Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

البناية رقم 7
البناية رقم 7
البناية رقم 7
Ebook654 pages4 hours

البناية رقم 7

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

"البناية رقم سبعة" هي رواية مشوقة للكاتب مصطفى عوض تأخذنا في رحلة مثيرة إلى عالم مليء بالغموض والتشويق. تبدأ القصة بشخصية ماري، التي تجد نفسها متعلقة بشدة بهذا المكان، وذلك بعد احتفالها بعيد ميلادها الرابع والعشرين.

تستيقظ ماري صباح اليوم الأول من العام الجديد مبكرًا، معانية من الأرق وليلة غريبة حيث تعتاد عادةً على النوم العميق. تقرر ماري مغادرة المنزل وتشرع في استكشاف البناية رقم سبعة التي تسكن فيها، والتي تحمل الكثير من الأسرار والغموض.

تقودنا رواية مصطفى عوض ببراعة إلى الداخل المظلم للبناية، حيث تختبئ الغرف المغلقة والأشياء الغامضة التي تحتفظ بها أم ماري. تكتشف ماري تفاصيل مثيرة عن علاقة والدها بكبار الموظفين والتجار وحتى أعوان الجمارك، وتشتعل بداخلها رغبة في كشف الحقيقة وراء هذه العلاقات المشبوهة.ة 

مع تقدم الرواية، تتصاعد التوترات والمفاجآت، وتتلاحق الأحداث المليئة بالتشويق والإثارة. تجد ماري نفسها محاصرة في شبكة من المؤامرات والخيوط المشدودة، وعليها أن تكشف الألغاز وتواجه الأخطار للكشف عن الحقيقة المرعبة التي تكمن وراء البناية رقم سبعة.

"البناية رقم سبعة" هي رواية تجمع بين أجواء الرعب والغموض، مع قصة مثيرة وشخصيات معقدة. تأسرنا صفحات الرواية وتدفعنا للمضي قدمًا في رحلة استكشاف الحقيقة ومواجهة المخاطر. إنها رواية تثير الفضول وتشد الانتباه، وستبقى محيرة حتى الصفحة الأخيرة.

Languageالعربية
Release dateAug 22, 2023
ISBN9798223752943
البناية رقم 7
Author

مصطفى عوض

Name: Mustafa Awad Nationality: Egyptian, residing in Tunisia Mustafa Awad is a highly talented and acclaimed writer known for his creative works in different genres. He has made a significant contribution to the literary world with his thought-provoking stories and captivating narratives. Born in Egypt and currently residing in Tunisia, Awad has successfully captured the hearts of readers across different countries and cultures. Some of his notable works include "Portrait" (a collection of short stories) published by Tanweer Publishing and Distribution, Egypt, and "The Long Life of Simon Jad El Rab" (a collection of short stories) published by Ajnaha Publishing and Distribution, Algeria. His novel "Alif Lam Ra" was published by Zaynab Publishing and Distribution, Tunisia, and gained wide acclaim for its engaging storytelling and unique perspective. In addition to his published works, Mustafa Awad has upcoming projects in the pipeline. His novel "The Elephant Cemetery" and his collection of short stories "I Will Surprise You with My Departure Tonight" are currently in the printing process. He is also working on a collection of very short Arabic stories titled "I am the Highest". With his exceptional storytelling abilities and diverse range of works, Mustafa Awad continues to leave a lasting impact on the literary scene. His writings explore various themes and offer insights into the human condition, captivating readers with his imaginative narratives and unique literary style.

Read more from مصطفى عوض

Related to البناية رقم 7

Related ebooks

Reviews for البناية رقم 7

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    البناية رقم 7 - مصطفى عوض

    (1)

    ماري...

    مؤخراً، صرت شديدة الالتصاق بهذا المكان، تحديداً بعد عيد ميلادي الرابع والعشرين. استيقظت صبيحة اليوم الأول من عامي الجديد مبكراً جداً، بعد صراعٍ طويلٍ مع الأرق، كانت ليلةً غريبةً عليَّ؛ أنا التي اعتدت النوم بعمقٍ دائماً، أخلع كل مشاكلي..خططي وأفكاري، مع ملابسي قبل أن أستلقي على الفراش.. أشرب كوبين كبيرين من حليبٍ دافئ، أقرأ كتاباً على أنغام موسيقى هادئة، وسرعان ما أغط في نومٍ لا يقطعه حتى انطباق السماء على الأرض:

    - نومك ثقيل..، تقول أمي دائماً، مازحةً أحياناً، وغاضبةً أحايين كثيرة، حين يكون علي أن أستيقظ مبكراً لأساعدها في إعداد المنزل في المناسبات والأعياد وأيام العطل، والولائم التي لا تنتهي، فأبي رجل أعمال، وتربطه علاقاتٌ وطيدةٌ بكبار الموظفين والتجار، وأفراد الشرطة، وحتى أعوان الجمارك، وعمال الموانئ، وبعض الذين اشتهروا بسيرتهم السيئة، وإن لم يثبت عليهم أياً من هذه الاتهامات.

    فتحت الشباك بعد أن تلفعت بشالٍ صوفيٍ، فتسلل ضوءٌ خفيفٌ بدد ظلام الغرفة الدامس، مع هواءٍ شديد البرودة، فسارعت بغلقه، واتجهت إلى الحمام، غسلت وجهي بماءٍ فاترٍ وعدت لغرفتي، ارتديت ملابس الخروج مدفوعةً برغبةٍ لم أفهمها في مغادرة المنزل الذي كان ساكناً حين تسللت على أطراف أصابعي، في تلك الساعة المبكرة جداً من اليوم الأول من شهر يناير، والساعات الأولى من عامي الجديد..

    الغرف مغلقةٌ، والنوم سيد الأشياء، من آخر نقطةٍ في الرواق الضيق المؤدي إلى المطبخ، والغرفة التي تحتفظ بها أمي بأشياء غريبة لا يعرف قيمتها الكبرى إلاّها، كالأجهزة الإلكترونية المنتهية الصلاحية، والأدوات المنزلية المهشمة، وبعض الملابس القديمة، والكتب، والمجلات، وقصاصات جرائد لأخبارٍ كانت مهمةً وقت نشرها وصارت مع الوقت بلا نفع، كان ينطلق شخير (ماتيلدا) - الخادمة العجوز - المزعج جداً، فبدت مع هذا الجو البارد المشبع بمتخيلات الرعب كأنفاس وحشٍ أسطوريٍ يحرس الغرفة من الفضوليين. سرت في الشوارع على غير هدى- أو هكذا ظننت - بعد أن أحكمت غلق معطفي الأسود الثقيل الذي يمتد طوله إلى ما بعد منتصف الركبة، وتأكدت من استواء القبعة الصوفية على رأسي حتى لا تعصف بها رياحٌ عابرة، ووضعت طرف الشال على فمي وأنفي اتقاءً لنزلةٍ رئويةٍ قد تصيبني جراء هذا الهواء المتجمد، نقلت قدمي بحرصٍ بين برك ماءٍ صغيرةٍ خلفتها نوبة شتاءٍ متقطعٍ ليلة أمس، وتلطخ طرف سروالي الطويل ببقعٍ متناثرةٍ من الطين، تأملت المدينة التي تنهض من نعاسها في هذا الوقت المبكر.

    كانت بعض المحلات تتثاءب، يرفع أصحابها أبوابها المصنوعة من صاجٍ ثقيلٍ مطليٍ بالزنك كي لا يصيبها الصدأ، فيحدث احتكاكها صريرا مزعجاً بينما تلتف حول نفسها صاعدة لأعلى؛ صريراً يبدد سكون الصباح الناعس، وكانت المركبات القليلة - معظمها سيارات أجرة - تتهادى كأنها لم تنفض النوم عنها بعد، ثمة بعض القطط تتمطى محلقةً حول حاوية قمامةٍ قبل أن تموء منزعجةً، وتجري بأقصى سرعتها حين هاجمها فجأةً كلبٌ أجرب وتختفي في زقاقٍ جانبي، رغم دهشتي من وجودي خارج المنزل في هذا الوقت والطقس، أكملت طريقي إلى ما قبل منتصف الشارع الرئيسي بقليل، ثم انعطفت يميناً إلى شارعٍ جانبي، مشيت عدة خطواتٍ، ثم انعطفت يساراً، فيميناً، ثم يساراً مرةً أخرى، عبر أزقةٍ تلتف حول نفسها كثعبانٍ أسطوري، كنت كمن يتبع خريطةً مرسومةً بدقةٍ إلى مكانٍ محددٍ سلفاً!

    في مدخل شارعٍ جانبيٍ متوسط الاتساع، توقفت، سرتُ ببطءٍ وأنا أجول ببصري متأملةً معالم المكان، كانت أرضية الشارع مرصوفةً بالحجارة،  من ذاك النوع ذو الطراز العتيق، البيوت مبنيةٌ أيضاً على الطراز العتيق، ومتفاوتة الارتفاع، مع الهدوء المخيم، رن كعب حذائي، فشعرت كما لو أن أحداً ما يتبعني.. تلفتت، لكن لم يكن ثمة كائن في الشارع سوى جربوع قطع الطريق سريعاً، واختفى في مدخل بنايةٍ مظلم رغم الدهشة والخوف، ورغم تأكدي من أنها المرة الأولى التي أطأ فيها هذا المكان، إلا أن شعوراً سيطر علي بأنني كنت هنا يوماً ما!

    كان ثمة مقهىً صغيرٌ تشغل طاولاته المعدنية و مقاعده الخشبية حيزاً من الرصيف، ومن داخل المقهى يخرج دخانٌ أشاع الدفء في نفسي، فتوجهت إليه، اخترت طاولةً قريبةً من الباب وجلست، كان خالياً إلا مني، وغجريةٍ ذات ملابس فضفاضةٍ مزركشة، وغطاء رأسٍ شفاف، والكثير من الحلي الملونة تتدلى من عنقها وساعديها، مع وشمٍ باللون الأخضر أسفل الذقن، وقد انهمكت في تأمل فنجان قهوةٍ فارغٍ، بعد أن قلبته على رأسه في الطبق بينما تدخن بشراهة، رفعت رأسها فجأةً، ورمقتني بنظرةٍ متفحصةٍ قبل أن تشير إلى منديلٍ مطروحٍ على الطاولة، عليه أصداف متنوعة الحجم والألوان، تفطنت إلى أنها تريد أن تقرأ لي طالعي، فاعتذرت بهزةٍ من رأسي، فابتسمت وعادت للغوص في فنجانها، كانت الشمس قد غمرت المكان، فبانت معالمه، واستطعت أن أرى تلك البناية المقابلة للمقهى..

    مبنى قديم من خمسة طوابق، بمدخلٍ واسعٍ تنبعث منه روائح كريهة، وشرفات متهالكة محكمة الغلق، كان طلاء المبنى حالكاً، ومتهاوياً في بعض الأماكن حتى بانت قطع الحجارة التي تميز الطابع المعماري للمباني القديمة، وكان ثمة حاويةٌ كبيرة للقمامة تناثرت محتوياتها أمام المدخل، ولافتةٌ صغيرةٌ صدئة مطبوعٌ عليها الرقم سبعة بلونٍ أسود، كل الدلائل كانت تشير إلى خلو المكان من ساكنيه، غير أني لمحت حركةً لباب شرفة الطابق الخامس، قبل أن يفتح على مصراعيه، وتطل امرأةٌ عجوزٌ مستندةً على حافة الإفريز، تجمدت لدقائق بينما تحدق للأسفل دون أن تند عنها أدنى حركةٍ، فبدت كتمثال ثم استوت ومسحت وجهها بالشال الملقى على كتفيها، واستدارت عائدةً للداخل، ثم أغلق الباب ببطء. حدقت في الشرفة وأنا أحتسي كأساً من الشاي الساخن تعالى بخاره منعشاً، ثم قمت، سلكت طريق العودة بسهولةٍ أدهشتني، ودون أن أتوه، وكأنني أحفظ معالم المكان، لم أستطع أن أبعد صورة العجوز، والبناية عن مخيلتي، ولم أنم ليلتي تلك أيضاً.

    صباح اليوم التالي، لم أستطع أن أقاوم إغراء العودة لهذا المكان الذي شعرت فيه بألفةٍ لم أشعر بها في أي مكانٍ آخرٍ غير منزلنا، ومدفوعةً بجنينٍ بدا غريباً أن يتنامى من زيارةٍ وحيدة! توجهت مباشرةً للمقهى..جلست أرمق الشرفة لوقتٍ طويلٍ دون أي إشارةٍ تقول أن هناك من خرج أو سيخرج، أو أن ثمة من يعيش في هذا المكان أصلاً! مضى وقتٌ طويلٌ قبل أن أشاهد العجوز تغادر المبنى، كانت تتحرك بسرعة سلحفاة، منحنيةً ترتدي زياً طويلاً أسود مع نفس الشال الذي رأيته عليها بالأمس، متعلقةً بساعد رجلٍ طويلٍ جداً وعجوز، يرتدي معطفاً أبيض طويلاً، وقبعةً سوداء، وبيده الأخرى مظلةً طويلةً يستخدمها كعصا أيضاً، مرا من أمامي، ومشيا خطواتٍ ثم توقفت العجوز ودارت ببطءٍ شديد، حدجتني بنظرةٍ عميقةٍ، فقمت وأنا أشعر أنها اخترقت روحي.. ارتجف قلبي، بينما تقترب مني بعد أن تركت ساعد الرجل، وتوقفت أمامي، عيناها بلون السماء، ووجهها مليءٌ بالتجاعيد، مدت يداً متعرقة، ومشت بأناملها على وجهي، ثم تمتمت بصوتٍ كأنه صادرٌ عن بئرٍ عميقٍ:

    - ما زالت بشرتك مصقولة، ناصعة البياض، وخصلات شعرك الأشقر ناعمةٌ كالمخمل..

    كانت ملامحها حزينة رغم تلك البسمة العريضة على وجهها..

    ألجمتني الدهشة فسكتت، فأنا لست شقراء! شعري فاحم السواد، وسمراء!

    زمجر الرجل وهو يجذبها من ذراعها برفقٍ، ويمسح على نظارته بمنديلٍ متسخٍ بينما يرمقني بنظرةٍ جانبيةٍ، فدارت..

    تعلق نظري بهما حتى اختفيا في منعطفٍ قريبٍ. انتزعني صوت الغجرية التي كانت تجلس في نفس موضعها بالأمس من ذهولي:

    - عليك أن تتعرفي على مصيرك!

    أزعجتني عبارتها، واستبد بي الخوف، فدرت مطلقةً ساقي للريح، لست أدري كيف وصلت إلى منزلي، ولا كيف دسست نفسي تحت غطائي الثقيل أرتجف.. ولا كيف أصبت بحمى ألزمتني الفراش لأسبوعٍ كاملٍ، كنت أرى فيها السيدة العجوز جالسةً على حافة فراشي، تعصب رأسي وجبهتي بقطع القماش المبللة الباردة، وتمسح على شعري، ثم تعاود غمسها في الماء حين تجف بفعل الحرارة في إناءٍ ممتلئٍ عن آخره بماءٍ مختلط بسائلٍ أحمر كالدم! قبل أن تحكم لف الغطاء حول جسدي وتختفي مع تلك الشقراء الجميلة بردائها الحريري الأبيض التي لا تكف عن الابتسام والغناء بصوتٍ رخيم، والتي رأيتها بين صحوٍ ومنام، ممدةً تحت شرفة تلك البناية مهشمة الرأس والوجه، وغارقةً في بركةً من الدماء، تحدق في وجهي بعينين تغيبان رويداً رويداً، إلى ما وراء هذا العالم!  

    صباح اليوم السابع، كنت قد شفيت تماماً، قمت من فراشي وتمطيت وأنا أشعر بالوهن والجوع، وذهولٍ بلا حدود، على الطاولة كان هناك الكثير من الطعام الذي لم آكل منه إلا النذر اليسير، التهمت بعضه على عجلٍ، ثم ارتديت ملابسي، غافلت أمي التي كانت تغط في النوم على الطرف الآخر من فراشي، وخرجت مسرعةً..

    توجهت مباشرةً إلى حيث البناية، وقفت أمام المدخل مترددةً، ثم سرعان ما غلبني فضولي، فقمعت رهبتي ودخلت، كان الظلام كثيفاً، حاداً مع هذا الضباب الذي يطوق الكون بالخارج، أكاد ألمسه بيدي، تحسست مواضع خطواتي وأنا أصعد درجات السلم الأسطوانية متآكلة الحواف بوجل، في الطابق الأول، كانت موسيقى صاخبةً تنبعث من شقةٍ مغلقةٍ مع أغانٍ اندثرت منذ زمنٍ بعيدٍ تحتفي بمقدم العام الجديد، عند الطابق الثاني، اعترضتني طفلةٌ ترتدي زياً رمادياً قصيرا فوق الركبة رغم البرد، وتحتضن عروساً من قماشٍ متسخ، رمقتني بنظرةٍ باردةٍ..حييتها فلم ترد، حاولت أن أمسح على شعرها، فنفرت مني، وعلى وجهها نفس الانطباع البارد، تركتها وواصلت الصعود بينما ألهث تعباً وخوفاً، حتى وصلت للطابق الخامس.

    وقفت أمام شقة العجوز مترددةً، ثم طرقت الباب، فانفرج قليلاً، تلفت حولي بينما أفتحه على مصراعيه، فأنت مفاصله، مصدرةً صوتاً جمد الدم في عروقي، فكرت في الهرب لكن فضولي كان أقوى، فاستجمعت شجاعتي ودخلت، من خلال الضوء الذي انسكب من باب الشرفة المفتوح، استطعت أن أكتشف تفاصيل المنزل بدقة، كان العنكبوت يعشش في كل ركنٍ منه، والتراب مكدسٌ على الأثاث القديم البالي، والجرذان تمرح بين جنباته، لم يكن ثمة أثرٌ يدل على الحياة، سوى تلك الصورة المعلقة على الحائط لعروسٍ شابة ترتدي زيّ عرسٍ عتيق الطراز جداً، وتشبه العجوز إلى حدٍ بعيد، بيمناها باقة وردٍ صغيرة، وبيسراها تمسك بساعد شابٍ طويلٍ جداً، لم أشك أبداً أنه هو نفسه الذي كان يصطحب المرأة حين توقفت وكلمتني منذ أيام.

    - كيف يعيش العجوزان في هذا المكان البشع؟!!

    تساءلت بذهولٍ بينما أمشي بلا وعيٍ إلى حيث كانت شجرة عيد الميلاد شامخةً مبهجةً في الشرفة، على قمتها وضعت لافتة تهنئةٍ بالعام الجديد بخطٍ عريض، وتحتها مباشرةً، وبخطٍ أصغر التاريخ: الأول من يناير 1918!

    صعدت السلم الخشبي القصير المائل على الحائط، وفي يدي شرائط ملونة، وأفرع مصابيح صغيرةٍ، ابتسمت وأنا أعلقها، وأغني، وفجأة...اختل توازني، وسقطت...احتجت وقتاً أطول من تلك المسافة التي استغرقتها حتى ارتطامي بالأرض لكي أستوعب الذي حدث! ولوقتٍ آخر كي أميز صوت العجوز الناحب، التي تخمش وجهها، وهي تسند رأسي بشعره الأشقر الغارق في الدماء، على صدرها، كانت أكثر نضارةً، ولم يكن الزمن قد حفر تلك الأخاديد في جلدها بعد، لم يدهشني هذا، ولا هذا الفستان الأبيض القصير الملطخ بالدماء الذي كنت أرتديه كما أدهشني هذا الوجه الشاحب، المحدق بي فاغر الفم، ممتقع اللون: وجهٌ أسمرٌ مذهول، يطل من بين كتل الأجساد البشرية المحيطة بي، لم يكن غير...وجهي أنا..!

    (2)

    ماري..

    تلك الخيالات مرةً أخرى..هذا الطنين ..شئٌ ما يتلبسك كخفاشٍ أسطوريٍ ضخم، يلتصق بعقلك ويحتل كيانك.. يجثم على صدرك معتصراً جسدك بجناحيه إلى أن تختلف أضلاعك.. أنفاسٌ لاهثةٌ ثقيلةٌ مع صفيرٍ في الصدر وصداعٍ كطوقٍ حديديٍ يضيق ببطءٍ حول الجمجمة فتوشك أن تنسحق، هناك الكثير من الصور تمر أمام عيني المغلقتين، فأراها مضببةً بلا ملامح، لست متأكدةً إن كانت لمشاهد قد عشتها، أو لأشخاصٍ أعرفهم، أم لمواقف عاينتها وحفظتها ذاكرتي، أم ماذا! لكنني أشعر نحوها بالألفة، شيء ما بداخلي يميل إليها، يعيد ترتيبها وتكرارها كمشاهد مبتورةٍ لشريطٍ سينيمائيٍ ما أن ينتهي حتى يبدأ من جديد! ثمة مقطعٌ لأغنيةٍ ريفيةٍ سخيفةٍ تتردد في ذهني، تكرر نفسها تلقائياً رغماً عني! مقطعٌ سخيفٌ من أغنيةٍ سخيفةٍ ولحنٍ نشاز، كنت أسمع (ماتيلدا) ترددها أحياناً أثناء انشغالها بأعمال المنزل أو بالطبخ، تتمايل معها منتشيةً، محركةً قدميها وعجيزتها الضخمة بصورةٍ عشوائيةٍ لا تتماشى مع اللحن، فأضحك رغم انزعاجي من الأغنية جداً .. كرهتها لكنني أحببت طريقة أداء ماتيلدا لها، وأحببت أكثر استمتاعها بما تفعل، فقليلاً ما كنت أراها تبتسم، أو تشاركنا وأمي أحاديثنا التي لا تنتهي عن البيت والشارع والبلدة والجيران والعالم! وتبدو صماء تماماً بينما تنهمك في ما تفعل بتفانٍ عجيب، وبكماء لا تنطق حرفاً واحداً إلا إذا وجه إليها الحديث، وباقتضابٍ شديد، لذا كانت أمي تحبها.

    - أمينة، نشيطة، نظيفة، والأهم لا تتدخل فيما لا يعنيها، وليست فضولية.

    هكذا أجابت أمي حين سألتها عن سر حبها لماتيلدا، واحتفاظها بها كخادمةٍ كل هذا العمر

    وأضافت بينما تغمز بعينها مبتسمةً:

    - كما أنه لا خطر منها على أبيك.

    ضحكت لدعابتها، وأنا أتأمل ماتيلدا من شرفة غرفة الطعام بينما تروي نباتات الزينة والأزهار في الحديقة، وأخرى غريبة المنظر زرعت بذورها بنفسها من قبل حتى أن أولد، ترعاها باهتمامٍ زائد لتقطف زهراتها فيما بعد، وتطحنها محتفظةً بها في زجاجاتٍ متعددة الأحجام والأشكال، مع زيوتٍ وسوائل ذوات ألوانٍ متعددة، وروائح نفاذة، بعضها زكي الرائحة، والآخر نفاذٌ ومقرف.

    ماتيلدا ضخمة الجثة، بارزة عضلات الكتفين والساقين بشكلٍ لافت، بنيانها أقرب لبنيان مصارعٍ عجوزٍ من عهد الرومان، مع ترهلٍ بسيطٍ عند البطن والحوض، وانحناءةٍ خفيفةٍ بحكم التقدم في العمر، وعجيزتين ضخمتين، وثديين كانا فيما مضى كبيرين بارزين، وأصبحا الآن ككرتين فرَغَتا من الهواء، يتدليان ويهتزان مع كل حركةٍ تند عنها بشكلٍ مضحك، شعرها مجعدٌ وكثيفٌ جداً، يبدو ككتلةٍ من الثلج مجمعةٍ بإهمالٍ فوق رأسها، عيناها ضيقتان جاحظتان، أنفها ضخم، وفمها واسعٌ، مع شفتين غليظتين، وبشرة سمراء مائلة إلى الدكنة، والغريب أنها، ورغم التقدم في العمر، قد احتفظت بكل أسنانها كاملةً لم تنقص ضرساً واحداً! ونظيفةً ناصعة البياض وقويةً أيضاً، كنت ألجأ إليها عندما أرغب في تكسير حبة جوزٍ، أو فتح زجاجة مياهٍ غازيةٍ حين لا أجد الفتاحة، فتضع الحبة بين ضرسين، وتضغط بينما تغلق عيناً وتفتح أخرى، ثم تخرجها وتقدمها إلي جاهزةً، ودون أن تكون قد مست اللب، وعندما تلحظ دهشتي التي لم تفارقني أبداً في كل مرةٍ تفعل هذا، تقول:

    - صحة البدن تبدأ من هنا.

    وتشير إلى أسنانها..

    تقول أمي أن ماتيلدا تنتمي لقريةٍ بعيدةٍ عند سفح جبلٍ على حدود دولةٍ مجاورة، هي من قبائل الغجر الذين يقطنون القرى المنعزلة، وسفوح الجبال والغابات مفضلين الاحتفاظ بمكونات مجتمعهم، والحفاظ على هويتهم، مشكلين تجمعاتهم الخاصة، وقوانينهم الغريبة التي لا تعترف بالقانون العام ولا الدولة، ولها هيئاتها، ومحاكمها ذات الطابع العرفي، وكذا رؤساءها، فلكل قبيلةٍ زعيمها الذين يدينون له وحده بالولاء، ورغم محاولات إدماجهم من قبل الحكومة في الدولة عبر إجبارهم على إصدار بطاقات هوية، وتسجيل المواليد الجدد، وكذا الإعلام عن الوفيات، إلا أن كل هذا لم ينجح في جعلهم مواطنين حقيقيين، في دولةٍ يدينون لها بالولاء، ومن أجل هذا تستثني الحكومة هؤلاء من التجنيد الإجباري، فهم بلا انتماء، وفي إعطائهم السلاح مع تدريبهم على فنون القتال خطرٌ كبيرٌ، ربما هدد استقرار البلاد وأمنها، وحرضهم على التمرد، وهم متمردون بطبعهم، كما أنهم ينعتوننا ب (الأوغاد) ويتحاشون الاختلاط بنا، أو التعامل معنا، لذا لا يستقرون في مكانٍ أبداً. بيد أن ماتيلدا كسرت تلك القاعدة حين قررت أن تهجر قريتها لتستقر هنا لسببٍ ما لا أحد يعرفه، سواها بالطبع، ولا أحد سيعرفه، فهي كتومةٌ كقبر، وغامضةٌ كأحاجي عرافات الأساطير القديمة، كما أنها لا تتحدث كثيراً، رغم أنها مستمعةٌ بارعة وناصحةٌ أمينة.

    مرت ماتيلدا أمامي، كانت تدندن بالأغنية الريفية بصوتها الأجش الذي لا يحمل مسحةً من جمالٍ أو شجن! وبكل هذا النشاز الذي يشبه الطرق بقضيبٍ معدنيٍ على آنيةٍ نحاسيةٍ كبيرة!

    توقفت قليلاً أمامي، ثم أدارت لي ظهرها، وانحنت بينما تحرك مؤخرتها الضخمة بشكلٍ أثار ضحكي، فسعلت بشدةٍ، وكادت تنقطع أنفاسي، حاولت أن أفتح عيني لكنني لم أستطع، كان دوارٌ عنيفٌ يجبرني على إبقائهما مغلقتين، رأسي ثقيلٌ ملقى على الوسادةٍ كحجرٍ ضخمٍ، وثمة بركانٌ يغلي في أحشائي، وبخارٌ كثيفٌ أشعر به خارجاً من جبهتي.

    "...البنت الريفية الجميلة

    التي ترتدي فستاناً جميلاً،

    تحب الحياة في الريف الجميل

    وتكره المدينة..

    الولد الريفي القوي

    الذي يمسك رمحاً قوياً،

    يحب الحياة في الريف الجميل

    ويكره المدينة."

    يا إلهي!! أسكتوا هذا الشيء الذي يطن في رأسي...أكرهها، أكره تلك الأغنية، تجتاحني رغماً عني.. أرددها بينما أتوسط حلقةً مشتعلةً، وثمة رجالٌ شبه عرايا يمسكون رماحاً طويلة، ويرتدون أقنعةً ملونةً مخيفة،  يعتمرون قبعاتٍ من الريش، يتراقصون بهستيريا حول الحلقة مصدرين أصوات غريبةً ومزعجةً بشكلٍ لا يصدق، وثمة طبولٌ تدق، لم أعرف مصدرها لكن ضجيجها يعبق المكان، وتتناسب تماماً مع حركة الراقصين حولي، تزداد وتيرتها مع ازدياد سرعتهم، وجنونهم في الرقص..يدورون...ويدورون...ويدورون، يتساقطون تباعاً..واحداً وراء الآخر، يتمددون..تخفت أصوات الطبول رويداً رويداً، حتى تختفي تماماً..تنتظم أنفاس الراقصين، ويروحون في ثباتٍ عميق، أتلفت يميناً ويساراً، أطمئن إلى عدم وجود أحد بالمكان، أحاول أن أطلق ساقي للريح، لكنني لا أستطيع! كنت مقيدةً بإحكامٍ إلى عمودٍ خشبي، وثمة دخانٌ كثيفٌ حولي..سعلت وسعلت وسعلت، حتى كادت رئتاي أن تقفزا إلى خارج جسدي..تسلل الدخان إلى حلقي فأحرقه، ولعيني فالتهبتا، وسال منهما شلالٌ من الدمع، وكانت الحرارة تعلو رويداً رويداً، فشممت رائحة شواء، بعدها رأيت جلد وجهي يتساقط في المرآة! كنت أرتدي ذات الفستان الأبيض، وشعري الأشقر غارقٌ بالدماء، وكان وجهي يسيح متقيحاً، صرخت...وصرخت...وصرخت، لكن صوتي لم يتجاوز حنجرتي أبداً، بعدها صر مقبضٌ حديديٌ، فانفتحت طاقةٌ تحت قدمي، ووجدتني أهوى لبئرٍ معتمٍ بلا قرار... بعدها غبت تماماً عن الوعي، وانتهى كل شيء.

    (3)

    ماري...

    -(جوزفين...جوزفين )

    نداءٌ يبدو كما لو أنه قادمٌ من قاع بئرٍ عميق.. رنين أجراسٍ تشبه تلك التي تطوق أعناق الجياد التي تجر العربات.. أبذل جهداً خارقاً كي أتمكن من فتح عيني، أحاول أنا أتهجى معالم الغرفة التي تدور بي.. كل شيءٍ يدور بجنون ! وجدتني ملتصقةً بالسقف أنظر للأرض لكنني لا أسقط.. أغلق عيني بسرعةٍ و آلاف النحلات تطن في رأسي..يدٌ حانيةٌ تربت على كفي، ترفعها وتقبل أطراف أصابعي..

    - آرثر..

    غمغمت وأنا أفتح عيني بلهفة وأستنشق نفساً عميقاً ملأ صدري، فخف الدوار كثيراً وبدأت تتضح معالم المكان.

    - جوزفين، ابنتي..حمداً لله على سلامتك.. 

    - أين أنا؟

    تساءلت بوهنٍ، وأنا أجاهد كي أخترق الضباب الذي يلف كل شيءٍ حولي، ثمة دوائر ضيقة تدور بسرعةٍ..تتسع شيئاً فشيئاً.. وجه امرأةٍ غير واضح المعالم عند رأسي تماماً، تلفحني أنفاسها الساخنة، فأرمقها بدهشة.. تتموج ملامحها كما لو أنها انعكاس في صفحة بحيرةٍ ألقى فيها حجرٌ كبير..

    - جوزفين، هل تسمعينني؟

    -  آرثر..

    قلت، بينما معالم الغرفة تتضح، ووجه المرأةِ يصفو رويداً رويدا..ً

    - أنت!

    هتفت بذهولٍ، و دون أن أحرك شفتي، كانت مجرد محاولة الكلام جهداً كبيراً لا أقدر عليه، مالت المرأة علي، وقبلت جبيني، أغرقت وجهي بماءٍ ساخنٍ، تسلل ملحياً إلى شفتي، فعرفت أنها تبكي.

    -  ستكون بخير.

    قال الرجل الطويل ذو القبعة السوداء بينما يميل عليها، ويساعدها على النهوض..مسحت على شعري، ودارت مستندةً على ذراع الرجل الذي بدا متماسكاً وقوياً، وابتعدت بخطواتٍ وئيدةٍ وظهرٍ منحنٍ.

    - (ستكون بخير)

    ميزت صوت ماتيلدا، قبل أن أستيقظ وأستوي جالسةً على الفراش، بينما أسعل بشدة.

    - ماري ابنتي حمداً لله على سلامتك.

    ماري!! جوزفين.. آرثر! من آرثر؟!

    - قلت لك يا سيدتي، ستكون بخير.

    رأيت ماتيلدا جالسةً على طرف فراشي مبتسمةً، كانت تلك هي المرة الأولى التي أميز تعابير فرحٍ كتلك على وجهها، بيدها قطعة قماشٍ بيضاء، وعلى الطاولة خليطٌ نفاذ الرائحة، لونه ضاربٌ إلى السواد، اقتربت أمي وعانقتني بلهفة، ضمتني إلى صدرها بقوةٍ وهي تقبل رأسي وجبيني ووجنتي.

    - سبعة أيامٍ يا بنتي! ...سبعة أيامٍ شبه غائبةٍ عن الوعي..

    أبعدتني قليلاً، وهي تتأملني بينما عيناها غائمتان بالدموع.

    - شحب وجهك الجميل كثيراً، وغارت عيناك! لعن الله الحمى.

    - لا بأس، ستكون على ما يرام.

    قالت ماتيلدا، وقد زايلتها ابتسامتها الصافية التي ضبطتها متلبسةً بارتكابها، ثم غمست قطعة القماش في الخليط ونظرت لأمي فقامت، بينما أرقدتني هي على ظهري، ووضعت القماشة المشبعة بالخليط على جبيني. كانت الرائحة لا تطاق أثارت غثياني، ولولا أن معدتي فارغةٌ لتقيأت على الفور.

    - فحصك ثلاثة أطبة وكتبوا الأدوية، لكن بلا فائدة، كنت تنتفضين طوال الوقت، جسدك ساخنٌ كقطعة جمر، ولولا وصفات ماتيلدا السحرية وتلك الأخلاط العجيبة، لست أدري ما الذي كان يمكن أن يحدث!

    رفعت ماتيلدا قطعة القماش، وأحضرت منشفةً كبيرةً مررتها على وجهي، ثم مالت ومست جبيني بشفتيها الغليظتين، واعتدلت قائلةً:

    - نزلت الحرارة.

    اقتربت أمي، والتقطت ترمومتر قياس الحرارة من على الطاولة الملاصقة لفراشي، وقالت بمرح:

    - هيا يا صغيرتي، افتحي فمك.

    ووضعته تحت لساني، ثم انحنت تقبل جبيني بحنانٍ، وضمتني بينما تتنهد:

    - أووووه يا ماري، كدت أجن يا حبيبتي، حمداً للرب على سلامتك.

    بدأت أعود لحالتي الطبيعية بعد أن زايلني الدوار، وتلك الرجفة التي كانت تجبرني على الارتعاش طوال الوقت، كنت أستيقظ من ثباتي أحياناً تحت وطأة الشعور بالبرد، حتى ظننت أنني أرقد في كهفٍ من الثلج، فأرى أشباحاً تدور في الغرفة! في البداية كنت أظنهم أفراد عائلتي، غير أنني مع اتضاح الرؤية، وانقشاع الضباب الذي يحجب كل شيء، اكتشفت أنهم لأناسٍ آخرين لا أعرفهم! ...تلك المرأة بوجهها الذي يتبدل تارةً شابة نضرة، وتارةً عجوز متغضنة الجلد، مترهلة الملامح! والرجل الطويل بالقبعة، وواقية المطر السوداء، والمعطف الأسود الطويل، بمعالم وجهه الجامدة التي لا تتغير، ونظراته الحادة، والبنت الشقراء الجميلة، مرةً ابتسمت لي فبدت رائعة الحسن، عيناها زرقاوان لامعتان وشعرها أصفر طويل ينساب على كتفيها، و يصل إلى منتصف ظهرها تقريباً، كانت ترتدي فستاناً أبيض قصير، يصل إلى منتصف الساق، وجورباً شفافاً، وحذاءاً أنيقاً أزرق اللون، ومرة اقتربت مني كثيراً..مالت على وجهي تتأملني بدهشةٍ، حتى امتلأ صدري بعبير أنفاسها الزكية، قبل أن تلمس خدي بأناملها، وتمشي بيدها على شعري، ثم تستوي واقفةً، وفجأة...نزل خيطٌ كثيفٌ من الدم من أعلى رأسها، فتلوث شعرها الذهبي، وفستانها الأبيض، جحظت عيناها وتجلى فيهما الرعب والألم بينما بركةً صغيرةً من الدماء تتكون تحت ساقيها، وتتسع حتى ملأت الغرفة، وبدأت تعلو..وتعلو..وتعلو، حتى وصلت لحافة فراشي، ووجدتني أطفو في بركة الدم..وأقترب من البنت التي بدأت تدور جزعةً، وقد بلغ الدم حتى صدرها، فصرخت، وصرخت ثم...

    - أين يوري؟

    سألت، فردت أمي ضاحكةً:

    - في بيته في الحديقة، منذ مرضت لم يغادره رافضاً اللعب و الطعام حتى هذا تماماً، لكنه اليوم أكل بشهيةٍ مفتوحةٍ، وظل منذ الصباح يتقافز بفرحٍ، ويهز ذيله بينما ينظر باتجاه غرفتك وينبح! وكأنما كان على علمٍ بأنك سوف تعودين اليوم سالمةً من غيبوبتك.

    كانت ماتيلدا قد انتهت من خلط بعض السوائل في كأسٍ كبيرٍ، ثم جلست على حافة الفراش، وساعدتني على الاستواء جالسةً، وقربت الكأس من فمي وهي تقول:

    - اشربي هذا..

    نظرت لأمي، فأومأت لي برأسها أن نعم، كانت رائحة الخليط زكيةً ففتحت فمي، وسقتني ماتيلدا القليل منه.

    - مر..

    قلت بينما أبعد وجهي متأففةً، فجذبت ماتيلدا رأسي، ووضعت حافة الكأس على شفتي، وقلبته وهي تقول:

    - المرض أكثر مرارة، اشربيه دفعةً واحدةً. 

    - رجاءً يا ابنتي.

    عقبت أمي، فأغلقت عيني، واستسلمت لمطعم السائل الذي جرى مراً، بارداً في حلقي، بينما أتسأل باستغراب:

    هل كان كل ما حدث كابوساً مزعجاً؟؟

    يا إلهي!! كان حقيقياً جداً...حقيقياً للدرجة التي تجعلني ما زلت أشعر بأنفاس العجوز على وجهي، وبملمس الفتاة على شعري! ومازالت رائحتها الزكية عالقةً بأنفي! ثم تلك النظرة و...آرثر!!...من هذا الآرثر؟!!

    4)

    جوزفين..

    كيف يمكن للطقس أن يتبدل هكذا فجأةً من النقيض إلى النقيض؟! من ساعتين اثنتين فقط كادت الشمس تنقب رأسي رغم أنني لم أمش كثيراً على ساقي، ما اضطرني للجوء إلى تلك الحديقة، والاحتماء بظل شجرةٍ كبيرةٍ لا أعرف نوعها، ولا حتى رأيتها من قبل في أيٍ من الحدائق التي تملأ مدينتنا! بدت غريبةً بفروعها الكثيفة، وأوراقها الضخمة، وأغصانها المتشابكة الطويلة التي مالت حتى لامس بعضها الأرض، وامتد ظلها لمسافةٍ كبيرةٍ حولها.. نزعت الإيشارب الصغير الذي عقدته على شعري، فرشته على الأرض و جلست، كان ثمة الكثير من الطيور التي تعشش فوق غصون هذه الشجرة، وكان هناك طائران يتعاونان على بناء عش ..وافدان جديدان يبدو أنهما قد وجدا مأوىً مناسباً أخيراً، راقبتهما بينما يحومان فوق رأسي و هما يغردان.. يحلقان مبتعدين، ثم سرعان ما يعودان وفي فم كلٍ منهما قشةً أو عوداً صغيراً، يغرزانه بمهارةٍ وسرعةٍ في هيكل البيت الصغير الذي بدأت معالمه تتضح، وبعد كل مرةٍ يقتربان حد الالتصاق.. رأيت الطائر الأضخم، ذا المنقار الطويل الحاد يفرد جناحه ويربت به على ظهر وليفته، فترفرف بسعادةٍ غامرةٍ وتدور دورتين حول العش ثم تعود، كان الأول ذكراً، عرفت هذا لأنه أضخم حجماً وفي تغريده قوة، والأخرى أنثى صغيرة الحجم، بجناحين ملونين، وتبدوا عاشقةً ولهى! أمضيت وقتاً طويلاً في مراقبتهما، و حتى أكملا العش، ثم استقرا فيه متعانقين متلاصقين، فملأني الفرح، بقيت لبعض الوقت إلى أن ارتحت تماماً، وحين هممت بالقيام، أظلمت الدنيا فجأةً وأرعدت السماء، ثم انهمر المطر غزيراً فأغرقني، صار الطقس بارداً جداً، بردٌ قارس تسلل عبر مسام جلدي واخترق عظامي، فارتجفت.. لم أكن أرتدي غير فستانٍ رقيقٍ فوق حمالة صدر، فالطقس كان ساخناً جداً منذ قليل، ولم يكن هناك ما يوحي بأي تغيرٍ أو تبديل. تلفت حولي، وكان الجميع قد رحل، لم يبق سواي في المكان، فقدرت أن الجميع قد فروا هرباً من هذا الطقس العجيب.

    (لعلها نهاية العالم)

    قلت، وأنا أنحني لألتقط إيشاربي الذي ابتل تماماً وأهم بالرحيل، درت بينما أحث الخطى مبتعدةً، غير أن نباحاً قوياً سمرني في مكاني! كنت أحب الكلاب، وتمنيت لو أن أمي قد سمحت لي باقتناء واحدٍ يكون أنيساً وصديقاً، وراعياً أيضاً، وكم ترجيتها ورفضت لأنها تخشى مما قد يخلفه وجود كلبٍ في المنزل من فوضى، وفضلاتٍ في كل مكان، غير أنني كنت أرتعب من الكلاب الغريبة، وأتوجس خيفةً من تلك المهملة في الشوارع بلا صاحبٍ أو راعٍ، حتى أنني لو صادفت كلباً سائباً في مكانٍ ما، لا أعود للمشي فيه قط إلا للضرورة القصوى. أنساني نباح الكلب اندهاشي من تبدل الطقس، وحل مكانه شعورٌ بالجزع، و وقفت مترقبةً هجومه علي.. أغلقت عيني بينما أردد بعض صلوات الحماية التي حفظتها من تكرار حضوري لقداس الأحد مع أمي، هي متدينةٌ جداً، تحرص على أداء واجباتها الدينية، والمواظبة على الذهاب للكنيسة، وتحرص كل الحرص على اصطحابي معها رغم ضجري ومجاهرتي بالتذمر، وأحياناً الاعتراض بشدة.

    - هل تريدين أن تصبحي كأبيك؟

    تقول كلما صممت على عدم مرافقتها للقداس، فيزمجر أبي معقباً:

    - وهل عليها أن تكون نسخةً طبق الأصل منك؟ دعيها وشأنها، فقد كبرت الآن وعليها أن تختار.

    لم أر أبي يقوم بأيٍ من الالتزامات الدينية المفروضة عليه كمسيحيٍ مؤمن، لم يذهب للكنيسة لمرةٍ واحدةٍ في حياته باستثناء أيام الطفولة إذ كان أبوه يصطحبه معه كل يوم.

    - كان شماساً..

    يقول أبي.

    - رباني على قيم الكاثوليكية وتعاليم المسيح، كنت أحضر معه القداسات والعظات بشكلٍ يومي، قضيت السواد الأعظم من طفولتي بين جدران الكنيسة، أراقب الناس الذين يحنون رؤوسهم خاشعين، ويبكون بحرقةٍ وهم يستمعون إلى عظاته:

    لا تسرق..

    لا تقتل..

    لا تزن بحليلة جارك..

    بيد أنني لم أستطع أن أستوعب سلوك أبي الذي رأيته يفتح صندوق النذور، بينما يتلفت حوله مضطرباً، ويدس مبلغاً من النقود في جيب صديريته الداخلي، ومبلغاً آخر تحت قبعته، وثالثاً في جوربه! ولا استطعت أن أفهم لم يضرب أمي يومياً حتى يتورم وجهها، وللحد الذي ترك في جسدها آثاراً لا تمحى، وندوباً عميقة! ولا السر في زياراته المتكررة لبيت جارتنا الشابة التي هاجر زوجها بحثاً عن الرزق ولم يعد!

    - لأباركها.

    كان يصيح في وجه أمي بشراسةٍ كلما سألته، ويلوح بقبضته مهدداً، فيلجمها الخوف وتسكت! وتذهب للقيام بأعمالها المنزلية وعلى وجهها انطباعٌ محايد، بيد أنها ما أن يغادر المنزل، حتى تترك كل ما بيدها، وتنخرط في نوبة بكاءٍ متواصلٍ لا ينقطع.

    ماتت أمي قهراً، صبيحة يوم غائمٍ وكئيب، استيقظت في الصباح الباكر..أيقظتني أولاً، وقبلتني، ثم ذهبت لإيقاظ أبي، أعدت لنا

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1