Professional Documents
Culture Documents
سقُوا فِيهَا َفحَقّ عَلَ ْيهَا ا ْلقَ ْولُ فَ َدمّرْنَاهَا َت ْدمِيرًا ()16
وَإِذَا أَ َردْنَا أَنْ ُنهِْلكَ قَرْيَةً َأمَرْنَا مُتْ َرفِيهَا َففَ َ
الحق تبارك وتعالى في هذه الية يعطينا مثالً لعاقبة الخروج عن منهج ال تعالى؛ لنه سبحانه
حينما يُرسل رسولً ليُبلّغ منهجه إلى خَلْقه ،فل عُذْرَ للخارجين عنه؛ لنه منهج من الخالق الرازق
المنعم ،الذي يستحق منا الطاعة والنقياد .وكيف يتقلب النسان في نعمة ربه ثم يعصاه؟ إنه رَدّ
غير لئق للجميل ،وإنكار للمعروف الذي يسوقه إليك ليل نهار ،بل في كل َنفَسٍ من أنفاسك.
ولو كان هذا المنهج من عند البشر لكان هناك عُذْر لمَنْ خرج عنه ،ولذلك يقولون " :من يأكل
لقمتي يسمع كلمتي ".
كما أن هذا المنعم سبحانه لم يفاجئك بالتكليف ،بل كلفك في وقَت مناسب ،في وقت استوت فيه
ملكا ُتكَ وقدرا ُتكَ ،وأصبحتَ بالغا صالحا لحمل هذا التكليف ،فتركك خمسة عشر عاما تربع في
لوْلَى بك أن تستمع إلى منهج ربك ،وتُنفّذه أمرا ونهيا؛ لنه سبحانه
نعمه وتتمتع بخيره ،فكان ا َ
أوجدك من دم وأمدّك من عُدم.
والمتأمل في قضية التكليف يرى أن الحق سبحانه أمر بعضنا أن يُكلّف بعضا ،كما قال تعالى{:
ل ِة وَاصْطَبِرْ عَلَ ْيهَا[} ..طه]132 :
وَ ْأمُرْ أَهَْلكَ بِالصّ َ
وقد شرح لنا النبي صلى ال عليه وسلم هذه القضية فقال " :مُرُوا أولدكم بالصلة لسبع،
واضربوهم عليها لعشر ".
وهذا التكليف وإنْ كان في ظاهره من الهل لولدهم ،إل أنه في حقيقته من ال تعالى فهو المر
للجميع ،ولكن أراد الحق سبحانه أن يكون التكليف الول في هذه السن من القريب المباشر
المحسّ أمام الطفل ،فأبوه هو صاحب النعمة المحسّة حيث يوفر لولده الطعام والشراب ،وكل
متطلبات حياته ،فإذا ما كلفه أبوه كان َأدْعَى إلى النصياع والطاعة؛ لن الولد في هذه السن
المبكرة ل تتسع مداركه لمعرفة المنعم الحقيقي ،وهو ال تعالى.
ن قصّر؛ لن المر بالفعل هو الذي
لذلك أمر الب أن يعوّد ولده على تحمّل التكليف وأن يعاقبه إ ْ
يُعاقب على الهمال فيه .حتى إذا بلغ الولد سِنّ التكليف الحقيقي من المنعم العلى سبحانه كان
عند الولد أُنْس بالتكليف وتعودّ عليه ،وبذَلك يأتي التكليف اللهي خفيفا على النفس مألوفا عندها.
أما إن أخذتَ نِعم ال وانصرفتَ عن منهجه فطغ ْيتَ بالنعمة وبغيتَ فانتظر النتقام ،انتظر َأخْذه
سبحانه وسنته التي ل تتخلف ول تُردّ عن القوم الظالمين في الدنيا قبل الخرة.
واعلم أن هذا النتقام ضروري لحفظ سلمة الحياة ،فالناس إذا رأوا الظالمين والعاصين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن في نعَم ال في أمن وسلمة ،فسوف يُغريهم هذا بأن يكونوا مثلهم ،وأنْ
والمتكبرين يرتعُو َ
يتخذوهم قدوة ومثلً ،فيهم الفساد والظلم وينهار المجتمع من أساسه.
أما إنْ رَأوْا انتقام الحق سبحانه من هؤلء ،وشاهدوهم أذلّء منكسِرينَ ،فسوف يأخذون منهم عبرة
وعظة ،والعاقل مَنِ اعتبر بغيره ،واستفاد من تجارب الخرين.
فالنتقام من ال تعالى لحكمة أرادها سبحانه وتعالى ،وكم رأينا من أشخاص وبلد حاقَ بهم سوء
أعمالهم حتى أصبحوا عِبر ًة ومُثْلة ومَنْ لم يعتبر كان عبرة حتى لمَنْ لم يؤمن ،وبذلك تعتدل
حركة الحياة ،حيث يشاهد الجميع ما نزل بالمفسدين من خراب ودمار ،وإذا استقرأت البلد في
نواحي العالم المختلفة لتيسّر لك الوقوف على هذه السّنة اللهية في بلد بعينها ،ولستط ْعتَ أن
تعزو ما حدث لها إلى أسباب واضحة من الخروج عن منهج الحق سبحانه.
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ
وصدق ال حين قالَ {:وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْيَةً كَا َنتْ آمِ َنةً مّ ْ
خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }[النحل]112 :
َفكَفَ َرتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْ َ
وإياك أن تظن أن الحق سبحانه يمكن أن يهمل الفسقة والخارجين عن منهجه ،فلبد أن يأتي اليوم
الذي يأخذهم فيه أخْذَ عزيز ُمقْتدر ،وإلّ لكانت أُسْوة سيئة تدعو إلى الفساد في حركة الحياة.
علَ ْيهَا ا ْلقَ ْولُ فَ َدمّرْنَاهَا
سقُواْ فِيهَا َفحَقّ َ
قال تعالى {:وَِإذَآ أَ َردْنَآ أَن ّنهِْلكَ قَرْيَةً َأمَرْنَا مُتْ َرفِيهَا َففَ َ
تَ ْدمِيرا }[السراء]16 :
الفة أن الذين يستقبلون نصّ القرآن يفهمون خطأ أن } َففَسَقُواْ { مترتبة على المر الذي قبلها،
فيكون المعنى أن ال تعالى هو الذي أمرهم بالفسق ،وهذا فهم غريب لمعنى الية الكريمة ،وهذا
المر صادر من الحق سبحانه إلى المؤمنين ،فتعالوا نَ َر أوامر ال في القرآنَ {:ومَآ ُأمِرُواْ ِإلّ
لِ َيعْبُدُواْ اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ[} ..البينة]5 :
{ ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْ ُبدَ َربّ هَ ِذهِ الْبَلْ َدةِ[} ..النمل]91 :
{ وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ }[يونس]72 :
فأمْر ال تعالى ل يكون إل بطاعة وخير ،ول يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء ،كما ذكر القرآن
صوْا
ع َ
الكريم ،وعلى هذا يكون المراد من الية :أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا ،ولكنهم خالفوا و َ
حقّ عليهم العذاب.
وفسقوا؛ لذلك َ
طلَب من العلى ،وهو ال تعالى إلى الدنى ،وهم الخَلْق طلب منهم الطاعة والعبادة،
والمرَ :
فاستغلّوا فرصة الختيار ففسقوا وخالفوا أمر ال.
قوله } :وَِإذَآ أَ َردْنَآ أَن ّنهِْلكَ قَرْيَةً[ { ..السراء]16 :
من الخطأ أن نفهم المعنى على أن ال أراد أولً هلكهم ففسقوا؛ لن الفهم المستقيم للية أنهم
فسقوا فأراد ال إهلكهم .و } قَرْيَةً { أي أهل القرية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّ عَلَ ْيهَا ا ْل َق ْولُ[ { ..السراء]16 :
وقوله } :فَ َ
سقُواْ[} ..يونس]33 :
ح ّقتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ عَلَى الّذِينَ فَ َ
أي :وجب لها العذاب ،كما قال تعالى {:كَذَِلكَ َ
وقد أوجب ال لها العذاب لتسلَم حركة الحياة ،وليحمي المؤمنين من أذى الذين ل يؤمنون
بالخرة.
وقوله تعالى } :فَ َدمّرْنَاهَا َت ْدمِيرا[ { ..السراء]16 :
أي :خربناها ،وجعلناها أثرا بعد عَيْن ،وليستْ هذه هي الولى ،بل إذا استقرأتَ التاريخ خاصة
تاريخ الكفرة والمعاندين فسوف تجد قرى كثيرة أهلكها ال ولم يبقى منها إل آثارا شاخصة شاهدة
ح َو َكفَىا بِرَ ّبكَ ِبذُنُوبِ عِبَا ِدهِ خَبِيرَا
عليهم ،كما قال تعالىَ } :وكَمْ أَهَْلكْنَا مِنَ ا ْلقُرُونِ مِن َبعْدِ نُو ٍ
َبصِيرا {.
()2029 /
فأيْن عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح؟ إذن :فالية قضية قولية ،لها من الواقع ما يُصدّقها.
وقوله { :مِن َبعْدِ نُوحٍ[ } ..السراء]17 :
عهْد بخَلْق ال
َدلّ على أن هذا الخذ وهذا العذاب لم يحدث فيما قبل نوح؛ لن الناس كانوا قريبي َ
لدم ـ عليه السلم ـ كما أنه كان يلقنهم معرفة ال وما يضمن لهم سلمة الحياة ،أما بعد نوح
فقد ظهر الفساد والكفر والجحود ،فنزل بهم العذاب .الذي لم يسبق له مثيل.
سمٌ لّذِى
شفْ ِع وَا ْلوَتْرِ * وَالّيلِ إِذَا َيسْرِ * َهلْ فِي ذَِلكَ قَ َ
عشْرٍ * وَال ّ
قال تعالى {:وَا ْلفَجْرِ * وَلَيالٍ َ
حجْرٍ * أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي َلمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ * وَ َثمُودَ
ِ
ط َغوْاْ فِي الْبِلَدِ * فََأكْثَرُواْ فِيهَا ا ْلفَسَادَ
لوْتَادِ * الّذِينَ َ
عوْنَ ذِى ا َ
الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْ َ
سوْطَ عَذَابٍ * إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ }[الفجر]14-1 :
صبّ عَلَ ْي ِهمْ رَ ّبكَ َ
* َف َ
ولنا َوقْفة سريعة مع هذه اليات من سورة الفجر ،فقد خاطب الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه
وسلم بقوله {:أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ }[الفجر]6 :
و { أََلمْ تَرَ } بمعنى :ألم تعلم؛ لن النبي لم ير ما فعله ال بعاد ،فلماذا عدل السياق القرآني عن:
تعلم إلى تَرَ؟
قالوا :لن إعلم ال لرسوله أصدق من عينه ورؤيته ،ومثلها قوله تعالى {:أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ
بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل]1 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حيث وُلِد رسول ال في عام الفيل ،ولم يكن رأى شيئا.
وفي آيات سورة (الفجر) ما يدلّنا على أن حضارة عاد التي ل نكاد نعرف عنها شيئا كانت أعظمَ
من حضارة الفراعنة التي لفتتْ أنظار العالم كله؛ ذلك لن الحق تبارك وتعالى قال عن عاد{:
لدِ }[الفجر]8 :
الّتِي لَمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي الْبِ َ
عوْنَ ذِى
ل لها في كل حضارات العالم ،في حين قال عن حضارة الفراعنةَ {:وفِرْ َ
أي :ل مثي َ
لوْتَادِ }[الفجر ]10 :مجرد هذا الوصف فقط .وقوله تعالىَ { :وكَمْ َأهَْلكْنَا مِنَ ا ْلقُرُونِ} ..
اَ
[السراء]17 :
كَمْ :تدل على كثرة العدد.
والقرون :جمع قرن ،وهو في الصطلح الزمني مائة عام ،ويُطلَق على القوم المقترنين معا في
الحياة ،ولو على مبدأ من المبادئ ،وتوارثه الناس فيما بينهم.
وقد يُطلَق القرن على أكثر من مائة عام كما نقول :قرن نوح ،قرن هود ،قرن فرعون .أي:
الفترة التي عاشها.
وقولهَ { :و َكفَىا بِرَ ّبكَ بِذُنُوبِ عِبَا ِدهِ خَبِيرَا َبصِيرا[ } ..السراء]17 :
أي :أنه سبحانه غنيّ عن إخبار أحد بذنوب عباده ،فهو أعلم بها ،لنه سبحانه ل تخفى عليه خافية
خفِي الصّدُورُ }[غافر]19 :
في الرض ول في السماءَ {:يعَْلمُ خَآئِ َن َة الَعْيُنِ َومَا ُت ْ
فل يحتاج لمَنْ يخبره؛ لنه خبير وبصير ،هكذا بصيغة المبالغة.
وهنا قد يقول قائل :طالما أن ال تعالى يعلم كل شيء ول تخفى عليه خافية ،فلماذا يسأل الناس
يوم القيامة عن أعمالهم؟
نقول :لن السؤال يَ ِر ُد لحدى فائدتين:
الولى :كأنْ يسألَ الطالب أستاذه عن شيء ل يعلمه ،فالهدف أنْ يعلم ما جهل.
والخرى :كأن يسأل الستاذ تلميذه في المتحان ،ل ليعلم منه ،ولكن ليقرره بما علم.
وهكذا الحق سبحانه ـ ول المثل العلى ـ يسأل عبده يوم القيامة عن أعماله ليقرره بها،
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا }[السراء]14 :
وليجعله شاهدا على نفسه ،كما قال {:اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَىا بِ َنفْ ِ
وقوله تعالىَ } :وكَفَىا بِرَ ّبكَ[ { ..السراء]17 :
كما تقول :كفى بفلن كذا ،أي :أنك ترتضيه وتثقُ به ،فالمعنى :يكفيك ربك فل تحتاج لغيره ،وقد
سبق أنْ أوضحنا أن ال تعالى في يده كل السلطات حينما يقضي :السلطة التشريعية ،والسلطة
القضائية ،والسلطة التنفيذية ،وهو سبحانه غنيّ عن الشهود والبينة والدليل.
إذن :كفى به سبحانه حاكما وقاضيا وشاهدا .ولن الحق سبحانه خبير بصير بذنوب عباده ،فعقابه
عَدْل ل ظلمَ فيه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهَنّمَ
جعَلْنَا لَهُ َ
عجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا َنشَآءُ ِلمَن نّرِيدُ ثُمّ َ
ثم يقول الحق سبحانه } :مّن كَانَ يُرِيدُ ا ْلعَاجِلَةَ َ
َيصْلهَا مَ ْذمُوما مّدْحُورا {.
()2030 /
الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق النسان الذي جعله خليفة له في أرضه ،خلق له الكون كُلّه بما
فيه ،وخلق له جميع مُقوّمات حياته ،ووالى عليه ِنعَمه إيجادا من عدم ،وإمدادا من عُدم ،وجعل
من مُقوّمات الحياة ما ينفعل له وإنْ لم يُطلب منه ،كالشمس والقمر والهواء والمطر ..الخ فهذه من
ل معها.
مُقوّمات حياتك التي تُعطيك دون أنْ تتفاع َ
ومن مُقوّمات الحياة مَا ل ينفعل لك ،إل إذا تفاعلتَ معه ،كالرض مثلً ل تعطيك إل إذا حرثتها،
وبذرت فيها البذور فتجدها قد انفعلتْ لك ،وأعطتْك النتاج الوفير.
والمتأمل في حضارات البشر وارتقاءاتهم في الدنيا يجدها نتيجة لتفاعل الناس مع مُقوّمات الحياة
بجوارحهم وطاقاتهم ،فتتفاعل معهم مُقوّمات الحياة ،ويحدث التقدم والرتقاء.
وقد يرتقي النسان ارتقاءً آخر ،بأن يستفيد من النوع الول من مُقوّمات الحياة ،والذي يعطيه
دون أنْ يتفاعل معه ،استفادة جديدة ،ومن ذلك ما توصّل إليه العلماء من استخدام الطاقة الشمسية
استخدامات جديدة لم تكن موجودة من قبل.
إذن :فهذه نواميس في الكون ،الذي يُحسِن استعمالها تُعطيه النتيجة المرجوة ،وبذلك يُثري النسان
سمَيناه سابقا عطاء الربوبية الذي يستوي فيه المؤمن والكافر،
حياته ويرتقي بها ،وهذا ما َأ ْ
والطائع والعاصي.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى { :مّن كَانَ يُرِيدُ ا ْلعَاجِلَةَ[ } ..السراء]18 :
أي :عطاء الدنيا ومتعها ورُقيها وتقدّمها.
عجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ ِلمَن نّرِيدُ[ } ..السراء]18 :
{ َ
أجبْنَاهُ لما يريد من متاع الدنيا.
ول ُبدّ لنا أنْ نتنبه إلى أن عطاء الربوبية الذي جعله ال للمؤمن والكافر ،قد يغفل عنه المؤمن
ويترك مُقوّمات الحياة وأسبابها يستفيد منها الكافر ويتفاعل معها ويرتقي بها ،ويتقدم على المؤمن،
ويمتلك قُوته ورغيف عيشه ،بل وجميع متطلبات حياتهم ،ثم بالتالي تكون لهم الكلمة العليا والغلبة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والقهر ،وقد يفتنونك عن دينك بما في أيديهم من أسباب الحياة.
وهذا حال ل يليق بالمؤمن ،ومذلة ل يقبلها الخالق سبحانه لعباده ،فل يكفي أن نأخذ عطاء
اللوهية من أمر ونهي وتكليف وعبادة ،ونغفل أسباب الحياة ومُقوّماتها المادية التي ل قِوامَ للحياة
إل بها.
في حين أن المؤمن َأوْلَى بمقوّمات الحياة التي جعلها الخالق في الكون من الكافر الذي ل يؤمن
بإله.
ل تمكّن أعداء ال من السيطرة على مُقوّمات حياتك ،وألّ تجعلَهم يتفوقون عليك.
إذن :فمن الدين أ ّ
وقوله { :مَا نَشَآءُ ِلمَن نّرِيدُ[ } ..السراء]18 :
خلٌ في هذه المسألة ،فقد تفعل ،ولكن ل
أي :أن تفاعل الشياء معك ليس مُطْلقا ،بل للمشيئة تد ّ
تأخذ لحكمة ومراد أعلى ،فليس الجميع أمام حكمة ال سواء ،وفي هذا دليل على طلقة القدرة
اللهية.
ومعنى { مَا َنشَآءُ } ..للمعجّل و { ِلمَن نّرِيدُ } للمعجّل له.
وما دام هذا يريد العاجلة ،ويتطلع إلى رُقيّ الحياة الدنيا وزينتها ،إذن :فالخرة ليستْ في باله،
صفْرا ل نصيب له
وليست في حُسْبانه؛ لذلك لم يعمل لها ،فإذا ما جاء هذا اليوم وجد رصيده ِ
فيها؛ لن النسان يأخذ أجره على ما قدّم ،وهذا قدّم للدنيا وأخذ فيها جزاءه من الشهرة والرقيّ
والتقدّم والتكريم.
ج ْدهُ شَيْئا
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ يَ ِ
عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ
قال تعالى {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
حسَابَ ُه وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }[النور]39 :
َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ ِ
والسراب ظاهرة طبيعية يراها مَنْ يسير في الصحراء وقت الظهيرة ،فيرى أمامه شيئا يشبه
الماء ،حتى إذا وصل إليه لم يج ْدهُ شيئا ،كذلك إنْ عمل الكافرُ خيرا في الدنيا فإذا أتى الخرة لم
يجدْ له شيئا من عمله؛ لنه أخذ جزاءه في الدنيا.
جدَ اللّهَ عِن َدهُ }[النور]39 :
ثم تأتي المفاجأةَ {:ووَ َ
عمَاُلهُمْ كَ َرمَادٍ اشْتَ ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي
وفي آية أخرى يصفه القرآن بقوله {:مّ َثلُ الّذِينَ َكفَرُواْ بِرَ ّب ِهمْ أَ ْ
للُ الْ َبعِيدُ }[إبراهيم]18 :
شيْءٍ ذاِلكَ ُهوَ الضّ َ
صفٍ لّ َيقْدِرُونَ ِممّا كَسَبُواْ عَلَىا َ
َيوْمٍ عَا ِ
فمرة يُشبّه عمل الكافر بالماء الذي يبدو في السراب ،ومرة يُشبّهه بالرماد؛ لن الماء إذا اختلط
خصْب والنماء ،وهو مُقوّم من مُقوّمات الحياة.
بالرماد صار طينا ،وهو مادة ال ِ
شيْءٍ
صفْوَانٍ عَلَ ْيهِ تُرَابٌ فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َر َك ُه صَلْدا لّ َيقْدِرُونَ عَلَىا َ
ل َ
ووصفه بقوله تعالىَ {:كمَثَ ِ
ّممّا كَسَبُواْ وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة]264 :
والحق تبارك وتعالى في هذه الية يُجسّم لنا خَيْبة أمل الكافر في الخرة في صورة مُحسّة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظاهرة ،فم َثلُ عمل الكافر كحجر أملس أصابه المطر ،فماذا تنتظر منه؟ وماذا وراءه من الخير؟
جهَنّمَ َيصْلهَا مَ ْذمُوما مّ ْدحُورا { [السراء]18 :
جعَلْنَا لَهُ َ
ثم يقول الحق سبحانهُ } :ثمّ َ
أي :أعددناها له ،وخلقناها من أجله يُقاسي حرارتها } مَ ْذمُوما { أي :يذمّه الناس ،والنسان ل يُ َذمّ
إل إذا ارتكب شيئا ما كان يصحّ له أنْ يرتكبه.
و } مّ ْدحُورا { [السراء ]18 :وبعد أنْ أعطانا الحق سبحانه صورة لمن أراد العاجلة وغفل عن
الخرة ،وما انتهى إليه من العذاب ،يعطينا صورة مقابلة ،صورة لمن كان أعقل وأكيس ،ففضّل
الخرة.
شكُورا
سعْ ُيهُم مّ ْ
سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ
سعَىا َلهَا َ
يقول الحق سبحانهَ } :ومَنْ أَرَادَ الخِ َرةَ وَ َ
{.
()2031 /
شكُورًا ()19
سعْ ُيهُمْ مَ ْ
سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ
سعَى َلهَا َ
َومَنْ أَرَادَ الَْآخِ َر َة وَ َ
المتأمل في أسلوب القرآن الكريم يجده عادة يُعطيِ الصورة ومقابلها؛ لن الشيء يزداد وضوحا
بمقابله ،والضّد يظهر حُسْنه الضّد ،ونرى هذه المقابلت في مواضع كثيرة من كتاب ال تعالى
ن الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ }[النفطار]14-13 :
كما في {:إِ ّ
وهنا يقول تعالىَ { :ومَنْ أَرَا َد الخِ َرةَ[ } ..السراء ]19 :في مقابل { :مّن كَانَ يُرِيدُ ا ْلعَاجِلَةَ} ..
[السراء]18 :
سعْ َيهَا[ } ..السراء]19 :
سعَىا َلهَا َ
قوله تعالىَ { :ومَنْ أَرَا َد الخِ َر َة وَ َ
أي :أراد ثوابها وعمل لها.
{ وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ[ } ..السراء]19 :
لن اليمان شَرْط في قبول العمل ،وكُلّ سعي للنسان في حركة الحياة ل بُدّ فيه من اليمان
ومراعاة ال تعالى لكي يُقبَل العمل ،ويأخذ صاحبه الجر يوم القيامة ،فالعامل يأخذ أجره ممّنْ
عمل له.
ن في
فالكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم واكتشافاتهم ،حينما قدّموا هذا النجازات لم يكُ ْ
بالهم أبدا العمل ل ،بل للبشرية وتقدّمها؛ لذلك أخذوا حقهم من البشرية تكريما وشهرة ،فأقاموا لهم
التماثيل ،وألّفوا فيهم الكتب ..الخ.
إذن :انتهت المسألة :عملوا وأخذوا الجر ممن عملوا لهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك الذي يقوم ببناء مسجد مثلً ،وهذا عمل عظيم يمكن أن يُدخل صاحبه الجنة إذا توافر فيه
اليمان والخلص ل ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم " :من بنى ل مسجدا ولو كمفحص
قطاة بنى ال له بيتا في الجنة ".
ولكن سرعان ما نقرأ على باب المسجد لفتة عريضة تقول :أنشأه فلن ،وافتتحه فلن ..الخ مع
أنه قد يكون من أموال الزكاة!! وهكذا يُفسد النسان على نفسه العمل ،ويُقدم بنفسه ما يُحبطه،
إذن :فقد فعل ليقال وقد قيل .وانتهت القضية.
شكُورا[ } ..السراء]19 :
سعْ ُيهُم مّ ْ
وقوله تعالى { :فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ
وهذا جزاء أهل الخرة الذين يعملون لها ،ومعلوم أن الشكر يكون ل استدرارا لمزيد ِنعَمه ،كما
شكَرْتُ ْم لَزِيدَ ّن ُكمْ[} ..إبراهيم]7 :
قال تعالى {:لَئِن َ
فما بالك إنْ كان الشاكر هو ال تعالى ،يشكر عبده على طاعته؟
شكْرا حتى من المخالف له ،فاللص مثلً إنْ كان لديه
وهذا يدل على أن العمل اليماني يُصادف ُ
شيء نفيس يخاف عليه ،فهل يضعه أمانة عند لصّ مثله ،أم عند المين الذي يحفظه؟
ص ل يحترم اللص ،ول يثق فيه ،في حين يحترم المين مع أنه مخالف له ،وكذلك الكذاب
فالل ّ
يحترم الصادق ،والخائن يحترم المين.
ومن هنا كان كفار مكة رغم عدائهم للنبي صلى ال عليه وسلم وكفرهم بما جاء به إل أنهم كانوا
يأتمنونه على الغالي والنفيس عندهم؛ لنهم واثقون من أمانته ،ويلقبونه " بالمين " ،رغم ما
بينهما من خلف عقديّ جوهري ،فهم فعلً يكذبونه ،أما عند حفْظ المانات فلن يغشّوا أنفسهم،
لن الحفظ لماناتهم محمد صلى ال عليه وسلم.
وقد ضربنا لذلك مثلً بشاهد الزور الذي تستعين بشهادته ليُخرجك من ورطة ،أو قضية ،فرغم
أنه قضى لك حاجتك وأخرجك من ورطتك ،إل أنه قد سقط من نظرك ،ولم يعُدْ أهلً لثقتك فيما
بعد.
طتَ من نظره ،وإنْ أعنْتَه على أمره كشاهد الزور
لذلك قالوا :مَنِ استعان بك في نقيصة فقد سق ْ
ترتفع الرأس على الخصم بشهادته وتدوس القدم على كرامته.
ثم يقول الحق سبحانه عن كل الفريقين { :كُلّ ّنمِدّ هَـاؤُل ِء وَهَـاؤُلءِ مِنْ عَطَآءِ رَ ّبكَ.} ...
()2032 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ كُلّ } أي :كلَ الفريقين السابقين :مَن أراد العاجلة ،ومَن أراد الخرةّ { :نمِدّ هَـاؤُل ِء وَهَـاؤُلءِ
مِنْ عَطَآءِ رَ ّبكَ[ } ..السراء]20 :
أي :أن ال تعالى يمدّ الجميع بمُقوّمات الحياة ،فمنهم مَنْ يستخدم هذه المقومات في الطاعة ،ومنهم
مَنْ يستخدمها في المعصية ،كما لو أعطيتَ لرجلين مالً ،فالول تصدّق بماله ،والخر شرب
بماله خمرا.
إذن :فعطاء الربوبية مدَ ٌد ينال المؤمن والكافر ،والطائع والعاصي ،أما عطاء اللوهية المتمثل في
ص للمؤمنين دون غيرهم.
منهج ال :افعل ول تفعل ،فهو عطاء خا ّ
عطَآءُ رَ ّبكَ َمحْظُورا[ } ..السراء]20 :
وقوله تعالىَ { :ومَا كَانَ َ
أي :ممنوعا عن أحد؛ لن الجميع خَلْقه تعالى ،المؤمن والكافر ،وهو الذي استدعاهم إلى الحياة،
وهو سبحانه المتكفّل لهم بمُقوّمات حياتهم ،كما تستدعي ضيفا إلى بيتك فعليك أنْ تقومَ له بواجب
الضيافة.
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه اختار التعبير بقوله { :مِنْ عَطَآءِ رَ ّبكَ[ } ..السراء]20 :
لن العطاء المراد هنا عطاء ربوبية ،وهو سبحانه ربّ كلّ شيء .أي :مُربّيه ومتكفّل به ،وشرف
كبير أن يُنسبَ العطاء إلى الرب تبارك وتعالى.
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :انظُرْ كَ ْيفَ َفضّلْنَا َب ْع َ
()2033 /
الحق تبارك وتعالى أعطانا قضايا إيمانية نظرية ،ويريد مِنّا أنْ ننظر في الطبيعة والكون ،وسوف
نجد فيه صِدْق ما قال.
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ[ } ..السراء]21 :
يقول تعالى { :انظُرْ كَ ْيفَ َفضّلْنَا َب ْع َ
والمتأمل يجد أن ال تعالى جعل التفضيل هنا عامّا ،فلم يُبيّن مَن المفضّل ومَنِ المفضّل عليه ،فلم
يقُلْ :فضلت الغنياء على الفقراء ،أو :فضلت الصحاء على المرضى.
إذن :فما دام في القضية عموم في التفضيل ،فكلّ بعض مُفضّل في جهة ،ومُفضّل عليه في جهة
أخرى ،لكن الناس ينظرون إلى جهة واحدة في التفضيل ،فيفضلون هذا لنه غني ،وهذا لنه
صاحب منصب ..الخ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه نظرة خاطئة فيجب أن ننظر للنسان من ُكلّ زوايا الحياة وجوانبها؛ لن الحق سبحانه ل
يريدنا نماذج مكررة ،ونُسَخا ُمعَادة ،بل يُريدنا أُنَاسا متكاملين في حركة الحياة ،ولو أن الواحد مِنّا
أصبح مَجْمعا للمواهب ما احتاج فينا أحدٌ لحد ،ولتقطعت بيننا العَلقات.
خصْلة ،وجعل غيرك مُفضّلً في خصال كثيرة ،فأنت محتاج
فمن رحمة ال أن جعلك مُفضّلً في َ
لغيرك فيما ُفضّل فيه ،وهم محتاجون إليك فيما ُفضّ ْلتَ فيه ،ومن هنا يحدث التكامل في المجتمع،
وتسلَمْ للناس حركة الحياة.
ونستطيع أن نخرج من هذه النظرة بقضية فلسفية تقول :إن مجموع مواهب كل إنسان تساوي
مجموع مواهب كل إنسان ،فإنْ ِز ْدتَ عني في المال فربما أزيد عنك في الصحة ،وهكذا تكون
المحصّلة النهائية متساوية عند جميع الناس في مواهب الدنيا ،ويكون التفاضل الحقيقي بينهم
بالتقوى والعمل الصالح ،كما قال تعالى {:إِنّ َأكْ َر َمكُمْ عَندَ اللّهِ أَ ْتقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
[الحجرات]13 :
حفْظ مكانة الخرين ،فمهما كنت مُفضّلً فل
لذلك يجب على المسلم أن يلتزمَ أدب السلم في ِ
تحتقر غيرك ،واعلم أن لهم أيضا ما يفضلون به ،وسوف يأتي اليوم الذي تحتاج إليهم فيه.
وقد ضربنا لذلك مثلً بالعظيم الوجيه الذي قد تضطره الظروف وتُحوِجه لسباك أو عامل بسيط
ليؤدي له عملً ل يستطيع هو القيام به ،فالعامل البسيط في هذا الموقف مُفضّل على هذا العظيم
ن تتصورَ الحال مثلً إذا أضرب الكناسون عدة أيام عن العمل .إذن :مهما كان
الوجيه .ولك أ ْ
النسان بسيطا ،ومهما كان مغمورا فإن له مهمة يفضّل بها عن غيره من الناس.
خُذ الخياط مثلً ،وهو صاحب حرفة متواضعة بين الناس ،ول يكاد يُجيد عملً إل أن يخيطَ للناس
ثيابهم ،فإذا ما كانت ليلة العيد وجدته من أهم الشخصيات ،الجميع يقبلون عليه ،ويتمنون أن يتكرم
عليهم ويقضي حاجتهم من خياطة ثيابهم وثياب أولدهم.
سمْنَا بَيْ َنهُمْ
ح َمتَ رَ ّبكَ َنحْنُ قَ َ
سمُونَ َر ْ
وبهذا نستطيع أن نفهم َقوْل الحق تبارك وتعالى {:أَهُمْ َيقْ ِ
ح َمتُ
ضهُم َبعْضا سُخْرِيّا وَرَ ْ
خذَ َب ْع ُ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ لّيَتّ ِ
ّمعِيشَ َتهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
ج َمعُونَ }
رَ ّبكَ خَيْرٌ ّممّا َي ْ
[الزخرف]32 :
فكل منا مُسخّر لخدمة الخرين فيما ُفضّل فيه ،وفيما نبغ فيه.
حضَـرٍ َب ْعضٌ لب ْعضٍ وإن لم يشعروا
وصدق الشاعر حين قال:النّاسُ لِلناسِ مِـنْ بَ ْد ٍو ومِنْ َ
خ َدمُإذن :في التفاضل يجب أن ننظر إلى زوايا النسان المختلفة؛ لن الجميع أمام ال سواء ،ليس
َ
سبٌ أو قرابة ،ول تجمعنا به سبحانه إل صلة
مِنّا مَن هو ابن ال ،وليس مِنّا مَنْ بينه وبين ال ن َ
العبودية له عز وجل ،فالجميع أمام عطائه سواء ،ل يوجد أحد َأوْلَى من أحد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالعاقل حين ينظر في الحياة ل ينظر إلى تميّزه عن غيره كموهبة ،بل يأخذ في اعتباره مواهب
الخرين ،وأنه محتاج إليها وبذلك يندكّ غروره ،ويعرف مدى حاجته لغيره .وكما أنه نابغ في
مجال من المجالت ،فغيره نابغ في مجال آخر؛ لن النبوغ يأتي إذا صادف العمل الموهبة،
فهؤلء البسطاء الذين تنظر إليهم نظرة احتقار ،وترى أنهم دونك يمكن أن يكونوا نابغين لو
صادف عملهم الموهبة.
ت وََأكْبَرُ َتفْضِيلً[ { ..السراء]21 :
وقوله تعالى } :وَلَلخِ َرةُ َأكْبَرُ دَ َرجَا ٍ
فإنْ كان التفاضل بين الناس في الدنيا قائما على السباب المخلوقة ل تعالى ،فإن المر يختلف في
الخرة؛ لنها ل تقوم بالسباب ،بل بالمسبب سبحانه ،فالمفاضلة في الخرة على حسبها.
ولو تأملتَ حالك في الدنيا ،وقارنتَه بالخرة لوجدتَ الخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلً ،فعمرك
في الدنيا موقوت ،وسينتهي إلى الموت؛ لن عمرك في الدنيا مدة بقائك فيها ،فإنْ بقيْت من بعدك
فهي لغيرك ،وكذلك ما ُفضّ ْلتَ به من نعيم الدنيا عُ ْرضَة للزوال ،حيث تناله الغيار التي تطرأ
على النسان.
فالغنيّ قد يصير فيقرا ،والصحيح سقيما ،كما أن نعيم الدنيا على َقدْر إمكانياتك وتفاعلك مع
السباب ،فالدنيا وما فيها من نعيم غير مُتيقّنة وغير موثوق بها.
و َهبْ أنك تن ّعمْتَ في الدنيا بأعلى درجات النعيم ،فإن نعيمك هذا يُنغّصه أمران :إما أن تفوت هذا
النعيم بالموت ،وإما أنْ يفوتَك هو بما تتعرّض له من أغيار الحياة.
أما الخرة فعمرك فيها مُمتدّ ل ينتهي ،والنعمة فيها دائمة ل تزول ،وهي نعمة ل حدو َد لها؛ لنها
على قَدْر إمكانيات المنعِم عز وجل ،في دار خلود ل يعتريها الفناء ،وهي مُتيقنة موثوق بها.
فأيهما أفضل إذن؟ لذلك الحق سبحانه يدعونا إلى التفكّر والتعقّل } :انظُرْ { أيّ الصفقتين الرابحة،
فتاجر فيها ول ترضى بها بديلً.
إذن :فالخرة أعظم واكبر ،ول وجهَ للمقارنة بين نعيم الدنيا ونعيم الخرة .وأذكر أننا سافرنا مرة
إلى (سان فرانسيسكو) فأدخلونا أحد الفنادق ،ل للقامة فيه ،ولكن لمشاهدة ما فيه من روعة
وجمال ومظاهر الرقي والرفاهية.
وفعلً كان هذا الفندق آية من آيات البداع والجمال ،فرأيتُ رفاقي وكانوا من علية القوم مبهورين
به ،مأخوذين بروعته ،فقلت لهم عبارة واحدة :هذا ما أعد البشر للبشر ،فكيف بما أعدّه ربّ
البشر للبشر؟
فنعيم الدنيا ومظاهر الجمال فيها يجب أنْ تثير فينا الشوق لنعيم دائم في الجنة؛ ل أنْ يثير فينا
الحقد والحسد ،يجب أن نأخذ من مظاهر الترف والنعيم عند الخرين وسيلة لليمان بال ،وأن
نُصعّد هذا اليمان بالفكر المستقيم ،فإنْ كان ما نراه من ترف وتقدم ورُقيّ وعمارة في الدنيا من
صُنْع مهندس أو عامل ،فكيف الحال إنْ كان الصانع هو الخالق سبحانه وتعالى؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويجب ألّ نغفلَ الفرْق بين نعيم الدنيا الذي أعدّه البشر ونعيم الخرة الذي أعدّه ال تعالى،
فقصارى ما توصل إليه الناس في رفاهية الخدمة أن تضغط على زر فيأتي لك منه الشاي مثلً،
وتضغط على زر آخر فيأتي لك منه القهوة.
ن تفاعلتَ معها ،لكن مهما ارتقى هؤلء ومهما تقدّمت صناعتهم فلن
وهذه آلة تستجيب لك إ ْ
يصلوا إلى أنْ يقدموا لك الشيء بمجرد أن يخطر على بالك؛ لن هذا من نعيم الجنة الذي أعده
الخالق سبحانه لعباده الصالحين.
إذن :فما دام كذلك ،وسلّمنا بأن الخرة افضل وأعظم ،فما عليك إلّ أنْ تبادر وتأخذ الطريق
القويم ،وتسلك طريق ربك من أقصر اتجاه ،وهو الستقامة على منهج ال الواحد واللتزام به.
خذُولً {.
جعَل مَعَ اللّهِ إِلَـاها آخَرَ فَ َت ْقعُدَ مَ ْذمُوما مّ ْ
فيقول الحق سبحانه } :لّ تَ ْ
()2034 /
خذُولًا ()22
ج َعلْ مَعَ اللّهِ إَِلهًا آَخَرَ فَ َت ْقعُدَ مَ ْذمُومًا مَ ْ
لَا تَ ْ
لنه سبحانه أعطاك في الدنيا ،وأمدّك بالسباب ،وبمقوّمات حياتك ،أوجدك من عدم ،وأمدك من
عُ ْدمٍ ،حتى وإنْ كنت كافرا ،ثم أعدّ لك في الخرة الدرجات العالية والنعيم المقيم الذي ل َيفْنى ول
يزول.
وهذه هي الحيثيات التي ينبغي عليك بعدها أن تعرفه سبحانه ،وتتوجّه إليه ،وتلتحم به وتكون في
ن فعلتَ فلن تجد من هذا النعيم شيئا ،لن تجد إل
معيته ،ول تجعل معه سبحانه إلها آخر؛ لنك إ ْ
المذمّة والخُذْلن في الدنيا والخرة.
وسوف ُتفَاجأ في القيامة بربك الذي دعاك لليمان به فكف ْرتََ {.ووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ[} ..النور]39 :
ساعتها ستندم حين ل ينفعك الندم ،بعد أن ضاعت الفرصة من يديك.
خذُولً }[السراء]22 :
ويقول تعالى {:فَ َت ْقعُدَ مَ ْذمُوما مّ ْ
والقعود ليس أمرا عاديا هنا ،بل هو أنكَى ما يصير إليه النسان؛ لن النسان ل يقعد إل إذا
أصبح غيرَ قادر على القيام ،ففيها ما يُشعر بإنهاك القوة ،وكأنه سقط إلى الرض ،بعد أنْ
حمْله ،ولم َتعْد به قوة للحركة.
أصبحتْ رِجله غير قادرتين على َ
ونلحظ في تعبير القرآن عن هذا الذي خارتْ قواه ،وانتهت تماما ،أنه يختار له َوضْع القعود
خاصة ،ولم َيقُلْ مثلً :تنام ،لن العذاب ل يكون مع النوم ،ففي النوم يفقد النسان الوعي فل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يشعر بالعذاب ،بل قال (فتقعد) هكذا شاخص يقاسي العذاب؛ لن العذاب ليس للجوارح والمادة،
حسّ وتألم.
بل للنفس الواعية التي تُ ِ
ولذلك يلجأ الطباء إلى تخدير المريض قبل إجراء العمليات الجراحية؛ لن التخدير يُفقِده الوعي
فل يشعر باللم.
عظِيما }[النساء]95 :
ضلَ اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ عَلَى ا ْلقَاعِدِينَ َأجْرا َ
ومن ذلك قوله تعالىَ {:و َف ّ
وقال {:وَا ْل َقوَاعِدُ مِنَ النّسَآءِ الّلَتِي لَ يَرْجُونَ ِنكَاحا[} ..النور]60 :
فالقعود يدل على عدم القدرة ،وفي الوقت نفسه ل يرتاح بالنوم ،فهو في عذاب مستمر.
حلِ لِ ُبغْيِتهَا وَا ْقعُدْ فإنكَ أنتَ الطّاعِمُ الكَاسيوقوله:
ع المكَـارِ َم لَ تر َ
وفي مجال الذم قال الشاعرَ :د ِ
{ َم ْذمُوما[ } ..السراء ]22 :لنه أتى بعمل يذمه الناس عليه.
{ مّخْذُولً[ } ..السراء ]22 :من الخذلن ،وهو عدم الّنصْرة ،فالبعد في موقف ل ينصره فيه
سِلمُونَ
أحد ،ول يدافع عنه أحد ،لذلك يقول تعالى لهؤلء {:مَا َلكُ ْم لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َيوْمَ مُسْتَ ْ
}[الصافات]26-25 :
ثم ينتقل بنا الحق سبحانه إلى قضية يعطينا فيها نوعا من الستدلل ،فيقول سبحانهَ { :و َقضَىا
حسَانا.} ...
رَ ّبكَ َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ إِيّا ُه وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِ ْ
()2035 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ودليل آخر على أن الدين ليس اليمان القوليّ فقط ،أن كفار مكة لم يشهدوا أن ل إله إل ال ،فلو
كانت المسألة مسألةَ اليمان بإله واحد وتنتهي القضية لَكانوا قالوا وشهدوا بها ،إنما هم يعرفون
تماما أن لليمان مطلوبا ،ووراءه مسئولية عملية ،وأن من مقتضى اليمان بال أن تعمل بمراده
وتأخذ بمنهجه.
ومن هنا رفضوا اليمان بإله واحد ،ورفضوا النقياد لرسوله صلى ال عليه وسلم الذي جاء
ليُبلِغهم مراد ال تعالى ،وينقل إليهم منهجه ،فمنهج ال ل ينزل إل على رسول يحمله ويُبلّغه
سلَ
حجَابٍ َأوْ يُرْ ِ
ل وَحْيا َأوْ مِن وَرَآءِ ِ
للناس ،كما قال تعالىَ {:ومَا كَانَ لِ َبشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ
حكِيمٌ }[الشورى]51 :
حيَ بِِإذْنِهِ مَا َيشَآءُ إِنّهُ عَِليّ َ
رَسُولً فَيُو ِ
وهاهي أول الحكام في منهج الَ { :و َقضَىا رَ ّبكَ َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ إِيّاهُ[ } ..السراء]23 :
وقد آثر الحق سبحانه الخطاب بـ { رَ ّبكَ } على لفظ (ال)؛ لن الربّ هو الذي خلقك وربّاك،
ووالى عليك بنعمه ،فهذا اللفظ أَدْعَى للسمع والطاعة ،حيث يجب أن يخجل النسان من عصيان
المنعِم عليه وصاحب الفضل.
{ َو َقضَىا رَ ّبكَ[ } ..السراء]23 :
الخطاب هنا مُوجّه إلى النبي محمد صلى ال عليه وسلم؛ لنه هو الذي بلغ المرتبة العليا في
حقّة؛ لن ال تعالى هو الذي ربّاه ،وأدّبه احسن تأديب.
التربية والدب ،وهي تربية َ
وفي الحديث الشريف " :أدّبني ربي فأحسن تأديبي ".
قضى :معناها :حكم؛ لن القاضي هو الذي يحكم ،ومعناها أيضا :أمر ،وهي هنا جامعة للمعنييْن،
فقد أمر ال ألّ تعبدوا إل إيّاه أمرا مؤكدا ،كأنه قضاء وحكم لزم.
سمَاوَاتٍ[} ..فصلت]12 :
وقد تأتي قضى بمعنى :خلق .كما في قوله تعالىَ {:ف َقضَاهُنّ سَبْعَ َ
وتأتي بمعنى :بلغ مراده من الشيء ،كما في قوله تعالى {:فََلمّا َقضَىا زَ ْيدٌ مّ ْنهَا وَطَرا َزوّجْنَا َكهَا..
}[الحزاب]37 :
وقد تدل على انتهاء المدة كما في:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والدوات لينحتوها ،وتكسرت منهم فعالجوها ،ووقعت فأقاموها ،وهم يرون كم هي مهينة بين
أيديهم لدرجة أن أحدهم رأى الثعلب يبول برأس أحد الصنام فقال مستنكرا حماقة هؤلء الذين
يعبدونها:أَ َربّ يبـولُ الثّعلَـبانُ برأْسِهِ لَقدْ َذلّ مَنْ بَاَلتْ عَليْه ال ّثعَالِبُفإذا ما تورطوا في السؤال عن
آلهتهم هذه قالوا :إنها ل تضر ول تنفع ،وما نعبدها إل ليقربونا إلى ال زُلْفى ،كيف والعبادة
طاعة أمر واجتناب نهي .فبأيّ شيء أمرتكم الصنام؟ وعن أيّ شيء نه ْتكُمْ؟! إذن :كلمُكم كذاب
في كذب.
وفي قوله تعالىَ } :ألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ إِيّاهُ[ { ..السراء]23 :
أسلوب يسمونه أسلوب َقصْر ،يفيد قصر العبادة وإثباتها ل وحده ،بحيث ل يشاركه فيها أحد .فلو
قالت الية :وقضى ربك أن تعبدوه ..فلقائل أن يقول :ونعبد غيره لن باب العطف هنا مفتوح لم
ُيغْلَق ،كما لو قُلْت :ضربتُ فلنا وفلنا وفلنا ..هكذا باستخدام العطف .إنما لو قلت ،ما ضربن
إل فلنا فقد أغلقت باب العطف.
إذن :جاء التعبير بأسلوب القصر ليقول :اقصروا العبادة عليه سبحانه ،وانفوها عن غيره.
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى التكليف والمر الثاني بعد عبادته {:وَبِا ْلوَالِدَيْنِ إِحْسَانا[} ..السراء]23 :
وقد قرن ال تعالى بين عبادته وبين الحسان إلى الوالدين في آيات كثيرة ،قال تعالى {:وَاعْبُدُواْ
اللّ َه َولَ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا }[النساء]36 :
علَ ْيكُمْ َألّ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا[} ..النعام]151 :
وقالُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ َ
وقالَ {:و َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ حُسْنا }[العنكبوت]8 :
لكن ،لماذا قرن ال تعالى بين عبادته وبين الحسان إلى الوالدين؟ أتريد أن نقرب الولى بالثانية،
أم نقرب الثانية بالولى؟
نقول :ل مانع أن يكون المران معا؛ لن ال تعالى غَيْب ،واليمان به يحتاج إلى إعمال عقل
وتفكير ،لكن الوالدين بالنسبة للنسان أمر حسيّ ،فهما سِرّ وجوده المباشر ،وهما رَبّياه ووفّرا له
كل متطلبات حياته ،وهما مصدر العطف والحنان.
إذن :التربية والرعاية في الوالدين مُحسّة ،أما التربية والرعاية من ال فمعقولة ،فأمْر ال لك
بالحسان إلى الوالدين دليل على وجوب عبادة ال وحده ل شريك له ،فهو سبحانه الذي خلقك،
وهو سبب وجودك الول ،وهو مُربّيك وصاحب رعايتك ،وصاحب الفضل عليك قبل الوالدين،
وهل رباك الوالدان بما أوجداه هما ،أما بما أوجده ال سبحانه؟
حقّ ال بحقّ الوالدين ،وأن نأخذ أحدهما دليلً على الخر.
إذن :لبد أن يلتحم َ
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى حين أمرنا بعبادته جاء بأسلوب النفيَ } :ألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ إِيّاهُ..
{ [السراء]23 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعني نهانا أن نعبد غيره سبحانه ،أما حين تكلم عن الوالدين فلم يقل مثلً :ل تسيئوا للوالدين،
فيأتي بأسلوب نفي كسابقه ،لماذا؟
قالوا :لن فضل الوالدين واضح ل يحتاج إلى إثبات ،ول يحتاج إلى دليل عقليّ ،وقولك :ل
حقّهما ،وغير مُتصوّر منهما ،وأنت
تسيئوا للوالدين يجعلهما مَظنّة الساءة ،وهذا غير وارد في َ
إذا نفيتَ شيئا عن مَنْ ل يصح أن ينفي عنه فقد َذمَمتْه ،كأن تنفي عن أحد الصالحين المشهورين
بالتقوى والورع ،تنفي عنه شرب الخمر مثلً فهل هذا في حقه مدح أم ذم؟
لنك ما قلتَ :إن فلنا ل يشرب الخمر إل إذا كان الناس تظنّ فيه ذلك .ومن هنا قالواَ :نفْي
عمّنْ ل يستحق العيب عَيْب.
العيب َ
إذن :لم يذكر الساءة هنا؛ لنها ل تَرِد على البال ،ول تُتصوّر من المولود لوالديه.
وبعد ذلك ،ورغم ما للوالدين من فضل وجميل عليك فل تنسَ أن فضل ال عليك أعظم؛ لن
والديك قد َيلِدانِك ويُسْلِمانك إلى الغير ،أما ربك فلن يُسلمك إلى أحد.
حسَانا[ { ..السراء]23 :
وقوله تعالى } :إِ ْ
حسِنوا إليهم إحسانا ،فحذف الفعل وأتى بمصدره للتأكيد.
كأنه قال :أ ْ
ف وَلَ تَ ْنهَرْ ُهمَا َوقُل ّل ُهمَا
وقوله تعالىِ } :إمّا يَبُْلغَنّ عِن َدكَ ا ْلكِبَرَ أَحَ ُد ُهمَا َأوْ كِلَ ُهمَا فَلَ َتقُل ّل ُهمَآ ُأ ّ
َقوْلً كَرِيما { [السراء]23 :
الحق سبحانه وتعالى حينما يوصينا بالوالدين ،مرة تأتي الوصية على إطلقها ،كما قال تعالى{:
ضعَتْهُ كُرْها[} ..الحقاف]14 :
حمَلَ ْتهُ ُأمّهُ كُرْها وَ َو َ
حسَانا َ
َووَصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ إِ ْ
حمَلَتْهُ ُأمّ ُه وَهْنا عَلَىا وَهْنٍ[} ..لقمان]14 :
ومرّة يُعلّل لهذه الوصية ،فيقولَ {:
والذي يتأمل اليتين السابقتين يجد أن الحق سبحانه ذكر العِلّة في بِرّ الوالدين ،والحيثيات التي
حمَلَتْهُ ُأمّ ُه وَهْنا
استوجبت هذا البِرّ ،لكنها خاصة بالم ،ولم تتحدث أبدا عن فضل الب ،فقالَ {:
عَلَىا وَهْنٍ[} ..لقمان]14 :
فأين َدوْر الب؟ وأين مجهوداته طوال سنين تربية البناء؟
المتتبع ليات بر الوالدين يجد حيثية ُمجْملة ذكرت دور الب والم معا في قوله تعالىَ {:كمَا
صغِيرا[} ..السراء]24 :
رَبّيَانِي َ
لكن قبل أن يُربّي الب ،وقبل أن يبدأ دوره كان للم الدور الكبر؛ لذلك حينما تخاصم الب والم
خفّا وحملتُه ثقلً ،ووضعه شهوة ووضعتُه كرها.
لدى القاضي على ولد لهما ،قالت الم :لقد حمله ِ
لذلك ذكر القرآن الحيثيات الخاصة بالم؛ لنها تحملتها وحدها لم يشاركها فيها الزوج؛ ولنها
حيثيات سابقة لدراك البن فلم يشعر بها ،فكأنه سبحانه وتعالى أراد أنْ يُذكّرنا بفضل الم الذي
لم ندركه ولم ُنحِسّ به.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وذلك على خلف دور الب فهو محسوس ومعروف للبن ،فأبوه الذي يوفر له كل ما يحتاج
إليه ،وكلما طلب شيئا قالوا :حينما يأتي أبوك ،ف َدوْر الب ـ إذن ـ معلوم ل يحتاج إلى بيان.
صتْ هذه الحال دون غيرها؟
خ ّ
والية هنا أوصتْ بالوالدين في حال الكِبَر ،فلماذا َ
قالوا :لن الوالدين حال شبابهما وقُوتهما ليسا مظنّة الهانة والهمال ،ول مجال للتأفف والتضجّر
منهما ،فهما في حال القوة والقدرة على مواجهة الحياة ،بل العكس هو الصحيح نرى الولد في
هذه الحال يتقربون للباء ،ويتمنون رضاهما ،لينالوا من خيرهما.
لكن حالة الكِبَر ،ومظهر الشيخوخة هو مظهر العالة والحاجة والضعف ،فبعد أنْ كان ُمعْطيا
أصبح آخذا ،وبعد أنْ كان عائلً أصبح عالة.
لذلك ،فالنبي صلى ال عليه وسلم في حديث المينات والمراغم ،وكان على المنبر ،فسمعه
الصحابة يقول :آمين .ثم سكت برهة .وقال :آمين وسكت .ثم قال :آمين .فلما نزل قالوا :يا
رسول ال سمعناك تقول :آمين ثلثا .فقال " :جاءني جبريل فقال :رغم أنف مَنْ ُذكِ ْرتَ عنده ولم
صلّ عليك ،قل :آمين .فقلت :آمين ،ورغم أنفس مَنْ أدرك رمضان فلم يُغفر له ،قل :آمين.
ُي َ
فقلت :آمين ،ورغم أنف مَنْ أدرك والديه ـ أو أحدهما فلم يدخل بهما الجنة ،قل :آمين .فقلت:
آمين "
فخصّ الحق سبحانه حال الكِبَر ،لنه حال الحاجة وحال الضعف؛ لذلك قال أحد الفلسفة :خَيْر
الزواج مبكره ،فلما سُئِل قال :لنه الطريق الوحيد لنجاب والد يعولك في طفولة شيخوختك،
وشبّه الشيخوخة بالطفولة لن كليهما في حال ضعف وحاجة للرعاية والهتمام.
ج َعلَ
ض ْعفٍ ُق ّوةً ثُمّ َ
ج َعلَ مِن َبعْ ِد َ
ض ْعفٍ ثُمّ َ
خَلقَكُمْ مّن َ
وصدق الحق سبحانه حين قال {:اللّهُ الّذِي َ
ضعْفا وَشَيْبَةً[} ..الروم]54 :
مِن َبعْدِ ُق ّو ٍة َ
فَمنْ تزوّج مبكرا فسوف يكون له من أولده مَنْ يُعينه ويساعده حال كِبَره.
والمتأمل في قوله تعالىِ } :إمّا يَبُْلغَنّ عِن َدكَ ا ْلكِبَرَ[ { ..السراء]23 :
صفَة الكِبَر على إطلقها ،بل قيّدها بقوله } :عِن َدكَ { فالمعنى :ليس لهما أحد غَيرك
ت ِ
لم تَأ ِ
يرعاهما ،ل أخ ول أخت ول قريب يقوم بهذه المهمة ،وما دام لم َي ُعدْ لهما غيرك فلتكُنْ على
مستوى المسئولية ،ول تتنصّل منها؛ لنك أَوْلى الناس بها.
ويمتد البِرّ بالوالدين إلى ما بعد الحياة بالستغفار لهما ،وإنجاز ما أحدثاه من عهد ،ولم يتمكّنا من
صلَ الرحم التي ل تُوصَل إل بهما من قرابة الب والم ،و َنصِلَ كذلك
الوفاء به ،وكذلك أن ن ِ
أصدقاءهما وأحبابهما ونُودّهم.
وقد كان صلى ال عليه وسلم يودّ صاحبات السيدة خديجة ـ رضي ال عنها ـ وكان يستقبلهن
ويكرمهن.
س ُموّ هذا الخلق السلمي ،حينما يُعدّي هذه المعاملة حتى إلى الكفار ،فقد جاءت السيدة
وانظر إلى ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أسماء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم تسأله في أمها التي أتتْها.
وأظهرت حاجة مع أنها كافرة ،فقال لها " :صِليِ أمك ".
بل وأكثر من ذلك ،إنْ كان الوالدان كافرين ليس ذلك فحسب بل ويدعوان البن إلى الكفر،
ويجاهدانه عليه ،ومع هذا كله يقول الحق سبحانه {:وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن ُتشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ
ط ْع ُهمَا َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا[} ..لقمان]15 :
بِهِ عِ ْلمٌ فَلَ تُ ِ
فهذه ارتقاءات ببرّ الوالدين تُوضّح عظمة هذا الدين ورحمة الخالق سبحانه بالوالدين حتى في حال
كفرهما ولَدَدهما في الكفر.
ويُ ْروَى أن خليل ال إبراهيم ـ عليه السلم ـ جاءه ضيف بلبل ،وأراد أن ينزل في ضيافته،
فسأله إبراهيم ـ عليه السلم ـ عن دينه فقال :مجوسي فأعرض عنه وتركه يذهب .فََسرْعان ما
أوحى الحق سبحانه إلى إبراهيم مُعاتبا إياه في أمر هذا الضيف :يا إبراهيم لقد وَسعْتُه في مكي
أعواما عديدة ،أطعمه وأسقيه وأكسوه وهو كافر بي ،وأنت تُعرض عنه وتريد أنْ تُغيّر دينه من
أجل ليلة يبيتها عندك ،فأسرع الخليل خلف الضيف حتى لحق به ،وحكى له ما حدث ،فقال
الرجلِ .نعْم الرب ربّ يعاتب أحبابه في أعدائه ،وشهد أن ل إله إل ال ،وأنَ إبراهيم رسول ال.
وقد رأى المستشرقون لضيق ُأفُقهم وقلّة فقْههم لسلوب القرآن الكريم ،رََأوْا تناقضا بين قوله
تعالىَ {:وصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا[} ..لقمان]15 :
وبين قوله تعالى {:لّ َتجِدُ َقوْما ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ ُيوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وََلوْ كَانُواْ
خوَا َنهُمْ َأوْ عَشِيرَ َت ُهمْ }[المجادلة]22 :
آبَآ َءهُمْ َأوْ أَبْنَآءَهُمْ َأوْ ِإ ْ
فكيف يأمر القرآن بمصاحبة الوالدين وتقديم المعروف لهما ،في حين ينهي عن مودّة مَنْ حَادّ ال
ورسوله؟
ولو َفهِم هؤلء ُمعْطيات السلوب العربي الذي جاء به القرآن لعلموا أن المعروف غير الودّ؛ لن
المعروف يصنعه النسان مع من يحب ،ومع من يكره ،مع المؤمن ومع الكافر ،تُطعمه إذا جاع،
وتسقيه إذا عطش ،وتستره إنْ كان عريانا ،أما المودة فل تكون إل لمَنْ تحب؛ لنها عمل قلبيّ.
ف َولَ تَ ْنهَرْ ُهمَا َوقُل ّل ُهمَا َقوْلً كَرِيما[ { ..السراء]23 :
وقوله تعالى } :فَلَ َتقُل ّل ُهمَآ ُأ ّ
وهذا توجيه وأدب إلهيّ يُراعي الحالة النفسية للوالدين حال كِبَرهما ،وينصح البناء أن يكونوا
على قدر من الذكاء والفطْنة والدب وال ّرفْق في التعامل مع الوالدين في مثل هذا السن.
الوالد بعد أَنْ كان يعطيك وينفق عليك أصبح الن مُحتاجا إليك ،بعد أنْ كان قويا قادرا على
السعي والعمل أصبح الن قعيدَ البيت أو طريحَ الفراش ،إذن :هو في َوضْع يحتاج إلى يقظة
ولباقة وسياسة عالية ،حتى ل نجرح مشاعره وهي مُرْهفة في هذا الحال .وتأمل قول ال تعالى} :
فَلَ َتقُل ّل ُهمَآ ُأفّ[ { ..السراء]23 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل ما يقال ،وهذه لفظة َقسْرية تخرج من صاحبها قهرا دون أن تمر على
وهي لفظة بسيطة أق ّ
العقل والتفكير ،وكثيرا ما نقولها عند الضيق والتبرّم من شيء ،فالحق سبحانه يمنعك من هذا
التعبير القَسْري ،وليس المر الختياري.
و } ُأفّ { اسم فعل مضارع بمعنى :أتضجر ،وهذه الكلمة تدل على انفعال طبيعي ،ولكن الحق
سبحانه يُحذّرك منه ،ويأمرك بأن تتمالكَ مشاعرك ،وتتحكّم في عواطفك ،ول تنطق بهذه اللفظة.
ت هي أقلّ
ومعلومة أنه سبحانه إذا نهاني عن هذه فقط نهاني عن غيرها من باب َأوْلى ،وما دام ْ
لفظة يمكن أنْ تُقال .إذن :نهاني عن القول وعن الفعل أيضا.
ثم أكّد هذا التوجيه بقولهَ } :ولَ تَ ْنهَرْ ُهمَا[ { ..السراء]23 :
والنهر هو الزّجْر بقسوة ،وهو انفعال تَالٍ للتضجّر وأشدّ منه قسوة ،وكثيرا ما نرى مثل هذه
المواقف في الحياة ،فلو تصوّرنا البن يعطي والده كوبا من الشاي مثلً فارتعشت يده فأوقع
الكوب فوق سجادة ولده الفاخرة ،وسريعا ما يتأفّف البن لما حدث لسجادته ،ثم يقول للوالد من
عبارات التأنيب ما يؤلمه ويجرح مشاعره.
إذن :كُنْ على حذر من التأفف ،ومن أن تنهر والديك ،كُنْ على حذر من هذه اللفاظ التي تسبق
إلى اللسان دون ِفكْر ،ودون تعقّل.
ثم بعد أن هذا النهي المؤكد يأتي أمر جديد ليؤكد النهي السابقَ } :وقُل ّل ُهمَا َق ْولً كَرِيما..
{ [السراء]23 :
وفي هذا المقام تُ ْروَى قصة الشاب الذي أوقع أبوه إناء الطعام على ثيابه ،فأخذ الولد يلعق الطعام
الذي وقع على ثوبه وهو يقول لوالده :أطعمك ال كما أطعمتني ،فحوّل الساءة إلى جميل يُحمَد
عليه.
ن كنتِ تُحبّينني حقا فل
والخر الذي ذهب يتمرّغ تحت أقدام أمه ،فقال له :كفى يا بني ،فقال :إ ْ
تمنعيني من عمل يُدخِلني الجنة.
والقول الكريم هنا نوع من التصرّف واللباقة في معاملة الوالدين خاصة حال الشيخوخة التي قد
تُقعِد صاحبها ،أو المرض الذي يحتاج إلى مساعدة الغير ،والولد هم َأوْلَى الناس بإعالة الوالدين
في هذه الظروف ،حيث سيبدو من النسان مَا ل يصح الطلع عليه إل لولده وأقرب الناس
إليه.
ن يقضي حاجته ،ويحتاج لمن يحمله
وَ َهبْ أن الوالد المريض أو الذي بلغ من الكِبَر عتيا يريد أ ْ
ويُقعِده ويُريحه ،وينبغي هنا أن يقول البن لبيهَ :هوّن عليك يا والدي ،وأعطني فرصة أردّ لك
بعض جميلك عليّ ،فلكَ ْم فعلتَ معي أكثر من هذا.
وهو مع ذلك يكون مُحبّا لوالده ،رفيقا به ،حانيا عليه ل يتبرّم به ،ول يتضجر منه ،هذا هو القول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الكريم الذي ينتقيه البناء في المواقف المختلفة.
فمثلً :قد يزورك أبوك في بيتك وقد يحدث منه أنْ يكسر شيئا من لوازم البيت ،فتقول له في هذا
الموقف :فِدَاك يا والدي ،أو تقول :ل عليك لقد كنت أفكر في شراء واحدة أحدث منها .أو غيره
من القول الكريم الذي يحفظ للوالدين كرامتهما ،ول يجرح شعورهما.
وكثيرا ما يأتي المرض مع كِبَر السن ،فترى الوالد طريحَ الفراش أو مشلولً ـ عافنا ال وإياكم
ـ لذلك فهو في أمس الحاجة لمن يُخفّف عنه ويُواسيه ،ويفتح له باب المل في الشفاء ويُذكّره أن
فلنا كان مثله وشفاه ال ،وفلنا كان مثله وأخذ ال بيده ،وهو الن بخير ،وهكذا.
ومع هذا ،كُنْ على ِذكْر لفضل الوالدين عليك ،ول تَنْسَ ما كان عندهما حال طفولتك من عاطفة
الحب لك والحنان عليك ،وأن ال تعالى جعل هذه العاطفة البوية تقوى مع ضعفك ،وتزيد مع
مرضك وحاجتك ،فترى البن الفقير محبوبا عن أخيه الغني ،والمريض أو صاحب العاهة محبوبا
عن الصحيح ،والغائب محبوبا عن الحاضر ،والصغير محبوبا عن الكبير ،وهكذا على قَدْر حاجة
المربّي يكون حنان المربّي.
إذن :نستطيع أن نأخذَ من هذا إشارة دقيقة يجب ألّ نغفل عنها ،وهي :إنْ كان بر الوالدين واجبا
عليك في حال القوة والشباب والقدرة ،فهو أوجب حالَ كبرهما وعجزهما ،أو حال مرضهما.
خ ِفضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ
ثم يرشدنا الحق سبحانه إلى حسن معاملة الوالدين ،فيقول } :وَا ْ
ح َمةِ.{ ...
الرّ ْ
()2036 /
صغِيرًا ()24
ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ
حمَ ِة َو ُقلْ َربّ ارْ َ
خ ِفضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ الرّ ْ
وَا ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
البشر .والذي يرى الطائر يحتضن صغاره تحت جناحه ،ويزقّهم الغذاء يرى عجبا ،فالصغار ل
يقدرون على مضغ الطعام وتكسيره ،وليس لديهم اللعاب الذي يساعدهم على أنْ يزدردوا الطعام
فيقوم الوالدان بهذه المهمة ثم يناولنهم غذاءهم جاهزا يسهل َبلْعه ،وإنْ تيسر لك رؤية هذا المنظر
فسوف ترى الطائر وفراخه يتراصون فرحة وسعادة.
إذن :قوله تعالى { :جَنَاحَ ال ّذلّ[ } ..السراء]24 :
كناية عن الخضوع والتواضع ،والذّل قد يأتي بمعنى القهر والغلبة ،وقد يأتي بمعنى العطف
س ْوفَ يَأْتِي اللّهُ ِب َقوْمٍ ُيحِ ّبهُمْ
والرحمة ،يقول تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْ َتدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَ َ
وَيُحِبّونَهُ َأذِلّةٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ[} ..المائدة]54 :
فلو كان الذلّة هنا بمعنى القهر لقال :أذلة للمؤمنين ،ولكن المعنى :عطوفين على المؤمنين .وفي
المقابل{ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ[} ..المائدة]54 :
أي :أقوياء عليهم قاهرين لهم.
حمَآءُ بَيْ َنهُمْ} ..
حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ رُ َ
وفي آية أخرى يقول تعالى {:مّ َ
[الفتح]29 :
لن الخالق سبحانه لم يخلق النسان رحيما على الطلق ول شديدا على الطلق ،بل خلق في
المؤمن مرونة تمكّنه أن يتكيف تبعا للمواقف التي يمر بها ،فإنْ كان على الكافر كان عزيزا ،وإنْ
ل متواضعا.
كان على المؤمن كان ذلي ً
ونرى وضوحَ هذه القضية في سيرة الصّديق أبي بكر والفاروق عمر رضي ال عنهما ،وقد
عُرِف عن الصّديق اللين و ِرقّة القلب والرحمة ،وعُرِف عن عمر الشدة في الحق والشجاعة
والقوة ،فكان عمر كثيرا ما يقول لرسول ال صلى ال عليه وسلم إذا تصادم بأحد المعاندين" :
إئذن لي يا رسول ال أضرب عنقه ".
وعندما حدثت حروب الردة بعد وفاة الرسول صلى ال عليه وسلم كان لكل منهما موقف مغاير
لطبيعته ،فكان مِنْ رأي عمر ألّ يحاربهم في هذه الفترة الحرجة من عمر الدعوة ،في حين رأى
الصديق محاربتهم والخْذ على أيديهم بشدة حتى يعودوا إلى ساحة السلم ،ويُذعنوا لمر ال
تعالى فقال " :وال ،لو منعوني عقالً كانوا يُؤدّونه لرسول ال لجالدتهم عليه بالسيف ،وال لو لم
يَبْق إل الزرع ".
وقد جاء هذا الموقف من الصّديق والفاروق لحكمة عالية ،فلو قال عمر مقالة أبي بكر لكان شيئا
طبيعيا يُنْسب إلى شدة عمر وجرأته ،لكنه أتى من صاحب القلب الرحيم الصّديق ـ رضي ال
عنه ـ ليعرف الجميع أن المر ليسد للشدة لذاتها ،ولكن للحفاظ على الدين والدفاع عنه.
وكأن الموقف هو الذي صنع أبا بكر ،وتطلب منه هذه الشدة التي تغلبت على طابع اللين السائد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في أخلقه.
حمَةِ[ { ..السراء]24 :
خ ِفضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ الرّ ْ
فيقول تعالى } :وَا ْ
إذن :الذلّة هنا ذِلّة تواضع ورحمة بالوالدين ،ولكن رحمتك أنت ل تكفي ،فعليك أن تطلب لهما
صغِيرا[ { ..السراء]24 :
ح ْم ُهمَا َكمَا رَبّيَانِي َ
الرحمة الكبرى من ال تعالىَ } :وقُل ّربّ ا ْر َ
لن رحمتك بهما ل تَفيِ بما قدّموه لك ،ول ترد لهما الجميل ،وليس البادئ كالمكافئ ،فهم أحسنوا
إليك بداية وأنت أحسنتَ إليهما ردّا؛ لذلك ا ْدعُ ال أنْ يرحمهما ،وأنْ يتكفل سبحانه عنك برد
الجميل ،وأن يرحمهما رحمة تكافئ إحسانهما إليك.
صغِيرا[ { ..السراء]24 :
وقوله تعالىَ } :كمَا رَبّيَانِي َ
كما :قد تفيد التشبيه ،فيكون المعنى :ارحمهما رحمة مثل رحمتهما بي حين ربياني صغيرا .أو
تفيد التعليل :أي ارحمهما لنهما ربياني صغيرا ،كما قال تعالى {:وَا ْذكُرُوهُ َكمَا َهدَاكُمْ[} ..البقرة:
]198
و } رَبّيَانِي { هذه الكلمة أدخلت كل مُربّ للنسان في هذا الحكم ،وإنْ لم يكُنْ من الوالدين ،لن
الولد قد يُربّيه غير والديه ليّ ظرف من الظروف ،والحكم يدور مع العلة وجودا وعَدما ،فإنْ
حسْن المعاملة والدعاء.
ربّاك غير والديك فلهما ما للوالدين من البرّ والحسان و ُ
وهذه بشرى لمن رَبّى غير ولده ،ولسيما إنْ كان المربّى يتيما ،أو في حكم اليتيم.
صغِيرا[ { ..السراء ]24 :اعتراف من البن بما للوالدين من فضل عليه وجميل
وفي } :رَبّيَانِي َ
يستحق الرد.
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه في تذييل هذا الحكم بقضية تشترك فيها معاملة البن لبويه مع
سكُمْ إِن َتكُونُو ْا صَالِحِينَ فَإِنّهُ كَانَ
معاملته لربه عز وجل ،فيقول تعالى } :رّ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبمَا فِي ُنفُو ِ
غفُورا {.
لوّابِينَ َ
لِ َ
()2037 /
غفُورًا ()25
سكُمْ إِنْ َتكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنّهُ كَانَ لِلَْأوّابِينَ َ
رَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبمَا فِي ُنفُو ِ
وقد سبق أنْ تكلّمنا عن اليمان والنفاق ،وقلنا :إن المؤمن منطقيّ مع نفسه؛ لنه آمن بقلبه
ولسانه ،وأن الكافر كذلك منطقيّ لنه كفر بقلبه ولسانه ،أما المنافق فغير منطقيّ مع نفسه؛ لنه
آمن بلسانه وجحد بقلبه.
وهذه الية تدعونا إلى الحديث عن النفاق؛ لنه ظاهرة من الظواهر المصاحبة لليمان بال ،وكما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نعلم فإن النفاق لم يظهر في مكة التي صادمتْ السلم وعاندته ،وضيقتْ عليه ،بل ظهر في
المدينة التي احتضنتْ الدين ،وانساحت به في شتى بقاع الرض ،وقد يتساءل البعض :كيف ذلك؟
نقول :النفاق ظاهرة صحية إلى جانب اليمان؛ لنه ل يُنافَق إل القوي ،والسلم في مكة كان
ضعيفا ،فكان الكفار يُجابهونه ول ينافقونه ،فلما تحوّل إلى المدينة اشتد عوده ،وقويتْ شوكته وبدأ
ضعَاف النفوس ينافقون المؤمنين.
ِ
لذلك يقول أحدهم :كيف وقد َذمّ ال أهل المدينة ،وقال عنهمَ {:ومِنْ أَ ْهلِ ا ْلمَدِي َنةِ مَرَدُواْ عَلَى ال ّنفَاقِ
}[التوبة]101 :
نقول :لقد مدح القرآن أهل المدينة بما ل مزيدَ عليه ،فقال تعالى في حقهم {:وَالّذِينَ تَ َبوّءُوا الدّارَ
وَالِيمَانَ }[الحشر]9 :
جةً
وكأنه جعل اليمان مَحَلً للنازلين فيهُ {.يحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ ِإلَ ْيهِ ْم َولَ َيجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَا َ
خصَاصَةٌ }[الحشر]9 :
سهِ ْم وََلوْ كَانَ ِب ِهمْ َ
ّممّآ أُوتُو ْا وَ ُيؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُ ِ
فإنْ قال بعد ذلكَ {:ومِنْ أَ ْهلِ ا ْلمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ال ّنفَاقِ }[التوبة]101 :
فالنفاق في المدينة ظاهرة صحية لليمان؛ لن اليمان لو لم يكن قويا في المدينة لما نافقه
المنافقون.
ومن هنا جعل ال المنافقين في الد ْركِ السفل من النار ،لنه مُندَسّ بين المؤمنين كواحد منهم،
يعايشهم ويعرف أسرارهم ،ول يستطيعون الحتياط له ،فهو عدو من الداخل يصعُب تمييزه .على
خلف الكافر ،فعداوته واضحة ظاهرة معلنة ،فيمكن الحتياط له وأخذ الحذر منه.
ولكن لماذا الحديث عن النفاق ونحن بصدد الحديث عن عبادة ال وحده وبِرّ الوالدين؟
الحق سبحانه وتعالى أراد أنْ يُعطينا إشارة دقيقة إلى أن النفاق كما يكون في اليمان بال ،يكون
سمْعة ورياءً ،ل إخلصا لهما ،أو
كذلك في برّ الوالدين ،فنرى من البناء مَنْ يبرّ أبويْه نفاقا و ُ
اعترافا بفضلهما ،أو حِرْصا عليهما.
سكُمْ[ } ..السراء]25 :
ولهؤلء يقول تعالى { :رّ ّبكُمْ أَعْلَمُ ِبمَا فِي ُنفُو ِ
لن من البناء مَنْ يبرّ أبويه ،وهو يدعو ال في نفسه أنْ يُريحه منهما ،فجاء الخطاب بصيغة
الجمع { :رّ ّبكُمْ } أي :رب البن ،وربّ البوين؛ لن مصلحتكم عندي سواء ،وكما ندافع عن الب
ندافع أيضا عن البن ،حتى ل يقعَ فيما ل تُحمد عُقباه.
وقوله { :إِن َتكُونُو ْا صَالِحِينَ[ } ..السراء]25 :
أيْ :إن توفّر فيكم شَرْط الصلح ،فسوف يُجازيكم عليه الجزاء الوفى .وإنْ كان غَيْر ذلك وكنتم
في أنفسكم غير صالحين غير مخلصين ،فارجعوا من قريب ،ول تستمروا في عدم الصلح ،بل
عودوا إلى ال وتوبوا إليه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غفُورا { [السراء]25 :
لوّابِينَ َ
} فَإِنّهُ كَانَ لِ َ
والوابون هم الذين اعترفوا بذنوبهم ورجعوا تائبين إلى ربهم.
وقد سبق أنْ أوضحنا أن مشروعية التوبة من ال للمذنبين رحمةٌ من الخالق بالخلق؛ لن العبد إذا
ارتكب سيئة في غفلة من دينه أو ضميره ،ولم تشرع لها توبة لوجدنا هذه السيئة الواحدة تطارده،
طوَال حياته ،بل وتدعوه إلى سيئة أخرى ،وهكذا يشقى به المجتمع.
ويشقى بها ِ
لذلك شرع الخالقُ سبحانه التوبة ليحفظ سلمة المجتمع وَأمْنه ،وليُثرِي جوانب الخير فيه.
ثم يُوسّع القرآن الكريم دائرة القرابة القريبة وهي " الوالدان " إلى دائرة أوسع منها ،فبعد أنْ حنّنه
سكِينَ
حقّ ُه وَا ْلمِ ْ
على والديه لفتَ نظره إلى ما يتصل بهما من قرابة ،فقال تعالى } :وَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَىا َ
ل َولَ تُ َبذّرْ تَبْذِيرا {.
وَابْنَ السّبِي ِ
()2038 /
الحق سبحانه بعد أنْ حنّن النسان على والديْه صعّد المسألة فحنّنه على قرابة أبيه وقرابة أمه،
حقّهُ[ } ..السراء]26 :
فقال { :وَآتِ ذَا ا ْلقُرْبَىا َ
حقّا للقارب إنْ كانوا في حاجة ،وإل فلو كانا غير محتاجين،
حقّهُ } لن ال تعالى جعله َ
{ َ
فالعطاء بينهما هدية متبادلة ،فكل قريب يُهادي أقرباءه ويهادونه .والحق سبحانه وتعالى يريد أن
يُشيعَ في المجتمع روح التكافل الجتماعي.
لذلك كان بعض فقهاء الندلس إذا منع الرجل زكاةً تقرُب من النّصاب أمر بقطع يده ،كأنه سرقه؛
لن ال تعالى أسماه (حقا) َفمْن منع صاحب الحق من حقه ،فكأنه سرقه منه.
وقد سلك فقهاء الندلس هذا المسلك ،لنهم في بلد ترف وغنى ،فتشدّدوا في هذه المسألة؛ لنه ل
عُذْر لحد فيها.
لذلك ،لما جاء أحد خلفائهم إلى المنذر بن سعيد ،وقال :لقد حُلفت يمينا ،وأرى أن أُكفّر عنه فأفتاه
بأن يصوم ثلثة أيام ،فقال أحدهم :لقد ضيّقتَ واسعا فقد شرع ال للكفارة أيضا إطعامَ عشرة
مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ،فرد عليه المنذر قائلً :أو مثلُ أمير المؤمنين يُزْجَر بإطعام
عشرة مساكين أو كسوتهم؟ إنه يفعل ذلك في اليوم للْف وأكثر ،وإنما يزجره الصوم ،وهكذا
أخذوا الحكم بالروح ل بالنص؛ ليتناسب مع مقدرة الخليفة ،ويُؤثّر في َردْعه و َزجْره.
وكلمة (حق) وردت في القرآن على معنيين:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّ ّمعْلُومٌ }[المعارج]24 :
الول :في قوله تعالى {:وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ َ
والحق المعلوم هو الزكاة.
أما الحق الخر فحقّ غير معلوم وغير موصوف ،وهو التطوع والحسان ،حيث تتطوّع ل بجنس
جعُونَ
حسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ
ما فرضه عليك ،كما قال تعالى {:إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ ذَِلكَ مُ ْ
* وَبِالَسْحَارِ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات]19-16 :
عمّا فرضه ال علينا.
ولم يقل " :معلوم " :لنه إحسان وزيادة َ
ويجب على من ُيؤْتِى هذا الحق أن يكون سعيدا به ،وأن يعتبره َمغْنما ل َمغْرما؛ لن الدنيا كما
نعلم أغيار تتحول وتتقلب بأهلها ،فالصحيح قد يصير سقيما ،والغني قد يصير فقيرا وهكذا،
ن لك في المستقبل ،وضمان لولدك من بعدك ،والحق الذي تعطيه اليوم هو
فإعطاؤك اليوم ضما ٌ
نفسه الذي قد تحتاجه غدا ،إنْ دارتْ عليك الدائرة.
إذن :فالحق الذي تدفعه اليوم لصحابه تأمين لك في المستقبل يجعلك تجابه الحياة بقوة ،وتجابه
ن تركتَ أولدك في
الحياة بغير خور وبغير ضعف ،وتعلم أن حقك محفوظ في المجتمع ،وكذلك إ ْ
عوزٍ وحاجة ،فالمجتمع مُتكفّل بهم.
ضعَافا خَافُواْ عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُواّ
وصدق ال تعالى حين قال {:وَلْيَخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّ ًة ِ
اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َق ْولً سَدِيدا }[النساء]9 :
ولذلك ،فالناس أصحاب الرتقاء والثراء لورعهم ل يعطون القارب من أموال الزكاة ،بل
يخصّون بها الفقراء الباعد عنهم ،و ُيعْطون القارب من مالهم الخاص مساعدة وإحسانا.
سفِينَةُ
سكِينَ { هو الذي يملك وله مال ،لكن ل يكفيه ،بدليل قوله الحق سبحانهَ {:أمّا ال ّ
و } ا ْلمِ ْ
َفكَا َنتْ ِل َمسَاكِينَ َي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ[} ..الكهف]79 :
أما الفقير فهو الذي ل يملك شيئا ،وقد يعكس البعض في تعريف المسكين والفقير ،وهذا فهم
خاطئ.
و } وَابْنَ السّبِيلِ[ { ..السراء]26 :
السبيل هو الطريق ،والنسان عادةً يُنْسَب إلى بلده ،فنقول :ابن القاهرة ،ابن بورسعيد ،فإنْ كان
منقطعا في الطريق وطرأتْ عليه من الظروف ما أحوجه للعون والمساعدة ،وإن كان في الحقيقة
حقّ في مال المسلمين بقدر ما يُوصّله إلى بلده.
صاحب يسا ٍر وَغِنىً ،كأن يُضيع ماله فله َ
وابن السبيل إذا طلب المساعدة ل تسأله عن حقيقة حاله ،لن له حقا واجبا فل تجعله في وضع
مذلّة أو حرج.
} َولَ تُبَذّرْ تَ ْبذِيرا { [السراء]26 :
حبّ ا ْل ُمسْ ِرفِينَ }[النعام:
حصَا ِد ِه َولَ ُتسْ ِرفُواْ إِنّ ُه لَ يُ ِ
حقّهُ َيوْمَ َ
كما قال تعالى في آية أخرى {:وَآتُواْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]141
فالتبذير هو السراف ،مأخوذ من البذر ،وهو عملية يقوم بها الفلح فيأخذ البذور التي يريد
زراعتها ،وينثرها بيده في أرضه ،فإذا كان متقنا لهذه العملية تجده يبذر البذور بنسب متساوية،
بحيث يوزع البذور على المساحة المراد زراعتها ،وتكون المسافة بين البذور متساوية.
وبذلك يفلح الزرع ويعطي المحصول المرجو منه ،أما إنْ بذرَ البذور بطريقة عشوائية وبدون
نظام نجد البذور على مسافات غير متناسبة ،فهي كثيرة في مكان ،وقليلة في مكان آخر ،وهذا ما
نُسمّيه تبذيرا ،لنه يضع الحبوب في موضع غير مناسب؛ فهي قليلة في مكان مزدحمة في آخر
فَيُعاق نموّها.
لذلك ،فالحق سبحانه آثر التعبير عن السراف بلفظ (التبذير)؛ لنه يضيع المال في غير موضعه
المناسب ،وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام ،فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم ،في حين يمسك في
الشيء الضروري.
إذن :التبذير :صَرْف المال في غير حِلّه ،أو في غير حاجة ،أو ضرورة.
حقّ الزكاة،
والنهي عن التبذير هنا قد يُراد منه النهي عن التبذير في اليتاء ،يعني حينما تعطي َ
فل تأخذك الريحية اليمانية فتعطي أكثر مما يجب عليك ،وربما سمعتَ ثناء الناس وشكرهم
فتزيد في عطائك ،ثم بعد ذلك وبعد أن تخلوَ إلى نفسك ربما ندمتَ على ما فعلتَ ،وُل ْمتَ نفسك
على هذا السراف.
عطِ ذا القربى والمساكين وابن السبيل ،ولكن ل تُبذّر في المور الخرى،
وقد يكون المعنى :أ ْ
فالنهي هنا ل يعود إلى اليتاء ،بل إلى المور التافهة التي يُنفَق فيها المال في غير ضرورة.
خوَانَ الشّيَاطِينِ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّ ا ْلمُبَذّرِينَ كَانُواْ ِإ ْ
()2039 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمقصود :هارون أخو موسى ـ عليهما السلم ـ وبينهما زمن طويل يقارب أحد عشر جيلً،
ومع ذلك سماهما القرآن إخوة أي أخوّة الورع والتقوى.
أما :إخوان :فتدل على أن قوما اجتمعوا على مبدأ واحد ،خيرا كان أو شرا ،فتدلّ على الجتماع
في الخير ،كما في قوله تعالى {:وَا ْذكُرُواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ
خوَانا }[آل عمران]103 :
فََأصْبَحْتُمْ بِ ِن ْعمَتِهِ إِ ْ
خوَانَ الشّيَاطِينِ }
وقد تدل على الجتماع في الشر ،كما في قوله تعالى { :إِنّ ا ْلمُبَذّرِينَ كَانُواْ ِإ ْ
[السراء]27 :
فكأن المبذرين اجتمعوا مع الشياطين في هوية واحدة ،ووُ ّد واحد ،وانتظمتهما صفات واحدة من
الشر.
خوّة النسب ،وقد تتسامى لتدل على أُخوّة اليمان التي تنهار أمام
خوَة) تدل على أُ ُ
إذن :كلمة (إ ْ
قوتها كل الواصر .ونذكر هنا ما حدث في غزوة بدر بين أخويْنِ من أسرة واحدة هما " مصعب
بن عمير " بعد أن آمن وهاجر إلى المدينة وخرج مع جيش المسلمين إلى بدر وأخوه " أبو عزيز
" وكان ما يزال كافرا ،وخرج مع جيش الكفار من مكة ،والتقى الخوان :المؤمن والكافر" .
ومعلوم أن " مصعب بن عمير " كان من أغنى أغنياء مكة ،وكان ل يرتدي إل أفخر الثياب
وألينها ،ويتعطر بأثمن العطور حتى كانوا يسمونه مُدلّل مكة ،ثم بعد أنْ آمنَ تغيّر حاله وآثر
اليمان بال على كل هذا الغنى والنعيم ،ثم بعثه الرسول صلى ال عليه وسلم إلى المدينة ليعلّم
الناس أمور دينهم ،وفي غزوة أحد رآه رسول ال صلى ال عليه وسلم يرتدي جلد شاة ،فقال" :
انظروا ما فعل اليمان بأخيكم " ".
ن المؤمن والكافر؟ وأيّ الصلت كانت أقوى :صلة اليمان بال ،أم صلة
فماذا حدث بين الخويْ ِ
النسب؟
لما دارتْ المعركة نظر مصعب ،فإذا بأخيه وقد أَسَ َرهُ أحد المسلمين اسمه " أبو اليَس َر " فالتفتَ
إليه .وقال :يا أبا ال َيسَر أشدد على أسيرك ،فُأمّه غنية ،وسوف تفديه بمال كثير.
فنظر إليه " أبو عزيز " وقال :يا مصعب ،أهذه وصاتك بأخيك ،فقال له مصعب :هذا أخي دونك.
فأخوة الدين واليمان أقوى وأمتن من أخوة النسب ،وصدق ال تعالى حين قال {:إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ
خوَانَ الشّيَاطِينِ[ } ..السراء]27 :
خ َوةٌ[} ..الحجرات ]10 :قوله { :إِ ْ
إِ ْ
أي :أن الحق تبارك وتعالى جعلهما شريكين في صفة واحدة هي التبذير والسراف ،فإنْ كان
المبذّر قد أسرف في النفاق و َوضْع المال في غير حِلّه وفي غير ضرورة .فإن الشيطانَ أسرف
في المعصية ،فلم يكتفِ بأن يكون عاصيا في ذاته ،بل عدّى المعصية إلى غيره وأغوى بها
وزيّنها؛ لذلك وصفه الحق سبحانه بقولهَ { :وكَانَ الشّ ْيطَانُ لِرَبّهِ كَفُورا } [السراء]27 :
ليس كافرا فحسب ،بل (كفور) وهي صيغة مبالغة من الكفر؛ لنه كَفر وعمل على تكفير غيره.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَةٍ مّن رّ ّبكَ تَرْجُوهَا.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :وَِإمّا ُتعْ ِرضَنّ عَ ْنهُمُ ابْ ِتغَآءَ رَ ْ
()2040 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أمره وتصرّفه ،فإذا برسول ال صلى ال عليه وسلم يعتذر لهم ،فليس لديه من الركائب ما يحملهم
عليه إلى الجهاد.
فماذا كان من هؤلء النفر المؤمنين؟ هل انصرفوا ولسان حالهم يقول :لقد فعلنا ما علينا ويفرحون
بما انتهوا إليه؟ ل ،بلَ {:توَّلوْا وّأَعْيُ ُنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ حَزَنا َألّ يَجِدُواْ مَا يُ ْن ِفقُونَ }[التوبة]92 :
وهكذا يرتقي اليمان بأهله ،ويسمو بأصحابه ،فإذا لم يقدروا على العمال النزوعية ،فالعمال
ل من النفعال العاطفي المعبّر عن حقيقة اليمان الذي
القولية ،فإذا لم يقدروا على هذه أيضا فل أق ّ
يفيض دمع الحزْن لضيق ذات اليد.
طهَا ُكلّ الْ َبسْطِ فَ َت ْقعُدَ مَلُوما
ك َولَ تَبْسُ ْ
ج َعلْ يَ َدكَ َمغْلُولَةً إِلَىا عُ ُنقِ َ
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ولَ تَ ْ
مّحْسُورا }.
()2041 /
تحدّث الحق سبحانه وتعالى في آية سابقة عن المبذّرين ،وحذّرنا من هذه الصفة ،وفي هذه الية
يقيم الحق سبحانه موازنة اقتصادية تحفظ للنسان سلمة حركته في الحياة.
ج َعلْ َي َدكَ َمغْلُولَةً إِلَىا عُ ُن ِقكَ[ } ..السراء]29 :
فقوله تعالى { :وَلَ تَ ْ
واليد عادة تُستخدم في المنْح والعطاء ،نقول :لفلن يد عندي ،وله عليّ أيادٍ ل ُتعَد ،أي :أن نعمه
عليّ كثيرة؛ لنها عادة تُؤدّي باليد ،فقال :ل تجعل يدك التي بها العطاء ( َمغْلُولَة) أي :مربوطة
إلى عنقك ،وحين تُقيّد اليد إلى العنق ل تستطيع النفاق ،فهي هنا كناية عن ال ُبخْل والمساك.
سطِ[ } ..السراء]29 :
طهَا ُكلّ الْبَ ْ
وفي المقابلَ { :ولَ تَ ْبسُ ْ
فالنهي هنا عن كل البَسْط ،إذن :فيُباح بعض البسْط ،وهو النفاق في حدود الحاجة والضرورة.
وبَسْط اليد كناية عن البَذْل والعطاء ،وهكذا يلتقي هذا المعنى بمعنى كل من بذَر ومعنى بذّر الذي
سبق الحديث عنه.
فبذّر :أخذ حفنة من الحبّ ،وبَسَط بها يده مرة واحدة ،فأحدثتْ كومةً من النبات الذي يأكل بعضه
بعضا ،وهذا هو التبذير المنهيّ عنه ،أما الخر صاحب الخبرة في عملية البذْر فيأخذ حفنة الحبّ،
ويقبض عليها بعض الشيء بالقدر الذي يسمح بتفلّت حبات التقاوي واحدة بعد الخرى ،وعلى
مسافات متقاربة ومتساوية أي [بَذَرَ].
وهذا هو حدّ العتدال المرغوب فيه من الشرع الحكيم ،وهو الوسط ،وكل طرفيه مذموم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد أتى هذا المعنى أيضا في قول الحق سبحانه وتعالى {:وَالّذِينَ ِإذَآ أَن َفقُواْ َلمْ يُسْ ِرفُو ْا وَلَمْ َيقْتُرُواْ
َوكَانَ بَيْنَ ذَِلكَ َقوَاما }[الفرقان]67 :
أي :اعتدال وتوسّط.
إذن :ل تبسط يدك كل ال َبسْط فتنفق كل ما لديْك ،ولكن بعض البَسْط الذي يُبقِى لك سيئا تدخره،
ن ترتقيَ بحياتك.
وتتمكن من خلله أ ْ
وقد سبق أنْ أوضحنا الحكمة من هذا العتدال في النفاق ،وقلنا :إن النفاق المتوازن يُثري
حركة الحياة ،ويُسهم في إنمائها ورُقيّها ،على خلف القَبْض والمساك ،فإنه يُعرقِل حركة الحياة،
وينتج عنه عطالة وبطالة وركود في السواق وكساد يفسد الحياة ،ويعرق حركتها.
إذن :ل بُدّ من النفاق لكي تساهم في سَيْر عجلة الحياة ،ول بُد أن يكون النفاق معتدلً حتى تُبقِي
على شيء من َدخْلك ،تستطيع أن ترتقي به ،وترفع من مستواك المادي في دنيا الناس.
فالمبذر والمسْرف تجده في مكانه ،ل يتقدم في الحياة خطوة واحدة ،كيف وهو ل يُبقِي على
شيء؟ وبهذا التوجيه اللهي الحكيم نضمن سلمة الحركة في الحياة ،ونُوفّر الرتقاء الجتماعي
والرتقاء الفردي.
ثم تأتي النتيجة الطبيعية للسراف والتبذير { :فَ َت ْقعُدَ مَلُوما مّحْسُورا } [السراء]29 :
وسبق أنْ أوضحنا أن َوضْع القعود يدلّ على عدم القدرة على القيام ومواجهة الحياة ،وهو َوضْع
يناسب مَنْ أسرف حتى لم َيعُدْ لديه شيء.
وكلمة } فَ َت ْقعُدَ { تفيد انتقاص حركة الحياة؛ لن حركة الحياة تنشأ من القيام عليها والحركة فيها؛
لذلك قال تعالى {:لّ يَسْ َتوِي ا ْلقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ غَيْرُ ُأوْلِي الضّرَ ِر وَا ْلمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ..
}[النساء]95 :
} مَلُوما { أي :أتى بفعل يُلَم عليه ،ويُؤنّب من أجله ،وأول مَنْ يلوم المسرفَ أولدهُ وأهلُه،
وكذلك الممسِك البخيل ،فكلهما مَلُوم لتصرّفه غير المتزن.
} مّحْسُورا { أي :نادما على ما صِ ْرتَ فيه من العدم والفاقة ،أو من قولهم :بعير محسور .أي :ل
يستطيع القيام بحمله .وهكذا المسرف ل يستطيع الرتقاء بحياته أو القيام بأعبائها وطموحاتها
المستقبل له ولولده من بعده.
ن قبضتَ كل القَبْض فأنت مَلُوم ،وإنْ بسطتَ ُكلّ البسْط فتقعد محسورا عن طموحات الحياة
فإ ْ
التي ل َتقْوى عليها.
عقْباه في حياة الفرد والمجتمع .إذن :فما
إذن :فكل الطرفين مذموم ،ويترتب عليه سوء ل تُحمد ُ
القصد؟
القصد أن يسير النسان قواما بين السراف والتقتير ،كما قال تعالى {:وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ ُيسْ ِرفُواْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَلَمْ َيقْتُرُواْ َوكَانَ بَيْنَ ذَِلكَ َقوَاما }[الفرقان]67 :
فالقرآن يضع لنا دستورا حاسما وَسَطا ينظّم الحركة القتصادية في حياة المجتمع ،فابْسُط يدك
بالنفاق لكي تساهم في سَيْر عجلة الحياة وتنشيط البيع والشراء ،لكن ليس كل البسط ،بل تُبقِي من
دخلك على شيء لتحقق طموحاتك في الحياة ،وكذلك ل تمسك وتُقتّر على نفسك وأولدك
فيلومونك ويكرهون البقاء معك ،وتكون عضوا خاملً في مجتمعك ،ل تتفاعل معه ،ول تُسهم في
إثراء حركته.
والحق سبحانه وتعالى وهو صاحب الخزائن التي ل تنفذ ،وهو القائل {:مَا عِن َدكُمْ يَنفَ ُد َومَا عِندَ
اللّهِ بَاقٍ[} ..النحل]96 :
ولو أعطى سبحانه جميع خَلْقه ُكلّ ما يريدون ما نقص ذلك من مُلْكه سبحانه ،كما قال في الحديث
القدسي " :يا عبادي ،لو أن أولكم وآخركم ،وحيّكم وميتكم ،وشاهدكم وغائبكم ،وإنسكم وجنكم،
اجتمعوا في صعيد واحد ،فسألني ُكلّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إل كمغرز إبرة
جوَاد واجد ماجد ،عطائي كلم وعذابي كلم ،إنما أمري
أحدكم إذا غمسه في البحر ،ذلك أَنّي َ
لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون ".
سطُ الرّزْقَ ِلمَن يَشَآ ُء وَ َيقْدِرُ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرا َبصِيرا {.
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّ رَ ّبكَ يَبْ ُ
()2042 /
سطُ الرّ ْزقَ ِلمَنْ يَشَا ُء وَيَقْدِرُ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا ()30
إِنّ رَ ّبكَ يَبْ ُ
ال الذي ل تنفد خزائنه يعطي خلْقه بقدَرٍ ،فل يبسط لهم الرزق كل البَسْط ،ول يقبضه عنهم ُكلّ
القَبْض ،بل يبسط على قوم ،ويقبض على آخرين لتسير حركة الحياة؛ لنه سبحانه لو بسط الرزق
ووسّعه على جميع الناس لستغنى الناس عن الناس ،وحدثت بينهم مقاطعة تُفسد عليهم حياتهم.
إنما حركة الحياة تتطلب أنْ يحتاج صاحب المال إلى عمل ،وصاحب العمل إلى مال ،فتلتقي
حاجات الناس بعضهم لبعض ،وبذلك يتكامل الناس ،ويشعر كل عضو في المجتمع بأهميته ودوره
في الحياة.
وسبق أن ذكرنا أن الحق سبحانه لم يجعل إنسانا َمجْمعا للمواهب ،بل المواهب مُوزّعة بين الخَلْق
جميعهم ،فأنت صاحب موهبة في مجال ،وأنا صاحب موهبة في مجال آخر وهكذا ،ليظل الناس
يحتاج بعضهم لبعض.
فالغني صاحب المال الذي ربما تعالى بماله وتكبّر به على الناس يُحوِجه ال لقل المهن التي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يستنكف أن يصنعها ،ول بُدّ له منها لكي يزاول حركة الحياة.
والحق سبحانه ل يريد في حركة الحياة أن يتفضّل الناس على الناس ،بل ل ُبدّ أن ترتبط مصالح
الناس عند الناس بحاجة بعضهم لبعض.
فإذا كان الحق تبارك وتعالى ل يبسط لعباده كل البَسْط ،ول يقبض عنهم كل القَبْض ،بل يقبض
ويبسط ،فوراء ذلك حكمة ل تعالى بالغة؛ لذلك ارتضى هذا العتدال منهجا لعباده ينظم حياتهم،
وعلى العبد أن يرضى بما قُسِم له في الحالتين ،وأن يسير في حركة حياته سَيْرا يناسب ما قدّره
ال له من الرزق.
يقول تعالىَ {:ومَن ُقدِرَ عَلَيْهِ رِ ْز ُقهُ فَلْيُنفِقْ ِممّآ آتَاهُ اللّهُ[} ..الطلق]7 :
ن ضُيّق عليه الرزق فلينفق على قَدْره ،ول يتطلع إلى ما هو فوق قدرته وإمكاناته ،وهذه
أي :مَ ْ
نظرية اقتصادية تضمن للنسان الراحة في الدنيا ،وتوفر له سلمة العيش.
ورحم ال امرءا عرف قَدْر نفسه؛ لن الذي يُ ْتعِب الناس في الحياة ويُشقيهم أن ترى الفقير الذي
ضُيّق عليه في الرزق يريد أنْ يعيشَ عيشة الموسّع عليه رزقه ،ويتطلّع إلى ما فضّل ال به غيره
عليه.
فلو تصورنا مثلً زميلين في عمل واحد يتقاضيان نفس الراتب:
سعَةٍ من العيش قد يأخذ من أبيه فوق راتبه.
ي وفي َ
الول :غن ّ
والخر :فقير ربما يساعد أباه في نفقات السرة.
فإذا دخل محلً لشراء شيء ما ،فعلى الفقير ألّ ينظر إلى َوضْعه الوظيفي ،بل إلى وضعه
ومستواه المادي ،فيشتري بما يتناسب معه ،ول يطمع أن يكون مثل زميله؛ لن لكل منهما قدرةً
وإمكانية يجب ألّ يخرج عنها.
هذه هي النظرية القتصادية الدقيقة ،والتصرّف اليماني المتزن؛ لذلك فالذي يحترم قضاء ال
ويَ ْرضَى بما قَسَمه له ويعيش في نطاقه غير متمرد عليه ،يقول له الحق سبحانه :لقد رضيت
بقدري فيك فسوف أرفعك إلى قدري عندك ،ثم يعطيه ويُوسّع عليه بعد الضيق.
وهذا مُشَاهَد لنا في الحياة ،والمثلة عليه واضحة ،فكم من أُناس كانوا في فقر وضيق عيش ،فلما
سعَة وتَرَف.
َرضُوا بما َقسَمه ال ارتقتْ حياتهم وتبدّل حالهم إلى َ
فالحق سبحانه يبسط الرزق لمَنْ يشاء ويقدر؛ لنه سبحانه يريد أن يضع النسانُ نفسه دائما في
مقام الخلفة في الرض ،ول ينسى هذه الحقيقة ،فيظن أنه أصيل فيها.
والخيبة كل الخيبة أن ينسى النسان أنه خليفة ل في الرض ،ويسير في حركة الحياة على أنه
أصيل في الكون ،فأنت فقط خليفة لمن استخلفكَ ،ممْدود ِممّنْ أمدّك ،فإياك أنْ تغتر ،وإياك أنْ
تعيش في مستوى فوق المستوى الذي قدّره ال لك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضلّ الكون كله؛ لن ال تعالى جعل الدنيا أغيارا وجعلها ُد َولً ،فالذي
فإن اعتبرتَ نفسك أصيلً َ
وُسّع عليه اليوم قد يُضيّق عليه غدا ،والذي ضُيّق عليه اليوم قد يُوسّع عليه غدا.
وهذه سُنة من سُنَنَ ال في خَلْقه لِيَدكّ في النسان غرور الستغناء عن ال.
فلو متّع الُله النسانَ بالغنى دائما لما استمتع الكون بلذة :يا رب ارزقني ،ولو متّعة بالصحة دائما
لما استمتع الكون بلذة :يا رب اشفني .لذلك يظل النسان موصولً بالمنعِم سبحانه محتاجا إليه
داعيا إياه.
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق]7-6 :
ن الِنسَانَ لَ َي ْ
وقد قال تعالى {:كَلّ إِ ّ
فالحاجة هي التي تربط النسان بربه ،وتُوصله به سبحانه.
فالبَسْط والتضييق من ال تعالى له حكمة ،فل يبسط لهم الرزق كل البسط ،فيعطيهم ُكلّ ما
يريدون ،ول يقبض عنهم كل القبض فيحرمهم ويُريهم ما يكرهون ،بل يعطي بحساب وبقدر؛
سطَ اللّهُ الرّزْقَ ِلعِبَا ِدهِ لَ َب َغوْاْ فِي الَرْضِ
لتستقيم حركة الحياة ،كما قال تعالى في آية أخرى {:وََلوْ بَ َ
وَلَـاكِن يُنَ ّزلُ ِبقَدَرٍ مّا َيشَآءُ[} ..الشورى]27 :
وقوله تعالى } :إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرا َبصِيرا { [السراء]30 :
لن الحق سبحانه لو لم يوزع الرزق هذا التوزيع الحكيم لختلّ ميزان العالم ،فَمنْ بُسِط له
يستغني عن غيره فيما بُسِط له فيه ،ومَنْ ضُيِق عليه يتمرد على الكون ويحقد على الناس،
ويحسدهم ويعاديهم.
إنما إذا علم الجميع أن هذا بقدر ال وحكمته فسوف يظل الكون المخلوق موصولً بالمُكوّن الخالق
سبحانه.
وفي قوله } :إِنّ رَ ّبكَ[ { ..السراء]30 :
ملمح لطيف :أي ربك يا محمد وأنت أكرم الخلق عليه ،ومع ذلك َبسَط لك حتى صِرْت تعطي
ن ل يخشى الفقر ،وقبض عنك حتى تربط الحجر على بطنك من الجوع.
عطاء مَ ْ
فإن كانت هذه حاله صلى ال عليه وسلم فل يستنكف أحد منا إنْ ضيّق ال عليه الرزق ،ومَنْ منّا
ربط الحجر على بطنه من الجوع؟!
وبعد أنْ حدّثنا الحق سبحانه عن فرع من فروع الحياة وهو المال ،ورسم لنا المنهج الذي تستقيم
الحياة به ويسير النسان به سيرا يُحقّق له العيش الكريم والحياة السعيدة ،ويضمن له الرتقاءات
والطموحات التي يتطلع إليها.
أراد سبحانه أن يُحدّثنا عن الحياة في أصلها ،فأمر باستبقاء النسل ،ونهى عن قتله فقال تعالى} :
خشْيَةَ ِإمْلقٍ.{ ...
وَلَ َتقْتُلُواْ َأوْل َد ُكمْ َ
()2043 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خطْئًا كَبِيرًا ()31
خشْيَةَ ِإمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْ ُز ُق ُه ْم وَإِيّاكُمْ إِنّ قَتَْلهُمْ كَانَ ِ
وَلَا َتقْتُلُوا َأوْلَا َد ُكمْ َ
وواضحٌ الصلة بين هذه الية وسابقتها؛ لن الكلم هنا ما يزال في الرزق ،والخالق سبحانه
يُحذّرنا :إياكم أنْ تُدخِلوا مسألة الرزق في حسابكم؛ لنكم لم تخلقوا أنفسكم ،ولم تخلقوا أولدكم ول
ذريتكم.
بل الخالق سبحانه هو الذي خلقكم وخلقهم ،وهو الذي استدعاكم واستدعاهم إلى الوجود ،وما دام
هو سبحانه الذي خلق ،وهو الذي استدعى إلى الوجود فهو المتكفّل برزق الجميع ،فإياك أنْ تتعدّى
اختصاصك ،وتُدخِل أنفك في هذه المسألة ،وخاصة إذا كانت تتعلق بالولد.
وقوله تعالى { :وَلَ َتقْتُلُواْ َأوْل َد ُكمْ[ } ..السراء]31 :
القتل :إزهاق الحياة ،وكذلك الموت .ولكن بينهما فَرْق يجب ملحظته:
فالقتل :إزهاق الحياة ب َنقْض البِنْية؛ لن النسان يتكوّن من بنية بناها الخالق سبحانه وتعالى ،وهي
أجهزة الجسم ،ثم يعطيها الروح فتنشأ فيها الحياة.
فإذا ضرب إنسانٌ إنسانا آخر على رأسه مثلً ،فقد يتلف مخه فتنتهي حياته ،لكن تنتهي بنقْض
البنية التي بها الحياة ،لن الروح ل تبقى إل في جسم له مواصفات خاصة ،فإذا ما تغيرت هذه
الصفات فارقتْه الروح.
ف أعضاؤه ،فالموت يتم في
أما الموت :فيبدأ بمفارقة الروح للجسد ،ثم تُنقَض بنيته بعد ذلك .وتتَل ُ
سلمة العضاء.
وما أشبه هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي ل تُضيء ،إل إذا توافرتْ لها مواصفات خاصة :من
مُولّد أو مصدر للكهرباء ،وسلك مُوصلً ولمبة كهرباء ،فإذا كُس َرتْ هذه اللمبة يذهب النور ،لماذا؟
ل في قلب
صوّب واحد رصاصة مث ً
لنك نقضتَ شيئا أساسيا في عملية النارة هذه .وكذلك إذا َ
الخر فإنه يموت وتفارقه الروح؛ لنك نقضْتَ عنصرا أساسيا من بنية النسان ،ول تستمر
الروح في جسده بدونها.
لذلك ليس في الشرع عقوبة على الموت ـ ونقصد به هنا الموت الطبيعي الذي يبدأ بخروج
الروح من الجسد ـ لكن توجد عقوبة على القتل ،وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم " :ملعون
من هدم بنيان ال ".
لن حياة كل منا هي بناء أقامه الخالق تبارك وتعالى ،وهو مِلْك لخالقه ل يجوز حتى لصاحبه أن
ينقضه ،وإل فلماذا حرّم السلمُ النتحار ،وجعله كفرا بال؟!
إذن :المنهي عنه في الية القتل؛ لنه من عمل البشر ،وليس الموت .وقد أوضح القرآن الكريم
سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ
حمّدٌ ِإلّ َرسُولٌ َقدْ خََلتْ مِن قَبِْلهِ الرّ ُ
هذه المسألة في قوله تعالىَ {:ومَا مُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عقَا ِبكُمْ }[آل عمران]144 :
عَلَىا أَ ْ
فالقتل غير الموت ،القتل اعتداء على بِنْية إنسان آخر و َهدْم لها .وقوله تعالىَ { :أوْل َدكُمْ} ..
[السراء]31 :
الولد تُطلق على الذكَر والنثى ،ولكن المشهور في استقصاء التاريخ أنهم كانوا يَئدون البنات
خاصة دون الذكور ،وفي القرآن الكريم {:وَِإذَا ا ْل َموْءُو َدةُ سُئَِلتْ * بَِأىّ ذَنبٍ قُتَِلتْ }[التكوير]9-8 :
عوْنا وعُ ّد ًة في ُمعْترك الحياة ،وما يملؤها من
لنهم في هذه العصور كانوا يعتبرون الذكور َ
هجمات بعضهم على بعض ،كما يَروْن فيهم العِزْوة والمتداد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الثانية ،ول الثانية أبل َغ من الولى ،بل كل آية بليغة في موضوعها؛ لن اليتين وإنْ تشابهتَا في
النظرة العَجْلَى لكنْ بينهما فَرْق في المعنى كبير ،فآية السراء تقول } :نّحْنُ نَرْ ُز ُقهُ ْم وَإِيّاكُم..
{ [السراء]31 :
وقد أوضحنا الحكمة من هذا الترتيب :نرزقهم وإياكم.
أما في آية النعام {:نّحْنُ نَرْ ُز ُق ُك ْم وَإِيّاهُمْ[} ..النعام]151 :
فل بُدّ أن نلحظَ أن للية صدرا وعَجُزا ،ول يصح أن تفهم أحدهما دون الخر ،بل ل بُدّ أن
تجمع في َفهْم الية بين صدرها وعجزها ،وسوف يستقيم لك المعنى ويُخرجك من أي إشكال.
ي اليتين ،وأغفلوا صَدريهما ،ولو كان الصدر واحدا
وما حدث من هؤلء أنهم نظروا إلى عَجُ َز ْ
ن صَدْري اليتين مختلفان:
في اليتين لكان لهم حق فيما ذهبوا إليه ،ولك ّ
الولى } :خَشْ َيةَ ِإمْلقٍ[ { ..السراء]31 :
والخرى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خطْئا مثل خطأ ،وهو الثم والذنب العظيم .وتأتي بالكسر وبالفتح كما نقول :خُذوا حِذْركم ،وخذوا
ِ
حَذرَكم.
وكلمة } :خِطْئا[ { ..السراء]31 :
الخاء والطاء والهمزة تدل على عدم موافقة الصواب ،لكن مرة يكون عدم موافقة الصواب لنك
لم تعرف الصواب ،ومرة أخرى لم توافق الصواب لنك عرفتَ الصواب ،ولكنك تجاوزْتَه.
فالمعلّم حينما يُصوّب للتلميذ أخطاءهم أثناء العام الدراسي نجده يُوضّح للتلميذ ما أخطأ فيه ،ثم
يُصوّب له هذا الخطأ ،وهو لم يفعل ذلك إل بعد أن أعلمَ تلميذه بالقاعدة التي يسير عليها ،ولكن
التلميذ قد يغفل عن هذه القاعدة فيقع في الخطأ.
خطَأه ونُرشده؛ لنه ما يزال في زمن الدرس والتعلّم والترويض
وهنا ل مانع أنْ نُصوّب له َ
والتدريب.
لكن المر يختلف إنْ كانت هذه السئلة في امتحان آخر العام ،فالمعلّم يُبيّن الخطأ ،ولكنه ل
يُصحّحه ،بل يُقدّره بالدرجات التي تُحسَب على التلميذ ،وتنتهي المسألة بالنجاح ِلمَنْ أصاب،
وبالفشل لمن أخطأ؛ لن آخر العام أصبح لديه قواعد مُلْزمة ،عليه أنْ يسيرَ عليها.
وكلمة (خطْئا أو خطأ) مأخوذة من خطا خطوة ،وتعني النتقال بالحركة ،فإذا كان الصواب هو
الشيء الثابت الذي اس ُتقِرّ عليه وتعارف الناس عليه ،ثم تجاوزتَه وانتقلتَ عنه إلى غيره ،فهذا هو
الخطأ أي :الخطوة التي جعلتك تتجاوز الصواب.
ومنه قوله تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أولهما :أنك بالقتل هدمتَ بنيان ال ،ول يهدم بنيان ال إل ال.
ثانيها :أنك قطعت سلسلة التناسل في الرض ،وقضيتَ على الخلفة التي استخلفها ال في
الرض.
ثالثها :أنك تعديتَ على غريزة العطف والحنان؛ لن ولدك بعض مِنْك ،وقتله يُجرّدك من كل
معاني الُبُوة والرحمة ،بل والنسانية.
وهكذا وضع الحق سبحانه لنا ما يضمن بقاء النسل واستمرار خلفة النسان ل في أرضه ،بأنْ
ن يقتلوا كل الولد.
نهى كل والد أن يقتلَ ولده ،ونهى كل الباء أ ْ
حشَ ًة وَسَآءَ سَبِيلً {.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ولَ َتقْرَبُواْ الزّنَىا إِنّهُ كَانَ فَا ِ
()2044 /
بعد أن تحدّث الحق سبحانه عما يحفظ النسل ويستبقي خلفة ال في الرض ،أراد سبحانه أن
يحمي هذا النسل من الضياع ،ويوفر له الحياة الكريمة .والنسان منّا حينما يُرزَق بالولد أو البنت
يطير به فَرحا ،ويُؤثِره على نفسه ،ويُخرج اللقمة من فيه ليضعها في فم ولده ،ويسعى جاهدا
ليُوفّر له رفاهية العيش ،ويُؤمّن له المستقبل المُ ْرضِي ،وصدق الشاعر حين قال:إنما َأوْلَدُنَا
أكبادُناَ تمشي عَلَى الَ ْرضِإنْ هَ ّبتْ الريحُ على َبعْضـهِم امتن َعتْ عَيْني عَنِ ال ُغ ْمضِلكن هذا النظام
التكافليّ الذي جعله الحق سبحانه عمادا تقوم عليه الحياة السرية سرعان ما ينهار من أساسه إذا
ما َدبّ الشكّ إلى قلب الب في نسبة هذا الولد إليه ،فتتحوّل حياته إلى جحيم ل ُيطَاق ،وصراع
طعْن في ذاته هو.
داخلي مرير ل يستطيع مواجهته أو النطق به؛ لنه َ
لذلك يُحذّرنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ من هذه الجريمة النكْراء؛ ليحفظ على الناس أنسابهم،
ويطمئن كل أب إلى نسبة أبنائه إليه ،فيحنو عليهم ويرعاهم ،ويستعذب ألم الحياة ومتاعبها في
سبيل راحتهم.
فيقول تعالىَ { :ولَ َتقْرَبُواْ الزّنَىا[ } ..السراء]32 :
والمتأمل في آي القرآن الكريم يجد أن الحق سبحانه حينما يُكلّمنا عن الوامر يُذيّل المر بقوله
حدُودُ اللّهِ فَلَ َتعْتَدُوهَا[} ..البقرة]229 :
تعالى {:تِ ْلكَ ُ
والحديث هنا عن أحكام الطلق ،فقد وضع له الحق سبحانه حدودا ،وأمرنا أن نقف عندها ل
نتعداها ،فكأنه سبحانه أوصلنا إلى هذا الحد ،والممنوع أن نتعداه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأما في النواهي ،فيُذيلها بقولهِ {:ت ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتقْرَبُوهَا[} ..البقرة]187 :
ل نصلَ إلى الح ّد المنهي
والنهي هنا عن مباشرة النساء حال العتكاف ،وكأن الحق سبحانه يريد أ ّ
عنه ،وأنْ يكون بيننا وبينه مسافة ،فقال { فَلَ َتقْرَبُوهَا } لنظلّ على ُبعْدٍ من النواهي ،وهذا احتياط
واجب حتى ل نقتربَ من المحظور فنقع فيه.
وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم " :من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ".
ن يقتربَ من المحظور؛ لن له بريقا
فالحق سبحانه خالق النسان ،وهو أعلم به ل يريد له أ ْ
وجاذبية كثيرا ما يضعف النسان أمامها؛ لذلك نهاه عن مجرد القتراب ،وفَرْقٌ بين الفعل وقُرْبان
الفعل ،فالمحرّم المحظور هنا هو ال ِفعْل نفسه ،فلماذا إذن حرّم ال القتراب أيضا ،وحذّر منه؟
نقول :لن ال تعالى يريد أنْ يرحَم عواطفك في هذه المسألة بالذات ،مسألة الغريزة الجنسية،
ح ْمتَ حولها توشك أن تقعَ فيها ،فالبتعاد عنها وعن أسبابها أسلَمُ
وهي أقوى غرائز النسان ،فإنْ ُ
لك.
وحينما تكلّم العلماء عن مظاهر الشعور والعلم قسّموها إلى ثلث مراحل :الدراك ،ثم الوجدان،
ثم النزوع.
فلو فرضنا أنك تسير في بستان فرأيتَ به وردة جميلة ،فلحظة أنْ نظرتَ إليها هذا يُسمّى "
الدراك "؛ لنك أدركتَ وجودها بحاسة البصر ،ولم يمنعك أحد من النظر إليها والتمتّع بجمالها.
فإذا ما أعجبتك وراقك منظرها واستقر في نفسك حُبّها فهذا يسمى " الوجدان " أي :النفعال
الداخلي لما رأيتَ ،فإذا مددتَ يدك لتقطفها فهذا " نزوع " أي :عمل فعلي.
ففي أي مرحلة من هذه الثلث يتحكّم الشرع؟
الشرع يتحكم في مرحلة النزوع،ول يمنعك من الدراك ،أو من الوجدان ،إل في هذه المسألة "
مسألة الغريزة الجنسية " فل يمكن فيها َفصْل النزوع عن الوجدان ،ول الوجدان عن الدراك،
فهي مراحل ملتحمة ومتشابكة ،بحيث ل تقوى النفس البشرية على الفَصْل بينها.
فإذا رأى الرجل امرأة جميلة ،فإن هذه الرؤية سرعان ما تُولّد إعجابا وميلً ،ثم عِشْقا وغريزة
ع ويُلبي نداء غريزته ،فيقع
عنيفة تدعوه أنْ تمتدّ يده ،ويتولد النزوع الذي نخافه ،وهنا إما أنْ ينز َ
المحرم ،وإما أنْ يعف ويظل يعاني مرارة الحرمان.
والخالق سبحانه أعلم بطبيعة خَلْقه ،وبما يدور ويختلج داخلهم من أحاسيس ومشاعر؛ لذلك لم
يُحرّم الزنا فحسب ،بل حرّم كل ما يؤدي إليه بداية من النظر ،فقال تعالىُ {:قلْ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ َي ُغضّواْ
مِنْ أَ ْبصَارِهِمْ[} ..النور]30 :
لنك لو أدركتَ لوجدتَ ،ولو وجدتَ لنزعتَ ،فإنْ أخذتَ حظّك من النزوع أفسدتَ أعراض
ت مكبوتا تعاني عِشْقا لن تناله ،وليس لك صبر عنه.
ش َ
ن عففتَ عِ ْ
الناس ،وإ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :السلم لك وللمجتمع ،والحفظ للعراض وللحرمات أنْ ت ُغضّ بصرك عن محارم الناس
فترحم أعراضهم وترحم نفسك.
لكن هذه الحقيقة كثيرا ما تغيب عن الذهان ،فيغشّ النسانُ نفسه بالختلط المحرم ،وإذا ما سُئل
ادّعى البراءة وحُسْن النية وأخذ من صلة الزمالة إلى القرابة أو الجوار ذريعة للمخالطة
والمعاشرة وهو ل يدري أنه واهم في هذا كله ،وأن خالقه سبحانه أدرى به وأعلم بحاله ،وما
أمره بغضّ بصره إل لما يترتب عليه من مفاسد ومضار ،إما تعود على المجتمع ،أو على نفسه.
سهْم مسموم من سهام إبليس ،مَنْ تركها من مخافتي
لذلك قال صلى ال عليه وسلم " :النظرة َ
أبدلتُه إيمانا يجد حلوته في قلبه ".
ومن هنا نفهم مراده سبحانه من قولهَ } :ولَ َتقْرَبُواْ الزّنَىا[ { ..السراء]32 :
ولم يقل :ل تزنوا .لن لهذه الجريمة مقدمات تؤدي إليها فاحذر أنْ تجعلَ نفسك على مقربة منها؛
ك ممّنْ يُنادون بالختلط والباحية؛ لن الباطل
عَلن مَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ،ودَ ْ
ل ومهما كَثُر أتباعه فلن يكون حقا في يوم من اليام.
مهما عَ َ
وأحذر ما يشيع على اللسنة من قولهم هي بنت عمه ،وهو ابن خالها ،وهما تربّيا في بيت واحد،
إلى آخر هذه المقولت الباطلة التي ل تُغيّر من وجه الحرام شيئا ،فطالما أن الفتاة تحل لك فل
يجوز لك الخلوة بها.
وفي الحديث النبوي " :ل يخلون رجل بامرأة إل كان الشيطان ثالثهما ".
إذن :ما حرّم السلم النظر لمجرد النظر ،وما حرّم الخُلْوة في ذاتها ولكن حَرّمهما؛ لنهما من
دوافع الزنا وأسبابه .فيقول تعالىَ } :ولَ َتقْرَبُواْ الزّنَىا[ { ..السراء ]32 :أبلغ في التحريم
وأحوط وأسلم من :ل تزنوا.
خمْ ُر وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَابُ
ومثال ذلك أيضا قوله تعالى في تحريم الخمر {:يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا ا ْل َ
ع َملِ الشّ ْيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ َلعَّلكُمْ ُتفِْلحُونَ }[المائدة]90 :
وَالَزْلَمُ ِرجْسٌ مّنْ َ
ن يقول :ليس في القرآن آية واحدة تحرم شرب الخمر ..سبحان ال،
ومع ذلك يخرج علينا مَ ْ
فأيّهما أبلغ وأشدّ في التحريم أن نقول لك :ل تشرب الخمر ،أم اجتنب الخمر؟
ل تشرب الخمرَ :نهْي عن الشّرْب فقط .إذن :يُبَاحُ لك شراؤها وبيعُها وصناعتها ونقلها ..الخ .أما
الجتناب فيعني :البعد عنها كُلية ،وعدم اللتقاء بها في أي مكان ،وعلى أية صورة.
فالجتناب ـ إذن ـ أشدّ من مجرد التحريم.
وكيف نقول بأن الجتناب أقل من التحريم ،وقد قال تعالى في مسألة هامة من مسائل العقيدة{:
وَالّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطّاغُوتَ أَن َيعْبُدُوهَا }[الزمر]17 :
فهل تقول في هذه :إن الجتناب أقلّ من التحريم؟ وهل عبادة الطاغوت ليست محرمة؟!
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حشَةً[ { ..السراء]32 :
ثم يقول تعالى } :إِنّهُ كَانَ فَا ِ
الفاحشة :هي الشيء الذي اشتدّ قبْحه .وقد جعل الحق سبحانه الزنا فاحشة؛ لنه سبحانه وتعالى
حينما خلق الزوجين :الذكر والنثى ،وقدّر أن يكون منهما التناسل والتكاثر قدّر لهما أصولً
يلتقيان عليها ،ومظلّة ل يتم الزواج إل تحتها ،ولم يترك هذه المسألة مشَاعا يأتيها مَنْ يأتيها؛
ليحفظ للناس النساب ،ويحمي طهارة النساء ،فيطمئن كل إنسان إلى سلمة نسبه ونسب أولده.
والمراد من الصول التي يلتقي عليها الزوجان عقد القِران الذي يجعهما بكلمة ال وعلى سنة
رسوله صلى ال عليه وسلم.
ن الزواج ،وعلمتَ أن شابا ينظر إليها ،أو يحاول القتراب منها ،أو ما
و َهبْ أن لك بنتا بلغت س ّ
ضتَ لهذا
شابه ذلك ،ماذا سيكون موقفك؟ ل شكّ أن نار الغيرة ستشتعل بداخلك ،وربما تع ّر ْ
الشاب ،وأق ْمتَ الدنيا ولم تُقعِدْها.
لكن إذا ما طرق هذا الشاب بابَك ،وتقدّم لخطبة ابنتك فسوف تقابله بالترْحَاب وتسعد به ،وتدعو
الهل ،وتقيم الزينات والفراح.
إذن :فما الذي حدث؟ وما الذي تغيّر؟ وما الفرق بين الولى والثانية؟
الفرق بينهما هو الفرق بين الحلل والحرام؛ لذلك قيل " :جدع الحلل أنف الغيرة ".
جهِز ابنته ،ويُسلمها بيده إلى زوجها؛
فالذي يغَارُ على بناته من لمسة الهواء تراه عند الزواج ُي َ
لنهما التقيا على كلمة ال ،هذه الكلمة المقدسة التي تفعل في النفوس العاجيب.
مجرد أن يقول وليّ الزوجة :زوج ُتكَ ،ويقول الزوج :وأنا قبلتُ .تنزل هذه الكلمة على القلوب
بَرْدا وسلما ،وتُحدِث فيها انبساطا وانشراحا؛ لن لهذه الكلمة المقدسة عملً في التكوين الذاتي
للنسان ،ولها أثر في انسجام ذراته ،وفي كل قطرة من دمه.
ومن آثار كلمة ال التي يلتقي عليها الزوجان ،أنها تُحدِث سيالً بينهما ،هو سِيَال الستقبال
الحسن ،وعدم الضّجَر ،وعدم الغيرة والشراسة ،فيلتقيان على خير ما يكون اللقاء.
عدّة المتوفّى عنها
ولذلك حينما يُشرّع لنا الحق تبارك وتعالى العِدّة ،نجد عدة المطلقة غير ِ
زوجها ،وفي هذا الختلف حكمة؛ لن الحق سبحانه يعلم طبيعة النفس البشرية وما يُؤثّر فيها.
ولو كانت الحكمة من العدة مجرد استبراء الرحم لكفى شهر واحد وحَيْضة واحدة ،إنما المر أبعد
من ذلك ،فعند المرأة اعتبارات أخرى ومازالت تحت تأثير الزواج السابق؛ لن سيال الحال فيه
التقاء اليجاب والسلب من الرجل والمرأة ،وقد تعودتْ المرأة على اليجاب الحلل والسلب
الحلل.
فإذا طُّلقَت المرأة فل يحلّ لها الزواج قبل انقضاء العدة التي حددها الشرع بثلثة أشهر ،وهي
المدة التي يهدأ فيها سِيَال الحلل في نفسها ويجمد ،وبذلك تكون صالحة لللتقاء بزوج آخر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما في حالة المتوفّى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرة ،والحكمة من الفارق بين العِدّتين أن
المطلقة غالبا ما يكون بين الزوجين كُرْه ،هذا الكُرْه بينهما يساعد على موت السّيال؛ لنها بطبيعة
الحال نافرة عنه غير راغبة فيه .أما المتوفّى عنها زوجها فقد فارقها دون كُرْه ،فرغبتها فيه أشدّ؛
لذلك تحتاج إلى وقت أطول للتخلّص من هذا السيال.
والحق سبحانه هنا يُراعِي طبيعة المرأة ومشاعرها ،وعواطف الميل والرغبة في زوجها ،ويعلم
سبحانه أن هذا الميلَ وهذه الرغبة تحتاج إلى وقت ليهدأ هذه العواطف لدى المرأة ،وتستعد نفسيا
لللتقاء بزوج آخر؛ لن لقاء الزوج بزوجته مسألة ل يحدث النسجام فيها بالتكوين العقلي ،بل
النسجام فيها بالتكوين العاطفي الغريزي الذي يعتمد بالدرجة الولى على توافق الذرات بين
الذكر والنثى.
هذا التوافق هو الذي يُولّد ذرات موجبة ،وذرات سالبة ،فيحدث التوافق ،ويحدث الحب والعِشْق
الذي يجمعهما ويمتزجان من خلله.
وهذا ـ كما قلنا ـ أثر من آثار كلمة ال التي اجتمعا عليها وتحت ظلها.
وهكذا يلتقي الزوجان في راحة وهدوء نفسي ،ويسكن كل منهما للخر؛ لن ذراتهما انسجمت
وتآلفت؛ ويفرح الهل ويسعد الجميع ،وصدق رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال في
وصيته بالنساء " :إنما استحللتم فروجهن بكلمة ال "
ن تتصورَ الحال إنْ تَمّ هذا
وهذه الكلمة من ال تعالى الذي خلق النسان ويعلم ما يُصلحه ولك أ ْ
اللقاء فيما حَرّم ال ،وبدون هذه الكلمة وما يحدث فيه من تنافر الذرات وعدم انسجام ونكَدٍ
ت فيهما أنفاس الحياة.
ومرارة ل تنتهي ،ما بقي ْ
لذلك سمّاه القرآن فاحشةً ،والدليل على فُحْشه أن الموصوم به يحب ألّ يُعرف ،وأن تظل جرائمه
خِلْسة من المجتمع ،وأن الذي يقترف هذه الفاحشة يكره أن تُفعلَ في محارمه ،ويكفيها فُحْشا أن
ال تعالى سماها فاحشة ،وشرع لها حدا يُقام على مرتكبها علنية أمام أعين الجميع.
وقد عالج رسول ال صلى ال عليه وسلم هذا الداء ،حينما أتاه شاب يشتكي ضعفه أمام غريزته
الجنسية ،ويقول له :يا رسول ال ائذن لي في الزنا ،والنبي صلى ال عليه وسلم أتى بقضايا دينيه
عامة للجميع ،ولكن حين يعالج داءات المجتمع يعالج كل إنسان بما يناسبه ،وعلى حَسْب ما فيه
من داءات الضعف أمام شهوات نفسه.
ويتضح لنا هذا المنهج النبوي في جواب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقد سُ ِئلَ كثيرا عن
أفضل العمال ،فقال لحدهم " :الصلة لوقتها ".
وقال لخر " :أن تلقى أخاك بوجه طلق ".
وقال لخر " :أن تبر أخاك ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا تعددتْ الجابات ،لن النبي صلى ال عليه وسلم ل يصف مزيجا عاما يعطيه للجميع ،بل
يعطي لكل سائل الجرعة التي تُصلِح خللً في إيمانه ،كالطبيب الذي يهتم بعلج مريضه ،فيُجرى
له التحاليل والفحوصات اللزمة؛ ليقف على موضع المرض ويصِف العلج المناسب.
فكيف استقبل رسول ال صلى ال عليه وسلم هذا الشاب الذي جاءه يقول :يا رسول ال إني
أصلي وأصوم ،وأفعل كل أوامر الدين إل أنني ل أقدر على مقاومة هذه الغريزة؟
هل نهره واعتبره شاذا ،وأغلق الباب في وجهه؟ ل وال ،بل اعتبره مريضا جاء يطلب العلج
بعد أن اعترف بمرضه ،والعتراف بالمرض أولى خطوات الشفاء والعافية.
وهذا الشاب ما جاء لرسول ال إل وهو كاره لمرضه ،وأول ظاهرة في العافية أن تعترف
بمرضك ،ول تتكبر عليه ،فإنْ تكبّرتَ عليه استفحلَ واستعصى على العلج.
وقد اعتبر النبي صلى ال عليه وسلم شكوى هذا الشاب ظاهرة صحية في إيمانه؛ لنه ما جاء
يشكو إل وهو كاره لهذه الجريمة ،ويجد لها شيئا في نفسه،وانظر كيف عالجه النبي صلى ال
عليه وسلم " :أجلسه ،ثم قال له " :يا أخا العرب أتحب هذا لمك؟ " فانتفض الشاب ،وتغيّر وجهه
جعِ ْلتُ فِدَاك ،فقال " :أتحبه لختك؟ أتحبه لزوجتك؟ أتحبه لبناتك؟ " والشاب
وقال :ل يا رسول ال ُ
جعِ ْلتُ فِدَاك.
يقول في كل مرة :ل يا رسول ال ُ
ثم قال صلى ال عليه وسلم " :وكذلك الناس ل يحبونه لمهاتهم ول لخواتهم ول لزوجاتهم ول
حصّن فَرْجه "
لبناتهم " ثم وضع يده الشريفة على صدر هذا الشاب ودعا له " :اللهم َنقّ صدره ،و َ
".
وانصرف الشاب وهو يقول :لقد خرجتُ من عند رسول ال وليس أكرَه عندي من الزنا ،ووال ما
ه َم ْمتُ بشيء من ذلك إل وذك ْرتُ أمي وأختي وزوجتي وبناتي.
وما أشبه طريقة رسول ال صلى ال عليه وسلم في علج هذا الشاب بما يفعله أهل الصيدلة،
فعندهم مصطلح يسمونه " برشمة المر " ،فإن كان الدواء مُرّا ول يستسيغه المريض غَلّفوه بمادة
سكرية حتى يمرّ من منطقة التذوق ،فل يشعر المريض بمرارته.
وقد جعل الخالق سبحانه منطقة التذوق في اللسان فحسب ،دون غيره من العضاء التي يمرّ بها
الطعام ،واللسان آية من آيات ال في خَلْق النسان ،ومظهر من مظاهر قدرته سبحانه ،حيث جعل
ص كل منها بتذوّق نوع من الطعام :فهذه للحلو ،وهذه للمر ،وهذه للحرّيف،
فيه حلمات دقيقة يخت ّ
وهكذا ،مع أنها مُتراصّة ومُلْتصقة بعضها ببعض.
وكما تحدث برشمة الدواء الحسيّ المر ،كذلك يحدث في العلجات الدبية المعنوية ،فيُغلّف
خفّة البيان.
الناصح نصيحته ليقبلها المتلقي ويتأثر بها؛ لذلك قالوا :النصح ثقيل ،فاستعيروا له ِ
وقالوا :الحقائق مُرّة ،فل ترسلوها جبلً ،ول تجعلوها جدلً.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعلى الناصح أن يراعي حال المنصوح ،وأنْ يرفقَ به ،فل يجمع عليه قسوة الحرمان مما أَلِف
مع قسوة النصيحة .وقد وضع لنا الحق سبحانه المنهج الدعوي الذي يجب أن نسير عليه في قوله
ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِظَةِ الْحَسَ َنةِ[} ..النحل]125 :
تعالى {:ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ بِا ْل ِ
ومن أدب النصيحة أيضا الذي تعلّمناه من النبي صلى ال عليه وسلم أن تكون سِرّا ،فليس من
مصلحة أحد أنْ تُذاعَ السرار؛ لن لها أثرا سلبيا في حياة المجتمع كله وفي المنصوح نفسه ،فإنْ
ست ْرتَ عليه في نصيحتك له كان أدعى إلى قبوله لما تقوله ،وقديما قالوا :مَنْ نصح أخاه سرا فقد
جهْرا فقد فضحه وشَانَهُ.
ستره وَزَانَه ،ومَنْ نصحه َ
ثم يقول تعالى } :وَسَآءَ سَبِيلً { [السراء]32 :
والسبيل هو الطريق الموصل لغاية ،وغاية الحياة أننا مُسْتخلفون في الرض ،خلقنا ال لعمارتها
عمّا
ضلّ النسانُ وانحرف َ
والسعي فيها بما يُسعدنا جميعا ،ويعود علينا بالخير والصلح ،فإذا َ
رسمه له ربه أفسد هذه الخلفة ،وأشقى الدنيا كلها بدل أنْ يُسعدها.
وأعتقد أن ما نشاهده الن في بيئات النحلل والنحراف ،وما امتدّ منهم إلى بلد السلم من
التفزيع والرعب يجعلنا نؤمن بأن الزنا فعلً ساء سبيلً ،وساء طريقا ومسلكا ،يقضي على سلمة
المجتمع وَأمْنه وسعادته.
ويكفي أنك إذا خرجتَ من بيتك في مهمة تستلزم المبيت تأخذ جميع لوازمك وأدواتك الشخصية،
وتخاف من شبح العدوى الذي يطاردك في كل مكان ،في الحجرة التي تدخلها ،وفي السرير الذي
تنام عليه ،وفي دورة المياه التي تستعملها ،الجميع في رُعْب وفي هلع ،واليدز ينتشر انتشار النار
في الهشيم ،وأصبح ل يسلَم منه حتى السوياء الطهار.
وما حدث هذا الفزع إل نتيجة لخروج النسان عن منهج ال خروجا جعل هذه المسألة فوضى ل
ضابطَ لها ،فأحدث ال لهم من المراض والبليا بقدْر فجورهم وعصيانهم ،وما داموا لم يأتُوا
بالحسنى فليأتوا راغمين مُفزّعين.
خوْف
عفّة وطهارة ،ل عن إيمان بشرع ال ،ولكن عن َ
لذلك العالم كله الن يباشر مشروعات ِ
وهَلَع من أمراض شتّى ل ترحم ول تُفرّق بين واحد وآخر.
إذن :الزنا فاحشة وساء سبيلً ،وهاهي الحداث والوقائع تُثبت صِدْق هذه الية ،وتثبت أن أيّ
خروج من الخَلْق عن منهج الخالق لن يكون وراءه إل َنكَدُ الدنيا قبل أن ينتظرهم في الخرة.
والن وقد ضمنّا سلمة العراض ،وضمنّا طهارة النسل ،وأصبح لدينا مجتمع طاهر سليم ،ي ْأمَنُ
فيه النسان على هذا الجانب ،فل ُبدّ إذن أن نحافظَ فيه على الرواح ،فل يعتدي أحد على أحد،
فيقول تعالىَ } :ولَ َتقْتُلُواْ ال ّنفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ ِإلّ بِالحَقّ.{ ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2045 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقال تعالى {:وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الَلْبَابِ[} ..البقرة]179 :
وهذا نداء لصحاب الفهام والعقول الواعية ،ليس القصاص كما يظنّ البعض ،بل فيه الحياة وفيه
حقْن الدماء.
سلمة المجتمع و َ
ويجب أن يكون عندنا يقظةُ استقبال لحكام ال؛ لن القاتل ما قتل إل حينما غفل عن الحكم،
ويجب أيضا أن ننظر إلى حكم القصاص نظرة موضوعية ،لنه كما حَمى غيري من قَتْلِي له
حماني أيضا من قَتْل غيري لي ،وما دامت المسألة :لك مثل ما عليك ،وحظك منها كحظّ الناس
جميعا ،فلماذا العتراض؟
وكذلك في السرقة ،حينما يقول لك :ل تسرق ،فأنت ترى أن هذا المر قد قيّد حريتك أنت ،لكن
الحقيقة أنه أيضا قيّد حرية الخرين بالنسبة للسرقة منك.
والذي يتأمل هذه الحدود يجدها في صالح الفرد؛ لنها تُقيّد حريته وهو فرد واحد ،وتُقيّد من أجله
حرية المجتمع كله.
وفي الزكاة ،حينما يُوجِب عليك الشارع الحكيم أنْ تُخرِج قَدْرا معلوما من مالك للفقراء ،فل َت ُقلْ:
جهْدي وعَرقي .ونقول لك :نعم هو مالك ،ولكن ل تنسَ أن اليام ُد َولٌ وأغيار،
هذا مالي جمعتُه ب َ
والغنيّ اليوم قد يفتقر غدا ،فحين تعضّك اليام فسوف تجد مَنْ يعطيك ،ويَكيل لك بنفس الكَيْل
الذي كِ ْلتَ به للناس.
إذن :يجب أن نكون على وَعْي في استقبال الحكام عن ال تعالى ،وأن ننظر إليها نظرة شمولية،
فنرى ما لنا فيها وما علينا ،وما دامت هذه الحكام تعطينا بقدر ما تأخذ مِنّا فهي أحكام عادلة.
حكْم القصاص يجعل النسان حريصا على نفسه ،ويمنعه أنْ يُقدِم على القَتْل ،فإنْ غفل عن هذا
وُ
الحكم وارتكب هذه الجريمة فل بُدّ أن يقتصّ منه؛ فإن أخذتنا الشهامة وتش ّدقْنا بالنسانية والكرامة
ن معلوما لدينا أن مَنْ يعارض في إعدام قاتل فسوف
والرحمة الزائفة ،وعارضنا إقامة الحدود فليكُ ْ
يتسبب في إعدام المليين ،وسوف يفتح الباب لفوضى الخلفات والمنازعات ،فكلّ من اختلف مع
إنسان سارع إلى قَتْله؛ لنه ل يوجد رادع يُردِعه عن القتل.
إذن :لكي نمنع القتل ل ُبدّ أن نُنفّذَ حكم ال ونُقيم شَرعه ولو على أقرب الناس؛ لن هذه الحكام
ما نزلتْ لتكون كلما يُتلَى وفقط؛ بل لتكون منهجا عمليا يُنظّم حياتنا ،ويحمي سلمة مجتمعنا.
لذلك جعل الحق سبحانه وتعالى تنفيذ هذه الحكام علنية أمام الجميع ،وعلى مَرْأى ومَسْمع
المجتمع كله؛ ليعلموا أن أحكام ال ليست شفوية ،بل ها هي تُطبّق أمامهم ،وصدق ال تعالى حين
عذَا َب ُهمَا طَآ ِئفَةٌ مّنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النور]2 :
شهَدْ َ
قال {:وَلْيَ ْ
حدّ الردّة ،ورأوا فيه وحشية وكَبْتا
والذين اعترضوا على القصاص اعترضوا أيضا على إقامة َ
للحرية الدينية التي كفَلها السلم في قوله تعالى {:لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ[} ..البقرة]256 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدّ الردة ،وقال بقتل المرتد عن الدين أراد أن يُصعّب على غير
والحقيقة أن السلم حينما شرع َ
المسلمين الدخول في السلم ،وأن يُضيّق عليهم هذا الباب حتى ل يدخل في السلم إل مَنْ
أخلص له ،واطمأنّ قلبه إليه ،وهو يعلم تماما أنه إنْ تراجع عن السلم بعد أن دخل فيه فجزاؤه
القتل.
فهذه تُحسَب للسلم ل عليه؛ لنه اشترط عليك أولً ،وأوضح لك عاقبة ما أنت مُقدِم عليه.
أما حرية الدين والعقيدة فهي لك قبل أن تدخل السلم دخولً أوليا ،ل يجبرك أحد عليه ،فلك أنْ
تظلّ على دينك كما تحب ،فإنْ أردتَ السلم فتفكّر جيدا وتدبّر المر وابحثه بكل طاقات البحث
لديك.
فليس في دين ال مجالٌ للتجربة ،إنْ أعجبكَ تظلّ في ساحته ،وإنْ لم يَرُق لك تخرج منه ،فإنْ
علمتَ هذه الشروط فليس لك أنْ تعترضَ على حدّ الردّة بعد ذلك .ولتعلم أن دين ال أعزّ وأكرم
من أنْ يستجدي أحدا للدخول فيه.
ثم يقول تعالىَ } :ومَن قُ ِتلَ مَظْلُوما[ { ..السراء]33 :
وهذا حكم نفي ،المفروض ألّ يحدث .ومعنى } مَظْلُوما { أي :قُتِل دون سبب من السباب الثلثة
السابقة أي :دون حق ،فعلى فَرْض أن هذا القتل وقع بالفعل ،فما الحكم؟
جعَلْنَا ِلوَلِيّهِ سُ ْلطَانا فَلَ يُسْرِف فّي ا ْلقَتْلِ[ { ..السراء]33 :
يقول تعالىَ } :فقَدْ َ
وليه :أي وليّ المقتول ،وهو مَنْ يتولّى أمره من قرابته :الب أو الخ أو البن أو العم ..الخ فهو
الذي يتولّى أمر المطالبة بدمه.
} سُلْطَانا[ { ..السراء]33 :
ن يقتل القاتل ،والسلطان يكون في خدمة التنفيذ،
ق والقوة في أ ْ
أي :شرعنا له ،وأعطيناه الح ّ
ويُمكّنه منه ،وكذلك المؤمنون أيضا يقفون إلى جواره ،ويساعدونه في تنفيذ هذا الحكم؛ لن المر
ن ض ُعفَتْ النفس فل ُبدّ لرادع من الخارج ،وهنا
من ال قد يكون رادعه في ذات النفس ،لكن إ ْ
يأتي دور السلطان ودور المجتمع اليماني الذي يُعين على إقامة هذا الحكم.
إذن :جعل الحق سبحانه وتعالى سلطان القصاص لوليّ الدم ،فإنْ لم يكن له وليّ فإن السلطان
ق القصاص إلى
حّينتقل للحاكم العام ليتولى إقامة هذا الحكم ،لكن ما يُتعِب الدنيا ـ حينما ينتقل َ
الحاكم العام ـ طُول الجراءات التي تُخرج الحكم عن المراد منه ،وتُ ْذكِي نار الحقد وال ِغلّ والتّرَة
س وليّ الدم.
في نف ِ
فوليّ الدم وحده الذي يُعاني طول فترة التقاضي مع أناس ل يعنيهم أن تطولَ هذه الفترة أو
تقصُر؛ لن طول فترة التقاضي تأتي في صالح القاتل ،حيث بمرور اليام ـ بل والسنين ـ تبْرُد
شراسة الجريمة في نفوس الناس ،وتأخذ طريقا إلى طيّات النسيان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبهذا تبهت الجريمة وتُنسَى بشاعتها ،وبدلَ أن يقف المجتمع ويفكر في القاتل وفي القصاص منه،
تتحول النظار والعواطف إلى النفس الجديدة التي ستُقتل ،وبذلك يتعاطف الناس معه بدل أن
يتعاطفوا في إقامة القصاص عليه.
لكن يجب أنْ يُقامَ القصاص قبل أنْ تبُردَ شراسة الجريمة في النفوس ،وتبهت وتفقد حرارتها.
والحق سبحانه وتعالى كما شرع القصاص ،وجعله في يد وليّ الدم ،أراد في الوقت نفسه ألّ يحرم
عفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
المجتمع من طموحات العفو الذي يُنهي أصول الخلف ،فيقول تعالىَ {:فمَنْ ُ
حسَانٍ[} ..البقرة]178 :
ف وَأَدَآءٌ إِلَ ْيهِ بِإِ ْ
شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُو ِ
َ
ج ّو القتل وثورة الدماء التي تغلي بالثأر يتكلم الحق سبحانه عن العفو والخوة والمعروف
ففي َ
والحسان ،فمهما كان المر فالمؤمنون إخوة ،وباب العفو والحسان مفتوح .ولوليّ الدم بعد أن
أعطيناه حَقّ القصاص ندعوه إلى العفو ،وله أن يأخذ الدية وتنتهي المسألة ،وله أن يعفوَ عن
بعضها أو عنها كلها.
إذن :فإعطاء الحق مَنع عن المقتول له ذِلّة التسلّط من القاتل؛ لن ال تعالى أعطاه حَقّ القصاص
منه ،فإذا ما عفا عنه علم القاتل أن حياته أصبحت هبة من ولي الدم ،وما دام المر كذلك فسوف
تتلشى بينهما الضغائن والحقاد ،ويحل محلها الوفاق والمحبة والسلم ،ونُنهي تسلسل الثارات
الذي ل ينتهي.
وقد اشتهر في صعيد مصر ـ وكان مثالً للخْذ بالثأر ـ أن القاتل يأخذ كفنه في يده ،ويذهب به
إلى وليّ الدم ويُسلّم نفسه إليه معترفا بجريمته ،معطيا لولي الدم حرية التصرف فيه .فما يكون
من ولي الدم أمام هذا الستسلم إلّ أن يعف َو ويصفح ،وبذلك تُقتلَع الضغائن من جذورها.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى } :فَلَ ُيسْرِف فّي ا ْلقَ ْتلِ[ { ..السراء]33 :
ن القصاص بقَدْره دون زيادة أو تعدّ أو مجاوزة للحدّ،
أي :طالما أن ال أعطاك حَقّ القصاص فليكُ ْ
والسراف في القتل يكون بأوجه عدة:
فقد يكون القاتل غير ذي شأن في قومه ،فل يرضى وليّ الدم بقتْله ،بل يتطلع إلى قتل إنسان آخر
ذي مكانة وذي شأن ،فيقتل إنسانا بريئا ل ذنبَ له ،وهذا من السراف في القتل ،وهو إسرافٌ في
ذات المقتول.
وقد يكون السراف في الكَمّ ،فإنْ قُتِل واحد فل يكتفي وليّ الدم بأن يقتل القاتل ،بل يحمله ال ِغلّ
وثورة الدم إلى أنْ يقتل به أكثر من واحد.
وقد يكون السراف بأنْ يُمثّل بجثة المقتول ،ول يكفيه قتله ،والمفروض ألّ يحملك الغضب على
تجاوز الحدّ المشروع لك .وقد أراد النبي صلى ال عليه وسلم أن يفعلها في قاتل حمزة ،فنهاه ال
عن ذلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول تعالى } :إِنّهُ كَانَ مَ ْنصُورا { [السراء]33 :
أي :ل يجوز له أنْ يُسرف في القتل؛ لننا لم نتخلّ عنه ،بل وقفنا بجانبه وأعطيناه حقّ القصاص
ومكنّاه منه ،إذن :فهو منصور ليس متروكا ،فيجب أن يقف عند حَدّ الّنصْرة ل يتجاوزها؛ لنه إن
تجاوزها بقتل غير القاتل ،فسوف يُقتل هو الخر قصاصا.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ولَ َتقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ.{ ...
()2046 /
حسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُ ّد ُه وََأ ْوفُوا بِا ْل َعهْدِ إِنّ ا ْل َعهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ()34
وَلَا َتقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و { َأحْسَنُ } أفعل تفضيل تدل على الزيادة في الحسان فكأن لدينا صفتين ممدوحتين :حسنة
وأحسن ،وكأن المعنى :ل تقربوا مال اليتيم بالطريقة الحسنة فحسب ،بل بالطريقة الحسن .فما
الطريقة الحسنة؟ وما الطريقة الحسن؟
الطريقة الحسنة :أنك حين تقرب مال اليتيم ل تُبدده ول تتعدّى عليه .لكن الحسن :أنْ تُنمي له
هذا المال وتُثمّره وتحفظه له ،إلى أن يكون أَهْلً للتصرّف فيه.
لذلك فالحق سبحانه حينما تكلم عن هذه المسألة قال {:وَارْ ُزقُوهُمْ فِيهَا }[النساء]5 :
ولم يقل :وارزقوهم منها؛ لن الرزق منها يُنقِصها ،لكن معنى {:وَارْ ُزقُو ُهمْ فِيهَا }[النساء ]5 :أي:
من ريعها وربحها ،وليس من رأس المال.
وإلّ لو تصوّرنا أن أحد الوصياء على اليتام عنده مال ليتيم ،وأخذ ينفق عليه من هذا المال،
ويُخرج منه الزكاة وخلفه ،فسوف ينتهي هذا المال ويبلغ اليتيم مبلغ الرّشْد فَل يجد من ماله شيئا
يُعتَدّ به.
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول :حقّقوا الحسن أولً بالمحافظة على مال اليتيم ،ثم قدّموا
الحسن بتنميته له وزيادته زيادة تتسع لنفقات حياته ،وإلّ فسوف يشبّ الصغير ،وليس أمامه من
ماله شيء.
والحق سبحانه وتعالى يريد ألّ يحرم اليتيم من خبرة أصحاب الخبرة والصلحية القتصادية
وإدارة الموال ،فقد يكون من هؤلء مَنْ ليس لديه مال يعمل فيه ،فليعمل في مال اليتيم ويُديره له
ويُنمّيه ،وليأكل منه بالمعروف ،وإنْ كان غنيا فليستعفف عنه؛ لنه ل يحلّ له ،يقول تعالىَ {:ومَن
كَانَ غَنِيّا فَلْيَسْ َت ْع ِففْ َومَن كَانَ َفقِيرا فَلْيَ ْأ ُكلْ بِا ْل َمعْرُوفِ[} ..النساء]6 :
لن النسان إذا كان عنده خبرة في إدارة الموال ولديْه الصلحية فل نُعطّل هذه الخبرة ،ول
نحرم منها اليتيم ،وهكذا نوفر نفقة صاحب الخبرة الذي ل يجد مالً ،ونفقة اليتيم الذي ل يستطيع
إدارة أمواله ،وبذلك يتم التكامل في المجتمع اليماني.
ثم يقول تعالى } :حَتّىا يَبْلُغَ أَشُ ّدهُ[ { ..السراء]34 :
أي :حتى يكبر ويبلغ مبلغ الرجال ،ولكن هل هذه الصفة كافية لكي نُعطِي لليتيم ماله وقد بلغ سِنّ
الرّشْد والتكليف؟
في الحقيقة أن هذه الصفة غير كافية لنُسلّم له ماله يتصرف فيه بمعرفته؛ لنه قد يكون مع كِبَر
سِنّه سفيها ل يُحسِن التصرّف ،فل يجوز أن نتركَ له المال لِيُبدّده ،بدليل قوله تعالى {:فَإِنْ آنَسْتُمْ
مّ ْنهُمْ رُشْدا فَا ْد َفعُواْ إِلَ ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُمْ[} ..النساء]6 :
س َفهَآءَ َأ ْموَاَلكُمُ }[النساء]5 :
وقال في آية أخرى {:وَلَ ُتؤْتُواْ ال ّ
ولم يقل :أموالهم ،لن السفيه ليس له مال ،وليس له ملكية ،والمال مال وليه الذي يحافظ عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويُنمّيه له.
إذن :فالرّشْد وهو سلمة العقل وحُسْن التصرّف ،شرط أساسي في تسليم المال لليتيم؛ لنه أصبح
بالرّشْد أهْلً للتصرّف في ماله.
شدّة تكوينه ،ويبلغ الشدّ أي :تستوي ملكاته استواءً ل
وكلمةَ } :أشُ ّدهُ[ { ..السراء ]34 :أي :يبلغ ِ
زيادة عليه ،فأعضاء النسان تنمو وتتربى مع نموه على مَرّ الزمن ،إلى أن يصل سِنّ الرشد
شدّ أي :الستواء.
ويصبحَ قادرا على إنجاب مثله ،وهذه سِنّ ال ُ
جلَ ال تعالى التكليف للنسان إلى سِنّ البلوغ؛ لنه لو كلّفه قبل أن يبلغ ثم طرأ عليه البلوغ
لذلك أ ّ
بعد التكليف لحتجّ بما طرأ عليه في نفسه من تغيرات لم تكن موجودة حال التكليف.
سؤُولً { [السراء } ]34 :ا ْل َعهْدَ { ما تعاقد النسان
ثم يقول تعالى } :وََأ ْوفُواْ بِا ْل َعهْدِ إِنّ ا ْل َع ْهدَ كَانَ مَ ْ
عليه مع غيره عقدا اختياريا يلتزم هو بنتائجه ومطلوباته ،وأول عقد أُبرٍمَ هو ال َعقْد اليماني الذي
أخذه ال تعالى علينا جميعا ،وأنت حُرّ في أن تدخل على اليمان بذاتك مختارا أو ل تدخل ،لكن
حين تدخل إلى اليمان مُخْتارا يجب أن تلتزم بعهد اليمان؛ لن ال ل يريد منّا قوالب تخضع،
ولكن يريد مِنّا قلوبا تخشع ،ولو أراد ال منّا قوالب تخضع ما استطاع واحد مِنّا أنْ يشذّ عن
اليمان بال.
لذلك خاطب الحق تبارك وتعالى رسوله بقوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نفسه ،فأنا حُرّ وأنت حُرّ ،والعهد هو المسئول.
والحق سبحانه وتعالى يستعمل اسم المفعول في مواضع تقول للوهلة الولى أنه في غير موضعه،
ولكن إذا دققتَ النظر تجده في موضعه بليغا غايةَ البلغة ،كما في قوله تعالى {:وَإِذَا قَرَ ْأتَ
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ حِجَابا مّسْتُورا }[السراء]45 :
جعَلْنَا بَيْ َنكَ وَبَيْنَ الّذِي َ
ا ْلقُرآنَ َ
هكذا بصيغة اسم المفعول ،والحجاب في الحقيقة ساتر وليس مستورا ،ولكن الحق سبحانه يريد أنْ
يجعلَ الحجاب صفيقا ،كأنه نفسه مستور بحجاب الغير ،كما يصنع بعض المترفين ستائر البيوت
من طبقتين ،فتصبح الستارة نفسها مستورة ،وكما في قوله تعالى {:ظِـلّ ظَلِيلً[} ..النساء]57 :
أي :أن الظلّ نفسه مُظَّللٌ.
وانظر إلى حال المجتمع إذا لم تُرَاعَ فيه العهود ،ولم تُحترمَ المواثيق ،مجتمع يستهين أهله بالوفاء
وشرف الكلمة ،فسوف تجده مجتمعا مُفكّكا ُفقِدت فيه الثقة بين الناس ،وإذا ما ُفقِدت الثقة وضاع
ل لرقيّ أو تقدّم.
الوفاء وشرف الكلمة الذي تُدار به حركة الحياة فاعلم أنه مجتمع فاشل ،وليس َأهْ ً
ولهمية العهد في السلم نجده ينعقد بمجرد الكلمة ،وليس من الضروري أن يُسجّل في سجلت
رسمية؛ لن المؤمن تثق في كلمته حتى إن لم تُوثّق وتكتب.
ومن هنا وُجِد ما يسمونه بالحق القضائي وبالحق الديني ،فيقولون :هذا قضا ًء وهذا ديانة ،والفرق
واضح بينهما ،ويمكن أن نضرب له هذا المثل:
َهبْ أنك أخذتَ دَيْنا من صديق لك ،وكتب له مستندا بهذا الدين ليطمئن قلبه ،ثم قابلته بعد أن
تيسّر لك السداد ووفّيت له بدَيْنه .لكنه اعتذر لعدم وجود المستند معه الن ،فقلت له :ل عليك
أرسله لي متى شئتَ ،فلو تصوّرنا أنه أراد الغدر بك وأنكر سداد الدين ،فالقضاء يقول :له الحق
في أخذ دَيْنه ،أما ديانة فليس له شيء.
إذن :العهد الذي نعقده مع الناس يدخل تحت المسئولية الدينية وليس القضائية.
سطَاسِ ا ْلمُسْ َتقِيمِ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :وََأ ْوفُوا ا ْلكَ ْيلَ إِذا كِلْ ُت ْم وَزِنُواْ بِالقِ ْ
()2047 /
تنتقل بنا اليات إلى قضية من أخطر قضايا المجتمع ،هذه القضية هي التي تضمن للنسان نتيجة
عرقه وثمار جهده وتعبه في الحياة ،ويطمئن أنها عائدة عليه ل على هذه الطبقة الطفيلية المتسلطة
التي تريد أن تعيش على أكتاف الخرين وتتغذى على دمائهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبذلك ييأس الكسول الخامل ،ويعلم أنه ليس له مكان في مجتمع عامل نشيط ،وأنه إنْ تمادى في
خموله فلن يجد لقمة العيش فيأخذ من ذلك دافعا للعمل ،وبذلك تزداد طاقة العمل ويَرْقى المجتمع
ويسعد أفراده.
صحيح في المجتمع اليماني إيثار ،لكنه اليثار اليجابي النابع من الفرد ذاته ،أما الخطف
والسرقة والختلس والغَصب فل مجال لها في هذا المجتمع؛ لنه يريد لحركة الحياة أن تستوعب
الجميع فل يتطفل أحد على أحد.
وإن كنا نحارب المراض الطفيلية التي تتغذى على دماء النسان فإن محاربة الطفيليات الدمية
َأوْلَى بهذه المحاربة .فما ُد ْمتَ قادرا على العمل فيجب أن تعمل ،أما غير القادرين من أصحاب
ق مكفول في الدولة وفي أعناق المؤمنين جميعا ،وهذا
حٌالعذار فهم على العين والرأس ،ولهم َ
هو التأمين الذي يكفله السلم لكل محتاج.
سدّ حاجة الفقير :ل تتأفف ول تضجر إنْ أخذنا منك اليوم؛ لن
لذلك نقول للغني الذي يسهم في َ
ت وجمعتَ هذا المال طاقة وقدرة ليست ذاتية فيك ،بل هي هِبَة من
الطاقة التي عملت بها واجتهد َ
ال يمكن أنْ تُنزعَ منك في أي وقت ،وتتبدّل قوتك ضعفا وغِنَاك حاجة ،فإنْ حدث لك ذلك فسوف
نعطيك ونُؤمّن لك مستقبلك.
لذلك على النسان أن يعيش في الحياة إيجابيا ،يعمل ويكدح ويُسهِم في رُقيّ الحياة وإثرائها ،ول
يرضى لنفسه التقاعس والخمول؛ لن المجتمع اليماني ل يُسوّي بين العامل والقاعد ،ول بين
النشيط والمتكاسل.
سعَى فيه
و َهبْ أن شقيقين اقتسما ميراثا بينهما بالتساوي؛ الول عاش في ماله باقتصاد وأمانة و َ
بجدّ وعمل على تنميته ،أما الخر فكان مُسْرفا مُنحرفا بدّد كل ما يملك وقعد مُتحسّرا على ما
مضى ،فل يجوز أنْ نُسوّي بين هذا وذاك ،أو نأخذ من الول لنُعطيَ للخر ،إياك أن تفعل هذا
لن النسان وكذلك الدول ـ إذا أخذتْ ما ليس لها حمّلها ال ما ليس عليها.
ولذلك ل يجوز أن نحقد على الغني طالما أن غِنَاه ثمرة عمله وكَدّه ونتيجة سعيه ،وطالما أنه
يسير في ماله سَيْرا معتدلً ويؤدي ما عليه من حقوق للمجتمع ،ولندعه يعمل بكل ما يملك من
طاقات ومواهب ،وبكل ما ليده من طموحات الحياة؛ لن الفقير سوف يستفيد منه ومن طموحاته
شاء أم أبى .فدَعْه يجتهد ،وإنْ كان اجتهاده في الظاهر لنفسه فإنه في الحقيقة يعود عليك أيضا،
والخير في المجتمع تعود آثاره على الجميع.
لنفرض أن أحد هؤلء الغنياء أراد أن يبني مصنعا أو عمارة أو مشروعا كبيرا ،فكم من العمال
والصناع ،وكم من الموظفين والمهندسين سيستفيدون من هذا المشروع؟ إن الغني لن يملك مثل
هذه النجازات إل بعد أن يصبح ثمنها قُوتا في بطون الفقراء وكسوة على أجساد الفقراء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سعْيه واجتهاده ،وما عليك
إذن :علينا أنْ ندعَ الغني يجتهد ويسعى؛ لن المجتمع سوف يستفيد من َ
إل أن تراقبه ،فإنْ كان سعيُه في الحق فبها ونعمتْ ،وإنْ كان في غير الحق فلتضرب على يده.
وإليك ما يضمن لك سعادة الحياة وسلمة الحركة فيها ،يقول تعالى } :وََأ ْوفُوا ا ْلكَ ْيلَ إِذا كِلْتُمْ..
{ [السراء]35 :
والحديث هنا ل يخصّ الكيْل فقط ،بل جميع المقادير المستخدمة في حركة الحياة مثل المقادير
الطولية مثلً ،والتي تُقدّر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتُقاسُ بها الشياء ُكلّ
على حَسْبه ،فالكتاب مثلً ُيقَاس بالسنتيمتر ،والحجرة ُتقَاس بالمتر ،أما الطريق فيُقاس بالكيلومتر
وهكذا.
إذن :فالتقدير الطّولي يجب أن تتناسب وحدة القياس فيه مع الشيء الذي نقيسه .هذا في الطوليات،
أما في المساحات فيأتي الطول والعرض ،وفي الحجام :الطول والعرض والرتفاع .وفي الكُتَل
يأتي الميزان.
إذن :فالحياة محكومة في تقديرات الشياء بالكيْل الذي يُبيّن الحجام ،وبالميزان الذي يُبيّن الكتلة؛
لن الكيْل ل دخلَ له في الكتلة ،إنما الكتلة تُعرف بالميزان ،بدليل أن كيلو القطن مثلً أكبر بكثير
من كيلو الحديد.
ومعنى ذلك أن ميزان التقدير يجب أن يكون سليما؛ لذلك يقول تعالى } :وََأ ْوفُوا ا ْلكَ ْيلَ إِذا كِلْتُمْ..
{ [السراء ]35 :يعني :أعطوا المقادير على قدر المطلوب من الطرفين دون نقص.
طفّفِينَ * الّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النّاسِ يَسْ َت ْوفُونَ * وَإِذَا
وقد قال تعالى في آية أخرى {:وَ ْيلٌ لّ ْل ُم َ
كَالُوهُمْ َأ ْو وّزَنُوهُمْ ُيخْسِرُونَ }[المطففين]3-1 :
حقّهم
ومعنى المطففين الذين يزيدون ،وهؤلء إذا اكتالوا على الناس ،أي :أخذوا منهم .أخذوا َ
خسِرُونَ }[المطففين]3 :
وافيا ،وهذا ل َلوْم عليه ،وإنما اللوم على {:وَإِذَا كَالُو ُهمْ َأ ْو وّزَنُوهُمْ يُ ْ
أي :إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم } ُيخْسِرُونَ { أي :ينقصون .هذا هو موضع الذمّ ومجال اللوْم
سوّ بينه وبين الخرين،
حقّه ،بل يُلم على أنه لم يُ َ
في الية؛ لن النسان ل يُلم على أنه استوفى َ
ولم يعامل الناس بمثل ما يحب أنْ يُعاملوه به.
ونلحظ أن الكثيرين يفهمون أن التطفيف يكون في الكَيْل والميزان فحسب ،لكنه أيضا في السعر،
فالبائع الذي ينقصك الكيلو عشرين جراما مثلً فقد بخسَك في الوزن ،وطفّف عليك في الثمن
أيضا.
ثم يقول تعالى } :وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ ا ْلمُسْ َتقِيمِ[ { ..السراء ]35 :أي :اجعلوا الوزن دقيقا مستقيما ل
جوْرَ فيه.
َ
والمتأمل يجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما أراد دقة الحجام في تعاملت الناس أمرهم بإيفاء
حقّه ،هكذا } :وََأ ْوفُوا ا ْلكَ ْيلَ[ { ..السراء]35 :
الكيل َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَله بالقسطاس ،ليس القسطاس فحسب بل المستقيم ،إذن:
أما في الوزن فقد ركز على ِدقّته ،و َ
لماذا هذه الدّقة في الميزان بالذات؟
لو نظرتَ إلى عملية الكيْل لوجدتها واضحة مكشوفة ،قَلّما يستطيع النسان الغِشّ فيها ،وكثيرا ما
ينكشف أمره ويُعلَم تلعبه؛ لن الكيْل أمام العين والتلعب فيه مكشوف.
أما الوزن فغير ذلك ،الوزن مجال واسع للتلعب ،ولدى التجار ألف طريقة وطريقة يبخسون بها
الوزن دون أن يدري بهم أحد؛ لن الميزان كما نعلم رافعة من النوع الول ،عبارة عن محور
ارتكاز في الوسط ،و ِكفّة القوة في ناحية ،وكِفّة المقاومة في الناحية الخرى ،فأيّ َنقْص في
الذراعين يفسد الميزان ،وأيّ تلعب في كِفة القوة أو المقاومة يفسد الميزان.
ولو تحدثنا عن ألعيب البائعين في أسواقنا لطال بنا المقام؛ لذلك أكد الحق سبحانه وتعالى على
ش والخداع وَأكْل أموال الناس.
الدقة في الميزان خاصة؛ لنه مجال واسع للغ ّ
وسبق أن أوضحنا أن ميزان ُكلّ شيء بحسبه ،ويتناسب مع قيمته ونفاسته ،فالذي يزن الجير مثلً
غير الذي يزن اللوز ،غير الذي يزن الذهب أو اللماس؛ لذلك من معاني (القسطاس المستقيم) أن
يتناسب الميزان مع قيمة الموزون ،فالذي يبيع الذهب مثلً يزن أشياء ثمينة مهما كانت قليلة في
الميزان؛ فإنها تساوي الكثير من المال.
لذلك فإن أهل الخبرة في هذه المسألة يقولون :احذر أن يُدخِل البائع رأسه قريبا من الميزان؛ لنه
قد ينفخ في كِفّة الميزان ،ولشكّ أنك ستخسر كثيرا من جَرّاء هذه النفخة!!
لذلك نقول لهؤلء الذين أخذت أيديهم على الغش والخداع في البيع والشراء :أنت تبيع للناس شيئا
واحدا وتغشهم فيها ،وفي الوقت نفسه تشتري أشياء كثيرة من متطلبات الحياة ،فاعلم جيدا أنك إنْ
شتَ الناس في سلعة واحدة فسوف تُغشّ في مئات السلع ،وأنت بذلك خاسر ل محالة .مهما
غش ْ
دارت بك الوهام والظنون فحسبت أن المسألة في صالحك.
ول تنسَ أن فوقك قيّوما ،ل تأخذه سنة ول نوم ،ول تخفي عليه من أمرك خافية ،وسوف يُسلّط
عمّ ْيتَ على
عليك مَنْ يسقيك بنفس كأسك إلى أنْ تتبينَ لك حقيقة هذه الصفقة الخاسرة؛ لنك إن َ
قضاء الرض فلن تُعمّي على قضاء السماء ،وسوف تذهب هذه الموال التي اختلستها من أقوات
ل من مهاوش أذهبه ال
الناس من حيث أتت ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم " :من أصاب ما ً
في نهابر ".
وكذلك في المقابل :مَنْ صدق الناس ،ووفّى لهم في بيعه وشرائه وتعاملته يسّر ال له مَنْ يُوفّي
له ويصدُق معه.
ثم يقول تعالى } :ذاِلكَ خَيْ ٌر وَأَحْسَنُ تَ ْأوِيلً { [السراء]35 :
} ذاِلكَ { أي :الوزن بالقسطاس المستقيم خير وأحسن } تَ ْأوِيلً { أي :عاقبة ،ومعنى ذلك أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المقابل له ليس خيرا ول أحسن عاقبة .فالذي يغش الناس ويخدعهم يظن أنه بغشّه يزيد في ماله
ويجلب الخير لنفسه.
نقول له :أنت واهم ،فليس في الغش والبخس خير سيُجرّئ الناس عليك فيغشوك ،هذه واحدة ثم ل
يلبث الناس أن يكتشفوا تلعبك في الكيل والميزان فينصرفون عنك ويقاطعونك.
إذن :عدم الوزن بالقِسْطاس المستقيم ل هو خَيْر ،ول هو أحسن عاقبة.
أما التاجر الصادق الذي يُوفِي الكَيْل والميزان ،فإن ال تعالى ييسر له من يوفي له الكيل
والميزان ،وكذلك يشتهر بين الناس بصدقه وأمانته ،فيقبلون عليه ويحرصون على التعامل معه.
حسَنُ تَ ْأوِيلً { [السراء ]35 :أي :احسن عاقبة..
وهذا هو المراد بقوله تعالى } :ذاِلكَ خَيْ ٌر وَأَ ْ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ولَ َتقْفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ.{ ...
()2048 /
سمْعَ وَالْ َبصَرَ وَا ْل ُفؤَادَ ُكلّ أُولَ ِئكَ كَانَ عَ ْنهُ مَسْئُولًا ()36
وَلَا َتقْفُ مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ إِنّ ال ّ
ينتقل الحق سبحانه وتعالى إلى قضية أخرى تُنظّم حركة الحياة والنسان الذي استخلفه ال في
الرض ووهَبه الحياة وأمدّه بالطاقات وبمُ َق ّومَات الحياة وضرورياتها.
ن تكفّل له بالضرورياتَ ،دلّه على الترقّي في الحياة بالبحث والفكر ،واستخدام العقل
وبعد أ ْ
المخلوق ل ،والمادة المخلوقة ل بالطاقات المخلوقة ل ،فيُرقّي ويُثري حياته ومجتمعه.
وحركة الترقّي والثراء هذه ل تتمّ إل على قضية ثابتة واضحة ،فإذا تحركتَ في الحياة بناءً على
هذه القضية فسوف تصل إلى النتيجة المرجوّة.
فمثلً ،الطالب الذي يرغَب في دخول كلية الحقوق مثلً ،لديه قضية واضحة مجزوم بها ،فعندما
ضوْء قضية اقتنع بها.
يلتحق بالحقوق يجتهد ،ويصل من خللها إلى طموحاته؛ لنه سار على َ
إذن :ل بُدّ أن تُبْنَى حركة الحياة على قضايا ثابتة ،هذه القضايا الثابتة تجعل المتحرّك في أيّ
حركة واثقا من أن حركته ستُؤدّي إلى النتيجة المطلوبة ،فلو أردتَ مثلً الذهاب إلى السكندرية
أو إلى أسوان ،فلن تتحرّك إل إذا تأكدتَ أن هذا الطريق هو الموصّل إلى غايتك ،وكذلك حركة
الحياة ل يمكن أنْ تتمّ إل بناءً على قضايا حقيقية مضبوطة في الكون ،وهذا ما نسميه (العلم).
وقد سبق أن أوضحنا معنى القضية ،وأنها المقولة التي يُحكَم على قائلها بالصدق أو الكذب ،كأن
نقول :الرض كُروية ،أو الشمس مضيئة ،أو القمر منير ،وهذه القضايا تعطيني قضية علمية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مجزوما بها وواقعة ،ويمكن أنْ نُدلّل عليها .وهذا هو العلم.
أما الجهل فأنْ تجزم بقضية ليست واقعية فهي قضية كاذبة ،وليس الجهل عدم العلم كما يعتقد
البعض؛ لن عدم العلم أمية ،والميّ ليس عنده قضية ل صادقة ول كاذبة.
لذلك تجد الميّ أطوعَ في التعلم من الجاهل؛ لن المي بمجرد أنْ تُعلّمه قضية ما يأخذها
ويتعلمها ،أما الجاهل فيلزمك أولً أن تُخرِج من ذهنه القضية المخالفة ،ثم تُعلّمه القضية الصادقة.
وقضايا الحياة يمكن أنْ تُقسّم إلى قسمين:
قضايا تختلف فيها الهواء.
وقضايا تتفق فيها الهواء.
فالقضايا التي تختلف فيها الهواء :هي القضية التي يخدم بها كل قائل لها فكرةً عنده فقط ،وإنْ
كانت ضارة بغيره ،فما دام المر قائما على الهواء فل بُدّ أنْ تختلفَ ،ف ُكلّ له هواه الخاص ،فلو
أن لكل واحد قضية ما التقينا على شيء أبدا.
ت وَالَرْضُ} ..
سمَاوَا ُ
حقّ أَ ْهوَآءَهُمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
وصدق الحق تبارك وتعالى حين قال {:وََلوِ اتّ َبعَ الْ َ
[المؤمنون]71 :
إذن :فما المخرج من هذا الختلف والتبايُن؟ المخرَج أن يخرج كل واحد مِنّا من هوى نفسه
أولً ،ثم نرد القضية التي اختلفتْ فيها أهواؤنا إلى مَنْ ل هوى له.
ور ّبكَ سبحانه وتعالى هو وحده الذي ل هَوى له ،ونحن جميعا خَلْقه ،وكلنا عنده سواء ،ليس منا
مَنْ بينه وبين ال نسب أو قرابة ،فشرع ال واحد للجميع ،ول غضاضة فالكل خاضع لهذا الشرع
مُتّبِع له؛ لنه شَرْع الخالق سبحانه ل شَرْع أحد من الناس.
لذلك اشتهر قولهم " :اللي الشرع يقطع صباعه مَيْخُرش دم ".
فأنا لم أخضع لك ،وأنت لم تخضع لي ،بل الجميع خاضع ل تعالى مُنصَاع لمره .إذن :اتركوا
قضايا الهواء ل تعالى يُشرّعها لكم لكي ترتاحوا من تسلّط بعضكم على بعض.
أما القضايا التي تتفق فيها الهواء فهي القضايا المادية القائمة على المادة الصمّاء التي ل تُجامِل
أحدا على حساب أحد ،ول مانعَ أن تتبعوا الخرين فيها؛ لنكم سوف تلتقون عليها َقهْرا ورَغْما
عنكم ،فالمعمل الذي تدخله لتجري التجارب التي توصلك لقضية ما مادية أو كيماوية معمل محايد
ل يجامل أحدا.
وقد سبق أن قلنا :إن الكهرباء أو الكيمياء ليس فيها روسي وأمريكي؛ لن هذه أشياء مادية ل
خلفَ عليها ،أما الذي جعل المعسكر الشرقي يختلف والمعسكر الغربي هي القضايا الهوائية،
فهذا شيوعي ،وهذا رأسمالي.
لذلك ،فالنبي صلى ال عليه وسلم وضع بنفسه هذا المبدأ في الوجود اليماني حينما رأى الناس
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُؤبّرون النخل ،فأشار عليهم بعدم تأبيره ،فأطاعوه ولم يؤبروا النخل في هذا العام ،وكانت النتيجة
أن شاص النخل ولم يثمر ،وأثبتتْ التجربة الطبيعية أن ما أشار به رسول ال صلى ال عليه
وسلم ليس صوابا.
يأتي هذا ِممّنْ؟ من محمد بن عبد ال نبي ال ورسوله ،الذي يحرص على أن تأتي كل قضاياه
صادقة صائبة ،وما كان منه إل أن قال " :أنتم أعلم بشئون دنياكم ".
ليضع بذلك أُسْوة لعلماء الدين ألّ يضعوا أنوفهم في قضايا الماديات ،وقد قال الحق تبارك
وتعالىَ {:قدْ عَلِمَ ُكلّ أُنَاسٍ مّشْرَ َبهُمْ }[البقرة]60 :
ويقول صلى ال عليه وسلم " :ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".
فإنْ أردتَ أنْ تتحرّك في الحياة حركة سليمة مجدية ،وحركة متساندة مع إخوانك غير متناقضة؛
فالحق سبحانه يقول } :وَلَ َت ْقفُ مَا لَ ْيسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ[ { ..السراء ]36 :لكي تسير في حركة الحياة
ى وبصيرة.
على هُد ً
} لَ َت ْقفُ { أي :ل تتبع ول تتدخل فيما ل عِلْم لك به ،كمَنْ يدّعي مثلً العلم بإصلح التليفزيون
وهو ل يعلم ،فربما أفسد أكثر مما يُصلح.
ومن هنا قال أهل الفقه :مَنْ قال ل أدري فقد أفتى؛ لنه بإعلن عدم معرفته صرف السائل إلى
عقْباه ،والذي يسلك هذا
مَنْ يعلم ،أما لو أجاب خطأ ،فسوف يترتّب على إجابته مَا ل تُحمد ُ
المسلك في حياته تكون حركته في الحياة حركة فاشلة.
والفعل (يَقفْو) مأخوذ من القفا وهو المؤخرة ،وقد قال تعالى في آية أخرىُ } :ثمّ َقفّيْنَا عَلَىا
آثَارِهِم بِرُسُلِنَا { [الحديد ]27 :أي :أتبعناهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك]14 :
مَنْ خََل َ
وهذا النوع من العلم قال ال تعالى عنهَ {:ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ َفخُذُو ُه َومَا َنهَاكُمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ} ..
[الحشر]7 :
خلَ فيه ،أو نزيد عليه؛ لنه منهج ال الذي جاء بـ " افعل ول تفعل " ،وهو
ـ فليس لنا أنْ نتد ّ
منهج ل يقبل الزيادة أو التعديل ،فما كان فيه أمر ونهي فعليك اللتزام به ،وإل لو خرجت عن
هذا الطار الذي رسمه لك ربك وخالقك فسوف تحدث في الكون فسادا بترك المر أو بإتيان
النهي .أما المور التي تركها الخالق سبحانه ولم يرد في شأنها أمر أو نهي فأنت حر فيها ،تفعل
أو ل تفعل.
والمتأمل في شرع الخالق سبحانه يجد أمور التكليف بافعل ول تفعل قليلة إذا ما قيست بالمور
التي ترك لك الحرية فيها ،إذن :فدع لربك وخالقك والعلم بك مجالً يحكم من خلله حياتك
وينظمها لك ،أل يجد بنا ونحن عباده وصنعته أن نُحكّمه في أمور ديننا ،ونُخرِج أنوفنا مما
اختص به سبحانه؟
ـ أما النوع الخر من العلم ،فهو العلم المادي التجريبي الذي ل يخضع للهواء ،فقد جعله الخالق
سبحانه مجالً للبحث والتسابق ،ومضمارا يجري فيه الجميع؛ لنهم في النهاية سيلتقون فيه َقهْرا
ورَغْما عنهم .وقد أعطانا الحق سبحانه وتعالى مثالً لهذا النوع من العلم ،فقال تعالى {:أََلمْ تَرَ أَنّ
حمْرٌ مّخْتَِلفٌ
سمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ َثمَرَاتٍ مّخْتَلِفا أَ ْلوَا ُنهَا َومِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ َو ُ
اللّهَ أن َزلَ مِنَ ال ّ
ب وَالَ ْنعَامِ مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ كَذَِلكَ[} ..فاطر]28-27 :
س وَال ّدوَآ ّ
أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّا ِ
فذكر الحق سبحانه أجناس الوجود كلها :النسان ،والحيوان ،والنبات ،والجماد .ثم ختم ذلك بقوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من علوم ،فإنْ كانت في الدين تركناها للخالق سبحانه يُقنّنها لنا ،وإنْ كانت في أمور الدنيا أعملنا
فيها عقولنا بما ينفعنا ويُثرِي حياتنا؛ لذلك تكلّم الحق سبحانه بعد ذلك عن وسائل إدراك العلم،
سؤُولً { [السراء]36 :
سمْ َع وَالْ َبصَ َر وَا ْل ُفؤَادَ ُكلّ أُولـا ِئكَ كَانَ عَ ْنهُ مَ ْ
فقال } :إِنّ ال ّ
وما دام الحق سبحانه قد نهانا عن تتبع مَا ل نعلم ،وأمرنا أن نسير على ضوء ما نعلم من العلم
اليقيني فل ُبدّ أنْ يسأل المرءُ عن وسائل العلم هذه ،لنه لول وسائل الدراك هذه ما عَلم النسانُ
جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا
شيئا ،وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى {:وَاللّهُ أَخْ َر َ
شكُرُونَ }[النحل]78 :
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ َت ْ
سمْ َع وَالَبْصَا َر وَا َ
ج َعلَ َلكُمُ ا ْل ّ
وَ َ
وهل يشكر النسان إل على حصيلة أخذها؟ هذه الحصيلة هي العلم.
وهذه الحواس تُؤدّي عملها في النسان بمجرد أنْ تنشأ فيه ،وبعد أنْ يخرجَ إلى الحياة ،والبعض
يظنّ أن الطفل الصغير ل يفهم إل عندما يكبر ويستطيع الكلم والتفاهم مع الخرين ،والحقيقة أن
الطفل يدرك ويعي من اليام الولى لولدته.
ولذلك ،فإن علماء وظائف العضاء يقولون :إن الطفل يُولَد ولديْه ملكَاتٌ إدراكية سمّاها العلماء
احتياطا " الحواس الخمس الظاهرة " ،وقد كان احتياطهم في محله لنهم اكتشفوا بعد ذلك حواس
أخرى ،مثل حاسة العضل مثلً التي نُميّز بها بين الخفيف والثقيل.
وإنْ كانت حواس النسان كثيرة فإن أهمها :السمع والبصر ،وقد وردت في القرآن بهذا الترتيب،
السمع أولً ،ثم البصر لن السمع يسبق البصر ،فالنسان بمجرد أنْ يُولَد تعمل عنده حاسّة السمع،
أما البصر فإنه يتخلّف عن السمع لعدة أيام من الولدة ،إذن :فهو أسبق في أداء مهمته ،هذه
واحدة.
الخرى :أن السمع هو الحاسّة الوحيدة التي تُؤدّي مهمتها حتى حال النوم ،وفي هذا حكمة بالغة
للخالق سبحانه ،فبالسمع يتم الستدعاء من النوم.
وقد أعطانا الخالق سبحانه صورة واضحة لهذه المسألة في قصة أهل الكهف ،فلما أراد سبحانه
أن يناموا هذه السنين الطوال ضرب على آذانهم وعطّل حاسة السمع لديهم ،وإلّ َلمَا تمكّنوا من
النوم الطويل ،ولزعجتهم الصوات من خارج الكهف .فقال تعالىَ {:فضَرَبْنَا عَلَىا آذَا ِنهِمْ فِي
ا ْل َك ْهفِ سِنِينَ عَدَدا }[الكهف]11 :
س ِمعْنَا} ..
ولم يسبق البصر السمع إل في آية واحدة في كتاب ال تعالى وهي {:رَبّنَآ أَ ْبصَرْنَا وَ َ
[السجدة]12 :
والحديث هنا ليس عن الدنيا ،بل عن الخرة ،حيث يفزع الناس من َهوْلها فيقولون {:رَبّنَآ أَ ْبصَرْنَا
جعْنَا َن ْع َملْ صَالِحا[} ..السجدة ]12 :لنهم في الخرة أبصروا قبل أن يسمعوا.
س ِمعْنَا فَارْ ِ
وَ َ
فالسمع أوّل الحواس ،وهو أهمها في إدراك المعلومات ،حتى الذي يأخذ معلوماته بالقراءة سمع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قبل أن يقرأ ،فتعلّم أولً بالسماع ألف باء ،فالسمع أولً في التعلّم ،ثم يأتي َدوْر البصر.
والذي يتتبع اليات التي ورد فيها السمع والبصر سيجدها جاءت بإفراد السمع وجمع البصر ،مثل
سمْعَ وَالَ ْبصَارَ[} ..السجدة]9 :
ج َعلَ َل ُكمُ ال ّ
قوله سبحانه {:وَ َ
سمْعَ وَالْ َبصَرَ وَا ْل ُفؤَادَ ُكلّ أُولـا ِئكَ
إل في هذه الية التي نحن بصدد الحديث عنها جاءت } :إِنّ ال ّ
سؤُولً { [السراء]36 :
كَانَ عَنْهُ مَ ْ
لماذا؟ وما الحكمة من إفرادها هنا بالذات؟
وقبل أن نُوضّح الحكمة هنا يجب أن نعي أن المتكلم هو ال تعالى ،وما دام المتكلم هو ال فل ُبدّ
أن تجد كل كلمة دقيقة في موضعها ،بليغة في سياقها.
فالسمع جاء بصيغة الفراد؛ لنه ل يتعدد فيه المسموع بالنسبة للسامع ،فإذا حدث الن صوت
نسمعه جميعا ،فهو واحد في جميع الذان.
أما البصر فهو خلف ذلك؛ لن أمامنا الن مرائيَ متعددة ومناظر مختلفة ،فأنت ترى شيئا ،وأنا
أرى شيئا آخر ،فَوحْدة السمع ل تنطبق على البصر؛ لذلك أفرد السمع وجاء البصر بصيغة
الجمع.
سمْ َع وَالْ َبصَرَ[ { ..السراء ]36 :فقد ورد البصر هنا مفردا؛ لن الحق
أما في قوله تعالى } :إِنّ ال ّ
سمْعه وبصره ،والمسئولية أمام
سبحانه وتعالى يتحدث عن المسئولية ،مسئولية كل إنسان عن َ
الحق سبحانه وتعالى فردية ل يُسأل أحد عن أحد ،بل يُسأل عن نفسه فحَسْب ،فناسب ذلك أنْ
يقول :السمع والبصر؛ لنه سيُسأل عن بصر واحد وهو بصره.
سمْعه وبصره وفؤاده من حيث التلقّي ،تلقّي القضايا العلمية التي
فالنسان ـ إذن ـ مسئول عن َ
سنسير عليها في حركة حياتنا ،وكذلك من حيث العطاء ،فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول للذن:
سمِعه إل ما يدعو إلى فضيلة ،ول
ل تسمعي إل خيرا ،ول تتلقيْ إل طيّبا ،ويا مُربّي النشء ل تُ ْ
تعط لذنه إل ما يصلح حياته ويُثريها.
ويقول للعين :ل ت َرىْ إل الحلل ل يهيج غرائزك إلى الشهوات ،ويا مُربّي النشء احجب عنه ما
يثير الغرائز ويفسد الحياة؛ وبذلك نربي في المجتمع المعلومات الصحيحة التي تنبني عليها حركة
حياته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمْ َع وَالْ َبصَ َر وَا ْلفُؤَادَ ُكلّ أُولـا ِئكَ كَانَ
محاسب على علمك هذا وعلى وسائل إدراكه لديك } :إِنّ ال ّ
سؤُولً { [السراء]36 :
عَنْهُ مَ ْ
ض وَلَن تَبْلُغَ ا ْلجِبَالَ طُولً
ق الَ ْر َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ولَ َتمْشِ فِي الَ ْرضِ مَرَحا إِ ّنكَ لَن َتخْرِ َ
{.
()2049 /
وَلَا َتمْشِ فِي الْأَ ْرضِ مَرَحًا إِ ّنكَ لَنْ َتخْرِقَ الْأَ ْرضَ وَلَنْ تَبْلُغَ ا ْلجِبَالَ طُولًا ()37
ما زالت اليات تسير في خطّ واحد ،وترسم لنا طريق التوازن الجتماعي في مجتمع المسلمين،
فالمجتمع المتوازن يصدر في حركته عن إله واحد ،هو صاحب الكلمة العليا وصاحب التشريع.
والمتتبع لهذه اليات يجد بها منهجا قويما لبناء مجتمع متماسك ومتوازن ،يبدأ بقوله تعالى {:لّ
جعَل مَعَ اللّهِ إِلَـاها آخَرَ[} ..السراء]22 :
تَ ْ
وهذه قضية القمة التي ل تنتظم المور إل في ظلّها ،ثم قسّم المجتمع إلى طبقات ،فأوصى بالطبقة
الكبيرة التي أدّت مهمتها في الحياة ،وحان وقت إكرامها وردّ الجميل لها ،فأوصى بالوالدين وأمر
ببّرهما.
ثم توجّه إلى الطبقة الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية وعناية ،فأوصى بالولد ،ونهى عن قتلهم
خصّ بالوصية اليتيم؛ لنه ضعيف يحتاج إلى مزيد من الرعاية والعناية
خ ْوفَ الفقر والعَوز ،و َ
َ
والحنو والحنان.
ثم تكلم عن المال ،وهو قوام الحياة ،واختار فيه العتدال والتوسّط ،ونهى عن طرفَيْه :السراف
والمساك .ثم نهى عن الفاحشة ،وخصّ الزنا الذي يُلوّث العراض ويُفسد النسل ،ونهى عن القتل
سفْك الدماء.
وَ
ثم تحدث عمّا يحفظ للنسان ماله ،ويحمي تعبه ومجهوداته ،فأمر بتوفية الكيل والميزان ،ونهى
حثّ النسان على المانة العلمية ،حتى ل يقول بما ل يعلم،
عن الغش فيهما والتلعب بهما ،ثم َ
وحتى ل يبني حياته على نظريات خاطئة.
ألم تَرَ أنه منهج وأسلوب حياة يضمن سلمة المجتمع ،وسلمة المجتمع ناشئة من سلمة حركة
النسان فيه ،إذن :النسان هو مدار هذه الحركة الخلفية في الرض؛ لذلك يريد الحق سبحانه
وتعالى أنْ يضع له توازنا اجتماعيا.
وأوّل شيء في هذا التوازن الجتماعي أننا جميعا عند ال سواء ،وكلنا عبيده ،وليس منا مَنْ بينه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبين ال قرابة أو نَسَب ،فالجميع عند ال عبيد كأسنان المشط ،ل فَرْق بينهم إل بالتقوى والعمل
الصالح.
وإنْ تفاوتت أقدارنا في الحياة فهو تفاوت ظاهري شكلي؛ لنك حينما تنظر إلى هذا التفاوت ل
تنظر إليه من زاوية واحدة فتقول مثلً :هذا غني ،وهذا فقير.
ومعظم الناس يهتمون بهذه الناحية من التفاوت ،ويَدَعُون غيرها من النواحي الخرى ،وهذا ل
يصح ،بل انظر إلى الجوانب الخرى في حياة النسان ،وإلى الزوايا المختلفة في النفس النسانية،
ولو سلكتَ هذا المسلك فسوف تجد أن مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان ،وأن الحصيلة
واحدة ،وصدق ال العظيم القائل {:إِنّ َأكْ َر َمكُمْ عَندَ اللّهِ أَ ْتقَاكُمْ[} ..الحجرات]13 :
وما دام المجتمع اليماني على هذه الصورة فل يصح لحد أنْ يرفعَ رأسه في المجتمع ليعطي
لنفسه قداسةً أو منزلة فوق منزلة الخرين ،فقال تعالىَ { :ولَ َتمْشِ فِي الَ ْرضِ مَرَحا} ..
[السراء]37 :
أي :فخرا واختيالً ،أو َبطَرا أو تعاليا؛ لن الذي يفخر بشيء ويختال به ،ويظن أنه أفضل من
غيره ،يجب أن يضمن لنفسه بقاء مَا افتخر به ،بمعنى أن يكون ذاتيا فيه ،ل يذهب عنه ول
ن جعل كل ما يمكن أن يفتخر به النسان هِبةً له ،وليست
يفارقه ،لكن من حكمة ال سبحانه أ ْ
أصيلة فيه.
كل أمور النسان بداية من إيجاده من عدم إلى المداد من عُدم هي هبة يمكن أنْ تسترد في يوم
من اليام ،وكيف الحال إذا تكبّ ْرتَ بمالك ،ثم رآك الناس فقيرا ،أو تعاليت بقوتك ثم رآك الناس
عليلً؟
إذن :فالتواضع والدب أليَقُ بك ،والتكبّر والتعالي ل يكون إل للخالق سبحانه وتعالى ،فكيف
تنازعه سبحانه صفة من صفاته؟ وقد نهانا الحق سبحانه عن ذلك؛ لنه ل يستحق هذه الصفة إل
هو سبحانه وتعالى ،و َكوْنُ الكبرياء ل تعالى يعصمنا من التضاع للكبرياء الكاذب من غيرنا.
ومَنْ أحب أن يرى مساواة الخَلْق أمام الخالق سبحانه ،فلينظر إلى العبادات ،ففيها استطراق
العبودية في الناس ،فحينما يُنادَى للصلة مثلً ترى الجميع سواسية :الغني والفقير ،والرئيس
والمرؤوس ،الوزير مثلً والخفير ،الكل راكع أو ساجد ،الكل خاضع ل مُتذلّل ل فقير ل ،الكل
عبيد ل بعد أنْ خلعوا أقدارهم ،عندما خلعوا نعالهم ،ففي ساحة الرحمن يتساوى الجميع ،وتتجلى
لنا هذه المساواة بصورة أوضح في مناسك الحج.
والهم من هذا أن الرئيس أو الكبير ل يأنف ،ول يرى غضاضة في أن يراه مرؤوسه وهو في
هذا الموقف وفي هذا الخضوع والتذلّل ،لماذا؟ لن الخضوع هنا والتذلّل ل ،وهذا عين العِزّة
والشرف والكرامة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ق الَ ْرضَ وَلَن تَ ْبلُغَ ا ْلجِبَالَ طُولً { [السراء]37 :
ثم يقول تعالى } :إِ ّنكَ لَن تَخْ ِر َ
في هذه العبارة نلحظ إشارة توبيخ وتقريع ،كأن الحق سبحانه وتعالى يقول لهؤلء المتكبرين،
ولصحاب الكبرياء الكاذب :كيف تتكبرون وتسيرون فخرا وخيلء بشيء موهوب لكم غير ذاتي
فيكم؟
فأنتم بهذا التكبّر والتعالي لن تخرقوا الرض ،بل ستظل صلبة تتحداكم ،وهي أدنى أجناس الوجود
وتُدَاس بالقدام ،وكذلك الجبال وهي أيضا جماد ستظل أعلى منكم قامةً ولن تطاولوها .والحق
سبحانه وتعالى يُوبّخ عبده المؤمن المكرم ليبقى له على التكريم فيَ } :ولَ َتمْشِ فِي الَرْضِ
مَرَحا[ { ..السراء]37 :
وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُوبّخ أهل التكبّر الكاذب أتى بَأدْنى أجناس الوجود بالرض
والجبال وهي جماد؛ لكنه قد يسمو على النسان ويفضُل عليه.
والناظر لجناس الكون :الجماد والنبات والحيوان والنسان ،يجد النسان ينتفع بكل هذه الجناس،
فالجماد ينفع النبات ،والحيوان والنبات ينفع الحيوان والنسان ،والحيوان ينفع النسان ،وهكذا
جميع الجناس ُمُسخّرة في خدمة النسان ،فما وظيفتك أنت أيها النسان؟ ومَنْ تخدم؟
ل ُبدّ أنْ يكون لك َدوْر في الكون ووظيفة في الحياة ،وإل كانت الرض والحجر أفضل منك،
فابحثْ لك عن مهمة في الوجود.
وفي فلسفة الحج أمر عجيب ،فالجماد الذي هو َأدْنى الجناس نجد له مكانة ومنزلة ،فالكعبة حجر
يطوف الناس من حوله ،وفي ركنها الحجر السعد الذي سَنّ لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم
تقبيله وهو حجر ،وعليه يتزاحم الناس ويتشرّفون بتقبيله والتمسّح به.
وهذا مظهر من مظاهر استطراق العبودية في الكون ،فالنسان المخدوم العلى لجميع الجناس
يرى الشرف والكرامة في تقبيل حجر.
وكذلك النبات يحْرُم قطعة ،وإياك أن تمتدّ يدك إليه ،وكذلك الحيوان يحرُم صيْدَه ،فهذه الشياء
التي تخدمني أتى الوقت الذي أخدمها وأُقدّسها ،وجعلها الحق سبحانه وتعالى مرة في العمر لنلمح
الصل ،ولكي ل يغترّ النسان بإنسانيته ،وليعلم أن العبودية ل تعالى تَسْري في الكون كله.
فإياك أنها النسان أن تخدش هذا الستطراق العبوديّ في الكون بمرح أو خُيَلء أو تعالٍ.
ثم يقول الحق تبارك وتعالىُ } :كلّ ذاِلكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَ ّبكَ َمكْرُوها {.
()2050 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَل مَعَ اللّهِ إِلَـاها آخَرَ} ..
أيُ :كلُّ ما تقدّم من وصايا وتوجيهات بداية من قوله تعالى {:لّ تَ ْ
[السراء]22 :
وهذه المور التي تق ّد َمتْ ،والتي تحفظ للمجتمع توازنه وسلمته فيها السيئ وفيها الحسن ،والسيئ
هو المكروه من ال تعالى ،وال تعالى ل يكره إل ما خالف منهج العبودية له سبحانه ،أما النسان
فيكره ما يخالف هواه ،ول يتفق ومزاجه.
وهذه الوامر والنواهي التي تقدّمتْ يقولون :إنها الوصايا العَشْر التي نزلت على موسى ـ عليه
ظ ًة وَ َتفْصِيلً ّل ُكلّ
شيْءٍ ّموْعِ َ
السلم ـ والمقصود في قوله تعالىَ {:وكَتَبْنَا َلهُ فِي الَ ْلوَاحِ مِن ُكلّ َ
خذُواْ بِأَحْسَ ِنهَا[} ..العراف]145 :
شيْءٍ َفخُذْهَا ِب ُق ّوةٍ وَ ْأمُرْ َق ْو َمكَ يَأْ ُ
َ
ح ْكمَةِ.} ...
ولذلك يقول الحق سبحانه { :ذَِلكَ ِممّآ َأوْحَىا إِلَ ْيكَ رَ ّبكَ مِنَ ا ْل ِ
()2051 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على مناهجهم ،ويُفضّلونها على منهج الحق تبارك وتعالى ،فيفتنون الناس عن قضايا دينهم الحق
إلى قضايا أخرى يُوهِمون الناس أنها أفضل مما جاء به الدين.
إذن :ل يكفي أن تؤمن أولً ،ولكن احذر أنْ يُزحزك أحد عن دينك فل تجعل مع ال إلها آخر
جهَنّمَ مَلُوما مّدْحُورا } [السراء { ]39 :مَلُوما }:
يفتنك عن دينك ،فتكون النتيجة { :فَتُ ْلقَىا فِي َ
لنك أتيتَ بما تُلَم عليه { ،مّ ْدحُورا } :أي :مطرود مُ ْبعَدا من رحمة ال ،وهذا الجزاء في الخرة.
أما الذي ل يؤمن بها ،فل بُدّ لكي نستطيع العيش معه في الدنيا ،أن يُذيقه ال بعض العذاب،
شقَىا *
ل َولَ َي ْ
ضّويُعجّله له في الدنيا قبل عذاب الخرة ،كما قال تعالىَ {:فمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلَ َي ِ
ش ًة ضَنكا[} ..طه ]124-123 :أي :في الدنيا.
َومَنْ أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِي َ
شمْسِ وَجَدَهَا َتغْ ُربُ
وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى في قصة ذي القرنين {:حَتّىا ِإذَا بَلَغَ َمغْ ِربَ ال ّ
حسْنا * قَالَ َأمّا
ب وَِإمّآ أَن تَتّخِذَ فِي ِهمْ ُ
جدَ عِندَهَا َقوْما قُلْنَا ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّآ أَن ُتعَ ّذ َ
حمِئَ ٍة َووَ َ
فِي عَيْنٍ َ
س ْوفَ ُنعَذّبُهُ ُثمّ يُرَدّ إِلَىا رَبّهِ فَ ُيعَذّ ُبهُ عَذَابا ّنكْرا }[الكهف]87-86 :
مَن ظََلمَ فَ َ
حفْظ ميزان الحياة
س ْوفَ ُن َعذّبُهُ[} ..الكهف ]87 :لنه مُمكّن في الرض ،ومَنُوط به ِ
فقوله {:فَ َ
واستقامتها ،حتى عند الذين ل يُؤمنون بالخرة ،وإل فلو أخّرْنا العذاب عن هؤلء إلى الخرة
لفسدوا على الناس حياتهم ،وعاثوا في الرض يُعربِدون ويُفسِدون.
ولذلك ل يموت ظلوم في الكون حتى ينتقمَ ال منه ،ويذيقه عذاب الدنيا قبل عذاب الخرة ،ول بُدّ
أنْ يراه المظلوم ليعلم أن عاقبة الظلم وخيمة ،في حين أن المظلوم في رعاية ال وتأييده ينصره
بما يشاء من نعمه وفضله ،حتى أن الظالم لو علم بما أعدّه ال للمظلوم َلضَنّ عليه بالظلم.
ن وَاتّخَذَ مِنَ ا ْلمَل ِئكَةِ إِنَاثا.} ...
ثم يقول الحق سبحانهَ { :أفََأصْفَاكُمْ رَ ّبكُم بِالْبَنِي َ
()2052 /
عظِيمًا ()40
خذَ مِنَ ا ْلمَلَا ِئكَةِ إِنَاثًا إِ ّنكُمْ لَ َتقُولُونَ َقوْلًا َ
ن وَاتّ َ
َأفََأصْفَاكُمْ رَ ّب ُكمْ بِالْبَنِي َ
لما جعل بعض المشركين ل ولدا ،فمنهم مَنْ قالوا :المسيح ابن ال ،ومنهم مَنْ قالوا :عزير ابن
ال ،ومنهم مَنْ قالوا :الملئكة بنات ال ،فوبّخهم ال تعالى :كيف تجعلون للخالق سبحانه البنات
ولكم البنين ،إنها قسمة جائرة ،كما قال الحق سبحانه في آية أخرى {:أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَ ُه الُنْثَىا *
سمَ ٌة ضِيزَىا }[النجم]22-21 :
تِ ْلكَ إِذا قِ ْ
أي :قسمة جائرة ظالمة.
صفَاكُمْ[ } ..السراء ]40 :أي :اصطفاكم واختار لكم البنين ،وأخذ لنفسه البنات؟
قولهَ { :أفََأ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَا ِدهِ جُ ْزءًا[} ..الزخرف]15 :
ويقول في آية أخرى {:وَ َ
لذلك قال تعالى بعدها { :إِ ّنكُمْ لَ َتقُولُونَ َقوْلً عَظِيما } [السراء ]40 :فوصف قولهم بأنه عظيم في
حمَـانُ وَلَدا * ّلقَدْ جِئْتُمْ شَيْئا إِدّا
خذَ الرّ ْ
القُبْح والفتراء على ال ،كما قال في آية أخرىَ {:وقَالُواْ اتّ َ
}[مريم]89-88 :
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ لِيَ ّذكّرُو ْا َومَا يَزِيدُ ُهمْ ِإلّ ُنفُورا }.
()2053 /
وَلَقَدْ صَ ّرفْنَا فِي َهذَا ا ْلقُرْآَنِ لِ َي ّذكّرُوا َومَا يَزِيدُهُمْ ِإلّا ُنفُورًا ()41
حوّلْنا الشيء من حال إلى حال ،ومنها قوله تعالى {:وَ َتصْرِيفِ الرّيَاحِ[} ..البقرة:
{ صَ ّرفْنَا } أيَ :
]164
سكْسكَا عليلة هادئة ،ومرّة تجدها ُرخَاءً أي :قوية،
يعني تغييرها من حال إلى حال ،فمرة :تراها َ
ومرة :تجدها إعصارا مدمرا .والرياح قد تكون لواقح تأتي بالخير والنماء ،وقد تكون عقيما ل
خير فيها .هذا هو المراد بالتصريف.
فمعنى { :وَلَقَ ْد صَ ّرفْنَا فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ } [السراء]41 :
أي :صرف مسألة ادعاء اتخاذ ال البناء في القرآن ،وعالجها في كثير من المسائل؛ لنه أمر
مهم عالجه القرآن علجاتٍ متعددة في مقامات مختلفة من سُوره ،فتكرر ِذكْر هذه المسألة.
والتكرار قد يكون في ذات الشيء ،وقد يكون باللّف بالشيء ،كما في قوله تعالى {:فَبَِأيّ آلءِ
رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ[} ..الرحمن]13 :
وقولهَ { :ومَا يَزِيدُ ُهمْ ِإلّ ُنفُورا } [السراء]41 :
أي :بدلَ أنْ يذكروا ويعودوا إلى جَادّة الصواب ازدادوا إعراضا ونفورا .ولنا أن نسأل :لماذا
العراض والنفور منهم؟
لنهم أرادوا الحتفاظ بالسلطة الزمنية التي كانت لهم قبل السلم ،ولكي نوضح المقصود بالسلطة
الزمنية نقول:
ت أول
لو درسنا تواريخ القوانين في العالم نجد أن القانون الوضعيّ الذي وضعه البشر لم يَ ْأ ِ
المر ،بل جاء نتيجة تسلّط الكهنة ،وكانوا هم أصحاب القانون يضعونَه باسم الدين ،ويلزمون
الناس به ،ولكن لُوحِظ عليهم أنهم يحكمون في قضية ما بحكم ،ثم بعد فترة يحكمون في نفس
القضية بحكم مخالف للول ،فانصرف الناس عن أحكام الكهنة ،ووضعوا لنفسهم هذه القوانين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوضعية ،وبذلك أصبح لهؤلء ما يُسمّى بالسلطة الزمنية.
وهذه السّلْطة الزمنية هي التي منعتْ يهود المدينة من اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم ،وقد
كانوا على علم ومعرفة بأوصافه وبرسالته ومن زمن بعثته ،وكانوا حينما يروْنَ عُبّاد الصنام في
مكة يقولون لهم :سيأتي زمان يُبعث فيه نبي في هذا البلد ،وسوف نتبعه ،ونقتلكم به قتل عاد
وإرم ،فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ،وقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا.
وعن هذا يقول الحق سبحانه في حق يهود المدينة {:وََلمّا جَآءَ ُهمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ّلمَا
َم َعهُ ْم َوكَانُواْ مِن قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ فََلمّا جَآءَهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى
ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة]89 :
لقد تنكّر اليهود لرسالة محمد صلى ال عليه وسلم ،مع أنهم على يقين من صِدْقه؛ لن هذه
الرسالة ستحرمهم هذه السلطة الزمنية ،وستقضي على السيادة العلمية والسيادة القتصادية
والسيادة الحربية التي كانت لهم قبل السلم.
ثم يقول الحق سبحانهُ { :قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َتغَوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }.
()2054 /
ُقلْ َلوْ كَانَ َمعَهُ آَِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ ِإذًا لَابْ َت َغوْا إِلَى ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلًا ()42
أي :لو كان مع ال آلهة أخرى لَطلبتْ هذه اللهةُ طريقا إلى ذي العرش.
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }[آل عمران:
وقد عالج الحق تبارك وتعالى هذه القضية في قولهَ {:
]18
وهذه قضية :إما أنْ تكونَ صادقة ،وإما أن تكون غير ذلك .فإنْ كانت صادقة فقد انتهتْ المسألة،
وإنْ كانت غير صادقة ،وهناك إله ثانٍ ،فأين هو؟ لماذا لم نسمع به؟ فإنْ كان موجودا ،ول يدري
ـ أو كان يدري بهذه القضية ـ ولكنه تقاعس عن المواجهة ولم يعارض ،ففي كل الحوال ل
يستحق أن يكون إلها.
إذن :ما دام أن ال تعالى شهد لنفسه بالوحدانية ،ولم َيقُمْ له معارض فقد سَلِمتْ له هذه الدعوى.
وكلمة { ذِي ا ْلعَرْشِ } ل ُتقَال إل لمَنْ استتبّ له المر بعد عِرَاك وقتال ،فيُصنع له كرسي أو
سرير يجلس عليه.
ابتغاء الطريق إلى ذي العرش ،إما ليواجهوه ويوقفوه عند حده ويبطلوا دعوته ،فإن غلبوا فقد
خذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ
انتهت المسألة ،وإن غُلبوا فعلى القل يذهب كل إله بما خلق كما قال تعالى {:مَا اتّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ }[المؤمنون]91 :
ق وََلعَلَ َب ْع ُ
َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذا لّ َذ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَ َ
أو :يبتغون إليه سبيلً ،ليكونوا من خَلْقه ومن عبيده؛ لذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر{:
لّن يَسْتَن ِكفَ ا ْلمَسِيحُ أَن َيكُونَ عَبْدا للّهِ وَلَ ا ْلمَل ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ[} ..النساء]172 :
حمَتَهُ وَيَخَافُونَ
ب وَيَرْجُونَ رَ ْ
ويقول {:أُولَـا ِئكَ الّذِينَ َيدْعُونَ يَبْ َتغُونَ إِلَىا رَ ّبهِمُ ا ْلوَسِيلَةَ أَ ّي ُهمْ َأقْ َر ُ
عَذَا َبهُ }[السراء]57 :
فهؤلء الذين أشركتموهم مع ال فقُلْتم :المسيح ابن ال ،وعزيز ابن ال ،والملئكة بنات الُ ،كلّ
هؤلء فقراء إلى ال يبتغون إليه الوسيلة ،حتى أقربهم إلى ال وهم الملئكة يبتغون إلى ال
الوسيلة فغيرهم ـ إذن ـ َأوْلَى.
عمّا َيقُولُونَ عُُلوّا كَبِيرا }.
وينزّه الحق سبحانه نفسه ،فيقول { :سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَىا َ
()2055 /
وقوله { سُ ْبحَانَهُ } يعني تنزيها مطلقا له تعالى في ذاته ،وفي صفاته ،وفي أفعاله ،فلله تعالى ذات
ليست كذاتك ،وله صفات ليست كصفاتك ،وله أفعال ليست كأفعالك؛ لن الشياء تختلف في
الوجود بحَسْب المُوجِد لها.
ل من العمدة ،ومأمور المركز ،والمحافظ بيتا ،فسوف يتفاوت هذا البناء من واحد
فمثلً :لو بني ُك ّ
للخر ،بحسب قدرته ومكانته .وكذلك ل ُبدّ من وجود هذا التفاوت بين إله ومألوه ،وبين َربّ
ومربوب ،وبين عابد ومعبود.
إذنُ :كلّ الشياء في المتساوي تتفاوت بتفاوت الناس.
عمّا يقول هؤلء علوا كبيرا؛ لن
وقوله { :عُُلوّا كَبِيرا } [السراء ]43 :أي :تعالى ال وتنزّه َ
الناس تتفاوت في العلو.
ونلحظ أن الحق سبحانه اختار (كبيرا) ولم َي ُقلْ :أكبر .وهذا من قبيل استعمال اللفظ في موضعه
المناسب؛ لن كبيرا تعني :أن كل ما سواه صغير ،لكن أكبر تعني أن ما دونه كبير أيُ :مشَارِك
له في الكِبَر.
لذلك نقول في نداء الصلة :ال اكبر وهي صفة له سبحانه وليست من أسمائه؛ ذلك لن من
أعمال الحياة اليومية ما يمكن أن يُوصَف بأنه كبير ،كأعمال الخير والسعي على الرزاق ،فهذه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كبيرة ،ولكن :ال اكبر.
سمَاوَاتُ السّبْ ُع وَالَ ْرضُ َومَن فِيهِنّ.} ...
ثم يقول تعالىُ { :تسَبّحُ لَهُ ال ّ
()2056 /
التسبيح :هو حيثية اليمان بال؛ لنك ل تؤمن بشيء في شيء إلّ أنْ تثق أن مَنْ آمنت به فوقك
في ذلك الشيء ،فأنت ل تُوكّل أحدا بعمل إل إذا أيقنتَ أنه أقدر منك وأحكم وأعلم.
فإذا كنت قد آمنت بإله واحد ،فحيثية ذلك اليمان أن هذا الله الواحد فوق كل المألوهين جميعا،
ي وأنت غِنَي ،لكن غنى ال
وليس لحد شبه به ،وإن اشترك معه في مُطْلَق الصفات ،فال غن ّ
ذاتيّ وغِنَاك موهوب ،يمكن أنْ يُسلب منك في أي وقت.
وكذلك في صفة الوجود ،فال تعالى موجود وأنت موجود ،لكن وجوده تعالى ل عن عدم ،بل هو
وجود ذاتي ووجودك موهوب سينتهي في أي وقت.
إذن :فتسبيح ال هو حيثية اليمان به كإله ،وإل لو أشبهناه في شيء أو أشبهنا في شيء ما استحق
أن يكون إلها.
والتسبيح :هو التنزيه ،وهذا ثابت ل تعالى قبل أن يوجد منْ خَلْقه مَنْ يُنزّهه ،والحق سبحانه مُنزّه
بذاته والصفة كائنة له قبل أن يخلق الخلق؛ لنه خالق قبل أن يخلق ،كما نقول :فلن شاعر ،أهو
شاعر لنه قال قصيدة؟ أم شاعر بذاته قبل أن يقول شعرا؟
الواقع أن الشعر موهبة ،وملَكة عنده ،ولولها ما قال شعرا ،إذن :هو شاعر قبل أن يقول.
كذلك فصفات الكمال في ال تعالى موجودة قبل أن يوجد الخَلْق.
لذلك فإن المتتبع لهذه المادة في القرآن الكريم مادة (سبح) يجدها بلفظ (سُبْحان) في أول السراء{:
سُ ْبحَانَ الّذِي َأسْرَىا[} ..السراء]1 :
ومعناها أن التنزيه ثابت ل تعالى قبل أن يخلق من ينزهه.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[} ..الحديد]1 :
ثم بلفظ {:سَبّحَ للّهِ مَا فِي ال ّ
بصيغة الماضي ،والتسبيح ل يكون من النسان فقط ،بل من السماوات والرض ،وهي خَلْق
سابق للنسان.
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ[} ..الجمعة]1 :
ثم يأتي بلفظ {:يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بصيغة المضارع؛ ليدل على أن تسبيح ال ليس في الماضي ،بل ومستمر في المستقبل ل ينقطع.
إذن :ما دام التسبيح والتنزيه ثابتا ل تعالى قبل أن يخلق مَنْ يُنزّهه ،وثابتا ل من جميع مخلوقاته
في السماوات والرض ،فل تكُنْ أيها النسان نشازا في منظومة الكون ،ول تخرج عن هذا النشيد
ك الَعْلَىا }[العلى]1 :
سمَ رَ ّب َ
الكوني {:سَبّحِ ا ْ
شيْءٍ[ } ..السراء]44 :
وقوله تعالى { :وَإِن مّن َ
أي :ما من شيء ،كل ما يُقال له شيء .والشيء هو جنس الجناس ،فالمعنى أن كل ما في
الوجود يُسبّح بحمده تعالى.
وقد وقف العلماء أمام هذه الية ،وقالوا :أي تسبيح دللة على عظمة التكوين ،وهندسة البناء،
وحكمة الخلق ،وهذا يلفتنا إلى أن ال تعالى مُنزّه ومُتعَالٍ وقادر ،ولكنهم فهموا التسبيح على أنه
تسبيح دللة فقط؛ لنهم لم يسمعوا هذا التسبيح ولم يفهموه.
حهُمْ..
وقد أخرجنا الحق سبحانه وتعالى من هذه المسألة بقوله } :وَلَـاكِن لّ َت ْف َقهُونَ تَسْبِي َ
{ [السراء]44 :
إذن :يوجد تسبيح دللة فعلً ،لكنه ليس هو المقصود ،المقصود هنا التسبيح الحقيقي ُكلّ بِلُغتِه.
ح ُهمْ[ { ..السراء]44 :
فقوله تعالى } :وَلَـاكِن لّ َتفْ َقهُونَ تَسْبِي َ
يدل على أنه تسبيح فوق تسبيح الدللة الذين آمن بمقتضاه المؤمنون ،إنه تسبيح حقيقيّ ذاتيّ ينشأ
بلغة كل جنس من الجناس ،وإذا كنا ل نفقه هذا التسبيح ،فقد قال تعالىُ {:كلّ قَدْ عَِل َم صَلَتَهُ
حهُ[} ..النور]41 :
وَتَسْبِي َ
إذن :كل شيء في الوجود عَلِم كيف يُصلّي ل ،وكيف يُسبّح ل ،وفي القرآن آياتٌ تدل بمقالها
ورمزيتها على أن كل عَالَم في الوجود له لغة يتفاهم بها في ذاته ،وقد يتسامى الجنس العلى
ليفهم عن الجنس الدنى لُغته ،فكيف نستبعد وجود هذه اللغة لمجرد أننا ل نفهمها؟
وها هم الناس أنفسهم ولهم في الداء القوليّ لغة يتفاهمون بها ،ومع ذلك تختلف بينهم اللغات ،ول
يفهم بعضهم بعضا ،فإذا ما تكلم النجليزي ـ مع أنه يتكلم بألفاظ العربي ـ ومع ذلك ل يفهمه؛
لنه ما تعلّم هذه اللغة.
واللغة ظاهرة اجتماعية ،بمعنى أن النسان يحتاج للغة؛ لنه في مجتمع يريد أن يتفاهم معه
ليعطيه ما عنده من أفكار ،ويسمع ما عنده من أفكار فل بُدّ من اللغة لنقل هذه الفكار ،ولو أن
النسان وحده ما كان في حاجة إلى لغة؛ لنه سيفعل ما يخطر بباله وتنتهي المسألة.
واللغة ل ترتبط بالدم أو الجنس أو البيئة؛ لنك لو أتيتَ بطفل إنجليزي مثلً ،ووضعتَه في بيئة
عربية سيتكلم العربية؛ لن اللغة ظاهرة اجتماعية تعتمد على السمع والمحاكاة؛ لذلك إذا لم تسمع
ع ْميٌ[} ..البقرة]18 :
الذن ل تستطيع أن تتكلم ،ومن ذلك قوله تعالى {:صُمّ ُب ْكمٌ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهم ُبكْم ل يتكلمون؛ لنهم صُمّ لم يسمعوا شيئا ،فإذا لم يسمع النسان اللفظ ل يستطيع أن يتحدثَ
به؛ لن ما تسمعه الذن يحكيه اللسان.
إذن :بالسماع انتقلتْ اللغة ،و ُكلّ سمع من أبيه ،ومن البيئة التي يعيش فيها ،فإذا ما سلس ْلتَ هذه
المسألة ستصل إلى آدم ـ عليه السلم ـ وهنا يأتي السؤال :وممّنْ سمع آدم اللغة التي تكلم بها؟
سمَآءَ كُّلهَا }[البقرة]31 :
وقد حلّ لنا القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى {:وَعَلّمَ ءَادَمَ الَ ْ
وأكثر من ذلك ،فقد يتكلم العربي بنفس لغتك ول تفهم عنه ما يقول ،واللغة هي اللغة ،كما حدث
مع أبي علقمة النحوي ،وكان يتقعّر في كلمه ويأتي بألفاظ شاذة غير مشتهرة ،وقد أتعب بذلك
مَنْ حوله ،وخاصة غلمه الذي ضاق به ذَرْعا لكثرة ما سمع منه من هذا التقعر.
ص َقعَتِ العَتَارِيفُ)؟ فردّ عليه الغلم قائلً:
ويُروَي أنه في ذات ليلة قال أبو علقمة لغلمهَ( :أ َ
(ز ْقفَيْلَم).
وكانت المرة الولى التي يستفهم فيها أبو علقمة عن كلمة ،فقال :يا بني وما (ز ْقفَيْلَم)؟ قال :وما
(صقعت العتاريف)؟ قال :أردتُ :أصاحت الديكة؟ فقال الغلم :وأنا أردتُ لم َتصِحْ.
إذن :فكيف نستبعد أننا ل نعلم لغة المخلوقات الخرى من حيوان ونبات وجماد؟ ألم ي ْكفِنا ما
أخبرنا ال به من وجود لغة لجميع المخلوقات ،وإنْ كنا ل نفهمها؛ لننا نعتقد أن اللغة هي النطق
باللسان فقط ،ولكن اللغة أوسع من ذلك.
فهناك ـ مثلً ـ لغة الشارة ،ولغة النظرات ،ولغة التلغراف.
إذن :اللغة ليست اللسان فقط ،بل هي استعداد لصطلح ُيفْهم ويُتعارف عليه ،فالخادم مثلً يكفي
أن ينظرَ إليه سيّده نظرة يفهم منها ما يريد ،فهذه النظرة َلوْنٌ من ألوان الداء.
والن بدأنا نسمع عن قواميس يُسجّل بها لغات بعض الحيوانات لمعرفة ما تقول.
وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى إشارات تدل على أن لكل عَالَم لغة يتفاهم بها ،كما في قوله
تعالى {:وَسَخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ا ْلجِبَالَ يُسَبّحْنَ[} ..النبياء]79 :
فالجبال تُسبّح مع داود ،وتُسبِح مع غيره ،ولكن المراد هنا أنها تُسبّح معه ويوافق تسبيحها
تسبيحه ،وكأنهما في أنشودة جماعية منسجمة .إذن :فل بُدّ أن داود عليه السلم قد َفهِم عنها
وفهمتْ عنه.
وكذلك النملة التي تكلمتْ أمام سليمان عليه السلم ففهم كلمها ،وتبسّم ضاحكا من قولها .وقد
علّمه ال منطقَ الطير .إذن :لكل جنس من الجناس منطق يُسبّح ال به ،ولكن ل نفقه هذا
التسبيح؛ لنه تسبيح بلغة مُؤدّية مُعبّرة يتفاهم بها مَنْ عرف التواضع عليها.
وقد جعل الحق سبحانه وتعالى تنزيهه مطلقا ينقاد له الجميع ،حتى الكافر ينقاد لتنزيه ال َقهْرا
عنه ،مع أن لديه ملكةَ الختيار بين الكفر أو اليمان ،لكن أراد الحق سبحانه أن يكون تنزيهه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مُطْلقا من الجماد والنبات والحيوان ،ومن المؤمن والكافر .كيف ذلك؟
علَم على واجب الوجود ،ثم تحدّى الكافرين
أطلق الحق سبحانه على ذاته لفظ الجللة (ال) فهو َ
سمِيّا }[مريم]65 :
أنْ يُسمّوا أحدا بهذا السم ،فقالَ {:هلْ َتعْلَمُ لَهُ َ
ومع ما عندهم من إِ ْلفٍ بالمخالفة وعناد باللحاد ،مع ذلك لم يجرؤ أحد منهم أنْ يُسمّي ابنا له بهذا
السم ،ومعلوم أن التسمية أمر اختياريّ يطرأ على الجميع.
إذن :فهذا تنزيه ل تعالى ،حتى من الكافر رَغْما عنه ،وهو دليل على عظمته سبحانه وجلله،
هذه العظمة وهذا الجلل الذي لم يجرؤ حتى الكافر على التشبّه به؛ ذلك لنهم في كفرهم غير
مقتنعين بالكفر ،ويخافون بطش ال وانتقامه إنْ أقدموا على هذا العمل ،لذلك ل يجرؤ أحد منهم أنْ
يُجرّب في نفسه مثل هذه التسمية.
وفي مجال العبادات ،فقد اختار الحق سبحانه لنفسه عبادة ل يشاركه فيها أحد ،ول يقدمها أحد
لغيره تعالى؛ لن الناس كثيرا ما يتقربون لمثالهم من البشر بأعمال أشبه ما تكون بعبادة ال
تعالى ،فمنهم مَنْ ينحني خضوعا لغيره؛ كأنه راكع أو ساجد ،ومنهم مَنْ يمدح جبارا بأنه ل مثيلَ
جعْله إلها في الرض ،ومنهم مَنْ يسجدُ للشمس كما فعل أهل سبأ
له ،وتصل به المبالغة إلى َ
وأخبر الهدهد عنهم بقوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يتطوّع به أو يتقرب به لحد.
إذن :فالسّبحانية هي الدليل السائد الشامل الجامع لكل الخَلْق؛ لذلك نقول للكافر :أيها الكافر لقد
ت على أوامر ال ،وما ُدمْتُم قد تأبيتم على ال ،وألفتم
تأبّ ْيتَ على اليمان بال ،وللعاصي :لقد تأبي َ
هذا التأبّي وهذا التمرد ،فلماذا ل تتأبون على المرض إنْ أصابكم ،وعلى الموت إنْ طرق بابكم؟
لماذا ل تتمرد على ملك الموت وتقول له :لن أموت اليوم؟! إنها قاهرية الحق سبحانه وتعالى
حتى على الكافر ،فل يستطيع أحد أن يخرج عليها أو يتمرد.
وكذلك العاصي حينما ينحرف عن الجادّة ،وتمتد يده إلى مال غيره بالسرقة أو الختلس أو
التعدّي على المال العام ،فإن الحق سبحانه يفتح عليه أبوابا للنفاق تبتلع ما جمع من الحرام،
وربما أخذت في طريقها الحلل أيضا ،وصدق رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال " :من
جمع مالً من مهاوش أذهبه ال في نهابر ".
فالتسبيح إذن لغة الكون كله ،منه ما نفهمه ،ومنه ما ل نفهمه ،إل مَنْ أطلعه ال عليه ،فإذا مَنّ ال
على أحد وعلّمه لغة الطير أو الحيوان أو النبات أو الجماد ،فهمها وفقه عنها ،كما أنعم بهذه النعم
على داود وسليمان عليهما السلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن يفعل أو ل يفعل،
نقول :لنه المخلوق الوحيد الذي مَيّ َزهُ ال بالختيار ،وجعل له الحرية في أ ْ
أما باقي المخلوقات فهي مُسخّرة مقهورة ،فإن قال قائل :لماذا لم يجعل الحق سبحانه وتعالى
النسان أيضا مقهورا كباقي المخلوقات؟
لقد جعل ال تعالى في النسان الختيار لحكمة عالية ،فالقهر يُثبتُ للحق سبحانه صفة القدرة على
مخلوقه ،فإذا قهره على شيء ل يشذ ول يتخَلف ،ولكنه ل يثبت صفة المحبوبية ل تعالى.
أما الختيار فيثبت المحبوبية ل؛ لنه خلقك مختارا تؤمن أو تكفر ،ومع ذلك اخت ْرتَ اليمان حُبا
في ال تعالى ،وطاعة وخضوعا ،فأثبتّ بذلك صفة المحبوبية.
وإياك أن تظن أن مَنْ َيعْصي ال يعصيه قهرا عن ال ،بل بما ركّب فيه من الختيار ،وقد يقول
قائل :وما ذنب النسان أن يكون مختارا من بين جميع المخلوقات؟
ت الكون كله كان مختارا ،وليس النسان فقط ،لكن
لو حققتَ هذه القضية منطقيا وفلسفيا لوجد َ
ت أن تكون مقهورة مسخرة من البداية ،أما
اختارت جميع المخلوقات أنْ تُسلّم المر ل ،وفضّل ْ
النسان ففضّل الختيار ،وقال :سأعمل بحرص ،وسأحمل المانة بإخلص ،وهذا واضح في قول
حمِلْ َنهَا
ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
الحق تبارك وتعالى {:إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
جهُولً }
حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
شفَقْنَ مِ ْنهَا وَ َ
وَأَ ْ
[الحزاب]72 :
وفي َرفْض هذه المخلوقات لتحمّل المانة والختيار دليل على العلم الواسع؛ لنه يوجد فَرْق كبير
بين قبول المانة وقت التحمّل ووقت الداء .فقد تتحمل المانة وأنت واثق من أدائها ،لكن يطرأ
عليك وقت الداء مَا يحول بينك وبين أداء المانة.
والمانة كما هو معروف ل تُوثّق ول تُكتب ،وكثيرا ما يقع فيها التلعب؛ لنها ل تثبتُ إل بذمّّة
الخذ الذي قد يضعف عن الداء وتُلجِئه الحداث إلى هذا التلعب أو النكار ،والحداث قد تكون
أقوى من الرجال.
ن كان يضمنها وقت التحمّل ،ولهذا اختارت
فالنسان ـ إذن ـ ل يضمن نفسه وقت الداء ،وإ ْ
جميع المخلوقات أن تكون مقهورة مُسيّرة ،أما النسان فقال :لي عقل وأستطيع التصرّف
ل بما يكون من
والترجيح بين البدائل ،فكان بذلك ظالما لنفسه؛ لنه ل يضمنها وقت الداء ،وجهو ً
تغيّر أحواله.
فالكون ـ إذن ـ ليس مقهورا رَغْما عنه ،بل بإرادته واختياره ،وكذلك النسان ليس مختارا
رَغْما عنه ،بل بإرادته واختياره.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ حِجَابا
جعَلْنَا بَيْ َنكَ وَبَيْنَ الّذِي َ
ثم يقول الحق سبحانه } :وَِإذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرآنَ َ
مّسْتُورا {.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2057 /
الحق سبحانه وتعالى يعدل الشياء تنفيذا لشياء أخرى ،ويصنع أحداثا أوّلية لتكون بمثابة المقدمة
والتمهيد لحداث أخرى أهم منها .وكفار مكة ما ادّخروا وُسْعا ،وما تركوا وسيلة من وسائل
اليذاء لرسول ال صلى ال عليه وسلم والتنكيل به إل فعلوها.
ومع ذلك لم ُيفَاجأ بها رسول ال ،ولم تُثبّط من عزيمته ،لماذا؟ لنه كان مُتوقّعا لكل هذا اليذاء،
ولديه من سوابق الحداث ما يعطيه الحصانة الكافية لمقابلة كل الشدائد.
فالمسألة لم تُفاجئ رسول ال؛ لنه عرفها حتى قبل أن يُبعث ،فحينما جاءه جبريل للمرة الولى
في الغار ،وعاد إلى السيدة خديجة فَزِعا ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوف ،فطمأنه بأن هذا
هو الناموس اللهي ،وأنه صلى ال عليه وسلم سيكون مبعوث السماء إلى الرض ،وأنه نبيّ هذه
المة ،وقال فيما قال :ليتني أكون حيا حين يُخرِجك قومك ،فقال صلى ال عليه وسلمَ " :أمُخرجيّ
هم؟ ".
قال :نعم ،لم يأتي رجل بمثل ما جئتَ به إل عودِي ،وإنْ يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
حصّن رسوله صلى ال عليه وسلم ضد ما سيأتي من أحداث؛ لكي
إذن :فالحق سبحانه وتعالى َ
طعْم المناسب
يكون على توقّع لها ،ول تحدث له المفاجأة التي ربما ولدتْ النهيار ،وأعطاه ال ّ
للداء قبل حدوثه؛ لتكون لديه المناعة الكافية عند وقوع الحداث ،واليقين الثابت في نصر ال له
مهما ادْلهَمتْ الخطوب ،وضاق الخناق عليه صلى ال عليه وسلم وعلى أصحابه.
والحديث عن الذين ل يؤمنون بالخرة ،وما داموا كذلك فليس لهم إل الدنيا ،هي فرصتهم
الوحيدة ،لذلك يحرصون على استنفاد كل شهواتهم فيها ،ول يؤخرون منها شيئا ،فإنْ أجّل المؤمن
بعض مُ َتعِه وشهواته انتظارا لما في الخرة فإلمَ يؤجل الكفار مُتعهم؟
إذن :الذي يجعل هؤلء يتهافتون على شهواتهم في الدنيا أنهم غير مؤمنين بالخرة.
فإذا جاء رسول بمنهج ليعدل حركة الناس لتنسجم مع الكون ،فل بُدّ أن يثور هؤلء الكفار
الحريصون على شهواتهم ومكانتهم ،ل بُدّ أنْ يصادموا هذه الدعوة ،ويقاوموها في ذات الرسول
وفي منهجه ،في ذاته باليذاء ،وفي دعوته ومنهجه بصَرْف الناس عنه ،ألم يقل الكفار لمن يَ َروْن
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآنِ وَا ْلغَوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ }[فصلت]26 :
عنده مَيْلً للسلم {:لَ تَ ْ
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآنِ[} ..فصلت]26 :
وقولهم {:لَ تَ ْ
شهادة منهم بصدق القرآن الكريم ،وأنه ينفذ إلى القلوب ويؤثر فيها ،وإل لما قالوا هذا القول.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقولهم {:وَا ْل َغوْاْ فِيهِ[} ..فصلت]26 :
شوّشوا عليه حتى ل يصل إلى آذان الناس ،إذن :هم واثقون من صدق رسول ال
أي :هرّجوا و َ
وصدق دعوته ،وقد دَّلتْ تصرفاتهم على ذلك ،فحينما كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يذهب
إلى الكعبة ،ويجلس بجوارها يُدندِن بآيات القرآن كان صناديد الكفر في مكة يتعمدون سماع
القرآن ،والتلذّذ بروعته وبلغته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمَد
فننظر هنا وهناك فل نجد للسماء عمدا تحملها ،أو نقول :إن لها عمدا لكِنّا ل نراها ،فهي َ
معنوية ،فل ينصرف ذهنك إلى ما نقيمه نحن من عَمد المسلح أو الرخام أو الحديد.
وفي هذا ما ي ُدكّ الغرور في النسان ،ليعلم أنه ل يدرك إل ما أذن ال له في إدراكه ،وأن حواسّ
الدراك لديه قد تتوقف عن هذا الدراك ،فليس معنى أنها مدركة أن تظل مدركة دائما ،فليس لها
طلقة لتفعل ما تشاء ،بل الحق سبحانه وتعالى يعطيها هذه القدرة ،أو يسلبها إياها.
فالقدرة اللهية هي التي تُسيّر هذا الكون ،وتأمر كل شيء بأن تُؤدّي مهمته في الحياة ،وإنْ شاء
عطّلها عن أداء هذه المهمة؛ لذلك نرفض قول الفلسفة أن الحق سبحانه وتعالى زاول سلطانه في
مُلْكه مرة واحدة ،بأن جعل فيه النواميس والقوانين ،وهي التي تحكم العالم وتُسيّره.
ففي قصة موسى ـ عليه السلم ـ أنه سار بجيشه ،يطارده فرعون وجنوده حتى وصل إلى
شاطئ البحر فأصبح البحر من أمامه ،وفرعون من خلفه حتى قال أصحاب موسى {:إِنّا
َلمُدْ َركُونَ[} ..الشعراء]61 :
فأين المفر ،وهاهو البحر من أمامنا ،والعدو من خلفنا؟ وهذا كلم منطقي مع واقع الحديث
البشري ،لكن المر يختلف عند موسى ـ عليه السلم ـ فقال بملء فيه {:قَالَ كَلّ إِنّ َم ِعيَ رَبّي
سَ َيهْدِينِ }[الشعراء]62 :
فهل قالها موسى برصيد بشري؟ ل ،بل بما عنده من ثقة في ربه ،وهكذا انتقلت المسألة إلى ساحة
الخالق سبحانه ،فقال لنبيه موسى {:فََأوْحَيْنَآ ِإلَىا مُوسَىا أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ الْ َبحْرَ فَانفَلَقَ َفكَانَ
طوْدِ ا ْلعَظِيمِ }[الشعراء]63 :
ُكلّ فِ ْرقٍ كَال ّ
فخرق ال لموسى قانون سيولة الماء واستطراقه ،ويتجمد الماء ،ويصير كالجبل ويتحول البحر
إلى يابسة ،ويعبر موسى وقومه إلى الناحية الخرى ،وتنشرح صدورهم بفرحة النجاة ،ويأخذ
موسى ـ عليه السلم ـ عصاه ليضرب البحر ليعود إلى طبيعته ،وحتى ل يعبره فرعون ويلحق
به ،لكن الحق سبحانه يأمره ،أن يتركه على حاله {:وَاتْ ُركِ الْ َبحْرَ رَهْوا إِ ّن ُهمْ جُندٌ ّمغْ َرقُونَ }
[الدخان]24 :
فعندما نزل فرعون وجنوده البحر واكتمل عددهم في قاعه أطلق الخالق سبحانه للماء قانون
سيولته ،فأطبق على فرعون وجنوده ،وكانت آيةً من آيات ال ،شاهدة على قدرته سبحانه ،وأنه
إنْ شاء أنجى وأهلك بالشيء الواحد ،وشاهدة على قيوميته تعالى على خَلْقه ،فليس المر ـ كما
يقولون ـ أمر قانون أو ناموس يعمل ،ويدير حركة الكون ،فكل المعجزات التي م ّرتْ في تاريخ
البشرية جاءت من باب خرق النواميس.
جعَلْنَا عَلَىا قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَن َيفْ َقهُو ُه َوفِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرا.{ ...
ثم يقول الحق سبحانهَ } :و َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2058 /
ح َد ُه وَّلوْا عَلَى
ن وَ ْ
جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَنْ َيفْ َقهُو ُه َوفِي آَذَا ِن ِه ْم َوقْرًا وَإِذَا َذكَ ْرتَ رَ ّبكَ فِي ا ْلقُرْآَ ِ
وَ َ
أَدْبَارِ ِهمْ ُنفُورًا ()46
ومعنى { َأكِنّةً } جمع كِنَان ،وهو الغطاء ،وقد حكى القرآن اعترافهم بهذه الكنة وهذه الحجب
التي غّلفَتْ قلوبهم في قوله تعالىَ {:وقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ ِممّا َتدْعُونَا إِلَيْ ِه َوفِي آذانِنَا َوقْرٌ َومِن بَيْنِنَا
وَبَيْ ِنكَ حِجَابٌ[} ..فصلت]5 :
خلْق ال ،والنسان سيد هذا الكون ،وخليفة ال فيه وهو مربوب للخالق سبحانه ل
الكون كله َ
يخرج عن مربوبيته لربه ،حتى وإنْ كان كافرا ل يزال يتقلّب في عطاء الربوبية ،فل يُحرم منها
عطَآءِ
الكافر بكفره ول عاص بمعصيته ،بل كما قال تعالى {:كُلّ ّنمِدّ هَـاؤُل ِء وَهَـاؤُلءِ مِنْ َ
رَ ّبكَ[} ..السراء]20 :
وسبق أنْ فرّقنا بين عطاء الربوبية المتمثّل في كل ِنعَم الحياة وبين عطاء اللوهية ،وهو التكليف
الذي يقتضي عبدا ومعبودا ،وافعل ول تفعل.
إذن :عطاء الربوبية عام للجميع ودائم للجميع ،فكان على النسان أن يقف مع نفسه وقفة تأمّل في
سعْي منه أو مجهود ،هذه الشمس وهذه الرض وهذا الهواء ،هل
هذه النعم التي تُسَاق إليه دون َ
له قدرة عليها؟ هل تعمل له بأمره ،إنها أوليات النعم التي أجراها ال تعالى من أجله ،وسخّرها
بقدرته من أجله ،أل تدعوه هذه النعم إلى اليمان بالمنعم سبحانه وتعالى؟
وسبق أنْ ضربنا مثلً للستدلل على الخالق سبحانه بما أودعه في الكون من ظواهر وآيات
بالرجل الذي انقطعت به السّبُل في صحراء ،حتى أوشك على الهلك ،وفجأة رأى مائدة عليها ما
يشتهي من الطعام والشراب ،ألَ تثير في نفسه تساؤلً عن مصدرها قبل أن تمتدّ إليها يده؟
وكذلك الكافر الذي يتقلّب في ِنعَم ل ُتعَ ّد ول تُحصَى ،وقد طرأ على الكون فوجده مُعدّا لستقباله
ل على المنعِم.
ُمهَيئا لمعيشته ،فكان عليه أنْ يُجري عملية الستدلل هذه ،ويأخذ من النعمة دلي ً
ن كفر ،بل إن الكافر حين يتمكّن الكفر منه ويُغلق
عمّ ْ
والحق تبارك وتعالى ل يمنع عطاء ربوبيته َ
عليه قلبه يساعده ال على ما يريد ،ويزيده مما يحب ،كما قال تعالى {:فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَهُمُ
اللّهُ مَرَضا[} ..البقرة]10 :
جعَلْنَا عَلَىا قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً[ } ..السراء ]46 :لم تَ ْأتِ من ال ابتداءً ،بل لما
إذن :فقوله تعالى { :وَ َ
أحبّوا هم الكفر ،وقالوا عن أنفسهم :قلوبنا في أكنة ،فأجابهم ال إلى ما أرادوا وختم على قلوبهم
ليزدادوا كفرا ،وطالما أنهم يحبونه فَلْنُزدهم منه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول تعالى { :أَن َيفْ َقهُوهُ[ } ..السراء]46 :
أي :كراهية أنْ يفقهوه؛ لن ال تعالى ل يريد منهم أن يفهموا القرآن رَغْما عنهم ،بل برضاهم
وعن طيب خاطر منهم بالقناع وبالحجة ،فال ل يريد منا قوالبَ تخضع ،بل يريد قلوبا تخشع،
وإل لو أرادنا قوالبَ لما استطاع أحد منا أنْ يشذّ عن أمره ،أو يمنع نفسه من ال تعالى ،فالجميع
خاضع لمره وتحت مشيئته.
()2059 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق سبحانه وتعالى ل َيخْفى عليه شيء في الرض ول في السماء ،وهذه حقيقة كان على الكفار
أنْ ينتبهوا إليها ويُراعوها ،ويأخذوها سبيلً إلى اليمان بال ،فقد أخبر سبحانه نبيه صلى ال عليه
جهَنّمُ َيصَْلوْ َنهَا فَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }
حسْ ُبهُمْ َ
سهِمْ َل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ َ
وسلم بقوله {:وَ َيقُولُونَ فِي أَنفُ ِ
[المجادلة]8 :
فكان عليهم أن يتدبروا هذا القول :فهم قالوا في أنفسهم ،ولم يقولوا لحد ،فمَنْ أخبر محمدا بهذا
القول الذي لم يخرج إلى عالم الواقع ،ومَنْ أطلعه عليه؟ َألَ يدعوهم هذا العلم بما يدور في
نفوسهم إلى اليمان بال؟
خفَى عليه شيء ،فهو أعلم بأحوالهم هذه :الول:
وما دام الحق سبحانه يعلم كل الحوال ،ول َي ْ
يستمعون إليك .والثاني :وإذ هم نجوى .والثالث :إذ يقول الظالمون .إذن :هم يستمعون ثم
يتناجون ،ثم يقول بعضهم لبعض.
حبّ للغة وشغف بأساليب البيان؛ لذلك
قالوا :إن سبب نزول هذه الية ما كان عند العرب من ُ
كانت معجزة النبي صلى ال عليه وسلم من جنس ما نبغ فيه قومه ،لتكون أوضح في التحدي،
هكذا شأن الحق سبحانه مع كل الرسل.
وكان للعرب أسواق للبيان والبلغة يجتمع فيها أهل الشعر والبلغة والفصاحة ،وفي مكة تصب
كل اللسنة في مواسم الحج ،فعرفوا صفوة لغات الجزيرة وأساليبها ،ومن هنا انجذبوا لسماع
القرآن ،وشغفوا ببيانه بما لديهم من أذن مُرْهفة للسلوب وملَكة عربية أصيلة ،إل أن القرآن له
مطلوبات وتكاليف ل يقدرون عليها ،ولديه منهج سيُقوّض مملكة السيادة التي يعيشون فيها.
ن كانوا ُمعْجبين بالقرآن إعجابا بيانيا
ومن هنا كابروا وعاندوا ،ووقفوا في وجه هذه الدعوة ،وإ ْ
بلغيا بما في طباعهم من مَلَكات عربية.
فيُ ْروَى أن كبارا مثل :النضر بن الحارث ،وأبي سفيان ،وأبي لهب كانوا يتسللون بعد أن ينام
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ }[فصلت ]26 :ـ كانوا
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
الناس ـ ممن كانوا يقولون لهم {:لَ َت ْ
يذهبون إلى البيت يتسمّعون لقراءة القرآن ،ولماذا يحرمون أنفسهم من سماع هذا الضرب البديع
من القول ،وقد حرموا مواجيدهم وقلوبهم منه ،فكانوا عند انصرافهم يرى بعضهم بعضا مُتسلّلً
حبّ
مُتخفّيا ،فكانوا مرة يكذبون على بعضهم بحجج واهية ،ومرة يعترفون بما وقعوا فيه من ُ
لسماع القرآن.
فقال تعالى { :نّحْنُ أَعْلَمُ ِبمَا يَسْ َت ِمعُونَ ِبهِ[ } ..السراء]47 :
جوَىا} ..
أي :بالحال الذي يستمعون عليه ،إذ يستمعون إليك بحال إعجاب .ثم { :وَِإذْ هُمْ نَ ْ
[السراء ]47 :من التناجي وهو الكلم سِرّا ،أو :أن نَجْوى جمع نجى ،كقتيل وقَتْلى ،وجريح
وجَرْحى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالمعنى :نحن أعلم بما يستمعون إليه ،وإذ هم متناجون أو نجوى ،فكأن كل حالهم تناجٍ.
جوَىا[ } ..السراء]47 :
وقوله { :وَإِذْ هُمْ َن ْ
فيه مبالغة ،كما تقول :رجل عادل ،ورجل عَدْل.
ومِنْ تناجيهم مَا قاله أحدهم بعد سماعه ليات القرآن " :وال ،إن له لحلوة ،وإن عليه لطلوة،
وإن أعله لمثمر ،وإن أسلفه لمغدق ،وإنه يعلو ول ُيعْلَى عليه ".
ثم تأتي الحالة الثالثة من أحوالهمِ } :إذْ َيقُولُ الظّاِلمُونَ إِن تَتّ ِبعُونَ ِإلّ َرجُلً مّسْحُورا { [السراء:
]47
وهذا هو القول المعْلَن عندهم ،أن يتهموا رسول ال بالسحر مرة ،وبالجنون أخرى ،ومرة قالوا:
شاعر .وأخرى قالوا :كاهن .وهذا كله إفلس في الحجة ،ودليل على غبائهم العقديّ.
سحُورا { اسم مفعول من السحر ،وهي تخييل ال ِفعْل .وليس فعلً ،وتخييل ال َقوْل وليس
وكلمة } مّ ْ
قولً ،فهي صَرْف للنظر عن إدراك الحقائق ،أما الحقائق فهي ثابتة ل تتغير.
سحْرا؛ لن ما جرى
لذلك نقول :إن معجزة موسى ـ عليه السلم ـ من جنس السحر وليست ِ
فيها كان حقيقة ل سِحْرا ،فقد انقلبتْ العصا حَيّة تبتلع حبال السحرة وعِصيّهم على َوجْه الحقيقة،
سحْرا؛ لن القرآن قال في سحرة فرعون{:
لكن لما كانت المعجزة في مجال السحر ظنها الناسُ ِ
سعَىا }
سحْرِ ِهمْ أَ ّنهَا تَ ْ
سحَرُواْ أَعْيُنَ النّاسِ }[العراف ]116 :وقال في آية أخرىُ {:يخَ ّيلُ ِإلَيْهِ مِن ِ
َ
[طه]66 :
إذن :فحقيقة الشياء ثابتة ل تتغير ،فالساحر يرى العصا عصا ،أما المسحور فيراها حية ،وليست
كذلك مسألة موسى ـ عليه السلم ـ وليؤكد لنا الحق سبحانه هذا المعنى ،وأن ما حدث من
موسى ليس من سحرهم وتغفيلهم أنه حينما قال لهَ {:ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه]17 :
فأطال موسى ـ عليه السلم ـ الكلم؛ لنه أحب الُنْس بالكلم مع ربه تعالى فأجاب {:قَالَ ِهيَ
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي[} ...طه ]18 :ثم أحس موسى أنه أطال فقال موجزا{:
َ
وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا }[طه]18 :
علْمه عن العصا التي في يده ،لكن ال تعالى سيجعلها غير ذلك ،فقال له {:قَالَ أَ ْل ِقهَا
فهذا هو مدى ِ
سعَىا }[طه]20-19 :
يامُوسَىا * فَأَ ْلقَاهَا فَإِذَا ِهيَ حَيّةٌ َت ْ
فهل خُيّل لموسى أنها حيّة وهي عصا؟ أم أنها انقلبت حيّة فعلً؟ إنها حية فعلً على وجه الحقيقة،
بدليل قوله تعالى {:فََأوْجَسَ فِي َنفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىا }[طه]67 :
ت الَعْلَىا }
خفْ إِ ّنكَ أَن َ
خفْ إل لنه وجد العصا حيّة حقيقية ،ثم طمأنه ربه {:قُلْنَا لَ تَ َ
وموسى لم يَ َ
[طه]68 :
لذلك لما رأى السحرة ما تفعله عصا موسى علموا أنها ليست سحرا ،بل هي شيء خارج عن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نطاق السحر والسحرة ،وفوق قدرة موسى عليه السلم ،فآمنوا بربّ موسى القادر وحده على
إجراء مثل هذه المعجزة.
سحُورا { [السراء]47 :
وقوله تعالى } :إِن تَتّ ِبعُونَ ِإلّ َرجُلً مّ ْ
أي :سحره غيره .وهذا قوْل الظالمين الذين يُلفّقون لرسول ال التهمة بعد الخرى ،وقد قالوا
أيضا :ساحر .قال تعالى {:قَالَ ا ْلكَافِرُونَ إِنّ هَـاذَا لَسَاحِرٌ مّبِينٌ }[يونس]2 :
فمرّة قُلْتم :ساحر .ومرة قلتم :مسحور .وهذا دليل التخبّط واللّجج ،فإن كان ساحرا فعندكم من
السحرة كثيرون ،فلماذا ل يُواجِهونه بسحر مثل سِحْره؟ ولماذا لم يسحركم أنتم كما سحر غيركم
وتنتهي المسألة؟ وهل يمكن أن يُسْحر الساحر؟
وإنْ كان مسحورا سحره غيره ،فهل جرّبْتُم عليه في سحره كلما مخالفا لواقع؟ هل سمعتموه
يهذي كما يهذي المسحور؟ إذن :فهذا اتهام بطل وقول كاذب ل أصل له ،بدليل أنكم تأبّيتم عليه،
ولم ُيصِبْكم منه أذى.
فلما أخفقوا في هذه التهمة ذهبوا إلى ناحية أخرى فقالوا :شاعر ،وبال َأمِثْلُكم أيها العرب ،يا
أربابَ اللغة والفصاحة والبيان ـ َيخْفي عليه أن يُفرّق بين الشعر والنثر؟ والقرآن وأسلوب متفرد
بذاته ،ل هو شعر ،ول هو نثر ،ول هو مسجوع ،ول هو مُرْسل ،إنه نسيج وحده.
لذلك نجد أهل الدب يُقسّمون الكلم إلى قسمين :كلم ال وكلم البشر ،فكلم البشر قسمان :شعر
ونثر ويخرج كلم ال تعالى من دائرة التقسيم؛ لنه متفرد بذاته عن كل كلم.
غمّة ثم
ل في كتب الدب تجد الكاتب يقول :هذا العدل محمود عواقبه ،وهذه النّبْوة ُ
فلو قرأت مث ً
تنجلي ،ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه ،أو تأخر غير ضنين غناؤه ،فأبطأُ ال ّدلَء فَيْضا
أحفلُها ،وأثقل السحائب مَشْيا أحفلها ،ومع اليوم غد ،ولكلّ أجل كتاب ،له الحمد على احتباله ،ول
عتب عليه في احتفاله.فإِنْ يَكن ال ِف ْعلُ الذي سَا َء وَاحِدا فَأفْعالُه الّلئِي سُرِرْنَ أُلُوفُفل شكّ أنك
ستعرف انتقالك من النثر إلى الشعر ،وسوف تُميّز أذنك بين السلوبين ،لكن أسلوب القرآن غير
ك انتقلتَ من نثر إلى شعر ،أو من شعر
ذلك ،فأنت تقرأ آياته فتجدها تناسب انسيابا ل تلحظ فيه أن َ
إلى نثر ،واقرأ قول ال تعالى {:نَبّىءْ عِبَادِي أَنّي أَنَا ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }[الحجر]49 :
أَجْرِ عليه ما يُجريه أهل الشعر من الوزن ،فسوف تجد بها وزنا شعريا :مستفعل فاعلت..
وكذلك {:وَأَنّ عَذَابِي ُهوَ ا ْل َعذَابُ الَلِيمُ }[الحجر ]50 :تعطيك الشطر الثاني من البيت ،لكن هل
لحظتَ ذلك في سياق اليات؟ وهل لحظتَ أنك انتقلت من شعر إلى نثر ،أو من نثر إلى شعر؟
إذن :فالقرآن نسيج فريد ل يُقال له :شعر ول نثر ،وهذا المر ل يَخْفى على العربي الذي تمرّس
في اللغة شعرها ونثرها ،ويستطيع تمييز الجيّد من الرديء.
لمْثَالَ َفضَلّواْ فَلَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلً {.
ف ضَرَبُواْ َلكَ ا َ
ثم يقول الحق سبحانه } :انْظُرْ كَ ْي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2060 /
جبْ مما هم فيه من تخبّط ولَجج ،فمرّة يقولون عن القرآن :سحر ومرة يقولون :شعر،
أي :تع ّ
ويصفونك بأنك :شاعر ،وكاهن ،وساحر.
ومعلوم أن الرسالة لها عناصر ثلثة :مُرسِل ،وهو الحق سبحانه وتعالى ،ومُرسَل وهو النبي
سلٌ به وهو القرآن الكريم ،وقد تخبّط الكفار في هذه الثلثة ودعاهم
صلى ال عليه وسلم ومُرْ َ
الظلم إلى أن يقول فيها قولً كاذبا افتراءً على ال تعالى وعلى رسوله وعلى كتابه.
وقد سبق أن تحدثنا عن افتراءاتهم في اللوهية وعن موقفهم من رسول ال صلى ال عليه وسلم.
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف]31 :
ومن ذلك قولهمَ {:ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
وقولهم عن القضية اليمانية العامة {:الّل ُهمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال]32 :
مّنَ ال ّ
ن يقولوا :فاهدنا إليه تراهم يُفضّلون الموت على سماع القرآن،
أهذه دعوة يدعو بها عاقل؟! فبدل أ ْ
وهذا دليل على كِبْرهم وعنادهم وحماقتهم أمام كتاب ال.
لذلك ،فالحق سبحانه وتعالى من حبه لرسوله صلى ال عليه وسلم و ِرفْعة منزلته حتى عند
الكافرين به ،يردّ على الكافرين افتراءهم ،ويُطمئِن قلب رسوله ،ويتحمل عنه اليذاء في قوله
تعالى {:قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ[} ..النعام]33 :
ك وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ
أي :قولهم لك :ساحر ،وكاهن ،وشاعر ،ومجنون{ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َن َ
جحَدُونَ }[النعام]33 :
يَ ْ
فليست المسألة عندك يا محمد ،فهُمْ مع كفرهم ل يكذبونك ول يجرؤن على ذلك ول يتهمونك ،إنما
المسألة أنهم يجحدون بآياتي ،و ُكلّ تصرفاتهم في مقام اللوهية ،وفي مقام النبوة ،وفي مقام الكتاب
ناشئة عن الظلم.
وقولهم عن رسول ال :مجنون قوْلٌ كاذب بعيد عن الواقع؛ لن ما هو الجنون؟ الجنون أن تُفسِد
في النسان آلة التفكير والختيار بين البدائل ،والجنون قد يكون بسبب خَلْقي أي :خلقه ال تعالى
هكذا ،أو بسبب طارئ كأنْ يُضربَ النسان على رأسه مثلً ،فيختلّ عنده مجال التفكير.
ومن رحمة ال تعالى بالعبد أن أخّرَ له التكليف إلى سِنّ البلوغ واكتمال العقل ،وحتى يكون قادرا
على إنجاب مثله؛ لنه لو كلّفه قبل البلوغ فسوف تطرأ عليه تغييرات غريزية قد يحتج بها ،ومع
ذلك طلب من الب أن يأمر ابنه بالصلة قبل سِنّ التكليف لِ ُي َعوّده الصلة من الصغير ليكون على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إِ ْلفٍ بها حين يبلغ سِنّ التكليف ،وليألف صيغة المر من المر.
حبّ أبيه وحِرْصه على مصلحته ،فهو الذي يُربّيه ويُوفّر له كل ما يحتاج،
والنسان ل يشك في ُ
فله ثقة بالب المحس ،فالحق سبحانه يريد أنْ يُر ّببَ فينا الطاعة لمن نعلم خيره علينا ،فإذا ما جاء
وقت التكليف يسهل علينا ول يشق؛ لنها أصبحتْ عادة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ َألِيمٍ }[النفال]32 :
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ ال ّ
الْ َ
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف]31 :
ومنهم من قالَ {:وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
ضعْف الدعوة في بدايتها ،ورغم
فلم يستطيعوا إيجاد سبيل ُيعَوقون به دعوتك ،بدليل أنه رغم َ
اضطهادهم لها تراها تزداد يوما بعد يوم ،وتتسع ُرقْعة اليمان ،أما كَيْدهم وتدبيرهم فيتجمّد أو
يقلّ.
صهَا مِنْ أَطْرَا ِفهَا[} ..الرعد]41 :
كما في قوله تعالىَ {:أوََلمْ يَ َروْاْ أَنّا نَأْتِي الَ ْرضَ نَن ُق ُ
فكل يوم تزداد أرض اليمان ،وتِقلّ أرض الكفر.
والحق سبحانه وتعالى في قضية استماع القرآن وقولهم :قلوبنا في أكنة ،وقلوبنا غلف يريد أن
يُلفِتَ أنظارنا إلى قضية هامة في الوجود ومنتظمة في كل الكائنات ،وهي أن الفعال تقتضي
فاعلً للحدث وقابلً لفعل الحدث ،ومثال ذلك :الفلح الذي يُقلّب التربة بفأسه ،فتقبل التربة منه
هذا الفعل ،وتنفعل هي معه ،فتعطيه ما ينتظره من محصول.
.أما لو فعل هذا الفعل في صخرة فلن تقبل منه هذا الفعل .إذن :فثمرة الحدث تتوقف على
طرفين :فاعل ،وقابل للفعل.
لذلك أتعجب من هؤلء الذين يقولون :إن الغرب يفتن المسلمين عن دينهم ،ويأتي إلينا بالمغْريات
وأسباب النحراف ،ويُصدّر إلينا المبادئ الهدامة ويُشككنا في ديننا ..الخ.
ن فعل هو ولم تقبلوا أنتم منه هذا الفعل؟! دَعُوه يفعل ما يريد،
ونقول لهؤلء :مَا يضركم أنتم إ ْ
ل مع مقولته ومبادئه .فالخيبة ليست في فعل الغرب بنا ،ولكن في تقبّلنا
ل نقبلَ وألّ نتفاع َ
المهم أ ّ
نحن وَلهْثنا وراء ُكلّ ما يأتينا من ناحيته ،وما ذلك إل لِقلّة الخميرة اليمانية في نفوسنا ،فالغرب
يريد أنْ يُثبّت نفوذه ،ويثبت مبادئه ،وما عليك إلّ أنْ تتأبّى على قبول مثل هذه الضللت.
وعلى نظرية الفاعل والقابل هذه تُبنَى الحضارات في العالم كله؛ لن الخالق سبحانه حينما
استدعانا إلى الوجود جعل لنا فيه مُقوّمات الحياة الساسية من :شمس ،وقمر ،ونجوم ،وأرض،
وسماء ،وماء ،وهواء .ومن هذه المقوّمات ما يعطيك ويخدمك دون أنْ تتفاعَل معه أو تطلبَ منه،
كالشمس والماء والهواء ،ومنها ما ل يعطيك إلّإذا تفاعلتَ معه مثل الرض ل تعطيك إل إذا
سقْي والبَذْر.
تعهدتها بالحرث وال ّ
والمتأمل في الكون يجد أن جميع ارتقاءات البشر من هذا النوع الثاني الذي ل يعطيك إل إذا
تفاعلتَ معه ،وقد ترتقي الطموحات البشرية إلى أن تجعلَ من النوع الول الذي يعطيك دون أن
تتفاعلَ معه ومن غير سلطان لك عليه ،تجعل منه مُ ْن َفعِلً بعملك فيه ،كما يحدث الن في استعمال
الطاقة الشمسية في مجالت جديدة لم تكُنْ من قبل .إذن :فهذه ارتقاءاتٌ ل يُحْرَم منها مَنْ أخذ
سعَى إلى الرّقيّ والتقدم.
بالسباب و َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عهُ ،وما يقول فليس بملوم ،إنما الملوم أنت إنْ قب ْلتَ منه؛ ولذلك
إذن :إنْ جاء يُشكّك في دينك نَدَ ْ
يجب علينا وعلى ُكلّ قائم على تربية النشء أنْ نُحصّن أولدنا ضد هجمات اللحاد والتنصير
والتغريب ،ونُعلّمهم من أساسيات الدين ما يُمكّنهم من الدفاع والردّ بالحجة والقناع حتى ل يقعوا
سهْلة في أيدي هؤلء.
فريسة َ
وهذه هي المناعة المطلوبة وما أشبهها بما نستخدمه في الماديات من التطعيم ضد المرض ،حتى
إذا طرأ على الجسم ل يؤثر فيه .ألَ ترى الحق سبحانه في قرآنه الكريم َيعْرِض لِشُبَه الكافرين
والملحدة ويُفصّلها ويُناقشها ،ثم يبين زَيْفها ،فيقول {:كَبُ َرتْ كَِلمَةً َتخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ إِن َيقُولُونَ
ِإلّ كَذِبا }[الكهف]5 :
فلماذا يعرضها القرآن ،هل لنأخذ بها ونتعلمها؟ ل بل لكي ل ُنفَاجأ بها ،فإذا أَ َتتْ يكون لدينا
المناعة الكافية ضِدّها ،ولكي تتربّى فينا الحصانة المانعة من النزلق أو النحراف.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الضلل ،بل دَعْه في ضلله ،و َربّ في الخرين مناعة حتى ل يتأثروا ول يستجيبوا له.
بعد أن تكلمنا عن موقف الكفار من اللوهية ومن النبوة نتكلم من موقفهم من المنهج الذي جاء به
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهذا المنهج يتضمن قضايا كثيرة وأمورا متعددة ،لكن أم هذا
المنهج وأساسه أن نؤمن بالخرة ،وما ُدمْنَا نؤمن بالخرة فسوف تنسجم حركتنا في الحياة.
فاليمان بالخرة وما فيها من ثواب وعقاب هو الحافز لنا على العمل والستقامة في الدنيا ،وما
أشبه ذلك بالتلميذ الذي يجتهد ويجدّ؛ لنه يؤمن بالمتحان آخر العام ،وما ينتج عنه من توفيق أو
إخفاق.
غبيّ مَنْ يظن أن الدنيا هي نهاية المطاف ،وأنها الغاية التي ليس بعدها غاية؛ لن الجميع عبيدٌ ل
ن يموت بعد عدة شهور ،وآخر بعد
ن يموت في بطن أمه ،ومَ ْ
تعالى متساوون ..ومع ذلك نرى مَ ْ
عدة أعوام ،فلو أن الدنيا هي الغاية لستوى الجميع في المكْث فيها ،فاختلف العمار في الدنيا
دليل على أنها ليست غاية.
وعجيب في أمر الموت أن نرى الناس يحزنون كثيرا على مَنْ مات صغيرا ويقولونُ :أخِذ في
شبابه ويُكثِرون عليه العويل ،لماذا؟ يقولون :لنه لم يتمتع بالدنيا ،سبحان ال أي دنيا هذه التي
تتحدثون عنها ،وقد اختاره ال قبل أنْ تُلوّثه آثامها وتُلطّخه ذنوبها ،لماذا تحزنون كل هذا الحزن
ولو رأيتم ما هو فيه لحسدتموه عليه؟
حدَث يُحدِثه النسان له غاية من هذا الحدث،
والناس كثيرا ما يُخطِئون في تقدير الغايات؛ لن كل َ
هذه الغاية مرحلية وليست نهائية ،فالغاية النهائية والحقيقية ما ليس بعدها غاية أخرى ،فالتلميذ
يذاكر بالمرحلة البتدائية لينتقل إلى المرحلة العدادية ،ويذاكر العدادية لينتقلَ إلى الثانوية.
وهكذا تتوالى الغايات في الدنيا إلى أنْ يصل إلى غاية الدنيا الخيرة ،وهي أن يبني بيتا ويتزوج
ويعيش حياة سعيدة يرتاح فيها بما تحت يديه من خدم ،يقضون له ما يريد ،هذا على فرض أنه
ن يصلَ إلى هذه الغاية.
سيعيش حتى يكمل هذه المراحل ،ولكن ربما مات قبل أ ْ
إذن :فل بد للنسان أنْ يتعبَ أولً ،ويبذل المجهود ليصبح مخدوما ،وهذه المخدومية تتناسب مع
مجهودك الول ،فَمن اكتفى بالعدادية مثلً ليس كمن تخرّج من الجامعة ،فل ُكلّ مرتبته ومكانته؛
لنك تعيش في الدنيا بالسباب وعلى قَدْر ما تعطي تأخذ.
إذن :فغايتك في الدنيا أن تكون مخدوما ،مع أن خادمك قد يتمرّد عليك وقد يتركك ،أما غاية
الخرة فسوف تُوفّر عليك هذا كله ،وليس لحد علقة بك إل ذاتك أنت ،فبمجرد أنْ يخطر الشيء
على بالك تجده أمامك؛ ذلك لنك في الدنيا تعيش بالسباب ،وفي الخرة تعيش بمُسبّب السباب
سبحانه وتعالى.
حتْ كِفّة الخرة؛ لن الدنيا
وكذلك لو أجريتَ مقارنة اقتصادية بين متعة الدنيا ومتعة الخرة لرج َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالنسبة لك هي عمرك فيها فقط ،وليس عمر الدنيا كله ،كما يحلو للبعض أنْ يُحدّد عمر الدنيا بعدة
مليين من السنين ،فما دَخْلك أنت بكل هذه المليين؟!
فالدنيا ـ إذن ـ هي عمري فيها ،وهذا العمر مظنون غير مُتيقّن ،وعلى فرض أنه مُتيقّن فهو
ضفْ إلى ذلك أن نعيمك في الدنيا على
خاضع لمتوسط العمار ،وسوف ينتهي حتما بالموتَ .أ ِ
سعْيك وَأخْذِك بأسبابها.
قَدْر َ
أما الخرة فهي باقية ل نهاية لها ،فل يعتريها زوال ول يُنهيها الموت ،كما أن مُدتها مُتيقّنة وليس
مظنونة ،ونعيمك فيها ليس على قَدْر إمكانياتك ،ولكن على قدر إمكانيات خالقك سبحانه وتعالى.
سعْي والعمل؟ ويكفي أنك في الدنيا مهما توفّر لك من النعيم ،وإنْ
فأيّهما أحسن؟ وأيّهما َأوْلَى بال ّ
كنت في قمة النعيم بين أهلها فإنه يُنغّص عليك هذا النعيمَ أمران :فأنت تخاف أنْ تفوتَ هذا النعيم
بالموت ،وتخاف أن يفوتك هو بالفقر ،فهي نعمة مُكدّرة ،أما في الخرة فل تخاف أن تفوتها ،ول
أن تفوتك ،فأيّ الصفقتين أربح إذن؟
ثم يقول الحق سبحانه عن إنكارهم للبعث بعد الموتَ } :وقَالُواْ أَإِذَا كُنّا عِظَاما وَ ُرفَاتا أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ
جدِيدا {.
خَلْقا َ
()2061 /
ن صاروا ُرفَاتا
الستفهام في الية استفهام للتعجّب والنكار لموضع البعث يوم القيامة بعد أ ْ
وعظاما.
حطَام ،وكذلك كل ما جاء على وزن
والرفات :هو الفتات ومسحوق الشيء ،وهو التراب أو ال ُ
(فُعال).
لقد استبعد هؤلء البعث عن الموت؛ لنهم غفلوا في بداية الوجود وبداية خَلْق النسان ،ولو
استعملنا علم الحصاء الذي استحدثه العلماء لوجدناه يخدم هذه القضية اليمانية ،فلو أحصينا
ن نصل بأصل
تعداد العالم الن لوجدناه يتزايد في الستقبال ويقلّ في الماضي ،وهكذا إلى أ ْ
النسان إلى الصل الصيل ،وهو آدم وحواء ،فمن أين أتَيَا إلى الوجود؟ فهذه قضية غيبية كان ل
بُدّ أن يُفكّروا فيها.
ولنها قضية غيبية فقد تولّى الحق سبحانه وتعالى بيانها؛ لن الناس سوف يتخبّطون فيها ،فينبهنا
الخالق سبحانه بمناعة إيمانية عقدية في كتابه العزيز ،حتى ل ننساق وراء الذين سيتهورون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و َيهْرفون بما ل يعلمون ،ويقولون بأن أصل النسان كان قردا ،وهذه مقولة باطلة يسهُل رَدّها بأن
نقول :ولماذا لم تتحول القرود الباقية إلى إنسان؟ وعلى فرض أن أصل النسان قرد ،فمن أين
أتى؟ إنها نفس القضية تعود بنا من حيث بدأتْ ،إنها مجرد شوشرة وتشويه لوجه الحقيقة بدون
مبرر.
وكذلك من القضايا التي تخبّط فيها علماء الجيولوجيا ما ذهبوا إليه من أن السماء والرض
والشمس كانت جميعا جزءا واحدا ،ثم انفصلت عن بعضها ،وهذه أقوال ل يقوم عليها دليل.
لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يعطينا طرفا من هذه القضية ،حتى ل نُصغِي إلى أقوال المضلّلين
الذين يخوضون في هذه المور على غير هدى ،ولتكون لدينا الحصانة من الزّلَل؛ لن مثل هذه
القضايا ل تخضع للتجارب المعملية ،ول تُؤخَذ إل عن الخالق سبحانه فهو أعلم بما خلق.
سهِمْ[} ..الكهف ]51 :أي :لم يكن
ت وَالَ ْرضِ َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ
سمَاوَا ِ
شهَدّت ُهمْ خَ ْلقَ ال ّ
يقول تعالى {:مّآ أَ ْ
صفَ لكم ما حدث{ َومَا
معي أحد حين خلقتُ السماء والرض ،وخلقتُ النسان ،ما شهدني أحد لِ َي ِ
عضُدا }[الكهف ]51 :أي :ما اتخذت من هؤلء المضللين مُساعِدا أو مُعاوِنا،
كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
خلْق هذه بأنه مُضلّل فل
وكأن الحق سبحانه يقول لنا :احكموا على كل مَنْ يخوض في قضية ال َ
تستمعوا إليه.
ولكي تُريحوا أنفسكم من مثل هذه القضايا ل تُحمّلوا العقل أكثر مما يحتمل ،ول تعطوه فوق
مقومات وظائفه ،وجَدْوى العقل حينما ينضبط في الماديات المعملية ،أما إنْ جنح بنا فل نجني من
حمْق والتخاريف التي ل تُجدي.
ورائه إل ال ُ
وكلمة " العقل " نفسها من العقال الذي يمنع شرود البعير ،وكذلك العقل جعله ال ليضبط تفكيرك،
ويمنعك من الجموح أو النحراف في التفكير.
وأيضا ،فالعقل وسيلة الدراك ،مثله مثل العين التي هي وسيلة الرؤية ،والذن التي هي وسيلة
السمع.
.وما دام العقل آلة من آلت الدراك فله حدود ،كما أن للعين حدودا في الرؤية ،وللذن حدودا
في السمع ،فللعقل حدود في التفكير أيضا حتى ل يشطح بك ،فعليك أنْ تضبط العقل في المجال
الذي تُجوّد فيه فقط ،ول تُطلق له العنان في ُكلّ القضايا.
ومن هنا تعب الفلسفة وأتعبوا الدنيا معهم؛ لنهم خاضوا في قضايا فوق نطاق العقل ،وأنا أتحدى
أي مدرسة من مدارس الفلسفة من أول فلسفة اليونان أن يكونوا متفقين على قضية إل قضية
واحدة ،وهي أن يبحثوا فيما وراء المادة ،فَمنِ الذي أخبرك أن وراء المادة شيئا يجب أن يُبحث؟
لقد اهتديتُم بفطرتكم اليمانية إلى وجود خالق لهذا الكون ،فليس الكون وليد صدفة كما يقول
البعض ،بل له خالق هو الغيبيات التي تبحثون عنها ،وتَ ْرمَحُون بعقولكم خلفها ،في حين كان من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الواجب عليكم أنْ تقولوا :إن ما وراء المادة هو الذي يُبين لنا نفسه.
لقد ضربنا مثلً لذلك ـ ول المثل العلى ـ وقلناَ :هبْ أننا في مكان مغلق ،وسمعنا طَرْق الباب
ن يتصوّر أنه
ـ فكلنا نتفق في التعقّل أن طارقا بالباب ،ولكن منا مَنْ يتصور أنه رجل ،ومنا مَ ْ
امرأة ،وآخر يقول :بل هو طفل صغير ،وكذلك منا مَنْ يرى أنه نذير ،وآخر يرى أنه بشير .إذن:
لقد اتفقنا جميعا في التعقّل ،ولكن اختلفنا في التصوّر.
فلو أن الفلسفة وقفوا عند مرحلة التعقّل في أن وراء المادة شيئا ،وتركوا لمن وراء المادة أنْ
يُظهر لهم عن نفسه لراحوا واستراحوا ،كما أننا لو قُلْنا للطارق :مَنْ؟ لقال :أنا فلن ،وجئت
لكذا ،وانتهتْ المسألة.
عظَاما وَ ُرفَاتا أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا }
ولقد رَدّ عليهم القرآن إنكارهم للبعث وقولهم {:أَإِذَا كُنّا ِ
[السراء]49 :
بقوله تعالىُ {:قلْ َهلْ مِن شُ َركَآ ِئكُمْ مّن يَبْدَأُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ ُقلِ اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ فَأَنّىا
ُت ْؤ َفكُونَ }[يونس]34 :
جلّ لِ ْلكُ ُتبِ َكمَا بَدَأْنَآ َأ ّولَ خَلْقٍ ّنعِي ُد ُه وَعْدا عَلَيْنَآ إِنّا كُنّا
طيّ السّ ِ
سمَآءَ َك َ
طوِي ال ّ
وبقوله تعالىَ {:يوْمَ َن ْ
فَاعِلِينَ }[النبياء]104 :
خلْقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ[} ..الروم ]27 :فإعادة الشيء
وبقوله تعالى {:وَ ُهوَ الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْ َ
أهون من خَلْقه َأوّلً.
وقف الفلسفة طويلً أمام قضية البعث ،وأخذوا منها سبيلً لتشكيك الناس في دين ال ،ومن
مغالطاتهم في هذه المسألة أنْ قالوا :ما الحل إذا مات إنسان مثلً ثم تحوّل جسمه إلى رفات
عتْ فوقه شجرة وتغذّت على عناصره ،فإذا أكل إنسان من ثمار هذه الشجرة
وتراب ،ثم زُرِ َ
فسوف تنتقل إليه بالتالي عناصر من عناصر الميت ،وتتكوّن فيه ذرات من ذراته ،فهذه الذرات
صتْ من الول ،فكيف يكون البعث ـ إذن ـ على حَدّ َقوْلهم؟
التي تكوّنت في الثاني نقُ َ
والحقيقة أنهم في هذه المسألة لم يفطِنُوا إلى أن مُشخّص النسان شيء ،وعناصر تكوينه شيء
آخر.
.كيف؟
َهبْ أن إنسانا زاد وزنه ونصحه الطبيب بإنقاص الوزن فسعى إلى ذلك بالطرق المعروفة
لنقاص الوزن ،وهذه العملية سواء زيادة الوزن أو إنقاصه محكومة بأمرين :التغذية والخراج،
فالنسان ينمو حينما يكون ما يتناوله من غذاء أكثر مما يُخرِجه من فضلت ،ويضعف إن كان
المر بعكس ذلك ،فالولد الصغير ينمو لنه يأكل أكثر ِممّا يُخرِج ،والشيخ الكبير يُخرِج أكثر ِممّا
يأكل؛ لذلك يضعف.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلو مرض إنسان مرضا أَهْزَلَهُ وأنقص من وزنه ،فذهب إلى الطبيب فعالجه حتى وصل إلى وزنه
الطبيعي ،فهل الذرات التي خرجتْ منه حتى صار هزيلً هي بعينها الذرات التي دخلتْه حين تَمّ
علجه؟ إن الذرات التي خرجتْ منه ل تزال في (المجاري) ،لم يتكون منها شيء أبدا ،إنما كميّة
الذرّات ومقاديرها هي التي تقوي وتشخص.
حفِيظٌ }[ق:
وربنا سبحانه وتعالى رحمة منه ،قالَ {:قدْ عَِلمْنَا مَا تَن ُقصُ الَ ْرضُ مِ ْنهُ ْم وَعِندَنَا كِتَابٌ َ
]4فالحق سبحانه سيجمع الجزاء التي تُكوّن فلنا المشخّص.
حدِيدا {.
حجَا َرةً َأوْ َ
ثم يقول الحق سبحانهُ } :قلْ كُونُواْ ِ
()2062 /
حدِيدًا ()50
حجَا َرةً َأوْ َ
ُقلْ كُونُوا ِ
أيُ :قلْ ردّا عليهم :إنْ كُنتم تستبعدون البعث وتَسْتصعبِونه مع أنه َب ْعثٌ للعظام والرّفات ،وقد
كانت لها حياة في فترة من الفترات ،ولها إِلْف بالحياة ،فمن السهل أنْ نعيدَ إليها الحياة ،بل وأعظم
من ذلك ،ففي قدرة الخالق سبحانه أنْ يُعيدكم حتى وإنْ كنتم من حجارة أو من حديد ،وهي المادة
التي ليس بها حياة في نظرهم.
وكأن الحق سبحانه يتحدّاهم بأبعد الشياء عن الحياة ،ويتدرج بهم من الحجارة إلى الحديد؛ لن
الحديد أشدّ من الحجارة وهو يقطعها ،فلو كنتم حجارة لعدْناكم حجارة ،ولو كنتم حديدا لعدْناكم
حديدا.
ثم يترقّي بهم إلى ما هو أبعد من ذلك ،فيقول تعالىَ { :أوْ خَلْقا ّممّا َيكْبُرُ فِي صُدُو ِركُمْ َفسَ َيقُولُونَ
مَن ُيعِيدُنَا ُقلِ الّذِي َفطَ َركُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ.} ..
()2063 /
صدُو ِركُمْ فَسَ َيقُولُونَ مَنْ ُيعِيدُنَا ُقلِ الّذِي فَطَ َركُمْ َأوّلَ مَ ّرةٍ فَسَيُ ْن ِغضُونَ إِلَ ْيكَ
َأوْ خَ ْلقًا ِممّا َيكْبُرُ فِي ُ
سهُ ْم وَ َيقُولُونَ مَتَى ُهوَ ُقلْ عَسَى أَنْ َيكُونَ قَرِيبًا ()51
رُءُو َ
خلْقا ّممّا َيكْبُرُ فِي صُدُو ِركُمْ[ } ..السراء ]51 :أي :هاتوا العظم فالعظم،
قوله تعالىَ { :أوْ َ
وتوغّلوا في التحدّي وال ُبعْد عن الحياة ،فأنا قادر على أنْ أهبَ له الحياة مهما كان بعيدا عن الحياة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على إطلقها.
وقولهّ { :ممّا َيكْبُرُ فِي صُدُو ِركُمْ[ } ..السراء]51 :
يكبر :أي يعظُم مِنْ كَبُر يكْبُر .ومنه قوله تعالى {:كَبُ َرتْ كَِلمَةً تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِه ِهمْ }[الكهف]5 :
أي:عَظُمت .والمراد :اختاروا شيئا يعظم استبعادُ أن يكون فيه حياة بعد ذلك ،وغاية ما عندهم في
بيئتهم الحجارة والحديدَ ،فهُما أبعد الشياء عن الحياة ،وقد اتفقوا على ذلك فليس في محيط حياتهم
ما هو أقسى من الحجارة والحديد .ولكن الحق سبحانه وتعالى ارتقى بهم في فَرْضية المر إلى أنْ
يختاروا وتجتمع نفوسهم على شيء ،يكون أعظمَ استبعادا من الحجارة والحديد.
ونلحظ في قوله تعالىّ { :ممّا َيكْبُرُ فِي صُدُو ِركُمْ[ } ..السراء ]51 :جاء هذا الشيء مُ ْبهَما؛ لن
الشيء العظيم الذي يعظُم عن الحجارة والحديد استبعادا عن أصل الحياة مختلفٌ فيه ،فإن اتفقوا
في أمر الحجارة والحديد فقد اختلفوا في الشياء الخرى ،فجاءت الية مُبْهمة ليشيع المعنى في
نفس ُكلّ واحد كل على حَسْب ما يرى.
بدليل أنهم حينما سألوا المام عليا ـ رضي ال عنه ،وكرّم ال وجهه ـ عن أقوى الجناس في
الكون ،وقد علموا عن المام عليّ سرعة البديهة والتمرّس في الفُتْيَا ،فأرادوا اختباره بهذا السؤال
الذي يحتاج في الجابة عليه إلى استقصاء لجناس الكون وطبيعة كل منها.
دخل عليهم المام علي وهم مختلفون في هذه المسألة ،منهم من يقول :الحديد أقوى .ومنهم من
يقول :بل الحجارة .وآخر يقول :بل الماء ،فأفتاهم المام في هذه القضية ،وانظر إلى ِدقّة الفتاء
واستيعاب العلم ،فلم َيقُل :أقوى جنود ال كذا وكذا ثم يكمل كما اتفق له ويذكر ما يخطر بباله ،ل
بل حصرها أولً ،فقال :أشد جنود ال عشرة.
فالمسألة ليست ارتجالية ،بل مسألة مدروسة لديه مُسْتَحضرة في ذِهْنه ،مُرتّبة في تفكيره ،فبسط
المام لمستمعيه يده وفَردَ أصابعه ،وأخذ يعدّ هذه العشرة ،وكأنه المعلم الذي استحضر درسه
وأعدّه جيدا.
قال " :أشد جنود ال عشرة ،الجبال الرواسي ،والحديد يقطع الجبال ،والنار تذيب الحديد ،والماء
يطفئ النار ،والسحاب المسخّر بين السماء والرض يحمل الماء ،والريح يقطع السحاب ،وابن آدم
يغلب الريح يستتر بالثوب أو بالشيء ويمضي لحاجته ،والسكر يغلب ابن آدم ،والنوم يغلب
السكر ،والهم يغلب النوم ،فأشد جنود ال في الكون الهم ".
خلْقا ّممّا َيكْبُرُ فِي صُدُو ِركُمْ[ } ..السراء]51 :
فهذه الجناس هي المراد بقوله تعالىَ { :أوْ َ
فاختاروا أيّا من هذه الجناس ،فال تعالى قادر على إعادتكم وبعثتكم كما كنتم أحياء.
ثم يقول تعالىَ } :فسَ َيقُولُونَ مَن ُيعِيدُنَا ُقلِ الّذِي فَطَ َركُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ[ { ..السراء]51 :
أي :أن الذي خلقكم بدايةً قادرٌ على إعادتكم ،بل العادة َأ ْهوَن من الخَلْق بدايةً ،ولكن الجواب ل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يكون مُقنِعا إل إذا كانت النتيجة التي يأتي بها الجواب مُسلّمة .فهل هم مقتنعون بأن ال تعالى
فطرهم أوّل مرة؟
نعم ،هم مؤمنون بهذه الحقيقة رغم ُكفْرهم ،بدليل قولهم {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىا
ُي ْؤ َفكُونَ }[الزخرف ]87 :فهم مقتنعون بذلك ،ولكنهم نقلوا الجدل إلى قضية أخرى فقالوا :مَنْ
س ُهمْ[ { ..السراء]51 :
يُعيدنا؟ فإنْ قلت لهم :الذي فطركم أول مرة } .فَسَيُ ْن ِغضُونَ إِلَ ْيكَ ُرؤُو َ
معنى يُنغِض رأسه :يهزّها من أعلى لسفل ،ومن أسفل لعلى استهزاءً وسخري ًة مما تقول،
والمتأمل في قوله } َفسَيُ ْن ِغضُونَ { يجده ِفعْلً سيحدث في المستقبل ويقع من مُختارٍ ،والمقام مقام
جَدلٍ بين الكفار وبين رسول ال ،وهذه الية يتلوها رسول ال على أسماعهم ويخبر أنه إذا قال
لهم } :الّذِي َفطَ َركُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ[ { ..السراء ]51 :فسينغضون رؤوسهم.
فكان في وُسْع هؤلء أنْ يُكذّبوا هذا القول ،فل يُنغِضون رؤوسهم لرسول ال ويمكرون به في هذه
ن يعترضوا على هذا القول ويتهموه ،ولكن الحق سبحانه غالبٌ على
المسألة ،ولهم بعد ذلك أ ْ
سمْعهم وأبصارهم ،ومع ذلك لم يقولوا ،مما يدلّ على غباء
حتَ َ
أمره ،فهاهي الية تُتْلىَ عليهم وت ْ
حمْق تفكيرهم.
الكفار و ُ
وما أشبه هذا الموقف منهم بموقفهم من حادث تحويل القبلة حينما قال الحق سبحانه لنبيه صلى
سمَآءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا[} ..البقرة]144 :
ج ِهكَ فِي ال ّ
ال عليه وسلمَ {:قدْ نَرَىا َتقَّلبَ وَ ْ
س َفهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا َولّهُمْ عَن قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُواْ
ثم أخبره بما سيحدث من الكفار ،فقال {:سَ َيقُولُ ال ّ
عَلَ ْيهَا }[البقرة]142 :
ي في المستقبل ،وكان بإمكانهم إذا سمعوا هذه الية َألّ يقولوا هذا القول ويجدوا
وهذا َق ْولٌ اختيار ّ
بذلك مِ ْأخَذا على القرآن ،ولكنهم مع هذا قالوا ما حكاه القرآن؛ لن الحق سبحانه يعلم أنهم
سيقولون ل محالة } :وَ َيقُولُونَ مَتَىا ُهوَ[ { ..السراء]51 :
والستفهام هنا كسابقه للنكار والتعجّب الدالّ على استبعاد البعث بعد الموت ،ولحظ هنا أن
السؤال عن الزمن ،فقد نقلوا الجدل من إمكانية الحدث على ميعاد الحدث ،وهذا تراجعٌ منهم في
النقاش ،فقد كانوا يقولون :مَنْ يُعيدنا؟ والن يقولون :متى؟ فيأتي الجواب } :عَسَىا أَن َيكُونَ قَرِيبا
{ [السراء]51 :
عسى :كلمة تفيد الرجاء ،والرجاء أمر مُتوقّع يختلف باختلف الراجي والمرجو منه ،فإذا قُلْت
مثلً :عسى فلنا أنْ يعطيك كذا ،فالرجاء هنا بعيد شيئا ما؛ لنه رجاء من غيري لك ،أما لو قلْت:
عسى أنْ أُعطيك كذا ،فهي أقرب في الرجاء؛ لنني أتحدّث عن نفسي ،وثقة النسان في نفسه
أكثر من ثقته في الخرين ،ومع ذلك قد يتغير رأييّ فل أعطيك ،أو يأتي وقت العطاء فل أجد ما
أعطيه لك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن إذا قُ ْلتَ :عسى ال أن يعطيك فل شكّ أنها أقربُ في الرجاء؛ لنك رجوت ال تعالى الذي ل
يُعجِزه شيء في الرض ول في السماء .وإنْ كان القائل هو الحق سبحانه وتعالى ،فالرجاء منه
سبحانه مُحقّق وواقع ل شكّ فيه؛ فالرجاء من الغير للغير رتبة ،ومن النسان لغيره رتبة ،ومن
ال تعالى للغير رتبة.
وقد شرح لنا الرسول صلى ال عليه وسلم مسألة القرب فقالُ " :بعِ ْثتُ أنا والساعة كهاتين " وأشار
ل بينهما ،كما أننا نقول:
بالسّبابة والوسطى؛ لنه ليس بعده رسول ،فهو والقيامة متجاوران ل فاص َ
ُكلّ آتٍ قريب ،فالمر التي مستقبلً قريب؛ لنه قادم ل محالةَ.
ح ْم ِدهِ وَتَظُنّونَ إِن لّبِثْتُمْ ِإلّ قَلِيلً {.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ي ْومَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْ َتجِيبُونَ بِ َ
()2064 /
هذا في يوم القيامة ،حيث ل يستطيع أحدٌ الخروجَ عن مُرادات الحق سبحانه بعد أن كان يستطيع
الخروج عنها في الدنيا؛ لن الخالق سبحانه حين خلق الخَلْق جعل للرادة النسانية سلطانا على
الجوارح في المور الختيارية ،فهو ُمخْتَار يفعل ما يشاء ،ويقول ما يشاء ،ويترك ما يشاء،
فإرادته أمير على جوارحه ،أما المور القهرية فل دَخْل للرادة بها.
فإذا جاء اليوم الخر انحّلتْ الرادة عن الجوارح ،ولم َيعُدْ لها سلطان عليها ،بدليل أن الجوارح
طقَ
طقَنَا اللّهُ الّذِي أَن َ
شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ
سوف تشهد على صاحبها يوم القيامةَ {:وقَالُواْ لِجُلُودِ ِهمْ ِلمَ َ
شيْءٍ[} ..فصلت]21 :
ُكلّ َ
لقد كانت لكم َولَية علينا في دُنْيا السباب ،أما الن فنحن جميعا مرتبطون بالمسبّب سبحانه ،فل
ولية لكم علينا الن؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن يوم القيامةّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ
ا ْل َقهّارِ }[غافر]16 :
ففي الدنيا ملّك الناس ،وجعل مصالح أُناسٍ في أيدي آخرين ،أما في الخرة ،فالمر كله والملْك
كله ل وحده ل شريك له.
فقوله تعالىَ { :يوْمَ يَدْعُوكُمْ[ } ..السراء ]52 :أي :يقول لكم اخرجوا من القبور للبعث بالنفخة
ح ْم ِدهِ[ } ..السراء ]52 :أي :تقومون في طاعة واستكانة ،ل
الثانية في الصّور { فَ َتسْتَجِيبُونَ بِ َ
قوْمةَ مُسْتنكف أو مُتقاعس أو مُتغطرس ،فكلّ هذا انتهى وقته في الدنيا ،ونحن الن في الخرة.
ونلحظ أن الحق سبحانه قال { :فَتَسْتَجِيبُونَ[ } ..السراء ]52 :ولم يقل :فتُجيبون؛ لن استجاب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أبلغُ في الطاعة والنصياع ،كما نقول :فهم واستفهم أي :طلب الفَهْم ،وكذلك { فَتَسْ َتجِيبُونَ } أي:
تطلبون أنتم الجواب ،وتُلحّون عليه ل تتقاعسون فيه ،ول تتأ ّبوْن عليه ،فتُسرعون في القيام.
حمْ ِدهِ[ } ..السراء ]52 :أي :تُسرعون في القيام حامدين ال
ليس هذا وفقط ،بل { :فَتَسْ َتجِيبُونَ بِ َ
شاكرين له ،ولكن كيف والحمد ل يكون إل على شيء محبوب؟
نعم ،إنهم يحمدون ال تعالى؛ لنهم عاينوا هذا اليوم الذي طالما ذكّرهم به ،ودعاهم إلى اليمان
به ،والعمل من أجله ،وطالما ألحّ عليهم ودعاهم ،ومع ذلك كله جحدوا وكذّبوا ،وها هم اليوم
يَروْنَ ما كذّبوه وتتكشّف لهم الحقيقة التي أنكروها ،فيقومون حامدين ل الذي نبّههم ولم يُقصّر في
نصيحتهم .كما أنك تنصح ولدك بالمذاكرة والجتهاد ،ثم يخفق في المتحان فيأتيك معتذرا :لقد
نصحتني ولكني لم أستجبْ.
إذن :فبيانُ الحق سبحانه لمور الخرة من ال ّنعَم التي ل يعترف بها الكفار في الدنيا ،ولكنهم
سيعترفون بها في الخرة ،ويعرفون أنها من أعظم ِنعَم ال عليهم ،ولكن بعد فوات الوان.
لذلك اعترض المستشرقون على قوله تعالى في سورة (الرحمن) {:فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ }[الرحمن:
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
[الرحمن ]34 :بعد قوله تعالى {:يُرْ َ
]34فالية في نظرهم تتحدث عن ِنقْمة وعذاب ،فكيف يناسبها:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عيٌ لنعُدّ اليام ،فاسأل العَادّين الذين يستطيعون العدّ.
أي :لم يكُنْ لدينا وَ ْ
وفي قصة العزيز الذي أماته ال مائة عام ،ثم بعثه {:قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ
َيوْمٍ[} ..البقرة ]259 :على ُمقْتضى العادة التي أَلفَها في نومه ،فيُوضّح له ربه {:بَل لّبِ ْثتَ مِاْئَةَ عَامٍ
حمَا ِركَ }[البقرة]259 :
طعَا ِمكَ وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَ َتسَنّ ْه وَانْظُرْ إِلَىا ِ
فَانْظُرْ إِلَىا َ
فالمدّة في نظر العزيز كانت يوما أو بعض يوم ،والحق سبحانه أخبر أنها مائة عام ،فال َبوْنُ شاسع
بينهما ،ومع ذلك فالقوْلَن صادقان .والحق سبحانه أعطانا الدليل على ذلك ،فقد بعث العُزَيز من
موته ،فوجد حماره عظاما بالية يصدُق عليها القول بمائة عام ،ونظر إلى طعامه وشرابه فوجده
كما هو لم يتغير ،وكأنّ العهدَ به يوم أو بعض يوم ،ولو مَرّ على الطعام مائة عام لتغيّر بل لتحلّل
ولم يَ ْبقَ له أثر.
وكأن الخالق سبحانه قبض الزمن وبَسَطه في وقت واحد ،وهو سبحانه القابض الباسط ،إذنَ :ق ْولُ
الحق سبحانه مائة عام صِدْق ،وقول العُزَيز } َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ { صِدْق أيضا ،ول يجمع
الضّدّيْن إل خالق الضداد سبحانه وتعالى.
وبعد أن تكلم القرآن عن موقف الكفار من اللوهية ،وموقفهم من النبوة وتكذيبهم للنبي صلى ال
عليه وسلم ،ثم عن موقفهم من منهج ال وكفرهم بالبعث والقيامة ،أراد سبحانه أنْ يُعطينا الدروس
حسَنُ إِنّ الشّيْطَانَ
التي تُربّب منهج ال في الرض ،فقال تعالىَ } :وقُل ّلعِبَادِي َيقُولُواْ الّتِي ِهيَ أَ ْ
يَن َزغُ بَيْ َن ُهمْ {.
()2065 /
ع ُدوّا مُبِينًا (
َوقُلْ ِلعِبَادِي َيقُولُوا الّتِي ِهيَ أَحْسَنُ إِنّ الشّ ْيطَانَ يَنْ َزغُ بَيْ َنهُمْ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ َ
)53
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للشيطان {:أَأَن ُتمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َه ُؤلَءِ أَمْ هُ ْم ضَلّوا السّبِيلَ }[الفرقان]17 :
فسمّاهم عبادا رغم ضللهم وكفرهم.
حسَنُ } [السراء]53 :
وقوله تعالىَ { :يقُولُواْ الّتِي ِهيَ أَ ْ
أي :العبارة التي هي أحسن ،وكذلك ال ِفعْل الذي هو أحسن .والمعنىُ :قلْ لعبادي :قولوا التي هي
أحسن يقولوا التي هي أحسن؛ لنهم مُؤتمرون بأمك مُصدّقون لكَ.
و { الّتِي ِهيَ َأحْسَنُ } تعني :الحسن العلى الذي تتشقّق منه كُل أَحْسَنيات الحياة ،والحسن هو
اليمان بال بشهادة أن ل إله إل ال ،هذه أحسن الشياء وأولها ،لذلك كان صلى ال عليه وسلم
يقول " :خَيْرُ ما قُلْتُه أنا والنبيون من قبلي :ل إله إل ال " ".
ت تؤمن بال فلن تتلقّى إل
لن من باطنها ينبتُ كل حسن ،فهي الحسن والكبيرة؛ لنك ما ُد ْم َ
عنه ،ولن تخاف إل منه ،ولن ترجوَ إل هو ،وهكذا يحسُن أمرك كلّه في الدنيا والخرة.
وأنت حين تقول :ل إله إل ال ،ل تقولها إل وأنت مؤمن بها؛ لنك تريد أنْ تُشيِعها فيمن سمعك،
ول تكتفي بنفسك فقط ،بل تحب أنْ يُشاركك الخرون هذا الخير؛ لذلك إذا أردنا أن ننطقَ بهذه
الكلمة نقول :أشهد أن ل إله إل ال .فمعنى أشهد يعني عند مَنْ لم يشهد ،فكأن إيمانك بها دَعاك
إلى َنقْلها إلى الناس ،وبثّها فيما بينهم.
ويمكن أن نقول { الّتِي ِهيَ َأحْسَنُ } الحسن هو :كل كلمة خير ،أو الحسن هو :الجدل بالتي هي
أحسن ،كما قال تعالى {:وَجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ }[النحل]125 :
أو نقول :الحسن يعني التمييز بين القوال المتناقضة وفَرْزها أمام العقل ،ثم نختار الحسن منها،
فنقول به.
فالحسن ـ إذن ـ تَشيُع لتشمل ُكلّ حَسَن في أيّ مجال من مجالت القوال أو الفعال ،ولنأخذ
مثلً مجال الجدل ،وخاصة إذا كان في سبيل إعلء كلمة ال ،فل شكّ أن المعارض كَا ِرهٌ لمبدئك
ظتَ له القول أو اخترتَ العبارة السيئة فسوف ينتقل الخلف بينكما
سوْتَ عليه وأغل ْ
العام ،فإنْ َق َ
عدَاء شخصي.
من خلف في مبدأ عام على َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكّ ،فادفع بالتي هي أحسن من غير تجربة،
ذلك ،إنك تحاول أنْ تُجرّب مع ال ،والتجربة مع ال َ
وسوف يتحول العدو أمامك إلى صديق.
ي ومِنَ الذِي ا ْدفَع ـ فَدَيْتُك ـ بالتِي حتّى تَرَى
ن الت ِ
ع قول الشاعر:يَا مَنْ ُتضَا ِيقُه ال ِفعَالُ مِ َ
وما أرو َ
فَإذَا الذِيلكن ،لماذا نقول التي هي أحسن؟
لن الشيطان ينزغ بينكم } :إِنّ الشّ ْيطَانَ يَن َزغُ بَيْ َن ُهمْ[ { ..السراء ]53 :والنزْغ هو َنخْس الشيطان
ووسوسته ،وقد قال تعالى في آية أخرى {:وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ }
[العراف]200 :
فإن كنْت مُنتبِها له ،عارفا بحيله فذكرتَ ال عند نَخْسه ونَزْعه انصرف عنك ،وذهب إلى غيرك؛
سوَاسِ الْخَنّاسِ }[الناس ]4 :أي :الذي يخنس ويختفي
لذلك يقول تعالى عن الشيطان {:مِن شَرّ ا ْلوَ ْ
إذا ُذكِرَ ال ،لكن إذا رأى منك ضعفا وغفلة ومرّتْ عليك حِيَلُة ،واستجبتَ لوساوسه ،فقد أصبحت
فريسة سهلة بين أنيابه ومخالبه.
حذّره من هذا العدو ،فينزغه
س للمؤمن واختبار لنتباهه و َ
وعادةً تأتي خواطر الشيطان وكأنها ِمجَ ّ
الشيطان مرّة بعد أخرى لِيُجرّبه ويختبره .فإذا كان النزغ هكذا ،فأنت حين تجادل بالتي هي أحسن
ل تعطي للشيطان فُرْصة لنْ يُؤجّج العداوة الشخصية بينكما ،فيُزيّن لك شَتْمه أو َلعْنه ،وهكذا
يتحول الخلف في المبدأ العام إلى عداوة ذاتية شخصية.
لذلك إذا رأيتَ شخصين يتنازعان ل صِلَة لك بهما ،ولكن ضايقك هذا النزاع ،فما عليك إل أنْ
تقول :أعوذ بال من الشيطان الرجيم ثلثا ،وأتحدّى أن يستمر النزاع بعدها ،إنها الماء البارد الذي
يُطفئ نار الغضب ،ويطرد الشيطان فتهدأ النفوس ،وما أشبهك في هذا الموقف برجل الطفاء
الذي يسارع إلى إخماد الحريق ،وخصوصا إذا قلت هذه العبارة بنية صادقة في الصلح ،وليس
لك مأ َربٌ من هذا التدخّل.
والحق سبحانه يقول } :إِنّ الشّ ْيطَانَ يَن َزغُ بَيْ َنهُمْ[ { ..السراء]53 :
تلحظ أن نَزْغ الشيطان ل يقتصر على المتخاصمين والمتجادلين حول مبدأ ديني عقدي ،بل ينزغ
خوَتِي }
بين الخوة والهل والحبة ،ألم َيقُل يوسف {:مِن َبعْدِ أَن نّزغَ الشّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِ ْ
[يوسف]100 :
لقد دخل الشيطان بين أولد النبوة ،وزرع الخلف حتى بين السباط وفيهم رائحة النبوة ،ولذلك لم
يتصاعد فيهم الشر ،وهذا دليل على خَيْريتهم ،وأنت تستطيع أنْ تُميّّز بين الخيّر والشرير ،فتجد
الخيّر يهدد بلسانه بأعنف الشياء ،ثم يتضاءل إلى أهون الشياء ،على عكس الشرير تراه يُهدد
بأهونِ الشياء ،ثم يتصاعد إلى أعنف ما يكون.
سفَ َأوِ اطْ َرحُوهُ أَرْضا }[يوسف ]9 :فقال الخر وكان أميل
انظر إلى قوْل إخوة يوسف {:اقْتُلُواْ يُو ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جبّ }[يوسف ]10 :وقد اقترح هذا القتراح وفي نيته النجاة
إلى الرفق به {:وَأَ ْلقُوهُ فِي غَيَا َبتِ الْ ُ
لخيه ،بدليل قوله تعالى {:يَلْ َتقِطْهُ َب ْعضُ السّيّا َرةِ }[يوسف]10 :
وهكذا تضاءل الشر في نفوسهم.
ع ُدوّا مّبِينا { [السراء]53 :
ثم يقول تعالى } :إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلِنْسَانِ َ
أي :أن عداوة الشيطان لكم قديمة منذ أبيكم آدم ـ عليه السلم ـ فهي عداوة مسبقة ،قال عنها
شقَىا }[طه]117 :
جكَ فَلَ يُخْ ِرجَ ّن ُكمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَ ْ
ك وَلِ َزوْ ِ
الحق سبحانه {:إِنّ هَـاذَا عَ ُدوّ ّل َ
لذلك يجب على الب كما يُعلّم ابنه علوم الحياة ووسائلها أنْ يُعلّمه قصة العداوة الولى بين
الشيطان وآدم ـ عليه السلم ـ ويُعلمه أن خواطر الخير من ال وخواطر الشر من الشيطان،
فليكُنْ على حَذَر من خواطره ووساوسه ،وبذلك يُربّي في ابنه مناعة إيمانية ،فيحذر كيد الشيطان
ونَزْغه ،ويعلم أن كل أمر يخالف أوامر الشرع فهو من الشيطان ،وهذه التربية من الباء تحتاج
إلى إلحاح بها على البناء حتى ترسخ في أذهانهم.
ع ُدوّا مّبِينا { [السراء ]53 :أي :كان ول يزال .وإلى
فقوله تعالى } :إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلِنْسَانِ َ
يوم القيامة بدليل قوله {:لَئِنْ َأخّرْتَنِ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة لَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّتَهُ ِإلّ قَلِيلً }[السراء]62 :
أي :لتعهّدنّهم بالضلل والغواية إلى يوم القيامة.
ح ْمكُمْ َأوْ إِن يَشَأْ ُيعَذّ ْب ُك ْم َومَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ
ثم يقول الحق سبحانه } :رّ ّب ُكمْ أَعْلَمُ ِبكُمْ إِن َيشَأْ يَرْ َ
َوكِيلً {.
()2066 /
ح ْمكُمْ َأوْ إِنْ يَشَأْ ُي َعذّ ْبكُ ْم َومَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَ ْي ِه ْم َوكِيلًا ()54
رَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبكُمْ إِنْ يَشَأْ يَ ْر َ
في هذه الية إشارة إلى طلقة المشيئة اللهية ،فالحق سبحانه إنْ شاء يرحمنا بفضله ،وإنْ شاء
يُعذّبنا بعدله؛ لن الحق سبحانه لو عاملنا بميزان عدله ما نجا منّا أحد ،ولو جلس أحدنا وأحصى
ماله وما عليه لوجد نفسه ل محالةَ واقعا تحت طائلة العقاب؛ لذلك يَحسُن بنا أن ندعوُ ال بهذا
الدعاء " :اللهم عاملنا بالفضل ل بالعدل ،وبالحسان ل بالميزان ،وبالجبر ل بالحساب ".
والحق تبارك وتعالى ل يُيئس ال ُعصَاة من فضله ،ول يملي لهم بعدله ،بل يجعلهم بين هذه وهذه
ليكونوا دائما بين الخوف والرجاء.
وحينما كان المسلمون الوّلون يتعرضون لشتى ألوان الهانة والتعذيب ول يجدون مَنْ يمنعهم من
هذا التعذيب ،فكانوا يذهبون إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يشكون إليه ما ينزل بهم ،فرسول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال ينظر في أنحاء العالم من حوله بحثا عن المكان المناسب الذي يلجأ إليه هؤلء المضطهدون،
ويأمرهم بالهجرة إلى الحبشة ويقول " :إن فيها ملكا ل ُيظْلَم عنده أحدٌ ".
لقد كانوا في مرحلة ل يستطيعون فيها الدفاع عن أنفسهم ،فالضعيف منهم عاجز عن المواجهة،
والقوي منهم ل يستطيع حماية الضعيف؛ لنه كان يذهب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم
فيقترح عليه الرد على الكفار ومواجهتهم بكذا وكذا ،فكان صلى ال عليه وسلم يقول لهم " :لم
أومر ،لم أومر.." ..
لن ال تعالى أراد َألّ يبقي لليمان جندي إل وقد مَسّه العذاب ،وذاق ألوان الضطهاد ليربي فيهم
الصبر على الذى وتحمّل الشدائد؛ لنهم سيحملون رسالة النسياح بمنهج ال في الرض ،ول
شكّ أن القيام بمنهج ال يحتاج إلى صلبة وإلى قوة ،فل ُبدّ من تمحيص المؤمنين ،لذلك حدث
للسلم في عصر النبوة أحداث وشدائد ،ومرّت به عقبات مثل تعذيب المؤمنين وإيذائهم وحادث
السراء والمعراج.
وكانت الحكمة من هذه الحداث تمحيص المؤمنين وغربلة المنتسبين لدين ال ،حتى ل يبقى إل
حمْل منهج ال ،والنسياح به في شتّى بقاع الرض ،وحتى ل يبقى في
القوي المأمون على َ
صفوف المؤمنين مَنْ يحمل راية اليمان لمغنَم دنيوي ،فالغنيمة في السلم ليست في الدنيا بل في
جنة عَ ْرضُها السماوات والرض.
لذلك ،ففي بيعة العقبة الثانية قالوا لرسول ال صلى ال عليه وسلم :سل يا محمد لربك ما شئت،
ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت ،ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على ال وعليكم إذا فعلنا ذلك " .قال:
أسألكم لربي أن تعبدوه ول تشركوا به شيئا ،وأسألكم لنفسي ولصحابي أن تؤوونا وتنصرونا
وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم ،قالوا :فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ فماذا قال لهم رسول ال؟ أقال لهم
تملكون الدنيا؟ ل ،بل قال " :لكم الجنة " قالوا :فلك ذلك ".
فهذه هي الجائزة الحقيقية التي ينبغي أن يفوز بها المؤمن؛ لنه من الجائز أن يموت أحدهم بعد
أن أعطى رسول ال هذا العهد ولم يدرك شيئا من خير الدنيا في ظل السلم ،إذن :فالنبي صادق
في هذا الوعد .وما دام الجزاء هو الجنة فل بُدّ لها من جنود أقوياء يصبرون على الحداث،
ويُواجهون الفتن والمكائد.
ح ْم ُكمْ { [السراء ]54 :بالخروج من مكة مهاجرين إلى ديار
فالمعنى } :رّ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبكُمْ إِن َيشَأْ يَرْ َ
المن في الحبشة } َأوْ إِن َيشَأْ ُيعَذّ ْبكُمْ[ { ..السراء ]54 :أي :عذابا مقصودا لكي يُمحّص إيمانكم
ويُميّز المؤمنين منكم الجديرين بحمل رسالة ال ومنهجه.
ثم يقول تعالىَ } :ومَآ أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِ ْم َوكِيلً { [السراء]54 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوكيل :هو المفوّض من صاحب الشأن بفعل شيء ما ،والمراد :ما أرسلناك إل للبلغ ،ولستَ
مسئولً بعد ذلك عن إيمانهم ،ولستَ وكيلً عليهم؛ لن الهداية والتوفيق لليمان بيد الحق سبحانه
وتعالى.
إذن :قول الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلمَ } :ومَآ أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِ ْم َوكِيلً { [السراء:
]54
ليست قهرا لرسول ال ،وليست إنقاصا من َقدْره ،بل هي رحمة به ورأفة ،كأنه يقول له :ل تُحمّل
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُمؤْمِنِينَ
نفسك يا محمد فوق طاقتها ،كما خاطبه في آية أخرى بقولهَ {:لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
}[الشعراء ]3 :فالحق ـ تبارك وتعالى ـ في هذه المسألة ل يعتب على رسوله ،بل يعتب
لصالحه ،والمتتبع لمواقف العتاب للرسول صلى ال عليه وسلم يجده عِتَابا لصالحه صلى ال عليه
وسلم رحمةً به ،وشفقةً عليه ،ل كما يقول البعض :إن ال تعالى يُصحّح للرسول خطئا وقع فيه.
عمَىا * َومَا ُيدْرِيكَ َلعَلّهُ يَ ّزكّىا { [عبس:
س وَ َتوَلّىا * أَن جَآ َء ُه الَ ْ
ومثال لهذا قوله تعالى } :عَبَ َ
]3-1ال تعالى يعتب على رسوله صلى ال عليه وسلم؛ لنه ترك الرجل الذي جاءه سائلً عن
شقّ على نفسه بالذهاب إلى جدال هؤلء الصناديد ،وكأن الحق سبحانه يشفق على رسوله
الدين ،و َ
أن يشقّ على نفسه ،فالعتاب هنا حِرْصا على رسول ال وعلى راحته.
غفُورٌ
ك وَاللّهُ َ
جَحلّ اللّهُ َلكَ تَبْ َتغِي مَ ْرضَاتَ أَ ْزوَا ِ
وكذلك في قوله تعالى {:ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ لِمَ ُتحَرّمُ مَآ َأ َ
رّحِيمٌ }[التحريم]1 :
والتحريم تضييق على النفس ،فالحق سبحانه يعتب على رسوله صلى ال عليه وسلم؛ لنه ضيّق
سهِر طويلً في المذاكرة حتى
على نفسه ،وحرّم عليها ما أحلّه ال لها .كما تعتب على ولدك الذي َ
أرهقَ نفسه ،فالعتاب لصالح الرسول ل ضده.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :وَرَ ّبكَ أَعَْلمُ ِبمَنْ فِي ال ّ
()2067 /
قوله تعالى { :أَعَْلمُ } أفعل تفضيل تدلّ على المبالغة في العلم ،وإنْ كان الحق سبحانه أعلم فما
ن يتصفَ بالعلم ،فنقول :عالم .ولكن ال أعلم؛ لن ال تعالى ل يمنع عباده أن
دونه يمكن أ ْ
تشرئب عقولهم وتطمح إلى معرفة شيء من أسرار الكون.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمعنى أن الحق سبحانه وتعالى ل يقتصر علمه عليك يا محمد وعلى أمتك ،وقد سُبِقت الية
بقوله تعالى {:رّ ّب ُكمْ أَعْلَمُ ِبكُمْ[} ..السراء ]54 :ولكن علمه سبحانه يسَع السماوات والرض عِلْما
مُطْلقا ل يغيب عنه مثقال ذرة ،وبمقتضى هذا العلم يُقسّم ال الرزاق ويُوزّع المواهب بين العباد،
ُكلّ على حسب حاله ،وعلى َقدْر ما يُصلحه.
فإنْ رأيتَ شخصا ضيّق ال عليه فاعلم أنه ل يستحق غير هذا ،ول يُصلحه إل ما قَسَمه ال له؛
لن الجميع عبيد ل مربوبون له ،ليس بين أحد منهم وبين ال عداوة ،وليس بين أحد منهم وبين
ال نسب.
فالجميع عنده سواء ،يعطي كُلً على َقدْر استعداده عطاءَ ربوبية ،ل يحرم منه حتى الكافر الذي
ضاق صدره باليمان ،وتمكّن النفاق من قلبه حتى عشق الكفر وأحب النفاق ،فال تعالى ل يحرمه
ِممّا أحبّ ويزيده منه.
إذن :لعلمه سبحانه بمَنْ في السماوات والرض يعطي عباده على َقدْر مَا يستحقّون في المور
ال َقهْرية التي ل اختيارَ لهم فيها ،ف ُهمْ فيها سواء .أما المور الختيارية فقد تركها الخالق سبحانه
لجتهاد العبد وأَخْذ بالسباب ،فالسباب موجودة ،والمادة موجودة ،والجوارح موجودة ،والعقل
موجود ،والطاقة موجودة .إذن :على كل إنسان أن يستخدم هذه المعطيات ليرتقي بحياته على قَدْر
استطاعته.
ثم يقول تعالى { :وََلقَدْ َفضّلْنَا َب ْعضَ النّبِيّينَ عَلَىا َب ْعضٍ } [السراء]55 :
مَن الذي فضّل؟ ال سبحانه وتعالى هو الذي يُفضّل بعض النبيين على بعض ،وليس لنا نحن أن
نُفضّل إل مَنْ فضّله ال؛ لنه سبحانه هو الذي يملك أن يُجازي على حَسْب الفضل ،أما نحن فل
نملك أنْ نجازي على َقدْر الفضل.
لذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم " :ل ينبغي لعبد أن يقول :أنا خير من يونس بن متى ".
سلُ َفضّلْنَا
لن الذي يُفضّل هو ال تعالى ،وقد ُنصّ على هذا التفضيل في قوله تعالى {:تِ ْلكَ الرّ ُ
ت وَأَيّدْنَاهُ
ت وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْ َيمَ الْبَيّنَا ِ
ضهُمْ دَ َرجَا ٍ
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ مّ ْنهُمْ مّن كَلّمَ اللّ ُه وَ َرفَعَ َب ْع َ
َب ْع َ
بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ }[البقرة]253 :
فالتفضيل على حسب ما يعلمه ال تعالى من أن أُولى العزم من الرسل قد ّفضّلهم عن غيرهم ِلمَا
تحمّلوه من مشقة في دعوة أقوامهم ،ولما قاموا به من حمل منهج ال والنسياح به ،أو من طول
مُدّتهم من قومهم ..الخ فهو وحده يعلم أسباب التفضيل.
ثم يقول تعالى { :وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورا } [السراء]55 :
فلماذا ذكر داود بالذات مقترنا بالكتاب الذي أُنِزل عليه؟ قالوا :لن داود عليه السلم أُوتِي مع
الكتاب المُلْك ،فكان نبيا ملكا ،فكأن الحق سبحانه يشير إلى أن تفضيل داود ل من حيث أنه مِلك،
بل من حيث هو نبي صاحب كتاب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي الحديث الشريف يقول صلى ال عليه وسلم " :لقد خُيّ ْرتُ بين أن أكون عبدا نبيا أو نبيا ملكا،
فاخترت أن أكون عبدا نبيا ".
شفَ الضّرّ عَ ْنكُمْ
عمْتُم مّن دُونِهِ فَلَ َيمِْلكُونَ كَ ْ
ثم يقول الحق تبارك وتعالىُ { :قلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَ َ
حوِيلً }.
وَلَ َت ْ
()2068 /
حوِيلًا ()56
شفَ الضّرّ عَ ْن ُك ْم وَلَا تَ ْ
عمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا َيمِْلكُونَ َك ْ
ُقلِ ادْعُوا الّذِينَ زَ َ
ال تعالى يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم :قل للذين يُعارضونك في الوحدانية إذا مسّكم ضُرٌ
ن تكفرون به ،بل الجأوا إلى مَنْ زعمتم أنهم شركاء وآمنتم بهم .فإنهم لن
فل تلجأوا إلى مَ ْ
يستمعوا إليك؛ لن النسان بطبعه ل يخدع نفسه ،ولو علموا أن الذين يتخذونهم آلهة من دون ال
عوْا ربهم الذين يكفرون به وتركوا الذين يؤمنون بهم ،لماذا؟
ينفعونهم في شيء لما دَ َ
لن النسان ل يتمرد ول يطغى إل إذا كان مُسْتغنيا بكل ملكاته ،بمعنى أن تكون ملكاته كلها على
ضعُفَ طغيانه ،وحاول أن يستكمل هذا
هيئة الستقامة والنسجام ،فإذا اختلتْ له ملكة من الملكات َ
النقص ،وحينئذ لن يخدع نفسه بأن يطلب الستكمال ِممّن ل يملكه ،بل يطلبه ممّنْ يعتقد أنه
يملكه.
ضلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ[} ..السراء]67 :
سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ
لذلك يقول تعالى {:وَإِذَا مَ ّ
ن ضُرّ دَعَا رَبّهُ مُنِيبا إِلَ ْيهِ[} ..الزمر]8 :
س الِنسَا َ
وقال {:وَِإذَا مَ ّ
لماذا؟ لن ما أصابه من ضُرّ أضعفه ،وكسر عنده غريزة الستعلء والستكبار ،لقد كفر بال من
قبل حينما حمله التكاليف ،ولكن الن وبعد أن نزل به الضّر وأحاط به البلء فل بُدّ أن يكون
صريحا مع نفسه ل يخدعها.
وضربنا لهذه المسألة مثلً بحلق الصحة عند أهل الريف في الماضي وكان مسئولً عن صِحّة
الناس ،ويقوم مقام الطبيب في هذا الوقت ،فإذا ما عُيّن بالقرية طبيب هاجمه الحلق وأفسد ما بينه
وبين الناس ،وأشاع عنه عدم العلم وقِلّة الخبرة ليخلوَ له وجه الناس ،ول يشاركه أحد في رزقه،
خفْيةً بليْل ،ويتسلل به إلى
ومرّت اليام وأصيب الحلق بضُرّ ،حيث مرض ولد له ،فإذا به يحمله ُ
الطبيب ،ولكن سرعان ما ينكشف أمره ويُفتضح بين الناس.
إذن :النسان في ساعة الضر ل يخدع نفسه ول يكذب عليها ،فقل لهم :إذا مسكم الضر فاذهبوا
عوْهم فلن يكشفوا عنهم
إلى مَن ادعيتم أنهم آلهة وأدعوهم ،فإنهم لن يستجيبوا ولن يدعوهم ،ولو دَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شفَ الضّرّ عَ ْن ُكمْ[ } ..السراء]56 :
ضرهم { :فَلَ َيمِْلكُونَ َك ْ
حوِيلً } [السراء ]56 :أي :ول يملكون تحويل حالكم من الضر إلى النفع أو
وقوله تعالى { :وَلَ َت ْ
النعمة أو الرحمة ،أو :ل يملكون تحويل هذا الضر إلى أعدائكم ،فهم ـ إذن ـ ل يملكون هذه
ول هذه.
فالحق سبحانه يُلقّن رسوله صلى ال عليه وسلم الحجة ،ليوضح لهم أنهم يغالطون أنفسهم،
ويعارضون مواجيدهم وفطرتهم ،فإن أصابهم الضر في ذواتهم ل يلجأون إلى آلهتهم؛ لنهم
يعلمون أنها ل تملك لهم نفعا ول ضرا ،ولن تسمعهم ،وإن سمعتهم ـ فرضا ـ ما استجابوا لهم،
ويوم القيامة يكفرون بشركهم ،بل يلجأون إلى ال الذي يملك وحده كَشْف الضّر عنهم.
ثم يقول الحق سبحانه { :أُولَـائِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْ َتغُونَ إِلَىا رَ ّبهِمُ ا ْلوَسِيلَةَ.} ...
()2069 /
عذَابَهُ إِنّ
حمَتَ ُه وَ َيخَافُونَ َ
أُولَ ِئكَ الّذِينَ َيدْعُونَ يَبْ َتغُونَ إِلَى رَ ّبهِمُ ا ْلوَسِيلَةَ أَ ّي ُهمْ َأقْ َربُ وَيَرْجُونَ رَ ْ
حذُورًا ()57
عَذَابَ رَ ّبكَ كَانَ مَ ْ
فهؤلء الذين تعتبرونهم آلهة وتتخذونهم شركاء ل ،هؤلء أيضا عبيد ل ،يتقربون إليه ويتوسّلون
إليه ،فالمسيح الذي أشركتموه مع ال ،وكذلك الملئكة هم عباد ل {:لّن يَسْتَن ِكفَ ا ْلمَسِيحُ أَن َيكُونَ
عَبْدا للّ ِه َولَ ا ْلمَل ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ }[النساء]172 :
هؤلء ل يرفضون ول يتأ ّبوْن أن يكونوا عبادا ل ،ويريدون التقرّب إليه سبحانه ،فكيف ـ إذن ـ
تتوجهون إليهم بالعبادة وهم عباد؟
وقوله تعالى { :يَبْ َتغُونَ ِإلَىا رَ ّبهِمُ ا ْلوَسِيَلةَ[ } ..السراء ]57 :أي :يطلبون الغاية والقربى إليه
تعالى { أَ ّيهُمْ َأقْ َربُ } أي :كلما تقر ّب واحد منهم إلى ال ابتغى الَ أكثرَ من غيره وأقبل عليه،
فإذا كان القرب إلى ال منهم يبتغي القُرْبى ،فما بال البعد؟
وقوله تعالى { :إِنّ عَذَابَ رَ ّبكَ كَانَ َمحْذُورا } [السراء]57 :
ك منه ول مهرب ،وأيضا
أي :يجب الحذر منه وتجنّب أسبابه؛ لن العذاب إذا كان من ال فل فِكا َ
فالعذاب يتناسب مع قدرة المعذّب ضعفا وشدة ،فإذا نُسِب العذاب إلى ال فل شكّ أنه أليم شديد ،ل
خ َذهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود]102 :
طاقة لحد به ،كما قال تعالى {:إِنّ أَ ْ
والحق سبحانه قد أوضح لنا مسألة الوحدانية في آيات كثيرة ،ولم يطلب منا العتراف بها إل بعد
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ
أنْ شهد بها لنفسه سبحانه ،وبعد أن شهد بها الملئكة وأولو العلم ،قال تعالىَ {:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إِلَـاهَ ِإلّ ُه َو وَا ْلمَلَ ِئكَةُ وَُأوْلُواْ ا ْلعِ ْلمِ }[آل عمران]18 :
فشهد ال سبحانه شهادة الذات للذات ،وشهدتْ الملئكة شهادة المشهد والمعاينة ،وشهد أولو العلم
شهادة الستدلل ،فهذه شهادات ثلث قبل أنْ يطلب مِنّا الشهادة.
وبهذه الشهادة أقبل الحق سبحانه على مزاولة سلطانه وقدرته في الكون ،وما دام { لَ إِلَـاهَ ِإلّ
ن فيكون ،قالها لنه يعلم أنه ل إله إل هو ،وبها يحكم على الشياء ويُغيّر
ُهوَ } يقول للشيء :كُ ْ
حتْ هذه الشهادة الثلثة فقد انتهت المسألة .وإنْ لم تصح وهناك إله
من وضع إلى وضع ،فإنْ ص ّ
آخر فأين هو؟! إنْ كان ل يدري فهو إله نائم ل يصلح لهذه المكانة ،وإن كان يدري فلماذا لم
يطالب بحقه.
إذن :فهذه الدّعْوى قد سلمتْ للحق سبحانه لنه لم يدّعها أحد لنفسه ،فهي للحق تبارك وتعالى حتى
يقوم مَنْ يدعيها لنفسه.
قال تعالىُ {:قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َتغَوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء]42 :
أي :لو كان للكون إله آخر لطلبوا هذا الله الذي استقرتْ له المور واستتبّ له الحال ،ليُجادلوه
في هذه المسألة ،أو لطلبوه ليتقربوا إليه.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَإِن مّن قَرْ َيةٍ ِإلّ نَحْنُ ُمهِْلكُوهَا قَ ْبلَ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ َأوْ ُمعَذّبُوهَا عَذَابا
شَدِيدا.} ...
()2070 /
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلّا َنحْنُ ُمهِْلكُوهَا قَ ْبلَ َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ َأوْ ُمعَذّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَِلكَ فِي ا ْلكِتَابِ
مَسْطُورًا ()58
ساعةَ أنْ تسمعَ { وَإِن مّن قَرْيَةٍ ِإلّ } فاعلم أن السلوب قائم على نفي وإثبات ،فالمعنى :ل توجد
قرية إل وال مُهلِكها قبل يوم القيامة ،أو مُعذّبها عذابا شديدا ،لكن هل كل القرى ينسحب عليها
هذا الحكم؟
نقول :ل ،لن هذا حكم مطلق والطلقات في القرآن تُقيّدها قرآنيات أخرى ،وسوف نجد مع هذه
الية قول الحق سبحانه {:ذاِلكَ أَن لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا ِبظُلْ ٍم وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ }[النعام]131 :
وقال تعالىَ {:ومَا كَانَ رَ ّبكَ لِ ُيهِْلكَ ا ْلقُرَىا ِبظُلْمٍ وَأَهُْلهَا ُمصْلِحُونَ }[هود]117 :
فهذه آيات مُخصّصة تُوضّح الستثناء من القاعدة السابقة ،وتُقيّد المبدأ السابق والسور العام الذي
جاءت به الية ،فيكون المعنى ـ إذن ـ وإنْ من قرية غير غافلة وغير مُصلِحة إل وال مُهلكها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أو مُعذّبها.
وقوله { :وَإِن مّن قَرْيَةٍ ِإلّ َنحْنُ ُمهِْلكُوهَا قَ ْبلَ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ َأوْ ُم َعذّبُوهَا } [السراء]58 :
{ ُمهِْلكُوهَا } أي :بعذاب الستئصال الذي ل يُبقِى منهم أحدا.
{ ُمعَذّبُوهَا } أي :عذابا دون استئصال.
لن التعذيب مرحلة أولى ،فإنْ أتى بالنتيجة المطلوبة وأعاد الناس إلى الصواب فبها و ِنعْمتْ
وتنتهي المسألة ،فإنْ لم يقتنعوا وأصرّوا ولم يرتدعوا وعاندوا يأتي الهلك ،وهذا واضح في قول
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَ َرتْ
الحق سبحانهَ {:وضَرَبَ اللّهُ مَثَلً قَرْيَةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ
خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }[النحل]112 :
بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَا ْل َ
والواقع أن في حاضرنا شواهدَ عدة على هذه المسألة ،فل بُ ّد ليّ قرية طغتْ وبغَتْ أن ينالها
شيء من العذاب ،والمثلة أمامنا واضحة ،ول داعيَ لذكرها حتى ل ننكأ جراحنا.
وطبيعي أن يأتي العذاب قبل الهلك؛ لن العذاب إيلم حيّ يشعر بالعذاب ويُحِسّ به ،والهلك
إذهاب للحياة ،وهذا يمنع الحساس بالعذاب.
وباستقراء تاريخ المم السابقة نلحظ ما حاق بهم من سُنّة إهلك الظالمين ،فقوم نوح وعاد وثمود
وقوم لوط نزل بهم عذاب ال الذي ل يُرَدّ عن القوم الكافرين ،ولكنه كان عذاب استئصال؛ لن
النبياء في هذا الوقت لم يكونوا مُطَالَبين بحمل السلح لنشر دعوتهم ،فكان عليهم البلغ ،والحق
سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى تأديب المخالفين .إل إذا طلب أتباع النبي الجهاد معه لنشر دعوته،
كما حدث من أتباع موسى عليه السلم {:إِذْ قَالُواْ لِنَ ِبيّ ّلهُمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَلِكا ّنقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ
َهلْ عَسَيْ ُتمْ إِن كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ َألّ ُتقَاتِلُواْ قَالُو ْا َومَا لَنَآ َألّ ُنقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ َوقَدْ أُخْ ِرجْنَا مِن
دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْاْ ِإلّ قَلِيلً مّ ْن ُهمْ }[البقرة]246 :
ن يفرضَ عليهم ثم
حمْل السلح ،ولكن حذّرهم نبيهم ،وخشي أ ْ
وهكذا طلب بنو إسرائيل القتال و َ
يتقاعسوا عنه ،وهذا ما حدث فعلً ولم يَبْق معه إل قليل منهم ،وهذا القليل سرعان ما تراجع هو
أيضا واحدا بعد الخر.
إذن :ال ِهمّة النسانية في هذا الوقت لم يكُنْ عندها استعداد ونضج لنْ تحملَ سلحا في سبيل ال،
فكان على الرسول أنْ يُبلّغ ،وعلى السماء أنْ تُؤدّب بهذا اللون من العذاب الذي يستأصلهم فل
يُبقى منهم أحدا.
أما في أمة محمد صلى ال عليه وسلم فقد رحمنا ربنا تبارك وتعالى من هذا العذاب ،فقالَ {:ومَا
كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِمْ }[النفال]33 :
وهذه هي كرامات ال تعالى لرسوله ،فلم يأخذ قومه بعذاب الستئصال ،لماذا؟ لن رسولهم آخر
الرسل وخاتم النبياء ،وسوف يُنَاطُ بهم حَملُ رسالته ونَشْر دعوته ،والنسياح بمنهج ال في شتى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بقاع الرض.
ذلك لن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يرسل منهجه إلى الرض يُقدّر غفلة الناس عن
المنهج ،ويُقدّر فكرة التأسّي بالجيل السابق ،فهذان مُعوّقان في طريق منهج ال ،يقول تعالى {:وَِإذْ
ش ِهدْنَآ
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا َ
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َت ُه ْم وَأَ ْ
خذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
أَ َ
أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْبلُ َوكُنّا ذُرّيّةً
مّن َبعْدِ ِهمْ }[العراف]173-172 :
فأوضح لنا الحق سبحانه أن النسان يتخبّط أو ينحرف عن المنهج ،إما بسبب تقليد أعمى لُسْوة
ن تلقى عن ال آدم ،ثم بلّغ ذريته منهج ال ،وبمرور الجيال حدثتْ الغفلة عن
سيئة ،فأول مَ ْ
حبّ للشهوات ،وهذه الشهوات هي التي تصرفه عن
بعض المنهج نتيجة ما ُركّب في النسان من ُ
منهج ربه ،فإنْ حدثت غفلة في جيل فإنها سوف تزداد في الجيل التالي ،وهكذا؛ لن الجيل سيقع
تحت مُؤثّرين :الغفلة الذاتية فيه ،والتأسي بالجيل السابق.
إذن :بتوالي الجيال وازدياد الغفلة عن المنهج ل بُدّ أن الحق سبحانه سيبعث في مواكب الرسل
مَنْ يُنبّه الناس.
جتْ
جتْ للناس {:كُنْ ُتمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
ومن هنا كانت أمة محمد صلى ال عليه وسلم خَيْر أمة أُخ ِر َ
لِلنّاسِ[} ..آل عمران ]110 :لماذا؟{ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّهِ }[آل
حمْل رسالة الدعوة ،وقد كرّم ال أمة محمد بأنْ جعل
عمران ]110 :فخيرية هذه المة ناشئة من َ
كل مَنْ آمن به يحمل دعوته إلى يوم القيامة ،لقد بلّغ الرسول من عاصروه مَنْ أمته ،وعلى أمته
أن تُبلّغ مَنْ بعده؛ لذلك يشهد علينا رسول ال ،ونشهد نحن على الناس.
وفي الحديث الشريف " نضّر ال امرءا سمع مقالتي فوعاها ،ثم أدّاها إلى مَنْ لم يسمعها ،فَ ُربّ
مُبلّغ َأوْعَى من سامع ".
وهكذا تظل في المة هذه الخيرية وتحمل دعوة رسولها حيث ل رسول من بعده إلى يوم القيامة،
ولهمية هذا الدور الذي يقوم به المسلمون في كل زمان ومكان يُنبّهنا رسول ال صلى ال عليه
حمْل الدعوة ونَشْرها ،فيقول:
وسلم إلى مسألة هامة في مجال َ
" إن كل واحد منكم يقف على ثغرة من ثغرات هذا الدين ،فإياكم أن يؤتى الدين من ثغرة أحدكم "
أو كما قال.
فليعلم كل مسلم أنه محسوب للدين أو عليه ،فالعيون تتطلع إليه وتَ ْرصُد تصرفاته في مجتمعه ،فهو
صورة للدين وسفير له ،وعليه أن يراعي هذه المسئولية ويقوم بها على أكمل وجه ليكون أداة
جذْب ،وليكون وجها مشرقا لتعاليم هذا الدين.
َ
فأنت حارس على باب من البواب ،وعليك أنْ تسدّه بصدق انطباعك عن اليمان ،وبصدق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
انقيادك لقضايا السلم ،وبهذا السلوك تكون وسيلة إغراء للخرين الذين يراودهم اليمان،
ويتراءى لهم منهج ال من بعيد.
ويحلو للبعض أن يأخذوا السلم بجريرة أهله ،ويحكموا عليه بناءً على تصرفات المنتسبين إليه،
وهذا خطأ ،فَمنْ أراد الصورة الحقيقية للسلم فليأخذْها من منابع الدين في كتاب ال وسنة
رسوله ،فإنْ رأيتَ بين المنتسبين للسلم سارقا فل ت ُقلْ :هذا هو السلم؛ لن السلم حرّم
حدّا ُيقَام على السارق ،وليس لحد أن يكون حجة على دين ال.
السرقة ،وجعل لها عقوبة و َ
لذلك فإن كبار العلماء والمفكرين الذين درسوا في الدين السلمي لم ينظروا إلى تصرّفات
المسلمين وحاضرهم ،بل أخذوه من منابعه الصلية .ومنهم " جينو " الفرنسي الذي قال :الحمد ل
الذي هداني للسلم قبل أن أعرف المسلمين .لنه في الحقيقة لو اطلع على أحوالنا الن َلكَان في
المسألة كلم آخر.
عدْل وإنصاف ل بُدّ أن يهتدوا إلى السلم ،لكن منهم
إذن :الذين نظروا إلى قضايا السلم نظرة َ
مَنْ نظر إليه نظرة عَدْل وإنصاف إل أنهم أبعدوا قضية التديّن من قلوبهم ،وإن اقتنعتْ بها
عقولهم ،وفَرْق كبير بين القضية العقلية والقضية القلبية.
ومن هؤلء الكاتب الذي أّلفَ كتابا عن العظماء في التاريخ وأسماه " :العظماء مائة أعظمهم محمد
بن عبد ال " وهو كاتب غير مؤمن ،لكنه أخذ يستقرئ صفحة التاريخ ،ويسجّل أصحاب العمال
الجلية التي أثّرت في تاريخ البشرية ،فوجدهم مائة ،وبالمقارنة بينهم وجد أن أعظمهم محمد صلى
ال عليه وسلم ،ومع ذلك لم يتربّ محمد في مدرسة ،ولم يتخرج في جامعة ،ولم يجلس إلى مُعلم.
ألم تسأل نفسك أيها المؤلف :من أين أتى محمد بهذه الوليّة؟ ولماذا استحق أن يكون في المقدمة؟
لقد ذكرتَ حيثيات النبوغ في جميع شخصياتك ،من تربية ودراسة في جامعات وعلى أساتذة
وإطلع وأبحاث ،فلماذا لم تذكر حيثيات النبوغ في رسول ال؟ ألم تعلم أنه أُميّ في أمة أُميّة؟ مما
يدل على أن هذا الباحث تناول هذه القضية بعقله ل بقلبه.
حدّ
نعود إلى مسألة الهلك والعذاب؛ لنها أثارتْ خلفا بين رجال القانون في موضوع إقامة َ
الرجْم على الزاني المحصن والجَلْد للزاني غير المحصن ،فقد رأى جماعة منهم أن الجلد ثابت
بالقرآن ،أما الرجم فثابت بالسنة ،لذلك قال بعضهم بأن رجم الزاني المحصَن سنة.
وهذا قول خاطئ وبعيد عن الصواب ،لن هناك فرقا بين سُنية الدليل وسُنية الحكم ،فسُنية الدليل
أن يكون المر فَرْضا ،لكن دليله من السنة كهذه المسألة التي معنا .وكصلة المغرب مثلً ثلث
ركعات وهي فَرْض لكن دليلها من السنة ،أما سُنية الحكم فيكون الحكم نفسه سُنة يُثَاب فاعله ،ول
ُيعَاقب تاركه كالتسبيح ثلثا في الركوع مثلً.
إذن :فرجْم الزاني المحصَن فَرْض ،لكن دليله من السنة ،فالسّنة هنا سُنية دليل ،ل سنية حكم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فمَنْ يقول :إن الرجْم لم يَرِدْ به نصّ في كتاب ال ،تقول :الدليل عليه جاء في السنة ،وهي
المصدر الثاني للتشريع ،حتى على قول مَنْ قال بأن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع ،ففي
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ }[الحشر]7 :
القرآنَ {:ومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
إذن :ف ِفعْل الرسول صلى ال عليه وسلم كنصّ القرآن سواء بسواء ،وهل رجم في عهد رسول ال
ن قال قائل :فهذا ليس نصّا في الرجْم .نقول :بل
أو لم يرجم؟ رجم فعلً في عهد رسول ال ،فإ ْ
الفعل أقوى من النص قد تتأول فيه ،أما الفعل فهو صريح ل يحتمل تأويلً.
ودليل آخر على فرضية الرجم ،وهو الشاهد في هذه الية ،في قوله تعالى عن إقامة الحد على
حصَنَاتِ مِنَ ا ْل َعذَابِ[} ..النساء]25 :
صفُ مَا عَلَى ا ْل ُم ْ
المةَ {:فعَلَ ْيهِنّ ِن ْ
فيقولون :الرجْم ل يُنصّف .إذن :ليس هناك َرجْم .نقول :أنتم لم تُفرّقوا بين الرجم وبين العذاب،
فالرجم إماتة ،والعذاب إيلم لحيّ يشعر و ُيحِسّ بهذا اليلم ،والمقصود به (الجَلْد).
حصَنَاتِ مِنَ ا ْلعَذَابِ[} ..النساء ]25 :أي :من الجَلْد ،وهو الذي
إذنَ {:فعَلَ ْيهِنّ ِنصْفُ مَا عَلَى ا ْلمُ ْ
يُنصّف ،ولو كان الحكم عاما َلقَال :فعليهن نصف ما على المحصنات .فقوله {:مِنَ ا ْل َعذَابِ} ..
[النساء ]25 :دليل على وجود الرّجْم الذي ل فَرْق فيه بين حُرة وأمة.
وكذلك نلحظ التدرج من العذاب إلى الهلك في قول سليمان ـ عليه وعلى نبينا الصلة والسلم
شدِيدا َأ ْو لَذْ َبحَنّهُ[} ..النمل]21 :
عذَابا َ
ـ حينما تفقّد الطير ،واكتشف غياب الهدهد {:لُعَذّبَنّهُ َ
ولسائل أنْ يسأل :هل ل بُدّ للقرى الظالمة أن ينالها الهلك أو العذاب قبل يوم القيامة؟
نعم ل بُدّ أن يمسّهم شيء من هذا؛ لن ال تعالى لو أخّر كل العذاب لهؤلء إلى يوم القيامة
لستشرى الظلم وعمّ الفساد في الكون ،وحين يرى الناس الظالم يرتع في الحياة ،وينعم بها مع
ظلمه لغراهم ذلك بالظلم ،أما إذا رأوه وقد حاق به سوء عمله ،ونزلت به النوازل لرتدعوا عن
الظلم ،ولَعلِموا أن عاقبته وخيمة ،ولن يفلت الظالم من عذاب الدنيا قبل عذاب الخرة .أما لو
ن ل يؤمنون بها.
تأخر عذاب الظالمين إلى الخرة ،فالوَيْل ِممّ ْ
لذلك لما مات رَأْسٌ من رؤوس الظلم في الشام ،ولم يَرَ الناس أثرا لعذاب أو نقمة ،قال أحدهم :إن
وراء هذا الدار دارا ُيجَازى فيها المحسن بإحسانه ،والمسيء بإساءته؛ لنه يستحيل أنْ يُفِلتَ
الظالم من العذاب.
وفي مناقشتي مع الشيوعيين في بروكسل قلت لهم :لقد قسو ُتمْ على المخالفين لكم من الرأسماليين
والقطاعيين عام 1917وما بعدها ،فقالوا :إنهم يستحقون أكثر من ذلك ،فقد فعلوا كذا وكذا،
قُلْت :منذ متى؟ قالوا :طوال عمرهم وهم يفعلون ذلك ،فقلتُ :إذا كنتم أخذتم المعاصرين لكم
بذنوبهم ،فما بال الذين سبقوهم؟ وما حظّهم من العقاب الذي أنزلتموه بإخوانهم؟ قالوا :ما
أدركناهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن تؤمنوا باليوم الخر ،حيث سيعذب فيه هؤلء ،فإنْ أفلتوا من
قلت :إذن كان من الواجب عليكم أ ْ
عذَابا دُونَ
عذاب الدنيا جاءت الخرة لتُصفّي معهم الحساب ،كما يقول تعالى {:وَإِنّ ِللّذِينَ ظََلمُواْ َ
ذَِلكَ[} ..الطور ]47 :وأريد منكم أنْ تطلعوا على تفسير هذه الية التي نحن بصددها } :وَإِن مّن
شدِيدا كَانَ ذالِك فِي ا ْلكِتَابِ مَسْطُورا
عذَابا َ
قَرْيَةٍ ِإلّ نَحْنُ ُمهِْلكُوهَا قَ ْبلَ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ َأوْ ُمعَذّبُوهَا َ
{ [السراء]58 :
راجعوا تفسيرها في كتاب النسفي ،وسوف تجدون به أمثلة تُؤيّد هذه الية ،يقول :قرية كذا
سيحدث لها كذا ،وقرية كذا سيحدث لها كذا .وقد جاء الواقع على وفق ما قال ،إلى أن ذكر مصر
وقال عنها كلما طويلً أظن أنه يُمثّل ما أصاب مصر منذ سنة ،1952وكان مما قال عنها:
ويدخل مصر رجل من جهينة فو ْيلٌ لهلها ،وويل لهل الشام ،وويل لهل أفريقيا ،وويل لهل
الرملة ،ول يدخل بيت المقدس .اقرأوا هذا الكلم عند النسفي.
ثم يقول تعالى } :كَانَ ذالِك فِي ا ْلكِتَابِ مَسْطُورا { [السراء]58 :
أي :مُسجّل ومُسطّر في اللوح المحفوظ ،ول يقول الحق سبحانه } :كَانَ ذالِك فِي ا ْلكِتَابِ َمسْطُورا
{ [السراء ]58 :وتأتي الحداث بغير ذلك ،بل ل بُدّ أنْ يؤكد هذه الحقائق القرآنية بأحداث كونية
واقعية.
لوّلُونَ{ ...
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن كَ ّذبَ ِبهَا ا َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّ ْر ِ
()2071 /
اليات :جمع آية ،وهي المر العجيب الذي يلفت النظر ويسترعى النتباه ،وهذه اليات إما أن
تكون آيات كونية نستدل بها على قدرة المدبّر العلى سبحانه مثل المذكورة في قوله تعالىَ {:ومِنْ
س وَا ْلقَمَرُ[} ..فصلت]37 :
شمْ ُ
آيَاتِهِ الّيلُ وَال ّنهَارُ وَال ّ
وقد تكون اليات بمعنى المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول في البلغ عن ربه تعالى ،وقد تكون
اليات بمعنى آيات القرآن الكريم ،والتي يسمونها حاملة الحكام.
فاليات إذن ثلثة :كونية ،ومعجزات ،وآيات القرآن .فأيها المقصود في اليةَ { :ومَا مَ َنعَنَآ أَن
سلَ بِاليَاتِ } [السراء]59 :
نّرْ ِ
اليات الكونية وهي موجودة ل تحتاج إلى إرسال ،اليات القرآنية وهي موجودة أيضا ،بقي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المعجزات وهي موجودة ،وقد جاءت معجزة كل نبي على حَسْب نبوغ قومه ،فجاءت معجزة
موسى من نوع السحر الذي نبغ فيه بنو إسرائيل ،وكذلك جاءت معجزة عيسى مما نبغ فيه قومه
من الطب.
وجاءت معجزة محمد صلى ال عليه وسلم في الفصاحة والبلغة والبيان؛ لن العرب لم ُيظِهروا
نبوغا في غير هذا المجال ،فتحدّاهم بما يعرفونه ويُجيدونه ليكون ذلك أبلغ في الحجة عليهم.
إذن :فما المقصود باليات التي منعها ال عنهم؟
المقصود بها ما طلبوه من معجزات أخرى ،جاءت في قوله تعالىَ {:وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا
ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا *
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ
َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
علَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن
ع ْمتَ َ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
َأوْ تُ ْ
سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا ّنقْ َر ُؤهُ }[السراء]93-90 :
زُخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ
والمتأمل في كل هذه القتراحات من كفار مكة يجدها بعيدة كل ال ُبعْد عن مجال المعجزة التي يُراد
بها في المقام الول تثبيت الرسول ،وبيان صِدْق رسالته وتبليغه عن ال ،وهذه ل تكون إل في
أمر نبغ فيه قومه ولهم به إلمام ،وهم أمة كلم وفصاحة وبلغة ،وهل لهم إلمام بتفجير الينابيع
من الرض؟ وهل إسقاط السماء عليهم كِسَفا يقوم دليلً على صدْق الرسول؟ أم أنه الجدل العقيم
والستكبار عن قبول الحق؟
إذن :جلس كفار مكة يقترحون اليات ويطلبون المعجزات ،والحق سبحانه وتعالى يُنزِل من
المعجزات ما يشاء ،وليس لحد أن يقترح على ال أن يُجبره على شيء ،قال تعالى {:قُل ّلوْ شَآءَ
عمُرا مّن قَبِْلهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ[} ..يونس]16 :
اللّهُ مَا َتَلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَدْرَاكُمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
فالحق تبارك وتعالى قادر أن يُنزل عليهم ما اقترحوه من اليات ،فهو سبحانه ل يُعجِزه شيء،
ول يتعاظمه شيء ،ولكن للبشر قبل ذلك سابقة مع المعجزات.
والحق سبحانه يقول { :وَآتَيْنَا َثمُودَ النّاقَةَ مُ ْبصِ َرةً َفظََلمُواْ ِبهَا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مُ ْبصِ َرةً[} ..السراء ]12 :فهل آية النهار مُبصِرة ،أم مُ ْبصِر فيها؟
كانوا قديما يعتقدون أن النسان يرى الشيء من شعاع ينطلق من عينة إلى الشيء المرئيّ فتحدث
الرؤية ،إلى أن جاء ابن الهيثم وأثبت خطأ هذه المقولة ،وبيّن أن النسان يرى الشيء إذا خرج
من الشيء شعاع إلى العين فتراه ،بدليل أنك ترى الشيء إذا كان في الضوء ،ول تراه إذا كان في
ظلمة ،وبهذا الفهم نستطيع القول بأن آية النهار هي المبصرة؛ لن أشعتها هي التي تُسبّب
البصار.
خوِيفا { [السراء]59 :
سلُ بِاليَاتِ ِإلّ تَ ْ
ثم يقول تعالىَ } :ومَا نُرْ ِ
أي :نبعث بآيات غير المعجزات لتكون تخويفا للكفار والمعاندين ،فمثلً الرسول صلى ال عليه
سعْيهم ورأوا أنهم لو قتلوه لَطالبَ
وسلم اضطهده أهل مكة ودبّروا لقتله جهارا وعلنية ،فخيّب ال َ
أهله بدمه ،فحاكوا مؤامرة أخرى للفتك به بليل ،واقترحوا أنْ ُيؤْتَى من كل قبيلة بفتى جَ ْلدٍ،
ويضربوه ضَرْبة رجل واحد.
ولكن الحق سبحانه أطلع رسوله على مكيدتهم ،ونجّاه من غدرهم ،فإذا بهم يعملون له السحر
لِيُوقِعوا به ،وكان ال لهم بالمرصاد ،فأخبر رسوله بما يدبر له ،وهكذا لم يفلح الجهر ولم يفلح
ل إلى الوقوف في
التبييت ،ولم يفلح السحر ،وباءت محاولتهم كلها بالفشل ،وعلموا أنه ل سبي َ
وجه الدعوة بحال من الحوال ،وأن السلمة في اليمان والسير في ركابه من أقصر الطرق.
إذن :للحق سبحانه آيات أخرى تأتي لِرَدْع المكذبين عن كذبهم ،وتُخوّفهم بما حدث لسابقيهم من
المُكذّبين بالرسل ،حيث أخذهم ال أَخْذ عزيز مقتدر ،ومن آيات التخويف هذه ما جاء في قوله
سفْنَا
خَح ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ َ
علَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَ ْتهُ الصّيْ َ
خذْنَا بِذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا َ
تعالىَ {:فكُلّ أَ َ
سهُمْ يَظِْلمُونَ }[العنكبوت:
ض َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
بِ ِه الَ ْر َ
]40
فكل هذه آيات بعثها ال على أمم من المكذبينُ ،كلّ بما يناسبه.
ثم يقول الحق سبحانه مخاطبا رسوله صلى ال عليه وسلم } :وَإِذْ قُلْنَا َلكَ إِنّ رَ ّبكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ...
{.
()2072 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :اذكر يا محمد ،وليذكر معك أصحابك إذ قلنا لك :إن ربك أحاط بالناس ،فل يمكن أن
يتصرفوا تصرّفا ،أو يقولوا قولً يغيب عن عِ ْلمِه تعالى ،لن الحاطة تعني اللمام بالشيء من ُكلّ
ناحية.
وما دام المر كذلك فاطمئن يا محمد ،كما نقول في المثل (حُط في بطنك بطيخة صيفي) ،واعلم
أنهم لن ينالوا منك ل جهرة ول تبيتا ،ول استعانة بالجنس الخفي (الجن)؛ لن ال محيط بهم،
سعْيَهم ،ويجعل كَيْدهم في نحورهم.
وسيبطل َ
لذلك لما تحدّى الحق سبحانه وتعالى الكفار بالقرآن تحدّى الجن أيضا ،فقال {:قُل لّئِنِ اجْ َت َم َعتِ
ظهِيرا }
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ
ن لَ يَأْتُونَ ِبمِثْلِ ِه وََلوْ كَانَ َب ْع ُ
س وَالْجِنّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ ِبمِ ْثلِ هَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
الِنْ ُ
[السراء]88 :
ففي هذا الوقت كان يشيع بين العرب أن كل نابغة في أمر من المور له شيطان يُلهمه ،وكانوا
يدّعُون أن هذه الشياطين تسكن واديا يسمى " وادي عبقر " في الجزيرة العربية ،فتحدّاهم القرآن
أنْ يأتوا بالشياطين التي تُلهمهم.
وهكذا يُطمئن الحق سبحانه وتعالى رسوله صلى ال عليه وسلم بأنه يحيط بالناس جميعا ،ويعلم
كل حركاتهم ظاهرة أو خفيّة من جنس ظاهر أو من جنس خفيّ ،وباطمئنان رسول ال تشيع
الطمأنينة في نفوس المؤمنين.
وهذا من قيوميته تعالى في الكون ،وبهذه القيومية نردّ على الفلسفة الذين قالوا بأن الخالق
سبحانه زاول سلطانه في الكون مرة واحدة ،فخلق النواميس ،وهي التي تعمل في الكون ،وهي
التي تُسيّره.
والرد على هذه المقولة بسيط ،فلو كانت النواميس هي التي تُسيّر في الكون ما رأينا في الكون
شذوذا عن الناموس العام؛ لن المر الميكانيكي ل يحدث خروجا عن القاعدة ،إذن :فحدوث
الشذوذ دليل القدرة التي تتحكم وتستطيع أن تخرق الناموس.
ومثال ذلك :النار التي أشعلوها لحرق نبي ال وخليله إبراهيم ـ عليه السلم ـ فهل كان حظ
اليمان أو السلم في أن ينجو إبراهيم من النار؟
ل ..لم يكن الهدف نجاة إبراهيم عليه السلم ،وإل لما مكّنهم ال من المساك به ،أو سخر سحابة
تطفئ النار ،ولكن أراد سبحانه أن يُظهر لهم آية من آياته في خَرْق الناموس ،فمكّنهم من إشعال
النار ومكّنَهم من إبراهيم حتى ألقوْه في النار ،ورَأ ْوهُ في وسطها ،ولم َي ُعدْ لهم حجة ،وهنا تدخلت
القدرة اللهية لتسلب النار خاصية الحراق {:قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء:
]69
إذن :فالناموس ليس مخلوقا ليعمل مطلقا ،وما حدث ليس طلقة ناموس ،بل طلقة قدرة للخالق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه وتعالى.
فكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُسلّي رسوله و ُيؤْنِسه بمدد ال له دائما ،ول يفزعه أن يقوم قومه
بمصادمته واضطهاده ،ويريد كذلك أنْ يُطمئن المؤمنين ويُبشّرهم بأنهم على الحق.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالحق سبحانه محيط بالمؤمنين وبرسوله صلى ال عليه وسلم إحاطة عناية ،وكأنه يقول له :ا ْمضِ
إلى شأنك وإلى مهمتك ،ولن يُضيرك ما يُدبّرون.
لذلك كان المؤمنون في َأوْج فترات الضطهاد والقسوة من الكفار في وقت كل المؤمنون غير
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }
قادرين حتى على حماية أنفسهم ينزل قول الحق تبارك وتعالى {:سَ ُيهْزَمُ الْ َ
[القمر]45 :
جمْع هذا؟!
حتى أن عمر ـ رضي ال عنه ـ الذي جاء القرآن على َوفْق رأيه يقول :أيّ َ
ويتعجب ،كيف سنهزم هؤلء ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا وهذه تسلية لرسول ال وتبشير
للمؤمنين ،فمهما نالوكم بالضطهاد والذى فإن ال ناصركم عليهم.
وكما قال في آية أخرى {:وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات]173 :
فاذكر جيدا يا محمد حين تنزل بك الحداث ،ويظن أعداؤك أنهم أحاطوا بك ،وأنهم قادرون
عليك ،اذكر أن ال أحاط بالناس ،فأنت في عناية فلن يصيبك شرّ من الخارج ،وهم في حصار لن
يُفلِتوا منه.
جعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ ِإلّ فِتْنَةً لّلنّاسِ[ { ..السراء]60 :
ثم يقول تعالىَ } :ومَا َ
كلمة } الرّؤيَا { مصدر للفعل رأى ،وكذلك (رؤية) مصدر للفعل رأى ،فإنْ أردتَ الرؤيا المنامية
تقول :رأيتُ ُرؤْيا ،وإنْ أردتَ رأى البصرية تقول :رأيتُ رؤية.
ومن ذلك قول يوسف عليه السلم في المنام الذي رآهَ {:وقَالَ ياأَ َبتِ هَـاذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِن قَ ْبلُ }
[يوسف]100 :
ولم َي ُقلْ رؤيتي .إذن :فالفعل واحد ،والمصدر مختلف.
وقد اختلف العلماء :ما هي الرؤيا التي جعلها ال فتنة للناس؟
ت في أول السورة {:سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ
جمهرة العلماء على أنها الرؤيا التي ثبت ْ
ل ْقصَى }[السراء ]1 :أي :حادثة السراء والمعراج.
ج ِد ا َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَسْ ِ
ا ْلمَ ْ
سجِدَ
حقّ لَتَ ْدخُلُنّ ا ْلمَ ْ
وبعضهم رأى أنها ال ّرؤْيا التي قال ال فيهاّ {:لقَ ْد صَدَقَ اللّهُ َرسُولَهُ الرّءْيَا بِالْ َ
ج َعلَ مِن دُونِ
ن لَ تَخَافُونَ َفعَلِمَ مَا لَمْ َتعَْلمُواْ فَ َ
سكُ ْم َو ُمقَصّرِي َ
الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ ُمحَّلقِينَ ُرءُو َ
ذَِلكَ فَتْحا قَرِيبا }[الفتح]27 :
فقد وعد رسولَ ال صلى ال عليه وسلم بأنهم سيدخلون المسجد الحرام في هذا العام ،ولكن مُنِعوا
من الدخول عند الحديبية ،فكانت فتنة بين المسلمين وتعجبوا أنْ يعدهم رسول ال وَعْدا ول ينجزه
لهم.
ثم بيّن الحق ـ تبارك وتعالى ـ لهم الحكمة من عدم دخول مكة هذا العام ،فأنزل على رسوله
سجِدِ الْحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفا
وهو في طريق عودته إلى المدينةُ {:همُ الّذِينَ كَفَرُو ْا َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن وَنِسَآءٌ ّمؤْمِنَاتٌ لّمْ َتعَْلمُوهُمْ أَن تَطَئُو ُهمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مّ ْنهُمْ ّمعَ ّرةٌ
أَن يَبْلُغَ َمحِلّ ُه وََل ْولَ رِجَالٌ ّم ْؤمِنُو َ
حمَتِهِ مَن َيشَآءُ َلوْ تَزَيّلُواْ َل َعذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُواْ مِ ْنهُمْ عَذَابا أَلِيما }[الفتح:
خلَ اللّهُ فِي رَ ْ
ِبغَيْرِ عِلْمٍ لّ ُيدْ ِ
]25
إذن :الحق سبحانه منعهم تحقيق هذه الرؤيا في الحديبية؛ لنهم لو دخلوا مكة مُحاربين حاملين
السلح ،وفيها مؤمنون ومؤمنات ل يعلمهم أحد ،وسوف يصيبهم من الذى وينالهم من هذه
الحرب؛ لنهم لن يُميّزوا بين مؤمن وكافر ،فقد يقتلون مؤمنا فتصيبهم َمعَ ّرةٌ بقتله ،ولو أمكن
التمييز بين المؤمنين والكفار لدخول مكة رَغْما عن أُنُوف أهلها.
لذلك كان من الطبيعي أنْ يتش ّككَ الناس فيما حدث بالحديبية ،وأن تحدث فتنة تزلزل المسلمين،
حتى إن الفاروق ليقول لرسول ال صلى ال عليه وسلم :ألسنا على الحق؟ أليسوا هم على الباطل؟
ألستَ رسول ال؟ فيقول أبو بكر :الزم غَرْزَِه يا عمر ،إنه رسول ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َنفْسا كَانَ قَ ْبلُ َيلُومُهَاأي :قال ال اكبر حينما رأى الصيد الثمين يقترب منه ،فعبّر بالرؤيا عن
الرؤية البصرية.
لكن الحق سبحانه اختار كلمة (رّؤيَا) ليدل على أنها شيء عجيب وغريب كما نقول مثلً :هذا
شيء ل يحدث إل في المنام .وهذا من ِدقّة الداء القرآني ،فالذي يتكلم َربّ ،فاختار الرؤيا؛ لنها
معجزة السراء وذهاب النبي صلى ال عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس في ليلة.
َفوَجْه العجاز هنا ليس في حدث الذهاب إلى بيت المقدس لن كثيرا من كفار مكة قد ذهب إليها
في رحلت التجارة أو غيرها ،بل َوجْه العجاز في الزمن الذي اخ ُتصِر لرسول ال ،فذهب وعاد
صفْ لنا بيت المقدس ".
في ليلة واحدة ،بدليل أنهم سألوا رسول ال " ِ
ولو كانوا يشكّون في الحدث ما سألوا هذا السؤال ،إذن :فاعتراضهم على وقت هذه الرحلة التي
كانوا يضربون إليها أكباد البل شهرا ،ويخبر محمد أنه أتاها في ليلة واحدة ،ولن السراء حدث
في هذا الزمن الضيق المختصر ناسب أن يُطلق عليه رؤيا ،لن الرؤيا المنامية ل زمنَ لها،
ويختصر فيها الزمن كذلك.
ولقد توصّل العلماء الباحثون في مسألة وعي النسان أثناء نومه ،وعن طريق الجهزة الحديثة
إلى أنْ قالوا :إن الذهن النساني ل يعمل أثناء النوم أكثر من سبع ثوان ،وهذه هي المدّة التي
يستغرقها المنام.
في حين إذا أردتَ أن تحكي ما رأيتَ فسيأخذ منكم وقتا طويلً .فأين الزمن ـ إذن ـ في الرؤيا
المنامية؟ ول وجود له؛ لن وسائل الدراك في النسان والتي تُشعِره بالوقت نائمة فل يشعر
بوقت ،حتى إذا جاءت الرؤيا م ّرتْ سريعة حيث ل يوجد في الذهن غيرها.
لذلك مَنْ يمشي على عجل ل يستغرق زمنا ،كما نقول( :فلن يفهمها وهي طايرة) وهذا يدل على
السرعة في الفعل؛ لنه يركز كل إدراكاته لشيء واحد.
ومن ناحية أخرى ،لو أن السراء والمعراج رؤيا منامية ،أكانت توجد فتنة بين الناس؟ و َهبْ أن
قائلً قال لنا :رأيت الليلة أنني ذهبتُ من القاهرة إلى نيويورك ،ثم إلى هاواي ،ثم إلى اليابان،
أنُكذّبه؟!
ت المعنى من الرؤيا المنامية إلى الرؤية
عدَّل ْ
إذنَ :قوْل ال تعالى عن هذه الرؤيا أنها فتنة للناس َ
البصرية ،وكأن الحق سبحانه اختار هذه الكلمة ليجعل من الكافرين بمحمد دليلً على صدقه،
فيقولون :نحن نضرب إليها أكباد البل شهرا وأنت تدعي أنك أتيتها في ليلة؟ فلو كانت هذه
الحادثة مناما ما قالوا هذا الكلم.
لكن ،ما الحكمة من فتنة الناس واختبارهم بمثل هذا الحدث؟
صهْرهم في بوتقة اليمان لنميز الخبيث من الطيب ،والمؤمن من الكافر،
الحكمة تمحيص الناس و َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فل يبقى في ساحتنا إل صادق اليمان قويّ العقيدة ،لن ال تعالى ل يريد أن يسلم منهجه الذي
سيحكم حركة الحياة في الدنيا إلى أن تقوم الساعة ،إل إلى قوم موثوق في إيمانهم ليكونوا أهلً
لحمل هذه الرسالة.
فكان السراء هو هذه البوتقة التي ميّ َزتْ بين أصالة الصّدّيق حينما أخبروه أن صاحبك يُحدّثنا أنه
أتى بيت المقدس ،وأنه عُرِج به إلى السماء وعاد من ليلته ،فقال " :إنْ كان قال فقد صدق " هكذا
من أقرب طريق ،فميزان الصدق عنده مجرد أن يقول رسول ال .وكذلك ميزت الزّبَد الذي
زلزلته الحادثة وبلبلته ،فعارض وكذب.
ثم يقول تعالى } :وَالشّجَ َرةَ ا ْلمَ ْلعُونَةَ فِي القُرْآنِ { [السراء]60 :
أي :وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إل فتنةً للناس أيضا ،وإنْ كانت الفتنة في السراء
كامنَة في زمن حدوثه ،فهي في الشجرة كامنة في أنها تخرج في أصل الجحيم ،في َقعْر جهنم،
ومعلوم أن الشجرة نبات ل يعيش إل بالماء والري ،فكيف تكون الشجرة في جهنم؟
ومن هنا كانت الشجرة فتنة تُمحّص إيمان الناس؛ لذلك لما سمع أبو جهل هذه الية جعلها مُشكلة،
وخرج على الناس يقول :اسمعوا ما يحدثكم به قرآن محمد ،يقول :إن في الجحيم شجرة تسمى "
شجرة الزقوم " ،فكيف يستقيم هذا القول ،والنار تحرق كل شيء حتى الحجارة؟
وهذا العتراض مقبول عقلً ،لكن المؤمن ل يستقبل آيات ال استقبالً عقليا ،وإنما يعمل حسابا
لقدرته تعالى؛ لن الشياء ل تأخذ قوامها بعنصر تكوينها ،وإنما تأخذه بقانون المعنصِر نفسه،
فالخالق سبحانه يقول للشجرة :كوني في أصل الجحيم ،فتكون في أصل الجحيم بطلقة القدرة
اللهية التي قالت للنار :كُوني بَرْدا وسلما على إبراهيم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي سيأكله الكافر ويتعذب به؟ إنها أداة من أدوات العقاب ،ووسيلة من وسائل التعذيب لعداء
ال.
شجَ َرةَ
نقول :المراد هنا :الشجرة الملعون آكلها ،لنه ل يأكل منها إل الثيم ،كما قال تعالى {:إِنّ َ
ك معلون.
شّطعَا ُم الَثِيمِ }[الدخان ]44-43 :والثيم ل َ
ال ّزقّومِ * َ
لكن ،لماذا لم يجعل المعلونية للكل وجعلها للشجرة؟
قالوا :لن العربي دَرَجَ على أن كل شيء ضار ملعون ،أي :مُ ْبعَد من رحمة ال ،فكأن الكافر
حينما يرى هذه الشجرة هو الذي يلعنها ،فهي ملعونة من آكلها .وقد أكل منها لنه ملعون ،إذن:
نستطيع القول إنها ملعونة ،وملعون آكلها.
من الشكالت التي أثارتها هذه الية في العصر الحديث قول المستشرقين الذين يريدون أن
يتورّكوا على القرآن ،ويعترضوا على أساليبه ،مثل قوله تعالى عن شجرة الزقوم {:طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ
رُءُوسُ الشّيَاطِينِ }[الصافات]65 :
ووَجْه اعتراضهم أن التشبيه إنما يأتي عادةً لِيُوضّح أمرا مجهولً من مخاطب بأمر معلوم له ،أما
في الية فالمشبّه مجهول لنا؛ لنه غَيْب ل نعلم عنه شيئا ،وكذلك المشبّه به لم نَ َرهُ ،ولم يعرف
أحد مِنّا رأس الشيطان ،فكيف يُشبّه مجهولً بمجهول؟ لننا لم نَرَ شجرة الزقوم لنعرف طَلْعها،
ولم نَرَ الشيطان لنعرف رأسه.
ثم يقولون :الذي جعل المسلمين يمرّون على هذه الية أنهم يُعطون للقرآن قداسة ،هذه القداسة
تُربّى فيهم التهيّب أنْ يُقبلوا على القرآن بعقولهم ليفتشوا فيه ،ولو أنهم تخلصوا من هذه المسألة
وبدأوا البحث في أسلوب القرآن دون تهيّب لستطاعوا الخروج منه بمعطيات جديدة.
وللردّ على َقوْل المستشرقين السابق نقول لهم :لقد تعلمتم العربية صناعة ،وليس عندكم المَلكَة
العربية أو التذوّق الكافي لفهم كتاب ال وتفسير أساليبه ،وفَرْقٌ بين اللغة كمَلكَة واللغة كصناعة
فقط.
الملَكة اللغوية تفاعل واختمار للغة في الوجدان ،فساعة أنْ يسمعَ التعبير العربي يفهم المقصود
منه ،أما اللغة المكتسبة ـ خاصة على كِبَر ـ فهي مجرد دراسة لمكان التخاطب ،فلو أن عندكم
غطِيطَ
هذه الملكة لما حدث منكم هذا العتراض ،ولعلمتم أن العربي قبل نزول القرآن قالَ :يغُطّ َ
جعِي وَمسْنُونَةٍ زُرْقٍ كأنْيَابِ
س بقتّالِأَيقتُلِني وَالمشْرفيّ ُمضَا ِ
شدّ خِنَاقُه لِيقتُلَنِي والمرْءُ لي َ
البكْر ُ
غوَالِفهل رأيتم الغول؟ وهل له وجود أصلً؟ لكن الشاعر العربي استساغ أن يُشبّه سلحه
أَ ْ
المسنون بأنياب الغول؛ لن الغول يتصوّره الناس في صورة بشعة مخيفة ،فهذا التصوّر والتخيّل
للغول أجاز أنْ نُشبّه به.
وكذلك الشيطان ،وإنْ لم يَ َرهُ أحد أن الناس تتخيله في صورة بشعة وقبيحة ومخيفة ،فلو كلّفنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جميع رسّامي الكاريكاتير في العالم برسم صورة مُتخيّلة للشيطان لرسم كل واحد منهم صورة
تختلف عن الخر؛ لن كلً منهم سيتصوره بصورة خاصة حَسْب تصوره للشيطان وجهة البشاعة
فيه.
فلو أن الحق سبحانه شبّه طَلْع شجرة الزقوم بشيء معلوم لنا لَتصوّرناه على وجه واحد ،لكن
الحق تبارك وتعالى أراد أنْ يُشيعَ بشاعته ،وأنْ تذهب النفس في تصوّره بشاعته كل مذهب،
وهكذا يؤدي هذا التشبيه في الية مَا ل يُؤديّه غيره ،ويُحدث من الثر المطلوب ما ل يُحدِثه تعبير
آخر ،فهو إبهام يكشف ويجليّ.
طغْيَانا كَبِيرا { [السراء]60 :
خ ّو ُفهُمْ َفمَا يَزِيدُ ُهمْ ِإلّ ُ
ثم يقول تعالى } :وَ ُن َ
أي :نُخوّفهم بأنْ يتعرّضوا للعقوبات التي تعرّض لها المكذّبون للرسل ،فالرسل نهايتهم النصر،
خذْلن .وأنت حينما تُخوّف إنسانا أو تُحذره من شر سيقع له ،فقد أحسنتَ
والكافرون بهم نهايتهم ال ُ
ل ومعروفا ،كالولد الذي يُخوّف ابنه عاقبة الهمال ،ويُذكّره بالفشل واحتقار
إليه وأسديتَ إليه جمي ً
الناس له ،إنه بذلك ينصحه ليلتفت إلى دروسه ويجتهد.
خ ّو ُفهُمْ[ { ..السراء ]60 :التخويف هنا نعمة من ال عليهم ،لنه يُبشّع لهم المر
فقوله تعالى } :وَنُ َ
حتى ل يقعوا فيه ،وسبق أن ذكرنا أن التخويف قد يكون نعمة في قوله تعالى ،في سورة الرحمن:
شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن-35 :
علَ ْي ُكمَا ُ
سلُ َ
{ يُ ْر َ
]36
شوَاظ هنا نعمة؛ لنها إعلم بشيء سيحدث في المستقبل ،وسيكون عاقبة عمل
فجعل النار وال ّ
يجب أن يحذروه الن.
طغْيَانا كَبِيرا { [السراء]60 :
وقوله تعالىَ } :فمَا يَزِيدُ ُهمْ ِإلّ ُ
أي :يزدادون بالتخويف طغيانا ،لماذا؟ لنهم يفهمون جيدا مطلوبات اليمان ،وإل لو جهلوا هذه
المطلوبات لقالوا :ل إله إل ال وآمنوا وانتهت القضية ،لكنهم يعلمون تماما أن كلمة ل إله إل ال
تعني :ل سيادةَ إل لهذه الكلمة ،ومحمد رسول ال ل بلغَ ول تشريعَ إل منه ،ومن هنا خافوا
على سيادتهم في الجزيرة العربية وعلى مكانتهم بين الناس ،كيف والسلم يُسوّي بين السادة
والعبيد؟!
إذن :كلما خ ّوفْتهم وذكّرتهم بال ازدادوا طغيانا ونفورا من دين ال الذي سيهدم عليهم هذه السلطة
الزمنية التي يتمتعون بها ،وسيسحب بساط السيادة من تحت أقدامهم؛ لذلك تجد دائما أن السلطة
جعْل الناس سواسية.
الزمنية لعداء الرسل ،وتأتي الرسل لهدم هذه السلطة ،و َ
وقد اتضح هدم السلم لهذه السلطة الزمنية للكفار عندما دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم
المدينة ،وكان أهلها يستعدون لتنصيب عبد ال بن أُبيّ ملِكا عليهم ،فلما جاء رسول ال المدينة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
انفض الناس عن ابن أُبيّ ،وتوجهت النظار إليه صلى ال عليه وسلم ،وطبيعي ـ إذن ـ أن
يغضب ابن أُبيّ ،وأن يزدادَ كُرْهه لرسول ال ،وأن يسعى لمحاربته ومناوأته ،وأنْ يحسده على ما
حبّ الناس والتفافهم حوله.
نال من ُ
ثم أراد الحق سبحانه أن يقول :إن هذه سُنّة من سُنَن المعاندين للحق والكائدين للخير دائما ،فقال
سجُدُو ْا لَدَمََ.{ ...
تعالى } :وَإِذْ قُلْنَا ِل ْلمَل ِئكَةِ ا ْ
()2073 /
أي :تذكّروا أن الحسد قديم قِدَم وجود النسان على هذه الرض ،تذكّروا ما كان من أمر آدم عليه
السلم وإبليس لعنه ال ،فهي مسألة قديمة ومستمرة في البشر إلى يوم القيامة.
والمعنى :واذكُرْ يا محمد ،وليذكر معك قومك إذ قلنا للملئكة :اسجدوا لدم .وسبق أنْ تكلمنا عن
السجود ،ونشير هنا إلى أن السجود ل يكون إل ال تعالى ،لكن إذا كان المر بالسجود لغير ال
من ال تعالى ،فليس لحد أن يعترض على هذا السجود؛ لنه بأمر ال الذي يعلم أن سجودهم لدم
ليس عَيْبا وليس َقدْحا في دينهم وعبوديتهم للحق سبحانه وتعالى؛ لن العبودية طاعة أوامر.
حفَظُونَهُ
والمراد بالملئكة المدبرات أمرا ،الذين قال ال فيهم {:لَهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ َومِنْ خَ ْلفِهِ يَ ْ
مِنْ َأمْرِ اللّهِ[} ..الرعد]11 :
وقد أمرهم ال بالسجود لدم؛ لنه سيكون أبا البشر ،وسوف يُسخّر له الكون كله ،حتى هؤلء
الملئكة سيكونون في خدمته؛ لذلك أمرهم ال بالسجود له سجودَ طاعة وخضوع لما أريده منكم،
إذن :السجود لدم ليس خضوعا لدم ،بل خضوعا لمر ال لهم.
وقوله تعالىَ { :إلّ إِبْلِيسَ[ } ..السراء]61 :
فهِم البعض منها أن إبليس كان من الملئكة ،ونحن نعذر أصحاب هذا الفهم لو عزلنا هذه الية
عن بقية اليات التي تحدثتْ عن هذه القضية ،لكن طالما نتكلم في موضوع عام مثل هذا ،فيجب
استحضار جميع اليات الواردة فيه لتتضح لنا الصورة كاملة.
جدُواْ َإلّ إِبْلِيسَ[ } ..السراء]61 :
فإذا كان دليل أصحاب هذا القول :اللتزام بأن ال قال { :فَسَ َ
وقد كان المر للملئكة فهو منهم ،سوف نُسلّم لهم جدلً بصحة قولهم ،لكن ماذا يقولون في َقوْل
سجَدُواْ ِإلّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ا ْلجِنّ َففَسَقَ عَنْ َأمْرِ
الحق سبحانه في القرآن الذي أخذوا منه حجتهم {:فَ َ
رَبّهِ[} ..الكهف]50 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإنْ كان دليلكم اللتزام ،فدليلنا نصّ صريح في أنه من الجن ،فإنْ قال قائل :كيف يكون من الجن
ويُؤاخَذ على أنه لم يسجد؟
نقول :إبليس من الجن بالنصّ الصريح للقرآن الكريم ،لكن الحق سبحانه وتعالى آخذه على عدم
السجود لدم واعتبره من الملئكة؛ لنه كان مطيعا عن اختيار ،والملئكة مطيعون عن جِبلّة
وعن طبيعة.
فبذلك كانت منزلة إبليس أعلى من منزلة الملئكة ،لنه مختار أن يطيع أو أن يعصي ،لكنه أطاع
مع قدرته على العصيان فأصبح جليس الملئكة ،بل طاووس الملئكة الذي يزهو عليهم ويتباهى
بأنه صالح للختيار في العصيان ،ومع ذلك ألزم نفسه منهج ال.
فإذا أصبح في منزلة أعلى من الملئكة وأصبح في حضرتهم ،فإن المر إذا توجّه إلى الدنى في
الطاعة فإن العلى َأوْلَى بهذا المر ،وكذلك إن اعتبرناه أقلّ منهم منزلة ،وجاء المر للملئكة
بالسجود فإن المر للعلى أمر كذلك للدنى ،وهكذا إنْ كان أعلى فعليه أن يسجد ،وإنْ كان أدنى
فعليه أنْ يسجدَ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جدَ[} ..ص ]75 :كأنه همّ أن يسجد ،فجاءه مَنْ يمنعه عن السجود ،لنه ل يقال :ما
مَ َن َعكَ أَن تَسْ ُ
منع من كذا إل إذا كان لديك استعداد للفعل ،وإل من أيّ شيء سيمنعك؟
جدَ[} ..العراف ]12 :تعني :ما منعك بإقناعك بأن ل تسجد ،فالمعنيان
أما و{ مَا مَ َن َعكَ َألّ تَسْ ُ
مختلفان ،ونحن في حاجة إليهما معا.
جدُ ِلمَنْ خََلقْتَ طِينا[ { ..السراء]61 :
ثم يقول تعالى } :أَأَسْ ُ
والهمزة للستفهام الذي يحمل معنى العتراض أو الستنكار ،وقد ُفسّرت هذه الية بآيات أخرى،
مثل قوله تعالى {:أَنَاْ خَيْرٌ مّ ْنهُ خََلقْتَنِي مِن نّا ٍر وَخََلقْتَهُ مِن طِينٍ }[العراف]12 :
فالمخلوقية ل مُتفق عليها ،إنما الختلف في عنصر المخلوقية هذا من نار وهذا من طين ،لكن
من قال لك يا إبليس :إن النار فوق الطين ،أو خير منه؟ من أين أتيتَ بهذه المقولة وكلهما
مخلوق ل ،وله مهمة في الكون؟ وهل نستطيع أن نقول :إن العين خير من الذن مثلً؟ أم أن لكل
منهما مهمتها التي ل تؤديها الخرى؟
خطّافا فالعوجاج خير من
وسبق أنْ قُلْنا مثلً :إنك تفضل الحديد إنْ كان مستقيما ،أما إنْ أردتَ ُ
الستقامة ،أو :أن اعوجاجه هو عين الستقامة فيه ،فكل شيء في الوجود مخلوق لغاية ولمهمة
ل ول يكون خَيْرا إل إذا أدى مهمته في الحياة ،فمن أين جاء إبليس بخيرية النار
ول يكون جمي ً
على الطين؟
والنار الصل فيها الخشب الذي توقد به ،والخشب من الطين ،إذن :فالطين قبل النار وأفضل منه،
فقياس إبليس إذن قياس خاطئ.
ومعنى } :خََل ْقتَ طِينا { [السراء ]61 :يعني :خلقته حال كونه من الطين ،أو خلقتَه من طين،
خلْق؛ لن الخَلْق المباشر له مراحل سبقته.
والخَلْق من الطين مرحلة من مراحل ال َ
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي[} ..الحجر]29 :
سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ
فقوله تعالى {:فَِإذَا َ
سبقتْه مراحل متعددة ،قال عنها الخالق سبحانه مرة :من الماء .ومرة :من التراب .ومرة :من
الطين .والماء إذا خُلِط بالتراب صار طينا ،وبمرور الوقت يسودّ هذا الطين ،وتتغير رائحته،
فيتحول إلى حمأ مسنون.
وما أشبهَ الحمأ المسنون بما يفعله أهل الريف في صناعة الطوب ،حيث يخلطون الماء بالتراب
بالقشّ ،ويتركونه فترة حتى يختمر ويأكل بعضه بعضا ،وتتغير رائحته ويعطَن ،ثم يصبّونه في
قوالب .فإذا ما تُرِك الطين حتى يجفّ ،ويتحول إلى الصلبة يصير صَ ْلصَالً كالفخّار ،يعني
يُحدث رنّة إذا طرقت عليه.
جدِينَ }[الحجر:
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي فَ َقعُواْ لَهُ سَا ِ
سوّيْتُ ُه وَنَفَ ْ
وبعد كل هذه المراحل يقول تعالى {:فَإِذَا َ
]29
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :ل وَجْه للعتراض على القرآن في قوله عن خلق النسان مرة أنه :من :ماء ،أو من تراب،
أو طين ،أو حمأ مسنون ،فهذه كلها مراحل للمكوّن الواحد.
ثم يقول الحق سبحانه } :قَالَ أَرَأَيْ َتكَ هَـاذَا الّذِي كَ ّر ْمتَ عََليّ.{ ..
()2074 /
قَالَ أَرَأَيْ َتكَ هَذَا الّذِي كَ ّر ْمتَ عََليّ لَئِنْ أَخّرْتَنِ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ لَأَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّتَهُ إِلّا قَلِيلًا ()62
{ قَالَ } أي :إبليس { أَرَأَيْ َتكَ } الهمزة للستفهام ،والتاء للخطاب ،وكذلك الكاف ،وجمع بينهما في
الخطاب للتأكيد ،كما تقول :أنت أنت تفعل ذلك .والمعنى :أخبرني ،لن رأي البصرية تُطلق في
القرآن على معنى العلم؛ لن علم العين علم مُؤكّد ل شكّ فيه.
لذلك قالوا( :ليس مع العين أَيْن) فما تراه أمامك عيانا ،وإنْ كان للعلم وسائل كثيرة فأقواها الرؤية؛
لنها تعطي علما مؤكدا على خلف الذن مثلً ،فقد تسمع بها كلما تعرف بعد ذلك أنه كذب.
وقد ورد هذا المعنى في َقوْله الحق سبحانه {:أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل]1 :
واستخدم الفعل ترى ،مع أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان في عام الفيل وليدا لم يَرَ شيئا،
فالمعنى :ألم تعلم ،ولكن الحق سبحانه عدل عن " تعلم " إلى " تَرَ " كأنه يقول للرسول صلى ال
عليه وسلم :إذا أخبرك ال بمعلوم ،فاجعل إخبار ال لك فوق رؤيتك بعينك.
فقوله تعالى { :أَرَأَيْ َتكَ هَـاذَا الّذِي كَ ّر ْمتَ عََليّ[ } ..السراء ]62 :أي :أعلمني ،لماذا فضلته
عليّ ،وكأن تفضيل آدم على إبليس مسألة تحتاج إلى برهان وتبرير ،وكان على إبليس أن ينتظر
إجابة هذا السؤال الذي توجه به لربّه عَزّ وجل ،ولكنه تعجّل وحمله الغيظ والحسد على أن يقول:
{ لَئِنْ أَخّرْتَنِ إِلَىا َي ْومِ ا ْلقِيَامَ ِة لَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّ َتهُ ِإلّ قَلِيلً } [السراء]62 :
وهذا لن حقده وعداوته لدم ُمسْبقة فلم ينتظر الجواب.
ومعنىَ { :أخّرْتَنِ } أخّرت أجلي عن موعده ،كأنه يعلم أن ال يجعل لكل نفس منفوسة من إنس أو
ل معلوما ،فطلب أنْ يُؤخّره ال عن أجله ،وهذه مبالغة منه في اللدد والعناد ،فلم يتوعدهم
جنّ أج ً
ويُهدّدهم مدة حياته هو ،بل إلى يوم القيامة ،فإن كانت البداية مع آدم فلن ينجو ولن تنجو ذريته
أيضا.
فالعداوة بين إبليس وآدم ،فما ذنب ذريته من بعده؟ لقد كان عليه أن يقصر هذا الحقد ،وهذه
العداوة على آدم ،ثم يوصي ذريته بحمل هذا العداء من بعده ،إنه الغيظ الدفين الذي يمل قلبه.
وقد أمهله الحق سبحانه بقوله {:إِ ّنكَ مِنَ المُنظَرِينَ }[العراف]15 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى { :لَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّتَهُ } [السراء ]62 :اللم للقسم ،كما أقسم في آية أخرى {:فَ ِبعِزّ ِتكَ
ج َمعِينَ }[ص]82 :
لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
وعجيب أمر إبليس ،يقسم بال وهو يعلم أن العمر والجل بيده سبحانه ،فيسأله أن يُؤخّره ،ومع
ذلك ل يطيع أمره.
والحتناك :يَرِد بمعنيين :الول :الستئصال .ومنه قولهم :احتنك الجراد الزرع .أي :أتى عليه
كله واستأصله ،والخر :بمعنى القهر على التصرف ،مأخوذ من اللجام الذي يُوضَع في حنَك
الفرس ،ويسمونه (الحنكة) وبها تستطيع أن تُوجّه الفرس يمينا أو يسارا أو تُوقِفه ،فهي أداة التحكّم
فيه ،والسيطرة عليه َقهْرا.
()2075 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لوْلدِ
ل ْموَالِ وَا َ
ك وَشَا ِر ْكهُمْ فِي ا َ
ك وَرَجِِل َ
ك وَأَجِْلبْ عَلَ ْيهِم ِبخَيِْل َ
صوْ ِت َ
ط ْعتَ مِ ْنهُمْ ِب َ
وَاسْ َتفْزِزْ مَنِ اسْتَ َ
وَعِدْهُمْ َومَا َي ِعدُهُمُ الشّيْطَانُ ِإلّ غُرُورا }[السراء]64 :
فليست هذه أوامر يراد تنفيذها؛ لن هناك فرقا بين المر الذي يُراد منه تنفيذ الفعل ،والمر الذي
ل يُراد منه التنفيذ .فالول طَلَب أعلى من أَدْنى لكي يفعل :اكتب ،اجلس .لكن إذا اتجه المر إلى
غير مطلوبٍ عادةً من العقلء ينصرف عن المر إلى معنى آخر.
وهذا كما تقول لولدك مرارا :ذاكر دروسك واجتهد ،وإذا به ل يهت ّم ول يستجيب فتقول له :العب
كما تشاء ،فهل تقصد ظاهر هذا المر؟! وهل لو أخفق الولد في المتحان سيأتي ليقول لك :يا
والدي لقد قلت لي العب؟!
إن المر هنا ل يُؤخَذ على ظاهره ،بل يُراد منه التهديد ،كما يقولون في المثل (أعلى ما في خَيْلك
اركبه).
وقوله { :جَزَاءً ّم ْوفُورا } أي :وافيا مكتملً ل نقصَ فيه ،ل من العذاب ،ول من المعذبين.
صوْتِكَ.} ...
ط ْعتَ مِ ْنهُمْ ِب َ
والحق سبحانه يقول مخاطبا إبليس { :وَاسْ َتفْزِزْ مَنِ اسْ َت َ
()2076 /
ل وَالَْأوْلَادِ
ك وَشَا ِر ْكهُمْ فِي الَْأ ْموَا ِ
ك وَرَجِِل َ
ك وَأَجِْلبْ عَلَ ْيهِمْ ِبخَيِْل َ
صوْ ِت َ
ط ْعتَ مِ ْنهُمْ ِب َ
وَاسْ َتفْزِزْ مَنِ اسْتَ َ
وَعِدْهُمْ َومَا َي ِعدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلّا غُرُورًا ()64
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه الصوات مقصودة لرهاب الخصم وإزعاجه ،وأيضا لن هذه الصيحات تأخذ شيئا من
انتباه الخصم ،فيضعف تدبيره لحركة مضادة ،فيسل عليك التغلّب عليه.
جِلكَ[ } ..السراء]64 :
ك وَرَ ِ
وقوله تعالى { :بِخَيِْل َ
ت وصِحْ بهم راكبا الخيل لتفزعهم ،والعرب تطلق الخيل وتريد بها الفرسان ،كما في
صوّ ْ
أيَ :
الحديث النبوي الشريف " :يا خيل ال اركبي ".
وما أشبه هذا بما كنا نُسمّيهم :سلح الفرسان { وَرَجِِلكَ } من قولهم :جاء راجلً .يعني :ماشيا
على رِجْلَيْه و(رَجِل) يعني على سبيل الستمرار ،وكأن هذا عمله وديدنه ،فهي تدل على الصفة
حذِرْ ،وهؤلء يمثلون الن "
الملزمة ،تقول :فلنٌ رَجْل أي :دائما يسير مُترجّلً .مثل :حاذر و َ
سلح المشاة ".
ل ْموَالِ[ } ..السراء ]64 :فكيف يشاركهم أموالهم؟ بأن يُزيّن لهم
ثم يقول تعالى { :وَشَا ِر ْك ُهمْ فِي ا َ
لوْلدِ) المفروض في الولد طهارة
المال الحرام ،فيكتسبوا من الحرام وينفقوا في الحرام (وَا َ
النساب ،ف َدوْر الشيطان أنْ ُيفْسِدَ على الناس أنسابهم ،ويُزيّن لهم الزنا ،فيأتون بأولد من الحرام.
أو :يُزيّن لهم تهويد الولد ،أو تنصيرهم ،أو يُغريهم بق ْتلِ الولد مخاف َة الفقر أو غيره ،هذا من
مشاركة الشيطان في الولد.
وقوله تعالى { وَعِدْ ُهمْ } أي :مَنيّهم بأمانيك الكاذبة ،كما قال سبحانه في آية أخرى {:الشّ ْيطَانُ
َيعِ ُدكُمُ ا ْلفَقْ َر وَيَ ْأمُ ُركُم بِا ْلفَحْشَآءِ وَاللّهُ َيعِ ُدكُم ّمغْفِ َرةً مّنْ ُه َو َفضْلً وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة]268 :
وقولهَ { :ومَا َيعِدُ ُهمُ الشّ ْيطَانُ ِإلّ غُرُورا } [السراء ]64 :أي :ل يستطيع أن َيغُرّ بوعوده إل
صاحب الغِرّة والغفلة ،ومنها الغرور :أي يُزيّن لك الباطل في صورة الحق فيقولون :غَ ّرهُ .وأنت
ل تستطيع أبدا أن تُصوّر لنسان الباطل في صورة الحق إل إذا كان عقله قاصرا غافلً؛ لنه لو
غفْلة من عقله.
عقل وانتبه لتبيّن له الحق من الباطل ،إنما تأخذه على غِرّة من فكره ،وعلى َ
لذلك كثيرا ما يُخاطبنا الحق سبحانه بقولهَ {:أفَلَ َت ْعقِلُونَ[} ..القصصَ {]60 :أفَلَ تَ َت َفكّرُونَ }
[النعامَ {]50 :أفَلَ يَتَدَبّرُونَ[} ..النساء]82 :وينادينا بقوله {:ياُأوْلِي الَلْبَابِ }[الطلق]10 :
وهذا كله دليل على أهمية العقل ،وحثّ على استعماله في كل أمورنا ،فإذا سمعتم شيئا فمرّروه
على عقولكم أولً ،فما معنى أن يطلب ال مِنّا ذلك؟ ولماذا يُوقِظ فينا دائما ملكة التفكير والتدبّر في
كل شيء؟
حسْن
ل شكّ أن الذي يُوقِظ فيك آلة الفكر والنقد التمييز ،ويدعوك إلى النظر والتدبر واثق من ُ
بضاعته ،كالتاجر الصدوق الذي يبيع الجيد من القماش مثلً ،فيعرض عليك بضاعة في ثقة،
ويدعوك إلى فحصها ،وقد يشعل النار لِيُريك جودتها وأصالتها.
ولو أراد الحق سبحانه أن يأخذنا هكذا على جهل وعمى ودون تبصّر ما دعانا إلى التفكّر والتدبّر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا الشيطان ل يُمنّيك ول يُزيّن لك إل إذا صادف منك غفلة ،إنما لو كنت متيقظا له
ومُسْتصحبا للعقل ،عارفا بحيله ما استطاع إليك سبيلً ،ومن حيله أن يُزيّن الدنيا لهل الغفلة
ويقول لهم :إنها فرصة للمتعة فانتهزها وَخذْ حظك منها فلن تعيش مرتين ،وإياك أن تُصدّق
بالبعث أو الحساب أو الجزاء.
وهذه وساوس ل يُصدّقها إل مَنْ لديه استعداد للعصيان ،وينتظر الشارة مجرد إشارة فيطيع ويقع
فريسة لوعود كاذبة ،فإنْ كان يوم القيامة تبرّأ إبليس من هؤلء الحمقى ،وقال {:إِنّ اللّهَ وَعَ َدكُمْ
عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ
ق َووَعَدّتكُمْ فََأخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْي ُكمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
وَعْدَ ا ْلحَ ّ
خيّ }[إبراهيم]22 :
خكُ ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ
سكُمْ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْ ِر ِ
تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ
إذن :في اليتين السابقتين خمسة أوامر لبليس :اذهب ،استفزز ،وَأجْلب ،وشاركهم ،وعِدْهم .وهذه
الوامر ليست لتنفيذ مضمونها ،بل للتهديد ولظهار عجزه عن الوقوف في وجه الدعوة ،أو صَدّ
الناس عنها ،وكأن الحق سبحانه يقول له :إفعل ما تريد ودبّر ما تشاء ،فلن توقِف دعوة ال؛ لذلك
قال بعدها } :إِنّ عِبَادِي لَ ْيسَ َلكَ عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانٌ.{ ...
()2077 /
ك َوكِيلًا ()65
ن َو َكفَى بِرَ ّب َ
إِنّ عِبَادِي لَ ْيسَ َلكَ عَلَ ْيهِمْ سُلْطَا ٌ
سبق أن تحدثنا عن الفرق بين العباد والعبيد ،وقلنا كلما نُوجزه في أن العبيد هم المقهورون للسيد
في المور القَسْرية القهرية ،ومتمردون عليه في المور الختيارية ،أما العباد فهم مقهورون في
المور القسرية القهرية ،وتنازلوا أيضا عن مُرادهم في المور الختيارية لمراد ربهم ،فرضوا أنْ
يكونوا مقهورين ل في جميع أحوالهم.
حمَـانِ الّذِينَ
وقد تحدّث الحق سبحانه عن عباده وأصفيائه ،كما في قوله تعالى {:وَعِبَادُ الرّ ْ
َيمْشُونَ عَلَىا الَ ْرضِ َهوْنا وَِإذَا خَاطَ َبهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلَما * وَالّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَ ّبهِمْ سُجّدا َوقِيَاما
جهَنّمَ إِنّ عَذَا َبهَا كَانَ غَرَاما }[الفرقان.]65-63 :
عذَابَ َ
* وَالّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَا اصْرِفْ عَنّا َ
فعباد ال الذين هم أصفياؤه وأحباؤه الذين خرجوا من مرادهم لمراده ،وفَضلّوا أن يكونوا
مقهورين لربهم حتى في الختيار ،فاستحقوا هذه الحصانة اللهية في مواجهة كيد الشيطان
ووسوسته وغروره { :إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانٌ[ } ...السراء.]65 :
ضعِيفا }[النساء]76 :
وسبق أنْ تحدّثنا عن كَيْد الشيطان الذي قال ال عنه {:إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ َ
ففي مُحاجّته يوم القيامة أمام ضحاياه الذين أغواهم وأضلّهم ،سيقولَ {:ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي[} ...إبراهيم ]22 :فليس لي سلطان َقهْر أحملكم به على
سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
المعصية ،ول سلطان حُجّة وبرهان فأُقنِعكم بها.
ك َوكِيلً } [السراء.]65 :
ثم يقول تعالىَ { :و َكفَىا بِرَ ّب َ
الوكيل هو المؤيّد ،وهو الناصر ،تقول :وكلت فلنا .أي :وثقت به ليؤدي لي كل ما أريد ،فإنْ
كان في البشر مَنْ تثق به ،وتأتمنه على مصالحك ،فما بالك إنْ كان وكيلك هو ال عز وجل؟ ل
ن كان وكيلك ال فهو كافيك ومؤيّدك وناصرك ،فل يُحوجِك لغيره سبحانه.
شكّ إ ْ
ثم يقول الحق سبحانه { :رّ ّب ُكمُ الّذِي يُ ْزجِي َلكُمُ ا ْلفُ ْلكَ.} ...
()2078 /
رَ ّبكُمُ الّذِي يُزْجِي َلكُمُ ا ْلفُ ْلكَ فِي الْ َبحْرِ لِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِهِ إِنّهُ كَانَ ِب ُكمْ رَحِيمًا ()66
الربّ هو المتولّي تربيتك :خَلْقا من عَدم ،وإمدادا من عُدم ،وقيّوميته تعالى عطاء ينتظم المؤمن
والكافر { يُ ْزجِي } الزجاء :الرسال بهوادة شيئا فشيئا .و { ا ْلفُ ْلكَ } هي السفن وتُطلَق على
المفرد وعلى الجمع ،وعلى المذكّر والمؤنث.
ومنها قوله تعالى {:وَا ْلفُ ْلكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَنفَعُ النّاسَ }[البقرة]164 :
ومنها قوله تعالىُ {:هوَ الّذِي يُسَيّ ُر ُكمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ حَتّىا إِذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ َوجَرَيْنَ ِبهِم بِرِيحٍ
طَيّ َبةٍ[} ..يونس]22 :
ثم يقول تعالى { :لِتَبْ َتغُواْ مِن َفضْلِهِ[ } ..السراء]66 :
البتغاء هو القصد إلى نافع يطلب من البحر كالقوت أو غيره ،كما قال تعالى في آية أخرى{:
سخّرَ الْ َبحْرَ لِتَ ْأكُلُواْ مِنْهُ َلحْما طَرِيّا وَتَسْ َتخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْ َيةً تَلْبَسُو َنهَا[} ..النحل]14 :
وَ ُهوَ الّذِي َ
فالبحر مصدر من مصادر الرزق والقُوت ،ومُسْتودع لثروة عظيمة من فضل ال تعالى؛ لذلك قال
بعدها { :إِنّهُ كَانَ ِب ُكمْ رَحِيما } [السراء]66 :
والرحمة اتساع مَدَد الفضل من ال ،فالذي أعطاكم البَرّ بما فيه من خيرات أعطاكم البحر أيضا
بما فيه من خيرات.
والرض التي نعيش عليها إما بَرّ يسمى يابسة ،أو بحر ،وإنْ كانت نسبة اليابس من الرض
خمْس ،فالباقي بحر شاسع واسع يَزْخَر من خَيْرات ال بالكثير.
الرّبْع أو ال ُ
وطُرُق السير في اليابسة كثيرة متعددة ،تستطيع أن تمشي أو تركب ،و ُكلّ وسيلة من وسائل
الركوب حَسْب قدرة الراكب ،فهذا يركب حمارا ،وهذا يركب سيارة ،وتستطيع أن تنتقل فيها من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مكان إلى آخر .أما البحر فل يمكن النتقال فيه إل أنْ تُحملَ على شيء ،فمن رحمة ال بنا أنْ
جعل لنا السفن آية من آياته تسير بنا على لُجّة الماء ،ويمسكها بقدرته تعالى فنأمَن الغرق.
وأول مَنْ صنع السفن بوحي من ال نوح عليه السلم ،فلم تكُنْ معروفة قِبله ،بدليل قوله تعالى{:
وَ َيصْنَعُ ا ْلفُ ْلكَ َوكُّلمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلٌ مّن َق ْومِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن َتسْخَرُواْ مِنّا فَإِنّا َنسْخَرُ مِنكُمْ َكمَا
سخَرُونَ }[هود.]38 :
تَ ْ
فلم يكُنْ للناس عهد بالسفن ،وكانت سفينة نوح بدائية من ألواح الخشب والحبال ،ولول أن ال
تعالى دَلّه على طريقة بنائها ،وهداه إلى تنظيمها ما كان له عِلْم بهذه المسألة ،ف َكوْنُ الحق سبحانه
يهدينا بواسطة نبي من أنبيائه إلى مركب من المراكب التي تيسّر لنا النتفاع بثلثة أرباع
الرض ،ل شكّ أنها رحمة بالنسان وتوسيع عليه.
وكذلك من رحمته بنا أنْ يسّر لنا تطوير هذا المركب على مر العصور ،فبعد أن كان يتحرك على
سطح الماء بقوة الهواء باستخدام ما يسمى بالقلع ،والذي يتحكم في المركب من خلله ،ويستطيع
الربان الماهر تسفيح القلع ،يعني توجيهه إلى الناحية التي يريدها.
فكان الريح هو الصل في سَيْر السفن ،ثم أتى التقدم العلمي الذي اكتشف البخار واللت ثم
الكهرباء ،وبذلك سهّل على النسان تحريك السفن على سطح الماء بسهولة ويُسْر ،كما تطورتْ
صناعة السفن كذلك على مَرّ العصور ،حتى أصبحنا نرى الن البوارج الكبيرة متعددة الدوار،
والتي تشبه فعلً الجبالِ ،مصْداقا لقوله الحق سبحانه وتعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكُمْ[} ..النفال ]46 :إذن :الريح هو القوة المطلقة.
رِي ُ
سكِنِ الرّيحَ[} ..الشورى ]33 :يُسكِن القوة المحرّكة للسفن أيّا كانت هذه القوة :قوة الريح
فمعنىُ {:ي ْ
أو البخار أو الكهرباء أو غيرها من القوى ،فإنْ شاء سبحانه تعطَّلتْ ُكلّ هذه القوى.
ضلّ مَن تَدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ.{ ...
سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ
ثم يقول الحق سبحانه } :وَِإذَا مَ ّ
()2079 /
ضلّ مَنْ تَدْعُونَ إِلّا إِيّاهُ فََلمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْ َرضْتُ ْم َوكَانَ الْإِنْسَانُ
س ُكمُ الضّرّ فِي الْبَحْ ِر َ
وَإِذَا مَ ّ
َكفُورًا ()67
البحر هو المزنق والضائقة التي ل يستطيع الخلص منها إنْ أصابه فيه سوء ،فالبر منافذ النجاة
ك وَجَرَيْنَ
فيه متعددة ،أما البحر فل نجاة فيه إل بعناية ال ،يقول تعالى {:حَتّىا ِإذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْل ِ
ف وَجَآ َءهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَانٍ َوظَنّواْ أَ ّنهُمْ ُأحِيطَ
ص ٌ
ِبهِم بِرِيحٍ طَيّبَ ٍة َوفَرِحُواْ ِبهَا جَآءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ
عوُاْ اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ[} ..يونس]22 :
ِبهِمْ دَ َ
وهكذا النسان حتى الكافر ،إذا ضاقتْ به الحِيَل ولم يجد مَنْفذا يلجأ إلى ال المنفذ الحقيقي
والمفرّج للكَرْب ،والنسان عادة ل يُسلم نفسه ويظلّ مُتعلّقا بالمل في النجاة.
ضلّ مَن تَدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ[ } ..السراء]67 :
سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ
فقوله تعالى { :وَإِذَا مَ ّ
أي :أحاط بهم الخطر بالريح العاصف أو الموج العالي ،وأحسّوا بخطورة الموقف ول مُنقِذَ لهم
صدُقون مع أنفسهم ،ول يخدعونها ول يكذبون عليها ،فإنْ
إل ال ،حتى الكفار في هذا الموقف َي ْ
آمنوا بآلهة أخرى وإنْ عبدوا الصنام والوثان ،فإنهم في هذا الضيق ل يلجأون إل إلى ال ،ول
يدعون إل ال؛ لنهم يعلمون تماما أن آلهتهم ل تسمع ول تجيب ،ول تملك لهم نفعا ول نجاة.
ضلّ مَن تَدْعُونَ[ } ..السراء ]67 :أي :ذهب عن بالكم مَن اتخذتموهم آلهة،
قوله تعالىَ { :
وغابوا عن خاطركم ،فلن يقولوا هنا يا هبل؛ لنهم لن يغشّوا أنفسهم ،ولن ينساقوا وراء كذبهم في
هذا الوقت العصيب.
إنهم في هذا الضيق لن يتذكروا آلهتهم ،ولن تخطرَ لهم ببال أبدا؛ لن مجرد تذكّرهم يُضعِف ثقتهم
في ال الذي يملك وحده النجاة ،والذي يطلبون منه المعونة.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بقصة حلق الصحة في الريف الذي يتولى علج البسطاء ،ويدّعي
العلم والخبرة ،فإذا ما مرض ولده فإنه يُسرع به إلى الطبيب ،لنه إنْ خدع الناس فلن يخدع
نفسه ،وإنْ كذب عليهم فلن يكذب على نفسه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك النسان ل يبيع نفسه رخيصا ،فإنْ أحاطتْ به الخطار ل يلجأ إل إلى ال؛ لنه وحده
القادر على تفريج الكروب وإغاثة الملهوف ،حتى وإنْ كان كافرا؛ لنه سبحانه هو الذي أمره أنْ
يلجأ إليه ،وأنْ يدعوه ،فقال {:فََلوْل ِإذْ جَآءَهُمْ بَ ْأسُنَا َتضَرّعُواْ[} ..النعام]43 :
فإنْ دَعَوهُ سمع لهم وأجابهم على كفرهم وعنادهم؛ لنهم عباده وخَلْقه وصَنْعته ،فما أرحمه سبحانه
ن كفر به!
حتى بمَ ْ
لذلك قال رب العزة في الحديث القدسي " :قالت الرض :يا رب إئذن لي أن أخسف بابن آدم فقد
طعم خيرك ومنع شكرك ،وقالت السماء :يا رب إئذن لي أن أسقط كِسَفا على ابن آدم فقد طعم
خيرك ومنع شكرك ،وقالت الجبال :يا رب إئذن لي أن أَخِرّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع
طعِم خيرك ومنع شكرك .فقال
شكرك ،وقالت البحار :يا رب إئذن لي أن أُغرِقَ ابن آدم فقد َ
تعالى :دعوني وما خلقت ،لو خلقتموهم لرحمتموهم ،فإنهم عبادي ،فإنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم ،وإنْ
لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
لقد غفر لهم الحق سبحانه أن يعبدوه غيره ،وأن يؤذوا النبوة ،وأنْ يقفوا في وجه الدعوة ،غفر لهم
ع ْوهُ ،فلمّا نجّاهم إلى البر أعرضوا ،وعادوا
لنه ربّ ،وما دام ربا فهو رحيم ،فتضرعوا إليه ودَ َ
ن الِنْسَانُ َكفُورا
لما كانوا عليه وتنكّروا للجميل والمعروف؛ لذلك يقول تعالى بعدهاَ } :وكَا َ
{ [السراء]67 :
وكفور :صيغة مبالغة من الكفر ،أي :كثير الكفر للنعمة ،ولَيْتَه كفر بنعمة الخلق فقال :إنه أتى
هكذا من فعل الطبيعة ،إنما كفر بنعمة ملموسة مشاهدة عاش مأزقها ،وقاسى خطرها ،ثم إذا نجّاه
ال أعرض وتمرّد ،وهذا من طبيعة النسان.
سلَ عَلَ ْيكُمْ حَاصِبا.{ ...
سفَ ِبكُمْ جَا ِنبَ الْبَرّ َأوْ يُرْ ِ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :أفََأمِنْتُمْ أَن َيخْ ِ
()2080 /
فهؤلء الذين أعرضوا عن ال بعد إذ نجّاهم في البحر أَأمِنُوا مكْر ال في البر؟ وهل الخطر في
البحر فقط؟ وأليس ال تعالى بقادر على أن يُنزِل بهم في البر مثل ما أنزل بهم في البحر؟
سفَ ِبكُمْ جَا ِنبَ الْبَرّ[ } ..السراء]68 :
يقول تعالىَ { :أفََأمِنْتُمْ أَن يَخْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سفْنَا بِ ِه وَبِدَا ِر ِه الَ ْرضَ[} ..القصص ]81 :ولستم ببعدين عن
كما قال تعالى في شأن قارونَ {:فخَ َ
هذا إنْ أراده ال لكم ،وإنْ كنا نقول " البر أمان " فهذا فيما بيننا وبين بعضنا ،أما إنْ جاء أمر ال
فلن يمنعنا منه مانع.
سلَ عَلَ ْيكُمْ حَاصِبا[ } ..السراء ]68 :أي :ريحا تحمل الحصباء ،وترجمكم
وقوله تعالىَ { :أوْ يُرْ ِ
بها رَجْما ،والحصباء الحصى الصغار ،وهي َلوْن من ألوان العذاب الذي ل يُدفَع ول يُ َردّ؛ لذلك
جدُواْ َلكُ ْم َوكِيلً } [السراء]68 :
قال بعدها { :ثُ ّم لَ تَ ِ
أي :ل تجدوا مَنْ ينصركم ،أو يدفع عنكم .إذن :ل تظنوا أن البر أمان ل خطر فيه ..ل ،بل
خطري موجود غير بعيد منكم ،سواء أكنتم في البحر أو في البر.
ثم يقول الحق سبحانه { :أَمْ َأمِنْتُمْ أَن ُيعِي َدكُمْ فِيهِ تَا َرةً ُأخْرَىا.} ...
()2081 /
جدُوا
صفًا مِنَ الرّيحِ فَ ُيغْ ِر َقكُمْ ِبمَا َكفَرْتُمْ ُثمّ لَا تَ ِ
سلَ عَلَ ْيكُمْ قَا ِ
أَمْ َأمِنْ ُتمْ أَنْ ُيعِي َد ُكمْ فِيهِ تَا َرةً ُأخْرَى فَيُرْ ِ
َلكُمْ عَلَيْنَا ِبهِ تَبِيعًا ()69
أي :وإنْ نجاكم من خطر البحر ،فل مجال للمن في البر؛ لنه قادر سبحانه أن يُذيقكم بأسه في
البر ،أو يُعيدكم في البحر مرة أخرى ،ويُوقعكم فيما أوقعكم فيه من كَرْب في المرة الولى،
فالمعنى :أنجوتُمْ فأمنتُم.
سلَ عَلَ ْيكُمْ قَاصِفا مّنَ الرّيحِ[ } ..السراء]69 :
وقوله تعالى { :فَيُرْ ِ
القاصف :هو الذي يقصف بعنف وشدة ،ول يكون إل في اليابس { فَ ُيغْ ِر َقكُم ِبمَا َكفَرْتُمْ} ...
[السراء ]69 :أي :بسبب كفركم بنعمة ال ،وجحودكم لفضله ،فقد نجاكم في البحر فأعرضتم
وتمردتم ،في حين كان عليكم أن تعترفوا ل بالجميل ،و ُتقِرّوا له بالفضل.
جدُواْ َلكُمْ عَلَيْنَا ِبهِ تَبِيعا } [السراء]69 :
ثم يقول تعالىُ { :ث ّم لَ تَ ِ
عندنا تابع وتبيع ،التابع :هو الذي يتبعك لعمل شيء فيك ،أما التبيع :فهو الذي يُوالِي تتبعك،
ويبحث عنك لَخْذ ثأره منك .فالمعنى :إنْ فعلنا بكم هذه الفعال فلن تجدوا لكم تبيعا يأخذ بثأركم
أو ينتقم لكم ،إذن :ل أملَ لكم في ناصر ينصركم ،أو مدافع يحميكم.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول :أنا ل أخاف ر ّد الفعل منكم ،والنسان يُحجم عن الفعل مخافةَ
ر ّد الفعل ،ويجلس يفكر طويلً :إذا ضربتُ فلنا فسيأتي أهله ويفعلون بي كذا وكذا ،أما الحق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه وتعالى فل أحدَ يستطيع ردّا على انتقامه أو عذابه.
حمَلْنَاهُمْ فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلقَدْ كَ ّرمْنَا بَنِي ءَادَ َم وَ َ
()2082 /
وهل هناك تكريم لبني آدم أعظم من أنْ يُعدّ لهم مُقوّمات حياتهم قبل أنْ يخلقهم؟ لقد رتّب لهم
جمِيعا[} ..البقرة]29 :
الكون وخلق من أجلهم الشياء{ ُهوَ الّذِي خَلَقَ َل ُكمْ مّا فِي الَرْضِ َ
إذن :فكل ما في الوجود مُسخّر لكم من قبل أنْ تُوجَدوا؛ لن خلق ال تعالى إما خادم وإما مخدوم،
وأنت أيّها النسان مخدوم من كل أجناس الكون حتى من الملئكة ،ألم َي ُقلْ الحق سبحانه {:لَهُ
حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ[} ..الرعد]11 :
ُمعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ
وقال تعالى {:فَا ْلمُدَبّرَاتِ َأمْرا }[النازعات]5 :
سعْي منك ،لذلك
فالكون كله يدور من أجلك وفي خدمتك ،يعطيك عطاءً دائما ل ينقطع دون َ
حلّ للغز الكون،
ن يقفَ وقفه تأمّل وتفكّر؛ ليصل إلى َ
نقول :كان من الواجب على العقل المجرد أ ْ
وليهتدي إلى أن له خالقا مُبْدعا ،يكفي أن أنظر إلى آيات ال التي تخدمني ،وليس له قدرة عليها،
وليست تحت سيطرتي ،فالشمس والقمر والنجوم والرض والهواء والماء والمطر والسحاب كلها
ل أن تقول :مَنِ الذي أع ّد لي كلّ
تعطيني وتُمدّني دون قدرة لي عليها ،أليس من الواجب عليك عد ً
هذه الشياء التي ما ادّعاهَا أحد لنفسه؟
فإذا ما صاح صائح منك أيّها النسان وقال :أنا رسول من الرب الذي خلق لكم كل هذه
المخلوقات ،كان يجب عليكم أنْ تُر ِهفُوا له السمع لتسمعوا ما جاء به؛ لنه سوف يحلّ لكم هذا
اللغز الذي حيّركم.
وسبق أنْ ضربنا مثلً لذلك بالرجل الذي انقطعتْ به السّبل في الصحراء حتى أشرف على
الهلك ،فإذا هو بمائدة مُعدّة بأطايب الطعام والشراب ،أليس حَريا به قبل أنْ تمتد يده إليها أنْ
يفكر كيف أتتْه؟
إذن :كان على النسان أن يُعمل عقله و ِفكْره في معطيات الكون التي تخدمه وتسخر من أجله،
وهي ل تأتمر بأمره ول تخضع لقدرته.
ولقد اختلف العلماء في بيان َأوْجُه التكريم في النسان ،فمنهم مَنْ قال :كُرّمَ بالعقل ،وآخر قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كُرّمَ بالتمييز ،وآخر قال :كُرّمَ بالختيار ،ومنهم مَنْ قال :كُرّمَ النسان بأنه يسير مرفوع القامة ل
منحنيا إلى الرض كالبهائم ،ومنهم مَنْ يرى أنه كُرّمَ بشكل الصابع وتناسقها في شكل بديع يسمح
لها بالحركة السلسة في تناول الشياء ،ومنهم مَنْ يرى أنه كُرّم بأن يأكلَ بيده ل بفمه كالحيوان.
وهكذا كان لكل واحد منهم مَلْحظ في التكريم.
ل وهو :أن الحق سبحانه خلق
ولنا في مسألة التكريم هذه ملحظ كنت أودّ أنْ يلتفت إليه العلماءَ ،أ َ
الكون كله بكلمة (كُنْ) إل آدم ،فقد خلقه ال بيده ونفخ فيه من روحه ،قال تعالى {:ياإِبْلِيسُ مَا
جدَ ِلمَا خََلقْتُ بِيَ َديّ }[ص]75 :
مَ َن َعكَ أَن تَسْ ُ
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي َف َقعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }[الحجر]29 :
سوّيْتُهُ وَنَفَ ْ
وقال {:فَِإذَا َ
فقمة الفضل والتكريم أن خلق ال تعالى أبنا آدم بيده ،بدليل أن ال جعلها حيثية له.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ي ْومَ نَدْعُواْ ُكلّ أُنَاسٍ بِِإمَا ِمهِمْ.} ...
()2083 /
َيوْمَ نَدْعُوا ُكلّ أُنَاسٍ بِِإمَا ِمهِمْ َفمَنْ أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ َيمِينِهِ فَأُولَ ِئكَ َيقْرَءُونَ كِتَا َبهُ ْم وَلَا ُيظَْلمُونَ فَتِيلًا ()71
أي :يوم القيامة ،والداعي هو المنادي ،والناس هم المدعوون ،والنداء على الناس في هذا اليوم ل
يكون بفلن بن فلن ،بل ينادي القوم بإمامهم أي :برسولهم ،فيقال :يا أمة محمد ،يا أمة عيسى ،يا
أمة موسى ،يا أمة إبراهيم.
ثم يُفصّل هذا الجمال ،فتُنادى كل جماعة بمَنْ بلّغهم وهداهم ودَلّهم ليُغري الناس بنقل الفضل
العلمي من أنفسهم إلى غيرهم.
وقال بعضهم { بِِإمَا ِمهِمْ } أي :بأمهاتهم ،وفي دعاء الناس بأمهاتهم في هذا الموقف تكريم لعيسى
عليه السلم أولً ،وسَتْر على أولد الثم ثانيا ،حتى ل يُفضحوا على رؤوس الشهاد في مثل هذا
الموقف.
ثم يقول تعالىَ { :فمَنْ أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ َيمِينِهِ فَُأوْلَـائِكَ َيقْرَؤونَ كِتَا َبهُ ْم َولَ يُظَْلمُونَ فَتِيلً } [السراء:
]71
فكوْنه أخذ كتابه بيمينه ،فهذه بشارة الخير وبداية السلمة ،فإذا به يسارع إلى قراءته ،بل ويتباهى
به بين الناس قائلً {:هَآ ُؤمُ اقْ َرؤُاْ كِتَابيَهْ }[الحاقة ]19 :إنه مسرور بعمله الصالح الذي يحب أنْ
يطلع عليه الناس ،وقوله تعالى { :وَلَ ُيظَْلمُونَ فَتِيلً } [السراء]71 :
الظلم أنْ تأخذ من خير غيرك مما ليس عندك ،إذن :فعندك نقص في شيء تريد أنْ تحصل عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظلما ،إذن :فماذا ينقص الحق سبحانه وتعالى حتى يظلم الخَلْق؟! إن الخلق يتصفون بالظلم؛ لن
النسان عادةً ل يرضى بما قسم ال له؛ لذلك يشعر بالنقص فيظلم غيره ،أما ال عز وجل فهو
الغني عن الخَلْق ،فكيف يظلمهم؟ وهم جميعا بما يملكون هِبة منه سبحانه.
ومعنى { فَتِيلًْ } عادةً يضرب الحق سبحانه وتعالى المثال في القرآن بالمألوف عند العرب وفي
بيئتهم ،ومن مألوفات العرب التمر ،وهو غذاؤهم المفضّل والعَلف لماشيتهم ،ومن التمر أخذ
القرآن النقير والقطمير والفتيل ،وهي ثلثة أشياء تجدها في نواة الثمرة ،وقد استخدمها القرآن في
تمثيل الشيء الضئيل القليل.
فالنقير :هو تجويف صغير في ظهر النواة مثل النقطة.
والقطمير :هو اللفافة الرقيقة الشفافة بين الثمرة والنواة.
والفتيل :هو غللة رقيقة تشبه الخيط في بطن النواة.
ظَلمُونَ فَتِيلً } [السراء ]71 :أي :أنه سبحانه وتعالى ل يظلم الناس أبدا ،فهو
فمعنى { :وَلَ يُ ْ
صغَر.
سبحانه مُنزّه عن الظلم مهما تناهى في ال ّ
وفي مقابل مَنْ أوتي كتابه بيمينه لم تذكر الية مَنْ أُوتي كتابه بشماله ،كما جاء في قوله تعالى{:
شمَالِهِ فَ َيقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ }[الحاقة]25 :
وََأمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ِب ِ
ظهْ ِرهِ }[النشقاق]10 :
وفي آية أخرى قال {:وََأمّا مَنْ أُو ِتيَ كِتَابَ ُه وَرَآءَ َ
عمَىا.} ...
عمَىا َف ُهوَ فِي الخِ َرةِ أَ ْ
أما هنا فقال الحق سبحانهَ { :ومَن كَانَ فِي هَـا ِذهِ أَ ْ
()2084 /
وهذا هو المقابل لمن أخذ كتابه بيمينه؛ لنه عميتْ بصيرته في الدنيا فعمى في الخرة ،وطالما
شكّ أنه من أهل الشمال ،فاليات ذكرتْ مرة السبب ،وذكرتْ مرة المسبّب ،ليلتقي
هو كذلك فل َ
السبب والمسبب ،وهو ما يعرف باسم [الحتباك] البلغي.
فكأن الحق سبحانه قال :إن مَنْ أُوتِي كتابه بيمينه وقرأه وتباهى به لم يكُنْ أعمى في دنياه ،بل
كان بصيرا واعيا ،فاهتدى إلى منهج ال وسار عليه ،فكانت هذه نهايته وهذا جزاءه.
أما مَنْ أوتي كتابه بشماله فقد كان أعمى في الدنيا عمى بصيرة ل عمى بصر؛ لن عمى البصر
حجب الداة الباصرة عن إدراك المرائي ،والكافرون في الدنيا كانوا مُبصرين للمرائي من
طمِس عليها فل ترى خيرا ،ول تهتدي إلى
حولهم .مُدركين لماديات الحياة ،أما بصيرتهم فقد ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلح.
وسبق أن قلنا :إن النسان لكي يسير في رحلة الحياة على هدى ل بُدّ له من بصر يرى به
المرائي المادية ،حتى ل يصطدم بأقوى منه فيتحطم أو بأضعف منه فيحطمه ،والبصر للمؤمن
والكافر من عطاء الربوبية للنسان .لكن إلى جانب البصر هناك عطاء آخر هو ثمرة من ثمار
عطاء اللوهية الذي ل يكون إل للمؤمن ،أل وهو البصيرة ،بصيرة القيم التي يكتسبها النسان من
منهج ال الذي آمن به وسار على َهدْيه.
ضلّ سَبِيل } [السراء]72 :
عمَىا وََأ َ
وقولهَ { :ف ُهوَ فِي الخِ َرةِ أَ ْ
إنْ كان عماه في الدنيا عمى بصيرةَ ،فعَماه في الخرة عمى بصر؛ لن البصيرة مطلوبة منه في
الدنيا فقط؛ لن بها سيُعرف الخير من الشر ،وعليها يترتب العمل ،وليست الخرة مجال عمل،
ل َولَ
ضّإذن :العمى في الخرة عمى البصر ،كما قال تعالى في آية أخرىَ {:فمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلَ َي ِ
عمَىا }[طه-123 :
ش ًة ضَنكا وَنَحْشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ أَ ْ
شقَىا * َومَنْ أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِي َ
يَ ْ
]124
عمْيا وَ ُبكْما َوصُمّا[} ..السراء:
حشُرُهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَلَىا وُجُو ِههِمْ ُ
وقال عنهم في آية أخرى {:وَنَ ْ
]97
لكن قد يقول قائل :هناك آيات أخرى تثبت لهم الرؤية في الخرة ،مثل قوله تعالى {:حَتّىا إِذَا
رََأوْاْ مَا يُوعَدُونَ[} ..مريم]75 :
وقوله تعالى {:وَرَأَى ا ْل ُمجْ ِرمُونَ النّارَ فَظَنّواْ أَ ّنهُمْ ّموَاقِعُوهَا[} ..الكهف]53 :
وللجمع بين هذه اليات وللتوفيق بينها نقول :للكفار يوم القيامة في مجال الرؤية البصرية حالتان:
صمّا لتزداد حَيْرتهم ويشتد بهم الفزع حيث
عمْيا و ُبكْما و ُ
الولى عند القيام و َهوْل المحشر يكونون ُ
هم في هذا الكرب الشديد ،ولكن ل يعرف ما يحدث ول أين المهرب ،ول يستمعون من أحد
كلمة ،وهكذا هم في كَرْب وحَيْرة ل يدرون شيئا .وهذه حالة العمي البصري عندهم.
أما الحالة الثانية وهي الرؤية ،فتكون عندما يتجلى الحق تبارك وتعالى لهل الموقف ويكشف
الغطاء عن نفسه سبحانه ،فهنا يصير الكافر حَادّ البصر ،ليرى مكانه من النار.
ول ُبدّ لنا هنا أن نلحظَ أن ألفاظ اللغة قد يكون اللفظ واحدا ولكن يختلف السياق ،ففي قوله
ضلّ سَبِيلً { [السراء]72 :
عمَىا وََأ َ
عمَىا َف ُهوَ فِي الخِ َرةِ أَ ْ
تعالىَ } :ومَن كَانَ فِي هَـا ِذهِ أَ ْ
ضلّ سَبِيلً { إذن :ل بُدّ أن عمى الدنيا أقلّ من
عمَىا { واحد ،لكن في الخرة قال } وََأ َ
فلفظ } أَ ْ
عمى الخرة ،كما تقول :هذا خير .فمقابل خير :شر .أما لو قلت :هذا خَيْر من هذا فقد فضّلتَ
الول في الخيرية عن الثاني ،إذن :كلمة خير إما أنْ تأتي َوصْفا ،وإما أن تأتي تفضيلً.
ب إلى ال من المؤمن
ح ّ
ومن ذلك قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :المؤمن القوي خَيْرٌ وأ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الضعيف ،وفي ُكلّ خير ".
عمَىا[ { ..السراء:
فالمراد أن المؤمن القوي أكثر في الخيرية .إذن :فكلمةَ } :فهُوَ فِي الخِ َرةِ أَ ْ
]72ليست َوصْفا ،وإنما تفضيل لعمى الخرة على عمى الدنيا ،أي أنه في الخرة أشدّ عمىً.
وقوله تعالى } :وََأضَلّ سَبِيلً { [السراء ]72 :ومعلوم أنه كان ضالً في الدنيا ،فكيف يكون أضلّ
في الخرة؟
قالوا :لن ضلله في الدنيا كان يمكن تداركه بالرجوع إلى المنهج والعودة إلى الطريق السّويّ،
أما في الخرة فضلله ل يمكن تداركه ،فقد انتهى وقت الختيار ،إذن :فضللهُ في الخرة أشدّ
وأعظمُ من ضلله في الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَإِن كَادُواْ لَ َيفْتِنُو َنكَ عَنِ الّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ لِتفْتَ ِريَ عَلَيْنَا غَيْ َرهُ.{ ...
()2085 /
وهذه خبيثة جديدة من خبائثهم مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقد كانوا يحاولون جادّين أنْ
يصرفوا رسول ال عما بعثه ال به ،فمرة يقولون لهَ :دعْ آلهتنا نتمتع بها سنة ونأخذ الغنائم من
ورائها وتحرم لنا بلدنا ـ أي :ثقيف ـ كما حرمت مكة .ومرة يقولون له :ل تستلم الحجر
ويمنعونه من استلمه حتى يستلم آلهتهم أولً.
ومعنى { كَادُواْ } أي قاربوا ،والمقاربة غير الفعل ،فالمقاربة مشروع فعل وتخطيط له ،لكنه لم
يحدث ،إنهم قاربوا أنْ يفتنوك عن الذي أُنزِل إليك لكن لم يحدث؛ لن محاولتهم كانت من بعيد،
فهي تحوي حول فتنتك عن الدين ،كما قالوا مثلً :نعبد إلهك سنة ،و تعبد آلهتنا سنة.
ومعنى { :لَ َيفْتِنُو َنكَ } لَيُحوّلونك و َيصْرِفونك عما أنزل ال إليك ،لماذا؟ { لِتفْتَ ِريَ عَلَيْنَا غَيْ َرهُ} ..
[السراء ]73 :كما حكى القرآن عنهم في آية أخرى {:ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ َأوْ بَدّ ْلهُ[} ..يونس:
]15
فيكون الجواب من الحق سبحانهُ {:قلْ مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُ َبدّلَهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَى
عذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ }[يونس]15 :
عصَ ْيتُ رَبّي َ
إَِليّ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ
عمُرا مّن قَبِْلهِ َأفَلَ
وقال تعالى {:قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَدْرَاكُمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
َت ْعقِلُونَ }[يونس]16 :
ونلحظ في مثل هذا الموقف أن الحق سبحانه يتحمل العنت عن رسوله ،وينقل المسألة من ساحة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرسول إلى ساحته تعالى ،لكي ل تكون عداوة بين محمد وقومه ،فالمر ليس من عند محمد بل
ك وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ
من عند ال ،يقول تعالىَ {:قدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َن َ
حدُونَ }[النعام]33 :
بِآيَاتِ اللّهِ َيجْ َ
فل تحزن يا محمد ،فأنت ُمصَدّق عندهم ،لكن المسألة عندي أنا ،وهكذا يتحمل الحق سبحانه
الموقف عن رسوله حتى ل يحمل القوم ضغينة لرسول ال.
ثم يقول تعالى { :وَإِذا لّتّخَذُوكَ خَلِيلً } [السراء]73 :
ب ومودّة ،بحيث يتخلل كل منكما الخر ويتغلغل فيه ،ومنه
ح ّ
الخليل :هو المخالّ الذي بينك وبينه ُ
قوله تعالى في إبراهيم {:وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً }[النساء]125 :
للِ
جهْ َدهُ خَليليْنِ ذَابَا َلوْعَ ًة وَعِتَابَاكأنّ خَليِلً فِي خِـ َ
ش ْوقُ َ
ومنه قول الشاعر:وََلمّا التقيْنَا قَ ّربَ ال ّ
ق وَغَابَافإذا ما تقابل الخليلن ذاب كل منهما في صاحبه أو تخلّله ودخل
خَليِلِه تَسَ ّربَ أثناءَ العِنَا ِ
فيه.
فالمعنى :لو أنك تنازلتَ عن المنهج الذي جاءك من ال َلصِ ْرتَ خليلً لهم ،كما كنت خليلً لهم من
قبل ،وكانوا يحبونك ويقولون عنك " الصادق المين " .إذن :الذي جعلهم في حالة عداء لك هو
منهج ال جئتَ به ،فلو تنازلتَ عنه أو تهاونت فيه فسوف يتخذونك خليلً ،فل تكُنْ خليلً لهم بل
خليلً لربك الذي أرسلك.
ويخاطب الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم ،فيقول { :وََلوْلَ أَن ثَبّتْنَاكَ َلقَدْ كِدتّ تَ ْركَنُ
إِلَ ْيهِمْ شَيْئا قَلِيلً }.
()2086 /
وََلوْلَا أَنْ ثَبّتْنَاكَ َلقَدْ كِ ْدتَ تَ ْركَنُ إِلَ ْيهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ()74
{ وََل ْولَ } أداة شرط إن دخلت على الجملة السمية ،وتفيد امتناع وجود الجواب لوجود الشرط،
ويسمونها حرف امتناع لوجود ،كما لو قلت :لول زيدٌ عندك لَزُرْ ُتكَ ،فقد امتنعت الزيارة لوجود
زيد.
فإنْ دخلت (لول) على الجملة الفعلية أفادتْ الحثّ والحضّ ،كما في قوله تعالىّ {:لوْلَ جَآءُوا عَلَيْهِ
ش َهدَآءَ[} ..النور]13 :
بِأَرْ َبعَةِ ُ
و(لول) في الية دخلتْ على جملة اسمية؛ لن (أن) بعدها مصدرية ،فالمعنى :لول تثبتنا لك
لقاربتَ أن تركنَ إليهم شيئا قليلً.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمتأمل في هذه الية يجدها تحتاط لرسول ال عدة احتياطات ،فلم ت ُقلْ :لول تثبتنا لك لَركنتَ
ن فمنعتْ مجرد المقاربة ،أما الركون فهو أمر بعيد وممنوع نهائيا
إليهم ،ل ،بل لَقاربتَ أنْ ترك َ
وغير مُتصوّر من رسول ال ،ومع ذلك أكّد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله { :شَيْئا قَلِيلً }
[السراء ]74 :أي :ركونا قليلً.
مما يدلّ على أن طبيعته صلى ال عليه وسلم ـ حتى دون الوحي من ال ـ طبيعة سليمة
بفطرتها ،فلو تصوّرنا عدم التثبيت له من ال ماذا كان يحدث منه؟ يحدث مجرد (كاد) أو (قَرُب)
أنْ يركنَ إليهم شيئا قليلً ،وقلنا :إن المقارنة تعني مشروعَ ِفعْل ،لكنه لم يحدثِ ،ممّا يدلّ على أن
لرسول ال ذاتية مستقلة.
ومعنى { ثَبّتْنَاكَ[ } ..السراء ]74 :التثبيت هو منع المثبّت أنْ يتأرجح ،لذلك نقول للمتحرك:
اثبت.
ومعنى { :تَ ْركَنُ } من ركون النسان إلى شيء يعتصم به ويحتمي ،والناس يبنون الحوائط ليحموا
حمَى ظهره فقط ،وأمن أنْ
بها ممتلكاتهم ،وإذا احتمى النسان بجدار فأسند ظهره إليه مَثلً فقد َ
يأتيه أحد من ورائه ،فإنْ أراد أنْ يحميَ جميع جهاته الربع ،فعليه أن يلجأ إلى ُركْن وأنْ يسند
ظهره إلى الركن فيأمن من أمامه ،ويحتمي بجدار عن يمينه وجدار عن شماله .إذن :الركون أن
تذهب إلى حِرْز يمنعك من جميع جهاتك.
ومن الركون قوله تعالى عن لوط عليه السلم مع قومهَ {:لوْ أَنّ لِي ِبكُمْ ُق ّوةً َأوْ آوِي إِلَىا ُركْنٍ
شَدِيدٍ }[هود ]80 :أي :أحتمي به وألجأ إليه.
والحق سبحانه في هذه اليات يريد أنْ يستلّ السخيمةَ على محمد صلى ال عليه وسلم من قلوب
أعدائه؛ لنه صلى ال عليه وسلم كان حريصا على هدايتهم وتأليف قلوبهم ،وقد كان يشقّ على
نفسه ويُحمّلها ما ل يطيق في سبيل هذه الغاية ،ومن ذلك ما حدث من تَرْكه عبد ال بن أم مكتوم
الذي جاءه سائلً ،وانصرافه عنه إلى صناديد قريش؛ لذلك عتب عليه ربه تبارك وتعالى لنه شقّ
على نفسه.
وكأن الحق تبارك وتعالى في هذه الية يقول :يا قوم إنْ لم يوافقكم محمد على ما كنتم تريدون
عمّا أُنزِل إليه من ربه ،فاعذروه؛ لن المر عندي والتثبيت مني ،ول ذنب لمحمد
منه النصراف َ
فيما خالفكم فيه ،كما لو كان عندك خادم مثلً ارتكب خطأ ما ،فأردت أنْ تتحمل عنه المسئولية،
فقلت :أنا الذي كلفتُه بهذا وأمرتُه به ،فالمر عندي وليس للخادم ذنب فيما فعل.
ض ْعفَ ا ْل َممَاتِ.} ...
ض ْعفَ الْحَيَا ِة َو ِ
ك ِ
ثم يقول الحق سبحانه { :إِذا ل َذقْنَا َ
()2087 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضعْفَ ا ْل َممَاتِ ثُمّ لَا َتجِدُ َلكَ عَلَيْنَا َنصِيرًا ()75
ض ْعفَ ا ْلحَيَا ِة َو ِ
ك ِ
إِذًا لَأَ َذقْنَا َ
()2088 /
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْ َتفِزّو َنكَ مِنَ الْأَ ْرضِ لِيُخْ ِرجُوكَ مِ ْنهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَا َفكَ إِلّا قَلِيلًا ()76
وهنا أيضا قوله تعالى { كَادُواْ } أي :قاربوا ،فهم ل يجرؤون على الفعل ،ول يستطيعون ،فالمر
مجرد القُرْب من الفعل ،فإنهم سيحاولون إخراجك ،لكنك لن تخرج إل بأمري وتقديري.
ن الَ ْرضِ[ } ..السراء ]76 :من استفزّه أي :طلب منه النهوض
وقوله تعالى { :لَيَسْ َتفِزّو َنكَ مِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خفّة إلى ال ِفعْل ،كما تقول لولدك المتثاقل( :فِز) أي :قُمْ وانهض ،والمراد :يستحثونك على
وال ِ
ن الَ ْرضِ } من مكة بإيذائهم لك ،وعَنَتهم معك ليحملوك على الخروج ،ويُكرّهوك في
الخروج { مِ َ
القامة بها.
وكفار مكة يعلمون أن في خروجه صلى ال عليه وسلم من مكة راحة لهم ،وحتى ل يكون أُسْوة
لعبيدهم ولضعاف القوم الذين أحبوه ،ومالوا لعتناق دينه واليمان به.
ثم يقول تعالى { :وَإِذا لّ يَلْبَثُونَ خِل َفكَ ِإلّ قَلِيلً } [السراء]76 :
أي :لو أخرجوك من مكة فلن يلبثوا فيها بعدك إل قليلً ،وقد حدث فعلً ،فبعد خروجه صلى ال
عليه وسلم من مكة بعام جاءت بدر ،فقُتِل سبعون من صناديد قريش ،وأُسِرَ سبعون ،وبعد أن
خرج الرسول من مكة لم يتمتعوا فيها بالنعيم ول بالسيادة التي كانوا يَرجُونها بعد خروجه.
ثم يقول الحق سبحانه { :سُنّةَ مَن َقدْ أَرْسَلْنَا قَبَْلكَ مِن رّسُلِنَا.} ..
()2089 /
حوِيلًا ()77
سلْنَا قَبَْلكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا َتجِدُ ِلسُنّتِنَا تَ ْ
سُنّةَ مَنْ قَدْ أَرْ َ
يُوضّح الحق تبارك وتعالى أن ما حدث هو سُنة من سُنن ال في الرسل ،كما قال تعالى {:وََلقَدْ
سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات:
]173-171
فكأن عليهم أنْ يأخذوا عِبْرة من الرسل السابقين ،وبما حلّ بأعدائهم من عذاب ال ،لقد أرسل ال
الرسل فكُذّبوا وعُودوا واضطهِدُوا ،ومع ذلك نصرهم ال ،وجعل لهم الغَلبة.
حوِيلً
جدُ لِسُنّتِنَا تَ ْ
والسّنة :هي العادة والطريقة التي ل تتخلّف ول تتبدّل؛ لذلك يقول بعدهاَ { :ولَ تَ ِ
} [السراء]77 :؛ لن السّنة ل تتحوّل ول تتبدّل إل بالقوى الذي يأتي ليُغير السنة بأخرى من
عنده ،فإذا كانت السّنة من ال القوي بل القوى ،فهو سبحانه وحده الذي يملك هذا التحويل ،ول
يستطيع أحد أبدا تحويل سنة ال ،فإذا قال سبحانه ،فقوله الحق الذي ل يُبدّله أحد ،ول يُعارضه
أحد.
وبعد أن تكلّم الحق سبحانه عن اللهيات إيمانا بها ،وعن النبوات تصديقا لها ،وعن القيامة
ووجوب اليمان بها وبما يحدث فيها من تناول الكتب ،أراد سبحانه أنْ يأتي لنا بثمرة هذا المنهج
وحصيلته النهائية ،وهي أنْ يستقيمَ لنا منهج الحياة وتنضبط حركتنا فيها.
هذا المنهج اللهي جاء في صورة أحكام ،ولهذه الحكام أركان أساسية جمعها النبي صلى ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خمْس :شهادة أن ل إله إل ال ،وأن محمدا رسول ال،
عليه وسلم في قوله " :بُ ِنيَ السلمُ على َ
وإقام الصلة ،وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلً ".
إذن :هذه الركان التي بُنِي عليها السلم ،لكن ما حظ المسلم من هذه الركان؟ لو تأملت لوجدتنَا
ن ل إله إل ال ،وأن محمدا رسول ال ،وفي الصلة لنها ل تسقط عن
نشترك كلنا في شهادة أ ْ
أحد ليّ سبب ،وهي المكرّرة في اليوم خمس مرات.
أما باقي الركان وهي :الزكاة ،والصوم ،والحج فقد ل تنطبق شروطها على الجميع ،فالفقير ل
تُفرض عليه زكاة أو حج ،والمريض ل يُفرض عليه الصوم .إذن :عندنا أركان للسلم وأركان
للمسلم التي هي :الشهادتان والصلة ،وقد يدخل فيها الزكاة أو الصوم أو الحج ،فإذا أتى المسلم
بجميع الركان فقد اتفقتْ أركان السلم مع أركان المسلم.
وتلحظ في هذه الركان أن الشهادتين يكفي أن تقولهما وتشهد بهما ولو مرة واحدة ،والزكاة
والصوم والحج قد ل تنطبق عليك شروطها ،فلم يَبْقَ إل الصلة؛ لذلك جعلها عماد الدين.
سقِ الّيلِ.} ...
شمْسِ إِلَىا غَ َ
لةَ لِدُلُوكِ ال ّ
ثم قال تعالىَ { :أ ِقمِ الصّ َ
()2090 /
شهُودًا ()78
ل َوقُرْآَنَ ا ْلفَجْرِ إِنّ قُرْآَنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ مَ ْ
غسَقِ اللّ ْي ِ
شمْسِ إِلَى َ
َأقِمِ الصّلَاةَ ِلدُلُوكِ ال ّ
ن ولء
فالصلة هي الفريضة الثابتة المتكررة التي ل تسقط عن المسلم بأي حال ،وفيها إعل ُ
لليمان بال كل يوم خمس مرات ،وهي أيضا تنتظم كل أركان السلم؛ لنك في الصلة تشهد أن
ن كنتَ تقولها مرة واحدة هاأنت تقولها عدة مرات في
ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ،فبدل أ ْ
كل صلة ،وهذا هو الركن الول.
كما أنها تشتمل على الصوم؛ لنك تصوم في أثناء الصلة فتمتنع عن شهو َتيْ البطن والفرج،
ي فعل غير أفعال الصلة ،وعن الكلم في غير ألفاظ الصلة .إذن :في الصلة
وكذلك عن أ ّ
صيام بالمعنى الوسع للصوم.
وفي الصلة زكاة؛ لن المال الذي تكتسبه وتُزكّيه ناتج عن الحركة ،والحركة فرع الوقت ،وفي
الصلة تُضحّي بالوقت نفسه ،فكأن الزكاة في الصلة أبلغ.
وكذلك في الصلة حج؛ لنك تتوجّه فيها إلى كعبة ال ،وتستحضرها في ذِهْنك وأمام ناظر ْيكَ.
لذلك استحقت الصلة أن تكون عماد الدين ،ومَنْ أقامها فقد أقام الدين ،ومَنْ هدمها فقد هدم الدين،
لةَ[ } ..السراء ]78 :أي:
ومن هنا جاءت الصلة في أول هذه الحكام ،فقال تعالىَ { :أ ِقمِ الصّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أدّها أدا ًء كاملً في أوقاتها.
والصلة لها مَيْزة عن كل أركان السلم؛ لن كل تكليفات السلم جاءت بواسطة الوحي لرسول
ضتْ بالمباشرة مما يدلّ على أهميتها ،وقد مثّلنَا لذلك ـ ول المثل العلى
ال إل الصلة ،فقد فُ ِر َ
ـ بالرئيس الذي يتصل بمرؤوسه تليفونيا ليأمره بشيء ،فإذا كان هذا الشيء من الهمية بمكان
استدعاه إليه وأفهمه ما يريد.
وهكذا كانت الصلة ،فقد فُ ِرضَتْ على رسول ال صلى ال عليه وسلم وعلى أمته بالمباشرة لما
لها من أهمية بين فراض الدين ،ثم تولى جبريل عليه السلم تعليم رسول ال الصلة ،وعَلّمها
رسول ال للناس ،وقال " :صَلّوا كما رأيتموني أُصلّي ".
شمْسِ[ } ..السراء]78 :
وقوله تعالى { :لِدُلُوكِ ال ّ
الحق سبحانه يريد أن يُبيّن لنا مواقيت الصلة .و(الدلوك) معناه :الزوال من حركة إلى حركة،
ومنها قولنا :فلن (المدلكاتي) أي :الذي يتولّى عملية التدليك ،وتتحرك يده من مكان لمكان.
والمراد بدلوك الشمس :مَيْلها عن وسط السماء إلى ناحية الغرب ،والنسان يرى الفق الواسع إذا
حسْب نظره وقوته يرى الفق ،فإنْ كان
نظر إلى السماء ،فيراها على شكل قوس ممتدّ وعلى َ
لفُقْ واسعا ،وإنْ كان نظره ضعيفا رأى الفق ضيّقا؛ لذلك يقولون لقيل التفكير:
نظره قويا رأى ا ُ
ضيّق الفق.
وأنت حين تقف في مكانك وتنظر إلى السماء تراها على شكل نصف دائرة ،وأنت مركزها،
وساعةَ أنْ ترى الشمس عمودية عليك ،فهذا وقت الزوال ،فإذا ما انحرفتْ الشمس ناحية المغرب
ُيقَال :دلكت الشمس .أي :مالت ناحية المغرب ،وهذا هو وقت الظهر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :تشهده الملئكة .إذن :المشهودية لها َدخْل في العبادة ،فإذا كانت مشهودية مَنْ ل تكليف عليه
في الصلة جعلها ال حيثية ،فكيف بمشهودية مَنْ كُلّف بالصلة؟
والحق سبحانه وتعالى جعل في صلة الجماعة استطراقا للعبودية ،ففي صلة الجماعة يستوي كل
الخَلْق حيث يخلعون وجاهتهم ،ويخلعون أقدارهم على أبواب المسجد ،كما يخلعون أحذيتهم،
فالرئيس بجانب المرؤوس والوزير بجانب الخفير.
لذلك نهى النبي صلى ال عليه وسلم أن يُوطّن النسان لنفسه مكانا في المسجد ،يجلس فيه
باستمرار؛ لن الصل أنْ يجلس المصلي حيث ينتهي به المجلس ،فيجلس الناس بأولوية الحضور
كل حَسْب مكانه ومبادرته للصلة ،فل يتخطى الرقاب ،ول يُفرق بين اثنين.
ف الول مثلً ،ويضع سجادته ليحجزَ بها مكانا ،ثم
ونرى بعض المصلين يسارع إلى الص ّ
ينصرف لحَاجته ،فإذا ما تأخر عن الصلة أتى ليتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكانه ،فإذا
بالناس يضيِقون من هذا التصرّف ،ويُنحّون سجادته جانبا ويجلسون مكانها ،إنه تصرّف ل يليق
ببيوت ال التي تُسوّي بين خَلْق ال جميعا ،وتحقق استطراق العبودية ل ،فأنت اليوم بجوار فلن،
وغدا بجوار آخر ،الجميع خاضع ل راكع وساجد ،فليس لحد أن يتعالى على أحد.
ونرى كذلك استطراق العبودية واضحا في مناسك الحج ،حيث يأتي أحد العظماء والوجهاء فتراه
عند الملتزم خاضعا ذليلً باكيا متضرعا ،وهو مَنْ هو في دُنْيا الناس.
إذن :فوقت الفجر وقت مبارك مشهود ،تشهده ملئكة الليل ،وهم غير مُكلّفين بالصلة ،فالفضل
من مَشْهدية الملئكة مَشْهدية المصلّين الذين كلّفهم ال بالصلة ،وجعلهم ينتفعون بها.
ومن هنا كانت صلة الجماعة أفضل من صلة الفرد بسبع وعشرين درجة ،كما جاء في الحديث
النبوي الشريف.
ويجب أن نلتفت إلى أن الحق سبحانه ربط الصلوات الخمس بالوقت ،وبآية كونية تدلّ عليه هي
حجِ َبتْ عنّا بغيْم أو نحوه؟
الشمس ،فكيف العمل إذا غابت ،أو ُ
إذن :على النسان المؤمن أن يجتهد ويُع ِملَ تفكيره في إيجاد شيء يضبط به وقته ،وفعلً تفتقتْ
القرائح عن آلت ضبط الوقت الموجودة الن ،والتي تُيسّر كثيرا على الناس؛ لذلك كانت
الطموحات النسانية لشياء تخدم الدين وتوضح معالمه أمرا واجبا على علماء المسلمين ،على
اعتبار أن مَا ل يتم الواجب إل به فهو واجب.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومِنَ الْلّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً ّلكَ.{ ...
()2091 /
حمُودًا ()79
عسَى أَنْ يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ مَقَامًا مَ ْ
َومِنَ اللّ ْيلِ فَ َت َهجّدْ ِبهِ نَافِلَةً َلكَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الهجود :هو النوم ،وتهجّد :أي أزاح النوم والهجود عن نفسه ،وهذه خصوصية لرسول ال وزيادة
على ما فرض على أمته ،أنْ يتهجّد ل في الليل ،كما قال له ربه تعالى {:ياأَ ّيهَا ا ْلمُ ّز ّملُ * قُمِ الّيلَ
صفَهُ َأوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلً * َأوْ ِزدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ ا ْلقُرْآنَ تَرْتِيلً }[المزمل]4-1 :
ِإلّ قَلِيلً * ّن ْ
فهذه الخصوصية لرسول ال وإنْ كانت فَرْضا عليه ،إل أنها ليست في قالب من حديد ،بل له
صلى ال عليه وسلم مساحة من الحرية في هذه العبادة ،المهم أن يقول ل تعالى جزءا من الليل،
لكن ما عِلّة هذه الزيادة في حَقّ رسول ال؟ العلة في قوله تعالى {:إِنّا سَُن ْلقِي عَلَ ْيكَ َق ْولً َثقِيلً }
[المزمل]5 :
وكأن التهجّد ليلً ،والوقوف بين يدي ال في هذا الوقت سيعطي رسول ال صلى ال عليه وسلم
حمْل المنهج
القوة والطاقة اللزمة للقيام بهذه المسئولية الملقاة على عاتقه ،ألَ وهي مسئولية َ
وتبليغه للناس.
وفي الحديث الشريف " أن رسول ال كان كلما حزبه أمر قام إلى الصلة " ،ومعنى حَزَبه َأمْر:
أي :ضاقت أسبابه عنه ،ولم َيعُد له فيه منفذ ،فإنْ ضاقت عليه السباب فليس أمامه إل المسبّب
سبحانه يلجأ إليه و ُيهْرع إلى نجدته{ إِنّ نَاشِئَةَ اللّ ْيلِ ِهيَ أَشَدّ وَطًْأ وََأ ْقوَمُ قِيلً }[المزمل]6 :
لنك في الوقت الذي ينام فيه الناس ويخلدون إلى الراحة وتتثاقل رؤوسهم عن العبادة ،تقوم بين
يدي ربك مناجيا مُتضرّعا ،فتتنزل عليك من الرحمات والفيوضاتَ ،فمَنْ قام من الناس في هذا
الوقت واقتدى بك فََلهُ نصيب من هذه الرحمات ،وحَظّ من هذه الفيوضات .ومَنْ تثاقلتْ رأسه عن
حظّ له.
القيام فل َ
إذن :في قيام الليل قوة إيمانية وطاقة روحية ،ولما كانت مهمة الرسول فوق مهمة الخَلْق كان
حظّه من قيام الليل أزيد من حظهم ،فأعباء الرسول صلى ال عليه وسلم كثيرة ،وال ِعبْءُ الثقيل
يحتاج التصال بالحق الحد القيوم ،حتى يستعين بلقاء ربه على قضاء مصالحه.
ومن العجيب أن ينصرف المسلمون عن هذه السّنة ،ويتغافلون عنها ،فإذا حزبهم أمر ل ُيهْرَعون
إلى الصلة ،بل يتعللون ،يقول أحدهم :أنا مشغول .وهل شغل الدنيا مبرر للتهاون في هذه
الفريضة؟ ومَنْ يدريك لعلك بالصلة تُفتح لك البواب ،وتقضى في ساعة ما ل تقضيه في عدة
أيام.
ن صَلّوا صَلّوا قضاءً ،فإن سألتَهم
ونقول لهؤلء الذين يتهاونون في الصلة وتشغلهم الدنيا عنها ،فإ ْ
قالوا :المشاغل كثيرة والوقت ل يكفي ،فهل إذا أراد أحدهم الذهاب لقضاء حاجته ،هل سيجد وقتا
ك واج ٌد الوقت لمثل هذا المر ،حتى وإنْ تكالبتْ عليه مشاغل الدنيا ،فلماذا الصلة
لهذا؟ إنه ل ش ّ
هي التي ل تجد لها وقتا؟!
وقوله تعالى { :نَافِلَةً ّلكَ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[ { .السراء]79 :
النافلة هي الزيادة عما فرض على الجميع (لك) أي :خاصة بك دون غيرك ،وهذا هو مقام
خذِينَ مَآ آتَا ُهمْ رَ ّبهُمْ إِ ّن ُهمْ كَانُواْ قَ ْبلَ
الحسان الذي قال ال عنه {:إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آ ِ
ذَِلكَ ُمحْسِنِينَ }[الذاريات]16-15 :
والمحسن هو الذي دخل مقام الحسان ،بأن يزيد على ما فرضه ال عليه ،ومن جنس ما فرض؛
جعُونَ * وَبِالَسْحَارِ هُمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ }
لذلك جاءت حيثية الحسان {:كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ
[الذاريات]18-17 :
وهذا المقام ليس فرضا عليك ،فلك أن تصلي العشاء وتنام حتى صلة الفجر ،لكن إنْ أردت أن
خلْ في مقام الحسان على َقدْر استطاعتك.
تتأسّى برسول ال وتتشبّه به فاد ُ
حمُودا { [السراء]79 :
عسَىا أَن يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ َمقَاما مّ ْ
ثم يقول تعالىَ } :
عسَىا { تدل على رجاء حدوث الفعل،
تحدثتْ الية في أولها عن التكليف ،وهذا هو الجزاء ،و } َ
وفَرْق بين التمني والرجاء ،التمني :أن تعلن أنك تحب شيئا لكنه غير ممكن الحدوث أو مستحيل،
ظ ُمهَا فالشاعر يتمنى لو أصبحت الكواكب بين
ومن ذلك قول الشاعر:لَ ْيتَ الكَواكِبَ تَدْنُو ليِ فَأ ْن ِ
يديه فينظمها قصائد مدح فيمن يمدحه ،وهذا أمر مستحيل الحدوث.
وقولهَ:ألَ لَ ْيتَ الشّباب يعُودُ َيوْما فَأُخبرُه ِبمَا َف َعلَ المشيِبُأما الرجاء فهو طلب فعل ممكن الحدوث.
ويقع تحت الطلب أشياء متعددة؛ فإنْ طلب المتكلم من المخاطب شيئا غير ممكن الحدوث فهو
تمنّ ،وإن طلب شيئا ممكن الحدوث فهو ترجّ ،وإنْ طلب صورة الشيء ل حقيقته فهو استفهام
كما تقول :أين زيد؟ وفَرْقٌ بين طلب الحقيقة وطلب الصورة.
فإنْ طلبتَ حقيقة الشيء ،فأمامك حالتان :إما أنْ تطلب الحقيقة على أنها تُفعل فهذا أمر ،مثل :قُمْ:
فإنْ طلبتها على أنها ل تفعل فهذا نهي :ل َتقُمْ.
إذن } :عَسَىا { تدل على الرجاء ،وهو يختلف باختلف المرجو منه ،فإنْ رجوت من فلن فقد
يعطيك أو يخذلك ،فإنْ قُ ْلتَ :عسى أنْ أعطيك فقد قربت الرجاء؛ لنني أرجو من نفسي ،لكن
النسان بطبعه صاحب أغيار ،ويمكن أن تطرأ عليه ظروف فل َيفِي بما وعد.
فإنْ قُلْت :عسى ال أن يعطيك ،فهو أقوى الرجاء؛ لنك رجوتَ مَنْ ل يُعجِزه شيء ،ول يتعاظمه
شكّ فيه.
شيء ،ول تتناوله الغيار إذن :فالرجاء فيه مُحقّق لَ َ
والمقام المحمود ،كلمة محمود :أي الذي يقع عليه الحمد ،والحمد هنا مشاع فلم َي ُقلْ :محمود ِممّنْ؟
فهو محمود ِممّنْ يمكن أن يتأتّى منه الحمد ،محمود من الكل من لَدُنْ آدم ،وحتى قيام الساعة.
والمراد بالمقام المحمود :هو مقام الشفاعة ،حينما يقف الخَلْق في ساحة الحساب و َهوْل الموقف
وشِدّته ،حتى ليتمنى الناس النصراف ولو أن النار ،ساعتها تستشفع ُكلّ أمة بنبيها ،فيردّها إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنْ يذهبوا إلى خاتم المرسلين وسيد النبياء ،فيقول :أنا لها ،أنا لها.
لذلك أمرنا صلى ال عليه وسلم أن ندعو بهذا الدعاء " :وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته "
شكّ أنه دعاء لصالحنا نحن.
ول َ
ج صِ ْدقٍ.{ ...
ق وَأَخْ ِرجْنِي ُمخْرَ َ
ل صِ ْد ٍ
خَثم يقول الحق سبحانهَ } :وقُل ّربّ أَ ْدخِلْنِي مُدْ َ
()2092 /
خلَ صِدْقٍ[ } ..السراء ]80 :أي :من حيث النظرة العامة؛ لنك قبل أنْ تدخلَ
قوله تعالى { :مُ ْد َ
اطلب الخروج أولً؛ لنك لن تدخلَ إل بعد أنْ تخرجَ .وإنْ كان الترتيب الطبيعي أن تقول:
أخرجني مُخْرَج صدق ،وأدخلني ُمدْخَل صدق.
نقول :ل ،لن الدخول هو غاية الخروج ،ولن الخروج متروك والدخول مستقبل لك ،إذن:
الدخول هو الهمّ فبدأ به .لذلك يقولون :إياك أنْ تخرجَ من أمر إل إذا عرفتَ كيف تدخل.
ومعنى مخرجَ الصدق ،ومدخل الصدق ،أنك ل تدخل أو تخرج بدون هدف ،فإنْ خرجتَ من
مكان فليكُن مخرجك مخرج صدق ،يعني :مطابقا لواقع مهمتك ،وإنْ دخلتَ مكانا فليكُنْ دخولك
مدخل صدق .أي :لهدف محدد تريد تحقيقه .فإن دخلتَ محلً مثلً فادخل لهدف ،كشراء سلعة
صدْق ،أما لو دخلتَ دون هدف أو لتؤدي خَلْق ال ،فليس في هذا دخول صدق.
مثلً ،فهذا دخول ِ
إذن :يكون دخولك ل وخروجك ل ،وهكذا خرج رسول ال من مكة ودخل المدينة ،فكان خروجه
ل ودخوله ل ،فخرج مُخْرجَ صِدْق ،ودخل مُدخَل صدق ،لنه صلى ال عليه وسلم ما خرج من
مكة إل لما آذاه قومه واضطهدوه وحاربوا دعوته حتى لم ت ُعدْ التربة في مكة صالحة لنمو
الدعوة ،وما دخل المدينة إل لما رأى الّنصْرة والمؤازرة من أهلها.
فالصدق أنْ يطابق الواقع والسلوك ما في نفسك ،فل يكُنْ لك قصور في نفسك ،ولك حركة مخالفة
لهذا القصد.
جعَل لّي مِن لّدُ ْنكَ سُ ْلطَانا ّنصِيرا } [السراء]80 :
ثم يقول تعالى { :وَا ْ
طلب الّنصْرة من ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم؛ لنه أرسله بمنهج الحق ،وسوف
يصطدم هذا الحق بأهل الباطل والفساد الذين يحرصون على الباطل ،وينتفعون بالفساد ،وهؤلء
سوف ُيعَادُون الدعوة ،ويُجابِهونها؛ لذلك توجه رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى ربه تعالى
الذي أرسله واستعان به على مواجهة أعدائه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله تعالى { :سُ ْلطَانا ّنصِيرا } [السراء ]80 :السلطان :سبق أنْ أوضحنا أنه يُراد به إما حجة
تُقنع ،وإما سيف يَ ْردَع ،وهذا واضح في َقوْل الحق تبارك وتعالىَ {:لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ
وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْطِ }[الحديد ]25 :أي :باليات الواضحات ،وهذه
أدوات الحجة والقناع.
ثم يقول تعالى {:وَأَنزَلْنَا ا ْلحَدِيدَ فِيهِ بَ ْأسٌ شَدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ }[الحديد ]25 :وهذه أدوات القوة
والردع.
فالخيّر من الناس يرتدع بقول ال وبقول الرسول ويستجيب ،أما الشرير فل تُجدي معه الحجة ،بل
ل ُبدّ من رَدْعه بالقوة ،فالول إنْ تعرّض للحلف بال حلف صادقا ،أما الخر فإنْ تعرّض للحلف
حلف كاذبا ،ووجدها فُرْصة للنجاة ،ولسان حاله يقول :أتاك الفرج.
وفي الثر " :إن ال ليزع بالسلطان ما ل يزع بالقرآن ".
طلُ.} ...
ق وَزَ َهقَ الْبَا ِ
ثم يقول الحق سبحانهَ { :و ُقلْ جَآءَ ا ْلحَ ّ
()2093 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :جاء الحق ليس لستعباد الناس ،ولكن لراحتهم و َرفْع رؤوسهم .ومن الحق الذي أظل مكة
بالفتح ما يُ ْروَى أن واحدا دخل على النبي صلى ال عليه وسلم الكعبة وأراد إيذاءه ،وحينما وضع
يده على رسول ال صلى ال عليه وسلم تبدّل حاله وقال :فوال لقد أقبلت عليه ،وما في الرض
أبغض إليّ منه ،فحين وضعت يدي عنده فوال ما في الرض أحب إليّ منه ،وهكذا جاء الحق
وزهق الباطل.
طلَ كَانَ َزهُوقا } [السراء]81 :
وقوله تعالى { :إِنّ الْبَا ِ
زَهُوق صيغة مبالغة ،فالباطل نفسه سريعا ما يذهب ويندثر ،ومن العَجَب أن ترى الباطل نفسه
من جنود ال؛ لن الباطل لو لم يُؤلم الناس ويُزعجهم ما تشوّقوا للحق وما مالوا إليه ،فإذا ما
لدغهم الباطل واكتَووْا بناره عرفوا الحق.
سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ
وقد ضرب لنا الحق سبحانه وتعالى مثلً للحق وللباطل ،فقال {:أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْ َيةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَ َبدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَ َيذْ َهبُ ُ
ق وَالْبَا ِ
َيضْ ِربُ اللّهُ ا ْلحَ ّ
لمْثَالَ }[الرعد]17 :
َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
سيّ نراه حينما ينهمر المطر على قمم الجبال ،فيسيل
حّالحق سبحانه يُمثّل للحق وللباطل بشيء ِ
الماء على الودية بين الجبال حاملً معه صغار الحصى والرمال والقشّ ،وهذا هو الزّبَد الذي
يطفو على صفحة الماء ول ينتفع الناس به ،وهذا الماء مثالٌ للحق الذي ينفع الناس ،والزّبَد مثال
للباطل الذي ل خَيْر فيه.
أو :يعطينا المثال في صورة أخرى :صورة الحداد أو الصائغ الذي يُوقِد النار على الذهب ليخرج
منه ما علق به من شوائب.
حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ.} ...
شفَآءٌ وَرَ ْ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
()2094 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شخص لخر ،كما أن الماء الزلل يشربه الصحيح ،فيجد له لذة وحلوة ويشربه العليل فيجده مُرّا
مائعا ،فالماء واحد لكن المنفعل للماء مختلف .كذلك أكل الدّسم ،فإنْ أكله الصحيح نفعه ،وزاد في
سقْما وجَرّ عليه علة فوق عِلّته.
قوته ونشاطه ،وإنْ أكله السقيم زاده ُ
وقد سبق أن أوضحنا في قصة إسلم الفاروق عمر ـ رضي ال عنه ـ أنه لما تلقى القرآن
بروح الكفر والعناد كَرهه و َنفَر منه ،ولما تلقاه بروح العطف وال ّرقّة واللين على أخته التي شجّ
وجهها أعجبه فآمن.
إذن :سلمة الطبع أو فساده لها أثر في تلقّي القرآن والنفعال به .وما أشبه هذه المسألة بمسألة
التفاؤل والتشاؤم ،فلو عندك كوب ماءٍ قد مُلِئ نصفه ،فالمتفائل يُلفِت نظره النصف المملوء ،في
حين أن المتشائم يُلفِت نظره النصف الفارع ،فالول يقول :نصف الكوب ممتلئ .والخر يقول:
نصف الكوب فارع ،وكلهما صادق لكن طبعهما مختلف.
وقد عالج القرآن مسألة التلقّي هذه في قوله تعالى {:وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ أَ ّيكُمْ
زَادَ ْتهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا فََأمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَ ْتهُمْ إِيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ
سهِ ْم َومَاتُواْ وَ ُهمْ كَافِرُونَ }[التوبة]125-124 :
جِفَزَادَ ْتهُمْ رِجْسا إِلَىا رِ ْ
فالية واحدة ،لكن الطبع المستقل مختلف ،فالمؤمن يستقبلها بمَلكاتٍ سليمة ،فيزداد بها إيمانا،
والكافر يستقبلها بملكَات فاسدة فيزدا َد بها كفرا ،إذن :المشكلة في تلقّي الحقائق واستقبالها أن تكون
ملكاتُ التلقي فاسدة.
ومن هنا نقول :إذا نظرتَ إلى الحق ،فإياك أنْ تنظره وفي جوفك باطل تحرص عليه ،ل ُبدّ أن
تُخرِج ما عندك من الباطل أولً ،ثم قارن وفاضل بين المور.
وكذلك جاءت هذه المسألة في قول ال تعالىَ {:ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َت ِمعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَرَجُواْ مِنْ عِن ِدكَ
قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِ ْلمَ مَاذَا قَالَ آنِفا ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىا قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُواْ أَ ْهوَآءَهُمْ *
وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَا َدهُمْ ُهدًى وَآتَا ُهمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد]17-16 :
وقولهم {:مَاذَا قَالَ آنِفا[} ..محمد ]16 :دليل على عدم اهتمامهم بالقرآن ،وأنه شيء ل ُيؤْبَهُ له.
ي وَعَرَ ِبيّ ُقلْ ُهوَ
ج ِم ّ
جمِيّا ّلقَالُواْ َل ْولَ ُفصَّلتْ آيَاتُهُ ءَاعْ َ
عَجعَلْنَاهُ قُرْآنا أ ْ
وكذلك في قوله تعالى {:وَلَوْ َ
عمًى[} ..فصلت]44 :
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ
شفَآ ٌء وَالّذِي َ
لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ
ومثالٌ لسلمة التلقّي من حياتنا المعاصرة إرسال التلفاز مثلً ،فقد تستقبله أنت في بيتك فتجده
واضحا في حَلْقة من الحلقات أو برنامج من البرامج ،فتتمتع بما شاهدت ،ثم تقابل صديقا فيشكو
لك سوء الرسال وعدم وضوح الصورة فيؤكد لك سلمة الرسال ،إل أن العيب في جهاز
الستقبال عندك ،فعليك أولً أن تضبط جهاز الستقبال عندك لتستقبل آيات ال الستقبال الصحيح.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]82متوقف على سلمة الطبع ،وسلمة الستقبال ،والفهم عن ال تعالى.
والشفاء :أن تعالج داءً موجودا لتبرأ منه .والرحمة :أن تتخذ من أسباب الوقاية ما يضمن لك عدم
معاودة المرض مرة أخرى ،فالرحمة وقاية ،والشفاء علج.
ي لمراض القلوب وعِلَل النفوس ،فيُخلّص المسلم من القلق
لكن ،هل شفاءٌ القرآن شفا ٌء معنو ّ
والحَيْرة والغَيْرة ،ويجتثّ ما في نفسه من ال ِغلّ والحقد ،والحسد ،إلى غير هذا من أمراض
معنوية ،أم هو شفاء للماديات ،ولمراض البدن أيضا؟
شكّ فيه أن القرآن شفاء بالمعنى العام الشامل لهذه
والرأي الراجح ـ بل المؤكد ـ الذي ل َ
الكلمة ،فهو شفاء للماديات كما هو شفاء للمعنويات ،بدليل ما ُروِي عن أبي سعيد الخدري ـ
رضي ال عنه ـ وأنه خرج على رأس سرية وقد مَرّوا بقوم ،وطلبوا منهم الطعام ،فأ َبوْا
إطعامهم ،وحدث أنْ لُدِغ كبير القوم ،واحتاجوا إلى مَنْ يداويه فطلبوا مَنْ يرقيه ،فقالوا :ل نرقيه
حدّ قوله تعالىَ {:لوْ شِ ْئتَ لَتّخَ ْذتَ
ج ْعلٍ ،وذلك لما رأوه من بُخْلهم وعدم إكرامهم لهم ،على َ
إل ب ُ
عَلَيْهِ َأجْرا[} ..الكهف]77 :
ولما اتفقوا معهم على جُعل من الطعام والشياه قام أحدهم برقية اللديغ بسورة الفاتحة فبرئ ،فأكلوا
حلّ هذا
من الطعام وتركوا الشياه إلى أنْ عادوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وسألوه عن ِ
جعْل فقال صلى ال عليه وسلم " :ومَنْ أدراك أنها رقية " أي :أنها ُرقْية يرقى بها المريض فيبرأ
ال ُ
بإذن ال ،ثم قال صلى ال عليه وسلم " :كلوا منها ،واجعلوا لي سهما معكم ".
فشفاء أمراض البدن شيء موجود في السّنة ،وليس عجيبة من العجائب؛ لنك حين تقرأ كلم ال
فاعلم أن المتكلم بهذا الكلم هو الحق سبحانه ،وهو َربّ كل شيء ومليكه ،يتصرّف في كونه بما
يشاء ،وبكلمة (كُنْ) يفعل ما يريد ،وليس ببعيد أنْ يُؤثّر كلم ال في المريض فيشفى.
شفَى المريض
ولما تناقش بعض المعترضين على هذه المسألة مع أحد العلماء ،قالوا له :كيف ُي ْ
بكلمة؟ هذا غير معقول ،فقال العالم لصاحبه :اسكت أنت حمار!! فغضب الرجل ،و َهمّ بترك
المكان وقد ثارت ثورته ،فنظر إليه العالم وقال :انظر ماذا فعلتْ بك كلمة ،فما باُلكَ بكلمة ،المتكلّم
خسَارا { [السراء ]82 :لنهم
بها الحق سبحانه وتعالى؟ ثم يقول تعالىَ } :ولَ يَزِيدُ الظّاِلمِينَ َإلّ َ
بظُلْمهم واستقبالهم فُيوضات السماء بمَلكَات سقيمة ،وأجهزة متضاربة متعارضة ،فلم ينتفعوا
بالقرآن ،ولم يستفيدوا برحمات ال.
ض وَنَأَى بِجَانِ ِب ِه وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ كَانَ يَئُوسا
ثم يقول الحق سبحانه } :وَِإذَآ أَ ْن َعمْنَا عَلَى النْسَانِ أَعْ َر َ
{.
()2095 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَإِذَا أَ ْن َعمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْ َرضَ وَنَأَى ِبجَانِبِ ِه وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ كَانَ يَئُوسًا ()83
ال تعالى يريد أن يعطي النسان صورة عن نفسه؛ لتكون عنده المناعة الكافية إذا ما أصابه
طعْم أو التحصين الذي يمنع حدوث مرض ما .فهاهي طبيعة
المرض ،كما يعطي الطبيب جَرْعة ال ّ
سمَتُه الغالية ،وعليه أنْ يُخفّف من هذه الطبيعة ،والمراد أن النسان إذا أنعم ال عليه
النسان و ِ
استغنى وأعرضَ.
ولكي ُن َوضّح هذه المسألة نُمثّل لها ـ ول المثل العلى ـ الوالد الذي يعطي للبن مصروفه كل
شهر مثلً ،فترى الولد ل يلتفت إلى أبيه إل أول كل شهر ،حيث يأتي موعد ما تعوّد عليه من
مصروف ،وتراه طوال الشهر منصرفا عن أبيه ل يكاد يتذكره ،أما إذا عوّده على أنْ يُعطيه
مصروفه كل يوم ،فترى الولد في الصباح يتعرّض لبيه ويُظهِر نفسه أمامه ليُذكّره بالمعلوم.
فالولد حين أعرض عن أبيه وانصرف عنه ،ما الذي دعاه إلى هذا التصرف؟
لن الوالد أعطاه طاقة الستغناء عنه طوال الشهر ،فإنْ كان البن بارّا مؤمنا فإنه ل ينسى َفضْل
والده الذي َوفّر له طاقة الستغناء هذه ،فيُذكِر والده بالخير ،ويحمل له هذا الجميل.
فإنْ كان هذا هو الحال مع الرب الدنى فهو كذلك مع الربّ العلى سبحانه ،فيقول تعالى { :وَِإذَآ
أَ ْن َعمْنَا عَلَى النْسَانِ أَعْ َرضَ[ } ..السراء]83 :
أي :أعرض عنا وعن ِذكْرنا وانصرف عن منهجنا ،ومن الناس مَنْ يُعرِض عن ذكر ال ،ولكنه
يؤدّي منهجه ،ولو أدّى المنهج ذكر صاحب المنهج ما نسى المنعم أبدا.
ن الِنسَانَ
شغِل النسان بالنعمة عن المنعم ،فكأنه يُخطّئ المنعم ،كما قال تعالى {:كَلّ إِ ّ
وإذا ُ
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق]7-6 :
لَيَ ْ
فالستغناء هنا ليس ذاتيا في النسان ،بل هو استغناء موهوب ،قد ينتهي في يوم من اليام ويعود
جعَىا }[العلق:
النسان من جديد يطلب النعمة من المنعِم سبحانه ،يقول تعالى {:إِنّ إِلَىا رَ ّبكَ الرّ ْ
]8
ثم يتحدث الحق عن صفة أخرى في النسان { :وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ كَانَ يَئُوسا } [السراء ]83 :وهذه
صفة مذمومة في النسان الذي إذا ما تعرّض لشرّ أو مسّه ضُرّ يقنط من رحمة ال ،وكأن الحق
سبحانه يخاطب عبده الذي يقنط :ل يليق بك أن تقنط إذا ضاقتْ بك الدنيا ،وأنت مؤمن ل تعيش
مع السباب وحدها إنما مع المسبّب سبحانه ،وما ُد ْمتَ في رحاب مُسبّب السباب فل تيأس ول
تقنط.
لذلك يقولون " :ل كَ ْربَ وأنت ربّ " ،فيجوز لك القنوط إن لم يكُنْ لك َربّ يتولّك ،أما والرب
موجود فل يليق بك ،كيف ومَنْ له أب ل يُلقي لهموم الدنيا بالً ،ويستطيع أن يعتمد عليه في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قضاء حاجاته ،فما بالك بمَنْ له َربّ يرعاه ويتولّه ،ويستطيع أن يتوجه إليه ،ويدعوه في كل
وقت؟
والحق سبحانه حينما يُنبّهنا إلى هذه المسألة يريد أنْ يُعطينا الُسْوة به سبحانه وتعالى ،يريد أن
ل فأنكروه ،أو معروفا فجحدوه ،وكيف تحزن وهم
يقول للنسان :ل تحزن إن أدّ ْيتَ للناس جمي ً
يفعلون هذا معي ،وأنا ربّ العالمين ،فكثيرا ما أُنعِم عليهم ،ويُسيئون إليّ ،ويكفرون بي وبنعمتي.
وسيدنا موسى ـ عليه السلم ـ حينما طلب من ربه تعالى َألّ يقال فيه ما ليس فيه ،قال له ربه:
كيف ،وأنا لم أفعل ذلك لنفسي؟! إنهم يفترون على ال ما ليس فيه ،ويكفرون به سبحانه وينكرون
إيجاده ونعمه ،فَمنْ يغضب لقول الكافرين أو إيذائهم له بعد هذا؟
لكن ،لماذا ييأس النسان ويقنط؟ لنه في حال النعمة أعرض عن ال ونأى بجانبه :أي ابتعد عن
ربه ،لم َيعُدْ له مَنْ يدعوه ويلجأ إليه أن يُفرّج عنه ضيق الدنيا.
إذن :لما أعرض في الولى يَئِس في الثانية .وال تعالى يجيب مَنْ دعاه ولجأ إليه حال الضيق
ضلّ مَن تَدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ} ..
س ُكمُ ا ْلضّرّ فِي الْبَحْ ِر َ
حتى إنْ كان كافرا ،كما قال تعالى {:وَإِذَا مَ ّ
[السراء]67 :
ثم يقول الحق تبارك وتعالىُ } :قلْ ُكلّ َي ْع َملُ عَلَىا شَاكِلَتِهِ فَرَ ّبكُمْ أَعْلَمُ ِبمَنْ ُهوَ َأهْدَىا سَبِيلً {.
()2096 /
ُقلْ ُكلّ َي ْع َملُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَ ّبكُمْ أَعْلَمُ ِبمَنْ ُهوَ َأهْدَى سَبِيلًا ()84
أي :أن كل إنسان يعمل على طريقته ،وعلى طبيعته ،وعلى مقدار ما تكونت به من خليا
اليمان ،أو من خليا إيمان اختلطت بخليا عصيان ،أو بما عنده من خليا كفر ،فالناس مختلفون
وليسوا على طبع واحد ،فل تحاول ـ إذن ـ أن تجعل الناس على طبع واحد.
وما دام المر كذلك ،فليعمل كل واحد على شاكلته ،وحسب طبيعته ،فإنْ أساء إليك إنسان سيئ
الطبع فل تقابله بسوء مثله ،ولتعمل أنت على شاكلتك ،ولتقابله بطبع طيّب؛ لذلك يقولون :ل
تُكافئ مَنْ عصى ال فيك بأكثر من أنْ تطيع ال فيه .وبذلك يستقيم الميزان في المجتمع ،ول
تتفاقم فيه أسباب الخلف.
ثم يقول تعالى { :فَرَ ّب ُكمْ أَعْلَمُ ِبمَنْ ُهوَ أَهْدَىا سَبِيلً } [السراء ]84 :والربّ :المتولّي للتربية،
والمتولّي للتربية ل شكّ يعلم خبايا المربّى ،ويعلم أسراره ونواياه ،كما قال تعالىَ {:ألَ َيعْلَمُ مَنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك]14 :
خََل َ
ثم يقول الحق تبارك وتعالى { :وَيَسَْألُو َنكَ عَنِ الرّوحِ ُقلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي.} ...
()2097 /
وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ ُقلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي َومَا أُوتِيتُمْ مِنَ ا ْلعِ ْلمِ إِلّا قَلِيلًا ()85
عدّة ،فإنْ
والسؤال يَرِد في القرآن بمعان متعددة ،ووردتْ هذه الصيغة { وَيَسَْألُو َنكَ } في مواضع ِ
كان السؤال عن شيء نافع يضر الجهل به أجابهم القرآن ،كما في قوله تعالى {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ
ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي ا ْل َمحِيضِ }[البقرة]222 :
ن وَالْيَتَامَىا وَا ْلمَسَاكِينِ
لقْرَبِي َ
وقوله تعالى {:يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلْ مَآ أَ ْنفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَالِدَيْنِ وَا َ
ل َومَا َتفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ }[البقرة]215 :
وَابْنِ السّبِي ِ
فإنْ كان السؤال عن شيء ل يضر الجهل به ،لفت القرآن أنظارهم إلى ناحية أخرى نافعة ،كما
في سؤالهم عن الهِلّة :كيف يبدو الهلل صغيرا ثم يكبر ويكبر إلى أن يصير بدرا ،ثم يأخذ في
التناقص ليعود كما بدأ؟
فالحديث مع العرب الذين عاصروا نزول القرآن في هذه المور الكونية التي لم نعرفها إل حديثا
أمر غير ضروري ،وفوق مستوى فهمهم ،ول تتسع له عقولهم ،ول يترتب عليه حكم ،ول ينتج
عن الجهل به ضرر ،ولو أخبرهم القرآن في إجابة هذا السؤال بحقيقة دوران القمر بين الرض
والشمس وما يترتب على هذه الدورة الكونية من ليل ونهار ،وهم أمة أمية غير مثقفة لتهموا
القرآن بالتخريف ،ولربما انصرفوا عن أصل الكتاب كله.
لكن يُحوّلهم القرآن ،ويُلفت أنظارهم إلى ما يمكن النتفاع به من الهِلّةُ {:قلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ
وَالْحَجّ[} ..البقرة]189 :
وقد يأتي السؤال ،ويُرَاد به اختبار رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ومن ذلك ما حدث من اتفاق
كفار مكة واليهود حيث قالوا لهم :اسألوه عن الروح ،وهم يعلمون تماما أن هذه مسألة ل يعلمها
أحد ،لكنهم أرادوا الكيد لرسول ال ،فلعله يقول في الروح كلما يأخذونه عليه ويستخدمونه في
صَرْف الناس عن دعوته.
شكّ أنه سؤال خبيث؛ لن النسان عامة يحب أن يظهر في مظهر العالم ،ول يحب أن يعجز
ول َ
صغّر نفسه أمام سائليه من أهل مكة ،وسوف
أمام محاوره فاستغلوا هذه العاطفة ،فالرسول لن ُي َ
يحاول الجابة عن سؤالهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سعْيهم ،فكانت الجابة { :وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ ُقلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي َومَآ أُوتِيتُم
ولكن خَيّب ال َ
مّنَ ا ْلعِلْمِ ِإلّ قَلِيلً } [السراء]85 :
فعندما سمع أهل الكتاب هذه الجابة آمن كثيرون منهم؛ لنها طابقت ما قالته كتبهم عن الروح،
وأنها من عند ال.
و { الرّوحِ } لها إطلقات مُتعدّدة ،منها :الرّوح التي تمدّ الجسم بالحياة إن اتصلت به ،كما في
جدِينَ }[الحجر]29 :
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي َف َقعُواْ لَهُ سَا ِ
سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ
قوله تعالى {:فَإِذَا َ
فإذا ما فارقتْ هذه الروح الجسد فقد فارق الحياة ،وتحوّل إلى جثة هامدة ،وفيها يقول تعالى{:
فََلوْلَ ِإذَا بََل َغتِ الْحُ ْلقُومَ }[الواقعة]83 :
وقد تأتي الروح لتدل على أمين الوحي جبريل عليه السلم ،كما في قوله تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يقول تعالىُ } :قلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي[ { ..السراء]85 :
أي :أن هذا من خصوصياته هو سبحانه ،وطالما هي من خصوصياته هو سبحانه ،فلن يطلع أحدا
على سِرّها .وهل هي جوهر يدخل الجسم فيحيا ويسلب منه فيموت ،أم هي مراد (بكُنْ) من
الخالق سبحانه ،فإنْ قال لها كُنْ تحيا ،وإنْ قال ِمتْ تموت؟
إنّ علم النسان سيظل قاصرا عن إدراك هذه الحقيقة ،وسيظل بينهما مسافات طويلة؛ لذلك قال
تعالى بعدهاَ } :ومَآ أُوتِيتُم مّنَ ا ْلعِلْمِ ِإلّ قَلِيلً { [السراء]85 :
وهل عرف العقل البشري كل شيء حتى يبحث في أسرار الروح؟!
ولما تعرّض أحد رجال الصوفية للنقد ،واعترض عليه أحد الشخاص فقال له الصوفي :وهل
طتَ عِلْما بكل شيء في الكون؟ قال الرجل :ل ،قال :فأنا من الذي ل تعلم.
ح ْ
أَ َ
والحق سبحانه وتعالى حينما يعطينا فكرة عن الشياء ل يعطينا بحقائق ذاتها وتكوينها؛ لن
أذهاننا قد ل تتسع لفهمها ،وإنما يعطينا بالفائدة منها .فحين حدثنا عن الهِلّة قالُ {:قلْ ِهيَ َموَاقِيتُ
س وَا ْلحَجّ[} ..البقرة]189 :
لِلنّا ِ
وهذه هي الفائدة التي تعود علينا والتي تهمنا من الَهِلّة ،أما حركتها ومنازلها والمراحل التي تمر
بها الَهِلّة فأمور ل يضر الجهل بها؛ ذلك لن الستفادة بالشيء ليستْ فرعا لفهم حقيقته ،فالرجل
الُميّ في ريفنا يقتني الن التلفاز وربما الفيديو ،ويستطيع استعمالهما وتحويل قنواتهما
وضبطهما ،ومع ذلك فهو ل يعرف كيف تعمل هذه الجهزة؟ وكيف تستقبل؟
إذن :الستفادة بالشيء ل تحتاج معرفة كل شيء عنها ،فيكفيك ـ إذن ـ أنْ تستفيد بها دون أن
تُدخِل نفسك في متاهات البحث عن حقيقتها.
علْمٌ} ..
والحق سبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالىَ {:ولَ َت ْقفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ ِ
[السراء ]36 :لن الخالق سبحانه يريد للنسان أن يُوفّر طاقاته الفكرية ليستخدمها فيما يُجدي،
وَألّ يُتعِب نفسه ويُجهدها في علم ل ينفع ،وجهل ل يضر.
فعلى المسلم بدل أن يشغل تفكيره في مثل مسألة الروح هذه ،أنْ ينشغل بعمل ذي فائدة له
ولمجتمعه .وأيّ فائدة تعود عليك إنْ توصلت إلى سِرّ من أسرار الروح؟ وأيّ ضرر سيقع عليك
إذا لم تعرف عنها شيئا؟
إذن :مناط الشياء أن تفهم لماذا وجدت لك ،وما فائدتها التي تعود عليك.
والحق سبحانه حينما قالَ } :ومَآ أُوتِيتُم مّنَ ا ْلعِلْمِ ِإلّ قَلِيلً { [السراء ]85 :كان يخاطب بها
المعاصرين لرسول ال منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام ،ومازال يخاطبنا ويخاطب مَنْ
بعدنا ،وإلى أن تقوم الساعة بهذه الية مع ما توصلتْ إليه البشرية من علم وكأنه سبحانه يقول :يا
ابن آدم ،الزم غرزك ،فإن وقفت على سِرّ فقد غابتْ عنك أسرار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سهِمْ حَتّىا
وقد أوضح الحق سبحانه لنا هذه المسألة في قوله {:سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَاقِ َوفِي أَنفُ ِ
يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ ا ْلحَقّ }[فصلت]53:
وهاهم العلماء والباحثون يقفون كل يوم على جديد في الكون الفسيح وفي النسان ،ولو تابعتَ ما
توصّل إليه علماء الفضاء ورجال الطب لَهالكَ ما توصّلوا إليه من آيات وعجائب في خَلْق ال
تعالى ،لكن هل معنى ذلك أننا عرفنا كل شيء؟ إن كلمة } سَنُرِيهِمْ { ستظل تعمل إلى قيام
الساعة.
والمتتبع لطموحات العقول وابتكاراتها يجد التطور يسير بخُطىً واسعة ،ففي الماضي كان التقدم
ُيقَاسُ بالقرون ،أما الن ففي كل يوم يطلع علينا حديث وجديد ،ونرى الجهزة تُصنع ول
تُستعمل؛ لنها قبل أنْ تُبَاع يخرج عليها أحدث منها ،لكن كلها زخارف الحياة وكمالياتها ،كما قال
ت الَ ْرضُ زُخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ[} ..يونس]24 :
تعالى {:حَتّىا ِإذَآ َأخَ َذ ِ
فكلّ مَا نراه من تقدّم ليس من ضروريات الحياة ،فقد كُنّا نعيش بخير قبل أن نعرف الكهرباء،
وكُنّا نشرب في الفخار والن في الكريستال ،فابتكارات النسان في الكماليات ،أما الضروريات
فقد ضمنها الخالق سبحانه قبل أن يوجد النسان على هذه الرض.
فإذا ما استنفدتْ العقول البشرية نشاطاتها ،وبلغتْ مُنتهى مَا لديها من ابتكارات ،حتى ظنّ الناس
أنهم قادرون على التحكم في زمام الكون ،ل يعجزهم فيه شيء ،كما قال تعالى:
لمْسِ }
حصِيدا كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ
جعَلْنَاهَا َ
{ وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ َنهَارا فَ َ
[يونس]24 :
فبعد ما أخذتم أسرار المنعِم في الكون على قَدْر ما استطعتم ،فاذهبوا الن إلى المنعِم ذاته لتروا
النعيم على حقيقته ،وكلما رأيت في دنيا الناس ابتكارات واختراعات تُسعِد النسان ،فهذا ما أعدّ
البشر للبشر ،فكيف بما أعدّ ال الخالق لخَلْقه؟
فالمفروض أن زخارف الحياة وزينتها وكمالياتها ل تدعونا إلى الحقد والحسد لمن توفرتْ لديه،
بل تدعونا إلى مزيد من اليمان والشوق إلى النعيم الحقيقي عند المنعِم سبحانه.
ولو تأملتَ هذه الرتقاءات البشرية لوجدتها قائمة على المادة التي خلقها ال والعقل المخلوق ال
والطاقة المخلوقة ل ،فَدوْر النسان أنه أعمل عقله وفكره في المقوّمات التي خلقها ال ،لكن مهما
وصلتْ هذه الرتقاءات ،ومهما تطورتْ هل ستصل إلى درجة :إذا خطر الشيء ببالك تجدْه بين
يديك؟
ثم يقول الحق سبحانه } :وَلَئِن شِئْنَا لَنَ ْذهَبَنّ بِالّذِي َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ ثُ ّم لَ َتجِدُ َلكَ ِبهِ عَلَيْنَا َوكِيلً {.
()2098 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جدُ َلكَ بِهِ عَلَيْنَا َوكِيلًا ()86
وَلَئِنْ شِئْنَا لَ َنذْهَبَنّ بِالّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْيكَ ُثمّ لَا تَ ِ
الحق سبحانه في هذه الية يريد أنْ يُربّي الكفار ويُؤنّبهم ،ويريد أن يُبَرّئ ساحة رسوله صلى ال
عليه وسلم ويتحمل عنه المسئولية ،فهو مجرد مُبلّغ عن ال ،وإياكم أن تقولوا عنه ُمفْترٍ ،أو أتى
بشيء من عنده ،بدليل أنني لو شِ ْئتُ لسلبتُ ما أوحيتُه إليه وقرأه عليكم وسمعتموه أنتم وكتبه
الصحابة.
فإنْ سأل متسائل :وكيف يذهب ال بوحي مُنزّل على رسوله ،وحفظه وكتبه الصحابة ،وسمعه
الكفار؟
نقول :أولً :سياق الية يدلّنا على أن هذه العملية لم تحدث؛ لن الحق سبحانه يقول { :وَلَئِن
شِئْنَا[ } ..السراء ]86 :بمعنى :لو شِئْنا فعلنا ذلك ،فالفعل لم يحدث ،والمراد بيان إمكانية ذلك
ليُبَرّئ موقف رسول ال ،وأنه ليس له من المور شيء.
شيْءٌ[} ..آل عمران ]128 :أنها
لمْرِ َ
ناَ
والغريب أن يفهم البعض من قوله تعالى {:لَيْسَ َلكَ مِ َ
ضد رسول ال ،وقَدْح في شخصه ،وليس المر كذلك؛ لنه ربه تبارك وتعالى يريد أنْ يتحمّل
عنه ما يمكن أن يُفسِد العلقة بينه وبين قومه ،وكأنه يقول لهم :ل تغضبوا من محمد فالمر عندي
أنا ،وشبّهنا هذا الموقف بالخادم الذي فعل شيئا ،فيأتي سيده ليدافع عنه ،فيقول :أنا الذي أمرته.
ثانيا :لماذا نستبعد في قدرة الخالق سبحانه أن يسلب مِنّا ما أوحاه لرسوله وحفظناه وكتبناه ،ونحن
نرى فاقد الذاكرة مثلً ل يكاد يذكر شيئا من حياته ،فإذا ما أرادوا إعادة ذاكرته يقومون بإجراء
عملية جراحية مثلً ،فما أشبه هذه بتلك.
ونلحظ في الية جملة شرطية ،أداة الشرط فيها " إنْ " ،وهي تستخدم للمر المشكوك في
حدوثه ،على خلف " إذا " فتأتي للمر المحقق.
ثم يُوضّح لنا الحق سبحانه أنه إنْ ذهب بما أوحاه لرسوله ،فلن يستطيع أحد إعادته { ُث ّم لَ تَجِدُ
َلكَ بِهِ عَلَيْنَا َوكِيلً } [السراء]86 :
حمَةً مّن رّ ّبكَ إِنّ َفضْلَهُ كَانَ عَلَ ْيكَ كَبِيرا }.
ثم يقول الحق سبحانهِ { :إلّ َر ْ
()2099 /
حمَةً مِنْ رَ ّبكَ إِنّ َفضْلَهُ كَانَ عَلَ ْيكَ كَبِيرًا ()87
إِلّا َر ْ
ح َمةً مّن رّ ّبكَ[ } ..السراء ]87 :أي :أنك ل تجد لك وكيلً في أيّ شيء إل
قوله تعالىِ { :إلّ رَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من جانب رحمتنا نحن ،لن َفضْلنا عليك كبير.
ثم يخاطب الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم ليعلن تحديه للعالمين { :قُل لّئِنِ اجْ َت َم َعتِ
ظهِيرا }.
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ
ن لَ يَأْتُونَ ِبمِثْلِ ِه وََلوْ كَانَ َب ْع ُ
س وَالْجِنّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ ِبمِ ْثلِ هَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
الِنْ ُ
()2100 /
ضهُمْ
س وَا ْلجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا ِبمِ ْثلِ هَذَا ا ْلقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ ِبمِثْلِ ِه وََلوْ كَانَ َب ْع ُ
ُقلْ لَئِنِ اجْ َت َم َعتِ الْإِنْ ُ
ظهِيرًا ()88
لِ َب ْعضٍ َ
( ُقلْ) ل يقولها الحق سبحانه بينه وبين رسوله ،بل المراد :أعلنها يا محمد على المل ،وأسمِعْ بها
الناس جميعا؛ لن القضية قضية َتحَدّ للجميع.
{ لّئِنِ اجْ َت َم َعتِ الِنْسُ وَالْجِنّ[ } ..السراء ]88 :وهما ال ّثقَلن اللذان يكونان أمة التكليف لما
منحهما ال من نعمة الختيار الذي هو منَاطُ التكليف .وقد أرسل النبي صلى ال عليه وسلم إليهما
حيَ إَِليّ أَنّهُ اسْ َتمَعَ َنفَرٌ مّنَ
جميعا ،وقد استمعت الجن إلى القرآن كما استمعت إليه البشرُ {:قلْ أُو ِ
شدِ فَآمَنّا بِ ِه وَلَن نّش ِركَ بِرَبّنَآ أَحَدا }[الجن]2-1 :
س ِمعْنَا قُرْآنا عَجَبا * َيهْدِي إِلَى الرّ ْ
الْجِنّ فَقَالُواْ إِنّا َ
والتحدّي معناه التيان بآية معجزة يعجز عنها المعارض ،لكن من جنس ما نبغ فيه المعارض،
فل يتحدّاهم بشيء ل عِلْم لهم به ،ول خبرة لهم فيه؛ لنه ل معنى للتحدي في هذه الحالة ول
جدوى منه ،كما لو تحدّ ْيتَ إنسانا عاديا برفع الثقال ولم يسبق له أن ارتاض هذه الرياضة ،إنما
تتحدّى بها بطلً معروفا عنه ممارسة هذه العملية.
لذلك جاءت كل معجزات الرسل من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التحدّي في محلّه ،ول
يعترضون عليه بأنه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم ،فكانت معجزة موسى ـ عليه السلم ـ
العصا واليد ،وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السّحْر ،وجاءت معجزة عيسى ـ عليه السلم
ـ إحياء الموتى بإذن ال ،وإبراء الكمة والبرص؛ لن قومه نبغوا في الطب ،وكانت معجزته
صلى ال عليه وسلم في البلغة والفصاحة التي نبغ فيها العرب.
وقد اقترح كفار مكة على رسول ال آيات معينة لثبات صِدْق رسالته ،لكن اليات ل تُقترح على
ال تعالى؛ لنه سبحانه هو الذي يختار اليات التي تناسب الطباع وتكون معجزة تثبت صِدْق
رسوله ،وقد اقترحوا على رسول ال آيات ومعجزاتٍ في مجالت ل عِلْم لهم بها ،فكيف يتحدّاهم
ال في مجال ل نبوغَ لهم فيه ،وليس لهم دراية به؟
والحق سبحانه أنزل القرآن ،وجعله المعجزة الوحيدة لصدق محمد صلى ال عليه وسلم ،وهو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المعجزة الوحيدة لكل أمة السلم من لَدُن رسول ال إلى قيام الساعة .وهذا ل يمنع أن توجد
معجزات كونية حدثتْ لرسول ال ليراها القوم الذي عاصروه ،ومِثْل هذه المعجزات ل نطالب بها
نحن ،ول نطالب باليمان بها ،إل إذا وردتْ من صادق معصوم؛ لن الهدف من هذه المعجزات
تثبيت اليمان برسول ال في نفوس مَنْ شاهدوها ،فنُبوع الماء من بين أصابعه صلى ال عليه
وسلم ،و َكوْنُ الشجرة تسعى إليه والحيوان يُكلّمه ،فالمقصود بهذه المعجزات مَنْ شاهدها
وعاصرها ،ل مَنْ أتى بعد عصره صلى ال عليه وسلم.
وفي القرآن خاصية تفرّد بها عن الكتب السابقة ،حيث نزل جامعا بين أمرين :أنه منهج سماوي
يُنظّم حركة الحياة ،وهو في الوقت نفسه معجزة مصاحبة للمنهج ل تنفكّ عنه إلى قيام الساعة.
أما الكتب السابقة فكانت تأتي بمنهج فقط ،أما المعجزة فشيء آخر منفصل عن الكتاب ،فمعجزة
موسى العصا واليد وكتابه التوراة ،ومعجزة عيسى إبراء الكمة والبرص ،وكتابه النجيل ،أما
محمد صلى ال عليه وسلم فقد انفرد بأن تكون معجزته هي منهجه.
لذلك لما طلب كفار مكة من رسول ال أنْ يُفسِح لهم جبال مكة ،ويُوسّع عليهم الرض ،وأنْ
يُحيي لهم موتاهم ليشهدوا بصدقه ،خاطبهم الحق سبحانه بقوله {:وََلوْ أَنّ قُرْآنا سُيّ َرتْ بِهِ ا ْلجِبَالُ َأوْ
جمِيعا[} ..الرعد]31 :
لمْرُ َ
ط َعتْ بِ ِه الَ ْرضُ َأوْ كُلّمَ ِبهِ ا ْل َموْتَىا بَل للّ ِه ا َ
قُ ّ
أي :كان في القرآن غَنَاءٌ لكم عن ُكلّ هذه المسائل.
وقد اعترض المستشرقون على هذه القضية ،فقالوا :إنْ كانت الرسالة المحمدية للناس كافة،
وجاءت معجزته في البلغة والفصاحة ليتحدّى بها قومه من العرب ،فما َلوْنُ العجاز لغير
العرب؟
نقول :أولً :إذا كان العرب ارتاضوا على المَلكَة العربية وأساليبها قد عجزوا أمام هذا التحدي،
فغيرهم ِممّنْ اتخذ العربية صناعة ل شكّ أعجز.
ثانيا :مَنْ قال إن المعجزة في القرآن في فصاحته وبلغته فقط؟
عبْءَ
لقد جاءت بلغة القرآن وفصاحته للمة المتلقّية للدعوة الولى ،هؤلء الذين سيحملون ِ
الدعوة ،ويَسِيحُون بها في شتى بقاع الرض ،فإذا ما انتشرت الدعوة كانت المعجزة للناس
الخرين من غير العرب شيئا آخر.
فالغيبيات التي يخبرنا بها ،والكونيات التي يُحدّثنا عنها ،والتي لم تكُنْ معلومة لحد نجدها موافقة
تماما لما جاء به القرآن ،وهو مُنزّل على نبي أُميّ ،وفي أُمة أُميّة غير مثقفة ،فهذه كلها نواحي
إعجاز للعرب ولغيرهم ،وما زِلْنا حتى الن نقف أمام آيات ،وننتظر من العلم أنْ يكشفَ لنا عن
معناها.
وفي الماضي القريب توصّل العلم إلى أن الذرة أصغر شيء في الوجود ،وقد ذكر القرآن الذرة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في مثل قولهَ {:فمَن َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـ َملْ مِثْقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة-7 :
]8
وبتقدّم وسائل البحث توصّلوا إلى تفتيت الذرة أو شطرها ،ووجدنا في الكون ما هو أقل من الذرة،
فظنّ البعض أن هذه ل ِذكْر لها في القرآن ،وظنوا أنهم تصيّدوا على القرآن مأخذا ،ولو أمعنوا
النظر في كتاب ال لوجدوا لهذا التطور العلمي رصيدا في كتاب ال حيث قال تعالىَ {:ومَا َيعْ ُزبُ
صغَرَ مِن ذاِلكَ وَل َأكْبَرَ ِإلّ فِي كِتَابٍ
سمَآ ِء وَلَ َأ ْ
ض َولَ فِي ال ّ
عَن رّ ّبكَ مِن مّ ْثقَالِ ذَ ّرةٍ فِي الَ ْر ِ
مّبِينٍ }[يونس]61 :
صغَرَ { ل صغير ،فلو فتّتْنَا أجزاء الذرة لوجدنا لها رصيدا واحتياطا في كتاب
والقرآن يقول } َأ ْ
الَ ،ألَ ترى في ذلك إعجازا؟
س وَالْجِنّ.
ت الِنْ ُ
إذن :تحدّاهم الحق سبحانه بقوله } :قُل لّئِنِ اجْ َت َمعَ ِ
[ { .السراء ]88 :وأُدخِل الجنّ في مجال التحدي؛ لن العرب كانوا يعتقدون أن لكل شاعر نابغ،
أو أديب مُفوّه ،أو عبقري عنده نبوغ بياني شيطانا يلهمه ،وهذه الشياطين تسكن واديا عندهم
يسمونه " وادي عَ ْبقَر " ،لذلك لم يكتَف القرآن بتحديهم هم ،بل تحدى أيضا مَنْ يُلهمونهم ،أو مَنْ
ينسبونَ إليهم القوة في هذا المر.
علَىا أَن يَأْتُواْ ِبمِ ْثلِ هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ[ { ..السراء ]88 :فالتحدّي أنْ يأتوا (بمثله)
ثم يقول تعالىَ } :
لنه ل يمكن أنْ يأتوا به نفسه؛ لنه نزل من عند ال وانتهى المر ،فمستحيل أنْ يأتُوا به نفسه
مرة أخرى؛ لنْ الواقع ل يقع مرتين.
شكّ أن
إذن :المتصوّر في مجال التحدي أنْ يأتوا بمثله ،فلو قلت :هذا الشيء مثل هذا الشيء ،فل َ
المشبّه به أقوى وأصدق من المشبه ،ول يرتقي المشبه ليكون هو المشبه به بل مثله ،فإذا انتفى
المثل فقد انتفى الصل من باب َأوْلَى.
فالحق سبحانه في قوله } :لَ يَأْتُونَ ِبمِثْلِهِ[ { ..السراء ]88 :ل ينفي عنهم أن يأتُوا بقرآن ،بل
بمثل القرآن ،فإذا كانوا ل يأتون بالصورة ،فهل يقدرون على الصل؟!
ظهِيرا { [السراء]88 :
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ َ
ثم يقول تعالى زيادةً في التحدّي } :وََلوْ كَانَ َب ْع ُ
علَيْهِ فَإِنّ
والظهير :هو المعاون والمساعد والمعين على المر ،ومنه قوله تعالى {:وَإِن َتظَاهَرَا َ
ظهِيرٌ }[التحريم ]4 :لنه قد يقول
ن وَا ْلمَلَ ِئكَةُ َبعْدَ ذَِلكَ َ
ل َوصَالِحُ ا ْل ُمؤْمِنِي َ
ل ُه وَجِبْرِي ُ
اللّهَ ُهوَ َموْ َ
قائل :إن هذه المهمة ل يقوم بها فرد واحد ،فقال لهم سبحانه :بل هاتوا كل ما لديكم من طاقات
إبداعية وعبقريات بيانية ،واستعينوا بما تزعمون من إلهام الجن ،وتعاونوا جميعا في سبيل هذا
التحدي ،حتى إذا كان في أحدكم نقص أكمله الخر.
ظلّ التحدي قائما على أنْ يأتُوا بمثل القرآن؟
لكن ،هل َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المتتبع لهذا الموضوع في القرآن الكريم يجد الحق تبارك وتعالى يتنزل معهم في القدر المطلوب
للتحدّي ،وهذا التنزّل يدل على ارتقاء التحدّي ،فبعد أنْ تحدّاهم بأنْ يأتوا بمثل القرآن ،تحدّاهم
بعشْر سُور ،ثم تحدّاهم بسورة واحدة ،وكلما تنزل معهم درجة ارتقى بالتحدي ،فل شكّ أن تحديهم
بسورة واحدة أبلغ من تحديهم بمثل هذا القرآن.
وهذا التنزّيل الذي يفيد الرتقاء كما نجمع مثلً بين المتناقضات ،فنقول :صعد إلى الهاوية،
وانحدر إلى القمة .ومع هذا التنزّل لم يستطيعوا التيان بمثل آية واحدة من كتاب ال.
ويجب أن نلتفت إلى مغزى آخر من وراء هذا التحدّي ،فليس الهدف منه تعجيز القوم ،بل أن
نثبت لهم السواسية بين الخَلْق ،فالجميع أمام الله الواحد سواء ،وهذه هي القضية التي تُزعجهم
وتقضّ مضاجعهم ،والقرآن سيثبت لهم صِدْق محمد ،وسيرفع من مكانته بين القوم ،وهم الذين
يحاولون إيذاءه ويُدبّرون لقتله.
عظِيمٍ }[الزخرف:
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
ولذلك من غبائهم أن قالواَ {:ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
]31
حدّ ذاته ،بل على محمد الذي نزل القرآن عليه ،فهم
إذن :فاعتراضهم ليس على القرآن في َ
يحسدونه على هذه المكانة ،كما قال تعالى {:أَمْ َيحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىا مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ} ..
[النساء]54 :
سعْي
وسبحان ال ،إذا كان الخَلْق يختلفون أمام رحمة ال في مسائل الدنيا التي لهم فيها أسباب و َ
ح َمتَ رَ ّبكَ
سمُونَ رَ ْ
واجتهاد ،فكيف بالمر الذي ليس في أيديهم؟ كيف يريدون التدخّل فيهَ {:أهُمْ َيقْ ِ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ[} ..الزخرف]32 :
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
نَحْنُ َق َ
ثم يتحدث الحق سبحانه عن طبيعة الداء القرآني ،فيقول } :وَلَقَ ْد صَ ّرفْنَا لِلنّاسِ فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ
مِن ُكلّ مَ َثلٍ.{ ..
()2101 /
وَلَقَدْ صَ ّرفْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا ا ْلقُرْآَنِ مِنْ ُكلّ مَ َثلٍ فَأَبَى َأكْثَرُ النّاسِ إِلّا كُفُورًا ()89
التصريف :هو التحويل والتنويع بأساليب مختلفة لزيادة البيان ،والمراد أن القرآن الكريم ل يعالج
القضايا بأسلوب رتيب جامد ،بل يُحوّل الكلم بين أساليب متعددة؛ لنه يخاطب طباعا متعددة،
ويتعرض أيضا لموضوعات متعددة ومعاني مختلفة ،فل بُدّ أن يصرف السلوب ويَقلِبه على أكثر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من وجه ،فالذي ل يفهم هذه يفهم هذه ،فيعرض المعنى الواحد بأساليب متعددة وأمثال مختلفة.
ونأخذ مثالً على ذلك قضية القمة ،وهي اللوهية ووحدانية ال تعالى ،فنرى القرآن يعرضها في
معارض مختلفة هكذاَ {:لوْ كَانَ فِي ِهمَآ آِلهَةٌ ِإلّ اللّهُ َلفَسَدَتَا[} ..النبياء]22 :
أي :في السماء والرض.
وهذا السلوب قد ل يفهمه غير العربي؛ لنه يفتقد المَلكَة اللغوية التي يتلقّى بها كلم ال ،وقد
يعترض فيقول( :إل) أداة استثناء .فالمعنى :لو كان فيهما آلهة خارج منهم ال َلفَسدتَا ،فلو كانت
هناك آلهة ومعهم ال فهذه ل تجوز؛ لنها مشاركة ،لكنها تفيد أن ال تعالى موجود ،وإنْ كان معه
آخرون ،والمنطق في هذه الحالة يقول :لو كان في السماء والرض آلهة ومعهم ال ل تفسد.
لكن الحقيقة أن { ِإلّ } هنا ليس للستثناء ،بل هي اسم بمعنى (غير) .فالمعنى إذن :لو كان فيهما
آلهة غير ال لَفسدَتا.
خذَ اللّهُ مِن وَلَ ٍد َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذا لّذَ َهبَ ُكلّ
ثم يعرضها بأسلوب آخر ،فيقول تعالى {:مَا اتّ َ
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ[} ..المؤمنون]91 :
ق وََلعَلَ َب ْع ُ
إِلَـاهٍ ِبمَا خََل َ
فالحق تبارك وتعالى مُنزّه عن الولد والشريك ،إذ لو كان معه إله آخر لَذهبَ كل إله بما خلق،
واختصّ نفسه بمنطقة معينة ،ولعل بعضُهم على بعض ،فإن أرادوا إبراز شيء للوجود ،فأيّهما
يبرزه؟ إنْ قدر على إبراز واحد فالخر عاجز ،وإنْ لم يقدر عليه واحد بمفرده ،فهما عاجزان ل
يصلحان لللوهية.
ثم يعرض نفس القضية بأسلوب آخر ،فيقولُ {:قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ إِلَىا
ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء]42 :
أي :إنْ كان مع ال آلهة كما يدّعي المشركون لَذهَب هؤلء اللهة إلى ذي العرش يُعاتبونه أو
يُؤدّبونه ،أو يُعاقبونه؛ لنه انفرد بالملْك من دونهم.
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ[} ..آل عمران]18 :
وبأسلوب آخر يقول تعالىَ {:
ولم يَ ْأتِ مَنْ ينازعه هذه المكانة ،أو يدّعيها لنفسه ،إذن :فقد ثبتتْ له هذه القضية إلى أنْ يُوجَد
معارض ،فالمختلف فيه يتفق عليه إنْ لم يظهر له معارض.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلً ،ول المثل العلىَ :هبْ أن جماعة انصرفوا من مجلس ،ثم وجد
صاحب البيت حافظة نقود في مكان مجلسهم فعرضها عليهم ،فلم يدّعها أحد لنفسه إل رجل واحد
قال :هي لي ،أيشكّ صاحب البيت أنها له؟
نرى هذا التصرف أيضا في أسلوب القرآن في مسألة ادعاء أن ل تعالى ولدا ،تعالى ال عما
يقول المبطلون عُلُوا كبيرا ،فيعرضها القرآن هكذا:
{ َوقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّ ِه َوقَاَلتْ ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ }[التوبة]30 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ أَنّىا َيكُونُ لَ ُه وَلَدٌ وَلَمْ َتكُنْ لّهُ
فيردّ القرآن هذا الزعْم بقوله تعالى {:بَدِيعُ ال ّ
صَاحِبَةٌ[} ..النعام]101 :
جعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُ ْبحَانَ ُه وََلهُمْ مّا يَشْ َتهُونَ }[النحل:
وفي موضع آخر يعرض المسألة هكذا {:وَيَ ْ
]57
أي :فإن كنتم تريدون مقاسمة الخالق سبحانه ،فهل يليق أنْ تأخذوا أنتم البنين؛ لنهم المفضلون
سمَ ٌة ضِيزَىا }
حسْب زعمكم ،وتتركوا له تعالى البنات {:أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَ ُه الُنْثَىا * تِ ْلكَ إِذا قِ ْ
َ
[النجم ]22-21 :أي :قسمة جائرة.
وهكذا يُصرّف القرآن أسلوبه ،ويُحوّله ليقنع به جميع العقول؛ ليناسب كل الطبائع .وتمتاز لغة
العرب بالمثل والحكمة؛ لذلك كان من التصريف في أسلوب القرآن استخدام المثل ،وهو تعبير
مُوجَز ،يحمل المعاني الكثيرة وتتعشق لفظه ،وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته.
فإذا أرسلتَ أحدا في مهمة أو جماعة ،فيمكنك حين عودتهم تقول لهم مستفهما( :ماذا وراءكِ يا
عصام؟) هكذا بصيغة المؤنثة المفردة ،لن المثل قيل هكذا ،حيث أرسل أحدهم امرأة تسمى
عصام لتخطب له إحدى النساء وحينما أقبلت عليه خاطبها بهذه العبارة ،فصارت مثلً.
وكما تقول لصاحبك الذي يتعالى عليك( :إن كنت ريحا فقد لقيت إعصارا) إذن :المثل يمتاز بأنه
يثبت على لفظه الول ول يتغير عنه.
جلّ معناه.
أما الحكمة فهي :قول شارد يقوله كل واحد ،وهو كلم يقلّ لفظه ،وي ِ
كما تقولُ " :ربّ أخ لك لم تَِل ْدهُ أمك ".
خمْرة ".
" ل تُعلّم العَوانُ ال ِ
" إن المنبتّ ل أرضا قطع ،ول ظهرا أبقى " أي :أن الذي يُجهِد دابته في السير لن يصل إلى ما
يريد؛ لنها ستنقطع به ول تُوصّله.
ومن الحكمة هذه البيات الشعرية التي صارت حكمة متداولةَ :ومَنْ يكُ ذا فَمٍ مُـرّ مَريضٍ َيجِدْ
ك وحالتُ المسَاكينو َهبْ أن
ن تكونُ لَه َنفْسُ الملُو ِ
للَوقوله:وَأَ ْتعَس النّاسِ حَظّا مَ ْ
مُرّا بِهِ المَاءَ ال ّز َ
ولدك أهمل دروسه طوال العام وعند المتحان أخذ يج ّد ويَجْتهد ويُرهِق نفسه ،هنا يمكنك أن تقول
له( :قبل الرماء تُملُ الكنائن) والكنانة هي المخلة التي تُوضَع بها السهام ،وهذه ل بُدّ أنْ ُيعِدّها
الصياد قبل صَيْده ل وقت الصيد.
إذن :لهمية المثل في لغة العرب جعله القرآن َلوْنا أسلوبيا ،وأداةٍ للقناعٍ ،كما في قوله تعالى{:
إِنّ اللّ َه لَ َيسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ..البقرة]26 :
لن ال تعالى يخاطب بالقرآن عقولً مختلفة وطبائع متعددة؛ لذلك ل يستحي أن يضرب المثل
بأحقر مخلوقاته لِيُقنِعَ الجميع كُلً بما يناسبه.
صغَر؟
وقولهَ } :فمَا َف ْو َقهَا { قد يقول قائل :ولماذا قال } َفمَا َف ْو َقهَا { ،فالعجيب هنا مسألة ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نقول :المراد بما فوقها.
أي :في المعنى المراد ،وهو الصّغر .أي :ما فوقها في الصّغر ل أكبر منها.
س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُواْ َلهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن
ثم يأتي بالمعنى في صورة أخرى {:ياأَ ّيهَا النّا ُ
ضعُفَ الطّاِلبُ
خُلقُواْ ذُبَابا وَلَوِ اجْ َت َمعُواْ َل ُه وَإِن يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ َيسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ َ
دُونِ اللّهِ لَن يَ ْ
وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج]73 :
خ َذتْ بَيْتا
خذُواْ مِن دُونِ اللّهِ َأوْلِيَآءَ َكمَ َثلِ ا ْلعَنكَبُوتِ اتّ َ
وفي آية أخرى يقول سبحانه {:مَ َثلُ الّذِينَ اتّ َ
وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَ ْيتُ ا ْلعَنكَبُوتِ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت]41 :
إذن :يُصرّف ال المثال ويُحوّلها ليأخذ كل طَبْع ما يناسبه وما يقتنع به ،وليس القرآن على وتيرة
واحدة أو مزيج واحد يعطي للجميع .بل يُشخّص الداءات ويُحلّلها ويعالجها بما يناسبها؛ لذلك يأتي
السلوب مختلفا.
وهذه المسألة واضحة في الحديث النبوي الشريف ،حيث كان الصحابة يسألون رسول ال صلى
ال عليه وسلم السؤال الواحد ،وتأتي الجابة مختلفة من شخص لخر ،فقد سُئِل صلى ال عليه
وسلم كثيرا :ما أفضل العمال يا رسول ال؟ فقال للسائل " :الصلة لوقتها " وقال لخر " :بر
ن تلقىَ أخاك بوجه طَلْق ".
الوالدين " وقال لخر " :أ ْ
وهكذا جاءت الجابة مختلفة من شخص لخر؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم يراعي حال
سائله ،ويحاول أنْ يعالج نقطة الضعف فيه ،فالمر ليس (أكلشيه) ثابتا يعطيه للجميع ،بل هي
مراعاة الحوال والطباع.
ثم يقول تعالى } :فَأَبَىا َأكْثَرُ النّاسِ ِإلّ ُكفُورا { [السراء]89 :
نعرف أن (إلّ) أداة استثناء ،تُخرِج ما بعدها من حكم ما قبلها ،كما تقول :جاء القوم إل زيدا ،ولو
ط ّبقْنَا هذه القاعدة على الية ل يستقيم معناها ،كما لو قلت :ضربت إل زيدا ،والية أسلوب عربي
فصيح.
نقول :لن معنى أبى :لم يقبل ولم يَ ْرضَ ،فالمراد :لم يَ ْرضَ إل الكفور ،فل بُدّ للستثناء المفرّغ
أنْ يُسبق بنفي.
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا {.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
()2102 /
َوقَالُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكَ حَتّى َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَ ْرضِ يَنْبُوعًا ()90
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
(لَنْ) تفيد تأبيد َنفْي الفعل في المستقبل ،تقول :أنا لم أصنع هذا ،ولن أصنعه .أي :في المستقبل.
ومعلوم أن النسان ابن أغيار ،ول يحكمه حال واحد بل هو مُتقلّب بين أحوال شتى طوال حياته،
وال تعالى وحده هو الذي ل يتغيّر ،وما دام النسان ابنَ أغيار ويطرأ عليه حال بعد حال ،فليس
حكْما قاطعا في مستقبل هو ل يملكه ،فالذي يملك الحكم القاطع هو الحق
له أنْ يحكمَ على شيء ُ
سبحانه الذي ل تتناوله الغيار.
لذلك فالنسان مثلً إذا صعد حتى القمة نخاف عليه الهبوط؛ لنه من أهل الغيار ،ول يدوم له
حال ،إذن :فماذا بعد القمة؟
وقد عَبّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:إذَا تَمّ شَيءٌ بَدَا َن ْقصُهُ تَر ّقبْ َزوَالً إذَا قِيل َتمّوالعجيب أن
الناس يتطلعون في نعمة ال إلى التمام ،فيقول أحدهم :يا حبّذا ،لو حدث كذا لَتَمتْ هذه النعمة،
وهم ل يدرون أن هذا النقص في النعمة سبب بقائها ،فلو َت ّمتْ لك النعمة وأنت من أهل الغيار،
فماذا تنتظر إل زوالها؟
فَلْيَ ْرضَ كلّ صاحب نعمة بما فيها من نقص ،فلعل هذا النقص يردّ عنه عَيْن حاسد ،أو حقد حاقد.
فبعض الناس يرزقه ال بالولد ويُعينه على تربيتهم ،ولحكمة يفشل أحدهم فيحزن لذلك ويألم أشد
اللم ،ويقول :لو أن هذا الولد ..وهو ل يدرك حكمة ال من وراء هذا النقص ،وأنه حارسٌ للنعمة
في الخرين ،وأنه التميمة التي تحميه وتردّ عنه ما يكره.
ص الَنامُ إلى َكمَاِلكَ فَاسْ َت ِعذْ مِنْ شَرّ أَعْيُ ِن ِهمْ
خ َ
لذلك لما أراد المتنبي أن يمدح سيف الدولة قال له:شَ ِ
بعَ ْيبٍ وَاحِدأي:نظروا إليك معجبين بما فيك من كمال ،فاعمل عملً سيئا واحدا يصد عنك شرّ
أعينهم.
إذن( :لن) تفيد تأبيد النفي في المستقبل ،وهذا أمر ل يملكه إل مالك الحداث سبحانه وتعالى ،أمّا
صاحب الغيار فليس له ذلك ،والذين آمنوا فيما بعد برسول ال ممّنْ قالوا هذه المقولة { :لَن
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا } [السراء]90 :
ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
نستطيع أن نقول لهم :لقد أوقعتْكم (لن) في الكذب؛ لنكم أبّدتُم َنفْي اليمان ،وها أنتم مؤمنون ،ولم
يُفجّر لكم النبي ينبوعا من الرض.
وعند فتح مكة وقف عكرمة بن أبي جهل وقال في الخَنْ َدمَة ما قال ،ثم رجع إلى النبي صلى ال
طعِن الطعنة
عليه وسلم مؤمنا معتذرا وخرج محاربا مع خالد بن الوليد في اليرموك ،وحين ُ
المميتة ،وحمله خالد ،فإذا به يقول له :أهذه ميتة تُرضِي عني رسول ال؟
ن يقول كلمة عليه أن يكون قادرا على تنفيذها ،مالكا لزمامها ،ضامنا لنفسه َألّ يتغير ،وَألّ
إذن :مَ ْ
تتناوله الغيار ،ول يملك ذلك إل ال سبحانه وتعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمتدبّر لسلوب القرآن في سورة (الكافرون) يجد هذه المسألة واضحة ،حيث يقول تعالىُ {:قلْ
ياأَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ * لَ أَعْبُدُ مَا َتعْبُدُونَ * َولَ أَنتُمْ عَا ِبدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلَ أَنَآ عَا ِبدٌ مّا عَبَدتّمْ }
[الكافرون]4-1 :
هكذا نفتْ الية عبادة كل منهما لله الخر في الزمن الحاضر ،ثم يقول تعالىَ {:ولَ أَنَآ عَابِدٌ مّا
عَبَدتّمْ * َولَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ }[الكافرون ]5-4 :لينفي أيضا احتمال العبادة في المستقبل،
إذن :فليس في الية تكرار ،كما يرى بعض ِقصَار النظر.
ولك الن أنْ تسألَ :كيف نفى القرآن الحديث في المستقبل؟ نقول :لن المتكلّم هنا هو الحق
سبحانه وتعالى الذي يملك الحداث ول تُغيّره الغيار ،ول تتسلط عليه ،فحكم على المستقبل هذا
الحكم القاطع وأبّد النّفي فيه.
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا { [السراء]90 :
ثم يقول تعالى } :حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
وفي آية أخرى قالَ {:وفَجّرْنَا الَ ْرضَ عُيُونا[} ..القمر]12 :
فالتفجير :أن تعمل في الرض عملية تُخرِج المستتر في باطنها على ظهرها ،وعين الماء تُخرِج
لك الماء من الرض ،وتأخذ من حاجتك فل ينقص؛ لنها تعوض ما أُخِذ منها بقانون الستطراق،
وقد يحدث أن يغيض الماء فيها قليلً.
أما الينبوع فتراه يفيض باستمرار دون أن ينقص فيه منسوب الماء ،كما في زمزم مثلً ،ول شكّ
أن هذا المطلب منهم جاء نتيجة حرمانهم من الماء ،وحاجتهم الشديدة إليه.
ويذكر الحق سبحانه أنهم واصلوا حديثهم للرسول صلى ال عليه وسلم ،فقالواَ } :أوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ
ل وَعِ َنبٍ فَتُفَجّرَ الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا {.
مّن نّخِي ٍ
()2103 /
سبق أن طلبوا الماء لنفسهم ،وهنا يطلبون للرسول { جَنّةٌ } أي :بستان أو حديثة من النخيل
والعنب؛ لنهما الصّنْفان المشهوران عن العرب { فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا } [السراء]91 :
أي :خلل هذه الحديقة حتى تستمر ول تذبل.
ع ْمتَ عَلَيْنَا
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
ويواصلون تحديهم لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فيقولونَ { :أوْ ُت ْ
كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً }.
()2104 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سفًا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَلَا ِئكَةِ قَبِيلًا ()92
علَيْنَا كِ َ
ع ْمتَ َ
سمَاءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
َأوْ تُ ْ
()2105 /
سمَاءِ وَلَنْ ُن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا َنقْ َر ُؤهُ
َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مِنْ ُزخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَى فِي ال ّ
ُقلْ سُبْحَانَ رَبّي َهلْ كُ ْنتُ إِلّا َبشَرًا رَسُولًا ()93
البيت :هو المكان المعدّ للبيتوتة ،والزخرف :أي المزيّن ،وكان الذهب وما يزال أجمل أنواع
الزينة؛ لن كل زُخْرف من زخارف الزينة يطرأ عليه ما يُغيّره فيبهت لونه ،وينطفئ بريقه،
وتضيع ملمحه إل الذهب ،ونقصد هنا الذهب الخالص غير المخلوط بمعدن آخر ،فالذهب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخالص هو الذي ل يتأكسد ول يتفاعل مع غيره؛ لذلك يظل على بريقه و َروْنقه ،فإنْ كان البيت
نفسه من زخرف ،فماذا سيكون شكله؟
ونرى الذين يُحبّون أن ينافقوا نفاقَ الحضارات ،ويتبا َروْنَ في زخرفة الصناعات يُلصِقون على
المصنوعات الخشبية مثلً طبقة أو قشرة من الذهب؛ لتظلّ محتفظة بجمالها ،كما في الطقم
الفرنساوي أو النجليزي مثلً.
سمَآءِ[ } ..السراء]93 :
ثم يقول تعالىَ { :أوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ
أي :يكون لك سُلّم تصعد به في السماء ،ويظهر أنهم تسرعوا في هذا القول ،ورََأوْا إمكانية ذلك،
فسارعوا إلى إعلن ما تنطوي عليه نفوسهم من عناد { :وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا
ّنقْرَ ُؤهُ[ } ..السراء]93 :
وكأنهم يُبيّتون العناد لرسول ال ،فهم كاذبون في الولى وكاذبون في الثانية ،ولو نزّل ال عليهم
الكتاب الذي أرادوا ما آمنوا ،وقد رَدّ عليهم الحق سبحانه بقوله {:وََلوْ نَزّلْنَا عَلَ ْيكَ كِتَابا فِي
سحْرٌ مّبِينٌ }[النعام]7 :
قِرْطَاسٍ فََل َمسُوهُ بِأَ ْيدِيهِمْ َلقَالَ الّذِينَ َكفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ ِ
وانظر إلى رد القرآن على كل هذا التعنت السابقُ { :قلْ سُبْحَانَ رَبّي[ } ..السراء ]93 :وكلمة
{ سُبْحَانَ } كلمة التنزيه العُلْيا للحق سبحانه وتعالى ،وقد تحدّى بها الكون كله؛ لنها كلمة ل ُتقَال
إل ل تعالى ،ولم يحدث أبدا بين الناس أنْ قالها أحد لحد ،مع ما في الكون من جبابرة وعُتَاة،
يحرص الناس على منافقتهم وتملّقهم ،وهذه كلمة اختيارية يمكن أن يقولها كل إنسان ،لكن لم
يجرؤ أحد على َقوْلها لحد.
والحق سبحانه وتعالى يتحدّى الكون كله بأمور اختيارية يقدرون عليها ،وتحدى المختار في المثل
معناها أنه سبحانه عالم بأن قدرته لن تستطيع أن تفعل ذلك ،ومثال ذلك قول الحق تبارك
سبَ * سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ َل َهبٍ }
ب وَ َتبّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُ ُه َومَا كَ َ
وتعالى {:تَ ّبتْ َيدَآ أَبِي َل َه ٍ
[المسد]3-1 :
نزلت هذه اليات في أبي لهب ،وهو كافر ،ويحتمل منه اليمان كما آمن غيره من الكفرة ،فقد
آمن عمر والعباس وغيرهم ،فما كان يُدرِي رسول ال أن أبا لهب لن يؤمن ،لكنه يُبلّغ قول ربه
قرآنا يُتلَى ويُحفظ ويُسجّل ،وفيه تقرير وشهادة بأن أبا لهب سيموت كافرا ،وأن مصيره النار.
وهنا نقولَ :أمَا كان في إمكان أبي لهب أنْ يُكذّب هذا القول ،فيقوم في قومه مُناديا بل إله إل ال،
وأن محمدا رسول ال ـ ولو ِنفَاقا ـ وله بعد ذلك أن يتهم محمدا وقرآن محمد بالكذب؟
لكن هذا لم يحدث؛ لن المتكلم هو ال ربّ العالمين.
ومن هذا التحدي أن الحق سبحانه له صفات وله أسماء ،السماء مأخوذة من الصفات ،إل اسم
علَم على الذات اللهية لم يُؤخَذ من صفة من
واحد مأخوذ للذات ،هو لفظ الجللة (ال) ،فهو َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صفاته تعالى ،فالقادر والغفور والحيّ القيوم وغيرها من السماء مأخوذة من صفات ،إنما (ال)
عَلَم على الذات الجامعة ل ُكلّ هذه الصفات.
لذلك تحدّى الخالق سبحانه جميع الخَلْق ،وقد أعطاهم الحرية في اختيار السماء أنْ يُسمّوا أنفسهم
أو أبناءهم بهذا السم (ال) ،ويعلن هذا التحدي في كتابه الكريم وعلى رؤوس الشهاد يقولَ {:هلْ
سمِيّا }[مريم]65 :؟
َتعْلَمُ َلهُ َ
ومع ذلك لم يجرؤ كافر واحد على أنْ يُس ّميَ هذا السم ليظلّ هذا التحدي قائما إلى قيام الساعة؛
لن ال تعالى حق ،واليمان به وبوجوده تعالى متغلغل حتى في نفوس الكفار ،فلو كانوا يعلمون
أن هذه الكلمة كذب ،أو ل وجودَ لها لقدموا على التسمية بها دون أن يُبالُوا شيئاَ ،أمَا وهم
يعلمون أن ال حق فلن يجرؤ أحد ،ويُجرّب هذه التسمية في نفسه؛ لنه يخشى عاقبة وخيمة ل
يدري ما هي.
لذلك َردّ الحق سبحانه على تعنّت الكفار فيما طلبوه من رسوله صلى ال عليه وسلم قائلً} :
حدّا ،ول يمكن
سُ ْبحَانَ رَبّي[ { ..السراء ]93 :لن المور التي طلبوها أمور بلغتْ من العجب َ
أن يُتعجب منها إل بسبحان ال؛ لنها كلمة التعجّب الوحيدة والتي ل تُطلَق لغير ال ،وكأنه أرجع
المور كلها ل ،ولقد كان لهم غِنىً عن ذلك في كتاب ال الذي نزل إليهمَ {:أوََلمْ َي ْكفِهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا
حمَةً وَ ِذكْرَىا ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }[العنكبوت]51 :
عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ إِنّ فِي ذاِلكَ لَرَ ْ
والهمزة هنا للستفهام المراد به التعجّب أيضا :أيطلبون هذه اليات ،ولم ي ْكفِهم أنّا أنزلنا عليك
الكتاب ،وقد كان فيه غناءٌ لهم.
ثم يقول تعالىَ } :هلْ كُنتُ ِإلّ بَشَرا رّسُولً { [السراء]93 :
هل ادع ْيتُ لكم أَنّي إله؟! ما أنا إل بشر أبلغكم رسالة ربي ،وأفعل ما يأمرني به ،كما في قوله
عصَ ْيتُ
تعالىُ {:قلْ مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُ َبدّلَهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي إِنْ أَتّ ِبعُ ِإلّ مَا يُوحَى إَِليّ إِنّي َأخَافُ إِنْ َ
عظِيمٍ }[يونس]15 :
عذَابَ َيوْمٍ َ
رَبّي َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ إِذْ جَآءَ ُهمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ بَشَرا
رّسُولً {.
()2106 /
َومَا مَنَعَ النّاسَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا إِذْ جَا َءهُمُ ا ْل ُهدَى إِلّا أَنْ قَالُوا أَ َب َعثَ اللّهُ بَشَرًا رَسُولًا ()94
أي :ما منعهم من اليمان إل هذه المسألة :أن يكون الرسول بشرا ،هذه هي القضية التي وقفت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في حلوقهم { :أَ َب َعثَ اللّهُ بَشَرا رّسُولً } [السراء]94 :
والمتأمّل في مسألة التبليغ عن ال يجد أنها ل يمكن أنْ تتم إل ببشر ،فكيف يبلغ البشر جنس آخر،
ول ُبدّ للتلقّي عن ال من وسائط بين الحق سبحانه وتعالى وبين الناس؛ لن البشر ل يستطيع أنْ
ل وَحْيا َأوْ مِن
يتلقّى عن القُوة العليا مباشرة ،فإذنْ :هناك مراحلَ {:ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ
حكِيمٌ }[الشورى]51 :
حيَ بِإِذْ ِنهِ مَا يَشَآءُ إِنّهُ عَِليّ َ
سلَ َرسُولً فَيُو ِ
وَرَآءِ حِجَابٍ َأوْ يُرْ ِ
طفِي مِنَ
لكن الرسول البشري كيف يُكلّم ال؟ ل ُبدّ أنْ نأتي برسول من الجنس العلى {:اللّهُ َيصْ َ
ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُلً[} ..الحج ]75 :وهذا مرحلة ،ثم يصطفي رسولً من البشر يتلقّى عن المَلكِ كي
يستطيع أنْ يُبلّغكم؛ لنكم ل تقدرون على اللقاء المباشر يتلقى عن الملك كي يستطيع أن يبلغكم؛
لنكم ل تقدرون على اللقاء المباشر مع الحق سبحانه.
ونضرب لذلك مثلً ـ ول المثل العلى :أنت إذا أردتَ إضاءة لمبة صغيرة وعندك تيار
كهربائي عالٍ ،هل يمكن أنْ تُوصّله بهذه اللمبة؟ ل لنها ستحرق فورا ،إذن :ما الحل؟ الحل أنْ
تأتي بجهاز وسيط يُقلّل لك هذا التيار القوي ،ويعطي اللمبة على قَدْر حاجتها فتضيء.
كذلك الحق سبحانه يصطفي من الملئكة رسلً يمكنهم التلقّي عن ال ويصطفي من البشر رسلً
يمكنهم التلقّي عن الملئكة ،ثم يُبلّغ الرسول المصطفى من البشر بني جنسه .إذن :فماذا يُزعجكم
في أنْ يكون الرسول بشرا؟ ولماذا تعترضون على هذه المسألة وهي أمر طبيعي؟
جلٍ مّ ْنهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ[} ..يونس]2 :
عجَبا أَنْ َأوْحَيْنَآ إِلَىا رَ ُ
يقول تعالىَ {:أكَانَ لِلنّاسِ َ
صحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ا ْلمُرْسَلُونَ * إِذْ
وفي موضع آخر يقول سبحانه {:وَاضْ ِربْ َلهُمْ مّثَلً َأ ْ
أَرْسَلْنَآ ِإلَ ْيهِمُ اثْنَيْنِ َفكَذّبُو ُهمَا َفعَزّزْنَا بِثَاِلثٍ َفقَالُواْ إِنّآ إِلَ ْيكُمْ مّ ْرسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ ِإلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا
شيْءٍ إِنْ أَنتُمْ ِإلّ َتكْذِبُونَ }[يس]15-13 :
حمَـانُ مِن َ
َومَآ أَنَزلَ الرّ ْ
إذن :فاعتراضهم على بشرية الرسول أمر قديم توارثه أهل الكفر والعناد من أيام نوح ـ عليه
السلم ـ ألم َي ُقلْ له قومهَ {:فقَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن ِق ْومِهِ مَا نَرَاكَ ِإلّ بَشَرا مّثْلَنَا[} ..هود]27 :
طعْتُمْ بَشَرا مّثَْلكُمْ إِ ّنكُمْ إِذا لّخَاسِرُونَ }[المؤمنون]34 :
وقالوا {:وَلَئِنْ أَ َ
سعُرٍ }[القمر]24 :
للٍ وَ ُ
وقالوا {:أَبَشَرا مّنّا وَاحِدا نّتّ ِبعُهُ إِنّآ إِذا ّلفِي ضَ َ
لذلك يدعونا الحق سبحانه وتعالى إلى النظر في السّنة المتبعة في الرسلَ {:ومَآ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ
ِإلّ رِجَالً نّوحِي إِلَ ْيهِمْ[} ..النحل]43 :
أي :ليسوا ملئكة ،ل بُدّ أنْ يكونوا رجالً لِيتمّ اللقاء بينكم ،وإلّ فلو جاء الرسول مَلَكا كما تقولون،
هل ستروْن هذا الملَك؟ قالوا :ل هو مُستتر عنّا ،لكنه يرانا ،لكن تبليغ الرسالة ل يقوم على مجرد
ن يتصوّر لكم الملَك في صورة
الرؤية ،فتبليغ الرسالة يحتاج إلى مخالطة ومخاطبة ،وهنا ل ُبدّ أ ْ
رجل ليؤدي مهمة البلغ عن ال ،وهكذا نعود من حيث بدأنا؛ لنها الطبيعة التي ل يمكن لحد
الخروج عنها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علَ ْيهِم مّا يَلْبِسُونَ }[النعام ]9 :إذن :ل
ل وَلَلَبَسْنَا َ
جعَلْنَاهُ رَجُ ً
جعَلْنَاهُ مَلَكا لّ َ
لذلك يقول سبحانه {:وََلوْ َ
داعي للتمحّك والعناد ،ومصادمة الفطرة التي خلقها ال ،والطبيعة التي ارتضاها لخَلْقه.
سمَآءِ
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
ثم يقول الحق سبحانه } :قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َي ْمشُونَ ُم ْ
مَلَكا رّسُولً {.
()2107 /
{ ُقلْ } أي :رَدّا عليهم :لو أن الملئكة يمشون في الرض مطمئنين لَنزّلنا عليهم مَلَكا رسولً لكي
ن يكون المبلّغ من جنس المبلّغ ،وهذا واضح في حديث جبريل الطويل
يكون من طبيعتهم ،فل بُدّ أ ْ
حينما جاء إلى رسول ال يسأله عن بعض أمور الدين لِيُعلم الصحابة :ما الحسان؟ ما اليمان؟ ما
السلم .فيأتي جبريل مجلس رسول ال في صورة رجل من أهل البادية ،وبعد أنْ أدّى مهمته
انصرف دون أنْ يشعر به أحد ،فلما سألوا عنه قال لهم رسول ال " :إنه جبريل ،أتاكم لِيُعلّمكم
أمور دينكم ".
شيء آخر يقتضي بشرية الرسول ،وهو أن الرسول أسوة سلوك لقومه ،كما قال تعالىّ {:لقَدْ كَانَ
س َوةٌ حَسَ َنةٌ[} ..الحزاب]21 :
َلكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُ ْ
وبال ،كيف تتم هذه السوة؟ وكيف يقتدي الناس بها إنْ كان الرسول مَلَكا؟
فالرسول عندما يُبلّغ منهج ال عليه أنْ يُطبّق هذا المنهج في نفسه أولً ،فل يأمرهم أمرا ،وهو
جوَة ،بل هو إمامهم في القول والعمل.
عنه بِ َن ْ
لذلك فالحاكم الحق الناصح يُطبّق القانون عليه أولً ،فكان سيدنا عمر ـ رضي ال عنه ـ إذا
أراد أن يُقنّن قانونا ويرى أنه سيتعب بعض الظالمين والمنحرفين فيجمع أهله ويخبرهم بما أراد،
ثم يُحذّرهم من المخالفة " :فو الذي نفسي بيده ،مَنْ خالفني منكم إلى شيء لجعلنّه نكَالً للمسلمين،
وأنا أول مَنْ أُطبّقه على نفسي ".
لذلك حكم عمر الفاروق الدنيا كلها في عصره ،ولما رآه الرجل نائما مطمئنا تحت شجرة قال
قولته المشهورة " :حكمتَ ،فعد ْلتَ ،فأمنت ،فن ْمتَ يا عمر " وعمر ما حكم الدنيا والبشر ،بل حكم
نفسه أولً فحُكمت له الدنيا؛ لن الحاكم هو مركز الدائرة ،وحَواليْه دوائر أخرى صغيرة تراه
وتقتدي به ،فإنْ رأوه مستقيما استقاموا ،ولم يجرؤ أحد منهم على المخالفة ،وإنْ رأوْه منحرفا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فاقوه في المخالفة ،وأفسدوا أضعاف ما يُفسد.
لذلك ،ل يمكن أبدا لحاكم أن يحكم إل إذا حكم نفسه أولً ،بعدها تنقاد له رعيته ويكونون طوعا
لمره دون جهد منه أو تعب.
ولقد رأينا في واقعنا بعض الحكام الذين فهموا الُسْوة على حقيقتها ،فترى الواحد من رعيته
يركب أفخم السيارات ،ويسكن أعظم القصور ،حتى إن معظم أدواتها تكون من الذهب ،في حين
ترى هذا الحاكم يعيش عيشة متواضعة وربما يعيش في قصر ورثه عن أبيه أو جَدَّه ،وكأنه يُغلِظ
على نفسه ويبغي الرفاهية لرعايته.
وكذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد أتى بمنهج ،وهو في الوقت نفسه أُسْوة سلوك وقُدْوة،
ث الغنيّ على الصدقة للفقير ،ثم يحرم أهل بيته من هذه الصدقة فل
فنراه صلى ال عليه وسلم يح ّ
يقبلها لهم ،وإنْ توارث الناس فيما يتركونه من أموال فإن ما تركه الرسول ل ُيوَ ّرثُ لهله من
بعده ،بل هو صدقة لفقراء المسلمين ،وهكذا يحرم رسول ال أهل بيته مما أعطاه للخرين لتكون
القدوة صحيحة ،ول يجد ضعاف النفوس مأخذا عليه صلى ال عليه وسلم.
إذن :فليس المراد من الحكم أن يتميز الحاكم عن المحكوم ،أو يفضل بعض الرعية على بعض،
فإذا ما أحسّ الناس بالمساواة خضعوا للحاكم ،وأذعنوا له ،وأطاعوا أمره؛ لنه ل يعمل لمصلحته
الشخصية بل لمصلحة رعيته ،بدليل أنه أقلّ منهم في ُكلّ مستويات الحياة.
فالرسول إنْ جاء مَلَكا فإن الُسْوة ل تتمّ به ،فإنْ أمرنا بشيء ودعانا إلى أن نفعل مثله فسوف
ك ل شهوةَ لك ،ل تأكل ول تشرب ول تتناكح ول تتناسل ،إن هذه
نحتجّ عليه :كيف وأنت مََل ٌ
الوامر تناسبك أنت ،أما نحن فل نقدر عليها.
ومن هنا ل بُدّ أن يكون الرسول بشرا فإنْ حمل نفسه على منهج فل عُذْر لحد في التخلّف عنه؛
لنه يطبق ما جاء به ويدعوكم إلى القتداء بسلوكه.
ل وقُلْناَ :هبْ أنك رأيتَ في الغابة أسدا يصول ويجول ويفتك بفريسته،
وسبق أنْ ضربنا لذلك مث ً
صهْوة جواده يصول ويجول ويحصد
بال هل يراودك أن تكون أسدا؟ إنما لو رأيتَ فارسا على َ
رقاب العداء ،ألّ تتطلع إلى أن تكون مثله؟
إذن :ل تتمّ القُدْوة ول تصح إل إنْ كان الرسول بشرا ،ول داعي للتمرّد على الطبيعة التي خلقها
ال.
شهِيدا.{ ...
ثم يقول الحق سبحانهُ } :قلْ َكفَىا بِاللّهِ َ
()2108 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شهِيدًا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ إِنّهُ كَانَ ِبعِبَا ِدهِ خَبِيرًا َبصِيرًا ()96
ُقلْ َكفَى بِاللّهِ َ
{ ُقلْ } أي :رَدّا على ما اقترحوه من اليات وعلى اعتراضهم على بشرية الرسولَ { :كفَىا بِاللّهِ
شهِيدا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ[ } ..السراء]96 :
َ
والشهيد إنما يُطلَب للشهادة في قضية ما ،فما القضية هنا؟ القضية هي قضية تعنّت الكفار مع
رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنهم طلبوا منه مَا ليس في وُسْعه .والرسول ل يعنيه المتعنتون
شهِيدا[ } ..السراء]96 :
في شيء؛ لن أمره مع ربه عز وجل؛ لذلك قالَ { :كفَىا بِاللّهِ َ
فإنْ كانت شهادة الشاهد في حوادث الدنيا تقوم على الخبار بما حدث ،وعليها يترتب الحكم فإن
شهادة الحق سبحانه تعني أنه تعالى الشهيد الذي رأى ،والحاكم الذي يحكم ،والسلطة التنفيذية التي
تنفذ.
شهِيدا[ } ..السراء]96 :
لذلك قال { :كَفَىا بِاللّهِ َ
فهو كافيك هذا المر؛ لنه كان بعباده { خَبِيرا } يعلم خفاياهم ويطّلع على نواياهم من وراء هذا
التعنّت { َبصِيرا } ل يخفي عليه شيء من أمرهم.
جدَ َلهُمْ َأوْلِيَآءَ مِن
ثم يقول الحق تبارك وتعالىَ { :ومَن َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَ ِد َومَن ُيضِْللْ فَلَن تَ ِ
دُونِهِ.} ..
()2109 /
َومَنْ َي ْهدِ اللّهُ َفهُوَ ا ْل ُمهْتَدِ َومَنْ ُيضِْللْ فَلَنْ َتجِدَ َلهُمْ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُ ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَلَى
سعِيرًا ()97
جهَنّمُ كُّلمَا خَ َبتْ زِدْنَا ُهمْ َ
عمْيًا وَ ُب ْكمًا َوصُمّا مَ ْأوَاهُمْ َ
وُجُو ِههِمْ ُ
سبق أنْ قُلْنا :إن الهداية نوعان :هداية الدللة المطلقة والتي تكون لجميع الخلق المؤمن والكافر،
ل ال المؤمن والكافر على الطريق المستقيم وبيّنه لهم وأرشدهم إليه.
فقد َد ّ
والخرى :هداية التوفيق والمعونة للقيام بمطلوبات المنهج الذي آمنوا به ،وهذه خاصّة بالمؤمن،
فبعد أنْ دَلّه ال آمن وصدّق واعترف ل تعالى بالفضل والجميل ،بأن أنزل له منهجا ينظم حياته.
فأتحفه ال تعالى بهداية التوفيق والمعونة.
وعن الهداية يقول الحق سبحانه {:وََأمّا َثمُودُ َف َهدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى ا ْلهُدَىا[} ..فصلت:
]17
أي :دَلَلْناهم على الطريق المستقيم ،لكنهم استحبّوا العمى والضلل على الهدى ،فمنع ال عنهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
معونته وتوفيقه.
والحق سبحانه يخاطب رسوله صلى ال عليه وسلم بأسلوبين قرآنيين يوضّحان هذيْن النوعيْن من
ت وَلَـاكِنّ اللّهَ َي ْهدِي مَن يَشَآءُ[} ..القصص]56 :
ك لَ َت ْهدِي مَنْ أَحْبَ ْب َ
الهداية ،يقول تعالى {:إِ ّن َ
فنفى عن رسول ال هداية التوفيق والمعونة؛ لنه صلى ال عليه وسلم ل يملكها ،وفي آية أخرى
قال تعالى {:وَإِ ّنكَ لَ َت ْهدِي إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[الشورى]52 :
فأثبتَ له هداية البيان والدللة؛ لن هذه هي مهمته كمبلّغ عن ال ،وهكذا أثبتَ له الحدث ونفاه
عنه؛ لن الجهة مُنفكّة أي :أن جهة الثبات غير جهة النفي ،كما في قوله تعالى {:وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ
س لَ َيعَْلمُونَ * َيعَْلمُونَ ظَاهِرا مّنَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا[} ..الروم]7-6 :
النّا ِ
فمرة :نفَى عنهم العلم ،ومرة أخرى :أثبتَ لهم العلم .والمراد أنهم ل يعلمون حقائق المور،
ولكنهم يعلمون العلوم السطحية الظاهرة منها .ونحن نكرّر مثل هذه القضايا لكي تستقرّ في النفس
النسانية ،وفي مواجيد المتدينين فينتفعوا بها.
ت وَلَـاكِنّ اللّهَ َرمَىا[} ..النفال]17 :
ومن ذلك أيضا قول الحق سبحانهَ {:ومَا َرمَ ْيتَ إِذْ َرمَ ْي َ
فأثبت للرسول َرمْيا ،ونفى عنه َرمْيا ،لكن إذا جاء هذا الكلم من بليغ حكيم فاعلم أن الجهة
حفْنة من التراب ورمى بها نحو أعدائه،
مُنفكّة؛ لن النبي صلى ال عليه وسلم في غزوة بدر أخذ َ
وهذا هو ال ّرمْي الذي أثبتته الية ،وقد تولّتْ القدرة اللهية إيصال ذرات هذه الحفنة إلى عيون
العداء ،فأصابتهم جميعا وشغلتْهم عن القتال ،وهذا هو ال ّرمْي الذي نفاه الحق عن رسوله صلى
ال عليه وسلم.
ولتقريب هذه المسألة :ابنك الذي تحمله على المذاكرة وتُرغمه عليها يأتي بالكتب ويضعها أمامه
ويُقلّب فيها ليوهمك أنه يذاكر ،فإذا ما راجعت معه ما ذاكر ل تجدْه حصّل شيئا فتقول له :ذاكرتَ
وما ذاكرت ،فتُثبِت له الحدث مرة ،وتنفيه عنه أخرى؛ لنه ذاكر شكلً ،ولم يذاكر موضوعا.
إذن :فالحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية إرشاد وبيان ودللة ،ويختص مَنْ آمن بهداية
المعونة والتوفيق للقيام بمقتضيات المنهج ،كما قال تعالى {:وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ
َتقُوَا ُهمْ }
[محمد]17 :
وقال عن الخرين {:وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ }[الصف ]7 :لكن يهدي العادلين.
سقِينَ }[الصف ..]5 :لكن يهدي الطائعين.
وقال {:وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
وقال {:وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة ..]264 :لكن يهدي المؤمنين.
إذن :بيّن الحق سبحانه في أساليب القرآن مَنْ شاء هدايته ،أما مَنْ آثر الكفر وصمم ألّ يؤمن فهو
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ }
وشأنه ،بل ويزيده ال من الكفر ويختم على قلبه ،كما قال تعالى {:وَ َنذَرُهُمْ فِي ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[النعام]110 :
نعود إلى } مَن { في قوله تعالىَ } :ومَن َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْ َتدِ[ { ..السراء ]97 :قلنا :إن (مَن) اسم
موصول بمعنى الذي ،واستخدام (مَن) كاسم موصول ل يقتصر على (الذي) فقط ،بل تستخدم
لجميع السماء الموصولة :الذي ،التي ،اللذان ،اللتان ،الذين ،اللتي .فتقول :مَنْ جاءك فأك ِرمْه،
ومَنْ جاءتك فأكرمْها ،ومَنْ جاءاك فأكرمهم ،ومَنْ جاءتاك فأكرمهما ،ومَنْ جاءوك فأكرمهم ،ومَنْ
ك فأكر ْمهُن.
جِئْ َن َ
فهذه ستة أساليب تؤديها (مَن) فهي ـ إذن ـ صالحة للمذكّر وللمؤنّث وللمفرد وللمثنى وللجمع،
وعليك أن تلحظ (مَنْ) في اليةَ } :ومَن َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِ[ { ..السراء ]97 :جاءت (مَنْ) دالّة
على المفرد المذكر ،وهي في نفس الوقت دالّة على المثنى والجمع المذكر والمؤنث ،فنقول :مَنْ
يهدِهَا ال فهي المهتدية ،ومَنْ يهدهم ال فهم المهتدون .وهكذا.
ونسأل :لماذا جاءت (مَنْ) دالة على المفرد المذكر بالذات دون غيره في مجال الهدى ،أما في
الضلل فجاءتْ (مَنْ) دالة على الجمع المذكر؟ نقول :لنه لحظ لفظ (من) فأفرد الولى ،ولحظ
جدَ َلهُمْ َأوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ[ { ..السراء]97 :
ما تطلق عليه (من) فجمع الثانيةَ } :ومَن ُيضِْللْ فَلَن تَ ِ
وهنا مَلْحظ دقيق يجب تدبّره :في الهتداء جاء السلوب بصيغة المفردَ } :ومَن َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ
ل واحدا ل غير ،هو منهج ال تعالى وصراطه
ا ْل ُمهْتَدِ[ { ..السراء ]97 :لن للهتداء سبي ً
المستقيم ،فللهداية طريق واحد أوضحه رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله " :ل يؤمن أحدكم
حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".
أما في الضلل ،فجاء السلوب بصيغة الجمع } :فَلَن َتجِدَ َل ُهمْ َأوْلِيَآءَ[ { ..السراء ]97 :لن طرق
الضلل متعددة ومناهجه مختلفة ،فللضلل ألف طريق ،وهذا واضح في قول الحق سبحانه {:وَأَنّ
هَـاذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيما فَاتّ ِبعُو ُه وَلَ تَتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِب ُكمْ عَن سَبِيِلهِ[} ..النعام]153 :
خطّا مُسْتقيما ،وخَطّ حوله خطوطا
خطّ للصحابة َ
والنبي صلى ال عليه وسلم حينما قرأ هذه الية َ
مُتعرّجة ،ثم أشار إلى الخط المستقيم وقال " :هذا ما أنا عليه وأصحابي ".
إذن :الهداية طريق واحد ،وللضلل أَلْف مذهب ،وألف منهج؛ لذلك لو نظرتَ إلى أهل الضلل
لوجدتَ لهم في ضللهم مذاهب ،ولكل واحد منهم هواه الخاص في الضلل .فعليك أنْ تقرأ هذه
الية بوعي وتأمّل و َفهْم لمراد المتكلّم سبحانه ،فلو قرأها غافل لَقال :فمن تجد له أولياء من دونه،
ولتبع الثانية الولى.
ومن هنا تتضح توقيفية القرآن ،حيث دقة الداء اللهي التي وضعتْ ُكلّ حَرْف في موضعه.
وقولهَ } :أوْلِيَآءَ { أيُ :نصَراء ومعاونين ومُعينين } مِن دُونِه { أي :من بعده } وَنَحْشُرُ ُهمْ َيوْمَ
ا ْلقِيَامَةِ عَلَىا وُجُو ِههِمْ { [السراء]97 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحشْر :القيام من القبر والجمع للحساب } عَلَىا وُجُو ِههِمْ { هنا تعجب بعض الصحابة ،فسألوا
رسول ال :وكيف يسير النسان على وجهه؟ فقال صلى ال عليه وسلم " :إن الذي أمشاهم على
أرجلهم قادر أن يُمشيهم على وجوههم ".
وما العجب في ذلك ونحن نرى مخلوقات الَ {:فمِ ْنهُمْ مّن َيمْشِي عَلَىا بَطْنِهِ َومِنهُمْ مّن َيمْشِي
عَلَىا رِجْلَيْنِ َومِنْهُمْ مّن َي ْمشِي عَلَىا أَرْبَعٍ[} ..النور]45 :
ضلّ
شيَ من َ
ألم تَرَ الثعبان ،كيف هو سريع في مِشْيته ،خفيف في حركته ،فالذي خلق قادر أن يُم ِ
في القيامة على بطنه ،لن المسألة إرادة مريد لِيُوقع بهم غاية الذّلّة والهوان ،ويا ليتهم تنتهي بهم
صمّا..
عمْيا وَ ُبكْما َو ُ
المهانة والمذلّة عند هذا الحدّ ،بل } :وَنَحْشُرُ ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَلَىا ُوجُو ِههِمْ ُ
{ [السراء]97 :
عمْي ل يروْنَ شيئا ،ول
هذا استطراق لوسائل الهانة ،ففضلً عن مَشْيهم على الوجوه فهم ُ
ن تتصوّر إنسانا
يهتدون ،وهم صُمّ ل يسمعون نداءً ،وهم ُبكْمٌ ل يقدرون على الكلم ،ولك أ ْ
جمعت عليه كل هذه الوسائل ليس في يوم عادي ،بل في يوم البعث والنشور ،فإذا به ُيفَاجأ بهْول
البعث ،وقد سُدّت عليه جميع منافذ الدراك ،فهو في قلب هذا ال َهوْل والضجيج ،ولكنه حائر ل
يدري شيئا ،ول يدرك ما يحدث من حوله.
ولنا هنا لفتة على هذه الية ،فقد ورد في القرآن كثيرا :صُمّ ُبكْم بهذا الترتيب إل في هذه الية
صمَم يسبق ال َبكَم؛ لن النسان يحكي ما سمعه ،فإذا لم
صمّا { ومعلوم أن ال ّ
جاءت هكذا } :وَ ُبكْما َو ُ
يسمع شيئا ل يستطيع الكلم ،واللغة بنت السماع ،وهي ظاهرة اجتماعية ليستْ جنسا وليست َدمَا.
وسبق أنْ قُلْنا :إن الولد النجليزي إذا تربّى في بيئة عربية يتكلم بالعربية والعكس؛ لن اللغة
ليست جنسا ،بل ظاهرة اجتماعية تقوم على السماع ،فما تسمعه الذن يحكيه اللسان .حتى العربي
نفسه الذي يعيش في بيئة عربية ،إل أنه لم يسمع هذه اللفاظ الغريبة المتقعّرة ل يستطيع محاكاتها
ول يعرف معناها.
لكن في هذه الية جاء البكَم أولً ،لماذا؟ لنه ساعة يُفاجأ به ْولِ البعث والحشر كان المفروض أن
عمّا يحدث ،ثم يسمع بعد ذلك إجابة على ما هو فيه ،لكنه فُوجئ بالبعث وأهواله ،ولم
يسأل أولً َ
صمَم في هذا الموقف.
عمّا حوله ،وهكذا سبق البكَم ال ّ
يستطع حتى الستفسار َ
وهنا أيضا اعتراض لبعض المستشرقين ومَنْ يُجارونهم ِممّنْ أسلموا بألسنتهم ،ولم تطمئن قلوبهم
عمْيا.
لنور ال ،يقولون :القرآن يقول } :وَ َنحْشُرُ ُهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَلَىا وُجُو ِههِمْ ُ
[ { .السراء ]97 :فينفي عنهم الرؤية ،وفي آيات أخرى يقول {:حَتّىا إِذَا رََأوْاْ مَا يُوعَدُونَ} ..
[مريم {]75 :وَرَأَى ا ْلمُجْ ِرمُونَ النّارَ َفظَنّواْ أَ ّنهُمْ ّموَا ِقعُوهَا[} ..الكهف]53 :
فأثبت لهم الرؤية ،فكيف نجمع بين هذه اليات؟ والمتأمل في حال هؤلء المعذّبين في موقف
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمْيا لِيتحققَ لهم الذلل والحيرة
البعث يجد أن العمى كان ساعة البعث ،حيث قاموا من قبورهم ُ
والرتباك ،ثم بعد ذلك يعودون إلى توازنهم ويعود إليهم بصرهم ليشاهدوا به ألوان العذاب
الخاصة بهم ،وهكذا جمع ال عليهم الذل في الحاليْن :حال العمى وحال البصر.
غطَآ َءكَ فَ َبصَ ُركَ الْ َيوْمَ حَدِيدٌ }[ق:
شفْنَا عَنكَ ِ
غفْلَةٍ مّنْ هَـاذَا َفكَ َ
لذلك يقول تعالىّ {:لقَدْ كُنتَ فِي َ
]22
سعِيرا { [السراء ]97 :مأواهم :أي :مصيرهم
جهَنّمُ كُّلمَا خَ َبتْ زِدْنَاهُمْ َ
ثم يقول تعالى } :مّ ْأوَا ُهمْ َ
ض ُعفَت أو انطفأتْ ،لكن ما دام المراد من النار التعذيب ،فلماذا
ونهايتهم .خَ َبتْ :خبت النار .أيَ :
تخبو النار أو تنطفئ؟ أليس في ذلك راحة لهم من العذاب؟
حدّ ذاته َلوْنٌ من العذاب؛ لن استدامة
المتأمل في الية يجد أن خفوت النار وانطفاءها هو في َ
الشيء يُوطّن صاحبه عليه ،واستدامة العذاب واستمراره يجعلهم في إِلْف له ،فإنْ خَبتِ النار أو
هدأتْ فترةً فإنهم سيظنون أن المسألة انتهت ،ثم يُفاجئهم العذاب من جديد ،فهذا أنكَى لهم وآلم في
تعذيبهم.
حتُ مِنْ لَيْلَى
وهذا يُسمّونه في البلغة " اليأس بعد الطماع " ،كما جاء في قول الشاعر:فَأصْبَ ْ
لصَابِعفي السجون والمعتقلت يحدث مثل هذا ،فترى
الغَداةَ َكقَا ِبضٍ عَلَى المَاء خَانَ ْتهُ فُرُوجُ ا َ
السجين يشتد به العطش إلى حَدّ ل يطيقه ،فيصيح بالحارس ويتحنن إليه ويرجوه كوبا من الماء،
شفَتَيْه ،ويطمع في أنْ يبلّ ريقه ويطفئ غُلّته ،فإذا بالحارس
فيأتي له بكوب الماء حتى يكون على َ
يسكبه على الرض ،وهذا أنكى وأشدّ في التعذيب.
ش َعتْ
جوْهَا أقْ َ
غمَامَةٌ فََلمّا َر َ
عطَاشا َ
وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقولهَ :كمَا أبر َقتْ َقوْمَا ِ
وتَجلّتِأي :ساعة أَنْ رأوْهَا ،واستشرفوا فيها الماء إذا بها تنقشع وتتلشى ،وتُخيّب رجاءهم فيها.
وكذلك من ألوان العذاب التي قد يظنّها البعض َلوْنا من الراحة في جهنم والعياذ بال ،أن ال تعالى
جتْ
يُبَدّل جلودهم بجلود أخرى جديدة ،ل رحمةً بهم بل نكايةً فيهم ،كما قال تعالى {:كُّلمَا َنضِ َ
جُلُو ُدهُمْ َبدّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْ َرهَا لِيَذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ[} ..النساء]56 :
لن الجلود إذا نضجتْ وتفحّمت امتنع الحِسّ ،وبالتالي امتنعتْ إذاقة العذاب ،إذن :العلة من تبديل
الجلود تجديد الحسّ ليذوقوا العذاب إذاقةً مستديمة .ومنذ عهد قريب كانوا يظنون أن الحسّ يأتي
من المخ ،إل أنهم لحظوا على النسان إحساسا قبل أن يصل شيء للمخ.
فمثلً :لو أشرت بأصبعك إلى عين إنسان تراه يُغمِض عينه قبل أنْ تلمسه ،وفسّروا ذلك بما
يسمونه العكس في النخاع الشوكي ،ثم توالت البحوث للتعرف على مناط الحسّ في النسان أيْن
هي؟ إلى أن انتهت تلك البحاث إلى ما أخبر به القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من
الزمان ،من أن الجلد هو مركز الحساس في النسان ،بدليل أنك إذا أخذتَ حقنة مثلً ،فبمجرد أن
تخترق طبقة الجلد ل تشعر بألمها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فمن أين عرف العرب هذه النظريات العلمية الدقيقة؟ ومَنْ أخبر بها الرسول صلى ال عليه وسلم؟
إنه َلوْنٌ من ألوان العجاز القرآني للعرب ولغيرهم.
ثم يقول الحق سبحانه } :ذَِلكَ جَزَآؤُهُم بِأَ ّن ُهمْ َكفَرُواْ بِآيَاتِنَا.{ ...
()2110 /
{ ذَِلكَ } أي :ما حدث لهم من العذاب الذي تستبشعه أنت { جَزَآؤُهُم } أي :حاق بهم العذاب عَ ْدلً
ل ظُلْما ،فإياك حين تسمع آيات العذاب هذه أن تأخذَك بهم رَأْفة أو رحمة؛ لنهم أخذوا جزاء
عملهم وعنادهم وكفرهم ،والذي يعطف قلوب الناس على أهل الجرام هو تأخير العقاب.
فهناك فَ ْرقٌ بين العقوبة في وقت وقوع الجريمة ،وهي ما تزال بشعةً في نفوس الناس ،وما تزال
نارها تشتعل في القلوب ،فإنْ عاقبتَ في هذا الجو كان للعقوبة معنىً ،وأحدثتْ الثر المرجوّ منها
وتعاطفَ الناس مع المظلوم بدلَ أنْ يتعاطفوا مع الظالم.
شكّ أن الجريمة ستُ ْنسَى وتبرد
فحين نُؤخّر عقوبة المجرم في ساحات المحاكم لعدة سنين فل َ
نارها ،وتتلشى بشاعتها ،ويطويها النسيان ،فإذا ما عاقبتَ المجرم فلن يبدو للناس إلّ ما يحدث
من عقوبته ،فترى الناس يرأفون به ويتعاطفون معه.
جتْ جُلُودُ ُهمْ بَدّلْنَا ُهمْ جُلُودا غَيْرَهَا لِ َيذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ[} ..النساء:
إذن :قبل أن تنظر إلى {:كُّلمَا َنضِ َ
]56
جهَنّمُ كُّلمَا خَ َبتْ ِزدْنَا ُهمْ
صمّا مّ ْأوَاهُمْ َ
عمْيا وَ ُبكْما َو ُ
وإلى { :وَنَحْشُ ُرهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَلَىا ُوجُو ِههِمْ ُ
سعِيرا } [السراء]97 :
َ
انظر إلى ما فعلوه ،واعلم أن هذا العذاب بعدل ال ،فأحذر أنْ تأخذك بهم رحمة ،ففي سورة النور
شهَدْ
يقول تعالى {:وَلَ تَ ْأخُ ْذكُمْ ِب ِهمَا رَ ْأ َفةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَلْيَ ْ
عَذَا َب ُهمَا طَآ ِئفَةٌ مّنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النور]2 :
ثم يوضح سبحانه وتعالى حيثية هذا العذاب { :بِأَ ّن ُهمْ َكفَرُواْ بِآيَاتِنَا[ } ..السراء ]98 :واليات
تطلق على اليات الكونية ،أو على آيات المعجزات المؤيّدة ِلصِدْق الرسول ،أو آيات القرآن
الحاملة للحكام ..وقد وقع منهم الكفر بكل اليات ،فكفروا باليات الكونية ،ولم يستدلوا بها على
الخالق سبحانه ،ولم يتدبّروا الحكمة من خَلْق هذا الكون البديع ،وكذلك كفروا بآيات القرآن ولم
يُؤمنوا بما جاءتْ به.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل على نقص في العقيدة ،وخَلَل في اليمان الفطري الذي خلقه ال فيهم ،وكذلك كذّبوا
وهذا كله يد ّ
بمعجزات الرسول ،فدلّ ذلك على خَلَل في التصديق.
جدِيدا }
ومن باطن هذا الكفر ومن نتائجه أنْ قالوا { :أَِإذَا كُنّا عِظَاما وَ ُرفَاتا أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ خَلْقا َ
ب ليات القرآن التي جاءتْ على لسان رسول ال صلى ال
[السراء ]98 :وهذا القول منهم تكذي ٌ
عليه وسلم لتخبرهم أنهم مبعوثون يوم القيامة ومُحاسَبُون ،وهم بهذا القَوْل قد نقلوا الجدل إلى
مجال جديد هو :البعث بعد الموت.
عظَاما وَ ُرفَاتا[ } ..السراء ]98 :الرفات :هو الفُتَات وَزْنا ومعنىً ،وهو :الشيء الجاف
وقولهِ { :
الذي تكسّر؛ لذلك جاءت لترتيب هكذا :عظاما و ُرفَاتا؛ لن جسم النسان يتحلّل وتمتصّ الرض
ت وتصير
عناصر تكوينه ،ول يبقى منه إل العظام ،وبمرور الزمن تتكسّر هذه العظام ،وتتفت ْ
رفاتا ،وهم يستبعدون البعث بعد ما صاروا عظاما ورفاتا.
وقوله تعالى } :أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ[ { ..السراء ]98 :والهمزة هنا استفهام يفيد النكار ،فلماذا ينكر
هؤلء مسألة البعث بعد الموت؟
نقول :لن الكافر عنده لَ َددٌ في ذات إيمانه ،ومن مصلحة آماله وتكذيب نفسه أنْ ينكر البعث،
وعلى فَرْض أنه سيحدث فإنهم سيكونون في الخرة سادة ،كما كانوا سادةً في الدنيا .وهؤلء القوم
يفهمون الحياة على ظاهرها ،فالحياة عندهم هي الحركة الحسية التي يمارسونها ،وبها يعيشون
حياتهم هذه ،ول يدركون أن لكل شيء حياةً تناسبه.
حفْريات يقولون :إن الشياء المطمورة في باطن الرض تتغّير بمرور
فمثلً :علماء الجيولوجيا وال َ
الزمن ،وتتحول إلى موادّ أخرى ،إذن :ففيها حركة وتفاعل أو ُقلْ فيها حياة خاصة بها تناسبها،
فليست الحياة قاصرة على حركتنا في الحياة الدنيا ،بل للحياة معنى آخر أوسع بكثير من الحياة
التي يفهمها هؤلء.
فالنسان الحيّ مثلً له في مظهرية أموره حالتان :حالة النوم وحالة اليقظة ،فحياته في النوم
محكومة بقانون ،وحياته في اليقظة محكومة بقانون ،هذا وهو ما يزال حيا يُرزَق ،إذن :عندما
نخبرك أن لك قانونا في الموت وقانونا في البعث فعليك أنْ تُصدّق.
ألم تَرَ النائم وهو ُم ْغمَض العينين يرى الرؤيا ،ويحكيها بالتفصيل وفيها حركة وأحداث وألوان،
وهو يدرك هذا كله وكأنه في اليقظة؟ حتى مكفوف البصر الذي فقد هذه الحاسة ،هو أيضا يرى
الرؤيا كما يراها المبصر تماما ويحكيها لك ،يقول :رأيتُ كذا وكذا ،كيف وهو في اليقظة ل
يرى؟
نقول :لن للنوم قانونا آخر ،وهو أنك تدرك بغير وسائل الدراك المعروفة ،ولك في النوم حياة
مستقلة غير حياة اليقظةَ .ألَ ترى الرجلين ينامان في فراش واحد ،وهذا يرى رؤيا سعيدة مفرحة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يصحو منها ضاحكا مسرورا ،والخر إلى جواره يرى رؤيا مؤلمة مُحزِنة يصحو فيها مُكدّرا
محزونا ،ول يدري الواحد منهم بأخيه ول يشعر به ،لماذا؟
لن لكل منهما قانونه الخاص ،وحياته المستقلة التي ل يشاركه فيها أحد.
وقد ترى الرؤيا تحكيها لصاحبك في نصف ساعة ،في حين أن العلماء توصلوا إلى أن أقصى ما
يمكن للذهن متابعته في النوم ل يتجاوز سبع ثوان ،مما يدلّ على أن الزمن في النوم مُلْغي ،كما
أن أدوات الدراك ملغاة ،إذن :فحياتك في النوم غير حياتك في اليقظة ،وكذلك في الموت لك
حياة ،وفي البعث لك حياة ،ولكل منهما قانون يحكمها بما يتناسب معها.
وقد يقول قائل عن ال ّرؤَى :إنها مجرد تخيّلت ل حقيقةَ لها ،لكن يَرُدّ هذا القول ما نراه في الواقع
طعْمه في فمه ،وآخر
من صاحب ال ّرؤْيا الذي يحكي لك أنه أكل طعاما ،أو شرب شرابا ما يزال َ
ضُرِب ،ويُريك أثر الضرب على ظهره مثلً ،وآخر يصحو من النوم يتصبّب عَرقا ،وكأنه كان
في عراك حقيقي ل مجرد منام.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُوضّح لنا أننا في النوم لنا حياة خاصة وقانون خاص ،لنأخذ من
هذا دليلً على حياة أخرى بعد الموت.
والعلماء قالوا في هذه المسألة بظاهرة المتواليات ،والمراد بها :إذا كانت اليقظة لها قانون ،والنوم
له قانون ألطف وأخفّ من قانون اليقظة ،فبالتالي للموت قانون أخفّ من قانون النوم ،وللبعث
قانون أخف من قانون الموت.
جهَهُ[} ..القصص]88 :
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
حسَم القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالىُ {:كلّ َ
وقد َ
أي :كلّ ما ُيقَال له شيء في الوجود هالك إل ال تعالى فهو الباقي ،والهلك ضدّه الحياة ،بدليل
حيّ عَن بَيّ َنةٍ[} ..النفال ]42 :إذن :لكل شيء
قوله تعالى {:لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ
صغُر في َكوْن ال حياة خاصة تناسبه قبل أنْ يعتريه الهلك.
مهما َ
ولذلك نعجب حينما يطالعنا العلماء بأن في علبة الكبريت هذه التي نضعها في جيوبنا قوة تجاذب
بين ذراتها ،تصلح هذه القوةَ لتسيير قطار حول العالم لمدة ست سنوات ،سبحان ال ..أين هذه
القوة؟ إنها موجودة لكِنّنا ل نشعر بها ول ندركها ،إنما الباحثون في معاملهم يمكنهم ملحظة مثل
هذه الحركة وتسجيلها.
صغَر والتي تعتمد على ترتيب الذرّات ترتيبا
وأقرب من ذلك ظاهرة الجاذبية التي تعلّمناها منذ ال ّ
مُعينا ،ينتج عنه المُوجَب والسالب ،فيتم التجاذب فكانوا يضعون لها بُرادَة الحديد في أنبوبة،
و ُيمَرّرون عليها قضيبا مُمغْنَطا ،فنرى برادة الحديد تتحرك في نفس اتجاه القضيب.
إذن :في الحديد حركة وحياة بين ذراته ،حياة تناسبه بلغتْ من الدقة مَبْلَغا فوق مستوى إدراكك.
ن صِ ْرتَ رُفاتا،
إذن :نستطيع القول بأن للعظام وللرفات حياةً ،ولك أيها المنكر وجود حتى بعد أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن في
فشيء منك موجود يمكن أن يكون نواةً لخ ْلقِك من جديد ،وبمنطق هؤلء المنكرين أيهما أهوَ ْ
الخَلْق :الخَلْق من شيء موجود ،أم الخَلْق ابتداءً؟
حفِيظٌ }[ق]4 :
ص الَ ْرضُ مِ ْنهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ َ
وقد رد عليهم الحق سبحانه بقوله {:قَدْ عَِلمْنَا مَا تَن ُق ُ
أي :في علمه سبحانه عدد ذرات كل مِنّا ،وكم في تكوينه من مواد ،ل ينقص من ذلك شيء ،وهو
سبحانه قادر على جمع هذه الذرات مرة أخرى ،وليس أمره تعالى متوقفا على العلم فقط ،بل عنده
كتاب دقيق يحفظ كل التفاصيل ،ول يغيب عنه شيء.
جدِيدٍ }[ق]15 :
لوّلِ َبلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مّنْ خَ ْلقٍ َ
قاَ
وقال تعالى كذلك في الرد عليهمَ {:أ َفعَيِينَا بِا ْلخَ ْل ِ
شكّ وتردّد.
أي :في خَلْط و َ
وقد ناقشنا مِنْ منكري البعث الشيوعيين الذي قتّلوا في أعدائهم ،وأخذوا أموالهم مُعاقبةً لهم على
ما اقترفوه من ظلم الناس ،فكنت أقول لهم :فما بال الذين ماتوا من هؤلء ،ولم يأخذوا حظّهم من
لوْلَى بكم أنْ تؤمنوا بالخرة التي
العقاب؟ وكيف يذهبون هكذا ويُفلتون بجرائمهم؟ لقد كان ا َ
يُعاقب فيها هؤلء الذين أفلتوا من عقاب الدنيا ،حتى تتحقق عدالة النتقام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2111 /
()2112 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل لمته هذا الكلم ،وكان يكفي في البلغ
قوله تعالى { :قُل } أمر من الحق سبحانه وتعالى أنْ يقو َ
أن يقول النبي صلى ال عليه وسلم لمته :لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي ..لكن النبي هنا
يحافظ على أمانة الداء القرآني ،ول يحذف منه شيئا؛ لن المتكلم هو ال ،وهذا دليلٌ على مدى
صدق الرسول في البلغ عن ربه.
ومعنى { خَزَآئِنَ } هي ما يُحفظ بها الشيء النفيس لوقته ،فالخزائن مثلً ل نضع بها التراب ،بل
الشياء الثمينة ذات القيمة.
حمَةِ رَبّي[ } ..السراء ]100 :أي :خَيْرات الدنيا من َلدُن آدم عليه السلم
ومعنى { :خَزَآئِنَ َر ْ
وحتى قيام الساعة ،وإنْ من شيء يحدث إلى قيام الساعة إل عند ال خزائنه ،فهو موجود بالفعل،
ظهر في عالم الواقع أو لم يظهرَ {:ومَا نُنَزّلُهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }[الحجر ]21 :أي :أنه موجود في
عِلْم ال ،إلى حين الحاجة إليه.
لذلك لما تحدّث الحق سبحانه عن خلق اليات الكونية في السماء والرض قالُ {:قلْ أَإِ ّنكُمْ
سيَ
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ
لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خََل َ
سوَآءً لّلسّآئِلِينَ }[فصلت]10-9 :
مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َب َعةِ أَيّامٍ َ
نلحظ أن قوله تعالى { وَبَا َركَ فِيهَا } جاءت بعد ِذكْر الجبال الرواسي ،ثم قالَ {:وقَدّرَ فِيهَآ
َأ ْقوَا َتهَا[} ..فصلت ]10 :كأن الجبال هي مخازن القوت ،وخزائن رحمة ال لهل الرض.
والقوت :وهو الذي يتمّ به استبقاء الحياة ،وهذا ناشئ من مزروعات الرض ،وهذه من تصديقات
القرآن لطموحات العلم وأسبقية إخبار بما سيحدث ،فهاهو القرآن يخبر بما اهتدى إليه العلم
الحديث من أن العناصر التي تُكوّن النسان هي نفس عناصر التربة الزراعية التي نأكل منها.
خلَق النسان؟
لكن ،كيف تكون الجبال مخازن القوت الذي جعله ال في الرض قبل أن يُ ْ
نقول :إن الجبال هي أساس التربة التي نزرعها ،فالجبل هذه الكتلة الصخرية التي تراها أمامك
جامدة هي في الحقيقة ليست كذلك؛ لن عوامل التعرية وتقلبات الجو من شمس وحرارة وبرودة،
كل هذه عوامل تُفتّت الصخر وتُحدِث به شروخا وتشققات ،ثم يأتي المطر فيحمل هذا الفُتات إلى
الوادي ،ولو تأملتَ شكل الجبل وشكل الوادي لوجدتهما عبارة عن مثلثين كل منهما عكس الخر،
فالجبل مثلث رأسه إلى أعلى ،وقاعدته إلى أسفل ،والوادي مثلث رأسه إلى أسفل وقاعدته إلى
أعلى.
وهكذا ،ف ُكلّ ما ينقص من الجبل يزيد في الوادي ،ويُكوّن التربة الصالحة للزراعة ،وهو ما يسمى
بالغِرْيَن أو الطمى؛ لذلك حَدّثونا أن مدينة دمياط قديما كانت على شاطئ البحر البيض ،ولكن
بمرور الزمن تكوّنت مساحات واسعة من هذا الغِرْيَن أو الطمي الذي حمله النيل من إفريقيا
ففصل دمياط عن البحر ،والن وبعد بناء السد وعدم تكوّن الطمي بدأت المياة تنحت في الشاطئ،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتنقص فيه من جديد.
()2113 /
وقد سبق أن اقترح كفار مكة على رسول ال صلى ال عليه وسلم عدة آيات ذُك َرتْ في قوله
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ
تعالىَ {:وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ تُ ْ
سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ
وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن ُزخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ
عَلَيْنَا كِتَابا ّنقْ َر ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ ِإلّ َبشَرا رّسُولً }[السراء]93-90 :
فأراد الحق سبحانه أنْ يُلفِت نظره أن سابقيهم من اليهود أتتهم تسع آيات ونزلت عليهم دون أنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يطلبوها ،ومع ذلك كفروا ،فالمسألة كلها تعنّت وعناد من أهل الكفر في كل زمان ومكان.
ومعنى { بَيّنَاتٍ[ } ..السراء ]101 :أي :واضحات مشهورات بَ ْلقَاء كالصبح ،لنها حدثت جميعها
على مَرْأىً ومشهد من الناس.
والمراد باليات التسع هنا هي اليات الخاصة بفرعون؛ لن كثيرين يخلطون بين معجزات موسى
إلى فرعون ،ومعجزاته إلى بني إسرائيل.
إذن :فقوله تعالى { :وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا ِتسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ[ } ..السراء ]101 :هي اليات التي
أُرسِل بها إلى فرعون وقومه وهي :العصا التي انقلبتْ حية ،واليد التي أخرجها من جيبه بيضاء
مُنورة ،وأَخْذ آل فرعون بالسنين ونَ ْقصٍ من الموال والنفس والثمرات ،ثم لما كذّبوا أنزل ال
عليهم الطوفان ،والجراد ،وال ُقمّل ،والضفادع ،والدم ،هذه تسع آيات خاصة بما دار بين موسى
وفرعون.
أما المعجزات الخرى مثل العصا التي ضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ،ونتق
الجبل فوقهم كأنه ظُلّة ،وإنزال المنّ والسّلْوى عليهم ،فهذه آيات خاصة ببني إسرائيل.
وقوله تعالى { :فَسْ َئلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ[ } ..السراء ]101 :والمر هنا لرسول ال صلى ال عليه
وسلم ،لكن كيف يسأل بني إسرائيل الذين جاءهم موسى ـ عليه السلم ـ وقد ماتوا ،والموجود
الن ذريتهم؟ نقول :لن السؤال لذريتهم هو عَيْن سؤالهم ،لنهم تناقلوا الحداث جيلً بعد جيل؛
لذلك قال تعالى مُخاطبا بني إسرائيل المعاصرين لرسول ال {:وَإِذْ قَالَ مُوسَىا ِل َقوْمِهِ ا ْذكُرُواْ ِن ْعمَةَ
عوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَآ َءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآ َءكُمْ
علَ ْيكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ آلِ فِرْ َ
اللّهِ َ
َوفِي ذاِلكُمْ بَلءٌ مّن رّ ّب ُكمْ عَظِيمٌ }[إبراهيم]6 :
والنجاة لم تكُنْ لهؤلء ،بل لجدادهم المعاصرين لفرعون ،لكن خاطبهم الحق بقوله { أَنجَاكُمْ }
لنه سبحانه لو أهلك أجدادهم لما وُجِدُوا هم ،فكأن نجاة السابقين نجاةٌ للحقين.
ويسأل رسول ال بني إسرائيل لنهم هم المة التي لها ممارسة مع منهج ال ووحيه ،ولها اتصال
بالرسل وبالكتب المنزّلة كالتوراة والنجيل ،أما مشركو قريش فليس لهم صِلَة سابقة بوَحْي
السماء؛ لذلك لما كذّبوا رسول ال خاطبه بقوله:
شهِيدا بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم َومَنْ عِن َدهُ عِلْمُ ا ْلكِتَابِ }[الرعد]43 :
{ ُقلْ َكفَىا بِاللّهِ َ
لن الذي عنده عِلْم من الكتاب :اليهود أو النصارى عندهم عِلْم في كتابهم وبشارة ببعثة محمد،
وهم يعرفونه ويعرفون أوصافه وزمن بعثته ،بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم ،بل وأكثر من
معرفتهم لبنائهم ،كما قال واحد منهم.
وسؤال رسول ال لبني إسرائيل سؤالَ حُجّةٍ واستشهاد؛ لن قومه سألوه وطلبوا أنْ يظهر لهم عدة
آيات ـ سبق ِذكْرها ـ لكي يؤمنوا به ،فأراد أنْ يُنبّههم إلى تاريخ إخوانهم وسابقيهم على مَرّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العصور ،وقد أنزل ال لهم اليات الواضحات والمعجزات الباهرات ومع ذلك كفروا ولجّوا ولم
يؤمنوا ،فقوم فرعون َرَأوْا من موسى تسع آيات وكفروا ،وقوم صالح {:وَآتَيْنَا َثمُودَ النّاقَةَ مُ ْبصِ َرةً
حسْب ،بل واعت َدوْا عليها
فَظََلمُواْ ِبهَا[} ..السراء ]59 :ولَيْتهم كذّبوا وكفروا بهذه الية ف َ
وعقروها.
سلَ بِاليَاتِ[} ..السراء ]59 :أي :التي اقترحوها{ ِإلّ أَن كَ ّذبَ
لذلك قال تعالىَ {:ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
لوّلُونَ[} ..السراء ]59 :وما دام كذّب بها الولون فسوف يُكذّب بها هؤلء؛ لن الكفر مِلّة
ِبهَا ا َ
واحدة في كل زمان ومكان.
إذن :مسألة طلب اليات واقتراح المعجزات ليستْ في الحقيقة رغبة في اليمان ،بل مجرد عناد
ولَجَج ومحاولة للتعنّت والجدَل العقيم لضاعة الوقت.
ثم يقول تعالىَ } :فقَالَ لَهُ فِرْعَونُ { [السراء ]101 :أي :بعد أنْ رأى اليات كلها } :إِنّي لَظُّنكَ
يامُوسَىا مَسْحُورا { [السراء ]101 :فاتهمه بالسحر بعد أنْ أراه ُكلّ هذه الدلئل والمعجزات.
سحُورا { [السراء ]101 :اسم مفعول بمعنى سحره غيره ،وقد يأتي اسم المفعول دالً
وكلمة } مَ ْ
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ
ك وَبَيْنَ الّذِي َ
جعَلْنَا بَيْ َن َ
على اسم الفاعل لحكمة ،كما في قوله تعالى {:وَِإذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرآنَ َ
حجَابا مّسْتُورا }[السراء]45 :
بِالخِ َرةِ ِ
والحجاب يكون ساترا ل مستورا ،لكن الحق سبحانه جعل الحجاب نفسه مستورا مبالغة في
السّتْر ،كما نبالغ نحن الن في استعمال الستائر ،فنجعلها من طبقتين مثلً.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى {:ظِـلّ ظَلِيلً }[النساء]57 :
فالظل نفسه مُظلّل ،ونستطيع أن نلحظ هذه الظاهرة إذا جلسنا في الحرّ تحت شجرة ،فسوف نجد
الهواء تحتها رَطبا باردا ،لماذا؟ لن أوراق الشجر مُتراكمة يُظلّل بعضها بعضا ،فتجد أعلك
طبقات متعددة من الظل ،فتشعر في النهاية بجو لطيف مُكيف تكييفا ربانيا.
سحُورا { تفيد أنه سحَر غيره ،أو سحره غيره؛ لن المسحور هو الذي أَلَمّ به
إذن :قوله } مَ ْ
السحر ،إما فاعلً له ،أو مفعولً عليه .وهذه الكلمة قالها كفار مكة لرسول ال صلى ال عليه
وسلم فقالوا {:إِن تَتّ ِبعُونَ ِإلّ رَجُلً مّسْحُورا }[السراء ]47 :والمسحور بمعنى المخبول الذي أثّر
في السحر ،فصار مخبولً مجنونا ،وهذا كذب وافتراء على رسول ال من السهل رَدّه وضَحْده.
فإنْ كان ساحرا ،فكيف يسحره غيره؟! ولماذا لم يسحركم كما سحر الذين آمنوا به؟ لماذا تأبّيتم
أنتم على سحره فلم تؤمنوا؟ وإنْ كان مسحورا مَخْبُولً ،والمخبول تتأتّى منه حركات وأقوال دون
أنْ َتمُرّ على العقل الواعي الذي يختار بين البديلت ،فل يكون له سيطرة على إراداته ول على
خُلقه ،فهل عهدكم بمحمد أنْ كان مَخبولً؟ هل رأيتم عليه مثل هذه الصفات؟
لذلك َردّ الحق سبحانه عليهم هذا الفتراء بقوله تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ك لَجْرا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ
سطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبمَجْنُونٍ * وَإِنّ َل َ
{ ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَ ْ
َلعَلَىا خُُلقٍ عَظِيمٍ }[القلم]4-1 :
خلُق أبدا.
والمجنون ل يكون على ُ
وسوف يناقض فرعون نفسه ،فبعد أنْ اتهم موسى بالسحر ،ثم كانت الغَلَبة لموسى ،وخَرّ السحرة
ساجدين ،قال {:إِنّهُ َلكَبِي ُركُمُ الّذِي عَّل َمكُمُ السّحْرَ[} ..طه ]71 :وهذا دليل على التخبّط والفلس.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َبصَآئِرَ..
ثم يقول الحق سبحانه } :قَالَ َلقَدْ عَِل ْمتَ مَآ أَن َزلَ هَـاؤُلءِ ِإلّ َربّ ال ّ
{.
()2114 /
عوْنُ مَثْبُورًا (
ت وَالْأَ ْرضِ َبصَائِرَ وَإِنّي لََأظُ ّنكَ يَا فِرْ َ
سمَاوَا ِ
قَالَ َلقَدْ عَِل ْمتَ مَا أَنْ َزلَ َهؤُلَاءِ إِلّا َربّ ال ّ
)102
أي :قال موسى لفرعون ،والتاء في { عَِل ْمتَ } مفتوحة أي :تاء الخطاب ،فهو يُكلّمه مباشرة
ويُخاطبه :لقد علمتَ يا فرعون عِلْمَ اليقين أنني لستُ مسحورا ول مخبولً ،وأن ما معي من
اليات مما شاهدته وعاينته من ال رب السماوات والرض ،وأنت تعلم ذلك جيدا إل أنك تنكره،
سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا[} ..النمل]14 :
جحَدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
كما قال تعالى {:وَ َ
إذن :فعندهم يقينٌ بصدق هذه المعجزات ،ولكنهم يجحدونها؛ لنها ستزلزل سلطانهم ،وتُقوّض
عروشهم.
وقوله تعالىَ { :بصَآئِرَ[ } ..السراء ]102 :أي :أنزل هذه اليات بصائر تُبصّر الناس ،وتفتح
قلوبهم ،فيُقبلوا على ذلك الرسول الذي جاء بآية معجزة من جنس ما نبغَ فيه قومه.
ثم لم َي ُفتْ موسى ـ عليه السلم ـ وقد ثبتتْ قدمه ،وأرسى قواعد دعوته أمام الجميع أنْ يُكلّم
فرعونَ من منطلق القوة ،وأن يُجابهه واحدة بواحدة ،فيقول { :وَإِنّي لَظُ ّنكَ يافِرْعَونُ مَثْبُورا }
سحُورا }[السراء]101 :
[السراء ]102 :فقد سبق أنْ قال فرعون {:إِنّي لَظُ ّنكَ يامُوسَىا مَ ْ
فواحدة بواحدة ،والبادي أظلم.
والمثبور :الهالك ،أو الممنوع من ُكلّ خير ،وكأن ال تعالى أطْلعَ موسى على مصير فرعون،
وأنه هالكٌ عن قريب .وعلى هذا يكون المجنون على أية حال أحسن من المثبور ،فالمجنون وإنْ
فقد نعمة العقل إل أنه يعيش كغيره من العقلء ،بل ربما أفضل منهم ،لنك لو تأملتَ حال
المجنون لوجدته يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء دون أنْ يتعرّض له أحد أو يُحاسبه أحد ،وهذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مُنْتَهى ما يتمناه السلطين والحكام وأهل الجبروت في الرض ،فماذا ينتظر القادة والمر إلّ أن
تكون كلمتهم نافذة ،وأمرهم ُمطَاعا؟ وهذا كله ينعَم به المجنون.
وهنا يقول قائل :ما الحكمة من بقاء المجنون على قَيْد الحياة ،وقد سلبه ال أعظم ما يملك ،وهو
العقل الذي يتميز به؟
نقول :أنت ل تدري أن الخالق سبحانه حينما سلبه العقل ماذا أعطاه؟ لقد أعطاه ما لو عرفته أنت
أيّها العاقل لتمنيتَ أنْ تُجَنّ!! َألَ تراه يسير بين الناس ويفعل ما يحلو له دون أنْ يعترضه أحد ،أو
يؤذيه أحد ،الجميع يعطف عليه ويبتسم في وجهه ،ثم بعد ذلك ل يُحاسَب في الخرة ،فأيّ عِزّ
أعظم من هذا؟
إذن :سَلْب أيّ نعمة مساوية لنعم الخرين فيها عطاء ل يراه ول يستنبطه إل اللبيب ،فحين ترى
العمى مثلً فإياك أنْ تظنّ أنك أفضل منه عند ال ،ل ليس مِنّا مَنْ هو ابنٌ ل ،وليس مِنّا مَنْ بينه
عوّض عنها في
وبين ال نسب ،نحن أمام الخالق سبحانه سواء ،فهذا الذي حُرِم نعمة البصر ُ
حواس أخرى ،يفوقك فيها ـ أنت أيها المبصر ـ بحيث تكون ال ِكفّة في النهاية مُسْتوية.
لوَغَاب
عمِيتُ جَنِينا والذكَاءُ مِنَ ال َعمَى فجئتُ عَجِيبَ الظّنّ للعِلْم َموْئِ ً
واسمع إلى أحد ال ِعمْيان يقولَ :
حصّلفحدّث عن ذكاء هؤلء وفِطْنتهم وقوة
ضِيَاءُ العَيْن للق ْلبِ رافدا ِلعِ ْلمٍ إذَا مَا ضيّع الناسُ َ
تحصيلهم للعلم ول حرج ،وهذا أمر واضح يُشاهده ُكلّ مَنْ عاشر أعمى .وهكذا تجد ُكلّ أصحاب
العاهات الذين ابتلهم الخالق سبحانه بنقص في تكوينهم يُعوّضهم عنه في شيء آخر عزاءً لهم
عما فَاتهم ،لكن هذا التعويض غالبا ما يكون دقيقا يحتاج إلى مَنْ يُدرِكه ويستنبطه.
وكذلك نرى كثيرين من هؤلء الذين ابتلهم ال بن ْقصٍ ما يحاولون تعويضه ويتفوقون في نواحٍ
أخرى ،ليثبتوا للمجتمع جدارتهم ويُحدِثوا توازنا في حياتهم ليعيشوا الحياة الكريمة اليجابية في
مجتمعهم.
ومن ذلك مثلً العالم اللماني (شاخْت) وقد أصيب بِقصَرٍ في إحدى ساقيْه أعفاه من الخدمة
العسكرية مع رفاقه من الشباب ،فأثّر ذلك في نفسه فصمّم أنْ يكون شيئا ،وأنْ يخدُمَ بلده في ناحية
أخرى ،فاختار مجال القتصاد ،وأبدع فيه ،ورسم لبلده الخُطّة التي تعينها في السّلْم وتعويضها
ما فاتها في الحرب ،فكان (شاخْت) رجل القتصاد الول في ألمانيا كلها.
خلْق البشر ليس عملية ميكانيكية تعطي نماذج متماثلة تماما،
ويجب أن نعلم أن التكوين النساني و َ
إبداع الخالق سبحانه ليس ماكينة كالتي تصنع الكواب مثلً ،وتعطينا ِقطَعا متساوية ،بل ل بُدّ من
الشذوذ في الخَلْق لحكمة؛ لن وراء الخلق إرادة عليا للخالق سبحانه ،أل ترى الولد من أب
واحد وأم واحدة وتراهم مختلفين في اللون أو الطول أو الذكاء ..الخ؟!
لفُ أَلْسِنَ ِتكُمْ وَأَ ْلوَانِكُمْ[} ..الروم]22 :
ض وَاخْتِ َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
يقول تعالىَ {:ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنها قدرةٌ في الخَلْق ل نهاية لها ،وإبداعٌ ل مثيلَ له فيما يفعل البشر.
وهناك ملْمح آخر يجب أن نتنبه إليه ،هو أن الخالق سبحانه وتعالى جعل أصحاب النقص في
التكوين وأصحاب العاهات كوسائل إيضاح ،وتذكّر للنسان إذا ما نسى فضْل ال عليه ،لنه كما
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا { [العلق]7-6 :
ن الِنسَانَ لَ َي ْ
قال تعالى } :كَلّ إِ ّ
فالنسان كثيرا ما تطغيه النعمة ،ويغفل عن المنعم سبحانه ،فإذا ما رأى أصحاب البتلءات انتبه
وتذكّر نعمة ال ،وربما تجد المبصر ل يشعر بنعمة البصر ول يذكرها إل إذا رأى أعمى يتخبّط
في الطريق ،ساعتها فقط يذكر نعمة البصر فيقول :الحمد ل.
إذن :هذه العاهات ليستْ لن أصحابها أقلّ مِنّا ،أو أنهم أهوَنُ على ال ..ل ،بل هي ابتلء
لصحابها ،ووسيلة إيضاح للخرين لِتلفِتهم إلى نعمة ال.
لكن الفة في هذه المسألة أنْ ترى بعض أصحاب العاهات والبتلءات ل يستر بَ ْلوَاه على ربه،
عجْزه وعاهته وسيلةً
بل يُظهِرها للناس ،وكأنه يقول لهم :انظروا ماذا فعل ال بي ،ويتخذ من َ
للتكسّب والترزّق ،بل وابتزاز أموال الناس وأَخْذها دون َوجْه حق.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2115 /
جمِيعًا ()103
فَأَرَادَ أَنْ يَسْ َتفِزّهُمْ مِنَ الْأَ ْرضِ فَأَغْ َرقْنَا ُه َومَنْ َمعَهُ َ
{ فَأَرَادَ } أي :فرعون { .أَن يَسْ َتفِزّهُم } كلمة " استفزّ " سبق الكلم عنها في قوله تعالى{:
صوْ ِتكَ[} ..السراء ]64 :فالستفزاز هو الزعاج بالصوت العالي،
ط ْعتَ مِ ْنهُمْ ِب َ
وَاسْ َتفْزِزْ مَنِ اسْتَ َ
يقوم المنَادَى ويخفّ من مكانه ،وهذا الصوت أو هذه الصّيْحة يُخرجها الفارس أو اللعب كما
خصْم ،وتأخذ
نرى في لعبة الكراتيه مثلً لِيُزعِج الخصم ويُخيفه ،وأيضا فإن هذه الصيحة تشغَل ال َ
جزءا من تفكيره ،في ِقلّ تركيزه ،فيمكن التغلّب عليه .ومن الستفزاز َقوْل أحدِنا لبنه المتكاسل:
خفّ للقيام.
فِزْ .أي :انهض و ِ
إذن :المعنى :فأراد فرعون أنْ يستفزّهم ويخدعهم خديعة تُخرِجهم من الرض ،فتخلو له من
بعدهم ،وهذا دليلٌ على غباء فرعون وتغفيله وحماقته ،فما جاء موسى إل ليأخذ بني إسرائيل ،كما
سلْ َمعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }
عوْنَ َفقُول إِنّا َرسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * أَنْ أَرْ ِ
جاء في قوله تعالى {:فَأْتِيَا فِرْ َ
[الشعراء]17-16 :
فكأن غباء فرعون أعان القدر الذي جاء به موسى ـ عليه السلم ـ ولكن كان ل تعالى إرادة
فوق إرادة فرعون ،فقد أراد أن يُخرج بني إسرائيل وتخلو له الرض ،وأراد الحق سبحانه
وتعالى أن يستفزّه هو من الرض كلها ومن الدنيا ،فأغرقه ال تعالى وأخذه َأخْذَ عزيز مقتدر،
وعاجله قبل أنْ يُنفذ ما أراد.
كما يقولون في المثال عند أهل الريف للذي هدّد جاره بأنْ يحرق غلّته وهي في الجرن ،فإذا
بالقدر يعالجه (والغلة لسه فريك) أي :يعاجله الموت قبل ُنضْج الغلة التي هدد بحرقها ،فأغرقه ال
ومَنْ معه جميعا.
سكُنُو ْا الَ ْرضَ.} ..
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وقُلْنَا مِن َب ْع ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ
()2116 /
سكُنُوا الْأَ ْرضَ فَِإذَا جَا َء وَعْدُ الَْآخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفًا ()104
َوقُلْنَا مِنْ َبعْ ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المقدسة التي هي بيت المقدس ،التي قال تعالى عنها {:يَا َقوْمِ ادْخُلُوا الَ ْرضَ ال ُمقَدّسَةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ
َلكُمْ[} ..المائدة ]21 :فكان ردّهم على أمر موسى بدخول بيت المقدس {:إِنّ فِيهَا َقوْما جَبّارِينَ وَإِنّا
لَن نّ ْدخَُلهَا حَتّىا َيخْرُجُواْ مِ ْنهَا[} ..المائدة]22 :
عدُونَ }[المائدة]24 :
وقالوا {:إِنّا لَنْ نّدْخَُلهَآ أَبَدا مّا دَامُواْ فِيهَا فَا ْذ َهبْ أَنتَ وَرَ ّبكَ َفقَاتِل إِنّا هَاهُنَا قَا ِ
سكُنُو ْا الَ ْرضَ } دون أنْ يُقيّدها بوصف،
لكن كلمة { الَ ْرضِ } هنا جاءت مجرّدة عن ال َوصْف { ا ْ
كما نقول :أرض الحرم ،أرض المدينة ،وإذا أردتَ أنْ تُسكِنَ إنسانا وتُوطّنه تقول :اسكن أي:
استقر وتوَطّن في القاهرة أو السكندرية مثلً ،لكن اسكن الرض ،كيف وأنا موجود في الرض
بالفعل؟! ل بُدّ أن تُخصّص لي مكانا اسكن فيه.
سكُنُو ْا الَ ْرضَ } هكذا دون تقييد بمكان معين ،لينسجم مع آيات القرآن
نقول :جاء قوله تعالى { ا ْ
التي حكمتْ عليهم بالتفرّق في جميع أنحاء الرض ،فل يكون لهم وطن يتجمعون فيه ،كما قال
طعْنَاهُمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما[} ..العراف]168 :
تعالىَ {:وقَ ّ
والواقع يُؤيد هذا ،حيث نراهم مُتفرقّين في شتّى البلد ،إل أنهم ينحازون إلى أماكن مُحدّدة لهم
يتجمّعون فيها ،ول يذوبون في الشعوب الخرى ،فتجد كل قطعة منهم كأنها أمة مُستقلة بذاتها ل
تختلط بغيرها.
وقوله تعالى { :فَإِذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ جِئْنَا ِب ُكمْ َلفِيفا } [السراء ]104 :والمراد بوَعْد الخرة :هو
الفساد الثاني لبني إسرائيل ،حيث قال تعالى عن إفسادهم الول على عهد رسول ال صلى ال
ن وَلَ َتعْلُنّ عُُلوّا كَبِيرا
عليه وسلمَ {:و َقضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ا ْلكِتَابِ لَ ُتفْسِدُنّ فِي الَ ْرضِ مَرّتَيْ ِ
للَ الدّيَارِ َوكَانَ وَعْدا
عدُ أُول ُهمَا َبعَثْنَا عَلَ ْي ُكمْ عِبَادا لّنَآ ُأوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِ َ
* فَإِذَا جَآ َء وَ ْ
ّمفْعُولً }[السراء]5-4 :
فقد جاس رسول ال صلى ال عليه وسلم خلل ديارهم في المدينة ،وفي بني قريظة وبني قَيْنُقاع،
وبني النضير ،وأجلهم إلى َأذْرُعَات بالشام ،ثم انقطعت الصلة بين المسلمين واليهود فترة من
الزمن.
ثم يقول تعالى عن الفسادة الثانية لبني إسرائيل {:فَإِذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ لِيَسُوءُو ْا وُجُو َهكُمْ
جدَ َكمَا َدخَلُوهُ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَلِيُتَبّرُواْ مَا عََلوْاْ تَتْبِيرا }[السراء]7 :
وَلِيَدْخُلُواْ ا ْلمَسْ ِ
وهذه الفسادة هي ما نحن بصدده الن ،حيث سيتجمع اليهود في وطن واحد ليتحقق وَعْد ال
بالقضاء عليهم ،وهل يستطيع المسلمون أن ينقضّوا على اليهود وهم في شتيت الرض؟ ل ُبدّ أن
الحق سبحانه أوحى إليهم بفكرة التجمّع في وطن قومي لهم كما يقولون ،حتى إذا أراد أَخْذهم لم
يُفلتوا ،ويأخذهم أخْذ عزيز مقتدر.
وهذا هو المراد من قوله تعالى { :جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا } [السراء ]104 :أي :مجتمعين بعضكم إلى
بعض من شَتّى البلد ،وهو ما يحدث الن على أرض فلسطين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول الحق سبحانه { :وَبِا ْلحَقّ أَنْ َزلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَ َزلَ.} ...
()2117 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :القرآن؛ لنه شيء ثابت مُتعيّن ل يُختَلف عليه .وجاء الفعل أنزل للتعدية ،فكأن الحق سبحانه
كان كلمه ـ وهو القرآن ـ محفوظا في اللوح المحفوظ ،إلى أنْ يأتيَ زمان مباشرة القرآن
لمهمته ،فأنزله ال جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ،كما قال تعالى {:إِنّا أَنزَلْنَاهُ
فِي لَ ْيلَةِ ا ْلقَدْرِ }[القدر]1 :
وهذا هو المراد من قوله { أَنزَلْنَاهُ } ثم نُنزّله مُنَجّما حَسْب الحداث في ثلث وعشرين سنة مُدّة
الدعوة كلها ،فكلما حدث شيء نزل القسط أو النجم الذي يعالج هذه الحالة.
و { أَنْزَلْنَاهُ.
[ { .السراء ]105 :أي :نحن ،فالمراد الحق سبحانه وتعالى هو الذي حفظه في اللوح المحفوظ،
وهو الذي أنزله ،وأنزله على المين من الملئكة الذي اصطفاه لهذه المهمة.
لمِينُ }[الشعراء ]193 :أي :جبريل ـ عليه السلم ـ الذي كرّمه ال وجعله
{ نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ ا َ
روحا ،كما جعل القرآن روحا في قولهَ {:وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا[} ..الشورى]52 :
وقال عنه أيضا {:إِنّهُ َلقَ ْولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }[التكوير]19 :
والكريم ل يكتم شيئا ِممّا أُوحى إليه {:ذِي ُق ّوةٍ عِندَ ذِي ا ْلعَرْشِ َمكِينٍ * مّطَاعٍ ثَمّ َأمِينٍ }[التكوير:
]21-20
هذه صفات جبريل الذي نزل بالوحي من الحق سبحانه ،ثم أوصله لمن؟ أوصله للمصطفى المين
لفُقِ ا ْلمُبِينِ * َومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ * َومَا
من البشرَ {:ومَا صَاحِ ُبكُمْ ِبمَجْنُونٍ * وََلقَدْ رَآهُ بِا ُ
ُهوَ ِبقَ ْولِ شَ ْيطَانٍ رّجِيمٍ }[التكوير]25-22 :
شكّ
إذن :فالقرآن الذي بين أيدينا هو هو الذي نزل من اللوح المحفوظ ،وهو الحق الثابت الذي ل َ
فيه ،والذي لم يتغيّر منه حرفٌ واحدٌ ،ولن يجد فيه أحد ُثغْرة للتهام إلى أنْ تقومَ الساعة.
ثم يقول تعالى } :وَبِا ْلحَقّ نَ َزلَ[ { ..السراء ]105 :الولى كانت } :وَبِا ْلحَقّ أَنْ َزلْنَاهُ[ { ..السراء:
]105
حقّ نَ َزلَ..
شكّ } وَبِالْ َ
حقّ ل رَ ْيبَ فيه ول َ
أي :الوسائل التي نزل بها كلمة ثابتة ،وكلها َ
{ [السراء ]105 :أي :مضمونه ،وما جاء به منهج ،معجزة حقّ لنه تحدّى ال ُفصَحاء والبلغاء
وأهل اللغة فأعجزهم في كل مراحل التحدي ،والقرآن يحتوي على منهج حق.
وأول شيء في منهج القرآن أنّه تكلّم عن العقائد التي هي الصْل الصيل لكل دين ،فقبل أنْ أقول
لك :قال ال ،وَأمَر ال ل بُدّ أن تعرف أولً مَنْ هو ال ،ومَنْ الرسول الذي بلّغ عن ال ،فالعقائد
هي ينبوع السّلوكيات.
إذن :تعرّض القرآن لللهيات ،وأوضح أن ال تعالى إله واحد له صفات الكمال المطلق ،وتعرّض
للملئكة وللنبوات والمعجزات والمعاد واليوم الخرُ ،كلّ هذا في العقائد؛ لن السلم حرصَ أولً
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على تربية العقيدة ،فكانت الدعوة في مكة تُركّز على هذا الجانب دون غيره من جوانب الدين
لِيُر ّبيَ في المسلمين هذا الصل الصيل ،وهو الستسلم ل ،وإلقاء الزمام إليه سبحانه وتعالى.
والنسان ل يُلقي زمام حركته إل لمَنْ يثق به ،فل بُدّ إذنْ من معرفة ال تعالى ،ثم اليمان به
تعالى ،ثم التصديق للمبلّغ عن ال.
وفي القرآن أيضا أحكامٌ وشرائع ثابتة ل تتغير ،ولن تُنسَخ بشريعة أخرى؛ لنها الشريعة الخاتمة،
كما قال تعالى {:الْ َي ْومَ َأ ْكمَ ْلتُ َل ُكمْ دِي َن ُك ْم وَأَ ْت َممْتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َلكُمُ الِسْلمَ دِينا }[المائدة:
]3
إذن :نزل القرآن بما هو حَقّ من :إلهيات وملئكة ونبوّات ومعجزات وأحكام وشرائع ،كلها حَقّ
شكّ فيه ،فنزل الحق الثابت من ال بواسطة مَنِ اصطفاه من الملئكة وهو جبريل على
ثابت ل َ
مَنِ اصطفاه من الناس وهو محمد ،وفي طي ما نزل الحق الثابت الذي ل يتغير.
وصدق الحق سبحانه حين قال {:إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر]9 :
ونسوق هنا دليلً عصريا على أن كتاب ال جاء بالحق الثابت الذي ل يتغير على مَ ّر العصور،
ففي ألمانيا استحدث أحد رجال القانون قانونا للتعسف في استعمال الحق ،وظنّوا أنهم جاءوا
حقّ ويتعسّف في استعمال حقه.
بجديد ،واكتشفوا سلحا جديدا للقانون ليعاقب مَنْ له َ
عوْا السبق إليه،
ثم سافر إلى هناك محام من بني سويف للدراسة ،فقرأ عن القانون الجديد الذي اد َ
فأخبرهم أن هذا القانون الذي تدّعُونه لنفسكم قانون إسلمي ثابت وموجود في سُنّة رسول ال،
فعمدوا إلى كتب السيرة ،فوجدوا قصة الرجل الذي شكا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم أن
رجلً له نخلة يمتلكها داخل بيته ،أو أنها تميل في بيته ،فأخذها ذريعة وجعل منها مسمار جحا،
وأخذ يقتحم على صاحب البيت بيته بحجة أنه يباشر نخلته ،فماذا كان حكم الرسول في هذه
المسألة؟
حقّ في النخلة ،فهي مِ ْلكٌ له لكنه تعسّف في استعمال حقه ،وأتى بما ل يليق من
هذا الرجل له َ
المعاملة ،فالمفروض ألّ يذهب إلى نخلته إل لحاجة ،مثل :تقليمها ،أو تلقيحها ،أو جمع ثمارها.
لقد أحضر رسول ال صلى ال عليه وسلم الرجل وقال له " :إما أن تهبَ له هذه النخلة ،وإما أنْ
تبيعها له ،وإما قطعناها ".
أليس ذلك من الحق الذي سبق به السلم؟ وأليس دليلً على استيعاب شرع ال لكل كبيرة
وصغيرة في حياة الناس؟
حقّ نَ َزلَ { أي :وعلى
ضفْ إلى ذلك ما قاله بعض العلماء من أهل الشراقات في معنى } :وَبِالْ َ
َأ ِ
الحق الذي هو رسول ال صلى ال عليه وسلم نزل القرآن كما تقول :ذهبت إلى القاهرة ونزلت
بفلن .أي :نزلت عنده أو عليه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول تعالىَ } :ومَآ أَ ْرسَلْنَاكَ ِإلّ مُ َبشّرا وَنَذِيرا { [السراء]105 :
والبشارة تكون بالخير ،والنذارة تكون بالشر ،ويُشترط في التبشير والنذار أن تُعطَى للمبشّر أو
للمُنْذَر فرصة يراجع فيها نفسه ،ويُعدّل من سلوكه ،وإل فل فائدة ،ول جدوى منهما ،فتُبشّر بالجنة
وتُنذَر بالنار في مُتّسَع من الوقت ليتمكن هذا من العمل للجنة ،ويتمكن هذا من القلع عن سبيل
النار.
ومثال ذلك :أنك تُبشّر ولدك بالنجاح والمستقبل الباهر إن اجتهد ،وتحذره من الفشل إن أهمل،
وهذا بالطبع ل يكون ليلة المتحان ،بل في مُتّسَع أمامه من الوقت لينفذ ما تريد.
والحق سبحانه وتعالى هنا يخبر رسوله صلى ال عليه وسلم بحقيقة مهمته كرسول عليه البلغ
بالبشارة والنذارة ،فل يُحمّل نفسه فوق طاقتها؛ لنه ليس مُلْزَما بإيمان القوم ،كما قال تعالى{:
سكَ عَلَىا آثَارِ ِهمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا الْحَدِيثِ َأسَفا }
فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
[الكهف]6 :
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }
خعٌ ّنفْ َ
أي :مُهلكها حُزْنا على عدم إيمانهم ،وفي آية أخرى قالَ {:لعَّلكَ بَا ِ
[الشعراء]3 :
فكأنه سبحانه يُخفّف ال ِعبْءَ عن رسوله ،ويدعوه ألّ يُتعِب نفسه في دعوتهم ،فما عليه إل البلغ،
وعلى ال تبارك وتعالى الهداية لليمان.
لكن حِرْص رسول ال على هداية قومه نابع من قضية تحكمه وتستولي عليه لخّصها في قوله" :
وال ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه ".
فالنبي صلى ال عليه وسلم كامل اليمان ،ويحب لقومه أن يكونوا كذلك ،حتى أعداؤه الذين وقفوا
في وجه دعوته كان إلى آخر لحظة في الصراع يرجو لهم اليمان والنجاة؛ لذلك لما ُمكّن منهم لم
يعالجهم بالعقوبة ،بل قال " :بل أرجو أن يُخرِج ال من أصلبهم من يعبد ال وحده ،ل يُشرك به
شيئا ".
وفعلً صدق ال ورسوله ،وجاء من ذريات هؤلء مَنْ حملوا راية الدين ،وكانوا سيوفا على
أعدائه ،أمثال عكرمة بن أبي جهل ،وعمرو بن العاص ،وخالد بن الوليد ،وكثير من المسلمين
كانوا حريصين على قَتْل هؤلء حال كفرهم في معارك السلم الولى ،وهم ل يعلمون أن ال لم
يُمكّنهم من هؤلء لحكمة ،إنهم سوف يكونون معك من سيوف السلم وقادته.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وقُرْآنا فَ َرقْنَاهُ لِ َتقْرََأهُ عَلَى النّاسِ.{ ...
()2118 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َوقُرْآَنًا فَ َرقْنَاهُ لِ َتقْرََأهُ عَلَى النّاسِ عَلَى ُم ْكثٍ وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ()106
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المناسب ،ول يتأتّى ذلك إذا نزل القرآن جملة واحدة.
{ َولَ يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ } أي :بشيء عجيب يستدركون به عليك { ِإلّ جِئْنَاكَ بِا ْلحَقّ } أي :ردّا عليهم
بالحق الثابت الذي ل جدالَ فيه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنْ كانت هذه المثلة خاصة برسول ال صلى ال عليه وسلم وتبرئة ساحته في مجال الدعوة إلى
ال ،فهناك أيضا ما يتعلق بالحكام والتشريع ،فالقرآن نزل بالعقائد والحكام والتشريعات ،ونزل
ليكون دائما ثابتا ل يتغير إلى يوم القيامة ،ولن يُنسَخ منه حرف واحد كما حدث في الكتب السابقة
عليه.
فإن نظرتَ إلى العقائد وجدتَ الكلم فيها قاطعا ل هوادةَ فيه ،يأتي هكذا َق ْولً واحدا ،فال واحد
أحد ل شريك له ،له صفات الكمال المطلق ،وكذلك الحديث عن الملئكة وال َبعْث والحساب.
لكن تجد المر يختلف في الحديث عن العادات التي أَلِفها الناس في حركة الحياة ،فهذه أمور
تحتاج إلى تلطّف وتدرّج ،ول يناسبها القصْر والقَطْع .ألم تَرَ إلى المشرّع سبحانه حينما أراد أنْ
يُحرّم الخمر ،كيف تدرّج في تحريمها على عدة مراحل حتى يجتثّ هذه العادة التي تحكّمتْ في
نفوس الناس وتملّكتهم ،أكان يمكن معالجة هذه المسألة بهذه الطريقة إذا نزل القرآن جملة واحدة؟
انظر كيف لفتَ أنظارَ القوم بُلطْف إلى أن في الخمر شيئا ،فقال تعالىَ {:ومِن َثمَرَاتِ النّخِيلِ
سكَرا وَرِزْقا حَسَنا[} ..النحل]67 :
خذُونَ مِنْهُ َ
وَالَعْنَابِ تَتّ ِ
ولما سمع بعض الصحابة هذه الية قال :وال لكأن ال يُبيّت للخمر شيئا ،لقد فهم بملكته العربية
سكَر فلم َيصِفْه بالحُسْن ،فإن وراء هذا
أن ال تعالى طالما وصف الرزق بأنه حسن ،وسكت عن ال ّ
الكلم أمرا في الخمر؛ لنه يتلف نعمة ال ويُفسِدها على أصحابها.
خمْرِ وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَآ إِ ْثمٌ كَبِيرٌ
حوّل هذه المسألة إلى عِظَة وإرشاد ،فيقول {:يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ
ثم ُي َ
س وَإِ ْث ُم ُهمَآ َأكْبَرُ مِن ّنفْ ِع ِهمَا[} ..البقرة]219 :
َومَنَافِعُ لِلنّا ِ
عظَة
وهكذا قرّر لهم الحقيقة بعد أن سألوا هم عنها ،وترك لهم حرية الختيار ،فالمر مازال ِ
ونصيحة ل تشريعا مُلْزما ،إل أنه مهّد الطريق للقطع بتحريمها بعد ذلك.
ثم حدث من أحدهم أن صلّى وهو مخمور ل يدري ما يقول ،فلما سمعوه يقول :قل يا أيها
الكافرون أعبد ما تعبدون ،فغمزه مَنْ بجواره وعرف أنه مخمور ،ووصل خبره إلى رسول ال
سكَارَىا حَتّىا
ل َة وَأَنْتُمْ ُ
صلى ال عليه وسلم فنزل قوله تعالى {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ َتقْرَبُواْ الصّ َ
َتعَْلمُواْ مَا َتقُولُونَ[} ..النساء]43 :
وبذلك أطال مدّة المتناع عن شُرْب الخمر ،فالصلة خمس مرات في اليوم والليلة ،فإذا ل بُدّ من
المتناع عن الخمر قبل الصلة بوقت كافٍ ،وهكذا عوّدهم المتناع ودرّبهم على الصبر عن هذه
الفة التي تمكّنتْ منهم .ثم يتحيّن الحق سبحانه فرصة منهم ،حيث اجتمع القوم في مجلس من
مجالس الشراب ،ولما لعبتْ الخمر بالعقول تشاجروا حتى سالتْ دماؤهم ،وعندما ذهبوا بأنفسهم
إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم يسألونه :يا رسول ال بيّن لنا في الخمر رأيا شافيا ،وهنا
خمْ ُر وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَابُ
ينزل الوحي على رسول ال بالحكم القاطع {:يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا الْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ع َملِ الشّ ْيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ }[المائدة]90 :
وَالَزْلَمُ ِرجْسٌ مّنْ َ
فكيف كانت معالجة هذه الفة التي تمكّنتْ من الناس لو نزل القرآن جملة واحدة؟
إن الحق تبارك وتعالى بنزول القرآن ُمفَرّقا مُنجّما حَسْب الحداث ،كأنه يُجري مشاركة بين آيات
التنزيل والمنفعلين بها الذين ُيصِرّون على تنفيذ مطلوباتها ،حتى إنهم ليبادرون رسول ال صلى
ال عليه وسلم بالسؤال ،مع أنه صلى ال عليه وسلم قد نهاهم أن يبدأوه بالسؤال ،كما قال تعالى{:
س ْؤكُمْ[} ..المائدة]101 :
ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ َتسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُ ْبدَ َلكُمْ َت ُ
خمْرِ
ولكنهم مع هذا تغمزهم المسألة فيبادرون بها رسول ال ،كما حكى القرآن {:يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ
وَا ْلمَيْسِرِ[} ..البقرة]219 :
{ وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُنفِقُونَ[} ..البقرة]219 :
{ َيسْأَلُو َنكَ عَنِ الَهِلّةِ[} ..البقرة]189 :
{ وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلجِبَالِ[} ..طه]105 :
حكَم ما كانت لتحدث لو نزل
حكَم بالغة يجب تدبّرها ،هذه ال ِ
إذن :وراء نزول القرآن مُفرّقا مُنجّما ِ
القرآن جمل ًة واحدةً.
ثم يقول الحق سبحانهُ } :قلْ آمِنُواْ ِبهِ َأ ْو لَ ُت ْؤمِنُواْ.{ ...
()2119 /
ُقلْ َآمِنُوا بِهِ َأوْ لَا ُت ْؤمِنُوا إِنّ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ يَخِرّونَ لِلَْأ ْذقَانِ سُجّدًا ()107
قوله تعالىُ { :قلْ آمِنُواْ بِهِ َأوْ لَ ُت ْؤمِنُواْ[ } ..السراء ]107 :آمنوا :أمر ،ول تؤمنواَ :نهْي.
والمر والنهي نوعان من الطلب ،والطلب أن تطلب من الدنى أن يفعل ،والنهي أنْ تطلبَ من
الدنى ألّ يفعل ،فإنْ كان الطلب من مُساو لك فهو التماس ،وإنْ كان من أعلى منك فهو دعاء.
غفِ ْر وَارْحَمْ) يقول :اغفر فعل أمر ،نقول له :أنت سطحيّ
لذلك حينما نقول للطالب أعربَ ( :ربّ ا ْ
العبارة؛ لن المر هنا من الدنى للعلى ،من العبد لربه تبارك وتعالى ،فل يقال :أمر ،إنما يقال:
دعاء.
والطاعة أن تمتثل المر والنهي ،فهل نقول في قوله تعالىُ { :قلْ آمِنُواْ بِهِ َأوْ لَ ُت ْؤمِنُواْ} ..
[السراء ]107 :أنها للتخيير ،فإنْ آمنوا فقد أطاعوا ،وكذلك إنْ لم يؤمنوا فقد أطاعوا أيضا؟
نقول :المر والنهي هنا ل يُراد منه الطلب ،بل يراد به التهديد أو التسوية كما تقول لبنك حين
تلحظ عليه الهمال :ذاكر أو ل تذاكر ،أنت حر؛ لشك أنك ل تقصد النهي عن المذاكرة ،بل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تقصد تهديده وحثّه على المذاكرة.
فقولهُ { :قلْ آمِنُواْ بِهِ َأ ْو لَ ُت ْؤمِنُواْ[ } ..السراء ]107 :للتسوية ،كما قالَ {:فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن
شَآءَ فَلْ َيكْفُرْ[} ..الكهف]29 :
فهذا ليس أمرا بحيث أن الذي يفعل المر أو النهي يكون طائعا ،بل المراد هنا التهديد أو التسوية،
فسواء آمنوا أو كفروا؛ لن الحق سبحانه جعل في ذلك عزاءً لرسوله صلى ال عليه وسلم في
إيمان أهل الكتاب.
{ إِنّ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مِن قَبْلِهِ[ } ..السراء ]107 :أي :اليهود والنصارى الذين ارتاضوا بالكتب
السماوية ،واستمعوا للتوارة والنجيل ،ونقلوها إلى غيرهم من المعاصرين للقرآن فهؤلء شاهدون
حقّ بما عندهم من بشارة به في التوراة والنجيل؛ لذلك يتركون دينهم ويسارعون
بأن الرسول َ
إلى السلم؛ لنهم يعلمون عِلْم اليقين أنه الدين الحق.
ومن هؤلء عبد ال بن سلم ،وكان من علماء اليهود ،وكان يعلم أوصاف رسول ال وزمن
َبعْثته؛ لذلك قال :لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لبني ،ومعرفتي لمحمد أشدّ.
ولما اختمر السلم في نفسه ذهب إلى رسول ال وصارحه بما نوى من اعتناق السلم ،وقال" :
يا رسول ال إن اليهود قوم ُب ْهتٌ فإن أعلنتُ إسلمي الن قالوا فيّ ما ليس فيّ ،فاسألهم عني وأنا
ما زلت على دينهم ،وانظر ما يقولون ،فسألهم رسول ال :ما تقولون في ابن سلم؟ فقالوا :حَبْرنا
وابن حَبْرنا ،ووصفوه بخير الصفات ،وأطيب الخصال ،فقال عبد ال :يا رسول ال ،أما وقد قالوا
فيّ ما قالوا فأشهد أل إله إل ال وأنك رسول ال ،فإذا بهم يذمونه ويتهمونه بأخسّ الخصال ،فقال:
يا رسول ال ألم َأ ُقلْ لك إنهم قوم ُب ْهتٌ ".
إذن :ففي إيمان عبد ال بن سلم وغيره من اليهود والنصارى الذين عرفوا رسول ال بأوصافه
في كتبهم وعرفوا موعد بعثته وأنه حق ،في إيمان هؤلء عَزَاءٌ لرسول ال حين كفر به قومه
شهِيدا بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم َومَنْ عِن َدهُ عِ ْلمُ ا ْلكِتَابِ }[الرعد]43 :
وكذّبوه لذلك قال تعالىُ {:قلْ َكفَىا بِاللّهِ َ
ونحن ُمكْتفون بشهادة هؤلء؛ لنهم قوم صادقون مع أنفسهم ،صادقون مع أنبيائهم ومع كتبهم التي
تلقوْهَا ،فحينما بشّرت بمحمد ووصفته لم ينكروا هذه الصفات ولم يُحرّفوها ،بل كانوا يسارعون
إلى المدينة انتظارا لمبعث النبي الجديد الذي سيظهر فيها ،لقد كانوا يقولون لكفار مكة :لقد أظلّ
زمان نبي جديد نتبعه قبلكم ،ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم.
{ فََلمّا جَآءَ ُهمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة ]89 :إل أن ال أبقى للحق
خلية ،وجعل له خميرة استجابت لرسول ال ،وتفاعلت مع الدين الجديد.
سجّدا
ل ْذقَانِ ُ
وقوله تعالى } :إِذَا يُ ْتلَىا عَلَ ْيهِمْ[ { ..السراء ]107 :أي :القرآن } يَخِرّونَ لِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ [السراء]107 :
كلمة } يَخِرّونَ { توحي بأنهم يسارعون إلى السجود ،وكأنها عملية انفعالية غير إرادية ليس لهم
فيها تصرّف ،فبمجرد سماع القرآن يرتمون على الرض ساجدين؛ لنهم تفاعلوا معه ،واختمر
اليمان في نفوسهم .ليس ذلك وفقط ،بل ويخرون } لِلَ ْذقَانِ { جمع َذقَن ،وهي أسفل ال َفكّ السفلي،
ومعلوم أن السجود يكون على الجبهة ،أما هؤلء فيسجدون بالوجه كله ،وهذا دليل على الخضوع
والستسلم ل تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَ َيقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَآ.{ ...
()2120 /
أي :يقولون حال سجودهم :سبحان ربنا الذي َوفّى بوعده في التوراة والنجيل ،وبعث الرسول
الخاتم ومعه القرآن ،سبحانه حقق لنا وَعْده وأدركناه وآمنا به ،وكأن هذه نعمة يحمدون ال عليها.
ويقول الحق سبحانه عنهم { :وَيَخِرّونَ لِلَ ْذقَانِ يَ ْبكُونَ.} ...
()2121 /
خشُوعًا ()109
ن وَيَزِيدُ ُهمْ ُ
وَيَخِرّونَ لِلْأَ ْذقَانِ يَ ْبكُو َ
لقد خَرّوا ساجدين ل تعالى قبل ذلك لنهم أدركوا القرآن الذي نزل على محمد ،وتحقّق لهم وعد
ال فعاصروه وآمنوا به .أما هذه المرة فيخرون ساجدين لما سمعوا القرآن تفصيلً وانفعلوا به،
فيكون له انفعال آخر ،لذلك يزيد هنا الخشوع والخضوع ،فيقول { :وَيَخِرّونَ لِلَ ْذقَانِ يَ ْبكُونَ} ...
[السراء ]109 :فكلما قرأوا آية ازدادوا بها خشوعا وخضوعا.
سمَآءَ
حمَـانَ أَيّا مّا َتدْعُواْ فَلَ ُه الَ ْ
ثم يقول الحق سبحانهُ { :قلِ ادْعُواْ اللّهَ َأوِ ادْعُواْ الرّ ْ
حسْنَىا.} ...
الْ ُ
()2122 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهَرْ ِبصَلَا ِتكَ وَلَا ُتخَا ِفتْ ِبهَا
حسْنَى وَلَا َت ْ
سمَاءُ الْ ُ
حمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فََلهُ الْأَ ْ
ُقلِ ادْعُوا اللّهَ َأوِ ادْعُوا الرّ ْ
وَابْتَغِ بَيْنَ َذِلكَ سَبِيلًا ()110
{ ادْعُواْ } اذكروا ،أو نادوا ،أو اطلبوا { اللّهَ } عَلَم على واجب الوجود سبحانه ،ومعنى :علم على
واجب الوجود أنها إذا ُأطِْل َقتْ انصرفتْ للذات الواجبة الوجود وهو الحق سبحانه ،كما نُسمّي
شخصا ،فإذا ُأطْلِق السم ينصرف إلى المسمّى.
والسماء عندنا أنواع كثيرة :إما اسم ،أو كُنْية ،أو َلقَب.
السم :وهو أغلب العلم ،ويُطلَق على المولود بعد ولدته ويُعرَف المولود به.
والكُنْية :وتُطلَق على النسان ،وتُسبَق بأب أو أم أو ابن أو بنت ،كما نقول :أبو بكر ،وأم
المؤمنين.
شعِر بالمدح أو الذم ،كما نقول :الصّديق ،الشاعر ،الفاروق.
واللقب :وصف يُ ْ
فإذا كان السم معه شريك غيره ل ُبدّ لتمييزه من َوصْفه َوصْفا ُيعْرف به ،كما يحدث أن يألف
شخص أن يسمي أولده جميعا :محمد فالتسمية في هذه الحالة ل تُشخّص ول تُعيّن المسمّي؛ لذلك
ل ُبدّ أن نصف كل واحد منهم بصفة فنقول :محمد الكبير ،محمد الصغير .محمد المهندس .فإذا
أُطلِق السم بصفته ينصرف إلى شخص معين.
سمّى نفسه بأسمائه التي قال عنها :السماء
وإذا كُنّا نحن نُسمّي أولدنا :فإن الحق سبحانه َ
حسْنى ،وكلمة (حُسْنى) أفعل تفضيل للمؤنث ،مثل :كبرى .والمذكر منها أحسن .لكن لماذا
ال ُ
َوصَف أسماءه تعالى بالحسنى؟
السم يُبيّن المسمّي ،لكن السماء عند البشر قد ل تنطبق على المسمّى الذي أُطلقت عليه ،فقد
ن في
نُسمّي شخصا " سعيد " وهو شقي ،أو نسمي شخصا " ذكي " وهو غبي .وهذا ليس بحَس ٍ
السماء ،الحسَن في السم أنْ يطابق السم المسمّى ،ويتوفّر في الشخص الصفة التي أُطلِقت عليه،
فيكون الشخص الذي سميناه " سعيد " سعيدا فعلً.
سمّى
حسْن العلى؛ لن الحُسن العلى لسماء ال التي َ
وهكذا يكون السم حسنا ،لكنه ل يأخذ ال ُ
بها نفسه ،فله الكمال المطلق.
فهذه ـ إذن ـ ل تتأتّى في تسمية البشر ،فكثيرا ما تجد " عادل " وهو ظالم ،و " شريف " وليس
لفَشَارِع ك ِعمَادِ
بشريف؛ لذلك قلنا:وََأقْبَحُ الظّلْمَ َبعْد الشّ ْركِ منزلةً أنْ يظلم اسمٌ مُسمّى ضِدّه جُع َ
س ّموْا الشارع (عماد
جعِلَفالسم قد يظلم المسمّى كما حدث أنْ َ
سمِية لكِنْه ِلعِنَادِ الدّينِ قَدْ ُ
الدين َت ْ
الدين) ،وهذا الشارع كان في الماضي ُبؤْرَة للفِسْق والفجور ،وما أبعده سابقا عن هذه التسمية.
فلفظ الجللة (ال) عَلَم على واجب الوجود ،وبعد ذلك جاءت صفات غلبت عليه ،بحيث إذا أُطِلقَتْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل تنصرف إل إليه .فإذا قُلْنا :العزيز على إطلقه فإنها ل تنصرف إل ل تعالى ،لكن يمكن أن
نقول فلن العزيز في قومه ،فلن الرحيم بمَنْ معه ،فلن النافع لمَنْ يتصل به ،إنما لو قُلْت :النافع
على إطلقه فهو ال سبحانه وتعالى.
ت ل تنصرف إل ل تعالى ،فأسماءُ
لذلك؛ حَّلتْ الصفات محلّ اسم الذات { اللّهَ }؛ لنها إذا أُطِْل َق ْ
حسْنى هي في الصل صفات له سبحانه.
ال ال ُ
ولو تأملنا هذه السماء لوجدناها على قسمين :أسماء ذات ،وأسماء صفات فعلية ،اسم الذات ل
يتصف ال بمقابله ،فالعزيز مثلً اسم ذات فل نقول في مقابله الذليل ،والحيّ اسم ذات فل نقول:
الميت .أما اسم الصفة الفعلية فيكون له مقابل ،فالمعزّ صفة فعل يعني ُيعِزّ غيره ،ومقابلها المذلّ،
والضّارّ مقابلها النافع ،والمحيي مقابلها المميت وهكذا ..إنْ وجدتَ للسم مقابلً فاعلم أنه اسمٌ
لصفة الفعل من ال تعالى ،وإذا لم يكن له مقابل فهو اسم ذات.
لكن تقف مثلً عند السّتّار وهي صفة فعل لنه يستر غيره ،لكن ليس لها مقابل فل نقول الفضّاح،
لماذا؟ لنه تبارك وتعالى يريد أنْ يتخلق خَلْقه بهذه الصفة ،وأنْ يُربّب صفة الستر عند الناس
للناس ،فلو علم الناس ،عن أحد أمرا فاضحا لزهدوا في كل ما يأتي من عنده ولو كان حسنة،
وبذلك يُحرَم المجتمع من طاقات كثيرة من الخير.
لكن حين تستر على صاحب العيب عيبه ،فإنك تعطي للمجتمع فرصة لينتفع بما لديه من صفات
الخير؛ لذلك ال تعالى يُعصَى ويحب أن يُستَر على عبده العاصي؛ لكي يستمر دولب الحياة؛ لنه
ط َومَنْ
ل يوجد أحد له كمال إل النبي صلى ال عليه وسلم ،وصدق القائل:مَنْ ذَا الذِي مَا سَاءَ قَ ّ
لَهُ الحُسْنى َفقَطْإذن :فمن الحكمة أن يأمر ال تعالى بستر غَيْب خَلْقه عن خَلْقه حتى تستمر حركة
الحياة؛ لن النسان ابنُ أغيار ،وقلبه سريعا ما يتقلب ،ولربما لو عرفتُ عنك شيئا مستورا
لتغيّ ْرتُ لك وأنت كذلك ،ولربما تقطعت بيننا حبال المودة ،إنما بالستر ينتفع ُكلّ مِنّا بالخر.
ومن هنا قالوا :لو تكاشفتم ما تدافنتم ،أي :لو تكشفتْ السرار ،وعرف ُكلّ منكم عَيْب أخيه ما
دفنتم مَنْ يموت منكم ،وهذا منتهى ما يمكن تصوّره من التقاطع بين الناس.
فقوله تعالىُ } :قلِ ادْعُواْ اللّهَ[ { ..السراء ]110 :فاختار هذا السم بالذات } اللّهَ { العَلَم على
واجب الوجود ،وهو اسم ذات ل يدلُ على صفة معينة ،لكنه يحمل في طياته كل صفات الكمال
فيه ،فإنْ كانت للسماء الخرى مجالت ،فالقادر في القدرة ،والحكيم في الحكمة ،والقابض في
القبض ،والعزيز في العِزّة .فإن لكل اسم مجالً وسيالً ،فإن } اللّهَ { هو السم الجامع لكل
الصفات.
لذلك في الحديث النبوي الشريفُ " :كلّ شيء ل يُبدأ باسم ال فهو أبتر ".
ي فعل تحتاج أولً إلى حكمة لتعرف من خللها لماذا تفعل ،وتحتاج
لماذا؟ لنك حين تُقدِم على أ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى قدرة تُعينك على إنجازه ،وتحتاج إلى علم بمصير هذا الفعل وعاقبته ،إذن :تحتاج إلى صفات
كثيرة ،فحين تُقبِل على العمل ل َتقُل :يا حكيمُ يا قادرُ يا عليمُ ،إنما الحق سبحانه يُريحك ،ويكفي
أن تقولَ في القدام على الفعل :باسم ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عباده؟ أليست رحمة بهم؟ وماذا كنتم ستقولون إنْ لم يُقدّم لكم الحق سبحانه تحذيرا وإنذارا ،ثم
فاجأكم بالعذاب؟
حمَـانَ { في قوله تعالى {:ثُمّ اسْ َتوَىا عَلَى
ونقف على لطيفة أخرى لستخدام اسم ال } الرّ ْ
حمَـانُ فَسْ َئلْ بِهِ خَبِيرا }[الفرقان]59 :
ا ْلعَرْشِ الرّ ْ
أي :بعد أن خلق الخَلْق كل بسمائه وأرضه وما فيهما استوى على العرش؛ لن الستواء على
العرش يعني أن كل شيء تَمّ له سبحانه خَلْقا وإيجادا ،وانتهى إلى الجلوس على العرش ،وهذا
تمثيل بالملوك الذين ل يجلسون على العرش إل بعد أنْ يستتبّ لهم المر ،فجلوس الملك على
العرش يعني أنه الوحد الذي ل يعارضه أحد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسْنَىا..
سمَآءَ الْ ُ
حمَـانَ أَيّا مّا َتدْعُواْ فَلَ ُه الَ ْ
ثم يقول تعالىُ } :قلِ ادْعُواْ اللّهَ َأوِ ادْعُواْ الرّ ْ
{ [السراء ]110 :فأيّ اسم تدعو به لن أسماءه كلها حُسْنى ،لكن ليكُنْ عندك ذكاء في الدعاء،
ن كنتَ ضعيفا فقُلْ :يا قوي
فتدعو بما يناسب حاجتك ،فإنْ أردت عِلْما ف ُقلْ :يا عالم علّمني ،وإ ْ
َقوّني ،وإنْ أردتَ العزة َف ُقلْ :يا عزيز أعِزّني وهكذا ..فإن أردتَ الختصار ف ُقلْ :يا ال .تكفيك
كل شيء.
ك َولَ ُتخَا ِفتْ ِبهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذاِلكَ سَبِيلً { [السراء]110 :
جهَرْ ِبصَلَ ِت َ
ثم يقول تعالىَ } :ولَ تَ ْ
جهَرْ { فالجهر منهيّ عنه ،وكذلك } وَلَ ُتخَا ِفتْ { أي:
الصلة يراد بها كل أعمال الصلة } َولَ تَ ْ
ل ُتسِرّها بحيث ل َيسْمعك من خلفك ،وهذا منهيّ عنه أيضا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رضي ال عنه ـ وجده يقرأ بصوت عالٍ ،فلما سأله قال :يا رسول ال أزجر به الشيطان .عندها
أمر صلى ال عليه وسلم أبا بكر أنْ يرفع صوته قليلً ،وأمر عمر أن يخفض صوته قليلً.
وهذا العتدال وهذه الوسطية ُأمِرْنَا بها حتى في الدعاء ،كما جاء في قوله تعالى {:وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي
جهْرِ مِنَ ا ْل َق ْولِ }[العراف]205 :
سكَ َتضَرّعا َوخِيفَةً وَدُونَ الْ َ
َنفْ ِ
فكلمة } :بَيْنَ ذاِلكَ[ { ..السراء ]110 :البينية هذه تكاد تشيع في كل أحكام الدين؛ لن القرآن جاء
لمة وسط بالمور الوسط في كل شئون الحياة ،ففي قمة المسائل وهي المور ال َعقَدية مثلً يقف
السلم موقفَ الوسطية بين مَنْ يُنكِرون وجود الله ومن يقول بآلهة متعددة ،فينفي هذه وهذه
ويقول بوجود إله واحد أحد ل شريكَ له.
وفي النفاق يختار الوسط ،فيقول {:وَالّذِينَ إِذَآ أَن َفقُواْ َلمْ يُسْ ِرفُو ْا وَلَمْ َيقْتُرُواْ َوكَانَ بَيْنَ ذَِلكَ َقوَاما }
[الفرقان]67 :
وبذلك ضمن لهله نظاما اقتصاديا ناجحا يُثري حياة الجماعة ،ويَ ْرقَى بحياة الفرد ،وقد لخّص هذا
سطِ فَ َت ْقعُدَ
طهَا ُكلّ الْبَ ْ
ك َولَ تَ ْبسُ ْ
ج َعلْ يَ َدكَ َمغْلُولَةً إِلَىا عُ ُن ِق َ
المنهج القتصادي في قوله تعالىَ {:ولَ تَ ْ
مَلُوما مّحْسُورا }[السراء ]29 :فالممسك المقتّر الذي يقبض يده على النفاق يتسبّب في رُكود
البضائع وتوقف حركة الحياة ،وهذا خطر على المجتمع ،وفي التبذير خطر على الفرد حيث ينفق
كل مَا معه ،ول يُبقي على شيء يرتقي به في الحياة ،فإذا لم تتبع هذا المنهج الحكيم فسوف تقعد
ملوما على المساك ،محسورا على التبذير الذي فوّتَ عليك فرصة الترقّي مثل الخرين.
ك وََلمْ َيكُنْ لّهُ
خ ْذ وَلَدا وَلَم َيكُنْ لّهُ شَرِيكٌ فِي ا ْلمُ ْل ِ
حمْدُ لِلّهِ الّذِي َلمْ يَتّ ِ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :و ُقلِ ا ْل َ
ل َوكَبّ ْرهُ َتكْبِيرا {.
وَِليّ مّنَ ال ّذ ّ
()2123 /
حمْدُ لِلّهِ الّذِي لَمْ يَتّخِ ْذ وَلَدًا وَلَمْ َيكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي ا ْلمُ ْلكِ وَلَمْ َيكُنْ لَهُ وَلِيّ مِنَ ال ّذلّ َوكَبّ ْرهُ
َوقُلِ ا ْل َ
َتكْبِيرًا ()111
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عنده سواء ،فليس من بينهم مَنْ هو ابن ل أو مَنْ بينه وبين ال قرابة ،وأحبّهم إليه تعالى أتقاهم
له ،وهكذا ينفرد الخَلْق بكل حنان ربهم وبكل رحمته.
ثم ،ما الحكمة من اتخاذ الولد؟ الناس يتخذون الولد ويحرصون على ال ّذكَر ،خاصة لمرين :أن
يكون الولد ذكرى وامتدادا لبيه بعد موته ،كما قال الشاعر:أَبُنيّ يَا أنَا َبعْ َدمَا أ ْقضِي والحق سبحانه
وتعالى باقٍ دائمٌ ،فل يحتاج لمَنْ يُخلّد ذكراه ،أو يكون امتدادا له ،تعالى ال عن ذلك عُلوا كبيرا،
فالحمد ل أنه لم يتخذ ولدا.
أو يكون الولد للعِزْوة والمكاثرة والتقوّى به من ضعف ،والحق سبحانه وتعالى هو الغالب القهار،
فل يحتاج إلى عِزْوة أو كثرة ،لذلك يأمرنا سبحانه أن نُمجّده لنه لم يتخذ صاحبة ول ولدا،
والمتأمل في حال الملوك والسلطين يجد أكثر فسادهم إما من الولد وإما من الصاحبة.
ثم يقول سبحانه { :وَلَم َيكُنْ لّهُ شَرِيكٌ فِي ا ْلمُ ْلكِ[ } ..السراء]111 :
ن تتصوّر لو أن ل تعالى شريكا في الملْك ،كم
وهذا أيضا من النعم التي تستوجب الحمد ،ولك أ ْ
تكون حَيْرة العباد ،فأيّهما تُطيع وأيهما تُرضِي؟
لقد أوضح لنا الحق سبحانه هذه المسألة في هذا المثل الذي ضربه لنا {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ
جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً[} ..الزمر]29 :
شُ َركَآءُ مُ َتشَاكِسُونَ وَرَجُلً سَلَما لّ َر ُ
لذلك ،ففي أعراف الناس وأمثالهم يقولون( :المركب التي بها ريسين تغرق) و َكوْنه سبحانه واحدا
ل شريك له يجعلك تطمئن إلى أمره و َنهْيه فتُطيعه وأنت مطمئن ،فأوامره سبحانه نافذة ل مُعقّب
لها ،ول مُعترِض عليها ،فليس هناك إله آخر يأمرك بأمر مخالف ،أليست هذه نعمة تستوجب
الحمد؟
وأيضا فإن الحق سبحانه يقول { :وَلَمْ َيكُنْ لّهُ وَلِيّ مّنَ ال ّذلّ[ } ..السراء]111 :
الوليّ :هو الذي يليك ،وأنت ل تجعل أمرك إل لمن تثق به أنه يجلب لك َنفْعا ،أو يدفع عنك
ضُرّا ،أو ينصرك أمام عدو ،أو يُقوّي ضعفك ،فإذا لم يكُنْ لك ذاتية تحقق بها ما تريد تلجأ لمن له
ذاتية ،وتحتمي برحابه ،وتجعل ولءك له.
والحق سبحانه ليس له وليّ يلجأ إليه ليعزه؛ لنه سبحانه العزيز المعِزّ القائم بذاته سبحانه ،ول
حاجة له إلى أحد.
ثم يقول تعالىَ { :وكَبّ ْرهُ َتكْبِيرا } [السراء]111 :
لن عظمة الحق سبحانه في نفس المؤمن أكبر من كل شيء ،وأكبر من كل كبير؛ لذلك جُعلتْ
(ال أكبر) شعار أذانك وصلتك ،فل بُدّ أن تُكبّر ال ،وتجعله أكبر ِممّا دونه من الغيار ،فإنْ
ناداك وأنت في أيّ عمل ف ُقلْ :ال أكبر من عملي ،وإنْ ناداك وأنت في حضرة عظيم ،فقل :ال
أكبر من أيّ عظيم ،كبّره تكبيرا بأن تُقدّم أوامره ونواهيه على كل أمر ،وعلى كل نهي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ول تنسَ أنك إن كبّ ْرتَ الحق سبحانه وتعالى أعز ْزتَ نفسك بعزة ال التي ل يعطيها إل لمَنْ
يخلص العبودية له سبحانهَ ،فضْلً عن أن العبودية ل شرفٌ للعبد ،وبها يأخذ العبد خَيْر سيده ،أما
العبودية للبشر فهي مذمومة مكروهة ،وهي مذلة وهوان ،حيث يأخذ السيد خير عبده.
سبُ َنفْسِي عِزّا بأنّي عَ ْبدٌ يَحْتفِي بي بلَ مَواعِيدَ رَ ّب ُهوَ في قُ ْدسِهِ العَزّ
وصدق الشاعر حين قال:حَ ْ
وَلكِنْ أَنَا أ ْلقَي متَى وأَينَ أحِبّفكم تتحمل من المشقة والعنت في مقابلة عظيم من عظماء الدنيا ،أما
في مقابلة رب العزة سبحانه ،فبمجرد أنْ آمنتَ به أصبح الزمام في يدك تلقاه متى شئتَ ،وفي أيّ
مكان أردتَ ،وتُحدّثه في أيّ أمر أحببتَ ،فأيّ عِزّة بعد هذا؟
ولذلك كانت حيثية الرفعة لرسول ال صلى ال عليه وسلم في السراء والمعراج أنه عبد ل،
لقْصَى} ..
جدِ الْحَرَامِ إِلَىا ا ْل َمسْجِدِ ا َ
حيث قال تعالى {:سُ ْبحَانَ الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْل َمسْ ِ
[السراء]1 :
فالعزة في العبودية ل ،والعزة في السجود له تعالى ،فعبوديتك ل تعصمك من العبودية لغيره،
وسجودك له تعالى يعصمك من السجود لغيرهَ ،ألَ ترى قول الشاعر:وَالسّـجُودُ الذِي َتجْـ َتوِيه
مِنْ أُلُوفِ السّجودِ فِيهِ نَجَاةٌإذن :فكبّر ال تكبيرا وعَظّمه ،والتجئ إليه ،فَمن التجأ إلى ال تعالى
كان في معيته ،وأفاض عليه الحق من صفاته ،وعصمه من كَيْد الخرين وقهرهم .وسبق أنْ
ضربنا مثلً بالولد الصغير الذي يعتدي عليه أقرانه إنْ سار وحده ،فإنْ كان في يد أبيه فل يجرؤ
أحد على العتداء عليه.
فعليك ـ إذن ـ أن تكون دائما في معيّة ربك تأمن كيد الكائدين ومكْر الماكرين ،ول ينالك أحدٌ
بسوء ،فإن ابتله ال بشيء فكأنما يقول له :أبتليك بنعمتي لتأخذ من ذاتي ،لن الصحيح المعَافَى
إنْ كان في معية نعمة ال ،فالمبتلى في معية ال ذاته.
ضتُ فلم َتعُدْني ،قال :يا رب وكيف
ألم َي ُقلْ الحق سبحانه في الحديث القدسي " :يا بن آدم مر ْ
ب العالمين؟ فيقول :أما علمتَ أن عبدي فلنا مرض فلم َتعُدْه ،أما علمتَ أنك لو
أعودك وأنت ر ّ
عُدْتَهُ لوجدتني عنده ".
فالمريض الذي يأنس بزائريه ويسعد بهم ويرى في زيارتهم تخفيفا من آلمه ومواساة له في
شدته ،ما باله إن أنس بال وكان في جواره وكلءته ،وال الذي ل إله إل هو ل يشعر بوخْز
المرض أبدا ،ويستحي أن يتأوّه من ألم ،ول ييأس مهما اشتد عليه البلء؛ لنه كيف يتأوه من
معية ال؟ وكيف ييأس وال تعالى معه؟
إذن :كبّره تكبيرا.
أي :اجعل أمره و َنهْيه فوق كل شيء ،و ُقلْ :ال أكبر من كل كبير حتى الجنة قل :ال أكبر من
خوْف نا ٍر ويَروْن النجاةَ حَظّا جَزِيلَأوْ بِأَنْ
الجنةَ .ألَ ترى َقوْل رابعة العدوية:كُّلهُمْ يعبدُونَك من َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن وَالنّارِ حَظّ أنَا لَ أَبْتغِي بِحُبّي
ظوْا ب ُقصُورٍ ويَشْرَبُون سَلْسَبِيللَيْسَ لِي بالجنا ِ
حَسكُنُوا الجِنَانَ فَيَ ْ
يَ ْ
بَدِيلًوفي الحديث القدسي " :أَوَلوْ لَم أخلق جنة ونارا ،أما كنتُ أهلً لنْ أُعبد؟ ".
فال تعالى بذاته سبحانه أكبر من أيّ شيء ،حتى إن كانت الجنة ،ففي آخر سورة الكهف يقول
ل صَالِحا وَلَ يُشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدَا }[الكهف]110 :
عمَ ً
تعالىَ {:فمَن كَانَ يَرْجُواْ ِلقَآءَ رَبّهِ فَلْ َي ْعمَلْ َ
فلم َي ُقلْ :مَنْ كان يرجو جزاء ربه ،أو جنة ربه ،أو نعيم ربه ،إن المؤمن الحق ل ينظر إلى
النعيم ،بل يطمع في لقاء المنعم سبحانه ،وهذا غاية أمانيه.
وفي حديث آخر يقول الحق سبحانه للملئكة " :أما رأيتم عبادي ،أنعمتُ عليهم بكذا وكذا ،وأسلب
عنهم نعمتي ويحبونني ".
وبهذه الية خُ ِت َمتْ سورة السراء ،فجعلنا الحق سبحانه نختمها بما أنعم علينا من هذه النعم
الثلث ،وليس هذه هي كل نعم ال علينا ،بل ل تعالى علينا ِنعَم ل ُتعَ ّد ول تُحصَى ،لكن هذه
الثلث هي قِمة النعم التي تستوجب أنْ نحمده عليها.
فالحمد ل الذي لم يتخذ ولدا؛ لنه لم يلد ولم يولد وهو واحد أحد ،والحمد ل الذي لم يتخذ شريكا
لنه واحد ،والحمد ل الذي لم يكُنْ له وليّ من الذل لنه القاهر العزيز المعز ،ولهذا يجب أن نُكبّر
هذه الله تكبيرا في كل نعمة نستقبلها منه سبحانه.
()2124 /
عوَجًا ()1
ج َعلْ لَهُ ِ
ب وَلَمْ َي ْ
ح ْمدُ لِلّهِ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَى عَبْ ِدهِ ا ْلكِتَا َ
الْ َ
ختم الحق سبحانه سورة السراء بالحمد ،وبدأ سورة الكهف بالحمد ،والحمد ل دائما هو الشعار
الذي أطلقه رسول ال صلى ال عليه وسلم في خير الكلمات " :سبحان ال والحمد ل " سبحان ال
بُدئتْ بها سورة السراء ،والحمد ل بُدئت بها سورة الكهف .سبحان ال تنزيه لذاته سبحانه أن
يكون له شريك ،ل في الذات ،ول في الفعال ،ول في الصفات ،والحمد ل كذلك تكبرة للذات،
وبعد ذلك جاء العطاء من الذات فقُلْنا :الحمد ل ،فسبحان ال تنزيه ،والحمد ل شكر على العطاء.
شكْر ومدح ،إل أن هذه اللفاظ وإنْ تقاربت في
والحمد يشترك معه في المعنى العام :ثناء و ُ
ل منها معناه الخاص ،وكل هذه اللفاظ فيها ثناء ،إل أن الشكر يكون من مُنعَم
المعنى العام فل ُك ّ
عليه بنعمة خاصة به ،كأن يُسدي لك إنسان جميلً لك وحدك ،فتشكره عليه.
أما الحمد فيكون على نعمة عامة لك ولغيرك ،ف ُرقْعة الحمد أوسع من ُرقْعة الشكر ،أما المدح فقد
تمدح ما ل يعطيك شيئا ،كأن تمدح مثلً الشكل الجميل لمجرد أنه أعجبك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمْدُ لِلّهِ } باللف واللم الدالة على الحصر ،فالمراد الحمد المطلق الكامل ل،
فقَ ْولُ الحق { :الْ َ
حمْدٌ
الحمد المستوعب لكل شيء ،حتى إنّ حمدك ليّ إنسان قدّم لك جميلً فهو ـ إذا سَ ْلسَلْتَهُ ـ َ
ل تعالى الذي أعان هذا النسان على أن يحسن إليك ،فالجميل جاء من حركته ،وحركته موهوبة
له من خالقه ،والنعمة التي أمدّك بها موهوبة من خالقه تعالى ،وهكذا إذا سلسلتَ الحمد ليّ إنسان
في الدنيا تجده يصل إلى المنعِم الول سبحانه وتعالى.
حمْدُ لِلّهِ } هذه هي الصيغة التي علمنا ال أنْ نحم َدهُ بها ،وإل فلو ترك لنا حرية التعبير
وكلمة { ا ْل َ
حسْب قدراتهم وتمكّنهم
خلْق في الحمد َ
عن الحمد ولم يُحدّد لنا صيغة نحمده ونشكره بها لختلف ال َ
من الداء وحَسْب قدرتهم على استيعاب النعم ،ولوجدنا البليغ صاحب القدرة الدائية أفصح من
حمْدُ لِلّهِ
لمّي .فتحمّل ال عنا جميعا هذه الصيغة ،وجعلها متساوية للجميع ،الكل يقول { الْ َ
العيي وا ُ
} البليغ يقولها ،والعيي يقولها ،والُمّي يقولها.
لذلك يقول صلى ال عليه وسلم وهو يحمد ال ويُثنِي عليه " :سبحانك ل نحصي ثناء عليك ،أنت
كما أثنيتَ على نفسك ".
فإنْ أردنا أنْ نُحصي الثناء عليك فلن نستطيع؛ لن الثناء عليك ل يعرف مداه إل أنت ،ول
يُحصيه غيرك ،ول نملك إل أنْ نقولَ ما علّمتنا من حمدك :الحمد ل.
إذن :فاستواء الناس جميعا في الحمد ل نعمة كبرى في ذاتها تستحق الحمد ،فنقول :الحمد ل على
ما عَلِمنا من الحمد ل ،والحمْد الول أيضا نعمة ،وبذلك نقول :الحمد ل على ما عَلِمنا من الحمد
ل بالحمد ل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آيات ال و ِنعَم من ِنعَمه ،فالسماوات والرض فيها قيام البشر كله بما يمدّ حياتهم بالقوت ،ويستبقي
نوعهم بالتكاثر.
والظلمات والنور مِنَ نعم ال ،وهما متكاملن ل متضادان ،فَلِ ْلظّلمة مهمة ،كما أن للنور مهمة،
الظلمة للسكون والراحة ،والنور للسعي والحركة ،ول يمكن لسَاعٍ أنْ يسعى ويج ّد في عمل ،إل
إذا ارتاح وسكن وجدّد نشاطه ،فتقابُل الظلمة والنور للتكامل ،فالحياة ل تستقيم في ظلم دائم ،كما
أنها ل تستقيم في نور دائم.
حمْدُ لِلّهِ { ـ والتي نحن بصددها
وفي السورة الثالثة من السور التي افتتحها الحق سبحانه بـ } ا ْل َ
ـ أراد الحق سبحانه أنْ يُوضّح أنه لم يُربّ الخلْق تربية مادية فقط ،بل هناك تربية أعلى من
المادة تربية روحية قيمية ،فذكر هنا الحيثية الحقيقية لخَلْق النسان ،فهو لم يُخلق لمادته فحسْب،
ولكن لرسالة أسمى ،خلق ليعرف القيم والرب والدين ،وأنْ يعملَ لحياة أخرى غير هذه الحياة
حمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَىا عَ ْب ِدهِ ا ْلكِتَابَ[ { ..الكهف]1 :
المادية ،فقال تعالى } :ا ْل َ
فحيثية الحمد هنا إنزالُ الكتاب الذي يجمع كل القيم .وقلنا :إن الحق سبحانه محمود برحمانيته قبل
حمَـانُ * عَلّمَ
أنْ يخلق الخَلْق وضع له النماذج التي تُصلِح حركة الحياة ،كما قال تعالى {:الرّ ْ
ق الِنسَانَ * عَّلمَهُ البَيَانَ }[الرحمن]4-1 :
ا ْلقُرْآنَ * خَلَ َ
فتعليم القرآن جاء قبل خَلْق النسان ،إذن :وضع الحق سبحانه لعباده المنهج المنظّم لحياتهم قبل
أن يخلقَهم ،لعِلْمه سبحانه بطبيعة خَلْقه ،وبما يصلحهم ،كالمخترع لللة الذي يعلم مهمتها ويُحدد
قانون صيانتها ،فالكتاب الذي نزل على محمد صلى ال عليه وسلم هو المهمة الساسية ،فيجب أنْ
تُوطّن عليها نفسك ،وتعلَم أنه المنظّم لحياتك ،وبه قانون صيانتك.
وقوله } :عَلَىا عَ ْب ِدهِ[ { ..الكهف ]1 :كما قلنا :في سورة السراء :إن العبودية كانت حيثية ال ّرفْعة
في السراء والمعراج ،فقال سبحانه {:سُبْحَانَ الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ[} ..السراء]1 :
فالعبودية رفعتْه إلى حضرته تعالى؛ لنه كان عبدا بحقّ ،وهذا يعني إنزال الكتاب عليه ،فكان
عبدا بحق قبل أن يُسرَى به ،وحمل منهج ال أولً فالتفتَ لربه َلفْتةً أراد أنْ يلفتَ بها سواه،
فأخلص هو أولً في العبودية ،وتحمّل ما تحمّل ،فكان من جزائه أن يرتفع إلى مقام الحضرة
َفعُرِج به ،وهناك أعطاه ال الصلة لينزلَ بها إلى الخَلْق ليرفع بها صوته إلى المقام الذي سعى
إليه بالمعراج.
إذن :فالنبي تناول ليناوِل ،وتناول لنه أخلصَ العبودية ،فصعد إلى حضرة ربه ،وأخذ فريضة
الصلة وبلّغها لقومه ،وكأنه يقول لهم :مَنْ أراد أن يلتقي بال ،فليدخل في الصلة.
و } ا ْلكِتَابَ[ { ..الكهف ]1 :هو القرآن الكريم ،لكن سورة الكهف ترتيبها الثامنة عشرة بين سور
المصحف من المائة والربعة عشرة سورة ،أي :أن القرآن لم يكتمل بعد ،فلماذا قال تعالى }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْلكِتَابَ { وهو لم يكتمل بعد؟
نقول :الكتاب يُطلَق ويُرَادُ به بعضه ،كما في قوله تعالى {:فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ }[القيامة]18 :
فالية الواحدة تُسمّى قرآنا ،والسورة تُسمّى قرآنا ،والكل نُسمّيه قرآنا.
أو :يكون المراد أَنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ ،ثم نزّله بعد ذلك مُنَجّما حَسْب
الوقائع ،فالمراد هنا النزال ل التنزيل.
عوَجَا { [الكهف ]1 :أي :جعله مستقيما ،ل عِوجَ فيه ،كما قال في
جعَل لّهُ ِ
وقوله تعالى } :وَلَمْ َي ْ
عوَجٍ[ { ..الزمر ]28 :والعوجاج ،أن يأخذ الشيءُ امتدادا
آية أخرى } :قُرْآنا عَرَبِيّا غَيْرَ ذِي ِ
مُنْحنيا ملتويا ،أما الستقامة فهي المتداد في نفس التجاه ،ل يميل يمينا أو شمالً ،ومعلوم أن
الخطّ المستقيم يمثل أقرب مسافة بين نقطتين ،ول تستقيم حياة الناس في الدنيا إل إذا ساروا جميعا
على منهج مستقيم يعصمهم من التصادم في حركة الحياة.
خلْق متكاملين ،ف ُكلّ منهم لديه موهبة يحتاجها الخرين ،فهذا طبيب،
فالحق سبحانه وتعالى خلق ال َ
وهذا مهندس ،وهذا نجار ،وهذا خياط ،ول يستطيع أحد أن يقومَ بذاته أو يستغني عن مواهب
ن يتكاملوا.
غيره ،فل بُدّ أن يتواجه الناس في الحياة ،وأ ْ
هذا التواجه إنْ لم يُنظّم وتوضع له قوانين مرور دقيقة لتصادمت حركات الناس ،كما يحدث على
الطريق الملتوي كثير المنحنيات ،فالقادم من هنا ل يرى القادم من هناك ،فيحدث التصادم .إذن:
ل ُبدّ من استقامة الطريق ليرى كلّ مِنّا الخر ،فل يصطدم به .والمنهج اللهي هو الطريق
المستقيم الذي يضمن الحركة في الحياة.
س ُفهَا رَبّي َنسْفا * فَيَذَرُهَا
وقد ذُكر العوجاج أيضا في قوله تعالى {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلجِبَالِ فَ ُقلْ يَن ِ
عوَجا وَل َأمْتا }[طه]107-105 :
صفْصَفا * لّ تَرَىا فِيهَا ِ
قَاعا َ
عوَجا }[طه ]107 :أي :مستقيمة{ وَل َأمْتا }
أي :أرضا مستوية خالية من أي شيء{ لّ تَرَىا فِيهَا ِ
[طه.]107 :
أي :مُسْتوية ل يُوجد بها مرتفعات ومنخفضات تعوق الرؤية أيضا وتسبب التصادم ،وهذا ما
يُسمّيه رجال المرور (العقبة).
ثم يقول الحق سبحانه واصفا القرآن الكريم } :قَيّما لّيُ ْنذِرَ بَأْسا شَدِيدا مّن لّدُ ْن ُه وَيُبَشّرَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ...
{.
()2125 /
شدِيدًا مِنْ َلدُنْ ُه وَيُبَشّرَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ()2
قَ ّيمًا لِيُنْذِرَ بَ ْأسًا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عوَجَا }
جعَل لّهُ ِ
قوله { :قَيّما } أي :القرآن ،وقالوا :قيّم يعني مستقيم ،كأنها تأكيد لقوله {:وَلَمْ يَ ْ
[الكهف ]1 :لن الستقامة وال ِعوَج قد ل يُدرك بالعين المجردة وتحتاج إلى ميزان دقيق يكشف لك
مدى ال ِعوَج أو الستقامة ،وهذه الظاهرة تراها في الطرق المستوية المرصوفة ،والتي تراها
للوَهْلة الولى مستقيمة تماما ومستوية ،فإذا ما نزل المطر فضح هذا الستواء وأظهر ما فيه من
عيوب؛ لذلك أكّد الستقامة بقوله { :قَيّما } [الكهف]2 :
ومن معاني القَيّم :المهيمن على ما دونه ،كما تقول :فلن قَيّم على فلن أي :مُهيمن عليه وقائم
عوَج فيه ،وهو أيضا مُهيمن على الكتب السابقة وله الوصاية
على أمره .فالقرآن ـ إذن ـ ل ِ
ب َو ُمهَيْمِنا عَلَيْهِ }
عليها كما قال تعالى {:وَأَنزَلْنَآ ِإلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ مِنَ ا ْلكِتَا ِ
[المائدة]48 :
ج َهكَ لِلدّينِ ا ْلقِيّمِ }[الروم ]43 :أي :المهيمن على الديان السابقة.
ومنه قوله تعالى {:فََأقِ ْم وَ ْ
ثم يقول تعالى { :لّيُنْذِرَ بَأْسا شَدِيدا مّن لّدُنْهُ } [الكهف]2 :
وهذه هي العِلّة في النزال.
والنذار :التخويف بشَرّ قادم ،والمنْذَر هنا هم الكفار؛ لنه ل يُنذَر بالعذاب الشديد إل الكفار ،لكن
ن يعملَ ،وأنْ يستقبلَ القرآن بفكر
سياق الية لم يذكرها ليترك مجالً للمَلكَة العربية وللذّهْن أ ْ
ن كلّ شيء هكذا على طرف الثّمام أي
مُتفتح وعقل يستنبط ،وليس بالضرورة أن يعطينا القرآ ُ
قريبا سهل التناول.
ضخّم العذاب بأنه شديد ،ليس ذلك وفقط بل { مِن لّدُنهُ } ،والعذاب يتناسب مع المعذّب وقوته،
ثم َ
ب لحد منه.
فإنْ كان العذاب من ال فل طاقة لحدٍ به ،ول مهر َ
ثم يقول تعالى { :وَيُبَشّرَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } [الكهف ]2 :والبشارة تكون بالخير المنتظر في المستقبل،
وتلحظ أنه في البشارة ذكر المبشّر { ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } ولم يسكت عنهم كما سكت عن الكفار في
النذار ،فهذا من رحمة ال بنا حتى في السلوب ،والبشارة هنا بالجر الحسن؛ لنه أجر من
الكريم المتفضّل سبحانه؛ لذلك قال الحق سبحانه بعدها { :مّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدا }.
()2126 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لن هناك فرقا بين أجر الناس للناس في الدنيا ،وأجر المنعِم سبحانه في الخرة ،لقد أَِلفَ الناس
جعِل على عمل ،فعلى قَدْر ما تعمل يكون أجرك ،فإنْ لم تعمل فل أجرَ لك.
الجر على أنه ُ
أما أَجْر ال لعباده في الخرة فهو أجر عظيم دائم ،فإنْ ظلمك الناس في تقدير أجرك في الدنيا،
فال تعالى عادل ل يظلم يعطيك بسخاء؛ لنه المنصِف المتفضّل ،وإنِ انقطع الجر في الدنيا فإنه
دائم في الخرة؛ لنك مهما أخذتَ من نعيم الدنيا فهو نعيم زائل ،إما أنْ تتركه ،وإما أنْ يتركك.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَيُ ْنذِرَ الّذِينَ قَالُواْ اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدا }.
()2127 /
والنذار هنا غير النذار الول ،لقد كرّر النذار ليكون خاصا بقمة المعاصي ،إنذار للذين قالوا
اتخذ ال ولدا ،أما النذار الول فهو لمطلق الكفر والمعصية ،وأما الثاني فهو لعادة الخاص مع
العام ،كأن لهؤلء الذين نسبوا ل الولد عذابا يناسب ما وقعوا فيه من جرأة على الحق سبحانه
وتعالى.
ن وَلَدا * ّلقَدْ جِئْ ُتمْ شَيْئا ِإدّا
حمَـا ُ
وقد أوضح القرآن فظاعة هذه المعصية في قولهَ {:وقَالُواْ اتّخَذَ الرّ ْ
ن وَلَدا *
حمَـا ِ
عوْا لِلرّ ْ
ض وَتَخِرّ ا ْلجِبَالُ هَدّا * أَن دَ َ
ق الَ ْر ُ
سمَاوَاتُ يَ َتفَطّرْنَ مِ ْن ُه وَتَنشَ ّ
* َتكَادُ ال ّ
خ َذ وَلَدا }[مريم]92-88 :
حمَـانِ أَن يَتّ ِ
َومَا يَن َبغِي لِلرّ ْ
إنها قمة المعاصي أنْ نخوضَ في ذات ال تعالى بمقولة تتفطر لها السماء ،وتنشق لها الرض،
وتنه ّد لهوْلِها الجبال.
علْ ٍم َولَ لبَائِهِمْ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :مّا َلهُمْ بِهِ مِنْ ِ
()2128 /
مَا َلهُمْ ِبهِ مِنْ عِلْ ٍم وَلَا لِآَبَا ِئ ِهمْ كَبُ َرتْ كَِل َمةً تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِه ِهمْ إِنْ َيقُولُونَ إِلّا َكذِبًا ()5
عوْها ،وهذه المقولة التي كذبوها على ال من أين أَ َتوْا بها؟ الحقيقة أنهم
فهذه القضية التي ادّ َ
عوْها ول علمَ لهم بها ،والعلم إما ذاتي ،وإما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم وهم ل يملكون شيئا
اد َ
علْمٍ[ } ..الكهف]5 :
من هذا ويقولون بأمر ل واقع له؛ لذلك يقول تعالى { :مّا َلهُمْ بِهِ مِنْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعدم العلم ينشأ من أمرين :إما أن الشيءَ موجود وأنت ل تعلم به؛ لنه مستور عنك ،وإما لن
الشيء ل وجودَ له أصلً ،وأنت ل تعلم أنه غير موجود؛ لن غير الموجود ل يمكن أن يتعلق به
علم.
وقوله تعالى { :كَبُ َرتْ كَِلمَةً تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِه ِهمْ[ } ..الكهف]5 :
ظ َمتْ وتناهتْ في الثم؛ لنهم تناولوا مسألة فظيعة ،كَبُ َرتْ أنْ تخرجَ هذه الكلمة
{ كَبُ َرتْ } أي :عَ ُ
من أفواههم.
{ كَِلمَةً } الكلمة قول ُمفْرد ليس له نسبة كأن تقول :محمد أو ذهب أو في ،فالسم والفعل والحرف
كل منها كلمة مستقلة ،والكلمة تُطلَق ويُراد بها الكلم ،فالية عَبّرتْ عن قولهم {:اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدا }
خطْبة.
[الكهف ]4 :بأنها كلمة ،كما تقول :ألقى فلن كلمة .والواقع أنه ألقى ُ
ل صَالِحا فِيمَا
ع َم ُ
جعُونِ * َلعَلّي أَ ْ
ومن ذلك قوله تعالى {:حَتّىا إِذَا جَآءَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ َربّ ا ْر ِ
تَ َر ْكتُ كَلّ إِ ّنهَا كَِلمَةٌ ُهوَ قَآئُِلهَا }[المؤمنون ]100-99 :فسمّى قولهم هذا { كَِلمَةً }.
سوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ َألّ َنعْ ُبدَ ِإلّ اللّ َه َولَ نُشْ ِركَ
ومنها قوله تعالىُ {:قلْ ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َتعَاَلوْاْ إِلَىا كَِلمَةٍ َ
بِهِ شَيْئا وَلَ يَتّخِذَ َب ْعضُنَا َبعْضا أَرْبَابا مّن دُونِ اللّهِ[} ..آل عمران ]64 :فسمّى كل هذا الكلم
كلمة.
وقوله تعالى { :تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِه ِهمْ[ } ..الكهف ]5 :أي :أن هذه الكلمة كَبُرت لنها خرجت منهم
وقالوها فعلً ،ولو أنهم كتموها في نفوسهم ولم يجهروا بها واستعظموا أن تخرجَ منهم لكانوا في
عداد المؤمنين ،بدليل أن وفد اليمن حينما أتوْا رسول ال صلى ال عليه وسلم وقالوا :يا رسول
ال تدور بأنفسنا أفكار عن ال ،نتعاظم أن نقولها ـ أي :ل نقدر على النطق بها فقال صلى ال
عليه وسلم " :ذاك صريح اليمان ".
إذن :المعيب عليهم أنهم أخرجوا هذه المسألة من أفواههم ،وهذا منتهى القُبْح ،فالفكار والخواطر
مهما بلغتْ من السوء وكتمها صاحبها ل يترتب عليها شيء ،وكأنها لم تكُنْ.
ثم يقول تعالى { :إِن َيقُولُونَ ِإلّ كَذِبا[ } ..الكهف ]5 :أي :ما يقولون إل كذبا ،والكذب َألّ يطابق
الكلم واقع المر ،فالعاقل قبل أنْ يتكلم يُدير الكلم على ِذهْنه و َيعْرضه على تفكيره ،فتأتي النسبة
في ذِهْنه وينطقها لسانه ،وهذه النسبة قبل أن يفكر فيها وينطق بها لها واقع.
فمثلً حين تقول :محمد مجتهد .قبل أن تنطق بها جال في خاطرك اجتهاد محمد ،وهذه تُسمّى
ن وُجد شَخص اسمه محمد وهو
ن قلتَ :محمد مجتهد أصبحتْ نسبة كلمية ،فإ ْ
نسبة ذِهْنية ،فإ ْ
مجتهد فعلً ،فإن النسبة الذهنية الكلمية أصبحتْ نسبة واقعية ،والخبر بها خبر صادق.
فإنْ كانت النسبة الكلمية ل واقعَ لها كأنْ ل يوجد شخص اسمه محمد أو وُجِد ولكنه غير مجتهد،
فالخبر هنا كاذب .وهذا هو السلوب الخبري الذي يحتمل الصدق أو الكذب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهناك السلوب النشائي الذي ل يحتمل الصّدْق ،ول يحتمل الكذب؛ لن النسبة الواقعية فيه
متأخرة عن النسبة الكلمية كما لو قُلْت :ذاكر دروسك .فواقع هذه العبارة سيحدث في المستقبل؛
لذلك ل يُوصَف النشاء بالصدق أو بالكذب.
والتدقيق العلمي يقول :الصدق الحقيقي أنْ تطابقَ النسبة الكلمية الواقع والعتقاد ،فإن اعتقدتَ
شيئا ولم يحدث ،فالنسبة كاذبة وأنت غير كاذب؛ لن هناك فرقا بين الخبر والمخْبِر.
ش َهدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ َيعْلَمُ
وهذه المسألة واضحة في قوله تعالىِ {:إذَا جَآ َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُواْ نَ ْ
شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ }[المنافقون]1 :
إِ ّنكَ لَرَسُولُ ُه وَاللّهُ يَ ْ
ت معتقدهم؟ لم توافق
فقولهم :إنك لرسول ال نسبة صادقة؛ لنها تطابق الواقع ،إنما هل وافق ْ
معتقدهم؛ لذلك شهد ال أنهم كاذبون؛ لن كلمهم لم يوافق واقعهم العتقادي .أو :لن التكذيب لم
يرد به قولهم :إنك لرسول ال وإنما يُراد به قولهم :نشهد ،فالتكذيب للشهادة لن الشهادة أنْ
يُواطِئ القلب اللسان ،وهم شهدوا بألسنتهم ،ولم تؤمن به قلوبهم.
وهنا َلمّا قالوا } اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدا { ،فهذه نسبة كلمية ليس لها واقع ،فهي نسبة كاذبة ،فقال
تعالى } :إِن َيقُولُونَ ِإلّ كَذِبا[ { ..الكهف]5 :
سفَه
ثم يُسلّي الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم لِيُخفّف عنه ما يلقي من متاعب وعناد و َ
سكَ عَلَىا آثَا ِرهِمْ.{ ..
في سبيل الدعوة ,فيقول تعالى } :فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
()2129 /
سفًا ()6
سكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ ُي ْؤمِنُوا ِبهَذَا ا ْلحَدِيثِ َأ َ
فََلعَّلكَ بَاخِعٌ َنفْ َ
سكَ[ } ..الكهف ]6 :أي :تجهد نفسك في دعوة قومك إجهادا يُهلكها ،وفي الية
ومعنى { :بَاخِعٌ ّنفْ َ
حمّل نفسه في سبيل هداية قومه ما ل يحمله ال ويلزم ما ل يلزمه،
إشفاق على رسول ال؛ لنه َ
فقد كان صلى ال عليه وسلم يدعو قومه فيُعرضوا ويتوّلوْا عنه فيُشيّع آثارهم بالسف والحزن،
كما يسافر عنك حبيب أو عزيز ،فتسير على أثره تملؤك مرارة السى والفراق ،فكأن رسول ال
لحبه لقومه وحِرْصه على هدايتهم يكاد يُهلك نفسه { أَسَفا }.
سفَ[} ..يوسف]84 :
سفَىا عَلَى يُو ُ
والسف :الحزن العميق ،ومنه َق ْولُ يعقوب عليه السلم {:يَاأَ َ
وقوله تعالى عن موسى لما رجع إلى قومه غاضبا من عبادتهم العجل {:فَ َرجَعَ مُوسَىا إِلَىا َق ْومِهِ
غضْبَانَ أَسِفا[} ..طه]86 :
َ
وقد حدّد ال تعالى مهمة الرسول وهي البلغ ،وجعله بشيرا ونذيرا ،ولم يُكلّفه من أمر الدعوة ما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل يطيق ،ففي الية مظهر من مظاهر رحمة ال برسوله صلى ال عليه وسلم ،فيقول الحق
جعَلْنَا مَا عَلَى الَ ْرضِ زِينَةً ّلهَا.} ...
سبحانه { :إِنّا َ
()2130 /
عمَلًا ()7
جعَلْنَا مَا عَلَى الْأَ ْرضِ زِي َنةً َلهَا لِنَبُْلوَ ُهمْ أَ ّيهُمْ َأحْسَنُ َ
إِنّا َ
وكأن هذه الية تعقيب على سابقتها ،وإشارة لرسول ال بأن الدنيا قصيرة ،فالمسألة ـ إذن ـ
قريبة فل داعيَ لنْ يُهلِك نفسه حُزْنا على عناد قومه ،فالدنيا لكل إنسان مدة بقائه بها وعَيْشَه
فيها ،ول دخلَ له بعمرها الحقيقي؛ لن حياة غيره ل تعود عليه بشيء ،وعلى هذا فما أقصرَ
الدنيا ،وما أسرعَ انتهائها ،ثم يرجعون إلينا فنجازيهم بما عملوا ،فل تحزن ول تيأس ،ول تكدّر
نفسك ،لنهم لم يؤمنوا.
جعَلْنَا مَا عَلَى الَ ْرضِ زِينَةً ّلهَا[ } ..الكهف ]7 :أي :كل ما على الرض هو
فقوله تعالى { :إِنّا َ
زينة ،والزينة هي الزخرف الذي يبرق أمام العين فيغريها ،ثم يندثر ويتلشى ،وقد أوضح لنا
سمَاءِ فَاخْتََلطَ
القرآن هذه المسألة في قوله تعالى {:وَاضْ ِربْ َلهُم مّ َثلَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
ت الَ ْرضِ فََأصْبَحَ هَشِيما تَذْرُوهُ الرّياحُ[} ..الكهف]45 :
بِهِ نَبَا ُ
فإياك أنْ يأخذك هذا الزخرف؛ لنه زَهْر سرعان ما يذبل ويصير حُطاما.
وقوله { :لِنَبُْلوَ ُهمْ[ } ..الكهف ]7 :البلء يعني :الختبار والمتحان .وليس المصيبة كما يظن
البعض؛ لن المصيبة تكون على مَنْ يخفِق في الختبار ،والبتلء لهم من ال مع علمه تعالى
بأمرهم وما سيحدث منهم ُمسْبقا ،ولكن لنعرف معرفة الواقع وشهادة الواقع.
وما أشبه هذه المسألة بالتلميذ الذي يتنبأ له أستاذه بالفشل لما يراه من مقدمات يعرفها عن عقليته
وعن اجتهاده والتفاته يحكم من خللها ،فإذا ما دخل التلميذ الختبار فشل فيه وأخفق ،لكن هل
يعني هذا أن نلغي الختبارات في مدارسنا اعتمادا على خبرة المعلم بتلميذه؟ ل ُبدّ من الختبار
ليقوم شاهدا واقعيا على مَنْ يخفق.
إذن معنى { :لِنَبُْلوَ ُهمْ[ } ..الكهف ]7 :أي :بلء شهادة منهم على أنفسهم.
صعِيدا جُرُزا }.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَإِنّا َلجَاعِلُونَ مَا عَلَ ْيهَا َ
()2131 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صعِيدًا جُرُزًا ()8
وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَ ْيهَا َ
الصعيد :هو طبقة التراب التي تظهر على وجه الرض ،ول نباتَ فيها و { جُرُزا } هي الرض
الخالية من النبات ،وقد يكون بها نبات ،إل أن الجراد أكله أو جاءته جائحة أهلكتْه ،يقول تعالى{:
سهُمْ َأفَلَ
َأوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا َنسُوقُ ا ْلمَآءَ إِلَى الَ ْرضِ ا ْلجُرُزِ فَنُخْرِجُ ِبهِ زَرْعا تَ ْأ ُكلُ مِنْهُ أَ ْنعَا ُمهُ ْم وَأَنفُ ُ
يُ ْبصِرُونَ }[السجدة]27 :
وما دام المر كذلك والدنيا زُخْرف سرعان ما يزول ،فالجل قريب ،فدَعْهم لي أختبرهم،
وأُجَازيهم بأعمالهم.
ف وَال ّرقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَبا }.
ويقول الحق تبارك وتعالى { :أَمْ حَسِ ْبتَ أَنّ َأصْحَابَ ا ْل َك ْه ِ
()2132 /
وقد وردتْ قصة أهل الكهف نتيجة لسؤال كفار مكة الذين أرادوا أنْ يُحرجوا رسول ال ،ويُروى
أنهم أرسلوا رجلين منهم هما :النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أهل الكتاب في المدينة
ليسألوهم عن صدق رسول ال ،وما خبره عندهم ،وما ورد عنه في كتبهم.
وقد كان يهود المدينة قبل البعثة يتوعدون الوس والخزرج عباد الصنام ببعثة النبي الجديد،
يقولون :لقد أطلّ زمان نبيّ نتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم؛ لذلك رغب أهل مكة في سؤال يهود
المدينة عن صدق رسول ال ،فلما ذهب الرجلن إلى يهود المدينة قالوا :إنْ أرد ُتمْ معرفة صدق
محمد فاسألوه عن ثلثة أشياء ،فإنْ أجابكم فهو صادق ،اسألوه :ما قصة القوم الذين ذهبوا في
الدهر مذاهب عجيبة؟ وما قصة الرجل الطوّاف الذي طاف الرض شرقا وغربا؟ وما الروح؟
وفعلً ذهب الرجلن إلى رسول ال ،وسأله هذه السئلة فقال صلى ال عليه وسلم " :أخبركم بما
سألتم عنه غدا " وجاء غد وبعد غد ومرّت خمسة عشر يوما دون أنْ يُوحَى لرسول ال شيء من
أمر هذه السئلة ،فشقّ ذلك على رسول ال وكَبُر في نفسه أنْ يعطِي وَعْدا ول يُنجزه.
وقالوا :إن سبب إبطاء الوحي على رسول ال في هذه المسألة أنه قال " :أخبركم بما سألتم عنه
علٌ
غدا " ولم يقُلْ :إنْ شاء ال؛ ولذلك خاطبه ربه تبارك وتعالى بقوله {:وَلَ َتقُولَنّ لِشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ
ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن َيشَآءَ اللّهُ[} ..الكهف]24-23 :
حدّ ذاتها دليل على صدق رسول ال ،وعلى أدبه ،وعلى أمانته في البلغ عن ربه
وهذه الية في َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عز وجل ،وقد أراد الحق سبحانه أن يكون هذا الدرس في ذات الرسول ليكون نموذجا لغيره،
وحتى ل يستنكف أحد إذا استُدرك عليه شيء ،فها هو محمد رسول ال يستدرك عليه ربه ويُعدّل
له.
علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن َيشَآءَ اللّهُ[} ..الكهف]24-23 :
فكأن قوله تعالىَ {:ولَ َتقُولَنّ لِشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ
تربية للمة في شخصية رسولها حتى ل يستنكف المربّى من توجيه المربّي ،ما دام الهدف هو
الوصول إلى الحقيقة ،فإياكم أن ترفضوا استدراك رأي على رأي حتى وإنْ كان من الخَلْق ،فما
بالك إنْ كان الستدراك من الخالق سبحانه ،والتعديل والتربية من ناحيته؟
وإليك مثال لدب الستدراك ومشروعية استئناف الحكم ،لقد ورد هذا الدرس في قوله تعالى{:
ح ْك ِمهِمْ شَا ِهدِينَ }[النبياء:
شتْ فِيهِ غَنَمُ ا ْلقَوْ ِم َوكُنّا ِل ُ
ح ُكمَانِ فِي الْحَ ْرثِ ِإذْ َنفَ َ
وَدَاوُو َد وَسُلَ ْيمَانَ إِذْ يَ ْ
]78
فكان حكم داود عليه السلم في هذه المسألة أنْ يأخذ صاحب الزرع الغنم التي أكلتْ زرعه ،فلما
بلغ سليمان هذه الحكومة استدرك عليها قائلً :بل يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها ،ويأخذ
صاحب الغنم الزرع يُصلحه حتى يعودَ إلى ما كان عليه ،ثم تعود الغنم إلى صاحبها ،والزرع إلى
صاحبه.
لذلك قال تعالى بعدهاَ {:ففَ ّهمْنَاهَا سُلَ ْيمَانَ[} ..النبياء ]79 :ولم يتهم داود بالخطأ ،بل قالَ {:وكُلّ
حكْما وَعِلْما[} ..النبياء]79 :
آتَيْنَا ُ
ونلحظ هنا أن الستدراك لم يَ ْأتِ من الب للبن ،فيكون أمرا طبيعيا ،بل جاء من البن للب
ليؤكد على أنه ل غضاضة أنْ يستدرك الصغير على الكبير ،أو البن على الب ،فالهدف هو
الوصول إلى الحق والصواب ،ونبيّ ال سليمان في هذه المسألة لم ي ُغضّ الطرف عن هذا
القصور في حكومة أبيه ،بل جهر بالحق ونطق به؛ لن الحق أعزّ من أيّ صلة حتى لو كانت
صلة البوة.
ومن هذه القضية نعلم استدراك الخَلْق على الخَلْق أمر طبيعي ومقبول ل يستنكف منه أحد ،ومن
هنا جاءت فكرة الستئناف في المحاكم ،فلعل القاضي في محكمة الستئناف يستدرك على زميله
في المحكمة البتدائية ،أو يقف على شيء لم يقف عليه ،أو يرى جانبا من القضية لم يَ َرهُ.
ولنا هنا َوقْفة مع أمانته صلى ال عليه وسلم في البلغ عن ال ،وأنه لم يكتم من الوحي شيئا حتى
ما جاء في عتابه والستدراك عليه ،فكأنه أمينٌ حتى على نفسه ،فالرسول هو الذي بلغناَ {:ولَ
حلّ
علٌ ذاِلكَ غَدا }[الكهف ]23 :وهو الذي بلّغنا {:ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ لِمَ تُحَرّمُ مَآ أَ َ
َتقُولَنّ ِلشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ
اللّهُ َلكَ }[التحريم]1 :
عفَا اللّهُ عَنكَ ِلمَ َأذِنتَ َل ُهمْ[} ..التوبة ]43 :وغيرها كثير من
وهو الذي بلغنا في شأن غزوة بدرَ {:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آيات القرآن؛ لذلك مدحه ربه تعالى بقولهَ {:ومَا ُهوَ عَلَى ا ْلغَ ْيبِ ِبضَنِينٍ }[التكوير]24 :
حتى في مجال التهديد والوعيد لم يكتم رسول ال من الوحي حرفا واحدا ،انظر إلى قوله تعالى{:
طعْنَا مِ ْنهُ ا ْلوَتِينَ }[الحاقة]46-44 :
لقَاوِيلِ * لَخَذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ * ثُمّ َلقَ َ
وََلوْ َت َق ّولَ عَلَيْنَا َب ْعضَ ا َ
إنها المانة المطلقة والصدق الذي ل يُخفِي شيئا.
ألم يكُنْ جديرا بالقوم أنْ يفقهوا هذه الناحية من رسول ال ،ويتفكّروا في صِدْقه صلى ال عليه
وسلم حين يُخبرهم عن نفسه أشياء لم يعرفوها ،وكان من المنتظر أنْ يُخفيها عنهم؟ أليس في ذلك
دليلً قاطعا على صدقه فيما يقول؟
والحق تبارك وتعالى حينما يعلمنا أن نقول :إن شاء ال إذا أقدمنا على عمل في المستقبل إنما
يُكرّم عبده ويحميه حتى ل يُوصَف بالكذب إذا لم يُحقّق ما وعد به ،وليس في قولنا :إنْ شاء ال
حجْر على أحد ،أو تقييد لطموحات البشر كما يدّعي البعض أن قول إنْ شاء ال يلغي التخطيط
َ
للمستقبل.
خطّط كما تريد ،ودَبّر من أمرك ما شئت ،واصنع من المقدمات ما تراه مناسبا لنجاح
نقولَ :
عوْنٌ لك على ما تريد ،فإنْ
سعيك ،لكن ما عليك إنْ قرنتَ هذا كله بمشيئة ال ،وهي في حَدّ ذاتها َ
أخفقتَ فقد جعلتَ لنفسك حماية في مشيئة ال ،فأنت غير كاذب ،والحق تبارك وتعالى لم يشأ َبعْدُ
أنْ تنجزَ ما تسعى إليه.
والحقيقة أن الحدث في المستقبل ل يملكه أحد ،ول يضمنه أحد إل ال تبارك وتعالى؛ لذلك عليك
أن تعلق الفعل على مشيئة ال ،فإنْ قُ ْلتَ مثلً :سأقابل فلنا غدا لكلمه في كذا ،فهل تملك أنت من
عناصر هذا الحدث شيئا؟
ت أن موضوع المقابلة باق ل
أضمنتَ أن تعيش إلى غد؟ أضمنتَ حياة فلن هذا إلى الغد؟ أضمن َ
يتغير فيه شيء ،ول يطرأ عليه طارئ؟ إذن :فكيف تقطع بالقول أنك ستفعل غدا كذا؟ قل :إن شاء
ال ،واخرج من دائرة الحرج هذه.
ف وَال ّرقِيمِ
نعود إلى الية التي نحن بصددها فالحق سبحانه يقول } :أَمْ حَسِ ْبتَ أَنّ َأصْحَابَ ا ْل َك ْه ِ
عجَبا { [الكهف]9 :
كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا َ
عمّا قبله وتوجيه الهتمام إلى ما بعده ،كما في
} َأمْ { حرف من حروف العطف ،ويفيد الضراب َ
ت وَالنّورُ[} ..الرعد]16 :
عمَىا وَالْ َبصِيرُ أَمْ َهلْ تَسْ َتوِي الظُّلمَا ُ
قوله تعالىُ {:قلْ َهلْ يَسْ َتوِي الَ ْ
فالمراد :إنْ سألك كفار مكة عن مسألة أصحاب الكهف على أنها معضلة يريدون إحراجك بها،
عكَ من كلمهم ،ودَعْك من سوء نيتهم ،ول تحسب أن أهل الكهف هي العجيبة الوحيدة لدينا،
فد ْ
فالعجائب عندنا كثيرة ،وهذه واحدة منها.
و } ا ْل َك ْهفِ { :الفجوة في الجبل و } وَال ّرقِيمِ { الشيء المرقوم أي :المكتوب عليه كحجر أو نحوه،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولعله حجر كان على باب الكهف ُرقِم عليه أسماء هؤلء الفتية ،ومن ذلك قوله تعالى {:كِتَابٌ
مّ ْرقُومٌ }[المطففين ]9 :أي :مكتوب.
عجَبا { [الكهف ]9 :أي :ليست هذه هي العجيبة الوحيدة ،فكل آياتنا
وقوله } :كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا َ
عجيبة تستحق التأمل.
ثم تأخذ اليات في تفصيل هذه العجيبة ،فيقول تعالىِ } :إذْ َأوَى ا ْلفِتْيَةُ إِلَى ا ْل َك ْهفِ َفقَالُواْ رَبّنَآ ءَاتِنَا
حمَةً.{ ..
مِن لّدُنكَ َر ْ
()2133 /
{ َأوَى } من المأوى ،وهو المكان الذي يأوي إليه النسان ويلجأ إليه { ا ْلفِتْيَةُ } جمع فتى ،وهو
حمْل العباء والنهوض بكل أمر صعب،
الشاب في ُمقْتبل العمر ،والشباب هم َمعْقِد المال في َ
وهؤلء شباب مؤمن وقفوا يحملون راية عقيدتهم وإيمانهم أمام جبروت الكفر وطغيان الشرك،
فالفتاء فيهم فتاء إيمان وعقيدة.
لذلك لجأوا إلى الكهف مُخلّفين وراءهم أموالهم وأهلهم وكل ما يملكون ،وفرّوا بدينهم إلى هذا
المكان الضيق الخالي من أيّ مُقوّم من مُقوّمات الحياة؛ لنهم ل يشغلون أنفسهم بهذه المقوّمات،
بل يعلمون أن لهم ربا سيتولى أمرهم؛ لذلك ضَرَعُوا إليه قائلين:
حمَةً[ } ..الكهف ]10 :أي :رحمة من عندك ،أنت ترحم بها ما نحن فيه
{ رَبّنَآ ءَاتِنَا مِن لّدُنكَ رَ ْ
من انقطاع عن كل مُقوّمات الحياة ،فالرحمة في فجوة الجبل لن تكون من البشر ،الرحمن هنا ل
تكون إل من ال { :وَهَيّىءْ لَنَا مِنْ َأمْرِنَا رَشَدا } [الكهف ]10 :أي :يَسّر لنا طريقا سديدا للخير
وللحق.
إن هؤلء الفتية المؤمنين حينما ألجأهم الكفر إلى ضيق الكهف تضرّعوا واتجهوا إلى ربهم ،فهو
وحده القادر على أن يُوسّع عليهم هذا الضيق ،كما قال تعالى {:فََلوْل ِإذْ جَآءَهُمْ بَ ْأسُنَا َتضَرّعُواْ} ..
[النعام]43 :
عدَدا }.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :فضَرَبْنَا عَلَىا ءَاذَا ِن ِهمْ فِي ا ْل َكهْفِ سِنِينَ َ
()2134 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدَدًا ()11
َفضَرَبْنَا عَلَى آَذَا ِن ِهمْ فِي ا ْل َكهْفِ سِنِينَ َ
ُيقَال :ضُرِب الفسطاط على الرض يعني الخيمة ،أي :غُطّيتْ الرض بها بعد أنْ كانت فضاءً،
والضرب :أن تلمس شيئا بشيء بشدة شريطة أن يكون المضروب به أقوى من المضروب ،وإلّ
كان الضارب ضاربا لنفسه.
ف القَدَ ِر بنفْسِـكَ
ن صُنُو ِ
لذلك ،فالشاعر عندما تكلم عن المعترضين على القدر قال:أَيا هَازِئا مِ ْ
حجَر؟فمعنىَ { :فضَرَبْنَا
صخْرةً بِال َعصَا ضَر ْبتَ ال َعصَا َأمْ ضرَ ْبتَ ال َ
تُعنـف لَ بالقَـدَروَيَا ضَارِبا َ
عَلَىا آذَا ِنهِمْ[ } ..الكهف ]11 :أي :غطيناها بغطاء محكم يحجبهم عن العالم الخارجي ،والضرب
ل ويعمل
على آذانهم هو الرحمة التي دعوا ال بها وطلبوها؛ لن النسان الذي يحمل الفأس مث ً
ن تعب من
ن تعب من الوقوف قعد ،فإ ْ
بها إنْ تعب وأجهده العمل يقف بعض الوقت ليستريح ،فإ ْ
القعود استلقى واضطجع ،فإنْ لم يسترح فل يبقى إل أن ينام ،ففي النوم تهدأ العصاب ،ويستريح
النسان ،حتى مع اللم في أعنف المراض إذا نام المريض ل يشعر بشيء من اللم؛ لذلك
اختار لهم ربهم هذا الوضع ليريحهم به طوال فترة ُمكْثهم في الكهف.
فالحق سبحانه ـ إذن ـ هو الضارب ،والمضروب هو الذان ،والضرب على الذان هنا للرحمة
ل للعذاب؛ لن ال تعالى أراد لهم أقصى درجات الراحة والنوم الهادئ الذي ل يُعكّر صَفْوه
شيء ،والنوم هو الراحة التامة التي تطغى على اللم العضوية في الذات النسانية.
ل في
وقد أختار الحق سبحانه الضرب على آذانهم؛ لن حاسة السمع هي أول الحواس عم ً
النسان ،وهي أول آلة إدراك تُؤدّي مهمتها في الطفل ،كما قال الحق سبحانه وتعالى {:وَاللّهُ
شكُرُونَ }
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ تَ ْ
سمْعَ وَالَ ْبصَا َر وَا َ
ج َعلَ َل ُكمُ الْ ّ
جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
أَخْ َر َ
[النحل]78 :
هذه الحواس هي منافذ العلم والدراك للنسان ،فلو وضعتَ أصبعك أمام عين الطفل المولود تراه
ل يرمش؛ لنه ل يرى إل بعد ثلثة إلى عشرة أيام ،أما لو صرختَ في أُذنه فإنه ينتبه فحاسة
السمع تؤدي مهمتها منذ ولدته .وكذلك فالذن تمتاز أيضا بأنها الدراك الوحيد الذي ل يتعطل
ول يتوقف أثناء النوم لن بها يتم الستدعاء من النوم.
وهؤلء الفتية دخلوا وَأ َووْا إلى الكهف ،وهو فَجْوة في جبل في صحراء وهي عُرْضة للعواصف
والرياح وأصوات الحيوانات وأشياء كثيرة يمكن أن تزعج النائم ،فلو تركهم الخالق سبحانه في
نومهم هذا على طبيعتهم لزعجتهم هذه الصوات وأقلقتْ راحتهم؛ لذلك عطّل حاسة السمع
عندهم ،وبذلك استطاعوا أن يناموا كل هذه المدة.
عدَدا } [الكهف ]11 :ومعنى عددا أي :سنين كثيرة؛ لن القليل
ثم يقول تعالى { :فِي ا ْل َك ْهفِ سِنِينَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل ُي َعدّ لنه معروف ،فإنْ ذكر العدّ فاعلم أنه للشيء الكثير ،كما تقول :فلن عنده مليون عَدّا
ونقدا.
حصَىا ِلمَا لَبِثُواْ َأمَدا }.
ثم يقول الحق سبحانهُ { :ثمّ َبعَثْنَا ُهمْ لِ َنعْلَمَ َأيّ الحِزْبَيْنِ َأ ْ
()2135 /
{ َبعَثْنَا ُهمْ } أي :أيقظناهم من نومهم الطويل ،وما داموا قد ناموا فالمر إذن ليس موتا إل أنهم لما
طالتْ مدة نومهم شبّهها بالموت { :لِ َنعْلَمَ َأيّ الحِزْبَيْنِ[ } ..الكهف ]12 :أي :الفريقين منهم؛ لنهم
سأل بعضهم بعضا عن مُدّة لُبْثهم فقالوا :يوما أو بعض يوم.
حصَىا ِلمَا لَبِثُواْ َأمَدا }
أو :المراد الفريقان من الناس الذين اختلفوا في تحديد مدة نومهم { :أَ ْ
[الكهف ]12 :أي :لنرى أيّ الفريقين سيُقدّر مُدّتهم تقديرا صائبا .والمد :هو المدة وعدد السنين.
والمتأمل في اليات السابقة يجد فيها ملخصا للقصة وموجزا لها ،وكأنها برقية سريعة بما حدث،
فأهل الكهف فتية مؤمنون فروا بدينهم إلى كهف من الكهوف ،وضرب ال على آذانهم فناموا مدة
طويلة ،ثم بعثهم ال ليعلم مَنْ يحصي مدة نومهم ،وهذه البرقية بالطبع لم تُعطِنَا تفصيلً لكل
لقطات القصة؛ لذلك تبدأ اليات في التفصيل فيقول تعالىَ { :نحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ نبََأهُم بِا ْلحَقّ.} ..
()2136 /
حقّ إِ ّنهُمْ فِتْ َيةٌ َآمَنُوا بِرَ ّبهِ ْم وَ ِزدْنَاهُمْ هُدًى ()13
نَحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ نَبَأَ ُهمْ بِالْ َ
{ َنحْنُ } أي :الحق سبحانه وتعالى ،فهو الذي يقصّ ما حدث بالحق ،فلو أن القاصّ غير ال لتُوقّع
منه الخطأ أو النسيان ،أو ترك شيء من الحداث ِلهَوىً في نفسه ،إنما إنْ جاءك القصص من ال
صصِ[} ..يوسف]3 :
حسَنَ ا ْل َق َ
فهو الحق ،كما قال في آية أخرى {:نَحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ أَ ْ
إذن :هناك قصَص ليس بالحسن ،وهو ال َقصَص غير الدقيق.
صصُ القرآني يضمن لك منتهى الدقة في عرض الحداث ،ويُصوّر لك كل اللقطات ،وكلمة
فالق َ
قصة أو َقصَص تدلّ على دقة التتبع؛ لنها من قصّ الثر أي :تتبّعه وكان لهذه المهمة رجال
معروفون بقصّاصي الثر ،وهم الذين يتتبعون الواقع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و { نبَأَهُم } النبأ :هو الخبر العظيم.
ثم يقول تبارك وتعالى { :إِ ّنهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَ ّبهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[ } ..الكهف]13 :
هذا هو تفصيل القصة بعد أنْ لخّصها القرآن في المذكرة والبرقية السابقة ،وكأن الحق سبحانه
صتْ بغير الحق ،وغُيّر فيها ،لكن َقصّنا
يقول لرسوله :لقد ذكر ناسٌ هذه القصة من قبل ،لكنها ُق ّ
لها هو ال َقصَص الحق الذي ل كذبَ فيه.
حوْا من أجلها ،فلما آمنوا بال تولّهم
فحقيقة هؤلء أنهم فتية آمنوا بال ،وهذه قضيتهم التي ضَ ّ
ونوّر بصائرهم وربط على قلوبهم ،وزادهم إيمانا ،كما قال في آية أخرى {:وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ
هُدًى وَءَاتٰهم َت ْقوَاهُمْ }[محمد]17 :
وما أشبه هذه المسألة بالمعلّم الذي يلمح أمارات النجابة والذكاء على أحد تلميذه ،ويراه مُجيبا
حريصا على العلم فيُولِيه اهتمامه ويمنحه المزيد من المعلومات.
حوْا بكلّ شيء وفرّوا بدينهم ما زالوا في مرحلة الشباب،
ونلحظ هنا أن هؤلء المؤمنين الذين ضَ ّ
صغَرهم
وهو مظنّة النشغال بالدنيا والحِرْص على مُتعها ،أما هؤلء فقد انشغلوا بدينهم منذ ِ
ليكونوا قدْوة ومثَلً للشباب المؤمن في كل زمان ومكان ،فالفتاء في أهل الكهف :فتاء إيمان و فتاء
عقيدة.
والحق سبحانه يقول { :وَرَبَطْنَا عَلَىا قُلُو ِبهِمْ ِإذْ قَامُواْ َفقَالُواْ رَبّنَا.} ...
()2137 /
والربط يعني أن تربط على الشيء وتشدّ عليه لتحفظ ما فيه ،كما تربط القِرْبة حتى ل يسيل الماء،
وتربط الدابة حتى ل تنفلت ،وقد وردتْ مادة (ربط) في القرآن كثيرا ،منها قوله تعالى في قصة
أم موسى {:وََأصْبَحَ ُفؤَادُ ُأمّ مُوسَىا فَارِغا إِن كَا َدتْ لَتُ ْبدِي بِهِ َلوْل أَن رّبَطْنَا عَلَىا قَلْ ِبهَا} ..
[القصص]10 :
أي :ربط على ما في قلبها من اليمان بال الذي أوحى إليها أن تُ ْلقِيَ بولدها في الماء ،ولول أنْ
ربط ال على قلبها وثبّتها لنطلقتْ خلف ولدها تصرخ وتنتحب وتُلفِت إليه النظار {:كَا َدتْ لَتُبْدِي
بِهِ َلوْل[} ..القصص]10 :
خطّة التي أمرها ال بها لنجاة موسى عليه السلم ،وهكذا اطمأن قلب أم موسى،
أي :تكشف عن ال ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل النفعالت ،بدليل
وأصبح فؤادها فارغا ـ أي :من النفعالت الضارة ،ومعلوم أن القلب هو مح ّ
ما يحدث فيه من اضطراب وزيادة ضربات وتدفّق للدم عند الغضب مثلً.
ول يُسمّى القلب فؤادا إل إذا توقّد بالمشاعر وتحرك بها ،وربط ال على قلب أم موسى أحدث لها
ضَبْطا للشعور يحكم تصرفاتها فتأتي سليمة مُتمشّية مع الخطة المرادة.
ومن هنا نأمر الغاضب الذي تغلي الدماء في عروقه بالهدوء وضبط النفس؛ لن الهدوء سيعينه
على الحق ،ويُلجم جماح غضبه الذي ل تُحمد عُقباه ،أل ترى التوجيه النبوي في حال الغضب؟
إنه ينصح بتغيير الوضع الذي أنت عليه؛ لن هذه العملية تحدث لديك نزوعية ،تصرف عنك
الغضب.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى {:وََأفْئِدَ ُتهُمْ َهوَآءٌ[} ..إبراهيم]43 :
أي :فارغة خالية ليس فيها شيء؛ لن الشيء إذا فرغته من محتواه امتل بالهواء .وهنا يقول
الحق سبحانه في أهل الكهف { :وَرَبَطْنَا عَلَىا قُلُو ِبهِمْ[ } ..الكهف ]14 :لتظل بداخلها العقيدة
واليمان بال ل تتزعزع ول تُخرِجها الحداث والشدائد ،وهذا من زيادة الهدى الذي أَخبرتْ به
الية السابقة.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ } ..الكهف]14 :
وقوله تعالى { :إِذْ قَامُواْ َفقَالُواْ رَبّنَا َربّ ال ّ
قاموا :القيام هنا دليل على مواجهتهم للباطل ووقوفهم في وجهه ،وأن الباطل أفزعهم فهّبوا
ت وَالَرْضِ[ } ..الكهف ]14 :ول بُدّ أنهم سمعوا كلما
سمَاوَا ِ
للتصدّي له بقولهم { :رَبّنَا َربّ ال ّ
يناقض قولهم ،وتعرّضوا في دعوتهم للحرب والضطهاد ،فالية تعطي صورة لفريقين :فريق
سمَاوَاتِ
الكفر الذي ينكر وجود ال أو يشرك به ،وفريق اليمان الذي يُعلنها مُدوّية { :رَبّنَا َربّ ال ّ
وَالَرْضِ[ } ..الكهف]14 :
عوَاْ مِن
وإنْ كان فريق الكفر يدعو إلى عبادة آلهة من دون ال فإن فريق اليمان يقول { :لَن نّدْ ُ
دُونِهِ إِلـاها } [الكهف ]14 :فإن ادّعَيْنَا إلها من دون ال { ّلقَدْ قُلْنَا إِذا شَطَطا } [الكهف ]14 :أي:
فقد تجاوزنا الحدّ ،و َبعُدْنا عن الصواب.
خذُواْ مِن دُونِهِ ءَاِلهَةً.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :هَـاؤُلءِ َق ْومُنَا اتّ َ
()2138 /
خذُوا مِنْ دُونِهِ آَِلهَةً َلوْلَا يَأْتُونَ عَلَ ْيهِمْ ِبسُلْطَانٍ بَيّنٍ َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ
َهؤُلَاءِ َق ْومُنَا اتّ َ
كَذِبًا ()15
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يخبر أهل الكهف الفتية المؤمنون عن قومهم أنهم اتخذوا من دون ال آلهة متعددة ،دون أن
يكون لهم دليل أو حُجّة واضحة على صِدْق ما ذهبوا إليه من عبادة هذه اللهة.
ن نفتريَ على ال
{ َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا } [الكهف ]15 :فأفظع الظلم وأقبحه أ ْ
عظِيمٌ }[لقمان]13 :
الكذب ،كما قال تعالى {:إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَِإذِ اعْتَزَلْ ُتمُوهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ ِإلّ اللّهَ.} ...
()2139 /
هذا حديث الفتية بعضهم إلى بعض :ما ُدمْنا اعتزلنا أهل الكفر ،ونأينا عن طريقهم ،وسلكنا مسلكَ
اليمان بال الذي يسّره ال لنا ،فهيا بنا إلى الكهف نلجأ إليه ونحتمي فيه فرارا بديننا ،ومخافة أن
يفتننا القوم عن ديننا.
ويلفتنا هنا إلى فرار هؤلء الفتية ليس إلى بلد آخر فيه مُتّسع للحياة ،بل إلى كهف ضيق في جبل
في صحراء ،وليس به مُقوّم من مُقوّمات الحياة؛ لذلك ينبهنا الحق سبحانه :إياك أن تقول :إن
الكهف ضيق ،وكيف يعيشون فيه؟ لنهم مهاجرون إلى ال لجئون إليه مُتوكّلون عليه.
لذلك قال بعدها { :يَ ْنشُرْ َلكُمْ } [الكهف ]16 :فالضيق يقابلُه البَسْط والسّعة ،لقد قالوا هذه الكلمة
وهم واثقون في رحمة ال معتقدون أن الذي هاجروا إليه لن يُسلمهم ولن يخذلهم ،وسوف يُوسّع
عليهم برحمته هذا الضيق ،وقد وَسّعه ال عليهم فعلً حين أنامهمَ ،ألَ ترى النائم يربع في الدنيا
هنا وهناك ول تحدّه حدود؟
ومن هذه السعة ما حدث في قصة نبي ال موسى ـ عليه وعلى نبينا الصلة والسلم ـ حينما
تبعه فرعون بجنود حتى قال أتباعه {:إِنّا َلمُدْ َركُونَ[} ..الشعراء ،]61 :فقد ضاق عليهم الخناق
حيث البحر من أمامهم ،والعدو من خلفهم ،ول مهربَ لهم فيما يرون من واقع المر .فماذا قال
موسى لقومه في هذا الموقف؟ قال بملء فيه قوْلَة الواثق من نصر ال {:كَلّ إِنّ َم ِعيَ رَبّي
سَ َيهْدِينِ }[الشعراء]62 :
فجاءه التأييد من ربه في التوّ واللحظة ،وفُرّج عنه وعن أصحابه ما يُلَقون من ضيق المخرج،
فأوحى ال إليه {:اضْرِب ّب َعصَاكَ الْ َبحْرَ }[الشعراء]63 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَتِهِ[ } ..الكهف]16 :
كذلك هنا { :يَنْشُرْ َلكُمْ رَ ّبكُم مّن رّ ْ
ثم يقول تعالى { :وَ ُيهَ ّيئْ َلكُمْ مّنْ َأمْ ِركُمْ مّ ْرفَقا } [الكهف ]16 :والمراد بالمرفق جمع مرافق ،وهي
مُقوّمات الحياة التي ل يستغني عنها النسان ،فلما أنامهم ال أغناهم عن مرافق الحياة ،لنهم إنْ
ظلوا في حال اليقظة فل بُدّ أنْ يحتاجوا إلى هذه المرافق.
ن وَإِذَا غَرَبَت
شمْسَ إِذَا طََلعَت تّزَاوَرُ عَن َك ْهفِهِمْ ذَاتَ الْ َيمِي ِ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَتَرَى ال ّ
شمَالِ.} ...
ضهُمْ ذَاتَ ال ّ
ّتقْرِ ُ
()2140 /
بعد أنْ ضرب ال على آذانهم فعصمهم من الصوات التي تُزعجهم وتُقلِق نومهم عصمهم أيضا
من ضوء الشمس ،وقد أثبتت البحاث خطر الشعة خاصة على النائم ،وأن للظّلمة مهمةً ،فبها
تهدأ العصاب وترتاح العضاء ،والشمس خَلْق من خَلْق ال ،لها مَدارٌ ثابت وقانون ل يتخلّف،
كما قال تعالىُ {:كلّ فِي فََلكٍ يَسْبَحُونَ }[النبياء]33 :
ولكن الخالق سبحانه وتعالى خرق لهم نظام الشمس حتى ل يزعجهم ضوؤها فجعلها { تّزَاوَرُ }
أي :تميل عند طلوعها عن الكهف ،ومنه الزّور :أي الميل عن الحق ،وازورّ عن الشيء أي :مال
عنه ،فكانت الشمس إذا طلعتْ تميل عن الكهف جهة اليمين.
شمَالِ } [الكهف ]17 :والقرْض ـ كما هو معلوم ـ أنْ تعطي
ضهُمْ ذَاتَ ال ّ
{ وَإِذَا غَرَبَت ّتقْرِ ُ
غيرك شيئا يحتاج إليه ،فكأن الشمس تقرضهم وتسلفهم ،كونها ل تدخل عليهم عند غروبها ،وهذا
شكّ أن هذه العملية مظهرٌ من مظاهر قدرة ال التي
أمر ليس من حقهم ،فكأنها تقرضهم إياه .ول َ
تصنع الشيء وضده.
ونلحظ أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ جعل الفعل للشمس في تزاور وتقرضهم ،وكأنها تفعل ذلك
من نفسها بعد أنْ ضبط ال تعالى حركتها على هذه الفعال كما تضبط اللة اليوم.
ج َوةٍ مّ ْنهُ } [الكهف ]17 :أي :في الكهف { ذاِلكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ } [الكهف]17 :
وقوله { :وَهُمْ فِي َف ْ
وما دامت هذه الفعال للشمس آيةً من آيات ال ،ومعجزة من معجزاته تعالى ،فإياك أنْ تعترضَ:
كيف تميل الشمس؟ وكيف تُغيّر اتجاهها؟ لن الخالق سبحانه خلق الخَلْق ،وأعطى لكل مخلوق
ن يفعل بقانونه ما يريد ،بل له سبحانه
قانونه الذي يسير به ،ومع ذلك لم يترك لكل مخلوق أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتعالى قيّومية على القانون ،تبطله إنْ شاء ،وتحركه إنْ شاء.
ثم يقول تعالى { :مَن َي ْهدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِ َومَن ُيضِْللْ فَلَن َتجِدَ َل ُه وَلِيّا مّرْشِدا } [الكهف]17 :
فقضية الهداية والضلل قائمة من قديم ،ول تزال ذيول هذه المعركة موجودة إلى الن ،فهناك
دائما من يقول :إذا كان ال هو الهادي وال ُمضِل ،فلماذا يعذبني إن ضللت؟
وشاع هذا السؤال وأخذه المستشرقون والفلسفة ،ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير
الملتزمة ،ونقول لكل مجادل :لماذا قصرت العتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت؟
ولماذا لم تذكر الثواب إن أحسنت وآمنت؟ إن اقتصارك على الولى دون الثانية دليل على أن
الهداية التي جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر ،ول يقول ذلك إل
المسرفون على أنفسهم.
والهداية نوعان :هداية دللة ،وهي للجميع ،للمؤمن والكافر؛ لن الحق سبحانه لم يدل المؤمن
فقط ،بل يدل المؤمن والكافر على اليمان به ،فمن يُقبل على اليمان به ،فإن الحق تبارك وتعالى
يجد فيه أهلً للمعونة ،فيأخذ بيده ويعينه ،ويجعل اليمان خفيفا على قلبه ،ويعطي له طاقة لفعل
الخير ،ويشرح له صدره وييسر له أمره.
فمن شاء الحق سبحانه هدايته أعطاه الهداية ،ومن شاء له الضلل زاده ضللً ،وقد بيّن أن من
شاء هدايته يهتدي ،وهذه معونة من ال ،والكافر ل يهتدي ،وكذلك الظالم والفاسق ،لنه سبحانه قد
ترك كل واحد منهم لختياره ،وهكذا يمنع الحق سبحانه عنهم هداية المعونة.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَ َتحْسَ ُبهُمْ أَ ْيقَاظا وَهُمْ ُرقُودٌ.} ...
()2141 /
أي :لو أتيح لك النظر إليهم لخُيّل إليك أنهم أيقاظٌ غير نائمين ذلك لن ربهم سبحانه حفظهم على
حال اليقظة وعلى هيئتها ،ثم أظهر فيهم آية أخرى من العجاز بأنْ يُقلّبهم في نومهم مرة ناحية
اليمين ،وأخرى ناحية الشمال ،لتظلّ أجسامهم على حالها ،ول تأكلها الرض.
ومعلوم أن النسان إذا قُدّر له أنْ ينام فترة طويلة على سرير المرض ُيصَاب بمرض آخر
يُسمّونه قرحة الفراش ،نتيجة لنومه المستمر على جانب واحد ـ عافانا ال وإياكم ـ وقد جعل
لهم هذا التقليب ذات اليمين وذات الشمال على هيئة اليقاظ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سطٌ ذِرَاعَيْهِ بِال َوصِيدِ } [الكهف ]18 :ويبدو أنهم كانوا من الرعاة ،فتبعهم كلبهم
وقولهَ { :وكَلْ ُبهُمْ بَا ِ
علَ ْيهِمْ َلوَلّ ْيتَ مِ ْنهُمْ فِرَارا وََلمُلِ ْئتَ مِ ْنهُمْ
وجلس مَادّا ذراعيْه بفناء الكهف أو على بابه { َلوِ اطَّل ْعتَ َ
رُعْبا } [الكهف ]18 :فقد ألقى ال مهابتهم والخوف منهم في نفوس الناس ،فإذا ما اطلع عليهم
إنسان خاف ووَلّى هاربا يملؤه الرعب؛ لن هيئتهم تُوحي بذلك ،حيث يتقلّبُون يمينا وشمالً ،ومع
ذلك ل يصحُو منهم أحد ،ول يقوم منهم أحد طوال هذه المدة.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وكَذاِلكَ َبعَثْنَاهُمْ لِيَ َتسَآءَلُوا بَيْ َنهُمْ قَالَ قَا ِئلٌ مّ ْنهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما َأوْ
َب ْعضَ َي ْومٍ} ...
()2142 /
َوكَذَِلكَ َبعَثْنَاهُمْ لِيَ َتسَاءَلُوا بَيْ َنهُمْ قَالَ قَا ِئلٌ مِ ْنهُمْ َكمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالُوا رَ ّبكُمْ أَعْلَمُ
طعَامًا فَلْيَأْ ِتكُمْ بِرِ ْزقٍ مِنْهُ
ِبمَا لَبِثْتُمْ فَا ْبعَثُوا َأحَ َدكُمْ ِبوَ ِر ِقكُمْ هَ ِذهِ إِلَى ا ْل َمدِينَةِ فَلْيَ ْنظُرْ أَ ّيهَا أَ ْزكَى َ
شعِرَنّ ِبكُمْ أَحَدًا ()19
ف وَلَا يُ ْ
ط ْ
وَلْيَتَلَ ّ
قولهَ { :بعَثْنَا ُهمْ } أي :أيقظناهم من نومهم؛ لن نومهم الطويل الذي استغرق ثلثمائة سنة وتِسْعا
أشبه الموت ،فقال { َبعَثْنَاهُمْ } ،والب ْعثُ هنا لقضية خاصة بهم ،وهي أنْ يسأل بعضهم بعضا عن
مُدّة لُبْثهم في الكهف ،وقد انقسموا في سؤالهم هذا إلى فريقين الفريق الول { :قَالَ قَا ِئلٌ مّ ْنهُمْ كَم
لَبِثْتُمْ[ } ..الكهف]19 :
فَردّ الفريق الخر بما تقضيه طبيعة النسان في النوم العادي فقال { :قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما َأوْ َب ْعضَ
َيوْمٍ[ } ..الكهف ]19 :فالنسان ل يستطيع تقدير مدّة نومه بالضبط ،لكن المعتاد في النوم أن يكون
كذلك يوما أو بعض يوم.
وقد أخذ العلماء من هذا القول أنهم حين تساءلوا هذا السؤال لم يجدوا في ذواتهم شيئا يدلّ على
مرور زمن طويل ،حيث وجدوا أنفسهم على الحال التي ناموا عليها ،فلم يتغير مثلً حالهم من
الشباب إلى الشيخوخة ،ولم يتغير شعرهم مثلً إلى البياض؛ لذلك قالوا :لبثنا يوما أو بعض يوم،
ولو وجدوا أنفسهم شيبا لقدّروا الزمن المناسب لهذا الشيب.
وهذه وقفة المشدوه حين يُسْأل عن زمن ل يدري مُدته ،إنه طويل عند ال إنما قصير عنده ،وهذا
كقوله تعالى في سورة البقرة {:قَالَ كَمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالَ بَل لّبِ ْثتَ مِاْئَةَ عَامٍ
جعََلكَ ءَايَةً لِلنّاسِ[} ..البقرة]259 :
ك وَلِنَ ْ
حمَا ِر َ
طعَا ِمكَ وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَ َتسَنّ ْه وَانْظُرْ إِلَىا ِ
فَانْظُرْ إِلَىا َ
لقد حكم على مُدّة لُبْثه بيوم أو بعض يوم؛ لنه وجد نفسه على الحال التي عهدها لم يتغير منه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيء ،فكيف يتأتّى الصدق من الحق سبحانه في قوله (مائة عام) والصدق في قول العُزَيْر بيوم أو
بعض يوم؟
ل شكّ أننا أمام آية من آيات الخالق سبحانه ،ومعجزة من معجزاته ل يقدر عليها إل المالك
للزمان والمكان ،القابض للزمان ليوم أو بعض يوم ،الباسط له إلى مائة عام.
لذلك أظهر الخالق سبحانه في هذه المعجزة الدليل على صدق القولين :ففي طعام العُزَير الذي ظلّ
على حاله طازجا لم يتغير دليل على يوم أو بعض يوم ،وفي حماره الذي رآه عظاما بالية دليل
على المائة عام ،فسبحان الذي يجمع الشيء وضده في آن واحد.
ثم يقول تعالى حكاية عنهم { :قَالُواْ رَ ّبكُمْ أَعَْلمُ ِبمَا لَبِثْتُمْ[ } ..الكهف ]19 :وهو َقوْل الجماعة الذين
أرادوا إنهاء الخلف في هذه المسألة ،فقالوا لخوانهم :دعونا من هذه القضية التي ل تفيد،
ن ننقلَ الجدل من شيء ل ننتهي فيه إلى
واتركوا أمرها ل تعالى .ودائما يأمرنا الحق سبحانه بأ ْ
ح َدكُمْ ِبوَ ِر ِقكُمْ هَـا ِذهِ إِلَىا ا ْلمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ
شيء ،ونُحوله للمر المثمر النافع؛ لذلك قالوا { :فَا ْبعَثُواْ أَ َ
شعِرَنّ ِب ُكمْ أَحَدا } [الكهف]19 :
طفْ وَلَ يُ ْ
طعَاما فَلْيَأْ ِتكُمْ بِرِ ْزقٍ مّنْ ُه وَلْيَتََل ّ
أَ ّيهَآ أَ ْزكَىا َ
والوَرِق يعني العملة من الفضة ،فأرادوا أنْ يرسلوا أحدهم بما معهم من النقود ليشتري لهم من
المدينة طعاما؛ لنهم بمجرد أن استيقظوا انتهت حالتهم الستثنائية ،وعادوا إلى طبيعتهم؛ لذلك
طلبوا الطعام ،لكن نلحظ هنا أن الجوع لم يحملهم على طلب مطلق الطعام ،بل تراهم حريصين
على تزكية طعامهم واختيار أَطيبه وأَطْهره ،وأبعده عن الحرام.
وكذلك لم َيفُتْهم أنْ يكونوا على حذر من قومهمَ ،فمْن سيذهب منهم إلى هذه المهمة عليه أن يدخل
المدينة خِلْسة ،وأن يتلطف في المر حتى ل يشعر به أحد من القوم ،ذلك لنهم استيقظوا على
الحالة التي ناموا عليها ،وما زالوا على حَذَر من قومهم يظنون أنهم يتتبعونهم ويبحثون عنهم،
ويس َعوْن للقضاء عليهم.
جمُوكُمْ َأوْ ُيعِيدُوكُمْ.{ ...
علَ ْيكُمْ يَرْ ُ
ظهَرُواْ َ
ثم يقول الحق سبحانه } :إِ ّنهُمْ إِن َي ْ
()2143 /
جمُوكُمْ َأوْ ُيعِيدُوكُمْ فِي مِلّ ِتهِ ْم وَلَنْ ُتفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ()20
ظهَرُوا عَلَ ْيكُمْ يَ ْر ُ
إِ ّنهُمْ إِنْ َي ْ
وهذا احتياط منهم للدين ،وحماية للعقيدة التي فَرّوا بها .فإن يرجموكم فسينتصرون عليكم في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الدنيا ،إنما ستأخذون الخرة ،وإن ردوكم إلى دينهم ،فلن تفلحوا في الدنيا ول في الخرة.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وكَذاِلكَ أَعْثَرْنَا عَلَ ْيهِمْ لِ َيعَْلمُواْ.} ..
()2144 /
عدَ اللّهِ حَقّ وَأَنّ السّاعَةَ لَا رَ ْيبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْ َنهُمْ َأمْرَهُمْ
ن وَ ْ
َوكَذَِلكَ أَعْثَرْنَا عَلَ ْيهِمْ لِ َيعَْلمُوا أَ ّ
سجِدًا ()21
َفقَالُوا ابْنُوا عَلَ ْيهِمْ بُنْيَانًا رَ ّبهُمْ أَعَْلمُ ِبهِمْ قَالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلَى َأمْرِهِمْ لَنَتّخِذَنّ عَلَ ْيهِمْ مَ ْ
()2145 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا