Professional Documents
Culture Documents
(الداب والتصوف)
شيخ السلم تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
الحمد لّ نستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالّ من شرور أنفسنا ،ومن سيئات أعمالنا ،من يهده الّ فل مضل له ،ومن يضلل
فل هادي له ،ونشهد أن ل إله إل الّ وحده ل شريك له ،ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ صلى الّ عليه وآله وسلم.
أما بعد:
فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب ـ التي قد تسمى [المقامات والحوال]ـ وهي من أصول اليمان ،وقواعد
الدين ،مثل /محبة الّ ورسوله ،والتوكل على الّ ،وإخلص الدين له ،والشكر له ،والصبر على حكمه ،والخوف
منه ،والرجاء له ،وما يتبع ذلك .اقتضى ذلك بعض من أوجب الّ حقه من أهل اليمان ،واستكتبها وكل منا عجلن.
فأقول :هذه العمال جميعها واجبة على جميع الخلق ـ المأمورين في الصل ـ باتفاق أئمة الدين ،والناس فيها على
ثلث درجات كما هم في أعمال البدان على ثلث درجات :ظالم لنفسه ،ومقتصد ،وسابق بالخيرات.
والسابق بالخيرات :المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب ،والتارك للمحرم والمكروه .وإن كان كل من
المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه :إما بتوبة ـ والّ يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإما بحسنات
ماحية ،وإما بمصائب مكفرة ،وإما بغير ذلك .وكل من الصنفين :المقتصدين والسابقين من أولياء الّ الذين ذكرهم في
لّ لَ خَ ْوفٌ عََل ْيهِمْ َولَ هُ ْم يَحْ َزنُونَ .اّلذِي َن آ َمنُوا َوكَانُوا َيتّقُونَ} [يونس .]63 ،62 :فحد أولياء
كتابه بقولهَ{ :ألَ إِنّ أَوِْليَاءَ ا ِ
الّ :هم المؤمنون المتقون ،ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم :المقتصدون / ،وخاص وهم :السابقون ،وإن كان السابقون
هم أعلى درجات كالنبياء والصديقين.
وقد ذكر النبي صلى ال عليه وسلم القسمين في الحديث الذي رواه البخـاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الّ
عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وآله وسلم ـ أنه قال( :يقول الّ :من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة ،وما تقرب
إلىّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ،ول يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي
يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها ،فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش
وبي يمشي ،ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه ،وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس
عبدي المؤمن ،يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه).
وأما الظالم لنفسه من أهل اليمان ،فمعه من ولية الّ بقدر إيمانه وتقواه ،كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره ،إذ
الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب ،والسيئات المقتضية للعقاب ،حتى يمكن أن يثاب ويعاقب،
وهذا قول جميع أصحاب رسول الّ ـ صلى ال عليه وآله وسلم ـ وأئمة السلم وأهل السنة والجماعة الذين يقولون:
إنه ل يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وأما القائلون بالتخليد ،كالخوارج والمعتزلة القائلين :إنه ل يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة ،وأنه ل شفاعة
للرسول ول لغيره في أهل الكبائر ،ل قبل دخول النار ول بعده ،فعندهم ل يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب،
وحسنات وسيئات ،بل من أثيب ل يعاقب ،ومن عوقب لم يثب .ودلئل هذا الصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف
المة كثير ليس هذا موضعه ،وقد بسطناه في مواضعه.
وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلبد أن يكون معه من هذه العمال بقدر إيمانه ،وإن
كان له ذنوب ،كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ أن رجلً كان يسمى حمارًا
وكان يضحك النبي صلى ال عليه وسلم .وكان يشرب الخمر ،ويجلده النبي صلى ال عليه وسلم ،فأتى به مرة فقال
رجل :لعنه الّ ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى ال عليه وسلم .فقال له النبي صلى ال عليه وسلم( :ل تلعنه فإنه
يحب الّ ورسوله).
فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبًا لّ ورسوله ،وحب الّ ورسوله أوثق عرى اليمان ،كما أن العابد
الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطًا عليه عند الّ ورسوله من ذلك الوجه ،كما استفاض في الصحاح
وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي ـ صلى ال عليه وعلى
آله وسلم ـ أنه ذكر الخوارج فقال( :يحقر /أحدكم صلته مع صلتهم ،وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم،
يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم ،يمرقون من السلم كما يمرق السهم من ال ّرمِيّة ،أينما لقيتموهم فاقتلوهم ،فإن
في قتلهم أجرًا عند الّ لمن قتلهم يوم القيامة ،لئن أدركتهم لقتلنهم قتل عاد).
وهؤلء قاتلهم أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي صلى ال
عليه وسلم .وقال النبي صلى ال عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح( :تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين
يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق).
ولهذا قال أئمة السلم ،كسفيان الثوري وغيره :إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لن البدعة ل يتاب منها،
والمعصية يتاب منها .ومعنى قولهم :إن البدعة ل يتاب منها :أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الّ ول رسوله قد
زين له سوء عمله فرآه حسنًا ،فهو ل يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه ،أو بأنه
ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله .فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس المر فإنه ل
يتوب.
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الّ ويرشده حتى يتبين له الحق ،كما هدى ـ سبحانه وتعالى ـ من هدى من
الكفار والمنافقين وطوائف من أهل /البدع والضلل ،وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه ،فمن عمل بما علم
أورثه الّ علم ما لم يعلم كما قال تعالى{ :وَاّلذِينَ ا ْه َتدَوْا زَادَهُمْ ُهدًى وَآتَاهُ ْم تَقْواهُمْ} [محمد ،]17 :وقال تعالى{ :وََلوْ َأّنهُمْ
َفعَلُوا مَا يُوعَظُو َن بِهِ َلكَانَ َخيْرًا َلهُمْ وََأ َشدّ َت ْثبِيتًا .وَِإذًا َل َتيْنَا ُه ْم مِنْ َلدُنّا َأجْرًا َعظِيمًا .وََل َهدَ ْينَاهُمْ صِرَاطًا مُ ْستَقِيمًا} [النساء66 :ـ
ن بِهِ َو َيغْ ِفرْ َلكُمْ وَالُّجعَلْ َلكُ ْم نُورًا َتمْشُو َ
ح َمتِهِ َويَ ْ
ن مِنْ رَ ْ ،]68وقال تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِي َ
ن آ َمنُوا اتّقُوا الَّ وَآ ِمنُوا بِرَسُولِ ِه يُ ْؤ ِتكُ ْم كِفَْليْ ِ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد ،]28 :وقال تعالى{ :الُّ وَِليّ اّلذِينَ آ َمنُوا يُخْ ِر ُجهُ ْم مِنْ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ} [البقرة ،]257 :وقال
جهُ ْم مِنْ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر بِِإذْنِهِ
خرِ ُسبُلَ السّلَمِ َويُ ْن ا ّتبَعَ ِرضْوَانَهُ ُ لّ مَ ْ
ب ُمبِينٌَ .يهْدِي بِهِ ا ُلّ نُورٌ َو ِكتَا ٌ تعالىَ { :قدْ جَا َءكُ ْم مِنْ ا ِ
ط مُ ْستَقِيمٍ} [المائدة .]16 ،15 :وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة. َو َيهْدِيهِمْ إِلَى صِرَا ٍ
وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه ،فإن ذلك يورثه الجهل والضلل حتى يعمى قلبه عن الحق
ل َي ْهدِي الْقَ ْومَ ا ْلفَاسِقِينَ}[الصف ،]5 :وقال تعالى{ :فِي ُقلُو ِبهِمْ لّ َ الواضح ،كما قال تعالى{ :فََلمّا زَاغُوا َأزَاغَ ا ُ
لّ قُلُو َبهُمْ وَا ُ
ع ْندَ
ليَاتُ ِ ن ِبهَا قُلْ ِإّنمَا ا ْ
ج ْهدَ َأ ْيمَا ِنهِمْ َلئِنْ جَا َء ْتهُ ْم آيَةٌ َليُ ْؤمِنُ ّ
سمُوا بِالِّ َ لّ مَرَضًا}[البقرة ،]10 :وقال تعالى{ :وََأ ْق َ ض فَزَادَهُمْ ا ُ مَرَ ٌ
ط ْغيَا ِنهِ ْم َي ْع َمهُونَ} [
ل مَرّةٍ َو َنذَرُهُ ْم فِي ُ ل يُ ْؤ ِمنُونََ .ونُقَلّبُ َأ ْفئِ َد َتهُمْ وََأبْصَارَهُ ْم َكمَا َل ْم يُ ْؤمِنُوا بِهِ أَوّ َ
ت َ
شعِ ُر ُكمْ َأّنهَا ِإذَا جَاءَ ْ
الِّ َومَا يُ ْ
النعام .]110 ،109 :وهذا استفهام نفي وإنكار ،أي :وما يدريكم أنها إذا جاءت ل يؤمنون ،وإنا نقلب أفئدتَهم
وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ [إنها] بالكسر تكون /جزمًا بأنها إذا جاءت ل يؤمنون
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد ابن جبير :إن من ثواب
الحسنة الحسنة بعدها ،وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي الّ عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :عليكم بالصدق،
فإن الصدق يهدي إلى البر ،وإن البر يهدي إلى الجنة ،ول يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الّ
صديقًا .وإياكم والكذب ،فإن الكذب يهدي إلى الفجور ،وإن الفجور يهدي إلى النار ،ول يزال الرجل يكذب ،ويتحرى
الكذب حتى يكتب عند الّ كذّابًا) ،فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر ،وأن الكذب يستلزم
الفجور.
وقد قال تعالى{ :إِنّ ا َلْبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ .وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ}[النفطار]14 ،13 :؛ ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر
بعض متبعيه بالتوبة وأحب أل ينفره ول يشعب قلبه أمره بالصدق؛ ولهذا كان يكثر في كلم مشائخ الدين وأئمته ذكر
ل في الَرْض ،وما وضع الصدق والخلص حتى يقولوا :قل لمن ل يصدق :ل يتبعني .ويقولون :الصدق سيف ا ّ
على شيء إل قطعه ،ويقول يوسف بن أسباط وغيره :ما صدق الّ عبدٌ إل صنع له .وأمثال هذا كثير.
والصدق والخلص هما في الحقيقة تحقيق اليمان والسلم ،فإن /المظهرين للسلم ينقسمون إلى :مؤمن ومنافق،
والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق ،فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر الّ حقيقة
ن قُولُوا أَسَْل ْمنَا}إلى قولهِ{ :إّنمَا ا ْلمُ ْؤمِنُونَ اليمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى{ :قَاَلتْ الَْعْرَا ُ
ب آ َمنّا ُقلْ لَ ْم تُ ْؤ ِمنُوا وََلكِ ْ
اّلذِينَ آ َمنُوا بِالِّ َورَسُولِ ِه ُثمّ لَ ْم يَ ْرتَابُوا َوجَا َهدُوا بَِأمْوَاِلهِمْ وَأَن ُف ِسهِ ْم فِي َسبِيلِ الِّ ُأوَْل ِئكَ ُهمْ الصّا ِدقُونَ} [الحجرات،]15 ،14 :
ضوَانًا َو َينْصُرُونَ الَّ وَرَسُولَهُ أُوَْل ِئكَ
ل مِنْ الِّ وَرِ ْ وقال تعالى{ :لِلْ ُفقَرَاءِ ا ْل ُمهَاجِرِينَ اّلذِينَ ُأخْرِجُوا مِنْ دِيارِ ِهمْ وََأمْوَاِل ِه ْم يَ ْب َتغُونَ َفضْ ً
هُمْ الصّا ِدقُونَ} [الحشر.]8 :
فأخبر أن الصادقين في دعوى اليمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة ،وجاهدوا في سبيله بأموالهم
لّ مِيثَاقَ ال ّنبِيّينَ َلمَا آ َت ْيتُكُ ْم مِنْ وأنفسهم ،وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الولين والخرين كما قال تعالى{ :وَِإذْ أَ َ
خذَ ا ُ
خ ْذتُمْ عَلَى ذَِلكُمْ ِإصْرِي قَالُوا َأقْرَ ْرنَا قَالَ
صدّقٌ ِلمَا َم َعكُمْ َلتُ ْؤ ِمنُنّ بِهِ وََل َتنْصُ ُرنّ ُه قَالَ أََأقْ َر ْرتُمْ وَأَ َ
ل مُ َ
ح ْكمَةٍ ثُمّ جَا َءكُمْ رَسُو ٌ
ِكتَابٍ َو ِ
فَا ْش َهدُوا وََأنَا َمعَكُ ْم مِنْ الشّا ِهدِينَ}[آل عمران ،]81 :قال ابن عباس :ما بعث الّ نبيًا إل أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد
وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ،وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
شدِيدٌ َو َمنَافِعُ
حدِي َد فِيهِ َبأْسٌ َ وقال تعالى{ :لَ َقدْ أَ ْرسَ ْلنَا ُرسَُلنَا بِا ْل َبّينَاتِ َوَأنْزَ ْلنَا َم َعهُمْ ا ْل ِكتَابَ وَا ْلمِيزَانَ ِليَقُومَ النّا ُ
س بِالْ ِقسْطِ وََأنْزَ ْلنَا الْ َ
لّ قَوِيّ عَزِيزٌ}[الحديد ،]25 :فذكر ـ تعالى ـ أنه أنزل الكتاب والميزان، ن َينْصُرُهُ َورُسُلَ ُه بِا ْل َغيْبِ إِنّ ا َ لّ مَ ْ لِلنّاسِ وَِل َيعْلَمَ ا ُ
وأنه أنزل الحديد لجل القيام بالقسط؛ وليعلم الّ من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي ،وسيف
ينصر ،وكفى بربك هاديًا ونصيرًا .والكتاب والحديد وإن اشتركا في النزال فل يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث
ب مِنْ الِّ ا ْلعَزِيزِ الْ َحكِيمِ} [الزمر ،]1 :وقال تعالى: لم ينزل الخر حيث نزل الكتاب من الّ ،كما قال تعالى{ :تَنْزِيلُ ا ْلكِتَا ِ
ت مِنْ َلدُنْ َحكِيمٍ َخبِيرٍ} [هود ،]1 :وقال تعالى{ :وَِإّنكَ َلتُلَقّى الْ ُقرْآ َن مِنْ َلدُنْ َحكِيمٍ عَلِيمٍ} [
ت آيَاتُ ُه ثُ ّم فُصَّل ْ
ح ِكمَ ْ
{الر ِكتَابٌ ُأ ْ
النمل ،]6 :والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها.
شرِقِ ن تُوَلّوا ُوجُو َهكُ ْم ِقبَلَ ا ْلمَ ْ وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالىَ{ :ليْسَ ا ْلبِرّ أَ ْ
ص َدقُوا َوأُوَْل ِئكَ ُهمْ ا ْل ُمتّقُونَ} [ ل ِئكَةِ وَا ْل ِكتَابِ وَال ّنبِيّينَ}إلى قوله{ :أُوَْل ِئكَ اّلذِينَ َ
ن بِالِّ وَا ْليَوْمِ الْخِرِ وَا ْلمَ َ
وَا ْل َمغْرِبِ وََلكِنّ ا ْلبِ ّر مَنْ آمَ َ
ض فَزَادَهُمْ الُّ البقرة ،]177 :وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى{ :فِي ُقلُو ِبهِ ْم مَرَ ٌ
ش َهدُ ِإّنكَ لَ َرسُولُ الِّ وَالُّ عذَابٌ َألِي ٌم ِبمَا كَانُوا َيكْ ِذبُونَ} [البقرة ،]10 :وقوله تعالىِ{ :إذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُو َ
ن قَالُوا نَ ْ مَرَضًا وََلهُمْ َ
ش َهدُ إِنّ ا ْل ُمنَافِقِينَ َلكَا ِذبُونَ} [المنافقون ،]1 :وقوله تعالى{ :فَأَعْ َق َبهُ ْم نِفَاقًا فِي قُلُو ِبهِمْ إِلَى يَوْ ِم يَلْقَ ْونَ ُه ِبمَا لّ يَ ْ
َيعْلَمُ ِإّنكَ لَرَسُولُهُ وَا ُ
لّ مَا وَ َعدُوهُ َو ِبمَا كَانُوا َيكْ ِذبُونَ} [التوبة .]77 :ونحو ذلك في القرآن كثير. أَخَْلفُوا ا َ
ومما ينبغي أن يعرف :أن الصدق والتصديق يكون في القوال وفي /العمال ،كقول النبي صلى ال عليه وسلم في
الحـديث الصحـيح( :كتب على ابـن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك ل محالة ،فالعينان تزنيان وزناهما النظر،
والذنان تزنيان وزناهما السمع ،واليدان تزنيان وزناهما البطش ،والرجلن تزنيان وزناهما المشي ،والقلب يتمنى
ويشتهي ،والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) .ويقال :حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة،
ويقال فلن صادق الحب والمودة ونحو ذلك .ولهذا يريدون بالصادق :الصادق في إرادته وقصده وطلبه ،وهو
الصادق في عمله ،ويريدون الصادق في خبره وكلمه ،والمنافق ضد المؤمن الصادق ،وهو الذي يكون كاذبًا في
خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله .قال الّ تعالى{ :إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُيخَادِعُونَ الَّ وَهُوَ خَادِ ُ
عهُمْ وَِإذَا قَامُوا إِلَى الصّلَةِ
قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النّاسَ} اليتين [النساء.]143 ،142 :
ل فِيهِ وأما الخلص فهو حقيقة السلم ،إذ السلم هو :الستسلم لّ ل لغيره ،كما قال تعالى{ :ضَرَبَ ا ُ
لّ مَثَلً َرجُ ً
شُ َركَا ُء ُمتَشَاكِسُونَ وَرَجُلً سََلمًا ِلرَجُلٍ َه ْل يَ ْستَ ِويَانِ} الية [الزمر .]29 :فمن لم يستسلم لّ فقد استكبر ،ومن استسلم لّ
ولغيرة فقد أشرك ،وكل من الكبر والشرك ضد السلم ،والسلم ضد الشرك والكبر .ويستعمل لزمًا ومتعديًا كما
قال تعالىِ{ :إ ْذ قَالَ لَهُ َربّهُ أَسِْل ْم قَالَ أَسَْلمْتُ ِلرَبّ ا ْلعَاَلمِينَ} [البقرة ،]131 :وقال تعالى{ :بَلَى مَنْ أَسَْلمَ وَ ْ
جهَهُ لِّ وَهُ َو ُمحْسِنٌ
فَلَهُ أَ ْجرُهُ ِعنْدَ َربّهِ َولَ خَ ْوفٌ عََل ْيهِمْ َولَ هُ ْم يَحْ َزنُونَ} [البقرة .]112 :وأمثال ذلك في القرآن كثير.
ل وحده وترك عبادة ما سواه ،وهو السلم /ولهذا كان رأس السلم [شهادة أن ل إله إل الّ] ،وهي متضمنة عبادة ا ّ
ل ِمنْهُ وَهُ َو فِي ن يُ ْقبَ َ
لْسْلَ ِم دِينًا فَلَ ْ غيْرَ ا ِالعام الذي ل يقبل الّ من الولين والخرين دينا سواه ،كما قال تعالىَ { :ومَنْ َي ْبتَغِ َ
ط لَ إِلَهَ ِإلّ
ل ِئكَةُ وَأُوْلُوا ا ْلعِلْ ِم قَا ِئمًا بِالْ ِقسْ ِ الْخِ َر ِة مِنْ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران ،]85 :وقال تعالىَ { :
ش ِهدَ الُّ َأنّ ُه لَ إِلَهَ ِإلّ هُوَ وَا ْلمَ َ
هُوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َحكِيمُ .إِ ّن الدّينَ ِع ْندَ الِّ الِْسْلَمُ}[آل عمران.]19 ،18 :
وهذا الذي ذكرناه ،مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة :هو المور الباطنة من العلوم والعمال ،وأن العمال
الظاهرة ل تنفع بدونها .كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده( :السلم عَلنية،
واليمان في القلب)؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي
صلى ال عليه وسلم( :الحلل بَيّن ،والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات ل يعلمهن كثير من الناس ،فمن اتقى
الشبهات فقد استبرأ لعِ ْرضِه ودِينهِ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع
فيه ،أل وإن لكل ملك حمى ،أل وإن حمى الّ محارمه ،أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد
وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ،أل وهي القلب) ،وعن أبي هريرة قال :القلب ملك والعضاء جنوده ،فإذا طاب
الملك طابت جنوده ،وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
فَصـــل
وهذه العمال الباطنة ،كمحبة الّ والخلص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك ،كلها مأمور بها في حق
الخاصة والعامة ل يكون تركها محمودًا في حال أحد ،وإن ارتقى مقامه.
وأما [الحزن] فلم يأمر الّ به ول رسوله ،بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين ،كقوله تعالىَ { :و َ
ل َت ِهنُوا
ق ِممّا َي ْمكُرُونَ} [
ضيْ ٍ
ك فِي َ
ل َت ُ ن ُك ْنتُ ْم مُ ْؤ ِمنِينَ} [آل عمران ،]139 :وقولهَ { :و َ
ل تَحْزَنْ عََل ْيهِمْ َو َ ل تَحْ َزنُوا وََأ ْنتُمْ الَْعْلَوْنَ إِ ْ
َو َ
لّ َم َعنَا} [التوبة ،]40 :وقولهَ { :و َل يَحْ ُز ْنكَ َقوُْلهُمْ} [يونس]56 : ل تَحْزَنْ إِنّ ا َ النحل ،]127 :وقولهِ{ :إذْ يَقُولُ لِصَا ِ
حبِ ِه َ
،وقولهِ{ :ل َكيْلَ تَ ْأسَوْا عَلَى مَا فَا َتكُمْ َو َل تَفْ َرحُوا ِبمَا آتَا ُكمْ} [الحديد .]23 :وأمثال ذلك كثير.
وذلك ؛لنه ل يجلب منفعة ول يدفع مضرة فل فائدة فيه ،وما ل فائدة فيه ل يأمر الّ به ،نعم! ل يأثم صاحبه إذا لم
يقترن بحزنه محرم ،كما يحزن على المصائب ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :إن الّ ل يؤاخذ على دمع العين
ول على حزن القلب ،ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم) وأشار بيده إلى لسانه ،وقال صلى ال عليه وسلم( :تدمع العين،
ع ْينَاهُ
سفَى عَلَى يُوسُفَ وَا ْبيَضّتْ َ
ل يَاأَ َ ويحزن القلب/ ،ول نقول إل ما يرضى الرب) ،ومنه قوله تعالىَ { :وتَوَلّى َ
ع ْنهُمْ َوقَا َ
مِنَ الْحُزْ ِن َفهُ َو كَظِيمٌ}[يوسف.]84 :
وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه ،فيكون محمودًا من تلك الجهة ل من جهة الحزن ،كالحزين
على مصيبة في دينه ،وعلى مصائب المسلمين عمومًا .فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير ،وبغض الشر،
وتوابع ذلك ،ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى
عنه ،وإل كان حسب صاحبه رفع الثم عنه من جهة الحزن.
وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الّ ورسوله به ،كان مذمومًا عليه من تلك الجهة ،وإن
كان محمودًا من جهة أخرى.
وأما المحبة لّ ،والتوكل عليه ،والخلص له ونحو ذلك ،فهذه كلها خير محض ،وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .ومن قال :إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك
إن أراد خروج الخاصة عنها ،فإن هذه ل يخرج عنها مؤمن قط ،وإنما يخرج عنها كافر أو منافق .وقد تكلم بعضهم
في ذلك بكلم ،بينا غلطه فيه وأنه تقصير في تحقيق هذه المقامات بكلم مبسوط وليس هذا موضعه.
/ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى :خصوص وعموم ،فللخاصة خاصها ،وللعامة عامها .مثال ذلك أن هؤلء
قالوا :إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت ،والخاص ل يناضل عن نفسه .وقالوا :المتوكل يطلب بتوكله
أمرًا من المور ،والعارف يشهد المور بفروعها منها فل يطلب شيئًا .فيقال :أما الول فإن التوكل أعم من التوكل
في مصالح الدنيا ،فإن المتوكل يتوكل على الّ في صلح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم المور إليه؛ ولهذا
ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة ،]5 :كما في قوله تعالى{ :فَا ْعُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [ يناجي ربه في كل صلة بقولهِ{ :إيّا َ
ك َنعْ ُبدُ وَِإيّا َ
هود ،]123 :وقوله{ :عََليْهِ تَ َوكّ ْلتُ وَإَِليْهِ ُأنِيبُ} [هود ،88 :الشورى ،]10 :وقوله{ :قُلْ هُوَ َربّي لَ إِلَهَ ِإلّ ُهوَ عََليْهِ
تَ َوكّلْتُ وَإَِليْ ِه َمتَابِ}[الرعد.]30 :
فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف :إن الّ
جمع الكتب المنزلة في القرآن ،وجمع علم القرآن في المفصل ،وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب ،وجمع علم
ك نَ ْس َتعِينُ}. فاتحة الكتاب في قولهِ{ :إيّا َ
ك َنعْ ُبدُ وَِإيّا َ
وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد ،كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي
صلى ال عليه وسلم أنه قال( :يقول الّ سبحانه :قسمت الصلة بيني وبين عبدي نصفين ،نصفها لي ونصفها لعبدي،
ولعبدي ما سأل) قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم( :يقول العبد :الحمد لّ رب العالمين ،يقول الّ :حمدني عبدي.
يقول العبد :الرحمن /الرحيم ،يقول الّ :أثنى على عبدي .يقول العبد :مالك يوم الدين ،يقول الّ :مجدني عبدي .يقول
العبد :إياك نعبد وإياك نستعين ،يقول الّّ :فهذه الية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل .يقول العبد :اهدنا
الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ول الضالين ،يقول الّ :فهؤلء لعبدي ولعبدي
ما سأل) .فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير ،والعبد له نصف الدعاء والطلب .وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه،
وما للعبد ،فإياك نعبد للرب ،وإىاك نستعين للعبد.
وفي الصحيحين عن معاذ ـ رضي الّ عنه ـ قال :كنت رديفًا للنبي صلى ال عليه وسلم على حمار فقال( :يا معاذ،
أتدري ما حق الّ على العباد؟) قلت :الّ ورسوله أعلم ،قال( :حق ال على العباد أن يعبدوه ول يشركوا به شيئا،
أتدري ما حق العباد على الّ إذا فعلوا ذلك؟) قلت :الّ ورسوله أعلم ،قال( :حقهم عليه أل يعذبهم) .والعبادة هي الغاية
التي خلق الّ لها العباد من جهة أمر الّ ومحبته ورضاه كما قال تعالىَ { :ومَا خََلقْتُ ا ْلجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعبُدُونِي} [
الذاريات ،]56 :وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب ،وهي اسم يجمع كمال الحب لّ ونهايته ،وكمال الذل لّ ونهايته،
فالحب الخلي عن ذل ،والذل الخلي عن حب ل يكون عبادة ،وإنما العبادة ما يجمع كمال المرين؛ولهذا كانت العبادة
لتصلح إل لّ ،وهي وإن كانت منفعتها للعبد والّ غني عن العالمين ،فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها؛ولهذا
كان الّ أشد فرحًا بتوبة العبد من /الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في أرض دوية مهلكة إذا نام آيسًا منها ثم
استيقظ فوجدها ،فالّ أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته ،وهذا يتعلق به أمور جليلة قد بسطناها وشرحناها في
غير هذا الموضع.
والتوكل والستعانة للعبد؛ لنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة ،فالستعانة كالدعاء
والمسألة .وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى ال عليه وسلم قال[ :يقول الّ عز وجل :يا بن آدم،
إنما هي أربع :واحدة لي ،وواحدة لك ،وواحدة بيني وبينك ،وواحدة بينك وبين خلقي .فأما التي لي فتعبدني ل تشرك
بي شيئا ،وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه ،وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلىّ الجابة،
وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك).
ل وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء ،فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملئمًا له ،والّ ـ
وكون هذا ّ
تعالى ـ يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه ،ويحب الوسيلة تبعًا لذلك ،وإل فكل مأمور به فمنفعته عائدة
على العبد ،وكل ذلك يحبه الّ ويرضاه ،وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل ل يطلب
به إل حظوظ الدنيا ،وهو غلط بل التوكل في المور الدينية أعظم.
/وأيضًا ،التوكل من المور الدينية التي ل تتم الواجبات والمستحبات إل بها ،والزاهد فيها زاهد فيما يحبه الّ ويأمر
به ويرضاه.
والزهد المشروع هو :ترك الرغبة فيما ل ينفع في الدار الخرة ،وهو فضول المباح التي ل يستعان بها على طاعة
الّ ،كما أن الورع المشروع هو :ترك ما قد يضر في الدار الخرة ،وهو ترك المحرمات والشبهات التي ليستلزم
تركها ترك ما فعله أرجح منها ،كالواجبات .فأما ما ينفع في الدار الخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار
حلّ الُّ َلكُمْ َو َ
ل ت مَا أَ َ
طّيبَا ِ الخرة ،فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِي َ
ن آ َمنُوا لَ ُتحَ ّرمُوا َ
لّ َل يُحِبّ ا ْل ُمعْ َتدِينَ}[المائدة ،]87 :كما أن الشتغال بفضول المباحات ،هو ضد الزهد المشروع ،فإن اشتغل
َتعْ َتدُوا إِنّ ا َ
بها عن فعل واجب أو فعل محرم كان عاصيًا ،وإل كان منقوصًا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين.
ل مرضي له مأمور به دائمًا ،وما كان محبوبًا لّ مرضيًا له مأمورًا به دائما ل يكون
وأيضًا ،فإن التوكل هو محبوب ّ
من فعل المقتصدين دون المقربين ،فهذه ثلثة أجوبة عن قولهم :المتوكل يطلب حظوظه.
وأما قولهم :إن المور قد فرغ منها ،فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه ل حاجة إليه؛ لن المطلوب إن كان
مقدرًا فل حاجة إليه ،وإن لم يكن /مقدرًا لم ينفع الدعاء ،وهذا القول من أفسد القوال شرعًا وعقلً.
وكذلك قول من قال :التوكل والدعاء ل يجلب به منفعة ول يدفع به مضرة ،وإنما هو عبادة محضة ،وإن حقيقة
التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض ،وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضًا ،وكذلك قول من قال:
إن الدعاء إنما هو عبادة محضة.
فهذه القوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد :وهو أن هؤلء ظنوا أن كون المور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على
أسباب مقدرة ـ أيضًا ـ تكون من العبد ،ولم يعلموا أن الّ سبحانه يقدر المور ويقضيها بالسباب التي جعلها معلقة
بها من أفعال العباد ،وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل العمال بالكلية.
وقد سئل النبي صلى ال عليه وسلم عن هذا الصل مرات ،فأجاب عنه كما أخرجا في الصحيحين عن عمران بن
حصين قال :قيل لرسول الّ صلى ال عليه وسلم :يا رسول الّ ،أعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟ قال( :نعم) .قالوا :ففيم
العمل؟ قال( :كل ميسر لما خلق له) .وفي الصحيحين عن على بن أبي طالب قال :كنا في جنازة فيها رسول الّ صلى
ال عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الرض ،ثم رفع رأسه وقال( :ما من نفس منفوسة
إل وقد كتب مكانها من النار أو الجنة ،إل وقد كتبت شقية أو سعيدة) .قال / :فقال رجل من القوم :يا نبي الّ ،أفل
نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة ،ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى
الشقاوة .قال[ :اعملوا فكل ميسر لما خلق له .أما أهل السعادة فييسرون للسعادة ،وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة]،
س َتغْنَى.
ن بَخِلَ وَا ْ
س ُنيَسّ ُرهُ لِ ْليُسْرَى .وََأمّا مَ ْ
سنَى .فَ َ
ق بِا ْلحُ ْ ثم قال نبي الّ صلى ال عليه وسلم{[ :فََأمّا مَنْ أَعْطَى وَاتّقَى .وَ َ
صدّ َ
ب بِالْ ُح ْسنَى .فَ َسُنيَسّرُهُ لِ ْل ُعسْرَى}) [الليل 5 :ـ ،]10أخرجه الجماعة في الصحاح والسنن والمسانيد. َو َكذّ َ
وروى الترمذي أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل فقيل :يا رسول الّ ،أرأيت أدوية نتداوى بها ،ورقى نسترقى بها
وتقى نتقيها هل ترد من قدر الّ شيئًا؟ فقال( :هي من قدر الّ).
وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى ال عليه وسلم في عدة أحاديث.
فبين صلى ال عليه وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي ل ينافى أن تكون سعادة هذا بالعمال الصالحة،
وشقاوة هذا بالعمال السيئة ،فإنه سبحانه يعلم المور على ما هي عليه ،وكذلك يكتبها ،فهو يعلم أن السعيد يسعد
بالعمال الصالحة ،والشقي يشقى بالعمال السيئة ،فمن كان سعيدًا ييسر للعمال الصالحة التي تقتضي السعادة،
ومن كان شقيًا ييسر للعمال السيئة /التي تقتضى الشقاوة ،وكلهما ميسر لما خلق له ،وهو ما يصير إليه من مشيئة
ختَلِفِينَِ .إلّ مَنْ َرحِمَ َرّبكَ وَِلذَِلكَ الّ العامة الكونية التي ذكرها الّ ـ سبحانه ـ في كتابه في قوله تعالىَ { :و َ
ل يَزَالُونَ ُم ْ
خََل َقهُمْ}[هود.]119 ،118 :
وأما ما خلقوا له من محبة الّ ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا بموجبها فذلك مذكور في قولهَ { :ومَا َ
خلَ ْقتُ الْجِنّ
وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعبُدُونِ}[الذاريات.]56 :
والّ ـ سبحانه ـ قد بين في كتابه في كل واحدة :من [الكلمات] و[المر] و[الرادة] و[الذن] و [الكتاب] و [الحكم] و
ل ورضاه وأمره الشرعي ،وما هو كوني موافق لمشيئته [القضاء] و [التحريم] ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة ا ّ
الكونية.
لّ َي ْأمُ ُر بِا ْل َعدْلِ وَالِحْسَانِ وَإِيتَا ِء ذِي الْ ُق ْربَى} [النحل ،]90 :وقال تعالى{ :إِنّ الَّ مثال ذلك أنه قال في المر الديني{ :إِنّ ا َ
ن يَقُولَ لَ ُه كُنْ لْمَانَاتِ إِلَى أَهِْلهَا} [النساء ،]58 :ونحو ذلك .وقال في الكونيِ{ :إّنمَا َأمْ ُرهُ ِإذَا أَرَادَ َ
ش ْيئًا أَ ْ ن تُ َؤدّوا ا َ
يَ ْأمُ ُركُمْ أَ ْ
ك قَ ْريَةً َأمَ ْرنَا ُمتْ َرفِيهَا فَفَ َسقُوا فِيهَا فَ َحقّ عََل ْيهَا ا ْلقَوْلُ} [السراء]16 : َف َيكُونُ} [يس ،]82 :وكذلك قوله{ :وَِإذَا َأ َردْنَا أَ ْ
ن ُنهِْل َ
على إحدى القوال في هذه الية.
سنَنَ اّلذِينَسرَ} [البقرة{/ ،]185 :يُرِيدُ الُّ ِل ُي َبيّنَ َلكُمْ َو َيهْ ِديَكُمْ ُ ل يُرِيدُ ِبكُمْ ا ْلعُ ْ
لّ بِكُمْ ا ْليُسْرَ َو َ وقال فى الرادة الدينية{ :يُرِيدُ ا ُ
طهّ َركُمْ}[المائدة،]6 : ن يُرِيدُ ِليُ َ حكِيمٌ} [النساء{ ،]26 :مَا يُرِيدُ الُّ ِليَ ْ
جعَلَ عََل ْيكُ ْم مِنْ حَ َرجٍ وََلكِ ْ مِنْ َقبِْلكُمْ َو َيتُوبَ عََل ْيكُمْ وَالُّ عَلِيمٌ َ
ن يَه ِديَهُ
ن يُ ِردْ الُّ أَ ْل مَا يُرِيدُ} [البقرة ،]253 :وقالَ { :فمَ ْ لّ يَ ْفعَ ُ وقال في الرادة الكونية{ :وَلَوْ شَاءَ ا ُ
لّ مَا ا ْق َتتَلُوا وََلكِنّ ا َ
ص ّعدُ فِي ال ّسمَاءِ}[النعام ،]125 :وقال نوح عليه حرَجًا كََأّنمَا يَ ّ ضيّقًا َ صدْرَهُ َ جعَلْ َ ن يُضِلّ ُه يَ ْ
صدْرَهُ لِلِْسْلَمِ َومَنْ يُ ِردْ أَ ْ يَشْرَحْ َ
ل يُرِيدُ أَن ُيغْ ِو َيكُمْ}[هود ،]34 :وقال تعالىِ{ :إّنمَا َأمْ ُرهُ ِإذَا أَرَادَ صحِي إِنْ َأرَدتّ أَنْ أَنصَحَ َلكُمْ إِن كَانَ ا ّ السلمَ { :و َ
ل يَن َف ُعكُ ْم نُ ْ
َش ْيئًا أَ ْن يَقُولَ لَ ُه كُنْ َف َيكُونُ} [يس.]28 :
طعْتُ ْم مِنْ لِينَةٍ أَ ْو تَ َر ْكُتمُوهَا قَا ِئمَةً عَلَى ُأصُوِلهَا َفبِِإذْنِ الِّ وَِليُ ْخزِيَ ا ْلفَاسِقِينَ} [الحشر،]5 :
وقال تعالى في الذن الديني{ :مَا َق َ
وقال تعالى في الكونيَ { :ومَا هُ ْم بِضَارّينَ بِ ِه مِنْ أَ َحدٍ ِإ ّل بِِإذْنِ الِّ} [البقرة.]102 :
ل َتعْ ُبدُوا ِإلّ ِإيّاهُ} [السراء ]23 :أي :أمر ،وقال تعالى في الكوني{ :
وقال تعالى في القضاء الدينيَ { :و َقضَى َرّبكَ َأ ّ
ت فِي يَ ْومَيْنِ} [فصلت.]12 : سمَاوَا ٍ
سبْعَ َ
فَ َقضَاهُنّ َ
وقال تعالى في التحريم الديني{ :حُ ّرمَتْ عََل ْيكُمْ ا ْل َم ْيتَةُ وَالدّمُ وََلحْمُ ا ْلخِنزِيرِ} [المائدة{ ،]3 :حُ ّرمَتْ عََل ْيكُمْ ُأ ّمهَا ُتكُمْ َو َبنَا ُتكُمْ}
الية [النساء .]23 :وقال تعالى في التحريم الكونيَ { :فِإنّهَا ُمحَ ّرمَةٌ عََل ْيهِمْ أَ ْر َبعِينَ َسنَ ًة َيتِيهُو َن فِي ا َلْرْضِ} [المائدة26 :
].
ق َمعْلُومٌ .لِلسّائِلِ وَا ْلمَحْرُومِ} [المعارج ،]25 ،24 :وقال تعالى في الكلمات الدينية{ : وقال تعالى{ :وَاّلذِينَ فِي َأمْوَاِلهِمْ حَ ّ
سنَى عَلَى َبنِي ِإسْرَائِيلَ
حْ ت َفَأ َتمّهُنّ} [البقرة ،]124 :وقال تعالى في الكونيةَ { :و َتمّ ْ
ت كَِلمَةُ َرّبكَ الْ ُ وَِإ ْذ ا ْبتَلَى ِإبْرَاهِيمَ َربّ ُه ِبكَِلمَا ٍ
صبَرُوا} [العراف ،]137 :ومنه قوله صلى ال عليه وسلم المستفيض عنه من وجوه في الصحاح والسنن ِبمَا َ
والمسانيد أنه كان يقول في استعاذته( :أعوذ بكلمات الّ التامات التي ل يجاوزهن بَرّ ول فاجر) .ومن المعلوم أن هذا
هو الكوني الذي ل يخرج منه شىء ،عن مشيئته وتكوينه .وأما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته.
والمقصود هنا أنه صلى ال عليه وسلم بين أن العواقب التي خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالعمال
التي يصيرون بها إلى ذلك ،كما أن سائر المخلوقات كذلك ،فهو ـ سبحانه ـ يخلق الولد وسائر الحيوان في الرحام بما
يقدره من اجتماع البوين على النكاح ،واجتماع المائين في الرحم ،فلو قال النسان :أنا أتوكل ول أطأ زوجتي ،فإن
كان قد /قضى لي بولد وجد وإل لم يوجد ول حاجة إلى وطء ،كان أحمق بخلف ما إذا وطئ وعزل الماء فإن عزل
الماء ل يمنع انعقاد الولد إذا شاء الّ ،إذ قد يسبق الماء بغير اختياره.
ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ،قال :خرجنا مع رسول الّ صلى ال عليه وسلم في غزوة
بني المصطلق ،فأصبنا سبيًا من العرب ،فاشتهينا النساء ،واشتدت علىنا العزبة ،وأحببنا العزل ،فسألنا عن ذلك
رسول الّ صلى ال عليه وسلم( :فقال ما علىكم أل تفعلوا ،فإن الّ قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة) ،وفي
صحيح مسلم عن جابر :أن رجلً أتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال :إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل،
وأنا أطوف عليها ،وأكره أن تحمل ،فقال( :اعزل عنها إن شئت ،فإنه سيأتيها ما قدر لها).
وهذا مع أن الّ ـ سبحانه ـ قادر على ما قد فعله من خلق النسان من غير أبوين كما خلق آدم ،ومن خلقه من أب فقط
كما خلق حواء من ضلع آدم القصير ،ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح ابن مريم ـ عليه السلم ،لكن خلق ذلك
بأسباب أخرى غير معتادة.
وهذا الموضع ،وإن كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع ،فقد وقع في كثير من دقه كثير من المشائخ
المعظمين يسترسل أحدهم مع القدر /غير محقق لما أمر به ونهى عنه ،ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل،
والجري مع الحقيقة القدرية ،ويحسب أن قول القائل :ينبغي للعبد أن يكون مع الّ كالميت بين يدي الغاسل يتضمن
ترك العمل بالمر والنهي حتى يترك ما أمر به ،ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان الذي يفرق به
بين ما أمر الّ به وأحبه ورضيه ،وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوي بين ما فرق الّ بينه كما قال تعالى{ :أَمْ
حَ ِسبَ اّلذِينَ ا ْجتَرَحُوا ال ّسّيئَاتِ أَ ْن نَ ْجعََلهُ ْم كَاّلذِينَ آ َمنُوا وَ َعمِلُوا الصّالِحَاتِ سَوَا ًء َم ْحيَاهُمْ َو َممَاُتهُمْ سَا َء مَا يَ ْح ُكمُونَ}[الجاثية،]21 :
ن آ َمنُوا ح ُكمُونَ} [القلم ]36 ،35 :وقال تعالى{ :أَ ْم نَ ْ
جعَلُ اّلذِي َ ف تَ ْ
ج ِرمِينَ .مَا َل ُك ْم كَيْ َن كَا ْلمُ ْ
جعَلُ ا ْلمُسِْلمِي َ وقال تعالىَ{ :أ َفنَ ْ
ستَوِي اّلذِينَ َيعَْلمُونَل يَ ْ جعَلُ ا ْل ُمتّقِينَ كَالْ ُفجّارِ} [ص ،]28 :وقال تعالى{ :قُلْ َه ْ ن فِي الَْ ْرضِ أَ ْم نَ ْ سدِي َ
ت كَا ْلمُ ْف ِ
عمِلُوا الصّاِلحَا ِ وَ َ
عمَى وَا ْلبَصِيرَُ .ولَ الظُّلمَاتُ َولَ النّورَُ .ولَ الظّلّ َولَ ا ْلحَرُورَُ .ومَاستَوِي الَْ ْل َيعَْلمُونَ}[الزمر ،]9 :وقال تعالىَ { :ومَا يَ ْ وَاّلذِينَ َ
ت ِبمُ ْسمِعٍ مَ ْن فِي الْ ُقبُورِ} [فاطر ،]19-22 :وأمثال ذلك. ن يَشَاءُ َومَا َأنْ َ سمِعُ مَ ْلّ يُ ْلْمْوَاتُ إِنّ ا َ حيَاءُ َولَ ا َ ستَوِي الَْ ْيَ ْ
حتى يفضي المر بغلتهم إلى عدم التمييز بين المر بالمأمور النبوي اللهي الفرقاني الشرعي الذي دل عليه الكتاب
والسنة ،وبين ما يكون في الوجود من الحوال التي تجري على أيدي الكفار والفجار ،فيشهدون وجه الجمع من جهة
كون الجميع بقضاء الّ وقدره وربوبيته وإرادته العامة / ،وأنه داخل في ملكه ،ول يشهدون وجه الفرق الذي فرق الّ
به بين أوليائه وأعدائه ،والبرار والفجار ،والمؤمنين والكافرين ،وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الديني ،وأهل
المعصية الذين عصوا هذا المر ،ويستشهدون في ذلك بكلمات مجملة نقلت عن بعض الشياخ ،أو ببعض غلطات
بعضهم.
وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب العتناء به على أهل طريق الّ ،السالكين سبيل الرادة ؛ إرادة الذين يريدون
وجهه ،فإنه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان ما ل يعلمه إل الّ ،حتى
يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين في الرض من أهل الظلم والعلو ،كالذين يتوجهون بقلوبهم في
معاونة من يهوونه من أهل العلو في الرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها في ذلك كانوا بذلك
من أولياء الّ ـ فإن القلوب لها من التأثير أعظم مما للبدان ،لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحًا ،وإن كانت
فاسدة كان تأثيرها فاسدًا ،فالحوال يكون تأثيرها محبوبًا لّ تارة ،ومكروهًا لّ أخرى ،وقد تكلم الفقهاء على وجوب
القود على من يقتل غيره في الباطن حيث يجب القود في ذلك ـ ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم المر الكوني ،ويعدون
مجرد خرق العادة لحدهم بكشف يكشف له أو بتأثير يوافق إرادته هو كرامة من الّ له ،ول يعلمون أنه في الحقيقة
إهانة ،وأن الكرامة لزوم الستقامة ،وأن /الّ لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه ،وهو طاعته
وطاعة رسوله وموالة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلء هم أولياء الّ الذين قال الّ فيهمَ{ :ألَ إِنّ أَ ْوِليَاءَ ا ِ
لّ لَ خَوْفٌ عََل ْيهِمْ
َولَ هُ ْم يَحْ َزنُونَ}[يونس.]62 :
فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين ،وإن كانوا موافقين فيما أوجبه وأحبه فهم من المقربين،
مع أن كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجبًا ،وأما ما يبتلى الّ به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها ،أو
بالضراء فليس ذلك لجل كرامة العبد على ربه ول هوانه عليه ،بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه في ذلك ،وقد يشقى
بها قوم إذا عصوه في ذلك.
قال الّ تعالىَ { :فَأمّا الِْنسَانُ ِإذَا مَا ا ْبتَلَهُ َربّ ُه فََأكْ َرمَهُ َو َن ّعمَهُ َفيَقُولُ َربّي َأ ْك َرمَنِي .وََأمّا ِإذَا مَا ا ْبتَلَ ُه فَ َقدَرَ عََليْهِ رِ ْزقَ ُه َفيَقُولُ َربّي
أَهَا َننِي .كَلّ} [الفجر]15-17 :؛ ولهذا كان الناس في هذه المور على ثلثة أقسام:
وقوم يتعرضون بها لعذاب الّ إذا استعملوها في معصية الّ كبلعام وغيره.
وفي سنن أبي داود :إن رجلين اختصما إلى النبي صلى ال عليه وسلم ،فقضى على أحدهما ،فقال المقضي عليه:
حسبي الّ ونعم الوكيل .فقال رسول الّ صلى ال عليه وسلم( :إن ال يلوم على العجز ،ولكن علىك بالكيس ،فإذا
غلبك أمر فقل :حسبي الّ ونعم الوكيل) .فأمر النبي صلى ال عليه وسلم المؤمن أن يحرص على ما ينفعه وأن
ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة ،]5 :وقوله تعالى{ :فَا ْعُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [ يستعين بالّ ،وهذا مطابق لقوله تعالىِ{ :إيّا َ
ك َنعْ ُبدُ وَِإيّا َ
هود .]123 :فإن الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة الّ وعبادته؛ إذ النافع له هو طاعة الّ ول شىء أنفع له من
ذلك ،وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وإن كان من جنس المباح.
قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لسعد( :إنك لن /تنفق نفقة تبتغي بها وجه الّ إل ازددت بها
درجة ورفعة ،حتى اللقمة تضعها فى فيّ امرأتك) ،فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن الّ يلوم على العجز الذي هو
ضد الكيس ،وهو التفريط فيما يؤمر بفعله ،فإن ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل .وإن كان ل ينافى القدرة المتقدمة
التي هي مناط المر والنهي.
فإن الستطاعة التي توجب الفعل تكون مقارنة له ،ول تصلح إل لمقدورها ،كما ذكرها الّ تعالى في قوله{ :مَا كَانُوا
يَ ْستَطِيعُونَ ال ّسمْعَ} [هود ،]20 :وفي قولهَ { :وكَانُوا لَ يَ ْستَطِيعُونَ َس ْمعًا} [الكهف .]101 :وأما الستطاعة التي يتعلق
ستَطَاعَ إَِليْهِ بها المر والنهي فتلك قد يقترن بها الفعل وقد ل يقترن كما في قوله تعالى{ :وَلِّ عَلَى النّاسِ حِجّ ا ْل َبيْ ِ
ت مَنْ ا ْ
َسبِيلً} [آل عمران ،]97 :وقول النبي صلى ال عليه وسلم لعمران بن حصين( :صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا،
فإن لم تستطع فعلى جنب).
قـوم ينظـرون إلـى جانـب المـر والنهـي والعبـادة والطاعـة شاهديـن للهية الرب ـ سبحانه ـ الذي أمروا أن يعبدوه،
ول ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والستعانة ،وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة ،فهم مع حسن
ل والتوكل عليه
قصدهم وتعظيمهم لحرمات الّ ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلن؛ لن الستعانة با ّ
واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه المور.
/ولهذا قال بعض السلف :من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الّ .وفي الصحيحين عن عبد الّ بن عمرو؛ أن
رسول الّ صلى ال عليه وسلم صفته في التوراة( :إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للميين ،أنت عبدي
ورسولي ،سميتك المتوكل ،ليس بفظ ول غليظ ول صخّاب بالسواق ،ول يجزى بالسيئة السيئة ،ولكن يجزى بالسيئة
صمّا وقلوبًا غُ ْلفًا بأن يقولوا
الحسنة ،ويعفو ويغفر ،ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء ،فأفتح به أعينًا عميا وآذانًا ُ
ل إله إل الّ).
ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم :ل حول ول قوة إل بالّ .وقد ثبت في الصحيحين عن
لّ َفهُوَ حَ ْسبُهُ} [الطلق ،]3 :وقال النبي صلى ال عليه وسلم( :إنها كنز من كنوز الجنة) .قال تعالىَ { :ومَنْ َيتَ َوكّلْ عَلَى ا ِ
لّ وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ} إلى قوله:
شوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا َوقَالُوا حَسْبُنَا ا ُ
خَج َمعُوا َلكُمْ فَا ْ
تعالى :الّذِينَ قَالَ َلهُمْ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ َ
ل تَخَافُوهُمْ َوخَافُونِي إِ ْن ُك ْنتُ ْم مُ ْؤ ِمنِينَ} [آل عمران ،]173-175 :وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ـ رضي الّ {فَ َ
عنه ـ في قولهَ { :وقَالُوا حَ ْسُبنَا الُّ َو ِنعْمَ الْ َوكِيلُ} قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار ،وقالها محمد صلى ال عليه
وسلم حين قال لهم الناس :إن الناس قد جمعوا لكم).
وقسم ثان :يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به ،لكن على أهوائهم وأذواقهم ،غير ناظرين إلى حقيقة
أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته ،وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيرًا /ما يعملون على
الحوال التي يتصرفون بها في الوجود ،ول يقصدون ما يرضى الرب ويحبه ،وكثيرًا ما يغلطون ،فيظنون أن
معصيته هي مرضاته ،فيعودون إلى تعطيل المر والنهي ويسمون هذا حقيقة ،ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب
السترسال معها دون مراعاة الحقيقة المرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرًا
وباطنًا.
وهؤلء كثيرًا ما يسلبون أحوالهم ،وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق ،بل كثير منهم يرتد عن السلم؛ لن
العاقبة للتقوى ،ومن لم يقف عند أمر الّ ونهيه فليس من المتقين ،فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه ،تارة
في بدعة يظنونها شرعة ،وتارة في الحتجاج بالقدر على المر ،والّ ـ تعالى ـ لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة
النعام والعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى{ :وَِإذَا َفعَلُوا فَاحِشَ ًة قَالُوا وَ َ
ج ْدنَا عََل ْيهَا آبَا َءنَا وَالُّ
لّ لَ يَ ْأ ُم ُر بِالْ َفحْشَاءِ} [العراف ،]28 :وقد ذمهم على أن حرموا ما لم يحرمه الّ ،وأن شرعوا ما لم َأمَ َرنَا ِبهَا قُلْ إِنّ ا َ
ل آبَا ُؤنَا َولَ حَ ّر ْمنَا مِنْ لّ مَا َأشْ َر ْكنَا َو َ
ش َركُوا لَوْ شَاءَ ا ُ يشرعه الّ ،وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله تعالىَ { :
سيَقُولُ اّلذِينَ أَ ْ
يءٍ} [النعام ،]148 :ونظيرها في النحل ويس والزخرف .وهؤلء يكون فيهم شبه من هذا وهذا. شَ ْ
وأما القسم الثالث :وهو من أعرض عن عبادة الّ واستعانته به فهؤلء شر القسام.
ولهذا قال طائفة من العلماء :اللتفات إلى السباب شرك في التوحيد ،ومحو السباب أن تكون أسباب نقص في
العقل ،والعراض عن السباب بالكلية قدح في الشرع ،وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد
والعقل والشرع.
فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق ،فقد غلط غلطًا شديدًا ،وإن كان من أعيان المشائخ ـ
كصاحب [علل المقامات] وهو من أجل المشائخ ،وأخذ ذلك عنه صاحب [محاسن المجالس] ـ وظهر ضعف حجة
من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط ،وظنه أنه ل فائدة له في تحصيل المقصود ،وهذه حال من جعل
الدعاء كذلك ،وذلك بمنزلة من جعل العمال المأمور بها كذلك ،كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من /السباب
التي هي عبادة وطاعة مأمور بهـا ،فإن غلـط هـذا في ترك السباب المأمور بها التي هي داخـلة في قوله تعـالى{ :
فَا ْعُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} كغلط الول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالى{ :فَا ْعُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود:
.]123
لكن يقال :من كان توكله على الّ ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة ،وإن كان في حصول مستحبات
وواجبات فهو من الخاصة ،كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه ،ومن أعرض عن
التوكل فهو عاص لّ ورسوله ،بل خارج عن حقيقة اليمان ،فكيف يكون هذا المقام للخاصة ،قال الّ تعالىَ { :وقَالَ
لّ فَلَ غَاِلبَ َلكُمْ وَإِنْ ن ُك ْنتُ ْم مُسِْلمِينَ} [يونس ،]84 :وقال تعالى{ :إِ ْ
ن َينْصُ ْركُمْ ا ُ لّ َفعََليْهِ تَ َوكّلُوا إِ ْ
ن ُك ْنتُ ْم آ َمنْتُ ْم بِا ِ
مُوسَى يَاقَوْمِ إِ ْ
لّ فَ ْل َيتَ َوكّلْ ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ} [إبراهيم،]11 : ن َبعْدِهِ} [آل عمران ،]160 :وقال تعالى{ :وَعَلَى ا ِ خذُ ْلكُ ْم َفمَنْ ذَا اّلذِي َينْصُ ُركُ ْم مِ ْ يَ ْ
سبِي الُّ عََليْ ِه يَتَ َوكّلُ
حْن كَاشِفَاتُ ضُرّهِ}إلى قوله{ :قُلْ َ لّ بِضُرّ هَلْ هُ ّ
ن مِنْ دُونِ الِّ إِنْ َأرَادَنِي ا ُ وقال تعالى{ :قُلْ َأفَرََأ ْيتُ ْم مَا َتدْعُو َ
ا ْل ُمتَ َوكّلُونَ} [الزمر.]38 :
وقد ذكر الّ هذه الكلمة {حَسْبِي الُّ} في جلب المنفعة تارة ،وفي دفع المضرة أخرى .فالولى في قوله تعالى{ :وََل ْو
ن فَضْلِهِ َورَسُولُهُ} الية [التوبة .]59 :والثانية في قوله{ :اّلذِينَ لّ مِ ْ
سيُ ْؤتِينَا ا ُ
س ُبنَا الُّ ََأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ َورَسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ
س َقدْ َج َمعُوا َل ُك ْم فَا ْخشَوْهُ ْم َفزَادَهُمْ إِيمَانًا َوقَالُوا َح ْسُبنَا الُّ َو ِنعْمَ الْ َوكِيلُ} [آل عمران ،]173 :وفي قوله
قَالَ َلهُمْ النّاسُ إِنّ النّا َ
ك ِبنَصْرِهِ} [النفال ،]26 :وقوله{ :وَلَوْ َأّنهُمْ َرضُوا مَا آتَاهُمْ الُّ س َبكَ الُّ هُوَ اّلذِي َأّيدَ َ حْ خدَعُوكَ َفإِنّ َ ن يَ ْ تعالى{ :وَإِ ْ
ن يُرِيدُوا أَ ْ
لّ مِنْ َفضْلِهِ وَ َرسُولُهُ} ،يتضمن بالرضا والتوكل. سيُ ْؤتِينَا ا ُ
س ُبنَا الُّ َ
حْوَ َرسُولُهُ َوقَالُوا َ
والرضا والتوكل يكتنفان المقدور ،فالتوكل قبل وقوعه ،والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم
يقول في الصلة( :اللّهم ،بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي ،وتوفني إذا كانت الوفاة
خيرًا لي ،اللّهم ،إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ،وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا ،وأسألك القصد في
الفقر والغنى ،وأسألك نعيمًا ل ينفد ،وأسألك قرة عين ل تنقطع ،اللّهم ،إني أسألك الرضا بعد القضاء ،وأسألك برْد
العيش بعد الموت ،وأسألك لذة النظر إلى وجهك ،وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ول فتنة مضلة،
اللّهم ،زينا بزينة اليمان ،واجعلنا هداة مهتدين) رواه أحمد والنسائي من حديث عمار بن ياسر.
وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لحقيقة الرضا؛ ولهذا كان طائفة من المشائخ يعزمون على الرضا
قبل وقوع البلء ،فإذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره كما قال تعالى{ :وَلَ َق ْد ُك ْنتُمْ ت َمنّوْن
ن مَا لَ ن تَلْقَ ْو ُه فَ َقدْ رََأ ْي ُتمُوهُ وََأ ْنتُ ْم تَنْظُرُونَ} [آل عمران ،]143 :وقال تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِينَ َآ َمنُوا لِ َم تَقُولُو َن َقبْلِ أَ ْ ت مِ ْ
ا ْلمَوْ َ
لّ يُحِبّ اّلذِي َن يُقَاتِلُو َن فِي َسبِيلِهِ صَفّا كََأّنهُ ْم بُنيَا ٌن مَ ْرصُوصٌ} [الصف2- :
ع ْندَ الِّ أَنْ َتقُولُوا مَا لَ تَ ْفعَلُونَ .إِنّ ا َ
ن َ .كبُ َر مَ ْقتًا ِتَ ْفعَلُو َ
]4نزلت هذه الية لما قالوا :لو علمنا أي العمال أحب إلى الّ لعملناه ،فأنزل الّ ـ سبحانه وتعالى ـ آية الجهاد،
فكرهه من كرهه.
ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلء ،بأن يوجب على نفسه ما ل يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك ،أو
يطلب ولية ،أو يقدم على بلد فيه طاعون .كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
نهى عن النذر ،وقال( :إنه ل يأتي بخير ،وإنما يستخرج به من البخيل) ،وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد
سمُرَة( :ل تسأل المارة ،فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكِ ْلتَ إلىها ،وإن أعطيتها من غير مسألة أعِنْتالرحمن بن َ
عليها ،وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك) .وثبت عنه في الصحيحين
أنه قال في الطاعون( :إذا سمعتم به بأرض فل تقدموا عليه ،وإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تخرجوا فرارًا منه)،
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال( :ل تتمنوا لقاء العدو واسألوا الّ العافية ،ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا ،واعلموا أن
الجنة تحت ظلل السيوف) وأمثال ذلك مما يقتضي أن النسان ل ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء ويحرم
عليه أشياء فيبخل بالوفاء ،كما يفعل كثير ممن يعاهد الّ عهودًا على أمور ،وغالب هؤلء يبتلون بنقض العهود.
ويقتضي أن النسان إذا ابتلى فعليه أن يصبر ويثبت ول ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات.
ولبد في جميع ذلك من /الصبر؛ ولهذا كان الصبر واجبًا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات ،وترك المحظورات.
ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها ،والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى الّ عنه.
صبْرِ وَالصّلَ ِة وقد ذكر الّ الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا ،وقرنه بالصلة في قوله تعالى{ :وَا ْ
س َتعِينُوا بِال ّ
لّ مَعَ الصّابِرِينَ} [البقرة ،]153 :وقوله{ : صبْرِ وَالصّلَةِ إِنّ ا َ شعِينَ} [البقرة{ ،]45 :ا ْ
س َتعِينُوا بِال ّ وَِإّنهَا َل َكبِيرَةٌ ِإلّ عَلَى ا ْلخَا ِ
سنِينَ} [هود{ ]115 ،114 : ل يُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْ ِلّ َ ط َرفِي ال ّنهَارِ وَزَُلفًا مِنْ الّليْلِ}إلى قوله{ :وَا ْ
صبِ ْر َفإِنّ ا َ وََأقِمْ الصّلَةَ َ
س َتغْفِرْ
حقّ وَا ْ
عدَ الِّ َ شمْسِ َو َقبْلَ غُرُوبِهَا} [طه{ ،]130 :فَا ْ
صبِرْ إِنّ وَ ْ ح ْمدِ َرّبكَ َقبْلَ طُلُوعِ ال ّ
ح بِ َ
سبّ ْ
صبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ َ فَا ْ
ِل َذنْ ِبكَ}الية [غافر.]55 :
صبَرُوا َوكَانُوا بِآيَا ِتنَا وجَعلَ المَامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله{ :وَ َ
جعَ ْلنَا ِم ْنهُمْ َأ ِئمّةً َي ْهدُونَ ِبَأمْ ِرنَا َلمّا َ
يُو ِقنُونَ} [السجدة ،]24 :فإن الدين كله علم بالحق وعمل به ،والعمل به لبد فيه من الصبر ،بل وطلب علمه يحتاج
إلى الصبر .كما قال معاذ بن جبل ـ رضي الّ عنه :علىكم بالعلم فإن طلبه لّ عبادة ،ومعرفته خشية ،والبحث عنه
جهاد ،وتعلىمه لمن ل يعلمه صدقة ،ومذاكرته تسبيح ،به يعرف الّ ويعبد ،وبه يمجد الّ ويوحد ،يرفع الّ بالعلم
أقوامًا يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم ،وينتهون إلى رأيهم.
فجعل البحث عن العلم من الجهاد ،ولبد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا /قال تعالى{ :وَا ْلعَصْرِ .إِنّ الِْنسَانَ لَفِي خُ ْ
سرٍ ِ .إلّ
صبْرِ} [سورة العصر] ،وقال تعالى{ :وَا ْذكُرْ ِ
عبَادَنَا إبْرَاهِيمَ عمِلُوا الصّالِحَاتِ َوتَوَاصَوْا بِا ْلحَقّ َوتَوَاصَوْا بِال ّ
اّلذِينَ آ َمنُوا وَ َ
وَإِ ْسحَاقَ َو َيعْقُوبَ ُأوْلِي ا َلْ ْيدِي وَا َلْبْصَارِ} [ص.]45 :
فالعلم النافع هو أصل الهدى ،والعمل بالحق هو الرشاد ،وضد الول الضلل ،وضد الثاني الغي ،فالضلل العمل
بغير علم ،والغي اتباع الهوى .قال تعالى{ :وَالنّجْمِ ِإذَا هَوَى .مَا ضَلّ صَا ِحُبكُمْ َومَا غَوَى} [النجم ،]2 ،1 :فل ينال الهدى
إل بالعلم ،ول ينال الرشاد إل بالصبر ،ولهذا قال على :أل إن الصبر من اليمان بمنزلة الرأس من الجسد ـ فإذا
انقطع الرأس بان الجسد ـ ثم رفع صوته فقال :أل ل إيمان لمن ل صبر له.
وأما الرضا ،فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب المام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء :هل هو واجب أو
مستحب ؟ على قولين :فعلى الول يكون من أعمال المقتصدين ،وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين .قال عمـر
بن عبـد العزيز :الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن .وقد روى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لبن
عباس " :إن استطعت أن تعمل لّ بالرضا مع اليقين فافعل ،فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا".
/ولهذا لم يجئ في القرآن إل مدح الراضين ل إيجاب ذلك وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب،
كالمرض والفقر والزلزال ،كما قال تعالى{ :وَالصّابِرِي َن فِي ا ْلبَ ْأسَاءِ وَالضّرّاءِ وَحِينَ ا ْلبَ ْأسِ}[البقرة ،]177 :وقال تعالى:
{َأمْ حَ ِس ْبتُمْ أَ ْن َتدْخُلُوا الْ َجنّةَ وََلمّا َي ْأتِكُ ْم َمثَلُ اّلذِينَ خَلَوْا مِ ْن َقبِْلكُ ْم مَ ّس ْتهُمْ ا ْلبَ ْأسَاءُ وَالضّرّاءُ وَزُ ْلزِلُوا} [البقرة ،]214 :فالبأساء في
الموال ،والضراء في البدان ،والزلزال في القلوب.
وأما الرضا بما أمر الّ به ،فأصله واجب ،وهو من اليمان كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح:
(ذاق طعم اليمان من رضى بالّ ربًا ،وبالسلم دينًا ،وبمحمد نبيًا) ،وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء الّ ـ
سّلمُوا
ضيْتَ َويُ َ سهِمْ حَرَجًا ِممّا قَ َ
جدُوا فِي أَنفُ ِ
ل يَ ِ
شجَ َر َب ْينَهُ ْم ثُ ّم َح ّكمُوكَ فِيمَا َ حتّى يُ َ
ل يُ ْؤمِنُونَ َ
ك َتعالى ـ قال تعالى{ :فَلَ وَ َرّب َ
تَسْلِيمًا}[النساء ،]65 :وقال تعالى{ :وََلوْ َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْسُبنَا الُّ} الية [التوبة ،]59 :وقال
ل ِمنْهُمْ عمَاَل ُهمْ} [محمد ،]28 :وقال تعالىَ { :م َن َعهُمْ أَ ْ
ن تُ ْقبَ َ حبَطَ أَ ْ
خطَ الَّ َوكَرِهُوا رِضْوَانَهُ َفأَ ْ تعالى{ :ذَِل َ
ك بَِأّنهُ ْم ا ّتبَعُوا مَا أَسْ َ
نَفَقَاُتهُمْ ِإلّ َأّنهُ ْم كَفَرُوا بِالِّ َوبِرَسُولِهِ َو َل يَ ْأتُونَ الصّلَةَ ِإلّ وَ ُه ْم كُسَالَى َو َل يُنفِقُونَ ِإلّ وَ ُه ْم كَارِهُونَ}[التوبة.]54 :
ومن النوع الول :ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن سعد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال_ :من سعادة ابن
آدم استخارته /لّ ،ورضاه بما قسم الّ له ،ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته لّ ،وسخطه بما يقسم الّ له).
وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان ،فأكثر العلماء يقولون :ل يشرع الرضا بها ،كما ل تشرع
لّ لَ يُ ِحبّ ا ْلفَسَادَ} [محبتها ،فإن الّ ـ سبحانه ـ ل يرضاها ول يحبها ،وإن كان قد قدرها وقضاها كما قال سبحانه{ :وَا ُ
ل يَرْضَى مِنْ ن مَا َ ل يَرْضَى ِلعِبَادِهِ ا ْل ُكفْرَ}[الزمر ،]7 :وقال تعالى{ :وَهُ َو َم َعهُمْ ِإذْ ُي َبيّتُو َ البقرة ،]205 :وقال تعالىَ { :و َ
ا ْلقَوْلِ} [النساء ،]108 :بل يسخطها كما قال تعالى{ :ذَِل َ
ك بَِأّنهُ ْم اّتبَعُوا مَا أَسْ َخطَ الَّ َوكَرِهُوا رِضْوَانَهُ َفأَ ْحبَطَ أَ ْعمَاَل ُهمْ} [
محمد.]28 :
وقالت طائفة :ترضى من جهة كونها مضافة إلى الّ خلقًا ،وتسخط من جهة كونها مضافة إلى العبد فعلً وكسبًا .وهذا
القول ل ينافي الذي قبله ،بل هما يعودان إلى أصل واحد .وهو ـ سبحانه ـ إنما قدر الشياء لحكمة ،فهي باعتبار تلك
الحكمة محبوبة مرضية ،وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة؛ إذ الشىء الواحد يجتمع فيه وصفان يحب من
أحدهما ويكره من الخر ،كما في الحديث الصحيح( :ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي
المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه).
وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي هو وصف الّ وفعله ل بالمقضي الذي /هو مفعوله ،فهو خروج منه عن مقصود
الكلم ،فإن الكلم ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب ـ تعالى ـ من صفاته وأفعاله ،وإنما الكلم في الرضا
بمفعولته .والكلم فيما يتعلق بهذا قد بيناه في غير هذا الموضع.
والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد ،حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا؛ولهذا جاء في الكتاب
والسنة حمد الّ على كل حال ،وذلك يتضمن الرضا بقضائه ،وفي الحديث( :أول من يدعى إلى الجنة :الحمادون
الذين يحمدون الّ في السراء والضراء) ،وروى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان إذا أتاه المر يسره قال( :
الحمد لّ الذي بنعمته تتم الصالحات) ،وإذا أتاه المر الذي يسوؤه قال( :الحمد لّ على كل حال) .وفي مسند المام
أحمد عن أبي موسى الشعري عن النبي صلى ال عليه وسلم قال( :إذا قبض ولد العبد يقول الّ لملئكته :أقبضتم ولد
عبدي؟ فيقولون :نعم ،فيقول :أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون :نعم ،فيقول :ماذا قال عبدي ؟ فيقولون :حمدك واسترجع،
فيقول :ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة ،وسموه بيت الحمد) ،ونبينا محمد صلى ال عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد،
وأمته هم الحمادون الذين يحمدون الّ على السراء والضراء .والحمد على الضراء يوجبه مشهدان:
أحدهما :علم العبد بأن الّ ـ سبحانه ـ مستوجب لذلك ،مستحق له لنفسه ،فإنه أحسن كل شيء خلقه ،وأتقن كل شيء،
وهو العلىم الحكيم ،الخبير الرحيم.
/والثاني :علمه بأن اختيار الّ لعبده المؤمن ،خير من اختياره لنفسه ،كما روى مسلم في صحيحه ،وغيره عن النبي
ل للمؤمن قضاء إل كان خيرًا له ،وليس ذلك لحد إلصلى ال عليه وسلم أنه قال( :والذي نفسي بيده ل يقضي ا ّ
للمؤمن ،إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له ،وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له).
فأما من ل يصبر على البلء ،ول يشكر على الرخاء ،فل يلزم أن يكون القضاء خيرًا له؛ ولهذا أجيب من أورد هذا
على ما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين:
أحدهما :أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد ل ما فعله العبد ،كما في قوله تعالى{ :مّا أَصَا َبكَ مِنْ حَ َسنَ ٍة َفمِنَ الّ} أي :من
سّيئَاتِ َلعَّلهُمْ سكَ}[النساء ]79 :أي :من ضراء ،وكقوله تعالىَ { :وبَلَ ْونَاهُ ْم بِالْحَ َ
سنَاتِ وَال ّ ن نَ ْف ِ سراءَ { ،ومَا أَصَا َبكَ مِنْ َ
سّيئَةٍ َفمِ ْ
يَرْ ِجعُونَ} [العراف ]168 :أي :بالسراء والضراء ،كما قال تعالىَ { :و َنبْلُوكُ ْم بِالشّرّ وَالْ َخيْ ِر ِف ْتنَةً} [النبياء،]35 :
ص ْبكُمْ َسّيئَ ٌة يَفْ َرحُوا ِبهَا} [آل عمران ،]120 :فالحسنات والسيئات يراد بها ن تُ ِ
سؤْهُمْ وَإِ ْسنَةٌ تَ ُحَسكُمْ َ وقال تعالى{ :إِ ْ
ن َتمْسَ ْ
المسار والمضار ،ويراد بها الطاعات والمعاصي.
والجواب الثاني :أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور .والذنوب تنقص اليمان ،فإذا تاب العبد أحبه الّ ،وقد ترتفع
درجته بالتوبة .قال بعض السلف :كان داود بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة ،فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد
بن جبير :إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار ،وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة .وذلك أنه يعمل الحسنة
فتكون نصب عينه ويعجب بها ،ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر الّ ويتوب إلىه منها .وقـد ثبـت في
الصحيـح عـن النبـي صلى ال عليه وسلم أنـه قـال( :العمـال بالخواتيم) .والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع
عنه بعشرة أسباب:
أن يتوب فيتوب الّ عليه ،فإن التائب من الذنب كمن ل ذنب له ،أو يستغفر فيغفر له ،أو يعمل حسنات تمحوها ،فإن
الحسنات يذهبن السيئات ،أو يدعوا له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيًا وميتًا ،أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما
ينفعه الّ به ،أو يشفع فيه نبيه محمد صلى ال عليه وسلم ،أو يبتليه الّ ـ تعالى ـ في الدنيا بمصائب تكفر عنه ،أو
يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه ،أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه ،أو يرحمه أرحم
الراحمين.
/فمن أخطأته هذه العشرة ،فل يلومن إل نفسه ،كما قال ـ تعالى ـ فيما يروي عنه رسوله صلى ال عليه وسلم( :يا
عبادي ،إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ،فمن وجد خيرًا فليحمد الّ ،ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل
نفسه).
فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له إذا كان صبارًا شكورًا ،أو كان قد استخار الّ وعلم أن من سعادة ابن آدم
استخارته لّ ورضاه بما قسم الّ له ،كان قد رضى بما هو خيرله ،وفي الحديث الصحيح عن على ـ رضي الّ عنه ـ
قال( :إن الّ يقضي بالقضاء ،فمن رضى فله الرضا ،ومن سخط فله السخط) .ففي هذا الحديث الرضا والستخارة،
فالرضا بعد القضاء والستخارة قبل القضاء ،وهذا أكمل من الضراء والصبر؛ فلهذا ذكر في ذاك الرضا ،وفي هذا
الصبر.
ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيرًا له ،فكيف مع الرضا؟ ولهذا جاء في الحديث( :المصاب من حرم الثواب) في
ل يقول :يا آل بيت رسول الّ الثر الذي رواه الشافعي في مسنده :أن النبي صلى ال عليه وسلم لما مات سمعوا قائ ً
صلى ال عليه وسلم إن في الّ عزاء من كل مصيبة ،وخلفًا من كل هالك ،ودركًا من كل فائت ،فبالّ فثقوا ،وإياه
فارجوا ،فإن المصاب من حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط ،مع أنه ل فائدة فيه ،فقد يكون فيه
مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه الّ.
/لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب ،وذلك ل ينافى الرضا ،بخلف البكاء عليه لفوات حظه
منه ،وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى ال عليه وسلم لما بكى على الميت وقال( :إن هذه رحمة جعلها الّ في قلوب
عباده ،وإنما يرحم الّ من عباده الرحـماء) ،فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه ل لرحمة الميت ،فإن الفضيل بن
عياض لما مات ابنه على فضحـك وقال :رأيت أن الّ قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى الّ به ،حاله حال حسن
بالنسبة إلى أهل الجزع .وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد الّ ـ تعالى ـ كحال النبي صلى ال عليه وسلم
صبْرِ َوتَوَاصَوْا بِا ْلمَرْ َحمَةِ} [البلد ،]17 :فذكر ـ سبحانه ـ
صوْا بِال ّ
ن آ َمنُوا َوتَوَا َ فهذا أكمل .كـما قال تعالى{ :ثُ ّم كَا َ
ن مِنْ اّلذِي َ
التواصي بالصبر والمرحمة.
والناس أربعة أقسام :منهم من يكون فيه صبر بقسوة .ومنهم مـن يكـون فيه رحمة بجزع .ومنهم من يكون فيه القسوة
والجزع .والمؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس.
وقد ظن طائفة من المصنفين في هذا الباب أن الرضا عن الّ من توابع المحبة له ،وهذا إنما يتوجه على المأخذ الول
وهو الرضا عنه لستحقاقه ذلك بنفسه ،مع قطع العبد النظر عن حظه ،بخلف المأخذ الثاني وهو :الرضا لعلمه بأن
المقضي خير له ،ثم إن المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه ،لكن قد يقال في تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه.
إن المحبة ل نوعان / :محبة له نفسه ،ومحبة له لما فيه من الحسان ،وكذلك الحمد له نوعان :حمد له على ما
يستحقه نفسه ،وحمد على إحسانه إلى عبده ،فالنوعان للرضا كالنوعين للمحبة.
وأما الرضا به وبدينه وبرسوله ،فذلك من حظ المحبة ،ولهذا ذكر النبي صلى ال عليه وسلم ذوق طعم اليمان ،كما
ذكر في المحبة وجود حلوة اليمان .وهذان الحديثان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق اليماني
الشرعي ،دون الضللي البدعي .ففي صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ذاق طعم اليمان من
رضي بالّ ربا وبالسلم دينا وبمحمد نبيا) ،وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ثلث من كن
فيه وجد بهن حلوة اليمان :أن يكون الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ ،ومن
كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه ،كما يكره أن يلقى في النار) .وهذا مما يبين من الكلم على المحبة
فنقول:
فَصــل
محبة الّ؛ بل محبة الّ ورسوله من أعظم واجبات اليمان وأكبر أصوله وأجل قواعده ،بل هي أصل كل عمل من
أعمال اليمان والدين ،كما أن /التصديق به أصل كل قول من أقوال اليمان والدين ،فإن كل حركة في الوجود إنما
تصدر عن محبة :إما عن محبة محمودة ،أو عن محبة مذمومة ،كما قد بسطنا ذلك في قاعدة المحبة من القواعد
الكبار.
فجميع العمال اليمانية الدينية ل تصدر إل عن المحبة المحمودة .وأصل المحبة المحمودة هي محبة الّ ـ سبحانه
ل ل يكون عملً صالحًا ،بل جميع العمال اليمانية الدينية لوتعالى ـ إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند ا ّ
تصدر إل عن محبة الّ ،فإن الّ ـ تعالى ـ ل يقبل من العمل إل ما أريد به وجهه ،كما ثبت في الصحيح عن النبي
صلى ال عليه وسلم أنه قال( :يقول الّ تعالى :أنا أغنى الشركاء عن الشرك ،فمن عمل عملً فأشرك فيه غيري فأنا
منه بريء وهو كله للذي أشرك) ،وثبت في الصحيح حديث الثلثة الذين هم أول من تسعر بهم النار :القارئ
المرائي ،والمجاهد المرائي ،والمتصدق المرائي.
بل إخلص الدين لّ هو الدين الذي ل يقبل الّ سواه ،وهو الذي بعث به الولين والخرين من الرسل ،وأنزل به
جميع الكتب ،واتفق عليه أئمة أهل اليمان ،وهذا هو خلصة الدعوة النبوية ،وهو قطب القرآن الذي تدور عليه
رحاه.
لّ ُمخْلِصًا لَ ُه الدّينَ َ .ألَ لِّ الدّينُ الْخَالِصُ} [ عُبدْ ا َ ق فَا ْحّ ب بِالْ َ
حكِيمِ ِ .إنّا أَنزَ ْلنَا إَِل ْيكَ ا ْل ِكتَا َ
ب مِنْ الِّ ا ْلعَزِيزِ الْ َقال تعالىَ { :تنْزِيلُ ا ْل ِكتَا ِ
ت لَِنْ
لّ مُخِْلصًا لَهُ الدّينَ .وَُأمِرْ ُ الزمر1 :ـ ،]3والسورة كلها عامتها في هذا المعنى ،كقوله{ :قُلْ ِإنّي ُأمِرْتُ أَنْ أَ ْ
عُبدَ ا َ
خلِصًا لَ ُه دِينِي} [الزمر ،]14 :إلى قوله{ :أََليْسَ الُّ َأكُونَ أَوّلَ ا ْلمُسِْلمِينَ} [الزمر ]12 ،11 :إلى قوله{ / :قُلْ الَّ أَ ْ
عُبدُ مُ ْ
لّ ِبضُرّ هَلْ هُنّ ن دُونِ الِّ إِنْ أَرَادَنِي ا ُ ن مِنْ دُونِهِ} [الزمر ]36 :إلى قولهَ{ :أفَرََأ ْيتُ ْم مَا َتدْعُونَ مِ ْ خ ّوفُو َنكَ بِاّلذِي َ
ع ْبدَهُ َويُ َ
ِبكَافٍ َ
ن ُ .قلْ لِّ ل َيعْقِلُو َ
ش ْيئًا َو َ
ل َيمِْلكُونَ َ
خذُوا مِنْ دُونِ الِّ شُ َفعَا َء قُلْ أَ َولَ ْو كَانُوا َ شفَاتُ ضُرّهِ} الية [الزمر ]38 :إلى قولهَ{ :أ ْم اتّ َ كَا ِ
ن بِالْخِ َرةِ وَِإذَا ذُكِرَ
ن لَ يُ ْؤ ِمنُو َ
ت قُلُوبُ اّلذِي َ
شمَأَزّ ْ
حدَهُ ا ْ
جعُونَ .وَِإذَا ُذكِرَ الُّ وَ ْ
ض ثُمّ إَِليْ ِه تُرْ َ
سمَاوَاتِ وَالَْ ْر ِ
جمِيعًا لَ ُه مُ ْلكُ ال ّ
الشّفَاعَةُ َ
لّ تَ ْأمُرُو َننِي أَ ْعُبدُ َأّيهَا الْجَاهِلُونَ}[الزمر]64 : س َتبْشِرُونَ} [الزمر 43 :ـ ]45إلى قولـه{ :قُلْ َأ َف َغيْرَ ا ِ ن دُونِهِ ِإذَا هُ ْم يَ ْ
اّلذِينَ مِ ْ
لّ فَا ْعُبدْ َوكُ ْن مِنْ الشّاكِرِينَ} [الزمر.]66 : إلى قوله{ :بَلْ ا َ
ك ِمنْهُمْ ا ْلمُخْلَصِينَ} [ص،82 : عبَا َد َ وقال تعالى فيما قصه من قصة آدم وإبليس أنه قالَ { :ف ِبعِ ّز ِتكَ لَُغْ ِو َيّنهُمْ أَ ْ
ج َمعِينَ ِ .إلّ ِ
ن ا ّت َب َعكَ مِنْ ا ْلغَاوِينَ} [الحجر ،]42 :وقالِ{ :إنّهُ َليْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَليْهِمْ سُلْطَانٌ ِإلّ مَ ْ ،]83وقال تعالى{ :إِنّ ِ
عبَادِي َليْسَ َلكَ َ
عَلَى اّلذِي َن آ َمنُوا وَعَلَى َربّهِ ْم َيتَ َوكّلُونَ ِ .إّنمَا سُ ْلطَانُهُ عَلَى اّلذِي َن َيتَوَلّ ْونَهُ وَاّلذِي َن هُ ْم بِ ِه مُشْ ِركُونَ} [النحل ،]100 ،99 :فبين أن
عنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّهُ سلطان الشيطان وإغواءه إنما هو لغير المخلصين؛ ولهذا قال في قصة يوسفَ { :كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َ
عبَا ِدنَا ا ْل ُمخْلَصِينَ}[يوسف ،]24 :وأتباع الشيطان هم أصحاب النار ،كما قال تعالى{ :لَمْلَنّ َ
ج َهنّ َم ِم ْنكَ َو ِممّنْ َت ِبعَكَ مِنْ ِ
ِمنْهُمْ َأ ْج َمعِينَ} [ص.]85 :
ك بِهِ َويَغْ ِف ُر مَا دُو َن ذَِلكَ ِلمَ ْن يَشَاءُ} [النساء ]48 :وهذه الية في حق من لم يتب؛ ن يُشْ َر َ ل َيغْفِرُ أَ ْ وقد قال سبحانه{ :إِنّ ا َ
لّ َ
ولهذا خصص الشرك ،وقيد ما /سواه بالمشيئة ،فأخبر أنه ل يغفر الشرك لمن لم يتب منه ،وما دونه يغفره لمن
لّ َيغْفِ ُر ال ّذنُوبَ َجمِيعًا}[الزمر]53 :
حمَةِ الِّ إِنّ ا َ
ل تَ ْقنَطُوا مِنْ رَ ْ
سهِ ْم َ
علَى َأنْ ُف ِ
عبَادِي اّلذِينَ أَسْ َرفُوا َ يشاء .وأما قوله{ :قُ ْ
ل يَا ِ
فتلك في حق التائبين؛ ولهذا عم وأطلق ،وسياق الية يبين ذلك مع سبب نزولها.
وقد أخبر ـ سبحانه ـ أن الولين والخرين إنما أمروا بذلك في غير موضع كالسورة التي قرأها النبي صلى ال عليه
وسلم على أُ َبيّ لما أمره الّ ـ تعالى ـ أن يقرأ عليه قراءة إبلغ وإسماع بخصوصه فقالَ { :ومَا تَ َفرّقَ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَابَ
لّ مُ ْخلِصِينَ لَ ُه الدّينَ ُحنَفَاءَ}الية [البينة.]5 ،4 :
ل مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َء ْتهُمْ ا ْل َبّينَةُ َ .ومَا ُأمِرُوا ِإلّ ِل َي ْعبُدُوا ا َ
ِإ ّ
ل نُوحِي إَِليْهِ َأنّهُ وهذا حقيقة قول ل إله إل الّ ،وبذلك بعث جميع الرسل .قال الّ تعالىَ { :ومَا َأرْسَ ْلنَا مِ ْ
ن َقبِْلكَ مِنْ َرسُولٍ ِإ ّ
لَ إِلَهَ ِإلّ َأنَا فَا ْعُبدُونِي} [النبياء ،]25 :وقال{ :وَا ْسأَ ْل مَنْ أَ ْرسَ ْلنَا مِ ْن َقبِْلكَ مِنْ رُ ُسِلنَا أَ َجعَ ْلنَا مِ ْن دُونِ الرّ ْحمَانِ آِلهَ ًة ُي ْعبَدُونَ} [
الزخرف ،]45 :وقال تعالى{ :وََل َقدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ َرسُولً أَنْ اُ ْعبُدُوا الَّ وَا ْج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ} [النحل.]36 :
لّ مَا َل ُك ْم مِنْ ِإلَهٍ َغيْرُهُ} [العراف: عُبدُوا ا َوجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الصل كما قال نوح ـ عليه السلم{ :ا ْ
لّ مَا َلكُ ْم مِنْ إِلَهٍ َغيْرُهُ}ل سيما أفضل / عبُدُوا ا َ ،]59وكذلك هود وصالح وشعيب ـ عليهم السلم ـ وغيرهم كل يقول{ :ا ْ
الرسل الذين اتخذ الّ كلهما خليلً :إبراهيم ومحمدًا ـ عليهما السلم ـ فإن هذا الصل بينه الّ بهما وأيدهما فيه
ونشره بهما ،فإبراهيم هو المام الذي قال الّ فيهِ{ :إنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا} [البقرة ،]124 :وفي ذريته جعل النبوة
والكتاب والرسل ،فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك الّ عليهم ،قال سبحانه{ :وَِإذْ قَالَ ِإبْرَاهِي ُم لَِبِيهِ َوقَ ْومِهِ
ط َرنِي فَِإنّهُ َس َي ْهدِينِي .وَ َجعََلهَا كَِلمَةً بَا ِقيَ ًة فِي َع ِقبِهِ َلعَّلهُ ْم يَرْ ِجعُونَ} [الزخرف.]28 - 26 :
ِإّننِي بَرَا ٌء ِممّا َت ْعبُدُونَ ِ .إلّ اّلذِي فَ َ
فهذه الكلمة هي كلمة الخلص لّ وهي البراءة من كل معبود إل من الخالق الذي فطرنا كما قال صاحب يسَ { :ومَا
شفَاعَ ُتهُمْ شَيْئًا َولَ
حمَانُ ِبضُ ّر لَ ُتغْنِ عَنّي َ جعُونَ .أَأَتّخِذُ مِنْ دُونِهِ آِلهَةً إِنْ يُ ِردْنِي الرّ ْ لِي لَ أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْ َ
للٍ مُبِينٍ} [يس22 :ـ ،]24وقال تعالى في قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلل من اتخذ يُنقِذُونِي .إِنّي إِذًا َلفِي ضَ َ
جهِي لِّلذِي فَطَرَ جهْتُ وَ ْ ل يَاقَوْمِ ِإنّي بَرِي ٌء ِممّا تُشْ ِركُونَ ِ .إنّي َو ّ ت قَا َ بعض الكواكب ربًا يعبده من دون الّ ،قال{ :فََلمّا َأفَلَ ْ
لّ مَا لَ ْم ُينَزّ ْل بِهِ عََل ْيكُمْ سُ ْلطَانًا} [النعام: ل تَخَافُونَ َأّنكُمْ أَشْ َر ْكتُ ْم بِا ِ حنِيفًا َومَا َأنَا مِنْ ا ْلمُشْ ِركِينَ} إلى قولهَ { :و َ سمَاوَاتِ وَالَْرْضَ َ ال ّ
عدُوّ لِي ِإلّ رَبّ ن .فَِإّنهُمْ َلْ ْقدَمُو َ ،]78-81وقال إبراهيم الخليل ـ عليه السلم{ :قَالَ َأ َفرََأ ْيتُ ْم مَا ُكنْتُ ْم َت ْعبُدُونَ َ .أ ْنتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ ا َ
ت َفهُ َو يَشْفِينِي .وَاّلذِي ُيمِيُتنِي ُث ّم يُ ْحيِينِ} [الشعراء: ط ِع ُمنِي َويَسْقِينِي َ .وِإذَا مَ ِرضْ ُ خلَ َقنِي َفهُ َو َيهْدِينِي .وَاّلذِي هُ َو يُ ْ
ا ْلعَاَلمِينَ .اّلذِي َ
ن مِنْ دُونِ
سنَ ٌة فِي ِإبْرَاهِيمَ وَاّلذِينَ َمعَهُ ِإذْ قَالُوا لِقَ ْو ِمهِمْ ِإنّا بُرَآ ُء ِم ْنكُمْ َو ِممّا َتعْ ُبدُو َ ،]75-81وقال تعالىَ { :قدْ كَانَتْ َلكُمْ أُسْ َوةٌ حَ َ
لّ كَ َف ْرنَا ِبكُمْ} الية [الممتحنة.]4 : ا ِ
ونبينا صلى ال عليه وسلم هو الذي أقام الّ به الدين الخالص لّ دين التوحيد ،وقمع به المشركين من كان مشركًا في
الصل ،ومن الذين كفروا من أهل الكتب ،وقال صلى ال عليه وسلم فيما رواه المام أحمد وغيره( :بعثت بالسيف
بين يدي الساعة حتى يعبد الّ وحده ل شريك له ،وجعل رزقي تحت ظل رمحي ،وجعل الذلة والصغار على من
خالف أمري ،ومن تشبه بقوم فهو منهم) ،وقد تقدم بعض ما أنزل الّ عليه من اليات المتضمنة للتوحيد.
س َتكْبِرُونَ . حدٌ} إلى قولهِ{ :إّنهُ ْم كَانُوا ِإذَا قِيلَ َلهُ ْم لَ إِلَهَ ِإلّ ا ُ
لّ يَ ْ وقال تعالى أيضًا{ :وَالصّافّاتِ صَفّا} إلى قوله{ :إِنّ إَِل َهكُمْ لَوَا ِ
ق َمعْلُو ٌم .فَوَاكِهُ وَهُمْ صدّقَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ} إلى قوله{ :أُ ْوَل ِئكَ َلهُمْ رِزْ ٌ حقّ وَ َ جنُونٍ ُ .بَلْ جَا َء بِالْ َ َويَقُولُونَ َأئِنّا َلتَا ِركُوا آِلهَ ِتنَا ِلشَاعِ ٍر َم ْ
عبَادَ
صفُونَ ِ .إلّ ِ عمّا يَ ِ س ْبحَانَ الِّ َ ُمكْ َرمُونَ} إلى ما ذكره من قصص النبياء في التوحيد وإخلص الدين لّ ،إلى قولهُ { :
جدَ َلهُ ْم نَصِيرًا ِ .إلّ ن تَ ِل مِنْ النّارِ وَلَ ْ لْسْفَ ِن فِي الدّ ْركِ ا َ خلَصِينَ} [الصافات 159 :ـ ،]160وقال تعالى{ :إِنّ ا ْل ُمنَافِقِي َ الِّ ا ْلمُ ْ
ف يُؤْتِ الُّ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَجْرًا َعظِيمًا} [النساء: ك مَعَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَسَ ْو َخلَصُوا دِينَهُمْ لِّ َفأُوَْل ِئ َ صمُوا بِالِّ وَأَ ْ
عتَ َ اّلذِينَ تَابُوا َوأَصَْلحُوا وَا ْ
.]146 ،145
وفي الجملة فهذا الصل في سورة النعام ،والعراف ،والنور ،وآل طسم / ،وآل حم ،وآل الر ،وسور المفصل وغير
ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر ،فهو أصل الصول وقاعدة الدين حتى في سورتي
الكافرون والخلص{ :قُ ْل يَاَأّيهَا ا ْلكَافِرُونَِ} و{قُلْ هُوَ الُّ أَ َحدٌ} وهاتان السورتان كان النبي صلى ال عليه وسلم يقرأ
بهما في صلة التطوع كركعتي الطواف ،وسنة الفجر ،وهما متضمنتان للتوحيد.
فأما {قُ ْل يَاَأّيهَا ا ْلكَافِرُونَِ} :فهي متضمنة للتوحيد العملي الرادي ،وهو إخلص الدين لّ بالقصد والرادة ،وهو الذي
يتكلم به مشائخ التصوف غالبًا ،وأما سورة {قُلْ هُوَ الُّ أَ َحدٌ} :فمتضمنة للتوحيد القولي العملي كما ثبت في الصحيحين
عن عائشة أن رجلً كان يقرأ :قل هو الّ أحد في صلته ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم( :سلوه لم يفعل ذلك؟)
فقال :لنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها ،فقال( :أخبروه أن الّ يحبه).
ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف الّ ـ سبحانه وتعالى ـ الذي ينفي قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل ،ما
صارت به هي الصل المعتمد في مسائل الذات كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع .وذكرنا اعتماد الئمة عليها
مع ما تضمنته من تفسير الحد الصمد ،كما جاء تفسيره عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين ،وما دل
على ذلك من الدلئل.
لكن المقصود هنا هو :التوحيد العملي ،وهو إخلص الدين لّ وإن /كان أحد النوعين مرتبطًا بالخر .فل يوجد أحد
من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إل وفيه نوع من الشرك العملي؛ إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين
الّ وبين خلقه ،أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي ل تستلزم
مدحًا ول ثبوت كمال ،أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص ،وكما يسوون إذا أثبتوا هم
ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم ،ويجعلون له أندادًا
ويسوون المخلوقات برب العالمين.
واليهود كثيرًا ما يعدلون الخالق بالمخلوق ،ويمثلونه به حتى يصفوا الّ بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص
التي يجب تنزيهه عنها وهي من صفات خلقه ،والنصارى كثيرًا ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا في
المخلوقات من نعوت الربوبية ،وصفات اللهية ،ويجوزون له مـا ل يصلح إل للخالق سبحانه وتعالى عما يقول
الظالمون علوًا كبيرًا.
والّ ـ سبحانه وتعالى ـ قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين ،غيرالمغضوب عليهم ول الضالين .وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم( :اليهود مغضوب
عليهم ،والنصارى ضالون) .وفي هذه المة من فيه شبه من هؤلء وهؤلء كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :
لتتبعن سنن من كان قبلكم ،حذو القُذّة بالقذة ،حتى لو /دخلوا جُحْر ضَبّ لدخلتموه) ،قالوا :يا رسول الّ ،اليهود
والنصارى؟ قال( :فمن؟) والحديث في الصحيحين.
فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلص الدين لّّ ،وهو إرادة الّ وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته ،وهذا
كمال المحبة ،لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقولهَ { :ومَا خََلقْتُ ا ْلجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعبُدُونِ} [الذاريات:
،]56وقوله{ :يَاَأّيهَا النّاسُ ا ْعُبدُوا َرّبكُمْ اّلذِي خََل َقكُمْ وَاّلذِي َن مِنْ َقبِْلكُمْ}[البقرة ]21 :وأمثال هذا ،والعبادة تتضمن كمال
الحب ونهايته ،وكمال الذل ونهايته ،فالمحبوب الذي ل يعظم ول يذل له ل يكون معبودًا ،والمعظم الذي ل يحب ،ل
س مَ ْن يَتّ ِخ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِحبّونَهُ ْم كَ ُحبّ الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة: يكون معبودًا؛ ولهذا قال تعالىَ { :ومِنْ النّا ِ
]165فبين ـ سبحانه ـ أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الّ أندادًا ،وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الّ،
فالذين آمنوا أشد حبًا لّ منهم لّ ولوثانهم ،لن المؤمنين أعلم بالّ ،والحب يتبع العلم؛ ولن المؤمنين جعلوا جميع
حبهم لّ وحده ،وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين النداد في الحب ،ومعلوم أن ذلك أكمل .قال
ل فِيهِ ُش َركَا ُء مُتَشَاكِسُونَ وَ َرجُلً سََلمًا لِرَ ُجلٍ هَ ْل يَ ْستَ ِويَا ِن َمثَلً الْ َح ْمدُ لِّ بَلْ َأ ْكثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ} [ تعالى{ :ضَرَبَ ا ُ
لّ مَثَلً َرجُ ً
الزمر.]29 :
واسم المحبة فيه إطلق وعموم ،فإن المؤمن يحب الّ ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين ،وإن كان ذلك من محبة
الّ ،وإن كانت المحبة التي لّ /ل يستحقها غيره؛ ولهذا جاءت محبة الّ ـ سبحانه وتعالى ـ مذكورة بما يختص به ـ
سبحانه ـ من العبادة والنابة إليه والتبتل له ،ونحو ذلك .فكل هذه السماء تتضمن محبة الّ ـ سبحانه وتعالى.
ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين ،فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم
قال ( :رأس المر السلم ،وعموده الصلة ،وذروة سنامه الجهاد في سبيل الّ) .فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل
سبِيلِ
ن آمَنَ بِالِّ وَا ْليَوْمِ الْخِرِ َوجَا َه َد فِي َ
حرَا ِم َكمَ ْ
جدِ الْ َ
عمَارَةَ ا ْلمَسْ ِ
سقَايَةَ الْحَاجّ وَ ِ وهو أعله وأشرفه .وقد قال تعالىَ{ :أ َ
جعَ ْلتُمْ ِ
لّ َل يَ ْستَوُونَ ِعنْدَ الِّ} إلى قوله{ :أَ ْجرٌ عَظِيمٌٌ} [التوبة19 :ـ ،]22والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة. ا ِ
/فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لن المحب يحب ما يحب محبوبه ،ويبغض ما يبغض محبوبه ،ويوالي من يواليه
ويعادي من يعاديه ،ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه ،ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه ،فهو موافق له في
ذلك .وهؤلء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب
له ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلل( :لعلك أغضبتهم لن كنت أغضبتهم
لقد أغضبت ربك) .فقال لهم :يا إخوتي ،هل أغضبتكم؟ قالوا :ل ،يغفر الّ لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن
حرب فقالوا :ما أخذت السيوف من عدو الّ مأخذها ،فقال لهم أبو بكر :أتقولون هذا لسيد قريش ؟ وذكر أبو بكر ذلك
للنبي صلى ال عليه وسلم فقال له ما تقدم؛ لن أولئك إنما قالوا ذلك غضبًا لّ؛ لكمال ما عندهم من الموالة لّ
ورسوله ،والمعاداة لعداء الّ ورسوله.
ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه( :ل يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل
حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي
بها ،فبي يسمع ،وبي يبصر ،وبي يبطش ،وبي يمشي ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه ،وما ترددت عن
شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ،ولبد له منه) فبين ـ سبحانه ـ أنه
يتردد لن التردد تعارض إرادتين ،وهو ـ سبحانه ـ يحب ما يحب عبده /ويكره ما يكرهه ،وهو يكره الموت فهو
يكرهه ،كما قال( :وأنا أكره مساءته) ،وهو ـ سبحانه ـ قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت .فسمى ذلك ترددًا ،ثم بين
أنه لبد من وقوع ذلك.
وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه .وقد يقال له :اتحاد نوعي
وصفي ،وليس ذلك اتحاد الذاتين فإن ذلك محال ممتنع ،والقائل به كافر ،وهو قول النصارى والغالية من الرافضة
والنساك كالحلجية ونحوهم ،وهو التحاد المقيد في شيء بعينه.
وأما التحاد المطلق ـ الذي هو قول أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق ـ فهذا
تعطيل للصانع وجحود له ،وهو جامع لكل شرك ،فكما أن التحاد نوعان ،فكذلك الحلول نوعان :قوم يقولون:
ل في
بالحلول المقيد في بعض الشخاص ،وقوم يقولون :بحلوله في كل شيء ،وهم الجهمية الذين يقولون :إن ذات ا ّ
كل مكان.
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه ،ويغيب بمذكوره عن ذكره،
وبمعروفه عن معرفته ،وبموجوده عن وجوده ،حتى ل يشهد إل محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص عقله وسكره
أنه هو محبوبه .كما قيل :إن محبوبًا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه ،فقال / :أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك ؟
فقال ،غبت بك عني ،فظننت أنك أني ،فل ريب أن هذا خطأ وضلل.
لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورًا في زوال عقله،
فل يكون مؤاخذًا بما يصدر منه من الكلم في هذه الحال التي زال فيها عقله بغير سبب محظور ،كما قيل في عقلء
ل وأحوالً ،فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم ،وأسقط ما فرض بما سلب.المجانين :إنهم قوم آتاهم الّ عقو ً
وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظورًا لم يكن السكران معذورًا ،وإن كان ل يحكم بكفره في أصح القولين،
كما ل يقع طلقه في أصح القولين ،وإن كان النزاع في الحكم مشهورًا .وقد بسطنا الكلم في هذا ،وفيمن يسلم له
حاله ومن ل يسلم في قاعدة ذلك.
وبكل حال ،فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال ناقص ،وإن كان صاحبه غير مكلف؛ ولهذا لم يرد مثل هذا
عن الصحابة الذين هم أفضل هذه المة ول عن نبينا محمد صلى ال عليه وسلم وهو أفضل الرسل ،وإن كان لهؤلء
في صعق موسى نوع تعلق ،وإنما حدث زوال العقل عند الواردات اللهية على بعض التابعين ومن بعدهم ،وإن
كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه ووليته وعداوته ،فمن المعلوم أن من /أحب الّ
ن يُقَاتِلُونَ المحبة الواجبة فلبد أن يبغض أعداءه ،ول بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى{ :إِنّ ا َ
لّ يُحِبّ اّلذِي َ
صفّا َكَأنّهُ ْم بُنيَا ٌن مَرْصُوصٌ} [الصف.]4 :
سبِيلِهِ َ
فِي َ
والمحب التام ل يؤثر فيه لوم اللئم وعذل العاذل ،بل ذلك يغريه بملزمة المحبة ،كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك،
وهؤلء هم أهل الملم المحمود وهم الذين ل يخافون من يلومهم على ما يحب الّ ويرضاه من جهاد أعدائه ،فإن
الملم على ذلك كثير .وأما الملم على فعل ما يكرهه الّ أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق ،وليس من المحمود الصبر
على هذا الملم ،بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .وبهذا يحصل الفرق بين [الملمية] الذين يفعلون
ما يحبه الّ ورسوله ول يخافون لومة لئم في ذلك ،وبين [الملمية] الذين يفعلون ما يبغضه الّ ورسوله ويصبرون
على الملم في ذلك.
َفصْــل
وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني ،فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها ،فإن الراجي الطامع
ن َيبْ َتغُونَ إنما يطمع فيما يحبه ل فيما يبغضه .والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب .قال تعالى{ :أُ ْوَل ِئكَ اّلذِي َ
ن يَدْعُو َ
ن آ َمنُوا وَاّلذِينَ هَاجَرُوا عذَابَهُ}الية [السراء ،]57 :وقال{ :إِنّ اّلذِي َ
حمَتَهُ َويَخَافُونَ َ
إِلَى َرّبهِمْ الْوَسِيلَةَ َأّيهُمْ َأ ْقرَبُ َويَ ْرجُونَ َر ْ
وَجَا َهدُوا فِي َسبِيلِ الِّ أُ ْوَل ِئكَ يَ ْرجُونَ رَ ْحمَةَ الِّ} [البقرة.]218 :
ورحمته اسم جامع لكل خير .وعذابه اسم جامع لكل شر .ودار الرحمة الخالصة هي الجنة ،ودار العذاب الخالص هي
النار ،وأما الدنيا فدار امتزاج ،فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم ،وأعله النظر إلى وجه
الّ ،كما في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى ال عليه وسلم قال( :إذا دخل
أهل الجنة الجنة نادى مناد :يا أهل الجنة ،إن لكم عند الّ موعدًا يريد أن ينجزكموه .فيقولون :ما هو؟ ألم يبيض
وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار؟) قال( :فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا
أحب إليهم من النظر إليه) وهو الزيادة.
ومن هنا يتبين زوال الشتباه في قول من قال :ما عبدتك شوقًا إلى جنتك ول خوفًا من نارك ،وإنما عبدتك شوقًا إلى
رؤيتك ،فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة ليدخل في مسماها إل الكل والشرب واللباس والنكاح والسماع
ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات ،كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية الّ من الجهمية ،أو من يقربها ويزعم أنه
ل تمتع بنفس رؤية الّ ،كما يقوله طائفة من المتفقهة .فهؤلء متفقون على أن مسمى الجنة والخرة /ل يدخل فيه إل
التمتع بالمخلوقات؛ ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قولهِ { :منْكُ ْم مَ ْن يُرِيدُ ال ّد ْنيَا َو ِم ْنكُمْ مَ ْن يُرِيدُ الْخِرَةَ} [
سهُمْ وََأمْوَاَلهُ ْم بِأَنّ َلهُمْ آل عمران ]152 :قال فأين من يريد الّ ،وقال آخر في قوله تعالى{ :إِنّ الَّ ا ْ
شتَرَى مِنْ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َ
الْ َجنّةَ} [التوبة ]111 :قال :إذا كانت النفوس والموال بالجنة فأين النظر إليه ،وكل هذا لظنهم أن الجنة ل يدخل فيها
النظر.
والتحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم ،وأعلى ما فيها النظر إلى وجه الّ ،وهو من النعيم الذي ينالونه في
الجنة ،كما أخبرت به النصوص .وكذلك أهل النار فإنهم محجوبون عن ربهم ،ويدخلون النار ،مع أن قائل هذا القول
إذا كان عارفًا بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق نارًا أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب إليك
والنظر إليك ،ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق.
وأما عمل الحي بغير حب ول إرادة أصل ،فهذا ممتنع وإن تخيله بعض الغالطين من النساك ،وظن أن كمال العبد أل
تبقى له إرادة أصل؛ فذاك لنه تكلم في حال الفناء والفاني ـ الذي يشتغل بمحبوبه ـ له إرادة ومحبة ولكن ل يشعر
بها ،فوجود المحبة شيء ،والرادة شيء ،والشعور بها شيء آخر .فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط ،فالعبد
ل يتصور أن يتحرك قط إل عن حب وبغض وإرادة؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم( :أصدق السماء حارث
وهمام) .فكل إنسان له حرث وهو العمل ،وله هم وهو أصل /الرادة ،ولكن تارة يقوم بالقلب من محبة الّ ما يدعوه
إلى طاعته ،ومن إجلله والحياء منه ما ينهاه عن معصيته ،كما قال عمر ـ رضي الّ عنه :نعم العبد صهيب ،لو لم
يخف الّ لم يعصه أي :هو لم يعصه ولو لم يخفه ،فكيف إذا خافه ،فإن إجلله وإكرامه لّ يمنعه من معصيته.
فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه ،والتنعم بتجليه له ،فمعلوم أن هذا من توابع
محبته له ،فالمحبة هي التي أوجبت محبة التجلي والخوف من الحتجاب ،وإن تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق
ل وجدها أحلى من كل محبة؛ والتنعم به ،فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة الّ المستلزمة محبته ،ثم إذا وجد حلوة محبة ا ّ
ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء ،كما في الحديث( :إن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون
ال ّنفَس) وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الّ ومحبته .فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه إلى محبة الّ التي
هي الصل.
وهذا كله ينبني على أصل المحبة ،فيقال :قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين ،كما في قوله{ :وَاّلذِينَ
حبّونَهُ} [المائدة ،]54 :وقوله تعالى{ :أَ َ
حبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ حبّا لِِّ} [البقرة ،]165 :وقوله تعالى{ :يُ ِ
حّبهُمْ َويُ ِ شدّ ُ
آ َمنُوا أَ َ
وَ َرسُولِهِ وَ ِجهَادٍ فِي َسبِيلِهِ} [التوبة ]24 :وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ثلث من كن فيه
وجد حلوة اليمان :أن يكون الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما ،وأن يحب المرء ل يحبه إل لّ ،وأن يكره أن يرجع
في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه كما يكره أن يلقى في النار).
/بل محبة رسول الّ صلى ال عليه وسلم وجبت لمحبة الّ كما في قوله تعالىَ{ :أحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ َورَسُولِهِ} ،وكما في
الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :والذي نفسي بيده ،ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده
ووالده والناس أجمعين) ،وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال :والّ يا رسول الّ لنت أحب إلىّ من
كل شيء إل من نفسي ،فقال( :ل يا عمر ،حتى أكون أحب إليك من نفسك) ،فقال :والّ لنت أحب إلىّ من نفسي،
قال( :الن يا عمر).
وكذلك محبة صحابته وقرابته ،كما في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :آية اليمان حب النصار،
وآية النفاق بغض النصار) ،وقال( :ل يبغض النصار رجل يؤمن بالّ واليوم الخر) ،وقال على ـ رضي الّ عنه:
إنه لعهد النبي المي إلىّ أنه ل يحبني إل مؤمن ،ول يبغضني إل منافق .وفي السنن أنه قال للعباس( :والذي نفسي
ل ولقرابتي) يعني :بني هاشم ،وقد روى حديث عن ابن عباس مرفوعًا أنه قال:بيده ،ل يدخلون الجنة حتى يحبوكم ّ
(أحبوا الّ لما يغذوكم به من نعمه ،وأحبوني بحب الّ ،وأحبوا أهل بيتي لجلي).
حبّونَهُ} خذَ الُّ ِإبْرَاهِيمَ خَلِيلً} [النساء ،]125 :وقال تعالى{ :يُ ِ
حّبهُمْ َويُ ِ وأما محبة الرب ـ سبحانه ـ لعبده فقال تعالى{ :وَاتّ َ
سنِينَ}[البقرة{ ،]195 :وََأقْسِطُوا إِنّ ا َ
لّ يُ ِحبّ ا ْلمُ ْقسِطِينَ}[ لّ يُحِبّ ا ْل ُمحْ ِ
سنُوا إِنّ ا َ [المائدة ،]54 :وقال تعالى{ :وََأحْ ِ
لّ يُحِبّستَقِيمُوا َلهُمْ إِنّ ا َ لّ يُحِبّ ا ْلمُتّقِينَ}[التوبةَ { ،]4 :فمَا ا ْ
ستَقَامُوا َلكُ ْم فَا ْ الحجرات{ ،]9 :فََأ ِتمّوا إَِل ْيهِمْ َ
ع ْهدَهُمْ إِلَى ُم ّدتِهِمْ إِنّ ا َ
ن مَ ْرصُوصٌ} [الصف{ ،]4 :بَلَى مَنْ أَ ْوفَى ِبعَ ْهدِهِ
سبِيلِهِ صَفّا كََأّنهُ ْم بُنيَا ٌ
ن فِي َ ا ْل ُمتّقِينَ}[التوبة{ ،]7 :إِنّ ا َ
لّ ُيحِبّ اّلذِينَ ُيقَاتِلُو َ
لّ يُ ِحبّ ا ْل ُمتّقِينَ} [آل عمران.]76 : وَاتّقَى فَإِنّ ا َ
وأما العمال التي يحبها الّ من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة ،وكذلك حبه لهلها وهم
المؤمنون أولياء الّ المتقون.
وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة ،والذي عليه سلف المة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ
الدين المتبعون ،وأئمة التصوف إن الّ ـ سبحانه ـ محبوب لذاته محبة حقيقية ،بل هي أكمل محبة ،فإنها كما قال
تعالى{ :وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة ]165 :وكذلك هو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية.
وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين ،زعمًا منهم أن المحبة ل تكون إل لمناسبة بين المحب والمحبوب ،وأنه
ل مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة ،وكان أول من ابتدع هذا في السلم هو الجعد بن درهم في أوائل المائة
الثانية فضحى به خالد بن عبد الّ القسري أمير العراق والمشرق بواسط .خطب الناس يوم الضحى فقال :أيها
ل ولم يكلم /
الناس ،ضَحّوا تقبل الّ ضحاياكم ،فإني ُمضَحّ بالجعد بن درهم ،إنه زعم أن الّ لم يتخذ إبراهيم خلي ً
موسي تكليمًا ،ثم نزل فذبحه ،وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه ،وإليه أضيف
قول الجهمية ،فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها ،ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد ،وظهر قولهم
أثناء خلفة المأمون ،حتى امتحن أئمة السلم ودعوا إلى الموافقة لهم على ذلك.
وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن
الرب ليس له صفة ثبوتية أصلً ،وهؤلء هم أعداء إبراهيم الخليل ـ عليه السلم ـ وهم يعبدون الكواكب ويبنون
الهياكل للعقول والنجوم وغيرها ،وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلً ،وموسى كليما ،لن الخلة هي
كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل:
ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :لو كنت متخذًا من أهل
الرض خليلً لتخذت أبا بكر خليلً ،ولكن صاحبكم خليل الّ) يعني :نفسه ،وفي رواية( :إني أبرأ إلى كل خليل من
خلته ،ولو كنت متخذًا من أهل الرض خليلً لتخذت أبا بكر خليلً) ،وفي رواية( :إن الّ اتخذني خليلً كما اتخذ
إبراهيم /خليلً) ،فبين صلى ال عليه وسلم أنه ل يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلً ،وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق
الناس بها أبو بكر الصديق ـ رضي الّ عنه .مع أنه صلى ال عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصًا كما قال
لمعاذ( :والّ إني لحبك) وكذلك قوله للنصار .وكان زيد بن حارثة حب رسول الّ صلى ال عليه وسلم ،وكذلك ابنه
أسامة حبه ،وأمثال ذلك .وقال له عمرو بن العاص :أي الناس أحب إليك ؟ قال( :عائشة) .قال :فمن الرجال؟ قال( :
أبوها) ،وقال لفاطمة ابنته ـ رضي الّ عنها( :أل تحبين ما أحب؟) قالت :بلى ،قال( :فأحبي عائشة) .وقال للحسن( :
اللهم إني أحبه فأحبه ،وأحب من يحبه) وأمثال هذا كثير.
فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال( :إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ،ولو كنت متخذًا من أهل الرض خليل لتخذت
أبا بكر خليلً) ،فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هي من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها
محبوبًا لذاته ل لشيء آخر؛ إذ المحبوب لشيء غيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير ،ومن كمالها ل تقبل الشركة
والمزاحمة لتخللها المحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب.
فالخلة تنافى المزاحمة ،وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوبًا لذاته /محبة ل يزاحمه فيها غيره ،وهذه محبة ل
تصلح إل لّّ ،فل يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة ،وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره ـ إذا كان
محبوبًا بحق ـ فإنما يحب لجله ،وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة ،فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ما كان لّ تعالى.
وإذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكون الّ محبوبًا لذاته ينكر مخاللته .وكذلك أيضًا إن أنكر محبته
لحد من عباده فهو ينكر أن يتخذه خليلً بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد.
وكذلك تكليمه لموسى أنكروه؛ لنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الفعال ،فكما ينكرون أن يتصف
بحياة أو قدرة أو علم أو أن يستوى أو أن يجيء فكذلك ينكرون أن يتكلم أو يكلم ،فهذا حقيقة قولهمَ { .كذَِلكَ قَالَ اّلذِينَ مِنْ
ت قُلُوُبهُمْ} [البقرة.]118 :
َقبِْلهِ ْم ِمثْلَ قَ ْوِلهِ ْم تَشَا َبهَ ْ
لكن لما كان السلم ظاهرًا والقرآن متلوا ،ل يمكن جحده لمن أظهر السلم ،أخذوا يلحدون في أسماء الّ ويحرفون
الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب إليه ،وهذا جهل عظيم؛ فإن محبة المتقرب
إلى المتقرب إليه تابع لمحبته وفرع عليه ،فمن ل يحب الشيء ل يمكن أن يحب التقرب إليه؛ إذ التقرب وسيلة،
ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود ،فيمتنع أن تكون الوسيلة إلى الشيء المحبوب هي المحبوب دون الشيء المقصود
بالوسيلة.
/وكذلك العبادة والطاعة ،إذا قيل في المطاع المعبود :إن هذا يحب طاعته وعبادته ،فإن محبته ذلك تبع لمحبته ،وإل
فمن ل يحب ل يحب طاعته وعبادته ،ومن كان ل يعمل لغيره إل لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فإنه يكون معاوضًا
له أو مفتديًا منه ل يكون محبًا له .ول يقال إن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته ،فإن محبة المقصود وإن
استلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة ،فإن ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين :محبة العوض والسلمة عن محبة
العمل .أما محبة الّ فل تعلق لها بمجرد محبة العوض ،أل ترى أن من استأجر أجيرًا بعوض ل يقال :إن الجير
يحبه بمجرد ذلك .بل قد يستأجر الرجل من ل يحبه بحال بل من يبغضه ،وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب
معذب ل يقال :إنه يحبه بل يكون مبغضًا له .فعلم أن ما وصف الّ به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع أل يكون
معناه إل مجرد محبة العمل الذي ينالون به بعض الغراض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوبًا أصل.
وأيضًا ،فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم؛ ولهذا كانت محبة القلب للبشر على طبقات:
أحدها :العلقة :وهو تعلق القلب بالمحبوب ،ثم الصبابة :وهو انصباب القلب إليه ،ثم الغرام :وهو الحب اللزم ،ثم
العشق وآخر /المراتب هو التتيم :وهو التعبد للمحبوب ،والمتيم المعبود ،وتيم الّ عبد الّ فإن المحب يبقى ذاكرًا
معبدًا مذللً لمحبوبه.
وأيضًا ،فاسم النابة إليه يقتضى المحبة أيضًا ،وما أشبه ذلك من السماء ،كما تقدم.
وأيضًا ،فلو كان هذا الذي قالوه حقًا من كون ذلك مجازًا لما فيه من الحذف والضمار ،فالمجاز ل يطلق إل بقرينة
تبين المراد .ومعلوم أن ليس في كتاب الّ وسنة رسوله ما ينفي أن يكون الّ محبوبًا ،وأل يكون المحبوب إل العمال
ل في الدللة المتصلة ول المنفصلة بل ول في العقل أيضًا .وأيضًا :فمن علمات المجاز صحة إطلق نفيه ،فيجب
حبّ ،كما أطلق إمامهم الجعد ابن درهم أن ال لم يتخذ إبراهيم خليلً ،ولم
ب ول يُ َ
ح ّ
أن يصح إطلق القول بأن الّ ل يُ ِ
يكلم موسى تكليمًا ،ومعلوم أن هذا ممتنع بإجماع المسلمين ،فعلم دللة الجماع على أن هذا ليس مجازًا ،بل هي
حقيقة.
و أيضًا ،فقد فرق بين محبته ومحبة العمل له في قوله تعالىَ{ :أحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ َورَسُولِهِ وَ ِجهَا ٍد فِي َسبِيلِهِ}[التوبة]24 :
،كما فرق بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى{ :أَ َحبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ وَ َرسُولِهِ} فلو كان المراد بمحبته ليس إل محبة
العمل لكان هذا تكريرًا ،أو من باب عطف الخاص على العام ،وكلهما على خلف ظاهر الكلم الذي ل يجوز
المصير إليه إل بدللة تبين المراد .وكما أن /محبته ل يجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله ،فكذلك ل يجوز تفسيرها
بمجرد محبة العمل له ،وإن كانت محبته تستلزم محبة رسوله ومحبة العمل له.
وأيضًا ،فالتعبير بمحبة الشيء عن مجرد محبة طاعته ل عن محبة نفسه أمر ل يعرف في اللغة ل حقيقة ول مجازًا،
فحمل الكلم عليه تحريف محض أيضا .وقد قررنا في مواضع من القواعد الكبار أنه ل يجوز أن يكون غير الّ
محبوبًا مرادًا لذاته كما ل يجوز أن يكون غير الّ موجودًا بذاته ،بل ل رب إل الّ ،ول إله إل هو المعبود ،الذي
يستحق أن يحب لذاته ويعظم لذاته ،كمال المحبة والتعظيم.
وكل مولود يولد على الفطرة فإنه ـ سبحانه ـ فطر القـلوب على أنه ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه
وتنتهى إليه إل الّ وحده ،وإن كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه
أن قلبه يطلب شيئًا سواه ،ويحب أمرًا غيره يتألهه ويصمد إليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الجناس؛ ولهذا
ط َمئِنّ الْقُلُوبُ}[الرعد ،]28 :وفي الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عن لّ تَ ْ قال الّ تعالى في كتابهَ{ :أ َ
ل بِ ِذكْرِ ا ِ
النبي صلى ال عليه وسلم عن ال تعالى قال( :إني خلقت عبادي حنفاءَ فاجتالتهم الشياطين ،وحرمت عليهم ما أحللت
لهم ،وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا) ،كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه
وسلم أنه قال( :كل مولود يولد على الفطرة ،فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ،كما تنتج /البهيمة بهيمة جمعاء،
لّ ذَِلكَ
خلْقِ ا ِ هل تحسون فيها من جدعاء) ،ثم يقول أبو هريرة :اقرؤوا إن شئتم{ :فِطْرَةَ الِّ اّلتِي فَطَرَ النّاسَ عََل ْيهَا َ
ل َتبْدِيلَ لِ َ
الدّينُ ا ْل َقيّمُ} [الروم.]30 :
وأيضًا ،فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فالّ هو المستحق له على الكمال ،وكل ما في غيره من
محبوب فهو منه ـ سبحانه وتعالى ـ فهو المستحق لن يحب على الحقيقة والكمال .وإنكار محبة العبد لربه هو في
الحقيقة إنكار لكونه إلهًا معبودًا ،كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه ربًا خالقًا
فصار إنكارها مستلزمًا لنكار كونه رب العالمين ،ولكونه إله العالمين .وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود.
ولهذا اتفقت المتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى ـ صلوات الّ عليهما وسلمه ـ أن أعظم
ل بكل قلبك وعقلك وقصدك ،وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم التي هي أصل شريعة التوراة الوصايا أن تحب ا ّ
والنجيل والقرآن ،وإنكار ذلك هو مأخوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل ،ومن وافقهم على ذلك من
متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذه عن هؤلء ،وظهر ذلك في القرامطة الباطنية من السماعيلية؛ ولهذا قال الخليل
إمام الحنفاء ـ صلوات الّ وسلمه عليه َ{ :أ َفرََأ ْيتُمْ مَا ُكنْتُ ْم َت ْعبُدُونَ َ .أ ْنتُمْ وَآبَا ُؤ ُكمْ ا َلْقْ َدمُو َن .فَِإّنهُمْ َعدُوّ لِي ِإلّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [
ل مَنْ َأتَى لفِلِينَ} [النعام ،]76 :وقال تعالى{ :يَوْ َم َ
ل َينْفَ ُع مَالٌ َولَ َبنُونَ ِ .إ ّ حبّ ا ْ الشعراء75 :ـ ، ]77وقال أيضًا{ :لَ أُ ِ
لّ بِقَ ْلبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء ]89 ،88 :وهو السليم من الشرك. ا َ
وأما قولهم :إنه ل مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر إليه .فهذا الكلم مجمل ،فإن أرادوا
بالمناسبة أنه ليس بينهما توالد فهذا حق ،وإن أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والكل
والمأكول أو نحو ذلك فهذا أيضًا حق ،وإن أرادوا أنه ل مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محبًا عابدًا والخر
معبودًا محبوبًا فهذا هو رأس المسألة ،فالحتجاج به مصادرة على المطلوب ،ويكفي في ذلك المنع.
ثم يقال :بل ل مناسبة تقتضي المحبة الكاملة إل المناسبة التي بين المخلوق والخالق ،الذي ل إله غيره ،الذي هو في
السماء إله وفي الرض إله ،وله المثل العلى في السموات والرض .وحقيقة قول هؤلء جحد كون الّ معبودًا في
الحقيقة؛ ولهذا وافق على هذه المسألة طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون الّ محبًا في الحقيقة،
فأقروا بكونه محبوبًا ومنعوا كونه محبًا؛ لنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة ،فأخذوا عن
الصوفية مذهبهم في المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه ،وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية،
فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكارًا .ومنكروها قسمان:
/قسم يتأولونها بنفس المفعولت التي يحبها العبد فيجعلون محبته نفس خلقه.
وقسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولت .وقد بسطنا الكلم في ذلك في قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها.
ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف المة على أن الّ يحب ويرضى ما أمر بفعله من واجب
ومستحب ،وإن لم يكن ذلك موجودًا ،وعلى أنه قد يريد وجود أمور يبغضها ويسخطها من العيان والفعال كالفسق
لّ لَ يُ ِحبّ ا ْلفَسَادَ} [البقرة ، ]205 :وقال تعالىَ { :و َل يَرْضَى ِل ِعبَادِهِ ا ْلكُ ْفرَ} [الزمر.]7 :
والكفر ،وقد قال الّ تعالى{ :وَا ُ
وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال اليمان ،ولم يتبين بين أحد من سلف المة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع
في ذلك ،وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع الّ أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية ،كالعرفان اليماني
ت تَدْرِي مَا ا ْل ِكتَابُ َولَ الِْيمَانُ}إلى آخر السورة [ والسماع الفرقاني ،قال تعالىَ { :و َكذَِلكَ أَوْ َ
ح ْينَا إَِل ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْ ِرنَا مَا ُكنْ َ
الشورى.]53 ،52 :
/ثم إنه لما طال المد صار في طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكر هذه المحبة.
وصار في بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير ،وسماع المكاء والتصدية،
فيسمعون من القوال والشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذي يحرك من كل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح
لمحب الوثان والصلبان والخوان والوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن ،ولكن كان الذين
يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكان والمكان والخلن ،وربما اشترطوا له الشيخ الذي يحرس من الشيطان،
ثم توسع في ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه إلى أنواع من المعاصي ،بل إلى أنواع من الفسوق ،بل خرج فيه طوائف
إلى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الشعار التي فيها الكفر واللحاد ،مما هو من أعظم أنواع الفساد،
وينتج ذلك لهم من الحوال بحسبه ،كما تنتج لعباد المشركين وأهل الكتاب عباداتهم بحسبها.
والذي عليه محققو المشائخ أنه كما قال الجنيد ـ رحمه الّ :من تكلف السماع فتن به ،ومن صادفه السماع استراح به،
ومعنى ذلك أنه ل يشرع الجتماع لهذا السماع المحدث ،ول يؤمر به ،ول يتخذ ذلك دينًا ،وقربة ،فإن القرب
والعبادات إنما تؤخذ عن الرسل ـ صلوات الّ وسلمه عليهم ـ فكما أنه ل حرام إل ما حرمه الّ ول دين إل ما شرعه
ن بِهِ الُّ} [الشورى]21 :؛ ولهذا قال تعالى{ :قُلْ إِ ْ
ن ُك ْنتُمْ ن الدّينِ مَا لَ ْم يَ ْأذَ ْ الّ .قال الّ تعالى{ :أَمْ َل ُهمْ شُ َركَاءُ َ
شرَعُوا َلهُ ْم مِ ْ
لّ فَاّت ِبعُونِي يُ ْحبِ ْبكُمْ الُّ َويَغْ ِفرْ َلكُ ْم ُذنُوبَكُمْ} [آل عمران ،]31 :فجعل محبتهم لّ موجبة لمتابعة رسوله ،وجعل حبّونَ ا َ
تُ ِ
متابعة رسوله موجبة لمحبة الّ لهم ،قال أبي بن كعب ـ رضي الّ عنه :عليكم بالسبيل والسنة ،فإنه ما من عبد على
السبيل والسنة ذكر الّ فاقشعر جلده من مخافة الّ إل تحاتت عنه خطاياه ،كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة ،وما
من عبد على السبيل والسنة ذكر الّ خاليًا ففاضت عيناه من خشية الّ إل لم تمسه النار أبدًا ،وإن اقتصادًا في سبيل
وسنة خير من اجتهاد في خلف سبيل وسنة ،فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصادًا واجتهادًا على منهاج النبياء
وسنتهم ،وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
فلو كان هذا مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود المحبوب ،لكان ذلك مما دلت الدلة الشرعية عليه.
ومن المعلوم أنه لم يكن في القرون الثلثة المفضلة التي قال فيها النبي صلى ال عليه وسلم( :خير القرون قرني الذي
بعثت فيه ،ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم) ل في الحجاز ،ول في الشام ،ول في اليمن ،ول في العراق ،ول في
مصر ،ول في خُرَاسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على السماع المبتدع لصلح القلوب؛ ولهذا كرهه الئمة
كالمام أحمد وغيره ،حتى عده الشافعي من أحداث الزنادقة حين قال :خلفت ببغداد شيئًا أحدثه الزنادقة يسمونه
التغبير ،يصدون به الناس عن القرآن.
/وأما ما لم يقصده النسان من الستماع ،فل يترتب عليه ل نهي ول ذم باتفاق الئمة؛ ولهذا إنما يترتب الذم والمدح
على الستماع ل على السماع ،فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة ل يثاب على ذلك؛إذ
العمال بالنيات ،وكذلك ما ينهى عن استماعه من الملهي لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك ،فلو سمع
السامع بيتًا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما
ينهى عنه ،وكان المحمود الحسن حركة قلبه التي يحبها الّ ورسوله إلى محبته التي تتضمن فعل ما يحبه الّ وترك
ما يكرهه الّ ،كالذي اجتاز بيتًا فسمع قائلً يقول:
فأخذ منه إشارة تناسب حاله ،فإن الشارات من باب القياس والعتبار وضرب المثال.
والمقصود هنا أن المقاصد المطلوبة للمريدين تحصل بالسماع اليماني القرآني النبوي الديني الشرعي الذي هو
سماع النبيين ،وسماع العالمين ،وسماع العارفين ،وسماع المؤمنين .قال الّ تعالى{ :أُوَْل ِئكَ اّلذِينَ َأ ْنعَمَ الُّ عََل ْيهِ ْم مِنْ
جدًا َو ُب ِكيّا} [مريم ،]58 :وقال تعالى{ :إِنّ اّلذِينَ أُوتُوا سّ خرّوا ُ ن مِنْ ذُ ّريّ ِة آدَمَ}إلى قولهِ{ :إذَا ُتتْلَى عََل ْيهِ ْم آيَاتُ الرّ ْ
حمَانِ َ ال ّن ِبيّي َ
خشُوعًا} [السراء107 :ــ ،]109وقال تعالى{ : جدًا} إلى قولهَ { :ويَزِيدُهُمْ ُ سّ لْ ْذقَانِ ُ ن َقبْلِهِ ِإذَا يُتْلَى عََل ْيهِمْ َيخِرّونَ لِ َ
ا ْلعِلْ َم مِ ْ
ض مِنْ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُوا مِنْ الْحَقّ} [المائدة ،]83 :وقال تعالىِ{ :إّنمَا ع ُي َنهُ ْم تَفِي ُ
ل تَرَى أَ ْ س ِمعُوا مَا أُن ِزلَ إِلَى الرّسُو ِ وَِإذَا َ
ت قُلُو ُبهُمْ وَِإذَا تُِليَتْ عََل ْيهِمْ آياتُهُ زَا َد ْتهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى َرّبهِ ْم يَتَ َوكّلُونَ} [النفال ،]2 :وقال تعالى{ :
ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ اّلذِينَ ِإذَا ذُكِرَ الُّ وَجَِل ْ
ي تَقْ َشعِ ّر ِمنْهُ جُلُودُ اّلذِينَ يَ ْخشَوْنَ َرّبهُمْ} الية [الزمر.]23 : ث ِكتَابًا ُمتَشَا ِبهًا َمثَانِ َ
حدِي ِ
لّ نَزّلَ َأحْسَنَ ا ْل َ
ا ُ
حدِيثِ ِليُضِلّ عَ ْ
ن شتَرِي َلهْوَ ا ْل َ ن يَ ْس مَ ْوكما مدح المقبلين على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه في مثل قولهَ { :ومِنْ النّا ِ
ن فِي ُأذُ َنيْهِ َوقْرًا َفبَشّرْ ُه ِب َعذَابٍ
س َم ْعهَا كَأَ ّ خذَهَا هُزُوًا} إلى قوله{ :وَِإذَا ُتتْلَى عََليْ ِه آيَا ُتنَا وَلّى مُ ْ
س َتكْبِرًا َكأَنْ لَ ْم يَ ْ لّ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ َو َيتّ ِ
سبِيلِ ا ِ
َ
صمّا وَ ُعمْيَانًا} [الفرقان ،]73 :وقال أَلِيمٍ}[لقمان ،]7 ،6 :وقال تعالى{ :وَاّلذِينَ ِإذَا ذُكّرُوا بِآيَاتِ َربّهِمْ لَ ْم يَخِرّوا عََل ْيهَا ُ
ت مِنْ َقسْوَرَةٍ}[المدثر 49 :ـ .]51 س َتنْفِرَ ٌة .فَرّ ْحمُ ٌر مُ ْ تعالىَ { :فمَا َل ُهمْ عَنْ التّ ْذكِرَ ِة ُمعْرِضِين َ .كََأّنهُمْ ُ
وهذا كان سماع سلف المة وأكابر مشائخها وأئمتها كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشائخ كإبراهيم بن أدهم،
والفضيل بن عياض ،وأبي سليمان الداراني ،ومعروف الكرخي ،ويوسف بن أسباط ،وحذيفة المرعشي ،وأمثال
هؤلء.
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ يقول لبي موسى الشعري :يا أبا موسى ،ذكرنا ربنا ،فيقرأ وهم يسمعون
ويبكون .وكان أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون،
وقد ثبت في الصحيح :أن النبي صلى ال عليه وسلم مر بأبي موسى الشعري وهو يقرأ ،فجعل يستمع لقراءته وقال:
(لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود) ،وقال( :مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك) ،فقال :لو
علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا ،أي :لحسنته لك تحسينًا ،وقال صلى ال عليه وسلم( :زينوا القرآن بأصواتكم)،
وقال( :لّ أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته) ـ أذنا أي :استماعًا ـ كقوله{ :
وََأ ِذنَتْ لِ َرّبهَا َوحُقّتْ} [النشقاق ]2 :أي :استمعت ،وقال صلى ال عليه وسلم( :ما أذن الّ لشيء ما أذن لنبي حسن
الصوت ،يتغنى بالقرآن يجهر به) ،وقال( :ليس منا من لم يتغن بالقرآن).
/ولهذا السماع من المواجيد العظيمة ،والذواق الكريمة ،ومزيد المعارف والحوال الجسيمة ما ل يتسع له خطاب،
ول يحويه كتاب ،كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم واليمان ما ل يحيط به بيان.
وقال بعضهم :من عبد الّ بالحب وحده فهو زنديق ،ومن عبد الّ بالخوف وحده فهو حروري ،ومن عبده بالرجاء
وحده فهو مرجئ ،ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد ،وذلك؛ لن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه
حتى تتوسع في أهوائها ،إذا لم يزعها وازع الخشية لّ حتى قالت اليهود والنصارى{ :نَحْنُ َأ ْبنَاءُ الِّ وَأَ ِحبّا ُؤهُ} [المائدة:
،]18ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما ل يوجد في أهل الخشية؛ ولهذا قرن الخشية بها في قوله{ / :
ك يَوْمُ ا ْلخُلُودِ}[ق32 :ـ .]34 ب .ادْخُلُوهَا بِسَلَ ٍم ذَِل َ
ب ُمنِي ٍ
ن بِا ْل َغيْبِ َوجَا َء بِقَلْ ٍ
حمَا َ
شيَ الرّ ْ
حفِيظٍ .مَنْ خَ ِ
َهذَا مَا تُوعَدُونَ ِلكُلّ أَوّابٍ َ
وكان المشائخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير
خشية؛ لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة ،وما وقع في هؤلء من فساد العتقاد ،والعمال
أوجب إنكار طوائف لصل طريقة المتصوفة بالكلية ،حتى صار المنحرفون صنفين :
وصنف ينكر حقها وباطلها ،كما عليه طوائف من أهل الكلم والفقه.
والصواب إنما هو القرار بما فيها ،وفي غيرها من موافقة الكتاب ،والسنة ،والنكار لما فيها وفي غيرها من
مخالفة الكتاب والسنة.
لّ فَاّتبِعُونِي يُ ْح ِب ْبكُمْ الُّ َو َيغْفِرْ َلكُ ْم ذُنُو َبكُمْ} ،فاتباع سنة رسوله صلى ال عليه وسلم
حبّونَ ا َ وقال تعالى{ :قُلْ إِ ْ
ن ُكنْتُ ْم تُ ِ
وشريعته باطنًا وظاهرًا هي موجب محبة الّ ،كما أن الجهاد في سبيله ،وموالة أوليائه ،ومعاداة أعدائه هو حقيقتها،
كما في الحديث( :أوثق عرى اليمان الحب في الّ ،والبغض في الّ) / ،وفي الحديث( :من أحب لّ ،وأبغض لّ،
وأعطى لّ ،ومنع لّ ،فقد استكمل اليمان).
وكثير ممن يدعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة ،وعن المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،والجهاد في
سبيل الّ ،ويدعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره؛ لزعمه أن طريق المحبة لّ ليس فيه غيره ،ول
غضب لّ ،وهذا خلف ما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا في الحديث المأثور ،يقول الّ ـ تعالى ـ يوم القيامة( :أين
المتحابون بجللي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم ل ظل إل ظلي) ،فقوله :أين المتحابون بجلل الّ تنبيه على ما في
قلوبهم من إجلل الّ وتعظيمه مع التحاب فيه ،وبذلك يكونون حافظين لحدوده ،دون الذين ل يحفظون حدوده لضعف
اليمان في قلوبهم ،وهؤلء الذين جاء فيهم الحديث( :حقت محبتي للمتحابين في ،وحقت محبتي للمتجالسين في،
وحقت محبتي للمتزاورين في ،وحقت محبتي للمتباذلين في) ،والحاديث في المتحابين في الّ كثيرة.
وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الّ عنه( :سبعة يظلهم الّ في ظله يوم
ل ظل إل ظله ،إمام عادل ،وشاب نشأ في عبادة الّ ،ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه،
ورجلن تحابا في الّ اجتمعا وتفرقا عليه .ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما تنفق يمينه ،ورجل
ذكر الّ خاليًا ففاضت عيناه ،ورجل دعته امرأة /ذات منصب وجمال فقال :إني أخاف ال رب العالمين).
أحدهما :وهو الذي يقال له :محبة العامة؛ لجل إحسانه إلى عباده ،وهذه المحبة على هذا الصل ل ينكرها أحد ،فإن
القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ،وبغض من أساء إليها ،والّ ـ سبحانه ـ هو المنعم المحسن إلى عبده
بالحقيقة ،فإنه المتفضل بجميع النعم ،وإن جرت بواسطة ،إذ هو ميسر الوسائط؛ ومسبب السباب ،ولكن هذه المحبة
في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة الّ نفسه ،فما أحب العبد في الحقيقة إل نفسه ،وكذلك كل من أحب شيئًا لجل
إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إل نفسه .وهذا ليس بمذموم بل محمود.
وهذه المحبة هي المشار إليها بقوله صلى ال عليه وسلم( :أحبوا الّ لما يغذوكم به من نعمه ،وأحبوني لحب الّ،
وأحبوا أهلي بحبي) ،والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة الّ ما يستوجب أنه يحبه إل إحسانه إليه،
وهذا كما قالوا :إن الحمد لّ على نوعين:
وحمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه ـ سبحانه ـ /فكذلك الحب ،فإن الصل الثاني فيه هو
محبته لما هو له أهل ،وهذا حب من عرف من الّ ما يستحق أن يحب لجله ،وما من وجه من الوجوه التي يعرف
الّ بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إل وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولته؛ إذ كل نعمة
منه فضل ،وكل نقمة منه عدل؛ ولهذا استحق أن يكون محمودًا على كل حال ،ويستحق أن يحمد على السراء،
والضراء ،وهذا أعلى وأكمل ،وهذا حب الخاصة.
وهؤلء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم ،ويتلذذون بذكره ومناجاته ،ويكون ذلك لهم أعظم من الماء
للسمك ،حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من اللم ما ل يطيقون ،وهم السابقون كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة
ـ رضي الّ عنه ـ قال :مر النبي صلى ال عليه وسلم بجبل يقال له :جمدان ،فقال( :سيروا هذا جمدان ،سبق
المفردون) ،قالوا :يا رسول الّ ،من المفردون؟ قال( :الذاكرون الّ كثيرًا والذاكرات) ،وفي رواية أخرى قال( :
المستهترون بذكر الّ يضع الذكر عنهم أثقالهم ،فيأتون ال يوم القيامة خفافًا) والمستهتر بذكر ال يتولع به ينعم به
كلف ل يفتر منه.
وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس ـ رضي الّ عنهما ـ قال :قال موسى :يا رب ،أي عبادك أحب
إليك؟ قال :الذي يذكرني ول ينساني ،قال :أي عبادك أعلم؟ قال :الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على
/هدى أو ترده عن ردى ،قال أي عبادك أحكم؟ قال :الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما
يحكم لنفسه( .)3فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير.
ومما ينبغي التفطن له أنه ل يجوز أن يظن في باب محبة الّ ـ تعالى ـ ما يظن في محبة غيره مما هو من جنس
التجني ،والهجر ،والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك ،مما قد يغلط فيه طوائف من الناس ،حتى يتمثلون في حبه بجنس ما
يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب ،أو يبعد من يتقرب إليه ،وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في
رسائلهم حتى يكون مضمون كلمهم إقامة الحجة على الّ ،بل لّ الحجة البالغة.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ( :يقول الّ تعالى :من ذكرني في
نفسه ذكرته في نفسي ،ومن ذكرني في مل ذكرته في مل خير منه ،ومن تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا ،ومن
تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا ،ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) .وفي بعض الثار يقول الّ تعالى( :أهل ذكري
أهل مجالستي ،وأهل شكري أهل زيادتي ،وأهل طاعتي أهل كرامتي ،وأهل معصيتي ل أؤيسهم من رحمتي ،وإن
تابوا فأنا حبيبهم ـ لن الّ يحب التوابين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ،أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب).
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس قال :قال /رسول الّ صلى ال عليه وسلم( :سيد
الستغفار أن يقول العبد :اللهم أنت ربي ل إله إل الّ أنت ،خلقتني وأنا عبدك ،وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت،
أعوذ بك من شر ما صنعت ،أبوء لك بنعمتك على ،وأبوء بذنبي فاغفرلي ،فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت .من قالها إذا
أصبح موقنًا بها فمات في يومه دخل الجنة ،ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة).
فالعبد دائما بين نعمة من الّ يحتاج فيها إلى شكر ،وذنب منه يحتاج فيه إلى الستغفار ،وكل من هذين من المور
اللزمة للعبد دائمًا ،فإنه ل يزال يتقلب في نعم الّ وآلئه ،ول يزال محتاجًا إلى التوبة والستغفار.
ولهذا كان سيد ولد آدم ،وإمام المتقين محمد صلى ال عليه وسلم يستغفر في جميع الحوال .وقال صلى ال عليه
وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري( :أيها الناس ،توبوا إلى ربكم ،فإني لستغفر الّ ،وأتوب إليه في اليوم
أكثر من سبعين مرة) ،وفي صحيح مسلم أنه قال( :إنه ليغان على قلبي ،وإني لستغفر الّ في اليوم مائة مرة) ،وقال
عبد الّ بن عمر :كنا نعد لرسول الّ صلى ال عليه وسلم في المجلس الواحد يقول( :رب اغفر لي وتب على ،إنك
أنت التواب الغفور ،مائة مرة).
/ولهذا شرع الستغفار في خواتيم العمال .قال تعالى{ :وَا ْلمُ ْس َتغْفِرِي َن بِالَْسْحَارِ} [آل عمران ،]17 :وقال بعضهم:
أحيوا الليل بالصلة فلما كان وقت السحر ،أمروا بالستغفار ،وفي الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا
انصرف من صلته استغفر ثلثا ،وقال( :اللهم أنت السلم ،ومنك السلم ،تباركت ياذا الجلل والكرام) ،وقال
ت فَا ْذكُرُواْ الّ عِندَ ا ْلمَ ْشعَرِ الْ َحرَامِ} إلى قوله{ :وَا ْس َتغْفِرُوا الَّ إِنّ الَّ غَفُورٌ َرحِيمٌ}[البقرة:
ع َرفَا ٍ تعالىَ { :فِإذَا َأ َف ْ
ضتُم مّنْ َ
،]199 ،198وقد أمر الّ نبيه بعد أن بلغ الرسالة ،وجاهد في الّ حق جهاده ،وأتى بما أمر الّ به مما لم يصل
س َتغْفِرْهُ ِإنّهُ
ح ْمدِ َرّبكَ وَا ْ
سبّحْ بِ َ
ن فِي دِينِ الِّ َأفْوَاجًا َ .ف َ إليه أحد غيره ،فقال تعالى{ :جَا َء نَصْرُ الِّ وَالْ َفتْحُ .وَرََأ ْيتَ النّا َ
س َيدْخُلُو َ
كَا َن تَوّابًا} [سورة النصر].
خبِيرٍ َ .ألّ حكِيمٍ َ ت مِنْ َلدُنْ َ ت آيَاتُ ُه ثُ ّم فُصَّل ْ ح ِكمَ ْولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والستغفار ،كما قال الّ تعالى{ :الر ِكتَابٌ ُأ ْ
َتعُْبدُوا ِإلّ الَّ ِإّننِي َلكُ ْم ِمنْهُ َنذِيرٌ َوبَشِيرٌ .وَأَنْ ا ْستَغْ ِفرُوا َرّبكُ ْم ثُ ّم تُوبُوا ِإَليْهِ ُي َمّتعْكُ ْم َمتَاعًا حَ َسنًا} الية [هود1 :ـ ،]3وقـال
س َتغْفِرُوهُ} [فصلت ،]6 :وقال تعالى{ :فَاعَْلمْ َأنّهُ لَ إِلَهَ ِإلّ الُّ وَا ْ
س َتغْ ِفرْ ِلذَ ْن ِبكَ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ} تعالـى{ :فَا ْ
س َتقِيمُوا ِإَليْهِ وَا ْ
[محمد.]19 :
ولهذا جاء في الحديث ( :يقول الشيطان :أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بل إله إل الّ والستغفار) وقد قال يونس:
ت مِنْ الظّاِلمِينَ} [النبياء ،]87 :وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا ركب دابته يحمد الّ
سبْحَا َنكَ ِإنّي كُن ُ
{لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُ
ثم يكبر ثلثا ويقول( :ل إله إل أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي) ،وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس( :
سبحانك اللّهم وبحمدك ،أشهد أن ل إله إل أنت ،أستغفرك وأتوب إليك) .والّ أعلم ،وصلى الّ على محمد وسلم.
/وقال شيخ السلم تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه الّ تعالى :
الحمد لّ ،نستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالّ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من يهد الّ فل مضل له ،ومن يضلل
فل هادي له ،وأشهد أن ل إله إل الّ وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمدًا عبده ور سوله ،صلى الّ عليه وعلى آله
وأصحابه وسلم تسليمًا.
َفصْــل
شفَائِهَا
في مَ َرضِ القلُوبِ وَ ِ
شيْطَا ُ
ن ل مَا يُلْقِي ال ّ جعَ َلّ َمرَضًا} [البقرة ،]10 :وقال تعالىِ{ :ليَ ْ قال ال تعالى عن المنافقين{ :فِي ُقلُو ِبهِ ْم مَرَ ٌ
ض فَزَادَهُمْ ا ُ
ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَ َرضٌ وَا ْلمُ ْرجِفُونَ سيَ ِة قُلُو ُبهُمْ} [الحج / ،]53 :وقالَ{ :لئِنْ لَ ْم َي ْنتَهِ ا ْل ُمنَافِقُونَ وَاّلذِي َ ِفتْنَةً لِّلذِينَ فِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ وَالْقَا ِ
ل قَلِيلً} [الحزاب ،]60 :وقالَ { :و َ
ل يَ ْرتَابَ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَابَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ ل يُجَا ِورُو َنكَ فِيهَا ِإ ّفِي ا ْل َمدِينَةِ َل ُنغْ ِر َيّنكَ ِبهِ ْم ثُ ّم َ
لّ ِب َهذَا َمثَلً} [المدثر ،]31 :وقال تعالىَ { :قدْ جَا َء ْتكُ ْم مَوْعِظَ ٌة مِنْ َرّبكُمْ ن مَاذَا أَرَادَ ا ُ
وَِليَقُولَ اّلذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ َمرَضٌ وَا ْلكَافِرُو َ
حمَةٌ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َولَ
ن مَا ُهوَ شِفَاءٌ وَرَ ْ ل مِنْ ا ْلقُرْآ ِ حمَةٌ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [يونس ،]57 :وقالَ { :و ُننَزّ ُ صدُورِ وَ ُهدًى َورَ ْ شفَاءٌ ِلمَا فِي ال ّ وَ ِ
ظ قُلُو ِبهِمْ} [التوبة.]15 ،14 : غيْ َ صدُو َر قَوْ ٍم مُ ْؤ ِمنِينَ َ .وُيذْهِبْ َ يَزِيدُ الظّاِلمِينَ ِإلّ خَسَارًا}[ ،السراء ،]82 :وقالَ { :ويَشْفِ ُ
ومرض البدن خلف صحته وصلحه ،وهو فساد يكون فيه يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية ،فإدراكه إما أن يذهب
كالعمى والصمم ،وإما أن يدرك الشياء على خلف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرًا ،وكما يخيل إليه أشياء ل حقيقة
لها في الخارج.
وأما فساد حركته الطبيعية ،فمثل أن تضعف قوته عن الهضم ،أو مثل أن يبغض الغذية التي يحتاج إليها ،ويحب
الشياء التي تضره ،ويحصل له من اللم بحسب ذلك ،ولكن مع ذلك المرض لم يمت ولم يهلك ،بل فيه نوع قوة
على إدراك الحركة الرادية في الجملة ،فيتولد من ذلك ألم يحصل في البدن إما بسبب فساد الكمية ،أو الكيفية.
فالول :إما نقص المادة فيحتاج إلى غذاء ،وإما بسبب زيادتها / ،فيحتاج إلى استفراغ.
َفصْــل
وكذلك مرض القلب ،هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره ،وإرادته ،فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى ل
يرى الحق ،أو يراه على خلف ما هو عليه ،وإرادته بحيث يبغض الحق النافع ،ويحب الباطل الضار ،فلهذا يفسر
المرض تارة بالشك والريب .كما فسر مجاهد وقتادة قوله{ :فِي ُقلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ} [البقرة ]10 :أي :شك ،وتارة يفسر
طمَعَ اّلذِي فِي قَ ْلبِ ِه مَرَضٌ} [الحزاب.]32 :
بشهوة الزنا كما فسر به قولهَ { :فيَ ْ
ولهذا صنف الخرائطي كتاب [اعتلل القلوب] أي مرضها ،وأراد به مرضها بالشهوة ،والمريض يؤذيه ما ل يؤذي
الصحيح ،فيضره يسير الحر والبرد والعمل ونحو ذلك ،من المور التي ل يقوى عليها لضعفه بالمرض.
والمرض في الجملة يضعف المريض بجعل قوته ضعيفة ل تطيق ما يطيقه /القوي ،والصحة تحفظ بالمثل ،وتزال
بالضد ،والمرض يقوى بمثل سببه ،ويزول بضده ،فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه ،وزاد ضعف
قوته ،حتى ربما يهلك ،وإن حصل له ما يقوي القوة ويزيل المرض ،كان بالعكس.
صدُورَ ومرض القلب ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك ،فإن ذلك يؤلم القلب .قال الّ تعالىَ { :ويَ ْ
شفِ ُ
ظ قُلُو ِبهِمْ} [التوبة ،]15 ،14 :فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من اللم ،ويقال :فلنغيْ َ
قَوْ ٍم مُ ْؤ ِمنِينَ َ .وُيذْهِبْ َ
شفى غيظه ،وفي القود استشفاء أولياء المقتول ،ونحو ذلك .فهذا شفاء من الغم والغيظ والحزن ،وكل هذه آلم تحصل
في النفس.
وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب ،قال النبي صلى ال عليه وسلم ( :هل سألوا إذا لم يعلموا ،فإنما شفاء ال ِعيّ السؤال).
والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه ،حتى يحصل له العلم واليقين ،ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق :قد
شفاني بالجواب.
والمرض دون الموت ،فالقلب يموت بالجهل المطلق ،ويمرض بنوع من الجهل ،فله موت ومرض ،وحياة وشفاء،
وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه؛ فلهذا مرض القلب إذا ورد عليه شبهة
ل مَا يُلْقِي أو شهوة قوت مرضه ،وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من /أسباب صلحه وشفائه .قال تعالىِ{ :ليَ ْ
جعَ َ
ال ّشيْطَا ُن ِفتْنَةً لِّلذِينَ فِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ} [الحج]53 :؛ لن ذلك أورث شبهة عندهم ،والقاسية قلوبهم ليبسها فأولئك قلوبهم
ضعيفة بالمرض ،فصار ما ألقى الشيطان فتنة لهم ،وهؤلء كانت قلوبهم قاسية عن اليمان ،فصار فتنة لهم.
والقرآن شفاء لما في الصدور ،ومن في قلبه أمراض الشبهات ،والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل،
فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم ،والتصور والدراك بحيث يرى الشياء على ما هي عليه ،وفيه من الحكمة
والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب ،والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلح القلب ،فيرغب القلب فيما ينفعه
ويرغب عما يضره ،فيبقى القلب محبًا للرشاد مبغضًا للغي ،بعد أن كان مريدًا للغي مبغضًا للرشاد.
/فالقرآن مزيل للمراض الموجبة للرادات الفاسدة ،حتى يصلح القلب فتصلح إرادته ،ويعود إلى فطرته التي فطر
عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي ،ويغتذى القلب من اليمان ،والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذى البدن بما
ينميه ويقومه ،فإن زكاة القلب مثل نماء البدن.
والزكاة في اللغة :النماء والزيادة في الصلح ،يقال :زكا الشيء :إذا نما في الصلح ،فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو
ويزيد حتى يكمل ويصلح ،كما يحتاج البدن أن يربى بالغذية المصلحة له ،ولبد مع ذلك من منع ما يضره ،فل ينمو
البدن إل بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره ،كذلك القلب ل يزكو فينمو ويتم صلحه إل بحصول ما ينفعه ودفع ما
يضره ،وكذلك الزرع ل يزكو إل بهذا.
والصدقة لما كانت تطفئ الخطيئة ،كما يطفئ الماء النار ،صار القلب يزكو بها ،وزكاته معنى زائد على طهارته من
طهّرُ ُهمْ َوتُ َزكّيهِ ْم ِبهَا} [التوبة.]103 :
ص َدقَةً تُ َ الذنب .قال الّ تعالىُ { :
خذْ مِنْ َأمْوَاِلهِمْ َ
وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب.
سدٌ ،والشجر
خلٌ فى المر ُمفْ ِ
وكذلك ترك المعاصي ،فإنها بمنزلة الخلط الرديئة في البدن ،ومثل الدغلّ] الدّغلُ :دَ َ
الكثير الملتف[ في الزرع ،فإذا استفرغ البدن من الخلط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية
واستراحت فينمو البدن ،وكـذلك القلب إذا /تاب من الذنوب كان استفراغًا من تخليطاته ،حيث خلط عمـلً صالحًا
وآخر سيئًا ،فإذا تاب من الذنوب تخلـصت قوة القلب وإرادته للعمال الصالحة ،واستراح القلب من تلك الحوادث
الفاسدة التي كانت فيه.
وقال{ :وَ َويْلٌ لِ ْلمُشْ ِركِينَ .اّلذِي َن َل يُ ْؤتُونَ ال ّزكَاةَ} [فصلت ،]7 ،6 :وهي التوحيد واليمان الذي به يزكو القلب ،فإنه
يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب ،وإثبات إلهية الحق في القلب ،وهو حقيقة ل إله إل الّ .وهذا أصل ما
تزكو به القلوب.
والتزكية :جعل الشيء زكيًا ،إما في ذاته ،وإما في العتقاد والخبر / ،كما يقال :عدلته إذا جعلته عدل في نفسه ،أو
سكُمْ} [النجم ،]32 :أي :تخبروا بزكاتها ،وهذا غير قولهَ { :قدْ َأفْلَ َ
ح مَنْ في اعتقاد الناس ،قال تعالى{ :فَلَ تُ َزكّوا أَنفُ َ
َزكّاهَا} [الشمس]9 :؛ ولهذا قال{ :هُوَ أَ ْعلَ ُم ِبمَنْ اتّقَى} [النجم ،]32 :وكان اسم زينب برة ،فقيل تزكى نفسها ،فسماها
رسول الّ صلى ال عليه وسلم زينب.
لّ يُ َزكّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء ،]49 :أي :يجعله زاكيًا ،ويخبر بزكاته كما
سهُ ْم بَلْ ا ُ وأما قوله{ :أَلَ ْم تَرَ إِلَى اّلذِي َ
ن يُ َزكّونَ أَنفُ َ
يزكي المزكي الشهود فيخبر بعدلهم.
والعدل هو :العتدال ،والعتدال هو صلح القلب ،كما أن الظلم فساده؛ ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالمًا
لنفسه ،والظلم خلف العدل ،فلم يعدل على نفسه ،بل ظلمها ،فصلح القلب في العدل ،وفساده في الظلم ،وإذا ظلم
العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم ،كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه ،فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل
من خير وشر .قال تعالىَ{ :لهَا مَا كَ َسبَتْ وَعََل ْيهَا مَا ا ْكتَ َسبَتْ} [البقرة.]286 :
والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلح قبل أثره في الخارج ،فصلحها عدل لها وفسادها ظلم لها .قال تعالى:
{مَنْ َعمِلَ صَالِحًا فَِلنَفْسِهِ َومَنْ َأسَا َء َفعََليْهَا} [فصلت ،]46 :وقال تعالى{ :إِنْ أَ ْحسَنتُمْ أَحْسَنتُ ْم لَِنفُ ِسكُمْ وَإِنْ أَ َس ْأتُ ْم فََلهَا} [
السراء ،]7 :قال بعض السلف :إن للحسنة لنورًا في القلب ،وقوة في البدن ،وضياء في الوجه ،وسعة في الرزق،
ومحبة في قلوب الخلق ،وإن للسيئة لظلمة في /القلب ،وسوادًا في الوجه ووهنًا في البدن ،ونقصًا في الرزق ،وبغضًا
في قلوب الخلق.
س ِبمَا كَ َسبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر ،]38 :وقال: سبَ رَهِينٌ} [الطور ،]21 :وقال تعالى{ :كُ ّ
ل نَ ْف ٍ ئ ِبمَا كَ َ وقال تعالى{ :كُ ّ
ل امْرِ ٍ
سلُوا ِبمَا
خذْ ِم ْنهَا أُوَْل ِئكَ اّلذِينَ ُأبْ ِ
ل لَ يُ ْؤ َ
عدْ ٍ
ل كُلّ َ
ن َتعْدِ ْ
شفِيعٌ وَإِ ْ
ن دُونِ الِّ وَلِيّ َولَ َ
سبَتْ َليْسَ َلهَا مِ ْ
س ِبمَا كَ َ
ل نَفْ ٌ
سَن تُبْ َ
{ َو َذكّ ْر بِهِ أَ ْ
كَ َسبُوا}[النعام ،]70 :وتبسل أي :ترتهن وتحبس وتؤسر؛ كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل قد اعتدل مزاجه،
والمرض إنما هو بإخراج المزاج ،مع أن العتدال المحض السالم من الخلط ل سبيل إليه ،لكن المثل ،فالمثل،
فهكذا صحة القلب وصلحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم والنحراف ،والعدل المحض في كل شيء متعذر
علمًا وعملً ،ولكن المثل فالمثل؛ ولهذا يقال :هذا أمثل ،ويقال للطريقة السلفية :الطريقة المثلى ،وقال تعالى{ :وَلَنْ
ف نَ ْفسًا ِإلّ
ط لَ ُنكَلّ ُ
سِ صتُمْ} [ النساء ،]129 :وقال تعالى{ :وََأ ْوفُوا ا ْل َكيْلَ وَا ْلمِيزَا َ
ن بِالْقِ ْ حرَ ْ
ستَطِيعُوا أَنْ َت ْعدِلُوا َبيْنَ النّسَاءِ وَلَوْ َ
تَ ْ
وُ ْس َعهَا} [النعام.]152 :
/والظلم ثلثة أنواع ،والظلم كله من أمراض القلوب ،والعدل صحتها وصلحها .قال أحمد بن حنبل لبعض الناس :لو
صححت لم تخف أحدًا ،أي خوفك من المخلوق هو من مرض فيك ،كمرض الشرك والذنوب.
س َكمَنْ َمثَلُهُ
جعَ ْلنَا لَ ُه نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النّا ِ
ح َييْنَاهُ وَ َ
ن َم ْيتًا فََأ ْ وأصل صلح القلب هو حياته واستنارته ،قال تعالى{ :أَ َومَ ْ
ن كَا َ
س بِخَارِ ٍج ِم ْنهَا} [النعام.]122 :
فِي الظُّلمَاتِ َليْ َ
حيّا َويَحِقّ الْقَ ْولُ عَلَى ن كَانَ َ لذلك ذكر الّ حياة القلوب ،ونورها ،وموتها ،وظلمتها في غير موضع كقولهِ{ :ل ُي ْنذِرَ مَ ْ
حيِيكُمْ} ،ثم قال{ :وَاعَْلمُوا أَنّ ا َّ
ل ا ْلكَا ِفرِينَ} [يس ،]70 :وقوله تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا ا ْ
ستَجِيبُوا لِّ وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُمْ ِلمَا ُي ْ
ت مِنْ ا ْلحَيّ} [ خرِجُ ا ْل َميّ َ
ي مِنْ ا ْل َميّتِ َويُ ْ حشَرُونَ} [النفال ،]24 :وقال تعالى{ :يُ ْ
خرِجُ ا ْلحَ ّ ل َبيْنَ ا ْلمَرْءِ َوقَ ْلبِهِ َوَأنّهُ ِإَليْهِ تُ ْ
يَحُو ُ
الروم ،]19 :ومن أنواعه أنه يخرج المؤمن من الكافر ،والكافر من المؤمن .وفي الحديث الصحيح( :مثل البيت
الذي يذكر الّ فيه والبيت الذي ل يذكر الّ فيه ،مثل الحي والميت) ،وفي الصحيح أيضًا( :اجعلوا من صلتكم في
بيوتكم ول تتخذوها قبورًا).
وقد قال تعالى{ :وَاّلذِينَ َك ّذبُوا بِآيَا ِتنَا صُمّ َوُبكْمٌ فِي الظُّلمَاتِ} [النعام ،]39 :وذكر ـ سبحانه ـ آية النور وآية الظلمة،
ي يُو َق ُد مِنْ شَجَرَةٍ ب دُرّ ّ ح فِي ُزجَاجَةٍ الزّجَاجَ ُة كََأّنهَا كَ ْوكَ ٌصبَا ُصبَاحٌ ا ْلمِ ْ شكَا ٍة فِيهَا مِ ْل نُورِ ِه َكمِ ْ
ض َمثَ ُ
سمَاوَاتِ وَالَْرْ ِ فقال{ :ا ُ
لّ نُورُ ال ّ
ُمبَا َركَةٍ َز ْيتُونِةٍ لَ َش ْر ِقيّةٍ َولَ غَ ْر ِبيّ ٍة َيكَادُ َز ْيُتهَا يُضِيءُ وََلوْ لَ ْم َتمْسَسْ ُه نَا ٌر نُورٌ عَلَى نُورٍ}[النور ،]35 :فهذا مثل نور اليمان
ع ْندَهُ
جدَ الَّ ِ
ش ْيئًا وَ َو َ
جدْهُ َ
حتّى ِإذَا جَاءَهُ لَ ْم يَ ِ
ن مَاءً َ
ظمْآ ُ
سبُهُ ال ّ
ب بِقِيعَ ٍة يَحْ َ
سرَا ٍ
عمَاُلهُ ْم كَ َ
ن كَفَرُوا أَ ْفي قلوب المؤمنين ،ثم قال{ :وَاّلذِي َ
ق بَعْضٍ ِإذَا
ضهَا فَ ْو َ
ت َبعْ ُ
ج مِنْ فَ ْوقِهِ سَحَابٌ ظُُلمَا ٌ
ج مِنْ فَ ْوقِ ِه مَ ْو ٌ
ي َيغْشَا ُه مَ ْو ٌ
ت فِي بَحْرٍ ُلجّ ّ
ظُلمَا ٍ
فَ َوفّاهُ حِسَابَهُ وَالُّ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ .أَ ْو كَ ُ
أَ ْخرَ َج َيدَهُ لَ ْم َيكَ ْد يَرَاهَا َومَنْ لَ ْم يَ ْجعَلْ الُّ لَ ُه نُورًا َفمَا لَ ُه مِ ْن نُورٍ}[النور.]40 ،39 :
فالول :مثل العتقادات الفاسدة ،والعمال التابعة لها ،يحسبها صاحبها شيئًا ينفعه فإذا جاءها لم يجدها شيئًا ينفعه،
فوفاه الّ حسابه على تلك العمال.
والثاني :مثل للجهل البسيط ،وعدم اليمان والعلم ،فإن صاحبها في ظلمات بعضها فوق بعض ل يبصر شيئًا ،فإن
البصر إنما هو بنور اليمان والعلم.
ن تَ َذكّرُوا َفِإذَا ُه ْم ُمبْصِرُونَ} [العراف ،]201 :وقال تعالى{ :وَلَ َقدْ شيْطَا ِ ف مِنْ ال ّ
سهُمْ طَائِ ٌ قال تعالى{ :إِنّ اّلذِي َ
ن اتّقَوْا ِإذَا مَ ّ
ت بِهِ وَهَ ّم ِبهَا لَ ْولَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ َربّهِ} [يوسف ،]24 :وهو برهان اليمان الذي حصل في قلبه ،فصرف الّ به ما َهمّ ْ
كان هم به ،وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب /عليه خطيئة إذا فعل خيرًا ،ولم يفعل سيئة .وقال تعالىِ{ :لتُخْ ِرجَ النّاسَ
ن كَفَرُوا أَوِْليَاؤُهُمْ جهُ ْم مِنْ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ وَاّلذِي َ مِنْ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ} [إبراهيم ،]1 :وقال{ :الُّ وَِليّ اّلذِينَ آ َمنُوا يُخْ ِر ُ
خرِجُو َنهُ ْم مِنْ النّورِ ِإلَى الظُّلمَاتِ} [البقرة ،]257 :وقال{ :يَاَأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا اتّقُوا الَّ وَآ ِمنُوا بِ َرسُولِ ِه يُ ْؤ ِتكُ ْم كِفَْليْنِ ت يُ ْ
الطّاغُو ُ
مِنْ رَ ْح َمتِهِ َويَ ْجعَلْ َلكُ ْم نُورًا َتمْشُو َن بِهِ}[الحديد.]28 :
ولهذا ضرب الّ لليمان مثلين ،مثلً بالماء الذي به الحياة وما يقترن به من الزبد ،ومثلً بالنار التي بها النور وما
يقترن بما يوقد عليه من الزبد.
وإنما المقصود هنا ذكر حياة القلوب وإنارتها ،وفي الدعاء المأثور( :اجعل القرآن ربيع قلوبنا ،ونور صدورنا)،
والربيع :هو المطر الذي ينزل من السماء فينبت به النبات ،قال النبي صلى ال عليه وسلم( :إن مما ينبت الربيع ما
َيقْتل حَبَطًا أو يُِلمّ) .والفصل الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع ،لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه،
وغيرهم يسمى الربيع الفصل الذي يلي الشتاء ،فإن فيه تخرج الزهار التي تخلق منها الثمار ،وتنبت الوراق على
الشجار.
والقلب الحي المنور؛ فإنه لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل ،والقلب الميت فإنه ل يسمع ول يبصر .قال تعالى:
ل َيعْقِلُونَ} [البقرة ،]171 :وقال تعالى{ : ي َفهُ ْم َ عمْ ٌ ص ّم ُبكْمٌ ُ ل دُعَاءً َو ِندَاءً ُ سمَعُ ِإ ّ
ل يَ ْ { َو َمثَلُ اّلذِينَ َكفَرُوا َك َمثَلِ اّلذِي َي ْنعِقُ ِبمَا َ
ت َت ْهدِي ا ْل ُعمْيَ وَلَ ْو كَانُوا لَ ُيبْصِرُونَ} [ ن َينْظُرُ إَِل ْيكَ َأفََأنْ َ سمِعُ الصّمّ وَلَ ْو كَانُوا لَ َيعْقِلُونََ .و ِمنْهُ ْم مَ ْ ت تُ ْ
س َت ِمعُونَ إَِل ْيكَ َأ َفَأنْ َ
ن يَ ْ
َو ِم ْنهُمْ مَ ْ
ل آيَةٍ
ن يَرَوْا كُ ّ
ن يَ ْف َقهُوهُ َوفِي آذَا ِنهِمْ َو ْقرًا وَإِ ْ
جعَ ْلنَا عَلَى ُقلُو ِبهِمْ َأ ِكنّةً أَ ْ س َتمِعُ إَِل ْيكَ َو َ
ن يَ ْيونس ،]43 ،42 :وقال تعالىَ { :و ِمنْهُ ْم مَ ْ
ك يَقُولُ اّلذِي َن كَفَرُوا إِنْ َهذَا ِإلّ َأسَاطِيرُ ا َلْوّلِينَ} اليات [النعام.]25 : ك يُجَادِلُو َن َ
حتّى ِإذَا جَاءُو َ لَ يُ ْؤ ِمنُوا ِبهَا َ
فأخبر أنهم ل يفقهون بقلوبهم ول يسمعون بآذانهم ول يؤمنون بما رأوه من النار ،كما أخبر عنهم حيث قالوا{ :قُلُو ُبنَا
فِي َأ ِكنّ ٍة ِممّا تَدْعُونَا إَِليْهِ َوفِي آذَانِنَا َو ْقرٌ َومِنْ َب ْي ِننَا َو َبيْ ِنكَ حِجَابٌ} [فصلت .]5 :فذكروا الموانع على القلوب والسمع
والبصار ،وأبدانهم حية تسمع الصوات وترى الشخاص؛ لكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم،
ل دُعَاءً
سمَعُ ِإ ّ لها سمع وبصر وهي تأكل وتشرب وتنكح ،ولهذا قال تعالىَ { :و َمثَلُ اّلذِينَ َكفَرُوا َك َمثَلِ اّلذِي َي ْنعِقُ ِبمَا َ
ل يَ ْ
َو ِندَاءً}.
فشبههم بالغنم الذي ينعق بها الراعي وهي ل تسمع إل نداء ،كما قال في الية الخرى{ :أّم تّحسّب أّنّ أّكثّرّه ًم يّسمّعو ّ
ن
ل كّالّنعّام بّل هٍمً ّأضّلَ سّبيلْ } [الفرقان ،]44 :وقال تعالى{ :وَلَ َق ْد ذَرَ ْأنَا ِل َ
ج َهنّ َم كَثِيرًا مِنْ ا ْلجِنّ وَالِْنسِ َلهُمْ أّو يّعقٌلٍونّ إنً ٍهمً إ ّ
ضلّ}[العراف.]179 : لْ ْنعَا ِم بَلْ ُهمْ أَ َ س َمعُونَ ِبهَا أُ ْوَل ِئكَ كَا َ
ل يَ ْ
ن َ
ن ِبهَا وََلهُ ْم آذَا ٌ
صرُو َ
ن لَ ُيبْ ِ
عيُ ٌ
ن ِبهَا وََلهُمْ أَ ْ
ل يَ ْف َقهُو َ
ب َ
قُلُو ٌ
فيقال :أولً :المظهرون للسلم فيهم مؤمن ومنافق ،والمنافقون كثيرون في كل زمان ،والمنافقون في الدرك السفل
من النار.
ويقال :ثانيًا :النسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر ،وإن كان معه إيمان ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في
الحديث المتفق عليه( :أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ،ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق
حتى يدعها :إذا حدث كذب ،وإذا اؤتمن خان ،وإذا عاهد غدر ،وإذا خاصم فجر) .فأخبر أنه من كانت فيه خصلة
منهن كانت فيه خصلة من النفاق.
/وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لبي ذر ـ رضي الّ عنه ـ( :إنك امرؤ فيك جاهلية) .وأبو ذر ـ رضي الّ عنه
ـ من أصدق الناس إيمانًا ،وقال في الحديث الصحيح( :أربع في أمتي من أمر الجاهلية :الفخر بالحساب ،والطعن في
النساب ،والنياحة ،والستسقاء بالنجوم) ،وقال في الحديث الصحيح( :لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة،
حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) .قالوا :اليهود والنصارى؟ ! قال( :فمن ؟!) .وقال أيضًا في الحديث الصحيح" :
لتأخذن أمتي ما أخذت المم قبلها ،شبرًا بشبر ،وذراعًا بذراع" قالوا :فارس والروم؟! قال( :ومن الناس إل هؤلء).
وقال ابن أبي مُلَ ْيكَة :أدركت ثلثين من أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ،وعن علي ـ
أو حذيفة ـ رضي الّ عنهما ـ قال :القلوب أربعة :قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن ،وقلب أغلف فذاك
قلب الكافر ،وقلب منكوس ،فذاك قلب المنافق ،وقلب فيه مادتان :مادة تمده اليمان ،ومادة تمده النفاق ،فأولئك قوم
خلطوا عملً صالحًا وآخر سيئًا.
وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر الّ في اليمان من مدح شعب اليمان وذم شعب الكفر ،وهذا كما يقول
بعضهم في قوله{ :ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْس َتقِيمَ} [الفاتحة .]6 :فيقولون :المؤمن قد هدى إلى الصراط المستقيم ،فأي /فائدة
في طلب الهدى؟! ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم :نم حتى آتيك ،أو يقول
بعضهم :ألزم قلوبنا الهدى ،فحذف الملزوم ،ويقول بعضهم :زدني هدى ،وإنما يوردون هذا السؤال؛ لعدم تصورهم
الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه ،فإن المراد به العمل بما أمر الّ به ،وترك ما نهى الّ عنه في جميع
المور.
والنسان وإن كان أقر بأن محمدًا رسول الّ ،وأن القرآن حق على سبيل الجمال ،فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما
ينفعه ويضره ،وما أمر به ،وما نهى عنه في تفاصيل المور وجزئياتها لم يعرفه ،وما عرفه فكثير منه لم يعمل
بعلمه ،ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة ،فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما المور العامة الكلية ،ل
يمكن غير ذلك ل تذكر ما يخص به كل عبد؛ ولهذا أمر النسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم.
والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله ،يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلً ،ويتناول التعريف بما
يدخل في أوامره الكليات ،ويتناول إلهام العمل بعلمه ،فإن مجرد العلم بالحق ل يحصل به الهتداء إن لم يعمل بعلمه،
ن ذَ ْن ِبكَ َومَا تَأَخّرَ َو ُيتِمّ ِن ْع َمتَهُ عََل ْيكَ َو َيهْ ِد َيكَ
لّ مَا تَ َقدّ َم مِ ْ
ك َفتْحًا ُمبِينًا ِ .ل َيغْفِرَ َلكَ ا ُ ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبيةِ{ :إنّا َفتَ ْ
حنَا َل َ
ستَقِيمَ}س َتبِينَ .وَ َه َد ْينَا ُهمَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْ س َتقِيمًا} [الفتح ،]2 ،1 :وقال في حق موسى وهارون{ :وَآ َت ْينَا ُهمَا ا ْلكِتَابَ ا ْلمُ ْ صِرَاطًا مُ ْ
[الصافات.]118 ،117 :
ل من المور الخبرية والعلمية العتقادية والعملية ،مع أنهم كلهم متفقون على أن والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء ا ّ
محمدًا حق ،والقرآن حق ،فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا ،ثم الذين
علموا ما أمر الّ به أكثرهم يعصونه ول يحتذون حذوه ،فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك العمال؛ لفعلوا ما
أمروا به وتركوا ما نهو عنه ،والذين هداهم الّ من هذه المة حتى صاروا من أولياء الّ المتقين كان من أعظم
أسباب ذلك دعاؤهم الّ بهذا الدعاء في كل صلة ،مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الّ دائمًا في أن يهديهم الصراط
المستقيم.
فبدوام هذا الدعاء والفتقار صاروا من أولياء الّ المتقين.قال سهل بن عبد الّ التستري :ليس بين العبد وبين ربه
طريق أقرب إليه من الفتقار ،وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل
وهذا حقيقة قول من يقول :ثبتنا واهدنا لزوم الصراط.
وقول من قال :زدنا هدى ،يتناول ما تقدم ،لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم ،فإن العمل في
المستقبل بالعلم لم يحصل بعد ،ول يكون مهتديًا حتى يعمل في المستقبل بالعلم ،وقد ل يحصل العلم في /المستقبل بل
يزول عن القلب ،وإن حصل فقد ل يحصل العمل ،فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه الّ عليهم
في كل صلة ،فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه ،وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر
والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة ،والّ أعلم.
واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة الرادية ،أو مجرد العلم والقدرة كما يظن ذلك طائفة
من النظار في علم الّ وقدرته ،كأبي الحسين البصري ،قالوا :إن حياته أنه بحيث يعلم ويقدر ،بل الحياة صفة قائمة
بالموصوف ،وهي شرط في العلم والرادة والقدرة على الفعال الختيارية ،وهي أيضًا مستلزمة لذلك ،فكل حي له
شعور وإرادة وعمل اختياري بقدرة ،وكل ما له علم وإرادة وعمل اختياري فهو حي.
والحياء مشتق من الحياة ،فإن القلب الحي يكون صاحبه حيا فيه حياء يمنعه عن القبائح ،فإن حياة القلب هي المانعة
من القبائح التي تفسد القلب؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم( :الحياء من اليمان) ،وقال( :الحياء والعي شعبتان
من اليمان .والبذاء والبيان شعبتان من النفاق).
فإن الحي يدفع ما يؤذيه ،بخلف الميت الذي ل حياة فيه فإنه يسمى وقحًا ،والوقاحة الصلبة وهو اليبس المخالف
لرطوبة الحياة ،فإذا كان وقحًا يابسًا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه ،وامتناعه من القبح كالرض /
اليابسة ل يؤثر فيها وطء القدام ،بخلف الرض الخضرة.
ولهذا كان الحي يظهر عليه التأثر بالقبح ،وله إرادة تمنعه عن فعل القبح ،بخلف الوقـح الذي ليس بحي فل حياء معه
ول إيمان يزجره عن ذلك .فالقلـب إذا كان حيًا فمات النسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن ،ليست
هي في نفسها ميتة بمعنى زوال حياتها عنها.
وهذا كما أن النوم أخو الموت ،فيسمى وفاة ويسمى موتًا ،وإن كانت الحياة موجودة فيهما .قال الّ تعالى{ :ا ُ
لّ َيتَ َوفّى
ت فِي َمنَا ِمهَا َفُيمْ ِسكُ اّلتِي َقضَى عََل ْيهَا ا ْلمَ ْوتَ َويُرْسِلُ ا ُلْخْرَى إِلَى َأجَ ٍل مُ َسمّى} [الزمر.]42 :
لْنْفُسَ حِينَ مَ ْو ِتهَا وَاّلتِي لَ ْم َتمُ ْ
اَ
وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا استيقظ من منامه يقول( :الحمد لّ الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) ،وفي
حديث آخر( / :الحمد لّ الذي رد على روحي ،وعافاني في جسدي ،وأذن لي بذكره ،وفضلني على كثير ممن خلق
تفضيلً) ،وإذا أوى إلى فراشه يقول( :اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها ،لك مماتها ومحياها ،إن أمسكتها فارحمها،
وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) ،ويقول( :باسمك اللّهم أموت وأحيا).
َفصْــل
ومن أمراض القلوب الحسد ،كما قال بعضهم في حده :إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الغنياء ،فل يجوز أن
يكون الفاضل حسودًا؛ لن الفاضل يجري على ما هو الجميل ،وقد قال طائفة من الناس :إنه تمنى زوال النعمة عن
المحسود ،وإن لم يصر للحاسد مثلها ،بخلف الغبطة :فإنه تمنى مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط.
والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان:
أحدهما :كراهة للنعمة عليه مطلقًا ،فهذا هو الحسد المذموم ،وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه،
فيكون ذلك مرضًا في قلبه ،ويلتذ بزوال النعمة عنه ،وإن لم يحصل له نفع بزوالها ،لكن نفعه /زوال اللم الذي كان
في نفسه ،ولكن ذلك اللم لم يزل إل بمباشرة منه ،وهو راحة ،وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه
والمرض باق؛ فإن بغضه لنعمة الّ على عبده مرض .فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها ،وقد
يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود.
والحاسد ليس له غرض في شيء معين ،لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع؛ ولهذا قال من قال :إنه تمنى زوال
النعمة ،فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه.
والنوع الثاني :أن يكره فضل ذلك الشخص عليه ،فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه ،فهذا حسد وهو الذي سموه
الغبطة ،وقد سماه النبي صلى ال عليه وسلم حسدًا في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر ـ رضي
الّ عنهما ـ أنه قال( :ل حسد إل في اثنتين :رجل أتاه الّ الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ،ورجل آتاه الّ مال فسلطه
على هلكته في الحق) هذا لفظ ابن مسعود ،ولفظ ابن عمر( :رجل آتاه الّ القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار،
ل مالً فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار) رواه البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه( :ل حسد ورجل آتاه ا ّ
إل في اثنين :رجل آتاه الّ القرآن فهو يتلوه الليل والنهار ،فسمعه رجل فقال :ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا/ ،
فعملت فيه مثل ما يعمل هذا ،ورجل آتاه الّ مال فهو يهلكه في الحق .فقال رجل :ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا
فعملت فيه مثل ما يعمل هذا) .فهذا الحسد الذي نهى عنه النبي صلى ال عليه وسلم إل في موضعين هو الذي سماه
أولئك الغبطة ،وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه.
فإن قيل :إذًا لم سمي حسدًا وإنما أحب أن ينعم الّ عليه؟ قيل :مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهته
أن يتفضل عليه ،ولول وجود ذلك الغير لم يحب ذلك ،فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسدًا؛
لنه كراهة تتبعها محبة ،وأما من أحب أن ينعم الّ عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس ،فهذا ليس عنده من الحسد
شيء.
ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني ،وقد تسمى المنافسة ،فيتنافس الثنان في المر المحبوب المطلوب ،كلهما
يطلب أن يأخذه ،وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الخر ،كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الخر،
ن َ .تعْرِفُ
ظرُو َ
ك يَن ُ والتنافس ليس مذمومًا مطلقًا ،بل هو محمود في الخير ،قال تعالى{ :إِنّ ا َ
لْبْرَارَ لَفِي َنعِيمٍ .عَلَى الَْرَا ِئ ِ
ك فَ ْل َي َتنَافَسْ ا ْل ُم َتنَافِسُونَ} [المطففين22 :ـ .]26 سكٌ َوفِي ذَِل َ
ختَامُ ُه مِ ْ
ختُومٍ ِ .
ق مَ ْ
ن مِنْ رَحِي ٍ
سقَوْ َ
فِي ُوجُو ِههِ ْم نَضْ َرةَ ال ّنعِي ِم .يُ ْ
فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم ،ل ينافس في نعيم الدنيا /الزائل ،وهذا موافق لحديث النبي صلى ال عليه
وسلم فإنه نهى عن الحسد إل فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه ،ومن أوتي المال فهو ينفقه ،فأما من أوتي علمًا
ولم يعمل به ولم يعلمه ،أو أوتي مال ولم ينفقه في طاعة الّ فهذا ل يحسد ول يتمنى مثل حاله ،فإنه ليس في خير
يرغب فيه ،بل هو معرض للعذاب ،ومن ولي ولية فيأتيها بعلم وعدل ،أدى المانات إلى أهلها ،وحكم بين الناس
بالكتاب والسنة ،فهذا درجته عظيمة ،لكن هذا في جهاد عظيم ،كذلك المجاهد في سبيل الّ.
والنفوس ل تحسد من هو في تعب عظيم؛ فلهذا لم يذكره ،وإن كان المجاهد في سبيل الّ أفضل من الذي ينفق المال،
بخلف المنفق والمعلم فإن هذين ليس لهم في العادة عدو من خارج ،فإن قدر أنهما لهما عدو يجاهدانه ،فذلك أفضل
لدرجتهما ،وكذلك لم يذكر النبي صلى ال عليه وسلم المصلي والصائم والحاج؛ لن هذه العمال ل يحصل منها في
العادة من نفع الناس الذي يعظمون به الشخص ،ويسودونه ما يحصل بالتعليم والنفاق.
والحسد في الصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة ،وإل فالعامل ل يحسد في العادة ،ولو كان تنعمه
بالكل والشرب والنكاح أكثر من غيره ،بخلف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيرًا؛ ولهذا يوجد بين أهل /العلم
الذين لهم أتباع من الحسد ما ل يوجد فيمن ليس كذلك ،وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله ،فهذا ينفع الناس بقوت
القلوب وهذا ينفعهم بقوت البدان ،والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا.
شيْءٍ َومَنْ َر َز ْقنَا ُه علَى َ ع ْبدًا َممْلُوكًا لَ َي ْقدِرُ َ ولهذا ضرب الّ ـ سبحانه ـ مثلين :مثلً بهذا ،ومثلً بهذا فقال{ :ضَ َربَ ا ُ
لّ َمثَلً َ
ل يَ ْقدِرُ حدُ ُهمَا َأ ْبكَ ُم َ
لّ َمثَلً رَجَُليْنِ أَ َ
ل َيعَْلمُونَ َ .وضَ َربَ ا ُ حمْدُ لِّ بَلْ َأ ْكثَرُهُ ْم َستَوُونَ ا ْل َل يَ ْجهْرًا هَ ْ
سرّا وَ َ ق مِنْهُ ِسنًا َفهُوَ يُن ِف ُ
ِمنّا رِ ْزقًا حَ َ
ط مُ ْستَقِيمٍ} [النحل،75 : صرَا ٍعلَى ِ ن يَ ْأمُ ُر بِا ْلعَدْلِ وَهُوَ َ
ستَوِي هُوَ َومَ ْ ل يَ ْ
خيْرٍ هَ ْ ت ِب َ
ل يَأْ ِ
عَلَى شَيْءٍ وَهُ َو كَلّ عَلَى مَ ْولَهُ َأ ْي َنمَا يُوَجّ ّه َ
.]76
والمثلن ضربهما الّ ـ سبحانه ـ لنفسه المقدسة ،ولما يعبد من دونه ،فإن الوثان ل تقدر ل على عمل ينفع ،ول على
كلم ينفع ،فإذا قدر عبد مملوك ل يقدر على شيء ،وآخر قد رزقه الّ رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سرًا وجهرًا هل
يستوى هذا المملوك العاجز عن الحسان وهذا القادر على الحسان المحسن إلى الناس سرًا وجهرًا .وهو ـ سبحانه ـ
قادر على الحسان إلى عباده ،وهو محسن إليهم دائما ،فكيف يشبه به العاجز المملوك الذي ل يقدر على شيء حتى
ل مالً فهو ينفق منه آناء الليل والنهار.
يشرك به معه ،وهذا مثل الذي أعطاه ا ّ
وقد ضرب ذلك مثلً لنفسه ،فإنه ـ سبحانه ـ عالم عادل قادر يأمر بالعدل ،وهو قائم بالقسط على صراط مستقيم .كما
ط لَ إِلَهَ ِإلّ هُوَ ا ْل َعزِيزُ الْ َحكِيمُ} [آل عمران،]18 :
ل ِئكَةُ وَأُوْلُوا ا ْلعِلْ ِم قَا ِئمًا بِالْ ِقسْ ِ قال تعالىَ { :
ش ِهدَ الُّ َأنّ ُه لَ إِلَهَ ِإلّ هُوَ وَا ْلمَ َ
ط مُ ْستَقِيمٍ} [هود.]56 : وقال هود{ :إِنّ َربّي عَلَى صِرَا ٍ
ولهذا كان الناس يعظمون دار العباس ،كان عبد الّ يعلم الناس وأخوه يطعم الناس ،فكانوا يعظمون على ذلك ،ورأى
معاوية الناس يسألون ابن عمر عن المناسك وهو يفتيهم فقال :هذا والّ الشرف ،أو نحو ذلك.
هذا وعمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ نافس أبا بكر ـ رضي الّ عنه ـ النفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن
الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ قال :أمرنا رسول الّ صلى ال عليه وسلم أن نتصدق ،فوافق ذلك مالً عندي ،فقلت اليوم
أسبق أبا بكر أن سبقته يومًا .قال فجئت بنصف مالي ،قال :فقال لي رسول /الّ صلى ال عليه وسلم( :ما أبقيت
لهلك؟) قلت :مثله ،وأتى أبو بكر ـ رضي الّ عنه ـ بكل ما عنده ،فقال له رسول الّ صلى ال عليه وسلم( :ما أبقيت
لهلك؟) قال :أبقيت لهم الّ ورسوله فقلت :ل أسابقك إلى شيء أبدًا.
فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة ،لكن حال الصديق ـ رضي الّ عنه ـ أفضل منه وهو أنه خال من
المنافسة مطلقًا ل ينظر إلى حال غيره.
وكذلك موسى صلى ال عليه وسلم في حديث المعراج حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى ال عليه وسلم حتى بكى
لما تجاوزه النبي صلى ال عليه وسلم فقيل له :ما يبكيك :فقال( :أبكي ،لن غلمًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته
أكثر ممن يدخلها من أمتي) ،أخرجاه في الصحيحين ،وروى في بعض اللفاظ المروية غير الصحيح( :مررنا على
رجل وهو يقول ويرفع صوته :أكرمته وفضلته ،قال :فرفعناه إليه فسلمنا عليه فرد السلم ،فقال :من هذا معك يا
جبريل ؟ قال :هذا أحمد ،قال :مرحبًا بالنبي المي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لمته ،قال :ثم اندفعنا فقلت :من هذا يا
جبريل ؟ قال :هذا موسى بن عمران ،قلت :ومن يعاتب ؟ قال :يعاتب ربه فيك ،قلت :ويرفع صوته على ربه؟! قال:
إن الّ ـ عز وجل ـ قد عرف صدقه).
/وعمر ـ رضي الّ عنه ـ كان مشبهًا بموسى ،ونبينا حاله أفضل من حال موسى ،فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك.
وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه ،كانوا سالمين من جميع هذه المور ،فكانوا أرفع درجة ممن
عنده منافسة وغبطة ،وإن كان ذلك مباحًا؛ ولهذا استحق أبو عبيدة ـ رضي الّ عنه ـ أن يكون أمين هذه المة ،فإن
المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه ،كان أحق بالمانة ممن يخاف مزاحمته؛ ولهذا
يؤتمن على النساء والصبيان الخصيان ،ويؤتمن على الولية الصغرى من يعرف أنه ل يزاحم على الكبرى ،ويؤتمن
على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيء منه ،وإذا أؤتمن من في نفسه خيانة شبه بالذئب المؤتمن على
الغنم ،فل يقدر أن يؤدي المانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه.
وفي الحديث الذي رواه المام أحمد في مسنده عن أنس ـ رضي الّ عنه ـ قال :كنا يومًا جلوسًا عند رسول الّ صلى
ال عليه وسلم فقال( :يطلع عليكم الن من هذا الفج رجل من أهل الجنة) ،قال :فطلع رجل من النصار تنطف لحيته
من وضوء ،قد علق نعليه في يده الشمال ،فسلم ،فلما كان الغد قال النبي صلى ال عليه وسلم مثل ذلك ،فطلع ذلك
الرجل على مثل حاله ،فلما كان اليوم الثالث ،قال النبي صلى ال عليه وسلم مقالته فطلع ذلك الرجل على مثل حاله،
فلما قام النبي صلى ال عليه وسلم :اتبعه عبد الّ بن عمرو بن العاص ـ رضي /الّ عنه ـ فقال :إني لحيت أبى،
فأقسمت أل أدخل عليه ثلثًا ،فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلث فعلت .قال :نعم ،قال أنس ـ رضي الّ
عنه ـ :فكان عبد الّ يحدث أنه بات عنده ثلث ليال ،فلم يره يقوم من الليل شيئًا ،غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه
ذكر الّ ـ عز وجل ـ وكبر حتى يقوم إلى صلة الفجر ،فقال عبد الّ :غير أني لم أسمعه يقول إل خيرًا ،فلما فرغنا
من الثلث وكدت أن أحقر عمله قلت :يا عبد الّ لم يكن بيني وبين والدي غضب ول هجرة ،ولكن سمعت رسول الّ
صلى ال عليه وسلم يقول ثلث مرات( :يطلع عليكم رجل من أهل الجنة) ،فطلعت أنت الثلث مرات ،فأردت أن
آوى إليك لنظر ما عملك ،فأقتدى بذلك ،فلم أرَك تعمل كثير عمل ،فما الذي بلغ بك ما قال رسول الّ صلى ال عليه
وسلم ؟ قال :ما هو إل ما رأيت ،غير أنني ل أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشًا ول حسدًا على خير أعطاه
الّ إياه .قال عبد الّ :هذه التي بلغت بك وهي التي ل نطيق .فقول عبد الّ ابن عمرو له :هذه التي بلغت بك ،وهي
التي ل نطيق ،يشير إلى خلوه وسلمته من جميع أنواع الحسد.
ن ِبهِمْ
سهِمْ وَلَ ْو كَا َ
صدُورِ ِهمْ حَاجَ ًة ِممّا أُوتُوا َويُ ْؤثِرُونَ عَلَى َأنْ ُف ِ
ن فِي ُ
جدُو َ وبهذا أثنى الّ ـ تعالى ـ على النصار فقالَ { :و َ
ل يَ ِ
َخصَاصَةٌ} [الحشر ،]9 :أي :مما أوتي إخوانهم المهاجرون ،قال المفسرون :ل يجدون في صدورهم حاجة أي :حسدًا
وغيظًا مما أوتي المهاجرون ،ثم قال بعضهم :من مال الفيء ،وقيل :من الفضل والتقدم / ،فهم ل يجدون حاجة مما
أتوا من المال ول من الجاه ،والحسد يقع على هذا.
وكان بين الوس والخزرج منافسة على الدين ،فكان هؤلء إذا فعلوا ما يفضلون به عند الّ ورسوله أحب الخرون
ك فَ ْل َيتَنَا َفسْ ا ْل ُم َتنَافِسُونَ} [المطففين:
سكٌ َوفِي ذَِل َ أن يفعلوا نظير ذلك ،فهو منافسة فيما يقربهم إلى الّ كما قالِ { :
ختَامُ ُه مِ ْ
.]26
وأما الحسد المذموم كله ،فقد قال تعالى في حق اليهود َ { :و ّد َكثِي ٌر مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ لَ ْو يَ ُردّو َنكُ ْم مِنْ َب ْعدِ إِيمَا ِنكُ ْم ُكفّارًا حَ َ
سدًا مِنْ
ِعنْدِ أَنفُ ِس ِه ْم مِنْ َب ْعدِ مَا َت َبيّنَ َلهُمْ الْ َحقّ} [البقرة ،]109 :يودون :أي :يتمنون ارتدادكم حسدًا ،فجعل الحسد هو الموجب
لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق؛ لنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل ،بل ما لم يحصل لهم مثله
ح ْكمَةَ
ضلِ ِه فَ َقدْ آ َت ْينَا آلَ ِإبْرَاهِيمَ ا ْل ِكتَابَ وَا ْل ِ
ن فَ ْ
لّ مِ ْ
سدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ ا ُ حسدوكم ،وكذلك في الية الخرىَ{ :أ ْم يَحْ ُ
سعِيرًا} [النساء ،]55 ،54 :وقال تعالى{ :قُلْ أَعُوذُ ج َهنّمَ َ
عنْهُ َوكَفَى بِ َ
صدّ َ
ن بِهِ َو ِم ْنهُ ْم مَنْ َ
وَآ َت ْينَاهُ ْم مُ ْلكًا عَظِيمًاَ .ف ِم ْنهُ ْم مَنْ آمَ َ
ت فِي ا ْل ُع َقدَِ .ومِنْ َشرّ حَا ِسدٍ ِإذَا حَ َسدَ} [ سورة الفلق ]. خلَقََ .ومِنْ شَرّ غَاسِقٍ ِإذَا َو َقبََ .ومِنْ شَرّ النّفّاثَا ِ ش ّر مَا َ بِرَبّ ا ْلفَلَقِ .مِنْ َ
وقد ذكر طائفة من المفسرين أنها نزلت بسبب حسد اليهود للنبي صلى ال عليه وسلم حتى سحروه :سحره لبَيِد بن
العصم اليهودي ،فالحاسد /المبغض للنعمة على من أنعم الّ عليه بها ظالم معتد ،والكاره لتفضيله المحب لمماثلته
منهى عن ذلك إل فيما يقربه إلى الّ ،فإذا أحب أن يعطي مثل ما أعطى مما يقربه إلى الّ فهذا ل بأس به ،وإعراض
قلبه عن هذا بحيث ل ينظر إلى حال الغير أفضل.
ثم هذا الحسد ،إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالمًا معتديًا مستحقًا للعقوبة إل أن يتوب ،وكان المحسود مظلومًا
مأمورًا بالصبر والتقوى ،فيصبر على أذى الحاسد ويعفو ويصفح عنه ،كما قال تعالىَ { :ودّ َكثِي ٌر مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ لَوْ
لّ بَِأمْ ِرهِ} [البقرة: حتّى يَ ْأتِيَ ا ُعفُوا وَاصْ َفحُوا َ ق فَا ْ
ن َبعْ ِد مَا َتبَيّنَ َلهُمْ ا ْلحَ ّ
سهِ ْم مِ ْ
ع ْندِ أَن ُف ِ
سدًا مِنْ ِ
حَن َبعْدِ إِيمَا ِنكُ ْم كُفّارًا َ
يَ ُردّونَكُ ْم مِ ْ
للٍصبَةٌ إِنّ َأبَانَا َلفِي ضَ َ ع ْ حبّ إِلَى َأبِينَا ِمنّا َونَحْنُ ُسفُ وََأخُوهُ أَ َ ،]109وقد ابتلى يوسف بحسد إخوته له حيث قالواَ{ :ليُو ُ
ّمبِينٍ } [يوسف ،]8 :فحسدوهما على تفضيل الب لهما؛ ولهذا قال يعقوب ليوسف{ :لَ َتقْصُصْ رُ ْؤيَاكَ عَلَى ِإخْ َو ِتكَ
ك كَ ْيدًا إِنّ ال ّشيْطَانَ لِلِنسَانِ َعدُ ّو ّمبِينٌ } [يوسف.]5 : َف َيكِيدُواْ َل َ
ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجب وبيعه رقيقًا لمن ذهب به إلى بلد الكفر فصار مملوكًا لقوم كفار ،ثم
إن يوسف ابتلى بعد أن ظلم بمن يدعوه إلى الفاحشة ويراود عليها ،ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك فاستعصم،
واختار السجن على الفاحشة ،وآثر عذاب /الدنيا على سخط الّ ،فكان مظلومًا من جهة من أحبه لهواه ،وغرضه
الفاسد.
فهذه المحبة أحبته لهوي محبوبها شفاؤها وشفاؤه إن وافقها ،وأولئك المبغضون أبغضوه بغضة أوجبت أن يصير
ملقى في الجب ،ثم أسيرًا مملوكًا بغير اختياره ،فأولئك أخرجوه من إطلق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير
اختياره ،وهـذه ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبوسًا مسجونًا باختياره ،فكانت هذه أعـظم في محنته ،وكان صبره
هنا صبرًا اختياريًا اقترن به التقوى ،بخلف صبره على ظلمهم فإن ذلك كان من باب المصائب التي من لم يصبر
لّ لَ يُضِيعُ
صبِ ْر فَإِنّ ا َ عليها صبر الكرام سل سلو البهائم ،والصبر الثاني أفضل الصبرين؛ ولهذا قالِ{ :إنّهُ مَ ْ
ن َيتّقِ َويَ ْ
أَ ْجرَ ا ْلمُحْ ِسنِينََ} [يوسف.]90 :
وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه ،وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان ،وإن لم يفعل أوذي وعوقب ،فاختار
الذى والعقوبة على فراق دينه :إما الحبس ،وإما الخروج من بلده ،كما جرى للمهاجرين ،حيث اختاروا فراق
الوطان على فراق الدين ،وكانوا يعذبون ويؤذون.
وقد أوذي النبي صلى ال عليه وسلم بأنواع من الذى فكان يصبر عليها صبرًا اختياريًا ،فإنه إنما يؤذى لئل يفعل ما
يفعله /باختياره ،وكان هذا أعظم من صبر يوسف؛ لن يوسف إنما طلب منه الفاحشة وإنما عوقب إذا لم يفعل
بالحبس ،والنبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه طلب منهم الكفر وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه .وأهون
ما عوقب به الحبس ،فإن المشركين حبسوه وبني هاشم بالشعب مدة ،ثم لما مات أبو طالب اشتدوا عليه ،فلما بايعت
النصار وعرفوا بذلك صاروا يقصدون منعه من الخروج ويحبسونه هو وأصحابه عن ذلك ولم يكن أحد يهاجر إل
سرًا ،إل عمر بن الخطاب ونحوه ،فكانوا قد ألجؤوهم إلى الخروج من ديارهم ومع هذا منعوا من منعوه منهم عن
ذلك وحبسوه.
فكان ما حصل للمؤمنين من الذى والمصائب هو باختيارهم طاعة لّ ورسوله ،لم يكن من المصائب السماوية التي
تجرى بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف ،ل من جنس التفريق بينه وبين أبيه ،وهذا أشرف النوعين ،وأهلها
أعظم درجة ـ وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه ـ فإن هذا أصيب
ظمَأٌ وأوذي باختياره طاعة لّ يثاب على نفس المصائب ويكتب له بها عمل صالح ،قال تعالى{ :ذَِل َ
ك بَِأّنهُ ْم لَ يُصِي ُبهُمْ َ
لّ لَ
عمَلٌ صَالِحٌ إِنّ ا َ
ل ُكتِبَ َلهُ ْم بِهِ َ
عدُ ّو َنيْلً ِإ ّ
ن مِنْ َ
طئًا َيغِيظُ ا ْل ُكفّارَ َولَ َينَالُو َ
طئُونَ مَ ْو ِ
ل يَ َ
سبِيلِ الِّ َو َ
خمَصَ ٌة فِي َ
ل مَ ْ
ل نَصَبٌ َو َ
َو َ
يُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْ ِسنِينَ} [التوبة.]120 :
/بخلف المصائب التي تجرى بل اختيار العبد ،كالمرض وموت العزيز عليه وأخذ اللصوص ماله ،فإن تلك إنما
يثاب على الصبر عليها ل على نفس ما يحدث من المصيبة ،لكن المصيبة يكفر بها خطاياه ،فإن الثواب إنما يكون
على العمال الختيارية ،وما يتولد عنها.
والذين يؤذون على اليمان ،وطاعة الّ ورسوله ،ويحدث لهم بسبب ذلك حرج ،أو مرض ،أو حبس ،أو فراق وطن
وذهاب مال وأهل ،أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال هم في ذلك علي طريقة النبياء وأتباعهم كالمهاجرين
الولين ،فهؤلء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عمل صالح ،كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع
والعطش والتعب وعلى غيظه الكفار ،وإن كانت هذه الثار ليست عملً فعله يقوم به لكنها متسببة عن فعله
الختياري ،وهي التي يقال لها متولدة.
وقد اختلف الناس :هل يقال :إنها فعل لفاعل السبب ،أو لّ أو ل فاعل لها ،والصحيح أنها مشتركة بين فاعل السبب،
وسائر السباب؛ولهذا كتب له بها عمل صالح.
والمقصود أن الحسد مرض من أمراض النفس ،وهو مرض غالب فل يخلص منه إل قليل من الناس؛ ولهذا يقال :ما
خل /جسد من حسد ،لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه ،وقد قيل للحسن البصري :أيحسد المؤمن؟ فقال :ما أنساك إخوة
يوسف ل أبا لك! ولكن عمه في صدرك ،فإنه ل يضرك ما لم تعد به يدًا ولسانًا.
فمن وجد في نفسه حسدًا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر ،فيكره ذلك من نفسه ،وكثير من الناس الذين
عندهم دين ل يعتدون على المحسود ،فل يعينون من ظلمه ،ولكنهم أيضًا ل يقومون بما يجب من حقه ،بل إذا ذمه
أحد لم يوافقوه على ذمه ول يذكرون محامده ،وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا ،وهؤلء مدينون في ترك المأمور في حقه
مفرطون في ذلك ،ل معتدون عليه ،وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فل ينصفون أيضًا في مواضع ،ول ينصرون
على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود ،وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب.
ل وصبر فلم يدخل في الظالمين ،نفعه الّ بتقواه؛ كما جرى لزينب بنت جحش ـ رضي الّ عنها ـ فإنها
ومن اتقى ا ّ
كانت هي التي تسامى عائشة من أزواج النبي صلى ال عليه وسلم وحسد النساء بعضهن لبعض كثير غالب ،ل سيما
المتزوجات بزوج واحد ،فإن المرأة تغار على زوجها لحظها منه ،فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها.
/وهكذا الحسد يقع كثيرًا بين المتشاركين في رئاسة أو مال ،إذا أخذ بعضهم قسطًا من ذلك وفات الخر ،ويكون بين
النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الخر عليه ،كحسد إخوة يوسف ،وكحسد ابني آدم أحدهما لخيه ،فإنه حسده لكون
أن الّ تقبل قربانه ،ولم يتقبل قربان هذا ،فحسده على ما فضله الّ من اليمان والتقوى ـ كحسد اليهود للمسلمين ـ
وقتله على ذلك؛ ولهذا قيل :أول ذنب عصى الّ به ثلثة :الحرص ،والكبر ،والحسد ،فالحرص من آدم ،والكبر من
إبليس ،والحسد من قابيل حيث قتل هابيل.
وفي الحديث( :ثلث ل ينجو منهن أحد :الحسد ،والظن ،والطّيرة ،وسأحدثكم بما يخرج من ذلك :إذا حسدت فل
تبغض ،وإذا ظننت فل تحقق ،وإذا تطيرت فامض) رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة.
وفي السنن عن النبي صلى ال عليه وسلم( :دب إليكم داء المم قبلكم :الحسد ،والبغضاء وهي الحالقة ،ل أقول :تحلق
الشعر ،ولكن تحلق الدين) فسماه داء ،كما سمى البخل داء في قوله( :وأي داء أدوأ من البخل؟!) فعلم أن هذا مرض،
وقد جاء في حديث آخر( :أعوذ بك من منكرات الخلق والهواء ،والدواء) فعطف الدواء على الخلق والهواء.
/فإن الخلق ما صار عادة للنفس ،وسَجِيّة ،قال تعالى{ :وَِإّنكَ َلعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم ،]4 :قال ابن عباس ،وابن عيينة،
وأحمد بن حنبل ـ رضي الّ عنهم ـ على دين عظيم ،وفي لفظ عن ابن عباس :على دين السلم ،وكذلك قالت عائشة
ـ رضي الّ عنها ـ :كان خلقه القرآن .وكذلك قال الحسن البصري :أدب القرآن هو الخلق العظيم.
وأما الهوى ،فقد يكون عارضًا ،والداء هو المرض ،وهو تألم القلب والفساد فيه ،وقرن في الحديث الول الحسد
ل فضل الّ على ذلك الغير ،ثم ينتقل إلى بغضه ،فإن بغض اللزم يقتضى بغض بالبغضاء؛ لن الحاسد يكره أو ً
الملزوم ،فإن نعمة الّ إذا كانت لزمة وهو يحب زوالها ،وهي ل تزول إل بزواله أبغضه وأحب عدمه ،والحسد
يوجب البغي ،كما أخبر الّ ـ تعالى ـ عمن قبلنا :أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ،فلم يكن اختلفهم لعدم
العلم ،بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعض ،كما يبغى الحاسد على المحسود.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي الّ عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال( :ل تحاسدوا ،ول تباغضوا،
ول تدابروا ،ول تقاطعوا ،وكونوا عباد الّ إخوانًا ،ول يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلث ليال ،يلتقيان فيصدّ هذا
ويصد هذا ،وخيرهما الذي يبدأ بالسلم) ،وقد قال صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس
أيضًا( :والذي /نفسي بيده ،ل يؤمن أحدكم حتي يحب لخيه ما يحب لنفسه).
ل مِنَ الِّ
شهِيدًا .وََلئِنْ َأصَا َبكُ ْم فَضْ ٌ
ن َم َعهُمْ َ
ل َقدْ َأ ْنعَمَ الُّ عََليّ ِإذْ لَمْ َأكُ ْ
ن فَإِنْ َأصَا َب ْتكُ ْم مُصِيبَةٌ قَا َ
طئَ ّن ِم ْنكُمْ َلمَنْ َل ُيبَ ّ وقد قال تعالى{ :وَإِ ّ
ت َم َعهُ ْم فََأفُو َز فَ ْوزًا عَظِيمًا} [النساء.]73 ،72 : ن َكأَنْ لَ ْم َتكُنْ َب ْي َنكُمْ َو َبيْنَ ُه مَ َودّةٌ يَاَليْ َتنِي كُن ُ
َليَقُولَ ّ
فهؤلء المبطئون لم يحبوا لخوانهم المؤمنين ما يحبون لنفسهم ،بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم ،وإن
أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها ،بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ ،فهم ل يفرحون إل بدنيا تحصل لهم ،أو شر دنيوي
ينصرف عنهم ،إذا كانوا ل يحبون الّ ورسوله والدار الخرة ،ولو كانوا كذلك لحبوا إخوانهم ،وأحبوا ما وصل
إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة ،ومن لم يسره ما يسر المؤمنين ،ويسوؤه ما يسوء المؤمنين فليس
منهم.
ففي الصحيحين عن عامر قال :سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول :سمعت رسول الّ صلى ال عليه وسلم يقول:
حمّى
(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد ،إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بال ُ
سهَر) ،وفي الصحيحين عن أبي موسى الشعري ـ رضي الّ عنه ـ قال :قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم( : وال ّ
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه.
والشح مرض ،والبخل مرض ،والحسد شر من البخل ،كما في الحديث /الذي رواه أبو داود عن النبي صلى ال عليه
وسلم أنه قال( :الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ،والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) وذلك أن
البخيل يمنع نفسه ،والحسود يكره نعمة الّ على عباده ،وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد
لنظرائه ،وقد يكون فيه بخل بل حسد لغيره والشح أصل ذلك.
وقال تعالىَ { :ومَنْ يُوقَ شُ ّح نَفْسِ ِه َفأُوَْل ِئكَ هُمْ ا ْل ُمفْلِحُونَ} [ الحشر ،]9 :وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
قال( :إياكم والشح ،فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا ،وأمرهم بالظلم فظلموا ،وأمرهم بالقطيعة فقطعوا)،
وكان عبد الرحمن بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول :اللّهم قني شح نفسي ،فقال له رجل :ما أكثر ما تدعو
بهذا .فقال :إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة .والحسد يوجب الظلم.
َفصْــل
فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها ،بل وحبها لما يضرها؛ ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب،
وأما مرض الشهوة ،والعشق فهو حب النفس لما يضرها ،وقد يقترن به بغضها لما ينفعها ،والعشق مرض نفساني،
وإذا قوى أثر في البدن فصار مرضًا في الجسم ،إما من أمراض /الدماغ كالماليخوليا؛ ولهذا قيل فيه :هو مرض
وسواسي شبيه بالماليخوليا ،وأما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك.
والمقصود هنا مرض القلب؛ فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهى ما يضره .وإذا لم يطعم
ذلك تألم ،وإن أطعم ذلك قوى به المرض وزاد.
كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدة وملمسة وسماعًا ،بل ويضره التفكر فيه والتخيل له وهو يشتهي
ذلك ،فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب ،وإن أعطى مشتهاه قوي مرضه ،وكان سببًا لزيادة اللم.
وفي الحديث( :إن الّ يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب) ،وفي مناجاة موسى
المأثورة عن وهب التي رواها المام أحمد في كتاب ]الزهد[ يقول الّ تعالى( :إني لذود أوليائي عن نعيم الدنيا
ورخائها ،كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة ،وإني لجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق
إبله عن مبارك الغرة ،وما ذلك لهوانهم علي ،ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدنيا ولم
يطفئه الهوى) .وإنما شفاء المريض بزوال مرضه ،بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه.
وقيل :من باب التصورات ،وإنه فساد في التخييل ،حيث يتصور المعشوق على ما هو به ،قال هؤلء :ولهذا ل
يوصف الّ بالعشق ،ول أنه يعشق؛ لنه منزه عن ذلك ،ول يحمد من يتخيل فيه خيالً فاسدًا.
وأما الولون فمنهم من قال :يوصف بالعشق فإنه المحبة التامة ،والّ يحب ويحب ،وروى في أثر عن عبد الواحد بن
زيد أنه قال :ل يزال عبدي يتقرب إليَ يعشقني وأعشقه .وهذا قول بعض الصوفية.
والجمهور ل يطلقون هذا اللفظ في حق الّ؛ لن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي ،والّ ـ
تعالى ـ محبته ل نهاية لها ،فليست تنتهي إلى حد ل تنبغي مجاوزته.
قال هؤلء :والعشق مذموم مطلقًا ل يمدح ل في محبة الخالق ،ول المخلوق؛ لنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد
المحمود ،وأيضًا فإن لفظ العشق إنما يستعمل في العرف في محبة النسان لمرأة أو صبي ،ل يستعمل في محبة
كمحبة الهل والمال والوطن والجاه ،ومحبة النبياء والصالحين ،وهو مقرون كثيرًا بالفعل المحرم :إما بمحبة امرأة
أجنبية أو صبي ،يقترن به النظر المحرم ،واللمس المحرم ،وغير ذلك من الفعال المحرمة.
/وأما محبة الرجل لمرأته أو سريته محبة تخرجه عن العدل بحيث يفعل لجلها ما ل يحل ،ويترك ما يجب ،كما هو
الواقع كثيرًا ،حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة ،لمحبته الجديدة ،وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه
ودنياه ،مثل أن يخصها بميراث ل تستحقه ،أو يعطي أهلها من الولية والمال ما يتعدى به حدود الّ ،أو يسرف في
النفاق عليها ،أو يملكها من أمور محرمة تضره في دينه ودنياه ،وهذا في عشق من يباح له وطؤها.
فكيف عشق الجنبية والذّكران من العالمين؟ ففيه من الفساد ما ل يحصيه إل رب العباد ،وهو من المراض التي
طمَعَ اّلذِي فِي قَ ْلبِهِ مَ َرضٌ} [
ل َفيَ ْ
ن بِا ْلقَوْ ِ
ضعْ َ تفسد دين صاحبها وعرضه ،ثم قد تفسد عقله ثم جسمه ،قال تعالى{ :فَ َ
ل تَخْ َ
الحزاب.]32 :
ومن في قلبه مرض الشهوة ،وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض ،والطمع الذي يقوى الرادة
والطلب ،ويقوي المرض بذلك ،بخلف ما إذا كان آيسًا من المطلوب ،فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الرادة
فيضعف الحب ،فإن النسان ل يريد أن يطلب ما هو آيس منه ،فل يكون مع الرادة عمل أصلً ،بل يكون حديث
نفس إل أن يقترن بذلك كلم أو نظر ،ونحو ذلك فيأثم بذلك.
/فأما إذا ابتلى بالعشق وعف وصبر ،فإنه يثاب على تقواه لّ ،وقد روى في الحديث( :أن من عشق فعف وكتم وصبر
ثم مات كان شهيدًا) وهومعروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا ،و فيه نظر ول يحتج
بهذا.
لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظرًا وقولً وعملً ،وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى ل يكون في
ذلك كلم محرم ،إما شكوى إلى المخلوق وإما إظهار فاحشة ،وإما نوع طلب للمعشوق ،وصبر على طاعة الّ ،وعن
معصيته ،وعلى ما في قلبه من ألم العشق ،كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة ،فإن هذا يكون ممـن اتقـى الّ
لّ لَ يُضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْح ِسنِينَ} [يوسف.]90 :
صبِ ْر فَإِنّ ا َ وصبـرِ{ ،إنّهُ مَ ْ
ن َيتّقِ َويَ ْ
وهكذا مرض الحسد وغيره من أمراض النفوس ،وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه الّ فينهاها خشية من الّ كان
ف مَقَامَ َربّهِ َو َنهَى النّ ْفسَ عَنْ ا ْلهَوَى َ .فإِنّ الْ َجنّةَ هِيَ ا ْلمَأْوَى} [النازعات.]41 ،40 :
ممن دخل في قوله{ :وََأمّا مَنْ خَا َ
فالنفس إذا أحبت شيئًا سعت في حصوله بما يمكن ،حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية ،فمن
أحب محبة مذمومة أو أبغض بغضًا مذمومًا وفعل ذلك كان آثمًا ،مثل أن يبغض شخصًا لحسده له فيؤذي من له به
تعلق ،إما بمنع حقوقهم ،أو بعدوان عليهم .أو لمحبة له /لهواه معه فيفعل لجله ما هو محرم ،أو ما هو مأمور به لّ
فيفعله لجل هواه ل لّ ،وهذه أمراض كثيرة في النفوس ،والنسان قد يبغض شيئًا فيبغض لجله أمورًا كثيرة بمجرد
الوهم والخيال.
وكذلك يحب شيئًا فيحب لجله أمورًا كثيرة ،لجل الوهم والخيال ،كما قال شاعرهم:
فقد أحب سوداء ،فأحب جنس السواد ،حتى في الكلب ،وهذا كله مرض في القلب في تصوره وإرادته.
فنسأل ال ـ تعالى ـ أن يعافى قلوبنا من كل داء ،ونعوذ بال من منكرات الخلق والهواء والدواء.
والقلب إنما خلق لجل حب الّ ـ تعالى ـ وهذه الفطرة التي فطر الّ عليها عباده كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :
كل مولود يولد على الفطرة ،فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ،كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ،هل تحسون فيها
من جدعاء) ثم يقول أبو هريرة ـ رضي الّ عنه ـ أقرؤوا إن شئتم{ :فِطْرَةَ الِّ اّلتِي فَطَرَ النّاسَ عََل ْيهَا َل َتبْدِيلَ لِ َخلْقِ الِّ} [
الروم ،]30 :أخرجه البخاري ومسلم.
/فالّ ـ سبحانه ـ فطر عباده على محبته وعبادته وحده ،فإذا تركت الفطرة بل فساد كان القلب عارفًا بالّ محبًا له
عابدًا له وحده ،لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ،وهذه كلها تغير فطرته التي
فطره عليها ،وإن كانت بقضاء الّ وقدره ـ كما يغير البدن بالجدع ـ ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر الّ ـ تعالى ـ لها
من يسعى في إعادتها إلى الفطرة.
والرسل ـ صلى الّ عليهم وسلم ـ بعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها ل لتغيير الفطرة وتحويلها ،وإذا كان القلب محبًا لّ
وحده مخلصًا له الدين ،لم يبتل بحب غيره أصل ،فضلً أن يبتلى بالعشق ،وحيث ابتلى بالعشق فلنقص محبته لّ
وحده.
ولهذا لما كان يوسف محبًا لّ مخلصًا له الدين لم يبتل بذلك ،بل قال تعالىَ { :كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َ
عنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ
ِعبَادِنَا ا ْلمُخَْلصِينَ} [يوسف .]24 :وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها؛ فلهذا ابتليت بالعشق ،وما يبتلى
بالعشق أحد إل لنقص توحيده وإيمانه ،وإل فالقلب المنيب إلى الّ الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق:
أحدهما :إنابته إلى الّ؛ ومحبته له ،فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء ،فل تبقى مع محبة الّ محبة مخلوق تزاحمه.
/والثاني :خوفه من الّ ،فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه ،وكل من أحب شيئًا بعشق أو غير عشق فإنه يصرف
عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه ،إذا كان يزاحمه ،وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض
إليه من ترك ذاك الحب ،فإذا كان الّ أحب إلى العبد من كل شيء ،وأخوف عنده من كل شيء ،لم يحصل معه عشق
ول مزاحمة إل عند غفلة أو عند ضعف هذا الحب والخوف ،بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ،فإن
اليمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ،فكلما فعل العبد الطاعة محبة لّ وخوفًا منه وترك المعصية حبًا له وخوفًا
منه قوى حبه له وخوفه منه ،فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره.
وهكذا أمراض البدان :فإن الصحة تحفظ بالمثل ،والمرض يدفع بالضد ،فصحة القلب باليمان تحفظ بالمثل ،وهو ما
يورث القلب إيمانًا من العلم النافع والعمل الصالح ،فتلك أغذية له ،كما في حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا( :إن
كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته ،وإن مأدبة الّ هي القرآن) .والدب :المضيف فهو ضيافة الّ لعباده] .. .بياض
بالصل[.
مثل آخر :الليل وأوقات الذان والقامة وفي سجوده ،وفي أدبار الصلوات ،ويضم إلى ذلك الستغفار ،فإنه من
استغفر الّ ثم تاب إليه متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى.
/وليتخذ وردًا من الذكار في النهار ،ووقت النوم ،وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف ،فإنه ل يلبث
أن يؤيده الّ بروح منه .ويكتب اليمان في قلبه.
وليحرص على إكمال الفرائـض مـن الصلـوات الخمـس باطنـة وظاهـرة فإنهـا عمـود الدين ،وليكن هجيراه ل حول
ول قوة إل بالّ ،فإنها بها تحمل الثقال ،وتكابد الهوال ،وينال رفيع الحوال.
ول يسأم من الدعاء والطلب ،فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل ،فيقول :قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي ،وليعلم أن
النصر مع الصبر ،وأن الفرج مع الكرب ،وأن مع العسر يسرًا ،ولم ينل أحد شيئًا من ختم الخير نبي فمن دونه إل
بالصبر.
والحمد لّ رب العالمين ،وله الحمد والمنة على السلم والسنة ،حمدًا يكافئ نعمه الظاهرة والباطنة ،وكما ينبغي
لكرم وجهه وعز جلله.
وصلى الّ على سيدنا محمد ،وعلى آله وأصحابه ،وأزواجه أمهات المؤمنين ،والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،
وسلم تسليمًا كثيرًا.
فصــل
قد ذكرنا في غير موضع :أن صلح حال النسان في العدل ،كما أن فساده في الظلم .وأن الّ ـ سبحانه ـ عدله وسواه
لما خلقه ،وصحة جسمه وعافيته من اعتدال أخلطه وأعضائه ومرض ذلك النحراف والميل.
ل مرض القلوب وشفاءها في مواضع من كتابه وجاء ذلك في سنة رسوله صلى ال عليه وسلم ،كقوله ـ /وقد ذكر ا ّ
ض يُسَارِعُونَ ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَ َر ٌلّ مَرَضًا} [البقرة ،]10 :وقالَ { :فتَرَى اّلذِي َ تعالى ـ عن المنافقين{ :فِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَ ٌ
ض َفزَادَهُمْ ا ُ
ظ قُلُو ِبهِمْ} [التوبة ،]15 ،14 :وقالَ { :قدْ غيْ َصدُو َر قَوْ ٍم مُ ْؤ ِمنِينَ َ .وُيذْهِبْ َ فِيهِم} [المائدة ،]52 :وقال تعالىَ { :ويَشْفِ ُ
حمَةٌ
ن مَا ُهوَ شِفَاءٌ وَرَ ْ ل مِنْ ا ْلقُرْآ ِصدُورِ} [يونس ،]57 :وقال تعالىَ { :و ُننَزّ ُ شفَاءٌ ِلمَا فِي ال ّجَا َء ْتكُ ْم مَوْعِظَ ٌة مِنْ َرّبكُمْ وَ ِ
ضعْنَل تَخْ َ شفَاءٌ} [فصلت ،]44 :وقال تعالى{ :فَ َ ن آ َمنُوا ُهدًى وَ ِ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [السراء ،]82 :وقال تعالى{ :قُلْ هُوَ لِّلذِي َ
ن فِي ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَ َرضٌ وَا ْلمُ ْرجِفُو َ طمَعَ اّلذِي فِي قَ ْلبِ ِه مَرَضٌ} [الحزاب ،]32 :وقالَ{ :لئِنْ لَ ْم َي ْنتَهِ ا ْل ُمنَافِقُونَ وَاّلذِي َ ل َفيَ ْ بِا ْلقَوْ ِ
ع َدنَا الُّ وَ َرسُولُهُ ِإلّ غُرُورًا} ض مَا وَ َ ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَ َر ٌ ك ِبهِمْ} [الحزاب ،]60 :وقال{ :وَِإ ْذ يَقُولُ ا ْل ُمنَافِقُونَ وَاّلذِي َ ا ْل َمدِينَةِ َل ُنغْ ِريَ ّن َ
[الحزاب.]12 :
وقال النبي صلى ال عليه وسلم( :هل سألوا إذ لم يعلموا ،فإنما شفاء ال ِعيّ السؤال) ،وقال الرشيد :الن شفيتني يا
مالك ،وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود :أن أحدًا ل يزال بخير ما اتقى الّ ،وإذا شك في تفسير شيء سأل رجلً
فشفاه ،وأوشك أل يجده والذي ل إله إل هو.
ل من مرض القلوب وشفائها بمنزلة ما ذكر من موتها /وحياتها وسمعها وبصرها وعقلها وصممهاوما ذكر ا ّ
وبكمها وعماها.
فساد الحس.
وكل منهما يحصل بفقده ألم وعذاب ،فكما أنه مع صحة الحس والحركة الرادية والطبيعية تحصل اللذة والنعمة،
فكذلك بفسادها يحصل اللم والعذاب؛ ولهذا كانت النعمة من النعيم ،وهو ما ينعم الّ به على عباده ،مما يكون فيه لذة
ونعيم ،وقال{ :ثُمّ َلتُ ْسأَلُ ّن يَ ْو َمئِذٍ عَنْ الّنعِيمِ} [التكاثر ،]8 :أي :عن شكره.
فسبب اللذة إحساس الملئم ،وسبب اللم إحساس المنافي ،ليس اللذة واللم نفس الحساس والدراك ،وإنما هو نتيجته
وثمرته ومقصوده وغايته ،فالمرض فيه ألم لبد منه وإن كان قد يسكن أحيانًا لمعارض راجح ،فالمقتضى له قائم
يهيج بأدنى سبب ،فلبد في المرض من وجود سبب اللم ،وإنما يزول اللم بوجود المعارض الراجح.
ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه ،أعني ألمه ولذته النفسانيتان / ،وإن كان قد يحصل فيه من اللم من جنس
ما يحصل في سائر البدن بسبب مرض الجسم ،فذلك شيء آخر.
فلذلك كان مرض القلب وشفاؤه ،أعظم من مرض الجسم وشفائه ،فتارة يكون من جملة الشبهات .كما قالَ { :فيَ ْ
طمَعَ
اّلذِي فِي قَ ْلبِ ِه مَرَضٌ} ،وكما صنف الخرائطي كتاب [اعتلل القلوب بالهواء] ففي قلوب المنافقين :المرض من هذا
الوجه ،ومن هذا الوجه :من جهة فساد العتقادات ،وفساد الرادات.
والمظلوم في قلبه مرض وهو اللم الحاصل بسبب ظلم الغير له ،فإذا استوفى حقه اشتفى قلبه .كما قال تعالى{ :
ظ قُلُو ِبهِمْ} [التوبة ،]15 ،14 :فإن غيظ القلب إنما هو لدفع الذي واللم عنه،
غيْ َ
صدُو َر قَوْ ٍم مُ ْؤ ِمنِينَ َ .وُيذْهِبْ َ
َويَشْفِ ُ
فإذا اندفع عنه الذى واستوفى حقه زال غيظه.
فكما أن للنسان إذا صار ل يسمع بأذنه وليبصر بعينه ول ينطق بلسانه كان ذلك مرضًا مؤلمًا له يفوته من المصالح
ويحصل له من المضار ،فكذلك إذا لم يسمع ولم يبصر ولم يعلم بقلبه الحق من الباطل ،ولم يميز بين الخير والشر،
والغي والرشاد ،كان ذلك من أعظم أمراض قلبه وألمه ،وكما أنه إذا اشتهى ما يضره مثل الطعام الكثير في الشهوة
الكلية ،ومثل أكل الطين ونحوه كان ذلك مرضًا ،فإنه يتألم حتى يزول ألمه /بهذا الكل الذي يوجد ألمًا أكثر من
الول ،فهو يتألم إن أكل ،ويتألم إن لم يأكل.
فكذلك إذا بلي بحب من ل ينفعه العشق ،ونحوه سواء كان لصورة أو لرئاسة أو لمال ونحو ذلك ،فإن لم يحصل
محبوبه ومطلوبه فهو متألم ومريض سقيم ،وإن حصل محبوبه فهو أشد مرضًا وألمًا وسقمًا ،ولذلك كما أن المريض
إذا كان يبغض ما يحتاج إليه من الطعام والشراب ،كان ذلك اللم حاصلً ،وكان دوامه على ذلك يوجب من اللم
أكثر من ذلك حتى يقتله ،حتى يزول ما يوجب بغضه لما ينفعه ويحتاج إليه ،فهو متألم في الحال ،وتألمه فيما بعد ـ إن
لم يعافهِ الّ ـ أعظم وأكبر.
فبغض الحاسد لنعمة الّ على المحسود ،كبغض المريض لكل الصحاء لطعمتهم وأشربتهم ،حتى ل يقدر أن يراهم
يأكلون ،ونفرته عن أن يقوم بحقه كنفرة المريض عما يصلح له من طعام وشراب ،فالحب والبغض الخارج عن
العتدال والصحة في النفس كالشهوة والنفرة الخارج عن العتدال والصحة في الجسم ،وعمى القلب وبكمه أن
يبصر الحقائق ويميز ما ينفعه ويضره ،كعمى الجسم ،وخرسه عن أن يبصر المور المرتبة ،ويتكلم بها ويميز بين
ما ينفعه ويضره.
وكما أن الضرير إذا أبصر وجد أن الراحة والعافية والسرور أمرًا /عظيمًا .فبصر القلب ورؤيته الحقائق بينه وبين
بصر الرأس من التفاوت ما ل يحصيه إل الّ ،وإنما الغرض هنا تشبيه أحد المرضين بالخر ،فطب الديان يحتذى
حذو طب البدان.
وقد كتب سليمان إلى أبي الدرداء :أما بعد :فقد بلغني أنك قعدت طبيبًا ،فإياك أن تقتل ،والّ أنزل كتابه شفاء لما في
الصدور .وقال تعالىَ { :وُننَزّ ُل مِنْ ا ْلقُرْآ ِن مَا ُهوَ شِفَاءٌ وَرَ ْحمَةٌ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َو َل يَزِيدُ الظّاِلمِينَ ِإلّ َخسَارًا} [السراء ،]82 :ذلك
أن الشفاء إنما يحصل لمن يتعمد الدواء ،وهم المؤمنون وضعوا دواء القرآن على داء قلوبهم.
فمرض الجسم يكون بخروج الشهوة ،والنفرة الطبيعية عن العتدال ،أما شهوة ما ل يحصل أو يفقد الشهوة النافعة
وينفر به عما يصلح ويفقد النفرة عما يضر ،ويكون بضعف قوة الدراك والحركة ،كذلك مرض القلب يكون بالحب
والبغض الخارجين عن العتدال ،وهي الهواء التي قال الّ فيهاَ { :ومَنْ َأضَ ّل ِممّنْ اّتبَعَ هَوَا ُه ِب َغيْرِ ُهدًى مِنْ الِّ} [
القصص ،]50 :وقال{ :بَ ْل اّتبَعَ اّلذِينَ ظََلمُوا أَهْوَاءَ ُه ْم ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ} [الروم.]29 :
كما يكون الجسد خارجًا عن العتدال إذا فعل ما يشتهيه الجسم بل قول الطبيب ،ويكون لضعف إدراك القلب وقوته
حتى ل يستطيع أن يعلم ويريد ما ينفعه ويصلح له ،وكما أن المرضى الجهال قد يتناولون ما يشتهون ،فل /يحتمون
ول يصبرون على الدوية الكريهة لما في ذلك من تعجيل نوع من الراحة واللذة ،ولكن ذلك يعقبهم من اللم ما يعظم
قدره ،أو يعجل الهلك.
فكذلك بنو آدم هم جهال ظلموا أنفسهم ،يستعجل أحدهم ما ترغبه لذته ويترك ما تكرهه نفسه ،مما هو ل يصلح له،
فيعقبهم ذلك من اللم والعقوبات ،إما في الدنيا وإما في الخرة ما فيه عظم العذاب والهلك العظم.
والتقوى :هي الحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه ،فإن الحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع ،وأما استعمال
النافع فقد يكون معه أيضًا استعمالً لضار ،فل يكون صاحبه من المتقين.
وأما ترك استعمال الضار والنافع فهذا ل يكون؛ فإن العبد إذا عجز عن تناول الغذاء كان مغتذيًا بما معه من المواد
التي تضره حتى يهلك؛ ولهذا كانت العاقبة للتقوى ،وللمتقين؛ لنهم المحتمون عما يضرهم فعاقبتهم السلم
والكرامة ،وإن وجدوا ألمًا في البتداء لتناول الدواء والحتماء ،كفعل العمال الصالحة المكروهة .كما قال تعالى{ :
ُكتِبَ عََل ْيكُمْ الْ ِقتَالُ وَهُ َو كُرْهٌ َل ُكمْ وَعَسى أَ ْن تَكْرَهُوا َش ْيئًا وَهُوَ َخيْرٌ َلكُمْ وَعَسَى أَ ْن تُ ِحبّوا َش ْيئًا وَهُوَ شَرّ َلكُمْ} [البقرة.]216 :
ف مَقَامَ َربّهِ َو َنهَى النّفْسَ عَنْ ا ْلهَوَى .فَإِنّ ا ْل َجنّةَ ِهيَ ا ْلمَ ْأوَى} [
ولكثرة العمال الباطلة المشتهاة ،كما قال تعالى{ :وََأمّا مَنْ خَا َ
النازعات .]41 ،40 :وكما قالَ { :وتَ َودّونَ أَنّ َغيْ َر ذَاتِ الشّ ْوكَةِ َتكُونُ َلكُمْ} [النفال ،]7 :فأما من لم يحتم فإن ذلك سبب
لضرره في العاقبة ،ومن تناول ما ينفعه مع يسير من التخليط ،فهو أصلح ممن احتمى حمية كاملة ولم يتناول الشياء
سرًا ،فإن الحمية التامة بل اغتذاء تمرض ،فهكذا من ترك السيئات ولم يفعل الحسنات.
وقد قدمنا في قاعدة كبيرة أن جنس الحسنات أنفع من جنس ترك السيئات ،كما أن جنس الغتذاء من جنس الحتماء،
وبينا أن هذا مقصود لنفسه وذلك مقصود لغيره بالنضمام إلى غيره ،وكما أن الواجب الحتماء عن سبب المرض
قبل حصوله ،وإزالته بعد حصوله ،فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها ـ بأن
عرض له المرض ـ دوامًا ،والصحة تحفظ بالمثل ،والمرض يزول بالضد ،فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال ما
فيها ،أو هو ما يقوي العلم واليمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة ،وتزول بالضد ،فتزال الشبهات بالبينات،
وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق.
ولهذا قال يحيى بن عمار :العلوم خمسة :فعلم هو حياة الدنيا ،وهو علم التوحيد ،وعلم هو غذاء الدين ،وهو علم
التذكر بمعاني القرآن والحديث ،وعلم هو دواء الدين ،وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من /يشفيه
منها ،كما قال ابن مسعود :وعلم هو داء الدين وهو الكلم المحدث ،وعلم هو هلك الدين ،وهو علم السحر ونحوه.
فحفظ الصحة بالمثل ،وإزالة المرض بالضد ،في مرض الجسم الطبيعي ،ومرض القلب النفساني الديني الشرعي.
قال النبي صلى ال عليه وسلم( :كل مولود يولد على الفطرة فأبواه ُي َهوّدَانِه أو يُ َنصّرَانه أو ُيمَجّسَانه ،كما تنتج البهيمة
بهيمة جمعاء ،هل تحسون فيها من جدعاء) ثم يقول أبو هريرة :اقرؤوا إن شئتم{ :فِطْرَةَ الِّ اّلتِي فَطَرَ النّاسَ عََل ْيهَا} [
ض كُلّ لَ ُه قَا ِنتُونَ .وَهُوَ اّلذِي َي ْبدَأُ الْخَ ْلقَ لْرْ ِ سمَاوَاتِ وَا َ ن فِي ال ّ الروم ،]30 :أخرجاه في الصحيـحين .قال الّ تعالى{ :وَلَ ُه مَ ْ
ثُ ّم ُيعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عََليْهِ وَلَهُ ا ْلمَثَلُ الَْعْلَى فِي ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضِ} إلى قوله{ :بَ ْل اّتبَعَ اّلذِينَ ظََلمُوا أَهْوَاءَ ُه ْم ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ} إلى
س َل َيعْلَمُونَ} [ ك الدّينُ ا ْل َقيّمُ وََلكِنّ َأ ْكثَرَ النّا ِ
لّ ذَِل َ
ل َت ْبدِيلَ ِلخَلْقِ ا ِ
عَليْهَا َ
طرَ النّاسَ َ
حنِيفًا فِطْرَةَ الِّ اّلتِي فَ َ قوله{ :فََأقِمْ وَ ْ
ج َهكَ لِلدّينِ َ
الروم26 :ـ .]30
ل وحده ل شريك له ،فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفًا ،وهو عبادة ا ّ
المستقيمة المعتدلة للقلب ،وتركها ظلم عظيم اتبع أهله أهواءهم بغير علم ،ولبد لهذه الفطرة والخلقة ـ وهي صحة
الخلقة ـ من قوت وغذاء يمدها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علمًا وعملً؛ ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكملة
بالشريعة المنزلة ،وهي مأدبة الّ كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في حديث ابن مسعود( :إن كل آدب يحب أن
/تؤتي مأدبته ،وإن مأدبة الّ هي القرآن) ،ومثله كماء أنزله الّ من السماء ،كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسنة.
والمحرفون للفطرة المغيرون للقلب عن استقامته ،هم ممرضون القلوب مسقمون لها ،وقد أنزل الّ كتابه شفاء لما في
الصدور.
وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب هي بمنزلة ما تصيب الجسم من اللم ،يصح بها الجسم وتزول أخلطه
الفاسدة .كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :ما يصيب المؤمن من وصب ول نصب ول هم ول حزن ول غم ول
أذى ،حتى الشوكة يشاكها ،إل كفر الّ بها خطاياه) ،وذلك تحقيق لقوله{ :مَ ْن َيعْمَلْ سُوءًا يُ ْج َز بِهِ} [النساء.]123 :
ومن لم يطهر في هذه الدنيا من هذه المراض فيؤب صحيحًا ،وإل احتاج أن يطهر منها في الخرة فيعذبه الّ .كالذي
اجتمعت فيه أخلطه ،ولم يستعمل الدوية لتخفيفها عنه فتجتمع حتى يكون هلكه بها؛ ولهذا جاء في الثر( :إذا قالوا
للمريض :اللّهم ارحمه ،يقول الّ :كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟!) ،وقال النبي صلى ال عليه وسلم( :المرض
حطة ،يحط الخطايا عن صاحبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها).
وكما أن أمراض الجسم ما إذا مات النسان منه كان شهيدًا .كالمطعون والمبطون وصاحب ذات الجَنْب ،وكذلك
الميت بغرق ،أو حرق ،أو هدم ،فمن /أمراض النفس ،ما إذا اتقى العبد ربه فيه وصبر عليه حتى مات كان شهيدًا،
كالجبان الذي يتقى الّ ويصبر للقتال حتى يقتل ،فإن البخل والجبن من أمراض النفوس إن أطاعه أوجب له اللم،
وإن عصاه تألم كأمراض الجسم.
وكذلك العشق ،فقد روى( :من عشق فعف وكتم وصبر ،ثم مات مات شهيدًا) فإنه مرض في النفس ،يدعو إلى ما
يضر النفس ،كما يدعو المريض إلى تناول ما يضر .فإن أطاع هواه عظم عذابه في الخرة وفي الدنيا أيضًا ،وإن
عصى الهوى بالعفة والكتمان صار في نفسه من اللم والسقم ما فيها ،فإذا مات من ذلك المرض كان شهيدًا ،هذا
يدعوه إلى النار فيمنعه كالجبان تمنعه نفسه عن الجنة فيقدمها.
والحمد لّ رب العالمين ،وصلى الّ على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ،وسلم تسليمًا.
سُئلَ الشيخ ـ رَحمَهُ الُّ ـ عن قوله عز وجل{ :يَاَأّيهَا النّاسُ ا ْعُبدُوا َرّبكُمْ} [البقرة ،]21 :فما العبادة وفروعها؟ وهل
مجموع الدين داخل فيها أم ل؟ وما حقيقة العبودية؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والخرة أم فوقها شيء من
المقامات؟ وليبسطوا لنا القول في ذلك.
فأجاب:
ل ويرضاه ،من القوال والعمال الباطنة والظاهرة، الحمد لّ رب العالمين ،العبادة :هي اسم جامع لكل ما يحبه ا ّ
كالصلة والزكاة ،والصيام ،والحج ،وصدق الحديث ،وأداء المانة ،وبر الوالدين ،وصلة الرحام ،والوفاء بالعهود،
والمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،والجهاد للكفار والمنافقين ،والحسان إلى الجار واليتيم ،والمسكين وابن
السبيل ،والمملوك من الدميين والبهائم ،والدعاء والذكر والقراءة ،وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الّ ورسوله ،وخشية الّ والنابة إليه ،وإخلص الدين له ،والصبر لحكمه ،والشكر لنعمه ،والرضا
بقضائه ،والتوكل عليه / ،والرجاء لرحمته ،والخوف لعذابه ،وأمثال ذلك هي من العبادة لّ.
وذلك أن العبادة لّ هي الغاية المحبوبة له والمرضية له ،التي خلق الخلق لها ،كما قال تعالىَ { :ومَا خََلقْتُ ا ْلجِنّ وَالِْنسَ
لّ مَا َلكُ ْم مِنْ إِلَهٍ َغيْرُهُ} [ ِإلّ ِل َيعْ ُبدُونِ} [الذاريات ،]56 :وبها أرسل جميع الرسل ،كما قال نوح لقومه{ :ا ْ
عبُدُوا ا َ
المؤمنون ،]23 :وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم.
ت َفمِ ْنهُ ْم مَنْ َهدَى الُّ َو ِم ْنهُ ْم مَنْ حَقّتْ عََليْهِ الضّلَلَةُ} [
ج َتنِبُوا الطّاغُو َ وقال تعالى{ :وَلَ َق ْد َب َعثْنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ رَسُولً أَنْ اُ ْ
عُبدُوا الَّ وَا ْ
ك مِنْ رَسُولٍ ِإ ّل نُوحِي ِإَليْهِ َأنّ ُه لَ إِلَهَ ِإلّ َأنَا فَا ْعبُدُونِ} [النبياء ،]25 :وقال النحل ،]36 :وقال تعالىَ { :ومَا أَرْ َ
س ْلنَا مِنْ َقبِْل َ
عُبدُونِ} [النبياء ،]92 :كما قال في الية الخرى{ :يَاَأّيهَا الرّسُ ُ
ل كُلُوا مِنْ تعالى{ :إِنّ َهذِهِ ُأ ّم ُتكُمْ ُأمّةً وَا ِ
حدَةً وََأنَا َرّبكُ ْم فَا ْ
عمَلُوا صَاِلحًا ِإنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون .]51 :وجعل ذلك لزماً لرسوله إلى الموت كما قال{ :وَا ْ
عُبدْ طّيبَاتِ وَا ْ
ال ّ
َرّبكَ َحتّى يَ ْأ ِت َيكَ ا ْليَقِينُ} [الحجر.]99 :
عبَادَتِهِ َو َ
ل س َت ْكبِرُونَ عَنْ ِل يَ ْع ْندَهُ َ
سمَاوَاتِ وَالَْرْضِ َومَنْ ِ وبذلك وصف ملئكته وأنبياءه ،فقال تعالى{ :وَلَ ُه مَ ْ
ن فِي ال ّ
س َتكْبِرُونَ عَنْ ل يَ ْ ل يَ ْفتُرُونّ} [النبياء ،]20 ،19 :وقال تعالى{ :إِنّ اّلذِينَ ِ
ع ْندَ َرّبكَ َ سبّحُونَ الّليْلَ وَال ّنهَا َر َ ستَحْسِرُونَ .يُ َ يَ ْ
س َتجِبْ َلكُمْ إِنّ اّلذِينَجدُونَ} [العراف ،]206 :وذم المستكبرين عنها بقولهَ { :وقَالَ َرّبكُ ْم ادْعُونِي أَ ْ سُسبّحُونَهُ وَلَ ُه يَ ْعبَادَتِهِ َويُ َ
ِ
يَ ْس َتكْبِرُونَ عَنْ ِعبَا َدتِي َس َيدْخُلُونَ َج َهنّ َم دَا ِخرِينَ} [غافر.]60 :
وقال تعالى عن المسيح ـ الذي أدعيت فيه الُلوهية والنبوة{ :إِنْ هُوَ ِإلّ َعبْدٌ َأ ْن َعمْنَا عََليْهِ َو َجعَ ْلنَا ُه َمثَلً ِل َبنِي ِإسْرَائِيلَ} [
الزخرف]59 :؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح( :ل تطروني كما أطرت النصارى
عيسى /ابن مريم ،فإنما أنا عبد فقولوا :عبد الّ ورسوله).
وقد نعته الّ بالعبودية في أكمل أحواله فقال في السراءُ { :س ْبحَانَ اّلذِي َأسْرَى ِب َع ْبدِهِ َليْلً}[السراء ،]1 :وقال في
لّ يَدْعُو ُه كَادُوا َيكُونُونَ عََليْهِ ِل َبدًا} [ ع ْبدِ ِه مَا أَ ْوحَى} [النجم ،]10 :وقال في الدعوة{ :وََأنّهُ َلمّا قَامَ َ
ع ْبدُ ا ِ اليحاءَ { :فأَوْحَى إِلَى َ
ب ِممّا نَزّ ْلنَا َعلَى َع ْبدِنَا َف ْأتُوا بِسُورَ ٍة مِ ْن ِمثْلِهِ}[البقرة ،]23 :فالدين كله الجن ،]19 :وقال في التحدي{ :وَإِ ْ
ن كُنتُ ْم فِي َريْ ٍ
داخل في العبادة.
وقد ثبت في الصحيح :أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن السلم قال( :
أن تشهد أن ل إله إل الّ وأن محمدًا رسول الّ ،وتقيم الصلة ،وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ،وتحج البيت إن
ل وملئكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ،وتؤمن استطعت إليه سبيلً) .قال :فما اليمان ؟ قال( :أن تؤمن با ّ
بالقدرخيره وشره) .قال :فما الحسان؟ قال (أن تعبد الّ كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك( .ثم قال :في آخر
الحديث) :هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم) فجعل هذا كله من الدين.
والدين يتضمن معنى الخضوع والذل .يقال :دنته فدان ،أي :ذللته فذل ،ويقال :يدين الّ ،ويدين لّ أي :يعبد الّ
ويطيعه ويخضع له ،فدين الّ عبادته وطاعته والخضوع له.
/والعبادة أصل معناها :الذل ـ أيضًا ـ يقال :طريق معبد إذا كان مذللً قد وطئته القدام.
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ،فهي تتضمن غاية الذل لّ بغاية المحبة له ،فإن آخر مراتب
الحب هو التتيم ،وأوله العلقة لتعلق القلب بالمحبوب ،ثم الصبابة لنصباب القلب إليه ،ثم الغرام وهو الحب اللزم
للقلب ،ثم العشق وآخرها التتيم يقال :تيم الّ ،أي :عبد الّ ،فالمتيم المعبد لمحبوبه.
ومن خضع لنسان مع بغضه له ل يكون عابداً له ،ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابداً له ،كما قد يحب ولده
وصديقه؛ ولهذا ل يكفي أحدهما في عبادة الّ ـ تعالى ـ بل يجب أن يكون الّ أحب إلى العبد من كل شىء ،وأن يكون
الّ أعظم عنده من كل شىء ،بل ل يستحق المحبة والذل التام إل الّ.
ن آبَا ُؤكُمْ وكل ما أحب لغير الّ فمحبته فاسدة ،وما عظم بغير أمر الّ كان تعظيمه باطلً ،قال الّ تعالى{ :قُلْ إِ ْ
ن كَا َ
شوْنَ َكسَادَهَا َومَسَاكِنُ تَ ْرضَ ْو َنهَا َأحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ َورَسُولِهِ
جكُمْ وَعَشِي َر ُتكُمْ وََأمْوَالٌ ا ْقتَ َر ْف ُتمُوهَا َوتِجَارَ ٌة تَخْ َ
وََأ ْبنَا ُؤكُمْ َوإِخْوَا ُنكُمْ وََأزْوَا ُ
لّ بَِأمْرِهِ}[التوبة ،]24 :فجنس المحبة تكون لّ ورسوله ،كالطاعة ،فإن الطاعة لّ حتّى يَ ْأتِيَ ا ُسبِيلِهِ َفتَ َربّصُوا َ جهَادٍ فِي َ وَ ِ
ن يُرْضُوهُ} [التوبة ،]62 :واليتاء لّ ورسوله{ :وََلوْ َأّنهُمْ حقّ أَ ْورسـوله /والرضـاء لّ ورسـوله{ :وَالُّ وَرَسُولُهُ أَ َ
رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ َورَسُولُهُ} [التوبة.]59 :
ل يَاأَهْلَ ا ْل ِكتَا ِ
ب ل وحده ،كما قال تعالى{ :قُ ْ وأما العبادة وما يناسبها من التوكل ،والخوف ،ونحو ذلك فل يكون إل ّ
ن تَوَلّوْا َفقُولُوا لّ فَإِ ْ
ن دُونِ ا ِ ضنَا َبعْضًا َأ ْربَابًا مِ ْ
ل َيتّخِ َذ َبعْ ُ
ش ْيئًا َو َ
ك بِهِ َ
ل نُشْ ِر َ
ل َن ْعبُدَ ِإلّ الَّ َو َ
َتعَالَوْا إِلَى كَِلمَةٍ سَوَا ٍء َبيْ َننَا َو َب ْينَكُمْ َأ ّ
لّ مِنْ
سيُ ْؤتِينَا ا ُ
س ُبنَا الُّ َ ش َهدُوا بَِأنّا مُسِْلمُونَ} [آل عمران ،] 64 :وقال تعالى{ :وََلوْ َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ اْ
عنْهُخذُوهُ َومَا نَهَا ُكمْ َ غبُونَ}[التوبة ،]59 :فاليتاء لّ والرسول كقولهَ { :ومَا آتَا ُكمْ الرّسُو ُ
ل فَ ُ فَضْلِهِ َورَسُولُهُ ِإنّا إِلَى الِّ رَا ِ
ج َمعُواس َقدْ َ ن قَالَ َل ُهمْ النّاسُ إِنّ النّا َ ل وحده ،كما قال تعالى{ :اّلذِي َ فَا ْن َتهُوا} [الحشر ،]7 :وأما الحسب وهو الكافي فهو ا ّ
س ُبكَ الُّ َومَنْ س ُبنَا الُّ َو ِنعْمَ الْ َوكِيلُ} [آل عمران ،]173 :وقال تعالى{ :يَاَأّيهَا ال ّنبِيّ حَ ْ َلكُ ْم فَاخْشَوْ ُه ْم فَزَادَهُمْ إِيمَانًا َوقَالُوا حَ ْ
ك مِنْ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [النفال ،]64 :أي :حسبك وحسب من اتبعك الّ. ا ّتبَ َع َ
ل والمؤمنون معه ،فقد غلط غلطًا فاحشاً ،كما قد بسطناه في غير هذا الموضع ،وقال
ومن ظن أن المعنى حسبك ا ّ
لّ ِبكَافٍ َع ْبدَهُ} [الزمر.]36 :
تعالى{ :أََل ْيسَ ا ُ
وتحرير ذلك :أن العبد يراد به المعبد الذي عبده الّ فذل ودبره /وصرفه ،وبهذا العتبار المخلوقون كلهم عباد الّ،
من البرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار ،إذ هو ربهم كلهم ومليكهم ،ل يخرجون عن مشيئته
وقدرته ،وكلماته التامات التي ل يجاوزهن بر ول فاجر ،فما شاء كان وإن لم يشاؤوا .وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن،
طوْعًا َوكَرْهًا وَإَِليْ ِه يُرْ َجعُونَ} [آل عمران.]83 :
سمَاوَاتِ وَالَْرْضِ َ
ن فِي ال ّ كما قال تعالىَ{ :أ َف َغيْ َر دِينِ ا ِ
لّ َي ْبغُونَ وَلَهُ أَسَْل َم مَ ْ
فهو ـ سبحانه ـ رب العالمين وخالقهم ،ورازقهم ،ومحييهم ،ومميتهم ،ومقلب قلوبهم ،ومصرف أمورهم ،ل رب لهم
غيره ،ول مالك لهم سواه ،ول خالق إل هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه ،وسواء علموا ذلك أو جهلوه ،لكن أهل
اليمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به ،بخلف من كان جاهلً بذلك ،أو جاحداً له مستكبراً على ربه ل يقر ول يخضع
له ،مع علمه بأن الّ ربه وخالقه.
حدُوا ِبهَا
جَ فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الستكبار عن قبوله والجحد له كان عذاباً على صاحبه ،كما قال تعالى{ :وَ َ
سدِينَ} [النمل ،]14 :وقال تعالى{ :اّلذِينَ آ َت ْينَاهُمْ ا ْل ِكتَا َ
ب َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا ف كَانَ عَا ِقبَةُ ا ْلمُفْ ِ
ظ ْر كَيْ َ
علُوّا فَان ُ س ُهمْ ظُ ْلمًا وَ ُ
س َتيْ َق َن ْتهَا َأنْفُ ُ
وَا ْ
ل ُيكَ ّذبُونَكَ وََلكِنّ الظّاِلمِينَ ن فَرِيقًا مِ ْنهُمْ َل َي ْك ُتمُونَ الْحَقّ وَ ُه ْم َيعَْلمُونَ}[البقرة ،]146 :وقال تعالى{ :فَِإّنهُ ْم َ
َيعْ ِرفُونَ َأبْنَاءَهُمْ وَإِ ّ
لّ يَجْ َحدُونَ} [النعام.]33 : بِآيَاتِ ا ِ
/فإن اعترف العبد أن الّ ربه وخالقه ،وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الّ ،وهذا العبد
يسأل ربه ،فيتضرع إليه ويتوكل عليه ،لكن قد يطيع أمره ،وقد يعصيه ،وقد يعبده مع ذلك ،وقد يعبد الشيطان
والصنام.
ومثل هذه العبودية ل تفرق بين أهل الجنة والنار ،وليصير بها الرجل مؤمناً .كما قال تعالىَ { :ومَا يُ ْؤمِنُ َأ ْكثَرُهُ ْم بِالِّ
ِإلّ وَهُ ْم مُ ْش ِركُونَ} [يوسف ،]106 :فإن المشركين كانوا يقرون أن الّ خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره ،قال
سمَاوَاتِ وَالَْ ْرضَ َليَقُولُنّ الُّ} [لقمان ،25 :الزمر ،]38 :وقال تعالى{ :قُلْ ِلمَنْ الَْرْضُ تعالى{ :وََلئِنْ َ
سأَ ْل َتهُ ْم مَنْ خَلَقَ ال ّ
ل تَتّقُونَ}إلى قوله{ :قُ ْل فََأنّا تُ ْسحَرُونَ} [المؤمنون 84 :ـ .]89
سيَقُولُونَ لِّ ُقلْ َأفَ َ
ن فِيهَا إِنْ كُنتُ ْم َتعَْلمُونََ .
َومَ ْ
وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها ،يشهد هذه الحقيقة وهي الحقيقة الكونية ،التي يشترك فيها وفي شهودها
ظ ْرنِيب فََأنْ ِومعرفتها المؤمن ،والكافر ،والبر ،والفاجر ،وإبليس معترف بهذه الحقيقة ،وأهل النار .قال إبليس{ :قَالَ رَ ّ
ب بِمَا أَغْ َو ْيتَنِي لَُ َزّينَنّ َلهُ ْم فِي الَْ ْرضِ َولَُغْ ِويَّنهُمْ َأ ْج َمعِينَ}[الحجر،]39 : إِلَى يَ ْو ِم ُيبْ َعثُونَ}[الحجر ،]36 :وقال{ :قَالَ َر ّ
وقالَ { :ف ِبعِ ّز ِتكَ لَُغْ ِو َيّنهُمْ أَ ْج َمعِينَ} [ص ،]82 :وقالَ{ :أرََأ ْيتَكَ َهذَا اّلذِي كَ ّرمْتَ عََليّ} [السراء ،]62 :وأمثال هذا من
الخطاب الذي يقر فيه بأن الّ ربه وخالقه وخالق غيره ،وكذلك أهل النار قالوا{ :قَالُوا َرّبنَا غََلبَتْ عََل ْينَا ِ
شقْ َو ُتنَا َو ُكنّا قَ ْومًا
ق قَالُوا بَلَى َو َرّبنَا} [النعام: ضَالّينَ} [المؤمنون ،]106 :وقال تعالى{ :وََل ْو تَرَى ِإذْ ُوقِفُوا عَلَى َرّبهِ ْم قَالَ أََليْسَ َهذَا بِا ْلحَ ّ
.]30
فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ،ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته،
وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار ،وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الّ ،وأهل
المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم المر والنهي الشرعيان ،كان من أشر أهل الكفر واللحاد.
ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم المر لمشاهدة الرادة ،ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين با ّ
ل
ورسوله .حتى يدخل في النوع الثاني ،من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابداً لّ ل يعبد إل إياه ،فيطيع
أمره وأمر رسله ،ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ،ويعادي أعداءه ،وهذه العبادة متعلقة بإلهيته؛ ولهذا كان عنوان
التوحيد ل إله إل الّ بخلف من يقر بربوبيته ول يعبده ،أو يعبد معه إلهًا آخر ،فالله الذي يألهه القلب بكمال الحب
والتعظيم والجلل والكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك ،وهذه العبادة هي التي يحبها الّ ويرضاها ،وبها وصف
المصطفين من عباده ،وبها بعث رسله.
وأما العبد ،بمعنى المعبد ،سواء أقر بذلك أو أنكره ،فتلك يشترك /فيها المؤمن والكافر .وبالفرق بين هذيـن النوعين
يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الّ ودينه وأمره الشرعي ،التي يحبها ويرضاها ،ويوالى أهلها،
ويكرمهم بجنته ،وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر ،والبر والفاجر التي من اكتفى بها ،ولم يتبع
الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين ،والكافرين برب العالمين ،ومن اكتفى بها في بعض المور دون بعض،
أو في مقام أو حال نقص من إيمانه ووليته لّ ،بحسب ما نقص من الحقائق الدينية.
وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون ،وكثر فيه الشتباه على السالكين ،حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين
التحقيق ،والتوحيد ،والعرفان ما ل يحصيهم إل الّ الذي يعلم السر والعلن ،وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر ـ
رحمه الّ ـ فيما ذكر عنه ،فبين أن كثيراً من الرجال ،إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إل أنا فإني انفتحت لي
فيه روزنة ،فنازعت أقدار الحق بالحق للحق ،والرجل من يكون منازعاً للقدر ،ل من يكون موافقاً للقدر.
والذي ذكره الشيخ ـ رحمه الّ ـ هو الذي أمر الّ به ورسوله ،لكن كثيراً من الرجال غلطوا ،فإنهم قد يشهدون ما
يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب ،أو ما يقدر على الناس من ذلك ،بل من الكفر ،ويشهدون أن هذا جار بمشيئة
الّ ،وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته / ،فيظنون الستسلم لذلك وموافقته والرضا به ،ونحو
لّ مَا َأشْ َر ْكنَا َو َل آبَا ُؤنَا َولَ حَ ّر ْمنَا مِنْ َشيْءٍ} [
ذلك ،ديناً وطريقاً وعبادة ،فيضاهون المشركين الذين قالوا{ :لَوْ شَاءَ ا ُ
ط َعمَهُ} [يس ،]47 :وقالوا{ :لَوْ شَاءَ الرّ ْحمَا ُن مَا َعبَ ْدنَاهُمْ} [الزخرف: النعام ،]148 :وقالواَ{ :أنُ ْ
طعِ ُم مَنْ لَ ْو يَشَاءُ الُّ أَ ْ
.]20
ولو هدوا؛ لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب ،التي تصيبنا ،كالفقر والمرض
لّ َي ْهدِ قَ ْلبَهُ} [التغابن .]11 :وقال بعض السلف :هو ن يُ ْؤمِنْ بِا ِ
ل بِِإذْنِ الِّ َومَ ْ
ن مُصِيبَةٍ ِإ ّ
ب مِ ْوالخوف ،قال تعالى{ :مَا أَصَا َ
ن مُصِيبَ ٍة فِي الَْرْضِ َولَ فِي الرجل تصيبه المصيبة ،فيعلم أنها من عند الّ فيرضى ويسلم ،وقال تعالى{ :مَا أَصَا َ
ب مِ ْ
ل تَأْ َسوْا عَلَى مَا فَا َتكُمْ َو َل تَفْ َرحُوا ِبمَا آتَاكُمْ} [الحديد،22 :
لّ يَسِيرٌِ .لكَيْ َ
ن ذَِلكَ عَلَى ا ِن َنبْرَأَهَا إِ ّ
ن َقبْلِ أَ ْ
ب مِ ْ
س ُكمْ ِإلّ فِي ِكتَا ٍ
َأنْفُ ِ
.]23
وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :احتج آدم وموسى ،فقال موسى :أنت آدم الذي خلقك ا ّ
ل
بيده ،ونفخ فيك من روحه ،وأسجد لك ملئكته ،وعلمك أسماء كل شيء ،فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم:
أنت موسى الذي اصطفاك الّ برسالته وبكلمه ،فهل وجدت ذلك مكتوباً علي قبل أن أخلق ؟قال :نعم .قال :فحج آدم
موسى).
/وآدم ـ عليه السلم ـ لم يحتج على موسى بالقدر ،ظنًا أن المذنب يحتج بالقدر ،فإن هذا ل يقوله مسلم ول عاقل ،ولو
كان هذا عذراً لكان عذرا لبليس ،وقوم نوح ،وقوم هود ،وكل كافر ،ول موسى لم آدم أيضاً؛ لجل الذنب ،فإن آدم
قد تاب إلى ربه ،فاجتباه وهدى ،ولكن لمه؛ لجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة؛ ولهذا قال :فلماذا أخرجتنا ونفسك
من الجنة؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوبًا قبل أن أخلق ،فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدراً ،وما قدر من
المصائب يجب الستسلم له ،فإنه من تمام الرضا بالّ رباً.
وأما الذنوب ،فليس للعبد أن يذنب ،وإذا أذنب ،فعليه أن يستغفر ويتوب ،فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب.
ش ْيئًا}
ل يَضُ ّركُ ْم َك ْيدُهُمْ َ
صبِرُوا َو َتتّقُوا َ س َتغْفِرْ ِلذَ ْن ِبكَ} [غافر ،]55 :وقال تعالى{ :وَإِ ْ
ن تَ ْ حقّ وَا ْ عدَ الِّ َ قال تعالى{ :فَا ْ
صبِرْ إِنّ وَ ْ
لْمُورِ} [آل عمران ،]186 :وقال يوسفِ{ :إنّهُ مَنْ ن ذَِلكَ مِنْ عَ ْزمِ ا ُ
صبِرُوا َو َتتّقُوا فَإِ ّ
ن تَ ْ[آل عمران ،]120 :وقال{ :وَإِ ْ
لّ َل يُضِيعُ أَ ْجرَ ا ْلمُحْ ِسنِينَ} [يوسف.]90 : صبِ ْر فَإِنّ ا َ
َيتّقِ َو َي ْ
وكذلك ذنوب العباد ،يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف ،وينهى عن المنكر ـ بحسب قدرته ـ ويجاهد في سبيل
ل الكفار والمنافقين ،ويوالى أولياء الّ ،ويعادي أعداء الّ ،ويحب في الّ ،ويبغض في الّ .كما قال تعالى{ :يَاَأّيهَا ا ّ
عدُوّي وَعَدُ ّوكُمْ َأوِْليَا َء تُ ْلقُونَ إَِل ْيهِ ْم بِا ْلمَ َودّةِ} إلى قولهَ { :قدْ كَانَتْ َلكُمْ أُسْ َوةٌ حَ َ
سنَ ٌة فِي ِإبْرَاهِيمَ وَاّلذِينَ َمعَهُ ِإذْ خذُوا َ ل َتتّ ِاّلذِينَ آ َمنُوا َ
لّ َكفَ ْرنَا ِبكُمْ َو َبدَا َب ْي َننَا َو َبيْ َنكُمْ ا ْل َعدَاوَةُ وَا ْل َبغْضَاءُ َأ َبدًا َحتّى تُ ْؤ ِمنُوا بِالِّ َو ْحدَهُ} [
ن مِنْ دُونِ ا ِ قَالُوا لِقَ ْو ِمهِمْ ِإنّا بُرَآ ُء ِم ْنكُمْ َو ِممّا َت ْعبُدُو َ
ك َكتَبَ خ ِر يُوَادّونَ مَنْ حَادّ الَّ وَ َرسُولَهُ} إلى قوله{ :أُوَْل ِئ َ جدُ َق ْومًا يُ ْؤ ِمنُونَ بِالِّ وَا ْليَوْمِ الْ ِ ل تَ ِالممتحنة1 :ـ ،]4وقال تعالىَ { :
جعَلُ ا ْلمُسِْلمِينَ كَا ْلمُجْ ِرمِينَ} [القلم ،]53 :وقال{ : ح ِمنْهُ} [المجادلة ،]22 :وقال تعالىَ{ :أ َفنَ ْ فِي قُلُو ِبهِمْ الِْيمَانَ وََأّيدَهُ ْم بِرُو ٍ
سبَ جعَلُ ا ْل ُمتّقِينَ كَالْ ُفجّارِ} [ص ،]28 :وقال تعالىَ{ :أمْ حَ ِ ن فِي الَْ ْرضِ أَ ْم نَ ْ سدِي َ
ت كَا ْلمُ ْف ِ
عمِلُوا الصّاِلحَا ِ ن آ َمنُوا وَ َ جعَلُ اّلذِي َ أَ ْم نَ ْ
اّلذِينَ ا ْجتَرَحُوا ال ّسّيئَاتِ أَنْ َن ْجعََلهُ ْم كَاّلذِينَ آ َمنُوا وَ َعمِلُوا الصّالِحَاتِ َسوَا ًء مَ ْحيَاهُمْ َو َممَاُتهُمْ سَا َء مَا يَ ْح ُكمُونَ} [الجاثية،]21 :
وقال تعالىَ { :ومَا يَ ْستَوِي الَْ ْعمَى وَا ْلبَصِيرَُ .ولَ الظُّلمَاتُ َولَ النّورَُ .ولَ الظّلّ َولَ الْحَرُورَُ .ومَا يَ ْستَوِي الَْ ْحيَاءُ َولَ ا َلْمْوَاتُ}[
ل فِيهِ ُش َركَا ُء مُتَشَاكِسُونَ وَ َرجُلً سََلمًا لِرَ ُجلٍ هَ ْل يَ ْستَ ِويَا ِن َمثَلً} [الزمر: لّ مَثَلً َرجُ ً فاطر19 :ـ ،]22وقال تعالى{ :ضَرَبَ ا ُ
لّ َمثَلً ل َيعْلَمُونََ .وضَرَبَ ا ُ يءٍ} إلى قوله{ :بَلْ َأ ْكثَرُهُ ْم َ ل يَ ْقدِرُ عَلَى شَ ْ عبْدًا َممْلُوكًا َ لّ مَثَلً َ ،]29وقال تعالى{ :ضَرَبَ ا ُ
ستَوِي ستَقِيمٍ}[النحل ،]76 ،75 :وقال تعالى{ :لَ يَ ْ ط مُ ْ شيْءٍ} إلى قوله{ :وَهُوَ عَلَى صِرَا ٍ حدُ ُهمَا َأ ْبكَ ُم لَ يَ ْقدِرُ عَلَى َ جَليْنِ َأ َ رَ ُ
صحَابُ الْ َجنّةِ َأصْحَابُ ا ْل َجنّةِ ُهمْ ا ْلفَائِزُونَ} [الحشر.]20 : صحَابُ النّارِ وَأَ ْ أَ ْ
ونظائر ذلك ،مما يفرق الّ فيه بين أهل الحق ،والباطل ،وأهل الطاعة ،وأهل /المعصية ،وأهل البر ،وأهل الفجور،
وأهل الهدى ،والضلل ،وأهل الغي ،والرشاد ،وأهل الصدق والكذب.
فمن شهد الحقيقة الكونية ،دون الدينية سوى بين هذه الجناس المختلفة التي فرق الّ بينها غاية التفريق ،حتى يؤول
به المر إلى أن يسوى الّ بالصنام ،كما قال تعالى عنهم{ :تَالِّ إِ ْن ُكنّا َلفِي ضَلَ ٍل مُبِينٍِ .إذْ نُسَوّيكُ ْم بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [
الشعراء ]98 ،97 :بل قد آل المر بهؤلء إلى أن سووا الّ بكل موجود ،وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة
حقاً لكل موجود ،إذ جعلوه هو وجود المخلوقات ،وهذا من أعظم الكفر واللحاد برب العباد.
وهؤلء يصل بهم الكفر إلى أنهم ل يشهدون أنهم عباد ل بمعنى أنهم معبدون ،ول بمعنى أنهم عابدون ،إذ يشهدون
أنفسهم هي الحق ،كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب ]الفصوص[ ،وأمثاله من الملحدين المفترين ،كابن
سبعين وأمثاله ،ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون ،وهذا ليس بشهود الحقيقة ،ل كونية ول دينية ،بل هو ضلل
وعمى عن شهود الحقيقة الكونية ،حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق ،وجعلوا كل وصف مذموم ،وممدوح
نعتًا للخالق والمخلوق ،إذ وجود هذا ،هو وجود هذا عندهم.
/وأما المؤمنون بالّ ورسوله ،عوامهم وخواصهم ،الذين هم أهل الكتاب ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :إن ّ
ل
أهلين من الناس) قيل :من هم يا رسول الّ ؟ قال( :أهل القرآن هم أهل الّ ،وخاصته).فهؤلء يعلمون أن الّ رب كل
شيء ومليكه وخالقه ،وأن الخالق ـ سبحانه ـ مباين للمخلوق ،ليس هو حالً فيه ول متحداً به ول وجوده وجوده.
والنصارى ،كفرهم الّ بأن قالوا بالحلول والتحاد بالمسيح خاصة ،فكيف من جعل ذلك عامًا في كل مخلوق؟.
ويعلمون مع ذلك أن الّ أمر بطاعته ،وطاعة رسوله ،ونهى عن معصيته ،ومعصية رسوله ،وأنه ل يحب الفساد،
ول يرضى لعباده الكفر ،وإن على الخلق أن يعبدوه ،فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك ،كما قالِ{ :إيّا َ
ك َنعْ ُبدُ وَِإيّاكَ
نَ ْس َتعِينُ}[الفاتحة.]5 :
ومن عبادته وطاعته :المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ـ بحسب المكان ـ والجهاد في سبيله ،لهل الكفر
والنفاق .فيجتهدون في إقامة دينه ،مستعينين به ،دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات ،دافعين بذلك ما قد يخاف
من ذلك ،كما يزيل النسان الجوع الحاضر بالكل ،ويدفع به الجوع المستقبل ،وكذلك ،إذا آن أوان البرد /دفعه
باللباس ،وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه .كما قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم :يا رسول الّ ،أرأيت أدوية نتداوى
بها ،ورقى نسترقى بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر الّ شيئًا؟ فقال( :هي من قدر الّ) .وفي الحديث( :إن الدعاء
ل وكل ذلك من العبادة.والبلء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والرض) .فهذا حال المؤمنين بالّ ورسوله العابدين ّ
وهؤلء الذين يشهدون الحقيقة الكونية ،وهي ربوبيته ـ تعالى ـ لكل شيء ،ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني
الشرعي على مراتب في الضلل.
فغلتهم يجعلون ذلك مطلقًا عاماً ،فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة ،وقول هؤلء شر من قول اليهود
يءٍ}[النعام:
ح ّر ْمنَا مِنْ شَ ْ
ش َر ْكنَا َولَ آبَا ُؤنَا َولَ َ والنصارى ،وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا{ :لَوْ شَاءَ ا ُ
لّ مَا أَ ْ
،]148وقالوا{ :لَوْ شَاءَ الرّ ْحمَا ُن مَا َعبَ ْدنَاهُمْ} [الزخرف.]20 :
وهؤلء من أعظم أهل الرض تناقضاً ،بل كل من احتج بالقدر ،فإنه متناقض ،فإنه ل يمكن أن يقر كل آدمي على ما
فعل ،فلبد إذا ظلمه ظالم ،أو ظلم الناس ظالم ،وسعى في الرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج
ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من /أنواع الضرر التي ل قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر ،وأن يعاقب الظالم بما
يكف عدوان أمثاله .فيقال له :إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك ،وإن لم يكن حجة بطل أصل
قولك :حجة .وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية ليطردون هذا القول ول يلتزمونه ،وإنما هم بحسب
آرائهم وأهوائهم ،كما قال فيهم بعض العلماء :أنت عند الطاعة قدري ،وعند المعصية جبري ،أي مذهب وافق هواك
تمذهبت به.
ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة ،فيزعمون أن المر والنهي لزم لمن شهد لنفسه فعلً ،وأثبت له صنعاً ،أما
من شهد أن أفعاله مخلوقة ،أو أنه مجبور على ذلك ،وأن الّ هو المتصرف فيه ،كما تحرك سائر المتحركات ،فإنه
يرتفع عنه المر والنهي ،والوعد والوعيد .
وقد يقولون :من شهد الرادة ،سقط عنه التكليف ،ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الرادة،
فهؤلء ل يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية ،فشهدوا أن الّ خالق أفعال العباد ،وأنه يدبر
جميع الكائنات ،وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علماً ،وبين من يراه شهوداً ،فل يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك
ويعلمه فقط ،ولكن عمن /يشهده ،فل يرى لنفسه فعلً أصلً ،وهؤلء ل يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعاً من
التكليف على هذا الوجه.
وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد .
وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم ،عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلفه ،كما ضاق نطاق المعتزلة ،ونحوهم من
القدرية عن ذلك .ثم المعتزلة أثبتت المر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة الّ العامة وخلقه
لفعال العباد ،وهؤلء أثبتوا القضاء والقدر ،ونفوا المر والنهي ،في حق من شهد القدر ،إذ لم يمكنهم نفي ذلك
مطلقًا .وقول هؤلء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلء أحد ،وهؤلء يجعلون المر والنهي
للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية؛ ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه المر
والنهي ،وصار من الخاصة.
وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى{ :وَا ْعُبدْ َرّبكَ َحتّى َي ْأتِ َيكَ ا ْليَقِينُ}[الحجر ،]99 :وجعلوا اليقين هو معرفة هذه
الحقيقة ،وقول هؤلء كفر صريح .وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر ،فإنه قد علم بالضطرار من دين السلم،
أن المر والنهي لزم لكل عبد ما دام عقله حاضراً إلى /أن يموت ،ل يسقط عنه المر والنهي ،ل بشهوده القدر،
ول بغير ذلك ،فمن لم يعرف ذلك عرفه ،وبين له فإن أصر على اعتقاد سقوط المر والنهي فإنه يقتل .وقد كثرت
مثل هذه المقالت في المستأخرين.
وأما المستقدمون من هذه المة ،فلم تكن هذه المقالت معروفة فيهم.
وهذه المقالت هي محادة لّ ورسوله ،ومعاداة له ،وصد عن سبيله ،ومشاقة له ،وتكذيب لرسله ،ومضادة له في
حكمه ،وإن كان من يقول هذه المقالت قد يجهل ذلك ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول ،وطريق أولياء
الّ المحققين ،فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلة ل تجب عليه؛ لستغنائه عنها بما حصل له من الحوال
القلبية ،أو أن الخمر حلل له؛ لكونه من الخواص الذين ل يضرهم شرب الخمر ،أو أن الفاحشة حلل له؛ لنه صار
كالبحر ل تكدره الذنوب ،ونحو ذلك.
ول ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الّ ،وبين الحتجاج بالقدر على
مخالفة أمر الّ .فهؤلء الصناف /فيهم شبه من المشركين ،إما أن يبتدعوا ،وإما أن يحتجوا بالقدر ،وإما أن يجمعوا
ل يَ ْأمُرُ
لّ َ بين المرين .كما قال تعالى عن المشركين{ :وَِإذَا َفعَلُوا فَاحِشَ ًة قَالُوا وَ َ
ج ْدنَا عََل ْيهَا آبَا َءنَا وَالُّ َأمَ َرنَا ِبهَا ُقلْ إِنّ ا َ
لّ مَا
س َيقُولُ اّلذِينَ أَشْ َركُوا لَوْ شَاءَ ا ُ ل َتعَْلمُونَ} [ العراف ،] 28 :وكما قال تعالى عنهمَ { : لّ مَا َ بِا ْلفَحْشَاءِ َأ َتقُولُونَ عَلَى ا ِ
يءٍ} [ النعام.]148 : ح ّر ْمنَا مِنْ شَ ْ
ش َركْنَا َولَ آبَا ُؤنَا َولَ َ
أَ ْ
وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام ،والعبادة التي لم يشرعها الّ بمثل قوله تعالى{ :
سمَ الِّ عََل ْيهَا ا ْفتِرَاءً عََليْهِ} ظهُورُهَا وََأ ْنعَا ٌم لَ َي ْذكُرُونَ ا ْ ح ّرمَتْ ُ ع ِمهِمْ َوَأ ْنعَامٌ ُ ل مَنْ نَشَا ُء بِزَ ْ ط َع ُمهَا ِإ ّ
ل يَ ْ
َوقَالُوا َهذِهِ َأ ْنعَامٌ َوحَرْثٌ حِجْ ٌر َ
خرَجَ ن َكمَا أَ ْشيْطَا ُ إلى آخر السورة [النعام ،]138-165 :وكذلك في سورة العراف في قوله{ :يَا َبنِي آدَ َم لَ َي ْفتِ َنّنكُمْ ال ّ
ل يَ ْأمُ ُر بِالْ َفحْشَاءِ}إلى قوله{ :قُلْ لّ َ جنّةِ} إلى قوله{ :وَِإذَا َفعَلُوا فَاحِشَ ًة قَالُوا وَ َ
ج ْدنَا عََل ْيهَا آبَا َءنَا وَالُّ َأمَ َرنَا ِبهَا قُلْ إِنّ ا َ َأبَ َو ْيكُ ْم مِنْ الْ َ
ل مَنْ حَرّمَ زِينَةَ حبّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ .قُ ْ ل يُ ِ جدٍ} إلى قولهَ { :وكُلُوا وَاشْ َربُوا َو َ
ل تُسْ ِرفُوا ِإنّهُ َ ل مَسْ ِ عنْ َد كُ ّ
َأمَرَ َربّي بِالْ ِقسْطِ وََأقِيمُوا وُجُو َهكُمْ ِ
ي ِب َغيْرِ
لْثْمَ وَا ْل َبغْ َ
ظ َه َر مِ ْنهَا َومَا بَطَنَ وَا ِ ش مَا َ ت مِنْ الرّزْقِ} إلى قوله{ :قُلْ ِإّنمَا حَرّمَ َربّي ا ْلفَوَاحِ َ طّيبَا ِ الِّ اّلتِي أَخْ َرجَ ِل ِعبَادِهِ وَال ّ
لّ مَا لَ َتعَْلمُونَ} [العراف27 :ـ .]33 ن تَقُولُوا عَلَى ا ِ سلْطَانًا وَأَ ْ
ل بِهِ ُ لّ مَا لَ ْم ُينَزّ ْ
ن تُشْ ِركُوا بِا ِ حقّ وَأَ ْ الْ َ
/وهؤلء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة ،كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة .وطريق الحقيقة عندهم هو
السلوك الذي ل يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه ،ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ،ونحو ذلك .وهؤلء ل يحتجون
بالقدر مطلقًا ،بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم ،وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة ،وأمرهم باتباعها ،دون اتباع أمر
الّ ورسوله ،نظير بدع أهل الكلم من الجهمية ،وغيرهم ،الذين يجعلون ما ابتدعوه من القوال المخالفة للكتاب
والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها ،دون ما دلت عليه السمعيات .ثم الكتاب والسنة ،إما أن يحرفوه عن مواضعه،
وإما أن يعرضوا عنه بالكلية ،فل يتدبرونه ول يعقلونه ،بل يقولون :نفوض معناه إلى الّ ،مع اعتقادهم نقيض
مدلوله .وإذا حقق على هؤلء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة ،وجدت جهليات واعتقادات فاسدة.
وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء الّ ،المخالفة للكتاب والسنة ،وجدت من الهواء التي
ل ل أولياؤه.
يتبعها أعداء ا ّ
وأصل ضلل من ضل ،هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الّ ،واختياره الهوي على اتباع أمر الّ ،فإن
الذوق والوجد ونحو ذلك ،هو بحسب ما يحبه العبد ،فكل محب له ذوق ،ووجد بحسب محبته .فأهل اليمان لهم من
الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى ال عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح( :ثلث من كن فيه وجد حلوة
اليمان :من كان الّ ورسوله أحب إليه مما /سواهما ،ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ ،ومن كان يكره أن يرجع
في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه ،كما يكره أن يلقى في النار) .وقال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح( :ذاق طعم
اليمان من رضى بالّ رباً ،وبالسلم ديناً ،وبمحمد نبياً).
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات ،فكل بحسبه ،قيل لسفيان بن عيينة :ما بال أهل الهواء لهم محبة شديدة لهوائهم؟!
فقال :أنسيت قوله تعالى{ :وَأُ ْش ِربُوا فِي قُلُو ِبهِمْ ا ْل ِعجْ َل ِبكُفْرِهِمْ} [البقرة]93 :؟! ،أو نحو هذا من الكلم .فعباد الصنام
س مَ ْن يَتّ ِخ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِحبّونَهُ ْم كَ ُحبّ الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة:
يحبون آلهتهم ،كما قال تعالىَ { :ومِنْ النّا ِ
ض ّل ِممّنْ اّتبَعَ هَوَا ُه ِب َغيْرِ ُهدًى مِنْ الِّ} [القصص]50 : ك فَاعَْلمْ َأّنمَا َيتّ ِبعُونَ أَهْوَاءَهُمْ َومَنْ أَ َ ،]165وقالَ { :فإِنْ لَ ْم يَ ْ
ستَجِيبُوا َل َ
،وقال{ :إِ ْن َيّتبِعُونَ ِإلّ الظّنّ َومَا َتهْوَى ا َلْنْفُسُ وَلَ َقدْ جَاءَ ُه ْم مِنْ َربّهِمْ ا ْلهُدَى} [النجم]23 :؛ ولهذا يميل هؤلء إلى سماع
الشعر والصوات التي تهيج المحبة المطلقة ،التي ل تختص بأهل اليمان ،بل يشترك فيها محب الرحمن ،ومحب
الوثان ،ومحب الصلبان ،ومحب الوطان ،ومحب الخوان ،ومحب المردان ،ومحب النسوان .وهؤلء الذين يتبعون
أذواقهم ،ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة ،وما كان عليه سلف المة.
فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته ،وطاعة رسوله ل يكون متبعاً لدين ،شرعه الّ ،كما قال تعالى{ :ثُمّ
ش ْيئًا} إلى قوله{ :وَالُّ وَلِيّ ن ُيغْنُوا عَنكَ مِنْ الِّ َ
ل َيعَْلمُونَ ِ .إّنهُمْ لَ ْ
ل َتتّبِعْ أَهْوَاءَ اّلذِينَ َ
لْمْ ِر فَا ّتبِ ْعهَا َو َ
جعَ ْلنَاكَ عَلَى شَرِيعَ ٍة مِنْ ا َ
َ
ا ْل ُمتّقِينَ} [ الجاثية ،]18 ،17 :بل يكون متبعاً لهواه بغير هدى من الّ ،قال تعالىَ{ :أمْ َلهُمْ ُ
ش َركَاءُ شَرَعُوا َلهُ ْم مِنْ الدّينِ
مَا َل ْم يَ ْأذَنْ بِهِ الُّ} [الشورى ،]21 :وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الّ،
وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة ،كما أخبر الّ به عن المشركين ،كما تقدم.
ومن هؤلء طائفة هم أعلهم قدراً ،وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة ،واجتناب المحرمات
المشهورة ،لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من السباب التي هي عبادة ،ظانين أن العارف إذا شهد [ القدر]
أعرض عن ذلك ،مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء ،ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة ،بناء على أن من
شهد القدر علم أن ما قدر سيكون ،فل حاجة إلى ذلك ،وهذا غلط عظيم .فإن الّ قدر الشياء بأسبابها كما قدر السعادة
والشقاوة بأسبابها ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :إن الّ خلق للجنة أهل ،خلقها لهم وهم في أصلب آبائهم،
وبعمل أهل الجنة يعملون) ،وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم لما أخبرهم بأن الّ كتب المقادير فقالوا :يا رسول
الّّ ،أفل ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال( :ل ،اعملوا فكل ميسر لما خلق له ،أما من كان من أهل السعادة،
فسييسر لعمل أهل السعادة ،وأما من كان من أهل الشقاوة ،فسييسر لعمل أهل الشقاوة).
/فما أمر الّ به عباده من السباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى{ :فَا ْعُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود:
،]123وفي قوله{ :قُلْ هُوَ َربّي لَ إِلَهَ ِإلّ ُهوَ عََليْهِ تَ َوكّلْتُ وَإَِليْ ِه َمتَابِ} [الرعد ،]30 :وقول شعيب ـ عليه السلم ـ{ :
عََليْهِ تَ َوكّ ْلتُ وَإَِليْهِ ُأنِيبُ} [هود.]88 :
ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من العمال دون الواجبات ،فتنقص بقدر ذلك.
ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة ،أو استجابة دعوة مخالفة العادة العامة ،ونحو ذلك،
فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة ،والشكر ،ونحو ذلك.
فهذه المور ونحوها كثيراً ما تعرض لهل السلوك والتوجه ،وإنما ينجو العبد منها بملزمة أمر الّ الذي بعث به
رسوله في كل وقت .كما قال الزهري :كان من مضى من سلفنا يقولون :العتصام بالسنة نجاة .وذلك أن السنة ـ كما
قال مالك رحمه الّ ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا ،ومن تخلف عنها غرق.
والعبادة ،والطاعة ،والستقامة ،ولزوم الصراط المستقيم ،ونحو ذلك من السماء مقصودها واحد ،ولها أصلن:
ل وحده ،وكان عمر بن الخطاب ك ِبعِبَادَةِ َربّهِ َأ َحدًا} وقوله{ :أَسَْلمَ وَ ْجهَهُ لِِّ} ،فهو إخلص الدين ّ وأما قولهَ { :و َ
ل يُشْ ِر ْ
يقول :اللهم اجعل عملي كله صالحاً ،واجعله لوجهك خالصاً ،ول تجعل لحد فيه شيئاً.
وقال الفضيل بن عياض في قولهِ{ :ل َيبْلُ َوكُمْ َأّيكُمْ أَ ْحسَنُ َعمَلً} [هود ،7 :الملك ،]2 :قال :أخلصه ،وأصوبه .قالوا :يا أبا
على ،ما أخلصه وأصوبه؟ قال / :إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ،وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً
لم يقبل ،حتى يكون خالصًا صواباً ،والخالص أن يكون لّ ،والصواب أن يكون على السنة.
س َتعِينُ}
ك نَ ْ فإن قيل :فإذا كان جميع ما يحبه الّ داخلً في اسم العبادة ،فلماذا عطف عليها غيرها ،كقولهِ{ :إيّا َ
ك َنعْ ُبدُ وَِإيّا َ
[الفاتحة ،]5 :وقوله{ :فَا ْعبُدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود ،]123 :وقال نوح{ :أَنْ ا ْعبُدُوا الَّ وَاتّقُوهُ وَأَطِيعُونِي} [نوح،]3 :
وكذلك قول غيره من الرسل .قيل :هذا له نظائر ،كما في قوله{ :إِنّ الصّلَ َة تَ ْنهَى عَنْ ا ْلفَحْشَاءِ وَا ْل ُم ْنكَرِ} [العنكبوت45 :
لّ َي ْأمُ ُر بِا ْل َعدْلِ وَالِحْسَانِ وَإِيتَا ِء ذِي الْ ُق ْربَى َو َينْهَى عَنْ ا ْلفَ ْحشَاءِ وَا ْلمُنكَرِ وَا ْل َبغْيِ} [
] ،والفحشاء من المنكر ،وكذلك قوله{ :إِنّ ا َ
النحل ،]90 :وإيتاء ذي القربى هو من العدل والحسان ،كما أن الفحشاء والبغي من المنكر ،وكذلك قوله{ :وَاّلذِينَ
سكُونَ بِا ْل ِكتَابِ وََأقَامُوا الصّلَةَ} [العراف ،]170 :وإقامة الصلة من أعظم التمسك بالكتاب ،وكذلك قولهِ{ :إّنهُمْ ُيمَ ّ
كَانُوا يُسَارِعُو َن فِي ا ْل َخيْرَاتِ َويَدْعُو َننَا رَ َغبًا َورَ َهبًا} [النبياء ،]90 :ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات ،وأمثال ذلك في
القرآن كثير.
وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الخر ،فيعطف عليه تخصيصًا له بالذكر ؛ لكونه مطلوباً بالمعنى العام،
والمعنى الخاص ،وتارة تكون دللة السم تتنوع بحال النفراد والقتران ،فإذا أفرد عم ،وإذا قرن بغيره خص ،كاسم
سبِيلِ الِّ} [البقرة ،]273 :وقوله{ : الفقير ،والمسكين لما /أفرد أحدهما في مثل قوله{ :لِل ُفقَرَاءِ اّلذِينَ أُحْ ِ
صرُوا فِي َ
عشَرَ ِة مَسَاكِينَ} [المائدة ،]89 :دخل فيه الخر ،ولما قرن بينهما في قولهِ{ :إّنمَا ال ّ
ص َدقَاتُ لِ ْلفُقَرَاءِ طعَامُ َ
َفكَفّا َرتُهُ إِ ْ
وَا ْلمَسَاكِينِ} [التوبة ]60 :صارا نوعين.
وقد قيل :إن الخاص المعطوف على العام ليدخل في العام حال القتران ،بل يكون من هذا الباب .والتحقيق أن هذا
جبْرِيلَ َومِيكَالَ} [البقرة ،]98 :وقال تعالى{ :وَِإذْ أَ َ
خ ْذنَا مِنْ ل ِئكَتِهِ وَ ُرسُلِهِ وَ ِ
عدُوّا لِّ َومَ َ ليس لزماً ،قال تعالى{ :مَ ْ
ن كَانَ َ
الّن ِبيّي َن مِيثَا َقهُمْ َو ِم ْنكَ َومِ ْن نُوحٍ وَِإبْرَاهِيمَ َومُوسَى وَعِيسَى ابْنِ َم ْريَمَ} [الحزاب.]7 :
وذكر الخاص مع العام يكون ،لسباب متنوعة ،تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام ،كما في نوح وإبراهيم
وموسى وعيسى ،وتارة؛ لكون العام فيه إطلق قد ل يفهم منه العموم ،كما في قولهُ { :هدًى لِ ْل ُمتّقِينَ .اّلذِي َ
ن يُ ْؤ ِمنُونَ بِا ْل َغيْبِ
َويُقِيمُونَ الصّلَةَ َو ِممّا رَ َز ْقنَا ُه ْم يُنفِقُونَ .وَاّلذِي َن يُ ْؤمِنُو َن ِبمَا ُأنْزِلَ إَِل ْيكَ َومَا ُأنْزِ َل مِ ْن َقبِْلكَ} [البقرة2 :ـ ،]4فقوله :يؤمنون
بالغيب يتناول الغيب الذي يجب اليمان به ،لكن فيه إجمال ،فليس فيه دللة على أن من الغيب ،ما أنزل إليك ،وما
أنزل من قبلك.وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب ،وبالخبار بالغيب ،وهو ما أنزل إليك ،وما
أنزل من قبلك.
سكُو َ
ن حيَ إَِل ْيكَ مِنْ ا ْل ِكتَابِ وََأقِمْ الصّلَةَ} [العنكبوت ،]45 :وقوله{ :وَاّلذِينَ ُيمَ ّ /ومن هذا الباب قوله تعالى{ :اتْ ُ
ل مَا أُو ِ
بِا ْل ِكتَابِ وََأقَامُوا الصّلَةَ} [العراف ،]170 :وتلوة الكتاب ،هي اتباعه ،كما قال ابن مسعود في قوله تعالى{ :اّلذِينَ
ق تِلَ َوتِهِ} [البقرة ،]121 :قال :يحللون حلله ويحرمون حرامه ،ويؤمنون بمتشابهه ويعملون ب َيتْلُونَهُ حَ ّ
آ َتيْنَا ُهمْ ا ْل ِكتَا َ
بمحكمه ،فاتباع الكتاب يتناول الصلة وغيرها ،لكن خصها بالذكر لمزيتها .وكذلك قوله لموسىِ{ :إّننِي َأنَا ا ُ
لّ لَ إِلَهَ ِإلّ
عُب ْدنِي وََأقِمْ الصّلَةَ ِل ِذكْرِي} [طه ،]14 :وإقامة الصلة لذكره من أجل عبادته ،وكذلك قوله تعالى{ :اتّقُوا الَّ َوقُولُوا َأنَا فَا ْ
سدِيدًا} [الحزاب ،]70 :وقوله{ :اتّقُوا الَّ وَا ْب َتغُوا إَِليْهِ الْ َوسِيلَةَ} [المائدة ،]35 :وقوله{ :اتّقُوا الَّ َوكُونُوا مَعَ قَ ْولً َ
الصّا ِدقِينَ} [التوبة ،]119 :فإن هذه المور هي أيضاً من تمام تقوى الّ ،وكذلك قوله{ :فَا ْعبُدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود:
،]123فإن التوكل والستعانة هي من عبادة الّ ،لكن خصت بالذكر ،ليقصدها المتعبد بخصوصها ،فإنها هي العون
على سائر أنواع العبادة إذ هو ـ سبحانه ـ ل يعبد إل بمعونته.
إذا تبين هذا ،فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لّ ،وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته،
ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه .أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق
سبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُ ْم بَِأمْرِ ِه َي ْعمَلُونَ} /إلى قوله{ : ل يَ ْ
عبَا ٌد ُمكْ َرمُونََ . سبْحَانَهُ بَلْ ِ حمَانُ وََلدًا ُ خذَ الرّ ْوأضلهم .قال تعالىَ { :وقَالُوا اتّ َ
ش ْيئًا ِإدّا} إلى قوله{ :إِنْ ج ْئتُمْ َ
حمَانُ وََلدًا .لَ َقدْ ِ شفِقُونَ} [النبياء26 :ـ ،]28وقال تعالىَ { :وقَالُوا اتّ َ
خذَ الرّ ْ ش َيتِهِ مُ ْ
خْوَهُ ْم مِنْ َ
كُ ّل مَنْ فِي ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضِ ِإ ّل آتِي الرّ ْحمَانِ َع ْبدًا .لَ َقدْ أَ ْحصَا ُهمْ وَ َعدّهُمْ َعدّاَ .وكُّلهُ ْم آتِيهِ يَوْمَ الْ ِقيَامَ ِة فَ ْردًا} [مريم 88 :ـ ]95
سرَائِيلَ} [الزخرف ،]59 :وقال تعالى{ :وَلَ ُه مَنْ جعَ ْلنَا ُه َمثَلً ِل َبنِي إِ ْ ،وقال تعالى في المسيح{ :إِنْ هُوَ ِإلّ َ
ع ْبدٌ َأنْ َع ْمنَا عََليْهِ وَ َ
فِي ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضِ َومَنْ ِع ْندَهُ َل يَ ْس َت ْكبِرُونَ عَنْ ِعبَادَتِهِ َو َل يَ ْستَحْسِرُونَ .يُ َسبّحُونَ الّليْلَ وَالّنهَا َر َل يَ ْفتُرُونَ} [النبياء،19 :
سيَحْشُرُ ُهمْ س َت ْكبِرْ َف َ
عبَادَتِهِ َويَ ْ
ستَنكِفْ عَنْ ِ لئِكَةُ ا ْلمُ َق ّربُونَ َومَنْ يَ ْ
ع ْبدًا لِّ َولَ ا ْلمَ َ
ن َيكُونَ َ ستَنكِفَ ا ْلمَسِيحُ أَ ْ ،]20وقال تعالى{ :لَ ْ
ن يَ ْ
جدُونَ َل ُه ْم مِنْ دُونِ الِّ وَِليّا َولَ َنصِيرًا} [النساء ،]173 ،172 :وقال تعالىَ { :وقَالَ َرّبكُمْ جمِيعًا} إلى قولهَ { :و َ
ل يَ ِ إَِليْهِ َ
ج َهنّ َم دَاخِرِينَ} [غافر ،]60 :وقال تعالىَ { :ومِنْ آيَاتِهِ الّليْلُ سيَدْخُلُونَ َ عبَادَتِي َ س َت ْكبِرُونَ عَنْ ِ جبْ َلكُمْ إِنّ اّلذِينَ يَ ْستَ ِادْعُونِي أَ ْ
ع ْندَ َرّبكَ
س َتكْبَرُوا فَاّلذِينَ ِ
ن ُك ْنتُمْ ِإيّا ُه َت ْعبُدُونَ .فَإِنْ ا ْ
جدُوا لِّ اّلذِي خََل َقهُنّ إِ ْ
شمْسِ َولَ ِللْ َقمَرِ وَاسْ ُ
جدُوا لِل ّ
سُشمْسُ وَالْ َق َم ُر لَ تَ ْ وَال ّنهَارُ وَال ّ
ك تَضَرّعًا وَخِيفَةً} إلى سَ ل يَسَْأمُونَ} [فصلت ،]38 ،37 :وقال تعالى{ :وَا ْذكُرْ َرّب َ
ك فِي نَ ْف ِ سبّحُونَ لَ ُه بِالّليْلِ وَال ّنهَارِ وَ ُه ْم َ
يُ َ
قوله{ :إِنّ اّلذِينَ ِع ْندَ َرّبكَ َل يَ ْس َتكْبِرُونَ عَنْ ِعبَا َدتِهِ َويُ َسبّحُونَهُ وَلَ ُه يَسْ ُجدُونَ} [العراف.]206 ،205 :
وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة ،وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن ،وقد أخبر أنه أرسل
ك مِنْ رَسُولٍ ِإ ّل نُوحِي ِإَليْهِ َأنّ ُه لَ إِلَهَ ِإلّ َأنَا فَا ْعبُدُونِي} [النبياء،]25 : جميع الرسل بذلك /.فقال تعالىَ { :ومَا أَرْ َ
س ْلنَا مِنْ َقبِْل َ
عبَادِيج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ} [النحل ،]36 :وقال تعالى لبني إسرائيل{ :يَا ِ عبُدُوا الَّ وَا ْ وقال{ :وََل َقدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ َرسُولً أَنْ اُ ْ
ي فَاتّقُونِي} [البقرة ،]41 :وقال{ :يَاَأّيهَا النّاسُ عُبدُونِي} [العنكبوت{ ،]56 :وَِإيّا َ ي فَا ْ
سعَ ٌة فَِإيّا َ
اّلذِينَ آ َمنُوا إِنّ َأرْضِي وَا ِ
ا ْعبُدُوا َرّبكُمْ اّلذِي خََل َقكُمْ وَاّلذِي َن مِنْ َقبِْلكُمْ َلعَّلكُ ْم َتتّقُونَ} [البقرة ،]21 :وقالَ { :ومَا َخلَ ْقتُ الْجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعُبدُونِي} [
ت لَِنْ َأكُونَ أَوّلَ ا ْلمُسِْلمِينَ .قُلْ ِإنّي َأخَافُ إِنْ لّ مُخِْلصًا لَهُ الدّينَ .وَُأمِرْ ُ الذاريات ،]56 :وقال تعالى{ :قُلْ ِإنّي ُأمِرْتُ أَنْ أَ ْ
عُبدَ ا َ
ب يَوْمٍ عَظِيمٍ .قُلْ الَّ أَ ْعبُ ُد مُخْلِصًا لَ ُه دِينِي .فَا ْعبُدُوا مَا ِش ْئتُ ْم مِنْ دُونِهِ} [الزمر11 :ـ .]15 صيْتُ َربّي عَذَا َ عَ َ
لّ مَا َلكُ ْم مِنْ وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الّ ،كقول نوح ومن بعده عليهم السلم{ :ا ْ
عبُدُوا ا َ
إِلَهٍ َغيْرُهُ} [المؤمنون ،]23 :وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :بعثت بالسيف بين
ل وحده ل شريك له ،وجعل رزقي تحت ظل رمحي ،وجعل الذلة والصغار على من خالف
يدي الساعة حتى يعبد ا ّ
أمري).
ج َمعِينَ ِّ .إلّ وقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات ،قال الشيطانِ { :بمَا أَغْ َو ْيتَنِي لَُ َزّينَنّ َلهُ ْم فِي الَْ ْرضِ َولَُغْ ِو َينّهُمْ َأ ْ
ِعبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْلمُخَْلصِينَ} [الحجر ،]40 ،39 :قال تعالى{ :إِنّ ِعبَادِي َليْسَ َلكَ َعَليْهِمْ سُلْطَانٌ ِإلّ مَ ْن اّت َب َعكَ مِنْ ا ْلغَاوِينَ} [
ك لَُغْ ِو َينّهُمْ َأ ْج َمعِينَِ .إلّ ِعبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْلمُ ْخلَصِينَ} [ص ،]83 ،82 :وقال في حق يوسف: الحجر ،]42 :وقال{ :قَا َ
ل َف ِبعِ ّزتِ َ
عبَادَ الِّصفُونَِ .إلّ ِ عمّا يَ ِ س ْبحَانَ الِّ َ عبَادِنَا ا ْلمُخْلَصِينَ} [يوسف ،]24 :وقالُ { : عنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِ { َكذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َ
ن آ َمنُوا وَعَلَى َرّبهِ ْم َيتَوَكّلُونَِ .إّنمَا سُلْطَانُهُ عَلَى ا ْلمُخَْلصِينَ} [الصافات ،]160 ،159 :وقالِ{ :إنّهُ َليْسَ لَهُ سُ ْلطَانٌ عَلَى اّلذِي َ
عبَادَنَا ش ِركُونَ} [ النحل ،]100 ،99 :وبها نعت كل من اصطفي من خلقه ،كقوله{ :وَا ْذكُرْ ِ اّلذِينَ َيتَوَلّ ْونَهُ وَاّلذِينَ ُه ْم بِهِ مُ ْ
صطَ َفيْنَ الَْ ْخيَارِ} [ص: عنْ َدنَا َلمِنْ ا ْلمُ ْ
صنَاهُ ْم بِخَالِصَ ٍة ِذكْرَى الدّارِ .وَِإّنهُمْ ِلْبْصَارِِ .إنّا أَخَْل ْ لْيْدِي وَا َ إبْرَاهِيمَ وَِإسْحَاقَ َو َيعْقُوبَ أُوْلِي ا َ
45ـ ،]47وقوله{ :وَا ْذكُرْ َعبْ َدنَا دَاوُودَ ذَا ا َلْ ْيدِ ِإنّهُ أَوّابٌ} [ص ،]17 :وقال عن سليمانِ { :نعْمَ ا ْل َعبْدُ ِإنّهُ أَوّابٌ} [ص:
،]30وعن أيوبِ { :نعْمَ ا ْل َع ْبدُ} [ص ،]44 :وقال{ :وَا ْذكُرْ َع ْبدَنَا َأيّوبَ ِإذْ نَادَى َربّهُ} [ص ،]41 :وقال عن نوح عليه
حرَامِ جدِ الْ َ
سرَى ِب َعبْدِهِ َليْلً مِنْ ا ْل َمسْ ِ سبْحَانَ اّلذِي أَ ْ شكُورًا} [السراء ،]3 :وقالُ { : ع ْبدًا َ
حمَ ْلنَا مَ َع نُوحٍ ِإنّ ُه كَانَ َ السلم{ :ذُ ّريّةَ مَنْ َ
ب ِممّا نَزّ ْلنَان كُنتُ ْم فِي َريْ ٍ لّ يَدْعُوهُ} [الجن ،]19 :وقال{ :وَإِ ْ لْقْصَى} [السراء ،]1 :وقال {وََأنّهُ َلمّا قَامَ َ
ع ْبدُ ا ِ جدِ ا َ إِلَى ا ْلمَسْ ِ
ب ِبهَا ِعبَادُ الِّ} [النسان: ع ْينًا يَشْ َر ُعبْدِ ِه مَا َأوْحَى} [النجم ،]10 :وقالَ { : ع ْبدِنَا} [البقرة ،]23 :وقال{ :فَأَ ْوحَى إِلَى َ عَلَى َ
،]6وقال{ :وَ ِعبَادُ الرّ ْحمَانِ اّلذِي َن يَمْشُونَ عَلَى الَْرْضِ َه ْونًا} [الفرقان ،]63 :ومثل هذا كثير متعدد في القرآن .
َفصْــل
إذا تبين ذلك ،فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلً عظيمًا ،وهو تفاضلهم في حقيقة اليمان ،وهم ينقسمون فيه،
إلى عام ،وخاص ؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ؛ ولهذا كان الشرك في هذه المة أخفى من
دبيب النمل .وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قالَ ( :تعِسَ عبد الدرهم ،تعس عبد الدينار ،تعس عبد
القطيفة ،تعس عبد الخميصة ،تعس وانتكس ،وإذا شيك فل انتقش ،إن أعطى رضي ،وإن منع سخط).
فسماه النبي صلى ال عليه وسلم عبد الدرهم ،وعبد الدينار ،وعبد القطيفة ،وعبد الخميصة .وذكر ما فيه دعاء وخبر،
وهو قوله" :تعس وانتكس ،وإذا شيك فل انتقش" ،والنقش :إخراج الشوكة من الرجل ،والمنقاش ما يخرج به الشوكة،
وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ،ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس ،فل نال المطلوب ول خلص من المكروه،
وهذه حال من عبد المال ،وقد وصف ذلك بأنه (إذا أعطى رضى ،وإذا منع سخط) ،كما قال تعالىَ { :و ِمنْهُ ْم مَ ْ
ن يَ ْلمِ ُزكَ
ت َفإِنْ أُعْطُوا ِم ْنهَا َرضُوا وَإِنْ َل ْم ُيعْطَوْا ِمنْهَا ِإذَا ُه ْم يَسْخَطُونَ} [التوبة ،]58 :فرضاهم لغير الّ وسخطهم لغير
ص َدقَا ِ
فِي ال ّ
الّ ،وهكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي ،وإن لم يحصل له
سخط ،فهذا عبد ما يهواه من ذلك ،وهو رقيق له ،إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته ،فما استرق
القلب ،واستعبده فهو عبده ،ولهذا يقال:
وقال القائل:
ويقال :الطمع غل في العنق ،قيد في الرجل ،فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل .ويروي عن عمر بن
الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ أنه قال :الطمع فقر ،واليأس غني ،وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه .وهذا أمر
يجده النسان من نفسه ،فإن المر الذي ييأس منه ل يطلبه ،ول يطمع به ،ول يبقى قلبه فقيرًا إليه ،ول إلى من يفعله،
وأما إذا طمع في أمر من المور ،ورجاه تعلق قلبه به ،فصار فقيرًا إلى حصوله ،وإلى من يظن أنه سبب في
عُبدُوهُ حصوله ،وهذا في المال والجاه ،والصور وغير ذلك .قال الخليل صلى ال عليه وسلم{ :فَا ْب َتغُوا ِ
ع ْندَ الِّ الرّزْقَ وَا ْ
وَا ْشكُرُوا لَهُ إَِليْ ِه تُرْ َجعُونَ}[العنكبوت .]17
/فالعبد لبد له من رزق ،وهو محتاج إلى ذلك ،فإذا طلب رزقه من الّ صار عبدًا لّ ،فقيرًا إليه ،وإن طلبه من
مخلوق صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه.
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الصل ،وإنما أبيحت للضرورة .وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح
والسنن والمسانيد .كقوله صلى ال عليه وسلم( :ل تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعَة
لحم) ،وقوله( :من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خُدوشًا أو خُموشًا ،أو كدوحًا في وجهه) ،وقوله:
(ل تحل المسألة إل لذي غرم مفظع ،أو دم موجع ،أو فقر مدقع) ،هذا المعنى في الصحيح .وفيه أيضًا( :لن يأخذ
أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه ،أو منعوه) ،وقال( :ما أتاك من هذا المال وأنت غير
سائل ،ول مشرف فخذه ،وما ل فلتتبعه نفسك) فكره أخـذه من سؤال اللسان واستشراف القلب ،وقال في الحديث
الصحيح( :من يستغن يغنه الّ ،ومن يستعفف يعفه الّ ،ومن يتصبر يصبره الّ ،وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع
من الصبر) وأوصى خواص أصحابه أل يسألوا الناس شيئًا وفي المسند :إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده ،فل
يقول لحد ناولني إياه ،ويقول :إن خليلي أمرني أل أسأل الناس شيئًا .وفي صحيح مسلم وغيره ،عن عوف ابن مالك:
أن /النبي صلى ال عليه وسلم بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية( :أل تسألوا الناس شيئًا) ،فكان بعض أولئك
النفر يسقط السوط من يد أحدهم ،ول يقول لحد :ناولني إياه.
وقد دلت النصوص على المر بمسألة الخالق ،والنهي عن مسألة المخلوق ،في غير موضع .كقوله تعالى{ :فَِإذَا
ك فَارْغَب} [الشرح ،]8 ،7 :وقول النبي صلى ال عليه وسلم لبن عباس( :إذا سألت فاسأل ت فَانصَبْ َ .وإِلَى َرّب َ
فَرَغْ َ
الّ ،وإذا استعنت فاستعن بالّ) ،ومنه قول الخليل{ :فَابْ َتغُوا ِع ْندَ الِّ الرّ ْزقَ} [العنكبوت ،]17 :ولم يقل :فابتغوا الرزق
عند الّ؛ لن تقديم الظرف يشعر بالختصاص والحصر ،كأنه قال :ل تبتغوا الرزق إل عند الّ .وقد قال تعالى{ :
لّ مِنْ َفضْلِهِ} [النساء ،]32 :والنسان لبد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه ،ودفع ما يضره، سأَلُوا ا َ
وَا ْ
وكل المرين شرع له أن يكون دعاؤه لّ ،فله أن يسأل الّ ،وإليه يشتكي ،كما قال يعقوب ـ عليه السلم ـ{ :قَالَ ِإّنمَا
أَ ْشكُو َبثّي وَ ُح ْزنِي إِلَى الِّ} [يوسف.]86 :
والّ ـ تعالى ـ ذكر في القرآن الهجر الجميل ،والصفح الجميل ،والصبر الجميل.
وقد قيل :إن الهجر الجميل ،هو هجر بل أذى .والصفح الجميل صفح بل معاتبة .والصبر الجميل ،صبر بغير شكوى
إلى المخلوق؛ ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوسًا كان يكره أنين /المريض ،ويقول :إنه شكوى فما
أنّ أحمد حتى مات .
جمِيلٌ} [يوسف ،]83 :وقال{ :قَالَ ِإّنمَا وأما الشكوى إلى الخالق ،فل تنافى الصبر الجميل ،فإن يعقوب قال{ :فَ َ
صبْرٌ َ
أَ ْشكُو َبثّي وَ ُح ْزنِي إِلَى الّ} ،وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ يقرأ في الفجر بسورة يونس ،و يوسف ،والنحل،
فمر بهذه الية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف ،ومن دعاء موسى( :اللّهم لك الحمد ،وإليك
المشتكى ،وأنت المستعان ،وبك المستغاث ،وعليك التكلن ،ول حول ول قوة إل بك) .وفي الدعاء الذي دعا به النبي
صلى ال عليه وسلم ؛ لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا( :اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي ،وهواني على
الناس ،أنت رب المستضعفين وأنت ربي .اللّهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني ،أم إلى عدو ملكته أمري ،إن لم
يكن بك غضب على فل أبالي ،غير أن عافيتك أوسع لي ،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ،وصلح عليه
أمر الدنيا والخرة ،أن ينزل بي سخطك ،أو يحل على غضبك ،لك العتبى حتى ترضى ،فل حول ول قوة إل بك ـ
وفي بعض الروايات ـ ول حول ول قوة إل بك).
وكلما قوى طمع العبد في فضل الّ ورحمته ،ورجائه لقضاء حاجته ،ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما
سواه ،فكما أن طمعه في /المخلوق يوجب عبوديته له ،فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه .كما قيل :استغن عمن شئت
تكن نظيره ،وأفضل على من شئت تكن أميره ،واحتج إلى من شئت تكن أسيره .فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له
يوجب عبوديته له ،وإعراض قلبه عن الطلب من غير الّ ،والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لّ ،لسيما
من كان يرجو المخلوق ول يرجو الخالق ،بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه ،وإما
على أهله وأصدقائه ،وإما على أمواله وذخائره ،وإما على ساداته وكبرائه ،كمالكه وملكه ،وشيخه ومخدومه
عبَادِهِ
ح ْمدِهِ َوكَفَى بِهِ ِب ُذنُوبِ ِ وغيرهم ،ممن هو قد مات أو يموت .قال تعالىَ { :وتَ َوكّلْ عَلَى ا ْلحَيّ اّلذِي لَ َيمُوتُ َو َ
سبّحْ بِ َ
َخبِيرًا} [الفرقان.]58 :
وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه ،أو يرزقوه ،أو أن يهدوه خضع قلبه لهم ،وصار فيه من العبودية لهم بقدر
ذلك ،وإن كان في الظاهر أميرًا لهم مدبرًا لهم متصرفًا بهم ،فالعاقل ينظر إلى الحقائق ل إلى الظواهر ،فالرجل إذا
تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرًا لها ،تحكم فيه وتتصرف بما تريد ،وهو في الظاهر سيدها؛ لنه
زوجها .وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها ل سيما إذا درت بفقره إليها ،وعشقه لها ،وأنه ل يعتاض عنها بغيرها،
فإنها حينئذ تحكم فيه بحـكم السيد القاهـر الظـالم في عبده المقهور ،الذي ل يستطيع الخلص /منه ،بل أعظم ،فإن
أسر القلب أعظم من أسر البدن ،واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن ،فإن من استعبد بدنه واسترق ل يبالي ،إذا
كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا ،بل يمكنه الحتىال في الخلص .وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقًا
مستعبدًا ،متيمًا لغير الّ فهذا هو الذل ،والسر المحض ،والعبودية لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب ،فإن المسلم لو أسره كافر ،أو استرقه فاجر بغيرحق لم
ل وحق مواليه له أجران ،ولو يضره ذلك إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات ،ومن استعبد بحق ،إذا أدى حق ا ّ
أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن باليمان ،لم يضره ذلك ،وأما من استعبد قلبه ،فصار عبدًا لغير الّ،
فهذا يضره ذلك ،ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب ،والعبودية عبودية القلب ،كما أن الغنى غنى النفس ،قال النبي صلى ال عليه وسلم( :ليس الغنى
عن كثرة العرض ،وإنما الغنى غنى النفس) ،وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة ،فأما من استعبد قلبه
صورة محرمة ،امرأة أو صبي ،فهذا هو العذاب الذي ل يدان فيه .وهؤلء من أعظم الناس عذابًا وأقلهم ثوابًا ،فإن
العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلقًا بها ،مستعبدًا لها اجتمع له من /أنواع الشر والفساد ،ما ل يحصيه إل رب العباد،
ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى ،فدوام تعلق القلب بها بل فعل الفاحشة أشد ضررًا عليه ،ممن يفعل ذنبًا ثم يتوب
منه ويزول أثره من قلبه ،وهؤلء يشبهون بالسكارى والمجانين .كما قيل:
وقيل:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانـــــين
ومن أعظم أسباب هذا البلء :إعراض القلب عن الّ ،فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الّ ،والخلص له لم يكن عنده
شيء قط أحلى من ذلك ،ول ألذ ول أطيب ،والنسان ل يترك محبوبًا إل بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه ،أو خوفًا
من مكروه ،فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح ،أو بالخوف من الضرر.
/قال ـ تعالى ـ في حق يوسفَ { :كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َعنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِعبَادِنَا ا ْلمُخْلَصِينَ} [يوسف .]42 :فا ّ
ل يصرف
عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها ،ويصرف عنه الفحشاء بإخلصه لّ.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلوة العبودية لّ والخلص له ،تغلبه نفسه على اتباع هواها ،فإذا ذاق طعـم الخـلص
وقوى في قلبه انقهر له هـواه بل علج .قال تعالى{ :إِنّ الصّلَ َة َت ْنهَى عَنْ الْ َفحْشَاءِ وَا ْل ُم ْنكَرِ وََل ِذكْرُ الِّ َأ ْكبَرُ} [العنكبوت:
،]45فإن الصلة فيها دفع للمكروه ،وهو الفحشاء والمنكر ،وفيها تحصيل المحبوب ،وهو ذكر الّ ،وحصول هذا
المحبوب أكبر من دفع المكروه ،فإن ذكر الّ عبادة لّ ،وعبادة القلب لّ مقصودة لذاتها .وأما اندفاع الشر عنه ،فهو
مقصود لغيره على سبيل التبع.
والقلب خلق يحب الحق ،ويريده ،ويطلبه .فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك ،فإنه يفسد القلب ،كما يفسد
ب مَن دَسّاهَا} [الشمس ،]10 ،9 :وقال الزرع ،بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالىَ { :قدْ َأفْلَ َ
ح مَن َزكّاهَاَ .و َقدْ خَا َ
ح مَنْ تَ َزكّى َ .وذَكَرَ اسْمَ َربّهِ َفصَلّى} [العلى ،]15 ،14 :وقال{ :قُلْ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َيغُضّوا مِنْ َأبْصَارِهِمْ َويَحْفَظُوا تعالىَ { :قدْ َأفْلَ َ
فُرُو َجهُ ْم ذَِلكَ َأ ْزكَى َلهُمْ} [النور ،]30 :وقال تعالى{ :وََل ْولَ َفضْلُ الِّ عََل ْيكُمْ َورَ ْح َمتُهُ مَا َزكَا ِم ْنكُ ْم مِنْ أَ َحدٍ َأبَدًا} [النور]21 :
،فجعل ـ سبحانه ـ غض البصر ،وحفظ الفرج هو أزكى /للنفس ،وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس ،وزكاة
النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش ،والظلم ،والشرك ،والكذب ،وغير ذلك.
وكذلك طالب الرئاسة ،والعلو في الرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها ،ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم،
فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الموال والوليات ويعفو عنهم ليطيعوه ،ويعينوه ،فهو في الظاهر رئيس
مطاع ،وفي الحقيقة عبد مطيع لهم ،والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للخر ،وكلهما تارك لحقيقة عبادة الّ ،وإذا كان
تعاونهما على العلو في الرض بغير الحق ،كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق ،فكل واحد من
الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الخر.
وهكذا ـ أيضًا ـ طالب المال ؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه ،وهذه المور نوعان:
منها :ما يحتاج العبد إليه ،كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ،ونحو ذلك .فهذا يطلبه من الّ ويرغب
إليه فيه ،فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه ،وبساطه الذي يجلس عليه ،بل بمنزلة
الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده ،فيكون هلوعًا /إذا مسه الشر جزوعًا ،وإذا مسه الخير منوعًا.
ومنها :ما ل يحتاج العبد إليه ،فهذه ل ينبغي له أن يعلق قلبه بها ،فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدًا لها ،وربما صار
معتمدًا على غير الّ ،فل يبقى معه حقيقة العبادة لّ ،ول حقيقة التوكل عليه ،بل فيه شعبة من العبادة لغير الّ ،وشعبة
من التوكل على غير الّ ،وهذا من أحق الناس بقوله صلى ال عليه وسلم( :تعس عبد الدرهم ،تعس عبد الدينار ،تعس
عبد القطيفة ،تعس عبد الخميصة) ،وهذا هو عبد هذه المور ،فلو طلبها من الّ ،فإن الّ إذا أعطاه إياها رضي ،وإذا
منعه إياها سخط ،وإنما عبد الّ من يرضيه ما يرضي الّ ،ويسخطه ما يسخط الّ ،ويحب ما أحبه الّ ورسوله،
ويبغض ما أبغضه الّ ورسوله ،ويوالي أولياء الّ ،ويعادي أعداء الّ ـ تعالى ـ وهذا هو الذي استكمل اليمان .كما
في الحديث( :من أحب لّ ،وأبغض لّ ،وأعطى لّّ ،ومنع لّ فقد استكمل اليمان) وقال( :أوثق عُرَى اليمان :الحب
في الّ ،والبغض في الّ).
وفي الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم( :ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان :من كان الّ ورسوله أحب إليه مما
سواهما ،ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ ،ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه ،كما يكره أن
لل يلقى في النار) فهذا وافق ربه فيما يحبه وما /يكرهه فكان الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما ،وأحب المخلوق ّ
لغرض آخر ،فكان هذا من تمام حبه لّ ،فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب ،فإذا أحب أنبياء الّ،
لّ بِقَ ْومٍ وأولياء الّ؛ لجل قيامهم بمحبوبات الحق ل لشيء آخر ،فقد أحبهم لّ ل لغيره ،وقد قال تعالى{ :فَسَوْ َ
ف َي ْأتِي ا ُ
يُ ِحّبهُمْ َويُ ِحبّونَهُ َأذِلّةٍ عَلَى ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ} [المائدة. ]54 :
لّ فَاّتبِعُونِي يُ ْح ِب ْبكُمْ الُّ} [آل عمران ،]31 :فإن الرسول يأمر بما يحب الّ ،وينهى
حبّونَ ا َ ولهذا قال تعالى{ :قُلْ إِ ْ
ن ُكنْتُ ْم تُ ِ
عما يبغضه الّ ،ويفعل ما يحبه الّ ،ويخبر بما يحب الّ التصديق به ،فمن كان محبًا لّ لزم أن يتبع الرسول،
فيصدقه فيما أخبر ،ويطيعه فيما أمر ،ويتأسى به فيما فعل ،ومن فعل هذا ،فقد فعل ما يحبه الّ .فيحبه الّ ،فجعل الّ
لهل محبته علمتين :اتباع الرسول ،والجهاد في سبيله.
وذلك؛ لن الجهاد حقيقته الجتهاد في حصول ما يحبه الّ من اليمان ،والعمل الصالح ،ومن دفع ما يبغضه الّ من
عشِي َر ُتكُمْ} إلى قولهَ { :
حتّى جكُمْ وَ َ
خوَا ُنكُمْ وَأَزْوَا ُ
ن آبَا ُؤكُمْ َوَأبْنَا ُؤكُمْ وَإِ ْ الكفر والفسوق والعصيان .وقد قال تعالى{ :قُلْ إِ ْ
ن كَا َ
لّ بَِأمْ ِرهِ} [التوبة ،]24 :فتوعد من كان أهله وماله ،أحب إليه من الّ ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد .بل يَ ْأتِيَ ا ُ
قد ثبت عنه في الصحيح ،أنه قال( :والذي نفسي بيده ل يؤمن /أحدكم حتى أكون أحب إليه ،من ولده ،ووالده،
ل لنت أحب إلى من كل شيء إل والناس أجمعين) ،وفي الصحيح أن عمر ابن الخطاب قال له :يا رسول الّ! ،وا ّ
من نفسي ،فقال( :ل يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك) .فقال :فوالّ ،لنت أحب إلى من نفسي ،فقال( :الن يا
عمر).
فحقيقة المحبة ل تتم إل بموالة المحبوب ،وهو موافقته في حب ما يحب ،وبغض ما يبغض ،والّ يحب اليمان
والتقوى ،ويبغض الكفر والفسوق والعصيان .ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب ،فكلما قويت المحبة في القلب طلب
القلب فعل المحبوبات ،فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات .فإذا كان العبد قادرًا
عليها حصلها .وإن كان عاجزًا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبي صلى ال عليه
وسلم( :من دعا إلى هدى كان له من الجر مثل أجور من اتبعه ،من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا ،ومن دعا إلى
ضللة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا) .وقال( :إن بالمدينة لرجالً ما
سرتم مسيرًا ول قطعتم واديًا ،إل كانوا معكم).قالوا :وهم بالمدينة.قال( :وهم بالمدينة ،حبسهم العذر).
والجهاد ،هو بذل الوسع ،وهو القدرة في حصول محبوب الحق / ،ودفع ما يكرهه الحق ،فإذا ترك العبد ما يقدر عليه
من الجهاد ،كان دليلً على ضعف محبة الّ ورسوله في قلبه ،ومعلوم أن المحبوبات ل تنال غالبًا إل باحتمال
المكروهات ،سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة ،فالمحبون للمال والرئاسة والصور ،ل ينالون مطالبهم إل بضرر
يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والخرة ،فالمحب لّ ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من
ل مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم لّ إذا كان ما يسلكه أولئك هو المحبين لغير ا ّ
الطريق الذي يشير به العقل.
ن آ َمنُوا
حبّ الِّ وَاّلذِي َ
حبّونَهُ ْم كَ ُ
خ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِ
ن يَتّ ِ ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبًا لّ .كما قال تعالىَ { :ومِنْ النّا ِ
س مَ ْ
أَ َشدّ ُحبّا لِِّ}[البقرة ،]165 :نعم! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقًا ل يحصل بها المطلوب ،فمثل
هذه الطريق ل تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة ،فكيف إذا كانت المحبة فاسدة ،والطريق غير موصل! كما
يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضررًا ،ول تحصل لهم مطلوبًا ،وإنما
المقصود الطرق التي يسلكها العقل؛ لحصول مطلوبه.
وإذا تبين هذا ،فكلما ازداد القلب حبًا لّ إزداد له عبودية ،وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه،
والقلب فقير بالذات /إلى الّ من وجهين :من جهة العبادة ،وهي العلة الغائية ،ومن جهة الستعانة والتوكل ،وهي
العلة الفاعلىة ،فالقلب ل يصلح ،ول يفلح ،ول يلتذ ،وليسر ،ول يطيب ،وليسكن ،ول يطمئن ،إل بعبادة ربه،
وحبه والنابة إليه .ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ،ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه ،ومن
حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه ،وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
وهذا ل يحصل له إل بإعانة الّ له ،ليقدر على تحصيل ذلك له إل الّ ،فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقة {ِإيّا َ
ك َن ْعبُدُ وَِإيّاكَ
نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة ،]5 :فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده ،ولم يحصل له عبادته لّ بحيث
يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الول ،وكل ما سواه إنما يحبه لجله ،ل يحب شيئًا
لذاته إل الّ ،فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة ،ل إله إل الّ ،ول حقق التوحيد والعبودية والمحبة ،وكان
فيه من النقص والعيب ،بل من اللم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.
ل متوكلً عليه مفتقرًا إليه في حصوله لم يحصل له ،فإنه ما شاء الّ
ولو سعى في هذا المطلوب ،ولم يكن مستعينًا با ّ
كان ،وما لم يشأ لم يكن ،فهو مفتقر إلى الّ من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود ،ومن /حيث هو
المسؤول المستعان به المتوكل عليه ،فهو إلهه ل إله له غيره ،وهو ربه ل رب له سواه.
ول تتم عبوديته لّ إل بهذين ،فمتى كان يحب غير الّ ،لذاته ،أو يلتفت إلى غير الّ أنه يعينه كان عبدًا لما أحبه،
وعبدًا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه .وإذا لم يحب لذاته إل الّ ،وكلما أحب سواه فإنما أحبه له ،ولم يرج قط
شيئًا إل الّّ ،وإذا فعل ما فعل من السباب ،أو حصل ما حصل منها كان مشاهدًا أن الّ هو الذي خلقها وقدرها ،وأن
كل ما في السموات والرض فالّ ربه ومليكه وخالقه ،وهو مفتقر إليه كان قد حصل له من تمام عبوديته لّ بحسب
ما قسم له من ذلك.
فأكمل الخلق ،وأفضلهم ،وأعلهم ،وأقربهم إلى الّ ،وأقواهم ،وأهداهم ،أتمهم عبودية لّ من هذا الوجه.
وهذا هو حقيقة دين السلم الذي أرسل به رسله ،وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد لّ ل لغيـره ،فالمستسلم له
ولغيره مشرك ،والممتنع عن الستسلم لـه مستكبر ،وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم( :أن الجنة
ليدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر ،كما أن /النار ل يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ،فجعل الكبر
مقابلً لليمان ،فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية ،كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :يقول
الّ العظمة إزاري ،والكبرياء ردائي ،فمن نازعني واحدًا منهما عذبته) فالعظمة ،والكبرياء من خصائص الربوبية،
والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء ،كما جعل العظمة بمنزلة الزار.
ولهذا كان شعار الصلوات والذان والعياد ،هو التكبير ،وكان مستحبًا في المكنة العالية ،كالصفا والمروة ،وإذا
عل النسان شرفًا أو ركب دابة ونحو ذلك ،وبه يطفأ الحريق وإن عظم ،وعند الذان يهرب الشيطان .قال تعالى{ :
َوقَالَ َرّبكُ ْم ادْعُونِي أَ ْستَ ِجبْ َلكُمْ إِنّ اّلذِينَ يَ ْس َت ْكبِرُونَ عَنْ ِعبَادَتِي َسيَدْخُلُونَ َج َهنّ َم دَاخِرِينَ} [غافر.]60 :
وكل من استكبر عن عبادة الّ لبد أن يعبد غيره ،فإن النسان حساس يتحرك بالرادة .وقد ثبت في الصحيح عن
النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :أصدق السماء حارث وهمام) فالحارث الكاسب الفاعل ،والهمام فعال من الهم،
والهم أول الرادة ،فالنسان له إرادة دائمًا ،وكل إرادة ،فلبد لها من مراد تنتهي إليه ،فلبد لكل عبـد من مـراد
ل معبوده ومنتهى حبه ،وإرادته بل استكبر عن ذلك فلبد أن يكون له محـبوب هو منتهى حبه وإرادته ،فمن لم يكن ا ّ
مراد محبوب /يستعبده غير الّ ،فيكون عبدًا لذلك المراد المحبوب ،إما المال ،وإما الجاه ،وإما الصور ،وإما ما
يتخذه إلهًا من دون الّ ،كالشمس ،والقمر ،والكواكب ،والوثان ،وقبور النبياء ،والصالحين ،أو من الملئكة،
والنبياء الذين يتخذهم أربابًا ،أو غير ذلك مما عبد من دون الّّ.
وإذا كان عبدًا لغير الّ يكون مشركًا ،وكل مستكبر ،فهو مشرك؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارًا عن
حرٌ
ن فَقَالُوا سَا ِ عبادة الّ ،وكان مشركًا .قال تعالى{ :وََل َقدْ أَرْسَ ْلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَا ٍ
ن ُمبِينٍ .إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ َوقَارُو َ
طبَعُ الُّ عَلَى ل يُ ْؤمِنُ ِبيَوْمِ ا ْلحِسَابِ} إلى قولهَ { :كذَِلكَ يَ ْ ل ُمتَ َكبّ ٍر َ
ن كُ ّ
ت بِ َربّي وَ َرّبكُ ْم مِ ْ
عذْ ُ كَذّابٌ} ،إلى قولهَ { :وقَا َ
ل مُوسَى ِإنّي ُ
س َت ْكبَرُوا فِي جبّارٍ} [غافر23 :ـ ،]35وقال تعالىَ { :وقَارُونَ َو ِفرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَ َقدْ جَاءَ ُه ْم مُوسَى بِا ْلبَ ّينَا ِ
ت فَا ْ ب ُم َت َكبّرٍ َل قَلْ ِ كُ ّ
ضعِفُ طَا ِئفَةً ستَ ْ ش َيعًا يَ ْ جعَلَ أَهَْلهَا ِ
ل فِي الَْرْضِ َو َ عوْنَ عَ َن فِرْ َالَْرْضِ َومَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت ،]39 :وقال تعالى{ :إِ ّ
ي نِسَاءَهُمْ}إلى قولهِ{ :إنّ ُه كَا َن مِنْ ا ْلمُ ْف ِسدِينَ} [القصص.]4 : حِستَ ْ ِمنْهُ ْم ُي َذبّحُ َأ ْبنَاءَهُمْ َويَ ْ
وقد وصف فرعون بالشرك في قولهَ { :وقَالَ ا ْلمَلَُ مِ ْن قَ ْو ِم فِرْعَوْنَ َأ َتذَ ُر مُوسَى َوقَ ْومَهُ ِلُيفْ ِسدُوا فِي الَْ ْرضِ َويَذَ َركَ وَآِلهَ َتكَ} [
العراف.]127 :
/بل الستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارًا عن عبادة الّ كان أعظم إشراكا بالّ؛ لنه كلما استكبر
عن عبادة الّ ،ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود ،مقصود القلب بالقصد الول ،فيكون
مشركًا بما استعبده من ذلك.
ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات إل بأن يكون الّ هو موله الذي ل يعبد إل إياه ،ول يستعين إل به ،ول
يتوكل إل عليه ،ول يفرح إل بما يحبه ويرضاه ،ول يكره إل ما يبغضه الرب ويكرهه ،ول يوالي إل من واله الّ،
ول يعادي إل من عاداه الّ ،ول يحب إل الّ ،وليبغض شيئًا إل لّ ،ول يعطي إل لّ ،ول يمنع إل لّ .فكلما قوى
إخلص دينه لّ كملت عبوديته ،واستغناؤه عن المخلوقات ،وبكمال عبوديته لّ يبرئه من الكبر والشرك.
حبَارَهُمْ َورُ ْهبَا َنهُمْ أَ ْربَابًا والشرك غالب على النصارى ،والكبر غالب على اليهود ،قال ـ تعالى ـ في النصارى{ :اتّ َ
خذُوا أَ ْ
مِنْ دُونِ الِّ وَا ْلمَسِيحَ ابْ َن مَ ْريَمَ َومَا ُأمِرُوا ِإلّ ِل َي ْعبُدُوا ِإَلهًا وَا ِحدًا لَ إِلَهَ ِإلّ هُوَ ُسبْحَانَهُ َعمّا يُ ْش ِركُونَ} [التوبة ،]31 :وقال في
س َت ْكبَ ْرتُ ْم فَفَرِيقًا َكذّ ْبتُمْ َوفَرِيقًا تَ ْقتُلُونَ} [البقرة ،]87 :وقال تعالى{ : س ُكمْ ا ْ ل َتهْوَى أَنفُ ُ اليهودَ{ :أ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ َرسُو ٌ
ل ِبمَا َ
سبِيلً خذُوهُ َ ل َيتّ ِ
شدِ َ
سبِيلَ الرّ ْ
ن يَرَوْا َ
ل يُ ْؤ ِمنُوا ِبهَا وَإِ ْ
ل آيَ ٍة َ
ن يَرَوْا كُ ّ
حقّ وَإِ ْ
ض ِب َغيْرِ الْ َ
سأَصْ ِرفُ عَنْ آيَاتِي اّلذِينَ َي َت َكبّرُونَ فِي الَْرْ ِ َ
ي َيتّخِذُوهُ َسبِيلً} [العراف.]146 : سبِيلَ الغَ ّن يَرَوْا َ
وَإِ ْ
ل َيغْفِرُ أَ ْ
ن لّ َولما كان الكبر مستلزمًا للشرك ،والشرك ضد السلم ،وهو الذنب الذي ل يغفره الّ ،قال تعالى{ :إِنّ ا َ
ن يُشْ َركَ ل َيغْفِرُ أَ ْ لّ َ لّ َف َقدْ ا ْفتَرَى ِإ ْثمًا عَظِيمًا} [النساء ،]48 :وقال{ :إِنّ ا َ ك بِا ِ
ن يُشْ ِر ْ ن يَشَاءُ َومَ ْ ن ذَِلكَ ِلمَ ْ ك بِهِ َو َيغْفِ ُر مَا دُو َيُشْ َر َ
ل ًل َبعِيدًا} [النساء ،]116 :كان النبياء جميعهم مبعوثين بدين لّ َف َقدْ ضَلّ ضَ َ ك بِا ِ ن يُشْ ِر ْ ن يَشَاءُ َومَ ْ ن ذَِلكَ ِلمَ ْبِهِ َويَغْ ِف ُر مَا دُو َ
جرٍ إِنْالسلم ،فهو الدين الذي ل يقبل الّ غيره ،ل من الولين ول من الخرين .قال نوحَ { :فإِنْ تَوَّل ْيتُ ْم َفمَا سَأَ ْل ُتكُ ْم مِنْ أَ ْ
ن مِلّةِ ِإبْرَاهِيمَ ِإلّ مَنْ ن يَرْغَبُ عَ ْ ن مِنْ ا ْلمُسِْلمِينَ} [يونس ،]72 :وقال في حق إبراهيمَ { :ومَ ْ جرِي ِإلّ عَلَى الِّ وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُو َ أَ ْ
خرَةِ َلمِنْ الصّاِلحِينَ ِ .إ ْذ قَالَ لَهُ َربّهُ أَسِْل ْم قَالَ أَسَْلمْتُ ِلرَبّ ا ْلعَاَلمِينَ} إلى قوله{ :فَلَ ط َف ْينَا ُه فِي ال ّد ْنيَا وَِإنّ ُه فِي الْ ِ سفِ َه نَفْسَهُ وََل َقدْ اصْ ََ
َتمُوتُنّ ِإلّ وََأ ْنتُ ْم مُسِْلمُونَ} [البقرة ،]130-132 :وقال يوسف{ :تَ َو ّفنِي ُمسِْلمًا وَأَ ْلحِ ْقنِي بِالصّالِحِينَ} [يوسف،]101 :
لّ تَ َوكّ ْلنَا} [يونس ،]85 ،84 :وقال تعالى: لّ َفعََليْهِ تَ َوكّلُوا إِنْ ُك ْنتُ ْم مُسِْلمِينَ .فَقَالُوا عَلَى ا ِ وقال موسى{ :يَاقَوْمِ إِ ْ
ن ُك ْنتُ ْم آ َم ْنتُ ْم بِا ِ
سَلمُوا لِّلذِينَ هَادُوا} [المائدة ،]44 :وقالت بلقيس{ :رَبّ ِإنّي ظََلمْتُ حكُ ُم ِبهَا ال ّن ِبيّونَ اّلذِينَ أَ ْ {ِإنّا أَنزَ ْلنَا التّوْرَا َة فِيهَا ُهدًى َونُو ٌر يَ ْ
ن آ ِمنُوا بِي َوبِ َرسُولِي قَالُوا آ َمنّا ت مَعَ سَُل ْيمَانَ لِّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [النمل ،]44 :وقال{ / :وَِإذْ أَ ْو َ
حيْتُ إِلَى الْحَوَا ِريّينَ أَ ْ نَفْسِي وَأَسَْل ْم ُ
لْسْلَمِ غيْرَ ا ِ عنْدَ الِّ الِْسْلَمُ}[آل عمران ،]19 :وقالَ { :ومَنْ َي ْبتَغِ َ ش َه ْد بَِأّننَا مُسِْلمُونَ} [المائدة ،]111 :وقال{ :إِنّ الدّينَ ِ وَا ْ
دِينًا فَلَ ْن يُ ْقبَ َل ِمنْهُ} [آل عمران. ]85 :
لّ َيبْغُونَ وَلَهُ َأسْلَ َم مَ ْن فِي ال ّسمَاوَاتِ وَالَْ ْرضِ طَوْعًا َوكَرْهًا} [آل عمران ،]83 :فذكر إسلم
وقال تعالىَ{ :أ َف َغيْرَ دِينِ ا ِ
الكائنات طوعًا وكرهًا؛ لن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام ،سواء أقر المقر بذلك أو أنكره ،وهم مدينون
مدبرون؛ فهم مسلمون له طوعًا وكرهًا ،ليس لحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه ،ول حول ول قوة
إل به ،وهو رب العالمين ،ومليكهم يصرفهم كيف يشاء ،وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم ،وكل ما سواه فهو
مربوب ،مصنوع ،مفطور ،فقير ،محتاج ،معبد ،مقهور ،وهو الواحد القهار ،الخالق البارئ المصور.
وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب ،فهو خالق السبب والمقدر له ،وهو مفتقر إليه كافتقار هذا ،وليس في
المخلوقات سبب مستقل بفعل ول دفع ضرر ،بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه ،وإلى ما يدفع عنه
الضد الذي يعارضه ،ويمانعه.
وهو ـ سبحانه ـ وحده الغني عن كل ما سواه ،ليس له شريك يعاونه ول ضد يناوئه ويعارضه .قال تعالى{ :قُلْ َأفَرََأ ْيتُمْ
سبِي الُّ عََليْهِح َمتِهِ قُلْ حَ ْسكَاتُ َر ْ ن ُممْ ِ
حمَةٍ َهلْ هُ ّ
ضرّهِ أَوْ َأرَادَنِي بِ َر ْشفَاتُ ُ ن كَا ِ
ضرّ هَلْ هُ ّلّ بِ ُ
ن دُونِ الِّ إِنْ أَرَا َدنِي ا ُ مَا َتدْعُونَ مِ ْ
خيْ ٍر َفهُوَ عَلَى كُلّ ك بِ َسَ ن َيمْسَ ْ
شفَ لَهُ ِإلّ هُوَ وَإِ ْ
ل كَا ِلّ بِضُ ّر فَ َ
سكَ ا ُ َيتَوَكّلُ ا ْلمُتَ َوكّلُونَ} [الزمر ،]38 :وقال تعالى{ :وَإِ ْ
ن َيمْسَ ْ
سمَاوَاتِ طرَ ال ّ
جهِي لِّلذِي فَ َ جهْتُ َو ْ ي ٍء َقدِيرٌ} [النعام ،]17 :وقال تعالى عن الخليل{ :يَاقَ ْومِ ِإنّي بَرِي ٌء ِممّا تُشْ ِركُونَ ِ .إنّي وَ ّ شَ ْ
ن يَشَاءَ َربّي ن بِهِ ِإلّ أَ ْ
ف مَا تُشْ ِركُو َ حنِيفًا َومَا َأنَا مِنْ ا ْلمُشْ ِركِينَ .وَحَاجّ ُه قَ ْومُ ُه قَالَ َأتُحَاجّونِي فِي الِّ َو َقدْ َهدَانِي َولَ أَخَا ُ
وَالَْرْضَ َ
َش ْيئًا} إلى قوله تعالى{ :اّلذِي َن آ َمنُوا وَلَ ْم يَ ْلبِسُوا إِيمَا َنهُ ْم بِظُ ْلمٍ أُوَْل ِئكَ َلهُمْ ا َلْمْنُ وَهُ ْم ُم ْهتَدُونَ} [النعام. ]78-82 :
وفي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي الّ عنه ـ :إن هذه الية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى ال
عليه وسلم وقالوا :يا رسول الّ ،أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال( :إنما هو الشرك ،ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح:
ظلْمٌ عَظِيمٌ}) [لقمان.]13 :
{إِنّ الشّ ْركَ لَ ُ
وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين ،حيث بعث وقد طبق الرض دين المشركين ،قال الّ تعالى{ :وَِإ ْذ ا ْبتَلَى
ت َفَأ َتمّهُ ّن قَالَ ِإنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِ ْن ذُ ّريّتِي قَا َل َل َينَالُ َعهْدِي الظّاِلمِينَ} [البقرة ،]124 :فبين أن
ِإبْرَاهِيمَ َربّ ُه ِبكَِلمَا ٍ
عهده بالمامة ل يتناول الظالم ،فلم يأمر الّ ـ سبحانه ـ أن يكون الظالم إمامًا ،وأعظم الظلم الشرك.
/وقال تعالى{ :إِنّ ِإبْرَاهِي َم كَانَ ُأمّ ًة قَا ِنتًا لِّ َحنِيفًا وََل ْم يَكُ ْن مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ} [النحل ،]120 :والمة :هو معلم الخير الذي يؤتم
به ،كما أن القدوة الذي يقتدى به.
ن ا ّتبِ ْع مِلّةَ والّ ـ تعالى ـ جعل في ذريته النبوة والكتاب ،وإنما بعث النبياء بعده بملته قال تعالى{ :ثُمّ أَوْ َ
ح ْينَا ِإَل ْيكَ أَ ْ
ِإبْرَاهِيمَ َحنِيفًا َومَا كَانَ مِنْ ا ْل ُمشْ ِركِينَ} [النحل ،]123 :وقال تعالى :إِنّ َأوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّ َبعُوهُ وَ َهذَا النّ ِبيّ
حنِيفًان كَانَ َ ل نَصْرَا ِنيّا وََلكِ ْ لّ وَِليّ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} [آل عمران ،]68 :وقال تعالى{ :مَا كَانَ ِإبْرَاهِي ُم َيهُو ِديّا َو َ وَالّذِينَ آمَنُوا وَا ُ
حنِيفًا
ل مِلّةَ ِإبْرَاهِيمَ َ ن مِنْ ا ْلمُشْ ِركِينَ} [آل عمران ،]67 :وقال تعالىَ { :وقَالُوا كُونُوا هُودًا أَ ْو نَصَارَى َتهْ َتدُوا قُ ْ
ل بَ ْ مُسِْلمًا َومَا كَا َ
سبَاطِ} إلى قوله{ : سحَاقَ َو َيعْقُوبَ وَالَْ ْ سمَاعِيلَ وَإِ ْ ش ِركِينَ .قُولُوا آ َمنّا بِالِّ َومَا أُنزِلَ إَِل ْينَا َومَا أُنزِلَ إِلَى ِإبْرَاهِيمَ وَِإ ْ
ن مِنْ ا ْلمُ ْ
َومَا كَا َ
َونَحْنُ لَ ُه مُسِْلمُونَ} [البقرة.]136 ،135 :
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم :إن إبراهيم خير البرية ،فهو أفضل النبياء بعد النبي صلى ال
عليه وسلم وهو خليل الّ تعالى .وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم من غير وجه أنه قال( :إن الّ
اتخذني خليلً كما اتخذ إبراهيم خليلً) ،وقال( :لو كنت متخذًا من أهل الرض خليلً لتخذت أبا بكر خليل ،ولكن
خوْخَة أبي بكر) ،وقال( :إن من
س ّدتْ إل َ
خوْخَة إل ُ
صاحبكم خليل الّ) ـ يعني نفسه ـ وقال( :ل يبقين /في المسجد َ
كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ،أل فل تتخذوا القبور مساجد ،فإني أنهاكم عن ذلك) وكل هذا في الصحيح.
وفيه أنه قال :ذلك قبل موته بأيام ،وذلك من تمام رسالته.
فإن في ذلك تحقيق تمام مخالته لّ ،التي أصلها محبة الّ ـ تعالى ـ للعبد ،ومحبة العبد لّ خلفًا للجهمية.
وفي ذلك تحقيق توحيد الّ ،وأن ل يعبدوا إل إياه ،ورد على أشباه المشركين.
وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه ،وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر.
والخلة :هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبوديـة لّ ،ومن الرب ـ سبحانه ـ كمال الربوبية لعباده الذين
يحبهم ويحبونه ،ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل ،وكمال الحب ،فإنهم يقولون :قلب متيم إذا كان متعبدًا للمحبوب،
والمتيم المتعبد ،وتيم الّ عبده ،وهذا على الكمال حصل لبراهيم ومحمد صلى ال عليهما وسلم؛ ولهذا لم يكن له من
أهل الرض خليل ،إذ الخلة ل تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى:
بخلف أصل الحب ،فإنه صلى ال عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة( :اللّهم إني أحبهما
فأحبهما ،وأحب من يحبهما) ،وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟ قال( :عائشة) .قال :فمن الرجال؟ قال( :
أبوها) ،وقال لعلى ـ رضي الّ عنه ـ( :لعطين الراية رجلً يحب الّ ورسوله ،ويحبه الّ ورسوله) وأمثال ذلك
كثير.
وقد أخبر ـ تعالى ـ أنه يحب المتقين ،ويحب المحسنين ،ويحب المقسطين ،ويحب التوابين ،ويحب المتطهرين ،ويحب
لّ بِقَ ْو ٍم يُ ِحّبهُمْ َويُ ِحبّونَهُ} [المائدة ،]54 :فقد الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص ،وقال{ :فَسَوْ َ
ف َي ْأتِي ا ُ
أخبر بمحبته لعباده المؤمنين ،و محبة المؤمنين له ،حتى قال{ :وَاّلذِينَ آ َمنُوا َأ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة.]165 :
وأما الخلة فخاصة .وقول بعض الناس :إن محمدًا حبيب الّ ،وإبراهيم خليل الّ ،وظنه أن المحبة فوق الخلة قول
ضعيف ،فإن محمدًا أيضًا خليل الّ كما ثبت ذلك في الحاديث الصحيحة المستفيضة ،وما يروي( :إن العباس يحشر
بين حبيب وخليل) وأمثال ذلك ،فأحاديث موضوعة ل تصلح أن يعتمد عليها.
/وقد قدمنا أن من محبة الّ ـ تعالى ـ محبة ما أحب ،كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ثلث
من كن فيه وجد حلوة اليمان :من كان ال ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ ،ومن
كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه كما يكره أن يلقي في النار .أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن هذه
الثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان؛ لن وجد الحلوة بالشيء يتبع المحبة له ،فمن أحب شيئًا أو اشتهاه إذا حصل
له مراده فإنه يجد الحلوة واللذة والسرور بذلك ،واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملئم الذي هو المحبوب أو
المشتهى.
ومن قال :إن اللذة إدراك الملئم ،كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والطباء ،فقد غلط في ذلك غلطًا بينًا ،فإن
الدراك يتوسط بين المحبة واللذة ،فإن النسان مثلً يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة ،فاللذة تتبع
النظر إلى الشيء ،فإذا نظر إليه التذ ،فاللذة تتبع النظر ليست نفس النظر ،وليست هي رؤية الشيء ؛بل تحصل عقيب
رؤيته ،وقال تعالىَ { :وفِيهَا مَا تَ ْش َتهِيهِ الَْنفُسُ َوتََلذّ الَْ ْعيُنُ} [الزخرف ،]71 :وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات،
واللم من فرح وحزن ونحو ذلك ،يحصل بالشعور بالمحبوب ،أو الشعور بالمكروه ،وليس نفس الشعور هو الفرح
ول الحزن .فحلوة اليمان المتضمنة من اللذة به /والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلوة اليمان ،تتبع كمال
محبة العبد لّ ،وذلك بثلثة أمور :تكميل هذه المحبة ،وتفريعها ،ودفع ضدها.
فتكميلها :أن يكون الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما ،فإن محبة الّ ورسوله ل يكتفي فيها بأصل الحب ،بل لبد أن
يكون الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم.
ودفع ضدها :أن يكره ضد اليمان أعظم من كراهته اللقاء في النار ،فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة
الّ ،وكان رسول الّ صلى ال عليه وسلم يحب المؤمنين الذين يحبهم الّ؛ لنه أكمل الناس محبة لّ ،وأحقهم بأن
يحب ما يحبه الّ ،ويبغض ما يبغضه الّ ،والخلة ليس لغير الّ فيها نصيب ،بل قال( :لو كنت متخذًا من أهل الرض
ل لتخذت أبا بكر خليلً) علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة.
خلي ً
والمقصود هو أن الخلة والمحبة لّ تحقيق عبوديته؛ وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية
مجرد ذل /وخضوع فقط ،ل محبة معه ،أو أن المحبة فيها انبساط في الهواء أو إدلل ل تحتمله الربوبية؛ ولهذا
يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة .فقال :أمسكوا عن هذه المسألة ل تسمعها النفوس فتدعيها.
وكره من كره من أهل المعرفة ،والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلم في المحبة بل خشية ،وقال من قال من السلف:
من عبد الّ بالحب وحده فهو زنديق ،ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ،ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري،
ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد؛ ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى
أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة ،والدعوى التي تنافي العبودية ،وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي ل تصلح إل
لل لّ ،ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود النبياء والمرسلين أو يطلبون من الّ ،ما ل يصلح ـ بكل وجه ـ إل ّ
يصلح للنبياء والمرسلين .وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ.
وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل ،وحررها المر والنهي الذي جاؤوا به ،بل ضعف العقل الذي به
يعرف العبد حقيقته ،وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة ،انبسطت النفس بحمقها في ذلك ،كما ينبسط
النسان في محبة النسان مع حمقه وجهله ،ويقول :أنا محب فل أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل،
حبّا ُؤهُ} قال الّ تعالى{ :قُ ْ
ل فَِل َم ُيعَ ّذ ُبكُ ْم بِ ُذنُوبِكُمْ فهذا /عين الضلل ،وهو شبيه بقول اليهود والنصارى{ :نَحْنُ َأ ْبنَاءُ الِّ وَأَ ِ
ب مَنْ يَشَاءُ} [المائدة ،]18 :فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين ق َيغْفِرُ ِلمَنْ يَشَاءُ َو ُي َعذّ ُ
بَلْ َأ ْنتُ ْم بَشَ ٌر ِممّنْ خَلَ َ
ول منسوبين إليه بنسبة البنوة ،بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون.
فمن كان الّ يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه ،ل يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان ،ومن
فعل الكبائر وأصر عليها ،ولم يتب منها ،فإن الّ يبغض منه ذلك ،كما يحب منه ما يفعله من الخير ،إذ حبه للعبد
بحسب إيمانه وتقواه ،ومن ظن أن الذنوب ،ل تضره؛ لكون الّ يحبه مع إصراره عليها ،كان بمنزلة من زعم أن
تناول السم ل يضره مع مداومته عليه ،وعدم تداويه منه بصحة مزاجه.
ولو تدبر الحمق ما قص الّ في كتابه من قصص أنبيائه ،وما جرى لهم من التوبة والستغفار ،وما أصيبوا به من
أنواع البلء الذي فيه تمحيص لهم ،وتطهير بحسب أحوالهم ،علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها ،ولو كان أرفع
الناس مقامًا ،فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفًا بمصلحته ول مريدًا لها ،بل يعمل بمقتضى الحب ـ وإن كان جهلً
وظلمًا ـ كان ذلك سببًا لبغض المحبوب له ونفوره عنه ،بل لعقوبته.
وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الّ أنواعًا من أمور الجهل بالدين ،إما من تعدي حدود الّ ،وإما من تضييع
حقوق الّ ،وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي ل حقيقة لها ،كقول بعضهم :أي مريد لي ترك في النار أحدًا فأنا منه
برىء ،فقال الخر :أي مريد لي ترك أحدًا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه برىء ،فالول :جعل مريده يخرج كل
من في النار ،والثاني :جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار .ويقول بعضهم :إذا كان يوم القيامة نصبت
خيمتي على جهنم حتى ل يدخلها أحد ،وأمثال ذلك من القوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين ،وهي إما
كذب عليهم ،وإما غلط منهم ،ومثل هذا قد يصدر في حال سكر ،وغلبة ،وفناء يسقط فيها تمييز النسان ،أو يضعف
حتى ل يدري ما قال ،والسكر هو لذة مع عدم تمييز؛ ولهذا كان بين هؤلء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلم.
والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب ،والشوق ،واللوم ،والعذل والغرام كان هذا أصل
لّ فَاّت ِبعُونِي يُ ْح ِببْكُمْ الُّ} [آل عمران:
حبّونَ ا َ مقصدهم .ولهذا أنزل الّ للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال{ :قُلْ إِ ْ
ن ُك ْنتُ ْم تُ ِ
،]31فل يكون محبًا لّ إل من يتبع رسوله ،وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية.
وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته ،ويدعي من /الخيالت ما ل يتسع هذا الموضع لذكره ،حتى قد
يظن أحدهم سقوط المر وتحليل الحرام له ،وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول ،وسنته ،وطاعته ،بل قد جعل
محبة الّ ومحبة رسوله الجهاد في سبيله ،والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الّ به ،وكمال بغض ما نهى الّ عنه؛
ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونهَ{ :أذِلّةٍ َعلَى ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَ ِعزّةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِي َن يُجَا ِهدُو َن فِي َسبِيلِ الِّ} [المائدة.]54 :
ل أكمل من عبودية من قبلهم ،وأكمل هذه المةل أكمل من محبة من قبلها ،وعبوديتهم ّولهذا كانت محبة هذه المة ّ
في ذلك أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم ،ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل ،فأين هذا من قوم يدعون المحبة؟
!
وفي كلم بعض الشيوخ :المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب ،وأرادوا أن الكون كله قد أراد ا ّ
ل
وجوده ،فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء ،حتى الكفر والفسوق ،والعصيان ،ول يمكن أحدًا أن يحب كل
موجود ،بل يحب ما يلئمه وينفعه ،ويبغض ما ينافيه ويضره ،ولكن استفادوا بهذا الضلل اتباع أهوائهم ،فهم يحبون
ما يهوونه كالصور ،والرئاسة وفضول المال ،والبدع المضلة ،زاعمين أن هذا من محبة الّ ،ومن محبة الّ بغض ما
يبغضه الّ ورسوله ،وجهاد أهله بالنفس والمال.
/وأصل ضللهم :أن هذا القائل الذي قال :إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد الّ ـ تعالى ـ
الرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه ،فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب لّ ،وهذا معنى
صحيح ،فإن من تمام الحب أل يحب إل ما يحبه الّ ،فإذا أحببت ما ل يحب كانت المحبة ناقصة ،وأما قضاؤه وقدره
فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهي عنه ،فإن لم أوافقه في بغضه ،وكراهته ،وسخطه لم أكن محبًا له ،بل محبًا لما
يبغضه .فاتباع الشريعة ،والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الّ وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من
يدعي محبة الّ ناظرًا إلى عموم ربوبيته ،أو متبعًا لبعض البدع المخالفة لشريعته ،فإن دعوى هذه المحبة لّ من
جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لّ ،بل قد تكون دعوى هؤلء شرًا من دعوى اليهود والنصارى ،لما فيهم من
النفاق الذين هم به في الدرك السفل من النار ،كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرًا من دعواهم ،إذا لم يصلوا
إلى مثل كفرهم ،وفي التوراة والنجيل من محبة الّ ما هم متفقون عليه ،حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس.
ففي النجيل أن المسيح قال( :أعظم وصايا المسيح أن تحب الّ بكل قلبك وعقلك ونفسك) ،والنصارى يدعون قيامهم
بهذه المحبة ،وإن ما هم فيه من الزهد ،والعبادة هو من ذلك ،وهم برآء من محبة الّ ،إذا لم /يتبعوا ما أحبه ،بل
اتبعوا ما أسخط الّ وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ،والّ يبغض الكافرين ويمقتهم ،ويلعنهم ،وهو سبحانه يحب من
يحبه ،ل يمكن أن يكون العبد محبًا لّ ،والّ ـ تعالى ـ غير محب له ،بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الّ له ،وإن
كان جزاء الّ لعبده أعظم ،كما في الحديث الصحيح اللهي عن الّ ـ تعالى ـ أنه قال( :من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه
ذراعًا ،ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا ،ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
وقد أخبر ـ سبحانه ـ أنه يحب المتقين ،والمحسنين والصابرين ،ويحب التوابين ،ويحب المتطهرين ،بل هو يحب من
فعل ما أمر به من واجب ومستحب ،كما في الحديث الصحيح( :ل يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ،فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به) الحديث.
وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياخًا في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى ،من دعوى المحبة
لّ مع مخالفة شريعته ،وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك ،ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى الّ ،بنحو ما
تمسك به النصارى من الكلم المتشابه ،والحكايات التي ل يعرف صدق قائلها ،ولو صدق لم يكن قائلها معصومًا،
فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا ،كما جعل النصارى قسيسيهم ،ورهبانهم شارعين /لهم دينًا ،ثم إنهم ينتقصون
العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعى النصارى في المسيح ،ويثبتون للخاصة من المشاركة في الّ من
جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه ،إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع.
ل بكل وجه ،وهو تحقيق محبة الّ بكل درجة ،وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية ّ
العبد لربه ،وتكمل محبة الرب لعبده ،وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا ،وكلما كان في القلب حب لغير الّ ،كانت فيه
عبودية لغير الّ بحسب ذلك ،وكلما كان فيه عبودية لغير الّ كان فيه حب لغير الّ بحسب ذلك ،وكل محبة ل تكون
لّ فهي باطلة ،وكل عمل ل يراد به وجه الّ فهو باطل ،فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ما كان لّ ،ول يكون لّ إل
ما أحبه الّ ورسوله ،وهو المشروع ،فكل عمل أريد به غير الّ لم يكن لّ ،وكل عمل ل يوافق شرع الّ لم يكن لّ،
بل ل يكون لّ إل ما جمع الوصفين ،أن يكون لّ ،وأن يكون موافقًا لمحبة الّ ورسوله ،وهو الواجب والمستحب ،كما
حدًا} [الكهف.]110 : عمَلً صَالِحًا وَلَ ُيشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ أَ َ
قالَ { :فمَنْ كَانَ يَ ْرجُوا ِلقَاءَ رَبّهِ فَلْ َي ْعمَلْ َ
فلبد من العمل الصالح ،وهو الواجب ،والمستحب ،ولبد أن يكون خالصًا لوجه الّ تعالى ،كما قال تعالى{ :بَلَى مَنْ
أَسَْلمَ وَ ْجهَهُ لِّ وَ ُه َو مُحْسِ ٌن فَلَهُ َأجْرُهُ ِع ْندَ َربّهِ َولَ خَوْفٌ عََل ْيهِمْ َولَ هُ ْم يَ ْح َزنُونَ} [البقرة ،]112 :وقال /النبي صلى ال عليه
وسلم( :من عمل عملً ليس عليه أمرنا فهو رد) ،وقال النبي صلى ال عليه وسلم( :إنما العمال بالنيات وإنما لكل
امرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته إلى الّ ورسوله ،فهجرته إلى الّ ورسوله ،ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو
امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
وهذا الصل هو أصل الدين ،وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين ،وبه أرسل الّ الرسل ،وأنزل الكتب ،وإليه دعا
الرسول ،وعليه جاهد ،وبه أمر ،وفيه رغب ،وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه.
والشرك غالب على النفوس ،وهو كما جاء في الحديث( :وهو في هذه المة أخفى من دبيب النمل) ،وفي حديث آخر:
قال أبو بكر :يا رسول الّ ،كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل ؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم لبي بكر( :
أل أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله ؟ قل :اللّهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ،وأستغفرك لما ل أعلم)
.وكان عمر يقول في دعائه :اللّهم اجعل عملي كله صالحًا ،واجعله لوجهك خالصًا ،ول تجعل لحد فيه شيئًا.
وكثيرًا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق /محبتها لّ وعبوديتها له ،وإخلص دينها
له ،كما قال شداد بن أوس :يا بقايا العرب ،إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء ،والشهوة الخفية .قيل لبي داود
السجستاني :وما الشهوة الخفية؟قال :حب الرئاسة ،وعن كعب بن مالك عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ما
ذئبان جائعان أرسل في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال ،والشرف لدينه) قال الترمذي :حديث
حسن صحيح.
فبين صلى ال عليه وسلم أن الحرص على المال ،والشرف في فساد الدين ،ل ينقص عن فساد الذئبين الجائعين
لزريبة الغنم ،وذلك بين ،فإن الدين السليم ل يكون فيه هذا الحرص ،وذلك أن القلب إذا ذاق حلوة عبوديته لّ،
ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه ،وبذلك يصرف عن أهل الخلص لّ السوء والفحشاء،
كما قال تعالىَ { :كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َعنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِعبَادِنَا ا ْلمُخْلَصِينَ} [يوسف.]42 :
فإن المخلص لّ ذاق من حلوة عبوديته لّ ما يمنعه عن عبوديته لغيره ،ومن حلوة محبته لّ ما يمنعه عن محبة
غيره؛ إذ ليس عند القلب ل أحلى ،ول ألذ ،ول أطيب ،ول ألين ،ول أنعم من حلوة اليمان المتضمن عبوديته لّ،
ومحبته له ،وإخلصه الدين له ،وذلك يقتضى انجذاب القلب إلى الّ فيصير القلب منيبًا إلى الّ خائفًا منه راغبًا
حمَانَ بِا ْلغَ ْيبِ وَجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ} [ق ،]33 :إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه شيَ الرّ ْ راهبًا ،كما قال تعالى{ :مَنْ خَ ِ
وحصول /مرغوبه ،فل يكون عبد الّ ومحبه إل بين خوف ورجاء ،قال تعالى{ :أُوَْل ِئكَ اّلذِينَ َيدْعُونَ َي ْبتَغُونَ إِلَى َرّبهِمْ
ك كَا َن مَ ْحذُورًا} [السراء.]57 : عذَابَ َرّب َ
عذَابَهُ إِنّ َ
ح َمتَهُ َويَخَافُونَ َ
الْ َوسِيلَةَ َأيّهُمْ َأقْرَبُ َويَ ْرجُونَ َر ْ
وإذا كان العبد مخلصًا له اجتباه ربه فيحيى قلبه ،واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء،
ويخاف من حصول ضد ذلك ،بخلف القلب الذي لم يخلص لّ ،فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق ،فيهوى ما يسنح
له ويتشبث بما يهواه ،كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله .فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة ،فيبقى أسيرًا
عبدًا لمن لو اتخذه هو عبدًا له ،لكان ذلك عيبًا ونقصًا وذمًا .وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة ،فترضيه الكلمة وتغضبه
الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل ،ويعادي من يذمه ولو بالحق ،وتارة يستعبده الدرهم والدينار ،وأمثال ذلك
من المور التي تستعبد القلوب ،والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من الّ.
ومن لم يكن خالصًا لّ عبدًا له قد صار قلبه معبدًا لربه وحده ل شريك له ،بحيث يكون الّ أحب إليه من كل ما سواه،
ويكون ذليلً له خاضعًا وإل استعبدته الكائنات ،واستولت على قلبه الشياطين ،وكان من الغاوين إخوان الشياطين،
وصار فيه من السوء والفحشاء ما ل يعلمه إل الّ ،وهذا أمر ضروري ل حيلة فيه ،فالقلب إن لم يكن حنيفًا مقبلً
ل َت ْبدِيلَ
عَليْهَا َ
طرَ النّاسَ َ
حنِيفًا فِطْرَةَ الِّ اّلتِي فَ َ ل معرضًا عما /سواه وإل كان مشركًا ،قال تعالى{ :فََأقِمْ وَ ْ
ج َهكَ لِلدّينِ َ على ا ّ
ب ِبمَا َل َديْهِ ْم فَ ِرحُونَ} [الروم30 :ـ .]32 س لَ َيعَْلمُونَ} إلى قوله{ :كُلّ حِ ْز ٍ
لّ ذَِلكَ الدّينُ ا ْل َقيّمُ وََلكِنّ َأ ْكثَرَ النّا ِ
لِخَ ْلقِ ا ِ
وقد جعل الّ ـ سبحانه ـ إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلء الحنفاء المخلصين أهل محبة الّ وعبادته وإخلص الدين
سحَاقَ له ،كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم .قال تعالى في إبراهيمَ { :ووَهَبْنَا َلهُ إِ ْ
ل ِة وَإِيتَاءَ ت وَِإقَامَةِ الصّ َ جعَلْنَاهُمْ أَ ِئمّةً َيهْدُونَ بَِأمْرِنَا وََأوْحَيْنَا إِلَ ْي ِهمْ ِف ْعلَ الْخَيْرَا ِ
جعَلْنَا صَاِلحِينَ .وَ َ
وَ َيعْقُوبَ نَافَِل ًة َوكُلّ َ
زكَا ِة َوكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [النبياء ،]73 ،72 :وقال في فرعون وقومهَ { :و َ
جعَ ْلنَاهُمْ َأ ِئمّ ًة يَدْعُونَ إِلَى النّارِ َويَوْمَ ا ْل ِقيَامَةِ ال ّ
صرُونَ .وََأ ْت َبعْنَا ُه ْم فِي َهذِ ِه ال ّدنْيَا َل ْعنَةً َويَوْمَ الْ ِقيَامَةِ هُ ْم مِنْ ا ْل َم ْقبُوحِينَ} [القصص.]42 ،41 : لَ يُن َ
/وأما إبراهيم ،وآل إبراهيم الحنفاء ،والنبياء فهم يعلمون أنه لبد من الفرق بين الخالق والمخلوق ،ولبد من الفرق
بين الطاعة والمعصية .وأن العبد كلما ازداد تحقيقًا ازدادت محبته لّ وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة
غيره ومحبة غيره وطاعة غيره .وهؤلء المشركون الضالون يسوون بين الّ وبين خلقه .والخليل يقول{ :قَالَ َأفَرََأ ْيتُمْ
مَا ُك ْنتُمْ َت ْعُبدُونَ َ .أ ْنتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ ا َلْ ْقدَمُو َن .فَِإّنهُمْ َعدُوّ لِي ِإلّ رَبّ ا ْلعَاَلمِينَ} [الشعراء ،]75-77 :ويتمسكون بالمتشابه من
كلم المشائخ كما فعلت النصارى.
مثال ذلك اسم الفناء ،فإن الفناء ثلثة أنواع :نوع للكاملين من النبياء والولياء ،ونوع للقاصدين من الولياء
والصالحين ،ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين.
فأما الول :فهو الفناء عن إرادة ما سوى الّ ،بحيث ل يحب إل الّ ،ول يعبد إل إياه ،ول يتوكل إل عليه ،ول يطلب
غيره ،وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبى يزيد حيث قال :أريد أل أريد إل ما يريد .أي المراد
ل ورضيه المحبوب المرضي ،وهو المراد بالرادة الدينية وكمال العبد أل يريد ول يحب ول يرضى إل ما أراده ا ّ
وأحبه ،وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب ،ول يحب إل ما يحبه الّ كالملئكة والنبياء والصالحين .وهذا معنى
لّ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء ]89 :قالوا :هو السليم مما سوى الّ ،أو مما سوى عبادة الّ ،أو قولهم في قولهِ{ :إ ّ
ل مَنْ َأتَى ا َ
مما سوى /إرادة الّ ،أو مما سوى محبة الّ ،فالمعنى واحد وهذا المعني إن سمى فناء أو لم يسم ،هو أول السلم
وآخره .وباطن الدين وظاهره.
وأما النوع الثاني :فهو الفناء عن شهود السوى ،وهذا يحصل لكثير من السالكين ،فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر
الّ وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد ،ل يخطر بقلوبهم غير الّ ،بل
طنَا عَلَى قَ ْل ِبهَا} [القصص]10 :
ن كَادَتْ َلتُ ْبدِي بِهِ لَ ْولَ أَنْ َربَ ْ
ح فُؤَادُ أُ ّم مُوسَى فَارِغًا إِ ْ وليشعرون ،كما قيل في قوله{ :وَأَ ْ
صبَ َ
،قالوا :فارغًا من كل شيء إل من ذكر موسى ،وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من المور إما حب وإما خوف.
وإما رجاء يبقى قلبه منصرفًا عن كل شيء إل عما قد أحبه ،أو خافه أو طلبه ،بحيث يكون عند استغراقه في ذلك ل
يشعر بغيره.
فإذا قوى على صاحب الفناء هذا ،فإنه يغيب بموجوده عن وجوده ،وبمشهوده عن شهوده ،وبمذكوره عن ذكره،
وبمعروفه عن معرفته ،حتى يفنى من لم يكن ،وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه ،ويبقى من لم يزل وهو الرب
تعالى ،والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره ،وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها .وإذا قوى هذا ضعف المحب حتى
ل ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه ،فقال :أنا
اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه ،كما يذكر :أن رج ً
وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال :غبت بك عني ،فظننت أنك أني .
/وهذا الموضع زل فيه أقوام ،وظنوا أنه اتحاد ،وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى ل يكون بينهما فرق في نفس
وجودهما ،وهذا غلط ،فإن الخالق ل يتحد به شيء أصل ،بل ل يتحد شيء بشيء إل إذا استحال وفسدا وحصل من
اتحادهما أمر ثالث ل هو هذا ول هذا ،كما إذا اتحد الماء واللبن ،والماء والخمر ،ونحو ذلك ،ولكن يتحد المراد
والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الرادة والكراهة ،فيحب هذا ما يحب هذا .ويبغض هذا ما يبغض هذا،
ويرضى ما يرضى ،ويسخط ما يسخط ،ويكره ما يكره ،ويوالي من يوالي ،ويعادي من يعادي ،وهذا الفناء كله فيه
نقص.
وأكابر الولياء ،كأبي بكر وعمر ،والسابقين الولين من المهاجرين والنصار ،لم يقعوا في هذا الفناء ،فضل
عمن هو فوقهم من النبياء ،وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة .وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة
العقل والتمييز ،لما يرد على القلب من أحوال اليمان ،فإن الصحابة ـ رضي الّ عنهم ـ كانوا أكمل وأقوى وأثبت في
الحوال اليمانية من أن تغيب عقولهم .أو يحصل لهم غشى ،أو صعق ،أو سكر ،أو فناء ،أو وَلَهٌ ،أو جنون .وإنما
كان مبادئ هذه المور في التابعين من عباد البصرة ،فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن .ومنهم من
يموت :كأبي جهير الضرير .وزرارة بن أوفى قاضي البصرة.
وكذلك صار في شيوخ الصوفية ،من يعرض له من الفناء والسكر ،ما /يضعف معه تمييزه ،حتى يقول في تلك
الحال من القوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه ،كما يحكى نحو ذلك ،عن مثل أبى يزيد ،وأبي الحسين النوري،
وأبى بكر الشبلي وأمثالهم.
بخلف أبي سليمان الداراني ،ومعروف الكرخي ،والفضيل بن عياض ،بل وبخلف الجنيد وأمثالهم ،ممن كانت
عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فل يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه ،بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيـها
سوى محبة الّ وإرادته وعبادته ،وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون المور على ما هي عليه ،بل يشهدون
المخلوقات قائمة بأمر الّ مدبرة بمشيئته ،بل مستجيبة له قانتة له ،فيكون لهم فيها تبصرة وذكـرى ،ويكون ما
يشهـدونه من ذلك مؤيـدًا ،وممـدًا لما في قلوبهم من إخلص الدين ،وتجريد التوحيد له ،والعبادة له وحده ل شريك له.
وهذه الحقيقة ،التي دعا إليها القرآن ،وقام بها أهل تحقيق اليمان ،والكمل من أهل العرفان .ونبينا صلى ال عليه
وسلم إمام هؤلء وأكملهم؛ ولهذا لما عرج به إلى السموات ،وعاين ما هنالك من اليات وأوحى إليه ما أوحى من
أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله ،ولظهر عليه ذلك ،بخلف ما كان يظهر على موسى من التغشي ـ
صلى الّ عليهم وسلم أجمعين.
/وأما النوع الثالث :مماقد يسمى فناء ـ فهو أن يشهد أن ل موجود إل الّ ،وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق ،فل
فرق بين الرب والعبد ،فهذا فناء أهل الضلل واللحاد الواقعين في الحلول والتحاد.
والمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم :ما أرى غير الّ ،أول أنظر إلى غير الّ ،ونحو ذلك ،فمرادهم بذلك ما أرى ربا
غيره ،ول خالقًا غيره ،ول مدبرًا غيره ،ول إلها غيره ،ول أنظر إلى غيره محبة له ،أو خوفًا منه ،أو رجاء له ،فإن
العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب ،فمن أحب شيئًا ،أو رجاه أو خافه التفت إليه ،وإذا لم يكن في القلب محبة له ،ول
رجاء له ،ول خوف منه ،ول بغض له ،ول غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه ،ول أن ينظر
إليه ول أن يراه وإن رآه اتفاقًا ،رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطًا ،ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به.
والمشائخ الصالحون ـ رضي الّ عنهم ـ يذكرون شيئًا من تجريد التوحيد ،وتحقيق إخلص الدين كله ،بحيث ل يكون
العبد ملتفتًا إلى غير الّ ول ناظرًا إلى ما سواه :لحبًا له ،ول خوفًا منه ،ول رجاء له بل يكون القلب فارغًا من
المخلوقات خاليًا منها ل ينظر إليها إل بنور الّ ،فبالحق يسمع ،وبالحق يبصر ،وبالحق يبطش ،وبالحق يمشي ،فيحب
منها ما يحبه الّ ،ويبغض منها ما يبغضه الّ ،ويوالي منها ما واله الّ ،ويعادي منها ما عاداه /الّ ،ويخاف الّ
فيها ،ول يخافها في الّ ،ويرجو الّ فيها ،ول يرجوها في الّ ،فهذا هو القلب السليم ،الحنيف ،الموحد ،المسلم،
المؤمن ،العارف ،المحقق ،الموحد بمعرفة النبياء والمرسلين ،وبحقيقتهم وتوحيدهم.
وأما النوع الثالث :وهو الفناء في الموجود ،فهو تحقيق آل فرعون ،ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم.
وهذا النوع الذي عليه أتباع النبياء هو الفناء المحمود ،الذي يكون صاحبه به ممن أثنى الّ عليهم من أوليائه المتقين،
وحزبه المفلحين ،وجنده الغالبين.
وليس مراد المشائخ ،والصالحين ،بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات ،هو رب الرض والسموات ،فإن
هذا ل يقوله إل من هو في غاية الضلل والفساد ،إما فساد العقل ،وإما فساد العتقاد .فهو متردد بين الجنون
واللحاد.
وكل المشائخ الذين يقتدي بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف المة وأئمتها ،من أن الخالق ـ سبحانه ـ مباين
للمخلوقات ،وليس في مخلوقاته شىء من ذاته ،ول في ذاته شىء من مخلوقاته ،وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث،
وتمييز الخالق عن المخلوق .وهذا في كلمهم /أكثر من أن يمكن ذكره هنا .وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب
من المراض والشبهات ،وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات ،فيظنه خالق الرض والسموات ،لعدم التمييز
والفرقان في قلبه ،بمنزلة من رأى شعاع الشمس ،فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء.
وهم قد يتكلمون في الفرق ،والجمع ،ويدخل في ذلك من العبارات الملفتة نظير ما دخل في الفناء ،فإن العبد إذا شهد
التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقًا بها ،متشتتًا ناظرًا إليها متعلقًا بها ،إما محبة ،وإما خوفًا ،وإما رجاء،
فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الّ وعبادته وحده ل شريك له ،فالتفت قلبه إلى الّ بعد التفاته إلى
المخلوقين فصارت محبته لربه ،وخوفه من ربه ،ورجاؤه لربه ،واستعانته بربه ،وهو في هذا الحال قد ل يسع قلبه
النظر إلى المخلوق؛ ليفرق بين الخالق والمخلوق .فقد يكون مجتمعًا على الحق معرضًا عن الخلق نظرًا وقصدًا وهو
نظير النوع الثاني من الفناء.
ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو :أن يشهد أن المخلوقات قائمة بالّ ،مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية الّ
ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه ـ سبحانه ـ رب المصنوعات ،وإلهها وخالقها ،ومالكها ،فيكون مع اجتماع قلبه على الّ ـ
ل وموالة فيه ،ومعاداة فيه وأمثال ذلك ـ ناظرًا إلى الفرق
إخلصًا له ومحبة وخوفًا ورجاء واستعانة وتوكل على ا ّ
بين الخالق والمخلوق مميزًا /بين هذا وهذا ،يشهد تفرق المخلوقات ،وكثرتها مع شهادته أن الّ رب كل شيء،
ومليكه ،وخالقه ،وأنه هو الّ ل إله إل هو ،وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم ،وذلك واجب ،في علم القلب،
وشهادته ،وذكره ،ومعرفته ،في حال القلب ،وعبادته ،وقصده ،وإرادته ،ومحبته ،وموالته ،وطاعته.
وذلك تحقيق شهادة أن ل إله إل الّ ،فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق ،ويثبت في قلبه ألوهية الحق ،فيكون
نافيًا للوهية كل شيء من المخلوقات ،مثبتًا للوهية رب العالمين رب الرض والسموات ،وذلك يتضمن اجتماع
القلب على الّ ،وعلى مفارقة ما سواه ،فيكون مفرقًا في علمه وقصده في شهادته ،وإرادته في معرفته ومحبته بين
الخالق والمخلوق ،بحيث يكون عالمًا بالّ ـ تعالى ـ ذاكرًا له عارفًا به ،وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه ،وانفراده
عنهم ،وتوحده دونهم ،ويكون محبًا لّ ،معظمًا له ،عابدًا له ،راجيًا له خائفًا منه ،مواليًا فيه ،معاديًا فيه ،مستعينًا به،
متوكلً عليه ،ممتنعًا عن عبادة غيره ،والتوكل عليه ،والستعانة به ،والخوف منه ،والرجاء له ،والموالة فيه،
والمعاداة فيه ،والطاعة لمره ،وأمثال ذلك ،مما هو من خصائص إلهية الّ ـ سبحانه وتعالى.
وإقراره بألوهية الّ ـ تعالى ـ دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته ،وهو أنه رب كل شيء ومليكه ،وخالقه ،ومدبره،
فحينئذ يكون موحدًا لّ.
ويبين ذلك أن أفضل الذكر :ل إله إل الّ ،كما رواه الترمذي وابن أبي /الدنيا ،وغيرهما مرفوعًا إلى النبي صلى ال
عليه وسلم أنه قال( :أفضل الذكر :ل إله إل الّ ،وأفضل الدعاء :الحمد لّ) ،وفي الموطأ ـ وغيره ـ عن طلحة بن عبد
ل وحده ل شريك له،الّ بن كثير أن النبي صلى ال عليه وسلم قال( :أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي :ل إله إل ا ّ
له الملك وله الحمد ،وهو على كل شيء قدير).
ومن زعم أن هذا ذكر العامة ،وأن ذكر الخاصة هو السم المفرد ،وذكر خاصة الخاصة ،هو السم المضمر ،فهم
ضهِ ْم يَ ْل َعبُونَ} [النعام ،]91 :من أبين ضالون غالطون .واحتجاج بعضهم على ذلك ،بقوله{ :قُلْ ا ُ
لّ ثُ ّم ذَرْهُ ْم فِي خَ ْو ِ
غلط هؤلء ،فإن السم هومذكور في المر بجواب الستفهام .وهو قوله{ :قُ ْ
ل مَنْ أَنزَلَ ا ْل ِكتَابَ اّلذِي جَا َء بِهِ مُوسَى نُورًا
س ُت ْبدُو َنهَا َوتُ ْخفُو َن َكثِيرًا وَعُّل ْمتُ ْم مَا َل ْم تَعَْلمُوا َأ ْنتُمْ َو َل آبَا ُؤكُ ْم قُلْ الُّ} [النعام ]91 :أي :الّ الذي
جعَلُونَ ُه قَرَاطِي َ
س تَ ْ
وَ ُهدًى لِلنّا ِ
أنزل الكتاب الذي جاء به موسى،فالسم مبتدأ ،وخبره قد دل عليه الستفهام ،كما في نظائر ذلك تقول :من جاره،
فيقول زيد.
وأما السم المفرد ،مظهرًا ،أو مضمرًا ،فليس بكلم تام ،ول جملة مفيدة ،ول يتعلق به إيمان ،ول كفر ،ول أمر ،ول
نهي ،ولم يذكر ذلك أحد من سلف المة ،ول شرع ذلك رسول الّ صلى ال عليه وسلم ،ول يعطي القلب بنفسه
معرفة مفيدة ،ول حالً نافعًا ،وإنما يعطيه تصورًا مطلقًا ،ل يحكم عليه بنفي ول إثبات ،فإن لم يقترن به من معـرفة
القلب وحاله ما يفيد بنفسه /وإل لم يكن فيه فائدة .والشريعة إنما تشرع من الذكار ما يفيد بنفسه ،ل ما تكون الفائدة
حاصلة بغيره.
وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من اللحاد ،وأنواع من التحاد ،كما قد بسط في غير هذا
الموضع.
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال :أخاف أن أموت بين النفي والثبات .حال ل يقتدى فيها بصاحبها ،فإن في
ذلك من الغلط ما ل خفاء به .إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إل على ما قصده ونواه ،إذ العمال بالنيات ،وقد
ثبت أن النبي صلى ال عليه وسلم أمر بتلقين الميت ل إله إل الّ ،وقال( :من كان آخر كلمه ل إله إل الّ دخل
الجنة) ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتًا غير محمود ،بل كان يلقن ما
اختاره من ذكر السم المفرد.
والذكر بالسم المضمر المفرد أبعد عن السنة،وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلل الشيطان،فإن من قال :يا هو يا
هو ،أو :هو هو .ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إل إِلى ما يصوره قلبه ،والقلب قد يهتدي وقد يضل،وقد صنف
صاحب [الفصوص] كتابًا سماه كتاب [الهو] وزعم بعضهم أن قولهَ { :ومَا يَعَْل ُم تَأْوِيلَهُ ِإلّ الُّ} [آل عمران ،]7 :معناه:
وما يعلم تأويل هذا السم الذي هو [الهو] ،وقيل :هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل /العقلء على أنه من أبين
الباطل،فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلء ،حتى قلت مرة لبعض من قال شيئًا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت[ :
وما يعلم تأويل هو] منفصلة.
لّ ثُ ّم ذَرْهُمْ} ويظن أن الّ أمر نبيه بأن ثم كثيرًا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل[ :الّ] بقوله{ :قُلْ ا ُ
يقول :السم المفرد ،وهذا غلط باتفاق أهل العلم ،فإن قولهٍ { :قلٌ بلّهٍ} معناه :الّ الذي أنزل الكتاب الذي جاء به
ن َكثِيرًا
خفُو َ س ُتبْدُو َنهَا َوتُ ْ
جعَلُونَهُ قَرَاطِي َ
س تَ ْ موسى ،وهو جواب لقوله{ :قُ ْ
ل مَنْ أَنزَلَ ا ْل ِكتَابَ اّلذِي جَا َء بِهِ مُوسَى نُورًا وَ ُهدًى لِلنّا ِ
وَعُّل ْمتُ ْم مَا َل ْم َتعْلَمُوا َأ ْنتُمْ َو َل آبَا ُؤكُ ْم قُلْ الُّ} [النعام ،]91 :أي :الّ الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ،رد بذلك قول
من قال :ما أنزل الّ على بشر من شيء ،فقال{ :مَنْ أَن َزلَ ا ْل ِكتَابَ اّلذِي جَا َء بِ ِه مُوسَى} ثم قالُ { :قلْ الُّ} أنزله { ُثمّ
ض ِه ْم يَ ْلعَبُونَ}.
همْ}هؤلء المكذبين {فِي خَوْ ِ
ذَرْ ُ
ومما يبين ما تقدم :ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلمًا ،ل يحكون به ما
كان قولً ،فالقول ل يحكى به إل كلم تام ،أو جملة اسمية أو فعلىة؛ ولهذا يكسرون أن إذا جاءت بعد القول ،فالقول
ل يحكى به اسم ،والّ ـ تعالى ـ ل يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد ،ول شرع للمسلمين اسمًا مفردًا مجردًا ،والسم المجرد
ل يفيد اليمان /باتفاق أهل السلم ،ول يؤمر به في شيء من العبادات ،ول في شيء من المخاطبات.
ونظير من اقتصر على السم المفرد ما يذكر أن بعض العراب مر بمؤذن يقول[ :أشهد أن محمدًا رسول الّ]
بالنصب فقال :ماذا يقول هذا؟ هذا السم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلم؟
وما في القرآن من قوله{ :وَا ْذكُرْ اسْمَ َرّبكَ َو َت َبتّلْ إَِليْ ِه َتبْتِيلً} [المزمل ،]8 :وقولهَ { :سبّحْ اسْمَ َرّبكَ الَْعْلَى} [العلى،]1 :
وقولهَ { :قدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّىَ .و َذكَرَ ا ْسمَ َربّ ِه فَصَلّى} [العلى ،]15 ،14 :وقوله{ :فَ َسبّحْ بِاسْمِ َرّبكَ ا ْلعَظِيمِ} [الواقعة،]96 :
ونحو ذلك ل يقتضي ذكره مفردًا ،بل في السنن أنه لما نزل قوله{ :فَ َسبّ ْح بِا ْسمِ َرّبكَ ا ْلعَظِيمِ} [الواقعة ،]96 :قال( :
اجعلوها في ركوعكم) ولما نزل قولهَ { :سبّحْ اسْمَ َرّبكَ الَْعْلَى} قال( :اجعلوها في سجودكم) .فشرع لهم أن يقولوا في
الركوع :سبحان ربي العظيم ،وفي السجود سبحان ربي العلى ،وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه( :سبحان
ربي العظيم) وفي سجوده( :سبحان ربي العلى) وهذا هو معنى قوله( :اجعلوها في ركوعكم) و(سجودكم) باتفاق
المسلمين.
فتسبيح اسم ربه العلى وذكر اسم ربه ،ونحو ذلك هو بالكلم التام المفيد ،كما في الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم
أنه قال( :أفضل الكلم بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ :سبحان /الّ ،والحمد لّ ،ول إله إل الّ ،والّ أكبر) ،وفي
الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال( :كلمتان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان ،حبيبتان إلى الرحمن:
سبحان الّ وبحمده ،سبحان الّ العظيم) ،وفي الصحيحين عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال( :من قال في يومه مائة
مرة :ل إله إل الّ وحده ل شريك له ،له الملك ،وله الحمد ،وهو على كل شيء قدير ،كتب الّ له حرزًا من الشيطان
يومه ذلك حتى يمسى ،ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به ،إل رجل قـال مثل ما قال أو زاد عليه .ومـن قال في يومـه
مائة مـرة :سبحان الّ وبحمده سبحان الّ العظيم ،حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) ،وفي الموطأ وغيره
ل وحده ل شريك له له الملك عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي ل إله إل ا ّ
وله الحمد وهو على كل شيء قدير) .وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال( :أفضل الذكر ل
إله إل الّ ،وأفضل الدعاء الحمد لّ).
ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي بسم الّ ،أو ابتدأت بسم الّ .والول أحسن؛ لن الفعل كله مفعول بسم الّ،
ليس مجرد ابتدائه ،كما أظهر المضـمر في قــوله{ :اقْرَ ْأ بِاسْمِ َرّبكَ اّلذِي خَلَقَ} [العلق ،]1 :وفي قوله{ :بِِاسْمِ الِّ
مَجْرَاهَا َومُرْسَاهَا} [هود ،]41 :وفي قول النبي صلى ال عليه وسلم( :من كان ذبح قبل الصلة فليذبح مكانها
أخرى .ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم الّ) .ومن هذا الباب قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لربيبه
عمر بن أبي سلمة( :بسم الّ ،وكل بيمينك ،وكل مما يليك) فالمراد أن يقول بسم الّ .ليس المراد أن يذكر السم
مجردًا .وكذلك قوله في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم( :إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الّ فكل) ،وكذلك قوله
صلى ال عليه وسلم( :إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم الّ عند دخوله ،وعند خروجه .وعند طعامه ،قال الشيطان ل
مبيت لكم ول عشاء) وأمثال ذلك كثير.
وكذلك ما شرع للمسلمين في صلتهم وأذانهم ،وحجهم وأعيادهم من ذكر الّ تعالى إنما هو بالجملة التامة .كقول
المؤذن :الّ أكبر ،الّ /أكبر ،أشهد أن ل إله إل الّ ،أشهد أن محمدًا رسول الّ ،وقول المصلي :ال أكبر ،سبحان
ربي العظيم ،سبحان ربي العلى ،سمع الّ لمن حمده ،ربنا ولك الحمد ،التحيات لّ ،وقول الملبي :لبيك اللّهم لبيك،
وأمثال ذلك ،فجميع ما شرعه الّ من الذكر إنما هو كلم تام ،ل اسم مفرد ل مظهر ول مضمر ،وهذا هو الذي يسمى
في اللغة كلمة ،كقوله( :كلمتان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان ،حبيبتان إلى الرحمن ،سبحان الّ وبحمده
سبحان الّ العظيم) ،وقوله( :أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :أل كل شيء ماخل الّ باطل) ،ومنه قوله تعالى{ :
صدْقًا وَ َعدْلً} [النعام ،]115 :وأمثال ذلك ج مِنْ َأفْوَا ِه ِهمْ} الية [الكهف ،]5 :وقولهَ { :و َتمّ ْ
ت كَِلمَةُ َرّبكَ ِ ت كَِلمَ ًة تَخْرُ ُ
َكبُرَ ْ
مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة،بل وسائر كلم العرب فإنما يراد به الجملة التامة ،كما كانوا يستعملون
الحرف في السم ،فيقولون :هذا حرف غريب .أي :لفظ السم غريب.
وقسم سيبويه الكلم إلى اسم ،وفعل ،وحرف جاء لمعنى ،ليس باسم وفعل ،وكل من هذه القسام يسمى حرفًا ،لكن
خاصة الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ول فعل ،وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء ،ولفظ
الحرف يتناول هذه السماء وغيرها ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف/
عشر حسنات :أما أني ل أقول{ :الــم} حرف ،ولكن ألف حرف،ولم حرف ،وميم حرف) ،وقد سأل الخليل أصحابه
عن النطق بحرف الزاي من زيد فقالوا :زاي ،فقال :جئتم بالسم ،وإنما الحرف [ز].
ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة ،وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى،
ليس باسم ول فعل ،كحروف الجر ونحوها ،وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من
اللفظ ،وتارة باسم ذلك الحرف ،ولما غلب هذا الصطلح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب ،ومنهم من
يجعل لفظ الكلمة في اللغة لفظًا مشتركًا بين السم مثل وبين الجملة ،ول يعرف في صريح اللغة من لفظ الكلمة إل
الجملة التامة.
والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الّ ـ سبحانه ـ هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلم ،والواحد منه بالكلمة،
وهو الذي ينفع القلوب ،ويحصل به الثواب والجر ،والقرب إلى الّ ومعرفته ومحبته وخشيته ،وغير ذلك من
المطالب العالية والمقاصد السامية ،وأما القتصار على السم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فل أصل له .فضل عن أن
يكون من ذكر الخاصة والعارفين ،بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضللت وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة
من أحوال أهل اللحاد ،وأهل التحاد ،كما قد بسط الكلم عليه في غير هذا الموضع.
/وجماع الدين أصلن :أل نعبد إل الّ ،ول نعبده إل بما شرع ،ل نعبده بالبدع ،كما قال تعالىَ { :فمَنْ كَانَ يَرْجُوا ِلقَاءَ
عمَلً صَالِحًا َولَ يُشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدًا} [الكهف ،]110 :وذلك تحقيق الشهادتين :شهادة أن ل إله إل رَبّهِ فَلْ َي ْع َملْ َ
الّ ،وشهادة أن محمدًا رسول الّ .ففي الولى :أل نعبد إل إياه ،وفي الثانية :أن محمدًا هو رسوله المبلغ عنه ،فعلىنا
أن نصدق خبره ونطيع أمره ،وقد بين لنا ما نعبد الّ به ،ونهانا عن محدثات المور ،وأخبر أنها ضللة ،قال تعالى:
{بَلَى مَنْ َأسْلَمَ َو ْجهَهُ لِّ وَهُ َو مُحْسِ ٌن فَلَهُ أَجْرُهُ ِع ْندَ َربّهِ َولَ خَوْفٌ عََل ْيهِمْ َولَ ُه ْم يَحْ َزنُونَ} [البقرة.]112 :
كما أنا مأمورون أل نخاف إل الّ ول نتوكل إل على الّ ،ول نرغب إل إلى الّ ،ول نستعين إل بالّ ،وأل تكون
عبادتنا إل لّ ،فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به ،فالحلل ما حلله والحرام ما حرمه ،والدين
غبُونَ} ن فَضْلِهِ َورَسُولُهُ ِإنّا إِلَى الِّ رَا ِ
لّ مِ ْ
سيُ ْؤتِينَا ا ُ ما شرعه ،قال تعالى{ :وََلوْ َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ
س ُبنَا الُّ َ
[التوبة ،]59 :فجعل اليتاء لّ والرسول ،كما قالَ { :ومَا آتَا ُكمْ الرّسُو ُل فَ ُخذُوهُ َومَا نَهَا ُكمْ َعنْهُ فَانْ َتهُوا} [الحشر،]7 :
س ُبنَا الُّ} ولم يقل ورسوله ،كما قال في الية الخرى{ :اّلذِي َ
ن قَالَ َل ُهمْ ل وحده بقولهَ { :وقَالُوا حَ ْ وجعل التوكل على ا ّ
س َقدْ َج َمعُوا َل ُك ْم فَا ْخشَوْهُ ْم َفزَادَهُمْ إِيمَانًا َوقَالُوا َح ْسُبنَا الُّ َو ِنعْمَ الْ َوكِيلُ} [آل عمران ،]173 :ومثله قوله{ :يَاأَ ّيهَا النّاسُ إِنّ النّا َ
لّ ِبكَافٍ لّ َومَنْ اتّ َب َعكَ مِنْ ا ْل ُم ْؤمِنِينََ} [النفال ،]64 :أي / :حسبك وحسب المؤمنين كما قال{ :أََليْسَ ا ُ حسْ ُبكَ ا ُ
النّ ِبيّ َ
َعبْدَهُ} [الزمر.]36 :
لّ مِ ْن فَضْلِهِ َورَسُولُهُ} ،فجعل اليتاء لّ والرسول ،وقدم ذكر الفضل ،لن الفضل بيد الّ يؤتيه من ثم قالَ { :
سيُ ْؤتِينَا ا ُ
يشاء والّ ذو الفضل العظيم ،وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين ،وقالِ{ :إنّا إِلَى الِّ رَا ِغبُونَ} فجعل الرغبة إلى
ك فَارْغَبْ} [الشرح ،]8 ،7 :وقال النبي صلى ال عليه وسلم لبن الّ وحده كما في قوله{ :فَِإذَا فَرَغْ َ
ت فَانصَبْ َ .وإِلَى َرّب َ
عباس( :إذا سألت فاسأل الّ ،وإذا استعنت فاستعن بالّ) .والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع.
فجعل العبادة والخشية والتقوى لّ ،وجعل الطاعة والمحبة لّ ورسوله ،كما في قول نوح ـ عليه السلم ـ{ :أَنْ اعْبُدُوا
لّ وَيَ ّتقِيهِ فَُأوْلَ ِئكَ هُمْ ا ْلفَائِزُونَ} [النور:
خشَ ا َ لّ وَا ّتقُو ُه وَأَطِيعُونِي} [نوح ،]3 :وقولهَ { :ومَنْ يُطِعْ ا َ
لّ وَرَسُولَ ُه وَيَ ْ ا َ
،]52وأمثال ذلك.
فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه،والطاعة لهم ،فأضل الشيطان النصارى ،وأشباههم فأشركوا
بالّ ،وعصوا الرسول ،اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون ال والمسيح ابن مريم ،فجعلوا يرغبون إليهم
ل المؤمنين المخلصين لّ أهل الصراط ويتوكلون عليهم ويسألونهم ،مع معصيتهم لمرهم ومخالفتهم لسنتهم ،وهدى ا ّ
المستقيم ،الذين عرفوا الحق واتبعوه / ،فلم يكونوا من المغضوب عليهم ول الضالين ،فأخلصوا دينهم لّ ،وأسلموا
وجوههم لّ ،وأنابوا إلى ربهم ،وأحبوه ورجوه وخافوه،وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه،
وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم ،واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم.
وذلك هو دين السلم الذي بعث الّ به الولين والخرين من الرسل ،وهو الدين الذي ل يقبل الّ من أحد دينًا إل
إياه ،وهو حقيقة العبادة لرب العالمين.
فنسأل الّ العظيم أن يثبتنا عليه ،ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين.
والحمد لّ وحده ،وصلى الّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
سُئلَ شَيْخُ الِسْلم ابن تيمية ـ قدس الّ روحه ـ عن قول النبي صلى ال عليه وسلم( :دعوة أخي ذي النون{ :لَ إِلَهَ ِإلّ
َأنْتَ ُسبْحَا َنكَ ِإنّي كُنتُ مِنْ الظّاِلمِينَ}[النبياء .]87 :ما دعا بها مكروب إل فرج الّ كربته) ما معنى هذه الدعوة؟ ولم
كانت كاشفة للكرب؟ وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها؟ وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها .حتى يوجب
ت مِنْ الظّاِلمِينَ} ،مع أن التوحيد يوجب كشف الضر؟ وهل يكفيه اعترافه ،أمكشف ضره؟ وما مناسبة ذكرهِ{ :إنّي كُن ُ
لبد من التوبة والعزم في المستقبل؟ وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق
والتعلق بهم؟ وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين ،والتعلق بهم بالكلية ،وتعلقه بالّ ـ تعالى ـ ورجائه
وانصرافه إليه بالكلية ،وما السبب المعين على ذلك ؟
فأجاب:
الحمد لّ رب العالمين ،لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين :دعاء العبادة/ ،ودعاء المسألة.
ن مِنْ ا ْل ُمعَ ّذبِينَ} [الشعراء ،]213 :وقال تعالىَ { :ومَنْ َي ْدعُ مَعَ الِّ إَِلهًا آخَ َر لَ ع مَعَ الِّ إَِلهًا آخَ َر َف َتكُو َ ل َتدْ ُ قال الّ تعالى{ :فَ َ
ل تَ ْدعُ مَعَ الِّ إَِلهًا آخَ َر لَ إِلَهَ ِإلّ ل يُفْلِحُ ا ْلكَافِرُونَ} [المؤمنون ،]117 :وقال تعالىَ { :و َ ع ْندَ َربّهِ ِإنّ ُه َ
بُرْهَانَ لَ ُه بِ ِه فَِإّنمَا حِسَابُهُ ِ
ن مِنْ ن يَدْعُو َلّ َيدْعُو ُه كَادُوا َيكُونُونَ عََليْهِ ِل َبدًا} [الجن ،]19 :وقال{ :إِ ْ هُوَ} [القصص ،]88 :وقال{ :وََأنّهُ َلمّا قَامَ َ
عبْدُ ا ِ
ستَجِيبُونَ ل يَ ْ
ن مِنْ دُونِ ِه َ ن يَدْعُو َ شيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء ،]117 :وقال تعالى{ :لَ ُه دَعْوَةُ ا ْلحَقّ وَاّلذِي َ ن يَدْعُونَ ِإلّ َ دُونِهِ ِإلّ ِإنَاثًا وَإِ ْ
ن مَعَ الِّ إَِلهًا آخَرَ َولَ ن لَ َيدْعُو َ ط َك ّفيْهِ ِإلَى ا ْلمَاءِ ِل َيبْلُ َغ فَاهُ َومَا هُ َو ِببَاِلغِهِ} [الرعد ،]14 :وقال تعالى{ :وَاّلذِي َ
ل َكبَاسِ ِ
يءٍ ِإ ّ َلهُ ْم بِشَ ْ
ل دُعَا ُؤكُمْ} ل مَا َي ْعبَُأ ِبكُمْ َربّي لَ ْو َيَ ْقتُلُونَ النّ ْفسَ اّلتِي حَرّمَ الُّ ِإلّ بِالْحَقّ َولَ يَ ْزنُونَ} [الفرقان ،]68 :وقال في آخر السورة{ :قُ ْ
[الفرقان.]77 :
قيل :لول دعاؤكم إياه ،وقيل :لول دعاؤه إياكم .فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة ،وإلى المفعول تارة ،ولكن
إضافته إلى الفاعل أقوى؛ لنه لبد له من فاعل؛ فلهذا كان هذا أقوى القولين أي :ما يعبأ بكم لول أنكم تدعونه
ف َيكُونُ ِلزَامًا} [الفرقان ]77 :أي :عذاب لزم للمكذبين.
فتعبدونه ،وتسألونهَ { :ف َقدْ َكذّ ْبتُ ْم فَسَ ْو َ
ولفظ الصلة في اللغة :أصله الدعاء ،وسميت الصلة دعاء لتضمنها معنى الدعاء ،وهو العبادة والمسألة.
/وقد فسر قوله تعالى{ :ادْعُونِي أَ ْستَجِبْ َلكُمْ} [غافر ،]60 :بالوجهين،قيل :اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم .كما
قال تعالىَ { :ويَ ْستَجِيبُ اّلذِي َن آ َمنُوا وَ َعمِلُوا الصّالِحَاتِ} [الشورى ]26 :أي :يستجيب لهم ،وهو معروف في اللغة ،يقال:
استجابه واستجاب له ،كما قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل
الخر ،فيقول :من يدعوني فأستجيب له ،من يسألني فأعطيه ،من يستغفرني فأغفر له) فذكر أولً لفظ الدعاء ،ثم ذكر
السؤال والستغفار .والمستغفر سائل كما أن السائل داع ،لكن ذكر السائل؛ لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير،
وذكرهما جميعًا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما ،فهو من باب عطف الخاص على العام.
وكل سائل راغب راهب ،فهو عابد للمسؤول ،وكل عابد له /فهو أيضًا راغب وراهب ،يرجو رحمته ويخاف عذابه،
فكل عابد سائل ،وكل سائل عابد .فأحد السمين يتناول الخر عند تجرده عنه ،ولكن إذا جمع بينهما :فإنه يراد
بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب ،ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال المر،
وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال.
والعابد الذي يريد وجه الّ ،والنظر إليه هو ـ أيضًا ـ راج خائف راغب راهب :يرغب في حصول مراده ،ويرهب
غبًا َورَ َهبًا} [النبياء ،]90 :وقال تعالى{ :تَتَجَافَى
خيْرَاتِ َويَدْعُو َننَا رَ َ من فواته ،قال تعالىِ{ :إّنهُ ْم كَانُوا يُسَارِعُو َ
ن فِي ا ْل َ
ط َمعًا} [السجدة ،]16 :ول يتصور أن يخلو داع لّ ـ دعاء عبادة أو دعاء جنُو ُبهُمْ عَنْ ا ْلمَضَاجِ ِع َيدْعُونَ َربّهُمْ خَ ْوفًا وَ َ
ُ
مسألة ـ من الرغب والرهب ،من الخوف والطمع.
وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة ،فهذا قد يفسر مراده بأن المقربين يريدون
وجه الّ ،فيقصدون التلذذ بالنظر إليه ،وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به ،وهؤلء يرجون حصول هذا المطلوب،
ويخافون حرمانه ،فلم يخلوا عن الخوف والرجاء ،لكن مرجوهم ومخوفهم بحسب مطلوبهم.
ومن قال من هؤلء :لم أعبدك شوقًا إلى جنتك ول خوفًا من نارك /،فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات،
والنار اسم لما ل عذاب فيه إل ألم المخلوقات ،وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة ،بل كل ما أعده الّ
لوليائه ،فهو من الجنة والنظر إليه هو من الجنة؛ ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الّ الجنة ،ويستعيذ به من النار ،ولما
سأل بعض أصحابه عما يقول في صلته قال :إني أسأل الّ الجنة ،وأعوذ بالّ من النار ،أما إني ل أحسن دندنتك ول
دندنة معاذ ،فقال( :حولها ندندن).
وقد أنكر على من قال هذا الكلم ـ يعني :أسألك لذة النظر إلى وجهك ـ فريق من أهل الكلم ،ظنوا أن الّ ل يتلذذ
بالنظر إليه ،وأنه ل نعيم إل بمخلوق .فغلط هؤلء في معنى الجنة كما غلط أولئك ،لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن
يطلب ،وهؤلء أنكروا ذلك.
وأما التألم بالنار ،فهو أمر ضروري ،ومن قال :لو أدخلني النار لكنت راضيًا ،فهو عزم منه على الرضا .والعزائم قد
تنفسخ عند وجود الحقائق ،ومثل هذا يقع في كلم طائفة مثل سمنون الذي قال:
فابتلى بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول :ادعوا لعمكم الكذاب ،قال تعالى{ :وََل َقدْ ُك ْنتُ ْم تَ َمنّوْن ا ْلمَ ْوتَ
مِنْ َقبْلِ أَ ْن تَ ْلقَوْ ُه فَ َقدْ رََأ ْيُتمُوهُ وََأ ْنتُ ْم َتنْظُرُونَ} [آل عمران.]143 :
/وبعض من تكلم في علل المقامات ،جعل الحب والرضا والخوف والرجاء ،من مقامات العامة بناء على مشاهدة
القدر ،وأن من شهد القدر فشهد توحيد الفعال حتى فنى من لم يكن ،وبقى من لم يزل ،يخرج عن هذه المور ،وهذا
كلم مستدرك حقيقة وشرعًا.
أما الحقيقة ،فإن الحي ل يتصور أل يكون حساسًا محبًا لما يلئمه ،مبغضًا لما ينافره ،ومن قال إن الحي يستوى عنده
جميع المقدورات ،فهو أحد رجلين ،إما أنه ل يتصور ما يقول بل هو جاهل ،وإما أنه مكابر معاند ،ولو قدر أن
النسان حصل له حال أزال عقله ـ سواء سمي اصطلمًا ،أو محوا ،أو فناء ،أو غشيًا ،أو ضعفًا ـ فهذا لم يسقط
إحساس نفسه بالكلية ،بل له إحساس بما يلئمه وما ينافره ،وإن سقط إحساسه ببعض الشياء ،فإنه لم يسقط بجميعها.
فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع ،والفناء ،فل يشهد فرقًا فإنه غالط ،بل لبد من الفرق،
فإنه أمر ضروري.
لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقى في الفرق الطبيعي ،فيبقى متبعًا لهواه ل مطيعًا لموله.
/ولهذا لما وقعت هذه المسألة،بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق الثاني،وهو :أن يفرق بين المأمور والمحظور،
ل وما يكرهه ،مع شهوده للقدر الجامع ،فيشهد الفرق في القدر الجامع .ومن لم يفرق بين المأمور
وبين ما يحبه ا ّ
والمحظور ،خرج عن دين السلم.
وهؤلء الذين يتكلمون في الجمع ل يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية ،وإن خرجوا عنه كانوا كفارًا من شر
الكفار ،وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم ،ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود ،فل يفرقون بين
الخالق والمخلوق ،ولكن ليس كل هؤلء ينتهون إلى هذا اللحاد ،بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون الّ ورسوله
تارة ،ويعصون الّ ورسوله تارة ،كالعصاة من أهل القبلة .وهذه المور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن لفظ الدعوة والدعاء ،يتناول هذا وهذا ،قال الّ ـ تعالى ـ{ :وَآ ِخ ُر دَعْوَاهُمْ أَنْ ا ْل َحمْدُ لِّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [
يونس ،]10 :وفي الحديث( :أفضل الذكر ل إله إل الّ ،وأفضل الدعاء الحمد لّ) رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا.
وقال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره( :دعـوة أخي ذي النون{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُ
سبْحَا َنكَ
ت مِنْ الظّاِلمِينَ} [النبياء ،]87 :ما دعا بها مكروب إل فرج الّ كربته) ،سماها دعوة ،لنها تتضمن نوعي ِإنّي كُن ُ
الدعاء .فقوله ل إله إل أنت اعتراف بتوحيد اللهية/ .وتوحيد اللهية يتضمن أحد نوعي الدعاء ،فإن الله هو
المستحق؛ لن يدعي دعاء عبادة ،ودعاء مسألة ،وهو الّ ل إله إل هو.
ت مِنْ الظّاِلمِينَ} اعتراف بالذنب ،وهو يتضمن طلب المغفرة ،فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة وقولهِ{ :إنّي كُن ُ
الطلب ،وتارة يسأل بصيغة الخبر ،إما بوصف حاله ،وإما بوصف حال المسؤول ،وإما بوصف الحالين .كقول نوح ـ
عليه السلمَ { :ربّ ِإنّي أَعُو ُذ ِبكَ أَنْ أَسَْأَلكَ مَا َليْسَ لِي بِهِ عِ ْلمٌ وَِإ ّل َتغْفِرْ لِي َوتَرْ َح ْمنِي َأكُ ْن مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود ]47 :فهذا
ليس صيغة طلب ،وإنما هو إخبار عن الّ أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر.
ح ْمنَا َل َنكُونَنّ ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة ،وكذلك قول آدم ـ عليه السلمَ { :رّبنَا ظََل ْمنَا أَن ُف َ
سنَا وَإِنْ َل ْم َتغْفِرْ َلنَا َوتَرْ َ
ي مِنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [العراف ،]23 :هو من هذا الباب ،ومن ذلك قول موسى ـ عليه السلم{ :رَبّ ِإنّي ِلمَا أَنزَ ْلتَ إَِل ّ
َخيْ ٍر َفقِيرٌ} [القصص ،]24 :فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الّ إليه من الخير ،وهو متضمن لسؤال الّ
إنزال الخير إليه.
وقد روى الترمذي ،وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي،
أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) رواه الترمذي ،وقال :حديث حسن ،ورواه مالك بن الحويرث /وقال" :من شغله
ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" ،وأظن البيهقي رواه مرفوعًا بهذا اللفظ.
ل وحده ل شريك له ،له الملك وله الحمد وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله( :أفضل الدعاء يوم عرفة :ل إله إل ا ّ
وهو على كل شيء قدير) فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جُدْعَان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حباؤك أن شيمتك الحباء
ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى ـ عليه السلم ـ( :اللّهم لك الحمد ،وإليك المشتكى ،وأنت المستعان ،وبك
المستغاث ،وعليك التكلن) فهذا خبر يتضمن السؤال.
ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلمَ{ :أنّي مَ ّسنِي الضّرّ وََأنْتَ َأرْحَمُ الرّا ِحمِينَ} [النبياء ،]83 :فوصف نفسه،
ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره ،وهي صيغة خبر تضمنت السؤال .و هذا من باب حسن
الدب في السؤال والدعاء ،فقول القائل لمن يعظمه ،ويرغب إليه :أنا جائع ،أنا /مريض ،حسن أدب في السؤال .وإن
كان في قوله :أطعمني ،وداوني ،ونحو ذلك ،مما هو بصيغة الطلب ،طلب جازم من المسؤول ،فذاك فيه إظهار حاله
وإخباره على وجه الذل والفتقار المتضمن لسؤال الحال ،وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب.
وهذه الصيغة ـ صيغة الطلب والستدعاء ـ إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب ،أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه
ونحو ذلك ،فإنها تقال على وجه المر :إما لما في ذلك من حاجة الطالب ،وإما لما فيه من نفع المطلوب ،فأما إذا
كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه ،فإنها سؤال محض بتذلل ،وافتقار ،وإظهار الحال.
ووصف الحاجة والفتقار هو سؤال بالحال ،وهو أبلغ من جهة العلم والبيان.
وذلك أظهر من جهة القصد والرادة؛ فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني ،لن الطالب السائل يتصور مقصوده
ومراده ،فيطلبه ويسأله ،فهو سؤال بالمطابقة والقصد الول .وتصريح به باللفظ ،وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل
والمسؤول ،فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين ،فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضى للسؤال والجابة،
ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال ،فيتضمن السؤال والمقتضى له والجابة /كقول النبي صلى ال عليه
وسلم لبي بكر الصديق ـ رضي الّ تعالى عنه ـ لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلتي ،فقال( :قل :اللّهم إني
ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ،ول يغفر الذنوب إل أنت ،فاغفرلي مغفرة من عندك ،وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
أخرجاه في الصحيحين.
فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضى حاجته إلى المغفرة ،وفيه وصف ربه الذي يوجب ،أنه ل يقدر على هذا
المطلوب غيره ،وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه ،وفيه بيان المقتضى للجابة،وهو وصف الرب
بالمغفرة،والرحمة،فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب.
وكثير من الدعية يتضمن بعض ذلك ،كقول موسى ـ عليه السلم ـَ{ :أنْتَ وَِلّينَا فَاغْ ِفرْ َلنَا وَارْ َح ْمنَا وََأنْتَ َخيْرُ ا ْلغَا ِفرِينَ} [
ت نَفْسِي فَاغْ ِفرْ لِي} [القصص: العراف ،]155 :فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الجابة .وقولهَ { :ربّ ِإنّي َ
ظَلمْ ُ
ي مِنْ َخيْ ٍر َفقِيرٌ} [القصص ،]24 :فيه الوصف ،]16فيه وصف حال النفس والطلب ،وقولهِ{ :إنّي ِلمَا أَنزَ ْلتَ إِلَ ّ
المتضمن للسؤال بالحال ،فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة.
يبقى أن يقال :فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب؟
/فيقال :لن المقام مقام اعتراف ،بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي ،فأصل الشر هو الذنب ،والمقصود دفع الضر،
والستغفار جاء بالقصد الثاني ،فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لستشعاره أنه مسيء ظالم ،وهو الذي أدخل
الضر على نفسه ،فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من العتراف بظلمه ،ولم يذكر صيغة طلب المغفرة؛ لنه
مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني ،بخلف كشف الكرب ،فإنه مقصود له في حال وجــوده بالقصد الول ،إذ
النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها ،زوال ما تخاف وجوده من
الضرر في المستقبل بالقصد الثاني ،والمقصود الول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر ،فهذا مقدم في
قصده وإرادته ،وأبلغ ما ينال به رفع سببه ،فجاء بما يحصل مقصوده.
وهذا يتبين بالكلم على قوله{ :سُ ْبحَانَك} فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه ،والمقام يقتضى تنزيهه عن
الظلم والعقوبة بغير ذنب ،يقول :أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب؛ بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي،
قال تعالىَ { :ومَا ظََل ْمنَاهُمْ َوَلكِنْ كَانُوا أَنفُ َسهُ ْم يَظِْلمُونَ} [النحل،]118 :وقال تعالىَ { :ومَا ظََل ْمنَاهُمْ َوَلكِنْ ظََلمُوا أَنفُ َس ُهمْ}[
هود،]101 :وقالَ { :ومَا ظََل ْمنَاهُمْ َوَلكِنْ كَانُوا هُمْ الظّاِلمِينَ} [الزخرف ،]76 :وقال آدم ـ عليه السلم ـَ { :رّبنَا ظََل ْمنَا
أَنفُ َسنَا} [العراف.]23 :
/وكذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الستفتاح( :اللهم أنت الملك ل
إله إل أنت ،أنت ربي وأنا عبدك ،ظلمت نفسي واعترفت بذنبي ،فاغفرلي ذنوبي جميعًا ،فإنه ل يغفر الذنوب إل
أنت) ،وفي صحيح البخاري( :سيد الستغفار أن يقول العبد :اللهم أنت ربي ل إله إل أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على
عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ،أبوء لك بنعمتك علي ،وأبوء بذنبي فاغفرلي فإنه ل يغفر
الذنوب إل أنت ،من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ،ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من
ليلته دخل الجنة).
ل وإحسانه ،فإنه ل يظلم الناس شيئًا ،فل يعاقب أحدًا إل بذنبه ،وهو يحسن إليهم ،فكل
فالعبد عليه أن يعترف بعدل ا ّ
نقمة منه عدل ،وكل نعمة منه فضل.
فقوله{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} فيه إثبات انفراده باللهية ،واللهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ،ففيها إثبات
إحسانه إلى العباد ،فإن الله هو المألوه ،والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد ،وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به
من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب ،المخضوع له غاية الخضوع ،والعبادة تتضمن غاية
الحب بغاية الذل.
/وقوله{ :سُ ْبحَا َنكَ} يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم ،وغيره من النقائص ،فإن التسبيح ،وإن كان يقال :يتضمن
نفي النقائص ،وقد روى في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي صلى ال عليه وسلم في قول العبد:
سبحان الّ( :إنها براءة الّ من السوء .فالنفي ل يكون مدحًا إل إذا تضمن ثبوتا ،وإل فالنفي المحض ل مدح فيه،
ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله ،ولّ السماء الحسنى.
وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله ،كقوله تعالى{ :ا ُ
لّ لَ إِلَهَ ِإ ّ
ل
ل نَوْمٌ} [البقرة .]255 :فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته ،وقوله{ : سنَةٌ َو َ
خذُهُ ِ
ل تَأْ ُ
هُوَ ا ْلحَيّ ا ْل َقيّو ُم َ
َومَا مَ ّسنَا مِنْ ُلغُوبٍ} [ق ،]38 :يتضمن كمال قدرته ،ونحو ذلك .فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء ،ونفي النقص
عنه يتضمن تعظيمه .ففي قوله{ :سُبْحَا َنكَ} تبرئته من الظلم ،وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم ،فإن الظالم
إنما يظلم ؛ لحاجته إلى الظلم أو لجهله ،والّ غني عن كل شيء ،عليم بكل شيء ،وهو غني بنفسه ،وكل ما سواه فقير
إليه ،وهذا كمال العظمة.
وأيضًا ـ ففي هذا الدعاء التهليل ،والتسبيح ،فقوله{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} تهليل .وقوله{ :سُبْحَا َنكَ} تسبيح .وقد ثبت في
الصحيح عن /النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ( :أفضل الكلم بعد القرآن أربع ،وهن من القرآن ،سبحان الّ،
والحمد لّ ،ول إله إل الّ ،والّ أكبر).
والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له ،والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له ،وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم
أنه سئل ،أي الكلم أفضل؟ قال( :ما اصطفى الّ لملئكته :سبحان الّ وبحمده) ،وفي الصحيحين عن النبي صلى ال
عليه وسلم ،أنه قال( :كلمتان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان ،حبيبتان إلى الرحمن :سبحان الّ وبحمده،
سبحان الّ العظيم) ،وفي القـرآن {فَ َسبّ ْح بِ َح ْمدِ َرّبكَ} [الحجر ،]98 :وقالت الملئكةَ { :ونَحْ ُن نُ َسبّحُ بِ َح ْم ِدكَ} [البقرة:
.]30
وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد ،والخرى بالتعظيم ،فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص،
المتضمن إثبات المحاسن والكمال ،والحمد إنما يكون على المحاسن ،وقرن بين الحمد والتعظيم ،كما قرن بين الجلل
والكرام؛ إذ ليس كل معظم محبوبًا محمودًا ،ول كل محبوب محمودًا معظما ،وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب
المتضمن معنى الحمد ،وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم ،ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن ،وفيها
الذل له الناشئ عن عظمته وكبريائه.ففيها إجلله وإكرامه .وهو ـ سبحانه ـ المستحق للجلل والكرام ،فهو مستحق
غاية الجلل وغاية الكرام.
/ومن الناس من يحسب أن [الجلل] هو الصفات السلبية ،و[الكرام] الصفات الثبوتية ،كما ذكر ذلك الرازي ونحوه.
والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية ،وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص ،لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن
حمِيدُ} [ لقمان ،]26 :وقول سليمان ـ عليه السلم ـَ { :فإِنّ َربّي
يحب وما يستحق أن يعظم ،كقوله{ :إِنّ الَّ ُهوَ ا ْل َغنِيّ ا ْل َ
ي كَرِيمٌ} [ النمل ،]40 :وكذلك قوله{ :لَهُ ا ْلمُ ْلكُ وَلَهُ الْ َح ْمدُ} [ التغابن ،]1 :فإن كثيرًا ممن يكون له الملك والغنى ل
غنِ ّ
َ
يكون محمودًا بل مذمومًا ،إذ الحمد يتضمن الخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة ،فيتضمن إخبارًا بمحاسن
المحبوب محبة له.
وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك .فالول يهاب
ويخاف ول يحب ،وهذا يحب ويحمد ،ول يهاب ول يخاف ،والكمال اجتماع الوصفين ،كما ورد في الثر( :إن
المؤمن رزق حلوة ومهابة) وفي نعت النبي صلى ال عليه وسلم :كان من رآه بديهة هابه ،ومن خالطه معرفة أحبه.
فقرن التسبيح بالتحميد ،وقرن التهليل بالتكبير ،كما في كلمات الذان .ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الخر إذا
أفرد ،فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم ،ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم اللهية ،فإن اللهية تتضمن
كونه محبوبًا ،بل تتضمن أنه ل يستحق كمال الحب إل هو .والحمد هو الخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق
أن يحب ،فاللهية /تتضمن كمال الحمد؛ ولهذا كان الحمد لّ مفتاح الخطاب ،وكل أمر ذي بال ل يبدأ فيه بالحمد لّ
فهو أجذم ،وسبحان الّ فيها إثبات عظمته كما قدمناه؛ ولهذا قال{ :فَ َسبّ ْح بِا ْسمِ َرّبكَ ا ْلعَظِيمِ} [الواقعة ،]96 :وقد قال
النبي صلى ال عليه وسلم( :اجعلوها في ركوعكم) رواه أهل السنن ،وقال( :أما الركوع فعظموا فيه الرب ،وأما
السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء ،فقمن أن يستجاب لكم) رواه مسلم .فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود
والتسبيح يتضمن التعظيم.
ولهذا جاءت اللفاظ المشروعة في الصلة والذان بقول( :الّ أكبر) ،فإن ذلك أكمل من قول :الّ أعظم ،كما ثبت في
الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :يقول الّ تعالى :الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ،فمن نازعني
واحدًا منهما عذبته) ،فجعل العظمة كالزار ،والكبرياء كالرداء ،ومعلوم أن الرداء أشرف ،فلما كان التكبير أبلغ من
التعظيم صرح بلفظه ،وتضمن ذلك التعظيم ،وفي قوله :سبحان الّ ،صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم،
فصار كل من الكلمتين /متضمنًا معنى الكلمتين الخريين إذا أفردتا ،وعند القتران تعطى كل كلمة خاصيتها.
وهذا كما أن كل اسم من أسماء الّ ،فإنه يستلزم معنى الخر ،فإنه يدل على الذات ،والذات تستلزم معنى السم
الخر ،لكن هذا باللزوم ،وأما دللة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة ،ودللتها على أحدهما
بالتضمن.
فقول الداعي{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُسبْحَا َنكَ} [النبياء ]87 :يتضمن معنى الكلمات الربع اللتي هن أفضل الكلم بعد
القرآن .وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء الّ الحسنى ،وصفاته العلىا ،ففيها كمال المدح.
ت مِنْ الظّاِلمِينَ} فيه اعتراف بحقيقة حاله ،وليس لحد من العباد أن يبرئ نفسه عن هذا الوصف ،ل
وقولهِ{ :إنّي كُن ُ
سيما في مقام مناجاته لربه .وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ل ينبغي لعبد أن يقول :أنا
خير من يونس بن مَتّى) .وقال( :من قال :أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) فمن ظن أنه خير من يونس ،بحيث
يعلم أنه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب؛ ولهذا كان سادات الخلئق ،ل يفضلون أنفسهم على يونس في
هذا المقام ،بل يقولون :كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد صلى ال عليه وسلم.
َفصْــل
سكَ الُّ وأما قول السائل :لم كانت موجبة لكشف الضر؟ فذلك لن الضر ل يكشفه إل الّ .كما قال تعالى{ :وَإِ ْ
ن َيمْسَ ْ
ك بِ َخيْ ٍر فَلَ رَادّ لِ َفضْلِهِ} [يونس ،]107 :والذنوب سبب للضر ،والستغفار يزيل ن يُ ِر ْد َ
ل كَاشِفَ لَهُ ِإلّ هُوَ وَإِ ْ
بِضُ ّر فَ َ
لّ ُمعَ ّذ َبهُمْ وَهُ ْم يَ ْس َتغْ ِفرُونَ} [النفال ،]33 :فأخبر أنه أسبابه ،كما قال تعالىَ { :ومَا كَانَ الُّ ِل ُي َعذّ َبهُمْ وََأنْ َ
ت فِيهِمْ َومَا كَانَ ا ُ
سبحانه ل يعذب مستغفرًا .وفي الحديث( :من أكثر الستغفار جعل الّ له من كل هم فرجًا ،ومن كل ضيق مخرجًا،
ورزقه من حيث ل يحتسب) ،وقال تعالىَ { :ومَا أَصَا َبكُمْ مِ ْن مُصِيبَ ٍة َفبِمَا َك َسبَتْ َأيْدِيكُمْ َو َيعْفُو عَ ْن َكثِيرٍ} [الشورى.]30 :
ت مِنْ الظّاِلمِينَ} [النبياء ،]87 :اعتراف بالذنب وهو استغفار ،فإن هذا العتراف متضمن طلب
فقولهِ{ :إنّي كُن ُ
المغفرة.
وقوله{ :أَن لّ إِلَهَ ِإلّ أَنتَ} [النبياء ،]87 :تحقيق لتوحيد اللهية ،فإن الخير ل موجب له إل مشيئة الّ ،فما شاء كان،
وما لم يشأ لم يكن ،والمعوق له /من العبد هو ذنوبه ،وما كان خارجًا عن قدرة العبد ،فهو من الّ ،وإن كانت أفعال
ل تعالى ،لكن الّ جعل فعل المأمور وترك المحظور سببًا للنجاة ،والسعادة ،فشهادة التوحيد تفتح باب العباد بقدر ا ّ
الخير ،والستغفار من الذنوب يغلق باب الشر.
ولهذا ينبغي للعبد أل يعلق رجاءه إل بالّ ،ول يخاف من الّ أن يظلمه ،فإن الّ ل يظلم الناس شيئًا ،ولكن الناس
أنفسهم يظلمون ،بل يخاف أن يجزيه بذنوبه ،وهذا معنى ما روى عن على ـ رضي الّ عنه ـ أنه قال :ل يرجون عبد
إل ربه ول يخافن إل ذنبه.
وفي الحديث المرفوع إلى النبي صلى ال عليه وسلم :أنه دخل على مريض فقال( :كيف تجدك ؟) فقال :أرجو الّ
وأخاف ذنوبي ،فقال( :ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن ،إل أعطاه الّ ما يرجو ،وآمنه مما يخاف).
فالرجاء ينبغي أن يتعلق بالّ ،ول يتعلق بمخلوق ،ول بقوة العبد ،ول عمله؛ فإن تعلىق الرجاء بغير الّ إشراك ،وإن
كان الّ قد جعل لها أسبابًا ،فالسبب ل يسـتقل بنفسه ،بل لبد له من معاون ،ولبد أن يمنع المعارض المعوق له ،وهو
ل يحصل ،ويبقى إل بمشيئة الّ ـ تعالى.
/ولهذا قيل :اللتفات إلى السباب شرك في التوحيد ،ومحو السباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل ،والعراض عن
ك فَارْغَبْ} [الشرح ،]8 ،7 :فأمر ت فَانصَبَْ .وإِلَى َرّب َ السباب بالكلية قدح في الشرع؛ ولهذا قال الّ تعالى{ :فَِإذَا فَرَغْ َ
لّ َفتَ َوكّلُوا إِ ْن كُنتُ ْم مُ ْؤمِنِينَ} [المائدة ،]23 :فالقلب ل يتوكل إل على من بأن تكون الرغبة إليه وحده ،وقال{ :وَعَلَى ا ِ
يرجوه ،فمن رجا قوته ،أو عمله ،أو علمه ،أو حاله ،أو صديقه ،أو قرابته ،أو شيخه ،أو ملكه ،أو ماله ،غير ناظر
إلى الّ كان فيه نوع توكل على ذلك السبب ،وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه إل خاب ظنه فيه ،فإنه مشركَ { :ومَنْ
طيْرُ أَ ْو َتهْوِي بِهِ الرّي ُح فِي َمكَانٍ َسحِيقٍ} [الحج ،]31 :وكذلك المشرك يخاف طفُهُ ال ّ
سمَا ِء َفتَخْ َ
لّ َفكََأّنمَا خَ ّر مِنْ ال ّ
ك بِا ِ
يُشْ ِر ْ
لّ مَا لَ ْم ُينَزّلْ
ش َركُوا بِا ِ
ب ِبمَا أَ ْ المخلوقين ،ويرجوهم ،فيحصل له رعب ،كما قال تعالىَ { :
سنُلْقِي فِي قُلُوبِ اّلذِينَ كَ َفرُوا الرّعْ َ
بِهِ سُلْطَانًا} [ آل عمران.]151 :
والخالص من الشرك يحصل له المن ،كما قال تعالى{ :اّلذِينَ آ َمنُوا وََل ْم يَ ْلبِسُوا إِيمَا َنهُ ْم بِظُلْمٍ ُأوَْل ِئكَ َل ُهمْ ا َلْمْنُ وَ ُه ْم ُمهْ َتدُونَ} [
النعام ،]82 :وقد فسر النبي صلى ال عليه وسلم الظلم هنا بالشرك .ففي الصحيح عن ابن مسعود أن هذه الية لما
نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم وقالوا :أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم( :
إنما هذا الشرك ،ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح{ :إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ} ؟) [لقمان / ،]13 :وقال تعالىَ { :ومِنْ
حبّا لِّ وَلَ ْو يَرَى اّلذِينَ ظََلمُوا ِإذْ يَ َروْنَ ا ْل َعذَابَ أَنّ ا ْلقُوّةَ لِّ شدّ ُ حبّ الِّ وَاّلذِينَ آ َمنُوا َأ َ حبّو َنهُ ْم كَ ُ
خ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا يُ ِ س مَنْ َيتّ ِ النّا ِ
سبَابَُ .وقَالَ اّلذِينَ ا ّت َبعُوا لَوْ أَنّ َلنَا لْ ْ
ت بِهِمْ ا َ
ط َع ْ
شدِيدُ ا ْلعَذَابِِ .إذْ َتبَرّأَ اّلذِينَ ا ّت ِبعُوا مِنْ اّلذِينَ ا ّت َبعُوا وَرَأَوْا ا ْل َعذَابَ َوتَقَ ّ
جمِيعًا وَأَنّ الَّ َ َ
ك يُرِيهِمْ الُّ أَ ْعمَاَلهُمْ حَسَرَاتٍ عََل ْيهِمْ َومَا ُه ْم بِخَارِجِي َن مِنْ النّارِ} [البقرة165 :ـ ،]167 كَرّ ًة َف َنتَبَرَّأ ِم ْنهُ ْم َكمَا َتبَرّءُوا ِمنّا َكذَِل َ
ن َي ْبتَغُونَ إِلَى َرّبهِمْ ن َيدْعُو َ ل تَحْوِيلً .أُوَْل ِئكَ اّلذِي َ
ل َيمِْلكُونَ َكشْفَ الضّرّ عَنكُمْ َو َ ن دُونِهِ فَ َ ع ْمتُ ْم مِ ْ
ل ادْعُوا اّلذِينَ زَ َ وقال تعالى{ :قُ ْ
ك كَا َن مَ ْحذُورًا} [السراء]57 ،56 :؛ ولهذا يذكر الّ عذَابَ َرّب َ عذَابَهُ إِنّ َح َمتَهُ َويَخَافُونَ َ الْ َوسِيلَةَ َأيّهُمْ َأقْرَبُ َويَ ْرجُونَ َر ْ
ل بُشْرَى َلكُمْ جعَلَهُ الُّ ِإ ّ السباب ،ويأمر بأن ل يعتمد عليها ،ول يرجى إل الّ ،قال تعالى ـ لما أنزل الملئكة ـَ { :ومَا َ
لّ فَلَ غَاِلبَ َلكُمْ وَإِنْ ن َينْصُ ْركُمْ ا ُ حكِيمِِ} [آل عمران ،]126 :وقال{ :إِ ْ عنْدِ الِّ ا ْل َعزِيزِ الْ َ
ل مِنْ ِ ط َمئِنّ قُلُوبُكُ ْم بِهِ َومَا النّصْرُ ِإ ّ وَِلتَ ْ
لّ فَ ْل َيتَ َوكّلْ ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ} [آل عمران.]160 : ن َبعْدِهِ وَعَلَى ا ِ خذُ ْلكُ ْم َفمَنْ ذَا اّلذِي َينْصُ ُركُ ْم مِ ْ يَ ْ
وقد قدمنا أن الدعاء نوعان :دعاء عبادة ،ودعاء مسألة.
وكلهما ل يصلح إل لّ ،فمن جعل مع الّ إلهًا آخر قعد مذمومًا مخذولً ،والراجي سائل طالب فل يصلح أن يرجو
إل الّ ،وليسأل /غيره؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح( :ما أتاك من هذا المال وأنت غير
سائل ول ُمشْرِف فخذه ،وما ل فل تتبعه نفسك) .فالمشرف الذي يستشرف بقلبه ،والسائل الذي يسأل بلسانه ،وفي
الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال :أصابتنا فاقة فجئت رسول الّ صلى ال عليه وسلم لسأله
فوجدته يخطب الناس وهو يقول( :أيها الناس ،والّ مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم ،وإنه من يَسْ َتغْنِ يغنه
الّ ،ومن يستعفف يعفه الّ ،ومن يَ َتصَبّرْ يصبره الّ ،وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر).
والستغناء أل يرجو بقلبه أحدًا فيستشرف إليه ،والستعفاف أل يسأل بلسانه أحدًا؛ ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن
التوكل ،فقال :قطع الستشراف إلى الخلق ،أي :ل يكون في قلبك أن أحدًا يأتيك بشىء ،فقيل له :فما الحجة في ذلك ؟
فقال :قول الخليل لما قال له جبرائيل :هل لك من حاجة؟ فقال( :أما إليك فل).
فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه ،ودفع ما يضره ،ل يوجه قلبه إل إلى ال؛ فلهذا قال المكروب{ :
لّ إلّهّ إلّ أّنتّ} ،ومثل هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس ،أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقول :عند الكرب( :ل
إله إل الّ العظيم الحليم ،ل إله إل الّ رب العرش العظيم / ،ل إله إل الّ رب السموات ورب الرض رب العرش
الكريم) .فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد ،وتأله العبد ربه ،وتعلق رجائه به وحده ل شريك له ،وهي لفظ خبر
يتضمن الطلب.
والناس ،وإن كانوا يقولون بألسنتهم :ل إله إل الّ ،فقول العبد لها مخلصًا من قلبه له حقيقة أخرى ،وبحسب تحقيق
س َمعُونَ
سبُ أَنّ َأكْثَ َرهُمْ َي ْ
التوحيد تكمل طاعة الّ .قال تعالى :أَرَأَ ْيتَ مَنْ اتّخَذَ إَِل َههُ َهوَاهُ َأفَأَ ْنتَ َتكُونُ عَلَيْ ِه َوكِيلً .أَمْ َتحْ َ
ضلّ سَبِيلً} [الفرقان ،]44 ،43 :فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه ،فقد اتخذ َأوْ َي ْعقِلُونَ إِنْ هُمْ ِإلّ كَالَْ ْنعَامِ َبلْ ُهمْ َأ َ
إلهه هواه ،أي :جعل معبوده هو ما يهواه ،وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه ،فهم يتخذون أندادًا من
دون الّ يحبونهم كحب ال؛ ولهذا قال الخليل{ :لَ أُ ِحبّ ا ْلفِلِينَ} [النعام.]76 :
فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع ،ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافعًا له كالشمس والقمر والكواكب،
والخليل بين أن الفل يغيب عن عابده ،وتحجبه عنه الحواجب ،فل يرى عابده ول يسمع كلمه ،ول يعلم حاله ،ول
ينفعه ،ول يضره بسبب ول غيره ،فأي وجه لعبادة من يأفل؟!
وكلما حقق العبد الخلص في قول :ل إله إل الّ ،خرج من قلبه /تأله ما يهواه ،وتصرف عنه المعاصي والذنوب،
كما قال تعالىَ { :كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َعنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِعبَادِنَا ا ْلمُخْلَصِينَ} [يوسف ،]24 :فلعل صرف السوء
والفحشاء عنه بأنه من عباد الّ المخلصين ،وهؤلء هم الذين قال فيهم{ :إِنّ ِعبَادِي َليْسَ َلكَ عََل ْيهِمْ سُ ْلطَانٌ} [الحجر42 :
ك لَُغْ ِويَّنهُمْ َأ ْج َمعِينَ ِ .إلّ ِعبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْلمُخَْلصِينَ} [ص ،]83 ،82 :وقد ثبت في الصحيح عن
] ،وقال الشيطانَ { :فبِعِ ّز ِت َ
النبي صلى ال عليه وسلم ،أنه قال( :من قال :ل إله إل الّ مخلصًا من قلبه ،حرمه الّ على النار).
فإن الخلص ينفي أسباب دخول النار ،فمن دخل النار من القائلين ل إله إل الّ لم يحقق إخلصها المحرم له على
النار ،بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار ،والشرك في هذه المة أخفى من دبيب النمل؛
ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة ،]5 :والشيطان يأمر بالشرك ولهذا كان العبد مأمورًا في كل صلة أن يقولِ{ :إيّا َ
ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ
والنفس تطيعه في ذلك ،فل تزال النفس تلتفت إلى غير الّ؛ إما خوفًا منه ،وإما رجاء له ،فل يزال العبد مفتقرًا إلى
تخليص توحيده من شوائب الشرك .وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
ل والستغفار ،فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الهواء، قال( :يقول الشيطان :أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بل إله إل ا ّ
فهم يذنبون ول يستغفرون؛ لنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا).
/فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من الّ ،له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه ،فصار فيه شرك منعه من
الستغفار ،وأما من حقق التوحيد والستغفار ،فلبد أن يرفع عنه الشر؛فلهذا قال ذو النون{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُ
سبْحَا َنكَ ِإنّي
ت مِنْ الظّاِلمِينَ} [النبياء.]87 :
كُن ُ
ولهذا يقرن الّ بين التوحيد والستغفار في غير موضع ،كقوله تعالى{ :فَاعَْلمْ َأنّهُ لَ إِلَهَ ِإلّ الُّ وَا ْ
س َتغْ ِفرْ ِلذَ ْن ِبكَ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ
وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ} [محمد ،]19 :وقولهَ{ :أ ّل َت ْعبُدُوا ِإلّ الَّ ِإّننِي َلكُ ْم ِمنْ ُه نَذِيرٌ َوبَشِيرٌ .وَأَنْ ا ْس َتغْفِرُوا َرّبكُ ْم ثُ ّم تُوبُوا إَِليْهِ} [هود،2 :
لّ مَا َل ُك ْم مِنْ ِإلَهٍ َغيْرُهُ} إلى قولهَ { :ويَاقَوْمِ ا ْس َتغْفِرُوا َرّبكُ ْم ثُ ّم تُوبُوا إَِليْهِ} [
عُبدُوا ا َ
ل يَاقَوْمِ ا ْ ،]3وقوله{ :وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَا َ
هود 50 :ـ ،]52وقوله{ :فَا ْستَقِيمُوا إَِليْهِ وَا ْس َتغْ ِفرُوهُ} [فصلت.]6 :
وخاتمة المجلس( :سبحانك اللّهم وبحمدك أشهد أن ل إله إل أنت أستغفرك وأتوب إليك) إن كان مجلس رحمة كانت
كالطابع عليه ،وإن كان مجلس لغو كانت كفارة له ،وقد روى أيضًا أنها تقال في آخر الوضوء بعد أن يقال( :أشهد أن
ل إله إل الّ وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ،اللّهم اجعلني من التوابين ،واجعلني من المتطهرين).
وهذا الذكر يتضمن التوحيد والستغفار ،فإن صدره الشهادتان /اللتان هما أصل الدين وجماعه ،فإن جميع الدين
داخل في الشهادتين؛ إذ مضمونهما أل نعبد إل الّ ،وأن نطيع رسوله ،والدين كله داخل في هذا في عبادة الّ بطاعة
الّ ،وطاعة رسوله ،وكل ما يجب أو يستحب داخل في طاعة الّ ورسوله.
وقد روى أنه يقول( :سبحانك اللهم وبحمدك ،أشهد أن ل إله إل أنت ،أستغفرك وأتوب إليك) وهذا كفارة المجلس ،فقد
شرع في آخر المجلس وفي آخر الوضوء ،وكذلك كان النبي صلى ال عليه وسلم يختم الصلة ،كما في الحديث
الصحيح أنه كان يقول في آخر صلته( :اللهم اغفر لي ما قدمت ،وما أخرت ،وما أسررت ،وما أعلنت ،وما أنت
أعلم به مني ،أنت المقدم ،وأنت المؤخر ،ل إله إل أنت) وهنا قدم الدعاء وختمه بالتوحيد؛ لن الدعاء مأمور به في
آخر الصلة ،وختم بالتوحيد ليختم الصلة بأفضل المرين وهو التوحيد ،بخلف ما لم يقصد في هذا فإن تقديم
التوحيد أفضل.
فإن جنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب ،وإن كان المفضول قد يفضل
على الفاضل في موضعه الخاص ،بسبب وبأشياء أخر ،كما أن الصلة أفضل من القراءة ،والقراءة أفضل من الذكر
الذي هو ثناء ،والذكر أفضل من الدعاء الذي هو سؤال ،ومع هذا فالمفضول له أمكنة ،وأزمنة / ،وأحوال يكون فيها
أفضل من الفاضل ،لكن أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد ،وإخلص الدين كله لّ هو تحقيق قول ل إله
إل الّ.
فإن المشركين ما كانوا يقولون :إن العالم خلقه اثنان ،ول أن مع الّ ربًا ينفرد دونه بخلق شيء ،بل كانوا كما قال الّ
سمَاوَاتِ وَالَْ ْرضَ َليَقُولُنّ الُّ} [ لقمان ،]25 :وقال تعالىَ { :ومَا يُ ْؤمِنُ َأ ْكثَرُهُ ْم بِالِّ ِإلّ وَ ُهمْ عنهم{ :وََلئِنْ َ
سأَ ْل َتهُ ْم مَنْ خَلَقَ ال ّ
ل مَنْ سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَلَ َت َذكّرُونَ ّ .قُ ْ مُشْ ِركُونَ} [يوسف ،]106 :وقال تعالى{ :قُلْ ِلمَنْ الَْ ْرضُ َومَنْ فِيهَا إِ ْ
ن كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ َ .
شيْءٍ وَهُ َو يُجِيرُ َولَ يُجَارُ عََليْهِ إِنْ
ت كُلّ َ
ن بِ َيدِ ِه مََلكُو ُ
ل مَ ْ
ن .قُ ْ
ل َتتّقُو َ
سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَ َ
سبْعِ وَرَبّ ا ْلعَرْشِ ا ْلعَظِيمِ َ .
سمَاوَاتِ ال ّ
رَبّ ال ّ
كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ َ .سيَقُولُونَ لِّ قُ ْل فََأنّا تُ ْسحَرُونَ} [المؤمنون 84 :ـ .]89
وكانوا مع إقرارهم بأن الّ هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة /أخرى ،يجعلونهم شفعاء لهم إليه ،ويقولون :ما
نعبدهم إل ليقربونا إلى الّ زلفى ،ويحبونهم كحب الّ.
والشراك في الحب والعبادة والدعاء والسؤال ،غير الشراك في العتقاد والقرار .كما قال تعالىَ { :ومِنْ النّا ِ
س مَنْ
َيتّخِ ُذ مِ ْن دُونِ الِّ أَندَادًا يُ ِحبّونَهُ ْم َكحُبّ الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة ،]165 :فمن أحب مخلوقًا كما يحب الخالق فهو
مشرك به ،قد اتخذ من دون الّ أندادًا يحبهم كحب ال .وإن كان مقرًا بأن الّ خالقه.
ولهذا فرق الّ ورسوله بين من أحب مخلوقًا لّ ،وبين من أحب مخلوقًا مع الّ ،فالول يكون الّ هو محبوبه ومعبوده
الذي هو منتهى حبه وعبادته ل يحب معه غيره ،لكنه لما علم أن الّ يحب أنبياءه وعباده الصالحين ،أحبهم لجله،
وكذلك لما علم أن الّ يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك ،فكان حبه لما يحبه تابعًا لمحبة الّ ،وفرعًا عليه
وداخلً فيه.
بخلف من أحب مع الّ فجعله ندًا لّ يرجوه ويخافه ،أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة لّ ،ويتخذه شفيعًا له
ل َينْ َف ُعهُمْ َويَقُولُونَ هَ ُؤلَءِ
لّ مَا لَ َيضُرّهُمْ َو َ
ن دُونِ ا ِ ن مِ ْ من غير أن يعلم أن ال يأذن له أن يشفع فيه ،قال تعالىَ { :و َي ْعبُدُو َ
ن مَ ْريَمَ َومَا ُأمِرُوا ِإلّحبَارَهُمْ َورُ ْهبَا َنهُمْ أَ ْربَابًا مِنْ دُونِ الِّ وَا ْلمَسِيحَ ابْ َ ع ْندَ الِّ} [يونس / ،]81 :وقال تعالى{ :اتّ َ
خذُوا أَ ْ ش َفعَا ُؤنَا ِ
ُ
ع ِديّ بن حاتم للنبي صلى ال عليه وسلم :ما ِل َيعُْبدُوا إَِلهًا وَا ِحدًا لَ إِلَهَ ِإلّ هُوَ ُسبْحَانَهُ َعمّا يُشْ ِركُونَ} [التوبة ،]31 :وقد قال َ
عبدوهم ،قال( :أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ،وحرموا عليهم الحلل فأطاعوهم ،فكانت تلك عبادتهم إياهم) .قال
ن مَا َل ْم يَ ْأذَنْ بِهِ الُّ} [الشورى ،]21 :وقال تعالىَ { :ويَ ْو َم يَعَضّ الظّاِلمُ عَلَى َي َديْهِ تعالىَ{ :أمْ َلهُمْ ُ
ش َركَاءُ شَرَعُوا َلهُ ْم مِنْ الدّي ِ
شيْطَانُ
ن ال ّذكْ ِر َبعْدَ ِإذْ جَا َءنِي َوكَانَ ال ّ
لنًا خَلِيلً َ .ل َقدْ أَضَّلنِي عَ ْ
خذْ فُ َ
سبِيلً .يَا َويَْلتِي َل ْي َتنِي لَمْ َأتّ ِ
ت مَعَ الرّسُولِ َ
خذْ ُ
ل يَاَليْ َتنِي اتّ َ
يَقُو ُ
لِلِْنسَانِ َخذُولً} [الفرقان 27 :ـ .]29
فالرسول وجبت طاعته؛ لنه من يطع الرسول فقد أطاع الّ ،فالحلل ما حلله ،والحرام ما حرمه ،والدين ما شرعه،
ومن سوى الرسول من العلماء ،والمشايخ ،والمراء ،والملوك إنما تجب طاعتهم ،إذا كانت طاعتهم طاعة لّ ،وهم
إذا أمر الّ ورسوله بطاعتهم ،فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول ،قال تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِي َ
ن آ َمنُوا أَطِيعُوا الَّ وََأطِيعُوا
الرّسُولَ وَُأوْلِي ا َلْمْ ِر ِم ْنكُمْ} [النساء.]59 :
فلم يقل :وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولى المر منكم ،بل جعل طاعة أولي المر داخلة في طاعة الرسول ،وطاعة
الرسول طاعة لّ ،وأعاد الفعل في طاعة الرسول ،دون طاعة أولي المر ،فإنه من يطع الرسول /فقد أطاع ال،
فليس لحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر الّ به أم ل ،بخلف أولي المر فإنهم قد يأمرون بمعصية الّ،
فليس كل من أطاعهم مطيعًا لّ ،بل لبد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية لّ ،وينظر هل أمر الّ به أم ل،
سواء كان أولى المر من العلماء أو المراء ،ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك؛وبهذا
يكون الدين كله لّ ،قال تعالىَ { :وقَاتِلُوهُمْ َحتّى لَ َتكُو َن ِف ْتنَةٌ َو َيكُو َن الدّينُ كُلّهُ لِِّ} [ النفال ،]39 :وقال النبي صلى ال
عليه وسلم لما قيل له :يا رسول الّ ،الرجل يقاتل شجاعة ،ويقاتل حمية ،ويقاتل رياء ،فأي ذلك في سبيل الّ؟ فقال( :
من قاتل لتكون كلمة الّ هي العليا فهو في سبيل الّ).
ثم إن كثيرًا من الناس يحب خليفة أو عالمًا أو شيخًا أو أميرًا ،فيجعله ندًا لّ ،وإن كان قد يقول :إنه يحبه لّ.
فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به ،وينهى عنه ،وإن خالف أمر الّ ورسوله ،فقد جعله ندًا،
وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح ،ويدعوه ويستغيث به ،ويوالي أولياءه ،ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته
في كل ما يأمر به ،وينهى عنه ،ويحلله ويحرمه ،ويقيمه مقام الّ ورسوله ،فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في
س مَ ْن َيتّ ِخذُ مِ ْن دُونِ الِّ أَندَادًا يُ ِحبّو َنهُ ْم كَحُبّ الِّ وَاّلذِينَ آ َمنُوا َأ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة.]165:
قوله تعالىَ { :ومِنْ النّا ِ
فالتوحيد والشراك يكون في أقوال القلب ،ويكون في أعمال القلب؛ ولهذا قال الجنيد :التوحيد قول القلب ،والتوكل
عمل القلب .أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق ،فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله ،وإذا أفرد لفظ التوحيد ،فهو
يتضمن قول القلب وعمله ،والتوكل من تمام التوحيد.
وهذا كلفظ اليمان فإنه إذا أفرد دخلت فيه العمال الباطنة والظاهرة ،وقيل :اليمان قول وعمل ،أي :قول القلب
واللسان وعمل القلب والجوارج ،ومنه قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه( :اليمان بضع
وستون شعبة ،أعلها قول ل إله إل الّ ،وأدناها إماطة الذى عن الطريق ،والحياء شعبة من اليمان) ،ومنه قوله
تعالىِ{ :إّنمَا ا ْلمُ ْؤمِنُونَ اّلذِينَ آ َمنُوا بِالِّ وَرَسُولِ ِه ثُمّ لَ ْم يَ ْرتَابُوا وَجَا َهدُوا ِبَأمْوَاِلهِمْ وَأَنفُ ِسهِ ْم فِي َسبِيلِ الِّ أُوَْل ِئكَ هُمْ الصّا ِدقُونَ} [
الحجرات ،]15 :وقولهِ{ :إّنمَا ا ْلمُ ْؤمِنُونَ اّلذِينَ ِإذَا ُذكِرَ الُّ َوجِلَ ْ
ت قُلُو ُبهُمْ َوِإذَا تُِليَتْ عََل ْيهِمْ آياتُهُ زَادَ ْتهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى َرّبهِ ْم َيتَ َوكّلُونَ
.اّلذِينَ يُقِيمُونَ الصّلَةَ َو ِممّا رَ َز ْقنَاهُ ْم يُنفِقُونَ .أُوَْل ِئكَ ُهمْ ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ حَقّا} [النفال2 :ـ ]4وقولهِ{ :إّنمَا ا ْلمُ ْؤمِنُونَ اّلذِينَ آ َمنُوا بِالِّ
وَ َرسُولِهِ وَِإذَا كَانُوا َمعَهُ عَلَى َأمْرٍ جَامِعٍ َل ْم يَذْ َهبُوا َحتّى يَ ْستَ ْأ ِذنُوهُ} [النور.]62 :
واليمان المطلق يدخل فيه السلم كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس( :آمركم
باليمان بالّ ،أتدرون ما اليمان بالّ؟ شهادة أن ل إله إل الّ ،وأن محمدًا رسول الّ / ،وإقام الصلة ،وإيتاء الزكاة،
وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)؛ ولهذا قال من قال من السلف :كل مؤمن مسلم ،وليس كل مسلم مؤمنًا.
وأما إذا قرن لفظ اليمان بالعمل أو بالسلم ،فإنه يفرق بينهما كما في قوله تعالى{ :إِنّ اّلذِي َن آ َمنُوا وَ َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ} [
البينة ،]7 :وهو في القرآن كثير ،وكما في قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما سأله جبريل عن
السلم واليمان والحسان ـ فقال( :السلم :أن تشهد أن ل إله إل الّ وأن محمدًا رسول الّ ،وتقيم الصلة ،وتؤتي
الزكاة ،وتصوم رمضان ،وتحج البيت) .قال :فما اليمان؟ قال( :أن تؤمن بالّ ،وملئكته ،وكتبه ،ورسله ،والبعث
بعد الموت ،وتؤمن بالقدر خيره وشره) .قال :فما الحسان؟ قال( :أن تعبد الّ كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
ففرق في هذا النص بين السلم واليمان لما قرن بين السمين ،وفي ذلك النص أدخل السلم في اليمان لما أفرده
بالذكر.
وكذلك لفظ [العمل] فإن السلم المذكور هو من العمل ،والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه ،فإذا حصل
إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة ،وإيمان القلب لبد فيه من تصديق القلب وانقياده ،وإل فلو صدق قلبه بأن
محمدًا رسول الّ ،وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته ،لم يكن قد آمن قلبه.
و[اليمان] وإن تضمن التصديق ،فليس هو مرادفًا له ،فل يقال /لكل مصدق بشيء :أنه مؤمن به .فلو قال :أنا أصدق
بأن الواحد نصف الثنين ،وأن السماء فوقنا ،والرض تحتنا ،ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه ،لم يقل لهذا :أنه
ت ِبمُ ْؤمِنٍ َلنَا} [يوسف:
مؤمن بذلك ،بل ل يستعمل إل فيمن أخبر بشيء من المور الغائبة كقول إخوة يوسفَ { :ومَا َأنْ َ
،]17فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين من آمن له وآمن به فالول :يقال للمخبر ،والثاني :يقال للمخبر به
ت ِبمُ ْؤمِنٍ َلنَا} ،وقال تعالىَ { :فمَا آمَنَ ِلمُوسَى ِإلّ ذُ ّريّ ٌة مِ ْن قَ ْومِهِ} [يونس.]83 :
كما قال إخوة يوسفَ { :ومَا َأنْ َ
وقال تعالىَ { :و ِمنْهُمْ اّلذِي َن يُ ْؤذُونَ النّبِيّ َو َيقُولُونَ هُوَ ُأذُ ٌن قُلْ ُأذُنُ َخيْرٍ َلكُ ْم يُ ْؤمِ ُن بِالِّ َويُ ْؤمِنُ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [التوبة ،]61 :ففرق
بين إيمانه بالّ وإيمانه للمؤمنين ،لن المراد يصدق المؤمنين إذا أخبروه ،وأما إيمانه بالّ فهو من باب القرار به.
ومنه قوله ـ تعالى ـ عن فرعون وملئهَ{ :أنُ ْؤمِنُ ِلبَ َش َريْنِ ِمثِْلنَا} [المؤمنون ،]47 :أي :نقر لهما ونصدقهما .ومنه قوله:
لّ ثُ ّم يُ َح ّرفُونَهُ مِ ْن َبعْ ِد مَا َعقَلُوهُ وَ ُه ْم َيعَْلمُونَ} [البقرة ،]75 :ومنه ن كَلَمَ ا ِ س َمعُو َق ِمنْهُ ْم يَ ْ
ن يُ ْؤ ِمنُوا َلكُمْ َو َقدْ كَانَ َفرِي ٌ
ط َمعُونَ أَ ْ
{َأ َفتَ ْ
قوله تعالى{ :فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ َوقَالَ ِإنّي ُمهَاجِرٌ ِإلَى َربّي} [العنكبوت ،]26 :ومن المعني الخر قوله تعالى{ :يُ ْؤمِنُونَ
ق بَيْنَ
ل نُفَرّ ُ
ل ِئكَتِهِ َو ُك ُتبِهِ َورُسُلِ ِه َ
ن بِالِّ َومَ َ
ل آمَ َ ن كُ ّ
ل ِبمَا أُنزِلَ ِإَليْهِ مِنْ َربّهِ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُو َبِا ْل َغيْبِ} [البقرة ،]3 :وقوله{ :آمَنَ الرّسُو ُ
ل ِئكَةِ وَا ْل ِكتَابِ وَالنّ ِبيّينَ} [البقرة،]177 : خرِ وَا ْلمَ َن بِالِّ وَا ْليَوْمِ الْ ِ ح ٍد مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة ،]285 :وقوله{ :وََلكِنّ ا ْلبِ ّر مَ ْ
ن آمَ َ أَ َ
أي :أقر بذلك ومثل هذا في القرآن كثير.
والمقصود هنا أن لفظ [اليمان] إنما يستعمل في بعض الخبار ،وهو مأخوذ من المن ،كما أن القرار مأخوذ من
قر ،فالمؤمن صاحب أمن ،كما أن المقر صاحب إقرار ،فلبد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه ،فإذا كان
عالمًا بأن محمدًا رسول الّ ،ولم يقترن بذلك حبه ،وتعظيمه بل كان يبغضه ويحسده ويستكبر عن اتباعه ،فإن هذا
ليس بمؤمن به ،بل كافر به.
ومن هذا الباب :كفر إبليس ،وفرعون ،وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير هؤلء ،فإن إبليس لم
سهُمْ ظُ ْلمًا
ستَيْ َق َن ْتهَا َأنْ ُف ُ يكذب خبرًا ول مخبرًا ،بل استكبر عن أمر ربه .وفرعون وقومه قال الّ فيهمَ { :وجَ َ
حدُوا ِبهَا وَا ْ
ض بَصَائِرَ}[السراء،]102 : سمَاوَاتِ وَالَْ ْر ِ وَعُلُوّا} [النمل ،]14 :وقال له موسىَ{ :ل َقدْ عَِل ْم َ
ت مَا أَنزَلَ هَ ُؤلَء ِإلّ رَبّ ال ّ
ب َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ َأ ْبنَاءَهُمْ} [البقرة.]146 :
وقال تعالى{ :اّلذِينَ آ َت ْينَاهُمْ ا ْل ِكتَا َ
فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب ـ علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له ـ لم ينفع
صاحبه ،بل أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الّ بعلمه ،وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم /يقول( :اللّهم
إني أعوذ بك من علم ل ينفع ،ونفس ل تشبع ،ودعاء ل يسمع ،وقلب ل يخشع).
ولكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو اليمان ،وأن من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن ،فإن ذلك يدل
على عدم علم قلبه ،وهذا من أعظم الجهل شرعًا وعقلً ،وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر؛ ولهذا أطلق
وكيع بن الجراح وأحمد ابن حنبل وغيرهما من الئمة كفرهم بذلك ،فإنه من المعلوم أن النسان يكون عالمًا بالحق
ويبغضه لغرض آخر ،فليس كل من كان مستكبرًا عن الحق ،يكون غيرعالم به ،وحينئذ فاليمان لبد فيه من تصديق
القلب وعمله ،وهذا معنى قول السلف :اليمان قول وعمل.
ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للرادة ،لزم وجود الفعال الظاهرة ،فإن الرادة الجازمة
إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعًا ،وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة ،أو لعدم كمال الرادة،
وإل فمع كمالها يجب وجود الفعل الختياري ،فإذا أقر القلب إقرارًا تامًا ،بأن محمدًا رسول الّ وأحبه محبة تامة،
امتنع مع ذلك أل يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك ،لكن إن كان عاجزًا لخرس ،ونحوه أو لخوف ،ونحوه لم يكن
قادرًا على النطق بهما.
وأبو طالب ،وإن كان عالمًا بأن محمدًا رسول الّ ،وهو محب له ،فلم تكن محبته له لمحبته لّ ،بل كان يحبه؛ /
لنه ابن أخيه فيحبه للقرابة ،وإذا أحب ظهوره فلما يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة ،فأصل محبوبه هو
الرئاسة ؛ فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالقرار بهما زوال دينه الذي يحبه ،فكان دينه أحب
جّن ُبهَا إليه من ابن أخيه فلم يقر بهما ـ فلو كان يحبه ؛ لنه رسول الّ كما كان يحبه أبو بكر الذي قال الّ فيه{ :وَ َ
سيُ َ
ف يَرْضَى} [الليل 17 :ـ سوْ َ
ل ا ْبتِغَاءَ وَجْهِ َربّهِ الَْعْلَى .وَلَ َ
ن ِنعْمَ ٍة تُجْزَى ِ .إ ّ
عنْدَ ُه مِ ْ
حدٍ ِ
لْتْقَى .اّلذِي يُ ْؤتِي مَالَ ُه َيتَ َزكّى َ .ومَا لَِ َ
اَ
،]21وكما كان يحبه سائر المؤمنين به ،كعمر وعثمان وعلى ،وغيرهم لنطق بالشهادتين قطعًا ـ فكان حبه حبًا مع
ل ل يقبل من العمل إل ما الّ ل حبًا لّ ؛ ولهذا لم يقبل الّ ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته ؛ لنه لم يعمله لّ ،وا ّ
أريد به وجهه ،بخلف الذي فعل ،ما فعل ابتغاء وجه ربه العلى.
وهذا مما يحقق أن اليمان ،والتوحيد لبد فيهما من عمل القلب ،كحب القلب ،فلبد من إخلص الدين لّ ،والدين ل
يكون دينًا إل بعمل ،فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة ،وقد أنزل الّ ـ عز وجل ـ سورتي الخلص{ :قُ ْ
ل يَاَأّيهَا
حدٌ} .إحداهما في توحيد القول والعلم ،والثانية في توحيد العمل /والرادة ،فقال في الول{ : ا ْلكَا ِفرُونَ} و{قُلْ هُوَ الُّ َأ َ
ص َمدُ .لَ ْم يَِلدْ وَلَ ْم يُوَلدْ .وََل ْم يَكُنْ لَ ُه كُفُوًا أَ َحدٌ} [سورة الخلص] فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في حدٌ .الُّ ال ّ قُلْ هُوَ الُّ َأ َ
عُبدُ َ .لكُمْ
ن مَا أَ ْعبَدتّمْ َ .ولَ َأ ْنتُمْ عَا ِبدُو َ
عبُدُ َ .ولَ َأنَا عَابِ ٌد مَا َ
عبُ ُد مَا َت ْعبُدُونَ َ .ولَ َأ ْنتُمْ عَا ِبدُونَ مَا أَ ْ
ن .لَ أَ ْ الثاني{ :قُ ْ
ل يَاَأّيهَا ا ْلكَافِرُو َ
ي دِينِ} [ سورة الكافرون ] فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير الّ وإخلص العبادة لّ. دِي ُنكُمْ وَلِ َ
والعبادة أصلها القصد والرادة ،والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه ،وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما
لها ،كما ذكرناه في لفظ اليمان ،قال تعالىَ { :ومَا خََلقْتُ ا ْلجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعبُدُونِ} [الذاريات ،]56 :وقال تعالى{ :يَاَأّيهَا
النّاسُ ا ْعبُدُوا َربّكُمْ} [البقرة ،]21 :فهذا ونحوه يدخل فيه فعل المأمورات وترك المحظورات ،والتوكل من ذلك ،وقد
ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة ،]5 :وقال{ :فَا ْعبُدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود.]123 : قال في موضع آخرِ{ :إيّا َ
ك َنعْ ُبدُ وَِإيّا َ
ومثل هذا كثيرًا ما يجيء في القرآن؛ تتنوع دللة اللفظ في عمومه وخصوصه بحسب الفراد والقتران ،كلفظ
س تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ َو َت ْنهَوْنَ عَنْ ا ْلمُنكَرِ} [ آل عمران]110 :خيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِرجَتْ لِلنّا ِ المعروف والمنكر فإنه قد قالُ { :كنْتُمْ َ
ن بِا ْل َمعْرُوفِ َو َينْهَوْنَ عَنْ ا ْلمُنكَرِ} [التوبة ،]71 :وقال{ :يَ ْأمُرُهُمْ
ض يَ ْأمُرُو َ
ضهُمْ أَوِْليَا ُء َبعْ ٍ ،وقال{ :وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ وَا ْلمُ ْؤمِنَا ُ
ت َبعْ ُ
بِا ْل َمعْرُوفِ َويَ ْنهَا ُهمْ عَنْ ا ْلمُنكَرِ} [العراف ،]157 :فالمنكر يدخل فيه ما كرهه الّ ،كما يدخل في المعروف ما يحبه
الّ.
وقد قال في موضع آخر{ :إِنّ الصّلَ َة َت ْنهَى عَنْ الْ َفحْشَاءِ وَا ْل ُم ْنكَرِ} [العنكبوت ،]45 :فعطف المنكر على الفحشاء ،ودخل
لحْسَانِ َوإِيتَا ِء ذِي ا ْلقُ ْربَى َو َي ْنهَى عَنْ الْ َفحْشَاءِ وَا ْلمُنكَرِ في المنكر هنا البغي ،وقال في موضع آخر{ :إِنّ ا َ
لّ يَ ْأمُ ُر بِا ْلعَدْلِ وَا ِ
وَا ْل َبغْيِ} [النحل ،]90 :فقرن بالمنكر الفحشاء والبغي.
ومن هذا الباب لفظ الفقراء والمساكين ،إذا أفرد أحدهما دخل فيه الخر ،وإذا قرن أحدهما بالخر صار بينهما فرق،
لكن هناك أحد السمين أعم من الخر ،وهنا بينهما عموم وخصوص ،فمحبة الّ وحده والتوكل عليه وحده ،وخشية
خ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ن يَتّ ِ
س مَ ْ ل تعالى ،قال تعالى في المحبةَ { :ومِنْ النّا ِ الّ وحده ،ونحو هذا كل هذا يدخل في توحيد ا ّ
جكُمْ
ن آبَا ُؤكُمْ وََأ ْبنَا ُؤكُمْ َوإِخْوَا ُنكُمْ وََأزْوَا ُ حبّا لِِّ} [البقرة ،]165 :وقال تعالى{ :قُلْ إِ ْ
ن كَا َ شدّ ُ
ن آ َمنُوا أَ َ
حبّو َنهُمْ َكحُبّ الِّ وَاّلذِي َ
يُ ِ
سبِيلِ ِه َفتَ َربّصُوا
جهَا ٍد فِي َ
شوْنَ َكسَادَهَا َومَسَاكِنُ تَ ْرضَ ْو َنهَا َأحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ َورَسُولِهِ َو ِوَعَشِي َر ُتكُمْ وََأمْوَالٌ ا ْقتَ َر ْف ُتمُوهَا َوتِجَارَ ٌة تَخْ َ
لّ بَِأمْرِهِ} [التوبة ،]24 :وقال تعالىَ { :ومَ ْن يُطِعْ الَّ َورَسُولَهُ َو َيخْشَ الَّ َو َيتّقِ ِه َفأُوَْل ِئكَ ُهمْ ا ْلفَائِزُونَ} [النور52 : حتّى يَ ْأتِيَ ا ُ َ
] ،فجعل الطاعة لّ والرسول وجعل الخشية والتقوى لّ وحده ،وقال تعالى{ :وَلَوْ َأّنهُمْ َرضُوا مَا آتَاهُمْ الُّ وَرَسُولُهُ َوقَالُوا
صبْ .وَإِلَى َرّبكَ ت فَان َغ َغبُونَ} [التوبة ،]59 :وقال تعالىَ { :فِإذَا فَرَ ْ ضلِهِ وَرَسُولُهُ ِإنّا إِلَى الِّ رَا ِ
ن فَ ْ
لّ مِ ْ سيُ ْؤتِينَا ا ُ
س ُبنَا الُّ َحَ ْ
فَارْ َغبْ} [الشرح ]8 ،7 :فجعل التحسب والرغبة إلى الّ وحده.
ل قولً وعملً،ل وحده وذلك يتضمن التصديق ّ والمقصود هنا أن قول القائل{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} فيه إفراد اللهية ّ
فالمشركون كانوا يقرون بأن الّ رب كل شيء ،لكن كانوا يجعلون معه آلهة أخرى ،فل يخصونه باللهية،
ك نَ ْس َتعِينُ} فإن النسان قد وتخصيصه باللهية يوجب أل يعبد إل إياه ،وأل يسأل غيره ،كما في قولهِ{ :إيّا َ
ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ
يقصد سؤال الّ وحده والتوكل عليه ،لكن في أمور ل يحبها الّ ،بل يكرهها وينهى عنها ،فهذا وإن كان مخلصًا له في
سؤاله ،والتوكل عليه ،لكن ليس هو مخلصًا في عبادته وطاعته ،وهذا حال كثير من أهل التوجهات الفاسدة أصحاب
الكشوفات ،والتصرفات المخالفة لمر الّ ورسوله ،فإنهم يعانون على هذه المور.
وكثير منهم يستعين الّ عليها ،لكن لما لم تكن موافقة لمرالّ ورسوله حصل لهم نصيب من العاجلة ،وكانت عاقبتهم
ن كَفُورًا} لْنْسَا ُ ضتُمْ َوكَانَ ا ِ عرَ ْ ل مَنْ َتدْعُونَ ِإلّ ِإيّا ُه فََلمّا نَجّاكُمْ إِلَى ا ْلبَرّ أَ ْ ضّ سكُمْ الضّ ّر فِي ا ْلبَحْرِ َعاقبة سيئة ،قال تعالى{ :وَِإذَا مَ ّ
عنْهُ ضُرّ ُه مَ ّر َكأَنْ لَ ْم َيدْعُنَا إِلَى
ش ْفنَا َ
عدًا أَ ْو قَا ِئمًا فََلمّا كَ َ
ج ْنبِهِ أَ ْو قَا ِ [السراء ،]67 :وقال تعالى{ :وَِإذَا مَسّ ا ِ
لْنْسَانَ الضّ ّر دَعَانَا لِ َ
ضُ ّر َمسّهُ} [يونس.]12 :
وطَائفة أخرى قد يقصدون طاعة الّ ورسوله ،لكن ل يحققون التوكل عليه والستعانة به ،فهؤلء يثابون على حسن
ل والتوكل عليه ،ولهذا يبتلى الواحد نيتهم ،وعلى طاعتهم ،لكنهم مخذولون فيما يقصدونه ،إذ لم يحققوا الستعانة با ّ
من هؤلء بالضعف والجزع تارة ،وبالعجاب أخرى ،فإن لم يحصل مراده من الخير كان لضعفه ،وربما حصل له
جزع ،فإن حصل مراده نظر إلى نفسه وقوته فحصل له إعجاب ،وقد يعجب بحاله فيظن حصول مراده فيخذل ،قال
ت ثُمّ وَّل ْيتُ ْم ُمدْبِرِينَ} إلى قوله{ :ثُمّ
حبَ ْ
ض ِبمَا َر ُ
ش ْيئًا َوضَا َقتْ عََل ْيكُمْ الَْرْ ُ
ع ْنكُمْ َ
ج َب ْتكُ ْم َكثْ َر ُتكُمْ َفلَ ْم ُتغْنِ َ تعالىَ { :ويَ ْومَ ُ
ح َنيْنٍ ِإذْ أَعْ َ
لّ مِ ْن بَ ْعدِ ذَِلكَ عَلَى مَ ْن يَشَاءُ وَالُّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة25 :ـ .]27 َيتُوبُ ا ُ
وكثيرًا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب ،فالرياء من باب الشراك بالخلق ،والعجب من باب الشراك بالنفس،
ك نَ ْس َتعِينُ} ،فمن حقق قوله:
ك َنعْبٍُد} ،والمعجب ل يحقق قوله{ :وَِإيّا َ
وهذا حال المستكبر ،فالمرائي ل يحقق قوله{ :إيّا َ
ك نَ ْس َتعِينُ} خرج عن العجاب ،وفي الحديث المعروف( :ثلث ك َن ْعبُدُ} خرج عن الرياء ،ومن حقق قوله{ :وَِإيّا َ
{ِإيّا َ
مهلكات :شُحّ ُمطَاعٌ ،وهوى مُتّبَعٌ ،وإعجاب المرء بنفسه).
/وشر من هؤلء وهؤلء من ل تكون عبادته لّ ،ول استعانته بالّ ،بل يعبد غيره ويستعين غيره وهؤلء المشركون
من الوجهين.
ومن هؤلء من يكون شركه بالشياطين ،كأصحاب الحوال الشيطانية ،فيفعلون ما تحبه الشياطين من الكذب
والفجور ،ويدعونه بأدعية تحبها الشياطين ،ويعزمون بالعزائم التي تطيعها الشياطين ،مما فيها إشراك بالّ ،كما قد
بسط الكلم عليهم في مواضع أخر ،وهؤلء قد يحصل لهم من الخوارق ما يظن أنه من كرامات الولياء .وإنما هو
من أحوال السحرة والكهان؛ ولهذا يجب الفرق بين الحوال اليمانية القرآنية ،والحوال النفسانية ،والحوال
الشيطانية.
وأما القسم الرابع :فهم أهل التوحيد الذين أخلصوا دينهم لّ ،فلم يعبدوا إل إياه ،ولم يتوكلوا إل عليه.
وقول المكروب{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} قد يستحضر في ذلك أحد النوعين دون الخر فمن أتم الّ عليه النعمة استحضر
التوحيد في النوعين ،فإن المكروب همته منصرفة إلى دفع ضره وجلب نفعه ،فقد يقول :ل إله إل الّ مستشعرًا أنه ل
يكشف الضر غيرك ،ول يأتي بالنعمة إل أنت ،فهذا مستحضر توحيد الربوبية ،ومستحضر توحيد السؤال والطلب،
ل ويرضاه ويأمر /به وهـو أل يعبد إل إياه ،ول يعبده إل
والتوكل عليه ،معرض عن توحيد اللهية الذي يحبه ا ّ
ل متوكلً عليه وكان ممتثلً قوله: بطـاعته ،وطـاعـة رسوله ،فمن استشعر هـذا في قـوله{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} كان عابدًا ّ
عبُدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود ،]123 :وقوله{ :عََليْ ِه تَ َوكّلْتُ وَِإَليْهِ ُأنِيبُ} [الشورى ،]10 :وقوله{ :وَا ْذكُرْ اسْمَ َرّبكَ َو َت َبتّلْ {فَا ْ
ب لَ إِلَهَ ِإلّ هُ َو فَاتّ ِخذْهُ َوكِيلً} [المزّمل.]9 ،8 :
شرِقِ وَا ْل َمغْرِ ِ
إَِليْ ِه َتبْتِيلً .رَبّ ا ْلمَ ْ
ثم إن كان مطلوبه محرمًا أثم ،وإن قضيت حاجته ،وإن كان طالبًا مباحًا لغير قصد الستعانة به على طاعة ا ّ
ل
وعبادته لم يكن آثمًا ،ول مثابًا ،وإن كان طالبًا ما يعينه على طاعة الّ وعبادته لقصد الستعانة به على ذلك ،كان
مثابًا مأجورًا.
وهذا مما يفرق به بين العبد الرسول وخلفائه ،وبين النبي الملك ،فإن نبينا محمدًا صلى ال عليه وسلم خير بين أن
يكون نبيًا ملكًا ،أو عبدًا رسولً ،فاختار أن يكون عبدًا رسولً ،فإن العبد الرسول هو الذي ل يفعل إل ما أمر به،
ل ل أعطي ففعله كله عبادة لّ ،فهو عبد محض منفذ أمر مرسله ،كما ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال( :إني وا ّ
أحدًا ول أمنع أحدًا ،وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت) ،وهو لم يرد بقوله( :ل أعطي أحدًا ول أمنع) إفراد الّ بذلك
قدرًا وكونًا ،فإن جميع المخلوقين يشاركونه في هذا ،فل يعطي أحدًا ول يمنع إل بقضاء الّ وقدره ،وإنما أراد إفراد
الّ بذلك شرعًا ودينًا ،أي ل أعطي إل من أمرت /بإعطائه ،ول أمنع إل من أمرت بمنعه ،فأنا مطيع لّ في إعطائي
ومنعى ،فهو يقسم الصدقة والفيء والغنائم كما يقسم المواريث بين أهلها؛ لن الّ أمره بهذه القسمة.
ولهذا كان المال حيث أضيف إلى الّ ورسوله ،فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة الّ ورسوله ،ليس المراد به
أنه ملك للرسول ،كما ظنه طائفة من الفقهاء ،ول المراد به كونه مملوكًا لّ خلقًا وقدرًا ،فإن جميع الموال بهذه
خمُسَهُ وَلِلرّسُولِ} ي ٍء فَأَنّ لِّ ُ لْنْفَالُ لِّ وَالرّسُولِ} [النفال ،]1 :وقوله{ :وَاعَْلمُوا َأّنمَا َ
غ ِن ْمتُ ْم مِنْ شَ ْ المثابة ،وهذا كقوله{ :قُلْ ا َ
خيْلٍ َولَ ِركَابٍ} إلى قوله{ :مَا َأفَاءَ الُّ عَلَى الية [النفال ،]41 :وقولهَ { :ومَا َأفَاءَ الُّ عَلَى َرسُولِ ِه ِم ْنهُمْ َفمَا أَوْ َ
ج ْفتُمْ عََليْ ِه مِنْ َ
رَسُولِ ِه مِنْ أَهْلِ ا ْلقُرَى فَِللّهِ وَلِلرّسُولِ َوِلذِي الْ ُق ْربَى} الية [الحشر ،]7 ،6 :فذكر في الفيء ما ذكر في الخمس.
فظن طائفة من الفقهاء أن الضافة إلى الرسول تقتضى أنه يملكه ،كما يملك الناس أملكهم .ثم قال بعضهم :إن غنائم
بدر كانت ملكًا للرسول ،وقال بعضهم :إن الفيء وأربعة أخماسه كان ملكًا للرسول ،وقال بعضهم :إن الرسول إنما
كان يستحق من الخمس خمسه ،وقال بعض هؤلء :وكذلك كان يستحق من خمس الفيء خمسه ،وهذه القوال توجد
في كلم طوائف من أصحاب الشافعي ،وأحمد ،وأبي حنيفة ،وغيرهم ،وهذا غلط من وجوه:
/منها :أن الرسول لم يكن يملك هذه الموال كما يملك الناس أموالهم ،ول كما يتصرف الملوك في ملكهم ،فإن هؤلء
وهؤلء لهم أن يصرفوا أموالهم في المباحات ،فإما إن يكون مالكًا له ،فيصرفه في أغراضه الخاصة ،وإما أن يكون
ك ِبغَيْرِ حِسَابٍ} [ ملكًا له ،فيصرفه في مصلحة ملكه ،وهذه حال النبي الملك ،كداود وسليمان ،قال تعالى{ :فَا ْمنُنْ أَوْ َأمْ ِ
س ْ
ص ،]39 :أي :أعط من شئت واحرم من شئت ل حساب عليك ،ونبينا كان عبدًا رسولً ل يعطي إل من أمر
بإعطائه ،ول يمنع إل من أمر بمنعه ،فلم يكن يصرف الموال إل في عبادة الّ وطاعة له.
ومنها :أن النبي ل يورث ولو كان ملكًا ،فإن النبياء ليورثون ،فإذا كان ملوك النبياء لم يكونوا ملكا ،كما يملك
الناس أموالهم ،فكيف يكون صفوة الرسل الذي هو عبد رسول مالكًا.
للومنها :أن النبي صلى ال عليه وسلم كان ينفق على نفسه وعياله قدر الحاجة ،ويصرف سائر المال في طاعة ا ّ
يستفضله ،وليست هذه حال الملك ،بل المال الذي يتصرف فيه كله هو مال الّ ورسوله ،بمعنى أن الّ أمر رسوله
أن يصرف ذلك المال في طاعته ،فتجب طاعته في قسمه ،كما تجب طاعته في سائر ما يأمر به ،فإنه من يطع
الرسول فقد أطاع الّ ،وهو في ذلك مبلغ عن الّ / ،والموال التي كان يقسمها النبي صلى ال عليه وسلم على
وجهين:
ومنها :ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه ،فإن ما أمر الّ به ،منه ما هو محدود بالشرع ،كالصلوات الخمس،
وطواف السبوع بالبيت ،ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور ،فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها
الّ.
فمن هذا ما اتفق عليه الناس ،ومنه ما تنازعوا فيه ،كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات :هل هي مقدرة
بالشرع؟ أم يرجع فيها إلى العرف ،فتختلف في قدرها وصفتها باختلف أحوال الناس؟ وجمهور الفقهاء على القول
الثاني ،وهو الصواب لقول النبي صلى ال عليه وسلم لهند( :خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) ،وقال أيضًا في
خطبته المعروفة( :للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف).
وكذلك تنازعوا ـ أيضًا ـ فيما يجب من الكفارات :هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف؟
فما أضيف إلى الّ والرسل من الموال ،كان المرجع في قسمته إلى أمر /النبي صلى ال عليه وسلم ،بخلف ما
سمى مستحقوه كالمواريث؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم عام حنين( :ليس لي مما أفاء الّ عليكم إل الخمس،
والخمس مردود عليكم) أي :ليس له بحكم القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إل الخمس؛ ولهذا قال( :
وهو مردود عليكم) بخلف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة.
ولهذا كانت الغنائم يقسمها المراء بين الغانمين ،والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين ،الذين خلفوا رسول
الّ صلى ال عليه وسلم في أمته ،فيقسمونها بأمرهم ،فأما أربعة الخماس ،فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم الّ ورسوله
كما يستفتى المستفتى ،وكما كانوا في الحدود لمعرفة المر الشرعي ،والنبي صلى ال عليه وسلم أعطى المؤلفة
قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم ،فقيل :إن ذلك كان من الخمس ،وقيل :إنه كان من أصل الغنيمة ،وعلى هذا القول
فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك؛ ولهذا أجاب من عتب من النصار بما أزال عتبه ،وأراد تعويضهم عن
ذلك.
ومن الناس من يقول :الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون ،وإن للمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في
غير هذا الموضع.
فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لّ الذي يعبده ويستعينه ،فيعمل له ويستعينه ويحقق قولهِ{ :إيّا َ
ك َنعْ ُبدُ وَِإيّاكَ
نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة / ]5 :توحيد اللهية وتوحيد الربوبية ،وإن كانت اللهية تتضمن الربوبية ،والربوبية تستلزم
اللهية ،فإن أحدهما إذا تضمن الخر عند النفراد ،لم يمنع أن يختص بمعناه عند القتران ،كما في قوله{ :قُلْ أَعُوذُ
س .مَِلكِ النّاسِ .إِلَهِ النّاسِِ} [الناس ،]1-3 :وفي قوله{ :ا ْل َح ْمدُ لِّ رَبّ ا ْلعَاَلمِينَ} [الفاتحة ،]2 :فجمع بين
بِرَبّ النّا ِ
السمين :اسم الله واسم الرب .فإن الله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد ،والرب هو الذي يرب عبده فيدبره.
ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه الّ ،والسؤال متعلقًا باسمه الرب ،فإن العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق.
واللهية هي الغاية ،والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم ،والمصلي إذا قالِ{ :إيّا َ
ك َنعْ ُبدُ
ك نَ ْس َتعِينُ} فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية ،فالعبادة غاية مقصودة ،والستعانة وسيلة
وَِإيّا َ
إليها :تلك حكمة وهذا سبب ،والفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلىة معروف؛ ولهذا يقال :أول الفكرة آخر العمل،
وأول البغية آخر الدرك .فالعلة الغائية متقدمة في التصور والرادة وهي متأخرة في الوجود .فالمؤمن يقصد عبادة الّ
ك نَ ْس َتعِينُ} . ابتداء وهو يعلم أن ذلك ل يحصل إل بإعانته فيقولِ{ :إيّا َ
ك َنعْ ُبدُ وِإيّا َ
ولما كانت العبادة متعلقة باسمه الّ ـ تعالى ـ جاءت الذكار المشروعة بهذا السم مثل كلمات الذان :الّ أكبر ،ا ّ
ل
أكبر .ومثل الشهادتين / :أشهد أن ل إله إل الّ ،أشهد أن محمدًا رسول الّ .ومثل التشهد :التحيات لّ ،ومثل التسبيح،
والتحميد ،والتهليل ،والتكبير :سبحان الّ ،والحمد لّ ،ول إله إل الّ ،والّ أكبر.
ن مِنْح ْمنَا َلنَكُونَ ّ وأما السؤال فكثيرًا ما يجيء باسم الرب ،كقول آدم وحواءَ { :رّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُ َ
سنَا وَإِنْ لَ ْم َتغْ ِفرْ َلنَا َوتَرْ َ
سرِينَ} [العراف ،]23 :وقول نوحَ { :ربّ ِإنّي أَعُو ُذ ِبكَ أَنْ أَسَْأَلكَ مَا َليْسَ لِي بِهِ عِ ْلمٌ} [هود ،]47 :وقول موسى{ : الْخَا ِ
عنْ َد َبيْ ِتكَ
غيْ ِر ذِي زَ ْرعٍ ِ ن ذُ ّريّتِي بِوَادٍ َ ت مِ ْ سكَن ُت نَ ْفسِي فَاغْفِرْ لِي}[القصص ،]16 :وقول الخليلَ { :رّبنَا ِإنّي أَ ْ
رَبّ ِإنّي ظََلمْ ُ
ا ْلمُ َحرّمِ َرّبنَا ِليُقِيمُوا الصّلَةَ} الية [إبراهيم ،]37 :وقوله مع إسماعيلَ { :رّبنَا تَ َقبّ ْل ِمنّا ِإّنكَ َأنْتَ ال ّسمِيعُ ا ْلعَلِيمُ} [البقرة:
،]127وكذلك قول الذين قالواَ { :رّبنَا آ ِتنَا فِي ال ّدنْيَا حَ َسنَةً َوفِي الْخِرَةِ َح َسنَةً َو ِقنَا َعذَابَ النّارِ}[البقرة ]201 :ومثل هذا
كثير.
وقد نقل عن مالك أنه قال :أكره للرجل أن يقول في دعائه :يا سيدي ،يا سيدي ،يا حنان ،يا حنان ،ولكن يدعو بما
لّ ِقيَامًا َو ُقعُودًا دعت به النبياء ،ربنا ،ربنا .نقله عنه العتبي في العتبية .وقال تعالى عن أولى اللباب{ :اّلذِي َ
ن يَ ْذكُرُونَ ا َ
وَعَلَى ُجنُو ِبهِمْ َويَتَ َفكّرُو َن فِي َخلْقِ ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضِ َرّبنَا مَا خََلقْتَ َهذَا بَاطِلً ُسبْحَا َنكَ َف ِقنَا َعذَابَ النّارِ} [آل عمران]191 :
اليات.
/فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال ،ناسب أن يسأله باسمه الرب ،وإن سأله باسمه الّ؛ لتضمنه اسم الرب ،كان
حسنًا ،وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة ،فاسم الّ أولى بذلك ،إذا بدأ بالثناء ذكر اسم الّ ،وإذا قصد الدعاء دعا باسم
ت مِنْ الظّاِلمِينَ}[النبياء ،]87 :وقال آدمَ { :رّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُ َ
سنَا وَإِنْ لَمْ الرب؛ ولهذا قال يونس{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُ
سبْحَا َنكَ ِإنّي كُن ُ
سرِينَ} [العراف ،]23 :فإن يونس ـ عليه السلم ـ ذهب مغاضبًا ،وقال تعالى{ : ح ْمنَا َل َنكُونَنّ مِنْ ا ْلخَا ِ
َتغْفِرْ َلنَا َوتَ ْر َ
صبِرْ لِ ُحكْمِ َرّبكَ َو َل َتكُنْ َكصَا ِحبِ ا ْلحُوتِ} [القلم ،]48 :وقال تعالى{ :فَا ْلتَ َقمَهُ الْحُوتُ وَهُ َو مُلِيمٌ}[الصافات،]142 : فَا ْ
ففعل ما يلم عليه فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه ،والعتراف بأنه ل إله إل هو ،فهو الذي يستحق أن
يعبد دون غيره فل يطاع الهوى ،فإن اتباع الهوى يضعف عبادة الّ وحده ،وقد روى أن يونس ـ عليه السلم ـ ندم
على ارتفاع العذاب عن قومه بعد أن أظلهم وخاف أن ينسبوه إلى الكذب فغاضب.وفعل ما اقتضى الكلم الذي ذكره
الّ تعالى وأن يقال{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} وهذا الكلم يتضمن براءة ما سوى الّ من اللهية ،سواء صدر ذلك عن هوى
ت مِنْ الظّاِلمِينَ}. النفس أو طاعة الخلق أو غير ذلك؛ ولهذا قالُ { :
س ْبحَا َنكَ ِإنّي كُن ُ
والعبد يقول مثل هذا الكلم فيما يظنه وهو غير مطابق ،وفيما يريده وهو غير حسن.
/وأما آدم ـ عليه السلم ـ فإنه اعترف أولً بذنبه ،فقال{ :ظََل ْمنَا أَن ُف َسنَا} ولم يكن عند آدم من ينازعه الرادة لما أمر الّ
صحِينَ َ .ف َدلّ ُهمَا ِبغُرُورٍ} [العراف: به ،مما يزاحم اللهيـة بـل ظـن صدق الشيطـان الـذي { َوقَا َ
س َمهُمَا ِإنّي َل ُكمَا َلمِنْ النّا ِ
،]22 ،21فالشيطان غرهما وأظهر نصحهما فكانا في قبول غروره ،وما أظهر من نصحه حالهما مناسبًا لقولهما:
{ َرّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُ َسنَا} لما حصل من التفريط ،ل لجل هوى وحظ يزاحم اللهية ،وكانا محتاجين إلى أن يربهما ربوبية
تكمل علمهما وقصدهما ،حتى ل يغترا بمثل ذلك ،فهما يشهدان حاجتهما إلى الّ ربهما الذي ل يقضي حاجتهما غيره.
وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق اللهية بما حصل من المغاضبة ،وكراهة إنجاء أولئك ،ففي ذلك من
المعارضة في الفعل لحب شيء آخر ما يوجب تجريد محبته لّ ،وتألهه له وأن يقول{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} فإن قول العبد:
ل إله إل أنت ،يمحو أن يتخذ إلهه هواه .وقد روى( :ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند الّ من هوى متبع).
فكمل يونس ـ صلوات الّ عليه ـ تحقيق إلهيته لّ ،ومحو الهوى الذي يتخذ إلهًا من دونه ،فلم يبق له ـ صلوات الّ
عليه وسلمه ـ عند تحقيق قوله ل إله إل أنت إرادة تزاحم إلهية الحق ،بل كان مخلصًا لّ الدين؛ إذ كان من أفضل
عباد الّ المخلصين.
وأيضًا ،فمثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له ،فيبقى فيه /نوع مغاضبة للقدر ومعارضة له في خلقه وأمره،
ووساوس في حكمته ورحمته ،فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين :الراء الفاسدة ،والهواء الفاسدة ،فيعلم أن الحكمة،
والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته ،ل فيما اقتضاه علم العبد وحكمته ،ويكون هواه تبعًا لما أمر الّ به ،فل يكون له
جدُوا فِي ل يَ ِ شجَ َر َب ْينَهُ ْم ثُ ّم َ
ح ّكمُوكَ فِيمَا َ
حتّى يُ َ
ل يُ ْؤمِنُونَ َ مع أمر الّ وحكمه هوى يخالف ذلك ،قال الّ تعالى{ :فَلَ وَ َرّب َ
ك َ
ضيْتَ َويُسَّلمُوا تَسْلِيمًا} [النساء ،]65 :وقد روى عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال( :والذي نفسي بيده، س ِهمْ حَ َرجًا ِممّا َق َ
أَنفُ ِ
ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) رواه أبو حاتم في صحيحه؛ وفي الصحيح أن عمر قال له :يا
ل لنت أحب إلىّ من نفسي .قال( :الن يا عمر) ،وفي الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال( : رسول الّ ،وا ّ
ن آبَا ُؤكُمْ َوَأبْنَا ُؤكُمْ ن كَا َليؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ،ووالده ،والناس أجمعين) ،وقال تعالى{ :قُلْ إِ ْ
جهَادٍ
ض ْونَهَا أَحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ وَرَسُولِهِ وَ ِ
ن تَرْ َ
ن كَسَادَهَا َومَسَاكِ ُ
عشِي َر ُتكُمْ وََأمْوَالٌ ا ْقتَ َر ْف ُتمُوهَا َوتِجَارَ ٌة َتخْشَوْ َ
جكُمْ وَ َ
خوَا ُنكُمْ وَأَزْوَا ُ
وَإِ ْ
لّ بَِأمْ ِرهِ} [التوبة.]24 : حتّى يَ ْأتِيَ ا ُسبِيلِ ِه َفتَ َربّصُوا َفِي َ
فإذا كان اليمان ل يحصل حتى يحكم العبد رسوله ،ويسلم له ،ويكون هواه تبعًا لما جاء به ،ويكون الرسول والجهاد
في سبيله مقدمًا على حب النسان نفسه ،وماله ،وأهله ،فكيف في تحكيمه الّ تعالى والتسليم له؟! /فمن رأى قومًا
يستحقون العذاب في ظنه ،وقد غفر الّ لهم ورحمهم ،وكره هو ذلك ،فهذا إما أن يكون عن إرادة تخالف حكم الّ،
وإما عن ظن يخالف علم الّ ،والّ علىم حكيم .وإذا علمت أنه علىم ،وأنه حكيم ،لم يبق لكراهية ما فعله وجه ،وهذا
يكون فيما أمر به ،وفيما خلقه ولم يأمرنا أن نكرهه ،ونغضب عليه.
فأما ما أمرنا بكراهته من الموجودات؛ كالكفر ،والفسوق ،والعصيان ،فعلىنا أن نطيعه في أمره بخلف توبته على
عباده وإنجائه إياهم من العذاب ،فإن هذا من مفعولته التي لم يأمرنا أن نكرهها ،بل هي مما يحبها ،فإنه يحب
التوابين ،ويحب المتطهرين .فكراهة هذا من نوع اتباع الرادة المزاحمة لللهية ،فعلى صاحبها أن يحقق توحيد
اللهية فيقول :ل إله إل أنت.
فعلىنا أن نحب ما يحب ،ونرضي ما يرضى ،ونأمر بما يأمر ،وننهي عما ينهي ،فإذا كان {يُحِبّ التّوّابِينََ} و{ َويُحِبّ
طهّرِينَ} فعلىنا أن نحبهم ،ول نأله مراداتنا المخالفة لمحابه.
ا ْل ُمتَ َ
والكلم في هذا المقام مبني على أصل ،وهو :أن النبياء ـ صلوات الّ عليهم ـ معصومون فيما يخبرون به عن الّ ـ
سبحانه ـ وفي تبليغ رسالته باتفاق المة؛ ولهذا وجب اليمان بكل ما أوتوه كما /قال تعالى{ :قُولُوا آ َمنّا بِالِّ َومَا أُنزِلَ
ق بَيْنَ
ل نُفَرّ ُ
ي مُوسَى وَعِيسَى َومَا أُوتِيَ ال ّن ِبيّونَ مِنْ َرّبهِ ْم َ
سبَاطِ َومَا أُوتِ َ
لْ ْ
سحَاقَ َو َيعْقُوبَ وَا َ
سمَاعِيلَ وَإِ ْ
إَِل ْينَا َومَا أُن ِزلَ إِلَى ِإبْرَاهِيمَ وَِإ ْ
ق فَ َس َيكْفِي َكهُمْ الُّ وَهُوَ ال ّسمِيعُ ا ْلعَلِيمُ} [
ن تَوَلّوْا َفِإنّمَا ُه ْم فِي شِقَا ٍ
ن آ َمنُوا ِب ِمثْلِ مَا آمَنتُ ْم بِ ِه فَ َقدْ ا ْه َتدَوا وَإِ ْ
ن .فَإِ ْ
ح ٍد ِمنْهُمْ َونَحْنُ لَ ُه مُسِْلمُو َ
أَ َ
ن آمَنَ بِالِّ وَا ْليَوْمِ الْخِرِ وَا ْلمَلَ ِئكَةِ وَا ْل ِكتَابِ وَال ّن ِبيّينَ} [البقرة ،]177 :وقال{ : البقرة ،]137 ،136 :وقال{ :وََلكِنّ ا ْلبِ ّر مَ ْ
ط ْعنَا
س ِم ْعنَا وَأَ َ
ح ٍد مِنْ رُسُلِهِ َوقَالُوا َ
ق بَيْنَ أَ َ
ل نُفَرّ ُ
ل ِئكَتِهِ َو ُك ُتبِهِ َورُسُلِ ِه َ
ن بِالِّ َومَ َ
ل آمَ َ
ن كُ ّ
ل ِبمَا أُنزِلَ ِإَليْهِ مِنْ َربّهِ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُو َ
آمَنَ الرّسُو ُ
غُفْرَا َنكَ َرّبنَا َوإَِل ْيكَ ا ْلمَصِيرُ} [البقرة.]285 :
بخلف غير النبياء ،فإنهم ليسوا معصومين كما عصم النبياء ،ولو كانوا أولياء لّ ،ولهذا من سب نبيًا من النبياء
قتل باتفاق الفقهاء ،ومن سب غيرهم لم يقتل.
وهذه العصمة الثابتة للنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة ،فإن النبي هو المنبئ عن الّ ،و الرسول
ل تعالى ،وكل رسول نبي ،وليس كل نبي رسولً ،والعصمة فيما يبلغونه عن الّ ثابتة ،فل يستقر هو الذي أرسله ا ّ
في ذلك خطأ باتفاق المسلمين.
/ولكن هل يصدر ما يستدركه الّ ،فينسخ ما يلقي الشيطان ،ويحكم الّ آياته؟ هذا فيه قولن ،والمأثور عن السلف
يوافق القرآن بذلك ،والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله( :تلك الغرانيق
العلى ،وإن شفاعتهن لترتجى) وقالوا :إن هذا لم يثبت ،ومن علم أنه ثبت قال :هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم
يلفظ به الرسول صلى ال عليه وسلم ،ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضًا ،وقالوا في قولهِ{ :إلّ ِإذَا َتمَنّى أَلْقَى
ال ّشيْطَا ُن فِي ُأ ْم ِنيّتِهِ} [الحج ]52 :هو حديث النفس.
وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف ،فقالوا هذا منقول نقلً ثابتًا ل يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقولهَ { :ومَا
حكِيمٌ
لّ آيَاتِهِ وَالُّ عَلِيمٌ َ حكِمُ ا ُ ن ثُ ّم يُ ْ
شيْطَا ُلّ مَا يُ ْلقِي ال ّ
ن فِي ُأمْ ِنّيتِهِ َف َينْسَخُ ا ُ
شيْطَا ُل َنبِيّ ِإلّ ِإذَا َت َمنّى أَ ْلقَى ال ّ ن َقبِْلكَ مِنْ رَسُولٍ َو َ أَ ْرسَ ْلنَا مِ ْ
ق َبعِيدٍ .وَِل َيعْلَمَ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ َأنّهُ
شقَا ٍ
سيَ ِة قُلُو ُبهُمْ وَإِنّ الظّاِلمِينَ لَفِي ِ ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ وَالْقَا ِ ن ِف ْتنَةً ِلّلذِي َ
شيْطَا ُ
ل مَا يُ ْلقِي ال ّ جعَ َِ .ليَ ْ
ط مُ ْس َتقِيمٍ} [ الحج 52 :ـ ،] 54فقالوا :الثار ن آ َمنُوا إِلَى صِرَا ٍ خبِتَ لَ ُه قُلُو ُبهُمْ وَإِنّ الَّ َلهَادِ اّلذِي َق مِنْ َرّبكَ َفيُ ْؤ ِمنُوا بِهِ َفتُ ْ حّ الْ َ
في تفسير هذه الية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث ،والقرآن يوافق ذلك ،فإن نسخ الّ لما يلقى الشيطان،
وإحكامه آياته ،إنما يكون لرفع ما وقع في آياته ،وتمييز الحق من الباطل ،حتى ل تختلط آياته /بغيرها .وجعل ما ألقى
الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ،والقاسية قلوبهم ،إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرًا يسمعه الناس ،ل باطنًا في
النفس .والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الخر من النسخ.
وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى ال عليه وسلم ،وبعده عن الهوى من ذلك النوع ،فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم
يأمر بخلفه وكلهما من عند الّ ،وهو مصدق في ذلك ،فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الّ ،وهو
الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الّ ،ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق ،وقوله الحق ،وهذا كما قالت
خشَىلّ ُم ْبدِيهِ َوتَ ْ
ك مَا ا ُ
سَ عائشة ـ رضي الّ عنها ـ لو كان محمد كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه اليةَ { :وتُ ْ
خفِي فِي نَفْ ِ
النّاسَ وَالُّ َأحَقّ أَ ْن تَخْشَاهُ} [الحزاب ،]37 :أل ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ،ولو كان
خطأ ،فبيان الرسول صلى ال عليه وسلم أن الّ أحكم آياته ،ونسخ ما ألقاه الشيطان ،هو أدل على تحريه للصدق
وبرائته من الكذب ،وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى ال عليه وسلم تسليما؛ ولهذا كان تكذيبه
كفرًا محضًا بل ريب.
وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع ،هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في
العصمة من الكبائر والصغائر أو من /بعضها ،أم هل العصمة إنما هي في القرار عليها ل في فعلها؟ أم ل يجب
القول بالعصمة إل في التبليغ فقط؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم ل؟ والكلم على هذا مبسوط
في غير هذا الموضع.
والقول الذي عليه جمهور الناس ،وهو الموافق للثار المنقولة عن السلف :إثبات العصمة من القرار على الذنوب
مطلقًا ،والرد على من يقول :إنه يجوز إقرارهم عليها ،وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول.
وحجج النفاة ل تدل على وقوع ذنب أقر عليه النبياء؛ فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع ،وذلك ل
يجوز إل مع تجويز كون الفعال ذنوبًا ،ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه،
ورجعوا عنه ،كما أن المر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه ،فأما ما نسخ من المـر والنـهي فل يجوز
جعله مأمورًا به ول منهيًا عنه ،فضل عن وجوب اتباعه والطاعة فيه.
وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافى الكمال ،أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح ،أو أنها توجب التنفير ،أو
نحو ذلك من الحجج العقلية ،فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع ،وإل فالتوبة النصوح التي يقبلها الّ،
يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه ،كما قال /بعض السلف :كان داود ـ عليه السلم ـ بعد التوبة خيرًا منه قبل
الخطيئة .وقال آخر :لو لم تكن التوبة أحب الشياء إليه ،لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ،وقد ثبت في الصحاح
حديث التوبة( :لّ أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلً) ...إلخ.
عمَلً
عمِلَ َ طهّرِينَ} [البقرة ،]222 :وقال تعالىِ{ :إ ّ
ل مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَ َ حبّ ا ْل ُمتَ َ وقد قال تعالى{ :إِنّ ا َ
لّ يُحِبّ التّوّابِينَ َويُ ِ
ك ُيبَدّلُ الُّ َسيّئَا ِتهِمْ حَ َسنَاتٍ} [الفرقان ،]70 :وقد ثبت في الصحيح حديث الذي يعرض الّ صغار ذنوبه صَالِحًا فَأُوَْل ِئ َ
ويخبأ عنه كبارها ،وهو مشفق من كبارها أن تظهر ،فيقول الّ له( :إني قد غفرتها لك ،وأبدلتك مكان كل سيئة
حسنة ،فيقول :أي رب ،إن لي سيئات لم أرها) إذا رأي تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان
مشفقًا منها أن تظهر ،ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل ،أعظم من حاله لو لم تقع السيئات ،ول التبديل.
وقال طائفة من السلف ،منهم سعيد بن جبير :إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار ،وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل
بها الجنة ،يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار ،ويعمل السيئة فل يزال خوفه منها وتوبته منها حتى
ش ِركِينَ وَا ْلمُشْ ِركَاتِ
جهُولً ِ .ل ُي َعذّبَ الُّ ا ْل ُمنَا ِفقِينَ وَا ْل ُمنَافِقَاتِ وَا ْلمُ ْ
ظلُومًا َ
لْنْسَانُ ِإنّ ُه كَانَ َ تدخله الجنة ،وقد قال تعالىَ { :و َ
حمََلهَا ا ِ
َو َيتُوبَ الُّ عَلَى ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ َوكَانَ الُّ َغفُورًا رَحِيمًا} [الحزاب ،]73 ،72 :فغاية كل إنسان أن يكون من
المؤمنين والمؤمنات الذين تاب الّ عليهم.
وفي الكتاب والسنة الصحيحة ،والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه.
والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلت الجهمية ،والقدرية ،والدهرية لنصوص السماء والصفات ونصوص القدر
ونصوص المعاد ،وهي من جنس تأويلت القرامطة الباطنية التي يعلم بالضطرار أنها باطلة ،وأنها من باب تحريف
الكلم عن مواضعه ،وهؤلء يقصد أحدهم تعظيم النبياء فيقع في تكذيبهم ،ويريد اليمان بهم فيقع في الكفر بهم.
ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والجماع ،وهي العصمة في التبليغ ،لم ينتفعوا بها ،إذ كانوا ل يقرون
بموجب ما بلغته النبياء ،وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه ،أو كانوا فيه كالميين الذين ل يعلمون الكتاب إل أماني،
والعصمة التي كانوا ادعوها ،لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ول حاجة بهم إليها عندهم ،فإنها متعلقة بغيرهم ل بما
أمروا باليمان به ،فيتكلم أحدهم فيها على النبياء بغير سلطان من الّ ،ويدع ما يجب عليه من تصديق النبياء
وطاعتهم ،وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة ،قال تعالى:
{ َفِإنّمَا َعَليْهِ مَا ُحمّلَ وَعََل ْيكُ ْم مَا ُحمّ ْلتُمْ} الية [النور.]54 :
/والّ ـ تعالى ـ لم يذكر في القرآن شيئًا من ذلك عن نبي من النبياء إل مقرونًا بالتوبة والستغفار ،كقول آدم
ن مِنْ الْخَاسِرِينَ} [العراف ،]23 :وقول نوح{ :رَبّ ِإنّي أَعُوذُ
ح ْمنَا َلنَكُونَ ّ وزوجتهَ { :رّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُ َ
سنَا وَإِنْ لَ ْم َتغْ ِفرْ َلنَا َوتَرْ َ
ن مِنْ الْخَاسِرِينَ}[هود ،]47 :وقول الخليل ـ عليه السلم ـَ { :رّبنَا ح ْمنِي َأكُ ْ
ل َتغْفِرْ لِي َوتَرْ َ ك مَا َليْسَ لِي بِهِ عِ ْلمٌ وَِإ ّ ِبكَ أَنْ َأسْأََل َ
طمَعُ أَ ْن َيغْ ِفرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّين} [ اغْ ِفرْ لِي َولِوَاِلدَيّ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ يَ ْو َم يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم ،]41 :وقوله{ :وَاّلذِي أَ ْ
سنَةً َوفِي الْخِرَةِ خيْرُ ا ْلغَا ِفرِينَ .وَا ْكتُبْ َلنَا فِي َهذِ ِه ال ّدنْيَا حَ َ الشعراء ،]82 :وقول موسىَ{ :أنْتَ وَِلّينَا فَاغْ ِفرْ َلنَا وَارْ َ
ح ْمنَا وََأنْتَ َ
ت نَفْسِي فَاغْ ِفرْ لِي}[القصص ،]16 :وقوله{ :فََلمّا َأفَاقَ ِإنّا ُه ْدنَا إَِل ْيكَ} [العراف ،]156 ،155 :وقولهَ { :ربّ ِإنّي َ
ظَلمْ ُ
س َتغْفَرَ َربّهُ َوخَرّ رَا ِكعًا وََأنَابَ .ك ُتبْتُ إَِل ْيكَ وََأنَا أَوّلُ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ}[العراف ،]143 :وقوله تعالى عن داود{ :فَا ْ سبْحَا َن َقَالَ ُ
غفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُ ْلكًا لَ ن مَآبٍ} [ص ،]25 ،24 :وقوله تعالى عن سليمان{ :رَبّ ا ْ ع ْن َدنَا لَزُ ْلفَى َوحُسْ َ
َفغَفَ ْرنَا لَ ُه ذَِلكَ وَإِنّ لَهُ ِ
َينْ َبغِي لَِ َح ٍد مِنْ َب ْعدِي ِإّنكَ َأنْتَ الْوَهّابُ} [ص.]35 :
وأما يوسف الصديق ،فلم يذكر الّ عنه ذنبًا؛ فلهذا لم يذكر الّ عنه ما يناسب الذنب من الستغفار ،بل قال{ :كَذَِلكَ
ِلنَصْ ِرفَ َعنْهُ السّوءَ وَا ْلفَحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِعبَا ِدنَا ا ْلمُخَْلصِينَ}[يوسف ،]24 :فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء ،وهذا يدل
على أنه لم يصدر منه سوء ول فحشاء.
ت بِهِ وَهَ ّم ِبهَا َل ْولَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ َربّهِ} [يوسف / ،]24 :فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال المام
وأما قوله{ :وَلَ َقدْ َهمّ ْ
أحمد :الهم همان :هم خطرات ،وهم إصرار ،وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم( :إن العبد إذا هم
بسيئة لم تكتبت عليه ،وإذا تركها لّ كتبت له حسنة ،وإن عملها كتبت له سيئة واحدة) وإن تركها من غير أن يتركها
لّ لم تكتب له حسنة ول تكتب عليه سيئة ،ويوسف صلى ال عليه وسلم هم هما تركه لّ ،ولذلك صرف الّ عنه
السوء والفحشاء لخلصه ،وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم ،وعارضه الخلص الموجب
لنصراف القلب عن الذنب لّ.
شيْطَانِ
ف مِنْ ال ّ
سهُمْ طَائِ ٌ فيوسف ـ عليه السلم ـ لم يصدر منه إل حسنة يثاب عليها ،وقال تعالى{ :إِنّ اّلذِي َ
ن اتّقَوْا ِإذَا مَ ّ
تَ َذكّرُوا َفِإذَا ُه ْم ُمبْصِرُونَ}[العراف.]201 :
وأما ما ينقل من أنه حل سراويله ،وجلس مجلس الرجل من المرأة ،وأنه رأى صورة يعقوب عاضًا على يده ،وأمثال
ذلك ،فكله مما لم يخبر الّ به ول رسوله ،وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبًا
على النبياء وقدحًا فيهم ،وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله ،لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى ال عليه وسلم
حرفًا واحدًا.
س لَمّا َر ٌة بِالسّوءِ ِإ ّل مَا َرحِمَ َربّي} [يوسف ]53 :فمن كلم امرأة العزيز ،كما يدل القرآن /وقولهَ { :ومَا ُأبَرّ ُ
ئ نَ ْفسِي إِنّ النّفْ َ
ل قَالَ ا ْرجِعْ على ذلك دللة بينة ،ل يرتاب فيها من تدبر القرآن ،حيث قال تعالىَ { :وقَالَ ا ْلمَِل ُ
ك ا ْئتُونِي بِ ِه فََلمّا جَاءَهُ الرّسُو ُ
ن نَفْسِ ِه قُلْنَ حَاشَ لِّ ط ُبكُنّ ِإذْ رَاوَدتّنّ يُوسُفَ عَ ْ خ ْل مَا َ طعْنَ َأ ْي ِديَهُنّ إِنّ َربّي ِب َكيْدِهِنّ عَلِي ٌم .قَا َ
لتِي َق ّ
سأَلْ ُه مَا بَالُ النّسْوَةِ ال ّ
إِلَى َرّبكَ فَا ْ
خنْهُ
ن نَفْسِهِ َوِإنّهُ َلمِنْ الصّا ِدقِينَ .ذَِلكَ ِل َيعْلَمَ َأنّي َلمْ أَ ُ
حقّ َأنَا رَاوَدتّهُ عَ ْ حصَ الْ َ ت ا ْمرَأَةُ ا ْلعَزِيزِ الْنَ حَصْ َ مَا عَِل ْمنَا عََليْ ِه مِنْ سُو ٍء قَالَ ْ
س لَمّارَ ٌة بِالسّوءِ ِإ ّل مَا رَ ِحمَ َربّي إِنّ َربّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: ئ نَفْسِي إِنّ النّفْ َ ل َي ْهدِي َك ْيدَ الْخَائِنِينَ َ .ومَا ُأبَرّ ُ
لّ َبِا ْل َغيْبِ وَأَنّ ا َ
50ـ .]53
فهذا كله كلم امرأة العزيز ،ويوسف إذ ذاك في السجن ،لم يحضر بعد إلى الملك ،ول سمع كلمه ول رآه ،ولكن لما
ظهرت براءته في غيبته ـ كما قالت امرأة العزيز{ :ذَِلكَ ِل َيعْلَمَ َأنّي لَمْ َأ ُخنْهُ بِا ْل َغيْبِ} أي :لم أخنه في حال مغيبه عني وإن
ك ا ْئتُونِي بِهِ أَ ْستَخِْلصْهُ ِلنَفْسِي فََلمّا كَّلمَ ُه قَالَ ِإّنكَ ا ْليَ ْومَ َلدَ ْينَا َمكِينٌ َأمِينٌ} [
كنت في حال شهوده راودته ـ فحينئذَ { :وقَالَ ا ْلمَِل ُ
يوسف ،]54 :وقد قال كثير من المفسرين :إن هذا من كلم يوسف ،ومنهم من لم يذكر إل هذا القول ،وهو قول في
غاية الفساد ،ول دليل عليه ،بل الدلة تدل على نقيضه ،وقد /بسط الكلم على هذه المور في غير هذا الموضع.
و المقصود هنا أن ما تضمنته [قصة ذي النون] مما يلم عليه كله مغفور بدله الّ به حسنات ،ورفع درجاته ،وكان
حكْمِ َرّبكَ َولَ َتكُنْ
صبِرْ ِل ُبعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع ،قال تعالى{ :فَا ْ
كَصَاحِبِ الْحُوتِ ِإذْ نَادَى وَ ُه َو َمكْظُومٌ .لَ ْولَ أَ ْن َتدَا َركَ ُه نِ ْعمَ ٌة مِنْ َربّهِ َلنُ ِبذَ بِا ْلعَرَاءِ وَهُ َو َمذْمُومٌ .فَا ْج َتبَاهُ َربّهُ َف َجعَلَهُ مِنْ الصّالِحِينَ} [
القلم48 :ـ ،]50وهذا بخلف حال التقام الحوت فإنه قال{ :فَا ْلتَ َقمَهُ الْحُوتُ وَهُ َو مُلِيمٌ} [الصافات ،]241 :فأخبر أنه
في تلك الحال مليم ،و [المليم] الذي فعل ما يلم عليه ،فالملم في تلك الحال ل في حال نبذه بالعراء وهو سقيم،
ت مِنْ الظّاِلمِينَ} [النبياء ]87 :أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان، سبْحَا َنكَ ِإنّي كُن ُ فكانت حاله بعد قوله{ :لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُ
والعتبار بكمال النهاية ل بما جرى في البداية ،والعمال بخواتيمها.
والّ ـ تعالى ـ خلق النسان وأخرجه من بطن أمه ل يعلم شيئًا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال ،فل
يجوز أن يعتبر قدر النسان بما وقع منه قبل حال الكمال ،بل العتبار بحال كماله ،ويونس صلى ال عليه وسلم
وغيره من النبياء في حال النهاية حالهم أكمل الحوال.
ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملئكة على النبياء والصالحين فإنهم اعتبروا كمال الملئكة مع بداية /
الصالحين ونقصهم فغلطوا ،ولو اعتبروا حال النبياء والصالحين بعد دخول الجنان ،ورضا الرحمن ،وزوال كل ما
ل بَابٍ .سَلَمٌ فيه نقص وملم ،وحصول كل ما فيه رحمة وسلم ،حتى استقر بهم القرار {وَا ْلمَلَ ِئكَ ُة يَدْخُلُونَ عََل ْيهِمْ مِ ْ
ن كُ ّ
صبَ ْرتُ ْم َف ِنعْمَ عُ ْقبَى الدّارِ} [الرعد ]24 ،23 :فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على حال غيرهم من عََل ْيكُ ْم ِبمَا َ
المخلوقين وإل فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص
والعيوب.
ولو اعتبر ذلك لعتبر أحدهم وهو نطفة ثم علقة ،ثم مضغة ،ثم حين نفخت فيه الروح ،ثم هو وليد ،ثم رضيع ثم
فطيم ،إلى أحوال أخر ،فعلم أن الواحد في هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التي يستحق بها كمال المدح والتفضيل ،
وتفضيله بها على كل صنف وجيل ،وإنما فضله باعتبار المآل ،عند حصول الكمال.
وما يظنه بعض الناس أنه من ولد على السلم فلم يكفر قط أفضل ممن كان كافرًا فأسلم ليس بصواب ،بل العتبار
بالعاقبة ،وأيهما كان أتقى لّ في عاقبته كان أفضل .فإنه من المعلوم أن السابقين الولين من المهاجرين والنصار
الذين آمنوا بالّ ورسوله بعد كفرهم هم أفضل ممن ولد على السلم من أولدهم وغير أولدهم ،بل من عرف الشر
وذاقه ثم عرف الخير وذاقه /فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف
الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما ،بل من لم يعرف إل الخير فقد يأتيه الشر فل يعرف أنه شر ،فإما أن يقع فيه ،وإما
أل ينكره كما أنكره الذي عرفه.
ولهذا قال عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ :إنما تنقض عرى السلم عروة عروة إذا نشأ في السلم من لم
يعرف الجاهلية .وهو كما قال عمر ،فإن كمال السلم هو بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد
في سبيل الّ ،ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره ،فقد ل يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه،
ول يكون عنده من الجهاد لهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من
الحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره.
ولهذا كان الصحابة ـ رضي الّ عنهم ـ أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم ،لكمال معرفتهم بالخير والشر ،وكمال
محبتهم للخير وبغضهم للشر ،لما علموه من حسن حال السلم واليمان والعمل الصالح ،وقبح حال الكفر
والمعاصي؛ ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والمن ممن لم يذق ذلك؛
ولهذا يقال:
/ويقال:
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ يقول :لست بخب ول يخدعني الخب ،فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد
الخير ل الشر ،وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر ،فأما من ل يعرف الشر فذاك نقص فيه ل يمدح به.
وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلقًا ،فإن هذا ليس
بمطرد ،بل قد يكون الطبيب أعلم بالمراض من المرضى ،والنبياء ـ عليهم الصلة والسلم ـ أطباء الديان فهم أعلم
الناس بما يصلح القلوب ويفسدها ،وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس.
ولكن المراد :أن من الناس من يحصل له بذوقه الشر من المعرفة به ،والنفور عنه ،والمحبة للخير إذا ذاقه ما ل
يحصل لبعض الناس ،مثل من كان مشركًا أو يهوديًا أو نصرانيًا ،وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والقوال
الفاسدة والظلمة والشر ،ثم شرح الّ صدره للسلم ،وعرفه محاسن السلم ،فإنه قد يكون أرغب فيه ،وأكره للكفر
من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والسلم ،بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا ،أو مقلد في مدح هذا
وذم هذا.
/ومثال ذلك من ذاق طعم الجوع ثم ذاق طعم الشبع بعده ،أو ذاق المرض ثم ذاق طعم العافية بعده ،أو ذاق الخوف ثم
ذاق المن بعده ،فإن محبة هذا ورغبته في العافية والمن والشبع ونفوره عن الجوع والخوف والمرض أعظم ممن
لم يبتل بذلك ولم يعرف حقيقته.
وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور ،ثم بين الّ له الحق وتاب عليه توبة نصوحًا ،ورزقه الجهاد في سبيل الّ ،فقد
يكون بيانه لحالهم ،وهجره لمساويهم ،وجهاده لهم أعظم من غيره ،قال نعيم بن حماد الخزاعي ـ وكان شديدًا على
صبَرُوا إِنّ َرّبكَ
ن َبعْ ِد مَا ُف ِتنُوا ثُمّ جَا َهدُوا وَ َ الجهمية ـ :أنا شديد عليهم ،لني كنت منهم .وقد قال الّ تعالى{ :لِّلذِينَ هَا َ
جرُوا مِ ْ
مِنْ َب ْعدِهَا َلغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل ]110 :نزلت هذه الية في طائفة من الصحابة كان المشركون فتنوهم عن دينهم ثم تاب
الّ عليهم ،فهاجروا إلى الّ ورسوله ،وجاهدوا وصبروا.
وكان عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ـ رضي الّ عنهما ـ من أشد الناس على السلم فلما أسلما تقدما على من
سبقهما إلى السلم ،وكان بعض من سبقهما دونهما في اليمان والعمل الصالح بما كان عندهما من كمال الجهاد
للكفار والنصر لّ ورسوله ،وكان عمر لكونه أكمل إيمانًا وإخلصًا وصدقًا ومعرفة وفراسة ونورًا أبعد عن هوى
النفس وأعلى همة /في إقامة دين الّ ،مقدما على سائر المسلمين ،غير أبي بكر رضي الّ عنهم أجمعين.
وما يذكر في السرائيليات( :أن الّ قال لداود :أما الذنب فقد غفرناه ،وأما الود فل يعود" فهذا لو عرفت صحته لم
يكن شرعًا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا ،فإن دين محمد صلى ال عليه وسلم في التوبة جاء بما لم يجئ به
شرع من قبله؛ ولهذا قال " :أنا نبي الرحمة ،وأنا نبي التوبة) ،وقد رفع به من الصار والغلل ما كان على من
قبلنا.
طهّرِينَ} [البقرة ]222 :وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده حبّ ا ْل ُمتَ َ وقد قال تعالى في كتابه{ :إِنّ ا َ
لّ يُحِبّ التّوّابِينَ َويُ ِ
التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس .فإذا كان هذا فرح
الرب بتوبة التائب وتلك محبته ،كيف يقال :إنه ل يعود لمودته {وَهُوَ ا ْلغَفُورُ الْ َودُودُ .ذُو ا ْلعَ ْرشِ ا ْلمَجِيدُ َ .فعّالٌ ِلمَا يُرِيدُ}[
البروج ]16 - 14 :ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة ،فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق
بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة ،وإن كان أنقص /
كان المر أنقص ،فإن الجزاء من جنس العمل ،وما ربك بظلم للعبيد.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ( :يقول الّ تعالى :من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب،
وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ،ول يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت
سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها ،فبي يسمع ،وبي يبصر،
وبي يبطش ،وبي يمشي ،ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه ،وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن
قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ،ولبد له منه) .ومعلوم أن أفضل الولياء بعد النبياء هم
السابقون الولون من المهاجرين والنصار ،وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق
والعصيان أعظم محبة ومودة ،وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم.
ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم لّ ـ تعالى ـ فإن أوثق عُرَى اليمان الحب في
ن دُونِ الِّ
خذُ مِ ْ
ن َيتّ ِ الّ ،والبغض في الّ .فالحب لّ من كمال التوحيد ،والحب مع الّ شرك .قال تعالىَ { :ومِنْ النّا ِ
س مَ ْ
أَندَادًا يُ ِحبّو َنهُ ْم كَحُبّ الِّ وَاّلذِينَ آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة ،]165 :فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين
ل ومن أحب الّ أحبه الّ ،ومن ودّ الّ ودّه الّ ،فعلم أن الّ الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة لّ ومحبة ّ
أحبهم وودهم بعد التوبة ،كما أحبوه وودوه ،فكيف يقال :إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة؟!
وإن قال قائل :أولئك كانوا كفارًا ،لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم ،بل كانوا جهالً ،بخلف من علم أن الفعل محرم
وأتاه.
أحدهما :أنه ليس المر كذلك ،بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمدًا رسول الّ ،ويعادونه حسدًا وكبرًا ،وأبو
سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي صلى ال عليه وسلم ما لم يسمع غيره ،كما سمع من أمية بن أبي الصلت ،وما
سمعه من هرقل ملك الروم ،وقد أخبر عن نفسه أنه لم يزل موقنًا أن أمر النبي صلى ال عليه وسلم سيظهر حتى
أدخل الّ عليه السلم ،وهو كاره له ،وقد سمع منه عام اليرموك وغيره ما دل على حسن إسلمه ومحبته لّ
ورسوله بعد تلك العداوة العظيمة.
الوجه الثاني :أن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة الّ تعالى للتائبين فرق ل أصل له ،بل الكتاب والسنة
يدل على أن الّ يحب التوابين ،ويفرح بتوبة التائبين ،سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنب أو لم يكونوا عالمين بذلك.
ومن علم أن ما أتاه ذنب ثم تاب فلبد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود ،فإذا كان يبغض الحق فلبد أن يحبه ،وإذا
كان يحب الباطل فلبد أن يبغضه ،فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به ،ومن بغض الباطل
واجتنابه هو من المور التي يحبها الّ تعالى ويرضاها ،ومحبة الّ كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه ،فكل من
كان أعظم فعلً لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له ،وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان
عليه من الباطل ،وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق ،فوجب زيادة محبة الحق له ومودته إياه ،بل يبدل الّ سيئاته
حسنات لنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل الّ سيئاته حسنات ،فإن الجزاء من جنس العمل .وحينئذ فإذا كان
إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده الّ منه أعظم من
فعله له قبل التوبة كانت /مودة الّ له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة ،فكيف يقال :الود ل يعود.
وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول :إن الّ ل يبعث نبيًا إل من كان معصومًا قبل النبوة ،كما يقول ذلك طائفة من
الرافضة وغيرهم ،وكذلك من قال :إنه ل يبعث نبيًا إل من كان مؤمنا قبل النبوة ،فإن هؤلء توهموا أن الذنوب تكون
نقصًا وإن تاب التائب منها ،وهذا منشأ غلطهم .فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصًا فهو
غالط غلطًا عظيمًا ،فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب ل يلحق التائب منه شيء أصلً ،لكن إن قدم التوبة لم
يلحقه شيء ،وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله.
والنبياء ـ صلوات الّ عليهم وسلمه ـ كانوا ل يؤخرون التوبة ،بل يسارعون إليها ،ويسابقون إليها،ل يؤخرون ول
ل كفر الّ ذلك بما يبتليه به كما فعل بذييصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك،ومن أخر ذلك زمنًا قلي ً
النون صلى ال عليه وسلم ،هذا على المشهور إن إلقاءه كان بعد النبوة ،وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فل
يحتاج إلى هذا.
والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب ،وإذا كان قد يكون أفضل ،فالفضل /
أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة ،وقد أخبر الّ عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم السباط الذين نبأهم
ل تعالى ،وقد قال تعالى{ :فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ َوقَالَ ِإنّي ُمهَا ِجرٌ إِلَى َربّي} [العنكبوت .]26 :فآمن لوط لبراهيم ـ عليه السلم ا ّ
ش َعيْبُ
ك يَا ُ
جّن َ
ن قَ ْومِهِ َلنُخْرِ َ ـ ثم أرسله الّ تعالى إلى قوم لوط .وقد قال تعالى في قصة شعيب{ :قَالَ ا ْلمَلَُ اّلذِينَ ا ْ
س َت ْكبَرُوا مِ ْ
لّ َكذِبًا إِنْ عُ ْدنَا فِي مِّل ِتكُ ْم َب ْعدَ ِإ ْذ نَجّانَا ا ُ
لّ ن َ .قدْ ا ْفتَ َر ْينَا عَلَى ا ِ
ك مِنْ قَ ْر َي ِتنَا أَوْ َل َتعُودُنّ فِي مِّل ِتنَا قَالَ َأوَلَ ْو ُكنّا كَارِهِي َوَاّلذِينَ آ َمنُوا َم َع َ
ح َبيْ َننَا َو َبيْنَ قَ ْو ِمنَا بِالْحَقّ وََأنْتَ
لّ تَ َوكّ ْلنَا َرّبنَا ا ْفتَ ْ
يءٍ عِ ْلمًا عَلَى ا ِ ن يَشَاءَ الُّ َرّبنَا َوسِعَ َرّبنَا كُلّ شَ ْ ن َنعُو َد فِيهَا ِإلّ أَ ْ ِمنْهَا َومَا َيكُونُ َلنَا أَ ْ
ن فِي مِّل ِتنَا
ضنَا أَوْ َلتَعُودُ ّ جّنكُ ْم مِنْ أَ ْر ِ خيْرُ ا ْلفَا ِتحِينَ}[العراف ،]89 ،88 :وقال تعالىَ { :وقَالَ اّلذِينَ َكفَرُوا ِلرُسُِلهِمْ َلنُخْرِ َ َ
ف مَقَامِي َوخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم.]14 ،13 : ض مِنْ َب ْعدِهِ ْم ذَِلكَ ِلمَنْ خَا َ س ِكنَ ّنكُمْ الَْ ْر َ فَأَ ْوحَى إَِل ْيهِمْ َرّبهُمْ َل ُنهْلِكَنّ الظّاِلمِينَ .وََلنُ ْ
وإذا عرف أن العتبار بكمال النهاية ،وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والستغفار ،ولبد لكل عبد من التوبة وهي
واجبة على الولين والخرين .كما قال تعالىِ{ :ل ُيعَذّبَ الُّ ا ْل ُمنَافِقِينَ وَا ْل ُمنَافِقَاتِ وَا ْلمُشْ ِركِينَ وَا ْلمُ ْ
ش ِركَاتِ َو َيتُوبَ الُّ عَلَى
ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ َوكَانَ الُّ َغفُورًا رَحِيمًا} [الحزاب.]73 :
/وقد أخبر الّ ـ سبحانه ـ بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى ال عليه وسلم وآخر ما نزل
سبّحْ
ن فِي دِينِ الِّ َأ ْفوَاجًا .ففَ َ
خلُو َ عليه ـ أو من آخر ما نزل عليه ـ قوله تعالىِ{ :إذَا جَا َء نَصْرُ الِّ وَا ْل َفتْحُ َ .ورََأيْتَ النّا َ
س يَدْ ُ
بِ َح ْمدِ َرّبكَ وَا ْستَغْ ِفرْهُ ِإنّ ُه كَا َن تَوّابًا} [سورة النصر] ،وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الّ عنها ـ أن النبي صلى ال
عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده( :سبحانك اللّهم ربنا وبحمدك اللّهم اغفر لي" يتأول القرآن).
وقد أنزل الّ عليه قبل ذلكَ{ :ل َقدْ تَابَ الُّ عَلَى ال ّنبِيّ وَا ْل ُمهَاجِرِينَ وَالَْنصَارِ اّلذِي َ
ن ا ّت َبعُو ُه فِي سَاعَةِ ا ْلعُسْ َر ِة مِنْ َب ْعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ
ق مِ ْنهُ ْم ثُ ّم تَابَ عََل ْيهِمْ ِإنّ ُه بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة ،]117 :وفي صحيح البخاري عن النبي صلى ال عليه ب َفرِي ٍ
قُلُو ُ
ل وأتوب إليه في اليوم أكثر منوسلم أنه كان يقول( :يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لستغفر ا ّ
سبعين مرة) ،وفي صحيح مسلم عن الغر المزني عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :إنه ليغان على قلبي وإني
لستغفر الّ في اليوم مائة مـرة) ،وفي السنن عن ابن عـمر أنه قال :كـنا نعد لرسول الّ صلى ال عليه وسلم في
المجلس الواحد يقول( :رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الغفور) مائة مرة.
وفي الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان /يقول( :اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي
وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ،اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي ،اللّهم اغفر
لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني .أنت المقدم وأنت المؤخر ،وأنت على كل
شيء قدير) ،وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال :يا رسول الّ ،أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟
قال( :أقول :اللّهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ،اللّهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب
البيض من الدنس ،اللّهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد).
وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع ،وفي صحيح مسلم عن على ـ رضى ا ّ
ل
عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الستفتاح( :اللهم أنت الملك ل إله إل أنت ،أنت ربي وأنا
عبدك ،ظلمت نفسي وعملت سوءًا فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت واهدني لحسن الخلق ل يهدي لحسنها
إل أنت واصرف عني سيئها ل يصرف عني سيئها إل أنت) ،وفي صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
كان يقول في سجوده( :اللّهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله ،علنيته وسره ،أوله وآخره).
/وفي السنن عن على ،أن النبي صلى ال عليه وسلم أتى بدابة؛ ليركبها وأنه حمد الّ وقالُ {( :
سبْحانَ اّلذِي سَخّرَ َلنَا َهذَا
َومَا ُكنّا لَ ُه مُ ْق ِرنِينَ .وَِإنّا إِلَى َربّنَا َلمُنقَِلبُونَ}) [الزخرف ]14 ،13 :ثم كبره وحمده ثم قال( :سبحانك ظلمت نفسي فاغفر
لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت) ،ثم ضحك ! وقال( :إن الرب يعجب من عبده إذا قال :اغفـر لي ،فإنه ل يغفـر
الذنوب إل أنت ،يقول علم عبدي أنه ل يغفر الذنوب إل أنا).
لّ مَا تَ َقدّمَ
ك َفتْحًا ُمبِينًا ِ .ل َيغْفِرَ َلكَ ا ُ س َتغْ ِفرْ ِلذَ ْن ِبكَ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ} [محمد ،]19 :وقالِ{ :إنّا َفتَ ْ
حنَا َل َ وقد قال تعالى{ :وَا ْ
مِنْ َذ ْن ِبكَ َومَا َتأَخّرَ}[الفتح ،]2 ،1 :وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة( :أن المسيح يقول :اذهبوا إلى محمد عبد
غفر الّ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ،وفي الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقوم حتى ترم قدماه ،فيقال
له :أتفعل هذا وقد غفر الّ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال( :أفل أكون عبدًا شكورا).
ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين
كثيرة.
لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلت الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب.
وتأويلتهم تبين لمن /تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه .كتأويلهم قولهِ{ :ل َيغْ ِفرَ َلكَ ا ُ
لّ مَا تَ َقدّ َم مِنْ
ذَ ْن ِبكَ َومَا تَأَخّرَ} [الفتح ]2 :المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلن ويدل على ذلك وجوه:
أحدها :أن آدم قد تاب الّ عليه قبل أن ينزل إلى الرض فضلً عن عام الحديبية الذي أنزل الّ فيه هذه السورة ،قال
ج َتبَاهُ َربّ ُه َفتَابَ عََليْهِ وَ َهدَى} [طه ،]122 ،121 :وقالَ { :فتَلَقّى آدَ ُم مِنْ َربّ ِه كَِلمَاتٍ تعالىِ{ :وَ َ
عصَى آدَمُ َربّ ُه َفغَوَى .ثُمّ ا ْ
ن مِنْ
ح ْمنَا َلنَكُونَ ّ َفتَابَ عََليْهِ ِإنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ} [البقرة ،]37 :وقد ذكر أنه قالَ { :رّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُ َ
سنَا وَإِنْ لَ ْم َتغْ ِفرْ َلنَا َوتَرْ َ
الْخَا ِسرِينَ} [العراف.]23 :
والثاني :أن يقال :فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ول يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أيضًا ،ومن
قال :إنه لم يصدر من النبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما.
الوجه الثالث :أن الّ ل يجعل الذنب ذنبًا لمن لم يفعله فإنه هو القائلَ { :و َل تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [ السراء.]15 :
فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد صلى ال عليه وسلم ذنب آدم صلى ال عليه وسلم أو أمته أو غيرهما .وقد قال
لّ َل ُتكَلّفُ ِإ ّل نَفْ َسكَ} [النساء: حمّ ْلتُمْ} [النور ]54 :وقال تعالى{ :فَقَاتِلْ فِي َ
سبِيلِ ا ِ حمّلَ وَعََل ْيكُ ْم مَا ُ تعالىَ { :فِإنّمَا َ
عَليْهِ مَا ُ
ن ذَ ْن ِبكَ ،]84ولو جاز هذا لجاز /أن يضاف إلى محمد ذنوب النبياء كلهم ،ويقال :إن قولهِ{ :ل َيغْ ِفرَ َلكَ ا ُ
لّ مَا تَ َقدّ َم مِ ْ
َومَا تََأخّرَ} [الفتح ]2 :المراد :ذنوب النبياء وأممهم قبلك ،فإنه يوم القيامة يشفع للخلئق كلهم ،وهو سيد ولد آدم،
وقال( :أنا سيد ولد آدم ول فخر ،وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة .أنا خطيب النبياء إذا وفدوا ،وإمامهم إذا
اجتمعوا) وحينئذ فل يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد ،بل تجعل ذنوب الولين والخرين على قول هؤلء ذنوبًا له.
فإن قال :إن الّ لم يغفر ذنوب جميع المم ،قيل :وهو أيضًا لم يغفر ذنوب جميع أمته.
الوجه الرابع :أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله{ :وَا ْس َتغْ ِفرْ ِلذَ ْن ِبكَ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ} [محمد ]19 :فكيف
يكون ذنب المؤمنين ذنبًا له.
الوجه الخامس :أنه ثبت في الصحيح أن هذه الية لما نزلت قال الصحابة يا رسول الّ هذا لك فما لنا؟ فأنزل الّ{ :هُوَ
اّلذِي َأنْزَلَ ال ّسكِينَةَ فِي ُقلُوبِ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ ِليَ ْزدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَا ِنهِمْ} [الفتح ]4 :فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن
لّ مَا تَ َقدّ َم مِنْ َذ ْنبِكَ َومَا َتأَخّرَ} مختص به دون أمته. قولهِ{ :ل َيغْفِرَ َلكَ ا ُ
الوجه السادس :أن الّ لم يغفر ذنوب جميع أمته ،بل قد ثبت /أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في
الخرة ،وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف المة وأئمتها ،وشوهد في الدنيا من
ب مَنْ َي ْعمَلْ سُوءًا يُجْ َز بِهِ} [النساء]123 : ذلك ما ل يحصيه إل الّ ،وقد قال الّ تعالىَ{ :ليْ َ
س ِبَأمَا ِنيّكُمْ َولَ َأمَانِيّ أَهْلِ ا ْل ِكتَا ِ
والستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الفضل .فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الول،
لكن الذم والوعيد ل يكون إل على ذنب.
َفصْـــل
وأما قول السائل :هل العتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة الصادرة عنها ،أم
يحتاج إلى شيء آخر؟
فجوابه :أن الموجب للغفران مع التوحيد هو التوبة المأمور بها ،فإن الشرك ل يغفره الّ إل بتوبة ،كما قال تعالى{ :
ك بِهِ َو َيغْفِ ُر مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَ ْن يَشَاءُ} [النساء ]116 ،48 :في موضعين من القرآن ،وما دون الشرك ن يُشْ َر َ
ل َيغْفِرُ أَ ْ
لّ َ
إِنّ ا َ
ل تَ ْقنَطُوا مِنْ
سهِ ْم َ
س َرفُوا عَلَى َأنْفُ ِ
عبَادِي اّلذِينَ أَ ْ فهو مع التوبة مغفور ،وبدون التوبة معلق بالمشيئة كما قال تعالى{ :قُ ْ
ل يَا ِ
لّ َيغْفِ ُر ال ّذنُوبَ َجمِيعًا} [الزمر ]53 :فهذا في حق التائبين؛ ولهذا عمم وأطلق ،وحتم أنه يغفر الذنوب حمَةِ الِّ إِنّ ا َرَ ْ
جميعًا ،وقال في تلك اليةَ { :و َيغْفِ ُر مَا دُو َن ذَِلكَ ِلمَنْ يَشَاءُ} فخص ما دون الشرك وعلقه بالمشيئة فإذا كان الشرك ل
يغفر إل بتوبة ،وأما ما دونه فيغفره الّ للتائب ،وقد يغفره بدون التوبة لمن يشاء.
فالعتراف بالخطيئة مع التوحيد إن كان متضمنًا للتوبة أوجب المغفرة ،وإذا غفر الذنب زالت عقوبته ،فإن المغفرة
هي وقاية شر الذنب.
ومن الناس من يقول :الغفر الستر ،ويقول :إنما سمي المغفرة والغفار؛ لما فيه من معنى الستر ،وتفسير اسم الّ الغفار
بأنه الستار .وهذا تقصير في معنى الغفر ،فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث ل يعاقب على الذنب ،فمن غفر
ذنبه لم يعاقب عليه .وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن ،ومن عوقب على الذنب باطنًا أو ظاهرًا فلم يغفر
له،وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب.
وأما إذا ابتلى مع ذلك بما يكون سببًا في حقه لزيادة أجره فهذا ل ينافى المغفرة.
/وكذلك إذا كان من تمام التوبة أن يأتي بحسنات يفعلها ،فإن من يشترط في التوبة من تمام التوبة ،وقد يظن الظان أنه
تائب ول يكون تائبًا بل يكون تاركًا ،والتارك غير التائب ،فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضى
لعجزه عنه ،أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني ،وهذا ليس بتوبة ،بل لبد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي الّ
ل تعالى ،ل لرغبة مخلوق ول لرهبة مخلوق ،فإن التوبة من أعظم الحسنات ،والحسنات كلها يشترك عنه ويدعه ّ
ل وموافقة أمره ،كما قال الفضيل بن عياض في قولهِ{ :ل َيبْلُ َوكُمْ َأّيكُمْ َأحْسَنُ َعمَلً} [الملك ]2 :قال:
فيها الخلص ّ
أخلصه وأصوبه ،قالوا :يا أبا على ،ما أخلصه وأصوبه؟ قال :إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل ،وإذا
كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل ،حتى يكون خالصًا صوابًا .والخالص أن يكون لّ ،والصواب أن يكون على
السنة.
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ يقول في دعائه :اللهم اجعل عملي كله صالحًا ،واجعله لوجهك خالصًا ،ول
تجعل لحد فيه شيئًا.
وأما العتراف بالذنب على وجه الخضوع لّ من غير إقلع عنه فهذا في نفس الستغفار المجرد الذي ل توبة معه،
وهو كالذي يسأل /الّ تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه ،وهذا يأس من رحمة ال ،ول يقطع بالمغفرة له
فإنه داع دعوة مجردة .وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ما من داع يدعو بدعوة ليس
فيها إثم ول قطيعة رحم إل كان بين إحدى ثلث :إما أن يعجل له دعوته ،وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها ،وإما أن
يصرف عنه من الشر مثلها) .قالوا :يا رسول الّ ،إذًا نكثر قال( :الّ أكثر) .فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة،
وإذا لم تحصل فلبد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر ،فهو نافع كما ينفع كل دعاء.
وقول من قال من العلماء :الستغفار مع الصرار توبة الكذابين ،فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو
يدعي أن استغفاره توبة ،وأنه تائب بهذا الستغفار فل ريب أنه مع الصرار ل يكون تائبًا ،فإن التوبة والصرار
ضدان :الصرار يضاد التوبة ،لكن ل يضاد الستغفار بدون التوبة.
وقول القائل :هل العتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة أم لبد من استحضار جميع
الذنوب؟
وذهب طائفة من أهل الكلم كأبي هاشم إلى أن التوبة ل تصح من قبيح مع الصرار على الخر ،قالوا :لن الباعث
على التوبة إن لم يكن من خشية الّ لم يكن توبة صحيحة ،والخشية مانعة من جميع الذنوب ل من بعضها ،وحكى
القاضي أبو يعلى وابن عقيل هذا رواية عن أحمد؛ لن المروزي نقل عنه أنه سئل عمن تاب من الفاحشة وقال :لو
مرضت لم أعد لكن ل يدع النظر ،فقال أحمد :أي توبة هذه؟! قال جرير بن عبد الّ :سألت رسول الّ صلى ال عليه
وسلم عن نظرة الفجأة فقال( :اصرف بصرك).
والمعروف عن أحمد وسائر الئمة هو القول بصحة التوبة ،وأحمد في هذه المسألة إنما أراد أن هذه ليست توبة عامة
يحصل بسببها من التائبين توبة مطلقًا ،لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر ،فإن نصوصه المتواترة عنه
وأقواله الثابتة تنافي ذلك ،وحمل كلم المام على ما يصدق بعضه بعضًا أولى من حمله على التناقض ،ل سيما إذا
كان القول الخر مبتدعًا لم يعرف عن أحد من السلف ،وأحمد يقول / :إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام،
وكان في المحنة يقول :كيف أقول ما لم ُيقَل؟ واتباع أحمد للسنة والثار وقوة رغبته في ذلك ،وكراهته لخلفه من
المور المتواترة عنه يعرفها من يعرف حاله من الخاصة والعامة.
وما ذكروه من أن الخشية توجب العموم .فجوابه أنه قد يعلم قبح أحد الذنبين دون الخر ،وإنما يتوب مما يعلم قبحه.
وأيضًا ،فقد يعلم قبحها ولكن هواه يغلبه في أحدهما دون الخر فيتوب من هذا دون ذاك ،كمن أدى بعض الواجبات
دون بعض ،فإن ذلك يقبل منه.
ولكن المعتزلة لهم أصل فاسد وافقوا فيه الخوارج في الحكم وإن خالفوهم في السم ،فقالوا :إن أصحاب الكبائر
يخلدون في النار ول يخرجون منها بشفاعة ول غيرها ،وعندهم يمتنع أن يكون الرجل الواحد ممن يعاقبه الّ ثم
يثيبه؛ ولهذا يقولون بحبوط جميع الحسنات بالكبيرة.
وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة ،فعلى أن أهل الكبائر يخرجون /من النار ويشفع فيهم ،وأن الكبيرة الواحدة ل
تحبط جميع الحسنات ،ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة ،ول يحبط جميع الحسنات إل الكفر ،كما ل يحبط
جميع السيئات إل التوبة ،فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الّ أثابه الّ على ذلك ،وإن كان مستحقًا
للعقوبة على كبيرته.
وكتاب الّ ـ عز وجل ـ يفرق بين حكم السارق والزاني وقتال المؤمنين بعضهم بعضًا ،وبين حكم الكفار في [
السماء ،والحكام] .والسنة المتواترة عن النبي صلى ال عليه وسلم وإجماع الصحابة يدل على ذلك ،كما هو مبسوط
في غير هذا الموضع.
لّ مِنْ ا ْل ُمتّقِينَ} [المائدة ]27 :فعلى قول الخوارج والمعتزلة ل تقبل حسنة
وعلى هذا تنازع الناس في قولهِ{ :إّنمَا َيتَ َقبّلُ ا ُ
إل ممن اتقاه مطلقًا فلم يأت كبيرة ،وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك ،فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم [
ل موافقًا لمر الّ ،فمن اتقاه في عمل
المتقين] وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الّ فيه فعمله خالصًا ّ
تقبله منه ،وإن كان عاصيًا في غيره .ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعًا في غيره.
والتوبة من بعض الذنوب دون بعض ،كفعل بعض الحسنات المأمور /بها دون بعض ،إذا لم يكن المتروك شرطًا في
س ْع َيهَا وَهُوَسعَى َلهَا َ صحة المفعول ،كاليمان المشروط في غيره من العمال ،كما قال الّ تعالىَ { :ومَنْ أَرَادَ الْخِرَةَ وَ َ
حيَاةً
ح ِييَنّهُ َ
ن فََلنُ ْ
ن َذكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُ َو مُ ْؤمِ ٌ عمِلَ صَاِلحًا مِ ْ شكُورًا} [السراء ،]19 :وقال تعالى{ :مَنْ َ س ْع ُيهُ ْم مَ ْ
ك كَانَ َ
مُ ْؤمِنٌ َفأُوَْل ِئ َ
عمَاُل ُه ْم فِي ال ّد ْنيَا وَالْخِ َرةِ وَأُوَْل ِئكَ
حبِطَتْ أَ ْ طّيبَةً} [النحل ،]79 :وقالَ { :ومَنْ يَ ْر َت ِددْ ِم ْنكُمْ عَ ْ
ن دِينِهِ َف َيمُتْ وَهُ َو كَافِ ٌر فَُأوَْل ِئكَ َ َ
صحَابُ النّارِ ُه ْم فِيهَا خَاِلدُونَ}[البقرة.]217 : أَ ْ
الصل الثاني :أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضى مغفرة ما تاب منه ،أما ما لم يتب
منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب ،ل على حكم من تاب ،وما علمت في هذا نزاعًا إل في الكافر إذا أسلم ،فإن
إسلمه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالسلم الكفر الذي تاب منه ،وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر
ولم يتب منها في السلم؟ هذا فيه قولن معروفان:
أحدهما :يغفر له الجميع ،لطلق قوله صلى ال عليه وسلم( :السلم يهدم ما كان قبله) رواه مسلم .مع قوله تعالى{ :
قُلْ لِّلذِينَ َكفَرُوا إِ ْن يَن َتهُوا ُيغْ َفرْ َلهُ ْم مَا َقدْ سَلَفَ} [النفال.]38 :
والقول الثاني :أنه ل يستحق أن يغفر له بالسلم إل ما تاب منه / ،فإذا أسلم وهو مصر على كبائر دون الكفر فحكمه
في ذلك حكم أمثاله من أهل الكبائر ،وهذا القول هو الذي تدل عليه الصول والنصوص ،فإن في الصحيحين أن النبي
صلى ال عليه وسلم قال له حكيم بن حزام :يا رسول الّ ،أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال( :من أحسن منكم في
السلم لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ،ومن أساء في السلم أخذ بالول والخر) فقد دل هذا النص على أنه إنما
ترفع المؤاخذة بالعمال التي فعلت في حال الجاهلية عمن أحسن ل عمن ل يحسن ،وإن لم يحسن أخذ بالول
والخر ،ومن لم يتب منها فلم يحسن.
وقوله تعالى{ :قُلْ ِلّلذِي َن كَفَرُوا إِ ْن يَن َتهُوا ُيغْفَرْ َلهُ ْم مَا َقدْ َسلَفَ} [النفال ]38 :يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما
قد سلف منه ،ل يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما سلف من غيره؛ وذلك لن قول القائل لغيره :إن انتهيت
غفرت لك ما تقدم ،ونحو ذلك يفهم منه عند الطلق أنك إن انتهيت عن هذا المر غفر لك ما تقدم منه ،وإذا انتهيت
عن شيء غفر لك ما تقدم منه ،كما يفهم مثل ذلك في قوله( :إن تبت) ،ل يفهم منه أنك بالنتهاء عن ذنب يغفر لك ما
تقدم من غيره.
وأما قول النبي صلى ال عليه وسلم( :السلم يهدم ما قبله) وفي رواية( :يجب ما كان قبله) فهذا قاله لما أسلم عمرو
بن العاص وطلب /أن يغفر له ما تقدم من ذنبه .فقال له( :يا عمرو ،أما علمت أن السلم يهدم ما كان قبله ،وأن
التوبة تهدم ما كان قبلها ،وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها) .ومعلوم أن التوبة إنما توجب مغفرة ما تاب منه ،ل توجب
التوبة غفران جميع الذنوب.
الصل الثالث :أن النسان قد يستحضر ذنوبًا فيتوب منها وقد يتوب توبة مطلقة ل يستحضر معها ذنوبه ،لكن إذا
كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنبًا؛ لن التوبة العامة تتضمن عزمًا عامًا بفعل المأمور وترك
المحظور ،وكذلك تتضمن ندمًا عامًا على كل محظور.
والندم سواء قيل :إنه من باب العتقادات ،أو من باب الرادات ،أو قيل :إنه من باب اللم التي تلحق النفس بسبب
فعل ما يضرها ،فإذا استشعر القلب أنه فعل ما يضره ،حصل له معرفة بأن الذي فعله كان من السيئات ،وهذا من
باب العتقادات ،وكراهية لما كان فعله ،وهو من جنس الرادات ،وحصل له أذى وغم لما كان فعله ،وهذا من باب
اللم ،كالغموم والحزان ،كما أن الفرح والسرور هو من باب اللذات ليس هو من باب العتقادات والرادات.
ومن قال من المتفلسفة ومن اتبعهم :إن اللذة هي إدراك الملئم /من حيث هو ملئم ،وأن اللم هو إدراك المنافر من
حيث هو منافر فقد غلط في ذلك .فإن اللذة واللم حالن يتعقبان إدراك الملئم والمنافر فإن الحب لما يلئمه،كالطعام
المشتهى مثلً له ثلثة أحوال:
والثالث :اللذة الحاصلة بذلك ،واللذة أمر مغاير للشهوة ولذوق المشتهي ،بل هي حاصلة لذوق المشتهي ،ليست نفس
ذوق المشتهي.
وكذلك المكروه ،كالضرب مثلً .فإن كراهته شيء ،وحصوله شيء آخر ،واللم الحاصل به ثالث.
وكذلك ما للعارفين أهل محبة الّ من النعيم والسرور بذلك ،فإن حبهم لّ شيء ،ثم ما يحصل من ذكر المحبوب
شيء ،ثم اللذة الحاصلة بذلك أمر ثالث ،ول ريب أن الحب مشروط بشعور المحبوب ،كما أن الشهوة مشروطة
بشعور المشتهي ،لكن الشعور المشروط في اللذة غير الشعور المشروط في المحبة ،فهذا الثاني يسمى إدراكًا وذوقًا
ونيلً ووجدًا ووصالً ،ونحو ذلك مما يعبر به عن إدراك المحبوب / ،سواء كان بالباطن أو الظاهر ،ثم هذا الذوق
يستلزم اللذة ،واللذة أمر يحسه الحي باطنًا وظاهرًا.
وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح( :ذاق طعم اليمان من رضى بالّ ربًا ،وبالسلم دينًا،
وبمحمد صلى ال عليه وسلم نبيًا) ،وفي الصحيحين عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ثلث من كن فيه وجد بهن
حلوة اليمان :من كان الّ ورسوله أحب إلىه من سواهما ،ومن كان يحب المرء ل يحبه إل الّ ،ومن كان يكره أن
يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه كما يكره أن يلقى في النار).
فبين صلى ال عليه وسلم أن َذوْقَ طعم اليمان لمن رضى بالّ ربًا ،وبالسلم دينًا ،وبمحمد نبيًا ،وأن َوجْدَ حلوة
ل ل لغيره ،ومن كان يكره اليمان حاصل لمن كان حبه لّ ورسوله أشد من حبه لغيرهما ،ومن كان يحب شخصًا ّ
ضد اليمان ،كما يكره أن يلقي في النار ،فهذا الحب لليمان ،والكراهية للكفر استلزم حلوة اليمان ،كما استلزم
الرضا المتقدم ذوق طعم اليمان ،وهذا هو اللذة ،وليس هو نفس التصديق والمعرفة الحاصلة في القلب ،ول نفس
الحب الحاصل في القلب ،بل هذا نتيجة ذاك وثمرته ولزم له ،وهي أمور متلزمة ،فل توجد اللذة إل بحب وذوق،
وإل فمن أحب شيئًا ولم يذق منه /شيئًا لم يجد لذة ،كالذي يشتهي الطعام ولم يذق منه شيئًا ،ولو ذاق ما ل يحبه لم
يجد لذة ،كمن ذاق ما ل يريده ،فإذا اجتمع حب الشيء وذوقه حصلت اللذة بعد ذلك.
وإن حصل بغضه وذوق البغيض حصل اللم ،فالذي يبغض الذنب ول يفعله ل يندم ،والذي ل يبغضه ل يندم على
فعله ،فإذا فعله وعرف أن هذا مما يبغضه ويضره ندم على فعله إياه .وفي المسند عن ابن مسعود عن النبي صلى ال
عليه وسلم أنه قال( :الندم توبة).
إذا تبين هذا ،فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها ،وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إل
أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص ،مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه؛ لقوة إرادته
إياه أو لعتقاده أنه حسن ليس بقبيح ،فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة ،وأما ما كان لو حضر
بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته.
وأما التوبة المطلقة ،وهي أن يتوب توبة مجملة ،ول تستلزم التوبة من كل ذنب ،فهذه ل توجب دخول كل فرد من
أفراد الذنوب فيها ول تمنع دخوله كاللفظ المطلق ،لكن هذه تصلح أن تكون سببًا لغفرانه المعين ،كما تصلح أن تكون
سببًا لغفران الجميع ،بخلف /العامة فإنها مقتضية للغفران العام ،كما تناولت الذنوب تناول عامًا.
وكثير من الناس ل يستحضر عند التوبة إل بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها ،أو بعض الظلم باللسان أو اليد،
وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب لّ عليه في باطنه وظاهره من شعب اليمان وحقائقه أعظم ضررًا عليه
مما فعله من بعض الفواحش ،فإن ما أمر ال به من حقائق اليمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقًا أعظم نفعًا
من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة ،كحب الّ ورسوله ،فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت في الصحيح أنه
كان على عهد النبي صلى ال عليه وسلم رجل يدعى حمارًا ،وكان يشرب الخمر ،وكان كلما أتى به إلى النبي صلى
ال عليه وسلم جلده الحد ،فلما كثر ذلك منه أتى به مرة فأمر بجلده فلعنه رجل فقال النبي صلى ال عليه وسلم( :ل
تلعنه فإنه يحب الّ ورسوله).
فنهي عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب الّ ورسوله ،مع أنه صلى ال عليه وسلم لعن في الخمرعشرة( :
لعن الخمر ،وعاصرها ومعتصرها،وشاربها وساقيها ،وحاملها والمحمولة إليه ،وبائعها ومبتاعها ،وآكل ثمنها).
ولكن لعن المطلق ل يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له.
/وكذلك [التكفير المطلق] ،و[الوعيد المطلق] .ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطًا بثبوت شروط
وانتفاء موانع ،فل يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين ،ول يلحق من له حسنات تمحو سيئاته ،ول يلحق المشفوع
له ،والمغفور له ،فإن الذنوب تزول عقوبتها ـ التي هي جهنم ـ بأسباب التوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ـ
لكنها من عقوبات الدنيا ـ وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة ،وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة ،وتزول
أيضًا بدعاء المؤمنين :كالصلة عليه وشفاعة الشفيع المطاع ،كمن يشفع فيه سيد الشفعاء محمد صلى ال عليه وسلم
تسليمًا.
وحينئذ ،فأي ذنب تاب منه ارتفع موجبه ،وما لم يتب منه فله حكم الذنوب التي لم يتب منها ،فالشدة إذا حصلت
بذنوب وتاب من بعضها خفف منه بقدر ما تاب منه ،بخلف ما لم يتب منه ،بخلف صاحب التوبة العامة.
والناس في غالب أحوالهم ل يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك ،فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال ،لنه
دائمًا يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور؛ فعليه أن يتوب دائمًا ،والّ أعلم.
وأما قول السائل :ما السبب في أن الفَرَجَ يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق؟ وما الحيلة في صرف القلب عن /
التعلق بهم وتعلقه بال؟
فتوحيد الربوبية :أنه ل خالق إل الّ ،فل يستقل شيء سواه بإحداث أمر من المور ،بل ما شاء كان وما لم يشأ لم
يكن ،فكل ما سواه إذا قدر سببًا فلبد له من شريك معاون وضد معوق ،فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من المور
طلب منه ما ل يستقل به ول يقدر وحده عليه ،حتى ما يطلب من العبد من الفعال الختيارية ل يفعلها إل بإعانة الّ
له ،كأن يجعله فاعلً لها بما يخلقه فيه من الرادة الجازمة ويخلقه له من القدرة التامة ،وعند وجود القدرة التامة
والرادة الجازمة يجب وجود المقدور.
فمشيئة الّ وحده مستلزمة لكل ما يريده ،فما شاء الّ كان وما لم يشأ لم يكن ،وما سواه ل تستلزم إرادته شيئًا ،بل ما
أراده ل يكون إل بأمور خارجة عن مقدوره إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده ،ونفس إرادته ل تحصل إل بمشيئة
الّ تعالى .كما قال تعالىِ{ :لمَنْ شَا َء ِم ْنكُمْ أَ ْن يَ ْستَقِيمََ .ومَا تَشَاءُونَ ِإلّ أَ ْن يَشَاءَ الُّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [التكوير ،]29 ،28 :وقال
ح َمتِهِ وَالظّاِلمِينَ ن يَشَا ُء فِي رَ ْل مَ ْحكِيمًاُ .يدْخِ ُ
لّ كَانَ عَلِيمًا َ ن يَشَاءَ الُّ إِنّ ا َسبِيلًَ .ومَا تَشَاءُونَ ِإلّ أَ ْ /تعالىَ { :فمَنْ شَا َء اتّ َ
خذَ إِلَى َربّهِ َ
ن يَشَاءَ الُّ هُوَ أَهْلُ التّ ْقوَى وَأَ ْهلُ ا ْل َمغْفِرَةِ}عذَابًا أَلِيمًا} [النسان29 :ـ ،]31وقالَ { :فمَنْ شَا َء ذَكَرَهَُ .ومَا يَ ْذكُرُونَ ِإلّ أَ ْ عدّ َل ُهمْ َ
أَ َ
[المدثر.]56 ،55 :
والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق وذلك المخلوق عاجز عنه ،ثم هذا من الشرك الذي ل يغفره
الّ ،فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى
التوحيد ،ثم إن وحّدَه العبد توحيد اللهية حصلت له سعادة الدنيا والخرة.
كما احتج ـ سبحانه ـ على المشركين الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون ول يعبدونه وحده ل شريك له ،قال
سبْعِ وَرَبّ ا ْلعَرْشِ
سمَاوَاتِ ال ّ
ل مَنْ رَبّ ال ّ
سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَلَ َت َذكّرُونَ .قُ ْ تعالى{ :قُلْ ِلمَنْ الَْ ْرضُ َومَنْ فِيهَا إِ ْ
ن كُنتُ ْم َتعَْلمُونََ .
ل فََأنّا
سيَقُولُونَ لِّ قُ ْ
ن كُنتُ ْم َتعَْلمُونََ .
ل يُجَارُ عََليْهِ إِ ْ
يءٍ وَهُ َو يُجِيرُ َو َ ت كُلّ شَ ْن ِبيَدِ ِه مََلكُو ُ
ل مَ ْ
ل َتتّقُونَ .قُ ْ
س َيقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَ َ
ا ْلعَظِيمَِ .
شمْسَ وَالْ َقمَرَ َليَقُولُنّ الُّ
سمَاوَاتِ وَالَْرْضَ َوسَخّرَ ال ّ تُسْحَرُونَ}[المؤمنون 84 :ـ ،]89وقال تعالى{ :وََلئِنْ سََأ ْلتَهُ ْم مَنْ َ
خلَقَ ال ّ
فََأنّا يُ ْؤ َفكُونَ}[العنكبوت ]61 :وهذا قد ذكر في القرآن في غير موضع.
فمن تمام نعمة الّ على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين
ويرجونه ل يرجون أحدًا سواه ،وتتعلق قلوبهم به ل بغيره ،فيحصل لهم من التوكل عليه والنابة إليه ،وحلوة
اليمان وذوق طعمه ،والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف ،أو الجدب ،أو
حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة ،فإن ذلك لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل
للمؤمن.
وأما ما يحصل لهل التوحيد المخلصين لّ الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال ،أو يستحضر تفصيله بال ،ولكل
مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه ،ولهذا قال بعض السلف :يا بن آدم ،لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع
باب سيدك .وقال بعض الشيوخ :إنه ليكون لي إلى الّ حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلوة مناجاته ما ل
أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي /عن ذلك ،لن النفس ل تريد إل حظها فإذا قضى
انصرفت .وفي بعض السرائيليات يا بن آدم ،البلء يجمع بيني وبينك ،والعافية تجمع بينك وبين نفسك.
وهذا المعنى كثير ،وهو موجود مذوق محسوس بالحس الباطن للمؤمن ،وما من مؤمن إل وقد وجد من ذلك ما
يعرف به ما ذكرناه ،فإن ذلك من باب الذوق والحس ل يعرفه إل من كان له ذوق وحس بذلك.
ولفظ [الذوق] وإن كان قد يظن أنه في الصل مختص بذوق اللسان ،فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم
من ذلك مستعمل في الحساس بالملئم والمنافر ،كما أن لفظ [الحساس] في عرف الستعمال عام فيما يحس
بالحواس الخمس ،بل وبالباطن.
س ِم ْنهُ ْم مِنْ أَ َحدٍ} [مريم.]98 : وأما في اللغة فأصله [الرؤية] كما قال{ :هَ ْ
ل تُحِ ّ
والمقصود لفظ [الذوق] قال تعالى{ :فََأذَا َقهَا الُّ ِلبَاسَ ا ْلجُوعِ وَالْ َخوْفِ} [النحل ]112 :فجعل الخوف والجوع مذوقًا،
وأضاف إليهما اللباس ليشعر أنه لبس الجائع والخائف فشمله وأحاط به إحاطة اللباس باللبس /،بخلف من كان اللم
ل يستوعب مشاعره بل يختص ببعض المواضع ،وقال تعالىِ{ :إّنكُمْ َلذَائِقُو ا ْلعَذَابِ ا َلْلِيمِ} [الصافات ،]38 :وقال
سقَرَ} [القمر ،]48 :وقالَ { :
ل َيذُوقُونَ تعالى{ :ذُقْ ِإّنكَ َأنْتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ} [الدخان ،] 49 :وقال تعالى{ :ذُوقُوا مَسّ َ
حمِيمًا وَغَسّاقًا}[النبأ ،]25 ،24 :وقال{ : فِيهَا ا ْلمَوْتَ} [الدخان ،]56 :وقال تعالىَ { :
ل َيذُوقُونَ فِيهَا بَ ْردًا َولَ شَرَابًاِ .إلّ َ
وََلُنذِي َقّنهُ ْم مِنْ ا ْل َعذَابِ ا َلْ ْدنَى دُونَ ا ْل َعذَابِ ا َلْ ْكبَرِ}[السجدة ،]21 :وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم( :ذاق طعم اليمان
من رضى بالّ ربًا وبالسلم دينًا وبمحمد نبيًا).
فاستعمال لفظ [الذوق] في إدراك الملئم والمنافر كثير .وقال النبي صلى ال عليه وسلم( :ثلث من كن فيه وجد
حلوة اليمان) كما تقدم ذكر الحديث .فوجود المؤمن حلوة اليمان في قلبه وذوق طعم اليمان أمر يعرفه من
حصل له هذا الوجد.
وهذا الذوق ،أصحابه فيه يتفاوتون ،فالذي يحصل لهل اليمان عند تجريد توحيد قلوبهم إلى الّ وإقبالهم عليه دون
ما سواه بحيث يكونون حنفاء له مخلصين له الدين ،ل يحبون شيئًا إل له ،ول يتوكلون إل عليه ،ول يوالون إل فيه،
ول يعادون إل له ،ول يسألون إل إياه ،ول يرجـون إل إياه ،ول يخافـون إل إياه ،يعبدونه ويستعينون لـه وبـه ،بحيث
يكونون عند الحق بل خلق ،وعند الخلق بل هوى ،قد فنيت عنهم إرادة ما سواه بإرادته ،ومحبة ما سواه بمحبته،
وخوف /ما سواه بخوفه ،ورجاء ما سواه برجائه ،ودعاء ما سواه بدعائه ،هو أمر ل يعرفه بالذوق والوجد إل من له
نصيب ،وما من مؤمن إل له منه نصيب.
وهذا هو حقيقة السلم الذي بعث الّ به الرسل ،وأنزل به الكتب ،وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه .والّ
سبحانه أعلم.
َفصْــل
أحدها :فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب ،والتوكل عليه وعبادته ،وما يتبع ذلك ،فهذا حق صحيح وهو محض
التوحيد والخلص ،وهو في الحقيقة عبادة القلب ،وتوكله ،واستعانته ،وتألهه وإنابته ،وتوجهه إلى الّ وحده ل
شريك له ،وما يتبع ذلك من المعارف والحوال .وليس لحد خروج عن هذا.
لّ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء ]89 :وهو سلمة القلب عن العتقادات وهذا هو القلب السليم الذي قال الّ فيهِ{ :إ ّ
ل مَنْ َأتَى ا َ
الفاسدة ،والرادات الفاسدة ،وما يتبع ذلك.
/وهذا [الفناء] ل ينافيه البقاء ،بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانيًا عن إرادة ما سواه ،وإن كان شاعرًا با ّ
ل
وبالسوى ،وترجمته قول :ل إله إل الّ ،وكان النبي صلى ال عليه وسلم يقول) :ل إله إل الّ ،ول نعبد إل إياه ،له
النعمة ،وله الفضل ،وله الثناء الحسن) وهذا في الجملة هو أول الدين وآخره.
المر الثاني :فناء القلب عن شهود ما سوى الرب ،فذاك فناء عن الرادة ،وهذا فناء عن الشهادة ،ذاك فناء عن عبادة
الغير والتوكل عليه ،وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه ،فهذا الفناء فيه نقص ،فإن شهود الحقائق على ما هي
عليه ،وهو شهود الرب مدبرًا العبادة ،آمرًا بشرائعه ،أكمل من شهود وجوده ،أو صفة من صفاته ،أو اسم من
أسمائه ،والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك.
ولهذا كان الصحابة أكمل شهودًا من أن ينقصهم شهود للحق مجملً عن شهوده مفصلً ،ولكن عرض كثير من هذا
لكثير من المتأخرين من هذه المة .كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق؛ الموت والغشي والصياح
والضطراب ،وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه ،وعن شهود التفرقة في الجمع،والكثرة في
الوحدة ،حتى اختلفوا في إمكان ذلك ،وكثير منهم يرى أنه ل يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو المر
اشتغل عن الخالق المر .وإذا عورض بالنبي /صلى ال عليه وسلم وخلفائه ادعى الختصاص ،أو أعرض عن
الجواب أو تحير في المر.
وسبب ذلك أنه قاس جميع الخلق على ما وجده من نفسه؛ ولهذا يقول بعض هؤلء :إنه ل يمكن حين تجلى الحق
سماع كلمه ،ويحكى عن ابن عربي أنه لما ذكر له عن الشيخ شهاب الدين السهروردي أنه جوز اجتماع المرين.
قال :نحن نقول له عن شهود الذات وهو يخبرنا عن شهود الصفات ،والصواب مع شهاب الدين .فإنه كان صحيح
العتقاد في امتياز الرب عن العبد .وإنما بنى ابن عربي على أصله الكفري في أن الحق هو الوجود الفائض على
الممكنات ،ومعلوم أن شهود هذا ل يقع فيه خطاب ،وإنما الخطاب في مقام العقل.
وفي هذا الفناء قد يقول :أنا الحق ،أو سبحاني ،أو ما في الجبة إل الّ ،إذا فنى بمشهوده عن شهوده ،وبموجوده عن
وجوده ،وبمذكوره عن ذكره ،وبمعروفه عن عرفانه .كما يحكون أن رجلً كان مستغرقًا في محبة آخر ،فوقع
المحبوب في اليم فألقى الخر نفسه خلفه ،فقال ما الذي أوقعك خلفي؟ فقال :غبت بك عني فظننت أنك أني.
وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود /حلوة اليمان ،كما يحصل بسكر الخمر ،وسكر عشيق
الصور .وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء ،كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق
ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشائخ ،كقول بعضهم :أنصب خيمتي على
جهنم ،ونحو ذلك من القوال والعمال المخالفة للشرع ،وقد يكون صاحبها غير مأثوم ،وإن لم يكن فيشبه هذا الباب
أمر خفراء العدو ومن يعين كافرًا أو ظالمًا بحال ويزعم أنه مغلوب عليه .ويحكم على هؤلء أن أحدهم إذا زال عقله
بسبب غير محرم فل جناح عليهم فيما يصدر عنهم من القوال والفعال المحرمة بخلف ما إذا كان سبب زوال
العقل والغلبة أمرًا محرمًا.
وهذا كما قلنا في عقلء المجانين والمولهين ،الذين صار ذلك لهم مقامًا دائمًا ،كما أنه يعرض لهؤلء في بعض
الوقات ،كما قال بعض العلماء ذلك فيمن زال عقله حتى ترك شيئًا من الواجبات :إن كان زواله بسبب غير محرم
مثل الغماء بالمرض أو أسقى مكرها شيئًا يزيل عقله فل إثم عليه ،وإن زال بشرب الخمر ونحو ذلك من الحوال
المحرمة أثم بترك الواجب ،وكذلك المر في فعل المحرم.
وكما أنه ل جناح عليهم فل يجوز القتداء بهم ول حمل كلمهم وفعالهم على الصحة بل هم في الخاصة مثل الغافل
والمجنون في التكاليف /الظاهرة ،وقال فيهم بعض العلماء :هؤلء قوم أعطاهم الّ عقولً وأحوالً فسلب عقولهم
وترك أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب.
ولهذا اتفق العارفون على أن حال البقاء أفضل من ذلك ،وهو شهود الحقائق بإشهاد الحق ،كما قال الّ ـ تعالى ـ فيما
روى عنه رسوله( :ول يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره
الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها ،ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه .فبي
يسمع وبي يبصر ،وبي يبطش وبي يمشي" وفي رواية" :وبي ينطق ،وبي يعقل) .فإذا سمع بالحق ورأى به سمع
المر على ما هو عليه وشهد الحق على ما هو عليه.
وعامة ما تجده في كتب أصحاء الصوفية مثل شيخ السلم ومن قبله من الفناء هو هذا ،مع أنه قد يغلط بعضهم في
بعض أحكامه كما تكلمت عليه في غير هذا الموضع.
وفي الجملة ،فهذا الفناء صحيح وهو في عيسوية المحمدية ،وهو شبيه بالصعق والصياح الذي حدث في التابعين؛
ولهذا يقع كثير من هؤلء في نوع ضلل؛ لن الفناء عن شهود الحقائق مرجعه إلى عدم العلم والشهود .وهو وصف
نقص ل وصف كمال ،وإنما يمدح من جهة /عدم إرادة ما سواه؛ لن ذكر المخلوق قد يدعو إلى إرادته والفتنة به.
ولهذا غالب عباد [العيسوية] في عدم العلم بالسوي ،وإرادته والفتنة به ،ويوصفون بسلمة القلوب .وغالب علماء [
الموسوية] في العلم بالسوي وإرادته والفتنة به ،ويوصفون بالعلم ،لكن الولون موصوفون بالجهل والعدل.
والخرون موصوفون بالظلم ...وكلهما صحيح.
فأما العلم بالحق والخلق ،وإرادة الّ وحده ل شريك له فهذا نعت المحمدية الكاملون في العلم والرادة ،وسلمة القلب
المحمودة ،هي سلمة ...إذ الجهل ل يكون بنفسه صفة مدح .إل أنه قد يمدح لسلمته به عن الشرور ،فإن أكثر
النفوس إذا عرفت الشر الذي تهواه اتبعته أو فزعت منه أو فتنها.
الثالث :فناء عن وجود السوى :بمعنى أنه يرى أن الّ هو الوجود ،وأنه ل وجود لسواه ،ل به ول بغيره ،وهذا القول
والحال للتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ونحوهم الذين يجعلون الحقيقة أنه عين
الموجودات وحقيقة الكائنات ،وأنه /ل وجود لغيره ،ل بمعنى أن قيام الشياء به ووجودها به ،كما قال النبي صلى
ال عليه وسلم" :أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
وكما قيل في قوله{ :كُلّ َشيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ وَ ْجهَهُ}[القصص ]88 :فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح،
لكنهم يريدون أنه هو عين الموجودات ،فهذا كفر وضلل .ربما تمسك أصحابه بألفاظ متشابهة توجد في كلم بعض
المشايخ ،كما تمسك النصارى بألفاظ متشابهة تروى عن المسيح ،ويرجعون إلى وجد فاسد أو قياس فاسد .فتدبر هذا
التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم.
َفصْـــل
المر والنهي ،الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة ،فل تجب الشريعة
على من ل يمكنه العلم كالمجنون والطفل ،ول تجب على من يعجز كالعمى والعرج والمريض في الجهاد ،وكما
ل تجب الطهارة بالماء ،والصلة قائمًا والصوم ،وغير ذلك على من يعجز عنه.
سواء قيل :يجوز تكليف ما ل يطاق أو لم يجز ،فإنه ل خلف أن تكليف العاجز الذي ل قدرة له على الفعل بحال غير
واقع في /الشريعة ،بل قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم ،والقدرة تخفيفًا عنه ،وضبطًا لمناط
التكليف ،وإن كان تكليفه ممكنًا ،كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ،وإن كان له فهم وتمييز ،لكن ذاك لنه لم يتم
فهمه ،ولن العقل يظهر في الناس شيئًا فشيئًا ،وهم يختلفون فيه ،فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ.
وكما ل يجب الحج إل على من ملك زادًا وراحلة عند جمهور العلماء ،مع إمكان المشي لما فيه من المشقة ،وكما ل
يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيفًا عليه ،وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض
وتأخر البرء ،وإن كان فعلها ممكنًا.
لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع ،فقد يوجب الّ في شريعة ما يشق ،ويحرم ما يشق تحريمه ،كالصار
ن نَسِينَا أَوْ خ ْذنَا إِ ْ والغلل التي كانت على بني إسرائيل ،وقد يخفف في شريعة أخرى ،كما قال المؤمنونَ { :رّبنَا َ
ل تُؤَا ِ
ن َقبِْلنَا}[البقرة ،]286 :وكما قال الّ تعالى{ :يُرِيدُ ا ُ
لّ بِكُمْ ا ْليُسْرَ حمَ ْلتَهُ عَلَى اّلذِينَ مِ ْ
حمِلْ عََل ْينَا ِإصْرًا َكمَا َ
خطَ ْأنَا َربّنَا َولَ تَ ْأَ ْ
عَليْكُ ْم فِي
جعَلَ َ جعَلَ عََل ْيكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة ،]6 :وقالَ { :ومَا َ
ل يُرِي ُد ِبكُمْ ا ْلعُسْرَ} [البقرة ،]185 :وقال{ :مَا يُرِيدُ الُّ ِل َي ْ َو َ
الدّينِ مِنْ َحرَجٍ} [الحج ،]78 :وقال{ :يُرِيدُ الُّ أَ ْن يُخَفّفَ َعنْكُمْ}[النساء.]28 :
/وقال النبي صلى ال عليه وسلم لصحابه في قصة العرابي( :إنما بعثتم ميسرين ،ولم تبعثوا معسرين) ،وقال لمعاذ
وأبي موسى( :يسرا ول تعسرا) ،وقال( :إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إل غلبه) ،وقال( :ل تشددوا على
أنفسكم فيشدد الّ عليكم ،فإن أقوامًا شددوا على أنفسهم ،فشدد الّ عليهم،فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات،
ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) ،وقال( :ل رهبانية في السلم)،وقال( :لكني أصوم وأفطر ،وأقوم وأنام،
وأتزوج النساء ،وآكل اللحم ،فمن رغب عن سنتي فليس مني) ،وقال( :إن الّ يحب أن يؤخذ برخصه ،كما يكره أن
تؤتي معصيته) ،وروى عنه أنه قال( :بعثت بالحنيفية السمحة).
وأما كون النسان مريدًا لما أمر به ،أو كارهًا له ،فهذا ل تلتفت إليه الشرائع ،بل ول أمر عاقل ،بل النسان مأمور
بمخالفة هواه.
والرادة :هي الفارقة بين أهل الجنة وأهل النار ،كما قال تعالى{ :مَنْ كَانَ يُرِيدُ ا ْلعَاجِلَةَ عَجّ ْلنَا لَ ُه فِيهَا مَا نَشَاءُ ِلمَ ْ
ن نُرِي ُد ثُمّ
ك كَانَ َس ْعُيهُ ْم مَ ْشكُورًا} [السراء: ن فَأُوَْل ِئ َ
س ْع َيهَا وَهُ َو مُ ْؤمِ ٌ
سعَى َلهَا َ
خرَةَ وَ َج َهنّ َم يَصْلَهَا َم ْذمُومًا مَدْحُورًا َ .ومَنْ أَرَادَ الْ ِ جعَ ْلنَا لَهُ َ َ
ك الدّارُ الْ ِخرَ ُة نَ ْجعَُلهَا ِلّلذِي َن لَ يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي ا َلْرْضِ َو َل فَسَادًا} [القصص ،]83 :وقال ،]19 ،18وقال تعالى{ :تِ ْل َ
ن يَدْعُونَ عمَاَل ُه ْم فِيهَا} الية [هود ،]15 :وقال تعالىَ { :و َ
ل تَطْ ُردْ اّلذِي َ حيَاةَ الدّ ْنيَا وَزِي َن َتهَا نُوَفّ إَِل ْيهِمْ أَ ْ
ن يُرِيدُ ا ْل َ
ن كَا َ تعالى{ :مَ ْ
ي يُرِيدُونَ َو ْجهَهُ} [النعام ،]52 :ونظائره كثيرة. شَّرّبهُ ْم بِا ْل َغدَاةِ وَا ْلعَ ِ
فإن هذه الصول ممهدة في الكتاب والسنة ،وكلم العلماء والعارفين ،وليس الغرض هنا تقريرها.
وإنما الغرض شيء آخر ،وهو أنه إذا كان التكليف مشروطًا بالتمكن من العلم الذي أصله العقل ،وبالقدرة على الفعل
فنقول :كل من هذين قد يزول بأسباب محظورة ،وبأسباب غير محظورة ،فإذا أزال عقله بشرب الخمر أو البنج
ونحوهما لم يزل عنه بذلك ،أثم بما يتركه من الواجبات ويفعله من المحرمات ،إذا كان السكر يقتضي ذلك ،بخلف ما
إذا زال بسبب غير محرم ،كالغماء لمرض ،أو خوف ،أو سكر بشرب غير محرم ،مثل أن يجرع الخمر مكرهًا،
فإن هذا ل إثم عليه.
وأما قضاء الصلة عليه عند أحمد ،وعند من يقول :يقضي صلة يوم وليلة ،فذاك نظير وجوب قضائها على النائم
والناسي ،ول إثم عليهما ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :ليس في النوم تفريط ،وإنما التفريط في اليقظة) ،وقال:
(من نام عن صلة أو نسيها ،فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ل كفارة لها إل ذلك).
/وكذلك قدرة العبد ،فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه ،حتى ضيع ماله بقى الحج في ذمته ،وكذلك في استحلل
المحرمات ،قال الّ تعالىَ { :فمَنْ اضْطُرّ َغيْ َر بَاغٍ َولَ عَادٍ فَلَ ِإثْمَ عََليْهِ}[البقرة .]173 :فالضرورة بسبب محظور ل
تستباح بها المحرمات ،بخلف الضرورة التي هي بسبب غير محظور.
وقد اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يترخص ترخص المسافر؟ ومذهب الشافعي ،وأحمد أنه ل يترخص.
فالحوال التي ترد على العباد ،وأهل المعرفة والزهاد ،ونحوهم مما توجب زوال عقل أحدهم وعلمه ،حتى تجعله
كالمجنون والموله والسكران والنائم ،أو زوال قدرته حتى تجعله كالعاجز ،أو تجعله كالمضطر الذي يصدر عنه
القول والفعل بغير إرادته واختياره ،فإن زوال العقل والقدرة قد يوجب عجزه عن أداء واجبات ،وقد يوجب وقوعه
في محرمات.
فهؤلء يقال فيهم :إن كان زوال ذلك بسبب غير محرم ،فل حرج عليهم فيما يتركونه من الواجبات ،ويفعلونه من
المحرمات ،ول يجوز أيضًا اتباعهم فيما هو خارج عن الشريعة من أقوالهم وأفعالهم ،ول نذمهم على ذلك ،بل قد
يمدحون على ما وافقوا فيه الشريعة من /القوال والعمال ،ويرفع عنهم اللوم فيما عذرهم فيه الشارع ،كما يقال في
المجتهد المخطئ سواء ،بل المجتهد المخطئ نوع مـن هذا الجنس ،حيث سقط عنه اللوم؛ لعجزه عن العلم.
وإن كان زوال ذلك بسبب محرم ،استحقوا الذم والعقاب على ما يتركونه من واجب ويفعلونه من محرم.
مثال الول :من يسمع القرآن على الوجه المشروع ،فهاج له وجد يحبه ،أو مخافة أو رجاء ،فضعف عن حمله حتى
مات ،أو صعق ،أو صاح صياحًا عظيمًا ،أو اضطرب اضطرابًا كثيرًا ،فتولد عن ذلك ترك صلة واجبة ،أو تعدي
على بعض الناس ،فإن هذا معذور في ذلك ،فإن هذا في هذه الحال بمنزلة عقلء المجانين المولهين ،الذين حصل لهم
الجنون ،مع أنهم من الصالحين وأهل المعرفة ،إما لقوة الوارد الذي ورد عليهم ،وإما لضعف قلوبهم عن حمله ،وإما
لنحراف أمزجتهم وقوة الخلط ،وإما لعارض من الجن ،فإن هؤلء كما بلغنا عن المام أبي محمد المقدسي ،حيث
سئل عنهم ،فقال :هؤلء قوم أعطاهم الّ عقولً وأحوالً ،فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم ،وأسقط ما فرض بما سلب.
ولهذا كان هذا الصنف والذي قبله موجودًا في التابعين ومن /بعدهم ،ل سيما في عباد البصريين ،فإن فيهم من مات
من سماع القرآن ،كزرارة بن أوفى ،وأبي جهير الضرير وغيرهما.
وأما الصحابة ،فإن حالهم كان أكمل من أن يكون فيهم مجنون أو مصعوق ،ومن هؤلء أيضًا من غلب عليه الذكر
لّ ،والتوحيد له والمحبة حتى غاب بالمذكور المشهود المحبوب المعبود عما سواه ،كما يحصل لبعض العاشقين في
غيبته بمعشوقه عما سواه ،فيقول أحدهم في هذه الحال .أنا الحق ،أو سبحاني ،أو ما في الجبة إل الّ .ومنهم من غلب
عليه حال الرجاء والرحمة ،حتى قال :أبسط سجادتي على جهنم .فمن قال هذا في حال زوال عقله بحيث يكون
كالسكران أو الموله ،وكان السبب الذي أوجب ذلك غير منهي عنه شرعًا :فل إثم عليه.
ومثال الثاني :ما قد يحصل عند سماع المكاء والتصدية لكثير من أهل السماع ،فإنه قد ينشد أشعارًا فيها ما يخالف
الشرع بأصوات مخالفة للشرع ،ويكون النسان فيه استعداد فيوجب ذلك اختلطًا ،وزوال عقل ،حتى يقتل بعضهم
بعضًا ،إما ظاهرًا وإما باطنًا بالهمة والقلوب ،ويوجب أيضًا من ترك واجبات الشريعة ،ومن العتداء على المؤمنين
في الدين والدنيا ما الّ به عليم.
/وكذلك قد يسلك أحدهم عبادات غير شرعية في العتقادات والعمال فتورثه تلك العبادات والعمال أحوالً قوية
قاهرة ،يترك بها الواجبات ،ويفعل بها المحرمات أعظم مما يفعله الملك الجبار ،إذا سكر بشرب الخمر بالنفوس
والموال.
وإذا خوطب أحدهم في حال صحوه ،وعقله قال :كنت مغلوبًا ،وورد علي وارد فعل بي هذا ،والحكم للوارد ،وهذه
حال كثير من خفراء العدو ،وكثير ممن يعين الكفرة والظلمة ،ويعتدي على المسلمين والمؤمنين من أهل الحوال،
ويقول :إنه مغلوب في ذلك ،وأنه ورد عليه وارد أوجب ذلك ،وأنه خوطب بذلك الفعل.
فيقال :أما زوال عقلك حتى صرت ل تفهم أمر الّ ونهيه ،وزوال قدرتك حتى صرت مضطرًا إلى تلك الفعال ،وإن
كنت صادقًا في ذلك ،فسببه تفريطك وعدوانك أولً ،حتى صرت في حال المجانين والسكارى ،فأنت بمنزلة شارب
الخمر الذي سكر منها ،والمتعرض للعشق حتى يعشق فيفعل فيه العشق الفاعيل؛ إذ ل فرق بين سكر الصوات
والصور والشراب ،فإن هذا سكر الجسام ،وهذا سكر النفوس ،وهذا سكر الرواح ،فإذا كان السبب محظورًا لم يكن
السكران معذورًا في دين السلم.
/ولهذا إنما تقع هذه الحوال ممن فيه نصرانية يميل بسببها إلى السكر ،كما يفعله النصارى في الشراب والصوات
والصور؛ ولهذا كان هؤلء في عالم الضلل.
وأما قولك :إنك خوطبت بذلك ،وأمرت فمن أي الجهتين؟ أمن جهة الكلمات الدينية؟ أم من جهة الكلمات الكونية؟
وإن أقررت أنه من الثانية فصحيح ،لكن هذا حال الكفار والمنافقين مثل إبليس وفرعون ونمرود ،وسائر من أطاع
الوامر الكونية ،وتبع الرادة القدرية ،وأعرض عن الوامر الشرعية ،ولم يقف عند الرادة الدينية.
فتدبر هذا الصل فإنه عظيم نافع جداً ،فتنكشف به الحوال المخالفة للشرع ،وانقسام أهلها إلى معذور وموزور،
كانقسامها إلى /مسطور على صاحبه ،ومغفور ،بمنزلة الحوال الصادرة عن غير أهل العبادات والزهادات من
العقل والصحو ،ومن الغماء والسكر والجنون ومن الضطرار والختيار ،فإن أحوال الملوك والمراء وأحوال
الهداة والعلماء ،وأحوال المشايخ والفقراء ،تشترك في هذه القاعدة الشريفة ،وتحكم الشريعة فيها بالفرقان.
وإذا ضم إلى ذلك أن ما يصدر عن ذوي الحوال من كشف علمي أو تأثير قدري ليس بمستلزم لولية ال ،بل ول
للصلح ،بل ول لليمان؛ إذ قد يكون هذا الجنس في كافر ،ومنافق ،وفاسق ،وعاصي ،وإنما أولياء ال الذين ل خوف
عليهم ول هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.
ففرق بين ولية الّ وبين الحوال ،كما فرق بين خلفة النبوة وبين جنس الملك ،وفرق بين العلم الذي ورثته النبياء،
وبين جنس الكلم ،فبين هذين النوعين خصوص وعموم ،فقد يكون الرجل ولياً لّ له حال تأثير وكشف ،وقد يكون
ولياً ليس له تلك الحال بكمالها ،وقد يكون له شيء من هذه الحوال ،وليس ولياً لّ ،كما قد يكون خليفة نبي مطاعاً،
وقد يكون خليفة نبي مستضعفاً ،وقد يكون جباراً مطاعاً ليس من النبوة في شيء ،وقد يكون عالماً ليس متكلما بما
يخالف كلم النبياء ،وقد يكون عالمًا متكلماً بكلم النبياء.
فَصــل
واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات في هذا القدر وغيره ،إنما وقع في المة في أواخر خلفة الخلفاء
الراشدين ،كما أخبر به النبي صلى ال عليه وسلم حيث قال( :من يعش منكم بعدي فسيري اختلفًا كثيرًا ،فعليكم
بسنتي ،وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).
ومعلوم أنه إذا استقام ولة المور الذين يحكمون في النفوس والموال استقام عامة الناس ،كما قال أبو بكر الصديق
فيمـا رواه البخـاري في صحيحه للمرأة الحمسية لما سألته فقالت :ما بقاؤنا على هذا المر الصالح ؟ قال :ما
استقامت لكم أئمتكم ،وفي الثر :صنفان إذا صلحوا صلح الناس :العلماء والمراء أهل الكتاب وأهل الحديد ،كما دل
عليه قوله{ :لَ َقدْ أَ ْرسَ ْلنَا} الية [الحديد.]25 :
وهم أولو المر ،في قوله{ :أَطِيعُوا الَّ وََأطِيعُوا الرّسُولَ وَأُوْلِي ا َلْمْ ِر ِم ْنكُمْ} [النساء.]59 :
/وكذلك من جهتهم يقع الفساد ،كما جاء في الحديث مرفوعًا ،وعن جماعة من الصحابة (إن أخوف ما أخاف عليكم:
زلة عالم ،وجدال منافق بالقرآن ،وأئمة مضلون) .فالئمة المضلون هم المراء ،والعالم والمجادل هم العلماء ،لكن
أحدهما صحيح العتقاد يزل ،وهو العالم ،كما يقع من أئمة الفقهاء أهل السنة والجماعة.
والثاني ،كالمتفلسفة والمتكلمين الذين يجادلون بشبهات القرآن مع أنهم في الحقيقة منسلخون من آيات الّ ،وإنما
احتجاجهم به دفعًا للخصم ،ل اهتداء به واعتمادًا عليه؛ ولهذا قال) :جدال منافق بالقرآن( فإن السنة والجماع تدفع
شبهته.
/فأصوله تمد فروعه وتثبتها ،وفروعه تكمل أصوله وتحفظها ،فإذا وقع فيه نقص ظاهر فإنما يقع ابتداء من جهة
فروعه؛ ولهذا قال صلى ال عليه وسلم( :أول ما تفقدون من دينكم المانة ،وآخر ما تفقدون من دينكم الصلة)،
وروى عنه أنه قال( :أول ما يرفع الحكم بالمانة) .والحكم هو عمل المراء ،وولة المور ،كما قال تعالى{ :إِنّ الَّ
يَ ْأمُ ُركُمْ أَ ْن تُ َؤدّوا ا َلْمَانَاتِ إِلَى أَهِْلهَا وَِإذَا َح َك ْمتُ ْم َبيْنَ النّاسِ أَ ْن تَ ْح ُكمُوا بِا ْل َعدْلِ} [النساء ،]58 :وأما الصلة فهي أول فرض،
وهي من أصول الدين واليمان ،مقرونة بالشهادتين ،فل تذهب إل في الخر ،كما قال صلى ال عليه وسلم( :بدأ
السلم غريبًا ،وسيعود غريبًا كما بدأ ،فطوبي للغرباء) فأخبر أن عوده كبدئه.
فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين ،وصار ملكًا ظهر النقص في المراء ،فلبد أن يظهر أيضًا في أهل العلم والدين،
فحدث في آخر خلفة علي بدعتا الخوارج والرافضة ،إذ هي متعلقة بالمامة والخلفة ،وتوابع ذلك من العمال،
والحكام الشرعية.
وكان ملك معاوية ملكًا ورحمة ،فلما ذهب معاوية ـ رحمة الّ عليه ـ وجاءت إمارة يزيد ،وجرت فيها فتنة قتل
الحسين بالعراق ،وفتنة أهل الحرة بالمدينة ،وحصروا مكة ،لما قام عبد الّ بن الزبير .
/ثم مات يزيد وتفرقت المة ،ابن الزبير بالحجاز،وبنو الحكم بالشام،ووثب المختار بن أبي عبيد وغيره بالعراق.
وذلك في أواخر عصر الصحابة ،وقد بقى فيهم مثل عبد الّ بن عباس ،وعبد الّ بن عمر ،وجابر بن عبد الّ ،وأبو
سعيد الخدري ،وغيرهم ،حدثت بدعة القدرية والمرجئة ،فردها بقايا الصحابة كابن عباس ،وابن عمر ،وجابر،
وواثلة بن السقع وغيرهم ـ رضي الّ عنهم ـ مع ما كانوا يردونه هم ،وغيرهم من بدعة الخوارج والروافض.
وعامة ما كانت القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه ،أعمال العباد ،كما يتكلم فيها المرجئة ،فصار كلمهم في الطاعة
والمعصية ،والمؤمن والفاسق ونحو ذلك من مسائل السماء والحكام ،والوعد والوعيد ،ولم يتكلموا بعد في ربهم ول
في صفاته إل في أواخر عصر صغار التابعين ،من حين أواخر الدولة الموية حين شرع القرن الثالث ـ تابعوا
التابعين ـ ينقرض أكثرهم ـ فإن العتبار في القرون الثلثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه ،وجمهور الصحابة
انقرضوا بانقراض خلفة الخلفاء الربعة ،حتى إنه لم يكن بقى من أهل بدر ،إل نفر قليل ،وجمهور التابعين
بإحسان ،انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك ،وجمهـور تابعي التابعين
انقرضوا في أواخر الدولة الموية ،وأوائل الدولة العباسية ـ وصار /في ولة المور كثير من العاجم ،وخرج كثير
من المر عن ولية العرب وعربت بعض الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والروم ،وظهر مـا قاله النبي صلى
ال عليه وسلم( :ثم يفشوا الكذب حـتى يشهد الرجل ،ول يستشهد ،ويحلف ،ول يستحلف) ،حدث ثلثة أشياء:
فكان جمهور الرأي من الكوفة ،إذ هو غالب على أهلها ،مع ما كان فيهم من التشيع الفاحش ،وكثرة الكذب في
الرواية ،مع أن في خيار أهلها من العلم ،والصدق ،والسنة والفقه ،والعبادة أمر عظيم ،لكن الغرض أن فيها نشأ كثرة
الكذب في الرواية .وكثرة الراء في الفقه ،والتشيع في الصول ،وكان جمهور الكلم والتصوف في البصرة.
فإنه بعد موت الحسن ،وابن سيرين بقليل ،ظهر عمرو بن عبيد ،وواصل بن عطاء ،ومن اتبعهما من أهل الكلم
والعتزال.
وظهر أحمد بن عطاء الهجيمي الذي صحب عبد الواحد بن زيد / ،وعبد الواحد صحب الحسن البصري ،ومن اتبعه
من المتصوفة ،وبنى دويرة للصوفية ،هي أول ما بني في السلم ،وكان عبد الرحمن بن مهدي وغيره يسمونهم
الفقرية ،وكانوا يجتمعون في دويرة لهم .
وصار لهؤلء من الكلم المحدث ،طريق يتدينون به ،مع تمسكهم بغالب الدين.
ولهؤلء من التعبد المحدث ،طريق يتمسكون به مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع ،وصار لهؤلء حال من السماع،
والصوت حتى إن أحدهم يموت أو يغشى عليه.
ولهؤلء حال في الكلم والحروف ،حتى خرجوا به إلى تفكير أوقعهم في تحير.
وقد كتبت قبل هذا في القواعد ،ما في طريقي أهل الكلم ،والنظر وأهل الرادة والعمل من النحراف ،إذا لم يقترن
بمتابعة الرسول .كما بينت في قاعدة كبيرة أن أصل العلم ،والهدى ،والدين هو :اليمان بالّ ورسوله ،واستصحاب
ذلك في جميع القوال والحوال.
وكان أهل المدينة أقرب من هؤلء ،وهؤلء في القول والعمل ،إذ لم ينحرفوا انحراف الطائفتين من الكوفيين
والبصريين ،هوى ورواية ،ورأيا ،وكلمًا ،وسماعًا ،وإن كان في بعضهم نوع انحراف لكن هم أقرب.
وأما الشاميون ،فكان غالبهم مجاهدين ،وأهل أعمال قلبية ،أقرب إلى الحال المشروع ،من صوفية البصريين إذ ذاك.
ولهذا تجد كتب الكلم ،والتصوف ،إنما خرجت في الصل من البصرة ،فمتكلمة المعتزلة أئمتهم بصريون ،مثل أبي
الهذيل العلف ،وأبي علي الجبائي ،وابنه أبي هاشم ،وأبي عبد الّ ، ...وأبي الحسين /البصري ،وكذلك متكلمة
الكلبية والشعرية ،كعبد الّ بن سعيد بن كلب ،وأبي الحسن الشعري وصاحبه أبي الحسن الباهلي ،والقاضي أبي
بكر بن الباقلني وغيرهم.
وكذلك كتب المتصوفة ومن خلط التصوف بالحديث والكلم ،ككتب الحارث بن أسد المحاسبي ،وأبي الحسن بن
سالم ،وأبي سعيد العرابي وأبي طالب المكي.
كما أن علم النبوة ،من اليمان والقرآن ،وما يتبع ذلك من الفقه والحديث وأعمال القلوب ،إنما خرجت من المصار
التي يسكنها جمهور أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم ،وهي الحرمان والعراقان والشام :المدينة ومكة والكوفة
والبصرة والشام ،وسائر المصار تبع.
فالقراء السبعة من هذه المصار ،وكذلك أئمة أهل الحديث وأثبتهم أهل المدينة ،وأهل البصرة ،كالزهري ومالك،
وكقتادة وشعبة ،ويحيى بن سعيد ،وعبد الرحمن بن مهدي.
وأهل الشام لم يكن فيهم كثير كاذب ،ول أئمة كبار في القراءة والحديث .وكذلك أئمة الفقهاء ،فمالك عالم أهل المدينة،
والثوري وأبو حنيفة وغيرهما من أهل الكوفة .وابن جريج وغيره من أهل مكة ،وحماد بن سلمة ،وحماد بن زيد من
أهل البصرة ،والوزاعي وطبقته بالشام ،وقد قيل إن مالكًا إنما احتذى موطأه على كتاب حماد بن سلمة ،وقيل :إن
كتاب ابن جريج قبل ذلك.
ثم الشافعي ،وإن كان أصله مكيًا ،فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بمصره.
وكذلك المام أحمد ،وإن كان أجداده بصريين ،فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بالبصريين ،ول غيرهم.
كما أن عبد الّ بن المبارك ،وإسحاق بن إبراهيم ،ومحمد بن إسماعيل البخاري ،وغيرهم من الخراسانيين ،وكذلك
أئمة الزهاد والعباد من هذه المصار ،كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في [صفوة الصفوة].
فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم ،وأما ما جاء عمن بعدهم ،فل
ينبغي أن يجعل /أصلً ،وإن كان صاحبه معذورًا ،بل مأجورًا ،لجتهاد أو تقليد.
فمن بنى الكلم في العلم :الصول ،والفروع على الكتاب والسنة ،والثار المأثورة عن السابقين ،فقد أصاب طريق
النبوة ،وكذلك من بنى الرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول العمال وفروعها من الحوال القلبية،
والعمال البدنية على اليمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد ،صلى ال عليه وسلم ،وأصحابه فقد أصاب
طريق النبوة ،وهذه طريق أئمة الهدى.
تجد المام أحمد إذا ذكر أصول السنة ،قال :هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم .
وكَتَبَ كُ ُتبَ التفسير المأثور عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين .وكتب الحديث والثار المأثورة عن
النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين ،وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه ،حتى قال في رسالته
إلى خليفة وقته المتوكل :ل أحب الكلم في شيء من ذلك إل ما كان في كتاب الّ ،أو في حديث عن رسول الّ صلى
ال عليه وسلم ،أو الصحابة أو التابعين ،فأما غير ذلك فالكلم فيه غير محمود.
/وكذلك في الزهد والرقاق والحوال ،فإنه اعتمد في كتاب [الزهد] على المأثور عن النبياء ،صلوات الّ عليهم من
آدم إلى محمد ،ثم على طريق الصحابة والتابعين ،ولم يذكر من بعدهم ،وكذلك وصفه لخذ العلم أن يكتب ما جاء عن
النبي صلى ال عليه وسلم ،ثم عن الصحابة ،ثم عن التابعين .ـ وفي رواية أخرى ـ ثم أنت في التابعين مخير.
وله كلم في الكلم الكلمي .والرأي الفقهي وفي الكتب الصوفية ،والسماع الصوفي ليس هذا موضعه .يحتاج
تحريره إلى تفصيل ،وتبيين كيفية استعماله في حال دون حال.
فإنه ينبني على الصل ،الذي قدمناه من أنه قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة ،أو غير مغفورة ،وقد يتعذر أو
يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة ،إل بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علمًا
وعملً .فإذا لم يحصل النور الصافي ،بأن لم يوجد إل النور الذي ليس بصاف .وإل بقى النسان في الظلمة ،فل
ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة .إل إذا حصل نور ل ظلمة فيه ،وإل فكم ممن عدل عن ذلك يخرج
عن النور بالكلية ،إذا خرج غيره عن ذلك؛ لما رآه في طرق الناس من الظلمة.
/وإنما قررت هذه القاعدة؛ ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه ،ويعرف أن العدول عن كمال خلفة النبوة
المأمور به شرعًا ،تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علمًا وعملً ،وتارة بعدوان بفعل السيئات علمًا وعملً ،وكل
من المرين قد يكون عن غلبة ،وقد يكون مع قدرة .
والثاني :قد يكون مع حاجة وضرورة ،وقد يكون مع غنى وسعة ،وكل واحد من العاجز عن كمال الحسنات،
ط ْعتُمْ} [التغابن ،]16 :وقال{ :لَ ُيكَلّفُ ا ُ
لّ نَفْسًا ستَ َ والمضطر إلى بعض السيئات معذور ،فإن الّ يقول{ :فَاتّقُوا ا َ
لّ مَا ا ْ
س َعهَا أُوَْل ِئكَ
ف َنفْسًا ِإلّ ُو ْ
ت لَ ُنكَلّ ُ
عمِلُوا الصّاِلحَا ِ س َعهَا} [البقرة ]286 :ـ في البقرة والطلق ـ وقال{ :وَاّلذِي َ
ن آ َمنُوا وَ َ ِإلّ وُ ْ
صحَابُ الْ َجنّةِ هُ ْم فِيهَا خَاِلدُونَ} [العراف ،]42 :وقال النبي صلى ال عليه وسلم( :إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما أَ ْ
استطعتم) ،وقال سبحانهَ { :ومَا َجعَلَ عََل ْيكُ ْم فِي الدّي ِن مِنْ حَرَجٍ} [الحج ،]78 :وقال{ :مَا يُرِيدُ الُّ ِل َي ْجعَلَ عََل ْيكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [
غيْ َر بَاغٍ َولَ عَا ٍد فَلَ ِإثْمَ
ضطُرّ َ سرَ} [البقرة ،]185 :وقالَ { :فمَنْ ا ْ ل يُرِيدُ ِبكُمْ ا ْلعُ ْ المائدة ،]6 :وقال{ :يُرِيدُ ا ُ
لّ بِكُمْ ا ْليُسْرَ َو َ
عََليْهِ} [البقرة ،]173 :وقال{ :وََليْسَ عََل ْيكُمْ ُجنَا ٌح فِيمَا أَ ْخطَ ْأتُ ْم بِهِ} [الحزاب.]5 :
/وهذا أصل عظيم وهو :أن تعرف الحسنة في نفسها علمًا وعملً ،سواء كانت واجبة أو مستحبة ،وتعرف السيئة في
ل وعملً ،محظورة كانت ،أو غير محظورة ـ إن سميت غير المحظورة سيئة ـ وإن الدين تحصيل نفسها علمًا وقو ً
الحسنات والمصالح ،وتعطيل السيئات والمفاسد.
وإنه كثيرًا ما يجتمع في الفعل الواحد ،أو في الشخص الواحد المران ،فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه
أحدهما ،فل يغفل عما فيه من النوع الخر ،كما يتوجه المدح والمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما ،فل يغفل عما
فيه من النوع الخر ،وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية ،لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به
غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية.
فهذا طريق الموازنة والمعادلة ،ومن سلكه كان قائمًا بالقسط الذي أنزل الّ له الكتاب والميزان.
َفصْــل
ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلم والتصوف ،وغير ذلك :كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب /
والسنة والثار؛ إذ العهد قريب ،وأنوار الثار النبوية بعد فيها ظهور ،ولها برهان عظيم ،وإن كان عند بعض الناس
قد اختلط نورها بظلمة غيرها.
فأما المتأخرون ،فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون ،مثل من صنف في الكلم من المتأخرين ،فلم يذكر إل
الصول المبتدعة وأعرض عن الكتاب والسنة ،وجعلهما إما فرعين ،أو آمن بهما مجملً ،أو خرج به المر إلى نوع
من الزندقة ،ومتقدمو المتكلمين خيرمن متأخريهم.
وكذلك من صنف في الرأي فلم يذكر إل رأي متبوعه وأصحابه ،وأعرض عن الكتاب والسنة ،ووزن ماجاء به
الكتاب والسنة علـى رأي متبوعـه ،ككثير من أتبـاع أبي حنيفة ،ومالك ،والشافعي ،وأحمد ،وغيرهم.
وكذلك من صنف في التصوف والزهد ،جعل الصل ما روى عن متأخري الزهاد وأعرض عن طريق الصحابة
والتابعين ،كما فعل صاحب الرسالة أبوالقاسم القشيري ،وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلباذي ،وابن خميس الموصلي
في [مناقب البرار] ،وأبو عبد الرحمن السلمي في [تاريخ الصوفية] ،لكن أبوعبد الرحمن صنف أيضا [سير السلف]
من الولياء والصالحين .وسير الصالحين من السلف ،كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم ،من ذكرهم
لخبار أهل /الزهد والحوال ،من بعد القرون الثلثة ،من عند إبراهيم بن أدهم ،والفضيل بن عياض ،وأبي سليمان
الداراني ،ومعروف الكرخي ،ومن بعدهم ،وإعراضهم عن حال الصحابة ،والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة
بمدحهم ،والثناء عليهم ،والرضوان عنهم.
وكان أحسن من هذا أن يفعلوا ،كما فعله أبو نعيم الصبهاني في [الحلية] من ذكره للمتقدمين والمتأخرين .وكذلك أبو
الفرج بن الجوزي في [صفوة الصفوة] وكذلك أبو القاسم التيمي في [سير السلف] ،...وكذلك ابن أسد بن موسى ،إن
لم يصعدوا إلى طريقة عبد الّ بن المبارك ،وأحمد بن حنبل ،وهناد بن السرى وغيرهم في كتبهم في الزهد ،فهذا هذا.
والّ أعلم وأحكم.
فإن معرفة أصول الشياء ومبادئها .ومعرفة الدين وأصله ،وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعًا .إذ المرء ما لم
يحط علمًا بحقائق الشياء التي يحتاج إليها ،يبقى في قلبه حسكة.
وكان للزهاد ،عدة أسماء :يسمون بالشام الجوعية ،ويسمون بالبصرة الفقرية ،والفكرية ،ويسمون بخراسان المغاربة،
ويسمون أيضًا الصوفية والفقراء.
والنسبة في الصوفية ،إلى الصوف؛ لنه غالب لباس الزهاد ،وقد قيل هو نسبة إلى صوفة بن مراد بن أد بن /
طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت .وأما من قال :هم نسبة إلى الصفة ،فقد قيل :كان حقه أن يقال:
صفية ،وكذلك من قال :نسبة إلى الصفا ،قيل له :كان حقه أن يقال :صفائية ،ولو كان مقصورًا لقيل صفوية ،وإن
نسب إلى الصفوة قيل :صفوية .ومن قال :نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الّ .قيل له :كان حقه أن يقال :صفية ،ول
ريب أن هذا يوجب النسبة والضافة ،إذا أعطى السم حقه من جهة العربية.
لكن التحقيق ،أن هذه النسب إنما أطلقت على طريق الشتقاق الكبر والوسط ،دون الشتقاق الصغر ،كما قال أبو
جعفر :العامة اسم مشتق من العمى،فراعوا الشتراك في الحروف دون الترتيب ،وهو الشتقاق الوسط ،أو
الشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الكبر.
وكذلك إذا قيل الصوفي من الصفا ،وأما إذا قيل هو من الصفة أو الصف ،فهو على الكبر.
وقد تكلم بهذا السم قوم من الئمة ،كأحمد بن حنبل ،وغيره / ،وقد تكلم به أبو سليمان الداراني وغيره ،وأما الشافعي
فالمنقول عنه ذم الصوفية ،وكذلك مالك ـ فيما أظن ـ وقد خاطب به أحمد لبي حمزة الخراساني ،وليوسف بن
الحسين الرازي ،ولبدر ابن أبي بدر المغازلي ،وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم ،ومن العباد أيضًا من أصحاب
أحمد ،ومالك ،والشافعي ،وأبي حنيفة ،وأهل الحديث ،والعباد ،ومدحه آخرون.
والتحقيق فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم ،كغيره من الطريق ،وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا ،وقد ل
يكون ،وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة ،والقاعدة التي
ل وصفوته ،وخيار عباده ما ل يحصى عده .كما في أهل قدمتها تجمع ذلك كله ،وفي المتسمين بذلك من أولياء ا ّ
الرأي من أهل العلم واليمان من ل يحصى عدده إل الّّ .والّ ـ سبحانه ـ أعلم.
وبهذا يتبين لك أن البدعة في الدين ،وإن كانت في الصل مذمومة ،كما دل عليه الكتاب والسنة ،سواء في ذلك البدع
القولية والفعلية .وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي صلى ال عليه وسلم( :كل بدعة
ضللة) متعين ،وإنه يجب العمل بعمومه ،وإن من أخذ يصنف [البدع] إلى حسن وقبيح ،ويجعل ذلك /ذريعة إلى أل
يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ ،كما يفعل طائفة من المتفقهة ،والمتكلمة والمتصوفة ،والمتعبدة ،إذا نهوا عن
العبادات المبتدعة والكلم في التدين المبتدع ادعوا أل بدعة مكروهة إل ما نهى عنه ،فيعود الحديث إلى أن يقال :كل
ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضللة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان ،بل كل ما لم
يشرع من الدين فهو ضللة.
وما سمي بدعة ،وثبت حسنه بأدلة الشرع ،فأحد المرين ،فيه لزم:
إما أن يقال :ليس ببدعة في الدين ،وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة .كما قال عمر :نعمت البدعة هذه.
وإما أن يقال :هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح ،كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر
عمومات الكتاب والسنة وهذا قد قررته في اقتضاء الصراط المستقيم ،وفي قاعدة السنة والبدعة ،وغيره.
وإنما المقصود هنا ،أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة ،أو المخالف للكتاب
والسنة إذا صدر عن شخص من الشخاص ،فقد يكون على وجه يعذر فيه ،إما /لجتهاد أو تقليد يعذر فيه ،وإما لعدم
قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع ،وقررته أيضًا في أصل التكفير والتفسيق المبني على أصل الوعيد.
فإن نصوص الوعيد ،التي في الكتاب والسنة ،ونصوص الئمة بالتكفير ،والتفسيق ونحو ذلك ل يستلزم ثبوت
موجبها في حق المعين ،إل إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ،ل فرق في ذلك بين الصول ،والفروع .هذا في
عذاب الخرة ،فإن المستحق للوعيد من عذاب الّ ولعنته وغضبه في الدار الخرة ،خالد في النار ،أو غير خالد،
وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق ،يدخل في هذه القاعدة ،سواء كان بسبب بدعة اعتقادية ،أو عبادية ،أو بسبب
فجور في الدنيا ،وهو الفسق بالعمال.
فأما أحكام الدنيا ،فكذلك أيضًا ،فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقًا بدعوتهم ،إذ ل عذاب إل على من بلغته
الرسالة ،وكذلك عقوبة الفساق ل تثبت إل بعد قيام الحجة.
أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه ،فعقوبتنا له في الدنيا أكبر ،وأما ما عاد من الذنوب بمضرة
النسان في نفسه ،فقد تكون عقوبته في الخرة أشد ،وإن كنا نحن ل نعاقبه في الدنيا.
وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس ،فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا ل محالة لكف ظلم الناس
بعضهم عن بعض ،ثم هو نوعان:
/ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع ،بما ل يعاقب به الساكت ،ويعاقب من أظهر المنكر بما ل يعاقب به من استخفى به،
ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين ،وإن كان في الدرك السفل من النار.
وهذا لن الصل ،أن تكون العقوبة من فعل الّ ـ تعالى ـ فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الخرة ،وقد
يجزيهم أيضًا في الدنيا .وأما نحن ،فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات ،وترك المحرمات بحسب إمكاننا،
كما قال صلى ال عليه وسلم( :أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل الّ ،وأن محمدًا رسول الّ ،فإذا فعلوا
ن الدّينُ
ن ِف ْتنَةٌ َو َيكُو َ ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها وحسابهم على الّ) وقال تعالىَ { :وقَاتِلُوهُمْ َ
حتّى لَ َتكُو َ
كُلّهُ لِِّ} [النفال ،]39 :وقال{ :وَا ْل ِفتْنَةُ َأ ْكبَ ُر مِنْ الْ َقتْلِ} [البقرة. ]217 :
ولهذا من تاب من الكفار ،والمحاربين ،وسائر الفساق قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبة التي لحق الّ ،فإذا أسلم
الحربي قبل القدرة عليه عصم دمه ،وأهله ،وماله ،وكذلك قاطع الطريق ،والزاني والسارق ،والشارب إذا تابوا قبل
القدرة عليهم؛ لحصول المقصود بالتوبة وأما إذا تابوا بعد القدرة لم تسقط العقوبة كلها؛ لن ذلك يفضي إلى تعطيل
الحدود وحصول الفساد؛ ولن هذه التوبة غير موثوق بها؛ ولهذا إذا أسلم الحربي عند القتال صح إسلمه؛ لنه أسلم
قبل القدرة عليه / ،بخلف من أسلم بعد السر ،فإنه ل يمنع استرقاقه وإن عصم دمه.
ويبنى على هذه القاعدة :أنه قد يقر من الكفار والمنافقين ،بل عقوبة من يكون عذابه في الخرة أشد ،إذا لم يتعد
ضرره إلى غيره ،كالذين يؤتون الجزية عن يد وهم صاغرون ،والذين أظهروا السلم والتزموا شرائعه ظاهرًا مع
نفاقهم؛ لن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين ،ويعاقبون في الخرة على ما اكتسبوا من
الكفر والنفاق ،وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلمًا فاسقًا ،أو عاصيًا ،أو عدلً
مجتهدًا مخطئًا ،بل صالحًا أو عالمًا سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع.
مثال المقدور عليه إنما يعاقب من أظهر الزنا ،والسرقة ،وشرب الخمر ،وشهادة الزور ،وقطع الطريق ،وغير ذلك
لما فيه من العدوان على النفوس والموال والبضاع ،وإن كان مع هذا حال الفاسق في الخرة خيرًا من حال أهل
العهد الكفار ،ومن حال المنافقين ،إذ الفاسق خير من الكافر والمنافق بالكتاب والسنة والجماع.
وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم ،وإن كان قد يكون معذورًا فيها في نفس المر لجتهاد أو
تقليد.
/وكذلك يجوز قتال البغاة :وهم الخارجون على المام ،أو غير المام بتأويل سائغ مع كونهم عدولً ،ومع كوننا ننفذ
أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه من جزية أو خراج أو غيرذلك .إذ الصحابة ل خلف في بقائهم على العدالة ،وذلك
أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ .وأما القتال :فليؤدوا ما تركوه من الواجب ،و ينتهوا عما ارتكبوه من المحرم ،وإن
كانوا متأولين.
وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه ،وإن كانوا قومًا صالحين ،فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على
ترك واجب ،أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا ،وإن كانوا معذورين فيه؛ لدفع ضرر فعلهم في الدنيا ،كما يقام الحد
على من تاب بعد رفعه إلى المام وإن كان قد تاب توبة نصوحًا ،وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس ،فبينما هم
ببيداء من الرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر
لما كان فيهم العباس وغيره ،وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إل بقتالهم ،فالعقوبات المشروعة
والمقدورة قد تتناول في الدنيا من ل يستحقها في الخرة ،وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم:
القاتل مجاهد والمقتول شهيد.
وعلى هذا ،فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع /يهجر ،فل يستشهد ول يروي عنه ،ول يستفتى ول
يصلي خلفه ،قد يكون من هذا الباب ،فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة
أو غيرها ،وإن كان في نفس المر تائبًا أو معذورًا ،إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين :إما ترك الذنوب المهجورة
وأصحابها ،وإما عقوبة فاعلها ونكاله ،فأما هجره بترك ...في غير هذا الموضع.
ومن هذا الباب :هجر المام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد ،ولمن تاب بعد الجابة ،ولمن فعل بدعة ما،مع أن
فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة ،فإن هجره لهم والمسلمين معه ل يمنع معرفة قدر فضلهم،كما أن
الثلثة الذين خلفوا لما أمر النبي صلى ال عليه وسلم المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق.حتى قد
قيل أن اثنين منهما شهدا بدرًا،وقد قال الّ لهل بدر( :اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وأحدهم كعب بن مالك شاعر
النبي صلى ال عليه وسلم وأحد أهل العقبة ،فهذا أصل عظيم أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل ل
يمنع أن يكون المعاقب عدلً ،أو رجلً صالحًا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة ،وبين
عقوبة الخرة،والّ سبحانه أعلم.
َفصْــل /
ومما يناسب هذا الباب قولهم :فلن يسلم إليه حاله ،أو ل يسلم إليه حاله ،فإن هذا كثيرًا ما يقع فيه النزاع فيما قد
يصدر عن بعض المشائخ ،والفقراء ،والصوفية ،من أمور يقال :إنها تخالف الشريعة ،فمن يرى أنها منكرة وإن
إنكار المنكر من الدين ،ينكر تلك المور ،وينكر على ذلك الرجل وعلى من أحسن به الظن ويبغضه ويذمه ويعاقبه،
ومن رأي ما في ذلك الرجل من صلح وعبادة ،كزهد وأحوال ،وورع ،وعلم ل ينكرها بل يراها سائغة أو حسنة أو
يعرض عن ذلك.
وقد يغلو كل واحد من هذين ،حتى يخرج بالول ،إنكاره إلى التكفير والتفسيق في مواطن الجتهاد ،متبعًا لظاهر من
أدلة الشريعة ،ويخرج بالثاني إقراره إلى القرار بما يخالف دين السلم مما يعلم بالضطرار أن الرسول جاء
بخلفه ،اتباعًا في زعمه لما يشبه قصة موسى والخضر ،والول يكثر في الموسوية ومن انحرف منهم إلي يهودية
والثاني يكثر في العيسوية ومن انحرف منهم إلى نصرانية.
ت كُلّ َشيْءٍ رَ ْحمَةً وَعِ ْلمًا} [غافر،]7 : سعْ َفأما المة الوسط :فلهم العلم والرحمة ،كما أخبر عن نفسه بقولهَ { :رّبنَا َو ِ
شيْءٍ} [العراف ،]156 :وقالِ{ :إّنمَا إَِل ُهكُمْ الُّ اّلذِي لَ ِإلَهَ ِإلّ ُهوَ وَسِ َع كُلّ َ
شيْءٍ عِ ْلمًا} ت كُلّ َ
سعَ ْ وقال تعالى{ :وَ َر ْ
حمَتِي وَ ِ
[طه ،]98 :وكذلك وصف العبد الذي لقيه موسى حيث قال{ :آ َت ْينَاهُ َر ْحمَةً مِنْ ِع ْندِنَا وَعَّل ْمنَا ُه مِنْ َلدُنّا عِ ْلمًا} [الكهف:
.]65
والثاني :تصويبه علي ما فعل بحيث يكون محمودًا مأجورًا .فالول عدم الذم والعقاب .والثاني :وجود الحمد والثواب.
الول :عدم سخط ال وعقابه ،والثاني :وجود رضاه وثوابه؛ ولهذا /تجد المنكرين غالبًا في إثبات السخط والذم
والعقاب ،والمقرين في إثبات الرضا والحمد والثواب ،وكلهما قد يكون مخطئًا ويكون الصواب في أمر ثالث وسط،
وهو أنه ل حمد ول ذم ول ثواب ول عقاب.
وبيان ذلك :أن ذلك المر الصادر عنه سواء كان قولً أو فعلً ،إذا علم أنه مخالف للكتاب والسنة ،بحيث يكون قولً
باطلً ،أو عملً محرمًا فإنه يعذر في موضعين:
مثال الول :أن يكون صاحب الحال مولها مجنونًا ،قد سقط عنه القلم ،فهذا إذا قيل فيه :يسلم له حاله ،بمعنى أنه ل
يذم ول يعاقب ،ل بمعنى تصويبه فيه ،كما يقال في سائر المجانين فهو صحيح.
وكذلك إذا كان ذلك الحال صادرًا عنه باجتهاد ،كمسائل الجتهاد المتنازع فيها بين أهل العلم والدين .فإن هذا إذا قيل:
يسلم إليه حاله ،كما يقال :يقر على اجتهاده ،بمعنى أنه ل يذم ول يعاقب فهو صحيح.
/وأما إذا قيل ذلك بمعنى أنه صواب ،أو صحيح ،فلبد من دليل على تصويبه ،وإل فمجرد القول ،أو الفعل الصادر
من غير الرسول ،ليس حجة على تصويب القائل أو الفاعل ،فإذا علم أن ذلك الجتهاد خطأ كان تسليم حاله بمعني
رفع الذم عنه ،ل بمعنى إصابته وكذلك إذا أريد بتسليم حاله وإقراره ،أنه يقر على حكمه ،فل ينقض ،أو على فتياه،
فل تنكر أو على جواز اتباعه لمن هو من أهل تقليده واتباعه ،بأن للقاصرين أن يقلدوا ويتبعوا من يسوغ تقليده،
واتباعه من العلماء والمشايخ ،فيما لم يظهر لهم أنه خطأ ،لكن بعض هذا يدخل في القسم الثاني ،الذي لم يعلم مخالفته
للشريعة.
وتسليم الحال في مثل هذا إذا عرف أنه معذور ،أو عرف أنه صادق في طريقه ،وإن هذا المر قد يكون اجتهادًا منه،
فهذه ثلثة مواضع يسلم إليه فيها حاله؛ لعدم تمكنه من العلم ،وخفاء الحق عليه فيها على وجه يعذر به.
ومثال الثاني :عدم قدرته ـ أن يرد عليه من الحوال ما يضطره إلى أن يخرق ثيابه ،أو يلطم وجهه ،أو يصيح صياحًا
منكرًا ،أو يضطرب اضطرابًا شديدًا .فهذا إذا عرف أن سبب ذلك لم يكن محرمًا ،وأنه مغلوب عليه سلم إليه حاله،
وإن شك هل هو مغلوب ،أو متصنع ،فإن عرف منه الصدق ،قيل :هذا يسلم إليه حاله / ،وإن عرف كذبه أنكر عليه،
وإن شك فيه توقف في التسليم والنكار ،حتى يتبين أمره ،كما يفعل بمن شهد شهادة ،أو اتهم بسرقة .فإن ظهر صدقه
وعدله قبلت الشهادة ودفعت إليهم ،وإن ظهر كذبه وخيانته ردت الشهادة ،وعوقب على السرقة ،وإن اشتبه المر
توقف فيه؛ فإن المؤمن وقاف متبين ،هكذا قال الحسن البصري.
وكذلك إذا ترك الواجبات مظهرًا أنه مغلوب ل يقدر على فعلها ،مثل أن يترك الصلة مظهرًا أنه بمنزلة المغمى
عليه ،والنائم الذي ل يتمكن من فعلها .كما قد يعترى بعض المصعوقين من وارد خوف ال ،أو محبته ،أو نحو ذلك
بحيث يسقط تمييزه ،فل يمكنه الصلة ،فهو فيما يتركه من الواجبات نظير ما يرتكبه من المحرمات ،فتسليم الحال
بمعني عدم اللوم قد يراد به الحكم بأنه معذور ،وقد يراد به ترك الحكم بأنه ملوم.
هذا فيما يعلم من القوال والفعال أنه مخالف للشرع بل ريب ،كالشطحات المأثورة عن بعض المشائخ ،كقول ابن
هود :إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم ،وكون الشبلي كان يحلق لحيته ويمزق ثيابه حتي أدخلوه
المارستان مرتين ،وما يحكى عن بعضهم أنه قال :إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث به ،وكترك آخر
صلة الجمعة خلف إمام صالح ،لكونه دعًا لسلطان وقته وسماه العادل،وترك آخر الصلة خلف إمام؛ لما كوشف به
من حديث نفسه ،وما يحكي عن عقلء /المجانين الذين قيل فيهم :إن ال أعطاهم عقولً وأحوال فسلب عقولهم وترك
أحوالهم ،وأسقط ما فرض بما سلب.
فجماع هذا :أن هذه المور تعطى حقها من الكتاب والسنة .فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر ،والمر والنهي وجب
اتباعه ،ولم يلتفت إلى من خالفه كائنًا من كان ،ولم يجز اتباع أحد في خلف ذلك كائنًا من كان ،كما دل عليه الكتاب
والسنة وإجماع المة من اتباع الرسول وطاعته ،وإن الرجل الذي صدر عنه ذلك يعطي عذره حيث عذرته الشريعة
بأن يكون مسلوب العقل ،أو ساقط التمييز أو مجتهدًا مخطئًا اجتهادًا قوليًا أو عمليًا ،أو مغلوبًا على ذلك الفعل أو
الترك بحيث ل يمكنه رد ما صدر عنه من الفعل المنكر بل ذنب فعله ،ول يمكنه أداء ذلك الواجب بل ذنب فعله،
ويكون هذا الباب نوعه محفوظًا بحيث ل يتبع ما خالف الكتاب والسنة ول يجعل ذلك شرعة ول منهاجًا ،بل ل سبيل
إلى ال ول شرعة إل ما جاء به محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وأما الشخاص الذين خالفوا بعض ذلك على الوجوه المتقدمة فيعذرون ،ول يذمون ،ول يعاقبون .فإن كل أحد من
الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إل رسول ال صلى ال عليه وسلم .وما من الئمة إل من له أقوال ،وأفعال ل
يتبع عليها ،مع أنه ل يذم عليها ،وأما القوال والفعال التي لم يعلم قطعًا مخالفتها للكتاب والسنة ،بل /هي من موارد
الجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم واليمان؛ فهذه المور قد تكون قطعية عند بعض من بين ال له الحق فيها؛ لكنه ل
يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم ،فيلتحق من وجه بالقسم الول .ومن وجه بالقسم الثاني.
وقد تكون اجتهادية عنده أيضًا ،فهذه تسلم لكل مجتهد ،ومن قلده طريقهم تسليمًا نوعيا ،بحيث ل ينكر ذلك عليهم ،كما
سلم في القسم الول تسليمًا شخصيًا.
وأما الذي ل يسلم إليه حاله :فمثل أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم ،ككثير من المنتسبة إلى الشيخ أحمد
بن الرفاعي ،واليونسية فيما يأتونه من المحرمات ،ويتركونه من الواجبات ،أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في
وجده ليظن به خيرًا ،ويرفع عنه الملم فيما يقع من المور المنكرة ،أو يعرف منه أن الحق قد تبين له ،وأنه متبع
لهواه ،أو يعرف منه تجويز النحراف عن موجب الشريعة المحمدية ،وأنه قد يتفوه بما يخالفها ،وأن من الرجال من
قد يستغنى عن الرسول أو له أن يخالفه ،أو أن يجري مع القدر المحض المخالف للدين ،كما يحكى بعض الكذابين
الضالين :أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى ال عليه وسلم مع الكفار لما انهزم أصحابه وقالوا :نحن مع ال ،من غلب
كنا معه ،وأنه صبيحة السراء سمع منه ما جرى بينه وبين ربه من المناجاة /وأنه تواجد في السماء ،حتى وقع
الرداء عنه ،وأن السر الذي أوصى إليه أودعه في أرض نبت فيها اليراع فصار في الشبابة بمعنى ذلك السر ،أو
يسوغ لحد بعد محمد الخروج عن شريعته ،كما ساغ للخضر الخروج عن أمر موسى ،فإنه لم يكن مبعوثًا إليه كما
بعـث محمـد إلى الناس كافة .فهؤلء ونحوهم ممن يخالف الشريعة ،ويبين له الحق فيعرض عنه ،يجب النكار عليهم
بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب.
وكذلك ـ أيضًا ـ ينكر علي من اتبع الولين المعذورين في أقوالهم ،وأفعالهم المخالفة للشرع ،فإن العذر الذي قام بهم
منتف في حقه فل وجه لمتابعته فيه.
ومن اشتبه أمره من أي القسمين هو :توقف فيه ،فإن المام إن يخطئ في العفو ،خير من أن يخطئ في العقوبة ،لكن
ل يتوقف في رد ما خالف الكتاب والسنة ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم قال( :من عمل عملً ليس عليه أمرنا فهو
رد) .فل يسوغ الخروج عن موجب العموم والطلق في الكتاب والسنة بالشبهات ،ول يسوغ الذم والعقوبة
ل أو صوابًا ،أو خطأ بالشبهات ،وال يهدينا الصراط المستقيم :صراط
بالشبهات ،ول يسوغ جعل الشىء حقًا ،أو باط ً
الذين أنعم عليهم ،من النبيين والصديقين ،والشهداء ،والصالحين ،غير المغضوب عليهم ول الضالين.
/وبقيت هنا المسألة التي تشتبه غالبًا ،وهو أن يظهر من بعض الرجال المجهول الحال ،أمر مخالف للشرع في
الظاهر ،ويجوز أن يكون معذورًا فيه عذرًا شرعيًا .مثل وجد خرج فيه عن الشرع ،ل يدري أهو صادق فيه أم
متصنع ،وأخذ مال بغير إذن صاحبه في الظاهر ،مع تجويز أن يكون علم طيب قلب صاحبه به ،فهذا إن قيل :ينكر
عليه جاز أن يكون معذورًا ،وإن قيل :ل ينكر عليه لزم إقرار المجهولين على مخالفة الشرع في الظاهر ،فالواجب
في مثل هذا أن يخاطب صاحبه أول برفق ،ويقال له :هذا في الظاهر منكر ،وأما في الباطن ،فأنت أمين ال على
نفسك ،فأخبرنا بحالك فيه أول تظهره حيث يكون إظهاره فتنة ،وتسلك في ذلك طريقة ل تفضي إلى إقرار المنكرات،
ول لوم البرآء.
والضابط أن من عرف من عادته الصدق ،والمانة أقر على ما لم يعلم أنه كذب وحرام ،ومن عرف منه الكذب أو
الخيانة ،لم يقر على المجهول ،وأما المجهول فيتوقف فيه.
/وقال الشيخ المام العالم العلمة شيخ السلم ،بقية السلف الكرام ،العالم الرباني ،المقذوف في قلبه النور القرآني،
أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني ـ قدس ال روحه ،ونور ضريحه ،وأسكنه فسيح الجنان :
الحمد ل ،نحمده ونستعينه ،ونستغفره ،ونستهديه ،ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من يهده ال فل
مضل له ،ومن يضلل فل هادي له.
ونشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له ،ونشهد أن محمدًا عبده و رسوله ،أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله و كفى بال شهيدًا ،فبلغ الرسالة ،وأدى المانة ،ونصح المة ،وكشف الغمة ،وجاهد في ال حق جهاده،
وعبد ال مخلصًا حتى أتاه اليقين من ربه ،صلى ال عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
فصـــل
فإن هذا باب كثر فيه الضطراب ،كما كثر في باب الحلل والحرام ،فإن أقوامًا استحلوا بعض ما حرمه ال ،وأقوامًا
حرموا بعض ما أحل ال ـ تعالى ـ وكذلك أقوامًا أحدثوا عبادات لم يشرعها ال ،بل نهى عنها.
وأصل الدين :أن الحلل ما أحله ال ورسوله ،والحرام ما حرمه ال ورسوله ،والدين ما شرعه ال ورسوله ،ليس
ستَقِيمًا فَا ّت ِبعُوهُ َولَ لحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث ال به رسوله .قال ال تعالى { :وَأَنّ َهذَا ِ
صرَاطِي مُ ْ
ق ِبكُمْ عَنْ َسبِيلِ ِه ذَلِكُمْ وَصّا ُك ْم بِهِ َلعَّل ُك ْم تَتّقُونَ} [النعام .]153 :
ل َفتَ َفرّ َ
سبُ َ
َتتّ ِبعُوا ال ّ
وفي حديث عبد ال بن مسعود ـ رضي ال عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه خط خطًا ،وخط خطوطًا عن
يمينه وشماله ،ثم قال( :هذه سبيل ال ،وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو /إليه) ،ثم قرأ{ :وَأَنّ َهذَا ِ
صرَاطِي
ق ِبكُمْ عَنْ َسبِيلِهِ}.
ل َفتَ َفرّ َ
سبُ َ
ل تَ ّت ِبعُوا ال ّ
ستَقِيمًا فَا ّت ِبعُوهُ َو َ
مُ ْ
وقد ذكر ال تعالي في سورة النعام ،والعراف ،وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه ال ـ تعالى ـ
كالبحيرة ،والسائبة ؛ واستحلوا ما حرمه ال كقتل أولدهم ،وشرعوا دينا لم يأذن به ال ،فقال تعالى{ :أَمْ َل ُهمْ شُ َركَاءُ
شَرَعُوا َلهُ ْم مِ ْن الدّينِ مَا َل ْم يَ ْأذَنْ بِهِ الُّ} [الشورى ،]21 :ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات ،كالشرك والفواحش،
مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك.
العبادات التي يتقرب بها إلى ال ـ تعالى ـ منها ما كان محبوبًا ل ورسوله مرضيًا ل ورسوله ،إما واجب وإما
مستحب ،كما في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال فيما يروى عن ربه ـ تبارك وتعالى( :ما تقرب إليّ
عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ،ول يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع
به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها / ،فبي يسمع وبي يبصر ،وبي يبطش ،وبي
يمشي ،ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه ،و ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي
المؤمن ،يكره الموت وأكره مساءته ،ولبد له منه).
ومعلوم أن الصلة منها فرض ،وهي الصلوات الخمس ،ومنها نافلة ،كقيام الليل ،وكذلك الصيام فيه فرض ،وهو
صوم شهر رمضان ،ومنه نافلة كصيام ثلثة أيام من كل شهر ،وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض وإلى
المسجدين الخرين ـ مسجد النبي صلى ال عليه وسلم وبيت المقدس ـ مستحب.
وكذلك الصدقة ،منها ما هو فرض ،ومنها ما هو مستحب ،وهو العفو ،كما قال تعالىَ { :ويَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ُقلْ ا ْلعَفْوَ}
[البقرة.]219 :
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :يابن آدم ،إنك إن تنفق الفضل خير لك ،وإن تمسكه
شر لك ،ول تلم على كفاف ،واليد العليا خير من اليد السفلى ،وابدأ بمن تعول) ،والفرق بين الواجب ،والمستحب له
موضع آخر غير هذا ،والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع ،سواء كان واجبًا ،أو مستحبًا ،وما ليس بمشروع.
فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى ال ـ تعالى ـ وهو سبيل ال / ،وهو البر والطاعة والحسنات ،والخير ،والمعروف،
وهو طريق السالكين ،ومنهاج القاصدين ،والعابدين ،وهو الذي يسلكه كل من أراد ال هدايته ،وسلك طريق الزهد
والعبادة ،وما يسمى بالفقر والتصوف ،ونحو ذلك.
ول ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة ،واجبها ،ومستحبها ،ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع ،وقراءة
القرآن على الوجه المشروع ،والذكار والدعوات الشرعية ،وما كان من ذلك موقتًا بوقت كطرفي النهار ،وما كان
متعلقًا بسبب ،كتحية المسجد ،وسجود التلوة ،وصلة الكسوف ،وصلة الستخارة ،وما ورد من الذكار ،والدعية
الشرعية في ذلك .وهذا يدخل فيه أمور كثيرة ،وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه ،وكذلك يدخل فيه الصيام
الشرعي ،كصيام نصف الدهر ،وثلثه أو ثلثيه ،أو عشره ،وهو صيام ثلثة أيام من كل شهر ،ويدخل فيه السفر
الشرعي ،كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الخرين ،ويدخل فيه الجهاد على اختلف أنواعه ،وأكثر الحاديث النبوية
في الصلة والجهاد ،ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع.
والعبادات الدينية أصولها :الصلة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد ال بن
عمرو بن العاص ،لما أتاه النبي صلى ال عليه وسلم ،وقال( :ألم أحدث أنك قلت :لصومن /النهار ،ولقومن الليل،
ج َمتْ له العين ،و َن ِف َهتْ له النفس) ،ثم أمره
ولقرأن القرآن في ثلث؟) قال :بلى! قال( :فل تفعل فإنك إذا فعلت ذلك َه َ
بصيام ثلثة أيام من كل شهر ،فقال :إني أطيق أكثر من ذلك ،فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم ،فقال :إني أطيق
أكثر من ذلك ،فقال( :ل أفضل من ذلك) ،وقال( :أفضل الصيام صيام داود ـ عليه السلم ـ كان يصوم يومًا ويفطر
يومًا ،ول يفر إذا لقى ،وأفضل القيام قيام داود ،كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ،وأمره أن يقرأ القرآن
في سبع).
ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة ،قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين( :يحقر أحدكم صلته مع
صلتهم ،وصيامه مع صيامهم ،وقراءته مع قراءتهم ،يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم ،يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من ال ّرمِيّة) فذكر اجتهادهم بالصلة والصيام والقراءة ،وأنهم يغلون في ذلك ،حتى تحقر الصحابة
عبادتهم في جنب عبادة هؤلء.
وهؤلء غلوا في العبادات بل فقه ،فآل المر بهم إلى البدعة ،فقال( :ىمرقون من السلم كـما يمرق السهم من
الرمية ،أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند ال لمن قتلهم يوم القيامة) .فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين،
وكفروا من خالفهم ،وجاءت فيهم الحاديث /الصحيحة ،قال المام أحمد بن حنبل ـ رحمه ال تعالى ـ :صح فيهم
الحديث من عشرة أوجه ،وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها.
ثم هذه الجناس الثلثة مشروعة ،ولكن يبقى الكلم في القدر المشروع منها ،وله صنف كتاب [القتصاد في العبادة].
وقال أبي بن كعب ،وغيره :اقتصاد في سنة ،خير من اجتهاد في بدعة.
والكلم في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيدين ،وأيام التشريق ،وقيام جميع الليل ،هل هو مستحب؟ كما
ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء ،والصوفية والعباد ،أو هو مكروه ـ كما دلت عليه السنة وإن كان جائزًا ؟ لكن صوم
يوم وفطر يوم أفضل ،وقيام ثلث الليل أفضل ،ولبسطه موضع آخر.
إذ المقصود هنا الكلم في أجناس عبادات غير مشروعة ،حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشتبه بالعتكاف
الشرعي ،والعتكاف الشرعي في المساجد ،كما كان النبي صلى ال عليه وسلم يفعله هو وأصحابه ،من العبادات
الشرعية.
وأما الخلوات ،فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي ،وهذا خطأ / ،فإن ما فعله صلى ال عليه وسلم قبل
النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة ،فنحن مأمورون باتباعه فيه ،وإل فل .وهو من حين نبأه ال ـ تعالى ـ لم يصعد بعد
ذلك إلى غار حراء ول خلفاؤه الراشدون .وقد أقام ـ صلوات ال عليه ـ بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة ،ودخل
مكة في عمرة القضاء ،وعام الفتح أقام بها قريبًا من عشرين ليلة ،وأتاها في حجة الوداع ،وأقام بها أربع ليال ،وغار
حراء قريب منه ،ولم يقصده.
وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية ،ويقال :إن عبد المطلب هو سن لهم إتيانه؛ لنه لم تكن لهم هذه العبادات
الشرعية التي جاء بها بعد النبوة ـ صلوات ال عليه ـ كالصلة والعتكاف في المساجد ،فهذه تغني عن إتيان حراء
بخلف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي ،فإنه لم يكن يقرأ ،بل قال له الملك ـ عليه السلم ـ :اقرأ .قال ـ صلوات ال
عليه وسلمه ـ( :فقلت :لست بقارئ) ول كانوا يعرفون هذه الصلة! ولهذا لما صلها النبي صلى ال عليه وسلم نهاه
ن كَانَ عَلَى ا ْل ُهدَى .أَوْ عنها من نهاه من المشركين ،كأبي جهل ،قال ال تعالى{ :أَرََأيْتَ اّلذِي يَ ْنهَى َ .
ع ْبدًا ِإذَا صَلّى َ .أرََأيْتَ إِ ْ
طئَةٍ .فَ ْل َي ْدعُ نَادِيَه .
صيَ ٍة كَا ِذبَةٍ خَا ِ
صيَ ِة .نَا ِ
لّ يَرَى .كَلّ َلئِنْ َل ْم يَ ْنتَهِ َلنَسْفَ َع بِالنّا ِ
ن َكذّبَ َوتَوَلّى .أََل ْم َيعْلَ ْم بِأَنّ ا َ
َأمَ َر بِالتّ ْقوَى َ .أرََأيْتَ إِ ْ
طعْهُ وَاسْ ُجدْ وَا ْقتَرِبْ}[العلق 9 :ـ .]19 ل تُ ِ
ل َس َندْعُ ال ّزبَا ِنيَةَ .كَ ّ
َ
وطائفة يجعلون الخلوة أربعين يومًا ،ويعظمون أمر الربعينية / ،ويحتجون فيها بأن ال ـ تعالى ـ واعد موسى ـ عليه
السلم ـ ثلثين ليلة وأتمها بعشر.وقد روى أن موسى ـ عليه السلم ـ صامها وصام المسيح أيضًا أربعين ل ـ تعالى ـ
وخوطب بعدها .فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتنزل ،كما يقولون في غار حراء حصل بعده نزول الوحي.
وهذا أيضًا غلط ،فإن هذه ليست من شريعة محمد صلى ال عليه وسلم بل شرعت لموسى ـ عليه السلم ـ كما شرع
له السبت والمسلمون ل يسبتون ،وكما حرم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى ال عليه وسلم .فهذا
تمسك بشرع منسوخ ،و ذاك تمسك بما كان قبل النبوة.
وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين ،وحصل له تنزل شيطاني ،وخطاب شيطاني ،وبعضهم
يطير به شيطانه ،وأعرف من هؤلء عددًا طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للنبياء من التنزل ،فنزلت عليهم
شرِيعَةٍ مِنْ الشياطين؛ لنهم خرجوا عن شريعة النبي صلى ال عليه وسلم التي أمروا بها .قال تعالى { :ثُمّ َ
جعَ ْلنَاكَ عَلَى َ
ضهُمْ أَوِْليَا ُء َبعْضٍ وَالُّ وَِليّ ا ْل ُمتّقِينَ}
ن َبعْ ُ
ش ْيئًا وَإِنّ الظّاِلمِي َ
ك مِنْ الِّ َ
ن ُي ْغنُوا عَن َ
ل يَعَْلمُونَ ِ .إّنهُمْ لَ ْ
ن َ
لْمْ ِر فَا ّت ِبعْهَا َولَ َتّتبِعْ أَهْوَاءَ اّلذِي َ
اَ
[الجاثية.]19 ،18 :
وكثير منهم ل يحد للخلوة مكانًا ،ول زمانًا ،بل يأمر النسان أن يخلو في الجملة.
/ثم صار أصحاب الخلوات فيهم من يتمسك بجنس العبادات الشرعية ،الصلة والصيام ،والقراءة والذكر.وأكثرهم
يخرجون إلى أجناس غير مشروعة ،فمن ذلك طريقة أبي حامد ومن تبعه ،وهؤلء يأمرون صاحب الخلوة أل يزيد
على الفرض ،ل قراءة ول نظرًا في حديث نبوي ،ول غير ذلك ،بل قد يأمرونه بالذكر ،ثم قد يقولون ما يقوله أبو
حامد :ذكر العامة :ل إله إل ال ،وذكر الخاصة :ال ،ال ،وذكر خاصة الخاصة :هو ،هو.
والذكر بالسم المفرد مظهرًا ،ومضمرًا بدعة في الشرع ،وخطأ في القول واللغة ،فإن السم المجرد ليس هو كلمًا ل
إيمانًا ول كفرًا.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :أفضل الكلم بعد القرآن أربع وهن من القرآن :سبحان
ال ،والحمد ل ،ول إله إل ال ،وال أكبر) .وفي حديث آخر( :أفضل الذكر ل إله إل ال) ،وقال( :أفضل ما قلت أنا
والنبيون من قبلي :ل إله إل ال وحده ل شريك له ،له الملك وله الحمد ،وهو على كل شيء قدير) .والحاديث في
فضل هذه الكلمات كثيرة صحيحة.
وأما ذكر السم المفرد ،فبدعة لم يشرع ،وليس هو بكلم يعقل ول فيه إيمان؛ ولهذا صار بعض من يأمر به من
المتأخرين يبين أنه ليس /قصدنا ذكر ال ـ تعالى ـ ولكن جمع القلب على شيء معين حتي تستعد النفس لما يرد
عليها ،فكان يأمر مريده بأن يقول هذا السم مرات ،فإذا اجتمع قلبه ألقى عليه حالً شيطانيًا ،فيلبسه الشيطان ،ويخيل
إليه أنه قد صار في المل العلى ،وأنه أعطى ما لم يعطه محمد صلى ال عليه وسلم ليلة المعراج ،ول موسى ـ عليه
السلم ـ يوم الطور ،وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا.
وأبلغ من ذلك من يقول :ليس مقصودنا إل جمع النفس بأي شيء كان ،حتي يقول :ل فرق بين قولك :يا حي ! وقولك:
يا جحش! وهذا مما قاله لي شخص منهم ،وأنكرت ذلك عليه ،ومقصودهم بذلك أن تجتمع النفس حتى يتنزل عليها
الشيطان.
ومنهم من يقول :إذا كان قصد وقاصد ،ومقصود ،فاجعل الجميع واحدًا ،فيدخله في أول المر في وحدة الوجود.
وأما أبو حامد ،وأمثاله ممن أمروا بهذه الطريقة ،فلم يكونوا يظنون أنها تفضي إلى الكفر لكن ينبغي أن يعرف أن
البدع بريد الكفر ،ولكن أمروا المريد أن يفرغ قلبه من كل شيء ،حتى قد يأمروه أن يقعد في مكان مظلم ويغطي
رأسه ويقول :ال ،ال .وهم يعتقدون أنه إذا فرغ قلبه استعد بذلك فينزل على قلبه من المعرفة ما هو المطلوب ،بل /
قد يقولون :إنه يحصل له من جنس ما يحصل للنبياء.
ومنهم من يزعم أنه حصل له أكثر مما حصل للنبياء ،وأبو حامد يكثر من مدح هذه الطريقة في [الحياء] وغيره،
كما أنه يبالغ في مدح الزهد ،وهذا من بقايا الفلسفة عليه .فإن المتفلسفة ،كابن سينا ،وأمثاله يزعمون أن كل ما يحصل
في القلوب من العلم للنبياء وغيرهم فإنما هو من العقل الفعال؛ ولهذا يقولون :النبوة مكتسبة ،فإذا تفرغ صفى قلبه ـ
عندهم ـ وفاض على قلبه من جنس ما فاض على النبياء .وعندهم أن موسى بن عمران صلى ال عليه وسلم كلم من
سماء عقله ،لم يسمع الكلم من خارج؛ فلهذا يقولون :إنه يحصل لهم مثل ما حصل لموسى ،وأعظم مما حصل
لموسى.
وأبو حامد يقول :إنه سمع الخطاب ،كما سمعه موسى ـ عليه السلم ـ وإن لم يقصد هو بالخطاب ،وهذا كله ؛ لنقص
إيمانهم بالرسل وأنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض ،وهذا الذي قالوه باطل من وجوه:
أحدها :أن هذا الذي يسمونه :العقل الفعال ،باطل ل حقيقة له كما قد بسط هذا في موضع آخر.
الثاني :أن ما يجعله ال في القلوب يكون تارة بواسطة الملئكة /إن كان حقًا ،وتارة بواسطة الشياطين ،إذا كان
باطلً .والملئكة ،والشياطين أحياء ناطقون ،كما قد دلت على ذلك الدلئل الكـثيرة من جـهة النبياء ،وكما يدعي ذلك
من باشره من أهل الحقائق .وهم يزعمون أن الملئكة ،والشياطين صفات لنفس النسان فقط .وهذا ضلل عظيم.
الثالث :أن النبياء جاءتهم الملئكة من ربهم بالوحي ،ومنهم من كلمه ال ـ تعالى ـ فقربه وناداه ،كما كلم موسى ـ
عليه السلم ـ لم يكن ما حصل لهم مجرد فيض ،كما يزعمه هؤلء.
الرابع :أن النسان إذا فرغ قلبه من كل خاطر .فمن أين يعلم أن ما يحصل فيه حق؟ هذا إما أن يعلم بعقل ،أو سمع،
وكلهما لم يدل على ذلك.
الخامس :أن الذي قد علم بالسمع والعقل ،أنه إذا فرغ قلبه من كل شيء حلت فيه الشياطين ،ثم تنزلت عليه الشياطين،
كما كانت تتنزل على الكهان ،فإن الشيطان إنما يمنعه من الدخول إلى قلب ابن آدم ما فيه من ذكر ال ،الذي أرسل به
شيْطَانًا َفهُوَ لَ ُه قَرِينٌ .وَِإّنهُمْ
ن نُ َقيّضْ لَهُ َ
حمَ ِ
ن ذِكْرِ الرّ ْ رسله ،فإذا خل من ذلك توله الشيطان ،قال ال ـ تعالىَ { :ومَ ْ
ن َيعْشُ عَ ْ
سبُونَ َأّنهُ ْم ُم ْهتَدُونَ}[الزخرف ،]37 ،36 :وقال الشيطان ،فيما أخبر ال عنهَ { :فبِعِ ّز ِتكَ سبِيلِ َويَحْ َ
صدّو َنهُمْ عَنْ ال ّ َليَ ُ
عَليْهِمْ سُلْطَانٌ ِإلّ مَنْعبَادِي َليْسَ َلكَ َ عبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْلمُخَْلصِينَ} [ص ،]83 ،82 :وقال تعالى { :إِنّ ِ ج َمعِينَ ِ .إلّ ِلَُغْ ِويَ ّنهُمْ َأ ْ
ك مِنْ ا ْلغَاوِينَ}[الحجر ،]42 :والمخلصون هم الذين يعبدونه وحده ل يشركون به شيئًا ،وإنما يعبد ال بما أمر به ا ّتبَ َع َ
على ألسنة رسله فمن لم يكن كذلك تولته الشياطين.
وهذا باب دخل فيه أمر عظيم على كثير من السالكين ،واشتبهت عليهم الحوال الرحمانية بالحوال الشيطانية،
وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهان والسحرة ،وظنوا أن ذلك من كرامات أولياء ال المتقين ،كما قد بسط الكلم
على هذا في غير هذا الموضع.
السادس :أن هذه الطريقة لو كانت حقًا ،فإنما تكون في حق من لم يأته رسول ،فأما من أتاه رسول وأمر بسلوك
طريق ،فمن خالفه ضل ،وخاتم الرسل صلى ال عليه وسلم ،قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلة ،وذكر ،ودعاء،
وقراءة ،لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر ،وانتظار ما ينزل.
فهذه الطريقة لو قدر أنها طريق لبعض النبياء ،لكانت منسوخة بشرع محمد صلى ال عليه وسلم ،فكيف وهي
طريقة جاهلية ل توجب الوصول إلى المطلوب إل بطريق التفاق ،بأن يقذف ال ـ تعالى ـ في قلب /العبد إلهامًا
ينفعه؟ وهذا قد يحصل لكل أحد ليس هو من لوازم هذه الطريق.
ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما ل يحبه ال ،ويملؤه بما يحبه ال ،فيفرغه من عبادة
غير ال ويملؤه بعبادة ال ،وكذلك يفرغه عن محبة غير ال ويملؤه بمحبة ال ،وكذلك يخرج عنه خوف غير ال،
ويدخل فيه خوف ال ـ تعالى ـ وينفي عنه التوكل على غير ال ،ويثبت فيه التوكل على ال .وهذا هو السلم
المتضمن لليمان الذي يمده القرآن ويقويه ،ل ينقاضه وينافيه ،كما قال جندب وابن عمر :تعلمنا اليمان ثم تعلمنا
القرآن فازددنا إيمانًا.
وأما القتصار على الذكر المجرد الشرعي ،مثل قول :ل إله إل ال ،فهذا قد ينتفع به النسان أحيانًا ،لكن ليس هذا
الذكر وحده هو الطريق إلى ال ـ تعالى ـ دون ما دعاه ،بل أفضل العبادات البدنية الصلة ،ثم القراءة ،ثم الذكر ،ثم
الدعاء ،والمفضول في وقته الذي شرع فيه أفضل من الفاضل ،كالتسبيح في الركوع ،والسجود ،فإنه أفضل من
القراءة ،وكذلك الدعاء في آخر الصلة أفضل من القراءة ،ثم قد يفتح على النسان في العمل المفضول ،ما ل يفتح
عليه في العمل الفاضل .وقد ييسر عليه هذا دون هذا ،فيكون هذا أفضل في حقه لعجزه عن الفضل ،كالجائع إذا وجد
الخبز المفضول متيسرًا عليه ،والفاضل متعسرًا /عليه فإنه ينتفع بهذا الخبز المفضول ،وشبعه واغتذاؤه به حينئذ
أولى به.
السابع :أن أبا حامد يشبه ذلك بنقش أهل الصين والروم على تزويق الحائط ،وأولئك صقلوا حائطهم حتى تمثل فيه ما
صقله هؤلء ،وهذا قياس فاسد؛ لن هذا الذي فرغ قلبه لم يكن هناك قلب آخر يحصل له به التحلية ،كما حصل لهذا
الحائط من هذا الحائط .بل هو يقول إن :العلم منقوش في النفس الفلكية ،ويسمى ذلك [اللوح المحفوظ] تبعًا لبن سينا.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن اللوح المحفوظ الذي ذكره ال ورسوله ليس هو النفس الفلكية ،وابن سينا ومن تبعه
أخذوا أسماء جاء بها الشرع ،فوضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع ،ثم صاروا يتكلمون بتلك
السماء ،فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع ،فأخذوا مخ الفلسفة ،وكسوه لحاء الشريعة.
وهذا كلفظ المُ ْلكِ ،والملكوت ،والجبروت ،و اللوح المحفوظ ،والملك ،والشيطان ،والحدوث ،والقدم وغير ذلك.
/وقد ذكرنا من ذلك طرفًا في الرد على التحادية ،لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي وما يوجد في كلم أبي
حامد ،ونحوه من أصول هؤلء الفلسفة الملحدة الذين يحرفون كلم ال ورسوله عن مواضعه ،كما فعلت طائفة
القرامطة الباطنية.
والمقصود هنا أنه لو كانت العلوم تنزل على القلوب من النفس الفلكية ،كما يزعم هؤلء ،فل فرق في ذلك بين الناظر
والمستدل والمفرغ قلبه ،فتمثيل ذلك بنقش أهل الصين والروم تمثيل باطل.
ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معينة وقوت معين ،ولهم تنزلت معروفة ،وقد بسط الكلم عليها ابن عربي
الطائي ومن سلك سبيله ،كالتلمساني ،وهي تنزلت شيطانية قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوه متعددة ،لكن ليس هذا
موضع بسطها ،وإنما المقصود التنبيه على هذا الجنس.
ومما يأمرون به الجوع والسهر والصمت مع الخلوة بل حدود شرعية ،بل سهر مطلق ،وجوع مطلق ،وصمت
مطلق مع الخلوة ،كما ذكر ذلك ابن عربي وغيره ،وهي تولد لهم أحوالً شيطانية ،و أبو طالب قد ذكر بعض ذلك،
لكن أبو طالب أكثر اعتصامًا بالكتاب والسنة من هؤلء .ولكن يذكر أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة /.من جنس
أحاديث المسبعات التي رواها عن الخضر عن النبي صلى ال عليه وسلم ،وهو كذب محض ،وإن كان ليس فيه إل
قراءة قرآن ،ويذكر أحيانًا عبادات بدعية من جنس ما بالغ في مدح الجوع هو ،وأبو حامد وغيرهما ،وذكروا أنه يزن
الخبز بخشب رطب ،كلما جف نقص الكل.
وذكروا صلوات اليام والليالي ،وكلها كذب موضوعة؛ ولهذا قد يذكرون مع ذلك شيئًا من الخيالت الفاسدة ،وليس
هذا موضع بسط ذلك.
وإنما الغرض التنبيه بهذا علي جنس من العبادات البدعية ،وهي [ :الخلوات البدعية] سواء قدرت بزمان ،أو لم تقدر؛
لما فيها من العبادات البدعية ،أما التي جنسها مشروع ،ولكن غير مقدرة وأما ما كان جنسه غير مشروع ،فأما
الخلوة ،والعزلة ،والنفراد المشروع ،فهو ما كان مأمورًا به أمر إيجاب ،أو استحباب:
وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما ل ينفع ،وذلك بالزهد فيه ،فهو مستحب ،وقد قال طاووس :نعم صومعة
الرجل بيته يكف فيه بصره ،وسمعه.
وإذا أراد النسان تحقيق علم ،أو عمل ،فتخلى في بعض الماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة ،فهذا حق كما
في الصحيحين ،أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل :أي الناس أفضل؟ قال( :رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل ال ،كلما
سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه ،ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلة ،ويؤتي الزكاة ،ويدع
الناس إل من خير).
وقوله( :يقيم الصلة ويؤتي الزكاة) دليل على أن له مال يزكيه ،وهو ساكن مع ناس يؤذن بينهم وتقام الصلة فيهم،
فقد قال صلوات ال عليه( :ما من ثلثة في قرية ول بدو ل تقام فيهم الصلة جماعة إل وقد استحوذ عليهم الشيطان)
وقال( :عليكم بالجماعة ،فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم).
َفصْـــل /
وهذه الخلوات ،قد يقصد أصحابها الماكن التي ليس فيها أذان ،ول إقامة ،ول مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس،
إما مساجد مهجورة ،وإما غير مساجد ،مثل الكهوف ،والغيران التي في الجبال ،ومثل المقابر ل سيما قبر من يحسن
به الظن ،ومثل المواضع التي يقال أن بها أثر نبي ،أو رجل صالح؛ ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال
شيطانية ،يظنون أنها كرامات رحمانية.
فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه ،وقد مات من سنين كثيرة ،ويقول :أنا فلن ،وربما قال له :نحن إذا
وضعنا في القبر خرجنا ،كما جرى للتونسي مع نعمان السلمي.
والشياطين كثيرًا ما يتصورون ،بصورة النس في اليقظة والمنام ،وقد تأتي لمن ل يعرف فتقول :أنا الشيخ فلن ،أو
العالم فلن ،وربما قالت :أنا أبو بكر وعمر وربما أتى في اليقظة دون المنام ،وقال :أنا المسيح ،أنا موسى ،أنا محمد،
وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها / ،وثم من يصدق بأن النبياء يأتون في اليقظة في صورهم ،وثم شيوخ لهم زهد،
وعلم ،وورع ،ودين يصدقون بمثل هذا.
ومن هؤلء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي ،أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه .ومن هؤلء من رأى
في دائرة ذرى الكعبة صورة شيخ ،قال :إنه إبراهيم الخليل ،ومنهم من يظن أن النبي صلى ال عليه وسلم خرج من
الحجرة وكلمه ،وجعلوا هذا من كراماته ،ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه.
وبعضهم كان يحكي :أن ابن منده ،كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل ،فسأل النبي صلى ال
عليه وسلم عن ذلك فأجابه ،وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك ،وجعل ذلك من كراماته ،حتى قال ابن عبد
البر لمن ظن ذلك :ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الولين من المهاجرين والنصار؟ فهل في هؤلء من سأل
النبي صلى ال عليه وسلم بعد الموت وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء ،فهل سألوا النبي صلى ال عليه وسلم
فأجابهم ؟ وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه ،فهل سألته فأجابها؟
َفصْــل
والنبياء ـ صلوات الّ عليهم وسلمه أجمعين ـ قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه ،وأن نقتدي بهم ،وبهداهم .قال تعالى{ :
ي مُوسَى وَعِيسَى َومَا أُو ِتيَ سبَاطِ َومَا أُو ِت َ
سمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ َو َيعْقُوبَ وَالَْ ْ
قُولُوا آ َمنّا بِالِّ َومَا أُنزِلَ إَِل ْينَا َومَا أُنزِلَ إِلَى ِإبْرَاهِيمَ وَإِ ْ
ح ٍد ِمنْهُمْ َونَحْنُ لَ ُه مُسِْلمُونَ} [البقرة ،]136 :وقال تعالى{ :أُ ْوَل ِئكَ اّلذِينَ َهدَى ا ُ
لّ َف ِبهُدَاهُمْ ا ْق َتدِهِ} ق َبيْنَ أَ َ ل نُفَرّ ُ
ال ّن ِبيّونَ مِنْ َرّبهِ ْم َ
[ النعام ]90 :ومحمد صلى ال عليه وسلم خاتم النبيين ل نبي بعده ،وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره ،فلم
يبق طريق إلى الّ إل باتباع محمد صلى ال عليه وسلم فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب ،فهو
مشروع ،وكذلك ما رغب فيه ،وذكر ثوابه ،وفضله.
ول يجوز أن يقال :إن هذا مستحب ،أو مشروع ،إل بدليل شرعي ،ول يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف ،لكن
إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي ،وروى له فضائل بأسانيد ضعيفة ،جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب ،وذلك
أن مقادير الثواب غير معلومة ،فإذا روى في مقدار الثواب حديث ل يعرف أنه كذب ،لم يجز أن يكذب /به ،وهذا هو
الذي كان المام أحمد بن حنبل ،وغيره يرخصون فيه ،وفي روايات أحاديث الفضائل .وأما أن يثبتوا أن هذا عمل
مستحب مشروع بحديث ضعيف ،فحاشا لّ ،كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب ،فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته
إل أن يبينوا أنه كذب لقول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح( :من روى عني حديثًا يرى أنه كذب فهو
أحد الكاذبين).
وما فعله النبي صلى ال عليه وسلم على وجه التعبد ،فهو عبادة يشرع التأسي به فيه .فإذا خصص زمان أو مكان
بعبادة ،كان تخصيصه بتلك العبادة سنة؛ كتخصيصه العشر الواخر بالعتكاف فيها وكتخصيصه مقام إبراهيم
بالصلة فيه ،فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل ،على الوجه الذي فعل؛ لنه فعل.
وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد ،فإذا سافر لحج أو عمرة أو جهاد وسافرنا كذلك ،كنا متبعين له ،وكذلك إذا
ضرب لقامة حد ،بخلف من شاركه في السفر ،وكان قصده غير قصده ،أو شاركه في الضرب ،وكان قصده غير
قصده ،فهذا ليس بمتابع له ،ولو فعل فعلً بحكم التفاق مثل نزوله في السفر بمكان ،أو أن يفضل في إداوته ماء
فيصبه في أصل شجرة ،أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق ونحو ذلك ،فهل يستحب قصد متابعته في ذلك؟
كان ابن عمر يحب أن /يفعل مثل ذلك .وأما الخلفاء الراشدون ،وجمهور الصحابة ،فلم يستحبوا ذلك؛ لن هذا ليس
بمتابعة له ،إذ المتابعة لبد فيها من القصد ،فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل ،بل حصل له بحكم التفاق كان في قصده
غير متابع له ،وابن عمر ـ رضي الّ عنه ـ يقول :وإن لم يقصده ،لكن نفس فعله حسن على أي وجه كان ،فأحب أن
أفعل مثله ،إما لن ذلك زيادة في محبته ،وإما لبركة مشابهته له.
ومن هذا الباب :إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته ،وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك ،ويرخص
في مثل ما فعله ابن عمر ،وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتباعًا لبن عمر ،وعن أحمد في التمسح
بالمنبر روايتان.
أشهرهما أنه مكروه ،كقول الجمهور ،وأما مالك وغيره من العلماء ،فيكرهون هذه المور وإن فعلها ابن عمر ،فإن
أكابر الصحابة ،كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ،لم يفعلها .فقد ثبت بالسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ
رضي الّ عنه ـ أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكانًا يصلون فيه ،فقال :ما هذا؟ قالوا :مكان صلى فيه رسول الّ
صلى ال عليه وسلم .فقال :أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا ،من أدركته فيه
الصلة فليصل فيه وإل فليمض.
/وهكذا للناس قولن ،فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط ،أو مستحبة؟ على
قولين في مذهب أحمد وغيره ،كما قد بسط ذلك في موضعه ،ولم يكن ابن عمر ،ول غيره من الصحابة يقصدون
الماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه ،ومثل مواضع نزوله في مغازيه ،وإنما كان الكلم في
مشابهته في صورة الفعل فقط ،وإن كان هو لم يقصد التعبد به ،فأما المكنة نفسها ،فالصحابة متفقون على أنه ل
يعظم منها ،إل ما عظمه الشارع.
فَصــل
وأهل العبادات البدعية ،يزين لهم الشيطان تلك العبادات ،ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم
والقرآن والحديث ،فل يحبون سماع القرآن والحديث ،ول ذكره ،وقد يبغض إليهم حتى الكتاب ،فل يحبون كتابا ،ول
من معه كتاب ،ولو كان مصحفًا أو حديثًا ،كما حكى النصراباذي أنهم كانوا يقولون :يدع علم الخرق ،ويأخذ علم
الورق ،قال :وكنت أستر الواحى منهم ،فلما كبرت احتاجوا إلى علمي.
وكذلك حكى السري السقطي :أن واحدًا منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلمًا خرج ،ولم يقعد عنده ،ولهذا قال
سهل بن عبد /الّ التستري :يا معشر الصوفية ،ل تفارقوا السواد على البياض ،فما فارق أحد السواد على البياض إل
تزندق .وقال الجنيد :علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة ،فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث ل يقتدى به في هذا
الشأن.
وكثير من هؤلء ينفر ممن يذكر الشرع ،أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب ،وذلك؛ لنهم استشعروا أن هذا
الجنس فيه ما يخالف طريقهم ،فصارت شياطينهم تهربهم من هذا ،كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلم
المسلمين حتى ل يتغير اعتقاده في دينه ،وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم ،ويستغشون ثيابهم لئل
س َمعُوا ِل َهذَا الْ ُقرْآنِ وَا ْلغَوْا فِيهِ َلعَّلكُ ْم َتغِْلبُونَ} يسمعوا كلمه ول يروه ،وقال الّ تعالى عن المشركينَ { :وقَالَ اّلذِينَ َكفَرُوا َ
ل تَ ْ
ت مِنْ َقسْوَرَةٍ} [المدثر.]51 - 49 : س َتنْفِرَةٌ .فَرّ ْ [فصلت ،]26 :وقال تعالىَ { :فمَا َل ُهمْ عَنْ التّ ْذكِرَ ِة ُمعْرِضِينَ .كََأّنهُمْ ُ
حمُ ٌر مُ ْ
وهم من أرغب الناس في السماع البدعي ،سماع المعازف .ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات الّ ـ تعالى:
وكان مما زين لهم طريقهم ،أن وجدوا كثيرًا من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة الّ ـ تعالى ـ وسلوك
سبيله ،إما اشتغالً بالدنيا ،وإما بالمعاصي وإما جهل وتكذيبًا بما يحصل لهل التأله والعبادة ،فصار وجود هؤلء مما
ينفرهم ،وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه /من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين ،هؤلء يقولون :ليس هؤلء
على شيء ،وهؤلء يقولون :ليس هؤلء على شيء ،وقد يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل في
الكتب.
فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بل تلقين ،ويحكون أن شخصًا حصل له ذلك ،وهذا كذب .نعم قد يكون سمع آيات الّ،
فلما صفى نفسه تذكرها فتلها .فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها ،ويقول بعضهم أو يحكي أن
بعضهم قال :أخذوا علمهم ميتًا عن ميت ،وأخذنا علمنا عن الحي الذي ل يموت .وهذا يقع ،لكن منهم من يظن أنّ ما
يلقي إليه من خطاب ،أو خاطر هو من الّ ـ تعالى ـ بل واسطة ،وقد يكون من الشيطان وليس عندهم فرقان يفرق بين
الرحماني والشيطاني ،فإن الفرق الذي ل يخطئ هو القرآن والسنة ،فما وافق الكتاب والسنة ،فهو حق .وماخالف
ذلك ،فهو خطأ.
وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله ،قال تعالي{ :وَ َهذَا ِذكْ ٌر ُمبَا َركٌ أَنزَ ْلنَاهُ} [النبياء ،]50 :وقال تعالىَ { :ومَا هُوَ
شقَى َ .ومَنْ أَعْ َرضَ عَنْ ل يَ ْ
ل يَضِلّ َو َ ل ذِكْرٌ ِل ْلعَاَلمِينَ} [ القلم ،]52 :وقال تعـالىَ {/ :فِإمّا يَ ْأ ِتيَ ّنكُ ْم ِمنّي ُهدًى َفمَنْ ا ّتبَعَ ُهدَا َ
ي فَ َ ِإ ّ
ل َكذَِلكَ َأ َت ْتكَ آيَا ُتنَا َفنَسِي َتهَات بَصِيرًا .قَا َ
عمَى َو َقدْ كُن ُ عمَى .قَالَ َربّ لِمَ حَشَ ْر َتنِي أَ ْ حشُرُ ُه يَوْمَ الْ ِقيَامَةِ أَ ْ
ذِكْرِي فَإِنّ لَ ُه َمعِيشَةً ضَنكًا َونَ ْ
ن َيعْمَلُو َ
ن َو َكذَِلكَ ا ْليَ ْو َم تُنسَى} [طه ،]123-126 :وقال تعالى{ :إِنّ َهذَا ا ْلقُرْآ َ
ن َي ْهدِي لِّلتِي هِيَ َأ ْقوَمُ َو ُيبَشّرُ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ اّلذِي َ
عذَابًا أَلِيمًا} [السراء ،]10 ،9 :وقال تعالىَ { :و َكذَِلكَ ع َت ْدنَا َلهُمْ َ
ل يُ ْؤ ِمنُونَ بِالْخِرَةِ أَ ْ
جرًا َكبِيرًا .وَأَنّ اّلذِينَ َ الصّاِلحَاتِ أَنّ َلهُمْ أَ ْ
عبَادِنَا َوِإّنكَ َل َت ْهدِي إِلَى
ن نَشَا ُء مِنْ ِ جعَ ْلنَا ُه نُورًا َن ْهدِي بِهِ مَ ْ
ت تَدْرِي مَا ا ْل ِكتَابُ َولَ الِْيمَانُ َوَلكِنْ َ ح ْينَا ِإَل ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْ ِرنَا مَا ُكنْ َ أَوْ َ
لّ َتصِيرُ ا ُلْمُورُ} [الشورى ،]53 ،52 :وقال سمَاوَاتِ َومَا فِي الَْ ْرضِ َألَ إِلَى ا ِ ستَقِيمٍ .صِرَاطِ الِّ اّلذِي لَ ُه مَا فِي ال ّ ط مُ ْ
صِرَا ٍ
س مِنْ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر بِِإذْنِ َرّبهِمْ إِلَى صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ الْ َحمِيدٌِ} [إبراهيم ،]1 :وقال خرِجَ النّا َ تعالىِ { :كتَابٌ أَنزَ ْلنَاهُ إَِل ْيكَ ِلتُ ْ
تعالى{ :فَاّلذِي َن آ َمنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ َونَصَرُوهُ وَاّتبَعُوا النّورَ اّلذِي أُنزِ َل َمعَهُ أُوَْل ِئكَ هُمْ ا ْلمُفْلِحُونَ} [العراف. ]157 :
ثم إن هؤلء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من الّ بل واسطة ،صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول .يقول
أحدهم :فلن عطيته على يد محمد ،وأنا عطيتي من الّ بل واسطة ،ويقول أيضًا :فلن يأخذ عن الكتاب ،وهذا الشيخ
يأخذ عن الّ ،ومثل هذا.
وقول القائل :يأخذ عن الّ ،وأعطاني الّ لفظ مجمل ،فإن /أراد به العطاء والخذ العام وهو الكوني الخلقي أي:
بمشيئة الّ وقدرته حصل لي هذا ،فهو حق ،ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا ،وذلك الذي أخذ عن الكتاب ،هو
أيضًا عن الّ أخذ بهذا العتبار .والكفار من المشركين وأهل الكتاب أيضًا هم كذلك ،وإن أراد أن هذا الذي حصل له
هو مما يحبه الّ ،ويرضاه ،ويقرب إليه ،وهذا الخطاب الذي يلقي إليه هو كلم الّ تعالى .فهنا طريقان:
أحدهما :أن يقال له :من أين لك أن هذا إنما هو من الّ ،ل من الشيطان ،وإلقائه ووسوسته؟ فإن الشياطين يوحون إلى
أوليائهم وينزلون عليهم ،كما أخبر الّ ـ تعالى ـ بذلك في القرآن ،وهذا موجود كثيرًا في عباد المشركين ،وأهل
الكتاب ،وفي الكهان ،والسحرة ،ونحوهم ،وفي أهل البدع بحسب بدعتهم .فإن هذه الحوال قد تكون شيطانية وقد
تكون رحمانية ،فل بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ،والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث الّ به
محمدًا صلى ال عليه وسلم فهو {اّلذِي نَزّلَ الْ ُف ْرقَانَ عَلَى َعبْدِهِ ِل َيكُونَ لِ ْلعَاَلمِي َن نَذِيرًا}[الفرقان ،]1 :وهوالذي فرق الّ به
بين الحق والباطل ،وبين الهدى والضلل ،وبين الرشاد والغي ،وبين طريق الجنة وطريق النار ،وبين سبيل أولياء
الرحمن وسبيل أولياء الشيطان ،كما قد بسط الكلم على هذا في غير هذا الموضع.
/والمقصود هنا أنه يقال لهم :إذا كان جنس هذه الحوال مشتركًا بين أهل الحق وأهل الباطل فل بد من دليل يبين أن
ما حصل لكم هو الحق.
الطريق الثاني :أن يقال :بل هذا من الشيطان لنه مخالف لما بعث الّ به محمدًا صلى ال عليه وسلم ،وذلك أنه ينظر
فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته ،فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له :اسجد لهذا الصنم حتى
يحصل لك المراد ،أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب ،أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل
أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب ،أو أن يدعو مخلوقًا ،كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق
ملكًا ،أو نبيًا ،أو شيخًا ،فإذا دعاه كما يدعو الخالق ،سبحانه ،إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة صار مشركا به ،فحينئذ
ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك ،كما كان يحصل للمشركين.
وكانت الشياطين تتراءى لهم أحيانًا ،وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض المور الغائبة .أو يقضون لهم
بعض الحوائج ،فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم ،وإيمانهم الذي هلكوا بزواله
ن بِ ِه َبيْنَ ا ْل َمرْءِ َوزَوْجِهِ
ن ِم ْنهُمَا مَا يُفَ ّرقُو َ
ل َتكْفُ ْر َف َي َتعَلّمُو َ
ن ِفتْنَ ٌة فَ َ
حتّى يَقُولَ ِإّنمَا نَحْ ُ
حدٍ َ كالسحر ،قال الّ تعالىَ { :ومَا يُعَّلمَا ِ
ن مِنْ َأ َ
خرَ ِة مِنْ خَلَقٍ َوَلبِئْسَ
شتَرَا ُه مَا لَ ُه فِي الْ ِ
حدٍ ِإلّ ِبِإذْنِ الِّ َو َي َتعَّلمُونَ مَا يَضُرّ ُهمْ َولَ يَن َف ُعهُمْ َولَ َق ْد عَِلمُوا َلمَنْ ا ْ
ن بِ ِه مِنْ أَ َ
َومَا ُه ْم بِضَارّي َ
مَا َشرَوْا بِهِ أَنفُ َسهُمْ لَ ْو كَانُوا َيعَْلمُونَ} [البقرة. ]102 :
وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف ،وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان ـ رضي الّ عنه ـ أنه قال :اتقوا الخمر
فإنها أم الخبائث ،وإن رجلً سأل امرأة ،فقالت :ل أفعل حتى تسجد لهذا الوثن ،فقال :ل أشرك بالّ ،فقالت :أو تقتل
هذا الصبي؟ فقال :ل أقتل النفس التي حرم الّ ،فقالت :أو تشرب هذا القدح؟ فقال هذا أهون .فلما شرب الخمر قتل
الصبي وسجد للوثن وزنا بالمرأة.
والمعازف هي خمر النفوس ،تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس ،فإذا سكروا بالصوات حل فيهم الشرك،
ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم ،فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الّ ،ويزنون.
وهذه الثلثة موجودة كثيرًا في أهل سماع المعازف ،سماع المكاء والتصدية ،أما الشرك فغالب عليهم بأن يحبوا
شيخهم أو غيره ،مثل ما يحبون الّ ويتواجدون على حبه.
وأما الفواحش ،فالغناء رقية الزنا ،وهو من أعظم السباب /،لوقوع الفواحش ،ويكون الرجل والصبي والمرأة في
غاية العفة والحرية حتى يحضره ،فتنحل نفسه ،وتسهل عليه الفاحشة ،ويميل لها فاعل ً ،أو مفعولً به أو كلهما،
كما يحصل بين شاربي الخمر ،وأكثر.
وأما القتل ،فإن قتل بعضهم بعضًا في السماع ،كثير يقولون :قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته ،وذلك أن معهم
شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الخر .كالذين يشربون الخمر ،ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا
عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الخر ،وقد جرى مثل هذا لكثير منهم ،ومنهم من يقتل إما شخصًا ،وإما فرسًا،
أو غير ذلك بحاله ،ثم يقوم صاحب الثأر ،ويستغيث بشيخه ،فيقتل ذلك الشخص ،وجماعة معه :إما عشرة ،وإما أقل
أو أكثر .كما جرى مثل هذا لغير واحد .وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات.
فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية ،وأن هؤلء معهم شياطين تعينهم على الثم والعدوان عرف ذلك من بصره الّ ـ
تعالى ـ وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلء.
وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والرادة فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة ،فبتنا
بمكان وأرادوا أن /يقيموا سماعا وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك ،فجعلوا لي مكانا منفردًا قعدت فيه ،فلما سمعوا
وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده ،ويقول :يا فلن قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ
نصيبك ،فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا :أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب ل يأتي عن طريق
محمد بن عبد الّ ،فإني ل آكل منه شيئًا ،وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة ،وعلم أنه كان معهم الشياطين،
وكان فيهم من هو سكران بالخمر.
والذي قلته معناه :أن هذا النصيب ،وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي ،ليس هو طاعة لّ ورسوله ول
شرعها الرسول فهو مثل من يقول :تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال ،أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك
هذه الولية ونحو ذلك.
وقد يكون سببه نذرًا لغير الّ ـ سبحانه وتعالى ـ مثل أن ينذر لصنم ،أو كنيسة ،أو قبر ،أو نجم ،أو شيخ ،ونحو ذلك
من النذور ،التي فيها شرك ،فإذا أشرك بالنذر ،فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه ،كما تقدم في السحر.
وهذا بخلف النذر لّ ـ تعالى ـ فإنه ثبت في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم ،أنه نهى عن
النذر ،وقال( :إنه ل يأتي /بخير ،وإنما يستخرج به من البخيل) وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال
عليه وسلم نحوه ،وفي رواية( :فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر) فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به،
منهى عن عقده ،ولكن إذا كان قد عقده فعليه ،الوفاء به كما في صحيح البخاري عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
قال( :من نذر أن يطيع الّ فليطعه ،ومن نذر أن يعصي الّ فل يعصه).
وإنما نهى عنه صلى ال عليه وسلم ؛لنه ل فائدة فيه إل التزام ما التزمه ،وقد ل يرضى به ،فيبقى آثمًا .وإذا فعل تلك
العبادات بل نذر كان خيرًا له ،والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم ،فبين النبي صلى ال عليه وسلم أن النذر ل
يأتي بخير ،فليس النذر سببًا في حصول مطلوبهم ،وذلك أن الناذر إذا قال :لّ علي إن حفظني الّ القرآن أن أصوم
مثلً ثلثة أيام ،أو إن عافاني الّ من هذا المرض ،أو إن دفع الّ هذا العدو ،أو إن قضي عني هذا الدين فعلت كذا،
فقد جعل العبادة التي التزمها عوضًا عن ذلك المطلوب .والّ ـ سبحانه ـ ل يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة
المنذورة ،بل ينعم على عبده بذلك المطلوب؛ ليبتليه أيشكر أم يكفر؟ وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه.
وأما تلك العبادة المنذورة ،فل تقوم بشكر تلك النعمة ،ول ينعم الّ تلك النعمة؛ ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي
كانت مستحبة ،فصارت /واجبة؛ لنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء ،بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي
الفرائض ،ويجتنب المحارم ،لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيرًا من حقوق الّ ثم بذل ذلك النذر؛ لجل تلك النعمة،
وتلك النعمة أجل من أن ينعم الّ بها؛ لمجرد ذلك المبذول المحتقر.
وإن كان المبذول كثيرًا ،والعبد مطيع لّ ،فهو أكرم على الّ من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير ،فليس النذر سببًا
لحصول مطلوبه كالدعاء ،فإن الدعاء من أعظم السباب وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها الّ تعالى أسبابا؛
لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء ،وأما ما يفعله على وجه النذر ،فإنه ل يجلب منفعة ،ول يدفع عنه
مضرة ،لكنه كان بخيل فلما نذر ،لزمه ذلك ،فالّ ـ تعالى ـ يستخرج بالنذر من البخيل ،فيعطي على النذر مالم يكن
يعطيه بدونه والّ أعلم.
فأجاب:
الحمد لّ رب العالمين ،عمل أهل الجنة :اليمان والتقوى ،وعمل أهل النار الكفر والفسوق والعصيان ،فأعمال أهل
الجنة اليمان بالّ ،وملئكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم الخر ،واليمان بالقدر خيره وشره ،والشهادتان :شهادة أن ل
إله إل الّ ،وأن محمدًا رسول الّ ،وإقام الصلة ،وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وحج البيت .وأن تعبد الّ كأنك
تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ومن أعمال أهل الجنة :صدق الحديث ،وأداء المانة ،والوفاء بالعهد ،وبر الوالدين ،وصلة الرحام ،والحسان إلى
الجار ،واليتيم ،والمسكين ،والمملوك من الدميين والبهائم.
/ومن أعمال أهل الجنة :الخلص لّ ،والتوكل عليه ،والمحبة له ولرسوله ،وخشية الّ ورجاء رحمته ،والنابة إليه،
والصبر على حكمه ،والشكر لنعمه.
ومن أعمال أهل الجنة :قراءة القرآن ،وذكر الّ ،ودعاؤه ،ومسألته ،والرغبة إليه.
ومن أعمال أهل الجنة :المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،والجهاد في سبيل ال للكفار والمنافقين.
ومن أعمال أهل الجنة :أن تصل من قطعك ،وتعطي من حرمك ،وتعفو عمن ظلمك ،فإن الّ أعد الجنة للمتقين ،الذين
ينفقون في السراء ،والضراء ،والكاظمين الغيظ ،والعافين عن الناس ،والّ يحب المحسنين.
ومن أعمال أهل الجنة :العدل في جميع المور ،وعلى جميع الخلق حتى الكفار ،وأمثال هذه العمال.
وأما عمل أهل النار ،فمثل :الشراك بالّ ،والتكذيب بالرسل ،والكفر والحسد ،والكذب ،والخيانة ،والظلم ،والفواحش،
والغدر ،وقطيعة الرحم ،والجبن عن الجهاد ،والبخل ،واختلف السر والعلنية ،واليأس من /روح الّ ،والمن من
مكر الّ ،والجزع عند المصائب ،والفخر والبطر عند النعم ،وترك فرائض الّ ،واعتداء حدوده ،وانتهاك حرماته،
وخوف المخلوق دون الخالق ،ورجاء المخلوق دون الخالق ،والتوكل على المخلوق دون الخالق ،والعمل رياء
وسمعة ،ومخالفة الكتاب والسنة ،وطاعة المخلوق في معصية الخالق ،والتعصب بالباطل ،والستهزاء بآيات الّ،
وجحد الحق ،والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة.
ومن عمل أهل النار :السحر ،وعقوق الوالدين ،وقتل النفس التي حرم الّ بغير الحق ،وأكل مال اليتيم ،وأكل الربا،
والفرار من الزحف ،وقذف المحصنات الغافلت المؤمنات.
وتفصيل الجملتين ل يمكن ،لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة الّ ورسوله ،وأعمال أهل النار كلها تدخل في
لْ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َوذَِلكَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ َ .ومَنْ َيعْصِ
ح ِتهَا ا َ
ن تَ ْ
ت تَجْرِي مِ ْ
جنّا ٍ معصية الّ ورسولهَ { ،ومَنْ يُطِعْ الَّ وَرَسُولَ ُه يُدْ ِ
خلْهُ َ
ب ُمهِينٌ}[النساء ]14 ،13 :والّ أعلم. عذَا ٌ
حدُودَ ُه يُدْخِلْ ُه نَارًا خَاِلدًا فِيهَا وَلَهُ َ
الَّ وَ َرسُولَهُ َو َي َتعَدّ ُ
فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها؟ إما نزاعًا كليًا وإما حاليًا ،فحقيقة المر :أن الخلطة تارة تكون واجبة أو
مستحبة ،والشخص الواحد قد يكون مأمورًا بالمخالطة تارة ،وبالنفراد تارة .وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها
تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها ،وإن كان فيها تعاون على الثم والعدوان فهي منهي عنها ،فالختلط
بالمسلمين في جنس العبادات ،كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلة الكسوف ،والستسقاء ،ونحو ذلك هو
مما أمر الّ به ورسوله.
وكذلك الختلط بهم في الحج ،وفي غزو الكفار والخوارج المارقين ،وإن كان أئمة ذلك فجارًا ،وإن كان في تلك
الجماعات فجار / ،وكذلك الجتماع الذي يزداد العبد به إيمانًا ،إما لنتفاعه به ،وإما لنفعه له ،ونحو ذلك.
ول بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلح قلبه ،وما يختص به
من المور التي ل يشركه فيها غيره ،فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه ،إما في بيته ،كما قال طاووس :نعم صومعة
الرجل بيته ،يكف فيها بصره ولسانه ،وإما في غير بيته.
فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ ،واختيار النفراد مطلقًا خطأ ،وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا ،وهذا ،وما
هو الصلح له في كل حال ،فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم.
وكذلك السبب وترك السبب ،فمن كان قادرًا على السبب ،ول يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به ،مع
التوكل على الّ ،وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال ،وسبب مثل هذا عبادة الّ ،وهو مأمور أن
ل ويتوكل عليه ،فإن تسبب بغير نية صالحة ،أو لم يتوكل على الّ ،فهو مطيع في هذا وهذا ،وهذه طريقيعبد ا ّ
النبياء والصحابة.
وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل الّ ل يستطيعون /ضربًا في الرض يحسبهم الجاهل أغنياء من
التعفف ،فهذا إما أن يكون عاجزًا عن الكسب ،أو قادرًا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع لّ من الكسب ،ففعل ما هو فيه
أطوع هو المشروع في حقه ،وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس.
وقد تقدم أن الفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات ،كما أن جنس الصلة أفضل من جنس القراءة ،وجنس
القراءة أفضل من جنس الذكر ،وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء ،و تارة يختلف باختلف الوقات ،كما أن
القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلة.
وتارة باختلف عمل النسان الظاهر ،كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة ،وكذلك
الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالتفاق ،وأما القراءة في الطواف ،ففيها نزاع معروف.
وتارة باختلف المكنة كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون
الصلة ونحوها ،والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلة ،والصلة للمقيمين بمكة أفضل.
/وتارة باختلف مرتبة جنس العبادة ،فالجهاد للرجال أفضل من الحج ،وأما النساء فجهادهن الحج ،والمرأة المتزوجة
طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لبويها ،بخلف اليمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها.
وتارة يختلف باختلف حال قدرة العبد وعجزه ،فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه ،وإن كان
جنس المعجوز عنه أفضل ،وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس ،ويتبعون أهواءهم.
فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له؛ ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه ،يريد أن يجعله
أفضل لجميع الناس ،ويأمرهم بمثل ذلك.
والّ بعث محمدًا بالكتاب والحكمة ،وجعله رحمة للعباد ،وهديًا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له ،فعلى المسلم أن
يكون ناصحًا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له.
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له ،ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل ،ومنهم من
يكون تطوعه بالعبادات /البدنية ـ كالصلة والصيام ـ أفضل له ،والفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى ال
عليه وسلم باطنا وظاهرًا.
فإن خير الكلم كلم الّ ،وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم .
الحمد لّ رب العالمين ،وأشهد أن ل إله إل الّ وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى ال عليه
وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
اعلم أنه يجب على كل بالغ عاقل من النس والجن ،أن يشهد أن ل إله إل الّ ،وأن محمدًا عبده ورسوله ،أرسله
بالهدى ودين الحق ،ليظهره على الدين كله وكفى بالّ شهيدًا .أرسله إلى جميع الخلق ،إنسهم وجنهم ،وعربهم
وعجمهم ،وفرسهم وهندهم ،وبربرهم ورومهم ،وسائر أصناف العجم أسودهم ،وأبيضهم ،والمراد بالعجم من ليس
بعربي على اختلف ألسنتهم.
فمحمد صلى ال عليه وسلم أرسل إلى كل أحد ،من النس والجن كتابيهم وغير كتابيهم ،في كل ما يتعلق بدينه من
المور الباطنة والظاهرة ،في عقائده وحقائقه ،وطرائقه وشرائعه ،فل عقيدة إل عقيدته ،ول حقيقة إل حقيقته ،ول
طريقة إل طريقته ،ول شريعة إل شريعته ،ول يصل أحد من الخلق إلى الّ ،وإلى رضوانه وجنته وكرامته /
ووليته ،إل بمتابعته باطنًا وظاهرًا في القوال والعمال الباطنة والظاهرة في أقوال القلب وعقائده ،وأحوال القلب
وحقائقه ،وأقوال اللسان وأعمال الجوارح.
ل ولي إل من اتبعه باطنًا ،وظاهرًا ،فصدقه فيما أخبر به من الغيوب ،والتزم طاعته فيما فرض على الخلقوليس ّ
من أداء الواجبات وترك المحرمات .فمن لم يكن له مصدقًا فيما أخبر ملتزمًا طاعته فيما أوجب ،وأمر به في المور
الباطنة التي في القلوب والعمال الظاهرة التي على البدان لم يكن مؤمنا فضل عن أن يكون وليًا لّ ولو حصل له
من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل ،فإنه ل يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور من أداء الواجبات
من الصلة وغيرها بطهارتها وواجباتها إل من أهل الحوال الشيطانية ،المبعدة لصاحبها عن الّ ،والمقربة إلى
سخطه وعذابه.
ل وتقواه باطنًا لكن من ليس بمكلف من الطفال والمجانين قد رفع القلم عنهم ،فل يعاقبون وليس لهم من اليمان با ّ
وظاهرًا ما يكونـون بـه من أولياء الّ المتقين ،وحزبه المفلحين وجنده الغالبين ،لكن يدخلون في السلم تبعًا لبائهم،
ئ ِبمَا كَسَبَ
ل ا ْمرِ ٍ
شيْ ٍء كُ ّ
عمَِلهِ ْم مِنْ َ كما قال تعالى{ :وَاّلذِي َ
ن آ َمنُوا وَا ّت َبعَ ْتهُ ْم ذُ ّرّيتُهُ ْم بِإِيمَانٍ َألْحَ ْقنَا ِبهِمْ ذُ ّرّي َتهُمْ َومَا َأَلتْنَا ُه ْم مِنْ َ
رَهِينٌ} [الطور.]21 :
/وهم مع عدم العقل ل يكونون ممن في قلوبهم حقائق اليمان ،ومعارف أهل ولية الّ وأحوال خواص الّ؛ لن هذه
المور كلها مشروطة بالعقل ،فالجنون مضاد العقل والتصديق والمعرفة واليقين والهدى والثناء ،وإنما يرفع الّ الذين
آمنوا والذين أوتوا العلم درجات ،فالمجنون وإن كان الّ ل يعاقبه ويرحمه في الخرة فإنه ل يكون من أولياء الّ
المقربين والمقتصدين الذين يرفع الّ درجاتهم.
ومن ظن أن أحدًا من هؤلء الذين ل يؤدون الواجبات ول يتركون المحرمات ،سواء كان عاقلً ،أو مجنونًا ،أو
مولها ،أو متولهًا ،فمن اعتقد أن أحدًا من هؤلء من أولياء الّ المتقين ،وحزبه المفلحين ،وعباده الصالحين وجنده
الغالبين ،السابقين ،المقربين والمقتصدين الذين يرفع الّ درجاتهم بالعلم واليمان ،مع كونه ل يؤدي الواجبات ول
يترك المحرمات ،كان المعتقد لولية مثل هذا كافرًا مرتدًا عن دين السلم ،غير شاهد أن محمدًا رسول الّ صلى ال
عليه وسلم ،بل هو مكذب لمحمد صلى ال عليه وسلم فيما شهد به؛ لن محمدًا أخبر عن الّ ،أن أولياء الّ هم المتقون
لّ لَ خَ ْوفٌ عََل ْيهِمْ َولَ هُ ْم يَحْ َزنُونَ .اّلذِي َن آ َمنُوا َوكَانُوا َيتّقُونَ} [يونس،]63 ،62 : المؤمنون ،قال تعالىَ{ :ألَ إِنّ أَوِْليَاءَ ا ِ
وقال تعالي{ :يَاَأّيهَا النّاسُ ِإنّا خَلَ ْقنَا ُك ْم مِنْ َذكَرٍ وَأُنثَى وَ َجعَ ْلنَاكُمْ ُشعُوبًا َو َقبَائِلَ ِل َتعَا َرفُوا إِنّ َأكْ َر َمكُمْ ِع ْندَ الِّ َأتْقَا ُكمْ} [الحجرات:
.]13
/والتقوى أن يعمل الرجل بطاعة الّ ،على نور من الّ ،يرجو رحمة الّ ،وأن يترك معصية الّ ،على نور من الّ،
يخاف عذاب الّ ،ول يتقرب ولي الّ إل بأداء فرائضه ،ثم بأداء نوافله .قال تعالى( :وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء
ما افترضت عليه ،ول يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه) كما جاء في الحديث الصحيح اللهي الذي رواه
البخاري.
َفصْل
ومن أحب العمال إلى الّ ،وأعظم الفرائض عنده :الصلوات الخمس في مواقيتها ،وهي أول ما يحاسب عليها العبد
من عمله يوم القيامة ،وهي التي فرضها الّ ـ تعالى ـ بنفسه ليلة المعراج لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة ،وهي
عمود السلم الذي ل يقوم إل به ،وهي أهم أمر الدين ،كما كان ـ أمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله:
إن أهم أمركم عندي الصلة ،فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ،ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :بين العبد وبين الشرك ترك الصلة) وقال( :العهد الذي
بيننا وبينهم /الصلة ،فمن تركها فقد كفر) .فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ غير حائض ونفساء ،فهو كافر
مرتد باتفاق أئمة المسلمين ،وإن اعتقد أنها عمل صالح وإن الّ يحبها ويثيب عليها ،وصلى مع ذلك وقام الليل ،وصام
النهار ،وهو مع ذلك ل يعتقد وجوبها على كل بالغ ،فهو أيضًا كافر مرتد ،حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ
عاقل.
ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين ،أو أن لّ خواصًا ل تجب عليهم الصلة،
بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس ،أو لستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى ،أو أن المقصود
حضور القلب مع الرب ،أو أن الصلة فيها تفرقة ،فإذا كان العبد في جمعيته مع الّ فل يحتاج إلى الصلة ،بل
المقصود من الصلة هي المعرفة ،فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلة ،فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة،
كالطيران في الهواء ،والمشي على الماء ،أو ملء الوعية ماء من الهواء أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من
الكنوز ،وقتل من يبغضه بالحوال الشيطانية .فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلة ونحو ذلك.
أو أن لّ رجالً خواصًا ل يحتاجون إلى متابعة محمد صلى ال عليه وسلم ،بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن
موسى ،أو أن كل /من كاشف وطار في الهواء ،أو مشى على الماء ،فهو ولي سواء صلى أو لم يصل.
أو اعتقد أن الصلة تقبل من غير طهارة ،أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل
والطهارات والحانات والقمامين ،وغير ذلك من البقاع ،وهم ل يتوضؤون ول يصلون الصلوات المفروضات ،فمن
اعتقد أن هؤلء أولياء الّ فهو كافر مرتد عن السلم باتفاق أئمة السلم ،ولو كان في نفسه زاهدًا عابدًا ،فالرهبان
أزهد وأعبد ،وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول ،وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون اتباعه ولكنهم لم يؤمنوا
ن بِالِّ َورُسُلِهِ بجميع ماجاء به ،بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض ،فصاروا بذلك كافرين كما قال تعالى{ :إِنّ اّلذِي َ
ن َيكْفُرُو َ
سبِيلً ُ .أوَْل ِئكَ ُهمْ ا ْلكَافِرُونَ حَقّا
خذُوا َبيْنَ ذَِلكَ َن َيتّ ِ
ن ِببَعْضٍ َو َنكْفُ ُر ِب َبعْضٍ َويُرِيدُونَ أَ ْ ن نُ ْؤمِ ُ
ن يُ َف ّرقُوا َبيْنَ الِّ وَرُسُلِهِ َويَقُولُو َ
َويُرِيدُونَ أَ ْ
غفُورًاف يُ ْؤتِيهِمْ ُأجُورَ ُهمْ َوكَانَ الُّ َ حدٍ ِم ْنهُمْ أُوَْل ِئكَ سَ ْو َ
سلِهِ وَلَ ْم يُ َف ّرقُوا َبيْنَ َأ َ
عذَابًا ُمهِينًا .وَاّلذِينَ آ َمنُوا بِالِّ وَرُ ُ
ع َتدْنَا ِل ْلكَافِرِينَ َ
وَأَ ْ
رَحِيمًا} [النساء.]150-152 :
ومن كان مسلوب العقل أو مجنونًا ،فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه ،فليس عليه عقاب ،ول يصح إيمانه ول صلته
ول صيامه ول شيء من أعماله ،فإن العمال كلها ل تقبل إل مع العقل .فمن ل عقل /له ل يصح شيء من عبادته ل
ت لُِوْلِي ال ّنهَى}
ليَا ٍ فرائضه ول نوافله ،ومن ل فريضة له ول نافلة ،ليس من أولياء الّ؛ ولهذا قال تعالى{ :إِ ّ
ن فِي ذَِلكَ َ
جرٍ} [الفجْر ]5 :أي لذي عقل .وقال تعالى{ :وَاتّقُونِي ك قَسَمٌ ِلذِي حِ ْ [طه ]54 :أي العقول ،وقال تعالى{ :هَ ْ
ل فِي ذَِل َ
ل َيعْقِلُونَ} [النفال ،]22 :وقال تعالى{ : يَاأُوْلِي الَْ ْلبَابِ} [البقرة ]197 :وقال{ :إِنّ شَرّ الدّوَابّ ِ
ع ْندَ الِّ الصّمّ ا ْل ُبكْمُ اّلذِينَ َ
ِإنّا أَنزَ ْلنَا ُه قُرْآنًا َع َربِيّا َلعَّلكُ ْم َتعْقِلُونَ} [يوسف.]2 :
فإنما مدح الّ وأثنى على من كان له عقل .فأما من ل يعقل فإن الّ لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط ،بل قال
سعِيرِ} [الملك ،]10 :وقال تعالى{ :وََل َقدْ ذَرَ ْأنَا
ل مَا ُكنّا فِي َأصْحَابِ ال ّ ـ تعالى ـ عن أهل النارَ { :وقَالُوا َل ْو كُنّا نَ ْ
سمَعُ َأ ْو نَعْ ِق ُ
لْ ْنعَا ِم بَلْ ُهمْ
ك كَا َ
ن ِبهَا أُوَْل ِئ َ
س َمعُو َ
ن لَ يَ ْ
ن لَ ُيبْصِرُونَ ِبهَا وََلهُ ْم آذَا ٌ عيُ ٌ
ل يَ ْف َقهُونَ ِبهَا وََلهُمْ أَ ْ
ب َ
ج َهنّ َم َكثِيرًا مِنْ الْجِنّ وَالِْنسِ َل ُه ْم قُلُو ٌ
لِ َ
لْنْعَا ِم بَلْ هُمْ َأضَ ّ
ل س َمعُونَ أَ ْو َيعْقِلُونَ إِنْ ُهمْ ِإلّ كَا َ ضلّ أُوَْل ِئكَ هُمْ ا ْلغَافِلُونَ} [العراف ]179 :وقالَ{ :أ ْم تَحْ َ
سبُ أَنّ َأ ْكثَرَهُ ْم يَ ْ أَ َ
َسبِيلً} [الفرقان.]44 :
فمن ل عقل له ل يصح إيمانه ول فرضه ول نفله ،ومن كان يهوديًا أو نصرانيًا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح
إسلمه ل باطنًا ول ظاهرًا .ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار .ومن كان مؤمنًا ثم جن بعد
ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في /حال عقله ،ومن ولد مجنونًا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ول كفر .وحكم
المجنون حكم الطفل إذا كان أبواه مسلمين كان مسلمًا تبعًا لبويه باتفاق المسلمين ،وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند
جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد.
وكذلك من جن بعد إسلمه يثبت لهم حكم السلم تبعًا لبائهم ،وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له
بالسلم ظاهرًا تبعًا لبويه أو لهل الدار ،كما يحكم بذلك للطفال .ل لجل إيمان قام به ،فأطفال المسلمين ومجانينهم
ل المتقين الذين يوم القيامة تبع لبائهم ،وهذا السلم ل يوجب له مزية على غيره ،ول أن يصير به من أولياء ا ّ
حتّى َتعَْلمُوا مَا تَقُولُونَ َولَ
سكَارَى َ يتقربون إليه بالفرائض والنوافل .وقد قال تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِي َ
ن آ َمنُوا لَ َتقْ َربُوا الصّلَةَ وََأ ْنتُمْ ُ
ُجُنبًا ِإلّ عَابِرِي َسبِيلٍ َحتّى َت ْغتَسِلُوا} [النساء ]43 :فنهى الّ عز وجل عن قربان الصلة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا
ما يقولون.
وهذه الية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم الخمر بالية التي أنزلها الّ في "سورة المائدة" .وقد روى أنه كان سبب
نزولها :أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم فخلط في القراءة ،فأنزل الّ هذه الية؛ فإذا
كان قد حرم الّ الصلة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون ،علم أن ذلك يوجب أل يصلي /أحد
حتى يعلم ما يقول .فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلة ،وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم؛ ولهذا اتفق
العلماء على أنه ل تصح صلة من زال عقله بأي سبب زال ،فكيف بالمجنون؟!.
وقد قال بعض المفسرين ـ وهو يروي عن الضحاك ـ :ل تقربوها وأنتم سكارى من النوم .وهذا إذا قيل :إن الية دلت
عليه بطريق العتبار أو شمول معنى اللفظ العام ،وإل فل ريب أن سبب نزول الية كان السكر من الخمر .واللفظ
صريح في ذلك؛ والمعنى الخر صحيح أيضًا .وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :إذا
قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد ،فإنه ل يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ـ وفي لفظ ـ
إذا قام يصلي فنعس فليرقد).
فقد نهى النبي صلى ال عليه وسلم عن الصلة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس .وقد احتج العلماء بهذا على أن
النعاس ل ينقض الوضوء ،إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلة ،أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة ،والنبي صلى ال
عليه وسلم إنما علل ذلك بقوله( :فإنه ل يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه) فعلم أنه قصد النهي عن الصلة لمن
ل يدري ما يقول وإن كان ذلك بسبب النعاس .وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال( :ل يصلي /أحدكم ،وهو
يدافع الخبثين ول بحضرة طعام) لما في ذلك من شغل القلب .وقال أبو الدرداء :من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته
فيقضيها ثم يقبل على صلته وقلبه فارغ.
فإذا كانت الصلة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح حتى يعلم ما يقول كانت صلة المجنون ومن يدخل
في مسمى المجنون ،وإن سمي مولها أو متولها ،أولى أل تجوز صلته.
ومعلوم أن الصلة أفضل العبادات ،كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال :قلت للنبي صلى ال عليه وسلم :أي
العمل أحب إلى الّ؟ قال( :الصلة على وقتها) .قلت :ثم أي ؟ قال( :بر الوالدين) .قلت :ثم أي؟ قال( :الجهاد) .قال:
حدثني بهن رسول الّ صلى ال عليه وسلم ،ولو استزدته لزادني .وثبت أيضًا في الصحيحين عنه :أنه جعل أفضل
العمال إيمان بالّ ،وجهاد في سبيله ،ثم الحج المبرور .ول منافاة بينهما؛ فإن الصلة داخلة في مسمى اليمان بالّ،
كما دخلت في قوله تعالىَ { :ومَا كَانَ الُّ ِليُضِيعَ إِيمَا َنكُمْ} [البقرة .]143 :قال البراء بن عازب وغيره من السلف :أي
صلتكم إلى بيت المقدس.
ولهذا كانت الصلة كاليمان ل تدخلها النيابة بحال ،فل يصلي أحد عن أحد الفرض ،ل لعذر ول لغير عذر .كما ل
يؤمن أحد عنه ،ول /تسقط بحال كما ل يسقط اليمان ،بل عليه الصلة ما دام عقله حاضرًا ،وهو متمكن من فعل
بعض أفعالها .فإذا عجز عن جميع الفعال ولم يقدر على القوال ،فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الفعال
بقلبه؟ فيه قولن للعلماء ،وإن كان الظهر أن هذا غير مشروع.
فإذا كان كذلك ،تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى الّ من فرض ونفل ،و[الولية] هي اليمان والتقوى
المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل ،فقد حرم ما به يتقرب أولياء الّ إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فل
يعاقب ،كما ل يعاقب الطفال والبهائم؛ إذ ل تكليف عليهم في هذه الحال .ثم إن كان مؤمنًا قبل حدوث الجنون به ،وله
أعمال صالحة ،وكان يتقرب إلى الّ بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك اليمان والعمل الصالح
ما تقدم ،وكان له من ولية الّ تعالى بحسب ما كان عليه من اليمان والتقوى ،كما ل يسقط ذلك بالموت ،بخلف ما
لو ارتد عن السلم؛ فإن الردة تحبط العمال ،وليس من السيئات ما يحبط العمال الصالحة إل الردة ،كما أنه ليس
من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إل التوبة ،فل يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته ،كما
ل يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالعمال المسكرة والنوم؛ لنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح ،ولكن في
الحديث /الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :إذا مرض العبد أو سافر ،كتب له من
العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم).
وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك( :إن بالمدينة لرجالً ما سرتم مسيرًا ،ول قطعتم
واديًا ،إل كانوا معكم) قالوا :وهم بالمدينة ؟! قال( :وهم بالمدينة حبسهم العذر) ،فهؤلء كانوا قاصدين للعمل الذي
كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل؛ بخلف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ول
عبادة أصلً ،بخلف أولئك فإن لهم قصدًا صحيحًا يكتب لهم به الثواب.
وأما إن كان قبل جنونه كافرًا أو فاسقًا أو مذنبًا ،لم يكن حدوث الجنون به مزيلً؛ لما ثبت من كفره وفسقه؛ ولهذا كان
من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورًا معهم ،وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه
محشورا مع المؤمنين من المتقين .وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمى صاحبه مولهًا أو متولهًا ،ل يوجب مزيد
حال صاحبه من اليمان والتقوى ،ول يكون زوال عقله سببًا لمزيد خيره ول صلحه ول ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب
زوال العقل ،فيبقى على ما كان عليه من خير وشر ،ل أنه يزيده ول ينقصه ،لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير،
كما أنه يمنع عقوبته على الشر.
/وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم ،كشرب الخمر ،وأكل الحشيشة ،أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى
يغيب عقله ،أو الذي يتعبد بعبادات بديعة حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله ،أو يأكل بنجا يزيل عقله،
فهؤلء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول .وكثير من هؤلء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه
فيرقص رقصًا عظيمًا حتى يغيب عقله ،أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني ،وكثير من هؤلء يقصد التوله
حتى يصير مولهًا .فهؤلء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم.
واختلف العلماء :هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم؟ والصل "مسألة السكران" والمنصوص عن الشافعي وأحمد
وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله .وقال كثير من العلماء ليس مكلفًا ،وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد،
وإحدى الروايتين عن أحمد :أن طلق السكران ل يقع ،وهذا أظهر القولين .ولم يقل أحد من العلماء :إن هؤلء الذين
زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء الّ الموحدين المقربين وحزبه المفلحين .ومن ذكره العلماء من عقلء
المجانين الذين ذكروهم بخير ،فهم من القسم الول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم.
ومن علمة هؤلء :أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو /تكلموا بما كان في قلوبهم من اليمان ،ل بالكفر
والبهتان ،بخلف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقه بالكفر والشرك ،ويهذي في زوال عقله بالكفر ،فهذا إنما
يكون كافرًا ل مسلمًا ،ومن كان يهذي بكلم ل يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية ،وغير ذلك مما يحصل لبعض
من يحضر السماع ،ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلم ل يعقل ـ أو بغير العربية ـ فهؤلء إنما يتكلم على
ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع.
ل وأحوالً فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب.
ومن قال :إن هؤلء أعطاهم الّ عقو ً
قيل :قولك وهب الّ لهم أحوالً ،كلم مجمل ،فإن الحوال تنقسم إلى :حال رحماني ،وحال شيطاني ،وما يكون
لهؤلء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب[ ،فتارة] يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان ،وتارة يكون من
الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى واليمان؛ فإن كان هؤلء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية،
وكانوا من المؤمنين المتقين ،فل ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول ،وإن كان ما
أعطوه من الحوال الشيطانية ـ كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون ـ فهؤلء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا
بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق ،كما لم يخرج الولون عما كانوا عليه من اليمان /والتقوى ،كما أن نوم كل
واحد من الطائفتين وموته وإغماءه ل يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال
العقل ،غايته أن يسقط التكليف.
ورفع القلم ل يوجب حمدًا ولمدحًا ول ثوابًا ول يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء الّ ،ول
كرامة من كرامات الصالحين ،بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ول مدح في
ذلك ول ذم ،بل النائم أحسن حالً من هؤلء ،ولهذا كان النبياء ـ عليهم السلم ـ ينامون وليس فيهم مجنون ول موله،
والنبي صلى ال عليه وسلم يجوز عليه النوم والغماء ،ول يجوز عليه الجنون ،وكان نبينا محمد صلى ال عليه
وسلم تنام عيناه ول ينام قلبه ،وقد أغمى عليه في مرضه.
وأما الجنون فقد نزه الّ أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص النسان؛ إذ كمال النسان بالعقل؛ ولهذا حرم الّ إزالة
العقل بكل طريق ،وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل ،كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لنها
ل كما
ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل ،فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببًا أو شرطًا أو مقربًا إلى ولية ا ّ
يظنه كثير من أهل الضلل؟! حتى قال قائلهم في هؤلء:
فهذا كلم ضال ،بل كافر ،يظن أن للمجنون سرًا يسجد العقل على بابه ،وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع
مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة ،ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان،
فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا لّ ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود
والنصارى؛ فإن كثيرًا من الكفار والمشركين فضلً عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب
شياطينهم أضعاف ما لهؤلء؛ لنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لبد في جميع مكاشفة
هؤلء من الكذب والبهتان .ولبد في أعمالهم من فجور وطغيان ،كما يكون لخوانهم من السحرة والكهان ،قال الّ
تعالى{ :هَلْ ُأنَّبُئكُمْ عَلَى مَ ْن َتنَزّلُ ال ّشيَاطِينُ َ .تنَزّلُ عَلَى كُلّ َأفّاكٍ َأثِيمٍ} [الشعراء.]222 ،221 :
فكل من تنزلت عليه الشياطين لبد أن يكون فيه كذب /وفجور ،من أي قسم كان ،والنبي صلى ال عليه وسلم قد
أخبر أن أولياء الّ هم الذين يتقربون إليه بالفرائض ،وحزبه المفلحون ،وجنده الغالبون ،وعباده الصالحون .فمن
اعتقد فيمن ل يفعل الفرائض ول النوافل أنه من أولياء الّ المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك ،فمن اعتقد في
ل المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين ،فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين ،وإذا مثل هؤلء أنه من أولياء ا ّ
قال :أنا أشهد أن ل إله إل الّ وأشهد أن محمدًا رسول الّ كان من الكاذبين الذين قيل فيهمِ{ :إذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُو َ
ن قَالُوا
سبِيلِ الِّ ِإّنهُمْ سَا َء مَا
صدّوا عَنْ َ
جنّ ًة فَ َ
خذُوا َأ ْيمَا َنهُمْ ُ
ن .اتّ َ
ش َهدُ إِنّ ا ْل ُمنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُو َ
لّ يَ ْ
لّ يَعَْلمُ ِإّنكَ َلرَسُولُهُ وَا ُ
شهَدُ ِإّنكَ لَرَسُولُ الِّ وَا ُ نَ ْ
طبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم َفهُ ْم َل يَ ْف َقهُونَ} [المنافقون.]1-3 : ك بَِأّنهُ ْم آ َمنُوا ثُ ّم كَفَرُوا فَ ُ
كَانُوا َي ْعمَلُونَ .ذَِل َ
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :من ترك ثلث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الّ على
قلبه) ،فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر ،فكيف بمن ل يصلي ظهرًا ول جمعة ول فريضة
ول نافلة ،ول يتطهر للصلة ل الطهارة الكبرى ول الصغرى؟! فهذا لو كان قبل مؤمنًا ،وكان قد طبع على قلبه كان
كافرًا مرتدًا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض ،وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافرًا مرتدًا ،فكيف يعتقد أنه من
أولياء /الّ المتقين ،وقد قال تعالى في صفة المنافقين{ :ا ْستَحْ َوذَ عََل ْيهِمْ ال ّشيْطَا ُن فَأَنسَاهُ ْم ِذكْرَ الِّ} [المجادلة ]19 :أي:
استولى ،يقال :حاذ البل حوذًا :إذا استاقها ،فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلف ما أمر الّ به ورسوله
علَى ا ْلكَافِرِينَ تَ ُؤزّهُمْ أَزّا} [مريم ]83 :أي تزعجهم إزعاجًا ،فهؤلء {ا ْ
ستَحْ َوذَ شيَاطِينَ َ قال تعالى{ :أََل ْم تَرَى َأنّا أَرْ َ
س ْلنَا ال ّ
عََل ْيهِمْ ال ّشيْطَا ُن فَأَنسَاهُ ْم ِذكْرَ الِّ أُوَْل ِئكَ ِحزْبُ ال ّشيْطَانِ َألَ إِنّ ِحزْبَ ال ّشيْطَانِ ُهمْ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة.]19 :
وفي السنن عن أبي الدرداء عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ما من ثلثة في قرية ،ل يؤذن ول تقام فيهم
الصلة ،إل استحوذ عليهم الشيطان) ،فأي ثلثة كانوا من هؤلء ل يؤذن ول تقام فيهم الصلة كانوا من حزب
الشيطان الذين استحوذ عليهم ،ل من أولياء الرحمن الذين أكرمهم ،فإن كانوا عبادًا زهادًا ولهم جوع وسهر وصمت
وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات ،كأهل جبل لبنان ،وأهل جبل الفتح الذي بآسون ،وجبل
ليسون ،ومغارة الدم بجبل قاسيون ،وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلل،
ويفعلون فيها خلـوات ورياضات من غير أن يؤذن ،وتقام فيهم الصلة الخمس ،بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها الّ
ورسوله ،بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لحوالهم بالكتاب والسنة / ،ول قصد المتابعة لرسول الّ
لّ فَاّتبِعُونِي يُ ْح ِب ْبكُمْ الُّ َو َيغْفِرْ َلكُ ْم ذُنُو َبكُمْ} الية [آل عمران ]31 :فهؤلء أهل البدع
حبّونَ ا َ الذي قال الّ فيه{ :قُلْ إِ ْ
ن ُكنْتُ ْم تُ ِ
والضللت من حزب الشيطان ل من أولياء الرحمن ،فمن شهد لهم بولية الّ فهو شاهد زور كاذب وعن طريق
الصواب ناكب.
ثم إن كان قد عرف أن هؤلء مخالفون للرسول ،وشهد مع ذلك أنهم من أولياء الّ ،فهو مرتد عن دين السلم وإما
مكذب للرسول ،وإما شاك فيما جاء به مرتاب ،وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحودًا أو عنادًا أو اتباعًا لهواه،
وكل من هؤلء كافر.
وأما إن كان جاهلً بما جاء به الرسول ،وهو معتقد مع ذلك أنه رسول الّ إلى كل أحد في المور الباطنة والظاهرة،
وأنه ل طريق إلى الّ إل بمتابعته صلى ال عليه وسلم ،لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما
جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان ،لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته ،ل لقصد مخالفته ،ول
يرجو الهدى في غير متابعته ـ فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب ،فإن تاب وأناب وإل ألحق
بالقسم الذي قبله وكان كافرًا مرتدًا ،ول تنجيه عبادته ول زهادته من عذاب الّ ،كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد
الصلبان وعباد النيران وعباد الوثان ،مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية ،ومكاشفات شيطانية قال /تعالى:
ص ْنعًا} [الكهف]104 ،103 : سنُونَ ُ
سبُونَ َأّنهُ ْم يُحْ ِ
حيَاةِ الدّ ْنيَا وَ ُه ْم يَحْ َ
س ْع ُيهُ ْم فِي الْ َ
عمَالً اّلذِينَ ضَلّ َ
ل نُ َنّبئُكُ ْم بِالَْخْسَرِينَ أَ ْ
{قُلْ َه ْ
.
قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات .وقد روى عن علي بن أبي طالب
ـ رضي الّ عنه ـ وغيرهم أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضللت .وقال تعالى{ :هَلْ
ُأ َنبّ ُئكُمْ عَلَى مَنْ َتنَزّلُ ال ّشيَاطِي ُن َ .تنَزّلُ عَلَى كُلّ َأفّاكٍ َأثِيمٍ} [الشعراء ]222 ،221 :فالفاك هو الكذاب والثيم الفاجر كما
طئَةٍ} [العلق.]16 ،15 : صيَةٍ كَاذِبَةٍ خَا ِ قالَ{ :لنَسْ َفعًا بِالنّا ِ
صيَ ِة .نَا ِ
ومن تكلم في الدين بل علم كان كاذبًا وإن كان ل يتعمد الكذب ،كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه
ل فوضعت بعد وسلم ،لما قالت له سبيعة السلمية ،وقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع ،فكانت حام ً
موت زوجها بليال قلئل ،فقال لها أبو السنابل بن بعكك :ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الجلين فقال النبي
صلى ال عليه وسلم( :كذب أبو السنابل ،بل حللت فانكحى) ،وكذلك لما قال سلمة بن الكوع أنهم يقولون :إن عامرًا
قتل نفسه وحبط عمله فقال( :كذب من قالها ،إنه لجاهد مجاهد) ،وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب ،فإنه كان رجلً
صالحًا ،وقد روى أنه كان أسيد بن الحضير ،لكنه لما تكلم بل علم كذبه النبي صلى ال عليه وسلم.
/وقد قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ـ فيما يفتون فيه باجتهادهم ـ :إن يكن صوابًا فمن الّ ،وإن يكن
خطأ فهو مني ومن الشيطان ،والّ ورسوله بريئان منه .فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان ،فكيف
بمن تكلم بل اجتهاد يبيح له الكلم في الدين؟ فهذا خطؤه أيضًا من الشيطان ،مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب ،والمجتهد
خطؤه من الشيطان وهو مغفور له ،كما أن الحتلم والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلف من تكلم
بل اجتهاد يبيح له ذلك ،فهذا كاذب آثم في ذلك ،وإن كانت له حسنات في غير ذلك ،فإن الشيطان ينزل على كل
عَليْهِمْ إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له ،ويطرد بحسب إخلصه لّ وطاعته له قال تعالى{ :إِنّ ِ
عبَادِي َليْسَ َلكَ َ
سُلْطَانٌ} [الحجر.]42 :
وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات ،وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد
عُبدُونِي
عدُ ّو ُمبِينٌ .وَأَنْ ا ْ
شيْطَانَ ِإنّهُ َلكُمْ َ
ل َت ْعبُدُوا ال ّ الشيطان ،ل من عباد الرحمن .قال تعالى{ :أََلمْ أَ ْ
ع َهدْ ِإَليْكُ ْم يَابَنِي آدَمَ أَنْ َ
ل َكثِيرًا َأفََل ْم َتكُونُوا َتعْ ِقلُونَ} [يس.]60-62 : جبِ ّ
ل ِم ْنكُمْ ِ
ستَقِيمٌ .وََل َقدْ َأضَ ّ
ط مُ ْ
َهذَا صِرَا ٌ
والذين يعبدون الشيطان أكثرهم ل يعرفون أنهم يعبدون الشيطان ،بل قد يظنون أنهم يعبدون الملئكة أو الصالحين،
كالذين يستغيثون بهم /ويسجدون لهم فهم في الحقيقة ،إنما عبدوا الشيطان وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد
سبْحَا َنكَ َأنْتَ وَِلّينَا مِنْ دُو ِنهِمْ
ن .قَالُوا ُ
لئِكَةِ أَهَ ُؤلَءِ ِإيّاكُ ْم كَانُوا َي ْعبُدُو َ الّ الصالحين .قال تعالىَ { :ويَ ْو َم يَحْشُرُ ُهمْ َ
جمِيعًا ثُ ّم يَقُولُ لِ ْلمَ َ
بَ ْل كَانُوا َيعُْبدُونَ الْجِنّ َأ ْكثَرُ ُه ْم بِهِ ْم مُ ْؤ ِمنُونَ} [سبأ.]41 ،40 :
ولهذا نهى النبي صلى ال عليه وسلم عن الصلة وقت طلوع الشمس ووقت غربها ،فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى
يكون سجود عباد الشمس له ،وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس وسجودهم للشيطان ،وكذلك أصحاب دعوات
الكواكب الذين يدعون كوكبًا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه ويدعونه ويصنعون له من الطعام واللباس والبخور
والتبركات ما يناسبه ،كما ذكره صاحب [السر المكتوم] المشرقي ،وصاحب [الشعلة النورانية] البوني المغربي
وغيرهما؛ فإن هؤلء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض المور وتقضي لهم بعض الحوائج ويسمون ذلك
روحانية الكواكب.
وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى كان فيه من اليمان وولية الّ بحسب ما والى فيه الرحمن ،وكان فيه
من عداوة الّ والنفاق بحسب ما والى فيه الشيطان ،كما قال حذيفة بن اليمان :القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج
يزهر فذلك قلب المؤمن .وقلب أغلف فذلك قلب الكافر ـ والغلف :الذي يلف عليه غلف .كما قال تعالى عن اليهود:
طبَعَ الُّ عََل ْيهَا ِبكُ ْفرِهِمْ} [النساء ]155 :وقد تقدم قوله صلى ال عليه وسلم( :من ترك ثلث جمع
ف بَلْ َ
{ٍ َوقَ ْوِلهِ ْم قُلُو ُبنَا غُلْ ٌ
طبع الّ على قلبه) ـ وقلب منكوس فذلك قلب المنافق .وقلب فيه مادتان :مادة تمده لليمان ومادة تمده للنفاق ،فأيهما
غلب كان الحكم له .وقد روى هذا في [مسند المام أحمد] مرفوعًا.
وفي الصحيحين عن عبد الّ بن عمرو بن العاص عن النبي صلى ال عليه وسلم /أنه قال( :أربع من كن فيه كان
منافقًا خالصا ،ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها :إذا اؤتمن خان ،وإذا حدث كذب،
وإذا عاهد غدر ،وإذا خاصم فجر).
فقد بين النبي صلى ال عليه وسلم أن القلب يكون فيه شعبة نفاق ،وشعبة إيمان ،فإذا كان فيه شعبة نفاق كان فيه شعبة
ل وتقواه تكـون
من وليته وشعبة من عداوته؛ ولهذا يكون بعض هؤلء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه با ّ
من كرامـات الولياء ،وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين؛ ولهذا أمرنا الّ تعالى :أن نقول
كل صـلة{ :ا ْه ِدنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْستَقِيمَ .صِرَاطَ اّلذِينَ َأ ْن َعمْتَ َعَليْهِمْ َغيْرِ ا ْل َمغْضُوبِ عََل ْيهِمْ َولَ الضّالّينَ} [الفاتحة.]7 ،6 :
و(المغضوب عليهم) هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلفه ،و(الضالون) الذين يعبدون الّ بغير علم .فمن اتبع هواه
وذوقه ووجده ،مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة ،فهو من (المغضوب عليهم) وإن كان ل يعلم ذلك فهو من (
الضالين).
نسأل الّ أن يهدينا الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعم عليهم ،من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،وحسن
أولئك رفيقًا.
فأجــاب:
إن أراد بذلك العمال المشروعة الموافقة للكتاب والسنة ،كالصلة ،والصدقة ،والجهاد ،والذكر ،والقراءة وغير ذلك.
فهذا صحيح.
وإن أراد إلى الّ طريقًا مخالفًا للكتاب والسنة ،فهو باطل .والّ أعلم.
قَالَ شَيخ الِسْلم عَلّمة ال ّزمَان أبو العباس أحمد بن تيمية ـ قدس الّ روحه ونور ضريحه:
الحمد لّ ،نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ،ونعوذ بالّ من شرور أنفسنا ،ومن سيئات أعمالنا ،من يهد الّ فل
مضل له ،ومن يضلل فل هادي له.
ل وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ،صلى الّ عليه وسلم تسليما كثيرًا.
وأشهد أن ل إله إل ا ّ
قال الشيخ أبو محمد عبد القادر في كتاب ]فتوح الغيب[ :لبد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلثة أشياء:
أمر يمتثله.
ونهي يجتنبه.
/فأقل حالة ل يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الشياء الثلثة ،فينبغي له أن يلزم بها قلبه ،ويحدث بها نفسه ،ويأخذ بها
الجوارح في كل أحواله.
قلت :هذا كلم شريف ،جامع يحتاج إليه كل أحد ،وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد ،وهي مطابقة لقوله تعالىِ{ :إنّهُ َمنْ
صبِرُوا َو َتتّقُوا َل يَضُ ّركُ ْم َك ْيدُهُمْ َش ْيئًا}[آل سنِينَ} [يوسف ،]90 :ولقوله تعالى{ :وَإِ ْ
ن تَ ْ جرَ ا ْلمُحْ ِ
ل يُضِيعُ أَ ْ
لّ َ
صبِ ْر فَإِنّ ا َ
َيتّقِ َو َي ْ
صبِرُوا َو َتتّقُوا فَإِ ّن ذَِلكَ مِنْ عَ ْزمِ ا ُلْمُورِ} [آل عمران]186 :؛ فإن [التقوى]
ن تَ ْعمران ]120 :ولقوله تعالى{ :وَإِ ْ
تتضمن :فعل المأمور ،وترك المحظور ،و[الصبر] يتضمن :الصبر على المقدور .فالثلثة ترجع إلى هذين الصلين،
والثلثة في الحقيقة ترجع إلى امتثال المر ،وهو طاعة الّ ورسوله.
فحقيقة المر أن كل عبد فإنه محتاج في كل وقت إلى طاعة الّ ورسوله ،وهو :أن يفعل في ذلك الوقت ما أمر به في
ذلك الوقت وطاعة الّ ورسوله هي :عبادة الّ التي خلق لها الجن والنس ،كما قال تعالىَ { :ومَا خََلقْتُ ا ْلجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ
حتّى َي ْأتِ َيكَ ا ْليَقِينُ} [الحجر ،]99 :وقال تعالى{ :يَاَأّيهَا النّاسُ ا ْ
عُبدُوا ِل َيعْ ُبدُونِ} [الذاريات ،]56 :وقال تعالى{ :وَا ْ
عُبدْ َرّبكَ َ
َرّبكُمْ اّلذِي خَلَ َقكُمْ وَاّلذِي َن مِ ْن َقبِْلكُمْ َلعَّلكُ ْم َتتّقُونَ} [البقرة.]21 :
والرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا الّ ،ول يشركوا به شيئًا ،وقال تعالى{ :وََل َقدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ َرسُولً أَ ْ
ن /
حمَنِ آِلهَةًن دُونِ الرّ ْ
جعَ ْلنَا مِ ْ
ك مِنْ رُسُِلنَا َأ َ ن َقبِْل َ ج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ} [النحل ،]36 :وقال تعالى{ :وَاسَْأ ْ
ل مَنْ َأرْسَ ْلنَا مِ ْ عبُدُوا الَّ وَا ْ
اُ ْ
ُيعْ َبدُونَ} [الزخرف.]45 :
وإنما كانت الثلثة ترجع إلى امتثال المر؛ لنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل شيء من الفرائض ،كالصلوات
الخمس والحج ونحو ذلك ،يحتاج إلى فعل ذلك المأمور ،وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى المتناع
والكراهة والمساك عن ذلك ،وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت ،وأما من لم تخطر له المعصية ببال ،فهذا لم يفعل
شيئًا يؤجر عليه ،ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلمته من عقوبة الذنب ،والعدم المحض المستمر ل يؤمر به ،وإنما يؤمر
بأمر يقدر عليه العبد ،وذاك ل يكون إل حادثًا ،سواء كان إحداث إيجاد أمر ،أو إعدام أمر.
وأما القدر الذي يرضى به ،فإنه إذا ابتلى بالمرض أو الفقر أو الخوف ،فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب ،ومأمور
بالرضا ،إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولن ،ونفس الصبر والرضا
بالمصائب هو طاعة لّ ورسوله ،هو من امتثال المر وهو عبادة لّ.
/لكن هذه الثلثة وإن دخلت في امتثال المر عند الطلق ،فعند التفصيل والقتران :إما أن تخص بالذكر ،وإما أن
عُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود ،]123 :وقوله{ :فَا ْ
عُبدْنِي َوَأقِمْ الصّلَةَ ِل ِذكْرِي} يقال :يراد بهذا مال يراد بهذا ،كما في قوله{ :فَا ْ
[طه ،]14 :فإن هذا داخل في العبادة إذا أطلق اسم العبادة ،وعند القتران إما أن يقال :ذكره عمومًا وخصوصًا،
وإما أن يقال :ذكره خصوصًا يغني عن دخوله في العام.
س َتعِينُ}[الفاتحة ،]5 :وقوله{ :وَا ْذكُرْ اسْمَ َرّبكَ َو َتبَتّلْ ِإَليْهِ َت ْبتِيلً َ .ربّ ا ْلمَشْ ِرقِ
ك نَ ْ ومثل هذا قوله تعالىِ{ :إيّا َ
ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ
صبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْ ُهمْ هَ ْجرًا َجمِيلً} [المزّمل .]8-10 :وقد يقال :لفظ [ خذْهُ َوكِيلً .وَا ْ ب لَ ِإلَهَ ِإلّ ُه َو فَاتّ ِ
وَا ْل َمغْرِ ِ
التبتيل] ل يتناول هذه المور المعطوفة كما يتناولها لفظ العبادة والطاعة.
وبالجملة فرق ما بين ما يؤمر به النسان ابتداء ،وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة ،أو عند
حب الشيء وبغضه.
وكلم الشيخ ـ قدس الّ روحه ـ يدور على هذا القطب ،وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور ،ويخلوا فيما سواهما
عن إرادة؛ /لئل يكون له مراد غير فعل ما أمر الّ به ،وما لم يؤمر به العبد بل فعله الرب عز وجل بل واسطة العبد،
أو فعله بالعبد بل هوى من العبد .فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به.
وسيأتي في كلم الشيخ ما يبين مراده ،وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به ،ويترك ما نهي عنه .وأما إذا لم
يكن هو أمر العبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله ،وهذه هي [الحقيقة] في كلم الشيخ
وأمثاله .وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان:
أحدهما :أن يكون العبد مأمورًا فيما فعله الرب .إما بحب له وإعانة عليه .وإما ببغض له ودفع له.
فالول :مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره ،فهو مأمور بحبه وإعانته عليه ،كإعانة المجاهدين في سبيل الّ على
الجهاد ،وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب المكان ،وبمحبة ذلك والرضا به ،وكذلك هو مأمور
عند مصيبة الغير :إما بنصر مظلوم ،وإما بتعزية مصاب ،وإما بإغناء فقير ونحو ذلك.
/وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه ،فمثل ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان ،فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه،
وإنكاره بحسب المكان كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح( :من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده،
فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اليمان).
وأما ما ل يؤمر العبد فيه بواحد منهما ،فمثل ما يظهر له من فعل النسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها
على طاعة ول معصية .فهذه ل يؤمر بحبها ،ول ببغضها ،وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الستعانة بها
على طاعة ول معصية.
مع أن هذا نقص منه ،فإن الذي ينبغي أنه ل يفعل من المباحات إل ما يستعين به على الطاعة ،ويقصد الستعانة بها
على الطاعة ،فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى الّ تعالى بالنوافل بعد الفرائض ،ولم يزل أحدهم يتقرب
إليه بذلك حتى أحبه ،فكان سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها،
وأما من فعل المباحات مع الغفلة ،أو فعل فضول المباح التي ل يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب
المحارم باطنًا وظاهرًا ،فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين.
/وبالجملة الفعال التي يمكن دخولها تحت المر والنهي ل تكون مستوية من كل وجه ،بل إن فعلت على الوجه
المحبوب كان وجودها خيرًا للعبد ،وإل كان تركها خيرًا له وإن لم يعاقب عليها ،ففضول المباح التي ل تعين على
الطاعة عدمها خير من وجودها ،إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة الّ ،فإنها تكون شاغلة له عن ذلك ،وأما إذا قدر
أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها ،وإن شغلته عن معصية الّ كانت رحمة في حقه ،وإن كان اشتغاله
بطاعة الّ خيرًا له من هذا وهذا.
وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الستعانة بها على الطاعة ،كالنوم الذي يقصد به الستعانة على العبادة؛
والكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الستعانة به على العبادة ،إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نقصًا من العبد
وفوات حسنة ،وخير يحبه ال ،ففي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لسعد( :إنك لن تنفق نفقة تبتغي
بها وجه الّ ،إل ازددت بها درجة ورفعة ،حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك) ،وقال في الصحيح( :نفقة المسلم على
أهله يحتسبها صدقة).
فما ل يحتاج إليه من المباحات ،أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة ،فعدمه خير من وجوده ،إذا كان مع
عدمه يشتغل بما هو /خير منه ،وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم( :في بضع أحدكم صدقة) .قالوا :يارسول الّ،
يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر .قال( :أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر؟) قالوا :بلى ! قال( :فكذلك
إذا وضعها في الحلل كان له بها أجر ،فلم تعتدون بالحرام ول تعتدون بالحلل ؟).
وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه الّ إلى ما أباحه الّ ،يقصد فعل المباح معتقدًا أن الّ
أباحه( ،والّ يحب أن يأخذ برخصه ،كما يكره أن تؤتي معصيته) كما رواه المام أحمد في المسند ورواه غيره؛
ولهذا أحب القصر والفطر ،فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي ل يحبه الّ إلى ما يحبه الّ من
الرخصة ،هو من الحسنات التي يثيبه الّ عليها ،وإن فعل مباحًا لما اقترن به من العتقاد والقصد اللذين كلهما
طاعة لّ ورسوله.فإنما العمال بالنيات ،وإنما لكل امرئ ما نوى.
وأيضًا ،فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات ،هو مأمور بالكل عند الجوع ،والشرب عند العطش؛ ولهذا
يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها ،ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجبًا للوعيد ،كما هو قول جماهير
العلماء من الئمة الربعة وغيرهم ،وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه ،بل وهو مأمور /بنفس عقد النكاح إذا
احتاج إليه وقدر عليه ،فقول النبي صلى ال عليه وسلم( :في بضع أحدكم صدقة) فإن المباضعة مأمور بها لحاجته
ولحاجة المرأة إلى ذلك ،فإن قضاء حاجتها التي ل تنقضي إل به بالوجه المباح صدقة.
والسلوك سلوكان:
سلوك البرار أهل اليمين ،وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهرًا.
والثاني :سلوك المقربين السابقين ،وهو فعل الواجب والمستحب بحسب المكان ،وترك المكروه والمحرم ،كما قال
النبي صلى ال عليه وسلم( :إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ،وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
وكلم الشيوخ الكبارـ كالشيخ عبد القادر وغيره ـ يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب
وينهون عما هو مكروه غير محرم ،فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة ،وبالعامة مسلك العامة ،وطريق الخاصة
ل ويرضاه،طريق المقربين أل يفعل العبد إل ما أمر به ،ول يريد إل ما أمر الّ ورسوله بإرادته ،وهو ما يحبه /ا ّ
ويريده إرادة دينية شرعية ،وإل فالحوادث كلها مرادة له خلقًا وتكوينًا.
والوقوف مع الرادة الخلقية القدرية مطلقًا غير مقدور عقلً ،ول مأمور شرعًا؛ وذلك لن من الحواث ما يجب دفعه
ول تجوز إرادته ،كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله ،أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على
دفعه ،أو أراد إضلل الخلق وإفساد دينهم ودنياهم ،فهذه المور يجب دفعها وكراهتها؛ ل تجوز إرادتها.
وأما المتناع عقل ،فلن النسان مجبول على حب ما يلئمه وبغض ما ينافره ،فهو عند الجوع يحب ما يغنيه
كالطعام ،ول يحب ما ل يغنيه كالتراب فل يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء.
وكذلك يحب اليمان والعمل الصالح الذي ينفعه ،ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره ،بل ويحب الّ وعبادته وحده،
ويبغض عبادة ما دونه ،كما قال الخليلَ{ :أفَرََأ ْيتُ ْم مَا ُك ْنتُ ْم َتعُْبدُونََ .أنْتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ ا َلْ ْق َدمُونََ .فِإّنهُمْ عَدُوّ لِي ِإلّ رَبّ ا ْلعَاَلمِينَ} [
ن َمعَهُ ِإ ْذ قَالُوا ِلقَ ْو ِمهِمْ ِإنّا بُرَآ ُء ِمنْكُمْ َو ِممّا
سنَةٌ فِي ِإبْرَاهِيمَ وَاّلذِي َ
حَالشعراء ،]77 - 75 :وقال تعالىَ { :ق ْد كَانَتْ َلكُمْ ُأسْوَةٌ َ
لّ كَفَ ْرنَا ِبكُمْ َوبَدَا َبيْ َننَا َو َب ْي َنكُمْ ا ْل َعدَاوَةُ وَا ْل َبغْضَاءُ َأ َبدًا َحتّى تُ ْؤ ِمنُوا بِالِّ وَ ْحدَهُ} [الممتحنة.]4 :
ن دُونِ ا ِ
َتعْ ُبدُونَ مِ ْ
فقد أمرنا الّ أن نتأسى بإبراهيم والذين معه ،إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون الّ ،وقال الخليلِ{ :إّننِي
ط َرنِي فَِإنّهُ َس َي ْهدِينِي} [الزخرف ،]27 ،26 :والبراءة ضد الولية ،وأصل البراءة البغض
بَرَا ٌء ِممّا َت ْعبُدُونَِ .إلّ اّلذِي فَ َ
وأصل الولية الحب ،وهذا لن حقيقة التوحيد أل يحب إل الّ ،ويحب ما يحبه الّ لّ ،فل يحب إل لّ ،ول يبغض إل
س مَ ْن يَتّ ِخ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِحبّونَهُ ْم كَ ُحبّ الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة.]165 :
لّ ،قال تعالىَ { :ومِنْ النّا ِ
والفرق ثابت بين الحب لّ والحب مع الّ ،فأهل التوحيد والخلص يحبون غير الّ لّ ،والمشركون يحبون غير الّ
مع الّ ،كحب المشركين للهتهم ،وحب النصارى للمسيح ،وحب أهل الهواء رؤوسهم.
فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه ،وبغض مايضره لم يمكن أن تستوى إرادته لجميع الحوادث فطرة
وخلقًا ،ول هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريدًا لجميع الحوادث ،بل قد أمره الّ بإرادة أمور وكراهة أخرى.
والرسل ـ صلوات الّ عليهم وسلمه ـ بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها ل بتحويل الفطرة وتغييرها .وقد قال /
النبي صلى ال عليه وسلم( :كل مولود يولد على الفطرة ،فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) ،قال تعالى{ :فََأقِمْ
س َل َيعَْلمُونَ} [الروم،]30 :لّ ذَِلكَ الدّينُ الْ َقيّمُ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
ل تَ ْبدِيلَ ِلخَلْقِ ا ِ
طرَةَ الِّ اّلتِي َفطَرَ النّاسَ عََل ْيهَا َ
حنِيفًا فِ ْ
ج َهكَ لِلدّينِ َ
وَ ْ
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم( :يقول الّ تعالى :إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ،
وحرمت عليهم ما أحللت لهم ،وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا).
والحنيفية :هي الستقامة بإخلص الدين لّ ،وذلك يتضمن حبه تعالى والذل له ،ل يشرك به شيء ،ل في الحب ول
ل وحده،
في الذل؛ فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل ،وذلك ل يستحقه إل الّ وحده ،وكذلك الخشية والتقوى ّ
ل وحده.والتوكل على ا ّ
ن يُطِعْ الَّ َورَسُولَ ُهوالرسول يطاع ويحب ،فالحلل ما أحله والحرام ما حرمه ،والدين ما شرعه ،قال تعالىَ { :ومَ ْ
َويَخْشَ الَّ َو َيتّقِ ِه فَأُوَْل ِئكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور ،]52 :وقال تعالى{ :وَلَوْ َأّنهُمْ َرضُوا مَا آتَاهُمْ الُّ وَرَسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ
س ُبنَا الُّ
لّ مِنْ َفضْلِهِ وَ َرسُولُهُ ِإنّا ِإلَى الِّ رَا ِغبُونَ} [التوبة.]59 :
سيُ ْؤتِينَا ا ُ
َ
أكملهم الذين يحبون ما أحبه الّ ورسوله ،ويبغضون ما أبغضه الّ ورسوله ،فيريدون ما أمرهم الّ ورسوله بإرادته،
ويكرهون ما أمرهم الّ ورسوله بكراهته ،وليس عندهم حب ول بغض لغير ذلك .فيأمرون بما أمر الّ به ورسوله،
ول يأمرون بغير ذلك ،وينهون عما نهى الّ عنه ورسوله ،ول ينهون عن غيرذلك ،وهذه حال الخليلين أفضل البرية:
محمد وإبراهيم صلى ال عليهما وسلم ،وقد /ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :إن الّ
اتخذني خليلً كما اتخذ إبراهيم خليلً) وقال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح( :إني والّ ل أعطي أحدًا ،ول
أمنع أحدًا ،وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت).
وذكر :أن ربه خيره بين أن يكون نبيًا ملكًا؛ وبين أن يكون عبدًا رسولً ،فاختار أن يكون عبدًا رسولً .فإن النبي
الملك مثل :داود وسليمان ،قال تعالىَ { :هذَا عَطَا ُؤنَا فَا ْمنُنْ أَوْ َأمْ ِسكْ ِب َغيْرِ ِحسَابٍ} [ص ،]39 :قالوا :معناه اعط من
شئت ،وامنع من شئت ،ل نحاسبك.
فالنبي الملك :يعطي بإرادته ل يعاقب على ذلك ،كالذي يفعل المباحات بإرادته ،وأما العبد الرسول فل يعطي ول
يمنع إل بأمر ربه ،وهو محبته ورضاه وإرادته الدينية ،والسابقون المقربون أتباع العبد الرسول ،والمقتصدون أهل
اليمين أتباع النبي الملك ،وقد يكون للنسان حال هو فيها خال عن الرادتين :وهو أل تكون له إرادة في عطاء ول
منع ،ل إرادة دينية هو مأمور بها ،ول إرادة نفسانية سواء كان منهيًا عنها أو غير منهي عنها ،بل ما وقع كان مرادًا
له ،ومهما فعل به كان مرادًا له ،من غير أن يفعل المأمور به شرعًا في ذلك.
/فهذا بمنزلة من له أموال يعطيها وليس له إرادة في إعطاء معين ،ل إرادة شرعية ول إرادة مذمومة ،بل يعطي كل
أحد .فهذا إذا قدر أنه قام بما يجب عليه بحسب إمكانه ولكنه خفى عليه الرادة الشرعية في تفصيل أفعاله ،فإنه ليذم
على ما فعل ول يمدح مطلقًا ،بل يمدح لعدم هواه ،ولو علم تفصيل المأمور به وأراده إرادة شرعية لكان أكمل؛ بل
هذا مع القدرة إما واجب وإما مستحب .وحال هذا خير من حال من يريد بحكم هواه ونفسه؛وإن كان ذلك مباحًا له،
وهو دون من يريد بأمر ربه ل بهواه ،ول بالقدر المحض.
فمضمون هذا المقام أن الناس في المباحات من الملك والمال وغير ذلك على ثلثة أقسام:
قوم ل يتصرفون فيها إل بحكم المر الشرعي .وهو حال نبينا صلى ال عليه وسلم .وهو حال العبد الرسول ومن
اتبعه في ذلك.
وقوم يتصرفون فيها بحكم إرادتهم والشهوة التي ليست محرمة .وهذا حال النبي الملك .وهو حال البرار أهل اليمين.
وقوم ل يتصرفون بهذا ول بهذا .أما الول :فلعدم /علمهم به .وأما الثاني :فلزهدهم فيه؛ بل يتصرفون فيها بحكم
القدر المحض ،اتباعًا لرادة الّ الخلقية القدرية حين تعذر معرفة الرادة الشرعية المرية ،وهذا كالترجيح بالقرعة
إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم ،وقد يتصرف هؤلء في هذا المقام بإلهام يقع في قلوبهم وخطاب.
وكلم الشيخ عبد القادر ـ قدس الّ روحه ـ كثيرًا ما يقع في هذا المقام؛ فإنه يأمر بالزهد في إرادة النفس وهواها،
حتى ل يتصرف بحكم الرادة والنفس ،وهذا رفع له عن حال البرار أهل اليمين وعن طريق الملوك مطلقًا ،ومن
حصل هذا وتصرف بالمر الشرعي المحمدي القرآني فهو أكمل الخلق ،لكن هذا قد يخفى عليه ،فإن معرفة هذا على
التفصيل قد يتعذر أو يتعسر في كثير من المواضع أل ترى أن النبي صلى ال عليه وسلم لما حكم سعد ابن معاذ في
بني قريظة فحكم بقتل مقاتلتهم ،وبسبي ذراريهم ،وغنيمة أموالهم .قال( :لقد حكمت فيهم بحكم الّ من فوق سبعة
أرقعة) ،وذلك أن تخيير ولي المر بين القتل والسترقاق ،والمن والفداء ليس تخيير شهوة ،بل تخيير رأي ومصلحة،
فعليه أن يختار الصلح ،فإن اختار ذلك فقد وافق حكم الّ ،وإل فل.
ولما كان هذا يخفي كثيرًا ،قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث /الصحيح( :إذا حاصرت أهل حصن فسألوك
أن تنزلهم على حكم الّ فل تنزلهم على حكم الّ ،فإنك ل تدري ماحكم الّ فيهم ،ولكن أنزلهم على حكمك وحكم
أصحابك) ،والحاكم الذي ينزل أهل الحصن على حكمه عليه أن يحكم باجتهاده ،فلما أمر سعد بما هو الرضي لّ،
والحب إليه ،حكم بحكمه ،ولو حكم بغير ذلك لنفذ حكمه فإنه حكم باجتهاده ،وإن لم يكن ذلك هو حكم الّ في الباطن.
ففي مثل هذه الحال التي ل يتبين المر الشرعي في الواقعة المعينة ،يأمر الشيخ عبدالقادر وأمثاله من الشيوخ :تارة
بالرجوع إلى المر الباطن واللهام إن أمكن ذلك ،وتارة بالرجوع إلى القدر المحض لتعذر السباب المرجحة من
جهة الشرع ،كما يرجح الشارع بالقرعة .فهم يأمرون أل يرجح بمجرد إرادته وهواه ،فإن هذا إما محرم وإما مكروه،
وإما منقص ،فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات.
ثم إن تبين لهم المر الشرعي وجب الترجيح به ،وإل رجحوا ،إما بسبب باطن من اللهام والذوق ،وإما بالقضاء
والقدر الذي ل يضاف إليهم .ومن يرجح في مثل هذه الحال باستخارة الّ ،كما كان النبي صلى ال عليه وسلم يعلم
أصحابه الستخارة في المور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن ،فقد أصاب.
/وهذا كما أنه إذا تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد ،وعند المقلد المستفتي ،فإنه ل يرجح شيئًا ،بل
ما جرى به القدر أقروه ،ولم ينكروه ،وتارة يرجح أحدهم :إما بمنام ،وإما برأي مشير ناصح ،وإما برؤية المصلحة
في أحد الفعلين.
وأما الترجيح بمجرد الختيار ،بحيث إذا تكافأت عنده الدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره .فهذا ليس قول أحد من
أئمة السلم ،وإنما هو قول طائفة من أهل الكلم ،ولكن قاله طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي :أنه يخير بين
المفتين المختلفين .وهذا كما أن طائفة من السالكين إذا استوى عنده المران في الشريعة رجح بمجرد ذوقه وإرادته،
فالترجيح بمجرد الرادة التي ل تستند إلى أمر علمي باطن ول ظاهر ،ل يقول به أحد من أئمة العلم والزهد .فأئمة
الفقهاء والصوفية ل يقولون هذا.
ولكن من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته ،فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته
وذوقه.
لكن قد يقال :القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي .وعلى هذا التقدير ليس من هذا ،فمن غلب
ل أو مكروه ،ورأي
على قلبه إرادة ما يحبه الّ ،وبغض ما يكرهه الّ ،إذا لم يدر في المر المعين /هل هو محبوب ّ
قلبه يحبه أو يكرهه ،كان هذا ترجيحًا عنده .كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه ،فإن الترجيح بخبر هذا عند
انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي.
ففي الجملة ،متى حصل ما يظن معه أن أحد المرين أحب إلى الّ ورسوله ،كان هذا ترجيحًا بدليل شرعي ،والذين
أنكروا كون اللهام طريقًا على الطلق أخطؤوا ،كما أخطأ الذين جعلوه طريقًا شرعيًا على الطلق.
ولكن إذا اجتهد السالك في الدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحًا ،وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن
قصده وعمارته بالتقوى ،فإلهام مثل هذا دليل في حقه؛ قد يكون أقوى من كثير من القيسة الضعيفة ،والحاديث
الضعيفة ،والظواهر الضعيفة ،والستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب ،والخلف
وأصول الفقه.
وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :اتقوا فراسة المؤمن ،فإنه ينظر بنور الّ) ثم قرأ
ك لَيَاتٍ لِ ْل ُمتَوَ ّسمِينََ} [الحجر .]57 :وقال عمر بن الخطاب :اقتربوا من أفواه المطيعين، قوله تعالى{ :إِ ّ
ن فِي ذَِل َ
واسمعوا منهم ما يقولون ،فإنه تتجلى لهم أمور /صادقة .وقد ثبت في الصحيح قول الّ تعالى( :ول يزال عبدي
يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها،
ورجله التي يمشي بها ،فبي يسمع ،وبي يبصر ،وبي يبطش ،وبي يمشي).
وأيضًا فالّ ـ سبحانه وتعالى ـ فطر عباده على الحنيفية :وهو حب المعروف ،وبغض المنكر ،فإذا لم تستحل الفطرة
فالقلوب مفطورة على الحق ،فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة اليمان ،منورة بنور القرآن ،وخفي عليها دللة الدلة
السمعية الظاهرة ،ورأى قلبه يرجح أحد المرين ،كان هذا من أقوى المارات عند مثله ،وذلك أن الّ علم القرآن
حجَابٍ أَ ْو يُرْسِلَ رَسُولً} الية ثم قالَ { :و َكذَِلكَ حيًا أَ ْو مِنْ وَرَاءِ ِ واليمان .قال الّ تعالىَ { :ومَا كَانَ ِلبَشَرٍ أَ ْ
ن ُيكَّلمَهُ الُّ ِإلّ وَ ْ
ت تَدْرِي مَا ا ْل ِكتَابُ َولَ الِْيمَانُ َوَلكِنْ َجعَ ْلنَا ُه نُورًا َن ْهدِي بِهِ مَ ْن نَشَا ُء مِنْ ِعبَادِنَا} [الشورى: ح ْينَا ِإَل ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْ ِرنَا مَا ُكنْ َ
أَوْ َ
،]52 ،51وقال جندب بن عبد الّ ،وعبد الّ بن عمر :تعلمنا اليمان ،ثم تعلمنا القرآن ،فازددنا إيمانًا.
وفي الصحيحين عن حذيفة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :إن الّ أنزل المانة في جذر قلوب الرجال،
فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) ،وفي الترمذي وغيره حديث النواس عن النبي صلى ال عليه وسلم /أنه قال( :
ضرب الّ مثلً صراطًا مستقيما ،وعلى جنبتي الصراط سوران ،وفي السورين أبواب مفتحة ،وعلى البواب ستور
مرخاة ،وداع يدعو على رأس الصراط ،وداع يدعو من فوق الصراط .فالصراط المستقيم هو السلم ،والستور
حدود الّ ،والبواب المفتحة محارم الّ .فإذا أراد العبد أن يفتح بابًا من تلك البواب ناداه المنادي ـ أو كما قال ـ يا
ل فيعبد الّ ل تفتحه ،فإنك إن تفتحه تلجه .والداعي على رأس الصراط كتاب الّ ،والداعي فوق الصراط واعظ ا ّ
قلب كل مؤمن).
فقد بين أن في قلب كل مؤمن واعظ ،والواعظ المر والنهي بترغيب وترهيب؛ فهذا المر والنهي الذي يقع في قلب
المؤمن مطابق لمر القرآن ونهيه؛ ولهذا يقوى أحدهما بالخر .كما قال تعالى{ :نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور ،]35 :قال
بعض السلف في الية :هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر .فإذا سمع بالثر كان نورًا على نور .نور
اليمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن ،كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل؛ فإن الّ أنزل الكتاب والميزان
ليقوم الناس بالقسط.
وقد يؤتي العبد أحدهما ول يؤتي الخر ،كما في الصحيحين عن أبي موسى الشعري عن النبي صلى ال عليه وسلم
أنه قال( :مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الترجة طعمها طيب وريحها طيب ،ومثل /المؤمن الذي ل يقرأ القرآن
كمثل التمرة طعمها طيب ول ريح لها ،ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ،ومثل
المنافق الذي ل يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر).
واللهام في القلب تارة يكون من جنس القول والعلم والظن والعتقاد ،وتارة يكون من جنس العمل والحب والرادة
والطلب ،فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب ،وقد يميل قلبه إلى أحد المرين دون الخر ،وفي
الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :قد كان في المم قبلكم محدثون ،فإن يكن في أمتي أحد فعمر)،
والمحدث الملهم المخاطب ،وفي مثل هذا قول النبي صلى ال عليه وسلم في حديث وابصة( :البر ما اطمأنت إليه
النفس وسكن إليه القلب ،والثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك) وهو في السنن .وفي صحيح مسلم عن
النواس عن النبي صلى ال عليه وسلم قال( :البر حسن الخلق ،والثم ما حاك في نفسك ،وكرهت أن يطلع عليه
الناس) .وقال ابن مسعود :الثم حزاز القلوب.
وأيضًا فإذا كانت المور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقينًا أو ظنًا ،فالمور الدينية كذلك بطريق الولى ،فإنه إلى
كشفها أحوج ،لكن هذا في الغالب لبد أن يكون كشفًا بدليل ،وقد يكون /بدليل ينقدح في قلب المؤمن ،ول يمكنه
التعبير عنه .وهذا أحد ما فسر به معنى الستحسان.
وقد قال من طعن في ذلك ـ كأبي حامد وأبي محمد ـ :ما ل يعبر عنه فهو هوس ،وليس كذلك؛ فإنه ليس كل أحد يمكنه
إبانة المعاني القائمة بقلبه ،وكثير من الناس يبينها بيانًا ناقصًا ،وكثيرمن أهل الكشف يلقي في قلبه أن هذا الطعام
ل أو
حرام ،أو أن هذا الرجل كافر أو فاسق ،من غيردليل ظاهر ،وبالعكس قد يلقي في قلبه محبة شخص وأنه ولي ّ
أن هذا المال حلل.
وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الحكام الشرعية ،لكن إن مثل هذا يكون ترجيحًا لطالب الحق إذا
تكافأت عنده الدلة السمعية الظاهرة .فالترجيح بها خير من التسوية بين المرين المتناقضين قطعًا ،فإن التسوية
بينهما باطلة قطعًا.كما قلنا :إن العمل بالظن الناشئ عن ظاهر أو قياس خير من العمل بنقيضه إذا احتيج إلى العمل
بأحدهما .والصواب الذي عليه السلف والجمهور أنه لبد في كل حادثة من دليل شرعي ،فليجوز تكافؤ الدلة في
نفس المر ،لكن قد تتكافأ عند الناظر لعدم ظهور الترجيح له ،وأما من قال :إنه ليس في نفس المر حق معين ،بل
كل مجتهد عالم بالحق الباطن في المسألة ،وليس لحدهما على الخر مزية في علم ول عمل ،فهؤلء /قد يجوزون
أو بعضهم تكافؤ الدلة ،ويجعلون الواجب التخيير بين القولين ،وهؤلء يقولون ليس على الظن دليل في نفس المر؛
وإنما رجحان أحد القولين هو من باب الرجحان بالميل والرادة ،كترجيح النفس الغضبية للنتقام ،والنفس الحليمة
للعفو.
وهذا القول خطأ؛ فإنه لبد في نفس المر من حق معين يصيبه المستدل تارة ويخطئه أخرى .كالكعبة في حق من
اشتبهت عليه القبلة والمجتهد إذا أداه اجتهاد إلى جهة سقط عنه الفرض بالصلة إليها كالمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى
قول فعمل بموجبه كلهما مطيع لّ ،وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لّ وله أجر على ذلك ،وليس مصيبًا بمعنى أنه علم
الحق المعين؛ فإن ذلك ل يكون إل واحدًا ومصيبه له أجران وهذا في كشف النواع التي يكون عليها دليل شرعي
لكن قد يخفي على العبد ،فإن الشارع بين الحكام الكلية.
وأما الحكام المعينات التي تسمى :تنقيح المناط ،مثل كون الشخص المعين عدلً أو فاسقًا أو مؤمنًا أو منافقًا أو وليًا
لّ أو عدوًا له ،وكون هذا المعين عدوًا للمسلمين يستحق القتل ،وكون هذا العقار ليتيم أو فقير يستحق الحسان إليه،
وكون هذا المال يخاف عليه من ظلم ظالم ،فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله ،فهذه /المور ل يجب أن تعلم بالدلة
الشرعية العامة الكلية ،بل تعلم بأدلة خاصة تدل عليها.
ومن طرق ذلك :اللهام ،فقد يلهم الّ بعض عباده حال هذا المال المعين ،وحال هذا الشخص المعين ،وإن لم يكن
هناك دليل ظاهر يشركه فيه غيره.
والنوع الثاني :عكس هذا ،وهو أنهم يتبعون هواهم ،ل أمر الّ ،فهؤلء ل يفعلون ول يأمرون إل بما يحبونه بهواهم،
ت َتكُونُ خذَ إَِلهَهُ هَوَاهُ َأفََأنْ َ
ن اتّ َ ول يتركون وينهون إل عما يكرهونه بهواهم ،وهؤلء شر الخلق .قال تعالى{ :أَرََأيْ َ
ت مَ ْ
ن ا ّتبَعَ هَوَاهُ
ل ِممّ ْ عََليْهِ َوكِيلً} [الفرقان ]43 :قال الحسن :هو المنافق ل يهوي شيئًا إل ركبه ،وقال تعالىَ ْ{ / :ومَنْ أَضَ ّ
ِبغَيْرِ ُهدًى مِنْ الِّ} [القصص ،]50 :وقال عمر بن عبد العزيز :ل تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه ،ويخالفه إذا
خالف هواه ،فإذا أنت ل تثاب على ما اتبعته من الحق ،وتعاقب على ما خالفته .وهو كما قال ـ رضي الّ عنه ـ لنه
في الموضعين إنما قصد اتباع هواه لم يعمل لّ.
أل ترى أن أبا طالب نصر النبي صلى ال عليه وسلم ،وذب عنه أكثر من غيره؛ لكن فعل ذلك لجل القرابة ،ل لجل
ل تعالى ،فلم يتقبل الّ ذلك منه ،ولم يثبه على ذلك؟! وأبو بكر الصديق ـ رضي الّ عنه ـ أعانه بنفسه وماله لّ؛ فقال ا ّ
ل ا ْب ِتغَاءَ وَجْهِ َربّهِ الَْعْلَى .وَلَسَ ْوفَ
جزَى ِ .إ ّ
ع ْندَ ُه مِنْ ِن ْعمَةٍ تُ ْ
حدٍ ِ
لْتْقَى .اّلذِي يُ ْؤتِي مَالَ ُه َيتَ َزكّى َ .ومَا لَِ َ
جّنبُهَا ا َ الّ فيهَ { :و َ
سيُ َ
يَرْضَى} [الليل.]17-21 :
القسم الثالث :الذي يريد تارة إرادة يحبها الّ؛ وتارة إرادة يبغضها الّ .وهؤلء أكثر المسلمين ،فإنهم يطيعون الّ
تارة ،ويريدون ما أحبه ،ويعصونه تارة ،ويريدون ما يهوونه ،وإن كان يكرهه.
والقسم الرابع :أن يخلو عن الرادتين ،فل يريد لّ ول لهواه ،وهذا يقع لكثير من الناس في بعض الشياء ،ويقع لكثير
/من الزهاد والنساك في كثير من المور.
وأما خلو النسان عن الرادة مطلقًا فممتنع ،فإنه مفطور على إرادة مالبد له منه وعلى كراهة ما يضره ويؤذيه،
والزاهد الناسك إذا كان مسلمًا فل بد أن يريد أشياء يحبها الّ :مثل أداء الفرائض وترك المحارم ،بل وكذلك عموم
المؤمنين لبد أن يريد أحدهم أشياء يحبها الّ ،وإل فمن لم يحب الّ ،ول أحب شيئًا لّ ،فلم يحب شيئًا من الطاعات،
ل الشهادتين ول غيرهما ول يريد ذلك فإنه ل يكون مؤمنًا ،فلبد لكل مؤمن من أن تكون له إرادة لبعض ما يحبه
الّ؛ وأما إرادة العبد لما يهواه ول يحبه الّ ،فهذا لزم لكل من عصى الّ ،فإنه أراد المعصية والّ ل يحبها ول
يرضاها .وأما الخلو عن الرادتين المحمودة والمذمومة فيقع على وجهين:
أحدهما :مع إعراض العبد عن عبادة الّ تعالى وطاعته وإن علم بها ،فإنه قد يعلم كثيرًا من المور أنه مأمور بها،
وهو ل يريدها ول يكره من غيره فعلها ،وإذا اقتتل المسلمون والكفار لم يكن مريدًا لنتصار هؤلء الذي يحبه الّ،
ول لنتصار هؤلء الذي يبغضه الّ.
والوجه الثاني :يقع من كثير من الزهاد العباد الممتثلين لما /يعلمون أن الّ أمر به ،المجتنبين لما يعلمون أن الّ نهى
عنه ،وأمور أخرى ل يعلمون أنها مأمور بها ول منهي عنها ،فل يريدونها ول يكرهونها لعدم العلم ،وقد يرضونها
من جهة كونها مخلوقة مقدرة ،وقد يعاونون عليها ،ويرون هذا موافقة لّ وأنهم لما خلو عن هوى النفس كانوا
مأمورين بالرضا بكل حادث؛ بل والمعاونة عليه .وهذا موضع يقع فيه الغلط ،فإن ما أحبه الّ ورسوله علينا أن نحب
ما أحبه الّ ورسوله .وما أبغضه الّ ورسوله فعلينا أن نبغض ما أبغضه الّ ورسوله ،وأما ما ل يحبه الّ ورسوله
ول يبغضه الّ ورسوله كالفعال التي ل تكليف فيها مثل أفعال النائم والمجنون ،فهذا إذا كان الّ ل يحبها ويرضاها
ول يكرهها ويذمها ،فالمؤمن أيضًا ل ينبغي أن يحبها ويرضاها ول يكرهها.
وأما كونها مقدورة ومخلوقة لّ فذاك ل يختص بها ،بل هو شامل لجميع المخلوقات .والّ تعالى خلق ما خلقه لما شاء
من حكمته ،وقد أحسن كل شيء خلقه ،والرضا بالقضاء ثلثة أنواع:
والثاني :الرضا بالمصائب ،فهذا مأمور به :إما مستحب ،وإما واجب.
/والثالث :الكفر والفسوق والعصيان ،فهذا ل يؤمر بالرضا به ،بل يؤمر ببغضه وسخطه ،فإن الّ ل يحبه ول
لّ لَ يُ ِحبّ ا ْلفَسَادَ} [البقرة205 :
ل يَرْضَى مِنْ ا ْلقَوْلِ} [النساء ،]108 :وقال{ :وَا ُ يرضاه ،كما قال تعالىِ{ :إ ْذ ُيبَ ّيتُو َ
ن مَا َ
لّ لَ ُيحِبّ ا ْلكَافِرِينَ} [آل عمران ،]32 :وقال{ :إِنّ ا َ
لّ لَ ل يَرْضَى ِل ِعبَادِهِ ا ْلكُ ْفرَ} [الزمر ،]7 :وقالَ { :فإِنّ ا َ
] ،وقالَ { :و َ
يُحِبّ ا ْل ُمعْ َتدِينَ} [المائدة.]87 :
وهو وإن خلقه لما له في ذلك من الحكمة فل يمتنع أن يخلق مال يحبه لفضائه إلى الحكمة التي يحبها ،كما خلق
الشياطين ،فنحن راضون عن الّ في أن يخلق ما يشاء ،وهو محمود على ذلك.
وأما نفس هذا الفعل المذموم وفاعله ،فل نرضى به ول نحمده ،وفرق بين ما يحب لنفسه ،وما يراد لفضائه إلى
المحبوب ،مع كونه مبغضًا من جهة أخرى؛ فإن المر الواحد يراد من وجه ويكره من وجه آخر ،كالمريض الذي
يتناول الدواء الكريه؛ فإنه يبغض الدواء ويكرهه ،وهو مع هذا يريد استعماله لفضائه إلى المحبوب ،ل لنه في نفسه
محبوب.
وفي الحديث الصحيح يقول الّ تعالى( :وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ،يكره
الموت وأكره مساءته ولبد له منه) ،فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي /يكره الموت ،كان هذا مقتضيًا
ل تعالى
أن يكره إماتته ،مع أنه يريد إماتته؛ لما له في ذلك من الحكمة ـ سبحانه وتعالى ـ فالمور التي يبغضها ا ّ
وينهى عنها ل تحب ول ترضى ،لكن نرضى بما يرضى الّ به حيث خلقها ،لما له في ذلك من الحكمة ،فكذلك
الفعال التي ل يحبها ول يبغضها ل ينبغي أن تحب ول ترضى ،كما ل ينبغي أن تبغض.
والرضا الثابت بالنص هو أن يرضى بالّ ربًا ،وبالسلم دينًا ،وبمحمد نبيًا ،وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى
ال عليه وسلم أنه قال( :من رضى بالّ ربًا ،وبالسلم دينًا ،وبمحمد نبيًا ،كان حقًا على الّ أن يرضيه) ،وأما بالنسبة
إلى القدر فيرضى عن الّ ،إذ له الحمد على كل حال ،ويرضى بما يرضاه من الحكمة التي خلق لجلها ما خلق وإن
كنا نبغض ما يبغضه من المخلوقات ،فحيث انتفي المر الشرعي أو خفي المر الشرعي ل يكون المتثال والرضا
والمحبة ،كما يكون في المر الشرعي ،وإن كان ذلك مقدورًا.
وهذا موضع يغلط فيه كثير من خاصة السالكين وشيوخهم ،فضلً عن عامتهم ،ويتفاوتون في ذلك بحسب معرفتهم
بالمر الشرعي وطاعتهم له.
فمنهم من هو أعرف من غيره بالمر الشرعي وأطوع له ،فهذا /تكون حاله أحسن ممن يقصر عنه في المعرفة
بالمر الشرعي والطاعة له.
ومنهم من يبعد عن المر الشرعي ،ويسترسل حتى ينسلخ من السلم بالكلية ،ويبقى واقفًا مع هواه والقدر.
ومن هؤلء من يموت كافرًا ،ومنهم من يتوب الّ عليه ،ومنهم من يموت فاسقًا ،ومنهم من يتوب الّ عليه.
وهؤلء ينظرون إلى الحقيقة القدرية معرضين عن المر الشرعي ول بد مع ذلك من اتباع أمر ونهي غير المر
الشرعي ،إما من أنفسهم وإما من غير الّ ورسوله ،إذ السترسال مع القدر مطلقًا ممتنع لذاته ،لما تقدم من أن العبد
مفطور على محبة أشياء وبغض أشياء.
وقول من قال :إن العبد يكون مع الّ كالميت مع الغاسل ل يصح ول يسوغ على الطلق عن أحد من المسلمين،
وإنما يقال ذلك في بعض المواضع؛ ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر الّ عليه ،وإل فإذا علم ما أمر الّ به وأحبه ،فلبد
أن يحب ما أحبه الّ ،ويبغض ما أبغضه.
َفصْـــل
وكما أن الطريقة العلمية بصحة النظر في الدلة والسباب هي الموجبة للعلم ،كتدبر القرآن والحديث ،فالطريقة
العملية بصحة الرادة والسباب هي الموجبة للعمل؛ ولهذا يسمون السالك في ذلك :المريد ،كما يسميه أولئك:
الطالب ،و النظر جنس تحته حق وباطل ،ومحمود ومذموم ،وكذلك :الرادة.
فكما أن طريق العلم لبد فيه من العلم النبوي الشرعي ،بحيث يكون معلومك المعلومات الدينية النبوية ،ويكون علمك
بها مطابقًا لما أخبرت به الرسل ،وإل فل ينفعك أي معلوم علمته ،ول أي شيء اعتقدته فيما أخبرت به الرسل ،بل
ل وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر ،فكذلك [الرادة] لبد فيها من تعيين المراد ،وهو الّ لبد من اليمان با ّ
ل وتكون عبادتك إياه بما شرع على ألسنة رسله ،إذ لبد من والطريق إليه ،وهو ما أمرت به الرسل .فل بد أن تعبد ا ّ
تصديق الرسول فيما أخبر علمًا ،ولبد من طاعته فيما أمر عملً.
ل وعملً مع موافقة السنة ،فعلم الحق ما وافق علم الّ ،والرادة الصالحة ما وافقت محبة الّ
/ولهذا كان اليمان قو ً
ورضاه ،وهو حكمه الشرعي ،والّ عليم حكيم.
ل وخبره؛ والمور العملية لبد أن تطابق حب الّ وأمره ،فهذا حكمه ،وذاك
فالمور الخبرية لبد أن تطابق علم ا ّ
علمه.
وأما من جعل حكمه مجرد القدر ،كما فعل صاحب [منازل السائرين] وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن
يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة ـ فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع .فل ينفع المريد
القاصد أن يعبد أي معبود كان ،ول أن يعبد الّ بأي عبادة كانت ،بل هذه طريقة المشركين المبتدعين الذين لهم
شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الّ ،كالنصارى ومن أشبههم من أهل البدع الذين يعبدون غير الّ بغير أمر
ل وحده ،ويعبدونه بما شرع .ل يعبدونه بالبدع إل ما يقع من أحدهم خطأ. الّ ،وأما أهل السلم والسنة فهم يعبدون ا ّ
فالسالكون طريق الرادة قد يغلطون تارة في المراد ،وتارة في الطريق إليه ،وتارة يألهون غير الّ بالخوف منه
والرجاء له ،والتعظيم والمحبة له وسؤاله والرغبة إليه ،فهذا حقيقة الشرك المحرم ،فإن حقيقة /التوحيد أل يعبد إل
الّ.
والعبادة تتضمن كمال الحب ،وكمال التعظيم ،وكمال الرجاء ،والخشية ،والجلل والكرام .والفناء في هذا التوحيد
فناء المرسلين واتباعهم ،وهو أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه ،وبطاعته عن طاعة ما سواه ،وبسؤاله عن سؤال
ما سواه ،وبخوفه عن خوف ما سواه ،وبرجائه عن رجاء ماسواه ،وبحبه والحب فيه عن محبة ما سواه والحب فيه.
وأما الغالطون في الطريق فقد يريدون الّ ،لكن ل يتبعون المر الشرعي في إرادته ،لكن تارة يعبده أحدهم بما يظنه
يرضيه ،ول يكون كذلك ،وتارة ينظرون القدر لكونه مراده ،فيفنون في القدر الذي ليس لهم فيه غرض ،وأما الفناء
المطلق فيه فممتنع .وهؤلء يفني أحدهم متبعًا لذوقه ووجده المخالف للمر الشرعي ،أو ناظرًا إلى القدر .وهذا يبتلى
به كثير من خواصهم.
والشيخ عبد القادر ،ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع ،والمر والنهي ،وتقديمه على الذوق والقدر،
ومن أعظم المشائخ أمرًا بترك الهوى والرادة النفسية .فإن الخطأ في الرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه
الجهة؛ فهو يأمر السالك /أل تكون له إرادة من جهة هواه أصلً ،بل يريد ما يريده الرب ـ عز وجل ـ :إما إرادة
شرعية أن تبين له ذلك ،وإل جرى مع الرادة القدرية ،فهو إما مع أمر الرب ،وإما مع خلقه ،وهو سبحانه له الخلق
والمر.
وهذه طريقة شرعية صحيحة ،إنما يخاف على صاحبها من ترك إرادة شرعية ل يعلم أنها شرعية ،أو من تقديم إرادة
قدرية على الشرعية فإنه إذا لم يعلم أنها شرعية فقد يتركها ،وقد يريد ضدها ،فيكون ترك مأمورًا أو فعل محظورًا
وهو ل يعلم .فإن طريقة الرادة :يخاف على صاحبها من ضعف العلم؛ وما يقترن بالعلم من العمل ،والوقوع في
الضلل ،كما أن طريقة العلم يخاف على صاحبها من ضعف العمل ،وضعف العلم الذي يقترن بالعمل ،لكن ل يكلف
ط ْعتُمْ} [التغابن ،]16 :فإذا تفقه السالك ،وتعلم المر
ستَ َ الّ نفسًا إل وسعها من هذا ،وهذا .قال تعالى{ :فَاتّقُوا ا َ
لّ مَا ا ْ
والنهي بحسب اجتهاده ،وكان علمه وإرادته بحسب ذاك ،فهذا مستطاعه .وإذا أدى الطالب ما أمر به ،وترك ما نهى
عنه ،وكان علمه مطابقًا لعمله ،فهذا مستطاعه.
َفصْـــل /
قال الشيخ عبد القادر ـ قدس الّ روحه ـ( :افن عن الخلق بحكم الّ ،وعن هواك بأمره ،وعن إرادتك بفعله ،فحينئذ
يصلح أن تكون وعاء لعلم الّ).
ل والتوكل عليه ،فل تطعهم في قلت :فحكمه يتناول خلقه وأمره ،أي :افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة ا ّ
معصية الّ تعالى ول تتعلق بهم في جلب منفعه ول دفع مضرة .وأما الفناء عن الهوى بالمر وعن الرادة بالفعل بأن
يكون فعله موافقًا للمر الشرعي ل لهواه ،وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل الّ ل لرادة نفسه ،فالرادة تارة
تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات.
فالول :يكون بالمر ،والثاني :ل تكون له إرادة .ول بد في هذا أن يقيد بأل تكون له إرادة لم يؤمر بها ،وإل فإذا أمر
بأن يريد من المقدورات شيئًا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته ،سواء كان موافقًا للقدر أم ل .وهذا الموضع قد يغلط
فيه طائفة من السالكين/ .والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم
إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور.
قال الشيخ( :فعلمة فنائك عن خلق الّ انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما في أيديهم).
فإذا كان القلب ل يرجوهم ،ول يخافهم ،لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورًا به من المشي
إليهم لمرهم بما أمر الّ به ،ونهيهم عما نهاهم الّ عنه ،كذهاب الرسل ،واتباع الرسل إلى من يبلغون رسالت الّ،
ل متوكلً عليه ،وإل فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد .ليكون عابدًا ّ
به؛ فقد يكون ما أضاعه من المر أولى به مما قام به من التوكل ،أو مثله أو دونه ،كما أن من قام بأمر ولم يتوكل
عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب ،بل قد يكون ما تركه من التوكل والستعانة أولى به مما فعله من المر أو مثله
أو دونه.
قال الشيخ( :وعلمة فنائك عنك وعن هواك :ترك التكسب ،والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر ،فل تتحرك
ل فيتوله آخرًا .كما
فيك بك ول تعتمد عليك لك ول تنصر نفسك ،ول تذب عنك ،لكن تكل ذلك كله /إلى من توله أو ً
كان ذلك موكولً إليه في حال كونك مغيبًا في الرحم ،وكونك رضيعًا طفل في مهدك).
قلت :وهذا لن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ودفع ما تبغضه ويضرها ،فإذا فنى عن ذاك بالمر فعل ما يحبه
الّ وترك ما يبغضه الّ فاعتاض بفعل محبوب الّ عن محبوبه وبترك ما يبغضه الّ عما يبغضه وحينئذ فالنفس لبد
لها من جلب المنفعة ودفع المضرة ،فيكون في ذلك متوكلً على الّ.
والشيخ ـ رحمه الّ ـ ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لن النفس لبد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة ،فإن لم تكن
متوكلة على الّ في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل المر مطلقًا ،بل لبد أن تعصي المر في جلب
المنفعة ودفع المضرة فل تصح العبادة لّ وطاعة أمره بدون التوكل عليه ،كما أن التوكل عليه ل يصح بدون عبادته
حيْثُخرَجًا َ .ويَرْ ُزقْ ُه مِنْ َ جعَلْ لَ ُه مَ ْ لّ يَ ْ عُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود ،]123 :وقال تعالىَ { :ومَ ْ
ن َيتّقِ ا َ وطاعته ،قال تعالى{ :فَا ْ
سبُهُ} [الطلق ،]3 ،2 :وقال تعالى{ :وَا ْذكُرْ اسْمَ َرّبكَ َو َتبَتّلْ ِإَليْهِ َت ْبتِيلً َ .ربّ ا ْلمَشْ ِرقِ حْ لّ َفهُوَ َ ن َيتَ َوكّلْ عَلَى ا ِ
حتَسِبُ َومَ ْ
لَ َي ْ
ب لَ ِإلَهَ ِإلّ ُه َو فَاتّ ِخذْهُ َوكِيلً} [المزمل. ]9 ،8 : وَا ْل َمغْرِ ِ
والمقصود أن امتثال المر على الطلق ل يصح بدون /التوكل والستعانة ،ومن كان واثقًا بالّ أن يجلب له ما
ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره ،وإل فنفسه ل تدعه أن يترك ما يقول :إنه محتاج فيه إلى
غيره.
قال الشيخ ـ رضي الّ عنه ـ :وعلمة فناء إرادتك بفعل الّ أنك ل تريد مرادًا قط ،فل يكن لك غرض ،ول تقف لك
حاجة ول مرام؛ لنك ل تريد مع إرادة الّ سواها ،بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الّ تعالي وفعله ،ساكن
الجوارح مطمئن الجنان ،مشروح الصدر ،منور الوجه ،عامر الباطن ،غنيا عن الشياء بخالقها ،تقلبك يد القدرة
ويدعوك لسان الزل ،ويعلمك رب الملك ويكسوك نورًا منه والحلل ،وينزلك منازل من سلف من أولى العلم الول،
فتكون منكسرًا أبدًا.
فل تثبت فيك شهوة ول إرادة :كالناء المتثلـم الذي ل يثبت فيه مائع ول كدر فتفنوا عـن أخلق البشريـة ،فلـن يقبـل
باطنـك ساكنـًا غيـر إرادة الّ ،فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم
وهو فعل الّ تبارك وتعالى حقًا في العلم فتدخل حينئذ في زمـرة المنكـسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية،
وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانيـة وشهوات إضافية .كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :حبب
إلى من /دنياكم :النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلة) فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقًا
لما أشرت إليه وتقدم ،قال الّ تعالى( :أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) وساق كلمه .وفيه( :ول يزال عبدي يتقرب
إليّ بالنوافل) الحديث.
قلت :هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر ـ رضي الّ عنه ـ وحقيقته أنه ل يريد كون شيء إل أن يكون
مأمورًا بإرادته .فقوله :علمة فناء إرادتك بفعل الّ أنك ل تريد مرادًا قط .أي ل تريد مرادًا لم تؤمر بإرادته ،فأما ما
أمرك الّ ورسوله بإرادتك إياه ،فإرادته إما واجب وإما مستحب ،وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص .
وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين ،فيظنون أن الطريقة الكاملة أل يكون للعبد إرادة أصلً ،وإن قول أبي
يزيد :أريد أل أريد ـ لما قيل له :ماذا تريد؟ ـ نقص وتناقض؛ لنه قد أراد ،ويحملون كلم المشائخ الذين يمدحون
بترك الرادة على ترك الرادة مطلقًا ،وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين ،وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك
الرادة مطلقًا ،فإن هذا غلط ممن قاله ،فإن ذلك ليس بمقدور ول مأمور.
/فإن الحي لبد له من إرادة ،فل يمكن حيًا أل تكون له إرادة ،فإن الرادة التي يحبها الّ ورسوله ويأمر بها أمر
إيجاب أو أمر استحباب ل يدعها إل كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة ،وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركًا
لما هو خير له.
ن يَدْعُونَ َرّبهُ ْم بِا ْل َغدَاةِ وَا ْل َعشِيّ والّ ـ تعالى ـ قد وصف النبياء والصديقين بهذه الرادة ،فقال تعالىَ { :و َ
ل تَطْ ُردْ اّلذِي َ
يُرِيدُونَ َو ْجهَهُ} [النعام ،]52 :وقال تعالىَ { :ومَا لَِ َحدٍ ِع ْندَهُ مِ ْن ِن ْعمَةٍ تُ ْجزَى ِ .إ ّل ا ْب ِتغَاءَ َوجْهِ َربّهِ الَْعْلَى} [الليل،19 :
شكُورًا} [النسان ،]9 :وقال تعالى{ :وَإِ ْ
ن ُك ْنتُنّ تُ ِردْنَ الَّ ل نُرِي ُد ِمنْكُمْ جَزَاءً َولَ ُلّ َ ،]20وقال تعالىِ{ :إّنمَا نُ ْ
ط ِع ُمكُمْ لِ َوجْهِ ا ِ
سعَى َلهَاجرًا عَظِيمًا} [الحزاب ،]29 :وقال تعالىَ { :ومَنْ أَرَادَ الْخِرَةَ وَ َ ت ِمنْكُنّ أَ ْ
سنَا ِ
عدّ لِ ْلمُحْ ِ
وَ َرسُولَهُ وَالدّارَ الْخِرَ َة َفإِنّ الَّ أَ َ
لّ ُمخْلِصًا لَ ُه الدّينَ َّ .ألَ لِّ الدّينُ عُبدْ ا َ شكُورًا} [السراء ،]19 :وقال تعالى{ :فَا ْ س ْع ُيهُ ْم مَ ْ
ك كَانَ َ ن فَأُوَْل ِئ َ
س ْع َيهَا وَهُ َو مُ ْؤمِ ٌ
َ
عُبدُوا الَّ َولَ عبُ ُد مُخِْلصًا لَ ُه دِينِي} [الزمر ،]14 :وقال تعالى{ :وَا ْ الْخَالِصُ} [الزمر ،]3 ،2 :وقال تعالى{ :قُلْ الَّ أَ ْ
تُشْ ِركُوا بِهِ َش ْيئًا} [النساء ،]36 :وقال تعالىَ { :ومَا َخلَ ْقتُ الْجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعُبدُونِ} [الذاريات.]56 :
ول عبادة إل بإرادة الّ ،ولما أمر به ،وقال تعالى{ :بَلَى مَنْ َأسْلَمَ َو ْجهَهُ لِّ وَهُ َو مُحْسِنٌ} [البقرة ،]112 :أي أخلص
لّ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ}[البينة ،]5 :وإخلص الدين له /هو إرادته وحده قصده لّ .وقال تعالىَ { :ومَا ُأمِرُوا ِإلّ ِل َيعْ ُبدُوا ا َ
بالعبادة .وقال تعالى{ :يُ ِحّبهُمْ َويُ ِحبّونَهُ}[المائدة ،]54 :وقال تعالىِ{ :وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ}[البقرة ،]165 :وقال
لّ فَاّت ِبعُونِي يُ ْح ِببْكُمْ الُّ} [آل عمران ،]31 :وكل محب فهو مريد ،وقال الخليل ـ عليه السلم حبّونَ ا َ تعالى{ :قُلْ إِ ْ
ن ُك ْنتُ ْم تُ ِ
طرَ ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضَ} [النعام.]79 : جهِي لِّلذِي فَ َ لفِلِينََ} [النعام ،]76 :ثم قالِ{ :إنّي وَ ّ
جهْتُ َو ْ حبّ ا ْ ـ{ :لَ أُ ِ
ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر الّ بإرادته ،وإرادة ما يأمر به ،وينهى عن إرادة غيره ،وإرادة ما نهى عنه ،وقد قال
النبي صلى ال عليه وسلم( :إنما العمال بالنيات ،وإنما لكل امرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته إلى الّ ورسوله
فهجرته إلى الّ ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ،أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ،فهما
إرادتان :إرادة يحبها الّ ويرضاها ،وإرادة ل يحبها الّ ول يرضاها ،بل إما نهي عنها ،وإما لم يأمر بها ،ول ينهي
عنها والناس في الرادة ثلثة أقسام:
وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الرادة مطلقًا ،ولم يبق لهم مراد إل ما يقدره الرب ،وإن هذا المقام هو أكمل المقامات،
ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة ،وهي الحقيقة القدرية الكونية؛ وأنه /شهد القيومية العامة ،ويجعلون الفناء
في شهود توحيد الربوبية هو الغاية؛ وقد يسمون هذا الجمع والفناء والصطلم ،ونحو ذلك .وكثير من الشيوخ زلقوا
في هذا الموضع.
وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية؛ فإنهم اتفقوا على شهود توحيد
الربوبية ،وأن الّ خالق كل شيء وربه ومليكه ،وهو شهود القدر ،وسموا هذا مقام الجمع؛ فإنه خرج به عن الفرق
الول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا ،ورؤية فعل هذا وترك هذا ،فإن النسان قبل أن يشهد هذا التوحيد
يرى للخلق فعلً يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات؛ ويكون متبعًا لهواه فيما يريده ،فإذا أراد الحق خرج
بإرادته عن إرادة الهوى والطبع ،ثم شهد أنه خالق كل شيء ،فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق ،فلما اتفقوا
على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد الفرق الثاني ،وهو بعد هذا الجمع ،وهو الفرق الشرعي .أل تري أنك تريد ما
أمرت به ،ول تريد ما نهيت عنه؟! وتشهد أن الّ يستحق العبادة دون ما سواه ،وأن عبادته هي بطاعة رسله ،فتفرق
بين المأمور والمحظور ،وبين أوليائه وأعدائه ،وتشهد توحيد اللوهية ،فنازعوه في هذا الفرق.
منهم من أنكره.
/ومنهم من لم يفهمه.
ومنهم من يتناقض.
ومنهم من يقول :الوقوف مع المر لجل مصلحة العامة ،وقد يعبر عنهم بأهل المارستان.
ومنهم من يقول :التحقيق أن يكون الجمع في قلبك مشهودًا ،والفرق على لسانك موجودًا ،فيشهد بقلبه استواء المأمور
والمحظور مع تفريقه بينهما.
ومنهم من يرى أن هذه هي الحقيقة التي هي منتهى سلوك /العارفين ،وغاية منازل الولياء الصديقين.
و منهم من يظن أن الوقوف مع إرادة المر والنهي يكون في السلوك والبداية ،وأما في النهاية فلتبقى إل إرادة القدر.
وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة والطاعة ،فإن العبادة لّ والطاعة له ولـرسوله إنما تكون في امتثال المر
الشرعي ل في الجري مع المقدور ،وإن كان كفرًا أو فسوقًا أو عصيانًا ،ومن هنا صار كثير من السالكين من أعوان
الكفار والفجار وخفرائهم ،حيث شهدوا القدر معهم؛ ولم يشهدوا المر والنهي الشرعيين.
ومن هؤلء من يقول :من شهد القدر سقط عنه الملم ،ويقولون إن الخضر إنما سقط عنه الملم لما شهد القدر.
وأصحاب شهود القدر قد يؤتي أحدهم ملكًا من جهة خرق العادة بالكشف والتصرف ،فيظن ذلك كمال في الولية،
وتكون تلك الخوارق إنما حصلت بأسباب شيطانية ،وأهواء نفسانية ،وإنما الكمال في الولية أن يستعمل خرق
العادات في إقامة المر والنهي الشرعيين مع حصولهما بفعل المأمور وترك المحظور ،فإذاحصلت بغير السباب
الشرعية فهي مذمومة ،وإن حصلت بالسباب الشرعية لكن استعملت ليتوصل بها إلى محرم كانت مذمومة ،وإن
توصل بها إلى مباح /ل يستعان بها على طاعة كانت للبرار دون المقربين.
وأما إن حصلت بالسبب الشرعي واستعين بها على فعل المر الشرعي ،فهذه خوارق المقربين السابقين.
فلبد أن ينظر في الخوارق في أسبابها وغاياتها :من أين حصلت ،وإلى ماذا أوصلت ـ كما ينظر في الموال في
مستخرجهـا ومصروفهـا ـ ومن استعملها ـ أعني الخوارق ـ في إرادته الطبيعية كان مذمومًا ،ومن كان خاليًا عن
الرادتين الطبيعية والشرعية فهذا حسبه أن يعفي عنه ،لكونه لم يعرف الرادة الشرعية.
وأما إن عرفها وأعرض عنها فإنه يكون مذمومًا مستحقًا للعقاب إن لم يعف عنه ،وهو يمدح بكون إرادته ليست
بهواه ،لكن يجب مع ذلك أن تكون موافقة لمر الّ تعالى ورسوله ،ل يكفيه أن تكون ل من هذا ولمن هذا ،مع أنه ل
يمكن خلوه عن الرادة مطلقًا؛ بل لبد له من إرادة ،فإن لم يرد ما يحبه الّ ورسوله ،أراد مال يحبه الّ ورسوله ،لكن
إذا جاهد نفسه على ترك ما تهواه بقى مريدًا لما يظن أنه مأمور به ،فيكون ضالً.
غيْرِ فإن هذا يشبه حال الضالين من النصارى .وقد قال تعالى{ :ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْ
س َتقِيمَ .صِرَاطَ اّلذِينَ َأ ْن َعمْتَ عََل ْيهِمْ َ
ا ْل َمغْضُوبِ عََل ْيهِمْ َولَ الضّالّينَ} [الفاتحة ،]7 ،6 :وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم( :اليهود مغضوب عليهم
والنصارى ضالون).
فاليهود لهم إرادات فاسدة منهي عنها .كما أخبر عنهم بأنهم عصوا وكانوا يعتدون .وهم يعرفون الحق ول يعملون به،
فلهم علم ،لكن ليس لهم عمل بالعلم ،وهم في الرادة المذمومة المحرمة يتبعون أهواءهم ليسوا في الرادة المحمودة
المأمور بها ،وهي إرادة ما يحبه الّ ورسوله.
والنصارى لهم قصد وعبادة وزهد لكنهم ضلل ،يعملون بغير علم ،فل يعرفون الرادة التي يحبها الّ ورسوله ،بل
غاية أحدهم تجريد نفسه عن الرادات ،فل يبقى مريدًا لما أمر الّ به ورسوله ،كما ل يريد كثيرًا مما نهى الّ عنه
ورسوله ،وهؤلء ضالون عن مقصودهم فإن مقصودهم إنما هو في طاعة الّ ورسوله ،ولهذا كانوا ملعونين :أي
بعيدين عن الرحمة التي تنال بطاعة الّ عز وجل.
والعالم الفاجر يشبه اليهود .والعابد الجاهل يشبه النصارى .ومن أهل العلم من فيه شيء من الول ،ومن أهل العبادة
من فيه شيء من الثاني.
/وهذا الموضع تفرق فيه بنو آدم ،وتباينوا تباينًا عظيمًا ،ل يحيط به إل الّ .ففيهم من لم يخلق الّ خلقًا أكرم عليه منه،
وهو خير البرية .ومنهم من هو شر البرية ،وأفضل الحوال فيه حال الخليلين :إبراهيم ومحمد صلى ال عليهما وسلم
ومحمد سيد ولد آدم ،وأفضل الولين والخرين ،وخاتم النبيين وإمامهم إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا ،وهو
المعروج به إلى ما فوق النبياء كلهم ـ إبراهيم و موسى وغيرهما.
وأفضل النبياء بعده إبراهيم ،كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي صلى ال عليه وسلم( :إن إبراهيم خير البرية)
،وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى ال عليه وسلم :أنه كان يقول في خطبة الجمعة( :خير الكلم
كلم الّ ،وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم) .وكذلك كان عبد الّ بن مسعود يخطب بذلك يوم الخميس،
كما رواه البخاري في صحيحه.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الّ عنها ـ أنها قالت :ما ضرب رسول الّ صلى ال عليه وسلم خادمًا له
ول امرأة ول دابة ول شيئًا قط ،إل أن يجاهد في سبيل الّ ،وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه ،إل أن تنتهك محارم
الّ ،فإذا انتهكت محارم الّ لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لّ.
/وقال أنس :خدمت رسول الّ صلى ال عليه وسلم عشر سنين ،فما قال لي :أف قط ،وما قال لي لشىء فعلته لم
فعلته؟ ول لشيء لم أفعله لم ل فعلته؟ .وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال( :دعوه ،فلو قضى شيء لكان).
ورسول الّ صلى ال عليه وسلم هو أفضل الخلئق ،وسيد ولد آدم ،وله الوسيلة في المقامات كلها ،ولم يكن حاله أنه
ل يريد شيئًا ،ولأنه يريد كل واقع ،كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى ،بل هو منزه عن هذا وهذا ،قال الّ تعالى{ :
لّ يَدْعُوهُ} [الجن]19 : ي يُوحَى} [النجم ،]4 ،3 :وقال تعالى{ :وََأنّهُ َلمّا قَامَ َ
ع ْبدُ ا ِ حٌ َومَا َينْطِقُ عَنْ ا ْلهَوَى .إِنْ هُوَ ِإلّ وَ ْ
ب ِممّا نَزّ ْلنَا َعلَى َع ْبدِنَا} [البقرة ،]23 :وقالُ { :سبْحَانَ اّلذِي أَ ْسرَى ِب َعبْدِهِ َليْلً} [السراء.]1 : وقال تعالى{ :وَإِ ْ
ن كُنتُ ْم فِي َريْ ٍ
والمراد بعبده عابده المطيع لمره ،وإل فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبودون مخلوقون مدبرون.
وقد قال الّ لنبيه{ :وَا ْعُبدْ َرّبكَ َحتّى َي ْأتِ َيكَ ا ْليَقِينُ} [الحجر. ]99 :قال الحسن البصري :لم يجعل الّ لعمل المؤمن أج ً
ل
دون الموت ،وقد قال الّ تعالى له{ :وَِإّنكَ َلعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم. ]4 :قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن
حنبل :على دين عظيم .والدين :فعل ما أمر به .وقالت عائشة :كان خلقه القرآن .رواه مسلم .وقد أخبرت أنه لم يكن
يعاقب لنفسه ،ول ينتقم لنفسه ،لكن يعاقب لّ /وينتقم لّ ،وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه ،وأما حدود الّ
فقد قال( :والذي نفسي بيده ،لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) أخرجاه في الصحيحين.
ل ويرضاه من اليمان و العمل الصالح ،وأمر بذلك وكره ما يبغضه الّ وهذا هو كمال الرادة؛ فإنه أراد ما يحبه ا ّ
سَأكْ ُت ُبهَا لِّلذِينَ
ي ٍء فَ َ
ت كُلّ شَ ْ
س َع ْ من الكفر والفسوق والعصيان ،ونهى عن ذلك ،كما وصفه الّ تعالى بقولهَ { :ورَ ْ
ح َمتِي وَ ِ
ع ْندَهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَالِْنجِيلِ
جدُونَهُ َم ْكتُوبًا ِ
لْمّيّ اّلذِي يَ ِ
َيتّقُونَ َويُ ْؤتُونَ ال ّزكَاةَ وَاّلذِينَ هُ ْم بِآيَا ِتنَا يُ ْؤمِنُونَ .اّلذِينَ َيّت ِبعُونَ الرّسُولَ ال ّنبِيّ ا ُ
ع ْنهُمْ إِصْرَ ُهمْ وَالَْغْلَلَ اّلتِي كَانَتْ عََل ْيهِمْ
خبَائِثَ َويَضَعُ َ طّيبَاتِ َويُحَرّمُ عََل ْيهِمْ الْ َ
يَ ْأمُرُهُ ْم بِا ْل َمعْرُوفِ َو َي ْنهَاهُمْ عَنْ ا ْلمُنكَرِ َويُحِلّ َلهُمْ ال ّ
صرُوهُ وَاّت َبعُوا النّورَ اّلذِي أُنزِ َل َمعَهُ أُوَْل ِئكَ ُهمْ ا ْلمُ ْفلِحُونَ} [العراف.]157 ،156 : فَاّلذِينَ آ َمنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ َونَ َ
وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ول ينتقم ،بل يستوفى حق ربه ،ويعفو عن حظ نفسه ،وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر،
فيقول( :لو قضى شيء لكان) ،وفي حق الّ يقوم بالمر فيفعل ما أمر الّ به ،ويجاهد في سبيل الّ أكمل الجهاد
ل تُطِعْ
ل قَ ْريَ ٍة َنذِيرًا .فَ َ الممكن ،فجاهدهم أولً بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه ،كما قال تعالى{ :وَلَوْ ِ
ش ْئنَا َل َب َع ْثنَا فِي كُ ّ
ا ْلكَا ِفرِينَ َوجَا ِهدْهُ ْم بِهِ ِجهَادًا َكبِيرًا} [الفرقان .]52 ،51 :ثم لما /هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال ،جاهدهم بيده.
وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة ،وهو معروف أيضًا من حديث عمر بن الخطاب عن النبي
صلى ال عليه وسلم في حديث احتجاج آدم وموسى ،لما لم موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب
الذي فعله ،فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوبًا علىّ قبل أن أخلق بمدة طويلة ،قال النبي صلى ال عليه وسلم( :فحج آدم
موسى).
وذلك لن ملم موسى لدم لم يكن لحق الّ ،وإنما كان لما لحقه وغيره من الدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل،
فذكر له آدم أن هذا كان أمرًا مقدرًا لبد من كونه ،والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر؛ فإن هذا هو
الذي ينفعهم ،وأما لومهم لمن كان سببًا فيها فل فائدة لهم في ذلك ،وكذلك ما فاتهم من المور التي تنفعهم يؤمرون في
ذلك بالنظر إلى القدر ،وأما التأسف والحزن فل فائدة فيه ،فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم ،أو حصول مضرة
لهم ،فلينظروا في ذلك إلى القدر ،وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من المعاصي ،والصلح في
المستقبل .فإن هذا المر ينفعهم ،وهو مقدور لهم بمعونة الّ لهم.
/وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :المؤمن القوي خير وأحب إلى الّ من
المؤمن الضعيف ،وفي كل خير ،احرص على ما ينفعك واستعن بالّ ول تعجزن .وإن أصابك شيء فل تقل :لو أني
فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل :قدر الّ وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان).
أمر النبي صلى ال عليه وسلم بحرص العبد على ما ينفعه ،والستعانة بالّ ،ونهاه عن العجز ،وأنفع ما للعبد طاعة
ك نَ ْس َتعِينُ}[الفاتحة.]5 : الّ ورسوله ،وهي عبادة الّ تعالى .وهذان الصلن هما حقيقة قوله تعالىِ{ :إيّا َ
ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ
ونهاه عن العجز وهو الضاعة والتفريط والتواني .كما قال في الحديث الخر( :الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد
الموت ،والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني على الّ الماني) رواه الترمذي.
وفي سنن أبي داود :أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقضى على أحدهما ،فقال المقضي عليه :حسبي
ل ونعم الوكيل ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم( :إن الّ يلوم على العجز ،ولكن عليك بالكيس ،فإذا غلبك أمر فقل:
ا ّ
حسبي الّ ونعم الوكيل) فالكيس ضد العجز .وفي الحديث( :كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) رواه مسلم .وليس
المراد بالعجز في كلم النبي صلى ال عليه وسلم ما يضاد /القدرة؛ فإن من ل قدرة له بحال ل يلم ،ول يؤمر بما ل
يقدر عليه بحال.
ثم لما أمره بالجتهاد والستعانة بالّ ونهاه عن العجز ،أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر ويقول :قدر الّ وما شاء
فعل ،ول يتحسر ويتلهف ويحزن .ويقول( :لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ،فإن لو تفتح عمل الشيطان).
وقد قال بعض الناس في هذا المعنى :المر أمران :أمر فيه حيلة وأمر ل حيلة فيه؛ فما فيه حيلة ل يعجز عنه ،وما ل
حيلة فيه ل يجزع منه .وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين .كما ذكر الشيخ عبد القادر وغيره .فإنه لبد من فعل المأمور
وترك المحظور ،والرضا والصبر على المقدور .وقد قال تعالى حكاية عن يوسفَ{ :أنَا يُوسُفُ وَهذَا َأخِي َق ْد مَنّ الُّ عََل ْينَا
لّ لَ يُضِيعُ َأجْرَ ا ْل ُمحْ ِسنِينَ} [يوسف.]90 :
صبِ ْر فَإِنّ ا َ
ِإنّ ُه مَنْ َيتّقِ َويَ ْ
فالتقوى :تتضمن فعل المأمور وترك المحظور .والصبر :يتضمن الصبر على المقدور .وقد قال تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِينَ
ض ّركُ ْم َكيْدُهُمْ َشيْئًا} [آل عمران118- :صبِرُوا َو َتتّقُوا لَ يَ ُ خبَالً} إلى قوله{ :وَإِ ْ
ن تَ ْ ل يَأْلُو َنكُمْ َن دُونِكُ ْم َ خذُوا بِطَانَ ًة مِ ْ آ َمنُوا لَ َتتّ ِ
صبِرُوا ،]120فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر ل يضر /المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين ،وقال تعالى{ :بَلَى إِنْ َت ْ
لئِكَ ِة مُسَ ّومِينَ} [آل عمران ،]125 :فبين أنه مع الصبر ف مِنْ ا ْلمَ َ
خمْسَةِ آلَ ٍ
ن فَوْرِ ِهمْ َهذَا يُ ْمدِ ْدكُمْ َرّبكُ ْم بِ َ َو َتتّقُوا َويَ ْأتُوكُ ْم مِ ْ
والتقوى يمدهم بالملئكة ،وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم.
صبِرُوا
ن تَ ْ
ش َركُوا َأذًى َكثِيرًا وَإِ ْ
ن َقبِْلكُمْ َومِنْ اّلذِينَ أَ ْ
ب مِ ْ
س َمعُنّ مِنْ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَا َ وقال تعالىَ{ :ل ُتبْلَوُنّ فِي َأمْوَاِلكُمْ َوَأنْفُ ِ
سكُمْ َوَلتَ ْ
ك مِنْ عَزْمِ ا ُلْمُورِ}[آل عمران ]186 :فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين وأهل الكتاب لبد أن يؤذوهم ن ذَِل َ
َو َتتّقُوا فَإِ ّ
بألسنتهم ،وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم المور .فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة،
المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم ،وشر العدو المبطن للعداوة ،وهم المنافقون .وهذا الذي كان خلق النبي صلى ال
عليه وسلم وهديه هو أكمل المور.
ل صلى ال فأما من أراد ما يحبه الّ تارة وما ل يحبه تارة ،أو لم يرد ل هذا ول هذا ،فكلهما دون خلق رسول ا ّ
عليه وسلم؛ وإن لم يكن على واحد منهما إثم ،كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والنتقام المباح
كما هو خلق بعض النبياء والصالحين ،فهو وإن كان جائزًا ل إثم فيه ،فخلق رسول الّ صلى ال عليه وسلم أكمل
منه.
/وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب ،ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا
جاز العفو وإن كان النتقام لّ أرضى لّ .كما هو أيضًا خلق بعض النبياء والصالحـين فهـذا وإن كـان جائـزًا ل إثـم
فيـه فخلـق رسـول الّ صلى ال عليه وسلم أكمل منه.
وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فل عيب على نبي فيما شرع الّ له.
لكن قد فضل الّ بعض النبيين على بعض ،وفضل بعض الرسل على بعض ،والشريعة التي بعث الّ بها محمدًا
صلى ال عليه وسلم أفضل الشرائع؛ إذ كان محمد صلى ال عليه وسلم أفضل النبياء والمرسلين ،وأمته خير أمة
أخرجت للناس .قال أبو هريرة في قوله تعالىُ { :كنْتُمْ َخيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِرجَتْ لِلنّاسِ} [آل عمران :]110 :كنتم خير الناس
للناس ،تأتون بهم في القياد والسلسل حتى تدخلوهم الجنة ،يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس ،فهم خير
المم للخلق .والخلق عيال الّ ،فأحبهم إلى الّ أنفعهم لعياله ،وأما غير النبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لتباعه
لذلك النبي ،وأما من كان من أهل شريعة محمد صلى ال عليه وسلم ومنهاجه فإن كان ما تركه واجبًا عليه وما فعله
محرمًا عليه كان مستحقًا للذم والعقاب ،إل أن يكون متأولً مخطئًا فالّ قد وضع عن هذه المة /الخطأ والنسيان
وذنب أحدهم قد يعفو الّ عنه بأسباب متعددة.
ومن أسباب هذا النحراف :أن من الناس من تغلب عليه طريقة الزهد في إرادة نفسه ،فيزهد في موجب الشهوة
والغضب ،كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين ،وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم ،وهؤلء يرون الجهاد نقصًا
لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الموال ،ويرون أن الّ لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود؛ لنه
جرى علي يديه سفك الدماء.
ومنهم من ل يري ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة ،ومنهم من ل يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى الّ بأنه ل
يذبح حيوانًا ول يأكل لحمه ول ينكح النساء ،ويقول مادحه :فلن ما نكح ،ول ذبح.
وقد أنكر النبي صلى ال عليه وسلم على هؤلء كما في الصحيحين عن أنس :أن نفرا من أصحاب النبي صلى ال
عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى ال عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم :ل أتزوج النساء ،وقال بعضهم:
ل آكل اللحم ،وقال بعضهم :ل أنام على فراش .فبلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم فحمد الّ وأثني عليه وقال( :ما
بال أقوام قالوا :كذا وكذا؟! لكني أصلي وأنام / ،وأصوم وأفطر ،وأتزوج النساء ،وآكل اللحم ،فمن رغب عن سنتي
ت مَا َأحَلّ الُّ َل ُكمْ} [المائدة ]87 :نزلت في عثمان ابن
طّيبَا ِ فليس مني) .وقد قال تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا َ
ل تُحَ ّرمُوا َ
مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل ،ونوع من الترهب .وفي الصحيحين عن سعد قال :رد رسول الّ
صلى ال عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لختصينا.
والزهد النافع المشروع الذي يحبه الّ ورسوله هو الزهد فيما ل ينفع في الخرة ،فأما ما ينفع في الخرة وما يستعان
به على ذلك ،فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة الّ وطاعته ،والزهد إنما يراد لنه زهد فيما يضر ،أو زهد فيما ل
ينفع ،فأما الزهد في النافع فجهل وضلل كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :احرص على ما ينفعك ،واستعن بالّ
ول تعجزن).
والنافع للعبد هو عبادة الّ وطاعته وطاعة رسوله ،وكل ما صده عن ذلك فإنه ضار ل نافع ،ثم النفع له أن تكون كل
أعماله عبادة لّ وطاعة له ،وإن أدى الفرائض وفعل مباحًا ل يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما ل ينفعه ول
يضره.
وكذلك الورع المشروع ،هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو /ما يعلم تحريمه ،وما يشك في تحريمه ،وليس في
تركه مفسدة أعظم من فعله ـ مثل محرم معين ـ مثل من يترك أخذ الشبهة ورعًا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك
محرما بينًا تحريمه ،أو يترك واجبًا تركه أعظم فسادًا من فعله مع الشبهة ،كمن يكون على أبية أو عليه ديون هو
مطالب بها ،وليس له وفاء إل من مال فيه شبهة فيتورع عنها ،ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة.
وكذلك من الورع الحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه.
وتمام الورع أن يعم النسان خير الخيرين ،وشر الشرين ،ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها
وتعطيل المفاسد وتقليلها ،وإل فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع
واجبات ويفعل محرمات ،ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع المراء الظلمة ويرى ذلك ورعًا ،ويدع الجمعة
والجماعة خلف الئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ،ويرى ذلك من الورع ،ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم
العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ،ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.
/وكذلك الزهد والرغبة ،من لم يراع مايحبه الّ ورسوله من الرغبة والزهد ومايكرهه من ذلك ،وإل فقد يدع واجبات
ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الكل ،أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه
من حقوق الّ تعالى أو حقوق عباده ،أو يدع المر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الّ ،لما في فعل
ذلك من أذى بعض الناس والنتقام منهم ،حتى يستولى الكفار والفجار على الصالحين البرار فل ينظر المصلحة
الراجحة في ذلك.
يقول ـ سبحانه وتعالى ـ :وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك ،فيدفع
أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.
وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلمًا له هو جاهل ،فإن هذا الحيوان لبد أن يموت ،فإذا قتل
لمنفعة الدميين /وحاجتهم كان خيرًا من أن يموت موتًا ل ينتفع به أحد ،والدمي أكمل منه ،ول تتم مصلحته إل
باستعمال الحيوان في الكل والركوب ونحو ذلك ،لكن مال يحتاج إليه من تعذيبه نهي الّ عنه كصبر البهائم وذبحها
في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك ،وأوجب الّ الحسان بحسب المكان فيما أباحه من القتل والذبح .كما في
ل كتب الحسان على كل شيء :فإذا صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :إن ا ّ
قتلتم فأحسنوا القتلة ،وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ،وليحد أحدكم شفرته ،وليرح ذبيحته).
وهؤلء الذين زهدوا في الرادات حتى فيما يحبه الّ ورسوله من الرادات بإزائهم طائفتان:
طائفة رغبت فيما كره الّ ورسوله الرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان.
ل تعالى ،وهؤلء الذين يأتون بصور الطاعات مع وطائفة رغبت فيما أمر الّ ورسوله ،لكن لهواء أنفسهم ل لعبادة ا ّ
فساد النيات ،كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قيل له :يا رسول الّ ،الرجل يقاتل شجاعة،
ويقاتل حمية ،ويقاتل رياء ،فأي ذلك في سبيل الّ؟ فقال( :من قاتل لتكون كلمة الّ هي العليا / ،فهو في سبيل الّ).
ل َيذْكُرُونَ الَّ ِإلّ َقلِيلً} قال تعالى{ :إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُيخَادِعُونَ الَّ وَهُوَ خَادِ ُ
عهُمْ وَِإذَا قَامُوا إِلَى الصّلَ ِة قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النّاسَ َو َ
[النساء. ]142 :
وهؤلء أهل إرادات فاسدة مذمومة ،فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم ،وهم يشبهون اليهود ،كما يشبه أولئك
ض ِربَتْ عََل ْيهِمْ ب مِنْ الِّ وَ ُ ض ٍ ل مِنْ النّاسِ َوبَاءُوا ِبغَ َ حبْ ٍل مِنْ الِّ َو َ حبْ ٍ النصارى .قال تعالى{ :ضُ ِربَتْ َ
عَليْهِمْ الذّلّةُ َأيْنَ مَا ُثقِفُوا ِإلّ بِ َ
ق ذَِلكَ ِبمَا َعصَوْا َوكَانُوا َي ْعتَدُونَ}[آل عمران ،]112 :وقال ن بِآيَاتِ الِّ َويَ ْقتُلُونَ الَْنبِيَا َء ِبغَيْرِ حَ ّ س َكنَ ُة ذَِلكَ بَِأّنهُ ْم كَانُوا َيكْ ُفرُو َ
ا ْلمَ ْ
خذُوهُ ل يَتّ ِش ِد َ سبِيلَ الرّ ْ ن يَرَوْا َ ل آيَ ٍة لَ يُ ْؤ ِمنُوا ِبهَا وَإِ ْ ن يَ َروْا كُ ّ ض ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ وَإِ ْ
ن فِي الَْ ْر ِ ن َيتَ َكبّرُو َ
ن آيَاتِي اّلذِي َصرِفُ عَ ْ سأَ ْ تعالىَ { :
سبِيلً} [العراف ،]146 :وقال تعالى{ :وَاتْلُ عََل ْيهِ ْم َنبَأَ اّلذِي آ َت ْينَا ُه آيَا ِتنَا فَانسَلَ َ
خ ِم ْنهَا خذُوهُ َ ي َيتّ ِ
سبِيلَ الغَ ّ ن يَرَوْا َ سبِيلً َوإِ ْ َ
حمِلْ عََليْ ِه يَ ْلهَثْ أَ ْو َتتْ ُركْهُ ن تَ ْ ش ْئنَا لَ َر َف ْعنَا ُه ِبهَا} إلى قوله{ :وَا ّتبَعَ هَوَا ُه َف َمثَلُ ُه َكمَثَلِ ا ْلكَلْبِ إِ ْ ن مِنْ ا ْلغَاوِينَ َ .ولَوْ ِ ن َفكَا َ شيْطَا ُ فََأ ْت َبعَهُ ال ّ
صصَ َلعَّلهُ ْم َيتَ َفكّرُونَ}[العراف.]176 ،175 : ن كَ ّذبُوا بِآيَا ِتنَا فَاقْصُصْ ا ْلقَ َ ث ذَِلكَ َمثَلُ ا ْلقَوْمِ اّلذِي َ يَ ْلهَ ْ
فهؤلء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق ،وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلل والجهل بالحق .كما قال تعالىَ ِ{ :ولَ
َتتّ ِبعُوا أَهْوَا َء قَوْ ٍم َقدْ ضَلّوا مِنْ َقبْلُ وََأضَلّوا َكثِيرًا َوضَلّوا عَنْ سَوَاءِ ال ّسبِيلِ} [المائدة.]77 :
/وكل الطائفتين تاركة ما أمر الّ ورسوله به من الرادات ،والعمال الصالحة ،مرتكبة لما نهى الّ ورسوله عنه من
الرادات والعمال الفاسدة.
َفصْـــل
فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشائخ أهل الستقامة ـ رضي الّ عنهم ـ :بأنه ل يريد
السالك مرادًا قط ،وأنه ل يريد مع إرادة الّ ـ عز وجل ـ سواها ،بل يجرى فعله فيه ،فيكون هو مراد الحق ،إنما
قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر الّ ورسوله فيه ،فأما ما علم أن الّ أمر به فعليه أن يريده ويعمل به ،وقد صرحوا
بذلك في غير موضع .وإن كان غيرهم من الغالطين يري القيام بالرادة الخلقية هو الكمال ،وهو الفناء في توحيد
الربوبية ،وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد ،فصاحبه إذا قام بالمر فلجل غيره ،أو أنه ل يحتاج أن يقوم بالمر،
فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع.
فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف ،مثل الفضيل بن عياض ،وإبراهيم بن أدهم ،وأبي سليمان
الداراني ومعروف /الكرخي ،والسري السقطي ،والجنيد ابن محمد ،وغيرهم من المتقدمين ومثل الشيخ عبد القادر،
والشيخ حماد ،والشيخ أبي البيان ،وغيرهم من المتأخرين ،فهم ل يسوغون للمسالك ولو طار في الهواء أو مشى على
الماء أن يخرج عن المر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور ،ويدع المحظور إلى أن يموت ،وهذا هو الحق
الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف.
وهذا كثير في كلمهم :كقول الشيخ عبد القادر في كتاب [فتوح الغيب][ :اخرج من نفسك ،وتنح عنها ،وانعزل عن
ملكك ،وسلم الكل إلى الّ تبارك وتعالى ،وكن بوابه علي باب قلبك ،وامتثل أمره تبارك وتعالى في إدخال من يأمرك
بإدخاله ،وانته نهيه في صد من يأمرك بصده ،فل تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه ،وإخراج الهوى من القلب
بمخالفته وترك متابعته في الحوال كلها ،وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته ،فل ترد إرادة غير إرادته تبارك
وتعالى ،وغير ذلك منك غير ،وهو واد الحمقى ،وفيه حتفك وهلكك وسقوطك من عينه تبارك وتعالى ،وحجابك
عنه.
احفظ أبدا أمره ،وانته أبدا نهيه ،وسلم إليه أبدا مقدوره ،ول تشركه بشيء من خلقه ،فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه،
ك ِب ِعبَادَةِ
ل يُشْ ِر ْ
عمَلً صَاِلحًا َو َ
ن يَرْجُو لِقَاءَ َربّ ِه فَ ْل َي ْعمَلْ َ فل ترد ول تهوى ول تشته لئل يكون شركا .قال الّ تعالىَ { :فمَ ْ
ن كَا َ
َربّهِ أَ َحدًا} [الكهف ]110 :ليس الشرك عبادة الصنام فحسب؛ بل هو أيضًا متابعتك لهواك ،وأن تختار مع ربك شيئًا
سواه من الدنيا وما فيها ،والخرة وما فيها ،فما سواه تبارك وتعالى غيره ،فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره،
ل ول مقامًا ،ولتدع شيئًا من فاحذر ول تركن ،وخف ول تأمن ،وفتش ول تغفل فتطمئن ،ول تضف إلى نفسك حا ً
ذلك].
ل وعدوته ،والشياء كلها تابعة لّ،ل ونفسك ،وأنت المخاطب ،والنفس ضد ا ّ وقال الشيخ عبد القادر أيضًا[ :إنما هو ا ّ
فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصمًا له على نفسك] ـ إلى أن قال ـ:
[فالعبادة في مخالفتك نفسك وهواك ،قال تعالىَ { :و َل َتّتبِعْ ا ْلهَوَى َفيُضِّلكَ عَنْ َسبِيلِ الِّ} [ص ] ]26 :إلى أن قال:
[والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي ـ رحمه الّ تعالى ـ لما رأي رب العزة في المنام فقال له :كيف الطريق
إليك؟ فقال[ :اترك نفسك وتعال] قال أبو يزيد :فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها.
فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الحوال كلها ،فإن /كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج
من إجرام الخلق ،وشبههم ومنتهم ،والتكال عليهم والثقة بهم ،والخوف منهم؛ والرجاء لهم ،والطمع فيما عندهم من
حطام الدنيا ،فل ترج عطاءهم على طريق الهدية ،أو الزكاة ،أو الصدقة ،أو الكفارة أو النذر ،فاقطع همك منهم من
سائر الوجوه والسباب ،فاخرج من الخلق جدًا ،واجعلهم كالباب يرد ويفتتح ،وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل
أخرى ،كل ذلك بفعل فاعل ،وتدبير مدبر ،وهو الّ ـ تبارك وتعالى.
فإذا صح لك هذا كنت موحدًا له ـ تبارك وتعالى ـ ول تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية ،واعتقد أن
ل فتكفر ،وتكون
الفعال ل تتم لهم دون الّ ـ تبارك وتعالى ـ لكيل تعبدهم ،وتنسى الّ ـ تعالى ـ ول تقبل فعلهم دون ا ّ
قدريًا .ولكن قل :هي لّ خلقًا وللعباد كسبا .كما جاءت به الثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب ،وامتثل أمر
الّ فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ول تجاوزه ،فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم ،فل تكن أنت الحاكم ،وكونك معهم
قدر ،والقدر ظلمة ،فادخل في الظلمة بالمصباح وهو الحكم ـ كتاب الّ وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ـ ل تخرج
عنهما.
فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة ،فإن وجدت فيهما تحريم ذلك ،مثل أن تلهم بالزنا
أو الربا أو مخالطة /أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك ،واهجره ولتقبله ،ولتعمل به
واقطع بأنه من الشيطان اللعين ،وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحه من الكل والشرب واللبس والنكاح
فاهجره أيضًا ول تقبله ،واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها ،وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها]
قلت :ومراده بهجر المباح ،إذا لم يكن مأمورًا به ،كما قد بين مراده في غير هذا الموضع ،فإن المباح المأمور به إذا
فعله بحكم المر كان ذلك من أعظم نعمة الّ عليه ،وكان واجبًا عليه ،وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين
المقربين؛ ل يقف عند طريقة البرار أصحاب اليمين].
قال[ :وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ول إباحته بل هو أمر ل تعقله ،مثل أن يقال لك :ائت موضع كذا وكذا،
الق فلنًا الصالح ،ول حاجة لك هناك ول في الصالح ،لستغنائك عنه بما أولك الّ تعالى من نعمه من العلم
والمعرفة ،فتوقف في ذلك ول تبادر إليه ،فتقول :هل هذا إلهام إل من الحق فأعمل به؟ بل أنتظر الخير في ذلك،
وفعل الحق بأن يتكرر ذلك اللهام وتؤمر بالسعي ،أو علمة تظهر لهل العلم بالّ تبارك وتعالى يفعلها العقلء من
أولياء الّ ،والمؤيدون من البدال.
وإنما لم تبادر إلى ذلك لنك ل تعلم عاقبته وما يؤول المر إليه ،وربما /كان فيه فتنة وهلك ومكر من الّ وامتحان،
فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك ،فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمولً محفوظًا
فيها؛ لن الّ تعالى ل يعاقبك على فعله ،وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشىء].
قلت :فقد أمر ـ رضي الّ عنه ـ بأن ما كان محظورًا في الشرع يجب تركه ولبد ،وما كان معلومًا أنه مباح بعينه
لكونه يفعل بحكم الهوى ل بأمر الشارع فيترك أيضًا ،وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح ل مضرة فيه أو فيه مضرة
مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين ،والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين ،فإن جنس هذا العمل ليس
محرمًا ول كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على النسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن
الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له
فعله ،وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه ،فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فل يؤاخذ بالفعل ،لخلف ما إذا
فعله باختياره أو شهوته؛ وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسنًا.
وقد جاءت شواهد السنة بأن من ابتلى بغير تعرض منه أعين ومن تعرض للبلء خيف عليه .مثل قوله صلى ال عليه
وسلم لعبد الرحمن بن سمرة( :ل تسأل المارة ،فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ،وإن أعطيتها /عن غير
مسألة أعنت عليها) ،ومنه قوله( :ل تتمنوا لقاء العدو ،واسألوا الّ العافية ،فإذا لقيتموهم فاصبروا) .وفي السنن( :من
سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه ،ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل الّ عليه ملكًا يسدده ـ وفي
رواية ـ وإن أكره عليه) ،وفي الصحيحين أنه صلى ال عليه وسلم قال في الطاعون( :إذا سمعتم به بأرض فل تقدموا
عليه ،وإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تخرجوا فرارًا منه) ،وعنه أنه صلى ال عليه وسلم نهى عن النذر .ومنه قوله( :
ذروني ماتركتم ،فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلفهم على أنبيائهم ،فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ،وإذا
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
َفصْـــل
قال الشيخ عبد القادر :وإن كنت في حال الحقيقة ،وهي حال الولية :فخالف هواك واتبع المر في الجملة ،واتباع
المر على قسمين:
أحدهما :أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس ،وتترك الحظ وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر
منها وما بطن.
/والقسم الثاني :ما كان بأمر باطن ،وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه ،وإنما يتحقق هذا المر في المباح
الذي ليس حكمًا في الشرع ،على معنى أنه ليس من قبيل النهي ول من قبيل المر الواجب ،بل هو مهمل ترك العبد
يتصرف فيه باختياره ،فسمى مباحًا فل يحدث العبد فيه شيئًا من عنده بل ينتظر المر فيه فإذا أمر امتثل فيصير
ل تعالى ،مافي الشرع حكمه فبالشرع ،وما ليس له حكم في الشرع فبالمر الباطن ،فحينئذ جميع حركاته وسكناته با ّ
يصير محققًا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم.
وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق ،والفناء حالة البدال المنكسري القلوب؛ لجل الحق ،والموحدين
العارفين أرباب العلوم والفعل ،السادة المراء ،السخي الخفراء للحق ،خلفاء الرحمن وأجلئه وأعيانه وأحبابه ـ
عليهم السلم ـ فاتباع المر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة ،وأل تكون لك إرادة وهمة في شيء البتة،
دنيا وأخرى عبد المَلِك لعبد المَلَك ،وعبد المر ل عبد الهوى كالطفل مع الظئر ،والميت الغسيل مع الغاسل،
والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى المر والنهي.
وقال أيضًا :اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك ،إن كنت في /حال التقوى التي هي القدم الولى ،واتبع المر في حالة
الولية ووجود الهوي ول تتجاوزه ،وهي القدم الثانية ،وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية
والصديقية ،وهي المنتهى ،تنح عن الطريق القذر ،خل عن سبيله ،رد نفسك وهواك ،كف لسانك عن الشكوى ،فإذا
فعلت ذلك ،إن كان خيرًا زادك المولى طيبة ولذة وسرورًا ،وإن كان شرا ً حفظك في طاعته فيه ،وأزال عنك الملمة
وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله ،كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار والبرد في الشتاء فيسفر عن
الصيف ،ذلك النموذج عندك فاعتبر به .ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا ،ول يصلح
لمجالسة الكريم إل طاهر عن أنجاس الذنوب والزلت ،وليقبل على شدته إل طيب من دون الدعوى والهواشات،
كما ل يصلح لمجالسة الملوك إل الطاهر من النجاس وأنواع النتن والوساخ ،فالبليا مكفرات .قال النبي صلى ال
عليه وسلم( :حمى يوم كفارة سنة).
قلت :فقد بين الشيخ عبد القادر ـ رضي الّ عنه ـ أن لزوم المر والنهي لبد منه في كل مقام ،وذكر الحوال الثلث
التي جعلها :حال صاحب التقوى ،وحال الحقيقة ،وحال حق الحق ،وقد فسر مقصوده بأنه لبد للعبد في كل حال من
أن يريد فعل ما أمر به /في الشرع وترك ما نهى عنه في الشرع ،وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر
به ولم ينه عنه ،وهذا حق .فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ول نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو
في مثل هذا عن إرادة النقيضين.
وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم المر دائمًا المر الشرعي الظاهر إن عرفه ،أو المر الباطن ،وبين أن
المر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ول محرم ،وإن مثل هذا ينتظر فيه المر الخاص حتى يفعله
بحكم المر.
فإن قلت :فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله؟ وصاحب الحق الذي بعده؟.
قيل :أما الذي بعده الذين سماهم :البدال ،فهم الذين ل يفعلون إل بأمر الحق ول يفعلون إل به فل يشهدون لنفسهم
فعلً فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره ،ولهذا قال :فاتباع المر فيها
مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة.
فهؤلء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد اللهية ،فيشهدون /أن الّ هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير،
فل يرون لنفسهم حمدًا ول منة على أحد ،ويرون أن الّ خالق أفعال العباد فل يرون أحدًا مسيئًا إليهم ،ول يرون لهم
حقًا على أحد إذ قد شهدوا أن الّ خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها ،وهم يعلمون أن العبادة ل يستحقون من
أنفسهم ول بأنفسهم على الّ شيئًا ،بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد ،ول يشرك به
شيء وأنه يستحق أن يتقي حق تقاته ،وحق تقاته أن يطاع فل يعصى ،ويذكر فل ينسى ،ويشكر فل يكفر ،فيرون إنما
قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك.
ويشهدون :أنه ل حول ول قوة إل بالّ .وأما ما قام بالعباد من أذاهم ،فهو خلقه وهو من عدله ،وما تركه الناس من
حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه ،وله الحمد علي كل حال على ما فعل ومالم يفعل .ولهذا كانوا
منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل وعدمهم المحض ،ول أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إل العدم ل يرى له
شيئًا ،ول يرى به شيئًا.
وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلص الدين لّ ،وأنه ل يفعل إلما أمر به ،فليفعل إل لّ ،لكن
قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته ،وأنه ل حول ول قوة إل بالّ /وأنه ليس له في الحقيقة شيء؛ بل الرب
هو الخالق الفاعل لكل ما قام به ،وإن كمال هذا الشهود ل يبقى شيئًا من العجب ول الكبر ونحو ذلك .فكلهما قائم
بالمر مطيع لّ ،لكن هذا يشهد أن الّ هو الذي جعله مسلمًا مصليًا ،وأنه في الحقيقة لم يحدث شيئًا .وذاك وإن كان
يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقرًا بأن الّ خالق أفعال العباد؛ لكن قد ل يشهده شهودًا يجعله فيه بمنزلة المعدوم.
وأيضًا ،بينهما فرق من جهة ثانية :وهي أن الول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها ،فهو يميز في مراداته بين
ما يؤمر به وما ينهى عنه ،ومال يؤمر به ول ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصل إل ما أراده الرب ،إما أمرًا به
فيمتثله هو بالّ ،وإما فعل فيه فيفعله الّ به ،ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر ،في غير المر والنهي.
وأما الول :الذي هو في مقام التقوى العامة ،فإن له شهوات للمحرمات ،وله التفات إلى الخلق ،وله رؤية نفسه،
فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى ،بأن يكف عن المحرمات ،وعن تناول الشهوات بغير المر ،فهذا يحتاج أن يميز بين ما
يفعله ومال يفعله ،وهو التقوى ،وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إل ما يؤمر به فقط ،فل يفعل إل ما أمر به في
الشرع ،وما كان مباحًا لم يفعل إل ما أمر به.
ل وبالّ ،فل يفعل إل ما أمر الّ به لّ ،ويشهد أن الّ هو الذي فعل ذلك
/وأما الثالث :فقد تم شهوده في أنه ل يفعل إل ّ
في الحقيقة ،ول تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ول لغير الّ ،ول يفعل بنفسه ول بغير الّ ـ تعالى.
والثلثة مشتركون في الطريق ،في أن كلً منهم ل يفعل إل الطاعة ،لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة ،وبصفاء
النية والرادة .والّ أعلم.
فإن قيل :كلم الشيخ كله يدور على أنه يتبع المر مهما أمكن معرفته باطنًا وظاهرًا ،وما ليس فيه أمرًا باطنًا ول
ظاهرًا يكون فيه مسلمـًا لفعل الرب ،بحيث ل يكون له اختيار ل في هذا ول في هذا بل إن عرف المر كان معه،
وإن لم يعرفه كان مع القدر ،فهو مع أمر الرب إن عرف وإل فمع خلقه ،فإنه سبحانه له الخلق والمر ،وهذا يقتضي
أن من الحوادث ماليس فيه أمر ول نهي ،فل يكون لّ فيه حكم ل باستحباب ول كراهة ،وقد صرح بذلك هو والشيخ
حماد الدباس ،وإن السالك يصل إلى أمور ل يكون فيها حكم شرعي بأمر ول نهي ،بل يقف العبد مع القدر؛ وهذا
الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع الحقيقة القدرية المحضة ،إذ ليس هنا حقيقة شرعية.
/وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة ،ويقولون :الفعل إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راجحًا على
عدمه ،وهو الواجب والمستحب .وإما أن يكون عدمه راجحًا على وجوده ،وهو المحرم والمكروه ،وإما أن يستوى
المران وهو المباح ،وهذا التقسيم بحسب المر المطلق.
ثم الفعل المعين الذي يقال :هو مباح ،إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لستعانته به على طاعته ولحسن نيته .فهذا
يصير أيضًا محبوبًا راجح الوجود بهذا العتبار ،وإما أن يكون مفوتًا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن
مستحب ،فهذا عدمه خير له.
والسالك المتقرب إلى الّ بالنوافل بعد الفرائض ل يكون المباح المعين في حقه مستوى الطرفين ،فإنه إذا لم يستعن به
على طاعته كان تركه ،وفعل الطاعة مكانه خيرًا له ،وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح
مثله .فيقال :ل فرق بين هذا وهذا ،فهذا يصلح للبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى الّ بالفرائض ،كأداء الواجبات،
وترك المحرمات ،ويشتغلون مع ذلك بمباحات .فهؤلء قد يكون المباح المعين يستوى وجوده وعدمه في حقهم ،إذا
كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر ،ول سبيل إلى أن تترك النفس فعلً إن /لم تشتغل بفعل آخر يضاد الول؛ إذ ل
تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات.
ومن هذا أنكر الكعبي :المباح في الشريعة؛ لن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم ،وترك المحرم واجب ،ول يمكنه
تركه إل أن يشتغل بضده ،وهذا المباح ضده ،والمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إل
ضد واحد ،وإل فهو أمر بأحد أضداده ،فأي ضد تلبس به كان واجبًا من باب الواجب المخير.
وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار .فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه :كأبي الحسن المدي ،وقواه
طائفة ،بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي .ومنهم من قال :هذا فيما إذا كانت أضداده محصورة،
فأما ما ليست أضداده محصورة فل يكون النهي عنه أمرًا بأحدهما ،كما يفرق بين الواجب المطلق والواجب المخير،
فيقال في المخير :هو أمر بأحد الثلثة ،ويقال في المطلق :هو أمر بالقدر المشترك ،وجدنا أبو البركات يميل إلى هذا.
وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر ،وهو قد يقول :عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم ،بل إما
مباح وإما مستحب ،وإما واجب.
/وتحقيق المر أن قولنا :المر بالشىء نهى عن ضده وأضداده ،والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده ،من جنس
قولنا :المر بالشىء أمر بلوازمه ،وما ل يتم الواجب إل به ،فهو واجب ،والنهي عن الشىء نهي عما ل يتم اجتنابه
إل به .فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده ،بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء
أضداده ،وعدم النهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته ،وإذا كان ل يعدم إلبضد يخلقه كالكوان فل بد
عند عدمه من وجود بعض أضداده ،فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم يكن
مقصوده المر .والفرق ثابت بين مايؤمر به قصدًا ،وما يلزمه في الوجود.
فالول :هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلف الثاني ،فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن
يسعى من المكان البعيد ،والقريب يسعى من المكان القريب ،فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به ،ومع هذا فإذا
ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب ،بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد
أعظم ،فلو كانت اللوازم مقصودة للمر لكان يعاقب بتركها ،فكان يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا.
وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لبد من ترك أضداده ،لكن /ترك الضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا
للمر ،بحيث أنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه ل على فعل الضداد التي اشتغل بها ،وكذلك المنهي عنه
مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده ،وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك.
وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني ،ول يقال :فعل واجبًا وهو ترك الول؛ لن المقصود
عدم الول ،فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ول بامتثاله أمرًا مقصودًا؛ لكن نهى عن الحرام ومن
ضرورة ترك المنهي عنه الشتغال بضد من أضداده ،فذاك يقع لزمًا لترك المنهي عنه ،فليس هو الواجب المحدود
بقولنا :الواجب ما يذم تاركه ،ويعاقب تاركه ،أو يكون تركه سببًا للذم والعقاب.
فقولنا :ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب ،أو [يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب] .يتضمن إيجاب اللوازم،
والفرق ثابت بين الواجب الول ،والثاني .فإن الول يذم تاركه ويعاقب ،والثاني واجب وقوعًا ،أي ل يحصل إل به،
ويؤمر به أمرًا بالوسائل ،ويثاب عليه ،لكن العقوبة ليست على تركه.
/ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكي ،فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما ،بحيث إذا أكلهما جميعًا لم
يعاقب عقوبة من أكل ميتتين ،بل عقوبة من أكل ميتة واحدة ،والخرى وجب تركها وجوب الوسائل .فقول من قال:
كلهما محرم صحيح بهذا العتبار؛ وقول من قال :المحرم في نفس المر أحدهما صحيح أيضًا بذلك العتبار وهذا
نظير قول من قال :يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب.
وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا ،ومن قال :المحرم أحدهما ل يناسب طريقة الفقهاء،
وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي .فإن الوجوب والحرمة الثابتة لحدهما ليست ثابتة للخر ،بل نوع آخر ،حتى لو
اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الخرى ،كان ولده من مملوكته ثابتًا
نسبه بخلف الخرى ،ولو قدرنا أنها اشتبهت بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مثلً ،ثم تزوج الخرى لم يحد حدين ،مع
أنه لحد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الجنبية.
وبهذا تنحل شبهة الكعبي .فإن المحرم تركه مقصود ،وأما الشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة؛ فإذا قيل المباح
واجب بمعنى وجوب الوسائل ،أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق.
/ثم إن هذا يعتبر فيه القصد ،فإن كان النسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى
امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الجنبية ووطئها ،أو يأكل طعامًا حللً ليشتغل به عن الطعام الحرام ،فهذا يثاب
على هذه النية والفعل؛ كما بين ذلك النبي صلى ال عليه وسلم بقوله( :وفي بضع أحدكم صدقة) .قالوا :يارسول الّ،
أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال( :أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر ،فلم تحتسبون بالحرام ول
تحتسبون بالحلل؟!) ،ومنه قوله صلى ال عليه وسلم( :إن الّ يحب أن يؤخذ برخصه ،كما يكره أن تؤتي معصيته)
رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه.
وقد يقال :المباح يصير واجبًا بهذا العتبار ،وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا ،وإل كان واجبا مخيرًا ،لكن مع هذا
القصد ،أما مع الذهول عن ذلك فل يكون واجبًا أصلً ،إل وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم ل يشترط فيه
القصد .فكذلك ما يتوسل به إليه ،فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم
يمنع ذلك .فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري .وإل فالمعاني الصحيحة ل ينازع فيها من فهمها.
والمقصود هنا أن البرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح /عن مباح آخر ،فيكون كل من المباحين يستوى
وجوده وعدمه في حقهم .أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها،
والستعانة على طاعة الّ ،وحينئذ فمباحاتهم طاعات ،وإذا كان كذلك لم تكن الفعال في حقهم إل ما يترجح وجوده،
فيؤمرون به شرعًا أمر استحباب ،أو ما يترجح عدمه فالفضل لهم أن ل يفعلوه ،وإن لم يكن فيه إثم .والشريعة قد
بينت أحكام الفعال كلها فهذا سؤال.
وسؤال ثان :وهو أنه إذا قدر أن من الفعال ماليس فيه أمر ول نهي ،كما في حق البرار ،فهذا الفعل ل يحمد ول
يذم ،ول يحب ول يبغض ،ول ينظر فيه إل وجود القدر وعدمه ،بل إن فعلوه لم يحمدوا ،وإن لم يفعلوه لم يحمدوا،
فل يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل ،مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم
وإرادتهم .إذ الكلم في ذلك.
وأما غيرالفعال الختيارية ،وهو ما فعل بالنسان كما يحمل النسان وهو ل يستطيع المتناع ،فهذا خارج عن
التكليف ،مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة ،ويبغضه إن كان سيئة ،ويخلو عنهما إن لم يكن
حسنة ول سيئة ،فمن جعل النسان فيما يستعمله فيه القدر من الفعال الختيارية كالميت بين /يدي الغاسل فقد رفع
المر والنهي عنه في الفعال الختيارية وهذا باطل.
وسؤال ثالث :وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط المر والنهي عن العبد في هذه الحوال ،مع كون أفعاله اختيارية،
وهب أنه ليس له هوى ،فليس كل مال هوى فيه يسقط عنه فيه المر والنهي ،بل عليه أن يحب ما أحبه الّ ورسوله،
ويبغض ما أبغضه الّ ورسوله.
وفصل الخطاب :أن السالك قد يخفي عليه المر والنهي ،بحيث ل يدري هل ذلك الفعل مأمور به شرعًا أو
منهي عنه شرعًا؛ فيبقى هواه لئل يكون له هوى فيه ،ثم يسلم فيه للقدر ،وهو فعل الرب لعدم معرفته برضا الرب
وأمره وحبه في ذلك الفعل.
وهذا يعرض لكثير من أئمة العباد ،وأئمة العلماء ،فإنه قد يكون عندهم أفعال وأقوال ل يعرفون حكم الّ الشرعي
فيها ،بل قد تعارضت عندهم فيها الدلة أو خفيت الدلة بالكلية ،فيكونون معذورين لخفاء الشرع عليهم ،وحكم الشرع
إنما يثبت في حق العبد إذا تمكن من /معرفته ،وأما ما لم يبلغه ولم يتمكن من معرفته فل يطالب به ،وإنما عليه أن
يتقي الّ ما استطاع .وهذا خطأ في العلم ،وليس خطأ في العمل ،وهو كالمجتهد المخطئ له أجر على قصده
واجتهاده ،وخطؤه مرفوع عنه.
فإن قيل :فإذا كان المر هكذا .فالواجب على العبد أن يتوقف في مثل هذه الحال إذا لم يتبين له أن ذلك الفعل مأمور به
أو منهي عنه ،وهو ل يريد أن يفعل شيئًا ل مدح فيه ول ذم ،فيقف ل يستسلم للقدر ويصير محلً لما يستعمل فيه من
الفعال ،اللّهم إل إذا فعل غيره فعلً ،فهو ل يمدحه ول يذمه ،ول يرضاه ول يسخطه؛إذا لم يتبين له حكمه.
فأما كونه هو من أفعاله الختيارية يصير مستسلمًا لما يستعمله القدر فيه :كالطفل مع الظئر ،والميت مع الغاسل ،فهذا
مما لم يأمر الّ به ول رسوله ،بل هذا محرم ،وإن عفى عن صاحبه وحسب صاحبه أن يعفي عنه؛ لجتهاده وحسن
قصده ،أما كونه يحمد على ذلك ،ويجعل هذا أفضل المقامات فليس المر كذلك ،وكونه مجردًا عن هواه ليس مسوغًا
له أن يستسلم لكل مايفعل به.
/أحدهما :أن يفعل به بغير اختياره كما يحمل النسان ول يمكنه المتناع ،وكما تضجع المرأة قهرًا وتوطأ ،فهذا ل إثم
فيه باتفاق العلماء ،وأما أن يكره بالكراه الشرعي حتى يفعل ،فهذا أيضًا معفو عنه في الفعال عند الجمهور ،وهو
لّ مِنْ َب ْعدِ ِإ ْكرَا ِههِنّ َغفُورٌ رَحِيمٌ} [النور.]33 : أصح الروايتين عن أحمد لقوله تعالىَ { :ومَنْ ُيكْرِهّ ّ
ن َفإِنّ ا َ
وأما إذا لم يكره الكراه الشرعي فاستسلمه للفعل المطلق الذي ل يعرف أخير هو أم شر؟ ليس هو مأمورًا به ،وإن
جرى على يده خرق عادة أو لم يجر ،فليس هو مأمورًا أن يفعل إل ما هو خير عند الّ ورسوله.
قيل :هذا السؤال صحيح ،وحقيقة المر :أن السالكين إذا وصلوا إلى هذا المقام فيحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم
لربهم ،وطلبهم منه أن يختار لهم ما هو الصلح ،إذا استعملوا في أمورهم ل يعرفون حكمه في الشرع رجوا أن
يكون خيرًا؛ لن معرفتهم بحكمه قد تعذرت عليهم ،والنسان غير عالم في كل حال بما هو الصلح له في دينه ،وبما
هو أرضى لّ ورسوله ،فيبقى حالهم حال المستخير لّ فيما لم يعلم عاقبته ،إذا قال( :اللهم ،إني أستخيرك بعلمك
وأستقدرك بقدرتك ،وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ول أقدر؛ وتعلم ول أعلم؛ وأنت علم الغيوب ،اللّهم ،إن
كنت تعلم أن هذا المر خير لي في ديني /ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ،ثم بارك لي فيه .وإن كنت
تعلم أن هذا المر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم
ارضني به).
فإذا استخار الّ كان ما شرح له صدره وتيسر له من المور هو الذي اختاره الّ له .إذ لم يكن معه دليل شرعي على
أن عين هذا الفعل هو مأمور به في هذه الحال ،فإن الدلة الشرعية إنما تأمر بأمر مطلق عام ،ل بعين كل فعل من
كل فاعل ،إذ كان هذا ممتنعًا؛ وإن كان ذلك المعين يمكن إدراجه تحت بعض خطاب الشارع العام؛ إذا كانت الفراد
المعينة داخلة تحت المر العام الكلي؛ لكن ل يقدر كل أحد على استحضار هذا ،ول على استحضار أنواع الخطاب .
ولهذا كان الفقهاء يعدلون إلى القياس عند خفاء ذلك عليهم.
ثم القياس ـ أيضًا ـ قد ل يحصل في كل واقعة ،فقد يخفى على الئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان
دخول الواقعة المعينة تحت خطاب عام ،أو اعتبارها بنظير لها ،فل يعرف لها أصل ،ول نظير .هذا مع كثرة نظرهم
في خطاب الشارع ومعرفة معانيه ،ودللته على الحكام .فكيف من لم يكن كذلك؟!
/ثم السالك ليس قصده معرفة الحلل والحرام؛ بل مقصوده أن هذا الفعل المعين خير من هذا ،وهذا خير من هذا،
ل ولكل سالك حال تخصه قد يؤمر فيهاوأيهما أحب إلى الّ في حقه في تلك الحال ،وهذا باب واسع ل يحيط به إل ا ّ
بما ينهي عنه غيره ،ويؤمر في حال بما ينهي عنه في أخرى.
فقالوا :نحن نفعل الخير بحسب المكان ،وهو فعل ما علمنا أنا أمرنا به ،ونترك أصل الشر وهو هوى النفس ،ونلجأ
إلى الّ فيما سوى ذلك أن يوفقنا لما هو أحب إليه وأرضى له؛ فما استعملنا فيه رجونا أن يكون من هذا الباب؛ ثم إن
أصبنا فلنا أجران ،وإل فلنا أجر ،وخطؤنا محطوط عنا فهذا هذا.
وحينئذ ،فمن قدر أنه علم المشروع وفعله فهو أفضل من هذا؛ ولكن كثير ممن يعلم المشروع ل يفعله ول يقصد أحب
المور إلى الّ وكثير منهم يفعله بشوب من الهوى ،فيبقى هذا فعل المشروع بهوى وهذا ترك مالم يعلم أنه مشروع
بل هوى .فهذا نقص في العلم ،وذاك نقص في العمل؛ إذ العمل بهوى النفس نقص في العمل ،ولو كان المفعول
واجبًا.
فيقال :إن تاب صاحب الهوي من هواه كان أرفع بعلمه ،وإن /لم يتب فله نصيب من عالم السوء؛ ولهذا تشاجر
رجلن من المتقدمين عام الحكمين في مثل هذا .فقال أحدهما لصاحبه :إنما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو
تتركه يلهث .وقال الخر :أنت كالحمار يحمل أسفارًا؛ فهذا أحسن قصدًا وأقوى علمًا.
ولهذا تجد أصحاب حسن القصد إنما يعيبون على هؤلء اتباع الهوي وحب الدنيا والرئاسة ،وأهل العلم يعيبون على
أولئك نقص علمهم بالشرع ،وعدولهم عن المر والنهي فهذا هذا.
والّ ـ تعالى ـ المسؤول أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
وقد قال بعض أهل الفقه والزهد :من الناس من سلك الشريعة ،ومنهم من سلك الحقيقة .ولعله أراد هؤلء وهؤلء؛
فإن هؤلء يرجحون بما ييسره الّ مع حسن القصد واتباع المر والنهي المعلوم لهم مع خفاء الدلة الشرعية في ذلك
المتيسر لهم ،وهؤلء يرجحون بالدلة الشرعية من الظواهر والقيسة ،وأخبار الحاد وأقوال العلماء مع خفاء المر
المتيسر لهم.
وأيضًا ،فهؤلء قد يشهدون مافي ذلك الفعل المقدر من /المصلحة والخير ،فيرجحونه بحكم اليمان وإن لم يعرفوا
دليلً من النص على حسنه ،وأولئك إنما يرجحون من النصوص ،وما استنبط منها ،فهؤلء لهم القرآن ،وهؤلء لهم
اليمان ،وسبب هذا أن كل من الطائفتين خفي عليه ما مع الخرى من الحق ،وكل من الطائفتين في طريقها حق
وباطل.
فأما المدعون للحقيقة بدون مراعاة المر والنهي الشرعيين ،فهم ضالون ،كالذين يعرفون المر والنهي ول يفعلون
إل ما يهوونه من الكبائر ،فإنهم فساق .وهؤلء الذين قيل فيهم :احذروا فتنة العالم الفاجر ،والعابد الجاهل فإن فتنتهما
فتنة لكل مفتون .والحقيقة قد تكون قدرية وقد تكون ذوقية ،وقد تكون شرعية ولفظ الشرع يتناول المنزل ،و المؤول
والمبدل.
والمقصود هنا ذكر أهل الستقامة من الطائفتين والكلم على حال أهل العبادة والرادة ،الذين خرجوا عن الهوي
وهو الفرق الطبعي ،وقاموا بما علموه من الفرق الشرعي.
وبقى قسم ثالث ،ليس لهم فيه فرق طبعي ول عندهم فيه فرق شرعي ،فهو الذي جروا فيه مع الفعل والقدر.
وأما من جري مع الفرق الطبعي ،إما عالمًا بأنه عاص وهو العالم /الفاجر ،أو محتجًا بالقدر أو بذوقه ووجده
معرضًا عن الكتاب والسنة ،وهو العابد الجاهل فهذا خارج عن الصراط المستقيم.
وهذا مما بين حال كمال الصحابة ـ رضي الّ عنهم ـ وأنهم خير قرون هذه المة ،إذ كانوا في خلفة النبوة يقومون
بالفروق الشرعية في جليل المور ودقيقها مع اتساع المر ،والواحد من المتأخرين قد يعجز عن معرفة الفروق
الشرعية فيما يخصه ،كما أن الواحد من هؤلء يتبع هواه في أمر قليل .فأولئك مع عظيم ما دخلوا فيه من المر
والنهي لهم العلم الذي يميزون به بين الحسنات والسيئات ،ولهم القصد الحسن الذي يفعلون به الحسنات ،والكثير من
المتأخرين العالمين والعابدين يفوت أحدهم العلم في كثير من الحسنات والسيئات حتى يظن السيئة حسنة وبالعكس ،أو
يفوته القصد في كثير من العمال ،حتي يتبع هواه فيما وضح له من المر والنهي.
فنسأل الّ أن يهدينا الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
هذا لعمري إذا كان عند العالم ما هو أمر الشارع ونهيه حقيقة ،وعند العابد حسن القصد الخالي عن الهوي حقيقة،
فأما من خلط الشرع المنزل بالمبدل والمؤول ،وخلط القصد الحسن باتباع الهوى ،فهؤلء /وهؤلء مخلطون في
علمهم وعملهم ،وتخليط هؤلء في العلم سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في القصد ،وتخليط هؤلء في القصد سوى
تخليطهم وتخليط غيرهم في العلم.
فإنه من عمل بما علم ورثه الّ علم ما لم يعلم .وحسن القصد :من أعون الشياء على نيل العلم ودركه .والعلم
الشرعي :من أعون الشياء على حسن القصد والعمل الصالح ،فإن العلم قائد والعمل سائق والنفس حرون ،فإن ونى
قائدها لم تستقم لسائقها ،وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها ،فإذا ضعف العلم حار السالك ولم يدر أين يسلك ،فغايته أن
يستطرح للقدر ،وإذا ترك العمل حار السالك عن الطريق فسلك غيره مع علمه أنه تركه ،فهذا حائر ل يدري أين
يسلك مع كثرة سيره وهذا حائر عن الطريق زائغ عنه مع علمه به.
ظلُومًا
لْنْسَانُ ِإنّ ُه كَانَ َ لّ قُلُو َبهُمْ} [الصف .]5 :هذا جاهل وهذا ظالم ،قال تعالىَ { :و َ
حمََلهَا ا ِ قال تعالى{ :فََلمّا زَاغُوا َأزَاغَ ا ُ
َجهُولً} [الحزاب .]72 :مع أن الجهل والظلم متقاربان لكن الجاهل ل يدري أنه ظالم والظالم جهل الحقيقة المانعة
له من العلم .قال تعالىِ{ :إّنمَا التّ ْوبَةُ عَلَى الِّ لِّلذِينَ َي ْعمَلُونَ السّو َء بِ َجهَالَ ٍة ُث ّم يَتُوبُو َن مِنْ َقرِيبٍ} [النساء.]17 :
قال أبو العالية :سألت أصحاب محمد فقالوا :كل من عصى الّ /فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من
قريب.
وقد روى الخلل عن أبي حيان التيمي قال :العلماء ثلثة :فعالم بالّ ليس عالمًا بأمر الّ ،وعالم بأمر الّ ليس عالمًا
بالّ ،وعالم بالّ وبأمر الّ.
فالعالم بالّ الذي يخشاه ،والعالم بأمر الّ الذي يعرف أمره ونهيه.
ف مَقَامَ َربّهِ َو َنهَى النّفْسَ عَنْ ا ْلهَوَى .فَإِنّ ا ْل َجنّةَ ِهيَ ا ْلمَ ْأوَى} [
قلت :والخشية تمنع اتباع الهوى قال تعالى{ :وََأمّا مَنْ خَا َ
النازعات.]41 ،40 :
والكمال في عدم الهوى وفي العلم هو لخاتم الرسل صلى ال عليه وسلم الذي قال فيه{ :وَالنّ ْ
جمِ ِإذَا َهوَى .مَا ضَلّ
ي يُوحَى} [النجم ،]1-4 :فنفى عنه الضلل والغي ووصفه بأنه حٌ
ح ُبكُمْ َومَا غَوَى َ .ومَا َينْطِقُ عَنْ ا ْلهَوَى .إِنْ هُوَ ِإلّ وَ ْ
صَا ِ
ل ينطق عن الهوى إن هو إل وحي يوحى ،فنفى الهوى وأثبت العلم الكامل وهو الوحي ،فهذا كمال العلم وذاك كمال
القصد صلى ال عليه وسلم.
ووصف أعداءه بضد هذين ،فقال تعالى{ :إِ ْن َيّتبِعُونَ ِإلّ الظّنّ َومَا َتهْوَى ا َلْنْفُسُ وَلَ َقدْ جَاءَ ُه ْم مِنْ َربّهِمْ ا ْلهُدَى} [النجم]23 :
،فالكمال المطلق للنسان هو تكميل العبودية لّ علمًا وقصدًا .قال تعالىَ { :ومَا َخلَ ْقتُ الْجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعُبدُونِ} [
لّ يَدْعُوهُ} [الجن ،]19 :وقال تعالى فيما حكاه عن إبليس{ :قَا َ
ل َف ِبعِ ّز ِتكَ ع ْبدُ ا ِالذاريات ،]56 :وقال تعالى{ :وََأنّهُ َلمّا قَامَ َ
لَُغْ ِويَّنهُمْ َأ ْج َمعِينَ ِ .إلّ ِعبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْلمُخَْلصِينَ} [ص ،]83 ،82 :وقال تعالى{ :إِنّ ِعبَادِي َليْسَ َلكَ َعَليْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:
عبَادِنَا ا ْلمُخْلَصِينَ} [يوسف ،]24 :وقال تعالىِ{ :إنّهُ َليْسَ عنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِ ،]42وقال تعالىَ { :كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َ
لَهُ سُ ْلطَانٌ عَلَى اّلذِي َن آ َمنُوا وَعَلَى َرّبهِ ْم َيتَوَكّلُونَ ِ .إّنمَا سُلْطَانُهُ عَلَى اّلذِينَ َيتَوَلّ ْونَهُ وَاّلذِينَ ُه ْم بِهِ مُ ْش ِركُونَ} [النحل.]100 ،99 :
وعبادته :طاعة أمره ،وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه ،فالكمال في كمال طاعة الّ ورسوله باطنًا وظاهرًا ،ومن كان
لم يعرف ما أمر الّ به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ فعل المأمور به إلى ما اعتقده مأمورًا
ل مثابون على ما أحسنوه من به ،أو تعارضت عنده الدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس المر ،فهؤلء مطيعون ّ
القصد لّ ،واستفرغوه من وسعهم في طاعة الّ ،وما عجزوا عن علمه فأخطؤوه إلى غيره فمغفور لهم.
وهذا من أسباب فتن تقع بين المة ،فإن أقوامًا يقولون ويفعلون أمورًا هم مجتهدون فيها .وقد أخطؤوا فتبلغ أقوامًا
يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب ،أو يظنون أنهم ل يعذرون بالخطأ ،وهم أيضًا مجتهدون مخطئون ،فيكون هذا مجتهدًا
مخطئًا في فعله ،وهذا مجتهدًا مخطئًا /في إنكاره ،والكل مغفور لهم .وقد يكون أحدهما مذنبًا ،كما قد يكونان جميعًا
مذنبين.
وخير الكلم كلم الّ ،وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم ،وشر المور محدثاتها وكل بدعة ضللة.
والواحد من هؤلء قد يعطي طرفًا بالمر والنهي ،فيولي ويعزل ويعطي ويمنع ،فيظن الظان أن هذا كمال ،وإنما
يكون كمال إذا كان موافقًا للمر ،فيكون طاعة لّ ،وإل فهو من جنس الملك ،وأفعال الملك :إما ذنب ،وإما عفو ،وإما
طاعة.
فالخلفاء الراشدون أفعالهم طاعة وعبادة ،وهم أتباع العبد الرسول وهي طريقة السابقين المقربين.
وأما طريقة الملوك العادلين ،فإما طاعة وإما عفو ،وهي طريقة النبياء الملوك؛ وطريقة البرار أصحاب اليمين.
وأما طريقة الملوك الظالمين ،فتتضمن المعاصي ،وهي طريقة الظالمين لنفسهم .قال تعالى{ :ثُمّ أَوْ َر ْثنَا ا ْلكِتَابَ اّلذِينَ
لّ ذَِلكَ هُوَ ا ْلفَضْلُ ا ْلكَبِيرُ} [فاطر ]32 :فل ت بِِإذْنِ ا ِ
خيْرَا ِ
ق بِا ْل َ
صدٌ َومِ ْنهُمْ سَابِ ٌ
عبَادِنَا َف ِم ْنهُمْ ظَالِمٌ ِلنَ ْفسِهِ َو ِم ْنهُ ْم مُ ْقتَ ِ
صطَ َف ْينَا مِنْ ِ
ا ْ
يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون /من أحد هذه الصناف :إما ظالم لنفسه وإما مقتصد ،وإما سابق بالخيرات.
وخوارق العادات :إما مكاشفة وهي من جنس العلم الخارق ،وإما تصرف وهي من جنس القدرة الخارقة ،وأصحابها
ل يخرجون عن القسام الثلثة.
َفصْـــل
حدثني أبي عن محيى الدين بن النحاس؛ وأظني سمعتها منه أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخبارًا
عن الحق تعالى( :من جاءنا تلقيناه من البعيد ،ومن تصرف بحولنا ألنا له الحديد ،ومن اتبع مرادنا أردنا ما يريد،
ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد).
فالولتان :العبادة والستعانة ،والخرتان :الطاعة والمعصية ،فالذهاب إلى الّ هي عبادته وحده كما قال تعالى( :من
تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا ،ومن تقرب إلىّ ذراعًا تقربت إليه باعًا ،ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
والتقرب بحوله هو الستعانة ،والتوكل عليه ،فإنه ل حول ول /قوة إل بالّ .وفي الثر( :من سره أن يكون أقوى
لّ َفهُوَ َح ْسبُهُ} [
علَى ا ِ الناس فليتوكل على الّ) .وعن سعيد بن جبير( :التوكل جماع اليمان) ،وقال تعالىَ { :ومَ ْ
ن َيتَ َوكّلْ َ
الطلق ،]3 :وقالِ{ :إ ْذ تَ ْس َتغِيثُونَ َرّبكُ ْم فَا ْستَجَابَ َلكُمْ} [النفال ،]9 :وهذا على أصح القولين في أن التوكل عليه ـ
بمنزلة الدعاء على أصح القولين أيضًا ـ سبب لجلب المنافع ودفع المضار ،فإنه يفيد قوة العبد وتصريف الكون ولهذا
هو الغالب على ذوي الحوال متشرعهم وغير متشرعهم ،وبه يتصرفون ويؤثرون تارة بما يوافق المر ،وتارة بما
يخالفه.
لّ بِكُمْ ا ْليُسْرَ َو َل يُرِيدُ ِبكُمْ ا ْلعُ ْسرَ} [البقرة،]185 : وقوله( :ومن اتبع مرادنا) يعني :المراد الشرعي كقوله{ :يُرِيدُ ا ُ
طهّ َركُمْ َوِليُتِ ّم ِن ْع َمتَهُ
ن يُرِيدُ ِليُ َ ع ْنكُمْ} [النساء ،]28 :وقوله{ :مَا يُرِيدُ الُّ ِليَ ْ
جعَلَ عََل ْيكُ ْم مِنْ حَ َرجٍ وََلكِ ْ خفّفَ َ وقوله{ :يُرِيدُ الُّ أَ ْ
ن يُ َ
عََل ْيكُمْ}[المائدة ]6 :هذا هو طاعة أمره ،وقد جاء في الحديث( :وأنت يا عمر لو أطعت الّ لطاعك) ،وفي الحديث
عمِلُوا الصّالِحَاتِ ستَجِيبُ اّلذِينَ آ َمنُوا وَ َ الصحيح( :ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه) ،وقد قال تعالىَ { :ويَ ْ
ضلِهِ} [الشورى.]26 : ن فَ َْويَزِيدُهُمْ مِ ْ
وقوله( :ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد) .يعني :ترك ما كره الّ من المحرم والمكروه لجل الّ :رجاء
ومحبة وخشية أعطيناه فوق المزيد؛ لن هذا مقام الصبر ،وقد قال تعالىِ{ :إّنمَا يُ َوفّى الصّابِرُونَ َأجْرَ ُه ْم بِ َغيْرِ ِحسَابٍ} [
الزمر.]10 :
فأجــاب:
أما [كتاب قوت القلوب] و [كتاب الحياء] تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب :مثل الصبر والشكر ،والحب
والتوكل ،والتوحيد ونحو ذلك .وأبو طالب أعلم بالحديث والثر ،وكلم أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم ،من
أبي حامد الغزالي ،وكلمه أسد وأجود تحقيقًا ،وأبعد عن البدعة مع أن في [قوت القلوب] أحاديث ضعيفة
وموضوعة ،وأشياء كثيرة مردودة.
وأما ما في [الحياء] من الكلم في [المهلكات] مثل الكلم على الكبر ،والعجب والرياء ،والحسد ونحو ذلك ،فغالبه
منقول من كلم الحارث المحاسبي في الرعاية ،ومنه ماهو مقبول ومنه ماهو مردود ،ومنه ما هو متنازع فيه.
و[الحياء] فيه فوائد كثيرة ،لكن فيه مواد مذمومة ،فإنه فيه مواد فاسدة من كلم الفلسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة
والمعاد ،فإذا /ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين.
وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه .وقالوا :مرضه [الشفاء] يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة.
وفيه مع ذلك من كلم المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة ،ومن غير ذلك
من العبادات والدب ما هو موافق للكتاب والسنة ،ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا
فيه.
َفصْـــل
قد دل الكتاب والسنة وآثار سلف المة على جنس المشروع المستحب في ذكر الّ ودعائه كسائر العبادات ،وبين
النبي صلى ال عليه وسلم مراتب الذكار ،كقوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن سمرة بن جندب( :
أفضل الكلم بعد القرآن أربع ،وهن من القرآن :سبحان الّ ،والحمد لّ ،ول إله إل الّ ،والّ أكبر ،ل يضرك بأيهن
بدأت) وفي صحيحه عن أبي ذر قال :سئل رسول الّ صلى ال عليه وسلم :أي الكلم أفضل ؟ قال( :ما اصطفى الّ
لملئكته سبحان الّ وبحمده).
وفي [كتاب الذكر] لبن أبي الدنيا وغيره مرفوعًا إلى النبي صلى ال عليه وسلم( :أفضل الذكر ل إله إل الّ ،وأفضل
الدعاء الحمد /لّ) .وفي الموطأ وغيره حديث طلحة بن عبد الّ بن كريز عن النبي صلى ال عليه وسلم( :أفضل ما
قلت أنا والنبيون من قبلي :ل إله إل الّ وحده ل شريك له ،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ،وفي السنن
حديث الذي قال :يا رسول الّ ،إني ل أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا ،فعلمني ما يجزئني في صلتي فقال( :قل:
ل والّ أكبر) .ولهذا قال الفقهاء :إن من عجز عن القراءة في الصلة انتقل إلى هذه
سبحان الّ والحمد لّ ،ول إله إل ا ّ
الكلمات الباقيات الصالحات .وفضائل هذه الكلمات ونحوها كثير ليس هذا موضعه.
وإنما الغرض من الذكر والدعاء ما ليس بمشروع الجنس أو هو منهي عنه أو عن صفته .كما قال تعالى{ :ادْعُوا َرّبكُمْ
تَضَرّعًا وَ ُخ ْفيَةً ِإنّ ُه َل يُحِبّ ا ْل ُمعْ َتدِينَ} [العراف ،]55 :وقال تعالى{ :وَلِّ ا َلْ ْسمَاءُ الْحُ ْسنَى فَادْعُو ُه ِبهَا} [العراف]180 :
فل يدعي إل بأسمائه الحسنى.
ومن المنهي عنه :ما كانوا يقولونه في الجاهلية في تلبيتهم :لبيك ل شريك لك ،إل شريكًا هو لك ،تملكه وما ملك.
ومثل قول بعض العراب للنبي صلى ال عليه وسلم :إنا نستشفع بالّ عليك .فقال النبي صلى ال عليه وسلم( :شأن
الّ أعظم من ذلك ،إن الّ ل يستشفع به على أحد من خلقه) ومثل ما كانوا يقولون في أول السلم / :السلم على الّ
ل والصلوات قبل عباده .فقال النبي صلى ال عليه وسلم( :إن الّ هو السلم ،فإذا قعد أحدكم فليقل :التحيات ّ
والطيبات).
أشار بذلك إلى أن [السلم] إنما يطلب لمن يحتاج إليه ،والّ هو [السلم] ،فالسلم يطلب منه ل يطلب له .بل يثنى
ل والصلوات والطيبات .فالحق سبحانه يثنى عليه ويطلب منه ،وأما المخلوق فيطلب له. عليه ،فإنه له فيقال :التحيات ّ
فيقال :السلم عليك أيها النبي ورحمة الّ وبركاته ،السلم علينا وعلى عباد الّ الصالحين .قال تعالىَ { :ومَا خََلقْتُ ا ْل ِ
جنّ
ط ِعمُونِ} [الذاريات ،]57 ،56 :والرزق يعم كل ما ينتفع به ن يُ ْ
ن .مَا أُرِي ُد مِ ْنهُ ْم مِنْ رِ ْزقٍ َومَا ُأرِيدُ أَ ْ
وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعبُدُو ِ
المرتزق؛ فالنسان يرزق الطعام والشراب واللباس ،وما ينتفع بسمعه وبصره وشمه ،ويرزق ما ينتفع به باطنه من
علم وإيمان ،وفرح وسرور ،وقوة ونور ،وتأييد وغير ذلك ،والّ سبحانه ما يريد من الخلق من رزق ،فإنهم لن يبلغوا
لّ َفقِيرٌ َونَحْنُ
ن قَالُوا إِنّ ا َ
لّ قَوْلَ اّلذِي َ ضره فيضروه ،ولن يبلغوا نفعه فينفعوه ،بل هو الغني وهم الفقراء{ .لَ َقدْ َ
سمِعَ ا ُ
أَ ْغ ِنيَاءُ} [آل عمران ،]181:وهو الحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ،ولم يكن له كفوًا أحد.
وكذلك الدعاء المكروه ،مثل الدعاء ببغي أو قطيعة رحم أو دعاء منازل النبياء أو دعاء العرابي الذي قال :اللهم ما
كنت معذبي به في /الخرة فعجله لي في الدنيا ،ومثل قوله صلى ال عليه وسلم للمصابين بميت لما صاحوا( :ل
تدعوا على أنفسكم إل بخير؛فإن الملئكة يؤمنون على ما تقولون) وقد قال تعالى{ :وَلَ ْو ُيعَجّلُ الُّ لِلنّاسِ الشّرّ ا ْ
س ِتعْجَاَل ُهمْ
بِالْ َخيْرِ لَ ُقضِيَ إَِل ْيهِمْ َأجَُلهُمْ} [يونس ،]11 :وقال تعالىَ { :ويَ ْدعُ الِْنسَا ُن بِالشّ ّر دُعَا َء ُه بِالْ َخيْرِ َوكَانَ الِْنسَانُ عَجُولً} [السراء:
،]11وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استيعابه .وإنما نبهنا على جنس المكروه.
وإنما الغرض هنا أن الشرع لم يستحب من الذكر إل ما كان كلمًا تامًا مفيدًا مثل[ :ل إله إل الّ] ،ومثل[ :الّ أكبر]،
سمُ َرّبكَ} [الرحمن{ ،]78 :تَبَا َركَ اّلذِي ل والحمد لّ] ،ومثل [ل حول ول قوة إل بالّ] ،ومثل {تَبَا َركَ ا ْ ومثل [سبحان ا ّ
ِبيَدِهِ ا ْلمُ ْلكُ} [الملكَ { ،]1 :سبّحَ لِّ مَا فِي ال ّسمَاوَاتِ وَالَْ ْرضِ} [الحديد{ ]1 :تَبَا َركَ اّلذِي نَزّلَ ا ْلفُ ْرقَانَ} [الفرقان.]1 :
فأما( السم المفرد) مظهرًا مثل[ :الّ ،الّ] أو [مضمرًا] مثل[ :هو ،هو] .فهذا ليس بمشروع في كتاب ول سنة ،ول
هو مأثور أيضًا عن أحد من سلف المة ،ول عن أعيان المة المقتدى بهم ،وإنما لهج به قوم من ضلل المتأخرين.
وربما اتبعوا فيه حال شيخ مغلوب فيه ،مثلما يروي عن الشبلي أنه كان يقول[ :الّ ،الّ] .فقيل له :لم ل تقول :ل إله
إل الّ؟ /فقال :أخاف أن أموت بين النفي والثبات .وهذه من زلت الشبلي التي تغفر له لصدق إيمانه ،وقوة وجده،
وغلبة الحال عليه ،فإنه كان ربما يجن ويذهب به إلى المارستان ،و يحلق لحيته .وله أشياء من هذا النمط التي ل
يجوز القتداء به فيها؛ وإن كان معذورًا أو مأجورًا ،فإن العبد لو أراد أن يقول[ :ل إله إل الّ] ومات قبل كمالها لم
يضره ذلك شيئًا؛ إذ العمال بالنيات؛ بل يكتب له ما نواه.
وربما غل بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر السم المفرد للخاصة ،وذكر الكلمة التامة للعامة ،وربما قال بعضهم[ :
ل إله إل الّ] للمؤمنين ،و[الّ] للعارفين ،و[هو] للمحققين ،وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على [الّ،
الّ ،الّ] .أو على [هو] أو [يا هو] أو [ل هو إل هو].
وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك .واستدل عليه تارة بوجد ،وتارة برأي ،وتارة بنقل مكذوب ،كما
يروي بعضهم أن النبي صلى ال عليه وسلم لقن عليّا بن أبي طالب أن يقول[ :الّ ،الّ ،الّ] .فقالها النبي صلى ال
عليه وسلم ثلثًا .ثم أمر عليًا فقالها ثلثا .وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
/وإنما كان تلقين النبي صلى ال عليه وسلم للذكر المأثور عنه ،ورأس الذكر( :ل إله إل الّ) ،وهي الكلمة التي
عرضها على عمه أبي طالب حين الموت .وقال( :ياعم ،قل :ل إله إل الّ ،كلمة أحاج لك بها عند الّ) ،وقال( :إني
لعلم كلمة ل يقولها عبد عند الموت إل وجد روحه لها روحًا) ،وقال( :من كان آخر كلمه ل إله إل الّ دخل الجنة)،
وقال( :من مات وهو يعلم أن ل إله إل الّ دخل الجنة) ،وقال( :أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل الّ،
وأن محمدًا رسول الّ ،فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها ،وحسابهم على الّ) والحاديث كثيرة
في هذا المعنى.
وقد كتبت فيما تقدم من [القواعد] بعض ما يتعلق بهاتين [الكلمتين] العظيمتين الجامعتين الفارقتين :شهادة أن ل إله
إل الّ ،وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله صلى ال عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فأما ذكر [السم المفرد] فلم يشرع بحال ،وليس في الدلة الشرعية ما يدل على استحبابه.
لّ ثُ ّم ذَرْهُمْ} [النعام ،]91 :ويتوهمون أن المراد وأما ما يتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى{ :قُلْ ا ُ
ق قَدْرِهِ ِإذْ قَالُوا
حّقول هذا السم فخطأ واضح؛ ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الية ،فإنه سبحانه قالَ { :ومَا قَدَرُوا الَّ َ
ن َكثِيرًا
خفُو َ
س ُت ْبدُو َنهَا َوتُ ْ
جعَلُونَهُ َقرَاطِي َ
س تَ ْ
ل مَنْ أَن َزلَ ا ْل ِكتَابَ اّلذِي جَا َء بِ ِه مُوسَى نُورًا وَ ُهدًى لِلنّا ِ
شيْ ٍء ُق ْ
مَا أَنزَلَ الُّ عَلَى بَشَ ٍر مِنْ َ
وَعُّل ْمتُ ْم مَا َل ْم َتعْلَمُوا َأ ْنتُمْ َو َل آبَا ُؤكُ ْم قُلْ الُّ} [النعام ]91 :أي :قل :الّ أنزل الكتاب الذي جاء به موسى .فهذا كلم تام،
وجملة إسمية مركبة من مبتدأ وخبر ،حذف الخبر منها لدللة السؤال على الجواب.
/وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلء الغالطين في قولهَ { :ومَا يَعَْل ُم تَأْوِيلَهُ ِإلّ الُّ} [آل عمران ]7 :قال
المعنى :وما يعلم تأويل (هو) أي اسم [هو] الذي يقال فيه[ :هو ،هو] .وصنف ابن عربي كتابًا في [الهو] فقلت له ـ
وأنا إذ ذاك صغير جدًا ـ :لو كان كما تقول لكتبت في المصحف مفصولة(تأويل هو) ولم تكتب موصولة ،وهذا الكلم
الذي قاله هذا معلوم الفساد بالضطرار .وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلت الباطلة في الكتاب
والسنة.
وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحيحًا ،لكن ل يدل عليه الكلم وليس هو مراد المتكلم ،وقد ل يكون صحيحًا .فيقع
الغلط تارة في الحكم ،و تارة في الدليل كقول بعضهم{ :أَنْ رَآهُ ا ْس َتغْنَى}[العلق ]7 :أي :إن رأى ربه استغنى ،والمعني
أنه ليطغى أن رأى نفسه استغنى ،وكقول بعضهم( :فإن لم تكن تراه) :يعني فإن فنيت عنك رأيت ربك .وليس هذا
معنى الحديث ،فإنه لو أريد هذا لقيل :فإن لم تكن تره .وقد قيل[ :تراه] ثم كيف يصنع بجواب الشرط ؟ وهو قوله:
فإنه يراك؛ ثم إنه على قولهم الباطل تكون كان تامة .فالتقدير :فإن لم تكن :أي لم تقع ،ولم تحصل .وهذا تقدير محال
فإن العبد كائن موجود ليس بمعدوم .ولو أريد فناؤه عن هواه أو فناء شهوده للغيار لم يعبر بنفي كونه؛ فإن هذا
محال .ومتى كان المعنى صحيحًا والدللة ليست مرادة فقد يسمى ذلك [إشارة].
/وقد أودع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي [حقائق التفسير] من هذا قطعة.
وليس المقصود الن الكلم في هذا فإنه باب آخر ،وإنما الغرض بيان حكم ذكر السم وحده من غير كلم تام ،وقد
ظهر بالدلة الشرعية أنه غير مستحب.
وكذلك بالدلة العقلية الذوقية؛ فإن السم وحده ل يعطي إيمانًا ول كفرًا ،ولهدى ول ضللً ،ول علمًا ول جهلً ،وقد
يذكر الذاكر اسم نبي من النبياء ،أو فرعون من الفراعنة ،أو صنم من الصنام ،ول يتعلق بمجرد اسمه حكم إل أن
يقرن به ما يدل على نفي أو إثبات ،أو حب أو بغض ،وقد يذكر الموجود والمعدوم.
ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أن السم وحده ل يحسن السكوت عليه ،ول هو جملة تامة ،ول
كلمًا مفيدًا ولهذا سمع بعض العرب مؤذنا يقول :أشهد أن محمدًا رسول الّ .قال :فعل ماذا؟! فإنه لما نصب السم
صار صفة ،والصفة من تمام السم الموصوف ،فطلب بصحة طبعه الخبر المفيد؛ ولكن المؤذن قصد الخبر ولحن.
/ولو كرر النسان اسم [الّ] ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنًا ،ولم يستحق ثواب الّ ول جنته؛ فإن الكفار من جميع
المم يذكرون السم مفردًا ،سواء أقروا به وبوحدانيته أم ل؛ حتى إنه لما أمرنا بذكر اسمه كقولهَ { :فكُلُوا ِممّا َأمْ َ
سكْنَ
سمُ الِّ عََليْهِ} [النعام ،]121 :وقولهَ { :
سبّحْ سمَ الِّ عََليْهِ} [المائدة ،]4 :وقولهَ { :و َ
ل تَ ْأكُلُوا ِممّا َل ْم يُ ْذكَرْ ا ْ عََل ْيكُمْ وَا ْذكُرُوا ا ْ
ا ْسمَ َرّبكَ الَْعْلَى} [ العلى ،]1 :وقوله{ :فَ َسبّحْ بِاسْمِ َرّبكَ ا ْلعَظِيمِ} [الواقعة ،96 ،74 :الحاقة ]52 :ونحو ذلك :كان
ذكر اسمه بكلم تام مثل أن يقول :بسم الّ ،أو يقول :سبحان ربي العلى ،وسبحان ربي العظيم ،ونحو ذلك .ولم
يشرع ذكر السم المجرد قط ،ول يحصل بذلك امتثال أمر ،ول [حل صيد] ول ذبيحة ول غير ذلك.
فإن قيل :فالذاكر أو السامع للسم المجرد قد يحصل له وجد محبة ،وتعظيم لّ ،ونحو ذلك.
قلت :نعم ،ويثاب على ذلك الوجد المشروع ،والحال اليماني ،ل لن مجرد السم مستحب ،وإذا سمع ذلك حرك
ساكن القلب ،وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه ،حتى قد يسمع المسلم من يشرك بالّ ،أو يسبه فيثور
ل بقوة نفرته /وبغضه لما سمعه ،وقد قال الصحابة للنبي صلى ال عليه وسلم :إن أحدنا
في قلبه حال وجد ومحبة ّ
ليجد في نفسه ما لن يحترق حتى يصير حممة ،أو يخر من السماء إلى الرض ،أحب إليه من أن يتكلم به .قال( :أو
قد وجدتموه؟!) قالوا :نعم ،قال( :ذاك صريح اليمان) ،وفي رواية :قال( :الحمد لّ الذي رد كيده إلى الوسوسة).
فالشيطان لما قذف في قلوبهم وسوسة مذمومة تحرك اليمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك ،والستعظام له ،فكان
ذلك صريح اليمان ،ول يقتضى ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأمورًا به.
والعبد ـ أيضًا ـ قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيمانِا وتقوى ،وليس السبب
س ُبنَا الُّ َو ِنعْمَ الْ َوكِيلُ .
ج َمعُوا َلكُ ْم فَاخْشَوْ ُه ْم فَزَادَهُمْ إِيمَانًا َوقَالُوا حَ ْ مأمورًا به؛ وقد قال تعالى{ :اّلذِينَ قَالَ َلهُمْ النّاسُ إِنّ النّا َ
س َقدْ َ
فَانْقََلبُوا ِب ِن ْعمَةٍ مِنْ الِّ َو َفضْلٍ} الية [آل عمران ،]174 ،173 :فهذا اليمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو
ل بها ،ول يكون الذنب مأمورًا به ،وهذا باب واسع
وليس ذلك مشروعًا بل العبد يفعل ذنبًا فيورثه ذلك توبة يحبه ا ّ
جدًا.
ففرق بين أن يكون نفس السبب موجبًا للخير ومقتضيًا ،وبين /أل يكون؛ وإنما نشأ الخير من المحل .فالمأمور به من
الكلمات الطيبات والعمال الصالحات ،هي موجبة للخير والرحمة والثواب .وإذا اقترن بها قوة إيمان العبد وما يجده
من حلوة اليمان وتذوقه من طعمه تضاعف الخير والرحمة والبركة ،وما ليس مأمورًا به .إما من فعل العبد:
محرمه ومكروهه ومباحه .وإما من فعل غيره معه :من النس والجن ،وإما من الحوادث السمائية التي يصيبه بها
الرب ،إذا صادفت منه إيمانًا ويقينًا فحركت ذلك اليمان واليقين ،وازداد العبد بذلك إيمانا لم يكن ذلك مما يوجب أن
تحب تلك السباب ،أو تحمد أو يؤمر بها ،إذا لم يكن كذلك ،فإنها ليست مقتضية لذلك الخير ،وإنما مقتضاها تحريك
الساكن وطال ما جرت إلى شر وضرر.
ويشبه هذا الباب ذكر الحب المطلق والشوق المطلق ،والوجل المطلق ،وما يتضمن ذلك من نظم ونثر ،فإن هذا من
المجمل أيضًا :يشترك فيه المؤمن والكافر ،والبر والفاجر ،فلذلك لم يشرعها الّ ورسوله ،ولم يأمر بها فإن الّ إنما
يأمر بالخير والعمل الصالح والبر وذلك ليس من هذا الباب ،فإن شعر المحبين مشترك بين محب اليمان ومحب
الوثان ،ومحب النسوان ،ومحب المردان ،ومحب الوطان ،ومحب الخدان.
/فثبت بما ذكرناه أن ذكر السم المجرد ليس مستحبًا ،فضلً عن أن يكون هو ذكر الخاصة.
وأبعد من ذلك ذكر[السم المضمر] وهو[ :هو] .فإن هذا بنفسه ل يدل على معين ،وإنما هو بحسب ما يفسره من
مذكور أو معلوم فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته؛ ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق .وقد
يقول[ :ل هو إل هو] ويسرى قلبه في [وحدة الوجود] ومذهب فرعون والسماعيلية وزنادقة هؤلء المتصوفة
المتأخرين بحيث يكون قوله[ :هو] كقوله[ :وجوده] .وقد يعني بقوله[ :ل هو إل هو] أي :أنه هو الوجود وأنه ما ثم
خلق أصلً ،وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد .كما بينته من مذهب( التحادية) في غير هذا الموضع.
ومن أسباب هذه العتقادات والحوال الفاسدة الخروج عن الشرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى ال
عليه وسلم .فإن البدع هي :مبادئ الكفر ومظان الكفر .كما أن السنن المشروعة هي :مظاهر اليمان ،ومقوية
س َقدْ لليمان؛ فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .كما أخبر الّ عن زيادته في مثل قوله{ :اّلذِي َ
ن قَالَ َل ُهمْ النّاسُ إِنّ النّا َ
شوْهُ ْم فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [ آل عمران ،]173 :وقولهَ{ :أّيكُمْ زَادَتْهُ َهذِهِ إِيمَانًا} [التوبة/ ،]124 :وقوله{ :هُوَ ج َمعُوا َلكُ ْم فَاخْ َ
َ
اّلذِي َأنْزَلَ ال ّسكِينَةَ فِي ُقلُوبِ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ ِليَ ْزدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَا ِنهِمْ} [الفتح ]4 :وغير ذلك.
قلت :أما في حق المغلوب فل يوصف بكراهة؛ فإنه قد يعرض للقلب أحوال يتعسر عليه فيها نطق اللسان مع امتلء
القلب بأحوال اليمان ،وربما تيسر عليه ذكر السم المجرد دون الكلمة التامة وهؤلء يأتون على ما في قلوبهم من
أحوال اليمان وما قدروا عليه من نطق اللسان ،فإن الناس في الذكر أربع طبقات.
الثاني :الذكر بالقلب فقط ،فإن كان مع عجز اللسان فحسن وإن كان مع قدرته فترك للفضل.
الثالث :الذكر باللسان فقط ،وهو كون لسانه رطبًا بذكر الّ ،وفيه حكاية التي لم تجد الملئكة فيه خيرًا إل حركة لسانه
بذكر الّ .ويقول الّ تعالى( :أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه).
/وأما مع تيسر الكلمة التامة فالقتصار على مجرد السم مكررًا بدعة ،والصل في البدع الكراهة.
وما نقل عن أبي يزيد والنوري والشبلي وغيرهم :من ذكر السم المجرد ،فمحمول على أنهم مغلوبون ،فإن أحوالهم
تشهد بذلك ،مع أن المشائخ الذين هم أصح من هؤلء وأكمل لم يذكروا إل الكلمة التامة ،وعند التنازع يجب الرد إلى
ل والرسول ،وليس فعل غير الرسول حجة على الطلق .والّ أعلم. ا ّ
فَصــل
في الصراط المستقيم ،في الزهد والعبادة والورع ،في ترك المحرمات والشهوات ،والقتصاد ،في العبادة .وإن لزوم
السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة ،فإن أصحابها لبد أن يقعوا في الصار والغلل،
وإن كانوا متأولين ،فلبد لهم من اتباع الهوى ،ولهذا سمى أصحاب البدع أصحاب الهواء ،فإن طريق السنة علم
وعدل وهدي ،وفي البدعة جهل وظلم ،وفيها اتباع الظن وما تهوى النفس.
والرسول ،ما ضل وما غوى ،والضلل :مقرون بالغي ،فكل غاو ضال ،والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلل،
ن َب ْعدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا وهو مجانبة طريق الفجار وأهل البدع ،كما كان السلف ينهون عنهما ،قال تعالى{ :فَخَلَ َ
ف مِ ْ
ف يَ ْلقَوْنَ َغيّا} [مريم.]59 :
ت َفسَوْ َ
شهَوَا ِ
الصّلَةَ وَا ّتبَعُوا ال ّ
/والغي في الصل :مصدر غوي يغوي غيًا ،كما يقال :لوى يلوي ليًا .وهو ضد الرشد ،كما قال تعالى{ :وَإِ ْ
ن يَرَوْا
ي َيتّ ِخذُوهُ َسبِيلً} [العراف.]146 :
سبِيلَ الغَ ّ
ن يَرَوْا َ
سبِيلً وَإِ ْ
خذُوهُ َ
ل َيتّ ِ
شدِ َ
سبِيلَ الرّ ْ
َ
والرشد :العمل الذي ينفع صاحبه ،والغي :العمل الذي يضر صاحبه ،فعمل الخير رشد ،وعمل الشر غي ،ولهذا قالت
الجن{ :وََأنّا َل َندْرِي أَ َشرّ أُرِيدَ ِبمَ ْن فِي الَْرْضِ أَمْ َأرَادَ ِبهِمْ َرّبهُمْ رَ َشدًا}[الجن ،]10 :فقابلوا بين الشر وبين الرشد ،وقال
ضرّا َولَ َر َشدًا}[الجن ،]21 :ومنه الرشيد ،الذي يسلم إليه ماله .وهو الذي
في آخر السورة{ :قُلْ ِإنّي لَ َأمِْلكُ َلكُمْ َ
يصرف ماله فيما ينفع ل فيما يضر.
وقال الشيطان{ :لَُغْ ِو َيّنهُمْ أَ ْج َمعِينَِ .إلّ ِعبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْل ُمخْلَصِينَ} [ص ،]83 ،82 :وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم
ج ْبتُمْ لِي}[إبراهيم ،]22 :وقالَ { :وبُرّ َزتْ
ستَ َ فيطيعونه ،كما قال تعالىَ { :ومَا كَانَ لِي عََل ْيكُ ْم مِنْ سُلْطَانٍ ِإلّ أَ ْ
ن دَعَ ْو ُتكُ ْم فَا ْ
ج َمعُونَ} [الشعراء91 :ـ ،]95وقال{ :قَالَ اّلذِينَ جنُودُ ِإبْلِيسَ أَ ْ جحِيمُ لِ ْلغَاوِينَ} إلى أن قالَ { :ف ُك ْبكِبُوا فِيهَا هُمْ وَا ْلغَاوُونَ .وَ ُ
الْ َ
حَقّ عََل ْيهِمْ الْقَ ْولُ َرّبنَا هَ ُؤلَءِ اّلذِينَ أَغْ َو ْينَا أَغْ َو ْينَاهُ ْم َكمَا غَ َو ْينَا}[القصص ،]63 :وقال{ :مَا َ
ضلّ صَا ِحُبكُمْ َومَا غَوَى} [النجم:
.]2
ثم إن الغي ،إذا كان اسمًا لعمل الشر الذي يضر صاحبه ،فإن عاقبة العمل أيضًا تسمى غيًا ،كما أن عاقبة الخير
تسمى رشدًا ،كما /يسمى عاقبة الشر شرًا ،وعاقبة الخير خيرًا ،وعاقبة الحسنات حسنات ،وعاقبة السيئات سيئات.
فالحسنات والسيئات ،في كتاب الّ يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر ،كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من
جنس العمل ،فمن عمل خيرًا وحسنات لقي خيرًا وحسنات ،ومن عمل شرًا وسيئات لقي شرًا وسيئات .كذلك من عمل
غيًا لقى غيًا ،وترك الصلة واتباع الشهوات غي يلقي صاحبه غيًا .فلهذا قال الزمخشري :كل شر عند العرب غي،
وكل خير رشاد .كما قيل:
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو ل يعدم على الغي لئمًا
وقال الزجاج :جزاؤه غي ،لقوله{ :يَلْقَ َأثَامًا} [الفرقان ،]68 :أي مجازات آثام .وفي الحديث المأثور :إن غيا واد في
جهنم تستعيذ منه أوديتها ،وهذا تعبير عن ملقات الشر ،وقال سبحانهَ{ :أضَاعُوا الصّلَةَ وَاتّ َبعُوا ال ّشهَوَاتِ}[مريم]59 :
ي يُرِيدُونَ وَ ْجهَهُ} [النعام: ،فإن الصلة فيها إرادة وجه الّ .كما قال تعالىَ { :و َ
ل تَطْ ُردْ اّلذِينَ َيدْعُونَ َرّبهُ ْم بِا ْل َغدَاةِ وَا ْلعَشِ ّ
،]52أي يصلون صلة الفجر والعصر .والداعي يقصد ربه ويريده ،فتكون القلوب في هذه الشياء مريدة لربها
محبة له.
/واتباع الشهوات :هو اتباع ما تشتهيه النفس ،فإن الشهوات ،جمع شهوة ،والشهوة هي في الصل مصدر ،ويسمي
المشتهي شهوة .تسمية للمفعول باسم المصدر .قال تعالىَ { :ويُرِيدُ اّلذِينَ َيّت ِبعُونَ ال ّشهَوَاتِ أَنْ َتمِيلُوا َميْلً َعظِيمًا} [النساء:
]27فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات ،فإنه يريد أن يتوب علينا ،أي فالّ يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به{ ،
َويُرِيدُ اّلذِينَ َيّت ِبعُونَ ال ّشهَوَاتِ} وهم الغاوون{أَ ْن َتمِيلُوا َميْلً عَظِيمًا} يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات
عدولً عظيمًا ،فإن أصل الميل العدول ،فلبد منه للذين يتبعون الشهوات ،كما قال صلى ال عليه وسلم( :استقيموا
ولن تحصوا ،واعلموا أن خير أعمالكم الصلة ،ول يحافظ على الوضوء إل مؤمن) رواه أحمد وابن ماجه من حديث
ثوبان.
ل َتمِيلُوا كُلّ
صتُ ْم فَ َ
ن َتعْدِلُوا َبيْنَ النّسَاءِ وَلَوْ حَرَ ْ
ستَطِيعُوا أَ ْ فأخبر أنا ل نطيق الستقامة أو ثوابها إذا استقمنا ،وقال{ :وَلَ ْ
ن تَ ْ
ا ْل َميْ ِل َفتَذَرُوهَا كَا ْل ُمعَلّقَةِ} [النساء ،]129 :فقوله :كل الميل أي :يريد نهاية الميل ،يريد الزيغ عن الطريق ،والعدول عن
سواء الصراط إلى نهاية الشر ،بل إذا بليت بذلك فتوسط ،وعد إلى الطريق بالتوبة.
كما في الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم( :ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته .كذلك
عدّتْ
سمَاوَاتُ وَالَْرْضُ أُ ِ
ضهَا ال ّ المؤمن يحول ثم يرجع /إلى ربه) ،قال تعالىَ { :وسَارِعُوا إِلَى َمغْ ِفرَ ٍة مِنْ َرّبكُمْ وَ َ
جنّةٍ عَ ْر ُ
لِ ْل ُمتّقِينَ} إلى قـولهَ { :و ِنعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ} [آل عمران133 :ـ ،]136فلم يقل :ل يظلمون ول يذنبون ،بل قالِ{ :إذَا
َفعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظََلمُوا َأنْ ُف َسهُمْ} [آل عمران ،]135 :أي بذنب آخر غير الفاحشة ،فعطف العام على الخاص .كما قال
ت نَ ْفسِي} [النمل ،]44 :وقال تعالي ت نَفْسِي} [القصص ،]16 :وقالت بلقيس{ :رَبّ ِإنّي ظََلمْ ُ موسىَ { :ربّ ِإنّي َ
ظَلمْ ُ
عمومًا عن أهل القرى المهلكةَ { :ومَا ظََل ْمنَا ُهمْ وََلكِنْ ظََلمُوا أَنفُ َسهُمْ} [هود ،]101 :فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا
عنه ،وبعصيانهم لنبيائهم ،وبتركهم التوبة إلى ربهم.
ثم ذكر أنه خلق النسان ضعيفًا ،وسياق الكلم يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات .فلبد له من شهوة مباحة
يستغنى بها عن المحرمة ،ولهذا قال طاوس ومقاتل :ضعيف في قلة الصبر عن النساء ،وقال الزجاج وابن كيسان:
ضعيف العزم عن قهر الهوى .وقيل :ضعيف في أصل الخلقة ،لنه خلق من ماء مهين ،يروي ذلك /عن الحسن،
لكن لبد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر؛ ليناسب ما ذكر في الية ،فإنه قال{ :يُرِيدُ الُّ أَ ْن يُ َخفّفَ َع ْنكُمْ} وهو
شيَتسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ول تصبروا عنه .كما أباح نكاح الفتيات ،وقد قال قبل ذلكِ{ :لمَنْ خَ ِ
صبِرُوا َخيْرٌ َلكُمْ وَالُّ َغفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء.]25 :
ن تَ ْ
ت ِم ْنكُمْ وَأَ ْ
ا ْل َعنَ َ
صبِرُوا َخيْرٌ َلكُمْ} [النساء،]25 : فهو ـ سبحانه ـ مع إباحته نكاح الماء عند عدم الطول ،وخشية العنت ،قال{ :وَأَ ْ
ن تَ ْ
فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت ،وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة ،فإن ذلك ل يمكن
الصبر عنه.
وكذلك من أباح الستمناء ،عند الضرورة فالصبر عن الستمناء أفضل ،فقد روى عن ابن عباس :أن نكاح الماء
خير منه ،وهو خير من الزنا ،فإذا كان الصبر عن نكاح الماء أفضل فعن الستمناء بطريق الولى أفضل.
ل سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقًا ،وهو أحد القوال في مذهب أحمد .واختاره ابن عقيل
في المفردات والمشهور عنه ـ يعني عن أحمد ـ أنه محرم إل إذا خشي العنت .والثالث أنه مكروه إل إذا خشي العنت.
صبِرُوا َخيْرٌ َلكُمْ} ففيه أولى .وذلك يدل على أن الصبر عن كلهما ممكن. فإذا كان الّ قد قال في نكاح الماء{ :وَأَ ْ
ن تَ ْ
عنْكُمْ َوخُلِقَ الِْنسَانُ فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه ،فذلك لتسهيل التكليـف ،كما قال تعالى{ :يُرِيدُ الُّ أَ ْ
ن يُخَفّفَ َ
ضعِيفًا}.
َ
و الستمناء ل يباح عند أكثر العلماء سلفًا وخلفًا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك .وكلم ابن عباس وما روى عن
أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت ،وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك؛ فأبيح له ذلك
لتكسير شدة عنته وشهوته.
وأما من فعل ذلك تلذذًا أو تذكرًا أو عادة ،بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها .فهذا كله محرم ل يقول
به أحمد ،ول غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد والصبر عن هذا من الواجبات ل من المستحبات.
ن ِنكَاحًا
جدُو َ
ن لَ يَ ِ وأما الصبر عن المحرمات فواجب ،وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها .قال تعالى{ :وَ ْليَ ْ
س َتعْفِفْ اّلذِي َ
ضلِهِ} [النور ،]33 :و الستعفاف :هو ترك المنهي عنه .كما في الحديث /الصحيح عن أبي سعيد ن فَ ْ
لّ مِ ْ
حتّى ُي ْغنِ َيهُمْ ا ُ
َ
الخدري عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :من يستعفف يعفه الّ ،ومن يستغن يغنه الّ ،ومن يتصبر يصبره
الّ ،وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر).
فالمستغني ،ل يستشرف بقلبه .و المستعف :هو الذي ل يسأل الناس بلسانه ،والمتصبر :هو الذي ل يتكلف الصبر.
فأخبر أنه من يتصبر يصبره الّ .وهذا كأنه في سياق الصبرعلى الفاقة ،بأن يصبر على مرارة الحاجة ،ل يجزع مما
ابتلى به من الفقر ،وهو الصبر في البأساء والضراء .قال تعالى{ :وَالصّابِرِي َن فِي ا ْلبَ ْأسَاءِ وَالضّرّاءِ وَحِينَ ا ْلبَ ْأسِ} [البقرة:
. ]177
والضراء :المرض .وهو الصبر على ما ابتلى به من حاجة ومرض وخوف .والصبر على ما ابتلى به باختياره،
كالجهاد ،فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره ،ولذلك إذا ابتلى بالعنت في
الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده؛ لن هذا الصبر من تمام الجهاد .وكذلك لو ابتلى في الجهاد
بفاقة ،أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل .كما قد بسط هذا في مواضع.
وكذلك ما يؤذي النسان به في فعله للطاعات ،كالصلة ،والمر بالمعروف / ،والنهي عن المنكر ،وطلب العلم من
المصائب ،فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلى به بدون ذلك ،وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات :من
رئاسة ،وأخذ مال ،وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ماهو دون ذلك ،فإن أعمال البر ،كلما عظمت
كان الصبر عليها أعظم مما دونهما.
فإن في العلم ،والمارة ،والجهاد ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والصلة ،والحج ،والصوم ،والزكاة ،من
الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها .ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور .فإذا كانت النفس
غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه ،كما تطمع مع القدرة ،فإنها مع القدرة تطلب تلك المور المحرمة ،بخلف حالها
بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد ،بل هو من أفضل الجهاد .وأكمل من ثلثة أوجه:
الثاني :أن ترك المحرمات مع القدرة عليها ،وطلب النفس لها ،أفضل من تركها بدون ذلك.
الثالث :أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني ـ كمن /خرج لصلة ،أو طلب علم ،أو جهاد ،فابتلى بما يميل إليه
من ذلك فإن صبره عن ذلك ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور ،بخلف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل
صالح ،ولهذا كان يونس ابن عبيد يوصي بثلث يقول :ل تدخل على سلطان ،وإن قلت :آمره بطاعة الّ .ول تدخل
علي امرأة :وإن قلت :أعلمها كتاب الّ ،ول تصغ أذنك إلى صاحب بدعة ،وإن قلت أرد عليه.
فأمره بالحتراز من أسباب الفتنة ،فإن النسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ول يسلم.
ل ويصبر ويخلص ويجاهد. فإذا قدر أنه ابتلى بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره ،وابتلى ،فعليه أن يتقى ا ّ
وصبره على ذلك وسلمته مع قيامه بالواجب ،من أفضل العمال ،كمن تولى ولية وعدل فيها ،أو رد على أصحاب
البدع بالسنة المحضة ،ولم يفتنوه ،أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة.
لكن الّ إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه ،وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلء وكله الّ إلى نفسه .كما قال النبي صلى
ال عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة( :ل تسأل المارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة ،وكلت إليها .وإن أعطيتها عن
غير مسألة ،أعنت عليها) وكذلك /قال في الطاعون( :إذا وقع ببلد وأنتم بها ،فل تخرجوا فرارًا منه ،وإذا سمعتم به
بأرض فل تقدموا عليه) فمن فعل ما أمره الّ به فعرضت له فتنة من غير اختياره ،فإن الّ يعينه عليها بخلف من
تعرض لها.
لكن باب التوبة مفتوح ،فإن الرجل قد يسأل المارة فيوكل إليها ،ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب الّ عليه ويعينه ،إما
ل تَ ْقنَطُوا
سهِ ْم َ
علَى َأنْ ُف ِ
عبَادِي اّلذِينَ أَسْ َرفُوا َ على إقامة الواجب ،وإما على الخلص منها ،وكذلك سائر الفتن .كماقال{ :قُ ْ
ل يَا ِ
لّ َيغْ ِف ُر ال ّذنُوبَ َجمِيعًا} [الزمر ،]53 :وهذه المور تحتاج إلى بسط ل يتسع له هذا الموضع. حمَةِ الِّ إِنّ ا َ
مِنْ رَ ْ
والمقصود أن الّ سبحانه يريد أن يبين لنا ،ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهم{ :أُ ْوَل ِئكَ اّلذِينَ َهدَى ا ُ
لّ َف ِبهُدَاهُ ْم
ا ْقتَدِهِ}[النعام ،]90 :وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله{ :ا ْه ِدنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْ
ستَقِيمَ .صِرَاطَ اّلذِينَ َأ ْن َعمْتَ
عََل ْيهِمْ} [الفاتحة ]7 ،6 :فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلء ،وهو سبيل من أناب إليه ،فذكر هنا ثلثة أمور:
البيان ،والهداية ،والتوبة.
وقيل :المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل ،أي :يريد أن يبين لنا سنن هؤلء وهؤلء ،فيهدي عباده المؤمنين
إلى الحق / ،ويضل آخرين ،فإن الهدى والضلل إنما يكون بعد البيان .كما قالَ { :ومَا َأرْسَ ْلنَا مِنْ َرسُولٍ ِإ ّ
ل بِلِسَانِ َق ْومِهِ
حكِيمُ}[إبراهيم ،]4 :وقالَ { :ومَا كَانَ الُّ ِليُضِ ّ
ل َق ْومًا َبعْدَ ِإذْ َهدَاهُمْ لّ مَنْ يَشَاءُ َو َي ْهدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
ِل ُيبَيّنَ َلهُ ْم َفيُضِلّ ا ُ
َحتّى ُي َبيّنَ َلهُ ْم مَا َيتّقُونَ}[التوبة.]115 :
فتكون {سُنَنَ} [النساء ،]26 :متعلقًا بيبين يعني سنن أهل الباطل ل بيهدي ،وأهل الحق متعلق بقوله :ويهديكم .وقال
الزجاج :السنن الطرق ،فالمعنى يدلكم على طاعته ،كما دل النبياء وتابعيهم .وهذا أولى ،لنه قد يقدم فعلين فل يجعل
طرًا} [الكهف.]96 : الول هوالعامل وحده ،بل العامل إما الثاني وحده .وإما الثنان ،كقوله{ :آتُونِي ُأ ْف ِرغْ عََليْ ِه قِ ْ
أو إذا أريد هذا التقدير :يبين لكم سنن الذين من قبلكم ،ويهديكم سننًا .فدل علي أنه يهدينا سننهم .والمراد بذلك سنن
ف كَانَ عَا ِقبَةُ ا ْل ُمكَ ّذبِينَ} [ سنَنٌ} فإنه قال بعدها{ :فَسِيرُوا فِي الَْ ْر ِ
ض فَانْظُروا كَيْ َ ن َقبِْلكُمْ ُ
ت مِ ْ أهل الحق ،بخلف قولهَ { :قدْ َ
خلَ ْ
آل عمران ،]137 :فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان ،وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين
من قبلنا ،وهم الذين أنعم الّ عليهم .وذكر ثلثة أمور :التبيين ،والهدى ،والتوبة.
لن النسان أول يحتاج إلى معرفة الخير والشر ،وما أمر به وما نهى عنه ،ثم يحتاج بعد ذلك /إلى أن يهدي ،فيقصد
الحق ويعمل به دون الباطل .وهو سنن النبياء والصالحين .ثم لبد له بعد ذلك من الذنوب ،فيريد أن يتطهر منها
بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به .وإلى التوبة مع ذلك .فلبد له من التقصير ،أو الغفلة في سلوك تلك السنن
التي هداه الّ إليها .فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن .وهذه السنن :تدخل فيها الواجبات
والمستحبات ،فلبد للسالك فيها من تقصير وغفلة ،فيستغفر الّ ،ويتوب إليه .فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد ل
يستطيع أن يقوم لّ بالحق الذي أوجبه عليه ،فما يسعه إل الستغفار والتوبة عقيب كل طاعة.
وقد يقال :الهداية ،هنا البيان والتعريف ،أي :يعرفكم سنن الذين من قبلكم ،من أهل السعادة والشقاوة؛ لتتبعوا هذه
وتجتنبوا هذه ،كما قال تعالى{ :وَ َه َد ْينَاهُ النّ ْج َديْنِ} [البلد ،]10 :قال علي وابن مسعود :سبيل الخير والشر .وعن ابن
عباس :سبيل الهدى والضلل .وقال مجاهد :سبيل السعادة والشقاوة ،أي فطرناه على ذلك ،وعرفناه إياه ،والجميع
واحد .والنجدان الطريقان الواضحان ،والنجد المرتفع من الرض ،فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له،
كتبيين الطريقين العاليين ،لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الية يشترك /فيه بنو آدم ،ويعرفونه بعقولهم.
ب نُوحِيهَا ِإَل ْيكَ مَا كُنتَ وأما طريق من تقدم من النبياء ،فل بد من إخبار الّ تعالى عنها ،كما قال{ :تِ ْل َ
ك مِنْ َأنْبَاءِ ا ْل َغيْ ِ
َتعَْلمُهَا َأ ْنتَ َولَ َق ْو ُمكَ مِ ْن َقبْلِ َهذَا}[هود ،]49 :لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى ،لقال :يريد الّ ليبين لكم
سنن الذين من قبلكم ،ولم يحتج أن يذكر الهدى ،إذا كان المعنى واحدًا ،فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدي ،علم أن هذا
غير هذا ،فالتبيين :التعريف والتعليم ،والهدى :هو المر والنهي ،وهو الدعاء إلى الخير .كما قال تعالى{ :وَِلكُ ّ
ل َقوْمٍ
ط مُ ْس َتقِيمٍ} [الشورى ،]52 :أي هَادٍ } [الرعد ،]7 :أي داع يدعوهم إلى الخير .كما قال تعالى{ :وَِإّنكَ َل َت ْهدِي إِلَى صِرَا ٍ
تدعوهم إليه دعاء تعليم.
وهداه هنا يتعدى بنفسه ،لن التقدير :ويلزمكم سنن الذين من قبلكم ،فل تعدلوا عنها ،وليس المراد هنا بالهدى اللهام.
كما في قوله{ :ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْس َتقِيمَ} لكونه لو أراد ذلك لوقع ،ولم يكن فينا ضال ،بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى
المحبة والرضا ،ولهذا قال الزجاج :يريد أن يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم ،فعلق الرادة بفعل نفسه .فإن الزجاج
ظن الرادة في القرآن ليست إل كذلك ،وليس كما ظن ،بل الرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك ،فإنه /ما شاء
كان وما لم يشأ لم يكن .وأما الرادة الموجودة في أمره وشرعه ،فهو كقوله{ :مَا يُرِيدُ الُّ ِليَ ْ
جعَلَ عََل ْيكُ ْم مِنْ حَ َرجٍ وََلكِنْ
طهّ َركُمْ} الية [المائدة ،]6 :وقولهِ{ :إّنمَا يُرِيدُ الُّ ِليُذْهِبَ َع ْنكُمْ الرّ ْجسَ أَهْلَ ا ْل َبيْتِ} [الحزاب ،]33 :ونحو ذلك.
يُرِيدُ ِليُ َ
فهذه إرادته لما أمر به ،بمعنى أنه يحبه ويرضاه ،ويثيب فاعله ،ل بمعنى أنه أراد أن يخلقه ،فيكون كما قالَ { :فمَنْ
ضيّقًا حَرَجًا} الية [النعام. ]125 :
صدْرَهُ َ
جعَلْ َ
ن يُ ِردْ أَنْ ُيضِلّ ُه يَ ْ
لْسْلَمِ َومَ ْ
صدْرَهُ لِ ِ
ن يَه ِديَهُ يَشْ َرحْ َ
يُ ِردْ الُّ أَ ْ
لّ يُرِيدُ أَ ْن يُغْ ِو َيكُمْ هُوَ َرّبكُمْ َوإَِليْهِ تُ ْر َجعُونَ} [هود.]34 :
ن كَانَ ا ُ وكما قال نوحَ { :و َ
ل يَن َف ُعكُ ْم نُصْحِي إِنْ أَ َردْتُ أَنْ أَنصَحَ َلكُمْ إِ ْ
فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه .كما يقول المسلمون :ما شاء الّ كان ،وما لم يشأ لم يكن ،وهذه الرادة متعلقة بكل
حادث ،والرادة الشرعية المرية ل تتعلق إل بالطاعات ،كما يقول الناس لمن يفعل القبيح :يفعل شيئًا ما يريده الّ،
مع قولهم :ما شاء الّ كان وما لم يشأ لم يكن .فإن هذه الرادة نوعان .كما قد بسط في موضع آخر.
وقد يراد بالهدى اللهام ،ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين /هداهم الّ إلى طاعته ،فإن الّ تعالى أراد أن
يتوب عليهم ويهديهم ،فاهتدوا ،ولول إرادته لهم ذلك لم يهتدوا ،كما قالوا{ :ا ْل َ
ح ْمدُ لِّ اّلذِي َهدَانَا ِل َهذَا َومَا ُكنّا ِل َن ْهتَدِيَ لَ ْولَ
أَنْ َهدَانَا الُّ َل َقدْ جَا َءتْ ُرسُلُ َرّبنَا بِا ْلحَقّ} [العراف.]43 :
لكن الخطاب في الية لجميع المسلمين ،كالخطاب بآية الوضوء .والخطاب لهل البيت بقولهِ{ :إّنمَا يُرِيدُ الُّ ِليُذْهِبَ
ع ْنكُمْ الرّجْسَ} [الحزاب]33 :؛ ولهذا يهدد من لم يطعه .وكما في الصيام{ :يُرِيدُ ا ُ
لّ ِبكُمْ ا ْليُ ْسرَ َولَ يُرِي ُد ِبكُمْ ا ْلعُسْرَ} [ َ
البقرة ،]185 :فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا ،ل إرادة الخلق المستلزمة للمراد ،لنه لو كان كذلك
لم تكن الية خطابًا ،إل لمن أخذ باليسر ،ولمن فعل ما أمر به ،وكان من تخلف عن ذلك ل يدخل تحت المر والنهي
الذي في الية ،وليس كذلك .بل الحكم الشرعي لزم لجميع المسلمين ،فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب ،والذين
أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم ،هدي اللهام ،والعانة بأن جعلهم مهتدين .كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليًا،
والمسلم مسلمًا.
ولو كانت الرادة هنا من النسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقلَ { :ويُرِيدُ اّلذِي َن َيتّ ِبعُونَ ال ّشهَوَاتِ أَ ْن َتمِيلُوا مَيْلً عَظِيمًا} [
النساء ،]27 :فإنه حينئذ ل تأثير لرادة هؤلء ،بل وجودها وعدمها سواء .كما في قول نوحَ { :و َ
ل يَن َف ُعكُ ْم نُصْحِي إِنْ
لّ يُرِيدُ أَنْ ُيغْ ِو َيكُمْ} [هود ،]34 :فإن ما شاء الّ كان ،وإن لم يشأ الناس ،وما لم يشأ لم يكن، ن كَانَ ا ُ
أَ َردْتُ أَنْ أَنصَحَ َلكُمْ إِ ْ
وإن شاءه الناس.
والمقصود بالية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات .والمعنى :إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم ،وهؤلء
يريدون لكم الشر الذي يضركم ،كالشيطان الذي يريد أن يغويكم ،وأتباعه هم أهل الشهوات فل تتخذوه وذريته أولياء
ل يَضِلّ َولَ
ي فَ َ من دوني ،بل اسلكوا طرق الهدي والرشاد ،وإياكم وطرق الغي والفساد .كما قال تعالىَ { :فمَ ْ
ن ا ّتبَعَ ُهدَا َ
يَشْقَى} اليات [طه.]123 :
شهَوَاتِ} [النساء ،]27 :في الموضعين ،فاتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى ،كما قال تعالىَ{ :أّنمَا وقوله{ :يَ ّت ِبعُونَ ال ّ
سدَتْ ل ِممّنْ ا ّتبَعَ هَوَا ُه ِب َغيْرِ ُهدًى مِنْ الِّ} [القصص ،]50 :وقال{ :وََل ْو ا ّتبَعَ ا ْلحَقّ أَهْوَاءَ ُهمْ لَ َف َ
ضَّيتّ ِبعُونَ أَهْوَاءَهُمْ َومَنْ أَ َ
ال ّسمَاوَاتُ وَالَْرْضُ َومَ ْن فِيهِنّ} [ المؤمنون ،] 71 :وقال تعالىَ { :و َل تَّت ِبعُوا أَهْوَا َء قَوْ ٍم َقدْ ضَلّوا مِ ْن َقبْلُ} [المائدة،]77 :
ل تَ ّتبِعْعمَلِهِ وَا ّت َبعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد ،]14 :وقال تعالىَ { :و َ وقال تعالىَ{ :أ َفمَنْ كَانَ عَلَى َبّينَةٍ مِنْ َربّ ِه َكمَنْ ُزيّنَ لَهُ سُوءُ َ
أَهْوَاءَ اّلذِينَ َل َيعَْلمُونَ} [الجاثية ،]18 :وهذا في القرآن كثير.
والهوى :مصدر هوى يهوي هوى ،ونفس المهوي يسمى هوى ما يهوى ،فاتباعه كاتباع السبيل.كما قال تعالىَ { :ولَ
َتتّ ِبعُوا أَهْوَا َء قَوْ ٍم َقدْ ضَلّوا مِنْ َقبْلُ} وكما في لفظ الشهوة ،فاتباع الهوى يراد به نفس مسمى المصدر ،أي اتباع إرادته
ومحبته التي هي هواه واتباع الرادة :هو فعل ما تهواه النفس ،كقوله تعالى{ :وَاّتبِعْ َسبِي َل مَنْ َأنَابَ إَِليّ} [لقمان،]15 :
سبِيلِهِ} [النعام ،]153 :وقالَ { :و َ
ل تَ ّت ِبعُوا مِنْ ق ِبكُمْ عَنْ َ
ل َفتَفَرّ َ
سبُ َ
ل َتّتبِعُوا ال ّ وقوله{ :وَأَنّ َهذَا صِرَاطِي مُ ْ
ستَقِيمًا فَا ّتبِعُوهُ َو َ
دُونِهِ أَ ْوِليَاءَ} [العراف ،]3 :فلفظ التباع يكون للمر الناهي ،وللمر والنهي ،وللمأمور به والمنهي عنه ،وهو
الصراط المستقيم.
ل مَا
س لَمّا َر ٌة بِالسّوءِ ِإ ّ كذلك يكون للهوى أمر ونهي ،وهو أمر النفس ونهيها ،كما قال تعالىَ { :ومَا ُأبَرّ ُ
ئ نَ ْفسِي إِنّ النّفْ َ
رَ ِحمَ َربّي إِنّ َربّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف ،]53 :ولكن ما يأمر به من الفعال المذمومة ،فأحدها مستلزم للخر ،فاتباع
المر هو فعل المأمور ،واتباع أمر النفس هو فعل ما تهواه ،فعلى هذا يعلم أن اتباع الشهوات ،واتباع الهواء هو
اتباع شهوة النفس ،وهواها ،وذلك بفعل ما تشتهيه وتهواه.
بل قد يقال :هذا هو الذي يتعين في لفظ اتباع الشهوات والهواء ،لن الذي يشتهي ويهوى ،إنما يصير موجودًا بعد
أن يشتهي ويهوى ،وإنما يذم النسان إذا فعل ما يشتهي ويهوى عند وجوده / ،فهو حينئذ قد فعل ،ول ينهى عنه بعد
وجوده ،ول يقال لصاحبه :ل تتبع هواك.
وأيضًا فالفعل المراد المشتهى ،الذي يهواه النسان :هو تابع لشهوته وهواه ،فليست الشهوة والهوي تابعة له ،فاتباع
الشهوات هو اتباع شهوة النفس ،وإذا جعلت الشهوة بمعنى المشتهى كان مع مخالفة الصل يحتاج إلى أن يجعل في
الخارج ما يشتهي ،والنسان يتبعه كالمرأة المطلوبة ،أو الطعام المطلوب ،وإن سميت المرأة شهوة والطعام أيضًا،
كما في قوله صلى ال عليه وسلم( :كل عمل ابن آدم له إل الصيام فإنه لي ،وأنا أجزي به ،يدع طعامه وشرابه
وشهوته من أجلي) أي :يترك شهوته ،وهو إنما يترك ما يشتهيه كما يترك الطعام ،ل أنه يدع طعامه بترك الشهوة
الموجودة في نفسه ،فإن تلك مخلوقة فيه مجبول عليها ،وإنما يثاب إذا ترك ما تطلبه تلك الشهوة.
وحقيقة المر ،أنهما متلزمان ،فمن اتبع نفس شهوته القائمة بنفسه اتبع ما يشتهيه ،وكذلك من اتبع الهوى القائم بنفسه
اتبع ما يهواه ،فإن ذلك من آثار الرادة ،واتباع الرادة هو امتثال أمرها ،وفعل ما تطلبه ،كالمأمور الذي يتبع أمر
أميره ،ولبد أن يتصور مراده الذي يهواه ويشتهيه في نفسه ويتخيله قبل فعله .فيبقى ذلك المثال كالمام مع المأموم
يتبعه حيث كان ،وفعله في الظاهر /تبع لتباع الباطن ،فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهي التي في النفس هي
المحركة للنسان المرة له.
ل للفعل ،وهذه
ولهذا يقال :العلة الغائية علة فاعلية ،فإن النسان للعلة الغائية ـ بهذا التصور والرادة ـ صار فاع ً
الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاعلً ،فيكون النسان متبعًا لها ،والشيطان يمده في
الغي ،فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس اتباعها ،وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة ـ
كالمحبوب من الصور والطعام والشراب ـ ويتناول نفس الفعل الذي هو المباشر لذلك المطلوب المحبوب ،والشيطان
والنفس تحب ذلك ،وكلما تصور ذلك المحبوب في نفسه أراد وجوده في الخارج ،فإن أول الفكر آخر العمل ،وأول
البغية آخر الدرك.
ولهذا يبقى النسان عند شهوته ،وهواه أسيرًا لذلك ،مقهورًا تحت سلطان الهوى ،أعظم من قهر كل قاهر ،فإن هذا
القاهر الهوائي ،القاهر للعبد ،هو صفة قائمة بنفسه ،ليمكنه مفارقته البتة ،والصورة الذهنية تطلبها النفس ،فإن
المحبوب تطلب النفس أن تدركه ،وتمثله لها في نفسها ،فهو متبع للرادة .وإن كانت الذهنية والتزين من الزين
والمراد التصور في نفسه .والمشتهى الموجود في الخارج له محركان :التصور والمشتهى ،هذا يحركه تحريك طلب
وأمر ،وهذا يأمره أن يتبع /طلبه وأمره ،فاتباع الشهوات والهواء يتناول هذا كله ،بخلف كل قاهر ينفصل عن
النسان فإنه يمكنه مفارقته مع بقاء نفسه على حالها ،وهذا إنما يفارقه بتغير صفة نفسه.
ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم( :ثلث مهلكات :شح مطاع ،وهوي متبع ،وإعجاب المرء بنفسه .وثلث
منجيات :خشية الّ في السر والعلنية ،والقصد في الفقر والغنى ،وكلمة الحق في الغضب والرضا).
وقوله في الحديث :هوي متبع ،فيه دليل على أن المتبع هو ما قام في النفس .كقوله :في الشح المطاع ،وجعل الشح
مطاعًا ،لنه هو المر ،وجعل الهوى متبعًا ،لن المتبع قد يكون إمامًا يقتدى به ول يكون آمرًا .وفي الصحيحين عن
النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :إياكم والشح .فإن الشح أهلك من كان قبلكم ،أمرهم بالبخل فبخلوا ،وأمرهم بالظلم
فظلموا ،وأمرهم بالقطيعة فقطعوا) .فبين أن الشح يأمر بالبخل والظلم والقطيعة ،فالبخل ،منع منفعة الناس بنفسه
وماله ،والظلم ،هو العتداء عليهم.
فالول هو التفريط فيما يجب ،فيكون قد فرط فيما يجب ،واعتدى عليهم بفعل ما يحرم وخص قطيعة الرحم بالذكر
إعظامًا لها؛ لنها تدخل /في المرين المتقدمين قبلها.
وقال المفسرون في قوله تعالىَ { :ومَنْ يُوقَ شُ ّح نَفْسِهِ} [الحشر ،]9 :هو أل يأخذ شيئًا مما نهاه الّ عنه ،ول يمنع شيئًا
أمره الّ بأدائه ،فالشح يأمر بخلف أمرالّ ورسوله .فإن الّ ينهى عن الظلم ،ويأمر بالحسان ،والشح يأمر بالظلم،
وينهى عن الحسان.
وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت ،وبالوقوف بعرفة أن يقول :اللّهم قني شح نفسي ،فسئل عن
ذلك ،فقال :إذا وقيت شح نفسي ،وقيت الظلم والبخل والقطيعة .وفي رواية عنه قال :إني أخاف أن أكون قد هلكت،
قال :وماذاك؟ قال :أسمع الّ يقولَ { :ومَ ْن يُوقَ شُ ّح نَ ْفسِهِ} ،وأنا رجل شحيح ل يكاد يخرج من يدي شيء ،فقال :ليس
ذاك بالشح الذي ذكره الّ في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا ،وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل.
صدُورِهِمْ حَاجَ ًة ِممّا أُوتُوا َويُ ْؤثِرُونَ عَلَى
جدُونَ فِي ُ وقد ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد واليثار في قولهَ { :و َ
ل يَ ِ
َأنْفُ ِس ِهمْ وَلَ ْو كَا َن ِبهِمْ َخصَاصَةٌ} ،ثم قالَ { :ومَنْ يُوقَ شُ ّح نَفْسِ ِه َفأُوَْل ِئكَ هُمْ ا ْل ُمفْلِحُونَ} [الحشر ،]9 :فمن وقى شح نفسه لم يكن
حسودًا باغيًا على المحسود والحسد أصله بغض المحسود.
/والشح يكون في الرجل مع الحرص ،وقوة الرغبة في المال ،وبغض للغير وظلم له ،كما قال تعالىَ { :ق ْد يَعَْلمُ ا ُ
لّ
خيْرِ أُوَْل ِئكَ ل يَ ْأتُونَ ا ْلبَ ْأسَ ِإلّ َقلِيلً َ .أشِحّةً عََل ْيكُمْ} اليات ـ إلى قوله{ :أَ ِ
شحّةً عَلَى ا ْل َ ن لِخْوَا ِنهِمْ هَُلمّ إَِل ْينَا َو َ
ا ْل ُمعَ ّوقِينَ ِم ْنكُمْ وَا ْلقَائِلِي َ
لَ ْم يُ ْؤ ِمنُوا فََأ ْحبَطَ الُّ أَ ْعمَاَل ُهمْ} [الحزاب ،]19 ،18 :فشحهم على المؤمنين ،وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه،
وبغض الخير يأمر بالشر ،وبغض النسان يأمر بظلمه ،وقطيعته كالحسد ،فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود
وقطيعته ،كابني آدم وإخوة يوسف.
فالحسد والشح ،يتضمنان بغضًا وكراهية ،فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص ،فإن الفعل صدر فيه عن
بغض ،بخلف الهوى فإن الفعل صدر فيه عن حب أحب شيئًا فاتبعه ففعله ،وذلك مقصوده أمر عدمي والعدم ل ينفع.
ولكن ذاك القصد أمر بأمر وجودي ،فأطيع أمره.
وابن مسعود جعل البخل خارجًا عن الشح والنبي صلى ال عليه وسلم جعل الشح يأمر بالبخل.
ومن الناس من يقول :الشح ،والبخل سواء .كما قال ابن جرير :الشح في كلم العرب هو البخل ،ومنع الفضل من
المال .وليس /كما قال :بل ما قاله النبي صلى ال عليه وسلم وابن مسعود أحق أن يتبع ،فإن البخيل قد يبخل بالمال
محبة لما يحصل لـه به من اللذة والتنعم ،وقد ل يكون متلذذًا به ول متنعمًا بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتي
يكون يكره ،أن ينفع نفسه منه مع كثرة ماله ،وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته .وقد ل يكون هناك
لذة أصل ،بل يكره أن يفعل إحسانًا إلى أحد حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه بغضًا للخير ل للمعطي ول
للمعطي ،بل بغضًا منه للخير وقد يكون بغضًا وحسدًا للمعطي ،أو للمعطي وهذا هو الشح وهذا هو الذي يأمر بالبخل
قطعًا ،ولكن كل بخل يكون عن شح ،فكل شحيح بخيل وليس كل بخيل شحيحًا.
قال الخطابي :الشح أبلغ في المنع من البخل ،والبخل إنما هو من أفراد المور وخواص الشياء ،والشح عام ،فهو
كالوصف اللزم للنسان من قبل الطبع والجبلة.
وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال :البخل :أن يظن النسان بماله ،والشح :أن يضن بماله ومعروفه ،وقيل :الشح:
أن يشح بمعروف غيره على غيره ،و البخل :أن يبخل بمعروفه على غيره والذين يتبعون الشهوات ،ويتبعون
أهواءهم يحبون ذلك ويريدونه ،فاتبعوا /محبتهم وإرادتهم من غير علم ،فلم ينظروا هل ذلك نافع لهم في العاقبة أو
ضار.
ولهذا قال{ :فَاعَْلمْ َأّنمَا يَّت ِبعُونَ أَهْوَاءَ ُهمْ} ثم قالَ { :ومَنْ أَضَ ّل ِممّ ْن اّتبَعَ هَوَا ُه ِبغَيْرِ ُهدًى مِنْ الِِّ} [القصص ،]50 :واتباع
الهوى درجات :فمنهم المشركون والذين يعبدون من دون الّ ما يستحسنون بل علم ،ول برهان ،كما قالَ{ :أ َفرََأيْتَ
مَنْ اتّ َخذَ إَِلهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية ،]23 :أي يتخذ إلهه الذي يعبده وهو ما يهواه من آلهة ،ولم يقل :إن هواه نفس إلهه فليس
كل من يهوي شيئًا يعبده ،فإن الهوى أقسام بل المراد أنه جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه ،فكانت عبادته تابعة
لهوى نفسه في العبادة ،فإنه لم يعبد ما يحب أن يعبد ،ول عبد العبادة التي أمر بها.
وهذه حال أهل البدع ،فإنهم عبدوا غير الّ ،وابتدعوا عبادات زعموا أنهم يعبدون الّ بها ،فهم إنما اتبعوا أهواءهم،
فإن أحدهم يتبع محبة نفسه وذوقها ووجدها وهواها من غير علم ،ول هدى ،ول كتاب منير.
فلو اتبع العلم والكتاب المنير ،لم يعبد إل الّ بما شاء ،ل بالحوادث والبدع.
/والمقصود أن اللهة كثيرة ،والعبادات لها متنوعة ،وبالجملة فكل ما يريده النسان ويحبه لبد أن يتصوره في نفسه،
فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب ،فمن عبده عبد غير الّ ،وتمثلت له الشياطيـن في صورة
من يعبـده ،وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيئًا غير الّ ،فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارن
الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها ،واستوائها ليكون سجود من يعبدها له.
وقد كانت الشياطين ،تتمثل في صورة من يعبد ،كما كانت تكلمهم من الصنام التي يعبدونها ،وكذلك في وقتنا خلق
كثير من المنتسبين إلى السلم ،والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يعظمه من الحياء والموات من
المشايخ وغيرهم ،فيدعوه ويستغيث به في حياته وبعد مماته ،فيراه قد أتاه وكلمه وقضى حاجته ،وإنما هو شيطان
تمثل على صورته ،ليغوى هذا المشرك.
والمبتلون بالعشق ،ل يزال الشيطان يمثل لحدهم صورة المعشوق ،أو يتصور بصورته ،فل يزال يرى صورته،
مع مغيبه عنه بعد موته ،فإنما جله الشيطان على قلبه ،ولهذا إذا ذكر العبد الّ الذكر الذي يخنس منه الوسواس
الخناس خنس هذا المثال الشيطاني ،وصورة المحبوب تستولى على المحب أحيانًا حتى ل يرى غيرها ،ول يسمع
غير كلمها ،فتبقى /نفسه مشتغلة بها.
والذين يسلكون في محبة الّ مسلكا ناقصًا ،يحصل لحدهم نوع من ذلك يسمى الصطلم والفناء ،يغيب بمحبوبه عن
ل وصفاته وكلمه وأمره محبته ،وبمعروفه عن معرفته ،وبمذكوره عن ذكره ،حتى ل يشعر بشيء من أسماء ا ّ
ونهيه.
ومنهم من قد ينتقل من هذا إلى التحاد .فيقول :أنا هو ،وهو أنا ،وأنا الّ ،ويظن كثير من المسالكين ،أن هذا هو غاية
السالكين ،وأن هذا هو التوحيد ،الذي هو نهاية كل سالك ،وهم غالطون في هذا ،بل هذا من جنس قول النصارى،
ولكن ضلوا لنهم لم يسلكوا الطريق الشرعية في الباطن في خبر الّ وأمره.
والمقصود أن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس ،يستولى على قلب أحدهم مايشتهيه حتى
يقهره ويملكه ،ويبقى أسيرًا ما يهواه ،يصرفه كيف تصرف ذلك المطلوب؛ ولهذا قال بعض السلف :ما أنا على
الشاب الناسك بأخوف مني عليه من سبع ضار يثب عليه من صبي حدث يجلس إليه.
/وذلك أن النفس الصافية التي فيها رقة الرياضة ،ولم تنجذب إلى محبة الّ وعبادته انجذابًا تامًا ،ول قام بها من خشية
الّ التامة ما يصرفها عن هواها متى صارت تحت صورة من الصور استولت تلك الصورة عليها .كما يستولى السبع
على ما يفترسه ،فالسبع يأخذ فريسته بالقهر ،ول تقدر الفريسة على المتناع منه .كذلك ما يمثله النسان في قلبه من
الصور المحبوبة ،تبتلع قلبه وتقهره ،فل يقدر قلبه على المتناع منه ،فيبقى قلبه مستغرقًا في تلك الصورة أعظم من
استغراق الفريسة في جوف السد؛ لن المحبوب المراد هو غاية النفس ،له عليها سلطان قاهر.
والقلب يغرق فيما يستولى عليه ،إما من محبوب وإما من مخوف ،كما يوجد من محبة المال والجاه والصور،
والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقًا فيه ،كما يغرق الغريق في الماء ،فلبد أن يستولى عليها مايحيط بها من
الجسام ،والقلوب يستولى عليها ما يتمثل لها من المخاوف ،والمحبوبات والمكروهات ،فالمحبوب يطلبه ،والمكروه
يدفعه ،والرجاء يتعلق بالمحبوب والخوف يتعلق بالمكروه ،ول يأتي بالحسنات إل الّ ،ول يذهب السيئات إل الّ {
ب بِ ِه مَ ْن يَشَا ُء مِنْ ِعبَادِهِ وَ ُهوَ ا ْلغَفُورُ الرّحِيمُ} [
خيْ ٍر فَلَ رَادّ ِلفَضْلِ ِه يُصِي ُ
ن يُ ِر ْدكَ بِ َ
ض ّر فَلَ كَاشِفَ لَهُ ِإلّ ُهوَ وَإِ ْ لّ بِ ُ
سكَ ا ُ
ن َيمْسَ ْ
وَإِ ْ
لّ ثُمّ ِإذَا َم ّسكُمْ الضّ ّر فَإَِليْ ِه تَ ْجأَرُونَ} [النحل.]53 : يونسَ { ]107 :ومَا ِبكُ ْم مِ ْ
ن نِ ْعمَ ٍة َفمِنْ ا ِ
/وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب ،ودفع المرهوب ،جعل له من اليمان بالّ ،ومحبته ،ومعرفته ،وتوحيده،
ورجائه ،وحياة قلبه ،واستنارته بنور اليمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عرضًا من الدنيا ،وأما إذا
طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته ومايتبع ذلك ،فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب .وهو الدعاء
والمطلوب الذكر والشكر ،وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك .وهذا لبسطه موضع آخر.
والمقصود أن القلب قد يغمره ،فيستولى عليه ما يريده العبد ،ويحبه ،ومايخافه ويحذره ،كائنا من كان؛ ولهذا قال
تعالى{ :بَ ْل قُلُوُبهُ ْم فِي َغمْ َر ٍة مِنْ َهذَا وََلهُمْ أَ ْعمَا ٌل مِ ْن دُونِ ذَِلكَ هُمْ َلهَا عَامِلُونَ}[المؤمنون ،]36 :فهي فيما يغمرها عما
أنذرت به ،فيغمرها ذلك عن ذكر الّ والدار الخرة وما فيها من النعيم ،والعذاب الليم .قال الّ تعالىّ { :فذّرهٍ ًم فٌي
غّمرّتهٌمً ّحتّى" حٌينُ}[المؤمنون ،]54 :أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في
الخيرات ،والعمال الصالحة .وقال تعالىُ { :قتِلَ الْ َخرّاصُونَ .اّلذِينَ هُ ْم فِي َغمْ َرةٍ سَاهُونَ} اليات [الذاريات]11 ،10 :
،أي ساهون عن أمر الخرة ،فهم في غمرة عنها ،أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها ،ساهون عن أمر
الخرة ،وما خلقوا له.
وهذا يشبه قولهَ { :و َل تُطِعْ مَنْ أَ ْغفَ ْلنَا قَ ْلبَهُ عَ ْن ذِكْ ِرنَا وَاّتبَعَ هَوَاهُ َوكَانَ َأمْرُ ُه ُفرُطًا} [الكهف ،]28 :فالغمرة تكون من اتباع
الهوى ،والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال :السهو :الغفلة عن الشيء ،وذهاب القلب عنه ،وهذا جماع الشر
الغفلة ،والشهوة.
فالغفلة عن الّ والدار الخرة تسد باب الخير ،الذي هو الذكر واليقظة.
والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف ،فيبقى القلب مغمورًا فيما يهواه ويخشاه ،غافلً عن الّ ،رائدًا غير الّ،
ساهيًا عن ذكره ،قد اشتغل بغير الّ ،قد انفرط أمره ،قد ران حب الدنيا على قلبه ،كما روى في صحيح البخاري،
وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :تعس عبد الدينار ،تعس عبد الدرهم ،تعس عبد
القطيفة ،تعس عبد الخميصة ،تعس وانتكس ،وإذا شيك فل انتقش ،إن أعطى رضى ،وإن منع سخط).
جعله عبد ما يرضيه وجوده ويسخطه فقده ،حتى يكون عبد الدرهم ،وعبد ما وصف في هذا الحديث ،والقطيفة :هي
التي يجلس عليها ،فهو خادمها ،كما قال بعض السلف :البس من الثياب ما يخدمك ،ول تلبس منها ما تكن أنت تخدمه،
وهي كالبساط الذي تجلس عليه ،والخميصة :هي التي يرتدي بها ،وهذا من أقل المال .وإنما /نبه به النبي صلى ال
عليه وسلم على ما هو أعلي منه ،فهو عبد لذلك ،فيه أرباب متفرقون ،وشركاء متشاكسون.
ولهذا قال( :إن أعطى رضي ،وإن منع سخط) .فما كان يرضى النسان حصوله ويسخطه فقده ،فهو عبده ،إذ العبد
يرضى باتصاله بهما ،ويسخط لفقدهما .والمعبود الحق الذي ل إله إل هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك
في قلبه إيمان ،وتوحيد ومحبة ،وذكر ،وعبادة ،فيرضى بذلك ،وإذا منع من ذلك غضب.
وكذلك من أحب شيئًا ،فل بد أن يتصوره في قلبه ،ويريد اتصاله به بحسب المكان.
قال الجنيد :ل يكون العبد عبدًا حتى يكون مما سوى الّ تعالى حرًا .وهذا مطابق لهذا الحديث ،فإنه ل يكون عبدًا ّ
ل
خالصًا مخلصًا دينه لّ كله ،حتى ل يكون عبدًا لما سواه ،ول فيه شعبة ،ول أدنى جزء من عبودية ما سوى الّ ،فإذا
كان يرضيه ،ويسخطه غير الّ فهو عبد لذلك الغير ،ففيه من الشرك بقدر محبته ،وعبادته لذلك الغير زيادة.
قال الفضيل بن عياض :والّ ما صدق الّ في عبوديته ،من /لحد من المخلوقين عليه ربانية ،وقال زيد بن عمرو بن
نفيل:
روى المام أحمد والترمذي ،والطبراني ،من حديث أسماء بنت عميس ،قالت :قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم( :
بئس العبد عبد تخيل ،واختال ،ونسى الكبير المتعال ،بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار العلى ،بئس العبد
عبد سها ولها ،ونسى المقابر والبلى ،بئس العبد عبد بغى واعتدى ،ونسى المبدأ والمنتهى ،بئس العبد عبد يختل الدنيا
بالدين ،بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات ،بئس العبد عبد رغب يذله ويزيله عن الحق ،بئس العبد عبد طمع يقوده،
بئس العبد عبد هوى يضله) قال الترمذي :غريب .وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه .والّ أعلم.
وطالب الرئاسة ـ ولو بالباطل ـ ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلً ،وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن
كانت حقًا / .والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه ،وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لن الّ تعالى يحب الحق،
والصدق ،والعدل ،ويبغض الكذب ،والظلم.
فإذا قيل :الحق والصدق والعدل الذي يحبه الّ أحبه ،وإن كان فيه مخالفة هواه؛ لن هواه قد صار تبعًا لماجاء به
ل يبغضه ،والمؤمن يبغضه ،ولو وافق هواه. الرسول .وإذا قيل :الظلم والكذب ،فا ّ
ولهذا روى المام أحمد في مسنده وغيره ،أن النبي صلى ال عليه وسلم /قال لصحابه( :الفقر تخافون؟! ل أخاف
عليكم الفقر ،إنما أخاف عليكم الدنيا ،حتى إن قلب أحدكم إذا زاغ ل يزيغه إل هي).
وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه ،والذين يبغضونه كأعدائه ،فالذين يحبونه يجذبونه إليهم .فإذا لم تكن المحبة منهم
له لّ ،كان ذلك مما يقطعه عن الّ ،والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن الّ ،ولو أحسن إليه
أصدقاؤه الذين يحبونه ،لغير الّ أوجب إحسانهم إليه محبته لهم ،وإنجذاب قلبه إليهم .ولو كان على غير الستقامة،
وأوجب مكافأته لهم ،فيقطعونه عن الّ وعبادته.
فل تزول الفتنة عن القلب ،إل إذا كان دين العبد كله لّ عز وجل ،فيكون حبه لّ ولما يحبه الّ ،ويبغضه لّ ،ولما
يبغضه الّ ،وكذلك موالته ومعاداته ،وإل فمحبة المخلوق تجذبه ،وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه ،ثم قد يكون
هذا أقوى ،وقد يكون هذا أقوى ،فإذا كان هو غالبًا لهواه لم يجذبه مغلوب مع هواه ،ول محبوباته إليها؛ لكونه غلبًا
لهواه ناهيًا لنفسه عن الهوى ،لما في قلبه من خشية الّ ،ومحبته التى تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات.
وأما حب الناس له ،فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم ،فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة الّ،
وخشيته /وإل جذبوه وأخذوه إليهم ،كحب امرأة العزيز ليوسف ،فإن قوة ىوسف ومحبته لّ وإخلصه وخشيته،
كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها ،هذا إذا أحب أحدهم صورته ،مع أن هنا الداعي قوي منه
ومنهم ،فهنا المعصوم من عصمه الّ ،وإل فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين ،أنه يقع بعض الشر بينهم.
ولهذا قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم( :ل يخلون رجل بامرأة إل كان ثالثهما الشيطان).
وقد يحبونه لعلمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك ،فالفتنة في هذا أعظم ،إل إذا كانت فيه قوة إيمانية ،وخشية وتوحيد
تام ،فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون .وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم ،إن لم يفعلها وإل نقص
الحب ،أو حصل نوع بغض ،وربما زاد أو أدى إلى النسلخ من حبه ،فصار مبغوضًا بعد أن كان محبوبا ،فأصدقاء
النسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم ،حتى يكون كالعبد لهم ،وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره،
وأولئك يطلبون منه انتفاعهم ،وإن كان مضرًا له مفسدًا لدينه ل يفكرون في ذلك .وقليل منهم الشكور.
فالطائفتان في الحقيقة ل يقصدون نفعه ول دفع ضرره ،وإنما /يقصدون أغراضهم به ،فإن لم يكن النسان عابدًا
الّ ،متوكلً عليه مواليًا له ومواليًا فيه ومعاديًا ،وإل أكلته الطائفتان ،وأدى ذلك إلى هلكه في الدنيا والخرة.
وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم ،وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والختلف والفتن .قوم يوالون
زيدًا ،ويعادون عمرًا .وآخرون بالعكس؛ لجل أغراضهم ،فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه
من زيد انقلبوا إلى عمرو ،وكذلك أصحاب عمرو ،كما هو الواقع بين أصناف الناس.
وكذلك الرأس ،من الجانبين ،يميل إلى هؤلء الذين يوالونه ،وهم إذا لم تكن الموالة لّ أضر عليه من أولئك ،فإن
أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه إما بقتله ،أو بأخذ ماله ،وإما بإزالة منصبه ،وهذا كله ضرر دنيوي ،ل يعتد به إذا سلم
العبد ،وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين ليعتدون بفساد دينهم مع سلمة دنياهم .فهم ل يبالون بذلك .وأما "
دين العبد" الذي بينه وبين الّ فهم ل يقدرون عليه.
وأما أولياءه الذين يوالونه للغراض ،فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك ،فإن لم يفعل
انقلبوا أعداء ،فدخل بذلك عليه الذى من جهتين:
وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لنهم قد شاهدوا منه .وعرفوا مالم يعرفه أعداؤه .فاستجلبوا بذلك عداوة
غيرهم ،فتتضاعف العداوة.
وإن لم يحب مفارقتهم ،احتاج إلى مداهنتهم ،ومساعدتهم على ما يريدونه ،وإن كان فيه فساد دينه .فإن ساعدهم على
نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيبًا وافرًا وحظًا تامًا من ظلمهم وجورهم ،وطلبوا منه أيضًا أن يعاونهم
على أغراضهم ،ولو فاتت أغراضه الدنيوية .فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده !! فإن النسان ظالم جاهل ،ل
يطلب إل هواه.
فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم .ويصبر على أذاهم .ويقضى حوائجهم لّ ،وتكون استعانته عليهم بالّ تامة،
وتوكله على الّ تام .وإل أفسدوا دينه ودنياه ،كما هو الواقع المشاهد من الناس ،ممن يطلب الرئاسة الدنيوية ،فإنه
يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة ،ويحسن له هذا الرأي ،ويعاديه إن لم يقم معه ،كما قد /جرى
ذلك مع غير واحد.
وذلك يجري فيمن يحب شخصًا لصورته ،فإنه يخدمه ،ويعظمه ،ويعطيه ما يقدر عليه ،ويطلب منه من المحرم ما
يفسد دينه.
وفيمن يحب صاحب بدعة؛ لكونه له داعية إلى تلك البدعة ،يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل ،وإل
عاداه؛ ولهذا صار علماء الكفار ،وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لجل التباع
والمحبين ،ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم.
فمن أحب غير الّ ،ووالى غيره ،كره محب الّ ووليه ،ومن أحب أحدًا لغير الّ كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من
ضرر أعدائه ،فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي ،والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه،
وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة ،وذهابها عنه ،فأي صداقة هذه؟! ويحبون بقاء ذلك المحبوب؛ ليستعملوه
في أغراضهم ،وفيما يحبونه ،وكلهما ضرر عليه.
ت ِبهِمْ الَْ ْسبَابُ} [البقرة ،]166 :قال الفضيل بن طعَ ْ قال تعالىِ{ :إ ْذ َتبَرّأَ اّلذِينَ ا ّت ِبعُوا مِنْ اّلذِي َ
ن ا ّتبَعُوا َورَأَوْا ا ْلعَذَابَ َوتَقَ ّ
عياض عن ليث /عن مجاهد :هي المودات التي كانت لغير الّ ،والوصلت التي كانت بينهم في الدنيا { َوقَالَ اّلذِينَ
ك يُرِيهِمْ الُّ أَ ْعمَاَلهُمْ حَ َسرَاتٍ عََل ْيهِمْ َومَا هُ ْم بِخَارِجِي َن مِنْ النّارِ} [البقرة:
ا ّتبَعُوا َلوْ أَنّ َلنَا كَرّ ًة َف َن َتبَرَّأ ِمنْهُ ْم َكمَا َتبَرّءُوا ِمنّا كَذَِل َ
.]167فالعمال التي أراهم الّ حسرات عليهم :هي العمال التي يفعلها بعضهم ،مع بعض في الدنيا كانت ،لغير
الّ ،ومنها الموالة ،والصحبة ،والمحبة ،لغير الّ .فالخير كله في أن يعبد الّ وحده ل يشرك به شيئًا ،ول حول ول
قوة إل بالّ.
َفصْل
ومما يحقق هذه المور أن المحب يجذب ،والمحبوب يجذب .فمن أحب شيئًا جذبه إليه بحسب قوته ،ومن أحب
صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته .فإن المحب عـلته فاعلية ،والمحـبوب
علته غائية ،وكـل منهـما لـه تأثير في وجود المعلول ،والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته
التي يتمثلها ،فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها ،ل أنها هي في نفسها قصد وفعل ،فإن في المحبوب من المعنى
المناسب ما يقتضى انجذاب المحب إليه ،كما ينجذب النسان إلى الطعام ليأكله ،وإلى امرأة ليباشرها ،وإلى /صديقه
ليعاشره ،وكما تنجذب قلوب المحبين لّ ورسوله إلى الّ ورسوله ،والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من
الصفات التي يستحق؛ لجلها أن يحب ويعبد.
بل ليجوز أن يحب شيء من الموجودات ،لذاته إل هو سبحانه وبحمده ،فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب
لغيره ،ل لذاته ،والرب تعالى هوالذي يجب أن يحب لنفسه ،وهذا من معاني إلهيته و {َلوْ كَانَ فِي ِهمَا آِل َهةٌ ِإلّ الُّ
َلفَسَدَتَا} [النبياء ،]22 :فإن محبة الشيء لذاته شرك ،فل يحب لذاته إل الّ ،فإن ذلك من خصائص إلهيته ،فل
ل وحده ،وكل محبوب سواه إن لم يحب لجله ،أو لما يحب لجله فمحبته فاسدة. يستحق ذلك إل ا ّ
والّ ـ تعالى ـ خلق في النفوس حب الغذاء ،وحب النساء ،لما في ذلك من حفظ البدان وبقاء النسان ،فإنه لول حب
الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم ،ولول حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل ،والمقصود بوجود ذلك :بقاء كل
منهم ؛ليعبدوا الّ وحده ،ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي ل يستحق ذلك غيره.
وإنما تحب النبياء والصالحون تبعا لمحبته ،فإن من تمام حبه حب ما يحبه ،وهو يحب النبياء والصالحين ،ويحب
العمال الصالحة ،فحبها /لّ هو من تمام حبه ،وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب الّ،
فالمخلوق إذا أحب لّ كان حبه جاذبًا إلى حب الّ ،وإذا تحاب الرجلن في الّ اجتمعا على ذلك ،وتفرقا عليه ،كان
كل منهما جاذبا للخر إلى حب الّ ،كما قال تعالى( :حقت محبتي للمتحابين في ،وحقت محبتي للمتجالسين في،
وحقت محبتي للمتباذلين في ،وإن لّ عبادًا ليسوا بأنبياء ول شهداء يغبطهم النبياء والشهداء بقربهم من الّ ،وهم قوم
تحابوا بروح الّ علي غير أموال يتباذلونها ،ول أرحام يتواصلون بها ،إن لوجوههم لنورًا ،وإنهم لعلى كراسي من
نور ،ل يخافون إذا خاف الناس ،ول يحزنون إذا حزن الناس).
فإنك إذا أحببت الشخص لّ كان الّ هو المحبوب لذاته ،فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته،
فازداد حبك لّ ،كما إذا ذكرت النبي صلى ال عليه وسلم ،والنبياء قبله ،والمرسلين وأصحابهم الصالحين،
وتصورتهم في قلبك ،فإن ذلك يجـذب قلبك إلى محبة الّ المنعم عليهم ،وبهم إذا كنت تحبهم لّ ،فالمحبوب لّ يجذب
ل تعالى ،وكل منإلى محبة الّ ،والمحب لّ ،إذا أحب شخصًا لّ ،فإن الّ هو محبوبه ،فهو يحب أن يجذبه إلى ا ّ
المحب لّ والمحبوب لّ يجذب إلى الّ.
وهكذا إذا كان الحب لغير الّ ،كما إذا أحب كل من الشخصين /الخر بصورة :كالمرأة مع الرجل ،فإن المحب
يطلب المحبوب ،والمحبوب يطلب المحب ،بانجذاب المحبوب ،فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذبًا مجذوبًا من
الوجهين ،فيجب التصال ،ولو كان الحب من أحد الجانبين ؛لكان المحب يجذب المحبوب ،والمحبوب يجذبه ،لكن
المحبوب ل يقصد جذبه ،والمحب يقصد جذبه وينجذب.
وهذا سبب التأثير في المحبوب ،إما تمثل يحصل في قلبه ،فينجذب ،وإما أن ينجذب بل محبة :كما يأكل الرجل
الطعام ،ويلبس الثوب ،ويسكن الدار ،ونحو ذلك من المحبوبات التي ل إرادة لها.
وأما الحيوان ،فيحب بعضه بعضًا بكونه سببًا للحسان إليه وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ،لكن هذا في
الحقيقة إنما هو محبة الحسان ،ل نفس المحسن ،ولو قطع ذلك لضمحل ذلك الحب وربما أعقب بغضًا ،فإنه ليس لّ
عز وجل.
فإن من أحب إنسانًا ؛لكونه يعطيه ،فما أحب إل العطاء ،ومن قال :إنه يحب من يعطيه لّ فهذا كذب ،ومحال ،وزور
من القول ،وكذلك من أحب إنسانًا لكونه ينصره إنما أحب النصر ل الناصر .وهذا كله من اتباع ما تهوى النفس،
فإنه لم يحب في الحقيقة إل ما يصل إليه من جلب منفعة ،أو دفع مضرة ،فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة
وإنما /أحب ذلك لكونه وسيلة إلى محبوبه ،وليس هذا حبًا لّ ول لذات المحبوب.
وعلى هذا تجرى عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض ،وهذا ل يثابون عليه في الخرة ول ينفعهم ،بل ربما أدى ذلك
إلى النفاق والمداهنة ،فكانوا في الخرة من الخلء الذين بعضهم لبعض عدو إل المتقين .وإنما ينفعهم في الخرة
ل وحده ،وأما من يرجو النفع والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه لّ ،فهذا من دسائس النفوسلو ّالحب في ا ّ
ونفاق القوال.
وإنما ينفع العبد الحب لّ لما يحبه الّ من خلقه ،كالنبياء والصالحين ؛لكون حبهم يقرب إلى الّ ومحبته ،وهؤلء هم
الذين يستحقون محبة الّ لهم.
ونبينا كان يعطي المؤلفة قلوبهم ،ويدع آخرين هـم أحب إليه من الذي يعطي؛ يكلهم إلى ما في قلوبهم من اليمان،
وإنما كان يعطي المؤلفة قلوبهم ،لما في قلوبهم من الهلع والجزع؛ ليكون ما يعطيهم سببًا لجلب قلوبهم إلى أن يحبوا
السلم فيحبوا الّ ،فكان مقصوده بذلك دعوة القلوب إلى حب الّ عز وجل ،وصرفها عن ضد ذلك؛ ولهذا كان
يعطي أقوامًا خشية أن يكبهم الّ على وجوههم في النار فمنعهم بذلك العطاء عما /يكرهه منهم فكان يعطي لّ ويمنع
لّ .وقد قال( :من أحب لّ ،وأبغض لّ ،وأعطى لّ ،ومنع لّ ،فقد استكمل اليمان) ،وفي صحيح البخاري عنه صلى
ال عليه وسلم أنه قال( :إني والّ إنما أنا قاسم ل أعطي أحدًا ول أمنع أحدًا ،ولكن أضع حيث أمرت).
وصورة المحبوب المتمثلة في النفس يتحرك لها المحب ،ويريد لها ،ويحب ويبغض ويبتهج وينشرح عند ذكرها ،من
أي جنس كانت ،فتبقى هي كالمر الناهي له؛ ولهذا يجد في نفسه كأنها تخاطبه بأمر ونهي وغير ذلك ،كما يرى كثير
من الناس من يحبه ،ويعظمه في منامه ،وهو يأمره ،وينهاه ،ويخبره بأمور.
والقائلون بالشاهد والمنتسبون إلى السلوك يقول أحدهم :إنه يخاطب في باطنه على لسان الشاهد ،فمنهم من يصلي
بالليل وذاك بإزائه ليشاهده في الضوء ،ومنهم من يشاهده في حال السماع في غيره ،ويظنون أنهم يخاطبون ويجدون
المريد في قلوبهم بذلك ،وذلك لنهم يتمثلونه في أنفسهم ،وربما كان الشيطان يتمثل في صورته ،فيجدون في نفوسهم
خطابا من تلك الصورة ،فيقولون :خوطبنا من جهته .وهذا وإن كان موجودًا في /المخاطب فمن المخاطب له ؟
فالفرقان هنا .فإنما ذلك المخاطب من وسواس الشيطان والنفس.
وقد يخاطبون بأشياء حسنة رشوة منه لهم ،ول يخاطبون بما يعرفون أنه باطل؛لئل ينفرون منه ،بل الشيطان يخاطب
أحدهم بما يري أنه حق ،والراهب إذا راض نفسه فمرة يرى في نفسه صورة التثليث ،وربما خوطب منها؛لنه كان
قد يتمثلها قبل ذلك ،فلما انصقلت نفسه بالرياضة ظهرت له ،والمؤمن الذي يحب الّ ورسوله يرى الرسول في منامه
بحسب إيمانه ،وكذلك يري الّ تعالى في منامه بحسب إيمانه ،كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ولهذا كثير من أهل الزهد والعبادة يكون من أعوان الكفار ،ويزعم أنه مأمور بذلك ،ويخاطب به ويظن أن الّ هو
الذي أمره بذلك ،والّ منزه عن ذلك ،وإنما المر له بذلك النفس والشيطان ومافي نفسه من الشرك ،إذ لو كان مخلصًا
لّ الدين ،لما عرض له شيء من ذلك ،فإن هذا ل يكون إل لمن فيه شرك في عبادته ،أو عنده بدعة ،ول يقع هذا
لمخلص متمسك بالسنة البتة.
رؤيا من الّ.
ورؤيا من الشيطان.
وما يحصل من نوع المكاشفة والتصرف ثلثة أصناف :ملكي ،ونفسي ،وشيطاني ،فإن الملك له قوة ،والنفس لها
قوة ،والشيطان له قوة ،وقلب المؤمن له قوة ،فما كان من الملك ومن قلب المؤمن ،فهو حق ،وما كان من الشيطان
ووسوسة النفس ،فهو باطل.
ل وأعداء الّ ،بل صاروا يظنون في من هو من جنس وقد اشتبه هذا بهذا على طوائف كثيرة ،فلم يفرقوا بين أولياء ا ّ
المشركين والكفار ـ أهل الكتاب من وجوه كثيرة ـ أنه من أولياء الّ المتقين .والكلم في هذا مبسوط في موضع آخر.
ولهذا في هؤلء من يرى جواز قتال النبياء ،ومنهم من يرى أنه أفضل من النبياء ،إلى أنواع أخر .وذلك ؛لنه
حصل لهم من النواع الشيطانية والنفسانية ما ظنوا أنها من كرامات الولياء ،فظنوا /أنهم منهم ،فكان المر
بالعكس .وأصل هذا أنهم تعبدوا بما تحبه النفس ،وأما العبادة بما يحبه الّ ويرضاه ،فل يحبونه ول يريدونه وحده،
ويرون أنهم إذا عبدوا الّ بما أمر به ورسله حط لهم عن منصب الولية ،فيحدثون محبة قوية وتألهًا وعبادة وشوقًا
وزهدًا ،ولكن فيه شرك وبدعة.
ومحبة التوحيد :إنما تكون لّ وحده على متابعة رسوله ،كما قال تعالىُ { :قلْ إِنْ كُنْتُمْ ُتحِبّونَ الَّ فَاتّ ِبعُونِي يُحْبِ ْب ُكمْ ا ُ
لّ
وَ َيغْفِرْ َلكُمْ ذُنُو َبكُمْ} [آل عمران]31 :؛ فلهذا يكون أهل التباع فيهم جهاد ونية في محبتهم ،يحبون لّ ،ويبغضون له.
وهم على ملة إبراهيم .والذين معه {إِذْ قَالُوا ِلقَ ْو ِمهِمْ إِنّا بُرَآءُ مِ ْنكُمْ َومِمّا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الِّ َكفَرْنَا ِب ُك ْم وَبَدَا بَيْنَنَا
ح َدهُ} [الممتحنة ،]4 :وأولئك محبتهم فيها شرك ،وليسوا متابعين لّ وَ ْ وَبَيْ َنكُمْ ا ْلعَدَا َو ُة وَالْ َب ْغضَاءُ أَ َبدًا حَتّى ُت ْؤمِنُوا بِا ِ
للرسول ،ول مجاهدين في سبيل الّ ،فليست هي المحبة الخلصية ،فإنها مقرونة بالتوحيد؛ ولهذا سمي أبو طالب
المكي كتابه :قوت القلوب في معاملة المحبوب ،ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد ،والّ ـ سبحانه ـ أعلم.
َفصْـل
وإن الزهد :هو عما ل ينفع ،إما لنتفاء نفعه ،أو لكونه مرجوحًا؛ لنه مفوت لما هو أنفع منه ،أو محصل لما يربو
ضرره على نفعه .وأما المنافع الخالصة ،أو الراجحة فالزهد فيها حمق
وأما الورع ،فإنه المساك عما قد يضر ،فتدخل فيه المحرمات والشبهات ؛لنها قد تضر .فإنه من اتقى الشبهات
استبرأ لعرضه ودينه ،ومن وقع في الشبهات ،وقع في الحرام ،كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه.
وأما الورع ،عما ل مضرة فيه ،أو فيه مضرة مرجوحة ـ لما /تقترن به من جلب منفعة راجحة ،أو دفع مضرة
أخرى راجحة ـ فجهل وظلم .وذلك يتضمن :ثلثة أقسام ل يتورع عنها المنافع المكافئة والراجحة والخالصة كالمباح
المحض أو المستحب أو الواجب فإن الورع عنها ضللة.
الزهد ،خلف الرغبة .يقال :فلن زاهد في كذا .وفلن راغب فيه .و الرغبة :هي من جنس الرادة .فالزهد في
الشيء انتفاء الرادة له ،إما مع وجود كراهته ،وإما مع عدم الرادة والكراهة ،بحيث ليكون ل مريدًا له ،ول كارهًا
له ،وكل من لم يرغب في الشيء ويريده فهو زاهد فيه.
وكما أن سبيل الّ يحمد فيه الزهد ،فيما زهد الّ فيه من فضول الدنيا ،فتحمد فيه الرغبة والرادة لما حمد الّ إرادته،
شيّ والرغبة فيه؛ ولهذا كان أساس الطريق الرادة .كما قال تعالىَ { :ولَ َتطْرُدْ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْل َغدَا ِة وَا ْلعَ ِ
سعْ ُيهُمْسعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَُأوْلَ ِئكَ كَانَ َ سعَى َلهَا َ جهَهُ}[النعام ،]52 :وقال تعالىَ { :ومَنْ أَرَادَ الْخِ َر َة وَ َ
ن وَ ْ
يُرِيدُو َ
شكُورًا} [السراء ،]19 :ونظائره متعددة. مَ ْ
[هود ،]16 ،15 :وقال تعالى{ :أَ ْلهَاكُمْ ال ّتكَاثُرٍُ} السورة [ التكاثر ] ،وقـال تعالـى{:وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ َأكْلً ّلمّا.
حبّ ا ْلخَيْرِ شهِيدٌ .وَإِنّهُ لِ ُ جمّا }[الفجر ،]20 ،19 :وقال{ :إِنّ الِْنسَانَ لِرَبّهِ َلكَنُودٌ .وَإِنّهُ َ
علَى ذَِلكَ لَ َ وَتُحِبّونَ ا ْلمَالَ حُبّا َ
شدِيدٌ} [العاديات ،]6-8 :وقال تعالى{ :اعَْلمُوا أَ ّنمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََلهْ ٌو وَزِينَ ٌة وَ َتفَاخُرٌ بَيْ َنكُمْ} الية [الحديد: لَ َ
،]20وهذا باب واسع.
وإنما المقصود هنا تميز الزهد الشرعي ،من غيره ،وهو الزهد المحمود ،وتميز الرغبة الشرعية ،من غيرها ،وهي
الرغبة المحمودة ،فإنه كثيرًا ما يشتبه الزهد بالكسل والعجز والبطالة عن الوامر الشرعية ،وكثيرًا ما تشتبه الرغبة
الشرعية بالحرص ،والطمع ،والعمل الذي ضل سعى صاحبه.
وأما الورع ،فهو اجتناب الفعل واتقاؤه ،والكف والمساك عنه والحذر منه ،وهو يعود إلى كراهة المر ،والنفرة منه،
والبغض له ،وهو أمر وجودي أيضًا ـ وإن كان قد اختلف في المطلوب بالنهي .هل هو عدم المنهى عنه ،أو فعل
ضده؟ وأكثر أهل الثبات على الثاني ـ فل ريب أنه ليسمى ورعًا ،ومتورعًا ،ومتقيًا ،إل إذا وجد منه المتناع
والمساك الذي هو فعل ضد المنهي عنه.
/والتحقيق :أنه مع عدم المنهي عنه يحصل له عدم مضرة الفعل المنهي عنه ،وهو ذمه وعقابه ونحو ذلك ،ومع وجود
المتناع والتقاء والجتناب يكون قد وجد منه عمل صالح وطاعة وتقوى ،فيحصل له منفعة هذا العمل ،من حمده
وثوابه ،وغير ذلك ،فعدم المضرة لعدم السيئات ،ووجود المنفعة لوجود الحسنات.
فتلخص أن الزهد من باب عدم الرغبة ،والرادة في المزهود فيه .والورع من باب وجود النفرة ،والكراهة للمتورع
عنه ،وانتفاء الرادة ،إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة ،وأما وجود الكراهة ،فإنما يصلح فيما فيه
مضرة خالصة أو راجحة ،فأما إذا فرض مال منفعة فيه ول مضرة ،أو منفعته ومضرته سواء من كل وجه ،فهذا ل
يصلح أن يراد ،ول يصلح أن يكره ،فيصلح فيه الزهد ،ول يصلح فيه الورع ،فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع
يصلح فيه الزهد ،من غير عكس ،وهذا بين ،فإن ما صلح أن يكره وينفر عنه صلح أن ل يراد ول يرغب فيه ،فإن
عدم الرادة أولى من وجود الكراهة ،ووجود الكراهة مستلزم عدم الرادة من غير عكس ،وليس كل ما صلح أن ل
يراد يصلح أن يكره ،بل قد يعرض من المور مال تصلح إرادته ول كراهته ،ول حبه ول بغضه ول المر به ،ول
النهي عنه.
/وبهذا يتبين أن الواجبات والمستحبات ،ل يصلح فيها زهد ول ورع ،وأما المحرمات والمكروهات ،فيصلح فيها
الزهد والورع .وأما المباحات ،فيصلح فيها الزهد دون الورع ،وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل.
وإنما الشأن فيما إذا تعارض في الفعل .هل هو مأمور به ،أو منهي عنه ،أو مباح؟ وفيما إذا اقترن بما جنسه مباح ما
يجعله مأمورًا به ،أو منهيًا عنه ،أو اقترن بالمأمور به ،مايجعله منهيًا عنه وبالعكس.
فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها ،يحتاج إلى الفرقان.
َوقَــال:
َفصْـــل
قول بعض الناس :الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الطلق ،كما قد يستدل به طوائف على أنواع من
الرهبانيات ،والعبادات المبتدعة ،التي لم يشرعها الّ ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الّ من
الطيبات ،ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى ال عليه وسلم ،حيث قال( :هلك المتنطعون) ،وقال( :لو مد لي
الشهر لواصلت وصالً يدع المتعمقون تعمقهم) ،مثل الجوع أو العطش المفرط ،الذي يضر العقل والجسم ،ويمنع
أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه ،وكذلك الحتفاء والتعري والمشي الذي يضر النسان بل فائدة ،مثل حديث أبي
إسرائيل الذي نذر أن يصوم ،وأن يقوم قائما ول يجلس ول يستظل ول يتكلم فقال النبي صلى ال عليه وسلم( :مروه
فليجلس ،وليستظل ،وليتكلم ،وليتم /صومه) رواه البخاري ،وهذا باب واسع.
وأما الجر على قدر الطاعة فقد تكون الطاعة لّ ورسوله في عمل ميسر ،كما يسر الّ على أهل السلم :الكلمتين،
وهما أفضل العمال؛ ولذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم( :كلمتان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان،
ل وبحمده ،سبحان الّ العظيم) أخرجاه في الصحيحين. حبيبتان إلى الرحمن ،سبحان ا ّ
ولو قيل :الجر على قدر منفعة العمل ،وفائدته ؛لكان صحيحًا اتصاف الول باعتبار تعلقه بالمر والثاني باعتبار
صفته في نفسه .والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة المر فقط ،وتارة من جهة صفته في نفسه ،وتارة من كل
المرين .فبالعتبار الول ينقسم إلى طاعة ومعصية ،وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة ،والطاعة والمعصية اسم له
من جهة المر ،والحسنة والسيئة اسم له من جهة نفسه .. .وإن كان كثيـر مـن النـاس ل يثبت إل الول ،كما تقوله
الشعرية وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم.
ومن الناس من ليثبت إل الثاني ،كما تقوله المعتزلة وطائفة /من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ،والصواب إثبات
العتبارين ،كما تدل عليه نصوص الئمة وكلم السلف وجمهور العلماء من أصحابنا وغيرهم.
فأما كونه مشقًا ،فليس هو سببًا لفضل العمل ورجحانه ،ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقًا ،ففضله لمعنى غير
مشقته ،والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره ،فيزداد الثواب بالمشقة ،كما أن من كان بعده عن البيت في الحج
والعمرة أكثر ،يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لعائشة في العمرة( :أجرك على قدر
نصبك) لن الجر على قدر العمل في بعد المسافة ،وبالبعد يكثر النصب فيكثر الجر ،وكذلك الجهاد ،وقوله صلى
ال عليه وسلم( :الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ،والذي يقرأه ويتتعتع فيه ،وهو عليه شاق له أجران).
فكثيرًا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب ،ل لن التعب والمشقة مقصود من العمل ،لكن ؛لن العمل مستلزم
للمشقة والتعب ،هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الصار والغلل ،ولم يجعل علينا فيه حرج ،ول أريد بنا فيه
العسر ،وأما في شرع من قبلنا ،فقد تكون المشقة مطلوبة منهم .وكثير من العباد يرى جنس المشقة واللم والتعب
مطلوبًا مقربًا إلى الّ؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون /إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علقة الجسد ،وهذا
من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم.
ولهذا تجد هؤلء مع من شابههم من الرهبان يعالجون العمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات،
مع أنه ل فائدة فيها ول ثمرة لها ،ول منفعة إل أن يكون شيئًا يسيرًا ل يقاوم العذاب الليم الذي يجدونه.
ونظير هذا الصل الفاسد ،مدح بعض الجهال بأن يقول :فلن ما نكح ول ذبح .وهذا مدح الرهبان الذين ل ينكحون
ول يذبحون ،وأما الحنفاء فقد قال النبي صلى ال عليه وسلم( :لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء ،وآكل اللحم ،فمن
رغب عن سنتي فليس مني).
وهذه الشياء هي من الدين الفاسد ،وهو مذموم ،كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم.
والناس أقسام:
وأصحاب دين فاسد :وهم الكفار ،والمبتدعة الذين يتدينون بما لم /يشرعه الّ من أنواع العبادات ،والزهادات.
والقسم الثالث وهم :أهل الدين الصحيح ،أهل السلم المستمسكون بالكتاب ،والسنة والجماعة ،والحمد لّ الذي هدانا
لهذا ،وما كنا لنهتدي لول أن هدانا الّ لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
حمَهُ الُّ:
َ /وقَالَ شَيخُ الِسْـلم أحمَد بن تيمية ـ َر ِ
َفصْل
أما اللفظ فقوله :من زكاها اسم موصول ولبد فيه من عائد /على {مّن} فإذا قيل :قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان
ضمير الشخص في زكاها يعود على {مّن} ،هذا وجه الكلم الذي ل ريب في صحته كما يقال :قد أفلح من اتقى ال
وقد أفلح من أطاع ربه.
وأما إذا كان المعنى :قد أفلح من زكاه الّ ،لم يبق في الجملة ضمير يعود على {مّن} فإن الضميرعلى هذا يعود على
الّ ،وليس هو {مّن} وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فل يعود على {مّن} ل ضمير الفاعل ،ول المفعول.
فتخلوا الصلة من عائد وهذا ل يجوز.
نعم ،لو قيل :قد أفلح من زكى الّ نفسه ،أو من زكاها الّ له ،ونحو ذلك صح الكلم ،وخفاء هذا على من قال به من
النحاة عجب .وهو لم يقل :قد أفلحت نفس زكاها .فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس ل صلة ،بل قالَ { :قدْ َأفْلَ َ
ح مَنْ
َزكّاهَا} [الشمس ،]9 :فالجملة صلة لـ {مّن} ل صفة لها.
ول قال أيضًا :قد أفلحـت النفس التي زكـاها ،فإنـه لـو قيـل ذلك ،وجعـل في { ّزكّاهّا } ضمير يعود على اسم الّ
صح ،فإذا تكلفوا ،وقالوا :التقدير { َقدْ َأفْلَ َح مَنْ َزكّاهَا} هي النفس التي زكاها ،وقالوا :في زكى ضمير المفعول يعود
على {مَنْ} وهي تصلح للمذكر والمؤنث /والواحد والعدد ،فالضمير عائد على معناها المؤنث ،وتأنيثها غير حقيقي؛
ولهذا قيل{ :قّد أّفلّح} ولم يقل :قد أفلحت ،قيل لهم :هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة ،فإنما يصح إذا دل الكلم
على ذلك في مثل ومن .. .على أن المراد لنا ،وكذا قولهَ { :و ِم ْنهُ ْم مَ ْن يَ ْستَ ِمعُونَ إَِل ْيكَ} [يونس ،]42 :ونحو ذلك.
وأما هنا فليس في لفظ {مَنْ} ،وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة ،فل يجوز أن يراد بالكلم ما ليس
فيه دليل على إرادته ،فإن مثل هذا مما يصان كلم الّ عز وجل عنه ،فلو قدر احتمال عود ضمير { َزكّاهَا} إلى نفس
وإلى {مَنْ} ،مع أن لفظ {مَنْ} ل دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل
التذكير والتأنيث ،وهو في التذكير أظهر ،لعدم دللته على التأنيث ،فإن الكلم إذا احتمل معنيين وجب حمله على
أظهرهما ،ومن تكلف غير ذلك ،فقد خرج عن كلم العرب المعروف ،والقرآن منزه عن ذلك ،والعدول عما يدل
عليه ظاهر الكلم إلى مال يدل عليه بل دليل ل يجوز البتة فكيف إذا كان نصًا من جهة المعني؟! فقد أخبر الّ أنه
يلهم التقوى والفجور .ولبسط هذا موضع آخر.
/والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم ،والتحذير من تدسيتها ،كقولهَ { :قدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّى} [العلى ،]14 :فلو قدر
أن المعنى قد أفلح من زكى الّ نفسه لم يكن فيه أمر لهم ول نهي ،ول ترغيب ول ترهيب .والقرآن إذا أمر أو نهى ل
ل مؤمنًا ،بل يقولَ { :قدْ َأفْلَحَ ا ْلمُ ْؤمِنُونَ} [المؤمنونَ { ،]1 :قدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّى} إذ
يذكر مجرد القدر فل يقول :من جعله ا ّ
ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود ،ول يليق هذا بأضعف الناس عقل فكيف بكلم الّ؟! أل ترى أنه في مقام
المر ،والنهي ،والترغيب ،والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد ،والوعيد ،والمدح ،والذم ،وإنما يذكر القدر عند بيان
نعمه عليهم ،إما بما ليس من أفعالهم ،وإما بإنعامه باليمان ،والعمل الصالح ،ويذكره في سياق قدرته ومشيئته ،وأما
في معرض المر فل يذكره إل عند النعم .كقوله{ :وَلَ ْو َل فَضْلُ الِّ عََل ْيكُمْ وَ َر ْحمَتُ ُه مَا َزكَى} الية [النور ،]21 :فهذا
مناسب .وقولهَ { :قدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّى}وهذه الية من جنس الثانية ل الولى.
والمقصود ذكر التزكية قال تعالى{ :قُلْ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َيغُضّوا} الية [النور ،]30 :وقال{ :فَارْ ِجعُوا ُهوَ أَ ْزكَى َل ُكمْ}[النور:
،]28وقال{ :اّلذِي َن لَ يُ ْؤتُونَ ال ّزكَاةَ} [فصلت ،]7 :وقالَ { :ومَا عََل ْيكَ َأ ّل يَ ّزكّى}[عبس.]7 :
وأصل الزكاة الزيادة في الخير .ومنه يقال :زكا الزرع ،وزكا /المال إذا نما .ولن ينمو الخير إل بترك الشر ،والزرع
ل يزكو حتى يزال عنه الدغل ،فكذلك النفس والعمال ل تزكوا حتي يزال عنها ما يناقضها ول يكون الرجل متزكيًا
إل مع ترك الشر ،فإنه يدنس النفس ويدسيها .قال الزجاج{ :دّسّاهّا} جعلها ذليلة حقيرة خسيسة ،وقال الفراء :دساها؛
لن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله ،قال ابن قتيبة :أي أخفاها بالفجور والمعصية ،فالفاجر دس نفسه ،أي قمعها
وخباها ،وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها ،وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها ،واللئام تنزل
الطراف والوديان.
فالبر والتقوى يبسط النفس ،ويشرح الصدر ،بحيث يجد النسان في نفسه اتساعًا وبسطًا عما كان عليه قبل ذلك ،فإنه
لما اتسع بالبر والتقوى والحسان بسطه الّ وشرح صدره ،والفجور ،والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها ،بحيث
يجد البخيل في نفسه أنه ضيق .وقد بين النبي صلى ال عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح ،فقال( :مثل البخيل
والمتصدق ،كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد ،قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما .فجعل المتصدق كلما هم بصدقة
اتسعت وانبسطت عنه ،حتى تغشى أنامله ،وتعفو أثره ،وجعل البخيل كلما هم بصدقة ،قلصت ،وأخذت كل حلقة
بمكانها ،وأنا رأيت رسول الّ صلى ال عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه ،فلو رأيتها يوسعها فل تتسع) أخرجاه.
/وإخفاء المنزل وإظهاره تبعًا لذلك ،قال تعالى{ :يَتَوَارَى مِنْ ا ْلقَوْ ِم مِنْ سُو ِء مَا بُشّ َر بِهِ} الية [النحل .]59 :فهكذا النفس
البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في بدنه بعضها في بعض؛ ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من
الصوف المبتل ،والنفس البرة التقية النقية ،التي قد زكاها صاحبها فارتفعت ،واتسعت ،ومجدت ،ونبلت فوقت الموت
تخرج من البدن تسيل ،كالقطرة من في السقاء ،وكالشعرة من العجين .قال ابن عباس :إن للحسنة لنورًا في القلب،
وضياءً في الوجه ،وقوة في البدن ،وسعة في الرزق ،ومحبة في قلوب الخلق .وإن للسيئة لظلمة في القلب ،وسوادًا
طيّبُ} الية [العراف: في الوجه ،ووهنا في البدن ،وضيقًا في الرزق ،وبغضة في قلوب الخلق .قال تعالى{ :وَا ْلبََلدُ ال ّ
صدْرَهُ} الية [النعام .]521 :وقال{ :الُّ وَِليّ اّلذِينَ ن يَه ِديَهُ يَشْ َرحْ َ .]58وهذا مثل البخيل والمنفق .قالَ { :فمَ ْ
ن يُ ِردْ الُّ أَ ْ
آ َمنُوا} الية [البقرة.]257 :
وقال له في سياق الرمي بالفاحشة ،وذم من أحب إظهارها في المؤمنين ،والمتكلم بما ل يعلم{ :وَلَ ْو َ
ل فَضْلُ الِّ عََل ْيكُ ْم
حدٍ َأ َبدًا}الية[النور .]21 :فبين أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة ولهذا قال{ :قُلْ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ
ح َمتُهُ مَا َزكَى ِمنْكُ ْم مِنْ َأ َ
وَ َر ْ
َيغُضّوا مِنْ َأبْصَارِهِمْ} الية [النور .]30 :وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس ،فإنها تعلم أن السيئات مذمومة
ومكروه فعلها ،ويجاهد نفسه إذا دعته إليها ،إن كان مصدقًا لكتاب /ربه مؤمنا بما جاء عن نبيه صلى ال عليه وسلم؛
ولهذا التصديق واليمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة ،فتزكو بذلك أيضًا ،بخلف ما إذا
عملت السيئات فإنهـا تتدنس وتندس ،وتنقمع ،كالزرع إذا نبت معه الدغل.
والثواب إنما يكون على عمل موجود ،وكذلك العقاب .فأما العدم المحض ،فل ثواب فيه ول عقاب ،لكن فيه عدم
الثواب والعقاب ،والّ سبحانه أمر بالخير ،ونهى عن الشر ،واتفق الناس على أن المطلوب بالمر فعل موجود،
واختلفوا في النهي هل المطلوب أمر وجودي ،أم عدمي؟ فقيل :وجودي ،وهو الترك ،وهذا قول الكثر .وقيل:
المطلوب عدم الشر ،وهو أل يفعله.
والتحقيق أن المؤمن إذا نهى عن المنكر ،فل بد أل يقربه ويعزم على تركه ،ويكره فعله ،وهذا أمر وجودي بل ريب،
فليتصور أن المؤمن الذي يعلم أنه . ..وجودي ،لكن قد ل يكون مريدًا له كما يكره أكل الميتة طبعًا ،ومع ذلك ،فلبد
له من اعتقاد التحريم والعزم على تركه لطاعة الشارع ،وهذا قدر زائد على كراهة الطبع ،وهو أمر وجودي يثاب
عليه ،ولكن ليس كثواب من كف نفسه وجاهدها عن طلب /المحرم ،ومن كانت كراهته للمحرمات كراهة إيمان .وقد
غمر إيمانه حكم طبعه ،فهذا أعلى القسام الثلثة ،وهذا صاحب النفس المطمئنة ،وهو أرفع من صاحب اللوامة التي
تفعل الذنب ،وتلوم صاحبها عليه ،وتتلوم وتتردد ،هل تفعله أم ل؟!
وأما من لم يخطر بباله أن الّ حرمه ،ول هو مريد له ،بل لم يفعله ،فهذا ليعاقب ول يثاب ،إذ لم يحصل منه أمر
وجودي يثاب عليه ،أو يعاقب فمن قال :المطلوب أل يفعل ،إن أراد أن هذا المطلوب يكفي في عدم العقاب ،فقد
صدق ،وإن أراد أنه يثاب على هذا العدم ،فليس كذلك ،والكافر إذا لم يؤمن بالّ ورسوله ،فل بد لنفسه من أعمال
يشتغل بها عن اليمان ،وترك العمال كفر يعاقب عليها.
ل عقوبة الكفار في النار ،ذكر أمورًا وجودية وتلك تدس النفس؛ ولهذا كان التوحيد واليمان أعظم ما
ولهذا لما ذكر ا ّ
تزكو به النفس ،وكان الشرك أعظم ما يدسيها ،وتتزكى بالعمال الصالحة والصدقة هذا كله مما ذكره السلف .قالوا:
في { َقدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّى}[العلى ،]14 :تطهر من الشرك ،ومن المعصية بالتوبة ،وعن أبي سعيد وعطاء وقتادة:
صدقة الفطر .ولم يريدوا أن الية لم تتناول إل هي ،بل مقصودهم :أن من أعطى صدقة الفطر ،وصلى صلة العيد
فقد تناولته وما بعدها ،ولهذا /كان يزيد بن حبيب ،كلما خرج إلى الصلة خرج بصدقة ،ويتصدق بها ،قبل الصلة،
ولو لم يجد إل بصلً .قال الحسنَ { :قدْ َأفْلَ َح مَنْ تَ َزكّى} من كان عمله زاكيًا ،وقال أبو الحوص :زكاة المور كلها،
وقال الزجاج :تزكى بطاعة الّ عز وجل ،ومعنى الزاكي :النامي الكثير.
وكذلك قالوا في قوله{ :وَ َويْلٌ لِ ْلمُ ْش ِركِينَ .اّلذِينَ َل يُ ْؤتُونَ ال ّزكَاةَ}[فصلت ]7 ،6 :قال ابن عباس :ليشهدون أن ل إله إل
الّ ،وقال مجاهد :ل يزكون أعمالهم أي ليست زاكية ،وقيل ل يطهرونها بالخلص ،كأنه أراد ـ والّ أعلم ـ أهل
الرياء ،فإنه شرك .وعن الحسن :ل يؤمنون بالزكاة ،ول يقرون بها .وعن الضحاك :ل يتصدقون ،ول ينفقون في
الطاعة ،وعن ابن السائب :ل يعطون زكاة أموالهم .قال :كانوا يحجون ويعتمرون ول يزكون.
والتحقيق أن الية تتناول كل ما يتزكى به النسان من التوحيد والعمال الصالحة .كقوله{ :هَلْ َلكَ إِلَى أَ ْن تَ َزكّى} [
النازعات ،]18 :وقولهَ { :قدْ َأفْلَ َح مَنْ تَ َزكّى} [العلى ،]14 :والصدقة المفروضة لم تكن فرضت عند نزولها.
قيل :هذا كقوله{ :ثُمّ ُسئِلُوا الْ ِف ْتنَةَ َلتَوْهَا} [الحزاب ،]14 :وتقدم قبلها أن /الرسول دعاهم ،وهو طلب منه ،فكان هذا
اللفظ متضمنًا قيام الحجة عليهم بالرسل ،والرسل إنما يدعونهم لما تزكو به أنفسهم.
فهذه المور توجب تبريد المغسول بها ،و[البرد] يعطي قوة وصلبة ،ومايسر يوصف بالبرد وقرة العين؛ ولهذا كان
دمع السرور باردًا ،ودمع الحزن حارًا؛ لن مايسوء النفس يوجب حزنها وغمها ،وما يسرها يوجب فرحها
وسرورها وذلك مما يبرد الباطن.
فسأل النبي صلى ال عليه وسلم :أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور
الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب.
وقوله :بالثلج والبرد والماء البارد :تمثيل بما فيه من هذا الجنس ،وإل فنفس الذنوب ل تغسل بذلك ،كما يقال :أذقنا
برد عفوك ،وحلوة مغفرتك .ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال صلى ال عليه وسلم( :الن /برّدت جلدته) ،ويقال:
برد اليقين ،وحرارة الشك ،ويقال :هذا المر يثلج له الصدر ،إذا كان حقًا يعرفه القلب ويفرح به ،حتى يصير في مثل
برد الثلج ،ومرض النفس :إما شبهة وإما شهوة أو غضب ،والثلثة توجب السخونة ،ويقال لمن نال مطلوبه :برد
قلبه ،فإن الطالب فيه حرارة الطلب.
خ ْذ مِنْ َأمْوَاِلهِمْ} :دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة ،فإنه قاله بعد قوله{ : وقولهُ { :
وَآ َخرُونَ ا ْعتَ َرفُوا}الية [التوبة .]102 :فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق
قوله{ :قُلْ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َيغُضّوا}اليات [النورَ { ]30 :وتُوبُوا إِلَى الِّ} الية [النور .]31 :فأمرهم جميعًا بالتوبة في سياق
ما ذكره؛ لنه ل يسلم أحد من هذا الجنس .كما في الصحيح( :إن الّ كتب على ابن آدم حظه من الزنا) الحديث.
ت ُيذْهِبْنَ ال ّسّيئَاتِ} [هود ]114 :نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء وكذلك في الصحيح :إن قوله{ :إِنّ الْحَ َ
سنَا ِ
إل الجماع ،ثم ندم فنزلت.
ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف الّ ،وينهى النفس عن الهوى ،ونفس الهوى والشهوة ل يعاقب عليه ،بل على
اتباعه والعمل به ،فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لّ ،وعملً صالحًا ،وثبت عنه أنه قال( :المجاهد
من جاهد نفسه في ذات الّ) ،فيؤمر بجهادها /كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها ،وهو إلي جهاد نفسه
أحوج ،فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية ،والصبر في هذا من أفضل العمال ،فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك
الجهاد ،فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد .كما قال( :والمهاجر من هجر السيئات).
ف نُ ْؤتِيهِ أَ ْجرًا عَظِيمًا}[النساء،]74 : ثم هذا ل يكون محمودًا فيه ،إل إذا غلب ،بخلف الول فإنه من{ َفيُ ْقتَلْ أَ ْو َيغْلِ ْ
ب فَسَ ْو َ
ولهـذا قال صلى ال عليه وسلم( :ليـس الشديد بالصرعة ) . ..إلخ؛ وذلك لن الّ أمر النسان أن ينهي النفس عن
الهوى ،وأن يخاف مقام ربه ،فحصل له من اليمان ما يعينه على الجهاد ،فإذا غلب كان لضعف إيمانه ،فيكون
مفرطًا بترك المأمور ،بخلف العدو الكافر فإنه قد يكون بدنه أقوى.
فالذنوب إنما تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به ،ومع امتثال المأمور ل تفعل المحظور ،فإنهما ضدان .قال
تعالىَ { :كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َعنْهُ السّوءَ} الية [يوسف .]24 :وقال{ :إِنّ ِعبَادِي َليْسَ َلكَ عََل ْيهِمْ سُ ْلطَانٌ} [الحجر،42 :
السراء ] 65 :فعباد الّ المخلصون ل يغويهم الشيطان ،والغي خلف الرشد ،وهو اتباع الهوى ،فمن مالت نفسه
إلى محرم ،فليأت بعبادة الّ كما أمر الّ مخلصًا له الدين ،فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء .. ..خشية ومحبة،
والعبادة له /وحده ،وهذا يمنع من السيئات.
فإذا كان تائبًا ،فإن كان ناقصًا ،فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع ،فهو كالترياق الذي يدفع أثر
السم ،ويرفعه بعد حصوله ،وكالغذاء من الطعام والشراب ،وكالستمتاع بالحلل الذي يمنع النفس عن طلب الحرام،
فإذا حصل له طلب إزالته ،وكالعلم الذي يمنع من الشك ،ويرفعه بعد وقوعه ،وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع
المرض ،وكذلك ما في القلب من اليمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به.
وإذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه ،ول يحصل المرض إل لنقص أسباب الصحة ،كذلك القلب
ل يمرض إل لنقص إيمانه .وكذلك اليمان والكفران متضادان ،فكل ضدين :فأحدهما يمنع الخر تارة ،ويرفعه
أخرى ،كالسواد والبياض . ..حصل موضعه ويرفعه إذا كان حاصلً ،كذلك الحسنات والسيئات والحباط. ..
والمعتزلة إن الكبيرة تحبط الحسنات حتى اليمان ،وإن من مات عليها لم يكن .. .الجبائي وابنه بالموازنة .لكن قالوا:
من رجحت سيئاته خلد في النار ،والموازنة بل تخليد قول . ..الحباط ما أجمع عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر
كما قالَ { :ومَ ْن يَ ْر َتدِ ْد ِمنْكُمْ عَ ْن دِينِهِ}الية[البقرة ،]217 :وقولهَ { :ومَنْ َيكْ ُف ْر بِالِْيمَانِ َف َقدْ َحبِطَ َعمَلُهُ} الية [المائدة،]5 :
وقال{ :وََلوْ أَشْ َركُوا لَ َحبِطَ َع ْنهُ ْم مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ} [النعام ،]88 :وقالَ{ :لئِنْ أَشْ َركْتَ َليَ ْحبَطَنّ َعمَُلكَ} الية [الزمر.]65 :
وما ادعته المعتزلة مخالف لقوال السلف ،فإنه سبحانه ذكر حد الزاني وغيره ،ولم يجعلهم كفارًا حابطي العمال،
ول أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين ،والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم .والنبي صلى ال عليه وسلم أمر
بالصلة على الغال ،وعلى قاتل نفسه ،ولو كانوا كفارًا ومنافقين لم تجز الصلة عليهم .فعلم أنهم لم يحبط إيمانهم كله.
وقال عمن شرب الخمر( :ل تلعنه فإنه يحب الّ ورسوله) وذلك الحب من أعظم شعب اليمان .فعلم أن إدمانه ل
يذهب الشعب كلها ،وثبت من وجوه كثيرة( :يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ولو حبط لم يكن في
قلوبهم شيء منه .وقال تعالى{ :ثُمّ َأوْ َر ْثنَا ا ْل ِكتَابَ}الية[فاطر .]32 :فجعل من المصطفين.
فإذا كانت السيئات ل تحبط جميع الحسنات ،فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر؟ فيه
ص َدقَا ِتكُمْ قولن للمنتسبين إلى السنة .منهم من ينكره ،ومنهم من يثبته ،كما دلت عليه النصوص ،مثل قولهَ { :
ل ُتبْطِلُوا َ
بِا ْلمَنّ وَا َلْذَى} الية[البقرة .]264 :دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة ،وضرب مثله بالمرائي ،وقالت عائشة:
ابلغي زيدًا أن جهاده بطل .الحديث.
عمَاُلكُمْ} [الحجرات ،]2 :وحديث صلة العصر ففي ذلك نزاع .وقال تعالىَ { :و َ
ل تُبْطِلُوا حبَطَ أَ ْ /وأما قوله{ :أَ ْ
ن تَ ْ
أَ ْعمَاَلكُمْ} [محمد ]33 :قال الحسن :بالمعاصي والكبائر ،وعن عطاء :بالشرك والنفاق ،وعن ابن السائب :بالرياء
والسمعة ،وعن مقاتل :بالمن .وذلك أن قومًا منوا بإسلمهم ،فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر
تحبط العمال.
قيل :ذلك منهي عنه في نفسه ،وموجب للخلود الدائم ،فالنهي عنه ل يعبر عنه بهذا ،بل يذكره على وجه التغليظ.
كقوله{ :مَ ْن يَ ْرتَ ّد ِم ْنكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة ]54 :ونحوها .والّ سبحانه في هذه وفي آية المن سماها إبطال ،ولم يسمه
لّ ثُ ّم مَاتُوا وَ ُه ْم كُفّارٌ} الية[محمد.]34 :
سبِيلِ ا ِ
صدّوا عَنْ َ إحباطًا؛ ولهذا ذكر بعدها الكفر بقوله{ :إِنّ اّلذِي َ
ن كَفَرُوا وَ َ
فإن قيل :المراد إذا دخلتم فيها فأتموها ،وبها احتج من قال :يلزم التطوع بالشروع فيه.
قيل :لو قدر أن الية تدل على أنه منهي عن إبطال بعض العمل ،فإبطاله كله أولى ،بدخوله فيها فكيف وذلك قبل
فراغه ل يسمى صلة ول صومًا؟!
ثم يقال :البطال يوجد قبل الفراغ أو بعده ،وما ذكروه أمر بالتمام ،والبطال هو إبطال الثواب ،ول نسلم أن من لم
يتم العبادة يبطل جميع ثوابه ،بل يقال :إنه يثاب على ما فعل من ذلك .وفي الصحيح حديث المفلس (الذي يأتي
بحسنات أمثال الجبال).
سُ ِئلَ شَيْـخ الِسْـلم ـ قدس ال روحه ـ عن رجل تفقه وعلم ما أمر الّ به وما نهى عنه ،ثم تزهد وترك الدنيا /
والمال والهل والولد خائفًا من كسب الحرام والشبهات ،وبعث الخرة وطلب رضا الّ ورسوله ،وساح في أرض
الّ والبلدان ،فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم ل؟
فأجــاب:
ل وحده ،الزهد المشروع هو ترك كل شيء ل ينفع في الدار الخرة ،وثقة القلب بما عند الّ ،كما في الحديث الحمد ّ
الذي في الترمذي (ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلل ،ول إضاعة المال ،ولكن الزهد أن تكون بما في يد الّ أوثق
بما في يدك ،وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك) لن الّ تعالى يقولِ{ :ل َكيْلَ
تَأْسَوْا عَلَى مَا فَا َتكُمْ َولَ َتفْرَحُوا ِبمَا آتَاكُمْ} [الحديد .]23 :فهذا صفة القلب.
/وأما في الظاهر ،فترك الفضول التي ل يستعان بها على طاعة الّ من مطعم وملبس ومال وغير ذلك ،كما قال
المام أحمد :إنما هو طعام دون طعام ،ولباس دون لباس ،وصبر أيام قلئل.
وجماع ذلك خلق رسول الّ صلى ال عليه وسلم ،كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول( :خير الكلم كلم الّ،
وخير الهدى هدى محمد ،وشر المور محدثاتها ،وكل بدعة ضللة) .وكان عادته في المطعم أنه ل يرد موجودًا ،ول
يتكلف مفقودًا ،ويلبس من اللباس ما تيسر من قطن وصوف وغير ذلك ،وكان القطن أحب إليه ،وكان إذا بلغه أن
بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد في الزهد ،أو العبادة على المشروع ،ويقول :أينا مثل رسول الّ صلى ال عليه
وسلم ؟! يغضب لذلك ،ويقول( :والّ إني لخشاكم لّ ،وأعلمكم بحدود الّ تعالى) وبلغه أن بعض أصحابه قال :أما أنا
فأصوم فل أفطر ،وقال الخر :أما أنا فأقوم فل أنام ،وقال آخر :أما أنا فل أتزوج النساء ،وقال آخر :أما أنا فل آكل
اللحم ،فقال صلى ال عليه وسلم( :لكني أصوم وأفطر ،وأقوم وأنام ،وأتزوج النساء ،وآكل اللحم ،فمن رغب عن
سنتي فليس مني).
فأما العراض عن الهل والولد فليس مما يحبه الّ ورسوله ،ول هو من دين النبياء؛ بل قد قال تعالى{ :وََل َقدْ
أَ ْرسَ ْلنَا ُرسُلً مِ ْن َقبِْلكَ وَ َجعَ ْلنَا َلهُمْ أَزْوَاجًا َوذُ ّريّةً} [الرعد ]38 :والنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجبًا تارة
ومستحبًا أخرى ،فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين.
وكذلك السياحة في البلد لغير مقصود مشروع ،كما يعانيه بعض النساك أمر منهي عنه ،قال المام أحمد :ليست
السياحة من السلم في شىء ،ول من فعل النبيين ول الصالحين.
وأما السياحة المذكورة في القرآن من قوله{ :التّائِبُونَ ا ْلعَابِدُونَ ا ْلحَا ِمدُونَ السّائِحُونَ} [التوبة ]112 :ومن قوله{ :مُسِْلمَاتٍ
ت َثّيبَاتٍ وََأ ْبكَارًا} [التحريم ]5 :فليس المراد بها هذه السياحة المبتدعة؛ فإن الّ قد ت تَا ِئبَاتٍ عَا ِبدَاتٍ سَائِحَا ٍ
ت قَا ِنتَا ٍ
مُ ْؤ ِمنَا ٍ
وصف النساء اللتي يتزوجهن رسوله بذلك ،والمرأة المزوجة ل يشرع لها أن تسافر في البراري سائحة ،بل المراد
بالسياحة شيئان:
أحدهما :الصيام .كما روى عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :الحلل بين،
والحرام بين ،وبينهما أمور مشتبهات ل يعلمهن كثيرمن الناس ،فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ،ومن
وقع في الشبهات وقع في الحرام ،كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ،أل وإن لكل /ملك حمى ،أل وإن
حمى الّ محارمه ،أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ،وإذا فسدت فسد الجسد كله ،إل وهي
القلب) .متفق عليه.
لكن إذا ترك النسان الحرام ،أو الشبهة ،بترك واجب أو مستحب ،وكان الثم أو النقص الذي عليه في الترك أعظم
من الثم الذي عليه في الفعل لم يشرع ذلك ،كما ذكر أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي ،عن المام أحمد بن حنبل
أنه سئل عمن ترك ما ل شبهة فيه وعليه دين؟ فسأله ولده أترك هذا المال الذي فيه شبهة فل أقضيه؟ فقال له :أتدع...
[بياض بالصل].
سُ ِئلَ شَيْخُ السلم أَبُو ا ْلعَبّاس أحمد بن تيمية ـ رحمه الّ ـ عن
قوله تعالى{ :حَقّ ا ْليَقِينِ} [ الواقعة ]95 :و{ َعيْنَ ا ْل َيقِينِ}[التكاثر ] 7 :و{عِ ْلمَ ا ْليَقِينِ} [التكاثر ]5 :فما معنى كل مقام
منها؟ وأي مقام أعلى؟.
فأجـاب:
فالول :مثل من أخبر أن هناك عسلً ،وصدق المخبر .أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده.
والثاني :مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه ،وهذا أعلى كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :ليس المخبر كالمعاين)
.
/والثالث :مثل من ذاق العسل ،ووجد طعمه وحلوته ،ومعلوم أن هذا أعلى مما قبله؛ ولهذا يشير أهل المعرفة إلى ما
عندهم من الذوق والوجد ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح( :ثلث من كن فيه وجد حلوة
اليمان :من كان الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما ،ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ ،ومن كان يكره أن يرجع
إلى الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه كما يكره أن يلقي في النار) ،وقال صلى ال عليه وسلم( :ذاق طعم اليمان :من رضى
بالّ ربًا ،وبالسلم دينًا ،وبمحمد رسولً) فالناس فيما يجده أهل اليمان ويذوقونه من حلوة اليمان وطعمه على
ثلث درجات:
الولى :من علم ذلك مثل من يخبره به شيخ له يصدقه ،أو يبلغه ما أخبر به العارفون عن أنفسهم ،أو يجد من آثار
أحوالهم ما يدل على ذلك.
والثانية :من شاهد ذلك وعاينه ،مثل أن يعاين من أحوال أهل المعرفة والصدق واليقين ما يعرف به مواجيدهم
وأذواقهم ،وإن كان هذا في الحقيقة لم يشاهد ما ذاقوه ووجدوه ،ولكن شاهد ما دل عليه لكن هو أبلغ من المخبر،
والمستدل بآثارهم.
والثالثة :أن يحصل له من الذوق والوجد في نفسه ما كان /سمعه ،كما قال بعض الشيوخ :لقد كنت في حال أقول
فيها :إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب .وقال آخر :إنه ليمر على القلب أوقات
يرقص منها طربًا .وقال الخر :لهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.
إحداها :العلم بذلك لما أخبرتهم الرسل ،وما قام من الدلة على وجود ذلك.
وكذلك في أمور الدنيا :فإن من أخبر بالعشق أو النكاح ولم يره ولم يذقه كان له علم به ،فإن شاهده ولم يذقه كان له
معاينة له ،فإن ذاقه بنفسه كان له ذوق وخبرة به ،ومن لم يذق الشيء لم يعرف حقيقته ،فإن /العبارة إنما تفيد التمثيل
والتقريب .وأما معرفة الحقيقة فل تحصل بمجرد العبارة ،إل لمن يكون قد ذاق ذلك الشيء المعبر عنه ،وعرفه
وخبره؛ ولهذا يسمون أهل المعرفة؛ لنهم عرفوا بالخبرة والذوق ما يعلمه غيرهم بالخبر والنظر ،وفي الحديث
الصحيح( :أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان بن حرب فيما سأله عنه من أمور النبي صلى ال عليه وسلم قال :فهل
يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ قال :ل ،قال :وكذلك اليمان إذا خالطت بشاشته القلب ل
يسخطه أحد).
فاليمان إذا باشر القلب وخالطته بشاشته ل يسخطه القلب ،بل يحبه ويرضاه ،فإن له من الحلوة في القلب واللذة
والسرور والبهجة ما ل يمكن التعبير عنه لمن لم يذقه ،والناس متفاوتون في ذوقه والفرح والسرور الذي في القلب له
خيْ ٌر ِممّا
ح َمتِهِ َف ِبذَِلكَ َف ْليَفْرَحُوا هُوَ َ
ل بِ َفضْلِ الِّ َوبِرَ ْ من البشاشة ما هو بحسبه ،وإذا خالطت القلب لم يسخطه ،قال تعالى{ :قُ ْ
ب مَنْ يُنكِ ُر َبعْضَهُ} [الرعد: لْحْزَا ِ ب َيفْرَحُونَ ِبمَا أُنزِلَ إَِل ْيكَ َومِنْ ا َ ج َمعُونَ} [يونس ،]58 :وقال تعالى{ :وَاّلذِي َ
ن آ َتيْنَا ُهمْ ا ْل ِكتَا َ يَ ْ
،]36وقال تعالى{ :وَِإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَ ٌة َف ِم ْنهُ ْم مَنْ يَقُولُ َأّيكُمْ زَا َدتْهُ َهذِهِ إِيمَانًا َفَأمّا اّلذِي َن آ َمنُوا َفزَا َدتْهُمْ إِيمَانًا وَهُ ْم يَ ْس َتبْشِرُونَ} [
التوبة ]124 :فأخبرـ سبحانه ـ أنهم يستبشرون بما أنزل من القرآن ،والستبشار هو الفرح والسرور؛ وذلك لما
يجدونه في قلوبهم من الحلوة واللذة والبهجة بما أنزل الّ.
/واللذة أبدا تتبع المحبة فمن أحب شيئًا ونال ما أحبه وجد اللّذة به؛ فالذوق هو إدراك المحبوب ،اللذة الظاهرة كالكل
مثلً :حال النسان فيها أنه يشتهي الطعام ويحبه ،ثم يذوقه ويتناوله فيجد حينئذ لذته وحلوته ،وكذلك النكاح وأمثال
ذلك.
وليس للخلق محبة أعظم ول أكمل ول أتم من محبة المؤمنين لربهم ،وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من
ل تعالى ،وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه ،فإن الرسول عليه الصلة والسلم إنما يحب لجل الّ، كل وجه إل ا ّ
لّ فَاّتبِعُونِي يُ ْح ِب ْبكُمْ الُّ}[آل عمران ،]31 :وفي حبّونَ ا َ ويطاع لجل الّ ،ويتبع لجل الّ .كما قال تعالى{ :قُلْ إِ ْ
ن ُكنْتُ ْم تُ ِ
الحديث( :أحبوا الّ لما يغذوكم به من نعمه ،وأحبوني لحب الّ ،وأحبوا أهل بيتي لحبي) ،وقال تعالى{ :قُلْ إِ ْ
ن كَانَ
لّ َل َيهْدِي ا ْلقَ ْومَ الْفَا ِسقِينَ} [
لّ بَِأمْ ِرهِ وَا ُ
حتّى يَ ْأتِيَ ا ُ
سبِيلِ ِه َفتَ َربّصُوا َ آبَا ُؤكُمْ} إلى قولهَ{ :أحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ َورَسُولِهِ وَ ِ
جهَا ٍد فِي َ
التوبة ،]24 :وقال النبي صلى ال عليه وسلم( :ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس
أجمعين) وفي حديث الترمذي وغيره( :من أحب لّ ،وأبغض لّ ،وأعطى لّ ،ومنع لّ ،فقد استكمل اليمان) وقال
س مَ ْن يَتّ ِخ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِحبّونَهُ ْم كَ ُحبّ الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة ،]165 :فالذين آمنوا أشد تعالىَ { :ومِنْ النّا ِ
حبًا لّ ،من كل محب لمحبوبه ،وقد بسطنا الكلم على هذا في مواضع متعددة.
/والمقصود هنا أن أهل اليمان يجدون بسبب محبتهم لّ ولرسوله من حلوة اليمان ما يناسب هذه المحبة ،ولهذا
علق النبي صلى ال عليه وسلم ما يجدونه بالمحبة فقال( :ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان :أن يكون الّ ورسوله
أحب إليه مما سواهما ،وأن يحب المرء ل يحبه إل لّ ،وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار).
ومنهم :من وجد حقيقة الخلص والتوكل على الّ ،واللتجاء إليه ،والستعانة به ،وقطع التعلق بما سواه ،وجرب من
نفسه أنه إذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم ،وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة ،فإنه يخذل من جهتهم،
ول يحصل مقصوده ،بل قد يبذل لهم من الخدمة والموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته إليهم ،فل
ينفعونه :إما لعجزهم ،وإما لنصراف قلوبهم عنه ،وإذا /توجه إلى الّ بصدق الفتقار إليه ،واستغاث به مخلصًا له
الدين ،أجاب دعاءه؛ وأزال ضرره ،وفتح له أبواب الرحمة .فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكل والدعاء لّ ،ما لم يذق
غيره .وكذلك من ذاق طعم إخلص الدين لّ وإرادة وجهه دون ما سواه؛ يجد من الحوال والنتائج والفوائد مال يجده
من لم يكن كذلك.
بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو؛ وتعلقه بالصور الجميلة ،أو جمعه للمال يجد في أثناء ذلك من الهموم
والغموم والحزان واللم وضيق الصدر ما ل يعبر عنه ،وربما ل يطاوعه قلبه على ترك الهوى ،ول يحصل له ما
يسره ،بل هو في خوف وحزن دائمًا ،إن كان طالبًا لما يهواه فهو قبل إدراكه حزين متألم حيث لم يحصل .فإذا أدركه
كان خائفًا من زواله وفراقه.
وأولياء الّ ل خوف عليهم ول هم يحزنون ،فإذا ذاق هذا أو غيره حلوة الخلص لّ ،والعبادة له ،وحلوة ذكره
ل وهو محسن بحيث يكون عمله صالحًا ،ويكون لوجه الّ خالصًا ،فإنه يجد من ومناجاته ،وفهم كتابه ،وأسلم وجهه ّ
السرور واللذة والفرح ما هو أعظم مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه وتوكله ما ينفعه من الدنيا .أو اندفع
عنه ما يضره ،فإن حلوة ذلك هي بحسب ما حصل له من /المنفعة ،أو اندفع عنه من المضرة ،ول أنفع للقلب من
التوحيد وإخلص الدين لّ ،ول أضر عليه من الشراك.
سؤال أبى القاسم المغربى يتفضل الشيخ المام بقية السلف ،وقدوة الخلف ،أعلم من لقيت ببلد المشرق /
والمغرب ،تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية ،بأن يوصيني بما يكون فيه صلح ديني ودنياي ،ويرشدني إلى كتاب
يكون عليه اعتمادي في علم الحديث ،وكذلك في غيره من العلوم الشرعية وينبهني على أفضل العمال الصالحة بعد
الواجبات ،ويبين لي أرجح المكاسب ،كل ذلك على قصد اليماء والختصار ،والّ تعالى يحفظه .والسلم الكريم
عليه ورحمة الّ وبركاته.
فأجـــاب:
الحمد لّ رب العالمين ،أما الوصية :فما أعلم وصية أنفع من وصية الّ ورسوله لمن عقلها /واتبعها ،قال تعالى{ :
ب مِ ْن َقبِْلكُمْ وَِإيّاكُمْ أَ ْن اتّقُوا الَّ} [النساء.]131 :
صيْنَا اّلذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَا َ
وََل َقدْ َو ّ
ووصى النبي صلى ال عليه وسلم معاذًا لما بعثه إلى اليمن فقال( :يامعاذ ،اتق الّ حيثما كنت ،وأتبع السيئة الحسنة
تمحها ،وخالق الناس بخلق حسن).
وكان معاذ ـ رضي الّ عنه ـ من النبي صلى ال عليه وسلم بمنزلة علية؛ فإنه قال له( :يامعاذ ،والّ ،إني لحبك)
وكان يردفه وراءه .وروى فيه( :أنه أعلم المة بالحلل والحرام) (وأنه يحشر إمام العلماء برتوة ـ أي بخطوة) .ومن
فضله أنه بعثه النبي صلى ال عليه وسلم مبلغًا عنه داعيًا ومفقهًا ومفتيًا وحاكمًا إلى أهل اليمن.
وكان يشبهه بإبراهيم الخليل ـ عليه السلم ـ وإبراهيم إمام الناس .وكان ابن مسعود ـ رضي الّ عنه ـ يقول :إن معاذًا
كان أمة قانتًا لّ حنيفًا ولم يك من المشركين؛ تشبيهًا له بإبراهيم.
ثم إنه صلى ال عليه وسلم وصاه هذه الوصية ،فعلم أنها جامعة وهي كذلك لمن عقلها ،مع أنها تفسير الوصية
القرآنية.
/حق لّ عز وجل ،وحق لعباده .ثم الحق الذي عليه لبد أن يخل ببعضه أحيانًا :إما بترك مأمور به ،أو فعل منهي
عنه .فقال النبي صلى ال عليه وسلم( :اتق الّ حيثما كنت) وهذه كلمة جامعة ،وفي قوله( :حيثما كنت) تحقيق لحاجته
إلى التقوى في السر والعلنية .ثم قال( :وأتبع السيئة الحسنة تمحها) فإن الطبيب متى تناول المريض شيئًا مضرًا
أمره بما يصلحه .والذنب للعبد كأنه أمر حتم ،فالكيس هو الذي ل يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات .وإنما
قدم في لفظ الحديث(السيئة) وإن كانت مفعولة ،لن المقصود هنا محوها ل فعل الحسنة ،فصار كقوله في بول
العرابي( :صبوا عليه ذنوبًا من ماء).
وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات ،فإنه أبلغ في المحو والذنوب يزول موجبها بأشياء:
أحدها :التوبة.
والثاني :الستغفار من غير توبة .فإن الّ تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب ،فإذا اجتمعت التوبة والستغفار
فهو الكمال.
الثالث :العمال الصالحة المكفرة :إما الكفارات المقدرة / ،كما يكفر المجامع في رمضان والمظاهر والمرتكب
لبعض محظورات الحج أو تارك بعض واجباته ،أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة ،وهي أربعة أجناس :هدى وعتق
وصدقة وصيام.
وإما الكفارات المطلقة ،كما قال حذيفة لعمر :فتنة الرجل في أهله وماله وولده ،يكفرها الصلة والصيام والصدقة
والمر بالمعروف والنهي عن المنكر .وقد دل على ذلك القرآن والحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس،
والجمعة والصيام ،والحج وسائر العمال التي يقال فيها :من قال كذا وعمل كذا غفر له ،أو غفر له ما تقدم من ذنبه،
وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصوصًا ما صنف في فضائل العمال.
واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالنسان الحاجة إليه؛ فإن النسان من حين يبلغ؛ خصوصًا في هذه الزمنة ونحوها
من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه ،فإن النسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من
أمور الجاهلية بعدة أشياء ،فكيف بغير هذا؟!.
وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم من حديث أبي سعيد ـ رضي الّ عنه ـ( :لتتبعن سنن من كان قبلكم
حذو القذة بالقذة /حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) .قالوا :يا رسول الّ ،اليهود والنصارى ؟ قال( :فمن؟) هذا
ضتُ ْم كَاّلذِي خَاضُوا} [التوبة،]69 :
خ ْ
ل ِقهِمْ وَ ُ
ن َقبِْلكُمْ ِبخَ َ
ن مِ ْ
س َت ْمتَعَ اّلذِي َ
ل ِقكُ ْم َكمَا ا ْ خبر تصديقه في قوله تعالى{ :فَا ْ
س َتمْ َت ْعتُ ْم بِخَ َ
ولهذا شواهد في الصحاح والحسان.
وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة ،كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة ،فإن كثيرًا من
أحوال اليهود قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى العلم ،وكثيرًا من أحوال النصارى قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى
الدين ،كما يبصر ذلك من فهم دين السلم الذي بعث الّ به محمدًا صلى ال عليه وسلم ،ثم نزله على أحوال الناس.
وإذا كان المر كذلك فمن شرح الّ صدره للسلم فهو على نور من ربه ،وكان ميتًا فأحياه الّ وجعل له نورًا يمشي
به في الناس ،لبد أن يلحظ أحوال الجاهلية وطريق المتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى،
فيرى أن قد ابتلى ببعض ذلك.
فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو اتباع السيئات الحسنات .والحسنات ما ندب
الّ إليه على لسان خاتم النبيين من العمال والخلق والصفات.
/ومما يزيل موجب الذنوب المصائب المكفرة ،وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن أو أذى في مال أو عرض أو جسد أو
غير ذلك ،لكن ليس هذا من فعل العبد.
فلما قضى بهاتين الكلمتين حق الّ :من عمل الصالح ،وإصلح الفاسد قال( :وخالق الناس بخلق حسن) وهو حق
الناس.
وجماع الخلق الحسن مع الناس :أن تصل من قطعك بالسلم والكرام ،والدعاء له والستغفار والثناء عليه ،والزيارة
له وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال ،وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض .وبعض هذا واجب،
وبعضه مستحب.
وأما الخلق العظيم الذي وصف الّ به محمدًا صلى ال عليه وسلم ،فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الّ به مطلقًا ،هكذا
قال مجاهد وغيره ،وهو تأويل القرآن ،كما قالت عائشة ـ رضي الّ عنها ـ( :كان خلقه القرآن) وحقيقته المبادرة إلى
امتثال ما يحبه الّ تعالى بطيب نفس وانشراح صدر.
وأما بيان أن هذا كله في وصية الّ ،فهو :أن اسم تقوى الّ يجمع فعل كل ما أمر الّ به إيجابًا واستحبابًا ،وما نهى
عنه تحريمًا /وتنزيهًا ،وهذا يجمع حقوق الّ وحقوق العباد .لكن لما كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية
للنكفاف عن المحارم ،جاء مفسرًا في حديث معاذ ،وكذلك في حديث أبي هريرة ـ رضي الّ عنهما ـ الذي رواه
الترمذي وصححه :قيل :يارسول الّ! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال( :تقوى الّ وحسن الخلق) .قيل :وما أكثر ما
يدخل الناس النار؟ قال( :الجوفان :الفم والفرج).
وفي الصحيح عن عبد الّ بن عمر ـ رضي الّ عنهما ـ قال :قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم( :أكمل المؤمنين
إيمانًا أحسنهم خلقا) فجعل كمال اليمان في كمال حسن الخلق .ومعلوم أن اليمان كله تقوى الّ.
وتفصيل أصول التقوى وفروعها ليحتمله هذا الموضع؛ فإنها الدين كله ،لكن ينبوع الخير وأصله :إخلص العبد
ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة ،]5 :وفي قوله{ :فَا ْعبُدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود: لربه عبادة واستعانة ،كما في قولهِ{ :إيّا َ
ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ
،]123وفي قوله{ :عََليْهِ تَ َوكّ ْلتُ وَإَِليْهِ ُأنِيبُ} [الشورى ،]10 :وفي قوله{ :فَابْ َتغُوا ِع ْندَ الِّ الرّ ْزقَ وَا ْعبُدُوهُ وَا ْشكُرُوا لَهُ} [
العنكبوت ،]17 :بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعًا بهم أو عملً لجلهم ،ويجعل همته ربه تعالى،
وذلك بملزمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة وغير ذلك / ،والعمل له بكل محبوب .ومن أحكم
هذا فل يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك.
وأما ما سألت عنه من أفضل العمال بعد الفرائض ،فإنه يختلف باختلف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب
أوقاتهم ،فل يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد ،لكن مما هو كالجماع بين العلماء بالّ وأمره :إن ملزمة ذكر
الّ دائما هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة ،وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم( :سبق
المفردون) ،قالوا :يارسول الّ ،ومن المفردون ؟ قال( :الذاكرون الّ كثيرًا والذاكرات) ،وفيما رواه أبو داود عن أبي
الدرداء ـ رضي الّ عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :أل أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم،
وأرفعها في درجاتكم ،وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ،ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا
أعناقكم؟) قالوا :بلى يارسول الّ! قال ( :ذكر الّ).
وأقل ذلك أن يلزم العبد الذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين صلى ال عليه وسلم ،كالذكار المؤقتة في
أول النهار وآخره / ،وعند أخذ المضجع ،وعند الستيقاظ من المنام ،وأدبار الصلوات ،والذكار المقيدة مثل مايقال
عند الكل والشرب واللباس والجماع ،ودخول المنزل والمسجد والخلء والخروج من ذلك ،وعند المطر والرعد إلى
غير ذلك ،وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة.
ل والّ
ثم ملزمة الذكر مطلقًا وأفضله [ل إله إل الّ] .وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل( :سبحان الّ والحمد ّ
أكبر ول حول ول قوة إل بالّ) أفضل منه.
ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب إلى الّ ،من تعلم علم وتعليمه ،وأمر بمعروف ونهى عن
منكر ،فهو من ذكر الّّ .ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض ،أو جلس مجلسًا يتفقه أو يفقه فيه الفقه
الذي سماه الّ ورسوله فقها ،فهذا أيضًا من أفضل ذكر الّ .وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الولين في كلماتهم في
أفضل العمال كبير اختلف.
ل تعالى ،وليكثر من ذلك ومن الدعاء،وما اشتبه أمره على العبد فعليه بالستخارة المشروعة ،فما ندم من استخار ا ّ
فإنه مفتاح كل خير ،ول يعجل فيقول :قد دعوت فلم يستجب لي ،وليتحر الوقات /الفاضلة ،كآخر الليل ،وأدبار
الصلوات ،وعند الذان ،ووقت نزول المطر ،ونحو ذلك.
وأما أرجح المكاسب ،فالتوكل على الّ ،والثقة بكفايته ،وحسن الظن به .وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ
فيه إلى الّ ويدعــوه ،كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه( :كلكم جائع إل من أطعمته فاستطعموني أطعمكم .ياعبادي،
كلكم عار إل من كسوته فاستكسوني أكسكم) وفيما رواه الترمذي عن أنس ـ رضي الّ عنه ـ قال :قال رسول الّ
صلى ال عليه وسلم( :ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع ،فإنه إن لم ييسره لم يتيسر).
/ثم ينبغى له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليبارك له فيه ،ول يأخذه بإشراف وهلع؛ بل يكون المال عنده بمنزلة الخلء
الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة ،والسعي فيه إذا سعى كإصلح الخلء .وفي الحديث المرفوع
الذي رواه الترمذي وغيره( :من أصبح والدنيا أكبر همه ،شتت الّ عليه شمله ،وفرق عليه ضيعته ،ولم يأته من الدنيا
إل ما كتب له .ومن أصبح والخرة أكبر همه ،جمع الّ عليه شمله ،وجعل غناه في قلبه ،وأتته الدنيا وهي راغمة).
وقال بعض السلف :أنت محتاج إلى الدنيا ،وأنت إلى نصيبك من الخرة أحوج ،فإن بدأت بنصيبك من الخرة مر
على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظامًا ،قال الّ تعالىَ { :ومَا َ
خلَ ْقتُ الْجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعُبدُونِ .مَا أُرِيدُ ِم ْنهُ ْم مِنْ رِزْقٍ َومَا
ق ذُو الْ ُقوّةِ ا ْل َمتِينُ} [الذاريات.]56-58 :ط ِعمُونِ .إِنّ الَّ هُوَ الرّزّا ُ
أُرِيدُ أَنْ يُ ْ
فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك ،فهذا يختلف باختلف الناس ،ول
أعلم في ذلك شيئًا عامًا ،لكن إذا عن للنسان جهة فليستخر الّ تعالى فيها الستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى ال
عليه وسلم ،فإن فيها من البركة مال يحاط به .ثم ما تيسر له فل يتكلف غيره إل أن يكون منه كراهة شرعية.
/وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم ،فهذا باب واسع ،وهو أيضًا يختلف باختلف نشء النسان في البلد ،فقد
يتيسر له في بعض البلد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه مال يتيسر له في بلد آخر ،لكن جماع الخير أن يستعين
بالّ ـ سبحانه ـ في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى ال عليه وسلم ،فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علمًا ،وما
سواه إما أن يكون علمًا فل يكون نافعًا ،وإما أن ل يكون علمًا ،وإن سمى به ،ولئن كان علمًا نافعًا فل بد أن يكون في
ميراث محمد صلى ال عليه وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه .ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره
ل تعالى ولمع الناس ،إذاونهيه وسائر كلمه .فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فل يعدل عنه فيما بينه وبين ا ّ
أمكنه ذلك.
وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى ال عليه وسلم .وإذا اشتبه عليه مما قد
اختلف فيه الناس فليدع بمارواه مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الّ عنها ـ أن رسول الّ صلى ال عليه وسلم
كان يقول إذا قام يصلي من الليل( :اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ،فاطر السموات والرض عالم الغيب
والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ،اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى
صراط مستقيم) فإن الّ تعالى /قد قال فيما رواه عنه رسوله( :ياعبادي كلكم ضال إل من هديته فاستهدوني أهدكم).
وأما وصف[الكتب والمصنفين] ،فقد سمع منا في أثناء المذاكرة ما يسره الّ سبحانه ،وما في الكتب المصنفة المبوبة
كتاب أنفع من [صحيح محمد بن إسماعيل البخاري] لكن هو وحده ل يقوم بأصول العلم .ول يقوم بتمام المقصود
للمتبحر في أبواب العلم ،إذ لبد من معرفة أحاديث أخر ،وكلم أهل الفقه وأهل العلم في المور التي يختص بعلمها
بعض العلماء .وقد أوعبت المة في كل فن من فنون العلم إيعابًا ،فمن نور الّ قلبه هداه بما يبلغه من ذلك ،ومن أعماه
لم تزده كثرة الكتب إل حيرة وضللً ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لبي لبيد النصاري( :أو ليست التوراة
والنجيل عند اليهود والنصارى ؟ فماذا تغني عنهم؟).
فنسأل الّ العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد ،ويلهمنا رشدنا ،ويقينا شر أنفسنا ،وأن ل يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ،ويهب
لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب ،والحمد لّ رب العالمين ،وصلواته على أشرف المرسلين.
خ المَامُ ،العَالِمُ العَامل الحبر الكامل ،شيخ السلم ومفتي النام تقي الدين ابن تيمية ـ أيده الّ وزاده من
وَسُئل الشّي ُ
فضله العظيم ـ عن (الصبرالجميل) و (الصفح الجميل) و(الهجر الجميل) وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه
الناس؟
الحمد لّ ،أما بعد :فإن الّ أمر نبيه بالهجر الجميل ،والصفح الجميل ،والصبر الجميل ،فالهجر الجميل :هجر بل
أذى ،والصفح الجميل :صفح بل عتاب ،والصبر الجميل :صبر بل شكوى قال يعقوب ـ عليه الصلة والسلم ـِ{ :إّنمَا
صبْرٌ َجمِيلٌ وَالُّ ا ْلمُ ْس َتعَانُ عَلَى مَا َتصِفُونَ}[يوسف ]18 :فالشكوى
ح ْزنِي إِلَى الِّ}[يوسف ]86 :مع قوله{ :فَ َ
شكُو َبثّي وَ ُ
أَ ْ
إلى الّ ل تنافي الصبر الجميل ،ويروي عن موسى ـ عليه الصلة والسلم ـ أنه كان يقول( :اللهم لك الحمد ،وإليك
المشتكى ،وأنت المستعان ،وبك /المستغاث وعليك التكلن) ومن دعاء النبي صلى ال عليه وسلم :اللّهم إليك أشكو
ضعف قوتي ،وقلة حيلتي ،وهواني على الناس ،أنت رب المستضعفين وأنت ربي ،اللّهم إلي من تكلني؟ إلى بعيد
يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فل أبالي ،غير أن عافيتك هي أوسع لي .أعوذ بنور
وجهك الذي أشرقت له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا والخرة ،أن ينزل بي سخطك ،أو يحل علي غضبك ،لك
العتبي حتى ترضى).
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ يقرأ في صلة الفجرِ{ :إّنمَا أَ ْشكُو َبثّي وَ ُح ْزنِي إِلَى الِّ} [يوسف ]86 :ويبكي
حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف؛ بخلف الشكوي إلى المخلوق .قرئ على المام أحمد في مرض موته أن
طاووسًا كره أنين المريض ،وقال :إنه شكوى .فما أن حتى مات .وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال ،إما إزالة ما
يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه ،كما قال تعالى{ :فَِإذَا فَرَغْ َ
ت فَانصَبْ َ .وإِلَى َرّبكَ
فَارْ َغبْ}[الشرح ،]8 ،7 :وقال صلى ال عليه وسلم لبن عباس( :إذا سألت فاسأل الّ ،وإذا استعنت فاستعن بالّ).
ولبد للنسان من شيئين :طاعته بفعل المأمور ،وترك المحظور ،وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور .فالول
خبَالً} إلى قوله{ :وَإِنْ ل يَأْلُونَكُمْ َن دُونِكُ ْم َ خذُوا بِطَانَ ًة مِ ْ هو التقوى ،والثاني هو الصبر .قال تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِي َ
ن آ َمنُوا لَ َتتّ ِ
ن فَوْرِ ِهمْ َهذَا صبِرُوا َوتَتّقُوا َويَ ْأتُوكُ ْم مِ ْ ن تَ ْن مُحِيطٌ} ،وقال تعالى{ :بَلَى إِ ْ لّ ِبمَا يَ ْعمَلُو َ
ش ْيئًا إِنّ ا َ
ض ّركُ ْم َكيْدُهُمْ َ
ل يَ ُ صبِرُوا َو َتتّقُوا َ تَ ْ
سكُمْ
ن فِي َأمْوَاِلكُمْ وََأنْ ُف ِ لئِكَ ِة مُسَ ّومِينَ}[آل عمران ،]118-125 :وقال تعالىَ{ :ل ُتبْلَوُ ّ ف مِنْ ا ْلمَ َ خمْسَةِ آلَ ٍ ُيمْ ِددْكُمْ َرّبكُمْ ِب َ
ك مِنْ َعزْمِ ا ُلْمُورِ}[آل ن ذَِل َصبِرُوا َو َتتّقُوا فَإِ ّ ن تَ ْب مِنْ َقبِْلكُمْ َومِنْ اّلذِينَ أَشْ َركُوا َأذًى َكثِيرًا وَإِ ْ س َمعُنّ مِنْ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَا َوََلتَ ْ
لّ َل يُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْ ِسنِينَ}[ صبِ ْر َفإِنّ ا َ ن يَتّقِ َويَ ْ عمران ]186 :وقد قال يوسفَ{ :أنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي َقدْ مَنّ الُّ عََل ْينَا ِإنّ ُه مَ ْ
يوسف.]90 :
ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلمهم بهذين الصلين :المسارعة إلى
فعل المأمور ،والتقاعد عن فعل المحظور ،والصبر والرضا بالمر المقدور ،وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من
العامة؛ بل ومن السالكين ،فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن الّ خالق كل شيء
ل ويرضاه ،وبين ما يسخطه ويبغضه ،وإن قدره وقضاه ول يميز بين توحيد اللوهية، وربه ،ول يفرق بين ما يحبه ا ّ
وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات ـ سعيدها وشقيها ـ مشهد الجمع الذي يشترك فيه
المؤمن والكافر ،والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبئ الكاذب ،وأهل الجنة وأهل النار ،وأولياء الّ وأعداؤه،
والملئكة المقربون والمردة الشياطين.
/فإن هؤلء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية ،وهو أن الّ ربهم وخالقهم ومليكهم ل رب لهم غيره.
ول يشهد الفرق الذي فرق الّ به بين أوليائه وأعدائه .وبين المؤمنين والكافرين ،والبرار والفجار ،وأهل الجنة
والنار وهو توحيد اللوهية ،وهو عبادته وحده ل شريك له ،وطاعته وطاعة رسوله ،وفعل ما يحبه ويرضاه ،وهو ما
أمر الّ به ورسوله أمر إيجاب ،أو أمر استحباب ،وترك ما نهى الّ عنه ورسوله ،وموالة أوليائه ،ومعاداة أعدائه،
والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان ،فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية
الفارقة بين هؤلء وهؤلء ،ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإل فهو من جنس المشركين ،وهو شر من اليهود
والنصارى.
خلَ َ
ق فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية .إذ هم يقرون بأن الّ رب كل شيء كما قال تعالى{ :وََلئِنْ سََأ ْلتَهُ ْم مَنْ َ
سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَلَن كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ َ . سمَاوَاتِ وَالَْرْضَ َليَقُولُنّ الُّ} [الزمر ،]38 :وقال تعالى{ :قُلْ ِلمَنْ الَْرْضُ َومَ ْ
ن فِيهَا إِ ْ ال ّ
شيْءٍ وَ ُه َو يُجِيرُ َولَ ت كُلّ َ ن ِبيَدِ ِه مََلكُو ُ
ل مَ ْل َتتّقُونَ .قُ ْ
سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَ َ
سبْعِ وَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلعَظِيمَِ .
سمَاوَاتِ ال ّ
ل مَنْ َربّ ال ّ
ن .قُ ْ
تَ َذكّرُو َ
يُجَارُ عََليْهِ إِنْ كُنتُ ْم َتعَْلمُونََ .سيَقُولُونَ لِّ ُق ْل فََأنّا تُ ْسحَرُونَ} [المؤمنون]84-89 :
ولهذا قال سبحانهَ { :ومَا يُ ْؤمِنُ َأ ْكثَرُهُ ْم بِالِّ ِإلّ وَهُ ْم مُ ْش ِركُونَ} [يوسف ]106 :قال بعض السلف :تسألهم من خلق
ل وهم مع هذا يعبدون غيره. السموات والرض فيقولون ا ّ
فمن أقر بالقضاء والقدر دون المر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى ،فإن أولئك يقرون بالملئكة
ن بِالِّ والرسل الذين جاؤوا بالمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض .كما قال تعالى{ :إِنّ اّلذِي َ
ن َيكْفُرُو َ
سبِيلًُ .أوَْل ِئكَ ُهمْ
خذُوا َبيْنَ ذَِلكَ َ
ن َيتّ ِ
ن ِببَعْضٍ َو َنكْفُ ُر ِب َبعْضٍ َويُرِيدُونَ أَ ْ
ن نُ ْؤمِ ُ
ن يُ َف ّرقُوا َبيْنَ الِّ وَرُسُلِهِ َويَقُولُو َ
وَ ُرسُلِهِ َويُرِيدُونَ أَ ْ
ا ْلكَا ِفرُونَ َحقّا} [النساء.]151 ،150 :
وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية ،وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة ،ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر ،ويسلك
هذه الحقيقة ،فل يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الّ الذي بعث به رسله ،وبين من عصى الّ ورسوله
من الكفار والفجار ،فهؤلء أكفر من اليهود والنصارى .لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض المور دون
بعض ،بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ،ول يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض البرار ،وبين بعض الفجار،
ول يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه وما يهواه ،فيكون ناقص اليمان بحسب ما سوى بين البرار والفجار ،ويكون معه
من اليمان بدين الّ تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه.
/ومن أقر بالمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه المة،
فهؤلء يشبهون المجوس ،وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس.
ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضًا ،فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب ـ سبحانه ـ وخاصمه كما نقل ذلك
عنه.
ل فيفعل المأمور ،ويترك المحظور، وكذلك هم في الحوال والفعال .فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي ا ّ
ويصبر على مايصيبه من المقدور ،فهو عند المر والنهي والدين والشريعة ويستعين بالّ على ذلك .كما قال تعالى:
ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة.]5 :
ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ
{ِإيّا َ
وإذا أذنب استغفر وتاب :ل يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات ،ول يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات ،بل
يؤمن بالقدر ول يحتج به ،كما في الحديث الصحيح الذي فيه( :سيد الستغفار أن يقول العبد :اللهم أنت ربي ل إله إل
أنت ،خلقتني وأنا عبدك ،وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ،أبوء لك بنعمتك علي
وأبوء بذنبي ،فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت) ،فيقر بنعمة /الّ عليه في الحسنات ،ويعلم أنه هو هداه ويسره
لليسرى ،ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها ،كما قال بعضهم :أطعتك بفضلك ،والمنة لك وعصيتك بعلمك،
والحجة لك ،فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي ،إل غفرت لي .وفي الحديث الصحيح اللهي( :ياعبادي
إنما هي أعمالكم ،أحصيها لكم ،ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الّ ،ومن وجد غيرذلك فل يلومن إل نفسه).
والقسم الرابع شر القسام ،وهو من ل يعبده ول يستعينه ،فل هو مع الشريعة المرية؛ ول مع القدر الكوني.
وانقسامهم إلى هذه القسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو/ذلك؛ وما يكون بعده من صبر
ورضا ونحوذلك ،فهم في التقوى وهي طاعة المر الديني ،والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام.
أحدها :أهل التقوى والصبر ،وهم الذين أنعم الّ عليهم من أهل السعادة في الدنيا والخرة.
والثاني :الذين لهم نوع من التقوى بلصبر ،مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلة ونحوها ،ويتركون المحرمات،
لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه ،أو ابتلى بعدو يخيفه عظم جزعه ،وظهر
هلعه.
والثالث :قوم لهم نوع من الصبر بل تقوى ،مثل الفجار الذين يصبرون علي مايصيبهم في مثل أهوائهم ،كاللصوص
والقطاع الذين يصبرون على اللم في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام ،والكتاب وأهل الديوان الذين
يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الموال بالخيانة وغيرها .وكذلك طلب الرئاسة والعلو على غيرهم
يصبرون من ذلك على أنواع من الذى التي ل يصبر عليها أكثر الناس ،وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من
أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الذى واللم .وهؤلء هم الذين
يريدون علوًا في الرض /أو فسادًا من طلب الرئاسة والعلو على الخلق ،ومن طلب الموال بالبغي والعدوان،
والستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات ،ولكن ليس لهم تقوى
فيما تركوه من المأمور ،وفعلوه من المحظور ،وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب :كالمرض
والفقر وغير ذلك ،ول يكون فيه تقوى إذا قدر.
وأما القسم الرابع ،فهو شر القسام :ل يتقون إذا قدروا ،ول يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال الّ تعالى{ :إِنّ الِْنسَانَ
خُِلقَ هَلُوعًا ِ .إذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا .وَِإذَا مَسّهُ الْ َخيْ ُر َمنُوعًا}[المعارج ]19-21 :فهؤلء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم
إذا قدروا ،ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا .إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك ،وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما
يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول ،وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبًا.
وأقلهم رحمة وإحسانًا وعفوًا ،كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق اليمان أبعد :مثل التتار الذين قاتلهم
المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم .وإن كان متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم
وصناعهم ،فالعتبار بالحقائق( :فإن الّ ل ينظر إلى صوركم ول إلى أموالكم ،وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
/فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهًا لهم من هذا الوجه ،وكان ما معه من السلم أو
مايظهره منه بمنزلة ما معهم من السلم وما يظهرونه منه ،بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للسلم
من هو أعظم ردة وأولى بالخلق الجاهلية ،وأبعد عن الخلق السلمية ،من التتار.
وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته( :خير الكلم كلم الّ ،وخير الهدى هدي
محمد ،وشر المور محدثاتها ،وكل بدعة ضللة) ،وإذا كان خير الكلم كلم الّ ،وخير الهدي هدي محمد ،فكل من
كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب ،وهو به أحق ،ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف ،كان
عن الكمال أبعد ،وبالباطل أحق .والكامل هو من كان لّ أطوع ،وعلى ما يصيبه أصبر ،فكلما كان أتبع لما يأمر الّ
به ورسوله وأعظم موافقة لّ فيما يحبه ويرضاه ،وصبرًا على ماقدره وقضاه ،كان أكمل وأفضل .وكل من نقص عن
هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك.
وقد ذكر الّ ـ تعالى ـ الصبر والتقوى جميعًا في غير موضع من كتابه ،وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار
المحاربين المعاندين والمنافقين ،وعلى من ظلمه من المسلمين ،ولصاحبه تكون العاقبة / ،قال ال تعالى{ :بَلَى إِنْ
ل ِئكَةِ مُسَ ّومِينَ}[ آل عمران ،]125 :وقال الّ تعالى:
ف مِنْ ا ْلمَ َ
خمْسَةِ آلَ ٍ
صبِرُوا َو َتتّقُوا َويَ ْأتُوكُ ْم مِنْ َفوْرِهِمْ َهذَا ُيمْ ِد ْدكُمْ َرّبكُ ْم بِ َ
تَ ْ
ن ذَِل َ
ك صبِرُوا َو َتتّقُوا فَإِ ّ ن تَ ْ ب مِنْ َقبِْلكُمْ َومِنْ اّلذِينَ أَشْ َركُوا َأذًى َكثِيرًا وَإِ ْ ن مِنْ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَا َ س َمعُ ّسكُمْ وََلتَ ْ
ن فِي َأمْوَاِلكُمْ وََأنْ ُف ِ {َل ُتبْلَوُ ّ
ع ِنتّمْ
خبَالً َودّوا مَا َ ل يَأْلُو َنكُمْ َخذُوا بِطَانَ ًة مِنْ دُو ِنكُ ْم َ ل َتتّ ِ لْمُورِ}[آل عمران ،]186 :وقال تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا َ عزْمِ ا ُمِنْ َ
حبّونَكُمْ
حبّو َنهُمْ َولَ ُي ِ ن ُك ْنتُ ْم َتعْقِلُونَ .هَاَأ ْنتُمْ ُأ ْولَ ِء تُ ِليَاتِ إِ ْ صدُورُهُمْ َأكْبَ ُر َق ْد َبيّنّا َل ُكمْ ا ْ
َقدْ َبدَتْ ا ْل َبغْضَا ُء مِنْ َأفْوَا ِههِمْ َومَا تُخْفِي ُ
صدُورِ.
ظكُمْ إِنّ الَّ عَلِي ٌم ِبذَاتِ ال ّ ل مُوتُوا ِب َغيْ ِ ظ قُ ْ
ل مِنْ ال َغيْ ِ لْنَامِ َ
ب كُلّهِ وَِإذَا لَقُوكُ ْم قَالُوا آ َمنّا وَِإذَا خََلوْا عَضّوا عََل ْيكُمْ ا َ َوتُ ْؤ ِمنُونَ بِا ْلكِتَا ِ
لّ ِبمَا َي ْعمَلُو َن مُحِيطٌ}[آل ش ْيئًا إِنّ ا َل يَضُ ّركُ ْم َك ْيدُهُمْ َ صبِرُوا َو َتتّقُوا َ ن تَ ْ سيّئَ ٌة يَفْ َرحُوا ِبهَا وَإِ ْ
ص ْبكُمْ َ
ن تُ ِ سؤْهُمْ وَإِ ْ سنَةٌ تَ ُحَسكُمْ َ ن َتمْسَ ْ إِ ْ
ن َيتّقِعَليْنَا ِإنّهُ مَ ْ
ف قَالَ َأنَا يُوسُفُ وَهذَا َأخِي َق ْد مَنّ الُّ َ س ُ ت يُو ُعمران ،]118-120 :وقال إخوة يوسف لهَ{ :أ ِئّنكَ لَنْ َ
لّ لَ يُضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْح ِسنِينَ} [يوسف.]90 : صبِ ْر فَإِنّ ا َ
َويَ ْ
خيْرُ
ح ُكمَ الُّ وَهُوَ َ
حتّى يَ ْ وقد قرن الصبر بالعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى{ :وَا ّتبِعْ مَا يُوحَى ِإَل ْيكَ وَا ْ
صبِرْ َ
الْحَا ِكمِينَ} [يونس.]109 :
وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها تصديقًا لخبر الّ وطاعة لمره وقال تعالى{ :وََأقِمْ الصّلَةَ َ
ط َرفِي ال ّنهَارِ وَزَُلفًا مِنْ
لّ َل يُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْ ِسنِينَ} [هود ،]115 ،114 :وقال صبِ ْر َفإِنّ ا َت ذَِلكَ ِذكْرَى لِلذّاكِرِينَ .وَا ْ سّيئَا ِ
ت ُيذْهِبْنَ ال ّسنَا ِ الّليْلِ إِنّ الْحَ َ
علَى
صبِرْ َ لْبْكَارِ} [غافر ،]55 :وقال تعالى{ :فَا ْ ك بِا ْلعَشِيّ وَا ِ
ح ْمدِ َرّب َ
سبّحْ بِ َ
س َتغْفِرْ ِلذَ ْن ِبكَ َو َ
حقّ وَا ْ عدَ الِّ َ صبِرْ إِنّ وَ ْتعالى{ :فَا ْ
صبْرِ
س َتعِينُوا بِال ّن آنَاءِ الّليْلِ} [طه ،]130 :وقال تعالى{ :وَا ْ شمْسِ َو َقبْلَ غُرُو ِبهَا َومِ ْ ك َقبْلَ طُلُوعِ ال ّ حمْدِ َرّب َح بِ َ
سبّ ْمَا يَقُولُونَ وَ َ
لّ مَعَ الصّابِرِينَ} [ صبْرِ وَالصّلَةِ إِنّ ا َ شعِينَ} [البقرة ،]45 :وقال تعالى{ :ا ْ
س َتعِينُوا بِال ّ وَالصّلَةِ وَِإّنهَا َل َكبِيرَةٌ ِإلّ عَلَى ا ْلخَا ِ
البقرة ]153 :فهذه مواضع قرن فيها الصلة والصبر.
صوْا بِا ْلمَ ْر َحمَةِ} [البلد .]17 :وفي الرحمة وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالىَ { :وتَوَاصَوْا بِال ّ
صبْرِ َوتَوَا َ
الحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها؛ فإن القسمة أيضًا رباعية ،إذ من الناس من يصبر ول يرحم كأهل القوة والقسوة،
ومنهم من يرحم ول يصبر كأهل الضعف واللين ،مثل كثير من النساء ،ومن يشبههن ،ومنهم من ليصبر ول يرحم
كأهل القسوة والهلع .والمحمود هو الذي يصبر ويرحم ،كما قال الفقهاء في المتولي :ينبغي أن يكون قويًا من غير
عنف ،لينا من غير ضعف فبصبره يقوى ،وبلينه يرحم ،وبالصبر ينصر العبد؛ فإن النصر مع الصبر ،وبالرحمة
ل تعالى .كما قال النبي صلى ال عليه وسلم( :إنما يرحم الّ من عباده الرحماء) ،وقال( :من ل يرحم ل يرحمه ا ّ
يرحم) ،وقال( :ل تنزع الرحمة إل من شقي) ،وقال( :الراحمون يرحمهم الرحمن ،وارحموا من في الرض يرحمكم
من في السماء) .والّ أعلم .انتهى.
وَسُئلَ شَيْخُ السـلم ـ رَحمَهُ الُّ ـ عما ذكر الستاذ القشيري في ( باب الرضا) عن الشيخ أبي سليمان أنه قال :الرضا
ألّ يسأل الّ الجنة ،ول يستعيذ من النار ،فهل هذا الكلم صحيح؟
فأجاب:
أما المقام الول :فينبغي أن يعلم أن الستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان بإسناد ،وإنما ذكره مرس ً
ل
عنه ،وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين والمشائخ وغيرهم ،تارة
يذكره بإسناد ،وتارة يذكره مرسلً ،وكثيرًا ما يقول :وقيل كذا ثم الذي يذكره بإسناد تارة يكون إسناده /صحيحًا،
وتارة يكون ضعيفًا ،بل موضوعًا .وما يذكره مرسلً ،ومحذوف القائل أولى ،وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات
الفقهاء ،فإن فيها من الحاديث والثار ما هو صحيح ،ومنها ما هو ضعيف ،ومنها ما هو موضوع.
فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الثار المنقولة ،فيها الصحيح ،وفيها الضعيف ،وفيها الموضوع .وهذا
المر متفق عليه بين جميع المسلمين ل يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا ،بل نفس الكتب المصنفة في [
التفسير] فيها هذا وهذا ،مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولت وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم؟!
والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه أو التصوف أو الحديث ،ويروون هذا تارة؛ لنهم لم يعلموا أنه كذب ،وهو
الغالب على أهل الدين ،فإنهم ل يحتجون بما يعلمون أنه كذب ،وتارة يذكـرونه وإن علمـوا أنه كـذب؛ إذ قصـدهم
رواية مـا روي في ذلك الباب ،ورواية
الحاديث المكذوبة مع بيان كونها كذبًا جائز .وأما روايتها مع المساك عن ذلك رواية عمل فإنه حـرام عند العلماء،
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد
الكاذبين) ـ .وقد فعل كثير من العلماء /متأولين أنهم لم يكذبوا ،وإنما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل إذ رووه
لتعريف أنه روى؛ ل لجل العمل به ول العتماد عليه.
والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها :من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولت عن النبي
صلى ال عليه وسلم وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع .فالصحيح :الذي قامت الدللة على
صدقه ،والموضوع الذي قامت الدللة على كذبه ،والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقه ،إما لسوء حفظه وإما
لتهامه ،ولكن يمكن أن يكون صادقًا فيه؛ فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ.
وغالب أبواب الرسالة فيها القسام الثلثة .ومن ذلك :باب الرضا ،فإنه ذكر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :
ذاق طعم اليمان من رضي بالّ ربًا وبالسلم دينًا وبمحمد صلى ال عليه وسلم نبيًا) .وهذا الحديث رواه مسلم في
صحيحه ،وإن كان الستاذ لم يذكر أن مسلمًا رواه لكنه رواه ،بإسناد صحيح.
وذكر في أول هذا الباب حديثًا ضعيفًا ـ بل موضوعا ـ وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن
عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر ،فهو وإن كان أول حديث ذكره في الباب /فإن أحاديث الفضل بن
عيسى من أوهى الحاديث وأسقطها ،ول نزاع بين الئمة أنه ل يعتمد عليها ول يحتج بها؛ فإن الضعف ظاهر عليها
وإن كان هو ل يتعمد الكذب ،فإن كثيرًا من الفقهاء ل يحتج بحديثهم لسوء الحفظ ل لعتماد الكذب ،وهذا الرقاشي
اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن؛ حتى قال أيوب السختياني :لو ولد أخرس لكان خيرًا له ،وقال
سفيان بن عيينة :ل شيء ،وقال المام أحمد والنسائي :هو ضعيف .وقال يحيى بن معين :رجل سوء .وقال أبو حاتم
وأبو زرعة :منكر الحديث.
وكذلك ما ذكره من الثار؛ فإنه قد ذكر آثارًا حسنة بأسانيد حسنة مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه
قال :إذا سل العبد عن الشهوات فهو راض ،فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي بإسناده ،والشيخ أبو
عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلم هؤلء المشائخ وحكاياتهم ،وصنف في السماء كتاب [طبقات الصوفية]
وكتاب [زهاد السلف] وغير ذلك ،وصنف في البواب كتاب [مقامات الولياء] وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على
القسام الثلثة.
وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال :سمعت النصر آبادي يقول :من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ماجعل ا ّ
ل
رضاه فيه ،فإن هذا الكلم في غاية الحسن ،فإنه من لزم مايرضى الّ من امتثال /أوامره واجتناب نواهيه ل سيما إذا
قام بواجبها ومستحبها فإن الّ يرضى عنه ،كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه الّ ،كما قال في الحديث الصحيح
الذي في البخاري( :من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه ،ول
يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته) الحديث .وذلك أن الرضا نوعان:
أحدهما :الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه .ويتناول ما أباحه الّ من غيرتعد إلى المحظور ،كما قال{ :وَا ُ
لّ
لّ مِنْ
سيُ ْؤتِينَا ا ُ
س ُبنَا الُّ َ ن يُرْضُوهُ}[التوبة ،]62 :وقال تعالى{ :وََلوْ َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ حقّ أَ ْ وَ َرسُولُهُ أَ َ
غبُونَ} [التوبة ]59 :وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذم من تركه بقولهَ { :و ِم ْنهُ ْم مَ ْ
ن يَ ْلمِ ُزكَ فِي فَضْلِهِ َورَسُولُهُ ِإنّا إِلَى الِّ رَا ِ
سيُ ْؤتِينَا
س ُبنَا الُّ َ
سخَطُونَ .وََلوْ َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ ت فَإِنْ أُعْطُوا ِمنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَ ْم ُيعْطَوْا ِم ْنهَا ِإذَا هُ ْم يَ ْ ص َدقَا ِ
ال ّ
لّ مِ ْن فَضْلِهِ َورَسُولُهُ}[التوبة.]59 ،58 : ا ُ
والنوع الثاني :الرضا بالمصائب ،كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء .وليس بواجب،
وقد قيل :إنه واجب ،والصحيح أن الواجب هو الصبر .كما قال الحسن :الرضا غريزة ،ولكن الصبر معول المؤمن.
وقد روى في حديث ابن عباس /أن النبي صلى ال عليه وسلم قال( :إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل،
فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا).
وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان :فالذي عليه أئمة الدين أنه ل يرضى بذلك ،فإن الّ ل يرضاه كما قالَ { :و َ
ل
لّ لَ حبّ ا ْلفَسَادَ} [البقرة ،]205 :وقال تعالىَ { :فإِنْ تَ ْرضَوْا َ
ع ْنهُ ْم فَإِنّ ا َ يَرْضَى ِل ِعبَادِهِ ا ْلكُفْرَ} [الزمر ]7 :وقال{ :وَا ُ
لّ لَ يُ ِ
عذَابًا
عدّ لَهُ َغضِبَ الُّ عََليْهِ وََل َعنَهُ وَأَ َ
ج َهنّمُ خَاِلدًا فِيهَا وَ َ سقِينَ} [التوبة ،]96 :وقال تعالى{ :فَ َ
جزَاؤُهُ َ يَرْضَى عَنْ الْقَ ْومِ ا ْلفَا ِ
عَظِيمًا} [النساء ،]93 :وقال{ :ذَِلكَ بَِأّنهُ ْم اّت َبعُوا مَا أَ ْسخَطَ الَّ َوكَرِهُوا ِرضْوَانَ ُه فََأ ْحبَطَ أَ ْعمَاَلهُمْ} [محمد ،]28 :وقال تعالى:
س مَا َق ّدمَتْ َلهُمْس ُبهُمْ} [التوبة ،]68 :وقال تعالىَ{ :ل ِبئْ َ ج َهنّمَ خَاِلدِينَ فِيهَا ِهيَ حَ ْ
عدَ الُّ ا ْل ُمنَا ِفقِينَ وَا ْل ُمنَافِقَاتِ وَا ْل ُكفّا َر نَارَ َ
{وَ َ
أَنفُ ُس ُهمْ أَنْ سَ ِخطَ الُّ عََل ْيهِمْ َوفِي ا ْلعَذَابِ ُهمْ خَاِلدُونَ} [المائدة ،]80 :وقال تعالى{ :فََلمّا آ َسفُونَا انتَ َق ْمنَا ِم ْنهُمْ} [ الزخرف55 :
] فإذا كان الّ ـ سبحانه ـ ل يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك ،وهو يسخط عليهم ،ويغضب عليهم ،فكيف يشرع
للمؤمن أن يرضى ذلك وأل يسخط ويغضب لما يسخط الّ ويغضبه؟!.
قوم :من أهل الكلم المنتسبين إلى السنة في مناظرة القدرية ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى
إرادته ،وقد /علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلفًا للقدرية .وقالوا :هو أيضا محب لها مريد لها ،ثم أخذوا يحرفون
الكلم عن مواضعه ،فقالوا :ل يحب الفساد ،بمعنى ل يريد الفساد :أي ل يريده للمؤمنين ،ول يرضى لعباده الكفر :أي
ل يريده لعباده المؤمنين .وهذا غلط عظيم؛ فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال :ل يحب اليمان ول يرضى لعباده
اليمان :أي ل يريده للكافرين ،ول يرضاه للكافرين ،وقد اتفق أهل السلم على أن ما أمر الّ به فإنه يكون مستحبًا
يحبه .ثم قد يكون مع ذلك واجبًا ،وقد يكون مستحبًا ليس بواجب سواء فعل أو لم يفعل .والكلم على هذا مبسوط في
غير هذا الموضع.
والفريق الثاني :من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين :فشهدوا أن الّ رب الكائنات جميعها ،وعلموا أنه قدر
على كل شيء وشاءه ،وظنوا أنهم ل يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق
والعصيان ،حتى قال بعضهم :المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب .قالوا :والكون كله مراد
المحبوب .وضل هؤلء ضللً عظيمًا ،حيث لم يفرقوا بين الرادة الدينية والكونية ،والذن الكوني والديني ،والمر
الكوني والديني ،والبعث الكوني والديني ،والرسال الكوني والديني .كما بسطناه في غير هذا الموضع.
/وهؤلء يؤول المر بهم إلى أل يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء الّ وأعدائه ،والنبياء والمتقين .ويجعلون
الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الرض ،ويجعلون المتقين كالفجار ،ويجعلون المسلمين كالمجرمين،
ويعطلون المر والنهي ،والوعد والوعيد ،والشرائع وربما سموا هذا :حقيقة ،ولعمري إنه حقيقة كونية ،لكن هذه
الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الصنام ،كما قال{ :وََلئِنْ َسأَ ْل َتهُ ْم مَنْ خَلَقَ ال ّسمَاوَاتِ وَالَْ ْرضَ َليَقُولُنّ الُّ} [الزمر،]38 :
ل َتذَكّرُونَ} اليات [المؤمنون.]85 ،84 : سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَ َ ن كُنتُ ْم َتعَْلمُونََ . وقال تعالى{ :قُلْ ِلمَنْ الَْرْضُ َومَ ْ
ن فِيهَا إِ ْ
فالمشركون الذين يعبدون الصنام كانوا مقرين بأن الّ خالق كل شيء وربه ومليكه ،فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان
أقرب أن يكون كعباد الصنام.
والمؤمن إنما فارق الكفر باليمان بالّ وبرسله ،وبتصديقهم فيما أخبروا ،وطاعتهم فيما أمروا ،واتباع ما يرضاه الّ،
ويحبه دون ما يقدر ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان ،ولكن يرضى بما أصابه من المصائب ،ل بما فعله من
صبِرْ إِنّ وَ ْعدَ الِّ َحقّ وَا ْس َتغْفِرْ ِلذَ ْن ِبكَ}[
المعائب .فهو من الذنوب يستغفر .وعلى المصائب يصبر ،فهو كما قال تعالى{ :فَا ْ
ل يَضُ ّركُ ْم َك ْيدُهُمْ صبِرُوا َو َتتّقُوا َ
ن تَ ْغافر ]55 :فيجمع بين طاعة المر والصبر على المصائب .كما /قال تعالى{ :وَإِ ْ
صبِرُوا َو َتتّقُوا فَإِ ّن ذَِلكَ مِنْ عَ ْزمِ ا ُلْمُورِ}[آل عمران ،]186 :وقال ن تَ ْ ش ْيئًا} [آل عمران ،]120 :وقال تعالى{ :وَإِ ْ َ
لّ لَ يُضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْح ِسنِينَ} [يوسف.]90 :
صبِ ْر فَإِنّ ا َ يوسفِ{ :إنّهُ مَ ْ
ن َيتّقِ َويَ ْ
والمقصود هنا :أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلم حيث قال :من أراد أن يبلغ محل الرضا
فليلزم ما جعل الّ رضاه فيه ،وكذلك قول الشيخ أبي سليمان :إذا سل العبد عن الشهوات فهو راض؛ وذلك أن العبد
إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها ،فإذا لم يحصل سخط ،فإذا سل عن شهوات نفسه رضي
بما قسم الّ له من الرزق ،وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي :الرضا أفضل من الزهد في
الدنيا؛ لن الراضي ل يتمنى فوق منزلته ،كلم حسن .لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل.
وكذلك ما ذكره معلقًا قال :قال الشبلي بين يدي الجنيد :لحول ول قوة إل بالّ .فقال الجنيد :قولك ذا ضيق صدر،
وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء .فإن هذا من أحسن الكلم .وكان الجنيد ـ رضي الّ عنه ـ سيد الطائفة ،ومن
أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا ـ وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ ل كلـمة استرجاع ،وكثير من الناس يقولها عند
المصائب بمنزلة السترجاع ،ويقولها جزعًا ل صبرًا .فالجنيد /أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها ،إذ كانت
حالً ينافى الرضا ،ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه.
وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلقًا .قال :وقيل :قال موسى( :إلهي ،دلني على عمل إذا عملته رضيت عني.
فقال :إنك ل تطيق ذلك ،فخر موسى ساجدًا متضرعًا .فأوحى الّ إليه :يابن عمران ،رضائي في رضاك عني) ،فهذه
الحكاية السرائيلية فيها نظر؛ فإنه قد يقال :ل يصلح أن يحكي مثلها عن موسى بن عمران .ومعلوم أن هذه
السرائيليات ليس لها إسناد ،ول يقوم بها حجة في شيء من الدين ،إل إذا كانت منقولة لنا نقلً صحيحًا ،مثل ما ثبت
عن نبينا أنه حدثنا به عن بني إسرائيل ،ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه؛ فإن موسى من أعظم أولي العزم ،وأكابر
المسلمين؛ فكيف يقال :إنه ل يطيق أن يعمل ما يرضى الّ به عنه؟! والّ تعالى راض عن السابقين الولين من
المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان .أفل يرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن؟! وقال تعالى{ :إِنّ
ن فِيهَا َأ َبدًا رَضِيَ
لْنْهَارُ خَاِلدِي َ
ح ِتهَا ا َ
ن تَ ْ
عدْنٍ تَجْرِي مِ ْ
جنّاتُ َ
ع ْندَ َرّبهِمْ َ
جزَاؤُهُمْ ِ
خيْرُ ا ْلبَ ِريّةَِ .
عمِلُوا الصّالِحَاتِ أُ ْوَل ِئكَ ُهمْ َ
اّلذِينَ آ َمنُوا وَ َ
الُّ َع ْنهُمْ وَ َرضُوا َعنْهُ}[البينة ]8 ،7 :ومعلوم أن موسى بن عمران ـ عليه السلم ـ من أفضل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات.
صنَعَ عَلَى َعيْنِي} [طه .]39 :ثم إن /ثم إن الّ خص موسى بمزية فوق الرضا ،حيث قال{ :وَأَ ْل َقيْتُ عََل ْيكَ مَ َ
حبّ ًة ِمنّي وَِلتُ ْ
قوله له في الخطاب :يابن عمران ،مخالف لماذكره الّ من خطابه في القرآن حيث قال :يا موسى ،وذلك الخطاب فيه
نوع غض منه كما يظهر .ومثل ما ذكر أنه قيل :كتب عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ إلى أبي موسى الشعري
أما بعد :فإن الخير كله في الرضا فإن استطعت أن ترضى وإل فاصبر .فهذا الكلم كلم حسن .وإن لم يعلم إسناده.
والكتب المسندة في أخبار هؤلء المشائخ وكلمهم مثل كتاب "حلية الولياء" لبي نعيم ،و"طبقات الصوفية" لبي
عبد الرحمن ،و [صفوة الصفوة] لبن الجوزي .وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان .أل
ترى الذي رواه عنه مسندًا حيث قال :قال لحمد بن أبي الحواري :يا أحمد ،لقد أوتيت من الرضا /نصيبًا لو ألقاني
في النار لكنت بذلك راضيًا .فهذا الكلم مأثور عن أبي سليمان بالسناد؛ ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه
أبي عبد الرحمن ،بخلف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه .فل أصل لها عن الشيخ أبي سليمان.
ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال :وسئل أبو عثمان
الحيري النيسابوري عن قول النبي صلى ال عليه وسلم( :أسألك الرضا بعد القضاء) ،فقال :لن الرضا بعد القضاء
هوالرضا .فهذا الذي قاله الشيخ أبوعثمان كلم حسن سديد .ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال :أرجو أن
أكون قد عرفت طرفًا من الرضا .لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيًا.
فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا .وإنما هو عزم على الرضا ،وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء ،وإن
كان هذا عزمًا فالعزم قد يدوم ،وقد ينفسخ ،وما أكثر انفساخ العزائم خصوصًا عزائم الصوفية؛ ولهذا قيل لبعضهم:
بماذا عرفت ربك ؟ قال :بفسخ العزائم ونقض الهمم .وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلء المشائخ{ :وََل َقدْ ُك ْنتُمْ
ن تَلْقَوْ ُه َف َقدْ رََأ ْيتُمُوهُ َوَأنْتُ ْم َتنْظُرُونَ} [آل عمران ،]143 :وقال تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِينَ َآ َمنُوا لِ َم تَقُولُو َ
ن مَا ن َقبْلِ أَ ْ
ت مِ َْتتَ َمنّوْن ا ْلمَوْ َ
لّ يُحِبّ اّلذِينَ ُيقَاتِلُو َن فِي َسبِيلِهِ صَفّا كََأّنهُ ْم بُنيَا ٌن مَ ْرصُوصٌ}[الصف2- :
ل تَ ْفعَلُونَ .إِنّ ا َ
ن تَقُولُوا مَا َ
عنْدَ الِّ أَ ْ
لَ َت ْفعَلُونََ .كبُرَ َم ْقتًا ِ
]4وفي الترمذي أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم :لو علمنا أي العمل أحب إلى الّ لعملناه فأنزل
الّ تعالى هذه الية {أََل ْم تَرَ إِلَى اّلذِينَ قِيلَ َلهُ ْم كُفّوا َأ ْيدِ َيكُمْ وََأقِيمُوا الصّلَةَ وَآتُوا ال ّزكَا َة فََلمّا كُتِبَ عََل ْيهِمْ الْ ِقتَالُ ِإذَا َفرِي ٌ
ق مِ ْنهُمْ
س كَ َخ ْشيَةِ الِّ أَوْ أَ َشدّ َخ ْشيَةً َوقَالُوا َرّبنَا لِ َم َك َتبْتَ عََل ْينَا الْ ِقتَالَ لَ ْولَ أَخّ ْر َتنَا إِلَى أَجَ ٍل قَرِيبٍ}الية [النساء .]77 :فهؤلء يَخْشَوْنَ النّا َ
الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه ،وأين ألم الجهاد من ألم النار؟ وعذاب الّ
الذي ل طاقة لحد به ،ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه كان يقول:
فأخذه العسر من ساعته :أي حصر بوله؛ فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول :ادعوا لعمكم
الكذاب.
وحكى أبو نعيم الصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال سمنون :يارب ،قد رضيت بكل ما تقضيه عليّ ،فاحتبس
بوله أربعة عشر يومًا ،فكان يتلوى كما تتلوى الحية ،يتلوى يمينًا وشمالً ،فلما /أطلق بوله ،قال :ربي قد تبت إليك.
قال أبو نعيم :فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدني بلوي ،مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل،
وله في المحبة مقام مشهور ،حتى روى عن إبراهيم بن فاتك أنه قال :رأيت سمنونًا يتكلم على الناس في المسجد
الحرام ،فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده ،ثم لم يزل يضرب بمنقاره الرض حتى سقط منه
دم؛ ومات الطائر .وقال :رأيته يومًا يتكلم في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بعضًا.
وقد ذكر القشيري في (باب الرضا) عن رويم المقري ـ رفيق سمنون ـ حكاية تناسب هذا حيث قال :قال رويم :إن
الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل الّ أن يحولها عن يساره ،فهذا يشبه قول سمنون :فكيف ما شئت فامتحني.
وإذا لم يطق الصبر على عسر البول ،أفيطيق أن تكون النار عن يمينه ؟
والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلء وابتلى بعسر البول فغلبه اللم حتى قال :بحبي لك أل فرجت عني؛
ففرج عنه.
ورويم ـ وإن كان من رفقاء الجنيد ـ فليس هو عندهم من هذه الطبقة ،بل الصوفية يقولون :إنه رجع إلى الدنيا وترك
التصوف؛ حتى روى عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال :من أراد أن يستكتم سرًا /فليفعل .كما فعل رويم .كتم
حب الدنيا أربعين سنة فقيل :وكيف يتصور ذلك؟ قال :ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما
مودة أكيدة ،فجذبه إليه ،وجعله وكيلً على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وأكل الطيبات،
وبنى الدور ،وإذا هو كان يكتم حب الدنيا مالم يجدها ،فلما وجدها أظهر ماكان يكتم من حبها .هذا مع أنه ـ رحمه الّ ـ
كان له من العبادات ما هو معروف وكان على مذهب داود.
وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها ل تجعل طريقة ول تتخذ سبيلً؛ ولكن
قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة ،ونحو ذلك ،وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق ،وما
يقدر عليه من التقوى والصبر وما ل يقدر عليه من التقوى والصبر ،والرسل ـ صلوات الّ عليهم ـ أعلم بطريق سبيل
الّ وأهدى وأنصح ،فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصًا مخطئًا محرومًا ،وإن لم يكن عاصيًا أو فاسقًا أو
كافرًا.
ويشبه هذا العرابي الذي دخل عليه النبي صلى ال عليه وسلم وهو مريض كالفرخ فقال( :هل كنت تدعو الّ بشيء،
قال :كنت أقول :اللّهم ما كنت معذبني به في الخرة فاجعله في الدنيا ،فقال :سبحان الّ ل تستطيعه ول تطيقه ،هل
قلت :ربنا آتنا في /الدنيا حسنة ،وفي الخرة حسنة ،وقنا عذاب النار) فهذا أيضًا حمله خوفه من عذاب النار ،ومحبته
لسلمة عاقبته على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا ،وكان مخطئا في ذلك غالطًا ،والخطأ والغلط مع حسن القصـد
وسلمته ،وصلح الرجل وفضله ودينه وزهـده وورعـه وكراماته كثير جدًا ،فليس من شرط ولي الّ أن يكـون
معصومًا مـن الخطأ والغلـط؛ بل ول من الذنوب ،وأفضل أولياء الّ بعد الرسل أبو بكر الصديق ـ رضي الّ عنه ـ
وقد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال له لما عبر الرؤيا( :أصبت بعضًا وأخطأت بعضا).
ويشبه ـ والّ أعلم ـ أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة ـ :لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا ـ أن يكون بعض الناس
حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال :الرضا أل تسأل الّ الجنة ،ول تستعيذه من النار .وتلك الكلمة التي قالها أبو
سليمان ،مع أنها ل تدل على رضاه بذلك ،ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك ،فنحن نعلم أن هذا العزم ل يستمر بل
ينفسخ ،وإن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها؛ وأنها مستدركة ،كما استدركت دعوى سمنون ورويم وغير ذلك؛
فإن بين هذه الكلمة وتلك فرقًا عظيمًا .فإن تلك الكلمة مضمونها :أن من سأل الّ الجنة ،واستعاذ من النار ،ل يكون
راضيًا.
وفرق بين من يقول :أنا إذا فعل كذا كنت راضيًا ،وبين /من يقول :ل يكون راضيًا إل من ل يطلب خيرًا ،ول يهرب
من شر؛ وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلم ،فإن الشيخ أبا سليمان من
أجلء المشائخ ،وساداتهم ومن أتبعهم للشريعة حتى إنه قال :إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم ،فل أقبلها إل
بشاهدين :الكتاب والسنة .فمن ل يقبل نكت قلبه إل بشاهدين ،يقول هذا مثل الكلم؟! وقال الشيخ أبو سليمان أيضًا:
ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله ،حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نورًا على نور؛ بل صاحبه أحمد
بن أبي الحواري كان من أتبع المشائخ للسنة ،فكيف أبو سليمان؟!.
وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلم تظهر بالكلم في المقام الثاني وهو قول القائل كائنًا من كان :الرضا أل تسأل
الّ الجنة ،ول تستعيذه من النار.
ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الشتباه والضطراب ،وذلك أن قومًا كثيرًا من
الناس ،من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة ،وغيرهم ،ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس،
وسماع أصوات طيبة ،وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيمًا غير ذلك .ثم صاروا ضربين:
/ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم .كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم.
ومنهم من أقر بالرؤية ،إما الرؤية التي أخبر بها النبي صلى ال عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ،وإما
برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم ،أو جعلها بحاسة سادسة ،ونحو ذلك
ًاالتي ذهب إليها ضرار بن عمرو وطوائف من أهل الكلم المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية ،وإن كان
ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية .والنزاع بينهم لفظي ،ونزاعهم مع أهل السنة معنوي؛ ولهذا كان
بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلء.
والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه ،قالوا :لنه ل مناسبة بين
المحدث والقديم ،كما ذكر ذلك الستاذ أبو المعالى الجويني في [الرسالة النظامية] ،وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في
بعض كتبه ،ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجل ً يقول :أسألك لذة النظر إلى وجهك .فقال :يا هذا ،هب أن له وجهًا،
أله وجه يتلذذ بالنظر إليه؟! وذكر أبو المعالي أن الّ يخلق لهم نعيمًا ببعض المخلوقات مقارنًا للرؤية ،فأما النعيم
بنفس الرؤية فأنكـره ،وجعل هذا من أسرار التوحيد.
/وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم ،وهو مذهب سلف المة وأئمتها ،ومشائخ الطريق ،كما في
الحديث الذي في النسائي وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم( :اللهم بعلمك الغيب ،وقدرتك على الخلق ،أحيني إذا
كانت الحياة خيرًا لي ،وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي ،اللّهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ،وأسألك كلمة
الحق في الغضب والرضا ،وأسألك القصد في الفقر والغنى ،وأسألك نعيمًا ل ينفد ،وقرة عين ل تنقطع ،وأسألك
الرضا بعد القضاء ،وبرد العيش بعد الموت ،وأسألك لذة النظر إلى وجهك ،وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء
مضرة ،ول فتنة مضلة ،اللّهم زينا بزينة اليمان ،واجعلنا هداة مهتدين) .وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن
النبي صلى ال عليه وسلم قال( :إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد ،يا أهل الجنة ،إن لكم عند الّ موعدًا يريد أن
ينجزكموه ،فيقولون :ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة ،ويجرنا من النار؟ قال :فيكشف
الحجاب؛ فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه).
وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم ،وهذا متفق عليه بين السلف والئمة ومشائخ الطريق ،كما روي عن
الحسن البصري أنه قال :لو علم العابدون بأنهم ل يرون ربهم في الخرة لذابت نفوسهم في /الدنيا شوقًا إليه،
وكلمهم في ذلك كثير.
ثم هؤلء الذين وافقوا السلف والئمة والمشائخ على التنعم بالنظر إلى الّ تعالى ،تنازعوا في مسألة المحبة التي هـي
حبّ َنفْسُهُ ،وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا :هو
أصل ذلك؛ فذهب طوائف من . ..والفقهاء إلى أن الّ ل ُي َ
أيضًا ل يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته للحسان إليهم ووليتهم .ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر
السنة من أهل الكـلم ،حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد :كالقاضي أبي بكـر والقاضي أبي
يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلء.
وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في السلم الجعد بن درهم ،أستاذ الجهم بن
صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد الّ القسري .وقال :أيها الناس ،ضحوا تقبل الّ ضحاياكم ،فإني مضح بالجعد بن
درهم ،فإنه زعم أن الّ لم يتخذ إبراهيم خليلً ،ولم يكلم موسى تكليمًا ثم نزل فذبحه.
والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف المة وأئمتها ومشائخ الطريق :أن الّ يحب ويحب .ولهذا وافقهم
على ذلك من تصوف من /أهل الكلم :كأبي القاسم القشيري؛ وأبي حامد الغزالي ،وأمثالهما .ونصر ذلك أبو حامد
في (الحياء) وغيره .وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في (الرسالة) على طريق الصوفية كما في كتاب أبي طالب المسمى
بـ (قوت القلوب) وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية ،استند في ذلك لما وجده من كتب الفلسفة من إثبات نحو
ذلك حيث قالوا :يعشق ويعشق.
وقد بسط الكلم على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه .وقد قال تعالى{ :يُ ِحّبهُمْ َويُ ِحبّونَهُ} [
المائدة ،]54 :وقال تعالى{ :وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة ،]165 :وقال{ :أَ َحبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ وَ َرسُولِهِ} [التوبة24 :
] ،وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان :من كان الّ
ورسوله أحب إليه مما سواهما ،ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ ،ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه
الّ منه كما يكره أن يلقى في النار).
والمقصود هنـا أن هؤلء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم ـ الذين ينكرون حقيقة المحبة ـ يلزمهم أن ينكروا التلذذ
بالنظر إليه؛ ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إل التنعم بالكل والشرب ،ونحو ذلك .وهذا القول باطل بالكتاب والسنة
واتفاق سلف المة ومشائخها ،فهذا أحد الحزبين الغالطين.
والضرب الثاني :طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة / :وافقوا هؤلء على أن الجنة ليست إل هذه المور التي
يتنعم بها المخلوق؛ ولكن وافقوا السلف والئمة على إثبات رؤية الّ والتنعم بالنظر إليه ،وأصابوا في ذلك وجعلوا
يطلبون هذا النعيم ،وتسمو إليه همتهم ،ويخافون فوته ،وصار أحدهم يقول :ما عبدتك شوقًا إلى جنتك ،أو خوفًا من
نارك ،ولكن لنظر إليك وإجللً لك ،وأمثال هذه الكلمات .مقصودهم بذلك :هو أعلى من الكل والشرب والتمتع
بالمخلوق ،لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة .وقد يغلطون أيضًا في ظنهم أنهم يعبدون الّ بل حظ ول إرادة ،وإن
كل ما يطلب منه فهو حظ النفس ،وتوهموا أن البشر يعمل بل إرادة ول مطلوب ول محبوب ،وهو سوء معرفة
بحقيقة اليمان والدين والخرة.
وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه ،حتى ل يشعر بنفسه وإرادتها ،فيظن
أنه يفعل لغير مراده ،والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه ،وهذا كحال كثير من الصالحين
والصادقين ،وأرباب الحوال والمقامات يكون لحدهم وجد صحيح ،وذوق سليم ،لكن ليس له عبارة تبين كلمه،
فيقع في كلمه غلط وسوء أدب ،مع صحة مقصوده؛ وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده.
فهؤلء الذين قالوا مثل هذا الكلم ،إذا عنوا به طلب رؤية الّ /تعالى أصابوا في ذلك ،لكن أخطؤوا من جهة أنهم
جعلوا ذلك خارجًا عن الجنة ،فأسقطوا حرمة اسم الجنة ،ولزم من ذلك أمور منكرة؛ نظير ما ذكر عن الشبلي ـ
رحمه الّ ـ أنه سمع قارئًا يقرأِ { :م ْنكُ ْم مَنْ يُرِي ُد ال ّدنْيَا َو ِم ْنكُ ْم مَ ْن يُرِيدُ الْخِ َرةَ} [آل عمران .]152 :فصرخ وقال :أين
مريد الّ؟ فيحمد منه كونه أراد الّ؛ ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الخرة ما أرادوا الّ؛ وهذه الية في أصحاب
النبي صلى ال عليه وسلم الذين كانوا معه بأحد ،وهم أفضل الخلق ،فإن لم يريدوا الّ ،أفيريد الّ من هو دونهم.
كالشبلي ،وأمثاله؟!
سهُمْ وََأمْوَاَلهُ ْم بِأَنّ َلهُمْ ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشائخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى{ :إِنّ الَّ ا ْ
شتَرَى مِنْ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َ
لّ َفيَ ْقتُلُونَ َوُي ْقتَلُونَ} [التوبة ]111 :قال :فإذا كانت النفس والموال في ثمن الجنة ،فالرؤية بم سبِيلِ ا ِ
ن فِي َ
جنّ َة يُقَاتِلُو َ
الْ َ
تنال ؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال.
والواجب أن يعلم أن كل ما أعده الّ للولياء من نعيم ،بالنظر إليه وما سوى ذلك ،هو في الجنة ،كما أن كل ما وعد
س مَا ُأخْ ِفيَ َلهُ ْم مِ ْن قُرّةِ أَ ْعيُنٍ َجزَا ًء ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ} [السجدة،]17 :
به أعداءه هو في النار .وقد قال تعالى{ :فَلَ َتعْلَ ُم َنفْ ٌ
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم( :يقول الّ أعددت لعبادي الصالحين ما ل عين رأت ،ول أذن
سمعت ،ول خطر على قلب بشر بَلْهُ ما أطلعتهم عليه) وإذا علم أن /جميع ذلك داخل في الجنة ،فالناس في الجنة
ضهُمْ َعلَى َبعْضٍ وَلَلْ ِخرَةُ َأ ْكبَ ُر دَرَجَاتٍ وََأ ْكبَ ُر تَ ْفضِيلً} [السراء21 : ف فَضّ ْلنَا َبعْ َ على درجات متفاوتة ،كما قال{ :انظُ ْر َكيْ َ
] وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غيرذلك من مطالب الخرة هو في الجنة.
وطلب الجنة والستعاذة من النار طريق أنبياء الّ ورسله ،وجميع أوليائه السابقين المقربين ،وأصحاب اليمين .كما
في السنن أن النبي صلى ال عليه وسلم سأل بعض أصحابه( :كيف تقول في دعائك؟) قال :أقول :اللهم إني أسألك
الجنة ،وأعوذ بك من النار؛ أما إني ل أحسن دندنتك ،ول دندنة معاذ .فقال( :حولهما ندندن) فقد أخبر أنه هو صلى
ال عليه وسلم ومعاذ ـ وهو أفضل الئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى ال عليه وسلم ـ إنما يدندنون حول
الجنة ،أفيكون قول أحد فوق قول رسول الّ صلى ال عليه وسلم ومعاذ ،ومن يصلي خلفهما من المهاجرين
والنصار؟! ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة.
لْبْرَارِ لَفِي عِّليّينََ .ومَا َأدْرَاكَ مَا وأهل الجنة نوعان :سابقون مقربون ،وأبرار أصحاب يمين .قال تعالى{ :كَلّ إِ ّ
ن ِكتَابَ ا َ
ن مِنْ
ضرَةَ ال ّنعِيمِ .يُسْقَوْ َ
ف فِي وُجُو ِههِ ْم نَ ْلْبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ .عَلَى الَْرَا ِئكِ يَنظُرُونََ .تعْرِ ُ ش َهدُهُ ا ْلمُ َق ّربُونَ .إِنّ ا َ
ب مَ ْرقُومٌ .يَ ْ
عِّليّونَ .كِتَا ٌ
ب ِبهَا ا ْلمُ َق ّربُونَ} [المطففين]18-28 : شرَ ُ ع ْينًا يَ ْ
سنِيمٍَ .
ن تَ ْ
سكٌ َوفِي ذَِلكَ فَ ْل َي َتنَافَسْ ا ْل ُم َتنَافِسُونََ .ومِزَاجُ ُه مِ ْ ختَامُ ُه مِ ْ
ختُومٍِ .
ق َم ْرَحِي ٍ
قال ابن عباس :تمزج لصحاب اليمين مزجًا ويشربها المقربون صرفًا.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ،ثم صلوا علي،
فإنه من صلى علي مرة صلى الّ عليه عشرًا ،ثم سلوا الّ لي الوسيلة ،فإنها درجة في الجنة ل تنبغي إل لعبد من
عباد الّ ،وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد ،فمن سأل الّ لي الوسيلة ،حلت عليه شفاعتي يوم القيامة) ،فقد أخبر أن
الوسيلة ـ التي ل تصلح إل لعبد واحد من عباد الّ ورجاء أن يكون هو ذلك العبد ـ هي درجة في الجنة ،فهل بقى بعد
الوسيلة شيء أعلي منها يكون خارجًا عن الجنة يصلح للمخلوقين؟!
وثبت في الصحيح ـ أيضًا ـ في حديث الملئكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال( :فيقولون للرب تبارك
وتعالى :وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك) .قال( :فيقول :وما يطلبون؟ قالوا :يطلبون الجنة) .قال( :فيقول:
وهل رأوها؟) قال( :فيقولون :ل) ،قال( :فيقول :فكيف لو رأوها؟!) قال( :فيقولون :لو رأوها لكانوا أشد لها طلبًا).
قال( :ومم يستعيذون؟!) قالوا( :يستعيذون من النار) .قال( :فيقول :وهل رأوها؟!) قال( :فيقولون :ل) .قال( :فيقول/ :
فكيف لو رأوها ؟) قالوا( :لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة) .قال( :فيقول :أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون ،وأعذتهم
مما يستعيذون) ـ أو كما قال ـ قال( :فيقولون :فيهم فلن الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم) ،قال( :فيقول :هم القوم
ليشقى بهم جليسهم) .فهؤلء الذين هم من أفضل أولياء الّ كان مطلوبهم الجنة ،ومهربهم من النار.
والنبي صلى ال عليه وسلم لمّا بايع النصار ليلة العقبة ،وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الولين الذين هم
أفضل من هؤلء المشائخ كلهم ،قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم :اشترط لربك ولنفسك ولصحابك قال( :أشترط
لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم ،وأشترط لصحابي أن تواسوهم) .قالوا :فإذا فعلنا ذلك فما
لنا؟ قال( :لكم الجنة) .قالوا :مد يدك فوالّ ل نقيلك ،ول نستقيلك .وقد قالوا له في أثناء البيعة :إن بيننا وبين القوم
حبالً وعهودًا وإنا ناقضوها.
فهؤلء الذين بايعوه من أعظم خلق الّ محبة لّ ورسوله ،وبذلً لنفوسهم وأموالهم في رضا الّ ورسوله ،على وجه ل
يلحقهم فيه أحد من هؤلء المتأخرين ،قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة ،فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه،
ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما ل تشعر به النفوس لتطلبه ،فإن /الطلب والحب
والرادة فرع عن الشعور والحساس والتصور ،فما ل يتصوره النسان ول يحسه ول يشعر به يمتنع أن يطلبه
ن فِيهَا وََل َديْنَا مَزِيدٌ} [ق ،]35 :وقالَ { :وفِيهَا مَا تَ ْ
ش َتهِيهِ ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا .كما قال تعالىَ{ :لهُ ْم مَا يَشَاءُو َ
الَْنفُسُ َوتََلذّ الَْ ْعيُنُ} [الزخرف ]71 :ففيها ما يشتهون ،وفيها مزيد على ذلك ،وهو مالم يبلغه علمهم ليشتهوه .كماقال
صلى ال عليه وسلم( :مال عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر) وهذا باب واسع.
فإذا عرفت هذه المقدمة ،فقول القائل :الرضا أل تسأل الّ الجنة ،ول تستعيذه من النار ،إن أراد بذلك أل تسأل الّ ما
هو داخل في مسمى الجنة الشرعية ،فل تسأله النظر إليه ،ول غير ذلك مما هو مطلوب جميع النبياء والولياء،
وإنك ل تستعيذ به من احتجابه عنك ،ول من تعذيبك في النار .فهذا الكلم مع كونه مخالفًا لجميع النبياء والمرسلين،
وسائر المؤمنين ،فهو متناقض في نفسه ،فاسد في صريح العقول ،وذلك أن الرضا الذي ل يسأل ،إنما ل يسأله
ل ول محبة لّ فكأنه لرضاه عن الّ .ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به ،ومحبته له ،وإذا لم يبق معه رضا عن ا ّ
قال :يرضى أل يرضى وهذا جمع بين النقيضين .ول ريب أنه كلم من لم يتصور ما يقول ،ول عقله ،يوضح ذلك
أن الراضي إنما يحمله على احتمال المكاره واللم /ما يجده من لذة الرضا وحلوته ،فإذا فقد تلك الحلوة واللذة
امتنع أن يتحمل ألمًا ومرارة ،فكيف يتصور أن يكون راضيًا ،وليس معه من حلوة الرضا ما يحمل به مرارة
المكاره؟ وإنما هذا من جنس كلم السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلوة الرضا ،فظن أن هذا يبقى معه على أي
حال كان ،وهذا غلط عظيم منه :كغلط سمنون كما تقدم.
وإن أراد بذلك أل يسأل التمتع بالمخلوق ،بل يسأل ما هو أعلى من ذلك؛ فقد غلط من وجهين:
من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة.
ومن جهة أنه ـ أيضًا ـ أثبت أنه طالب مع كونه راضيًا ،فإذا كان الرضا ل ينافى هذا الطلب ،فل ينافي طلبًا آخر إذا
كان محتاجًا إلى مطلوبه؛ ومعلوم أن تمتعه بالنظر ل يتم إل بسلمته من النار ،وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر،
وما ل يتم المطلوب إل به فهو مطلوب؛ فيكون طلبه للنظر طلبًا للوازمه التي منها النجاة من النار ،فيكون رضاه ل
ينافي طلب حصول المنفعة ودفع المضرة عنه .ول طلب حصول الجنة ودفع النار ول غيرهما مما هو من لوازم
النظر ،فتبين تناقض قوله.
/وأيضًا فإذا لم يسأل الّ الجنة ،ولم يستعذ به من النار ،فإما أن يطلب من الّ ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب
منفعة ودفع مضرة .وإما أل يطلبه ،فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى ،واستعاذته
من النار أولى .وإن كان الرضا أل يطلب شيئًا قط ،ولو كان مضطرًا إليه ،ول يستعيذ من شيء قط وإن كان مضرًا،
فل يخلو :إما أن يكون ملتفتًا بقلبه إلى الّ في أن يفعل به ذلك ،وإما أن يكون معرضًا عن ذلك ،فإن التفت بقلبه إلى
الّ فهو طالب مستعيذ بحاله ،ول فرق بين الطلب بالحال والقال ،وهو بهما أكمل وأتم فل يعدل عنه.
وإن كان معرضًا عن جميع ذلك ،فمن المعلوم أنه ل يحيا ويبقى إل بما يقيم حياته ،ويدفع مضاره بذلك ،والذي به
يحيا من المنافع ودفع المضار ،إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد ،أو ل يحبه ول يطلبه ول يريده .فإن أحبه وطلبه
ل ولوأراده من غير الّ كان مشركًا مذمومًا ،فضل عن أن يكون محمودًا .وإن قال :ل أحبه وأطلبه وأريده ل من ا ّ
من خلقه .قيل :هذا ممتنع في الحي ،فإن الحي ممتنع عليه أل يحب ما به يبقى ،وهذا أمر معلوم بالحس ،ومن كان
بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا ،فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة ،إذ الرضا مستلزم لذلك .فكيف
يسلب عنه ذلك كله؟ /فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلم.
أحدها أن يقال :الراضي لبد أن يفعل ما يرضاه الّ ،وإل فكيف يكون راضيًا عن الّ من ل يفعل ما يرضاه الّ؟
وكيف يسوغ رضا ما يكرهه الّ ويسخطه ويذمه ،وينهي عنه.
وبيان هذا :أن الرضا المحمود إما أن يكون الّ يحبه ويرضاه ،وإما أل يحبه ويرضاه ،فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم
يكن هذا الرضا مأمورًا به ،ل أمر إيجاب ول أمر استحباب؛ فإن من الرضا ما هو كفر ،كرضا الكفار بالشرك ،وقتل
حبَطَ النبياء وتكذيبهم ،ورضاهم بما يسخطه الّ ويكرهه .قال تعالى{ :ذَِلكَ بَِأّنهُ ْم ا ّت َبعُوا مَا أَ ْ
سخَطَ الَّ َوكَرِهُوا ِرضْوَانَ ُه فََأ ْ
أَ ْعمَاَلهُمْ} [محمد ،]28 :فمن اتبع مـا أسخط الّ برضاه وعمله فقد أسخط الّ ،وقال النبي صلى ال عليه وسلم( :إن
الخطيئة إذا عملت في الرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها ،ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب
عنها وأنكرها) ،وقال صلى ال عليه وسلم( :سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون ،فمن أنكر فقد برئ ،ومن كره
ل يَرْضَى عَنْ الْقَ ْومِ
لّ َ
عنْهُ ْم َفإِنّ ا َ
ن تَرْضَوْا َ
ع ْنهُمْ َفإِ ْ فقد سلم ولكن من رضى وتابع هلك) .وقال تعالى{ :يَحْلِفُونَ َلكُمْ ِلتَرْ َ
ضوْا َ
سقِينَ} [التوبة ]96 :فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه الّ ويرضاه ،وهو ل يرضى عنهم .وقال تعالى{ : ا ْلفَا ِ
أَ َرضِيتُ ْم بِالْ َحيَاةِ الدّ ْنيَا مِنْ الْخِ َر ِة َفمَا َمتَاعُ الْ َحيَا ِة ال ّدنْيَا فِي الْخِرَةِ ِإلّ قَلِيلٌ} [التوبة ]38 :فهذا رضا قد ذمه الّ .وقال تعالى:
ط َمَأنّوا بِهَا} [يونس ]7 :فهذا أيضًا رضا مذموم ،وسوى هذا ،وهذا حيَا ِة ال ّد ْنيَا وَا ْ
ن لَ يَ ْرجُونَ ِلقَا َءنَا وَ َرضُوا بِا ْل َ
{إِنّ اّلذِي َ
كثير.
فمن رضى بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبعًا لرضا الّ ول هو مؤمن
بالّ .بل هو مسخط لربه ،وربه غضبان عليه ،لعن له ،ذام له ،متوعد له بالعقاب.
وطريق الّ التي يأمر بها المشائخ المهتدون :إنما هي المر بطاعة الّ والنهي عن معصيته .فمن أمر أو استحب أو
ل ل ولى لّ وهو يصد عن سبيل الّ مدح الرضا الذي يكرهه الّ ويذمه وينهى عنه ويعاقب أصحابه فهو عدو ّ
وطريقه ،ليس بسالك لطريقه وسبيله .وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه الّ ،ومنه ما يكرهه
ويسخطه ،ومنه ما هو مباح ل من هذا ول من هذا ،كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك ،كلها تنقسم
ل ومكروه لّ مباح.
إلى محبوب ّ
/فإذا كان المر كذلك فالراضي الذي ل يسأل الّ الجنة ول يستعيذه من النار يقال له :سؤال الّ الجنة واستعاذته من
النار إما أن تكون واجبة ،وإما أن تكون مستحبة ،وإما أن تكون مباحة ،وإما أن تكون مكروهة ،ول يقول مسلم :إنها
محرمة ولمكروهة ،وليست أيضًا مباحة مستوية الطرفين .ولو قيل :إنها كذلك ففعل المباح المستوى الطرفين ل
ينافي الرضا؛ إذ ليس من شرط الراضي أل يأكل ول يشرب ول يلبس ول يفعل أمثال هذه المور ،فإذا كان ما يفعله
من هذه المور ل ينافي رضاه ،أينافي رضاه دعاء وسؤال هو مباح؟! وإذا كان السؤال والدعاء كذلك واجبا أو
ل ل يفعل مامستحبا فمعلوم أن الّ يرضى بفعل الواجبات والمستحبات ،فكيف يكون الراضي الذي من أولياء ا ّ
يرضاه ويحبه؛ بل يفعل ما يسخطه ويكرهه وهذه صفة أعداء الّ ل أولياء الّ.
والقشيري قد ذكره في أوائل باب الرضا فقال :اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء الّ الذي أمـر بالرضا
به ،إذ ليس كـل ماهو بقضائه يجـوز للعبد أو يجب على العبد الرضا به .كالمعاصي وفنون محن المسلمين .وهذا
الذي قاله ،قاله قبله وبعده ومعه غير واحد من العلماء :كالقاضي أبي بكر ،والقاضي أبي يعلى وأمثالهما ،لمـا احتج
عليهم القدرية بأن الرضا بقضاء الّ مأمور به ،فلو كانت المعاصي /بقضاء الّ لكنا مأمورين بالرضا بها ،والرضـا
بما نهى الّ عنه ل يجـوز فأجابهم أهـل السنة عن ذلك بثلثة أجوبة:
أحدها ـ وهو جواب هؤلء وجماهير الئمة ـ :أن هذا العموم ليس بصحيح ،فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى
وقدر ،ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك ،ولكن علينا أن نرضي بما أمرنا أن نرضى به ،كطاعة الّ ورسوله.
وهذا هو الذي ذكره أبو القاسم.
والجواب الثاني :أنهم قالوا :إنا نرضى بالقضاء الذي هو صفة الّ أو فعله ل بالمقضي الذي هو مفعوله .وفي هذا
الجواب ضعف قد بيناه في غير هذا الموضع.
الثالث :أنهم قالوا :هذه المعاصي لها وجهان :وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه ،ووجه إلى الرب من
حيث هو خلقها وقضاها وقدرها ،فيرضى من الوجه الذي يضاف به إلى الّ ،ول يرضى من الوجه الذي يضاف به
إلى العبد ،إذ كونها شرًا وقبيحة ومحرمًا وسببًا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد.
وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والسرار ما قد ذكرنا منه ما قد ذكرناه في غيرهذا الموضع ،ول يحتمله هذا المكان.
فإن /هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر ،وهي من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الولين والخرين وأدقها على
عقول أكثر العالمين.
والمقصود هنا أن مشائخ الصوفية والعلماء وغيرهم قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائزًا ،ومنه مال يكون جائزًا
فضل عن كونه مستحبًا أو من صفات المقربين ،وإن أبا القاسم ذكر ذلك في [الرسالة] أيضًا.
فإن قيل :هذا الذي ذكـرتموه أمر بين واضح ،فمن أين غلط من قال :الرضـا أل تسأل الّ الجنة ول تستعيذه من النار؟
وغلـط من يستحسن مثل هـذا الكلم كائنا من كان؟.
قيل :غلطوا في ذلك لنهم رأوا أن الراضي بأمر ل يطلب غير ذلك المر ،فالعبد إذا كان في حال من الحوال فمن
رضاه أل يطلب غير تلك الحال ،ثم إنهم رأوا أن أقصى المطالب الجنة ،وأقصى المكاره النار .فقالوا :ينبغي أليطلب
شيئًا ولو أنه الجنة ول يكره ما يناله ،ولو أنه النار ،وهذا وجه غلطهم ،ودخل عليهم الضلل من وجهين:
ل ويرضاه /وأن هذا من أعظم طرق أولياء الّ ،فجعلوا الرضا أحدهما :ظنهم أن الرضا بكل ما يكون أمر يحبه ا ّ
بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها للعبد طريقًا إلى الّ ،فضلوا ضللً مبينًا والطـريق إلى الّ إنمـا هي أن
ترضيه بأن تفعـل مايحبه ويرضاه ليس أن ترضى بكل مـا يحدث ويكـون ،فإنه هو لـم يأمـرك بذلـك ،ول رضيه لـك
ول أحبه؛ بـل هـو ـ سبحانه ـ يكـره ويسخـط ويبغض عـلى أعيـان أفعال موجـودة ل يحصيها إل هو ،وولية الّ
موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض ،وتكره ما يكره ،وتسخط ما يسخط ،وتوالي من يوالي ،وتعادي من
يعادي ،فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنـت عدوه ل وليّه ،وكان كل ذم نال من رضى ما أسخط الّ قد
نالك.
فتدبر هذا؛ فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من ل يحصيهم إل الّ.
الوجه الثاني :أنهم ل يفرقون بين الدعاء الذي أمروا به أمر إيجاب ،وأمر استحباب ،وبين الدعاء الذي نهوا عنه ،أو
لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه ،فإن دعاء العبد لربه ومسألته إياه ثلثة أنواع:
نوع أمر العبد به إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب :مثل /قوله{ :ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْس َتقِيمَ} [الفاتحة ،]6 :ومثل دعائه
في آخر الصلة كالدعاء الذي كان النبي صلى ال عليه وسلم يأمر به أصحابه فقال( :إذا قعد أحدكم في الصلة
فليستعذ بالّ من أربع :من عذاب جهنم ،وعذاب القبر ،وفتنة المحيا والممات ،وفتنة المسيح الدجال) .فهذا دعاء
أمرهم النبي صلى ال عليه وسلم أن يدعوا به في آخر صلتهم .وقد اتفقت المة على أنه مشروع يحبه الّ ورسوله
ويرضاه ،وتنازعوا في وجوبه .فأوجبه طاووس وطائفة ،وهو قول في مذهب أحمد رضي الّ عنه ،والكثرون قالوا:
هذا مستحب ،والدعية التي كان النبي صلى ال عليه وسلم يدعو بها :ل تخرج عن أن تكون واجبة ،أو مستحبة،
ل ويرضاه ،ومن فعله ـ رضي الّ عنه وأرضاه ـ فهل يكون من الرضا وكل واحد من الواجب والمستحب يحبه ا ّ
ترك ما يحبه ويرضاه؟!
ونوع من الدعاء ينهي عنه :كالعتداء مثل أن يسأل الرجل مال يصلح من خصائص النبياء ،وليس هو بنبي ،وربما
هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى .مثل أن يسأل لنفسه الوسيلة التي ل تصلح إل لعبد من عباده ،أو يسأل الّ
تعالى أن يجعله بكل شيء عليمًا ،أو على كل شيء قدير ،وأن يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب .وأمثال
ذلك ،أو مثل من يدعوه ظانًا أنه محتاج إلى عباده؛ وأنهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل ،ويذكر أنه إذا لم
يفعله /حصل له من الخلق ضير .وهذا ونحوه جهل بال واعتداء في الدعاء .وإن وقع في ذلك طائفة من الشيوخ.
ومثل أن يقولوا :اللهم اغفر لي إن شئت ،فيظن أن ال قد يفعل الشىء مكرها ،وقد يفعل مختارًا ،كالملوك ،فيقول:
اغفر لي إن شئت ،وقد نهي النبي صلى ال عليه وسلم عن ذلك وقال( :ل يقل أحدكم :اللهم اغفر لي إن شئت ،اللهم
ارحمني إن شئت ،ولكن ليعزم المسألة؛ فإن ال ل مكره له) ،ومثل أن يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق،
وأمثال ذلك فهذه الدعية ونحوها منهي عنها.
والمقصود أن الرضا الذي هو من طريق ال ل يتضمـن ترك واجب ول ترك مستحب ،فالدعاء الذي هو واجب أو
مستحب ل يكون تركه من الرضا ،كما أن ترك سائر الواجبات ل يكون من الرضا المشروع ،ول فعل المحرمات
من المشروع .فقد تبين غلط هؤلء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور ،ومن جهة أنهم لم يميزوا بين
الدعاء المشروع إيجابا ،واستحبابا ،والدعاء غير المشروع.
وقد علم بالضطرار من دين السلم أن طلب الجنة من ال ،والستعاذة به من النار ،هو من أعظم الدعية
المشروعة لجميع المرسلين /والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،وأن ذلك ل يخرج عن كونه واجبًا أو
مستحبا ،وطريق أولياء ال التي يسلكونها ل تخرج عن فعل واجبات ومستحبات؛ إذ ما سوي ذلك محرم أو مكروه أو
مباح ل منفعة فيه في الدين.
ثم إنه لما أوقع هؤلء في هـذا الغلط أنهـم وجـدوا كثيـرًا من الناس ل يسألون ال جلب المنافع ،ودفع المضار ،حتى
طلب الجنة ،والستعاذة من النار ،من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيرًا ،بل من جهة كون النفس تطلب ذلك ،فرأوا
أن من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريـده ،وأل يكـون لحـدهم إرادة أصـل ،بـل يكـون مطلـوبه الجريان تحت
القدر ـ كائنًا من كان ـ وهذا هو الذي أدخل كثيرًا منهم في الرهبانية ،والخروج عن الشرعية ،حتى تركوا من الكل
والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون إليه ،وما ل تتم مصلحة دينهم إل به؛ فإنهم رأوا العامة تعد هذه المور بحكم
الطبع والهوى والعادة ،ومعلوم أن الفعال التي على هذا الوجه ل تكون عبادة ول طاعة ول قربة ،فرأي أولئك
الطريق إلي ال ترك هذه العبادات ،والفعال الطبعيات ،فلزموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما
فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق ،ما أوقعهم في ترك واجبات ومستحبات ،وفعل مكروهات ومحرمات.
/وكل المرين غير محمود ،ول مأمور به ،ول طريق إلى الّ :طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الفعال المحتاج
إليها على غير وجه العبادة ،والتقرب إلى الّ ،وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الفعال؛ بل المشروع أن تفعل بنية
عمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون ،]51 :وقال تعالى{ :كُلُوا التقرب إلى الّ ،وأن يشكر الّ .قال الّ تعالى{ :كُلُوا مِنْ ال ّ
طّيبَاتِ وَا ْ
ت مَا َر َز ْقنَاكُمْ وَا ْشكُرُوا لِِّ} [البقرة ،]172 :فأمر بالكل والشرب ،فمن أكل ولم يشكر كان مذمومًا ،ومن لم طيّبَا ِ
مِنْ َ
يأكل ولم يشكر كان مذمومًا ،وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :إن الّ ليرضى عن العبد أن يأكل
الكلة فيحمده عليها ،ويشرب الشربة فيحمده عليها) ،وقال النبي صلى ال عليه وسلم لسعد( :إنك لن تنفق نفقة تبتغي
بها وجه الّ ،إل ازددت بها درجة ورفعة ،حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك) ،وفي الصحيح أيضًا أنه قال( :نفقة
المؤمن على أهله يحتسبها صدقة) .فكذلك الدعية هنا من الناس من يسأل الّ جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه
طبعًا وعادة ل شرعًا وعبادة ،فليس من المشروع أن أدع الدعاء مطلقًا لتقصيرهذا وتفريطه؛ بل أفعله أنا شرعًا
وعبادة.
ثم اعلم أن الذي يفعله شرعًا وعبادة إنما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه
ن يَقُولُ َرّبنَا آ ِتنَا فِي وآخرته؛ بخلف /الذي يفعله طبعًا فإنه إنما يطلب مصلحة دنياه فقط ،كما قال تعالىَ { :فمِنْ النّا ِ
س مَ ْ
عذَابَ النّارِ .أُوَْل ِئكَ َلهُ ْم نَصِيبٌ
سنَةً َو ِقنَا َ
سنَةً َوفِي الْخِرَةِ حَ َ
ن يَقُولُ َرّبنَا آ ِتنَا فِي ال ّد ْنيَا حَ َ
ال ّدنْيَا َومَا لَ ُه فِي الخِرَ ِة مِنْ خَلَقٍَ .ومِ ْنهُ ْم مَ ْ
ِممّا كَ َسبُوا وَالُّ سَرِيعُ الْ ِحسَابِ} [البقرة ]200-202 :وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار إنما يطلب حسنة
الخرة فهو محمود.
ومما يبين المر في ذلك أن يرد قول هؤلء :بأن العبد ل يفعل مأمورًا ول يترك محظورًا .فل يصلي ول يصوم ول
يتصدق ،ول يحج ول يجاهد ول يفعل شيئًا من القربات ،فإن ذلك إنما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب .فإذا كان
هو ل يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة ،ول دفع العقاب الذي هو النار ،فل يفعل مأمورًا ،ول يترك محظورًا،
ويقول :أنا راض بكل ما يفعله بي وإن كفرت وفسقت وعصيت؛ بل يقول :أنا أكفر وأفسق وأعصى حتى يعاقبني
وأرضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه ،وهذا قول من هو من أجهل الخلق وأحمقهم وأضلهم وأكفرهم.
أما جهله وحمقه؛ فلن الرضى بذلك ممتنع متعذر؛ لن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين.
/وأما كفره؛ فلنه مستلزم لتعطيل دين الّ الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه.
ول ريب أن ملحظة القضاء والقدر ،أوقعت كثيرًا من أهل الرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا
من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين ،وإما عاصين فاسقين ،وإما كافرين ،وقد رأيت من ذلك ألوانا{ .
َومَنْ لَ ْم يَ ْجعَلْ الُّ لَ ُه نُورًا َفمَا لَ ُه مِ ْن نُورٍ} [النور.]40 :
وهؤلء المعتزلة ونحوهم من القدرية طرفا نقيض ـ هؤلء يلحظون القدر ويعرضون عن المر .وأولئك يلحظون
المر ويعرضون عن القدر ـ والطائفتان تظن أن ملحظة المر والقدر متعذر .كما أن طائفة تجعل ذلك مخالفًا
للحكمة والعدل .وهذه الصناف الثلثة هي :القدرية المجوسية ،والقدرية المشركية؛ والقدرية البليسية؛ وقد بسطنا
الكلم عليهم في غير هذا الموضع.
وأصل ما يبتلى به السالكون أهل الرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية ،فيشهدون القدر ويعرضون
عن المر ،كما قال فيهم بعض العلماء :أنت عند الطاعة قدري ،وعند المعصية جبري ،أي مذهب وافق هواك
ل عليهـا قبل الفعـل ،ويشكره عليها بعد
تمذهبت به .وإنما المشروع العكس ،وهو أن يكون عند الطاعة يستعين ا ّ
الفعل /ويجتهد أل يعصى فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والستغفار ،كما في حديث سيد الستغفار( :أبوء لك
بنعمتك علي ،وأبوء بذنبي) ،وكما في الحديث الصحيح اللهي( :ياعبادي ،إنماهي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم
إياها ،فمن وجد خيرًا فليحمد الّ ،ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل نفسه).
ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الرادة في ترك الدعاء ،وآخرون جعلوا التوكل والمحبة من مقامات العامة ،وأمثال
هذه الغاليط التي تكلمنا عليها في غير هذا الموضع ،وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك؛ ولهذا يوجد في كلم
هؤلء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة ،حتى قال سهل بن عبد الّ التستري :كل وجد ل يشهد له الكتاب والسنة
فهو باطل .وقال الجنيد بن محمد :علمنا مقيد بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث ل يصح أن يتكلم في
علمنا ،والّ أعلم.
ما تقول السادة العلماء فيمن عزم على فعل محرم ،كالزنا والسرقة ،وشرب الخمر عزمًا جازمًا فعجز عن /
فعله :إما بموت ،أو غيره .هل يأثم بمجرد العزم أم ل؟ وإن قلتم :يأثم ،فما جواب من يحتج على عدم الثم بقوله( :إذا
هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه( ()1وبقوله ) :إن الّ تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها ،مالم تعمل أو
تتكلم) واحتج به من وجهين:
أحدهما :أنه أخبر بالعفو عن حديث النفس ،والعزم داخل في العموم والعزم والهم واحد .قاله ابن سيده.
الثاني :أنه جعل التجاوز ممتدا إلى أن يوجد كلم أوعمل ،وما قبل ذلك داخل في حد التجاوز ،ويزعم أل دللة في
قول النبي صلى ال عليه وسلم( :إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)؛ لن الموجب لدخول
المقتول في النار مواجهته أخيه ،لنه عمل ل مجرد قصد ،وأل دللة في قوله صلى ال عليه وسلم في الذي قال( :لو
أن لي مال لفعلت وفعلت ،إنهما في الثم سواء وفي الجر سواء)؛ لنه تكلم / ،والنبي صلى ال عليه وسلم قال( :ما
ل مكشوفًا مستوفًا.
لم تعمل به أو تتكلم) وهذا قد تكلم ،وقد وقع في هذه المسألة كلم كثير .واحتيج إلى بيانها مطو ً
فأجاب شيخ السلم ابن تيمية ـ قدس الّ روحه ونور ضريحه:
الحمد لّ ،هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلم في حكمها إلى حسن التصور لها ،فإن اضطراب الناس في هذه
المسائل وقع عامته من أمرين:
والثاني :عدم إعطاء الدلة الشرعية حقها ،ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب ،حتى يجد الناظر في
كلمهم أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر.
فينبغي أن يعلم أن كل واحـد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة والرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله
وآخره مال يضبطه العباد :كالشك ،ثم الظن ،ثم العلم ،ثم اليقين ،ومراتبه؛ وكذلك الهم والرادة والعزم وغير ذلك؛
ولهذا كان الصواب عند جماهير أهل السنة ـ وهو /ظاهر مذهب أحمـد ،وهو أصح الروايتين عنه ،وقول أكثر
أصحابه ـ أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان ،بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي :كاللوان
والطعوم والرواح .فنقول أولً :الرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها ،إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى
وجدت الرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل ،لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم،
ومتي وجدت الرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الرادة جازمة ،وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من
الفعال ،ولم يفعلوه ،وإن كانت هذه الرادات متفاوتة في القوة والضعف تفاوتًا كثيرًا؛ لكن حيث لم يقع الفعل المراد
مع وجود القدرة التامة فليست الرادة جازمة جزمًا تامًا.
وهذه المسألة إنما كثر فيها النزاع؛ لنهم قدروا إرادة جازمة للفعل ل يقترن بها شىء من الفعل ،وهذا ل يكون .وإنما
يكون ذلك في العزم على أن يفعل ،فقد يعزم على الفعل في المستقبل من ل يفعل منه شيئا في الحال ،والعزم على أن
يفعل في المستقبل ل يكفي في وجود الفعل ،بل لبد عند وجوده من حدوث تمام الرادة المستلزمة للفعل ،وهذه هي
الرادة الجازمة.
والرادة الجازمة إذا فعل معها النسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام :له ثواب الفاعل التام،
وعقاب الفاعل التام /الذي فعل جميع الفعل المراد ،حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته ،مثل
المشتركين والمتعاونين على أفعال البر ،ومنها ما يتولد عن فعل النسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضللة ،والسّان
سّنة حسنة ،وسنة سيئة ،كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :من دعا إلى هدى كان له
من الجر مثل أجور من تبعه ،من غير أن ينقص من أجورهم شيء ،ومن دعا إلى ضللة كان عليه من الوزر مثل
أوزار من تبعه ،من غير أن ينقص أوزارهم شىء) ،وثبت عنه في الصحيحين أنه قال( :من سن سنة حسنة كان له
أجرها ،وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ،من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
فالداعي إلى الهدى وإلى الضللة ،هو طالب مريد كامل الطلب والرادة لما دعا إليه ،لكن قدرته بالدعاء والمر،
وقدرة الفاعل بالتباع والقبول؛ ولهذا قرن الّ تعالى في كتابه بين الفعال المباشرة والمتولدة فقال{ :ذَِلكَ بَِأّنهُ ْم لَ
عمَ ٌ
ل ل ُكتِبَ َلهُ ْم بِهِ َعدُ ّو َنيْلً ِإ ّن مِنْ َ ل يَنَالُو َطئًا َيغِيظُ ا ْلكُفّارَ َو َ
ن مَوْ ِطئُو َ
ل يَ َ
سبِيلِ الِّ َو َ خمَصَ ٌة فِي َ ل مَ ْ ل نَصَبٌ َو َ ظمَأٌ َو َ
يُصِيبُهُمْ َ
ن مَا كَانُوا
طعُونَ وَا ِديًا ِإلّ ُكتِبَ َل ُهمْ ِليَجْ ِز َيهُمْ الُّ َأحْسَ َ ل َكبِيرَةً َولَ يَ ْق َ
صغِيرَةً َو َ
ن نَ َفقَةً َسنِينََ .ولَ يُن ِفقُو َ
ل يُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْ ِ
لّ َصَالِحٌ إِنّ ا َ
َيعْمَلُونَ} [التوبة.]121 ،120 :
فذكر في الية الولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة / ،وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب،
وما يحصل للكفار بهم من الغيظ ،وما ينالونه من العدو .وقالُ { :كتِبَ َلهُ ْم بِهِ َعمَلٌ صَالِحٌ} ،فأخبر أن هذه المور التي
تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها عمل صالح ،وذكر في الية الثانية نفس أعمالهم
المباشرة التي باشروها بأنفسهم :وهي النفاق ،وقطع المسافة ،فلهذا قال فيهاِ{ :إ ّل كُتِبَ َلهُمْ} فإن هذه نفسها عمل
صالح ،وإرادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله لّ ،وأن تكون كلمة الّ هي العليا،
فما حدث مع هذه الرادة الجازمة من المور التي تعين فيها قدرتهم بعض العانة هي لهم عمل صالح.
وكذلك الداعي إلى الهدى والضللة ،لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدي التباع وضللهم ،وأتى من العانة على
ذلك بما يقدر عليه ،كان بمنزلة العامل الكامل ،فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه :للهادي مثل أجور المهتدين،
وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة؛ فإن السنة هي ما رسم للتحري ،فإن السان كامل
الرادة لكل ما يفعل من ذلك ،وفعله بحسب قدرته .
ومن هذا :قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :ل تقتل نفس ظلمًا إل
كان على ابن آدم الول كفل من دمها؛ لنه أول من سن القتل) ،فالكفل /النصيب مثل نصيب القاتل .كما فسره
الحديث الخر ،وهو كما استباح جنس قتل المعصوم ،لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة ،فصار شريكًا في
ض َفكََأّنمَا َقتَلَ
لْرْ ِ
ل نَفْسًا بِ َغيْ ِر نَ ْفسٍ أَ ْو فَسَادٍ فِي ا َ
ن َقتَ َ
ل ذَِلكَ َك َتبْنَا عَلَى َبنِي إِسْرَائِيلَ َأنّ ُه مَ ْ
جِقتل كل نفس ،ومنه قوله تعالى{ :مِنْ أَ ْ
النّاسَ َجمِيعًا َومَنْ أَ ْحيَاهَا َفكََأّنمَا أَ ْحيَا النّاسَ َجمِيعًا} [المائدة.]32 :
يءٍ
ن مِنْ خَطَايَاهُ ْم مِنْ شَ ْ
حمِلْ خَطَايَا ُكمْ َومَا هُ ْم ِبحَامِلِي َ
سبِيَلنَا وَ ْلنَ ْ ومن هذا الباب قوله تعالىَ { :وقَالَ اّلذِي َ
ن كَفَرُوا لِّلذِينَ آ َمنُوا ا ّت ِبعُوا َ
ِإّنهُمْ َلكَا ِذبُونَ .وََليَ ْحمِلُنّ َأثْقَاَلهُمْ وََأثْقَا ًل مَعَ َأ ْثقَاِلهِمْ وََليُسْأَلُ ّن يَ ْومَ الْ ِقيَامَةِ َعمّا كَانُوا يَ ْفتَرُونَ} [ العنكبوت ]13 ،12 :فأخبر أن أئمة
الضلل ل يحملون من خطايا التباع شيئًا ،وأخبر أنهم يحملون أثقالهم ،وهي أوزار التباع ،من غير أن ينقص من
أوزار التباع شيء؛ لن إرادتهم كانت جازمة بذلك ،وفعلوا مقدورهم ،فصار لهم جزاء كل عامل؛ لن الجزاء على
العمل يستحق مع الرادة الجازمة ،وفعل المقدور منه.
وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان / :أن النبي صلى ال عليه وسلم كتب إلى هرقل( :
فإن توليت فإن عليك إثم الريسيين) ،فأخبر أن هرقل لما كان إمامهم المتبوع في دينهم أن عليه إثم الريسيين ،وهم
التباع ،وإن كان قد قيل :أن أصل هذه الكلمة من الفلحين والكرة ،كلفظ الطاء بالتركي ،فإن هذه الكلمة تقلب إلى ما
هو أعم من ذلك ،ومعلوم أنه إذا تولى عن اتباع الرسول كان عليه مثل آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما
دل عليه سائر نصوص الكتاب والسنة.
لّ َيعْلَ ُم مَا يُسِرّونَ َومَا س َت ْكبِرُونَ .لَ جَرَمَ أَنّ ا َ ن بِالْخِ َر ِة قُلُو ُبهُ ْم مُنكِرَةٌ وَ ُه ْم مُ ْ
ن لَ يُ ْؤ ِمنُو َ ومن هذا قوله تعالى{ :إَِل ُهكُمْ إِلَهٌ وَا ِ
ح ٌد فَاّلذِي َ
حمِلُوا أَوْزَارَهُ ْم كَامِلَةً يَ ْومَ ا ْل ِقيَامَةِ َومِنْ َأوْزَارِ
ستَ ْكبِرِينَ .وَِإذَا قِيلَ َلهُ ْم مَاذَا أَنزَلَ َرّبكُ ْم قَالُوا َأسَاطِيرُ الَْوّلِينَِ .ليَ ْ ل يُحِبّ ا ْل ُم ْ
ُيعْلِنُونَ ِإنّ ُه َ
اّلذِينَ يُضِلّونَهُ ْم ِب َغيْرِ عِلْمٍ} [النحل.]22-25 :
فقولهَ { :ومِنْ أَ ْوزَارِ اّلذِي َن يُضِلّو َنهُم} [النحل ]25 :هي الوزار الحاصلة لضلل التباع ،وهي حاصلة من جهة المر،
ومن جهة المأمور الممتثل ،فالقدرتان مشتركتان في حصول ذلك الضلل؛ فلهذا كان علي هذا بعضه ،وعلى هذا
بعضه ،إل أن كل بعض من هذين البعضين هو مثل وزر عامل كامل ،كما دلت عليه سائر النصوص ،مثل قوله( / :
من دعا إلى الضللة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
حتّى ِإذَا
خ َتهَا َ
س فِي النّا ِر كُّلمَا دَخََلتْ ُأمّةٌ َل َعنَتْ أُ ْ
ن َقبِْلكُ ْم مِنْ الْجِنّ وَالِْن ِ
ت مِ ْ
خلَ ْ
خلُوا فِي ُأ َم ٍم قَدْ َ ومن هذا الباب قوله تعالى{ :قَا َ
ل ادْ ُ
ضعْفٌ وََلكِ ْن َل َتعَْلمُونَ} [ ضعْفًا مِنْ النّا ِر قَالَ ِلكُلّ ِ
عذَابًا ِ خرَاهُ ْم لُِولَهُمْ َرّبنَا هَ ُؤلَءِ َأضَلّونَا فَآتِهِمْ َ
جمِيعًا قَاَلتْ أُ ْ
ادّا َركُوا فِيهَا َ
العراف.]38 :
فأخبر ـ سبحانه ـ أن التباع دعوا على أئمة الضلل بتضعيف العذاب ،كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالىَ { :وقَالُوا
ضعْ َفيْنِ مِنْ ا ْل َعذَابِ وَا ْل َعنْهُمْ َلعْنًا َكبِيرًا} [الحزاب.]68 ،67 :وأخبر
سبِيلََ .رّبنَا آ ِتهِمْ ِ
ط ْعنَا سَا َد َتنَا َو ُكبَرَا َءنَا َفأَضَلّونَا ال ّ
َرّبنَا ِإنّا َأ َ
ـ سبحانه ـ أن لكل من المتبعين والتباع تضعيفًا من العذاب .ولكن ل يعلم التباع التضعيف.
ولهذا وقع عظيم المدح والثناء لئمة الهدى ،وعظيم الذم واللعنة لئمة الضلل ،حتى روى في أثر ـ ل يحضرني
إسناده ـ( :أنه ما من عذاب في النار إل يبدأ فيه بإبليس ثم يصعد بعد ذلك إلى غيره ،وما من نعيم في الجنة إل يبدأ فيه
بالنبي صلى ال عليه وسلم ثم ينتقل إلى غيره) فإنه هو المام المطلق في الهدى لول بني آدم وآخرهم .كما قال( :أنا
سيد ولد آدم ول فخر ،آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة /ول فخر) ،وهو شفيع الولين والخرين في الحساب
بينهم ؛ وهو أول من يستفتح باب الجنة ،وذلك أن جميع الخلئق أخذ الّ عليهم ميثاق اليمان به كما أخذ على كل نبي
ح ْكمَةٍ ثُمّ
ن ِكتَابٍ َو ِ
لّ مِيثَاقَ ال ّنبِيّينَ َلمَا آ َت ْيتُكُ ْم مِ ْ أن يؤمن بمن قبله من النبياء ؛ ويصدق بمن بعده ،قال تعالى{ :وَِإذْ أَ َ
خذَ ا ُ
صدّقٌ ِلمَا َمعَكُمْ َلتُ ْؤمِنُ ّن بِهِ وََل َتنْصُ ُرنّهُ} الية [آل عمران .]81 :فافتتح الكلم باللم الموطئة للقسم التي ل ُم َ
جَا َءكُمْ رَسُو ٌ
يؤتي بها إذا اشتمل الكلم على قسم وشرط؛ وأدخل اللم على ما الشرطية ليبين العموم ،ويكون المعنى :مهما آتيكم
من كتاب وحكمة فعليكم إذا جاءكم ذلك النبي المصدق اليمان به ونصره .كما قال ابن عباس :ما بعث الّ نبيا إل أخذ
عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.
والّ ـ تعالى ـ قد نوه بذكره وأعلنه في المل العلى ،ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه ،كما في حديث ميسرة
الفجر قال ، :قلت :يا رسول الّ! متى كنت نبيًا؟ وفي رواية ـ متى كتبت نبيًا ؟ فقال( :وآدم بين الروح والجسد) رواه
أحمد .وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
قال( :إني عند الّ لخاتم النبيين ،وإن آدم لمنجدل في طينته) الحديث.
/فكتب الّ وقدر في ذلك الوقت ،وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق
جسده ونفخ الروح فيه ،كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود .
فمن آمن به من الولين والخرين أثيب على ذلك ،وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظـم من
ثـواب من لم يأت إل باليمان المجمل ،على أنه إمام مطلق لجميع الذرية ،وإن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من
الولين والخرين ،كما أن كل ضلل وغواية في الجن والنس لبليس منه نصيب ،فهذا يحقق الثر المروي ويؤيد
ما في نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي صلى ال عليه وسلم مرسلً ـ إما من مراسيل الزهري ،وإما
من مراسيل من فوقه من التابعين ـ قال( :بعثت داعيًا وليس إلى من الهداية شيء ،وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس
إليه من الضللة شيء).
ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه :قوله في الحديث الذي في السنن( :وزنت بالمة فرجحت ،ثم وزن أبو
بكر بالمة فرجح ،ثم وزن عمر بالمة فرجح ،ثم رفع الميزان).
فأما كون النبي صلى ال عليه وسلم راجحًا بالمة فظاهر ؛ لن له مثل أجر جميع المة مضافا إلى أجره .وأما أبو
بكر وعمر؛ فلن لهما /معاونة مع الرادة الجازمة في إيمان المة كلها ،وأبو بكر كان في ذلك سابقًا لعمر وأقوى
إرادة منه ،فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي صلى ال عليه وسلم على إيمان المة في دقيق المور وجليلها؛ في
محياه وبعد وفاته.
ولهذا سأل أبو سفيان يوم أحد :أفي القوم محمد؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي( :ل
تجيبوه) .فقال :أما هؤلء فقد كفيتموهم .فلم يملك عمر نفسه أن قال :كذبت ياعدو الّ! إن الذي ذكرت لحياء وقد بقى
لك ما يسوؤك رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب ،فأبو سفيان ـ رأس الكفر حينئذ ـ لم يسأل إل عن
هؤلء الثلثة؛ لنهم قادة المؤمنين .كما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال :والّ
ما على وجه الرض أحد أحب أن ألقي الّ بعمله من هذا المسجي ،والّ إني لرجو أن يحشرك الّ مع صاحبيك،
فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول( :دخلت أنا وأبو بكر وعمر ،وخرجت أنا وأبو بكر وعمر،
وذهبت أنا وأبو بكر وعمر).
وأمثال هذه النصوص كثيرة ،تبين سبب استحقاقهما أن كان لهما مثل أعمال جميع المة ،لوجود الرادة الجازمة مع
التمكن من القدرة /على ذلك كله ،بخلف من أعان على بعض ذلك دون بعض ،ووجدت منه إرادة في بعض ذلك
دون بعض.
وأيضًا فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل ،وإن لم يكن إمامًا وداعيًا ،كما قال سبحانه{ :
س ِه ْم فَضّلَ الُّ ا ْلمُجَا ِهدِينَ ِبَأمْوَاِلهِمْ
لّ بَِأمْوَاِل ِهمْ وَأَنفُ ِ
سبِيلِ ا ِ
غيْرُ أُوْلِي الضّ َررِ وَا ْلمُجَا ِهدُونَ فِي َن مِنْ ا ْلمُ ْؤمِنِينَ َ
عدُو َ ستَوِي ا ْلقَا ِ
لَ يَ ْ
حمَةً
ت ِمنْهُ َو َمغْ ِفرَةً وَ َر ْسنَى َوفَضّلَ الُّ ا ْلمُجَا ِهدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا .دَرَجَا ٍ حْ
عدَ الُّ الْ ُ
ن دَرَجَةً َوكُلّ وَ َ سهِمْ عَلَى الْقَاعِدِي َ وَأَن ُف ِ
َوكَانَ الُّ َغفُورًا رَحِيمًا} [النساء.]96 ،95 :
فالّ ـ تعالى ـ نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز ،ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز،
بل يقال :دليل الخطاب يقتضى مساواته إياه .ولفظ الية صريح .استثنى أولو الضرر من نفي المساواة ،فالستثناء هنا
هو من النفي ،وذلك يقتضي أن أولى الضرر قد يساوون القاعدين ،وإن لم يساووهم في الجميع ،ويوافقه ما ثبت عن
النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك( :إن بالمدينة رجال ما سرتم مسيرا ول قطعتم واديا إل كانوا
معكم) .قالوا :وهم بالمدينة .قال( :وهم بالمدينة حبسهم العذر) ،فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إل العذر هو
مثل من معهم في هذه الغزوة .ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته / ،فكذلك
القاعدون الذين لم يحبسهم إل العذر.
ومن هذا الباب :ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :إذا مرض العبد أو
سافر؛ كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) ،فإنه إذا كان يعمل في الصحة والقامة عمل ثم لم يتركه إل لمرض
أو سفر؛ ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة ،ل لضعف النية وفتورها ،فكان له من الرادة الجازمة التي لم
يتخلف عنها الفعل إل لضعف القدرة ،ما للعامل والمسافر وإن كان قادرًا مع مشقة كذلك بعض المرض ،إل أن القدرة
ستَطَاعَ الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة ،كما في قوله تعالى{ :وَلِّ عَلَى النّاسِ حِجّ ا ْل َبيْ ِ
ت مَنْ ا ْ
طعَامُ ِستّي َن مِ ْسكِينًا} [المجادلة ،]4 :ونحو ذلك ليس المعتبر في سبِيلً} [آل عمران ،]97 :وقولهَ { :فمَنْ َل ْم يَ ْ
ستَطِ ْع فَإِ ْ إَِليْهِ َ
الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان ،بل لبد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة ،بل أو
مكافية.
ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال( :من جهز غازيًا فقد غزا ،ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)
،وقوله( :من فطر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء) ،فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس،
وجهاد بالمال ،فإذا بذل هذا بدنه ،وهذا ماله مع وجود الرادة الجازمة في كل منهما؛ كان كل منهما مجاهدًا /بإرادته
الجازمة ومبلغ قدرته ،وكذلك لبد للغازي من خليفة في الهل ،فإذا خلفه في أهله بخير فهو أيضًا غاز ،وكذلك
الصيام لبد فيه من إمساك ،ول بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم ،وإل فالصائم الذي ل يستطيع العشاء ل يتمكن
من الصوم.
وكذلك قوله في الحديث الصحيح( :إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة ،كان لها أجرها بما أنفقت ،ولزوجها
مثل ذلك ،ل ينقص بعضهم من أجور بعض شيئًا) وكذلك قوله في حديث أبي موسى( :الخازن المين الذي يعطي ما
أمر به كامل موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين) أخرجاه .وذلك أن إعطاء الخازن المين الذي يعطي ما أمر به
موفرًا طيبة به نفسه ل يكون إل مع الرادة الجازمة الموافقة لرادة المر ،وقد فعل مقدوره وهو المتثال ،فكان أحد
المتصدقين.
ومن هذا الباب حديث أبي كبشة النماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال( :إنما الدنيا
لربعة :رجل آتاه الّ علما ومال فهو يعمل فيه بطاعة الّ) ،فقال رجل :لو أن لي مثل فلن لعملت بعمله ،فقال النبي
صلى ال عليه وسلم( :فهما في الجر سواء) ،وقد رواه الترمذي مطول ،وقال :حديث حسن صحيح ،فهذا التساوي
مع (الجر والوزر) هو في حكاية حال من قال ذلك / ،وكان صادقًا فيه ،وعلم الّ منه إرادة جازمة ل يتخلف عنها
الفعل إل لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب.
وليس هذه الحال تحصل لكل من قال( :لو أن لي ما لفلن لفعلت مثل ما يفعل) إل إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود
الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة ،وإل فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم ،لو اقترنت به القدرة لنفسخت
عزيمته ،كعامة الخلق يعاهدون وينقضون ،وليس كل من عزم على شيء عزمًا جازمًا قبل القدرة عليه وعدم
ن َقبْلِ
ت مِ ْالصوارف عن الفعل تبقى تلك الرادة عند القدرة المقارنة للصوارف ،كما قال تعالى{ :وَلَ َق ْد ُك ْنتُمْ َت َت َمنّوْن ا ْلمَوْ َ
أَ ْن تَلْقَوْ ُه َف َقدْ رََأ ْيتُمُوهُ َوَأنْتُ ْم َتنْظُرُونَ} [آل عمران ،]143 :وكما قال تعالى{ :يَاَأّيهَا اّلذِينَ َآ َمنُوا لِ َم تَقُولُو َن مَا َل تَ ْفعَلُونَ} [
ضلِ ِه بَخِلُوا بِهِ
ن فَ ْ
ص ّدقَنّ وََل َنكُونَنّ مِنْ الصّاِلحِينَ .فََلمّا آتَاهُ ْم مِ ْ الصف ،]2 :وكما قالَ { :و ِم ْنهُ ْم مَنْ عَا َهدَ الَّ َلئِنْ آتَانَا مِ ْ
ن فَضْلِهِ َلنَ ّ
َوتَوَلّوا وَ ُه ْم ُمعْرِضُونَ} [التوبة.]76 ،75 :
وحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات .وهو الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد الّ بن
عمرو عن النبي صلى ال عليه وسلم :أن رجلً من أمة النبي صلى ال عليه وسلم ينشر الّ له يوم القيامة تسعة
وتسعين سجل كل سجل منها مدى البصر ،ويقال له :هل تنكر من هذا شيئًا؟ هل ظلمتك؟ فيقول / :ل يارب .فيقال له:
ل ظلم عليك اليوم ،فيؤتي ببطاقة فيها التوحيد فتوضع في كفة والسجلت في كفة ،فطاشت السجلت وثقلت البطاقة).
فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والخلص والصفاء وحسن النية ،إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في
الصورة الظاهرة ،فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما.
ومثل هذا الحديث الذي في حديث المرأة البغي التي سقت كلبًا فغفر الّ لها ،فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية
والرحمة إذ ذاك ،ومثله قوله صلى ال عليه وسلم( :إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الّ ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛
يكتب الّ له بها رضوانه إلى يوم القيامة ،وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الّ ما يظن أن تبلغ ما بلغت ؛ يكتب الّ
له بها سخطه إلى يوم القيامة).
َفصْل
وبهذا تبين أن الحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل وأمثالها ،إنما هي فيما دون الرادة الجازمة التي لبد أن
يقترن بها الفعل ،كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن النبي صلى ال عليه وسلم ،فيما
يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال( / :إن الّ كتب الحسنات والسيئات ،ثم بين ذلك ،فمن هم بحسنة فلم يعملها،
كتبها الّ عنده حسنة كاملة ،فإن هم بها وعملها؛ كتبها الّ عنده عشر حسنات ،ومن هم بسيئة ولم يعملها؛ كتبها له الّ
حسنة كاملة ،فإن هم بها وعملها؛ كتبها الّ له عنده سيئة واحدة) وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة.
فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل؛ ولهذا قال( :فعملها)( ،فلم يعملها) ومن أمكنه الفعل فلم يفعل؛ لم تكن إرادته
جازمة ،فإن الرادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل ،كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل ،وموجب له ،إذ لو
توقف على شيء آخر؛ لم تكن الرادة الجازمة مع القدرة تامة كافية في وجود الفعل ،ومن المعلوم المحسوس أن
المر بخلف ذلك ،ول ريب أن [الهم] و [العزم] و [الرادة] ونحو ذلك قد يكون جازمًا ل يتخلف عنه الفعل إل
للعجز ،وقد ل يكون هذا على هذا الوجه من الجزم.
فهذا القسم الثاني يفرق فيه بين المريد والفاعل ،بل يفرق بين إرادة وإرادة ،إذ الرادة هي عمل القلب الذي هو ملك
الجسد ،كما قال أبو هريرة :القلب ملك ،والعضاء جنوده ،فإذا طاب الملك؛ طابت جنوده ،وإذا خبث الملك؛ خبثت
جنوده .وتحقيق ذلك ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى ال عليه وسلم( / :إن في الجسد
مضغة إذا صلحت؛ صلح لها سائر الجسد ،وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد أل وهي القلب) .فإذا هم بحسنة فلم يعملها
كان قد أتى بحسنة ،وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة ،فإن ذلك طاعة وخير ،وكذلك هو في عرف الناس كما
قيل:
فإن عملها كتبها الّ له عشر حسنات ،لما مضى من رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ،إلى سبعمائة
ضعف ،كما قال تعالى{ :مَ َثلُ الّذِينَ يُنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ الِّ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ}
[البقرة ،]261 :وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لمن جاء بناقة( :لك بها يوم القيامة
سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة) إلى أضعاف كثيرة .وقد روى عن أبي هريرة مرفوعًا( :أنه يعطى به ألف ألف
حسنة).
وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر عليها ،فإن الّ ل يكتبها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح ،وسواء
سمى همه إرادة أو عزمًا أو لم يسم ،متى كان قادرًا على الفعل وهم به وعزم عليه ولم يفعله مع القدرة فليست إرادته
جازمة ،وهذا موافق لقوله في الحديث الصحيح /ـ حديث أبي هريرة ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم( :إن الّ تجاوز
لمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به) .فإن ما هم به العبد من المور التي يقدر عليها من الكلم والعمل
ولم يتكلم بها ولم يعملها لم تكن إرادته لها جازمة ،فتلك مما لم يكتبها الّ عليه ،كما شهد به قوله( :من هم بسيئة فلم
يعملها) ،ومن حكى الجماع كابن عبد البر وغيره في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا العتبار.
وهذا الهام بالسيئة ،فإما أن يتركها لخشية الّ وخوفه ،أو يتركها لغير ذلك ،فإن تركها لخشية الّ؛ كتبها الّ له عنده
حسنة كاملة كما قد صرح به في الحديث ،وكما قد جاء في الحديث الخر( :اكتبوها له حسنة ،فإنما تركها من أجلي)،
أو قال( :من جرائي) ،وأما إن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة ،كما جاء في الحديث الخر( :فإن لم يعملها لم
تكتب عليه) .وبهذا تتفق معاني الحاديث.
وإن عملها لم تكتب عليه إل سيئة واحدة ،فإن الّ تعالى ل يضعف السيئات بغير عمل صاحبها ،ول يجزي النسان
جهَنّمَ
في الخرة إل بما عملت نفسه ،ول تمتلئ جهنم إل من أتباع إبليس من الجنة والناس ،كما قال تعالى{ :لَمْلَنّ َ
ج َمعِينَ} [ص]85 :؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس( :إن الجنة يبقى مِ ْنكَ َومِمّنْ تَ ِب َعكَ مِ ْنهُمْ أَ ْ
فيها فضل فينشئ الّ لها أقوامًا في الخرة ،وأما النار فإنه ينزوي بعضها إلى /بعض حتى يضع عليها قدمه فتمتلئ
بمن دخلها من أتباع إبليس).
ولهذا كان الصحيح المنصوص عن أئمة العدل كأحمد وغيره الوقف في أولد المشركين ،وأنه ل يجزم لمعين منهم
بجنة ول نار ،بل يقال فيهم كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديثين الصحيحين :حديث أبي هريرة وابن
عباس( :ال أعلم بما كانوا عاملين) .فحديث أبي هريرة في الصحيحين ،وحديث ابن عباس في البخاري ،وفي حديث
سمرة ابن جندب الذي رواه البخاري( :إن منهم من يدخل الجنة) ،وثبت( :أن منهم من يدخل النار) كما في صحيح
مسلم في قصة الغلم الذي قتله الخضر ،وهذا يحقق ما روى من وجوه :أنهم يمتحنون يوم القيامة فيظهر على علم الّ
فيهم ،فيجزيهم حينئذ على الطاعة والمعصية ،وهذا هو الذي حكاه الشعري عن أهل السنة والحديث واختاره.
وأما أئمة الضلل ـ الذين عليهم أوزار من أضلوه ـ ونحوهم ،فقد بينا أنهم إنما عوقبوا لوجود الرادة الجازمة مع
التمكن من الفعل؛ بقوله في حديث أبي كبشة( :فهما في الوزر سواء) ،وقوله( :من دعا إلى ضللة كان عليه من
الوزر مثل أوزار من تبعه) ،فإذا وجدت الرادة الجازمة ،والتمكن من الفعل صاروا بمنزلة الفاعل التام ،والهام
بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه إرادة جازمة ،وفاعل /السيئة التي تمضي ل يجزي بها إل سيئة
واحدة ،كما شهد به النص ،وبهذا يظهر قول الئمة حيث قال المام أحمد( :الهم) همان :هم خطرات ،وهم إصرار.
فهم الخطرات يكون من القادر ،فإنه لو كان همه إصرارًا جازمًا وهو قادر لوقع الفعل.
ومن هذا الباب هم [يوسف] ،حيث قال تعالى{ :وََلقَدْ َه ّمتْ بِ ِه وَ َهمّ ِبهَا َل ْولَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} الية [يوسف24 :
] .وأما هم المرأة التي راودته فقد قيل :إنه كان هم إصرار؛ لنها فعلت مقدورها ،وكذلك ما ذكره عن المنافقين في
قوله تعالى{ :وَ َهمّوا ِبمَا َلمْ يَنَالُوا} [التوبة ،]74 :فهذا الهم المذكور عنهم هم مذموم ،كما ذمهم الّ عليه ،ومثله يذم
وإن لم يكن جازمًا ،كما سنبينه في آخر الجواب من الفرق بين ما ينافى اليمان ،وبين مال ينافيه ،وكذلك الحريص
على السيئات الجازم بإرادة فعلها ،إذا لم يمنعه إل مجرد العجز ،فهذا يعاقب على ذلك عقوبة الفاعل ،لحديث أبي
كبشة ،ولما في الحديث الصحيح( :إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل :هذا القاتل ،فما بال
المقتول ؟ قال( :إنه كان حريصًا على قتل صاحبه) وفي لفظ( :إنه أراد قتل صاحبه).
فهذه الرادة هي الحرص ،وهي الرادة الجازمة ،وقد وجد معها المقدور ،وهو القتال لكن عجز عن القتل ،وليس هذا
من الهم الذي ل يكتب ،ول يقال :إنه استحق ذلك بمجرد قوله :لو أن لي ما لفلن /لعملت مثل ما عمل ،فإن تمنى
الكبائر ليس عقوبته كعقوبة فاعلها بمجرد التكلم ،بل لبد من أمر آخر ،وهـو لم يذكـر أنه يعاقب على كلمه ،وإنما
ذكر أنهما في الوزر سواء.
وعلى هذا فقوله( :إن الّ تجاوز لمتي عما حدثت بها أنفسها مالم تكلم به أو تعمل) ل ينافي العقوبة على الرادة
الجازمة التي لبد أن يقترن بها الفعل ،فإن الرادة الجازمة هي التي يقترن بها المقدور من الفعل ،وإل فمتى لم يقترن
بها المقدور من الفعل لم تكن جازمة ،فالمريد الزنا والسرقة وشرب الخمر العازم على ذلك متى كانت إرادته جازمة
عازمة فلبد أن يقترن بها من الفعل ما يقدر عليه ،ولو أنه يقربه إلى جهة المعصية ،مثل تقرب السارق إلى مكان
المال المسروق ،ومثل نظر الزاني واستماعه إلى المزني به ،وتكلمه معه ،ومثل طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك،
فلبد مع الرادة الجازمة من شىء من مقدمات الفعل المقدور ،بل مقدمات الفعل توجد بدون الرادة الجازمة عليه،
كما قال النبي صلى ال عليه وسلم ،في الحديث المتفق عليه( :العينان تزنيان وزناهما النظر ،واللسان يزني وزناه
النطق ،واليد تزني وزناها البطش ،والرجل تزني وزناها المشي ،والقلب يتمنى ويشتهي ،والفرج يصدق ذلك أو
يكذبه) ،وكذلك حديث أبي بكرة المتفق عليه( :إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) .قيل :يارسول
الّ! هذا القاتل ،فما بال المقتول؟ /قال( :إنه أراد قتل صاحبه) وفي رواية في الصحيحين( :إنه كان حريصًا على قتل
صاحبه).
فإنه أراد ذلك إرادة جازمة فعل معها مقدوره ،منعه منها من قتل صاحبه العجز ،وليست مجرد هم ول مجرد عزم
على فعل مستقبل ،فاستحق حينئذ النار ،كما قدمنا من أن الرادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها
مجرى الفاعل التام.
والرادة التامة قد ذكرنا أنه لبد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة ،بل قد
تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك ،مع القدرة ،مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا :من اللمس ،والنظر والقبلة ،ويمتنع
عن الفاحشة الكبرى ؛ ولهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح( :العين تزنى ،والذن تزني ،واللسان يزني ـ إلى أن
قال ـ :والقلب يتمنى ويشتهي) أي يتمنى الوطء ويشتهيه ،ولم يقل :يريد ،ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادة جازمة،
ول يستلزم وجود الفعل ،فل يعاقب على ذلك ،وإنما يعاقب إذا أراد إرادة جازمة مع القدرة والرادة الجازمة التي
يصدقها الفرج.
ومن هذا الحديث الذي في الصحيحين عن ابن مسعود :أن رجل أصاب من امرأة قبلة ،فأتى رسول الّ صلى ال
حسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ}
لةَ طَ َرفِي ال ّنهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللّ ْيلِ إِنّ الْ َ
عليه وسلم فذكر ذلك /له ،فأنزل الّ تعالى{ :وََأقِمْ الصّ َ
الية [هود ]114 :فقال الرجل :ألى هذه ؟ فقال( :لمن عمل بها من أمتي) .فمثل هذا الرجل وأمثاله لبد في الغالب
أن يهم بما هو أكبر من ذلك ،كما قال( :والقلب يتمنى ويشتهي ،والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) .لكن إرادته القلبية للقبلة
كانت إرادة جازمة ،فاقترن بها فعل القبلة بالقدرة ،وأما إرادته للجماع فقد تكون غير جازمة ،وقد تكون جازمة ،لكن
لم يكن قادرا .والشبه في الذي نزلت فيه الية أنه كان متمكنًا لكنه لم يفعل.
فتفريق أحمد وغيره بين هم الخطرات وهم الصرار هو الذي عليه الجواب ،فمن لم يمنعه من الفعل إل العجز ،فلبد
أن يفعل ما يقدر عليه من مقدماته ،وإن فعله وهو عازم على العود متى قدر فهو مصر؛ ولهذا قال ابن المبارك:
المصر الذي يشرب الخمر اليوم ،ثم ل يشربها إلى شهر ،وفي رواية إلى ثلثين سنة ،ومن نيته أنه إذا قدر على
شربها (شربها) .وقد يكون مصرًا إذا عزم على الفعل في وقت دون وقت ،كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر
رمضان دون غيره ،فليس هذا بتائب مطلقا ،ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان ،ويثاب إذا كان ذلك الترك لّ
وتعظيم شعائر الّ ،واجتناب محارمه في ذلك الوقت ،ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة ،ول
هو مصر مطلقًا .وأما الذي /وصفه ابن المبارك ،فهو مصر إذا كان من نيته العود إلى شربها.
قلت :والذي قد ترك المعاصي في شهر رمضان من نيته العود إليها في غير شهر رمضان مصر أيضًا ،لكن نيته أن
يشربها إذا قدر عليها ،غير النية مع وجود القدرة ،فإذا قدر قد تبقى نيته وقد ل تبقى ،ولكن متى كان مريدا إرادة
جازمة ل يمنعه إل العجز فهو معاقب على ذلك ،كما تقدم.
وتقدم أن مثل هذا لبد أن يقترن بإرادته ما يتمكن من الفعل معه ،وبهذا يظهر ما يذكر عن الحارث المحاسبي أنه
حكى الجماع على أن الناوي للفعل ليس بمنزلة الفاعل له ،فهذا الجماع صحيح مع القدرة ،فإن الناوي للفعل القادر
عليه ليس بمنزلة الفاعل ،وأما الناوي الجازم التي بما يمكن ،فإنه بمنزلة الفاعل التام ،كما تقدم.
ومما يوضح هذا :أن الّ ـ سبحانه ـ في القرآن رتب الثواب والعقاب على مجرد الرادة ،كقوله تعالى{ :مَنْ كَانَ يُرِيدُ
جهَنّمَ َيصْلَهَا َم ْذمُومًا مَ ْدحُورًا} [السراء ،]18 :وقال{ :مَنْ جعَلْنَا لَهُ َا ْلعَاجَِلةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا َنشَاءُ ِلمَنْ نُرِيدُ ُثمّ َ
خسُونَُ .أوْلَ ِئكَ الّذِينَ لَيْسَ َل ُهمْ فِي الْخِ َرةِ ِإلّ
عمَاَلهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَ يُبْ َ
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا ُن َوفّ ِإلَ ْيهِمْ أَ ْ
ث الْخِ َرةِ نَ ِزدْ َلهُ فِي حَرْثِهِ َومَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا نُؤتِهِ مِ ْنهَا النّارُ} [هود ،]16 ،15 :وقال{ :مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْر َ
َومَا لَهُ فِي الْخِ َرةِ مِنْ َنصِيبٍ} [الشورى.]20 :
فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة ،ويريد الحياة الدنيا ،ويريد حرث الدنيا ،وقال في آية هودُ { :ن َوفّ ِإلَ ْيهِمْ
طلٌ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ} [هود ،]16 ،15 :فدل على أنه كان لهم أعمال بطلت،عمَاَلهُمْ فِيهَا} إلى أن قال{ :وَبَا ِ أَ ْ
وعوقبوا على أعمال أخرى عملوها ،وإن الرادة هنا مستلزمة للعمل ،ولما ذكر إرادة الخرة ،قالَ { :ومَنْ أَرَادَ
سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ} [السراء ،]19 :وذلك لن إرادة الخرة وإن استلزمت عملها فالثواب إنما هو سعَى َلهَا َ
الْخِ َر َة وَ َ
على العمل المأمور به ،ل كل سعي ،ولبد مع ذلك من اليمان.
جكَ إِنْ كُنْتُنّ تُ ِردْنَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا} الية [الحزاب{ ،]28 :وَإِنْ كُنْتُنّ تُ ِردْ َ
ن ل لَِ ْزوَا ِ
ومنه قوله{ :يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ ُق ْ
لّ وَرَسُولَ ُه وَالدّا َر الْخِ َرةَ} [الحزاب ،]29 :فهذا نظير تلك الية التي في سورة هود ،وهذا يطابق قوله( :إذا التقى ا َ
المسلمان بسيفيهما) إل أنه قال( :فإنه أراد قتل صاحبه) .أو( :إنه كان حريصًا على قتل صاحبه) ،فذكر الحرص
ل عفا لمتي عما حدثت والرادة على القتل وهذا لبد أن يقترن به فعل ،وليس هذا مما دخل في حديث العفو( :إن ا ّ
به أنفسها).
ومما يبني على هـذا مسألة معروفة ـ بين أهل السنة وأكثر العلماء /وبين بعض القدرية ـ وهي توبة العاجز عن
الفعل ،كتوبة المجبوب عن الزنا ،وتوبة القطع العاجز عن السرقة ،ونحوه من العجز ،فإنها توبة صحيحة عند
جماهير العلماء من أهل السنة وغيرهم .وخالف في ذلك بعض القدرية؛ بناء على أن العاجز عن الفعل ل يصح أن
يثاب على تركه الفعل ،بل يعاقب على تركه وليس كذلك ،بل إرادة العاجز عليها الثواب والعقاب كما بينا ،وبينا أن
الرادة الجازمة مع القدرة تجري مجرى الفاعل التام ،فهذا العاجز إذا أتى بما يقدر عليه من مباعدة أسباب المعصية
بقوله وعمله وهجرانها وتركها بقلبه ،كالتائب القادر عليها سواء ،فتوبة هذا العاجز عن كمال الفعل ،كإصرار العاجز
عن كمال الفعل.
ومما يبني على هذا المسألة المشهورة في الطلق ،وهو أنه لو طلق في نفسه وجزم بذلك ولم يتكلم به ،فإنه ل يقع به
الطلق عند جمهور العلماء .وعند مالك في إحدى الروايتين يقع ،وقد استدل أحمد وغيره من الئمة على ترك الوقوع
بقوله( :إن الّ تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها) فقال المنازع :هذا المتجاوز عنه ،إنما هو حديث النفس ،والجازم
بذلك في النفس ليس من حديث النفس.
فقال المنازع لهم :قد قال( :ما لم تكلم به أو تعمل به) ،فأخبر أن التجاوز عن حديث النفس امتد إلى هذه الغاية التي
هي الكلم به /والعمل به ،كما ذكر ذلك في صدر السؤال من استدلل بعض الناس وهو استدلل حسن ،فإنه لو كان
حديث النفس إذا صار عزمًا ولم يتكلم به أو يعمل يؤاخذ به ؛ لكان خلف النص ،لكن يقال :هذا في المأمور صاحب
المقدرة التي يمكن فيها الكلم والعمل ،إذا لم يتكلم ولم يعمل ،وأما الرادة الجازمة المأتي فيها بالمقدور فتجرى
مجرى التي أتى معها بكمال العمل ،بدليل الخرس لما كان عاجزا عن الكلم ،وقد يكون عاجزا عن العمل باليدين
ونحوهما ،لكنه إذا أتى بمبلغ طاقته من الشارة جرى ذلك مجرى الكلم من غيره ،والحكام والثواب والعقاب وغير
ذلك .
وأما الوجه الخر الذي احتج به وهو أن العزم والهم داخل في حديث النفس المعفو عنه مطلقًا فليس كذلك ،بل إذا
قيل :إن الرادة الجازمة مستلزمة لوجود فعل ما يتعلق به الذم والعقاب وغير ذلك ،يصح ذلك ،فإن المراد إن كان
مقدورا مع الرادة الجازمة؛ وجب وجوده ،وإن كان ممتنعًا فلبد مع الرادة الجازمة من فعل بعض مقدماته ،وحيث
لم يوجد فعل أصل فهو هم ،وحديث النفس ليس إرادة جازمة ولهذا لم يجئ في النصوص العفو عن مسمى الرادة
والحب والبغض والحسد والكبر والعجب وغير ذلك من أعمال القلوب ،إذ كانت هذه العمال حيث وقع عليهم ذم
وعقاب فلنها تمت حتى صارت قول وفعل.
/وحينئذ قوله صلى ال عليه وسلم( :إن الّ تجاوز لمتي) الحديث حق ،والمؤاخذة بالرادات المستلزمة لعمال
الجوارح حق ،ولكن طائفة من الناس قالوا :إن الرادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول ،ثم تنازعوا في العقاب
عليها ،فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج بن الجوزي يرون العقوبة على ذلك ،وليس معهم دليل
على أنه يؤاخذ إذا لم يكن هناك قول أو عمل.
والقاضي بناها على أصله في اليمان الذي اتبع فيه جهمًا والصالحي ،وهو المشهور عن أبي الحسن الشعري ،وهو
أن اليمان مجرد تصديق القلب ،ولو كذب بلسانه ،وسب الّ ورسوله بلسانه ،وإن سب الّ ورسوله إنما هو كفر في
الظاهر ،وأن كلما كان كفرًا في نفس المر ،فإنه يمتنع أن يكون معه شيء من تصديق القلب ،وهذا أصل فاسد في
الشرع والعقل ،حتى أن الئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيدة وغيرهم كفروا من قال في اليمان بهذا
القول ،بخلف المرجئة من الفقهاء الذين يقولون :هو تصديق القلب واللسان ،فإن هؤلء لم يكفرهم أحد من الئمة،
وإنما بدعوهم.
وقد بسط الكلم في اليمان وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع ،وبين أن من الناس من يعتقد وجود الشياء بدون
لوازمها ،فيقدر ما ل وجود له.
منها :ظنه أنه مجرد تصديق القلب ومعرفته بدون أعمال القلب ،كحب الّ وخشيته ونحو ذلك .
ومنها :ظنه ثبوت إيمان قائم في القلب بدون شيء من القوال والعمال.
ومنها :ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار ،فإنه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق ،وجزموا بأن
إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك .وهذا كلمهم في الرادة والكراهة والحب والبغض
ونحو ذلك ،فإن هذه المور إذا كانت هما وحديث نفس فإنه معفو عنه ،وإذا صارت إرادة جازمة وحبًا وبغضًا؛ لزم
وجود الفعل ووقوعه ،وحينئذ فليس لحد أن يقدر وجودها مجردة ،ثم يقول :ليس فيها إثم ،وبهذا يظهر الجواب عن
حجة السائل.
فإن المة مجمعة على أن الّ يثيب على محبته ومحبة رسوله ،والحب فيه والبغض فيه ،ويعاقب على بغضه وبغض
رسوله ،وبغض أوليائه ،وعلى محبة النداد من دونه ،وما يدخل في هذه المحبة من الرادات /والعزوم ،فإن المحبة
سواء كانت نوعًا من الرادة أو نوعًا آخر مستلزمًا للرادة ،فلبد معها من إرادة وعزم ،فل يقال :هذا من حديث
النفس المعفو عنه ،بل كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي( :أوثق عرى اليمان :الحب في الّ ،والبغض في الّ)
،وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :والذي نفسي بيده ليؤمن أحدكم حتى أكون أحب
إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) ،وفي صحيح البخاري عن عبد الّ بن هشام قال :كنا مع رسول الّ صلى ال
عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر :لنت يا رسول الّ أحب إلي من كل شيء ،إل من نفسي .فقال
النبي صلى ال عليه وسلم( :ل ،والذي نفسي بيده ! حتى أكون أحب إليك من نفسك) ،فقال عمر :فإنك الن أحب إلي
خوَا ُنكُمْ
ن آبَا ُؤكُمْ َوَأبْنَا ُؤكُمْ وَإِ ْ من نفسي .فقال النبي صلى ال عليه وسلم( :الن ياعمر!) ،بل قد قال تعالى{ :قُلْ إِ ْ
ن كَا َ
سبِيلِهِ
جهَادٍ فِي َ
حبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ وَرَسُولِهِ وَ ِ
ض ْو َنهَا أَ َ
ن تَرْ َ
ن كَسَادَهَا َومَسَاكِ ُ
عشِي َر ُتكُمْ وََأمْوَالٌ ا ْقتَ َر ْف ُتمُوهَا َو ِتجَا َر ٌة تَخْشَوْ َ
جكُمْ وَ َ
وَأَ ْزوَا ُ
لّ َل َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الْفَا ِسقِينَ} [التوبة.]24 : لّ بَِأمْرِهِ وَا ُحتّى يَ ْأتِيَ ا َُفتَ َربّصُوا َ
فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد الّ به من كان أهله وماله أحب إليه من الّ ورسوله وجهاد في سبيله ،فعلم
أنه يجب /أن يكون الّ ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى المؤمن من الهل والمال والمساكن والمتاجر
والصحاب والخوان ،وإل لم يكن مؤمنًا حقًا ،ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال :قال رسول الّ صلى ال
عليه وسلم( :ل يجد أحد حلوة اليمان حتى يحب المرء ل يحبه إل لّ ،وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن
يرجع في الكفر ،وحتى يكون الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما) وهذا لفظ البخاري ،فأخبر أنه ل يجد أحد حلوة
اليمان إل بهذه المحبات الثلث:
أحدها :أن يكون الّ ورسوله أحب إليه من سواهما ،وهذا من أصول اليمان المفروضة التي ل يكون العبد مؤمنًا
بدونها.
والثالث :أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر.
وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علمات صدقه في التوبة هذه الخصال ،محبة الّ ورسوله ،ومحبة المؤمنين فيه،
وإن كانت متعلقة بالعيان ليست من أفعالنـا كالرادة المتعلقة بأفعالنا ،فهي مستلزمة لذلك ،فإن من كان الّ ورسوله
أحب إليه من نفسه وأهله وماله لبد /أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة ،مثل إرادته نصر الّ ورسوله ودينه
والتقريب إلى الّ ورسوله ،ومثل بغضه لمن يعادي الّ ورسوله.
ومن هذا الباب :مـا استفاض عنه صلى ال عليه وسلم في الصحاح من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي
صلى ال عليه وسلم قال( :المرء مع من أحب) ،وفي رواية( :الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم) أي ولما يعمل
بأعمالهم ،فقال( :المرء مع من أحب) .قال أنس :فما فرح المسلمون بشيء بعد السلم فرحهم بهذا الحديث ،فأنا أحب
النبي صلى ال عليه وسلم وأبا بكر وعمر ،وأرجو أن يجعلني الّ معهم ،وإن لم أعمل عملهم ،وهذا الحديث حق ،فإن
كون المحب مع المحبوب أمر فطري ل يكون غير ذلك ،وكونه معه هو على محبته إياه ،فإن كانت المحبة متوسطة
أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك ،وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك ،والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة
للمحبوب في محابه ،إذا كان المحب قادرًا عليها ،فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر
ذلك ،وإن كانت موجودة.
جدُ َق ْومًا يُ ْؤ ِمنُونَ بِالِّ وَا ْليَوْمِ وحب الشيء وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته ،مع العلم بالتضاد؛ ولهذا قال تعالىَ { :
ل تَ ِ
الْخِ ِر يُوَادّو َن مَنْ حَادّ الَّ َورَسُولَهُ} [المجادلة ،]22 :والموادة من أعمال القلوب.
فإن اليمان بالّ يستلزم مودته ومودة رسوله ،وذلك يناقض موادة من حاد الّ ورسوله ،وما ناقض اليمان فإنه
يستلزم الذم والعقاب؛ لجل عدم اليمان .فإن ما ناقض اليمان كالشك والعراض وردة القلب ،وبغض الّ ورسوله
يستلزم الذم والعقاب لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر الّ به رسوله ،فاستحق تاركه الذم والعقاب وأعظم الواجبات
إيمان القلب ،فما ناقضه استلزم الذم والعقاب لتركه هذا الواجب ،بخلف ما استحق الذم لكونه منهيًا عنه كالفواحش
والظلم ،فإن هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده ،إذا كان هذا ل يناقض أصل اليمان ،وإن كان يناقض كماله ،بل
نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي ،ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات ،ولهذا كانت الصلة تنهى
عن الفحشاء والمنكر ،فالصلة تضمنت شيئين:
والثاني :تضمنها ذكر الّ ،وهو أكبر المرين ،فما فيها من ذكر الّ أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر،
ولبسط هذا موضع آخر.
/والمقصود هنا أن المحبة التامة لّ ورسوله تستلزم وجود محبوباته؛ ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي( :من
أحب لّ ،وأبغض لّ ،وأعطى لّ ،ومنع لّ؛ فقد استكمل اليمان) ،فإنه إذا كان حبه لّ ،وبغضه لّ ،وهما عمل قلبه،
وعطاؤه لّ ،ومنعه لّ ،وهما عمل بدنه؛ دل على كمال محبته لّ ،ودل ذلك على كمال اليمان؛ وذلك أن كمال
اليمان أن يكون الدين كله لّ ،وذلك عبادة الّ وحده ل شريك له ،والعبادة تتضمن كمال الحب ،وكمال الذل ،والحب
مبدأ جميع الحركات الرادية ،ولبد لكل حي من حب وبغض ،فإذا كانت محبته لمن يحبه الّ ،وبغضه لمن يبغضه
الّ؛ دل ذلك على صحة اليمان في قلبه ،لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف ،بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها،
الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس ،فإذا كان حبه لّ ،وعطاؤه لّ ،ومنعه ل؛ دل على كمال اليمان باطنًا
وظاهرًا.
وأصل الشرك في المشركين ـ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ـ إنما هو اتخاذ أنداد يحبونه كحب الّ ،كما قال تعالى:
ل وبغضه لّ ،ل يحب إل لّ، س مَ ْن يَتّ ِخ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِحبّونَهُ ْم كَ ُحبّ الِّ} [البقرة ،]165 :ومن كان حبه ّ
{ َومِنْ النّا ِ
ول يبغض إل لّ ،ول يعطي إل لّ ،ول يمنع إل لّ ،فهذه حال السابقين من أولياء الّ كما روى البخاري /في
صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :يقول الّ :من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب ،وما
تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ،ول يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته؛ كنت سمعه
الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها ،فبي يسمع ،وبي يبصر ،وبي
يبطش ،وبي يمشي ،ولئن سألني لعطينه ،ولئن استعاذني لعيذنه ،وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض
نفس عبدي المؤمن ،يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه) .فهؤلء الذين أحبوا الّ محبة كاملة تقربوا بما يحبه من
النوافل ،بعد تقربهم بما يحبه من الفرائض ،أحبهم الّ محبة كاملة حتى بلغوا ما بلغوه ،وصار أحدهم يدرك بالّ،
ويتحرك بالّ ،بحيث إن الّ يجيب مسألته ،ويعيذه مما استعاذ منه.
وقد ذم في كتابه من أحب أندادا من دونه ،قال تعالى{ :وَُأشْ ِربُوا فِي ُقلُو ِبهِمْ ا ْلعِجْ َل ِبكُ ْفرِهِمْ} [البقرة ،]93 :وذم من اتخذ
إلهه هواه وهو أن يتأله ما يهواه ويحبه ،وهذا قد يكون فعل القلب فقط ،وقد مدح تعالى وذم في كتابه في غير موضع
على المحبة والرادة والبغض والسخط والفرح والغم ،ونحو ذلك من أفعال القلوب كقولهِ{ :وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [
جلَةَ َويَذَرُونَ
حبّونَ ا ْلعَا ِحبّونَ ا ْلعَاجِلَةََ .و َتذَرُونَ الْخِرَةَ} [القيامة / ،]21 ،20 :وقوله{ :يُ ِ
ل تُ ِ البقرة ،]165 :وقوله{ :كَ ّ
ل بَ ْ
وَرَاءَهُ ْم يَ ْومًا َثقِيلً} [النسان.]27 :
شمَأَزّ ْ
ت حدَهُ ا ْ سّيئَ ٌة يَفْ َرحُوا ِبهَا} [آل عمران ،]120 :وقوله{ :وَِإذَا ُذكِرَ الُّ َو ْ ص ْبكُمْ َن تُ ِسؤْهُمْ وَإِ ْ سنَةٌ تَ ُ
حَ سكُمْ َن َتمْسَ ْ وقوله{ :إِ ْ
س َتبْشِرُونَ} [الزمر ،]45 :وقوله{ :وَِإذَا ُتتْلَى عََل ْيهِ ْم آيَا ُتنَا َبّينَاتٍ ن مِنْ دُونِهِ ِإذَا هُ ْم يَ ْ خرَةِ وَِإذَا ذُكِرَ اّلذِي َ ن بِالْ ِل يُ ْؤمِنُو َن َقُلُوبُ اّلذِي َ
ن بِاّلذِينَ َيتْلُونَ عََل ْيهِ ْم آيَا ِتنَا} [الحج ،]72 :وقولهَ { :و ّد َكثِي ٌر مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ ن يَسْطُو َ ف فِي ُوجُوهِ اّلذِينَ َكفَرُوا ا ْل ُمنْكَ َر َيكَادُو َ َتعْرِ ُ
سهِمْ} [البقرة ،]109 :وقوله{ :مَا يَ َودّ اّلذِينَ كَ َفرُوا مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ َولَ ع ْندِ أَنفُ ِ
سدًا مِنْ ِ لَ ْو يَ ُردّو َنكُ ْم مِنْ َب ْعدِ إِيمَا ِنكُ ْم كُفّارًا حَ َ
ا ْلمُشْ ِركِينَ أَ ْن ُينَزّلَ عََل ْيكُ ْم مِنْ َخيْ ٍر مِنْ َرّبكُمْ} [البقرة ،]105 :وقولهَ { :وتَ َودّونَ أَنّ َغيْ َر ذَاتِ الشّ ْوكَ ِة َتكُونُ َلكُمْ} [النفال7 :
].
ل يَ ْأتُونَ الصّلَةَ ِإلّ وَهُ ْم كُسَالَى َولَ يُن ِفقُونَ ِإلّ وَهُ ْم وقولهَ { :ومَا َم َنعَهُمْ أَنْ ُت ْقبَ َ
ل مِ ْنهُ ْم نَ َفقَا ُتهُمْ ِإلّ َأّنهُ ْم كَ َفرُوا بِالِّ َوبِ َرسُولِهِ َو َ
عمَاَلهُمْ} [محمد ،]9 :وقوله{ :وَِإذَا مَا أُنزَِلتْ سُو َرةٌ حبَطَ أَ ْ كَارِهُونَ} [التوبة ،]54 :وقوله{ :ذَِلكَ بَِأّنهُ ْم كَرِهُوا مَا أَنزَلَ ا ُ
لّ َفأَ ْ
ن ِبمَا أُنزِلَ ِإَل ْيكَ َومِنَ ن يَقُولُ َأّيكُمْ زَا َدتْهُ َهذِهِ إِيمَانًا} الية [التوبة ،]124 :وقوله{ :وَاّلذِينَ آ َت ْينَاهُمُ ا ْل ِكتَا َ
ب يَفْ َرحُو َ َف ِمنْهُ ْم مَ ْ
ك فَ ْليَ ْفرَحُوا} [يونس.]58 : ح َمتِ ِه َفبِذَِل َ
ضلِ الِّ َوبِرَ ْ ب مَن يُنكِ ُر َبعْضَهُ } [الرعد ،]36 :وقوله{ :قُ ْ
ل بِفَ ْ الَحْزَا ِ
ض ِب َغيْرِ ن فِي الَْرْ ِ حبّ ا ْلفَرِحِينَ} [ القصص ،]76 :وقال{ :ذَِلكُ ْم ِبمَا ُكنْتُ ْم َتفْرَحُو َ ل يُ ِ
لّ َ وقالِ{ :إ ْذ قَالَ لَ ُه قَ ْومُهُ َ
ل تَ ْفرَحْ إِنّ ا َ
ل َفخُورٍ} [لقمان ،]18 :وقال{ :وَِإنّا ِإذَا َأ َذ ْقنَا ختَا ٍ
ل مُ ْ
ب كُ ّ
ح ّ ل يُ ِ
لّ َ حقّ َو ِبمَا ُكنْتُ ْم َتمْرَحُونَ} [غافر ،]75 :وقال{ :إِنّ ا َ الْ َ
س كَفُورٌ .وََلئِنْ َأ َذقْنَاهُ عنَاهَا ِمنْهُ ِإنّهُ َل َيئُو ٌ
حمَ ًة ثُ ّم نَزَ ْ ح ِبهَا} [الشورى ،]48 :وقال{ :وََلئِنْ َأ َذقْنَا الِْنسَا َ
ن ِمنّا رَ ْ حمَةً َفرِ َن ِمنّا َر ْلْنْسَا َ
اِ
صبَرُوا وَ َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ} [هود ،]9-11 :وقال: ح فَخُورٌِ .إلّ اّلذِينَ َ عنّي ِإنّهُ َلفَ ِر ٌ
سّيئَاتُ َ
ن ذَهَبَ ال ّ ستْهُ َليَقُولَ ّ
ضرّا َء مَ َّنعْمَا َء َبعْدَ َ
{ َوتُ ِحبّونَ ا ْلمَالَ ُحبّا َجمّا} [الفجر ،]20 :وقال{ :إِنّ الِْنسَانَ لِ َربّهِ َل َكنُودٌ .وَِإنّهُ عَلَى ذَِلكَ لَ َشهِيدٌ .وَِإنّهُ لِحُبّ الْ َخيْرِ َل َشدِيدٌ} [
س مِنْ رَوْحِ الِّ ِإلّ الْ َقوْمُ الكَافِرُونَ}[يوسف ،]87 :وقالَ { :ومَنْ العاديات ،]6-8 :وقالَ { :و َ
ل تَيَْأسُوا مِنْ رَ ْوحِ الِّ ِإنّ ُه لَ َي ْيئَ ُ
ط مِنْ رَ ْحمَةِ َربّهِ ِإلّ الضّالّونَ} [الحجر.]56 : يَ ْقنَ ُ
ن َينْقَلِبَ الرّسُو ُ
ل حتُ ْم مِنْ ا ْلخَاسِرِينَ}[فصلت ،]23 :وقال{ :بَلْ َ
ظ َن ْنتُمْ أَنْ لَ ْ صبَ ْ
ظنَنتُ ْم بِ َرّبكُمْ أَ ْردَاكُ ْم َفأَ ْ
ظّنكُمْ اّلذِي َوقالَ { :وذَِلكُمْ َ
سدُونَ النّاسَ ظ َن ْنتُمْ ظَنّ السّوْءِ َوكُ ْنتُ ْم قَ ْومًا بُورًا} [الفتح ،]12 :وقالَ{ :أ ْم يَحْ ُ ك فِي قُلُو ِبكُمْ وَ َ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ َأبَدًا َو ُزيّنَ ذَِل َ
صدُورِ ِهمْ ن فِي ُ جدُو َ سدَ} [ الفلق ،]5 :وقالَ { :و َ
ل يَ ِ سدٍ ِإذَا حَ َ ضلِهِ} [النساء ،]54 :وقالَ { :ومِنْ شَرّ حَا ِ ن فَ ْ لّ مِ ْ
عَلَى مَا آتَاهُمْ ا ُ
ع ِنتّ ْم َقدْ َبدَتْ ا ْل َبغْضَا ُء مِنْ َأفْوَا ِههِمْ
خبَالً َودّوا مَا َ
خذُوا بِطَانَ ًة مِنْ دُو ِنكُ ْم لَ َيأْلُو َنكُمْ َ حَاجَ ًة ِممّا أُوتُوا} [الحشر ،]9 :وقالَ { :
ل َتتّ ِ
صدُورُهُمْ َأ ْكبَ ُر َقدْ َبّينّا َلكُمْ ا ْليَاتِ إِ ْن ُكنْتُ ْم َتعْقِلُونَ .هَاَأ ْنتُمْ أُ ْولَ ِء تُ ِحبّو َنهُمْ َو َل يُ ِحبّو َنكُمْ} [آل عمران،]119 ،118 : خفِي ُ َومَا تُ ْ
صدُورِ} ل مَا فِي ال ّ ضغَا َنكُمْ} [محمد ،]37 :وقالِ{ :إذَا ُب ْعثِرَ مَا فِي ا ْل ُقبُورَِ .وحُصّ َ خرِجْ َأ ْ ح ِفكُ ْم َتبْخَلُوا َويُ ْسأَ ْل ُكمُوهَا َفيُ ْ وقال{ :إِ ْ
ن يَ ْ
طمَعَ اّلذِي فِي قَ ْلبِ ِه مَرَضٌ} [ لّ َمرَضًا} [البقرة ،]10 :وقالَ { :فيَ ْ ض فَزَادَهُمْ ا ُ [العاديات ،]10 ،9 :وقال{ :فِي ُقلُو ِبهِ ْم مَرَ ٌ
الحزاب ،]32 :وقال{ :وَِإذْ َيقُولُ ا ْل ُمنَا ِفقُونَ وَاّلذِينَ فِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ} [الحزاب ،]12 :وقال{ :أُ ْوَل ِئكَ اّلذِينَ لَ ْم يُ ِردْ الُّ أَنْ
صدُورِ وَ ُهدًى َورَ ْحمَةٌ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [يونس: شفَاءٌ ِلمَا فِي ال ّ طهّ َر قُلُو َبهُمْ} [المائدة ،]41 :وقالَ { :قدْ جَا َء ْتكُ ْم مَوْعِظَ ٌة مِنْ َرّبكُمْ وَ ِ يُ َ
.]57
ومثل هذا كثير في كتاب الّ وسنة رسوله واتفاق المؤمنين يحمد ويذم على ما شاء الّ من مساعي القلوب وأعمالها،
مثل قوله في الحديث الصحيح المتفق عليه( :ل تباغضوا ول تحاسدوا) ،وقوله( :ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه من
الخير ما يحب لنفسه) ،وقوله( :مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ،وقوله( :ل يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) ،و(ل يدخل
النار من في قلبه مثقال ذرة من اليمان) ،وقوله( :ل تسموا العنب الكرم ،وإنما الكرم قلب المؤمن) وأمثال هذا كثير.
بل قول القلب وعمله هو الصل ،مثل تصديقه وتكذيبه وحبه وبغضه ،من ذلك ما يحصل به مدح وذم وثواب وعقاب
بدون فعل الجوارح الظاهرة ،ومنه ما ل يقترن به ذلك إل مع الفعل بالجوارح الظاهرة /إذا كانت مقدورة ،وأما ما
ترك فيه فعل الجوارح الظاهرة للعجز عنه فهذا حكم صاحبه حكم الفاعل ،فأقوال القلب وأفعاله ثلثة أقسام:
وثانيها :ما ليس سيئة بنفسه حتى يفعل ،وهو السيئة المقدورة كما تقدم.
وثالثها :ما هو مع العجز كالحسنة والسيئة المفعولة ،وليس هو مع القدرة كالحسنة والسيئة المفعولة ،كما تقدم.
فالقسم الول :هو ما يتعلق بأصول اليمان من التصديق والتكذيب ،والحب والبغض ،وتوابع ذلك؛ فإن هذه المور
يحصل فيها الثواب والعقاب ،وعلو الدرجات ،وأسفل الدركات ،بما يكون في القلوب من هذه المور ،وإن لم يظهر
على الجوارح ،بل المنافقون يظهرون بجوارحهم القوال والعمال الصالحة ،وإنما عقابهم وكونهم في الدرك السفل
من النار على ما في قلوبهم من المراض ،وإن كان ذلك قد يقترن به أحيانًا بغض القول والفعل ،لكن ليست العقوبة
مقصورة على ذلك البغض اليسير ،وإنما ذلك البغض دللة كما قال تعالى{ :وََل ْو نَشَا ُء لَ َر ْينَا َكهُمْ َفَلعَ َر ْفتَهُ ْم بِسِيمَا ُهمْ
وََل َتعْ ِر َفّنهُ ْم فِي لَحْنِ الْقَ ْولِ} [محمد ،]30 :فأخبر أنهم لبد أن يعرفوا في لحن القول.
وأما القسم الثاني ،والثالث :فمظنة الفعال التي ل تنافى أصول اليمان ،مثل المعاصي الطبعية ،مثل الزنا ،والسرقة،
وشرب الخمر ،كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :من مات يشهد أن ل إله إل الّ وأن
محمدًا رسول الّ ،دخل الجنة ،وإن زنا وإن سرق ،وإن شرب الخمر) ،وكما شهد النبي صلى ال عليه وسلم في
الحديث الصحيح للرجل الذي كان يكثر شرب الخمر ،وكان يجلده كلما جيء به فلعنه رجل ،فقال( :ل تلعنه فإنه يحب
الّ ورسوله) ،وفي رواية قال بعضهم :أخزاه الّ ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر .فقال النبي صلى ال عليه
وسلم( :ل تكونوا أعوانًا للشيطان على أخيكم) وهذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة.
ولهذا قال( :إن الّ تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به) ،والعفو عن حديث النفس إنما وقع
لمة محمد المؤمنين بالّ وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر ،فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من المور التي ل
تقدح في اليمان ،فأما ما نافى اليمان فذلك ل يتناوله لفظ الحديث؛لنه إذا نافى اليمان لم يكن صاحبه من /أمة
محمد في الحقيقة ،ويكون بمنزلة المنافقين ،فل يجب أن يعفى عما في نفسه من كلمه أو عمله ،وهذا فرق بين يدل
عليه الحديث ،وبه تأتلف الدلة الشرعية ،وهذا كما عفا الّ لهذه المة عن الخطأ والنسيان ،كما دل عليه الكتاب
والسنة ،فمن صح إيمانه عفى له عن الخطأ والنسيان ،وحديث النفس ،كما يخرجون من النار ،بخلف من ليس معه
اليمان فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه؛ ولهذا جاء( :نية المؤمن خير من
عمله) هذا الثر رواه أبو الشيخ الصبهاني في [كتاب المثال] من مراسيل ثابت البناني ،وقد ذكره ابن القيم في النية
من طرق عن النبي صلى ال عليه وسلم ثم ضعفها ،فالّ أعلم.
فإن النية يثاب عليها المؤمن بمجردها ،وتجرى مجرى العمل إذا لم يمنع من العمل بها إل العجز ،ويمكنه ذلك في
عامة أفعال الخير ،وأما عمل البدن فهو مقيد بالقدرة ،وذلك ل يكون إل قليل؛ ولهذا قال بعض السلف :قوة المؤمن في
قلبه ،وضعفه في بدنه ،وقوة المنافق في بدنه ،وضعفه في قلبه.
ن يَشَاءُ}
ب مَ ْ
لّ َف َيغْ ِفرُ ِلمَنْ يَشَاءُ َويُ َعذّ ُ
س ْبكُمْ بِهِ ا ُ
سكُمْ أَ ْو تُخْفُو ُه يُحَا ِ وقد دل على هذا الصل قوله تعالى{ :وَإِ ْ
ن ُتبْدُوا مَا فِي أَنفُ ِ
الية [البقرة ،]284 :وهذه الية وإن كان قد قال طائفة من السلف :إنها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه
عن مروان الصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ـ وهو ابن عمر ـ أنها نسخت ،فالنسخ في لسان
السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين ،يريدون به رفع الدللة مطلقا ،وإن كان تخصيصًا للعام أو تقييدا للمطلق،
وغير ذلك ،كما هو معروف في عرفهم ،وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك ،وزعم قوم أن ذلك خبر ،والخبر ل
ينسخ ،ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي ،كالخبر الذي بمعنى المر والنهي.
لّ نَ ْفسًا ِإلّ وُ ْس َعهَا} [البقرة ،]286 :كما والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الية التي بعدها وهي قولهَ { :
ل ُيكَلّفُ ا ُ
روى مسلم في صحيحه من حديث أنس في هذه الية ،فيكون المرفوع عنهم ما فسرت به الحاديث ،وهو ما هموا به
وحدثوا به أنفسهم من المور المقدورة ،ما لم يتكلموا به أو يعملوا به ،ورفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه .كما روى ابن ماجه وغيره بإسناد حسن( :إن الّ تجاوز لمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
وحقيقة المر :أن قوله سبحانه{ :وَإِ ْن ُتبْدُوا مَا فِي أَنفُ ِسكُمْ أَ ْو تُخْفُوهُ} [البقرة ،]284 :لم يدل على المؤاخذة بذلك؛ بل دل
ب مَن يَشَاء } ل يستلزم أنه
على المحاسبة به ،ول /يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب؛ ولهذا قالَ { :فيَغْ ِفرُ ِلمَن يَشَاء َو ُيعَذّ ُ
قد يغفر ويعذب بل سبب ول ترتيب ،ول أنه يغفر كل شيء ،أو يعذب على كل شيء ،مع العلم بأنه ل يعذب
المؤمنين ،وأنه ل يغفر أن يشرك به إل مع التوبة ،ونحو ذلك .
والصل أن يفرق بين ما كان مجامعًا لصل اليمان وما كان منافيًا له ،ويفرق أيضًا بين ما كان مقدورًا عليه فلم
يفعل ،وبين ما لم يترك إل للعجز عنه ،فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة.
وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في المسألة إنما وقع لكونهم رأوا عزمًا جازمًا ل يقترن به فعل قط ،وهذا ل
يكون إل إذا كان الفعل مقارنًا للعزم ،وإن كان العجز مقارنًا للرادة؛ امتنع وجود المراد ،لكن ل تكون تلك إرادة
جازمة ،فإن الرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أيضًا ،فمع الرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات
الفعل ولوازمه ،وإن لم يوجد الفعل نفسه.
والنسان يجد من نفسه :أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته ،ومع العجز عنه يضعف ذلك
الطمع ،وهو ل يعجز عما يقوله ويفعله على السواء ،ول عما يظهر على صفحات وجهه/ ،وفلتات لسانه ،مثل بسط
الوجه وتعبسه ،وإقباله على الشيء والعراض عنه ،وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم
والعقاب ،كما يترتب عليها الحمد والثواب.
وبعض الناس يقدر عزما جازما ل يقترن به فعل قط ،وهذا ل يكون إل لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره،
فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازمًا ،ول نزاع في إطلق اللفاظ؛ فإن من الناس من يفرق بين العزم
والقصد فيقول :ما قارن الفعل فهو قصد ،وما كان قبله فهو عزم .ومنهم من يجعل الجميع سواء ،وقد تنازعوا :هل
تسمى إرادة الّ لما يفعله في المستقبل عزمًا ؟ وهو نزاع لفظي؛ لكن ما عزم النسان عليه أن يفعله في المستقبل،
فلبد حين فعله من تجدد إرادة ،غير العزم المتقدم ،وهي الرادة المستلزمة لوجود الفعل مع القدرة ،وتنازعوا أيضًا:
هل يجب وجود الفعل مع القدرة والداعي؟ وقد ذكروا أيضًا في ذلك قولن.
والظهر أن القدرة مع الداعي التام تستلزم وجود المقدور ،والرادة مع القدرة تستلزم وجود المراد.
والمتنازعون في هذه أراد أحدهم إثبات العقاب مطلقًا على كل عزم على فعل مستقبل ،وإن لم يقترن به فعل ،وإرادة
الخر رفع العقاب /مطلقًا عن كل ما في النفس من الرادات الجازمة ونحوها ،مع ظن الثنين أن ذلك الواحد لم
يظهر بقول ول عمل ،وكل من هذين انحراف عن الوسط.
فإذا عرف أن الرادة الجازمة ل يتخلف عنها الفعل مع القدرة إل لعجز يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في
الثواب والعقاب .وأما إذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف ل يكون مرادًا إرادة جازمة ،بل هو الهم الذي وقع
العفو عنه ،وبه ائتلفت النصوص والصول.
ثم هنا مسائل كثيرة فيما يجتمع في القلب من الرادات المتعارضة كالعتقادات المتعارضة ،وإرادة الشيء وضده،
مثل شهوة النفس للمعصية وبغض القلب لها ،ومثل حديث النفس الذي يتضمن الكفر إذا قارنه بعض ذلك والتعوذ
منه ،كما شكا أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم إليه فقالوا :إن أحدنا يجد في نفسه ما لن يحترق حتى يصير
حممة ،أو يخر من السماء إلى الرض أحب إليه من أن يتكلم به .فقال( :أو قد وجدتموه؟!) فقالوا :نعم .قال( :ذلك
صريح اليمان) رواه مسلم من حديث ابن مسعود ،وأبي هريرة ،وفيه( :الحمد لّ الذي رد كيده إلى الوسوسة).
وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان /به على الجواب ،فإن له موارد واسعة .فهنا لما اقترن
بالوسواس هذا البغض وهذه الكراهة ،كان هو صريح اليمان ،وهو خالصه ومحضه؛ لن المنافق والكافر ل يجد
هذا البغض ،وهذه الكراهة مع الوسوسة بذلك ،بل إن كان في الكفر البسيط ،وهو العراض عما جاء به الرسول،
وترك اليمان به ـ وإن لم يعتقد تكذيبه ـ فهذا قد ل يوسوس له الشيطان بذلك ،إذ الوسوسة بالمعارض المنافي لليمان
إنما يحتاج إليها عند وجود مقتضيه ،فإذا لم يكن معه ما يقتضي اليمان لم يحتج إلى معارض يدفعه ،وإن كان في
الكفر المركب وهو التكذيب فالكفر فوق الوسوسة ،وليس معه إيمان يكره به ذلك.
حتَمَلَ
سمَا ِء مَا ًء َفسَاَلتْ أَ ْو ِديَةٌ بِ َقدَرِهَا فَا ْ ولهذا لما كانت هذه الوسوسة عارضة لعامة المؤمنين ،كما قال تعالى{ :أَن َز َ
ل مِنْ ال ّ
ال ّسيْلُ َزبَدًا رَا ِبيًا َو ِممّا يُو ِقدُونَ عََليْ ِه فِي النّا ِر ا ْبتِغَاءَ ِحْليَةٍ َأ ْو مَتَاعٍ َزبَ ٌد ِمثْلُهُ} اليات [ الرعد .]17 :فضرب الّ المثل لمـا
ينزله مـن اليمان والقرآن بالماء الذي ينزل في أودية الرض ،وجعل القلوب كالودية ،منها الكبير ،ومنها الصغير
كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال( :مثل ما بعثني الّ به من الهدى والعلم
كمثل غيث أصاب أرضًا ،فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكل والعشب الكثير ،وكانت منها طائفة أمسكـت
الماء فسقـى الناس وشربـوا ،وكانـت منهـا طائفة إنما هي /قيعان ل تمسـك مـا ًء ول تنبـت كل ،فذلك مثل من فقه في
دين الّ ونفعه الّ بما بعثني به من الهدى والعلم ،ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الّ الذي أرسلت به)
فهذا أحد المثلين.
والمثل الخر ما يوقد عليه لطلب الحلية والمتاع ،من معادن الذهب والفضة والحديد ونحوه ،وأخبر أن السيل يحتمل
ك يَضْ ِربُ الُّ ا ْلحَقّ وَا ْلبَاطِ َل َفَأمّا ال ّز َبدُ} [الرعد،]17 : زبدًا رابيًا ومما يوقدون عليه في النار زبد مثله ،ثم قال{ :كَذَِل َ
الرابي على الماء وعلى الموقد عليه فهو نظير ما يقع في قلوب المؤمنين من الشك والشبهات في العقائد والرادات
الفاسدة كما شكاه الصحابة إلى النبي صلى ال عليه وسلم ،قال تعالىَ { :ف َيذْهَبُ ُجفَاءً} يجفوه القلب فيرميه ويقذفه كما
ث فِي الَْ ْرضِ} وهو مثل ما ثبت في القلوب من اليقين واليمان ،كما يقذف الماء الزبد ويجفوه {وََأمّا مَا يَنفَعُ النّا َ
س َف َي ْمكُ ُ
حيَاةِ الدّ ْنيَا َوفِي الْخِرَةِ طّيبَةٍ} الية ،إلى قولهُ { :ي َثبّتُ الُّ اّلذِينَ آ َمنُوا بِا ْلقَوْلِ الثّابِ ِ
ت فِي الْ َ جرَةٍ َ قال تعالىَ { :مثَلً كَِلمَةً َ
طّيبَ ًة كَشَ َ
لّ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم 24 :ـ .]27 َويُضِلّ الُّ الظّاِلمِينَ َويَ ْفعَلُ ا ُ
فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكرهه وألقاه ازداد إيمانًا ويقينًا ،كما أن كل من حدثته نفسه
بذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه لّ ازداد صلحًا وبرًا وتقوى.
/وأما المنافق فإذا وقعت له الهواء والراء المتعلقة بالنفاق لم يكرهها ولم ينفها ،فإنه قد وجدت منه سيئة الكفر من
غير حسنة إيمانية تدفعها أو تنفيها ،والقلوب يعرض لها اليمان والنفاق ،فتارة يغلب هذا ،وتارة يغلب هذا.
وقوله صلى ال عليه وسلم( :إن الّ تجاوز لمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها) كما في بعض ألفاظه في
الصحيح ،هو مقيد بالتجاوز للمؤمنين ،دون من كان مسلمًا في الظاهر ،وهو منافق في الباطن وهم كثيرون في
المتظاهرين بالسلم قديمًا وحديثًا .وهم في هذه الزمان المتأخرة في بعض الماكن أكثر منهم في حال ظهور
اليمان في أول المر ،فمن أظهر اليمان وكان صادقًا مجتنبًا ما يضاده أويضعفه يتجاوز له عما يمكنه التكلم به
والعمل به ،دون ما ليس كذلك .كما دل عليه لفظ الحديث.
فالقسمان اللذان بينا أن العبد يثاب فيهما ويعاقب على أعمال القلوب خارجة من هذا الحديث ،وكذلك قوله( :من هم
بحسنة)( ،من هم بسيئة) إنما هو في المؤمن الذي يهم بسيئة أو حسنة يمكنه فعلها فربما فعلها وربما تركها؛ لنه أخبر
أن الحسنة تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
والّ ـ سبحانه ـ أعلم ،والحمد لّ رب العالمين ،وصلى الّ على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.