬

‫خ ّففُ عَ ْنهُ ْم وَلَا ُهمْ يُنْظَرُونَ (‪)85‬‬


‫ظَلمُوا ا ْل َعذَابَ فَلَا يُ َ‬
‫وَإِذَا رَأَى الّذِينَ َ‬

‫{ رَأى الّذِينَ ظََلمُواْ ا ْلعَذَابَ‪[ } ...‬النحل‪.]85 :‬‬


‫كأن العذاب سيُنصب أمامهم‪ ،‬فيرونه قبل أن يباشروه‪ ،‬وهكذا يجمع ال عليهم ألوانا من العذاب؛‬
‫لن إدراكات النفس تتأذى بالمشاهدة قبل أنْ تألم الحاسيس بالعذاب؛ لذلك قال‪:‬‬
‫خفّفُ عَ ْنهُمْ‪[ } ..‬النحل‪.]85 :‬‬
‫{ فَلَ ُي َ‬
‫وقوله‪َ { :‬ولَ هُمْ يُنظَرُونَ } [النحل‪.]85 :‬‬
‫أي‪ :‬ل ُي ْمهَلُون ول يُؤجّلون‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ { :‬وَإِذَا رَأى الّذِينَ أَشْ َركُواْ‪.} ...‬‬

‫(‪)1970 /‬‬

‫وَإِذَا رَأَى الّذِينَ أَشْ َركُوا شُ َركَاءَهُمْ قَالُوا رَبّنَا َهؤُلَاءِ شُ َركَاؤُنَا الّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِنْ دُو ِنكَ فَأَ ْل َقوْا إِلَ ْيهِمُ‬
‫ا ْل َقوْلَ إِ ّنكُمْ َلكَاذِبُونَ (‪)86‬‬

‫ذلك حينما يجمع ال المشركين وشركاءهم من شياطين النس والجن والصنام‪ ،‬وكل مَنْ أشركوه‬
‫مع ال وَجْها لوجه يوم القيامة‪ ،‬وتكون بينهما هذه الواجهة‪ ..‬حينما يرى المشركون شركاءهم‬
‫الذين أضلّوهم وزيّنوا لهم المعصية‪ ،‬وزيّنوا لهم الشرك والكفر بال‪ ..‬يقولون‪ :‬هؤلء هم سببُ‬
‫ضللنا وكُفْرنا‪ ..‬كما قال تعالى عنهم في آية أخرى‪ {:‬إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُو ْا وَرََأوُاْ‬
‫ط َعتْ ِب ِه ُم الَسْبَابُ }[البقرة‪.]166 :‬‬
‫ب وَ َتقَ ّ‬
‫ا ْلعَذَا َ‬
‫ضعِفُواْ لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ َلوْلَ أَنتُمْ َلكُنّا ُم ْؤمِنِينَ }[سبأ‪.]31 :‬‬
‫ويقول تعالى‪َ {:‬يقُولُ الّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫وقوله‪:‬‬
‫{ فَأ ْل َقوْا إِلَ ْيهِمُ ا ْل َق ْولَ‪[ } ...‬النحل‪.]86 :‬‬
‫أي‪ :‬ردّوا عليهم بالمثل‪ ،‬وناقشوهم بالحجة‪ ،‬كما قال تعالى في حَقّ الشيطان‪َ {.‬ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْي ُكمْ‬
‫خ ُك ْم َومَآ أَنتُمْ‬
‫سكُمْ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ‬
‫مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ‬
‫خيّ‪[} ..‬إبراهيم‪.]22 :‬‬
‫ِب ُمصْرِ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬ردّوا عليهم القول‪ :‬ما كان عليكم سلطان‪ .‬نحن دعوناكم فاستجبتم لنا‪ ،‬ولم يكن لنا قوة‬
‫تُرغمكم على الفعل‪ ،‬ول حُجّة تُقنعكم بالكفر؛ ولذلك يتهمونهم بالكذب‪:‬‬
‫{ إِ ّن ُكمْ َلكَاذِبُونَ } [النحل‪.]86 :‬‬
‫أي‪ :‬كاذبون في هذه الدعوى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَأَ ْل َقوْاْ إِلَىا اللّهِ‪.} ...‬‬

‫(‪)1971 /‬‬

‫وَأَ ْلقَوْا إِلَى اللّهِ َي ْومَئِذٍ السَّل َم َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ (‪)87‬‬

‫السّلَم‪ :‬أي الستسلم‪ ..‬فقد انتهى وقت الختيار ومضى زمن المهْلة‪ ،‬تعمل أو ل تعمل‪ .‬إنما الن{‬
‫ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ }؟ المر والملك ل‪ ،‬وما داموا لم يُسلّموا طواعية واختيارا‪ ،‬فَلْيُسلّموا له َقهْرا‬
‫ورَغْما عن أنوفهم‪.‬‬
‫وهنا تتضح لنا مَيْزة من مَيْزات اليمان‪ ،‬فقد جعلني استسلم ل عز وجل مختارا‪ ،‬بدل أنْ استسلمَ‬
‫َقهْرا يوم أنْ تتكشّف الحقيقة على أنه ل إله إل ال‪ ،‬وسوف يُواجهني سبحانه وتعالى في يوم ل‬
‫اختيار لي فيه‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫ضلّ عَ ْنهُم مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [النحل‪.]87 :‬‬
‫{ َو َ‬
‫كلمة‪ :‬الضلل تردُ بمعانٍ متعددة‪ ،‬منها‪ :‬ضلّ أي غاب عنهم شفعاؤهم‪ ،‬فأخذوا يبحثون عنهم فلَم‬
‫يجدوهم‪ ،‬ومن هذا المعنى قوله تعالى‪َ {:‬أإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‪[} ..‬السجدة‪:‬‬
‫‪.]10‬‬
‫أي‪ :‬يغيبوا في الرض‪ ،‬حيث تأكل الرض ذرّاتهم‪ ،‬وتُغيّبهم في بطنها‪ ..‬وكذلك نقول‪ :‬الضالة أي‬
‫الدابة التي ضّلتْ أي‪ :‬غابتْ عن صاحبها‪.‬‬
‫حدَا ُهمَا الُخْرَىا‪} ..‬‬
‫ضلّ ِإحْدَا ُهمَا فَ ُت َذكّرَ إِ ْ‬
‫ومن معاني الضلل‪ :‬النسيان‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬أَن َت ِ‬
‫[البقرة‪.]282 :‬‬
‫ك ضَآلّ َفهَدَىا }[الضحى‪.]7 :‬‬
‫ومن معانيه‪ :‬التردد‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬ووَجَ َد َ‬
‫فلم يكُنْ لرسول ال صلى ال عليه وسلم منهج ثم تركه وانصرف عنه وفارقه‪ ،‬ثم هداه ال‪ ..‬بل‬
‫كان صلى ال عليه وسلم مُتحيّرا مُتردّدا فيما عليه سادة القوم وأهل العقول الراجحة من أفعال‬
‫تتنافى مع العقل السليم والفطرة النّيرة‪ ،‬فكانت حيرة الرسول صلى ال عليه وسلم فيما يراه من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أفعال هؤلء وهو ل يعرف حقيقتها‪.‬‬
‫فقوله‪:‬‬
‫ضلّ عَ ْنهُم‪[ } ..‬النحل‪.]87 :‬‬
‫{ َو َ‬
‫أي‪ :‬غاب عنهم‪:‬‬
‫{ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [النحل‪.]87 :‬‬
‫أي‪ :‬يكذبون من ادعائهم آلهة وشفعاءَ من دون ال‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬الّذِينَ َكفَرُواْ‪.} ..‬‬

‫(‪)1972 /‬‬

‫الّذِينَ َكفَرُوا َوصَدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَا ُهمْ عَذَابًا َف ْوقَ ا ْلعَذَابِ ِبمَا كَانُوا ُيفْسِدُونَ (‪)88‬‬

‫هنا فرْق بين الكفر والصّدّ عن سبيل ال‪ ،‬فالكفر ذنب ذاتيّ يتعلق بالنسان نفسه‪ ،‬ل يتعدّاه إلى‬
‫غيره‪ ..‬فَاكفُرْ كما شئت والعياذ بال ـ أنت حر!!‬
‫أما الصدّ عن سبيل ال فذنبٌ مُتعدّ‪ ،‬يتعدّى النسان إلى غيره‪ ،‬حيث يدعو غيره إلى الكفر‪،‬‬
‫ويحمله عليه ويُزيّنه له‪ ..‬فالذنب هنا مضاعف‪ ،‬ذنب لكفره في ذاته‪ ،‬وذنب لصدّه غيره عن‬
‫حمِلُنّ أَ ْثقَاَلهُ ْم وَأَ ْثقَالً مّعَ أَ ْثقَاِلهِمْ‪[} ..‬العنكبوت‪.]13 :‬‬
‫اليمان‪ ،‬لذلك يقول تعالى في آية أخرى‪ {:‬وَلَيَ ْ‬
‫فإنْ قال قائل‪ :‬كيف وقد قال تعالى‪ {:‬وَلَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَىا‪[} ..‬النعام‪.]164 :‬‬
‫نقول‪ :‬ل تعارضَ بين اليتين‪ ،‬فكل واحد سيحمل وزْره‪ ،‬فالذي صَدّ عن سبيل ال يحمل وِزْرَيْن‪،‬‬
‫أما مَنْ صدّه عن سبيل ال فيحمل وِزْر كفره هو‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫{ ِزدْنَاهُمْ عَذَابا َفوْقَ ا ْلعَذَابِ‪[ } ..‬النحل‪.]88 :‬‬
‫العذاب الول على كفرهم‪ ،‬وزِدْناهم عذابا على كفر غيرهم ِممّنْ صدّوهم عن سبيل ال‪.‬‬
‫ن عمل بها إلى‬
‫ولذلك فالنبي صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬مَنْ سَنّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر مَ ْ‬
‫يوم القيامة‪ ،‬ومَنْ سَنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة "‪.‬‬
‫فإياك أنْ تقعَ عليك عيْن المجتمع أو أُذنه وأنت في حال مخالفة لمنهج ال؛ لن هذه المخالفة‬
‫ستؤثر في الخرين‪ ،‬وستكون سببا في مخالفة أخرى بل مخالفات‪ ،‬وسوف تحمل أنتَ قِسْطا من‬
‫هذا‪ ..‬فأنت مسكين تحمل سيئاتك وسيئات الخرين‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ ِبمَا كَانُواْ ُيفْسِدُونَ } [النحل‪.]88 :‬‬
‫والفساد‪ :‬أنْ تعمدَ إلى شيء صالح أو قريب من الصلح فتُفسده‪ ،‬ولو تركتَه وشأنه لربما يهتدي‬
‫إلى منهج ال‪ ..‬إذن‪ :‬أنت أفسدتَ الصالح ومنعت القابل للصلح أن يُصلح‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ فِي‪.} ...‬‬

‫(‪)1973 /‬‬

‫شهِيدًا عَلَى َهؤُلَا ِء وَنَزّلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ‬


‫س ِه ْم وَجِئْنَا ِبكَ َ‬
‫شهِيدًا عَلَ ْيهِمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫وَ َيوْمَ نَ ْب َعثُ فِي ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫حمَ ًة وَبُشْرَى لِ ْلمُسِْلمِينَ (‪)89‬‬
‫شيْ ٍء وَهُدًى وَ َر ْ‬
‫تِبْيَانًا ِل ُكلّ َ‬

‫قوله‪:‬‬
‫سهِمْ‪[ } ..‬النحل‪.]89 :‬‬
‫{ مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫يعني من جنسهم‪ .‬والمراد‪ :‬أهل الدعوة إلى ال من الدّعَاة والوعاظ والئمة الذين بلّغوا الناس‬
‫ن قصّر في منهج ال‪.‬‬
‫منهج ال‪ ،‬هؤلء سوف يشهدون أمام ال سبحانه على مَ ْ‬
‫وقد يكون معنى‪:‬‬
‫سهِمْ‪[ } ..‬النحل‪.]89 :‬‬
‫{ مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫ش َهدُ عَلَ ْيهِمْ َألْسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِي ِهمْ‬
‫أي‪ :‬جزء من أجزائهم وعضوا من أعضائهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬يوْمَ تَ ْ‬
‫وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النور‪.]24 :‬‬
‫شهِدتّمْ عَلَيْنَا‪[} ...‬فصلت‪.]21 :‬‬
‫وقوله‪َ {:‬وقَالُواْ لِجُلُودِ ِهمْ ِلمَ َ‬
‫والشهيد إذا كان من ذات النسان وبعض من أبعاضه فل شكّ أن حجته قوية وبيّنته واضحة‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫علَىا هَـاؤُلءِ } [النحل‪.]89 :‬‬
‫شهِيدا َ‬
‫{ وَجِئْنَا ِبكَ َ‬
‫أي‪ :‬شهيدا على أمتك كأنه صلى ال عليه وسلم شهيد على الشهداء‪.‬‬
‫شيْءٍ‪[ } ..‬النحل‪.]89 :‬‬
‫{ وَنَزّلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ تِبْيَانا ّل ُكلّ َ‬
‫الكتاب‪ :‬القرآن الكريم‪ ..‬تبيانا‪ :‬أي بيانا تاما لكل ما يحتاجه النسان‪ ،‬وكلمة (شيء) تُسمّى جنس‬
‫الجناس‪ .‬أي‪ :‬كل ما يُسمّى " شيء " فبيانُه في كتاب ال تعالى‪.‬‬
‫حكْما مُعيّنا؟‬
‫فإنْ قال قائل‪ :‬إنْ كان المر كذلك‪ ،‬فلماذا نطلب من العلماء أن يجتهدوا لِيُخرجوا لنا ُ‬
‫نقول‪ :‬القرآن جاء معجزة‪ ،‬وجاء منهجا في الصول‪ ،‬وقد أعطى الحق تبارك وتعالى لرسوله‬
‫صلى ال عليه وسلم حق التشريع‪ ،‬فقال تعالى‪َ {:‬ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ َفخُذُو ُه َومَا َنهَاكُمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ‪..‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫}[الحشر‪.]7 :‬‬
‫إذن‪ :‬فسُنة الرسول صلى ال عليه وسلم َق ْولً أو ِفعْلً أو تقريرا ثابتة بالكتاب‪ ،‬وهي شارحة له‬
‫ومُوضّحة‪ ،‬فصلة المغرب مثلً ثلث ركعات‪ ،‬فأين هذا في كتاب ال؟ نقول في قوله تعالى‪َ {:‬ومَآ‬
‫آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ‪[} ...‬الحشر‪ " .]7 :‬وقد بيّن الرسول صلى ال عليه وسلم هذه القضية حينما‬
‫أرسل معاذ بن جبل رضي ال عنه ـ قاضيا لهل اليمن‪ ،‬وأراد أن يستوثق من إمكانياته في‬
‫القضاء‪ .‬فسأله‪ِ " :‬ب َم تقضي؟ قال‪ :‬بكتاب ال‪ ،‬قال‪ :‬فإنْ لم تجد؟ قال‪ :‬فبُسنة رسول ال‪ ،‬قال‪ :‬فإنْ‬
‫لم تجد؟ قال‪ :‬أجتهد رأيي ول آلو ـ أي ل أُقصّر في الجتهاد‪.‬‬
‫فقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬الحمد ل الذي وفّق رسولَ رسولِ ال لما يُرضي ال ورسوله "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالجتهاد مأخوذ من كتاب ال‪ ،‬وكل ما يستجد أمامنا من قضايا ل نصّ فيها‪ ،‬ل في الكتاب‬
‫ول في السنة‪ ،‬فقد أبيح لنا الجتهادُ فيها‪.‬‬
‫حدّث عنه وهو في باريس أن أحد المستشرقين‬
‫ونذكر هنا أن المام محمد عبده ـ رحمه ال ـ ُ‬
‫شيْءٍ‪[} ..‬النعام‪.]38 :‬‬
‫قال له‪ :‬أليس في آيات القرآن‪ {:‬مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال له‪ :‬فهات لي من القرآن‪ :‬كم رغيفا يوجد في أردب القمح؟‬
‫فقال الشيخ‪ :‬نسأل الخباز فعنده إجابة هذا السؤال‪ ..‬فقال المستشرق‪ :‬أريد الجواب من القرآن الذي‬
‫ما فرط في شيء‪ ،‬فقال الشيخ‪ :‬هذا القرآن هو الذي علّمنا فيما ل نعلم أن نسأل أهل الذكر فقال‪:‬‬

‫{ فَاسْئَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ }[النبياء‪.]7 :‬‬


‫إذن‪ :‬القرآن أعطاني الحجة‪ ،‬وأعطاني ما أستند إليه حينما ل أجد نصا في كتاب ال‪ ،‬فالقرآن ذكر‬
‫ق الجتهاد فيما يعِنّ لي من الفروع‪ ،‬وما يستجدّ من قضايا‪ ،‬وإذا‬
‫القواعد والصول‪ ،‬وأعطاني حَ ّ‬
‫وُجِد في القرآن حكم عام وجب أن يُؤخذ في طيّه ما يُؤخذ منه من أحكام صدرت عن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم؛ لن ال وكله‪.‬‬
‫خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ‪[} ..‬الحشر‪.]7 :‬‬
‫فقال‪َ {:‬ومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ‬
‫وكذلك الجماع من المة؛ لن ال تعالى قال‪ {:‬وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ ُنوَلّهِ مَا َتوَلّىا‪} ..‬‬
‫[النساء‪.]115 :‬‬
‫لمْرِ مِ ْنهُمْ َلعَِلمَهُ الّذِينَ‬
‫وكل اجتهاد يُرَدّ إلى أهل الجتهاد‪ {:‬وََلوْ َردّوهُ ِإلَى الرّسُولِ وَإِلَىا ُأوْلِي ا َ‬
‫يَسْتَنْ ِبطُونَهُ مِ ْنهُمْ‪[} ..‬النساء‪.]83 :‬‬
‫إذن‪ :‬فكلّ ما صدر عن الرسول صلى ال عليه وسلم وعن الجماع وعن الئمة المجتهدين موجود‬
‫في القرآن‪ ،‬فهو إذن صادق‪.‬‬
‫ويجب هنا أن نُفرّق بين الشياء والقضايا فهي كثيرة‪ ،‬فما الذي يتعرّض له القرآن؟ يتعرض‬
‫القرآن للحكام التكليفية المطلوبة من العبد الذي آمن بال‪ ،‬وهناك أمور كونية ل يتأثر انتفاع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن يعلمها‪ ،‬فهو ينتفع بها سواء علمها أو جهلها‪ ،‬فكوْنُ الرض كُروية الشكل‪ ،‬و َكوْنها‬
‫النسان بها بأ ْ‬
‫ن علمها فبها ونعمتْ‪ ،‬وإنْ جهلها ل يمنعه‬
‫تدور حول الشمس‪ ،‬وغير هذه المور من الكونيات إ ْ‬
‫جهله من النتفاع بها‪.‬‬
‫فالُميّ الذي يعيش في الريف مثلً ينتفع بالكهرباء‪ ،‬وهو ل يعلم شيئا عن طبيعتها وكيفية عملها‪،‬‬
‫ومع ذلك ينتفع بها‪ ،‬مجرد أن يضع أصبعه على زِرّ الكهرباء تُضيء له‪.‬‬
‫صدّ العرب الذين ل يعرفون‬
‫فلو أن الحق تبارك وتعالى أبان اليات الكونية إبانةً واضحة ربما َ‬
‫شيئا عن حركة الكون‪ ،‬وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مقاصد القرآن حول اليات الكونية؛‬
‫ولذلك سألوا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الهِلّة‪ ،‬كما حكى القرآن الكريم‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ‬
‫الَهِلّةِ‪[} ..‬البقرة‪.]189 :‬‬
‫والهلة‪ :‬جمع هلل‪ ،‬وهو ما يظهر من القمر في بداية الشهر حيث يبدو مثل قلمة الظفر‪ ،‬ثم‬
‫يزداد تدريجيا إلى أنْ يصل إلى مرحلة البدر عند تمام استدارته‪ ،‬ثم يتناقص تدريجيا أيضا إلى أنْ‬
‫يعودَ إلى ما كان عليه‪ ،‬هذه عجيبة يرونها بأعينهم‪ ،‬ويسألون عنها‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬كيف رَدّ عليهم القرآن؟ لم يُوضح لهم القرآن الكريم كيف يحدث الهلل‪ ،‬وأن الرض إذا‬
‫حالتْ بين الشمس والقمر وحجبت عنه ضوء الشمس نتج عن ذلك وجود الهلل ومراحله‬
‫المختلفة‪.‬‬
‫فهذا التفصيل ل تستوعبه عقولهم‪ ،‬وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مثل هذه القضايا الكونية؛‬
‫لذلك يقول لهم‪ :‬اصرفوا نظركم عن هذه‪ ،‬وانظروا إلى حكمة الخالق سبحانه في الهلة‪:‬‬

‫س وَالْحَجّ‪[} ..‬البقرة‪.]189 :‬‬


‫{ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ‬
‫فردّهم إلى أمر يتعلق بدينهم التقليدي‪ ،‬فاهتمّ ببيان الحكمة منها‪ ،‬وفي نفس الوقت ترك هذه المسألة‬
‫للزمن يشرحها لهم‪ ،‬حيث سيجدون في القرآن ما يُعينهم على َفهْم هذا الموضوع‪.‬‬
‫شيْءٍ‪[} ..‬النعام‪.]38 :‬‬
‫إذن‪ :‬قوله تعالى‪ {:‬مِن َ‬
‫أي‪ :‬من كل شيء تكليفيّ‪ ،‬إنْ فعله المؤمن أثيب‪ ،‬وإنْ لم يفعله يُعاقب‪ ،‬أما المور الكونية فيعطيهم‬
‫منها على قدر وَعْيهم لها‪ ،‬ويترك للزمن مهمة البانة بما يحدث فيه من فكر جديد‪.‬‬
‫لذلك نرى القرآن الكريم لم يفرغ عطاءه كله في القرآن الذي نزل فيه‪ ،‬فلو فعل ذلك لستقبل‬
‫القرون الخرى بغير عطاء‪ ،‬فالعقول تتفتّح على مَ ّر العصور وتتفتّق عن فكر جديد‪ ،‬ول يصح أنْ‬
‫يظلّ العطاء الول هو نفسه ل يتجدد‪ ،‬ل بُدّ أن يكون لكل قرن عطاء جديد يناسب ارتقاءات البشر‬
‫في علومه الكونية‪ " .‬والرسول صلى ال عليه وسلم حينما رأى الناس يُؤبّرون النخل‪ ،‬أي‪:‬‬
‫يُلقّحونه‪ .‬وهو ما يُعرف بعملية الخصاب‪ ،‬حيث يأخذون من الذكر ويضعون في النثى‪ ،‬فماذا‬
‫قال لهم؟ قال‪ :‬لو لم تفعلوا لثمر‪ ،‬ففي الموسم القادم تركوا هذه العملية فلم يُثمر النخل‪ ،‬فلما سئل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬أنتم أعلم بشئون دنياكم "‪.‬‬
‫فهذا أمر دنيوي خاضع للتجربة ووليد َبحْث معمليّ‪ ،‬وليس من مهمة الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫توضيح هذه المور التي يتفق فيها الناس وتتفق فيها الهواء‪ ،‬إنما الحكام التكليفية التي تختلف‬
‫فيها الهواء فحسمها الحق بالحكم‪.‬‬
‫فمثلً في العالم موجاتٌ مادية تهتم بالكتشافات والختراعات والستنباطات التي تُسخر أسرار‬
‫الكون لخدمة النسان‪ ،‬فهل يختلف الناس حول ُمعْطيات هذه الموجة المادية؟ هل نقول مثلً‪ :‬هذه‬
‫كهرباء أمريكاني‪ ،‬وهذه كهرباء روسي؟ هل نقول‪ :‬هذه كيمياء إنجليزي‪ ،‬وهذه كيمياء ألماني؟‬
‫فهذه مسألة وليدة المعمل والتجربة يتفق فيها كل الناس‪ ،‬في حين نجدهم يختلفون في أشياء نظرية‬
‫ويتحاربون من أجلها‪ ،‬فهذه اشتراكية‪ ،‬وهذه رأسمالية‪ ،‬وهذه وجودية‪ ،‬وتلك علمانية‪ ..‬الخ‪ ،‬فجاء‬
‫الدين ليحسمَ ما تختلف فيه الهواء‪.‬‬
‫ق ما توصّل إليه المعسكر الخر من اكتشافات واختراعات‪،‬‬
‫لذلك نرى كل معسكر يحاول أنْ يسر َ‬
‫ويرسل جواسيسه ليتابعوا أحداث ما توصّل إليه غيرهم‪ ،‬فهل يسرقون المور النظرية أيضا؟ ل‪..‬‬
‫بل على العكس تجدهم يضعون الحواجز والحتياطات لكي ل تنتقل هذه المبادئ إلى بلدهم وإلى‬
‫أفكار مواطنيهم‪.‬‬
‫وقد جعل الرسول صلى ال عليه وسلم من نفسه مثالً ونموذجا لتوضيح هذه المسألة‪ ،‬مع أنه قد‬
‫حقّ رسول ال أن يُشير على الناس بشيء ويتضح خطأ مشورته‪ ،‬إنما‬
‫يقول قائل‪ :‬ل يصح في َ‬
‫الرسول هنا يريد أنْ يُؤصّل قاعدة في نفوس المتكلمين في شئون الدين‪ :‬إياكم أنْ تُقحِموا أنفسكم‬
‫في المور المادية المعملية التطبيقية‪ ،‬فهذه أمور يستوي فيها المؤمن والكافر‪.‬‬

‫ولذلك عندما اكتشف العلماء كُروية الرض‪ ،‬وأنها تدور حول الشمس اعترض على ذلك بعض‬
‫رجال الدين ووضعوا أنوفهم في قضية ل دَخْل للدين فيها‪ ،‬وقد حذرهم رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم من ذلك‪.‬‬
‫وما قولكم بعد أن صعد العلماء إلى كواكب أخرى‪ ،‬وصوروا الرض‪ ،‬وجاءت صورتها كُروية‬
‫فعلً؟ فل تفتحوا على أنفسكم باسم الدين بابا ل تستطيعون غَلْقه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫سِلمِينَ { [النحل‪.]89 :‬‬
‫حمَ ًة وَبُشْرَىا لِ ْلمُ ْ‬
‫} وَ ُهدًى وَرَ ْ‬
‫الحق تبارك وتعالى وصف القرآن هنا بأنه (هُدىً)‪ ،‬فإذا كان القرآن قد نزل تبيانا فكان التوافق‬
‫يقتضي أن يقول‪ :‬وهاديا‪ ،‬لكن لم يَصف القرآن بأنه هادٍ‪ ،‬بل هُدىً‪ ،‬وكأنه نفس الهدى؛ لن هاديا‬
‫ذاتٌ ثبت لها الهداية‪ ،‬إنما هُدى‪ :‬يعني هو جوهر الهدى‪ ،‬كما نقول‪ :‬فلن عادل‪ .‬وفي المبالغة‬
‫نقول‪ :‬فلن عَدْل‪ .‬كأن العَدْل مجسّم فيه‪ ،‬وليس مجرد واحد ثبتت له صفة العدل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكذلك مثل قولنا عالم وعليم‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ {:‬و َفوْقَ ُكلّ ذِي عِ ْلمٍ عَلِيمٌ }[يوسف‪.]76 :‬‬
‫فما معنى الهدى؟ هو الدللة على الطريق الموصّل للغاية من أقرب الطرق‪.‬‬
‫حمَةٌ }[السراء‪.]82 :‬‬
‫شفَآ ٌء وَرَ ْ‬
‫ح َمةً { مرّة يُوصَف القرآن بأنه رحمة‪ ،‬ومرة بأنه‪ِ {:‬‬
‫} وَرَ ْ‬
‫والشفاء‪ :‬أن يُوجد داء يعالجه القرآن‪ ،‬والرحمة‪ :‬هي الوقاية التي تمنع وجود الداء‪ ،‬وما دام القرآن‬
‫كذلك فمَنْ عمل بمنهجه فقد ُبشّر بالثواب العظيم من ال تعالى‪ ،‬الثواب الخالد في نعيم دائم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪ } :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1974 /‬‬

‫ظكُمْ َلعَّلكُمْ‬
‫حشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَ ِر وَالْ َب ْغيِ َي ِع ُ‬
‫ن وَإِيتَاءِ ذِي ا ْلقُرْبَى وَيَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَ ْ‬
‫حسَا ِ‬
‫ل وَالْإِ ْ‬
‫إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْد ِ‬
‫تَ َذكّرُونَ (‪)90‬‬

‫للحق تبارك وتعالى في هذه الية ثلثة أوامر‪ :‬العدل‪ ،‬والحسان‪ ،‬وإيتاء ذي القُرْبى‪ .‬وثلثة نَواهٍ‪:‬‬
‫عن الفحشاء والمنكر والبغي‪ .‬ولما نزلت هذه الية قال ابن مسعود‪ :‬أجمعُ آيات القرآن للخير هذه‬
‫الية لنها جمعتْ كل الفضائل التي يمكن أن تكون في القرآن الكريم‪.‬‬
‫" ولذلك سيدنا عثمان بن مظعون كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحب له أن يُسلِم‪ ،‬وكان‬
‫يعرض عليه السلم دائما‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم ل يحب عَرْض السلم على أحد إل‬
‫إذا كان يرى فيه مخايل وشِيَما تحسن في السلم‪.‬‬
‫وكأنه ـ صلى ال عليه وسلم ـ ضَنّ بهذه المخايل أن تكون في غير مسلم‪ ،‬لذلك كان حريصا‬
‫على إسلمه وكثيرا ما يعرضه عليه‪ ،‬إل أن سيدنا عثمان بن مظعون تريّث في المر‪ ،‬إلى أن‬
‫جلس مع الرسول صلى ال عليه وسلم في مجلس‪ ،‬فرآه رفع بصره إلى السماء ثم تنبه‪ ،‬فقال له‬
‫ابن مظعون‪ :‬ما حدث يا رسول ال؟ فقال‪ :‬إن جبريل ـ عليه السلم ـ قد نزل عليّ الساعة بقول‬
‫ال تعالى‪:‬‬
‫ظكُمْ‬
‫ن وَإِيتَآءِ ذِي ا ْلقُرْبَىا وَيَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَالْ َب ْغيِ َيعِ ُ‬
‫حسَا ِ‬
‫{ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْل َع ْدلِ وَال ْ‬
‫َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ } [النحل‪.]90 :‬‬
‫ب اليمان في قلبي بهذه الية الجامعة لكل خصال‬
‫قال ابن مظعون ـ رضي ال عنه‪ :‬فاستقر ح ّ‬
‫الخير‪.‬‬
‫ثم ذهب فأخبر أبا طالب‪ ،‬فلما سمع أبو طالب ما قاله ابن مظعون في هذه الية قال‪ :‬يا معشر‬
‫قريش آمِنُوا بالذي جاء به محمد‪ ،‬فإنه قد جاءكم بأحسن الخلق "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫" ويُروى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يعرض نفسه على قبائل العرب‪ ،‬وكان معه أبو‬
‫بكر وعلي‪ ،‬قال علي‪ :‬فإذا بمجلس عليه وقار و َمهَابة‪ ،‬فأقبل عليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ودعاهم إلى شهادة أل إله إل ال وأن محمدا رسول ال‪ ،‬فقام إليه مقرون بن عمرو وكان من‬
‫شيبان ابن ثعلبة فقال‪ :‬إلى أي شيء تدعونا يا أخا قريش؟ فقال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ظكُمْ‬
‫ن وَإِيتَآءِ ذِي ا ْلقُرْبَىا وَيَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَالْ َب ْغيِ َيعِ ُ‬
‫حسَا ِ‬
‫{ إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْل َع ْدلِ وَال ْ‬
‫َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ } [النحل‪.]90 :‬‬
‫فقال مقرون‪ :‬إنك دعوت إلى مكارم الخلق وأحسن العمال‪ ،‬أفِكتْ قريش إن خاصمتْك‬
‫وظاهرتْ عليك "‪.‬‬
‫أخذ عثمان بن مظعون هذه الية ونقلها إلى عكرمة بن أبي جهل‪ ،‬فأخذها عكرمة ونقلها إلى الوليد‬
‫بن المغيرة‪ ،‬وقال له‪ :‬إن آية نزلت على محمد تقول كذا وكذا‪ ،‬فأفكر الوليد بن المغيرة ـ أي‪:‬‬
‫فكّر فيما سمع ـ وقال‪ :‬وال إن له لحلوةً‪ ،‬وإن عليه لطلوة‪ ،‬وإن أعله لمثمر‪ ،‬وإن أسفله‬
‫لمغدق‪ ،‬وأنه يعلو ول ُيعْلَى عليه‪ ،‬وما هو بقول بشر‪.‬‬

‫ومع شهادته هذه إل أنه لم يؤمن‪ ،‬فقالوا‪ :‬حَسْبُه أنه شهد للقرآن وهو كافر‪.‬‬
‫عتْ‬
‫وهكذا دخلتْ هذه الي ُة قلوبَ هؤلء القوم‪ ،‬واستقرتْ في أفئدتهم؛ لنها آيةٌ جامعةٌ مانعةٌ‪ ،‬د َ‬
‫لكل خير‪ ،‬ونَهتْ عن كل شر‪.‬‬
‫قوله‪ } :‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْل َع ْدلِ‪[ { ..‬النحل‪.]90 :‬‬
‫ما العدل؟ العدل هو النصاف والمساواة وعدم الميْل؛ لنه ل يكون إل بين شيئين متناقضين‪ ،‬لذلك‬
‫سمّي الحاكم العادل مُ ْنصِفا؛ لنه إذا مَ َثلَ الخصمان أمامه جعل لكل منهما نصفَ تكوينه‪ ،‬وكأنه‬
‫ُ‬
‫قسَم نفسه نصفين ل يميل لحدهما ول قَيْد شعرة‪ ،‬هذا هو النصاف‪.‬‬
‫جعِل الميزان‪ ،‬والميزان تختلف ِدقّته حَسْب الموزون‪ ،‬فحساسية ميزان البُرّ‬
‫ومن أجل النصاف ُ‬
‫غير حساسية ميزان الجواهر مثلً‪ ،‬وتتناهى دقّة الميزان عند أصحاب صناعة العقاقير الطبية‪،‬‬
‫سمّ‪ ،‬وقد شاهدنا تطورا كبيرا في الموازين‪،‬‬
‫حيث أقلّ زيادة في الميزان يمكن أن تحوّل الدواء إلى ُ‬
‫حتى أصبحنا نزن أقلّ ما يمكن تصوّره‪.‬‬
‫والعدل دائر في كل أقضية الحياة من القمة في شهادة أل إله إل ال إلى إماطة الذى عن‬
‫الطريق‪ ،‬فالعدل مطلوب في أمور التكليف كلها‪ ،‬في المور العقدية التي هي عمل القلب‪ ،‬وكذلك‬
‫مطلوب في المور العملية التي هي أعمال الجوارح في حركة الحياة‪.‬‬
‫فكيف يكون العدل في المور العقدية؟‬
‫لو نظرنا إلى معتقدات الكفار لوجدنا بعضهم يقول بعدم وجود إله في الكون‪ ،‬فأنكروا وجوده‬
‫سبحانه مطلقا‪ ،‬وآخرون يقولون بتعدّد اللهة‪ ،‬هكذا تناقضتْ القوال وتباعدتْ الراء‪ ،‬فجاء العدل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ف العدل في صفاته‬
‫عمّا يُشبه الحوادث‪ ،‬كما وقف موق َ‬
‫في السلم‪ ،‬فالله واحد ل شريك له‪ ،‬مُنزّه َ‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫سمْع‪ ،‬ولكن ليس كأسماع المحدثات‪ ،‬ل ننفي عنه سبحانه مثل هذه الصفات فنكون من‬
‫فلله َ‬
‫المعطّلة‪ ،‬ول نُشبّهه سبحانه بغيره فنكون من المشبّهة‪ ،‬بل نقول‪ :‬ليس كمثله شيء‪ ،‬ونقف موقف‬
‫العَدْل والوسطية‪.‬‬
‫كذلك من المور العقدية التي تجلّى فيها عدل السلم قضية الجبر والختيار‪ ،‬حيث اختار موقفا‬
‫وسطا بين مَنْ يقول إن النسان يفعل أفعاله باختياره دون دَخْل ل سبحانه في أعمال العبد؛ ولذلك‬
‫ر ّتبَ عليها ثوابا وعقابا‪ .‬ومن يقول‪ :‬ل؛ بل كل العمال من ال والعبد ُمجْبَر عليها‪.‬‬
‫فيأتي السلم بالعدالة والوسطية في هذه القضية فيقول‪ :‬بل النسان يعمل أعماله الختيارية بالقوة‬
‫التي خلقها ال فيه للختيار‪.‬‬
‫وفي التشريع والحكام حدث تبايُن كبير بين شريعة موسى عليه السلم وبين شريعة عيسى عليه‬
‫السلم ـ في القصاص مثلً‪ :‬في شريعة موسى حيث طغتْ المادية على بني إسرائيل حتى قالوا‬
‫جهْ َرةً‪[} ..‬النساء‪.]153 :‬‬
‫لموسى عليه السلم‪ {:‬أَرِنَا اللّهَ َ‬
‫فهم ل يفهمون الغيب ول يقتنعون به‪ ،‬فكان المناسب لهم ال ِقصَاص ول بُدّ‪ ،‬ولو تركهم الحق‬
‫حكْم الرادع‪ :‬مَنْ قتَل يُقتلُ‪ ،‬والقتل أنْفى للقتل‪.‬‬
‫سبحانه َلكَثُر فيهم القتل‪ ،‬فهم ل ينتهون إل بهذا ال ُ‬

‫وقد تعدّى بنو إسرائيل في طلبهم رؤية ال‪ ،‬فكوْنُك ترى الله تناقض في اللوهية؛ لنك حين تراه‬
‫عينُك فقد حددّتَه في حيّز‪.‬‬
‫جلّ وعلَ‪ ،‬ونحن ل‬
‫إذن‪ :‬كونه ل يرى عَيْن الكمال فيه سبحانه وتعالى‪ .‬وكيف نطمع في رؤيته َ‬
‫نستطيع رؤية حتى بعض مخلوقاته‪ ،‬فالروح التي بين جَنْبي كل مِنّا ماذا نعرف عن طبيعتها وعن‬
‫مكانها في الجسم‪ ،‬وبها نتحرك ونزاول أعمالنا‪ ،‬وبها نفكّر‪ ،‬وبها نعيش‪ ،‬أين هي؟!‬
‫فإذا ما فارقتْ الروح الجسم وأخذ ال سره تحول إلى جيفة يسارع الناس في مواراتها التراب‪ .‬هل‬
‫رأيت هذه الروح؟ هل سمعتها؟ هل أدركتها بأي حاسّة من حواسّك؟!‬
‫فإذا كانت الروح وهي مخلوقة ل يعجز العقل عن إدراكها‪ ،‬فكيف بمَنْ خلق هذه الروح؟ فمن‬
‫عظمته سبحانه أنه ل تُدركه البصار‪ ،‬وهو يدرك البصار‪.‬‬
‫كذلك هناك أشياء مما يتطلبها الدين كالحق مثلً‪ ،‬وهو معنًى من المعاني التي يدّعيها كل الناس‪،‬‬
‫شكْله؟ ما لونه؟ طويل أم قصير؟! فإذا كُنّا ل نستطيع أن‬
‫ويطلبون العمل بها‪ ،‬هذا الحق ما َ‬
‫نتصوّر الحق وهو مخلوق ل سبحانه‪ ،‬فكيف نتصور ال ونطمع في رؤيته؟!‬
‫ومن إسراف بني إسرائيل في المادية أن جعلوا ل تعالى في التلمود جماعة من النقباء‪ ،‬وجعلوه‬
‫سبحانه قاعدا على صخرة يُدلي ِرجْليْه في قصعة من المرمر‪ ،‬ثم أتى حوت‪ ..‬الخ‪ ..‬سبحان ال؛‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ألهذا الحدّ وصلتْ بهم المادية؟‬
‫ومن هنا كان الكون في حاجة إلى طاقة روحية‪ ،‬تكون هي أيضا مُسرفة في الروحانية ليحدث‬
‫نوع من التوازن في الكون‪ ،‬فجاءت شريعة عيسى ـ عليه السلم ـ بعد مادية ُمفْرطة وإسراف‬
‫حكْم القصاص فيها وهي تهدف إلى أنْ تسموَ بروحانيات الناس؟‬
‫في الموسَوية‪ ،‬فكيف يكون ُ‬
‫جاءت شريعة عيسى عليه السلم تُهدّيء الموقف إذا حدث قتل‪ ،‬فيكفي أن قُتِل واحد ولنستبقي‬
‫عتْ هذه الشريعة إلى العفو عن القاتل‪.‬‬
‫الخر ول نثير ضجّة‪ ،‬ونهيج الحقاد والترة بين الناس‪ ،‬فدَ َ‬
‫ثم جاء السلم ووقف موقف العدل والوسطية في هذا الحكم‪ ،‬فأقرّ القصاص ودعا إلى العفو‪،‬‬
‫ع ِفيَ‬
‫فأعطى وليّ المقتول حَقّ القصاص‪ ،‬ودعاه في نفس الوقت إلى العفو في قوله تعالى‪َ {:‬فمَنْ ُ‬
‫شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِِإحْسَانٍ‪[} ..‬البقرة‪.]178 :‬‬
‫لَهُ مِنْ َأخِيهِ َ‬
‫ونلحظ هنا أن القرآن جعلهم إخوة لِيُرقّق القلوب ويُزيل الضغائن‪.‬‬
‫وللقصاص في السلم حكَم عالية‪ ،‬فليس الهدف منه أن يُضخّم هذه الجريمة‪ ،‬بل يهدف إلى حفظ‬
‫حياة الناس كما قال تعالى‪ {:‬وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الَلْبَابِ }[البقرة‪.]179 :‬‬
‫فمن أراد أنْ يحافظَ على حياته فل يُهدد حياة الخرين‪.‬‬
‫وحينما يُعطي ربّنا تبارك وتعالى حقّ القصاص لوليّ المقتول ويُمكّنه منه تبردُ ناره‪ ،‬وتهدأ‬
‫ثورته‪ ،‬فيفكر في العفو وهو قادر على النتقام‪ ،‬وهكذا ينزع هذا الحكمُ ال ِغلّ من الصدور ويُطفِيء‬
‫نار الثأر بين الناس‪.‬‬

‫ل كفنه على يده إلى وليّ‬


‫ولذلك نرى في بعض البلد التي تنتشر فيها عملية الثأر يأتي القاتل حام ً‬
‫المقتول‪ ،‬ويضع نفسه بين يديه مُعترفا بجريمته‪ :‬هاأنا بين يديْك اقتلني وهذا كفنِي‪.‬‬
‫ما حدث ذلك أبدا إل وعفا صاحب الحق ووليّ الدم‪ ،‬وهذا هو العدل الذي جاء به السلم‪ ،‬دين‬
‫الوسطية والعتدال‪.‬‬
‫ق القصاص‪ ،‬ثم هو يعفو‪ ،‬فقد‬
‫هذا العفو من وليّ الدم أداةُ بِنَاء‪ ،‬ووسيلة محبة‪ ،‬فحين نعطيه حَ ّ‬
‫أصبحت حياة القاتل هب ًة من وليّ الدم‪ ،‬فكأنه استأثره واستبقاه بعفوه عنه‪ ،‬وهذا جميل يحفظه أهل‬
‫حقَن دم ابننا‪.‬‬
‫القاتل‪ ،‬ويقولون‪ :‬هذا َ‬
‫حكْم الحيض مثلً‪ ،‬ففي شريعة موسى ـ عليه‬
‫موقف آخر لعدالة السلم ووسطيته نراها في ُ‬
‫السلم ـ يُخرج الزوج زوجته من البيت طوال مدة الحيض ل يجمعهما بيت واحد‪.‬‬
‫وفي شريعة عيسى ـ عليه السلم ـ ل مانع من وجودها في البيت‪ ،‬ول مانع من معاشرتها‬
‫والستمتاع بها‪.‬‬
‫فجاء السلم بالعدل في هذه القضية فقال‪ :‬تبقى المرأة الحائض في بيتها ل تخرج منه‪ ،‬ولكن ل‬
‫يقربها الزوج طوال مدة الحيض‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َمحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ‬
‫طهُرْنَ فَإِذَا َت َ‬
‫ض َولَ َتقْرَبُوهُنّ حَتّىا َي ْ‬
‫النّسَآءَ فِي ا ْلمَحِي ِ‬
‫طهّرِينَ }[البقرة‪.]222 :‬‬
‫حبّ ا ْلمُ َت َ‬
‫ن وَيُ ِ‬
‫حبّ ال ّتوّابِي َ‬
‫يُ ِ‬
‫وكذلك لو أخذنا الناحية القتصادية في حياتنا‪ ،‬والتي هي عصب الحياة‪ ،‬والتي بها يتم استبقاء‬
‫الحياة بالطعام والشراب والملْبس وغيره‪ ،‬وبها يتم استبقاء النوع بالزواج‪ ،‬وكُل هذا يحتاج إلى‬
‫حركة إنتاج‪ ،‬وإلى حركة استهلك‪ ،‬وبالنتاج والستهلك تستمر الحياة‪ ،‬ولو توقف أحدهما لحدث‬
‫في المجتمع بطالة وفساد‪.‬‬
‫وبناء عليه وزّع الحق سبحانه وتعالى المواهب بين العباد‪ ،‬فما أعرفه أنا أخدم به الكل‪ ،‬وما يعرفه‬
‫الكل يَخدمني به‪ ،‬وهكذا تستمر حركة الحياة‪.‬‬
‫والكون الذي تعيش فيه أنت لك فيه مصالح وتُراودك فيه آمال‪ ،‬فإنْ شاركتَ في حركة الحياة‬
‫واكتسبتَ المال الذي هو عصبُ الحياة فعليك أن تُوازنَ بين متطلباتك العاجلة وآمالك في‬
‫المستقبل‪.‬‬
‫فلو أنفقتَ جميع ما اكتسبت في نفقاتك الحاضرة فقد ضيّعتَ على نفسك تحقيق المال في‬
‫المستقبل‪ ،‬فلن تجد ما تبني به بيتا مثلً أو تشتري به سيارة‪ ،‬أو ترتقي بمستواك ببعض كماليات‬
‫الحياة‪ .‬وهذا ما نسميه السراف‪.‬‬
‫وفي المقابل‪ ،‬كما ل يليق بك السراف حتى ل يبقى عندك شيء‪ ،‬وكذلك ل يليق بك التقتير‬
‫والبخل والمساك فتكنز كل ما تكتسب‪ ،‬ول تنفق إل ما يُمسِك الرمَق؛ لنك في هذه الحالة لن‬
‫تساهم في عملية الستهلك‪ ،‬فتكون سببا في بطالة المجتمع وفساد حاله‪.‬‬
‫ك َولَ‬
‫ج َعلْ يَ َدكَ َمغْلُولَةً إِلَىا عُ ُنقِ َ‬
‫وقد عالج القرآن هذه القضية علجا دقيقا في قوله تعالى‪َ {:‬ولَ تَ ْ‬
‫طهَا ُكلّ الْ َبسْطِ فَ َت ْقعُدَ مَلُوما مّحْسُورا }‬
‫س ْ‬
‫تَبْ ُ‬

‫[السراء‪.]29 :‬‬
‫أي‪ :‬ل تُمسك يدك ُبخْلً وتقتيرا‪ ،‬فتكون ملُوما من أهلك وأولدك‪ ،‬ومن الدنيا من حولك‪ ،‬فيكرهك‬
‫حدّ السراف والتبذير‪ ،‬فيفوتك تحقيق‬
‫الجميع‪ ،‬وكذلك ل تبسط يدك بالنفاق َبسْطا يصل إلى َ‬
‫المال وتتحسّر حينما ترى المقتصد قد حقّق ما لم تستطع أنت تحقيقه من آمال الحياة‪ ،‬وترقّى هو‬
‫في حياته وأنت ُمعْدم ل تملك شيئا‪ ،‬فكان عليك أن تدّخر جُزْءا من كَسْبك يمكنك أن ترتقي به‬
‫حينما تريد‪.‬‬
‫خوَانَ الشّيَاطِينِ }[السراء‪.]27 :‬‬
‫ولذلك قال تعالى‪ {:‬إِنّ ا ْلمُبَذّرِينَ كَانُواْ ِإ ْ‬
‫وقال‪ {:‬وَالّذِينَ إِذَآ أَن َفقُواْ لَمْ يُسْ ِرفُو ْا وَلَمْ َيقْتُرُواْ َوكَانَ بَيْنَ ذَِلكَ َقوَاما }[الفرقان‪.]67 :‬‬
‫عقَديا‪ ،‬أو تكليفا بواسطة العمال‬
‫إذن‪ :‬فال َعدْل أمر دائر في كل حركات التكليف‪ ،‬سواء كان تكليفا َ‬
‫في حركة الحياة‪ ،‬فالمر قائم على الوسطية والعتدال‪ ،‬ومن هنا قالوا‪ :‬خَيْر المور الوسط‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله‪ } :‬وَالحْسَانِ‪[ { ..‬النحل‪.]90 :‬‬
‫ما الحسان؟‬
‫إذا كان العدل أن تأخذ حقّك‪ ،‬وأنْ تُعاقب بمثل ما عُوقبت به كما قال تعالى‪َ {:‬فمَنِ اعْتَدَىا عَلَ ْيكُمْ‬
‫فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَىا عَلَ ْيكُمْ‪[} ..‬البقرة‪.]194 :‬‬
‫وقوله‪ {:‬وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‪[} ..‬النحل‪.]126 :‬‬
‫ظمِينَ‬
‫ل بقوله تعالى‪ {:‬وَا ْلكَا ِ‬
‫فالحسان أنْ تتركَ هذا الحق‪ ،‬وأنْ تتنازلَ عنه ابتغا َء وجه ال‪ ،‬عم ً‬
‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ }[آل عمران‪.]134 :‬‬
‫س وَاللّهُ ُي ِ‬
‫ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ‬
‫ا ْلغَيْ َ‬
‫والناس في الحسان على مراتب مختلفة حسب قدرة النسان واستِعداده الخُلقي‪.‬‬
‫وأول هذه المراتب كظم الغيظ‪ ،‬من كَظْم القِرْبة المملوءة‪ ،‬فالنسان يكظم غَيْظه في نفسه‪ ،‬ويحتمل‬
‫ما يَعتلج بداخله على المذنب دون أن يتعدّى ذلك إلى النفعال والر ّد بالمثل‪ ،‬ولكنه يظل يعاني ألم‬
‫الغيظ بداخله وتتأجج ناره في قلبه‪.‬‬
‫لذلك يحسُن الترقي إلى المرتبة العلى‪ ،‬وهي مرتبة العفو‪ ،‬فيأتي النسان ويقول‪ :‬لماذا أ َدعْ نفسي‬
‫فريسة لهذا الغيظ؟ لماذا أشغل به نفسي‪ ،‬وُأقَاسي ألمه ومرارته؟ فيميل إلى أنْ يُريح نفسه ويقتلع‬
‫جذور الغيظ من قلبه‪ ،‬فيعفو عمّنْ أساء إليه‪ ،‬ويُخرِج المسألة كلها من قلبه‪.‬‬
‫فإنِ ارتقى النسان في العفو‪ ،‬سعى المرتبة الثالثة‪ ،‬وهي مرتبة أن تُحسن إلى مَنْ أساء إليك‪،‬‬
‫وتزيد عما فرضَ لك حيث تنازلتَ عن الردّ بالمثل‪ ،‬وارتقيتَ إلى درجة العارفين بال‪ ،‬فالذي‬
‫اعتدى اعتدى بقدرته‪ ،‬وانتقم بما يناسبه‪ ،‬والذي ترقّى في درجات الحسان ترك المر لقدرة ال‬
‫تعالى‪ ،‬وأيْن قدرتُك من قدرة ربك سبحانه وتعالى؟‬
‫إذن‪ :‬فالحسان اجمل بالمؤمن‪ ،‬وأفضل من النتقام‪.‬‬
‫لكن كيف يصل المر إلى أنْ تعفوَ عمّنْ أساء‪ ،‬بل إلى أنْ تُحسِن إليه؟‬
‫نقول‪َ :‬هبْ أن لك ولديْن اعتدى أحدهما على الخر وأساء إليه‪ ،‬فماذا يكون موقفك منهما؟ وإلى‬
‫أيّهما يميل قلبك؟‬
‫ل شكّ أن القلب هنا يميل إلى المعتدى عليه‪ ،‬وقد يتعدّى المر إلى أنْ تُرضيه بهدية وتُريه من‬
‫حنانك وألطافك ما يُذهِب عنه ما يُعاني‪ ،‬والسبب في ذلك إساءة أخيه له فهي التي عطفَتْ قلبك‬
‫إليه‪ ،‬وعادتْ عليه بالهدايا واللطاف‪.‬‬

‫ن المعتَدى عليه إلى المعتدِي‪ ،‬وأنْ يشكرَ له أنْ تسبّب له في هذه النعم؛‬
‫إذن‪ :‬من الطبيعي أنْ يُحسِ َ‬
‫ولذلك يقول الحسن البصري ـ رحمه ال‪ :‬أفل أُحسِن لمن جعل ال في جانبي؟‬
‫فالحسان‪ :‬أنْ تصنع فوق ما فرض ال عليك‪ ،‬بشرط أن يكونَ من جنس ما فرض ال عليك‪،‬‬
‫ومن جنس ما تعبّدنا ال به‪ ،‬فمثلً تعبدنا ال بخمس صلوات في اليوم والليلة فل مانعَ من الزيادة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليها من جنسها‪ ،‬وكذلك المر في الزكاة والصيام والحج‪ .‬والحسان هنا يكون بزيادة ما فرضه‬
‫ال علينا‪.‬‬
‫وقد يكون الحسان في الكيفية دون زيادة في العمل‪ ،‬فل أزيد مثلً عن خمس صلوات‪ ،‬ولكن‬
‫أُحسِن ما أنا بصدده من الفرْض‪ ،‬وأُتقِن ما أنا فيه من العمل‪ ،‬وأُخلِص في ذلك عملً بحديث‬
‫جبريل عليه السلم ـ حينما سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الحسان‪ ،‬فقال‪ " :‬الحسان‬
‫أن تعبد ال كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراك "‪.‬‬
‫فعليك أن تستحضر في عبادتك ربك عز وجل بجلله وجماله وكماله‪ ،‬فإنْ لم تصل إلى هذه‬
‫المرتبة فل أقلّ من أن تؤمن أنه يراك ويطلع عليك‪ ،‬وهذه كافية لنْ تُعطي العبادة حقّها ول‬
‫تسرق منها‪ ،‬فاللصّ ل يجرؤ على سرقة البيت وهو يعلم أن صاحبه يراه‪ ،‬فإذا كنا نفعل ذلك مع‬
‫بعضنا البعض فيخشى أحدنا نظر الخرين‪ ،‬أيليق بنا أنْ نتجرأ على ال ونحن نعلم نظره إلينا؟!‬
‫ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي‪ " :‬يا عبادي‪ ،‬إنْ كنتم تعتقدون أَنّي ل أراكم‬
‫فالخلَل في إيمانكم‪ ،‬وإنْ كنتم تعتقدون أني أراكم‪ ،‬فَِلمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟ "‪.‬‬
‫وقال بعضهم في معنى العدل والحسان‪:‬‬
‫العدل‪ :‬أن تستوي السريرة مع العلنية‪.‬‬
‫والحسان‪ :‬أن تعلو السريرة وتكون افضل من العلنية‪.‬‬
‫والمنكر‪ :‬إنْ عَلتْ العلنية على السريرة‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَإِيتَآءِ ذِي ا ْلقُرْبَىا { [النحل‪.]90 :‬‬
‫إيتاء‪ :‬أي إعطاء‪.‬‬
‫حلَقات مقترنة‪ ،‬فكل قادر حوله أقرباء ضُعفَاء محتاجون‪ ،‬فلو أعطاهم من خيْره‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬لن العالم َ‬
‫وأفاض عليهم ِممّا أفاض ال عليه َل َعمّ الخير كل المجتمع‪ ،‬وما وجدنا ُمعْوزا محتاجا؛ ذلك لن‬
‫هذه الدوائر ستشمل المجتمع كله‪ ،‬كل قادر يُعطي مَنْ حوله‪.‬‬
‫وقد تتداخل هذه الدوائر فتلتحم العطاءات وتتكامل‪ ،‬فل نرى في مجتمعنا فقيرا‪ ،‬وقد حثتْ الية‬
‫على القريب‪ ،‬وحنّ َنتْ عليه القلوب؛ لن البعيد عنك قريب لغيرك‪ ،‬وداخل في دائرة عطاء أخرى‪.‬‬
‫وقد يكون الفقير قريبا لعدة أطراف يأخذ من هذا ويأخذ من هذا‪ ،‬وبذلك تتكامل الحياة وتستطرق‬
‫موارد العيش لكل الناس‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬المراد هنا قرابة النبي صلى ال عليه وسلم؛ لن قرابة النبي صلى ال عليه وسلم حرّمتْ‬
‫عليهم الزكاة التي ُأحِلّت لغيرهم من الفقراء‪ ،‬وأصبح لهم مَيْزة يمتازون بها عن قرابة الرسول‪،‬‬
‫ول يليق بنا أن نجعل قرابة رسول ال صلى ال عليه وسلم في حاجة إلى الزكاة‪ ،‬وإنْ كان‬
‫أقرباؤكم أصحابَ رحم‪ ،‬فل تنسوا أن قرابة رسول ال صلى ال عليه وسلم َأوْلى من أرحامكم‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سهِمْ‪[} ..‬الحزاب‪.]6 :‬‬
‫{ النّ ِبيّ َأوْلَىا بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫هذه هي مجموعة الوامر الواردة في هذه الية‪ ،‬وإنّ مجتمعا يُنفّذ مثل هذه الوامر ويتحلّى بها‬
‫أفراده‪ ،‬مجتمع ترتقي فيه الستعدادات الخُلقية‪ ،‬إلى أن يترك النسان العقوبة والنتقام ويتعالى عن‬
‫العتداء إلى العفو‪ ،‬بل إلى الحسان‪ ،‬مجتمع تعمّ فيه النعمة‪ ،‬ويستطرق فيه الخير إلى كل إنسان‪.‬‬
‫إن مجتمعا فيه هذه الصفات لَمجتمعٌ سعيد آمِنٌ يسوده الحب واليمان والحسان‪ ،‬إنه لجدير‬
‫بالصدارة بين أمم الرض كلها‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫} وَيَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَالْ َبغْيِ‪[ { ..‬النحل‪.]90 :‬‬
‫وهذه مجموعة من النواهي تمثل مع الوامر السابقة منهجا قرآنيا قويما يضمن سلمة المجتمع‪،‬‬
‫وأُولى هذه النواهي النهي عن الفحشاء أو الفاحشة‪ ،‬والمتتبع ليات القرآن الكريم سيجد أن الزنا‬
‫حكْما من أحكام‬
‫هو الذنب الوحيد الذي سماه القرآن فاحشة‪ ،‬فهي إذن الزنا‪ ،‬أو كل شيء يخدش ُ‬
‫ال تعالى‪ ،‬ولكن لماذا الزنا بالذات؟‬
‫نقول‪ :‬لن كل الذنوب الخرى غير الزنا إنما تتعلق بمحيطات النفس النسانية‪ ،‬أما الزنا فيتعلّق‬
‫بالنفس النسانية ذاتها‪ ،‬ويترتب عليه اختلط النساب وبه تدنَسُ العراض‪ ،‬وبه يشكّ الرجل في‬
‫أهله وأولده‪ ،‬ويحدث بسبب هذا من الفساد ما ل يعلمه إل ال؛ لذلك نصّ عليه القرآن صراحة‬
‫في قوله تعالى‪ {:‬وَلَ َتقْرَبُواْ الزّنَىا إِنّهُ كَانَ فَاحِشَ ًة وَسَآءَ سَبِيلً }[السراء‪.]32 :‬‬
‫ومن أقوال العلماء في الفاحشة‪ :‬أنها الذنب العظيم الذي يخجل صاحبه منه ويستره عن الناس‪ ،‬فل‬
‫يستطيع أنْ يُجاهر به‪ ،‬كأنه هو نفسه حينما يقع فيه يعلم أنه ل يصحّ‪ ،‬ول ينبغي لحد أن يطلع‬
‫عليه‪.‬‬
‫(والمنكر) هو الذنب يتجرّأ عليه صاحبه‪ ،‬ويُجاهر به‪ ،‬ويستنكره الناس‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لدينا هنا مرتبتان من الذنب‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن صاحبه يتحرّج أن يعرفه المجتمع فيستره في نفسه‪ ،‬وهذا هو الفحشاء‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬ما تعالم به صاحبه وأنكره المجتمع‪ ،‬وهذا هو المنكر‪.‬‬
‫(والبغْي) هو الظلم في أيّ َلوْنٍ من ألوانه‪ ،‬وهو داخل في أشياء كثيرة أعظمها ما يقع في العقيدة‬
‫من الشرك بال‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان‪.]13 :‬‬
‫والظلم هنا أنْ تسلبَ الحق ـ تبارك وتعالى ـ صِفة من صفاته‪ ،‬وتشرك معه غيره وهو خلقك‬
‫ورزقك‪ ،‬ومنه ظلم الرسول صلى ال عليه وسلم حيث لم يُجرّب عليه في يوم من اليام أنْ قال‬
‫خطبة أو ألقى قصيدة‪ ،‬كما لم يُجرّب عليه الكذب أو غيره من الصفات الذميمة‪ ،‬ومع هذا كله قالوا‬
‫عنه حينما نزل عليه القرآن كذاب وساحر ومجنون‪ ،‬وأيّ ظلم أعظم من هذا؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسْرة وألما‬
‫ومن الظلم ظُلْم النسان لنفسه حينما يُحقّق لها شهوة عاجلة ومُتعةً زائفة‪ ،‬تُورثه ندما و َ‬
‫آجلً‪ ،‬وبذلك يكون قد ظلم نفسه ظلما كبيرا وجَرّ عليها ما ل تطيق‪ ،‬ذلك َفضْلً عن ظلم النسان‬
‫لغيره بشتى أنواع الظلم وأشكاله‪.‬‬

‫إذن‪ :‬الية انتظمتْ مجموعة من الوامر والنواهي التي تضمن سلمة المجتمع بما جمعتْ من‬
‫مكارم الخلق‪ ،‬والخلق أعمّ من أن تكون في العتقادات‪ ،‬وأعمّ من أن تكون في المعجزة إيمانا‬
‫ح ْك َم ول إثم‪.‬‬
‫بها‪ ،‬وأعمّ من أن تكون في التكاليف‪ ،‬وأعمّ من أن تكون في أمر ل حَدّ فيه ول ُ‬
‫وقوله‪:‬‬
‫ظكُمْ‪[ { ..‬النحل‪.]90 :‬‬
‫} َي ِع ُ‬
‫الوعظ‪ :‬تذكير بالحكم‪ ،‬فعندنا أولً إعلم بالحكم لكي نعرفه‪ ،‬ولكنه عُرْضة لنْ نغفلَ عنه‪ ،‬فيكون‬
‫الوعظ والتذكير به‪ ،‬ونحتاج إلى تكرار ذلك حتى ل نغفل‪.‬‬
‫وعادة ل تكون ال ِعظَة إل فيما له قيمة‪ ،‬وما دام الشيء له قيمة فل تصطفي له إل مَنْ تحب‪ ،‬كذلك‬
‫الحق ـ تبارك وتعالى ـ يحب خَلْقه وصَنْعته؛ لذلك َيعِظهم ويُذكّرهم باستمرار لكي يكونوا دائما‬
‫على الجادة ليتمتعوا بنعم المسبّب في الخرة‪ ،‬كما تمتعوا بنعمة السباب في الدنيا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََأ ْوفُواْ ِب َعهْدِ اللّهِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1975 /‬‬

‫جعَلْتُمُ اللّهَ عَلَ ْيكُمْ َكفِيلًا إِنّ اللّهَ‬


‫وََأ ْوفُوا ِب َعهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدْ ُت ْم وَلَا تَ ْن ُقضُوا الْأَ ْيمَانَ َبعْدَ َت ْوكِيدِهَا َوقَدْ َ‬
‫َيعْلَمُ مَا َت ْفعَلُونَ (‪)91‬‬

‫ن ت ِفيَ بما تعاهدتَ عليه‪ ،‬والعهود ل تكون في المفروض عليك‪ ،‬إنما تكون في المباحات‪،‬‬
‫الوفاء‪ :‬أ ْ‬
‫فأنت حُرّ أن تلقاني غدا وأنا كذلك‪ ،‬لكن إذا اتفقنا وتعاهدنا على اللقاء غدا في الساعة كذا ومكان‬
‫كذا فقد تحوّل المر من المباح إلى المفروض‪ ،‬وأصبح ُكلٌ مِنّا ملزما بأن يفي بعهده؛ لن كل‬
‫واحد مِنّا عطّل مصالحه ورتّب أموره على هذا اللقاء‪ ،‬فل يصح أنْ يفيَ أحدنا ويُخلِف الخر‪ ،‬لن‬
‫ذلك يتسبب في عدم تكافؤ الفُرص‪ ،‬ومعلوم أن مصالح العبادِ في الدنيا قائمة على الوفاء بالعهد‪.‬‬
‫عبْءٌ عليه دون غيره‪ ،‬لكنه‬
‫وقد ينظر البعض إلى الوفاء بالعهد على أنه مُلْ َزمٌ به وحده‪ ،‬أو أنه ِ‬
‫في الحقيقة عليك وعلى غيرك‪ ،‬فكما طلب منك الوفاء طلبه كذلك من الخرين‪ ،‬فكلّ تكليف لك ل‬
‫تنظر إليه هذه النظرة‪ ،‬بل تنظر إليه على أنه لصالحك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فمن أخذ التكليف وأحكام ال من جانبه فقط يتعب‪ ،‬فالحق ـ تبارك وتعالى ـ كما كلفك لصالح‬
‫الناس فقد كلّف الناس جميعا لصالحك‪ ،‬فحين نهاك عن السرقة مثلً إياك أنْ تظنّ أنه قيّد حريتك‬
‫أمام الخرين؛ لنه سبحانه نهى جميع الناس أن يسرقوا منك‪ ،‬فمَنِ الفائز إذن؟ أنا قيّدت حريتك‬
‫بالحكم‪ ،‬وأنت فرْد واحد‪ ،‬ولكني قيّدتُ جميع الخلق من أجلك‪.‬‬
‫كذلك حين أمرك الشرع بغضّ بصرك على محارم الناس‪ ،‬أمر الناس جميعا بغضّ أبصارهم عن‬
‫محارمك‪ .‬إذن‪ :‬ل تأخذ التكليف على أنه عليك‪ ،‬بل هو لك‪ ،‬وفي صالحك أنت‪.‬‬
‫كثيرون من الغنياء يتبرّمون من النفاق‪ ،‬ويضيقون بالبذْل‪ ،‬ومنهم مَنْ َيعُد ذلك َمغْرما لنه ل‬
‫يدري الحكمة من تكليف الغنياء بمساعدة الفقراء‪ ،‬ل يدري أننا نُؤمّن له حياته‪.‬‬
‫وها نحن نرى الدنيا ُدوَلً وأغيارا‪ ،‬فكم من غنيّ صار فقيرا‪ ،‬وكم من قوي صار ضعيفا‪.‬‬
‫خفْ إذا ضاقتْ بك الحال‪ ،‬وإذا تبدّل غِنَاك فقرا‪،‬‬
‫إذن‪ :‬فحينما يأخذ منك وأنت غنيّ نُطمئنك‪ :‬ل ت َ‬
‫فكما أخذنا منك في حال الغنى سنُعطيك في حال الفقر‪ ،‬وهكذا يجب أن تكون نظرتنا إلى المور‬
‫التكليفية‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ ِب َعهْدِ اللّهِ‪[ } ...‬النحل‪.]91 :‬‬
‫عهْد لك مع ال تعالى هو اليمان به‪ ،‬وما ُد ْمتَ‬
‫عهد ال‪ :‬هو الشيء الذي تعاهد ال عليه‪ ،‬وأول َ‬
‫خلّ بأمر من أموره؛ لن الختلل‬
‫قد آمنتَ بال فانظر إلى ما طلبه منك وما كلّفك به‪ ،‬وإياك أن ُت ِ‬
‫في أي أمر تكليفي من ال ُيعَدّ َنقْصا في إيمانك؛ لنك حينما آمنت بال شهدتَ بما شهد ال به‬
‫شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ‪[} ..‬آل عمران‪.]18 :‬‬
‫لنفسه سبحانه في قوله تعالى‪َ {:‬‬
‫فأوّل مَنْ شهد ال سبحانه لنفسه‪ ،‬وهذه شهادة الذات للذات (والملَئِكة) أي‪ :‬شهادة المشاهدة‬
‫(وَأُولُوا العِلْم) أي‪ :‬بالدليل والحجة‪.‬‬

‫عهْد بينك وبين ال تعالى أنك آمنتَ به إلها حكيما قادرا خالقا مُربّيا‪ ،‬فاستمع إلى ما‬
‫إذن‪ :‬فأوّل َ‬
‫يطلبه منك‪ ،‬فإنْ لم تستمع وتُنفّذ فاعلم أن العهد اليماني الول قد اختلّ‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فالحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يُكلّف الكافر‪ ،‬لنه ليس بينه وبينه عهد‪ ،‬إنما يُكلّف مَنْ آمن‪،‬‬
‫فتجد كل آية من آيات الحكام تبدأ بهذا النداء اليماني‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ‪[} ...‬البقرة‪.]183 :‬‬
‫كما في قوله تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ‪[} ...‬البقرة‪.]183 :‬‬
‫فيا مَنْ آمن بي رَبا‪ ،‬ورضيتني إلها اسمع مِنّي؛ لني سأعطيك قانون الصيانة لحياتك‪ ،‬هذا القانون‬
‫الذي يُسعدك بالمسبّب في الخرة بعد أن أسعدك بالسباب في الدنيا‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫} َولَ تَنقُضُو ْا الَ ْيمَانَ َبعْدَ َت ْوكِيدِهَا‪[ { ..‬النحل‪.]91 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الَيْمان‪ :‬جمع يمين‪ ،‬وهو الحلف الذي نحلفه ونُؤكّد عليه فنقول‪ :‬وال‪ ،‬وعهد ال‪ ..‬الخ‪ .‬إذن‪ :‬فل‬
‫يليق بك أنْ تنقضَ ما أكّدته من الَيْمان‪ ،‬بل يلزمك أنْ تُوفّي بها؛ لنك إنْ وفّيت بها ُوفّي لك بها‬
‫أيضا‪ ،‬فل تأخذ المر من جانبك وحدك‪ ،‬ولكن انظر إلى المقابل‪.‬‬
‫وكذلك العهد بين الناس بعضهم البعض مأخوذ من باطن العهد اليماني بال تعالى؛ لننا حينما‬
‫عهْد ال‪ ،‬فنُدخل بيننا الحق سبحانه وتعالى‬
‫نتعاهد نُشهد ال على هذا العهد‪ ،‬فنقول‪ :‬بيني وبينك َ‬
‫جعَلْتُمُ اللّهَ عَلَ ْي ُكمْ َكفِيلً‪[ { ...‬النحل‪:‬‬
‫لِنُوثّق ما تعاهدنا عليه‪ ،‬وربنا سبحانه وتعالى يقول‪َ } :‬وقَدْ َ‬
‫‪.]91‬‬
‫أي‪ :‬شاهدا ورقيبا وضامنا‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫} إِنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا َت ْفعَلُونَ { [النحل‪.]91 :‬‬
‫أي‪ :‬اعلم أن ال مُطّلع عليك‪ ،‬يعلم خفايا الضمائر وما ُتكِنّه الصدور‪ ،‬فاحذر حينما تعطي العهد أن‬
‫تعطيه وأنت تنوي أن تخالفه‪ ،‬إياك أنْ تُعطي العهد خِدَاعا‪ ،‬فربّك سبحانه وتعالى يعلم ما تفعل‪.‬‬
‫ثم يُعقّب الحق سبحانه‪ } :‬وَلَ َتكُونُواْ كَالّتِي‪.{ ...‬‬

‫(‪)1976 /‬‬

‫ضتْ غَزَْلهَا مِنْ َبعْدِ ُق ّوةٍ أَ ْنكَاثًا تَتّخِذُونَ أَ ْيمَا َنكُمْ دَخَلًا بَيْ َن ُكمْ أَنْ َتكُونَ ُأمّةٌ ِهيَ‬
‫وَلَا َتكُونُوا كَالّتِي َنقَ َ‬
‫أَرْبَى مِنْ ُأمّةٍ إِ ّنمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِ ِه وَلَيُبَيّنَنّ َل ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْ َتِلفُونَ (‪)92‬‬

‫الحق تبارك وتعالى يضرب لنا في هذه الية مثلً توضيحيا للذين ينقضون العهد والَيْمان‪ ،‬ول‬
‫يُوفون بها‪ ،‬بهذه المرأة القرشية الحمقاء ريْطة بنت عامر‪ ،‬وكانت تأمر جواريها بغزل الصوف‬
‫ن بنقض ما غزلنه من الظهر حتى العصر‪ ،‬والمتأمل في هذا‬
‫من الصبح إلى الظهر‪ ،‬ثم تأمرهُ ّ‬
‫المثل يجد فيه دروسا متعددة‪.‬‬
‫أولً‪ :‬ما الغزل؟‬
‫الغَزْل عملية كان يقوم بها النساء قديما‪ ،‬فكُنّ يُحضِرْن المادة التي تصلح للغزل مثل الصوف أو‬
‫الوبر ومثل القطن الن‪ ،‬وهذه الشياء عبارة عن شعيرات دقيقة تختلف في طولها من نوع لخر‬
‫يُسمّونها التيلة‪ ،‬فيقولون " هذه تيلة قصيرة " وهذه طويلة "‪.‬‬
‫عقَد فيه لكي يصلح‬
‫والغَزْل هو أن نُكوّن من هذه الشعيرات خَيْطا طويلً ممتدا وانسيابيا دون ُ‬
‫للنسجْ بعد ذلك‪ ،‬وتتم هذه العملية بآلة بدائية تسمى المغزل‪ .‬تقوم المرأة بخلط هذه الشعيرات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عقَد فيه‪.‬‬
‫الدقيقة ثم بَ ْرمِها بالمغزل‪ ،‬ليخرج في النهاية خيطٌ طويل مُنْسابٌ متناسق ل ُ‬
‫والية هنا ذكرتْ المرأة في هذا العمل؛ لنه عمل خاص بالنساء في هذا الوقت دون الرجال‪،‬‬
‫فكانت المرأة تكنّ في بيتها وتمارس مثل هذه الصناعات البسيطة التي تكوّن منها أثاث بيتها من‬
‫فَرْش وملبس وغيره‪.‬‬
‫وإلى الن نرى المرأة التي تحافظ على كرامتها من زحمة الحياة و ُمعْترك الختلط‪ ،‬نراها تقوم‬
‫بمثل هذا العمل النسائي‪.‬‬
‫وقد تطور المغزل الن إلى ماكينة تريكو أو ماكينة خياطة‪ ،‬مما يُيسّر للنساء هذه العمال‪،‬‬
‫ويحفظهُنّ في بيوتهن‪ ،‬وينشر في البيت جَوا من التعاون بين الم وأولدها‪ ،‬وأمامنا مثلً مشروع‬
‫السر المنتجة حيث تشارك المرأة بجزء كبير في ُرقّي المجتمع‪ ،‬فل مانع إذن من عمل المرأة إذا‬
‫كان عملً شريفا يحفظ عليها كرامتها ويصُون حرمتها‪.‬‬
‫جهْد ووقت في الغزل‪،‬‬
‫فالقرآن ضرب لنا مثلً بعمل المرأة الجاهلية‪ ،‬هذا العمل الذي يحتاج إلى َ‬
‫ويحتاج إلى أكثر منه في َنقْضه وفكّه‪ ،‬فهذه عملية شاقة جدا‪ ،‬وربما أمرت الجواري بفكّ الغزل‬
‫والنسيج أيضا؛ ولذلك أطلقوا عليها حمقاء قريش‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫{ مِن َب ْعدِ ُق ّوةٍ‪[ } ...‬النحل‪.]92 :‬‬
‫كلمة قوة هنا تدلّنا على المراحل التي تمرّ بها عملية الغَزْل‪ ،‬وكم هي شاقة‪ ،‬بداية من جَزّ الصوف‬
‫من الغنم أو الوبر من الجمال‪ ،‬ثم خَلْط أطراف كل تيلة من هذه الشعيرات‪ ،‬بحيث تكون طرف‬
‫كل تيلة منها في وسط الخرى لكي يتم التلحم بينها بهذا المزج‪ ،‬ثم تدير المرأة المغزل بين‬
‫أصابعها لتخرج لنا في النهاية بضعة سنتيمترات من الخيط‪ ،‬ولو قارنّا بين هذه العملية اليدوية‪،‬‬
‫وبين ما توصلتْ إليه صناعة الغزل الن لَتبيّن لنا كم كانت شاقة عليهم‪.‬‬
‫فكأن القرآن الكريم شبّه الذي يُعطِي العهد ويُوثّقه باليْمان المؤكدة‪ ،‬ويجعل ال وكيلً وشاهدا على‬
‫ت فنقضت ما أنجزته‪ ،‬وف ّكتْ ما غزلته‪.‬‬
‫ما يقول بالتي غزلتْ هذا الغزل‪ ،‬وتحملت مشقته‪ ،‬ثم راح ْ‬

‫وكذلك كلمة (قوة) تدلّناَ على أن كل عمل يحتاج إلى قوة‪ ،‬هذه القوة إما أنْ تُحرّك الساكن أو تُسكّن‬
‫خذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ‪[} ..‬البقرة‪.]63 :‬‬
‫المتحرّك؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى‪ُ {:‬‬
‫لن ساكن الخير نريد أن نحركك إليه‪ ،‬ومتحرك الشر نريد أن نكفك عنه‪.‬‬
‫ن يعرضَ له شيء‬
‫وهذه يسمونها في عالم الحركة (قانون العطالة) المتحرك يظل مُتحرّكا إلى أ ْ‬
‫يُسكنه‪ ،‬والساكن يظل ساكنا إلى أنْ يع ِرضَ له شيء يُحرّكه‪.‬‬
‫ومن هنا يتعجّب الكثيرون من القمار الصناعية التي تدور أعواما عدة في الفضاء‪ :‬ما الوقود‬
‫الذي يُحرّك هذه القمار طوال هذه العوام؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والواقع أنه ل يوجد وقود يحركها‪ ،‬الوقود في مرحلة النطلق فقط‪ ،‬إلى أن يخرج من منطقة‬
‫الهواء والجذْب‪ ،‬فإذا ما استقرّ القمر أو السفينة الفضائية في منطقة عدم الجذب تدور وتتحرك‬
‫بنفسها دون وقود‪ ،‬فهناك الشيء المتحرك يظل متحركا‪ ،‬والساكن يظل ساكنا‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ بهذا المثَل المشَاهد يُحذرنا من إخلف العهد ونقْضه؛ لنه سبحانه‬
‫يريد أن يصونَ مصالح الخلق؛ لنها قائمة على التعاقد والتعاهد واليْمان التي تبرم بينهم‪ ،‬فمَنْ‬
‫خان العهد أو نقضَ اليْمان ل يُوثق فيه‪ ،‬ول يُطْمأنُ إلى حركته في الحياة‪ ،‬ويُسقطه المجتمع من‬
‫نظره‪ ،‬ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬أَنكَاثا‪[ { ..‬النحل‪.]92 :‬‬
‫حلّ فَتْله من الغزل‪.‬‬
‫جمع ِنكْث‪ ،‬وهو ما ُنقِض و ُ‬
‫وقوله‪:‬‬
‫} تَتّخِذُونَ أَ ْيمَا َنكُمْ دَخَلً بَيْ َن ُكمْ‪[ { ..‬النحل‪.]92 :‬‬
‫الدّخَل‪ :‬أنْ تدخل في الشيء شيئا أدنى منه من جنسه على سبيل الغِشّ والخداع‪ ،‬كأن تدخل في‬
‫خلَ في اللوز مثلً نَوى‬
‫الذهب عيار ‪ 24‬قيراطا مثلً ذهبا من عيار ‪ 18‬قيراطا‪ ،‬أو كأن تُد ِ‬
‫المشمش على أنه منه‪ .‬فكأن الَيْمان القائمة على الصدق والوفاء يعطيها صاحبها وهو ينوي بها‬
‫الخداع والغش‪ ،‬فيحلف لصاحبه وهو يقصد تنويمه والتغرير به‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫} أَن َتكُونَ ُأمّةٌ ِهيَ أَرْبَى مِنْ ُأمّةٍ‪[ { ...‬النحل‪.]92 :‬‬
‫هذه هي العلة في أنْ نتخ َذ الَيْمان َدخَلً فيما بيننا‪ ،‬الَيْمان الزائفة الخادعة؛ ذلك لن الذي باع‬
‫ق الخرين‪ ،‬فالعلة‬
‫نوى المشمش مثلً على أنه لوز‪ ،‬فقد أَرْبى أي‪ :‬أخذ أزيْد من حقه ونقص حَ ّ‬
‫إذن في الخداع بالَيْمان الطمع وطلب الزيادة على حساب الخرين‪.‬‬
‫وقد تأتي الزيادة بصورة أخرى‪ ،‬كأن تُعاهِد شخصا على شيء ما‪ ،‬وأدّ ْيتَ له بالعهود واليْمان‬
‫والمواثيق‪ ،‬ثم عنّ لك مَنْ هو أقوى منه سواء كان بالقهر والسلطان أو بالغراء‪ ،‬فنقضت العهد‬
‫الول لن الثاني أرْبى منه وأزيد‪.‬‬
‫حذْره‪ ،‬فمَنْ يُدريك لعله يُفعل بك كما فعلت‪ ،‬ويُكال‬
‫وفي مثل هذه المواقف يجب أن يأخذ النسان ِ‬
‫خلْق ال أن يُجَرّيء ال عليك مَنْ‬
‫لك بنفس المكيال الذي كِ ْلتَ به لغيرك‪ ،‬فاحذر إذا تجرأتَ على َ‬
‫يسقيك من نفس الكأس‪.‬‬

‫وإذا كنت صاحب حرفة أو صناعة‪ ،‬فإياك أنْ تغُشّ الناس‪ ،‬وتذكّر أن لك عندهم مصالح‪ ،‬وفي‬
‫أيديهم لك حرف وصناعات‪ ،‬فإذا تجر ْأتَ عليهم جرّأهم ال عليك؛ لنه سبحانه يقول‪ :‬أنا القيّوم‪،‬‬
‫أي‪ :‬القائم على أمركم‪ ،‬فناموا أنتم فأنا ل أنام‪ ،‬فهذه مسألة يجب أن نلحظها جيدا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مَنْ تَجرّأ على الناس جرّأهم ال عليه‪ ،‬ومَنْ أخلص عمله وأتقنه قذف ال في قلوب الخلق أنْ‬
‫يُتقنوا له حاجته‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫} إِ ّنمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ ِبهِ‪[ { ...‬النحل‪.]92 :‬‬
‫أي‪ :‬يختبركم ال تعالى بهذا العهد‪ ،‬فهو سبحانه يعلم ما أنتم عليه ساعة أنْ عقدتم العهد‪َ ،‬أفِي نيتكم‬
‫الوفاء‪ ،‬أم في نيتكم الغدر والخداع؟‬
‫و َهبْ أنك تنوي الوفاء ثم عرضَ لك ما حال بينك وبينه‪ ،‬فال سبحانه يعلم حقائق المور ول‬
‫يخفَى عليه شيء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬البتلء هنا ل يعني النكبة والبلء‪ ،‬بل يعني مجرد الختبار والنكبة والبلء على الذي يفشل‬
‫في الختبار‪ ،‬فالعبرة هنا بالنتيجة‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫} وَلَيُبَيّنَنّ َل ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ { [النحل‪.]92 :‬‬
‫فيوم القيامة تجتمع الخصوم‪ ،‬وتتكشّف الحقائق‪ ،‬ويأتي القضاء فيما اختلفنا فيه في الدنيا‪ ،‬و َهبْ أن‬
‫عمّ ْيتَ على قضاء الرض فلن تُعمىَ‬
‫إنسانا عمّى على قضاء الرض في أشياء‪ ،‬نقول له‪ :‬إن َ‬
‫على قضاء السماء‪ ،‬وانتظر يوما نجتمع فيه ونحكم هذه المسائل‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََلوْ شَآءَ اللّهُ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1977 /‬‬

‫عمّا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ (‬


‫ضلّ مَنْ َيشَا ُء وَ َيهْدِي مَنْ يَشَا ُء وَلَتُسْأَلُنّ َ‬
‫ح َد ًة وََلكِنْ ُي ِ‬
‫جعََل ُكمْ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَ َ‬
‫‪)93‬‬

‫لو حرف امتناع لمتناع‪ .‬أي‪ :‬امتناع وجود الجواب لمتناع وجود الشرط‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{:‬‬
‫َلوْ كَانَ فِي ِهمَآ آِلهَةٌ ِإلّ اللّهُ َلفَسَدَتَا }[النبياء‪.]22 :‬‬
‫فقد امتنع الفساد لمتناع تعدّد اللهة‪.‬‬
‫فلو شاء ال لجعلَ العالم كله أم ًة واحدة على الحق‪ ،‬ل على الضلل‪ ،‬أمة واحدة في اليمان‬
‫والهداية‪ ،‬كما جعل الجناس الخرى أم ًة واحدة في النصياع لمرادات ال منها‪.‬‬
‫ذلك لن كل أجناس الوجود المخلوقة للنسان قبل أن يفِدَ إلى الحياة مخلوقة بالحق خَلْقا تسخيريا‪،‬‬
‫فل يوجد جنس من الجناس تأَبّى عما قصد منه‪ ،‬ل الجماد ول النبات ول الحيوان‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كل هذه الكوان تسير سَيْرا سليما كما أراد ال منها‪ ،‬والعجيب أن يكون النسان هو المخلوق‬
‫الوحيد المختلّ في الكون‪ ،‬ذلك لما له من حرية الختيار‪ ،‬يفعل أو ل يفعل‪.‬‬
‫ت َومَن فِي الَ ْرضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لذلك يقول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َيسْجُدُ لَهُ مَن فِي ال ّ‬
‫حقّ عَلَ ْيهِ ا ْلعَذَابُ‪} ..‬‬
‫س َوكَثِيرٌ َ‬
‫ب َوكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ‬
‫ل وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآ ّ‬
‫س وَا ْل َقمَرُ وَالنّجُو ُم وَالْجِبَا ُ‬
‫شمْ ُ‬
‫وَال ّ‬
‫[الحج‪.]18 :‬‬
‫هكذا تسجد كل هذه المخلوقات ل دون استثناء‪ ،‬إل في النسان فقال تعالى‪َ {:‬وكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ‬
‫َوكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ ا ْل َعذَابُ‪[} ..‬الحج‪.]18 :‬‬
‫ل أو‬
‫فلماذا حدث هذا الختلف عند الناس؟ لنهم أصحاب الختيار‪ ،‬فيستطيع الواحد منهم أن يفع َ‬
‫ل يفعل‪ ،‬هل هذه المسألة خرجت عن إرادة ال‪ ،‬أم أرادها ال سبحانه وتعالى؟‬
‫قالوا بأن ال زاول قدرته المطلقة في خَلْق الشياء المُسخرة‪ ،‬بحيث ل يخرج شيء عما أريد منه‪،‬‬
‫وكان من الممكن أنْ يأتيَ النسان على هذه الصورة من التسخير‪ ،‬لكنه في هذه الحالة لن يزيد‬
‫شيئا‪ ،‬ولن يضيف جديدا في الكون‪ ،‬أليستْ الملئكة قائمة على التسخير؟‬
‫فالتسخير يُثبِت القدرة ل تعالى‪ ،‬فل يخرج عن قدرته ول عن مراده شيء‪ ،‬لكن الختيار يثبت‬
‫المحبوبية ل تعالى‪ ،‬وهذا فَرْقٌ يجب أنْ نتدبّره‪.‬‬
‫فمثلً لو كان عندك عبدان أو خادمان أحدهما سعيد‪ ،‬والخر مسعود‪ ،‬فأخذت سعيدا وقيّدته إليك‬
‫ل منهما لَبّى وأطاع‪ ،‬فأيّ طاعة‬
‫في حبل‪ ،‬في حين تركت مسعودا حرا طليقا‪ ،‬وحين أمرت ك ً‬
‫ستكون أحبّ إليك‪ :‬طاعة القهر والتسخير‪ ،‬أم الطاعة بالختيار؟‬
‫ن يعصيَ‪ ،‬فإذا‬
‫فكأن الحق تبارك وتعالى خلق النسان وكرّمه بأنْ جعلَه مختارا في أنْ يطيعَ أو أ ْ‬
‫ما أتى طائعا مختارا‪ ،‬وهو قادر على المعصية‪ ،‬فقد أثبتَ المحبوبية لربه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ول ُبدّ أنْ تتوافرَ للختيار شروطٌ‪ .‬أولها العقل‪ ،‬فهو آلة الختيار‪ ،‬كذلك ل يُكلّف المجنون‪ ،‬فإذا‬
‫توفّر العقل فل بُدّ له من الّنضْج والبلوغ‪ ،‬ويتمّ ذلك حينما يكون النسان قادرا على إنجاب مِثْله‪،‬‬
‫وأصبحتْ له ذاتية مولده‪.‬‬
‫سمَة اكتمال الذات؛ فهو قبل هذا الكتمال ناقص التكوين‪ ،‬وليس أَهْلً للتكليف‪ ،‬فإذا كان‬
‫وهذه ِ‬
‫عاقلً ناضجا بالبلوغ واكتمال الذات‪ ،‬فل ُبدّ له أن يكون مختارا غَيْرَ ُمكْرهٍ‪ ،‬فإنْ ُأكْرِه على الشيء‬
‫فلن يسأل عنه‪ ،‬فإنِ اختلّ شَرْط من هذه الثلثة فل معنى للختيار‪ ،‬وبذلك يضمن الحق تبارك‬
‫وتعالى للنسان السلمة في الختيار‪.‬‬

‫والحق تبارك وتعالى وإن كرّم النسان بالختيار‪ ،‬فمن رحمته به أنْ يجعلَ فيه بعض العضاء‬
‫خلَ له فيها‪.‬‬
‫اضطرارية مُسخّرة ل دَ ْ‬
‫ولو تأملنا هذه العضاء لوجدناها جوهرية‪ ،‬وتتوقف عليها حياة النسان‪ ،‬فكان من رحمة ال بنا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنْ جعل هذه العضاء تعمل وتُؤدّي وظيفتها دون أنْ نشعرَ‪.‬‬
‫ل يعمل بانتظام في اليقظة والمنام دون أن نشعرَ به‪ ،‬وكذلك التنفس والكُلَى والكبد‬
‫فالقلب مث ً‬
‫والمعاء وغيرها تعمل بقدرته سبحانه مُسخّرة‪ ،‬كالجماد والنبات والحيوان‪.‬‬
‫طفِ ال بخَلْقه أنْ جعلَ هذه العضاء مُسخّرة‪ ،‬لنه بال لو أنت مختار في عمل هذه‬
‫ومن ُل ْ‬
‫العضاء‪ ،‬كيف تتنفس مثلً وأنت نائم؟!‬
‫إذن‪ :‬من رحمة ال أنْ جعلكَ مختارا في العمال التي تع ِرضُ لك‪ ،‬وتحتاج فيها إلى النظر في‬
‫البدائل؛ ولذلك يقولون‪ :‬النسان أبو البدائل‪ .‬فالحيوان مثلً وهو أقرب الجناس إلى النسان ليس‬
‫لديْه هذه البدائل ول يعرفها‪ ،‬فإذا آذيتَ حيوانا فإنه يُؤذيك‪ ،‬وليس لديه بديل آخر‪.‬‬
‫ولكن إذا آذيْت إنسانا‪ ،‬فيحتمل أن يردّ عليك بالمثل‪ ،‬أو بأكثر مما فعلتَ‪ ،‬أو أقلّ‪ ،‬أو يعفو ويصفح‪،‬‬
‫والعقل هو الذي يُرجّح أحد هذه البدائل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلها‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬أَن ّلوْ َيشَآءُ‬
‫اللّهُ َلهَدَى النّاسَ }[الرعد‪.]31 :‬‬
‫ولكنه سبحانه وتعالى لم يشَأْ ذلك‪ ،‬بدليل قوله‪:‬‬
‫ضلّ مَن َيشَآ ُء وَ َيهْدِي مَن َيشَآءُ‪[ { ...‬النحل‪.]93 :‬‬
‫} وَلـاكِن ُي ِ‬
‫وهذه الية يقف عندها المتمحّكون‪ ،‬والذين َقصُ َرتْ أنظارهم في فهْم كتاب ال‪ ،‬فيقولون‪ :‬طالما أن‬
‫ضلّ الناس‪ ،‬فلماذا يُعذّبهم؟ ونتعجّب من هذا الفهم لكتاب ال ونقول لهؤلء‪ :‬لماذا‬
‫ال هو الذي ي ِ‬
‫أخذتُمْ جانب الضلل وتركتُم جانب الهدى؟ لماذا لم تقولوا‪ :‬طالما أن ال بيده الهداية‪ ،‬وهو الذي‬
‫يهدي‪ ،‬فلماذا يُدخِلنا الجنة؟ إذن‪ :‬هذه كلمة يقولها المسرفون؛ لن معنى‪:‬‬
‫ضلّ مَن يَشَآ ُء وَ َيهْدِي مَن يَشَآءُ‪[ { ..‬النحل‪.]93 :‬‬
‫} ُي ِ‬
‫أي‪ :‬يحكم على هذا من خلل عمله بالضلل‪ ،‬ويحكم على هذا من خلل عمله بالهداية‪ ،‬مثل ما‬
‫يحدث عندنا في لجان المتحان‪ ،‬فل نقول‪ :‬اللجنة أنجحت فلنا وأرسبت فلنا‪ ،‬فليست هذه‬
‫مهمتها‪ ،‬بل مهمتها أن تنظر أوراق الجابة‪ ،‬ومن خللها تحكم اللجنة بنجاح هذا وإخفاق ذاك‪.‬‬
‫وكذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يجعل العبد ضالً‪ ،‬بل يحكم على عمله أنه ضلل وأنه ضَالّ؛‬
‫ل المر إلى‬
‫فالمعنى إذن‪ :‬يحكم بضلل مَنْ يشاء‪ ،‬ويحكم ب ُهدَى مَنْ يشاء‪ ،‬وليس لحد أن ينق َ‬
‫عكس هذا الفهم‪ ،‬بدليل قوله تعالى بعدها‪:‬‬
‫عمّا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ { [النحل‪.]93 :‬‬
‫} وَلَتُسْأَلُنّ َ‬
‫عمّا عملتْ يداه‪ ،‬والسؤال هنا معناه حرية الختيار في العمل‪ ،‬وكيف تسأل عن‬
‫فالعبد ل يُسأل إل َ‬
‫شيء ل َدخْل لك فيه؟ فلنفهم ـ إذن ـ عن الحق تبارك وتعالى مُرَا َدهُ من الية‪.‬‬
‫خذُواْ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ولَ تَتّ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1978 /‬‬

‫صدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وََلكُمْ‬


‫خذُوا أَ ْيمَا َنكُمْ َدخَلًا بَيْ َنكُمْ فَتَ ِزلّ قَ َدمٌ َبعْدَ ثُبُو ِتهَا وَتَذُوقُوا السّوءَ ِبمَا َ‬
‫وَلَا تَتّ ِ‬
‫عظِيمٌ (‪)94‬‬
‫عَذَابٌ َ‬

‫خلَ في الشيء شيئا أدْنى منه من‬


‫وردتْ كلمة ال ّدخَل في الية قبل السابقة وقلنا‪ :‬إن معناها‪ :‬أن تُد ِ‬
‫ش والخداع‪ ،‬وإن كان المعنى واحدا في اليتين فإن الية السابقة جاءت‬
‫جنسه على سبيل الغ ّ‬
‫لتوضيح سبب الدّخَل وعَلّته‪ ،‬وهي أن تكون أُمة أَرْبى من أمة‪ ،‬ويكسب أحد الطراف على حساب‬
‫الخر‪ .‬أما في هذه الية فجاءت لتوضيح النتيجة من وجود الدّخَل‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫{ فَتَ ِزلّ قَ َدمٌ َبعْدَ ثُبُو ِتهَا‪[ } ..‬النحل‪.]94 :‬‬
‫ففي الية َن ْهيٌ عن اتخاذ الَيْمان للغش والخداع والتدليس؛ لن نتيجة هذا الفعل فساد يأتي على‬
‫المجتمع من أساسه‪ ،‬وفَقْد للثقة المتبادلة بين الناس والتي عليها يقوم التعامل‪ ،‬وتُبنَى حركة الحياة‪،‬‬
‫فالذي يُعطي عهدا ويُخلْفه‪ ،‬ويحلف يمينا ويحنث فيه يشتهر عنه أنه مُخلِف للعهد ناقض للميثاق‪.‬‬
‫صفَق معه‪ ،‬فيصبح مَهينا ينفضُ‬
‫وبناءً عليه يسحب الناس منه الثقة فيه‪ ،‬ول يجرؤ أحد على ال ّ‬
‫الناس أيديهم منه‪ ،‬بعد أنْ كان أمينا وأهلً للثقة ومَحَلً للتقدير‪.‬‬
‫هذا معنى قوله تعالى‪:‬‬
‫{ فَتَ ِزلّ قَ َدمٌ َبعْدَ ثُبُو ِتهَا‪[ } ...‬النحل‪.]94 :‬‬
‫وبذلك يسقط حقّه مع المجتمع‪ ،‬ويحيق به سوء ِفعْله‪ ،‬ويجني بيده ثمار ما أفسده في المجتمع‪،‬‬
‫وبانتشار هذا الخلُق السيئ تتعطّل حركة الحياة‪ ،‬وتضيع الثقة والمانة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هذه زَلّة وكَبْوة بعد ثبات وقوة‪ ،‬بعد أنْ كان أَهْلً للثقة صاحب وفاء بالعهود والمواثيق يُقبِل‬
‫عليه الناس‪ ،‬ويُحبّون التعامل معه بما لديْه من شرف الكلمة وصِدْق الوعد‪ ،‬فإذا به يتراجع‬
‫للوراء‪ ،‬ويتقهقر للخلف‪ ،‬ويفقد هذه المكانة‪.‬‬
‫ولذلك نجد أهل المال والتجارة يقولون‪ :‬فلن اهتزّ مركزه في السوق أي‪ :‬زَّلتْ قدمه بما حدث‬
‫منه من ن ْقضٍ للعهود‪ ،‬وحِنْث في اليمان وغير ذلك مما ل يليق بأهل الثقة في السوق‪ ،‬ومثل هذا‬
‫ينتهي به المر إلى أنْ يعلنَ إفلسه في دنيا التعامل مع الناس‪.‬‬
‫أما الوفاء بالعهود والمواثيق والَيْمان فيجعل قدمك في حركة الحياة ثابتة ل تتزحزح ول تهتزّ‪،‬‬
‫فترى مال الناس جميعا مالَه‪ ،‬وتجد أصحاب الموال مقبلين عليك يضعون أموالهم بين يديك‪ ،‬بما‬
‫تتمتع به من سمعة طيبة ونزاهة وأمانة في التعامل‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فالتشريع السلمي حينما شرع لنا الشركة راعى هذا النوع من الناس الذي ل يملك إل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمعة طيبة وأمانة ونزاهة ووفاء‪ ،‬هذا هو رأس مالهم‪ ،‬فإنْ دخل شريك بما لديْه من رأس المال‪،‬‬
‫فهذا شريك بما لديْه من شرف الكلمة وشرف السلوك‪ ،‬ووجاهة بين الناس‪ ،‬وماضٍ مُشرّف من‬
‫التعامل‪.‬‬
‫وهذه يسمونها " شركة الوجوه والعيان " وهذا الوجيه في دنيا المال والتجارة لم يأخذ هذه‬
‫الوجاهة إل بما اكتسبه من احترام الناس وثقتهم‪ ،‬وبما له من سوابق فضائل ومكارم‪.‬‬
‫وكذلك‪ ،‬قد نرى هذه الثقة ل في شخص من الشخاص‪ ،‬بل نراها في ماركة من الماركات أو‬
‫العلمات التجارية‪ ،‬فنراها تُبَاع وتُشْتري‪ ،‬ولها قيمة غالية في السوق بما نالتْه من احترام الناس‬
‫وتقديرهم‪ ،‬وهذا أيضا نتيجة الصدق واللتزام والمانة وشرف الكلمة‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫عظِيمٌ { [النحل‪.]94 :‬‬
‫} وَتَذُوقُواْ الْسّوءَ ِبمَا صَدَدتّمْ عَن سَبِيلِ اللّ ِه وََلكُمْ عَذَابٌ َ‬
‫السوء‪ :‬أي العذاب الذي يسُوء صاحبه في الدنيا من مهانة واحتقار بين الناس‪ ،‬وكسَاد في الحال‪،‬‬
‫بعد أنْ سقط من نظر المجتمع‪ ،‬وهدم جِسْر الثقة بينه وبين مجتمعه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} ِبمَا صَدَدتّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ { [النحل‪.]94 :‬‬
‫صدّ عن سبيل ال؟‬
‫الحديث هنا عن الذين ينقضون العهود والَيْمان ول يُوفُونَ بها‪ ،‬فهل في هذا َ‬
‫نقول‪ :‬أولً إن معنى سبيل ال‪ :‬كل شيء يجعل حركة الحياة منتظمة ُتدَار بشرف وأمانة وصِدْق‬
‫ونفاذ عهد‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬فالذي يُخلف العهد‪ ،‬ول يفي بالمواثيق يعطي للمجتمع قدوة سيئة تجعل صاحب المال‬
‫يضنّ بماله‪ ،‬وصاحب المعروف يتراجع‪ ،‬فلو أقرضتَ إنسانا وغدرَ بكَ فل أظنّك مُقرِضا لخر‪.‬‬
‫شكّ أن في هذا صدا عن سبيل ال‪ ،‬وتزهيدا للناس في فعْل الخير‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل َ‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ { [النحل‪.]94 :‬‬
‫} وََلكُمْ َ‬
‫فبالضافة إلى ما حاقَ بهم من خسارة في الدنيا‪ ،‬وبعد أنْ َزّلتْ بهم القدم‪ ،‬ونزل بهم من عذاب‬
‫الدنيا ألوانٌ ما زال ينتظرهم عذاب عظيم أي في الخرة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ولَ تَشْتَرُواْ ِب َعهْدِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1979 /‬‬

‫وَلَا تَشْتَرُوا ِب َعهْدِ اللّهِ َثمَنًا قَلِيلًا إِ ّنمَا عِ ْندَ اللّهِ ُهوَ خَيْرٌ َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ (‪)95‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحق تبارك وتعالى في هذه الية ينهانا ويُحذّرنا‪ :‬إياك أنْ تجعلَ عهد ال الذي أكدته للناس‪،‬‬
‫وجعلت ال عليه كفيلً‪ ،‬فبعد أن كنت حُرا في أن تعاهد أو ل تعاهد‪ ،‬فبمجرد العهد أصبح نفاذه‬
‫واجبا ومفروضا عليك‪.‬‬
‫أو‪ :‬عهد ال ـ أي ـ شرعه الذي تعاهدتَ ـ على العمل به والحفاظ عليه‪ ،‬وهو العهد اليماني‬
‫العلى‪ ،‬وهو أن تؤمنَ بال وبصدق الرسول في البلغ عن ال‪ ،‬وتلتزم بكل ما جاء به الرسول‬
‫ضتَ عهد ال لشيء آخر من‬
‫ن نق ْ‬
‫من أحكام‪ ،‬إياك أنْ تقابله بشيء آخر تجعله أغْلى منه؛ لنك إ ْ‬
‫متاع الدنيا الزائل فقد جعلتَ هذا الشيء أغلى من عهد ال؛ لن الثمن مهما كان سيكون قليلً‪.‬‬
‫ثم يأتي تعليل ذلك في قوله‪:‬‬
‫{ إِ ّنمَا عِ ْندَ اللّهِ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ‪[ } ..‬النحل‪.]95 :‬‬
‫فالخير في الحقيقة ليس في متاع الدنيا مهما كَثُر‪ ،‬بل فيما عند ال تعالى‪ ،‬وقد أوضح ذلك في قوله‬
‫تعالى‪ {:‬مَا عِن َدكُمْ يَنفَدُ َومَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }[النحل‪.]96 :‬‬
‫ولنا وقفة مع قوله تعالى‪:‬‬
‫{ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ‪[ } ...‬النحل‪.]95 :‬‬
‫فهذا أسلوب توكيد بالقصر بإعادة الضمير (هو)‪ ،‬فلم َيقُلِ الحق سبحانه إنما عند ال خير لكم‪،‬‬
‫فيحتمل أن ما عند غيره أيضا خيْرٌ لكم‪ ،‬أما في تعبير القرآن { ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ } أي‪ :‬الخير فيما عند‬
‫شفِينِ }[الشعراء‪.]80 :‬‬
‫ضتُ َف ُهوَ َي ْ‬
‫ال على سبيل ال َقصْر‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَإِذَا مَ ِر ْ‬
‫فجاء بالضمير " هو " ليؤكد أن الشافي هو ال لوجود مَظنّة أن يكون الشفاء من الطبيب‪ ،‬أما في‬
‫الشياء التي ل يُظَنّ فيها المشاركة فتأتي دون هذا التوكيد كما في قوله تعالى‪ {:‬وَالّذِي ُيمِيتُنِي ثُمّ‬
‫يُحْيِينِ }[الشعراء‪.]81 :‬‬
‫فلم يقل‪ :‬هو يميتني هو يُحيين؛ لنه ل يميت ول يُحيي إل ال‪ ،‬فل حاجةَ للتوكيد هنا‪.‬‬
‫ما الذي يُخرج النسان عن الوفاء بالعهد؟‬
‫الذي يُخرج النسان عن الوفاء بالعهد أنْ يرى مصلحة سطحية فوق ما تعاقد عليه تجعله يخرج‬
‫عما تعاهد عليه إلى هذه السطحية‪ ،‬ولكنه لو عقل وتدبّر المر لعلم أنّ ما يسعى إليه ثمن َبخْسٌ‪،‬‬
‫ومكسب قليل زائل إذا ما قارنه بما ادخِر له في حالة الوفاء؛ لن ما أخذه حظا من دنياه ل بُدّ له‬
‫من زوال‪.‬‬
‫والعقل يقول‪ :‬إن الشيء‪ ،‬إذا كان قليلً باقيا يفضل الكثير الذي ل يبقى‪ ،‬فما بالك إذا كان القليل هو‬
‫الذي يفنى‪ ،‬والكثير هو الذي يبقى‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬لو أعطيتُك فاكهة تكفيك أسبوعا أو شهرا فأكلتها في يوم واحد‪ ،‬فقد تمت ْعتَ بها مرة‬
‫ك منها مُتَ ٌع وأكلتٌ متعددة لو أكلتَها في وقتها‪.‬‬
‫واحدة‪ ،‬وفا َت َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك؛ فالحق سبحانه وتعالى يُنبّهك أنّ ما عند ال هو الخير الحقيقي‪ ،‬فجعل موازينك اليمانية‬
‫حمْق أن تبيع الكثير الباقي بالقليل الفاني‪:‬‬
‫دقيقة‪ ،‬فمن ال ُ‬
‫{ إِن كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ } [النحل‪.]95 :‬‬
‫حلّ المعادلت القتصادية‪.‬‬
‫في الية ِدقّة الحساب‪ ،‬و ِدقّة المقارنة‪ ،‬و ِدقّة َ‬
‫ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬مَا عِن َدكُمْ يَنفَدُ‪.} ..‬‬

‫(‪)1980 /‬‬

‫ن صَبَرُوا َأجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)96‬‬


‫ق وَلَ َنجْزِيَنّ الّذِي َ‬
‫مَا عِنْ َدكُمْ يَ ْنفَدُ َومَا عِ ْندَ اللّهِ بَا ٍ‬

‫يُوضّح الحق تبارك وتعالى أن حظّ النسان من دُنْياه عَ َرضٌ زائل‪ ،‬فإمّا أن تفوته بالموت‪ ،‬أو‬
‫يفوتك هو بما يجري عليك من أحداث‪ ،‬أما ما عند ال فهو بَاق ل نفاد له‪.‬‬
‫ن صَبَرُواْ‪[ } ..‬النحل‪.]96 :‬‬
‫{ وَلَ َنجْزِيَنّ الّذِي َ‬
‫كلمة { صَبَرُواْ } تدلّ على أن النسان سيتعرّض لِهزّاتٍ نفسية نتيجة ما يقع فيه من التردد بين‬
‫الوفاء بالعهد أو َنقْضه‪ ،‬حينما يلوح له بريق المال وتتحرّك بين جنباته شهوات النفس‪ ،‬فيقول له‬
‫الحق تبارك وتعالى‪ :‬اصبر‪ ..‬اصبر ل تكُنْ عَجُولً‪ ،‬وقارن المسائل مقارنة هادئة‪ ،‬وتحمّل كل‬
‫مشقة نفسية‪ ،‬وتغلّب على شهوة النفس؛ لتصل إلى النتيجة المحمودة‪.‬‬
‫فالتلميذ الذي يجتهد ويتعب ويتحمّل مشقة الدرس والتحصيل يصبر على الشهوات العاجلة لما‬
‫ينتظره من شهوات باقية آجلة‪ ،‬فوراء الدرس والتحصيل غايةٌ أكبر و َه َدفٌ أَسْمى‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى‪:‬‬
‫ن صَبَرُواْ‪[ } ..‬النحل‪.]96 :‬‬
‫{ وَلَ َنجْزِيَنّ الّذِي َ‬
‫أي‪ :‬على مشقّات الوفاء بالعهود‪.‬‬
‫حسَنِ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ } [النحل‪.]96 :‬‬
‫{ َأجْرَ ُهمْ بِأَ ْ‬
‫أي‪ :‬أجرا بالزيادة في الجزاء على أحسن ما يكون؛ فالنسان حين يعمل مفروضا أو مندوبا فله‬
‫الجزاء‪ ،‬أما المباح فالمفروض أل جزاء له‪ ،‬ولكنّ فضل ال يجزي عليه أيضا‪.‬‬
‫ل صَالِحا‪.} ...‬‬
‫ع ِم َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬مَنْ َ‬

‫(‪)1981 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسَنِ مَا‬
‫ع ِملَ صَاِلحًا مِنْ َذكَرٍ َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَ ُنحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّ َب ًة وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ أَجْرَ ُهمْ بِأَ ْ‬
‫مَنْ َ‬
‫كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)97‬‬

‫الحق تبارك وتعالى يُعطينا قضية عامة‪ ،‬هي قضية المساواة بين الرجل والمرأة‪ ،‬فالعهود كانت‬
‫عادةً تقع بين الرجال‪ ،‬وليس للمرأة تدخّل في إعطاء العهود‪ ،‬حتى إنها لما دخلتْ في عهد مع‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم يوم بيعة العقبة جعل واحدا من الصحابة يبايع النساء نيابة عنه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المرأة بعيدة عن هذا المعتَرك نظرا لن هذا من خصائص الرجال عادةً‪ ،‬أراد سبحانه أن‬
‫يقول لنا‪ :‬نحن ل نمنع أن يكونَ للنثى عملٌ صالح‪.‬‬
‫ول تظنّ أن المسألة منسحبة على الرجال دون النساء‪ ،‬فالعمل الصالح مقبول من الذكر والنثى‬
‫ن يتوفّر له اليمان‪ ،‬ولذلك يقول تعالى‪:‬‬
‫على حدّ سواء‪ ،‬شريطة أ ْ‬
‫{ وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ‪[ } ..‬النحل‪.]97 :‬‬
‫جدْوى ويكون مقبولً عند ال؛ ولذلك نرى كثيرا من الناس الذين يُقدّمون‬
‫وبذلك يكون العمل له َ‬
‫أعمالً صالحة‪ ،‬ويخدمون البشرية بالختراعات والكتشافات‪ ،‬ويداوون المرضى‪ ،‬ويبنون‬
‫المستشفيات والمدارس‪ ،‬ولكن ل يتوفر لهم شرط اليمان بال‪.‬‬
‫حظّ لهم في‬
‫فنرى الحق تبارك وتعالى ل يبخس هؤلء حقهم‪ ،‬ولكن يُعجّله لهم في الدنيا؛ لنه ل َ‬
‫أجر الخرة‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ َلهُ فِي حَرْثِهِ َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ‬
‫الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى‪.]20 :‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬فمَن َي ْعمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـ َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا‬
‫يَ َرهُ }[الزلزلة‪.]8-7 :‬‬
‫وهذا كله خاصّ بأمور الدنيا‪ ،‬فالذي يحسن شيئا ينال ثمرته‪ ،‬لكن في جزاء الخرة نقول لهؤلء‪:‬‬
‫ل حَظّ لكم اليوم‪ ،‬وخذوا أجركم ِممّنْ عملتُم له فقد عملتُم الخير للنسانية للشهرة وخلود الذكْر‪،‬‬
‫وقد أخذتم ذلك في الدنيا فقد خَلّدوا ِذكْراكم‪ ،‬ورفعوا شأنكم‪ ،‬وصنعوا لكم التماثيل‪ ،‬ولم يبخسوكم‬
‫شهْرة والتكريم‪.‬‬
‫حقّكم في ال ّ‬
‫َ‬
‫ويوم القيامة يواجههم الحق سبحانه وتعالى‪ :‬فعلتم ليقال‪ ..‬وقد قيل‪ ،‬فاذهبوا وخذوا ممّنْ عملتم لهم‪.‬‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا‬
‫حسَبُهُ ال ّ‬
‫عمَاُل ُهمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ‬
‫هؤلء الذين قال ال في حقهم‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫حسَابِ }[النور‪.]39 :‬‬
‫جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَابَ ُه وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ‬
‫ن يؤمن به ويعمل ابتغاء وجهه ومرضاته‪.‬‬
‫يُفاجأ يوم القيامة أن له إلها كان ينبغي أ ْ‬
‫ط لقبول العمل الصالح‪ ،‬فإذا ما توفر اليمان فقد استوى ال ّذكَر والنثى في‬
‫إذن‪ :‬فاليمان شَ ْر ٌ‬
‫الثواب والجزاء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يقول تعالى‪:‬‬
‫{ فَلَ ُنحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّ َبةً‪[ } ..‬النحل‪.]97 :‬‬
‫هذه هي النتيجة الطبيعة للعمل الصالح الذي يبتغي صاحبه وجه ال والدار الخرة‪ ،‬فيجمع ال له‬
‫حظين من الجزاء‪ ،‬حظا في الدنيا بالحياة الطيبة الهانئة‪ ،‬وحظا في الخرة‪:‬‬
‫{ وَلَ َنجْزِيَ ّنهُمْ َأجْرَهُم بَِأحْسَنِ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ } [النحل‪.]97 :‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ { :‬فَإِذَا قَرَ ْأتَ‪.} ...‬‬

‫(‪)1982 /‬‬

‫فَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرْآَنَ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ (‪)98‬‬

‫الستعاذة‪ :‬اللجوء والعتصام بال من شيء تخافُه‪ ،‬فأنت ل تلجأ ول تعتصم‪ ،‬ول تستجير ول‬
‫تستنجد إل إذا استشعرتَ في نفسك أنك ضعيف عن مقاومة عدوك‪.‬‬
‫فإذا كان عدوك الشيطان بما جعل ال له من قوة وسلطان‪ ،‬وما له من مداخل للنفس البشرية فل‬
‫ل لك ول ُقوّة في مقاومته إل أنْ تلجأ إلى ال القوي الذي خلقك وخلق هذا الشيطان‪ ،‬وهو‬
‫ح ْو َ‬
‫َ‬
‫القادر وحده على َردّه عنك؛ لن الشيطان في معركة مع النسان تدور رحاها إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ‬
‫وقد أقسم الشيطان للحق تبارك وتعالى‪ ،‬فقال‪ {:‬قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص‪.]83-82 :‬‬
‫فما عليك إل أن تكون من هؤلء‪ ،‬ما عليك إل أنْ ترتمي في حضن ربك عز وجل وتعتصم به‪،‬‬
‫فهو سبحانه القوي القادر على أنْ يدفعَ عنك ما لم تستطع أنت َدفْعه عن نفسك‪ ،‬فل تقاومه بقوتك‬
‫أنت؛ لنه ل طاقة لك به‪ ،‬ول تدعه ينفرد بك؛ لنه إن انفرد بك وأبعدك عن ال فسوف تكون له‬
‫الغلبة‪.‬‬
‫ل ول قوةَ إل بال‪ ،‬أي‪ :‬ل حول‪ :‬ل تحوّل عن المعصية‪ .‬ول قوة‪ .‬أي‪:‬‬
‫حوْ َ‬
‫ولذلك نقول دائما‪ :‬ل َ‬
‫على الطاعة إل بال‪.‬‬
‫ونحن نرى الصبي الصغير الذي يسير في الشارع مثلً قد يتعرّض لمَنْ يعتدي عليه من أمثاله‬
‫من الصبية‪ ،‬أما إذا كان في صُحْبة والده فل يجرؤ أحد منهم أنْ يتعرضَ له‪ ،‬فما بالك بمَنْ يسير‬
‫صحْبة ربه تبارك وتعالى‪ ،‬ويُلْقي بنفسه في حماية ال سبحانه؟!‬
‫في ُ‬
‫وفي مقام الستعاذة بال نذكر قاعدة إيمانية علّمنا إياها الرسول صلى ال عليه وسلم في حديثه‬
‫الشريف‪ " :‬من استعاذ بال فأعيذوه "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فيلزم المؤمن أنْ يعيذ من استعاذ بال‪ ،‬وإنْ كان في أحب الشياء إليه‪ " ،‬والرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم يعطينا القدوة في ذلك‪ ،‬حينما تزوج من فتاة على قدر كبير من الحسن والجمال لدرجة أن‬
‫ن في الكَيْد لها وزحزحتها من أمامهن حتى ل تغلبهن على قلب النبي‬
‫نساءه غِرْنَ منها‪ ،‬وأخذْ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن كيف لهُنّ ذلك؟‬
‫حاولْنَ استغلل أن هذه الفتاة ما تزال صغيرة غِرة‪ ،‬تتمتع بسلمة النية وصفاء السريرة‪ ،‬ليس‬
‫لديها من تجارب الحياة ما تتعلم منه ُلؤْما أو مكْرا‪ ،‬وهي أيضا ما تزال في نشوة فرحتها بأنْ‬
‫أصبحت أما للمؤمنين‪ ،‬وتحرص كل الحرص على إرضاء النبي صلى ال عليه وسلم فاستغل‬
‫ت على رسول ال فقولي‬
‫نساء النبي صلى ال عليه وسلم هذا كله‪ ،‬وقالت لهن إحداهن‪ :‬إذا دخل ِ‬
‫له‪ :‬أعوذ بال منك‪ ،‬فإنه يحب هذه الكلمة‪.‬‬
‫أخذت الفتاة هذه الكلمة بما لديها من سلمة النية‪ ،‬ومحبة لرسول ال‪ ،‬وحرص على إرضائه‪،‬‬
‫عذْت‬
‫وقالت له‪ :‬أعوذ بال منك‪ ،‬وهي ل تدري معنى هذه العبارة فقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬لقد ُ‬
‫بمعاذ‪ ،‬الحقي بأهلك "‪.‬‬

‫أي‪ :‬ما ُدمْت استعذت بال فأنا قبلت هذه الستعاذة؛ لنكِ استعذت بمعاذ أي‪ :‬بمن يجب علينا أن‬
‫نترككِ من أجله‪ ،‬ثم طلقها النبي صلى ال عليه وسلم امتثالً لهذه الستعاذة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬مَن استعاذ بال ل بُدّ للمؤمن أنْ يُعيذه‪ ،‬ومن استجار بال ل ُب ّد للمؤمن أن يكون جنديا من‬
‫جنود ال‪ ،‬ويجيره حتى يبلغ مأمنه‪.‬‬
‫وفي الية الكريمة أسلوب شرط‪ ،‬اقترن جوابه بالفاء في قوله تعالى‪:‬‬
‫} فَاسْ َتعِذْ‪[ { ...‬النحل‪.]98 :‬‬
‫فإذا رأيت الفاء فاعلم أن ما بعدها مترتبٌ على ما قبلها‪ ،‬كما لو قُ ْلتَ‪ :‬إذا قابلت محمدا ف ُقلْ له‬
‫كذا‪ ..‬فل يتم القول إل بعد المقابلة‪ .‬أما في الية الكريمة فالمراد‪ :‬إذا أردت قراءة القرآن فاستعِذْ؛‬
‫لن الستعاذة هنا تكون سابقة على القراءة‪ ،‬كما جاء في قَول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ‬
‫آمَنُواْ إِذَا ُقمْتُمْ إِلَى الصّلةِ فاغْسِلُو ْا وُجُو َهكُمْ‪[} ..‬المائدة‪.]6 :‬‬
‫فالمعنى‪ :‬إذا أرد ُتمْ إقامة الصلة فاغسلوا وجوهكم‪ ،‬وكذلك إذا أردتَ قراءة القرآن فاستعذ بال من‬
‫الشيطان الرجيم؛ لن القرآن كلم ال‪.‬‬
‫ولو آمنّا أن ال سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم لعلمنا أن قراءة القرآن تختلف عن أي قراءة‬
‫أخرى‪ ،‬فأنت كي تقرأ القرآن تقوم بعمليات متعددة‪:‬‬
‫أولها‪ :‬استحضار قداسة المُنْزِل سبحانه الذي آمنتَ به وأقبلتَ على كلمه‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬استحضار صدق الرسول في بلغ القرآن المنزّل عليه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثالثها‪ :‬استحضار عظمة القرآن الكريم‪ ،‬بما فيه من أوجه العجاز‪ ،‬وما يحويه من الداب‬
‫والحكام‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لديك ثلث عمليات تستعد بها لقراءة كلم ال في قرآنه الكريم‪ ،‬وكل منها عمل صالح لن‬
‫يدعكَ الشيطانُ تؤديه دون أنْ يتعرّض لك‪ ،‬ويُوسوس لك‪ ،‬ويصرفك عما أنت مُق ِبلٌ عليه‪.‬‬
‫وساعتها لن تستطيع منعه إل إذا استعنت عليه بال‪ ،‬واستعذتَ منه بال‪ ،‬وبذلك تكون في معية ال‬
‫منزل القرآن سبحانه وتعالى‪ ،‬وفي رحاب عظمة المنزل عليه محمد صدقا‪ ،‬ومع استقبال ما في‬
‫القرآن من إعجاز وآداب وأحكام‪.‬‬
‫ومن هنا وجب علينا الستعاذة بال من الشيطان قبل قراءة القرآن‪.‬‬
‫حمْل المعنى على الستعاذة أيضا بعد قراءة القرآن‪ ،‬فيكون المراد‪ :‬إذا قرأتَ‬
‫ومع ذلك ل مانع من َ‬
‫القرآن فاستعذ بال‪ ..‬أي‪ :‬بعد القراءة؛ لنك بعد أن قرأتَ كتاب ال خرجتَ منه بزاد إيماني‬
‫ضتَ لداب وأحكام طُلبت منك‪ ،‬فعليك ـ إذن ـ أن تستعيذ بال من‬
‫وتجليّات ربانية‪ ،‬وتع ّر ْ‬
‫الشيطان أن يفسِد عليك هذا الزاد وتلك التجليات أو يصرفك عن أداء هذه الداب والحكام‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ { [النحل‪.]98 :‬‬
‫أي‪ :‬الملعون المطرود من رحمة ال؛ لن الشيطان ليس مخلوقا جديدا يحتاج أنْ نُجرّبه لنعرف‬
‫طبيعته وكيفية التعامل معه‪ ،‬بل له معنا سوابق عداء منذ أبينا آدم عليه السلم‪.‬‬
‫جكَ‪[} ..‬طه‪.]117 :‬‬
‫ك وَلِ َزوْ ِ‬
‫ع ُدوّ ّل َ‬
‫وقد حذر ال تعالى آدم منه فقال‪ {:‬يآءَادَمُ إِنّ هَـاذَا َ‬
‫وسبق أنْ رُجم وُلعِن وأُبعِد من رحمة ال‪ ،‬فقد هددنا بقوله‪ {:‬لَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّ َتهُ‪[} ..‬السراء‪.]62 :‬‬
‫إذن‪ :‬هناك عداوة مسبقة بيننا وبينه منذ خُلِق النسان‪ ،‬وإلى قيام الساعة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّهُ لَيْسَ لَهُ‪.{ ..‬‬

‫(‪)1983 /‬‬

‫إِنّهُ لَ ْيسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الّذِينَ َآمَنُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ (‪)99‬‬

‫لحكمة أرادها الخالق سبحانه أنْ جعل للشيطان سلطانا‪ .‬أي‪ :‬تسلطا‪.‬‬
‫وكلمة (السلطان) مأخوذة من السّليط‪ ،‬وهو الزيت الذي كانوا يُوقِدون به السّرج والمصابيح قبل‬
‫اكتشاف الكهرباء‪ ،‬فكانوا يضعون هذا الزيت في إناء مغلق مثل السلطانية يخرج منه فتيلة‪،‬‬
‫سمّيتْ الحجة سُلْطانا؛ لنها تنير لصاحبها‬
‫وعندما توقد تمتصّ من هذا الزيت وتُضيء؛ ولذلك ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَجْه الحق‪.‬‬
‫والسلطان‪ ،‬إما سلطان حجة تقنعك بالفعل‪ ،‬فتفعل وأنت راضٍ مقتنع به‪ .‬وإما سلطان َقهْر وغلبة‬
‫يجبرك على الفعل ويحملك عليه َقهْرا دون اقتناع به‪.‬‬
‫إذن‪ :‬تنفيذ المطلوب له قوتان‪ :‬قوة الحجة التي تُضيء لك وتُوضّح أمامك معالم الحق‪ ،‬وقوة القهر‬
‫التي تُجبرك على تنفيذ المطلوب عن غير اقتناع وإنْ لم ترهَا‪.‬‬
‫والحقيقة أن الشيطان ل يملك أيّا من هاتين القوتين‪ ،‬ل قوة الحجة والقناع‪ ،‬ول قوة القهر‪ .‬وهذا‬
‫ضيَ‬
‫واضح في قول الحق تبارك وتعالى على لسان الشيطان يوم القيامة‪َ {:‬وقَالَ الشّ ْيطَانُ َلمّا ُق ِ‬
‫عوْ ُتكُمْ‬
‫ق َووَعَدّتكُمْ فَأَخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ‬
‫لمْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َد ُك ْم وَعْدَ ا ْلحَ ّ‬
‫اَ‬
‫خيّ إِنّي َكفَ ْرتُ ِبمَآ‬
‫خكُ ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْ ِر ِ‬
‫سكُمْ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ‬
‫أَشْ َركْ ُتمُونِ مِن قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[إبراهيم‪.]22 :‬‬
‫هذا حوار يدور يوم القيامة بعد أن انتهتْ المسألة وتكشفتْ الحقيقة‪ ،‬وجاء وقت المصارحة‬
‫والمواجهة‪ .‬يقول الشيطان لوليائه مُتنصلً من المسئولية‪ :‬ما كان عندي من سلطان عليكم‪ ،‬ل‬
‫ن تفعلوا عن رضا‪ ،‬ول سلطان َقهْر أجبركم به أن تفعلوا وأنتم كارهون‪ ،‬أنا‬
‫سلطان حجة تقنعكم أ ْ‬
‫خيّ‪[} ..‬إبراهيم‪.]22 :‬‬
‫خكُ ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫ت ووسوستُ فأتيتموني طائعين‪ {.‬مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫فقط أشر ُ‬
‫خ يكون من‬
‫أي‪ :‬نحن في الخيبة سواء‪ ،‬فل أستطيع نجدتكم‪ ،‬ول تستطيعون نجدتي؛ لن الصّرا َ‬
‫شخص وقع في ضائقة أو شدة ل يستطيع الخلص منها بنفسه‪ ،‬فيصرخ بصوت عالٍ لعله يجد‬
‫مَنْ يُغيثه ويُخلّصه‪ ،‬فإذا ما استجاب له القوم فقد أصرخوه‪ .‬أي‪ :‬أزالوا سبب صُرَاخه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمعنى‪ :‬ل أنا أستطيع إزالة سبب صراخكم‪ ،‬ول أنتم تستطيعون إزالة سبب صُرَاخي‪.‬‬
‫وكذلك في حوار آخر دار بين أهل الباطل الذين تكاتفوا عليه في الدنيا‪ ،‬وها هي المواجهة يوم‬
‫ضهُمْ‬
‫القيامة‪َ {:‬و ِقفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ * مَا َلكُمْ لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ ُهمُ الْ َيوْمَ مُسْ َتسِْلمُونَ * وََأقْبَلَ َب ْع ُ‬
‫عَلَىا َب ْعضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُواْ إِ ّن ُكمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْ َيمِينِ * قَالُواْ َبلْ لّمْ َتكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * َومَا‬
‫كَانَ لَنَا عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ َبلْ كُن ُتمْ َقوْما طَاغِينَ }[الصافات‪.]30-24 :‬‬
‫والمراد بقوله‪( :‬عَنِ ال َيمِينِ) أن النسان يزاول أعماله بكلتا يديه‪ ،‬لكن اليد اليمنى هي ال ُعمْدة في‬
‫العمل‪ ،‬فأتيته عن اليمين أي‪ :‬من ناحية اليد الفاعلة‪.‬‬
‫وقوله‪َ {:‬ومَا كَانَ لَنَا عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ َبلْ كُنتُمْ َقوْما طَاغِينَ }[الصافات‪.]30 :‬‬
‫أي‪ :‬في انتظار إشارة منّا‪ ،‬مجرد إشارة‪ ،‬فسارعتم ووقعتم فيما وقعتُم فيه‪.‬‬
‫فعلى مَنْ يكون تسلط الشيطان وتلك الغلبة والقهر؟‬
‫يُوضّح الحق تبارك وتعالى أن تسلّط الشيطان ل يقع على مَنْ آمن به ربا‪ ،‬ولجأ إليه واعتصم به‪،‬‬
‫حفْظه‪ ،‬ول يستطيع الشيطان وهو مخلوق ل تعالى أنْ‬
‫وما ُدمْت آمنتَ بال فأنت في مَعيّته و ِ‬
‫يتسلط عليك أو يغلبك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬الحصن الذي يقينا كيْدَ الشيطان هو اليمان بال والتوكّل عليه سبحانه‪.‬‬
‫فعلى مَنْ إذن يتسلّط الشيطان؟‬
‫يُوضّح الحق تبارك وتعالى الجانب المقابل‪ ،‬فيقول‪ { :‬إِ ّنمَا سُلْطَانُهُ‪.} ..‬‬

‫(‪)1984 /‬‬

‫إِ ّنمَا سُ ْلطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَ َتوَّلوْنَ ُه وَالّذِينَ ُهمْ بِهِ ُمشْ ِركُونَ (‪)100‬‬

‫معنى يتولونه‪ :‬أي يتخذونه وَليّا يطيعون أمره‪ ،‬ويخضعون لوسوسته‪ ،‬ويتبعون خطواته‪:‬‬
‫{ الّذِينَ يَ َتوَّلوْنَ ُه وَالّذِينَ هُم ِبهِ مُشْ ِركُونَ } [النحل‪.]100 :‬‬
‫أي‪ :‬مشركون بال‪ ،‬أو يكون المعنى‪ :‬وهُمْ به أي بسببه أشركوا؛ لنه أصبح له أوامر ونواه وهم‬
‫يطيعونه‪ ،‬وهذه هي العبادة بعينها‪ ،‬فكأنهم عبدوه من دون ال بما قدّموه من طاعته في أمره‬
‫و َنهْيه‪.‬‬
‫صوْت‬
‫سمّى ال طريقة الشيطان في الضلل والغواية وَسْوسةً‪ ،‬والوسوسة في الحقيقة هي َ‬
‫وقد َ‬
‫الحُليّ حينما يتحرك في أيدي النساء‪ ،‬فيُحدِث صوتا رقيقا فيه جاذبية وإغراء تهيج له النفس‪،‬‬
‫وكذلك الشيطان يدخل إليك عن طريق الغراء والتزيين‪ ،‬فإذا ما هاجتْ عليك نفسُك وحدّثتْك‬
‫بالمعصية تركك لها‪ ،‬فعند هذه النقطة تنتهي مُهمته‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬هل النفس ل تفعل المعصية إل بوسوسة الشيطان؟‬
‫قالوا‪ :‬ل‪ ،‬فالنفس ـ والمراد هنا النفس المّارة بالسوء ـ قد تفعل المعصية من نفسها دون‬
‫سوِسُ الشيطان لها‪ ،‬وينزغها نَزغا ويُؤلّبها‪ ،‬ويُزّين لها معصية ما‬
‫وسوسة من الشيطان‪ ،‬وقد يُو ْ‬
‫كانت على بالها‪.‬‬
‫فكيف ـ إذن ـ يُفرّق بين هاتين المعصيتين؟‬
‫النفس حينما ترغب في معصية أو شهوة تراها تقف عند معصية بعينها ل تتزحزح عنها‪ ،‬وإذا‬
‫حتْ عليك بها‪ ،‬وطلبتها بعينها‪ ،‬فشهوة النفس‬
‫قاومتَ نفسك‪ ،‬وحاولتَ صَرْفها عن هذه الشهوة أل ّ‬
‫إذن ثابتة؛ لنها تشتهي شيئا واحدا تُلح عليه‪.‬‬
‫ولكن حينما يُوسوِسُ الشيطان لك بشهوة فوجد منك مقاومة وقدرة على مجابهته صرف نظرك‬
‫إلى أخرى؛ لنه يريدك عاصيا بأيّ شكل من الشكال‪ ،‬فتراه يُزيّن لك معصية أخرى وأخرى‪،‬‬
‫إلى أنْ ينال منك ما يريد‪.‬‬
‫ن رفضتَ رشوة المال زيّن لك رشوة‬
‫ومن ذلك ما نراه في الرشوة مثلً ـ والعياذ بال ـ فإ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الهدية‪ ،‬وإنْ رفضتَ رشوة الهدية زيّنَ لك الرشوة بقضاء مصلحة مقابلة‪.‬‬
‫ضعْف فيك‪ ،‬إذن‪ :‬فهو ليس كالنفس يقف بك‬
‫وهكذا يظل هذا اللعين وراءك حتى يصل إلى نقطة َ‬
‫ي صورة من الصور‪.‬‬
‫عند شهوة واحدة‪ ،‬ولكنه يريد أن يُوقِع بك على أ ّ‬
‫ولكي نقفَ على مداخل الشيطان ونكون منه على حَذر يجب أنْ نعلم أن الشيطان على علم كبير‬
‫سمّوه " طاووس الملئكة " ‪ ،‬ويمكن أن نقف على شيء من‬
‫وصل به إلى صفوف الملئكة‪ ،‬بل َ‬
‫علم الشيطان في ِدقّة قَسَمه‪ ،‬حينما أقسم للحق تبارك وتعالى أن يُغوي بني آدم‪ ،‬فقال‪ {:‬فَ ِبعِزّ ِتكَ‬
‫ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص‪.]83-82 :‬‬
‫لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫هكذا عرف الشيطان أنْ يُقسِم القسَم المناسب‪ ،‬فلم َي ُقلْ‪ :‬بقوتي ول بحجتي سأغوي الخَلْق‪ ،‬بل‬
‫عرف ل تعالى صفة العزة‪ ،‬فهو سبحانه عزيز ل يُغلب؛ لذلك ترك لخلْقه حرية اليمان به‪،‬‬
‫فقال‪َ {:‬فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف‪.]29 :‬‬
‫خلْقك‪ :‬يؤمن مَنْ يؤمن‪ ،‬ويكفر مَنْ يكفر‪ ،‬سوف أدخل من هذا الباب لغواء‬
‫فالمعنى‪ :‬فبعزتك عن َ‬
‫البشر‪ ،‬ولكني ل أجرؤ على القتراب ممّنْ اخترتَهم واصطفيتَهم‪ ،‬لن أتع ّرضَ لعبادك المخلصين‪،‬‬
‫خلَ لي بهم‪ ،‬ول سلطان لي عليهم‪.‬‬
‫ول دَ ْ‬

‫كذلك يجب أن نعلم أن الشيطان دقيق في تخطيطه‪ ،‬وهذا من مداخله وتلبيسه الذي يدعونا إلى‬
‫الحذر من هذا اللعين‪ .‬فالشيطان ل حاجة له في أن يذهب إلى الخمارات مثلً‪ ،‬فقد كفاه أهلُها مشقة‬
‫الوَسْوسة‪ ،‬ووفّروا عليه المجهود‪ ،‬هؤلء هم أولياؤه وأحبابه ومُريحوه بما هم عليه من معصية‬
‫ال‪ ،‬ولكنه في حاجة إلى أن يكون في المساجد ليُفسِد على أهل الطاعة طاعتهم‪.‬‬
‫وقد أوضح هذه القضية وفطن إليها المام الجليل أبو حنيفة النعمان‪ ،‬وكان مشهورا بالفِطْنة‪ ،‬وعلى‬
‫دراية بمداخل الشيطان وتلبيسه‪ ،‬وكل هذا جعل له باعا طويلً في الفتاء‪ ،‬وقد عرض عليه أحدهم‬
‫هذه المسألة‪:‬‬
‫قال‪ :‬يا إمام كان لديّ مال دفنته في مكان كذا‪ ،‬وجعلتُ عليه علمة‪ ،‬فجاء السّيْل وطمس هذه‬
‫العلمة‪ ،‬فلم أَهتدِ إليه‪ ،‬فماذا أفعل؟‬
‫فتبسّم أبو حنيفة وقال‪ :‬يا بُني ليس في هذا علم‪ ،‬ففي أيّ باب من أبواب الفقه سيجد أبو حنيفة هذه‬
‫القضية؟! ولكني سأحتال لك‪.‬‬
‫ت في الليل‬
‫وفعلً تفتقتْ قريحة المام عن هذه الحيلة التي تدل على عِلْمه وفقهه‪ ،‬قال له‪ :‬إذا جئ َ‬
‫فتوضّأ‪ ،‬وقُمْ بين يدي ربّك مُتهجّدا‪ .‬وفي الصباح أخبرني خبرك‪.‬‬
‫ت المال‪ ،‬فقال‪ :‬كيف؟ قال الرجل‪ :‬حينما‬
‫وفي صلة الفجر قابله الرجل مُبتسِما‪ .‬يقول‪ :‬لقد وجد ُ‬
‫وقفتُ بين يديْ ربي في الصلة تذكرت المكان وذهبتُ فوجدت مالي‪ ،‬فضحك المام وقال‪ :‬وال‬
‫لقد علمت أن الشيطان لن يدعَك تُتِم ليلتك مع ربك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَِإذَا بَدّلْنَآ آيَةً ّمكَانَ آيَةٍ‪.{ ..‬‬

‫(‪)1985 /‬‬

‫وَإِذَا َبدّلْنَا آَ َيةً َمكَانَ آَيَ ٍة وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ قَالُوا إِ ّنمَا أَ ْنتَ ُمفْتَرٍ َبلْ َأكْثَرُهُمْ لَا َيعَْلمُونَ (‪)101‬‬

‫قوله‪َ { :‬بدّلْنَآ } ومنها‪ :‬أبدلت واستبد ْلتُ‪ ،‬أي‪ :‬رفعتُ آية وطرحتُها‪ .‬وجئت بأخرى بدلً منها‪ ،‬وقد‬
‫تدخل الباء على الشيء المتروك‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬أَتَسْتَ ْبدِلُونَ الّذِي ُهوَ َأدْنَىا بِالّذِي ُهوَ خَيْرٌ‪..‬‬
‫}[البقرة‪.]61 :‬‬
‫أي‪ :‬تتركون ما هو خير‪ ،‬وتستبدلون به ما هو أدنى‪.‬‬
‫وما معنى الية؟ كلمة آية لها َمعَانٍ متعددة منها‪:‬‬
‫ـ الشيء العجيب الذي يُلفت النظار‪ ،‬ويُبهر العقول‪ ،‬كما نقول‪ :‬هذا آية في الجمال‪ ،‬أو في‬
‫الشجاعة‪ ،‬أو في الذكاء‪ ،‬أي‪ :‬وصل فيه إلى حَدّ يدعو إلى التعجّب والنبهار‪.‬‬
‫ـ ومنها اليات الكونية‪ ،‬حينما تتأمل في كون ال من حولك تجد آياتٍ تدلّ على إبداع الخالق‬
‫سبحانه وعجيب صنعته‪ ،‬وتجد تناسقا وانسجاما بين هذه اليات الكونية‪.‬‬
‫شمْسُ وَالْ َقمَرُ }[فصلت‪{.]37 :‬‬
‫يقول تعالى عن هذا النوع من اليات‪َ {:‬ومِنْ آيَاتِهِ الّيلُ وَال ّنهَا ُر وَال ّ‬
‫جوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالَعْلَمِ }[الشورى‪.]32 :‬‬
‫َومِنْ آيَاتِهِ ا ْل َ‬
‫جدَ لِسُنّةِ‬
‫ونلحظ أن هذه اليات الكونية ثابتة دائمة ل تتبّدل‪ ،‬كما قال الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَلَن تَ ِ‬
‫اللّهِ تَ ْبدِيلً‪[} ..‬الفتح‪.]23 :‬‬
‫ـ ومن معاني الية‪ :‬المعجزة‪ ،‬وهي المر العجيب الخارق للعادة‪ ،‬وتأتي المعجزة على أيدي‬
‫حجّة لهم‪ ،‬ودليلً على صدق ما جاءوا به من عند ال‪.‬‬
‫النبياء لتكون ُ‬
‫ونلحظ في هذا النوع من اليات أنه يتبدّل ويتغيّر من نبي لخر؛ لن المعجزة ل يكون لها أثرها‬
‫إل إذا كان في شيء نبغ فيه القوم؛ لن هذا هو مجال العجاز‪ ،‬فلو أتيناهم بمعجزة في مجال ل‬
‫عِلْمَ لهم به لقالوا‪ :‬لو أن لنا عِلْما بهذا لتيْنا بمثله؛ لذلك تأتي المعجزة فيما نبغُوا فيه‪ ،‬وعَلموه جيدا‬
‫حتى اشتهروا به‪.‬‬
‫فلما نبغَ قوم موسى عليه السلم في السحر كانت معجزته من نوع السحر الذي يتحدى سحرهم‪،‬‬
‫فلما جاء عيسى ـ عليه السلم ـ ونبغ قومه في الطب والحكمة كانت معجزته من نفس النوع‪،‬‬
‫فكان ـ عليه السلم ـ يبريء الكمه والبرص ويحي الموتى بإذن ال‪.‬‬
‫فلما ُبعِث محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونبغ قومه في البلغة والفصاحة والبيان‪ ،‬وكانوا يقيمون لها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السواق‪ ،‬ويُعلّقون قصائدهم على أستار الكعبة اعتزازا بها‪ ،‬فكان ل بُدّ أنْ يتحدّاهم بمعجزة من‬
‫جنس ما نبغوا فيه وهي القرآن الكريم‪ ،‬وهكذا تتبدّل المعجزات لتناسب ُكلّ منها حال القوم‪،‬‬
‫وتتحدّاهم بما اشتهروا به‪ ،‬لتكون أَدْعى للتصديق وأثبت للحجة‪.‬‬
‫ـ ومن معاني كلمة آية‪ :‬آيات القرآن الكريم التي نُسميّها حاملة الحكام‪ ،‬فإذا كانت الية هي‬
‫المر العجيب‪ ،‬فما وجه العجب في آيات القرآن؟‬
‫وجه العجب في آيات القرآن أن تجدَ هذه اليات في ُأمّة أُمية‪ ،‬وأُنزِلتْ على نبي أُميّ في قوم من‬
‫البدو الرّحل الذين ل يجيدون شيئا غير صناعة القول والكلم الفصيح‪ ،‬ثم تجد هذه اليات تحمل‬
‫من القوانين والحكام والداب ما يُرهب أقوى حضارتين معاصرتين‪ ،‬هما حضارة فارس في‬
‫الشرق‪ ،‬وحضارة الرومان في الغرب‪ ،‬فنراهم يتطلّعون للسلم‪ ،‬ويبتغون في أحكامه ما ينقذهم‪،‬‬
‫أليس هذا عجيبا؟‬
‫وهذا النوع الخير من اليات التي هي آيات الكتاب الكريم‪ ،‬والتي نُسمّيها حاملة الحكام‪ ،‬هل‬
‫تتبدّل هي الخرى كسابقتها؟‬
‫نقول‪ :‬آيات الكتاب ل تتبدّل؛ لن أحكام ال المطلوبة ِممّن عاصر رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫كالحكام المطلوبة ِممّنْ تقوم عليه الساعة‪.‬‬

‫وقد سُبق السلم باليهودية والمسيحية‪ ،‬فعندنا أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بتحويل القبلة‬
‫من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة‪ .‬اعترض على ذلك اليهود وقالوا‪ :‬ما بال محمد ل يثبتُ على‬
‫حال‪ ،‬فيأمر بالشيء اليوم‪ ،‬ويأمر بخلفه غدا‪ ،‬فإنْ كان البيت الصحيح هو الكعبة فصلتكم لبيت‬
‫المقدس باطلة‪ ،‬وإنْ كان بيت المقدس هو الصحيح‪ ،‬فصلتكم للكعبة باطلة‪.‬‬
‫لذلك قال الحق تبارك وتعالى‪:‬‬
‫} وَإِذَا بَدّلْنَآ آيَةً ّمكَانَ آيَ ٍة وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ قَالُواْ إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ‪[ { ..‬النحل‪.]101 :‬‬
‫فالمراد بقوله الحق سبحانه‪:‬‬
‫} آيَةً ّمكَانَ آ َيةٍ‪[ { ...‬النحل‪.]101 :‬‬
‫أي‪ :‬جِئْنا بآية تدلّ على حكم يخالف ما جاء في التوراة‪ ،‬فقد كان استقبال الكعبة في القرآن بدل‬
‫استقبال بيت المقدس في التوراة‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ‪[ { ..‬النحل‪]101 :‬‬
‫أي‪ :‬يُنزل كل آية حَسْب ظروفها‪ :‬أمةً وبيئ ًة ومكانا وزمانا‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬قَالُواْ إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ‪[ { ..‬النحل‪.]101 :‬‬
‫أي‪ :‬اتهموا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالكذب المتعمد‪ ،‬وأن هذا التحويل من عنده‪ ،‬وليس‬
‫وَحْيا من ال تعالى؛ لن أحكام ال ل تتناقض‪ .‬ونقول‪ :‬نعم أحكام ال سبحانه وتعالى ل تتناقض‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في الدين الواحد‪ ،‬أما إذا اختلفتْ الديان فل مانعَ من اختلف الحكام‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فآيات القرآن الكريم ل تتبدّل‪ ،‬ولكن يحدث فيها َنسْخ‪ ،‬كما قال الحق تبارك وتعالى‪ {:‬مَا‬
‫سهَا نَ ْأتِ ِبخَيْرٍ مّ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا‪[} ..‬البقرة‪.]106 :‬‬
‫نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ نُن ِ‬
‫وإليك أمثلة للنسْخ في القرآن الكريم‪:‬‬
‫طعْتُمْ‪[} ..‬التغابن‪.]16 :‬‬
‫حينما قال الحق سبحانه‪ {:‬فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْ َت َ‬
‫جعل الستطاعة ميزانا للعمل‪ ،‬فالمشرّع سبحانه حين يرى أن الستطاع َة ل تكفي يُخفّف عنّا‬
‫الحكم‪ ،‬حتى ل يُكلّفنا فوق طاقتنا‪ ،‬كما في صيام المريض والمسافر مثلً‪ ،‬وقد قال تعالى‪ {:‬لَ‬
‫س َعهَا‪[} ...‬البقرة‪.]286 :‬‬
‫ل وُ ْ‬
‫ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ‬
‫وقال‪ {:‬لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإلّ مَآ آتَاهَا }[الطلق‪.]7 :‬‬
‫فليس لنا بعد ذلك أنْ نلويَ اليات ونقول‪ :‬إن الحكم الفلني لم َتعُدْ النفس تُطيقه ولم َيعُد في‬
‫وُسْعنا‪ ،‬فالحق سبحانه هو الذي يعلم الوُسْع ويُكلّف على قَدْره‪ ،‬فإنْ كان قد كلّف فقد علم الوُسْع‪،‬‬
‫خ ّففَ‬
‫بدليل أنه سبحانه إذا وجد مشقة خفّف عنكم من تلقاء نفسه سبحانه‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬النَ َ‬
‫ضعْفا‪[} ..‬النفال‪.]66 :‬‬
‫اللّهُ عَن ُك ْم وَعَلِمَ أَنّ فِي ُك ْم َ‬
‫ففي بداية السلم حيث شجاعة المسلمين وقوتهم‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬

‫ن صَابِرُونَ َيغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ }[النفال‪.]65 :‬‬


‫{ إِن َيكُن مّنكُمْ عِشْرُو َ‬
‫خ ّففَ اللّهُ عَن ُك ْم وَعَلِمَ‬
‫ضعْفا‪ ،‬قال‪ {:‬النَ َ‬
‫أي‪ :‬نسبة واحد إلى عشرة‪ ،‬فحينما علم الحق سبحانه فيهم َ‬
‫ضعْفا فَإِن َيكُنْ مّنكُمْ مّئَ ٌة صَابِ َرةٌ َيغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ‪[} ..‬النفال‪.]66 :‬‬
‫أَنّ فِيكُ ْم َ‬
‫أي‪ :‬نسبة واحد إلى اثنين‪ .‬فال تعالى هو الذي يعلم حقيقة وُسْعنا‪ ،‬ويُكلّفنا بما نقدر عليه‪ ،‬ويُخفّف‬
‫عَنّا عند الحاجة إلى التخفيف‪ ،‬فل يصح أنْ نُقحِم أنفسنا في هذه القضية‪ ،‬ونُقدّر نحن الوُسْع‬
‫بأهوائنا‪.‬‬
‫ومن أمثلة النسخ أن العرب كانوا قديما ل يعطون الباء شيئا من المال على اعتبار أن الوالد مُنْته‬
‫ذاهب‪ ،‬ويجعلون الحظ كله للبناء على اعتبار أنهم المقبلون على الحياة‪.‬‬
‫حضَرَ‬
‫وحينما أراد الحق سبحانه أن يجعل نصيبا للوالدين جعلها وصية فقال‪ {:‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمْ ِإذَا َ‬
‫ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ إِن تَ َركَ خَيْرا ا ْل َوصِيّةُ لِ ْلوَالِدَيْنِ‪[} ..‬البقرة‪.]180 :‬‬
‫أَ َ‬
‫فلما استقر اليمان في النفوس جعلها ميراثا ثابتا‪ ،‬وغَيّر الحكم من الوصية إلى خير منها وهو‬
‫حدٍ مّ ْن ُهمَا السّ ُدسُ‪[} ..‬النساء‪.]11 :‬‬
‫ل وَا ِ‬
‫الميراث‪ ،‬فقال تعالى‪َ {:‬ولَبَوَيْهِ ِل ُك ّ‬
‫إذن‪ :‬الحق تبارك وتعالى حينما يُغيّر آية ينسخها بأفضل منها‪.‬‬
‫وهذا واضح في تحريم الخمر مثلً‪ ،‬حيث نرى هذا التدريج المحكم الذي يراعي طبيعة النفوس‬
‫ت من النفوس‪ ،‬ول بُدًّ لها من هذا التدرّج‪ ،‬فهذا‬
‫البشرية‪ ،‬وأن هذا المر من العادات التي تمكّ َن ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكْم قاطع ل جدال فيه‪.‬‬
‫عقَديا يحتاج إلى ُ‬
‫ليس أمرا َ‬
‫ل وَالَعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ‬
‫فانظر إلى هذا التدرج في تحريم الخمر‪ :‬قال تعالى‪َ {:‬ومِن َثمَرَاتِ النّخِي ِ‬
‫حسَنا }[النحل‪.]67 :‬‬
‫سكَرا وَرِزْقا َ‬
‫َ‬
‫أهل التذوق والفهم عن ال حينما سمعوا هذه الية قالوا‪ :‬لقد بيّت ال للخمر أمرا في هذه الية؛‬
‫سكَر فلم يصفه بالحُسْن‪ ،‬فدلّ ذلك على أن الخمر‬
‫حسَن‪ ،‬وسكت عن ال ّ‬
‫ذلك لنه وصف الرزق بأنه َ‬
‫سيأتي فيه كلم فيما بعد‪.‬‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ‬
‫وحينما سُئِل صلى ال عليه وسلم عن الخمر رَدّ القرآن عليهم‪َ {:‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ‬
‫س وَإِ ْث ُم ُهمَآ َأكْبَرُ مِن ّن ْف ِعهِمَا‪[} ..‬البقرة‪.]219 :‬‬
‫فِي ِهمَآ إِثْمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّا ِ‬
‫جاء هذا على سبيل النصح والرشاد‪ ،‬ل على سبيل الحكم والتشريع‪ ،‬فعلى كل مؤمن يثق بكلم‬
‫ربه أن يرى له مَخْرجا من أَسرْ هذه العادة السيئة‪.‬‬
‫ثم لُوحِظ أن بعض الناس يُصلي وهو مخمور‪ ،‬حتى قال بعضهم في صلته‪ :‬أعبد ما تعبدون‪،‬‬
‫سكَارَىا حَتّىا َتعَْلمُواْ مَا َتقُولُونَ‪} ..‬‬
‫لةَ وَأَنْتُمْ ُ‬
‫فجاء الحكم‪ {:‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ َتقْرَبُواْ الصّ َ‬
‫[النساء‪.]43 :‬‬
‫سكْر إل إذا‬
‫ومقتضى هذا الحكم أنْ يصرفهم عن الخمر معظم الوقت‪ ،‬فل تتأتى لهم الصلة دون ُ‬
‫امتنعوا عنها قبل الصلة بوقت كافٍ‪ ،‬وهكذا عوّدهم على تركها معظم الوقت‪ ،‬كما يحدث الن مع‬
‫الطبيب الذي يعالج مريضه من التدخين مثلً‪ ،‬فينصحه بتقليل الكمية تدريجيا حتى يتمكّن من‬
‫التغلب على هذه العادة‪.‬‬
‫وبذلك وصل الشارع الحكيم سبحانه بالنفوس إلى مرحلة أل َفتْ فيها تَرْك الخمر‪ ،‬وبدأت تنصرف‬
‫عنها‪ ،‬وأصبحت النفوس مُهيّئة لتقبّل التحريم المطلق‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬

‫ع َملِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ‪} ..‬‬


‫ب وَالَ ْزلَمُ رِجْسٌ مّنْ َ‬
‫خمْ ُر وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَا ُ‬
‫{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا الْ َ‬
‫[المائدة‪.]90 :‬‬
‫حكْما بما هو أحسن منه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه وتعالى نسخ آية و ُ‬
‫ن يتعصّب للقرآن‪ ،‬فل يقبل القول بالنسخ فيه‪ ،‬كيف والقرآن نفسه‬
‫والعجيب أنْ نرى من علمائنا مَ ْ‬
‫سهَا نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مّ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا‪[} ..‬البقرة‪.]106 :‬‬
‫يقول‪ {:‬مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ َأوْ نُن ِ‬
‫حكْما ثم تبيّن له خطؤه‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬لن هناك شيئا يُسمّى البداء‪ ..‬ففي النسخ كأن ال تعالى أعطى ُ‬
‫حكْم آخر‪.‬‬
‫فعدل عنه إلى ُ‬
‫ونقول لهؤلء‪ :‬لقد جانبكم الصواب في هذا القول‪ ،‬فمعنى النسخ إعلن انتهاء الحكم السابق بحكم‬
‫جديد أفضل منه‪ ،‬وبهذا المعنى يقع النسخ في القرآن الكريم‪.‬‬
‫ومنهم مَنْ يقف عند قوه الحق تبارك وتعالى‪ {:‬نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مّ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا‪[} ..‬البقرة‪.]106 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فيقول‪ } :‬نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مّ ْنهَا { فيها عِلّة للتبديل‪ ،‬وضرورة تقتضي النسخ وهي الخيرية‪ ،‬فما عِلّة‬
‫التبديل في قوله‪َ } :‬أوْ مِثِْلهَا {؟‬
‫أولً‪ :‬في قوله تعالى‪ } :‬نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مّ ْنهَا { قد يقول قائل‪ :‬ولماذا لم يَ ْأتِ بالخيرية من البداية؟‬
‫حقّ ُتقَاتِهِ‪[} ..‬آل عمران‪.]102 :‬‬
‫نقول‪ :‬لن الحق سبحانه حينما قال‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّهَ َ‬
‫شقّتْ هذه الية على‬
‫وهذه منزلة عالية في التقوى‪ ،‬ل يقوم بها إل الخواصّ من عباد ال‪َ ،‬‬
‫الصحابة وقالوا‪ :‬ومَنْ يستطيع ذلك يا رسول ال؟‬
‫طعْتُمْ‪[} ..‬التغابن‪.]16 :‬‬
‫فنزلت‪ {:‬فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْ َت َ‬
‫وجعل ال تعالى التقوى على قدر الستطاعة‪ ،‬وهكذا نسخت الية الولى مطلوبا‪ ،‬ولكنها بقيت‬
‫ارتقاء‪ ،‬فَمنْ أراد أنْ يرتقي بتقواه إلى (حَقّ ُتقَاتِهِ) فبها و ِنعْمت‪ ،‬وأكثر ال من أمثاله وجزاه خيرا‪،‬‬
‫ومَنْ لم يستطع أخذ بالثانية‪.‬‬
‫حقّ ُتقَاتِهِ‪[} ...‬آل عمران‪:‬‬
‫ولو نظرنا إلى هاتين اليتين نظرة أخرى لوجدنا الولى‪ {:‬ا ّتقُواْ اللّهَ َ‬
‫‪.]102‬‬
‫وإنْ كانت تدعو إلى كثير من التقوى إل أن العاملين بها قِلّة‪ ،‬في حين أن الثانية‪ {:‬فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا‬
‫طعْتُمْ‪[} ..‬التغابن‪.]16 :‬‬
‫اسْ َت َ‬
‫ت التقوى على قَدْر الستطاعة إل أن العاملين بها كثير‪ ،‬ومن هنا كانت الثانية خَيْرا من‬
‫وإنْ جعل َ‬
‫الولى‪ ،‬كما نقول‪ :‬قليل دائم خير من كثير منقطع‪.‬‬
‫أما في قوله تعالى‪َ } :‬أوْ مِثِْلهَا { أي‪ :‬أن الولى مِثْل الثانية‪ ،‬فما وَجْه التغيير هنا‪ ،‬وما سبب‬
‫التَبديل؟‬
‫نقول‪ :‬سببه هنا اختبار المكلّف في مدى طاعته وانصياعه‪ ،‬إنْ ُنقِل من أمر إلى مثله‪ ،‬حيث ل‬
‫مشقّة في هذا‪ ،‬ول تيسيرَ في ذاك‪ ،‬هل سيمتثل ويطيع‪ ،‬أم سيجادل ويناقش؟‬
‫مثل هذه القضية واضحة في حادث تحويل القبلة‪ ،‬حيث ل مشقة على الناس في التجاه نحو بيت‬
‫المقدس‪ ،‬ول تيسير عليهم في التجاه نحو الكعبة‪ ،‬المر اختبار للطاعة والنصياع لمر ال‪ ،‬فكان‬
‫من الناس مَنْ قال‪ :‬سمعا وطاعة ونفّذوا أمر ال فورا دون جدال‪ ،‬وكان منهم مَن اعترض وأنكر‬
‫واتهم رسول ال بالكذب على ال‪.‬‬

‫ومن ذلك أيضا ما نراه في مناسك الحج مما سنّه لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حيث نُقبل‬
‫الحجر السعد وهو حجر‪ ،‬ونرمي الجمرات وهي أيضا حجر‪ ،‬إذن‪ :‬هذه أمور ل مجال للعقل‬
‫فيها‪ ،‬بل هي لختبار الطاعة والنقياد للمشرع سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫} َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ { [النحل‪.]101 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بل‪ :‬حرف يفيد الضراب عن الكلم السابق وتقرير كلم جديد‪ ،‬فالحق سبحانه وتعالى يُلغي‬
‫كلمهم السابق‪:‬‬
‫} قَالُواْ إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ‪[ { ...‬النحل‪.]101 :‬‬
‫ويقول لهم‪ :‬ل ليس بمفتر ول كذاب‪ ،‬فهذا اتهام باطل‪ ،‬بل أكثرهم ل يعلمون‪.‬‬
‫وكلمة } َأكْثَرُ ُهمْ { هنا ليس بالضرورة أنْ تقابل بالقل‪ ،‬فيمكن أن نقول‪ :‬أكثرهم ل يعلمون‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫جدُ لَهُ مَن فِي ال ّ‬
‫وأيضا‪ :‬أكثرهم يعلمون كما جاء في قول الحق سبحانه‪ {:‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َيسْ ُ‬
‫حقّ‬
‫س َوكَثِيرٌ َ‬
‫ب َوكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ‬
‫ل وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآ ّ‬
‫س وَا ْل َقمَرُ وَالنّجُو ُم وَالْجِبَا ُ‬
‫شمْ ُ‬
‫َومَن فِي الَ ْرضِ وَال ّ‬
‫عَلَيْهِ ا ْل َعذَابُ‪[} ..‬الحج‪.]18 :‬‬
‫هكذا بالجماع‪ ،‬تسجد ل تعالى جميع المخلوقات إل النسان‪ ،‬فمنه كثير يسجد‪ ،‬يقابله أيضا كثير‬
‫حقّ عليه العذاب‪ ،‬فلم ي ُقلْ القرآن‪ :‬وقليل حَقّ عليه العذاب‪.‬‬
‫َ‬
‫وعلى فَرْض أن‪:‬‬
‫} َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ { [النحل‪.]101 :‬‬
‫إذن‪ :‬هناك أقلية تعلم صِدْق رسول ال صلى ال عليه وسلم في البلغ عن ربه‪ ،‬وتعلم كذبهم‬
‫وافتراءهم على رسول ال حينما اتهموه بالكذب‪ ،‬ويعلمون صِدْق كل آية في مكانها‪ ،‬وحكمة ال‬
‫المرادة من هذه الية‪.‬‬
‫فَمنْ هم هؤلء الذين يعلمون في صفوف الكفار والمشركين؟‬
‫قالوا‪ :‬لقد كان بين هؤلء َقوْم أصحاب عقول راجحة‪ ،‬و َفهْم للمور‪ ،‬ويعلمون وجه الحق‬
‫حدُواْ ِبهَا‬
‫والصواب في هذه المسألة‪ ،‬ولكنهم أنكروها‪ ،‬كما قال الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَجَ َ‬
‫سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا }[النمل‪.]14 :‬‬
‫وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ‬
‫وأيضا من هؤلء أصحاب عقول يفكرون في الهدى‪ ،‬ويُراودهم السلم‪ ،‬وكأن لديهم مشروعَ‬
‫إسلم ُيعِدون أنفسهم له‪ ،‬وهم على علم أن كلم الكفار واتهامهم لرسول ال باطل وافتراء‪.‬‬
‫وأيضا من هؤلء مؤمنون فعلً‪ ،‬ولكن تنقصهم القوة الذاتية التي تدفع عنهم‪ ،‬والعصبية التي تردّ‬
‫عنهم كَيْد الكفار‪ ،‬وليس عندهم أيضا طاقة أنْ يهاجروا‪ ،‬فهم ما يزالون بين أهل مكة إل أنهم‬
‫مؤمنون ويعلمون صِدْق رسول ال وافتراء الكفار عليه‪ ،‬لكن ل قدرة لهم على إعلن إيمانهم‪.‬‬
‫وفي هؤلء يقول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي َكفّ أَيْدِ َي ُهمْ عَنكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ عَ ْنهُم بِ َبطْنِ َمكّةَ مِن‬
‫جدِ‬
‫ظفَ َركُمْ عَلَ ْيهِ ْم َوكَانَ اللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرا * هُمُ الّذِينَ َكفَرُواْ َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَسْ ِ‬
‫َبعْدِ أَنْ َأ ْ‬
‫ن وَنِسَآءٌ ّم ْؤمِنَاتٌ لّمْ َتعَْلمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ‬
‫حلّ ُه وََل ْولَ ِرجَالٌ ّمؤْمِنُو َ‬
‫الْحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفا أَن يَبْلُغَ مَ ِ‬
‫فَ ُتصِي َبكُمْ مّ ْنهُمْ ّمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ عِلْمٍ‪[} ...‬الفتح‪.]25-24 :‬‬
‫أي‪ :‬تدخلوا على أهل مكة وقد اختلط الحابل بالنابل‪ ،‬والمؤمن بالكافر‪ ،‬فتقتلوا إخوانكم المؤمنين‬
‫حمَتِهِ مَن يَشَآءُ َلوْ تَزَيّلُواْ َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُواْ مِ ْنهُمْ عَذَابا أَلِيما }[الفتح‪:‬‬
‫خلَ اللّهُ فِي َر ْ‬
‫دون علم‪ {.‬لّيُ ْد ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]25‬‬
‫أي‪ :‬لو كانوا مُميّزين‪ ،‬الكفار في جانب‪ ،‬والمؤمنون في جانب لَعذّبْنا الذين كفروا منهم عذابا أليما‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فإن كان أكثرهم ل يعلمون ويتهمونك بالكذب والفتراء فإنّ غير الكثرية يعلم أنهم كاذبون‬
‫في قولهم‪:‬‬
‫} إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ { [النحل‪.]101 :‬‬
‫وما داموا اتهموك بالفتراء ف ُقلْ ردا عليهم‪ُ } :‬قلْ نَزّلَهُ رُوحُ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1986 /‬‬

‫ُقلْ نَزّلَهُ رُوحُ ا ْلقُدُسِ مِنْ رَ ّبكَ بِا ْلحَقّ لِيُثَ ّبتَ الّذِينَ َآمَنُوا وَ ُهدًى وَبُشْرَى لِ ْلمُسِْلمِينَ (‪)102‬‬

‫الحق تبارك وتعالى في هذه الية يرد على الكفار افتراءهم على رسول ال‪ ،‬واتهامهم له بالكذب‬
‫المتعمد‪ ،‬وأنه جاء بهذه اليات من نفسه‪ ،‬فقال له‪ :‬يا محمد ُقلْ لهؤلء‪ :‬بل نزّله روح القُدس‪.‬‬
‫والقدس‪ :‬أي المطهّر‪ ،‬من إضافة الموصوف للصفة‪ ،‬كما نقول‪ :‬حاتم الجود مثلً‪ .‬والمراد بـ "‬
‫روح القُدُس " سفير الوحي جبريل عليه السلم‪ ،‬وقد قال عنه في آية أخرى‪ {:‬نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ‬
‫لمِينُ }[الشعراء‪.]193 :‬‬
‫اَ‬
‫وقال عنه‪ {:‬إِنّهُ َلقَ ْولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي ُق ّوةٍ عِندَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ * مّطَاعٍ ثَمّ َأمِينٍ }[التكوير‪:‬‬
‫‪.]21-19‬‬
‫وقوله الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ مِن رّ ّبكَ بِا ْلحَقّ‪[ } ...‬النحل‪.]102 :‬‬
‫أي‪ :‬أن جبريل لم ي ْأتِ بهذا القرآن من عنده هو‪ ،‬بل من عند ال بالحق‪ ،‬فمُحمد صلى ال عليه‬
‫وسلم لم يَ ْأتِ بالقرآن من عنده‪ ،‬وكذلك جبريل‪ ،‬فالقرآن من عند ال‪ ،‬ليس افتراءً على ال‪ ،‬ل من‬
‫محمد‪ ،‬ول من جبريل عليهما السلم‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ لِيُثَ ّبتَ الّذِينَ آمَنُو ْا وَهُدًى وَبُشْرَىا لِ ْلمُسِْلمِينَ } [النحل‪.]102 :‬‬
‫أي‪ :‬ليُث ّبتَ الذين آمنوا على تصديق ما جاء به الرسول من اليات‪ ،‬أن ال تعالى أعلمُ بما يُنزل‬
‫من اليات‪ ،‬وأن كل آية منها مُناسِبة لزمانها ومكانها وبيئتها‪ ،‬وفي هذا دليلٌ على أن المؤمنين‬
‫طائعون مُنصَاعون ل تعالى مُصدّقون للرسول صلى ال عليه وسلم في ُكلّ ما بلغ عن ربه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلقَدْ َنعَْلمُ‪.} ...‬‬

‫(‪)1987 /‬‬

‫ج ِميّ وَ َهذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مُبِينٌ (‬


‫عَ‬‫حدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ‬
‫وَلَقَدْ َنعْلَمُ أَ ّنهُمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الّذِي يُلْ ِ‬
‫‪)103‬‬

‫وفي هذه الية اتهام آخر لرسول ال صلى ال عليه وسلم وافتراء جديد عليه‪ ،‬ل يأنف القرآن من‬
‫ن يفضحَ أمر هؤلء‪،‬‬
‫إذاعته‪ ،‬فمَنْ سمع التهام والفتراء يجب أن يسمع الجواب‪ ،‬فالقرآن يريد أ ْ‬
‫وأنْ يُظهِر إفلس حُججهم وما هم فيه من تخبّط‪.‬‬
‫يقول الحق تبارك وتعالى‪:‬‬
‫{ وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّنهُمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ‪[ } ..‬النحل‪.]103 :‬‬
‫وقد سبق أنْ قالوا عن رسول ال " مجنون " وبرّأه ال بقوله تعالى‪ {:‬وَإِ ّنكَ َلعَلَىا خُُلقٍ عَظِيمٍ }‬
‫[القلم‪.]4 :‬‬
‫والخلقُ العظيم ل يكون في مجنون؛ لن الخلُق الفاضل ل يُوضع إل في مكانه‪ ،‬بدليل قوله‬
‫تعالى‪ {:‬مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبمَجْنُونٍ }[القلم‪.]2 :‬‬
‫وسبق أنْ قالوا‪ :‬ساحر وهذا دليل على أنهم مغفلون يتخبّطون في ضللهم‪ ،‬فلو كان محمد ساحرا‪،‬‬
‫فَلِمَ لم يسحركم كما سحر المؤمنين به وتنتهي المسألة؟‬
‫شعْرا ونثرا وخطابة‪ ،‬ولم يُجرّبوا على‬
‫وسبق أنْ قالوا " شاعر " مع أنهم أدْرى الناس بفنون القول ِ‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم شيئا من ذلك‪ ،‬لكنه الباطل حينما يَلجّ في عناده‪ ،‬ويتكبّر عن قبول‬
‫الحق‪.‬‬
‫وهنا جاءوا بشيء جديد يُكذّبون به رسول ال‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫{ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ‪[ } ...‬النحل‪.]103 :‬‬
‫أي‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم يتردد على أحد أصحاب العلم ليعلمه القرآن فقالوا‪ :‬إنه‬
‫غلم لبي عامر بن لؤي اسمه (يعيش)‪ ،‬وكان يعرف القراءة والكتاب‪ ،‬وكان يجلب الكتب من‬
‫السواق‪ ،‬ويقرأ قصص السابقين مثل عنترة وذات الهمة وغيرها من كتب التاريخ‪.‬‬
‫وقد تضاربتْ أقوالهم في تحديد هذا الشخص الذي يزعمون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫تعلّم على يديه‪ ،‬فقالوا‪ :‬اسمه " عداس " وقال آخرون‪ :‬سلمان الفارسي‪ .‬وقال آخرون‪ :‬بَلْعام وكان‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدادا روميا نصرانيا يعلم كثيرا عن أهل الكتاب‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫والحق تبارك وتعالى يردّ على هؤلء‪ ،‬ويُظهِر إفلسهم الفكري‪ ،‬وإصرارهم على تكذيب رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم فيقول‪:‬‬
‫ي وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ } [النحل‪.]103 :‬‬
‫جمِ ّ‬
‫عَ‬‫{ لّسَانُ الّذِي ُيلْحِدُونَ إِلَ ْيهِ أَ ْ‬
‫اللسان هنا‪ :‬اللغة التي يُتحدّث بها‪.‬‬
‫ويُلحِدون إليه‪ :‬يميلون إليه وينسبون إليه أنه يُعلّم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫أعجمي‪ :‬أي لغته خفية‪ ،‬ل يُفصح ول يُبين الكلم‪ ،‬كما نرى الجانب يتحدثون العربية مثلً‪.‬‬
‫ونلحظ هنا أن القرآن الكريم لم يقُلْ (عجمي)‪ ،‬لن العجم جنس يقابل العرب‪ ،‬وقد يكون من‬
‫العجم مَنْ يجيد العربية الفصيحة‪ ،‬كما رأينا سيبوَيْه صاحب (الكتاب) أعظم مراجع النحو حتى‬
‫الن وهو عَجمي‪.‬‬
‫أما العجمي فهو الذي ل يُفصح ول يُبين‪ ،‬حتى وإنْ كان عربيا‪ .‬وقد كان في قبيلة لؤي رجل‬
‫اسمه زياد يُقال له " زياد العجمي " لنه ل يُفصح ول يُبين‪ ،‬مع أنه من أصل عربي‪.‬‬

‫إذن‪ :‬كيف يتأتّى لهؤلء العاجم الذين ل يُفصحون‪ ،‬ول يكادون ينطقون اللغة العربية‪ ،‬كيف‬
‫لهؤلء أنْ يُعلّموا رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد جاء بمعجزة في الفصاحة والبلغة والبيان؟‬
‫كيف يتعلم من هؤلء‪ ،‬ولم يثبت أنه صلى ال عليه وسلم التقى بأحد منهم إل (عداس) يُقال‪ :‬إنه‬
‫قابله مرة واحدة‪ ،‬ولم يثبت أنه صلى ال عليه وسلم تردّد إلى معلم‪ ،‬ل من هؤلء‪ ،‬ول من‬
‫غيرهم؟‬
‫كما أن ما يحويه القرآن من آيات وأحكام ومعجزات ومعلومات يحتاج في تعلّمه إلى وقت طويل‬
‫يتتلمذ فيه محمد على يد هؤلء‪ ،‬وما جرّبْتم على محمد شيئا من هذا كله‪.‬‬
‫وهل يُعقل أن ما في القرآن يمكن أن يطويه صَدْ ُر واحدٍ من هؤلء؟! لو حدث لكان له من المكانة‬
‫والمنزلة بين قومه ما كان للنبي صلى ال عليه وسلم من منزلة‪ ،‬ولشاروا إليه بالبنان ولذَاع‬
‫صِيتُه‪ ،‬واشتُهر أمره‪ ،‬وشيء من ذلك لم يحدث‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫} وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ { [النحل‪.]103 :‬‬
‫س فيها ول‬
‫أي‪ :‬لغته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولغة القرآن الكريم عربية واضحة مُبِينة‪ ،‬ل لَبْ َ‬
‫غموض‪.‬‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ‪.{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ الّذِي َ‬

‫(‪)1988 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآَيَاتِ اللّهِ لَا َيهْدِي ِهمُ اللّهُ وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (‪)104‬‬

‫الحق تبارك وتعالى في قوله‪:‬‬


‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ‪[ } ..‬النحل‪.]104 :‬‬
‫{ إِنّ الّذِي َ‬
‫ينفي عن هؤلء صفة اليمان‪ ،‬فكيف يقول بعدها‪:‬‬
‫{ لَ َيهْدِي ِهمُ اللّهُ‪[ } ...‬النحل‪.]104 :‬‬
‫أليسوا غير مؤمنين‪ ،‬وغير ُمهْتدين؟‬
‫قُلْنا‪ :‬إن الهداية نوعان‪:‬‬
‫ـ هداية دللة وإرشاد‪ ،‬وهذه يستوي فيها المؤمن والكافر‪ ،‬فقد َدلّ ال الجميع‪ ،‬وأوضح الطريق‬
‫للجميع‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪ {:‬وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ فَاسْ َتحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى ا ْلهُدَىا‪[} ...‬فصلت‪]17 :‬‬
‫أي‪ :‬أرشدناهم و َدلَلْناهم‪.‬‬
‫وهداية المعونة والتوفيق‪ ،‬وهذه ل تكون إل للمؤمن‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪ {:‬وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ‬
‫هُدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد‪.]17 :‬‬
‫إذن‪ :‬معنى‪:‬‬
‫{ لَ َيهْدِي ِهمُ اللّهُ‪[ } ..‬النحل‪.]104 :‬‬
‫أي‪ :‬هداية معونة وتوفيق‪.‬‬
‫ويصح أن نقول أيضا‪ :‬إن الجهة هنا مُنفكّة إلى شيء آخر‪ ،‬فيكون المعنى‪ :‬ل يهديهم إلى طريق‬
‫الجنة‪ ،‬بل إلى طريق النار‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ كَفَرُو ْا وَظََلمُواْ لَمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َلهُ ْم َولَ‬
‫جهَنّمَ‪[} ..‬النساء‪.]169-168 :‬‬
‫لِ َيهْدِ َيهُمْ طَرِيقا * ِإلّ طَرِيقَ َ‬
‫بدليل قوله تعالى بعدها‪:‬‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل‪.]104 :‬‬
‫{ وََلهُمْ َ‬
‫خُلهُمُ ا ْلجَنّةَ عَ ّر َفهَا َلهُمْ }[محمد‪.]6 :‬‬
‫ولنه سبحانه في المقابل عندما تحدّث عن المؤمنين قال‪ {:‬وَيُدْ ِ‬
‫أي‪ :‬هداهم لها وعرّفهم طريقها‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬إِ ّنمَا َيفْتَرِي‪.} ..‬‬

‫(‪)1989 /‬‬

‫إِ ّنمَا َيفْتَرِي ا ْل َك ِذبَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِآَيَاتِ اللّ ِه وَأُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ (‪)105‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كأن الحق سبحانه وتعالى يقول‪ :‬وإن افتريتم على رسول ال واتهمتموه بالكذب الحقيقي أنْ تُكذّبوا‬
‫بآيات ال‪ ،‬ول تؤمنوا بها‪.‬‬
‫ونلحظ في تذييل هذه الية أن الحق سبحانه لم َي ُقلْ‪ :‬وأولئك هم الكافرون‪ .‬بل قال‪ :‬الكاذبون‪.‬‬
‫ليدل على شناعة الكذب‪ ،‬وأنه صفة ل تليق بمؤمن‪.‬‬
‫ولذلك حينما " سُئِل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أيسرق المؤمن؟ قال‪ " :‬نعم " لن ال قال‪{:‬‬
‫وَالسّارِقُ وَالسّا ِرقَةُ }[المائدة‪.]38 :‬‬
‫حكْما‪ ،‬وجعل عليه عقوبة فقد أصبح المر واردا ومحتمل الحدوث‪ " .‬وسئل‪:‬‬
‫فما دام قد شرّع ُ‬
‫أيزني المؤمن؟ قال‪ " :‬نعم " ‪ ،‬لن ال قال‪ {:‬الزّانِ َي ُة وَالزّانِي }[النور‪ " .]2 :‬وسئل‪ :‬أيكذب‬
‫المؤمن؟ قال‪ " :‬ل "‪.‬‬
‫والحديث يُوضّح لنا فظاعة الكذب وشناعته‪ ،‬وكيف أنه أعظم من كل هذه المنكرات‪ ،‬فقد جعل ال‬
‫لكل منها عقوبة معلومة في حين ترك عقوبة الكذب ليدل على أنها جريمة أعلى من العقوبة‬
‫وأعظم‪.‬‬
‫حقّه؛ ذلك لنه إذا اش ُتهِر عن واحد أنه كذاب‬
‫إذن‪ :‬الكذب صفة ل تليق بالمؤمن‪ ،‬ول تُتصوّر في َ‬
‫لما اعتاده الناس من كذبه‪ ،‬فنخشى أن يقول مرة‪ :‬أشهد ألّ إله إل ال‪ ،‬وأن محمدا رسول ال‬
‫فيقول قائل‪ :‬إنه كذاب وهذه كذبة من أكاذيبه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬مَن َكفَرَ بِاللّهِ‪.} ...‬‬

‫(‪)1990 /‬‬

‫صدْرًا‬
‫طمَئِنّ بِالْإِيمَانِ وََلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِا ْل ُكفْرِ َ‬
‫مَنْ َكفَرَ بِاللّهِ مِنْ َبعْدِ إِيمَا ِنهِ إِلّا مَنْ ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ ُم ْ‬
‫عذَابٌ عَظِيمٌ (‪)106‬‬
‫ضبٌ مِنَ اللّ ِه وََلهُمْ َ‬
‫غ َ‬
‫َفعَلَ ْيهِمْ َ‬

‫الحق سبحانه وتعالى سبق وأنْ تحدث عن حكم المؤمنين وحكم الكافرين‪ ،‬ثم تحدّث عن الذين‬
‫يخلفون العهد ول يُوفون به‪ ،‬ثم تحدث عن الذين افت َروْا على رسول ال والذين كذّبوا بآيات ال‪،‬‬
‫وهذه كلها قضايا إيمانية كان ل بُدّ أنْ تُثار‪.‬‬
‫وفي هذه الية الكريمة يوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن اليمان ليس مجرد أن تقول‪ :‬ل إله إل‬
‫ال محمد رسول ال‪ .‬فالقول وحده ل يكفي ول ُبدّ وأنْ تشهدَ بذلك‪ ،‬ومعنى تشهد أنْ يُواطِيء‬
‫القلب واللسان كل منهما الخر في هذه المقولة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمتأمل لهذه القضية يجد أن القسمة المنطقية تقتضي أن يكون لدينا أربع حالت‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أنْ يُواطِيءَ القلب اللسان إيجابا باليمان؛ ولذلك نقول‪ :‬إن المؤمن منطقيّ في إيمانه؛ لنه‬
‫يقول ما يُضمره قلبه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أنْ يُواطِي َء القلب اللسان سلبا أي‪ :‬بالكفر‪ ،‬وكذلك الكافر منطقي في كفره بالمعنى السابق‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أنْ يؤمن بلسانه ويُضمِرَ الكفر في قلبه‪ ،‬وهذه حالة المنافق‪ ،‬وهو غير منطقي في إيمانه‬
‫حيث أظهر خلف ما يبطن ليستفيد من مزايا اليمان‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أن يؤمن بقلبه‪ ،‬وينطق كلمة الكفر بلسانه‪.‬‬
‫ل لمن كفر‬
‫وهذه الحالة الرابعة هي المرادة في هذه الية‪ .‬فالحق تبارك وتعالى يعطينا هنا تفصي ً‬
‫بعد إيمان‪ ،‬وما سبب هذا الكفر؟ وما جزاؤه؟‬
‫قوله‪:‬‬
‫{ مَن َكفَرَ بِاللّهِ مِن َب ْعدِ إيمَانِهِ‪[ } ..‬النحل‪.]106 :‬‬
‫هذه جملة الشرط تأخّر جوابها إلى آخر الية الكريمة‪ ،‬لنقف أولً على تفصيل هذا الكفر‪ ،‬فإما أن‬
‫خلَ للنسان فيه‪ ،‬فيُجبر على كلمة الكفر‪ ،‬في حين قلبه مطمئن باليمان‪.‬‬
‫يكون عن إكراه ل دَ ْ‬
‫طمَئِنّ بِالِيمَانِ‪[ } ..‬النحل‪.]106 :‬‬
‫{ مَن َكفَرَ بِاللّهِ مِن َب ْعدِ إيمَانِهِ ِإلّ مَنْ ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ ُم ْ‬
‫ثم سكت عنه القرآن الكريم ليدلّنا على أنه ل شيءَ عليه‪ ،‬ول بأسَ أن يأخذ المؤمن بالتقية‪ ،‬وهي‬
‫رخصة تقي النسان موارد الهلك في مثل هذه الحوال‪.‬‬
‫وفي تاريخ السلم نماذج متعددة أخذت بهذه الرخصة‪ ،‬ونطقتْ كلمة الكفر وهي مطمئنة باليمان‪.‬‬
‫وفي الحديث الشريف‪ " :‬رفع عن أمتي‪ :‬الخطأ‪ ،‬والنسيان‪ ،‬وما استكرهوا عليه "‪.‬‬
‫ويذكر التاريخ أن ياسر أبا عمار وزوجه سُمية أول شهيدين في السلم‪ ،‬فكيف استشهدا؟ كانا من‬
‫المسلمين الوائل‪ ،‬وتعرّضوا لكثير من التعذيب حتى عرض عليهم الكفار النطق بكلمة مقابل العفو‬
‫عنهما‪ ،‬فماذا حدث من هذين الشهيدين؟ صَدَعا بالحق وأصرّا على اليمان حتى نال الشهادة في‬
‫سبيل ال‪ ،‬ولم يأخذا برخصة التقية‪.‬‬
‫وكان ولدهما عمار أول مَنْ أخذ بها‪ ،‬حينما تعرّض لتعذيب المشركين‪ " .‬وقد بلغ رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم أن عمار بن ياسر كفر‪ ،‬فأنكر صلى ال عليه وسلم هذا‪ ،‬وقال‪ " :‬إن إيمان عمار‬
‫من مفرق رأسه إلى قدمه‪ ،‬وإن اليمان في عمار قد اختلط بلحمه ودمه "‪.‬‬
‫فلما جاء عمار أقبل على رسول ال وهو يبكي‪ ،‬ثم قص عليه ما تعرّض له من أذى المشركين‪،‬‬
‫وقال‪ :‬وال يا رسول ال ما خلّصني من أيديهم إل أنّي تناولتك وذكرت آلهتهم بخير‪ ،‬فما كان من‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم إل أن مسح دموع عمار بيده الشريفة وقال له " إنْ عادوا إليك َف ُقلْ لهم‬
‫ما قلت "‪.‬‬
‫وقد أثارت هذه الرخصة غضب بعض الصحابة‪ ،‬فراجعوا فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقالوا‪ :‬فما بال بلل؟ فقال‪ " :‬عمار استعمل رخصة‪ ،‬وبلل صدع بالحق "‪.‬‬

‫ول شكّ أن هاتين منزلتان في مواجهة الباطل وأهله‪ ،‬وأن الصّ ْدعَ بالحق والصبر على البلء‬
‫سمَى درجة من الَخْذ بالرخصة؛ لن الول آمن بقلبه ولسانه‪ ،‬والخر آمن بقلبه‬
‫أعْلَى منزلةً‪ ،‬وأَ ْ‬
‫فقط ونطق لسانه الكفر‪.‬‬
‫لذلك‪ " ،‬ففي حركة الردة حاول مسيلمة الكذاب أن يطوف بالقبائل لينتزع منهم شهادة بصدق‬
‫نُبوّته‪ ،‬فقال لرجل‪ :‬ما تقول في محمد؟ قال‪ :‬رسُول ال‪ ،‬قال‪ :‬فما تقول فّي؟ فقال الرجل في لباقة‪:‬‬
‫وأنت كذلك‪ ،‬يعني أخرج نفسه من هذا المأزق دون أن يعترف صراحة بنبوة هذا الكذاب‪.‬‬
‫فقابل آخر وسأله‪ :‬ما تقول في محمد؟ قال‪ :‬رسول ال‪ ،‬قال‪ :‬وما تقول فّي؟ فقال الرجل متهكما‪:‬‬
‫اجهر لني أصبحت أصمّ الن‪ ،‬وأنكر على مسيلمة ما يدعيه فكان جزاؤه القتل‪ .‬فلما علم رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم خبرهما قال‪ " :‬أحدهما استعمل الرخصة‪ ،‬والخر صدع بالحق "‪.‬‬
‫وقد تحدّث العلماء عن الكراه في قوله تعالى‪:‬‬
‫طمَئِنّ بِالِيمَانِ‪[ { ..‬النحل‪.]106 :‬‬
‫} ِإلّ مَنْ ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ ُم ْ‬
‫وأوضحوا وجوه الكراه وحكم كل منها‪ ،‬على النحو التالي‪:‬‬
‫ـ إذا أكره النسان على أمر ذاتيّ فيه‪ .‬كأن قيل له‪ :‬اشرب الخمر وإلّ قتلتُك أو عذبتُك قالوا‪:‬‬
‫ن يعصون ال‬
‫يجب عليه في هذه الحالة أنْ يشربها وينجو بنفسه؛ لنه أمر يتعلق به‪ ،‬ومن الناس مَ ْ‬
‫بشربها‪ .‬فإنْ قيل له‪ :‬اكفر بال وإلّ قتلتُك أو عذبتُك‪ ،‬قالوا‪ :‬هو مُخيّر بين أن يأخذ بالتقيّة هنا‪،‬‬
‫ويستخدم الرخصة التي شرعها ال له‪ ،‬أو يصدع بالحق ويصمد‪.‬‬
‫ـ أما إذا تعلّق الكراه بحقّ من حقوق الغير‪ ،‬كأنْ قيل لك‪ :‬اقتل فلنا وإل قتلتك‪ ،‬ففي هذه الحالة‬
‫ل يجوز لك قَتْله؛ لنك لو قتلت ُه لقُتِلْت ِقصَاصا‪ ،‬فما الفائدة إذن؟‪.‬‬
‫وبعد أن تحدّث الحق تبارك وتعالى عن حكم مَنْ أكرهَ وقلبه مطمئن باليمان‪ ،‬يتحدث عن النوع‬
‫الخر‪:‬‬
‫} وَلَـاكِن مّن شَرَحَ بِا ْل ُكفْ ِر صَدْرا‪[ { ..‬النحل‪.]106 :‬‬
‫أي‪ :‬نطق كلمة الكفر راضيا بها‪ ،‬بل سعيدة بها نفسه‪ ،‬مُنْشرِحا بها صدره‪ ،‬وهذا النوع هو‬
‫المقصود في جواب الشرط‪.‬‬
‫عظِيمٌ { [النحل‪.]106 :‬‬
‫غضَبٌ مّنَ اللّ ِه وََلهُمْ عَذَابٌ َ‬
‫} َفعَلَ ْيهِمْ َ‬
‫عمّنْ أُكرهَ‪ ،‬ولم تجعل له عقوبة لنه مكره‪ ،‬فقد بيّنت أن من شرح‬
‫فإنْ كانت اليات قد سكتت َ‬
‫بالكفر صدرا عليه غضب من ال أي‪ :‬في الدنيا‪ .‬ولهم عذاب عظيم أي‪ :‬في الخرة‪.‬‬
‫وكما رأينا في تاريخ السلم نماذج للنوع الول الذي ُأكْرِه وقلبه مطمئن باليمان‪ ،‬كذلك رأينا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسُن إسلمه‪ ،‬ومنهم‬
‫نماذج لمن شرح بالكفر صَدْرا‪ ،‬وهم المنافقون‪ ،‬ومنهم مَنْ أسلم بعد ذلك و َ‬
‫عبد ال ابن سعد بن أبي السرح من عامر بن لؤي‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ذاِلكَ بِأَ ّنهُمُ اسْتَحَبّواْ‪.{ ..‬‬

‫(‪)1991 /‬‬

‫ذَِلكَ بِأَ ّنهُمُ اسْ َتحَبّوا الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الْآَخِ َرةِ وَأَنّ اللّهَ لَا َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ (‪)107‬‬

‫{ ذاِلكَ } أي‪ :‬ما استحقوه من العذاب السابق‪.‬‬


‫{ ذاِلكَ بِأَ ّنهُمُ اسْتَحَبّواْ ا ْلحَيَاةَ الْدّنْيَا عَلَىا الخِ َرةِ‪[ } ..‬النحل‪.]107 :‬‬
‫استحب‪ :‬أي آثر وتكلّف الحب؛ لن العاقل لو نظر إلى الدنيا بالنسبة لعمره فيها لوجدها قصيرة‬
‫أحقر من أَنْ تُحبّ لذاتها‪ ،‬ولَوجدَ الغيار بها كثيرة تتقلّب بأهلها فل يدوم لها حال‪ ،‬ينظر فإذا‬
‫سقَم‪ ،‬ومن القوة إلى الضعف‪ ،‬فكيف إذن‬
‫الحوال تتبدّل من الغنى إلى الفقر‪ ،‬ومن الصحة إلى ال ّ‬
‫تستحب الدنيا على الخرة؟!‬
‫والحق تبارك وتعالى يريد منّا أنْ نعطي كلً من الدنيا والخر ما يستحقه من الحب‪ ،‬فنحب الدنيا‬
‫دون مبالغة في حبها‪ ،‬نحبها على أنها مزرعة للخرة‪ ،‬وإلّ‪ ،‬فكيف نطلب الجزاء والثواب من ال؟‬
‫لذلك نقول‪ :‬إن الدنيا أهمّ من أنْ تُنسى‪ ،‬وأتفه من أن تكون غاية‪ ،‬وقد قال الحق سبحانه‪َ {:‬ولَ تَنسَ‬
‫َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا‪[} ..‬القصص‪.]77 :‬‬
‫ففهم البعض الية على أنها دعوة للعمل للدنيا وأخذ الحظوظ منها‪ ،‬ولكن المتأمل لمعنى الية يجد‬
‫أن الحق سبحانه يجعل الدنيا شيئا هيّنا مُعرّضا للنسيان والهمال‪ ،‬فيُذكّرنا بها‪ ،‬ويحثّنا على أن‬
‫نأخذ منها بنصيب‪ ،‬فأنا ل أقول لك‪ :‬ل تنسَ الشيء الفلني إل إذا كنتُ أعلم أنه عُ ْرضَة للنسيان‪،‬‬
‫وهذا جانب من جوانب الوسطية والعتدال في السلم‪.‬‬
‫ف أقلّ من هذا الوصف‪ ،‬والمقابل لها يقتضي‬
‫ويكفينا َوصْف هذه الحياة بالدنيا‪ ،‬فليس هناك َوصْ ٌ‬
‫أن نقول‪ :‬العُلْيا وهي الخرة‪ ،‬نعم نحن ل ننكر قَدْر الحياة الدنيا ول نبخسها حقها‪ ،‬ففيها الحياة‬
‫س والحركة‪ ،‬وفيها العمل الصالح والذكْرى الطيبة‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫والح ّ‬
‫ولكنها مع ذلك إلى زوال وفناء‪ ،‬في حين أن الخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة الباقية التي ل‬
‫يعتريها زوال‪ ،‬ول يهددها موت‪ ،‬كما قال الحق سبحانه‪ {:‬وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ‬
‫َيعَْلمُونَ }[العنكبوت‪.]64 :‬‬
‫أي‪ :‬الحياة الحقيقية التي يجب أن نحرص عليها ونحبها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْ َتجِيبُواْ للّهِ وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا يُحْيِي ُكمْ‪[} ..‬النفال‪:‬‬
‫‪.]24‬‬
‫ما معنى (ِلمَا ُيحْييكُمْ) والقرآن يخاطبهم وهم أحياء يُر َزقُون؟ قالوا‪ :‬يُحييكم أي‪ :‬الحياة الحقيقية‬
‫الباقية التي ل تزول‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫{ عَلَىا الخِ َرةِ‪[ } ...‬النحل‪.]107 :‬‬
‫لقائل أن يقول‪ :‬إن الية تتحدث عن غير المؤمنين بالخرة‪ ،‬فكيف ُيقَال عنهم‪:‬‬
‫{ اسْتَحَبّواْ ا ْلحَيَاةَ الْدّنْيَا عَلَىا الخِ َرةِ‪[ } ..‬النحل‪.]107 :‬‬
‫نقول‪ :‬من غير المؤمنين بالخرة مَنْ قال ال فيهم‪:‬‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِ ْم لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن َيمُوتُ } [النحل‪.]38 :‬‬
‫سمُواْ بِاللّهِ َ‬
‫{ وََأقْ َ‬
‫جدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف‪.]36 :‬‬
‫وأيضا منهم مَنْ قال‪ {:‬وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَ ِ‬
‫إذن‪ :‬من هؤلء مَنْ يؤمن بالخرة‪ ،‬ولكنه يُفضّل عليها الدنيا‪.‬‬
‫قوله تعالى‪:‬‬
‫{ وَأَنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ } [النحل‪.]107 :‬‬
‫أي‪ :‬ل يهديهم هداية معونة وتوفيق‪ .‬وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن الهداية نوعان‪ :‬هداية دللة‪ ،‬ويستوي فيها‬
‫المؤمن والكافر‪ ،‬وهداية معونة خاصة بالمؤمن‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إذا نفيتَ الهداية‪ ،‬فالمراد هداية المعونة‪ ،‬فعدم هداية ال انصبتْ على الكافر لكونه كافرا‪،‬‬
‫فكأن كُفْره سبق عدم هدايته‪ ،‬أو نقول‪ :‬لكونه كافرا لم َيهْده ال‪.‬‬
‫ولذلك يحكم ال على هؤلء بقوله سبحانه‪ { :‬أُولَـا ِئكَ الّذِينَ طَ َبعَ‪.} ..‬‬

‫(‪)1992 /‬‬

‫س ْم ِعهِ ْم وَأَ ْبصَارِهِ ْم وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلغَافِلُونَ (‪)108‬‬


‫أُولَ ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم وَ َ‬

‫طبع‪ :‬أي ختم عليها‪ ،‬وإذا تأملتَ الختْم وجدتَ المقصود منه أن الشيء الداخل يظلّ داخلً ل‬
‫يخرج‪ ،‬وأن الخارج يظل خارجا ل يدخل‪.‬‬
‫وفَرْقٌ بين ختم البشر وختم ربّنا سبحانه‪ ،‬فقصارى ما نفعله أن نختم الشياء المهمة كالرسائل‬
‫السرية مثلً‪ ،‬أو نريد إغلق مكان ما نختم عليه بالشمع الحمر لنتأكد من غلقه‪ ،‬ومع ذلك نجد مَنْ‬
‫يحتال على هذا الختم ويستطيع فضّه وربما أعاده كما كان‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أما إذا ختم الحق سبحانه وتعالى على شيء فل يستطيع أحد التحايل عليه سبحانه‪.‬‬
‫فالمراد ـ إذن ـ بقوله تعالى‪:‬‬
‫{ طَبَعَ اللّهُ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ‪[ } ..‬النحل‪.]108 :‬‬
‫أن ما فيها من الكفر ل يخرج منها‪ ،‬وما هو خارجها من اليمان ل يدخل فيها؛ ذلك لن القلب هو‬
‫الوعاء الذي تصبّ فيه الحواس التي هي وسائل الدراكات المعلومية‪ ،‬وأهمها السمع والبصر‪.‬‬
‫فالبسمع تسمع الوحي والتبليغ عن ال‪ ،‬وبالبصر ترى دلئل قدرة ال في كونه وعجيب صُنْعه مما‬
‫يلفتك إلى قدرة ال‪ ،‬ويدعوك لليمان به سبحانه‪ ،‬فإذا ما انحرفتْ هذه الحواسّ عما أراده ال منها‪،‬‬
‫وبدل أن تم ّد القلب بدلئل اليمان تعطّلتْ وظيفتها‪.‬‬
‫سمْع اعتباريّ‪ ،‬وكذلك البصر‬
‫فالسمع موجود كآلة تسمع ولكنها تسمع الفارغ من الكلم‪ ،‬فل يوجد َ‬
‫موجود كآلة تُبصر ما حرم ال فل يوجد بصر اعتباري‪ ،‬فما الذي سيصل إلى القلب ـ إذن ـ‬
‫من خلل هذه الحواس؟‬
‫فما دام القلب ل يسمع الهداية‪ ،‬ول يرى دلئل قدرة ال في كونه فلن نجد فيه غير الكفر‪ ،‬فإذا أراد‬
‫اليمان قلنا له‪ :‬ل بُدّ أن تُخرِج الكفر من قلبك أولً‪ ،‬فل يمكن أن يجتمع كفر وإيمان في قلب‬
‫واحد؛ لذلك عندنا قانون موجود حتى في الماديات يسمونه (عدم التداخل) يمكن أن تشاهده حينما‬
‫تمل زجاجة فارغة بالماء‪ ،‬فترى أن الماء ل يدخل إل بقدر ما يخرج من الهواء‪.‬‬
‫فكذلك الحال في الوعية المعنوية‪.‬‬
‫فإن أردت اليمان ـ أيها الكافر ـ فأخرجْ أولً ما في قلبك من الكفر؛ واجعله مُجرّدا من كل‬
‫هوى‪ ،‬ثم ابحث بعقلك في أدلة الكفر وأَدلة اليمان‪ ،‬وما تصل إليه وتقتنع به أدْخله في قلبك‪ ،‬لكن‬
‫أنْ تبحث أدلة اليمان وفي جوفك الكفر فهذا ل يصحّ‪ ،‬ل بُدّ من إخلء القلب أولً وتجعل المريْن‬
‫على السواء‪.‬‬
‫ج ْوفِهِ }[الحزاب‪.]4 :‬‬
‫جلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ لِ َر ُ‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه‪ {:‬مّا َ‬
‫وفي الثر‪ " :‬ل يجتمع حب الدنيا وحب ال في قلب واحد "‪.‬‬
‫لن النسان قلبا واحدا ل يجتمع فيه نقيضان‪ ،‬هكذا شاءت قدرة ال أن يكون القلب على هذه‬
‫الصورة‪ ،‬فل تجعلْه مزدحما بالمظروف فيه‪.‬‬
‫كما أن طَبْع ال على قلوب الكفار فيه إشارة إلى أن الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده مراده‪ ،‬حتى‬
‫وإنْ كان مراده الكفر‪ ،‬وكأنه سبحانه يقول لهؤلء‪ :‬إنْ كنتم تريدون الكفر وتحبونه وتنشرح له‬
‫صدوركم فسوف اطبع عليها‪ ،‬فل يخرج منها الكفر ول يدخلها اليمان‪ ،‬بل وأزيدكم منه إنْ‬
‫أحبب ُتمْ‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬

‫{ فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَ ُهمُ اللّهُ مَرَضا‪[} ..‬البقرة‪.]10 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهنيئا لكم بالكفر‪ ،‬واذهبوا غَيْرَ مأسوف عليكم‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬وَأُولَـا ِئكَ هُمُ ا ْلغَافِلُونَ { [النحل‪.]108 :‬‬
‫الغافل‪ :‬مَنْ كان لديه أمر يجب أن يتنبه إليه‪ ،‬لكنه غفل عنه‪ ،‬وكأنه كان في انتظار إشارة تُنبّه‬
‫عقله ليصل إلى الحق‪.‬‬
‫ثم يُنهي الحق سبحانه الكلم عن هؤلء بقوله تعالى‪ } :‬لَ جَ َرمَ أَ ّنهُمْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1993 /‬‬

‫لَا جَ َرمَ أَ ّنهُمْ فِي الَْآخِ َرةِ ُهمُ الْخَاسِرُونَ (‪)109‬‬

‫فقوله تعالى‪:‬‬
‫{ لَ جَرَمَ‪[ } ..‬النحل‪.]109 :‬‬
‫أي‪ :‬حقا ول ُبدّ‪ ،‬أولً جريمة في أن يكون هؤلء خاسرين في الخرة‪ ،‬بما اقترفوه من مُوجبات‬
‫الخسارة‪ ،‬وبما أَ َتوْا به من حيثيّات تر ّتبَ عليها الحكم بخسارتهم في الخرة‪ ،‬فقد حقّ لهم وثبت لهم‬
‫ذلك‪.‬‬
‫والمتتبع لليات السابقة يجد فيها هذه الحيثيات‪ ،‬بدايةً من َقوْلهم عن رسول ال‪ {:‬إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ‪...‬‬
‫}[النحل‪.]101 :‬‬
‫وقولهم‪ {:‬إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ‪[} ...‬النحل‪.]103 :‬‬
‫وعدم إيمانهم بآيات ال‪ ،‬وكونهم كاذبين مفترين على ال‪ ،‬واطمئنانهم بالكفر‪ ،‬وانشراح صدورهم‬
‫به‪ ،‬واستحبابهم الحياة الدنيا على الخرة‪.‬‬
‫هذه كلها حيثيات وأسباب أوجبتْ لهم الخسران في الخرة يوم تُصفّي الحسابات‪ ،‬وتنكشف الرباح‬
‫والخسائر‪ ،‬وكيف ل يكون عاقبته خُسْرانا مَن اقتراف كل هذه الجرائم؟!‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬ثمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ هَاجَرُواْ‪.} ...‬‬

‫(‪)1994 /‬‬

‫ثُمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ َبعْدِ مَا فُتِنُوا ُثمّ جَاهَدُوا َوصَبَرُوا إِنّ رَ ّبكَ مِنْ َب ْعدِهَا َل َغفُورٌ َرحِيمٌ (‬
‫‪)110‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قوله تعالى‪ { :‬فُتِنُواْ‪[ } ...‬النحل‪.]110 :‬‬
‫أي‪ :‬ابتلوا وعُذّبوا عذابا أليما؛ لنهم أسلموا‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّ رَ ّبكَ مِن َب ْعدِهَا َل َغفُورٌ رّحِيمٌ } [النحل‪.]110 :‬‬
‫من رحمة ال تعالى أن يفتح باب التوبة لعبادة الذين أسرفوا على أنفسهم‪ ،‬ومن رحمته أيضا أن‬
‫ن يتوب؛ لنه لو لم يفتح ال باب التوبة للمذنب ليئسَ من رحمة ال‪ ،‬ولتحوّل ـ وإن‬
‫يقبل توبة مَ ْ‬
‫أذنب ولو ذنبا واحدا ـ إلى مجرم يشقَى به المجتمع‪ ،‬فلم يَرَ أمامه بارقة أمل تدعوه إلى الصلح‪،‬‬
‫ول دافعا يدفعه إلى القلع‪.‬‬
‫أما إذا رأى باب ربه مفتوحا ليل نهار يقبل توبة التائب‪ ،‬ويغفر ذنب المسيء‪ ،‬كما جاء في‬
‫الحديث الشريف‪ " :‬إن ال يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار‪ ،‬ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء‬
‫الليل‪ ،‬حتى تطلع الشمس من مغربها "‪.‬‬
‫بل ويزيده ربنا سبحانه وتعالى من فضله إنْ أحسن التوبة‪ ،‬وندم على ما كان منه‪ ،‬بأن يُبدّل‬
‫ل صَالِحا فَُأوْلَـا ِئكَ يُ َب ّدلُ اللّهُ‬
‫عمَ ً‬
‫ع ِملَ َ‬
‫ن وَ َ‬
‫ب وَآمَ َ‬
‫سيئاته حسناتٍ‪ ،‬كما قال سبحانه‪ِ {:‬إلّ مَن تَا َ‬
‫غفُورا رّحِيما }[الفرقان‪.]70 :‬‬
‫ت َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫سَيّئَا ِتهِمْ حَسَنَا ٍ‬
‫جدَى في انتشاله من الوَهْدة التي تردّى فيها‪.‬‬
‫لو رأى المذنب ذلك كان أَدْعى لصلحه‪ ،‬وأ ْ‬
‫إذن‪ :‬تشريع التوبة من الحق سبحانه رحمة‪ ،‬وقبولها من المذنب رحمة أخرى؛ لذلك قال سبحانه‪{:‬‬
‫ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ‪[} ..‬التوبة‪.]118 :‬‬
‫أي‪ :‬شرع لهم التوبة ودَلّهم عليها‪ ،‬ليتوبوا هم‪.‬‬
‫فإنْ اغترّ ُمغْترّ برحمة ال وفضله فقال‪ :‬سأعمل سيئات كثيرة حتى يُبدّلها ال لي حسنات‪ .‬نقول‬
‫له‪ :‬ومَنْ يدريك لعله ل ينطبق عليك شروط الذين يُبدّل ال سيئاتهم حسنات‪ ،‬وهل تضمن أنْ‬
‫يُمهِلك الجل إلى أن تتوب‪ ،‬وأنت تعلم أن الموت يأتي بغتة؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ي ْومَ تَأْتِي‪.} ...‬‬

‫(‪)1995 /‬‬

‫ظَلمُونَ (‪)111‬‬
‫ت وَ ُهمْ لَا يُ ْ‬
‫عمَِل ْ‬
‫سهَا وَ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا َ‬
‫َيوْمَ تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ ُتجَا ِدلُ عَنْ َنفْ ِ‬

‫قد يكون المعنى في هذه الية على اتصال بالية السابقة‪ ،‬ومتعلق بها‪ ،‬فيكون المراد‪ {:‬إِنّ رَ ّبكَ مِن‬
‫َبعْدِهَا َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }[النحل‪.]110 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يحدث هذا‪:‬‬
‫سهَا‪[ } ...‬النحل‪.]111 :‬‬
‫{ َيوْمَ تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ تُجَا ِدلُ عَن ّنفْ ِ‬
‫أي‪ :‬يوم القيامة‪ .‬أو يكون المعنى‪ :‬اذكر يا محمد‪:‬‬
‫سهَا } [النحل‪.]111 :‬‬
‫{ َيوْمَ تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ تُجَا ِدلُ عَن ّنفْ ِ‬
‫وهل للنسان أكثر من نفس‪ ،‬فتجادل إحداهما عن الخرى؟‬
‫الحقيقة أن للنسان نفسا واحدة في الدنيا والخرة‪ ،‬ولكنها تختلف في الدنيا عنها يوم القيامة؛ لن‬
‫الحق سبحانه منحها في الدنيا الختيار‪ ،‬وجعلها حرة في أن تفعل أو ل تفعل‪ ،‬فكان من النفوس‪:‬‬
‫الطائعة‪ ،‬والعاصية‪ ،‬والمنصاعة‪ ،‬والمكابرة‪.‬‬
‫فإذا ما وقفت النفس في موقف القيامة‪ ،‬وواجهتْ الحق الذي كانت تخالفه علمت أن الموقف ل تفيد‬
‫فيه مكابرة‪ ،‬ول حيلة لها إل أن تجادل وتدافع عن نفسها‪ ،‬فكأن النفس القيامة تجادل عن نفس‬
‫الدنيا في موقف ينادي فيه الحق تبارك وتعالى‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َي ْومَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْلقَهّارِ }[غافر‪.]16 :‬‬
‫وقد حكى القرآن الكريم نماذج من جدال النفس يوم القيامة‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا‬
‫مُشْ ِركِينَ }[النعام‪.]23 :‬‬
‫خذُواْ مِن دُونِهِ َأوْلِيَآءَ مَا َنعْبُدُهُمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى‪[} ..‬الزمر‪.]3 :‬‬
‫{ وَالّذِينَ اتّ َ‬
‫حتَ َأقْدَامِنَا‪[} ...‬فصلت‪.]29 :‬‬
‫جعَ ْل ُهمَا َت ْ‬
‫ن وَالِنسِ نَ ْ‬
‫{ رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ الْجِ ّ‬
‫إذن‪ :‬هي نفس واحدة‪ ،‬تجادل عن نفسها في يوم ل تجزي فيه نفس عن نفس‪ ،‬فكلّ مشغول بكَرْبه‪،‬‬
‫مُحاسَب بذنبه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬يوْمَ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ َأخِيهِ * وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ‬
‫امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }[عبس‪.]37-34 :‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫ت وَهُ ْم لَ ُيظَْلمُونَ } [النحل‪.]111 :‬‬
‫عمَِل ْ‬
‫{ وَ ُت َوفّىا ُكلّ َنفْسٍ مّا َ‬
‫عدْل وقسطاس‬
‫الحق سبحانه يعطينا لقطة سريعة للحساب والجزاء يوم القيامة‪ ،‬فالميزان ميزان َ‬
‫مستقيم ل يظلم أحدا‪َ {.‬فمَن َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـ َملْ مِثْقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }‬
‫[الزلزلة‪.]8-7 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَ ُتوَفّىا‪[ } ..‬النحل‪.]111 :‬‬
‫جوْر‪ ،‬فالجميع عبيد ال‪ ،‬ل يتفاضلون‬
‫يدلّ على أن الجزاء من ال يكون وافيا‪ ،‬ل نقص فيه ول َ‬
‫إل بأعمالهم‪ ،‬فإنْ رحمهم فبفضله‪ ،‬وإنْ عذّبهم فبعدْله‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ {:‬ومَا ظََلمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ }[النحل‪.]118 :‬‬
‫أَ ْنفُ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً‪.} ..‬‬

‫(‪)1996 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غدًا مِنْ ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَ َرتْ بِأَ ْن ُعمِ اللّهِ‬
‫طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَ َ‬
‫َوضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَا َنتْ َآمِنَةً مُ ْ‬
‫خوْفِ ِبمَا كَانُوا َيصْ َنعُونَ (‪)112‬‬
‫فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ‬

‫الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ تكلّم عن اليمان بال واليمان بصدق رسوله في البلغ عنه‪،‬‬
‫واستقبال منهج ال في الكتاب والسنة‪ ،‬وتكلم عن المقابل لذلك من الكفر واللجاج والعناد ل‬
‫وللرسول وللمنهج‪ .‬أراد سبحانه أنْ يعطينا واقعا ملموسا في الحياة لكل ذلك‪ ،‬فضرب لنا هذا‬
‫المثل‪.‬‬
‫ومعنى المثل‪ :‬أن يتشابه أمران تشابها تاما في ناحية معينة بحيث تستطيع أن تقول‪ :‬هذا مثل هذا‬
‫تماما‪.‬‬
‫والهدف من ضرب المثال أنْ يُوضّح لك مجهولً بمعلوم‪ ،‬فإذا كنتَ مثلً ل تعرف شخصا نتحدث‬
‫عنه فيمكن أن نقول لك‪ :‬هو مثل فلن ـ المعلوم لك ـ في الطول ومثل فلن في اللون‪ ..‬إلخ من‬
‫الصور المعلومة لك‪ ،‬وبعد أن تجمع هذه الصور تُكوّن صورة كاملة لهذا الشخص الذي ل تعرفه‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالشيء الذي ل مثيلَ له إياك أن تضرب له مثلً‪ ،‬كما قال الحق سبحانه‪ {:‬فَلَ َتضْرِبُواْ لِلّهِ‬
‫لمْثَالَ }[النحل‪.]74 :‬‬
‫اَ‬
‫لنه سبحانه ل مثيل له‪ ،‬ول نظير له‪ ،‬ل في ذاته‪ ،‬ول في صفاته‪ ،‬ول في أفعاله‪ ،‬وهو سبحانه‬
‫الذي يضرب المثل لنفسه‪ ،‬أما نحن فل نضرب المثل إل للكائنات المخلوقة له سبحانه‪.‬‬
‫لذلك نجد في القرآن الكريم أمثالً كثيرة توضح لنا المجهول بمعلوم لنا‪ ،‬وتوضح المر المعنوي‬
‫بالمر الحسيّ الملموس لنا‪.‬‬
‫ومن ذلك ما ضربه ال لنا مثلً في النفاق في سبيل ال‪ ،‬وأن ال يضاعف النفقة‪ ،‬ويُخلِف على‬
‫صاحبها أضعافا مضاعفة‪ ،‬فانظر كيف صوّر لنا القرآن هذه المسألة‪ {:‬مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ‬
‫فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبَُلةٍ مّئَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَاعِفُ ِلمَن َيشَآ ُء وَاللّهُ‬
‫وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة‪.]261 :‬‬
‫وهكذا أوضح لنا المثل المر الغيبي المجهول بالمر المحسّ المُشَاهد الذي يعلمه الجميع‪ ،‬حتى‬
‫استقرّ هذا المجهول في الذهن‪ ،‬بل أصبح أمرا مُتيقّنا شاخصا أمامنا‪.‬‬
‫والمتأمل في هذا المثل التوضيحي يجد أن المر الذي وضّحه الحق سبحانه أقوى في العطاء من‬
‫المر الذي أوضح به‪ ،‬فإنْ كانت هذه الضعاف المضاعفة هي عطاء الرض‪ ،‬وهي مخلوقة ل‬
‫تعالى‪ ،‬فما بالك بعطاء الخالق سبحانه وتعالى؟‬
‫وكلمة (ضَرَبَ) مأخوذة من ضَرْب العملة‪ ،‬حيث كانت في الماضي من الذهب أو الفضة‪ ،‬ولخوف‬
‫الغش فيها حيث كانوا يخلطون الذهب مثلً بالنحاس‪ ،‬فكان النقاد أي‪ :‬الخبراء في تمييز العملة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يضربونها أي‪ :‬يختمون عليها فتصير مُعتمدة موثوقا بها‪ ،‬ونافذة وصالحة للتداول‪.‬‬
‫كذلك إذا ضرب ال مثلً لشيء مجهول بشيء معلوم استقرّ في الذهن واع ُتمِد‪.‬‬
‫فقال تعالى في هذا المثل‪:‬‬
‫{ َوضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْيَةً‪[ } ..‬النحل‪.]112 :‬‬
‫الهدف من ضرب هذا المثل أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا أن النسان إذا أنعم ال‬
‫عليه بشتى أنواع النعم فجحدها‪ ،‬ولم يشكره عليها‪ ،‬ولم يُؤدّ حق ال فيها‪ ،‬واستعمل نعمة ال في‬
‫معصيته فقد عرّضها للزوال‪ ،‬وعرّض نفسه لعاقبة وخيمة ونهاية سيئة‪ ،‬فقيّد النعمة بشكرها وأداء‬
‫حق ال فيها‪ ،‬لذلك قال الشاعر‪:‬‬

‫شكْرِ اللهِ فَإنّ اللَه شَدِيدُ‬


‫إذَا كُ ْنتَ في نعمةٍ فَارْعَها فَإِنّ ال َمعَاصِي تُزيلُ ال ّنعَموحَا ِفظْ عليها ب ُ‬
‫ال ّنقَمولكن‪ ،‬القرية التي ضربها ال لنا مثلً هنا‪ ،‬هل هي قرية معينة أم المعنى على الطلق؟ قد‬
‫يُراد بالقرية قرية معينة كما قال البعض إنها مكة‪ ،‬أو غيرها من القرى‪ ،‬وعلى كلّ فتحديدها أمر‬
‫ل فائدة منه‪ ،‬ول يُؤثّر في الهدف من ضَرْب المثل بها‪.‬‬
‫حدّث‬
‫والقرية‪ :‬اسم للبلد التي يكون بها قِرىً لمن يمرّ بها‪ ،‬أي‪ :‬بلد استقرار‪ .‬وهي اسم للمكان فإذا ُ‬
‫عنها يراد المكين فيها‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَاّلعِيْرَ الّتِي َأقْبَلْنَا فِيهَا‪} ..‬‬
‫[يوسف‪.]82 :‬‬
‫فالمراد‪ :‬اسأل أهل القرية؛ لن القرية كمكان ل تُسأل‪ ..‬هكذا قال علماء التفسير‪ ،‬على اعتبار أن‬
‫في الية مجازا مرسلً علقته المحلية‪.‬‬
‫ولكن مع تقدّم العلم الحديث يعطينا الحق تبارك وتعالى مددا جديدا‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬سَنُرِيهِمْ‬
‫سهِمْ‪[} ..‬فصلت‪.]53 :‬‬
‫ق َوفِي أَنفُ ِ‬
‫آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬
‫والن تطالعنا الكتشافات بإمكانية التقاط صور وتسجيل أصوات السابقين‪ ،‬فمثلً يمكنهم بعد‬
‫انصرافنا من هذا المكان أن يُسجّلوا جلستنا هذه بالصوت والصورة‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أن المكان يعي ويحتفظ لنا بالصور والصوات منذ سنوات طويلة‪ ،‬وعلى هذا يمكن‬
‫أن نقول‪ :‬إن القرية يمكن أنْ تُسأل‪ ،‬ويمكن أن تجيب‪ ،‬فلديها ذاكرة واعية تسجّل وتحتفظ بما‬
‫سجّلته‪ ،‬بل وأكثر من ذلك يتطلعون لعادة الصور والصوات من بَدْء الخليقة على اعتبار أنها‬
‫موجودة في الجو‪ ،‬مُودعة فيه على شكل موجات لم تُفقد ولم َتضِع‪.‬‬
‫وما أشبه هذه الموجات باندياح الماء إذا ألقيتَ فيه بحجر‪ ،‬فينتج عنه عدة دوائر تبتعد عن مركزها‬
‫إلى أنْ تتلشى بالتدريج‪.‬‬
‫إذن‪ :‬يمكن أن يكون سؤال القرية على الحقيقة‪ ،‬ول شك أن سؤال القرية سيكون أبلغ من سؤال‬
‫أهلها‪ ،‬لن أهلها قد يكذبون‪ ،‬أما هي فل تعرف الكذب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبهذا الفهم للية الكريمة يكون فيها إعجاز من إعجازات الداء القرآني‪.‬‬
‫طمَئِنّةً‪[ { ...‬النحل‪.]112 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ‬
‫آمنةً‪ :‬أي في مَ ْأمَن من الغارة عليها من خارجها‪ ،‬والمن من أعظم ِنعَم ال تعالى على البلد‬
‫والعباد‪.‬‬
‫طمَئِنّةً‪[ { ..‬النحل‪.]112 :‬‬
‫وقوله‪ } :‬مّ ْ‬
‫أي‪ :‬لديها مُقوّمات الحياة‪ ،‬فل تحتاج إلى غيرها‪ ،‬فالحياة فيها مُستقرّة مريحة‪ ،‬والنسان ل يطمئن‬
‫إل في المكان الخالي من المنغّصات‪ ،‬والذي يجد فيه كل مقومات الحياة‪ ،‬فالمن والطمأنينة هما‬
‫سِرّ سعادة الحياة واستقرارها‪.‬‬
‫ل ِفهِمْ رِحَْلةَ الشّتَآ ِء وَالصّ ْيفِ *‬
‫وحينما امتنّ ال تعالى على قريش قال‪ {:‬لِيلَفِ قُرَيْشٍ * إِي َ‬
‫خوْفٍ }‬
‫ع وَآمَ َنهُم مّنْ َ‬
‫ط َع َمهُم مّن جُو ٍ‬
‫فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي َأ ْ‬

‫[قريش‪.]4-1 :‬‬
‫فطالما شبعت البطن‪ ،‬وأمنتْ النفس استقرت بالنسان الحياة‪.‬‬
‫ن أصبح معافىً في‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم يعطينا صورة مُثْلى للحياة الدنيا‪ ،‬فيقول‪ " :‬مَ ْ‬
‫بدنه‪ ،‬آمنا في سربه‪ ،‬عنده قوت يومه‪ ،‬فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها "‪.‬‬
‫ويصف الحق سبحانه هذه القرية بأنها‪:‬‬
‫} يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ‪[ { ...‬النحل‪.]112 :‬‬
‫معلوم أن الناس هم الذين يخرجون لطلب الرزق‪ ،‬لكن في هذه القرية يأتي إليها الرزق‪ ،‬وهذا‬
‫يُرجّح القول بأنها مكة؛ لن ال تعالى قال عنها‪َ {:‬أوَلَمْ ُن َمكّن ّلهُمْ حَرَما آمِنا يُجْبَىا ِإلَيْهِ َثمَرَاتُ ُكلّ‬
‫شيْءٍ رّزْقا مّن لّدُنّا وَلَـاكِنّ َأكْثَرَهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }[القصص‪.]57 :‬‬
‫َ‬
‫ومن تيسّر له العيش في مكة يرى فيها الثمرات والمنتجات من كل أنحاء العالم‪ ،‬وبذلك ت ّمتْ لهم‬
‫النعمة واكتملتْ لديهم وسائل الحياة الكريمة المنة الهانئة‪ ،‬فماذا كان منهم؟ هل استقبلوها بشكر‬
‫ال؟ هل استخدموا نعمة عليهم في طاعته ومَرْضاته؟ ل‪ ..‬بل‪:‬‬
‫} َف َكفَ َرتْ بِأَ ْن ُعمِ اللّهِ‪[ { ..‬النحل‪.]112 :‬‬
‫أي‪ :‬جحدت بهذه النعم‪ ،‬واستعملتها في مصادمة منهج ال وشريعته‪ ،‬فكانت النتيجة‪:‬‬
‫خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ { [النحل‪.]112 :‬‬
‫ع وَالْ َ‬
‫} فََأذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُو ِ‬
‫وكأن في الية تحذيرا من الحق سبحانه لكل مجتمع كفر بنعمة ال‪ ،‬واستعمل النعمة في مصادمة‬
‫منهجه سبحانه‪ ،‬فسوف تكون عاقبته كعاقبة هؤلء‪.‬‬
‫} فََأذَا َقهَا اللّهُ‪[ { ..‬النحل‪.]112 :‬‬
‫من الذوق‪ ،‬نقول‪ :‬ذاق وتذوّق الطعام إذا وضعه على لسانه وتذوّقه‪ .‬وال ّذوْق ل يتجاوز حلمات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اللسان‪ .‬إذن‪ :‬الذوْق خاصّ بطعْم الشياء‪ ،‬لكن ال سبحانه لم يقُلْ‪ :‬أذاقها طعم الجوع‪ ،‬بل قال‪:‬‬
‫خ ْوفِ‪[ { ..‬النحل‪.]112 :‬‬
‫ع وَالْ َ‬
‫} لِبَاسَ الْجُو ِ‬
‫فجعل الجوع والخوف وكأنهما لباسٌ يلبسه النسان‪ ،‬والمتأمل في الية يطالع دقّة التعبير القرآني‪،‬‬
‫فقد يتحول الجوع والخوف إلى لباس يرتديه الجائع والخائف‪ ،‬كيف ذلك؟‬
‫الجوع يظهر أولً كإحساس في البطن‪ ،‬فإذا لم يجد طعاما عوّض من المخزون في الجسم من‬
‫شحوم‪ ،‬فإذا ما انتهتْ الشحوم تغذّى الجسم على اللحم‪ ،‬ثم بدأ ينحت العظام‪ ،‬ومع شدة الجوع‬
‫ل وذبولً‪ ،‬ثم ينكمش ويجفّ‪ ،‬وبذلك يتحول الجوع‬
‫نلحظ على البشرة شحوبا‪ ،‬وعلى الجلد هُزَا ً‬
‫إلى شكل خارجي على الجلد‪ ،‬وكأنه لباس يرتديه الجائع‪.‬‬
‫وتستطيع أن تتعرف على الجوع ليس من بطن الجائع‪ ،‬ولكن من هيئته وشُحوب لونه وتغيّر‬
‫بشرته‪ ،‬كما قال تعالى عن الفقراء الذين ل يستطيعون ضربا في الرض‪َ {:‬تعْ ِر ُفهُم ِبسِيمَاهُ ْم لَ‬
‫يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافا‪[} ..‬البقرة‪.]273 :‬‬
‫وكذلك الخوف وإنْ كان موضعه القلب‪ ،‬إل أنه يظهر على الجسم كذلك‪ ،‬فإذا زاد الخوف ترتعد‬
‫الفرائص‪ ،‬فإذا زاد الخوف يرتعش الجسم كله‪ ،‬فيظهر الخوف عليه كثوب يرتديه‪.‬‬
‫وهكذا جَسّد لنا التعبير القرآني هذه الحاسيس الداخلية‪ ،‬وجعلها محسوسة تراها العيون‪ ،‬ولكنه‬
‫أدخلها تحت حاسّة التذوق؛ لنها أقوى الحواسّ‪.‬‬
‫وفي تشبيه الجوع والخوف باللباس ما يُوحي بشمولهما الجسم كله‪ ،‬كما يلفّه اللباس فليس الجوع‬
‫في المعدة فقط‪ ،‬وليس الخوف في القلب فقط‪.‬‬

‫ومن ذلك ما اش ُتهِر بين المحبين والمتحدثين عن الحب أن محله القلب‪ ،‬فنراهم يتحدثون عن‬
‫خطَرَاتُ ِذكْ ِركَ تَسْ َتسِيغُ مَودّتي فَأُحِسّ مِنْها في الفُؤادِ دَبِيبَافإذا ما زاد‬
‫القلوب‪ ،‬كما قال الشاعر‪َ :‬‬
‫الحب وتسامى‪ ،‬وارتقت هذه المشاعر‪ ،‬تحوّل الحب من القلب‪ ،‬وسكَن جميع الجوارح‪ ،‬وخالط كل‬
‫عضَائِي خُِلقْنَ قُلُوبَاوقوله‪} :‬‬
‫عضْو لِي ِإلّ َوفِي ِه صَبَابةٌ فَكأنّ أَ ْ‬
‫العضاء‪ ،‬على حَدّ قول الشاعر‪:‬لَ ُ‬
‫ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ { [النحل‪.]112 :‬‬
‫أي‪ :‬أن الحق سبحانه ما ظلمهم وما تجنّى عليهم‪ ،‬بل ما أصابهم هو نتيجة عملهم وصدودهم عن‬
‫سبيل ال‪ ،‬وكفرهم بأنعمه‪ ،‬فحبسها ال عنهم‪ ،‬فهم الذين قابلوا رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بالصّدود والجحود والنكران‪ ،‬وتعرّضوا له ولصحابه باليذاء وبيّتوا لقتله‪ ،‬حتى دعا عليهم قائلً‪:‬‬
‫" اللهم اشْ ُددْ وطأتك على مضر‪ ،‬واجعلها عليهم سنين كسني يوسف "‪.‬‬
‫فاستجاب الحق سبحانه لنبيه‪ ،‬وألبسهم لباس الجوع والخوف‪ ،‬حتى إنهم كانوا يأكلون الجيف‪،‬‬
‫ويخلطون الشعر والوبر بالدم فيأكلوه‪.‬‬
‫جهْد والضّنْك مُنْتهاه‪ ،‬فأرسلوا وفدا منهم‬
‫وظلوا على هذا الحال سبع سنين حتى ضَجّوا‪ ،‬وبلغ بهم ال َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لرسول ال‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا عملك برجال مكة‪ ،‬فما بال صبيانها ونسائها؟ فكان صلى ال عليه وسلم‬
‫يرسل لهم ما يأكلونه من الحلل الطيب‪.‬‬
‫أما لباس الخوف فتمثّل في السرايا التي كان يبعثها رسول ال صلى ال عليه وسلم من المدينة‬
‫لترهبهم وتزعجهم؛ ليعلموا أن المسلمين أصبحتْ لهم قوة وشوكة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََلقَدْ جَآءَ ُهمْ رَسُولٌ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1997 /‬‬

‫ب وَ ُهمْ ظَاِلمُونَ (‪)113‬‬


‫وَلَقَدْ جَا َءهُمْ َرسُولٌ مِ ْنهُمْ َفكَذّبُوهُ فََأخَذَ ُهمُ ا ْلعَذَا ُ‬

‫رأينا كيف كانت النعمة تامة على أهل مكة‪ ،‬وقد تمثلت هذه النعمة في َكوْنها آمنة مطمئنة‪ ،‬وهذه‬
‫نعمة مادية يحفظ ال بها القالب النساني‪ ،‬لكنه ما يزال في حاجة إلى ما يحفظ قِيَمه وأخلقه‪.‬‬
‫وهذه هي نعمة النعم‪ ،‬وقد امتنّ ال عليهم بها حينما أرسل فيهم رسولً منهم‪ ،‬فما فائدة النعم‬
‫المادية في بلد مهزوزة القيم‪ ،‬مُنْحلة الخلق‪ ،‬فجاءهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ليُقوّم ما‬
‫اعوجّ من سلوكهم‪ ،‬ويُصلح ما فسد من قِيَمهِم ومبادئهم‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬مّ ْنهُمْ‪[ } ...‬النحل‪.]113 :‬‬
‫أي‪ :‬من جنسهم‪ ،‬وليس غريبا عنهم‪ ،‬وليس من مُطْلق العرب‪ ،‬بل من قريش أفضل العرب‬
‫وأوسطها‪.‬‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬فكَذّبُوهُ‪[ } ..‬النحل‪.]113 :‬‬
‫وكان المفترض فيهم أن يستقبلوه بما علموا عنه من صفات الخير والكمال‪ ،‬وبما اشتهر به بينهم‬
‫من الصدق والمانة‪ ،‬ولكنهم كما كفروا بالنعم المادية كفروا أيضا بالنعم القيمية متمثلة في رسول‬
‫خذَهُمُ ا ْلعَذَابُ‪[ } ..‬النحل‪.]113 :‬‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وقوله‪ { :‬فَأَ َ‬
‫مَنِ الذي أخذهم؟‬
‫لم ت ُقلْ الية‪ :‬أخذهم ال بالعذاب‪ ،‬بل‪ :‬أخذهم العذاب‪ ،‬كأن العذابَ نفسه يشتاق لهم‪ ،‬وينقضّ عليهم‪،‬‬
‫ويسارع لخذهم‪ ،‬ففي الية تشخيص يُوحي بشدة عذابهم‪.‬‬
‫لتِ وَ َتقُولُ َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق‪.]30 :‬‬
‫جهَنّمَ َهلِ امْتَ َ‬
‫كما قال تعالى في آية أخرى‪َ {:‬ي ْومَ َنقُولُ لِ َ‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬فكُلُواْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ‪.} ...‬‬

‫(‪)1998 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْ ُبدُونَ (‪)114‬‬
‫َفكُلُوا ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ حَلَالًا طَيّبًا وَا ْ‬

‫قُلْنا‪ :‬إن الرسول صلى ال عليه وسلم حينما اشتد الحال بأهل مكة حتى أكلوا الجيف‪ ،‬كان يرسل‬
‫إليهم ما يأكلونه من الحلل الطيب رحمة منه صلى ال عليه وسلم بهم فيقول‪:‬‬
‫{ َفكُلُواْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ‪[ } ..‬النحل‪.]114 :‬‬
‫أي‪ :‬أن هذا الرزق ليس من عندي‪ ،‬بل من عند ال‪.‬‬
‫{ حَللً طَيّبا‪[ } ...‬النحل‪.]114 :‬‬
‫ذلك لنهم كانوا قبل ذلك ل يتورّعون عن أكل ما حرم ال‪ ،‬ول عن أكل الخبيث‪ ،‬فأراد أن يُنبّههم‬
‫أن رِزْق ال لهم من الحلل الطيب الهنيئء‪ ،‬فيبدلهم الحلل بدل الحرام‪ ،‬والطيب بدل الخبيث‪.‬‬
‫شكُرُواْ ِن ْعمَتَ اللّهِ‪[ } ...‬النحل‪.]114 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَا ْ‬
‫ن يقعوا فيما وقعوا فيه من قَبْل من جُحود النعمة ونكْرانها والكفر بها‪ ،‬فقد‬
‫وهنا إشارة تحذير لهم أ ْ‬
‫جَرّبوا عاقبة ذلك‪ ،‬فنزع ال منهم المْنَ‪ ،‬وألبسهم لباسَ الخوف‪ ،‬ونزع منهم الشّبَع ورَغَد العيش‪،‬‬
‫وألبسهم لباس الجوع‪ ،‬فخذوا إذن عبرة مما سلف‪:‬‬
‫{ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ‪[ } ...‬النحل‪.]114 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِ ّنمَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ‪.} ...‬‬

‫(‪)1999 /‬‬

‫غ وَلَا عَادٍ فَإِنّ‬


‫ضطُرّ غَيْرَ بَا ٍ‬
‫إِ ّنمَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ َة وَالدّ َم وَلَحْمَ الْخِنْزِي ِر َومَا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ َفمَنِ ا ْ‬
‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪)115‬‬
‫اللّهَ َ‬

‫الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ قال‪َ {:‬فكُلُواْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ حَللً طَيّبا }[النحل‪.]114 :‬‬
‫أراد أن يُكرّر معنًى من المعاني سبق ذكره في البقرة والمائدة‪ ،‬فقال في البقرة‪ {:‬إِ ّنمَا حَرّمَ عَلَ ْيكُمُ‬
‫غ َولَ عَادٍ فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ‬
‫حمَ ا ْلخِنزِي ِر َومَآ ُأ ِهلّ بِهِ ِلغَيْرِ اللّهِ َفمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَا ٍ‬
‫ا ْلمَيْتَ َة وَالدّ َم وَلَ ْ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }[البقرة‪.]173 :‬‬
‫َ‬
‫وقال تعالى في سورة المائدة‪ {:‬حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَةُ وَالْدّ ُم وََلحْمُ ا ْلخِنْزِي ِر َومَآ أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ‪} ..‬‬
‫[المائدة‪.]3 :‬‬
‫وهذه الشياء كنتم تأكلونها وهي مُحرّمة عليكم‪ ،‬والن ما ُدمْنَا ننقذكم‪ ،‬ونجعل لكم معونة إيمانية‬
‫من رسول ال‪ ،‬فكلوا هذه الشياء حللً طيبا‪.‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولكن‪ ،‬لماذا كرّر هذا المعنى هنا؟‬
‫التكرار هنا لمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬أنه سبحانه ل يريد أنْ يعطيهم صورة عامة بالحكم‪ ،‬بل صورة مُشخّصة بالحالة؛ لنهم‬
‫جوْعى يريدون ما يأكلونه‪ ،‬حتى وإنْ كانت الجيف‪ ،‬ولكن السلم يُحرّم الميتة‪ ،‬فأوضح لهم‬
‫كانوا َ‬
‫أنكم بعد ذلك ستأكلون الحلل الطيب‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن النص يختلف‪ ،‬ففي البقرة‪َ {:‬ومَآ ُأ ِهلّ ِبهِ ِلغَيْرِ اللّهِ‪[} ..‬البقرة‪.]173 :‬‬
‫وهنا‪َ { :‬ومَآ أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ‪[ } ..‬النحل‪.]115 :‬‬
‫وليس هنا من قبيل التفنّن في السلوب‪ ،‬بل المعنى مختلف تماما؛ ذلك لن الهلل هو َرفْع‬
‫الصوت عند الذبح‪ ،‬فكانوا يرفعون أصواتهم عند الذبح‪ ،‬ولكن والعياذ بال يقولون‪ :‬باسم اللت‪ ،‬أو‬
‫باسم العُزّى‪ ،‬فيُهلون بأسماء الشركاء الباطلين‪ ،‬ول يذكرون اسم ال الوهاب‪.‬‬
‫فمرّة يُهلّون به لغير ال‪ ،‬ومرة ُيهِلّون لغير ال به‪ .‬كيف ذلك؟‬
‫قالوا‪ :‬لن الذبْح كان على نوعين‪ :‬مرة يذبحون للتقرّب للصنام‪ ،‬فيكون الصل في الذبح أنه أُ ِهلّ‬
‫لغير ال به‪ .‬أي‪ :‬للصنام‪.‬‬
‫ومرّة يذبحون ليأكلوا دون تقرّب لحد‪ ،‬فالصل فيه أنه ُأ ِهلّ به لغير ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬تكرار الية لحكمة‪ ،‬وسبحان مَنْ هذا كلمه‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬فمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ َولَ عَادٍ‪[ } ..‬النحل‪.]115 :‬‬
‫الضطرار‪َ :‬ألّ تجد ما تأكله‪ ،‬ول ما يقيم حياتك‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يعطينا هنا رخصة عندما تُلجِئنا الضرورة أن نأكل من هذه الشياء‬
‫المحرّمة بقدر ما يحفظ الحياة ويسُدّ الجوع‪ ،‬فمَعنى (غَيْر بَاغٍ) غير مُتجاوزٍ للحدّ‪ ،‬فلو اضطر ْرتَ‬
‫وعندك مَيْتة وعندك طعام حلل‪ ،‬فل يصحّ أن تأكل الميتة في وجود الحلل‪.‬‬
‫{ َولَ عَادٍ } [النحل‪.]115 :‬‬
‫أي‪ :‬ول ُمعْتَدٍ على القدر المرخّص به‪ ،‬وهو ما يمسك الحياة ويسُدّ جوعك فقط‪ ،‬دون شِبَع منها‪.‬‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ } [النحل‪.]115 :‬‬
‫ويقول تعالى‪ { :‬فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫وفي البقرة‪ {:‬فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ‪[} ...‬البقرة‪.]173 :‬‬
‫فالمعنى واحد‪ ،‬ولكن هنا ذكر المغفرة والرحمة‪ ،‬وهناك ذكر سببهما‪.‬‬
‫وتجد الشارة هنا إلى ما يتشدّق به البعض من الملحدة الذين يبحثون في القرآن عن َمغْمز‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬طالما أن ال حرّم هذه الشياء‪ ،‬فما فائدتها في الكون؟‬
‫نقول‪ :‬أتظنون أن كل موجود في الكون وُجِد ليُؤكل‪ ،‬أليس له مهمة أخرى؟ ومن ورائه مصلحة‬
‫لكْل‪ ،‬فإنْ حرّم السلم أكْله فقد أباح النتفاع به من وجه آخر‪.‬‬
‫أخرى غير ا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالخنزير مثلً حَرّم ال أكْله‪ ،‬ولكن خَلقه لمهمة أخرى‪ ،‬وجعل له َدوْرا في نظافة البيئة‪ ،‬حيث‬
‫يلتهم القاذورات‪ ،‬فهو بذلك يُؤدّي مهمة في الحياة‪.‬‬
‫وكذلك الثعابين ل نأكلها‪ ،‬ولها مهمة في الحياة أيضا‪ ،‬وهي أنْ تُجهّز لنا السّم في جوفها‪ ،‬وبهذا‬
‫السم تعالج بعض الداءات والمراض‪ ،‬وغير ذلك من المثلة كثير‪.‬‬
‫وكذلك يجب أنْ نعلمَ أن الحق سبحانه ما حرّم علينا هذه الشياء إل لحكمة‪ ،‬وعلى النسان أن‬
‫يأخذ من واقع تكوينه المادي وتجاربه ما يُقرّب له المعاني القيمية الدينية‪ ،‬فلو نظر إلى اللت‬
‫التي تُدار من حوله من ماكينات وسيارات وطائرات وخلفه لوجد لكل منها وقودا‪ ،‬ربما ل‬
‫يناسب غيرها‪ ،‬حتى في النوع الواحد نرى أن وقود السيارات وهو البنزين مثلً ل يناسب‬
‫الطائرات التي تستخدم نفس الوقود‪ ،‬ولكن بدرجة نقاء أعلى‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لكل شيء وقود مناسب‪ ،‬وكذلك أنت أيها النسان لك وقودك المناسب لك‪ ،‬وبه تستطيع أداء‬
‫حركتك في الحياة‪ ،‬وأنت صَنْعة ربك سبحانه‪ ،‬وهو الذي يُحدّد لك ما تأكله وما ل تأكله‪ ،‬ويعلم ما‬
‫يُصلحك وما يضرّك‪.‬‬
‫والشيء المحرّم قد يكون مُحرّما في ذاته كالميتة لما فيها من ضرر‪ ،‬وقد يكون حللً في ذاته‪،‬‬
‫ولكنه مُحرّم بالنسبة لشخص معين‪ ،‬كأن يُمنَع المريض من تناول طعام ما؛ لنه يضرّ بصحته أو‬
‫يُؤخّر شفاءه‪ ،‬وهو تحريم طاريء لحين زوال سببه‪.‬‬
‫وصورة أخرى للتحريم‪ ،‬وهي أن يكون الشيء حللً في ذاته ول ضررَ في تناوله‪ ،‬ومع ذلك‬
‫تحرمه عقوبةً‪ ،‬كما تفعل في معاقبة الطفل إذا أساء فنحرمه من قطعة الحلوى مثلً‪.‬‬
‫إذن‪ :‬للتحريم أسباب كثيرة‪ ،‬سوف نرى أمثلة منها قريبا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪َ } :‬ولَ َتقُولُواْ ِلمَا‪.{ ..‬‬

‫(‪)2000 /‬‬

‫ل وَهَذَا حَرَامٌ لِ َتفْتَرُوا عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ‬
‫صفُ َألْسِنَ ُتكُمُ ا ْل َك ِذبَ هَذَا حَلَا ٌ‬
‫وَلَا َتقُولُوا ِلمَا َت ِ‬
‫عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ لَا ُيفْلِحُونَ (‪)116‬‬

‫صفُ أَ ْلسِنَ ُتكُمُ ا ْل َك ِذبَ }‪ :‬تُظهِره على أوضح وجوهه‪ ،‬فليس كلمهم كذبا فقط‪ ،‬بل يصفه‪،‬‬
‫معنى { َت ِ‬
‫فمَنْ ل يعرف الكذب فليعرفه من كلم هؤلء‪.‬‬
‫والمراد بالكذب هنا قولهم‪:‬‬
‫للٌ وَهَـاذَا حَرَامٌ‪[ } ..‬النحل‪.]116 :‬‬
‫{ هَـاذَا حَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهذا كذب وافتراء على ال سبحانه؛ لنه وحده صاحب التحليل والتحريم‪ ،‬فإياك أنْ تُحلّل شيئا من‬
‫عند نفسك‪ ،‬أو تُحرّم شيئا حَسْب هواك؛ لن هذا افتراءٌ على ال‪:‬‬
‫{ لّ َتفْتَرُواْ عَلَىا اللّهِ ا ْلكَ ِذبَ‪[ } ...‬النحل‪.]116 :‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫ب لَ ُيفِْلحُونَ } [النحل‪.]116 :‬‬
‫{ إِنّ الّذِينَ َيفْتَرُونَ عَلَىا اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ‬
‫فإن انطلى كذبهم على بعض الناس‪ ،‬فأخذوا من ورائه منفعة عاجلة‪ ،‬فعمّا قليل سيُفتضح أمرهم‪،‬‬
‫وينكشف كذبهم‪ ،‬وتنقطع مصالحهم بين الخلق‪.‬‬
‫ويصف الحق سبحانه ما يأخذه هؤلء من دنياهم بأنه‪ { :‬مَتَاعٌ قَلِيلٌ‪.} ..‬‬

‫(‪)2001 /‬‬

‫عذَابٌ أَلِيمٌ (‪)117‬‬


‫ل وََلهُمْ َ‬
‫مَتَاعٌ قَلِي ٌ‬

‫أي‪ :‬ما أخذتموه بكذبكم وافترائكم على ال متاعٌ قليل زائل‪ ،‬سيحرمكم من المتاع الكثير الباقي‬
‫الذي قال ال عنه‪ {:‬مَا عِن َد ُكمْ يَنفَ ُد َومَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }[النحل‪.]96 :‬‬
‫ليس هذا فقط بل‪:‬‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل‪.]117 :‬‬
‫{ وََلهُمْ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَعَلَىا الّذِينَ هَادُواْ‪.} ..‬‬

‫(‪)2002 /‬‬

‫سهُمْ َيظِْلمُونَ (‬
‫صصْنَا عَلَ ْيكَ مِنْ قَ ْبلُ َومَا ظََلمْنَاهُ ْم وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫وَعَلَى الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا مَا َق َ‬
‫‪)118‬‬

‫ل ال وفيما حرّم‪ ،‬وبيّنتْ أن التحليل أو التحريم ل تعالى‪ ،‬جاءت لنا‬


‫بعد أن تكلمت اليات فيما أح ّ‬
‫بصورة من التحريم‪ ،‬ل لن الشيء ذاته مُحرّم‪ ،‬بل هو مُحرّم تحريم عقوبة‪ ،‬كالذي مثّلْنَا له سابقا‬
‫بحرمان الطفل من الحلوى عقابا له على سُوء ِفعْله‪.‬‬
‫والذين هادوا هم‪ :‬اليهود عاقبهم ال بتحريم هذه الشياء‪ ،‬مع أنها حلل في ذاتها‪ ،‬وهذا تحريم‬
‫خاصّ بهم كعقوبة لهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫صصْنَا عَلَ ْيكَ مِن قَ ْبلُ‪[ } ..‬النحل‪.]118 :‬‬
‫{ مَا َق َ‬
‫ظفُرٍ َومِنَ‬
‫المراد ما ُذكِر في سورة النعام من قوله تعالى‪ {:‬وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ‬
‫ظمٍ ذاِلكَ‬
‫حوَايَآ َأوْ مَا اخْتََلطَ ِبعَ ْ‬
‫ظهُورُ ُهمَا َأوِ ا ْل َ‬
‫حمََلتْ ُ‬
‫شحُومَ ُهمَآ ِإلّ مَا َ‬
‫الْ َبقَرِ وَا ْلغَنَمِ حَ ّرمْنَا عَلَ ْي ِهمْ ُ‬
‫جَزَيْنَاهُم بِ َبغْ ِيهِ ْم وِإِنّا َلصَا ِدقُونَ }[النعام‪.]146 :‬‬
‫كل ذي ظفر‪ :‬الحيوان ليس منفرجَ الصابع‪ ،‬والحوايا‪ :‬هي المصارين والمعاء‪ ،‬ونرى أن كل‬
‫هذه الشياء المذكورة في الية حلل في ذاتها‪ ،‬ومُحلّلة لغير اليهود‪ ،‬ولكن ال حرّمها عليهم‬
‫عقوبةً لهم على ظلمهم وبغيهم‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬فَبِظُ ْلمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِّلتْ‬
‫طلِ‬
‫خذِ ِهمُ الرّبَا َوقَدْ ُنهُواْ عَنْ ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ‬
‫َلهُ ْم وَ ِبصَدّ ِهمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا * وَأَ ْ‬
‫عذَابا أَلِيما }[النساء‪.]161-160 :‬‬
‫وَأَعْتَدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ مِ ْنهُمْ َ‬
‫أي‪ :‬بسبب ظلمهم حَرّمنا عليهم هذه الطيبات‪.‬‬
‫ذلك لن مَنْ أخذ حكما افتراءً على ال فحرّم ما أحلّ ال‪ .‬أو حلّل ما حرّم ال ل بُدّ أنْ يُعاقبَ‬
‫حلّ لغيره‪ ،‬وقد وقع الظلم من اليهود لنهم اجترأوا على حدود ال وتعاليمه‪،‬‬
‫بمثله فيُحرّم عليه ما أ ِ‬
‫وأول الظلم وقمته الشرك بال تعالى‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان‪.]13 :‬‬
‫والظلم َنقْل الحق من صاحبه إلى غيره‪.‬‬
‫ومن ظلمهم‪ :‬ما قالوه لموسى ـ عليه السلم ـ بعد أن عبر بهم البحر‪ ،‬ومرّوا على قوم يعكفون‬
‫على أصنام لهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‪ .‬قال تعالى‪ {:‬وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ‬
‫ج َعلْ لّنَآ إِلَـاها َكمَا َلهُمْ آِلهَةٌ }‬
‫الْبَحْرَ فَأَ َتوْاْ عَلَىا َقوْمٍ َي ْعكُفُونَ عَلَىا َأصْنَامٍ ّلهُمْ قَالُواْ يامُوسَىا ا ْ‬
‫[العراف‪.]138 :‬‬
‫ومن ظلمهم‪ :‬أنهم عبدوا العجل من دون ال‪.‬‬
‫ومن ظلمهم لموسى ـ عليه السلم ـ‪ :‬أنهم لم يؤمنوا به‪ .‬كما قال تعالى‪َ {:‬فمَآ آمَنَ ِلمُوسَىا ِإلّ‬
‫عوْنَ َومَلَ ِئهِمْ أَن َيفْتِنَهُمْ }[يونس‪.]83 :‬‬
‫خ ْوفٍ مّن فِرْ َ‬
‫ذُرّيّةٌ مّن َق ْومِهِ عَلَىا َ‬
‫طلِ }[النساء‪.]161 :‬‬
‫ومن ظلمهم‪ {:‬وَأَخْذِ ِهمُ الرّبَا َوقَدْ ُنهُواْ عَ ْن ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ‬
‫حقّهم حرّم ال عليهم أشياء كانت حللً لهم؛ قال تعالى‪:‬‬
‫إذن‪ :‬بسبب ظلمهم وأخذهم غير َ‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ } [النحل‪.]118 :‬‬
‫ظَلمْنَاهُ ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ‬
‫{ َومَا َ‬
‫ظلموا أنفسهم بأن أعطوا لنفسهم متاعا قليلً عاجلً‪ ،‬وحرموها من المتعة الحقيقية الباقية‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬ثمّ إِنّ رَ ّبكَ‪.} ..‬‬

‫(‪)2003 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ك وََأصْلَحُوا إِنّ رَ ّبكَ مِنْ َب ْعدِهَا َل َغفُورٌ‬
‫جهَاَلةٍ ثُمّ تَابُوا مِنْ َبعْدِ ذَِل َ‬
‫عمِلُوا السّوءَ بِ َ‬
‫ثُمّ إِنّ رَ ّبكَ لِلّذِينَ َ‬
‫رَحِيمٌ (‪)119‬‬

‫الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده فرصة‪ ،‬ويفتح له باب التوبة والرجاء‪ ،‬فمن رحمته سبحانه‬
‫بعباده أنْ شرع لهم التوبة من الذنوب‪ ،‬ومن رحمته أيضا أن يقبلها منهم فيتوب عليهم‪ .‬ولو أغلق‬
‫باب التوبة لَتحوّل المذنب ـ ولو لمرة واحدة ـ إلى مجرم يُعربد في المجتمع‪ ،‬وبفتح باب التوبة‬
‫يقي ال المجتمع من هذه العربدة‪.‬‬
‫ويبين الرسول صلى ال عليه وسلم مكانة التوبة فيقول‪ " :‬ل أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه‬
‫من أحدكم كان على راحلته بأرض فلة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة‬
‫فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته‪ ،‬فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال‬
‫من شدة الفرح‪ :‬اللهم أنت عبدي وأنا ربك‪ .‬أخطأ من شدة الفرح "‪.‬‬
‫وقوله تعالى في بداية الية‪ { :‬ثُمّ } تدلّ على كثرة ما تقدم من ذنوب‪ ،‬ومع ذلك غفرها ال لهم‬
‫لِيُبيّن لك ال َبوْن الشاسع بين رحمة ال وإصرار ال ُعصَاة على الكفران بال‪ ،‬وعلى المعصية‪.‬‬
‫جهَالَةٍ }‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬بِ َ‬
‫سفَه‪ ،‬وجميعها داخلة في الجهل بمعنى أنْ تعتقد شيئا وهو غير واقع‪ ،‬فالجهل‬
‫حمْق و َ‬
‫أي‪ :‬بطيش و ُ‬
‫هنا ليس المراد منه عدم العلم‪ ،‬إنما الجاهل مَنْ كانت لديه قضية مخالفة للواقع وهو متمسك بها‪،‬‬
‫ل في نظر الشرع‪.‬‬
‫والمراد أن ينظر إلى خير عاجل في نظره‪ ،‬ويترك خيرا آج ً‬
‫جهَالَةٍ ثُمّ‬
‫وقد ورد هذا المعنى في قول الحق سبحانه‪ {:‬إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ بِ َ‬
‫يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ }[النساء‪.]17 :‬‬
‫سفَه وطيْش‪ ،‬فالعاصي يعلم الحكم تماما‪ ،‬ولكنه في غفلة عنه‪ ،‬وعدم‬
‫بجهالة‪ :‬يعني في لحظة َ‬
‫تبصّر بالعواقب‪ ،‬ولو فكّر في عاقبة أمره ما تجرّأ على المعصية‪.‬‬
‫لذلك نقول‪ :‬إن صاحب المعصية ل يُقدِم عليها إل في غيبة العقل‪.‬‬
‫ولذلك قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‪ ،‬ول يسرق السارق حين‬
‫يسرق وهو مؤمن‪ ،‬ول يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن "‪.‬‬
‫ولو استحضر قسوة الجزاء لما أقدم على معصيته‪ ،‬ولكن سفهه وطيْشه يُغلّف الجزاء ويستره عنه‬
‫ويُزيّن له ما ينتظره من لذة ومتعة عاجلة‪.‬‬
‫و َهبْ أن شخصا ألحتْ عليه غريزة الجنس‪ ،‬وهي أشرس الغرائز في النسان‪ ،‬ففكّر في الفاحشة‬
‫والعياذ بال‪ ،‬وقبل أنْ يقع في هذه الوهدة السحيقة أخذناه إلى موقد النار‪ ،‬وذكّرناه بما غفل عنه‬
‫من جزاء وعقوبة هذه الجريمة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بال عليك‪ ،‬ماذا تراه يفعل؟ هل ُيصِرّ على جريمته؟ ل‪ ،‬لنه كان ذاهلً غافلً‪ ،‬وبمجرد أن تذكره‬
‫يرجع‪.‬‬
‫إذن‪ :‬طيشه وسفهه صرفه عن التفكر في العاقبة وأذهله عن رَ ّد الفعل‪ ،‬وجعله ينظر إلى المور‬
‫نظرة سطحية متعجّلة‪.‬‬

‫ك وََأصَْلحُواْ‪[ { ..‬النحل‪.]119 :‬‬


‫وقوله‪ } :‬ثُمّ تَابُواْ مِن َبعْدِ ذَِل َ‬
‫والتوبة هنا هي التوبة النصوح الصادقة‪ ،‬التي ينوي صاحبها القلع عنها وعدم ال َعوْد إليها مرة‬
‫أخرى‪ ،‬ويعزم على ذلك حال توبته‪ ،‬فإذا فعل ذلك قَبِل ال منه وتاب عليه‪.‬‬
‫ول يمنع ذلك أن يعود للذنب مرة أخرى إذا ضعُ َفتْ نفسه عن المقاومة‪ ،‬فإنْ عاد عاد إلى التوبة‬
‫من جديد‪ ،‬لن ال سبحانه من أسمائه (التواب) أي‪ :‬كثير التوبة‪ ،‬فلم يقل‪ :‬تائب بل تواب‪ ،‬فل‬
‫تنقطع التوبة في حق العبد مهما أذنب‪ ،‬وعليه أنْ يُحدِث لكل ذنبٍ توبة‪.‬‬
‫بل وأكثر من ذلك‪ ،‬إذا تاب العبد وأحسن التوبة‪ ،‬وأتى بالعمال الصالحة بدلً من السيئة‪ ،‬منّ ال‬
‫عليه بأن يُبدّل سيئاته حسنات‪ ،‬وهذه معاملة رب كريم غفور رحيم‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪:‬‬
‫} إِنّ رَ ّبكَ مِن َبعْدِهَا َل َغفُورٌ رّحِيمٌ { [النحل‪ ]119 :‬فيه إشارة لحرص النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫علينا‪ ،‬وأنه يسرّه أن يغفر ال لنا‪ } .‬إِنّ رَ ّبكَ { يا محمد غفور رحيم‪ ،‬فكأنه سبحانه يمتنّ على نبيه‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه سيغفر للمذنبين من أمته‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه واصفا نبيه إبراهيم عليه السلم‪ } :‬إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2004 /‬‬

‫إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ (‪)120‬‬

‫بعد أن ذكرتْ اليات طرفا من سيرة اليهود‪ ،‬وطرفا من سيرة أهل مكة تعرّضتْ لخليل ال‬
‫إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلة والسلم‪.‬‬
‫والسؤال‪ :‬لماذا إبراهيم بالذات دون سائر النبياء؟‬
‫ذلك لنه أبو النبياء‪ ،‬ولو مكانته بين النبياء‪ ،‬والجميع يتمحكون فيه‪ ،‬حتى المشركون يقولون‪:‬‬
‫نحن على دين إبراهيم‪ ،‬والنصارى قالوا عنه‪ :‬إنه نصراني‪ .‬واليهود قالوا‪ :‬إنه يهودي‪.‬‬
‫فجاءت الية الكريمة تحلل شخصية إبراهيم عليه السلم‪ ،‬وتُوضّح مواصفاتها‪ ،‬وتر ّد وتُبطِل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مزاعمهم في إبراهيم عليه السلم‪ ،‬وهاكم مواصفاته‪:‬‬
‫{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً‪[ } ..‬النحل‪.]120 :‬‬
‫ُأمّة‪ :‬المة في معناها العام‪ :‬الجماعة‪ ،‬وسياق الحديث هو الذي يُحدّد عددها‪ ،‬فنقول مثلً‪ :‬أمة‬
‫الشعراء‪ .‬أي‪ :‬جماعة الشعراء‪ ،‬وقد تكون المة جماعة قليلة العدد‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وََلمّا‬
‫سقُونَ‪[} ..‬القصص‪.]23 :‬‬
‫علَيْهِ ُأمّةً مّنَ النّاسِ يَ ْ‬
‫ن وَجَدَ َ‬
‫وَرَدَ مَآءَ َمدْيَ َ‬
‫سقْي دوابهم‪.‬‬
‫فسمي جماعة من الرعاة أمة؛ لنهم خرجوا لغرض واحد‪ ،‬وهو َ‬
‫وتُطلَق المة على جنس في مكان‪ ،‬كأمة الفرس‪ ،‬وأمة الروم‪ ،‬وقد تُطلِق على جماعة تتبع نبيا من‬
‫النبياء‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر‪.]24 :‬‬
‫وحين نتوسّع في معنى نجدها في رسالة محمد صلى ال عليه وسلم تشمل جميع المم؛ لنه أُرسِل‬
‫للناس كافّة‪ ،‬وجمع المم في أمة واحدة‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬إِنّ هَـا ِذهِ ُأمّ ُتكُمْ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً }[النبياء‪:‬‬
‫‪.]92‬‬
‫ومعنى أمة واحدة‪ .‬أي‪ :‬جامعة لكل المم‪.‬‬
‫فالمعنى ـ إذن ـ أن إبراهيم عليه السلم ـ يقوم مقام أمة كاملة؛ لن الكمالت المطلقة ل وحده‪،‬‬
‫والكمالت الموهوبة من ال لخلْقه في الرسل تُسمّى كمالت بشرية موهوبة من ال‪.‬‬
‫أما ما دون الرسل فقد وُزّعت عليهم هذه الكمالت‪ ،‬فأخذ كل إنسان واحدا منها‪ ،‬فهذا أخذ الحلم‪،‬‬
‫وهذا الشجاعة‪ ،‬وهذا الكرم‪ ،‬وهكذا ل تجتمع الكمالت إل في الرسل‪.‬‬
‫فإذا نظرتَ إلى إبراهيم ـ عليه السلم ـ وجدتَ فيه من المواهب ما ل يُوجد إل في أمة كاملة‪.‬‬
‫كذلك رسولنا محمد صلى ال عليه وسلم حينما حَدّد موقعه بين رسالت ال في الرض يقول‪" :‬‬
‫الخير فيّ ـ وهذا هو الكمال البشري الذي أعطاه ال إياه ـ وفي أمتي "‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن كل واحد منهم أخذ جزءًا من هذا الكمال‪ ،‬فكأن كماله صلى ال عليه وسلم مُبعثر في أمته‬
‫كلها‪.‬‬
‫لذلك حين تتتبع تاريخ إبراهيم ـ عليه السلم ـ في كتاب ال تعالى تجد كل موقف من مواقفه‬
‫خصْلة من خصال الخير‪ ،‬وصِفة من صفات الكمال‪ ،‬فإذا جمعتَ هذه الصفات وجدتها ل‬
‫يعطيك َ‬
‫توجد إل في أمة بأسْرها‪ ،‬فهو إمام وقدوة جامعة لكل خصال الخير‪.‬‬
‫ومن معاني أمة‪ :‬أنه عليه السلم يقوم مقام أمة في عبادة ال وطاعته‪.‬‬

‫وقوله‪ } :‬قَانِتا لِلّهِ‪[ { ..‬النحل‪.]120 :‬‬


‫أي‪ :‬خاشعا خاضعا ل تعالى في عبادته‪.‬‬
‫} حَنِيفا‪[ { ..‬النحل‪.]120 :‬‬
‫الحنف في الصل‪ :‬الميْل‪ ،‬وقد جاء إبراهيم ـ عليه السلم ـ والكون على فساد واعوجاج في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تكوين القيم‪ ،‬فمال إبراهيم عن هذا العوجاج‪ ،‬وحَاد عن هذا الفساد‪.‬‬
‫طمّ الفساد‪ ،‬إذن‪ :‬ميْله عن العوجاج والفساد‪ ،‬فمعناه‬
‫والحق سبحانه وتعالى ل يبعث الرسل إل إذا َ‬
‫أنه كان مستقيما معتدلً على الدين الحق‪ ،‬مائلً عن العوجاج حائدا عن الفساد‪.‬‬
‫ثم يُنهي الحق سبحانه الية بقوله‪ } :‬وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ { [النحل‪.]120 :‬‬
‫وهذه هي الصفة الرابعة لخليل ال إبراهيم بعد أن وصفه بأنه كان أمة قانتا ل حنيفا‪ ،‬وجميعها‬
‫تنفي عنه الشرك بال‪ ،‬فما فائدة َنفْي الشرك عنه مرة أخرى في‪:‬‬
‫} وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { [النحل‪.]120 :‬‬
‫يجب أنْ نُفرّق بين أنواع الشرك‪ ،‬فمنه الشرك الكبر‪ ،‬وهو أن تجعل ل شركاء‪ ،‬وهو القمة في‬
‫الشرك‪ .‬ومنه الشرك الخفي‪ ،‬بأن تجعل للسباب التي خلقها َدخْل في تكوين الشياء‪.‬‬
‫فالية هنا‪ } :‬وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { [النحل‪.]120 :‬‬
‫أي‪ :‬الشرك الخفي‪ ،‬فالوصاف السابقة نفتْ عنه الشرك الكبر‪ ،‬فأراد سبحانه أن ينفي عنه شركَ‬
‫السباب أيضا‪ ،‬وهو دقيق خفيّ‪.‬‬
‫ولذلك عندما أُلقِيَ ـ عليه السلم ـ في النار لم يلتفت إلى السباب وإنْ جاءت على يد جبريل ـ‬
‫عليه السلم ـ‪ ،‬فقال له حينما عرض عليه المساعدة‪ :‬أما إليك فل‪ .‬فأين الشرك الخفي ـ إذن ـ‬
‫والسباب عنده معدومة من البداية؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬شَاكِرا لَ ْن ُعمِهِ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2005 /‬‬

‫شَاكِرًا لِأَ ْن ُعمِهِ اجْتَبَا ُه وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (‪)121‬‬

‫قوله تعالى‪ { :‬شَاكِرا لَ ْن ُعمِهِ } [النحل‪.]121 :‬‬


‫فيه تلميح لهل مكة الذين جحدوا نعمة ال وكفروها‪ ،‬وكانت بلدهم آمنة مطمئنة‪ ،‬فل يليق بكم هذا‬
‫الكفر والجحود‪ ،‬وأنتم تدّعُون أنكم على ملّة إبراهيم ـ عليه السلم ـ فإبراهيم لم يكن كذلك‪ ،‬بل‬
‫كان شاكرا ل على نعمه‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬اجْتَبَاهُ } [النحل‪.]121 :‬‬
‫اصطفاه واختاره للنبوة‪ ،‬واجتباء إبراهيم ـ عليه السلم ـ كان عن اختبار‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَإِذِ‬
‫ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ‪[} ..‬البقرة‪.]124 :‬‬
‫أي‪ :‬اختبره ببعض التكاليف‪ ،‬فأتمها إبراهيم على أكمل وجه‪ ،‬فقال له ربه‪ {:‬قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ِإمَاما }[البقرة‪.]124 :‬‬
‫ل َومِن ذُرّيّتِي }[البقرة‪.]124 :‬‬
‫ولكنه لحبه أن تتصل المامة في ذريته قال‪ {:‬قَا َ‬
‫عهْدِي‬
‫فعدّل ال له هذه الرغبة‪ ،‬وصحّح له‪ ،‬بأن ذريتك ستكون منها الظالم‪ ،‬فقال‪ {:‬لَ يَنَالُ َ‬
‫الظّاِلمِينَ }[البقرة‪.]124 :‬‬
‫لذلك تعلّم إبراهيم ـ عليه السلم ـ من هذا الموقف‪ ،‬وأراد أن يحتاط لنفسه بعد ذلك‪ ،‬فعندما أراد‬
‫ج َعلْ هَـاذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أَهْلَهُ‬
‫أن يطلب من ربه أن يرزق أهل مكة من الثمرات قال‪َ {:‬ربّ ا ْ‬
‫مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ‪[} ..‬البقرة‪.]126 :‬‬
‫فصحّح ال له أيضا هذا المطلب‪ ،‬فالموقف هنا مختلف عن الول‪ ،‬الول كان في إمامة القيم‬
‫والدين‪ ،‬وهذه ل يقوم بها ظالم‪ ،‬أما هذه فرزق وعطاء ربوبية يشمل المؤمن والكافر والطائع‬
‫والعاصي‪ ،‬فالجميع في الرزق سواء‪ ،‬فقال تعالى‪َ {:‬ومَن َكفَرَ‪[} ..‬البقرة‪.]126 :‬‬
‫أي‪ :‬سأرزق الكافر أيضا‪.‬‬
‫وهنا تتجلى عظمة الربوبية التي تُربّي النبياء‪ ،‬وتصنعهم على عَيْنها‪ ،‬فكل مواقف النبياء تتجمع‬
‫في النهاية‪ ،‬وتعطينا خلصة الكمال البشري‪.‬‬
‫ويدل على دقة إبراهيم ـ عليه السلم ـ في أداء ما طُلِب منه موقفه في بناء البيت‪ ،‬فبعد أن دَلّه‬
‫ال على مكانه أخذ يُزيح عنه آثار السيول‪ ،‬ويكشف عن قواعده‪ ،‬وكان يكفي إبراهيم لتنفيذ أمر‬
‫ربه أنْ يرفع البناء إلى ما تناله يده من ارتفاع‪ ،‬ولكنه أحب أن يأتي بالمر على أتمّ وجوهه‪،‬‬
‫وينفذه بدقة واحتياط‪ ،‬ففكّر أن يأتي بحجر مرتفع‪ ،‬ويقف عليه ليزيد من ارتفاع البناء‪ ،‬فجاء‬
‫بالحجر الذي هو مقام إبراهيم‪ ،‬كل ذلك وولده يساعده؛ لذلك لما أتى بالحجر جاء بحجر ل يرفعه‬
‫إل رجلن‪.‬‬
‫وكذلك موقفه اليماني وتخلّيه عن السباب‪ ،‬حينما ترك زوجه هاجر وصغيره إسماعيل في وادٍ‬
‫غير ذي زرع‪ ،‬وفي مكان خالٍ من مُقوّمات الحياة وأسباب العيش‪.‬‬
‫إنه ل يؤمن بالسباب‪ ،‬إنما يؤمن بمُسبّبها‪ ،‬وطالما أنه سبحانه موجود فسوف يُوفّر لهم من‬
‫السباب ما يحفظ حياتهم؛ لذلك حينما سألته هاجر‪ :‬أهذا منزل أنزلكه ال أم من عندك؟‬
‫فلما علمت أنه من ال قالت‪ :‬إذن لن يُضيّعنا‪ .‬وكأن إيمان إبراهيم نضح على زوجته‪ ،‬ومل قلبها‬
‫يقينا في ال تعالى‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪:‬‬
‫{ وَ َهدَاهُ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ } [النحل‪.]121 :‬‬
‫كيف‪ ..‬بعد كل هذه الوصاف اليمانية تقول اليات (وَ َهدَاهُ) أليست هذه كلها هداية؟‬
‫نقول‪ :‬المراد زاده هداية‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد‪.]17 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَآتَيْنَاهُ فِي ا ْلدّنْيَا‪.} ..‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2006 /‬‬

‫وَآَتَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَإِنّهُ فِي الْآَخِ َرةِ َلمِنَ الصّالِحِينَ (‪)122‬‬

‫الحق سبحانه يُبيّن أن جزاء إبراهيم ـ عليه السلم ـ عظيم في الدنيا قبل جزاء الخرة‪ ،‬والمراد‬
‫بحسنة الدنيا محبة جميع أهل الديان له‪ ،‬وكثرة النبياء في ذريته والسيرة الطيبة والذكر الحسن‪.‬‬
‫وها نحن نتحدث عن صفاته ومناقبه ونفخر ونعتز به‪ .‬وهذا العطاء من ال لبراهيم في الدنيا؛‬
‫لنه بالغ في طاعة ربه وعبادته‪.‬‬
‫حقْنِي‬
‫حكْما وَأَلْ ِ‬
‫وقد طلب إبراهيم ـ عليه السلم ـ من ربه هذه المكانة‪ ،‬فقال‪َ {:‬ربّ َهبْ لِي ُ‬
‫ن صِدْقٍ فِي الخِرِينَ }[الشعراء‪.]84-83 :‬‬
‫جعَل لّي ِلسَا َ‬
‫بِالصّالِحِينَ * وَا ْ‬
‫حكْما‪ :‬أي‪ :‬حكمة أضع بها الشياء في مواضعها‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولسان صدق‪ :‬هو الذكر الطيب والثناء الحسن بعد أن أموت‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّالِحِينَ } [النحل‪.]122 :‬‬
‫فإنْ كان هذا جزاءَه في الدنيا‪ ،‬فل شكّ أن جزاء الخرة أعظم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬ثمّ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ‪.} ..‬‬

‫(‪)2007 /‬‬

‫ثُمّ َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ (‪)123‬‬

‫الحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر بعضا من صفات الخليل إبراهيم من كونه أمة قانتا ل حنيفا‪،‬‬
‫ولم يك من المشركين‪ ،‬وأنه شاكر لنعمه‪ ،‬واجتباه ربه وهداه‪ ..‬الخ قال‪:‬‬
‫{ ُثمّ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ } [النحل‪.]123 :‬‬
‫يا محمد‪:‬‬
‫{ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا } [النحل‪.]123 :‬‬
‫كأن قمة مناقب إبراهيم وحسناته أننا أوحينا إليك يا خاتم الرسل أن تتبع ملته‪.‬‬
‫وملة إبراهيم‪ :‬أي شريعة التوحيد‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يُؤكّد الحق سبحانه براءة إبراهيم من الشرك فيقول‪:‬‬
‫{ َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [النحل‪.]123 :‬‬
‫ج ِعلَ السّ ْبتُ‪.} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِ ّنمَا ُ‬

‫(‪)2008 /‬‬

‫حكُمُ بَيْ َن ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ َيخْتَِلفُونَ (‬


‫ج ِعلَ السّ ْبتُ عَلَى الّذِينَ اخْ َتَلفُوا فِي ِه وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َي ْ‬
‫إِ ّنمَا ُ‬
‫‪)124‬‬

‫بعد أن تحدّث الحق سبحانه عن إبراهيم أبي النبياء‪ ،‬وذكر جانبا من صفاته ومناقبه تكلّم عن بني‬
‫إسرائيل في قضية خالفوا فيها أمر ال بعد أن طلبوها بأنفسهم‪ ،‬وكأن القرآن يقول لهم‪ :‬لقد زعمتم‬
‫أن إبراهيم كان يهوديا‪ ،‬فهاهي صفات إبراهيم‪ ،‬فماذا عن صفاتكم أنتم؟ وأين أنتم من إبراهيم عليه‬
‫السلم؟‬
‫ويعطينا الحق سبحانه مثالً عن مخالفتهم لربهم فيما يأمر به‪ ،‬وأنهم ليسوا كإبراهيم في اتباعه‪،‬‬
‫فيذكر ما كان منهم في أمر السبت‪.‬‬
‫و (السبت) هو يوم السبت المعروف التالي للجمعة السابق للحد‪ ،‬والسبت مأخوذ من سَ َبتَ َيسْبِت‬
‫جعَلْنَا َن ْو َمكُمْ سُبَاتا }[النبأ‪.]9 :‬‬
‫سَبْتا‪ .‬يعني‪ :‬سكن واستقرّ‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬وَ َ‬
‫ذلك أن بني إسرائيل طلبوا يوما يرتاحون فيه من العمل‪ ،‬ويتفرغون فيه لعبادة ال‪ ،‬وقد اقترح‬
‫عليهم نبيهم موسى ـ عليه السلم ـ أن يكون يوم الجمعة‪ ،‬فهو اليوم الذي أتمّ ال فيه خَلْق الكون‬
‫في ستة أيام‪ ،‬وهو اليوم الذي اختاره الخليل إبراهيم‪ ،‬ولكنهم رفضوا الجمعة واختاروا هم يوم‬
‫السبت وقالوا‪:‬‬
‫إن ال خلق الدنيا في ستة أيام بدأها بيوم الحد‪ ،‬وانتهى منها يوم الجمعة‪ ،‬وارتاح يوم السبت‪،‬‬
‫وكذلك نحن نريد أن نرتاح ونتفرغ لعبادة ال يوم السبت‪ ،‬وهكذا كانت هذه رغبتهم واختيارهم‪.‬‬
‫أما العيسويون فرفضوا أن يتبعوا اليهود في يوم السبت‪ ،‬أو إبراهيم عليه السلم في يوم الجمعة‪،‬‬
‫واختاروا الحد على اعتبار إنه أول بَدْء الخلق‪.‬‬
‫أما أمة محمد صلى ال عليه وسلم فقد اختار لها ال يوم الجمعة يوم النتهاء وتمام النعمة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬اليهود طلبوا يوم السبت واختاروه للراحة من العمل والتفرغ للعبادة‪ ،‬فهذا مطلبهم‪ ،‬وقد‬
‫وافقهم ربّهم سبحانه وتعالى عليه‪ ،‬وأمرهم أنْ يتفرغوا لعبادته في هذا اليوم‪ ،‬وافقهم ليُبيّن لجاجتهم‬
‫وعنادهم‪ ،‬وأنهم لن يُوفُوا بما التزموا به وإن اختاروه بأنفسهم‪ ،‬ووافقهم ليقطع حجتهم‪ ،‬فلو اختار‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لهم يوما لعترضوا عليه‪ ،‬ولكن هاهم يختارونه بأنفسهم‪.‬‬
‫كما أن قصة السبت مع اليهود جاءت لتخدم قضية عقدية عامة‪ ،‬هي أن اليات التي تأتي مُصدّقة‬
‫للرسل في البلغ عن ال تعالى قد تكون من عند ال وباختياره سبحانه‪ ،‬وقد تكون باختيار‬
‫المرسَل إليهم أنفسهم‪ ،‬وقد كان من بني إسرائيل أنْ كذّبوا بهذه وهذه ولذلك قال تعالى‪َ {:‬ومَا مَ َنعَنَآ‬
‫لوّلُونَ }[السراء‪.]59 :‬‬
‫سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن كَ ّذبَ ِبهَا ا َ‬
‫أَن نّرْ ِ‬
‫أي‪ :‬لكونهم يقترحون الية ثم يُكذّبونها‪ ،‬فأمْرهم تكذيب في تكذيب‪.‬‬
‫وقصة السبت ُذكِ َرتْ في مواضع كثيرة‪ ،‬مثل قوله تعالى‪ {:‬وَسْئَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ‬
‫الْبَحْرِ إِذْ َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ ِإذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَا ُنهُمْ َيوْمَ سَبْ ِتهِمْ شُرّعا وَ َيوْ َم لَ َيسْبِتُونَ لَ تَأْتِي ِهمْ كَذَِلكَ‬
‫سقُونَ }[العراف‪.]163 :‬‬
‫نَبْلُوهُم ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫لقد نقض اليهود عهدهم مع ال كعادتهم‪ ،‬وأخلفوا ما التزموا به‪ ،‬وذهبوا للصيد في يوم السبت‪،‬‬
‫فكادهم ال وأغاظهم‪ ،‬فكانت تأتيهم الحيتان والسماك تطفو على سطح الماء كالشراع‪ ،‬ول‬
‫ينتفعون منها بشيء إل الحسرة والسف‪ ،‬فيقولون‪ :‬لعلها تأتي في الغد فيخيب ال رجاءهم‪:‬‬

‫ن لَ تَأْتِيهِمْ }[العراف‪.]163 :‬‬


‫{ وَ َيوْ َم لَ يَسْبِتُو َ‬
‫وقد سمّى القرآن الكريم ذلك منهم اعتداءً؛ لنهم اعتدوا على ما شرع ال‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬وََلقَدْ عَِلمْ ُتمُ‬
‫الّذِينَ اعْتَدَواْ مِ ْنكُمْ فِي السّ ْبتِ َفقُلْنَا َلهُمْ كُونُواْ قِرَ َدةً خَاسِئِينَ }[البقرة‪.]65 :‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫ج ِعلَ السّ ْبتُ عَلَىا الّذِينَ اخْتََلفُواْ فِيهِ‪[ { ...‬النحل‪.]124 :‬‬
‫} إِ ّنمَا ُ‬
‫كلمة (اخْ َتَلفُوا) تُوحي بوجود طائفتين متناقضتين في هذه القضية‪ ،‬والحقيقة أن الخلف لم يكُنْ بين‬
‫اليهود بعضهم البعض‪ ،‬بل بينهم وبين نبيهم الذي اختار لهم يوم الجمعة‪ ،‬فخالفوه واختاروا السبت‪،‬‬
‫فجعل ال الخلف عليهم‪.‬‬
‫حجّة على الذين اختلفوا فيه؛ لنه اثبت عدوانهم على يوم العبادة‪ ،‬فبعد‬
‫جعِل السبت ُ‬
‫فالمعنى‪ :‬إنما ُ‬
‫أن اقترحوه اختاروه انقلب حُجة عليهم‪ ،‬ودليلً لدانتهم‪.‬‬
‫ولو تأملنا قوله‪:‬‬
‫} عَلَىا الّذِينَ‪[ { ..‬النحل‪.]124 :‬‬
‫نجد أن كلمة (عَلَى) تدلّ على الفوقية أي‪ :‬أن لدينا شيئا أعلى وشيئا أدنى؛ فكأن السبت جاء ضد‬
‫مصلحتهم‪ ،‬وكأن خلفهم مع نبيهم انقلب عليهم‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َم ْغفِ َرةٍ لّلنّاسِ عَلَىا ظُ ْل ِمهِمْ‪[} ..‬الرعد‪.]6 :‬‬
‫يؤولها بعضهم على معنى (مع ظلمهم) نقول‪ :‬المعنى صحيح‪ ،‬ولكن المعية ل تقتضي العلو‪ ،‬فلو‬
‫قلنا‪ :‬مع ظلمهم فالمعنى أن المغفرة موجودة مع الظلم مجرد معية‪ ،‬أما قول الحق سبحانه‪ {:‬وَإِنّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رَ ّبكَ لَذُو َم ْغفِ َرةٍ لّلنّاسِ عَلَىا ظُ ْل ِم ِهمْ‪[} ..‬الرعد‪.]6 :‬‬
‫أي‪ :‬أن المغفرة عَلَت على الظلم‪ ،‬فالظلم يتطلب العقاب‪ ،‬ولكن رحمة ال ومغفرته عََلتْ على أنْ‬
‫تُعامِل الظالم بما يستحق‪ ،‬فرحمة ال سبقتْ غضبه‪ ،‬ونفس الملحظ نجده في قول الحق سبحانه‪{:‬‬
‫ل وَإِسْحَاقَ }[إبراهيم‪.]39 :‬‬
‫سمَاعِي َ‬
‫ح ْمدُ للّهِ الّذِي وَ َهبَ لِي عَلَى ا ْلكِبَرِ إِ ْ‬
‫الْ َ‬
‫فالكبر كان يقتضي عدم النجاب ولكن هبة ال علت على سنة الكِبَر‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2009 /‬‬

‫ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِظَةِ ا ْلحَسَنَةِ وَجَادِ ْل ُهمْ بِالّتِي ِهيَ أَحْسَنُ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعَْلمُ ِبمَنْ‬
‫ا ْدعُ إِلَى سَبِيلِ رَ ّبكَ بِا ْل ِ‬
‫ضلّ عَنْ سَبِيلِ ِه وَ ُهوَ أَعَْلمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ (‪)125‬‬
‫َ‬

‫فبعد أن تحدثتْ اليات عن النموذج اليماني العلى في النسان في شخص أبي النبياء إبراهيم‪،‬‬
‫وجعلتْ من أعظم مناقبه أن ال أمر خاتم رسُله باتباعه‪ ،‬أخذتْ في بيان الملمح العامة لمنهج‬
‫الدعوة إلى ال‪.‬‬
‫قوله‪ { :‬ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ‪[ } ..‬النحل‪.]125 :‬‬
‫الحق تبارك وتعالى ل يُوجّه هذا المر بالدعوة إلى رسوله صلى ال عليه وسلم إل وهو يعلم أنه‬
‫سيُنفّذ ما ُأمِر به‪ ،‬وسيقوم بأمر الدعوة‪ ،‬ويتحمل مسئوليتها‪.‬‬
‫{ ا ْدعُ }‪ :‬بمعنى ُدلّ الناس وارشدهم‪.‬‬
‫{ سَبِيلِ رَ ّبكَ } [النحل‪.]125 :‬‬
‫السبيل هو الطريق والمنهج‪ ،‬والحكمة‪َ :‬وضْع الشيء في موضعه المناسب‪ ،‬ولكن لماذا تحتاج‬
‫الدعوةُ إلى ال حكمةً؟‬
‫لنك ل تدعو إلى منهج ال إل مَنِ انحرف عن هذا المنهج‪ ،‬ومَنِ انحرف عن منهج ال تجده َألِف‬
‫المعصية وتعوّد عليها‪ ،‬فل بُدّ لك أنْ ترفقَ به لِتُخرجه عما ألف وتقيمه على المنهج الصحيح‪،‬‬
‫فالشدة والعنف في دعوة مثل هذا تنفره‪ ،‬لنك تجمع عليه شدتين‪:‬‬
‫شدة الدعوة والعنف فيها‪ ،‬وشدة تَرْكه لما أحبّ وما أَِلفَ من أساليب الحياة‪ ،‬فإذا ما سلكتَ معه‬
‫مَسْلَك اللّين والرّفق‪ ،‬وأحسنت عَرْض الدعوة عليه طاوعك في أنْ يترك ما كان عليه من مخالفة‬
‫المنهج اللهي‪.‬‬
‫ومعلوم أن النصْح في عمومه ثقيل على النفس‪ ،‬وخاصة في أمور الدين‪ ،‬فإياك أن تُشعِر مَنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تنصحه أنك أعلم منه أو افضل منه‪ ،‬إياك أن تواجهه بما فيه من النقص‪ ،‬أو تحرجه أمام‬
‫الخرين؛ لن كل هذه التصرّفات من الداعية ل تأتي إل بنتيجة عكسية‪ ،‬فهذه الطريقة تثير‬
‫حفيظته‪ ،‬وربما دَعَتْه إلى المكابرة والعناد‪.‬‬
‫وهذه الطريقة في الدعوة هي المرادة من قوله تعالى‪:‬‬
‫ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِظَةِ الْحَسَ َنةِ‪[ } ..‬النحل‪.]125 :‬‬
‫{ بِا ْل ِ‬
‫ويُروى في هذا المقام ـ مقام الدعوة إلى ال بالحكمة والموعظة الحسنة ـ قصة دارت بين‬
‫ن يكون عليه الداعية‪.‬‬
‫الحسن والحسين رضي ال عنهما‪ ،‬هذه القصة تجسيدٌ صادق لما ينبغي أ ْ‬
‫فيُروى أنهما رَأيَا رجلً ل يُحسِن الوضوء‪ ،‬وأراد أنْ يُعلّماه الوضوء الصحيح دون أنْ يجرحَا‬
‫مشاعره‪ ،‬فما كان منهما إل أنهما افتعل خصومة بينهما‪ ،‬كل منهما يقول للخر‪ :‬أنت ل تُحسِن أنْ‬
‫تتوضأ‪ ،‬ثم تحاكما إلى هذا الرجل أنْ يرى كلً منهما يتوضأ‪ ،‬ثم يحكم‪ :‬أيهما أفضل من الخر‪،‬‬
‫حكْم من الرجل يقول‪ :‬كل منكما أحسن‪ ،‬وأنا الذي‬
‫وتوضأ كل منهما فأحسن الوضوء‪ ،‬بعدها جاء ال ُ‬
‫ما أحس ْنتُ‪.‬‬
‫إنه الوعظ في أعلى صورة‪ ،‬والقدوة في أحكم ما تكون‪.‬‬
‫" مثال آخر للدعوة يضربه لنا الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حينما أتاه شاب في َفوْرة شبابه‪،‬‬
‫يشتكي عدم صَبْره عن رغبة الجنس‪ ،‬وهي ـ كما قلنا ـ من أشرس الغرائز في النسان‪.‬‬
‫جاء الشاب وقال‪ " :‬يا رسول ال إئذن لي في الزنا "‪.‬‬
‫خفِ عِلّته‪ ،‬هكذا لجأ إلى الطبيب ليطلب الدواء صراحة‪ ،‬ومعرفة العلة أولَ‬
‫هكذا تجرأ الشاب ولم يُ ْ‬
‫خَطوات الشفاء‪ .‬فماذا قال رسول ال؟‬
‫انظر إلى منهج الدعوة‪ ،‬كيف يكون‪ ،‬وكيف استلّ رسول ال صلى ال عليه وسلم الداء من نفس‬
‫هذا الشاب؟ فلم يزجره‪ ،‬ولم ينهره‪ ،‬ولم يُؤذه‪ ،‬بل أخذه وربّت على كتفه في لطف ولين‪ ،‬ثم قال‪" :‬‬
‫جعِ ْلتَ فِدَاك‪ .‬قال‪ :‬فكذلك الناس ل يحبونه لمهاتهم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أتحبه لمك؟ قال‪ :‬ل يا رسول ال‪ُ ،‬‬
‫أَتُحبه لختكَ؟‬
‫جعِ ْلتُ ِفدَاك‪ ،‬قال‪ :‬فكذلك الناس ل يحبونه لخواتهم "‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل يا رسول ال ُ‬
‫وهكذا حتى ذكر العمة والخالة والزوجة‪ ،‬ثم وضع رسول ال صلى ال عليه وسلم يده الشريفة‬
‫حصّن فَرْجه " فقام الشاب وأبغض ما يكون إليه‬
‫على صدر الشاب ودعا له‪ " :‬اللهم نَقّ صدره‪ ،‬و َ‬
‫أن يزني‪ ،‬وهو يقول‪ :‬فوال ما َه ّمتْ نفسي بشيء من هذا‪ ،‬إل ذك ْرتُ أمي وأختي وزوجتي "‪.‬‬

‫فلنتأمل هذا التلطّف في بيان الحكم الصحيح‪ ،‬فمعالجة الداءات في المجتمع تحتاج إلى فقه ولباقة‬
‫ولين وحُسْن تصرف‪ ،‬إننا نرى حتى الكفرة حينما يصنعون دواءً مُرّا يغلفونه بغُللة رقيقة حُلْوة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المذاق ليستسيغه المريض‪ ،‬ويسهل عليه تناوله‪ .‬وما أشبه علج البدان بعلج القلوب في هذه‬
‫المسألة‪.‬‬
‫ويقول أهل الخبرة في الدعوة إلى ال‪ :‬النصح ثقيل فل تُرْسِله جبلً‪ ،‬ول تجعله جدلً‪ ..‬والحقائق‬
‫خفّة البيان‪.‬‬
‫مُرّة فاستعيروا لها ِ‬
‫وكان صلى ال عليه وسلم إذا سمع عن شيء ل يرضيه من ذنب أو فاحشة في مجتمع اليمان‬
‫بالمدينة كان يصعد منبره الشريف‪ ،‬ويقول‪ " :‬ما بال أقوام قالوا كذا وكذا "‪.‬‬
‫ويكتفي بالتوجيه العام دون أنْ يجرحَ أحدا من الناس على حَدّ قولهم في المثال‪ :‬إياك أعني‬
‫واسمعي يا جاره‪.‬‬
‫ومن ذلك ما كان يلجأ إليه العقلء في الريف حينما يتعرض أحدٌ للسرقة‪ ،‬أو يضيع منه شيء ذو‬
‫قيمة‪ ،‬فكانوا يعتلون عن َفقْد الشيء الذي ضاع أو سُرِق ويقول‪ :‬ليلة كذا بعد غياب القمر سوف‬
‫نرمي التراب‪.‬‬
‫ومعنى " نرمي التراب " أن يحضر كل منهم كمية من التراب يلقيها أمام بيت صاحب هذا الشيء‬
‫المفقود‪ ،‬وفي الصباح يبحثون في التراب حتى يعثروا على ما فقد منهم‪ ،‬ويصلوا إلى ضالّتهم دون‬
‫أنْ يُفتضحَ المر‪ ،‬ودون أن يُحرَج أحد‪ ،‬وربما لو واجهوا السارق لنكر وتعقدت المسألة‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪:‬‬
‫} وَجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ‪[ { ..‬النحل‪.]125 :‬‬
‫ن يعرضَ حُجّته بالتي هي‬
‫والجدل مناقشة الحجج في قضية من القضايا‪ ،‬وعلى ُكلّ من الطرفين أ ْ‬
‫غطْرسة‪.‬‬
‫احسن‪ .‬أي‪ :‬في رفق ولين ودون تشنّج أو َ‬
‫ضبَ الخصْم‪ ،‬فقد يتمحّك في كلمة منك‪ ،‬ويأخذها ذريعة‬
‫ويجب عليك في موقف الجدال هذا ألّ تُغ ِ‬
‫للنصراف من هذا المجلس‪.‬‬

‫وقوله سبحانه‪:‬‬
‫ضلّ عَن سَبِيلِ ِه وَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ { [النحل‪.]125 :‬‬
‫} إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعْلَمُ ِبمَن َ‬
‫قد يتساءل البعض‪ :‬ما علقة هذا التذييل للية بموضوع الدعوة إلى ال؟‬
‫يريد الحق سبحانه أن يُبيّن لنا حساسية هذه المهمة‪ ،‬وأنها تُبنى على الخلص ل في توجيه‬
‫النصيحة‪ ،‬ول ينبغي للداعية أبدا أنْ يغُشّ في دعوته‪ ،‬فيقصد من ورائها شيئا آخر‪ ،‬وقد تقوم‬
‫بموعظة وفي نفسه استكبار على الموعوظ‪ ،‬أو شعور أنك أفضل منه أو أعلم منه‪.‬‬
‫ومن الناس ـ والعياذ بال ـ مَنْ يجمع القشور عن موضوع ما‪ ،‬فيظن أنه أصبح عالما‪ ،‬فيضر‬
‫الناس أكثر ِممّا ينفعهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إنْ قُبِل الغش في شيء فإنه ل يُقبل في مجال الدعوة إلى ال‪ ،‬فإياك أنْ تغشّ بال في ال؛‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لنه سبحانه وتعالى أعلم بمَنْ يضل الناس‪ ،‬ويصدهم عن سبيل ال‪ ،‬وهو أعلم بالمهتدين‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)2010 /‬‬

‫ن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ (‪)126‬‬


‫وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُوا ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِ ِه وَلَئِ ْ‬

‫نلحظ أن هذا المعنى ورد في قوله تعالى‪َ {:‬فمَنِ اعْتَدَىا عَلَ ْيكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَىا‬
‫عَلَ ْيكُمْ‪[} ..‬البقرة‪.]194 :‬‬
‫وبمقارنة اليتين نرى أنهما يقرران المثلية في رد العتداء‪:‬‬
‫{ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ‪[ } ...‬النحل‪.]126 :‬‬
‫و{ فَاعْتَدُواْ عَلَ ْيهِ ِبمِ ْثلِ }[البقرة‪.]194 :‬‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه‪ ،‬وإنْ شرع لنا الرد على العتداء بالمثل‪ ،‬إل أن جعله صعبا من حيث التنفيذ‪،‬‬
‫فمن الذي يستطيع تقدير المثلية في الرد‪ ،‬بحيث يكون مثله تماما دون اعتداء‪ ،‬ودون زيادة في‬
‫العقوبة‪ ،‬وكأن في صعوبة تقدير المثلية إشارةً إلى استحباب النصراف عنها إلى ما هو خير‬
‫منها‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫{ وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ } [النحل‪.]126 :‬‬
‫فقد جعل ال في الصبر سَعة‪ ،‬وجعله خيرا من رَ ّد العقوبة‪ ،‬ومقاساة تقدير المثلية فيها‪ ،‬فضلً عما‬
‫في الصبر من تأليف القلوب ونَزْع الحقاد‪ ،‬كما قال الحق سبحانه‪ {:‬ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَِإذَا‬
‫حمِيمٌ }[فصلت‪.]34 :‬‬
‫عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫ك وَبَيْنَهُ َ‬
‫الّذِي بَيْ َن َ‬
‫سدّ لمنافذ النتقام‪ ،‬وقضاء على الضغائن والحقاد‪.‬‬
‫ففي ذلك َدفْع لشراسة النفس‪ ،‬و َ‬
‫وقوله‪َ { :‬ل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ } [النحل‪.]126 :‬‬
‫الخيرية هنا من وجوه‪:‬‬
‫أولً‪ :‬في الصبر وعدم رَدّ العقوبة بمثلها إنهاءٌ للخصومات‪ ،‬وراحة للمجتمع أن تفزعه سلسلة ل‬
‫تنتهي من العداوة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬مَنْ ظُلِم من الخلق‪ ،‬فصبر على ظلمهم‪ ،‬فقد ضمن أن ال تعالى في جواره؛ لن ال يغار‬
‫على عبده المظلوم‪ ،‬ويجعله في معيته وحفظه؛ لذلك قالوا‪ :‬لو علم الظالم ما أعدّه ال للمظلوم‬
‫لَضنّ عليه بالظلم‪.‬‬
‫والمتتبع ليات الصبر في القرآن الكريم يجد تشابها في تذييل بعض اليات‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لمُورِ }[لقمان‪.]17 :‬‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ ا ُ‬
‫لمُورِ }[الشورى‪.]43 :‬‬
‫وفي آية أخرى‪ {:‬وََلمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم ا ُ‬
‫ول ننسى أن المتكلم هو ال‪ ،‬إذن‪ :‬ليس المعنى واحدا‪ ،‬فلكل حرف هنا معنى‪ ،‬والمواقف مختلفة‪،‬‬
‫فانظر إلى ِدقّة التعبير القرآني‪.‬‬
‫ولما كانت المصائب التي تصيب النسان على نوعين‪:‬‬
‫النوع الول‪ :‬هناك مصائب تلحق النسان بقضاء ال وقدره‪ ،‬وليس له غريم فيها‪ ،‬كمن أُصيب في‬
‫صحته أو تعرّض لجائحة في ماله‪ ،‬أو انهار بيته‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫وفي هذا النوع من المصائب يشعر النسان بألم ال َفقْد ولذْعة الخسارة‪ ،‬لكن ل ضغن فيها على‬
‫أحد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الصبر على هذه الحداث قريب؛ لنه ابتلء وقضاء وقدر‪ ،‬فل يحتاج المر بالصبر هنا إلى‬
‫لمُورِ }[لقمان‪.]17 :‬‬
‫توكيد‪ ،‬ويناسبه قوله تعالى‪ {:‬وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْ ِم ا ُ‬
‫أما النوع الخر‪ :‬فهو المصائب التي تقع بفعل فاعل‪ ،‬كالقتل مثلً‪ ،‬فإلى جانب الفَقْد يوجد غريم‬
‫لك‪ ،‬يثير حفيظتك‪ ،‬ويهيج غضبك‪ ،‬ويدعوك إلى النتقام كلما رأيته‪ ،‬فالصبر في هذه أصعب‬
‫حمْل النفس عليه يحتاج إلى توكيد كما في الية الثانية‪:‬‬
‫وَ‬

‫لمُورِ }[الشورى‪.]43 :‬‬


‫غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْز ِم ا ُ‬
‫{ وََلمَن صَبَ َر وَ َ‬
‫فاستعمل هنا لم التوكيد؛ لن الصبر هنا شاقّ‪ ،‬والفرصة مُتَاحَة للشيطان لِيُؤلّب القلوب‪ ،‬ويثير‬
‫الضغائن والحقاد‪.‬‬
‫كما نلحظ في الية الولى قال‪( :‬وَاصْبِرْ)‪.‬‬
‫غفَر) لن أمامه غريما يدعوه لنْ يغفر له‪.‬‬
‫وفي الثانية قال‪( :‬صَبَر و َ‬
‫ل مالً على أنْ يردّه في أجل‬
‫ويُحكى في قصص العرب قصة اليهودي المرابي الذي أعطى رج ً‬
‫معلوم‪ ،‬واشترط عليه إنْ لم َيفِ بالسداد في الوقت المحدد يقطع َرطْلً من لحمه‪ ،‬ووافق الرجل‪،‬‬
‫وعند موعد السداد لم يستطع الرجل أداء ما عليه‪.‬‬
‫فرفع اليهودي المر إلى القاضي و َقصّ عليه ما بينهما من اتفاق‪ ،‬وكان القاضي صاحب فِطْنة‬
‫فقال‪ :‬نعم العقد شريعة المتعاقدين‪ ،‬وأمر له بسكين‪ .‬وقال‪ :‬خُذْ من لحمه َرطْلً‪ ،‬ولكن في ضربة‬
‫واحد‪ ،‬وإنْ زاد عن الرطل أو نقص أخذناه من لحمك أنت‪.‬‬
‫ولما رأى اليهودي مشقة ما هو ُمقْدِم عليه آثر السلمة وتصالح مع خصمه‪.‬‬
‫والسؤال الن‪ :‬ما علقة هذه الية‪:‬‬
‫} وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ‪[ { ..‬النحل‪.]126 :‬‬
‫حسَنَةِ }[النحل‪.]125 :‬‬
‫ظةِ الْ َ‬
‫ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِ َ‬
‫بما قبلها‪ {:‬ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ بِالْ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الدعوة إلى منهج يلفت النسان ـ خليفة ال في أرضه ـ أنْ يلتزمَ بمنهج ال الذي استخلفه‪،‬‬
‫ووضع له هذا المنهج لِيُنظّم حركة حياته‪ ،‬والداعية يواجه هؤلء الذين يُفسدون في الرض‪،‬‬
‫ويحققون لنفسهم مصالح على حساب الغير‪ ،‬والذي يحقق لنفسه مصلحة على حساب غيره ل ُبدّ‬
‫أن يكون له قوة وقدرة‪ ،‬بها يطغى ويستعلي ويظلم‪.‬‬
‫فإذا جاء منهج ال تعالى ليعدل حركة هؤلء ويُخرجهم مما أَلفُوه‪ ،‬وينزع منهم سلطان الطغيان‬
‫والظلم‪ ،‬ويسلبهم هذا السوط الذي يستفيدون به‪ ،‬فل بُدّ أنْ يُجادلوه ويصادموه ويقفوا في وجهه‪،‬‬
‫فقد جمع عليهم شدة النصح والصلح‪ ،‬وشدة تَرْك ما ألفوه‪.‬‬
‫فعلَى الداعية ـ إذن ـ أن يتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬وأن يجادلهم بالتي هي احسن‪ ،‬فإذا‬
‫ما تعدّى أمرُهم إلى العتداء على الداعية‪ ،‬إذا ما استشرى الفساد وغلبت شراسة الطباع‪ ،‬فسوف‬
‫نحتاج إلى أسلوب آخر‪ ،‬حيث لم َي ُعدْ يُجدي أسلوب الحكمة‪.‬‬
‫ول ُبدّ لنا أن نقفَ الموقف الذي تقتضيه الرجولة العادية‪ ،‬فضلً عن الرجولة اليمانية‪ ،‬وأن يكون‬
‫لدينا القدرة على الرد الذي شرعه لنا الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬دون أن يكون عندنا لَدَد في‬
‫الخصومة‪ ،‬أو إسراف في العقوبة‪.‬‬
‫فجاء قوله تعالى‪:‬‬
‫} وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‪[ { ..‬النحل‪.]126 :‬‬
‫وفي الية تحذير أن يزيدَ الردّ على مثله‪ ،‬وبذلك يتعلم الخصوم أنك خاضع لمنهج رباني عادل‬
‫يستوي أمامه الجميع‪ ،‬فهم وإن انحرفوا وأجرموا فإن العقاب بالمثل ل يتعداه‪ ،‬ولعل ذلك يلفتهم‬
‫إلى أن الذي أمر بذلك لم يطلق لشراسة النتقام عنانها‪ ،‬بل هَدّأَها ودعاها إلى العفو والصفح‪،‬‬
‫ليكون هذا أدعى إلى هدايتهم‪.‬‬
‫وهذا التوجيه اللهي في تقييد العقوبة بمثلها قبل أن يتوجه إلى أمته صلى ال عليه وسلم توجّه‬
‫إليه صلى ال عليه وسلم في تصرّف خاص‪ ،‬ل يتعلق بمؤمن على عموم إيمانه‪ ،‬ولكن بمؤمن‬
‫حبيب إلى رسول ال‪ ،‬وصاحب منزلة عظيمة عنده‪ ،‬إنه عمه وصاحبه حمزة بن عبد المطلب سيد‬
‫الشهداء رضي ال عنه‪.‬‬

‫فقد مثّل به الكفار في ُأحُد‪ ،‬وش ّقتْ هند بطنه‪ ،‬ولكت كبده‪ ،‬فشقّ المر على رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأثّر في نفسه‪ ،‬وواجه هذا الموقف بعاطفتين‪ :‬عاطفته اليمانية‪ ،‬وعاطفة الرحم‬
‫والقرابة فهو عمه الذي آزره ونصره‪ ،‬ووقف إلى جواره‪ ،‬فقال في انفعاله بهذه العاطفة‪ " :‬لئن‬
‫أظهرني ال عليهم لُمثّلنّ بثلثين رجلً منهم "‪.‬‬
‫ولكن الحق سبحانه العادل الذي أنزل ميزان العدل والحق في الخلق هَدّأ من َروْعه‪ ،‬وعدّل له هذه‬
‫المسألة ولمته من بعده‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫} وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‪[ { ..‬النحل‪.]126 :‬‬
‫والمتأمل للسلوب القرآني في هذه الية يلحظ فيها دعوة إلى التحنّن على الخصم والرأفة به‪،‬‬
‫فالمتحدث هو ال سبحانه‪ ،‬فكل حرف له معنى‪ ،‬فل تأخذ الكلم على إجماله‪ ،‬ولكن تأمل فيه‬
‫وسوف تجد من وراء الحرف مرادا وأن له مطلوبا‪ .‬لماذا قال الحق سبحانه‪( :‬وإنْ) ولم يستخدم‬
‫(إذا) مثلً؟‬
‫ل تعاقبوا‪.‬‬
‫إن عاقبتم‪ :‬كأن المعنى‪ :‬كان يحب أ ّ‬
‫أما (إذا) فتفيد التحقيق والتأكيد‪ ،‬والحق سبحانه يريد أنْ يُحنّن القلوب‪ ،‬ويضع ردّ العقوبة بمثلها‬
‫في أضيق نطاق‪ ،‬فهذه رحمة حتى من العداء‪ ،‬هذه الرحمة تُحبّبهم في السلم‪ ،‬وتدعوهم إليه‪،‬‬
‫وبها يتحوّل هؤلء العداء إلى جنود في صفوف الدعوة إلى ال‪.‬‬
‫كما أن في قوله‪( :‬عَاقَبْتُمْ) دليل على أن ر ّد العقوبة يحتاج إلى قوة واستعداد‪ ،‬كما قال تعالى‪{:‬‬
‫طعْتُمْ مّن ُق ّوةٍ َومِن رّبَاطِ الْخَ ْيلِ تُرْهِبُونَ ِبهِ عَ ْدوّ اللّ ِه وَعَ ُد ّوكُ ْم وَآخَرِينَ مِن دُو ِنهِمْ‬
‫وَأَعِدّواْ َلهُمْ مّا اسْتَ َ‬
‫لَ َتعَْلمُو َنهُمُ اللّهُ َيعَْل ُمهُمْ‪[} ..‬النفال‪.]60 :‬‬
‫كأنه يقول‪ :‬كونوا دائما على استعداد‪ ،‬وفي حال قوة تُمكنكم من الردّ إذا اعتُدِي عليكم‪ ،‬كما أن في‬
‫وجود القوة والستعداد ما يردع العدو ويرهبه‪ ،‬فل يجرؤ على العتداء من البداية‪ ،‬وبالقوة‬
‫والستعداد يُحفظ التوازن في المجتمع‪ ،‬فالقوي ل يفكّر أحد في العتداء عليه‪.‬‬
‫وهذا ما نراه الن بين دول العالم في صراعها المحموم حول التسلّح بأسلحة فاتكة‪.‬‬
‫وكلمة‪ } :‬مَا عُوقِبْتُمْ ِبهِ‪[ { ..‬النحل‪.]126 :‬‬
‫نلحظ أن الردّ على العتداء يُسمّى عقوبة‪ ،‬لكن العتداء الول لماذا نُسميه أيضا عقوبة؟‬
‫قالوا‪ :‬لن هذه طريقة في التعبير تسمّى " المشاكلة " ‪ ،‬أي‪ :‬جاءت الفعال كلها على شاكلة واحدة‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬وَجَزَآءُ سَيّ َئةٍ سَيّ َئةٌ مّثُْلهَا }[الشورى‪.]40 :‬‬
‫لن ردّ السيئة ل يُسمّى سيئة‪.‬‬
‫ولسائل في هذه القضية أن يسأل‪ :‬طالما أن السلم يسعى في هذه المسألة إلى العفو‪ ،‬فلماذا لم‬
‫يُقرّره من البداية؟ وما فائدة الكلم عن العقوبة بالمثل؟‬
‫نقول‪ :‬لن المجتمع ل يكون سليم التكوين إل إذا َأمِن كل إنسان فيه على نفسه وعِرْضه وماله‪.‬‬

‫‪ .‬الخ‪ .‬وهذا المن ل يتأتّى إل بقوة تحفظه‪ ،‬كما أن للمجتمع توازنا‪ ،‬هذا التوازن في المجتمع ل‬
‫يُحفظ إل بقوة تضمن أداء الحقوق والواجبات‪ ،‬وتضمن أن تكون حركة النسان في المجتمع دون‬
‫ظلم له‪.‬‬
‫كما أن للحق سبحانه حكمة سامية في تشريع العقوبة على الجرائم‪ ،‬فهدف الشارع الحكيم أن َيحُدّ‬
‫من الجريمة‪ ،‬ويمنع حدوثها‪ ،‬فلو علم القاتل أنه سيُقتل ما تجرّأ على جريمته‪ ،‬ففي تشريع العقوبة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رحمة بالمجتمع وحفظ لسلمته وأمْنه‪.‬‬
‫ونرى البعض يعترض على عقوبة الردة‪ ،‬فيقول‪ :‬كيف تقتلون مَن يرتد عن دينكم؟ وأين حرية‬
‫العقيدة إذن؟‬
‫نقول‪ :‬في تشريع قتل المرتد عن السلم تضييق لمنافذ الدخول في هذا الدين‪ ،‬بحيث ل يدخله أحد‬
‫إل بعد اقتناع تام وعقيدة راسخة‪ ،‬فإذا علم هذا الحكم من البداية فللمرء الحرية يدخل أو ل يدخل‪،‬‬
‫ل يغصبه أحد‪ ،‬ولكن ليعلم أنه إذا دخل‪ ،‬فحكم الردة معلوم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬شرعَ السل ُم العقوبةَ ليحفظ للمجتمع توازنه‪ ،‬وليعمل عملية ردع حتى ل تقع الجريمة من‬
‫ل والحقاد والضغائن من المجتمع‪.‬‬
‫البداية‪ ،‬لكن إذا وقعتْ يلجأ إلى علج آخر يجتثّ جذور ال ِغ ّ‬
‫لذلك سبق أن قلنا عن عادة الخذ بالثأر في صعيد مصر‪ :‬إنه يظل في سلسلة من القتل والثأر ل‬
‫تنتهي‪ ،‬وتفزّع المجتمع كله‪ ،‬حتى المنين الذين ل جريرة لهم‪ ،‬وتنمو الحقاد والكراهية بين‬
‫العائلت في هذا الجو الشائك‪ ،‬حتى إذا ما تشجّع واحد منهم‪ ،‬فأخذ كفنه على يديه وذهب إلى وليّ‬
‫القتيل‪ ،‬وألقى بنفسه بين يديه قائلً‪ :‬ها أنا بين يديك وكفني معي‪ ،‬فاصنع بي ما شئت‪ ،‬وعندها‬
‫تأبى عليهم كرامتهم وشهامتهم أنْ يثأروا منه‪ ،‬فيكون العفو والصفح والتسامح نهاية لسلسلة الثأر‬
‫التي ل تنتهي‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَاصْبِ ْر َومَا صَبْ ُركَ ِإلّ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2011 /‬‬

‫وَاصْبِرْ َومَا صَبْ ُركَ إِلّا بِاللّ ِه وَلَا تَحْزَنْ عَلَ ْي ِه ْم وَلَا َتكُ فِي ضَ ْيقٍ ِممّا َي ْمكُرُونَ (‪)127‬‬

‫بعد أن ذكرتْ اليات فضل الصبر وما فيه من خيرية‪ ،‬وكأن الية السابقة تمهد للمر هنا‬
‫(وَاصْبِرْ) ليأتمر الجميع بأمر ال‪ ،‬بعد أنْ قدّم لهم الحيثيات التي تجعل الصبر شجاعة ل ضعفا‪،‬‬
‫كمَا يقولون في الحكمة‪ :‬من الشجاعة أنْ تجبُنَ ساعة‪.‬‬
‫فإذا ما وسوس لك الشيطان‪ ،‬وأغراك بالنتقام‪ ،‬وثارت نفسُك‪ ،‬فالشجاعة أنْ تصبر ول تطاوعهما‪.‬‬
‫قوله تعالى‪ { :‬وَاصْبِ ْر َومَا صَبْ ُركَ ِإلّ بِاللّهِ‪[ } ..‬النحل‪.]127 :‬‬
‫من حكمة ال ورحمته أنْ جعلك تصبر على الذى؛ لن في الصبر خيرا لك‪ ،‬وال هو الذي يُعينك‬
‫على الصبر‪ ،‬ويمنع عنك وسوسة الشيطان وخواطر السوء التي تهيج غضبك‪ ،‬وتجرّك إلى‬
‫النتقام‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يريد من عبده أن يتجه لنفاذ أمره‪ ،‬فإذا علم ذلك من نيته تولّى أمره‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأعانه‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد‪.]17 :‬‬
‫إياك أن تعتقد أن الصبر من عندك أنت‪ ،‬فال يريد منك أن تتجه إلى الصبر مجرد اتجاه ونية‪،‬‬
‫وحين تتجه إليه يُجنّد ال لك الخواطر الطيبة التي تُعينك عليه وتُيسّره لك وتُرضيك به‪ ،‬فيأتي‬
‫صبرك جميلً‪ ،‬ل سخطَ فيه ول اعتراضَ عليه‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪:‬‬
‫{ َولَ تَحْزَنْ عَلَ ْي ِهمْ‪[ } ..‬النحل‪.]127 :‬‬
‫لقد امتنّ ال على أمة العرب التي استقبلتْ دعوة ال على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بأنْ‬
‫بعث فيهم رسولً من أنفسهم ومن أوسطهم‪ ،‬يعرفون حَسبَه ونَسبَه وتاريخه وأخلقه‪ ،‬وقد كان‬
‫صلى ال عليه وسلم مُحبا لقومه حريصا على هدايتهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬لقَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة‪.]128 :‬‬
‫أَنفُ ِ‬
‫أي‪ :‬تعز عليه مشقتكم‪ ،‬ويؤلمه عَنَتكم وتعبكم‪ ،‬حريص عليكم‪ ،‬يريد أن يستكمل لكل كل أنواع‬
‫الخير؛ لن معنى الحرص‪ :‬الضّنّ بالشيء‪ ،‬فكأنه صلى ال عليه وسلم يضِنّ بقومه‪.‬‬
‫وقد أوضح هذا المعنى في الحديث الشريف‪ " :‬إنما مثلي ومثَل أمتي كمثل رجل استوقد نارا‪،‬‬
‫فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه‪ ،‬فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحّمون فيه "‪.‬‬
‫لذلك حزن رسول ال صلى ال عليه وسلم على قومه لما رأى من كفرهم وعنادهم وتكبّرهم عن‬
‫قبول الحق‪ ،‬وهو يريد لهم الهداية والصلح؛ لنك إذا أحببتَ إنسانا أحببتَ له ما تراه من الخير‪،‬‬
‫كمن ذهب إلى سوق‪ ،‬فوجدها رائجة رابحة‪ ،‬فدلّ عليها من يحب من أهله ومعارفه‪.‬‬
‫كذلك لما ذاق رسول ال صلى ال عليه وسلم حلوة اليمان أحبّ أنْ يُشاركه قومه هذه المتعة‬
‫اليمانية‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى هنا يُسلّي رسوله‪ ،‬ويخفف عنه ما صُدم في قومه‪ ،‬يقول له‪ :‬ل تحزن عليهم‬
‫ول تُحمّل نفسك فوق طاقتها‪ ،‬فما عليك إل البلغ‪ .‬ويخاطبه ربه في آية أخرى‪:‬‬

‫سكَ عَلَىا آثَا ِرهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ أَسَفا }[الكهف‪.]6 :‬‬
‫{ فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫أي‪ :‬ل تكن ُمهْلكا نفسَك أسَفا عليهم‪.‬‬
‫وقوله‪َ } :‬ولَ َتكُ فِي ضَيْقٍ ّممّا َي ْمكُرُونَ { [النحل‪.]127 :‬‬
‫الضيق‪ :‬تأتي بالفتح وبالكسر‪ ،‬ضِيْق‪ ،‬ضَيْق‪.‬‬
‫والضيق‪ :‬أن يتضاءل الشيء الواسع أمامك عما كنت تُقدّره‪ ،‬والضيق يقع للنسان على درجات‪،‬‬
‫فقد تضيق به بلده فينتقل إلى بلد آخر‪.‬‬
‫وربما ضاقت عليه الدنيا كلها‪ ،‬وفي هذه الحالة يمكن أنْ تسعه نفسه‪ ،‬فإذا ضاقتْ عليه نفْسه فقد‬
‫بلغ أقصى درجات الضيق‪ ،‬كما قال تعالى عن الثلثة الذين تخلفوا في الجهاد مع رسول ال‪{:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س ُهمْ‪} ..‬‬
‫ت َوضَاقَتْ عَلَ ْيهِمْ أَنفُ ُ‬
‫وَعَلَى الثّلَ َثةِ الّذِينَ خُّلفُواْ حَتّىا ِإذَا ضَا َقتْ عَلَ ْي ِه ُم الَ ْرضُ ِبمَا َرحُ َب ْ‬
‫[التوبة‪.]118 :‬‬
‫فالحق سبحانه ينهى رسوله صلى ال عليه وسلم أنْ يكون في ضيق من مكر الكفار؛ لن الذي‬
‫يضيق بأمر ما هو الذي ل يجد في مجال فكره وبدائله ما يخرج به من هذا الضيق‪ ،‬إنما الذي‬
‫يعرف أن له منفذا ومَخْرجا فل يكون في ضَيْق‪.‬‬
‫فالمعنى‪ :‬ل َتكُ في ضيق يا محمد‪ ،‬فال معك‪ ،‬سيجعل لك من الضيق مخرجا‪ ،‬ويرد على هؤلء‬
‫ن وَ َي ْمكُرُ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال‪.]30 :‬‬
‫مكرهم‪ {:‬وَ َيمْكُرُو َ‬
‫ولذلك يقول‪ :‬ل كرب وأنت رب‪ .‬فساعة أن تضيق بك الدنيا والهل والحباب‪ ،‬وتضيق بك نفسك‬
‫فليسعْك ربك‪ ،‬ولتكُنْ في معيته سبحانه؛ ولذلك قال تعالى بعد ذلك‪ } :‬إِنّ اللّهَ مَعَ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2012 /‬‬

‫إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ ا ّتقَوْا وَالّذِينَ هُمْ ُمحْسِنُونَ (‪)128‬‬

‫هذه قضية معيّة ال لمن اتقاه‪ ،‬فمَنِ اتقى ال فهو في جواره ومعيته‪ ،‬وإذا كنت في معية ربك فمَنْ‬
‫يجرؤ أن يكيدك‪ ،‬أو يمكرُ بك؟‬
‫وفي رحلة الهجرة تتجلى معية ال تعالى وتتجسد لنا في الغار‪ ،‬حينما أحاط به الكفار‪ ،‬والصّدّيق‬
‫يقول للرسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬لو نظر أحدهم تحت قدميه لَرَآنا‪ ،‬فيجيبه الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم وهو واثق بهذه المعية‪ " :‬يا أبا بكر‪ ،‬ما ظنك باثنين ال ثالثهما "‪.‬‬
‫فما علقة هذه الجابة من رسول ال بما قال أبو بكر؟‬
‫المعنى‪ :‬ما دام أن ال ثالثهما إذن فهما في معية ال‪ ،‬وال ل تدركه البصار‪ ،‬فمَنْ كان في معيته‬
‫كذلك ل تدركه البصار‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬ا ّتقَواْ‪[ } ..‬النحل‪.]128 :‬‬
‫التقوى في معناها العام‪ :‬طاعة ال باتباع أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬ومن استعمالتها نقول‪ :‬اتقوا‬
‫ال‪ ،‬واتقوا النار‪ ،‬والمتأمل يجد معناها يلتقي في نقطة واحدة‪.‬‬
‫فمعنى " اتق ال "‪ :‬اجعل بينك وبين عذاب ال وقاية وحاجزا يحميك‪ ،‬وذلك باتباع أمره واجتناب‬
‫نهيه؛ لن للحق سبحانه صفات رحمة‪ ،‬فهو‪ :‬الرؤوف الرحيم الغفور‪ ،‬وله صفات جبروت فهو‪:‬‬
‫المنتقم الجبار العزيز‪ ،‬فاجعل لنفسك وقاية من صفات النتقام‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬اتقوا النار‪ ،‬أي‪ :‬اجعلوا بينكم وبين النار وقاية‪ ،‬والوقاية من النار ل تكون إل بطاعة ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫باتباع أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪ ،‬إذن‪ :‬المعنى واحد‪ ،‬ولكن جاء مرّة باللزم‪ ،‬ومرّة بلزم اللزم‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬وّالّذِينَ هُم مّحْسِنُونَ } [النحل‪.]128 :‬‬
‫المحسن‪ :‬هو الذي يُلزم نفسه في عبادة ال بأكثر مما ألزمه ال‪ ،‬ومن جنس ما ألزمه ال به‪ ،‬فإنْ‬
‫كان الشرع فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة‪ ،‬فالحسان أن تزيدها ما تيسّر لك من‬
‫النوافل‪ ،‬وإنْ كان الصوم شهرَ رمضان‪ ،‬فالحسان أنْ تصومَ من باقي الشهور كذا من اليام‪،‬‬
‫وكذلك في الزكاة‪ ،‬وغيرها ِممّا فرض ال‪.‬‬
‫لذلك نجد أن الحسان أعلى مراتب الدين‪ ،‬وهذا واضح في حديث جبريل حينما سأل رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم عن السلم واليمان والحسان‪ ،‬فقال‪ " :‬الحسان أن تعبد ال كأنك تراه‪ ،‬فإن‬
‫لم تكُنْ تراه فإنه يراك "‪.‬‬
‫والية الكريمة تُوحِي لنا بأن الذي اتقوا لهم جزاء ومعيّة‪ ،‬وأن الذين هم محسنون لهم جزاء‬
‫ومعيّة‪ُ ،‬كلّ على حسب درجته؛ لن الحق سبحانه يعطي من صفات كمال لخَلْقه على مقدار‬
‫معيتهم معه سبحانه‪ ،‬فالذي اكتفى بما فرض عليه‪ ،‬ل يستوي ومَنْ أحسن وزاد‪ ،‬ل بُدّ أن يكون‬
‫للثاني مزيّة وخصوصية‪.‬‬
‫خذِينَ مَآ آتَا ُهمْ رَ ّبهُمْ إِ ّن ُهمْ كَانُواْ‬
‫وفي سورة الذاريات يقول تعالى‪ {:‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آ ِ‬
‫حسِنِينَ }[الذاريات‪.]16-15 :‬‬
‫قَ ْبلَ ذَِلكَ مُ ْ‬
‫لم يقل " مؤمنين "؛ لن المؤمن يأتي بما فُرِض عليه فحسب‪ ،‬لكن ما وجه الحسان عندهم؟‬
‫جعُونَ * وَبِالَسْحَارِ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ‬
‫ل وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات‪.]19-17 :‬‬
‫لّلسّآ ِئ ِ‬
‫وكلها أمور نافلة تزيد عما فرض ال عليهم‪.‬‬
‫ل وَا ْلمَحْرُومِ }‬
‫ويجب أن نتنبه هنا إلى أن المراد من قوله تعالى‪َ {:‬وفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئ ِ‬
‫[الذاريات‪.]19 :‬‬
‫حقّ ّمعْلُومٌ‪[} ..‬المعارج‪.]24 :‬‬
‫ليست الزكاة‪ ،‬بل هي الصدقة‪ ،‬لنه في الزكاة قال سبحانه‪َ {:‬‬

‫(‪)2013 /‬‬

‫حوْلَهُ لِنُرِ َيهُ مِنْ‬


‫سجِدِ الَْأ ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫جدِ الْحَرَامِ إِلَى ا ْلمَ ْ‬
‫سُ ْبحَانَ الّذِي َأسْرَى ِبعَبْ ِدهِ لَيْلًا مِنَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫سمِيعُ الْ َبصِيرُ (‪)1‬‬
‫آَيَاتِنَا إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬

‫استهل الحق سبحانه هذه السورة بقوله (سُ ْبحَانَ)؛ لنها تتحدث عن حدث عظيم خارق للعادة‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومعنى سبحانه‪ :‬أي تنزيها ل تعالى تنزيها مطلقا‪ ،‬أن يكون له شبه أو مثيل فيما خلق‪ ،‬ل في‬
‫الذات‪ ،‬فل ذاتَ كذاته‪ ،‬ول في الصفات فل صفات كصفاته‪ ،‬ول في الفعال‪ ،‬فليس في أفعال خَلْقه‬
‫ما يُشبِه أفعاله تعالى‪.‬‬
‫فإن قيل لك‪ :‬ال موجود وأنت موجود‪ ،‬فنزّه ال أن يكون وجوده كوجودك؛ لن وجودك من عدم‪،‬‬
‫وليس ذاتيا فيك‪ ،‬ووجوده سبحانه ليس من عدم‪ ،‬وهو ذاتي فيه سبحانه‪.‬‬
‫سمْع وال سمع‪ .‬فنزّه ال أنْ‬
‫فذاته سبحانه ل مثيلَ لها‪ ،‬ول شبيه في ذوات خلقه‪ .‬وكذلك إن قيل‪َ :‬‬
‫يُشابه سمعُه سمعَك‪ ،‬وإن قيل‪ :‬لك ِفعْل‪ ،‬ول ِفعْل فنزّه ال أن يكون فعله كفعلك‪.‬‬
‫ومن معاني (سُ ْبحَان) أي‪ :‬أتعجب من قدرة ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كلمة (سُبْحَان) جاءت هنا لتشير إلى أنّ ما بعدها أمرٌ خارج عن نطاق قدرات البشر‪ ،‬فإذا ما‬
‫سمعتَه إياك أنْ تعترضَ أو تقول‪ :‬كيف يحدث هذا؟ بل نزّه ال أن يُشابه ِفعْلُه ِف ْعلَ البشر‪ ،‬فإن قال‬
‫لك‪ :‬إنه أسرى بنبيه محمد صلى ال عليه وسلم من مكة إلى بيتَ المقدس في ليلة‪ ،‬مع أنهم‬
‫يضربون إليها أكباد البل شهرا‪ ،‬فإياك أن تنكر‪.‬‬
‫فربك لم ي ُقلْ‪ :‬سَرَى محمد‪ ،‬بل ُأسْرِي به‪ .‬فالفعل ليس لمحمد ولكنه ل‪ ،‬وما دام الفعل ل فل‬
‫تُخضعْه لمقاييس الزمن لديك‪ ،‬ففِعْل ال ليس علجا ومزاولة كفعل البشر‪.‬‬
‫ولو تأملنا كلمة (سُبْحَان) نجدها في الشياء التي ضاقتْ فيها العقول‪ ،‬وتحيّرتْ في إدراكها وفي‬
‫سهِمْ‬
‫ت الَ ْرضُ َومِنْ أَنفُ ِ‬
‫الشياء العجيبة‪ ،‬مثل قوله تعالى‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِب ُ‬
‫َو ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس‪.]36 :‬‬
‫فالزواج أي‪ :‬الزوجين الذكر والنثى‪ ،‬ومنهما يتم التكاثر في النبات‪ ،‬وفي النسان وقد فسر لنا‬
‫العلم الحديث قوله‪َ { :‬و ِممّا لَ َيعَْلمُونَ } بما توصّل إليه من اكتشاف الذرة والكهرباء‪ ،‬وأن فيهما‬
‫شيْءٍ خََلقْنَا َزوْجَيْنِ‬
‫السالب والموجب الذي يساوي الذكر والنثى؛ لذلك قال تعالى‪َ {:‬ومِن ُكلّ َ‬
‫َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ }[الذاريات‪.]49 :‬‬
‫ن وَحِينَ ُتصْبِحُونَ }[الروم‪.]17 :‬‬
‫ومنها قوله تعالى‪َ {:‬فسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ ُتمْسُو َ‬
‫حلّ الظلم محلّ‬
‫فمَنْ يطالع صفحة الكون عند شروق الشمس وعند غروبها‪ ،‬ويرى كيف ي ُ‬
‫الضياء‪ ،‬أو الضياء محل الظلم‪ ،‬ل يملك أمام هذه الية إل أن يقول‪ :‬سبحان ال‪.‬‬
‫سخّرَ لَنَا هَـاذَا َومَا كُنّا لَهُ ُمقْرِنِينَ }[الزخرف‪.]13 :‬‬
‫ومنها قوله تعالى‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي َ‬
‫هذه كلها أمور عجيبة‪ ،‬ل يقدر عليها إل ال‪ ،‬وردتْ فيها كلمة (سبحان) في خلل السور وفي‬
‫طيّات اليات‪.‬‬
‫و(سُبْحَان) اسم يدلّ على الثبوت والدوام‪ ،‬فكأن تنزيه ال موجود وثابت له سبحانه قبل أن يوجد‬
‫المنزّه‪ ،‬كما نقول في الخلق‪ ،‬فال خالق ومُتصف بهذه الصفة قبل أنْ يخلق شيئا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكما تقول‪ :‬فلن شاعر‪ ،‬فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة‪ ،‬فلو لم يكن شاعرا ما قالها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬تنزيه ال ثابت له قبل أن يوجد مَنْ يُنزّهه سبحانه‪ ،‬فإذا وُجِد المنزّه تحوّل السلوب من السم‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ }[الحشر‪.]1 :‬‬
‫إلى الفعل‪ ،‬فقال سبحانه‪ {:‬سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫ت َومَا فِي الَ ْرضِ }[الجمعة‪:‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وهل سبّح وسكت وانتهى التسبيح؟ ل‪ ،‬بل‪ُ {:‬يسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫‪.]1‬‬
‫على سبيل الدوام والستمرار‪ ،‬وما دام المر كذلك والتسبيح ثابت له‪ ،‬وتُسبّح له الكائنات في‬
‫سمَ رَ ّبكَ‬
‫الماضي والحاضر‪ ،‬فل تتقاعس أنت أيّها المكلّف عن تسبيح ربك‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬سَبّحِ ا ْ‬
‫الَعْلَىا }[العلى‪.]1 :‬‬
‫حكَم‪( :‬عند الصباح يحمَدُ القوم السّرى)‪.‬‬
‫وقوله‪ُ( :‬أسْرِي) من السّرى‪ ،‬وهو السير ليلً‪ ،‬وفي ال ِ‬
‫فالحق سبحانه أسرى بعبد‪ ،‬فالفعل ل تعالى‪ ،‬وليس لمحمد صلى ال عليه وسلم فل َتقِسْ الفعل‬
‫بمقياس البشر‪ ،‬ونزّه ِفعْل ال عن ِفعْلك‪ ،‬وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذّب‪ .‬فقالوا‪:‬‬
‫كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد البل شهرا‪ ،‬وهم كاذبون في قولهم؛ لن رسول ال لم َيدّع أنه‬
‫سَرَى بل قال‪ :‬أُسْرِي بي‪.‬‬
‫ومعلوم أن قَطْع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة‪ .‬أي‪ :‬أن‬
‫الزمن يتناسب عكسيا مع القوة‪ ،‬فلو أردنا مثلً الذهاب إلى السكندرية سيختلف الزمن لو سِرْنا‬
‫على القدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة‪ ،‬فكلما زادت القوة َقلّ الزمن‪ ،‬فما بالك لو نسب الفعل‬
‫والسرعة إلى ال تعالى‪ ،‬إذا كان الفعل من ال فل زمن‪.‬‬
‫فإنْ قال قائل‪ :‬ما دام الفعل مع ال ل يحتاج إلى زمن‪ ،‬لماذا لم يَ ْأتِ السراء لمحةً فحسْب‪ ،‬ولماذا‬
‫استغرق ليلة؟‬
‫ضتْ على النبي صلى‬
‫نقول‪ :‬لن هناك فرْقا بين قطْع المسافات بقانون ال سبحانه وبين مَرَاءٍ عُ ِر َ‬
‫ال عليه وسلم في الطريق‪ ،‬فرأى مواقف‪ ،‬وتكلّم مع أشخاص‪ ،‬ورأى آيات وعجائب‪ ،‬هذه هي‬
‫التي استغرقت الزمن‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إنك حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قَدْر قوة الفاعل‪َ .‬هبْ أن‬
‫قائلً قال لك‪ :‬أنا صعدتُ بابني الرضيع قمة جبل " إفرست " ‪ ،‬هل تقول له‪ :‬كيف صعد ابنك‬
‫الرضيع قمة " إفرست "؟‬
‫هذا سؤال إذن في غير محلّه‪ ،‬وكذلك في مسألة السراء والمعراج يقول تعالى‪ :‬أنا أسريتُ بعبدي‪،‬‬
‫فمن أراد أنْ يُحيل المسألة ويُنكرها‪ ،‬فليعترض على ال صاحب الفعل ل على محمد‪.‬‬
‫لكن كيف فاتتْ هذه القضية على كفار مكة؟‬
‫ومن تكذيب كفار مكة لرسول ال صلى ال عليه وسلم في رحلة السراء والمعراج نأخذ َردّا‬
‫جميلً على هؤلء الذين يخوضون في هذا الحادث بعقول ضيقة وبإيمانية سطحية في عصرنا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحاضر‪ ،‬فيطالعونا بأفكار سقيمة ما أنزل ال بها من سلطان‪.‬‬

‫ن يقول‪ :‬إن السراء كان منَاما‪ ،‬أو كان بالروح دون الجسد‪.‬‬
‫ونسمع منهم مَ ْ‬
‫ونقول لهؤلء‪ :‬لو قال محمد لقومه‪ :‬أنا رأيتُ في الرؤيا بيت المقدس‪ ،‬هل كانوا يُكذّبونه؟ ولو قال‬
‫لهم‪ :‬لقد سبحتْ روحي الليلة حتى أتتْ بيت المقدس‪ ،‬أكانوا يُكذّبونه؟ أتُكذّب الرّؤى أو حركة‬
‫الرواح؟!‬
‫إذن‪ :‬في إنكار الكفار على رسول ال وتكذيبهم له دليل على أن السراء كان حقيقة تمت لرسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم برُوحه وجسده‪ ،‬وكأن الحق سبحانه ادّخر الموقف التكذيبي لمكذبي‬
‫المس‪ ،‬ليردّ به على مُكذّبي اليوم‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪ِ } :‬بعَ ْب ِدهِ‪[ { ..‬السراء‪.]1 :‬‬
‫العبد كلمة تُطلق على الروح والجسد معا‪ ،‬هذا مدلولها‪ ،‬ل يمكن أن تُطلَق على الروح فقط‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا اختار الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم هذه الصفة بالذات؟‬
‫نقول‪ :‬لن ال تعالى جعل في الكون قانونا عاما للناس‪ ،‬وقد يُخرَق هذا القانون أو الناموس العام‬
‫خلْق‪ ،‬فكأن كلمة (عبده) هي حيثية السراء‪.‬‬
‫ليكون معجزةً للخاصة الذين ميّزهم ال عن سائر ال َ‬
‫أي‪ :‬أُسْرِي به؛ لنه صادق العبودية ل‪ ،‬وما دام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه‪ ،‬فاستحق‬
‫ن يكون له مَيْزة وخصوصية عن غيره‪ ،‬فالسراء والمعراج عطاء من ال استحقّه رسوله بما‬
‫أْ‬
‫حقّق من عبودية ل‪.‬‬
‫وفَرْق بين العبودية ل والعبودية للبشر‪ ،‬فالعبودية ل عِزّ وشرف يأخذ بها العبدُ خَيْرَ سيده‪ ،‬وقال‬
‫حتَ قوِلكَ يَا عِبَادِي وَأنْ‬
‫خ ُمصِي أَطَأَ الثّريّا ُدخُولِي َت ْ‬
‫الشاعر‪َ :‬و ِممّا زَادَني شَرَفا وَعِزّا وكِ ْدتُ بأ ْ‬
‫صَيّرت أحمدَ لِي نبيّاأما عبودية البشر للبشر فن ْقصٌ ومذلّة وهوان‪ ،‬حيث يأخذ السيد خَيْر عبده‪،‬‬
‫ويحرمه ثمره كَدّه‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالمتتبّع ليات القرآن يجد أن العبودية ل تأتي إل في المواقف العظيمة مثل‪:‬‬
‫} سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَ ْب ِدهِ‪[ { ..‬السراء‪.]1 :‬‬
‫وقوله‪ {:‬وَأَنّهُ َلمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ‪[} ..‬الجن‪.]19 :‬‬
‫ن تتوضأ‬
‫ويكفيك عِزا وكرامة أنك إذا أردتَ مقابلة سيدك أن يكون المر في يدك‪ ،‬فما عليكَ إل أ ْ‬
‫وتنوي المقابلة قائلً‪ :‬ال أكبر‪ ،‬فتكون في معية ال عز وجل في لقاء تحدد أنت مكانه ومُوعده‬
‫ومُدّته‪ ،‬وتختار أنت موضوع المقابلة‪ ،‬وتظل في حضرة ربك إلى أن تنهي المقابلة متى أردتَ‪.‬‬
‫سبُ َنفْسِي عِزّا بِأَنّي عَبْدٌ َيحْ َتفِي بِي بِلَ مَواعِيدَ رَ ّبهُو في قُدْسِه العَزّ‬
‫وما أحسنَ ما قال الشاعر‪:‬حَ ْ‬
‫ولكِنْ أنَا أَ ْلقَى متَى وَأَيْنَ أُحِبّفما بالك لو حاولت لقاء عظيم من عظماء الدنيا؟ وكم أنت مُلقٍ من‬
‫المشقة والعنت؟ وكم دونه من الحجّاب والحرّاس؟ ثم بعد ذلكَ ليس لك أن تختار ل الزمان ول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المكان‪ ،‬ول الموضوع ول غيره‪.‬‬
‫وقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم وهو المتخلّق بأخلق ال إذا سلّم على أحد ل ينزع يده من‬
‫يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬لَيْلً‪.‬‬

‫‪[ { .‬السراء‪.]1 :‬‬


‫سبق أن قُلْنا‪ :‬إن السّرى هو السير ليلً‪ ،‬فكانت هذه كافية للدللة على وقوع الحدث ليلً‪ ،‬ولكن‬
‫الحق سبحانه أراد أنْ يؤكد ذلك‪ ،‬فقد يقول قائل‪ :‬لماذا لم يحدث السراء نهارا؟‬
‫نقول‪ :‬حدث السراء ليلً‪ ،‬لتظلّ المعجزة غَيْبا يؤمن به مَنْ يصدق رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهابا وعودة‪ ،‬فتكون المسألة ـ إذن ـ حِسيّة‬
‫مشاهدة ل مجالَ فيها لليمان بالغيب‪.‬‬
‫لذلك لما سمع أبو جهل خبر السراء طار به إلى المسجد وقال‪ :‬إن صاحبكم يزعم أنه ُأسْرِي به‬
‫الليلة من مكة إلى بيت المقدس‪ ،‬فمنهم مَنْ قلّب كفّيْه تعجّبا‪ ،‬ومنهم مَنْ أنكر‪ ،‬ومنهم مَن ارتد‪.‬‬
‫سمّي الصديق‪،‬‬
‫أما الصّدّيق أبو بكر فقد استقبل الخبر استقبالَ المؤمن المصدّق‪ ،‬ومن هذا الموقف ُ‬
‫وقال قولته المشهورة‪ " :‬إن كان قال فقد صدق "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬عمدته أن يقول رسول ال‪ ،‬وطالما قال فهو صادق‪ ،‬هذه قضية مُسلّم بها عند الصّدّيق رضي‬
‫ال عنه‪.‬‬
‫ثم قال‪ " :‬إنّا لَنُصدقه في أبعد من هذا‪ ،‬نُصدّقه في خبر السماء (الوحي)‪ ،‬فكيف ل نُصدّقه في هذا‬
‫"؟‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه جعل هذا الحادث مَحكّا لليمان‪ ،‬ومُمحّصا ليقين الناس‪ ،‬حين يغربل مَنْ حول‬
‫رسول ال‪ ،‬ول يبقى معه إل أصحاب اليمان واليقين الثابت الذي ل يهتز ول يتزعزع‪.‬‬
‫جعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ ِإلّ فِتْ َنةً لّلنّاسِ‪[} ..‬السراء‪.]60 :‬‬
‫لذلك قال تعالى في آية أخرى‪َ {:‬ومَا َ‬
‫وهذا دليل آخر على أن السراء لم يكُنْ مناما‪ ،‬فالسراء ل يكون فتنة واختبارا إل إذا كان حقيقة‬
‫ل مناما‪ ،‬فالمنام ل يُكذّبه أحد ول يختلف فيه الناس‪.‬‬
‫لكن لماذا قال عن السراء ( ُرؤْيَا) يعني المنامية‪ ،‬ولم يقُلْ " رؤية " يعني البصرية؟‬
‫قالوا‪ :‬لنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية‪ ،‬فالرؤيا محل الحداث‬
‫العجيبة‪.‬‬
‫وورد في السراء أحاديث كثيرة تكلّم فيها العلماء‪ :‬أكان بالروح والجسد؟ أكان يقظة أم مناما؟‬
‫أكان من المسجد الحرام أم من بيت أم هانيء؟ ونحن ل نختلف مع هذه الراء‪ ،‬ونُوضّح ما فيها‬
‫من تقارب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فمن حيث‪ :‬أكان السراء بالروح فقط أم بالروح والجسد؟ فقد أوضحنا َوجْه الصواب فيه‪ ،‬وأنه‬
‫كان بالروح والجسد جميعا‪ ،‬فهذا مجال العجاز‪ ،‬ولو كان بالروح فقط ما كان عجيبا‪ ،‬وما كذّبه‬
‫كفار مكة‪.‬‬
‫أما مَنْ ذهب إلى أن السراء كان رؤيا منام‪ ،‬فيجب أن نلحظ أن أول الوحي لرسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم كان الرؤيا الصادقة‪ ،‬فكان صلى ال عليه وسلم ل يرى ُرؤْيَا إل وجاءت كفلَق‬
‫الصبح‪ ،‬فرؤيا النبي صلى ال عليه وسلم ليست كرؤيانا‪ ،‬بل هي صِدْق ل بُدّ أن يتحقّق‪ .‬ومثال‬
‫ذلك ما حدث‪ ،‬مَنْ إرادةِ الِ لهُ رؤْيا الفتح‪.‬‬

‫سجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَّلقِينَ‬


‫حقّ لَتَ ْدخُلُنّ ا ْلمَ ْ‬
‫قال تعالى‪ّ {:‬لقَدْ صَدَقَ اللّهُ َرسُولَهُ الرّءْيَا بِالْ َ‬
‫سكُ ْم َو ُم َقصّرِينَ لَ َتخَافُونَ‪[} ..‬الفتح‪.]27 :‬‬
‫رُءُو َ‬
‫وقد أخبر صلى ال عليه وسلم صحابته هذا الخبر‪ ،‬فلما ردّهم الكفار عند الحديبية‪ ،‬فقال الصحابة‬
‫لرسول ال‪ :‬ألم تُبشّرنا بدخول المسجد الحرام؟ فقال‪ :‬ولكن لم َأ ُقلْ هذا العام‪.‬‬
‫لذلك يسمون هذه الرّؤى رؤى اليناس‪ ،‬وهي أن يرى النبي صلى ال عليه وسلم الشيء مناما‪،‬‬
‫حتى إذا ما تحقق لم ُيفَاجأ به‪ ،‬وكان له أُنْس به‪ .‬وما دام ل يرى رؤيا إل جاءت كفلَق الصبح فل‬
‫بُدّ أن هذه الرؤيا ستأتي واقعا وحقيقة‪ ،‬وقد يرى هذه الرؤيا مرة أخرى على سبيل التذكرة بذلك‬
‫اليناس‪.‬‬
‫إذن‪ :‬مَنْ قال‪ :‬إن السراء كان مناما نقول له‪ :‬نعم كان رؤيا إيناس تحققتْ في الواقع‪ ،‬فلدينا رؤى‬
‫اليناس أولً‪ ،‬ورؤى التذكير بالنعمة ثانيا‪ ،‬وواقع الحادث في الحقيقة ثالثا‪ ،‬وبذلك نخرج من‬
‫الخلف حول‪ :‬أكان السراء يقظة أم مناما؟‬
‫وحتى بعد انتهاء حادث السراء كانت الرؤيا الصادقة نوعا من التسلية لرسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فكان كلما اشتدتْ به الهوال يُريه ال تعالى ما حدث له لِيُبيّن له حفاوة السماء والكون به‬
‫صلى ال عليه وسلم؛ ليكون جَلْدا يتحمل ما يلقي من التعنت واليذاء‪.‬‬
‫أما من قال‪ :‬إن السراء كان من بيت أم هانيء‪ ،‬فهذا أيضا ليس محلً للخلف؛ لن بيت أم‬
‫هانيء كان مُلصِقا للمطاف من المسجد الحرام‪ ،‬والمطاف من المسجد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل داعي لثارة الشكوك والخلفات حول هذه المعجزة؛ لن الفعل ِفعْل الحق سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫والذي يحكيه لنا هو الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬فل مجالَ للخلف فيه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫لقْصَى‪[ { ...‬السراء‪.]1 :‬‬
‫جدِ الْحَرَامِ إِلَىا ا ْل َمسْجِدِ ا َ‬
‫} مّنَ ا ْل َمسْ ِ‬
‫سمّي حراما؛ لنه حُرّم فيه ما لم يح ُرمْ في غيره‬
‫المسجد الحرام هو بيت ال‪ :‬الكعبة المشرفة‪ ،‬و ُ‬
‫جدَ اللّهِ مَنْ‬
‫من المساجد‪ .‬وكل مكان يخصص لعبادة ال نسميه مسجدا‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬إِ ّنمَا َي ْعمُرُ َمسَا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ‪[} ..‬التوبة‪.]18 :‬‬
‫ويختلف المسجد الحرام عن غيره من المساجد‪ ،‬أنه بيت ل باختيار ال تعالى‪ ،‬وغيره من المساجد‬
‫بيوت ل باختيار خَلْق ال؛ لذلك كان بيت ال باختيار ال قِبْلة لبيوت ال باختيار خَلْق ال‪.‬‬
‫وقد يُراد بالمسجد المكان الذي نسجد فيه‪ ،‬أو المكان الذي يصلح للصلة‪ ،‬كما جاء في الحديث‬
‫جعَِلتْ لي الرض مسجدا وطهورا "‪.‬‬
‫الشريف‪ .." :‬و ُ‬
‫أي‪ :‬صالحة للصلة فيها‪.‬‬
‫خصّص كمسجد مستقل‪ ،‬وبين أرض تصلح للصلة فيها‬
‫ول ُبدّ أن نُفرّق بين المسجد الذي حُيّز و ُ‬
‫ومباشرة حركة الحياة‪ ،‬فالعامل يمكن أن يصلي في مصنعه‪ ،‬والفلح يمكن أن يصلي في‬
‫مزرعته‪ ،‬فهذه أرض تصلح للصلة ولمباشرة حركة الحياة‪.‬‬
‫أما المسجد فللصلة‪ ،‬أو ما يتعلق بها من أمور الدين كتفسير آية‪ ،‬أو بيان حكم‪ ،‬أو تلوة قرآن‪.‬‬

‫‪ .‬إلخ ول يجوز في المسجد مباشرة عمل من أعمال الدنيا‪.‬‬


‫" لذلك حينما رأى النبي صلى ال عليه وسلم رجلً ينشد ضالته في المسجد‪ ،‬قال له‪ " :‬ل رَدّها ال‬
‫عليك "‪.‬‬
‫وقال لمن جلس يعقد صفقة في المسجد‪ " :‬ل بارك ال لك في صفقتك "‪.‬‬
‫خصّص للعبادة والطاعة‪ ،‬وفيه يكون لقاء العبد بربه عز وجل‪ ،‬فإياك أن تشغل‬
‫ذلك لن المسجد ُ‬
‫نفسك فيه بأمور الدنيا‪ ،‬ويكفي ما أخذتْه منك‪ ،‬وما أنفقته في سبيلها من وقت‪.‬‬
‫والمسجد ل يُسمّى مسجدا إل إذا كان بناءً مستقلً من الرض إلى السماء‪ ،‬فأرضه مسجد‪ ،‬وسماؤه‬
‫عكَ من نيته‬
‫مسجد‪ ،‬ل يعلوه شيء من منافع الدنيا‪ ،‬كمَنْ يبني مسجدا تحت عمارة سكنية‪ ،‬ودَ ْ‬
‫خصّص هذا المكان للصلة‪ :‬أكانت نيته ل خالصة؟ أم لمأرب دنيوي؟ وقد قال تعالى‪ {:‬وَأَنّ‬
‫عندما َ‬
‫ا ْلمَسَاجِدَ لِلّهِ فَلَ تَدْعُواْ مَعَ اللّهِ َأحَدا }[الجن‪.]18 :‬‬
‫فمثل هذا المكان ل يُسمّى مسجدا؛ لنه ل تنطبق عليه شروط المسجد‪ ،‬ويعلوه أماكن سكنية يحدث‬
‫فيها ما يتنافى وقدسية المسجد‪ ،‬وما ل يليق بحُرْمة الصلة‪ ،‬فالصلة في مثل هذا المكان كالصلة‬
‫في أي مكان آخر من البيت‪.‬‬
‫لذلك يحرم على الطيار غير المسلم أن يُحلّق فوق مكة؛ لن جوّ الحرَم حَرَمٌ‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫ل ْقصَى‪[ { ..‬السراء‪.]1 :‬‬
‫ج ِد ا َ‬
‫} إِلَىا ا ْلمَسْ ِ‬
‫في ُبعْد المسافة نقول‪ :‬هذا قصيّ‪ .‬أي‪ :‬بعيد‪ .‬وهذا أقصى أي‪ :‬أبعد‪ ،‬فالحق تبارك وتعالى كأنه‬
‫يلفت أنظارنا إلى أنه سيوجد بين المسجد الحرام والمسجد القصى مسجدٌ آخر قصيّ‪ ،‬وقد كان‬
‫فيما بعد مسجد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالمسجد القصى‪ :‬أي‪ :‬البعد‪ ،‬وهو مسجد بيت المقدس‪.‬‬
‫حوْلَهُ‪[ { ..‬السراء‪.]1 :‬‬
‫وقوله سبحانه‪ } :‬بَا َركْنَا َ‬
‫البركة‪ :‬أن يُؤتي الشيءُ من ثمره فوقَ المأمول منه‪ ،‬وأكثر مما يُظنّ فيه‪ ،‬كأن ُتعِد طعاما‬
‫لشخصين‪ ،‬فيكفي خمسة أشخاص فتقول‪ :‬طعام مبارَك‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫حوْلَهُ‪[ { ...‬السراء‪.]1 :‬‬
‫} بَا َركْنَا َ‬
‫دليل على المبالغة في البركة‪ ،‬فإنْ كان سبحانه قد بارك ما حول القصى‪ ،‬فالبركة فيه من باب‬
‫َأوْلى‪ ،‬كأن تقول‪ :‬مَنْ يعيشون حول فلن في نعمة‪ ،‬فمعنى ذلك أنه في نعمة أعظم‪.‬‬
‫لكن بأيّ شيء بارك ال حوله؟‬
‫لقد بارك ال حول المسجد القصى ببركة دنيوية‪ ،‬وبركة دينية‪:‬‬
‫خصْبة عليها الحدائق والبساتين التي تحوي مختلف الثمار‪،‬‬
‫بركة دنيوية بما جعل حوله من أرض ِ‬
‫وهذا من عطاء الربوبية الذي يناله المؤمن والكافر‪.‬‬
‫وبركة دينية خاصة بالمؤمنين‪ ،‬هذه البركة الدينية تتمثل في أن القصى َمهْد الرسالت و َمهْبط‬
‫النبياء‪ ،‬تعطّ َرتْ أرضه بأقدام إبراهيم وإسحق ويعقوب وعيسى وموسى وزكريا ويحيى‪ ،‬وفيه‬
‫هبط الوحي وتنزلتْ الملئكة‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ‪[ { ...‬السراء‪.]1 :‬‬
‫اللم هنا للتعليل‪.‬‬

‫كأن مهمة السراء من مكة إلى بيت المقدس أن نُرِي رسول ال اليات‪ ،‬وكلمة‪ :‬اليات ل تُطلق‬
‫على مطلق موجود‪ ،‬إنما تطلق على الموجود العجيب‪ ،‬كما نقول‪ :‬هذا آية في الحُسْن‪ ،‬آية في‬
‫الشجاعة‪ ،‬فالية هي الشيء العجيب‪.‬‬
‫ول عز وجل آيات كثيرة منها الظاهر الذي يراه الناس‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬ومِنْ آيَا ِتهِ الّيلُ‬
‫جوَارِ فِي الْ َبحْرِ كَالَعْلَمِ }[الشورى‪.]32 :‬‬
‫وَال ّنهَارُ‪[} ..‬فصلت‪َ {.]37 :‬ومِنْ آيَاتِهِ ا ْل َ‬
‫وال سبحانه يريد أن يجعل لرسوله صلى ال عليه وسلم خصوصية‪ ،‬وأن يُريه من آيات الغيب‬
‫الذي لم يَ َرهُ أحد‪ ،‬ليرى صلى ال عليه وسلم حفاوة السماء به‪ ،‬ويرى مكانته عند ربه الذي قال‬
‫له‪ {:‬وَلَ َتكُ فِي ضَيْقٍ ّممّا َي ْمكُرُونَ }[النحل‪.]127 :‬‬
‫لنك في سَعة من عطاء ال‪ ،‬فإن أهانك أهل الرض فسوف يحتفل بك أهل السماء في المل‬
‫خلْق فأنت في سَعة من الخالق‪.‬‬
‫ن كنت في ضيق من ال َ‬
‫العلى‪ ،‬وإ ْ‬
‫سمِيعُ ال َبصِيرُ { [السراء‪.]1 :‬‬
‫وقوله‪ } :‬إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫أي‪ :‬الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السمع‪ :‬إدراك يدرك الكلم‪ .‬والبصر‪ :‬إدراك يدرك الفعال والمرائي‪ ،‬فلكل منهما ما يتعلق به‪.‬‬
‫لكن سميع وبصير لمن؟‬
‫جاء هذا في ختام آية السراء التي بيّ َنتْ أن الحق سبحانه جعل السراء تسلية للرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم بعد ما لقاه من أذى المشركين وعنتهم‪ ،‬وكأن معركة دارت بين رسول ال والكفار‬
‫حدثتْ فيها أقوال وأفعال من الجانبين‪.‬‬
‫سمِيعٌ) لقوال الرسول ( َبصِيرٌ) بأفعاله‪ ،‬حيث آذاه قومه وكذبوه‬
‫ومن هنا يمكن أن يكون المعنى‪َ ( :‬‬
‫وألجؤوه إلى الطائف‪ ،‬فكان أهلها أشدّ قسوة من إخوانهم في مكة‪ ،‬فعاد مُنكَرا داميا‪ ،‬وكان من‬
‫دعائه‪ " :‬اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي‪ ،‬وقلة حيلتي‪ ،‬وهواني على الناس يا أرحم الراحمين‪،‬‬
‫أنت رب المستضعفين وأنت ربي‪ ،‬إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟‬
‫إن لم يكن بك علي غضب فل أبالي‪ ،‬ولكن عافيتك هي أوسع لي‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت‬
‫له الظلمات‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا والخرة من أن تُنزل بي غضبك‪ ،‬أو يحل عليّ سخطك‪ ،‬لك‬
‫العتبى حتى ترضى‪ ،‬ول حول ول قوة إل بك "‪.‬‬
‫فال سميع لقول نبيه صلى ال عليه وسلم‪ .‬وبصير لفعله‪.‬‬
‫فقد كان صلى ال عليه وسلم في أشدّ ظروفه حريصا على دعوته‪ ،‬فقد قابل في طريق عودته من‬
‫الطائف عبدا‪ ،‬فأعطاه عنقودا من العنب‪ ،‬وأخذ يحاوره في النبوات ويقول‪ :‬أنت من بلد نبي ال‬
‫يونس بن متى‪.‬‬
‫سمْع رسول ال وكذّبوه وتجهّموا له‪،‬‬
‫أو يكون المعنى‪ :‬سميع لقوال المشركين‪ ،‬حينما آذوا َ‬
‫وبصير بأفعالهم حينما آذوه و َرمَوْه بالحجارة‪.‬‬
‫الحق تبارك وتعالى تعرّض لحادث السراء في هذه الية على سبيل الجمال‪ ،‬فذكر بدايته من‬
‫المسجد الحرام‪ ،‬ونهايته في المسجد القصى‪ ،‬وبين البداية والنهاية ذكر كلمة اليات هكذا مُجْملة‪.‬‬

‫وجاء صلى ال عليه وسلم ففسّر لنا هذا المجمل‪ ،‬وذكر اليات التي رآها‪ ،‬فلو لم يذكر لنا رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ما رأى من آيات ال َلقُلْنا‪ :‬وأين هذه اليات؟ فالقرآن يعطينا اللقطة‬
‫ج ْمعَ ُه َوقُرْآنَهُ * فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ *‬
‫الملزمة لبيان الرسول صلى ال عليه وسلم‪ {:‬إِنّ عَلَيْنَا َ‬
‫ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }[القيامة‪.]19-17 :‬‬
‫إذن‪ :‬كان ل بُدّ لتكتمل صورة السراء في نفوس المؤمنين أن يقول الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫ما قال من أحاديث السراء‪.‬‬
‫لكن يأتي المش ّككُون وضعَاف اليمان يبحثون في أحاديث السراء عن مأخذ‪ ،‬فيعترضون على‬
‫المرائي التي رآها رسول ال‪ ،‬وسأل عنها جبريل عليه السلم‪.‬‬
‫فكان اعتراضهم أن هذه الحداث في الخرة‪ ،‬فكيف رآها محمد صلى ال عليه وسلم؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونقول لهؤلء‪ :‬لقد قصُ َرتْ أفهامكم عن إدراك قدرة ال في خَلْق الكون‪ ،‬فالكون لم يُخلَق هكذا‪ ،‬بل‬
‫خُلِق بتقدير أزلي له‪ ،‬ولتوضيح هذه المسألة نضرب هذا المثل‪:‬‬
‫َهبْ أنك أردتَ بناء بيت‪ ،‬فسوف تذهب إلى المهندس المختص وتطلب منه رَسْما تفصيليا له‪ ،‬ولو‬
‫كنت ميسور الحال تقول له‪ :‬اعمل لي (ماكيت) للبيت‪ ،‬فيصنع لك نموذجا مُصغّرا للبيت الذي‬
‫تريده‪.‬‬
‫فالحق سبحانه خلق هذا الكون أزلً‪ ،‬فالشياء مخلوقة عند ال (كالماكيت)‪ ،‬ثم يبرزها سبحانه على‬
‫َوفْق ما قدّره‪.‬‬
‫وتأمل قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪.]82 :‬‬
‫انظر‪ } :‬أَن َيقُولَ َلهُ { كأن الشيء موجود وال تعالى يظهره فحسب‪ ،‬ل يخلقه بداية‪ ،‬بل هو‬
‫مخلوق جاهز ينتظر المر ليظهر في عالم الواقع؛ لذلك قال أهل المعرفة‪ :‬أمور يُبديها ول‬
‫يبتديها‪.‬‬
‫وإن كان الحق تبارك وتعالى قد ذكر السراء صراحة في هذه الية‪ ،‬فقد ذكر المعراج باللتزام‬
‫في سورة النجم‪ ،‬في قوله تعالى‪ {:‬وََلقَدْ رَآهُ نَزْلَةً ُأخْرَىا * عِندَ سِدْ َرةِ ا ْلمُن َتهَىا * عِندَهَا جَنّةُ‬
‫طغَىا * َلقَدْ رَأَىا مِنْ آيَاتِ رَبّهِ‬
‫ا ْلمَ ْأوَىا * إِذْ َيغْشَىا السّدْ َرةَ مَا َي ْغشَىا * مَا زَاغَ الْ َبصَرُ َومَا َ‬
‫ا ْلكُبْرَىا }[النجم‪.]18-13 :‬‬
‫ففي السراء قال تعالى‪:‬‬
‫} لِنُرِ َيهُ مِنْ آيَاتِنَآ‪[ { ..‬السراء‪.]1 :‬‬
‫وفي المعراج قال‪َ {:‬لقَدْ رَأَىا مِنْ آيَاتِ رَبّهِ ا ْلكُبْرَىا }[النجم‪.]18 :‬‬
‫ذلك لن السراء آية أرضية استطاع الرسول صلى ال عليه وسلم بما آتاه ال من اللهام أنْ يُدلّل‬
‫على صِدْقه في السراء به من المسجد الحرام إلى المسجد القصى؛ لن قومه على علم بتاريخه‪،‬‬
‫صفْه لنا وهذه شهادة منهم أنه لم‬
‫وأنه لم يسبق له أنْ رأى بيت المقدس أو سافر إليه‪ ،‬فقالوا له‪ِ :‬‬
‫يَ َرهْ‪ ،‬فتح ّد ْوهُ أن يصفه‪.‬‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم حينما يأتي بمثل هذه العملية‪ ،‬هل كان عنده استحفاظ كامل لصورة‬
‫بيت المقدس‪ ،‬خاصة وقد ذهب إليه ليلً؟‬
‫إذن‪ :‬صورته لم تكن واضحة أمام النبي صلى ال عليه وسلم بكل تفاصيلها‪ ،‬وهنا تدخلتْ قدرة ال‬
‫فجلّه ال له‪ ،‬فأخذ يصفه لهم كأنه يراه الن‪.‬‬

‫كما أن الطريق بين المسجد الحرام والمسجد القصى طريق مسلوك للعرب‪ ،‬فهو طريق تجارتهم‬
‫إلى الشام‪ ،‬فأخبرهم صلى ال عليه وسلم أن عيرا لهم في الطريق‪ ،‬ووصفها لهم وصفا دقيقا‪،‬‬
‫وأنها سوف تصلهم مع شروق الشمس يوم مُعين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفعلً تجمعوا في صبيحة هذا اليوم ينتظرون العير‪ .‬وعند الشروق قال أحدهم‪ :‬ها هي الشمس‬
‫أشرقتْ‪ .‬فردّ الخر‪ :‬وها هي العير قد ظهرتْ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬استطاع صلى ال عليه وسلم أن يُدلّل على صدق السراء؛ لنه آية أرضية يمكن التدليل‬
‫عليها‪ ،‬بما َيعْلمه الناس عن بيت المقدس‪ ،‬وبما يعلمونه من عِيرهم في الطريق‪.‬‬
‫أما ما حدث في المعراج‪ ،‬فآيات كبرى سماوية ل يستطيع الرسول صلى ال عليه وسلم التدليل‬
‫عليها أمام قومه‪ ،‬فأراد الحق سبحانه أنْ يجعل ما يمكن الدليل عليه من آيات الرض وسيلة‬
‫لتصديق ما ل يوجد دليل عليه من آيات الصعود إلى السماء‪ ،‬وإل فهل صعد أحد إلى سدرة‬
‫المنتهى‪ ،‬فيصفها له رسول ال؟‬
‫إذن‪ :‬آية الرض أمكن أنْ يُدلّل عليها‪ ،‬فإذا ما قام عليها الدليل‪ ،‬وثبت للرسول خَرْق نواميس‬
‫الكون في الزمن والمسافة‪ ،‬فإنْ حدّثكم عن شيء آخر فيه خَرْق للنواميس فصدّقوه‪ ،‬فكأن آية‬
‫السراء جاءت لِتُقرّب للناس آية المعراج‪.‬‬
‫فالذي خرق له النواميس في آيات الرض من الممكن أنْ يخرق له النواميس في آيات السماء‪،‬‬
‫فال تعالى يُقرّب الغيبيات‪ ،‬التي ل تدركها العقول بالمحسّات التي تدركها‪.‬‬
‫ومن ذلك ما ضربه إليه مثلً محسوسا لمضاعفة النفقة في سبيل ال إلى سبعمائة ضعف‪ ،‬فأراد‬
‫الحق سبحانه أنْ يُبيّن ذلك ويُقرّبه للعقول‪ ،‬فقال‪ {:‬مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ‬
‫سعٌ عَلِيمٌ }[البقرة‪:‬‬
‫حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبَُلةٍ مّئَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَاعِفُ ِلمَن يَشَآ ُء وَاللّ ُه وَا ِ‬
‫‪.]261‬‬
‫خلْقه أنْ جعل آيات السراء بالنصّ الملزم الصريح‪ ،‬لكن آيات‬
‫ومن ُلطْف ال سبحانه بعقول َ‬
‫المعراج جاءت باللتزام في سورة النجم؛ لذلك قال العلماء‪ :‬إن الذي يُكذّب بالسراء يكفر‪ ،‬أما مَنْ‬
‫يكذّب بالمعراج فهو فاسق‪.‬‬
‫لكن أهل التحقيق يذهبون إلى تكفير مَنْ يُكذّب المعراج أيضا؛ لن المعراج وإنْ جاء باللتزام فقد‬
‫بيّنه الرسول صلى ال عليه وسلم في حديثه الشريف‪ ،‬والحق سبحانه يقول‪َ {:‬ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ‬
‫خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ‪[} ..‬الحشر‪.]7 :‬‬
‫فَ ُ‬
‫والمتأمل في السراء والمعراج يجده إلى جانب أنه تسلية لرسول ال وتخفيف عنه‪ ،‬إل أن لهم‬
‫هدفا آخر أبعد أثرا‪ ،‬وهو بيان أن رسول ال صلى ال عليه وسلم مُؤيّد من ال‪ ،‬وله معجزات‪،‬‬
‫وتُخرَق له القوانين والنواميس العامة؛ ليكون ذلك كله تكريما ودليلً على صدق رسالته‪.‬‬
‫فالمعجزة‪ :‬أمر خارق للعادة الكونية يُجريه ال على يد رسوله؛ ليكون دليلً على صدقه‪ ،‬ومن ذلك‬
‫ما حدث لبراهيم الخليل ـ عليه السلم ـ حيث ألقاه قومه في النار‪ ،‬ومن خواص النار‬
‫الحراق‪ ،‬فهل كان المراد نجاة إبراهيم من النار؟‬
‫لو كان القصد نجاته من النار ما كان ال مكّنهم من المساك به‪ ،‬ولو أمسكوا فيمكن أنْ يُنزِل ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المطر فيطفيء النار‪.‬‬

‫إذن‪ :‬المسألة ليست نجاة إبراهيم‪ ،‬المسألة إثبات خَرْق النواميس لبراهيم عليه السلم‪ ،‬فشاء ال أنْ‬
‫تظلّ النار مشتعلة‪ ،‬وأن يُمسكوا به ويرموه في النار‪ ،‬وتتوفر كل السباب لحرقه ـ عليه السلم‪.‬‬
‫وهنا تتدخل عناية ال لتظهر المعجزة الخارقة للقوانين‪ ،‬فمن خواصّ النار الحراق‪ ،‬وهي خَلْق‬
‫من خَ ْلقِ ال‪ ،‬يأتمر بأمره‪ ،‬فأمر الُ النا َر ألّ تحرق‪ ،‬سلبها هذه الخاصية‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬قُلْنَا يانَارُ‬
‫كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء‪.]69 :‬‬
‫وربما يجد المشكّكون في السراء والمعراج ما يُقرّب هذه المعجزة لفهامهم بما نشاهده الن من‬
‫ن يغزوَ الفضاء‪ ،‬ويصعد إلى‬
‫تقدّم علمي يُقرّب لنا المسافات‪ ،‬فقد تمكّن النسان بسلطان العلم أ ْ‬
‫كواكب أخرى في أزمنة قياسية‪ ،‬فإذا كان في مقدور البشر الهبوط على سطح القمر‪ ،‬أتستبعدون‬
‫السراء والمعراج‪ ،‬وهو ِفعْل ل سبحانه؟!‬
‫شقّ الصدر التي‬
‫وكذلك من المور التي وقفتْ أمام المعترضين على السراء والمعراج حادثة َ‬
‫حكاها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والمتأمل فيه يجده عملً طبيعيا لعداد الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم لما هو مُقبِل عليه من أجواء ومواقف جديدة تختلف في طبيعتها عن الطبيعة البشرية‪.‬‬
‫كيف ونحن نفعل مثل هذا العداد حينما نسافر من بلد إلى آخر‪ ،‬فيقولون لك‪ :‬البس ملبس كذا‪.‬‬
‫وخذ حقنة كذا لتساير طبيعة هذا البلد‪ ،‬وتتأقلم معه‪ ،‬فما بالك ومحمد صلى ال عليه وسلم سيلتقي‬
‫بالملئكة وبجبريل وهم ذوو طبيعة غير طبيعة البشر‪ ،‬وسيلتقي بإخوانه من النبياء‪ ،‬وهم في حال‬
‫الموت‪ ،‬وسيكون قاب قوسيْن أو أدنى من ربه عز وجل؟‬
‫إذن‪ :‬ل غرابة في أنْ يحدث له تغيير ما في تكوينه صلى ال عليه وسلم ليستطيع مباشرة هذه‬
‫المواقف‪.‬‬
‫وإذا استقرأنا القرآن الكريم فسوف نجد فيه ما يدلّ على صدق رسول ال فيما أخبر به من لقائه‬
‫بالنبياء في هذه الرحلة‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬وَسْ َئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ مِن رّسُلِنَآ‪[} ..‬الزخرف‪.]45 :‬‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم إذا أمره ربّه أمرا نفّذه‪ ،‬فكيف السبيل إلى تنفيذ هذا المر‪ :‬واسأل‬
‫مَن سبقك من الرسل؟‬
‫ل سبيل إلى تنفيذه إل في لقاء مباشر ومواجهة‪ ،‬فإذا حدّثنا بذلك رسول ال في رحلة السراء‬
‫ك إل إلى قلوب ضعاف اليمان واليقين‪.‬‬
‫والمعراج نقول له‪ :‬صدقت‪ ،‬ول يتسلل الش ّ‬
‫فالفكرة في هذه القضية ـ السراء والمعراج ـ دائرة بين يقين المؤمن بصدق رسول ال‪ ،‬وبين‬
‫تحكيم العقل‪ ،‬وهل استطاع عقلك أنْ يفهم كل قضايا الكون من حولك؟‬
‫فما أكثر المور التي وقف فيها العقل ولم يفهم كُ ْنهَها‪ ،‬ومع مرور الزمن وتقدّم العلوم رآها‬
‫تتكشّف له تدريجيا‪ ،‬فما شاء ال أنْ يُظهره لنا من قضايا الكون يسّر لنا أسبابه باكتشاف أو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اختراع‪ ،‬وربما بالمصادفة‪.‬‬

‫وما العقل إل وسيلة إدراك‪ ،‬كالعين والذن‪ ،‬وله قوانين محددة ل يستطيع أنْ يتعداها‪ ،‬وإياك أنْ‬
‫تظنّ أن عقلك يستطيع إدراك كل شيء‪ ،‬بل هو محكوم بقانون‪.‬‬
‫ولتوضيح ذلك‪ ،‬نأخذ مثلً العين‪ ،‬وهي وسيلة إدراك يحكمها قانون الرؤية‪ ،‬فإذا رأيت شخصا مثلً‬
‫تراه واضح الملمح‪ ،‬فإذا ما ابتعد عنك تراه يصغُر تدريجيا حتى يختفي عن نظرك‪ ،‬كذلك السمع‬
‫تستطيع بأذنك أنْ تسمعَ صوتا‪ ،‬فإذا ما ابتعد عنك َقلّ سمعك له‪ ،‬حتى يتوقف إدراك الذن فل‬
‫تسمع شيئا‪.‬‬
‫كذلك العقل كوسيلة إدراك له قانون‪ ،‬وليس الدراك فيه مطلقا‪.‬‬
‫ومن هنا لما أراد العلماء التغلّب على قانون العيْن وقانون الذن حينما تضعف هذه الحاسة وتعجز‬
‫عن أداء وظيفتها صنعوا للعين النظارة والميكروسكوب والمجهر‪ ،‬وهذه وسائل حديثة تُمكّن العين‬
‫من رؤية ما ل تستطيع رؤيته‪ .‬وكذلك صنعوا سماعة الذن لتساعدها على السمع إذا ضعفت عن‬
‫أداء وظيفتها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكل وسيلة إدراك لها قانونها‪ ،‬وكذلك العقل‪ ،‬وإياك أنْ تظنّ أن عقلك يستطيع أن يدرس كل‬
‫شيء‪ ،‬ولكن إذا حُدّ ْثتَ بشيء فعقلك ينظر فيه‪ ،‬فإذا وثقته صادقا فقد انتهت المسألة‪ ،‬وخذ ما حدثت‬
‫به على أنه صدق‪.‬‬
‫وهذا ما حدث مع الصّدّيق أبي بكر رضي ال عنه حينما حدثوه عن صاحبه صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وأنه أُسرِي به من مكة إلى بيت المقدس‪ ،‬فما كان منه إل أن قال‪ " :‬إن كان قال فقد صدق "‪.‬‬
‫فالحجة عنده إذن قول الرسول‪ ،‬وما دام الرسول قد قال ذلك فهو صادق‪ ،‬ول مجال لعمل العقل‬
‫في هذه القضية‪ ،‬ثم قال " كيف ل أُصدقه في هذا الخبر‪ ،‬وأنا أصدقه في أكثر من هذا‪ ،‬أصدقه في‬
‫خبر الوحي يأتيه من السماء "‪.‬‬
‫فآية السراء ـ إذن ـ كانت آية أرضية‪ ،‬يمكن أنْ يُقام عليها الدليل‪ ،‬ويمكن أن يفهم الناس عنها‬
‫أن القانون قد خُرِق لمحمد في السراء‪ ،‬فإذا ما أتى المعراج وخرق له القانون فيما ل يعلم الناس‬
‫كان أَدْعى لتصديقه‪.‬‬
‫والمتأمل في هذه السورة يجدها تسمى سورة السراء‪ ،‬وتسمى سورة بني إسرائيل‪ ،‬وليس فيها‬
‫عن السراء إل الية الولى فقط‪ ،‬وأغلبها يتحدث عن بني إسرائيل‪ ،‬فما الحكمة من ِذكْر بني‬
‫إسرائيل بعد السراء؟‬
‫سبق أن قلنا‪ :‬إن الحكمة من الكلم عن السراء بعد آخر النحل أن رسول ال صلى ال صلى ال‬
‫عليه وسلم كان في ضيق مما يمكرون‪ ،‬فأراد الحق سبحانه أنْ يُخفّف عنه ويُسلّيه‪ ،‬فكان حادث‬
‫السراء‪ ،‬ولما أَِلفَ بنو إسرائيل أن الرسول يُب َعثُ إلى قومه فحسب‪ ،‬كما رأَوا موسى عليه السلم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فعندما يأتي محمد صلى ال عليه وسلم ويقول‪ :‬أنا رسول للناس كافّة سيعترض عليه هؤلء‬
‫ن كنتَ رسولً فعلً وسلّمنا بذلك‪ ،‬فأنت رسول للعرب دون غيرهم‪ ،‬ول دَخْل لك‬
‫وسيقولون‪ :‬إ ْ‬
‫ببني إسرائيل‪ ،‬فَلَنا رسالتنا وبيت المقدس عَلَم لنا‪.‬‬
‫لذلك أراد الحق سبحانه أن يلفت إسرائيل إلى عموم رسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن هنا‬
‫جعل بيت المقدس قبلةً للمسلمين في بداية المر‪ ،‬ثم أسرى برسوله صلى ال عليه وسلم إليه‪:‬‬
‫حوْزة‬
‫ليدلل بذلك على أن بيت المقدس قد دخل في مقدسات السلم‪ ،‬وأصبح منذ هذا الحدث في َ‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ثم يبدأ الحديث عن موسى عليه السلم وعن بني إسرائيل‪ ،‬فيقول تعالى‪ } :‬وَآتَيْنَآ مُوسَى ا ْلكِتَابَ‪...‬‬
‫{‪.‬‬

‫(‪)2014 /‬‬

‫خذُوا مِنْ دُونِي َوكِيلًا (‪)2‬‬


‫جعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ َألّا تَتّ ِ‬
‫وَآَتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ َو َ‬

‫قوله‪ { :‬وَآتَيْنَآ } أي‪ :‬أوحينا إليه معانيه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّل َمهُ اللّهُ ِإلّ وَحْيا َأوْ‬
‫حيَ بِإِذْ ِنهِ مَا يَشَآءُ‪[} ..‬الشورى‪.]51 :‬‬
‫سلَ َرسُولً فَيُو ِ‬
‫مِن وَرَآءِ حِجَابٍ َأوْ يُرْ ِ‬
‫فليس في هذا المر مباشرة‪.‬‬
‫و (الكتاب) هو التوراة‪ ،‬فلو اقترن بعيسى فهو النجيل‪ ،‬وإنْ أُطلِق دون أن يقترنَ بأحد ينصرف‬
‫إلى القرآن الكريم‪.‬‬
‫والوَحْي قد يكون بمعاني الشياء‪ ،‬ثم يُعبّر عنها الرسول بألفاظه‪ ،‬أو يعبر عنها رجاله وحواريوه‬
‫بألفاظهم‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬الحديث النبوي الشريف‪ ،‬فالمعنى فيه من الحق سبحانه‪ ،‬واللفظ من عند الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهكذا كان المر في التوراة والنجيل‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه‪ ،‬في حين نزلت التوراة والنجيل بالمعنى فقط؟‬
‫نقول‪ :‬لن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والنجيل‪ ،‬ولكنه نزل أيضا كتاب معجزة ل‬
‫ل لحد فيه‪ ،‬ول بُدّ أنْ يظلّ لفظه كما نزل من عند ال سبحانه‬
‫خَ‬‫يستطيع أحد أنْ يأتيَ بمثله‪ ،‬فل دَ ْ‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫ظ ومعنى القرآن الكريم‪ ،‬وأُوحِي إليه معنى الحديث‬
‫حيَ إليه َلفْ ُ‬
‫فالرسول صلى ال عليه وسلم أُو ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النبوي الشريف‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫جعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي إِسْرَائِيلَ‪[ } ..‬السراء‪.]2 :‬‬
‫{ وَ َ‬
‫فهذا الكتاب لم ينزل لموسى وحده‪ ،‬بل لِيُبلّغه لبني إسرائيل‪ ،‬وليرسمَ لهم طريق الهدى ال سبحانه‪،‬‬
‫جعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي‬
‫وقال تعالى في آية أخرى‪ {:‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ فَلَ َتكُن فِي مِرْيَةٍ مّن ّلقَآئِ ِه وَ َ‬
‫إِسْرَائِيلَ }[السجدة‪.]23 :‬‬

‫والهُدَى‪ :‬هو الطريق الموصّل للغاية من أقصر وجه‪ ،‬وبأقلّ تكلفة‪ ،‬وهو الطريق المستقيم‪ ،‬ومعلوم‬
‫عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين‪.‬‬
‫ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلصة هذا الكتاب‪ ،‬وخلصة هذا الهُدى لبني إسرائيل في قوله‬
‫تعالى‪:‬‬
‫{ َألّ تَتّخِذُواْ مِن دُونِي َوكِيلً } [السراء‪.]2 :‬‬
‫جمَاعه‪.‬‬
‫ففي هذه العبارة خلصة الهُدى‪ ،‬وتركيز المنهج و ِ‬
‫والوكيل‪ :‬هو الذي يتولّى أمرك‪ ،‬وأنت ل تُولّي أحدا أمرك إل إذا كنتَ عاجزا عن القيام به‪ ،‬وكان‬
‫مَنْ تُوكّله أحكمَ منك وأقوى‪ ،‬فإذا كنت ترى الغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم‪،‬‬
‫فالغني يصير فقيرا‪ ،‬والقوي يصير ضعيفا‪ ،‬والصحيح يصير سقيما‪.‬‬
‫وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحدا تِلْو الخر‪ ،‬فاعلم أن هؤلء ل يصلحون لِتولّي أمرك‬
‫والقيام بشأنك‪ ،‬فربما َوكّ ْلتَ واحدا منهم ففاجأك خبر موته‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إذا كنتَ لبيبا فوكّل مَنْ ل تنتابه الغيار‪ ،‬ول يدركه الموت؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما‬
‫حيّ الّذِي لَ َيمُوتُ }‬
‫يُعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق المور‪ ،‬يقول‪ {:‬وَ َت َو ّكلْ عَلَى ا ْل َ‬
‫[الفرقان‪.]58 :‬‬
‫وما دام المر كذلك‪ ،‬فإياك أنْ تتخذَ من دون ال وكيلً‪ ،‬حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك‬
‫وبين ربك كالنبياء؛ لنهم ل يأتون بشيء من عند أنفسهم‪ ،‬بل يناولونك ويُبلّغونك عن ال‬
‫سبحانه‪.‬‬

‫ولذلك الحق سبحانه يقول‪ {:‬وَلَئِن شِئْنَا لَ َنذْهَبَنّ بِالّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ‪[} ..‬السراء‪.]86 :‬‬
‫ولو شئنا ما أوحينا إليك أبدا‪ ،‬فمن أين تأتي بالمنهج إذن؟‬
‫وقد تحدث العلماء طويلً في (أن) في قوله‪:‬‬
‫} َألّ تَتّخِذُواْ مِن دُونِي َوكِيلً { [السراء‪.]2 :‬‬
‫ن قال‪ :‬إنها ناهية‪ .‬ومنهم من قال‪ :‬نافية‪ ،‬وأحسن ما يُقال فيها‪ :‬إنها مُفسّرة لما قبلها من‬
‫فمنهم مَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قوله تعالى‪:‬‬
‫جعَلْنَاهُ ُهدًى‪[ { ..‬السراء‪.]2 :‬‬
‫ب وَ َ‬
‫} وَآتَيْنَآ مُوسَى ا ْلكِتَا َ‬
‫سوَسَ إِلَ ْيهِ الشّ ْيطَانُ قَالَ ياآدَمُ َهلْ َأدُّلكَ‬
‫ففسرت الكتاب والهدى ولخّصتْه‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬فوَ ْ‬
‫شجَ َرةِ الْخُ ْل ِد َومُ ْلكٍ لّ يَبْلَىا }[طه‪.]120 :‬‬
‫عَلَىا َ‬
‫فقوله‪ } :‬قَالَ ياآ َدمُ { تُفسّر لنا مضمون وسوسة الشيطان‪.‬‬
‫ضعِيهِ‪[} ..‬القصص‪.]7 :‬‬
‫ومثله قوله تعالى‪ {:‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ‬
‫(فأنْ) هنا مُفسّرة لما قبلها‪ .‬وكأن المعنى‪ :‬وأوحينا إليه ألّ تتخذوا من دوني وكيلً‪.‬‬
‫أو نقول‪ :‬إن فيها معنى المصدرية‪ ،‬وأنْ المصدرية قد تُجرّ بحرف جر كما نقول‪ :‬عجبت أنْ‬
‫تنجحَ‪ ،‬أي‪ :‬من أنْ تنجح‪ ،‬ويكون معنى الية هنا‪ :‬وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل‬
‫لنْ ل تتخذوا من دوني وكيلً‪.‬‬
‫حمَلْنَا‪.{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ذُرّيّةَ مَنْ َ‬

‫(‪)2015 /‬‬

‫شكُورًا (‪)3‬‬
‫حمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنّهُ كَانَ عَبْدًا َ‬
‫ذُرّيّةَ مَنْ َ‬

‫(ذرية) منصوبة هنا على الختصاص لِقصْد المدح‪ ،‬فالمعنى‪ :‬أخصّكم أنتم يا ذرية نوح‪ ،‬ولكن‬
‫لماذا ذرية نوح بالذات؟‬
‫ذلك لننا نجّيْنَا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق‪ ،‬وحافظنا على حياتهم‪ ،‬وأنتم ذريتهم‪ ،‬فل بُدّ‬
‫لكم أنْ تذكروا هذه النعمة ل تعالى‪ ،‬أن أبقاكم الن من بقاء آبائكم‪.‬‬
‫فكأن الحق سبحانه يمتنّ عليهم بأنْ نجّى آباءهم مع نوح‪ ،‬فليستمعوا إلى منهج ال الذي جَرّبه‬
‫ن يؤمن بال تكون له النجاة والمن من عذاب ال‪.‬‬
‫آباؤهم‪ ،‬ووجدوا أن مَ ْ‬
‫ويقول تعالى‪:‬‬
‫شكُورا } [السراء‪.]3 :‬‬
‫{ إِنّهُ كَانَ عَبْدا َ‬
‫أي‪ :‬أن الحق سبحانه أكرم ذريته؛ لنه كان عبدا شكورا‪ ،‬والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه؛‬
‫ولذلك سنلحظ ذرية نوح بعنايتنا‪ ،‬ولن نتركهم يتخبّطون في متاهات الحياة‪ ،‬وسنرسل لهم الهدى‬
‫الذي يرسم لهم الطريق القويم‪ ،‬ويُجنّبهم الزّلل والنحراف‪.‬‬
‫ودائما ما ينشغل الباء بالبناء‪ ،‬فإذا ما توفّر للنسان قُوت يومه تطلّع إلى قُوت العام كله‪ ،‬فإذا‬
‫توفّر له قوت عامه قال‪ :‬أعمل لولدي‪ ،‬فترى خير أولده أكثر من خَيْره‪ ،‬وتراه ينشغل بهم‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويُؤثِرهم على نفسه‪ ،‬ويترقّى في طلب الخير لهم‪ ،‬ويودّ لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فالنسان عُ ْرضَة للغيار‪ ،‬وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء؛ ولذلك فالحق سبحانه‬
‫خشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّةً‬
‫يدلّنا على وَجْه الصواب الذي ينفع الولد‪ ،‬فيقول تعالى‪ {:‬وَلْيَ ْ‬
‫ضعَافا خَافُواْ عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُواّ اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َق ْولً سَدِيدا }[النساء‪.]9 :‬‬
‫ِ‬
‫والحق تبارك وتعالى حينما يُعلّمنا أن تقوى ال تتعدّى بركتها إلى أولدك من بعدك‪ ،‬يعطينا مثلً‬
‫واقعيا في قصة موسى والخضر عليهما السلم ـ التي حكاها لنا القرآن الكريم‪.‬‬
‫والشاهد فيها أنهما حينما مرّا على قرية‪ ،‬واستطعما أهلها فأ َبوْا أنْ يُضيّفوهما‪ ،‬وسؤال الطعام يدل‬
‫على صِدْق الحاجة‪ ،‬فلو طلب منك السائل مالً فقد تتهمه بكَنْزِه‪ ،‬أما إذا طلب منك رغيفا يأكله فل‬
‫شكّ أنه صادق في سؤاله‪ ،‬فهذا دليل على أنها قرية لِئَام ل يقومون بواجب الضيافة‪ ،‬ول يُقدّرون‬
‫حاجة السائل‪.‬‬
‫خضْر إلى بناء الجدار الذي أوشك على‬
‫جبَ موسى ـ عليه السلم ـ من مبادرة ال ِ‬
‫ومن هنا تع ّ‬
‫ط َعمَآ أَهَْلهَا فَأَ َبوْاْ‬
‫السقوط دون أنْ يأخذ أَجْره من هؤلء اللئام‪ {:‬فَانطََلقَا حَتّىا ِإذَآ أَتَيَآ أَ ْهلَ قَرْيَةٍ اسْ َت ْ‬
‫جدَارا يُرِيدُ أَن يَن َقضّ فََأقَامَهُ قَالَ َلوْ شِ ْئتَ لَتّخَ ْذتَ عَلَ ْيهِ أَجْرا }[الكهف‪:‬‬
‫جدَا فِيهَا ِ‬
‫أَن ُيضَ ّيفُو ُهمَا َفوَ َ‬
‫‪.]77‬‬
‫وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة المر‪ ،‬ويُظهِر له ما أطلعه ال عليه من بواطن المور التي ل‬
‫لمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ا ْلمَدِي َن ِة َوكَانَ َتحْتَهُ كَنزٌ‬
‫يدركها موسى عليه السلم‪ ،‬فيقول‪ {:‬وََأمّا ا ْلجِدَارُ َفكَانَ ِلغُ َ‬
‫حمَةً مّن رّ ّبكَ‪} ..‬‬
‫شدّ ُهمَا وَيَسْتَخْ ِرجَا كَنزَ ُهمَا َر ْ‬
‫ّل ُهمَا َوكَانَ أَبُو ُهمَا صَالِحا فَأَرَادَ رَ ّبكَ أَن يَبُْلغَآ أَ ُ‬

‫[الكهف‪.]82 :‬‬
‫فالجدار مِلْك لغلمين صغيرين ل يقدران على حماية مالهما من هؤلء اللئام‪ ،‬ولن أباهما كان‬
‫صالحا سخّر ال لهما مَنْ يخدمهما‪ ،‬ويحافظ على مالهما‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فِعلّة هذا العمل أن أباهما كان صالحا‪ ،‬فأكرمهم ال من أجله‪ ،‬وجعلهما في حيازته وحفظه‪.‬‬
‫وهنا قد يسأل سائل‪ :‬ومن أين للغلمين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما؟‬
‫والظاهر أن الخضر بما أعطاه ال من الحكمة بنى هذا الجدار بنا ًء موقوتا‪ ،‬بحيث ينهدم بعد بلوغ‬
‫الغلمين‪ ،‬فيكونان قادريْنِ على حمايته والدفاع عنه‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه‪ {:‬وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ‬
‫شيْءٍ }[الطور‪.]21 :‬‬
‫عمَِلهِم مّن َ‬
‫حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم َومَآ أَلَتْنَا ُهمْ مّنْ َ‬
‫ذُرّيّ ُتهُم بِإِيمَانٍ أَلْ َ‬
‫فكرامةً للباء نلحق بهم البناء‪ ،‬حتى وإنْ َقصّروا في العمل عن آبائهم‪ ،‬فنزيد في أجر البناء‪،‬‬
‫ول ننقص من أجر الباء‪.‬‬
‫شكُورا { [السراء‪.]3 :‬‬
‫وقوله‪ } :‬إِنّهُ كَانَ عَبْدا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وشكور صيغة مبالغة في الشكر‪ ،‬فلم يقل شاكر؛ لن الشاكر الذي يشكر مرة واحدة‪ ،‬أما الشكور‬
‫فهو الدائب على الشكر المداوم عليه‪ ،‬وقالوا عن نوح عليه السلم‪ :‬إنه كان ل يتناول شيئا من‬
‫مُقوّمات حياته إل شكر ال عليها‪ .‬ول تنعّم بنعمة من ترف الحياة إل حمد ال عليها‪ ،‬فإذا أكل‬
‫قال‪ :‬الحمد ل الذي أطعمني من غير حول مني ول قوة‪ ،‬وإذا شرب قال‪ :‬الحمد ل الذي سقاني‬
‫من غير حول مني ول قوة‪ ،‬وهكذا في جميع أمره‪.‬‬
‫ويقول بعض العارفين‪ :‬ما أكثر ما غفل النسان عن شكر ال على نعمه‪.‬‬
‫جهْدهم أن يقولوا‪ :‬بسم ال في أول الطعام والحمد ل في آخره‪ ،‬ثم‬
‫ونرى كثيرا من الناس قصارى َ‬
‫حصَى‪ ،‬تستوجب الحمد والشكر‪.‬‬
‫هم غافلون عن نعم كثيرة ل ُتعَ ّد ول ُت ْ‬
‫حمْد‬
‫لذلك حينما يعقل النسان ويفقه ِنعَم ال عليه‪ ،‬ويعلم أن الحمد قَيْد للنعمة‪ ،‬تجده يعمل ما نُسميّه َ‬
‫القضاء مثل الصلة القضاء أي‪ :‬حمد ال على نعم فاتت لم يحمده عليها‪ ،‬فيقول‪ :‬الحمد ل على‬
‫كل نعمة أنعمتَها عليّ يا ربّ‪ ،‬ونسيت أنْ أحمدَك عليها‪ ،‬ويجعل هذا الدعاء دَأَبه وديدنه‪.‬‬
‫وقد يتعدى حمدَ ال لنفسه‪ ،‬فيحمد ال عن الناس الذين أنعم ال عليهم ولم يحمدوه‪ ،‬فيقول‪ :‬الحمد ل‬
‫عن كل ذي نعمة أنعمتَ عليه‪ ،‬ولم يحمدك عليها‪.‬‬
‫حمْد‬
‫ولذلك يقولون‪ :‬إن النعمة التي تحمد ال عليها ل تُسأل عنها يوم القيامة؛ لنك أدّ ْيتَ حقها من َ‬
‫ال والثناء عليه‪.‬‬
‫والحمد والشكر وإنْ كان شكرا للمنعم سبحانه وثناء عليه‪ ،‬فهو أيضا تجارة رابحة للشاكر؛ لن‬
‫شكَرْ ُت ْم لَزِيدَ ّنكُمْ }[إبراهيم‪.]7 :‬‬
‫الحق سبحانه يقول‪ {:‬لَئِن َ‬
‫فمَنْ أراد الخير لنفسه وأحب أن نواصل له النعم فليداوم على حمدنا وشكرنا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬و َقضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2016 /‬‬

‫ن وَلَ َتعْلُنّ عُُلوّا كَبِيرًا (‪)4‬‬


‫َو َقضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ لَ ُتفْسِدُنّ فِي الْأَ ْرضِ مَرّتَيْ ِ‬

‫قوله تعالى‪:‬‬
‫{ َو َقضَيْنَآ‪[ } ..‬السراء‪.]4 :‬‬
‫حكْما ل رجعةَ فيه‪ ،‬وأعلنّا به المحكوم عليه‪ ،‬والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه‬
‫أي‪ :‬حكمنا ُ‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫والقضاء يعني ال َفصْل في نزاع بين متخاصمين‪ ،‬وهذا الفَصْل ل ُبدّ له من قاضٍ مُؤهّل‪ ،‬وعلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫علم بالقانون الذي يحكم به‪ ،‬ويستطيع الترجيح بين الدلة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل بُدّ أن يكون القاضي مُؤهّلً‪ ،‬ولو عُرْف المتنازعين‪ ،‬ويمكن أن يكونوا جميعا أميّين ل‬
‫يعرفون عن القانون شيئا‪ ،‬ولكنهم واثقون من شخص ما‪ ،‬ويعرفون عنه َقوْل الحق والعدل في‬
‫حكومته‪ ،‬فيرتضونه قاضيا ويُحكّمونه فيما بينهم‪.‬‬
‫ثم إن القاضي ل يحكم بعلمه فحسب‪ ،‬بل ل بُدّ له من بينة على المدعي أن يُقدّمها أو اليمين على‬
‫مَنْ أنكر‪ ،‬والبينة تحتاج إلى سماع الشهود‪ ،‬ثم هو بعد أن يحكم في القضية ل يملك تنفيذ حكمه‪،‬‬
‫بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه‪ ،‬ثم هو في أثناء ذلك عُرْضة للخداع والتدليس وشهادة‬
‫الزور وتلعب الخصوم بالقوال والدلة‪.‬‬
‫وقد يستطيع الظالم أنْ يُعمّي عليه المر‪ ،‬وقد يكون لبقا متكلما يستميل القاضي‪ ،‬فيحوّل الحكم‬
‫لصالحه‪ ،‬كل هذا يحدث في قضاء الدنيا‪.‬‬
‫فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى؟‬
‫إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي ل يحتاج إلى بيّنة ول شهود‪ ،‬ول يقدر أحد أنْ يُعمّي عليه‬
‫أو يخدعه‪ ،‬وهو سبحانه صاحب كل السلطات‪ ،‬فل يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به‪ ،‬فكل‬
‫حيثيات المور موكولة إليه سبحانه‪.‬‬
‫وقد حدث هذا فعلً في قضاء قضاه النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهل القضاة أفضل من رسول‬
‫ال؟!‬
‫ففي الحديث الشريف‪ " :‬إنما أنا بشر مثلكم‪ ،‬وإنكم تختصمون إليّ‪ ،‬ولعل أحدكم أن يكون ألحنَ‬
‫بحجته فأقضي له‪ ،‬فمَنْ قضيت له من حق أخيه شيئا‪ ،‬فل يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار "‪.‬‬
‫فردّ صلى ال عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له‪ ،‬ونصحه أنْ يراجعَ نفسه وينظر فيما‬
‫يستحق‪ ،‬فالرسول صلى ال عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر‪ ،‬ولكن إنْ عمّ ْيتَ على قضاء‬
‫الرض فلن تُعمّي على قضاء السماء‪.‬‬
‫ولذلك يقول صلى ال عليه وسلم فيمَنْ يستفتي شخصا فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب‪:‬‬
‫ن أفت ْوكَ "‪.‬‬
‫ن أفت ْوكَ‪ ،‬وإ ْ‬
‫ن أفت ْوكَ‪ ،‬وإ ْ‬
‫" استفتِ قلبك‪ ،‬وإ ْ‬
‫قالها ثلثا ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون النسان واعيا مُميّزا بقلبه بين الحلل والحرام‪ ،‬وعليه أن‬
‫يُراجع نفسه ويتدبر أمره‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬فِي ا ْلكِتَابِ‪[ } ..‬السراء‪.]4 :‬‬
‫أي‪ :‬في التوراة‪ ،‬كتابهم الذي نزل على نبيهم‪ ،‬وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر‪ ،‬فالحق‬
‫حكْما وأعلمهم به‪ ،‬حيث أوحاه إلى موسى‪ ،‬فبلّغهم به في‬
‫سبحانه قضى عليهم‪ .‬أي‪ :‬حكم عليهم ُ‬
‫التوراة‪ ،‬وأخبرهم بما سيكون منهم من ملبسات استقبال منهج ال على ألسنة الرسل‪ ،‬أَيُنفذونه‬
‫وينصاعون له‪ ،‬أم يخرجون عنه ويفسدون في الرض؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذا كان رسولهم ـ عليه السلم ـ قد أخبرهم بما سيحدث منهم‪ ،‬وقد حدث منهم فعلً ما أخبرهم‬
‫به الرسول وهم مختارون‪ ،‬فكان عليهم أنْ يخجلوا من ربهم عز وجل‪ ،‬ول يتمادوا في تصادمهم‬
‫بمنهج ال وخروجهم عن تعاليمه‪ ،‬وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به‪ ،‬وأنْ يُطيعوا‬
‫أمره‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫سدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْنِ‪[ { ..‬السراء‪.]4 :‬‬
‫} لَ ُتفْ ِ‬
‫جاءتْ هذه العبارة هكذا مُؤكّدة باللم‪ ،‬وهذا يعني أن في الية قَسَما َدلّ عليه جوابه‪ ،‬فكأن الحق‬
‫سبحانه يقول‪ :‬ونفسي لتفسدن في الرض‪ ،‬لن القسَم ل يكون إل بال‪.‬‬
‫حكْما مُؤكّدا‪ ،‬ل يستطيع أحد الفِكَاك منه‪ ،‬ففي هذا‬
‫أو نقول‪ :‬إن المعنى‪ :‬ما ُدمْنا قد قضينا وحكمنا ُ‬
‫معنى القسَم‪ ،‬وتكون هذه العبارة جوابا لـ " قضينا "؛ لن القسَم يجيء للتأكيد‪ ،‬والتأكيد حاصل في‬
‫قوله تعالى‪:‬‬
‫} َو َقضَيْنَآ‪[ { ...‬السراء‪.]4 :‬‬
‫فما هو الفساد؟‬
‫الفساد‪ :‬أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتُخرجه عن صلحه‪ ،‬فكُلّ شيء في الكون خلقه ال تعالى‬
‫لغاية‪ ،‬فإذا تركتَه ليؤديَ غايته فقد أبقيته على صلحه‪ ،‬وإذا أخل ْلتَ به يفقد صلحه ومهمته‪،‬‬
‫والغاية التي خلقه ال من أجلها‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلقنا على هذه الرض خلق لنا مُقوّمات حياتنا في السماء‬
‫والرض والشمس والهواء‪ ..‬الخ وليس مقومات حياتنا فحسب‪ ،‬بل وأعدّ لنا في َكوْنه ما يُمكّن‬
‫النسان بعقله وطاقته أن يَزيدَ الصالح صلحا‪ ،‬فعلى القل إنْ لم تستطع أن تزيد الصالح صلحا‬
‫فأبْقِ الصالح على صلحه‪.‬‬
‫فمثلً‪ ،‬عندك بئر محفورة تخرج لك الماء‪ ،‬فإما أنْ تحتفِظَ بها على حالها فل تطمسها‪ ،‬وإما أنْ‬
‫تزيدَ في صلحها بأنْ تبنيَ حولها ما يحميها من زحف الرمال‪ ،‬أو تجعل فيها آلة رفع للماء‬
‫تضخّه في مواسير لتسهّل على الناس استعمال‪ ،‬وغير ذلك من َأوْجُه الصلح‪.‬‬
‫ض وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود‪.]61 :‬‬
‫ن الَ ْر ِ‬
‫ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول‪ُ {:‬هوَ أَنشََأكُمْ مّ َ‬
‫أي‪ :‬أنشأكم من الرض‪ ،‬وجعل لكم فيها مُقوّمات حياتكم‪ ،‬فإنْ أحببتَ أنْ تُثري حياتك فأع ِملْ‬
‫عقلك المخلوق ل ليفكر‪ ،‬والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة ل في الكون‪،‬‬
‫فأنت ل تأتي بشيء من عندك‪ ،‬فقط تُعمِل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة ل‪ ،‬وتتفاعل مع الرض‬
‫المخلوقة ل‪ ،‬فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يُثرِي حياتك‪ ،‬ويُوفّر لك الرفاهية والترقي‪.‬‬
‫فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملُوا عقولهم‪ ،‬وزادوا الصالح صلحا‪ ،‬وكم فيها من مَيْزات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفّرت علينا عناء رفع المياه إلى الدوار العليا‪ ،‬وقد استنبط هؤلء فكرة الصهاريج من ظواهر‬
‫الكون‪ ،‬حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان‪ ،‬فأخذوا هذه الفكرة‪ ،‬وأفلحوا‬
‫في عمل يخدم البشرية‪.‬‬

‫وكما يكون الفساد في الماديات كمَنْ أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوّثات‪ ،‬كذلك يكون في‬
‫المعنويات‪ ،‬فالمنهج اللهي الذي أنزله ال تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه‪ ،‬فكوْنُك ل تنفذ هذا‬
‫المنهج‪ ،‬أو تكتمه‪ ،‬أو تُحرّف فيه‪ ،‬فهذا كله إفساد لمنهج ال تعالى‪.‬‬
‫ويقول تعالى لبني إسرائيل‪:‬‬
‫سدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْنِ‪[ { ..‬السراء‪.]4 :‬‬
‫} لَ ُتفْ ِ‬
‫وهل أفسد بنو إسرائيل في الرض مرتين فقط؟‬
‫ن كانوا كذلك فقد خلهم ذم‪ ،‬والمر إذن هَيّن‪ ،‬لكنهم أفسدوا في الرض إفسادا كثيرا‬
‫وال إ ْ‬
‫متعددا‪ ،‬فلماذا قال تعالى‪ :‬مرتين؟‬
‫تحدّث العلماء كثيرا عن هاتين المرتين‪ ،‬وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا‪ ،‬وذهبوا إلى أنهما قبل‬
‫السلم‪ ،‬والمتأمل لسورة السراء يجدها قد ربطتهم بالسلم‪ ،‬فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ‬
‫حدثتْ منهم في حضْن السلم‪.‬‬
‫فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر السراء ذكر قصة بني إسرائيل‪ ،‬فدلّ ذلك على أن السلم‬
‫تعدّى إلى مناطق مُقدّساتهم‪ ،‬فأصبح بيت المقدس قِبْلة للمسلمين‪ ،‬ثم أُسْرِي برسول ال صلى ال‬
‫حوْزة السلم؛ لنه جاء مهيمنا على الديان السابقة‪ ،‬وجاء للناس‬
‫عليه وسلم إليه‪ ،‬وبذلك دخل في َ‬
‫كافة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كان من الوْلى أن يُفسّروا هاتين المرتين على أنهما في حضن السلم؛ لنهم أفسدوا كثيرا‬
‫خلَ للسلم في إفسادهم السابق؛ لن الحق سبحانه يقول‪:‬‬
‫قبل السلم‪ ،‬ول دَ ْ‬
‫ن وَلَ َتعْلُنّ عُُلوّا كَبِيرا { [السراء‪:‬‬
‫} َو َقضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ لَ ُتفْسِدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْ ِ‬
‫‪.]4‬‬
‫فإنْ كان الفساد ُمطْلقا‪ .‬أي‪ :‬قبل أن يأتي السلم فقد تعدّد فسادهم‪ ،‬وهل هناك أكثر من قولهم بعد‬
‫ج َعلْ‬
‫أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل‪ ،‬فقالوا لموسى ـ عليه السلم‪ {:‬ا ْ‬
‫لّنَآ إِلَـاها َكمَا َل ُهمْ آِلهَةٌ }[العراف‪.]138 :‬‬
‫هل هناك فساد أكثر من أنْ قتلوا النبياء الذين جعلهم ال مُثُلً تكوينية وأُسْوة سلوكية‪ ،‬وحرّفوا‬
‫كتاب ال؟‬
‫والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرّفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة‪،‬‬
‫فمن التوراة ما نسوه‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَنَسُواْ حَظّا ّممّا ُذكِرُواْ ِبهِ‪[} ..‬المائدة‪.]13 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س ْوهُ لم يتركوه على حاله‪ ،‬بل كتموا بعضه‪ ،‬والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله‪ ،‬بل‬
‫والذي لم ين َ‬
‫ضعِهِ‪[} ..‬المائدة‪.]13 :‬‬
‫حرّفوه‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ {:‬يحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَن ّموَا ِ‬
‫ولم يقف المر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف‪ ،‬بل تعدّى إلى أن أَتَوا بكلم من عند‬
‫أنفسهم‪ ،‬وقالوا هو من عند ال‪ ،‬قال تعالى‪َ {:‬فوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ُثمّ َيقُولُونَ هَـاذَا‬
‫مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ ِبهِ َثمَنا قَلِيلً‪[} ..‬البقرة‪.]79 :‬‬
‫فهل هناك إفساد في منهج ال أعظم من هذا الفساد؟‬
‫ومن العلماء مَنْ يرى أن الفساد الول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى‪ {:‬أََلمْ تَرَ‬
‫إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن َبعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَ ِبيّ ّل ُهمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَلِكا ّنقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ‬
‫َهلْ عَسَيْ ُتمْ إِن كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ َألّ ُتقَاتِلُواْ‪} ..‬‬

‫[البقرة‪.]246 :‬‬
‫ضوْه وحكموا به‪ ،‬ومع ذلك حينما جاء القتال تنصّلوا منه ولم يقاتلوا‪.‬‬
‫فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارت َ‬
‫ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قو َيتْ دولتهم‪ ،‬واتسعتْ رقعتها من الشمال إلى الجنوب‪،‬‬
‫فأغار عليهم بختنصّر وهزمهم‪ ،‬وفعل بهم ما فعل‪.‬‬
‫لوْلى أن نقول‪ :‬إنهما بعد السلم‪ ،‬وسوف‬
‫وهذه التفسيرات على أن الفساديْن سابقان للسلم‪ ،‬وا َ‬
‫نجد في هذا رَبْطا لقصة بني إسرائيل بسورة السراء‪.‬‬
‫كيف ذلك؟‬
‫قالوا‪ :‬لن السلم حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا‪ ،‬فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار‬
‫والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم‪ :‬لقد أظلّ زمان نبي يأتي فنتبعه‪ ،‬ونقتلكم به قتل عاد‬
‫وإرم‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنهم ينكرون عليك أن ال يشهد ومَنْ عنده‬
‫علم الكتاب‪ ،‬فمَنْ عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك‪ ،‬وأنك صادق‪ ،‬ويعرف علمتك‪ ،‬بدليل أن‬
‫الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ويقول أحدهم‪ :‬لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لبني‪ ،‬ومعرفتي لمحمد أشد‪ ،‬لنه قد يشك في نسبة‬
‫ولده إليه‪ ،‬ولكنه ل يشك في شخصية الرسول صلى ال عليه وسلم ِلمَا قرأه في كتبهم‪ ،‬وما يعلمه‬
‫من أوصافه‪ ،‬لنه صلى ال عليه وسلم موصوف في كتبهم‪ ،‬ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كانوا يستفتحون برسول ال على الذين كفروا‪ ،‬وكانوا مستشرفين لمجيئه‪ ،‬وعندهم مُقدّمات‬
‫لبعثته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ {:‬فََلمّا جَآ َءهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ‪[} ..‬البقرة‪.]89 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فلما كفروا به‪ ،‬ماذا كان موقفه صلى ال عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة؟‬
‫في المدينة أبرم رسول ال صلى ال عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها‪ ،‬ووفّى لهم‬
‫رسول ال ما وفّوا‪ ،‬فلما غدروا هم‪ ،‬واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم‪ ،‬جاس رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم خلل ديارهم‪ ،‬وقتل منهم مَنْ قَتل‪ ،‬وأجلهم عن المدينة إلى الشام وإلى‬
‫خيبر؛ وكان هذا بأمر من ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال تعالى‪ُ {:‬هوَ الّذِي َأخْرَجَ‬
‫لوّلِ ا ْلحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْ ُرجُواْ َوظَنّواْ أَ ّنهُمْ مّا ِنعَ ُتهُمْ‬
‫الّذِينَ َكفَرُواْ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مِن دِيَارِ ِه ْم َ‬
‫عبَ يُخْرِبُونَ بُيُو َتهُمْ بِأَيْدِي ِهمْ‬
‫حصُو ُنهُم مّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَ ْيثُ لَمْ َيحْتَسِبُو ْا َوقَ َذفَ فِي قُلُو ِبهِمُ الرّ ْ‬
‫ُ‬
‫وَأَيْدِي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياُأوْلِي الَ ْبصَارِ }[الحشر‪.]2 :‬‬
‫وهذا هو الفساد الول الذي حدث من يهود بني النضير‪ ،‬وبني قَيْنقاع‪ ،‬وبني قريظة‪ ،‬الذين خانوا‬
‫العهد مع رسول ال‪ ،‬بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا‪ ،‬ونصّ الية القادمة يُؤيّد ما‬
‫نذهب إليه من أن الفسادتين كانتا بعد السلم‪.‬‬

‫(‪)2017 /‬‬

‫ن وَعْدًا َم ْفعُولًا‬
‫خلَالَ الدّيَا ِر َوكَا َ‬
‫شدِيدٍ َفجَاسُوا ِ‬
‫فَإِذَا جَا َء وَعْدُ أُولَا ُهمَا َبعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ َ‬
‫(‪)5‬‬

‫معلوم أن (إذَا) ظرف لما يستقبل من الزمان‪ ،‬كما تقول‪ :‬إذا جاء فلن أكرمته‪ ،‬فهذا دليل على أن‬
‫أولى الفسادتين لم تحدث بعد‪ ،‬فل يستقيم القول بأن الفساد الول جاء في قصة طالوت وجالوت‪،‬‬
‫وأن الفساد الثاني جاء في قصة بختنصر‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَعْدُ }‪ .‬والوعد كذلك ل يكون بشيء مضى‪ ،‬وإنما بشيء مستقبل‪ .‬و { أُول ُهمَا } أي‪:‬‬
‫الفساد الول‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬بعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادا لّنَآ‪[ } ...‬السراء‪]5 :‬‬
‫وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الفسادتين كانتا في حضن السلم؛ لن كلمة { عِبَادا } ل‬
‫تطلق إل على المؤمنين‪ ،‬أما جالوت الذي قتله طالوت‪ ،‬وبختنصر فهما كافران‪.‬‬
‫وقد تحدّث العلماء في قوله تعالى‪ { :‬عِبَادا لّنَآ‪[ } ..‬السراء‪ ]5 :‬فمنهم من رأى أن العباد والعبيد‬
‫سواء‪ ،‬وأن قوله (عِبَادا) ُتقَال للمؤمن وللكافر‪ ،‬وأتوا بالدلة التي تؤيد رأيهم حَسْب زعمهم‪.‬‬
‫ومن أدلتهم قول الحق سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلم‪ {:‬وَإِذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ‬
‫مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأ ّميَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكَ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ‬
‫حقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي وَلَ أَعَْلمُ مَا فِي َنفْ ِ‬
‫لَيْسَ لِي بِ َ‬
‫شهِيدا مّا ُد ْمتُ‬
‫ا ْلغُيُوبِ * مَا قُ ْلتُ َل ُهمْ ِإلّ مَآ َأمَرْتَنِي ِبهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُ ْم َوكُنتُ عَلَ ْي ِهمْ َ‬
‫شهِيدٌ * إِن ُت َعذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُدكَ‬
‫شيْءٍ َ‬
‫فِيهِمْ فََلمّا َت َوفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ ال ّرقِيبَ عَلَ ْيهِ ْم وَأَنتَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫حكِيمُ }[المائدة‪]118-116 :‬‬
‫وَإِن َتغْفِرْ َلهُمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫والشاهر في قوله تعالى‪ {:‬إِن ُت َعذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُدكَ‪[} ..‬المائدة‪]118 :‬‬
‫فأطلق كلمة " عبادي " على الكافرين‪ ،‬وعلى هذا القول ل مانع يكون جالوت وبختنصر‪ ،‬وهما‬
‫كافران قد سُلّطا على بني إسرائيل‪.‬‬
‫ثم استدلوا بآية أخرى تحكي موقفا من مواقف يوم القيامة‪ ،‬يقول تعالى للشركاء الذين اتخذوهم من‬
‫دون ال‪َ {:‬أأَنتُمْ َأضْلَلْ ُتمْ عِبَادِي َه ُؤلَءِ‪[} ..‬الفرقان‪]17 :‬‬
‫فأطلق كلمة (عباد) على الكافرين أيضا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬قوله تعالى‪َ { :‬بعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادا لّنَآ‪[ } ...‬السراء‪]5 :‬‬
‫ليس من الضروري أن يكونوا مؤمنين‪ ،‬فقد يكونون من الكفار‪ ،‬وهنا نستطيع أن نقول‪ :‬إن الحق‬
‫سبحانه وتعالى يريد أن ينتقم منهم‪ ،‬ويُسلّط عليهم أمثالهم من الكفرة والظالمين‪ ،‬فإذا أراد سبحانه‬
‫أن ينتقم من الظالم سلّط عليه مَنْ هو أكثر منه ظلما‪ ،‬وأشدّ منه بطشا‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬وكَذاِلكَ‬
‫ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[النعام‪]129 :‬‬
‫وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الدلة ما يثبت أن كلمة عباد تُطلَق على المؤمنين وعلى‬
‫الكافرين‪ ،‬فسوف نأتي بما يدل على أنها ل تُطلَق إل على المؤمنين‪.‬‬
‫حمَـانِ الّذِينَ َيمْشُونَ عَلَىا الَ ْرضِ َهوْنا وَإِذَا خَاطَ َبهُمُ الجَاهِلُونَ‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬وَعِبَادُ الرّ ْ‬
‫جهَنّمَ‬
‫عذَابَ َ‬
‫سجّدا َوقِيَاما * وَالّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَا اصْ ِرفْ عَنّا َ‬
‫قَالُواْ سَلَما * وَالّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَ ّب ِهمْ ُ‬
‫إِنّ عَذَا َبهَا كَانَ غَرَاما * إِ ّنهَا سَآ َءتْ مُسْ َتقَرّا َو ُمقَاما * وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْ ِرفُو ْا وَلَمْ َيقْتُرُواْ َوكَانَ‬
‫بَيْنَ ذَِلكَ َقوَاما }‬

‫[الفرقان‪]67-63 :‬‬
‫إلى آخر ما ذكرت اليات من صفا المؤمنين الصادقين‪ ،‬فأطلق عليهم " عباد الرحمن "‪.‬‬
‫دليل آخر في قول الحق سبحانه في نقاشه لبليس‪ {:‬إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ عَلَ ْي ِهمْ سُ ْلطَانٌ‪[} ..‬الحجر‪:‬‬
‫‪]42‬‬
‫ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ‬
‫غوِيَنّهُمْ أَ ْ‬
‫ك لُ ْ‬
‫والمراد هنا المؤمنون‪ ..‬وقد قال إبليس‪ {:‬قَالَ فَ ِبعِزّ ِت َ‬
‫ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص‪]83-82 :‬‬
‫إذن‪ :‬هنا إشكال‪ ،‬حيث أتى ُكلٌ بأدلّته وما يُؤيّد قوله‪ ،‬وللخروج من هذا الشكال نقول‪ :‬كلمة " عباد‬
‫" و " عبيد " كلهما جمع ومفردهما واحد (عبد)‪ .‬فما الفرق بينهما؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لو نظرتَ إلى الكون كله مؤمنه وكافره لوجدتهم جميعا لهم اختيارات في أشياء‪ ،‬ومقهورين في‬
‫أشياء أخرى‪ ،‬فهم جميعا عبيد بهذا المعنى يستوي في القهر المؤمن والكافر‪ ،‬إذن‪ :‬كل الخَلْق عبيد‬
‫فيما ل اختيارَ لهم فيه‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك نستطيع أن نُقسّمهم إلى قْسمين‪ :‬عبيد يظلون عبيدا ل يدخلون في مظلة العباد‪ ،‬وعبيد‬
‫تسمو بهم أعمالهم وانصياعهم لمر ال فيدخلون في مظلة عباد ال‪ .‬كيف ذلك؟‬
‫لقد جعل ال تعالى لك في أفعالك منطقة اختيار‪ ،‬فجعلك قادرا على ال ِفعْل ومقابله‪ ،‬وخلقك صالحا‬
‫لليمان وصالحا للكفر‪ ،‬لكنه سبحانه وتعالى يأمرك باليمان تكليفا‪.‬‬
‫ففي منطقة الختيار هذه يتمايز العبيد والعباد‪ ،‬فالمؤمنون بال يخرجون عن اختيارهم إلى اختيار‬
‫ربهم‪ ،‬ويتنازلون عن مُرادهم إلى مُراد ربهم في المباحات‪ ،‬فتراهم يُنفّذون ما أمرهم ال به‪،‬‬
‫ويجعلون الختيار كالقهر‪ .‬ولسان حالهم يقول لربهم‪ :‬سمعا وطاعة‪.‬‬
‫وهؤلء هم العباد الذين سَلّموا جميع أمرهم ل في منطقة الختيار‪ ،‬فليس لهم إرادة أمام إرادة ال‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كلمة عباد تُطلق على مَنْ تنازل عن منطقة الختيار‪ ،‬وجعل نفسه مقهورا ل حتى في‬
‫المباحات‪.‬‬
‫أما الكفار الذين اختاروا مُرادهم وتركوا مُراد ال‪ ،‬واستعملوا اختيارهم‪ ،‬ونسوا اختيار ربهم‪ ،‬حيث‬
‫خَيّرَهم‪ :‬تُؤمن أو تكفر قال‪ :‬أكفر‪ ،‬تشرب الخمر أو ل تشرب قال‪ :‬أشرب‪ ،‬تسرق أو ل تسرق‪،‬‬
‫قال‪ :‬أسرق‪ .‬وهؤلء هم العبيد‪ ،‬ول يقال لهم " عباد " أبدا؛ لنهم ل يستحقون شرف هذه الكلمة‪.‬‬
‫حلّ ما أشكل في هذه المسألة ل ُبدّ لنا أن نعلم أن منطقة الختيار هذه ل تكون إل‬
‫ولكي نستكمل َ‬
‫في الدنيا في دار التكليف؛ لنها محل الختيار‪ ،‬وفيها نستطيع أن ُنمَيّز بين العباد الذين انصاعوا‬
‫لربهم وخرجوا عن مرادهم لمراده سبحانه‪ ،‬وبين العبيد الذين تمرّدوا واختاروا غير مراد ال عز‬
‫وجل في الختياريات‪ ،‬أما في القهريات فل يستطيعون الخروج عنها‪.‬‬
‫فإذا جاءت الخرة فل محلّ للختيار والتكليف‪ ،‬فالجميع مقهور ل تعالى‪ ،‬ول مجالَ فيها للتقسيم‬
‫السابق‪ ،‬بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته‪.‬‬

‫إذن‪ :‬نستطيع أن نقول‪ :‬إن الكل عباد في الخرة‪ ،‬وليس الكل عبادا في الدنيا‪ .‬وعلى هذا نستطيع‬
‫فهم معنى (عباد) في اليتين‪ {:‬إِن ُتعَذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُدكَ‪[} ..‬المائدة‪]118 :‬‬
‫وقوله‪ {:‬أَأَنتُمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َه ُؤلَءِ‪[} ..‬الفرقان‪]17 :‬‬
‫فسمّاهم الحق سبحانه عبادا؛ لنه لم َيعُدْ لهم اختيار يتمردون فيه‪ ،‬فاست َووْا مع المؤمنين في عدم‬
‫الختيار مع مرادات ال عز وجل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقول الحق سبحانه‪ } :‬فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ أُول ُهمَا َبعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادا لّنَآ‪[ { ..‬السراء‪]5 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ظلّ السلم‪ ،‬حيث نقضوا عهدهم مع رسول‬
‫المقصود بها الفساد الول الذي حدث من اليهود في ِ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والعباد هم رسول ال والذين آمنوا معه عندما جَاسُوا خلل ديارهم‪،‬‬
‫ن قتلوه‪ ،‬وسَ َبوْا مَنْ سَ َبوْه‪.‬‬
‫وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم مَ ْ‬
‫شدِيدٍ‪[ { ..‬السراء‪]5 :‬‬
‫وقوله‪ُ } :‬أوْلِي بَأْسٍ َ‬
‫أي‪ :‬قوة ومنَعة‪ ،‬وهذه كانت حال المؤمنين في المدينة‪ ،‬بعد أن أصبحت لهم دولة وشوكة يواجهون‬
‫بها أهل الباطل‪ ،‬وليس حال ضعفهم في مكة‪.‬‬
‫للَ الدّيَارِ‪[ { ..‬السراء‪]5 :‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ } :‬فجَاسُواْ خِ َ‬
‫جاسُوا من جاسَ أي‪ :‬بحث واستقصى المكان‪ ،‬وطلب مَنْ فيه‪ ،‬وهذا المعنى هو الذي يُسمّيه رجال‬
‫المن " تمشيط المكان "‪.‬‬
‫وهو اصطلح يعني ِدقّة البحث عن المجرمين في هذا المكان‪ ،‬وفيه تشبيه لتمشيط الشعر‪ ،‬حيث‬
‫يتخلل المشط جميع الشعر‪ ،‬وفي هذا ما يدل على ِدقّة البحث‪ ،‬فقد يتخلل المشط تخلّلً سطحيا‪ ،‬وقد‬
‫يتخلل بعمق حتى يصل إلى البشرة فيخرج ما لصق بها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬جاسُوا أي‪ :‬تتبعوهم تتبعا بحيث ل يخفي عليهم أحد منهم‪ ،‬وهذا ما حدث مع يهود المدينة‪:‬‬
‫بني قينقاع‪ ،‬وبني قريظة‪ ،‬وبني النضير‪ ،‬ويهود خيبر‪.‬‬
‫ونلحظ هنا أن القرآن آثر التعبير بقوله‪َ } :‬بعَثْنَا‪[ { ..‬السراء‪]5 :‬‬
‫والبعث يدل على الخير والرحمة‪ ،‬فرسول ال صلى ال عليه وسلم لم يكن في حال اعتداء‪ ،‬بل في‬
‫حالة دفاع عن السلم أمام مَنْ خانوا العهد ونقضوا الميثاق‪.‬‬
‫وكلمة‪ } :‬عَلَ ْيكُمْ { تفيد العلو والسيطرة‪.‬‬
‫ن وَعْدا ّم ْفعُولً { [السراء‪]5 :‬‬
‫وقوله‪َ } :‬وكَا َ‬
‫أي‪ :‬وَعْد صدق لبد أن يتحقق؛ لنه وعد من قادر على النفاذ‪ ،‬ول توجد قوة تحول بينه وبين‬
‫إنفاذ ما وعد به‪ ،‬وإياك أن تظن أنه كأي وَعْد يمكن أنْ َيفِي به صاحبه أو ل يفي به؛ لن النسان‬
‫إذا وعد وَعْدا‪ :‬سألقاك غدا مثلً‪.‬‬
‫فهذا الوعد يحتاج في تحقيقه أن يكون لك قدرة على بقاء طاقة النفاذ‪ ،‬لكن قد يطرأ عليك من‬
‫العوارض ما يحول بينك وبين إنفاذ ما وعدت به‪ ،‬إنما إذا كان الوعد ممّنْ يقدر على النفاذ‪ ،‬ول‬
‫تجري عليه مِثْل هذه العوارض‪ ،‬فوعْدُه مُتَحقّق النفاذ‪.‬‬
‫فإذا قال قائل‪ :‬الوعد ل تُقال إل في الخير‪ ،‬فكيف س َمىّ القرآن هذه الحداث‪َ } :‬بعَثْنَا عَلَ ْيكُمْ عِبَادا‬
‫شدِيدٍ‪.‬‬
‫لّنَآ ُأوْلِي بَأْسٍ َ‬

‫‪[ { .‬السراء‪]5 :‬‬


‫قالوا‪ :‬الوعيد يُطلَق على الشر‪ ،‬والوعد يُطلَق على الخير وعلى الشر‪ ،‬ذلك لن الشيء قد يكون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شرا في ظاهره‪ ،‬وهو خير في باطنه‪ ،‬وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده‪ ،‬إذا أراد الحق سبحانه‬
‫أنْ يُؤ ّدبَ هؤلء الذين انحرفوا عن منهجه‪ ،‬فقد نرى أن هذا شر في ظاهره‪ ،‬لكنه في الحقيقة خير‬
‫بالنسبة لهم‪ ،‬إنْ حاولوا هم الستفادة منه‪.‬‬
‫ونضرب لذلك مثلً بالولد الذي يعاقبه والده على إهماله أو تقصيره‪ ،‬فيقسو عليه حِرْصا على ما‬
‫حمُثم‬
‫يُصلحه‪ ،‬وصدق الشاعر حين قال‪َ :‬فقَسَا لِيزْ َدجِرُوا َومَنْ َيكُ حَازِما فَلْ َيقْسُ أَحْيَانا على مَنْ يَ ْر َ‬
‫يقول الحق سبحانه‪ } :‬ثُمّ َردَدْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْيهِمْ‪{ ...‬‬

‫(‪)2018 /‬‬

‫جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ َنفِيرًا (‪)6‬‬


‫ثُمّ َردَدْنَا َل ُكمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْيهِ ْم وََأمْ َددْنَاكُمْ بَِأ ْموَالٍ وَبَنِينَ َو َ‬

‫الخطاب في هذه الية مُوجّه لبني إسرائيل‪ ،‬والية تمثل نقطة تحوّل وانقلب للوضاع‪ ،‬فبعد أن‬
‫تحدثنا عنه من غلبة المسلمين‪ ،‬وأن ال سلّطهم لتأديب بني إسرائيل‪ ،‬نرى هنا أن هذا الوضع لم‬
‫يستمر؛ لن المسلمين تخّلوْا عن منهج ال الذي ارتفعوا به‪ ،‬وتَنصّلوا من َكوْنهم عبادا ل‪ ،‬فدارت‬
‫عليهم الدائرة‪ ،‬وتسلّط عليهم اليهود‪ ،‬وتبادلوا الدور معهم؛ لن اليهود أفاقوا لنفسهم بعد أن أدبهم‬
‫رسول ال والمسلمون في المدينة‪ ،‬فأخذوا ينظرون في حالهم وما وقعوا فيه من مخالفات‪.‬‬
‫ول ُبدّ أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج ال‪ ،‬أو على القل حدث من المسلمين انصراف‬
‫ت المور اليمانية في نفوس المسلمين‪ ،‬وانقسموا ُد َولً‪،‬‬
‫عن المنهج وتنكّب للطريق المستقيم‪ ،‬فانحّل ْ‬
‫صفَة عباد ال‪.‬‬
‫لكل منها جغرافيا‪ ،‬ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى السلم‪ ،‬فانحّلتْ عنهم ِ‬
‫فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج ال‪ ،‬وبعد أن استحقوا أن يكونوا عبادا ل بحق تراجعت كِفتهم‬
‫وتخّلوْا عن منهج ربهم‪ ،‬وتحاكموا إلى قوانين وضعية‪ ،‬فسلّط عليهم عدوهم ليؤدّبهم‪ ،‬فأصبحتْ‬
‫الغلبة لليهود؛ لذلك يقول تعالى‪ُ { :‬ثمّ رَ َددْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْي ِهمْ‪[ } ..‬السراء‪]6 :‬‬
‫و { ُثمّ } حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي‪ ،‬على خلف الفاء مثلً التي تفيد الترتيب مع‬
‫التعقيب‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪ُ {:‬ثمّ َأمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ * ُثمّ إِذَا شَآءَ أَنشَ َرهُ }[عبس‪]22-21 :‬‬
‫فلم َيقُل الحق سبحانه‪ :‬فرددنا‪ ،‬بل { ُثمّ رَ َددْنَا } ذلك لن بين الكَرّة الولى التي كانت للمسلمين في‬
‫عهد رسول ال‪ ،‬وبين هذه الكَرّة التي كانت لليهود وقتا طويلً‪.‬‬
‫فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون‪ ،‬منذ عصر الرسول إلى أن حدث وَعْد بلفور‪ ،‬الذي‬
‫أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين‪ ،‬وكانت الكَرّة لهم علينا في عام ‪ ،1967‬فناسب‬
‫العطف بـ " ثم " التي تفيد التراخي‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق سبحانه يقول‪ { :‬ثُمّ َردَدْنَا َلكُمُ ا ْلكَ ّرةَ عَلَ ْيهِمْ‪[ } ..‬السراء‪]6 :‬‬
‫أي‪ :‬جعلنا لبني إسرائيل الغَلَبَة والقوة والنصر على المسلمين وسلّطناهم عليهم؛ لنهم تخلوْا عن‬
‫منهج ربهم‪ ،‬وتنازلوا عن الشروط التي جعلتْهم عبادا ل‪.‬‬
‫و(الكَرّة) أي‪ :‬الغلبة من الكَ ّر والفَرّ الذي يقوم به الجندي في القتال‪ ،‬حيث ُيقِدم مرة‪ ،‬ويتراجع‬
‫أخرى‪.‬‬
‫جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ َنفِيرا } [السراء‪]6 :‬‬
‫ن وَ َ‬
‫ل وَبَنِي َ‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وََأمْدَدْنَاكُم بَِأ ْموَا ٍ‬
‫وفعلً أمدّهم ال بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله‪ ،‬وأمدّهم بالبنين الذين‬
‫يُعلّمونهم ويُثقّفونهم على أعلى المستويات‪ ،‬وفي كل المجالت‪.‬‬
‫ولكن هذا كله ل يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كَرّة على المسلمين‪ ،‬فهم في ذاتهم ضعفاء رغم‬
‫ما في أيديهم من المال والبنين‪ ،‬ول ُبدّ لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من‬
‫الدول الخرى‪ ،‬وهذا واضح ل يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي‬
‫جعَلْنَاكُمْ َأكْثَرَ َنفِيرا } [السراء‪]6 :‬‬
‫المزعوم في فلسطين‪ ،‬وهذا معنى قوله تعالى‪ { :‬وَ َ‬
‫فالنفير مَنْ يستنفره النسان لينصره‪ ،‬والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ومازالت الكَرّة لهم علينا‪ ،‬وسوف تظل إلى أنْ نعود كما كُنّا‪ ،‬عبادا ل ُمسْتقيمين على منهجه‪،‬‬
‫حسَنْتُمْ َأحْسَنْ ُتمْ‬
‫مُحكّمين لكتابه‪ ،‬وهذا وَعْد سيتحقّق إنْ شاء ال‪ ،‬كما ذكرتْ الية التالية‪ { :‬إِنْ أَ ْ‬
‫سكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فََلهَا‪.} ...‬‬
‫لَنْفُ ِ‬

‫(‪)2019 /‬‬

‫جدَ‬
‫سكُ ْم وَإِنْ َأسَأْتُمْ فََلهَا فَِإذَا جَا َء وَعْدُ الَْآخِ َرةِ لِيَسُوءُوا وُجُو َهكُمْ وَلِيَدْخُلُوا ا ْل َمسْ ِ‬
‫إِنْ َأحْسَنْتُمْ أَحْسَنْ ُتمْ لِأَ ْنفُ ِ‬
‫عَلوْا تَتْبِيرًا (‪)7‬‬
‫خلُوهُ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَلِيُتَبّرُوا مَا َ‬
‫َكمَا دَ َ‬

‫ومازال الخطاب مُوجّها إلى بني إسرائيل‪ ،‬هاكم سُنّة من سنن ال الكونية التي يستوي أمامها‬
‫المؤمن والكافر‪ ،‬وهي أن مَنْ أحسن فله إحسانه‪ ،‬ومَنْ أساء فعليه إساءته‪.‬‬
‫فها هم اليهود لهم الغَلبة بما حدث منهم من شبه استقامة على المنهج‪ ،‬أو على القل بمقدار ما‬
‫تراجع المسلمون عن منهج ال؛ لن هذه سُنّة كونية‪ ،‬مَنِ استحق الغلبة فهي له؛ لن الحق سبحانه‬
‫وتعالى مُنزّه عن الظلم‪ ،‬حتى مع أعداء دينه ومنهجه‪.‬‬
‫والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬إِنْ َأحْسَنْتُمْ‪[ } ..‬السراء‪]7 :‬‬
‫عكَ من قضية الحسان هذه‪.‬‬
‫شكّ أنْ يُحسِنوا‪ ،‬وكأن أحدهم يقول للخر‪ :‬دَ ْ‬
‫فيه إشارة إلى أنهم في َ‬
‫فإذا كانت الكَرّة الن لليهود‪ ،‬فهل ستظل لهم على طول الطريق؟ ل‪ ..‬لن تظل لهم الغَلبة‪ ،‬ولن‬
‫تدوم لهم الكرّة على المسلمين‪ ،‬بدليل قول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ‪} ..‬‬
‫[السراء‪]7 :‬‬
‫أي‪ :‬إذا جاء وقت الفسادة الثانية لهم‪ ،‬وقد سبق أنْ قال الحق سبحانه عنهم‪ {:‬لَ ُتفْسِدُنّ فِي الَ ْرضِ‬
‫مَرّتَيْنِ‪[} ..‬السراء‪]4 :‬‬
‫وبينّا الفساد الول حينما نقضوا عهدهم مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في المدينة‪.‬‬
‫وفي الية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا‪ ،‬وستكون لنا يقظة وصَحْوة نعود بها إلى منهج‬
‫ال وإلى طريقه المستقيم‪ ،‬وعندها ستكون لنا الغَلبة والقوة‪ ،‬وستعود لنا الكَرّة على اليهود‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬لِيَسُوءُو ْا وُجُو َهكُمْ‪[ } ..‬السراء‪]7 :‬‬
‫أي‪ :‬نُلحق بهم من الذى ما يظهر أثره على وجوههم؛ لن الوجه هو السّمة المعبرة عن نوازع‬
‫النفس النسانية‪ ،‬وعليه تبدو النفعالت والمشاعر‪ ،‬وهو أشرف ما في المرء‪ ،‬وإساءته أبلغ أنواع‬
‫الساءة‪.‬‬
‫جدَ َكمَا َدخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّرةٍ‪[ } ..‬السراء‪ ]7 :‬أي‪ :‬أن المسلمين سيدخلون‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَلِيَدْخُلُواْ ا ْلمَسْ ِ‬
‫المسجد القصى وسينقذونه من أيدي اليهود‪.‬‬
‫{ َكمَا دَخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّرةٍ‪[ } ..‬السراء‪]7 :‬‬
‫المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخولَ المسلمين للمسجد القصى أول مرة كان في عهد الخليفة‬
‫عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ ،‬ولم يكن القصى وقتها في أيدي اليهود‪ ،‬بل كان في أيدي‬
‫الرومان المسيحيين‪.‬‬
‫فدخوله الول لم يكُنْ إساءةً لليهود‪ ،‬وإنما كان إساءة للمسيحيين‪ ،‬لكن هذه المرة سيكون دخول‬
‫القصى‪ ،‬وهو في حوزة اليهود‪ ،‬وسيكون من ضمن الساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد‬
‫القصى‪ ،‬ونُطهّره من رِجْسهم‪.‬‬
‫ونلحظ كذلك في قوله تعالى‪َ { :‬كمَا َدخَلُوهُ َأوّلَ مَ ّرةٍ‪[ } ..‬السراء‪ ]7 :‬أن القرآن لم ي ُقلْ ذلك إل إذا‬
‫كان بين الدخولين خروج‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فخروجنا الن من المسجد القصى تصديق لِنُبوءَة القرآن‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يريد أنْ‬
‫يلفتنا‪ :‬إنْ أرد ُتمْ أنْ تدخلوا المسجد القصى مرة أخرى‪ ،‬فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ } :‬فَإِذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ‪[ { ..‬السراء‪]7 :‬‬


‫كلمة الخرة تدلّ على أنها المرة التي لن تتكرر‪ ،‬ولكن يكون لليهود غَلَبة بعدها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَلِيُتَبّرُواْ مَا عََلوْاْ تَتْبِيرا‪[ { ..‬السراء‪]7 :‬‬
‫يتبروا‪ :‬أي‪ :‬يُهلكوا ويُدمّروا‪ ،‬ويُخرّبوا ما أقامه اليهود وما ب َن ْوهُ وشيّدوه من مظاهر الحضارة التي‬
‫نشاهدها الن عندهم‪.‬‬
‫لكن نلحظ أن القرآن لم ي ُقلْ‪ :‬ما علوتُم‪ ،‬إنما قال } مَا عََلوْاْ { ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه‬
‫ليس بذاتهم‪ ،‬وإنما بمساعدة من وراءهم من أتباعهم وأنصارهم‪ ،‬فاليهود بذاتهم ضعفاء‪ ،‬ل تقوم‬
‫لهم قائمة‪ ،‬وهذا واضح في َقوْل الحق سبحانه عنهم‪ {:‬ضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ُثقِفُواْ ِإلّ ِبحَ ْبلٍ‬
‫مّنَ اللّ ِه َوحَ ْبلٍ مّنَ النّاسِ‪[} ..‬آل عمران‪]112 :‬‬
‫فهم أذلء أينما وُجدوا‪ ،‬ليس لهم ذاتية إل بعهد يعيشون في ظِلّه‪ ،‬كما كانوا في عهد رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم في المدينة‪ ،‬أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويُعاونونهم‪.‬‬
‫واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهُويّة ل تذوب في غيرهم من المم‪ ،‬ول ينخرطون في البلد‬
‫التي يعيشون فيها؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى " حارة اليهود " ‪ ،‬ولم يكن‬
‫طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما‪[} ..‬العراف‪:‬‬
‫لهم م ْيلٌ للبناء والتشييد؛ لنهم كما قال تعالى عنهم‪َ {:‬وقَ ّ‬
‫‪]168‬‬
‫كل جماعة منهم في أمة تعيش عيشة انعزالية‪ ،‬أما الن‪ ،‬وبعد أنْ أصبح لهم وطن قومي في‬
‫فلسطين على حَدّ زعمهم‪ ،‬فنراهم يميلون للبناء والتعمير والتشييد‪.‬‬
‫ونحن الن ننتظر وَعْد ال سبحانه‪ ،‬ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا‪ ،‬ونعود إلى ساحة ربنا‪،‬‬
‫وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد القصى‪ ،‬وتكون لنا الكرّة الخيرة عليهم‪ ،‬سيتحقق‬
‫لنا هذا عندما ندخل معهم معركة على أسس إسلمية وإيمانية‪ ،‬ل على عروبة وعصبية سياسية‪،‬‬
‫صفَة العباد‪ ،‬ونكون أَهْلً لِ ُنصْرة ال تعالى‪:‬‬
‫لتعود لنا ِ‬
‫إذن‪ :‬طالما أن الحق سبحانه قال‪ } :‬فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الخِ َرةِ‪[ { ..‬السراء‪]7 :‬‬
‫شكّ فيه‪ ،‬بدليل أن هذه العبارة جاءت بنصّها في آخر السورة في قوله تعالى‪{:‬‬
‫فهو وَعْد آتٍ ل َ‬
‫سكُنُو ْا الَ ْرضَ فَإِذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا }[السراء‪]104 :‬‬
‫َوقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫والمتأمل لهذه الية يجد بها بشارة بتحقّق وَعْد ال‪ ،‬ويجد أن ما يحدث الن من تجميع لليهود في‬
‫أرض فلسطين آية مُُرادة ل تعالى‪.‬‬
‫ومعنى الية أننا قُلْنا لبني إسرائيل من بعد موسى‪:‬‬
‫اسكنوا الرض وإذا قال لك واحد‪ :‬اسكُنْ فل بُدّ أن يُحدد لك مكانا من الرض تسكن فيه فيقول‬
‫لك‪ :‬اسكن بورسعيد‪ ..‬اسكن القاهرة‪ ..‬اسكن الردن‪.‬‬
‫أما أن يقول لك‪ :‬اسكن الرض!! فمعنى هذا أن ال تعالى أراد لهم أنْ يظلّوا مبعثرين في جميع‬
‫النحاء‪ ،‬مُفرّقين في كل البلد‪ ،‬كما قال عنهم‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما‪[} ..‬العراف‪]168 :‬‬
‫{ َوقَ ّ‬
‫فتجدهم منعزلين عن الناس منبوذين بينهم‪ ،‬كثيرا ما تُثار بسببهم المشاكل‪ ،‬فيشكو الناس منهم‬
‫ويقتلونهم‪ ،‬وقد قال تعالى‪ {:‬وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ ِإلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَن يَسُو ُمهُمْ سُوءَ‬
‫ا ْلعَذَابِ }[العراف‪]167 :‬‬
‫وهكذا سيظل اليهود خميرة عكننة ونكَدٍ بين سكان الرض إلى يوم القيامة‪ ،‬وهذه الخميرة هي في‬
‫نفس الوقت عنصر إثارة وإهاجة لليمان والخير؛ لن السلم ل يلتفت إليه أهله إل حين ُيهَاج‬
‫السلم‪ ،‬فساعة أنْ ُيهَاجَ تتحرك النزعة اليمانية وتتنبّه في الناس‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فوجود اليهود كعنصر إثارة له حكمة‪ ،‬وهي إثارة الحيوية اليمانية في النفوس‪ ،‬فلو لم تُثَر‬
‫الحيوية اليمانية لَبهتَ السلم‪.‬‬
‫وهذه هي رسالة الكفر ورسالة الباطل‪ ،‬فلوجودهما حكمة؛ لن الكفر الذي يشقي الناس به يُلفِت‬
‫الناس إلى اليمان‪ ،‬فل يروْنَ راحة لهم إل في اليمان بال‪ ،‬ولو لم يكُنْ الكفر الذي يؤذي الناس‬
‫ويُقلق حياتهم ما التفتوا إلى اليمان‪.‬‬
‫وكذلك الباطل في الكون بعض الناس ويُزعجهم‪ ،‬فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه‪.‬‬
‫حوْا إليهم‬
‫وبعد أن أسكنهم ال الرض وبعثرهم فيها‪ ،‬أهاج قلوب أتباعهم من جنود الباطل‪ ،‬فأو َ‬
‫بفكرة الوطن القومي‪ ،‬وزيّنُوا لهم أولى خطوات نهايتهم‪ ،‬فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا‬
‫منها وطنا يتجمعون فيه من شتى البلد‪.‬‬
‫وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمّع اليهود بها نكاية في السلم والمسلمين‪ ،‬ولكن‬
‫الحقيقة غير هذا‪ ،‬فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة اليمانية من جنود‬
‫موصوفين بأنهم‪ {:‬عِبَادا لّنَآ‪[} ..‬السراء‪]5 :‬‬
‫يلفتنا إلى أن هذه الضربة ل تكون وهم مُفرّقون مُبعْثرون في كل أنحاء العالم‪ ،‬فلن نحارب في‬
‫العالم كله‪ ،‬ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي‪ ،‬فكيف لنا أن نتتبعهم وهم‬
‫مبعثرون‪ ،‬في كل بلد شِرْذمة منهم؟‬
‫إذن‪ :‬ففكرة التجمّع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيّدتْها الدول الكبرى المساندة لليهود‬
‫والمعادية للسلم‪ ،‬هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية السلم‪ ،‬وتُسهّل علينا تتبعهم وتُمكّننا‬
‫من القضاء عليهم؛ لذلك يقول تعالى‪ {:‬فَإِذَا جَآ َء وَعْ ُد الخِ َرةِ جِئْنَا ِب ُكمْ َلفِيفا }[السراء‪]104 :‬‬
‫أي‪ :‬أتينا بكم جميعا‪ ،‬نض ّم بعضكم إلى بعض‪ ،‬فهذه إذن بُشرى لنا معشر المسلمين بأن الكَرّة‬
‫ستعود لنا‪ ،‬وأن الغلبة ستكون في النهاية للسلم والمسلمين‪ ،‬وليس بيننا وبين هذا الوعد إل أن‬
‫نعود إلى ال‪ ،‬ونتجه إليه كما قال سبحانه‪ {:‬فََلوْل إِذْ جَآءَ ُهمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُواْ }[النعام‪]43 :‬‬
‫والمراد بقوله هنا‪ } :‬وَعْدُ الخِ َرةِ‪[ { ..‬السراء‪]7 :‬‬
‫هو الوعد الذي قال ال عنه‪ } :‬فَإِذَا جَآ َء وَعْ ُد الخِ َرةِ لِيَسُوءُو ْا وُجُو َهكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ا ْل َمسْجِدَ َكمَا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َدخَلُوهُ َأوّلَ مَ ّرةٍ‪[ { ..‬السراء‪]7 :‬‬
‫حصِيرا‬
‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫جعَلْنَا َ‬
‫عدْنَا وَ َ‬
‫ح َمكُ ْم وَإِنْ عُدتّمْ ُ‬
‫عسَىا رَ ّبكُمْ أَن يَ ْر َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬‬
‫{‪.‬‬

‫(‪)2020 /‬‬

‫حصِيرًا (‪)8‬‬
‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫جعَلْنَا َ‬
‫عدْنَا وَ َ‬
‫عدْتُمْ ُ‬
‫ح َمكُ ْم وَإِنْ ُ‬
‫عَسَى رَ ّبكُمْ أَنْ يَ ْر َ‬

‫و(عَسَى) حَرْف يدلّ على الرجاء‪ ،‬وكأن في الية إشارةً إلى أنهم سيظلون في مذلّة ومَسْكنة‪ ،‬ولن‬
‫عهْد منه‪ ،‬وحبل من الناس الذين يُعاهدونهم على‬
‫ظلّ حبل من ال و َ‬
‫ترتفع لهم رأس إل في ِ‬
‫الّنصْرة والتأييد والحماية‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬رَ ّبكُمْ‪[ } ..‬السراء‪]8 :‬‬
‫انظر فيه إلى العظمة اللهية‪ ،‬ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين‬
‫المعاندين لرسوله‪ ،‬وهو آخر رسول يأتي من السماء‪ ،‬ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله‪ { :‬رَ ّب ُكمْ‪} ..‬‬
‫[السراء‪]8 :‬‬
‫لن الربّ هو المتولّي للتربية والمتكفّل بضمان مُقومات الحياة‪ ،‬ل يضنّ بها حتى وإنْ كان العبد‬
‫كافرا‪ ،‬فالكلّ أمام عطاء الربوبية سواء‪ :‬المؤمن والكافر‪ ،‬والطائع والعاصي‪.‬‬
‫الجميع يتمتع بِنعَم ال‪ :‬الشمس والهواء والطعام والشراب‪ ،‬فهو سبحانه ل يزال ربهم مع كل ما‬
‫حدث منهم‪.‬‬
‫ح َم ُكمْ‪[ } ..‬السراء‪]8 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬أَن يَرْ َ‬
‫والرحمة تكون للنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة‪ ،‬واليهود لن تكون لهم دولة‪ ،‬ولن‬
‫حضْن الرحمة اليمانية السلمية التي تُعطي لهم فرصة التعايش‬
‫يكون لهم كيان‪ ،‬بل يعيشون في ِ‬
‫مع السلم معايشة‪ ،‬كالتي كانت لهم في مدينة رسول ال‪ ،‬يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم‪.‬‬
‫ن يقترضَ ل‬
‫وقد وصلتْ هذه المعايشة لدرجة أن النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا أراد أ ْ‬
‫ن نعيهَا‪ ،‬وهي أن المسلم قد‬
‫يقترض من مسلم‪ ،‬بل كان يقترض من اليهود‪ ،‬وفي هذا حكمة يجب أ ْ‬
‫يستحي أن يطالب رسول ال إذا نسى مثلً‪ ،‬أما اليهودي فسوف يُلِحّ في طلب حقّه وإذا نسى‬
‫رسول ال سَيُذكّره‪.‬‬
‫لذلك كان اليهود كثيرا ما يجادلون رسول ال صلى ال عليه وسلم ويُغالطونه مِرَارا‪ ،‬وقد حدث‬
‫أن وفّى رسول ال لحدهم دَيْنه‪ ،‬لكنه أنكره وأتى يطالب به من جديد‪ ،‬وأخذ يراجع رسول ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويغالطه وينكر ويقول‪ :‬ا ْبغِني شاهدا‪.‬‬
‫ولم يكن لرسول ال شاهد وقت السداد‪ ،‬وهكذا تأزّم الموقف في حضور أحد الصحابة‪ ،‬واسمه‬
‫خزيمة‪ ،‬ف َهبّ خزيمة قائلً‪ :‬أنا يا رسول ال كنت شاهدا‪ ،‬وقد أخذ هذا اليهودي دَيْنه‪ ،‬فسكت‬
‫اليهودي ولم يرد ولم يجادل‪ ،‬فَدل ذلك على كذبه‪ .‬ويكاد المريب أن يقول‪ :‬خذوني‪.‬‬
‫لكن رسول ال صلى ال عليه وسلم عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال‪ :‬يا خزيمة‬
‫ما حملك على هذا القول‪ ،‬ولم يكن أحد معنا‪ ،‬وأنا أقضي لليهودي دَيْنه؟ فضحك خزيمة وقال‪ :‬يا‬
‫رسول ال أَأُص ّدقُك في خبر السماء‪ ،‬وأُكذّبك في عِدّة دراهم؟‬
‫حسْبه "‪.‬‬
‫فَسُرّ رسول ال من اجتهاد الرجل‪ ،‬وقال‪ " :‬مَنْ شهد له خزيمة ف َ‬
‫عدْنَا‪[ } ..‬السراء‪]8 :‬‬
‫ثم يُهدّد الحق سبحانه بني إسرائيل‪ ،‬فيقول‪ { :‬وَإِنْ عُدتّمْ ُ‬
‫عدْنا‪ ،‬وهذا جزاء الدنيا‪ ،‬وهو ل ينجيكم من جزاء الخرة‪ ،‬فهذه مسألة وتلك‬
‫إنْ عُدتّم للفساد‪ُ ،‬‬
‫أخرى حتى ل يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يُبرّئهم من عذاب الخرة‪.‬‬

‫حضْن السلم‪ ،‬وإلّ لَسْتوى‬


‫فالعقوبة على الذنب التي تُبرّئ المذنب من عذاب الخرة ما كان في ِ‬
‫مَنْ أقيم عليه الحدّ مع مَنْ لم يُقمْ عليه الحد‪.‬‬
‫ط َعتْ يده‪ ،‬وسرق آخر ولم تُقطع يده‪ ،‬فلو استَووْا في عقوبة الخرة‪ ،‬فقد زاد‬
‫فلو سرق إنسان وقُ ِ‬
‫ط َعتْ يده‪ .‬وعاش بِذلّتها طوال عمره مع مَنْ‬
‫أحدهما عن الخر في العقوبة‪ ،‬وكيف يستوي الذي قُ ِ‬
‫أفلت من العقوبة؟‬
‫هذا إنْ كان المذنب مؤمنا‪.‬‬
‫أما إذا كان المذنب غير مؤمن فالصل الذي بنينا عليه هذا الحكم ضائع ل وجودَ له‪ ،‬وعقوبة‬
‫جهَنّمَ ِل ْلكَافِرِينَ‬
‫جعَلْنَا َ‬
‫الدنيا هنا ل تُعفي صاحبها من عقوبة الخرة؛ لذلك يقول تعالى بعدها‪ } :‬وَ َ‬
‫حصِيرا { [السراء‪]8 :‬‬
‫َ‬
‫جعَلْنَا { ِفعْل يفيد التحويل‪ ،‬كأن تقول‪ :‬جعلت العجين خبزا‪ ،‬وجعلت القطن ثوبا‪ ،‬أي‪ :‬صيّرْتُه‬
‫} َ‬
‫وحوّلْتُه‪ .‬فماذا كانت جهنم أولً فيُحوّلها الحق سبحانه حصيرا؟‬
‫جعَلْنَا { في هذه الية ل تفيد التحويل‪ ،‬إنما هي بمعنى خََلقْنا‪ ،‬أي‪ :‬خلقناها هكذا‪ ،‬كما‬
‫قوله تعالى‪َ } :‬‬
‫نقول‪ :‬سبحان الذي جعل اللبن أبيض‪ ،‬فاللبن لم يكن له لون آخر فحوّله ال تعالى إلى البياض‪ ،‬بل‬
‫خلقه هكذا بداية‪.‬‬
‫حصِيرا‪[ { ..‬السراء‪]8 :‬‬
‫ومعنى‪َ } :‬‬
‫سمُر‪ ،‬والن يصنعونه من خيوط‬
‫الحصير فراش معروف يُصنع من القَشّ أو من نبات يُسمى ال ّ‬
‫حصْر‪ ،‬وهو التضييق في المكان‬
‫سمّي حصيرا‪ ،‬لن كلمة حصير مأخوذة من ال َ‬
‫البلستيك‪ ،‬و ُ‬
‫للمكين‪ ،‬وفي صناعة الحصير يضمّون العواد بعضها إلى بعض إلى أنْ تتماسكَ‪ ،‬ول توجد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مسافة بين العود والخر‪.‬‬
‫لكن لماذا نفرش الحصير؟ نفرش الحصير؛ لنه يحبس عَنّا القذَر والوساخ‪ ،‬فل تصيب ثيابنا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الحصر معناه المنع والحبس والتضييق‪.‬‬
‫شهُرُ‬
‫خ الَ ْ‬
‫والمتتبع لمادة (حصر) في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬فَإِذَا انسَلَ َ‬
‫حصُرُوهُمْ‪[} ..‬التوبة‪]5 :‬‬
‫الْحُ ُرمُ فَاقْتُلُواْ ا ْلمُشْ ِركِينَ حَ ْيثُ َوجَدّتمُوهُ ْم َوخُذُوهُ ْم وَا ْ‬
‫أي‪ :‬ضَيّقوا عليهم‪.‬‬
‫حصِرْ ُتمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ‪[} ..‬البقرة‪ ]196 :‬أي‪ :‬حُبِسْتم‬
‫وقال تعالى في فريضة الحج‪ {:‬فَإِنْ أُ ْ‬
‫ومَنعْتم من أداء الفريضة‪.‬‬
‫حصِيرا { [السراء‪]8 :‬‬
‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫جعَلْنَا َ‬
‫إذن‪ :‬فقوله تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫أي‪ :‬تحبسهم فيها وتحصرهم‪ ،‬وتمنعهم الخروج منها‪ ،‬فهي لهم سجن ل يستطيعون الفرار منه؛‬
‫لنها تحيط بهم من كل ناحية‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬إِنّا أَعْ َتدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارا َأحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا‪} ..‬‬
‫[الكهف‪]29 :‬‬
‫فل يستطيعون الخروج‪ ،‬فإنْ حاولوا الخروج ُردّوا إليها‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬كُّلمَآ أَرَادُواْ أَن َيخْرُجُواُ‬
‫مِ ْنهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا‪[} ..‬السجدة‪]20 :‬‬
‫حصِيرا { [السراء‪]8 :‬‬
‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ َ‬
‫جعَلْنَا َ‬
‫وفي قوله تعالى‪َ } :‬و َ‬
‫إشارة إلى أنهم كانوا إذا أجرموا في الدنيا يحتمُون في أنصارهم وأتباعهم من القوياء‪ ،‬ويدخلون‬
‫في حضانة أهل الباطل‪ ،‬أما في الخرة فلن يجدوا ناصرا أو مدافعا‪.‬‬
‫يقول تعالى‪ {:‬مَا َلكُ ْم لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َيوْمَ مُسْتَسِْلمُونَ }‬

‫[الصافات‪]26-25 :‬‬
‫جعْله آيةً يمكن إقامة الدليل‬
‫وبعد أن تكلّم الحق سبحانه عن السراء بالرسول الخاتم الرحمة‪ ،‬و َ‬
‫عليها‪ ،‬حيث خرق له الناموس في أمور يعلمها قومه‪ ،‬فإذا جاءت آية المعراج وخرَق له الناموس‬
‫فيها ل يعلمه القوم كان أَدْعى إلى تصديقه‪.‬‬
‫ثم أوضح الحق سبحانه أن عبودية محمد صلى ال عليه وسلم لربه هي التي أعطتْه هذه المنزلة‪،‬‬
‫وكذلك كان نوح ـ عليه السلم ـ عبدا شكورا‪ ،‬فهناك فَرْق بين عبودية الخَلْق للخالق‪ ،‬وعبودية‬
‫خلْق مذمومة‪ ،‬حيث يأخذ السيد خيْر عبده‪ ،‬أما العبودية ل فالعبد يأخذ‬
‫الخَلْق للخَلْق؛ لن العبودية لل َ‬
‫خَيْر سيده‪.‬‬
‫ثم تحدّث الحق سبحانه عن بني إسرائيل‪ ،‬وما وقعوا فيه من إفساد في الرض‪ ،‬فأعطانا بذلك‬
‫جوْر‪.‬‬
‫نماذج للعمال لمن أحسن ولمن أساء‪ ،‬وكُلّ له عمله دون ظُلْم أو َ‬
‫لذلك ينقلنا السياق القرآني إلى بيان المنهج اللهي المنزّل من السماء ليوضح عبودية النسان‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لربه‪ ،‬وكيف يكون عبدا مُخْلِصا ل تعالى‪ ،‬فيقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ َيِهْدِي لِلّتِي ِهيَ‬
‫َأ ْقوَ ُم وَيُبَشّرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2021 /‬‬

‫إِنّ َهذَا ا ْلقُرْآَنَ َيهْدِي ِللّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ وَيُبَشّرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َل ُهمْ أَجْرًا كَبِيرًا (‬
‫‪)9‬‬

‫فمَنْ كان يريد الُسْوة الطيبة في عبودية الرسول لربه‪ ،‬هذه العبودية التي جعلتْه يسري به إلى‬
‫بيت المقدس‪ ،‬ثم يصعد به إلى السماء‪ ،‬ومَنْ كان يريد أن يكون مثل نوح في عبوديته لربه فأكرم‬
‫ذريته من أجله‪ ،‬فعليه أنْ يسيرَ على دَرْبهم‪ ،‬وأنْ يقتديَ بهم في عبوديتهم ل تعالى‪ ،‬وليحذر أن‬
‫يكون مثل اليهود الذين أفسدوا في الرض مرتين‪.‬‬
‫والذي يرسم لنا الطريق ويُوضّح لنا الحق من الباطل هو القرآن الكريم‪ { :‬إِنّ هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ َيِ ْهدِي‬
‫لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ‪[ } ..‬السراء‪]9 :‬‬
‫قول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬إِنّ هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ‪[ } ..‬السراء‪]9 :‬‬
‫هل عند نزول هذه الية كان القرآن كله قد نزل‪ ،‬ليقول‪ :‬إن هذا القرآن؟‬
‫نقول‪ :‬لم يكن القرآن كله قد نزل‪ ،‬ولكن كل آية في القرآن تُسمّى قرآنا‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬فَِإذَا‬
‫قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآ َنهُ }[القيامة‪]18 :‬‬
‫فليس المراد القرآن كله‪ ،‬بل الية من القرآن قرآن‪ .‬ثم لما اكتمل نزول القرآن‪ ،‬واكتملتْ كل‬
‫المسائل التي تضمن لنا استقامة الحياة‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬الْ َيوْمَ َأ ْكمَ ْلتُ َلكُمْ دِي َن ُك ْم وَأَ ْت َممْتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي‬
‫وَ َرضِيتُ َلكُ ُم الِسْلمَ دِينا‪[} ..‬المائدة‪]3 :‬‬
‫فإن استشرف مُسْتشرف أنْ يستزيد على كتاب ال‪ ،‬أو يأتي بجديد فليعلم أن منهج ال مُنزّه عن‬
‫النقص‪ ،‬وفي غِنىً عن زيادتك‪ ،‬وما عليك إل أن تبحث في كتاب ال‪ ،‬وسوف تجد فيه ما تصبو‬
‫إليه من الخير‪.‬‬
‫قوله‪َ { :‬يِ ْهدِي‪[ } ..‬السراء‪]9 :‬‬
‫الهداية هي الطريق الموصّل للغاية من أقرب وَجْه‪ ،‬وبأقل تكلفة وهي الطريق المستقيم الذي ل‬
‫التواءَ فيه‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن الحق سبحانه يهدي الجميع ويرسم لهم الطريق‪ ،‬فمن اهتدى زاده هُدى‪ ،‬كما‬
‫قال سبحانه‪ {:‬وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد‪]17 :‬‬
‫ومعنى‪َ { :‬أ ْقوَمُ‪[ } ..‬السراء‪]9 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي‪ :‬أكثر استقامة وسلما‪ .‬هذه الصيغة تُسمّى أفعل التفضيل‪ ،‬إذن‪ :‬فعندنا (أقوم) وعندنا أقل منه‬
‫منزلة (قَيّم) كأن نقول‪ :‬عالم وأعلم‪.‬‬
‫فقوله سبحانه‪ { :‬إِنّ هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ َيِ ْهدِي لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ‪[ } ..‬السراء‪]9 :‬‬
‫يدل على وجود (القيّم) في نُظم الناس وقوانينهم الوضعية‪ ،‬فالحق سبحانه ل يحرم البشر من أن‬
‫شقُون بها‪ ،‬فيُقنّنون تقنيات تمنع هذا الظلم‪.‬‬
‫يكون لهم قوانين وشرائع حينما تعضّهم المظالم وي ْ‬
‫ول مانع من ذلك إذا لم ينزل لهم منهج من السماء‪ ،‬فما وضعوه وإنْ كان قَيّما فما وضعه ال‬
‫أقوم‪ ،‬وأنت ل تضع القيم إل بعد أن تُعضّ بشيء مُعوج غير قيّم‪ ،‬وإل فماذا يلفتُك للقيم؟‬
‫أما منهج السماء فإنه يضع الوقاية‪ ،‬ويمنع المرض من أساسه‪ ،‬فهناك فَرْق بين الوقاية من المرض‬
‫شقَون‬
‫وبين العلج للمرض‪ ،‬فأصحاب القوانين الوضعية يُعدّلون نُظمهم لعلج المراض التي َي ْ‬
‫بها‪.‬‬
‫أما السلم فيضع لنا الوقاية‪ ،‬فإن حَدثْت غفلة من المسلمين‪ ،‬وأصابتهم بعض الداءات نتيجة‬
‫انصرافهم عن منهج ربهم نقول لهم‪ :‬عودوا إلى المنهج‪ { :‬إِنّ هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ َيِ ْهدِي لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ‪.‬‬

‫‪[ { .‬السراء‪]9 :‬‬


‫ولتوضيح أن منهج الحق سبحانه أقوم نرى ما حدث معنا في مدينة " سان فرانسيسكو " فقد سألنا‬
‫طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِمْ وَيَأْبَىا اللّهُ‬
‫أحدُ المستشرقين عن قول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬يُرِيدُونَ أَن يُ ْ‬
‫ِإلّ أَن يُتِمّ نُو َر ُه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }[التوبة‪]32 :‬‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ‬
‫سلَ رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَىا وَدِينِ ا ْلحَقّ لِ ُي ْ‬
‫وفي آية أخرى يقول‪ُ {:‬هوَ الّذِي أَرْ َ‬
‫كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }[التوبة‪]33 :‬‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ‪[} ..‬التوبة‪]33 :‬‬
‫فكيف يقول القرآن‪ {:‬لِيُ ْ‬
‫في حين أن السلم محصور‪ ،‬وتظهر عليه الديانات الخرى؟ فقلتُ له‪ :‬لو تأملتَ الية لوجدت‬
‫فيها الردّ على سؤالك‪ ،‬فالحق سبحانه يقول‪ {:‬وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }[التوبة‪]32 :‬‬
‫ويقول‪ {:‬وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمشْ ِركُونَ }[التوبة‪]33 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالكافرون والمشركون موجودون‪ ،‬فالظهور هنا ليس ظهور اتّباع‪ ،‬ولم يقُل القرآن‪ :‬إن الناس‬
‫جميعا سيؤمنون‪.‬‬
‫حجّة وظهور حاجة‪ ،‬ظهور نظم وقوانين‪ ،‬ستضرهم أحداث الحياة‬
‫ومعنى الظهور هنا ظهور ُ‬
‫ومشاكلها إلى التخلّي عن قوانينهم والخذ بقوانين السلم؛ لنهم وجدوا فيها ضَالّتهم‪.‬‬
‫فنظام الطلق في السلم الذي كثيرا ما هاجموه وانتقدوه‪ ،‬ورأوا فيه ما ل يليق بالعلقة الزوجية‪،‬‬
‫ولكن بمرور الزمن تكشفت لهم حقائق مؤلمة‪ ،‬وشقي الكثيرون منهم لعدم وجود هذا الحل في‬
‫قوانينهم‪ ،‬وهكذا ألجاتهم مشاكل الحياة الزوجية لنْ يُقنّنوا للطلق‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومعلوم أن تقنينهم للطلق ليس حُبا في السلم أو اقتناعا به‪ ،‬بل لن لديهم مشاكل ل حَّل لها إل‬
‫بالطلق‪ ،‬وهذا هو الظهور المراد في اليتين الكريمتين‪ ،‬وهو ظهور بشهادتكم أنتم؛ لنكم‬
‫ستلجأون في حل قضاياكم لقوانين السلم‪ ،‬أو قريبا منها‪.‬‬
‫ومن هذه القضايا أيضا قضية تحريم الربا في السلم‪ ،‬فعارضوه وأنكروا هذا التحريم‪ ،‬إلى أن‬
‫جاء " كِنز " وهو زعيم اقتصادي عندهم‪ ،‬يقول لهم‪ :‬انتبهوا‪ ،‬لن المال ل يؤدي وظيفته كاملة في‬
‫الحياة إل إذا انخفضتْ الفائدة إلى صفر‪.‬‬
‫سبحان ال‪ ،‬ما أعجب لجَجَ هؤلء في خصومتهم مع السلم‪ ،‬وهل تحريم الربا يعني أكثر من أن‬
‫تنخفض الفائدة إلى صفر؟ إنهم يعودون لمنهج ال تعالى رَغْما عنهم‪ ،‬ومع ذلك ل يعترفون به‪.‬‬
‫ول يخفي ما في التعامل الربوي من سلبيات‪ ،‬وهل رأينا دولة اقترضت من أخرى‪ ،‬واستطاعت‬
‫على مَرّ الزمن أنْ تُسدد حتى أقساط الفائدة؟ ثم نراهم يغالطوننا يقولون‪ :‬ألمانيا واليابان أخذت‬
‫قروضا بعد الحروب العالمية الثانية‪ ،‬ومع ذلك تقدمت ونهضت‪.‬‬
‫نقول لهم‪ :‬كفاكم خداعا‪ ،‬فألمانيا واليابان لم تأخذ قروضا‪ ،‬وإنما أخذت معونة ل فائدة عليها‪،‬‬
‫تسمى معونة (مارشال)‪.‬‬
‫عضّتهم قَنّنُوا‬
‫وأيضا من هذه القضايا التي ألجأتهم إليها مشاكل الحياة قضية ميراث المرأة‪ ،‬فلما َ‬
‫لها‪.‬‬
‫فظهور دين ال هنا يعني ظهورَ نُظم وقوانين ستضطرهم ظروف الحياة إلى الخذ بها‪ ،‬وليس‬
‫المقصود به ظهور اتّباع‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فمنهج ال أقوم‪ ،‬وقانون الحق سبحانه أعظم من قوانين البشر وأَهْدى‪ ،‬وفي القرآن الكريم ما‬
‫يُوضّح أن حكم ال وقانونه أقوم حتى من حكم رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وهذا في قصة موله " زيد بن حارثة " ‪ ،‬وزيد لم يكن عبدا إلى أن خطفه بعض تجار الرقيق‬
‫وباعوه‪ ،‬وانتهى به المطاف إلى السيدة خديجة ـ رضي ال عنها ـ التي وهبتْه بدورها لخدمة‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فكان زيد في خدمة رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى أن علم أهله بوجوده في مكة فأتوا‬
‫ليأخذوه‪ ،‬فما كان من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إل أن خَيّره بين البقاء معه وبين الذهاب‬
‫إلى أهله‪ ،‬فاختار زيد البقاء في خدمة رسول ال وآثره على أهله‪ .‬فقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬‬
‫فما كنت لختار على مَنِ اختارني شيئا "‪.‬‬
‫وفي هذه القصة دليل على أن الرقّ كان مباحا في هذا العصر‪ ،‬وكان الرقّ حضانةَ حنانٍ ورحمة‪،‬‬
‫يعيش فيها العبد كما يعيش سيده‪ ،‬يأكل من طعامه‪ ،‬ويشرب من شرابه‪ ،‬يكسوه إذا اكتسى‪ ،‬ول‬
‫يُكلّفه ما ل يطيق‪ ،‬وإنْ كلّفه أعانه‪ ،‬فكانت يده بيده‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا كانت العلقة بين محمد صلى ال عليه وسلم وبين زيد؛ لذلك آثره على أهله‪ ،‬وأحب البقاء‬
‫في خدمته‪ ،‬فرأى رسول ال أن يُكافئ زيدا على إخلصه له وتفضيله له على أهله‪ ،‬فقال‪ " :‬ل‬
‫تقولوا زيد بن حارثة‪ ،‬قولوا زيد بن محمد "‪.‬‬
‫وكان التبني شائعا في ذلك الوقت‪ .‬فلما أراد الحق سبحانه أنْ يُحرّم التبني‪ ،‬وأنْ يُحرّم نسبة الولد‬
‫إلى غير أبيه بدأ برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ {:‬ادْعُوهُ ْم لبَآ ِئهِمْ ُهوَ َأقْسَطُ عِندَ اللّهِ فَإِن‬
‫لّمْ َتعَْلمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَا ُنكُمْ فِي الدّينِ َومَوَالِيكُمْ }[الحزاب‪]5 :‬‬
‫والشاهد هنا‪ُ {:‬هوَ َأقْسَطُ عِندَ اللّهِ }[الحزاب‪]5 :‬‬
‫فكأن الحكم الذي أنهى التبني‪ ،‬وأعاد زيدا إلى زيد بن حارثة هو القسط والعدل‪ ،‬إذن‪ :‬حكم‬
‫جوْرا‪ ،‬بل كان ِقسْطا وعدلً‪ ،‬لكنه قسط بشري َي ْفضُله ما كان‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم لم يكن َ‬
‫من عند الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وهكذا عاد زيد إلى نسبة الصلي‪ ،‬وأصبح الناس يقولون " زيد ابن حارثة " ‪ ،‬فحزن لذلك زيد‪،‬‬
‫لنه حُرِم من شرف النتساب لرسول ال صلى ال عليه وسلم فعوّضه ال تعالى عن ذلك وساما‬
‫لم يَنَلْه صحابي غيره‪ ،‬هذا الوسام هو أن ُذكِر اسمه في القرآن الكريم‪ ،‬وجعل الناس يتلونه‪،‬‬
‫ويتعبدون به في قوله تعالى‪ {:‬فََلمّا َقضَىا زَ ْيدٌ مّ ْنهَا وَطَرا َزوّجْنَا َكهَا‪[} ..‬الحزاب‪]37 :‬‬
‫إذن‪ :‬عمل الرسول قسط‪ ،‬وعمل ال أقسط‪.‬‬
‫قوله تعالى‪َ } :‬يِهْدِي لِلّتِي ِهيَ َأ ْقوَمُ‪[ { ..‬السراء‪]9 :‬‬
‫لن المتتبع للمنهج القرآني يجده يُقدّم لنا القوم والعدل والوسط في كل شيء‪.‬‬

‫في العقائد‪ ،‬وفي الحكام‪ ،‬وفي القصص‪.‬‬


‫ففي العقائد مثلً‪ ،‬جاء السلم ليجابه مجتمعا متناقضا بين مَنْ ينكر وجود إله في الكون‪ ،‬وبين مَنْ‬
‫يقول بتعدّد اللهة‪ ،‬فجاء السلم وَسَطا بين الطرفين‪ ،‬جاء بالقوم في هذه المسألة‪ ،‬جاء ليقول بإله‬
‫واحد ل شريك له‪.‬‬
‫فإذا ما تحدّث عن صفات هذا الله سبحانه اختار أيضا ما هو أقوم وأوسط‪ ،‬فللحق سبحانه صفات‬
‫تشبه صفات البشر‪ ،‬فَلَه يَدٌ وسمع وبصر‪ ،‬لكن ليست يده كيدنا‪ ،‬وليس سمعه كسمعنا‪ ،‬وليس بصره‬
‫سمِيعُ الْ َبصِيرُ‪[} ..‬الشورى‪]11 :‬‬
‫شيْ ٌء وَ ُهوَ ال ّ‬
‫كبصرنا‪ {:‬لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫وبهذا المنهج الحكيم خرجنا مما وقع فيه المشبّهة الذين شبّهوا صفات ال بصفات البشر‪ ،‬وخرجنا‬
‫مما وقع فيه المعطّلة الذين أنكروا أن يكون ل تعالى هذه الصفات وأوّلوها على غير حقيقتها‪.‬‬
‫وكذلك في الخلق الجتماعي العام‪ ،‬يلفتنا المنهج القرآني في قوله تعالى‪َ {:‬وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪ ]105 :‬يلفتنا إلى ما في الكون من‬
‫ال ّ‬
‫عجائب نغفل عنها‪ ،‬ونُعرِض عن تدبّرها والنتفاع بها‪ ،‬ولو نظرنا إلى هذه اليات بعين المتأمل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لوجدنا فيها منافع شتى منها‪ :‬أنها تُذّكرنا بعظمة الخالق سبحانه‪ ،‬ثم هي بعد ذلك ستفتح لنا الباب‬
‫الذي يُثري حياتنا‪ ،‬ويُوفّر لنا ترف الحياة ومتعتها‪.‬‬
‫فالحق سبحانه أعطانا مُقوّمات الحياة‪ ،‬وضمن لنا برحمته ضروريات البقاء‪ ،‬فمَنْ أراد الكماليات‬
‫فعليه أنْ يُعمِل عقله فيما أعطاه ال ليصل إلى ما يريد‪.‬‬
‫والمثلة كثيرة على مشاهدات متأملة في ظواهر الكون‪ ،‬اهتدى بها أصحاب إلى اكتشافات‬
‫سهَّلتْ عليها كثيرا من المعاناة‪.‬‬
‫واختراعات خدمت البشرية‪ ،‬و َ‬
‫فالذي اخترع العجلة في نقل الثقال بنى فكرتها على ثِقل وجده يتحرك بسهولة إذا وُضع تحته‬
‫شيء قابل للدوران‪ ،‬فتوصل إلى استخدام العجلت التي مكّنَتْهُ من نقل أضعاف ما كان يحمله‪.‬‬
‫والذي أدخل العالم عصر البخار استنبط فكرة البخار‪ ،‬وأنه يمكن أن يكون قوةً مُحرّكة عندما‬
‫شاهد القِدْر وهو يغلي‪ ،‬ولحظ أن غطاءه يرتفع إلى أعلى‪ ،‬فاهتدى إلى استخدام البخار في تسيير‬
‫القطارات والعربات‪.‬‬
‫والعالِم الذي اكتشف دواء " البنسلين " اهتدى إليه عندما شاهد طبقة خضراء نسميها " الريم "‬
‫تتكون في أماكن استخدام الماء‪ ،‬وكان يشتكي عينه‪ ،‬فعندما وصلت هذه المادة إلى عينه ربما‬
‫مصادفة‪ ،‬لحظ أن عينه قد برئت‪ ،‬فبحث في هذه المسألة حتى توصّل إلى هذا الدواء‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من اليات والعجائب في كون ال‪ ،‬التي يغفل عنها الخَلْق‪ ،‬ويمرّون عليها وهم‬
‫معرضون‪.‬‬
‫أما هؤلء العلماء الذين أثروا حياة البشرية بنظرتهم الثاقبة‪ ،‬فقد استخدموا عقولهم في المادة التي‬
‫خلقها ال‪ ،‬ولم يأتوا بشيء من عند أنفسهم؛ لن الحق سبحانه حينما استخلف النسان في الرض‬
‫أعدّ له ُكلّ متطلبات حياته‪ ،‬وضمن له في الكون جنودا إن أعمل عقله وطاقته يستطيع أن يستفيد‬
‫منها‪ ،‬وبعد ذلك طلب منه أن يعمر الرض‪:‬‬

‫ض وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود‪]61 :‬‬


‫ن الَ ْر ِ‬
‫{ ُهوَ أَنشََأكُمْ مّ َ‬
‫والستعمار أنْ تجعلها عامرة‪ ،‬وهذا العمار يحتاج إلى مجهود‪ ،‬وإلى مواهب متعددة تتكاتف‪ ،‬فل‬
‫تستقيم المور إنْ كان هذا يبني وهذا يهدم‪ ،‬إذن‪ :‬ل بد أنْ تُنظم حركة الحياة تنظيما يجعل‬
‫المواهب في الكون تتساند ول تتعاند‪ ،‬وتتعاضد ول تتعارض‪.‬‬
‫ول يضمن لنا هذا التنظيم إل منهج من السماء ينزل بالتي هي أقوم‪ ،‬وأحكم‪ ،‬وأعدل‪ ،‬كما قال‬
‫ق وَا ْلمِيزَانَ }[الشورى‪]17 :‬‬
‫تعالى في آية أخرى‪ {:‬اللّهُ الّذِي أَن َزلَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَ ّ‬
‫وإنْ كان الحق سبحانه وتعالى قد دعانا إلى النظر في ظواهر الكون‪ ،‬والتدبّر في آيات ال في‬
‫كونه‪ ،‬والبحث فيها لنصل إلى أسرار ما غُيّب عنا‪ ،‬فإنه سبحانه نهانا أن نفعل هذا مع بعضنا‬
‫البعض‪ ،‬فقد حرّم علينا التجسّس وتتبّع العورات‪ ،‬والبحث في أسرار الخرين وغَيْبهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفي هذا الدب اللهي رحمة بالخلق جميعا؛ لن ال تعالى يريد أن يُثري حياة الناس في الكون‪،‬‬
‫و َهبْ أن إنسانا له حسنات كثيرة‪ ،‬وعنده مواهب متعددة‪ ،‬ولكن له سيئة واحدة ل يستطيع التخلّي‬
‫عنها‪ ،‬فلو تتبعتَ هذه السيئة الواحد فربما أزهدتْك في كل حسناته‪ ،‬حرمتْك النتفاع به‪ ،‬والستفادة‬
‫من مواهبه‪ ،‬أما لو تغاضيت عن هذه السيئة فيه لمكنك النتفاع به‪.‬‬
‫و َهبْ أن صانعا بارعا في صنعته وقد احتجْتَه ليؤديَ لك عملً‪ ،‬فإذا عرفت عنه ارتكاب معصية‬
‫ما‪ ،‬أو اشتهر عنه سيئة ما لزهدك هذا في صَنْعته ومهارته‪ ،‬ولرغبت عنه إلى غيره‪ ،‬وإنْ كان‬
‫أقلّ منه مهارة‪.‬‬
‫وهذا قانون عام للحق سبحانه وتعالى‪ ،‬فالذي نهاك عن تتبّع غيب الناس‪ ،‬والبحث عن أسرارهم‬
‫نهاهم أيضا عن تتبّع غَيْبك والبحث عن أسرارك؛ ولذلك ما أنعم ال على عبيده نعمة أعظمَ من‬
‫حفْظ الغيب عنده هو؛ لنه ربّ‪ ،‬أما البشر فليس فيهم ربوبية‪ ،‬أمر البشر قائم على العبودية‪ ،‬فإذا‬
‫ِ‬
‫انكشف لحدهم غَ ْيبُ أخيه أو عيبٌ من عيوبه أذاعه وفضحه به‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق تبارك وتعالى يدعونا إلى أن نكون طُلَعة في استنباط أسرار الكون والبحث عن غيبه‪،‬‬
‫وفي الوقت نفسه ينهانا أن نكون طُلَعة في تتبّع أسرار الناس والبحث عن غيبهم؛ لنك إنْ تتبعتَ‬
‫ستَ عيوبهم حر ْمتَ نفسك من مصادر يمكن أنْ تنتفع بها‪.‬‬
‫غيب الناس والتم ْ‬
‫فالحق سبحانه يريد في الكون حركة متبادلة‪ ،‬وهذه الحركة المتبادلة ل تنشأ إل بوجود نوع من‬
‫التنافس الشريف البنّاء‪ ،‬التنافس الذي يُثري الحياة‪ ،‬ول يثير شراسة الحتكاك‪ ،‬كما قال تعالى‪{:‬‬
‫َوفِي َذِلكَ فَلْيَتَنَافَسِ ا ْلمُتَنَافِسُونَ‪[} ..‬المطففين‪]26 :‬‬
‫كما يتنافس طالب العلم مع زميله المجدّ ليكون مِثْله أو أفضل منه‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يعطينا‬
‫حافزا للعمل والرّقي‪ ،‬فالتنافس المقصود ليس تنافس ال ِغلّ والحقد والكراهية‪ ،‬بل تنافس مَنْ يحب‬
‫للناس ما يحب لنفسه‪ ،‬تنافس مَنْ ل يشمت لفشل الخرين‪.‬‬

‫وقد يجد النسان هذا الحافز للمنافسة حتى في عدوه‪ ،‬ونحن نرى الكثير منا يغضب وتُثَار حفيظته‬
‫إنْ كان له عدو‪ ،‬ويراه مصدر شرّ وأذى‪ ،‬ويتوقع منه المكروه باستمرار‪.‬‬
‫وهو مع ذلك لو استغل حكمة ال في إيجاد هذا العدو ل تنفع به انتفاعا ل يجده في الصديق‪ ،‬لن‬
‫صديقك قد يُنافقك أو يُداهنك أو يخدعك‪.‬‬
‫أما عدوك فهو لك بالمرصاد‪ ،‬يتتبع سقطاتك‪ ،‬ويبحث عن عيوبك‪ ،‬وينتظر منك كَبْوة ليذيعها‬
‫ويُسمّع بك‪ ،‬فيحملك هذا من عدوك على الستقامة والبعد عما يشين‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى تخاف أن يسبقك إلى الخير‪ ،‬فتجتهد أنت في الخير حتى ل يسبقك إليه‪.‬‬
‫حمَنُ عَنّي‬
‫ي ومِنّةٌ فَلَ أبعَدَ الر ْ‬
‫ضلٌ عل ّ‬
‫وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى‪:‬عِدَايَ َل ُهمْ َف ْ‬
‫العَادِياَ ُهمُو بحثُوا عَنْ زَلّتي فَاجْتنبْتُها وهُمْ نَافَسُـوني فاكْتَس ْبتُ المعَالِياوهكذا نجد لكل شيء في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫منهج ال فائدة‪ ،‬حتى في العداء‪ ،‬ونجد في هذا التنافس المثمر الذي يُثري حركة الحياة دليلً على‬
‫أن منهج السماء هو القوم والنسب لتنظيم حركة الحياة‪.‬‬
‫أيضا لكي يعيش المجتمع آمنا سالما ل بُدّ له من قانون يحفظ توازنه‪ ،‬قانون يحمي الضعيف من‬
‫حقّه‪ ،‬وبعد‬
‫بطش القوي‪ ،‬فجاء منهج ال تعالى لِيُقنّن لكل جريمة عقوبتها‪ ،‬ويضمن لصاحب الحق َ‬
‫ذلك ترك الباب مفتوحا للعفو والتسامح بين الناس‪.‬‬
‫ثم حذّر القوي أنْ تُطغيه قوته‪ ،‬وتدعوه إلى ظلم الضعيف‪ ،‬وذكّره أن قوته ليست ذاتية فيه‪ ،‬بل‬
‫ضعْف يحتاج معه إلى العون‬
‫هي عَ َرضٌ سوف يزول وسوف تتبدل قوته في يوم ما إلى َ‬
‫والمساعدة والحماية‪.‬‬
‫وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنا‪ :‬أنا أحمي الضعيف من قوتك الن‪ ،‬لحمي ضعفك من قوة‬
‫غيرك غدا‪.‬‬
‫أليس في هذا كله ما هو أقوم؟‬
‫ونقف على جانب آخر من جوانب هذه القوامة لمنهج ال في مجال النفاق‪ ،‬وتصرّف المرء في‬
‫ماله‪ ،‬والمتأمل في هذا المنهج القوم يجده يختار لنا طريقا وسطا قاصدا ل تبذيرَ فيه ول تقتير‪.‬‬
‫ولشك أن النسان بطبعه يُحب أن يُثري حياته‪ ،‬وأن يرتقي بها‪ ،‬ويتمتع بترفها‪ ،‬ول يُتاح له ذلك‬
‫إنْ كان مُبذّرا ل يُبقي من دخله على شيء‪ ،‬بل ل بُدّ له من العتدال في النفاق حتى يجد في‬
‫جعبته ما يمكنه أن يُثري حياته ويرتقي بها ويُوفّر لسرته كماليات الحياة‪ ،‬فضلً عن‬
‫ضرورياتها‪.‬‬
‫جاء هذا المنهج القوم في قول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَالّذِينَ إِذَآ أَن َفقُواْ َلمْ يُسْ ِرفُو ْا وَلَمْ َيقْتُرُواْ َوكَانَ‬
‫بَيْنَ ذَِلكَ َقوَاما }[الفرقان‪]67 :‬‬
‫سطِ فَ َت ْقعُدَ مَلُوما مّحْسُورا }‬
‫طهَا ُكلّ الْبَ ْ‬
‫ك َولَ تَ ْبسُ ْ‬
‫ج َعلْ يَ َدكَ َمغْلُولَةً إِلَىا عُ ُن ِق َ‬
‫وفي قوله تعالى‪َ {:‬ولَ تَ ْ‬
‫[السراء‪]29 :‬‬
‫فللنسان في حياته طموحات تتتابع ول تنتهي‪ ،‬خاصة في عصر كثُرت فيه المغريات‪ ،‬فإنْ وصل‬
‫إلى هدف تطلع لما هو أكبر منه‪ ،‬فعليه إذن ألّ يُبدّد كل طاقته‪ ،‬وينفق جميع دَخْله‪.‬‬

‫وكما نهى السلم عن التبذير نهى أيضا عن ال ُبخْل والمساك؛ لن البُخْل مذموم‪ ،‬والبخيل مكروه‬
‫من أهله وأولده‪ ،‬كما أن ال ُبخْل سبب من أسباب الركود والبطالة والكساد التي تصيب المجتمع‪،‬‬
‫فالممسك ل يتعامل مع المجتمع في حركة البيع والشراء‪ ،‬فيسهم ب ُبخْله في تفاقم هذه المشاكل‪،‬‬
‫ويكون عنصرا خاملً َيشْقى به مجتمعه‪.‬‬
‫إذنْ‪ :‬فالتبذير والمساك كلهما طرف مذموم‪ ،‬والخير في أوسط المور‪ ،‬وهذا هو القوم الذي‬
‫ارتضاته لنا المنهج اللهي‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكذلك في مجال المأكل والمشرب‪ ،‬يرسم لنا الطريق المعتدل الذي يحفظ للمرء سلمته وصحته‪،‬‬
‫حبّ‬
‫ويحميه من أمراض الطعام والتّخْمة‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬وكُلُو ْا وَاشْرَبُو ْا َولَ ُتسْ ِرفُواْ إِنّ ُه لَ يُ ِ‬
‫ا ْلمُسْ ِرفِينَ }[العراف‪]31 :‬‬
‫فقد علّمنا السلم أن النسان إذا أكل وشرب على قَدْر طاقة الوقود الذي يحتاجه جسمه ل يشتكي‬
‫ما يشتكيه أصحاب السراف في المأكل والمشرب‪.‬‬
‫والمتأمل في حال هؤلء الذين يأكلون كلّ مَا َلذّل وطاب‪ ،‬ول يَحْرمون أنفسهم مما تشتهيه‪ ،‬حتى‬
‫وإن كان ضارا‪ ،‬نرى هؤلء عند كِبَرهم وتقدّم السّنّ بهم ُيحْرمون بأمر الطبيب من تناول هذه‬
‫الملذّات‪ ،‬فترى في بيوت العيان الخادم يأكل أطيب الطعام ويتمتع بخير سيده‪ ،‬في حين يأكل‬
‫سيده أنواعا محددة ل يتجاوزها‪ ،‬ونقول له‪:‬‬
‫لنك أكلتها وأسرفتَ فيها في بداية المر‪ ،‬فل ُبدّ أنْ تُحرَم منها الن‪.‬‬
‫وصدق رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال‪ " :‬كُلُوا واشربوا وتصدقوا‪ ،‬والبسوا في غير‬
‫إسراف ول مخيلة "‬
‫وأيضا من أسباب السلمة التي رسمها لنا المنهج القرآني‪ ،‬ألّ يأكل النسان إل على جوع‪،‬‬
‫فالطعام على الطعام يرهق المعدة‪ ،‬ويجرّ على صاحبه العطب والمراض‪ ،‬ونلحظ أن النسان‬
‫يجد لذة الطعام وحلوته إذا أكل بعد جوع‪ ،‬فمع الجوع يستطيب كل شيء ولو كان الخبز الجاف‪.‬‬
‫وهكذا نجد المنهج اللهي يرسم لنا الطريق القوم الذي يضمن لنا سلمة الحياة واستقامتها‪ ،‬فلو‬
‫تدب ْرتَ هذا المنهج لوجدته في أيّ جانب من جوانب الحياة هو القوم والنسب‪.‬‬
‫في العقائد‪ ،‬في العبادات‪ ،‬في الخلق الجتماعية العامة‪ ،‬في العادات والمعاملت‪ ،‬إنه منهج ينتظم‬
‫شيْءٍ }[النعام‪]38 :‬‬
‫الحياة كلها‪ ،‬كما قال الحق سبحانه‪ {:‬مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ‬
‫هذا المنهج اللهي هو َأقْوم المناهج وأصلحها؛ لنه منهج الخالق سبحانه الذي يعلم مَنْ خلق‪،‬‬
‫ويعلم مَا يصلحهم‪ ،‬كما قلنا سابقا‪ :‬إن الصانع من البشر يعلم صَنْعته‪ ،‬ويضع لها من تعليمات‬
‫التشغيل والصيانة ما يضمن لها سلمة الداء وأمن الستعمال‪.‬‬
‫ت مهمتها بدقة‪ ،‬وسلَمتْ من العطال‪ ،‬فالذي خلق‬
‫ب قانون صانعها أ ّد ْ‬
‫فإذا ما استعم ْلتَ اللة حَس ْ‬
‫النسان أعلم بقانون صيانته‪ ،‬فيقول له‪ :‬افعل كذا ول تفعل كذا‪:‬‬

‫ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك‪]14 :‬‬


‫{ َألَ َيعْلَمُ مَنْ خََل َ‬
‫فآفة الناس في الدنيا أنهم وهم صَنْعة الحق سبحانه يتركون قانونه‪ ،‬ويأخذون قانون صيانتهم من‬
‫أمثالهم‪ ،‬وهي قوانين وضعية قاصرة ل تسمو بحال من الحوال إلى قانون الحق سبحانه‪ ،‬بل ل‬
‫وَجْهَ للمقارنة بينهما‪ .‬إذن‪ :‬ل تستقيم الحياة إل بمنهج ال عز وجل‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَيُبَشّرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َل ُهمْ أَجْرا كَبِيرا { [السراء‪]9 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالمنفذ لهذا المنهج اللهي يتمتع باستقامة الحياة وسلمتها‪ ،‬وينعم بالمن اليماني‪ ،‬وهذه نعمة في‬
‫الدنيا‪ ،‬وإن كانت وحدها لكانت كافية‪ ،‬لكن الحق سبحانه وتعالى يُبشّرنا بما هو أعظم منها‪ ،‬وبما‬
‫ينتظرنا من نعيم الخرة وجزائها‪ ،‬فجمع لنا ربنا تبارك وتعالى نَعيمَيْ الدنيا والخرة‪.‬‬
‫نعيم الدنيا لنك سِ ْرتَ فيها على منهج معتدل ونظام دقيق‪ ،‬يضمن لك فيها الستقامة والسلم‬
‫والتعايش المن مع الخَلْق‪.‬‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ‬
‫ومن ذلك قول الحق سبحانه‪ {:‬فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُم مّنّي ُهدًى َفمَن تَبِعَ ُهدَايَ فَلَ َ‬
‫يَحْزَنُونَ }[البقرة‪]38 :‬‬
‫شقَىا }[طه‪]123 :‬‬
‫ضلّ َولَ يَ ْ‬
‫وقوله تعالى في آية أخرى‪َ {:‬فمَنِ اتّبَعَ ُهدَايَ فَلَ َي ِ‬
‫ل صَالِحا مّن َذكَرٍ َأوْ أُنْثَىا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَلَ ُنحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّ َب ًة وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ‬
‫ع ِم َ‬
‫ويقول تعالى‪ {:‬مَنْ َ‬
‫أَجْ َرهُم بَِأحْسَنِ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النحل‪]97 :‬‬
‫وفي الجانب المقابل يقول الحق سبحانه‪َ {:‬ومَنْ أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِيشَ ًة ضَنكا وَنَحْشُ ُرهُ‬
‫عمَىا َوقَدْ كُنتُ َبصِيرا * قَالَ كَذاِلكَ أَتَ ْتكَ آيَاتُنَا‬
‫عمَىا * قَالَ َربّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَ ْ‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ أَ ْ‬
‫فَنَسِي َتهَا َوكَذاِلكَ الْ َيوْمَ تُ ْنسَىا }[طه‪]126-124 :‬‬
‫فكما أن الحق تبارك وتعالى جمع لعباده الصالحين السائرين على منهجه خيري الدنيا والخرة‪،‬‬
‫ففي المقابل جمع لعدائه المعرضين عن منهجه عذاب الدنيا وعذاب الخرة‪ ،‬ل ظُلْما منه‪ ،‬فهو‬
‫ع ْدلً وقِسطا بما نَسُوا آيات ال وانصرفوا عنها‪.‬‬
‫جوْر‪ ،‬بل َ‬
‫سبحانه مُنَزّه عن الظلم وال َ‬
‫ومعنى‪َ } :‬ي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ { [السراء‪]9 :‬‬
‫وعمل الصالحات يكون بأن تزيد الصالح صلحا‪ ،‬أو على القل تبقي الصالح على صلحه‪ ،‬ول‬
‫تتدخل فيه بما يُفسده‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬أَنّ َل ُهمْ أَجْرا كَبِيرا { [السراء‪]9 :‬‬
‫ت بصيغة أفعل التفضيل منها (أكبر)‪،‬‬
‫نلحظ هنا أن الحق سبحانه وصف الجر بأنه كبير‪ ،‬ولم يَ ْأ ِ‬
‫فنقول‪ :‬لن كبير هنا أبلغ من أكبر‪ ،‬فكبير مقابلها صغير‪َ ،‬ف َوصْف الجر بأنه كبير يدل على أن‬
‫غيره أصغر منه‪ ،‬وفي هذا دللة على عِظَم الجر من ال تعالى‪.‬‬
‫أما لو قال‪ :‬أكبر فغيره كبير‪ ،‬إذن‪ :‬فاختيار القرآن أبلغ وأحكم‪.‬‬
‫كما قلنا سابقا‪ :‬إن من أسماء الحق تبارك وتعالى (الكبير)‪ ،‬وليس من أسمائه أكبر‪ ،‬إنما هي‬
‫وصف له سبحانه‪ .‬ذلك لن (الكبير) كل ما عداه صغير‪ ،‬أما (أكبر) فيقابلها كبير‪.‬‬
‫ومن هنا كان نداء الصلة (ال أكبر) معناه أن الصلة وفَرْض ال علينا أكبر من أي عمل دنيويّ‪،‬‬
‫وهذا يعني أن من أعمال الدنيا ما هو كبير‪ ،‬كبير من حيث هو مُعين على الخرة‪.‬‬

‫فعبادة ال تحتاج إلى طعام وشراب وإلى مَلْبس‪ ،‬والمتأمل في هذه القضية يجد أن حركة الحياة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كلها تخدم عمل الخرة‪ ،‬ومن هنا كان عمل الدنيا كبيرا‪ ،‬لكن فَرْض ال أكبر من كل كبير‪.‬‬
‫ولهمية العمل الدنيوي في حياة المسلم يقول تعالى عن صلة الجمعة‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا‬
‫س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَ ْيعَ ذَِلكُمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ *‬
‫ج ُمعَةِ فَا ْ‬
‫لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ‬
‫نُو ِديَ لِلصّ َ‬
‫ض وَابْ َتغُواْ مِن َفضْلِ اللّ ِه وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيرا ّلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }‬
‫لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَرْ ِ‬
‫فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ‬
‫[الجمعة‪]10-9 :‬‬
‫والمتأمل في هذه اليات يجد الحق تبارك وتعالى أمرنا قبل الجمعة أن نترك البيع‪ ،‬واختار البيع‬
‫دون غيره من العمال؛ لنه الصفقة السريعة الربح‪ ،‬وهي أيضا الصورة النهائية لمعظم العمال‪،‬‬
‫كما أن البائع يحب دائما البيع‪ ،‬ويحرص عليه‪ ،‬بخلف المشتري الذي ربما يشتري وهو كاره‪،‬‬
‫فتجده غير حريص على الشراء؛ لنه إذا لم يشْتَرِ اليوم سيشتري غدا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه حينما يأمرنا بترك البيع‪ ،‬فتَرْك غيره من العمال َأوْلَى‪.‬‬
‫فإن ما ُقضِيَت الصلة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الرض‪ ،‬فأخرجنا للقائه سبحانه‬
‫في بيته من عمل‪ ،‬وأمرنا بعد الصلة بالعمل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالعمل وحركة الحياة (كبير)‪ ،‬ولكن نداء ربك (أكبر) من حركة الحياة؛ لن نداء ربك هو‬
‫الذي سيمنحك القوة والطاقة‪ ،‬ويعطيك الشحنة اليمانية‪ ،‬فتُقبِل على عملك ب ِهمّة وإخلص‪.‬‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ أَعْ َتدْنَا َلهُمْ عَذَابا أَلِيما {‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وأَنّ الّذِي َ‬

‫(‪)2022 /‬‬

‫وَأَنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالَْآخِ َرةِ أَعْتَدْنَا َل ُهمْ عَذَابًا أَلِيمًا (‪)10‬‬

‫ل واحدا‪ {:‬وَيُبَشّرُ‬
‫وهذه الية امتداد للية السابقة‪ ،‬ومعطوفة عليها؛ لن ال تعالى ذكر فع ً‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ‪[} ..‬السراء‪]9 :‬‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ‪[ } ..‬السراء‪]10 :‬‬
‫ثم عطف عليه‪ { :‬وأَنّ الّذِي َ‬
‫إذن‪ :‬فالية داخلة في البشارة السابقة‪ ،‬ولكن كيف ذلك‪ ،‬والبشارة السابقة تُبشّر المؤمنين بأن لهم‬
‫أجرا كبيرا‪ ،‬والبشارة إخبار بخيْر يأتي في المستقبل‪ ،‬فكيف تكون البشارة بالعذاب؟‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬هذه بشارة على سبيل التهكّم والستهزاء بهم‪ ،‬كما قال تعالى في آية أخرى‪ {:‬فَبَشّرْ ُهمْ‬
‫ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[التوبة‪]34 :‬‬
‫وكما قال الحق سبحانه متهكما‪ {:‬ذُقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان‪]49 :‬‬
‫وكما تقول للولد الذي أهمل فأخفق في المتحان‪ :‬مبروك عليك الفشل‪ ،‬أو تقول‪ :‬بشّر فلنا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالرسوب‪.‬‬
‫وقد تكون البشارة للمؤمن بالجنة‪ ،‬وللكافر بالعذاب‪ ،‬كلهما بشارة للمؤمن‪ ،‬فبشارة المؤمن بالجنة‬
‫تسرّه وتُسعده‪ ،‬وتجعله يستشرف ما ينتظره من نعيم ال في الخرة‪.‬‬
‫وبشارة الكافر بالعذاب تسُرّ المؤمن؛ لنه لم يقع في مصيدة الكفر‪ ،‬وتزجر مَنْ لم يقع فيه وتُخيفه‪،‬‬
‫وهذا رحمة به وإحسان إليه‪.‬‬
‫ن وَ َربّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ *‬
‫وهذا المعنى واضح في قول الحق سبحانه في سورة الرحمن‪َ {:‬ربّ ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ‬
‫خ لّ يَ ْبغِيَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا‬
‫فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ * بَيْ َن ُهمَا بَرْزَ ٌ‬
‫جوَارِ ا ْلمُنشَئَاتُ فِي‬
‫ُتكَذّبَانِ * َيخْرُجُ مِ ْن ُهمَا الّلؤُْلؤُ وَالمَ ْرجَانُ * فَبَِأيّ آلَءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * وَلَهُ ا ْل َ‬
‫الْبَحْرِ كَالَعْلَمِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن‪]25-17 :‬‬
‫فهذه كلها ِنعَم من نعَم ال تعالى علينا‪ ،‬فناسب أن تُذيّل بقوله تعالى‪ {:‬فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬
‫[الرحمن‪]18 :‬‬
‫شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬
‫سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ‬
‫أما قوله تعالى‪ {:‬يُرْ َ‬
‫[الرحمن‪]36-35 :‬‬
‫فأيّ نعمة في أنْ يُرسل ال عليهما شواظ من نار ونحاس فل ينتصران؟‬
‫نعم‪ ،‬المتأمل في هذه الية يجد فيها نعمة من أعظم ِنعَم ال‪ ،‬أل وهي زَجْر العاصي عن المعصية‪،‬‬
‫ومسرّة للطائع‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عن طبيعة النسان البشرية‪ { :‬وَيَ ْدعُ الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِا ْلخَيْ ِر َوكَانَ‬
‫الِنْسَانُ عَجُولً }‪.‬‬

‫(‪)2023 /‬‬

‫وَيَ ْدعُ الْإِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَا َءهُ بِالْخَيْ ِر َوكَانَ الْإِ ْنسَانُ عَجُولًا (‪)11‬‬

‫(يَ ْدعُ) الدعاء‪ :‬طلَب ما تعجز عنه من قادر عليه‪.‬‬


‫وأهل النحو يقولون‪ .‬إن الفعل‪ :‬ماضٍ ومضارع وأمر‪ .‬فالمر‪ :‬طََلبٌ من العلى إلى الدنى‪ ،‬فكلّ‬
‫طلب من ال لخلْقه فهو أمر‪ ،‬أو من العلى من البشر للدنى‪ .‬أما إنْ كان الطلب من مُسَاوٍ لك‬
‫فهو التماس أو رجاء‪ .‬فإنْ كان الطلب من الدنى للعلى‪ ،‬كطلب العبد من ربه فهو دعاء‪.‬‬
‫لذلك نجد التدقيق في العراب يحفظ ل تعالى مكانته ويُعظّمه‪ ،‬فنقول للطالب‪ :‬أعرب‪ :‬رب اغفر‬
‫ق الموْلَى تبارك وتعالى أن نقول‪:‬‬
‫حّ‬‫لي‪ ،‬فيقول‪ :‬اغفر‪ِ ،‬فعْل دالّ على الدعاء‪ ،‬لنه ل يجوز في َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فعل أمر‪ ،‬فال ل يأمره أحد‪.‬‬
‫ل على صفة العجز والضعف في العبد‪ ،‬وأنه قد اندكتْ فيه ثورة‬
‫فأوّل ما يُفهم من الدعاء أنه َد ّ‬
‫الغرور‪ ،‬فعَلِم أنه ل يقدر على هذا إل ال فتوجه إليه بالدعاء‪.‬‬
‫(بِالشّرّ) بالمكروه‪ ،‬والنسان ل يدعو على نفسه‪ ،‬أو على ولده‪ ،‬أو على ماله بالشر إل في حالة‬
‫الحنَق والغضب وضيق الخلق‪ ،‬الذي يُخرِج النسان عن طبيعته‪ ،‬ويُفقِده التمييز‪ ،‬فيتسرّع في‬
‫الدعاء بالشر‪ ،‬ويتمنى أن يُنّفذ ال له مَا دعا به‪.‬‬
‫حمْق وغباء‬
‫ومن رحمة ال تعالى بعباده ألّ يستجيب لهم هذا الدعاء الذي إنْ دلّ فإنما يدل على ُ‬
‫من العبد‪.‬‬
‫وكثيرا ما نسمع أما تدعو على ولدها بما لو استجاب ال له لكانت قاصمة الظهر لها‪ ،‬أو نسمع أبا‬
‫ن يفوت لنا هذا الحمق‪ ،‬ول يُنفّذ لنا ما‬
‫يدعو على ولده أو على ماله‪ ،‬إذن‪ :‬فمن رحمة ال بنا أ ْ‬
‫جلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْ ِت ْعجَاَلهُمْ بِا ْلخَيْرِ َل ُقضِيَ إِلَ ْي ِهمْ‬
‫تعجّلناه من دُعاءٍ بالشر‪ .‬قال تعالى‪ {:‬وََلوْ ُيعَ ّ‬
‫أَجَُل ُهمْ }[يونس‪]11 :‬‬
‫أي‪ :‬لو استجاب ال لهم في دعائهم بالشر لكانت نهايتهم‪.‬‬
‫وإن كنت تُسَرّ وتسعد بأن ربك سبحانه وتعالى ف ّوتَ لك دعوة بالشر فلم يَسْتجب لها‪ ،‬وأن لعدم‬
‫استجابته سبحانه حكمةً بالغةً‪.‬‬
‫ب لي‪،‬‬
‫ج ْ‬
‫فاعلم أن ل حكمة أيضا حينما ل يستجيب لك في دعوة الخير‪ ،‬فل تقُلْ‪ :‬دعوتُ فلم يست ِ‬
‫واعلم أن ل حكمة في أن يمنعك خيرا تُريده‪ ،‬ولعله لو أعطاك هذا الخير لكان وبالً عليك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬عليك أن تقيسَ المريْن بمقياس واحد‪ ،‬وترضى بأمر ال في دعائك بالخير‪ ،‬كما رضيت‬
‫بأمره حين صرف عنك دعاء الشر‪ ،‬ولم يستجب لك فيه‪ .‬فكما أن له سبحانه حكمة في الولى‪،‬‬
‫فلَه حكمة في الثانية‪.‬‬
‫وقد دعا الكفار على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم على أنفسهم‪ ،‬فقالوا‪ {:‬الّل ُهمّ إِن كَانَ‬
‫سمَآءِ‪[} ..‬النفال‪]32 :‬‬
‫حجَا َرةً مّنَ ال ّ‬
‫حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا ِ‬
‫هَـاذَا ُهوَ الْ َ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا‪[} ..‬السراء‪]92 :‬‬
‫سمَآءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫وقالوا‪َ {:‬أوْ تُ ْ‬
‫ولو استجاب ال لهم هذا الدعاء َلقَضى عليهم‪ ،‬وقطع دابرهم‪ ،‬لكن ل تعالى حكمة في تفويت هذا‬
‫حمْقى‪ ،‬وها هم الكفار باقون حتى اليوم‪ ،‬وإلى أن تقوم الساعة‪.‬‬
‫الدعاء لهؤلء ال َ‬

‫وكان المنتظر منهم أن يقولوا‪ :‬اللهم إنْ كان هذا هو الحقّ من عندك فاهْدنا إليه‪ ،‬لكن المسألة‬
‫عندهم ليست مسألة كفر وإيمان‪ ،‬بل مسألة كراهية لمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولما جاء به‪،‬‬
‫بدليل أنهم قَبلوا الموت في سبيل الكفر وعدم اليمان برسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫جلٍ سَُأوْرِيكُمْ ءَايَاتِي فَلَ‬
‫عَ‬‫ومن طبيعة النسان العجلة والتسرّع‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬خُِلقَ النْسَانُ مِنْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تَسْ َتعْجِلُونِ }[النبياء‪]37 :‬‬
‫فكثيرا ما يدعو النسان بالخير لنفسه أو بما يراه خيرا‪ ،‬فل يجد وراءه إل الشر والتعب والشقاء‪،‬‬
‫وفي المقابل قد يُنزل ال بك ما تظنه شرا‪ ،‬ويسوق ال الخير من خلله‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أنت ل تعلم َوجْه الخير على حقيقته‪ ،‬فدع المر لربك عز وجل‪ ،‬واجعل حظك من دعائك ل‬
‫أنْ تُجابَ إلى ما دعوت‪ ،‬ولكن أن تظهر ضراعة عبوديتك لِعزّة ربك سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ومعنى‪ } :‬دُعَآ َءهُ بِا ْلخَيْرِ‪[ { ..‬السراء‪]11 :‬‬
‫أي‪ :‬أن النسان يدعو بالشر في إلحاح‪ ،‬وكأنه يدعو بخير‪.‬‬
‫جعَلْنَآ آيَةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً‪...‬‬
‫ل وَ َ‬
‫حوْنَآ آيَةَ الّي ِ‬
‫ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ َفمَ َ‬
‫جعَلْنَا الّي َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬و َ‬
‫{‪.‬‬

‫(‪)2024 /‬‬

‫جعَلْنَا آَ َيةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً لِتَبْ َتغُوا َفضْلًا مِنْ رَ ّب ُكمْ‬
‫حوْنَا آَيَةَ اللّ ْيلِ وَ َ‬
‫ل وَال ّنهَارَ آَيَتَيْنِ َف َم َ‬
‫جعَلْنَا اللّ ْي َ‬
‫وَ َ‬
‫شيْءٍ َفصّلْنَاهُ َت ْفصِيلًا (‪)12‬‬
‫ب َو ُكلّ َ‬
‫ن وَالْحِسَا َ‬
‫عدَدَ السّنِي َ‬
‫وَلِ َتعَْلمُوا َ‬

‫الحق سبحانه وتعالى جعل الزمن ليلً ونهارا ظرفا للحداث‪ ،‬وجعل لكل منهما مهمة ل تتأتّى مع‬
‫الخر‪ ،‬فهما متقابلن ل متضادان‪ ،‬فليس الليل ضد النهار أو النهار ضد الليل؛ لن لكل منهما‬
‫مهمة‪ ،‬والتقابل يجعلهما متكاملين‪.‬‬
‫ولذلك أراد ال تعالى أن يُنظّر بالليل والنهار في جنس النسان من الذكورة والنوثة‪ ،‬فهما أيضا‬
‫متكاملن ل متضادان‪ ،‬حتى ل تقوم عداوة بين ذكورة وأنوثة‪ ،‬كما نرى البعض من الجنسين‬
‫يتعصّب لجنسه تعصبّا أعمى خاليا من َفهْم طبيعة العلقة بين الذكر والنثى‪.‬‬
‫فالليل والنهار كجنس واحد لهما مهمة‪ ،‬أما من حيث النوع فلكل منهما مهمة خاصة به‪ ،‬وإياك أن‬
‫تخلط بين هذه وهذه‪.‬‬
‫وتأمل قول الحق سبحانه‪ {:‬وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَجَلّىا * َومَا خَلَقَ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا *‬
‫سعْ َيكُمْ لَشَتّىا }[الليل‪]4-1 :‬‬
‫إِنّ َ‬
‫فل تجعل الليل ضِدا للنهار‪ ،‬ول النهار ضدا لليل‪ ،‬وكذلك ل تجعل الذكورة ضِدا للنوثة‪ ،‬ول‬
‫النوثة ضدا للذكورة‪.‬‬
‫ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ‪[ } ..‬السراء‪]12 :‬‬
‫جعَلْنَا الّي َ‬
‫قوله تعالى‪ { :‬وَ َ‬
‫جعلنا‪ :‬بمعنى خلقنا‪ ،‬والليل والنهار هما المعروفان لنا بالمعايشة والمشاهدة‪ ،‬ومعرفتنا هذه أوضح‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من أنْ نعرّفهما‪ ،‬فنقول مثلً‪ :‬الليل هو َمغِيب الشمس عن نصف الكرة الرضية‪ ،‬والنهار هو‬
‫شروق الشمس على نصف الكرة الرضية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬قد يكون الشي أوضح من تعريفه‪.‬‬
‫والحق سبحانه خلق لنا الليل والنهار‪ ،‬وجعل لكل منهما حكمة ومهمة‪ ،‬وحينما يتحدّث عنهما‪،‬‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ إِذَا سَجَىا }[الضحى‪]2-1 :‬‬
‫ويقول‪ {:‬وَالْلّ ْيلِ إِذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا َتجَلّىا }[الليل‪ ]2-1 :‬فبدأ بالليل‪.‬‬
‫ج َعلَ الظُّلمَاتِ وَالنّورَ }[النعام‪]1 :‬‬
‫ومرة يتحدث عن اللزم لهما‪ ،‬فيقول‪ {:‬وَ َ‬
‫لن الحكمة من الليل تكمن في ظُلْمته‪ ،‬والحكمة من النهار تكمُن في نوره‪ ،‬فالظّلْمة سكَنٌ واستقرار‬
‫وراحة‪ .‬وفي الليل تهدأ العصاب من الشعة والضوء‪ ،‬ويأخذ البدن راحته؛ لذلك قال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ " :‬أطفئوا المصابيح إذا رقدتم "‪.‬‬
‫في حين نرى الكثيرين يظنون أن الضواء المبهرة ـ التي نراها الن ـ مظهر حضاري‪ ،‬وهم‬
‫غافلون عن الحكمة من الليل‪ ،‬وهي ظلمته‪.‬‬
‫سعْي‪ ،‬فمَن ارتاح في الليل يُصبح نشيطا للعمل‪ ،‬ول يعمل النسان إل‬
‫والنور للحركة والعمل وال ّ‬
‫إذا أخذ طاقة جديدة‪ ،‬وارتاحت أعضاؤه‪ ،‬ساعتها تستطيع أن تطلب منه أن يعمل‪.‬‬
‫ل وَال ّنهَارَ‪[} ..‬القصص‪]73 :‬‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الّي َ‬
‫حمَتِهِ َ‬
‫لذلك قال الحق سبحانه‪َ {:‬ومِن رّ ْ‬
‫سكُنُواْ فِيهِ‪[} ..‬القصص‪]73 :‬‬
‫لماذا؟{ لِتَ ْ‬
‫أي‪ :‬في الليل‪ {.‬وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ‪[} ..‬القصص‪ ]73 :‬أي‪ :‬في النهار‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لليل مهمة‪ ،‬وللنهار مهمة‪ ،‬وإياك أنْ تخلط هذه بهذه‪ ،‬وإذا ما وُجد عمل ل يُؤدّي إل بالليل‬
‫كالحراسة مثلً‪ ،‬نجد الحق سبحانه يفتح لنا بابا لنخرج من هذه القاعدة العامة‪.‬‬
‫ل وَال ّنهَارِ‪[} ..‬الروم‪]23 :‬‬
‫فيقول تعالى‪َ {:‬ومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالّي ِ‬
‫فجعل النهار أيضا محلً للنوم‪ ،‬فأعطانا ُفسْحة ورُخْصة‪ ،‬ولكن في أضيق نطاق‪َ ،‬فمَنْ ل يقومون‬
‫بأعمالهم إل في الليل‪ ،‬وهي نسبة ضئيلة ل تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه‬
‫لتنظيم حركة حياتنا‪.‬‬

‫فإذا خرج النسان عن هذه القاعدة‪ ،‬وتمرّد على هذا النظام اللهي‪ ،‬فإن الحق سبحانه يَردعه بما‬
‫يكبح جماحه‪ ،‬ويحميه من إسرافه على نفسه‪ ،‬وهذا من ُلطْفه تعالى ورحمته بخَلْقه‪.‬‬
‫هذا الردْع إما رَدْع ذاتيّ اختياري‪ ،‬وإما رَدْع َقهْريّ الردع الذاتي يحدث للنسان حينما يسعى في‬
‫حركة الحياة ويعمل‪ ،‬فيحتاج إلى طاقة‪ ،‬هذه الطاقة تحتاج إلى دم متدفق يجري في أعضائه‪ ،‬فإنْ‬
‫زادتْ الحركة عن طاقة النسان يلهث وتتلحق أنفاسه‪ ،‬وتبدو عليه أمارات التعب والرهاق‪ ،‬لن‬
‫الدم المتوارد إلى رئته ل يكفي هذه الحركة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذا نلحظه مثلً في صعود السّلّم‪ ،‬حيث حركة الصعود مناقضة لجاذبية الرض لك‪ ،‬فتحتاج‬
‫إلى قوة أكثر‪ ،‬وإلى دم أكثر وتنفس فوق التنفس العادي‪.‬‬
‫فكأن الحق سبحانه وتعالى جعل التعب والميل إلى الراحة رادعا ذاتيا في النسان‪ ،‬إذا ما تجاوز‬
‫حدّ الطاقة التي جعلها ال فيه‪.‬‬
‫َ‬
‫أما الردْع القهري فهو النوم‪ ،‬يلقيه ال على النسان إذا ما كابر وغالط نفسه‪ ،‬وظن أنه قادر على‬
‫مزيد من العمل دون راحة‪ ،‬فهنا يأتي دور الرادع القَسْري‪ ،‬فينام رغما عنه ول يستطيع المقاومة‪،‬‬
‫وكأن الطبيعة التي خلقها ال فيه تقول له‪ :‬ارحم نفسك‪ ،‬فإنك لم َتعُدْ صالحا للعمل‪.‬‬
‫فالحق تبارك وتعالى ل يُسلِم النسان لختياره‪ ،‬بل يُلقي عليه النوم وفقدان الوعي والحركة ليحميه‬
‫من حماقته وإسرافه على نفسه‪.‬‬
‫لذلك نرى الواحد مِنّا إذا ما تعرّض لمناسبة اضطرته لعدم النوم لمدة يومين مثلً‪ ،‬ل ُبدّ له بعد أن‬
‫حقّه من الراحة التي حُرم‬
‫ينتهي من مهمته هذه أنْ ينَام مثل هذه المدة التي سهرها؛ ليأخذ الجسم َ‬
‫منها‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬آيَتَيْنِ‪[ { ..‬السراء‪]12 :‬‬
‫قلنا‪ :‬إن الية هي الشيء العجيب الذي يدعو إلى التأمل‪ ،‬ويُظهِر قدرة الخالق وعظمته سبحانه‪،‬‬
‫والية تُطلَق على ثلثة أشياء‪:‬‬
‫ـ تُطلَق على اليات الكونية التي خلقها ال في كونه وأبدعها‪ ،‬وهذه اليات الكونية يلتقي بها‬
‫س وَا ْل َقمَرُ }[فصلت‪]37:‬‬
‫شمْ ُ‬
‫ل وَال ّنهَارُ وَال ّ‬
‫المؤمن والكافر‪ ،‬ومنها كما قال تعالى‪َ {:‬ومِنْ آيَا ِتهِ الّي ُ‬
‫جوَارِ فِي الْ َبحْرِ كَالَعْلَمِ }[الشورى‪]32 :‬‬
‫{ َومِنْ آيَا ِتهِ ا ْل َ‬
‫وهذه اليات تلفتنا إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪ -‬وتُطلق اليات على المعجزات التي تصاحب الرسل‪ ،‬وتكون دليلً على صدْقهم‪ ،‬فكل رسول‬
‫يُبعَث ليحمل رسالة الخالق لهداية الخَلْق‪ ،‬ل بُدّ أن يأتي بدليل على صِدْقه وأمارة على أنه رسول‪.‬‬
‫وهذه هي المعجزة‪ ،‬وتكون مما نبغ فيه قومه ومهروا؛ لتكون أوضح في إعجازهم وأدْعَى إلى‬
‫تصديقهم‪.‬‬
‫لوّلُونَ‪[} ..‬السراء‪]59 :‬‬
‫سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن كَ ّذبَ ِبهَا ا َ‬
‫قال تعالى‪َ {:‬ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّ ْر ِ‬
‫ـ وتُطلق اليات على آيات القرآن الكريم الحاملة للحكام‪.‬‬

‫إذن‪ :‬هذه أنواع ثلثةـ في كل منها عجائب تدعوك للتأمل‪ ،‬ففي الولى‪ :‬هندسة الكون ونظامه‬
‫العجيب البديع الدقيق‪ ،‬وفي الثانية‪ :‬آيات العجاز‪ ،‬حيث أتى بشيء نبغ فيه القوم‪ ،‬ومع ذلك لم‬
‫يستطيعوا التيان بمثله‪ ،‬وفي الثالثة‪ :‬آيات القرآن وحاملة الحكام؛ لنها أقوم نظام لحركة الحياة‪.‬‬
‫ل وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ‪[ { ..‬السراء‪]12 :‬‬
‫جعَلْنَا الّي َ‬
‫فقول الحق سبحانه‪ } :‬وَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي‪ :‬كونيتين‪ ،‬ول مانع أنْ تفسر الياتُ الكونية آيات القرآن‪.‬‬
‫حوْنَآ آيَةَ الّيلِ‪[ { ..‬السراء‪]12 :‬‬
‫وقوله‪َ } :‬فمَ َ‬
‫حلّ الظلم‪ ،‬أو مَحوْناهَا‪ :‬أي جعلناها هكذا‪ ،‬كما قلنا‪:‬‬
‫أي‪ :‬بعد أنْ كان الضوء غابت الشمس فَ َ‬
‫سبحان مَنْ بيّض اللبن‪.‬‬
‫أي خلقه هكذا‪ ،‬فيكون المراد‪ :‬خلق الليل هكذا مظلما‪.‬‬
‫جعَلْنَآ آيَةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً‪[ { ..‬السراء‪]12 :‬‬
‫} وَ َ‬
‫أي‪ :‬خلقنا النهار مضيئا‪ ،‬ومعنى مبصرة أو مضيئة أي‪ :‬نرى بها الشياء؛ لن الشياء ل تُرى في‬
‫حلّ الضياء والنور رأيناها‪ ،‬وعلى هذا كان ينبغي أن يقول‪ :‬وجعلنا آية النهار مُ ْبصَرا‬
‫الظلم‪ ،‬فإذا َ‬
‫فيها‪ ،‬وليست هي مبصرة‪.‬‬
‫وهذه كما في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون‪ {:‬فََلمّا جَآءَ ْت ُهمْ آيَاتُنَا مُ ْبصِ َرةً‪[} ..‬النمل‪]13 :‬‬
‫فنسب البصر إلى اليات‪ ،‬كما نسب البصر هنا إلى النهار‪.‬‬
‫وهذه مسألة حيّرتْ الباحثين في فلسفة الكون وظواهره‪ ،‬فكانوا يظنون أنك ترى الشياء إذا انتقل‬
‫الشعاع من عينك إلى المرئي فتراه‪ .‬إلى أن جاء العالم السلمي " ابن الهيثم " الذي َنوّر ال‬
‫بصيرته‪ ،‬وهداه إلى سِرّ رؤية الشياء‪ ،‬فأوضح لهم ما وقعوا فيه من الخطأ‪ ،‬فلو أن الشعاع ينتقل‬
‫من العين إلى المرئي لمكنك أن ترى الشياء في الظّلمة إذا كنتَ في الضوء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الشعاع ل يأتي من العين‪ ،‬بل من الشيء المرئي‪ ،‬ولذلك نرى الشياء إنْ كانت في الضوء‪،‬‬
‫ول نراها إن كانت في الظلم‪.‬‬
‫وعليه يكون الشيء المرئيّ هو الذي يبصرك من حيث هو الذي يتضح لك‪ ،‬ويساعدك على‬
‫رؤيته‪ ،‬ولذلك نقول‪ :‬هذا شيء يُلفت النظر أي‪ :‬يرسل إليك مَا يجعلك تلتفت إليه‪.‬‬
‫جعَلْنَآ آ َيةَ ال ّنهَارِ مُ ْبصِ َرةً‪[ { ..‬السراء‪]12 :‬‬
‫إذن‪ :‬التعبير القرآني‪ } :‬وَ َ‬
‫ق َوفِي‬
‫على مستوى عال من الدقة والعجاز‪ ،‬وصدق ال تعالى حين قال‪ {:‬سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬
‫حقّ }[فصلت‪]53 :‬‬
‫سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ الْ َ‬
‫أَنفُ ِ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬لِتَبْ َتغُواْ َفضْلً مّن رّ ّب ُكمْ‪[ { ..‬السراء‪]12 :‬‬
‫وهذه هي العلة الولى لية الليل والنهار‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن السعي وطلب الرزق ل يكون إل في النهار؛ لذلك أتى طلب فضل ال ورزقه بعد آية‬
‫النهار‪ ،‬ومعلوم أن النسان ل تكون له حركة نشاطية وإقبال على السّعي والعمل إل إذا كان‬
‫مرتاحا ول تتوفر له الراحة إل بنوم الليل‪.‬‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الّيلَ‬
‫حمَ ِتهِ َ‬
‫وبهذا نجد في الية الكريمة نفس الترتيب الوارد في قوله تعالى‪َ {:‬ومِن رّ ْ‬
‫سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ‪} ..‬‬
‫وَال ّنهَارَ لِتَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[القصص‪]73 :‬‬
‫سكُنُواْ فِيهِ‪[} ..‬القصص‪]73 :‬‬
‫فالترتيب في الية يقتضي أن نقول‪ {:‬لِتَ ْ‬
‫أي‪ :‬في الليل‪ {،‬وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ‪[} ..‬القصص‪ ]73 :‬أي‪ :‬في النهار‪ ،‬وعمل النهار ل يتم إل‬
‫براحة الليل‪ ،‬فهما ـ إذن ـ متكاملن‪.‬‬
‫ي وتفاعل‬
‫والحق سبحانه وتعالى جعل النهار مَحلً للحركة وابتغاء فضل ال؛ لن الحركة أمرٌ ماد ّ‬
‫ماديّ بين النسان ومادة الكون من حوله‪ ،‬كالفلح وتفاعله مع أرضه‪ ،‬والعامل تفاعله مع آلته‪.‬‬
‫هذا التفاعل المادي ل يتم إل في ضوء؛ لن الظلمة تغطي الشياء وتُعميها‪ ،‬وهذا يتناسب مع‬
‫الليل حيث ينام الناس‪ ،‬أما في السعي والحركة فل بُدّ من ضوء أتبين به الفاعل والمنفعل له‪ ،‬ففي‬
‫الظلمة قد تصطدم بما هو أقوى منك فيحطمك‪ ،‬أو بما هو أضعف منك فتحطمه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فأول خطوات ابتغاء فضل ال أن يتبيّن النسان المادة التي يتفاعل معها‪ .‬لذلك‪ ،‬فالحق‬
‫ج َعلَ الظُّلمَاتِ وَالنّورَ }[النعام‪]1 :‬‬
‫سبحانه جعل الظلمة سابقة للضياء‪ .‬فقال تعالى‪ {:‬وَ َ‬
‫لن النور محلّ للحركة‪ ،‬ول يمكن للنسان أن يعمل إل بعد راحة‪ ،‬والراحة ل تكون إل في ظُلْمة‬
‫الليل‪.‬‬
‫ن وَالْحِسَابَ‪[ { ..‬السراء‪]12 :‬‬
‫عدَدَ السّنِي َ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَلِ َتعَْلمُواْ َ‬
‫وهذه هي العِلّة الخرى لليل والنهار‪ ،‬حيث بمرورهما يتمّ حساب السنين‪.‬‬
‫عدَدَ { تقتضي شيئا له وحدات‪ ،‬ونريد أن نعرف كمية هذه الوحدات؛ لن الشيء إنْ لم‬
‫وكلمة } َ‬
‫تكُنْ له كميات متكررة فهو واحد‪.‬‬
‫ن وَالْحِسَابَ‪[ { ..‬السراء‪]12 :‬‬
‫وقوله‪ } :‬السّنِي َ‬
‫لنها من لوازم حركتنا في الحياة‪ ،‬فعن طريق حساب اليام نستطيع تحديد وقت الزراعات‬
‫المختلفة‪ ،‬أو وقت سقوط المطر‪ ،‬أو هبوب الرياح‪ .‬وفي العبادات نحدد بها أيام الحج‪ ،‬وشهر‬
‫الصوم‪ ،‬ووقت الصلة‪ ،‬ويوم الجمعة‪ ،‬هذه وغيرها من لوازم حياتنا ل نعرفها إل بمرور الليل‬
‫والنهار‪.‬‬
‫ولو تأملتَ عظمة الخالق سبحانه لوجدتَ القمر في الليل‪ ،‬والشمس في النهار‪ ،‬ولكل منهما مهمة‬
‫في حساب اليام والشهور والسنين‪ ،‬فالشمس ل تعرف بها إل اليوم الذي أنت فيه‪ ،‬حيث يبدأ اليوم‬
‫بشروقها وينتهي بغروبها‪ ،‬أما بالقمر فتستطيع حساب اليام والشهور؛ لن الخالق سبحانه جعل‬
‫فيه علمة ذاتية يتم الحساب على أساسها‪ ،‬فهو في أول الشهر هلل‪ ،‬ثم يكبر فيصير إلى تربيع‬
‫أول‪ ،‬ثم إلى تربيع ثان‪ ،‬ثم إلى بدر‪ ،‬ثم يأخذ في التناقص إلى أن يصل إلى المحاق آخر الشهر‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نستطيع أن نحدد اليوم بالشمس والشهور بالقمر‪ ،‬ومن هنا تثبت مواقيت العبادة بالليل دون‬
‫النهار‪ ،‬فتثبت رؤية رمضان ليلً أولً‪ ،‬ثم يثبت نهارا‪ ،‬فنقول‪ :‬الليلة أول رمضان‪ ،‬لذلك قال‬
‫حسَابَ }‬
‫ن وَالْ ِ‬
‫عدَدَ السّنِي َ‬
‫س ضِيَآ ًء وَا ْل َقمَرَ نُورا َوقَدّ َرهُ مَنَا ِزلَ لِ َتعَْلمُواْ َ‬
‫شمْ َ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫تعالى‪ُ {:‬هوَ الّذِي َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[يونس‪]5 :‬‬
‫فقوله‪َ {:‬وقَدّ َرهُ‪[} ..‬يونس‪ ]5 :‬أي‪ :‬القمر؛ لن به تتبين أوائل الشهور‪ ،‬وهو أدقّ نظام حسابي يُعتمد‬
‫عليه حتى الن عند علماء الفلك وعلماء البحار وغيرهم‪.‬‬

‫و{ مَنَا ِزلَ‪[} ..‬يونس‪ ]5 :‬هي البروج الثنى عشر للقمر التي أقسم ال بها في قوله تعالى‪{:‬‬
‫شهُودٍ }[البروج‪]3-1 :‬‬
‫سمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْ َيوْمِ ا ْل َموْعُودِ * وَشَا ِه ٍد َومَ ْ‬
‫وَال ّ‬
‫ولن حياة الخَلْق ل تقوم إل بحساب الزمن‪ ،‬فقد جعل الخالق سبحانه في َكوْنه ضوابط تضبط لنا‬
‫الزمن‪ ،‬وهذه الضوابط ل تصلح لضبط الوقت إل إذا كانت هي في نفسها منضبطة‪ ،‬فمثلً أنت ل‬
‫تستطيع أن تضبط مواعيدك على ساعتك إذا كانت غير منضبطة (تُقدّم أو تُأخّر)‪.‬‬
‫س وَا ْلقَمَرُ ِبحُسْبَانٍ }‬
‫شمْ ُ‬
‫لذلك يقول الخالق المبدع سبحانه عن ضوابط الوقت في َكوْنه‪ {:‬ال ّ‬
‫[الرحمن‪]5 :‬‬
‫أي‪ :‬بحساب دقيق ل يختلّ‪ ،‬وطالما أن الخالق سبحانه خلقها بحساب فاجعلوها ضوابط لحساباتكم‪.‬‬
‫شيْءٍ َفصّلْنَاهُ َت ْفصِيلً‪[ { ..‬السراء‪]12 :‬‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬وكُلّ َ‬
‫معنى التفصيل أن تجعل بَيْنا بين شيئين‪ ،‬وتقول‪ :‬فص ْلتُ شيئا عن شيء‪ ،‬فالحق سبحانه فصّل لنا‬
‫كل ما يحتاج إلى تفصيل‪ ،‬حتى ل يلتبس علينا المر في كل نواحي الحياة‪.‬‬
‫ل يقول سبحانه‪ {:‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ُقمْ ُتمْ إِلَى الصّلةِ فاغْسِلُواْ‬
‫ومثال ذلك في الوضوء مث ً‬
‫وُجُو َهكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ إِلَى ا ْلمَرَافِقِ }[المائدة‪]6 :‬‬
‫فأطلق غَسْل الوجه؛ لنه ل يختلف عليه أحد‪ ،‬وحدّد اليدي إلى المرافق‪ ،‬لن اليدي يُختلف في‬
‫تحديدها‪ ،‬فاليد قد تكون إلى الرّسْغ‪ ،‬أو إلى المرفق‪ ،‬أو إلى الكتف‪ ،‬لذلك حددها ال تعالى‪ ،‬لنه‬
‫سبحانه يريدها على شكل مخصوص‪.‬‬
‫سكُ ْم وَأَرْجَُل ُكمْ إِلَى ا ْل َكعْبَينِ }[المائدة‪]6 :‬‬
‫وكذلك في قوله تعالى‪ {:‬وَامْسَحُواْ بِ ُرؤُو ِ‬
‫فالرأس يناسبها المسْح ل الغَسْل‪ ،‬والرّجْلَن كاليد ل ُبدّ أنْ ُتحَدّد‪ .‬فإذا لم يوجد الماء أو تعذّر‬
‫سحُواْ‬
‫صعِيدا طَيّبا فَامْ َ‬
‫استعماله شرع لنا سبحانه التيمم‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬فَلَمْ َتجِدُواْ مَآءً فَتَ َي ّممُو ْا َ‬
‫ِبوُجُو ِهكُ ْم وَأَيْدِي ُكمْ‪[} ..‬النساء‪]43 :‬‬
‫والتيمم يقوم مقام الوضوء‪ ،‬من حيث هو استعداد للصلة ولقاء الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬وقد يظن‬
‫البعض أن الحكمة من الوضوء الطهارة والنظافة‪ ،‬وكذلك التيمّم؛ لذلك يقترح بعضهم أن نُنظّف‬
‫أنفسنا بالكولونيا مثلً‪.‬‬
‫نقول‪ :‬ليس المقصود بالوضوء أو التيمم الطهارة أو النظافة‪ ،‬بل المراد الستعداد للصلة وإظهار‬
‫الطاعة والنصياع لشرع ال تعالى‪ ،‬وإل كيف تتم الطهارة أو النظافة بالتراب؟‬
‫هذا الستعداد للصلة هو الذي جعل سيدنا علي زين العابدين رضي ال عنه َيصْفرّ وجهه عند‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الوضوء‪ ،‬وعندما سُئِل عن ذلك قال‪ :‬أتعلمون على مَنْ أنا مُقبل الن؟‬
‫فللقاء الحق سبحانه وتعالى رهبة يجب أن يعمل لها المؤمن حسابا‪ ،‬وأنْ يستعدّ للصلة بما شرعه‬
‫له ربه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬و ُكلّ إِنْسَانٍ َألْ َزمْنَاهُ طَآئِ َرهُ فِي عُ ُنقِهِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)2025 /‬‬

‫َوكُلّ إِنْسَانٍ أَلْ َزمْنَاهُ طَائِ َرهُ فِي عُ ُنقِ ِه وَنُخْرِجُ َلهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابًا يَ ْلقَاهُ مَنْشُورًا (‪)13‬‬

‫كلمة (طائره) أي‪ :‬عمله وأصلها أن العرب كانوا في الماضي يزجرون الطير‪ ،‬أي‪ :‬إذا أراد‬
‫أحدهم أنْ يُمضيَ عملً يأتي بطائر ثم يطلقه‪ ،‬فإنْ مَرّ من اليسار إلى اليمين يسمونه " السانح "‬
‫ويتفاءلون به‪ ،‬وإنْ مَرّ من اليمين إلى اليسار يسمونه " البارح " ويتشاءمون به‪ ،‬ثم يتهمون الطائر‬
‫وينسبون إليه العمل‪ ،‬ول ذنب له ول جريرة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كانوا يتفاءلون باليمين‪ ،‬ويتشاءمون باليسار‪ ،‬وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم يحب الفأل‬
‫الحسن‪ ،‬ول يحب التشاؤم؛ لن الفَأْل الطيب يُنشّط أجهزة الجسم انبساطا للحركة‪ ،‬أما التشاؤم‬
‫فيدعو للتراجع والحجام‪ ،‬ويقضي على الحركة والتفاعل في الكون‪.‬‬
‫والحق سبحانه هنا يُوضّح‪ :‬ل تقوّلوا الطائر ول تتهموه‪ ،‬بل طائرك أي‪ :‬عملك في عنقك يلزمك‬
‫ول ينفكّ عنك أبدا‪ ،‬ول يُسأل عنه غيره‪ ،‬كما أنه ل يُسأل عن عمل الخرين‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬ولَ‬
‫تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَىا‪[} ..‬السراء‪]15 :‬‬
‫فل تُلقي بتبعة أفعالك على الحيوان الذي ل ذنب له‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَنُخْرِجُ لَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابا يَ ْلقَاهُ مَنْشُورا } [السراء‪]13 :‬‬
‫وهو كتاب أعماله الذي سجّلتْه عليه الحفظة الكاتبون‪ ،‬والذي قال ال عنه‪ {:‬وَ َيقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَالِ‬
‫ظلِمُ رَ ّبكَ‬
‫عمِلُواْ حَاضِرا وَلَ يَ ْ‬
‫حصَاهَا َووَجَدُواْ مَا َ‬
‫صغِي َر ًة َولَ كَبِي َرةً ِإلّ َأ ْ‬
‫هَـاذَا ا ْلكِتَابِ لَ ُيغَادِ ُر َ‬
‫أَحَدا }[الكهف‪]49 :‬‬
‫هذا الكتاب سيلقاه يوم القيامة منشورا‪ .‬أي‪ :‬مفتوحا مُعدّا للقراءة‪.‬‬
‫سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا }‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬اقْ َرأْ كِتَا َبكَ كَفَىا بِ َنفْ ِ‬

‫(‪)2026 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبًا (‪)14‬‬
‫اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ‬

‫الحق تبارك وتعالى يُصوّر لنا موقفا من مواقف يوم القيامة‪ ،‬حيث يقف العبد بين يديْ ربه عزّ‬
‫وجل‪ ،‬فيدعوه إلى أن يقرأ كتابه بنفسه‪ ،‬ليكون هو حجة على نفسه‪ ،‬ويُقِر بما اقترف‪ ،‬والقرار‬
‫سيد الدلة‪.‬‬
‫فهذا موقف ل مجالَ فيه للعناد أو المكابرة‪ ،‬ول مجالَ فيه للجدال أو النكار‪ ،‬فإن حدث منه إنكار‬
‫جعل ال عليه شاهدا من جوارحه‪ ،‬فيُنطقها الحق سبحانه بقدرته‪:‬‬
‫ش َهدُ عَلَ ْيهِمْ أَ ْلسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِي ِه ْم وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النور‪]24 :‬‬
‫يقول تعالى‪َ {:‬يوْمَ تَ ْ‬
‫شيْءٍ }[فصلت‪:‬‬
‫طقَ ُكلّ َ‬
‫طقَنَا اللّهُ الّذِي أَن َ‬
‫شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ‬
‫ويقول سبحانه‪َ {:‬وقَالُواْ لِجُلُو ِدهِمْ ِلمَ َ‬
‫‪]21‬‬
‫وقد جعل الخالق سبحانه للنسان سيطرةً على جوارحه في الدنيا‪ ،‬وجعلها خاضعة لرادته ل‬
‫تعصيه في خير أو شر‪ ،‬فبيده يضرب ويعتدي‪ ،‬وبيده يُنفق ويقيل عثرة المحتاج‪ ،‬وبرجْله يسعى‬
‫إلى بيت ال أو يسعى إلى مجلس الخمر والفساد‪.‬‬
‫وجوارحه في كل هذا مُسخّرة طائعة ل تتأبى عليه‪ ،‬حتى وإن كانت كارهة للفعل؛ لنها منقادة‬
‫لمراداتك‪ ،‬ف ِفعْلها لك ليس دليلً على الرضى عنك؛ لنه قد يكون رضى انقياد‪.‬‬
‫وقد ضربنا مثلً لذلك بقائد السرية‪ ،‬فأمره نافذ على جنوده‪ ،‬حتى وإن كان خطئا‪ ،‬فإذا ما فقد هذا‬
‫القائد السيطرة وأصبح الجنود أمام القائد العلى باحوا له بكل شيء‪.‬‬
‫كذلك في الدنيا جعل ال للنسان إرادة على جوارحه‪ ،‬فل تتخلف عنه أبدا‪ ،‬لكنها قد تفعل وهي‬
‫كارهة وهي لعنةٌ له‪ ،‬وهي مُبغِضة له ولِفعْله‪ ،‬فإذا كان‬
‫سكَ‬
‫القيامة وانحلّت من إرادته‪ ،‬وخرجتْ من سجن سيطرته‪ ،‬شهدتْ عليه بما كان منه‪َ { .‬كفَىا بِ َنفْ ِ‬
‫الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا } [السراء‪]14 :‬‬
‫أي‪ :‬كفانا أن تكون أنت قارئا وشاهدا على نفسك‪.‬‬
‫سهِ‪.} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬مّنِ اهْتَدَىا فَإِ ّنمَا َيهْتَدي لِ َنفْ ِ‬

‫(‪)2027 /‬‬

‫ضلّ عَلَ ْيهَا وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَى َومَا كُنّا‬
‫ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ‬
‫ن َ‬
‫مَنِ اهْتَدَى فَإِ ّنمَا َيهْ َتدِي لِ َنفْسِ ِه َومَ ْ‬
‫ُمعَذّبِينَ حَتّى نَ ْب َعثَ رَسُولًا (‪)15‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قوله تعالى‪ { :‬مّنِ اهْ َتدَىا فَإِ ّنمَا َيهْتَدي لِ َنفْسِهِ‪[ } ..‬السراء‪]15 :‬‬
‫لن الحق سبحانه ل تنفعه طاعة‪ ،‬ول تضره معصية‪ ،‬وهو سبحانه الغنيّ عن عباده‪ ،‬وبصفات‬
‫كماله وضع منهج الهداية للنسان الذي جعله خليفة له في أرضه‪ ،‬وقبل أنْ يخلقه أعدّ له مُقوّمات‬
‫الحياة كلها من أرض وسماء‪ ،‬وشمس وقمر‪ ،‬وهواء وجبال ومياه‪.‬‬
‫فصفات الكمال ثابتة له سبحانه قبل أن يخلق الخَلْق‪ ،‬إذن‪ :‬فطاعتهم لن تزيده سبحانه شيئا‪ ،‬كما أن‬
‫معصيتهم لن تضره سبحانه في شيء‪.‬‬
‫وهنا قد يسأل سائل‪ :‬فلماذا التكليفات إذن؟‬
‫نقول‪ :‬إن التكليف من ال لعباده من أجلهم وفي صالحهم‪ ،‬لكي تستمر حركة حياتهم‪ ،‬وتتساند ول‬
‫تتعاند؛ لذلك جعل لنا الخالق سبحانه منهجا نسير عليه‪ ،‬وهو منهج واجب التنفيذ لنه من ال‪ ،‬من‬
‫الخالق الذي يعلم من خلق‪ ،‬ويعلم ما يصلحهم ويُنظم حياتهم‪ ،‬فلو كان منهج بشر لبشر لكان لك أنْ‬
‫تتأبّى عليه‪ ،‬أما منهج ال فل ينبغي الخروج عليه‪.‬‬
‫لذلك نسمع في المثال الدارجة عند أهل الريف يقولون‪ :‬الصبع الذي يقطعه الشرع ل ينزف‪،‬‬
‫والمعنى أن الشرع هو الذي أمر بذلك‪ ،‬فل اعتراض عليه‪ ،‬ولو كان هذا بأمر البشر لقامت الدنيا‬
‫ولم تقعُدْ‪.‬‬
‫ن أو تقصير؛‬
‫ومن كماله سبحانه وغِنَاهُ عن الخَلْق يتحمل عنهم ما يصدر عنهم من أحكام أو تج ّ‬
‫ذلك لن كل شيء عنده بمقدار‪ ،‬ول يُقضى أمر في الرض حتى يُقضى في السماء‪ ،‬فإذا كّل ْفتَ‬
‫واحدا بقضاء مصلحة لك‪ ،‬فقصّر في قضائها‪ ،‬أو رفض‪ ،‬أو سعى فيها ولم يُوفّق نجدك غاضبا‬
‫عليه حانقا‪.‬‬
‫وهنا يتحمّل الخالق سبحانه عن عباده‪ ،‬ويُعفيهم من هذا الحرج‪ ،‬ويعلمهم أن الحاجات بميعاد‬
‫وبقضاء عنده سبحانه‪ ،‬فل تلوموا الناس‪ ،‬فلكل شيء ميلد‪ ،‬ول داعيَ لنْ نسبق الحداث‪،‬‬
‫ولننتظر الفرج وقضاء الحوائج من ال تعالى أولً‪.‬‬
‫ومن هنا يُعلّمنا السلم قبل أن َنعِد بعمل شيء ل ُبدّ أنْ نسبقه بقولنا‪ :‬إنْ شاء ال لنحمي أنفسنا‪،‬‬
‫ونخرج من دائرة الحرج أو الكذب إذا لم نستطع الوفاء‪ ،‬فأنا ـ إذن ـ في حماية المشيئة اللهية‬
‫ن ُو ّفقْتُ فبها ونِعمت‪ ،‬وإن عجزت فإن الحق سبحانه لم يشأ‪ ،‬وأخرج أنا من أوسع البواب‪.‬‬
‫إْ‬
‫إذن‪ :‬تشريعات ال تريد أن تحمي الناس من الناس‪ ،‬تريد أن تجتث أسباب الضّغن على الخر‪ ،‬إذا‬
‫لم تقض حاجتك على يديه‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يقول لك‪ :‬تمهل فكل شيء وقته‪ ،‬ول تظلم الناس‪،‬‬
‫سعْيُه‬
‫فإذا ما قضيتَ حاجتك فاعلم أن الذي كّلفْته بها ما قضاها لك في الحقيقة‪ ،‬ولكن صادف َ‬
‫ميلدَ قضاء هذه الحاجة‪ ،‬فجاءت على يديه‪ ،‬فالخير في الحقيقة من ال‪ ،‬والناس أسباب ل غير‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتتضح لنا هذه القضية أكثر من مجال الطب وعلج المرضى‪ ،‬فالطبيب سبب‪ ،‬والشفاء من ال‪،‬‬
‫وإذا أراد ال لحد الطباء التوفيق والقبول عند الناس جعل مجيئه على ميعاد الشفاء فيلتقيان‪.‬‬
‫ومن هنا نجد بعض الطباء الواعين لحقيقة المر يعترفون بهذه الحقيقة‪ ،‬فيقول أحدهم‪ :‬ليس لنا‬
‫إل في (الخضرة)‪.‬‬
‫والخضرة معناها‪ :‬الحالة الناجحة التي حان وقت شفائها‪.‬‬
‫لقْدَارِفقول الحق‬
‫خطَأُ الطّبِيبِ إصَابَ ُة ا َ‬
‫وصدق الشاعر حين قال‪:‬والناسُ يلْحون الطّب ِيبَ وإنّما َ‬
‫تبارك وتعالى‪ } :‬مّنِ اهْتَدَىا فَإِ ّنمَا َيهْتَدي لِ َنفْسِهِ‪[ { ..‬السراء‪]15 :‬أي‪ :‬لصالح نفسه‪.‬‬
‫والهتداء‪ :‬يعني اللتزام بمنهج ال‪ ،‬والتزامك عائد عليك‪ ،‬وكذلك التزام الناس بمنهج ال عائد‬
‫عليك أيضا‪ ،‬وأنت المنتفع في كل الحوال بهذا المنهج؛ لذلك حينما ترى شخصا مستقيما عليك أن‬
‫تحمد ال‪ ،‬وأن تفرحَ باستقامته‪ ،‬وإياك أن تهزأ به أو تسخر منه؛ لن استقامته ستعود بالخير عليك‬
‫في حركة حياتك‪.‬‬
‫ضلّ عَلَ ْيهَا‪[ { ..‬السراء‪]15 :‬‬
‫ضلّ فَإِ ّنمَا َي ِ‬
‫وفي المقابل يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومَن َ‬
‫أي‪ :‬تعود عليه عاقبةُ انصرافه عن منهج ال؛ لن شرّ النسان في عدم التزامه بمنهج ال يعود‬
‫عليك ويعود على الناس من حوله‪ ،‬فيشقى هو بشرّه‪ ،‬ويشقى به المجتمع‪.‬‬
‫ومن العجب أن نرى بعض الحمقى إذا رأى مُنحرفا أو سيء السلوك ينظر إليه نظرة ُبغْض‬
‫وكراهية‪ ،‬ويدعو ال عليه‪ ،‬وهو ل يدري أنه بهذا العمل يزيد الطين بلة‪ ،‬ويُوسّع الخُرْق على‬
‫الراقع كما يقولون‪.‬‬
‫فهذا المنحرف في حاجة لمَنْ يدعو ال له بالهداية‪ ،‬حتى تستريح أولً من شرّه‪ ،‬ثم لتتمتع بخير‬
‫هدايته ثانيا‪ .‬أما الدعاء عليه فسوف يزيد من شرّه‪ ،‬ويزيد من شقاء المجتمع به‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق علّمنا السلم أن مَنْ كانت لديه قضية علمية تعود بالخير‪ ،‬فعليه أنْ يُعديها إلى‬
‫الناس؛ لنك حينما تُعدّي الخير إلى الناس ستنتفع بأثره فيهم‪ ،‬فكما انتفعوا هم بآثار خِلَلك‬
‫الحميدة‪ ،‬فيمكنك أنت أيضا النتفاع بآثار خللهم الحميدة إن نقلتها إليهم‪.‬‬
‫لذلك حرّم السلم كَتْم العلم لما يُسبّبه من أضرار على الشخص نفسه وعلى المجتمع‪.‬‬
‫يقول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬من كتم علما ألجمه ال بلجام من نار يوم القيامة "‪.‬‬
‫وكذلك من الكمال الذي يدعونا إليه المنهج اللهي أن يُتقِن كل صاحب مهنة مهنته‪ ،‬وكل صاحب‬
‫ل واحدا‪ ،‬لكن حاجاته في الحياة كثيرة ومتعددة‪.‬‬
‫صَنْعة صَنْعته‪ ،‬فالنسان في حركة حياته يُتقِن عم ً‬
‫فالخياط مثلً الذي يخيط لنا الثياب ل يتقن غير هذه المهنة‪ ،‬وهو يحتاج في حياته إلى ِمهَن‬
‫وصناعات كثيرة‪ ،‬يحتاج إلى‪ :‬الطبيب والمعلم والمهندس والحداد والنجار والفلح‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫فلو أتقن عمله وأخلص فيه لَسخّر ال له مَنْ يتقن له حاجته‪ ،‬ولو رَغْما عنه‪ ،‬أو عن غير قصد‪ ،‬أو‬
‫حتى بالمصادفة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬من كمالك أن يكون الناس في كمال‪ ،‬فإنْ أتقنتَ عملك فأنت المستفيد حتى إنْ كان الناس من‬
‫حولك أشرارا ل يتقنون شيئا فسوف يُيسّر ال لهم سبيل إتقان حاجتك‪ ،‬من حيث ل يريدون ول‬
‫يشعرون‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ } :‬وَلَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَىا‪[ { ..‬السراء‪]15 :‬‬


‫أي‪ :‬ل يحمل أحدٌ ذنبَ أحدٍ‪ ،‬ول يُؤاخَذ أحدٌ بجريرة غيره‪ ،‬وكلمة‪ } :‬تَزِ ُر وَازِ َرةٌ‪[ { ..‬السراء‪:‬‬
‫‪]15‬‬
‫حمْل الثقيل‪ ،‬ومنها كلمة الوزير‪ :‬أي الذي يحمل العباء الثقيلة عن الرئيس‪ ،‬أو‬
‫من الوزر‪ :‬وهو ال ِ‬
‫الملك أو المير‪.‬‬
‫فع ْدلُ ال يقتضي أنْ يُحاسب النسان بعمله‪ ،‬وأنْ يُسأل عن نفسه‪ ،‬فل يرمي أحد ذنبه على أحد‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪ {:‬لّ َيجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَ ِد ِه َولَ َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَن وَالِ ِدهِ شَيْئا‪[} ..‬لقمان‪]33 :‬‬
‫وحول هذه القضية تحدّث كثير من المستشرقين الذين يبحثون في القرآن عن مأخذ‪ ،‬فوقفوا عند‬
‫هذه الية‪َ } :‬ولَ تَزِ ُر وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَىا‪[ { ..‬السراء‪]15 :‬‬
‫حمِلُنّ أَ ْثقَاَلهُ ْم وَأَ ْثقَالً مّعَ أَ ْثقَاِلهِمْ‪[} ..‬العنكبوت‪]13 :‬‬
‫وقالوا‪ :‬كيف نُوفّق بينها وبين قوله‪ {:‬وَلَ َي ْ‬
‫علْمٍ َألَ سَآءَ مَا‬
‫حمِلُواْ َأوْزَارَهُمْ كَامِلَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّونَهُمْ ِبغَيْرِ ِ‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬لِيَ ْ‬
‫يَزِرُونَ }[النحل‪]25 :‬‬
‫ونقول‪ :‬التوفيق بين الية الولى واليتين الخيرتين هيّن لو فهموا الفرق بين الوِزْر في الية‬
‫الولى‪ ،‬والوِزْر في اليتين الخيرتين‪.‬‬
‫ضلّ هو في نفسه‪ ،‬فيجب أنْ يتحمّل وزْر‬
‫ففي الولى وزر ذاتيّ خاص بالنسان نفسه‪ ،‬حيث َ‬
‫ضلله‪ .‬أما في الية الثانية فقد أضلّ غيره‪ ،‬فتحمّل وِزْره الخاص به‪ ،‬وِتحمّل وِزْر مَنْ أضلّهم‪.‬‬
‫ويُوضّح لنا هذه القضية الحديث النبوي الشريف‪ " :‬من سن في السلم سنة حسنة فله أجرها‬
‫وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء‪ ،‬ومن سن في السلم سنة سيئة‬
‫كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء "‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً { [السراء‪]15 :‬‬
‫العذاب‪ :‬عقوبة على مخالفة‪ ،‬لكن قبل أنْ تُعاقبني عليها ل ُبدّ أن تُعلّمني أن هذه مخالفة أو جريمة‬
‫(وهي العمل الذي يكسر سلمة المجتمع)‪ ،‬فل جريمة إل بنصّ ينصّ عليها ويُقنّنها‪ ،‬ويُحدّد العقاب‬
‫عليها‪ ،‬ثم بعد ذلك يجب العلم بها في الجرائد الرسمية لكي يطلع عليها الناس‪ ،‬وبذلك تُقام عليهم‬
‫الحجة إنْ خالفوا أو تعرّضوا لهذه العقوبة‪.‬‬
‫ص إل‬
‫لذلك حتى في القانون الوضعي نقول‪ :‬ل عقوبة إل بتجريم‪ ،‬ول تجريم إل بنصّ‪ ،‬ول ن ّ‬
‫بإعلم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا ما اتضحت هذه الركان في أذهان الناس كان للعقوبة معنى‪ ،‬وقامت الحجة على المخالفين‪،‬‬
‫أما أنْ نعاقب شخصا على جريمة هو ل يعلم بها‪ ،‬فله أن يعترضَ عليك من منطلق هذه الية‪.‬‬
‫أما أنْ يُجرّم هذا العمل‪ ،‬ويُعلَن عنه في الصحف الرسمية‪ ،‬فل حجة لمَنْ جهله بعد ذلك؛ لن‬
‫الجهل به بعد العلم عنه ل يُعفِي من العقوبة‪.‬‬

‫فكأن قول ال تعالى‪َ } :‬ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ َرسُولً { [السراء‪ ]15 :‬يجمع هذه الركان‬
‫السابقة‪ :‬الجريمة‪ ،‬والعقوبة‪ ،‬والنص‪ ،‬والعلم‪ ،‬حيث أرسل ال الرسول يُعلّم الناس منهج الحق‬
‫سبحانه‪ ،‬ويُحدّد لهم ما جرمه الشرع والعقوبة عليه‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى في آية أخرى‪ {:‬وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا َنذِيرٌ }[فاطر‪]24 :‬‬
‫سلِ أَن َتقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن‬
‫ويقول‪ {:‬يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ قَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ َلكُمْ عَلَىا فَتْ َرةٍ مّنَ الرّ ُ‬
‫بَشِي ٍر َولَ نَذِيرٍ َفقَدْ جَا َءكُمْ َبشِي ٌر وَنَذِيرٌ‪[} ..‬المائدة‪]19:‬‬
‫إذن‪ :‬قد انقطعت حجتكم برسالة محمد البشير النذير صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقد وقف العلماء أمام هذه القضية فقالوا‪ :‬إن كانت الحجة قد قامت على مَن آمن برسالة محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فما بال الكافر الذي لم يؤمن ولم يعلم منهج ال؟ وكأنهم يلتمسون له العذر‬
‫بكفره‪.‬‬
‫ل بعقله‪ ،‬وبما ركّبه فيه خالقه سبحانه من ميزان إيماني‬
‫نقول‪ :‬لقد عرف النسان ربه عز وجل أو ً‬
‫هو الفطرة‪ ،‬هذه الفطرة هي المسئولة عن اليمان بقوة قاهرة وراء الوجود‪ ،‬وإنْ لم يأتِ رسول‪،‬‬
‫والمثلة كثيرة لتوضيح هذه القضية‪:‬‬
‫َهبْ أنك قد انقطعتْ بك السّبل في صحراء واسعة شاسعة ل تجد فيها أثرا لحياة‪ ،‬وغلبك النومُ‬
‫فن ْمتَ‪ ،‬وعندما استيقظتَ فوجئت بمائدة منصوبة لك عليها أطايب الطعام والشراب‪.‬‬
‫عمّنْ أتى بها‬
‫ل تلفت انتباهك وتثير تساؤلتك َ‬
‫بال َألَ تفكّر في أمرها قبل أن تمتدّ يدُك إليها؟ أ َ‬
‫إليك؟‬
‫وهكذا النسان بعقله وفطرته ل بُدّ أنْ يهتديَ إلى أن للكون خالقا مُبْدِعا‪ ،‬ول يمكن أن يكون هذا‬
‫النظام العجيب المتقن وليدَ المصادفة‪ ،‬وهل عرف آدم ربه بغير هذه الدوات التي خلقها ال فينا؟‬
‫لقد جئنا إلى الحياة فوجدنا عالما مستوفيا للمقوّمات والمكانيات‪ ،‬وجدنا أمام أعيننا آياتٍ كثيرة‬
‫دالّة على الخالق سبحانه‪ ،‬كل منها خيط لو تتبعته لوصلك‪ .‬خذ مثلً الشمس التي تنير الكون على‬
‫ت يوما‪ ،‬ول تأخرت لحظة عن موعدها‪َ ،‬ألَ‬
‫ُبعْدها تطلع في الصباح وتغرب في المساء‪ ،‬ما تخلّف ْ‬
‫تسترعي هذه الية الكونية انتباهك؟‬
‫وقد سبق أنْ ضربنا مثلً بـ " أديسون " الذي اكتشف الكهرباء‪ ،‬وكم أخذ من الهتمام والدراسة‬
‫في حين أن الضاءة بالكهرباء تحتاج إلى أدوات وأجهزة وأموال‪ ،‬وهي عُرْضة للعطال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومصدر للخطار‪ ،‬فما بالنا نغفل عن آية الضاءة الربانية التي ل تحتاج إلى مجهود أو أموال أو‬
‫صيانة أو خلفه؟‬
‫والعربي القُحّ الذي ما عرف غير الصحراء حينما رأى َبعْر البعير وآثار القدام استدلّ بالثر‬
‫على صاحبه‪ ،‬فقال في بساطة العرب‪ :‬ال َبعْرة تدلّ على البعير‪ ،‬والقدم تدلّ على المسير‪ ،‬سماء‬
‫ذات أبراج‪ ،‬وأرض ذات فجاج‪ ،‬ونجوم تزهر‪ ،‬وبحار تزخر‪ ،‬أل يدل ذلك على وجود اللطيف‬
‫الخبير؟‬
‫إذن‪ :‬بالفطرة التكوينية التي جعلها ال في النسان يمكن له أن يهتدي إلى أن للكون خالقا‪ ،‬وإنْ لم‬
‫يعرف مَنْ هو‪ ،‬مجرد أن يعرف القوة الخفية وراء هذا الكون‪.‬‬

‫وحينما يأتي رسول من عند ال يساعده في الوصول إلى ما يبحث عنه‪ ،‬ويدلّه على ربه وخالقه‪،‬‬
‫وأن هذه القوة الخفية التي حيّرتْك هي (ال) خالقك وخالق الكون كله بما فيه ومَن فيه‪.‬‬
‫وهو سبحانه واحد ل شريك له‪ ،‬شهد لنفسه أنه ل إله إل هو ولم يعارضه أحد ولم َي ّدعِ أحد أنه إله‬
‫سِل َمتْ له سبحانه هذه الدعوى؛ لن صاحب الدعوة حين يدّعيها تسلم له إذا لم‬
‫مع ال‪ ،‬وبذلك َ‬
‫يوجد معارض لها‪.‬‬
‫وهذه الفطرة اليمانية في النسان هي التي عنَاهَا الحق سبحانه في قوله تعالى‪ {:‬وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن‬
‫ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا‪[} ..‬العراف‪]172 :‬‬
‫سهِمْ أََل ْ‬
‫شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ‬
‫بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ‬
‫وهذا هو ال َعهْد اللهي الذي أخذه ال على خَلْقه وهم في مرحلة الذّرّ‪ ،‬حيث كانوا جميعا في آدم ـ‬
‫عليه السلم ـ فالنْسَال كلها تعود إليه‪ ،‬وفي كل إنسان إلى يوم القيامة ذرة من آدم‪ ،‬هذه الذرة‬
‫هي التي شهدتْ هذا العهد‪ ،‬وأق ّرتْ أنه ل إله إل ال‪ ،‬ثم ذابتْ هذه الشهادة في فطرة كل إنسان؛‬
‫لذلك نسميها الفطرة اليمانية‪.‬‬
‫ونقول للكافر الذي أهمل فطرته اليمانية وغفل عنها‪ ،‬وهي تدعوه إلى معرفة ال‪ :‬كيف تشعر‬
‫ش َممْته؟‬
‫بالجوع فتطلب الطعام؟ وكيف تشعر بالعطش فتطلب الماء؟ أرأيت الجوع أو لمسْتَه أو َ‬
‫إنها الفطرة والغريزة التي جعلها ال فيك‪ ،‬فلماذا استخدمت هذه‪ ،‬وأغفلت هذه؟‬
‫والعجيب أن ينصرف النسان العاقل عن ربه وخالقه في حين أن الكون كله من حوله بكل ذراته‬
‫ت الكون وذراتُ التكوين في المؤمن وفي الكافر تُسبّح بحمد ربها‪ ،‬كما قال‬
‫يُسبّح بحمد ربّه‪ ،‬فذرا ُ‬
‫حهُمْ‪[ { ..‬السراء‪ ]44 :‬فكيف بك‬
‫حمْ ِد ِه وَلَـاكِن لّ َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ‬
‫شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ بِ َ‬
‫تعالى‪ } :‬وَإِن مّن َ‬
‫يا سيد الكون تغفل عن ال والذرات فيك مُسبّحة‪ ،‬فإن كانت ذرات المؤمن حدث بينه وبين ذرات‬
‫تكوينه انسجام واتفاق‪ ،‬وتجاوب تسبيحه مع تسبيح ذراته وأعضائه وتوافقت إرادته اليمانية مع‬
‫إيمان ذراته‪ ،‬فترى المؤمن مُنْسجما مع نفسه مع تكوينه المادي‪.‬‬
‫ويظهر هذا النسجام بين إرادة النسان وبين ذرّاته وأعضائه في ظاهرة النوم‪ ،‬فالمؤمن ذرّاته‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأعضائه راضية عنه تُحبه وتُحب البقاء معه ل تفارقه؛ لن إرادته في طاعة ال‪ ،‬فترى المؤمن‬
‫ل ينام كثيرا مجرد أن تغفل عينه ساعةً من ليل أو نهار تكفيه ذلك؛ لن أعضاءه في انسجام مع‬
‫جعُونَ‪[} ..‬الذاريات‪]17 :‬‬
‫إرادته‪ ،‬وهؤلء الذين قال ال فيهم‪ {:‬كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ‬
‫وكان النبي صلى ال عليه وسلم تنام عينه ول ينام قلبه‪ ،‬لنه في انسجام تام مع إرادته صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬

‫وما أشبه النسان في هذه القضية بسيد شرس سيء الخُلق‪ ،‬لديه عبيد كثيرون‪ ،‬يعانون من سُوء‬
‫معاملته‪ ،‬فيلتمسون الفرصة للبتعاد عنه والخلص من معاملته السيئة‪.‬‬
‫على خلف الكافر‪ ،‬فذراته مؤمنة وإرادته كافرة‪ ،‬فل انسجام ول توافق بين الرادة والتكوين‬
‫المادي له‪ ،‬لذا ترى طبيعته قلقة‪ ،‬ليس هناك تصالح بينه وبين ذراته‪ ،‬لنها تبغضه وتلعنه‪ ،‬وتود‬
‫مفارقته‪.‬‬
‫ولول أن الخالق سبحانه جعلها مُنْقادةً له لما طاوعتْه‪ ،‬وإنها لتنتظر يوم القيامة يوم أنْ تفكّ من‬
‫إرادته‪ ،‬وتخرج من سجنه‪ ،‬لتنطق بلسان مُبين‪ ،‬وتشهد عليه بما اقترف في الدنيا من كفر وجحود؛‬
‫لذلك ترى الكافر ينام كثيرا‪ ،‬وكأن أعضاءه تريد أن ترتاح من شره‪.‬‬
‫ول ُبدّ أن نعلم أن ذرات الكون وذرات النسان في تسبيحها للخالق سبحانه‪ ،‬أنه تسبيح فوق‬
‫حهُمْ‪[} ..‬السراء‪]44 :‬‬
‫مدارك البشر؛ لذلك قال تعالى‪ {:‬وَلَـاكِن لّ َت ْف َقهُونَ تَسْبِي َ‬
‫فل يفقهه ول يفهمه إل مَنْ منحه ال القدرة على هذا‪ ،‬كما منح هذه الميزة لداود ـ عليه السلم ـ‬
‫ن وَالطّيْرَ َوكُنّا فَاعِلِينَ }[النبياء‪]79 :‬‬
‫سخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْ َ‬
‫فقال‪ {:‬وَ َ‬
‫وهنا قد يقول قائل‪ :‬ما الميزة هنا‪ ،‬والجبال والطير تُسبّح ال بدون داود؟‬
‫والميزة هنا لداود ـ عليه السلم ـ أن ال تعالى أسمعه تسبيح الجبال وتسبيح الطير‪ ،‬وجعلها‬
‫تتجاوب معه في تسبيحه وكأنه (كورس) أو نشيد جماعي تتوافق فيه الصوات‪ ،‬وتتناغم بتسبيح‬
‫ال تعالى‪ ،‬ألم يقل الحق سبحانه في آية أخرى‪ {:‬ياجِبَالُ َأوّبِي َمعَهُ وَالطّيْرَ‪[} ..‬سبأ‪]10 :‬‬
‫أي‪ :‬رَجّعي معه وردّدي التسبيح‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضا ما وهبه ال تعالى لنبيه سليمان عليه السلم من معرفة منطق الطير أي لغته‪،‬‬
‫فكان يسمع النملة وهي تخاطب بني جنسها ويفهم ما تريد‪ ،‬وهذا فضل من ال يهبه لمَنْ يشاء من‬
‫عباده‪ ،‬لذلك لما فهم سليمان عليه السلم لغة النملة‪ ،‬وفهم ما تريده من تحذير غيرها تبسم‬
‫ي وَعَلَىا وَاِل َديّ‪[} ..‬النمل‪]19 :‬‬
‫شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َع ْمتَ عََل ّ‬
‫ضاحكا‪َ {:‬وقَالَ َربّ َأوْزِعْنِي أَنْ َأ ْ‬
‫إذن‪ :‬لكل مخلوق من مخلوقات ال لغة ومنطق‪ ،‬ل يعلمها ول يفهمها إل مَنْ يُيسّر ال له هذا العلم‬
‫وهذا الفهم‪.‬‬
‫وحينما نقرأ عن هذه القضية نجد بعض كُتّاب السيرة مثلً يقولون‪ :‬سبّح الحصى في يد النبي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صلى ال عليه وسلم نقول لهم‪ :‬تعبيركم هذا غير دقيق‪ ،‬لن الحصى يُسبّح في يده صلى ال عليه‬
‫وسلم كما يُسبّح في يد أبي جهل‪ ،‬لكن الميزة أنه صلى ال عليه وسلم سمع تسبيح الحصى في يده‪،‬‬
‫وهذه من معجزاته صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫والحق سبحانه يريد أنْ يلفتنا إلى حقيقة من حقائق الكون‪ ،‬وهي كما أن لك حياة خاصة بك‪ ،‬فاعلم‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ‬
‫أن لكل شيء دونك حياة أيضا‪ ،‬لكن ليستْ كحياتك أنت‪ ،‬بدليل قول الحق سبحانه‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫جهَهُ‪[} ..‬القصص‪]88 :‬‬
‫ل وَ ْ‬
‫ِإ ّ‬
‫ل فهو هالك‪ ،‬والهلك ضد الحياة؛ لن ال تعالى قال‪ {:‬لّ َيهِْلكَ مَنْ‬
‫فكل ما يُطلق عليه شيء مهما َق ّ‬
‫حيّ عَن بَيّ َنةٍ‪[} ..‬النفال‪ ]42 :‬فدلّ على أن له حياة تُناسبه‪.‬‬
‫هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ‬
‫ونعود إلى قوله الحق سبحانه‪َ } :‬ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً { [السراء‪]15 :‬‬
‫فإن اهتدى النسان بفطرته إلى وجود الخالق سبحانه‪ ،‬فمن الذي ُيعْلِمه بمرادات الخالق سبحانه‬
‫منه‪ ،‬إذن‪ :‬ل ُبدّ من رسول يُبلّغ عن ال‪ ،‬ويُنبّه الفطرة الغافلة عن وجوده تعالى‪.‬‬
‫علَ ْيهَا ا ْلقَ ْولُ‬
‫سقُواْ فِيهَا َفحَقّ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَِإذَآ أَ َردْنَآ أَن ّنهِْلكَ قَرْيَةً َأمَرْنَا مُتْ َرفِيهَا َففَ َ‬
‫فَ َدمّرْنَاهَا َت ْدمِيرا {‪.‬‬

‫(‪)2028 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like