You are on page 1of 224

‫مجموع فتاوى ابن تيمية – ‪ – 10‬المجلد العاشر‬

‫(الداب والتصوف)‬
‫شيخ السلم تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني‬

‫•كلمات في أعمال القلوب‬


‫‪ o‬القائلون بالتخليد‬
‫‪ o‬فَصـــل في العمال الباطنة‬
‫‪ o‬فَصــل في محبة الله ورسوله‬
‫صــل استلزام الخوف والرجاء للمحبة‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫صــل في مرض القلوب وشفائها‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ o‬فصل‪ :‬مرض القلب نوع فساد‬
‫صــل‪ :‬الحسد من أمراض القلوب‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫صــل‪ :‬أضرار البخل والحسد وغيرهما من أمراض القلوب‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ o‬فصــل‪ :‬في مرض القلوب وشفائها‬
‫َ‬
‫ه ـ عن العبادة وفروعها‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ل الشيخ ـ َرح َ‬ ‫سئ َ‬ ‫‪ُ o‬‬
‫صــل‪ :‬التفاضل في حقيقة اليمان‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ ‬مخالفات السالكين في دعوى حب الله‬
‫‪ ‬معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله‬
‫‪ ‬كبار الولياء لم يقعوا في الفناء‬
‫سلم عن دعوة ذي النون‬ ‫شي ْ ُ‬
‫خ ال ِ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫سئ َ‬ ‫‪ُ o‬‬
‫صــل‪ :‬الضر ل يكشفه إل الله‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ ‬التوحيد والشراك يكون في أقوال القلب وأعماله‬
‫‪ ‬محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة‬
‫‪ ‬غلط من فضل الملئكة على النبياء والصالحين‬
‫‪ ‬التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها‬
‫صـــل في موجبات المغفرة‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ ‬هل العتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب‬
‫متعددة؟‬
‫ج يأتي عند انقطاع الرجاء عن‬ ‫‪ ‬ما السبب في أن الفََر َ‬
‫الخلق؟‬
‫صــل في تفسير الفناء الصوفي‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫صـــل في التكليف الشرعي‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ o‬فَصــل في وقوع البدع في أواخر خلفة الخلفاء الراشدين‬
‫صــل في خلط متقدمي المتكلمين والمتصوفة كلمهم بأصول الكتاب‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫والسنة‬
‫‪ ‬أصل النسبة في الصوفية‬
‫صــل في قولهم‪ :‬فلن يسلم إليه حاله‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ o‬فصـــل في العبادات و الفرق بين شرعيها وبدعيها‬
‫‪ ‬أصول العبادات الدينية‬
‫صـــل في الخلوات‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫صــل في حتمية اقتدائنا بالنبياء‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ o‬فَصــل في أهل العبادات البدعية‬
‫سـلم‪ :‬ما عمل أهل الجنة؟ وما عمل أهل النار؟‬ ‫خ ال ِ ْ‬‫شيْـ ُ‬ ‫ل َ‬‫سئـ َ‬ ‫‪ُ o‬‬
‫صــل في هل الفضل للسالك العزلة أو الخلطة؟‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ ‬من مستلزمات العقل والبلوغ‬
‫صل في أحب العمال إلى الله‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫من يَقُول‪ :‬الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلئق‬ ‫ل ع َّ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫‪ُ َ o‬‬
‫‪ ‬حتمية امتثال المؤمن لمر الله ونهيه وقدره‬
‫‪ ‬الرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا اللّه‬
‫‪ ‬الرسل جميعًا بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها‬
‫‪ ‬من حقيقة دين السلم‬
‫صـــل في طريق العلم والعمل‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫صـــل في كيف يكون السالك وعاء لعلم الله؟‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫صـــل في شرح طريق الشيخ عبد القادر وشيخه الدباس‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫صـــل في ضرورة مخالفة الهوى في حال الولية‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ ‬احتمالية خفاء المر والنهي على السالك‬
‫صـــل في العبادة والستعانة والطاعة والمعصية‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫ل عن [إحياء علوم الدين] و [قوت القلوب]‪ . ..‬إلخ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫‪ُ o‬‬
‫صـــل في ذكر الله ودعائه‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ o‬فَصــل في الصراط المستقيم‬
‫صل في جاذبية الحب‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫صـل في جماع الزهد والورع‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫صـــل في قول بعض الناس‪ :‬الثواب على قدر المشقة‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫صل في تزكية النفس‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫سـلم عن رجل تفقه وعلم هل له أن يقطع الرحم ويسير‬ ‫شيْـخ ال ِ ْ‬ ‫َ‬
‫سئ ِل َ‬ ‫‪ُ o‬‬
‫في الرض؟‬
‫خ السلم عن مقامات اليقين‬ ‫شي ْ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫‪ُ o‬‬
‫‪ o‬سئل شيخ السلم أن يوصي وصية جامعة لبي القاسم المغربي‬
‫سئل شيخ السلم عن الصبر الجميل‪ ،‬والصفح الجميل‪ ،‬والهجر الجميل‬ ‫‪ُ o‬‬
‫خ السـلم عما ذكر الستاذ القشيري في ( باب الرضا)‬ ‫شي ْ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫سئ َ‬ ‫‪ُ َ o‬‬
‫‪ o‬سئل شيخ السلم فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم؟‬
‫م والعامل‬‫صل في الحاديث التي بها التفريق بين الها ّ‬ ‫‪ o‬فَ ْ‬
‫‪ ‬مسألة هل توبة العاجز عن الفعل تصح؟‬
‫حمَدُ بنُ تَيمية ـ قدس ال روحه‪:‬‬
‫قَالَ شَيخ ُ الِسْلم َأ ْ‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫ل وحده‪ ،‬والصلة والسلم على من ل نبي بعده‪.‬‬


‫الحمد ّ‬

‫الحمد لّ نستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالّ من شرور أنفسنا‪ ،‬ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده الّ فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل‬
‫فل هادي له‪ ،‬ونشهد أن ل إله إل الّ وحده ل شريك له‪ ،‬ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ صلى الّ عليه وآله وسلم‪.‬‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب ـ التي قد تسمى [المقامات والحوال]ـ وهي من أصول اليمان‪ ،‬وقواعد‬
‫الدين‪ ،‬مثل ‪ /‬محبة الّ ورسوله‪ ،‬والتوكل على الّ‪ ،‬وإخلص الدين له‪ ،‬والشكر له‪ ،‬والصبر على حكمه‪ ،‬والخوف‬
‫منه‪ ،‬والرجاء له‪ ،‬وما يتبع ذلك‪ .‬اقتضى ذلك بعض من أوجب الّ حقه من أهل اليمان‪ ،‬واستكتبها وكل منا عجلن‪.‬‬

‫فأقول‪ :‬هذه العمال جميعها واجبة على جميع الخلق ـ المأمورين في الصل ـ باتفاق أئمة الدين‪ ،‬والناس فيها على‬
‫ثلث درجات كما هم في أعمال البدان على ثلث درجات‪ :‬ظالم لنفسه‪ ،‬ومقتصد‪ ،‬وسابق بالخيرات‪.‬‬

‫فالظالم لنفسه‪ :‬العاصي بترك مأمور أو فعل محظور‪.‬‬

‫والمقتصد‪ :‬المؤدي الواجبات والتارك المحــرمات‪.‬‬

‫والسابق بالخيرات‪ :‬المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب‪ ،‬والتارك للمحرم والمكروه‪ .‬وإن كان كل من‬
‫المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه‪ :‬إما بتوبة ـ والّ يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإما بحسنات‬
‫ماحية‪ ،‬وإما بمصائب مكفرة‪ ،‬وإما بغير ذلك‪ .‬وكل من الصنفين‪ :‬المقتصدين والسابقين من أولياء الّ الذين ذكرهم في‬
‫لّ لَ خَ ْوفٌ عََل ْيهِمْ َولَ هُ ْم يَحْ َزنُونَ‪ .‬اّلذِي َن آ َمنُوا َوكَانُوا َيتّقُونَ} [يونس‪ .]63 ،62 :‬فحد أولياء‬
‫كتابه بقوله‪َ{ :‬ألَ إِنّ أَوِْليَاءَ ا ِ‬
‫الّ‪ :‬هم المؤمنون المتقون‪ ،‬ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم‪ :‬المقتصدون‪ / ،‬وخاص وهم‪ :‬السابقون‪ ،‬وإن كان السابقون‬
‫هم أعلى درجات كالنبياء والصديقين‪.‬‬

‫وقد ذكر النبي صلى ال عليه وسلم القسمين في الحديث الذي رواه البخـاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الّ‬
‫عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وآله وسلم ـ أنه قال‪( :‬يقول الّ‪ :‬من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة‪ ،‬وما تقرب‬
‫إلىّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي‬
‫يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش‬
‫وبي يمشي‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ ،‬وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس‬
‫عبدي المؤمن‪ ،‬يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه)‪.‬‬

‫وأما الظالم لنفسه من أهل اليمان‪ ،‬فمعه من ولية الّ بقدر إيمانه وتقواه‪ ،‬كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره‪ ،‬إذ‬
‫الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب‪ ،‬والسيئات المقتضية للعقاب‪ ،‬حتى يمكن أن يثاب ويعاقب‪،‬‬
‫وهذا قول جميع أصحاب رسول الّ ـ صلى ال عليه وآله وسلم ـ وأئمة السلم وأهل السنة والجماعة الذين يقولون‪:‬‬
‫إنه ل يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان‪.‬‬

‫وأما القائلون بالتخليد‪ ،‬كالخوارج والمعتزلة القائلين‪ :‬إنه ل يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة‪ ،‬وأنه ل شفاعة‬
‫للرسول ول لغيره في أهل الكبائر‪ ،‬ل قبل دخول النار ول بعده‪ ،‬فعندهم ل يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب‪،‬‬
‫وحسنات وسيئات‪ ،‬بل من أثيب ل يعاقب‪ ،‬ومن عوقب لم يثب‪ .‬ودلئل هذا الصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف‬
‫المة كثير ليس هذا موضعه‪ ،‬وقد بسطناه في مواضعه‪.‬‬
‫وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلبد أن يكون معه من هذه العمال بقدر إيمانه‪ ،‬وإن‬
‫كان له ذنوب‪ ،‬كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ أن رجلً كان يسمى حمارًا‬
‫وكان يضحك النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وكان يشرب الخمر‪ ،‬ويجلده النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأتى به مرة فقال‬
‫رجل‪ :‬لعنه الّ ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال له النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ل تلعنه فإنه‬
‫يحب الّ ورسوله)‪.‬‬

‫فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبًا لّ ورسوله‪ ،‬وحب الّ ورسوله أوثق عرى اليمان‪ ،‬كما أن العابد‬
‫الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطًا عليه عند الّ ورسوله من ذلك الوجه‪ ،‬كما استفاض في الصحاح‬
‫وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي ـ صلى ال عليه وعلى‬
‫آله وسلم ـ أنه ذكر الخوارج فقال‪( :‬يحقر ‪ /‬أحدكم صلته مع صلتهم‪ ،‬وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم‪،‬‬
‫يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم‪ ،‬يمرقون من السلم كما يمرق السهم من ال ّرمِيّة‪ ،‬أينما لقيتموهم فاقتلوهم‪ ،‬فإن‬
‫في قتلهم أجرًا عند الّ لمن قتلهم يوم القيامة‪ ،‬لئن أدركتهم لقتلنهم قتل عاد)‪.‬‬

‫وهؤلء قاتلهم أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح‪( :‬تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين‬
‫يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق)‪.‬‬

‫ولهذا قال أئمة السلم‪ ،‬كسفيان الثوري وغيره‪ :‬إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لن البدعة ل يتاب منها‪،‬‬
‫والمعصية يتاب منها‪ .‬ومعنى قولهم‪ :‬إن البدعة ل يتاب منها‪ :‬أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الّ ول رسوله قد‬
‫زين له سوء عمله فرآه حسنًا‪ ،‬فهو ل يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه‪ ،‬أو بأنه‬
‫ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله‪ .‬فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس المر فإنه ل‬
‫يتوب‪.‬‬

‫ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الّ ويرشده حتى يتبين له الحق‪ ،‬كما هدى ـ سبحانه وتعالى ـ من هدى من‬
‫الكفار والمنافقين وطوائف من أهل ‪ /‬البدع والضلل‪ ،‬وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه‪ ،‬فمن عمل بما علم‬
‫أورثه الّ علم ما لم يعلم كما قال تعالى‪{ :‬وَاّلذِينَ ا ْه َتدَوْا زَادَهُمْ ُهدًى وَآتَاهُ ْم تَقْواهُمْ} [محمد‪ ،]17 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََلوْ َأّنهُمْ‬
‫َفعَلُوا مَا يُوعَظُو َن بِهِ َلكَانَ َخيْرًا َلهُمْ وََأ َشدّ َت ْثبِيتًا‪ .‬وَِإذًا َل َتيْنَا ُه ْم مِنْ َلدُنّا َأجْرًا َعظِيمًا‪ .‬وََل َهدَ ْينَاهُمْ صِرَاطًا مُ ْستَقِيمًا} [النساء‪66 :‬ـ‬
‫ن بِهِ َو َيغْ ِفرْ َلكُمْ وَالُّ‬‫جعَلْ َلكُ ْم نُورًا َتمْشُو َ‬
‫ح َمتِهِ َويَ ْ‬
‫ن مِنْ رَ ْ‬ ‫‪ ،]68‬وقال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِي َ‬
‫ن آ َمنُوا اتّقُوا الَّ وَآ ِمنُوا بِرَسُولِ ِه يُ ْؤ ِتكُ ْم كِفَْليْ ِ‬
‫غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد‪ ،]28 :‬وقال تعالى‪{ :‬الُّ وَِليّ اّلذِينَ آ َمنُوا يُخْ ِر ُجهُ ْم مِنْ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ} [البقرة‪ ،]257 :‬وقال‬
‫جهُ ْم مِنْ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر بِِإذْنِهِ‬
‫خرِ ُ‬‫سبُلَ السّلَمِ َويُ ْ‬‫ن ا ّتبَعَ ِرضْوَانَهُ ُ‬ ‫لّ مَ ْ‬
‫ب ُمبِينٌ‪َ .‬يهْدِي بِهِ ا ُ‬‫لّ نُورٌ َو ِكتَا ٌ‬ ‫تعالى‪َ { :‬قدْ جَا َءكُ ْم مِنْ ا ِ‬
‫ط مُ ْستَقِيمٍ} [المائدة‪ .]16 ،15 :‬وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫َو َيهْدِيهِمْ إِلَى صِرَا ٍ‬

‫وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه‪ ،‬فإن ذلك يورثه الجهل والضلل حتى يعمى قلبه عن الحق‬
‫ل َي ْهدِي الْقَ ْومَ ا ْلفَاسِقِينَ}[الصف‪ ،]5 :‬وقال تعالى‪{ :‬فِي ُقلُو ِبهِمْ‬ ‫لّ َ‬ ‫الواضح‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬فََلمّا زَاغُوا َأزَاغَ ا ُ‬
‫لّ قُلُو َبهُمْ وَا ُ‬
‫ع ْندَ‬
‫ليَاتُ ِ‬ ‫ن ِبهَا قُلْ ِإّنمَا ا ْ‬
‫ج ْهدَ َأ ْيمَا ِنهِمْ َلئِنْ جَا َء ْتهُ ْم آيَةٌ َليُ ْؤمِنُ ّ‬
‫سمُوا بِالِّ َ‬ ‫لّ مَرَضًا}[البقرة‪ ،]10 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََأ ْق َ‬ ‫ض فَزَادَهُمْ ا ُ‬ ‫مَرَ ٌ‬
‫ط ْغيَا ِنهِ ْم َي ْع َمهُونَ} [‬
‫ل مَرّةٍ َو َنذَرُهُ ْم فِي ُ‬ ‫ل يُ ْؤ ِمنُونَ‪َ .‬ونُقَلّبُ َأ ْفئِ َد َتهُمْ وََأبْصَارَهُ ْم َكمَا َل ْم يُ ْؤمِنُوا بِهِ أَوّ َ‬
‫ت َ‬
‫شعِ ُر ُكمْ َأّنهَا ِإذَا جَاءَ ْ‬
‫الِّ َومَا يُ ْ‬
‫النعام‪ .]110 ،109 :‬وهذا استفهام نفي وإنكار‪ ،‬أي‪ :‬وما يدريكم أنها إذا جاءت ل يؤمنون‪ ،‬وإنا نقلب أفئدتَهم‬
‫وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ [إنها] بالكسر تكون ‪ /‬جزمًا بأنها إذا جاءت ل يؤمنون‬
‫ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد ابن جبير‪ :‬إن من ثواب‬
‫الحسنة الحسنة بعدها‪ ،‬وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي الّ عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬عليكم بالصدق‪،‬‬
‫فإن الصدق يهدي إلى البر‪ ،‬وإن البر يهدي إلى الجنة‪ ،‬ول يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الّ‬
‫صديقًا‪ .‬وإياكم والكذب‪ ،‬فإن الكذب يهدي إلى الفجور‪ ،‬وإن الفجور يهدي إلى النار‪ ،‬ول يزال الرجل يكذب‪ ،‬ويتحرى‬
‫الكذب حتى يكتب عند الّ كذّابًا)‪ ،‬فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر‪ ،‬وأن الكذب يستلزم‬
‫الفجور‪.‬‬
‫وقد قال تعالى‪{ :‬إِنّ ا َلْبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ‪ .‬وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ}[النفطار‪]14 ،13 :‬؛ ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر‬
‫بعض متبعيه بالتوبة وأحب أل ينفره ول يشعب قلبه أمره بالصدق؛ ولهذا كان يكثر في كلم مشائخ الدين وأئمته ذكر‬
‫ل في الَرْض‪ ،‬وما وضع‬ ‫الصدق والخلص حتى يقولوا‪ :‬قل لمن ل يصدق‪ :‬ل يتبعني‪ .‬ويقولون‪ :‬الصدق سيف ا ّ‬
‫على شيء إل قطعه‪ ،‬ويقول يوسف بن أسباط وغيره‪ :‬ما صدق الّ عبدٌ إل صنع له‪ .‬وأمثال هذا كثير‪.‬‬

‫والصدق والخلص هما في الحقيقة تحقيق اليمان والسلم‪ ،‬فإن ‪ /‬المظهرين للسلم ينقسمون إلى‪ :‬مؤمن ومنافق‪،‬‬
‫والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق‪ ،‬فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر الّ حقيقة‬
‫ن قُولُوا أَسَْل ْمنَا}إلى قوله‪ِ{ :‬إّنمَا ا ْلمُ ْؤمِنُونَ‬ ‫اليمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى‪{ :‬قَاَلتْ الَْعْرَا ُ‬
‫ب آ َمنّا ُقلْ لَ ْم تُ ْؤ ِمنُوا وََلكِ ْ‬
‫اّلذِينَ آ َمنُوا بِالِّ َورَسُولِ ِه ُثمّ لَ ْم يَ ْرتَابُوا َوجَا َهدُوا بَِأمْوَاِلهِمْ وَأَن ُف ِسهِ ْم فِي َسبِيلِ الِّ ُأوَْل ِئكَ ُهمْ الصّا ِدقُونَ} [الحجرات‪،]15 ،14 :‬‬
‫ضوَانًا َو َينْصُرُونَ الَّ وَرَسُولَهُ أُوَْل ِئكَ‬
‫ل مِنْ الِّ وَرِ ْ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬لِلْ ُفقَرَاءِ ا ْل ُمهَاجِرِينَ اّلذِينَ ُأخْرِجُوا مِنْ دِيارِ ِهمْ وََأمْوَاِل ِه ْم يَ ْب َتغُونَ َفضْ ً‬
‫هُمْ الصّا ِدقُونَ} [الحشر‪.]8 :‬‬

‫فأخبر أن الصادقين في دعوى اليمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة‪ ،‬وجاهدوا في سبيله بأموالهم‬
‫لّ مِيثَاقَ ال ّنبِيّينَ َلمَا آ َت ْيتُكُ ْم مِنْ‬ ‫وأنفسهم‪ ،‬وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الولين والخرين كما قال تعالى‪{ :‬وَِإذْ أَ َ‬
‫خذَ ا ُ‬
‫خ ْذتُمْ عَلَى ذَِلكُمْ ِإصْرِي قَالُوا َأقْرَ ْرنَا قَالَ‬
‫صدّقٌ ِلمَا َم َعكُمْ َلتُ ْؤ ِمنُنّ بِهِ وََل َتنْصُ ُرنّ ُه قَالَ أََأقْ َر ْرتُمْ وَأَ َ‬
‫ل مُ َ‬
‫ح ْكمَةٍ ثُمّ جَا َءكُمْ رَسُو ٌ‬
‫ِكتَابٍ َو ِ‬
‫فَا ْش َهدُوا وََأنَا َمعَكُ ْم مِنْ الشّا ِهدِينَ}[آل عمران‪ ،]81 :‬قال ابن عباس‪ :‬ما بعث الّ نبيًا إل أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد‬
‫وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه‪ ،‬وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه‪.‬‬

‫شدِيدٌ َو َمنَافِعُ‬
‫حدِي َد فِيهِ َبأْسٌ َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬لَ َقدْ أَ ْرسَ ْلنَا ُرسَُلنَا بِا ْل َبّينَاتِ َوَأنْزَ ْلنَا َم َعهُمْ ا ْل ِكتَابَ وَا ْلمِيزَانَ ِليَقُومَ النّا ُ‬
‫س بِالْ ِقسْطِ وََأنْزَ ْلنَا الْ َ‬
‫لّ قَوِيّ عَزِيزٌ}[الحديد‪ ،]25 :‬فذكر ـ تعالى ـ أنه أنزل الكتاب والميزان‪،‬‬ ‫ن َينْصُرُهُ َورُسُلَ ُه بِا ْل َغيْبِ إِنّ ا َ‬ ‫لّ مَ ْ‬ ‫لِلنّاسِ وَِل َيعْلَمَ ا ُ‬
‫وأنه أنزل الحديد لجل القيام بالقسط؛ وليعلم الّ من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي‪ ،‬وسيف‬
‫ينصر‪ ،‬وكفى بربك هاديًا ونصيرًا‪ .‬والكتاب والحديد وإن اشتركا في النزال فل يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث‬
‫ب مِنْ الِّ ا ْلعَزِيزِ الْ َحكِيمِ} [الزمر‪ ،]1 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫لم ينزل الخر حيث نزل الكتاب من الّ‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬تَنْزِيلُ ا ْلكِتَا ِ‬
‫ت مِنْ َلدُنْ َحكِيمٍ َخبِيرٍ} [هود‪ ،]1 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَِإّنكَ َلتُلَقّى الْ ُقرْآ َن مِنْ َلدُنْ َحكِيمٍ عَلِيمٍ} [‬
‫ت آيَاتُ ُه ثُ ّم فُصَّل ْ‬
‫ح ِكمَ ْ‬
‫{الر ِكتَابٌ ُأ ْ‬
‫النمل‪ ،]6 :‬والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها‪.‬‬

‫شرِقِ‬ ‫ن تُوَلّوا ُوجُو َهكُ ْم ِقبَلَ ا ْلمَ ْ‬ ‫وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى‪َ{ :‬ليْسَ ا ْلبِرّ أَ ْ‬
‫ص َدقُوا َوأُوَْل ِئكَ ُهمْ ا ْل ُمتّقُونَ} [‬ ‫ل ِئكَةِ وَا ْل ِكتَابِ وَال ّنبِيّينَ}إلى قوله‪{ :‬أُوَْل ِئكَ اّلذِينَ َ‬
‫ن بِالِّ وَا ْليَوْمِ الْخِرِ وَا ْلمَ َ‬
‫وَا ْل َمغْرِبِ وََلكِنّ ا ْلبِ ّر مَنْ آمَ َ‬
‫ض فَزَادَهُمْ الُّ‬ ‫البقرة‪ ،]177 :‬وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى‪{ :‬فِي ُقلُو ِبهِ ْم مَرَ ٌ‬
‫ش َهدُ ِإّنكَ لَ َرسُولُ الِّ وَالُّ‬ ‫عذَابٌ َألِي ٌم ِبمَا كَانُوا َيكْ ِذبُونَ} [البقرة‪ ،]10 :‬وقوله تعالى‪ِ{ :‬إذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬
‫ن قَالُوا نَ ْ‬ ‫مَرَضًا وََلهُمْ َ‬
‫ش َهدُ إِنّ ا ْل ُمنَافِقِينَ َلكَا ِذبُونَ} [المنافقون‪ ،]1 :‬وقوله تعالى‪{ :‬فَأَعْ َق َبهُ ْم نِفَاقًا فِي قُلُو ِبهِمْ إِلَى يَوْ ِم يَلْقَ ْونَ ُه ِبمَا‬ ‫لّ يَ ْ‬
‫َيعْلَمُ ِإّنكَ لَرَسُولُهُ وَا ُ‬
‫لّ مَا وَ َعدُوهُ َو ِبمَا كَانُوا َيكْ ِذبُونَ} [التوبة‪ .]77 :‬ونحو ذلك في القرآن كثير‪.‬‬ ‫أَخَْلفُوا ا َ‬

‫ومما ينبغي أن يعرف‪ :‬أن الصدق والتصديق يكون في القوال وفي ‪ /‬العمال‪ ،‬كقول النبي صلى ال عليه وسلم في‬
‫الحـديث الصحـيح‪( :‬كتب على ابـن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك ل محالة‪ ،‬فالعينان تزنيان وزناهما النظر‪،‬‬
‫والذنان تزنيان وزناهما السمع‪ ،‬واليدان تزنيان وزناهما البطش‪ ،‬والرجلن تزنيان وزناهما المشي‪ ،‬والقلب يتمنى‬
‫ويشتهي‪ ،‬والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)‪ .‬ويقال‪ :‬حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة‪،‬‬
‫ويقال فلن صادق الحب والمودة ونحو ذلك‪ .‬ولهذا يريدون بالصادق‪ :‬الصادق في إرادته وقصده وطلبه‪ ،‬وهو‬
‫الصادق في عمله‪ ،‬ويريدون الصادق في خبره وكلمه‪ ،‬والمنافق ضد المؤمن الصادق‪ ،‬وهو الذي يكون كاذبًا في‬
‫خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله‪ .‬قال الّ تعالى‪{ :‬إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُيخَادِعُونَ الَّ وَهُوَ خَادِ ُ‬
‫عهُمْ وَِإذَا قَامُوا إِلَى الصّلَةِ‬
‫قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النّاسَ} اليتين [النساء‪.]143 ،142 :‬‬

‫ل فِيهِ‬ ‫وأما الخلص فهو حقيقة السلم‪ ،‬إذ السلم هو‪ :‬الستسلم لّ ل لغيره‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬ضَرَبَ ا ُ‬
‫لّ مَثَلً َرجُ ً‬
‫شُ َركَا ُء ُمتَشَاكِسُونَ وَرَجُلً سََلمًا ِلرَجُلٍ َه ْل يَ ْستَ ِويَانِ} الية [الزمر‪ .]29 :‬فمن لم يستسلم لّ فقد استكبر‪ ،‬ومن استسلم لّ‬
‫ولغيرة فقد أشرك‪ ،‬وكل من الكبر والشرك ضد السلم‪ ،‬والسلم ضد الشرك والكبر‪ .‬ويستعمل لزمًا ومتعديًا كما‬
‫قال تعالى‪ِ{ :‬إ ْذ قَالَ لَهُ َربّهُ أَسِْل ْم قَالَ أَسَْلمْتُ ِلرَبّ ا ْلعَاَلمِينَ} [البقرة‪ ،]131 :‬وقال تعالى‪{ :‬بَلَى مَنْ أَسَْلمَ وَ ْ‬
‫جهَهُ لِّ وَهُ َو ُمحْسِنٌ‬
‫فَلَهُ أَ ْجرُهُ ِعنْدَ َربّهِ َولَ خَ ْوفٌ عََل ْيهِمْ َولَ هُ ْم يَحْ َزنُونَ} [البقرة‪ .]112 :‬وأمثال ذلك في القرآن كثير‪.‬‬
‫ل وحده وترك عبادة ما سواه‪ ،‬وهو السلم‬ ‫‪/‬ولهذا كان رأس السلم [شهادة أن ل إله إل الّ]‪ ،‬وهي متضمنة عبادة ا ّ‬
‫ل ِمنْهُ وَهُ َو فِي‬ ‫ن يُ ْقبَ َ‬
‫لْسْلَ ِم دِينًا فَلَ ْ‬ ‫غيْرَ ا ِ‬‫العام الذي ل يقبل الّ من الولين والخرين دينا سواه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َي ْبتَغِ َ‬
‫ط لَ إِلَهَ ِإلّ‬
‫ل ِئكَةُ وَأُوْلُوا ا ْلعِلْ ِم قَا ِئمًا بِالْ ِقسْ ِ‬ ‫الْخِ َر ِة مِنْ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران‪ ،]85 :‬وقال تعالى‪َ { :‬‬
‫ش ِهدَ الُّ َأنّ ُه لَ إِلَهَ ِإلّ هُوَ وَا ْلمَ َ‬
‫هُوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َحكِيمُ‪ .‬إِ ّن الدّينَ ِع ْندَ الِّ الِْسْلَمُ}[آل عمران‪.]19 ،18 :‬‬

‫وهذا الذي ذكرناه‪ ،‬مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة‪ :‬هو المور الباطنة من العلوم والعمال‪ ،‬وأن العمال‬
‫الظاهرة ل تنفع بدونها‪ .‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده‪( :‬السلم عَلنية‪،‬‬
‫واليمان في القلب)؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬الحلل بَيّن‪ ،‬والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات ل يعلمهن كثير من الناس‪ ،‬فمن اتقى‬
‫الشبهات فقد استبرأ لعِ ْرضِه ودِينهِ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع‬
‫فيه‪ ،‬أل وإن لكل ملك حمى‪ ،‬أل وإن حمى الّ محارمه‪ ،‬أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد‬
‫وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد‪ ،‬أل وهي القلب)‪ ،‬وعن أبي هريرة قال‪ :‬القلب ملك والعضاء جنوده‪ ،‬فإذا طاب‬
‫الملك طابت جنوده‪ ،‬وإذا خبث الملك خبثت جنوده‪.‬‬

‫فَصـــل‬

‫وهذه العمال الباطنة‪ ،‬كمحبة الّ والخلص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك‪ ،‬كلها مأمور بها في حق‬
‫الخاصة والعامة ل يكون تركها محمودًا في حال أحد‪ ،‬وإن ارتقى مقامه‪.‬‬

‫وأما [الحزن] فلم يأمر الّ به ول رسوله‪ ،‬بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين‪ ،‬كقوله تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ل َت ِهنُوا‬
‫ق ِممّا َي ْمكُرُونَ} [‬
‫ضيْ ٍ‬
‫ك فِي َ‬
‫ل َت ُ‬ ‫ن ُك ْنتُ ْم مُ ْؤ ِمنِينَ} [آل عمران‪ ،]139 :‬وقوله‪َ { :‬و َ‬
‫ل تَحْزَنْ عََل ْيهِمْ َو َ‬ ‫ل تَحْ َزنُوا وََأ ْنتُمْ الَْعْلَوْنَ إِ ْ‬
‫َو َ‬
‫لّ َم َعنَا} [التوبة‪ ،]40 :‬وقوله‪َ { :‬و َل يَحْ ُز ْنكَ َقوُْلهُمْ} [يونس‪]56 :‬‬ ‫ل تَحْزَنْ إِنّ ا َ‬ ‫النحل‪ ،]127 :‬وقوله‪ِ{ :‬إذْ يَقُولُ لِصَا ِ‬
‫حبِ ِه َ‬
‫‪ ،‬وقوله‪ِ{ :‬ل َكيْلَ تَ ْأسَوْا عَلَى مَا فَا َتكُمْ َو َل تَفْ َرحُوا ِبمَا آتَا ُكمْ} [الحديد‪ .]23 :‬وأمثال ذلك كثير‪.‬‬

‫وذلك ؛لنه ل يجلب منفعة ول يدفع مضرة فل فائدة فيه‪ ،‬وما ل فائدة فيه ل يأمر الّ به‪ ،‬نعم! ل يأثم صاحبه إذا لم‬
‫يقترن بحزنه محرم‪ ،‬كما يحزن على المصائب‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن الّ ل يؤاخذ على دمع العين‬
‫ول على حزن القلب‪ ،‬ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم) وأشار بيده إلى لسانه‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪( :‬تدمع العين‪،‬‬
‫ع ْينَاهُ‬
‫سفَى عَلَى يُوسُفَ وَا ْبيَضّتْ َ‬
‫ل يَاأَ َ‬ ‫ويحزن القلب‪/ ،‬ول نقول إل ما يرضى الرب)‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪َ { :‬وتَوَلّى َ‬
‫ع ْنهُمْ َوقَا َ‬
‫مِنَ الْحُزْ ِن َفهُ َو كَظِيمٌ}[يوسف‪.]84 :‬‬

‫وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه‪ ،‬فيكون محمودًا من تلك الجهة ل من جهة الحزن‪ ،‬كالحزين‬
‫على مصيبة في دينه‪ ،‬وعلى مصائب المسلمين عمومًا‪ .‬فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير‪ ،‬وبغض الشر‪،‬‬
‫وتوابع ذلك‪ ،‬ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى‬
‫عنه‪ ،‬وإل كان حسب صاحبه رفع الثم عنه من جهة الحزن‪.‬‬

‫وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الّ ورسوله به‪ ،‬كان مذمومًا عليه من تلك الجهة‪ ،‬وإن‬
‫كان محمودًا من جهة أخرى‪.‬‬

‫وأما المحبة لّ‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والخلص له ونحو ذلك‪ ،‬فهذه كلها خير محض‪ ،‬وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد‬
‫من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ .‬ومن قال‪ :‬إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك‬
‫إن أراد خروج الخاصة عنها‪ ،‬فإن هذه ل يخرج عنها مؤمن قط‪ ،‬وإنما يخرج عنها كافر أو منافق‪ .‬وقد تكلم بعضهم‬
‫في ذلك بكلم‪ ،‬بينا غلطه فيه وأنه تقصير في تحقيق هذه المقامات بكلم مبسوط وليس هذا موضعه‪.‬‬

‫‪/‬ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى‪ :‬خصوص وعموم‪ ،‬فللخاصة خاصها‪ ،‬وللعامة عامها‪ .‬مثال ذلك أن هؤلء‬
‫قالوا‪ :‬إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت‪ ،‬والخاص ل يناضل عن نفسه‪ .‬وقالوا‪ :‬المتوكل يطلب بتوكله‬
‫أمرًا من المور‪ ،‬والعارف يشهد المور بفروعها منها فل يطلب شيئًا‪ .‬فيقال‪ :‬أما الول فإن التوكل أعم من التوكل‬
‫في مصالح الدنيا‪ ،‬فإن المتوكل يتوكل على الّ في صلح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم المور إليه؛ ولهذا‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة‪ ،]5 :‬كما في قوله تعالى‪{ :‬فَا ْعُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [‬ ‫يناجي ربه في كل صلة بقوله‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َنعْ ُبدُ وَِإيّا َ‬
‫هود‪ ،]123 :‬وقوله‪{ :‬عََليْهِ تَ َوكّ ْلتُ وَإَِليْهِ ُأنِيبُ} [هود‪ ،88 :‬الشورى‪ ،]10 :‬وقوله‪{ :‬قُلْ هُوَ َربّي لَ إِلَهَ ِإلّ ُهوَ عََليْهِ‬
‫تَ َوكّلْتُ وَإَِليْ ِه َمتَابِ}[الرعد‪.]30 :‬‬

‫فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف‪ :‬إن الّ‬
‫جمع الكتب المنزلة في القرآن‪ ،‬وجمع علم القرآن في المفصل‪ ،‬وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب‪ ،‬وجمع علم‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ}‪.‬‬ ‫فاتحة الكتاب في قوله‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َنعْ ُبدُ وَِإيّا َ‬

‫وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد‪ ،‬كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬يقول الّ سبحانه‪ :‬قسمت الصلة بيني وبين عبدي نصفين‪ ،‬نصفها لي ونصفها لعبدي‪،‬‬
‫ولعبدي ما سأل) قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬يقول العبد‪ :‬الحمد لّ رب العالمين‪ ،‬يقول الّ‪ :‬حمدني عبدي‪.‬‬
‫يقول العبد‪ :‬الرحمن ‪ /‬الرحيم‪ ،‬يقول الّ‪ :‬أثنى على عبدي‪ .‬يقول العبد‪ :‬مالك يوم الدين‪ ،‬يقول الّ‪ :‬مجدني عبدي‪ .‬يقول‬
‫العبد‪ :‬إياك نعبد وإياك نستعين‪ ،‬يقول الّّ‪ :‬فهذه الية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل‪ .‬يقول العبد‪ :‬اهدنا‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ول الضالين‪ ،‬يقول الّ‪ :‬فهؤلء لعبدي ولعبدي‬
‫ما سأل)‪ .‬فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير‪ ،‬والعبد له نصف الدعاء والطلب‪ .‬وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه‪،‬‬
‫وما للعبد‪ ،‬فإياك نعبد للرب‪ ،‬وإىاك نستعين للعبد‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن معاذ ـ رضي الّ عنه ـ قال‪ :‬كنت رديفًا للنبي صلى ال عليه وسلم على حمار فقال‪( :‬يا معاذ‪،‬‬
‫أتدري ما حق الّ على العباد؟) قلت‪ :‬الّ ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪( :‬حق ال على العباد أن يعبدوه ول يشركوا به شيئا‪،‬‬
‫أتدري ما حق العباد على الّ إذا فعلوا ذلك؟) قلت‪ :‬الّ ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪( :‬حقهم عليه أل يعذبهم)‪ .‬والعبادة هي الغاية‬
‫التي خلق الّ لها العباد من جهة أمر الّ ومحبته ورضاه كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا خََلقْتُ ا ْلجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعبُدُونِي} [‬
‫الذاريات‪ ،]56 :‬وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب‪ ،‬وهي اسم يجمع كمال الحب لّ ونهايته‪ ،‬وكمال الذل لّ ونهايته‪،‬‬
‫فالحب الخلي عن ذل‪ ،‬والذل الخلي عن حب ل يكون عبادة‪ ،‬وإنما العبادة ما يجمع كمال المرين؛ولهذا كانت العبادة‬
‫لتصلح إل لّ‪ ،‬وهي وإن كانت منفعتها للعبد والّ غني عن العالمين‪ ،‬فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها؛ولهذا‬
‫كان الّ أشد فرحًا بتوبة العبد من ‪ /‬الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في أرض دوية مهلكة إذا نام آيسًا منها ثم‬
‫استيقظ فوجدها‪ ،‬فالّ أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته‪ ،‬وهذا يتعلق به أمور جليلة قد بسطناها وشرحناها في‬
‫غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والتوكل والستعانة للعبد؛ لنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة‪ ،‬فالستعانة كالدعاء‬
‫والمسألة‪ .‬وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪[ :‬يقول الّ عز وجل‪ :‬يا بن آدم‪،‬‬
‫إنما هي أربع‪ :‬واحدة لي‪ ،‬وواحدة لك‪ ،‬وواحدة بيني وبينك‪ ،‬وواحدة بينك وبين خلقي‪ .‬فأما التي لي فتعبدني ل تشرك‬
‫بي شيئا‪ ،‬وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه‪ ،‬وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلىّ الجابة‪،‬‬
‫وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك)‪.‬‬

‫ل وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء‪ ،‬فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملئمًا له‪ ،‬والّ ـ‬
‫وكون هذا ّ‬
‫تعالى ـ يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه‪ ،‬ويحب الوسيلة تبعًا لذلك‪ ،‬وإل فكل مأمور به فمنفعته عائدة‬
‫على العبد‪ ،‬وكل ذلك يحبه الّ ويرضاه‪ ،‬وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل ل يطلب‬
‫به إل حظوظ الدنيا‪ ،‬وهو غلط بل التوكل في المور الدينية أعظم‪.‬‬

‫‪/‬وأيضًا‪ ،‬التوكل من المور الدينية التي ل تتم الواجبات والمستحبات إل بها‪ ،‬والزاهد فيها زاهد فيما يحبه الّ ويأمر‬
‫به ويرضاه‪.‬‬

‫والزهد المشروع هو‪ :‬ترك الرغبة فيما ل ينفع في الدار الخرة‪ ،‬وهو فضول المباح التي ل يستعان بها على طاعة‬
‫الّ‪ ،‬كما أن الورع المشروع هو‪ :‬ترك ما قد يضر في الدار الخرة‪ ،‬وهو ترك المحرمات والشبهات التي ليستلزم‬
‫تركها ترك ما فعله أرجح منها‪ ،‬كالواجبات‪ .‬فأما ما ينفع في الدار الخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار‬
‫حلّ الُّ َلكُمْ َو َ‬
‫ل‬ ‫ت مَا أَ َ‬
‫طّيبَا ِ‬ ‫الخرة‪ ،‬فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِي َ‬
‫ن آ َمنُوا لَ ُتحَ ّرمُوا َ‬
‫لّ َل يُحِبّ ا ْل ُمعْ َتدِينَ}[المائدة‪ ،]87 :‬كما أن الشتغال بفضول المباحات‪ ،‬هو ضد الزهد المشروع‪ ،‬فإن اشتغل‬
‫َتعْ َتدُوا إِنّ ا َ‬
‫بها عن فعل واجب أو فعل محرم كان عاصيًا‪ ،‬وإل كان منقوصًا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين‪.‬‬

‫ل مرضي له مأمور به دائمًا‪ ،‬وما كان محبوبًا لّ مرضيًا له مأمورًا به دائما ل يكون‬
‫وأيضًا‪ ،‬فإن التوكل هو محبوب ّ‬
‫من فعل المقتصدين دون المقربين‪ ،‬فهذه ثلثة أجوبة عن قولهم‪ :‬المتوكل يطلب حظوظه‪.‬‬

‫وأما قولهم‪ :‬إن المور قد فرغ منها‪ ،‬فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه ل حاجة إليه؛ لن المطلوب إن كان‬
‫مقدرًا فل حاجة إليه‪ ،‬وإن لم يكن ‪ /‬مقدرًا لم ينفع الدعاء‪ ،‬وهذا القول من أفسد القوال شرعًا وعقلً‪.‬‬

‫وكذلك قول من قال‪ :‬التوكل والدعاء ل يجلب به منفعة ول يدفع به مضرة‪ ،‬وإنما هو عبادة محضة‪ ،‬وإن حقيقة‬
‫التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض‪ ،‬وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضًا‪ ،‬وكذلك قول من قال‪:‬‬
‫إن الدعاء إنما هو عبادة محضة‪.‬‬

‫فهذه القوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد‪ :‬وهو أن هؤلء ظنوا أن كون المور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على‬
‫أسباب مقدرة ـ أيضًا ـ تكون من العبد‪ ،‬ولم يعلموا أن الّ سبحانه يقدر المور ويقضيها بالسباب التي جعلها معلقة‬
‫بها من أفعال العباد‪ ،‬وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل العمال بالكلية‪.‬‬

‫وقد سئل النبي صلى ال عليه وسلم عن هذا الصل مرات‪ ،‬فأجاب عنه كما أخرجا في الصحيحين عن عمران بن‬
‫حصين قال‪ :‬قيل لرسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬أعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟ قال‪( :‬نعم)‪ .‬قالوا‪ :‬ففيم‬
‫العمل؟ قال‪( :‬كل ميسر لما خلق له)‪ .‬وفي الصحيحين عن على بن أبي طالب قال‪ :‬كنا في جنازة فيها رسول الّ صلى‬
‫ال عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الرض‪ ،‬ثم رفع رأسه وقال‪( :‬ما من نفس منفوسة‬
‫إل وقد كتب مكانها من النار أو الجنة‪ ،‬إل وقد كتبت شقية أو سعيدة)‪ .‬قال‪ / :‬فقال رجل من القوم‪ :‬يا نبي الّ‪ ،‬أفل‬
‫نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة‪ ،‬ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى‬
‫الشقاوة‪ .‬قال‪[ :‬اعملوا فكل ميسر لما خلق له‪ .‬أما أهل السعادة فييسرون للسعادة‪ ،‬وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة]‪،‬‬
‫س َتغْنَى‪.‬‬
‫ن بَخِلَ وَا ْ‬
‫س ُنيَسّ ُرهُ لِ ْليُسْرَى‪ .‬وََأمّا مَ ْ‬
‫سنَى‪ .‬فَ َ‬
‫ق بِا ْلحُ ْ‬ ‫ثم قال نبي الّ صلى ال عليه وسلم‪{[ :‬فََأمّا مَنْ أَعْطَى وَاتّقَى‪ .‬وَ َ‬
‫صدّ َ‬
‫ب بِالْ ُح ْسنَى‪ .‬فَ َسُنيَسّرُهُ لِ ْل ُعسْرَى}) [الليل‪ 5 :‬ـ ‪ ،]10‬أخرجه الجماعة في الصحاح والسنن والمسانيد‪.‬‬ ‫َو َكذّ َ‬

‫وروى الترمذي أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل فقيل‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬أرأيت أدوية نتداوى بها‪ ،‬ورقى نسترقى بها‬
‫وتقى نتقيها هل ترد من قدر الّ شيئًا؟ فقال‪( :‬هي من قدر الّ)‪.‬‬

‫وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى ال عليه وسلم في عدة أحاديث‪.‬‬

‫فبين صلى ال عليه وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي ل ينافى أن تكون سعادة هذا بالعمال الصالحة‪،‬‬
‫وشقاوة هذا بالعمال السيئة‪ ،‬فإنه سبحانه يعلم المور على ما هي عليه‪ ،‬وكذلك يكتبها‪ ،‬فهو يعلم أن السعيد يسعد‬
‫بالعمال الصالحة‪ ،‬والشقي يشقى بالعمال السيئة‪ ،‬فمن كان سعيدًا ييسر للعمال الصالحة التي تقتضي السعادة‪،‬‬
‫ومن كان شقيًا ييسر للعمال السيئة ‪ /‬التي تقتضى الشقاوة‪ ،‬وكلهما ميسر لما خلق له‪ ،‬وهو ما يصير إليه من مشيئة‬
‫ختَلِفِينَ‪ِ .‬إلّ مَنْ َرحِمَ َرّبكَ وَِلذَِلكَ‬ ‫الّ العامة الكونية التي ذكرها الّ ـ سبحانه ـ في كتابه في قوله تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ل يَزَالُونَ ُم ْ‬
‫خََل َقهُمْ}[هود‪.]119 ،118 :‬‬

‫وأما ما خلقوا له من محبة الّ ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا بموجبها فذلك مذكور في قوله‪َ { :‬ومَا َ‬
‫خلَ ْقتُ الْجِنّ‬
‫وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعبُدُونِ}[الذاريات‪.]56 :‬‬

‫والّ ـ سبحانه ـ قد بين في كتابه في كل واحدة‪ :‬من [الكلمات] و[المر] و[الرادة] و[الذن] و [الكتاب] و [الحكم] و‬
‫ل ورضاه وأمره الشرعي‪ ،‬وما هو كوني موافق لمشيئته‬ ‫[القضاء] و [التحريم] ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة ا ّ‬
‫الكونية‪.‬‬
‫لّ َي ْأمُ ُر بِا ْل َعدْلِ وَالِحْسَانِ وَإِيتَا ِء ذِي الْ ُق ْربَى} [النحل‪ ،]90 :‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ الَّ‬ ‫مثال ذلك أنه قال في المر الديني‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫ن يَقُولَ لَ ُه كُنْ‬ ‫لْمَانَاتِ إِلَى أَهِْلهَا} [النساء‪ ،]58 :‬ونحو ذلك‪ .‬وقال في الكوني‪ِ{ :‬إّنمَا َأمْ ُرهُ ِإذَا أَرَادَ َ‬
‫ش ْيئًا أَ ْ‬ ‫ن تُ َؤدّوا ا َ‬
‫يَ ْأمُ ُركُمْ أَ ْ‬
‫ك قَ ْريَةً َأمَ ْرنَا ُمتْ َرفِيهَا فَفَ َسقُوا فِيهَا فَ َحقّ عََل ْيهَا ا ْلقَوْلُ} [السراء‪]16 :‬‬ ‫َف َيكُونُ} [يس‪ ،]82 :‬وكذلك قوله‪{ :‬وَِإذَا َأ َردْنَا أَ ْ‬
‫ن ُنهِْل َ‬
‫على إحدى القوال في هذه الية‪.‬‬

‫سنَنَ اّلذِينَ‬‫سرَ} [البقرة‪{/ ،]185 :‬يُرِيدُ الُّ ِل ُي َبيّنَ َلكُمْ َو َيهْ ِديَكُمْ ُ‬ ‫ل يُرِيدُ ِبكُمْ ا ْلعُ ْ‬
‫لّ بِكُمْ ا ْليُسْرَ َو َ‬ ‫وقال فى الرادة الدينية‪{ :‬يُرِيدُ ا ُ‬
‫طهّ َركُمْ}[المائدة‪،]6 :‬‬ ‫ن يُرِيدُ ِليُ َ‬ ‫حكِيمٌ} [النساء‪{ ،]26 :‬مَا يُرِيدُ الُّ ِليَ ْ‬
‫جعَلَ عََل ْيكُ ْم مِنْ حَ َرجٍ وََلكِ ْ‬ ‫مِنْ َقبِْلكُمْ َو َيتُوبَ عََل ْيكُمْ وَالُّ عَلِيمٌ َ‬
‫ن يَه ِديَهُ‬
‫ن يُ ِردْ الُّ أَ ْ‬‫ل مَا يُرِيدُ} [البقرة‪ ،]253 :‬وقال‪َ { :‬فمَ ْ‬ ‫لّ يَ ْفعَ ُ‬ ‫وقال في الرادة الكونية‪{ :‬وَلَوْ شَاءَ ا ُ‬
‫لّ مَا ا ْق َتتَلُوا وََلكِنّ ا َ‬
‫ص ّعدُ فِي ال ّسمَاءِ}[النعام‪ ،]125 :‬وقال نوح عليه‬ ‫حرَجًا كََأّنمَا يَ ّ‬ ‫ضيّقًا َ‬ ‫صدْرَهُ َ‬ ‫جعَلْ َ‬ ‫ن يُضِلّ ُه يَ ْ‬
‫صدْرَهُ لِلِْسْلَمِ َومَنْ يُ ِردْ أَ ْ‬ ‫يَشْرَحْ َ‬
‫ل يُرِيدُ أَن ُيغْ ِو َيكُمْ}[هود‪ ،]34 :‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إّنمَا َأمْ ُرهُ ِإذَا أَرَادَ‬ ‫صحِي إِنْ َأرَدتّ أَنْ أَنصَحَ َلكُمْ إِن كَانَ ا ّ‬ ‫السلم‪َ { :‬و َ‬
‫ل يَن َف ُعكُ ْم نُ ْ‬
‫َش ْيئًا أَ ْن يَقُولَ لَ ُه كُنْ َف َيكُونُ} [يس‪.]28 :‬‬

‫طعْتُ ْم مِنْ لِينَةٍ أَ ْو تَ َر ْكُتمُوهَا قَا ِئمَةً عَلَى ُأصُوِلهَا َفبِِإذْنِ الِّ وَِليُ ْخزِيَ ا ْلفَاسِقِينَ} [الحشر‪،]5 :‬‬
‫وقال تعالى في الذن الديني‪{ :‬مَا َق َ‬
‫وقال تعالى في الكوني‪َ { :‬ومَا هُ ْم بِضَارّينَ بِ ِه مِنْ أَ َحدٍ ِإ ّل بِِإذْنِ الِّ} [البقرة‪.]102 :‬‬

‫ل َتعْ ُبدُوا ِإلّ ِإيّاهُ} [السراء‪ ]23 :‬أي‪ :‬أمر‪ ،‬وقال تعالى في الكوني‪{ :‬‬
‫وقال تعالى في القضاء الديني‪َ { :‬و َقضَى َرّبكَ َأ ّ‬
‫ت فِي يَ ْومَيْنِ} [فصلت‪.]12 :‬‬ ‫سمَاوَا ٍ‬
‫سبْعَ َ‬
‫فَ َقضَاهُنّ َ‬

‫لّ يَ ْحكُ ُم مَا يُرِيدُ} [‬


‫ص ْيدِ َوَأنْتُمْ حُ ُرمٌ إِنّ ا َ‬
‫غيْ َر مُحِلّي ال ّ‬
‫ل مَا ُيتْلَى عََل ْيكُمْ َ‬ ‫وقال تعالى في الحكم الديني‪ُ{ :‬أحِلّتْ َل ُك ْم َبهِيمَةُ ا َ‬
‫لْ ْنعَامِ ِإ ّ‬
‫حكُ ُم َب ْينَكُمْ} [الممتحنة‪ ،]10 :‬وقال تعالى في الكوني عن ابن يعقوب‪{ :‬فَلَنْ‬ ‫لّ يَ ْ‬‫ح ْكمُ ا ِ‬‫المائدة‪ ،]1 :‬وقال تعالى‪{ :‬ذَِلكُمْ ُ‬
‫حقّ‬ ‫َأبْرَحَ ا َلْرْضَ َحتّى يَ ْأذَنَ لِي َأبِي أَ ْو يَ ْحكُمَ الُّ لِي وَهُوَ َخيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ} [يوسف‪ / ،]80 :‬وقال تعالى‪{ :‬قَالَ َربّ ا ْ‬
‫ح ُكمْ بِالْ َ‬
‫صفُونَ} [النبياء‪.]112 :‬‬ ‫حمَانُ ا ْلمُسْ َتعَانُ عَلَى مَا َت ِ‬
‫وَرَبّنَا الرّ ْ‬

‫وقال تعالى في التحريم الديني‪{ :‬حُ ّرمَتْ عََل ْيكُمْ ا ْل َم ْيتَةُ وَالدّمُ وََلحْمُ ا ْلخِنزِيرِ} [المائدة‪{ ،]3 :‬حُ ّرمَتْ عََل ْيكُمْ ُأ ّمهَا ُتكُمْ َو َبنَا ُتكُمْ}‬
‫الية [النساء‪ .]23 :‬وقال تعالى في التحريم الكوني‪َ { :‬فِإنّهَا ُمحَ ّرمَةٌ عََل ْيهِمْ أَ ْر َبعِينَ َسنَ ًة َيتِيهُو َن فِي ا َلْرْضِ} [المائدة‪26 :‬‬
‫]‪.‬‬

‫ق َمعْلُومٌ‪ .‬لِلسّائِلِ وَا ْلمَحْرُومِ} [المعارج‪ ،]25 ،24 :‬وقال تعالى في الكلمات الدينية‪{ :‬‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬وَاّلذِينَ فِي َأمْوَاِلهِمْ حَ ّ‬
‫سنَى عَلَى َبنِي ِإسْرَائِيلَ‬
‫حْ‬ ‫ت َفَأ َتمّهُنّ} [البقرة‪ ،]124 :‬وقال تعالى في الكونية‪َ { :‬و َتمّ ْ‬
‫ت كَِلمَةُ َرّبكَ الْ ُ‬ ‫وَِإ ْذ ا ْبتَلَى ِإبْرَاهِيمَ َربّ ُه ِبكَِلمَا ٍ‬
‫صبَرُوا} [العراف‪ ،]137 :‬ومنه قوله صلى ال عليه وسلم المستفيض عنه من وجوه في الصحاح والسنن‬ ‫ِبمَا َ‬
‫والمسانيد أنه كان يقول في استعاذته‪( :‬أعوذ بكلمات الّ التامات التي ل يجاوزهن بَرّ ول فاجر)‪ .‬ومن المعلوم أن هذا‬
‫هو الكوني الذي ل يخرج منه شىء‪ ،‬عن مشيئته وتكوينه‪ .‬وأما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته‪.‬‬

‫والمقصود هنا أنه صلى ال عليه وسلم بين أن العواقب التي خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالعمال‬
‫التي يصيرون بها إلى ذلك‪ ،‬كما أن سائر المخلوقات كذلك‪ ،‬فهو ـ سبحانه ـ يخلق الولد وسائر الحيوان في الرحام بما‬
‫يقدره من اجتماع البوين على النكاح‪ ،‬واجتماع المائين في الرحم‪ ،‬فلو قال النسان‪ :‬أنا أتوكل ول أطأ زوجتي‪ ،‬فإن‬
‫كان قد ‪ /‬قضى لي بولد وجد وإل لم يوجد ول حاجة إلى وطء‪ ،‬كان أحمق بخلف ما إذا وطئ وعزل الماء فإن عزل‬
‫الماء ل يمنع انعقاد الولد إذا شاء الّ‪ ،‬إذ قد يسبق الماء بغير اختياره‪.‬‬

‫ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬قال‪ :‬خرجنا مع رسول الّ صلى ال عليه وسلم في غزوة‬
‫بني المصطلق‪ ،‬فأصبنا سبيًا من العرب‪ ،‬فاشتهينا النساء‪ ،‬واشتدت علىنا العزبة‪ ،‬وأحببنا العزل‪ ،‬فسألنا عن ذلك‬
‫رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬فقال ما علىكم أل تفعلوا‪ ،‬فإن الّ قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة)‪ ،‬وفي‬
‫صحيح مسلم عن جابر‪ :‬أن رجلً أتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل‪،‬‬
‫وأنا أطوف عليها‪ ،‬وأكره أن تحمل‪ ،‬فقال‪( :‬اعزل عنها إن شئت‪ ،‬فإنه سيأتيها ما قدر لها)‪.‬‬
‫وهذا مع أن الّ ـ سبحانه ـ قادر على ما قد فعله من خلق النسان من غير أبوين كما خلق آدم‪ ،‬ومن خلقه من أب فقط‬
‫كما خلق حواء من ضلع آدم القصير‪ ،‬ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح ابن مريم ـ عليه السلم‪ ،‬لكن خلق ذلك‬
‫بأسباب أخرى غير معتادة‪.‬‬

‫وهذا الموضع‪ ،‬وإن كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع‪ ،‬فقد وقع في كثير من دقه كثير من المشائخ‬
‫المعظمين يسترسل أحدهم مع القدر ‪ /‬غير محقق لما أمر به ونهى عنه‪ ،‬ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل‪،‬‬
‫والجري مع الحقيقة القدرية‪ ،‬ويحسب أن قول القائل‪ :‬ينبغي للعبد أن يكون مع الّ كالميت بين يدي الغاسل يتضمن‬
‫ترك العمل بالمر والنهي حتى يترك ما أمر به‪ ،‬ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان الذي يفرق به‬
‫بين ما أمر الّ به وأحبه ورضيه‪ ،‬وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوي بين ما فرق الّ بينه كما قال تعالى‪{ :‬أَمْ‬
‫حَ ِسبَ اّلذِينَ ا ْجتَرَحُوا ال ّسّيئَاتِ أَ ْن نَ ْجعََلهُ ْم كَاّلذِينَ آ َمنُوا وَ َعمِلُوا الصّالِحَاتِ سَوَا ًء َم ْحيَاهُمْ َو َممَاُتهُمْ سَا َء مَا يَ ْح ُكمُونَ}[الجاثية‪،]21 :‬‬
‫ن آ َمنُوا‬ ‫ح ُكمُونَ} [القلم‪ ]36 ،35 :‬وقال تعالى‪{ :‬أَ ْم نَ ْ‬
‫جعَلُ اّلذِي َ‬ ‫ف تَ ْ‬
‫ج ِرمِينَ‪ .‬مَا َل ُك ْم كَيْ َ‬‫ن كَا ْلمُ ْ‬
‫جعَلُ ا ْلمُسِْلمِي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ{ :‬أ َفنَ ْ‬
‫ستَوِي اّلذِينَ َيعَْلمُونَ‬‫ل يَ ْ‬ ‫جعَلُ ا ْل ُمتّقِينَ كَالْ ُفجّارِ} [ص‪ ،]28 :‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ َه ْ‬ ‫ن فِي الَْ ْرضِ أَ ْم نَ ْ‬ ‫سدِي َ‬
‫ت كَا ْلمُ ْف ِ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَا ِ‬ ‫وَ َ‬
‫عمَى وَا ْلبَصِيرُ‪َ .‬ولَ الظُّلمَاتُ َولَ النّورُ‪َ .‬ولَ الظّلّ َولَ ا ْلحَرُورُ‪َ .‬ومَا‬‫ستَوِي الَْ ْ‬‫ل َيعَْلمُونَ}[الزمر‪ ،]9 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا يَ ْ‬ ‫وَاّلذِينَ َ‬
‫ت ِبمُ ْسمِعٍ مَ ْن فِي الْ ُقبُورِ} [فاطر‪ ،]19-22 :‬وأمثال ذلك‪.‬‬ ‫ن يَشَاءُ َومَا َأنْ َ‬ ‫سمِعُ مَ ْ‬‫لّ يُ ْ‬‫لْمْوَاتُ إِنّ ا َ‬ ‫حيَاءُ َولَ ا َ‬ ‫ستَوِي الَْ ْ‬‫يَ ْ‬

‫حتى يفضي المر بغلتهم إلى عدم التمييز بين المر بالمأمور النبوي اللهي الفرقاني الشرعي الذي دل عليه الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وبين ما يكون في الوجود من الحوال التي تجري على أيدي الكفار والفجار‪ ،‬فيشهدون وجه الجمع من جهة‬
‫كون الجميع بقضاء الّ وقدره وربوبيته وإرادته العامة‪ / ،‬وأنه داخل في ملكه‪ ،‬ول يشهدون وجه الفرق الذي فرق الّ‬
‫به بين أوليائه وأعدائه‪ ،‬والبرار والفجار‪ ،‬والمؤمنين والكافرين‪ ،‬وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الديني‪ ،‬وأهل‬
‫المعصية الذين عصوا هذا المر‪ ،‬ويستشهدون في ذلك بكلمات مجملة نقلت عن بعض الشياخ‪ ،‬أو ببعض غلطات‬
‫بعضهم‪.‬‬

‫وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب العتناء به على أهل طريق الّ‪ ،‬السالكين سبيل الرادة ؛ إرادة الذين يريدون‬
‫وجهه‪ ،‬فإنه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان ما ل يعلمه إل الّ‪ ،‬حتى‬
‫يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين في الرض من أهل الظلم والعلو‪ ،‬كالذين يتوجهون بقلوبهم في‬
‫معاونة من يهوونه من أهل العلو في الرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها في ذلك كانوا بذلك‬
‫من أولياء الّ ـ فإن القلوب لها من التأثير أعظم مما للبدان‪ ،‬لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحًا‪ ،‬وإن كانت‬
‫فاسدة كان تأثيرها فاسدًا‪ ،‬فالحوال يكون تأثيرها محبوبًا لّ تارة‪ ،‬ومكروهًا لّ أخرى‪ ،‬وقد تكلم الفقهاء على وجوب‬
‫القود على من يقتل غيره في الباطن حيث يجب القود في ذلك ـ ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم المر الكوني‪ ،‬ويعدون‬
‫مجرد خرق العادة لحدهم بكشف يكشف له أو بتأثير يوافق إرادته هو كرامة من الّ له‪ ،‬ول يعلمون أنه في الحقيقة‬
‫إهانة‪ ،‬وأن الكرامة لزوم الستقامة‪ ،‬وأن ‪/‬الّ لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه‪ ،‬وهو طاعته‬
‫وطاعة رسوله وموالة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلء هم أولياء الّ الذين قال الّ فيهم‪َ{ :‬ألَ إِنّ أَ ْوِليَاءَ ا ِ‬
‫لّ لَ خَوْفٌ عََل ْيهِمْ‬
‫َولَ هُ ْم يَحْ َزنُونَ}[يونس‪.]62 :‬‬

‫فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين‪ ،‬وإن كانوا موافقين فيما أوجبه وأحبه فهم من المقربين‪،‬‬
‫مع أن كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجبًا‪ ،‬وأما ما يبتلى الّ به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها‪ ،‬أو‬
‫بالضراء فليس ذلك لجل كرامة العبد على ربه ول هوانه عليه‪ ،‬بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه في ذلك‪ ،‬وقد يشقى‬
‫بها قوم إذا عصوه في ذلك‪.‬‬

‫قال الّ تعالى‪َ { :‬فَأمّا الِْنسَانُ ِإذَا مَا ا ْبتَلَهُ َربّ ُه فََأكْ َرمَهُ َو َن ّعمَهُ َفيَقُولُ َربّي َأ ْك َرمَنِي‪ .‬وََأمّا ِإذَا مَا ا ْبتَلَ ُه فَ َقدَرَ عََليْهِ رِ ْزقَ ُه َفيَقُولُ َربّي‬
‫أَهَا َننِي‪ .‬كَلّ} [الفجر‪]15-17 :‬؛ ولهذا كان الناس في هذه المور على ثلثة أقسام‪:‬‬

‫قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة إذا استعملوها في طاعة الّ‪.‬‬

‫وقوم يتعرضون بها لعذاب الّ إذا استعملوها في معصية الّ كبلعام وغيره‪.‬‬

‫وقوم تكون في حقهم بمنزلة المباحات‪.‬‬


‫‪/‬والقسم الول‪ :‬هم المؤمنون حقًا المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي إنما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين الّ‪ ،‬أو‬
‫لحاجة يستعين بها على طاعة الّ‪ .‬ولكثرة الغلط في هذا الصل نهى رسول الّ صلى ال عليه وسلم عن السترسال‬
‫مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد‪ ،‬فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول‬
‫ل من المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي كل خير‪ ،‬احرص على ما‬ ‫الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬المؤمن القوي خير وأحب إلى ا ّ‬
‫ينفعك واستعن بالّ ول تعجزن‪ ،‬وإن أصابك شيء فل تقل‪ :‬لو أني فعلت كان كذا وكذا‪ ،‬ولكن قل‪ :‬قدر الّ وما شاء‬
‫فعل‪ ،‬فإن لو تفتح عمل الشيطان)‪.‬‬

‫وفي سنن أبي داود‪ :‬إن رجلين اختصما إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقضى على أحدهما‪ ،‬فقال المقضي عليه‪:‬‬
‫حسبي الّ ونعم الوكيل‪ .‬فقال رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن ال يلوم على العجز‪ ،‬ولكن علىك بالكيس‪ ،‬فإذا‬
‫غلبك أمر فقل‪ :‬حسبي الّ ونعم الوكيل)‪ .‬فأمر النبي صلى ال عليه وسلم المؤمن أن يحرص على ما ينفعه وأن‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة‪ ،]5 :‬وقوله تعالى‪{ :‬فَا ْعُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [‬ ‫يستعين بالّ‪ ،‬وهذا مطابق لقوله تعالى‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َنعْ ُبدُ وَِإيّا َ‬
‫هود‪ .]123 :‬فإن الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة الّ وعبادته؛ إذ النافع له هو طاعة الّ ول شىء أنفع له من‬
‫ذلك‪ ،‬وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وإن كان من جنس المباح‪.‬‬

‫قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لسعد‪( :‬إنك لن ‪ /‬تنفق نفقة تبتغي بها وجه الّ إل ازددت بها‬
‫درجة ورفعة‪ ،‬حتى اللقمة تضعها فى فيّ امرأتك)‪ ،‬فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن الّ يلوم على العجز الذي هو‬
‫ضد الكيس‪ ،‬وهو التفريط فيما يؤمر بفعله‪ ،‬فإن ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل‪ .‬وإن كان ل ينافى القدرة المتقدمة‬
‫التي هي مناط المر والنهي‪.‬‬

‫فإن الستطاعة التي توجب الفعل تكون مقارنة له‪ ،‬ول تصلح إل لمقدورها‪ ،‬كما ذكرها الّ تعالى في قوله‪{ :‬مَا كَانُوا‬
‫يَ ْستَطِيعُونَ ال ّسمْعَ} [هود‪ ،]20 :‬وفي قوله‪َ { :‬وكَانُوا لَ يَ ْستَطِيعُونَ َس ْمعًا} [الكهف‪ .]101 :‬وأما الستطاعة التي يتعلق‬
‫ستَطَاعَ إَِليْهِ‬ ‫بها المر والنهي فتلك قد يقترن بها الفعل وقد ل يقترن كما في قوله تعالى‪{ :‬وَلِّ عَلَى النّاسِ حِجّ ا ْل َبيْ ِ‬
‫ت مَنْ ا ْ‬
‫َسبِيلً} [آل عمران‪ ،]97 :‬وقول النبي صلى ال عليه وسلم لعمران بن حصين‪( :‬صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا‪،‬‬
‫فإن لم تستطع فعلى جنب)‪.‬‬

‫فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه إلى أربعة أقسام‪:‬‬

‫قـوم ينظـرون إلـى جانـب المـر والنهـي والعبـادة والطاعـة شاهديـن للهية الرب ـ سبحانه ـ الذي أمروا أن يعبدوه‪،‬‬
‫ول ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والستعانة‪ ،‬وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة‪ ،‬فهم مع حسن‬
‫ل والتوكل عليه‬
‫قصدهم وتعظيمهم لحرمات الّ ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلن؛ لن الستعانة با ّ‬
‫واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه المور‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا قال بعض السلف‪ :‬من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الّ‪ .‬وفي الصحيحين عن عبد الّ بن عمرو؛ أن‬
‫رسول الّ صلى ال عليه وسلم صفته في التوراة‪( :‬إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للميين‪ ،‬أنت عبدي‬
‫ورسولي‪ ،‬سميتك المتوكل‪ ،‬ليس بفظ ول غليظ ول صخّاب بالسواق‪ ،‬ول يجزى بالسيئة السيئة‪ ،‬ولكن يجزى بالسيئة‬
‫صمّا وقلوبًا غُ ْلفًا بأن يقولوا‬
‫الحسنة‪ ،‬ويعفو ويغفر‪ ،‬ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء‪ ،‬فأفتح به أعينًا عميا وآذانًا ُ‬
‫ل إله إل الّ)‪.‬‬

‫ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم‪ :‬ل حول ول قوة إل بالّ‪ .‬وقد ثبت في الصحيحين عن‬
‫لّ َفهُوَ حَ ْسبُهُ} [الطلق‪ ،]3 :‬وقال‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إنها كنز من كنوز الجنة)‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َيتَ َوكّلْ عَلَى ا ِ‬
‫لّ وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ} إلى قوله‪:‬‬
‫شوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا َوقَالُوا حَسْبُنَا ا ُ‬
‫خَ‬‫ج َمعُوا َلكُمْ فَا ْ‬
‫تعالى‪ :‬الّذِينَ قَالَ َلهُمْ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ َ‬
‫ل تَخَافُوهُمْ َوخَافُونِي إِ ْن ُك ْنتُ ْم مُ ْؤ ِمنِينَ} [آل عمران‪ ،]173-175 :‬وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ـ رضي الّ‬ ‫{فَ َ‬
‫عنه ـ في قوله‪َ { :‬وقَالُوا حَ ْسُبنَا الُّ َو ِنعْمَ الْ َوكِيلُ} قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار‪ ،‬وقالها محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم حين قال لهم الناس‪ :‬إن الناس قد جمعوا لكم)‪.‬‬

‫وقسم ثان‪ :‬يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به‪ ،‬لكن على أهوائهم وأذواقهم‪ ،‬غير ناظرين إلى حقيقة‬
‫أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته‪ ،‬وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيرًا ‪ /‬ما يعملون على‬
‫الحوال التي يتصرفون بها في الوجود‪ ،‬ول يقصدون ما يرضى الرب ويحبه‪ ،‬وكثيرًا ما يغلطون‪ ،‬فيظنون أن‬
‫معصيته هي مرضاته‪ ،‬فيعودون إلى تعطيل المر والنهي ويسمون هذا حقيقة‪ ،‬ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب‬
‫السترسال معها دون مراعاة الحقيقة المرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرًا‬
‫وباطنًا‪.‬‬

‫وهؤلء كثيرًا ما يسلبون أحوالهم‪ ،‬وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق‪ ،‬بل كثير منهم يرتد عن السلم؛ لن‬
‫العاقبة للتقوى‪ ،‬ومن لم يقف عند أمر الّ ونهيه فليس من المتقين‪ ،‬فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه‪ ،‬تارة‬
‫في بدعة يظنونها شرعة‪ ،‬وتارة في الحتجاج بالقدر على المر‪ ،‬والّ ـ تعالى ـ لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة‬
‫النعام والعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى‪{ :‬وَِإذَا َفعَلُوا فَاحِشَ ًة قَالُوا وَ َ‬
‫ج ْدنَا عََل ْيهَا آبَا َءنَا وَالُّ‬
‫لّ لَ يَ ْأ ُم ُر بِالْ َفحْشَاءِ} [العراف‪ ،]28 :‬وقد ذمهم على أن حرموا ما لم يحرمه الّ‪ ،‬وأن شرعوا ما لم‬ ‫َأمَ َرنَا ِبهَا قُلْ إِنّ ا َ‬
‫ل آبَا ُؤنَا َولَ حَ ّر ْمنَا مِنْ‬ ‫لّ مَا َأشْ َر ْكنَا َو َ‬
‫ش َركُوا لَوْ شَاءَ ا ُ‬ ‫يشرعه الّ‪ ،‬وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله تعالى‪َ { :‬‬
‫سيَقُولُ اّلذِينَ أَ ْ‬
‫يءٍ} [النعام‪ ،]148 :‬ونظيرها في النحل ويس والزخرف‪ .‬وهؤلء يكون فيهم شبه من هذا وهذا‪.‬‬ ‫شَ ْ‬

‫وأما القسم الثالث‪ :‬وهو من أعرض عن عبادة الّ واستعانته به فهؤلء شر القسام‪.‬‬

‫س َتعِينُ} [الفاتحة‪ ]5 :‬وقوله‪{ :‬فَا ْ‬


‫عبُدْهُ َوتَ َوكّلْ‬ ‫ك نَ ْ‬ ‫‪/‬والقسم الرابع‪ :‬هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا {ِإيّا َ‬
‫ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ‬
‫عََليْهِ}[هود‪ ]123 :‬فاستعانوا به على طاعته‪ .‬وشهدوا أنه إلههم الذي ليجوز أن يعبد إل إياه بطاعته وطاعة رسوله‪،‬‬
‫سكَ َلهَا َومَا‬ ‫ل ُممْ ِ‬
‫حمَ ٍة فَ َ‬
‫س مِنْ رَ ْ‬‫شفِيعٌ} [النعام‪ ،]51 :‬وأنه {مَا يَ ْفتَحْ الُّ لِلنّا ِ‬ ‫وإنه ربهم الذي {َليْسَ َلهُ ْم مِ ْ‬
‫ن دُونِهِ َولِيّ َولَ َ‬
‫ل كَاشِفَ لَهُ ِإلّ هُوَ وَإِ ْن يُ ِر ْدكَ بِ َخيْ ٍر فَلَ رَادّ ِلفَضْلِهِ}[يونس‪:‬‬ ‫لّ بِضُ ّر فَ َ‬
‫سكَ ا ُ‬
‫ن َيمْسَ ْ‬‫ن َبعْدِهِ}[فاطر‪{ ،]2 :‬وَإِ ْ‬ ‫ل مُ ْرسِلَ لَ ُه مِ ْ‬ ‫سكْ فَ َ‬
‫ُيمْ ِ‬
‫سكَاتُ‬ ‫ن ُممْ ِ‬‫حمَةٍ َهلْ هُ ّ‬ ‫شفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِ َر ْ‬ ‫ن كَا ِ‬ ‫ضرّ هَلْ هُ ّ‬ ‫لّ بِ ُ‬‫ن دُونِ الِّ إِنْ أَرَا َدنِي ا ُ‬ ‫‪{ ،]107‬قُلْ َأ َفرََأ ْيتُ ْم مَا َتدْعُو َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫رَ ْح َمتِهِ} [الزمر‪.]38 :‬‬

‫ولهذا قال طائفة من العلماء‪ :‬اللتفات إلى السباب شرك في التوحيد‪ ،‬ومحو السباب أن تكون أسباب نقص في‬
‫العقل‪ ،‬والعراض عن السباب بالكلية قدح في الشرع‪ ،‬وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد‬
‫والعقل والشرع‪.‬‬

‫فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق‪ ،‬فقد غلط غلطًا شديدًا‪ ،‬وإن كان من أعيان المشائخ ـ‬
‫كصاحب [علل المقامات] وهو من أجل المشائخ‪ ،‬وأخذ ذلك عنه صاحب [محاسن المجالس] ـ وظهر ضعف حجة‬
‫من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط‪ ،‬وظنه أنه ل فائدة له في تحصيل المقصود‪ ،‬وهذه حال من جعل‬
‫الدعاء كذلك‪ ،‬وذلك بمنزلة من جعل العمال المأمور بها كذلك‪ ،‬كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من ‪ /‬السباب‬
‫التي هي عبادة وطاعة مأمور بهـا‪ ،‬فإن غلـط هـذا في ترك السباب المأمور بها التي هي داخـلة في قوله تعـالى‪{ :‬‬
‫فَا ْعُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} كغلط الول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالى‪{ :‬فَا ْعُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود‪:‬‬
‫‪.]123‬‬

‫لكن يقال‪ :‬من كان توكله على الّ ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة‪ ،‬وإن كان في حصول مستحبات‬
‫وواجبات فهو من الخاصة‪ ،‬كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه‪ ،‬ومن أعرض عن‬
‫التوكل فهو عاص لّ ورسوله‪ ،‬بل خارج عن حقيقة اليمان‪ ،‬فكيف يكون هذا المقام للخاصة‪ ،‬قال الّ تعالى‪َ { :‬وقَالَ‬
‫لّ فَلَ غَاِلبَ َلكُمْ وَإِنْ‬ ‫ن ُك ْنتُ ْم مُسِْلمِينَ} [يونس‪ ،]84 :‬وقال تعالى‪{ :‬إِ ْ‬
‫ن َينْصُ ْركُمْ ا ُ‬ ‫لّ َفعََليْهِ تَ َوكّلُوا إِ ْ‬
‫ن ُك ْنتُ ْم آ َمنْتُ ْم بِا ِ‬
‫مُوسَى يَاقَوْمِ إِ ْ‬
‫لّ فَ ْل َيتَ َوكّلْ ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ} [إبراهيم‪،]11 :‬‬ ‫ن َبعْدِهِ} [آل عمران‪ ،]160 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَعَلَى ا ِ‬ ‫خذُ ْلكُ ْم َفمَنْ ذَا اّلذِي َينْصُ ُركُ ْم مِ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫سبِي الُّ عََليْ ِه يَتَ َوكّلُ‬
‫حْ‬‫ن كَاشِفَاتُ ضُرّهِ}إلى قوله‪{ :‬قُلْ َ‬ ‫لّ بِضُرّ هَلْ هُ ّ‬
‫ن مِنْ دُونِ الِّ إِنْ َأرَادَنِي ا ُ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬قُلْ َأفَرََأ ْيتُ ْم مَا َتدْعُو َ‬
‫ا ْل ُمتَ َوكّلُونَ} [الزمر‪.]38 :‬‬

‫وقد ذكر الّ هذه الكلمة {حَسْبِي الُّ} في جلب المنفعة تارة‪ ،‬وفي دفع المضرة أخرى‪ .‬فالولى في قوله تعالى‪{ :‬وََل ْو‬
‫ن فَضْلِهِ َورَسُولُهُ} الية [التوبة‪ .]59 :‬والثانية في قوله‪{ :‬اّلذِينَ‬ ‫لّ مِ ْ‬
‫سيُ ْؤتِينَا ا ُ‬
‫س ُبنَا الُّ َ‬‫َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ َورَسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ‬
‫س َقدْ َج َمعُوا َل ُك ْم فَا ْخشَوْهُ ْم َفزَادَهُمْ إِيمَانًا َوقَالُوا َح ْسُبنَا الُّ َو ِنعْمَ الْ َوكِيلُ} [آل عمران‪ ،]173 :‬وفي قوله‬
‫قَالَ َلهُمْ النّاسُ إِنّ النّا َ‬
‫ك ِبنَصْرِهِ} [النفال‪ ،]26 :‬وقوله‪{ :‬وَلَوْ َأّنهُمْ َرضُوا مَا آتَاهُمْ الُّ‬ ‫س َبكَ الُّ هُوَ اّلذِي َأّيدَ َ‬ ‫حْ‬ ‫خدَعُوكَ َفإِنّ َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن يُرِيدُوا أَ ْ‬
‫لّ مِنْ َفضْلِهِ وَ َرسُولُهُ}‪ ،‬يتضمن بالرضا والتوكل‪.‬‬ ‫سيُ ْؤتِينَا ا ُ‬
‫س ُبنَا الُّ َ‬
‫حْ‬‫وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا َ‬
‫والرضا والتوكل يكتنفان المقدور‪ ،‬فالتوكل قبل وقوعه‪ ،‬والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫يقول في الصلة‪( :‬اللّهم‪ ،‬بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي‪ ،‬وتوفني إذا كانت الوفاة‬
‫خيرًا لي‪ ،‬اللّهم‪ ،‬إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة‪ ،‬وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا‪ ،‬وأسألك القصد في‬
‫الفقر والغنى‪ ،‬وأسألك نعيمًا ل ينفد‪ ،‬وأسألك قرة عين ل تنقطع‪ ،‬اللّهم‪ ،‬إني أسألك الرضا بعد القضاء‪ ،‬وأسألك برْد‬
‫العيش بعد الموت‪ ،‬وأسألك لذة النظر إلى وجهك‪ ،‬وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ول فتنة مضلة‪،‬‬
‫اللّهم‪ ،‬زينا بزينة اليمان‪ ،‬واجعلنا هداة مهتدين) رواه أحمد والنسائي من حديث عمار بن ياسر‪.‬‬

‫وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لحقيقة الرضا؛ ولهذا كان طائفة من المشائخ يعزمون على الرضا‬
‫قبل وقوع البلء‪ ،‬فإذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره كما قال تعالى‪{ :‬وَلَ َق ْد ُك ْنتُمْ ت َمنّوْن‬
‫ن مَا لَ‬ ‫ن تَلْقَ ْو ُه فَ َقدْ رََأ ْي ُتمُوهُ وََأ ْنتُ ْم تَنْظُرُونَ} [آل عمران‪ ،]143 :‬وقال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِينَ َآ َمنُوا لِ َم تَقُولُو َ‬‫ن َقبْلِ أَ ْ‬ ‫ت مِ ْ‬
‫ا ْلمَوْ َ‬
‫لّ يُحِبّ اّلذِي َن يُقَاتِلُو َن فِي َسبِيلِهِ صَفّا كََأّنهُ ْم بُنيَا ٌن مَ ْرصُوصٌ} [الصف‪2- :‬‬
‫ع ْندَ الِّ أَنْ َتقُولُوا مَا لَ تَ ْفعَلُونَ ‪ .‬إِنّ ا َ‬
‫ن ‪َ .‬كبُ َر مَ ْقتًا ِ‬‫تَ ْفعَلُو َ‬
‫‪ ]4‬نزلت هذه الية لما قالوا‪ :‬لو علمنا أي العمال أحب إلى الّ لعملناه‪ ،‬فأنزل الّ ـ سبحانه وتعالى ـ آية الجهاد‪،‬‬
‫فكرهه من كرهه‪.‬‬

‫ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلء‪ ،‬بأن يوجب على نفسه ما ل يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك‪ ،‬أو‬
‫يطلب ولية‪ ،‬أو يقدم على بلد فيه طاعون‪ .‬كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫نهى عن النذر‪ ،‬وقال‪( :‬إنه ل يأتي بخير‪ ،‬وإنما يستخرج به من البخيل)‪ ،‬وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد‬
‫سمُرَة‪( :‬ل تسأل المارة‪ ،‬فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكِ ْلتَ إلىها‪ ،‬وإن أعطيتها من غير مسألة أعِنْت‬‫الرحمن بن َ‬
‫عليها‪ ،‬وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك)‪ .‬وثبت عنه في الصحيحين‬
‫أنه قال في الطاعون‪( :‬إذا سمعتم به بأرض فل تقدموا عليه‪ ،‬وإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تخرجوا فرارًا منه)‪،‬‬
‫وثبت عنه في الصحيحين أنه قال‪( :‬ل تتمنوا لقاء العدو واسألوا الّ العافية‪ ،‬ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا‪ ،‬واعلموا أن‬
‫الجنة تحت ظلل السيوف) وأمثال ذلك مما يقتضي أن النسان ل ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء ويحرم‬
‫عليه أشياء فيبخل بالوفاء‪ ،‬كما يفعل كثير ممن يعاهد الّ عهودًا على أمور‪ ،‬وغالب هؤلء يبتلون بنقض العهود‪.‬‬

‫ويقتضي أن النسان إذا ابتلى فعليه أن يصبر ويثبت ول ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات‪.‬‬
‫ولبد في جميع ذلك من ‪ /‬الصبر؛ ولهذا كان الصبر واجبًا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات‪ ،‬وترك المحظورات‪.‬‬
‫ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها‪ ،‬والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى الّ عنه‪.‬‬

‫صبْرِ وَالصّلَ ِة‬ ‫وقد ذكر الّ الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا‪ ،‬وقرنه بالصلة في قوله تعالى‪{ :‬وَا ْ‬
‫س َتعِينُوا بِال ّ‬
‫لّ مَعَ الصّابِرِينَ} [البقرة‪ ،]153 :‬وقوله‪{ :‬‬ ‫صبْرِ وَالصّلَةِ إِنّ ا َ‬ ‫شعِينَ} [البقرة‪{ ،]45 :‬ا ْ‬
‫س َتعِينُوا بِال ّ‬ ‫وَِإّنهَا َل َكبِيرَةٌ ِإلّ عَلَى ا ْلخَا ِ‬
‫سنِينَ} [هود‪{ ]115 ،114 :‬‬ ‫ل يُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْ ِ‬‫لّ َ‬ ‫ط َرفِي ال ّنهَارِ وَزَُلفًا مِنْ الّليْلِ}إلى قوله‪{ :‬وَا ْ‬
‫صبِ ْر َفإِنّ ا َ‬ ‫وََأقِمْ الصّلَةَ َ‬
‫س َتغْفِرْ‬
‫حقّ وَا ْ‬
‫عدَ الِّ َ‬ ‫شمْسِ َو َقبْلَ غُرُوبِهَا} [طه‪{ ،]130 :‬فَا ْ‬
‫صبِرْ إِنّ وَ ْ‬ ‫ح ْمدِ َرّبكَ َقبْلَ طُلُوعِ ال ّ‬
‫ح بِ َ‬
‫سبّ ْ‬
‫صبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ َ‬ ‫فَا ْ‬
‫ِل َذنْ ِبكَ}الية [غافر‪.]55 :‬‬

‫صبَرُوا َوكَانُوا بِآيَا ِتنَا‬ ‫وجَعلَ المَامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله‪{ :‬وَ َ‬
‫جعَ ْلنَا ِم ْنهُمْ َأ ِئمّةً َي ْهدُونَ ِبَأمْ ِرنَا َلمّا َ‬
‫يُو ِقنُونَ} [السجدة‪ ،]24 :‬فإن الدين كله علم بالحق وعمل به‪ ،‬والعمل به لبد فيه من الصبر‪ ،‬بل وطلب علمه يحتاج‬
‫إلى الصبر‪ .‬كما قال معاذ بن جبل ـ رضي الّ عنه‪ :‬علىكم بالعلم فإن طلبه لّ عبادة‪ ،‬ومعرفته خشية‪ ،‬والبحث عنه‬
‫جهاد‪ ،‬وتعلىمه لمن ل يعلمه صدقة‪ ،‬ومذاكرته تسبيح‪ ،‬به يعرف الّ ويعبد‪ ،‬وبه يمجد الّ ويوحد‪ ،‬يرفع الّ بالعلم‬
‫أقوامًا يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم‪ ،‬وينتهون إلى رأيهم‪.‬‬

‫فجعل البحث عن العلم من الجهاد‪ ،‬ولبد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا ‪ /‬قال تعالى‪{ :‬وَا ْلعَصْرِ‪ .‬إِنّ الِْنسَانَ لَفِي خُ ْ‬
‫سرٍ ‪ِ .‬إلّ‬
‫صبْرِ} [سورة العصر]‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬وَا ْذكُرْ ِ‬
‫عبَادَنَا إبْرَاهِيمَ‬ ‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ َوتَوَاصَوْا بِا ْلحَقّ َوتَوَاصَوْا بِال ّ‬
‫اّلذِينَ آ َمنُوا وَ َ‬
‫وَإِ ْسحَاقَ َو َيعْقُوبَ ُأوْلِي ا َلْ ْيدِي وَا َلْبْصَارِ} [ص‪.]45 :‬‬

‫فالعلم النافع هو أصل الهدى‪ ،‬والعمل بالحق هو الرشاد‪ ،‬وضد الول الضلل‪ ،‬وضد الثاني الغي‪ ،‬فالضلل العمل‬
‫بغير علم‪ ،‬والغي اتباع الهوى‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وَالنّجْمِ ِإذَا هَوَى ‪ .‬مَا ضَلّ صَا ِحُبكُمْ َومَا غَوَى} [النجم‪ ،]2 ،1 :‬فل ينال الهدى‬
‫إل بالعلم‪ ،‬ول ينال الرشاد إل بالصبر‪ ،‬ولهذا قال على‪ :‬أل إن الصبر من اليمان بمنزلة الرأس من الجسد ـ فإذا‬
‫انقطع الرأس بان الجسد ـ ثم رفع صوته فقال‪ :‬أل ل إيمان لمن ل صبر له‪.‬‬

‫وأما الرضا‪ ،‬فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب المام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء‪ :‬هل هو واجب أو‬
‫مستحب ؟ على قولين‪ :‬فعلى الول يكون من أعمال المقتصدين‪ ،‬وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين‪ .‬قال عمـر‬
‫بن عبـد العزيز‪ :‬الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن‪ .‬وقد روى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لبن‬
‫عباس‪ " :‬إن استطعت أن تعمل لّ بالرضا مع اليقين فافعل‪ ،‬فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا"‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا لم يجئ في القرآن إل مدح الراضين ل إيجاب ذلك وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب‪،‬‬
‫كالمرض والفقر والزلزال‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وَالصّابِرِي َن فِي ا ْلبَ ْأسَاءِ وَالضّرّاءِ وَحِينَ ا ْلبَ ْأسِ}[البقرة‪ ،]177 :‬وقال تعالى‪:‬‬
‫{َأمْ حَ ِس ْبتُمْ أَ ْن َتدْخُلُوا الْ َجنّةَ وََلمّا َي ْأتِكُ ْم َمثَلُ اّلذِينَ خَلَوْا مِ ْن َقبِْلكُ ْم مَ ّس ْتهُمْ ا ْلبَ ْأسَاءُ وَالضّرّاءُ وَزُ ْلزِلُوا} [البقرة‪ ،]214 :‬فالبأساء في‬
‫الموال‪ ،‬والضراء في البدان‪ ،‬والزلزال في القلوب‪.‬‬

‫وأما الرضا بما أمر الّ به‪ ،‬فأصله واجب‪ ،‬وهو من اليمان كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪:‬‬
‫(ذاق طعم اليمان من رضى بالّ ربًا‪ ،‬وبالسلم دينًا‪ ،‬وبمحمد نبيًا)‪ ،‬وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء الّ ـ‬
‫سّلمُوا‬
‫ضيْتَ َويُ َ‬ ‫سهِمْ حَرَجًا ِممّا قَ َ‬
‫جدُوا فِي أَنفُ ِ‬
‫ل يَ ِ‬
‫شجَ َر َب ْينَهُ ْم ثُ ّم َ‬‫ح ّكمُوكَ فِيمَا َ‬ ‫حتّى يُ َ‬
‫ل يُ ْؤمِنُونَ َ‬
‫ك َ‬‫تعالى ـ قال تعالى‪{ :‬فَلَ وَ َرّب َ‬
‫تَسْلِيمًا}[النساء‪ ،]65 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََلوْ َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْسُبنَا الُّ} الية [التوبة‪ ،]59 :‬وقال‬
‫ل ِمنْهُمْ‬ ‫عمَاَل ُهمْ} [محمد‪ ،]28 :‬وقال تعالى‪َ { :‬م َن َعهُمْ أَ ْ‬
‫ن تُ ْقبَ َ‬ ‫حبَطَ أَ ْ‬
‫خطَ الَّ َوكَرِهُوا رِضْوَانَهُ َفأَ ْ‬ ‫تعالى‪{ :‬ذَِل َ‬
‫ك بَِأّنهُ ْم ا ّتبَعُوا مَا أَسْ َ‬
‫نَفَقَاُتهُمْ ِإلّ َأّنهُ ْم كَفَرُوا بِالِّ َوبِرَسُولِهِ َو َل يَ ْأتُونَ الصّلَةَ ِإلّ وَ ُه ْم كُسَالَى َو َل يُنفِقُونَ ِإلّ وَ ُه ْم كَارِهُونَ}[التوبة‪.]54 :‬‬

‫ومن النوع الول‪ :‬ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن سعد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪_ :‬من سعادة ابن‬
‫آدم استخارته ‪ /‬لّ‪ ،‬ورضاه بما قسم الّ له‪ ،‬ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته لّ‪ ،‬وسخطه بما يقسم الّ له)‪.‬‬

‫وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬فأكثر العلماء يقولون‪ :‬ل يشرع الرضا بها‪ ،‬كما ل تشرع‬
‫لّ لَ يُ ِحبّ ا ْلفَسَادَ} [‬‫محبتها‪ ،‬فإن الّ ـ سبحانه ـ ل يرضاها ول يحبها‪ ،‬وإن كان قد قدرها وقضاها كما قال سبحانه‪{ :‬وَا ُ‬
‫ل يَرْضَى مِنْ‬ ‫ن مَا َ‬ ‫ل يَرْضَى ِلعِبَادِهِ ا ْل ُكفْرَ}[الزمر‪ ،]7 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَهُ َو َم َعهُمْ ِإذْ ُي َبيّتُو َ‬ ‫البقرة‪ ،]205 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ا ْلقَوْلِ} [النساء‪ ،]108 :‬بل يسخطها كما قال تعالى‪{ :‬ذَِل َ‬
‫ك بَِأّنهُ ْم اّتبَعُوا مَا أَسْ َخطَ الَّ َوكَرِهُوا رِضْوَانَهُ َفأَ ْحبَطَ أَ ْعمَاَل ُهمْ} [‬
‫محمد‪.]28 :‬‬

‫وقالت طائفة‪ :‬ترضى من جهة كونها مضافة إلى الّ خلقًا‪ ،‬وتسخط من جهة كونها مضافة إلى العبد فعلً وكسبًا‪ .‬وهذا‬
‫القول ل ينافي الذي قبله‪ ،‬بل هما يعودان إلى أصل واحد‪ .‬وهو ـ سبحانه ـ إنما قدر الشياء لحكمة‪ ،‬فهي باعتبار تلك‬
‫الحكمة محبوبة مرضية‪ ،‬وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة؛ إذ الشىء الواحد يجتمع فيه وصفان يحب من‬
‫أحدهما ويكره من الخر‪ ،‬كما في الحديث الصحيح‪( :‬ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي‬
‫المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه)‪.‬‬

‫وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي هو وصف الّ وفعله ل بالمقضي الذي ‪ /‬هو مفعوله‪ ،‬فهو خروج منه عن مقصود‬
‫الكلم‪ ،‬فإن الكلم ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب ـ تعالى ـ من صفاته وأفعاله‪ ،‬وإنما الكلم في الرضا‬
‫بمفعولته‪ .‬والكلم فيما يتعلق بهذا قد بيناه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد‪ ،‬حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا؛ولهذا جاء في الكتاب‬
‫والسنة حمد الّ على كل حال‪ ،‬وذلك يتضمن الرضا بقضائه‪ ،‬وفي الحديث‪( :‬أول من يدعى إلى الجنة‪ :‬الحمادون‬
‫الذين يحمدون الّ في السراء والضراء)‪ ،‬وروى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان إذا أتاه المر يسره قال‪( :‬‬
‫الحمد لّ الذي بنعمته تتم الصالحات)‪ ،‬وإذا أتاه المر الذي يسوؤه قال‪( :‬الحمد لّ على كل حال)‪ .‬وفي مسند المام‬
‫أحمد عن أبي موسى الشعري عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬إذا قبض ولد العبد يقول الّ لملئكته‪ :‬أقبضتم ولد‬
‫عبدي؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيقول‪ :‬أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيقول‪ :‬ماذا قال عبدي ؟ فيقولون‪ :‬حمدك واسترجع‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة‪ ،‬وسموه بيت الحمد)‪ ،‬ونبينا محمد صلى ال عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد‪،‬‬
‫وأمته هم الحمادون الذين يحمدون الّ على السراء والضراء‪ .‬والحمد على الضراء يوجبه مشهدان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬علم العبد بأن الّ ـ سبحانه ـ مستوجب لذلك‪ ،‬مستحق له لنفسه‪ ،‬فإنه أحسن كل شيء خلقه‪ ،‬وأتقن كل شيء‪،‬‬
‫وهو العلىم الحكيم‪ ،‬الخبير الرحيم‪.‬‬

‫‪/‬والثاني‪ :‬علمه بأن اختيار الّ لعبده المؤمن‪ ،‬خير من اختياره لنفسه‪ ،‬كما روى مسلم في صحيحه‪ ،‬وغيره عن النبي‬
‫ل للمؤمن قضاء إل كان خيرًا له‪ ،‬وليس ذلك لحد إل‬‫صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬والذي نفسي بيده ل يقضي ا ّ‬
‫للمؤمن‪ ،‬إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له‪ ،‬وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)‪.‬‬

‫ل للمؤمن الذي يصبر على البلء ويشكر على السراء فهو‬


‫فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن كل قضاء يقضيه ا ّ‬
‫صبّارٍ َشكُورٍ} [إبراهيم‪ ،5 :‬لقمان‪ ،31 :‬سبأ‪ ،19 :‬الشورى‪]33 :‬‬
‫ك لَيَاتٍ ِلكُلّ َ‬ ‫خير له‪ .‬قال تعالى‪{ :‬إِ ّ‬
‫ن فِي ذَِل َ‬
‫وذكرهما في أربعة مواضع من كتابه‪.‬‬

‫فأما من ل يصبر على البلء‪ ،‬ول يشكر على الرخاء‪ ،‬فل يلزم أن يكون القضاء خيرًا له؛ ولهذا أجيب من أورد هذا‬
‫على ما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد ل ما فعله العبد‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{ :‬مّا أَصَا َبكَ مِنْ حَ َسنَ ٍة َفمِنَ الّ} أي‪ :‬من‬
‫سّيئَاتِ َلعَّلهُمْ‬ ‫سكَ}[النساء‪ ]79 :‬أي‪ :‬من ضراء‪ ،‬وكقوله تعالى‪َ { :‬وبَلَ ْونَاهُ ْم بِالْحَ َ‬
‫سنَاتِ وَال ّ‬ ‫ن نَ ْف ِ‬ ‫سراء‪َ { ،‬ومَا أَصَا َبكَ مِنْ َ‬
‫سّيئَةٍ َفمِ ْ‬
‫يَرْ ِجعُونَ} [العراف‪ ]168 :‬أي‪ :‬بالسراء والضراء‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و َنبْلُوكُ ْم بِالشّرّ وَالْ َخيْ ِر ِف ْتنَةً} [النبياء‪،]35 :‬‬
‫ص ْبكُمْ َسّيئَ ٌة يَفْ َرحُوا ِبهَا} [آل عمران‪ ،]120 :‬فالحسنات والسيئات يراد بها‬ ‫ن تُ ِ‬
‫سؤْهُمْ وَإِ ْ‬‫سنَةٌ تَ ُ‬‫حَ‬‫سكُمْ َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬إِ ْ‬
‫ن َتمْسَ ْ‬
‫المسار والمضار‪ ،‬ويراد بها الطاعات والمعاصي‪.‬‬

‫والجواب الثاني‪ :‬أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور‪ .‬والذنوب تنقص اليمان‪ ،‬فإذا تاب العبد أحبه الّ‪ ،‬وقد ترتفع‬
‫درجته بالتوبة‪ .‬قال بعض السلف‪ :‬كان داود بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة‪ ،‬فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد‬
‫بن جبير‪ :‬إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار‪ ،‬وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة‪ .‬وذلك أنه يعمل الحسنة‬
‫فتكون نصب عينه ويعجب بها‪ ،‬ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر الّ ويتوب إلىه منها‪ .‬وقـد ثبـت في‬
‫الصحيـح عـن النبـي صلى ال عليه وسلم أنـه قـال‪( :‬العمـال بالخواتيم)‪ .‬والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع‬
‫عنه بعشرة أسباب‪:‬‬

‫أن يتوب فيتوب الّ عليه‪ ،‬فإن التائب من الذنب كمن ل ذنب له‪ ،‬أو يستغفر فيغفر له‪ ،‬أو يعمل حسنات تمحوها‪ ،‬فإن‬
‫الحسنات يذهبن السيئات‪ ،‬أو يدعوا له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيًا وميتًا‪ ،‬أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما‬
‫ينفعه الّ به‪ ،‬أو يشفع فيه نبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو يبتليه الّ ـ تعالى ـ في الدنيا بمصائب تكفر عنه‪ ،‬أو‬
‫يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه‪ ،‬أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه‪ ،‬أو يرحمه أرحم‬
‫الراحمين‪.‬‬

‫‪/‬فمن أخطأته هذه العشرة‪ ،‬فل يلومن إل نفسه‪ ،‬كما قال ـ تعالى ـ فيما يروي عنه رسوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬يا‬
‫عبادي‪ ،‬إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها‪ ،‬فمن وجد خيرًا فليحمد الّ‪ ،‬ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل‬
‫نفسه)‪.‬‬

‫فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له إذا كان صبارًا شكورًا‪ ،‬أو كان قد استخار الّ وعلم أن من سعادة ابن آدم‬
‫استخارته لّ ورضاه بما قسم الّ له‪ ،‬كان قد رضى بما هو خيرله‪ ،‬وفي الحديث الصحيح عن على ـ رضي الّ عنه ـ‬
‫قال‪( :‬إن الّ يقضي بالقضاء‪ ،‬فمن رضى فله الرضا‪ ،‬ومن سخط فله السخط)‪ .‬ففي هذا الحديث الرضا والستخارة‪،‬‬
‫فالرضا بعد القضاء والستخارة قبل القضاء‪ ،‬وهذا أكمل من الضراء والصبر؛ فلهذا ذكر في ذاك الرضا‪ ،‬وفي هذا‬
‫الصبر‪.‬‬

‫ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيرًا له‪ ،‬فكيف مع الرضا؟ ولهذا جاء في الحديث‪( :‬المصاب من حرم الثواب) في‬
‫ل يقول‪ :‬يا آل بيت رسول الّ‬ ‫الثر الذي رواه الشافعي في مسنده‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم لما مات سمعوا قائ ً‬
‫صلى ال عليه وسلم إن في الّ عزاء من كل مصيبة‪ ،‬وخلفًا من كل هالك‪ ،‬ودركًا من كل فائت‪ ،‬فبالّ فثقوا‪ ،‬وإياه‬
‫فارجوا‪ ،‬فإن المصاب من حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط‪ ،‬مع أنه ل فائدة فيه‪ ،‬فقد يكون فيه‬
‫مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه الّ‪.‬‬

‫‪/‬لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب‪ ،‬وذلك ل ينافى الرضا‪ ،‬بخلف البكاء عليه لفوات حظه‬
‫منه‪ ،‬وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى ال عليه وسلم لما بكى على الميت وقال‪( :‬إن هذه رحمة جعلها الّ في قلوب‬
‫عباده‪ ،‬وإنما يرحم الّ من عباده الرحـماء)‪ ،‬فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه ل لرحمة الميت‪ ،‬فإن الفضيل بن‬
‫عياض لما مات ابنه على فضحـك وقال‪ :‬رأيت أن الّ قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى الّ به‪ ،‬حاله حال حسن‬
‫بالنسبة إلى أهل الجزع‪ .‬وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد الّ ـ تعالى ـ كحال النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫صبْرِ َوتَوَاصَوْا بِا ْلمَرْ َحمَةِ} [البلد‪ ،]17 :‬فذكر ـ سبحانه ـ‬
‫صوْا بِال ّ‬
‫ن آ َمنُوا َوتَوَا َ‬ ‫فهذا أكمل‪ .‬كـما قال تعالى‪{ :‬ثُ ّم كَا َ‬
‫ن مِنْ اّلذِي َ‬
‫التواصي بالصبر والمرحمة‪.‬‬

‫والناس أربعة أقسام‪ :‬منهم من يكون فيه صبر بقسوة‪ .‬ومنهم مـن يكـون فيه رحمة بجزع‪ .‬ومنهم من يكون فيه القسوة‬
‫والجزع‪ .‬والمؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس‪.‬‬

‫وقد ظن طائفة من المصنفين في هذا الباب أن الرضا عن الّ من توابع المحبة له‪ ،‬وهذا إنما يتوجه على المأخذ الول‬
‫وهو الرضا عنه لستحقاقه ذلك بنفسه‪ ،‬مع قطع العبد النظر عن حظه‪ ،‬بخلف المأخذ الثاني وهو‪ :‬الرضا لعلمه بأن‬
‫المقضي خير له‪ ،‬ثم إن المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه‪ ،‬لكن قد يقال في تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه‪.‬‬
‫إن المحبة ل نوعان‪ / :‬محبة له نفسه‪ ،‬ومحبة له لما فيه من الحسان‪ ،‬وكذلك الحمد له نوعان‪ :‬حمد له على ما‬
‫يستحقه نفسه‪ ،‬وحمد على إحسانه إلى عبده‪ ،‬فالنوعان للرضا كالنوعين للمحبة‪.‬‬

‫وأما الرضا به وبدينه وبرسوله‪ ،‬فذلك من حظ المحبة‪ ،‬ولهذا ذكر النبي صلى ال عليه وسلم ذوق طعم اليمان‪ ،‬كما‬
‫ذكر في المحبة وجود حلوة اليمان‪ .‬وهذان الحديثان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق اليماني‬
‫الشرعي‪ ،‬دون الضللي البدعي‪ .‬ففي صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ذاق طعم اليمان من‬
‫رضي بالّ ربا وبالسلم دينا وبمحمد نبيا)‪ ،‬وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ثلث من كن‬
‫فيه وجد بهن حلوة اليمان‪ :‬أن يكون الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ‪ ،‬ومن‬
‫كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه‪ ،‬كما يكره أن يلقى في النار)‪ .‬وهذا مما يبين من الكلم على المحبة‬
‫فنقول‪:‬‬

‫فَصــل‬

‫محبة الّ؛ بل محبة الّ ورسوله من أعظم واجبات اليمان وأكبر أصوله وأجل قواعده‪ ،‬بل هي أصل كل عمل من‬
‫أعمال اليمان والدين‪ ،‬كما أن ‪ /‬التصديق به أصل كل قول من أقوال اليمان والدين‪ ،‬فإن كل حركة في الوجود إنما‬
‫تصدر عن محبة‪ :‬إما عن محبة محمودة‪ ،‬أو عن محبة مذمومة‪ ،‬كما قد بسطنا ذلك في قاعدة المحبة من القواعد‬
‫الكبار‪.‬‬

‫فجميع العمال اليمانية الدينية ل تصدر إل عن المحبة المحمودة‪ .‬وأصل المحبة المحمودة هي محبة الّ ـ سبحانه‬
‫ل ل يكون عملً صالحًا‪ ،‬بل جميع العمال اليمانية الدينية ل‬‫وتعالى ـ إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند ا ّ‬
‫تصدر إل عن محبة الّ‪ ،‬فإن الّ ـ تعالى ـ ل يقبل من العمل إل ما أريد به وجهه‪ ،‬كما ثبت في الصحيح عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬يقول الّ تعالى‪ :‬أنا أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬فمن عمل عملً فأشرك فيه غيري فأنا‬
‫منه بريء وهو كله للذي أشرك)‪ ،‬وثبت في الصحيح حديث الثلثة الذين هم أول من تسعر بهم النار‪ :‬القارئ‬
‫المرائي‪ ،‬والمجاهد المرائي‪ ،‬والمتصدق المرائي‪.‬‬

‫بل إخلص الدين لّ هو الدين الذي ل يقبل الّ سواه‪ ،‬وهو الذي بعث به الولين والخرين من الرسل‪ ،‬وأنزل به‬
‫جميع الكتب‪ ،‬واتفق عليه أئمة أهل اليمان‪ ،‬وهذا هو خلصة الدعوة النبوية‪ ،‬وهو قطب القرآن الذي تدور عليه‬
‫رحاه‪.‬‬
‫لّ ُمخْلِصًا لَ ُه الدّينَ ‪َ .‬ألَ لِّ الدّينُ الْخَالِصُ} [‬ ‫عُبدْ ا َ‬ ‫ق فَا ْ‬‫حّ‬ ‫ب بِالْ َ‬
‫حكِيمِ ‪ِ .‬إنّا أَنزَ ْلنَا إَِل ْيكَ ا ْل ِكتَا َ‬
‫ب مِنْ الِّ ا ْلعَزِيزِ الْ َ‬‫قال تعالى‪َ { :‬تنْزِيلُ ا ْل ِكتَا ِ‬
‫ت لَِنْ‬
‫لّ مُخِْلصًا لَهُ الدّينَ ‪ .‬وَُأمِرْ ُ‬ ‫الزمر‪1 :‬ـ ‪ ،]3‬والسورة كلها عامتها في هذا المعنى‪ ،‬كقوله‪{ :‬قُلْ ِإنّي ُأمِرْتُ أَنْ أَ ْ‬
‫عُبدَ ا َ‬
‫خلِصًا لَ ُه دِينِي} [الزمر‪ ،]14 :‬إلى قوله‪{ :‬أََليْسَ الُّ‬ ‫َأكُونَ أَوّلَ ا ْلمُسِْلمِينَ} [الزمر‪ ]12 ،11 :‬إلى قوله‪{ / :‬قُلْ الَّ أَ ْ‬
‫عُبدُ مُ ْ‬
‫لّ ِبضُرّ هَلْ هُنّ‬ ‫ن دُونِ الِّ إِنْ أَرَادَنِي ا ُ‬ ‫ن مِنْ دُونِهِ} [الزمر‪ ]36 :‬إلى قوله‪َ{ :‬أفَرََأ ْيتُ ْم مَا َتدْعُونَ مِ ْ‬ ‫خ ّوفُو َنكَ بِاّلذِي َ‬
‫ع ْبدَهُ َويُ َ‬
‫ِبكَافٍ َ‬
‫ن ‪ُ .‬قلْ لِّ‬ ‫ل َيعْقِلُو َ‬
‫ش ْيئًا َو َ‬
‫ل َيمِْلكُونَ َ‬
‫خذُوا مِنْ دُونِ الِّ شُ َفعَا َء قُلْ أَ َولَ ْو كَانُوا َ‬ ‫شفَاتُ ضُرّهِ} الية [الزمر‪ ]38 :‬إلى قوله‪َ{ :‬أ ْم اتّ َ‬ ‫كَا ِ‬
‫ن بِالْخِ َرةِ وَِإذَا ذُكِرَ‬
‫ن لَ يُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫ت قُلُوبُ اّلذِي َ‬
‫شمَأَزّ ْ‬
‫حدَهُ ا ْ‬
‫جعُونَ ‪ .‬وَِإذَا ُذكِرَ الُّ وَ ْ‬
‫ض ثُمّ إَِليْ ِه تُرْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْ ْر ِ‬
‫جمِيعًا لَ ُه مُ ْلكُ ال ّ‬
‫الشّفَاعَةُ َ‬
‫لّ تَ ْأمُرُو َننِي أَ ْعُبدُ َأّيهَا الْجَاهِلُونَ}[الزمر‪]64 :‬‬ ‫س َتبْشِرُونَ} [الزمر‪ 43 :‬ـ ‪ ]45‬إلى قولـه‪{ :‬قُلْ َأ َف َغيْرَ ا ِ‬ ‫ن دُونِهِ ِإذَا هُ ْم يَ ْ‬
‫اّلذِينَ مِ ْ‬
‫لّ فَا ْعُبدْ َوكُ ْن مِنْ الشّاكِرِينَ} [الزمر‪.]66 :‬‬ ‫إلى قوله‪{ :‬بَلْ ا َ‬

‫ك ِمنْهُمْ ا ْلمُخْلَصِينَ} [ص‪،82 :‬‬ ‫عبَا َد َ‬ ‫وقال تعالى فيما قصه من قصة آدم وإبليس أنه قال‪َ { :‬ف ِبعِ ّز ِتكَ لَُغْ ِو َيّنهُمْ أَ ْ‬
‫ج َمعِينَ ‪ِ .‬إلّ ِ‬
‫ن ا ّت َب َعكَ مِنْ ا ْلغَاوِينَ} [الحجر‪ ،]42 :‬وقال‪ِ{ :‬إنّهُ َليْسَ لَهُ سُلْطَانٌ‬ ‫عَليْهِمْ سُلْطَانٌ ِإلّ مَ ْ‬ ‫‪ ،]83‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ ِ‬
‫عبَادِي َليْسَ َلكَ َ‬
‫عَلَى اّلذِي َن آ َمنُوا وَعَلَى َربّهِ ْم َيتَ َوكّلُونَ ‪ِ .‬إّنمَا سُ ْلطَانُهُ عَلَى اّلذِي َن َيتَوَلّ ْونَهُ وَاّلذِي َن هُ ْم بِ ِه مُشْ ِركُونَ} [النحل‪ ،]100 ،99 :‬فبين أن‬
‫عنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّهُ‬ ‫سلطان الشيطان وإغواءه إنما هو لغير المخلصين؛ ولهذا قال في قصة يوسف‪َ { :‬كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َ‬
‫عبَا ِدنَا ا ْل ُمخْلَصِينَ}[يوسف‪ ،]24 :‬وأتباع الشيطان هم أصحاب النار‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬لَمْلَنّ َ‬
‫ج َهنّ َم ِم ْنكَ َو ِممّنْ َت ِبعَكَ‬ ‫مِنْ ِ‬
‫ِمنْهُمْ َأ ْج َمعِينَ} [ص‪.]85 :‬‬

‫ك بِهِ َويَغْ ِف ُر مَا دُو َن ذَِلكَ ِلمَ ْن يَشَاءُ} [النساء‪ ]48 :‬وهذه الية في حق من لم يتب؛‬ ‫ن يُشْ َر َ‬ ‫ل َيغْفِرُ أَ ْ‬ ‫وقد قال سبحانه‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫لّ َ‬
‫ولهذا خصص الشرك‪ ،‬وقيد ما ‪ /‬سواه بالمشيئة‪ ،‬فأخبر أنه ل يغفر الشرك لمن لم يتب منه‪ ،‬وما دونه يغفره لمن‬
‫لّ َيغْفِ ُر ال ّذنُوبَ َجمِيعًا}[الزمر‪]53 :‬‬
‫حمَةِ الِّ إِنّ ا َ‬
‫ل تَ ْقنَطُوا مِنْ رَ ْ‬
‫سهِ ْم َ‬
‫علَى َأنْ ُف ِ‬
‫عبَادِي اّلذِينَ أَسْ َرفُوا َ‬ ‫يشاء‪ .‬وأما قوله‪{ :‬قُ ْ‬
‫ل يَا ِ‬
‫فتلك في حق التائبين؛ ولهذا عم وأطلق‪ ،‬وسياق الية يبين ذلك مع سبب نزولها‪.‬‬

‫وقد أخبر ـ سبحانه ـ أن الولين والخرين إنما أمروا بذلك في غير موضع كالسورة التي قرأها النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم على أُ َبيّ لما أمره الّ ـ تعالى ـ أن يقرأ عليه قراءة إبلغ وإسماع بخصوصه فقال‪َ { :‬ومَا تَ َفرّقَ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَابَ‬
‫لّ مُ ْخلِصِينَ لَ ُه الدّينَ ُحنَفَاءَ}الية [البينة‪.]5 ،4 :‬‬
‫ل مِنْ َب ْعدِ مَا جَا َء ْتهُمْ ا ْل َبّينَةُ ‪َ .‬ومَا ُأمِرُوا ِإلّ ِل َي ْعبُدُوا ا َ‬
‫ِإ ّ‬

‫ل نُوحِي إَِليْهِ َأنّهُ‬ ‫وهذا حقيقة قول ل إله إل الّ‪ ،‬وبذلك بعث جميع الرسل‪ .‬قال الّ تعالى‪َ { :‬ومَا َأرْسَ ْلنَا مِ ْ‬
‫ن َقبِْلكَ مِنْ َرسُولٍ ِإ ّ‬
‫لَ إِلَهَ ِإلّ َأنَا فَا ْعُبدُونِي} [النبياء‪ ،]25 :‬وقال‪{ :‬وَا ْسأَ ْل مَنْ أَ ْرسَ ْلنَا مِ ْن َقبِْلكَ مِنْ رُ ُسِلنَا أَ َجعَ ْلنَا مِ ْن دُونِ الرّ ْحمَانِ آِلهَ ًة ُي ْعبَدُونَ} [‬
‫الزخرف‪ ،]45 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََل َقدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ َرسُولً أَنْ اُ ْعبُدُوا الَّ وَا ْج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ} [النحل‪.]36 :‬‬

‫لّ مَا َل ُك ْم مِنْ ِإلَهٍ َغيْرُهُ} [العراف‪:‬‬ ‫عُبدُوا ا َ‬‫وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الصل كما قال نوح ـ عليه السلم‪{ :‬ا ْ‬
‫لّ مَا َلكُ ْم مِنْ إِلَهٍ َغيْرُهُ}ل سيما أفضل ‪/‬‬ ‫عبُدُوا ا َ‬‫‪ ،]59‬وكذلك هود وصالح وشعيب ـ عليهم السلم ـ وغيرهم كل يقول‪{ :‬ا ْ‬
‫الرسل الذين اتخذ الّ كلهما خليلً‪ :‬إبراهيم ومحمدًا ـ عليهما السلم ـ فإن هذا الصل بينه الّ بهما وأيدهما فيه‬
‫ونشره بهما‪ ،‬فإبراهيم هو المام الذي قال الّ فيه‪ِ{ :‬إنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا} [البقرة‪ ،]124 :‬وفي ذريته جعل النبوة‬
‫والكتاب والرسل‪ ،‬فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك الّ عليهم‪ ،‬قال سبحانه‪{ :‬وَِإذْ قَالَ ِإبْرَاهِي ُم لَِبِيهِ َوقَ ْومِهِ‬
‫ط َرنِي فَِإنّهُ َس َي ْهدِينِي ‪ .‬وَ َجعََلهَا كَِلمَةً بَا ِقيَ ًة فِي َع ِقبِهِ َلعَّلهُ ْم يَرْ ِجعُونَ} [الزخرف‪.]28 - 26 :‬‬
‫ِإّننِي بَرَا ٌء ِممّا َت ْعبُدُونَ ‪ِ .‬إلّ اّلذِي فَ َ‬

‫فهذه الكلمة هي كلمة الخلص لّ وهي البراءة من كل معبود إل من الخالق الذي فطرنا كما قال صاحب يس‪َ { :‬ومَا‬
‫شفَاعَ ُتهُمْ شَيْئًا َولَ‬
‫حمَانُ ِبضُ ّر لَ ُتغْنِ عَنّي َ‬ ‫جعُونَ ‪ .‬أَأَتّخِذُ مِنْ دُونِهِ آِلهَةً إِنْ يُ ِردْنِي الرّ ْ‬ ‫لِي لَ أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْ َ‬
‫للٍ مُبِينٍ} [يس‪22 :‬ـ ‪ ،]24‬وقال تعالى في قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلل من اتخذ‬ ‫يُنقِذُونِي ‪ .‬إِنّي إِذًا َلفِي ضَ َ‬
‫جهِي لِّلذِي فَطَرَ‬ ‫جهْتُ وَ ْ‬ ‫ل يَاقَوْمِ ِإنّي بَرِي ٌء ِممّا تُشْ ِركُونَ ‪ِ .‬إنّي َو ّ‬ ‫ت قَا َ‬ ‫بعض الكواكب ربًا يعبده من دون الّ‪ ،‬قال‪{ :‬فََلمّا َأفَلَ ْ‬
‫لّ مَا لَ ْم ُينَزّ ْل بِهِ عََل ْيكُمْ سُ ْلطَانًا} [النعام‪:‬‬ ‫ل تَخَافُونَ َأّنكُمْ أَشْ َر ْكتُ ْم بِا ِ‬ ‫حنِيفًا َومَا َأنَا مِنْ ا ْلمُشْ ِركِينَ} إلى قوله‪َ { :‬و َ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَْرْضَ َ‬ ‫ال ّ‬
‫عدُوّ لِي ِإلّ رَبّ‬ ‫ن ‪ .‬فَِإّنهُمْ َ‬‫لْ ْقدَمُو َ‬‫‪ ،]78-81‬وقال إبراهيم الخليل ـ عليه السلم‪{ :‬قَالَ َأ َفرََأ ْيتُ ْم مَا ُكنْتُ ْم َت ْعبُدُونَ ‪َ .‬أ ْنتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ ا َ‬
‫ت َفهُ َو يَشْفِينِي ‪ .‬وَاّلذِي ُيمِيُتنِي ُث ّم يُ ْحيِينِ} [الشعراء‪:‬‬ ‫ط ِع ُمنِي َويَسْقِينِي ‪َ .‬وِإذَا مَ ِرضْ ُ‬ ‫خلَ َقنِي َفهُ َو َيهْدِينِي ‪ .‬وَاّلذِي هُ َو يُ ْ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ ‪ .‬اّلذِي َ‬
‫ن مِنْ دُونِ‬
‫سنَ ٌة فِي ِإبْرَاهِيمَ وَاّلذِينَ َمعَهُ ِإذْ قَالُوا لِقَ ْو ِمهِمْ ِإنّا بُرَآ ُء ِم ْنكُمْ َو ِممّا َتعْ ُبدُو َ‬ ‫‪ ،]75-81‬وقال تعالى‪َ { :‬قدْ كَانَتْ َلكُمْ أُسْ َوةٌ حَ َ‬
‫لّ كَ َف ْرنَا ِبكُمْ} الية [الممتحنة‪.]4 :‬‬ ‫ا ِ‬
‫ونبينا صلى ال عليه وسلم هو الذي أقام الّ به الدين الخالص لّ دين التوحيد‪ ،‬وقمع به المشركين من كان مشركًا في‬
‫الصل‪ ،‬ومن الذين كفروا من أهل الكتب‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم فيما رواه المام أحمد وغيره‪( :‬بعثت بالسيف‬
‫بين يدي الساعة حتى يعبد الّ وحده ل شريك له‪ ،‬وجعل رزقي تحت ظل رمحي‪ ،‬وجعل الذلة والصغار على من‬
‫خالف أمري‪ ،‬ومن تشبه بقوم فهو منهم)‪ ،‬وقد تقدم بعض ما أنزل الّ عليه من اليات المتضمنة للتوحيد‪.‬‬

‫س َتكْبِرُونَ ‪.‬‬ ‫حدٌ} إلى قوله‪ِ{ :‬إّنهُ ْم كَانُوا ِإذَا قِيلَ َلهُ ْم لَ إِلَهَ ِإلّ ا ُ‬
‫لّ يَ ْ‬ ‫وقال تعالى أيضًا‪{ :‬وَالصّافّاتِ صَفّا} إلى قوله‪{ :‬إِنّ إَِل َهكُمْ لَوَا ِ‬
‫ق َمعْلُو ٌم ‪ .‬فَوَاكِهُ وَهُمْ‬ ‫صدّقَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ} إلى قوله‪{ :‬أُ ْوَل ِئكَ َلهُمْ رِزْ ٌ‬ ‫حقّ وَ َ‬ ‫جنُونٍ ُ‪ .‬بَلْ جَا َء بِالْ َ‬ ‫َويَقُولُونَ َأئِنّا َلتَا ِركُوا آِلهَ ِتنَا ِلشَاعِ ٍر َم ْ‬
‫عبَادَ‬
‫صفُونَ ‪ِ .‬إلّ ِ‬ ‫عمّا يَ ِ‬ ‫س ْبحَانَ الِّ َ‬ ‫ُمكْ َرمُونَ} إلى ما ذكره من قصص النبياء في التوحيد وإخلص الدين لّ‪ ،‬إلى قوله‪ُ { :‬‬
‫جدَ َلهُ ْم نَصِيرًا ‪ِ .‬إلّ‬ ‫ن تَ ِ‬‫ل مِنْ النّارِ وَلَ ْ‬ ‫لْسْفَ ِ‬‫ن فِي الدّ ْركِ ا َ‬ ‫خلَصِينَ} [الصافات‪ 159 :‬ـ ‪ ،]160‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ ا ْل ُمنَافِقِي َ‬ ‫الِّ ا ْلمُ ْ‬
‫ف يُؤْتِ الُّ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَجْرًا َعظِيمًا} [النساء‪:‬‬ ‫ك مَعَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَسَ ْو َ‬‫خلَصُوا دِينَهُمْ لِّ َفأُوَْل ِئ َ‬ ‫صمُوا بِالِّ وَأَ ْ‬
‫عتَ َ‬ ‫اّلذِينَ تَابُوا َوأَصَْلحُوا وَا ْ‬
‫‪.]146 ،145‬‬

‫وفي الجملة فهذا الصل في سورة النعام‪ ،‬والعراف‪ ،‬والنور‪ ،‬وآل طسم‪ / ،‬وآل حم‪ ،‬وآل الر‪ ،‬وسور المفصل وغير‬
‫ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر‪ ،‬فهو أصل الصول وقاعدة الدين حتى في سورتي‬
‫الكافرون والخلص‪{ :‬قُ ْل يَاَأّيهَا ا ْلكَافِرُونَِ} و{قُلْ هُوَ الُّ أَ َحدٌ} وهاتان السورتان كان النبي صلى ال عليه وسلم يقرأ‬
‫بهما في صلة التطوع كركعتي الطواف‪ ،‬وسنة الفجر‪ ،‬وهما متضمنتان للتوحيد‪.‬‬

‫فأما {قُ ْل يَاَأّيهَا ا ْلكَافِرُونَِ}‪ :‬فهي متضمنة للتوحيد العملي الرادي‪ ،‬وهو إخلص الدين لّ بالقصد والرادة‪ ،‬وهو الذي‬
‫يتكلم به مشائخ التصوف غالبًا‪ ،‬وأما سورة {قُلْ هُوَ الُّ أَ َحدٌ}‪ :‬فمتضمنة للتوحيد القولي العملي كما ثبت في الصحيحين‬
‫عن عائشة أن رجلً كان يقرأ‪ :‬قل هو الّ أحد في صلته‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬سلوه لم يفعل ذلك؟)‬
‫فقال‪ :‬لنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها‪ ،‬فقال‪( :‬أخبروه أن الّ يحبه)‪.‬‬

‫ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف الّ ـ سبحانه وتعالى ـ الذي ينفي قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل‪ ،‬ما‬
‫صارت به هي الصل المعتمد في مسائل الذات كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع‪ .‬وذكرنا اعتماد الئمة عليها‬
‫مع ما تضمنته من تفسير الحد الصمد‪ ،‬كما جاء تفسيره عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين‪ ،‬وما دل‬
‫على ذلك من الدلئل‪.‬‬

‫لكن المقصود هنا هو‪ :‬التوحيد العملي‪ ،‬وهو إخلص الدين لّ وإن ‪ /‬كان أحد النوعين مرتبطًا بالخر‪ .‬فل يوجد أحد‬
‫من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إل وفيه نوع من الشرك العملي؛ إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين‬
‫الّ وبين خلقه‪ ،‬أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي ل تستلزم‬
‫مدحًا ول ثبوت كمال‪ ،‬أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص‪ ،‬وكما يسوون إذا أثبتوا هم‬
‫ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم‪ ،‬ويجعلون له أندادًا‬
‫ويسوون المخلوقات برب العالمين‪.‬‬

‫واليهود كثيرًا ما يعدلون الخالق بالمخلوق‪ ،‬ويمثلونه به حتى يصفوا الّ بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص‬
‫التي يجب تنزيهه عنها وهي من صفات خلقه‪ ،‬والنصارى كثيرًا ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا في‬
‫المخلوقات من نعوت الربوبية‪ ،‬وصفات اللهية‪ ،‬ويجوزون له مـا ل يصلح إل للخالق سبحانه وتعالى عما يقول‬
‫الظالمون علوًا كبيرًا‪.‬‬

‫والّ ـ سبحانه وتعالى ـ قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين‬
‫والشهداء والصالحين‪ ،‬غيرالمغضوب عليهم ول الضالين‪ .‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬اليهود مغضوب‬
‫عليهم‪ ،‬والنصارى ضالون)‪ .‬وفي هذه المة من فيه شبه من هؤلء وهؤلء كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬‬
‫لتتبعن سنن من كان قبلكم‪ ،‬حذو القُذّة بالقذة‪ ،‬حتى لو ‪ /‬دخلوا جُحْر ضَبّ لدخلتموه)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬اليهود‬
‫والنصارى؟ قال‪( :‬فمن؟) والحديث في الصحيحين‪.‬‬

‫فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلص الدين لّّ‪ ،‬وهو إرادة الّ وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته‪ ،‬وهذا‬
‫كمال المحبة‪ ،‬لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله‪َ { :‬ومَا خََلقْتُ ا ْلجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعبُدُونِ} [الذاريات‪:‬‬
‫‪ ،]56‬وقوله‪{ :‬يَاَأّيهَا النّاسُ ا ْعُبدُوا َرّبكُمْ اّلذِي خََل َقكُمْ وَاّلذِي َن مِنْ َقبِْلكُمْ}[البقرة‪ ]21 :‬وأمثال هذا‪ ،‬والعبادة تتضمن كمال‬
‫الحب ونهايته‪ ،‬وكمال الذل ونهايته‪ ،‬فالمحبوب الذي ل يعظم ول يذل له ل يكون معبودًا‪ ،‬والمعظم الذي ل يحب‪ ،‬ل‬
‫س مَ ْن يَتّ ِخ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِحبّونَهُ ْم كَ ُحبّ الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪:‬‬ ‫يكون معبودًا؛ ولهذا قال تعالى‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬
‫‪ ]165‬فبين ـ سبحانه ـ أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الّ أندادًا‪ ،‬وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الّ‪،‬‬
‫فالذين آمنوا أشد حبًا لّ منهم لّ ولوثانهم‪ ،‬لن المؤمنين أعلم بالّ‪ ،‬والحب يتبع العلم؛ ولن المؤمنين جعلوا جميع‬
‫حبهم لّ وحده‪ ،‬وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين النداد في الحب‪ ،‬ومعلوم أن ذلك أكمل‪ .‬قال‬
‫ل فِيهِ ُش َركَا ُء مُتَشَاكِسُونَ وَ َرجُلً سََلمًا لِرَ ُجلٍ هَ ْل يَ ْستَ ِويَا ِن َمثَلً الْ َح ْمدُ لِّ بَلْ َأ ْكثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ} [‬ ‫تعالى‪{ :‬ضَرَبَ ا ُ‬
‫لّ مَثَلً َرجُ ً‬
‫الزمر‪.]29 :‬‬

‫واسم المحبة فيه إطلق وعموم‪ ،‬فإن المؤمن يحب الّ ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين‪ ،‬وإن كان ذلك من محبة‬
‫الّ‪ ،‬وإن كانت المحبة التي لّ ‪ /‬ل يستحقها غيره؛ ولهذا جاءت محبة الّ ـ سبحانه وتعالى ـ مذكورة بما يختص به ـ‬
‫سبحانه ـ من العبادة والنابة إليه والتبتل له‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فكل هذه السماء تتضمن محبة الّ ـ سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين‪ ،‬فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫قال‪ ( :‬رأس المر السلم‪ ،‬وعموده الصلة‪ ،‬وذروة سنامه الجهاد في سبيل الّ)‪ .‬فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل‬
‫سبِيلِ‬
‫ن آمَنَ بِالِّ وَا ْليَوْمِ الْخِرِ َوجَا َه َد فِي َ‬
‫حرَا ِم َكمَ ْ‬
‫جدِ الْ َ‬
‫عمَارَةَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫سقَايَةَ الْحَاجّ وَ ِ‬ ‫وهو أعله وأشرفه‪ .‬وقد قال تعالى‪َ{ :‬أ َ‬
‫جعَ ْلتُمْ ِ‬
‫لّ َل يَ ْستَوُونَ ِعنْدَ الِّ} إلى قوله‪{ :‬أَ ْجرٌ عَظِيمٌٌ} [التوبة‪19 :‬ـ ‪ ،]22‬والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة‪.‬‬ ‫ا ِ‬

‫خوَا ُنكُ ْم‬


‫ن آبَا ُؤكُمْ َوَأبْنَا ُؤكُمْ وَإِ ْ‬
‫ن كَا َ‬ ‫وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد‪ ،‬والجهاد دليل المحبة الكاملة‪ .‬قال تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن آ َمنُوا مَنْ يَ ْر َت ّد مِ ْنكُمْ عَنْ‬ ‫عشِي َر ُتكُمْ} الية [التوبة‪ ،]24 :‬وقال تعالى في صفة المحبين المحبوبين‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِي َ‬ ‫جكُمْ وَ َ‬‫وَأَ ْزوَا ُ‬
‫لّ بِقَ ْو ٍم يُ ِحّبهُمْ َويُ ِحبّونَهُ َأذِلّةٍ عَلَى ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى ا ْلكَا ِفرِينَ يُجَا ِهدُونَ فِي َسبِيلِ الِّ َو َل يَخَافُونَ لَ ْومَ َة لَئِمٍ}[‬
‫ف يَ ْأتِي ا ُ‬
‫دِينِ ِه فَسَوْ َ‬
‫المائدة‪ ]54 :‬فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‪ ،‬وإنهم يجاهدون في سبيل الّ‪،‬‬
‫ول يخافون لومة لئم‪.‬‬

‫‪/‬فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لن المحب يحب ما يحب محبوبه‪ ،‬ويبغض ما يبغض محبوبه‪ ،‬ويوالي من يواليه‬
‫ويعادي من يعاديه‪ ،‬ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه‪ ،‬ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه‪ ،‬فهو موافق له في‬
‫ذلك‪ .‬وهؤلء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب‬
‫له‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلل‪( :‬لعلك أغضبتهم لن كنت أغضبتهم‬
‫لقد أغضبت ربك)‪ .‬فقال لهم‪ :‬يا إخوتي‪ ،‬هل أغضبتكم؟ قالوا‪ :‬ل‪ ،‬يغفر الّ لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن‬
‫حرب فقالوا‪ :‬ما أخذت السيوف من عدو الّ مأخذها‪ ،‬فقال لهم أبو بكر‪ :‬أتقولون هذا لسيد قريش ؟ وذكر أبو بكر ذلك‬
‫للنبي صلى ال عليه وسلم فقال له ما تقدم؛ لن أولئك إنما قالوا ذلك غضبًا لّ؛ لكمال ما عندهم من الموالة لّ‬
‫ورسوله‪ ،‬والمعاداة لعداء الّ ورسوله‪.‬‬

‫ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه‪( :‬ل يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل‬
‫حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي‬
‫بها‪ ،‬فبي يسمع‪ ،‬وبي يبصر‪ ،‬وبي يبطش‪ ،‬وبي يمشي ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ ،‬وما ترددت عن‬
‫شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته‪ ،‬ولبد له منه) فبين ـ سبحانه ـ أنه‬
‫يتردد لن التردد تعارض إرادتين‪ ،‬وهو ـ سبحانه ـ يحب ما يحب عبده ‪ /‬ويكره ما يكرهه‪ ،‬وهو يكره الموت فهو‬
‫يكرهه‪ ،‬كما قال‪( :‬وأنا أكره مساءته)‪ ،‬وهو ـ سبحانه ـ قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت‪ .‬فسمى ذلك ترددًا‪ ،‬ثم بين‬
‫أنه لبد من وقوع ذلك‪.‬‬

‫وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه‪ .‬وقد يقال له‪ :‬اتحاد نوعي‬
‫وصفي‪ ،‬وليس ذلك اتحاد الذاتين فإن ذلك محال ممتنع‪ ،‬والقائل به كافر‪ ،‬وهو قول النصارى والغالية من الرافضة‬
‫والنساك كالحلجية ونحوهم‪ ،‬وهو التحاد المقيد في شيء بعينه‪.‬‬

‫وأما التحاد المطلق ـ الذي هو قول أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق ـ فهذا‬
‫تعطيل للصانع وجحود له‪ ،‬وهو جامع لكل شرك‪ ،‬فكما أن التحاد نوعان‪ ،‬فكذلك الحلول نوعان‪ :‬قوم يقولون‪:‬‬
‫ل في‬
‫بالحلول المقيد في بعض الشخاص‪ ،‬وقوم يقولون‪ :‬بحلوله في كل شيء‪ ،‬وهم الجهمية الذين يقولون‪ :‬إن ذات ا ّ‬
‫كل مكان‪.‬‬

‫وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه‪ ،‬ويغيب بمذكوره عن ذكره‪،‬‬
‫وبمعروفه عن معرفته‪ ،‬وبموجوده عن وجوده‪ ،‬حتى ل يشهد إل محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص عقله وسكره‬
‫أنه هو محبوبه‪ .‬كما قيل‪ :‬إن محبوبًا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه‪ ،‬فقال‪ / :‬أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك ؟‬
‫فقال‪ ،‬غبت بك عني‪ ،‬فظننت أنك أني‪ ،‬فل ريب أن هذا خطأ وضلل‪.‬‬

‫لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورًا في زوال عقله‪،‬‬
‫فل يكون مؤاخذًا بما يصدر منه من الكلم في هذه الحال التي زال فيها عقله بغير سبب محظور‪ ،‬كما قيل في عقلء‬
‫ل وأحوالً‪ ،‬فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم‪ ،‬وأسقط ما فرض بما سلب‪.‬‬‫المجانين‪ :‬إنهم قوم آتاهم الّ عقو ً‬

‫وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظورًا لم يكن السكران معذورًا‪ ،‬وإن كان ل يحكم بكفره في أصح القولين‪،‬‬
‫كما ل يقع طلقه في أصح القولين‪ ،‬وإن كان النزاع في الحكم مشهورًا‪ .‬وقد بسطنا الكلم في هذا‪ ،‬وفيمن يسلم له‬
‫حاله ومن ل يسلم في قاعدة ذلك‪.‬‬

‫وبكل حال‪ ،‬فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال ناقص‪ ،‬وإن كان صاحبه غير مكلف؛ ولهذا لم يرد مثل هذا‬
‫عن الصحابة الذين هم أفضل هذه المة ول عن نبينا محمد صلى ال عليه وسلم وهو أفضل الرسل‪ ،‬وإن كان لهؤلء‬
‫في صعق موسى نوع تعلق‪ ،‬وإنما حدث زوال العقل عند الواردات اللهية على بعض التابعين ومن بعدهم‪ ،‬وإن‬
‫كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه ووليته وعداوته‪ ،‬فمن المعلوم أن من‪ /‬أحب الّ‬
‫ن يُقَاتِلُونَ‬ ‫المحبة الواجبة فلبد أن يبغض أعداءه‪ ،‬ول بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫لّ يُحِبّ اّلذِي َ‬
‫صفّا َكَأنّهُ ْم بُنيَا ٌن مَرْصُوصٌ} [الصف‪.]4 :‬‬
‫سبِيلِهِ َ‬
‫فِي َ‬

‫والمحب التام ل يؤثر فيه لوم اللئم وعذل العاذل‪ ،‬بل ذلك يغريه بملزمة المحبة‪ ،‬كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك‪،‬‬
‫وهؤلء هم أهل الملم المحمود وهم الذين ل يخافون من يلومهم على ما يحب الّ ويرضاه من جهاد أعدائه‪ ،‬فإن‬
‫الملم على ذلك كثير‪ .‬وأما الملم على فعل ما يكرهه الّ أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق‪ ،‬وليس من المحمود الصبر‬
‫على هذا الملم‪ ،‬بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل‪ .‬وبهذا يحصل الفرق بين [الملمية] الذين يفعلون‬
‫ما يحبه الّ ورسوله ول يخافون لومة لئم في ذلك‪ ،‬وبين [الملمية] الذين يفعلون ما يبغضه الّ ورسوله ويصبرون‬
‫على الملم في ذلك‪.‬‬

‫َفصْــل‬

‫وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني‪ ،‬فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها‪ ،‬فإن الراجي الطامع‬
‫ن َيبْ َتغُونَ‬ ‫إنما يطمع فيما يحبه ل فيما يبغضه‪ .‬والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب‪ .‬قال تعالى‪{ :‬أُ ْوَل ِئكَ اّلذِي َ‬
‫ن يَدْعُو َ‬
‫ن آ َمنُوا وَاّلذِينَ هَاجَرُوا‬ ‫عذَابَهُ}الية [السراء‪ ،]57 :‬وقال‪{ :‬إِنّ اّلذِي َ‬
‫حمَتَهُ َويَخَافُونَ َ‬
‫إِلَى َرّبهِمْ الْوَسِيلَةَ َأّيهُمْ َأ ْقرَبُ َويَ ْرجُونَ َر ْ‬
‫وَجَا َهدُوا فِي َسبِيلِ الِّ أُ ْوَل ِئكَ يَ ْرجُونَ رَ ْحمَةَ الِّ} [البقرة‪.]218 :‬‬

‫ورحمته اسم جامع لكل خير‪ .‬وعذابه اسم جامع لكل شر‪ .‬ودار الرحمة الخالصة هي الجنة‪ ،‬ودار العذاب الخالص هي‬
‫النار‪ ،‬وأما الدنيا فدار امتزاج‪ ،‬فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم‪ ،‬وأعله النظر إلى وجه‬
‫الّ‪ ،‬كما في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬إذا دخل‬
‫أهل الجنة الجنة نادى مناد‪ :‬يا أهل الجنة‪ ،‬إن لكم عند الّ موعدًا يريد أن ينجزكموه‪ .‬فيقولون‪ :‬ما هو؟ ألم يبيض‬
‫وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار؟) قال‪( :‬فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا‬
‫أحب إليهم من النظر إليه) وهو الزيادة‪.‬‬

‫ومن هنا يتبين زوال الشتباه في قول من قال‪ :‬ما عبدتك شوقًا إلى جنتك ول خوفًا من نارك‪ ،‬وإنما عبدتك شوقًا إلى‬
‫رؤيتك‪ ،‬فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة ليدخل في مسماها إل الكل والشرب واللباس والنكاح والسماع‬
‫ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات‪ ،‬كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية الّ من الجهمية‪ ،‬أو من يقربها ويزعم أنه‬
‫ل تمتع بنفس رؤية الّ‪ ،‬كما يقوله طائفة من المتفقهة‪ .‬فهؤلء متفقون على أن مسمى الجنة والخرة ‪ /‬ل يدخل فيه إل‬
‫التمتع بالمخلوقات؛ ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله‪ِ { :‬منْكُ ْم مَ ْن يُرِيدُ ال ّد ْنيَا َو ِم ْنكُمْ مَ ْن يُرِيدُ الْخِرَةَ} [‬
‫سهُمْ وََأمْوَاَلهُ ْم بِأَنّ َلهُمْ‬ ‫آل عمران‪ ]152 :‬قال فأين من يريد الّ‪ ،‬وقال آخر في قوله تعالى‪{ :‬إِنّ الَّ ا ْ‬
‫شتَرَى مِنْ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َ‬
‫الْ َجنّةَ} [التوبة‪ ]111 :‬قال‪ :‬إذا كانت النفوس والموال بالجنة فأين النظر إليه‪ ،‬وكل هذا لظنهم أن الجنة ل يدخل فيها‬
‫النظر‪.‬‬

‫والتحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم‪ ،‬وأعلى ما فيها النظر إلى وجه الّ‪ ،‬وهو من النعيم الذي ينالونه في‬
‫الجنة‪ ،‬كما أخبرت به النصوص‪ .‬وكذلك أهل النار فإنهم محجوبون عن ربهم‪ ،‬ويدخلون النار‪ ،‬مع أن قائل هذا القول‬
‫إذا كان عارفًا بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق نارًا أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب إليك‬
‫والنظر إليك‪ ،‬ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق‪.‬‬

‫وأما عمل الحي بغير حب ول إرادة أصل‪ ،‬فهذا ممتنع وإن تخيله بعض الغالطين من النساك‪ ،‬وظن أن كمال العبد أل‬
‫تبقى له إرادة أصل؛ فذاك لنه تكلم في حال الفناء والفاني ـ الذي يشتغل بمحبوبه ـ له إرادة ومحبة ولكن ل يشعر‬
‫بها‪ ،‬فوجود المحبة شيء‪ ،‬والرادة شيء‪ ،‬والشعور بها شيء آخر‪ .‬فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط‪ ،‬فالعبد‬
‫ل يتصور أن يتحرك قط إل عن حب وبغض وإرادة؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬أصدق السماء حارث‬
‫وهمام)‪ .‬فكل إنسان له حرث وهو العمل‪ ،‬وله هم وهو أصل ‪/‬الرادة‪ ،‬ولكن تارة يقوم بالقلب من محبة الّ ما يدعوه‬
‫إلى طاعته‪ ،‬ومن إجلله والحياء منه ما ينهاه عن معصيته‪ ،‬كما قال عمر ـ رضي الّ عنه‪ :‬نعم العبد صهيب‪ ،‬لو لم‬
‫يخف الّ لم يعصه أي‪ :‬هو لم يعصه ولو لم يخفه‪ ،‬فكيف إذا خافه‪ ،‬فإن إجلله وإكرامه لّ يمنعه من معصيته‪.‬‬

‫فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه‪ ،‬والتنعم بتجليه له‪ ،‬فمعلوم أن هذا من توابع‬
‫محبته له‪ ،‬فالمحبة هي التي أوجبت محبة التجلي والخوف من الحتجاب‪ ،‬وإن تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق‬
‫ل وجدها أحلى من كل محبة؛‬ ‫والتنعم به‪ ،‬فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة الّ المستلزمة محبته‪ ،‬ثم إذا وجد حلوة محبة ا ّ‬
‫ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء‪ ،‬كما في الحديث‪( :‬إن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون‬
‫ال ّنفَس) وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الّ ومحبته‪ .‬فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه إلى محبة الّ التي‬
‫هي الصل‪.‬‬

‫وهذا كله ينبني على أصل المحبة‪ ،‬فيقال‪ :‬قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين‪ ،‬كما في قوله‪{ :‬وَاّلذِينَ‬
‫حبّونَهُ} [المائدة‪ ،]54 :‬وقوله تعالى‪{ :‬أَ َ‬
‫حبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ‬ ‫حبّا لِِّ} [البقرة‪ ،]165 :‬وقوله تعالى‪{ :‬يُ ِ‬
‫حّبهُمْ َويُ ِ‬ ‫شدّ ُ‬
‫آ َمنُوا أَ َ‬
‫وَ َرسُولِهِ وَ ِجهَادٍ فِي َسبِيلِهِ} [التوبة‪ ]24 :‬وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ثلث من كن فيه‬
‫وجد حلوة اليمان‪ :‬أن يكون الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن يحب المرء ل يحبه إل لّ‪ ،‬وأن يكره أن يرجع‬
‫في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه كما يكره أن يلقى في النار)‪.‬‬

‫‪/‬بل محبة رسول الّ صلى ال عليه وسلم وجبت لمحبة الّ كما في قوله تعالى‪َ{ :‬أحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ َورَسُولِهِ}‪ ،‬وكما في‬
‫الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده‬
‫ووالده والناس أجمعين)‪ ،‬وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال‪ :‬والّ يا رسول الّ لنت أحب إلىّ من‬
‫كل شيء إل من نفسي‪ ،‬فقال‪( :‬ل يا عمر‪ ،‬حتى أكون أحب إليك من نفسك)‪ ،‬فقال‪ :‬والّ لنت أحب إلىّ من نفسي‪،‬‬
‫قال‪( :‬الن يا عمر)‪.‬‬

‫وكذلك محبة صحابته وقرابته‪ ،‬كما في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬آية اليمان حب النصار‪،‬‬
‫وآية النفاق بغض النصار)‪ ،‬وقال‪( :‬ل يبغض النصار رجل يؤمن بالّ واليوم الخر)‪ ،‬وقال على ـ رضي الّ عنه‪:‬‬
‫إنه لعهد النبي المي إلىّ أنه ل يحبني إل مؤمن‪ ،‬ول يبغضني إل منافق‪ .‬وفي السنن أنه قال للعباس‪( :‬والذي نفسي‬
‫ل ولقرابتي) يعني‪ :‬بني هاشم‪ ،‬وقد روى حديث عن ابن عباس مرفوعًا أنه قال‪:‬‬‫بيده‪ ،‬ل يدخلون الجنة حتى يحبوكم ّ‬
‫(أحبوا الّ لما يغذوكم به من نعمه‪ ،‬وأحبوني بحب الّ‪ ،‬وأحبوا أهل بيتي لجلي)‪.‬‬

‫حبّونَهُ}‬ ‫خذَ الُّ ِإبْرَاهِيمَ خَلِيلً} [النساء‪ ،]125 :‬وقال تعالى‪{ :‬يُ ِ‬
‫حّبهُمْ َويُ ِ‬ ‫وأما محبة الرب ـ سبحانه ـ لعبده فقال تعالى‪{ :‬وَاتّ َ‬
‫سنِينَ}[البقرة‪{ ،]195 :‬وََأقْسِطُوا إِنّ ا َ‬
‫لّ يُ ِحبّ ا ْلمُ ْقسِطِينَ}[‬ ‫لّ يُحِبّ ا ْل ُمحْ ِ‬
‫سنُوا إِنّ ا َ‬ ‫[المائدة‪ ،]54 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََأحْ ِ‬
‫لّ يُحِبّ‬‫ستَقِيمُوا َلهُمْ إِنّ ا َ‬ ‫لّ يُحِبّ ا ْلمُتّقِينَ}[التوبة‪َ { ،]4 :‬فمَا ا ْ‬
‫ستَقَامُوا َلكُ ْم فَا ْ‬ ‫الحجرات‪{ ،]9 :‬فََأ ِتمّوا إَِل ْيهِمْ َ‬
‫ع ْهدَهُمْ إِلَى ُم ّدتِهِمْ إِنّ ا َ‬
‫ن مَ ْرصُوصٌ} [الصف‪{ ،]4 :‬بَلَى مَنْ أَ ْوفَى ِبعَ ْهدِهِ‬
‫سبِيلِهِ صَفّا كََأّنهُ ْم بُنيَا ٌ‬
‫ن فِي َ‬ ‫ا ْل ُمتّقِينَ}[التوبة‪{ ،]7 :‬إِنّ ا َ‬
‫لّ ُيحِبّ اّلذِينَ ُيقَاتِلُو َ‬
‫لّ يُ ِحبّ ا ْل ُمتّقِينَ} [آل عمران‪.]76 :‬‬ ‫وَاتّقَى فَإِنّ ا َ‬

‫وأما العمال التي يحبها الّ من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة‪ ،‬وكذلك حبه لهلها وهم‬
‫المؤمنون أولياء الّ المتقون‪.‬‬

‫وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة‪ ،‬والذي عليه سلف المة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ‬
‫الدين المتبعون‪ ،‬وأئمة التصوف إن الّ ـ سبحانه ـ محبوب لذاته محبة حقيقية‪ ،‬بل هي أكمل محبة‪ ،‬فإنها كما قال‬
‫تعالى‪{ :‬وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪ ]165 :‬وكذلك هو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية‪.‬‬

‫وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين‪ ،‬زعمًا منهم أن المحبة ل تكون إل لمناسبة بين المحب والمحبوب‪ ،‬وأنه‬
‫ل مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة‪ ،‬وكان أول من ابتدع هذا في السلم هو الجعد بن درهم في أوائل المائة‬
‫الثانية فضحى به خالد بن عبد الّ القسري أمير العراق والمشرق بواسط‪ .‬خطب الناس يوم الضحى فقال‪ :‬أيها‬
‫ل ولم يكلم ‪/‬‬
‫الناس‪ ،‬ضَحّوا تقبل الّ ضحاياكم‪ ،‬فإني ُمضَحّ بالجعد بن درهم‪ ،‬إنه زعم أن الّ لم يتخذ إبراهيم خلي ً‬
‫موسي تكليمًا‪ ،‬ثم نزل فذبحه‪ ،‬وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه‪ ،‬وإليه أضيف‬
‫قول الجهمية‪ ،‬فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها‪ ،‬ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد‪ ،‬وظهر قولهم‬
‫أثناء خلفة المأمون‪ ،‬حتى امتحن أئمة السلم ودعوا إلى الموافقة لهم على ذلك‪.‬‬

‫وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن‬
‫الرب ليس له صفة ثبوتية أصلً‪ ،‬وهؤلء هم أعداء إبراهيم الخليل ـ عليه السلم ـ وهم يعبدون الكواكب ويبنون‬
‫الهياكل للعقول والنجوم وغيرها‪ ،‬وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلً‪ ،‬وموسى كليما‪ ،‬لن الخلة هي‬
‫كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل‪:‬‬

‫قد تخللت مسلك الروح مني ** وبذا سمى الخليل خليلً‬

‫ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬لو كنت متخذًا من أهل‬
‫الرض خليلً لتخذت أبا بكر خليلً‪ ،‬ولكن صاحبكم خليل الّ) يعني‪ :‬نفسه‪ ،‬وفي رواية‪( :‬إني أبرأ إلى كل خليل من‬
‫خلته‪ ،‬ولو كنت متخذًا من أهل الرض خليلً لتخذت أبا بكر خليلً)‪ ،‬وفي رواية‪( :‬إن الّ اتخذني خليلً كما اتخذ‬
‫إبراهيم ‪/‬خليلً)‪ ،‬فبين صلى ال عليه وسلم أنه ل يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلً‪ ،‬وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق‬
‫الناس بها أبو بكر الصديق ـ رضي الّ عنه‪ .‬مع أنه صلى ال عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصًا كما قال‬
‫لمعاذ‪( :‬والّ إني لحبك) وكذلك قوله للنصار‪ .‬وكان زيد بن حارثة حب رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكذلك ابنه‬
‫أسامة حبه‪ ،‬وأمثال ذلك‪ .‬وقال له عمرو بن العاص‪ :‬أي الناس أحب إليك ؟ قال‪( :‬عائشة)‪ .‬قال‪ :‬فمن الرجال؟ قال‪( :‬‬
‫أبوها)‪ ،‬وقال لفاطمة ابنته ـ رضي الّ عنها‪( :‬أل تحبين ما أحب؟) قالت‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪( :‬فأحبي عائشة)‪ .‬وقال للحسن‪( :‬‬
‫اللهم إني أحبه فأحبه‪ ،‬وأحب من يحبه) وأمثال هذا كثير‪.‬‬

‫فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال‪( :‬إني أبرأ إلى كل خليل من خلته‪ ،‬ولو كنت متخذًا من أهل الرض خليل لتخذت‬
‫أبا بكر خليلً)‪ ،‬فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هي من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها‬
‫محبوبًا لذاته ل لشيء آخر؛ إذ المحبوب لشيء غيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير‪ ،‬ومن كمالها ل تقبل الشركة‬
‫والمزاحمة لتخللها المحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب‪.‬‬

‫فالخلة تنافى المزاحمة‪ ،‬وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوبًا لذاته ‪ /‬محبة ل يزاحمه فيها غيره‪ ،‬وهذه محبة ل‬
‫تصلح إل لّّ‪ ،‬فل يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة‪ ،‬وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره ـ إذا كان‬
‫محبوبًا بحق ـ فإنما يحب لجله‪ ،‬وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة‪ ،‬فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ما كان لّ تعالى‪.‬‬
‫وإذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكون الّ محبوبًا لذاته ينكر مخاللته‪ .‬وكذلك أيضًا إن أنكر محبته‬
‫لحد من عباده فهو ينكر أن يتخذه خليلً بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد‪.‬‬
‫وكذلك تكليمه لموسى أنكروه؛ لنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الفعال‪ ،‬فكما ينكرون أن يتصف‬
‫بحياة أو قدرة أو علم أو أن يستوى أو أن يجيء فكذلك ينكرون أن يتكلم أو يكلم‪ ،‬فهذا حقيقة قولهم‪َ { .‬كذَِلكَ قَالَ اّلذِينَ مِنْ‬
‫ت قُلُوُبهُمْ} [البقرة‪.]118 :‬‬
‫َقبِْلهِ ْم ِمثْلَ قَ ْوِلهِ ْم تَشَا َبهَ ْ‬

‫لكن لما كان السلم ظاهرًا والقرآن متلوا‪ ،‬ل يمكن جحده لمن أظهر السلم‪ ،‬أخذوا يلحدون في أسماء الّ ويحرفون‬
‫الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب إليه‪ ،‬وهذا جهل عظيم؛ فإن محبة المتقرب‬
‫إلى المتقرب إليه تابع لمحبته وفرع عليه‪ ،‬فمن ل يحب الشيء ل يمكن أن يحب التقرب إليه؛ إذ التقرب وسيلة‪،‬‬
‫ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود‪ ،‬فيمتنع أن تكون الوسيلة إلى الشيء المحبوب هي المحبوب دون الشيء المقصود‬
‫بالوسيلة‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك العبادة والطاعة‪ ،‬إذا قيل في المطاع المعبود‪ :‬إن هذا يحب طاعته وعبادته‪ ،‬فإن محبته ذلك تبع لمحبته‪ ،‬وإل‬
‫فمن ل يحب ل يحب طاعته وعبادته‪ ،‬ومن كان ل يعمل لغيره إل لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فإنه يكون معاوضًا‬
‫له أو مفتديًا منه ل يكون محبًا له‪ .‬ول يقال إن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته‪ ،‬فإن محبة المقصود وإن‬
‫استلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة‪ ،‬فإن ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين‪ :‬محبة العوض والسلمة عن محبة‬
‫العمل‪ .‬أما محبة الّ فل تعلق لها بمجرد محبة العوض‪ ،‬أل ترى أن من استأجر أجيرًا بعوض ل يقال‪ :‬إن الجير‬
‫يحبه بمجرد ذلك‪ .‬بل قد يستأجر الرجل من ل يحبه بحال بل من يبغضه‪ ،‬وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب‬
‫معذب ل يقال‪ :‬إنه يحبه بل يكون مبغضًا له‪ .‬فعلم أن ما وصف الّ به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع أل يكون‬
‫معناه إل مجرد محبة العمل الذي ينالون به بعض الغراض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوبًا أصل‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم؛ ولهذا كانت محبة القلب للبشر على طبقات‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬العلقة‪ :‬وهو تعلق القلب بالمحبوب‪ ،‬ثم الصبابة‪ :‬وهو انصباب القلب إليه‪ ،‬ثم الغرام‪ :‬وهو الحب اللزم‪ ،‬ثم‬
‫العشق وآخر ‪ /‬المراتب هو التتيم‪ :‬وهو التعبد للمحبوب‪ ،‬والمتيم المعبود‪ ،‬وتيم الّ عبد الّ فإن المحب يبقى ذاكرًا‬
‫معبدًا مذللً لمحبوبه‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فاسم النابة إليه يقتضى المحبة أيضًا‪ ،‬وما أشبه ذلك من السماء‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فلو كان هذا الذي قالوه حقًا من كون ذلك مجازًا لما فيه من الحذف والضمار‪ ،‬فالمجاز ل يطلق إل بقرينة‬
‫تبين المراد‪ .‬ومعلوم أن ليس في كتاب الّ وسنة رسوله ما ينفي أن يكون الّ محبوبًا‪ ،‬وأل يكون المحبوب إل العمال‬
‫ل في الدللة المتصلة ول المنفصلة بل ول في العقل أيضًا‪ .‬وأيضًا‪ :‬فمن علمات المجاز صحة إطلق نفيه‪ ،‬فيجب‬
‫حبّ‪ ،‬كما أطلق إمامهم الجعد ابن درهم أن ال لم يتخذ إبراهيم خليلً‪ ،‬ولم‬
‫ب ول يُ َ‬
‫ح ّ‬
‫أن يصح إطلق القول بأن الّ ل يُ ِ‬
‫يكلم موسى تكليمًا‪ ،‬ومعلوم أن هذا ممتنع بإجماع المسلمين‪ ،‬فعلم دللة الجماع على أن هذا ليس مجازًا‪ ،‬بل هي‬
‫حقيقة‪.‬‬

‫و أيضًا‪ ،‬فقد فرق بين محبته ومحبة العمل له في قوله تعالى‪َ{ :‬أحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ َورَسُولِهِ وَ ِجهَا ٍد فِي َسبِيلِهِ}[التوبة‪]24 :‬‬
‫‪ ،‬كما فرق بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى‪{ :‬أَ َحبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ وَ َرسُولِهِ} فلو كان المراد بمحبته ليس إل محبة‬
‫العمل لكان هذا تكريرًا‪ ،‬أو من باب عطف الخاص على العام‪ ،‬وكلهما على خلف ظاهر الكلم الذي ل يجوز‬
‫المصير إليه إل بدللة تبين المراد‪ .‬وكما أن ‪ /‬محبته ل يجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله‪ ،‬فكذلك ل يجوز تفسيرها‬
‫بمجرد محبة العمل له‪ ،‬وإن كانت محبته تستلزم محبة رسوله ومحبة العمل له‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فالتعبير بمحبة الشيء عن مجرد محبة طاعته ل عن محبة نفسه أمر ل يعرف في اللغة ل حقيقة ول مجازًا‪،‬‬
‫فحمل الكلم عليه تحريف محض أيضا‪ .‬وقد قررنا في مواضع من القواعد الكبار أنه ل يجوز أن يكون غير الّ‬
‫محبوبًا مرادًا لذاته كما ل يجوز أن يكون غير الّ موجودًا بذاته‪ ،‬بل ل رب إل الّ‪ ،‬ول إله إل هو المعبود‪ ،‬الذي‬
‫يستحق أن يحب لذاته ويعظم لذاته‪ ،‬كمال المحبة والتعظيم‪.‬‬

‫وكل مولود يولد على الفطرة فإنه ـ سبحانه ـ فطر القـلوب على أنه ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه‬
‫وتنتهى إليه إل الّ وحده‪ ،‬وإن كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه‬
‫أن قلبه يطلب شيئًا سواه‪ ،‬ويحب أمرًا غيره يتألهه ويصمد إليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الجناس؛ ولهذا‬
‫ط َمئِنّ الْقُلُوبُ}[الرعد‪ ،]28 :‬وفي الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عن‬ ‫لّ تَ ْ‬ ‫قال الّ تعالى في كتابه‪َ{ :‬أ َ‬
‫ل بِ ِذكْرِ ا ِ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم عن ال تعالى قال‪( :‬إني خلقت عبادي حنفاءَ فاجتالتهم الشياطين‪ ،‬وحرمت عليهم ما أحللت‬
‫لهم‪ ،‬وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)‪ ،‬كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم أنه قال‪( :‬كل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه‪ ،‬كما تنتج ‪ /‬البهيمة بهيمة جمعاء‪،‬‬
‫لّ ذَِلكَ‬
‫خلْقِ ا ِ‬ ‫هل تحسون فيها من جدعاء)‪ ،‬ثم يقول أبو هريرة‪ :‬اقرؤوا إن شئتم‪{ :‬فِطْرَةَ الِّ اّلتِي فَطَرَ النّاسَ عََل ْيهَا َ‬
‫ل َتبْدِيلَ لِ َ‬
‫الدّينُ ا ْل َقيّمُ} [الروم‪.]30 :‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فالّ هو المستحق له على الكمال‪ ،‬وكل ما في غيره من‬
‫محبوب فهو منه ـ سبحانه وتعالى ـ فهو المستحق لن يحب على الحقيقة والكمال‪ .‬وإنكار محبة العبد لربه هو في‬
‫الحقيقة إنكار لكونه إلهًا معبودًا‪ ،‬كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه ربًا خالقًا‬
‫فصار إنكارها مستلزمًا لنكار كونه رب العالمين‪ ،‬ولكونه إله العالمين‪ .‬وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود‪.‬‬

‫ولهذا اتفقت المتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى ـ صلوات الّ عليهما وسلمه ـ أن أعظم‬
‫ل بكل قلبك وعقلك وقصدك‪ ،‬وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم التي هي أصل شريعة التوراة‬ ‫الوصايا أن تحب ا ّ‬
‫والنجيل والقرآن‪ ،‬وإنكار ذلك هو مأخوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل‪ ،‬ومن وافقهم على ذلك من‬
‫متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذه عن هؤلء‪ ،‬وظهر ذلك في القرامطة الباطنية من السماعيلية؛ ولهذا قال الخليل‬
‫إمام الحنفاء ـ صلوات الّ وسلمه عليه ‪َ{ :‬أ َفرََأ ْيتُمْ مَا ُكنْتُ ْم َت ْعبُدُونَ ‪َ .‬أ ْنتُمْ وَآبَا ُؤ ُكمْ ا َلْقْ َدمُو َن ‪ .‬فَِإّنهُمْ َعدُوّ لِي ِإلّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [‬
‫ل مَنْ َأتَى‬ ‫لفِلِينَ} [النعام‪ ،]76 :‬وقال تعالى‪{ :‬يَوْ َم َ‬
‫ل َينْفَ ُع مَالٌ َولَ َبنُونَ ‪ِ .‬إ ّ‬ ‫حبّ ا ْ‬ ‫الشعراء‪75 :‬ـ ‪ ، ]77‬وقال أيضًا‪{ :‬لَ أُ ِ‬
‫لّ بِقَ ْلبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء‪ ]89 ،88 :‬وهو السليم من الشرك‪.‬‬ ‫ا َ‬

‫وأما قولهم‪ :‬إنه ل مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر إليه‪ .‬فهذا الكلم مجمل‪ ،‬فإن أرادوا‬
‫بالمناسبة أنه ليس بينهما توالد فهذا حق‪ ،‬وإن أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والكل‬
‫والمأكول أو نحو ذلك فهذا أيضًا حق‪ ،‬وإن أرادوا أنه ل مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محبًا عابدًا والخر‬
‫معبودًا محبوبًا فهذا هو رأس المسألة‪ ،‬فالحتجاج به مصادرة على المطلوب‪ ،‬ويكفي في ذلك المنع‪.‬‬

‫ثم يقال‪ :‬بل ل مناسبة تقتضي المحبة الكاملة إل المناسبة التي بين المخلوق والخالق‪ ،‬الذي ل إله غيره‪ ،‬الذي هو في‬
‫السماء إله وفي الرض إله‪ ،‬وله المثل العلى في السموات والرض‪ .‬وحقيقة قول هؤلء جحد كون الّ معبودًا في‬
‫الحقيقة؛ ولهذا وافق على هذه المسألة طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون الّ محبًا في الحقيقة‪،‬‬
‫فأقروا بكونه محبوبًا ومنعوا كونه محبًا؛ لنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة‪ ،‬فأخذوا عن‬
‫الصوفية مذهبهم في المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه‪ ،‬وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية‪،‬‬
‫فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكارًا‪ .‬ومنكروها قسمان‪:‬‬

‫‪/‬قسم يتأولونها بنفس المفعولت التي يحبها العبد فيجعلون محبته نفس خلقه‪.‬‬

‫وقسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولت‪ .‬وقد بسطنا الكلم في ذلك في قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها‪.‬‬

‫ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف المة على أن الّ يحب ويرضى ما أمر بفعله من واجب‬
‫ومستحب‪ ،‬وإن لم يكن ذلك موجودًا‪ ،‬وعلى أنه قد يريد وجود أمور يبغضها ويسخطها من العيان والفعال كالفسق‬
‫لّ لَ يُ ِحبّ ا ْلفَسَادَ} [البقرة‪ ، ]205 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و َل يَرْضَى ِل ِعبَادِهِ ا ْلكُ ْفرَ} [الزمر‪.]7 :‬‬
‫والكفر‪ ،‬وقد قال الّ تعالى‪{ :‬وَا ُ‬

‫والمقصود هنا إنما هو ذكر محبة العباد للههم‪.‬‬

‫وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال اليمان‪ ،‬ولم يتبين بين أحد من سلف المة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع‬
‫في ذلك‪ ،‬وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع الّ أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية‪ ،‬كالعرفان اليماني‬
‫ت تَدْرِي مَا ا ْل ِكتَابُ َولَ الِْيمَانُ}إلى آخر السورة [‬ ‫والسماع الفرقاني‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬و َكذَِلكَ أَوْ َ‬
‫ح ْينَا إَِل ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْ ِرنَا مَا ُكنْ َ‬
‫الشورى‪.]53 ،52 :‬‬
‫‪/‬ثم إنه لما طال المد صار في طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكر هذه المحبة‪.‬‬

‫وصار في بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير‪ ،‬وسماع المكاء والتصدية‪،‬‬
‫فيسمعون من القوال والشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذي يحرك من كل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح‬
‫لمحب الوثان والصلبان والخوان والوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن‪ ،‬ولكن كان الذين‬
‫يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكان والمكان والخلن‪ ،‬وربما اشترطوا له الشيخ الذي يحرس من الشيطان‪،‬‬
‫ثم توسع في ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه إلى أنواع من المعاصي‪ ،‬بل إلى أنواع من الفسوق‪ ،‬بل خرج فيه طوائف‬
‫إلى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الشعار التي فيها الكفر واللحاد‪ ،‬مما هو من أعظم أنواع الفساد‪،‬‬
‫وينتج ذلك لهم من الحوال بحسبه‪ ،‬كما تنتج لعباد المشركين وأهل الكتاب عباداتهم بحسبها‪.‬‬

‫والذي عليه محققو المشائخ أنه كما قال الجنيد ـ رحمه الّ‪ :‬من تكلف السماع فتن به‪ ،‬ومن صادفه السماع استراح به‪،‬‬
‫ومعنى ذلك أنه ل يشرع الجتماع لهذا السماع المحدث‪ ،‬ول يؤمر به‪ ،‬ول يتخذ ذلك دينًا‪ ،‬وقربة‪ ،‬فإن القرب‬
‫والعبادات إنما تؤخذ عن الرسل ـ صلوات الّ وسلمه عليهم ـ فكما أنه ل حرام إل ما حرمه الّ ول دين إل ما شرعه‬
‫ن بِهِ الُّ} [الشورى‪]21 :‬؛ ولهذا قال تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن ُك ْنتُمْ‬ ‫ن الدّينِ مَا لَ ْم يَ ْأذَ ْ‬ ‫الّ‪ .‬قال الّ تعالى‪{ :‬أَمْ َل ُهمْ شُ َركَاءُ َ‬
‫شرَعُوا َلهُ ْم مِ ْ‬
‫لّ فَاّت ِبعُونِي يُ ْحبِ ْبكُمْ الُّ َويَغْ ِفرْ َلكُ ْم ُذنُوبَكُمْ} [آل عمران‪ ،]31 :‬فجعل محبتهم لّ موجبة لمتابعة رسوله‪ ،‬وجعل‬ ‫حبّونَ ا َ‬
‫تُ ِ‬
‫متابعة رسوله موجبة لمحبة الّ لهم‪ ،‬قال أبي بن كعب ـ رضي الّ عنه‪ :‬عليكم بالسبيل والسنة‪ ،‬فإنه ما من عبد على‬
‫السبيل والسنة ذكر الّ فاقشعر جلده من مخافة الّ إل تحاتت عنه خطاياه‪ ،‬كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة‪ ،‬وما‬
‫من عبد على السبيل والسنة ذكر الّ خاليًا ففاضت عيناه من خشية الّ إل لم تمسه النار أبدًا‪ ،‬وإن اقتصادًا في سبيل‬
‫وسنة خير من اجتهاد في خلف سبيل وسنة‪ ،‬فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصادًا واجتهادًا على منهاج النبياء‬
‫وسنتهم‪ ،‬وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫فلو كان هذا مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود المحبوب‪ ،‬لكان ذلك مما دلت الدلة الشرعية عليه‪.‬‬
‫ومن المعلوم أنه لم يكن في القرون الثلثة المفضلة التي قال فيها النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬خير القرون قرني الذي‬
‫بعثت فيه‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم) ل في الحجاز‪ ،‬ول في الشام‪ ،‬ول في اليمن‪ ،‬ول في العراق‪ ،‬ول في‬
‫مصر‪ ،‬ول في خُرَاسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على السماع المبتدع لصلح القلوب؛ ولهذا كرهه الئمة‬
‫كالمام أحمد وغيره‪ ،‬حتى عده الشافعي من أحداث الزنادقة حين قال‪ :‬خلفت ببغداد شيئًا أحدثه الزنادقة يسمونه‬
‫التغبير ‪ ،‬يصدون به الناس عن القرآن‪.‬‬

‫‪/‬وأما ما لم يقصده النسان من الستماع‪ ،‬فل يترتب عليه ل نهي ول ذم باتفاق الئمة؛ ولهذا إنما يترتب الذم والمدح‬
‫على الستماع ل على السماع‪ ،‬فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة ل يثاب على ذلك؛إذ‬
‫العمال بالنيات‪ ،‬وكذلك ما ينهى عن استماعه من الملهي لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك‪ ،‬فلو سمع‬
‫السامع بيتًا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما‬
‫ينهى عنه‪ ،‬وكان المحمود الحسن حركة قلبه التي يحبها الّ ورسوله إلى محبته التي تتضمن فعل ما يحبه الّ وترك‬
‫ما يكرهه الّ‪ ،‬كالذي اجتاز بيتًا فسمع قائلً يقول‪:‬‬

‫كل يوم تتلون ** غير هذا بك أجمل‬

‫فأخذ منه إشارة تناسب حاله‪ ،‬فإن الشارات من باب القياس والعتبار وضرب المثال‪.‬‬

‫ومسألة [السماع] كبيرة منتشرة قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن المقاصد المطلوبة للمريدين تحصل بالسماع اليماني القرآني النبوي الديني الشرعي الذي هو‬
‫سماع النبيين‪ ،‬وسماع العالمين‪ ،‬وسماع العارفين‪ ،‬وسماع المؤمنين‪ .‬قال الّ تعالى‪{ :‬أُوَْل ِئكَ اّلذِينَ َأ ْنعَمَ الُّ عََل ْيهِ ْم مِنْ‬
‫جدًا َو ُب ِكيّا} [مريم‪ ،]58 :‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ اّلذِينَ أُوتُوا‬ ‫سّ‬ ‫خرّوا ُ‬ ‫ن مِنْ ذُ ّريّ ِة آدَمَ}إلى قوله‪ِ{ :‬إذَا ُتتْلَى عََل ْيهِ ْم آيَاتُ الرّ ْ‬
‫حمَانِ َ‬ ‫ال ّن ِبيّي َ‬
‫خشُوعًا} [السراء‪107 :‬ــ ‪ ،]109‬وقال تعالى‪{ :‬‬ ‫جدًا} إلى قوله‪َ { :‬ويَزِيدُهُمْ ُ‬ ‫سّ‬ ‫لْ ْذقَانِ ُ‬ ‫ن َقبْلِهِ ِإذَا يُتْلَى عََل ْيهِمْ َيخِرّونَ لِ َ‬
‫ا ْلعِلْ َم مِ ْ‬
‫ض مِنْ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُوا مِنْ الْحَقّ} [المائدة‪ ،]83 :‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إّنمَا‬ ‫ع ُي َنهُ ْم تَفِي ُ‬
‫ل تَرَى أَ ْ‬ ‫س ِمعُوا مَا أُن ِزلَ إِلَى الرّسُو ِ‬ ‫وَِإذَا َ‬
‫ت قُلُو ُبهُمْ وَِإذَا تُِليَتْ عََل ْيهِمْ آياتُهُ زَا َد ْتهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى َرّبهِ ْم يَتَ َوكّلُونَ} [النفال‪ ،]2 :‬وقال تعالى‪{ :‬‬
‫ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ اّلذِينَ ِإذَا ذُكِرَ الُّ وَجَِل ْ‬
‫ي تَقْ َشعِ ّر ِمنْهُ جُلُودُ اّلذِينَ يَ ْخشَوْنَ َرّبهُمْ} الية [الزمر‪.]23 :‬‬ ‫ث ِكتَابًا ُمتَشَا ِبهًا َمثَانِ َ‬
‫حدِي ِ‬
‫لّ نَزّلَ َأحْسَنَ ا ْل َ‬
‫ا ُ‬

‫حدِيثِ ِليُضِلّ عَ ْ‬
‫ن‬ ‫شتَرِي َلهْوَ ا ْل َ‬ ‫ن يَ ْ‬‫س مَ ْ‬‫وكما مدح المقبلين على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه في مثل قوله‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬
‫ن فِي ُأذُ َنيْهِ َوقْرًا َفبَشّرْ ُه ِب َعذَابٍ‬
‫س َم ْعهَا كَأَ ّ‬ ‫خذَهَا هُزُوًا} إلى قوله‪{ :‬وَِإذَا ُتتْلَى عََليْ ِه آيَا ُتنَا وَلّى مُ ْ‬
‫س َتكْبِرًا َكأَنْ لَ ْم يَ ْ‬ ‫لّ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ َو َيتّ ِ‬
‫سبِيلِ ا ِ‬
‫َ‬
‫صمّا وَ ُعمْيَانًا} [الفرقان‪ ،]73 :‬وقال‬ ‫أَلِيمٍ}[لقمان‪ ،]7 ،6 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَاّلذِينَ ِإذَا ذُكّرُوا بِآيَاتِ َربّهِمْ لَ ْم يَخِرّوا عََل ْيهَا ُ‬
‫ت مِنْ َقسْوَرَةٍ}[المدثر‪ 49 :‬ـ ‪.]51‬‬ ‫س َتنْفِرَ ٌة ‪ .‬فَرّ ْ‬‫حمُ ٌر مُ ْ‬ ‫تعالى‪َ { :‬فمَا َل ُهمْ عَنْ التّ ْذكِرَ ِة ُمعْرِضِين َ‪ .‬كََأّنهُمْ ُ‬

‫لّ فِيهِمْ َخيْرًا لَ ْس َمعَهُمْ} الية [النفال‪]23 ،22 :‬‬


‫علِمَ ا ُ‬
‫ل َيعْقِلُونَ ‪ .‬وَلَوْ َ‬‫ع ْندَ الِّ الصّمّ ا ْل ُبكْمُ اّلذِينَ َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬إِنّ شَرّ الدّوَابّ ِ‬
‫س َمعُوا ِل َهذَا الْ ُقرْآنِ وَا ْلغَوْا فِيهِ َلعَّلكُ ْم َتغِْلبُونَ}[فصلت‪ ،]26 :‬وقال تعالى‪َ { :‬فمَا َل ُهمْ عَنْ‬ ‫‪ ،‬وقال تعالى‪َ { :‬وقَالَ اّلذِينَ َكفَرُوا َ‬
‫ل تَ ْ‬
‫ت مِ ْن قَسْوَ َرةٍ} [المدثر‪ 49 :‬ـ ‪ ]51‬ومثل هذا كثير في القرآن‪.‬‬ ‫س َتنْفِرَ ٌة ‪َ .‬فرّ ْ‬
‫حمُ ٌر مُ ْ‬
‫الّتذْكِرَ ِة ُمعْ ِرضِين َ‪َ .‬كَأنّهُمْ ُ‬

‫وهذا كان سماع سلف المة وأكابر مشائخها وأئمتها كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشائخ كإبراهيم بن أدهم‪،‬‬
‫والفضيل بن عياض‪ ،‬وأبي سليمان الداراني‪ ،‬ومعروف الكرخي‪ ،‬ويوسف بن أسباط‪ ،‬وحذيفة المرعشي‪ ،‬وأمثال‬
‫هؤلء‪.‬‬

‫وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ يقول لبي موسى الشعري‪ :‬يا أبا موسى‪ ،‬ذكرنا ربنا‪ ،‬فيقرأ وهم يسمعون‬
‫ويبكون‪ .‬وكان أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون‪،‬‬
‫وقد ثبت في الصحيح‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم مر بأبي موسى الشعري وهو يقرأ‪ ،‬فجعل يستمع لقراءته وقال‪:‬‬
‫(لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود)‪ ،‬وقال‪( :‬مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك)‪ ،‬فقال‪ :‬لو‬
‫علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا‪ ،‬أي‪ :‬لحسنته لك تحسينًا‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪( :‬زينوا القرآن بأصواتكم)‪،‬‬
‫وقال‪( :‬لّ أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته) ـ أذنا أي‪ :‬استماعًا ـ كقوله‪{ :‬‬
‫وََأ ِذنَتْ لِ َرّبهَا َوحُقّتْ} [النشقاق‪ ]2 :‬أي‪ :‬استمعت‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪( :‬ما أذن الّ لشيء ما أذن لنبي حسن‬
‫الصوت‪ ،‬يتغنى بالقرآن يجهر به)‪ ،‬وقال‪( :‬ليس منا من لم يتغن بالقرآن)‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا السماع من المواجيد العظيمة‪ ،‬والذواق الكريمة‪ ،‬ومزيد المعارف والحوال الجسيمة ما ل يتسع له خطاب‪،‬‬
‫ول يحويه كتاب‪ ،‬كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم واليمان ما ل يحيط به بيان‪.‬‬

‫لّ فَاّتبِعُونِي يُ ْح ِب ْبكُمْ الُّ} [آل عمران‪،]31 :‬‬


‫حبّونَ ا َ‬ ‫ومما ينبغي التفطن له أن الّ ـ سبحانه ـ قال في كتابه‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن ُكنْتُ ْم تُ ِ‬
‫قال طائفة من السلف‪ :‬ادعي قوم على عهد النبي صلى ال عليه وسلم أنهم يحبون الّ فأنزل الّ هذه الية‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن ُكنْتُمْ‬
‫لّ فَاّت ِبعُونِي يُ ْحبِ ْبكُمْ الُّ} الية ‪ ،‬فبين ـ سبحانه ـ أن محبته توجب اتباع الرسول‪ ،‬وأن اتباع الرسول يوجب محبة‬ ‫حبّونَ ا َ‬
‫تُ ِ‬
‫الّ للعبد‪ ،‬وهذه محبة امتحن الّ بها أهل دعوى محبة الّ‪ ،‬فإن هذا الباب تكثر فيه الدعاوى والشتباه؛ ولهذا يروي‬
‫عن ذي النون المصري أنهم تكلموا في مسألة المحبة عنده فقال‪ :‬اسكتوا عن هذه المسألة لئل تسمعها النفوس فتدعيها‪.‬‬

‫وقال بعضهم‪ :‬من عبد الّ بالحب وحده فهو زنديق‪ ،‬ومن عبد الّ بالخوف وحده فهو حروري‪ ،‬ومن عبده بالرجاء‬
‫وحده فهو مرجئ‪ ،‬ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد‪ ،‬وذلك؛ لن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه‬
‫حتى تتوسع في أهوائها‪ ،‬إذا لم يزعها وازع الخشية لّ حتى قالت اليهود والنصارى‪{ :‬نَحْنُ َأ ْبنَاءُ الِّ وَأَ ِحبّا ُؤهُ} [المائدة‪:‬‬
‫‪ ،]18‬ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما ل يوجد في أهل الخشية؛ ولهذا قرن الخشية بها في قوله‪{ / :‬‬
‫ك يَوْمُ ا ْلخُلُودِ}[ق‪32 :‬ـ ‪.]34‬‬ ‫ب ‪ .‬ادْخُلُوهَا بِسَلَ ٍم ذَِل َ‬
‫ب ُمنِي ٍ‬
‫ن بِا ْل َغيْبِ َوجَا َء بِقَلْ ٍ‬
‫حمَا َ‬
‫شيَ الرّ ْ‬
‫حفِيظٍ‪ .‬مَنْ خَ ِ‬
‫َهذَا مَا تُوعَدُونَ ِلكُلّ أَوّابٍ َ‬

‫وكان المشائخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير‬
‫خشية؛ لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة‪ ،‬وما وقع في هؤلء من فساد العتقاد‪ ،‬والعمال‬
‫أوجب إنكار طوائف لصل طريقة المتصوفة بالكلية‪ ،‬حتى صار المنحرفون صنفين ‪:‬‬

‫صنف يقر بحقها وباطلها‪.‬‬

‫وصنف ينكر حقها وباطلها‪ ،‬كما عليه طوائف من أهل الكلم والفقه‪.‬‬
‫والصواب إنما هو القرار بما فيها ‪ ،‬وفي غيرها من موافقة الكتاب‪ ،‬والسنة ‪ ،‬والنكار لما فيها وفي غيرها من‬
‫مخالفة الكتاب والسنة‪.‬‬

‫لّ فَاّتبِعُونِي يُ ْح ِب ْبكُمْ الُّ َو َيغْفِرْ َلكُ ْم ذُنُو َبكُمْ}‪ ،‬فاتباع سنة رسوله صلى ال عليه وسلم‬
‫حبّونَ ا َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن ُكنْتُ ْم تُ ِ‬
‫وشريعته باطنًا وظاهرًا هي موجب محبة الّ‪ ،‬كما أن الجهاد في سبيله‪ ،‬وموالة أوليائه‪ ،‬ومعاداة أعدائه هو حقيقتها‪،‬‬
‫كما في الحديث‪( :‬أوثق عرى اليمان الحب في الّ‪ ،‬والبغض في الّ)‪ / ،‬وفي الحديث‪( :‬من أحب لّ‪ ،‬وأبغض لّ‪،‬‬
‫وأعطى لّ‪ ،‬ومنع لّ‪ ،‬فقد استكمل اليمان)‪.‬‬

‫وكثير ممن يدعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة‪ ،‬وعن المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬والجهاد في‬
‫سبيل الّ‪ ،‬ويدعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره؛ لزعمه أن طريق المحبة لّ ليس فيه غيره‪ ،‬ول‬
‫غضب لّ‪ ،‬وهذا خلف ما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا في الحديث المأثور‪ ،‬يقول الّ ـ تعالى ـ يوم القيامة‪( :‬أين‬
‫المتحابون بجللي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم ل ظل إل ظلي)‪ ،‬فقوله‪ :‬أين المتحابون بجلل الّ تنبيه على ما في‬
‫قلوبهم من إجلل الّ وتعظيمه مع التحاب فيه‪ ،‬وبذلك يكونون حافظين لحدوده‪ ،‬دون الذين ل يحفظون حدوده لضعف‬
‫اليمان في قلوبهم‪ ،‬وهؤلء الذين جاء فيهم الحديث‪( :‬حقت محبتي للمتحابين في‪ ،‬وحقت محبتي للمتجالسين في‪،‬‬
‫وحقت محبتي للمتزاورين في‪ ،‬وحقت محبتي للمتباذلين في)‪ ،‬والحاديث في المتحابين في الّ كثيرة‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الّ عنه‪( :‬سبعة يظلهم الّ في ظله يوم‬
‫ل ظل إل ظله‪ ،‬إمام عادل‪ ،‬وشاب نشأ في عبادة الّ‪ ،‬ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه‪،‬‬
‫ورجلن تحابا في الّ اجتمعا وتفرقا عليه‪ .‬ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما تنفق يمينه‪ ،‬ورجل‬
‫ذكر الّ خاليًا ففاضت عيناه‪ ،‬ورجل دعته امرأة ‪ /‬ذات منصب وجمال فقال‪ :‬إني أخاف ال رب العالمين)‪.‬‬

‫وأصل المحبة‪ :‬هو معرفة الّ ـ سبحانه وتعالى ـ ولها أصلن‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬وهو الذي يقال له‪ :‬محبة العامة؛ لجل إحسانه إلى عباده‪ ،‬وهذه المحبة على هذا الصل ل ينكرها أحد‪ ،‬فإن‬
‫القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها‪ ،‬وبغض من أساء إليها‪ ،‬والّ ـ سبحانه ـ هو المنعم المحسن إلى عبده‬
‫بالحقيقة‪ ،‬فإنه المتفضل بجميع النعم‪ ،‬وإن جرت بواسطة‪ ،‬إذ هو ميسر الوسائط؛ ومسبب السباب‪ ،‬ولكن هذه المحبة‬
‫في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة الّ نفسه‪ ،‬فما أحب العبد في الحقيقة إل نفسه‪ ،‬وكذلك كل من أحب شيئًا لجل‬
‫إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إل نفسه‪ .‬وهذا ليس بمذموم بل محمود‪.‬‬

‫وهذه المحبة هي المشار إليها بقوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬أحبوا الّ لما يغذوكم به من نعمه‪ ،‬وأحبوني لحب الّ‪،‬‬
‫وأحبوا أهلي بحبي)‪ ،‬والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة الّ ما يستوجب أنه يحبه إل إحسانه إليه‪،‬‬
‫وهذا كما قالوا‪ :‬إن الحمد لّ على نوعين‪:‬‬

‫حمد هو شكر‪ ،‬وذلك ل يكون إل على نعمته‪.‬‬

‫وحمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه ـ سبحانه ـ ‪ /‬فكذلك الحب‪ ،‬فإن الصل الثاني فيه هو‬
‫محبته لما هو له أهل‪ ،‬وهذا حب من عرف من الّ ما يستحق أن يحب لجله‪ ،‬وما من وجه من الوجوه التي يعرف‬
‫الّ بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إل وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولته؛ إذ كل نعمة‬
‫منه فضل‪ ،‬وكل نقمة منه عدل؛ ولهذا استحق أن يكون محمودًا على كل حال‪ ،‬ويستحق أن يحمد على السراء‪،‬‬
‫والضراء‪ ،‬وهذا أعلى وأكمل‪ ،‬وهذا حب الخاصة‪.‬‬

‫وهؤلء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم‪ ،‬ويتلذذون بذكره ومناجاته‪ ،‬ويكون ذلك لهم أعظم من الماء‬
‫للسمك‪ ،‬حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من اللم ما ل يطيقون‪ ،‬وهم السابقون كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة‬
‫ـ رضي الّ عنه ـ قال‪ :‬مر النبي صلى ال عليه وسلم بجبل يقال له‪ :‬جمدان‪ ،‬فقال‪( :‬سيروا هذا جمدان‪ ،‬سبق‬
‫المفردون)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬من المفردون؟ قال‪( :‬الذاكرون الّ كثيرًا والذاكرات)‪ ،‬وفي رواية أخرى قال‪( :‬‬
‫المستهترون بذكر الّ يضع الذكر عنهم أثقالهم‪ ،‬فيأتون ال يوم القيامة خفافًا) والمستهتر بذكر ال يتولع به ينعم به‬
‫كلف ل يفتر منه‪.‬‬
‫وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس ـ رضي الّ عنهما ـ قال‪ :‬قال موسى‪ :‬يا رب‪ ،‬أي عبادك أحب‬
‫إليك؟ قال‪ :‬الذي يذكرني ول ينساني‪ ،‬قال‪ :‬أي عبادك أعلم؟ قال‪ :‬الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على‬
‫‪ /‬هدى أو ترده عن ردى‪ ،‬قال أي عبادك أحكم؟ قال‪ :‬الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما‬
‫يحكم لنفسه(‪ .)3‬فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير‪.‬‬

‫ومما ينبغي التفطن له أنه ل يجوز أن يظن في باب محبة الّ ـ تعالى ـ ما يظن في محبة غيره مما هو من جنس‬
‫التجني‪ ،‬والهجر‪ ،‬والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك‪ ،‬مما قد يغلط فيه طوائف من الناس‪ ،‬حتى يتمثلون في حبه بجنس ما‬
‫يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب‪ ،‬أو يبعد من يتقرب إليه‪ ،‬وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في‬
‫رسائلهم حتى يكون مضمون كلمهم إقامة الحجة على الّ‪ ،‬بل لّ الحجة البالغة‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪( :‬يقول الّ تعالى‪ :‬من ذكرني في‬
‫نفسه ذكرته في نفسي‪ ،‬ومن ذكرني في مل ذكرته في مل خير منه‪ ،‬ومن تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا‪ ،‬ومن‬
‫تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا‪ ،‬ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)‪ .‬وفي بعض الثار يقول الّ تعالى‪( :‬أهل ذكري‬
‫أهل مجالستي‪ ،‬وأهل شكري أهل زيادتي‪ ،‬وأهل طاعتي أهل كرامتي‪ ،‬وأهل معصيتي ل أؤيسهم من رحمتي‪ ،‬وإن‬
‫تابوا فأنا حبيبهم ـ لن الّ يحب التوابين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم‪ ،‬أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب)‪.‬‬

‫ضمًا} [طه‪ ،]112 :‬قالوا‪ :‬الظلم‪ :‬أن يحمل‬ ‫ل هَ ْ‬


‫ل يَخَافُ ظُ ْلمًا َو َ‬
‫ن فَ َ‬ ‫‪/‬وقد قال تعالى‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫ن َي ْعمَلْ مِنْ الصّاِلحَاتِ وَهُ َو مُ ْؤمِ ٌ‬
‫عليه سيئات غيره‪ ،‬والهضم‪ :‬أن ينقص من حسنات نفسه‪ .‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا ظََل ْمنَا ُهمْ وََلكِ ْن كَانُوا أَن ُف َسهُ ْم يَظِْلمُونَ} [النحل‪:‬‬
‫‪ ،]118‬وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر ـ رضي الّ عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬يقول الّ تعالى‪ :‬يا‬
‫عبادي‪ ،‬إني حرمت الظلم على نفسي‪ ،‬وجعلته بينكم محرمًا فل تظالموا‪ ،‬ياعبادي‪ ،‬كلكم ضال إل من هديته‪،‬‬
‫فاستهدوني أهدكم‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬كلكم جائع إل من أطعمته‪ ،‬فاستطعموني أطعمكم‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬كلكم عار إل من كسوته‬
‫فاستكسوني أكسكم‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ول أبالي فاستغفروني أغفر لكم‪،‬‬
‫ياعبادي‪ ،‬إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني‪ ،‬ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم‬
‫كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم‪ ،‬ما زاد ذلك في ملكي شيئا‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم‪،‬‬
‫كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم‬
‫اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إل كما ينقص المخيط إذا‬
‫غمس في البحر‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها‪ ،‬فمن وجد خيرًا فليحمد الّ‪ ،‬ومن وجد غير‬
‫ذلك فل يلومنّ إل نفسه)‪.‬‬

‫ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس قال‪ :‬قال ‪ /‬رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬سيد‬
‫الستغفار أن يقول العبد‪ :‬اللهم أنت ربي ل إله إل الّ أنت‪ ،‬خلقتني وأنا عبدك‪ ،‬وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت‪،‬‬
‫أعوذ بك من شر ما صنعت‪ ،‬أبوء لك بنعمتك على‪ ،‬وأبوء بذنبي فاغفرلي‪ ،‬فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت‪ .‬من قالها إذا‬
‫أصبح موقنًا بها فمات في يومه دخل الجنة‪ ،‬ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة)‪.‬‬

‫فالعبد دائما بين نعمة من الّ يحتاج فيها إلى شكر‪ ،‬وذنب منه يحتاج فيه إلى الستغفار‪ ،‬وكل من هذين من المور‬
‫اللزمة للعبد دائمًا‪ ،‬فإنه ل يزال يتقلب في نعم الّ وآلئه‪ ،‬ول يزال محتاجًا إلى التوبة والستغفار‪.‬‬

‫ولهذا كان سيد ولد آدم‪ ،‬وإمام المتقين محمد صلى ال عليه وسلم يستغفر في جميع الحوال‪ .‬وقال صلى ال عليه‬
‫وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري‪( :‬أيها الناس‪ ،‬توبوا إلى ربكم‪ ،‬فإني لستغفر الّ‪ ،‬وأتوب إليه في اليوم‬
‫أكثر من سبعين مرة)‪ ،‬وفي صحيح مسلم أنه قال‪( :‬إنه ليغان على قلبي‪ ،‬وإني لستغفر الّ في اليوم مائة مرة)‪ ،‬وقال‬
‫عبد الّ بن عمر‪ :‬كنا نعد لرسول الّ صلى ال عليه وسلم في المجلس الواحد يقول‪( :‬رب اغفر لي وتب على‪ ،‬إنك‬
‫أنت التواب الغفور‪ ،‬مائة مرة)‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا شرع الستغفار في خواتيم العمال‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وَا ْلمُ ْس َتغْفِرِي َن بِالَْسْحَارِ} [آل عمران‪ ،]17 :‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫أحيوا الليل بالصلة فلما كان وقت السحر‪ ،‬أمروا بالستغفار‪ ،‬وفي الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا‬
‫انصرف من صلته استغفر ثلثا‪ ،‬وقال‪( :‬اللهم أنت السلم‪ ،‬ومنك السلم‪ ،‬تباركت ياذا الجلل والكرام) ‪ ،‬وقال‬
‫ت فَا ْذكُرُواْ الّ عِندَ ا ْلمَ ْشعَرِ الْ َحرَامِ} إلى قوله‪{ :‬وَا ْس َتغْفِرُوا الَّ إِنّ الَّ غَفُورٌ َرحِيمٌ}[البقرة‪:‬‬
‫ع َرفَا ٍ‬ ‫تعالى‪َ { :‬فِإذَا َأ َف ْ‬
‫ضتُم مّنْ َ‬
‫‪ ،]199 ،198‬وقد أمر الّ نبيه بعد أن بلغ الرسالة‪ ،‬وجاهد في الّ حق جهاده‪ ،‬وأتى بما أمر الّ به مما لم يصل‬
‫س َتغْفِرْهُ ِإنّهُ‬
‫ح ْمدِ َرّبكَ وَا ْ‬
‫سبّحْ بِ َ‬
‫ن فِي دِينِ الِّ َأفْوَاجًا ‪َ .‬ف َ‬ ‫إليه أحد غيره ‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬جَا َء نَصْرُ الِّ وَالْ َفتْحُ ‪ .‬وَرََأ ْيتَ النّا َ‬
‫س َيدْخُلُو َ‬
‫كَا َن تَوّابًا} [سورة النصر]‪.‬‬

‫خبِيرٍ ‪َ .‬ألّ‬ ‫حكِيمٍ َ‬ ‫ت مِنْ َلدُنْ َ‬ ‫ت آيَاتُ ُه ثُ ّم فُصَّل ْ‬ ‫ح ِكمَ ْ‬‫ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والستغفار‪ ،‬كما قال الّ تعالى‪{ :‬الر ِكتَابٌ ُأ ْ‬
‫َتعُْبدُوا ِإلّ الَّ ِإّننِي َلكُ ْم ِمنْهُ َنذِيرٌ َوبَشِيرٌ ‪ .‬وَأَنْ ا ْستَغْ ِفرُوا َرّبكُ ْم ثُ ّم تُوبُوا ِإَليْهِ ُي َمّتعْكُ ْم َمتَاعًا حَ َسنًا} الية [هود‪1 :‬ـ ‪ ،]3‬وقـال‬
‫س َتغْفِرُوهُ} [فصلت‪ ،]6 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَاعَْلمْ َأنّهُ لَ إِلَهَ ِإلّ الُّ وَا ْ‬
‫س َتغْ ِفرْ ِلذَ ْن ِبكَ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ}‬ ‫تعالـى‪{ :‬فَا ْ‬
‫س َتقِيمُوا ِإَليْهِ وَا ْ‬
‫[محمد‪.]19 :‬‬

‫ولهذا جاء في الحديث ‪( :‬يقول الشيطان ‪ :‬أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بل إله إل الّ والستغفار) وقد قال يونس‪:‬‬
‫ت مِنْ الظّاِلمِينَ} [النبياء‪ ،]87 :‬وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا ركب دابته يحمد الّ‬
‫سبْحَا َنكَ ِإنّي كُن ُ‬
‫{لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُ‬
‫ثم يكبر ثلثا ويقول‪( :‬ل إله إل أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي) ‪ ،‬وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس‪( :‬‬
‫سبحانك اللّهم وبحمدك ‪ ،‬أشهد أن ل إله إل أنت‪ ،‬أستغفرك وأتوب إليك)‪ .‬والّ أعلم‪ ،‬وصلى الّ على محمد وسلم‪.‬‬

‫‪/‬وقال شيخ السلم تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه الّ تعالى ‪:‬‬

‫الحمد لّ‪ ،‬نستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالّ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهد الّ فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل‬
‫فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الّ وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدًا عبده ور سوله‪ ،‬صلى الّ عليه وعلى آله‬
‫وأصحابه وسلم تسليمًا‪.‬‬

‫َفصْــل‬

‫شفَائِهَا‬
‫في مَ َرضِ القلُوبِ وَ ِ‬

‫شيْطَا ُ‬
‫ن‬ ‫ل مَا يُلْقِي ال ّ‬ ‫جعَ َ‬‫لّ َمرَضًا} [البقرة‪ ،]10 :‬وقال تعالى‪ِ{ :‬ليَ ْ‬ ‫قال ال تعالى عن المنافقين‪{ :‬فِي ُقلُو ِبهِ ْم مَرَ ٌ‬
‫ض فَزَادَهُمْ ا ُ‬
‫ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَ َرضٌ وَا ْلمُ ْرجِفُونَ‬ ‫سيَ ِة قُلُو ُبهُمْ} [الحج‪ / ،]53 :‬وقال‪َ{ :‬لئِنْ لَ ْم َي ْنتَهِ ا ْل ُمنَافِقُونَ وَاّلذِي َ‬ ‫ِفتْنَةً لِّلذِينَ فِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ وَالْقَا ِ‬
‫ل قَلِيلً} [الحزاب‪ ،]60 :‬وقال‪َ { :‬و َ‬
‫ل يَ ْرتَابَ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَابَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ‬ ‫ل يُجَا ِورُو َنكَ فِيهَا ِإ ّ‬‫فِي ا ْل َمدِينَةِ َل ُنغْ ِر َيّنكَ ِبهِ ْم ثُ ّم َ‬
‫لّ ِب َهذَا َمثَلً} [المدثر‪ ،]31 :‬وقال تعالى‪َ { :‬قدْ جَا َء ْتكُ ْم مَوْعِظَ ٌة مِنْ َرّبكُمْ‬ ‫ن مَاذَا أَرَادَ ا ُ‬
‫وَِليَقُولَ اّلذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ َمرَضٌ وَا ْلكَافِرُو َ‬
‫حمَةٌ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َولَ‬
‫ن مَا ُهوَ شِفَاءٌ وَرَ ْ‬ ‫ل مِنْ ا ْلقُرْآ ِ‬ ‫حمَةٌ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [يونس‪ ،]57 :‬وقال‪َ { :‬و ُننَزّ ُ‬ ‫صدُورِ وَ ُهدًى َورَ ْ‬ ‫شفَاءٌ ِلمَا فِي ال ّ‬ ‫وَ ِ‬
‫ظ قُلُو ِبهِمْ} [التوبة‪.]15 ،14 :‬‬ ‫غيْ َ‬ ‫صدُو َر قَوْ ٍم مُ ْؤ ِمنِينَ ‪َ .‬وُيذْهِبْ َ‬ ‫يَزِيدُ الظّاِلمِينَ ِإلّ خَسَارًا}‪[ ،‬السراء‪ ،]82 :‬وقال‪َ { :‬ويَشْفِ ُ‬

‫ومرض البدن خلف صحته وصلحه‪ ،‬وهو فساد يكون فيه يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية‪ ،‬فإدراكه إما أن يذهب‬
‫كالعمى والصمم‪ ،‬وإما أن يدرك الشياء على خلف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرًا‪ ،‬وكما يخيل إليه أشياء ل حقيقة‬
‫لها في الخارج‪.‬‬

‫وأما فساد حركته الطبيعية‪ ،‬فمثل أن تضعف قوته عن الهضم‪ ،‬أو مثل أن يبغض الغذية التي يحتاج إليها‪ ،‬ويحب‬
‫الشياء التي تضره‪ ،‬ويحصل له من اللم بحسب ذلك‪ ،‬ولكن مع ذلك المرض لم يمت ولم يهلك‪ ،‬بل فيه نوع قوة‬
‫على إدراك الحركة الرادية في الجملة‪ ،‬فيتولد من ذلك ألم يحصل في البدن إما بسبب فساد الكمية‪ ،‬أو الكيفية‪.‬‬

‫فالول‪ :‬إما نقص المادة فيحتاج إلى غذاء‪ ،‬وإما بسبب زيادتها‪ / ،‬فيحتاج إلى استفراغ‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬كقوة في الحرارة والبرودة خارج عن العتدال‪ ،‬فيداوى‪.‬‬

‫َفصْــل‬

‫وكذلك مرض القلب‪ ،‬هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره‪ ،‬وإرادته‪ ،‬فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى ل‬
‫يرى الحق‪ ،‬أو يراه على خلف ما هو عليه‪ ،‬وإرادته بحيث يبغض الحق النافع‪ ،‬ويحب الباطل الضار‪ ،‬فلهذا يفسر‬
‫المرض تارة بالشك والريب‪ .‬كما فسر مجاهد وقتادة قوله‪{ :‬فِي ُقلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ} [البقرة‪ ]10 :‬أي‪ :‬شك‪ ،‬وتارة يفسر‬
‫طمَعَ اّلذِي فِي قَ ْلبِ ِه مَرَضٌ} [الحزاب‪.]32 :‬‬
‫بشهوة الزنا كما فسر به قوله‪َ { :‬فيَ ْ‬

‫ولهذا صنف الخرائطي كتاب [اعتلل القلوب] أي مرضها‪ ،‬وأراد به مرضها بالشهوة‪ ،‬والمريض يؤذيه ما ل يؤذي‬
‫الصحيح‪ ،‬فيضره يسير الحر والبرد والعمل ونحو ذلك‪ ،‬من المور التي ل يقوى عليها لضعفه بالمرض‪.‬‬

‫والمرض في الجملة يضعف المريض بجعل قوته ضعيفة ل تطيق ما يطيقه ‪ /‬القوي‪ ،‬والصحة تحفظ بالمثل‪ ،‬وتزال‬
‫بالضد‪ ،‬والمرض يقوى بمثل سببه‪ ،‬ويزول بضده‪ ،‬فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه‪ ،‬وزاد ضعف‬
‫قوته‪ ،‬حتى ربما يهلك‪ ،‬وإن حصل له ما يقوي القوة ويزيل المرض‪ ،‬كان بالعكس‪.‬‬

‫صدُورَ‬ ‫ومرض القلب ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك‪ ،‬فإن ذلك يؤلم القلب‪ .‬قال الّ تعالى‪َ { :‬ويَ ْ‬
‫شفِ ُ‬
‫ظ قُلُو ِبهِمْ} [التوبة‪ ،]15 ،14 :‬فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من اللم‪ ،‬ويقال‪ :‬فلن‬‫غيْ َ‬
‫قَوْ ٍم مُ ْؤ ِمنِينَ ‪َ .‬وُيذْهِبْ َ‬
‫شفى غيظه‪ ،‬وفي القود استشفاء أولياء المقتول‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فهذا شفاء من الغم والغيظ والحزن‪ ،‬وكل هذه آلم تحصل‬
‫في النفس‪.‬‬

‫وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪( :‬هل سألوا إذا لم يعلموا‪ ،‬فإنما شفاء ال ِعيّ السؤال)‪.‬‬
‫والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه‪ ،‬حتى يحصل له العلم واليقين‪ ،‬ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق‪ :‬قد‬
‫شفاني بالجواب‪.‬‬

‫والمرض دون الموت‪ ،‬فالقلب يموت بالجهل المطلق‪ ،‬ويمرض بنوع من الجهل‪ ،‬فله موت ومرض‪ ،‬وحياة وشفاء‪،‬‬
‫وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه؛ فلهذا مرض القلب إذا ورد عليه شبهة‬
‫ل مَا يُلْقِي‬ ‫أو شهوة قوت مرضه‪ ،‬وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من ‪ /‬أسباب صلحه وشفائه‪ .‬قال تعالى‪ِ{ :‬ليَ ْ‬
‫جعَ َ‬
‫ال ّشيْطَا ُن ِفتْنَةً لِّلذِينَ فِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ} [الحج‪]53 :‬؛ لن ذلك أورث شبهة عندهم‪ ،‬والقاسية قلوبهم ليبسها فأولئك قلوبهم‬
‫ضعيفة بالمرض‪ ،‬فصار ما ألقى الشيطان فتنة لهم‪ ،‬وهؤلء كانت قلوبهم قاسية عن اليمان‪ ،‬فصار فتنة لهم‪.‬‬

‫ن فِي ا ْل َمدِينَةِ} [الحزاب‪ ،]60 :‬كما قال‪{ :‬وَِليَقُولَ اّلذِي َ‬


‫ن فِي‬ ‫وقال‪َ{ :‬لئِنْ لَ ْم َي ْنتَهِ ا ْل ُمنَافِقُونَ وَاّلذِي َ‬
‫ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَ َرضٌ وَا ْلمُ ْرجِفُو َ‬
‫قُلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ} [المدثر‪ ،]31 :‬لم تمت قلوبهم كموت الكفار والمنافقين‪ ،‬و ليست صحيحة صالحة كصالح قلوب‬
‫طمَعَ اّلذِي فِي قَ ْلبِ ِه مَرَضٌ} [الحزاب‪ ،]32 :‬وهو مرض الشهوة‪،‬‬ ‫المؤمنين‪ ،‬بل فيها مرض شبهة وشهوات‪ ،‬وكذلك { َفيَ ْ‬
‫فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها‪ ،‬بخلف القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما‬
‫يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه‪ ،‬فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض‪.‬‬

‫والقرآن شفاء لما في الصدور‪ ،‬ومن في قلبه أمراض الشبهات‪ ،‬والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل‪،‬‬
‫فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم‪ ،‬والتصور والدراك بحيث يرى الشياء على ما هي عليه‪ ،‬وفيه من الحكمة‬
‫والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب‪ ،‬والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلح القلب‪ ،‬فيرغب القلب فيما ينفعه‬
‫ويرغب عما يضره‪ ،‬فيبقى القلب محبًا للرشاد مبغضًا للغي‪ ،‬بعد أن كان مريدًا للغي مبغضًا للرشاد‪.‬‬

‫‪/‬فالقرآن مزيل للمراض الموجبة للرادات الفاسدة‪ ،‬حتى يصلح القلب فتصلح إرادته‪ ،‬ويعود إلى فطرته التي فطر‬
‫عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي‪ ،‬ويغتذى القلب من اليمان‪ ،‬والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذى البدن بما‬
‫ينميه ويقومه‪ ،‬فإن زكاة القلب مثل نماء البدن‪.‬‬

‫والزكاة في اللغة‪ :‬النماء والزيادة في الصلح‪ ،‬يقال‪ :‬زكا الشيء‪ :‬إذا نما في الصلح‪ ،‬فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو‬
‫ويزيد حتى يكمل ويصلح‪ ،‬كما يحتاج البدن أن يربى بالغذية المصلحة له‪ ،‬ولبد مع ذلك من منع ما يضره‪ ،‬فل ينمو‬
‫البدن إل بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره‪ ،‬كذلك القلب ل يزكو فينمو ويتم صلحه إل بحصول ما ينفعه ودفع ما‬
‫يضره‪ ،‬وكذلك الزرع ل يزكو إل بهذا‪.‬‬

‫والصدقة لما كانت تطفئ الخطيئة‪ ،‬كما يطفئ الماء النار‪ ،‬صار القلب يزكو بها‪ ،‬وزكاته معنى زائد على طهارته من‬
‫طهّرُ ُهمْ َوتُ َزكّيهِ ْم ِبهَا} [التوبة‪.]103 :‬‬
‫ص َدقَةً تُ َ‬ ‫الذنب‪ .‬قال الّ تعالى‪ُ { :‬‬
‫خذْ مِنْ َأمْوَاِلهِمْ َ‬
‫وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب‪.‬‬

‫سدٌ‪ ،‬والشجر‬
‫خلٌ فى المر ُمفْ ِ‬
‫وكذلك ترك المعاصي‪ ،‬فإنها بمنزلة الخلط الرديئة في البدن‪ ،‬ومثل الدغلّ] الدّغلُ‪ :‬دَ َ‬
‫الكثير الملتف[ في الزرع‪ ،‬فإذا استفرغ البدن من الخلط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية‬
‫واستراحت فينمو البدن‪ ،‬وكـذلك القلب إذا ‪ /‬تاب من الذنوب كان استفراغًا من تخليطاته‪ ،‬حيث خلط عمـلً صالحًا‬
‫وآخر سيئًا‪ ،‬فإذا تاب من الذنوب تخلـصت قوة القلب وإرادته للعمال الصالحة‪ ،‬واستراح القلب من تلك الحوادث‬
‫الفاسدة التي كانت فيه‪.‬‬

‫فزكاة القلب بحيث ينمو ويكمل‪.‬‬

‫جعُوا‬ ‫حدٍ َأبَدًا} [النور‪ ،]21 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬


‫ن قِيلَ َلكُمْ ارْ ِ‬ ‫ح َمتُهُ مَا َزكَى ِم ْنكُ ْم مِنْ أَ َ‬‫قال تعالى‪{ :‬وََل ْولَ َفضْلُ الِّ عََل ْيكُمْ َورَ ْ‬
‫خبِيرٌ‬
‫جهُ ْم ذَِلكَ أَ ْزكَى َلهُمْ إِنّ الَّ َ‬
‫حفَظُوا فُرُو َ‬ ‫جعُوا هُوَ َأ ْزكَى َلكُمْ} [النور‪ ،]28 :‬وقال‪{ :‬قُلْ ِل ْلمُ ْؤمِنِي َ‬
‫ن يَغُضّوا مِنْ َأبْصَارِ ِهمْ َويَ ْ‬ ‫فَا ْر ِ‬
‫ح مَنْ تَ َزكّى‪َ .‬وذَكَرَ اسْمَ َربّهِ َفصَلّى}[العلى‪ ،]15 ،14 :‬وقال تعالى‪{ :‬‬ ‫ص َنعُونَ} [النور‪ ،]30 :‬وقال تعالى‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َ‬ ‫ِبمَا يَ ْ‬
‫ب مَ ْن دَسّاهَا} [الشمس‪ ،]10 ،9 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا ُيدْرِيكَ َلعَلّ ُه يَ ّزكّى} [عبس‪ ،]3 :‬وقال‬ ‫ح مَنْ َزكّاهَا‪َ .‬و َقدْ خَا َ‬ ‫َقدْ َأفْلَ َ‬
‫ك َفتَخْشَى}[النازعات‪ ،]19 ،18 :‬فالتزكية وإن كان أصلها النماء‪،‬‬ ‫تعالى‪َ { :‬فقُلْ هَلْ َلكَ إِلَى أَ ْ‬
‫ن تَ َزكّى‪ .‬وَأَ ْه ِد َيكَ إِلَى َرّب َ‬
‫والبركة وزيادة الخير‪ ،‬فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا‪.‬‬

‫وقال‪{ :‬وَ َويْلٌ لِ ْلمُشْ ِركِينَ‪ .‬اّلذِي َن َل يُ ْؤتُونَ ال ّزكَاةَ} [فصلت‪ ،]7 ،6 :‬وهي التوحيد واليمان الذي به يزكو القلب‪ ،‬فإنه‬
‫يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب‪ ،‬وإثبات إلهية الحق في القلب‪ ،‬وهو حقيقة ل إله إل الّ‪ .‬وهذا أصل ما‬
‫تزكو به القلوب‪.‬‬

‫والتزكية‪ :‬جعل الشيء زكيًا‪ ،‬إما في ذاته‪ ،‬وإما في العتقاد والخبر‪ / ،‬كما يقال‪ :‬عدلته إذا جعلته عدل في نفسه‪ ،‬أو‬
‫سكُمْ} [النجم‪ ،]32 :‬أي‪ :‬تخبروا بزكاتها‪ ،‬وهذا غير قوله‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َ‬
‫ح مَنْ‬ ‫في اعتقاد الناس‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فَلَ تُ َزكّوا أَنفُ َ‬
‫َزكّاهَا} [الشمس‪]9 :‬؛ ولهذا قال‪{ :‬هُوَ أَ ْعلَ ُم ِبمَنْ اتّقَى} [النجم‪ ،]32 :‬وكان اسم زينب برة‪ ،‬فقيل تزكى نفسها‪ ،‬فسماها‬
‫رسول الّ صلى ال عليه وسلم زينب‪.‬‬

‫لّ يُ َزكّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء‪ ،]49 :‬أي‪ :‬يجعله زاكيًا‪ ،‬ويخبر بزكاته كما‬
‫سهُ ْم بَلْ ا ُ‬ ‫وأما قوله‪{ :‬أَلَ ْم تَرَ إِلَى اّلذِي َ‬
‫ن يُ َزكّونَ أَنفُ َ‬
‫يزكي المزكي الشهود فيخبر بعدلهم‪.‬‬

‫والعدل هو‪ :‬العتدال‪ ،‬والعتدال هو صلح القلب‪ ،‬كما أن الظلم فساده؛ ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالمًا‬
‫لنفسه‪ ،‬والظلم خلف العدل‪ ،‬فلم يعدل على نفسه‪ ،‬بل ظلمها‪ ،‬فصلح القلب في العدل‪ ،‬وفساده في الظلم‪ ،‬وإذا ظلم‬
‫العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم‪ ،‬كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه‪ ،‬فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل‬
‫من خير وشر‪ .‬قال تعالى‪َ{ :‬لهَا مَا كَ َسبَتْ وَعََل ْيهَا مَا ا ْكتَ َسبَتْ} [البقرة‪.]286 :‬‬

‫والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلح قبل أثره في الخارج‪ ،‬فصلحها عدل لها وفسادها ظلم لها‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫{مَنْ َعمِلَ صَالِحًا فَِلنَفْسِهِ َومَنْ َأسَا َء َفعََليْهَا} [فصلت‪ ،]46 :‬وقال تعالى‪{ :‬إِنْ أَ ْحسَنتُمْ أَحْسَنتُ ْم لَِنفُ ِسكُمْ وَإِنْ أَ َس ْأتُ ْم فََلهَا} [‬
‫السراء‪ ،]7 :‬قال بعض السلف‪ :‬إن للحسنة لنورًا في القلب‪ ،‬وقوة في البدن‪ ،‬وضياء في الوجه‪ ،‬وسعة في الرزق‪،‬‬
‫ومحبة في قلوب الخلق‪ ،‬وإن للسيئة لظلمة في ‪ /‬القلب‪ ،‬وسوادًا في الوجه ووهنًا في البدن‪ ،‬ونقصًا في الرزق‪ ،‬وبغضًا‬
‫في قلوب الخلق‪.‬‬

‫س ِبمَا كَ َسبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر‪ ،]38 :‬وقال‪:‬‬ ‫سبَ رَهِينٌ} [الطور‪ ،]21 :‬وقال تعالى‪{ :‬كُ ّ‬
‫ل نَ ْف ٍ‬ ‫ئ ِبمَا كَ َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬كُ ّ‬
‫ل امْرِ ٍ‬
‫سلُوا ِبمَا‬
‫خذْ ِم ْنهَا أُوَْل ِئكَ اّلذِينَ ُأبْ ِ‬
‫ل لَ يُ ْؤ َ‬
‫عدْ ٍ‬
‫ل كُلّ َ‬
‫ن َتعْدِ ْ‬
‫شفِيعٌ وَإِ ْ‬
‫ن دُونِ الِّ وَلِيّ َولَ َ‬
‫سبَتْ َليْسَ َلهَا مِ ْ‬
‫س ِبمَا كَ َ‬
‫ل نَفْ ٌ‬
‫سَ‬‫ن تُبْ َ‬
‫{ َو َذكّ ْر بِهِ أَ ْ‬
‫كَ َسبُوا}[النعام‪ ،]70 :‬وتبسل أي‪ :‬ترتهن وتحبس وتؤسر؛ كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل قد اعتدل مزاجه‪،‬‬
‫والمرض إنما هو بإخراج المزاج‪ ،‬مع أن العتدال المحض السالم من الخلط ل سبيل إليه‪ ،‬لكن المثل‪ ،‬فالمثل‪،‬‬
‫فهكذا صحة القلب وصلحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم والنحراف‪ ،‬والعدل المحض في كل شيء متعذر‬
‫علمًا وعملً‪ ،‬ولكن المثل فالمثل؛ ولهذا يقال‪ :‬هذا أمثل‪ ،‬ويقال للطريقة السلفية‪ :‬الطريقة المثلى‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬وَلَنْ‬
‫ف نَ ْفسًا ِإلّ‬
‫ط لَ ُنكَلّ ُ‬
‫سِ‬ ‫صتُمْ} [ النساء‪ ،]129 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََأ ْوفُوا ا ْل َكيْلَ وَا ْلمِيزَا َ‬
‫ن بِالْقِ ْ‬ ‫حرَ ْ‬
‫ستَطِيعُوا أَنْ َت ْعدِلُوا َبيْنَ النّسَاءِ وَلَوْ َ‬
‫تَ ْ‬
‫وُ ْس َعهَا} [النعام‪.]152 :‬‬

‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬ثم العدل‬


‫والّ ـ تعالى ـ بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط‪ ،‬وأعظم القسط عبادة ا ّ‬
‫على الناس في حقوقهم‪ ،‬ثم العدل على النفس‪.‬‬

‫‪/‬والظلم ثلثة أنواع‪ ،‬والظلم كله من أمراض القلوب‪ ،‬والعدل صحتها وصلحها‪ .‬قال أحمد بن حنبل لبعض الناس‪ :‬لو‬
‫صححت لم تخف أحدًا‪ ،‬أي خوفك من المخلوق هو من مرض فيك‪ ،‬كمرض الشرك والذنوب‪.‬‬

‫س َكمَنْ َمثَلُهُ‬
‫جعَ ْلنَا لَ ُه نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النّا ِ‬
‫ح َييْنَاهُ وَ َ‬
‫ن َم ْيتًا فََأ ْ‬ ‫وأصل صلح القلب هو حياته واستنارته‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬أَ َومَ ْ‬
‫ن كَا َ‬
‫س بِخَارِ ٍج ِم ْنهَا} [النعام‪.]122 :‬‬
‫فِي الظُّلمَاتِ َليْ َ‬

‫حيّا َويَحِقّ الْقَ ْولُ عَلَى‬ ‫ن كَانَ َ‬ ‫لذلك ذكر الّ حياة القلوب‪ ،‬ونورها‪ ،‬وموتها‪ ،‬وظلمتها في غير موضع كقوله‪ِ{ :‬ل ُي ْنذِرَ مَ ْ‬
‫حيِيكُمْ}‪ ،‬ثم قال‪{ :‬وَاعَْلمُوا أَنّ ا َّ‬
‫ل‬ ‫ا ْلكَا ِفرِينَ} [يس‪ ،]70 :‬وقوله تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا ا ْ‬
‫ستَجِيبُوا لِّ وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُمْ ِلمَا ُي ْ‬
‫ت مِنْ ا ْلحَيّ} [‬ ‫خرِجُ ا ْل َميّ َ‬
‫ي مِنْ ا ْل َميّتِ َويُ ْ‬ ‫حشَرُونَ} [النفال‪ ،]24 :‬وقال تعالى‪{ :‬يُ ْ‬
‫خرِجُ ا ْلحَ ّ‬ ‫ل َبيْنَ ا ْلمَرْءِ َوقَ ْلبِهِ َوَأنّهُ ِإَليْهِ تُ ْ‬
‫يَحُو ُ‬
‫الروم‪ ،]19 :‬ومن أنواعه أنه يخرج المؤمن من الكافر‪ ،‬والكافر من المؤمن‪ .‬وفي الحديث الصحيح‪( :‬مثل البيت‬
‫الذي يذكر الّ فيه والبيت الذي ل يذكر الّ فيه‪ ،‬مثل الحي والميت)‪ ،‬وفي الصحيح أيضًا‪( :‬اجعلوا من صلتكم في‬
‫بيوتكم ول تتخذوها قبورًا)‪.‬‬

‫وقد قال تعالى‪{ :‬وَاّلذِينَ َك ّذبُوا بِآيَا ِتنَا صُمّ َوُبكْمٌ فِي الظُّلمَاتِ} [النعام‪ ،]39 :‬وذكر ـ سبحانه ـ آية النور وآية الظلمة‪،‬‬
‫ي يُو َق ُد مِنْ شَجَرَةٍ‬ ‫ب دُرّ ّ‬ ‫ح فِي ُزجَاجَةٍ الزّجَاجَ ُة كََأّنهَا كَ ْوكَ ٌ‬‫صبَا ُ‬‫صبَاحٌ ا ْلمِ ْ‬ ‫شكَا ٍة فِيهَا مِ ْ‬‫ل نُورِ ِه َكمِ ْ‬
‫ض َمثَ ُ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْرْ ِ‬ ‫فقال‪{ :‬ا ُ‬
‫لّ نُورُ ال ّ‬
‫ُمبَا َركَةٍ َز ْيتُونِةٍ لَ َش ْر ِقيّةٍ َولَ غَ ْر ِبيّ ٍة َيكَادُ َز ْيُتهَا يُضِيءُ وََلوْ لَ ْم َتمْسَسْ ُه نَا ٌر نُورٌ عَلَى نُورٍ}[النور‪ ،]35 :‬فهذا مثل نور اليمان‬
‫ع ْندَهُ‬
‫جدَ الَّ ِ‬
‫ش ْيئًا وَ َو َ‬
‫جدْهُ َ‬
‫حتّى ِإذَا جَاءَهُ لَ ْم يَ ِ‬
‫ن مَاءً َ‬
‫ظمْآ ُ‬
‫سبُهُ ال ّ‬
‫ب بِقِيعَ ٍة يَحْ َ‬
‫سرَا ٍ‬
‫عمَاُلهُ ْم كَ َ‬
‫ن كَفَرُوا أَ ْ‬‫في قلوب المؤمنين‪ ،‬ثم قال‪{ :‬وَاّلذِي َ‬
‫ق بَعْضٍ ِإذَا‬
‫ضهَا فَ ْو َ‬
‫ت َبعْ ُ‬
‫ج مِنْ فَ ْوقِهِ سَحَابٌ ظُُلمَا ٌ‬
‫ج مِنْ فَ ْوقِ ِه مَ ْو ٌ‬
‫ي َيغْشَا ُه مَ ْو ٌ‬
‫ت فِي بَحْرٍ ُلجّ ّ‬
‫ظُلمَا ٍ‬
‫فَ َوفّاهُ حِسَابَهُ وَالُّ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ‪ .‬أَ ْو كَ ُ‬
‫أَ ْخرَ َج َيدَهُ لَ ْم َيكَ ْد يَرَاهَا َومَنْ لَ ْم يَ ْجعَلْ الُّ لَ ُه نُورًا َفمَا لَ ُه مِ ْن نُورٍ}[النور‪.]40 ،39 :‬‬

‫فالول‪ :‬مثل العتقادات الفاسدة‪ ،‬والعمال التابعة لها‪ ،‬يحسبها صاحبها شيئًا ينفعه فإذا جاءها لم يجدها شيئًا ينفعه‪،‬‬
‫فوفاه الّ حسابه على تلك العمال‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬مثل للجهل البسيط‪ ،‬وعدم اليمان والعلم‪ ،‬فإن صاحبها في ظلمات بعضها فوق بعض ل يبصر شيئًا‪ ،‬فإن‬
‫البصر إنما هو بنور اليمان والعلم‪.‬‬

‫ن تَ َذكّرُوا َفِإذَا ُه ْم ُمبْصِرُونَ} [العراف‪ ،]201 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَلَ َقدْ‬ ‫شيْطَا ِ‬ ‫ف مِنْ ال ّ‬
‫سهُمْ طَائِ ٌ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬إِنّ اّلذِي َ‬
‫ن اتّقَوْا ِإذَا مَ ّ‬
‫ت بِهِ وَهَ ّم ِبهَا لَ ْولَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ َربّهِ} [يوسف‪ ،]24 :‬وهو برهان اليمان الذي حصل في قلبه‪ ،‬فصرف الّ به ما‬ ‫َهمّ ْ‬
‫كان هم به‪ ،‬وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب ‪ /‬عليه خطيئة إذا فعل خيرًا‪ ،‬ولم يفعل سيئة‪ .‬وقال تعالى‪ِ{ :‬لتُخْ ِرجَ النّاسَ‬
‫ن كَفَرُوا أَوِْليَاؤُهُمْ‬ ‫جهُ ْم مِنْ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ وَاّلذِي َ‬ ‫مِنْ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ} [إبراهيم‪ ،]1 :‬وقال‪{ :‬الُّ وَِليّ اّلذِينَ آ َمنُوا يُخْ ِر ُ‬
‫خرِجُو َنهُ ْم مِنْ النّورِ ِإلَى الظُّلمَاتِ} [البقرة‪ ،]257 :‬وقال‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا اتّقُوا الَّ وَآ ِمنُوا بِ َرسُولِ ِه يُ ْؤ ِتكُ ْم كِفَْليْنِ‬ ‫ت يُ ْ‬
‫الطّاغُو ُ‬
‫مِنْ رَ ْح َمتِهِ َويَ ْجعَلْ َلكُ ْم نُورًا َتمْشُو َن بِهِ}[الحديد‪.]28 :‬‬

‫ولهذا ضرب الّ لليمان مثلين‪ ،‬مثلً بالماء الذي به الحياة وما يقترن به من الزبد‪ ،‬ومثلً بالنار التي بها النور وما‬
‫يقترن بما يوقد عليه من الزبد‪.‬‬

‫سيْلُ َزبَدًا رَا ِبيًا َو ِممّا يُو ِقدُو َ‬


‫ن‬ ‫ح َتمَلَ ال ّ‬
‫سمَا ِء مَا ًء فَسَالَتْ َأ ْودِيَ ٌة بِ َقدَرِهَا فَا ْ‬
‫ل مِنْ ال ّ‬ ‫وكذلك ضرب الّ للنفاق مثلين قال تعالى‪{ :‬أَنزَ َ‬
‫ث فِي‬ ‫س َف َي ْمكُ ُ‬
‫جفَاءً وََأمّا مَا يَنفَعُ النّا َ‬
‫ل فََأمّا ال ّز َبدُ َف َيذْهَبُ ُ‬ ‫طَ‬‫حقّ وَا ْلبَا ِ‬‫عََليْهِ فِي النّا ِر ا ْبتِغَاءَ حِ ْليَةٍ أَ ْو َمتَاعٍ َز َب ٌد ِمثْلُهُ َكذَِلكَ َيضْرِبُ الُّ الْ َ‬
‫ت مَا‬ ‫لْمْثَالَ}[الرعد‪ ،]17 :‬وقال تعالى في المنافقين‪َ { :‬مثَلُهُ ْم َك َمثَلِ اّلذِي ا ْ‬
‫ستَ ْوقَ َد نَارًا َفَلمّا أَضَا َء ْ‬ ‫ض َكذَِلكَ َيضْرِبُ الُّ ا َ‬ ‫الَْرْ ِ‬
‫عدٌ‬
‫سمَا ِء فِيهِ ظُُلمَاتٌ وَرَ ْ‬ ‫ب مِنْ ال ّ‬ ‫صيّ ٍ‬
‫جعُونَ‪ .‬أَ ْو َك َ‬ ‫ل يَرْ ِ‬ ‫ي َفهُ ْم َ‬
‫عمْ ٌ‬‫ل ُيبْصِرُونَ‪ .‬صُ ّم ُبكْمٌ ُ‬ ‫ت َ‬ ‫لّ بِنُورِ ِهمْ َوتَ َر َكهُ ْم فِي ظُُلمَا ٍ‬ ‫حَوْلَ ُه ذَهَبَ ا ُ‬
‫ق يَخْطَفُ َأ ْبصَارَ ُه ْم كُّلمَا َأضَاءَ َلهُمْ‬ ‫ط بِا ْلكَافِرِينَ‪َ .‬يكَادُ ا ْلبَ ْر ُ‬‫لّ مُحِي ٌ‬ ‫حذَرَ ا ْلمَ ْوتِ وَا ُ‬‫جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُ ْم فِي آذَا ِنهِ ْم مِنْ الصّوَاعِقِ َ‬ ‫ق يَ ْ‬
‫َوبَرْ ٌ‬
‫ي ٍء َقدِيرٌ} [البقرة‪17 :‬ـ ‪.]20‬‬ ‫لّ عَلَى كُلّ شَ ْ‬ ‫س ْم ِعهِمْ وََأبْصَارِ ِهمْ إِنّ ا َ‬
‫ب بِ َ‬
‫مَشَوْا فِيهِ وَِإذَا أَظَْلمَ عََل ْيهِ ْم قَامُوا وََلوْ شَاءَ الُّ َلذَهَ َ‬
‫‪/‬فضرب لهم مثلً كالذي أوقد النار كلما أضاءت أطفأها الّ‪ ،‬والمثل المائي كالمثل النازل من السماء‪ ،‬وفيه ظلمات‬
‫ورعد وبرق يرى‪ .‬ولبسط الكلم في هذه المثال موضع آخر‪.‬‬

‫وإنما المقصود هنا ذكر حياة القلوب وإنارتها‪ ،‬وفي الدعاء المأثور‪( :‬اجعل القرآن ربيع قلوبنا‪ ،‬ونور صدورنا)‪،‬‬
‫والربيع‪ :‬هو المطر الذي ينزل من السماء فينبت به النبات‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن مما ينبت الربيع ما‬
‫َيقْتل حَبَطًا أو يُِلمّ)‪ .‬والفصل الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع‪ ،‬لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه‪،‬‬
‫وغيرهم يسمى الربيع الفصل الذي يلي الشتاء‪ ،‬فإن فيه تخرج الزهار التي تخلق منها الثمار‪ ،‬وتنبت الوراق على‬
‫الشجار‪.‬‬

‫والقلب الحي المنور؛ فإنه لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل‪ ،‬والقلب الميت فإنه ل يسمع ول يبصر‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫ل َيعْقِلُونَ} [البقرة‪ ،]171 :‬وقال تعالى‪{ :‬‬ ‫ي َفهُ ْم َ‬ ‫عمْ ٌ‬ ‫ص ّم ُبكْمٌ ُ‬ ‫ل دُعَاءً َو ِندَاءً ُ‬ ‫سمَعُ ِإ ّ‬
‫ل يَ ْ‬ ‫{ َو َمثَلُ اّلذِينَ َكفَرُوا َك َمثَلِ اّلذِي َي ْنعِقُ ِبمَا َ‬
‫ت َت ْهدِي ا ْل ُعمْيَ وَلَ ْو كَانُوا لَ ُيبْصِرُونَ} [‬ ‫ن َينْظُرُ إَِل ْيكَ َأفََأنْ َ‬ ‫سمِعُ الصّمّ وَلَ ْو كَانُوا لَ َيعْقِلُونَ‪َ .‬و ِمنْهُ ْم مَ ْ‬ ‫ت تُ ْ‬
‫س َت ِمعُونَ إَِل ْيكَ َأ َفَأنْ َ‬
‫ن يَ ْ‬
‫َو ِم ْنهُمْ مَ ْ‬
‫ل آيَةٍ‬
‫ن يَرَوْا كُ ّ‬
‫ن يَ ْف َقهُوهُ َوفِي آذَا ِنهِمْ َو ْقرًا وَإِ ْ‬
‫جعَ ْلنَا عَلَى ُقلُو ِبهِمْ َأ ِكنّةً أَ ْ‬ ‫س َتمِعُ إَِل ْيكَ َو َ‬
‫ن يَ ْ‬‫يونس‪ ،]43 ،42 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و ِمنْهُ ْم مَ ْ‬
‫ك يَقُولُ اّلذِي َن كَفَرُوا إِنْ َهذَا ِإلّ َأسَاطِيرُ ا َلْوّلِينَ} اليات [النعام‪.]25 :‬‬ ‫ك يُجَادِلُو َن َ‬
‫حتّى ِإذَا جَاءُو َ‬ ‫لَ يُ ْؤ ِمنُوا ِبهَا َ‬

‫فأخبر أنهم ل يفقهون بقلوبهم ول يسمعون بآذانهم ول يؤمنون بما رأوه من النار‪ ،‬كما أخبر عنهم حيث قالوا‪{ :‬قُلُو ُبنَا‬
‫فِي َأ ِكنّ ٍة ِممّا تَدْعُونَا إَِليْهِ َوفِي آذَانِنَا َو ْقرٌ َومِنْ َب ْي ِننَا َو َبيْ ِنكَ حِجَابٌ} [فصلت‪ .]5 :‬فذكروا الموانع على القلوب والسمع‬
‫والبصار‪ ،‬وأبدانهم حية تسمع الصوات وترى الشخاص؛ لكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم‪،‬‬
‫ل دُعَاءً‬
‫سمَعُ ِإ ّ‬ ‫لها سمع وبصر وهي تأكل وتشرب وتنكح‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ { :‬و َمثَلُ اّلذِينَ َكفَرُوا َك َمثَلِ اّلذِي َي ْنعِقُ ِبمَا َ‬
‫ل يَ ْ‬
‫َو ِندَاءً}‪.‬‬

‫فشبههم بالغنم الذي ينعق بها الراعي وهي ل تسمع إل نداء‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪{ :‬أّم تّحسّب أّنّ أّكثّرّه ًم يّسمّعو ّ‬
‫ن‬
‫ل كّالّنعّام بّل هٍمً ّأضّلَ سّبيلْ } [الفرقان‪ ،]44 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَلَ َق ْد ذَرَ ْأنَا ِل َ‬
‫ج َهنّ َم كَثِيرًا مِنْ ا ْلجِنّ وَالِْنسِ َلهُمْ‬ ‫أّو يّعقٌلٍونّ إنً ٍهمً إ ّ‬
‫ضلّ}[العراف‪.]179 :‬‬ ‫لْ ْنعَا ِم بَلْ ُهمْ أَ َ‬ ‫س َمعُونَ ِبهَا أُ ْوَل ِئكَ كَا َ‬
‫ل يَ ْ‬
‫ن َ‬
‫ن ِبهَا وََلهُ ْم آذَا ٌ‬
‫صرُو َ‬
‫ن لَ ُيبْ ِ‬
‫عيُ ٌ‬
‫ن ِبهَا وََلهُمْ أَ ْ‬
‫ل يَ ْف َقهُو َ‬
‫ب َ‬
‫قُلُو ٌ‬

‫عدًا أَ ْو قَا ِئمًا فََلمّا‬


‫ج ْنبِهِ َأ ْو قَا ِ‬ ‫‪/‬فطائفة من المفسرين تقول في هذه اليات وما أشبهها كقوله‪{ :‬وَِإذَا مَسّ ا ِ‬
‫لْنْسَانَ الضّ ّر دَعَانَا ِل َ‬
‫ض ّر مَسّهُ} [يونس‪ ،]12 :‬وأمثالها مما ذكر الّ في عيوب النسان وذمها‪ ،‬فيقول‬ ‫عنَا إِلَى ُ‬
‫ضرّ ُه مَ ّر كَأَنْ َل ْم يَدْ ُ‬
‫عنْهُ ُ‬
‫كَشَ ْفنَا َ‬
‫هؤلء‪ :‬هذه الية في الكفار‪ ،‬والمراد بالنسان هنا الكافر‪ ،‬فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظهر السلم في‬
‫هذا الذم والوعيد نصيب‪ ،‬بل يذهب وهمه إلى من كان مظهرًا للشرك من العرب‪ ،‬أو إلى من يعرفهم من مظهري‬
‫الكفر‪ ،‬كاليهود والنصارى ومشركي الترك والهند‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فل ينتفع بهذه اليات التي أنزلها الّ ليهتدي بها عباده‪.‬‬

‫فيقال‪ :‬أولً‪ :‬المظهرون للسلم فيهم مؤمن ومنافق‪ ،‬والمنافقون كثيرون في كل زمان‪ ،‬والمنافقون في الدرك السفل‬
‫من النار‪.‬‬

‫ويقال‪ :‬ثانيًا‪ :‬النسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر‪ ،‬وإن كان معه إيمان‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في‬
‫الحديث المتفق عليه‪( :‬أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا‪ ،‬ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق‬
‫حتى يدعها‪ :‬إذا حدث كذب‪ ،‬وإذا اؤتمن خان‪ ،‬وإذا عاهد غدر‪ ،‬وإذا خاصم فجر)‪ .‬فأخبر أنه من كانت فيه خصلة‬
‫منهن كانت فيه خصلة من النفاق‪.‬‬

‫‪/‬وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لبي ذر ـ رضي الّ عنه ـ‪( :‬إنك امرؤ فيك جاهلية)‪ .‬وأبو ذر ـ رضي الّ عنه‬
‫ـ من أصدق الناس إيمانًا‪ ،‬وقال في الحديث الصحيح‪( :‬أربع في أمتي من أمر الجاهلية‪ :‬الفخر بالحساب‪ ،‬والطعن في‬
‫النساب‪ ،‬والنياحة‪ ،‬والستسقاء بالنجوم)‪ ،‬وقال في الحديث الصحيح‪( :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة‪،‬‬
‫حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)‪ .‬قالوا‪ :‬اليهود والنصارى؟ ! قال‪( :‬فمن ؟!)‪ .‬وقال أيضًا في الحديث الصحيح‪" :‬‬
‫لتأخذن أمتي ما أخذت المم قبلها‪ ،‬شبرًا بشبر‪ ،‬وذراعًا بذراع" قالوا‪ :‬فارس والروم؟! قال‪( :‬ومن الناس إل هؤلء)‪.‬‬

‫وقال ابن أبي مُلَ ْيكَة‪ :‬أدركت ثلثين من أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه‪ ،‬وعن علي ـ‬
‫أو حذيفة ـ رضي الّ عنهما ـ قال‪ :‬القلوب أربعة‪ :‬قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن‪ ،‬وقلب أغلف فذاك‬
‫قلب الكافر‪ ،‬وقلب منكوس‪ ،‬فذاك قلب المنافق‪ ،‬وقلب فيه مادتان‪ :‬مادة تمده اليمان‪ ،‬ومادة تمده النفاق‪ ،‬فأولئك قوم‬
‫خلطوا عملً صالحًا وآخر سيئًا‪.‬‬

‫وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر الّ في اليمان من مدح شعب اليمان وذم شعب الكفر‪ ،‬وهذا كما يقول‬
‫بعضهم في قوله‪{ :‬ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْس َتقِيمَ} [الفاتحة‪ .]6 :‬فيقولون‪ :‬المؤمن قد هدى إلى الصراط المستقيم‪ ،‬فأي ‪ /‬فائدة‬
‫في طلب الهدى؟! ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم‪ :‬نم حتى آتيك‪ ،‬أو يقول‬
‫بعضهم‪ :‬ألزم قلوبنا الهدى‪ ،‬فحذف الملزوم‪ ،‬ويقول بعضهم‪ :‬زدني هدى‪ ،‬وإنما يوردون هذا السؤال؛ لعدم تصورهم‬
‫الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه‪ ،‬فإن المراد به العمل بما أمر الّ به‪ ،‬وترك ما نهى الّ عنه في جميع‬
‫المور‪.‬‬

‫والنسان وإن كان أقر بأن محمدًا رسول الّ‪ ،‬وأن القرآن حق على سبيل الجمال‪ ،‬فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما‬
‫ينفعه ويضره‪ ،‬وما أمر به‪ ،‬وما نهى عنه في تفاصيل المور وجزئياتها لم يعرفه‪ ،‬وما عرفه فكثير منه لم يعمل‬
‫بعلمه‪ ،‬ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة‪ ،‬فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما المور العامة الكلية‪ ،‬ل‬
‫يمكن غير ذلك ل تذكر ما يخص به كل عبد؛ ولهذا أمر النسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم‪.‬‬

‫والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله‪ ،‬يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلً‪ ،‬ويتناول التعريف بما‬
‫يدخل في أوامره الكليات‪ ،‬ويتناول إلهام العمل بعلمه‪ ،‬فإن مجرد العلم بالحق ل يحصل به الهتداء إن لم يعمل بعلمه‪،‬‬
‫ن ذَ ْن ِبكَ َومَا تَأَخّرَ َو ُيتِمّ ِن ْع َمتَهُ عََل ْيكَ َو َيهْ ِد َيكَ‬
‫لّ مَا تَ َقدّ َم مِ ْ‬
‫ك َفتْحًا ُمبِينًا ‪ِ .‬ل َيغْفِرَ َلكَ ا ُ‬ ‫ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية‪ِ{ :‬إنّا َفتَ ْ‬
‫حنَا َل َ‬
‫ستَقِيمَ}‬‫س َتبِينَ ‪ .‬وَ َه َد ْينَا ُهمَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْ‬ ‫س َتقِيمًا} [الفتح‪ ،]2 ،1 :‬وقال في حق موسى وهارون‪{ :‬وَآ َت ْينَا ُهمَا ا ْلكِتَابَ ا ْلمُ ْ‬ ‫صِرَاطًا مُ ْ‬
‫[الصافات‪.]118 ،117 :‬‬

‫ل من المور الخبرية والعلمية العتقادية والعملية‪ ،‬مع أنهم كلهم متفقون على أن‬ ‫والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء ا ّ‬
‫محمدًا حق‪ ،‬والقرآن حق‪ ،‬فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا‪ ،‬ثم الذين‬
‫علموا ما أمر الّ به أكثرهم يعصونه ول يحتذون حذوه‪ ،‬فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك العمال؛ لفعلوا ما‬
‫أمروا به وتركوا ما نهو عنه‪ ،‬والذين هداهم الّ من هذه المة حتى صاروا من أولياء الّ المتقين كان من أعظم‬
‫أسباب ذلك دعاؤهم الّ بهذا الدعاء في كل صلة‪ ،‬مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الّ دائمًا في أن يهديهم الصراط‬
‫المستقيم‪.‬‬

‫فبدوام هذا الدعاء والفتقار صاروا من أولياء الّ المتقين‪.‬قال سهل بن عبد الّ التستري‪ :‬ليس بين العبد وبين ربه‬
‫طريق أقرب إليه من الفتقار‪ ،‬وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل‬
‫وهذا حقيقة قول من يقول‪ :‬ثبتنا واهدنا لزوم الصراط‪.‬‬

‫وقول من قال‪ :‬زدنا هدى‪ ،‬يتناول ما تقدم‪ ،‬لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم‪ ،‬فإن العمل في‬
‫المستقبل بالعلم لم يحصل بعد‪ ،‬ول يكون مهتديًا حتى يعمل في المستقبل بالعلم‪ ،‬وقد ل يحصل العلم في ‪ /‬المستقبل بل‬
‫يزول عن القلب‪ ،‬وإن حصل فقد ل يحصل العمل‪ ،‬فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه الّ عليهم‬
‫في كل صلة‪ ،‬فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه‪ ،‬وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر‬
‫والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة‪ ،‬والّ أعلم‪.‬‬

‫واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة الرادية‪ ،‬أو مجرد العلم والقدرة كما يظن ذلك طائفة‬
‫من النظار في علم الّ وقدرته‪ ،‬كأبي الحسين البصري‪ ،‬قالوا‪ :‬إن حياته أنه بحيث يعلم ويقدر‪ ،‬بل الحياة صفة قائمة‬
‫بالموصوف‪ ،‬وهي شرط في العلم والرادة والقدرة على الفعال الختيارية‪ ،‬وهي أيضًا مستلزمة لذلك‪ ،‬فكل حي له‬
‫شعور وإرادة وعمل اختياري بقدرة‪ ،‬وكل ما له علم وإرادة وعمل اختياري فهو حي‪.‬‬

‫والحياء مشتق من الحياة‪ ،‬فإن القلب الحي يكون صاحبه حيا فيه حياء يمنعه عن القبائح‪ ،‬فإن حياة القلب هي المانعة‬
‫من القبائح التي تفسد القلب؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬الحياء من اليمان)‪ ،‬وقال‪( :‬الحياء والعي شعبتان‬
‫من اليمان‪ .‬والبذاء والبيان شعبتان من النفاق)‪.‬‬
‫فإن الحي يدفع ما يؤذيه‪ ،‬بخلف الميت الذي ل حياة فيه فإنه يسمى وقحًا‪ ،‬والوقاحة الصلبة وهو اليبس المخالف‬
‫لرطوبة الحياة‪ ،‬فإذا كان وقحًا يابسًا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه‪ ،‬وامتناعه من القبح كالرض ‪/‬‬
‫اليابسة ل يؤثر فيها وطء القدام‪ ،‬بخلف الرض الخضرة‪.‬‬

‫ولهذا كان الحي يظهر عليه التأثر بالقبح‪ ،‬وله إرادة تمنعه عن فعل القبح‪ ،‬بخلف الوقـح الذي ليس بحي فل حياء معه‬
‫ول إيمان يزجره عن ذلك‪ .‬فالقلـب إذا كان حيًا فمات النسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن‪ ،‬ليست‬
‫هي في نفسها ميتة بمعنى زوال حياتها عنها‪.‬‬

‫سبَنّ اّلذِينَ ُقتِلُوا‬ ‫حيَاءٌ} [البقرة‪ ،]154 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و َ‬


‫ل تَحْ َ‬ ‫ت بَلْ أَ ْ‬
‫سبِيلِ الِّ َأمْوَا ٌ‬
‫ل فِي َ‬ ‫ولهذا قال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ل تَقُولُوا ِلمَنْ يُ ْقتَ ُ‬
‫س ذَائِقَةُ ا ْلمَ ْوتِ} [آل عمران‪:‬‬ ‫حيَاءٌ} [آل عمران‪ ]169 :‬مع أنهم موتى دخلون في قوله‪{ :‬كُ ّ‬
‫ل نَفْ ٍ‬ ‫سبِيلِ الِّ َأمْوَاتًا بَلْ أَ ْ‬
‫فِي َ‬
‫‪ ،]185‬وفي قوله‪ِ{ :‬إّنكَ َميّتٌ وَِإّنهُ ْم َمّيتُونَ} [الزمر‪ ،]30 :‬وقوله‪{ :‬وَهُوَ اّلذِي َأ ْحيَاكُ ْم ثُ ّم ُيمِيُتكُ ْم ثُ ّم يُ ْحيِيكُمْ} [الحج‪،]66 :‬‬
‫فالموت المثبت غير الموت المنفي‪ .‬المثبت‪ :‬هو فراق الروح البدن‪ ،‬والمنفي‪ :‬زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن‪.‬‬

‫وهذا كما أن النوم أخو الموت‪ ،‬فيسمى وفاة ويسمى موتًا‪ ،‬وإن كانت الحياة موجودة فيهما‪ .‬قال الّ تعالى‪{ :‬ا ُ‬
‫لّ َيتَ َوفّى‬
‫ت فِي َمنَا ِمهَا َفُيمْ ِسكُ اّلتِي َقضَى عََل ْيهَا ا ْلمَ ْوتَ َويُرْسِلُ ا ُلْخْرَى إِلَى َأجَ ٍل مُ َسمّى} [الزمر‪.]42 :‬‬
‫لْنْفُسَ حِينَ مَ ْو ِتهَا وَاّلتِي لَ ْم َتمُ ْ‬
‫اَ‬
‫وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا استيقظ من منامه يقول‪( :‬الحمد لّ الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)‪ ،‬وفي‬
‫حديث آخر‪( / :‬الحمد لّ الذي رد على روحي‪ ،‬وعافاني في جسدي‪ ،‬وأذن لي بذكره‪ ،‬وفضلني على كثير ممن خلق‬
‫تفضيلً)‪ ،‬وإذا أوى إلى فراشه يقول‪( :‬اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها‪ ،‬لك مماتها ومحياها‪ ،‬إن أمسكتها فارحمها‪،‬‬
‫وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)‪ ،‬ويقول‪( :‬باسمك اللّهم أموت وأحيا)‪.‬‬

‫َفصْــل‬

‫ومن أمراض القلوب الحسد‪ ،‬كما قال بعضهم في حده‪ :‬إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الغنياء‪ ،‬فل يجوز أن‬
‫يكون الفاضل حسودًا؛ لن الفاضل يجري على ما هو الجميل‪ ،‬وقد قال طائفة من الناس‪ :‬إنه تمنى زوال النعمة عن‬
‫المحسود‪ ،‬وإن لم يصر للحاسد مثلها‪ ،‬بخلف الغبطة‪ :‬فإنه تمنى مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط‪.‬‬

‫والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬كراهة للنعمة عليه مطلقًا‪ ،‬فهذا هو الحسد المذموم‪ ،‬وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه‪،‬‬
‫فيكون ذلك مرضًا في قلبه‪ ،‬ويلتذ بزوال النعمة عنه‪ ،‬وإن لم يحصل له نفع بزوالها‪ ،‬لكن نفعه ‪ /‬زوال اللم الذي كان‬
‫في نفسه‪ ،‬ولكن ذلك اللم لم يزل إل بمباشرة منه‪ ،‬وهو راحة‪ ،‬وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه‬
‫والمرض باق؛ فإن بغضه لنعمة الّ على عبده مرض‪ .‬فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها‪ ،‬وقد‬
‫يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود‪.‬‬

‫والحاسد ليس له غرض في شيء معين‪ ،‬لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع؛ ولهذا قال من قال‪ :‬إنه تمنى زوال‬
‫النعمة‪ ،‬فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه‪.‬‬

‫والنوع الثاني‪ :‬أن يكره فضل ذلك الشخص عليه‪ ،‬فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه‪ ،‬فهذا حسد وهو الذي سموه‬
‫الغبطة‪ ،‬وقد سماه النبي صلى ال عليه وسلم حسدًا في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر ـ رضي‬
‫الّ عنهما ـ أنه قال‪( :‬ل حسد إل في اثنتين‪ :‬رجل أتاه الّ الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها‪ ،‬ورجل آتاه الّ مال فسلطه‬
‫على هلكته في الحق) هذا لفظ ابن مسعود‪ ،‬ولفظ ابن عمر‪( :‬رجل آتاه الّ القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار‪،‬‬
‫ل مالً فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار) رواه البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه‪( :‬ل حسد‬ ‫ورجل آتاه ا ّ‬
‫إل في اثنين‪ :‬رجل آتاه الّ القرآن فهو يتلوه الليل والنهار‪ ،‬فسمعه رجل فقال‪ :‬ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا‪/ ،‬‬
‫فعملت فيه مثل ما يعمل هذا‪ ،‬ورجل آتاه الّ مال فهو يهلكه في الحق‪ .‬فقال رجل‪ :‬ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا‬
‫فعملت فيه مثل ما يعمل هذا)‪ .‬فهذا الحسد الذي نهى عنه النبي صلى ال عليه وسلم إل في موضعين هو الذي سماه‬
‫أولئك الغبطة‪ ،‬وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬إذًا لم سمي حسدًا وإنما أحب أن ينعم الّ عليه؟ قيل‪ :‬مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهته‬
‫أن يتفضل عليه‪ ،‬ولول وجود ذلك الغير لم يحب ذلك‪ ،‬فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسدًا؛‬
‫لنه كراهة تتبعها محبة‪ ،‬وأما من أحب أن ينعم الّ عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس‪ ،‬فهذا ليس عنده من الحسد‬
‫شيء‪.‬‬

‫ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني‪ ،‬وقد تسمى المنافسة‪ ،‬فيتنافس الثنان في المر المحبوب المطلوب‪ ،‬كلهما‬
‫يطلب أن يأخذه‪ ،‬وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الخر‪ ،‬كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الخر‪،‬‬
‫ن ‪َ .‬تعْرِفُ‬
‫ظرُو َ‬
‫ك يَن ُ‬ ‫والتنافس ليس مذمومًا مطلقًا‪ ،‬بل هو محمود في الخير‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫لْبْرَارَ لَفِي َنعِيمٍ ‪ .‬عَلَى الَْرَا ِئ ِ‬
‫ك فَ ْل َي َتنَافَسْ ا ْل ُم َتنَافِسُونَ} [المطففين‪22 :‬ـ ‪.]26‬‬ ‫سكٌ َوفِي ذَِل َ‬
‫ختَامُ ُه مِ ْ‬
‫ختُومٍ ‪ِ .‬‬
‫ق مَ ْ‬
‫ن مِنْ رَحِي ٍ‬
‫سقَوْ َ‬
‫فِي ُوجُو ِههِ ْم نَضْ َرةَ ال ّنعِي ِم ‪ .‬يُ ْ‬

‫فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم‪ ،‬ل ينافس في نعيم الدنيا ‪ /‬الزائل‪ ،‬وهذا موافق لحديث النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم فإنه نهى عن الحسد إل فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه‪ ،‬ومن أوتي المال فهو ينفقه‪ ،‬فأما من أوتي علمًا‬
‫ولم يعمل به ولم يعلمه‪ ،‬أو أوتي مال ولم ينفقه في طاعة الّ فهذا ل يحسد ول يتمنى مثل حاله‪ ،‬فإنه ليس في خير‬
‫يرغب فيه‪ ،‬بل هو معرض للعذاب‪ ،‬ومن ولي ولية فيأتيها بعلم وعدل‪ ،‬أدى المانات إلى أهلها‪ ،‬وحكم بين الناس‬
‫بالكتاب والسنة‪ ،‬فهذا درجته عظيمة‪ ،‬لكن هذا في جهاد عظيم‪ ،‬كذلك المجاهد في سبيل الّ‪.‬‬

‫والنفوس ل تحسد من هو في تعب عظيم؛ فلهذا لم يذكره‪ ،‬وإن كان المجاهد في سبيل الّ أفضل من الذي ينفق المال‪،‬‬
‫بخلف المنفق والمعلم فإن هذين ليس لهم في العادة عدو من خارج‪ ،‬فإن قدر أنهما لهما عدو يجاهدانه‪ ،‬فذلك أفضل‬
‫لدرجتهما‪ ،‬وكذلك لم يذكر النبي صلى ال عليه وسلم المصلي والصائم والحاج؛ لن هذه العمال ل يحصل منها في‬
‫العادة من نفع الناس الذي يعظمون به الشخص‪ ،‬ويسودونه ما يحصل بالتعليم والنفاق‪.‬‬

‫والحسد في الصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة‪ ،‬وإل فالعامل ل يحسد في العادة‪ ،‬ولو كان تنعمه‬
‫بالكل والشرب والنكاح أكثر من غيره‪ ،‬بخلف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيرًا؛ ولهذا يوجد بين أهل ‪ /‬العلم‬
‫الذين لهم أتباع من الحسد ما ل يوجد فيمن ليس كذلك‪ ،‬وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله‪ ،‬فهذا ينفع الناس بقوت‬
‫القلوب وهذا ينفعهم بقوت البدان‪ ،‬والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا‪.‬‬

‫شيْءٍ َومَنْ َر َز ْقنَا ُه‬ ‫علَى َ‬ ‫ع ْبدًا َممْلُوكًا لَ َي ْقدِرُ َ‬ ‫ولهذا ضرب الّ ـ سبحانه ـ مثلين‪ :‬مثلً بهذا‪ ،‬ومثلً بهذا فقال‪{ :‬ضَ َربَ ا ُ‬
‫لّ َمثَلً َ‬
‫ل يَ ْقدِرُ‬ ‫حدُ ُهمَا َأ ْبكَ ُم َ‬
‫لّ َمثَلً رَجَُليْنِ أَ َ‬
‫ل َيعَْلمُونَ ‪َ .‬وضَ َربَ ا ُ‬ ‫حمْدُ لِّ بَلْ َأ ْكثَرُهُ ْم َ‬‫ستَوُونَ ا ْل َ‬‫ل يَ ْ‬‫جهْرًا هَ ْ‬
‫سرّا وَ َ‬ ‫ق مِنْهُ ِ‬‫سنًا َفهُوَ يُن ِف ُ‬
‫ِمنّا رِ ْزقًا حَ َ‬
‫ط مُ ْستَقِيمٍ} [النحل‪،75 :‬‬ ‫صرَا ٍ‬‫علَى ِ‬ ‫ن يَ ْأمُ ُر بِا ْلعَدْلِ وَهُوَ َ‬
‫ستَوِي هُوَ َومَ ْ‬ ‫ل يَ ْ‬
‫خيْرٍ هَ ْ‬ ‫ت ِب َ‬
‫ل يَأْ ِ‬
‫عَلَى شَيْءٍ وَهُ َو كَلّ عَلَى مَ ْولَهُ َأ ْي َنمَا يُوَجّ ّه َ‬
‫‪.]76‬‬

‫والمثلن ضربهما الّ ـ سبحانه ـ لنفسه المقدسة‪ ،‬ولما يعبد من دونه‪ ،‬فإن الوثان ل تقدر ل على عمل ينفع‪ ،‬ول على‬
‫كلم ينفع‪ ،‬فإذا قدر عبد مملوك ل يقدر على شيء‪ ،‬وآخر قد رزقه الّ رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سرًا وجهرًا هل‬
‫يستوى هذا المملوك العاجز عن الحسان وهذا القادر على الحسان المحسن إلى الناس سرًا وجهرًا‪ .‬وهو ـ سبحانه ـ‬
‫قادر على الحسان إلى عباده‪ ،‬وهو محسن إليهم دائما‪ ،‬فكيف يشبه به العاجز المملوك الذي ل يقدر على شيء حتى‬
‫ل مالً فهو ينفق منه آناء الليل والنهار‪.‬‬
‫يشرك به معه‪ ،‬وهذا مثل الذي أعطاه ا ّ‬

‫ل على موله أينما‬


‫‪/‬والمثل الثاني إذا قدر شخصان أحدهما أبكم ل يعقل ول يتكلم ول يقدر على شىء‪ ،‬وهو مع هذا َك ّ‬
‫يوجهه ل يأت بخير‪ ،‬فليس فيه من نفع قط‪ ،‬بل هو َكلّ على من يتولى أمره‪ ،‬وآخر عالم عادل يأمر بالعدل‪ ،‬ويعمل‬
‫بالعدل‪ ،‬فهو على صراط مستقيم‪ ،‬وهذا نظير الذي أعطاه الّ الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها الناس‪.‬‬

‫وقد ضرب ذلك مثلً لنفسه‪ ،‬فإنه ـ سبحانه ـ عالم عادل قادر يأمر بالعدل‪ ،‬وهو قائم بالقسط على صراط مستقيم‪ .‬كما‬
‫ط لَ إِلَهَ ِإلّ هُوَ ا ْل َعزِيزُ الْ َحكِيمُ} [آل عمران‪،]18 :‬‬
‫ل ِئكَةُ وَأُوْلُوا ا ْلعِلْ ِم قَا ِئمًا بِالْ ِقسْ ِ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬‬
‫ش ِهدَ الُّ َأنّ ُه لَ إِلَهَ ِإلّ هُوَ وَا ْلمَ َ‬
‫ط مُ ْستَقِيمٍ} [هود‪.]56 :‬‬ ‫وقال هود‪{ :‬إِنّ َربّي عَلَى صِرَا ٍ‬

‫ولهذا كان الناس يعظمون دار العباس‪ ،‬كان عبد الّ يعلم الناس وأخوه يطعم الناس‪ ،‬فكانوا يعظمون على ذلك‪ ،‬ورأى‬
‫معاوية الناس يسألون ابن عمر عن المناسك وهو يفتيهم فقال‪ :‬هذا والّ الشرف‪ ،‬أو نحو ذلك‪.‬‬
‫هذا وعمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ نافس أبا بكر ـ رضي الّ عنه ـ النفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن‬
‫الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ قال‪ :‬أمرنا رسول الّ صلى ال عليه وسلم أن نتصدق‪ ،‬فوافق ذلك مالً عندي‪ ،‬فقلت اليوم‬
‫أسبق أبا بكر أن سبقته يومًا‪ .‬قال فجئت بنصف مالي‪ ،‬قال‪ :‬فقال لي رسول ‪ /‬الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬ما أبقيت‬
‫لهلك؟) قلت‪ :‬مثله‪ ،‬وأتى أبو بكر ـ رضي الّ عنه ـ بكل ما عنده‪ ،‬فقال له رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬ما أبقيت‬
‫لهلك؟) قال‪ :‬أبقيت لهم الّ ورسوله فقلت‪ :‬ل أسابقك إلى شيء أبدًا‪.‬‬

‫فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة‪ ،‬لكن حال الصديق ـ رضي الّ عنه ـ أفضل منه وهو أنه خال من‬
‫المنافسة مطلقًا ل ينظر إلى حال غيره‪.‬‬

‫وكذلك موسى صلى ال عليه وسلم في حديث المعراج حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى ال عليه وسلم حتى بكى‬
‫لما تجاوزه النبي صلى ال عليه وسلم فقيل له‪ :‬ما يبكيك‪ :‬فقال‪( :‬أبكي‪ ،‬لن غلمًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته‬
‫أكثر ممن يدخلها من أمتي)‪ ،‬أخرجاه في الصحيحين‪ ،‬وروى في بعض اللفاظ المروية غير الصحيح‪( :‬مررنا على‬
‫رجل وهو يقول ويرفع صوته‪ :‬أكرمته وفضلته‪ ،‬قال‪ :‬فرفعناه إليه فسلمنا عليه فرد السلم‪ ،‬فقال‪ :‬من هذا معك يا‬
‫جبريل ؟ قال‪ :‬هذا أحمد‪ ،‬قال‪ :‬مرحبًا بالنبي المي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لمته‪ ،‬قال‪ :‬ثم اندفعنا فقلت‪ :‬من هذا يا‬
‫جبريل ؟ قال‪ :‬هذا موسى بن عمران‪ ،‬قلت‪ :‬ومن يعاتب ؟ قال‪ :‬يعاتب ربه فيك‪ ،‬قلت‪ :‬ويرفع صوته على ربه؟! قال‪:‬‬
‫إن الّ ـ عز وجل ـ قد عرف صدقه)‪.‬‬

‫‪/‬وعمر ـ رضي الّ عنه ـ كان مشبهًا بموسى‪ ،‬ونبينا حاله أفضل من حال موسى‪ ،‬فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك‪.‬‬

‫وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه‪ ،‬كانوا سالمين من جميع هذه المور‪ ،‬فكانوا أرفع درجة ممن‬
‫عنده منافسة وغبطة‪ ،‬وإن كان ذلك مباحًا؛ ولهذا استحق أبو عبيدة ـ رضي الّ عنه ـ أن يكون أمين هذه المة‪ ،‬فإن‬
‫المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه‪ ،‬كان أحق بالمانة ممن يخاف مزاحمته؛ ولهذا‬
‫يؤتمن على النساء والصبيان الخصيان‪ ،‬ويؤتمن على الولية الصغرى من يعرف أنه ل يزاحم على الكبرى‪ ،‬ويؤتمن‬
‫على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيء منه‪ ،‬وإذا أؤتمن من في نفسه خيانة شبه بالذئب المؤتمن على‬
‫الغنم‪ ،‬فل يقدر أن يؤدي المانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه‪.‬‬

‫وفي الحديث الذي رواه المام أحمد في مسنده عن أنس ـ رضي الّ عنه ـ قال‪ :‬كنا يومًا جلوسًا عند رسول الّ صلى‬
‫ال عليه وسلم فقال‪( :‬يطلع عليكم الن من هذا الفج رجل من أهل الجنة)‪ ،‬قال‪ :‬فطلع رجل من النصار تنطف لحيته‬
‫من وضوء‪ ،‬قد علق نعليه في يده الشمال‪ ،‬فسلم‪ ،‬فلما كان الغد قال النبي صلى ال عليه وسلم مثل ذلك‪ ،‬فطلع ذلك‬
‫الرجل على مثل حاله‪ ،‬فلما كان اليوم الثالث‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم مقالته فطلع ذلك الرجل على مثل حاله‪،‬‬
‫فلما قام النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬اتبعه عبد الّ بن عمرو بن العاص ـ رضي ‪/‬الّ عنه ـ فقال‪ :‬إني لحيت أبى‪،‬‬
‫فأقسمت أل أدخل عليه ثلثًا‪ ،‬فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلث فعلت‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال أنس ـ رضي الّ‬
‫عنه ـ‪ :‬فكان عبد الّ يحدث أنه بات عنده ثلث ليال‪ ،‬فلم يره يقوم من الليل شيئًا‪ ،‬غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه‬
‫ذكر الّ ـ عز وجل ـ وكبر حتى يقوم إلى صلة الفجر‪ ،‬فقال عبد الّ‪ :‬غير أني لم أسمعه يقول إل خيرًا‪ ،‬فلما فرغنا‬
‫من الثلث وكدت أن أحقر عمله قلت‪ :‬يا عبد الّ لم يكن بيني وبين والدي غضب ول هجرة‪ ،‬ولكن سمعت رسول الّ‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول ثلث مرات‪( :‬يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)‪ ،‬فطلعت أنت الثلث مرات‪ ،‬فأردت أن‬
‫آوى إليك لنظر ما عملك‪ ،‬فأقتدى بذلك‪ ،‬فلم أرَك تعمل كثير عمل‪ ،‬فما الذي بلغ بك ما قال رسول الّ صلى ال عليه‬
‫وسلم ؟ قال‪ :‬ما هو إل ما رأيت‪ ،‬غير أنني ل أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشًا ول حسدًا على خير أعطاه‬
‫الّ إياه‪ .‬قال عبد الّ‪ :‬هذه التي بلغت بك وهي التي ل نطيق‪ .‬فقول عبد الّ ابن عمرو له‪ :‬هذه التي بلغت بك‪ ،‬وهي‬
‫التي ل نطيق‪ ،‬يشير إلى خلوه وسلمته من جميع أنواع الحسد‪.‬‬

‫ن ِبهِمْ‬
‫سهِمْ وَلَ ْو كَا َ‬
‫صدُورِ ِهمْ حَاجَ ًة ِممّا أُوتُوا َويُ ْؤثِرُونَ عَلَى َأنْ ُف ِ‬
‫ن فِي ُ‬
‫جدُو َ‬ ‫وبهذا أثنى الّ ـ تعالى ـ على النصار فقال‪َ { :‬و َ‬
‫ل يَ ِ‬
‫َخصَاصَةٌ} [الحشر‪ ،]9 :‬أي‪ :‬مما أوتي إخوانهم المهاجرون‪ ،‬قال المفسرون‪ :‬ل يجدون في صدورهم حاجة أي‪ :‬حسدًا‬
‫وغيظًا مما أوتي المهاجرون‪ ،‬ثم قال بعضهم‪ :‬من مال الفيء‪ ،‬وقيل‪ :‬من الفضل والتقدم‪ / ،‬فهم ل يجدون حاجة مما‬
‫أتوا من المال ول من الجاه‪ ،‬والحسد يقع على هذا‪.‬‬
‫وكان بين الوس والخزرج منافسة على الدين‪ ،‬فكان هؤلء إذا فعلوا ما يفضلون به عند الّ ورسوله أحب الخرون‬
‫ك فَ ْل َيتَنَا َفسْ ا ْل ُم َتنَافِسُونَ} [المطففين‪:‬‬
‫سكٌ َوفِي ذَِل َ‬ ‫أن يفعلوا نظير ذلك‪ ،‬فهو منافسة فيما يقربهم إلى الّ كما قال‪ِ { :‬‬
‫ختَامُ ُه مِ ْ‬
‫‪.]26‬‬

‫وأما الحسد المذموم كله‪ ،‬فقد قال تعالى في حق اليهود ‪َ { :‬و ّد َكثِي ٌر مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ لَ ْو يَ ُردّو َنكُ ْم مِنْ َب ْعدِ إِيمَا ِنكُ ْم ُكفّارًا حَ َ‬
‫سدًا مِنْ‬
‫ِعنْدِ أَنفُ ِس ِه ْم مِنْ َب ْعدِ مَا َت َبيّنَ َلهُمْ الْ َحقّ} [البقرة‪ ،]109 :‬يودون‪ :‬أي‪ :‬يتمنون ارتدادكم حسدًا‪ ،‬فجعل الحسد هو الموجب‬
‫لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق؛ لنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل‪ ،‬بل ما لم يحصل لهم مثله‬
‫ح ْكمَةَ‬
‫ضلِ ِه فَ َقدْ آ َت ْينَا آلَ ِإبْرَاهِيمَ ا ْل ِكتَابَ وَا ْل ِ‬
‫ن فَ ْ‬
‫لّ مِ ْ‬
‫سدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ ا ُ‬ ‫حسدوكم‪ ،‬وكذلك في الية الخرى‪َ{ :‬أ ْم يَحْ ُ‬
‫سعِيرًا} [النساء‪ ،]55 ،54 :‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ أَعُوذُ‬ ‫ج َهنّمَ َ‬
‫عنْهُ َوكَفَى بِ َ‬
‫صدّ َ‬
‫ن بِهِ َو ِم ْنهُ ْم مَنْ َ‬
‫وَآ َت ْينَاهُ ْم مُ ْلكًا عَظِيمًا‪َ .‬ف ِم ْنهُ ْم مَنْ آمَ َ‬
‫ت فِي ا ْل ُع َقدِ‪َ .‬ومِنْ َشرّ حَا ِسدٍ ِإذَا حَ َسدَ} [ سورة الفلق ]‪.‬‬ ‫خلَقَ‪َ .‬ومِنْ شَرّ غَاسِقٍ ِإذَا َو َقبَ‪َ .‬ومِنْ شَرّ النّفّاثَا ِ‬ ‫ش ّر مَا َ‬ ‫بِرَبّ ا ْلفَلَقِ‪ .‬مِنْ َ‬

‫وقد ذكر طائفة من المفسرين أنها نزلت بسبب حسد اليهود للنبي صلى ال عليه وسلم حتى سحروه‪ :‬سحره لبَيِد بن‬
‫العصم اليهودي‪ ،‬فالحاسد ‪ /‬المبغض للنعمة على من أنعم الّ عليه بها ظالم معتد‪ ،‬والكاره لتفضيله المحب لمماثلته‬
‫منهى عن ذلك إل فيما يقربه إلى الّ‪ ،‬فإذا أحب أن يعطي مثل ما أعطى مما يقربه إلى الّ فهذا ل بأس به‪ ،‬وإعراض‬
‫قلبه عن هذا بحيث ل ينظر إلى حال الغير أفضل‪.‬‬

‫ثم هذا الحسد‪ ،‬إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالمًا معتديًا مستحقًا للعقوبة إل أن يتوب‪ ،‬وكان المحسود مظلومًا‬
‫مأمورًا بالصبر والتقوى‪ ،‬فيصبر على أذى الحاسد ويعفو ويصفح عنه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ودّ َكثِي ٌر مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ لَوْ‬
‫لّ بَِأمْ ِرهِ} [البقرة‪:‬‬ ‫حتّى يَ ْأتِيَ ا ُ‬‫عفُوا وَاصْ َفحُوا َ‬ ‫ق فَا ْ‬
‫ن َبعْ ِد مَا َتبَيّنَ َلهُمْ ا ْلحَ ّ‬
‫سهِ ْم مِ ْ‬
‫ع ْندِ أَن ُف ِ‬
‫سدًا مِنْ ِ‬
‫حَ‬‫ن َبعْدِ إِيمَا ِنكُ ْم كُفّارًا َ‬
‫يَ ُردّونَكُ ْم مِ ْ‬
‫للٍ‬‫صبَةٌ إِنّ َأبَانَا َلفِي ضَ َ‬ ‫ع ْ‬ ‫حبّ إِلَى َأبِينَا ِمنّا َونَحْنُ ُ‬‫سفُ وََأخُوهُ أَ َ‬ ‫‪ ،]109‬وقد ابتلى يوسف بحسد إخوته له حيث قالوا‪َ{ :‬ليُو ُ‬
‫ّمبِينٍ } [يوسف‪ ،]8 :‬فحسدوهما على تفضيل الب لهما؛ ولهذا قال يعقوب ليوسف‪{ :‬لَ َتقْصُصْ رُ ْؤيَاكَ عَلَى ِإخْ َو ِتكَ‬
‫ك كَ ْيدًا إِنّ ال ّشيْطَانَ لِلِنسَانِ َعدُ ّو ّمبِينٌ } [يوسف‪.]5 :‬‬ ‫َف َيكِيدُواْ َل َ‬

‫ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجب وبيعه رقيقًا لمن ذهب به إلى بلد الكفر فصار مملوكًا لقوم كفار‪ ،‬ثم‬
‫إن يوسف ابتلى بعد أن ظلم بمن يدعوه إلى الفاحشة ويراود عليها‪ ،‬ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك فاستعصم‪،‬‬
‫واختار السجن على الفاحشة‪ ،‬وآثر عذاب ‪ /‬الدنيا على سخط الّ‪ ،‬فكان مظلومًا من جهة من أحبه لهواه‪ ،‬وغرضه‬
‫الفاسد‪.‬‬

‫فهذه المحبة أحبته لهوي محبوبها شفاؤها وشفاؤه إن وافقها‪ ،‬وأولئك المبغضون أبغضوه بغضة أوجبت أن يصير‬
‫ملقى في الجب‪ ،‬ثم أسيرًا مملوكًا بغير اختياره‪ ،‬فأولئك أخرجوه من إطلق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير‬
‫اختياره‪ ،‬وهـذه ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبوسًا مسجونًا باختياره‪ ،‬فكانت هذه أعـظم في محنته‪ ،‬وكان صبره‬
‫هنا صبرًا اختياريًا اقترن به التقوى‪ ،‬بخلف صبره على ظلمهم فإن ذلك كان من باب المصائب التي من لم يصبر‬
‫لّ لَ يُضِيعُ‬
‫صبِ ْر فَإِنّ ا َ‬ ‫عليها صبر الكرام سل سلو البهائم‪ ،‬والصبر الثاني أفضل الصبرين؛ ولهذا قال‪ِ{ :‬إنّهُ مَ ْ‬
‫ن َيتّقِ َويَ ْ‬
‫أَ ْجرَ ا ْلمُحْ ِسنِينََ} [يوسف‪.]90 :‬‬

‫وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه‪ ،‬وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان‪ ،‬وإن لم يفعل أوذي وعوقب‪ ،‬فاختار‬
‫الذى والعقوبة على فراق دينه‪ :‬إما الحبس‪ ،‬وإما الخروج من بلده‪ ،‬كما جرى للمهاجرين‪ ،‬حيث اختاروا فراق‬
‫الوطان على فراق الدين‪ ،‬وكانوا يعذبون ويؤذون‪.‬‬

‫وقد أوذي النبي صلى ال عليه وسلم بأنواع من الذى فكان يصبر عليها صبرًا اختياريًا‪ ،‬فإنه إنما يؤذى لئل يفعل ما‬
‫يفعله ‪ /‬باختياره‪ ،‬وكان هذا أعظم من صبر يوسف؛ لن يوسف إنما طلب منه الفاحشة وإنما عوقب إذا لم يفعل‬
‫بالحبس‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه طلب منهم الكفر وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه‪ .‬وأهون‬
‫ما عوقب به الحبس‪ ،‬فإن المشركين حبسوه وبني هاشم بالشعب مدة‪ ،‬ثم لما مات أبو طالب اشتدوا عليه‪ ،‬فلما بايعت‬
‫النصار وعرفوا بذلك صاروا يقصدون منعه من الخروج ويحبسونه هو وأصحابه عن ذلك ولم يكن أحد يهاجر إل‬
‫سرًا‪ ،‬إل عمر بن الخطاب ونحوه‪ ،‬فكانوا قد ألجؤوهم إلى الخروج من ديارهم ومع هذا منعوا من منعوه منهم عن‬
‫ذلك وحبسوه‪.‬‬
‫فكان ما حصل للمؤمنين من الذى والمصائب هو باختيارهم طاعة لّ ورسوله‪ ،‬لم يكن من المصائب السماوية التي‬
‫تجرى بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف‪ ،‬ل من جنس التفريق بينه وبين أبيه‪ ،‬وهذا أشرف النوعين‪ ،‬وأهلها‬
‫أعظم درجة ـ وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه ـ فإن هذا أصيب‬
‫ظمَأٌ‬ ‫وأوذي باختياره طاعة لّ يثاب على نفس المصائب ويكتب له بها عمل صالح‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ذَِل َ‬
‫ك بَِأّنهُ ْم لَ يُصِي ُبهُمْ َ‬
‫لّ لَ‬
‫عمَلٌ صَالِحٌ إِنّ ا َ‬
‫ل ُكتِبَ َلهُ ْم بِهِ َ‬
‫عدُ ّو َنيْلً ِإ ّ‬
‫ن مِنْ َ‬
‫طئًا َيغِيظُ ا ْل ُكفّارَ َولَ َينَالُو َ‬
‫طئُونَ مَ ْو ِ‬
‫ل يَ َ‬
‫سبِيلِ الِّ َو َ‬
‫خمَصَ ٌة فِي َ‬
‫ل مَ ْ‬
‫ل نَصَبٌ َو َ‬
‫َو َ‬
‫يُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْ ِسنِينَ} [التوبة‪.]120 :‬‬

‫‪/‬بخلف المصائب التي تجرى بل اختيار العبد‪ ،‬كالمرض وموت العزيز عليه وأخذ اللصوص ماله‪ ،‬فإن تلك إنما‬
‫يثاب على الصبر عليها ل على نفس ما يحدث من المصيبة‪ ،‬لكن المصيبة يكفر بها خطاياه‪ ،‬فإن الثواب إنما يكون‬
‫على العمال الختيارية‪ ،‬وما يتولد عنها‪.‬‬

‫والذين يؤذون على اليمان‪ ،‬وطاعة الّ ورسوله‪ ،‬ويحدث لهم بسبب ذلك حرج‪ ،‬أو مرض‪ ،‬أو حبس‪ ،‬أو فراق وطن‬
‫وذهاب مال وأهل‪ ،‬أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال هم في ذلك علي طريقة النبياء وأتباعهم كالمهاجرين‬
‫الولين‪ ،‬فهؤلء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عمل صالح‪ ،‬كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع‬
‫والعطش والتعب وعلى غيظه الكفار‪ ،‬وإن كانت هذه الثار ليست عملً فعله يقوم به لكنها متسببة عن فعله‬
‫الختياري‪ ،‬وهي التي يقال لها متولدة‪.‬‬

‫وقد اختلف الناس‪ :‬هل يقال‪ :‬إنها فعل لفاعل السبب‪ ،‬أو لّ أو ل فاعل لها‪ ،‬والصحيح أنها مشتركة بين فاعل السبب‪،‬‬
‫وسائر السباب؛ولهذا كتب له بها عمل صالح‪.‬‬

‫والمقصود أن الحسد مرض من أمراض النفس‪ ،‬وهو مرض غالب فل يخلص منه إل قليل من الناس؛ ولهذا يقال‪ :‬ما‬
‫خل ‪ /‬جسد من حسد‪ ،‬لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه‪ ،‬وقد قيل للحسن البصري‪ :‬أيحسد المؤمن؟ فقال‪ :‬ما أنساك إخوة‬
‫يوسف ل أبا لك! ولكن عمه في صدرك‪ ،‬فإنه ل يضرك ما لم تعد به يدًا ولسانًا‪.‬‬

‫فمن وجد في نفسه حسدًا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر‪ ،‬فيكره ذلك من نفسه‪ ،‬وكثير من الناس الذين‬
‫عندهم دين ل يعتدون على المحسود‪ ،‬فل يعينون من ظلمه‪ ،‬ولكنهم أيضًا ل يقومون بما يجب من حقه‪ ،‬بل إذا ذمه‬
‫أحد لم يوافقوه على ذمه ول يذكرون محامده‪ ،‬وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا‪ ،‬وهؤلء مدينون في ترك المأمور في حقه‬
‫مفرطون في ذلك‪ ،‬ل معتدون عليه‪ ،‬وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فل ينصفون أيضًا في مواضع‪ ،‬ول ينصرون‬
‫على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود‪ ،‬وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب‪.‬‬

‫ل وصبر فلم يدخل في الظالمين‪ ،‬نفعه الّ بتقواه؛ كما جرى لزينب بنت جحش ـ رضي الّ عنها ـ فإنها‬
‫ومن اتقى ا ّ‬
‫كانت هي التي تسامى عائشة من أزواج النبي صلى ال عليه وسلم وحسد النساء بعضهن لبعض كثير غالب‪ ،‬ل سيما‬
‫المتزوجات بزوج واحد‪ ،‬فإن المرأة تغار على زوجها لحظها منه‪ ،‬فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها‪.‬‬

‫‪/‬وهكذا الحسد يقع كثيرًا بين المتشاركين في رئاسة أو مال‪ ،‬إذا أخذ بعضهم قسطًا من ذلك وفات الخر‪ ،‬ويكون بين‬
‫النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الخر عليه‪ ،‬كحسد إخوة يوسف‪ ،‬وكحسد ابني آدم أحدهما لخيه‪ ،‬فإنه حسده لكون‬
‫أن الّ تقبل قربانه‪ ،‬ولم يتقبل قربان هذا‪ ،‬فحسده على ما فضله الّ من اليمان والتقوى ـ كحسد اليهود للمسلمين ـ‬
‫وقتله على ذلك؛ ولهذا قيل‪ :‬أول ذنب عصى الّ به ثلثة‪ :‬الحرص‪ ،‬والكبر‪ ،‬والحسد‪ ،‬فالحرص من آدم‪ ،‬والكبر من‬
‫إبليس‪ ،‬والحسد من قابيل حيث قتل هابيل‪.‬‬

‫وفي الحديث‪( :‬ثلث ل ينجو منهن أحد‪ :‬الحسد‪ ،‬والظن‪ ،‬والطّيرة‪ ،‬وسأحدثكم بما يخرج من ذلك‪ :‬إذا حسدت فل‬
‫تبغض‪ ،‬وإذا ظننت فل تحقق‪ ،‬وإذا تطيرت فامض) رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة‪.‬‬

‫وفي السنن عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬دب إليكم داء المم قبلكم‪ :‬الحسد‪ ،‬والبغضاء وهي الحالقة‪ ،‬ل أقول‪ :‬تحلق‬
‫الشعر‪ ،‬ولكن تحلق الدين) فسماه داء‪ ،‬كما سمى البخل داء في قوله‪( :‬وأي داء أدوأ من البخل؟!) فعلم أن هذا مرض‪،‬‬
‫وقد جاء في حديث آخر‪( :‬أعوذ بك من منكرات الخلق والهواء‪ ،‬والدواء) فعطف الدواء على الخلق والهواء‪.‬‬
‫‪/‬فإن الخلق ما صار عادة للنفس‪ ،‬وسَجِيّة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَِإّنكَ َلعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم‪ ،]4 :‬قال ابن عباس‪ ،‬وابن عيينة‪،‬‬
‫وأحمد بن حنبل ـ رضي الّ عنهم ـ على دين عظيم‪ ،‬وفي لفظ عن ابن عباس‪ :‬على دين السلم‪ ،‬وكذلك قالت عائشة‬
‫ـ رضي الّ عنها ـ‪ :‬كان خلقه القرآن‪ .‬وكذلك قال الحسن البصري‪ :‬أدب القرآن هو الخلق العظيم‪.‬‬

‫وأما الهوى‪ ،‬فقد يكون عارضًا‪ ،‬والداء هو المرض‪ ،‬وهو تألم القلب والفساد فيه‪ ،‬وقرن في الحديث الول الحسد‬
‫ل فضل الّ على ذلك الغير‪ ،‬ثم ينتقل إلى بغضه‪ ،‬فإن بغض اللزم يقتضى بغض‬ ‫بالبغضاء؛ لن الحاسد يكره أو ً‬
‫الملزوم‪ ،‬فإن نعمة الّ إذا كانت لزمة وهو يحب زوالها‪ ،‬وهي ل تزول إل بزواله أبغضه وأحب عدمه‪ ،‬والحسد‬
‫يوجب البغي‪ ،‬كما أخبر الّ ـ تعالى ـ عمن قبلنا‪ :‬أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم‪ ،‬فلم يكن اختلفهم لعدم‬
‫العلم‪ ،‬بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعض‪ ،‬كما يبغى الحاسد على المحسود‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي الّ عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬ل تحاسدوا‪ ،‬ول تباغضوا‪،‬‬
‫ول تدابروا‪ ،‬ول تقاطعوا‪ ،‬وكونوا عباد الّ إخوانًا‪ ،‬ول يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلث ليال‪ ،‬يلتقيان فيصدّ هذا‬
‫ويصد هذا‪ ،‬وخيرهما الذي يبدأ بالسلم)‪ ،‬وقد قال صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس‬
‫أيضًا‪( :‬والذي ‪/‬نفسي بيده‪ ،‬ل يؤمن أحدكم حتي يحب لخيه ما يحب لنفسه)‪.‬‬

‫ل مِنَ الِّ‬
‫شهِيدًا‪ .‬وََلئِنْ َأصَا َبكُ ْم فَضْ ٌ‬
‫ن َم َعهُمْ َ‬
‫ل َقدْ َأ ْنعَمَ الُّ عََليّ ِإذْ لَمْ َأكُ ْ‬
‫ن فَإِنْ َأصَا َب ْتكُ ْم مُصِيبَةٌ قَا َ‬
‫طئَ ّ‬‫ن ِم ْنكُمْ َلمَنْ َل ُيبَ ّ‬ ‫وقد قال تعالى‪{ :‬وَإِ ّ‬
‫ت َم َعهُ ْم فََأفُو َز فَ ْوزًا عَظِيمًا} [النساء‪.]73 ،72 :‬‬ ‫ن َكأَنْ لَ ْم َتكُنْ َب ْي َنكُمْ َو َبيْنَ ُه مَ َودّةٌ يَاَليْ َتنِي كُن ُ‬
‫َليَقُولَ ّ‬

‫فهؤلء المبطئون لم يحبوا لخوانهم المؤمنين ما يحبون لنفسهم‪ ،‬بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم‪ ،‬وإن‬
‫أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها‪ ،‬بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ‪ ،‬فهم ل يفرحون إل بدنيا تحصل لهم‪ ،‬أو شر دنيوي‬
‫ينصرف عنهم‪ ،‬إذا كانوا ل يحبون الّ ورسوله والدار الخرة‪ ،‬ولو كانوا كذلك لحبوا إخوانهم‪ ،‬وأحبوا ما وصل‬
‫إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة‪ ،‬ومن لم يسره ما يسر المؤمنين‪ ،‬ويسوؤه ما يسوء المؤمنين فليس‬
‫منهم‪.‬‬

‫ففي الصحيحين عن عامر قال‪ :‬سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول‪ :‬سمعت رسول الّ صلى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫حمّى‬
‫(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد‪ ،‬إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بال ُ‬
‫سهَر)‪ ،‬وفي الصحيحين عن أبي موسى الشعري ـ رضي الّ عنه ـ قال‪ :‬قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬‬ ‫وال ّ‬
‫المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه‪.‬‬

‫والشح مرض‪ ،‬والبخل مرض‪ ،‬والحسد شر من البخل‪ ،‬كما في الحديث ‪ /‬الذي رواه أبو داود عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم أنه قال‪( :‬الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب‪ ،‬والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) وذلك أن‬
‫البخيل يمنع نفسه‪ ،‬والحسود يكره نعمة الّ على عباده‪ ،‬وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد‬
‫لنظرائه‪ ،‬وقد يكون فيه بخل بل حسد لغيره والشح أصل ذلك‪.‬‬

‫وقال تعالى‪َ { :‬ومَنْ يُوقَ شُ ّح نَفْسِ ِه َفأُوَْل ِئكَ هُمْ ا ْل ُمفْلِحُونَ} [ الحشر‪ ،]9 :‬وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫قال‪( :‬إياكم والشح‪ ،‬فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا‪ ،‬وأمرهم بالظلم فظلموا‪ ،‬وأمرهم بالقطيعة فقطعوا)‪،‬‬
‫وكان عبد الرحمن بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول‪ :‬اللّهم قني شح نفسي‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬ما أكثر ما تدعو‬
‫بهذا‪ .‬فقال‪ :‬إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة‪ .‬والحسد يوجب الظلم‪.‬‬

‫َفصْــل‬

‫فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها‪ ،‬بل وحبها لما يضرها؛ ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب‪،‬‬
‫وأما مرض الشهوة‪ ،‬والعشق فهو حب النفس لما يضرها‪ ،‬وقد يقترن به بغضها لما ينفعها‪ ،‬والعشق مرض نفساني‪،‬‬
‫وإذا قوى أثر في البدن فصار مرضًا في الجسم‪ ،‬إما من أمراض ‪ /‬الدماغ كالماليخوليا؛ ولهذا قيل فيه‪ :‬هو مرض‬
‫وسواسي شبيه بالماليخوليا‪ ،‬وأما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك‪.‬‬
‫والمقصود هنا مرض القلب؛ فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهى ما يضره‪ .‬وإذا لم يطعم‬
‫ذلك تألم‪ ،‬وإن أطعم ذلك قوى به المرض وزاد‪.‬‬

‫كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدة وملمسة وسماعًا‪ ،‬بل ويضره التفكر فيه والتخيل له وهو يشتهي‬
‫ذلك‪ ،‬فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب‪ ،‬وإن أعطى مشتهاه قوي مرضه‪ ،‬وكان سببًا لزيادة اللم‪.‬‬

‫وفي الحديث‪( :‬إن الّ يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب)‪ ،‬وفي مناجاة موسى‬
‫المأثورة عن وهب التي رواها المام أحمد في كتاب ]الزهد[ يقول الّ تعالى‪( :‬إني لذود أوليائي عن نعيم الدنيا‬
‫ورخائها‪ ،‬كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة‪ ،‬وإني لجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق‬
‫إبله عن مبارك الغرة‪ ،‬وما ذلك لهوانهم علي‪ ،‬ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدنيا ولم‬
‫يطفئه الهوى)‪ .‬وإنما شفاء المريض بزوال مرضه‪ ،‬بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه‪.‬‬

‫والناس في العشق على قولين‪:‬‬

‫‪/‬قيل‪ :‬إنه من باب الرادات‪ ،‬وهذا هو المشهور‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬من باب التصورات‪ ،‬وإنه فساد في التخييل‪ ،‬حيث يتصور المعشوق على ما هو به‪ ،‬قال هؤلء‪ :‬ولهذا ل‬
‫يوصف الّ بالعشق‪ ،‬ول أنه يعشق؛ لنه منزه عن ذلك‪ ،‬ول يحمد من يتخيل فيه خيالً فاسدًا‪.‬‬

‫وأما الولون فمنهم من قال‪ :‬يوصف بالعشق فإنه المحبة التامة‪ ،‬والّ يحب ويحب‪ ،‬وروى في أثر عن عبد الواحد بن‬
‫زيد أنه قال‪ :‬ل يزال عبدي يتقرب إليَ يعشقني وأعشقه‪ .‬وهذا قول بعض الصوفية‪.‬‬

‫والجمهور ل يطلقون هذا اللفظ في حق الّ؛ لن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي‪ ،‬والّ ـ‬
‫تعالى ـ محبته ل نهاية لها‪ ،‬فليست تنتهي إلى حد ل تنبغي مجاوزته‪.‬‬

‫قال هؤلء‪ :‬والعشق مذموم مطلقًا ل يمدح ل في محبة الخالق‪ ،‬ول المخلوق؛ لنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد‬
‫المحمود‪ ،‬وأيضًا فإن لفظ العشق إنما يستعمل في العرف في محبة النسان لمرأة أو صبي‪ ،‬ل يستعمل في محبة‬
‫كمحبة الهل والمال والوطن والجاه‪ ،‬ومحبة النبياء والصالحين‪ ،‬وهو مقرون كثيرًا بالفعل المحرم‪ :‬إما بمحبة امرأة‬
‫أجنبية أو صبي‪ ،‬يقترن به النظر المحرم‪ ،‬واللمس المحرم‪ ،‬وغير ذلك من الفعال المحرمة‪.‬‬

‫‪/‬وأما محبة الرجل لمرأته أو سريته محبة تخرجه عن العدل بحيث يفعل لجلها ما ل يحل‪ ،‬ويترك ما يجب‪ ،‬كما هو‬
‫الواقع كثيرًا‪ ،‬حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة‪ ،‬لمحبته الجديدة‪ ،‬وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه‬
‫ودنياه‪ ،‬مثل أن يخصها بميراث ل تستحقه‪ ،‬أو يعطي أهلها من الولية والمال ما يتعدى به حدود الّ‪ ،‬أو يسرف في‬
‫النفاق عليها‪ ،‬أو يملكها من أمور محرمة تضره في دينه ودنياه‪ ،‬وهذا في عشق من يباح له وطؤها‪.‬‬

‫فكيف عشق الجنبية والذّكران من العالمين؟ ففيه من الفساد ما ل يحصيه إل رب العباد‪ ،‬وهو من المراض التي‬
‫طمَعَ اّلذِي فِي قَ ْلبِهِ مَ َرضٌ} [‬
‫ل َفيَ ْ‬
‫ن بِا ْلقَوْ ِ‬
‫ضعْ َ‬ ‫تفسد دين صاحبها وعرضه‪ ،‬ثم قد تفسد عقله ثم جسمه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فَ َ‬
‫ل تَخْ َ‬
‫الحزاب‪.]32 :‬‬

‫ومن في قلبه مرض الشهوة‪ ،‬وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض‪ ،‬والطمع الذي يقوى الرادة‬
‫والطلب‪ ،‬ويقوي المرض بذلك‪ ،‬بخلف ما إذا كان آيسًا من المطلوب‪ ،‬فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الرادة‬
‫فيضعف الحب‪ ،‬فإن النسان ل يريد أن يطلب ما هو آيس منه‪ ،‬فل يكون مع الرادة عمل أصلً‪ ،‬بل يكون حديث‬
‫نفس إل أن يقترن بذلك كلم أو نظر‪ ،‬ونحو ذلك فيأثم بذلك‪.‬‬

‫‪/‬فأما إذا ابتلى بالعشق وعف وصبر‪ ،‬فإنه يثاب على تقواه لّ‪ ،‬وقد روى في الحديث‪( :‬أن من عشق فعف وكتم وصبر‬
‫ثم مات كان شهيدًا) وهومعروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا‪ ،‬و فيه نظر ول يحتج‬
‫بهذا‪.‬‬
‫لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظرًا وقولً وعملً‪ ،‬وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى ل يكون في‬
‫ذلك كلم محرم‪ ،‬إما شكوى إلى المخلوق وإما إظهار فاحشة‪ ،‬وإما نوع طلب للمعشوق‪ ،‬وصبر على طاعة الّ‪ ،‬وعن‬
‫معصيته‪ ،‬وعلى ما في قلبه من ألم العشق‪ ،‬كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة‪ ،‬فإن هذا يكون ممـن اتقـى الّ‬
‫لّ لَ يُضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْح ِسنِينَ} [يوسف‪.]90 :‬‬
‫صبِ ْر فَإِنّ ا َ‬ ‫وصبـر‪ِ{ ،‬إنّهُ مَ ْ‬
‫ن َيتّقِ َويَ ْ‬

‫وهكذا مرض الحسد وغيره من أمراض النفوس‪ ،‬وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه الّ فينهاها خشية من الّ كان‬
‫ف مَقَامَ َربّهِ َو َنهَى النّ ْفسَ عَنْ ا ْلهَوَى ‪َ .‬فإِنّ الْ َجنّةَ هِيَ ا ْلمَأْوَى} [النازعات‪.]41 ،40 :‬‬
‫ممن دخل في قوله‪{ :‬وََأمّا مَنْ خَا َ‬

‫فالنفس إذا أحبت شيئًا سعت في حصوله بما يمكن‪ ،‬حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية‪ ،‬فمن‬
‫أحب محبة مذمومة أو أبغض بغضًا مذمومًا وفعل ذلك كان آثمًا‪ ،‬مثل أن يبغض شخصًا لحسده له فيؤذي من له به‬
‫تعلق‪ ،‬إما بمنع حقوقهم‪ ،‬أو بعدوان عليهم‪ .‬أو لمحبة له ‪ /‬لهواه معه فيفعل لجله ما هو محرم‪ ،‬أو ما هو مأمور به لّ‬
‫فيفعله لجل هواه ل لّ‪ ،‬وهذه أمراض كثيرة في النفوس‪ ،‬والنسان قد يبغض شيئًا فيبغض لجله أمورًا كثيرة بمجرد‬
‫الوهم والخيال‪.‬‬

‫وكذلك يحب شيئًا فيحب لجله أمورًا كثيرة‪ ،‬لجل الوهم والخيال‪ ،‬كما قال شاعرهم‪:‬‬

‫أحب لحبها السودان حتى ** أحب لحبها سود الكلب‬

‫فقد أحب سوداء‪ ،‬فأحب جنس السواد‪ ،‬حتى في الكلب‪ ،‬وهذا كله مرض في القلب في تصوره وإرادته‪.‬‬

‫فنسأل ال ـ تعالى ـ أن يعافى قلوبنا من كل داء‪ ،‬ونعوذ بال من منكرات الخلق والهواء والدواء‪.‬‬

‫والقلب إنما خلق لجل حب الّ ـ تعالى ـ وهذه الفطرة التي فطر الّ عليها عباده كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬‬
‫كل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‪ ،‬كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء‪ ،‬هل تحسون فيها‬
‫من جدعاء) ثم يقول أبو هريرة ـ رضي الّ عنه ـ أقرؤوا إن شئتم‪{ :‬فِطْرَةَ الِّ اّلتِي فَطَرَ النّاسَ عََل ْيهَا َل َتبْدِيلَ لِ َخلْقِ الِّ} [‬
‫الروم‪ ،]30 :‬أخرجه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪/‬فالّ ـ سبحانه ـ فطر عباده على محبته وعبادته وحده‪ ،‬فإذا تركت الفطرة بل فساد كان القلب عارفًا بالّ محبًا له‬
‫عابدًا له وحده‪ ،‬لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‪ ،‬وهذه كلها تغير فطرته التي‬
‫فطره عليها‪ ،‬وإن كانت بقضاء الّ وقدره ـ كما يغير البدن بالجدع ـ ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر الّ ـ تعالى ـ لها‬
‫من يسعى في إعادتها إلى الفطرة‪.‬‬

‫والرسل ـ صلى الّ عليهم وسلم ـ بعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها ل لتغيير الفطرة وتحويلها‪ ،‬وإذا كان القلب محبًا لّ‬
‫وحده مخلصًا له الدين‪ ،‬لم يبتل بحب غيره أصل‪ ،‬فضلً أن يبتلى بالعشق‪ ،‬وحيث ابتلى بالعشق فلنقص محبته لّ‬
‫وحده‪.‬‬

‫ولهذا لما كان يوسف محبًا لّ مخلصًا له الدين لم يبتل بذلك‪ ،‬بل قال تعالى‪َ { :‬كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َ‬
‫عنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ‬
‫ِعبَادِنَا ا ْلمُخَْلصِينَ} [يوسف‪ .]24 :‬وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها؛ فلهذا ابتليت بالعشق‪ ،‬وما يبتلى‬
‫بالعشق أحد إل لنقص توحيده وإيمانه‪ ،‬وإل فالقلب المنيب إلى الّ الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬إنابته إلى الّ؛ ومحبته له‪ ،‬فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء‪ ،‬فل تبقى مع محبة الّ محبة مخلوق تزاحمه‪.‬‬

‫‪/‬والثاني‪ :‬خوفه من الّ‪ ،‬فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه‪ ،‬وكل من أحب شيئًا بعشق أو غير عشق فإنه يصرف‬
‫عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه‪ ،‬إذا كان يزاحمه‪ ،‬وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض‬
‫إليه من ترك ذاك الحب‪ ،‬فإذا كان الّ أحب إلى العبد من كل شيء‪ ،‬وأخوف عنده من كل شيء‪ ،‬لم يحصل معه عشق‬
‫ول مزاحمة إل عند غفلة أو عند ضعف هذا الحب والخوف‪ ،‬بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات‪ ،‬فإن‬
‫اليمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية‪ ،‬فكلما فعل العبد الطاعة محبة لّ وخوفًا منه وترك المعصية حبًا له وخوفًا‬
‫منه قوى حبه له وخوفه منه‪ ،‬فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره‪.‬‬

‫وهكذا أمراض البدان‪ :‬فإن الصحة تحفظ بالمثل‪ ،‬والمرض يدفع بالضد‪ ،‬فصحة القلب باليمان تحفظ بالمثل‪ ،‬وهو ما‬
‫يورث القلب إيمانًا من العلم النافع والعمل الصالح‪ ،‬فتلك أغذية له‪ ،‬كما في حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا‪( :‬إن‬
‫كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته‪ ،‬وإن مأدبة الّ هي القرآن)‪ .‬والدب‪ :‬المضيف فهو ضيافة الّ لعباده‪] .. .‬بياض‬
‫بالصل[‪.‬‬

‫مثل آخر‪ :‬الليل وأوقات الذان والقامة وفي سجوده‪ ،‬وفي أدبار الصلوات‪ ،‬ويضم إلى ذلك الستغفار‪ ،‬فإنه من‬
‫استغفر الّ ثم تاب إليه متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى‪.‬‬

‫‪/‬وليتخذ وردًا من الذكار في النهار‪ ،‬ووقت النوم‪ ،‬وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف‪ ،‬فإنه ل يلبث‬
‫أن يؤيده الّ بروح منه‪ .‬ويكتب اليمان في قلبه‪.‬‬

‫وليحرص على إكمال الفرائـض مـن الصلـوات الخمـس باطنـة وظاهـرة فإنهـا عمـود الدين‪ ،‬وليكن هجيراه ل حول‬
‫ول قوة إل بالّ‪ ،‬فإنها بها تحمل الثقال‪ ،‬وتكابد الهوال‪ ،‬وينال رفيع الحوال‪.‬‬

‫ول يسأم من الدعاء والطلب‪ ،‬فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل‪ ،‬فيقول‪ :‬قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي‪ ،‬وليعلم أن‬
‫النصر مع الصبر‪ ،‬وأن الفرج مع الكرب‪ ،‬وأن مع العسر يسرًا‪ ،‬ولم ينل أحد شيئًا من ختم الخير نبي فمن دونه إل‬
‫بالصبر‪.‬‬

‫والحمد لّ رب العالمين‪ ،‬وله الحمد والمنة على السلم والسنة‪ ،‬حمدًا يكافئ نعمه الظاهرة والباطنة‪ ،‬وكما ينبغي‬
‫لكرم وجهه وعز جلله‪.‬‬

‫وصلى الّ على سيدنا محمد‪ ،‬وعلى آله وأصحابه‪ ،‬وأزواجه أمهات المؤمنين‪ ،‬والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين‪،‬‬
‫وسلم تسليمًا كثيرًا‪.‬‬

‫حمَهُ الُّ ـ أَ ْيضًا‪:‬‬


‫‪َ /‬وقَـالَ شَيْـخُ الِسْـلمِ ـ َر ِ‬

‫الحمد لّ رب العالمين‪ ،‬وصلى الّ على نبينا محمد وصحبه وسلم‪.‬‬

‫فصــل‬

‫في مرض القلوب وشفائها‬

‫قد ذكرنا في غير موضع‪ :‬أن صلح حال النسان في العدل‪ ،‬كما أن فساده في الظلم‪ .‬وأن الّ ـ سبحانه ـ عدله وسواه‬
‫لما خلقه‪ ،‬وصحة جسمه وعافيته من اعتدال أخلطه وأعضائه ومرض ذلك النحراف والميل‪.‬‬

‫وكذلك استقامة القلب‪ ،‬واعتداله‪ ،‬واقتصاده‪ ،‬وصحته‪ ،‬وعافيته‪ ،‬وصلحه متلزمة‪.‬‬

‫ل مرض القلوب وشفاءها في مواضع من كتابه وجاء ذلك في سنة رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كقوله ـ‬ ‫‪/‬وقد ذكر ا ّ‬
‫ض يُسَارِعُونَ‬ ‫ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَ َر ٌ‬‫لّ مَرَضًا} [البقرة‪ ،]10 :‬وقال‪َ { :‬فتَرَى اّلذِي َ‬ ‫تعالى ـ عن المنافقين‪{ :‬فِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَ ٌ‬
‫ض َفزَادَهُمْ ا ُ‬
‫ظ قُلُو ِبهِمْ} [التوبة‪ ،]15 ،14 :‬وقال‪َ { :‬قدْ‬ ‫غيْ َ‬‫صدُو َر قَوْ ٍم مُ ْؤ ِمنِينَ ‪َ .‬وُيذْهِبْ َ‬ ‫فِيهِم} [المائدة‪ ،]52 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ويَشْفِ ُ‬
‫حمَةٌ‬
‫ن مَا ُهوَ شِفَاءٌ وَرَ ْ‬ ‫ل مِنْ ا ْلقُرْآ ِ‬‫صدُورِ} [يونس‪ ،]57 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و ُننَزّ ُ‬ ‫شفَاءٌ ِلمَا فِي ال ّ‬‫جَا َء ْتكُ ْم مَوْعِظَ ٌة مِنْ َرّبكُمْ وَ ِ‬
‫ضعْنَ‬‫ل تَخْ َ‬ ‫شفَاءٌ} [فصلت‪ ،]44 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَ َ‬ ‫ن آ َمنُوا ُهدًى وَ ِ‬ ‫لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [السراء‪ ،]82 :‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ هُوَ لِّلذِي َ‬
‫ن فِي‬ ‫ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَ َرضٌ وَا ْلمُ ْرجِفُو َ‬ ‫طمَعَ اّلذِي فِي قَ ْلبِ ِه مَرَضٌ} [الحزاب‪ ،]32 :‬وقال‪َ{ :‬لئِنْ لَ ْم َي ْنتَهِ ا ْل ُمنَافِقُونَ وَاّلذِي َ‬ ‫ل َفيَ ْ‬ ‫بِا ْلقَوْ ِ‬
‫ع َدنَا الُّ وَ َرسُولُهُ ِإلّ غُرُورًا}‬ ‫ض مَا وَ َ‬ ‫ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَ َر ٌ‬ ‫ك ِبهِمْ} [الحزاب‪ ،]60 :‬وقال‪{ :‬وَِإ ْذ يَقُولُ ا ْل ُمنَافِقُونَ وَاّلذِي َ‬ ‫ا ْل َمدِينَةِ َل ُنغْ ِريَ ّن َ‬
‫[الحزاب‪.]12 :‬‬
‫وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬هل سألوا إذ لم يعلموا‪ ،‬فإنما شفاء ال ِعيّ السؤال)‪ ،‬وقال الرشيد‪ :‬الن شفيتني يا‬
‫مالك‪ ،‬وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود‪ :‬أن أحدًا ل يزال بخير ما اتقى الّ‪ ،‬وإذا شك في تفسير شيء سأل رجلً‬
‫فشفاه‪ ،‬وأوشك أل يجده والذي ل إله إل هو‪.‬‬

‫ل من مرض القلوب وشفائها بمنزلة ما ذكر من موتها ‪ /‬وحياتها وسمعها وبصرها وعقلها وصممها‬‫وما ذكر ا ّ‬
‫وبكمها وعماها‪.‬‬

‫لكن المقصود معرفة مرض القلب فنقول‪ :‬المرض نوعان‪:‬‬

‫فساد الحس‪.‬‬

‫وفساد الحركة الطبيعية وما يتصل بها من الرادية‪.‬‬

‫وكل منهما يحصل بفقده ألم وعذاب‪ ،‬فكما أنه مع صحة الحس والحركة الرادية والطبيعية تحصل اللذة والنعمة‪،‬‬
‫فكذلك بفسادها يحصل اللم والعذاب؛ ولهذا كانت النعمة من النعيم‪ ،‬وهو ما ينعم الّ به على عباده‪ ،‬مما يكون فيه لذة‬
‫ونعيم‪ ،‬وقال‪{ :‬ثُمّ َلتُ ْسأَلُ ّن يَ ْو َمئِذٍ عَنْ الّنعِيمِ} [التكاثر‪ ،]8 :‬أي‪ :‬عن شكره‪.‬‬

‫فسبب اللذة إحساس الملئم‪ ،‬وسبب اللم إحساس المنافي‪ ،‬ليس اللذة واللم نفس الحساس والدراك‪ ،‬وإنما هو نتيجته‬
‫وثمرته ومقصوده وغايته‪ ،‬فالمرض فيه ألم لبد منه وإن كان قد يسكن أحيانًا لمعارض راجح‪ ،‬فالمقتضى له قائم‬
‫يهيج بأدنى سبب‪ ،‬فلبد في المرض من وجود سبب اللم‪ ،‬وإنما يزول اللم بوجود المعارض الراجح‪.‬‬

‫ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه‪ ،‬أعني ألمه ولذته النفسانيتان‪ / ،‬وإن كان قد يحصل فيه من اللم من جنس‬
‫ما يحصل في سائر البدن بسبب مرض الجسم‪ ،‬فذلك شيء آخر‪.‬‬

‫فلذلك كان مرض القلب وشفاؤه‪ ،‬أعظم من مرض الجسم وشفائه‪ ،‬فتارة يكون من جملة الشبهات‪ .‬كما قال‪َ { :‬فيَ ْ‬
‫طمَعَ‬
‫اّلذِي فِي قَ ْلبِ ِه مَرَضٌ}‪ ،‬وكما صنف الخرائطي كتاب [اعتلل القلوب بالهواء] ففي قلوب المنافقين‪ :‬المرض من هذا‬
‫الوجه‪ ،‬ومن هذا الوجه‪ :‬من جهة فساد العتقادات‪ ،‬وفساد الرادات‪.‬‬

‫والمظلوم في قلبه مرض وهو اللم الحاصل بسبب ظلم الغير له‪ ،‬فإذا استوفى حقه اشتفى قلبه‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬‬
‫ظ قُلُو ِبهِمْ} [التوبة‪ ،]15 ،14 :‬فإن غيظ القلب إنما هو لدفع الذي واللم عنه‪،‬‬
‫غيْ َ‬
‫صدُو َر قَوْ ٍم مُ ْؤ ِمنِينَ ‪َ .‬وُيذْهِبْ َ‬
‫َويَشْفِ ُ‬
‫فإذا اندفع عنه الذى واستوفى حقه زال غيظه‪.‬‬

‫فكما أن للنسان إذا صار ل يسمع بأذنه وليبصر بعينه ول ينطق بلسانه كان ذلك مرضًا مؤلمًا له يفوته من المصالح‬
‫ويحصل له من المضار‪ ،‬فكذلك إذا لم يسمع ولم يبصر ولم يعلم بقلبه الحق من الباطل‪ ،‬ولم يميز بين الخير والشر‪،‬‬
‫والغي والرشاد‪ ،‬كان ذلك من أعظم أمراض قلبه وألمه‪ ،‬وكما أنه إذا اشتهى ما يضره مثل الطعام الكثير في الشهوة‬
‫الكلية‪ ،‬ومثل أكل الطين ونحوه كان ذلك مرضًا‪ ،‬فإنه يتألم حتى يزول ألمه‪ /‬بهذا الكل الذي يوجد ألمًا أكثر من‬
‫الول‪ ،‬فهو يتألم إن أكل‪ ،‬ويتألم إن لم يأكل‪.‬‬

‫فكذلك إذا بلي بحب من ل ينفعه العشق‪ ،‬ونحوه سواء كان لصورة أو لرئاسة أو لمال ونحو ذلك‪ ،‬فإن لم يحصل‬
‫محبوبه ومطلوبه فهو متألم ومريض سقيم‪ ،‬وإن حصل محبوبه فهو أشد مرضًا وألمًا وسقمًا‪ ،‬ولذلك كما أن المريض‬
‫إذا كان يبغض ما يحتاج إليه من الطعام والشراب‪ ،‬كان ذلك اللم حاصلً‪ ،‬وكان دوامه على ذلك يوجب من اللم‬
‫أكثر من ذلك حتى يقتله‪ ،‬حتى يزول ما يوجب بغضه لما ينفعه ويحتاج إليه‪ ،‬فهو متألم في الحال‪ ،‬وتألمه فيما بعد ـ إن‬
‫لم يعافهِ الّ ـ أعظم وأكبر‪.‬‬

‫فبغض الحاسد لنعمة الّ على المحسود‪ ،‬كبغض المريض لكل الصحاء لطعمتهم وأشربتهم‪ ،‬حتى ل يقدر أن يراهم‬
‫يأكلون‪ ،‬ونفرته عن أن يقوم بحقه كنفرة المريض عما يصلح له من طعام وشراب‪ ،‬فالحب والبغض الخارج عن‬
‫العتدال والصحة في النفس كالشهوة والنفرة الخارج عن العتدال والصحة في الجسم‪ ،‬وعمى القلب وبكمه أن‬
‫يبصر الحقائق ويميز ما ينفعه ويضره‪ ،‬كعمى الجسم‪ ،‬وخرسه عن أن يبصر المور المرتبة‪ ،‬ويتكلم بها ويميز بين‬
‫ما ينفعه ويضره‪.‬‬

‫وكما أن الضرير إذا أبصر وجد أن الراحة والعافية والسرور أمرًا ‪ /‬عظيمًا‪ .‬فبصر القلب ورؤيته الحقائق بينه وبين‬
‫بصر الرأس من التفاوت ما ل يحصيه إل الّ‪ ،‬وإنما الغرض هنا تشبيه أحد المرضين بالخر‪ ،‬فطب الديان يحتذى‬
‫حذو طب البدان‪.‬‬

‫وقد كتب سليمان إلى أبي الدرداء‪ :‬أما بعد‪ :‬فقد بلغني أنك قعدت طبيبًا‪ ،‬فإياك أن تقتل‪ ،‬والّ أنزل كتابه شفاء لما في‬
‫الصدور‪ .‬وقال تعالى‪َ { :‬وُننَزّ ُل مِنْ ا ْلقُرْآ ِن مَا ُهوَ شِفَاءٌ وَرَ ْحمَةٌ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َو َل يَزِيدُ الظّاِلمِينَ ِإلّ َخسَارًا} [السراء‪ ،]82 :‬ذلك‬
‫أن الشفاء إنما يحصل لمن يتعمد الدواء‪ ،‬وهم المؤمنون وضعوا دواء القرآن على داء قلوبهم‪.‬‬

‫فمرض الجسم يكون بخروج الشهوة‪ ،‬والنفرة الطبيعية عن العتدال‪ ،‬أما شهوة ما ل يحصل أو يفقد الشهوة النافعة‬
‫وينفر به عما يصلح ويفقد النفرة عما يضر‪ ،‬ويكون بضعف قوة الدراك والحركة‪ ،‬كذلك مرض القلب يكون بالحب‬
‫والبغض الخارجين عن العتدال‪ ،‬وهي الهواء التي قال الّ فيها‪َ { :‬ومَنْ َأضَ ّل ِممّنْ اّتبَعَ هَوَا ُه ِب َغيْرِ ُهدًى مِنْ الِّ} [‬
‫القصص‪ ،]50 :‬وقال‪{ :‬بَ ْل اّتبَعَ اّلذِينَ ظََلمُوا أَهْوَاءَ ُه ْم ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ} [الروم‪.]29 :‬‬

‫كما يكون الجسد خارجًا عن العتدال إذا فعل ما يشتهيه الجسم بل قول الطبيب‪ ،‬ويكون لضعف إدراك القلب وقوته‬
‫حتى ل يستطيع أن يعلم ويريد ما ينفعه ويصلح له‪ ،‬وكما أن المرضى الجهال قد يتناولون ما يشتهون‪ ،‬فل ‪ /‬يحتمون‬
‫ول يصبرون على الدوية الكريهة لما في ذلك من تعجيل نوع من الراحة واللذة‪ ،‬ولكن ذلك يعقبهم من اللم ما يعظم‬
‫قدره‪ ،‬أو يعجل الهلك‪.‬‬

‫فكذلك بنو آدم هم جهال ظلموا أنفسهم‪ ،‬يستعجل أحدهم ما ترغبه لذته ويترك ما تكرهه نفسه‪ ،‬مما هو ل يصلح له‪،‬‬
‫فيعقبهم ذلك من اللم والعقوبات‪ ،‬إما في الدنيا وإما في الخرة ما فيه عظم العذاب والهلك العظم‪.‬‬

‫والتقوى‪ :‬هي الحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه‪ ،‬فإن الحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع‪ ،‬وأما استعمال‬
‫النافع فقد يكون معه أيضًا استعمالً لضار‪ ،‬فل يكون صاحبه من المتقين‪.‬‬

‫وأما ترك استعمال الضار والنافع فهذا ل يكون؛ فإن العبد إذا عجز عن تناول الغذاء كان مغتذيًا بما معه من المواد‬
‫التي تضره حتى يهلك؛ ولهذا كانت العاقبة للتقوى‪ ،‬وللمتقين؛ لنهم المحتمون عما يضرهم فعاقبتهم السلم‬
‫والكرامة‪ ،‬وإن وجدوا ألمًا في البتداء لتناول الدواء والحتماء‪ ،‬كفعل العمال الصالحة المكروهة‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬‬
‫ُكتِبَ عََل ْيكُمْ الْ ِقتَالُ وَهُ َو كُرْهٌ َل ُكمْ وَعَسى أَ ْن تَكْرَهُوا َش ْيئًا وَهُوَ َخيْرٌ َلكُمْ وَعَسَى أَ ْن تُ ِحبّوا َش ْيئًا وَهُوَ شَرّ َلكُمْ} [البقرة‪.]216 :‬‬

‫ف مَقَامَ َربّهِ َو َنهَى النّفْسَ عَنْ ا ْلهَوَى ‪ .‬فَإِنّ ا ْل َجنّةَ ِهيَ ا ْلمَ ْأوَى} [‬
‫ولكثرة العمال الباطلة المشتهاة‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وََأمّا مَنْ خَا َ‬
‫النازعات‪ .]41 ،40 :‬وكما قال‪َ { :‬وتَ َودّونَ أَنّ َغيْ َر ذَاتِ الشّ ْوكَةِ َتكُونُ َلكُمْ} [النفال‪ ،]7 :‬فأما من لم يحتم فإن ذلك سبب‬
‫لضرره في العاقبة‪ ،‬ومن تناول ما ينفعه مع يسير من التخليط‪ ،‬فهو أصلح ممن احتمى حمية كاملة ولم يتناول الشياء‬
‫سرًا‪ ،‬فإن الحمية التامة بل اغتذاء تمرض‪ ،‬فهكذا من ترك السيئات ولم يفعل الحسنات‪.‬‬

‫وقد قدمنا في قاعدة كبيرة أن جنس الحسنات أنفع من جنس ترك السيئات‪ ،‬كما أن جنس الغتذاء من جنس الحتماء‪،‬‬
‫وبينا أن هذا مقصود لنفسه وذلك مقصود لغيره بالنضمام إلى غيره‪ ،‬وكما أن الواجب الحتماء عن سبب المرض‬
‫قبل حصوله‪ ،‬وإزالته بعد حصوله‪ ،‬فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها ـ بأن‬
‫عرض له المرض ـ دوامًا‪ ،‬والصحة تحفظ بالمثل‪ ،‬والمرض يزول بالضد‪ ،‬فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال ما‬
‫فيها‪ ،‬أو هو ما يقوي العلم واليمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة‪ ،‬وتزول بالضد‪ ،‬فتزال الشبهات بالبينات‪،‬‬
‫وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق‪.‬‬

‫ولهذا قال يحيى بن عمار‪ :‬العلوم خمسة‪ :‬فعلم هو حياة الدنيا‪ ،‬وهو علم التوحيد‪ ،‬وعلم هو غذاء الدين‪ ،‬وهو علم‬
‫التذكر بمعاني القرآن والحديث‪ ،‬وعلم هو دواء الدين‪ ،‬وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من‪ /‬يشفيه‬
‫منها‪ ،‬كما قال ابن مسعود‪ :‬وعلم هو داء الدين وهو الكلم المحدث‪ ،‬وعلم هو هلك الدين‪ ،‬وهو علم السحر ونحوه‪.‬‬
‫فحفظ الصحة بالمثل‪ ،‬وإزالة المرض بالضد‪ ،‬في مرض الجسم الطبيعي‪ ،‬ومرض القلب النفساني الديني الشرعي‪.‬‬
‫قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬كل مولود يولد على الفطرة فأبواه ُي َهوّدَانِه أو يُ َنصّرَانه أو ُيمَجّسَانه‪ ،‬كما تنتج البهيمة‬
‫بهيمة جمعاء‪ ،‬هل تحسون فيها من جدعاء) ثم يقول أبو هريرة‪ :‬اقرؤوا إن شئتم‪{ :‬فِطْرَةَ الِّ اّلتِي فَطَرَ النّاسَ عََل ْيهَا} [‬
‫ض كُلّ لَ ُه قَا ِنتُونَ‪ .‬وَهُوَ اّلذِي َي ْبدَأُ الْخَ ْلقَ‬ ‫لْرْ ِ‬ ‫سمَاوَاتِ وَا َ‬ ‫ن فِي ال ّ‬ ‫الروم‪ ،]30 :‬أخرجاه في الصحيـحين‪ .‬قال الّ تعالى‪{ :‬وَلَ ُه مَ ْ‬
‫ثُ ّم ُيعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عََليْهِ وَلَهُ ا ْلمَثَلُ الَْعْلَى فِي ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضِ} إلى قوله‪{ :‬بَ ْل اّتبَعَ اّلذِينَ ظََلمُوا أَهْوَاءَ ُه ْم ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ} إلى‬
‫س َل َيعْلَمُونَ} [‬ ‫ك الدّينُ ا ْل َقيّمُ وََلكِنّ َأ ْكثَرَ النّا ِ‬
‫لّ ذَِل َ‬
‫ل َت ْبدِيلَ ِلخَلْقِ ا ِ‬
‫عَليْهَا َ‬
‫طرَ النّاسَ َ‬
‫حنِيفًا فِطْرَةَ الِّ اّلتِي فَ َ‬ ‫قوله‪{ :‬فََأقِمْ وَ ْ‬
‫ج َهكَ لِلدّينِ َ‬
‫الروم‪26 :‬ـ ‪.]30‬‬

‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية‬ ‫فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفًا‪ ،‬وهو عبادة ا ّ‬
‫المستقيمة المعتدلة للقلب‪ ،‬وتركها ظلم عظيم اتبع أهله أهواءهم بغير علم‪ ،‬ولبد لهذه الفطرة والخلقة ـ وهي صحة‬
‫الخلقة ـ من قوت وغذاء يمدها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علمًا وعملً؛ ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكملة‬
‫بالشريعة المنزلة‪ ،‬وهي مأدبة الّ كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في حديث ابن مسعود‪( :‬إن كل آدب يحب أن‬
‫‪/‬تؤتي مأدبته‪ ،‬وإن مأدبة الّ هي القرآن)‪ ،‬ومثله كماء أنزله الّ من السماء‪ ،‬كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسنة‪.‬‬
‫والمحرفون للفطرة المغيرون للقلب عن استقامته‪ ،‬هم ممرضون القلوب مسقمون لها‪ ،‬وقد أنزل الّ كتابه شفاء لما في‬
‫الصدور‪.‬‬

‫وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب هي بمنزلة ما تصيب الجسم من اللم‪ ،‬يصح بها الجسم وتزول أخلطه‬
‫الفاسدة‪ .‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ما يصيب المؤمن من وصب ول نصب ول هم ول حزن ول غم ول‬
‫أذى‪ ،‬حتى الشوكة يشاكها‪ ،‬إل كفر الّ بها خطاياه)‪ ،‬وذلك تحقيق لقوله‪{ :‬مَ ْن َيعْمَلْ سُوءًا يُ ْج َز بِهِ} [النساء‪.]123 :‬‬

‫ومن لم يطهر في هذه الدنيا من هذه المراض فيؤب صحيحًا‪ ،‬وإل احتاج أن يطهر منها في الخرة فيعذبه الّ‪ .‬كالذي‬
‫اجتمعت فيه أخلطه‪ ،‬ولم يستعمل الدوية لتخفيفها عنه فتجتمع حتى يكون هلكه بها؛ ولهذا جاء في الثر‪( :‬إذا قالوا‬
‫للمريض‪ :‬اللّهم ارحمه‪ ،‬يقول الّ‪ :‬كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟!)‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬المرض‬
‫حطة‪ ،‬يحط الخطايا عن صاحبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها)‪.‬‬

‫وكما أن أمراض الجسم ما إذا مات النسان منه كان شهيدًا‪ .‬كالمطعون والمبطون وصاحب ذات الجَنْب‪ ،‬وكذلك‬
‫الميت بغرق‪ ،‬أو حرق‪ ،‬أو هدم‪ ،‬فمن ‪ /‬أمراض النفس‪ ،‬ما إذا اتقى العبد ربه فيه وصبر عليه حتى مات كان شهيدًا‪،‬‬
‫كالجبان الذي يتقى الّ ويصبر للقتال حتى يقتل‪ ،‬فإن البخل والجبن من أمراض النفوس إن أطاعه أوجب له اللم‪،‬‬
‫وإن عصاه تألم كأمراض الجسم‪.‬‬

‫وكذلك العشق‪ ،‬فقد روى‪( :‬من عشق فعف وكتم وصبر‪ ،‬ثم مات مات شهيدًا) فإنه مرض في النفس‪ ،‬يدعو إلى ما‬
‫يضر النفس‪ ،‬كما يدعو المريض إلى تناول ما يضر‪ .‬فإن أطاع هواه عظم عذابه في الخرة وفي الدنيا أيضًا‪ ،‬وإن‬
‫عصى الهوى بالعفة والكتمان صار في نفسه من اللم والسقم ما فيها‪ ،‬فإذا مات من ذلك المرض كان شهيدًا‪ ،‬هذا‬
‫يدعوه إلى النار فيمنعه كالجبان تمنعه نفسه عن الجنة فيقدمها‪.‬‬

‫ل للمؤمن قضاء إل‬


‫فهذه المراض إذا كان معها إيمان وتقوى كانت كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ل يقضي ا ّ‬
‫كان خيرًا له إن أصابته سراء فشكر‪ ،‬كان خيرًا له‪ ،‬وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له)‪.‬‬

‫والحمد لّ رب العالمين‪ ،‬وصلى الّ على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين‪ ،‬وسلم تسليمًا‪.‬‬

‫سُئلَ الشيخ ـ رَحمَهُ الُّ ـ عن قوله عز وجل‪{ :‬يَاَأّيهَا النّاسُ ا ْعُبدُوا َرّبكُمْ} [البقرة‪ ،]21 :‬فما العبادة وفروعها؟ وهل‬
‫مجموع الدين داخل فيها أم ل؟ وما حقيقة العبودية؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والخرة أم فوقها شيء من‬
‫المقامات؟ وليبسطوا لنا القول في ذلك‪.‬‬

‫فأجاب‪:‬‬
‫ل ويرضاه‪ ،‬من القوال والعمال الباطنة والظاهرة‪،‬‬ ‫الحمد لّ رب العالمين‪ ،‬العبادة‪ :‬هي اسم جامع لكل ما يحبه ا ّ‬
‫كالصلة والزكاة‪ ،‬والصيام‪ ،‬والحج‪ ،‬وصدق الحديث‪ ،‬وأداء المانة‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬وصلة الرحام‪ ،‬والوفاء بالعهود‪،‬‬
‫والمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬والجهاد للكفار والمنافقين‪ ،‬والحسان إلى الجار واليتيم‪ ،‬والمسكين وابن‬
‫السبيل‪ ،‬والمملوك من الدميين والبهائم‪ ،‬والدعاء والذكر والقراءة‪ ،‬وأمثال ذلك من العبادة‪.‬‬

‫وكذلك حب الّ ورسوله‪ ،‬وخشية الّ والنابة إليه‪ ،‬وإخلص الدين له‪ ،‬والصبر لحكمه‪ ،‬والشكر لنعمه‪ ،‬والرضا‬
‫بقضائه‪ ،‬والتوكل عليه‪ / ،‬والرجاء لرحمته‪ ،‬والخوف لعذابه‪ ،‬وأمثال ذلك هي من العبادة لّ‪.‬‬

‫وذلك أن العبادة لّ هي الغاية المحبوبة له والمرضية له‪ ،‬التي خلق الخلق لها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا خََلقْتُ ا ْلجِنّ وَالِْنسَ‬
‫لّ مَا َلكُ ْم مِنْ إِلَهٍ َغيْرُهُ} [‬ ‫ِإلّ ِل َيعْ ُبدُونِ} [الذاريات‪ ،]56 :‬وبها أرسل جميع الرسل‪ ،‬كما قال نوح لقومه‪{ :‬ا ْ‬
‫عبُدُوا ا َ‬
‫المؤمنون‪ ،]23 :‬وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم‪.‬‬

‫ت َفمِ ْنهُ ْم مَنْ َهدَى الُّ َو ِم ْنهُ ْم مَنْ حَقّتْ عََليْهِ الضّلَلَةُ} [‬
‫ج َتنِبُوا الطّاغُو َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬وَلَ َق ْد َب َعثْنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ رَسُولً أَنْ اُ ْ‬
‫عُبدُوا الَّ وَا ْ‬
‫ك مِنْ رَسُولٍ ِإ ّل نُوحِي ِإَليْهِ َأنّ ُه لَ إِلَهَ ِإلّ َأنَا فَا ْعبُدُونِ} [النبياء‪ ،]25 :‬وقال‬ ‫النحل‪ ،]36 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا أَرْ َ‬
‫س ْلنَا مِنْ َقبِْل َ‬
‫عُبدُونِ} [النبياء‪ ،]92 :‬كما قال في الية الخرى‪{ :‬يَاَأّيهَا الرّسُ ُ‬
‫ل كُلُوا مِنْ‬ ‫تعالى‪{ :‬إِنّ َهذِهِ ُأ ّم ُتكُمْ ُأمّةً وَا ِ‬
‫حدَةً وََأنَا َرّبكُ ْم فَا ْ‬
‫عمَلُوا صَاِلحًا ِإنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون‪ .]51 :‬وجعل ذلك لزماً لرسوله إلى الموت كما قال‪{ :‬وَا ْ‬
‫عُبدْ‬ ‫طّيبَاتِ وَا ْ‬
‫ال ّ‬
‫َرّبكَ َحتّى يَ ْأ ِت َيكَ ا ْليَقِينُ} [الحجر‪.]99 :‬‬

‫عبَادَتِهِ َو َ‬
‫ل‬ ‫س َت ْكبِرُونَ عَنْ ِ‬‫ل يَ ْ‬‫ع ْندَهُ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْرْضِ َومَنْ ِ‬ ‫وبذلك وصف ملئكته وأنبياءه‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬وَلَ ُه مَ ْ‬
‫ن فِي ال ّ‬
‫س َتكْبِرُونَ عَنْ‬ ‫ل يَ ْ‬ ‫ل يَ ْفتُرُونّ} [النبياء‪ ،]20 ،19 :‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ اّلذِينَ ِ‬
‫ع ْندَ َرّبكَ َ‬ ‫سبّحُونَ الّليْلَ وَال ّنهَا َر َ‬ ‫ستَحْسِرُونَ‪ .‬يُ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫س َتجِبْ َلكُمْ إِنّ اّلذِينَ‬‫جدُونَ} [العراف‪ ،]206 :‬وذم المستكبرين عنها بقوله‪َ { :‬وقَالَ َرّبكُ ْم ادْعُونِي أَ ْ‬ ‫سُ‬‫سبّحُونَهُ وَلَ ُه يَ ْ‬‫عبَادَتِهِ َويُ َ‬
‫ِ‬
‫يَ ْس َتكْبِرُونَ عَنْ ِعبَا َدتِي َس َيدْخُلُونَ َج َهنّ َم دَا ِخرِينَ} [غافر‪.]60 :‬‬

‫لّ ُيفَجّرُو َنهَا َتفْجِيرًا} [النسان‪ ،]6 :‬وقال‪{ :‬وَ ِ‬


‫عبَا ُد‬ ‫عبَادُ ا ِ‬
‫ب ِبهَا ِ‬ ‫ونعت صفوة خلقه بالعبودية له‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬‬
‫ع ْينًا يَشْ َر ُ‬
‫حمَانِ اّلذِينَ َيمْشُونَ عَلَى الَْرْضِ هَ ْونًا} اليات [الفرقان‪ ،]63 :‬ولما قال الشيطان‪{ :‬قَالَ رَ ّ‬
‫ب ِبمَا أَغْ َو ْي َتنِي لَُ َزّينَنّ َلهُ ْم فِي‬ ‫الرّ ْ‬
‫عَليْهِمْ‬
‫عبَادِي َليْسَ َلكَ َ‬ ‫ك ِمنْهُمْ ا ْلمُخْلَصِينَ} [الحجر‪ ،]40 ،39 :‬قال الّ تعالى‪{ :‬إِنّ ِ‬ ‫عبَا َد َ‬
‫ج َمعِينَ‪ِ .‬إلّ ِ‬
‫الَْرْضِ َولَُغْ ِو َيّنهُمْ أَ ْ‬
‫ك مِنْ ا ْلغَاوِينَ} [الحجر‪.]42 :‬‬ ‫ل مَنْ ا ّت َب َع َ‬‫سُلْطَانٌ ِإ ّ‬

‫سبِقُونَ ُه بِا ْلقَوْلِ وَ ُه ْم بَِأمْرِ ِه َي ْعمَلُونَ}‬


‫ل يَ ْ‬
‫عبَادٌ ُمكْ َرمُونَ‪َ .‬‬ ‫سبْحَانَ ُه بَلْ ِ‬
‫حمَانُ َوَلدًا ُ‬ ‫وقال في وصف الملئكة بذلك‪َ { :‬وقَالُوا اتّ َ‬
‫خذَ الرّ ْ‬
‫ش ْيئًا ِإدّا‪ .‬تَكَادُ‬
‫ج ْئتُمْ َ‬
‫حمَنُ َوَلدًا‪َ .‬ل َقدْ ِ‬ ‫شفِقُونَ}[النبياء‪26 :‬ـ ‪ ،]28‬وقال تعالى‪َ { :‬وقَالُوا اتّ َ‬
‫خذَ الرّ ْ‬ ‫شيَتِ ِه مُ ْ‬
‫خْ‬‫إلى قوله‪{ :‬وَهُ ْم مِنْ َ‬
‫ن فِي‬ ‫ل مَ ْ‬‫خذَ وََلدًا‪ .‬إِنْ كُ ّ‬ ‫ن َيتّ ِ‬‫حمَنِ أَ ْ‬ ‫حمَنِ وََلدًا‪َ .‬ومَا َي ْنبَغِي لِلرّ ْ‬
‫ن دَعَوْا لِلرّ ْ‬ ‫جبَالُ َهدّا‪ .‬أَ ْ‬
‫ن ِمنْهُ َوتَنشَقّ الَْ ْرضُ َوتَخِرّ الْ ِ‬‫ت َيتَفَطّرْ َ‬
‫سمَاوَا ُ‬
‫ال ّ‬
‫ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضِ ِإ ّل آتِي الرّ ْحمَنِ َع ْبدًا‪َ .‬ل َقدْ أَحْصَاهُمْ وَ َعدّهُمْ َعدّا‪َ .‬وكُّلهُ ْم آتِي ِه يَوْمَ ا ْل ِقيَامَ ِة فَ ْردًا} [مريم‪ 88 :‬ـ ‪.]95‬‬

‫وقال تعالى عن المسيح ـ الذي أدعيت فيه الُلوهية والنبوة‪{ :‬إِنْ هُوَ ِإلّ َعبْدٌ َأ ْن َعمْنَا عََليْهِ َو َجعَ ْلنَا ُه َمثَلً ِل َبنِي ِإسْرَائِيلَ} [‬
‫الزخرف‪]59 :‬؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪( :‬ل تطروني كما أطرت النصارى‬
‫عيسى ‪ /‬ابن مريم‪ ،‬فإنما أنا عبد فقولوا‪ :‬عبد الّ ورسوله)‪.‬‬

‫وقد نعته الّ بالعبودية في أكمل أحواله فقال في السراء‪ُ { :‬س ْبحَانَ اّلذِي َأسْرَى ِب َع ْبدِهِ َليْلً}[السراء‪ ،]1 :‬وقال في‬
‫لّ يَدْعُو ُه كَادُوا َيكُونُونَ عََليْهِ ِل َبدًا} [‬ ‫ع ْبدِ ِه مَا أَ ْوحَى} [النجم‪ ،]10 :‬وقال في الدعوة‪{ :‬وََأنّهُ َلمّا قَامَ َ‬
‫ع ْبدُ ا ِ‬ ‫اليحاء‪َ { :‬فأَوْحَى إِلَى َ‬
‫ب ِممّا نَزّ ْلنَا َعلَى َع ْبدِنَا َف ْأتُوا بِسُورَ ٍة مِ ْن ِمثْلِهِ}[البقرة‪ ،]23 :‬فالدين كله‬ ‫الجن‪ ،]19 :‬وقال في التحدي‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن كُنتُ ْم فِي َريْ ٍ‬
‫داخل في العبادة‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيح‪ :‬أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن السلم قال‪( :‬‬
‫أن تشهد أن ل إله إل الّ وأن محمدًا رسول الّ‪ ،‬وتقيم الصلة‪ ،‬وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان‪ ،‬وتحج البيت إن‬
‫ل وملئكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت‪ ،‬وتؤمن‬ ‫استطعت إليه سبيلً)‪ .‬قال‪ :‬فما اليمان ؟ قال‪( :‬أن تؤمن با ّ‬
‫بالقدرخيره وشره)‪ .‬قال‪ :‬فما الحسان؟ قال (أن تعبد الّ كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك(‪ .‬ثم قال‪ :‬في آخر‬
‫الحديث‪) :‬هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم) فجعل هذا كله من الدين‪.‬‬
‫والدين يتضمن معنى الخضوع والذل‪ .‬يقال‪ :‬دنته فدان‪ ،‬أي‪ :‬ذللته فذل‪ ،‬ويقال‪ :‬يدين الّ‪ ،‬ويدين لّ أي‪ :‬يعبد الّ‬
‫ويطيعه ويخضع له‪ ،‬فدين الّ عبادته وطاعته والخضوع له‪.‬‬

‫‪/‬والعبادة أصل معناها‪ :‬الذل ـ أيضًا ـ يقال‪ :‬طريق معبد إذا كان مذللً قد وطئته القدام‪.‬‬

‫لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب‪ ،‬فهي تتضمن غاية الذل لّ بغاية المحبة له‪ ،‬فإن آخر مراتب‬
‫الحب هو التتيم‪ ،‬وأوله العلقة لتعلق القلب بالمحبوب‪ ،‬ثم الصبابة لنصباب القلب إليه‪ ،‬ثم الغرام وهو الحب اللزم‬
‫للقلب‪ ،‬ثم العشق وآخرها التتيم يقال‪ :‬تيم الّ‪ ،‬أي‪ :‬عبد الّ‪ ،‬فالمتيم المعبد لمحبوبه‪.‬‬

‫ومن خضع لنسان مع بغضه له ل يكون عابداً له‪ ،‬ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابداً له‪ ،‬كما قد يحب ولده‬
‫وصديقه؛ ولهذا ل يكفي أحدهما في عبادة الّ ـ تعالى ـ بل يجب أن يكون الّ أحب إلى العبد من كل شىء‪ ،‬وأن يكون‬
‫الّ أعظم عنده من كل شىء‪ ،‬بل ل يستحق المحبة والذل التام إل الّ‪.‬‬

‫ن آبَا ُؤكُمْ‬ ‫وكل ما أحب لغير الّ فمحبته فاسدة‪ ،‬وما عظم بغير أمر الّ كان تعظيمه باطلً‪ ،‬قال الّ تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن كَا َ‬
‫شوْنَ َكسَادَهَا َومَسَاكِنُ تَ ْرضَ ْو َنهَا َأحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ َورَسُولِهِ‬
‫جكُمْ وَعَشِي َر ُتكُمْ وََأمْوَالٌ ا ْقتَ َر ْف ُتمُوهَا َوتِجَارَ ٌة تَخْ َ‬
‫وََأ ْبنَا ُؤكُمْ َوإِخْوَا ُنكُمْ وََأزْوَا ُ‬
‫لّ بَِأمْرِهِ}[التوبة‪ ،]24 :‬فجنس المحبة تكون لّ ورسوله‪ ،‬كالطاعة‪ ،‬فإن الطاعة لّ‬ ‫حتّى يَ ْأتِيَ ا ُ‬‫سبِيلِهِ َفتَ َربّصُوا َ‬ ‫جهَادٍ فِي َ‬ ‫وَ ِ‬
‫ن يُرْضُوهُ} [التوبة‪ ،]62 :‬واليتاء لّ ورسوله‪{ :‬وََلوْ َأّنهُمْ‬ ‫حقّ أَ ْ‬‫ورسـوله ‪ /‬والرضـاء لّ ورسـوله‪{ :‬وَالُّ وَرَسُولُهُ أَ َ‬
‫رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ َورَسُولُهُ} [التوبة‪.]59 :‬‬

‫ل يَاأَهْلَ ا ْل ِكتَا ِ‬
‫ب‬ ‫ل وحده‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬قُ ْ‬ ‫وأما العبادة وما يناسبها من التوكل‪ ،‬والخوف‪ ،‬ونحو ذلك فل يكون إل ّ‬
‫ن تَوَلّوْا َفقُولُوا‬ ‫لّ فَإِ ْ‬
‫ن دُونِ ا ِ‬ ‫ضنَا َبعْضًا َأ ْربَابًا مِ ْ‬
‫ل َيتّخِ َذ َبعْ ُ‬
‫ش ْيئًا َو َ‬
‫ك بِهِ َ‬
‫ل نُشْ ِر َ‬
‫ل َن ْعبُدَ ِإلّ الَّ َو َ‬
‫َتعَالَوْا إِلَى كَِلمَةٍ سَوَا ٍء َبيْ َننَا َو َب ْينَكُمْ َأ ّ‬
‫لّ مِنْ‬
‫سيُ ْؤتِينَا ا ُ‬
‫س ُبنَا الُّ َ‬ ‫ش َهدُوا بَِأنّا مُسِْلمُونَ} [آل عمران‪ ،] 64 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََلوْ َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ‬ ‫اْ‬
‫عنْهُ‬‫خذُوهُ َومَا نَهَا ُكمْ َ‬ ‫غبُونَ}[التوبة‪ ،]59 :‬فاليتاء لّ والرسول كقوله‪َ { :‬ومَا آتَا ُكمْ الرّسُو ُ‬
‫ل فَ ُ‬ ‫فَضْلِهِ َورَسُولُهُ ِإنّا إِلَى الِّ رَا ِ‬
‫ج َمعُوا‬‫س َقدْ َ‬ ‫ن قَالَ َل ُهمْ النّاسُ إِنّ النّا َ‬ ‫ل وحده‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬اّلذِي َ‬ ‫فَا ْن َتهُوا} [الحشر‪ ،]7 :‬وأما الحسب وهو الكافي فهو ا ّ‬
‫س ُبكَ الُّ َومَنْ‬ ‫س ُبنَا الُّ َو ِنعْمَ الْ َوكِيلُ} [آل عمران‪ ،]173 :‬وقال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا ال ّنبِيّ حَ ْ‬ ‫َلكُ ْم فَاخْشَوْ ُه ْم فَزَادَهُمْ إِيمَانًا َوقَالُوا حَ ْ‬
‫ك مِنْ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [النفال‪ ،]64 :‬أي‪ :‬حسبك وحسب من اتبعك الّ‪.‬‬ ‫ا ّتبَ َع َ‬

‫ل والمؤمنون معه‪ ،‬فقد غلط غلطًا فاحشاً‪ ،‬كما قد بسطناه في غير هذا الموضع‪ ،‬وقال‬
‫ومن ظن أن المعنى حسبك ا ّ‬
‫لّ ِبكَافٍ َع ْبدَهُ} [الزمر‪.]36 :‬‬
‫تعالى‪{ :‬أََل ْيسَ ا ُ‬

‫وتحرير ذلك‪ :‬أن العبد يراد به المعبد الذي عبده الّ فذل ودبره ‪ /‬وصرفه‪ ،‬وبهذا العتبار المخلوقون كلهم عباد الّ‪،‬‬
‫من البرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار‪ ،‬إذ هو ربهم كلهم ومليكهم‪ ،‬ل يخرجون عن مشيئته‬
‫وقدرته‪ ،‬وكلماته التامات التي ل يجاوزهن بر ول فاجر‪ ،‬فما شاء كان وإن لم يشاؤوا‪ .‬وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن‪،‬‬
‫طوْعًا َوكَرْهًا وَإَِليْ ِه يُرْ َجعُونَ} [آل عمران‪.]83 :‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْرْضِ َ‬
‫ن فِي ال ّ‬ ‫كما قال تعالى‪َ{ :‬أ َف َغيْ َر دِينِ ا ِ‬
‫لّ َي ْبغُونَ وَلَهُ أَسَْل َم مَ ْ‬

‫فهو ـ سبحانه ـ رب العالمين وخالقهم‪ ،‬ورازقهم‪ ،‬ومحييهم‪ ،‬ومميتهم‪ ،‬ومقلب قلوبهم‪ ،‬ومصرف أمورهم‪ ،‬ل رب لهم‬
‫غيره‪ ،‬ول مالك لهم سواه‪ ،‬ول خالق إل هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه‪ ،‬وسواء علموا ذلك أو جهلوه‪ ،‬لكن أهل‬
‫اليمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به‪ ،‬بخلف من كان جاهلً بذلك‪ ،‬أو جاحداً له مستكبراً على ربه ل يقر ول يخضع‬
‫له‪ ،‬مع علمه بأن الّ ربه وخالقه‪.‬‬

‫حدُوا ِبهَا‬
‫جَ‬ ‫فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الستكبار عن قبوله والجحد له كان عذاباً على صاحبه‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وَ َ‬
‫سدِينَ} [النمل‪ ،]14 :‬وقال تعالى‪{ :‬اّلذِينَ آ َت ْينَاهُمْ ا ْل ِكتَا َ‬
‫ب َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا‬ ‫ف كَانَ عَا ِقبَةُ ا ْلمُفْ ِ‬
‫ظ ْر كَيْ َ‬
‫علُوّا فَان ُ‬ ‫س ُهمْ ظُ ْلمًا وَ ُ‬
‫س َتيْ َق َن ْتهَا َأنْفُ ُ‬
‫وَا ْ‬
‫ل ُيكَ ّذبُونَكَ وََلكِنّ الظّاِلمِينَ‬ ‫ن فَرِيقًا مِ ْنهُمْ َل َي ْك ُتمُونَ الْحَقّ وَ ُه ْم َيعَْلمُونَ}[البقرة‪ ،]146 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَِإّنهُ ْم َ‬
‫َيعْ ِرفُونَ َأبْنَاءَهُمْ وَإِ ّ‬
‫لّ يَجْ َحدُونَ} [النعام‪.]33 :‬‬ ‫بِآيَاتِ ا ِ‬
‫‪/‬فإن اعترف العبد أن الّ ربه وخالقه‪ ،‬وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الّ‪ ،‬وهذا العبد‬
‫يسأل ربه‪ ،‬فيتضرع إليه ويتوكل عليه‪ ،‬لكن قد يطيع أمره‪ ،‬وقد يعصيه‪ ،‬وقد يعبده مع ذلك‪ ،‬وقد يعبد الشيطان‬
‫والصنام‪.‬‬

‫ومثل هذه العبودية ل تفرق بين أهل الجنة والنار‪ ،‬وليصير بها الرجل مؤمناً‪ .‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا يُ ْؤمِنُ َأ ْكثَرُهُ ْم بِالِّ‬
‫ِإلّ وَهُ ْم مُ ْش ِركُونَ} [يوسف‪ ،]106 :‬فإن المشركين كانوا يقرون أن الّ خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره‪ ،‬قال‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْ ْرضَ َليَقُولُنّ الُّ} [لقمان‪ ،25 :‬الزمر‪ ،]38 :‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ ِلمَنْ الَْرْضُ‬ ‫تعالى‪{ :‬وََلئِنْ َ‬
‫سأَ ْل َتهُ ْم مَنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫ل تَتّقُونَ}إلى قوله‪{ :‬قُ ْل فََأنّا تُ ْسحَرُونَ} [المؤمنون‪ 84 :‬ـ ‪.]89‬‬
‫سيَقُولُونَ لِّ ُقلْ َأفَ َ‬
‫ن فِيهَا إِنْ كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ‪َ .‬‬
‫َومَ ْ‬

‫وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها‪ ،‬يشهد هذه الحقيقة وهي الحقيقة الكونية‪ ،‬التي يشترك فيها وفي شهودها‬
‫ظ ْرنِي‬‫ب فََأنْ ِ‬‫ومعرفتها المؤمن‪ ،‬والكافر‪ ،‬والبر‪ ،‬والفاجر‪ ،‬وإبليس معترف بهذه الحقيقة‪ ،‬وأهل النار ‪.‬قال إبليس‪{ :‬قَالَ رَ ّ‬
‫ب بِمَا أَغْ َو ْيتَنِي لَُ َزّينَنّ َلهُ ْم فِي الَْ ْرضِ َولَُغْ ِويَّنهُمْ َأ ْج َمعِينَ}[الحجر‪،]39 :‬‬ ‫إِلَى يَ ْو ِم ُيبْ َعثُونَ}[الحجر‪ ،]36 :‬وقال‪{ :‬قَالَ َر ّ‬
‫وقال‪َ { :‬ف ِبعِ ّز ِتكَ لَُغْ ِو َيّنهُمْ أَ ْج َمعِينَ} [ص‪ ،]82 :‬وقال‪َ{ :‬أرََأ ْيتَكَ َهذَا اّلذِي كَ ّرمْتَ عََليّ} [السراء‪ ،]62 :‬وأمثال هذا من‬
‫الخطاب الذي يقر فيه بأن الّ ربه وخالقه وخالق غيره‪ ،‬وكذلك أهل النار قالوا‪{ :‬قَالُوا َرّبنَا غََلبَتْ عََل ْينَا ِ‬
‫شقْ َو ُتنَا َو ُكنّا قَ ْومًا‬
‫ق قَالُوا بَلَى َو َرّبنَا} [النعام‪:‬‬ ‫ضَالّينَ} [المؤمنون‪ ،]106 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََل ْو تَرَى ِإذْ ُوقِفُوا عَلَى َرّبهِ ْم قَالَ أََليْسَ َهذَا بِا ْلحَ ّ‬
‫‪.]30‬‬

‫فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها‪ ،‬ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته‪،‬‬
‫وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار‪ ،‬وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الّ‪ ،‬وأهل‬
‫المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم المر والنهي الشرعيان‪ ،‬كان من أشر أهل الكفر واللحاد‪.‬‬

‫ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم المر لمشاهدة الرادة‪ ،‬ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين با ّ‬
‫ل‬
‫ورسوله‪ .‬حتى يدخل في النوع الثاني‪ ،‬من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابداً لّ ل يعبد إل إياه‪ ،‬فيطيع‬
‫أمره وأمر رسله‪ ،‬ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين‪ ،‬ويعادي أعداءه‪ ،‬وهذه العبادة متعلقة بإلهيته؛ ولهذا كان عنوان‬
‫التوحيد ل إله إل الّ بخلف من يقر بربوبيته ول يعبده‪ ،‬أو يعبد معه إلهًا آخر‪ ،‬فالله الذي يألهه القلب بكمال الحب‬
‫والتعظيم والجلل والكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك‪ ،‬وهذه العبادة هي التي يحبها الّ ويرضاها‪ ،‬وبها وصف‬
‫المصطفين من عباده‪ ،‬وبها بعث رسله‪.‬‬

‫وأما العبد‪ ،‬بمعنى المعبد‪ ،‬سواء أقر بذلك أو أنكره‪ ،‬فتلك يشترك ‪ /‬فيها المؤمن والكافر‪ .‬وبالفرق بين هذيـن النوعين‬
‫يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الّ ودينه وأمره الشرعي‪ ،‬التي يحبها ويرضاها‪ ،‬ويوالى أهلها‪،‬‬
‫ويكرمهم بجنته‪ ،‬وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر‪ ،‬والبر والفاجر التي من اكتفى بها‪ ،‬ولم يتبع‬
‫الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين‪ ،‬والكافرين برب العالمين‪ ،‬ومن اكتفى بها في بعض المور دون بعض‪،‬‬
‫أو في مقام أو حال نقص من إيمانه ووليته لّ‪ ،‬بحسب ما نقص من الحقائق الدينية‪.‬‬

‫وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون‪ ،‬وكثر فيه الشتباه على السالكين‪ ،‬حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين‬
‫التحقيق‪ ،‬والتوحيد‪ ،‬والعرفان ما ل يحصيهم إل الّ الذي يعلم السر والعلن‪ ،‬وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر ـ‬
‫رحمه الّ ـ فيما ذكر عنه‪ ،‬فبين أن كثيراً من الرجال‪ ،‬إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إل أنا فإني انفتحت لي‬
‫فيه روزنة‪ ،‬فنازعت أقدار الحق بالحق للحق‪ ،‬والرجل من يكون منازعاً للقدر‪ ،‬ل من يكون موافقاً للقدر‪.‬‬

‫والذي ذكره الشيخ ـ رحمه الّ ـ هو الذي أمر الّ به ورسوله‪ ،‬لكن كثيراً من الرجال غلطوا‪ ،‬فإنهم قد يشهدون ما‬
‫يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب‪ ،‬أو ما يقدر على الناس من ذلك‪ ،‬بل من الكفر‪ ،‬ويشهدون أن هذا جار بمشيئة‬
‫الّ‪ ،‬وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته‪ / ،‬فيظنون الستسلم لذلك وموافقته والرضا به‪ ،‬ونحو‬
‫لّ مَا َأشْ َر ْكنَا َو َل آبَا ُؤنَا َولَ حَ ّر ْمنَا مِنْ َشيْءٍ} [‬
‫ذلك‪ ،‬ديناً وطريقاً وعبادة‪ ،‬فيضاهون المشركين الذين قالوا‪{ :‬لَوْ شَاءَ ا ُ‬
‫ط َعمَهُ} [يس‪ ،]47 :‬وقالوا‪{ :‬لَوْ شَاءَ الرّ ْحمَا ُن مَا َعبَ ْدنَاهُمْ} [الزخرف‪:‬‬ ‫النعام‪ ،]148 :‬وقالوا‪َ{ :‬أنُ ْ‬
‫طعِ ُم مَنْ لَ ْو يَشَاءُ الُّ أَ ْ‬
‫‪.]20‬‬
‫ولو هدوا؛ لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب‪ ،‬التي تصيبنا‪ ،‬كالفقر والمرض‬
‫لّ َي ْهدِ قَ ْلبَهُ} [التغابن‪ .]11 :‬وقال بعض السلف‪ :‬هو‬ ‫ن يُ ْؤمِنْ بِا ِ‬
‫ل بِِإذْنِ الِّ َومَ ْ‬
‫ن مُصِيبَةٍ ِإ ّ‬
‫ب مِ ْ‬‫والخوف‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬مَا أَصَا َ‬
‫ن مُصِيبَ ٍة فِي الَْرْضِ َولَ فِي‬ ‫الرجل تصيبه المصيبة‪ ،‬فيعلم أنها من عند الّ فيرضى ويسلم‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬مَا أَصَا َ‬
‫ب مِ ْ‬
‫ل تَأْ َسوْا عَلَى مَا فَا َتكُمْ َو َل تَفْ َرحُوا ِبمَا آتَاكُمْ} [الحديد‪،22 :‬‬
‫لّ يَسِيرٌ‪ِ .‬لكَيْ َ‬
‫ن ذَِلكَ عَلَى ا ِ‬‫ن َنبْرَأَهَا إِ ّ‬
‫ن َقبْلِ أَ ْ‬
‫ب مِ ْ‬
‫س ُكمْ ِإلّ فِي ِكتَا ٍ‬
‫َأنْفُ ِ‬
‫‪.]23‬‬

‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬احتج آدم وموسى‪ ،‬فقال موسى‪ :‬أنت آدم الذي خلقك ا ّ‬
‫ل‬
‫بيده‪ ،‬ونفخ فيك من روحه‪ ،‬وأسجد لك ملئكته‪ ،‬وعلمك أسماء كل شيء‪ ،‬فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم‪:‬‬
‫أنت موسى الذي اصطفاك الّ برسالته وبكلمه‪ ،‬فهل وجدت ذلك مكتوباً علي قبل أن أخلق ؟قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فحج آدم‬
‫موسى)‪.‬‬

‫‪/‬وآدم ـ عليه السلم ـ لم يحتج على موسى بالقدر‪ ،‬ظنًا أن المذنب يحتج بالقدر‪ ،‬فإن هذا ل يقوله مسلم ول عاقل‪ ،‬ولو‬
‫كان هذا عذراً لكان عذرا لبليس‪ ،‬وقوم نوح‪ ،‬وقوم هود‪ ،‬وكل كافر‪ ،‬ول موسى لم آدم أيضاً؛ لجل الذنب‪ ،‬فإن آدم‬
‫قد تاب إلى ربه‪ ،‬فاجتباه وهدى‪ ،‬ولكن لمه؛ لجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة؛ ولهذا قال‪ :‬فلماذا أخرجتنا ونفسك‬
‫من الجنة؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوبًا قبل أن أخلق‪ ،‬فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدراً‪ ،‬وما قدر من‬
‫المصائب يجب الستسلم له‪ ،‬فإنه من تمام الرضا بالّ رباً‪.‬‬

‫وأما الذنوب‪ ،‬فليس للعبد أن يذنب‪ ،‬وإذا أذنب‪ ،‬فعليه أن يستغفر ويتوب‪ ،‬فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب‪.‬‬
‫ش ْيئًا}‬
‫ل يَضُ ّركُ ْم َك ْيدُهُمْ َ‬
‫صبِرُوا َو َتتّقُوا َ‬ ‫س َتغْفِرْ ِلذَ ْن ِبكَ} [غافر‪ ،]55 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن تَ ْ‬ ‫حقّ وَا ْ‬ ‫عدَ الِّ َ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬فَا ْ‬
‫صبِرْ إِنّ وَ ْ‬
‫لْمُورِ} [آل عمران‪ ،]186 :‬وقال يوسف‪ِ{ :‬إنّهُ مَنْ‬ ‫ن ذَِلكَ مِنْ عَ ْزمِ ا ُ‬
‫صبِرُوا َو َتتّقُوا فَإِ ّ‬
‫ن تَ ْ‬‫[آل عمران‪ ،]120 :‬وقال‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫لّ َل يُضِيعُ أَ ْجرَ ا ْلمُحْ ِسنِينَ} [يوسف‪.]90 :‬‬ ‫صبِ ْر فَإِنّ ا َ‬
‫َيتّقِ َو َي ْ‬

‫وكذلك ذنوب العباد‪ ،‬يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف‪ ،‬وينهى عن المنكر ـ بحسب قدرته ـ ويجاهد في سبيل‬
‫ل الكفار والمنافقين‪ ،‬ويوالى أولياء الّ‪ ،‬ويعادي أعداء الّ‪ ،‬ويحب في الّ‪ ،‬ويبغض في الّ‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا‬ ‫ا ّ‬
‫عدُوّي وَعَدُ ّوكُمْ َأوِْليَا َء تُ ْلقُونَ إَِل ْيهِ ْم بِا ْلمَ َودّةِ} إلى قوله‪َ { :‬قدْ كَانَتْ َلكُمْ أُسْ َوةٌ حَ َ‬
‫سنَ ٌة فِي ِإبْرَاهِيمَ وَاّلذِينَ َمعَهُ ِإذْ‬ ‫خذُوا َ‬ ‫ل َتتّ ِ‬‫اّلذِينَ آ َمنُوا َ‬
‫لّ َكفَ ْرنَا ِبكُمْ َو َبدَا َب ْي َننَا َو َبيْ َنكُمْ ا ْل َعدَاوَةُ وَا ْل َبغْضَاءُ َأ َبدًا َحتّى تُ ْؤ ِمنُوا بِالِّ َو ْحدَهُ} [‬
‫ن مِنْ دُونِ ا ِ‬ ‫قَالُوا لِقَ ْو ِمهِمْ ِإنّا بُرَآ ُء ِم ْنكُمْ َو ِممّا َت ْعبُدُو َ‬
‫ك َكتَبَ‬ ‫خ ِر يُوَادّونَ مَنْ حَادّ الَّ وَ َرسُولَهُ} إلى قوله‪{ :‬أُوَْل ِئ َ‬ ‫جدُ َق ْومًا يُ ْؤ ِمنُونَ بِالِّ وَا ْليَوْمِ الْ ِ‬ ‫ل تَ ِ‬‫الممتحنة‪1 :‬ـ ‪ ،]4‬وقال تعالى‪َ { :‬‬
‫جعَلُ ا ْلمُسِْلمِينَ كَا ْلمُجْ ِرمِينَ} [القلم‪ ،]53 :‬وقال‪{ :‬‬ ‫ح ِمنْهُ} [المجادلة‪ ،]22 :‬وقال تعالى‪َ{ :‬أ َفنَ ْ‬ ‫فِي قُلُو ِبهِمْ الِْيمَانَ وََأّيدَهُ ْم بِرُو ٍ‬
‫سبَ‬ ‫جعَلُ ا ْل ُمتّقِينَ كَالْ ُفجّارِ} [ص‪ ،]28 :‬وقال تعالى‪َ{ :‬أمْ حَ ِ‬ ‫ن فِي الَْ ْرضِ أَ ْم نَ ْ‬ ‫سدِي َ‬
‫ت كَا ْلمُ ْف ِ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَا ِ‬ ‫ن آ َمنُوا وَ َ‬ ‫جعَلُ اّلذِي َ‬ ‫أَ ْم نَ ْ‬
‫اّلذِينَ ا ْجتَرَحُوا ال ّسّيئَاتِ أَنْ َن ْجعََلهُ ْم كَاّلذِينَ آ َمنُوا وَ َعمِلُوا الصّالِحَاتِ َسوَا ًء مَ ْحيَاهُمْ َو َممَاُتهُمْ سَا َء مَا يَ ْح ُكمُونَ} [الجاثية‪،]21 :‬‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬ومَا يَ ْستَوِي الَْ ْعمَى وَا ْلبَصِيرُ‪َ .‬ولَ الظُّلمَاتُ َولَ النّورُ‪َ .‬ولَ الظّلّ َولَ الْحَرُورُ‪َ .‬ومَا يَ ْستَوِي الَْ ْحيَاءُ َولَ ا َلْمْوَاتُ}[‬
‫ل فِيهِ ُش َركَا ُء مُتَشَاكِسُونَ وَ َرجُلً سََلمًا لِرَ ُجلٍ هَ ْل يَ ْستَ ِويَا ِن َمثَلً} [الزمر‪:‬‬ ‫لّ مَثَلً َرجُ ً‬ ‫فاطر‪19 :‬ـ ‪ ،]22‬وقال تعالى‪{ :‬ضَرَبَ ا ُ‬
‫لّ َمثَلً‬ ‫ل َيعْلَمُونَ‪َ .‬وضَرَبَ ا ُ‬ ‫يءٍ} إلى قوله‪{ :‬بَلْ َأ ْكثَرُهُ ْم َ‬ ‫ل يَ ْقدِرُ عَلَى شَ ْ‬ ‫عبْدًا َممْلُوكًا َ‬ ‫لّ مَثَلً َ‬‫‪ ،]29‬وقال تعالى‪{ :‬ضَرَبَ ا ُ‬
‫ستَوِي‬ ‫ستَقِيمٍ}[النحل‪ ،]76 ،75 :‬وقال تعالى‪{ :‬لَ يَ ْ‬ ‫ط مُ ْ‬ ‫شيْءٍ} إلى قوله‪{ :‬وَهُوَ عَلَى صِرَا ٍ‬ ‫حدُ ُهمَا َأ ْبكَ ُم لَ يَ ْقدِرُ عَلَى َ‬ ‫جَليْنِ َأ َ‬ ‫رَ ُ‬
‫صحَابُ الْ َجنّةِ َأصْحَابُ ا ْل َجنّةِ ُهمْ ا ْلفَائِزُونَ} [الحشر‪.]20 :‬‬ ‫صحَابُ النّارِ وَأَ ْ‬ ‫أَ ْ‬

‫ونظائر ذلك‪ ،‬مما يفرق الّ فيه بين أهل الحق‪ ،‬والباطل‪ ،‬وأهل الطاعة‪ ،‬وأهل ‪/‬المعصية‪ ،‬وأهل البر‪ ،‬وأهل الفجور‪،‬‬
‫وأهل الهدى‪ ،‬والضلل‪ ،‬وأهل الغي‪ ،‬والرشاد‪ ،‬وأهل الصدق والكذب‪.‬‬

‫فمن شهد الحقيقة الكونية‪ ،‬دون الدينية سوى بين هذه الجناس المختلفة التي فرق الّ بينها غاية التفريق‪ ،‬حتى يؤول‬
‫به المر إلى أن يسوى الّ بالصنام‪ ،‬كما قال تعالى عنهم‪{ :‬تَالِّ إِ ْن ُكنّا َلفِي ضَلَ ٍل مُبِينٍ‪ِ .‬إذْ نُسَوّيكُ ْم بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [‬
‫الشعراء‪ ]98 ،97 :‬بل قد آل المر بهؤلء إلى أن سووا الّ بكل موجود‪ ،‬وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة‬
‫حقاً لكل موجود‪ ،‬إذ جعلوه هو وجود المخلوقات‪ ،‬وهذا من أعظم الكفر واللحاد برب العباد‪.‬‬

‫وهؤلء يصل بهم الكفر إلى أنهم ل يشهدون أنهم عباد ل بمعنى أنهم معبدون‪ ،‬ول بمعنى أنهم عابدون‪ ،‬إذ يشهدون‬
‫أنفسهم هي الحق‪ ،‬كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب ]الفصوص[‪ ،‬وأمثاله من الملحدين المفترين‪ ،‬كابن‬
‫سبعين وأمثاله‪ ،‬ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون‪ ،‬وهذا ليس بشهود الحقيقة‪ ،‬ل كونية ول دينية‪ ،‬بل هو ضلل‬
‫وعمى عن شهود الحقيقة الكونية‪ ،‬حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق‪ ،‬وجعلوا كل وصف مذموم‪ ،‬وممدوح‬
‫نعتًا للخالق والمخلوق‪ ،‬إذ وجود هذا‪ ،‬هو وجود هذا عندهم‪.‬‬

‫‪/‬وأما المؤمنون بالّ ورسوله‪ ،‬عوامهم وخواصهم‪ ،‬الذين هم أهل الكتاب‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن ّ‬
‫ل‬
‫أهلين من الناس) قيل‪ :‬من هم يا رسول الّ ؟ قال‪( :‬أهل القرآن هم أهل الّ‪ ،‬وخاصته)‪.‬فهؤلء يعلمون أن الّ رب كل‬
‫شيء ومليكه وخالقه‪ ،‬وأن الخالق ـ سبحانه ـ مباين للمخلوق‪ ،‬ليس هو حالً فيه ول متحداً به ول وجوده وجوده‪.‬‬

‫والنصارى‪ ،‬كفرهم الّ بأن قالوا بالحلول والتحاد بالمسيح خاصة‪ ،‬فكيف من جعل ذلك عامًا في كل مخلوق؟‪.‬‬

‫ويعلمون مع ذلك أن الّ أمر بطاعته‪ ،‬وطاعة رسوله‪ ،‬ونهى عن معصيته‪ ،‬ومعصية رسوله‪ ،‬وأنه ل يحب الفساد‪،‬‬
‫ول يرضى لعباده الكفر‪ ،‬وإن على الخلق أن يعبدوه‪ ،‬فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك‪ ،‬كما قال‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َنعْ ُبدُ وَِإيّاكَ‬
‫نَ ْس َتعِينُ}[الفاتحة‪.]5 :‬‬

‫ومن عبادته وطاعته‪ :‬المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر ـ بحسب المكان ـ والجهاد في سبيله‪ ،‬لهل الكفر‬
‫والنفاق‪ .‬فيجتهدون في إقامة دينه‪ ،‬مستعينين به‪ ،‬دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات‪ ،‬دافعين بذلك ما قد يخاف‬
‫من ذلك‪ ،‬كما يزيل النسان الجوع الحاضر بالكل‪ ،‬ويدفع به الجوع المستقبل‪ ،‬وكذلك‪ ،‬إذا آن أوان البرد ‪ /‬دفعه‬
‫باللباس‪ ،‬وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه‪ .‬كما قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬أرأيت أدوية نتداوى‬
‫بها‪ ،‬ورقى نسترقى بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر الّ شيئًا؟ فقال‪( :‬هي من قدر الّ)‪ .‬وفي الحديث‪( :‬إن الدعاء‬
‫ل وكل ذلك من العبادة‪.‬‬‫والبلء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والرض)‪ .‬فهذا حال المؤمنين بالّ ورسوله العابدين ّ‬

‫وهؤلء الذين يشهدون الحقيقة الكونية‪ ،‬وهي ربوبيته ـ تعالى ـ لكل شيء‪ ،‬ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني‬
‫الشرعي على مراتب في الضلل‪.‬‬

‫فغلتهم يجعلون ذلك مطلقًا عاماً‪ ،‬فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة‪ ،‬وقول هؤلء شر من قول اليهود‬
‫يءٍ}[النعام‪:‬‬
‫ح ّر ْمنَا مِنْ شَ ْ‬
‫ش َر ْكنَا َولَ آبَا ُؤنَا َولَ َ‬ ‫والنصارى‪ ،‬وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا‪{ :‬لَوْ شَاءَ ا ُ‬
‫لّ مَا أَ ْ‬
‫‪ ،]148‬وقالوا‪{ :‬لَوْ شَاءَ الرّ ْحمَا ُن مَا َعبَ ْدنَاهُمْ} [الزخرف‪.]20 :‬‬

‫وهؤلء من أعظم أهل الرض تناقضاً‪ ،‬بل كل من احتج بالقدر‪ ،‬فإنه متناقض‪ ،‬فإنه ل يمكن أن يقر كل آدمي على ما‬
‫فعل‪ ،‬فلبد إذا ظلمه ظالم‪ ،‬أو ظلم الناس ظالم‪ ،‬وسعى في الرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج‬
‫ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من ‪ /‬أنواع الضرر التي ل قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر‪ ،‬وأن يعاقب الظالم بما‬
‫يكف عدوان أمثاله‪ .‬فيقال له‪ :‬إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك‪ ،‬وإن لم يكن حجة بطل أصل‬
‫قولك‪ :‬حجة‪ .‬وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية ليطردون هذا القول ول يلتزمونه‪ ،‬وإنما هم بحسب‬
‫آرائهم وأهوائهم‪ ،‬كما قال فيهم بعض العلماء‪ :‬أنت عند الطاعة قدري‪ ،‬وعند المعصية جبري‪ ،‬أي مذهب وافق هواك‬
‫تمذهبت به‪.‬‬

‫ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة‪ ،‬فيزعمون أن المر والنهي لزم لمن شهد لنفسه فعلً‪ ،‬وأثبت له صنعاً‪ ،‬أما‬
‫من شهد أن أفعاله مخلوقة‪ ،‬أو أنه مجبور على ذلك‪ ،‬وأن الّ هو المتصرف فيه‪ ،‬كما تحرك سائر المتحركات‪ ،‬فإنه‬
‫يرتفع عنه المر والنهي‪ ،‬والوعد والوعيد ‪.‬‬

‫وقد يقولون‪ :‬من شهد الرادة‪ ،‬سقط عنه التكليف‪ ،‬ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الرادة‪،‬‬
‫فهؤلء ل يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية‪ ،‬فشهدوا أن الّ خالق أفعال العباد‪ ،‬وأنه يدبر‬
‫جميع الكائنات‪ ،‬وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علماً‪ ،‬وبين من يراه شهوداً‪ ،‬فل يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك‬
‫ويعلمه فقط‪ ،‬ولكن عمن ‪ /‬يشهده‪ ،‬فل يرى لنفسه فعلً أصلً‪ ،‬وهؤلء ل يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعاً من‬
‫التكليف على هذا الوجه‪.‬‬

‫وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد ‪.‬‬
‫وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم‪ ،‬عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلفه‪ ،‬كما ضاق نطاق المعتزلة‪ ،‬ونحوهم من‬
‫القدرية عن ذلك‪ .‬ثم المعتزلة أثبتت المر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة الّ العامة وخلقه‬
‫لفعال العباد‪ ،‬وهؤلء أثبتوا القضاء والقدر‪ ،‬ونفوا المر والنهي‪ ،‬في حق من شهد القدر‪ ،‬إذ لم يمكنهم نفي ذلك‬
‫مطلقًا‪ .‬وقول هؤلء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلء أحد‪ ،‬وهؤلء يجعلون المر والنهي‬
‫للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية؛ ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه المر‬
‫والنهي‪ ،‬وصار من الخاصة‪.‬‬

‫وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى‪{ :‬وَا ْعُبدْ َرّبكَ َحتّى َي ْأتِ َيكَ ا ْليَقِينُ}[الحجر‪ ،]99 :‬وجعلوا اليقين هو معرفة هذه‬
‫الحقيقة‪ ،‬وقول هؤلء كفر صريح‪ .‬وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر‪ ،‬فإنه قد علم بالضطرار من دين السلم‪،‬‬
‫أن المر والنهي لزم لكل عبد ما دام عقله حاضراً إلى ‪ /‬أن يموت‪ ،‬ل يسقط عنه المر والنهي‪ ،‬ل بشهوده القدر‪،‬‬
‫ول بغير ذلك‪ ،‬فمن لم يعرف ذلك عرفه‪ ،‬وبين له فإن أصر على اعتقاد سقوط المر والنهي فإنه يقتل‪ .‬وقد كثرت‬
‫مثل هذه المقالت في المستأخرين‪.‬‬

‫وأما المستقدمون من هذه المة‪ ،‬فلم تكن هذه المقالت معروفة فيهم‪.‬‬

‫وهذه المقالت هي محادة لّ ورسوله‪ ،‬ومعاداة له‪ ،‬وصد عن سبيله‪ ،‬ومشاقة له‪ ،‬وتكذيب لرسله‪ ،‬ومضادة له في‬
‫حكمه‪ ،‬وإن كان من يقول هذه المقالت قد يجهل ذلك ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول‪ ،‬وطريق أولياء‬
‫الّ المحققين‪ ،‬فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلة ل تجب عليه؛ لستغنائه عنها بما حصل له من الحوال‬
‫القلبية‪ ،‬أو أن الخمر حلل له؛ لكونه من الخواص الذين ل يضرهم شرب الخمر‪ ،‬أو أن الفاحشة حلل له؛ لنه صار‬
‫كالبحر ل تكدره الذنوب‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ول ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الّ‪ ،‬وبين الحتجاج بالقدر على‬
‫مخالفة أمر الّ‪ .‬فهؤلء الصناف ‪ /‬فيهم شبه من المشركين‪ ،‬إما أن يبتدعوا‪ ،‬وإما أن يحتجوا بالقدر‪ ،‬وإما أن يجمعوا‬
‫ل يَ ْأمُرُ‬
‫لّ َ‬ ‫بين المرين‪ .‬كما قال تعالى عن المشركين‪{ :‬وَِإذَا َفعَلُوا فَاحِشَ ًة قَالُوا وَ َ‬
‫ج ْدنَا عََل ْيهَا آبَا َءنَا وَالُّ َأمَ َرنَا ِبهَا ُقلْ إِنّ ا َ‬
‫لّ مَا‬
‫س َيقُولُ اّلذِينَ أَشْ َركُوا لَوْ شَاءَ ا ُ‬ ‫ل َتعَْلمُونَ} [ العراف‪ ،] 28 :‬وكما قال تعالى عنهم‪َ { :‬‬ ‫لّ مَا َ‬ ‫بِا ْلفَحْشَاءِ َأ َتقُولُونَ عَلَى ا ِ‬
‫يءٍ} [ النعام‪.]148 :‬‬ ‫ح ّر ْمنَا مِنْ شَ ْ‬
‫ش َركْنَا َولَ آبَا ُؤنَا َولَ َ‬
‫أَ ْ‬

‫وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام‪ ،‬والعبادة التي لم يشرعها الّ بمثل قوله تعالى‪{ :‬‬
‫سمَ الِّ عََل ْيهَا ا ْفتِرَاءً عََليْهِ}‬ ‫ظهُورُهَا وََأ ْنعَا ٌم لَ َي ْذكُرُونَ ا ْ‬ ‫ح ّرمَتْ ُ‬ ‫ع ِمهِمْ َوَأ ْنعَامٌ ُ‬ ‫ل مَنْ نَشَا ُء بِزَ ْ‬ ‫ط َع ُمهَا ِإ ّ‬
‫ل يَ ْ‬
‫َوقَالُوا َهذِهِ َأ ْنعَامٌ َوحَرْثٌ حِجْ ٌر َ‬
‫خرَجَ‬ ‫ن َكمَا أَ ْ‬‫شيْطَا ُ‬ ‫إلى آخر السورة [النعام‪ ،]138-165 :‬وكذلك في سورة العراف في قوله‪{ :‬يَا َبنِي آدَ َم لَ َي ْفتِ َنّنكُمْ ال ّ‬
‫ل يَ ْأمُ ُر بِالْ َفحْشَاءِ}إلى قوله‪{ :‬قُلْ‬ ‫لّ َ‬ ‫جنّةِ} إلى قوله‪{ :‬وَِإذَا َفعَلُوا فَاحِشَ ًة قَالُوا وَ َ‬
‫ج ْدنَا عََل ْيهَا آبَا َءنَا وَالُّ َأمَ َرنَا ِبهَا قُلْ إِنّ ا َ‬ ‫َأبَ َو ْيكُ ْم مِنْ الْ َ‬
‫ل مَنْ حَرّمَ زِينَةَ‬ ‫حبّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ‪ .‬قُ ْ‬ ‫ل يُ ِ‬ ‫جدٍ} إلى قوله‪َ { :‬وكُلُوا وَاشْ َربُوا َو َ‬
‫ل تُسْ ِرفُوا ِإنّهُ َ‬ ‫ل مَسْ ِ‬ ‫عنْ َد كُ ّ‬
‫َأمَرَ َربّي بِالْ ِقسْطِ وََأقِيمُوا وُجُو َهكُمْ ِ‬
‫ي ِب َغيْرِ‬
‫لْثْمَ وَا ْل َبغْ َ‬
‫ظ َه َر مِ ْنهَا َومَا بَطَنَ وَا ِ‬ ‫ش مَا َ‬ ‫ت مِنْ الرّزْقِ} إلى قوله‪{ :‬قُلْ ِإّنمَا حَرّمَ َربّي ا ْلفَوَاحِ َ‬ ‫طّيبَا ِ‬ ‫الِّ اّلتِي أَخْ َرجَ ِل ِعبَادِهِ وَال ّ‬
‫لّ مَا لَ َتعَْلمُونَ} [العراف‪27 :‬ـ ‪.]33‬‬ ‫ن تَقُولُوا عَلَى ا ِ‬ ‫سلْطَانًا وَأَ ْ‬
‫ل بِهِ ُ‬ ‫لّ مَا لَ ْم ُينَزّ ْ‬
‫ن تُشْ ِركُوا بِا ِ‬ ‫حقّ وَأَ ْ‬ ‫الْ َ‬

‫‪/‬وهؤلء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة‪ ،‬كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة‪ .‬وطريق الحقيقة عندهم هو‬
‫السلوك الذي ل يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه‪ ،‬ولكن بما يراه ويذوقه ويجده‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وهؤلء ل يحتجون‬
‫بالقدر مطلقًا‪ ،‬بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم‪ ،‬وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة‪ ،‬وأمرهم باتباعها‪ ،‬دون اتباع أمر‬
‫الّ ورسوله‪ ،‬نظير بدع أهل الكلم من الجهمية‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬الذين يجعلون ما ابتدعوه من القوال المخالفة للكتاب‬
‫والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها‪ ،‬دون ما دلت عليه السمعيات‪ .‬ثم الكتاب والسنة‪ ،‬إما أن يحرفوه عن مواضعه‪،‬‬
‫وإما أن يعرضوا عنه بالكلية‪ ،‬فل يتدبرونه ول يعقلونه‪ ،‬بل يقولون‪ :‬نفوض معناه إلى الّ‪ ،‬مع اعتقادهم نقيض‬
‫مدلوله‪ .‬وإذا حقق على هؤلء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة‪ ،‬وجدت جهليات واعتقادات فاسدة‪.‬‬

‫وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء الّ‪ ،‬المخالفة للكتاب والسنة‪ ،‬وجدت من الهواء التي‬
‫ل ل أولياؤه‪.‬‬
‫يتبعها أعداء ا ّ‬
‫وأصل ضلل من ضل‪ ،‬هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الّ‪ ،‬واختياره الهوي على اتباع أمر الّ‪ ،‬فإن‬
‫الذوق والوجد ونحو ذلك‪ ،‬هو بحسب ما يحبه العبد‪ ،‬فكل محب له ذوق‪ ،‬ووجد بحسب محبته‪ .‬فأهل اليمان لهم من‬
‫الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى ال عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح‪( :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة‬
‫اليمان‪ :‬من كان الّ ورسوله أحب إليه مما ‪ /‬سواهما‪ ،‬ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ‪ ،‬ومن كان يكره أن يرجع‬
‫في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه‪ ،‬كما يكره أن يلقى في النار)‪ .‬وقال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪( :‬ذاق طعم‬
‫اليمان من رضى بالّ رباً‪ ،‬وبالسلم ديناً‪ ،‬وبمحمد نبياً)‪.‬‬

‫وأما أهل الكفر والبدع والشهوات‪ ،‬فكل بحسبه‪ ،‬قيل لسفيان بن عيينة‪ :‬ما بال أهل الهواء لهم محبة شديدة لهوائهم؟!‬
‫فقال‪ :‬أنسيت قوله تعالى‪{ :‬وَأُ ْش ِربُوا فِي قُلُو ِبهِمْ ا ْل ِعجْ َل ِبكُفْرِهِمْ} [البقرة‪]93 :‬؟!‪ ،‬أو نحو هذا من الكلم‪ .‬فعباد الصنام‬
‫س مَ ْن يَتّ ِخ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِحبّونَهُ ْم كَ ُحبّ الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪:‬‬
‫يحبون آلهتهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬
‫ض ّل ِممّنْ اّتبَعَ هَوَا ُه ِب َغيْرِ ُهدًى مِنْ الِّ} [القصص‪]50 :‬‬ ‫ك فَاعَْلمْ َأّنمَا َيتّ ِبعُونَ أَهْوَاءَهُمْ َومَنْ أَ َ‬ ‫‪ ،]165‬وقال‪َ { :‬فإِنْ لَ ْم يَ ْ‬
‫ستَجِيبُوا َل َ‬
‫‪ ،‬وقال‪{ :‬إِ ْن َيّتبِعُونَ ِإلّ الظّنّ َومَا َتهْوَى ا َلْنْفُسُ وَلَ َقدْ جَاءَ ُه ْم مِنْ َربّهِمْ ا ْلهُدَى} [النجم‪]23 :‬؛ ولهذا يميل هؤلء إلى سماع‬
‫الشعر والصوات التي تهيج المحبة المطلقة‪ ،‬التي ل تختص بأهل اليمان‪ ،‬بل يشترك فيها محب الرحمن‪ ،‬ومحب‬
‫الوثان‪ ،‬ومحب الصلبان‪ ،‬ومحب الوطان‪ ،‬ومحب الخوان‪ ،‬ومحب المردان‪ ،‬ومحب النسوان‪ .‬وهؤلء الذين يتبعون‬
‫أذواقهم‪ ،‬ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة‪ ،‬وما كان عليه سلف المة‪.‬‬

‫فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته‪ ،‬وطاعة رسوله ل يكون متبعاً لدين‪ ،‬شرعه الّ‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬ثُمّ‬
‫ش ْيئًا} إلى قوله‪{ :‬وَالُّ وَلِيّ‬ ‫ن ُيغْنُوا عَنكَ مِنْ الِّ َ‬
‫ل َيعَْلمُونَ ‪ِ .‬إّنهُمْ لَ ْ‬
‫ل َتتّبِعْ أَهْوَاءَ اّلذِينَ َ‬
‫لْمْ ِر فَا ّتبِ ْعهَا َو َ‬
‫جعَ ْلنَاكَ عَلَى شَرِيعَ ٍة مِنْ ا َ‬
‫َ‬
‫ا ْل ُمتّقِينَ} [ الجاثية‪ ،]18 ،17 :‬بل يكون متبعاً لهواه بغير هدى من الّ‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬أمْ َلهُمْ ُ‬
‫ش َركَاءُ شَرَعُوا َلهُ ْم مِنْ الدّينِ‬
‫مَا َل ْم يَ ْأذَنْ بِهِ الُّ} [الشورى‪ ،]21 :‬وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الّ‪،‬‬
‫وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة‪ ،‬كما أخبر الّ به عن المشركين‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬

‫ومن هؤلء طائفة هم أعلهم قدراً‪ ،‬وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة‪ ،‬واجتناب المحرمات‬
‫المشهورة‪ ،‬لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من السباب التي هي عبادة‪ ،‬ظانين أن العارف إذا شهد [ القدر]‬
‫أعرض عن ذلك‪ ،‬مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء‪ ،‬ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة‪ ،‬بناء على أن من‬
‫شهد القدر علم أن ما قدر سيكون‪ ،‬فل حاجة إلى ذلك‪ ،‬وهذا غلط عظيم‪ .‬فإن الّ قدر الشياء بأسبابها كما قدر السعادة‬
‫والشقاوة بأسبابها‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن الّ خلق للجنة أهل‪ ،‬خلقها لهم وهم في أصلب آبائهم‪،‬‬
‫وبعمل أهل الجنة يعملون)‪ ،‬وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم لما أخبرهم بأن الّ كتب المقادير فقالوا‪ :‬يا رسول‬
‫الّّ‪ ،‬أفل ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال‪( :‬ل‪ ،‬اعملوا فكل ميسر لما خلق له‪ ،‬أما من كان من أهل السعادة‪،‬‬
‫فسييسر لعمل أهل السعادة‪ ،‬وأما من كان من أهل الشقاوة‪ ،‬فسييسر لعمل أهل الشقاوة)‪.‬‬

‫‪/‬فما أمر الّ به عباده من السباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى‪{ :‬فَا ْعُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود‪:‬‬
‫‪ ،]123‬وفي قوله‪{ :‬قُلْ هُوَ َربّي لَ إِلَهَ ِإلّ ُهوَ عََليْهِ تَ َوكّلْتُ وَإَِليْ ِه َمتَابِ} [الرعد‪ ،]30 :‬وقول شعيب ـ عليه السلم ـ‪{ :‬‬
‫عََليْهِ تَ َوكّ ْلتُ وَإَِليْهِ ُأنِيبُ} [هود‪.]88 :‬‬

‫ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من العمال دون الواجبات‪ ،‬فتنقص بقدر ذلك‪.‬‬

‫ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة‪ ،‬أو استجابة دعوة مخالفة العادة العامة‪ ،‬ونحو ذلك‪،‬‬
‫فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة‪ ،‬والشكر‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫فهذه المور ونحوها كثيراً ما تعرض لهل السلوك والتوجه‪ ،‬وإنما ينجو العبد منها بملزمة أمر الّ الذي بعث به‬
‫رسوله في كل وقت‪ .‬كما قال الزهري‪ :‬كان من مضى من سلفنا يقولون‪ :‬العتصام بالسنة نجاة‪ .‬وذلك أن السنة ـ كما‬
‫قال مالك رحمه الّ ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا‪ ،‬ومن تخلف عنها غرق‪.‬‬

‫والعبادة‪ ،‬والطاعة‪ ،‬والستقامة‪ ،‬ولزوم الصراط المستقيم‪ ،‬ونحو ذلك من السماء مقصودها واحد‪ ،‬ولها أصلن‪:‬‬

‫‪/‬أحدهما‪ :‬أل يعبد إل الّ‪.‬‬


‫عمَلً صَالِحًا َو َ‬
‫ل‬ ‫والثاني‪ :‬أن يعبد بما أمر وشرع ل بغير ذلك من البدع‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬فمَنْ كَا َ‬
‫ن يَ ْرجُوا ِلقَاءَ َربّ ِه فَ ْل َي ْعمَلْ َ‬
‫خوْفٌ عََل ْيهِمْ‬ ‫ع ْندَ َربّهِ َولَ َ‬‫جرُهُ ِ‬ ‫ن فَلَهُ أَ ْ‬
‫جهَهُ لِّ وَهُ َو ُمحْسِ ٌ‬ ‫حدًا} [الكهف‪ ،]110 :‬وقال تعالى‪{ :‬بَلَى مَنْ أَسَْلمَ وَ ْ‬ ‫ك ِبعِبَادَةِ َربّهِ َأ َ‬
‫يُشْ ِر ْ‬
‫خذَ‬‫حنِيفًا وَاتّ َ‬‫جهَهُ لِّ وَهُ َو مُحْسِنٌ وَاتّبَ َع مِلّةَ ِإبْرَاهِيمَ َ‬ ‫َولَ هُ ْم يَحْ َزنُونَ} [البقرة‪ ،]112 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَنْ أَحْسَ ُ‬
‫ن دِينًا ِممّنْ َأسْلَمَ َو ْ‬
‫الُّ ِإبْرَاهِيمَ خَلِيلً} [النساء‪ ،]125 :‬فالعمل الصالح هو الحسان وهو فعل الحسنات‪ .‬والحسنات‪ ،‬هي ما أحبه الّ‬
‫ورسوله‪ ،‬وهو ما أمر به أمر إىجاب‪ ،‬أو استحباب‪ ،‬فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة‪ ،‬فإن الّ‬
‫ليحبها ول رسوله‪ ،‬فل تكون من الحسنات‪ ،‬ول من العمل الصالح‪ ،‬كما أن من يعمل ما ليجوز كالفواحش‪ ،‬والظلم‬
‫ليس من الحسنات‪ ،‬ول من العمل الصالح‪.‬‬

‫ل وحده‪ ،‬وكان عمر بن الخطاب‬ ‫ك ِبعِبَادَةِ َربّهِ َأ َحدًا} وقوله‪{ :‬أَسَْلمَ وَ ْجهَهُ لِِّ}‪ ،‬فهو إخلص الدين ّ‬ ‫وأما قوله‪َ { :‬و َ‬
‫ل يُشْ ِر ْ‬
‫يقول‪ :‬اللهم اجعل عملي كله صالحاً‪ ،‬واجعله لوجهك خالصاً‪ ،‬ول تجعل لحد فيه شيئاً‪.‬‬

‫وقال الفضيل بن عياض في قوله‪ِ{ :‬ل َيبْلُ َوكُمْ َأّيكُمْ أَ ْحسَنُ َعمَلً} [هود‪ ،7 :‬الملك‪ ،]2 :‬قال‪ :‬أخلصه‪ ،‬وأصوبه‪ .‬قالوا‪ :‬يا أبا‬
‫على‪ ،‬ما أخلصه وأصوبه؟ قال‪ / :‬إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل‪ ،‬وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً‬
‫لم يقبل‪ ،‬حتى يكون خالصًا صواباً‪ ،‬والخالص أن يكون لّ‪ ،‬والصواب أن يكون على السنة‪.‬‬

‫س َتعِينُ}‬
‫ك نَ ْ‬ ‫فإن قيل‪ :‬فإذا كان جميع ما يحبه الّ داخلً في اسم العبادة‪ ،‬فلماذا عطف عليها غيرها‪ ،‬كقوله‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َنعْ ُبدُ وَِإيّا َ‬
‫[الفاتحة‪ ،]5 :‬وقوله‪{ :‬فَا ْعبُدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود‪ ،]123 :‬وقال نوح‪{ :‬أَنْ ا ْعبُدُوا الَّ وَاتّقُوهُ وَأَطِيعُونِي} [نوح‪،]3 :‬‬
‫وكذلك قول غيره من الرسل‪ .‬قيل‪ :‬هذا له نظائر‪ ،‬كما في قوله‪{ :‬إِنّ الصّلَ َة تَ ْنهَى عَنْ ا ْلفَحْشَاءِ وَا ْل ُم ْنكَرِ} [العنكبوت‪45 :‬‬
‫لّ َي ْأمُ ُر بِا ْل َعدْلِ وَالِحْسَانِ وَإِيتَا ِء ذِي الْ ُق ْربَى َو َينْهَى عَنْ ا ْلفَ ْحشَاءِ وَا ْلمُنكَرِ وَا ْل َبغْيِ} [‬
‫]‪ ،‬والفحشاء من المنكر‪ ،‬وكذلك قوله‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫النحل‪ ،]90 :‬وإيتاء ذي القربى هو من العدل والحسان‪ ،‬كما أن الفحشاء والبغي من المنكر‪ ،‬وكذلك قوله‪{ :‬وَاّلذِينَ‬
‫سكُونَ بِا ْل ِكتَابِ وََأقَامُوا الصّلَةَ} [العراف‪ ،]170 :‬وإقامة الصلة من أعظم التمسك بالكتاب‪ ،‬وكذلك قوله‪ِ{ :‬إّنهُمْ‬ ‫ُيمَ ّ‬
‫كَانُوا يُسَارِعُو َن فِي ا ْل َخيْرَاتِ َويَدْعُو َننَا رَ َغبًا َورَ َهبًا} [النبياء‪ ،]90 :‬ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات‪ ،‬وأمثال ذلك في‬
‫القرآن كثير‪.‬‬

‫وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الخر‪ ،‬فيعطف عليه تخصيصًا له بالذكر ؛ لكونه مطلوباً بالمعنى العام‪،‬‬
‫والمعنى الخاص‪ ،‬وتارة تكون دللة السم تتنوع بحال النفراد والقتران‪ ،‬فإذا أفرد عم‪ ،‬وإذا قرن بغيره خص‪ ،‬كاسم‬
‫سبِيلِ الِّ} [البقرة‪ ،]273 :‬وقوله‪{ :‬‬ ‫الفقير‪ ،‬والمسكين لما ‪/‬أفرد أحدهما في مثل قوله‪{ :‬لِل ُفقَرَاءِ اّلذِينَ أُحْ ِ‬
‫صرُوا فِي َ‬
‫عشَرَ ِة مَسَاكِينَ} [المائدة‪ ،]89 :‬دخل فيه الخر‪ ،‬ولما قرن بينهما في قوله‪ِ{ :‬إّنمَا ال ّ‬
‫ص َدقَاتُ لِ ْلفُقَرَاءِ‬ ‫طعَامُ َ‬
‫َفكَفّا َرتُهُ إِ ْ‬
‫وَا ْلمَسَاكِينِ} [التوبة‪ ]60 :‬صارا نوعين‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إن الخاص المعطوف على العام ليدخل في العام حال القتران‪ ،‬بل يكون من هذا الباب‪ .‬والتحقيق أن هذا‬
‫جبْرِيلَ َومِيكَالَ} [البقرة‪ ،]98 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَِإذْ أَ َ‬
‫خ ْذنَا مِنْ‬ ‫ل ِئكَتِهِ وَ ُرسُلِهِ وَ ِ‬
‫عدُوّا لِّ َومَ َ‬ ‫ليس لزماً‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬مَ ْ‬
‫ن كَانَ َ‬
‫الّن ِبيّي َن مِيثَا َقهُمْ َو ِم ْنكَ َومِ ْن نُوحٍ وَِإبْرَاهِيمَ َومُوسَى وَعِيسَى ابْنِ َم ْريَمَ} [الحزاب‪.]7 :‬‬

‫وذكر الخاص مع العام يكون‪ ،‬لسباب متنوعة‪ ،‬تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام‪ ،‬كما في نوح وإبراهيم‬
‫وموسى وعيسى‪ ،‬وتارة؛ لكون العام فيه إطلق قد ل يفهم منه العموم‪ ،‬كما في قوله‪ُ { :‬هدًى لِ ْل ُمتّقِينَ‪ .‬اّلذِي َ‬
‫ن يُ ْؤ ِمنُونَ بِا ْل َغيْبِ‬
‫َويُقِيمُونَ الصّلَةَ َو ِممّا رَ َز ْقنَا ُه ْم يُنفِقُونَ‪ .‬وَاّلذِي َن يُ ْؤمِنُو َن ِبمَا ُأنْزِلَ إَِل ْيكَ َومَا ُأنْزِ َل مِ ْن َقبِْلكَ} [البقرة‪2 :‬ـ ‪ ،]4‬فقوله‪ :‬يؤمنون‬
‫بالغيب يتناول الغيب الذي يجب اليمان به‪ ،‬لكن فيه إجمال‪ ،‬فليس فيه دللة على أن من الغيب‪ ،‬ما أنزل إليك‪ ،‬وما‬
‫أنزل من قبلك‪.‬وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب‪ ،‬وبالخبار بالغيب‪ ،‬وهو ما أنزل إليك‪ ،‬وما‬
‫أنزل من قبلك‪.‬‬

‫سكُو َ‬
‫ن‬ ‫حيَ إَِل ْيكَ مِنْ ا ْل ِكتَابِ وََأقِمْ الصّلَةَ} [العنكبوت‪ ،]45 :‬وقوله‪{ :‬وَاّلذِينَ ُيمَ ّ‬ ‫‪/‬ومن هذا الباب قوله تعالى‪{ :‬اتْ ُ‬
‫ل مَا أُو ِ‬
‫بِا ْل ِكتَابِ وََأقَامُوا الصّلَةَ} [العراف‪ ،]170 :‬وتلوة الكتاب‪ ،‬هي اتباعه‪ ،‬كما قال ابن مسعود في قوله تعالى‪{ :‬اّلذِينَ‬
‫ق تِلَ َوتِهِ} [البقرة‪ ،]121 :‬قال‪ :‬يحللون حلله ويحرمون حرامه‪ ،‬ويؤمنون بمتشابهه ويعملون‬ ‫ب َيتْلُونَهُ حَ ّ‬
‫آ َتيْنَا ُهمْ ا ْل ِكتَا َ‬
‫بمحكمه‪ ،‬فاتباع الكتاب يتناول الصلة وغيرها‪ ،‬لكن خصها بالذكر لمزيتها‪ .‬وكذلك قوله لموسى‪ِ{ :‬إّننِي َأنَا ا ُ‬
‫لّ لَ إِلَهَ ِإلّ‬
‫عُب ْدنِي وََأقِمْ الصّلَةَ ِل ِذكْرِي} [طه‪ ،]14 :‬وإقامة الصلة لذكره من أجل عبادته‪ ،‬وكذلك قوله تعالى‪{ :‬اتّقُوا الَّ َوقُولُوا‬ ‫َأنَا فَا ْ‬
‫سدِيدًا} [الحزاب‪ ،]70 :‬وقوله‪{ :‬اتّقُوا الَّ وَا ْب َتغُوا إَِليْهِ الْ َوسِيلَةَ} [المائدة‪ ،]35 :‬وقوله‪{ :‬اتّقُوا الَّ َوكُونُوا مَعَ‬ ‫قَ ْولً َ‬
‫الصّا ِدقِينَ} [التوبة‪ ،]119 :‬فإن هذه المور هي أيضاً من تمام تقوى الّ‪ ،‬وكذلك قوله‪{ :‬فَا ْعبُدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود‪:‬‬
‫‪ ،]123‬فإن التوكل والستعانة هي من عبادة الّ‪ ،‬لكن خصت بالذكر‪ ،‬ليقصدها المتعبد بخصوصها‪ ،‬فإنها هي العون‬
‫على سائر أنواع العبادة إذ هو ـ سبحانه ـ ل يعبد إل بمعونته‪.‬‬

‫إذا تبين هذا‪ ،‬فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لّ‪ ،‬وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته‪،‬‬
‫ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه‪ .‬أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق‬
‫سبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُ ْم بَِأمْرِ ِه َي ْعمَلُونَ} ‪ /‬إلى قوله‪{ :‬‬ ‫ل يَ ْ‬
‫عبَا ٌد ُمكْ َرمُونَ‪َ .‬‬ ‫سبْحَانَهُ بَلْ ِ‬ ‫حمَانُ وََلدًا ُ‬ ‫خذَ الرّ ْ‬‫وأضلهم‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬وقَالُوا اتّ َ‬
‫ش ْيئًا ِإدّا} إلى قوله‪{ :‬إِنْ‬ ‫ج ْئتُمْ َ‬
‫حمَانُ وََلدًا‪ .‬لَ َقدْ ِ‬ ‫شفِقُونَ} [النبياء‪26 :‬ـ ‪ ،]28‬وقال تعالى‪َ { :‬وقَالُوا اتّ َ‬
‫خذَ الرّ ْ‬ ‫ش َيتِهِ مُ ْ‬
‫خْ‬‫وَهُ ْم مِنْ َ‬
‫كُ ّل مَنْ فِي ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضِ ِإ ّل آتِي الرّ ْحمَانِ َع ْبدًا‪ .‬لَ َقدْ أَ ْحصَا ُهمْ وَ َعدّهُمْ َعدّا‪َ .‬وكُّلهُ ْم آتِيهِ يَوْمَ الْ ِقيَامَ ِة فَ ْردًا} [مريم‪ 88 :‬ـ ‪]95‬‬
‫سرَائِيلَ} [الزخرف‪ ،]59 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَلَ ُه مَنْ‬ ‫جعَ ْلنَا ُه َمثَلً ِل َبنِي إِ ْ‬ ‫‪ ،‬وقال تعالى في المسيح‪{ :‬إِنْ هُوَ ِإلّ َ‬
‫ع ْبدٌ َأنْ َع ْمنَا عََليْهِ وَ َ‬
‫فِي ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضِ َومَنْ ِع ْندَهُ َل يَ ْس َت ْكبِرُونَ عَنْ ِعبَادَتِهِ َو َل يَ ْستَحْسِرُونَ‪ .‬يُ َسبّحُونَ الّليْلَ وَالّنهَا َر َل يَ ْفتُرُونَ} [النبياء‪،19 :‬‬
‫سيَحْشُرُ ُهمْ‬ ‫س َت ْكبِرْ َف َ‬
‫عبَادَتِهِ َويَ ْ‬
‫ستَنكِفْ عَنْ ِ‬ ‫لئِكَةُ ا ْلمُ َق ّربُونَ َومَنْ يَ ْ‬
‫ع ْبدًا لِّ َولَ ا ْلمَ َ‬
‫ن َيكُونَ َ‬ ‫ستَنكِفَ ا ْلمَسِيحُ أَ ْ‬ ‫‪ ،]20‬وقال تعالى‪{ :‬لَ ْ‬
‫ن يَ ْ‬
‫جدُونَ َل ُه ْم مِنْ دُونِ الِّ وَِليّا َولَ َنصِيرًا} [النساء‪ ،]173 ،172 :‬وقال تعالى‪َ { :‬وقَالَ َرّبكُمْ‬ ‫جمِيعًا} إلى قوله‪َ { :‬و َ‬
‫ل يَ ِ‬ ‫إَِليْهِ َ‬
‫ج َهنّ َم دَاخِرِينَ} [غافر‪ ،]60 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومِنْ آيَاتِهِ الّليْلُ‬ ‫سيَدْخُلُونَ َ‬ ‫عبَادَتِي َ‬ ‫س َت ْكبِرُونَ عَنْ ِ‬ ‫جبْ َلكُمْ إِنّ اّلذِينَ يَ ْ‬‫ستَ ِ‬‫ادْعُونِي أَ ْ‬
‫ع ْندَ َرّبكَ‬
‫س َتكْبَرُوا فَاّلذِينَ ِ‬
‫ن ُك ْنتُمْ ِإيّا ُه َت ْعبُدُونَ‪ .‬فَإِنْ ا ْ‬
‫جدُوا لِّ اّلذِي خََل َقهُنّ إِ ْ‬
‫شمْسِ َولَ ِللْ َقمَرِ وَاسْ ُ‬
‫جدُوا لِل ّ‬
‫سُ‬‫شمْسُ وَالْ َق َم ُر لَ تَ ْ‬ ‫وَال ّنهَارُ وَال ّ‬
‫ك تَضَرّعًا وَخِيفَةً} إلى‬ ‫سَ‬ ‫ل يَسَْأمُونَ} [فصلت‪ ،]38 ،37 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَا ْذكُرْ َرّب َ‬
‫ك فِي نَ ْف ِ‬ ‫سبّحُونَ لَ ُه بِالّليْلِ وَال ّنهَارِ وَ ُه ْم َ‬
‫يُ َ‬
‫قوله‪{ :‬إِنّ اّلذِينَ ِع ْندَ َرّبكَ َل يَ ْس َتكْبِرُونَ عَنْ ِعبَا َدتِهِ َويُ َسبّحُونَهُ وَلَ ُه يَسْ ُجدُونَ} [العراف‪.]206 ،205 :‬‬

‫وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة‪ ،‬وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن‪ ،‬وقد أخبر أنه أرسل‬
‫ك مِنْ رَسُولٍ ِإ ّل نُوحِي ِإَليْهِ َأنّ ُه لَ إِلَهَ ِإلّ َأنَا فَا ْعبُدُونِي} [النبياء‪،]25 :‬‬ ‫جميع الرسل بذلك‪ /.‬فقال تعالى‪َ { :‬ومَا أَرْ َ‬
‫س ْلنَا مِنْ َقبِْل َ‬
‫عبَادِي‬‫ج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ} [النحل‪ ،]36 :‬وقال تعالى لبني إسرائيل‪{ :‬يَا ِ‬ ‫عبُدُوا الَّ وَا ْ‬ ‫وقال‪{ :‬وََل َقدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ َرسُولً أَنْ اُ ْ‬
‫ي فَاتّقُونِي} [البقرة‪ ،]41 :‬وقال‪{ :‬يَاَأّيهَا النّاسُ‬ ‫عُبدُونِي} [العنكبوت‪{ ،]56 :‬وَِإيّا َ‬ ‫ي فَا ْ‬
‫سعَ ٌة فَِإيّا َ‬
‫اّلذِينَ آ َمنُوا إِنّ َأرْضِي وَا ِ‬
‫ا ْعبُدُوا َرّبكُمْ اّلذِي خََل َقكُمْ وَاّلذِي َن مِنْ َقبِْلكُمْ َلعَّلكُ ْم َتتّقُونَ} [البقرة‪ ،]21 :‬وقال‪َ { :‬ومَا َخلَ ْقتُ الْجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعُبدُونِي} [‬
‫ت لَِنْ َأكُونَ أَوّلَ ا ْلمُسِْلمِينَ‪ .‬قُلْ ِإنّي َأخَافُ إِنْ‬ ‫لّ مُخِْلصًا لَهُ الدّينَ‪ .‬وَُأمِرْ ُ‬ ‫الذاريات‪ ،]56 :‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ ِإنّي ُأمِرْتُ أَنْ أَ ْ‬
‫عُبدَ ا َ‬
‫ب يَوْمٍ عَظِيمٍ‪ .‬قُلْ الَّ أَ ْعبُ ُد مُخْلِصًا لَ ُه دِينِي‪ .‬فَا ْعبُدُوا مَا ِش ْئتُ ْم مِنْ دُونِهِ} [الزمر‪11 :‬ـ ‪.]15‬‬ ‫صيْتُ َربّي عَذَا َ‬ ‫عَ َ‬

‫لّ مَا َلكُ ْم مِنْ‬ ‫وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الّ‪ ،‬كقول نوح ومن بعده عليهم السلم‪{ :‬ا ْ‬
‫عبُدُوا ا َ‬
‫إِلَهٍ َغيْرُهُ} [المؤمنون‪ ،]23 :‬وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬بعثت بالسيف بين‬
‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬وجعل رزقي تحت ظل رمحي‪ ،‬وجعل الذلة والصغار على من خالف‬
‫يدي الساعة حتى يعبد ا ّ‬
‫أمري)‪.‬‬

‫ج َمعِينَ ّ‪ِ .‬إلّ‬ ‫وقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات‪ ،‬قال الشيطان‪ِ { :‬بمَا أَغْ َو ْيتَنِي لَُ َزّينَنّ َلهُ ْم فِي الَْ ْرضِ َولَُغْ ِو َينّهُمْ َأ ْ‬
‫ِعبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْلمُخَْلصِينَ} [الحجر‪ ،]40 ،39 :‬قال تعالى‪{ :‬إِنّ ِعبَادِي َليْسَ َلكَ َعَليْهِمْ سُلْطَانٌ ِإلّ مَ ْن اّت َب َعكَ مِنْ ا ْلغَاوِينَ} [‬
‫ك لَُغْ ِو َينّهُمْ َأ ْج َمعِينَ‪ِ .‬إلّ ِعبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْلمُ ْخلَصِينَ} [ص‪ ،]83 ،82 :‬وقال في حق يوسف‪:‬‬ ‫الحجر‪ ،]42 :‬وقال‪{ :‬قَا َ‬
‫ل َف ِبعِ ّزتِ َ‬
‫عبَادَ الِّ‬‫صفُونَ‪ِ .‬إلّ ِ‬ ‫عمّا يَ ِ‬ ‫س ْبحَانَ الِّ َ‬ ‫عبَادِنَا ا ْلمُخْلَصِينَ} [يوسف‪ ،]24 :‬وقال‪ُ { :‬‬ ‫عنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِ‬ ‫{ َكذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َ‬
‫ن آ َمنُوا وَعَلَى َرّبهِ ْم َيتَوَكّلُونَ‪ِ .‬إّنمَا سُلْطَانُهُ عَلَى‬ ‫ا ْلمُخَْلصِينَ} [الصافات‪ ،]160 ،159 :‬وقال‪ِ{ :‬إنّهُ َليْسَ لَهُ سُ ْلطَانٌ عَلَى اّلذِي َ‬
‫عبَادَنَا‬ ‫ش ِركُونَ} [ النحل‪ ،]100 ،99 :‬وبها نعت كل من اصطفي من خلقه‪ ،‬كقوله‪{ :‬وَا ْذكُرْ ِ‬ ‫اّلذِينَ َيتَوَلّ ْونَهُ وَاّلذِينَ ُه ْم بِهِ مُ ْ‬
‫صطَ َفيْنَ الَْ ْخيَارِ} [ص‪:‬‬ ‫عنْ َدنَا َلمِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫صنَاهُ ْم بِخَالِصَ ٍة ِذكْرَى الدّارِ‪ .‬وَِإّنهُمْ ِ‬‫لْبْصَارِ‪ِ .‬إنّا أَخَْل ْ‬ ‫لْيْدِي وَا َ‬ ‫إبْرَاهِيمَ وَِإسْحَاقَ َو َيعْقُوبَ أُوْلِي ا َ‬
‫‪45‬ـ ‪ ،]47‬وقوله‪{ :‬وَا ْذكُرْ َعبْ َدنَا دَاوُودَ ذَا ا َلْ ْيدِ ِإنّهُ أَوّابٌ} [ص‪ ،]17 :‬وقال عن سليمان‪ِ { :‬نعْمَ ا ْل َعبْدُ ِإنّهُ أَوّابٌ} [ص‪:‬‬
‫‪ ،]30‬وعن أيوب‪ِ { :‬نعْمَ ا ْل َع ْبدُ} [ص‪ ،]44 :‬وقال‪{ :‬وَا ْذكُرْ َع ْبدَنَا َأيّوبَ ِإذْ نَادَى َربّهُ} [ص‪ ،]41 :‬وقال عن نوح عليه‬
‫حرَامِ‬ ‫جدِ الْ َ‬
‫سرَى ِب َعبْدِهِ َليْلً مِنْ ا ْل َمسْ ِ‬ ‫سبْحَانَ اّلذِي أَ ْ‬ ‫شكُورًا} [السراء‪ ،]3 :‬وقال‪ُ { :‬‬ ‫ع ْبدًا َ‬
‫حمَ ْلنَا مَ َع نُوحٍ ِإنّ ُه كَانَ َ‬ ‫السلم‪{ :‬ذُ ّريّةَ مَنْ َ‬
‫ب ِممّا نَزّ ْلنَا‬‫ن كُنتُ ْم فِي َريْ ٍ‬ ‫لّ يَدْعُوهُ} [الجن‪ ،]19 :‬وقال‪{ :‬وَإِ ْ‬ ‫لْقْصَى} [السراء‪ ،]1 :‬وقال {وََأنّهُ َلمّا قَامَ َ‬
‫ع ْبدُ ا ِ‬ ‫جدِ ا َ‬ ‫إِلَى ا ْلمَسْ ِ‬
‫ب ِبهَا ِعبَادُ الِّ} [النسان‪:‬‬ ‫ع ْينًا يَشْ َر ُ‬‫عبْدِ ِه مَا َأوْحَى} [النجم‪ ،]10 :‬وقال‪َ { :‬‬ ‫ع ْبدِنَا} [البقرة‪ ،]23 :‬وقال‪{ :‬فَأَ ْوحَى إِلَى َ‬ ‫عَلَى َ‬
‫‪ ،]6‬وقال‪{ :‬وَ ِعبَادُ الرّ ْحمَانِ اّلذِي َن يَمْشُونَ عَلَى الَْرْضِ َه ْونًا} [الفرقان‪ ،]63 :‬ومثل هذا كثير متعدد في القرآن ‪.‬‬

‫َفصْــل‬
‫إذا تبين ذلك‪ ،‬فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلً عظيمًا‪ ،‬وهو تفاضلهم في حقيقة اليمان‪ ،‬وهم ينقسمون فيه‪،‬‬
‫إلى عام‪ ،‬وخاص ؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ؛ ولهذا كان الشرك في هذه المة أخفى من‬
‫دبيب النمل‪ .‬وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪َ ( :‬تعِسَ عبد الدرهم‪ ،‬تعس عبد الدينار‪ ،‬تعس عبد‬
‫القطيفة‪ ،‬تعس عبد الخميصة‪ ،‬تعس وانتكس‪ ،‬وإذا شيك فل انتقش‪ ،‬إن أعطى رضي‪ ،‬وإن منع سخط)‪.‬‬

‫فسماه النبي صلى ال عليه وسلم عبد الدرهم‪ ،‬وعبد الدينار‪ ،‬وعبد القطيفة‪ ،‬وعبد الخميصة‪ .‬وذكر ما فيه دعاء وخبر‪،‬‬
‫وهو قوله‪" :‬تعس وانتكس‪ ،‬وإذا شيك فل انتقش"‪ ،‬والنقش‪ :‬إخراج الشوكة من الرجل‪ ،‬والمنقاش ما يخرج به الشوكة‪،‬‬
‫وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه‪ ،‬ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس‪ ،‬فل نال المطلوب ول خلص من المكروه‪،‬‬
‫وهذه حال من عبد المال‪ ،‬وقد وصف ذلك بأنه (إذا أعطى رضى‪ ،‬وإذا منع سخط)‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و ِمنْهُ ْم مَ ْ‬
‫ن يَ ْلمِ ُزكَ‬
‫ت َفإِنْ أُعْطُوا ِم ْنهَا َرضُوا وَإِنْ َل ْم ُيعْطَوْا ِمنْهَا ِإذَا ُه ْم يَسْخَطُونَ} [التوبة‪ ،]58 :‬فرضاهم لغير الّ وسخطهم لغير‬
‫ص َدقَا ِ‬
‫فِي ال ّ‬
‫الّ‪ ،‬وهكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي‪ ،‬وإن لم يحصل له‬
‫سخط‪ ،‬فهذا عبد ما يهواه من ذلك‪ ،‬وهو رقيق له‪ ،‬إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته‪ ،‬فما استرق‬
‫القلب‪ ،‬واستعبده فهو عبده‪ ،‬ولهذا يقال‪:‬‬

‫العبـد حـر مـا قنـع ** والحر عبد ما طمع‬

‫وقال القائل‪:‬‬

‫أطعت مطامعي فاستعبدتني ** ولو أنى قنعت لكنت حرًا‬

‫ويقال‪ :‬الطمع غل في العنق‪ ،‬قيد في الرجل‪ ،‬فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل‪ .‬ويروي عن عمر بن‬
‫الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ أنه قال‪ :‬الطمع فقر‪ ،‬واليأس غني‪ ،‬وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه‪ .‬وهذا أمر‬
‫يجده النسان من نفسه‪ ،‬فإن المر الذي ييأس منه ل يطلبه‪ ،‬ول يطمع به‪ ،‬ول يبقى قلبه فقيرًا إليه‪ ،‬ول إلى من يفعله‪،‬‬
‫وأما إذا طمع في أمر من المور‪ ،‬ورجاه تعلق قلبه به‪ ،‬فصار فقيرًا إلى حصوله‪ ،‬وإلى من يظن أنه سبب في‬
‫عُبدُوهُ‬ ‫حصوله‪ ،‬وهذا في المال والجاه‪ ،‬والصور وغير ذلك‪ .‬قال الخليل صلى ال عليه وسلم‪{ :‬فَا ْب َتغُوا ِ‬
‫ع ْندَ الِّ الرّزْقَ وَا ْ‬
‫وَا ْشكُرُوا لَهُ إَِليْ ِه تُرْ َجعُونَ}[العنكبوت ‪.]17‬‬

‫‪/‬فالعبد لبد له من رزق‪ ،‬وهو محتاج إلى ذلك‪ ،‬فإذا طلب رزقه من الّ صار عبدًا لّ‪ ،‬فقيرًا إليه‪ ،‬وإن طلبه من‬
‫مخلوق صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه‪.‬‬

‫ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الصل‪ ،‬وإنما أبيحت للضرورة‪ .‬وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح‬
‫والسنن والمسانيد‪ .‬كقوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬ل تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعَة‬
‫لحم)‪ ،‬وقوله‪( :‬من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خُدوشًا أو خُموشًا‪ ،‬أو كدوحًا في وجهه)‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫(ل تحل المسألة إل لذي غرم مفظع‪ ،‬أو دم موجع‪ ،‬أو فقر مدقع)‪ ،‬هذا المعنى في الصحيح‪ .‬وفيه أيضًا‪( :‬لن يأخذ‬
‫أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه‪ ،‬أو منعوه)‪ ،‬وقال‪( :‬ما أتاك من هذا المال وأنت غير‬
‫سائل‪ ،‬ول مشرف فخذه‪ ،‬وما ل فلتتبعه نفسك) فكره أخـذه من سؤال اللسان واستشراف القلب‪ ،‬وقال في الحديث‬
‫الصحيح‪( :‬من يستغن يغنه الّ‪ ،‬ومن يستعفف يعفه الّ‪ ،‬ومن يتصبر يصبره الّ‪ ،‬وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع‬
‫من الصبر) وأوصى خواص أصحابه أل يسألوا الناس شيئًا وفي المسند‪ :‬إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده‪ ،‬فل‬
‫يقول لحد ناولني إياه‪ ،‬ويقول‪ :‬إن خليلي أمرني أل أسأل الناس شيئًا‪ .‬وفي صحيح مسلم وغيره‪ ،‬عن عوف ابن مالك‪:‬‬
‫أن ‪/‬النبي صلى ال عليه وسلم بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية‪( :‬أل تسألوا الناس شيئًا)‪ ،‬فكان بعض أولئك‬
‫النفر يسقط السوط من يد أحدهم‪ ،‬ول يقول لحد‪ :‬ناولني إياه‪.‬‬

‫وقد دلت النصوص على المر بمسألة الخالق‪ ،‬والنهي عن مسألة المخلوق‪ ،‬في غير موضع‪ .‬كقوله تعالى‪{ :‬فَِإذَا‬
‫ك فَارْغَب} [الشرح‪ ،]8 ،7 :‬وقول النبي صلى ال عليه وسلم لبن عباس‪( :‬إذا سألت فاسأل‬ ‫ت فَانصَبْ ‪َ .‬وإِلَى َرّب َ‬
‫فَرَغْ َ‬
‫الّ‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن بالّ)‪ ،‬ومنه قول الخليل‪{ :‬فَابْ َتغُوا ِع ْندَ الِّ الرّ ْزقَ} [العنكبوت‪ ،]17 :‬ولم يقل‪ :‬فابتغوا الرزق‬
‫عند الّ؛ لن تقديم الظرف يشعر بالختصاص والحصر‪ ،‬كأنه قال‪ :‬ل تبتغوا الرزق إل عند الّ‪ .‬وقد قال تعالى‪{ :‬‬
‫لّ مِنْ َفضْلِهِ} [النساء‪ ،]32 :‬والنسان لبد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه‪ ،‬ودفع ما يضره‪،‬‬ ‫سأَلُوا ا َ‬
‫وَا ْ‬
‫وكل المرين شرع له أن يكون دعاؤه لّ‪ ،‬فله أن يسأل الّ‪ ،‬وإليه يشتكي‪ ،‬كما قال يعقوب ـ عليه السلم ـ‪{ :‬قَالَ ِإّنمَا‬
‫أَ ْشكُو َبثّي وَ ُح ْزنِي إِلَى الِّ} [يوسف‪.]86 :‬‬

‫والّ ـ تعالى ـ ذكر في القرآن الهجر الجميل‪ ،‬والصفح الجميل‪ ،‬والصبر الجميل‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إن الهجر الجميل‪ ،‬هو هجر بل أذى‪ .‬والصفح الجميل صفح بل معاتبة‪ .‬والصبر الجميل‪ ،‬صبر بغير شكوى‬
‫إلى المخلوق؛ ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوسًا كان يكره أنين ‪ /‬المريض‪ ،‬ويقول‪ :‬إنه شكوى فما‬
‫أنّ أحمد حتى مات ‪.‬‬

‫جمِيلٌ} [يوسف‪ ،]83 :‬وقال‪{ :‬قَالَ ِإّنمَا‬ ‫وأما الشكوى إلى الخالق‪ ،‬فل تنافى الصبر الجميل‪ ،‬فإن يعقوب قال‪{ :‬فَ َ‬
‫صبْرٌ َ‬
‫أَ ْشكُو َبثّي وَ ُح ْزنِي إِلَى الّ}‪ ،‬وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ يقرأ في الفجر بسورة يونس‪ ،‬و يوسف‪ ،‬والنحل‪،‬‬
‫فمر بهذه الية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف‪ ،‬ومن دعاء موسى‪( :‬اللّهم لك الحمد‪ ،‬وإليك‬
‫المشتكى‪ ،‬وأنت المستعان‪ ،‬وبك المستغاث‪ ،‬وعليك التكلن‪ ،‬ول حول ول قوة إل بك)‪ .‬وفي الدعاء الذي دعا به النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ؛ لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا‪( :‬اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي‪ ،‬وهواني على‬
‫الناس‪ ،‬أنت رب المستضعفين وأنت ربي‪ .‬اللّهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني‪ ،‬أم إلى عدو ملكته أمري‪ ،‬إن لم‬
‫يكن بك غضب على فل أبالي‪ ،‬غير أن عافيتك أوسع لي‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات‪ ،‬وصلح عليه‬
‫أمر الدنيا والخرة‪ ،‬أن ينزل بي سخطك‪ ،‬أو يحل على غضبك‪ ،‬لك العتبى حتى ترضى‪ ،‬فل حول ول قوة إل بك ـ‬
‫وفي بعض الروايات ـ ول حول ول قوة إل بك)‪.‬‬

‫وكلما قوى طمع العبد في فضل الّ ورحمته‪ ،‬ورجائه لقضاء حاجته‪ ،‬ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما‬
‫سواه‪ ،‬فكما أن طمعه في ‪ /‬المخلوق يوجب عبوديته له‪ ،‬فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه‪ .‬كما قيل‪ :‬استغن عمن شئت‬
‫تكن نظيره‪ ،‬وأفضل على من شئت تكن أميره‪ ،‬واحتج إلى من شئت تكن أسيره‪ .‬فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له‬
‫يوجب عبوديته له‪ ،‬وإعراض قلبه عن الطلب من غير الّ‪ ،‬والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لّ‪ ،‬لسيما‬
‫من كان يرجو المخلوق ول يرجو الخالق‪ ،‬بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه‪ ،‬وإما‬
‫على أهله وأصدقائه‪ ،‬وإما على أمواله وذخائره‪ ،‬وإما على ساداته وكبرائه‪ ،‬كمالكه وملكه‪ ،‬وشيخه ومخدومه‬
‫عبَادِهِ‬
‫ح ْمدِهِ َوكَفَى بِهِ ِب ُذنُوبِ ِ‬ ‫وغيرهم‪ ،‬ممن هو قد مات أو يموت‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬وتَ َوكّلْ عَلَى ا ْلحَيّ اّلذِي لَ َيمُوتُ َو َ‬
‫سبّحْ بِ َ‬
‫َخبِيرًا} [الفرقان‪.]58 :‬‬

‫وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه‪ ،‬أو يرزقوه‪ ،‬أو أن يهدوه خضع قلبه لهم‪ ،‬وصار فيه من العبودية لهم بقدر‬
‫ذلك‪ ،‬وإن كان في الظاهر أميرًا لهم مدبرًا لهم متصرفًا بهم‪ ،‬فالعاقل ينظر إلى الحقائق ل إلى الظواهر‪ ،‬فالرجل إذا‬
‫تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرًا لها‪ ،‬تحكم فيه وتتصرف بما تريد‪ ،‬وهو في الظاهر سيدها؛ لنه‬
‫زوجها‪ .‬وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها ل سيما إذا درت بفقره إليها‪ ،‬وعشقه لها‪ ،‬وأنه ل يعتاض عنها بغيرها‪،‬‬
‫فإنها حينئذ تحكم فيه بحـكم السيد القاهـر الظـالم في عبده المقهور‪ ،‬الذي ل يستطيع الخلص ‪ /‬منه‪ ،‬بل أعظم‪ ،‬فإن‬
‫أسر القلب أعظم من أسر البدن‪ ،‬واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن‪ ،‬فإن من استعبد بدنه واسترق ل يبالي‪ ،‬إذا‬
‫كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا‪ ،‬بل يمكنه الحتىال في الخلص‪ .‬وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقًا‬
‫مستعبدًا‪ ،‬متيمًا لغير الّ فهذا هو الذل‪ ،‬والسر المحض‪ ،‬والعبودية لما استعبد القلب‪.‬‬

‫وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب‪ ،‬فإن المسلم لو أسره كافر‪ ،‬أو استرقه فاجر بغيرحق لم‬
‫ل وحق مواليه له أجران‪ ،‬ولو‬ ‫يضره ذلك إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات‪ ،‬ومن استعبد بحق‪ ،‬إذا أدى حق ا ّ‬
‫أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن باليمان‪ ،‬لم يضره ذلك‪ ،‬وأما من استعبد قلبه‪ ،‬فصار عبدًا لغير الّ‪،‬‬
‫فهذا يضره ذلك‪ ،‬ولو كان في الظاهر ملك الناس‪.‬‬

‫فالحرية حرية القلب‪ ،‬والعبودية عبودية القلب‪ ،‬كما أن الغنى غنى النفس‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ليس الغنى‬
‫عن كثرة العرض‪ ،‬وإنما الغنى غنى النفس)‪ ،‬وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة‪ ،‬فأما من استعبد قلبه‬
‫صورة محرمة‪ ،‬امرأة أو صبي‪ ،‬فهذا هو العذاب الذي ل يدان فيه‪ .‬وهؤلء من أعظم الناس عذابًا وأقلهم ثوابًا‪ ،‬فإن‬
‫العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلقًا بها‪ ،‬مستعبدًا لها اجتمع له من ‪ /‬أنواع الشر والفساد‪ ،‬ما ل يحصيه إل رب العباد‪،‬‬
‫ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى‪ ،‬فدوام تعلق القلب بها بل فعل الفاحشة أشد ضررًا عليه‪ ،‬ممن يفعل ذنبًا ثم يتوب‬
‫منه ويزول أثره من قلبه‪ ،‬وهؤلء يشبهون بالسكارى والمجانين‪ .‬كما قيل‪:‬‬

‫سكران سكر هوى وسكر مدامـــة ** ومتى إفاقة من بـــه سكران‬

‫وقيل‪:‬‬

‫قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانـــــين‬

‫العشق ل يستفيق الدهر صاحبــه ** وإنما يصرع المجنون في الحـين‬

‫ومن أعظم أسباب هذا البلء‪ :‬إعراض القلب عن الّ‪ ،‬فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الّ‪ ،‬والخلص له لم يكن عنده‬
‫شيء قط أحلى من ذلك‪ ،‬ول ألذ ول أطيب‪ ،‬والنسان ل يترك محبوبًا إل بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه‪ ،‬أو خوفًا‬
‫من مكروه‪ ،‬فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح‪ ،‬أو بالخوف من الضرر‪.‬‬

‫‪/‬قال ـ تعالى ـ في حق يوسف‪َ { :‬كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َعنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِعبَادِنَا ا ْلمُخْلَصِينَ} [يوسف‪ .]42 :‬فا ّ‬
‫ل يصرف‬
‫عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها‪ ،‬ويصرف عنه الفحشاء بإخلصه لّ‪.‬‬

‫ولهذا يكون قبل أن يذوق حلوة العبودية لّ والخلص له‪ ،‬تغلبه نفسه على اتباع هواها‪ ،‬فإذا ذاق طعـم الخـلص‬
‫وقوى في قلبه انقهر له هـواه بل علج‪ .‬قال تعالى‪{ :‬إِنّ الصّلَ َة َت ْنهَى عَنْ الْ َفحْشَاءِ وَا ْل ُم ْنكَرِ وََل ِذكْرُ الِّ َأ ْكبَرُ} [العنكبوت‪:‬‬
‫‪ ،]45‬فإن الصلة فيها دفع للمكروه‪ ،‬وهو الفحشاء والمنكر‪ ،‬وفيها تحصيل المحبوب‪ ،‬وهو ذكر الّ‪ ،‬وحصول هذا‬
‫المحبوب أكبر من دفع المكروه‪ ،‬فإن ذكر الّ عبادة لّ‪ ،‬وعبادة القلب لّ مقصودة لذاتها‪ .‬وأما اندفاع الشر عنه‪ ،‬فهو‬
‫مقصود لغيره على سبيل التبع‪.‬‬

‫والقلب خلق يحب الحق‪ ،‬ويريده‪ ،‬ويطلبه‪ .‬فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك‪ ،‬فإنه يفسد القلب‪ ،‬كما يفسد‬
‫ب مَن دَسّاهَا} [الشمس‪ ،]10 ،9 :‬وقال‬ ‫الزرع‪ ،‬بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالى‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َ‬
‫ح مَن َزكّاهَا‪َ .‬و َقدْ خَا َ‬
‫ح مَنْ تَ َزكّى ‪َ .‬وذَكَرَ اسْمَ َربّهِ َفصَلّى} [العلى‪ ،]15 ،14 :‬وقال‪{ :‬قُلْ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َيغُضّوا مِنْ َأبْصَارِهِمْ َويَحْفَظُوا‬ ‫تعالى‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َ‬
‫فُرُو َجهُ ْم ذَِلكَ َأ ْزكَى َلهُمْ} [النور‪ ،]30 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََل ْولَ َفضْلُ الِّ عََل ْيكُمْ َورَ ْح َمتُهُ مَا َزكَا ِم ْنكُ ْم مِنْ أَ َحدٍ َأبَدًا} [النور‪]21 :‬‬
‫‪ ،‬فجعل ـ سبحانه ـ غض البصر‪ ،‬وحفظ الفرج هو أزكى ‪ /‬للنفس‪ ،‬وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس‪ ،‬وزكاة‬
‫النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش‪ ،‬والظلم‪ ،‬والشرك‪ ،‬والكذب‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫وكذلك طالب الرئاسة‪ ،‬والعلو في الرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها‪ ،‬ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم‪،‬‬
‫فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الموال والوليات ويعفو عنهم ليطيعوه‪ ،‬ويعينوه‪ ،‬فهو في الظاهر رئيس‬
‫مطاع‪ ،‬وفي الحقيقة عبد مطيع لهم‪ ،‬والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للخر‪ ،‬وكلهما تارك لحقيقة عبادة الّ‪ ،‬وإذا كان‬
‫تعاونهما على العلو في الرض بغير الحق‪ ،‬كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق‪ ،‬فكل واحد من‬
‫الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الخر‪.‬‬

‫وهكذا ـ أيضًا ـ طالب المال ؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه‪ ،‬وهذه المور نوعان‪:‬‬

‫منها‪ :‬ما يحتاج العبد إليه‪ ،‬كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فهذا يطلبه من الّ ويرغب‬
‫إليه فيه‪ ،‬فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه‪ ،‬وبساطه الذي يجلس عليه‪ ،‬بل بمنزلة‬
‫الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده‪ ،‬فيكون هلوعًا ‪ /‬إذا مسه الشر جزوعًا‪ ،‬وإذا مسه الخير منوعًا‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما ل يحتاج العبد إليه‪ ،‬فهذه ل ينبغي له أن يعلق قلبه بها‪ ،‬فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدًا لها‪ ،‬وربما صار‬
‫معتمدًا على غير الّ‪ ،‬فل يبقى معه حقيقة العبادة لّ‪ ،‬ول حقيقة التوكل عليه‪ ،‬بل فيه شعبة من العبادة لغير الّ‪ ،‬وشعبة‬
‫من التوكل على غير الّ‪ ،‬وهذا من أحق الناس بقوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬تعس عبد الدرهم‪ ،‬تعس عبد الدينار‪ ،‬تعس‬
‫عبد القطيفة‪ ،‬تعس عبد الخميصة)‪ ،‬وهذا هو عبد هذه المور‪ ،‬فلو طلبها من الّ‪ ،‬فإن الّ إذا أعطاه إياها رضي‪ ،‬وإذا‬
‫منعه إياها سخط‪ ،‬وإنما عبد الّ من يرضيه ما يرضي الّ‪ ،‬ويسخطه ما يسخط الّ‪ ،‬ويحب ما أحبه الّ ورسوله‪،‬‬
‫ويبغض ما أبغضه الّ ورسوله‪ ،‬ويوالي أولياء الّ‪ ،‬ويعادي أعداء الّ ـ تعالى ـ وهذا هو الذي استكمل اليمان‪ .‬كما‬
‫في الحديث‪( :‬من أحب لّ‪ ،‬وأبغض لّ‪ ،‬وأعطى لّّ‪ ،‬ومنع لّ فقد استكمل اليمان) وقال‪( :‬أوثق عُرَى اليمان‪ :‬الحب‬
‫في الّ‪ ،‬والبغض في الّ)‪.‬‬

‫وفي الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم‪( :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان‪ :‬من كان الّ ورسوله أحب إليه مما‬
‫سواهما‪ ،‬ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ‪ ،‬ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه‪ ،‬كما يكره أن‬
‫لل‬ ‫يلقى في النار) فهذا وافق ربه فيما يحبه وما ‪ /‬يكرهه فكان الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأحب المخلوق ّ‬
‫لغرض آخر‪ ،‬فكان هذا من تمام حبه لّ‪ ،‬فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب‪ ،‬فإذا أحب أنبياء الّ‪،‬‬
‫لّ بِقَ ْومٍ‬ ‫وأولياء الّ؛ لجل قيامهم بمحبوبات الحق ل لشيء آخر‪ ،‬فقد أحبهم لّ ل لغيره‪ ،‬وقد قال تعالى‪{ :‬فَسَوْ َ‬
‫ف َي ْأتِي ا ُ‬
‫يُ ِحّبهُمْ َويُ ِحبّونَهُ َأذِلّةٍ عَلَى ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ} [المائدة‪. ]54 :‬‬

‫لّ فَاّتبِعُونِي يُ ْح ِب ْبكُمْ الُّ} [آل عمران‪ ،]31 :‬فإن الرسول يأمر بما يحب الّ‪ ،‬وينهى‬
‫حبّونَ ا َ‬ ‫ولهذا قال تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن ُكنْتُ ْم تُ ِ‬
‫عما يبغضه الّ‪ ،‬ويفعل ما يحبه الّ‪ ،‬ويخبر بما يحب الّ التصديق به‪ ،‬فمن كان محبًا لّ لزم أن يتبع الرسول‪،‬‬
‫فيصدقه فيما أخبر‪ ،‬ويطيعه فيما أمر‪ ،‬ويتأسى به فيما فعل‪ ،‬ومن فعل هذا‪ ،‬فقد فعل ما يحبه الّ‪ .‬فيحبه الّ‪ ،‬فجعل الّ‬
‫لهل محبته علمتين‪ :‬اتباع الرسول‪ ،‬والجهاد في سبيله‪.‬‬

‫وذلك؛ لن الجهاد حقيقته الجتهاد في حصول ما يحبه الّ من اليمان‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬ومن دفع ما يبغضه الّ من‬
‫عشِي َر ُتكُمْ} إلى قوله‪َ { :‬‬
‫حتّى‬ ‫جكُمْ وَ َ‬
‫خوَا ُنكُمْ وَأَزْوَا ُ‬
‫ن آبَا ُؤكُمْ َوَأبْنَا ُؤكُمْ وَإِ ْ‬ ‫الكفر والفسوق والعصيان‪ .‬وقد قال تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن كَا َ‬
‫لّ بَِأمْ ِرهِ} [التوبة‪ ،]24 :‬فتوعد من كان أهله وماله‪ ،‬أحب إليه من الّ ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد‪ .‬بل‬ ‫يَ ْأتِيَ ا ُ‬
‫قد ثبت عنه في الصحيح‪ ،‬أنه قال‪( :‬والذي نفسي بيده ل يؤمن ‪ /‬أحدكم حتى أكون أحب إليه‪ ،‬من ولده‪ ،‬ووالده‪،‬‬
‫ل لنت أحب إلى من كل شيء إل‬ ‫والناس أجمعين)‪ ،‬وفي الصحيح أن عمر ابن الخطاب قال له‪ :‬يا رسول الّ!‪ ،‬وا ّ‬
‫من نفسي‪ ،‬فقال‪( :‬ل يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك)‪ .‬فقال‪ :‬فوالّ‪ ،‬لنت أحب إلى من نفسي‪ ،‬فقال‪( :‬الن يا‬
‫عمر)‪.‬‬

‫فحقيقة المحبة ل تتم إل بموالة المحبوب‪ ،‬وهو موافقته في حب ما يحب‪ ،‬وبغض ما يبغض‪ ،‬والّ يحب اليمان‬
‫والتقوى‪ ،‬ويبغض الكفر والفسوق والعصيان‪ .‬ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب‪ ،‬فكلما قويت المحبة في القلب طلب‬
‫القلب فعل المحبوبات‪ ،‬فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات‪ .‬فإذا كان العبد قادرًا‬
‫عليها حصلها‪ .‬وإن كان عاجزًا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬من دعا إلى هدى كان له من الجر مثل أجور من اتبعه‪ ،‬من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا‪ ،‬ومن دعا إلى‬
‫ضللة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا)‪ .‬وقال‪( :‬إن بالمدينة لرجالً ما‬
‫سرتم مسيرًا ول قطعتم واديًا‪ ،‬إل كانوا معكم)‪.‬قالوا‪ :‬وهم بالمدينة‪.‬قال‪( :‬وهم بالمدينة‪ ،‬حبسهم العذر)‪.‬‬

‫والجهاد‪ ،‬هو بذل الوسع‪ ،‬وهو القدرة في حصول محبوب الحق‪ / ،‬ودفع ما يكرهه الحق‪ ،‬فإذا ترك العبد ما يقدر عليه‬
‫من الجهاد‪ ،‬كان دليلً على ضعف محبة الّ ورسوله في قلبه‪ ،‬ومعلوم أن المحبوبات ل تنال غالبًا إل باحتمال‬
‫المكروهات‪ ،‬سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة‪ ،‬فالمحبون للمال والرئاسة والصور‪ ،‬ل ينالون مطالبهم إل بضرر‬
‫يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والخرة‪ ،‬فالمحب لّ ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من‬
‫ل مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم لّ إذا كان ما يسلكه أولئك هو‬ ‫المحبين لغير ا ّ‬
‫الطريق الذي يشير به العقل‪.‬‬

‫ن آ َمنُوا‬
‫حبّ الِّ وَاّلذِي َ‬
‫حبّونَهُ ْم كَ ُ‬
‫خ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِ‬
‫ن يَتّ ِ‬ ‫ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبًا لّ‪ .‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬
‫س مَ ْ‬
‫أَ َشدّ ُحبّا لِِّ}[البقرة‪ ،]165 :‬نعم! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقًا ل يحصل بها المطلوب‪ ،‬فمثل‬
‫هذه الطريق ل تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة‪ ،‬فكيف إذا كانت المحبة فاسدة‪ ،‬والطريق غير موصل! كما‬
‫يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضررًا‪ ،‬ول تحصل لهم مطلوبًا‪ ،‬وإنما‬
‫المقصود الطرق التي يسلكها العقل؛ لحصول مطلوبه‪.‬‬
‫وإذا تبين هذا‪ ،‬فكلما ازداد القلب حبًا لّ إزداد له عبودية‪ ،‬وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه‪،‬‬
‫والقلب فقير بالذات ‪ /‬إلى الّ من وجهين‪ :‬من جهة العبادة‪ ،‬وهي العلة الغائية‪ ،‬ومن جهة الستعانة والتوكل‪ ،‬وهي‬
‫العلة الفاعلىة‪ ،‬فالقلب ل يصلح‪ ،‬ول يفلح‪ ،‬ول يلتذ‪ ،‬وليسر‪ ،‬ول يطيب‪ ،‬وليسكن‪ ،‬ول يطمئن‪ ،‬إل بعبادة ربه‪،‬‬
‫وحبه والنابة إليه‪ .‬ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن‪ ،‬ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه‪ ،‬ومن‬
‫حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه‪ ،‬وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة‪.‬‬

‫وهذا ل يحصل له إل بإعانة الّ له‪ ،‬ليقدر على تحصيل ذلك له إل الّ‪ ،‬فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقة {ِإيّا َ‬
‫ك َن ْعبُدُ وَِإيّاكَ‬
‫نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة‪ ،]5 :‬فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده‪ ،‬ولم يحصل له عبادته لّ بحيث‬
‫يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الول‪ ،‬وكل ما سواه إنما يحبه لجله‪ ،‬ل يحب شيئًا‬
‫لذاته إل الّ‪ ،‬فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة‪ ،‬ل إله إل الّ‪ ،‬ول حقق التوحيد والعبودية والمحبة‪ ،‬وكان‬
‫فيه من النقص والعيب‪ ،‬بل من اللم والحسرة والعذاب بحسب ذلك‪.‬‬

‫ل متوكلً عليه مفتقرًا إليه في حصوله لم يحصل له‪ ،‬فإنه ما شاء الّ‬
‫ولو سعى في هذا المطلوب‪ ،‬ولم يكن مستعينًا با ّ‬
‫كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬فهو مفتقر إلى الّ من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود‪ ،‬ومن ‪ /‬حيث هو‬
‫المسؤول المستعان به المتوكل عليه‪ ،‬فهو إلهه ل إله له غيره‪ ،‬وهو ربه ل رب له سواه‪.‬‬

‫ول تتم عبوديته لّ إل بهذين‪ ،‬فمتى كان يحب غير الّ‪ ،‬لذاته‪ ،‬أو يلتفت إلى غير الّ أنه يعينه كان عبدًا لما أحبه‪،‬‬
‫وعبدًا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه‪ .‬وإذا لم يحب لذاته إل الّ‪ ،‬وكلما أحب سواه فإنما أحبه له‪ ،‬ولم يرج قط‬
‫شيئًا إل الّّ‪ ،‬وإذا فعل ما فعل من السباب‪ ،‬أو حصل ما حصل منها كان مشاهدًا أن الّ هو الذي خلقها وقدرها‪ ،‬وأن‬
‫كل ما في السموات والرض فالّ ربه ومليكه وخالقه‪ ،‬وهو مفتقر إليه كان قد حصل له من تمام عبوديته لّ بحسب‬
‫ما قسم له من ذلك‪.‬‬

‫والناس في هذا على درجات متفاوتة ل يحصى طرفيها إل الّ‪.‬‬

‫فأكمل الخلق‪ ،‬وأفضلهم‪ ،‬وأعلهم‪ ،‬وأقربهم إلى الّ‪ ،‬وأقواهم‪ ،‬وأهداهم‪ ،‬أتمهم عبودية لّ من هذا الوجه‪.‬‬

‫وهذا هو حقيقة دين السلم الذي أرسل به رسله‪ ،‬وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد لّ ل لغيـره‪ ،‬فالمستسلم له‬
‫ولغيره مشرك‪ ،‬والممتنع عن الستسلم لـه مستكبر‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬أن الجنة‬
‫ليدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر‪ ،‬كما أن ‪ /‬النار ل يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان)‪ ،‬فجعل الكبر‬
‫مقابلً لليمان‪ ،‬فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية‪ ،‬كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬يقول‬
‫الّ العظمة إزاري‪ ،‬والكبرياء ردائي‪ ،‬فمن نازعني واحدًا منهما عذبته) فالعظمة‪ ،‬والكبرياء من خصائص الربوبية‪،‬‬
‫والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء‪ ،‬كما جعل العظمة بمنزلة الزار‪.‬‬

‫ولهذا كان شعار الصلوات والذان والعياد‪ ،‬هو التكبير‪ ،‬وكان مستحبًا في المكنة العالية‪ ،‬كالصفا والمروة‪ ،‬وإذا‬
‫عل النسان شرفًا أو ركب دابة ونحو ذلك‪ ،‬وبه يطفأ الحريق وإن عظم‪ ،‬وعند الذان يهرب الشيطان‪ .‬قال تعالى‪{ :‬‬
‫َوقَالَ َرّبكُ ْم ادْعُونِي أَ ْستَ ِجبْ َلكُمْ إِنّ اّلذِينَ يَ ْس َت ْكبِرُونَ عَنْ ِعبَادَتِي َسيَدْخُلُونَ َج َهنّ َم دَاخِرِينَ} [غافر‪.]60 :‬‬

‫وكل من استكبر عن عبادة الّ لبد أن يعبد غيره‪ ،‬فإن النسان حساس يتحرك بالرادة‪ .‬وقد ثبت في الصحيح عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬أصدق السماء حارث وهمام) فالحارث الكاسب الفاعل‪ ،‬والهمام فعال من الهم‪،‬‬
‫والهم أول الرادة‪ ،‬فالنسان له إرادة دائمًا‪ ،‬وكل إرادة‪ ،‬فلبد لها من مراد تنتهي إليه‪ ،‬فلبد لكل عبـد من مـراد‬
‫ل معبوده ومنتهى حبه‪ ،‬وإرادته بل استكبر عن ذلك فلبد أن يكون له‬ ‫محـبوب هو منتهى حبه وإرادته‪ ،‬فمن لم يكن ا ّ‬
‫مراد محبوب ‪ /‬يستعبده غير الّ‪ ،‬فيكون عبدًا لذلك المراد المحبوب‪ ،‬إما المال‪ ،‬وإما الجاه‪ ،‬وإما الصور‪ ،‬وإما ما‬
‫يتخذه إلهًا من دون الّ‪ ،‬كالشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والكواكب‪ ،‬والوثان‪ ،‬وقبور النبياء‪ ،‬والصالحين‪ ،‬أو من الملئكة‪،‬‬
‫والنبياء الذين يتخذهم أربابًا‪ ،‬أو غير ذلك مما عبد من دون الّّ‪.‬‬

‫وإذا كان عبدًا لغير الّ يكون مشركًا‪ ،‬وكل مستكبر‪ ،‬فهو مشرك؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارًا عن‬
‫حرٌ‬
‫ن فَقَالُوا سَا ِ‬ ‫عبادة الّ‪ ،‬وكان مشركًا ‪.‬قال تعالى‪{ :‬وََل َقدْ أَرْسَ ْلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَا ٍ‬
‫ن ُمبِينٍ ‪ .‬إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ َوقَارُو َ‬
‫طبَعُ الُّ عَلَى‬ ‫ل يُ ْؤمِنُ ِبيَوْمِ ا ْلحِسَابِ} إلى قوله‪َ { :‬كذَِلكَ يَ ْ‬ ‫ل ُمتَ َكبّ ٍر َ‬
‫ن كُ ّ‬
‫ت بِ َربّي وَ َرّبكُ ْم مِ ْ‬
‫عذْ ُ‬ ‫كَذّابٌ}‪ ،‬إلى قوله‪َ { :‬وقَا َ‬
‫ل مُوسَى ِإنّي ُ‬
‫س َت ْكبَرُوا فِي‬ ‫جبّارٍ} [غافر‪23 :‬ـ ‪ ،]35‬وقال تعالى‪َ { :‬وقَارُونَ َو ِفرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَ َقدْ جَاءَ ُه ْم مُوسَى بِا ْلبَ ّينَا ِ‬
‫ت فَا ْ‬ ‫ب ُم َت َكبّرٍ َ‬‫ل قَلْ ِ‬ ‫كُ ّ‬
‫ضعِفُ طَا ِئفَةً‬ ‫ستَ ْ‬ ‫ش َيعًا يَ ْ‬ ‫جعَلَ أَهَْلهَا ِ‬
‫ل فِي الَْرْضِ َو َ‬ ‫عوْنَ عَ َ‬‫ن فِرْ َ‬‫الَْرْضِ َومَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت‪ ،]39 :‬وقال تعالى‪{ :‬إِ ّ‬
‫ي نِسَاءَهُمْ}إلى قوله‪ِ{ :‬إنّ ُه كَا َن مِنْ ا ْلمُ ْف ِسدِينَ} [القصص‪.]4 :‬‬ ‫حِ‬‫ستَ ْ‬ ‫ِمنْهُ ْم ُي َذبّحُ َأ ْبنَاءَهُمْ َويَ ْ‬

‫ومثل هذا في القرآن كثير‪.‬‬

‫وقد وصف فرعون بالشرك في قوله‪َ { :‬وقَالَ ا ْلمَلَُ مِ ْن قَ ْو ِم فِرْعَوْنَ َأ َتذَ ُر مُوسَى َوقَ ْومَهُ ِلُيفْ ِسدُوا فِي الَْ ْرضِ َويَذَ َركَ وَآِلهَ َتكَ} [‬
‫العراف‪.]127 :‬‬

‫‪/‬بل الستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارًا عن عبادة الّ كان أعظم إشراكا بالّ؛ لنه كلما استكبر‬
‫عن عبادة الّ‪ ،‬ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود‪ ،‬مقصود القلب بالقصد الول‪ ،‬فيكون‬
‫مشركًا بما استعبده من ذلك‪.‬‬

‫ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات إل بأن يكون الّ هو موله الذي ل يعبد إل إياه‪ ،‬ول يستعين إل به‪ ،‬ول‬
‫يتوكل إل عليه‪ ،‬ول يفرح إل بما يحبه ويرضاه‪ ،‬ول يكره إل ما يبغضه الرب ويكرهه‪ ،‬ول يوالي إل من واله الّ‪،‬‬
‫ول يعادي إل من عاداه الّ‪ ،‬ول يحب إل الّ‪ ،‬وليبغض شيئًا إل لّ‪ ،‬ول يعطي إل لّ‪ ،‬ول يمنع إل لّ‪ .‬فكلما قوى‬
‫إخلص دينه لّ كملت عبوديته‪ ،‬واستغناؤه عن المخلوقات‪ ،‬وبكمال عبوديته لّ يبرئه من الكبر والشرك‪.‬‬

‫حبَارَهُمْ َورُ ْهبَا َنهُمْ أَ ْربَابًا‬ ‫والشرك غالب على النصارى‪ ،‬والكبر غالب على اليهود‪ ،‬قال ـ تعالى ـ في النصارى‪{ :‬اتّ َ‬
‫خذُوا أَ ْ‬
‫مِنْ دُونِ الِّ وَا ْلمَسِيحَ ابْ َن مَ ْريَمَ َومَا ُأمِرُوا ِإلّ ِل َي ْعبُدُوا ِإَلهًا وَا ِحدًا لَ إِلَهَ ِإلّ هُوَ ُسبْحَانَهُ َعمّا يُ ْش ِركُونَ} [التوبة‪ ،]31 :‬وقال في‬
‫س َت ْكبَ ْرتُ ْم فَفَرِيقًا َكذّ ْبتُمْ َوفَرِيقًا تَ ْقتُلُونَ} [البقرة‪ ،]87 :‬وقال تعالى‪{ :‬‬ ‫س ُكمْ ا ْ‬ ‫ل َتهْوَى أَنفُ ُ‬ ‫اليهود‪َ{ :‬أ َفكُّلمَا جَا َءكُمْ َرسُو ٌ‬
‫ل ِبمَا َ‬
‫سبِيلً‬ ‫خذُوهُ َ‬ ‫ل َيتّ ِ‬
‫شدِ َ‬
‫سبِيلَ الرّ ْ‬
‫ن يَرَوْا َ‬
‫ل يُ ْؤ ِمنُوا ِبهَا وَإِ ْ‬
‫ل آيَ ٍة َ‬
‫ن يَرَوْا كُ ّ‬
‫حقّ وَإِ ْ‬
‫ض ِب َغيْرِ الْ َ‬
‫سأَصْ ِرفُ عَنْ آيَاتِي اّلذِينَ َي َت َكبّرُونَ فِي الَْرْ ِ‬ ‫َ‬
‫ي َيتّخِذُوهُ َسبِيلً} [العراف‪.]146 :‬‬ ‫سبِيلَ الغَ ّ‬‫ن يَرَوْا َ‬
‫وَإِ ْ‬

‫ل َيغْفِرُ أَ ْ‬
‫ن‬ ‫لّ َ‬‫ولما كان الكبر مستلزمًا للشرك‪ ،‬والشرك ضد السلم‪ ،‬وهو الذنب الذي ل يغفره الّ‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫ن يُشْ َركَ‬ ‫ل َيغْفِرُ أَ ْ‬ ‫لّ َ‬ ‫لّ َف َقدْ ا ْفتَرَى ِإ ْثمًا عَظِيمًا} [النساء‪ ،]48 :‬وقال‪{ :‬إِنّ ا َ‬ ‫ك بِا ِ‬
‫ن يُشْ ِر ْ‬ ‫ن يَشَاءُ َومَ ْ‬ ‫ن ذَِلكَ ِلمَ ْ‬ ‫ك بِهِ َو َيغْفِ ُر مَا دُو َ‬‫يُشْ َر َ‬
‫ل ًل َبعِيدًا} [النساء‪ ،]116 :‬كان النبياء جميعهم مبعوثين بدين‬ ‫لّ َف َقدْ ضَلّ ضَ َ‬ ‫ك بِا ِ‬ ‫ن يُشْ ِر ْ‬ ‫ن يَشَاءُ َومَ ْ‬ ‫ن ذَِلكَ ِلمَ ْ‬‫بِهِ َويَغْ ِف ُر مَا دُو َ‬
‫جرٍ إِنْ‬‫السلم‪ ،‬فهو الدين الذي ل يقبل الّ غيره‪ ،‬ل من الولين ول من الخرين‪ .‬قال نوح‪َ { :‬فإِنْ تَوَّل ْيتُ ْم َفمَا سَأَ ْل ُتكُ ْم مِنْ أَ ْ‬
‫ن مِلّةِ ِإبْرَاهِيمَ ِإلّ مَنْ‬ ‫ن يَرْغَبُ عَ ْ‬ ‫ن مِنْ ا ْلمُسِْلمِينَ} [يونس‪ ،]72 :‬وقال في حق إبراهيم‪َ { :‬ومَ ْ‬ ‫جرِي ِإلّ عَلَى الِّ وَُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُو َ‬ ‫أَ ْ‬
‫خرَةِ َلمِنْ الصّاِلحِينَ ‪ِ .‬إ ْذ قَالَ لَهُ َربّهُ أَسِْل ْم قَالَ أَسَْلمْتُ ِلرَبّ ا ْلعَاَلمِينَ} إلى قوله‪{ :‬فَلَ‬ ‫ط َف ْينَا ُه فِي ال ّد ْنيَا وَِإنّ ُه فِي الْ ِ‬ ‫سفِ َه نَفْسَهُ وََل َقدْ اصْ َ‬‫َ‬
‫َتمُوتُنّ ِإلّ وََأ ْنتُ ْم مُسِْلمُونَ} [البقرة‪ ،]130-132 :‬وقال يوسف‪{ :‬تَ َو ّفنِي ُمسِْلمًا وَأَ ْلحِ ْقنِي بِالصّالِحِينَ} [يوسف‪،]101 :‬‬
‫لّ تَ َوكّ ْلنَا} [يونس‪ ،]85 ،84 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫لّ َفعََليْهِ تَ َوكّلُوا إِنْ ُك ْنتُ ْم مُسِْلمِينَ‪ .‬فَقَالُوا عَلَى ا ِ‬ ‫وقال موسى‪{ :‬يَاقَوْمِ إِ ْ‬
‫ن ُك ْنتُ ْم آ َم ْنتُ ْم بِا ِ‬
‫سَلمُوا لِّلذِينَ هَادُوا} [المائدة‪ ،]44 :‬وقالت بلقيس‪{ :‬رَبّ ِإنّي ظََلمْتُ‬ ‫حكُ ُم ِبهَا ال ّن ِبيّونَ اّلذِينَ أَ ْ‬ ‫{ِإنّا أَنزَ ْلنَا التّوْرَا َة فِيهَا ُهدًى َونُو ٌر يَ ْ‬
‫ن آ ِمنُوا بِي َوبِ َرسُولِي قَالُوا آ َمنّا‬ ‫ت مَعَ سَُل ْيمَانَ لِّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [النمل‪ ،]44 :‬وقال‪{ / :‬وَِإذْ أَ ْو َ‬
‫حيْتُ إِلَى الْحَوَا ِريّينَ أَ ْ‬ ‫نَفْسِي وَأَسَْل ْم ُ‬
‫لْسْلَمِ‬ ‫غيْرَ ا ِ‬ ‫عنْدَ الِّ الِْسْلَمُ}[آل عمران‪ ،]19 :‬وقال‪َ { :‬ومَنْ َي ْبتَغِ َ‬ ‫ش َه ْد بَِأّننَا مُسِْلمُونَ} [المائدة‪ ،]111 :‬وقال‪{ :‬إِنّ الدّينَ ِ‬ ‫وَا ْ‬
‫دِينًا فَلَ ْن يُ ْقبَ َل ِمنْهُ} [آل عمران‪. ]85 :‬‬

‫لّ َيبْغُونَ وَلَهُ َأسْلَ َم مَ ْن فِي ال ّسمَاوَاتِ وَالَْ ْرضِ طَوْعًا َوكَرْهًا} [آل عمران‪ ،]83 :‬فذكر إسلم‬
‫وقال تعالى‪َ{ :‬أ َف َغيْرَ دِينِ ا ِ‬
‫الكائنات طوعًا وكرهًا؛ لن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام‪ ،‬سواء أقر المقر بذلك أو أنكره‪ ،‬وهم مدينون‬
‫مدبرون؛ فهم مسلمون له طوعًا وكرهًا‪ ،‬ليس لحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه‪ ،‬ول حول ول قوة‬
‫إل به‪ ،‬وهو رب العالمين‪ ،‬ومليكهم يصرفهم كيف يشاء‪ ،‬وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم‪ ،‬وكل ما سواه فهو‬
‫مربوب‪ ،‬مصنوع‪ ،‬مفطور‪ ،‬فقير‪ ،‬محتاج‪ ،‬معبد‪ ،‬مقهور‪ ،‬وهو الواحد القهار‪ ،‬الخالق البارئ المصور‪.‬‬

‫وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب‪ ،‬فهو خالق السبب والمقدر له‪ ،‬وهو مفتقر إليه كافتقار هذا‪ ،‬وليس في‬
‫المخلوقات سبب مستقل بفعل ول دفع ضرر‪ ،‬بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه‪ ،‬وإلى ما يدفع عنه‬
‫الضد الذي يعارضه‪ ،‬ويمانعه‪.‬‬
‫وهو ـ سبحانه ـ وحده الغني عن كل ما سواه‪ ،‬ليس له شريك يعاونه ول ضد يناوئه ويعارضه‪ .‬قال تعالى‪{ :‬قُلْ َأفَرََأ ْيتُمْ‬
‫سبِي الُّ عََليْهِ‬‫ح َمتِهِ قُلْ حَ ْ‬‫سكَاتُ َر ْ‬ ‫ن ُممْ ِ‬
‫حمَةٍ َهلْ هُ ّ‬
‫ضرّهِ أَوْ َأرَادَنِي بِ َر ْ‬‫شفَاتُ ُ‬ ‫ن كَا ِ‬
‫ضرّ هَلْ هُ ّ‬‫لّ بِ ُ‬
‫ن دُونِ الِّ إِنْ أَرَا َدنِي ا ُ‬ ‫مَا َتدْعُونَ مِ ْ‬
‫خيْ ٍر َفهُوَ عَلَى كُلّ‬ ‫ك بِ َ‬‫سَ‬ ‫ن َيمْسَ ْ‬
‫شفَ لَهُ ِإلّ هُوَ وَإِ ْ‬
‫ل كَا ِ‬‫لّ بِضُ ّر فَ َ‬
‫سكَ ا ُ‬ ‫َيتَوَكّلُ ا ْلمُتَ َوكّلُونَ} [الزمر‪ ،]38 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن َيمْسَ ْ‬
‫سمَاوَاتِ‬ ‫طرَ ال ّ‬
‫جهِي لِّلذِي فَ َ‬ ‫جهْتُ َو ْ‬ ‫ي ٍء َقدِيرٌ} [النعام‪ ،]17 :‬وقال تعالى عن الخليل‪{ :‬يَاقَ ْومِ ِإنّي بَرِي ٌء ِممّا تُشْ ِركُونَ ‪ِ .‬إنّي وَ ّ‬ ‫شَ ْ‬
‫ن يَشَاءَ َربّي‬ ‫ن بِهِ ِإلّ أَ ْ‬
‫ف مَا تُشْ ِركُو َ‬ ‫حنِيفًا َومَا َأنَا مِنْ ا ْلمُشْ ِركِينَ ‪ .‬وَحَاجّ ُه قَ ْومُ ُه قَالَ َأتُحَاجّونِي فِي الِّ َو َقدْ َهدَانِي َولَ أَخَا ُ‬
‫وَالَْرْضَ َ‬
‫َش ْيئًا} إلى قوله تعالى‪{ :‬اّلذِي َن آ َمنُوا وَلَ ْم يَ ْلبِسُوا إِيمَا َنهُ ْم بِظُ ْلمٍ أُوَْل ِئكَ َلهُمْ ا َلْمْنُ وَهُ ْم ُم ْهتَدُونَ} [النعام‪. ]78-82 :‬‬

‫وفي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي الّ عنه ـ‪ :‬إن هذه الية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم وقالوا‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال‪( :‬إنما هو الشرك‪ ،‬ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‪:‬‬
‫ظلْمٌ عَظِيمٌ}) [لقمان‪.]13 :‬‬
‫{إِنّ الشّ ْركَ لَ ُ‬

‫وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين‪ ،‬حيث بعث وقد طبق الرض دين المشركين‪ ،‬قال الّ تعالى‪{ :‬وَِإ ْذ ا ْبتَلَى‬
‫ت َفَأ َتمّهُ ّن قَالَ ِإنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَامًا قَالَ َومِ ْن ذُ ّريّتِي قَا َل َل َينَالُ َعهْدِي الظّاِلمِينَ} [البقرة‪ ،]124 :‬فبين أن‬
‫ِإبْرَاهِيمَ َربّ ُه ِبكَِلمَا ٍ‬
‫عهده بالمامة ل يتناول الظالم‪ ،‬فلم يأمر الّ ـ سبحانه ـ أن يكون الظالم إمامًا‪ ،‬وأعظم الظلم الشرك‪.‬‬

‫‪/‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ ِإبْرَاهِي َم كَانَ ُأمّ ًة قَا ِنتًا لِّ َحنِيفًا وََل ْم يَكُ ْن مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ} [النحل‪ ،]120 :‬والمة‪ :‬هو معلم الخير الذي يؤتم‬
‫به‪ ،‬كما أن القدوة الذي يقتدى به‪.‬‬

‫ن ا ّتبِ ْع مِلّةَ‬ ‫والّ ـ تعالى ـ جعل في ذريته النبوة والكتاب‪ ،‬وإنما بعث النبياء بعده بملته قال تعالى‪{ :‬ثُمّ أَوْ َ‬
‫ح ْينَا ِإَل ْيكَ أَ ْ‬
‫ِإبْرَاهِيمَ َحنِيفًا َومَا كَانَ مِنْ ا ْل ُمشْ ِركِينَ} [النحل‪ ،]123 :‬وقال تعالى‪ :‬إِنّ َأوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّ َبعُوهُ وَ َهذَا النّ ِبيّ‬
‫حنِيفًا‬‫ن كَانَ َ‬ ‫ل نَصْرَا ِنيّا وََلكِ ْ‬ ‫لّ وَِليّ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ} [آل عمران‪ ،]68 :‬وقال تعالى‪{ :‬مَا كَانَ ِإبْرَاهِي ُم َيهُو ِديّا َو َ‬ ‫وَالّذِينَ آمَنُوا وَا ُ‬
‫حنِيفًا‬
‫ل مِلّةَ ِإبْرَاهِيمَ َ‬ ‫ن مِنْ ا ْلمُشْ ِركِينَ} [آل عمران‪ ،]67 :‬وقال تعالى‪َ { :‬وقَالُوا كُونُوا هُودًا أَ ْو نَصَارَى َتهْ َتدُوا قُ ْ‬
‫ل بَ ْ‬ ‫مُسِْلمًا َومَا كَا َ‬
‫سبَاطِ} إلى قوله‪{ :‬‬ ‫سحَاقَ َو َيعْقُوبَ وَالَْ ْ‬ ‫سمَاعِيلَ وَإِ ْ‬ ‫ش ِركِينَ ‪ .‬قُولُوا آ َمنّا بِالِّ َومَا أُنزِلَ إَِل ْينَا َومَا أُنزِلَ إِلَى ِإبْرَاهِيمَ وَِإ ْ‬
‫ن مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫َومَا كَا َ‬
‫َونَحْنُ لَ ُه مُسِْلمُونَ} [البقرة‪.]136 ،135 :‬‬

‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن إبراهيم خير البرية‪ ،‬فهو أفضل النبياء بعد النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم وهو خليل الّ تعالى‪ .‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم من غير وجه أنه قال‪( :‬إن الّ‬
‫اتخذني خليلً كما اتخذ إبراهيم خليلً)‪ ،‬وقال‪( :‬لو كنت متخذًا من أهل الرض خليلً لتخذت أبا بكر خليل‪ ،‬ولكن‬
‫خوْخَة أبي بكر)‪ ،‬وقال‪( :‬إن من‬
‫س ّدتْ إل َ‬
‫خوْخَة إل ُ‬
‫صاحبكم خليل الّ) ـ يعني نفسه ـ وقال‪( :‬ل يبقين ‪ /‬في المسجد َ‬
‫كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد‪ ،‬أل فل تتخذوا القبور مساجد‪ ،‬فإني أنهاكم عن ذلك) وكل هذا في الصحيح‪.‬‬
‫وفيه أنه قال‪ :‬ذلك قبل موته بأيام‪ ،‬وذلك من تمام رسالته‪.‬‬

‫فإن في ذلك تحقيق تمام مخالته لّ ‪ ،‬التي أصلها محبة الّ ـ تعالى ـ للعبد‪ ،‬ومحبة العبد لّ خلفًا للجهمية‪.‬‬

‫وفي ذلك تحقيق توحيد الّ‪ ،‬وأن ل يعبدوا إل إياه‪ ،‬ورد على أشباه المشركين‪.‬‬

‫وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه‪ ،‬وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر‪.‬‬

‫والخلة‪ :‬هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبوديـة لّ‪ ،‬ومن الرب ـ سبحانه ـ كمال الربوبية لعباده الذين‬
‫يحبهم ويحبونه‪ ،‬ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل‪ ،‬وكمال الحب‪ ،‬فإنهم يقولون‪ :‬قلب متيم إذا كان متعبدًا للمحبوب‪،‬‬
‫والمتيم المتعبد‪ ،‬وتيم الّ عبده‪ ،‬وهذا على الكمال حصل لبراهيم ومحمد صلى ال عليهما وسلم؛ ولهذا لم يكن له من‬
‫أهل الرض خليل‪ ،‬إذ الخلة ل تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى‪:‬‬

‫‪/‬قد تخللت مسلك الروح مني ** و بذا سمى الخليل خليلً‬

‫بخلف أصل الحب‪ ،‬فإنه صلى ال عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة‪( :‬اللّهم إني أحبهما‬
‫فأحبهما‪ ،‬وأحب من يحبهما)‪ ،‬وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟ قال‪( :‬عائشة)‪ .‬قال‪ :‬فمن الرجال؟ قال‪( :‬‬
‫أبوها)‪ ،‬وقال لعلى ـ رضي الّ عنه ـ‪( :‬لعطين الراية رجلً يحب الّ ورسوله‪ ،‬ويحبه الّ ورسوله) وأمثال ذلك‬
‫كثير‪.‬‬

‫وقد أخبر ـ تعالى ـ أنه يحب المتقين‪ ،‬ويحب المحسنين‪ ،‬ويحب المقسطين‪ ،‬ويحب التوابين‪ ،‬ويحب المتطهرين‪ ،‬ويحب‬
‫لّ بِقَ ْو ٍم يُ ِحّبهُمْ َويُ ِحبّونَهُ} [المائدة‪ ،]54 :‬فقد‬ ‫الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص‪ ،‬وقال‪{ :‬فَسَوْ َ‬
‫ف َي ْأتِي ا ُ‬
‫أخبر بمحبته لعباده المؤمنين‪ ،‬و محبة المؤمنين له‪ ،‬حتى قال‪{ :‬وَاّلذِينَ آ َمنُوا َأ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪.]165 :‬‬

‫وأما الخلة فخاصة ‪ .‬وقول بعض الناس‪ :‬إن محمدًا حبيب الّ‪ ،‬وإبراهيم خليل الّ‪ ،‬وظنه أن المحبة فوق الخلة قول‬
‫ضعيف‪ ،‬فإن محمدًا أيضًا خليل الّ كما ثبت ذلك في الحاديث الصحيحة المستفيضة‪ ،‬وما يروي‪( :‬إن العباس يحشر‬
‫بين حبيب وخليل) وأمثال ذلك‪ ،‬فأحاديث موضوعة ل تصلح أن يعتمد عليها‪.‬‬

‫‪/‬وقد قدمنا أن من محبة الّ ـ تعالى ـ محبة ما أحب‪ ،‬كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ثلث‬
‫من كن فيه وجد حلوة اليمان‪ :‬من كان ال ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ‪ ،‬ومن‬
‫كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه كما يكره أن يلقي في النار‪ .‬أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أن هذه‬
‫الثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان؛ لن وجد الحلوة بالشيء يتبع المحبة له‪ ،‬فمن أحب شيئًا أو اشتهاه إذا حصل‬
‫له مراده فإنه يجد الحلوة واللذة والسرور بذلك‪ ،‬واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملئم الذي هو المحبوب أو‬
‫المشتهى‪.‬‬

‫ومن قال‪ :‬إن اللذة إدراك الملئم‪ ،‬كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والطباء‪ ،‬فقد غلط في ذلك غلطًا بينًا‪ ،‬فإن‬
‫الدراك يتوسط بين المحبة واللذة‪ ،‬فإن النسان مثلً يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة‪ ،‬فاللذة تتبع‬
‫النظر إلى الشيء‪ ،‬فإذا نظر إليه التذ‪ ،‬فاللذة تتبع النظر ليست نفس النظر‪ ،‬وليست هي رؤية الشيء ؛بل تحصل عقيب‬
‫رؤيته‪ ،‬وقال تعالى‪َ { :‬وفِيهَا مَا تَ ْش َتهِيهِ الَْنفُسُ َوتََلذّ الَْ ْعيُنُ} [الزخرف‪ ،]71 :‬وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات‪،‬‬
‫واللم من فرح وحزن ونحو ذلك‪ ،‬يحصل بالشعور بالمحبوب‪ ،‬أو الشعور بالمكروه‪ ،‬وليس نفس الشعور هو الفرح‬
‫ول الحزن‪ .‬فحلوة اليمان المتضمنة من اللذة به ‪ /‬والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلوة اليمان‪ ،‬تتبع كمال‬
‫محبة العبد لّ‪ ،‬وذلك بثلثة أمور‪ :‬تكميل هذه المحبة‪ ،‬وتفريعها‪ ،‬ودفع ضدها‪.‬‬

‫فتكميلها‪ :‬أن يكون الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬فإن محبة الّ ورسوله ل يكتفي فيها بأصل الحب‪ ،‬بل لبد أن‬
‫يكون الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم‪.‬‬

‫وتفريعها‪ :‬أن يحب المرء ل يحبه إل لّ‪.‬‬

‫ودفع ضدها‪ :‬أن يكره ضد اليمان أعظم من كراهته اللقاء في النار‪ ،‬فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة‬
‫الّ‪ ،‬وكان رسول الّ صلى ال عليه وسلم يحب المؤمنين الذين يحبهم الّ؛ لنه أكمل الناس محبة لّ‪ ،‬وأحقهم بأن‬
‫يحب ما يحبه الّ‪ ،‬ويبغض ما يبغضه الّ‪ ،‬والخلة ليس لغير الّ فيها نصيب‪ ،‬بل قال‪( :‬لو كنت متخذًا من أهل الرض‬
‫ل لتخذت أبا بكر خليلً) علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة‪.‬‬
‫خلي ً‬

‫والمقصود هو أن الخلة والمحبة لّ تحقيق عبوديته؛ وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية‬
‫مجرد ذل ‪ /‬وخضوع فقط‪ ،‬ل محبة معه‪ ،‬أو أن المحبة فيها انبساط في الهواء أو إدلل ل تحتمله الربوبية؛ ولهذا‬
‫يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة‪ .‬فقال‪ :‬أمسكوا عن هذه المسألة ل تسمعها النفوس فتدعيها‪.‬‬
‫وكره من كره من أهل المعرفة‪ ،‬والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلم في المحبة بل خشية‪ ،‬وقال من قال من السلف‪:‬‬
‫من عبد الّ بالحب وحده فهو زنديق‪ ،‬ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ‪ ،‬ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري‪،‬‬
‫ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد؛ ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى‬
‫أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة‪ ،‬والدعوى التي تنافي العبودية‪ ،‬وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي ل تصلح إل‬
‫لل‬ ‫لّ‪ ،‬ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود النبياء والمرسلين أو يطلبون من الّ‪ ،‬ما ل يصلح ـ بكل وجه ـ إل ّ‬
‫يصلح للنبياء والمرسلين‪ .‬وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ‪.‬‬
‫وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل‪ ،‬وحررها المر والنهي الذي جاؤوا به‪ ،‬بل ضعف العقل الذي به‬
‫يعرف العبد حقيقته‪ ،‬وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة‪ ،‬انبسطت النفس بحمقها في ذلك‪ ،‬كما ينبسط‬
‫النسان في محبة النسان مع حمقه وجهله‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا محب فل أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل‪،‬‬
‫حبّا ُؤهُ} قال الّ تعالى‪{ :‬قُ ْ‬
‫ل فَِل َم ُيعَ ّذ ُبكُ ْم بِ ُذنُوبِكُمْ‬ ‫فهذا ‪ /‬عين الضلل‪ ،‬وهو شبيه بقول اليهود والنصارى‪{ :‬نَحْنُ َأ ْبنَاءُ الِّ وَأَ ِ‬
‫ب مَنْ يَشَاءُ} [المائدة‪ ،]18 :‬فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين‬ ‫ق َيغْفِرُ ِلمَنْ يَشَاءُ َو ُي َعذّ ُ‬
‫بَلْ َأ ْنتُ ْم بَشَ ٌر ِممّنْ خَلَ َ‬
‫ول منسوبين إليه بنسبة البنوة‪ ،‬بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون‪.‬‬

‫فمن كان الّ يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه‪ ،‬ل يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬ومن‬
‫فعل الكبائر وأصر عليها‪ ،‬ولم يتب منها‪ ،‬فإن الّ يبغض منه ذلك‪ ،‬كما يحب منه ما يفعله من الخير‪ ،‬إذ حبه للعبد‬
‫بحسب إيمانه وتقواه‪ ،‬ومن ظن أن الذنوب ‪ ،‬ل تضره؛ لكون الّ يحبه مع إصراره عليها‪ ،‬كان بمنزلة من زعم أن‬
‫تناول السم ل يضره مع مداومته عليه‪ ،‬وعدم تداويه منه بصحة مزاجه‪.‬‬

‫ولو تدبر الحمق ما قص الّ في كتابه من قصص أنبيائه‪ ،‬وما جرى لهم من التوبة والستغفار‪ ،‬وما أصيبوا به من‬
‫أنواع البلء الذي فيه تمحيص لهم‪ ،‬وتطهير بحسب أحوالهم‪ ،‬علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها‪ ،‬ولو كان أرفع‬
‫الناس مقامًا‪ ،‬فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفًا بمصلحته ول مريدًا لها‪ ،‬بل يعمل بمقتضى الحب ـ وإن كان جهلً‬
‫وظلمًا ـ كان ذلك سببًا لبغض المحبوب له ونفوره عنه‪ ،‬بل لعقوبته‪.‬‬

‫وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الّ أنواعًا من أمور الجهل بالدين‪ ،‬إما من تعدي حدود الّ‪ ،‬وإما من تضييع‬
‫حقوق الّ‪ ،‬وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي ل حقيقة لها‪ ،‬كقول بعضهم‪ :‬أي مريد لي ترك في النار أحدًا فأنا منه‬
‫برىء‪ ،‬فقال الخر‪ :‬أي مريد لي ترك أحدًا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه برىء‪ ،‬فالول‪ :‬جعل مريده يخرج كل‬
‫من في النار‪ ،‬والثاني‪ :‬جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار‪ .‬ويقول بعضهم‪ :‬إذا كان يوم القيامة نصبت‬
‫خيمتي على جهنم حتى ل يدخلها أحد‪ ،‬وأمثال ذلك من القوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين‪ ،‬وهي إما‬
‫كذب عليهم‪ ،‬وإما غلط منهم‪ ،‬ومثل هذا قد يصدر في حال سكر‪ ،‬وغلبة‪ ،‬وفناء يسقط فيها تمييز النسان‪ ،‬أو يضعف‬
‫حتى ل يدري ما قال‪ ،‬والسكر هو لذة مع عدم تمييز؛ ولهذا كان بين هؤلء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلم‪.‬‬

‫والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب‪ ،‬والشوق‪ ،‬واللوم‪ ،‬والعذل والغرام كان هذا أصل‬
‫لّ فَاّت ِبعُونِي يُ ْح ِببْكُمْ الُّ} [آل عمران‪:‬‬
‫حبّونَ ا َ‬ ‫مقصدهم‪ .‬ولهذا أنزل الّ للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن ُك ْنتُ ْم تُ ِ‬
‫‪ ،]31‬فل يكون محبًا لّ إل من يتبع رسوله‪ ،‬وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية‪.‬‬

‫وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته‪ ،‬ويدعي من ‪ /‬الخيالت ما ل يتسع هذا الموضع لذكره‪ ،‬حتى قد‬
‫يظن أحدهم سقوط المر وتحليل الحرام له‪ ،‬وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول‪ ،‬وسنته‪ ،‬وطاعته‪ ،‬بل قد جعل‬
‫محبة الّ ومحبة رسوله الجهاد في سبيله‪ ،‬والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الّ به‪ ،‬وكمال بغض ما نهى الّ عنه؛‬
‫ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه‪َ{ :‬أذِلّةٍ َعلَى ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَ ِعزّةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِي َن يُجَا ِهدُو َن فِي َسبِيلِ الِّ} [المائدة‪.]54 :‬‬

‫ل أكمل من عبودية من قبلهم‪ ،‬وأكمل هذه المة‬‫ل أكمل من محبة من قبلها‪ ،‬وعبوديتهم ّ‬‫ولهذا كانت محبة هذه المة ّ‬
‫في ذلك أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل‪ ،‬فأين هذا من قوم يدعون المحبة؟‬
‫!‬

‫وفي كلم بعض الشيوخ‪ :‬المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب‪ ،‬وأرادوا أن الكون كله قد أراد ا ّ‬
‫ل‬
‫وجوده‪ ،‬فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء‪ ،‬حتى الكفر والفسوق‪ ،‬والعصيان‪ ،‬ول يمكن أحدًا أن يحب كل‬
‫موجود‪ ،‬بل يحب ما يلئمه وينفعه‪ ،‬ويبغض ما ينافيه ويضره‪ ،‬ولكن استفادوا بهذا الضلل اتباع أهوائهم‪ ،‬فهم يحبون‬
‫ما يهوونه كالصور‪ ،‬والرئاسة وفضول المال‪ ،‬والبدع المضلة‪ ،‬زاعمين أن هذا من محبة الّ‪ ،‬ومن محبة الّ بغض ما‬
‫يبغضه الّ ورسوله‪ ،‬وجهاد أهله بالنفس والمال‪.‬‬

‫‪/‬وأصل ضللهم‪ :‬أن هذا القائل الذي قال‪ :‬إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد الّ ـ تعالى ـ‬
‫الرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه‪ ،‬فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب لّ‪ ،‬وهذا معنى‬
‫صحيح‪ ،‬فإن من تمام الحب أل يحب إل ما يحبه الّ‪ ،‬فإذا أحببت ما ل يحب كانت المحبة ناقصة‪ ،‬وأما قضاؤه وقدره‬
‫فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهي عنه‪ ،‬فإن لم أوافقه في بغضه‪ ،‬وكراهته‪ ،‬وسخطه لم أكن محبًا له‪ ،‬بل محبًا لما‬
‫يبغضه‪ .‬فاتباع الشريعة‪ ،‬والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الّ وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من‬
‫يدعي محبة الّ ناظرًا إلى عموم ربوبيته‪ ،‬أو متبعًا لبعض البدع المخالفة لشريعته‪ ،‬فإن دعوى هذه المحبة لّ من‬
‫جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لّ‪ ،‬بل قد تكون دعوى هؤلء شرًا من دعوى اليهود والنصارى‪ ،‬لما فيهم من‬
‫النفاق الذين هم به في الدرك السفل من النار‪ ،‬كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرًا من دعواهم‪ ،‬إذا لم يصلوا‬
‫إلى مثل كفرهم‪ ،‬وفي التوراة والنجيل من محبة الّ ما هم متفقون عليه‪ ،‬حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس‪.‬‬

‫ففي النجيل أن المسيح قال‪( :‬أعظم وصايا المسيح أن تحب الّ بكل قلبك وعقلك ونفسك)‪ ،‬والنصارى يدعون قيامهم‬
‫بهذه المحبة‪ ،‬وإن ما هم فيه من الزهد‪ ،‬والعبادة هو من ذلك‪ ،‬وهم برآء من محبة الّ‪ ،‬إذا لم ‪ /‬يتبعوا ما أحبه‪ ،‬بل‬
‫اتبعوا ما أسخط الّ وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم‪ ،‬والّ يبغض الكافرين ويمقتهم‪ ،‬ويلعنهم‪ ،‬وهو سبحانه يحب من‬
‫يحبه‪ ،‬ل يمكن أن يكون العبد محبًا لّ‪ ،‬والّ ـ تعالى ـ غير محب له‪ ،‬بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الّ له‪ ،‬وإن‬
‫كان جزاء الّ لعبده أعظم‪ ،‬كما في الحديث الصحيح اللهي عن الّ ـ تعالى ـ أنه قال‪( :‬من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه‬
‫ذراعًا‪ ،‬ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا‪ ،‬ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)‪.‬‬

‫وقد أخبر ـ سبحانه ـ أنه يحب المتقين‪ ،‬والمحسنين والصابرين‪ ،‬ويحب التوابين‪ ،‬ويحب المتطهرين‪ ،‬بل هو يحب من‬
‫فعل ما أمر به من واجب ومستحب‪ ،‬كما في الحديث الصحيح‪( :‬ل يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا‬
‫أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به) الحديث‪.‬‬

‫وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياخًا في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى‪ ،‬من دعوى المحبة‬
‫لّ مع مخالفة شريعته‪ ،‬وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك‪ ،‬ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى الّ‪ ،‬بنحو ما‬
‫تمسك به النصارى من الكلم المتشابه‪ ،‬والحكايات التي ل يعرف صدق قائلها‪ ،‬ولو صدق لم يكن قائلها معصومًا‪،‬‬
‫فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا‪ ،‬كما جعل النصارى قسيسيهم ‪ ،‬ورهبانهم شارعين ‪ /‬لهم دينًا‪ ،‬ثم إنهم ينتقصون‬
‫العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعى النصارى في المسيح‪ ،‬ويثبتون للخاصة من المشاركة في الّ من‬
‫جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه‪ ،‬إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع‪.‬‬

‫ل بكل وجه‪ ،‬وهو تحقيق محبة الّ بكل درجة‪ ،‬وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة‬ ‫وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية ّ‬
‫العبد لربه‪ ،‬وتكمل محبة الرب لعبده‪ ،‬وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا‪ ،‬وكلما كان في القلب حب لغير الّ‪ ،‬كانت فيه‬
‫عبودية لغير الّ بحسب ذلك‪ ،‬وكلما كان فيه عبودية لغير الّ كان فيه حب لغير الّ بحسب ذلك‪ ،‬وكل محبة ل تكون‬
‫لّ فهي باطلة‪ ،‬وكل عمل ل يراد به وجه الّ فهو باطل‪ ،‬فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إل ما كان لّ‪ ،‬ول يكون لّ إل‬
‫ما أحبه الّ ورسوله‪ ،‬وهو المشروع‪ ،‬فكل عمل أريد به غير الّ لم يكن لّ‪ ،‬وكل عمل ل يوافق شرع الّ لم يكن لّ‪،‬‬
‫بل ل يكون لّ إل ما جمع الوصفين‪ ،‬أن يكون لّ‪ ،‬وأن يكون موافقًا لمحبة الّ ورسوله‪ ،‬وهو الواجب والمستحب‪ ،‬كما‬
‫حدًا} [الكهف‪.]110 :‬‬ ‫عمَلً صَالِحًا وَلَ ُيشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ أَ َ‬
‫قال‪َ { :‬فمَنْ كَانَ يَ ْرجُوا ِلقَاءَ رَبّهِ فَلْ َي ْعمَلْ َ‬

‫فلبد من العمل الصالح‪ ،‬وهو الواجب‪ ،‬والمستحب‪ ،‬ولبد أن يكون خالصًا لوجه الّ تعالى‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬بَلَى مَنْ‬
‫أَسَْلمَ وَ ْجهَهُ لِّ وَ ُه َو مُحْسِ ٌن فَلَهُ َأجْرُهُ ِع ْندَ َربّهِ َولَ خَوْفٌ عََل ْيهِمْ َولَ هُ ْم يَ ْح َزنُونَ} [البقرة‪ ،]112 :‬وقال ‪ /‬النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬من عمل عملً ليس عليه أمرنا فهو رد)‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إنما العمال بالنيات وإنما لكل‬
‫امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى الّ ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى الّ ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو‬
‫امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)‪.‬‬

‫وهذا الصل هو أصل الدين‪ ،‬وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين‪ ،‬وبه أرسل الّ الرسل‪ ،‬وأنزل الكتب‪ ،‬وإليه دعا‬
‫الرسول‪ ،‬وعليه جاهد‪ ،‬وبه أمر‪ ،‬وفيه رغب‪ ،‬وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه‪.‬‬

‫والشرك غالب على النفوس‪ ،‬وهو كما جاء في الحديث‪( :‬وهو في هذه المة أخفى من دبيب النمل)‪ ،‬وفي حديث آخر‪:‬‬
‫قال أبو بكر‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل ؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم لبي بكر‪( :‬‬
‫أل أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله ؟ قل‪ :‬اللّهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم‪ ،‬وأستغفرك لما ل أعلم)‬
‫‪ .‬وكان عمر يقول في دعائه‪ :‬اللّهم اجعل عملي كله صالحًا‪ ،‬واجعله لوجهك خالصًا‪ ،‬ول تجعل لحد فيه شيئًا‪.‬‬
‫وكثيرًا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق ‪ /‬محبتها لّ وعبوديتها له‪ ،‬وإخلص دينها‬
‫له‪ ،‬كما قال شداد بن أوس‪ :‬يا بقايا العرب‪ ،‬إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء‪ ،‬والشهوة الخفية‪ .‬قيل لبي داود‬
‫السجستاني‪ :‬وما الشهوة الخفية؟قال‪ :‬حب الرئاسة‪ ،‬وعن كعب بن مالك عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ما‬
‫ذئبان جائعان أرسل في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال‪ ،‬والشرف لدينه) قال الترمذي‪ :‬حديث‬
‫حسن صحيح‪.‬‬

‫فبين صلى ال عليه وسلم أن الحرص على المال‪ ،‬والشرف في فساد الدين‪ ،‬ل ينقص عن فساد الذئبين الجائعين‬
‫لزريبة الغنم‪ ،‬وذلك بين‪ ،‬فإن الدين السليم ل يكون فيه هذا الحرص‪ ،‬وذلك أن القلب إذا ذاق حلوة عبوديته لّ‪،‬‬
‫ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه‪ ،‬وبذلك يصرف عن أهل الخلص لّ السوء والفحشاء‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪َ { :‬كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َعنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِعبَادِنَا ا ْلمُخْلَصِينَ} [يوسف‪.]42 :‬‬

‫فإن المخلص لّ ذاق من حلوة عبوديته لّ ما يمنعه عن عبوديته لغيره‪ ،‬ومن حلوة محبته لّ ما يمنعه عن محبة‬
‫غيره؛ إذ ليس عند القلب ل أحلى‪ ،‬ول ألذ‪ ،‬ول أطيب‪ ،‬ول ألين‪ ،‬ول أنعم من حلوة اليمان المتضمن عبوديته لّ‪،‬‬
‫ومحبته له‪ ،‬وإخلصه الدين له‪ ،‬وذلك يقتضى انجذاب القلب إلى الّ فيصير القلب منيبًا إلى الّ خائفًا منه راغبًا‬
‫حمَانَ بِا ْلغَ ْيبِ وَجَاءَ ِبقَ ْلبٍ مُنِيبٍ} [ق‪ ،]33 :‬إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه‬ ‫شيَ الرّ ْ‬ ‫راهبًا‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬مَنْ خَ ِ‬
‫وحصول ‪ /‬مرغوبه‪ ،‬فل يكون عبد الّ ومحبه إل بين خوف ورجاء‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬أُوَْل ِئكَ اّلذِينَ َيدْعُونَ َي ْبتَغُونَ إِلَى َرّبهِمْ‬
‫ك كَا َن مَ ْحذُورًا} [السراء‪.]57 :‬‬ ‫عذَابَ َرّب َ‬
‫عذَابَهُ إِنّ َ‬
‫ح َمتَهُ َويَخَافُونَ َ‬
‫الْ َوسِيلَةَ َأيّهُمْ َأقْرَبُ َويَ ْرجُونَ َر ْ‬

‫وإذا كان العبد مخلصًا له اجتباه ربه فيحيى قلبه‪ ،‬واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء‪،‬‬
‫ويخاف من حصول ضد ذلك‪ ،‬بخلف القلب الذي لم يخلص لّ‪ ،‬فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق‪ ،‬فيهوى ما يسنح‬
‫له ويتشبث بما يهواه‪ ،‬كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله‪ .‬فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة‪ ،‬فيبقى أسيرًا‬
‫عبدًا لمن لو اتخذه هو عبدًا له‪ ،‬لكان ذلك عيبًا ونقصًا وذمًا‪ .‬وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة‪ ،‬فترضيه الكلمة وتغضبه‬
‫الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل‪ ،‬ويعادي من يذمه ولو بالحق‪ ،‬وتارة يستعبده الدرهم والدينار‪ ،‬وأمثال ذلك‬
‫من المور التي تستعبد القلوب‪ ،‬والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من الّ‪.‬‬

‫ومن لم يكن خالصًا لّ عبدًا له قد صار قلبه معبدًا لربه وحده ل شريك له‪ ،‬بحيث يكون الّ أحب إليه من كل ما سواه‪،‬‬
‫ويكون ذليلً له خاضعًا وإل استعبدته الكائنات‪ ،‬واستولت على قلبه الشياطين‪ ،‬وكان من الغاوين إخوان الشياطين‪،‬‬
‫وصار فيه من السوء والفحشاء ما ل يعلمه إل الّ‪ ،‬وهذا أمر ضروري ل حيلة فيه‪ ،‬فالقلب إن لم يكن حنيفًا مقبلً‬
‫ل َت ْبدِيلَ‬
‫عَليْهَا َ‬
‫طرَ النّاسَ َ‬
‫حنِيفًا فِطْرَةَ الِّ اّلتِي فَ َ‬ ‫ل معرضًا عما ‪ /‬سواه وإل كان مشركًا‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فََأقِمْ وَ ْ‬
‫ج َهكَ لِلدّينِ َ‬ ‫على ا ّ‬
‫ب ِبمَا َل َديْهِ ْم فَ ِرحُونَ} [الروم‪30 :‬ـ ‪.]32‬‬ ‫س لَ َيعَْلمُونَ} إلى قوله‪{ :‬كُلّ حِ ْز ٍ‬
‫لّ ذَِلكَ الدّينُ ا ْل َقيّمُ وََلكِنّ َأ ْكثَرَ النّا ِ‬
‫لِخَ ْلقِ ا ِ‬

‫وقد جعل الّ ـ سبحانه ـ إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلء الحنفاء المخلصين أهل محبة الّ وعبادته وإخلص الدين‬
‫سحَاقَ‬ ‫له‪ ،‬كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم‪ .‬قال تعالى في إبراهيم‪َ { :‬ووَهَبْنَا َلهُ إِ ْ‬
‫ل ِة وَإِيتَاءَ‬ ‫ت وَِإقَامَةِ الصّ َ‬ ‫جعَلْنَاهُمْ أَ ِئمّةً َيهْدُونَ بَِأمْرِنَا وََأوْحَيْنَا إِلَ ْي ِهمْ ِف ْعلَ الْخَيْرَا ِ‬
‫جعَلْنَا صَاِلحِينَ ‪ .‬وَ َ‬
‫وَ َيعْقُوبَ نَافَِل ًة َوكُلّ َ‬
‫زكَا ِة َوكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [النبياء‪ ،]73 ،72 :‬وقال في فرعون وقومه‪َ { :‬و َ‬
‫جعَ ْلنَاهُمْ َأ ِئمّ ًة يَدْعُونَ إِلَى النّارِ َويَوْمَ ا ْل ِقيَامَةِ‬ ‫ال ّ‬
‫صرُونَ ‪ .‬وََأ ْت َبعْنَا ُه ْم فِي َهذِ ِه ال ّدنْيَا َل ْعنَةً َويَوْمَ الْ ِقيَامَةِ هُ ْم مِنْ ا ْل َم ْقبُوحِينَ} [القصص‪.]42 ،41 :‬‬ ‫لَ يُن َ‬

‫ل وقضاه‪ ،‬بل ينظرون إلى‬ ‫ل ويرضاه‪ ،‬وبين ما قدر ا ّ‬


‫ولهذا يصير أتباع فرعون أولً إلى أل يميزوا بين ما يحبه ا ّ‬
‫المشيئة المطلقة الشاملة‪ ،‬ثم في آخر المر ل يميزون بين الخالق والمخلوق‪ ،‬بل يجعلون وجود هذا وجود هذا‪ ،‬ويقول‬
‫محققوهم‪ :‬الشريعة فيها طاعة ومعصية‪ ،‬والحقيقة فيها معصية بل طاعة‪ ،‬والتحقيق ليس فيه طاعة ول معصية‪ ،‬وهذا‬
‫تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من المر والنهي‪.‬‬

‫‪/‬وأما إبراهيم‪ ،‬وآل إبراهيم الحنفاء‪ ،‬والنبياء فهم يعلمون أنه لبد من الفرق بين الخالق والمخلوق‪ ،‬ولبد من الفرق‬
‫بين الطاعة والمعصية‪ .‬وأن العبد كلما ازداد تحقيقًا ازدادت محبته لّ وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة‬
‫غيره ومحبة غيره وطاعة غيره‪ .‬وهؤلء المشركون الضالون يسوون بين الّ وبين خلقه‪ .‬والخليل يقول‪{ :‬قَالَ َأفَرََأ ْيتُمْ‬
‫مَا ُك ْنتُمْ َت ْعُبدُونَ ‪َ .‬أ ْنتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ ا َلْ ْقدَمُو َن ‪ .‬فَِإّنهُمْ َعدُوّ لِي ِإلّ رَبّ ا ْلعَاَلمِينَ} [الشعراء‪ ،]75-77 :‬ويتمسكون بالمتشابه من‬
‫كلم المشائخ كما فعلت النصارى‪.‬‬
‫مثال ذلك اسم الفناء‪ ،‬فإن الفناء ثلثة أنواع‪ :‬نوع للكاملين من النبياء والولياء‪ ،‬ونوع للقاصدين من الولياء‬
‫والصالحين‪ ،‬ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين‪.‬‬

‫فأما الول‪ :‬فهو الفناء عن إرادة ما سوى الّ‪ ،‬بحيث ل يحب إل الّ‪ ،‬ول يعبد إل إياه‪ ،‬ول يتوكل إل عليه‪ ،‬ول يطلب‬
‫غيره‪ ،‬وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبى يزيد حيث قال‪ :‬أريد أل أريد إل ما يريد‪ .‬أي المراد‬
‫ل ورضيه‬ ‫المحبوب المرضي‪ ،‬وهو المراد بالرادة الدينية وكمال العبد أل يريد ول يحب ول يرضى إل ما أراده ا ّ‬
‫وأحبه‪ ،‬وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب‪ ،‬ول يحب إل ما يحبه الّ كالملئكة والنبياء والصالحين‪ .‬وهذا معنى‬
‫لّ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء‪ ]89 :‬قالوا‪ :‬هو السليم مما سوى الّ‪ ،‬أو مما سوى عبادة الّ‪ ،‬أو‬ ‫قولهم في قوله‪ِ{ :‬إ ّ‬
‫ل مَنْ َأتَى ا َ‬
‫مما سوى ‪ /‬إرادة الّ‪ ،‬أو مما سوى محبة الّ‪ ،‬فالمعنى واحد وهذا المعني إن سمى فناء أو لم يسم ‪ ،‬هو أول السلم‬
‫وآخره‪ .‬وباطن الدين وظاهره‪.‬‬

‫وأما النوع الثاني‪ :‬فهو الفناء عن شهود السوى‪ ،‬وهذا يحصل لكثير من السالكين‪ ،‬فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر‬
‫الّ وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد‪ ،‬ل يخطر بقلوبهم غير الّ‪ ،‬بل‬
‫طنَا عَلَى قَ ْل ِبهَا} [القصص‪]10 :‬‬
‫ن كَادَتْ َلتُ ْبدِي بِهِ لَ ْولَ أَنْ َربَ ْ‬
‫ح فُؤَادُ أُ ّم مُوسَى فَارِغًا إِ ْ‬ ‫وليشعرون‪ ،‬كما قيل في قوله‪{ :‬وَأَ ْ‬
‫صبَ َ‬
‫‪ ،‬قالوا‪ :‬فارغًا من كل شيء إل من ذكر موسى‪ ،‬وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من المور إما حب وإما خوف‪.‬‬
‫وإما رجاء يبقى قلبه منصرفًا عن كل شيء إل عما قد أحبه‪ ،‬أو خافه أو طلبه‪ ،‬بحيث يكون عند استغراقه في ذلك ل‬
‫يشعر بغيره‪.‬‬

‫فإذا قوى على صاحب الفناء هذا ‪ ،‬فإنه يغيب بموجوده عن وجوده‪ ،‬وبمشهوده عن شهوده‪ ،‬وبمذكوره عن ذكره‪،‬‬
‫وبمعروفه عن معرفته‪ ،‬حتى يفنى من لم يكن‪ ،‬وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه‪ ،‬ويبقى من لم يزل وهو الرب‬
‫تعالى‪ ،‬والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره‪ ،‬وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها‪ .‬وإذا قوى هذا ضعف المحب حتى‬
‫ل ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه‪ ،‬فقال‪ :‬أنا‬
‫اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه‪ ،‬كما يذكر‪ :‬أن رج ً‬
‫وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال‪ :‬غبت بك عني‪ ،‬فظننت أنك أني ‪.‬‬

‫‪/‬وهذا الموضع زل فيه أقوام‪ ،‬وظنوا أنه اتحاد‪ ،‬وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى ل يكون بينهما فرق في نفس‬
‫وجودهما‪ ،‬وهذا غلط‪ ،‬فإن الخالق ل يتحد به شيء أصل‪ ،‬بل ل يتحد شيء بشيء إل إذا استحال وفسدا وحصل من‬
‫اتحادهما أمر ثالث ل هو هذا ول هذا‪ ،‬كما إذا اتحد الماء واللبن‪ ،‬والماء والخمر‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ولكن يتحد المراد‬
‫والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الرادة والكراهة‪ ،‬فيحب هذا ما يحب هذا‪ .‬ويبغض هذا ما يبغض هذا‪،‬‬
‫ويرضى ما يرضى‪ ،‬ويسخط ما يسخط‪ ،‬ويكره ما يكره‪ ،‬ويوالي من يوالي‪ ،‬ويعادي من يعادي‪ ،‬وهذا الفناء كله فيه‬
‫نقص‪.‬‬

‫وأكابر الولياء‪ ،‬كأبي بكر وعمر‪ ،‬والسابقين الولين من المهاجرين والنصار‪ ،‬لم يقعوا في هذا الفناء‪ ،‬فضل‬
‫عمن هو فوقهم من النبياء‪ ،‬وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة‪ .‬وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة‬
‫العقل والتمييز‪ ،‬لما يرد على القلب من أحوال اليمان‪ ،‬فإن الصحابة ـ رضي الّ عنهم ـ كانوا أكمل وأقوى وأثبت في‬
‫الحوال اليمانية من أن تغيب عقولهم‪ .‬أو يحصل لهم غشى‪ ،‬أو صعق‪ ،‬أو سكر‪ ،‬أو فناء‪ ،‬أو وَلَهٌ‪ ،‬أو جنون‪ .‬وإنما‬
‫كان مبادئ هذه المور في التابعين من عباد البصرة‪ ،‬فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن‪ .‬ومنهم من‬
‫يموت‪ :‬كأبي جهير الضرير‪ .‬وزرارة بن أوفى قاضي البصرة‪.‬‬

‫وكذلك صار في شيوخ الصوفية‪ ،‬من يعرض له من الفناء والسكر‪ ،‬ما ‪ /‬يضعف معه تمييزه‪ ،‬حتى يقول في تلك‬
‫الحال من القوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه‪ ،‬كما يحكى نحو ذلك‪ ،‬عن مثل أبى يزيد‪ ،‬وأبي الحسين النوري‪،‬‬
‫وأبى بكر الشبلي وأمثالهم‪.‬‬

‫بخلف أبي سليمان الداراني‪ ،‬ومعروف الكرخي ‪ ،‬والفضيل بن عياض‪ ،‬بل وبخلف الجنيد وأمثالهم‪ ،‬ممن كانت‬
‫عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فل يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه‪ ،‬بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيـها‬
‫سوى محبة الّ وإرادته وعبادته‪ ،‬وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون المور على ما هي عليه‪ ،‬بل يشهدون‬
‫المخلوقات قائمة بأمر الّ مدبرة بمشيئته‪ ،‬بل مستجيبة له قانتة له‪ ،‬فيكون لهم فيها تبصرة وذكـرى‪ ،‬ويكون ما‬
‫يشهـدونه من ذلك مؤيـدًا‪ ،‬وممـدًا لما في قلوبهم من إخلص الدين‪ ،‬وتجريد التوحيد له‪ ،‬والعبادة له وحده ل شريك له‪.‬‬
‫وهذه الحقيقة‪ ،‬التي دعا إليها القرآن‪ ،‬وقام بها أهل تحقيق اليمان‪ ،‬والكمل من أهل العرفان‪ .‬ونبينا صلى ال عليه‬
‫وسلم إمام هؤلء وأكملهم؛ ولهذا لما عرج به إلى السموات‪ ،‬وعاين ما هنالك من اليات وأوحى إليه ما أوحى من‬
‫أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله‪ ،‬ولظهر عليه ذلك‪ ،‬بخلف ما كان يظهر على موسى من التغشي ـ‬
‫صلى الّ عليهم وسلم أجمعين‪.‬‬

‫‪/‬وأما النوع الثالث‪ :‬مماقد يسمى فناء ـ فهو أن يشهد أن ل موجود إل الّ‪ ،‬وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق‪ ،‬فل‬
‫فرق بين الرب والعبد‪ ،‬فهذا فناء أهل الضلل واللحاد الواقعين في الحلول والتحاد‪.‬‬

‫والمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم‪ :‬ما أرى غير الّ‪ ،‬أول أنظر إلى غير الّ‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فمرادهم بذلك ما أرى ربا‬
‫غيره‪ ،‬ول خالقًا غيره‪ ،‬ول مدبرًا غيره‪ ،‬ول إلها غيره‪ ،‬ول أنظر إلى غيره محبة له‪ ،‬أو خوفًا منه‪ ،‬أو رجاء له‪ ،‬فإن‬
‫العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب‪ ،‬فمن أحب شيئًا‪ ،‬أو رجاه أو خافه التفت إليه‪ ،‬وإذا لم يكن في القلب محبة له‪ ،‬ول‬
‫رجاء له‪ ،‬ول خوف منه‪ ،‬ول بغض له‪ ،‬ول غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه‪ ،‬ول أن ينظر‬
‫إليه ول أن يراه وإن رآه اتفاقًا‪ ،‬رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطًا‪ ،‬ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به‪.‬‬

‫والمشائخ الصالحون ـ رضي الّ عنهم ـ يذكرون شيئًا من تجريد التوحيد‪ ،‬وتحقيق إخلص الدين كله‪ ،‬بحيث ل يكون‬
‫العبد ملتفتًا إلى غير الّ ول ناظرًا إلى ما سواه‪ :‬لحبًا له‪ ،‬ول خوفًا منه‪ ،‬ول رجاء له بل يكون القلب فارغًا من‬
‫المخلوقات خاليًا منها ل ينظر إليها إل بنور الّ‪ ،‬فبالحق يسمع‪ ،‬وبالحق يبصر‪ ،‬وبالحق يبطش‪ ،‬وبالحق يمشي‪ ،‬فيحب‬
‫منها ما يحبه الّ‪ ،‬ويبغض منها ما يبغضه الّ‪ ،‬ويوالي منها ما واله الّ‪ ،‬ويعادي منها ما عاداه ‪ /‬الّ‪ ،‬ويخاف الّ‬
‫فيها‪ ،‬ول يخافها في الّ‪ ،‬ويرجو الّ فيها‪ ،‬ول يرجوها في الّ‪ ،‬فهذا هو القلب السليم‪ ،‬الحنيف‪ ،‬الموحد‪ ،‬المسلم‪،‬‬
‫المؤمن‪ ،‬العارف‪ ،‬المحقق‪ ،‬الموحد بمعرفة النبياء والمرسلين‪ ،‬وبحقيقتهم وتوحيدهم‪.‬‬

‫وأما النوع الثالث‪ :‬وهو الفناء في الموجود‪ ،‬فهو تحقيق آل فرعون‪ ،‬ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم‪.‬‬

‫وهذا النوع الذي عليه أتباع النبياء هو الفناء المحمود‪ ،‬الذي يكون صاحبه به ممن أثنى الّ عليهم من أوليائه المتقين‪،‬‬
‫وحزبه المفلحين‪ ،‬وجنده الغالبين‪.‬‬

‫وليس مراد المشائخ‪ ،‬والصالحين‪ ،‬بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات‪ ،‬هو رب الرض والسموات‪ ،‬فإن‬
‫هذا ل يقوله إل من هو في غاية الضلل والفساد‪ ،‬إما فساد العقل‪ ،‬وإما فساد العتقاد‪ .‬فهو متردد بين الجنون‬
‫واللحاد‪.‬‬

‫وكل المشائخ الذين يقتدي بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف المة وأئمتها‪ ،‬من أن الخالق ـ سبحانه ـ مباين‬
‫للمخلوقات‪ ،‬وليس في مخلوقاته شىء من ذاته‪ ،‬ول في ذاته شىء من مخلوقاته‪ ،‬وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث‪،‬‬
‫وتمييز الخالق عن المخلوق‪ .‬وهذا في كلمهم ‪ /‬أكثر من أن يمكن ذكره هنا‪ .‬وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب‬
‫من المراض والشبهات‪ ،‬وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات‪ ،‬فيظنه خالق الرض والسموات‪ ،‬لعدم التمييز‬
‫والفرقان في قلبه‪ ،‬بمنزلة من رأى شعاع الشمس‪ ،‬فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء‪.‬‬

‫وهم قد يتكلمون في الفرق‪ ،‬والجمع‪ ،‬ويدخل في ذلك من العبارات الملفتة نظير ما دخل في الفناء‪ ،‬فإن العبد إذا شهد‬
‫التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقًا بها‪ ،‬متشتتًا ناظرًا إليها متعلقًا بها‪ ،‬إما محبة‪ ،‬وإما خوفًا‪ ،‬وإما رجاء‪،‬‬
‫فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الّ وعبادته وحده ل شريك له‪ ،‬فالتفت قلبه إلى الّ بعد التفاته إلى‬
‫المخلوقين فصارت محبته لربه‪ ،‬وخوفه من ربه‪ ،‬ورجاؤه لربه‪ ،‬واستعانته بربه‪ ،‬وهو في هذا الحال قد ل يسع قلبه‬
‫النظر إلى المخلوق؛ ليفرق بين الخالق والمخلوق‪ .‬فقد يكون مجتمعًا على الحق معرضًا عن الخلق نظرًا وقصدًا وهو‬
‫نظير النوع الثاني من الفناء‪.‬‬

‫ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو‪ :‬أن يشهد أن المخلوقات قائمة بالّ‪ ،‬مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية الّ‬
‫ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه ـ سبحانه ـ رب المصنوعات‪ ،‬وإلهها وخالقها‪ ،‬ومالكها‪ ،‬فيكون مع اجتماع قلبه على الّ ـ‬
‫ل وموالة فيه‪ ،‬ومعاداة فيه وأمثال ذلك ـ ناظرًا إلى الفرق‬
‫إخلصًا له ومحبة وخوفًا ورجاء واستعانة وتوكل على ا ّ‬
‫بين الخالق والمخلوق مميزًا ‪ /‬بين هذا وهذا‪ ،‬يشهد تفرق المخلوقات‪ ،‬وكثرتها مع شهادته أن الّ رب كل شيء‪،‬‬
‫ومليكه‪ ،‬وخالقه‪ ،‬وأنه هو الّ ل إله إل هو‪ ،‬وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم‪ ،‬وذلك واجب‪ ،‬في علم القلب‪،‬‬
‫وشهادته‪ ،‬وذكره‪ ،‬ومعرفته‪ ،‬في حال القلب‪ ،‬وعبادته‪ ،‬وقصده‪ ،‬وإرادته‪ ،‬ومحبته‪ ،‬وموالته‪ ،‬وطاعته‪.‬‬

‫وذلك تحقيق شهادة أن ل إله إل الّ‪ ،‬فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق‪ ،‬ويثبت في قلبه ألوهية الحق‪ ،‬فيكون‬
‫نافيًا للوهية كل شيء من المخلوقات‪ ،‬مثبتًا للوهية رب العالمين رب الرض والسموات‪ ،‬وذلك يتضمن اجتماع‬
‫القلب على الّ‪ ،‬وعلى مفارقة ما سواه‪ ،‬فيكون مفرقًا في علمه وقصده في شهادته‪ ،‬وإرادته في معرفته ومحبته بين‬
‫الخالق والمخلوق‪ ،‬بحيث يكون عالمًا بالّ ـ تعالى ـ ذاكرًا له عارفًا به‪ ،‬وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه‪ ،‬وانفراده‬
‫عنهم‪ ،‬وتوحده دونهم‪ ،‬ويكون محبًا لّ‪ ،‬معظمًا له‪ ،‬عابدًا له‪ ،‬راجيًا له خائفًا منه‪ ،‬مواليًا فيه‪ ،‬معاديًا فيه‪ ،‬مستعينًا به‪،‬‬
‫متوكلً عليه‪ ،‬ممتنعًا عن عبادة غيره‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والستعانة به‪ ،‬والخوف منه‪ ،‬والرجاء له‪ ،‬والموالة فيه‪،‬‬
‫والمعاداة فيه‪ ،‬والطاعة لمره‪ ،‬وأمثال ذلك‪ ،‬مما هو من خصائص إلهية الّ ـ سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫وإقراره بألوهية الّ ـ تعالى ـ دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته‪ ،‬وهو أنه رب كل شيء ومليكه‪ ،‬وخالقه‪ ،‬ومدبره‪،‬‬
‫فحينئذ يكون موحدًا لّ‪.‬‬

‫ويبين ذلك أن أفضل الذكر‪ :‬ل إله إل الّ‪ ،‬كما رواه الترمذي وابن أبي ‪ /‬الدنيا‪ ،‬وغيرهما مرفوعًا إلى النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه قال‪( :‬أفضل الذكر‪ :‬ل إله إل الّ‪ ،‬وأفضل الدعاء‪ :‬الحمد لّ)‪ ،‬وفي الموطأ ـ وغيره ـ عن طلحة بن عبد‬
‫ل وحده ل شريك له‪،‬‬‫الّ بن كثير أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫له الملك وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير)‪.‬‬

‫ومن زعم أن هذا ذكر العامة‪ ،‬وأن ذكر الخاصة هو السم المفرد‪ ،‬وذكر خاصة الخاصة‪ ،‬هو السم المضمر‪ ،‬فهم‬
‫ضهِ ْم يَ ْل َعبُونَ} [النعام‪ ،]91 :‬من أبين‬ ‫ضالون غالطون‪ .‬واحتجاج بعضهم على ذلك‪ ،‬بقوله‪{ :‬قُلْ ا ُ‬
‫لّ ثُ ّم ذَرْهُ ْم فِي خَ ْو ِ‬
‫غلط هؤلء‪ ،‬فإن السم هومذكور في المر بجواب الستفهام‪ .‬وهو قوله‪{ :‬قُ ْ‬
‫ل مَنْ أَنزَلَ ا ْل ِكتَابَ اّلذِي جَا َء بِهِ مُوسَى نُورًا‬
‫س ُت ْبدُو َنهَا َوتُ ْخفُو َن َكثِيرًا وَعُّل ْمتُ ْم مَا َل ْم تَعَْلمُوا َأ ْنتُمْ َو َل آبَا ُؤكُ ْم قُلْ الُّ} [النعام‪ ]91 :‬أي‪ :‬الّ الذي‬
‫جعَلُونَ ُه قَرَاطِي َ‬
‫س تَ ْ‬
‫وَ ُهدًى لِلنّا ِ‬
‫أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‪،‬فالسم مبتدأ‪ ،‬وخبره قد دل عليه الستفهام‪ ،‬كما في نظائر ذلك تقول‪ :‬من جاره‪،‬‬
‫فيقول زيد‪.‬‬

‫وأما السم المفرد‪ ،‬مظهرًا‪ ،‬أو مضمرًا‪ ،‬فليس بكلم تام‪ ،‬ول جملة مفيدة‪ ،‬ول يتعلق به إيمان‪ ،‬ول كفر‪ ،‬ول أمر‪ ،‬ول‬
‫نهي‪ ،‬ولم يذكر ذلك أحد من سلف المة‪ ،‬ول شرع ذلك رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول يعطي القلب بنفسه‬
‫معرفة مفيدة‪ ،‬ول حالً نافعًا‪ ،‬وإنما يعطيه تصورًا مطلقًا‪ ،‬ل يحكم عليه بنفي ول إثبات‪ ،‬فإن لم يقترن به من معـرفة‬
‫القلب وحاله ما يفيد بنفسه ‪ /‬وإل لم يكن فيه فائدة‪ .‬والشريعة إنما تشرع من الذكار ما يفيد بنفسه‪ ،‬ل ما تكون الفائدة‬
‫حاصلة بغيره‪.‬‬

‫وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من اللحاد‪ ،‬وأنواع من التحاد‪ ،‬كما قد بسط في غير هذا‬
‫الموضع‪.‬‬

‫وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال‪ :‬أخاف أن أموت بين النفي والثبات‪ .‬حال ل يقتدى فيها بصاحبها‪ ،‬فإن في‬
‫ذلك من الغلط ما ل خفاء به‪ .‬إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إل على ما قصده ونواه‪ ،‬إذ العمال بالنيات‪ ،‬وقد‬
‫ثبت أن النبي صلى ال عليه وسلم أمر بتلقين الميت ل إله إل الّ‪ ،‬وقال‪( :‬من كان آخر كلمه ل إله إل الّ دخل‬
‫الجنة) ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتًا غير محمود‪ ،‬بل كان يلقن ما‬
‫اختاره من ذكر السم المفرد‪.‬‬

‫والذكر بالسم المضمر المفرد أبعد عن السنة‪،‬وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلل الشيطان‪،‬فإن من قال‪ :‬يا هو يا‬
‫هو‪ ،‬أو‪ :‬هو هو‪ .‬ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إل إِلى ما يصوره قلبه‪ ،‬والقلب قد يهتدي وقد يضل‪،‬وقد صنف‬
‫صاحب [الفصوص] كتابًا سماه كتاب [الهو] وزعم بعضهم أن قوله‪َ { :‬ومَا يَعَْل ُم تَأْوِيلَهُ ِإلّ الُّ} [آل عمران‪ ،]7 :‬معناه‪:‬‬
‫وما يعلم تأويل هذا السم الذي هو [الهو]‪ ،‬وقيل‪ :‬هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل ‪/‬العقلء على أنه من أبين‬
‫الباطل‪،‬فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلء‪ ،‬حتى قلت مرة لبعض من قال شيئًا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت‪[ :‬‬
‫وما يعلم تأويل هو] منفصلة‪.‬‬
‫لّ ثُ ّم ذَرْهُمْ} ويظن أن الّ أمر نبيه بأن‬ ‫ثم كثيرًا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل‪[ :‬الّ] بقوله‪{ :‬قُلْ ا ُ‬
‫يقول‪ :‬السم المفرد‪ ،‬وهذا غلط باتفاق أهل العلم‪ ،‬فإن قوله‪ٍ { :‬قلٌ بلّهٍ} معناه‪ :‬الّ الذي أنزل الكتاب الذي جاء به‬
‫ن َكثِيرًا‬
‫خفُو َ‬ ‫س ُتبْدُو َنهَا َوتُ ْ‬
‫جعَلُونَهُ قَرَاطِي َ‬
‫س تَ ْ‬ ‫موسى‪ ،‬وهو جواب لقوله‪{ :‬قُ ْ‬
‫ل مَنْ أَنزَلَ ا ْل ِكتَابَ اّلذِي جَا َء بِهِ مُوسَى نُورًا وَ ُهدًى لِلنّا ِ‬
‫وَعُّل ْمتُ ْم مَا َل ْم َتعْلَمُوا َأ ْنتُمْ َو َل آبَا ُؤكُ ْم قُلْ الُّ} [النعام‪ ،]91 :‬أي‪ :‬الّ الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‪ ،‬رد بذلك قول‬
‫من قال‪ :‬ما أنزل الّ على بشر من شيء‪ ،‬فقال‪{ :‬مَنْ أَن َزلَ ا ْل ِكتَابَ اّلذِي جَا َء بِ ِه مُوسَى} ثم قال‪ُ { :‬قلْ الُّ} أنزله { ُثمّ‬
‫ض ِه ْم يَ ْلعَبُونَ}‪.‬‬
‫همْ}هؤلء المكذبين {فِي خَوْ ِ‬
‫ذَرْ ُ‬

‫ومما يبين ما تقدم‪ :‬ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلمًا‪ ،‬ل يحكون به ما‬
‫كان قولً‪ ،‬فالقول ل يحكى به إل كلم تام‪ ،‬أو جملة اسمية أو فعلىة؛ ولهذا يكسرون أن إذا جاءت بعد القول‪ ،‬فالقول‬
‫ل يحكى به اسم‪ ،‬والّ ـ تعالى ـ ل يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد‪ ،‬ول شرع للمسلمين اسمًا مفردًا مجردًا‪ ،‬والسم المجرد‬
‫ل يفيد اليمان ‪ /‬باتفاق أهل السلم‪ ،‬ول يؤمر به في شيء من العبادات‪ ،‬ول في شيء من المخاطبات‪.‬‬

‫ونظير من اقتصر على السم المفرد ما يذكر أن بعض العراب مر بمؤذن يقول‪[ :‬أشهد أن محمدًا رسول الّ]‬
‫بالنصب فقال‪ :‬ماذا يقول هذا؟ هذا السم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلم؟‬

‫وما في القرآن من قوله‪{ :‬وَا ْذكُرْ اسْمَ َرّبكَ َو َت َبتّلْ إَِليْ ِه َتبْتِيلً} [المزمل‪ ،]8 :‬وقوله‪َ { :‬سبّحْ اسْمَ َرّبكَ الَْعْلَى} [العلى‪،]1 :‬‬
‫وقوله‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّى‪َ .‬و َذكَرَ ا ْسمَ َربّ ِه فَصَلّى} [العلى‪ ،]15 ،14 :‬وقوله‪{ :‬فَ َسبّحْ بِاسْمِ َرّبكَ ا ْلعَظِيمِ} [الواقعة‪،]96 :‬‬
‫ونحو ذلك ل يقتضي ذكره مفردًا‪ ،‬بل في السنن أنه لما نزل قوله‪{ :‬فَ َسبّ ْح بِا ْسمِ َرّبكَ ا ْلعَظِيمِ} [الواقعة‪ ،]96 :‬قال‪( :‬‬
‫اجعلوها في ركوعكم) ولما نزل قوله‪َ { :‬سبّحْ اسْمَ َرّبكَ الَْعْلَى} قال‪( :‬اجعلوها في سجودكم)‪ .‬فشرع لهم أن يقولوا في‬
‫الركوع‪ :‬سبحان ربي العظيم‪ ،‬وفي السجود سبحان ربي العلى‪ ،‬وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه‪( :‬سبحان‬
‫ربي العظيم) وفي سجوده‪( :‬سبحان ربي العلى) وهذا هو معنى قوله‪( :‬اجعلوها في ركوعكم) و(سجودكم) باتفاق‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫فتسبيح اسم ربه العلى وذكر اسم ربه‪ ،‬ونحو ذلك هو بالكلم التام المفيد‪ ،‬كما في الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم‬
‫أنه قال‪( :‬أفضل الكلم بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ‪ :‬سبحان ‪/‬الّ‪ ،‬والحمد لّ‪ ،‬ول إله إل الّ‪ ،‬والّ أكبر)‪ ،‬وفي‬
‫الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪ ،‬حبيبتان إلى الرحمن‪:‬‬
‫سبحان الّ وبحمده‪ ،‬سبحان الّ العظيم)‪ ،‬وفي الصحيحين عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬من قال في يومه مائة‬
‫مرة‪ :‬ل إله إل الّ وحده ل شريك له‪ ،‬له الملك‪ ،‬وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪ ،‬كتب الّ له حرزًا من الشيطان‬
‫يومه ذلك حتى يمسى‪ ،‬ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به‪ ،‬إل رجل قـال مثل ما قال أو زاد عليه‪ .‬ومـن قال في يومـه‬
‫مائة مـرة‪ :‬سبحان الّ وبحمده سبحان الّ العظيم‪ ،‬حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)‪ ،‬وفي الموطأ وغيره‬
‫ل وحده ل شريك له له الملك‬ ‫عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي ل إله إل ا ّ‬
‫وله الحمد وهو على كل شيء قدير)‪ .‬وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬أفضل الذكر ل‬
‫إله إل الّ‪ ،‬وأفضل الدعاء الحمد لّ)‪.‬‬

‫ومثل هذه الحاديث كثيرة في أنواع ما يقال من الذكر والدعاء‪.‬‬

‫سمُ الِّ عََليْهِ} [النعام‪ ،]121 :‬وقوله‪َ { :‬فكُلُوا ِممّا َأ ْم َ‬


‫سكْنَ‬ ‫وكذلك ما في القرآن من قوله تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ل تَ ْأكُلُوا ِممّا َل ْم يُ ْذكَرْ ا ْ‬
‫عََل ْيكُمْ وَا ْذكُرُوا ا ْسمَ الِّ عََليْهِ} [المائدة‪ ،]4 :‬إنما هو قوله‪ :‬بسم الّ‪ .‬وهذا جملة تامة إما اسمية‪ ،‬على أظهر ‪ /‬قولي النحاة‪،‬‬
‫أو فعلىة‪ ،‬والتقدير ذبحي باسم الّ‪ ،‬أو أذبح باسم ال‪ ،‬وكذلك قول القارئ‪{ :‬بِسْمِ الِّ الرّ ْحمَنِ الرّحِيمِ} فتقديره‪ :‬قراءتي‬
‫بسم الّ‪ ،‬أو أقرأ بسم الّ‪.‬‬

‫ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي بسم الّ‪ ،‬أو ابتدأت بسم الّ‪ .‬والول أحسن؛ لن الفعل كله مفعول بسم الّ‪،‬‬
‫ليس مجرد ابتدائه‪ ،‬كما أظهر المضـمر في قــوله‪{ :‬اقْرَ ْأ بِاسْمِ َرّبكَ اّلذِي خَلَقَ} [العلق‪ ،]1 :‬وفي قوله‪{ :‬بِِاسْمِ الِّ‬
‫مَجْرَاهَا َومُرْسَاهَا} [هود‪ ،]41 :‬وفي قول النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬من كان ذبح قبل الصلة فليذبح مكانها‬
‫أخرى‪ .‬ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم الّ)‪ .‬ومن هذا الباب قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لربيبه‬
‫عمر بن أبي سلمة‪( :‬بسم الّ‪ ،‬وكل بيمينك‪ ،‬وكل مما يليك) فالمراد أن يقول بسم الّ‪ .‬ليس المراد أن يذكر السم‬
‫مجردًا‪ .‬وكذلك قوله في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم‪( :‬إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الّ فكل)‪ ،‬وكذلك قوله‬
‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم الّ عند دخوله‪ ،‬وعند خروجه‪ .‬وعند طعامه‪ ،‬قال الشيطان ل‬
‫مبيت لكم ول عشاء) وأمثال ذلك كثير‪.‬‬

‫وكذلك ما شرع للمسلمين في صلتهم وأذانهم‪ ،‬وحجهم وأعيادهم من ذكر الّ تعالى إنما هو بالجملة التامة‪ .‬كقول‬
‫المؤذن‪ :‬الّ أكبر‪ ،‬الّ ‪ /‬أكبر‪ ،‬أشهد أن ل إله إل الّ‪ ،‬أشهد أن محمدًا رسول الّ‪ ،‬وقول المصلي‪ :‬ال أكبر‪ ،‬سبحان‬
‫ربي العظيم‪ ،‬سبحان ربي العلى‪ ،‬سمع الّ لمن حمده‪ ،‬ربنا ولك الحمد‪ ،‬التحيات لّ‪ ،‬وقول الملبي‪ :‬لبيك اللّهم لبيك‪،‬‬
‫وأمثال ذلك‪ ،‬فجميع ما شرعه الّ من الذكر إنما هو كلم تام‪ ،‬ل اسم مفرد ل مظهر ول مضمر‪ ،‬وهذا هو الذي يسمى‬
‫في اللغة كلمة‪ ،‬كقوله‪( :‬كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪ ،‬حبيبتان إلى الرحمن‪ ،‬سبحان الّ وبحمده‬
‫سبحان الّ العظيم)‪ ،‬وقوله‪( :‬أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‪ :‬أل كل شيء ماخل الّ باطل)‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪{ :‬‬
‫صدْقًا وَ َعدْلً} [النعام‪ ،]115 :‬وأمثال ذلك‬ ‫ج مِنْ َأفْوَا ِه ِهمْ} الية [الكهف‪ ،]5 :‬وقوله‪َ { :‬و َتمّ ْ‬
‫ت كَِلمَةُ َرّبكَ ِ‬ ‫ت كَِلمَ ًة تَخْرُ ُ‬
‫َكبُرَ ْ‬
‫مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة‪،‬بل وسائر كلم العرب فإنما يراد به الجملة التامة‪ ،‬كما كانوا يستعملون‬
‫الحرف في السم‪ ،‬فيقولون‪ :‬هذا حرف غريب‪ .‬أي‪ :‬لفظ السم غريب‪.‬‬

‫وقسم سيبويه الكلم إلى اسم‪ ،‬وفعل‪ ،‬وحرف جاء لمعنى‪ ،‬ليس باسم وفعل‪ ،‬وكل من هذه القسام يسمى حرفًا‪ ،‬لكن‬
‫خاصة الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ول فعل‪ ،‬وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء‪ ،‬ولفظ‬
‫الحرف يتناول هذه السماء وغيرها‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف‪/‬‬
‫عشر حسنات‪ :‬أما أني ل أقول‪{ :‬الــم} حرف‪ ،‬ولكن ألف حرف‪،‬ولم حرف‪ ،‬وميم حرف)‪ ،‬وقد سأل الخليل أصحابه‬
‫عن النطق بحرف الزاي من زيد فقالوا‪ :‬زاي‪ ،‬فقال‪ :‬جئتم بالسم‪ ،‬وإنما الحرف [ز]‪.‬‬

‫ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة‪ ،‬وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى‪،‬‬
‫ليس باسم ول فعل‪ ،‬كحروف الجر ونحوها‪ ،‬وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من‬
‫اللفظ‪ ،‬وتارة باسم ذلك الحرف‪ ،‬ولما غلب هذا الصطلح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب‪ ،‬ومنهم من‬
‫يجعل لفظ الكلمة في اللغة لفظًا مشتركًا بين السم مثل وبين الجملة‪ ،‬ول يعرف في صريح اللغة من لفظ الكلمة إل‬
‫الجملة التامة‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الّ ـ سبحانه ـ هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلم‪ ،‬والواحد منه بالكلمة‪،‬‬
‫وهو الذي ينفع القلوب‪ ،‬ويحصل به الثواب والجر‪ ،‬والقرب إلى الّ ومعرفته ومحبته وخشيته‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫المطالب العالية والمقاصد السامية‪ ،‬وأما القتصار على السم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فل أصل له‪ .‬فضل عن أن‬
‫يكون من ذكر الخاصة والعارفين‪ ،‬بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضللت وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة‬
‫من أحوال أهل اللحاد‪ ،‬وأهل التحاد‪ ،‬كما قد بسط الكلم عليه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫‪/‬وجماع الدين أصلن‪ :‬أل نعبد إل الّ‪ ،‬ول نعبده إل بما شرع‪ ،‬ل نعبده بالبدع‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬فمَنْ كَانَ يَرْجُوا ِلقَاءَ‬
‫عمَلً صَالِحًا َولَ يُشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدًا} [الكهف‪ ،]110 :‬وذلك تحقيق الشهادتين‪ :‬شهادة أن ل إله إل‬ ‫رَبّهِ فَلْ َي ْع َملْ َ‬
‫الّ‪ ،‬وشهادة أن محمدًا رسول الّ‪ .‬ففي الولى‪ :‬أل نعبد إل إياه‪ ،‬وفي الثانية‪ :‬أن محمدًا هو رسوله المبلغ عنه‪ ،‬فعلىنا‬
‫أن نصدق خبره ونطيع أمره‪ ،‬وقد بين لنا ما نعبد الّ به‪ ،‬ونهانا عن محدثات المور‪ ،‬وأخبر أنها ضللة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{بَلَى مَنْ َأسْلَمَ َو ْجهَهُ لِّ وَهُ َو مُحْسِ ٌن فَلَهُ أَجْرُهُ ِع ْندَ َربّهِ َولَ خَوْفٌ عََل ْيهِمْ َولَ ُه ْم يَحْ َزنُونَ} [البقرة‪.]112 :‬‬

‫كما أنا مأمورون أل نخاف إل الّ ول نتوكل إل على الّ‪ ،‬ول نرغب إل إلى الّ‪ ،‬ول نستعين إل بالّ‪ ،‬وأل تكون‬
‫عبادتنا إل لّ‪ ،‬فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به‪ ،‬فالحلل ما حلله والحرام ما حرمه‪ ،‬والدين‬
‫غبُونَ}‬ ‫ن فَضْلِهِ َورَسُولُهُ ِإنّا إِلَى الِّ رَا ِ‬
‫لّ مِ ْ‬
‫سيُ ْؤتِينَا ا ُ‬ ‫ما شرعه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وََلوْ َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ‬
‫س ُبنَا الُّ َ‬
‫[التوبة‪ ،]59 :‬فجعل اليتاء لّ والرسول‪ ،‬كما قال‪َ { :‬ومَا آتَا ُكمْ الرّسُو ُل فَ ُخذُوهُ َومَا نَهَا ُكمْ َعنْهُ فَانْ َتهُوا} [الحشر‪،]7 :‬‬
‫س ُبنَا الُّ} ولم يقل ورسوله‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪{ :‬اّلذِي َ‬
‫ن قَالَ َل ُهمْ‬ ‫ل وحده بقوله‪َ { :‬وقَالُوا حَ ْ‬ ‫وجعل التوكل على ا ّ‬
‫س َقدْ َج َمعُوا َل ُك ْم فَا ْخشَوْهُ ْم َفزَادَهُمْ إِيمَانًا َوقَالُوا َح ْسُبنَا الُّ َو ِنعْمَ الْ َوكِيلُ} [آل عمران‪ ،]173 :‬ومثله قوله‪{ :‬يَاأَ ّيهَا‬ ‫النّاسُ إِنّ النّا َ‬
‫لّ ِبكَافٍ‬ ‫لّ َومَنْ اتّ َب َعكَ مِنْ ا ْل ُم ْؤمِنِينََ} [النفال‪ ،]64 :‬أي‪ / :‬حسبك وحسب المؤمنين كما قال‪{ :‬أََليْسَ ا ُ‬ ‫حسْ ُبكَ ا ُ‬
‫النّ ِبيّ َ‬
‫َعبْدَهُ} [الزمر‪.]36 :‬‬
‫لّ مِ ْن فَضْلِهِ َورَسُولُهُ}‪ ،‬فجعل اليتاء لّ والرسول‪ ،‬وقدم ذكر الفضل‪ ،‬لن الفضل بيد الّ يؤتيه من‬ ‫ثم قال‪َ { :‬‬
‫سيُ ْؤتِينَا ا ُ‬
‫يشاء والّ ذو الفضل العظيم‪ ،‬وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين‪ ،‬وقال‪ِ{ :‬إنّا إِلَى الِّ رَا ِغبُونَ} فجعل الرغبة إلى‬
‫ك فَارْغَبْ} [الشرح‪ ،]8 ،7 :‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم لبن‬ ‫الّ وحده كما في قوله‪{ :‬فَِإذَا فَرَغْ َ‬
‫ت فَانصَبْ ‪َ .‬وإِلَى َرّب َ‬
‫عباس‪( :‬إذا سألت فاسأل الّ‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن بالّ)‪ .‬والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع‪.‬‬

‫فجعل العبادة والخشية والتقوى لّ‪ ،‬وجعل الطاعة والمحبة لّ ورسوله‪ ،‬كما في قول نوح ـ عليه السلم ـ‪{ :‬أَنْ اعْبُدُوا‬
‫لّ وَيَ ّتقِيهِ فَُأوْلَ ِئكَ هُمْ ا ْلفَائِزُونَ} [النور‪:‬‬
‫خشَ ا َ‬ ‫لّ وَا ّتقُو ُه وَأَطِيعُونِي} [نوح‪ ،]3 :‬وقوله‪َ { :‬ومَنْ يُطِعْ ا َ‬
‫لّ وَرَسُولَ ُه وَيَ ْ‬ ‫ا َ‬
‫‪ ،]52‬وأمثال ذلك‪.‬‬

‫فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه‪،‬والطاعة لهم‪ ،‬فأضل الشيطان النصارى‪ ،‬وأشباههم فأشركوا‬
‫بالّ‪ ،‬وعصوا الرسول‪ ،‬اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون ال والمسيح ابن مريم‪ ،‬فجعلوا يرغبون إليهم‬
‫ل المؤمنين المخلصين لّ أهل الصراط‬ ‫ويتوكلون عليهم ويسألونهم‪ ،‬مع معصيتهم لمرهم ومخالفتهم لسنتهم‪ ،‬وهدى ا ّ‬
‫المستقيم‪ ،‬الذين عرفوا الحق واتبعوه‪ / ،‬فلم يكونوا من المغضوب عليهم ول الضالين‪ ،‬فأخلصوا دينهم لّ‪ ،‬وأسلموا‬
‫وجوههم لّ‪ ،‬وأنابوا إلى ربهم‪ ،‬وأحبوه ورجوه وخافوه‪،‬وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه‪،‬‬
‫وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم‪ ،‬واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم‪.‬‬

‫وذلك هو دين السلم الذي بعث الّ به الولين والخرين من الرسل‪ ،‬وهو الدين الذي ل يقبل الّ من أحد دينًا إل‬
‫إياه‪ ،‬وهو حقيقة العبادة لرب العالمين‪.‬‬

‫فنسأل الّ العظيم أن يثبتنا عليه‪ ،‬ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين‪.‬‬

‫والحمد لّ وحده‪ ،‬وصلى الّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬

‫سُئلَ شَيْخُ الِسْلم ابن تيمية ـ قدس الّ روحه ـ عن قول النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬دعوة أخي ذي النون‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ‬
‫َأنْتَ ُسبْحَا َنكَ ِإنّي كُنتُ مِنْ الظّاِلمِينَ}[النبياء‪ .]87 :‬ما دعا بها مكروب إل فرج الّ كربته) ما معنى هذه الدعوة؟ ولم‬
‫كانت كاشفة للكرب؟ وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها؟ وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها‪ .‬حتى يوجب‬
‫ت مِنْ الظّاِلمِينَ}‪ ،‬مع أن التوحيد يوجب كشف الضر؟ وهل يكفيه اعترافه‪ ،‬أم‬‫كشف ضره؟ وما مناسبة ذكره‪ِ{ :‬إنّي كُن ُ‬
‫لبد من التوبة والعزم في المستقبل؟ وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق‬
‫والتعلق بهم؟ وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين‪ ،‬والتعلق بهم بالكلية‪ ،‬وتعلقه بالّ ـ تعالى ـ ورجائه‬
‫وانصرافه إليه بالكلية‪ ،‬وما السبب المعين على ذلك ؟‬

‫فأجاب‪:‬‬

‫الحمد لّ رب العالمين‪ ،‬لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين‪ :‬دعاء العبادة‪/ ،‬ودعاء المسألة‪.‬‬

‫ن مِنْ ا ْل ُمعَ ّذبِينَ} [الشعراء‪ ،]213 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َي ْدعُ مَعَ الِّ إَِلهًا آخَ َر لَ‬ ‫ع مَعَ الِّ إَِلهًا آخَ َر َف َتكُو َ‬ ‫ل َتدْ ُ‬ ‫قال الّ تعالى‪{ :‬فَ َ‬
‫ل تَ ْدعُ مَعَ الِّ إَِلهًا آخَ َر لَ إِلَهَ ِإلّ‬ ‫ل يُفْلِحُ ا ْلكَافِرُونَ} [المؤمنون‪ ،]117 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و َ‬ ‫ع ْندَ َربّهِ ِإنّ ُه َ‬
‫بُرْهَانَ لَ ُه بِ ِه فَِإّنمَا حِسَابُهُ ِ‬
‫ن مِنْ‬ ‫ن يَدْعُو َ‬‫لّ َيدْعُو ُه كَادُوا َيكُونُونَ عََليْهِ ِل َبدًا} [الجن‪ ،]19 :‬وقال‪{ :‬إِ ْ‬ ‫هُوَ} [القصص‪ ،]88 :‬وقال‪{ :‬وََأنّهُ َلمّا قَامَ َ‬
‫عبْدُ ا ِ‬
‫ستَجِيبُونَ‬ ‫ل يَ ْ‬
‫ن مِنْ دُونِ ِه َ‬ ‫ن يَدْعُو َ‬ ‫شيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء‪ ،]117 :‬وقال تعالى‪{ :‬لَ ُه دَعْوَةُ ا ْلحَقّ وَاّلذِي َ‬ ‫ن يَدْعُونَ ِإلّ َ‬ ‫دُونِهِ ِإلّ ِإنَاثًا وَإِ ْ‬
‫ن مَعَ الِّ إَِلهًا آخَرَ َولَ‬ ‫ن لَ َيدْعُو َ‬ ‫ط َك ّفيْهِ ِإلَى ا ْلمَاءِ ِل َيبْلُ َغ فَاهُ َومَا هُ َو ِببَاِلغِهِ} [الرعد‪ ،]14 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَاّلذِي َ‬
‫ل َكبَاسِ ِ‬
‫يءٍ ِإ ّ‬ ‫َلهُ ْم بِشَ ْ‬
‫ل دُعَا ُؤكُمْ}‬ ‫ل مَا َي ْعبَُأ ِبكُمْ َربّي لَ ْو َ‬‫يَ ْقتُلُونَ النّ ْفسَ اّلتِي حَرّمَ الُّ ِإلّ بِالْحَقّ َولَ يَ ْزنُونَ} [الفرقان‪ ،]68 :‬وقال في آخر السورة‪{ :‬قُ ْ‬
‫[الفرقان‪.]77 :‬‬

‫قيل‪ :‬لول دعاؤكم إياه‪ ،‬وقيل‪ :‬لول دعاؤه إياكم‪ .‬فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة‪ ،‬وإلى المفعول تارة‪ ،‬ولكن‬
‫إضافته إلى الفاعل أقوى؛ لنه لبد له من فاعل؛ فلهذا كان هذا أقوى القولين أي‪ :‬ما يعبأ بكم لول أنكم تدعونه‬
‫ف َيكُونُ ِلزَامًا} [الفرقان‪ ]77 :‬أي‪ :‬عذاب لزم للمكذبين‪.‬‬
‫فتعبدونه‪ ،‬وتسألونه‪َ { :‬ف َقدْ َكذّ ْبتُ ْم فَسَ ْو َ‬
‫ولفظ الصلة في اللغة‪ :‬أصله الدعاء‪ ،‬وسميت الصلة دعاء لتضمنها معنى الدعاء‪ ،‬وهو العبادة والمسألة‪.‬‬

‫‪/‬وقد فسر قوله تعالى‪{ :‬ادْعُونِي أَ ْستَجِبْ َلكُمْ} [غافر‪ ،]60 :‬بالوجهين‪،‬قيل‪ :‬اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم‪ .‬كما‬
‫قال تعالى‪َ { :‬ويَ ْستَجِيبُ اّلذِي َن آ َمنُوا وَ َعمِلُوا الصّالِحَاتِ} [الشورى‪ ]26 :‬أي‪ :‬يستجيب لهم‪ ،‬وهو معروف في اللغة‪ ،‬يقال‪:‬‬
‫استجابه واستجاب له‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬

‫وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب‬

‫وقيل‪ :‬سلوني أعطكم‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل‬
‫الخر‪ ،‬فيقول‪ :‬من يدعوني فأستجيب له‪ ،‬من يسألني فأعطيه‪ ،‬من يستغفرني فأغفر له) فذكر أولً لفظ الدعاء‪ ،‬ثم ذكر‬
‫السؤال والستغفار‪ .‬والمستغفر سائل كما أن السائل داع‪ ،‬لكن ذكر السائل؛ لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير‪،‬‬
‫وذكرهما جميعًا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما‪ ،‬فهو من باب عطف الخاص على العام‪.‬‬

‫ب دَعْوَةَ الدّاعِي ِإذَا دَعَانِي} [البقرة‪.]186 :‬‬


‫عنّي فَِإنّي َقرِيبٌ أُجِي ُ‬
‫عبَادِي َ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬وَِإذَا َ‬
‫سأََلكَ ِ‬

‫وكل سائل راغب راهب‪ ،‬فهو عابد للمسؤول‪ ،‬وكل عابد له ‪ /‬فهو أيضًا راغب وراهب‪ ،‬يرجو رحمته ويخاف عذابه‪،‬‬
‫فكل عابد سائل‪ ،‬وكل سائل عابد‪ .‬فأحد السمين يتناول الخر عند تجرده عنه‪ ،‬ولكن إذا جمع بينهما‪ :‬فإنه يراد‬
‫بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب‪ ،‬ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال المر‪،‬‬
‫وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال‪.‬‬

‫والعابد الذي يريد وجه الّ‪ ،‬والنظر إليه هو ـ أيضًا ـ راج خائف راغب راهب‪ :‬يرغب في حصول مراده‪ ،‬ويرهب‬
‫غبًا َورَ َهبًا} [النبياء‪ ،]90 :‬وقال تعالى‪{ :‬تَتَجَافَى‬
‫خيْرَاتِ َويَدْعُو َننَا رَ َ‬ ‫من فواته‪ ،‬قال تعالى‪ِ{ :‬إّنهُ ْم كَانُوا يُسَارِعُو َ‬
‫ن فِي ا ْل َ‬
‫ط َمعًا} [السجدة‪ ،]16 :‬ول يتصور أن يخلو داع لّ ـ دعاء عبادة أو دعاء‬ ‫جنُو ُبهُمْ عَنْ ا ْلمَضَاجِ ِع َيدْعُونَ َربّهُمْ خَ ْوفًا وَ َ‬
‫ُ‬
‫مسألة ـ من الرغب والرهب‪ ،‬من الخوف والطمع‪.‬‬

‫وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة‪ ،‬فهذا قد يفسر مراده بأن المقربين يريدون‬
‫وجه الّ‪ ،‬فيقصدون التلذذ بالنظر إليه‪ ،‬وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به‪ ،‬وهؤلء يرجون حصول هذا المطلوب‪،‬‬
‫ويخافون حرمانه‪ ،‬فلم يخلوا عن الخوف والرجاء‪ ،‬لكن مرجوهم ومخوفهم بحسب مطلوبهم‪.‬‬

‫ومن قال من هؤلء‪ :‬لم أعبدك شوقًا إلى جنتك ول خوفًا من نارك‪ /،‬فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات‪،‬‬
‫والنار اسم لما ل عذاب فيه إل ألم المخلوقات‪ ،‬وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة‪ ،‬بل كل ما أعده الّ‬
‫لوليائه‪ ،‬فهو من الجنة والنظر إليه هو من الجنة؛ ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الّ الجنة‪ ،‬ويستعيذ به من النار‪ ،‬ولما‬
‫سأل بعض أصحابه عما يقول في صلته قال‪ :‬إني أسأل الّ الجنة‪ ،‬وأعوذ بالّ من النار‪ ،‬أما إني ل أحسن دندنتك ول‬
‫دندنة معاذ‪ ،‬فقال‪( :‬حولها ندندن)‪.‬‬

‫وقد أنكر على من قال هذا الكلم ـ يعني‪ :‬أسألك لذة النظر إلى وجهك ـ فريق من أهل الكلم‪ ،‬ظنوا أن الّ ل يتلذذ‬
‫بالنظر إليه‪ ،‬وأنه ل نعيم إل بمخلوق‪ .‬فغلط هؤلء في معنى الجنة كما غلط أولئك‪ ،‬لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن‬
‫يطلب‪ ،‬وهؤلء أنكروا ذلك‪.‬‬

‫وأما التألم بالنار‪ ،‬فهو أمر ضروري‪ ،‬ومن قال‪ :‬لو أدخلني النار لكنت راضيًا‪ ،‬فهو عزم منه على الرضا‪ .‬والعزائم قد‬
‫تنفسخ عند وجود الحقائق‪ ،‬ومثل هذا يقع في كلم طائفة مثل سمنون الذي قال‪:‬‬

‫وليس لي في سواك حظ ** فكيف ما شئت فامتحني‬

‫فابتلى بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول‪ :‬ادعوا لعمكم الكذاب‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وََل َقدْ ُك ْنتُ ْم تَ َمنّوْن ا ْلمَ ْوتَ‬
‫مِنْ َقبْلِ أَ ْن تَ ْلقَوْ ُه فَ َقدْ رََأ ْيُتمُوهُ وََأ ْنتُ ْم َتنْظُرُونَ} [آل عمران‪.]143 :‬‬
‫‪/‬وبعض من تكلم في علل المقامات‪ ،‬جعل الحب والرضا والخوف والرجاء‪ ،‬من مقامات العامة بناء على مشاهدة‬
‫القدر‪ ،‬وأن من شهد القدر فشهد توحيد الفعال حتى فنى من لم يكن‪ ،‬وبقى من لم يزل‪ ،‬يخرج عن هذه المور‪ ،‬وهذا‬
‫كلم مستدرك حقيقة وشرعًا‪.‬‬

‫أما الحقيقة‪ ،‬فإن الحي ل يتصور أل يكون حساسًا محبًا لما يلئمه‪ ،‬مبغضًا لما ينافره‪ ،‬ومن قال إن الحي يستوى عنده‬
‫جميع المقدورات‪ ،‬فهو أحد رجلين‪ ،‬إما أنه ل يتصور ما يقول بل هو جاهل‪ ،‬وإما أنه مكابر معاند‪ ،‬ولو قدر أن‬
‫النسان حصل له حال أزال عقله ـ سواء سمي اصطلمًا‪ ،‬أو محوا‪ ،‬أو فناء‪ ،‬أو غشيًا‪ ،‬أو ضعفًا ـ فهذا لم يسقط‬
‫إحساس نفسه بالكلية‪ ،‬بل له إحساس بما يلئمه وما ينافره‪ ،‬وإن سقط إحساسه ببعض الشياء‪ ،‬فإنه لم يسقط بجميعها‪.‬‬

‫فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع‪ ،‬والفناء‪ ،‬فل يشهد فرقًا فإنه غالط‪ ،‬بل لبد من الفرق‪،‬‬
‫فإنه أمر ضروري‪.‬‬

‫لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقى في الفرق الطبيعي‪ ،‬فيبقى متبعًا لهواه ل مطيعًا لموله‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا لما وقعت هذه المسألة‪،‬بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق الثاني‪،‬وهو‪ :‬أن يفرق بين المأمور والمحظور‪،‬‬
‫ل وما يكرهه‪ ،‬مع شهوده للقدر الجامع‪ ،‬فيشهد الفرق في القدر الجامع‪ .‬ومن لم يفرق بين المأمور‬
‫وبين ما يحبه ا ّ‬
‫والمحظور‪ ،‬خرج عن دين السلم‪.‬‬

‫وهؤلء الذين يتكلمون في الجمع ل يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية‪ ،‬وإن خرجوا عنه كانوا كفارًا من شر‬
‫الكفار‪ ،‬وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم‪ ،‬ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود‪ ،‬فل يفرقون بين‬
‫الخالق والمخلوق‪ ،‬ولكن ليس كل هؤلء ينتهون إلى هذا اللحاد‪ ،‬بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون الّ ورسوله‬
‫تارة‪ ،‬ويعصون الّ ورسوله تارة‪ ،‬كالعصاة من أهل القبلة‪ .‬وهذه المور مبسوطة في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن لفظ الدعوة والدعاء‪ ،‬يتناول هذا وهذا‪ ،‬قال الّ ـ تعالى ـ‪{ :‬وَآ ِخ ُر دَعْوَاهُمْ أَنْ ا ْل َحمْدُ لِّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [‬
‫يونس‪ ،]10 :‬وفي الحديث‪( :‬أفضل الذكر ل إله إل الّ‪ ،‬وأفضل الدعاء الحمد لّ) رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا‪.‬‬
‫وقال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره‪( :‬دعـوة أخي ذي النون‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُ‬
‫سبْحَا َنكَ‬
‫ت مِنْ الظّاِلمِينَ} [النبياء‪ ،]87 :‬ما دعا بها مكروب إل فرج الّ كربته)‪ ،‬سماها دعوة‪ ،‬لنها تتضمن نوعي‬ ‫ِإنّي كُن ُ‬
‫الدعاء‪ .‬فقوله ل إله إل أنت اعتراف بتوحيد اللهية‪/ .‬وتوحيد اللهية يتضمن أحد نوعي الدعاء‪ ،‬فإن الله هو‬
‫المستحق؛ لن يدعي دعاء عبادة‪ ،‬ودعاء مسألة‪ ،‬وهو الّ ل إله إل هو‪.‬‬

‫ت مِنْ الظّاِلمِينَ} اعتراف بالذنب‪ ،‬وهو يتضمن طلب المغفرة‪ ،‬فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة‬ ‫وقوله‪ِ{ :‬إنّي كُن ُ‬
‫الطلب‪ ،‬وتارة يسأل بصيغة الخبر‪ ،‬إما بوصف حاله‪ ،‬وإما بوصف حال المسؤول‪ ،‬وإما بوصف الحالين‪ .‬كقول نوح ـ‬
‫عليه السلم‪َ { :‬ربّ ِإنّي أَعُو ُذ ِبكَ أَنْ أَسَْأَلكَ مَا َليْسَ لِي بِهِ عِ ْلمٌ وَِإ ّل َتغْفِرْ لِي َوتَرْ َح ْمنِي َأكُ ْن مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود‪ ]47 :‬فهذا‬
‫ليس صيغة طلب‪ ،‬وإنما هو إخبار عن الّ أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر‪.‬‬

‫ح ْمنَا َل َنكُونَنّ‬ ‫ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة‪ ،‬وكذلك قول آدم ـ عليه السلم‪َ { :‬رّبنَا ظََل ْمنَا أَن ُف َ‬
‫سنَا وَإِنْ َل ْم َتغْفِرْ َلنَا َوتَرْ َ‬
‫ي مِنْ‬ ‫مِنْ الْخَاسِرِينَ} [العراف‪ ،]23 :‬هو من هذا الباب‪ ،‬ومن ذلك قول موسى ـ عليه السلم‪{ :‬رَبّ ِإنّي ِلمَا أَنزَ ْلتَ إَِل ّ‬
‫َخيْ ٍر َفقِيرٌ} [القصص‪ ،]24 :‬فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الّ إليه من الخير‪ ،‬وهو متضمن لسؤال الّ‬
‫إنزال الخير إليه‪.‬‬

‫وقد روى الترمذي‪ ،‬وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي‪،‬‬
‫أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن‪ ،‬ورواه مالك بن الحويرث ‪ /‬وقال‪" :‬من شغله‬
‫ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"‪ ،‬وأظن البيهقي رواه مرفوعًا بهذا اللفظ‪.‬‬

‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد‬ ‫وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله‪( :‬أفضل الدعاء يوم عرفة‪ :‬ل إله إل ا ّ‬
‫وهو على كل شيء قدير) فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جُدْعَان‪:‬‬
‫أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حباؤك أن شيمتك الحباء‬

‫إذا أثنى عليك المرء يومـــا ** كفاه من تعرضه الثنــاء‬

‫قال‪ :‬فهذا مخلوق يخاطب مخلوقًا‪ ،‬فكيف بالخالق تعالى‪.‬‬

‫ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى ـ عليه السلم ـ‪( :‬اللّهم لك الحمد‪ ،‬وإليك المشتكى‪ ،‬وأنت المستعان‪ ،‬وبك‬
‫المستغاث‪ ،‬وعليك التكلن) فهذا خبر يتضمن السؤال‪.‬‬

‫ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلم‪َ{ :‬أنّي مَ ّسنِي الضّرّ وََأنْتَ َأرْحَمُ الرّا ِحمِينَ} [النبياء‪ ،]83 :‬فوصف نفسه‪،‬‬
‫ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره‪ ،‬وهي صيغة خبر تضمنت السؤال‪ .‬و هذا من باب حسن‬
‫الدب في السؤال والدعاء‪ ،‬فقول القائل لمن يعظمه‪ ،‬ويرغب إليه‪ :‬أنا جائع‪ ،‬أنا ‪ /‬مريض‪ ،‬حسن أدب في السؤال‪ .‬وإن‬
‫كان في قوله‪ :‬أطعمني‪ ،‬وداوني‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مما هو بصيغة الطلب‪ ،‬طلب جازم من المسؤول‪ ،‬فذاك فيه إظهار حاله‬
‫وإخباره على وجه الذل والفتقار المتضمن لسؤال الحال‪ ،‬وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب‪.‬‬

‫وهذه الصيغة ـ صيغة الطلب والستدعاء ـ إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب‪ ،‬أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬فإنها تقال على وجه المر‪ :‬إما لما في ذلك من حاجة الطالب‪ ،‬وإما لما فيه من نفع المطلوب‪ ،‬فأما إذا‬
‫كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه‪ ،‬فإنها سؤال محض بتذلل‪ ،‬وافتقار‪ ،‬وإظهار الحال‪.‬‬

‫ووصف الحاجة والفتقار هو سؤال بالحال‪ ،‬وهو أبلغ من جهة العلم والبيان‪.‬‬

‫وذلك أظهر من جهة القصد والرادة؛ فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني‪ ،‬لن الطالب السائل يتصور مقصوده‬
‫ومراده‪ ،‬فيطلبه ويسأله‪ ،‬فهو سؤال بالمطابقة والقصد الول‪ .‬وتصريح به باللفظ‪ ،‬وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل‬
‫والمسؤول‪ ،‬فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين‪ ،‬فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضى للسؤال والجابة‪،‬‬
‫ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال‪ ،‬فيتضمن السؤال والمقتضى له والجابة ‪ /‬كقول النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم لبي بكر الصديق ـ رضي الّ تعالى عنه ـ لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلتي‪ ،‬فقال‪( :‬قل‪ :‬اللّهم إني‬
‫ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا‪ ،‬ول يغفر الذنوب إل أنت‪ ،‬فاغفرلي مغفرة من عندك‪ ،‬وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)‪.‬‬
‫أخرجاه في الصحيحين‪.‬‬

‫فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضى حاجته إلى المغفرة‪ ،‬وفيه وصف ربه الذي يوجب‪ ،‬أنه ل يقدر على هذا‬
‫المطلوب غيره‪ ،‬وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه‪ ،‬وفيه بيان المقتضى للجابة‪،‬وهو وصف الرب‬
‫بالمغفرة‪،‬والرحمة‪،‬فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب‪.‬‬

‫وكثير من الدعية يتضمن بعض ذلك‪ ،‬كقول موسى ـ عليه السلم ـ‪َ{ :‬أنْتَ وَِلّينَا فَاغْ ِفرْ َلنَا وَارْ َح ْمنَا وََأنْتَ َخيْرُ ا ْلغَا ِفرِينَ} [‬
‫ت نَفْسِي فَاغْ ِفرْ لِي} [القصص‪:‬‬ ‫العراف‪ ،]155 :‬فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الجابة‪ .‬وقوله‪َ { :‬ربّ ِإنّي َ‬
‫ظَلمْ ُ‬
‫ي مِنْ َخيْ ٍر َفقِيرٌ} [القصص‪ ،]24 :‬فيه الوصف‬ ‫‪ ،]16‬فيه وصف حال النفس والطلب‪ ،‬وقوله‪ِ{ :‬إنّي ِلمَا أَنزَ ْلتَ إِلَ ّ‬
‫المتضمن للسؤال بالحال‪ ،‬فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة‪.‬‬

‫يبقى أن يقال‪ :‬فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب؟‬

‫‪/‬فيقال‪ :‬لن المقام مقام اعتراف‪ ،‬بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي‪ ،‬فأصل الشر هو الذنب‪ ،‬والمقصود دفع الضر‪،‬‬
‫والستغفار جاء بالقصد الثاني‪ ،‬فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لستشعاره أنه مسيء ظالم‪ ،‬وهو الذي أدخل‬
‫الضر على نفسه‪ ،‬فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من العتراف بظلمه‪ ،‬ولم يذكر صيغة طلب المغفرة؛ لنه‬
‫مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني‪ ،‬بخلف كشف الكرب‪ ،‬فإنه مقصود له في حال وجــوده بالقصد الول‪ ،‬إذ‬
‫النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها‪ ،‬زوال ما تخاف وجوده من‬
‫الضرر في المستقبل بالقصد الثاني‪ ،‬والمقصود الول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر‪ ،‬فهذا مقدم في‬
‫قصده وإرادته‪ ،‬وأبلغ ما ينال به رفع سببه‪ ،‬فجاء بما يحصل مقصوده‪.‬‬
‫وهذا يتبين بالكلم على قوله‪{ :‬سُ ْبحَانَك} فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه‪ ،‬والمقام يقتضى تنزيهه عن‬
‫الظلم والعقوبة بغير ذنب‪ ،‬يقول‪ :‬أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب؛ بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي‪،‬‬
‫قال تعالى‪َ { :‬ومَا ظََل ْمنَاهُمْ َوَلكِنْ كَانُوا أَنفُ َسهُ ْم يَظِْلمُونَ} [النحل‪،]118 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا ظََل ْمنَاهُمْ َوَلكِنْ ظََلمُوا أَنفُ َس ُهمْ}[‬
‫هود‪،]101 :‬وقال‪َ { :‬ومَا ظََل ْمنَاهُمْ َوَلكِنْ كَانُوا هُمْ الظّاِلمِينَ} [الزخرف‪ ،]76 :‬وقال آدم ـ عليه السلم ـ‪َ { :‬رّبنَا ظََل ْمنَا‬
‫أَنفُ َسنَا} [العراف‪.]23 :‬‬

‫‪/‬وكذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الستفتاح‪( :‬اللهم أنت الملك ل‬
‫إله إل أنت‪ ،‬أنت ربي وأنا عبدك‪ ،‬ظلمت نفسي واعترفت بذنبي‪ ،‬فاغفرلي ذنوبي جميعًا‪ ،‬فإنه ل يغفر الذنوب إل‬
‫أنت)‪ ،‬وفي صحيح البخاري‪( :‬سيد الستغفار أن يقول العبد‪ :‬اللهم أنت ربي ل إله إل أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على‬
‫عهدك ووعدك ما استطعت‪ ،‬أعوذ بك من شر ما صنعت‪ ،‬أبوء لك بنعمتك علي‪ ،‬وأبوء بذنبي فاغفرلي فإنه ل يغفر‬
‫الذنوب إل أنت‪ ،‬من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة‪ ،‬ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من‬
‫ليلته دخل الجنة)‪.‬‬

‫ل وإحسانه‪ ،‬فإنه ل يظلم الناس شيئًا‪ ،‬فل يعاقب أحدًا إل بذنبه‪ ،‬وهو يحسن إليهم‪ ،‬فكل‬
‫فالعبد عليه أن يعترف بعدل ا ّ‬
‫نقمة منه عدل‪ ،‬وكل نعمة منه فضل‪.‬‬

‫فقوله‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} فيه إثبات انفراده باللهية‪ ،‬واللهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته‪ ،‬ففيها إثبات‬
‫إحسانه إلى العباد‪ ،‬فإن الله هو المألوه‪ ،‬والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد‪ ،‬وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به‬
‫من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب‪ ،‬المخضوع له غاية الخضوع‪ ،‬والعبادة تتضمن غاية‬
‫الحب بغاية الذل‪.‬‬

‫‪/‬وقوله‪{ :‬سُ ْبحَا َنكَ} يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم‪ ،‬وغيره من النقائص‪ ،‬فإن التسبيح‪ ،‬وإن كان يقال‪ :‬يتضمن‬
‫نفي النقائص‪ ،‬وقد روى في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي صلى ال عليه وسلم في قول العبد‪:‬‬
‫سبحان الّ‪( :‬إنها براءة الّ من السوء‪ .‬فالنفي ل يكون مدحًا إل إذا تضمن ثبوتا‪ ،‬وإل فالنفي المحض ل مدح فيه‪،‬‬
‫ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله‪ ،‬ولّ السماء الحسنى‪.‬‬

‫وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬ا ُ‬
‫لّ لَ إِلَهَ ِإ ّ‬
‫ل‬
‫ل نَوْمٌ} [البقرة‪ .]255 :‬فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته‪ ،‬وقوله‪{ :‬‬ ‫سنَةٌ َو َ‬
‫خذُهُ ِ‬
‫ل تَأْ ُ‬
‫هُوَ ا ْلحَيّ ا ْل َقيّو ُم َ‬
‫َومَا مَ ّسنَا مِنْ ُلغُوبٍ} [ق‪ ،]38 :‬يتضمن كمال قدرته‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء‪ ،‬ونفي النقص‬
‫عنه يتضمن تعظيمه‪ .‬ففي قوله‪{ :‬سُبْحَا َنكَ} تبرئته من الظلم‪ ،‬وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم‪ ،‬فإن الظالم‬
‫إنما يظلم ؛ لحاجته إلى الظلم أو لجهله‪ ،‬والّ غني عن كل شيء‪ ،‬عليم بكل شيء‪ ،‬وهو غني بنفسه‪ ،‬وكل ما سواه فقير‬
‫إليه‪ ،‬وهذا كمال العظمة‪.‬‬

‫وأيضًا ـ ففي هذا الدعاء التهليل‪ ،‬والتسبيح‪ ،‬فقوله‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} تهليل‪ .‬وقوله‪{ :‬سُبْحَا َنكَ} تسبيح‪ .‬وقد ثبت في‬
‫الصحيح عن ‪ /‬النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ ( :‬أفضل الكلم بعد القرآن أربع‪ ،‬وهن من القرآن‪ ،‬سبحان الّ‪،‬‬
‫والحمد لّ‪ ،‬ول إله إل الّ‪ ،‬والّ أكبر)‪.‬‬

‫والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له‪ ،‬والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له‪ ،‬وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫أنه سئل‪ ،‬أي الكلم أفضل؟ قال‪( :‬ما اصطفى الّ لملئكته‪ :‬سبحان الّ وبحمده)‪ ،‬وفي الصحيحين عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬أنه قال‪( :‬كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪ ،‬حبيبتان إلى الرحمن‪ :‬سبحان الّ وبحمده‪،‬‬
‫سبحان الّ العظيم)‪ ،‬وفي القـرآن {فَ َسبّ ْح بِ َح ْمدِ َرّبكَ} [الحجر‪ ،]98 :‬وقالت الملئكة‪َ { :‬ونَحْ ُن نُ َسبّحُ بِ َح ْم ِدكَ} [البقرة‪:‬‬
‫‪.]30‬‬

‫وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد‪ ،‬والخرى بالتعظيم‪ ،‬فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص‪،‬‬
‫المتضمن إثبات المحاسن والكمال‪ ،‬والحمد إنما يكون على المحاسن‪ ،‬وقرن بين الحمد والتعظيم‪ ،‬كما قرن بين الجلل‬
‫والكرام؛ إذ ليس كل معظم محبوبًا محمودًا‪ ،‬ول كل محبوب محمودًا معظما‪ ،‬وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب‬
‫المتضمن معنى الحمد‪ ،‬وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم‪ ،‬ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن‪ ،‬وفيها‬
‫الذل له الناشئ عن عظمته وكبريائه‪.‬ففيها إجلله وإكرامه‪ .‬وهو ـ سبحانه ـ المستحق للجلل والكرام‪ ،‬فهو مستحق‬
‫غاية الجلل وغاية الكرام‪.‬‬

‫‪/‬ومن الناس من يحسب أن [الجلل] هو الصفات السلبية‪ ،‬و[الكرام] الصفات الثبوتية‪ ،‬كما ذكر ذلك الرازي ونحوه‪.‬‬
‫والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية‪ ،‬وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص‪ ،‬لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن‬
‫حمِيدُ} [ لقمان‪ ،]26 :‬وقول سليمان ـ عليه السلم ـ‪َ { :‬فإِنّ َربّي‬
‫يحب وما يستحق أن يعظم‪ ،‬كقوله‪{ :‬إِنّ الَّ ُهوَ ا ْل َغنِيّ ا ْل َ‬
‫ي كَرِيمٌ} [ النمل‪ ،]40 :‬وكذلك قوله‪{ :‬لَهُ ا ْلمُ ْلكُ وَلَهُ الْ َح ْمدُ} [ التغابن‪ ،]1 :‬فإن كثيرًا ممن يكون له الملك والغنى ل‬
‫غنِ ّ‬
‫َ‬
‫يكون محمودًا بل مذمومًا‪ ،‬إذ الحمد يتضمن الخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة‪ ،‬فيتضمن إخبارًا بمحاسن‬
‫المحبوب محبة له‪.‬‬

‫وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك‪ .‬فالول يهاب‬
‫ويخاف ول يحب‪ ،‬وهذا يحب ويحمد‪ ،‬ول يهاب ول يخاف‪ ،‬والكمال اجتماع الوصفين‪ ،‬كما ورد في الثر‪( :‬إن‬
‫المؤمن رزق حلوة ومهابة) وفي نعت النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬كان من رآه بديهة هابه‪ ،‬ومن خالطه معرفة أحبه‪.‬‬

‫فقرن التسبيح بالتحميد‪ ،‬وقرن التهليل بالتكبير‪ ،‬كما في كلمات الذان‪ .‬ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الخر إذا‬
‫أفرد‪ ،‬فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم‪ ،‬ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم اللهية‪ ،‬فإن اللهية تتضمن‬
‫كونه محبوبًا‪ ،‬بل تتضمن أنه ل يستحق كمال الحب إل هو‪ .‬والحمد هو الخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق‬
‫أن يحب‪ ،‬فاللهية ‪ /‬تتضمن كمال الحمد؛ ولهذا كان الحمد لّ مفتاح الخطاب‪ ،‬وكل أمر ذي بال ل يبدأ فيه بالحمد لّ‬
‫فهو أجذم‪ ،‬وسبحان الّ فيها إثبات عظمته كما قدمناه؛ ولهذا قال‪{ :‬فَ َسبّ ْح بِا ْسمِ َرّبكَ ا ْلعَظِيمِ} [الواقعة‪ ،]96 :‬وقد قال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬اجعلوها في ركوعكم) رواه أهل السنن‪ ،‬وقال‪( :‬أما الركوع فعظموا فيه الرب‪ ،‬وأما‬
‫السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء‪ ،‬فقمن أن يستجاب لكم) رواه مسلم‪ .‬فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود‬
‫والتسبيح يتضمن التعظيم‪.‬‬

‫ل والّ أكبر) ففي ل إله‬


‫ففي قوله‪( :‬سبحان الّ وبحمده) إثبات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده‪ .‬وأما قوله‪( :‬ل إله إل ا ّ‬
‫إل الّ إثبات محامده فإنها كلها داخلة في إثبات إلهيته‪ ،‬وفي قوله‪( :‬الّ أكبر) إثبات عظمته‪ ،‬فإن الكبرياء تتضمن‬
‫العظمة‪ ،‬ولكن الكبرياء أكمل‪.‬‬

‫ولهذا جاءت اللفاظ المشروعة في الصلة والذان بقول‪( :‬الّ أكبر)‪ ،‬فإن ذلك أكمل من قول‪ :‬الّ أعظم‪ ،‬كما ثبت في‬
‫الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬يقول الّ تعالى‪ :‬الكبرياء ردائي والعظمة إزاري‪ ،‬فمن نازعني‬
‫واحدًا منهما عذبته)‪ ،‬فجعل العظمة كالزار‪ ،‬والكبرياء كالرداء‪ ،‬ومعلوم أن الرداء أشرف‪ ،‬فلما كان التكبير أبلغ من‬
‫التعظيم صرح بلفظه‪ ،‬وتضمن ذلك التعظيم‪ ،‬وفي قوله‪ :‬سبحان الّ‪ ،‬صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم‪،‬‬
‫فصار كل من الكلمتين ‪ /‬متضمنًا معنى الكلمتين الخريين إذا أفردتا‪ ،‬وعند القتران تعطى كل كلمة خاصيتها‪.‬‬

‫وهذا كما أن كل اسم من أسماء الّ‪ ،‬فإنه يستلزم معنى الخر‪ ،‬فإنه يدل على الذات‪ ،‬والذات تستلزم معنى السم‬
‫الخر‪ ،‬لكن هذا باللزوم‪ ،‬وأما دللة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة‪ ،‬ودللتها على أحدهما‬
‫بالتضمن‪.‬‬

‫فقول الداعي‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُسبْحَا َنكَ} [النبياء‪ ]87 :‬يتضمن معنى الكلمات الربع اللتي هن أفضل الكلم بعد‬
‫القرآن‪ .‬وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء الّ الحسنى‪ ،‬وصفاته العلىا‪ ،‬ففيها كمال المدح‪.‬‬

‫ت مِنْ الظّاِلمِينَ} فيه اعتراف بحقيقة حاله‪ ،‬وليس لحد من العباد أن يبرئ نفسه عن هذا الوصف‪ ،‬ل‬
‫وقوله‪ِ{ :‬إنّي كُن ُ‬
‫سيما في مقام مناجاته لربه‪ .‬وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ل ينبغي لعبد أن يقول‪ :‬أنا‬
‫خير من يونس بن مَتّى)‪ .‬وقال‪( :‬من قال‪ :‬أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) فمن ظن أنه خير من يونس‪ ،‬بحيث‬
‫يعلم أنه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب؛ ولهذا كان سادات الخلئق‪ ،‬ل يفضلون أنفسهم على يونس في‬
‫هذا المقام‪ ،‬بل يقولون‪ :‬كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫َفصْــل‬
‫سكَ الُّ‬ ‫وأما قول السائل‪ :‬لم كانت موجبة لكشف الضر؟ فذلك لن الضر ل يكشفه إل الّ‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن َيمْسَ ْ‬
‫ك بِ َخيْ ٍر فَلَ رَادّ لِ َفضْلِهِ} [يونس‪ ،]107 :‬والذنوب سبب للضر‪ ،‬والستغفار يزيل‬ ‫ن يُ ِر ْد َ‬
‫ل كَاشِفَ لَهُ ِإلّ هُوَ وَإِ ْ‬
‫بِضُ ّر فَ َ‬
‫لّ ُمعَ ّذ َبهُمْ وَهُ ْم يَ ْس َتغْ ِفرُونَ} [النفال‪ ،]33 :‬فأخبر أنه‬ ‫أسبابه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ الُّ ِل ُي َعذّ َبهُمْ وََأنْ َ‬
‫ت فِيهِمْ َومَا كَانَ ا ُ‬
‫سبحانه ل يعذب مستغفرًا‪ .‬وفي الحديث‪( :‬من أكثر الستغفار جعل الّ له من كل هم فرجًا‪ ،‬ومن كل ضيق مخرجًا‪،‬‬
‫ورزقه من حيث ل يحتسب)‪ ،‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا أَصَا َبكُمْ مِ ْن مُصِيبَ ٍة َفبِمَا َك َسبَتْ َأيْدِيكُمْ َو َيعْفُو عَ ْن َكثِيرٍ} [الشورى‪.]30 :‬‬

‫ت مِنْ الظّاِلمِينَ} [النبياء‪ ،]87 :‬اعتراف بالذنب وهو استغفار‪ ،‬فإن هذا العتراف متضمن طلب‬
‫فقوله‪ِ{ :‬إنّي كُن ُ‬
‫المغفرة‪.‬‬

‫وقوله‪{ :‬أَن لّ إِلَهَ ِإلّ أَنتَ} [النبياء‪ ،]87 :‬تحقيق لتوحيد اللهية‪ ،‬فإن الخير ل موجب له إل مشيئة الّ‪ ،‬فما شاء كان‪،‬‬
‫وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬والمعوق له ‪ /‬من العبد هو ذنوبه‪ ،‬وما كان خارجًا عن قدرة العبد‪ ،‬فهو من الّ‪ ،‬وإن كانت أفعال‬
‫ل تعالى‪ ،‬لكن الّ جعل فعل المأمور وترك المحظور سببًا للنجاة‪ ،‬والسعادة‪ ،‬فشهادة التوحيد تفتح باب‬ ‫العباد بقدر ا ّ‬
‫الخير‪ ،‬والستغفار من الذنوب يغلق باب الشر‪.‬‬

‫ولهذا ينبغي للعبد أل يعلق رجاءه إل بالّ‪ ،‬ول يخاف من الّ أن يظلمه‪ ،‬فإن الّ ل يظلم الناس شيئًا‪ ،‬ولكن الناس‬
‫أنفسهم يظلمون‪ ،‬بل يخاف أن يجزيه بذنوبه‪ ،‬وهذا معنى ما روى عن على ـ رضي الّ عنه ـ أنه قال‪ :‬ل يرجون عبد‬
‫إل ربه ول يخافن إل ذنبه‪.‬‬

‫وفي الحديث المرفوع إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنه دخل على مريض فقال‪( :‬كيف تجدك ؟) فقال‪ :‬أرجو الّ‬
‫وأخاف ذنوبي‪ ،‬فقال‪( :‬ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن‪ ،‬إل أعطاه الّ ما يرجو‪ ،‬وآمنه مما يخاف)‪.‬‬

‫فالرجاء ينبغي أن يتعلق بالّ‪ ،‬ول يتعلق بمخلوق‪ ،‬ول بقوة العبد‪ ،‬ول عمله؛ فإن تعلىق الرجاء بغير الّ إشراك‪ ،‬وإن‬
‫كان الّ قد جعل لها أسبابًا‪ ،‬فالسبب ل يسـتقل بنفسه‪ ،‬بل لبد له من معاون‪ ،‬ولبد أن يمنع المعارض المعوق له‪ ،‬وهو‬
‫ل يحصل‪ ،‬ويبقى إل بمشيئة الّ ـ تعالى‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا قيل‪ :‬اللتفات إلى السباب شرك في التوحيد‪ ،‬ومحو السباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل‪ ،‬والعراض عن‬
‫ك فَارْغَبْ} [الشرح‪ ،]8 ،7 :‬فأمر‬ ‫ت فَانصَبْ‪َ .‬وإِلَى َرّب َ‬ ‫السباب بالكلية قدح في الشرع؛ ولهذا قال الّ تعالى‪{ :‬فَِإذَا فَرَغْ َ‬
‫لّ َفتَ َوكّلُوا إِ ْن كُنتُ ْم مُ ْؤمِنِينَ} [المائدة‪ ،]23 :‬فالقلب ل يتوكل إل على من‬ ‫بأن تكون الرغبة إليه وحده‪ ،‬وقال‪{ :‬وَعَلَى ا ِ‬
‫يرجوه‪ ،‬فمن رجا قوته‪ ،‬أو عمله‪ ،‬أو علمه‪ ،‬أو حاله‪ ،‬أو صديقه‪ ،‬أو قرابته‪ ،‬أو شيخه‪ ،‬أو ملكه‪ ،‬أو ماله‪ ،‬غير ناظر‬
‫إلى الّ كان فيه نوع توكل على ذلك السبب‪ ،‬وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه إل خاب ظنه فيه‪ ،‬فإنه مشرك‪َ { :‬ومَنْ‬
‫طيْرُ أَ ْو َتهْوِي بِهِ الرّي ُح فِي َمكَانٍ َسحِيقٍ} [الحج‪ ،]31 :‬وكذلك المشرك يخاف‬ ‫طفُهُ ال ّ‬
‫سمَا ِء َفتَخْ َ‬
‫لّ َفكََأّنمَا خَ ّر مِنْ ال ّ‬
‫ك بِا ِ‬
‫يُشْ ِر ْ‬
‫لّ مَا لَ ْم ُينَزّلْ‬
‫ش َركُوا بِا ِ‬
‫ب ِبمَا أَ ْ‬ ‫المخلوقين‪ ،‬ويرجوهم‪ ،‬فيحصل له رعب‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬‬
‫سنُلْقِي فِي قُلُوبِ اّلذِينَ كَ َفرُوا الرّعْ َ‬
‫بِهِ سُلْطَانًا} [ آل عمران‪.]151 :‬‬

‫والخالص من الشرك يحصل له المن‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬اّلذِينَ آ َمنُوا وََل ْم يَ ْلبِسُوا إِيمَا َنهُ ْم بِظُلْمٍ ُأوَْل ِئكَ َل ُهمْ ا َلْمْنُ وَ ُه ْم ُمهْ َتدُونَ} [‬
‫النعام‪ ،]82 :‬وقد فسر النبي صلى ال عليه وسلم الظلم هنا بالشرك‪ .‬ففي الصحيح عن ابن مسعود أن هذه الية لما‬
‫نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم وقالوا‪ :‬أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬‬
‫إنما هذا الشرك‪ ،‬ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‪{ :‬إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ} ؟) [لقمان‪ / ،]13 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومِنْ‬
‫حبّا لِّ وَلَ ْو يَرَى اّلذِينَ ظََلمُوا ِإذْ يَ َروْنَ ا ْل َعذَابَ أَنّ ا ْلقُوّةَ لِّ‬ ‫شدّ ُ‬ ‫حبّ الِّ وَاّلذِينَ آ َمنُوا َأ َ‬ ‫حبّو َنهُ ْم كَ ُ‬
‫خ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا يُ ِ‬ ‫س مَنْ َيتّ ِ‬ ‫النّا ِ‬
‫سبَابُ‪َ .‬وقَالَ اّلذِينَ ا ّت َبعُوا لَوْ أَنّ َلنَا‬ ‫لْ ْ‬
‫ت بِهِمْ ا َ‬
‫ط َع ْ‬
‫شدِيدُ ا ْلعَذَابِ‪ِ .‬إذْ َتبَرّأَ اّلذِينَ ا ّت ِبعُوا مِنْ اّلذِينَ ا ّت َبعُوا وَرَأَوْا ا ْل َعذَابَ َوتَقَ ّ‬
‫جمِيعًا وَأَنّ الَّ َ‬ ‫َ‬
‫ك يُرِيهِمْ الُّ أَ ْعمَاَلهُمْ حَسَرَاتٍ عََل ْيهِمْ َومَا ُه ْم بِخَارِجِي َن مِنْ النّارِ} [البقرة‪165 :‬ـ ‪،]167‬‬ ‫كَرّ ًة َف َنتَبَرَّأ ِم ْنهُ ْم َكمَا َتبَرّءُوا ِمنّا َكذَِل َ‬
‫ن َي ْبتَغُونَ إِلَى َرّبهِمْ‬ ‫ن َيدْعُو َ‬ ‫ل تَحْوِيلً‪ .‬أُوَْل ِئكَ اّلذِي َ‬
‫ل َيمِْلكُونَ َكشْفَ الضّرّ عَنكُمْ َو َ‬ ‫ن دُونِهِ فَ َ‬ ‫ع ْمتُ ْم مِ ْ‬
‫ل ادْعُوا اّلذِينَ زَ َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬قُ ْ‬
‫ك كَا َن مَ ْحذُورًا} [السراء‪]57 ،56 :‬؛ ولهذا يذكر الّ‬ ‫عذَابَ َرّب َ‬ ‫عذَابَهُ إِنّ َ‬‫ح َمتَهُ َويَخَافُونَ َ‬ ‫الْ َوسِيلَةَ َأيّهُمْ َأقْرَبُ َويَ ْرجُونَ َر ْ‬
‫ل بُشْرَى َلكُمْ‬ ‫جعَلَهُ الُّ ِإ ّ‬ ‫السباب‪ ،‬ويأمر بأن ل يعتمد عليها‪ ،‬ول يرجى إل الّ‪ ،‬قال تعالى ـ لما أنزل الملئكة ـ‪َ { :‬ومَا َ‬
‫لّ فَلَ غَاِلبَ َلكُمْ وَإِنْ‬ ‫ن َينْصُ ْركُمْ ا ُ‬ ‫حكِيمِِ} [آل عمران‪ ،]126 :‬وقال‪{ :‬إِ ْ‬ ‫عنْدِ الِّ ا ْل َعزِيزِ الْ َ‬
‫ل مِنْ ِ‬ ‫ط َمئِنّ قُلُوبُكُ ْم بِهِ َومَا النّصْرُ ِإ ّ‬ ‫وَِلتَ ْ‬
‫لّ فَ ْل َيتَ َوكّلْ ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ} [آل عمران‪.]160 :‬‬ ‫ن َبعْدِهِ وَعَلَى ا ِ‬ ‫خذُ ْلكُ ْم َفمَنْ ذَا اّلذِي َينْصُ ُركُ ْم مِ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫وقد قدمنا أن الدعاء نوعان‪ :‬دعاء عبادة‪ ،‬ودعاء مسألة‪.‬‬

‫وكلهما ل يصلح إل لّ‪ ،‬فمن جعل مع الّ إلهًا آخر قعد مذمومًا مخذولً‪ ،‬والراجي سائل طالب فل يصلح أن يرجو‬
‫إل الّ‪ ،‬وليسأل ‪ /‬غيره؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪( :‬ما أتاك من هذا المال وأنت غير‬
‫سائل ول ُمشْرِف فخذه‪ ،‬وما ل فل تتبعه نفسك)‪ .‬فالمشرف الذي يستشرف بقلبه‪ ،‬والسائل الذي يسأل بلسانه‪ ،‬وفي‬
‫الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬أصابتنا فاقة فجئت رسول الّ صلى ال عليه وسلم لسأله‬
‫فوجدته يخطب الناس وهو يقول‪( :‬أيها الناس‪ ،‬والّ مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم‪ ،‬وإنه من يَسْ َتغْنِ يغنه‬
‫الّ‪ ،‬ومن يستعفف يعفه الّ‪ ،‬ومن يَ َتصَبّرْ يصبره الّ‪ ،‬وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)‪.‬‬

‫والستغناء أل يرجو بقلبه أحدًا فيستشرف إليه‪ ،‬والستعفاف أل يسأل بلسانه أحدًا؛ ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن‬
‫التوكل‪ ،‬فقال‪ :‬قطع الستشراف إلى الخلق‪ ،‬أي‪ :‬ل يكون في قلبك أن أحدًا يأتيك بشىء‪ ،‬فقيل له‪ :‬فما الحجة في ذلك ؟‬
‫فقال‪ :‬قول الخليل لما قال له جبرائيل‪ :‬هل لك من حاجة؟ فقال‪( :‬أما إليك فل)‪.‬‬

‫فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه‪ ،‬ودفع ما يضره‪ ،‬ل يوجه قلبه إل إلى ال؛ فلهذا قال المكروب‪{ :‬‬
‫لّ إلّهّ إلّ أّنتّ}‪ ،‬ومثل هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقول‪ :‬عند الكرب‪( :‬ل‬
‫إله إل الّ العظيم الحليم‪ ،‬ل إله إل الّ رب العرش العظيم‪ / ،‬ل إله إل الّ رب السموات ورب الرض رب العرش‬
‫الكريم)‪ .‬فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد‪ ،‬وتأله العبد ربه‪ ،‬وتعلق رجائه به وحده ل شريك له‪ ،‬وهي لفظ خبر‬
‫يتضمن الطلب‪.‬‬

‫والناس‪ ،‬وإن كانوا يقولون بألسنتهم‪ :‬ل إله إل الّ‪ ،‬فقول العبد لها مخلصًا من قلبه له حقيقة أخرى‪ ،‬وبحسب تحقيق‬
‫س َمعُونَ‬
‫سبُ أَنّ َأكْثَ َرهُمْ َي ْ‬
‫التوحيد تكمل طاعة الّ‪ .‬قال تعالى‪ :‬أَرَأَ ْيتَ مَنْ اتّخَذَ إَِل َههُ َهوَاهُ َأفَأَ ْنتَ َتكُونُ عَلَيْ ِه َوكِيلً ‪ .‬أَمْ َتحْ َ‬
‫ضلّ سَبِيلً} [الفرقان‪ ،]44 ،43 :‬فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه‪ ،‬فقد اتخذ‬ ‫َأوْ َي ْعقِلُونَ إِنْ هُمْ ِإلّ كَالَْ ْنعَامِ َبلْ ُهمْ َأ َ‬
‫إلهه هواه‪ ،‬أي‪ :‬جعل معبوده هو ما يهواه‪ ،‬وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه‪ ،‬فهم يتخذون أندادًا من‬
‫دون الّ يحبونهم كحب ال؛ ولهذا قال الخليل‪{ :‬لَ أُ ِحبّ ا ْلفِلِينَ} [النعام‪.]76 :‬‬

‫فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع‪ ،‬ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافعًا له كالشمس والقمر والكواكب‪،‬‬
‫والخليل بين أن الفل يغيب عن عابده‪ ،‬وتحجبه عنه الحواجب‪ ،‬فل يرى عابده ول يسمع كلمه‪ ،‬ول يعلم حاله‪ ،‬ول‬
‫ينفعه‪ ،‬ول يضره بسبب ول غيره‪ ،‬فأي وجه لعبادة من يأفل؟!‬

‫وكلما حقق العبد الخلص في قول‪ :‬ل إله إل الّ‪ ،‬خرج من قلبه ‪ /‬تأله ما يهواه‪ ،‬وتصرف عنه المعاصي والذنوب‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪َ { :‬كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َعنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِعبَادِنَا ا ْلمُخْلَصِينَ} [يوسف‪ ،]24 :‬فلعل صرف السوء‬
‫والفحشاء عنه بأنه من عباد الّ المخلصين‪ ،‬وهؤلء هم الذين قال فيهم‪{ :‬إِنّ ِعبَادِي َليْسَ َلكَ عََل ْيهِمْ سُ ْلطَانٌ} [الحجر‪42 :‬‬
‫ك لَُغْ ِويَّنهُمْ َأ ْج َمعِينَ ‪ِ .‬إلّ ِعبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْلمُخَْلصِينَ} [ص‪ ،]83 ،82 :‬وقد ثبت في الصحيح عن‬
‫]‪ ،‬وقال الشيطان‪َ { :‬فبِعِ ّز ِت َ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه قال‪( :‬من قال‪ :‬ل إله إل الّ مخلصًا من قلبه‪ ،‬حرمه الّ على النار)‪.‬‬

‫فإن الخلص ينفي أسباب دخول النار‪ ،‬فمن دخل النار من القائلين ل إله إل الّ لم يحقق إخلصها المحرم له على‬
‫النار‪ ،‬بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار‪ ،‬والشرك في هذه المة أخفى من دبيب النمل؛‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة‪ ،]5 :‬والشيطان يأمر بالشرك‬ ‫ولهذا كان العبد مأمورًا في كل صلة أن يقول‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ‬
‫والنفس تطيعه في ذلك‪ ،‬فل تزال النفس تلتفت إلى غير الّ؛ إما خوفًا منه‪ ،‬وإما رجاء له‪ ،‬فل يزال العبد مفتقرًا إلى‬
‫تخليص توحيده من شوائب الشرك‪ .‬وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫ل والستغفار‪ ،‬فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الهواء‪،‬‬ ‫قال‪( :‬يقول الشيطان‪ :‬أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بل إله إل ا ّ‬
‫فهم يذنبون ول يستغفرون؛ لنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا)‪.‬‬

‫‪/‬فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من الّ‪ ،‬له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه‪ ،‬فصار فيه شرك منعه من‬
‫الستغفار‪ ،‬وأما من حقق التوحيد والستغفار‪ ،‬فلبد أن يرفع عنه الشر؛فلهذا قال ذو النون‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُ‬
‫سبْحَا َنكَ ِإنّي‬
‫ت مِنْ الظّاِلمِينَ} [النبياء‪.]87 :‬‬
‫كُن ُ‬
‫ولهذا يقرن الّ بين التوحيد والستغفار في غير موضع‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬فَاعَْلمْ َأنّهُ لَ إِلَهَ ِإلّ الُّ وَا ْ‬
‫س َتغْ ِفرْ ِلذَ ْن ِبكَ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ‬
‫وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ} [محمد‪ ،]19 :‬وقوله‪َ{ :‬أ ّل َت ْعبُدُوا ِإلّ الَّ ِإّننِي َلكُ ْم ِمنْ ُه نَذِيرٌ َوبَشِيرٌ ‪ .‬وَأَنْ ا ْس َتغْفِرُوا َرّبكُ ْم ثُ ّم تُوبُوا إَِليْهِ} [هود‪،2 :‬‬
‫لّ مَا َل ُك ْم مِنْ ِإلَهٍ َغيْرُهُ} إلى قوله‪َ { :‬ويَاقَوْمِ ا ْس َتغْفِرُوا َرّبكُ ْم ثُ ّم تُوبُوا إَِليْهِ} [‬
‫عُبدُوا ا َ‬
‫ل يَاقَوْمِ ا ْ‬‫‪ ،]3‬وقوله‪{ :‬وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَا َ‬
‫هود‪ 50 :‬ـ ‪ ،]52‬وقوله‪{ :‬فَا ْستَقِيمُوا إَِليْهِ وَا ْس َتغْ ِفرُوهُ} [فصلت‪.]6 :‬‬

‫وخاتمة المجلس‪( :‬سبحانك اللّهم وبحمدك أشهد أن ل إله إل أنت أستغفرك وأتوب إليك) إن كان مجلس رحمة كانت‬
‫كالطابع عليه‪ ،‬وإن كان مجلس لغو كانت كفارة له‪ ،‬وقد روى أيضًا أنها تقال في آخر الوضوء بعد أن يقال‪( :‬أشهد أن‬
‫ل إله إل الّ وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‪ ،‬اللّهم اجعلني من التوابين‪ ،‬واجعلني من المتطهرين)‪.‬‬

‫وهذا الذكر يتضمن التوحيد والستغفار‪ ،‬فإن صدره الشهادتان ‪ /‬اللتان هما أصل الدين وجماعه‪ ،‬فإن جميع الدين‬
‫داخل في الشهادتين؛ إذ مضمونهما أل نعبد إل الّ‪ ،‬وأن نطيع رسوله‪ ،‬والدين كله داخل في هذا في عبادة الّ بطاعة‬
‫الّ‪ ،‬وطاعة رسوله‪ ،‬وكل ما يجب أو يستحب داخل في طاعة الّ ورسوله‪.‬‬

‫وقد روى أنه يقول‪( :‬سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬أشهد أن ل إله إل أنت‪ ،‬أستغفرك وأتوب إليك) وهذا كفارة المجلس‪ ،‬فقد‬
‫شرع في آخر المجلس وفي آخر الوضوء‪ ،‬وكذلك كان النبي صلى ال عليه وسلم يختم الصلة‪ ،‬كما في الحديث‬
‫الصحيح أنه كان يقول في آخر صلته‪( :‬اللهم اغفر لي ما قدمت‪ ،‬وما أخرت‪ ،‬وما أسررت‪ ،‬وما أعلنت‪ ،‬وما أنت‬
‫أعلم به مني‪ ،‬أنت المقدم‪ ،‬وأنت المؤخر‪ ،‬ل إله إل أنت) وهنا قدم الدعاء وختمه بالتوحيد؛ لن الدعاء مأمور به في‬
‫آخر الصلة‪ ،‬وختم بالتوحيد ليختم الصلة بأفضل المرين وهو التوحيد‪ ،‬بخلف ما لم يقصد في هذا فإن تقديم‬
‫التوحيد أفضل‪.‬‬

‫فإن جنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب‪ ،‬وإن كان المفضول قد يفضل‬
‫على الفاضل في موضعه الخاص‪ ،‬بسبب وبأشياء أخر‪ ،‬كما أن الصلة أفضل من القراءة‪ ،‬والقراءة أفضل من الذكر‬
‫الذي هو ثناء‪ ،‬والذكر أفضل من الدعاء الذي هو سؤال‪ ،‬ومع هذا فالمفضول له أمكنة‪ ،‬وأزمنة‪ / ،‬وأحوال يكون فيها‬
‫أفضل من الفاضل‪ ،‬لكن أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد‪ ،‬وإخلص الدين كله لّ هو تحقيق قول ل إله‬
‫إل الّ‪.‬‬

‫ل ل نقدر أن نضبطه‪ ،‬حتى إن كثيرًا‬


‫فإن المسلمين وإن اشتركوا في القرار بها‪ ،‬فهم متفاضلون في تحقيقها تفاض ً‬
‫منهم يظنون أن التوحيد المفروض‪ :‬هو القرار والتصديق بأن الّ خالق كل شيء وربه‪ ،‬ول يميزون بين القرار‬
‫بتوحيد الربوبية‪ ،‬الذي أقر به مشركو العرب‪ ،‬وبين توحيد اللهية‪ ،‬الذي دعاهم إليه رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ول يجمعون بين التوحيد القولي والعملي‪.‬‬

‫فإن المشركين ما كانوا يقولون‪ :‬إن العالم خلقه اثنان‪ ،‬ول أن مع الّ ربًا ينفرد دونه بخلق شيء‪ ،‬بل كانوا كما قال الّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْ ْرضَ َليَقُولُنّ الُّ} [ لقمان‪ ،]25 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا يُ ْؤمِنُ َأ ْكثَرُهُ ْم بِالِّ ِإلّ وَ ُهمْ‬ ‫عنهم‪{ :‬وََلئِنْ َ‬
‫سأَ ْل َتهُ ْم مَنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫ل مَنْ‬ ‫سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَلَ َت َذكّرُونَ ّ‪ .‬قُ ْ‬ ‫مُشْ ِركُونَ} [يوسف‪ ،]106 :‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ ِلمَنْ الَْ ْرضُ َومَنْ فِيهَا إِ ْ‬
‫ن كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ ‪َ .‬‬
‫شيْءٍ وَهُ َو يُجِيرُ َولَ يُجَارُ عََليْهِ إِنْ‬
‫ت كُلّ َ‬
‫ن بِ َيدِ ِه مََلكُو ُ‬
‫ل مَ ْ‬
‫ن ‪ .‬قُ ْ‬
‫ل َتتّقُو َ‬
‫سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَ َ‬
‫سبْعِ وَرَبّ ا ْلعَرْشِ ا ْلعَظِيمِ ‪َ .‬‬
‫سمَاوَاتِ ال ّ‬
‫رَبّ ال ّ‬
‫كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ ‪َ .‬سيَقُولُونَ لِّ قُ ْل فََأنّا تُ ْسحَرُونَ} [المؤمنون‪ 84 :‬ـ ‪.]89‬‬

‫وكانوا مع إقرارهم بأن الّ هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة ‪ /‬أخرى‪ ،‬يجعلونهم شفعاء لهم إليه‪ ،‬ويقولون‪ :‬ما‬
‫نعبدهم إل ليقربونا إلى الّ زلفى‪ ،‬ويحبونهم كحب الّ‪.‬‬

‫والشراك في الحب والعبادة والدعاء والسؤال‪ ،‬غير الشراك في العتقاد والقرار‪ .‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬
‫س مَنْ‬
‫َيتّخِ ُذ مِ ْن دُونِ الِّ أَندَادًا يُ ِحبّونَهُ ْم َكحُبّ الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪ ،]165 :‬فمن أحب مخلوقًا كما يحب الخالق فهو‬
‫مشرك به‪ ،‬قد اتخذ من دون الّ أندادًا يحبهم كحب ال‪ .‬وإن كان مقرًا بأن الّ خالقه‪.‬‬

‫ولهذا فرق الّ ورسوله بين من أحب مخلوقًا لّ‪ ،‬وبين من أحب مخلوقًا مع الّ‪ ،‬فالول يكون الّ هو محبوبه ومعبوده‬
‫الذي هو منتهى حبه وعبادته ل يحب معه غيره‪ ،‬لكنه لما علم أن الّ يحب أنبياءه وعباده الصالحين‪ ،‬أحبهم لجله‪،‬‬
‫وكذلك لما علم أن الّ يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك‪ ،‬فكان حبه لما يحبه تابعًا لمحبة الّ‪ ،‬وفرعًا عليه‬
‫وداخلً فيه‪.‬‬

‫بخلف من أحب مع الّ فجعله ندًا لّ يرجوه ويخافه‪ ،‬أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة لّ‪ ،‬ويتخذه شفيعًا له‬
‫ل َينْ َف ُعهُمْ َويَقُولُونَ هَ ُؤلَءِ‬
‫لّ مَا لَ َيضُرّهُمْ َو َ‬
‫ن دُونِ ا ِ‬ ‫ن مِ ْ‬ ‫من غير أن يعلم أن ال يأذن له أن يشفع فيه‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬و َي ْعبُدُو َ‬
‫ن مَ ْريَمَ َومَا ُأمِرُوا ِإلّ‬‫حبَارَهُمْ َورُ ْهبَا َنهُمْ أَ ْربَابًا مِنْ دُونِ الِّ وَا ْلمَسِيحَ ابْ َ‬ ‫ع ْندَ الِّ} [يونس‪ / ،]81 :‬وقال تعالى‪{ :‬اتّ َ‬
‫خذُوا أَ ْ‬ ‫ش َفعَا ُؤنَا ِ‬
‫ُ‬
‫ع ِديّ بن حاتم للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬ما‬ ‫ِل َيعُْبدُوا إَِلهًا وَا ِحدًا لَ إِلَهَ ِإلّ هُوَ ُسبْحَانَهُ َعمّا يُشْ ِركُونَ} [التوبة‪ ،]31 :‬وقد قال َ‬
‫عبدوهم‪ ،‬قال‪( :‬أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم‪ ،‬وحرموا عليهم الحلل فأطاعوهم‪ ،‬فكانت تلك عبادتهم إياهم)‪ .‬قال‬
‫ن مَا َل ْم يَ ْأذَنْ بِهِ الُّ} [الشورى‪ ،]21 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ويَ ْو َم يَعَضّ الظّاِلمُ عَلَى َي َديْهِ‬ ‫تعالى‪َ{ :‬أمْ َلهُمْ ُ‬
‫ش َركَاءُ شَرَعُوا َلهُ ْم مِنْ الدّي ِ‬
‫شيْطَانُ‬
‫ن ال ّذكْ ِر َبعْدَ ِإذْ جَا َءنِي َوكَانَ ال ّ‬
‫لنًا خَلِيلً ‪َ .‬ل َقدْ أَضَّلنِي عَ ْ‬
‫خذْ فُ َ‬
‫سبِيلً‪ .‬يَا َويَْلتِي َل ْي َتنِي لَمْ َأتّ ِ‬
‫ت مَعَ الرّسُولِ َ‬
‫خذْ ُ‬
‫ل يَاَليْ َتنِي اتّ َ‬
‫يَقُو ُ‬
‫لِلِْنسَانِ َخذُولً} [الفرقان‪ 27 :‬ـ ‪.]29‬‬

‫فالرسول وجبت طاعته؛ لنه من يطع الرسول فقد أطاع الّ‪ ،‬فالحلل ما حلله‪ ،‬والحرام ما حرمه‪ ،‬والدين ما شرعه‪،‬‬
‫ومن سوى الرسول من العلماء‪ ،‬والمشايخ‪ ،‬والمراء‪ ،‬والملوك إنما تجب طاعتهم‪ ،‬إذا كانت طاعتهم طاعة لّ‪ ،‬وهم‬
‫إذا أمر الّ ورسوله بطاعتهم‪ ،‬فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِي َ‬
‫ن آ َمنُوا أَطِيعُوا الَّ وََأطِيعُوا‬
‫الرّسُولَ وَُأوْلِي ا َلْمْ ِر ِم ْنكُمْ} [النساء‪.]59 :‬‬

‫فلم يقل‪ :‬وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولى المر منكم‪ ،‬بل جعل طاعة أولي المر داخلة في طاعة الرسول‪ ،‬وطاعة‬
‫الرسول طاعة لّ‪ ،‬وأعاد الفعل في طاعة الرسول‪ ،‬دون طاعة أولي المر‪ ،‬فإنه من يطع الرسول ‪ /‬فقد أطاع ال‪،‬‬
‫فليس لحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر الّ به أم ل‪ ،‬بخلف أولي المر فإنهم قد يأمرون بمعصية الّ‪،‬‬
‫فليس كل من أطاعهم مطيعًا لّ‪ ،‬بل لبد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية لّ‪ ،‬وينظر هل أمر الّ به أم ل‪،‬‬
‫سواء كان أولى المر من العلماء أو المراء‪ ،‬ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك؛وبهذا‬
‫يكون الدين كله لّ‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬وقَاتِلُوهُمْ َحتّى لَ َتكُو َن ِف ْتنَةٌ َو َيكُو َن الدّينُ كُلّهُ لِِّ} [ النفال‪ ،]39 :‬وقال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم لما قيل له‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬الرجل يقاتل شجاعة‪ ،‬ويقاتل حمية‪ ،‬ويقاتل رياء‪ ،‬فأي ذلك في سبيل الّ؟ فقال‪( :‬‬
‫من قاتل لتكون كلمة الّ هي العليا فهو في سبيل الّ)‪.‬‬

‫ثم إن كثيرًا من الناس يحب خليفة أو عالمًا أو شيخًا أو أميرًا‪ ،‬فيجعله ندًا لّ‪ ،‬وإن كان قد يقول‪ :‬إنه يحبه لّ‪.‬‬

‫فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به‪ ،‬وينهى عنه‪ ،‬وإن خالف أمر الّ ورسوله‪ ،‬فقد جعله ندًا‪،‬‬
‫وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح‪ ،‬ويدعوه ويستغيث به‪ ،‬ويوالي أولياءه‪ ،‬ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته‬
‫في كل ما يأمر به‪ ،‬وينهى عنه‪ ،‬ويحلله ويحرمه‪ ،‬ويقيمه مقام الّ ورسوله‪ ،‬فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في‬
‫س مَ ْن َيتّ ِخذُ مِ ْن دُونِ الِّ أَندَادًا يُ ِحبّو َنهُ ْم كَحُبّ الِّ وَاّلذِينَ آ َمنُوا َأ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪.]165:‬‬
‫قوله تعالى‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬

‫فالتوحيد والشراك يكون في أقوال القلب‪ ،‬ويكون في أعمال القلب؛ ولهذا قال الجنيد‪ :‬التوحيد قول القلب‪ ،‬والتوكل‬
‫عمل القلب‪ .‬أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق‪ ،‬فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله‪ ،‬وإذا أفرد لفظ التوحيد‪ ،‬فهو‬
‫يتضمن قول القلب وعمله‪ ،‬والتوكل من تمام التوحيد‪.‬‬

‫وهذا كلفظ اليمان فإنه إذا أفرد دخلت فيه العمال الباطنة والظاهرة‪ ،‬وقيل‪ :‬اليمان قول وعمل‪ ،‬أي‪ :‬قول القلب‬
‫واللسان وعمل القلب والجوارج‪ ،‬ومنه قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه‪( :‬اليمان بضع‬
‫وستون شعبة‪ ،‬أعلها قول ل إله إل الّ‪ ،‬وأدناها إماطة الذى عن الطريق‪ ،‬والحياء شعبة من اليمان)‪ ،‬ومنه قوله‬
‫تعالى‪ِ{ :‬إّنمَا ا ْلمُ ْؤمِنُونَ اّلذِينَ آ َمنُوا بِالِّ وَرَسُولِ ِه ثُمّ لَ ْم يَ ْرتَابُوا وَجَا َهدُوا ِبَأمْوَاِلهِمْ وَأَنفُ ِسهِ ْم فِي َسبِيلِ الِّ أُوَْل ِئكَ هُمْ الصّا ِدقُونَ} [‬
‫الحجرات‪ ،]15 :‬وقوله‪ِ{ :‬إّنمَا ا ْلمُ ْؤمِنُونَ اّلذِينَ ِإذَا ُذكِرَ الُّ َوجِلَ ْ‬
‫ت قُلُو ُبهُمْ َوِإذَا تُِليَتْ عََل ْيهِمْ آياتُهُ زَادَ ْتهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى َرّبهِ ْم َيتَ َوكّلُونَ‬
‫‪ .‬اّلذِينَ يُقِيمُونَ الصّلَةَ َو ِممّا رَ َز ْقنَاهُ ْم يُنفِقُونَ ‪ .‬أُوَْل ِئكَ ُهمْ ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ حَقّا} [النفال‪2 :‬ـ ‪ ]4‬وقوله‪ِ{ :‬إّنمَا ا ْلمُ ْؤمِنُونَ اّلذِينَ آ َمنُوا بِالِّ‬
‫وَ َرسُولِهِ وَِإذَا كَانُوا َمعَهُ عَلَى َأمْرٍ جَامِعٍ َل ْم يَذْ َهبُوا َحتّى يَ ْستَ ْأ ِذنُوهُ} [النور‪.]62 :‬‬
‫واليمان المطلق يدخل فيه السلم كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس‪( :‬آمركم‬
‫باليمان بالّ‪ ،‬أتدرون ما اليمان بالّ؟ شهادة أن ل إله إل الّ‪ ،‬وأن محمدًا رسول الّ‪ / ،‬وإقام الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪،‬‬
‫وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)؛ ولهذا قال من قال من السلف‪ :‬كل مؤمن مسلم‪ ،‬وليس كل مسلم مؤمنًا‪.‬‬

‫وأما إذا قرن لفظ اليمان بالعمل أو بالسلم‪ ،‬فإنه يفرق بينهما كما في قوله تعالى‪{ :‬إِنّ اّلذِي َن آ َمنُوا وَ َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ} [‬
‫البينة‪ ،]7 :‬وهو في القرآن كثير‪ ،‬وكما في قول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما سأله جبريل عن‬
‫السلم واليمان والحسان ـ فقال‪( :‬السلم‪ :‬أن تشهد أن ل إله إل الّ وأن محمدًا رسول الّ‪ ،‬وتقيم الصلة‪ ،‬وتؤتي‬
‫الزكاة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وتحج البيت)‪ .‬قال‪ :‬فما اليمان؟ قال‪( :‬أن تؤمن بالّ‪ ،‬وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬والبعث‬
‫بعد الموت‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشره)‪ .‬قال‪ :‬فما الحسان؟ قال‪( :‬أن تعبد الّ كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك)‪.‬‬
‫ففرق في هذا النص بين السلم واليمان لما قرن بين السمين‪ ،‬وفي ذلك النص أدخل السلم في اليمان لما أفرده‬
‫بالذكر‪.‬‬

‫وكذلك لفظ [العمل] فإن السلم المذكور هو من العمل‪ ،‬والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه‪ ،‬فإذا حصل‬
‫إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة‪ ،‬وإيمان القلب لبد فيه من تصديق القلب وانقياده‪ ،‬وإل فلو صدق قلبه بأن‬
‫محمدًا رسول الّ‪ ،‬وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته‪ ،‬لم يكن قد آمن قلبه‪.‬‬

‫و[اليمان] وإن تضمن التصديق‪ ،‬فليس هو مرادفًا له‪ ،‬فل يقال ‪ /‬لكل مصدق بشيء‪ :‬أنه مؤمن به‪ .‬فلو قال‪ :‬أنا أصدق‬
‫بأن الواحد نصف الثنين‪ ،‬وأن السماء فوقنا‪ ،‬والرض تحتنا‪ ،‬ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه‪ ،‬لم يقل لهذا‪ :‬أنه‬
‫ت ِبمُ ْؤمِنٍ َلنَا} [يوسف‪:‬‬
‫مؤمن بذلك‪ ،‬بل ل يستعمل إل فيمن أخبر بشيء من المور الغائبة كقول إخوة يوسف‪َ { :‬ومَا َأنْ َ‬
‫‪ ،]17‬فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين من آمن له وآمن به فالول‪ :‬يقال للمخبر‪ ،‬والثاني‪ :‬يقال للمخبر به‬
‫ت ِبمُ ْؤمِنٍ َلنَا}‪ ،‬وقال تعالى‪َ { :‬فمَا آمَنَ ِلمُوسَى ِإلّ ذُ ّريّ ٌة مِ ْن قَ ْومِهِ} [يونس‪.]83 :‬‬
‫كما قال إخوة يوسف‪َ { :‬ومَا َأنْ َ‬

‫وقال تعالى‪َ { :‬و ِمنْهُمْ اّلذِي َن يُ ْؤذُونَ النّبِيّ َو َيقُولُونَ هُوَ ُأذُ ٌن قُلْ ُأذُنُ َخيْرٍ َلكُ ْم يُ ْؤمِ ُن بِالِّ َويُ ْؤمِنُ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [التوبة‪ ،]61 :‬ففرق‬
‫بين إيمانه بالّ وإيمانه للمؤمنين‪ ،‬لن المراد يصدق المؤمنين إذا أخبروه‪ ،‬وأما إيمانه بالّ فهو من باب القرار به‪.‬‬

‫ومنه قوله ـ تعالى ـ عن فرعون وملئه‪َ{ :‬أنُ ْؤمِنُ ِلبَ َش َريْنِ ِمثِْلنَا} [المؤمنون‪ ،]47 :‬أي‪ :‬نقر لهما ونصدقهما‪ .‬ومنه قوله‪:‬‬
‫لّ ثُ ّم يُ َح ّرفُونَهُ مِ ْن َبعْ ِد مَا َعقَلُوهُ وَ ُه ْم َيعَْلمُونَ} [البقرة‪ ،]75 :‬ومنه‬ ‫ن كَلَمَ ا ِ‬ ‫س َمعُو َ‬‫ق ِمنْهُ ْم يَ ْ‬
‫ن يُ ْؤ ِمنُوا َلكُمْ َو َقدْ كَانَ َفرِي ٌ‬
‫ط َمعُونَ أَ ْ‬
‫{َأ َفتَ ْ‬
‫قوله تعالى‪{ :‬فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ َوقَالَ ِإنّي ُمهَاجِرٌ ِإلَى َربّي} [العنكبوت‪ ،]26 :‬ومن المعني الخر قوله تعالى‪{ :‬يُ ْؤمِنُونَ‬
‫ق بَيْنَ‬
‫ل نُفَرّ ُ‬
‫ل ِئكَتِهِ َو ُك ُتبِهِ َورُسُلِ ِه َ‬
‫ن بِالِّ َومَ َ‬
‫ل آمَ َ‬ ‫ن كُ ّ‬
‫ل ِبمَا أُنزِلَ ِإَليْهِ مِنْ َربّهِ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُو َ‬‫بِا ْل َغيْبِ} [البقرة‪ ،]3 :‬وقوله‪{ :‬آمَنَ الرّسُو ُ‬
‫ل ِئكَةِ وَا ْل ِكتَابِ وَالنّ ِبيّينَ} [البقرة‪،]177 :‬‬ ‫خرِ وَا ْلمَ َ‬‫ن بِالِّ وَا ْليَوْمِ الْ ِ‬ ‫ح ٍد مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة‪ ،]285 :‬وقوله‪{ :‬وََلكِنّ ا ْلبِ ّر مَ ْ‬
‫ن آمَ َ‬ ‫أَ َ‬
‫أي‪ :‬أقر بذلك ومثل هذا في القرآن كثير‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن لفظ [اليمان] إنما يستعمل في بعض الخبار‪ ،‬وهو مأخوذ من المن‪ ،‬كما أن القرار مأخوذ من‬
‫قر‪ ،‬فالمؤمن صاحب أمن‪ ،‬كما أن المقر صاحب إقرار‪ ،‬فلبد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه‪ ،‬فإذا كان‬
‫عالمًا بأن محمدًا رسول الّ‪ ،‬ولم يقترن بذلك حبه‪ ،‬وتعظيمه بل كان يبغضه ويحسده ويستكبر عن اتباعه‪ ،‬فإن هذا‬
‫ليس بمؤمن به‪ ،‬بل كافر به‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬كفر إبليس‪ ،‬وفرعون‪ ،‬وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير هؤلء‪ ،‬فإن إبليس لم‬
‫سهُمْ ظُ ْلمًا‬
‫ستَيْ َق َن ْتهَا َأنْ ُف ُ‬ ‫يكذب خبرًا ول مخبرًا‪ ،‬بل استكبر عن أمر ربه‪ .‬وفرعون وقومه قال الّ فيهم‪َ { :‬وجَ َ‬
‫حدُوا ِبهَا وَا ْ‬
‫ض بَصَائِرَ}[السراء‪،]102 :‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَْ ْر ِ‬ ‫وَعُلُوّا} [النمل‪ ،]14 :‬وقال له موسى‪َ{ :‬ل َقدْ عَِل ْم َ‬
‫ت مَا أَنزَلَ هَ ُؤلَء ِإلّ رَبّ ال ّ‬
‫ب َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ َأ ْبنَاءَهُمْ} [البقرة‪.]146 :‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬اّلذِينَ آ َت ْينَاهُمْ ا ْل ِكتَا َ‬

‫فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب ـ علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له ـ لم ينفع‬
‫صاحبه‪ ،‬بل أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الّ بعلمه‪ ،‬وقد كان النبي صلى ال عليه وسلم ‪ /‬يقول‪( :‬اللّهم‬
‫إني أعوذ بك من علم ل ينفع‪ ،‬ونفس ل تشبع‪ ،‬ودعاء ل يسمع‪ ،‬وقلب ل يخشع)‪.‬‬
‫ولكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو اليمان‪ ،‬وأن من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن‪ ،‬فإن ذلك يدل‬
‫على عدم علم قلبه‪ ،‬وهذا من أعظم الجهل شرعًا وعقلً‪ ،‬وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر؛ ولهذا أطلق‬
‫وكيع بن الجراح وأحمد ابن حنبل وغيرهما من الئمة كفرهم بذلك‪ ،‬فإنه من المعلوم أن النسان يكون عالمًا بالحق‬
‫ويبغضه لغرض آخر‪ ،‬فليس كل من كان مستكبرًا عن الحق‪ ،‬يكون غيرعالم به‪ ،‬وحينئذ فاليمان لبد فيه من تصديق‬
‫القلب وعمله‪ ،‬وهذا معنى قول السلف‪ :‬اليمان قول وعمل‪.‬‬

‫ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للرادة‪ ،‬لزم وجود الفعال الظاهرة‪ ،‬فإن الرادة الجازمة‬
‫إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعًا‪ ،‬وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة‪ ،‬أو لعدم كمال الرادة‪،‬‬
‫وإل فمع كمالها يجب وجود الفعل الختياري‪ ،‬فإذا أقر القلب إقرارًا تامًا‪ ،‬بأن محمدًا رسول الّ وأحبه محبة تامة‪،‬‬
‫امتنع مع ذلك أل يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك‪ ،‬لكن إن كان عاجزًا لخرس‪ ،‬ونحوه أو لخوف‪ ،‬ونحوه لم يكن‬
‫قادرًا على النطق بهما‪.‬‬

‫وأبو طالب‪ ،‬وإن كان عالمًا بأن محمدًا رسول الّ‪ ،‬وهو محب له‪ ،‬فلم تكن محبته له لمحبته لّ‪ ،‬بل كان يحبه؛‬ ‫‪/‬‬
‫لنه ابن أخيه فيحبه للقرابة‪ ،‬وإذا أحب ظهوره فلما يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة‪ ،‬فأصل محبوبه هو‬
‫الرئاسة ؛ فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالقرار بهما زوال دينه الذي يحبه‪ ،‬فكان دينه أحب‬
‫جّن ُبهَا‬ ‫إليه من ابن أخيه فلم يقر بهما ـ فلو كان يحبه ؛ لنه رسول الّ كما كان يحبه أبو بكر الذي قال الّ فيه‪{ :‬وَ َ‬
‫سيُ َ‬
‫ف يَرْضَى} [الليل‪ 17 :‬ـ‬ ‫سوْ َ‬
‫ل ا ْبتِغَاءَ وَجْهِ َربّهِ الَْعْلَى ‪ .‬وَلَ َ‬
‫ن ِنعْمَ ٍة تُجْزَى ‪ِ .‬إ ّ‬
‫عنْدَ ُه مِ ْ‬
‫حدٍ ِ‬
‫لْتْقَى ‪ .‬اّلذِي يُ ْؤتِي مَالَ ُه َيتَ َزكّى ‪َ .‬ومَا لَِ َ‬
‫اَ‬
‫‪ ،]21‬وكما كان يحبه سائر المؤمنين به‪ ،‬كعمر وعثمان وعلى‪ ،‬وغيرهم لنطق بالشهادتين قطعًا ـ فكان حبه حبًا مع‬
‫ل ل يقبل من العمل إل ما‬ ‫الّ ل حبًا لّ ؛ ولهذا لم يقبل الّ ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته ؛ لنه لم يعمله لّ‪ ،‬وا ّ‬
‫أريد به وجهه‪ ،‬بخلف الذي فعل‪ ،‬ما فعل ابتغاء وجه ربه العلى‪.‬‬

‫وهذا مما يحقق أن اليمان‪ ،‬والتوحيد لبد فيهما من عمل القلب‪ ،‬كحب القلب‪ ،‬فلبد من إخلص الدين لّ‪ ،‬والدين ل‬
‫يكون دينًا إل بعمل‪ ،‬فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة‪ ،‬وقد أنزل الّ ـ عز وجل ـ سورتي الخلص‪{ :‬قُ ْ‬
‫ل يَاَأّيهَا‬
‫حدٌ}‪ .‬إحداهما في توحيد القول والعلم‪ ،‬والثانية في توحيد العمل ‪ /‬والرادة‪ ،‬فقال في الول‪{ :‬‬ ‫ا ْلكَا ِفرُونَ} و{قُلْ هُوَ الُّ َأ َ‬
‫ص َمدُ ‪ .‬لَ ْم يَِلدْ وَلَ ْم يُوَلدْ ‪ .‬وََل ْم يَكُنْ لَ ُه كُفُوًا أَ َحدٌ} [سورة الخلص] فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في‬ ‫حدٌ ‪ .‬الُّ ال ّ‬ ‫قُلْ هُوَ الُّ َأ َ‬
‫عُبدُ ‪َ .‬لكُمْ‬
‫ن مَا أَ ْ‬‫عبَدتّمْ ‪َ .‬ولَ َأ ْنتُمْ عَا ِبدُو َ‬
‫عبُدُ ‪َ .‬ولَ َأنَا عَابِ ٌد مَا َ‬
‫عبُ ُد مَا َت ْعبُدُونَ ‪َ .‬ولَ َأ ْنتُمْ عَا ِبدُونَ مَا أَ ْ‬
‫ن ‪ .‬لَ أَ ْ‬ ‫الثاني‪{ :‬قُ ْ‬
‫ل يَاَأّيهَا ا ْلكَافِرُو َ‬
‫ي دِينِ} [ سورة الكافرون ] فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير الّ وإخلص العبادة لّ‪.‬‬ ‫دِي ُنكُمْ وَلِ َ‬

‫والعبادة أصلها القصد والرادة‪ ،‬والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه‪ ،‬وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما‬
‫لها‪ ،‬كما ذكرناه في لفظ اليمان‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ومَا خََلقْتُ ا ْلجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعبُدُونِ} [الذاريات‪ ،]56 :‬وقال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا‬
‫النّاسُ ا ْعبُدُوا َربّكُمْ} [البقرة‪ ،]21 :‬فهذا ونحوه يدخل فيه فعل المأمورات وترك المحظورات‪ ،‬والتوكل من ذلك‪ ،‬وقد‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة‪ ،]5 :‬وقال‪{ :‬فَا ْعبُدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود‪.]123 :‬‬ ‫قال في موضع آخر‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َنعْ ُبدُ وَِإيّا َ‬

‫ومثل هذا كثيرًا ما يجيء في القرآن؛ تتنوع دللة اللفظ في عمومه وخصوصه بحسب الفراد والقتران‪ ،‬كلفظ‬
‫س تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ َو َت ْنهَوْنَ عَنْ ا ْلمُنكَرِ} [ آل عمران‪]110 :‬‬‫خيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِرجَتْ لِلنّا ِ‬ ‫المعروف والمنكر فإنه قد قال‪ُ { :‬كنْتُمْ َ‬
‫ن بِا ْل َمعْرُوفِ َو َينْهَوْنَ عَنْ ا ْلمُنكَرِ} [التوبة‪ ،]71 :‬وقال‪{ :‬يَ ْأمُرُهُمْ‬
‫ض يَ ْأمُرُو َ‬
‫ضهُمْ أَوِْليَا ُء َبعْ ٍ‬ ‫‪ ،‬وقال‪{ :‬وَا ْلمُ ْؤمِنُونَ وَا ْلمُ ْؤمِنَا ُ‬
‫ت َبعْ ُ‬
‫بِا ْل َمعْرُوفِ َويَ ْنهَا ُهمْ عَنْ ا ْلمُنكَرِ} [العراف‪ ،]157 :‬فالمنكر يدخل فيه ما كرهه الّ‪ ،‬كما يدخل في المعروف ما يحبه‬
‫الّ‪.‬‬

‫وقد قال في موضع آخر‪{ :‬إِنّ الصّلَ َة َت ْنهَى عَنْ الْ َفحْشَاءِ وَا ْل ُم ْنكَرِ} [العنكبوت‪ ،]45 :‬فعطف المنكر على الفحشاء‪ ،‬ودخل‬
‫لحْسَانِ َوإِيتَا ِء ذِي ا ْلقُ ْربَى َو َي ْنهَى عَنْ الْ َفحْشَاءِ وَا ْلمُنكَرِ‬ ‫في المنكر هنا البغي‪ ،‬وقال في موضع آخر‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫لّ يَ ْأمُ ُر بِا ْلعَدْلِ وَا ِ‬
‫وَا ْل َبغْيِ} [النحل‪ ،]90 :‬فقرن بالمنكر الفحشاء والبغي‪.‬‬

‫ومن هذا الباب لفظ الفقراء والمساكين‪ ،‬إذا أفرد أحدهما دخل فيه الخر‪ ،‬وإذا قرن أحدهما بالخر صار بينهما فرق‪،‬‬
‫لكن هناك أحد السمين أعم من الخر‪ ،‬وهنا بينهما عموم وخصوص‪ ،‬فمحبة الّ وحده والتوكل عليه وحده‪ ،‬وخشية‬
‫خ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا‬ ‫ن يَتّ ِ‬
‫س مَ ْ‬ ‫ل تعالى‪ ،‬قال تعالى في المحبة‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬ ‫الّ وحده‪ ،‬ونحو هذا كل هذا يدخل في توحيد ا ّ‬
‫جكُمْ‬
‫ن آبَا ُؤكُمْ وََأ ْبنَا ُؤكُمْ َوإِخْوَا ُنكُمْ وََأزْوَا ُ‬ ‫حبّا لِِّ} [البقرة‪ ،]165 :‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن كَا َ‬ ‫شدّ ُ‬
‫ن آ َمنُوا أَ َ‬
‫حبّو َنهُمْ َكحُبّ الِّ وَاّلذِي َ‬
‫يُ ِ‬
‫سبِيلِ ِه َفتَ َربّصُوا‬
‫جهَا ٍد فِي َ‬
‫شوْنَ َكسَادَهَا َومَسَاكِنُ تَ ْرضَ ْو َنهَا َأحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ َورَسُولِهِ َو ِ‬‫وَعَشِي َر ُتكُمْ وََأمْوَالٌ ا ْقتَ َر ْف ُتمُوهَا َوتِجَارَ ٌة تَخْ َ‬
‫لّ بَِأمْرِهِ} [التوبة‪ ،]24 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَ ْن يُطِعْ الَّ َورَسُولَهُ َو َيخْشَ الَّ َو َيتّقِ ِه َفأُوَْل ِئكَ ُهمْ ا ْلفَائِزُونَ} [النور‪52 :‬‬ ‫حتّى يَ ْأتِيَ ا ُ‬ ‫َ‬
‫]‪ ،‬فجعل الطاعة لّ والرسول وجعل الخشية والتقوى لّ وحده‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬وَلَوْ َأّنهُمْ َرضُوا مَا آتَاهُمْ الُّ وَرَسُولُهُ َوقَالُوا‬
‫صبْ ‪ .‬وَإِلَى َرّبكَ‬ ‫ت فَان َ‬‫غ َ‬‫غبُونَ} [التوبة‪ ،]59 :‬وقال تعالى‪َ { :‬فِإذَا فَرَ ْ‬ ‫ضلِهِ وَرَسُولُهُ ِإنّا إِلَى الِّ رَا ِ‬
‫ن فَ ْ‬
‫لّ مِ ْ‬ ‫سيُ ْؤتِينَا ا ُ‬
‫س ُبنَا الُّ َ‬‫حَ ْ‬
‫فَارْ َغبْ} [الشرح‪ ]8 ،7 :‬فجعل التحسب والرغبة إلى الّ وحده‪.‬‬

‫وهذه المور مبسوطة في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ل قولً وعملً‪،‬‬‫ل وحده وذلك يتضمن التصديق ّ‬ ‫والمقصود هنا أن قول القائل‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} فيه إفراد اللهية ّ‬
‫فالمشركون كانوا يقرون بأن الّ رب كل شيء‪ ،‬لكن كانوا يجعلون معه آلهة أخرى‪ ،‬فل يخصونه باللهية‪،‬‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ} فإن النسان قد‬ ‫وتخصيصه باللهية يوجب أل يعبد إل إياه‪ ،‬وأل يسأل غيره‪ ،‬كما في قوله‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ‬
‫يقصد سؤال الّ وحده والتوكل عليه‪ ،‬لكن في أمور ل يحبها الّ‪ ،‬بل يكرهها وينهى عنها‪ ،‬فهذا وإن كان مخلصًا له في‬
‫سؤاله‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬لكن ليس هو مخلصًا في عبادته وطاعته‪ ،‬وهذا حال كثير من أهل التوجهات الفاسدة أصحاب‬
‫الكشوفات‪ ،‬والتصرفات المخالفة لمر الّ ورسوله‪ ،‬فإنهم يعانون على هذه المور‪.‬‬

‫وكثير منهم يستعين الّ عليها‪ ،‬لكن لما لم تكن موافقة لمرالّ ورسوله حصل لهم نصيب من العاجلة‪ ،‬وكانت عاقبتهم‬
‫ن كَفُورًا}‬ ‫لْنْسَا ُ‬ ‫ضتُمْ َوكَانَ ا ِ‬ ‫عرَ ْ‬ ‫ل مَنْ َتدْعُونَ ِإلّ ِإيّا ُه فََلمّا نَجّاكُمْ إِلَى ا ْلبَرّ أَ ْ‬ ‫ضّ‬ ‫سكُمْ الضّ ّر فِي ا ْلبَحْرِ َ‬‫عاقبة سيئة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَِإذَا مَ ّ‬
‫عنْهُ ضُرّ ُه مَ ّر َكأَنْ لَ ْم َيدْعُنَا إِلَى‬
‫ش ْفنَا َ‬
‫عدًا أَ ْو قَا ِئمًا فََلمّا كَ َ‬
‫ج ْنبِهِ أَ ْو قَا ِ‬ ‫[السراء‪ ،]67 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَِإذَا مَسّ ا ِ‬
‫لْنْسَانَ الضّ ّر دَعَانَا لِ َ‬
‫ضُ ّر َمسّهُ} [يونس‪.]12 :‬‬

‫وطَائفة أخرى قد يقصدون طاعة الّ ورسوله‪ ،‬لكن ل يحققون التوكل عليه والستعانة به‪ ،‬فهؤلء يثابون على حسن‬
‫ل والتوكل عليه‪ ،‬ولهذا يبتلى الواحد‬ ‫نيتهم‪ ،‬وعلى طاعتهم‪ ،‬لكنهم مخذولون فيما يقصدونه‪ ،‬إذ لم يحققوا الستعانة با ّ‬
‫من هؤلء بالضعف والجزع تارة‪ ،‬وبالعجاب أخرى‪ ،‬فإن لم يحصل مراده من الخير كان لضعفه‪ ،‬وربما حصل له‬
‫جزع‪ ،‬فإن حصل مراده نظر إلى نفسه وقوته فحصل له إعجاب‪ ،‬وقد يعجب بحاله فيظن حصول مراده فيخذل‪ ،‬قال‬
‫ت ثُمّ وَّل ْيتُ ْم ُمدْبِرِينَ} إلى قوله‪{ :‬ثُمّ‬
‫حبَ ْ‬
‫ض ِبمَا َر ُ‬
‫ش ْيئًا َوضَا َقتْ عََل ْيكُمْ الَْرْ ُ‬
‫ع ْنكُمْ َ‬
‫ج َب ْتكُ ْم َكثْ َر ُتكُمْ َفلَ ْم ُتغْنِ َ‬ ‫تعالى‪َ { :‬ويَ ْومَ ُ‬
‫ح َنيْنٍ ِإذْ أَعْ َ‬
‫لّ مِ ْن بَ ْعدِ ذَِلكَ عَلَى مَ ْن يَشَاءُ وَالُّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة‪25 :‬ـ ‪.]27‬‬ ‫َيتُوبُ ا ُ‬

‫وكثيرًا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب‪ ،‬فالرياء من باب الشراك بالخلق‪ ،‬والعجب من باب الشراك بالنفس‪،‬‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ}‪ ،‬فمن حقق قوله‪:‬‬
‫ك َنعْبٍُد}‪ ،‬والمعجب ل يحقق قوله‪{ :‬وَِإيّا َ‬
‫وهذا حال المستكبر‪ ،‬فالمرائي ل يحقق قوله‪{ :‬إيّا َ‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ} خرج عن العجاب‪ ،‬وفي الحديث المعروف‪( :‬ثلث‬ ‫ك َن ْعبُدُ} خرج عن الرياء‪ ،‬ومن حقق قوله‪{ :‬وَِإيّا َ‬
‫{ِإيّا َ‬
‫مهلكات‪ :‬شُحّ ُمطَاعٌ‪ ،‬وهوى مُتّبَعٌ‪ ،‬وإعجاب المرء بنفسه)‪.‬‬

‫‪/‬وشر من هؤلء وهؤلء من ل تكون عبادته لّ‪ ،‬ول استعانته بالّ‪ ،‬بل يعبد غيره ويستعين غيره وهؤلء المشركون‬
‫من الوجهين‪.‬‬

‫ومن هؤلء من يكون شركه بالشياطين‪ ،‬كأصحاب الحوال الشيطانية‪ ،‬فيفعلون ما تحبه الشياطين من الكذب‬
‫والفجور‪ ،‬ويدعونه بأدعية تحبها الشياطين‪ ،‬ويعزمون بالعزائم التي تطيعها الشياطين‪ ،‬مما فيها إشراك بالّ‪ ،‬كما قد‬
‫بسط الكلم عليهم في مواضع أخر‪ ،‬وهؤلء قد يحصل لهم من الخوارق ما يظن أنه من كرامات الولياء‪ .‬وإنما هو‬
‫من أحوال السحرة والكهان؛ ولهذا يجب الفرق بين الحوال اليمانية القرآنية‪ ،‬والحوال النفسانية‪ ،‬والحوال‬
‫الشيطانية‪.‬‬

‫وأما القسم الرابع‪ :‬فهم أهل التوحيد الذين أخلصوا دينهم لّ‪ ،‬فلم يعبدوا إل إياه‪ ،‬ولم يتوكلوا إل عليه‪.‬‬

‫وقول المكروب‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} قد يستحضر في ذلك أحد النوعين دون الخر فمن أتم الّ عليه النعمة استحضر‬
‫التوحيد في النوعين‪ ،‬فإن المكروب همته منصرفة إلى دفع ضره وجلب نفعه‪ ،‬فقد يقول‪ :‬ل إله إل الّ مستشعرًا أنه ل‬
‫يكشف الضر غيرك‪ ،‬ول يأتي بالنعمة إل أنت‪ ،‬فهذا مستحضر توحيد الربوبية‪ ،‬ومستحضر توحيد السؤال والطلب‪،‬‬
‫ل ويرضاه ويأمر ‪ /‬به وهـو أل يعبد إل إياه‪ ،‬ول يعبده إل‬
‫والتوكل عليه‪ ،‬معرض عن توحيد اللهية الذي يحبه ا ّ‬
‫ل متوكلً عليه وكان ممتثلً قوله‪:‬‬ ‫بطـاعته‪ ،‬وطـاعـة رسوله‪ ،‬فمن استشعر هـذا في قـوله‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} كان عابدًا ّ‬
‫عبُدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود‪ ،]123 :‬وقوله‪{ :‬عََليْ ِه تَ َوكّلْتُ وَِإَليْهِ ُأنِيبُ} [الشورى‪ ،]10 :‬وقوله‪{ :‬وَا ْذكُرْ اسْمَ َرّبكَ َو َت َبتّلْ‬ ‫{فَا ْ‬
‫ب لَ إِلَهَ ِإلّ هُ َو فَاتّ ِخذْهُ َوكِيلً} [المزّمل‪.]9 ،8 :‬‬
‫شرِقِ وَا ْل َمغْرِ ِ‬
‫إَِليْ ِه َتبْتِيلً ‪ .‬رَبّ ا ْلمَ ْ‬

‫ثم إن كان مطلوبه محرمًا أثم‪ ،‬وإن قضيت حاجته‪ ،‬وإن كان طالبًا مباحًا لغير قصد الستعانة به على طاعة ا ّ‬
‫ل‬
‫وعبادته لم يكن آثمًا‪ ،‬ول مثابًا‪ ،‬وإن كان طالبًا ما يعينه على طاعة الّ وعبادته لقصد الستعانة به على ذلك‪ ،‬كان‬
‫مثابًا مأجورًا‪.‬‬

‫وهذا مما يفرق به بين العبد الرسول وخلفائه‪ ،‬وبين النبي الملك‪ ،‬فإن نبينا محمدًا صلى ال عليه وسلم خير بين أن‬
‫يكون نبيًا ملكًا‪ ،‬أو عبدًا رسولً‪ ،‬فاختار أن يكون عبدًا رسولً‪ ،‬فإن العبد الرسول هو الذي ل يفعل إل ما أمر به‪،‬‬
‫ل ل أعطي‬ ‫ففعله كله عبادة لّ‪ ،‬فهو عبد محض منفذ أمر مرسله‪ ،‬كما ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال‪( :‬إني وا ّ‬
‫أحدًا ول أمنع أحدًا‪ ،‬وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت)‪ ،‬وهو لم يرد بقوله‪( :‬ل أعطي أحدًا ول أمنع) إفراد الّ بذلك‬
‫قدرًا وكونًا‪ ،‬فإن جميع المخلوقين يشاركونه في هذا‪ ،‬فل يعطي أحدًا ول يمنع إل بقضاء الّ وقدره‪ ،‬وإنما أراد إفراد‬
‫الّ بذلك شرعًا ودينًا‪ ،‬أي ل أعطي إل من أمرت ‪ /‬بإعطائه‪ ،‬ول أمنع إل من أمرت بمنعه‪ ،‬فأنا مطيع لّ في إعطائي‬
‫ومنعى‪ ،‬فهو يقسم الصدقة والفيء والغنائم كما يقسم المواريث بين أهلها؛ لن الّ أمره بهذه القسمة‪.‬‬

‫ولهذا كان المال حيث أضيف إلى الّ ورسوله‪ ،‬فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة الّ ورسوله‪ ،‬ليس المراد به‬
‫أنه ملك للرسول‪ ،‬كما ظنه طائفة من الفقهاء‪ ،‬ول المراد به كونه مملوكًا لّ خلقًا وقدرًا‪ ،‬فإن جميع الموال بهذه‬
‫خمُسَهُ وَلِلرّسُولِ}‬ ‫ي ٍء فَأَنّ لِّ ُ‬ ‫لْنْفَالُ لِّ وَالرّسُولِ} [النفال‪ ،]1 :‬وقوله‪{ :‬وَاعَْلمُوا َأّنمَا َ‬
‫غ ِن ْمتُ ْم مِنْ شَ ْ‬ ‫المثابة‪ ،‬وهذا كقوله‪{ :‬قُلْ ا َ‬
‫خيْلٍ َولَ ِركَابٍ} إلى قوله‪{ :‬مَا َأفَاءَ الُّ عَلَى‬ ‫الية [النفال‪ ،]41 :‬وقوله‪َ { :‬ومَا َأفَاءَ الُّ عَلَى َرسُولِ ِه ِم ْنهُمْ َفمَا أَوْ َ‬
‫ج ْفتُمْ عََليْ ِه مِنْ َ‬
‫رَسُولِ ِه مِنْ أَهْلِ ا ْلقُرَى فَِللّهِ وَلِلرّسُولِ َوِلذِي الْ ُق ْربَى} الية [الحشر‪ ،]7 ،6 :‬فذكر في الفيء ما ذكر في الخمس‪.‬‬

‫فظن طائفة من الفقهاء أن الضافة إلى الرسول تقتضى أنه يملكه‪ ،‬كما يملك الناس أملكهم‪ .‬ثم قال بعضهم‪ :‬إن غنائم‬
‫بدر كانت ملكًا للرسول‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إن الفيء وأربعة أخماسه كان ملكًا للرسول‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إن الرسول إنما‬
‫كان يستحق من الخمس خمسه‪ ،‬وقال بعض هؤلء‪ :‬وكذلك كان يستحق من خمس الفيء خمسه‪ ،‬وهذه القوال توجد‬
‫في كلم طوائف من أصحاب الشافعي‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وهذا غلط من وجوه‪:‬‬

‫‪/‬منها‪ :‬أن الرسول لم يكن يملك هذه الموال كما يملك الناس أموالهم‪ ،‬ول كما يتصرف الملوك في ملكهم‪ ،‬فإن هؤلء‬
‫وهؤلء لهم أن يصرفوا أموالهم في المباحات‪ ،‬فإما إن يكون مالكًا له‪ ،‬فيصرفه في أغراضه الخاصة‪ ،‬وإما أن يكون‬
‫ك ِبغَيْرِ حِسَابٍ} [‬ ‫ملكًا له‪ ،‬فيصرفه في مصلحة ملكه‪ ،‬وهذه حال النبي الملك‪ ،‬كداود وسليمان‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فَا ْمنُنْ أَوْ َأمْ ِ‬
‫س ْ‬
‫ص‪ ،]39 :‬أي‪ :‬أعط من شئت واحرم من شئت ل حساب عليك‪ ،‬ونبينا كان عبدًا رسولً ل يعطي إل من أمر‬
‫بإعطائه‪ ،‬ول يمنع إل من أمر بمنعه‪ ،‬فلم يكن يصرف الموال إل في عبادة الّ وطاعة له‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن النبي ل يورث ولو كان ملكًا‪ ،‬فإن النبياء ليورثون‪ ،‬فإذا كان ملوك النبياء لم يكونوا ملكا‪ ،‬كما يملك‬
‫الناس أموالهم‪ ،‬فكيف يكون صفوة الرسل الذي هو عبد رسول مالكًا‪.‬‬

‫لل‬‫ومنها‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان ينفق على نفسه وعياله قدر الحاجة‪ ،‬ويصرف سائر المال في طاعة ا ّ‬
‫يستفضله‪ ،‬وليست هذه حال الملك‪ ،‬بل المال الذي يتصرف فيه كله هو مال الّ ورسوله‪ ،‬بمعنى أن الّ أمر رسوله‬
‫أن يصرف ذلك المال في طاعته‪ ،‬فتجب طاعته في قسمه‪ ،‬كما تجب طاعته في سائر ما يأمر به‪ ،‬فإنه من يطع‬
‫الرسول فقد أطاع الّ‪ ،‬وهو في ذلك مبلغ عن الّ‪ / ،‬والموال التي كان يقسمها النبي صلى ال عليه وسلم على‬
‫وجهين‪:‬‬

‫منها‪ :‬ما تعين مستحقه ومصرفه كالمواريث‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه‪ ،‬فإن ما أمر الّ به‪ ،‬منه ما هو محدود بالشرع‪ ،‬كالصلوات الخمس‪،‬‬
‫وطواف السبوع بالبيت‪ ،‬ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور‪ ،‬فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها‬
‫الّ‪.‬‬
‫فمن هذا ما اتفق عليه الناس‪ ،‬ومنه ما تنازعوا فيه‪ ،‬كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات‪ :‬هل هي مقدرة‬
‫بالشرع؟ أم يرجع فيها إلى العرف‪ ،‬فتختلف في قدرها وصفتها باختلف أحوال الناس؟ وجمهور الفقهاء على القول‬
‫الثاني‪ ،‬وهو الصواب لقول النبي صلى ال عليه وسلم لهند‪( :‬خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)‪ ،‬وقال أيضًا في‬
‫خطبته المعروفة‪( :‬للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف)‪.‬‬

‫وكذلك تنازعوا ـ أيضًا ـ فيما يجب من الكفارات‪ :‬هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف؟‬

‫فما أضيف إلى الّ والرسل من الموال‪ ،‬كان المرجع في قسمته إلى أمر ‪ /‬النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بخلف ما‬
‫سمى مستحقوه كالمواريث؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم عام حنين‪( :‬ليس لي مما أفاء الّ عليكم إل الخمس‪،‬‬
‫والخمس مردود عليكم) أي‪ :‬ليس له بحكم القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إل الخمس؛ ولهذا قال‪( :‬‬
‫وهو مردود عليكم) بخلف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة‪.‬‬

‫ولهذا كانت الغنائم يقسمها المراء بين الغانمين‪ ،‬والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين‪ ،‬الذين خلفوا رسول‬
‫الّ صلى ال عليه وسلم في أمته‪ ،‬فيقسمونها بأمرهم‪ ،‬فأما أربعة الخماس‪ ،‬فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم الّ ورسوله‬
‫كما يستفتى المستفتى‪ ،‬وكما كانوا في الحدود لمعرفة المر الشرعي‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم أعطى المؤلفة‬
‫قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم‪ ،‬فقيل‪ :‬إن ذلك كان من الخمس‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه كان من أصل الغنيمة‪ ،‬وعلى هذا القول‬
‫فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك؛ ولهذا أجاب من عتب من النصار بما أزال عتبه‪ ،‬وأراد تعويضهم عن‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ومن الناس من يقول‪ :‬الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون‪ ،‬وإن للمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في‬
‫غير هذا الموضع‪.‬‬

‫فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لّ الذي يعبده ويستعينه‪ ،‬فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َنعْ ُبدُ وَِإيّاكَ‬
‫نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة‪ / ]5 :‬توحيد اللهية وتوحيد الربوبية‪ ،‬وإن كانت اللهية تتضمن الربوبية‪ ،‬والربوبية تستلزم‬
‫اللهية‪ ،‬فإن أحدهما إذا تضمن الخر عند النفراد‪ ،‬لم يمنع أن يختص بمعناه عند القتران‪ ،‬كما في قوله‪{ :‬قُلْ أَعُوذُ‬
‫س ‪ .‬مَِلكِ النّاسِ ‪ .‬إِلَهِ النّاسِِ} [الناس‪ ،]1-3 :‬وفي قوله‪{ :‬ا ْل َح ْمدُ لِّ رَبّ ا ْلعَاَلمِينَ} [الفاتحة‪ ،]2 :‬فجمع بين‬
‫بِرَبّ النّا ِ‬
‫السمين‪ :‬اسم الله واسم الرب‪ .‬فإن الله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد‪ ،‬والرب هو الذي يرب عبده فيدبره‪.‬‬

‫ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه الّ‪ ،‬والسؤال متعلقًا باسمه الرب‪ ،‬فإن العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق‪.‬‬
‫واللهية هي الغاية‪ ،‬والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم‪ ،‬والمصلي إذا قال‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َنعْ ُبدُ‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ} فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية‪ ،‬فالعبادة غاية مقصودة‪ ،‬والستعانة وسيلة‬
‫وَِإيّا َ‬
‫إليها‪ :‬تلك حكمة وهذا سبب‪ ،‬والفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلىة معروف؛ ولهذا يقال‪ :‬أول الفكرة آخر العمل‪،‬‬
‫وأول البغية آخر الدرك‪ .‬فالعلة الغائية متقدمة في التصور والرادة وهي متأخرة في الوجود‪ .‬فالمؤمن يقصد عبادة الّ‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ} ‪.‬‬ ‫ابتداء وهو يعلم أن ذلك ل يحصل إل بإعانته فيقول‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َنعْ ُبدُ وِإيّا َ‬

‫ولما كانت العبادة متعلقة باسمه الّ ـ تعالى ـ جاءت الذكار المشروعة بهذا السم مثل كلمات الذان‪ :‬الّ أكبر‪ ،‬ا ّ‬
‫ل‬
‫أكبر‪ .‬ومثل الشهادتين‪ / :‬أشهد أن ل إله إل الّ‪ ،‬أشهد أن محمدًا رسول الّ‪ .‬ومثل التشهد‪ :‬التحيات لّ‪ ،‬ومثل التسبيح‪،‬‬
‫والتحميد‪ ،‬والتهليل‪ ،‬والتكبير‪ :‬سبحان الّ‪ ،‬والحمد لّ‪ ،‬ول إله إل الّ‪ ،‬والّ أكبر‪.‬‬

‫ن مِنْ‬‫ح ْمنَا َلنَكُونَ ّ‬ ‫وأما السؤال فكثيرًا ما يجيء باسم الرب‪ ،‬كقول آدم وحواء‪َ { :‬رّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُ َ‬
‫سنَا وَإِنْ لَ ْم َتغْ ِفرْ َلنَا َوتَرْ َ‬
‫سرِينَ} [العراف‪ ،]23 :‬وقول نوح‪َ { :‬ربّ ِإنّي أَعُو ُذ ِبكَ أَنْ أَسَْأَلكَ مَا َليْسَ لِي بِهِ عِ ْلمٌ} [هود‪ ،]47 :‬وقول موسى‪{ :‬‬ ‫الْخَا ِ‬
‫عنْ َد َبيْ ِتكَ‬
‫غيْ ِر ذِي زَ ْرعٍ ِ‬ ‫ن ذُ ّريّتِي بِوَادٍ َ‬ ‫ت مِ ْ‬ ‫سكَن ُ‬‫ت نَ ْفسِي فَاغْفِرْ لِي}[القصص‪ ،]16 :‬وقول الخليل‪َ { :‬رّبنَا ِإنّي أَ ْ‬
‫رَبّ ِإنّي ظََلمْ ُ‬
‫ا ْلمُ َحرّمِ َرّبنَا ِليُقِيمُوا الصّلَةَ} الية [إبراهيم‪ ،]37 :‬وقوله مع إسماعيل‪َ { :‬رّبنَا تَ َقبّ ْل ِمنّا ِإّنكَ َأنْتَ ال ّسمِيعُ ا ْلعَلِيمُ} [البقرة‪:‬‬
‫‪ ،]127‬وكذلك قول الذين قالوا‪َ { :‬رّبنَا آ ِتنَا فِي ال ّدنْيَا حَ َسنَةً َوفِي الْخِرَةِ َح َسنَةً َو ِقنَا َعذَابَ النّارِ}[البقرة‪ ]201 :‬ومثل هذا‬
‫كثير‪.‬‬
‫وقد نقل عن مالك أنه قال‪ :‬أكره للرجل أن يقول في دعائه‪ :‬يا سيدي‪ ،‬يا سيدي‪ ،‬يا حنان‪ ،‬يا حنان‪ ،‬ولكن يدعو بما‬
‫لّ ِقيَامًا َو ُقعُودًا‬ ‫دعت به النبياء‪ ،‬ربنا‪ ،‬ربنا‪ .‬نقله عنه العتبي في العتبية‪ .‬وقال تعالى عن أولى اللباب‪{ :‬اّلذِي َ‬
‫ن يَ ْذكُرُونَ ا َ‬
‫وَعَلَى ُجنُو ِبهِمْ َويَتَ َفكّرُو َن فِي َخلْقِ ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضِ َرّبنَا مَا خََلقْتَ َهذَا بَاطِلً ُسبْحَا َنكَ َف ِقنَا َعذَابَ النّارِ} [آل عمران‪]191 :‬‬
‫اليات‪.‬‬

‫‪/‬فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال‪ ،‬ناسب أن يسأله باسمه الرب‪ ،‬وإن سأله باسمه الّ؛ لتضمنه اسم الرب‪ ،‬كان‬
‫حسنًا‪ ،‬وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة‪ ،‬فاسم الّ أولى بذلك‪ ،‬إذا بدأ بالثناء ذكر اسم الّ‪ ،‬وإذا قصد الدعاء دعا باسم‬
‫ت مِنْ الظّاِلمِينَ}[النبياء‪ ،]87 :‬وقال آدم‪َ { :‬رّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُ َ‬
‫سنَا وَإِنْ لَمْ‬ ‫الرب؛ ولهذا قال يونس‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُ‬
‫سبْحَا َنكَ ِإنّي كُن ُ‬
‫سرِينَ} [العراف‪ ،]23 :‬فإن يونس ـ عليه السلم ـ ذهب مغاضبًا‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬‬ ‫ح ْمنَا َل َنكُونَنّ مِنْ ا ْلخَا ِ‬
‫َتغْفِرْ َلنَا َوتَ ْر َ‬
‫صبِرْ لِ ُحكْمِ َرّبكَ َو َل َتكُنْ َكصَا ِحبِ ا ْلحُوتِ} [القلم‪ ،]48 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَا ْلتَ َقمَهُ الْحُوتُ وَهُ َو مُلِيمٌ}[الصافات‪،]142 :‬‬ ‫فَا ْ‬
‫ففعل ما يلم عليه فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه‪ ،‬والعتراف بأنه ل إله إل هو‪ ،‬فهو الذي يستحق أن‬
‫يعبد دون غيره فل يطاع الهوى‪ ،‬فإن اتباع الهوى يضعف عبادة الّ وحده‪ ،‬وقد روى أن يونس ـ عليه السلم ـ ندم‬
‫على ارتفاع العذاب عن قومه بعد أن أظلهم وخاف أن ينسبوه إلى الكذب فغاضب‪.‬وفعل ما اقتضى الكلم الذي ذكره‬
‫الّ تعالى وأن يقال‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} وهذا الكلم يتضمن براءة ما سوى الّ من اللهية‪ ،‬سواء صدر ذلك عن هوى‬
‫ت مِنْ الظّاِلمِينَ}‪.‬‬ ‫النفس أو طاعة الخلق أو غير ذلك؛ ولهذا قال‪ُ { :‬‬
‫س ْبحَا َنكَ ِإنّي كُن ُ‬

‫والعبد يقول مثل هذا الكلم فيما يظنه وهو غير مطابق‪ ،‬وفيما يريده وهو غير حسن‪.‬‬

‫‪/‬وأما آدم ـ عليه السلم ـ فإنه اعترف أولً بذنبه‪ ،‬فقال‪{ :‬ظََل ْمنَا أَن ُف َسنَا} ولم يكن عند آدم من ينازعه الرادة لما أمر الّ‬
‫صحِينَ ‪َ .‬ف َدلّ ُهمَا ِبغُرُورٍ} [العراف‪:‬‬ ‫به‪ ،‬مما يزاحم اللهيـة بـل ظـن صدق الشيطـان الـذي { َوقَا َ‬
‫س َمهُمَا ِإنّي َل ُكمَا َلمِنْ النّا ِ‬
‫‪ ،]22 ،21‬فالشيطان غرهما وأظهر نصحهما فكانا في قبول غروره‪ ،‬وما أظهر من نصحه حالهما مناسبًا لقولهما‪:‬‬
‫{ َرّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُ َسنَا} لما حصل من التفريط‪ ،‬ل لجل هوى وحظ يزاحم اللهية‪ ،‬وكانا محتاجين إلى أن يربهما ربوبية‬
‫تكمل علمهما وقصدهما‪ ،‬حتى ل يغترا بمثل ذلك‪ ،‬فهما يشهدان حاجتهما إلى الّ ربهما الذي ل يقضي حاجتهما غيره‪.‬‬

‫وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق اللهية بما حصل من المغاضبة‪ ،‬وكراهة إنجاء أولئك‪ ،‬ففي ذلك من‬
‫المعارضة في الفعل لحب شيء آخر ما يوجب تجريد محبته لّ‪ ،‬وتألهه له وأن يقول‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ} فإن قول العبد‪:‬‬
‫ل إله إل أنت‪ ،‬يمحو أن يتخذ إلهه هواه‪ .‬وقد روى‪( :‬ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند الّ من هوى متبع)‪.‬‬
‫فكمل يونس ـ صلوات الّ عليه ـ تحقيق إلهيته لّ‪ ،‬ومحو الهوى الذي يتخذ إلهًا من دونه‪ ،‬فلم يبق له ـ صلوات الّ‬
‫عليه وسلمه ـ عند تحقيق قوله ل إله إل أنت إرادة تزاحم إلهية الحق‪ ،‬بل كان مخلصًا لّ الدين؛ إذ كان من أفضل‬
‫عباد الّ المخلصين‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فمثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له‪ ،‬فيبقى فيه ‪ /‬نوع مغاضبة للقدر ومعارضة له في خلقه وأمره‪،‬‬
‫ووساوس في حكمته ورحمته‪ ،‬فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين‪ :‬الراء الفاسدة‪ ،‬والهواء الفاسدة‪ ،‬فيعلم أن الحكمة‪،‬‬
‫والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته‪ ،‬ل فيما اقتضاه علم العبد وحكمته‪ ،‬ويكون هواه تبعًا لما أمر الّ به‪ ،‬فل يكون له‬
‫جدُوا فِي‬ ‫ل يَ ِ‬ ‫شجَ َر َب ْينَهُ ْم ثُ ّم َ‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا َ‬
‫حتّى يُ َ‬
‫ل يُ ْؤمِنُونَ َ‬ ‫مع أمر الّ وحكمه هوى يخالف ذلك‪ ،‬قال الّ تعالى‪{ :‬فَلَ وَ َرّب َ‬
‫ك َ‬
‫ضيْتَ َويُسَّلمُوا تَسْلِيمًا} [النساء‪ ،]65 :‬وقد روى عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬والذي نفسي بيده‪،‬‬ ‫س ِهمْ حَ َرجًا ِممّا َق َ‬
‫أَنفُ ِ‬
‫ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) رواه أبو حاتم في صحيحه؛ وفي الصحيح أن عمر قال له‪ :‬يا‬
‫ل لنت أحب إلىّ من نفسي‪ .‬قال‪( :‬الن يا عمر)‪ ،‬وفي الصحيح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬‬ ‫رسول الّ‪ ،‬وا ّ‬
‫ن آبَا ُؤكُمْ َوَأبْنَا ُؤكُمْ‬ ‫ن كَا َ‬‫ليؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده‪ ،‬ووالده‪ ،‬والناس أجمعين)‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫جهَادٍ‬
‫ض ْونَهَا أَحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ وَرَسُولِهِ وَ ِ‬
‫ن تَرْ َ‬
‫ن كَسَادَهَا َومَسَاكِ ُ‬
‫عشِي َر ُتكُمْ وََأمْوَالٌ ا ْقتَ َر ْف ُتمُوهَا َوتِجَارَ ٌة َتخْشَوْ َ‬
‫جكُمْ وَ َ‬
‫خوَا ُنكُمْ وَأَزْوَا ُ‬
‫وَإِ ْ‬
‫لّ بَِأمْ ِرهِ} [التوبة‪.]24 :‬‬ ‫حتّى يَ ْأتِيَ ا ُ‬‫سبِيلِ ِه َفتَ َربّصُوا َ‬‫فِي َ‬

‫فإذا كان اليمان ل يحصل حتى يحكم العبد رسوله‪ ،‬ويسلم له‪ ،‬ويكون هواه تبعًا لما جاء به‪ ،‬ويكون الرسول والجهاد‬
‫في سبيله مقدمًا على حب النسان نفسه‪ ،‬وماله‪ ،‬وأهله‪ ،‬فكيف في تحكيمه الّ تعالى والتسليم له؟! ‪ /‬فمن رأى قومًا‬
‫يستحقون العذاب في ظنه‪ ،‬وقد غفر الّ لهم ورحمهم‪ ،‬وكره هو ذلك‪ ،‬فهذا إما أن يكون عن إرادة تخالف حكم الّ‪،‬‬
‫وإما عن ظن يخالف علم الّ‪ ،‬والّ علىم حكيم‪ .‬وإذا علمت أنه علىم‪ ،‬وأنه حكيم‪ ،‬لم يبق لكراهية ما فعله وجه‪ ،‬وهذا‬
‫يكون فيما أمر به‪ ،‬وفيما خلقه ولم يأمرنا أن نكرهه‪ ،‬ونغضب عليه‪.‬‬
‫فأما ما أمرنا بكراهته من الموجودات؛ كالكفر‪ ،‬والفسوق‪ ،‬والعصيان‪ ،‬فعلىنا أن نطيعه في أمره بخلف توبته على‬
‫عباده وإنجائه إياهم من العذاب‪ ،‬فإن هذا من مفعولته التي لم يأمرنا أن نكرهها‪ ،‬بل هي مما يحبها‪ ،‬فإنه يحب‬
‫التوابين‪ ،‬ويحب المتطهرين‪ .‬فكراهة هذا من نوع اتباع الرادة المزاحمة لللهية‪ ،‬فعلى صاحبها أن يحقق توحيد‬
‫اللهية فيقول‪ :‬ل إله إل أنت‪.‬‬

‫فعلىنا أن نحب ما يحب‪ ،‬ونرضي ما يرضى‪ ،‬ونأمر بما يأمر‪ ،‬وننهي عما ينهي‪ ،‬فإذا كان {يُحِبّ التّوّابِينََ} و{ َويُحِبّ‬
‫طهّرِينَ} فعلىنا أن نحبهم‪ ،‬ول نأله مراداتنا المخالفة لمحابه‪.‬‬
‫ا ْل ُمتَ َ‬

‫والكلم في هذا المقام مبني على أصل‪ ،‬وهو‪ :‬أن النبياء ـ صلوات الّ عليهم ـ معصومون فيما يخبرون به عن الّ ـ‬
‫سبحانه ـ وفي تبليغ رسالته باتفاق المة؛ ولهذا وجب اليمان بكل ما أوتوه كما ‪ /‬قال تعالى‪{ :‬قُولُوا آ َمنّا بِالِّ َومَا أُنزِلَ‬
‫ق بَيْنَ‬
‫ل نُفَرّ ُ‬
‫ي مُوسَى وَعِيسَى َومَا أُوتِيَ ال ّن ِبيّونَ مِنْ َرّبهِ ْم َ‬
‫سبَاطِ َومَا أُوتِ َ‬
‫لْ ْ‬
‫سحَاقَ َو َيعْقُوبَ وَا َ‬
‫سمَاعِيلَ وَإِ ْ‬
‫إَِل ْينَا َومَا أُن ِزلَ إِلَى ِإبْرَاهِيمَ وَِإ ْ‬
‫ق فَ َس َيكْفِي َكهُمْ الُّ وَهُوَ ال ّسمِيعُ ا ْلعَلِيمُ} [‬
‫ن تَوَلّوْا َفِإنّمَا ُه ْم فِي شِقَا ٍ‬
‫ن آ َمنُوا ِب ِمثْلِ مَا آمَنتُ ْم بِ ِه فَ َقدْ ا ْه َتدَوا وَإِ ْ‬
‫ن ‪ .‬فَإِ ْ‬
‫ح ٍد ِمنْهُمْ َونَحْنُ لَ ُه مُسِْلمُو َ‬
‫أَ َ‬
‫ن آمَنَ بِالِّ وَا ْليَوْمِ الْخِرِ وَا ْلمَلَ ِئكَةِ وَا ْل ِكتَابِ وَال ّن ِبيّينَ} [البقرة‪ ،]177 :‬وقال‪{ :‬‬ ‫البقرة‪ ،]137 ،136 :‬وقال‪{ :‬وََلكِنّ ا ْلبِ ّر مَ ْ‬
‫ط ْعنَا‬
‫س ِم ْعنَا وَأَ َ‬
‫ح ٍد مِنْ رُسُلِهِ َوقَالُوا َ‬
‫ق بَيْنَ أَ َ‬
‫ل نُفَرّ ُ‬
‫ل ِئكَتِهِ َو ُك ُتبِهِ َورُسُلِ ِه َ‬
‫ن بِالِّ َومَ َ‬
‫ل آمَ َ‬
‫ن كُ ّ‬
‫ل ِبمَا أُنزِلَ ِإَليْهِ مِنْ َربّهِ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫آمَنَ الرّسُو ُ‬
‫غُفْرَا َنكَ َرّبنَا َوإَِل ْيكَ ا ْلمَصِيرُ} [البقرة‪.]285 :‬‬

‫بخلف غير النبياء‪ ،‬فإنهم ليسوا معصومين كما عصم النبياء‪ ،‬ولو كانوا أولياء لّ‪ ،‬ولهذا من سب نبيًا من النبياء‬
‫قتل باتفاق الفقهاء‪ ،‬ومن سب غيرهم لم يقتل‪.‬‬

‫وهذه العصمة الثابتة للنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة‪ ،‬فإن النبي هو المنبئ عن الّ‪ ،‬و الرسول‬
‫ل تعالى‪ ،‬وكل رسول نبي‪ ،‬وليس كل نبي رسولً‪ ،‬والعصمة فيما يبلغونه عن الّ ثابتة‪ ،‬فل يستقر‬ ‫هو الذي أرسله ا ّ‬
‫في ذلك خطأ باتفاق المسلمين‪.‬‬

‫‪/‬ولكن هل يصدر ما يستدركه الّ‪ ،‬فينسخ ما يلقي الشيطان‪ ،‬ويحكم الّ آياته؟ هذا فيه قولن‪ ،‬والمأثور عن السلف‬
‫يوافق القرآن بذلك‪ ،‬والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله‪( :‬تلك الغرانيق‬
‫العلى‪ ،‬وإن شفاعتهن لترتجى) وقالوا‪ :‬إن هذا لم يثبت‪ ،‬ومن علم أنه ثبت قال‪ :‬هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم‬
‫يلفظ به الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضًا‪ ،‬وقالوا في قوله‪ِ{ :‬إلّ ِإذَا َتمَنّى أَلْقَى‬
‫ال ّشيْطَا ُن فِي ُأ ْم ِنيّتِهِ} [الحج‪ ]52 :‬هو حديث النفس‪.‬‬

‫وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف‪ ،‬فقالوا هذا منقول نقلً ثابتًا ل يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله‪َ { :‬ومَا‬
‫حكِيمٌ‬
‫لّ آيَاتِهِ وَالُّ عَلِيمٌ َ‬ ‫حكِمُ ا ُ‬ ‫ن ثُ ّم يُ ْ‬
‫شيْطَا ُ‬‫لّ مَا يُ ْلقِي ال ّ‬
‫ن فِي ُأمْ ِنّيتِهِ َف َينْسَخُ ا ُ‬
‫شيْطَا ُ‬‫ل َنبِيّ ِإلّ ِإذَا َت َمنّى أَ ْلقَى ال ّ‬ ‫ن َقبِْلكَ مِنْ رَسُولٍ َو َ‬ ‫أَ ْرسَ ْلنَا مِ ْ‬
‫ق َبعِيدٍ ‪ .‬وَِل َيعْلَمَ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ َأنّهُ‬
‫شقَا ٍ‬
‫سيَ ِة قُلُو ُبهُمْ وَإِنّ الظّاِلمِينَ لَفِي ِ‬ ‫ن فِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ وَالْقَا ِ‬ ‫ن ِف ْتنَةً ِلّلذِي َ‬
‫شيْطَا ُ‬
‫ل مَا يُ ْلقِي ال ّ‬ ‫جعَ َ‬‫‪ِ .‬ليَ ْ‬
‫ط مُ ْس َتقِيمٍ} [ الحج‪ 52 :‬ـ ‪ ،] 54‬فقالوا‪ :‬الثار‬ ‫ن آ َمنُوا إِلَى صِرَا ٍ‬ ‫خبِتَ لَ ُه قُلُو ُبهُمْ وَإِنّ الَّ َلهَادِ اّلذِي َ‬‫ق مِنْ َرّبكَ َفيُ ْؤ ِمنُوا بِهِ َفتُ ْ‬ ‫حّ‬ ‫الْ َ‬
‫في تفسير هذه الية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث‪ ،‬والقرآن يوافق ذلك‪ ،‬فإن نسخ الّ لما يلقى الشيطان‪،‬‬
‫وإحكامه آياته‪ ،‬إنما يكون لرفع ما وقع في آياته‪ ،‬وتمييز الحق من الباطل‪ ،‬حتى ل تختلط آياته ‪/‬بغيرها‪ .‬وجعل ما ألقى‬
‫الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض‪ ،‬والقاسية قلوبهم‪ ،‬إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرًا يسمعه الناس‪ ،‬ل باطنًا في‬
‫النفس‪ .‬والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الخر من النسخ‪.‬‬

‫وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبعده عن الهوى من ذلك النوع‪ ،‬فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم‬
‫يأمر بخلفه وكلهما من عند الّ‪ ،‬وهو مصدق في ذلك‪ ،‬فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الّ‪ ،‬وهو‬
‫الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الّ‪ ،‬ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق‪ ،‬وقوله الحق‪ ،‬وهذا كما قالت‬
‫خشَى‬‫لّ ُم ْبدِيهِ َوتَ ْ‬
‫ك مَا ا ُ‬
‫سَ‬ ‫عائشة ـ رضي الّ عنها ـ لو كان محمد كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الية‪َ { :‬وتُ ْ‬
‫خفِي فِي نَفْ ِ‬
‫النّاسَ وَالُّ َأحَقّ أَ ْن تَخْشَاهُ} [الحزاب‪ ،]37 :‬أل ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله‪ ،‬ولو كان‬
‫خطأ‪ ،‬فبيان الرسول صلى ال عليه وسلم أن الّ أحكم آياته‪ ،‬ونسخ ما ألقاه الشيطان‪ ،‬هو أدل على تحريه للصدق‬
‫وبرائته من الكذب‪ ،‬وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى ال عليه وسلم تسليما؛ ولهذا كان تكذيبه‬
‫كفرًا محضًا بل ريب‪.‬‬
‫وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع‪ ،‬هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في‬
‫العصمة من الكبائر والصغائر أو من ‪ /‬بعضها‪ ،‬أم هل العصمة إنما هي في القرار عليها ل في فعلها؟ أم ل يجب‬
‫القول بالعصمة إل في التبليغ فقط؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم ل؟ والكلم على هذا مبسوط‬
‫في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والقول الذي عليه جمهور الناس‪ ،‬وهو الموافق للثار المنقولة عن السلف‪ :‬إثبات العصمة من القرار على الذنوب‬
‫مطلقًا‪ ،‬والرد على من يقول‪ :‬إنه يجوز إقرارهم عليها‪ ،‬وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول‪.‬‬

‫وحجج النفاة ل تدل على وقوع ذنب أقر عليه النبياء؛ فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع‪ ،‬وذلك ل‬
‫يجوز إل مع تجويز كون الفعال ذنوبًا‪ ،‬ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه‪،‬‬
‫ورجعوا عنه‪ ،‬كما أن المر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه‪ ،‬فأما ما نسخ من المـر والنـهي فل يجوز‬
‫جعله مأمورًا به ول منهيًا عنه‪ ،‬فضل عن وجوب اتباعه والطاعة فيه‪.‬‬

‫وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافى الكمال‪ ،‬أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح‪ ،‬أو أنها توجب التنفير‪ ،‬أو‬
‫نحو ذلك من الحجج العقلية‪ ،‬فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع‪ ،‬وإل فالتوبة النصوح التي يقبلها الّ‪،‬‬
‫يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه‪ ،‬كما قال ‪ /‬بعض السلف‪ :‬كان داود ـ عليه السلم ـ بعد التوبة خيرًا منه قبل‬
‫الخطيئة‪ .‬وقال آخر‪ :‬لو لم تكن التوبة أحب الشياء إليه‪ ،‬لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه‪ ،‬وقد ثبت في الصحاح‬
‫حديث التوبة‪( :‬لّ أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلً) ‪...‬إلخ‪.‬‬

‫عمَلً‬
‫عمِلَ َ‬ ‫طهّرِينَ} [البقرة‪ ،]222 :‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إ ّ‬
‫ل مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَ َ‬ ‫حبّ ا ْل ُمتَ َ‬ ‫وقد قال تعالى‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫لّ يُحِبّ التّوّابِينَ َويُ ِ‬
‫ك ُيبَدّلُ الُّ َسيّئَا ِتهِمْ حَ َسنَاتٍ} [الفرقان‪ ،]70 :‬وقد ثبت في الصحيح حديث الذي يعرض الّ صغار ذنوبه‬ ‫صَالِحًا فَأُوَْل ِئ َ‬
‫ويخبأ عنه كبارها‪ ،‬وهو مشفق من كبارها أن تظهر‪ ،‬فيقول الّ له‪( :‬إني قد غفرتها لك‪ ،‬وأبدلتك مكان كل سيئة‬
‫حسنة‪ ،‬فيقول‪ :‬أي رب‪ ،‬إن لي سيئات لم أرها) إذا رأي تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان‬
‫مشفقًا منها أن تظهر‪ ،‬ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل‪ ،‬أعظم من حاله لو لم تقع السيئات‪ ،‬ول التبديل‪.‬‬

‫وقال طائفة من السلف‪ ،‬منهم سعيد بن جبير‪ :‬إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار‪ ،‬وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل‬
‫بها الجنة‪ ،‬يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار‪ ،‬ويعمل السيئة فل يزال خوفه منها وتوبته منها حتى‬
‫ش ِركِينَ وَا ْلمُشْ ِركَاتِ‬
‫جهُولً ‪ِ .‬ل ُي َعذّبَ الُّ ا ْل ُمنَا ِفقِينَ وَا ْل ُمنَافِقَاتِ وَا ْلمُ ْ‬
‫ظلُومًا َ‬
‫لْنْسَانُ ِإنّ ُه كَانَ َ‬ ‫تدخله الجنة‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫حمََلهَا ا ِ‬
‫َو َيتُوبَ الُّ عَلَى ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ َوكَانَ الُّ َغفُورًا رَحِيمًا} [الحزاب‪ ،]73 ،72 :‬فغاية كل إنسان أن يكون من‬
‫المؤمنين والمؤمنات الذين تاب الّ عليهم‪.‬‬

‫وفي الكتاب والسنة الصحيحة‪ ،‬والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه‪.‬‬

‫والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلت الجهمية‪ ،‬والقدرية‪ ،‬والدهرية لنصوص السماء والصفات ونصوص القدر‬
‫ونصوص المعاد‪ ،‬وهي من جنس تأويلت القرامطة الباطنية التي يعلم بالضطرار أنها باطلة‪ ،‬وأنها من باب تحريف‬
‫الكلم عن مواضعه‪ ،‬وهؤلء يقصد أحدهم تعظيم النبياء فيقع في تكذيبهم‪ ،‬ويريد اليمان بهم فيقع في الكفر بهم‪.‬‬

‫ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والجماع‪ ،‬وهي العصمة في التبليغ‪ ،‬لم ينتفعوا بها‪ ،‬إذ كانوا ل يقرون‬
‫بموجب ما بلغته النبياء‪ ،‬وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه‪ ،‬أو كانوا فيه كالميين الذين ل يعلمون الكتاب إل أماني‪،‬‬
‫والعصمة التي كانوا ادعوها‪ ،‬لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ول حاجة بهم إليها عندهم‪ ،‬فإنها متعلقة بغيرهم ل بما‬
‫أمروا باليمان به‪ ،‬فيتكلم أحدهم فيها على النبياء بغير سلطان من الّ‪ ،‬ويدع ما يجب عليه من تصديق النبياء‬
‫وطاعتهم‪ ،‬وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬

‫{ َفِإنّمَا َعَليْهِ مَا ُحمّلَ وَعََل ْيكُ ْم مَا ُحمّ ْلتُمْ} الية [النور‪.]54 :‬‬

‫‪/‬والّ ـ تعالى ـ لم يذكر في القرآن شيئًا من ذلك عن نبي من النبياء إل مقرونًا بالتوبة والستغفار‪ ،‬كقول آدم‬
‫ن مِنْ الْخَاسِرِينَ} [العراف‪ ،]23 :‬وقول نوح‪{ :‬رَبّ ِإنّي أَعُوذُ‬
‫ح ْمنَا َلنَكُونَ ّ‬ ‫وزوجته‪َ { :‬رّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُ َ‬
‫سنَا وَإِنْ لَ ْم َتغْ ِفرْ َلنَا َوتَرْ َ‬
‫ن مِنْ الْخَاسِرِينَ}[هود‪ ،]47 :‬وقول الخليل ـ عليه السلم ـ‪َ { :‬رّبنَا‬ ‫ح ْمنِي َأكُ ْ‬
‫ل َتغْفِرْ لِي َوتَرْ َ‬ ‫ك مَا َليْسَ لِي بِهِ عِ ْلمٌ وَِإ ّ‬ ‫ِبكَ أَنْ َأسْأََل َ‬
‫طمَعُ أَ ْن َيغْ ِفرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّين} [‬ ‫اغْ ِفرْ لِي َولِوَاِلدَيّ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ يَ ْو َم يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم‪ ،]41 :‬وقوله‪{ :‬وَاّلذِي أَ ْ‬
‫سنَةً َوفِي الْخِرَةِ‬ ‫خيْرُ ا ْلغَا ِفرِينَ ‪ .‬وَا ْكتُبْ َلنَا فِي َهذِ ِه ال ّدنْيَا حَ َ‬ ‫الشعراء‪ ،]82 :‬وقول موسى‪َ{ :‬أنْتَ وَِلّينَا فَاغْ ِفرْ َلنَا وَارْ َ‬
‫ح ْمنَا وََأنْتَ َ‬
‫ت نَفْسِي فَاغْ ِفرْ لِي}[القصص‪ ،]16 :‬وقوله‪{ :‬فََلمّا َأفَاقَ‬ ‫ِإنّا ُه ْدنَا إَِل ْيكَ} [العراف‪ ،]156 ،155 :‬وقوله‪َ { :‬ربّ ِإنّي َ‬
‫ظَلمْ ُ‬
‫س َتغْفَرَ َربّهُ َوخَرّ رَا ِكعًا وََأنَابَ ‪.‬‬‫ك ُتبْتُ إَِل ْيكَ وََأنَا أَوّلُ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ}[العراف‪ ،]143 :‬وقوله تعالى عن داود‪{ :‬فَا ْ‬ ‫سبْحَا َن َ‬‫قَالَ ُ‬
‫غفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُ ْلكًا لَ‬ ‫ن مَآبٍ} [ص‪ ،]25 ،24 :‬وقوله تعالى عن سليمان‪{ :‬رَبّ ا ْ‬ ‫ع ْن َدنَا لَزُ ْلفَى َوحُسْ َ‬
‫َفغَفَ ْرنَا لَ ُه ذَِلكَ وَإِنّ لَهُ ِ‬
‫َينْ َبغِي لَِ َح ٍد مِنْ َب ْعدِي ِإّنكَ َأنْتَ الْوَهّابُ} [ص‪.]35 :‬‬

‫وأما يوسف الصديق‪ ،‬فلم يذكر الّ عنه ذنبًا؛ فلهذا لم يذكر الّ عنه ما يناسب الذنب من الستغفار‪ ،‬بل قال‪{ :‬كَذَِلكَ‬
‫ِلنَصْ ِرفَ َعنْهُ السّوءَ وَا ْلفَحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِعبَا ِدنَا ا ْلمُخَْلصِينَ}[يوسف‪ ،]24 :‬فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء‪ ،‬وهذا يدل‬
‫على أنه لم يصدر منه سوء ول فحشاء‪.‬‬

‫ت بِهِ وَهَ ّم ِبهَا َل ْولَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ َربّهِ} [يوسف‪ / ،]24 :‬فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال المام‬
‫وأما قوله‪{ :‬وَلَ َقدْ َهمّ ْ‬
‫أحمد‪ :‬الهم همان‪ :‬هم خطرات‪ ،‬وهم إصرار‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن العبد إذا هم‬
‫بسيئة لم تكتبت عليه‪ ،‬وإذا تركها لّ كتبت له حسنة‪ ،‬وإن عملها كتبت له سيئة واحدة) وإن تركها من غير أن يتركها‬
‫لّ لم تكتب له حسنة ول تكتب عليه سيئة‪ ،‬ويوسف صلى ال عليه وسلم هم هما تركه لّ‪ ،‬ولذلك صرف الّ عنه‬
‫السوء والفحشاء لخلصه‪ ،‬وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم‪ ،‬وعارضه الخلص الموجب‬
‫لنصراف القلب عن الذنب لّ‪.‬‬

‫شيْطَانِ‬
‫ف مِنْ ال ّ‬
‫سهُمْ طَائِ ٌ‬ ‫فيوسف ـ عليه السلم ـ لم يصدر منه إل حسنة يثاب عليها‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ اّلذِي َ‬
‫ن اتّقَوْا ِإذَا مَ ّ‬
‫تَ َذكّرُوا َفِإذَا ُه ْم ُمبْصِرُونَ}[العراف‪.]201 :‬‬

‫وأما ما ينقل من أنه حل سراويله‪ ،‬وجلس مجلس الرجل من المرأة‪ ،‬وأنه رأى صورة يعقوب عاضًا على يده‪ ،‬وأمثال‬
‫ذلك‪ ،‬فكله مما لم يخبر الّ به ول رسوله‪ ،‬وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبًا‬
‫على النبياء وقدحًا فيهم‪ ،‬وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله‪ ،‬لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى ال عليه وسلم‬
‫حرفًا واحدًا‪.‬‬

‫س لَمّا َر ٌة بِالسّوءِ ِإ ّل مَا َرحِمَ َربّي} [يوسف‪ ]53 :‬فمن كلم امرأة العزيز‪ ،‬كما يدل القرآن‬ ‫‪/‬وقوله‪َ { :‬ومَا ُأبَرّ ُ‬
‫ئ نَ ْفسِي إِنّ النّفْ َ‬
‫ل قَالَ ا ْرجِعْ‬ ‫على ذلك دللة بينة‪ ،‬ل يرتاب فيها من تدبر القرآن‪ ،‬حيث قال تعالى‪َ { :‬وقَالَ ا ْلمَِل ُ‬
‫ك ا ْئتُونِي بِ ِه فََلمّا جَاءَهُ الرّسُو ُ‬
‫ن نَفْسِ ِه قُلْنَ حَاشَ لِّ‬ ‫ط ُبكُنّ ِإذْ رَاوَدتّنّ يُوسُفَ عَ ْ‬ ‫خ ْ‬‫ل مَا َ‬ ‫طعْنَ َأ ْي ِديَهُنّ إِنّ َربّي ِب َكيْدِهِنّ عَلِي ٌم ‪ .‬قَا َ‬
‫لتِي َق ّ‬
‫سأَلْ ُه مَا بَالُ النّسْوَةِ ال ّ‬
‫إِلَى َرّبكَ فَا ْ‬
‫خنْهُ‬
‫ن نَفْسِهِ َوِإنّهُ َلمِنْ الصّا ِدقِينَ ‪ .‬ذَِلكَ ِل َيعْلَمَ َأنّي َلمْ أَ ُ‬
‫حقّ َأنَا رَاوَدتّهُ عَ ْ‬ ‫حصَ الْ َ‬ ‫ت ا ْمرَأَةُ ا ْلعَزِيزِ الْنَ حَصْ َ‬ ‫مَا عَِل ْمنَا عََليْ ِه مِنْ سُو ٍء قَالَ ْ‬
‫س لَمّارَ ٌة بِالسّوءِ ِإ ّل مَا رَ ِحمَ َربّي إِنّ َربّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف‪:‬‬ ‫ئ نَفْسِي إِنّ النّفْ َ‬ ‫ل َي ْهدِي َك ْيدَ الْخَائِنِينَ ‪َ .‬ومَا ُأبَرّ ُ‬
‫لّ َ‬‫بِا ْل َغيْبِ وَأَنّ ا َ‬
‫‪ 50‬ـ ‪.]53‬‬

‫فهذا كله كلم امرأة العزيز‪ ،‬ويوسف إذ ذاك في السجن‪ ،‬لم يحضر بعد إلى الملك‪ ،‬ول سمع كلمه ول رآه‪ ،‬ولكن لما‬
‫ظهرت براءته في غيبته ـ كما قالت امرأة العزيز‪{ :‬ذَِلكَ ِل َيعْلَمَ َأنّي لَمْ َأ ُخنْهُ بِا ْل َغيْبِ} أي‪ :‬لم أخنه في حال مغيبه عني وإن‬
‫ك ا ْئتُونِي بِهِ أَ ْستَخِْلصْهُ ِلنَفْسِي فََلمّا كَّلمَ ُه قَالَ ِإّنكَ ا ْليَ ْومَ َلدَ ْينَا َمكِينٌ َأمِينٌ} [‬
‫كنت في حال شهوده راودته ـ فحينئذ‪َ { :‬وقَالَ ا ْلمَِل ُ‬
‫يوسف‪ ،]54 :‬وقد قال كثير من المفسرين‪ :‬إن هذا من كلم يوسف‪ ،‬ومنهم من لم يذكر إل هذا القول‪ ،‬وهو قول في‬
‫غاية الفساد‪ ،‬ول دليل عليه‪ ،‬بل الدلة تدل على نقيضه‪ ،‬وقد ‪ /‬بسط الكلم على هذه المور في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫و المقصود هنا أن ما تضمنته [قصة ذي النون] مما يلم عليه كله مغفور بدله الّ به حسنات‪ ،‬ورفع درجاته‪ ،‬وكان‬
‫حكْمِ َرّبكَ َولَ َتكُنْ‬
‫صبِرْ ِل ُ‬‫بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فَا ْ‬
‫كَصَاحِبِ الْحُوتِ ِإذْ نَادَى وَ ُه َو َمكْظُومٌ‪ .‬لَ ْولَ أَ ْن َتدَا َركَ ُه نِ ْعمَ ٌة مِنْ َربّهِ َلنُ ِبذَ بِا ْلعَرَاءِ وَهُ َو َمذْمُومٌ‪ .‬فَا ْج َتبَاهُ َربّهُ َف َجعَلَهُ مِنْ الصّالِحِينَ} [‬
‫القلم‪48 :‬ـ ‪ ،]50‬وهذا بخلف حال التقام الحوت فإنه قال‪{ :‬فَا ْلتَ َقمَهُ الْحُوتُ وَهُ َو مُلِيمٌ} [الصافات‪ ،]241 :‬فأخبر أنه‬
‫في تلك الحال مليم‪ ،‬و [المليم] الذي فعل ما يلم عليه‪ ،‬فالملم في تلك الحال ل في حال نبذه بالعراء وهو سقيم‪،‬‬
‫ت مِنْ الظّاِلمِينَ} [النبياء‪ ]87 :‬أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان‪،‬‬ ‫سبْحَا َنكَ ِإنّي كُن ُ‬ ‫فكانت حاله بعد قوله‪{ :‬لَ إِلَهَ ِإلّ َأنْتَ ُ‬
‫والعتبار بكمال النهاية ل بما جرى في البداية‪ ،‬والعمال بخواتيمها‪.‬‬
‫والّ ـ تعالى ـ خلق النسان وأخرجه من بطن أمه ل يعلم شيئًا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال‪ ،‬فل‬
‫يجوز أن يعتبر قدر النسان بما وقع منه قبل حال الكمال‪ ،‬بل العتبار بحال كماله‪ ،‬ويونس صلى ال عليه وسلم‬
‫وغيره من النبياء في حال النهاية حالهم أكمل الحوال‪.‬‬

‫ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملئكة على النبياء والصالحين فإنهم اعتبروا كمال الملئكة مع بداية‬ ‫‪/‬‬
‫الصالحين ونقصهم فغلطوا‪ ،‬ولو اعتبروا حال النبياء والصالحين بعد دخول الجنان‪ ،‬ورضا الرحمن‪ ،‬وزوال كل ما‬
‫ل بَابٍ‪ .‬سَلَمٌ‬ ‫فيه نقص وملم‪ ،‬وحصول كل ما فيه رحمة وسلم‪ ،‬حتى استقر بهم القرار {وَا ْلمَلَ ِئكَ ُة يَدْخُلُونَ عََل ْيهِمْ مِ ْ‬
‫ن كُ ّ‬
‫صبَ ْرتُ ْم َف ِنعْمَ عُ ْقبَى الدّارِ} [الرعد‪ ]24 ،23 :‬فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على حال غيرهم من‬ ‫عََل ْيكُ ْم ِبمَا َ‬
‫المخلوقين وإل فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص‬
‫والعيوب‪.‬‬

‫ولو اعتبر ذلك لعتبر أحدهم وهو نطفة ثم علقة‪ ،‬ثم مضغة‪ ،‬ثم حين نفخت فيه الروح‪ ،‬ثم هو وليد‪ ،‬ثم رضيع ثم‬
‫فطيم‪ ،‬إلى أحوال أخر‪ ،‬فعلم أن الواحد في هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التي يستحق بها كمال المدح والتفضيل ‪،‬‬
‫وتفضيله بها على كل صنف وجيل‪ ،‬وإنما فضله باعتبار المآل‪ ،‬عند حصول الكمال‪.‬‬

‫وما يظنه بعض الناس أنه من ولد على السلم فلم يكفر قط أفضل ممن كان كافرًا فأسلم ليس بصواب‪ ،‬بل العتبار‬
‫بالعاقبة‪ ،‬وأيهما كان أتقى لّ في عاقبته كان أفضل‪ .‬فإنه من المعلوم أن السابقين الولين من المهاجرين والنصار‬
‫الذين آمنوا بالّ ورسوله بعد كفرهم هم أفضل ممن ولد على السلم من أولدهم وغير أولدهم‪ ،‬بل من عرف الشر‬
‫وذاقه ثم عرف الخير وذاقه ‪ /‬فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف‬
‫الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما‪ ،‬بل من لم يعرف إل الخير فقد يأتيه الشر فل يعرف أنه شر‪ ،‬فإما أن يقع فيه‪ ،‬وإما‬
‫أل ينكره كما أنكره الذي عرفه‪.‬‬

‫ولهذا قال عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ‪ :‬إنما تنقض عرى السلم عروة عروة إذا نشأ في السلم من لم‬
‫يعرف الجاهلية‪ .‬وهو كما قال عمر‪ ،‬فإن كمال السلم هو بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد‬
‫في سبيل الّ‪ ،‬ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره‪ ،‬فقد ل يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه‪،‬‬
‫ول يكون عنده من الجهاد لهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من‬
‫الحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره‪.‬‬

‫ولهذا كان الصحابة ـ رضي الّ عنهم ـ أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم‪ ،‬لكمال معرفتهم بالخير والشر‪ ،‬وكمال‬
‫محبتهم للخير وبغضهم للشر‪ ،‬لما علموه من حسن حال السلم واليمان والعمل الصالح‪ ،‬وقبح حال الكفر‬
‫والمعاصي؛ ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والمن ممن لم يذق ذلك؛‬
‫ولهذا يقال‪:‬‬

‫والضد يظهر حسنه الضد**‬

‫‪/‬ويقال‪:‬‬

‫وبضدها تتبين الشياء**‬

‫وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ يقول‪ :‬لست بخب ول يخدعني الخب‪ ،‬فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد‬
‫الخير ل الشر‪ ،‬وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر‪ ،‬فأما من ل يعرف الشر فذاك نقص فيه ل يمدح به‪.‬‬

‫وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلقًا‪ ،‬فإن هذا ليس‬
‫بمطرد‪ ،‬بل قد يكون الطبيب أعلم بالمراض من المرضى‪ ،‬والنبياء ـ عليهم الصلة والسلم ـ أطباء الديان فهم أعلم‬
‫الناس بما يصلح القلوب ويفسدها‪ ،‬وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس‪.‬‬
‫ولكن المراد‪ :‬أن من الناس من يحصل له بذوقه الشر من المعرفة به‪ ،‬والنفور عنه‪ ،‬والمحبة للخير إذا ذاقه ما ل‬
‫يحصل لبعض الناس‪ ،‬مثل من كان مشركًا أو يهوديًا أو نصرانيًا‪ ،‬وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والقوال‬
‫الفاسدة والظلمة والشر‪ ،‬ثم شرح الّ صدره للسلم‪ ،‬وعرفه محاسن السلم‪ ،‬فإنه قد يكون أرغب فيه‪ ،‬وأكره للكفر‬
‫من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والسلم‪ ،‬بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا‪ ،‬أو مقلد في مدح هذا‬
‫وذم هذا‪.‬‬

‫‪/‬ومثال ذلك من ذاق طعم الجوع ثم ذاق طعم الشبع بعده‪ ،‬أو ذاق المرض ثم ذاق طعم العافية بعده‪ ،‬أو ذاق الخوف ثم‬
‫ذاق المن بعده‪ ،‬فإن محبة هذا ورغبته في العافية والمن والشبع ونفوره عن الجوع والخوف والمرض أعظم ممن‬
‫لم يبتل بذلك ولم يعرف حقيقته‪.‬‬

‫وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور‪ ،‬ثم بين الّ له الحق وتاب عليه توبة نصوحًا‪ ،‬ورزقه الجهاد في سبيل الّ‪ ،‬فقد‬
‫يكون بيانه لحالهم‪ ،‬وهجره لمساويهم‪ ،‬وجهاده لهم أعظم من غيره‪ ،‬قال نعيم بن حماد الخزاعي ـ وكان شديدًا على‬
‫صبَرُوا إِنّ َرّبكَ‬
‫ن َبعْ ِد مَا ُف ِتنُوا ثُمّ جَا َهدُوا وَ َ‬ ‫الجهمية ـ‪ :‬أنا شديد عليهم‪ ،‬لني كنت منهم‪ .‬وقد قال الّ تعالى‪{ :‬لِّلذِينَ هَا َ‬
‫جرُوا مِ ْ‬
‫مِنْ َب ْعدِهَا َلغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل‪ ]110 :‬نزلت هذه الية في طائفة من الصحابة كان المشركون فتنوهم عن دينهم ثم تاب‬
‫الّ عليهم‪ ،‬فهاجروا إلى الّ ورسوله‪ ،‬وجاهدوا وصبروا‪.‬‬

‫وكان عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ـ رضي الّ عنهما ـ من أشد الناس على السلم فلما أسلما تقدما على من‬
‫سبقهما إلى السلم‪ ،‬وكان بعض من سبقهما دونهما في اليمان والعمل الصالح بما كان عندهما من كمال الجهاد‬
‫للكفار والنصر لّ ورسوله‪ ،‬وكان عمر لكونه أكمل إيمانًا وإخلصًا وصدقًا ومعرفة وفراسة ونورًا أبعد عن هوى‬
‫النفس وأعلى همة ‪ /‬في إقامة دين الّ‪ ،‬مقدما على سائر المسلمين‪ ،‬غير أبي بكر رضي الّ عنهم أجمعين‪.‬‬

‫وهذا وغيره مما يبين أن العتبار بكمال النهاية ل بنقص البداية‪.‬‬

‫وما يذكر في السرائيليات‪( :‬أن الّ قال لداود‪ :‬أما الذنب فقد غفرناه‪ ،‬وأما الود فل يعود" فهذا لو عرفت صحته لم‬
‫يكن شرعًا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا‪ ،‬فإن دين محمد صلى ال عليه وسلم في التوبة جاء بما لم يجئ به‬
‫شرع من قبله؛ ولهذا قال‪ " :‬أنا نبي الرحمة‪ ،‬وأنا نبي التوبة) ‪،‬وقد رفع به من الصار والغلل ما كان على من‬
‫قبلنا‪.‬‬

‫طهّرِينَ} [البقرة‪ ]222 :‬وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده‬ ‫حبّ ا ْل ُمتَ َ‬ ‫وقد قال تعالى في كتابه‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫لّ يُحِبّ التّوّابِينَ َويُ ِ‬
‫التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس‪ .‬فإذا كان هذا فرح‬
‫الرب بتوبة التائب وتلك محبته‪ ،‬كيف يقال‪ :‬إنه ل يعود لمودته {وَهُوَ ا ْلغَفُورُ الْ َودُودُ ‪ .‬ذُو ا ْلعَ ْرشِ ا ْلمَجِيدُ ‪َ .‬فعّالٌ ِلمَا يُرِيدُ}[‬
‫البروج‪ ]16 - 14 :‬ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة‪ ،‬فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق‬
‫بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة‪ ،‬وإن كان أنقص ‪/‬‬
‫كان المر أنقص‪ ،‬فإن الجزاء من جنس العمل‪ ،‬وما ربك بظلم للعبيد‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ ( :‬يقول الّ تعالى‪ :‬من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب‪،‬‬
‫وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت‬
‫سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬فبي يسمع‪ ،‬وبي يبصر‪،‬‬
‫وبي يبطش‪ ،‬وبي يمشي‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ ،‬وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن‬
‫قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته‪ ،‬ولبد له منه)‪ .‬ومعلوم أن أفضل الولياء بعد النبياء هم‬
‫السابقون الولون من المهاجرين والنصار‪ ،‬وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق‬
‫والعصيان أعظم محبة ومودة‪ ،‬وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم‪.‬‬

‫لّ َقدِيرٌ وَالُّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الممتحنة‪ ،]7 :‬نزلت في‬


‫ل َبيْ َنكُمْ َو َبيْنَ اّلذِينَ عَا َديْتُ ْم ِم ْنهُ ْم مَ َودّةً وَا ُ‬
‫جعَ َ‬ ‫وقد قال تعالى‪{ :‬عَسَى الُّ أَ ْ‬
‫ن يَ ْ‬
‫المشركين الذين عادوا الّ ورسوله مثل [أهل الحزاب] كأبي سفيان بن حرب‪ ،‬وأبي سفيان بن الحارث‪ ،‬والحارث‬
‫بن هشام‪ ،‬وسهيل ابن عمرو‪ ،‬وعكرمة بن أبي جهل‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وغيرهم‪ .‬فإنهم بعد معاداتهم لّ ورسوله ‪/‬‬
‫جعل الّ بينهم وبين الرسول والمؤمنين مودة‪ ،‬وكانوا في ذلك متفاضلين وكان عكرمة وسهيل والحارث بن هشام‬
‫أعظم مودة من أبي سفيان بن حرب ونحوه‪ .‬وقد ثبت في الصحيح‪ :‬أن هند امرأة أبي سفيان أم معاوية قالت‪ :‬والّ يا‬
‫رسول الّ‪ ،‬ما كان على وجه الرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك‪ ،‬وقد أصبحت وما على وجه‬
‫الرض أهل خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك فذكر النبي صلى ال عليه وسلم لها نحو ذلك‪.‬‬

‫ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم لّ ـ تعالى ـ فإن أوثق عُرَى اليمان الحب في‬
‫ن دُونِ الِّ‬
‫خذُ مِ ْ‬
‫ن َيتّ ِ‬ ‫الّ‪ ،‬والبغض في الّ‪ .‬فالحب لّ من كمال التوحيد‪ ،‬والحب مع الّ شرك‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬
‫س مَ ْ‬
‫أَندَادًا يُ ِحبّو َنهُ ْم كَحُبّ الِّ وَاّلذِينَ آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪ ،]165 :‬فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين‬
‫ل ومن أحب الّ أحبه الّ‪ ،‬ومن ودّ الّ ودّه الّ‪ ،‬فعلم أن الّ‬ ‫الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة لّ ومحبة ّ‬
‫أحبهم وودهم بعد التوبة‪ ،‬كما أحبوه وودوه‪ ،‬فكيف يقال‪ :‬إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة؟!‬

‫وإن قال قائل‪ :‬أولئك كانوا كفارًا‪ ،‬لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم‪ ،‬بل كانوا جهالً‪ ،‬بخلف من علم أن الفعل محرم‬
‫وأتاه‪.‬‬

‫‪/‬قيل‪ :‬الجواب من وجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنه ليس المر كذلك‪ ،‬بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمدًا رسول الّ‪ ،‬ويعادونه حسدًا وكبرًا‪ ،‬وأبو‬
‫سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي صلى ال عليه وسلم ما لم يسمع غيره‪ ،‬كما سمع من أمية بن أبي الصلت‪ ،‬وما‬
‫سمعه من هرقل ملك الروم‪ ،‬وقد أخبر عن نفسه أنه لم يزل موقنًا أن أمر النبي صلى ال عليه وسلم سيظهر حتى‬
‫أدخل الّ عليه السلم‪ ،‬وهو كاره له‪ ،‬وقد سمع منه عام اليرموك وغيره ما دل على حسن إسلمه ومحبته لّ‬
‫ورسوله بعد تلك العداوة العظيمة‪.‬‬

‫ل ذَِلكَ يَ ْلقَ َأثَامًا ‪.‬‬


‫ن يَ ْفعَ ْ‬
‫ل يَ ْزنُونَ َومَ ْ‬
‫حرّمَ الُّ ِإلّ بِالْحَقّ َو َ‬‫ل يَ ْقتُلُونَ النّ ْفسَ اّلتِي َ‬
‫خرَ َو َ‬‫ل َيدْعُونَ مَعَ الِّ إَِلهًا آ َ‬ ‫وقد قال تعالى‪{ :‬وَاّلذِينَ َ‬
‫ك يُ َبدّلُ الُّ َسّيئَا ِتهِمْ َح َسنَاتٍ} [‬ ‫عمَلً صَاِلحًا َفأُوَْل ِئ َ‬
‫عمِلَ َ‬‫ن تَابَ وَآمَنَ وَ َ‬ ‫ب يَوْمَ ا ْل ِقيَامَةِ َويَخُْل ْد فِيهِ ُمهَانًا ‪ِ .‬إلّ مَ ْ‬
‫عفْ لَهُ ا ْل َعذَا ُ‬
‫يُضَا َ‬
‫الفرقان‪68 :‬ـ ‪ ]70‬فإذا كان الّ يبدل سيئاتهم حسنات‪ ،‬فالحسنات توجب مودة الّ لهم‪ ،‬وتبديل السيئات حسنات ليس‬
‫ب فَأُ ْوَل ِئكَ َيتُوبُ الُّ‬
‫ن مِنْ َقرِي ٍ‬ ‫مختصًا بمن كان كافرًا‪ ،‬وقد قال تعالى‪ِ{ :‬إّنمَا التّ ْوبَةُ عَلَى الِّ لِّلذِينَ َي ْعمَلُونَ السّو َء بِ َ‬
‫جهَالَ ٍة ُث ّم يَتُوبُو َ‬
‫عََل ْيهِمْ َوكَانَ الُّ عَلِيمًا َحكِيمًا} [النساء‪ ]17 :‬قال أبو العالية‪ :‬سألت أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم عن هذه‬
‫ل فهو ‪ /‬جاهل‪ ،‬وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب‪.‬‬ ‫الية فقالوا لي‪ :‬كل من عصي ا ّ‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة الّ تعالى للتائبين فرق ل أصل له‪ ،‬بل الكتاب والسنة‬
‫يدل على أن الّ يحب التوابين‪ ،‬ويفرح بتوبة التائبين‪ ،‬سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنب أو لم يكونوا عالمين بذلك‪.‬‬

‫ومن علم أن ما أتاه ذنب ثم تاب فلبد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود‪ ،‬فإذا كان يبغض الحق فلبد أن يحبه‪ ،‬وإذا‬
‫كان يحب الباطل فلبد أن يبغضه‪ ،‬فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به‪ ،‬ومن بغض الباطل‬
‫واجتنابه هو من المور التي يحبها الّ تعالى ويرضاها‪ ،‬ومحبة الّ كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه‪ ،‬فكل من‬
‫كان أعظم فعلً لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له‪ ،‬وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان‬
‫عليه من الباطل‪ ،‬وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق‪ ،‬فوجب زيادة محبة الحق له ومودته إياه‪ ،‬بل يبدل الّ سيئاته‬
‫حسنات لنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل الّ سيئاته حسنات‪ ،‬فإن الجزاء من جنس العمل‪ .‬وحينئذ فإذا كان‬
‫إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده الّ منه أعظم من‬
‫فعله له قبل التوبة كانت ‪ /‬مودة الّ له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة‪ ،‬فكيف يقال‪ :‬الود ل يعود‪.‬‬

‫وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول‪ :‬إن الّ ل يبعث نبيًا إل من كان معصومًا قبل النبوة‪ ،‬كما يقول ذلك طائفة من‬
‫الرافضة وغيرهم‪ ،‬وكذلك من قال‪ :‬إنه ل يبعث نبيًا إل من كان مؤمنا قبل النبوة‪ ،‬فإن هؤلء توهموا أن الذنوب تكون‬
‫نقصًا وإن تاب التائب منها‪ ،‬وهذا منشأ غلطهم‪ .‬فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصًا فهو‬
‫غالط غلطًا عظيمًا‪ ،‬فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب ل يلحق التائب منه شيء أصلً‪ ،‬لكن إن قدم التوبة لم‬
‫يلحقه شيء‪ ،‬وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله‪.‬‬
‫والنبياء ـ صلوات الّ عليهم وسلمه ـ كانوا ل يؤخرون التوبة‪ ،‬بل يسارعون إليها‪ ،‬ويسابقون إليها‪،‬ل يؤخرون ول‬
‫ل كفر الّ ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي‬‫يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك‪،‬ومن أخر ذلك زمنًا قلي ً‬
‫النون صلى ال عليه وسلم ‪،‬هذا على المشهور إن إلقاءه كان بعد النبوة‪ ،‬وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فل‬
‫يحتاج إلى هذا‪.‬‬

‫والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب‪ ،‬وإذا كان قد يكون أفضل‪ ،‬فالفضل‬ ‫‪/‬‬
‫أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة‪ ،‬وقد أخبر الّ عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم السباط الذين نبأهم‬
‫ل تعالى‪ ،‬وقد قال تعالى‪{ :‬فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ َوقَالَ ِإنّي ُمهَا ِجرٌ إِلَى َربّي} [العنكبوت‪ .]26 :‬فآمن لوط لبراهيم ـ عليه السلم‬ ‫ا ّ‬
‫ش َعيْبُ‬
‫ك يَا ُ‬
‫جّن َ‬
‫ن قَ ْومِهِ َلنُخْرِ َ‬ ‫ـ ثم أرسله الّ تعالى إلى قوم لوط‪ .‬وقد قال تعالى في قصة شعيب‪{ :‬قَالَ ا ْلمَلَُ اّلذِينَ ا ْ‬
‫س َت ْكبَرُوا مِ ْ‬
‫لّ َكذِبًا إِنْ عُ ْدنَا فِي مِّل ِتكُ ْم َب ْعدَ ِإ ْذ نَجّانَا ا ُ‬
‫لّ‬ ‫ن ‪َ .‬قدْ ا ْفتَ َر ْينَا عَلَى ا ِ‬
‫ك مِنْ قَ ْر َي ِتنَا أَوْ َل َتعُودُنّ فِي مِّل ِتنَا قَالَ َأوَلَ ْو ُكنّا كَارِهِي َ‬‫وَاّلذِينَ آ َمنُوا َم َع َ‬
‫ح َبيْ َننَا َو َبيْنَ قَ ْو ِمنَا بِالْحَقّ وََأنْتَ‬
‫لّ تَ َوكّ ْلنَا َرّبنَا ا ْفتَ ْ‬
‫يءٍ عِ ْلمًا عَلَى ا ِ‬ ‫ن يَشَاءَ الُّ َرّبنَا َوسِعَ َرّبنَا كُلّ شَ ْ‬ ‫ن َنعُو َد فِيهَا ِإلّ أَ ْ‬ ‫ِمنْهَا َومَا َيكُونُ َلنَا أَ ْ‬
‫ن فِي مِّل ِتنَا‬
‫ضنَا أَوْ َلتَعُودُ ّ‬ ‫جّنكُ ْم مِنْ أَ ْر ِ‬ ‫خيْرُ ا ْلفَا ِتحِينَ}[العراف‪ ،]89 ،88 :‬وقال تعالى‪َ { :‬وقَالَ اّلذِينَ َكفَرُوا ِلرُسُِلهِمْ َلنُخْرِ َ‬ ‫َ‬
‫ف مَقَامِي َوخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم‪.]14 ،13 :‬‬ ‫ض مِنْ َب ْعدِهِ ْم ذَِلكَ ِلمَنْ خَا َ‬ ‫س ِكنَ ّنكُمْ الَْ ْر َ‬ ‫فَأَ ْوحَى إَِل ْيهِمْ َرّبهُمْ َل ُنهْلِكَنّ الظّاِلمِينَ ‪ .‬وََلنُ ْ‬

‫وإذا عرف أن العتبار بكمال النهاية‪ ،‬وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والستغفار‪ ،‬ولبد لكل عبد من التوبة وهي‬
‫واجبة على الولين والخرين‪ .‬كما قال تعالى‪ِ{ :‬ل ُيعَذّبَ الُّ ا ْل ُمنَافِقِينَ وَا ْل ُمنَافِقَاتِ وَا ْلمُشْ ِركِينَ وَا ْلمُ ْ‬
‫ش ِركَاتِ َو َيتُوبَ الُّ عَلَى‬
‫ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ َوكَانَ الُّ َغفُورًا رَحِيمًا} [الحزاب‪.]73 :‬‬

‫‪/‬وقد أخبر الّ ـ سبحانه ـ بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى ال عليه وسلم وآخر ما نزل‬
‫سبّحْ‬
‫ن فِي دِينِ الِّ َأ ْفوَاجًا ‪ .‬ففَ َ‬
‫خلُو َ‬ ‫عليه ـ أو من آخر ما نزل عليه ـ قوله تعالى‪ِ{ :‬إذَا جَا َء نَصْرُ الِّ وَا ْل َفتْحُ ‪َ .‬ورََأيْتَ النّا َ‬
‫س يَدْ ُ‬
‫بِ َح ْمدِ َرّبكَ وَا ْستَغْ ِفرْهُ ِإنّ ُه كَا َن تَوّابًا} [سورة النصر]‪ ،‬وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الّ عنها ـ أن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده‪( :‬سبحانك اللّهم ربنا وبحمدك اللّهم اغفر لي" يتأول القرآن)‪.‬‬

‫وقد أنزل الّ عليه قبل ذلك‪َ{ :‬ل َقدْ تَابَ الُّ عَلَى ال ّنبِيّ وَا ْل ُمهَاجِرِينَ وَالَْنصَارِ اّلذِي َ‬
‫ن ا ّت َبعُو ُه فِي سَاعَةِ ا ْلعُسْ َر ِة مِنْ َب ْعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ‬
‫ق مِ ْنهُ ْم ثُ ّم تَابَ عََل ْيهِمْ ِإنّ ُه بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة‪ ،]117 :‬وفي صحيح البخاري عن النبي صلى ال عليه‬ ‫ب َفرِي ٍ‬
‫قُلُو ُ‬
‫ل وأتوب إليه في اليوم أكثر من‬‫وسلم أنه كان يقول‪( :‬يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لستغفر ا ّ‬
‫سبعين مرة)‪ ،‬وفي صحيح مسلم عن الغر المزني عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إنه ليغان على قلبي وإني‬
‫لستغفر الّ في اليوم مائة مـرة)‪ ،‬وفي السنن عن ابن عـمر أنه قال‪ :‬كـنا نعد لرسول الّ صلى ال عليه وسلم في‬
‫المجلس الواحد يقول‪( :‬رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الغفور) مائة مرة‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان ‪ /‬يقول‪( :‬اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي‬
‫وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني‪ ،‬اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي‪ ،‬اللّهم اغفر‬
‫لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني‪ .‬أنت المقدم وأنت المؤخر‪ ،‬وأنت على كل‬
‫شيء قدير)‪ ،‬وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟‬
‫قال‪( :‬أقول‪ :‬اللّهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب‪ ،‬اللّهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب‬
‫البيض من الدنس‪ ،‬اللّهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد)‪.‬‬

‫وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع‪ ،‬وفي صحيح مسلم عن على ـ رضى ا ّ‬
‫ل‬
‫عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الستفتاح‪( :‬اللهم أنت الملك ل إله إل أنت‪ ،‬أنت ربي وأنا‬
‫عبدك‪ ،‬ظلمت نفسي وعملت سوءًا فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت واهدني لحسن الخلق ل يهدي لحسنها‬
‫إل أنت واصرف عني سيئها ل يصرف عني سيئها إل أنت)‪ ،‬وفي صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫كان يقول في سجوده‪( :‬اللّهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله‪ ،‬علنيته وسره‪ ،‬أوله وآخره)‪.‬‬

‫‪/‬وفي السنن عن على‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم أتى بدابة؛ ليركبها وأنه حمد الّ وقال‪ُ {( :‬‬
‫سبْحانَ اّلذِي سَخّرَ َلنَا َهذَا‬
‫َومَا ُكنّا لَ ُه مُ ْق ِرنِينَ ‪ .‬وَِإنّا إِلَى َربّنَا َلمُنقَِلبُونَ}) [الزخرف‪ ]14 ،13 :‬ثم كبره وحمده ثم قال‪( :‬سبحانك ظلمت نفسي فاغفر‬
‫لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت)‪ ،‬ثم ضحك ! وقال‪( :‬إن الرب يعجب من عبده إذا قال‪ :‬اغفـر لي‪ ،‬فإنه ل يغفـر‬
‫الذنوب إل أنت‪ ،‬يقول علم عبدي أنه ل يغفر الذنوب إل أنا)‪.‬‬
‫لّ مَا تَ َقدّمَ‬
‫ك َفتْحًا ُمبِينًا ‪ِ .‬ل َيغْفِرَ َلكَ ا ُ‬ ‫س َتغْ ِفرْ ِلذَ ْن ِبكَ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ} [محمد‪ ،]19 :‬وقال‪ِ{ :‬إنّا َفتَ ْ‬
‫حنَا َل َ‬ ‫وقد قال تعالى‪{ :‬وَا ْ‬
‫مِنْ َذ ْن ِبكَ َومَا َتأَخّرَ}[الفتح‪ ،]2 ،1 :‬وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة‪( :‬أن المسيح يقول‪ :‬اذهبوا إلى محمد عبد‬
‫غفر الّ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)‪ ،‬وفي الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يقوم حتى ترم قدماه‪ ،‬فيقال‬
‫له‪ :‬أتفعل هذا وقد غفر الّ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال‪( :‬أفل أكون عبدًا شكورا)‪.‬‬

‫ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين‬
‫كثيرة‪.‬‬

‫لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلت الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب‪.‬‬
‫وتأويلتهم تبين لمن ‪ /‬تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه‪ .‬كتأويلهم قوله‪ِ{ :‬ل َيغْ ِفرَ َلكَ ا ُ‬
‫لّ مَا تَ َقدّ َم مِنْ‬
‫ذَ ْن ِبكَ َومَا تَأَخّرَ} [الفتح‪ ]2 :‬المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلن ويدل على ذلك وجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن آدم قد تاب الّ عليه قبل أن ينزل إلى الرض فضلً عن عام الحديبية الذي أنزل الّ فيه هذه السورة‪ ،‬قال‬
‫ج َتبَاهُ َربّ ُه َفتَابَ عََليْهِ وَ َهدَى} [طه‪ ،]122 ،121 :‬وقال‪َ { :‬فتَلَقّى آدَ ُم مِنْ َربّ ِه كَِلمَاتٍ‬ ‫تعالى‪ِ{ :‬وَ َ‬
‫عصَى آدَمُ َربّ ُه َفغَوَى ‪ .‬ثُمّ ا ْ‬
‫ن مِنْ‬
‫ح ْمنَا َلنَكُونَ ّ‬ ‫َفتَابَ عََليْهِ ِإنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ} [البقرة‪ ،]37 :‬وقد ذكر أنه قال‪َ { :‬رّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُ َ‬
‫سنَا وَإِنْ لَ ْم َتغْ ِفرْ َلنَا َوتَرْ َ‬
‫الْخَا ِسرِينَ} [العراف‪.]23 :‬‬

‫والثاني‪ :‬أن يقال‪ :‬فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ول يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أيضًا‪ ،‬ومن‬
‫قال‪ :‬إنه لم يصدر من النبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما‪.‬‬

‫الوجه الثالث‪ :‬أن الّ ل يجعل الذنب ذنبًا لمن لم يفعله فإنه هو القائل‪َ { :‬و َل تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [ السراء‪.]15 :‬‬
‫فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد صلى ال عليه وسلم ذنب آدم صلى ال عليه وسلم أو أمته أو غيرهما‪ .‬وقد قال‬
‫لّ َل ُتكَلّفُ ِإ ّل نَفْ َسكَ} [النساء‪:‬‬ ‫حمّ ْلتُمْ} [النور‪ ]54 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَقَاتِلْ فِي َ‬
‫سبِيلِ ا ِ‬ ‫حمّلَ وَعََل ْيكُ ْم مَا ُ‬ ‫تعالى‪َ { :‬فِإنّمَا َ‬
‫عَليْهِ مَا ُ‬
‫ن ذَ ْن ِبكَ‬ ‫‪ ،]84‬ولو جاز هذا لجاز ‪ /‬أن يضاف إلى محمد ذنوب النبياء كلهم‪ ،‬ويقال‪ :‬إن قوله‪ِ{ :‬ل َيغْ ِفرَ َلكَ ا ُ‬
‫لّ مَا تَ َقدّ َم مِ ْ‬
‫َومَا تََأخّرَ} [الفتح‪ ]2 :‬المراد‪ :‬ذنوب النبياء وأممهم قبلك‪ ،‬فإنه يوم القيامة يشفع للخلئق كلهم‪ ،‬وهو سيد ولد آدم‪،‬‬
‫وقال‪( :‬أنا سيد ولد آدم ول فخر‪ ،‬وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة‪ .‬أنا خطيب النبياء إذا وفدوا‪ ،‬وإمامهم إذا‬
‫اجتمعوا) وحينئذ فل يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد‪ ،‬بل تجعل ذنوب الولين والخرين على قول هؤلء ذنوبًا له‪.‬‬
‫فإن قال‪ :‬إن الّ لم يغفر ذنوب جميع المم‪ ،‬قيل‪ :‬وهو أيضًا لم يغفر ذنوب جميع أمته‪.‬‬

‫الوجه الرابع‪ :‬أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله‪{ :‬وَا ْس َتغْ ِفرْ ِلذَ ْن ِبكَ وَلِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ} [محمد‪ ]19 :‬فكيف‬
‫يكون ذنب المؤمنين ذنبًا له‪.‬‬

‫الوجه الخامس‪ :‬أنه ثبت في الصحيح أن هذه الية لما نزلت قال الصحابة يا رسول الّ هذا لك فما لنا؟ فأنزل الّ‪{ :‬هُوَ‬
‫اّلذِي َأنْزَلَ ال ّسكِينَةَ فِي ُقلُوبِ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ ِليَ ْزدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَا ِنهِمْ} [الفتح‪ ]4 :‬فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن‬
‫لّ مَا تَ َقدّ َم مِنْ َذ ْنبِكَ َومَا َتأَخّرَ} مختص به دون أمته‪.‬‬ ‫قوله‪ِ{ :‬ل َيغْفِرَ َلكَ ا ُ‬

‫الوجه السادس‪ :‬أن الّ لم يغفر ذنوب جميع أمته‪ ،‬بل قد ثبت ‪ /‬أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في‬
‫الخرة‪ ،‬وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف المة وأئمتها‪ ،‬وشوهد في الدنيا من‬
‫ب مَنْ َي ْعمَلْ سُوءًا يُجْ َز بِهِ} [النساء‪]123 :‬‬ ‫ذلك ما ل يحصيه إل الّ‪ ،‬وقد قال الّ تعالى‪َ{ :‬ليْ َ‬
‫س ِبَأمَا ِنيّكُمْ َولَ َأمَانِيّ أَهْلِ ا ْل ِكتَا ِ‬
‫والستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الفضل‪ .‬فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الول‪،‬‬
‫لكن الذم والوعيد ل يكون إل على ذنب‪.‬‬

‫َفصْـــل‬

‫وأما قول السائل‪ :‬هل العتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة الصادرة عنها‪ ،‬أم‬
‫يحتاج إلى شيء آخر؟‬
‫فجوابه‪ :‬أن الموجب للغفران مع التوحيد هو التوبة المأمور بها‪ ،‬فإن الشرك ل يغفره الّ إل بتوبة‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬‬
‫ك بِهِ َو َيغْفِ ُر مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَ ْن يَشَاءُ} [النساء‪ ]116 ،48 :‬في موضعين من القرآن‪ ،‬وما دون الشرك‬ ‫ن يُشْ َر َ‬
‫ل َيغْفِرُ أَ ْ‬
‫لّ َ‬
‫إِنّ ا َ‬
‫ل تَ ْقنَطُوا مِنْ‬
‫سهِ ْم َ‬
‫س َرفُوا عَلَى َأنْفُ ِ‬
‫عبَادِي اّلذِينَ أَ ْ‬ ‫فهو مع التوبة مغفور‪ ،‬وبدون التوبة معلق بالمشيئة كما قال تعالى‪{ :‬قُ ْ‬
‫ل يَا ِ‬
‫لّ َيغْفِ ُر ال ّذنُوبَ َجمِيعًا} [الزمر‪ ]53 :‬فهذا في حق التائبين؛ ولهذا عمم وأطلق‪ ،‬وحتم أنه يغفر الذنوب‬ ‫حمَةِ الِّ إِنّ ا َ‬‫رَ ْ‬
‫جميعًا‪ ،‬وقال في تلك الية‪َ { :‬و َيغْفِ ُر مَا دُو َن ذَِلكَ ِلمَنْ يَشَاءُ} فخص ما دون الشرك وعلقه بالمشيئة فإذا كان الشرك ل‬
‫يغفر إل بتوبة‪ ،‬وأما ما دونه فيغفره الّ للتائب‪ ،‬وقد يغفره بدون التوبة لمن يشاء‪.‬‬

‫فالعتراف بالخطيئة مع التوحيد إن كان متضمنًا للتوبة أوجب المغفرة‪ ،‬وإذا غفر الذنب زالت عقوبته‪ ،‬فإن المغفرة‬
‫هي وقاية شر الذنب‪.‬‬

‫ومن الناس من يقول‪ :‬الغفر الستر‪ ،‬ويقول‪ :‬إنما سمي المغفرة والغفار؛ لما فيه من معنى الستر‪ ،‬وتفسير اسم الّ الغفار‬
‫بأنه الستار‪ .‬وهذا تقصير في معنى الغفر‪ ،‬فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث ل يعاقب على الذنب‪ ،‬فمن غفر‬
‫ذنبه لم يعاقب عليه‪ .‬وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن‪ ،‬ومن عوقب على الذنب باطنًا أو ظاهرًا فلم يغفر‬
‫له‪،‬وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب‪.‬‬

‫وأما إذا ابتلى مع ذلك بما يكون سببًا في حقه لزيادة أجره فهذا ل ينافى المغفرة‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك إذا كان من تمام التوبة أن يأتي بحسنات يفعلها‪ ،‬فإن من يشترط في التوبة من تمام التوبة‪ ،‬وقد يظن الظان أنه‬
‫تائب ول يكون تائبًا بل يكون تاركًا‪ ،‬والتارك غير التائب‪ ،‬فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضى‬
‫لعجزه عنه‪ ،‬أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني‪ ،‬وهذا ليس بتوبة‪ ،‬بل لبد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي الّ‬
‫ل تعالى‪ ،‬ل لرغبة مخلوق ول لرهبة مخلوق‪ ،‬فإن التوبة من أعظم الحسنات‪ ،‬والحسنات كلها يشترك‬ ‫عنه ويدعه ّ‬
‫ل وموافقة أمره‪ ،‬كما قال الفضيل بن عياض في قوله‪ِ{ :‬ل َيبْلُ َوكُمْ َأّيكُمْ َأحْسَنُ َعمَلً} [الملك‪ ]2 :‬قال‪:‬‬
‫فيها الخلص ّ‬
‫أخلصه وأصوبه‪ ،‬قالوا‪ :‬يا أبا على‪ ،‬ما أخلصه وأصوبه؟ قال‪ :‬إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل‪ ،‬وإذا‬
‫كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل‪ ،‬حتى يكون خالصًا صوابًا‪ .‬والخالص أن يكون لّ‪ ،‬والصواب أن يكون على‬
‫السنة‪.‬‬

‫وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ يقول في دعائه‪ :‬اللهم اجعل عملي كله صالحًا‪ ،‬واجعله لوجهك خالصًا‪ ،‬ول‬
‫تجعل لحد فيه شيئًا‪.‬‬

‫وبسط الكلم في التوبة له موضع آخر‪.‬‬

‫وأما العتراف بالذنب على وجه الخضوع لّ من غير إقلع عنه فهذا في نفس الستغفار المجرد الذي ل توبة معه‪،‬‬
‫وهو كالذي يسأل ‪ /‬الّ تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه‪ ،‬وهذا يأس من رحمة ال‪ ،‬ول يقطع بالمغفرة له‬
‫فإنه داع دعوة مجردة‪ .‬وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ما من داع يدعو بدعوة ليس‬
‫فيها إثم ول قطيعة رحم إل كان بين إحدى ثلث‪ :‬إما أن يعجل له دعوته‪ ،‬وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها‪ ،‬وإما أن‬
‫يصرف عنه من الشر مثلها)‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬إذًا نكثر قال‪( :‬الّ أكثر)‪ .‬فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة‪،‬‬
‫وإذا لم تحصل فلبد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر‪ ،‬فهو نافع كما ينفع كل دعاء‪.‬‬

‫وقول من قال من العلماء‪ :‬الستغفار مع الصرار توبة الكذابين‪ ،‬فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو‬
‫يدعي أن استغفاره توبة‪ ،‬وأنه تائب بهذا الستغفار فل ريب أنه مع الصرار ل يكون تائبًا‪ ،‬فإن التوبة والصرار‬
‫ضدان‪ :‬الصرار يضاد التوبة‪ ،‬لكن ل يضاد الستغفار بدون التوبة‪.‬‬

‫وقول القائل‪ :‬هل العتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة أم لبد من استحضار جميع‬
‫الذنوب؟‬

‫فجواب هذا مبني على أصول‪:‬‬


‫‪/‬أحدها‪ :‬أن التوبة تصح من ذنب مع الصرار على ذنب آخر إذا كان المقتضى للتوبة من أحدهما أقوى من المقتضى‬
‫للتوبة من الخر‪ ،‬أو كان المانع من أحدهما أشد‪ ،‬وهذا هو القول المعروف عند السلف والخلف‪.‬‬

‫وذهب طائفة من أهل الكلم كأبي هاشم إلى أن التوبة ل تصح من قبيح مع الصرار على الخر‪ ،‬قالوا‪ :‬لن الباعث‬
‫على التوبة إن لم يكن من خشية الّ لم يكن توبة صحيحة‪ ،‬والخشية مانعة من جميع الذنوب ل من بعضها‪ ،‬وحكى‬
‫القاضي أبو يعلى وابن عقيل هذا رواية عن أحمد؛ لن المروزي نقل عنه أنه سئل عمن تاب من الفاحشة وقال‪ :‬لو‬
‫مرضت لم أعد لكن ل يدع النظر‪ ،‬فقال أحمد‪ :‬أي توبة هذه؟! قال جرير بن عبد الّ‪ :‬سألت رسول الّ صلى ال عليه‬
‫وسلم عن نظرة الفجأة فقال‪( :‬اصرف بصرك)‪.‬‬

‫والمعروف عن أحمد وسائر الئمة هو القول بصحة التوبة‪ ،‬وأحمد في هذه المسألة إنما أراد أن هذه ليست توبة عامة‬
‫يحصل بسببها من التائبين توبة مطلقًا‪ ،‬لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر‪ ،‬فإن نصوصه المتواترة عنه‬
‫وأقواله الثابتة تنافي ذلك‪ ،‬وحمل كلم المام على ما يصدق بعضه بعضًا أولى من حمله على التناقض‪ ،‬ل سيما إذا‬
‫كان القول الخر مبتدعًا لم يعرف عن أحد من السلف‪ ،‬وأحمد يقول‪ / :‬إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام‪،‬‬
‫وكان في المحنة يقول‪ :‬كيف أقول ما لم ُيقَل؟ واتباع أحمد للسنة والثار وقوة رغبته في ذلك‪ ،‬وكراهته لخلفه من‬
‫المور المتواترة عنه يعرفها من يعرف حاله من الخاصة والعامة‪.‬‬

‫وما ذكروه من أن الخشية توجب العموم‪ .‬فجوابه أنه قد يعلم قبح أحد الذنبين دون الخر‪ ،‬وإنما يتوب مما يعلم قبحه‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فقد يعلم قبحها ولكن هواه يغلبه في أحدهما دون الخر فيتوب من هذا دون ذاك‪ ،‬كمن أدى بعض الواجبات‬
‫دون بعض‪ ،‬فإن ذلك يقبل منه‪.‬‬

‫ولكن المعتزلة لهم أصل فاسد وافقوا فيه الخوارج في الحكم وإن خالفوهم في السم‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن أصحاب الكبائر‬
‫يخلدون في النار ول يخرجون منها بشفاعة ول غيرها‪ ،‬وعندهم يمتنع أن يكون الرجل الواحد ممن يعاقبه الّ ثم‬
‫يثيبه؛ ولهذا يقولون بحبوط جميع الحسنات بالكبيرة‪.‬‬

‫وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة‪ ،‬فعلى أن أهل الكبائر يخرجون ‪ /‬من النار ويشفع فيهم‪ ،‬وأن الكبيرة الواحدة ل‬
‫تحبط جميع الحسنات‪ ،‬ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة‪ ،‬ول يحبط جميع الحسنات إل الكفر‪ ،‬كما ل يحبط‬
‫جميع السيئات إل التوبة‪ ،‬فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الّ أثابه الّ على ذلك‪ ،‬وإن كان مستحقًا‬
‫للعقوبة على كبيرته‪.‬‬

‫وكتاب الّ ـ عز وجل ـ يفرق بين حكم السارق والزاني وقتال المؤمنين بعضهم بعضًا‪ ،‬وبين حكم الكفار في [‬
‫السماء‪ ،‬والحكام]‪ .‬والسنة المتواترة عن النبي صلى ال عليه وسلم وإجماع الصحابة يدل على ذلك‪ ،‬كما هو مبسوط‬
‫في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫لّ مِنْ ا ْل ُمتّقِينَ} [المائدة‪ ]27 :‬فعلى قول الخوارج والمعتزلة ل تقبل حسنة‬
‫وعلى هذا تنازع الناس في قوله‪ِ{ :‬إّنمَا َيتَ َقبّلُ ا ُ‬
‫إل ممن اتقاه مطلقًا فلم يأت كبيرة‪ ،‬وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك‪ ،‬فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم [‬
‫ل موافقًا لمر الّ‪ ،‬فمن اتقاه في عمل‬
‫المتقين] وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الّ فيه فعمله خالصًا ّ‬
‫تقبله منه‪ ،‬وإن كان عاصيًا في غيره‪ .‬ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعًا في غيره‪.‬‬

‫والتوبة من بعض الذنوب دون بعض‪ ،‬كفعل بعض الحسنات المأمور ‪ /‬بها دون بعض‪ ،‬إذا لم يكن المتروك شرطًا في‬
‫س ْع َيهَا وَهُوَ‬‫سعَى َلهَا َ‬ ‫صحة المفعول‪ ،‬كاليمان المشروط في غيره من العمال‪ ،‬كما قال الّ تعالى‪َ { :‬ومَنْ أَرَادَ الْخِرَةَ وَ َ‬
‫حيَاةً‬
‫ح ِييَنّهُ َ‬
‫ن فََلنُ ْ‬
‫ن َذكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُ َو مُ ْؤمِ ٌ‬ ‫عمِلَ صَاِلحًا مِ ْ‬ ‫شكُورًا} [السراء‪ ،]19 :‬وقال تعالى‪{ :‬مَنْ َ‬ ‫س ْع ُيهُ ْم مَ ْ‬
‫ك كَانَ َ‬
‫مُ ْؤمِنٌ َفأُوَْل ِئ َ‬
‫عمَاُل ُه ْم فِي ال ّد ْنيَا وَالْخِ َرةِ وَأُوَْل ِئكَ‬
‫حبِطَتْ أَ ْ‬ ‫طّيبَةً} [النحل‪ ،]79 :‬وقال‪َ { :‬ومَنْ يَ ْر َت ِددْ ِم ْنكُمْ عَ ْ‬
‫ن دِينِهِ َف َيمُتْ وَهُ َو كَافِ ٌر فَُأوَْل ِئكَ َ‬ ‫َ‬
‫صحَابُ النّارِ ُه ْم فِيهَا خَاِلدُونَ}[البقرة‪.]217 :‬‬ ‫أَ ْ‬

‫الصل الثاني‪ :‬أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضى مغفرة ما تاب منه‪ ،‬أما ما لم يتب‬
‫منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب‪ ،‬ل على حكم من تاب‪ ،‬وما علمت في هذا نزاعًا إل في الكافر إذا أسلم‪ ،‬فإن‬
‫إسلمه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالسلم الكفر الذي تاب منه‪ ،‬وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر‬
‫ولم يتب منها في السلم؟ هذا فيه قولن معروفان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬يغفر له الجميع‪ ،‬لطلق قوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬السلم يهدم ما كان قبله) رواه مسلم‪ .‬مع قوله تعالى‪{ :‬‬
‫قُلْ لِّلذِينَ َكفَرُوا إِ ْن يَن َتهُوا ُيغْ َفرْ َلهُ ْم مَا َقدْ سَلَفَ} [النفال‪.]38 :‬‬

‫والقول الثاني‪ :‬أنه ل يستحق أن يغفر له بالسلم إل ما تاب منه‪ / ،‬فإذا أسلم وهو مصر على كبائر دون الكفر فحكمه‬
‫في ذلك حكم أمثاله من أهل الكبائر‪ ،‬وهذا القول هو الذي تدل عليه الصول والنصوص‪ ،‬فإن في الصحيحين أن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم قال له حكيم بن حزام‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال‪( :‬من أحسن منكم في‬
‫السلم لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية‪ ،‬ومن أساء في السلم أخذ بالول والخر) فقد دل هذا النص على أنه إنما‬
‫ترفع المؤاخذة بالعمال التي فعلت في حال الجاهلية عمن أحسن ل عمن ل يحسن‪ ،‬وإن لم يحسن أخذ بالول‬
‫والخر‪ ،‬ومن لم يتب منها فلم يحسن‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪{ :‬قُلْ ِلّلذِي َن كَفَرُوا إِ ْن يَن َتهُوا ُيغْفَرْ َلهُ ْم مَا َقدْ َسلَفَ} [النفال‪ ]38 :‬يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما‬
‫قد سلف منه‪ ،‬ل يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما سلف من غيره؛ وذلك لن قول القائل لغيره‪ :‬إن انتهيت‬
‫غفرت لك ما تقدم‪ ،‬ونحو ذلك يفهم منه عند الطلق أنك إن انتهيت عن هذا المر غفر لك ما تقدم منه‪ ،‬وإذا انتهيت‬
‫عن شيء غفر لك ما تقدم منه‪ ،‬كما يفهم مثل ذلك في قوله‪( :‬إن تبت)‪ ،‬ل يفهم منه أنك بالنتهاء عن ذنب يغفر لك ما‬
‫تقدم من غيره‪.‬‬

‫وأما قول النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬السلم يهدم ما قبله) وفي رواية‪( :‬يجب ما كان قبله) فهذا قاله لما أسلم عمرو‬
‫بن العاص وطلب ‪ /‬أن يغفر له ما تقدم من ذنبه‪ .‬فقال له‪( :‬يا عمرو‪ ،‬أما علمت أن السلم يهدم ما كان قبله‪ ،‬وأن‬
‫التوبة تهدم ما كان قبلها‪ ،‬وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها)‪ .‬ومعلوم أن التوبة إنما توجب مغفرة ما تاب منه‪ ،‬ل توجب‬
‫التوبة غفران جميع الذنوب‪.‬‬

‫الصل الثالث‪ :‬أن النسان قد يستحضر ذنوبًا فيتوب منها وقد يتوب توبة مطلقة ل يستحضر معها ذنوبه‪ ،‬لكن إذا‬
‫كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنبًا؛ لن التوبة العامة تتضمن عزمًا عامًا بفعل المأمور وترك‬
‫المحظور‪ ،‬وكذلك تتضمن ندمًا عامًا على كل محظور‪.‬‬

‫والندم سواء قيل‪ :‬إنه من باب العتقادات‪ ،‬أو من باب الرادات‪ ،‬أو قيل‪ :‬إنه من باب اللم التي تلحق النفس بسبب‬
‫فعل ما يضرها‪ ،‬فإذا استشعر القلب أنه فعل ما يضره‪ ،‬حصل له معرفة بأن الذي فعله كان من السيئات‪ ،‬وهذا من‬
‫باب العتقادات‪ ،‬وكراهية لما كان فعله‪ ،‬وهو من جنس الرادات‪ ،‬وحصل له أذى وغم لما كان فعله‪ ،‬وهذا من باب‬
‫اللم‪ ،‬كالغموم والحزان‪ ،‬كما أن الفرح والسرور هو من باب اللذات ليس هو من باب العتقادات والرادات‪.‬‬

‫ومن قال من المتفلسفة ومن اتبعهم‪ :‬إن اللذة هي إدراك الملئم ‪ /‬من حيث هو ملئم‪ ،‬وأن اللم هو إدراك المنافر من‬
‫حيث هو منافر فقد غلط في ذلك‪ .‬فإن اللذة واللم حالن يتعقبان إدراك الملئم والمنافر فإن الحب لما يلئمه‪،‬كالطعام‬
‫المشتهى مثلً له ثلثة أحوال‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬الحب‪ ،‬كالشهوة للطعام‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬إدراك المحبوب‪ ،‬كأكل الطعام‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬اللذة الحاصلة بذلك‪ ،‬واللذة أمر مغاير للشهوة ولذوق المشتهي‪ ،‬بل هي حاصلة لذوق المشتهي‪ ،‬ليست نفس‬
‫ذوق المشتهي‪.‬‬

‫وكذلك المكروه‪ ،‬كالضرب مثلً‪ .‬فإن كراهته شيء‪ ،‬وحصوله شيء آخر‪ ،‬واللم الحاصل به ثالث‪.‬‬

‫وكذلك ما للعارفين أهل محبة الّ من النعيم والسرور بذلك‪ ،‬فإن حبهم لّ شيء‪ ،‬ثم ما يحصل من ذكر المحبوب‬
‫شيء‪ ،‬ثم اللذة الحاصلة بذلك أمر ثالث‪ ،‬ول ريب أن الحب مشروط بشعور المحبوب‪ ،‬كما أن الشهوة مشروطة‬
‫بشعور المشتهي‪ ،‬لكن الشعور المشروط في اللذة غير الشعور المشروط في المحبة‪ ،‬فهذا الثاني يسمى إدراكًا وذوقًا‬
‫ونيلً ووجدًا ووصالً‪ ،‬ونحو ذلك مما يعبر به عن إدراك المحبوب‪ / ،‬سواء كان بالباطن أو الظاهر‪ ،‬ثم هذا الذوق‬
‫يستلزم اللذة‪ ،‬واللذة أمر يحسه الحي باطنًا وظاهرًا‪.‬‬

‫وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪( :‬ذاق طعم اليمان من رضى بالّ ربًا‪ ،‬وبالسلم دينًا‪،‬‬
‫وبمحمد صلى ال عليه وسلم نبيًا)‪ ،‬وفي الصحيحين عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ثلث من كن فيه وجد بهن‬
‫حلوة اليمان‪ :‬من كان الّ ورسوله أحب إلىه من سواهما‪ ،‬ومن كان يحب المرء ل يحبه إل الّ‪ ،‬ومن كان يكره أن‬
‫يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه كما يكره أن يلقى في النار)‪.‬‬

‫فبين صلى ال عليه وسلم أن َذوْقَ طعم اليمان لمن رضى بالّ ربًا‪ ،‬وبالسلم دينًا‪ ،‬وبمحمد نبيًا‪ ،‬وأن َوجْدَ حلوة‬
‫ل ل لغيره‪ ،‬ومن كان يكره‬ ‫اليمان حاصل لمن كان حبه لّ ورسوله أشد من حبه لغيرهما‪ ،‬ومن كان يحب شخصًا ّ‬
‫ضد اليمان‪ ،‬كما يكره أن يلقي في النار‪ ،‬فهذا الحب لليمان‪ ،‬والكراهية للكفر استلزم حلوة اليمان‪ ،‬كما استلزم‬
‫الرضا المتقدم ذوق طعم اليمان‪ ،‬وهذا هو اللذة‪ ،‬وليس هو نفس التصديق والمعرفة الحاصلة في القلب‪ ،‬ول نفس‬
‫الحب الحاصل في القلب‪ ،‬بل هذا نتيجة ذاك وثمرته ولزم له‪ ،‬وهي أمور متلزمة‪ ،‬فل توجد اللذة إل بحب وذوق‪،‬‬
‫وإل فمن أحب شيئًا ولم يذق منه ‪ /‬شيئًا لم يجد لذة‪ ،‬كالذي يشتهي الطعام ولم يذق منه شيئًا‪ ،‬ولو ذاق ما ل يحبه لم‬
‫يجد لذة‪ ،‬كمن ذاق ما ل يريده‪ ،‬فإذا اجتمع حب الشيء وذوقه حصلت اللذة بعد ذلك‪.‬‬

‫وإن حصل بغضه وذوق البغيض حصل اللم‪ ،‬فالذي يبغض الذنب ول يفعله ل يندم‪ ،‬والذي ل يبغضه ل يندم على‬
‫فعله‪ ،‬فإذا فعله وعرف أن هذا مما يبغضه ويضره ندم على فعله إياه‪ .‬وفي المسند عن ابن مسعود عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه قال‪( :‬الندم توبة)‪.‬‬

‫إذا تبين هذا‪ ،‬فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها‪ ،‬وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إل‬
‫أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص‪ ،‬مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه؛ لقوة إرادته‬
‫إياه أو لعتقاده أنه حسن ليس بقبيح‪ ،‬فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة‪ ،‬وأما ما كان لو حضر‬
‫بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته‪.‬‬

‫وأما التوبة المطلقة‪ ،‬وهي أن يتوب توبة مجملة‪ ،‬ول تستلزم التوبة من كل ذنب‪ ،‬فهذه ل توجب دخول كل فرد من‬
‫أفراد الذنوب فيها ول تمنع دخوله كاللفظ المطلق‪ ،‬لكن هذه تصلح أن تكون سببًا لغفرانه المعين‪ ،‬كما تصلح أن تكون‬
‫سببًا لغفران الجميع‪ ،‬بخلف ‪/‬العامة فإنها مقتضية للغفران العام‪ ،‬كما تناولت الذنوب تناول عامًا‪.‬‬

‫وكثير من الناس ل يستحضر عند التوبة إل بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها‪ ،‬أو بعض الظلم باللسان أو اليد‪،‬‬
‫وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب لّ عليه في باطنه وظاهره من شعب اليمان وحقائقه أعظم ضررًا عليه‬
‫مما فعله من بعض الفواحش‪ ،‬فإن ما أمر ال به من حقائق اليمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقًا أعظم نفعًا‬
‫من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة‪ ،‬كحب الّ ورسوله‪ ،‬فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت في الصحيح أنه‬
‫كان على عهد النبي صلى ال عليه وسلم رجل يدعى حمارًا‪ ،‬وكان يشرب الخمر‪ ،‬وكان كلما أتى به إلى النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم جلده الحد‪ ،‬فلما كثر ذلك منه أتى به مرة فأمر بجلده فلعنه رجل فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ل‬
‫تلعنه فإنه يحب الّ ورسوله)‪.‬‬

‫فنهي عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب الّ ورسوله‪ ،‬مع أنه صلى ال عليه وسلم لعن في الخمرعشرة‪( :‬‬
‫لعن الخمر‪ ،‬وعاصرها ومعتصرها‪،‬وشاربها وساقيها‪ ،‬وحاملها والمحمولة إليه‪ ،‬وبائعها ومبتاعها‪ ،‬وآكل ثمنها)‪.‬‬

‫ولكن لعن المطلق ل يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك [التكفير المطلق]‪ ،‬و[الوعيد المطلق]‪ .‬ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطًا بثبوت شروط‬
‫وانتفاء موانع‪ ،‬فل يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين‪ ،‬ول يلحق من له حسنات تمحو سيئاته‪ ،‬ول يلحق المشفوع‬
‫له‪ ،‬والمغفور له‪ ،‬فإن الذنوب تزول عقوبتها ـ التي هي جهنم ـ بأسباب التوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ـ‬
‫لكنها من عقوبات الدنيا ـ وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة‪ ،‬وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة‪ ،‬وتزول‬
‫أيضًا بدعاء المؤمنين‪ :‬كالصلة عليه وشفاعة الشفيع المطاع‪ ،‬كمن يشفع فيه سيد الشفعاء محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫تسليمًا‪.‬‬

‫وحينئذ‪ ،‬فأي ذنب تاب منه ارتفع موجبه‪ ،‬وما لم يتب منه فله حكم الذنوب التي لم يتب منها‪ ،‬فالشدة إذا حصلت‬
‫بذنوب وتاب من بعضها خفف منه بقدر ما تاب منه‪ ،‬بخلف ما لم يتب منه‪ ،‬بخلف صاحب التوبة العامة‪.‬‬

‫والناس في غالب أحوالهم ل يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك‪ ،‬فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال‪ ،‬لنه‬
‫دائمًا يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور؛ فعليه أن يتوب دائمًا‪ ،‬والّ أعلم‪.‬‬

‫وأما قول السائل‪ :‬ما السبب في أن الفَرَجَ يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق؟ وما الحيلة في صرف القلب عن‬ ‫‪/‬‬
‫التعلق بهم وتعلقه بال؟‬

‫فيقال‪ :‬سبب هذا تحقيق التوحيد‪[ :‬توحيد الربوبية]‪ ،‬و[توحيد اللهية]‪.‬‬

‫فتوحيد الربوبية‪ :‬أنه ل خالق إل الّ‪ ،‬فل يستقل شيء سواه بإحداث أمر من المور‪ ،‬بل ما شاء كان وما لم يشأ لم‬
‫يكن‪ ،‬فكل ما سواه إذا قدر سببًا فلبد له من شريك معاون وضد معوق‪ ،‬فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من المور‬
‫طلب منه ما ل يستقل به ول يقدر وحده عليه‪ ،‬حتى ما يطلب من العبد من الفعال الختيارية ل يفعلها إل بإعانة الّ‬
‫له‪ ،‬كأن يجعله فاعلً لها بما يخلقه فيه من الرادة الجازمة ويخلقه له من القدرة التامة‪ ،‬وعند وجود القدرة التامة‬
‫والرادة الجازمة يجب وجود المقدور‪.‬‬

‫فمشيئة الّ وحده مستلزمة لكل ما يريده‪ ،‬فما شاء الّ كان وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬وما سواه ل تستلزم إرادته شيئًا‪ ،‬بل ما‬
‫أراده ل يكون إل بأمور خارجة عن مقدوره إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده‪ ،‬ونفس إرادته ل تحصل إل بمشيئة‬
‫الّ تعالى‪ .‬كما قال تعالى‪ِ{ :‬لمَنْ شَا َء ِم ْنكُمْ أَ ْن يَ ْستَقِيمَ‪َ .‬ومَا تَشَاءُونَ ِإلّ أَ ْن يَشَاءَ الُّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [التكوير‪ ،]29 ،28 :‬وقال‬
‫ح َمتِهِ وَالظّاِلمِينَ‬ ‫ن يَشَا ُء فِي رَ ْ‬‫ل مَ ْ‬‫حكِيمًا‪ُ .‬يدْخِ ُ‬
‫لّ كَانَ عَلِيمًا َ‬ ‫ن يَشَاءَ الُّ إِنّ ا َ‬‫سبِيلً‪َ .‬ومَا تَشَاءُونَ ِإلّ أَ ْ‬ ‫‪ /‬تعالى‪َ { :‬فمَنْ شَا َء اتّ َ‬
‫خذَ إِلَى َربّهِ َ‬
‫ن يَشَاءَ الُّ هُوَ أَهْلُ التّ ْقوَى وَأَ ْهلُ ا ْل َمغْفِرَةِ}‬‫عذَابًا أَلِيمًا} [النسان‪29 :‬ـ ‪ ،]31‬وقال‪َ { :‬فمَنْ شَا َء ذَكَرَهُ‪َ .‬ومَا يَ ْذكُرُونَ ِإلّ أَ ْ‬ ‫عدّ َل ُهمْ َ‬
‫أَ َ‬
‫[المدثر‪.]56 ،55 :‬‬

‫والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق وذلك المخلوق عاجز عنه‪ ،‬ثم هذا من الشرك الذي ل يغفره‬
‫الّ‪ ،‬فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى‬
‫التوحيد‪ ،‬ثم إن وحّدَه العبد توحيد اللهية حصلت له سعادة الدنيا والخرة‪.‬‬

‫عنْهُ ضُرّ ُه مَ ّر َكأَنْ لَ ْم َيدْعُنَا إِلَى ضُ ّر‬ ‫ش ْفنَا َ‬


‫عدًا أَ ْو قَا ِئمًا فََلمّا كَ َ‬
‫ج ْنبِهِ أَ ْو قَا ِ‬ ‫وإن كان ممن قيل فيه‪{ :‬وَِإذَا مَسّ ا ِ‬
‫لْنْسَانَ الضّ ّر دَعَانَا لِ َ‬
‫ن َتدْعُونَ ِإلّ ِإيّا ُه َفَلمّا‬
‫ل مَ ْ‬‫حرِ ضَ ّ‬ ‫سكُمْ الضّ ّر فِي ا ْلبَ ْ‬‫س ِرفِينَ مَا كَانُوا َيعْمَلُونَ}[يونس‪ ،]12 :‬وفي قوله‪{ :‬وَِإذَا مَ ّ‬ ‫مَسّ ُه َكذَِلكَ ُزيّنَ لِ ْلمُ ْ‬
‫ضتُمْ َوكَانَ ا ِلْنْسَا ُن كَفُورًا} [السراء‪ ]67 :‬كان ما حصل له من وحدانيته حجة عليه‪.‬‬ ‫نَجّاكُمْ إِلَى ا ْلبَرّ أَعْرَ ْ‬

‫كما احتج ـ سبحانه ـ على المشركين الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون ول يعبدونه وحده ل شريك له‪ ،‬قال‬
‫سبْعِ وَرَبّ ا ْلعَرْشِ‬
‫سمَاوَاتِ ال ّ‬
‫ل مَنْ رَبّ ال ّ‬
‫سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَلَ َت َذكّرُونَ‪ .‬قُ ْ‬ ‫تعالى‪{ :‬قُلْ ِلمَنْ الَْ ْرضُ َومَنْ فِيهَا إِ ْ‬
‫ن كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ‪َ .‬‬
‫ل فََأنّا‬
‫سيَقُولُونَ لِّ قُ ْ‬
‫ن كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ‪َ .‬‬
‫ل يُجَارُ عََليْهِ إِ ْ‬
‫يءٍ وَهُ َو يُجِيرُ َو َ‬ ‫ت كُلّ شَ ْ‬‫ن ِبيَدِ ِه مََلكُو ُ‬
‫ل مَ ْ‬
‫ل َتتّقُونَ‪ .‬قُ ْ‬
‫س َيقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَ َ‬
‫ا ْلعَظِيمِ‪َ .‬‬
‫شمْسَ وَالْ َقمَرَ َليَقُولُنّ الُّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْرْضَ َوسَخّرَ ال ّ‬ ‫تُسْحَرُونَ}[المؤمنون‪ 84 :‬ـ ‪ ،]89‬وقال تعالى‪{ :‬وََلئِنْ سََأ ْلتَهُ ْم مَنْ َ‬
‫خلَقَ ال ّ‬
‫فََأنّا يُ ْؤ َفكُونَ}[العنكبوت‪ ]61 :‬وهذا قد ذكر في القرآن في غير موضع‪.‬‬

‫فمن تمام نعمة الّ على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين‬
‫ويرجونه ل يرجون أحدًا سواه‪ ،‬وتتعلق قلوبهم به ل بغيره‪ ،‬فيحصل لهم من التوكل عليه والنابة إليه‪ ،‬وحلوة‬
‫اليمان وذوق طعمه‪ ،‬والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف‪ ،‬أو الجدب‪ ،‬أو‬
‫حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة‪ ،‬فإن ذلك لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل‬
‫للمؤمن‪.‬‬
‫وأما ما يحصل لهل التوحيد المخلصين لّ الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال‪ ،‬أو يستحضر تفصيله بال‪ ،‬ولكل‬
‫مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه‪ ،‬ولهذا قال بعض السلف‪ :‬يا بن آدم‪ ،‬لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع‬
‫باب سيدك‪ .‬وقال بعض الشيوخ‪ :‬إنه ليكون لي إلى الّ حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلوة مناجاته ما ل‬
‫أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي ‪ /‬عن ذلك‪ ،‬لن النفس ل تريد إل حظها فإذا قضى‬
‫انصرفت‪ .‬وفي بعض السرائيليات يا بن آدم‪ ،‬البلء يجمع بيني وبينك‪ ،‬والعافية تجمع بينك وبين نفسك‪.‬‬

‫وهذا المعنى كثير‪ ،‬وهو موجود مذوق محسوس بالحس الباطن للمؤمن‪ ،‬وما من مؤمن إل وقد وجد من ذلك ما‬
‫يعرف به ما ذكرناه‪ ،‬فإن ذلك من باب الذوق والحس ل يعرفه إل من كان له ذوق وحس بذلك‪.‬‬

‫ولفظ [الذوق] وإن كان قد يظن أنه في الصل مختص بذوق اللسان‪ ،‬فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم‬
‫من ذلك مستعمل في الحساس بالملئم والمنافر‪ ،‬كما أن لفظ [الحساس] في عرف الستعمال عام فيما يحس‬
‫بالحواس الخمس‪ ،‬بل وبالباطن‪.‬‬

‫س ِم ْنهُ ْم مِنْ أَ َحدٍ} [مريم‪.]98 :‬‬ ‫وأما في اللغة فأصله [الرؤية] كما قال‪{ :‬هَ ْ‬
‫ل تُحِ ّ‬

‫والمقصود لفظ [الذوق] قال تعالى‪{ :‬فََأذَا َقهَا الُّ ِلبَاسَ ا ْلجُوعِ وَالْ َخوْفِ} [النحل‪ ]112 :‬فجعل الخوف والجوع مذوقًا‪،‬‬
‫وأضاف إليهما اللباس ليشعر أنه لبس الجائع والخائف فشمله وأحاط به إحاطة اللباس باللبس‪ /،‬بخلف من كان اللم‬
‫ل يستوعب مشاعره بل يختص ببعض المواضع‪ ،‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إّنكُمْ َلذَائِقُو ا ْلعَذَابِ ا َلْلِيمِ} [الصافات‪ ،]38 :‬وقال‬
‫سقَرَ} [القمر‪ ،]48 :‬وقال‪َ { :‬‬
‫ل َيذُوقُونَ‬ ‫تعالى‪{ :‬ذُقْ ِإّنكَ َأنْتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ} [الدخان‪ ،] 49 :‬وقال تعالى‪{ :‬ذُوقُوا مَسّ َ‬
‫حمِيمًا وَغَسّاقًا}[النبأ‪ ،]25 ،24 :‬وقال‪{ :‬‬ ‫فِيهَا ا ْلمَوْتَ} [الدخان‪ ،]56 :‬وقال تعالى‪َ { :‬‬
‫ل َيذُوقُونَ فِيهَا بَ ْردًا َولَ شَرَابًا‪ِ .‬إلّ َ‬
‫وََلُنذِي َقّنهُ ْم مِنْ ا ْل َعذَابِ ا َلْ ْدنَى دُونَ ا ْل َعذَابِ ا َلْ ْكبَرِ}[السجدة‪ ،]21 :‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ذاق طعم اليمان‬
‫من رضى بالّ ربًا وبالسلم دينًا وبمحمد نبيًا)‪.‬‬

‫فاستعمال لفظ [الذوق] في إدراك الملئم والمنافر كثير‪ .‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ثلث من كن فيه وجد‬
‫حلوة اليمان) كما تقدم ذكر الحديث‪ .‬فوجود المؤمن حلوة اليمان في قلبه وذوق طعم اليمان أمر يعرفه من‬
‫حصل له هذا الوجد‪.‬‬

‫وهذا الذوق‪ ،‬أصحابه فيه يتفاوتون‪ ،‬فالذي يحصل لهل اليمان عند تجريد توحيد قلوبهم إلى الّ وإقبالهم عليه دون‬
‫ما سواه بحيث يكونون حنفاء له مخلصين له الدين‪ ،‬ل يحبون شيئًا إل له‪ ،‬ول يتوكلون إل عليه‪ ،‬ول يوالون إل فيه‪،‬‬
‫ول يعادون إل له‪ ،‬ول يسألون إل إياه‪ ،‬ول يرجـون إل إياه‪ ،‬ول يخافـون إل إياه‪ ،‬يعبدونه ويستعينون لـه وبـه‪ ،‬بحيث‬
‫يكونون عند الحق بل خلق‪ ،‬وعند الخلق بل هوى‪ ،‬قد فنيت عنهم إرادة ما سواه بإرادته‪ ،‬ومحبة ما سواه بمحبته‪،‬‬
‫وخوف ‪ /‬ما سواه بخوفه‪ ،‬ورجاء ما سواه برجائه‪ ،‬ودعاء ما سواه بدعائه‪ ،‬هو أمر ل يعرفه بالذوق والوجد إل من له‬
‫نصيب‪ ،‬وما من مؤمن إل له منه نصيب‪.‬‬

‫وهذا هو حقيقة السلم الذي بعث الّ به الرسل‪ ،‬وأنزل به الكتب‪ ،‬وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه‪ .‬والّ‬
‫سبحانه أعلم‪.‬‬

‫حمَهُ الُّ َتعَالَى‪:‬‬


‫قال شيـخُ الِسْـلم ـ َر ِ‬

‫َفصْــل‬

‫[الفناء] الذي يوجد في كلم الصوفية يفسر بثلثة أمور‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب‪ ،‬والتوكل عليه وعبادته‪ ،‬وما يتبع ذلك‪ ،‬فهذا حق صحيح وهو محض‬
‫التوحيد والخلص‪ ،‬وهو في الحقيقة عبادة القلب‪ ،‬وتوكله‪ ،‬واستعانته‪ ،‬وتألهه وإنابته‪ ،‬وتوجهه إلى الّ وحده ل‬
‫شريك له‪ ،‬وما يتبع ذلك من المعارف والحوال‪ .‬وليس لحد خروج عن هذا‪.‬‬
‫لّ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء‪ ]89 :‬وهو سلمة القلب عن العتقادات‬ ‫وهذا هو القلب السليم الذي قال الّ فيه‪ِ{ :‬إ ّ‬
‫ل مَنْ َأتَى ا َ‬
‫الفاسدة‪ ،‬والرادات الفاسدة‪ ،‬وما يتبع ذلك‪.‬‬

‫‪/‬وهذا [الفناء] ل ينافيه البقاء‪ ،‬بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانيًا عن إرادة ما سواه‪ ،‬وإن كان شاعرًا با ّ‬
‫ل‬
‫وبالسوى‪ ،‬وترجمته قول‪ :‬ل إله إل الّ‪ ،‬وكان النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪) :‬ل إله إل الّ‪ ،‬ول نعبد إل إياه‪ ،‬له‬
‫النعمة‪ ،‬وله الفضل‪ ،‬وله الثناء الحسن) وهذا في الجملة هو أول الدين وآخره‪.‬‬

‫المر الثاني‪ :‬فناء القلب عن شهود ما سوى الرب‪ ،‬فذاك فناء عن الرادة‪ ،‬وهذا فناء عن الشهادة‪ ،‬ذاك فناء عن عبادة‬
‫الغير والتوكل عليه‪ ،‬وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه‪ ،‬فهذا الفناء فيه نقص‪ ،‬فإن شهود الحقائق على ما هي‬
‫عليه‪ ،‬وهو شهود الرب مدبرًا العبادة‪ ،‬آمرًا بشرائعه‪ ،‬أكمل من شهود وجوده‪ ،‬أو صفة من صفاته‪ ،‬أو اسم من‬
‫أسمائه‪ ،‬والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك‪.‬‬

‫ولهذا كان الصحابة أكمل شهودًا من أن ينقصهم شهود للحق مجملً عن شهوده مفصلً‪ ،‬ولكن عرض كثير من هذا‬
‫لكثير من المتأخرين من هذه المة‪ .‬كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق؛ الموت والغشي والصياح‬
‫والضطراب‪ ،‬وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه‪ ،‬وعن شهود التفرقة في الجمع‪،‬والكثرة في‬
‫الوحدة‪ ،‬حتى اختلفوا في إمكان ذلك‪ ،‬وكثير منهم يرى أنه ل يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو المر‬
‫اشتغل عن الخالق المر‪ .‬وإذا عورض بالنبي ‪ /‬صلى ال عليه وسلم وخلفائه ادعى الختصاص‪ ،‬أو أعرض عن‬
‫الجواب أو تحير في المر‪.‬‬

‫وسبب ذلك أنه قاس جميع الخلق على ما وجده من نفسه؛ ولهذا يقول بعض هؤلء‪ :‬إنه ل يمكن حين تجلى الحق‬
‫سماع كلمه‪ ،‬ويحكى عن ابن عربي أنه لما ذكر له عن الشيخ شهاب الدين السهروردي أنه جوز اجتماع المرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬نحن نقول له عن شهود الذات وهو يخبرنا عن شهود الصفات‪ ،‬والصواب مع شهاب الدين‪ .‬فإنه كان صحيح‬
‫العتقاد في امتياز الرب عن العبد‪ .‬وإنما بنى ابن عربي على أصله الكفري في أن الحق هو الوجود الفائض على‬
‫الممكنات‪ ،‬ومعلوم أن شهود هذا ل يقع فيه خطاب‪ ،‬وإنما الخطاب في مقام العقل‪.‬‬

‫وفي هذا الفناء قد يقول‪ :‬أنا الحق‪ ،‬أو سبحاني‪ ،‬أو ما في الجبة إل الّ‪ ،‬إذا فنى بمشهوده عن شهوده‪ ،‬وبموجوده عن‬
‫وجوده‪ ،‬وبمذكوره عن ذكره‪ ،‬وبمعروفه عن عرفانه‪ .‬كما يحكون أن رجلً كان مستغرقًا في محبة آخر‪ ،‬فوقع‬
‫المحبوب في اليم فألقى الخر نفسه خلفه‪ ،‬فقال ما الذي أوقعك خلفي؟ فقال‪ :‬غبت بك عني فظننت أنك أني‪.‬‬

‫وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود ‪ /‬حلوة اليمان‪ ،‬كما يحصل بسكر الخمر‪ ،‬وسكر عشيق‬
‫الصور‪ .‬وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء‪ ،‬كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق‬
‫ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشائخ‪ ،‬كقول بعضهم‪ :‬أنصب خيمتي على‬
‫جهنم‪ ،‬ونحو ذلك من القوال والعمال المخالفة للشرع‪ ،‬وقد يكون صاحبها غير مأثوم‪ ،‬وإن لم يكن فيشبه هذا الباب‬
‫أمر خفراء العدو ومن يعين كافرًا أو ظالمًا بحال ويزعم أنه مغلوب عليه‪ .‬ويحكم على هؤلء أن أحدهم إذا زال عقله‬
‫بسبب غير محرم فل جناح عليهم فيما يصدر عنهم من القوال والفعال المحرمة بخلف ما إذا كان سبب زوال‬
‫العقل والغلبة أمرًا محرمًا‪.‬‬

‫وهذا كما قلنا في عقلء المجانين والمولهين‪ ،‬الذين صار ذلك لهم مقامًا دائمًا‪ ،‬كما أنه يعرض لهؤلء في بعض‬
‫الوقات‪ ،‬كما قال بعض العلماء ذلك فيمن زال عقله حتى ترك شيئًا من الواجبات‪ :‬إن كان زواله بسبب غير محرم‬
‫مثل الغماء بالمرض أو أسقى مكرها شيئًا يزيل عقله فل إثم عليه‪ ،‬وإن زال بشرب الخمر ونحو ذلك من الحوال‬
‫المحرمة أثم بترك الواجب‪ ،‬وكذلك المر في فعل المحرم‪.‬‬

‫وكما أنه ل جناح عليهم فل يجوز القتداء بهم ول حمل كلمهم وفعالهم على الصحة بل هم في الخاصة مثل الغافل‬
‫والمجنون في التكاليف ‪ /‬الظاهرة‪ ،‬وقال فيهم بعض العلماء‪ :‬هؤلء قوم أعطاهم الّ عقولً وأحوالً فسلب عقولهم‬
‫وترك أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب‪.‬‬
‫ولهذا اتفق العارفون على أن حال البقاء أفضل من ذلك‪ ،‬وهو شهود الحقائق بإشهاد الحق‪ ،‬كما قال الّ ـ تعالى ـ فيما‬
‫روى عنه رسوله‪( :‬ول يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره‬
‫الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ .‬فبي‬
‫يسمع وبي يبصر‪ ،‬وبي يبطش وبي يمشي" وفي رواية‪" :‬وبي ينطق‪ ،‬وبي يعقل)‪ .‬فإذا سمع بالحق ورأى به سمع‬
‫المر على ما هو عليه وشهد الحق على ما هو عليه‪.‬‬

‫وعامة ما تجده في كتب أصحاء الصوفية مثل شيخ السلم ومن قبله من الفناء هو هذا‪ ،‬مع أنه قد يغلط بعضهم في‬
‫بعض أحكامه كما تكلمت عليه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫وفي الجملة‪ ،‬فهذا الفناء صحيح وهو في عيسوية المحمدية‪ ،‬وهو شبيه بالصعق والصياح الذي حدث في التابعين؛‬
‫ولهذا يقع كثير من هؤلء في نوع ضلل؛ لن الفناء عن شهود الحقائق مرجعه إلى عدم العلم والشهود‪ .‬وهو وصف‬
‫نقص ل وصف كمال‪ ،‬وإنما يمدح من جهة ‪ /‬عدم إرادة ما سواه؛ لن ذكر المخلوق قد يدعو إلى إرادته والفتنة به‪.‬‬

‫ولهذا غالب عباد [العيسوية] في عدم العلم بالسوي‪ ،‬وإرادته والفتنة به‪ ،‬ويوصفون بسلمة القلوب‪ .‬وغالب علماء [‬
‫الموسوية] في العلم بالسوي وإرادته والفتنة به‪ ،‬ويوصفون بالعلم‪ ،‬لكن الولون موصوفون بالجهل والعدل‪.‬‬
‫والخرون موصوفون بالظلم‪ ...‬وكلهما صحيح‪.‬‬

‫فأما العلم بالحق والخلق‪ ،‬وإرادة الّ وحده ل شريك له فهذا نعت المحمدية الكاملون في العلم والرادة‪ ،‬وسلمة القلب‬
‫المحمودة‪ ،‬هي سلمة‪ ...‬إذ الجهل ل يكون بنفسه صفة مدح‪ .‬إل أنه قد يمدح لسلمته به عن الشرور‪ ،‬فإن أكثر‬
‫النفوس إذا عرفت الشر الذي تهواه اتبعته أو فزعت منه أو فتنها‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬فناء عن وجود السوى‪ :‬بمعنى أنه يرى أن الّ هو الوجود‪ ،‬وأنه ل وجود لسواه‪ ،‬ل به ول بغيره‪ ،‬وهذا القول‬
‫والحال للتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ونحوهم الذين يجعلون الحقيقة أنه عين‬
‫الموجودات وحقيقة الكائنات‪ ،‬وأنه ‪ /‬ل وجود لغيره‪ ،‬ل بمعنى أن قيام الشياء به ووجودها به‪ ،‬كما قال النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم‪" :‬أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‪:‬‬

‫أل كل شيء ما خل الّ باطل**‬

‫وكما قيل في قوله‪{ :‬كُلّ َشيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ وَ ْجهَهُ}[القصص‪ ]88 :‬فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح‪،‬‬
‫لكنهم يريدون أنه هو عين الموجودات‪ ،‬فهذا كفر وضلل‪ .‬ربما تمسك أصحابه بألفاظ متشابهة توجد في كلم بعض‬
‫المشايخ‪ ،‬كما تمسك النصارى بألفاظ متشابهة تروى عن المسيح‪ ،‬ويرجعون إلى وجد فاسد أو قياس فاسد‪ .‬فتدبر هذا‬
‫التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم‪.‬‬

‫‪َ /‬وقَالَ شَيْــخُ الِسْــلم ـ قدس ال روحه ‪:‬‬

‫َفصْـــل‬

‫المر والنهي‪ ،‬الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة‪ ،‬فل تجب الشريعة‬
‫على من ل يمكنه العلم كالمجنون والطفل‪ ،‬ول تجب على من يعجز كالعمى والعرج والمريض في الجهاد‪ ،‬وكما‬
‫ل تجب الطهارة بالماء‪ ،‬والصلة قائمًا والصوم‪ ،‬وغير ذلك على من يعجز عنه‪.‬‬

‫سواء قيل‪ :‬يجوز تكليف ما ل يطاق أو لم يجز‪ ،‬فإنه ل خلف أن تكليف العاجز الذي ل قدرة له على الفعل بحال غير‬
‫واقع في ‪ /‬الشريعة‪ ،‬بل قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم‪ ،‬والقدرة تخفيفًا عنه‪ ،‬وضبطًا لمناط‬
‫التكليف‪ ،‬وإن كان تكليفه ممكنًا‪ ،‬كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم‪ ،‬وإن كان له فهم وتمييز‪ ،‬لكن ذاك لنه لم يتم‬
‫فهمه‪ ،‬ولن العقل يظهر في الناس شيئًا فشيئًا‪ ،‬وهم يختلفون فيه‪ ،‬فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ‪.‬‬
‫وكما ل يجب الحج إل على من ملك زادًا وراحلة عند جمهور العلماء‪ ،‬مع إمكان المشي لما فيه من المشقة‪ ،‬وكما ل‬
‫يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيفًا عليه‪ ،‬وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض‬
‫وتأخر البرء‪ ،‬وإن كان فعلها ممكنًا‪.‬‬

‫لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع‪ ،‬فقد يوجب الّ في شريعة ما يشق‪ ،‬ويحرم ما يشق تحريمه‪ ،‬كالصار‬
‫ن نَسِينَا أَوْ‬ ‫خ ْذنَا إِ ْ‬ ‫والغلل التي كانت على بني إسرائيل‪ ،‬وقد يخفف في شريعة أخرى‪ ،‬كما قال المؤمنون‪َ { :‬رّبنَا َ‬
‫ل تُؤَا ِ‬
‫ن َقبِْلنَا}[البقرة‪ ،]286 :‬وكما قال الّ تعالى‪{ :‬يُرِيدُ ا ُ‬
‫لّ بِكُمْ ا ْليُسْرَ‬ ‫حمَ ْلتَهُ عَلَى اّلذِينَ مِ ْ‬
‫حمِلْ عََل ْينَا ِإصْرًا َكمَا َ‬
‫خطَ ْأنَا َربّنَا َولَ تَ ْ‬‫أَ ْ‬
‫عَليْكُ ْم فِي‬
‫جعَلَ َ‬ ‫جعَلَ عََل ْيكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة‪ ،]6 :‬وقال‪َ { :‬ومَا َ‬
‫ل يُرِي ُد ِبكُمْ ا ْلعُسْرَ} [البقرة‪ ،]185 :‬وقال‪{ :‬مَا يُرِيدُ الُّ ِل َي ْ‬ ‫َو َ‬
‫الدّينِ مِنْ َحرَجٍ} [الحج‪ ،]78 :‬وقال‪{ :‬يُرِيدُ الُّ أَ ْن يُخَفّفَ َعنْكُمْ}[النساء‪.]28 :‬‬

‫‪/‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم لصحابه في قصة العرابي‪( :‬إنما بعثتم ميسرين‪ ،‬ولم تبعثوا معسرين)‪ ،‬وقال لمعاذ‬
‫وأبي موسى‪( :‬يسرا ول تعسرا)‪ ،‬وقال‪( :‬إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إل غلبه)‪ ،‬وقال‪( :‬ل تشددوا على‬
‫أنفسكم فيشدد الّ عليكم‪ ،‬فإن أقوامًا شددوا على أنفسهم‪ ،‬فشدد الّ عليهم‪،‬فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات‪،‬‬
‫ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)‪ ،‬وقال‪( :‬ل رهبانية في السلم)‪،‬وقال‪( :‬لكني أصوم وأفطر‪ ،‬وأقوم وأنام‪،‬‬
‫وأتزوج النساء‪ ،‬وآكل اللحم‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فليس مني)‪ ،‬وقال‪( :‬إن الّ يحب أن يؤخذ برخصه‪ ،‬كما يكره أن‬
‫تؤتي معصيته)‪ ،‬وروى عنه أنه قال‪( :‬بعثت بالحنيفية السمحة)‪.‬‬

‫وأما كون النسان مريدًا لما أمر به‪ ،‬أو كارهًا له‪ ،‬فهذا ل تلتفت إليه الشرائع‪ ،‬بل ول أمر عاقل‪ ،‬بل النسان مأمور‬
‫بمخالفة هواه‪.‬‬

‫والرادة‪ :‬هي الفارقة بين أهل الجنة وأهل النار‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ ا ْلعَاجِلَةَ عَجّ ْلنَا لَ ُه فِيهَا مَا نَشَاءُ ِلمَ ْ‬
‫ن نُرِي ُد ثُمّ‬
‫ك كَانَ َس ْعُيهُ ْم مَ ْشكُورًا} [السراء‪:‬‬ ‫ن فَأُوَْل ِئ َ‬
‫س ْع َيهَا وَهُ َو مُ ْؤمِ ٌ‬
‫سعَى َلهَا َ‬
‫خرَةَ وَ َ‬‫ج َهنّ َم يَصْلَهَا َم ْذمُومًا مَدْحُورًا ‪َ .‬ومَنْ أَرَادَ الْ ِ‬ ‫جعَ ْلنَا لَهُ َ‬ ‫َ‬
‫ك الدّارُ الْ ِخرَ ُة نَ ْجعَُلهَا ِلّلذِي َن لَ يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي ا َلْرْضِ َو َل فَسَادًا} [القصص‪ ،]83 :‬وقال‬ ‫‪ ،]19 ،18‬وقال تعالى‪{ :‬تِ ْل َ‬
‫ن يَدْعُونَ‬ ‫عمَاَل ُه ْم فِيهَا} الية [هود‪ ،]15 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ل تَطْ ُردْ اّلذِي َ‬ ‫حيَاةَ الدّ ْنيَا وَزِي َن َتهَا نُوَفّ إَِل ْيهِمْ أَ ْ‬
‫ن يُرِيدُ ا ْل َ‬
‫ن كَا َ‬ ‫تعالى‪{ :‬مَ ْ‬
‫ي يُرِيدُونَ َو ْجهَهُ} [النعام‪ ،]52 :‬ونظائره كثيرة‪.‬‬ ‫شّ‬‫َرّبهُ ْم بِا ْل َغدَاةِ وَا ْلعَ ِ‬

‫فإن هذه الصول ممهدة في الكتاب والسنة‪ ،‬وكلم العلماء والعارفين‪ ،‬وليس الغرض هنا تقريرها‪.‬‬

‫وإنما الغرض شيء آخر‪ ،‬وهو أنه إذا كان التكليف مشروطًا بالتمكن من العلم الذي أصله العقل‪ ،‬وبالقدرة على الفعل‬
‫فنقول‪ :‬كل من هذين قد يزول بأسباب محظورة‪ ،‬وبأسباب غير محظورة‪ ،‬فإذا أزال عقله بشرب الخمر أو البنج‬
‫ونحوهما لم يزل عنه بذلك‪ ،‬أثم بما يتركه من الواجبات ويفعله من المحرمات‪ ،‬إذا كان السكر يقتضي ذلك‪ ،‬بخلف ما‬
‫إذا زال بسبب غير محرم‪ ،‬كالغماء لمرض‪ ،‬أو خوف‪ ،‬أو سكر بشرب غير محرم‪ ،‬مثل أن يجرع الخمر مكرهًا‪،‬‬
‫فإن هذا ل إثم عليه‪.‬‬

‫وأما قضاء الصلة عليه عند أحمد‪ ،‬وعند من يقول‪ :‬يقضي صلة يوم وليلة‪ ،‬فذاك نظير وجوب قضائها على النائم‬
‫والناسي‪ ،‬ول إثم عليهما‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ليس في النوم تفريط‪ ،‬وإنما التفريط في اليقظة)‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫(من نام عن صلة أو نسيها‪ ،‬فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ل كفارة لها إل ذلك)‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك قدرة العبد‪ ،‬فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه‪ ،‬حتى ضيع ماله بقى الحج في ذمته‪ ،‬وكذلك في استحلل‬
‫المحرمات‪ ،‬قال الّ تعالى‪َ { :‬فمَنْ اضْطُرّ َغيْ َر بَاغٍ َولَ عَادٍ فَلَ ِإثْمَ عََليْهِ}[البقرة‪ .]173 :‬فالضرورة بسبب محظور ل‬
‫تستباح بها المحرمات‪ ،‬بخلف الضرورة التي هي بسبب غير محظور‪.‬‬

‫وقد اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يترخص ترخص المسافر؟ ومذهب الشافعي‪ ،‬وأحمد أنه ل يترخص‪.‬‬

‫فالحوال التي ترد على العباد‪ ،‬وأهل المعرفة والزهاد‪ ،‬ونحوهم مما توجب زوال عقل أحدهم وعلمه‪ ،‬حتى تجعله‬
‫كالمجنون والموله والسكران والنائم‪ ،‬أو زوال قدرته حتى تجعله كالعاجز‪ ،‬أو تجعله كالمضطر الذي يصدر عنه‬
‫القول والفعل بغير إرادته واختياره‪ ،‬فإن زوال العقل والقدرة قد يوجب عجزه عن أداء واجبات‪ ،‬وقد يوجب وقوعه‬
‫في محرمات‪.‬‬

‫فهؤلء يقال فيهم‪ :‬إن كان زوال ذلك بسبب غير محرم‪ ،‬فل حرج عليهم فيما يتركونه من الواجبات‪ ،‬ويفعلونه من‬
‫المحرمات‪ ،‬ول يجوز أيضًا اتباعهم فيما هو خارج عن الشريعة من أقوالهم وأفعالهم‪ ،‬ول نذمهم على ذلك‪ ،‬بل قد‬
‫يمدحون على ما وافقوا فيه الشريعة من ‪ /‬القوال والعمال‪ ،‬ويرفع عنهم اللوم فيما عذرهم فيه الشارع‪ ،‬كما يقال في‬
‫المجتهد المخطئ سواء‪ ،‬بل المجتهد المخطئ نوع مـن هذا الجنس‪ ،‬حيث سقط عنه اللوم؛ لعجزه عن العلم‪.‬‬

‫وإن كان زوال ذلك بسبب محرم‪ ،‬استحقوا الذم والعقاب على ما يتركونه من واجب ويفعلونه من محرم‪.‬‬

‫مثال الول‪ :‬من يسمع القرآن على الوجه المشروع‪ ،‬فهاج له وجد يحبه‪ ،‬أو مخافة أو رجاء‪ ،‬فضعف عن حمله حتى‬
‫مات‪ ،‬أو صعق‪ ،‬أو صاح صياحًا عظيمًا‪ ،‬أو اضطرب اضطرابًا كثيرًا‪ ،‬فتولد عن ذلك ترك صلة واجبة‪ ،‬أو تعدي‬
‫على بعض الناس‪ ،‬فإن هذا معذور في ذلك‪ ،‬فإن هذا في هذه الحال بمنزلة عقلء المجانين المولهين‪ ،‬الذين حصل لهم‬
‫الجنون‪ ،‬مع أنهم من الصالحين وأهل المعرفة‪ ،‬إما لقوة الوارد الذي ورد عليهم‪ ،‬وإما لضعف قلوبهم عن حمله‪ ،‬وإما‬
‫لنحراف أمزجتهم وقوة الخلط‪ ،‬وإما لعارض من الجن‪ ،‬فإن هؤلء كما بلغنا عن المام أبي محمد المقدسي‪ ،‬حيث‬
‫سئل عنهم‪ ،‬فقال‪ :‬هؤلء قوم أعطاهم الّ عقولً وأحوالً‪ ،‬فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم‪ ،‬وأسقط ما فرض بما سلب‪.‬‬

‫ولهذا كان هذا الصنف والذي قبله موجودًا في التابعين ومن ‪ /‬بعدهم‪ ،‬ل سيما في عباد البصريين‪ ،‬فإن فيهم من مات‬
‫من سماع القرآن‪ ،‬كزرارة بن أوفى‪ ،‬وأبي جهير الضرير وغيرهما‪.‬‬

‫وأما الصحابة‪ ،‬فإن حالهم كان أكمل من أن يكون فيهم مجنون أو مصعوق‪ ،‬ومن هؤلء أيضًا من غلب عليه الذكر‬
‫لّ‪ ،‬والتوحيد له والمحبة حتى غاب بالمذكور المشهود المحبوب المعبود عما سواه‪ ،‬كما يحصل لبعض العاشقين في‬
‫غيبته بمعشوقه عما سواه‪ ،‬فيقول أحدهم في هذه الحال‪ .‬أنا الحق‪ ،‬أو سبحاني‪ ،‬أو ما في الجبة إل الّ‪ .‬ومنهم من غلب‬
‫عليه حال الرجاء والرحمة‪ ،‬حتى قال‪ :‬أبسط سجادتي على جهنم‪ .‬فمن قال هذا في حال زوال عقله بحيث يكون‬
‫كالسكران أو الموله‪ ،‬وكان السبب الذي أوجب ذلك غير منهي عنه شرعًا‪ :‬فل إثم عليه‪.‬‬

‫ومثال الثاني‪ :‬ما قد يحصل عند سماع المكاء والتصدية لكثير من أهل السماع‪ ،‬فإنه قد ينشد أشعارًا فيها ما يخالف‬
‫الشرع بأصوات مخالفة للشرع‪ ،‬ويكون النسان فيه استعداد فيوجب ذلك اختلطًا‪ ،‬وزوال عقل‪ ،‬حتى يقتل بعضهم‬
‫بعضًا‪ ،‬إما ظاهرًا وإما باطنًا بالهمة والقلوب‪ ،‬ويوجب أيضًا من ترك واجبات الشريعة‪ ،‬ومن العتداء على المؤمنين‬
‫في الدين والدنيا ما الّ به عليم‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك قد يسلك أحدهم عبادات غير شرعية في العتقادات والعمال فتورثه تلك العبادات والعمال أحوالً قوية‬
‫قاهرة‪ ،‬يترك بها الواجبات‪ ،‬ويفعل بها المحرمات أعظم مما يفعله الملك الجبار‪ ،‬إذا سكر بشرب الخمر بالنفوس‬
‫والموال‪.‬‬

‫وإذا خوطب أحدهم في حال صحوه‪ ،‬وعقله قال‪ :‬كنت مغلوبًا‪ ،‬وورد علي وارد فعل بي هذا‪ ،‬والحكم للوارد‪ ،‬وهذه‬
‫حال كثير من خفراء العدو‪ ،‬وكثير ممن يعين الكفرة والظلمة‪ ،‬ويعتدي على المسلمين والمؤمنين من أهل الحوال‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬إنه مغلوب في ذلك‪ ،‬وأنه ورد عليه وارد أوجب ذلك‪ ،‬وأنه خوطب بذلك الفعل‪.‬‬

‫فيقال‪ :‬أما زوال عقلك حتى صرت ل تفهم أمر الّ ونهيه‪ ،‬وزوال قدرتك حتى صرت مضطرًا إلى تلك الفعال‪ ،‬وإن‬
‫كنت صادقًا في ذلك‪ ،‬فسببه تفريطك وعدوانك أولً‪ ،‬حتى صرت في حال المجانين والسكارى‪ ،‬فأنت بمنزلة شارب‬
‫الخمر الذي سكر منها‪ ،‬والمتعرض للعشق حتى يعشق فيفعل فيه العشق الفاعيل؛ إذ ل فرق بين سكر الصوات‬
‫والصور والشراب‪ ،‬فإن هذا سكر الجسام‪ ،‬وهذا سكر النفوس‪ ،‬وهذا سكر الرواح‪ ،‬فإذا كان السبب محظورًا لم يكن‬
‫السكران معذورًا في دين السلم‪.‬‬

‫‪/‬ولهذا إنما تقع هذه الحوال ممن فيه نصرانية يميل بسببها إلى السكر‪ ،‬كما يفعله النصارى في الشراب والصوات‬
‫والصور؛ ولهذا كان هؤلء في عالم الضلل‪.‬‬
‫وأما قولك‪ :‬إنك خوطبت بذلك‪ ،‬وأمرت فمن أي الجهتين؟ أمن جهة الكلمات الدينية؟ أم من جهة الكلمات الكونية؟‬

‫ث فِي ا ُلْ ّميّينَ} [الجمعة‪،]2 :‬‬


‫لحْسَانِ} [النحل‪ ]90 :‬وقوله‪{ :‬هُوَ اّلذِي بَعَ َ‬ ‫فالولى مثل قوله‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫لّ يَ ْأمُ ُر بِا ْلعَدْلِ وَا ِ‬
‫وقوله‪{ :‬لَ َقدْ أَ ْرسَ ْلنَا ُرسَُلنَا بِا ْل َبّينَاتِ} [الحديد‪.]25 :‬‬

‫عبَادًا َلنَا} [السراء‪ ،]5 :‬وقوله‪َ{ :‬أنّا أَرْسَ ْلنَا‬


‫والثانية مثل قوله‪َ{ :‬أمَ ْرنَا مُتْ َرفِيهَا} [السراء‪ ،]16 :‬وقوله‪َ { :‬ب َعثْنَا عََل ْيكُمْ ِ‬
‫ال ّشيَاطِينَ} [مريم‪ ]83 :‬فإن ذكرت أنه من الجهة الولى‪ ،‬فباطل‪ ،‬بخلف الكتاب والسنة‪.‬‬

‫وإن أقررت أنه من الثانية فصحيح‪ ،‬لكن هذا حال الكفار والمنافقين مثل إبليس وفرعون ونمرود‪ ،‬وسائر من أطاع‬
‫الوامر الكونية‪ ،‬وتبع الرادة القدرية‪ ،‬وأعرض عن الوامر الشرعية‪ ،‬ولم يقف عند الرادة الدينية‪.‬‬

‫فتدبر هذا الصل فإنه عظيم نافع جداً‪ ،‬فتنكشف به الحوال المخالفة للشرع‪ ،‬وانقسام أهلها إلى معذور وموزور‪،‬‬
‫كانقسامها إلى ‪ /‬مسطور على صاحبه‪ ،‬ومغفور‪ ،‬بمنزلة الحوال الصادرة عن غير أهل العبادات والزهادات من‬
‫العقل والصحو‪ ،‬ومن الغماء والسكر والجنون ومن الضطرار والختيار‪ ،‬فإن أحوال الملوك والمراء وأحوال‬
‫الهداة والعلماء‪ ،‬وأحوال المشايخ والفقراء‪ ،‬تشترك في هذه القاعدة الشريفة‪ ،‬وتحكم الشريعة فيها بالفرقان‪.‬‬

‫وإذا ضم إلى ذلك أن ما يصدر عن ذوي الحوال من كشف علمي أو تأثير قدري ليس بمستلزم لولية ال‪ ،‬بل ول‬
‫للصلح‪ ،‬بل ول لليمان؛ إذ قد يكون هذا الجنس في كافر‪ ،‬ومنافق‪ ،‬وفاسق‪ ،‬وعاصي‪ ،‬وإنما أولياء ال الذين ل خوف‬
‫عليهم ول هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون‪.‬‬

‫ففرق بين ولية الّ وبين الحوال‪ ،‬كما فرق بين خلفة النبوة وبين جنس الملك‪ ،‬وفرق بين العلم الذي ورثته النبياء‪،‬‬
‫وبين جنس الكلم‪ ،‬فبين هذين النوعين خصوص وعموم‪ ،‬فقد يكون الرجل ولياً لّ له حال تأثير وكشف‪ ،‬وقد يكون‬
‫ولياً ليس له تلك الحال بكمالها‪ ،‬وقد يكون له شيء من هذه الحوال‪ ،‬وليس ولياً لّ‪ ،‬كما قد يكون خليفة نبي مطاعاً‪،‬‬
‫وقد يكون خليفة نبي مستضعفاً‪ ،‬وقد يكون جباراً مطاعاً ليس من النبوة في شيء‪ ،‬وقد يكون عالماً ليس متكلما بما‬
‫يخالف كلم النبياء‪ ،‬وقد يكون عالمًا متكلماً بكلم النبياء‪.‬‬

‫فَصــل‬

‫واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات في هذا القدر وغيره‪ ،‬إنما وقع في المة في أواخر خلفة الخلفاء‬
‫الراشدين‪ ،‬كما أخبر به النبي صلى ال عليه وسلم حيث قال‪( :‬من يعش منكم بعدي فسيري اختلفًا كثيرًا‪ ،‬فعليكم‬
‫بسنتي‪ ،‬وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)‪.‬‬

‫ومعلوم أنه إذا استقام ولة المور الذين يحكمون في النفوس والموال استقام عامة الناس‪ ،‬كما قال أبو بكر الصديق‬
‫فيمـا رواه البخـاري في صحيحه للمرأة الحمسية لما سألته فقالت‪ :‬ما بقاؤنا على هذا المر الصالح ؟ قال‪ :‬ما‬
‫استقامت لكم أئمتكم‪ ،‬وفي الثر‪ :‬صنفان إذا صلحوا صلح الناس‪ :‬العلماء والمراء أهل الكتاب وأهل الحديد‪ ،‬كما دل‬
‫عليه قوله‪{ :‬لَ َقدْ أَ ْرسَ ْلنَا} الية [الحديد‪.]25 :‬‬

‫وهم أولو المر‪ ،‬في قوله‪{ :‬أَطِيعُوا الَّ وََأطِيعُوا الرّسُولَ وَأُوْلِي ا َلْمْ ِر ِم ْنكُمْ} [النساء‪.]59 :‬‬

‫‪/‬وكذلك من جهتهم يقع الفساد‪ ،‬كما جاء في الحديث مرفوعًا‪ ،‬وعن جماعة من الصحابة (إن أخوف ما أخاف عليكم‪:‬‬
‫زلة عالم‪ ،‬وجدال منافق بالقرآن‪ ،‬وأئمة مضلون)‪ .‬فالئمة المضلون هم المراء‪ ،‬والعالم والمجادل هم العلماء‪ ،‬لكن‬
‫أحدهما صحيح العتقاد يزل‪ ،‬وهو العالم‪ ،‬كما يقع من أئمة الفقهاء أهل السنة والجماعة‪.‬‬

‫والثاني‪ ،‬كالمتفلسفة والمتكلمين الذين يجادلون بشبهات القرآن مع أنهم في الحقيقة منسلخون من آيات الّ‪ ،‬وإنما‬
‫احتجاجهم به دفعًا للخصم‪ ،‬ل اهتداء به واعتمادًا عليه؛ ولهذا قال‪) :‬جدال منافق بالقرآن( فإن السنة والجماع تدفع‬
‫شبهته‪.‬‬

‫ل هو الصل‪ ،‬والعمال الظاهرة هي الفروع‪ ،‬وهي كمال اليمان‪.‬‬


‫والدين القائم بالقلب من اليمان علمًا وحا ً‬
‫فالدين أول ما يبنى من أصوله ويكمل بفروعه‪ ،‬كما أنزل الّ بمكة أصوله من التوحيد والمثال التي هي المقاييس‬
‫العقلية‪ ،‬والقصص‪ ،‬والوعد‪ ،‬والوعيد‪ ،‬ثم أنزل بالمدينة ـ لما صار له قوة ـ فروعه الظاهرة من الجمعة والجماعة‪،‬‬
‫والذان والقامة‪ ،‬والجهاد‪ ،‬والصيام‪ ،‬وتحريم الخمر والزنا‪ ،‬والميسر وغير ذلك من واجباته ومحرماته‪.‬‬

‫‪/‬فأصوله تمد فروعه وتثبتها‪ ،‬وفروعه تكمل أصوله وتحفظها‪ ،‬فإذا وقع فيه نقص ظاهر فإنما يقع ابتداء من جهة‬
‫فروعه؛ ولهذا قال صلى ال عليه وسلم‪( :‬أول ما تفقدون من دينكم المانة‪ ،‬وآخر ما تفقدون من دينكم الصلة)‪،‬‬
‫وروى عنه أنه قال‪( :‬أول ما يرفع الحكم بالمانة) ‪.‬والحكم هو عمل المراء‪ ،‬وولة المور‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬إِنّ الَّ‬
‫يَ ْأمُ ُركُمْ أَ ْن تُ َؤدّوا ا َلْمَانَاتِ إِلَى أَهِْلهَا وَِإذَا َح َك ْمتُ ْم َبيْنَ النّاسِ أَ ْن تَ ْح ُكمُوا بِا ْل َعدْلِ} [النساء‪ ،]58 :‬وأما الصلة فهي أول فرض‪،‬‬
‫وهي من أصول الدين واليمان‪ ،‬مقرونة بالشهادتين‪ ،‬فل تذهب إل في الخر‪ ،‬كما قال صلى ال عليه وسلم‪( :‬بدأ‬
‫السلم غريبًا‪ ،‬وسيعود غريبًا كما بدأ‪ ،‬فطوبي للغرباء) فأخبر أن عوده كبدئه‪.‬‬

‫فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين‪ ،‬وصار ملكًا ظهر النقص في المراء‪ ،‬فلبد أن يظهر أيضًا في أهل العلم والدين‪،‬‬
‫فحدث في آخر خلفة علي بدعتا الخوارج والرافضة‪ ،‬إذ هي متعلقة بالمامة والخلفة‪ ،‬وتوابع ذلك من العمال‪،‬‬
‫والحكام الشرعية‪.‬‬

‫وكان ملك معاوية ملكًا ورحمة‪ ،‬فلما ذهب معاوية ـ رحمة الّ عليه ـ وجاءت إمارة يزيد‪ ،‬وجرت فيها فتنة قتل‬
‫الحسين بالعراق‪ ،‬وفتنة أهل الحرة بالمدينة‪ ،‬وحصروا مكة‪ ،‬لما قام عبد الّ بن الزبير ‪.‬‬

‫‪/‬ثم مات يزيد وتفرقت المة‪ ،‬ابن الزبير بالحجاز‪،‬وبنو الحكم بالشام‪،‬ووثب المختار بن أبي عبيد وغيره بالعراق‪.‬‬
‫وذلك في أواخر عصر الصحابة‪ ،‬وقد بقى فيهم مثل عبد الّ بن عباس‪ ،‬وعبد الّ بن عمر‪ ،‬وجابر بن عبد الّ‪ ،‬وأبو‬
‫سعيد الخدري‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬حدثت بدعة القدرية والمرجئة‪ ،‬فردها بقايا الصحابة كابن عباس‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وجابر‪،‬‬
‫وواثلة بن السقع وغيرهم ـ رضي الّ عنهم ـ مع ما كانوا يردونه هم‪ ،‬وغيرهم من بدعة الخوارج والروافض‪.‬‬

‫وعامة ما كانت القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه‪ ،‬أعمال العباد‪ ،‬كما يتكلم فيها المرجئة‪ ،‬فصار كلمهم في الطاعة‬
‫والمعصية‪ ،‬والمؤمن والفاسق ونحو ذلك من مسائل السماء والحكام‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬ولم يتكلموا بعد في ربهم ول‬
‫في صفاته إل في أواخر عصر صغار التابعين‪ ،‬من حين أواخر الدولة الموية حين شرع القرن الثالث ـ تابعوا‬
‫التابعين ـ ينقرض أكثرهم ـ فإن العتبار في القرون الثلثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه‪ ،‬وجمهور الصحابة‬
‫انقرضوا بانقراض خلفة الخلفاء الربعة‪ ،‬حتى إنه لم يكن بقى من أهل بدر‪ ،‬إل نفر قليل‪ ،‬وجمهور التابعين‬
‫بإحسان‪ ،‬انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك‪ ،‬وجمهـور تابعي التابعين‬
‫انقرضوا في أواخر الدولة الموية‪ ،‬وأوائل الدولة العباسية ـ وصار ‪ /‬في ولة المور كثير من العاجم‪ ،‬وخرج كثير‬
‫من المر عن ولية العرب وعربت بعض الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والروم‪ ،‬وظهر مـا قاله النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم‪( :‬ثم يفشوا الكذب حـتى يشهد الرجل‪ ،‬ول يستشهد‪ ،‬ويحلف‪ ،‬ول يستحلف)‪ ،‬حدث ثلثة أشياء‪:‬‬

‫الرأي و الكلم والتصوف ‪.‬‬

‫وحدث التجهم‪ :‬وهو نفي الصفات‪ .‬وبإزائه التمثيل‪.‬‬

‫فكان جمهور الرأي من الكوفة‪ ،‬إذ هو غالب على أهلها‪ ،‬مع ما كان فيهم من التشيع الفاحش‪ ،‬وكثرة الكذب في‬
‫الرواية‪ ،‬مع أن في خيار أهلها من العلم‪ ،‬والصدق‪ ،‬والسنة والفقه‪ ،‬والعبادة أمر عظيم‪ ،‬لكن الغرض أن فيها نشأ كثرة‬
‫الكذب في الرواية‪ .‬وكثرة الراء في الفقه‪ ،‬والتشيع في الصول‪ ،‬وكان جمهور الكلم والتصوف في البصرة‪.‬‬

‫فإنه بعد موت الحسن‪ ،‬وابن سيرين بقليل‪ ،‬ظهر عمرو بن عبيد‪ ،‬وواصل بن عطاء‪ ،‬ومن اتبعهما من أهل الكلم‬
‫والعتزال‪.‬‬

‫وظهر أحمد بن عطاء الهجيمي الذي صحب عبد الواحد بن زيد‪ / ،‬وعبد الواحد صحب الحسن البصري‪ ،‬ومن اتبعه‬
‫من المتصوفة‪ ،‬وبنى دويرة للصوفية‪ ،‬هي أول ما بني في السلم‪ ،‬وكان عبد الرحمن بن مهدي وغيره يسمونهم‬
‫الفقرية‪ ،‬وكانوا يجتمعون في دويرة لهم ‪.‬‬
‫وصار لهؤلء من الكلم المحدث‪ ،‬طريق يتدينون به‪ ،‬مع تمسكهم بغالب الدين‪.‬‬

‫ولهؤلء من التعبد المحدث‪ ،‬طريق يتمسكون به مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع‪ ،‬وصار لهؤلء حال من السماع‪،‬‬
‫والصوت حتى إن أحدهم يموت أو يغشى عليه‪.‬‬

‫ولهؤلء حال في الكلم والحروف‪ ،‬حتى خرجوا به إلى تفكير أوقعهم في تحير‪.‬‬

‫وهؤلء أصل أمرهم الكلم ‪.‬‬

‫وهؤلء أصل أمرهم الرادة ‪.‬‬

‫وهؤلء يقصدون بالكلم التوحيد‪ ،‬ويسمون نفوسهم الموحدين‪.‬‬

‫وهؤلء يقصدون بالرادة‪ ،‬التوحيد ويسمون نفوسهم أهل ‪ /‬التوحيد‪ ،‬والتجريد‪.‬‬

‫وقد كتبت قبل هذا في القواعد‪ ،‬ما في طريقي أهل الكلم‪ ،‬والنظر وأهل الرادة والعمل من النحراف‪ ،‬إذا لم يقترن‬
‫بمتابعة الرسول‪ .‬كما بينت في قاعدة كبيرة أن أصل العلم‪ ،‬والهدى‪ ،‬والدين هو‪ :‬اليمان بالّ ورسوله‪ ،‬واستصحاب‬
‫ذلك في جميع القوال والحوال‪.‬‬

‫وكان أهل المدينة أقرب من هؤلء‪ ،‬وهؤلء في القول والعمل‪ ،‬إذ لم ينحرفوا انحراف الطائفتين من الكوفيين‬
‫والبصريين‪ ،‬هوى ورواية‪ ،‬ورأيا‪ ،‬وكلمًا‪ ،‬وسماعًا‪ ،‬وإن كان في بعضهم نوع انحراف لكن هم أقرب‪.‬‬

‫وأما الشاميون‪ ،‬فكان غالبهم مجاهدين‪ ،‬وأهل أعمال قلبية‪ ،‬أقرب إلى الحال المشروع‪ ،‬من صوفية البصريين إذ ذاك‪.‬‬

‫ولهذا تجد كتب الكلم‪ ،‬والتصوف‪ ،‬إنما خرجت في الصل من البصرة‪ ،‬فمتكلمة المعتزلة أئمتهم بصريون‪ ،‬مثل أبي‬
‫الهذيل العلف‪ ،‬وأبي علي الجبائي‪ ،‬وابنه أبي هاشم‪ ،‬وأبي عبد الّ‪ ، ...‬وأبي الحسين ‪ /‬البصري‪ ،‬وكذلك متكلمة‬
‫الكلبية والشعرية‪ ،‬كعبد الّ بن سعيد بن كلب‪ ،‬وأبي الحسن الشعري وصاحبه أبي الحسن الباهلي‪ ،‬والقاضي أبي‬
‫بكر بن الباقلني وغيرهم‪.‬‬

‫وكذلك كتب المتصوفة ومن خلط التصوف بالحديث والكلم‪ ،‬ككتب الحارث بن أسد المحاسبي‪ ،‬وأبي الحسن بن‬
‫سالم‪ ،‬وأبي سعيد العرابي وأبي طالب المكي‪.‬‬

‫وقد شرك هؤلء من البغداديين‪ ،‬والخراسانيين‪ ،‬والشاميين خلق‪.‬‬

‫لكن الغرض أن الصول من ثم ‪.‬‬

‫كما أن علم النبوة‪ ،‬من اليمان والقرآن‪ ،‬وما يتبع ذلك من الفقه والحديث وأعمال القلوب‪ ،‬إنما خرجت من المصار‬
‫التي يسكنها جمهور أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهي الحرمان والعراقان والشام‪ :‬المدينة ومكة والكوفة‬
‫والبصرة والشام‪ ،‬وسائر المصار تبع‪.‬‬

‫فالقراء السبعة من هذه المصار‪ ،‬وكذلك أئمة أهل الحديث وأثبتهم أهل المدينة‪ ،‬وأهل البصرة‪ ،‬كالزهري ومالك‪،‬‬
‫وكقتادة وشعبة‪ ،‬ويحيى بن سعيد‪ ،‬وعبد الرحمن بن مهدي‪.‬‬

‫‪/‬وأهل الكوفة فيهم الصادق‪ ،‬والكاذب‪.‬‬

‫وأهل الشام لم يكن فيهم كثير كاذب‪ ،‬ول أئمة كبار في القراءة والحديث‪ .‬وكذلك أئمة الفقهاء‪ ،‬فمالك عالم أهل المدينة‪،‬‬
‫والثوري وأبو حنيفة وغيرهما من أهل الكوفة‪ .‬وابن جريج وغيره من أهل مكة‪ ،‬وحماد بن سلمة‪ ،‬وحماد بن زيد من‬
‫أهل البصرة‪ ،‬والوزاعي وطبقته بالشام‪ ،‬وقد قيل إن مالكًا إنما احتذى موطأه على كتاب حماد بن سلمة‪ ،‬وقيل‪ :‬إن‬
‫كتاب ابن جريج قبل ذلك‪.‬‬

‫ثم الشافعي‪ ،‬وإن كان أصله مكيًا‪ ،‬فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بمصره‪.‬‬

‫وكذلك المام أحمد‪ ،‬وإن كان أجداده بصريين‪ ،‬فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بالبصريين‪ ،‬ول غيرهم‪.‬‬
‫كما أن عبد الّ بن المبارك‪ ،‬وإسحاق بن إبراهيم‪ ،‬ومحمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬وغيرهم من الخراسانيين‪ ،‬وكذلك‬
‫أئمة الزهاد والعباد من هذه المصار‪ ،‬كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في [صفوة الصفوة]‪.‬‬

‫فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأما ما جاء عمن بعدهم‪ ،‬فل‬
‫ينبغي أن يجعل ‪ /‬أصلً‪ ،‬وإن كان صاحبه معذورًا‪ ،‬بل مأجورًا‪ ،‬لجتهاد أو تقليد‪.‬‬

‫فمن بنى الكلم في العلم‪ :‬الصول‪ ،‬والفروع على الكتاب والسنة‪ ،‬والثار المأثورة عن السابقين‪ ،‬فقد أصاب طريق‬
‫النبوة‪ ،‬وكذلك من بنى الرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول العمال وفروعها من الحوال القلبية‪،‬‬
‫والعمال البدنية على اليمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأصحابه فقد أصاب‬
‫طريق النبوة‪ ،‬وهذه طريق أئمة الهدى‪.‬‬

‫تجد المام أحمد إذا ذكر أصول السنة‪ ،‬قال‪ :‬هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫وكَتَبَ كُ ُتبَ التفسير المأثور عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين‪ .‬وكتب الحديث والثار المأثورة عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين‪ ،‬وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه‪ ،‬حتى قال في رسالته‬
‫إلى خليفة وقته المتوكل‪ :‬ل أحب الكلم في شيء من ذلك إل ما كان في كتاب الّ‪ ،‬أو في حديث عن رسول الّ صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬أو الصحابة أو التابعين‪ ،‬فأما غير ذلك فالكلم فيه غير محمود‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك في الزهد والرقاق والحوال‪ ،‬فإنه اعتمد في كتاب [الزهد] على المأثور عن النبياء‪ ،‬صلوات الّ عليهم من‬
‫آدم إلى محمد‪ ،‬ثم على طريق الصحابة والتابعين‪ ،‬ولم يذكر من بعدهم‪ ،‬وكذلك وصفه لخذ العلم أن يكتب ما جاء عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم عن الصحابة‪ ،‬ثم عن التابعين‪ .‬ـ وفي رواية أخرى ـ ثم أنت في التابعين مخير‪.‬‬

‫وله كلم في الكلم الكلمي‪ .‬والرأي الفقهي وفي الكتب الصوفية‪ ،‬والسماع الصوفي ليس هذا موضعه‪ .‬يحتاج‬
‫تحريره إلى تفصيل‪ ،‬وتبيين كيفية استعماله في حال دون حال‪.‬‬

‫فإنه ينبني على الصل‪ ،‬الذي قدمناه من أنه قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة‪ ،‬أو غير مغفورة‪ ،‬وقد يتعذر أو‬
‫يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة‪ ،‬إل بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علمًا‬
‫وعملً‪ .‬فإذا لم يحصل النور الصافي‪ ،‬بأن لم يوجد إل النور الذي ليس بصاف‪ .‬وإل بقى النسان في الظلمة‪ ،‬فل‬
‫ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة‪ .‬إل إذا حصل نور ل ظلمة فيه‪ ،‬وإل فكم ممن عدل عن ذلك يخرج‬
‫عن النور بالكلية‪ ،‬إذا خرج غيره عن ذلك؛ لما رآه في طرق الناس من الظلمة‪.‬‬

‫‪/‬وإنما قررت هذه القاعدة؛ ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه‪ ،‬ويعرف أن العدول عن كمال خلفة النبوة‬
‫المأمور به شرعًا‪ ،‬تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علمًا وعملً‪ ،‬وتارة بعدوان بفعل السيئات علمًا وعملً‪ ،‬وكل‬
‫من المرين قد يكون عن غلبة‪ ،‬وقد يكون مع قدرة ‪.‬‬

‫فالول‪ ،‬قد يكون؛ لعجز وقصور‪ ،‬وقد يكون مع قدرة وإمكان‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬قد يكون مع حاجة وضرورة‪ ،‬وقد يكون مع غنى وسعة‪ ،‬وكل واحد من العاجز عن كمال الحسنات‪،‬‬
‫ط ْعتُمْ} [التغابن‪ ،]16 :‬وقال‪{ :‬لَ ُيكَلّفُ ا ُ‬
‫لّ نَفْسًا‬ ‫ستَ َ‬ ‫والمضطر إلى بعض السيئات معذور‪ ،‬فإن الّ يقول‪{ :‬فَاتّقُوا ا َ‬
‫لّ مَا ا ْ‬
‫س َعهَا أُوَْل ِئكَ‬
‫ف َنفْسًا ِإلّ ُو ْ‬
‫ت لَ ُنكَلّ ُ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَا ِ‬ ‫س َعهَا} [البقرة‪ ]286 :‬ـ في البقرة والطلق ـ وقال‪{ :‬وَاّلذِي َ‬
‫ن آ َمنُوا وَ َ‬ ‫ِإلّ وُ ْ‬
‫صحَابُ الْ َجنّةِ هُ ْم فِيهَا خَاِلدُونَ} [العراف‪ ،]42 :‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما‬ ‫أَ ْ‬
‫استطعتم)‪ ،‬وقال سبحانه‪َ { :‬ومَا َجعَلَ عََل ْيكُ ْم فِي الدّي ِن مِنْ حَرَجٍ} [الحج‪ ،]78 :‬وقال‪{ :‬مَا يُرِيدُ الُّ ِل َي ْجعَلَ عََل ْيكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [‬
‫غيْ َر بَاغٍ َولَ عَا ٍد فَلَ ِإثْمَ‬
‫ضطُرّ َ‬ ‫سرَ} [البقرة‪ ،]185 :‬وقال‪َ { :‬فمَنْ ا ْ‬ ‫ل يُرِيدُ ِبكُمْ ا ْلعُ ْ‬ ‫المائدة‪ ،]6 :‬وقال‪{ :‬يُرِيدُ ا ُ‬
‫لّ بِكُمْ ا ْليُسْرَ َو َ‬
‫عََليْهِ} [البقرة‪ ،]173 :‬وقال‪{ :‬وََليْسَ عََل ْيكُمْ ُجنَا ٌح فِيمَا أَ ْخطَ ْأتُ ْم بِهِ} [الحزاب‪.]5 :‬‬

‫‪/‬وهذا أصل عظيم وهو‪ :‬أن تعرف الحسنة في نفسها علمًا وعملً‪ ،‬سواء كانت واجبة أو مستحبة‪ ،‬وتعرف السيئة في‬
‫ل وعملً‪ ،‬محظورة كانت‪ ،‬أو غير محظورة ـ إن سميت غير المحظورة سيئة ـ وإن الدين تحصيل‬ ‫نفسها علمًا وقو ً‬
‫الحسنات والمصالح‪ ،‬وتعطيل السيئات والمفاسد‪.‬‬

‫وإنه كثيرًا ما يجتمع في الفعل الواحد‪ ،‬أو في الشخص الواحد المران‪ ،‬فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه‬
‫أحدهما‪ ،‬فل يغفل عما فيه من النوع الخر‪ ،‬كما يتوجه المدح والمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما‪ ،‬فل يغفل عما‬
‫فيه من النوع الخر‪ ،‬وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية‪ ،‬لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به‬
‫غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية‪.‬‬

‫فهذا طريق الموازنة والمعادلة‪ ،‬ومن سلكه كان قائمًا بالقسط الذي أنزل الّ له الكتاب والميزان‪.‬‬

‫َفصْــل‬

‫ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلم والتصوف‪ ،‬وغير ذلك‪ :‬كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب ‪/‬‬
‫والسنة والثار؛ إذ العهد قريب‪ ،‬وأنوار الثار النبوية بعد فيها ظهور‪ ،‬ولها برهان عظيم‪ ،‬وإن كان عند بعض الناس‬
‫قد اختلط نورها بظلمة غيرها‪.‬‬

‫فأما المتأخرون‪ ،‬فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون‪ ،‬مثل من صنف في الكلم من المتأخرين‪ ،‬فلم يذكر إل‬
‫الصول المبتدعة وأعرض عن الكتاب والسنة‪ ،‬وجعلهما إما فرعين‪ ،‬أو آمن بهما مجملً‪ ،‬أو خرج به المر إلى نوع‬
‫من الزندقة‪ ،‬ومتقدمو المتكلمين خيرمن متأخريهم‪.‬‬

‫وكذلك من صنف في الرأي فلم يذكر إل رأي متبوعه وأصحابه‪ ،‬وأعرض عن الكتاب والسنة‪ ،‬ووزن ماجاء به‬
‫الكتاب والسنة علـى رأي متبوعـه‪ ،‬ككثير من أتبـاع أبي حنيفة‪ ،‬ومالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫وكذلك من صنف في التصوف والزهد‪ ،‬جعل الصل ما روى عن متأخري الزهاد وأعرض عن طريق الصحابة‬
‫والتابعين‪ ،‬كما فعل صاحب الرسالة أبوالقاسم القشيري‪ ،‬وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلباذي‪ ،‬وابن خميس الموصلي‬
‫في [مناقب البرار]‪ ،‬وأبو عبد الرحمن السلمي في [تاريخ الصوفية]‪ ،‬لكن أبوعبد الرحمن صنف أيضا [سير السلف]‬
‫من الولياء والصالحين‪ .‬وسير الصالحين من السلف‪ ،‬كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم‪ ،‬من ذكرهم‬
‫لخبار أهل ‪ /‬الزهد والحوال‪ ،‬من بعد القرون الثلثة‪ ،‬من عند إبراهيم بن أدهم‪ ،‬والفضيل بن عياض‪ ،‬وأبي سليمان‬
‫الداراني‪ ،‬ومعروف الكرخي‪ ،‬ومن بعدهم‪ ،‬وإعراضهم عن حال الصحابة‪ ،‬والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة‬
‫بمدحهم‪ ،‬والثناء عليهم‪ ،‬والرضوان عنهم‪.‬‬

‫وكان أحسن من هذا أن يفعلوا‪ ،‬كما فعله أبو نعيم الصبهاني في [الحلية] من ذكره للمتقدمين والمتأخرين‪ .‬وكذلك أبو‬
‫الفرج بن الجوزي في [صفوة الصفوة] وكذلك أبو القاسم التيمي في [سير السلف]‪ ،...‬وكذلك ابن أسد بن موسى‪ ،‬إن‬
‫لم يصعدوا إلى طريقة عبد الّ بن المبارك‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬وهناد بن السرى وغيرهم في كتبهم في الزهد‪ ،‬فهذا هذا‪.‬‬
‫والّ أعلم وأحكم‪.‬‬

‫فإن معرفة أصول الشياء ومبادئها‪ .‬ومعرفة الدين وأصله‪ ،‬وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعًا‪ .‬إذ المرء ما لم‬
‫يحط علمًا بحقائق الشياء التي يحتاج إليها‪ ،‬يبقى في قلبه حسكة‪.‬‬

‫وكان للزهاد‪ ،‬عدة أسماء‪ :‬يسمون بالشام الجوعية‪ ،‬ويسمون بالبصرة الفقرية‪ ،‬والفكرية‪ ،‬ويسمون بخراسان المغاربة‪،‬‬
‫ويسمون أيضًا الصوفية والفقراء‪.‬‬
‫والنسبة في الصوفية‪ ،‬إلى الصوف؛ لنه غالب لباس الزهاد‪ ،‬وقد قيل هو نسبة إلى صوفة بن مراد بن أد بن‬ ‫‪/‬‬
‫طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت‪ .‬وأما من قال‪ :‬هم نسبة إلى الصفة‪ ،‬فقد قيل‪ :‬كان حقه أن يقال‪:‬‬
‫صفية‪ ،‬وكذلك من قال‪ :‬نسبة إلى الصفا‪ ،‬قيل له‪ :‬كان حقه أن يقال‪ :‬صفائية‪ ،‬ولو كان مقصورًا لقيل صفوية‪ ،‬وإن‬
‫نسب إلى الصفوة قيل‪ :‬صفوية‪ .‬ومن قال‪ :‬نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الّ‪ .‬قيل له‪ :‬كان حقه أن يقال‪ :‬صفية‪ ،‬ول‬
‫ريب أن هذا يوجب النسبة والضافة‪ ،‬إذا أعطى السم حقه من جهة العربية‪.‬‬

‫لكن التحقيق‪ ،‬أن هذه النسب إنما أطلقت على طريق الشتقاق الكبر والوسط‪ ،‬دون الشتقاق الصغر‪ ،‬كما قال أبو‬
‫جعفر‪ :‬العامة اسم مشتق من العمى‪،‬فراعوا الشتراك في الحروف دون الترتيب‪ ،‬وهو الشتقاق الوسط‪ ،‬أو‬
‫الشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الكبر‪.‬‬

‫وعلى الوسط قول نحاة الكوفيين السم‪ ،‬مشتق من السمة‪.‬‬

‫وكذلك إذا قيل الصوفي من الصفا‪ ،‬وأما إذا قيل هو من الصفة أو الصف‪ ،‬فهو على الكبر‪.‬‬

‫وقد تكلم بهذا السم قوم من الئمة‪ ،‬كأحمد بن حنبل‪ ،‬وغيره‪ / ،‬وقد تكلم به أبو سليمان الداراني وغيره‪ ،‬وأما الشافعي‬
‫فالمنقول عنه ذم الصوفية‪ ،‬وكذلك مالك ـ فيما أظن ـ وقد خاطب به أحمد لبي حمزة الخراساني‪ ،‬وليوسف بن‬
‫الحسين الرازي‪ ،‬ولبدر ابن أبي بدر المغازلي‪ ،‬وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم‪ ،‬ومن العباد أيضًا من أصحاب‬
‫أحمد‪ ،‬ومالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬وأهل الحديث‪ ،‬والعباد‪ ،‬ومدحه آخرون‪.‬‬

‫والتحقيق فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم‪ ،‬كغيره من الطريق‪ ،‬وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا‪ ،‬وقد ل‬
‫يكون‪ ،‬وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة‪ ،‬والقاعدة التي‬
‫ل وصفوته‪ ،‬وخيار عباده ما ل يحصى عده‪ .‬كما في أهل‬ ‫قدمتها تجمع ذلك كله‪ ،‬وفي المتسمين بذلك من أولياء ا ّ‬
‫الرأي من أهل العلم واليمان من ل يحصى عدده إل الّّ‪ .‬والّ ـ سبحانه ـ أعلم‪.‬‬

‫وبهذا يتبين لك أن البدعة في الدين‪ ،‬وإن كانت في الصل مذمومة‪ ،‬كما دل عليه الكتاب والسنة‪ ،‬سواء في ذلك البدع‬
‫القولية والفعلية‪ .‬وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬كل بدعة‬
‫ضللة) متعين‪ ،‬وإنه يجب العمل بعمومه‪ ،‬وإن من أخذ يصنف [البدع] إلى حسن وقبيح‪ ،‬ويجعل ذلك ‪ /‬ذريعة إلى أل‬
‫يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ‪ ،‬كما يفعل طائفة من المتفقهة‪ ،‬والمتكلمة والمتصوفة‪ ،‬والمتعبدة‪ ،‬إذا نهوا عن‬
‫العبادات المبتدعة والكلم في التدين المبتدع ادعوا أل بدعة مكروهة إل ما نهى عنه‪ ،‬فيعود الحديث إلى أن يقال‪ :‬كل‬
‫ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضللة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان‪ ،‬بل كل ما لم‬
‫يشرع من الدين فهو ضللة‪.‬‬

‫وما سمي بدعة‪ ،‬وثبت حسنه بأدلة الشرع‪ ،‬فأحد المرين‪ ،‬فيه لزم‪:‬‬

‫إما أن يقال‪ :‬ليس ببدعة في الدين‪ ،‬وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة‪ .‬كما قال عمر‪ :‬نعمت البدعة هذه‪.‬‬

‫وإما أن يقال‪ :‬هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح‪ ،‬كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر‬
‫عمومات الكتاب والسنة وهذا قد قررته في اقتضاء الصراط المستقيم‪ ،‬وفي قاعدة السنة والبدعة‪ ،‬وغيره‪.‬‬

‫وإنما المقصود هنا‪ ،‬أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة‪ ،‬أو المخالف للكتاب‬
‫والسنة إذا صدر عن شخص من الشخاص‪ ،‬فقد يكون على وجه يعذر فيه‪ ،‬إما ‪ /‬لجتهاد أو تقليد يعذر فيه‪ ،‬وإما لعدم‬
‫قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع‪ ،‬وقررته أيضًا في أصل التكفير والتفسيق المبني على أصل الوعيد‪.‬‬

‫فإن نصوص الوعيد‪ ،‬التي في الكتاب والسنة‪ ،‬ونصوص الئمة بالتكفير‪ ،‬والتفسيق ونحو ذلك ل يستلزم ثبوت‬
‫موجبها في حق المعين‪ ،‬إل إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع‪ ،‬ل فرق في ذلك بين الصول‪ ،‬والفروع‪ .‬هذا في‬
‫عذاب الخرة‪ ،‬فإن المستحق للوعيد من عذاب الّ ولعنته وغضبه في الدار الخرة‪ ،‬خالد في النار‪ ،‬أو غير خالد‪،‬‬
‫وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق‪ ،‬يدخل في هذه القاعدة‪ ،‬سواء كان بسبب بدعة اعتقادية‪ ،‬أو عبادية‪ ،‬أو بسبب‬
‫فجور في الدنيا‪ ،‬وهو الفسق بالعمال‪.‬‬

‫فأما أحكام الدنيا‪ ،‬فكذلك أيضًا‪ ،‬فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقًا بدعوتهم‪ ،‬إذ ل عذاب إل على من بلغته‬
‫الرسالة‪ ،‬وكذلك عقوبة الفساق ل تثبت إل بعد قيام الحجة‪.‬‬

‫‪/‬وَهُنـا قَاعِـدةٌ شريفَـة ينبغي التفطن لها وهى‪:‬‬

‫أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه‪ ،‬فعقوبتنا له في الدنيا أكبر‪ ،‬وأما ما عاد من الذنوب بمضرة‬
‫النسان في نفسه‪ ،‬فقد تكون عقوبته في الخرة أشد‪ ،‬وإن كنا نحن ل نعاقبه في الدنيا‪.‬‬

‫وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس‪ ،‬فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا ل محالة لكف ظلم الناس‬
‫بعضهم عن بعض‪ ،‬ثم هو نوعان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬منع ما يجب لهم من الحقوق‪ ،‬وهو التفريط‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬فعل ما يضر به وهو العدوان‪ .‬فالتفريط في حقوق العباد‪...‬‬

‫‪/‬ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع‪ ،‬بما ل يعاقب به الساكت‪ ،‬ويعاقب من أظهر المنكر بما ل يعاقب به من استخفى به‪،‬‬
‫ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين‪ ،‬وإن كان في الدرك السفل من النار‪.‬‬

‫وهذا لن الصل‪ ،‬أن تكون العقوبة من فعل الّ ـ تعالى ـ فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الخرة‪ ،‬وقد‬
‫يجزيهم أيضًا في الدنيا‪ .‬وأما نحن‪ ،‬فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات‪ ،‬وترك المحرمات بحسب إمكاننا‪،‬‬
‫كما قال صلى ال عليه وسلم‪( :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل الّ‪ ،‬وأن محمدًا رسول الّ‪ ،‬فإذا فعلوا‬
‫ن الدّينُ‬
‫ن ِف ْتنَةٌ َو َيكُو َ‬ ‫ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها وحسابهم على الّ) وقال تعالى‪َ { :‬وقَاتِلُوهُمْ َ‬
‫حتّى لَ َتكُو َ‬
‫كُلّهُ لِِّ} [النفال‪ ،]39 :‬وقال‪{ :‬وَا ْل ِفتْنَةُ َأ ْكبَ ُر مِنْ الْ َقتْلِ} [البقرة‪. ]217 :‬‬

‫ولهذا من تاب من الكفار‪ ،‬والمحاربين‪ ،‬وسائر الفساق قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبة التي لحق الّ‪ ،‬فإذا أسلم‬
‫الحربي قبل القدرة عليه عصم دمه‪ ،‬وأهله‪ ،‬وماله‪ ،‬وكذلك قاطع الطريق‪ ،‬والزاني والسارق‪ ،‬والشارب إذا تابوا قبل‬
‫القدرة عليهم؛ لحصول المقصود بالتوبة وأما إذا تابوا بعد القدرة لم تسقط العقوبة كلها؛ لن ذلك يفضي إلى تعطيل‬
‫الحدود وحصول الفساد؛ ولن هذه التوبة غير موثوق بها؛ ولهذا إذا أسلم الحربي عند القتال صح إسلمه؛ لنه أسلم‬
‫قبل القدرة عليه‪ / ،‬بخلف من أسلم بعد السر‪ ،‬فإنه ل يمنع استرقاقه وإن عصم دمه‪.‬‬

‫ويبنى على هذه القاعدة‪ :‬أنه قد يقر من الكفار والمنافقين‪ ،‬بل عقوبة من يكون عذابه في الخرة أشد‪ ،‬إذا لم يتعد‬
‫ضرره إلى غيره‪ ،‬كالذين يؤتون الجزية عن يد وهم صاغرون‪ ،‬والذين أظهروا السلم والتزموا شرائعه ظاهرًا مع‬
‫نفاقهم؛ لن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين‪ ،‬ويعاقبون في الخرة على ما اكتسبوا من‬
‫الكفر والنفاق‪ ،‬وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلمًا فاسقًا‪ ،‬أو عاصيًا‪ ،‬أو عدلً‬
‫مجتهدًا مخطئًا‪ ،‬بل صالحًا أو عالمًا سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع‪.‬‬

‫مثال المقدور عليه إنما يعاقب من أظهر الزنا‪ ،‬والسرقة‪ ،‬وشرب الخمر‪ ،‬وشهادة الزور‪ ،‬وقطع الطريق‪ ،‬وغير ذلك‬
‫لما فيه من العدوان على النفوس والموال والبضاع‪ ،‬وإن كان مع هذا حال الفاسق في الخرة خيرًا من حال أهل‬
‫العهد الكفار‪ ،‬ومن حال المنافقين‪ ،‬إذ الفاسق خير من الكافر والمنافق بالكتاب والسنة والجماع‪.‬‬

‫وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم‪ ،‬وإن كان قد يكون معذورًا فيها في نفس المر لجتهاد أو‬
‫تقليد‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك يجوز قتال البغاة‪ :‬وهم الخارجون على المام‪ ،‬أو غير المام بتأويل سائغ مع كونهم عدولً‪ ،‬ومع كوننا ننفذ‬
‫أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه من جزية أو خراج أو غيرذلك‪ .‬إذ الصحابة ل خلف في بقائهم على العدالة‪ ،‬وذلك‬
‫أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ‪ .‬وأما القتال‪ :‬فليؤدوا ما تركوه من الواجب‪ ،‬و ينتهوا عما ارتكبوه من المحرم‪ ،‬وإن‬
‫كانوا متأولين‪.‬‬

‫وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه‪ ،‬وإن كانوا قومًا صالحين‪ ،‬فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على‬
‫ترك واجب‪ ،‬أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا‪ ،‬وإن كانوا معذورين فيه؛ لدفع ضرر فعلهم في الدنيا‪ ،‬كما يقام الحد‬
‫على من تاب بعد رفعه إلى المام وإن كان قد تاب توبة نصوحًا‪ ،‬وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس‪ ،‬فبينما هم‬
‫ببيداء من الرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر‬
‫لما كان فيهم العباس وغيره‪ ،‬وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إل بقتالهم‪ ،‬فالعقوبات المشروعة‬
‫والمقدورة قد تتناول في الدنيا من ل يستحقها في الخرة‪ ،‬وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم‪:‬‬
‫القاتل مجاهد والمقتول شهيد‪.‬‬

‫وعلى هذا‪ ،‬فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع ‪ /‬يهجر‪ ،‬فل يستشهد ول يروي عنه‪ ،‬ول يستفتى ول‬
‫يصلي خلفه‪ ،‬قد يكون من هذا الباب‪ ،‬فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة‬
‫أو غيرها‪ ،‬وإن كان في نفس المر تائبًا أو معذورًا‪ ،‬إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين‪ :‬إما ترك الذنوب المهجورة‬
‫وأصحابها‪ ،‬وإما عقوبة فاعلها ونكاله‪ ،‬فأما هجره بترك ‪...‬في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬هجر المام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد‪ ،‬ولمن تاب بعد الجابة‪ ،‬ولمن فعل بدعة ما‪،‬مع أن‬
‫فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة‪ ،‬فإن هجره لهم والمسلمين معه ل يمنع معرفة قدر فضلهم‪،‬كما أن‬
‫الثلثة الذين خلفوا لما أمر النبي صلى ال عليه وسلم المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق‪.‬حتى قد‬
‫قيل أن اثنين منهما شهدا بدرًا‪،‬وقد قال الّ لهل بدر‪( :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وأحدهم كعب بن مالك شاعر‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم وأحد أهل العقبة‪ ،‬فهذا أصل عظيم أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل ل‬
‫يمنع أن يكون المعاقب عدلً‪ ،‬أو رجلً صالحًا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة‪ ،‬وبين‬
‫عقوبة الخرة‪،‬والّ سبحانه أعلم‪.‬‬

‫َفصْــل‬ ‫‪/‬‬

‫ومما يناسب هذا الباب قولهم‪ :‬فلن يسلم إليه حاله‪ ،‬أو ل يسلم إليه حاله‪ ،‬فإن هذا كثيرًا ما يقع فيه النزاع فيما قد‬
‫يصدر عن بعض المشائخ‪ ،‬والفقراء‪ ،‬والصوفية‪ ،‬من أمور يقال‪ :‬إنها تخالف الشريعة‪ ،‬فمن يرى أنها منكرة وإن‬
‫إنكار المنكر من الدين‪ ،‬ينكر تلك المور‪ ،‬وينكر على ذلك الرجل وعلى من أحسن به الظن ويبغضه ويذمه ويعاقبه‪،‬‬
‫ومن رأي ما في ذلك الرجل من صلح وعبادة‪ ،‬كزهد وأحوال‪ ،‬وورع‪ ،‬وعلم ل ينكرها بل يراها سائغة أو حسنة أو‬
‫يعرض عن ذلك‪.‬‬

‫وقد يغلو كل واحد من هذين‪ ،‬حتى يخرج بالول‪ ،‬إنكاره إلى التكفير والتفسيق في مواطن الجتهاد‪ ،‬متبعًا لظاهر من‬
‫أدلة الشريعة‪ ،‬ويخرج بالثاني إقراره إلى القرار بما يخالف دين السلم مما يعلم بالضطرار أن الرسول جاء‬
‫بخلفه‪ ،‬اتباعًا في زعمه لما يشبه قصة موسى والخضر‪ ،‬والول يكثر في الموسوية ومن انحرف منهم إلي يهودية‬
‫والثاني يكثر في العيسوية ومن انحرف منهم إلى نصرانية‪.‬‬

‫‪/‬والول‪ :‬كثيرًا ما يقع في ذوي العلم‪ ،‬لكن مقرونًا بقسوة وهوى‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬كثيرًا ما يقع في ذوي الرحمة‪ ،‬لكن مقرونًا بضلل وجهل‪.‬‬

‫ت كُلّ َشيْءٍ رَ ْحمَةً وَعِ ْلمًا} [غافر‪،]7 :‬‬ ‫سعْ َ‬‫فأما المة الوسط‪ :‬فلهم العلم والرحمة‪ ،‬كما أخبر عن نفسه بقوله‪َ { :‬رّبنَا َو ِ‬
‫شيْءٍ} [العراف‪ ،]156 :‬وقال‪ِ{ :‬إّنمَا إَِل ُهكُمْ الُّ اّلذِي لَ ِإلَهَ ِإلّ ُهوَ وَسِ َع كُلّ َ‬
‫شيْءٍ عِ ْلمًا}‬ ‫ت كُلّ َ‬
‫سعَ ْ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬وَ َر ْ‬
‫حمَتِي وَ ِ‬
‫[طه‪ ،]98 :‬وكذلك وصف العبد الذي لقيه موسى حيث قال‪{ :‬آ َت ْينَاهُ َر ْحمَةً مِنْ ِع ْندِنَا وَعَّل ْمنَا ُه مِنْ َلدُنّا عِ ْلمًا} [الكهف‪:‬‬
‫‪.]65‬‬

‫ل وفعلً‪ ،‬أن تسليم الحال له معنيان‪:‬‬


‫والعدل في هذا الباب قو ً‬
‫أحدهما‪ :‬رفع اللوم عنه بحيث ل يكون مذمومًا ول مأثومًا ‪...‬‬

‫والثاني‪ :‬تصويبه علي ما فعل بحيث يكون محمودًا مأجورًا‪ .‬فالول عدم الذم والعقاب‪ .‬والثاني‪ :‬وجود الحمد والثواب‪.‬‬
‫الول‪ :‬عدم سخط ال وعقابه‪ ،‬والثاني‪ :‬وجود رضاه وثوابه؛ ولهذا ‪ /‬تجد المنكرين غالبًا في إثبات السخط والذم‬
‫والعقاب‪ ،‬والمقرين في إثبات الرضا والحمد والثواب‪ ،‬وكلهما قد يكون مخطئًا ويكون الصواب في أمر ثالث وسط‪،‬‬
‫وهو أنه ل حمد ول ذم ول ثواب ول عقاب‪.‬‬

‫وبيان ذلك‪ :‬أن ذلك المر الصادر عنه سواء كان قولً أو فعلً‪ ،‬إذا علم أنه مخالف للكتاب والسنة‪ ،‬بحيث يكون قولً‬
‫باطلً‪ ،‬أو عملً محرمًا فإنه يعذر في موضعين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬عدم تمكنه من العلم به‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬عدم قدرته على الحق المشروع‪.‬‬

‫مثال الول‪ :‬أن يكون صاحب الحال مولها مجنونًا‪ ،‬قد سقط عنه القلم‪ ،‬فهذا إذا قيل فيه‪ :‬يسلم له حاله‪ ،‬بمعنى أنه ل‬
‫يذم ول يعاقب‪ ،‬ل بمعنى تصويبه فيه‪ ،‬كما يقال في سائر المجانين فهو صحيح‪.‬‬

‫وإن عنى به أن ذلك القول صواب فهذا خطأ‪.‬‬

‫وكذلك إذا كان ذلك الحال صادرًا عنه باجتهاد‪ ،‬كمسائل الجتهاد المتنازع فيها بين أهل العلم والدين‪ .‬فإن هذا إذا قيل‪:‬‬
‫يسلم إليه حاله‪ ،‬كما يقال‪ :‬يقر على اجتهاده‪ ،‬بمعنى أنه ل يذم ول يعاقب فهو صحيح‪.‬‬

‫‪/‬وأما إذا قيل ذلك بمعنى أنه صواب‪ ،‬أو صحيح‪ ،‬فلبد من دليل على تصويبه‪ ،‬وإل فمجرد القول‪ ،‬أو الفعل الصادر‬
‫من غير الرسول‪ ،‬ليس حجة على تصويب القائل أو الفاعل‪ ،‬فإذا علم أن ذلك الجتهاد خطأ كان تسليم حاله بمعني‬
‫رفع الذم عنه‪ ،‬ل بمعنى إصابته وكذلك إذا أريد بتسليم حاله وإقراره‪ ،‬أنه يقر على حكمه‪ ،‬فل ينقض‪ ،‬أو على فتياه‪،‬‬
‫فل تنكر أو على جواز اتباعه لمن هو من أهل تقليده واتباعه‪ ،‬بأن للقاصرين أن يقلدوا ويتبعوا من يسوغ تقليده‪،‬‬
‫واتباعه من العلماء والمشايخ‪ ،‬فيما لم يظهر لهم أنه خطأ‪ ،‬لكن بعض هذا يدخل في القسم الثاني‪ ،‬الذي لم يعلم مخالفته‬
‫للشريعة‪.‬‬

‫وتسليم الحال في مثل هذا إذا عرف أنه معذور‪ ،‬أو عرف أنه صادق في طريقه‪ ،‬وإن هذا المر قد يكون اجتهادًا منه‪،‬‬
‫فهذه ثلثة مواضع يسلم إليه فيها حاله؛ لعدم تمكنه من العلم‪ ،‬وخفاء الحق عليه فيها على وجه يعذر به‪.‬‬

‫ومثال الثاني‪ :‬عدم قدرته ـ أن يرد عليه من الحوال ما يضطره إلى أن يخرق ثيابه‪ ،‬أو يلطم وجهه‪ ،‬أو يصيح صياحًا‬
‫منكرًا‪ ،‬أو يضطرب اضطرابًا شديدًا‪ .‬فهذا إذا عرف أن سبب ذلك لم يكن محرمًا‪ ،‬وأنه مغلوب عليه سلم إليه حاله‪،‬‬
‫وإن شك هل هو مغلوب‪ ،‬أو متصنع‪ ،‬فإن عرف منه الصدق‪ ،‬قيل‪ :‬هذا يسلم إليه حاله‪ / ،‬وإن عرف كذبه أنكر عليه‪،‬‬
‫وإن شك فيه توقف في التسليم والنكار‪ ،‬حتى يتبين أمره‪ ،‬كما يفعل بمن شهد شهادة‪ ،‬أو اتهم بسرقة‪ .‬فإن ظهر صدقه‬
‫وعدله قبلت الشهادة ودفعت إليهم‪ ،‬وإن ظهر كذبه وخيانته ردت الشهادة‪ ،‬وعوقب على السرقة‪ ،‬وإن اشتبه المر‬
‫توقف فيه؛ فإن المؤمن وقاف متبين‪ ،‬هكذا قال الحسن البصري‪.‬‬

‫وكذلك إذا ترك الواجبات مظهرًا أنه مغلوب ل يقدر على فعلها‪ ،‬مثل أن يترك الصلة مظهرًا أنه بمنزلة المغمى‬
‫عليه‪ ،‬والنائم الذي ل يتمكن من فعلها‪ .‬كما قد يعترى بعض المصعوقين من وارد خوف ال‪ ،‬أو محبته‪ ،‬أو نحو ذلك‬
‫بحيث يسقط تمييزه‪ ،‬فل يمكنه الصلة‪ ،‬فهو فيما يتركه من الواجبات نظير ما يرتكبه من المحرمات‪ ،‬فتسليم الحال‬
‫بمعني عدم اللوم قد يراد به الحكم بأنه معذور‪ ،‬وقد يراد به ترك الحكم بأنه ملوم‪.‬‬

‫هذا فيما يعلم من القوال والفعال أنه مخالف للشرع بل ريب‪ ،‬كالشطحات المأثورة عن بعض المشائخ‪ ،‬كقول ابن‬
‫هود‪ :‬إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم‪ ،‬وكون الشبلي كان يحلق لحيته ويمزق ثيابه حتي أدخلوه‬
‫المارستان مرتين‪ ،‬وما يحكى عن بعضهم أنه قال‪ :‬إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث به‪ ،‬وكترك آخر‬
‫صلة الجمعة خلف إمام صالح‪ ،‬لكونه دعًا لسلطان وقته وسماه العادل‪،‬وترك آخر الصلة خلف إمام؛ لما كوشف به‬
‫من حديث نفسه‪ ،‬وما يحكي عن عقلء ‪ /‬المجانين الذين قيل فيهم‪ :‬إن ال أعطاهم عقولً وأحوال فسلب عقولهم وترك‬
‫أحوالهم‪ ،‬وأسقط ما فرض بما سلب‪.‬‬

‫فجماع هذا‪ :‬أن هذه المور تعطى حقها من الكتاب والسنة‪ .‬فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر‪ ،‬والمر والنهي وجب‬
‫اتباعه‪ ،‬ولم يلتفت إلى من خالفه كائنًا من كان‪ ،‬ولم يجز اتباع أحد في خلف ذلك كائنًا من كان‪ ،‬كما دل عليه الكتاب‬
‫والسنة وإجماع المة من اتباع الرسول وطاعته‪ ،‬وإن الرجل الذي صدر عنه ذلك يعطي عذره حيث عذرته الشريعة‬
‫بأن يكون مسلوب العقل‪ ،‬أو ساقط التمييز أو مجتهدًا مخطئًا اجتهادًا قوليًا أو عمليًا‪ ،‬أو مغلوبًا على ذلك الفعل أو‬
‫الترك بحيث ل يمكنه رد ما صدر عنه من الفعل المنكر بل ذنب فعله‪ ،‬ول يمكنه أداء ذلك الواجب بل ذنب فعله‪،‬‬
‫ويكون هذا الباب نوعه محفوظًا بحيث ل يتبع ما خالف الكتاب والسنة ول يجعل ذلك شرعة ول منهاجًا‪ ،‬بل ل سبيل‬
‫إلى ال ول شرعة إل ما جاء به محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وأما الشخاص الذين خالفوا بعض ذلك على الوجوه المتقدمة فيعذرون‪ ،‬ول يذمون‪ ،‬ول يعاقبون‪ .‬فإن كل أحد من‬
‫الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وما من الئمة إل من له أقوال‪ ،‬وأفعال ل‬
‫يتبع عليها‪ ،‬مع أنه ل يذم عليها‪ ،‬وأما القوال والفعال التي لم يعلم قطعًا مخالفتها للكتاب والسنة‪ ،‬بل ‪ /‬هي من موارد‬
‫الجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم واليمان؛ فهذه المور قد تكون قطعية عند بعض من بين ال له الحق فيها؛ لكنه ل‬
‫يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم‪ ،‬فيلتحق من وجه بالقسم الول‪ .‬ومن وجه بالقسم الثاني‪.‬‬

‫وقد تكون اجتهادية عنده أيضًا‪ ،‬فهذه تسلم لكل مجتهد‪ ،‬ومن قلده طريقهم تسليمًا نوعيا‪ ،‬بحيث ل ينكر ذلك عليهم‪ ،‬كما‬
‫سلم في القسم الول تسليمًا شخصيًا‪.‬‬

‫وأما الذي ل يسلم إليه حاله‪ :‬فمثل أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم‪ ،‬ككثير من المنتسبة إلى الشيخ أحمد‬
‫بن الرفاعي‪ ،‬واليونسية فيما يأتونه من المحرمات‪ ،‬ويتركونه من الواجبات‪ ،‬أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في‬
‫وجده ليظن به خيرًا‪ ،‬ويرفع عنه الملم فيما يقع من المور المنكرة‪ ،‬أو يعرف منه أن الحق قد تبين له‪ ،‬وأنه متبع‬
‫لهواه‪ ،‬أو يعرف منه تجويز النحراف عن موجب الشريعة المحمدية‪ ،‬وأنه قد يتفوه بما يخالفها‪ ،‬وأن من الرجال من‬
‫قد يستغنى عن الرسول أو له أن يخالفه‪ ،‬أو أن يجري مع القدر المحض المخالف للدين‪ ،‬كما يحكى بعض الكذابين‬
‫الضالين‪ :‬أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى ال عليه وسلم مع الكفار لما انهزم أصحابه وقالوا‪ :‬نحن مع ال‪ ،‬من غلب‬
‫كنا معه‪ ،‬وأنه صبيحة السراء سمع منه ما جرى بينه وبين ربه من المناجاة ‪ /‬وأنه تواجد في السماء‪ ،‬حتى وقع‬
‫الرداء عنه‪ ،‬وأن السر الذي أوصى إليه أودعه في أرض نبت فيها اليراع فصار في الشبابة بمعنى ذلك السر‪ ،‬أو‬
‫يسوغ لحد بعد محمد الخروج عن شريعته‪ ،‬كما ساغ للخضر الخروج عن أمر موسى‪ ،‬فإنه لم يكن مبعوثًا إليه كما‬
‫بعـث محمـد إلى الناس كافة‪ .‬فهؤلء ونحوهم ممن يخالف الشريعة‪ ،‬ويبين له الحق فيعرض عنه‪ ،‬يجب النكار عليهم‬
‫بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب‪.‬‬

‫وكذلك ـ أيضًا ـ ينكر علي من اتبع الولين المعذورين في أقوالهم‪ ،‬وأفعالهم المخالفة للشرع‪ ،‬فإن العذر الذي قام بهم‬
‫منتف في حقه فل وجه لمتابعته فيه‪.‬‬

‫ومن اشتبه أمره من أي القسمين هو‪ :‬توقف فيه‪ ،‬فإن المام إن يخطئ في العفو‪ ،‬خير من أن يخطئ في العقوبة‪ ،‬لكن‬
‫ل يتوقف في رد ما خالف الكتاب والسنة‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬من عمل عملً ليس عليه أمرنا فهو‬
‫رد)‪ .‬فل يسوغ الخروج عن موجب العموم والطلق في الكتاب والسنة بالشبهات‪ ،‬ول يسوغ الذم والعقوبة‬
‫ل أو صوابًا‪ ،‬أو خطأ بالشبهات‪ ،‬وال يهدينا الصراط المستقيم‪ :‬صراط‬
‫بالشبهات‪ ،‬ول يسوغ جعل الشىء حقًا‪ ،‬أو باط ً‬
‫الذين أنعم عليهم‪ ،‬من النبيين والصديقين‪ ،‬والشهداء‪ ،‬والصالحين‪ ،‬غير المغضوب عليهم ول الضالين‪.‬‬

‫‪/‬وبقيت هنا المسألة التي تشتبه غالبًا‪ ،‬وهو أن يظهر من بعض الرجال المجهول الحال‪ ،‬أمر مخالف للشرع في‬
‫الظاهر‪ ،‬ويجوز أن يكون معذورًا فيه عذرًا شرعيًا‪ .‬مثل وجد خرج فيه عن الشرع‪ ،‬ل يدري أهو صادق فيه أم‬
‫متصنع‪ ،‬وأخذ مال بغير إذن صاحبه في الظاهر‪ ،‬مع تجويز أن يكون علم طيب قلب صاحبه به‪ ،‬فهذا إن قيل‪ :‬ينكر‬
‫عليه جاز أن يكون معذورًا‪ ،‬وإن قيل‪ :‬ل ينكر عليه لزم إقرار المجهولين على مخالفة الشرع في الظاهر‪ ،‬فالواجب‬
‫في مثل هذا أن يخاطب صاحبه أول برفق‪ ،‬ويقال له‪ :‬هذا في الظاهر منكر‪ ،‬وأما في الباطن‪ ،‬فأنت أمين ال على‬
‫نفسك‪ ،‬فأخبرنا بحالك فيه أول تظهره حيث يكون إظهاره فتنة‪ ،‬وتسلك في ذلك طريقة ل تفضي إلى إقرار المنكرات‪،‬‬
‫ول لوم البرآء‪.‬‬

‫والضابط أن من عرف من عادته الصدق‪ ،‬والمانة أقر على ما لم يعلم أنه كذب وحرام‪ ،‬ومن عرف منه الكذب أو‬
‫الخيانة‪ ،‬لم يقر على المجهول‪ ،‬وأما المجهول فيتوقف فيه‪.‬‬

‫‪/‬وقال الشيخ المام العالم العلمة شيخ السلم‪ ،‬بقية السلف الكرام‪ ،‬العالم الرباني‪ ،‬المقذوف في قلبه النور القرآني‪،‬‬
‫أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني ـ قدس ال روحه‪ ،‬ونور ضريحه‪ ،‬وأسكنه فسيح الجنان ‪:‬‬

‫الحمد ل‪ ،‬نحمده ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونستهديه‪ ،‬ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده ال فل‬
‫مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪.‬‬

‫ونشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬ونشهد أن محمدًا عبده و رسوله‪ ،‬أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على‬
‫الدين كله و كفى بال شهيدًا‪ ،‬فبلغ الرسالة‪ ،‬وأدى المانة‪ ،‬ونصح المة‪ ،‬وكشف الغمة‪ ،‬وجاهد في ال حق جهاده‪،‬‬
‫وعبد ال مخلصًا حتى أتاه اليقين من ربه‪ ،‬صلى ال عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين‪.‬‬

‫فصـــل‬

‫في العبادات و الفرق بين شرعيها وبدعيها‬

‫فإن هذا باب كثر فيه الضطراب‪ ،‬كما كثر في باب الحلل والحرام‪ ،‬فإن أقوامًا استحلوا بعض ما حرمه ال‪ ،‬وأقوامًا‬
‫حرموا بعض ما أحل ال ـ تعالى ـ وكذلك أقوامًا أحدثوا عبادات لم يشرعها ال‪ ،‬بل نهى عنها‪.‬‬

‫وأصل الدين‪ :‬أن الحلل ما أحله ال ورسوله‪ ،‬والحرام ما حرمه ال ورسوله‪ ،‬والدين ما شرعه ال ورسوله‪ ،‬ليس‬
‫ستَقِيمًا فَا ّت ِبعُوهُ َولَ‬ ‫لحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث ال به رسوله‪ .‬قال ال تعالى ‪{ :‬وَأَنّ َهذَا ِ‬
‫صرَاطِي مُ ْ‬
‫ق ِبكُمْ عَنْ َسبِيلِ ِه ذَلِكُمْ وَصّا ُك ْم بِهِ َلعَّل ُك ْم تَتّقُونَ} [النعام ‪.]153 :‬‬
‫ل َفتَ َفرّ َ‬
‫سبُ َ‬
‫َتتّ ِبعُوا ال ّ‬

‫وفي حديث عبد ال بن مسعود ـ رضي ال عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه خط خطًا‪ ،‬وخط خطوطًا عن‬
‫يمينه وشماله‪ ،‬ثم قال‪( :‬هذه سبيل ال‪ ،‬وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو ‪ /‬إليه)‪ ،‬ثم قرأ‪{ :‬وَأَنّ َهذَا ِ‬
‫صرَاطِي‬
‫ق ِبكُمْ عَنْ َسبِيلِهِ}‪.‬‬
‫ل َفتَ َفرّ َ‬
‫سبُ َ‬
‫ل تَ ّت ِبعُوا ال ّ‬
‫ستَقِيمًا فَا ّت ِبعُوهُ َو َ‬
‫مُ ْ‬

‫وقد ذكر ال تعالي في سورة النعام‪ ،‬والعراف‪ ،‬وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه ال ـ تعالى ـ‬
‫كالبحيرة‪ ،‬والسائبة ؛ واستحلوا ما حرمه ال كقتل أولدهم‪ ،‬وشرعوا دينا لم يأذن به ال‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬أَمْ َل ُهمْ شُ َركَاءُ‬
‫شَرَعُوا َلهُ ْم مِ ْن الدّينِ مَا َل ْم يَ ْأذَنْ بِهِ الُّ} [الشورى‪ ،]21 :‬ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات‪ ،‬كالشرك والفواحش‪،‬‬
‫مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك‪.‬‬

‫والكلم في الحلل والحرام له مواضع أخر‪.‬‬

‫والمقصود هنا العبادات فنقول‪:‬‬

‫العبادات التي يتقرب بها إلى ال ـ تعالى ـ منها ما كان محبوبًا ل ورسوله مرضيًا ل ورسوله‪ ،‬إما واجب وإما‬
‫مستحب‪ ،‬كما في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال فيما يروى عن ربه ـ تبارك وتعالى‪( :‬ما تقرب إليّ‬
‫عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع‬
‫به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ / ،‬فبي يسمع وبي يبصر‪ ،‬وبي يبطش‪ ،‬وبي‬
‫يمشي‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ ،‬و ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي‬
‫المؤمن‪ ،‬يكره الموت وأكره مساءته‪ ،‬ولبد له منه)‪.‬‬
‫ومعلوم أن الصلة منها فرض‪ ،‬وهي الصلوات الخمس‪ ،‬ومنها نافلة‪ ،‬كقيام الليل‪ ،‬وكذلك الصيام فيه فرض‪ ،‬وهو‬
‫صوم شهر رمضان‪ ،‬ومنه نافلة كصيام ثلثة أيام من كل شهر‪ ،‬وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض وإلى‬
‫المسجدين الخرين ـ مسجد النبي صلى ال عليه وسلم وبيت المقدس ـ مستحب‪.‬‬

‫وكذلك الصدقة‪ ،‬منها ما هو فرض‪ ،‬ومنها ما هو مستحب‪ ،‬وهو العفو‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ويَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ُقلْ ا ْلعَفْوَ}‬
‫[البقرة‪.]219 :‬‬

‫وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬يابن آدم‪ ،‬إنك إن تنفق الفضل خير لك‪ ،‬وإن تمسكه‬
‫شر لك‪ ،‬ول تلم على كفاف‪ ،‬واليد العليا خير من اليد السفلى‪ ،‬وابدأ بمن تعول)‪ ،‬والفرق بين الواجب‪ ،‬والمستحب له‬
‫موضع آخر غير هذا‪ ،‬والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع‪ ،‬سواء كان واجبًا‪ ،‬أو مستحبًا‪ ،‬وما ليس بمشروع‪.‬‬

‫فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى ال ـ تعالى ـ وهو سبيل ال‪ / ،‬وهو البر والطاعة والحسنات‪ ،‬والخير‪ ،‬والمعروف‪،‬‬
‫وهو طريق السالكين‪ ،‬ومنهاج القاصدين‪ ،‬والعابدين‪ ،‬وهو الذي يسلكه كل من أراد ال هدايته‪ ،‬وسلك طريق الزهد‬
‫والعبادة‪ ،‬وما يسمى بالفقر والتصوف‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ول ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة‪ ،‬واجبها‪ ،‬ومستحبها‪ ،‬ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع‪ ،‬وقراءة‬
‫القرآن على الوجه المشروع‪ ،‬والذكار والدعوات الشرعية‪ ،‬وما كان من ذلك موقتًا بوقت كطرفي النهار‪ ،‬وما كان‬
‫متعلقًا بسبب‪ ،‬كتحية المسجد‪ ،‬وسجود التلوة‪ ،‬وصلة الكسوف‪ ،‬وصلة الستخارة‪ ،‬وما ورد من الذكار‪ ،‬والدعية‬
‫الشرعية في ذلك‪ .‬وهذا يدخل فيه أمور كثيرة‪ ،‬وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه‪ ،‬وكذلك يدخل فيه الصيام‬
‫الشرعي‪ ،‬كصيام نصف الدهر‪ ،‬وثلثه أو ثلثيه‪ ،‬أو عشره‪ ،‬وهو صيام ثلثة أيام من كل شهر‪ ،‬ويدخل فيه السفر‬
‫الشرعي‪ ،‬كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الخرين‪ ،‬ويدخل فيه الجهاد على اختلف أنواعه‪ ،‬وأكثر الحاديث النبوية‬
‫في الصلة والجهاد‪ ،‬ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع‪.‬‬

‫والعبادات الدينية أصولها‪ :‬الصلة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد ال بن‬
‫عمرو بن العاص‪ ،‬لما أتاه النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال‪( :‬ألم أحدث أنك قلت‪ :‬لصومن ‪ /‬النهار‪ ،‬ولقومن الليل‪،‬‬
‫ج َمتْ له العين‪ ،‬و َن ِف َهتْ له النفس)‪ ،‬ثم أمره‬
‫ولقرأن القرآن في ثلث؟) قال‪ :‬بلى! قال‪( :‬فل تفعل فإنك إذا فعلت ذلك َه َ‬
‫بصيام ثلثة أيام من كل شهر‪ ،‬فقال‪ :‬إني أطيق أكثر من ذلك‪ ،‬فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم‪ ،‬فقال‪ :‬إني أطيق‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬ل أفضل من ذلك)‪ ،‬وقال‪( :‬أفضل الصيام صيام داود ـ عليه السلم ـ كان يصوم يومًا ويفطر‬
‫يومًا‪ ،‬ول يفر إذا لقى‪ ،‬وأفضل القيام قيام داود‪ ،‬كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه‪ ،‬وأمره أن يقرأ القرآن‬
‫في سبع)‪.‬‬

‫ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة‪ ،‬قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين‪( :‬يحقر أحدكم صلته مع‬
‫صلتهم‪ ،‬وصيامه مع صيامهم‪ ،‬وقراءته مع قراءتهم‪ ،‬يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم‪ ،‬يمرقون من الدين كما‬
‫يمرق السهم من ال ّرمِيّة) فذكر اجتهادهم بالصلة والصيام والقراءة‪ ،‬وأنهم يغلون في ذلك‪ ،‬حتى تحقر الصحابة‬
‫عبادتهم في جنب عبادة هؤلء‪.‬‬

‫وهؤلء غلوا في العبادات بل فقه‪ ،‬فآل المر بهم إلى البدعة‪ ،‬فقال‪( :‬ىمرقون من السلم كـما يمرق السهم من‬
‫الرمية‪ ،‬أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند ال لمن قتلهم يوم القيامة)‪ .‬فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين‪،‬‬
‫وكفروا من خالفهم‪ ،‬وجاءت فيهم الحاديث ‪ /‬الصحيحة‪ ،‬قال المام أحمد بن حنبل ـ رحمه ال تعالى ـ‪ :‬صح فيهم‬
‫الحديث من عشرة أوجه‪ ،‬وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها‪.‬‬

‫ثم هذه الجناس الثلثة مشروعة‪ ،‬ولكن يبقى الكلم في القدر المشروع منها‪ ،‬وله صنف كتاب [القتصاد في العبادة]‪.‬‬
‫وقال أبي بن كعب‪ ،‬وغيره‪ :‬اقتصاد في سنة‪ ،‬خير من اجتهاد في بدعة‪.‬‬

‫والكلم في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيدين‪ ،‬وأيام التشريق‪ ،‬وقيام جميع الليل‪ ،‬هل هو مستحب؟ كما‬
‫ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء‪ ،‬والصوفية والعباد‪ ،‬أو هو مكروه ـ كما دلت عليه السنة وإن كان جائزًا ؟ لكن صوم‬
‫يوم وفطر يوم أفضل‪ ،‬وقيام ثلث الليل أفضل‪ ،‬ولبسطه موضع آخر‪.‬‬
‫إذ المقصود هنا الكلم في أجناس عبادات غير مشروعة‪ ،‬حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشتبه بالعتكاف‬
‫الشرعي‪ ،‬والعتكاف الشرعي في المساجد‪ ،‬كما كان النبي صلى ال عليه وسلم يفعله هو وأصحابه‪ ،‬من العبادات‬
‫الشرعية‪.‬‬

‫وأما الخلوات‪ ،‬فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي‪ ،‬وهذا خطأ‪ / ،‬فإن ما فعله صلى ال عليه وسلم قبل‬
‫النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة‪ ،‬فنحن مأمورون باتباعه فيه‪ ،‬وإل فل‪ .‬وهو من حين نبأه ال ـ تعالى ـ لم يصعد بعد‬
‫ذلك إلى غار حراء ول خلفاؤه الراشدون‪ .‬وقد أقام ـ صلوات ال عليه ـ بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة‪ ،‬ودخل‬
‫مكة في عمرة القضاء‪ ،‬وعام الفتح أقام بها قريبًا من عشرين ليلة‪ ،‬وأتاها في حجة الوداع‪ ،‬وأقام بها أربع ليال‪ ،‬وغار‬
‫حراء قريب منه‪ ،‬ولم يقصده‪.‬‬

‫وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية‪ ،‬ويقال‪ :‬إن عبد المطلب هو سن لهم إتيانه؛ لنه لم تكن لهم هذه العبادات‬
‫الشرعية التي جاء بها بعد النبوة ـ صلوات ال عليه ـ كالصلة والعتكاف في المساجد‪ ،‬فهذه تغني عن إتيان حراء‬
‫بخلف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي‪ ،‬فإنه لم يكن يقرأ‪ ،‬بل قال له الملك ـ عليه السلم ـ‪ :‬اقرأ‪ .‬قال ـ صلوات ال‬
‫عليه وسلمه ـ‪( :‬فقلت‪ :‬لست بقارئ) ول كانوا يعرفون هذه الصلة! ولهذا لما صلها النبي صلى ال عليه وسلم نهاه‬
‫ن كَانَ عَلَى ا ْل ُهدَى ‪ .‬أَوْ‬ ‫عنها من نهاه من المشركين‪ ،‬كأبي جهل‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬أَرََأيْتَ اّلذِي يَ ْنهَى ‪َ .‬‬
‫ع ْبدًا ِإذَا صَلّى ‪َ .‬أرََأيْتَ إِ ْ‬
‫طئَةٍ ‪ .‬فَ ْل َي ْدعُ نَادِيَه ‪.‬‬
‫صيَ ٍة كَا ِذبَةٍ خَا ِ‬
‫صيَ ِة ‪ .‬نَا ِ‬
‫لّ يَرَى ‪ .‬كَلّ َلئِنْ َل ْم يَ ْنتَهِ َلنَسْفَ َع بِالنّا ِ‬
‫ن َكذّبَ َوتَوَلّى ‪ .‬أََل ْم َيعْلَ ْم بِأَنّ ا َ‬
‫َأمَ َر بِالتّ ْقوَى ‪َ .‬أرََأيْتَ إِ ْ‬
‫طعْهُ وَاسْ ُجدْ وَا ْقتَرِبْ}[العلق‪ 9 :‬ـ ‪.]19‬‬ ‫ل تُ ِ‬
‫ل َ‬‫س َندْعُ ال ّزبَا ِنيَةَ ‪ .‬كَ ّ‬
‫َ‬

‫وطائفة يجعلون الخلوة أربعين يومًا‪ ،‬ويعظمون أمر الربعينية‪ / ،‬ويحتجون فيها بأن ال ـ تعالى ـ واعد موسى ـ عليه‬
‫السلم ـ ثلثين ليلة وأتمها بعشر‪.‬وقد روى أن موسى ـ عليه السلم ـ صامها وصام المسيح أيضًا أربعين ل ـ تعالى ـ‬
‫وخوطب بعدها‪ .‬فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتنزل‪ ،‬كما يقولون في غار حراء حصل بعده نزول الوحي‪.‬‬

‫وهذا أيضًا غلط‪ ،‬فإن هذه ليست من شريعة محمد صلى ال عليه وسلم بل شرعت لموسى ـ عليه السلم ـ كما شرع‬
‫له السبت والمسلمون ل يسبتون‪ ،‬وكما حرم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬فهذا‬
‫تمسك بشرع منسوخ‪ ،‬و ذاك تمسك بما كان قبل النبوة‪.‬‬

‫وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين‪ ،‬وحصل له تنزل شيطاني‪ ،‬وخطاب شيطاني‪ ،‬وبعضهم‬
‫يطير به شيطانه‪ ،‬وأعرف من هؤلء عددًا طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للنبياء من التنزل‪ ،‬فنزلت عليهم‬
‫شرِيعَةٍ مِنْ‬ ‫الشياطين؛ لنهم خرجوا عن شريعة النبي صلى ال عليه وسلم التي أمروا بها‪ .‬قال تعالى ‪{ :‬ثُمّ َ‬
‫جعَ ْلنَاكَ عَلَى َ‬
‫ضهُمْ أَوِْليَا ُء َبعْضٍ وَالُّ وَِليّ ا ْل ُمتّقِينَ}‬
‫ن َبعْ ُ‬
‫ش ْيئًا وَإِنّ الظّاِلمِي َ‬
‫ك مِنْ الِّ َ‬
‫ن ُي ْغنُوا عَن َ‬
‫ل يَعَْلمُونَ ‪ِ .‬إّنهُمْ لَ ْ‬
‫ن َ‬
‫لْمْ ِر فَا ّت ِبعْهَا َولَ َتّتبِعْ أَهْوَاءَ اّلذِي َ‬
‫اَ‬
‫[الجاثية‪.]19 ،18 :‬‬

‫وكثير منهم ل يحد للخلوة مكانًا‪ ،‬ول زمانًا‪ ،‬بل يأمر النسان أن يخلو في الجملة‪.‬‬

‫‪/‬ثم صار أصحاب الخلوات فيهم من يتمسك بجنس العبادات الشرعية‪ ،‬الصلة والصيام‪ ،‬والقراءة والذكر‪.‬وأكثرهم‬
‫يخرجون إلى أجناس غير مشروعة‪ ،‬فمن ذلك طريقة أبي حامد ومن تبعه‪ ،‬وهؤلء يأمرون صاحب الخلوة أل يزيد‬
‫على الفرض‪ ،‬ل قراءة ول نظرًا في حديث نبوي‪ ،‬ول غير ذلك‪ ،‬بل قد يأمرونه بالذكر‪ ،‬ثم قد يقولون ما يقوله أبو‬
‫حامد‪ :‬ذكر العامة‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬وذكر الخاصة‪ :‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬وذكر خاصة الخاصة‪ :‬هو‪ ،‬هو‪.‬‬

‫والذكر بالسم المفرد مظهرًا‪ ،‬ومضمرًا بدعة في الشرع‪ ،‬وخطأ في القول واللغة‪ ،‬فإن السم المجرد ليس هو كلمًا ل‬
‫إيمانًا ول كفرًا‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬أفضل الكلم بعد القرآن أربع وهن من القرآن ‪ :‬سبحان‬
‫ال‪ ،‬والحمد ل‪ ،‬ول إله إل ال‪ ،‬وال أكبر)‪ .‬وفي حديث آخر‪( :‬أفضل الذكر ل إله إل ال)‪ ،‬وقال‪( :‬أفضل ما قلت أنا‬
‫والنبيون من قبلي‪ :‬ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير)‪ .‬والحاديث في‬
‫فضل هذه الكلمات كثيرة صحيحة‪.‬‬
‫وأما ذكر السم المفرد‪ ،‬فبدعة لم يشرع‪ ،‬وليس هو بكلم يعقل ول فيه إيمان؛ ولهذا صار بعض من يأمر به من‬
‫المتأخرين يبين أنه ليس ‪ /‬قصدنا ذكر ال ـ تعالى ـ ولكن جمع القلب على شيء معين حتي تستعد النفس لما يرد‬
‫عليها‪ ،‬فكان يأمر مريده بأن يقول هذا السم مرات‪ ،‬فإذا اجتمع قلبه ألقى عليه حالً شيطانيًا‪ ،‬فيلبسه الشيطان‪ ،‬ويخيل‬
‫إليه أنه قد صار في المل العلى‪ ،‬وأنه أعطى ما لم يعطه محمد صلى ال عليه وسلم ليلة المعراج‪ ،‬ول موسى ـ عليه‬
‫السلم ـ يوم الطور‪ ،‬وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا‪.‬‬

‫وأبلغ من ذلك من يقول‪ :‬ليس مقصودنا إل جمع النفس بأي شيء كان‪ ،‬حتي يقول‪ :‬ل فرق بين قولك‪ :‬يا حي ! وقولك‪:‬‬
‫يا جحش! وهذا مما قاله لي شخص منهم‪ ،‬وأنكرت ذلك عليه‪ ،‬ومقصودهم بذلك أن تجتمع النفس حتى يتنزل عليها‬
‫الشيطان‪.‬‬

‫ومنهم من يقول‪ :‬إذا كان قصد وقاصد‪ ،‬ومقصود‪ ،‬فاجعل الجميع واحدًا‪ ،‬فيدخله في أول المر في وحدة الوجود‪.‬‬

‫وأما أبو حامد‪ ،‬وأمثاله ممن أمروا بهذه الطريقة‪ ،‬فلم يكونوا يظنون أنها تفضي إلى الكفر لكن ينبغي أن يعرف أن‬
‫البدع بريد الكفر‪ ،‬ولكن أمروا المريد أن يفرغ قلبه من كل شيء‪ ،‬حتى قد يأمروه أن يقعد في مكان مظلم ويغطي‬
‫رأسه ويقول‪ :‬ال‪ ،‬ال‪ .‬وهم يعتقدون أنه إذا فرغ قلبه استعد بذلك فينزل على قلبه من المعرفة ما هو المطلوب‪ ،‬بل ‪/‬‬
‫قد يقولون‪ :‬إنه يحصل له من جنس ما يحصل للنبياء‪.‬‬

‫ومنهم من يزعم أنه حصل له أكثر مما حصل للنبياء‪ ،‬وأبو حامد يكثر من مدح هذه الطريقة في [الحياء] وغيره‪،‬‬
‫كما أنه يبالغ في مدح الزهد‪ ،‬وهذا من بقايا الفلسفة عليه‪ .‬فإن المتفلسفة‪ ،‬كابن سينا‪ ،‬وأمثاله يزعمون أن كل ما يحصل‬
‫في القلوب من العلم للنبياء وغيرهم فإنما هو من العقل الفعال؛ ولهذا يقولون‪ :‬النبوة مكتسبة‪ ،‬فإذا تفرغ صفى قلبه ـ‬
‫عندهم ـ وفاض على قلبه من جنس ما فاض على النبياء‪ .‬وعندهم أن موسى بن عمران صلى ال عليه وسلم كلم من‬
‫سماء عقله‪ ،‬لم يسمع الكلم من خارج؛ فلهذا يقولون‪ :‬إنه يحصل لهم مثل ما حصل لموسى‪ ،‬وأعظم مما حصل‬
‫لموسى‪.‬‬

‫وأبو حامد يقول‪ :‬إنه سمع الخطاب‪ ،‬كما سمعه موسى ـ عليه السلم ـ وإن لم يقصد هو بالخطاب‪ ،‬وهذا كله ؛ لنقص‬
‫إيمانهم بالرسل وأنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض‪ ،‬وهذا الذي قالوه باطل من وجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن هذا الذي يسمونه‪ :‬العقل الفعال‪ ،‬باطل ل حقيقة له كما قد بسط هذا في موضع آخر‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن ما يجعله ال في القلوب يكون تارة بواسطة الملئكة ‪ /‬إن كان حقًا‪ ،‬وتارة بواسطة الشياطين‪ ،‬إذا كان‬
‫باطلً‪ .‬والملئكة‪ ،‬والشياطين أحياء ناطقون‪ ،‬كما قد دلت على ذلك الدلئل الكـثيرة من جـهة النبياء‪ ،‬وكما يدعي ذلك‬
‫من باشره من أهل الحقائق‪ .‬وهم يزعمون أن الملئكة‪ ،‬والشياطين صفات لنفس النسان فقط‪ .‬وهذا ضلل عظيم‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬أن النبياء جاءتهم الملئكة من ربهم بالوحي‪ ،‬ومنهم من كلمه ال ـ تعالى ـ فقربه وناداه‪ ،‬كما كلم موسى ـ‬
‫عليه السلم ـ لم يكن ما حصل لهم مجرد فيض‪ ،‬كما يزعمه هؤلء‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬أن النسان إذا فرغ قلبه من كل خاطر‪ .‬فمن أين يعلم أن ما يحصل فيه حق؟ هذا إما أن يعلم بعقل‪ ،‬أو سمع‪،‬‬
‫وكلهما لم يدل على ذلك‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬أن الذي قد علم بالسمع والعقل‪ ،‬أنه إذا فرغ قلبه من كل شيء حلت فيه الشياطين‪ ،‬ثم تنزلت عليه الشياطين‪،‬‬
‫كما كانت تتنزل على الكهان‪ ،‬فإن الشيطان إنما يمنعه من الدخول إلى قلب ابن آدم ما فيه من ذكر ال‪ ،‬الذي أرسل به‬
‫شيْطَانًا َفهُوَ لَ ُه قَرِينٌ ‪ .‬وَِإّنهُمْ‬
‫ن نُ َقيّضْ لَهُ َ‬
‫حمَ ِ‬
‫ن ذِكْرِ الرّ ْ‬ ‫رسله‪ ،‬فإذا خل من ذلك توله الشيطان‪ ،‬قال ال ـ تعالى‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫ن َيعْشُ عَ ْ‬
‫سبُونَ َأّنهُ ْم ُم ْهتَدُونَ}[الزخرف‪ ،]37 ،36 :‬وقال الشيطان‪ ،‬فيما أخبر ال عنه‪َ { :‬فبِعِ ّز ِتكَ‬ ‫سبِيلِ َويَحْ َ‬
‫صدّو َنهُمْ عَنْ ال ّ‬ ‫َليَ ُ‬
‫عَليْهِمْ سُلْطَانٌ ِإلّ مَنْ‬‫عبَادِي َليْسَ َلكَ َ‬ ‫عبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْلمُخَْلصِينَ} [ص‪ ،]83 ،82 :‬وقال تعالى ‪{ :‬إِنّ ِ‬ ‫ج َمعِينَ ‪ِ .‬إلّ ِ‬‫لَُغْ ِويَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫ك مِنْ ا ْلغَاوِينَ}[الحجر‪ ،]42 :‬والمخلصون هم الذين يعبدونه وحده ل يشركون به شيئًا‪ ،‬وإنما يعبد ال بما أمر به‬ ‫ا ّتبَ َع َ‬
‫على ألسنة رسله فمن لم يكن كذلك تولته الشياطين‪.‬‬
‫وهذا باب دخل فيه أمر عظيم على كثير من السالكين‪ ،‬واشتبهت عليهم الحوال الرحمانية بالحوال الشيطانية‪،‬‬
‫وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهان والسحرة‪ ،‬وظنوا أن ذلك من كرامات أولياء ال المتقين‪ ،‬كما قد بسط الكلم‬
‫على هذا في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫السادس‪ :‬أن هذه الطريقة لو كانت حقًا‪ ،‬فإنما تكون في حق من لم يأته رسول‪ ،‬فأما من أتاه رسول وأمر بسلوك‬
‫طريق‪ ،‬فمن خالفه ضل‪ ،‬وخاتم الرسل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلة‪ ،‬وذكر‪ ،‬ودعاء‪،‬‬
‫وقراءة‪ ،‬لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر‪ ،‬وانتظار ما ينزل‪.‬‬

‫فهذه الطريقة لو قدر أنها طريق لبعض النبياء‪ ،‬لكانت منسوخة بشرع محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكيف وهي‬
‫طريقة جاهلية ل توجب الوصول إلى المطلوب إل بطريق التفاق‪ ،‬بأن يقذف ال ـ تعالى ـ في قلب ‪ /‬العبد إلهامًا‬
‫ينفعه؟ وهذا قد يحصل لكل أحد ليس هو من لوازم هذه الطريق‪.‬‬

‫ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما ل يحبه ال‪ ،‬ويملؤه بما يحبه ال‪ ،‬فيفرغه من عبادة‬
‫غير ال ويملؤه بعبادة ال‪ ،‬وكذلك يفرغه عن محبة غير ال ويملؤه بمحبة ال‪ ،‬وكذلك يخرج عنه خوف غير ال‪،‬‬
‫ويدخل فيه خوف ال ـ تعالى ـ وينفي عنه التوكل على غير ال‪ ،‬ويثبت فيه التوكل على ال‪ .‬وهذا هو السلم‬
‫المتضمن لليمان الذي يمده القرآن ويقويه‪ ،‬ل ينقاضه وينافيه‪ ،‬كما قال جندب وابن عمر‪ :‬تعلمنا اليمان ثم تعلمنا‬
‫القرآن فازددنا إيمانًا‪.‬‬

‫وأما القتصار على الذكر المجرد الشرعي‪ ،‬مثل قول‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬فهذا قد ينتفع به النسان أحيانًا‪ ،‬لكن ليس هذا‬
‫الذكر وحده هو الطريق إلى ال ـ تعالى ـ دون ما دعاه‪ ،‬بل أفضل العبادات البدنية الصلة‪ ،‬ثم القراءة‪ ،‬ثم الذكر‪ ،‬ثم‬
‫الدعاء‪ ،‬والمفضول في وقته الذي شرع فيه أفضل من الفاضل‪ ،‬كالتسبيح في الركوع‪ ،‬والسجود‪ ،‬فإنه أفضل من‬
‫القراءة‪ ،‬وكذلك الدعاء في آخر الصلة أفضل من القراءة‪ ،‬ثم قد يفتح على النسان في العمل المفضول‪ ،‬ما ل يفتح‬
‫عليه في العمل الفاضل‪ .‬وقد ييسر عليه هذا دون هذا‪ ،‬فيكون هذا أفضل في حقه لعجزه عن الفضل‪ ،‬كالجائع إذا وجد‬
‫الخبز المفضول متيسرًا عليه‪ ،‬والفاضل متعسرًا ‪ /‬عليه فإنه ينتفع بهذا الخبز المفضول‪ ،‬وشبعه واغتذاؤه به حينئذ‬
‫أولى به‪.‬‬

‫السابع‪ :‬أن أبا حامد يشبه ذلك بنقش أهل الصين والروم على تزويق الحائط‪ ،‬وأولئك صقلوا حائطهم حتى تمثل فيه ما‬
‫صقله هؤلء‪ ،‬وهذا قياس فاسد؛ لن هذا الذي فرغ قلبه لم يكن هناك قلب آخر يحصل له به التحلية‪ ،‬كما حصل لهذا‬
‫الحائط من هذا الحائط‪ .‬بل هو يقول إن‪ :‬العلم منقوش في النفس الفلكية‪ ،‬ويسمى ذلك [اللوح المحفوظ] تبعًا لبن سينا‪.‬‬

‫وقد بينا في غير هذا الموضع أن اللوح المحفوظ الذي ذكره ال ورسوله ليس هو النفس الفلكية‪ ،‬وابن سينا ومن تبعه‬
‫أخذوا أسماء جاء بها الشرع‪ ،‬فوضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع‪ ،‬ثم صاروا يتكلمون بتلك‬
‫السماء‪ ،‬فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع‪ ،‬فأخذوا مخ الفلسفة‪ ،‬وكسوه لحاء الشريعة‪.‬‬

‫وهذا كلفظ المُ ْلكِ‪ ،‬والملكوت‪ ،‬والجبروت‪ ،‬و اللوح المحفوظ‪ ،‬والملك‪ ،‬والشيطان‪ ،‬والحدوث‪ ،‬والقدم وغير ذلك‪.‬‬

‫‪/‬وقد ذكرنا من ذلك طرفًا في الرد على التحادية‪ ،‬لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي وما يوجد في كلم أبي‬
‫حامد‪ ،‬ونحوه من أصول هؤلء الفلسفة الملحدة الذين يحرفون كلم ال ورسوله عن مواضعه‪ ،‬كما فعلت طائفة‬
‫القرامطة الباطنية‪.‬‬

‫والمقصود هنا أنه لو كانت العلوم تنزل على القلوب من النفس الفلكية‪ ،‬كما يزعم هؤلء‪ ،‬فل فرق في ذلك بين الناظر‬
‫والمستدل والمفرغ قلبه‪ ،‬فتمثيل ذلك بنقش أهل الصين والروم تمثيل باطل‪.‬‬

‫ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معينة وقوت معين‪ ،‬ولهم تنزلت معروفة‪ ،‬وقد بسط الكلم عليها ابن عربي‬
‫الطائي ومن سلك سبيله‪ ،‬كالتلمساني‪ ،‬وهي تنزلت شيطانية قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوه متعددة‪ ،‬لكن ليس هذا‬
‫موضع بسطها‪ ،‬وإنما المقصود التنبيه على هذا الجنس‪.‬‬
‫ومما يأمرون به الجوع والسهر والصمت مع الخلوة بل حدود شرعية‪ ،‬بل سهر مطلق‪ ،‬وجوع مطلق‪ ،‬وصمت‬
‫مطلق مع الخلوة‪ ،‬كما ذكر ذلك ابن عربي وغيره‪ ،‬وهي تولد لهم أحوالً شيطانية‪ ،‬و أبو طالب قد ذكر بعض ذلك‪،‬‬
‫لكن أبو طالب أكثر اعتصامًا بالكتاب والسنة من هؤلء‪ .‬ولكن يذكر أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة‪ /.‬من جنس‬
‫أحاديث المسبعات التي رواها عن الخضر عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو كذب محض‪ ،‬وإن كان ليس فيه إل‬
‫قراءة قرآن‪ ،‬ويذكر أحيانًا عبادات بدعية من جنس ما بالغ في مدح الجوع هو‪ ،‬وأبو حامد وغيرهما‪ ،‬وذكروا أنه يزن‬
‫الخبز بخشب رطب‪ ،‬كلما جف نقص الكل‪.‬‬

‫وذكروا صلوات اليام والليالي‪ ،‬وكلها كذب موضوعة؛ ولهذا قد يذكرون مع ذلك شيئًا من الخيالت الفاسدة‪ ،‬وليس‬
‫هذا موضع بسط ذلك‪.‬‬

‫وإنما الغرض التنبيه بهذا علي جنس من العبادات البدعية‪ ،‬وهي ‪[ :‬الخلوات البدعية] سواء قدرت بزمان‪ ،‬أو لم تقدر؛‬
‫لما فيها من العبادات البدعية‪ ،‬أما التي جنسها مشروع‪ ،‬ولكن غير مقدرة وأما ما كان جنسه غير مشروع‪ ،‬فأما‬
‫الخلوة‪ ،‬والعزلة‪ ،‬والنفراد المشروع‪ ،‬فهو ما كان مأمورًا به أمر إيجاب‪ ،‬أو استحباب‪:‬‬

‫حتّى‬‫ع ْنهُمْ َ‬ ‫عرِضْ َ‬ ‫ن فِي آيَا ِتنَا فَأَ ْ‬


‫ن يَخُوضُو َ‬ ‫فالول‪ :‬كاعتزال المور المحرمة‪ ،‬ومجانبتها‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وَِإذَا رََأيْتَ اّلذِي َ‬
‫ن دُونِ الِّ وَ َه ْبنَا لَهُ‬ ‫عتَزََلهُمْ َومَا َيعْ ُبدُونَ مِ ْ‬‫غيْرِهِ} [النعام‪ ،]68 :‬ومنه قوله تعالى عن الخليل‪{ :‬فََلمّا ا ْ‬ ‫حدِيثٍ َ‬‫يَخُوضُوا فِي َ‬
‫لّ فَ ْأوُوا إِلَى‬ ‫جعَ ْلنَا َن ِبيّا} [مريم‪ ،]49 :‬و قوله عن أهل ‪ /‬الكهف‪{ :‬وَِإذْ ا ْ‬
‫عتَزَ ْل ُتمُوهُمْ َومَا َي ْعبُدُونَ ِإلّ ا َ‬ ‫سحَاقَ َويَعْقُوبَ َوكُلّ َ‬
‫إِ ْ‬
‫ا ْل َكهْفِ} [ الكهف‪ ،]16 :‬فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ول جماعة‪ ،‬ول من يأمر بشرع نبي ؛ فلهذا أووا‬
‫إلى الكهف‪ ،‬وقد قال موسى‪{ :‬وَإِنْ لَ ْم تُ ْؤ ِمنُوا لِي فَا ْعتَزِلُونِي} [الدخان‪.]21 :‬‬

‫وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما ل ينفع‪ ،‬وذلك بالزهد فيه‪ ،‬فهو مستحب‪ ،‬وقد قال طاووس‪ :‬نعم صومعة‬
‫الرجل بيته يكف فيه بصره‪ ،‬وسمعه‪.‬‬

‫وإذا أراد النسان تحقيق علم‪ ،‬أو عمل‪ ،‬فتخلى في بعض الماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة‪ ،‬فهذا حق كما‬
‫في الصحيحين‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل‪ :‬أي الناس أفضل؟ قال‪( :‬رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل ال‪ ،‬كلما‬
‫سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه‪ ،‬ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلة‪ ،‬ويؤتي الزكاة‪ ،‬ويدع‬
‫الناس إل من خير)‪.‬‬

‫وقوله‪( :‬يقيم الصلة ويؤتي الزكاة) دليل على أن له مال يزكيه‪ ،‬وهو ساكن مع ناس يؤذن بينهم وتقام الصلة فيهم‪،‬‬
‫فقد قال صلوات ال عليه‪( :‬ما من ثلثة في قرية ول بدو ل تقام فيهم الصلة جماعة إل وقد استحوذ عليهم الشيطان)‬
‫وقال‪( :‬عليكم بالجماعة‪ ،‬فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم)‪.‬‬

‫َفصْـــل‬ ‫‪/‬‬

‫وهذه الخلوات‪ ،‬قد يقصد أصحابها الماكن التي ليس فيها أذان‪ ،‬ول إقامة‪ ،‬ول مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس‪،‬‬
‫إما مساجد مهجورة‪ ،‬وإما غير مساجد‪ ،‬مثل الكهوف‪ ،‬والغيران التي في الجبال‪ ،‬ومثل المقابر ل سيما قبر من يحسن‬
‫به الظن‪ ،‬ومثل المواضع التي يقال أن بها أثر نبي‪ ،‬أو رجل صالح؛ ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال‬
‫شيطانية‪ ،‬يظنون أنها كرامات رحمانية‪.‬‬

‫فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه‪ ،‬وقد مات من سنين كثيرة‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا فلن‪ ،‬وربما قال له‪ :‬نحن إذا‬
‫وضعنا في القبر خرجنا‪ ،‬كما جرى للتونسي مع نعمان السلمي‪.‬‬

‫والشياطين كثيرًا ما يتصورون‪ ،‬بصورة النس في اليقظة والمنام‪ ،‬وقد تأتي لمن ل يعرف فتقول‪ :‬أنا الشيخ فلن‪ ،‬أو‬
‫العالم فلن‪ ،‬وربما قالت‪ :‬أنا أبو بكر وعمر وربما أتى في اليقظة دون المنام‪ ،‬وقال‪ :‬أنا المسيح‪ ،‬أنا موسى‪ ،‬أنا محمد‪،‬‬
‫وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها‪ / ،‬وثم من يصدق بأن النبياء يأتون في اليقظة في صورهم‪ ،‬وثم شيوخ لهم زهد‪،‬‬
‫وعلم‪ ،‬وورع‪ ،‬ودين يصدقون بمثل هذا‪.‬‬
‫ومن هؤلء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي‪ ،‬أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه‪ .‬ومن هؤلء من رأى‬
‫في دائرة ذرى الكعبة صورة شيخ‪ ،‬قال‪ :‬إنه إبراهيم الخليل‪ ،‬ومنهم من يظن أن النبي صلى ال عليه وسلم خرج من‬
‫الحجرة وكلمه‪ ،‬وجعلوا هذا من كراماته‪ ،‬ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه‪.‬‬

‫وبعضهم كان يحكي‪ :‬أن ابن منده‪ ،‬كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل‪ ،‬فسأل النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم عن ذلك فأجابه‪ ،‬وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك‪ ،‬وجعل ذلك من كراماته‪ ،‬حتى قال ابن عبد‬
‫البر لمن ظن ذلك‪ :‬ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الولين من المهاجرين والنصار؟ فهل في هؤلء من سأل‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم بعد الموت وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء‪ ،‬فهل سألوا النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫فأجابهم ؟ وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه‪ ،‬فهل سألته فأجابها؟‬

‫َفصْــل‬

‫والنبياء ـ صلوات الّ عليهم وسلمه أجمعين ـ قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه‪ ،‬وأن نقتدي بهم‪ ،‬وبهداهم‪ .‬قال تعالى‪{ :‬‬
‫ي مُوسَى وَعِيسَى َومَا أُو ِتيَ‬ ‫سبَاطِ َومَا أُو ِت َ‬
‫سمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ َو َيعْقُوبَ وَالَْ ْ‬
‫قُولُوا آ َمنّا بِالِّ َومَا أُنزِلَ إَِل ْينَا َومَا أُنزِلَ إِلَى ِإبْرَاهِيمَ وَإِ ْ‬
‫ح ٍد ِمنْهُمْ َونَحْنُ لَ ُه مُسِْلمُونَ} [البقرة‪ ،]136 :‬وقال تعالى‪{ :‬أُ ْوَل ِئكَ اّلذِينَ َهدَى ا ُ‬
‫لّ َف ِبهُدَاهُمْ ا ْق َتدِهِ}‬ ‫ق َبيْنَ أَ َ‬ ‫ل نُفَرّ ُ‬
‫ال ّن ِبيّونَ مِنْ َرّبهِ ْم َ‬
‫[ النعام‪ ]90 :‬ومحمد صلى ال عليه وسلم خاتم النبيين ل نبي بعده‪ ،‬وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره‪ ،‬فلم‬
‫يبق طريق إلى الّ إل باتباع محمد صلى ال عليه وسلم فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب‪ ،‬فهو‬
‫مشروع‪ ،‬وكذلك ما رغب فيه‪ ،‬وذكر ثوابه‪ ،‬وفضله‪.‬‬

‫ول يجوز أن يقال‪ :‬إن هذا مستحب‪ ،‬أو مشروع‪ ،‬إل بدليل شرعي‪ ،‬ول يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف‪ ،‬لكن‬
‫إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي‪ ،‬وروى له فضائل بأسانيد ضعيفة‪ ،‬جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب‪ ،‬وذلك‬
‫أن مقادير الثواب غير معلومة‪ ،‬فإذا روى في مقدار الثواب حديث ل يعرف أنه كذب‪ ،‬لم يجز أن يكذب ‪/‬به‪ ،‬وهذا هو‬
‫الذي كان المام أحمد بن حنبل‪ ،‬وغيره يرخصون فيه‪ ،‬وفي روايات أحاديث الفضائل‪ .‬وأما أن يثبتوا أن هذا عمل‬
‫مستحب مشروع بحديث ضعيف‪ ،‬فحاشا لّ‪ ،‬كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب‪ ،‬فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته‬
‫إل أن يبينوا أنه كذب لقول النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪( :‬من روى عني حديثًا يرى أنه كذب فهو‬
‫أحد الكاذبين)‪.‬‬

‫وما فعله النبي صلى ال عليه وسلم على وجه التعبد‪ ،‬فهو عبادة يشرع التأسي به فيه‪ .‬فإذا خصص زمان أو مكان‬
‫بعبادة‪ ،‬كان تخصيصه بتلك العبادة سنة؛ كتخصيصه العشر الواخر بالعتكاف فيها وكتخصيصه مقام إبراهيم‬
‫بالصلة فيه‪ ،‬فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل‪ ،‬على الوجه الذي فعل؛ لنه فعل‪.‬‬

‫وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد‪ ،‬فإذا سافر لحج أو عمرة أو جهاد وسافرنا كذلك‪ ،‬كنا متبعين له‪ ،‬وكذلك إذا‬
‫ضرب لقامة حد‪ ،‬بخلف من شاركه في السفر‪ ،‬وكان قصده غير قصده‪ ،‬أو شاركه في الضرب‪ ،‬وكان قصده غير‬
‫قصده‪ ،‬فهذا ليس بمتابع له‪ ،‬ولو فعل فعلً بحكم التفاق مثل نزوله في السفر بمكان‪ ،‬أو أن يفضل في إداوته ماء‬
‫فيصبه في أصل شجرة‪ ،‬أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق ونحو ذلك‪ ،‬فهل يستحب قصد متابعته في ذلك؟‬
‫كان ابن عمر يحب أن ‪ /‬يفعل مثل ذلك‪ .‬وأما الخلفاء الراشدون‪ ،‬وجمهور الصحابة‪ ،‬فلم يستحبوا ذلك؛ لن هذا ليس‬
‫بمتابعة له‪ ،‬إذ المتابعة لبد فيها من القصد‪ ،‬فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل‪ ،‬بل حصل له بحكم التفاق كان في قصده‬
‫غير متابع له‪ ،‬وابن عمر ـ رضي الّ عنه ـ يقول‪ :‬وإن لم يقصده‪ ،‬لكن نفس فعله حسن على أي وجه كان‪ ،‬فأحب أن‬
‫أفعل مثله‪ ،‬إما لن ذلك زيادة في محبته‪ ،‬وإما لبركة مشابهته له‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته‪ ،‬وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك‪ ،‬ويرخص‬
‫في مثل ما فعله ابن عمر‪ ،‬وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتباعًا لبن عمر‪ ،‬وعن أحمد في التمسح‬
‫بالمنبر روايتان‪.‬‬

‫أشهرهما أنه مكروه‪ ،‬كقول الجمهور‪ ،‬وأما مالك وغيره من العلماء‪ ،‬فيكرهون هذه المور وإن فعلها ابن عمر‪ ،‬فإن‬
‫أكابر الصحابة‪ ،‬كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم‪ ،‬لم يفعلها‪ .‬فقد ثبت بالسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ‬
‫رضي الّ عنه ـ أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكانًا يصلون فيه‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا؟ قالوا‪ :‬مكان صلى فيه رسول الّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال‪ :‬أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا‪ ،‬من أدركته فيه‬
‫الصلة فليصل فيه وإل فليمض‪.‬‬

‫‪/‬وهكذا للناس قولن‪ ،‬فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط‪ ،‬أو مستحبة؟ على‬
‫قولين في مذهب أحمد وغيره‪ ،‬كما قد بسط ذلك في موضعه‪ ،‬ولم يكن ابن عمر‪ ،‬ول غيره من الصحابة يقصدون‬
‫الماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه‪ ،‬ومثل مواضع نزوله في مغازيه‪ ،‬وإنما كان الكلم في‬
‫مشابهته في صورة الفعل فقط‪ ،‬وإن كان هو لم يقصد التعبد به‪ ،‬فأما المكنة نفسها‪ ،‬فالصحابة متفقون على أنه ل‬
‫يعظم منها‪ ،‬إل ما عظمه الشارع‪.‬‬

‫فَصــل‬

‫وأهل العبادات البدعية‪ ،‬يزين لهم الشيطان تلك العبادات‪ ،‬ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم‬
‫والقرآن والحديث‪ ،‬فل يحبون سماع القرآن والحديث‪ ،‬ول ذكره‪ ،‬وقد يبغض إليهم حتى الكتاب‪ ،‬فل يحبون كتابا‪ ،‬ول‬
‫من معه كتاب‪ ،‬ولو كان مصحفًا أو حديثًا‪ ،‬كما حكى النصراباذي أنهم كانوا يقولون‪ :‬يدع علم الخرق‪ ،‬ويأخذ علم‬
‫الورق‪ ،‬قال‪ :‬وكنت أستر الواحى منهم‪ ،‬فلما كبرت احتاجوا إلى علمي‪.‬‬

‫وكذلك حكى السري السقطي‪ :‬أن واحدًا منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلمًا خرج‪ ،‬ولم يقعد عنده‪ ،‬ولهذا قال‬
‫سهل بن عبد ‪ /‬الّ التستري‪ :‬يا معشر الصوفية‪ ،‬ل تفارقوا السواد على البياض‪ ،‬فما فارق أحد السواد على البياض إل‬
‫تزندق‪ .‬وقال الجنيد‪ :‬علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة‪ ،‬فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث ل يقتدى به في هذا‬
‫الشأن‪.‬‬

‫وكثير من هؤلء ينفر ممن يذكر الشرع‪ ،‬أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب‪ ،‬وذلك؛ لنهم استشعروا أن هذا‬
‫الجنس فيه ما يخالف طريقهم‪ ،‬فصارت شياطينهم تهربهم من هذا‪ ،‬كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلم‬
‫المسلمين حتى ل يتغير اعتقاده في دينه‪ ،‬وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم‪ ،‬ويستغشون ثيابهم لئل‬
‫س َمعُوا ِل َهذَا الْ ُقرْآنِ وَا ْلغَوْا فِيهِ َلعَّلكُ ْم َتغِْلبُونَ}‬ ‫يسمعوا كلمه ول يروه‪ ،‬وقال الّ تعالى عن المشركين‪َ { :‬وقَالَ اّلذِينَ َكفَرُوا َ‬
‫ل تَ ْ‬
‫ت مِنْ َقسْوَرَةٍ} [المدثر‪.]51 - 49 :‬‬ ‫س َتنْفِرَةٌ‪ .‬فَرّ ْ‬ ‫[فصلت‪ ،]26 :‬وقال تعالى‪َ { :‬فمَا َل ُهمْ عَنْ التّ ْذكِرَ ِة ُمعْرِضِينَ‪ .‬كََأّنهُمْ ُ‬
‫حمُ ٌر مُ ْ‬
‫وهم من أرغب الناس في السماع البدعي‪ ،‬سماع المعازف‪ .‬ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات الّ ـ تعالى‪:‬‬

‫وكان مما زين لهم طريقهم‪ ،‬أن وجدوا كثيرًا من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة الّ ـ تعالى ـ وسلوك‬
‫سبيله‪ ،‬إما اشتغالً بالدنيا‪ ،‬وإما بالمعاصي وإما جهل وتكذيبًا بما يحصل لهل التأله والعبادة‪ ،‬فصار وجود هؤلء مما‬
‫ينفرهم‪ ،‬وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه ‪ /‬من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين‪ ،‬هؤلء يقولون‪ :‬ليس هؤلء‬
‫على شيء‪ ،‬وهؤلء يقولون‪ :‬ليس هؤلء على شيء‪ ،‬وقد يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل في‬
‫الكتب‪.‬‬

‫فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بل تلقين‪ ،‬ويحكون أن شخصًا حصل له ذلك‪ ،‬وهذا كذب‪ .‬نعم قد يكون سمع آيات الّ‪،‬‬
‫فلما صفى نفسه تذكرها فتلها‪ .‬فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها‪ ،‬ويقول بعضهم أو يحكي أن‬
‫بعضهم قال‪ :‬أخذوا علمهم ميتًا عن ميت‪ ،‬وأخذنا علمنا عن الحي الذي ل يموت‪ .‬وهذا يقع‪ ،‬لكن منهم من يظن أنّ ما‬
‫يلقي إليه من خطاب‪ ،‬أو خاطر هو من الّ ـ تعالى ـ بل واسطة‪ ،‬وقد يكون من الشيطان وليس عندهم فرقان يفرق بين‬
‫الرحماني والشيطاني‪ ،‬فإن الفرق الذي ل يخطئ هو القرآن والسنة‪ ،‬فما وافق الكتاب والسنة‪ ،‬فهو حق‪ .‬وماخالف‬
‫ذلك‪ ،‬فهو خطأ‪.‬‬

‫سبُونَ َأّنهُ ْم ُمهْ َتدُونَ ‪.‬‬


‫سبِيلِ َويَحْ َ‬
‫صدّونَهُمْ عَنْ ال ّ‬
‫شيْطَانًا َفهُوَ لَ ُه قَرِينٌ‪ .‬وَِإّنهُمْ َليَ ُ‬
‫حمَنِ ُن َقيّضْ لَهُ َ‬ ‫وقد قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َيعْشُ عَ ْ‬
‫ن ِذكْرِ الرّ ْ‬
‫ت َبيْنِي َو َب ْي َنكَ ُب ْعدَ ا ْلمَ ْش ِر َقيْنِ َف ِبئْسَ ا ْلقَرِينُ} [الزخرف‪. ]36-38 :‬‬ ‫ل يَاَليْ َ‬
‫حتّى ِإذَا جَا َءنَا قَا َ‬
‫َ‬

‫وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله‪ ،‬قال تعالي‪{ :‬وَ َهذَا ِذكْ ٌر ُمبَا َركٌ أَنزَ ْلنَاهُ} [النبياء‪ ،]50 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا هُوَ‬
‫شقَى ‪َ .‬ومَنْ أَعْ َرضَ عَنْ‬ ‫ل يَ ْ‬
‫ل يَضِلّ َو َ‬ ‫ل ذِكْرٌ ِل ْلعَاَلمِينَ} [ القلم‪ ،]52 :‬وقال تعـالى‪َ {/ :‬فِإمّا يَ ْأ ِتيَ ّنكُ ْم ِمنّي ُهدًى َفمَنْ ا ّتبَعَ ُهدَا َ‬
‫ي فَ َ‬ ‫ِإ ّ‬
‫ل َكذَِلكَ َأ َت ْتكَ آيَا ُتنَا َفنَسِي َتهَا‬‫ت بَصِيرًا ‪ .‬قَا َ‬
‫عمَى َو َقدْ كُن ُ‬ ‫عمَى ‪ .‬قَالَ َربّ لِمَ حَشَ ْر َتنِي أَ ْ‬ ‫حشُرُ ُه يَوْمَ الْ ِقيَامَةِ أَ ْ‬
‫ذِكْرِي فَإِنّ لَ ُه َمعِيشَةً ضَنكًا َونَ ْ‬
‫ن َيعْمَلُو َ‬
‫ن‬ ‫َو َكذَِلكَ ا ْليَ ْو َم تُنسَى} [طه‪ ،]123-126 :‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ َهذَا ا ْلقُرْآ َ‬
‫ن َي ْهدِي لِّلتِي هِيَ َأ ْقوَمُ َو ُيبَشّرُ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ اّلذِي َ‬
‫عذَابًا أَلِيمًا} [السراء‪ ،]10 ،9 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و َكذَِلكَ‬ ‫ع َت ْدنَا َلهُمْ َ‬
‫ل يُ ْؤ ِمنُونَ بِالْخِرَةِ أَ ْ‬
‫جرًا َكبِيرًا ‪ .‬وَأَنّ اّلذِينَ َ‬ ‫الصّاِلحَاتِ أَنّ َلهُمْ أَ ْ‬
‫عبَادِنَا َوِإّنكَ َل َت ْهدِي إِلَى‬
‫ن نَشَا ُء مِنْ ِ‬ ‫جعَ ْلنَا ُه نُورًا َن ْهدِي بِهِ مَ ْ‬
‫ت تَدْرِي مَا ا ْل ِكتَابُ َولَ الِْيمَانُ َوَلكِنْ َ‬ ‫ح ْينَا ِإَل ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْ ِرنَا مَا ُكنْ َ‬ ‫أَوْ َ‬
‫لّ َتصِيرُ ا ُلْمُورُ} [الشورى‪ ،]53 ،52 :‬وقال‬ ‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَْ ْرضِ َألَ إِلَى ا ِ‬ ‫ستَقِيمٍ ‪ .‬صِرَاطِ الِّ اّلذِي لَ ُه مَا فِي ال ّ‬ ‫ط مُ ْ‬
‫صِرَا ٍ‬
‫س مِنْ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر بِِإذْنِ َرّبهِمْ إِلَى صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ الْ َحمِيدٌِ} [إبراهيم‪ ،]1 :‬وقال‬ ‫خرِجَ النّا َ‬ ‫تعالى‪ِ { :‬كتَابٌ أَنزَ ْلنَاهُ إَِل ْيكَ ِلتُ ْ‬
‫تعالى‪{ :‬فَاّلذِي َن آ َمنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ َونَصَرُوهُ وَاّتبَعُوا النّورَ اّلذِي أُنزِ َل َمعَهُ أُوَْل ِئكَ هُمْ ا ْلمُفْلِحُونَ} [العراف‪. ]157 :‬‬

‫ثم إن هؤلء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من الّ بل واسطة‪ ،‬صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول‪ .‬يقول‬
‫أحدهم‪ :‬فلن عطيته على يد محمد‪ ،‬وأنا عطيتي من الّ بل واسطة‪ ،‬ويقول أيضًا‪ :‬فلن يأخذ عن الكتاب‪ ،‬وهذا الشيخ‬
‫يأخذ عن الّ‪ ،‬ومثل هذا‪.‬‬

‫وقول القائل‪ :‬يأخذ عن الّ‪ ،‬وأعطاني الّ لفظ مجمل‪ ،‬فإن ‪ /‬أراد به العطاء والخذ العام وهو الكوني الخلقي أي‪:‬‬
‫بمشيئة الّ وقدرته حصل لي هذا‪ ،‬فهو حق‪ ،‬ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا‪ ،‬وذلك الذي أخذ عن الكتاب‪ ،‬هو‬
‫أيضًا عن الّ أخذ بهذا العتبار‪ .‬والكفار من المشركين وأهل الكتاب أيضًا هم كذلك‪ ،‬وإن أراد أن هذا الذي حصل له‬
‫هو مما يحبه الّ‪ ،‬ويرضاه‪ ،‬ويقرب إليه‪ ،‬وهذا الخطاب الذي يلقي إليه هو كلم الّ تعالى‪ .‬فهنا طريقان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن يقال له‪ :‬من أين لك أن هذا إنما هو من الّ‪ ،‬ل من الشيطان‪ ،‬وإلقائه ووسوسته؟ فإن الشياطين يوحون إلى‬
‫أوليائهم وينزلون عليهم‪ ،‬كما أخبر الّ ـ تعالى ـ بذلك في القرآن‪ ،‬وهذا موجود كثيرًا في عباد المشركين‪ ،‬وأهل‬
‫الكتاب‪ ،‬وفي الكهان‪ ،‬والسحرة‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬وفي أهل البدع بحسب بدعتهم‪ .‬فإن هذه الحوال قد تكون شيطانية وقد‬
‫تكون رحمانية‪ ،‬فل بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‪ ،‬والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث الّ به‬
‫محمدًا صلى ال عليه وسلم فهو {اّلذِي نَزّلَ الْ ُف ْرقَانَ عَلَى َعبْدِهِ ِل َيكُونَ لِ ْلعَاَلمِي َن نَذِيرًا}[الفرقان‪ ،]1 :‬وهوالذي فرق الّ به‬
‫بين الحق والباطل‪ ،‬وبين الهدى والضلل‪ ،‬وبين الرشاد والغي‪ ،‬وبين طريق الجنة وطريق النار‪ ،‬وبين سبيل أولياء‬
‫الرحمن وسبيل أولياء الشيطان‪ ،‬كما قد بسط الكلم على هذا في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫‪/‬والمقصود هنا أنه يقال لهم‪ :‬إذا كان جنس هذه الحوال مشتركًا بين أهل الحق وأهل الباطل فل بد من دليل يبين أن‬
‫ما حصل لكم هو الحق‪.‬‬

‫الطريق الثاني‪ :‬أن يقال‪ :‬بل هذا من الشيطان لنه مخالف لما بعث الّ به محمدًا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذلك أنه ينظر‬
‫فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته‪ ،‬فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له‪ :‬اسجد لهذا الصنم حتى‬
‫يحصل لك المراد‪ ،‬أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب‪ ،‬أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل‬
‫أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب‪ ،‬أو أن يدعو مخلوقًا‪ ،‬كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق‬
‫ملكًا‪ ،‬أو نبيًا‪ ،‬أو شيخًا‪ ،‬فإذا دعاه كما يدعو الخالق‪ ،‬سبحانه‪ ،‬إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة صار مشركا به‪ ،‬فحينئذ‬
‫ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك‪ ،‬كما كان يحصل للمشركين‪.‬‬

‫وكانت الشياطين تتراءى لهم أحيانًا‪ ،‬وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض المور الغائبة‪ .‬أو يقضون لهم‬
‫بعض الحوائج‪ ،‬فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم‪ ،‬وإيمانهم الذي هلكوا بزواله‬
‫ن بِ ِه َبيْنَ ا ْل َمرْءِ َوزَوْجِهِ‬
‫ن ِم ْنهُمَا مَا يُفَ ّرقُو َ‬
‫ل َتكْفُ ْر َف َي َتعَلّمُو َ‬
‫ن ِفتْنَ ٌة فَ َ‬
‫حتّى يَقُولَ ِإّنمَا نَحْ ُ‬
‫حدٍ َ‬ ‫كالسحر‪ ،‬قال الّ تعالى‪َ { :‬ومَا يُعَّلمَا ِ‬
‫ن مِنْ َأ َ‬
‫خرَ ِة مِنْ خَلَقٍ َوَلبِئْسَ‬
‫شتَرَا ُه مَا لَ ُه فِي الْ ِ‬
‫حدٍ ِإلّ ِبِإذْنِ الِّ َو َي َتعَّلمُونَ مَا يَضُرّ ُهمْ َولَ يَن َف ُعهُمْ َولَ َق ْد عَِلمُوا َلمَنْ ا ْ‬
‫ن بِ ِه مِنْ أَ َ‬
‫َومَا ُه ْم بِضَارّي َ‬
‫مَا َشرَوْا بِهِ أَنفُ َسهُمْ لَ ْو كَانُوا َيعَْلمُونَ} [البقرة‪. ]102 :‬‬

‫وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف‪ ،‬وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان ـ رضي الّ عنه ـ أنه قال‪ :‬اتقوا الخمر‬
‫فإنها أم الخبائث‪ ،‬وإن رجلً سأل امرأة‪ ،‬فقالت‪ :‬ل أفعل حتى تسجد لهذا الوثن‪ ،‬فقال‪ :‬ل أشرك بالّ‪ ،‬فقالت‪ :‬أو تقتل‬
‫هذا الصبي؟ فقال‪ :‬ل أقتل النفس التي حرم الّ‪ ،‬فقالت‪ :‬أو تشرب هذا القدح؟ فقال هذا أهون‪ .‬فلما شرب الخمر قتل‬
‫الصبي وسجد للوثن وزنا بالمرأة‪.‬‬

‫والمعازف هي خمر النفوس‪ ،‬تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس‪ ،‬فإذا سكروا بالصوات حل فيهم الشرك‪،‬‬
‫ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم‪ ،‬فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الّ‪ ،‬ويزنون‪.‬‬
‫وهذه الثلثة موجودة كثيرًا في أهل سماع المعازف‪ ،‬سماع المكاء والتصدية‪ ،‬أما الشرك فغالب عليهم بأن يحبوا‬
‫شيخهم أو غيره‪ ،‬مثل ما يحبون الّ ويتواجدون على حبه‪.‬‬

‫وأما الفواحش‪ ،‬فالغناء رقية الزنا‪ ،‬وهو من أعظم السباب‪ /،‬لوقوع الفواحش‪ ،‬ويكون الرجل والصبي والمرأة في‬
‫غاية العفة والحرية حتى يحضره‪ ،‬فتنحل نفسه‪ ،‬وتسهل عليه الفاحشة‪ ،‬ويميل لها فاعل ً‪ ،‬أو مفعولً به أو كلهما‪،‬‬
‫كما يحصل بين شاربي الخمر‪ ،‬وأكثر‪.‬‬

‫وأما القتل‪ ،‬فإن قتل بعضهم بعضًا في السماع‪ ،‬كثير يقولون‪ :‬قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته‪ ،‬وذلك أن معهم‬
‫شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الخر‪ .‬كالذين يشربون الخمر‪ ،‬ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا‬
‫عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الخر‪ ،‬وقد جرى مثل هذا لكثير منهم‪ ،‬ومنهم من يقتل إما شخصًا‪ ،‬وإما فرسًا‪،‬‬
‫أو غير ذلك بحاله‪ ،‬ثم يقوم صاحب الثأر‪ ،‬ويستغيث بشيخه‪ ،‬فيقتل ذلك الشخص‪ ،‬وجماعة معه‪ :‬إما عشرة‪ ،‬وإما أقل‬
‫أو أكثر‪ .‬كما جرى مثل هذا لغير واحد‪ .‬وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات‪.‬‬

‫فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية‪ ،‬وأن هؤلء معهم شياطين تعينهم على الثم والعدوان عرف ذلك من بصره الّ ـ‬
‫تعالى ـ وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلء‪.‬‬

‫وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والرادة فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة‪ ،‬فبتنا‬
‫بمكان وأرادوا أن ‪ /‬يقيموا سماعا وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك‪ ،‬فجعلوا لي مكانا منفردًا قعدت فيه‪ ،‬فلما سمعوا‬
‫وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده‪ ،‬ويقول‪ :‬يا فلن قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ‬
‫نصيبك‪ ،‬فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا‪ :‬أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب ل يأتي عن طريق‬
‫محمد بن عبد الّ‪ ،‬فإني ل آكل منه شيئًا‪ ،‬وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة‪ ،‬وعلم أنه كان معهم الشياطين‪،‬‬
‫وكان فيهم من هو سكران بالخمر‪.‬‬

‫والذي قلته معناه‪ :‬أن هذا النصيب‪ ،‬وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي‪ ،‬ليس هو طاعة لّ ورسوله ول‬
‫شرعها الرسول فهو مثل من يقول‪ :‬تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال‪ ،‬أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك‬
‫هذه الولية ونحو ذلك‪.‬‬

‫وقد يكون سببه نذرًا لغير الّ ـ سبحانه وتعالى ـ مثل أن ينذر لصنم‪ ،‬أو كنيسة‪ ،‬أو قبر‪ ،‬أو نجم‪ ،‬أو شيخ‪ ،‬ونحو ذلك‬
‫من النذور‪ ،‬التي فيها شرك‪ ،‬فإذا أشرك بالنذر‪ ،‬فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه‪ ،‬كما تقدم في السحر‪.‬‬

‫وهذا بخلف النذر لّ ـ تعالى ـ فإنه ثبت في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه نهى عن‬
‫النذر‪ ،‬وقال‪( :‬إنه ل يأتي ‪ /‬بخير‪ ،‬وإنما يستخرج به من البخيل) وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم نحوه‪ ،‬وفي رواية‪( :‬فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر) فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به‪،‬‬
‫منهى عن عقده‪ ،‬ولكن إذا كان قد عقده فعليه‪ ،‬الوفاء به كما في صحيح البخاري عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫قال‪( :‬من نذر أن يطيع الّ فليطعه‪ ،‬ومن نذر أن يعصي الّ فل يعصه)‪.‬‬

‫وإنما نهى عنه صلى ال عليه وسلم ؛لنه ل فائدة فيه إل التزام ما التزمه‪ ،‬وقد ل يرضى به‪ ،‬فيبقى آثمًا‪ .‬وإذا فعل تلك‬
‫العبادات بل نذر كان خيرًا له‪ ،‬والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم‪ ،‬فبين النبي صلى ال عليه وسلم أن النذر ل‬
‫يأتي بخير‪ ،‬فليس النذر سببًا في حصول مطلوبهم‪ ،‬وذلك أن الناذر إذا قال‪ :‬لّ علي إن حفظني الّ القرآن أن أصوم‬
‫مثلً ثلثة أيام‪ ،‬أو إن عافاني الّ من هذا المرض‪ ،‬أو إن دفع الّ هذا العدو‪ ،‬أو إن قضي عني هذا الدين فعلت كذا‪،‬‬
‫فقد جعل العبادة التي التزمها عوضًا عن ذلك المطلوب‪ .‬والّ ـ سبحانه ـ ل يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة‬
‫المنذورة‪ ،‬بل ينعم على عبده بذلك المطلوب؛ ليبتليه أيشكر أم يكفر؟ وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه‪.‬‬

‫وأما تلك العبادة المنذورة‪ ،‬فل تقوم بشكر تلك النعمة‪ ،‬ول ينعم الّ تلك النعمة؛ ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي‬
‫كانت مستحبة‪ ،‬فصارت ‪ /‬واجبة؛ لنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء‪ ،‬بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي‬
‫الفرائض‪ ،‬ويجتنب المحارم‪ ،‬لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيرًا من حقوق الّ ثم بذل ذلك النذر؛ لجل تلك النعمة‪،‬‬
‫وتلك النعمة أجل من أن ينعم الّ بها؛ لمجرد ذلك المبذول المحتقر‪.‬‬
‫وإن كان المبذول كثيرًا‪ ،‬والعبد مطيع لّ‪ ،‬فهو أكرم على الّ من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير‪ ،‬فليس النذر سببًا‬
‫لحصول مطلوبه كالدعاء‪ ،‬فإن الدعاء من أعظم السباب وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها الّ تعالى أسبابا؛‬
‫لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء‪ ،‬وأما ما يفعله على وجه النذر‪ ،‬فإنه ل يجلب منفعة‪ ،‬ول يدفع عنه‬
‫مضرة‪ ،‬لكنه كان بخيل فلما نذر‪ ،‬لزمه ذلك‪ ،‬فالّ ـ تعالى ـ يستخرج بالنذر من البخيل‪ ،‬فيعطي على النذر مالم يكن‬
‫يعطيه بدونه والّ أعلم‪.‬‬

‫حمَهُ الُّ َتعَالَى‪:‬‬


‫سُئـلَ شَيْـخُ الِسْـلم ـ رَ ِ‬ ‫‪/‬‬

‫ما عمل أهل الجنة؟ وما عمل أهل النار؟‬

‫فأجاب‪:‬‬

‫الحمد لّ رب العالمين‪ ،‬عمل أهل الجنة‪ :‬اليمان والتقوى‪ ،‬وعمل أهل النار الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬فأعمال أهل‬
‫الجنة اليمان بالّ‪ ،‬وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬واليمان بالقدر خيره وشره‪ ،‬والشهادتان‪ :‬شهادة أن ل‬
‫إله إل الّ‪ ،‬وأن محمدًا رسول الّ‪ ،‬وإقام الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وحج البيت‪ .‬وأن تعبد الّ كأنك‬
‫تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك‪.‬‬

‫ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬صدق الحديث‪ ،‬وأداء المانة‪ ،‬والوفاء بالعهد‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬وصلة الرحام‪ ،‬والحسان إلى‬
‫الجار‪ ،‬واليتيم‪ ،‬والمسكين‪ ،‬والمملوك من الدميين والبهائم‪.‬‬

‫‪/‬ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬الخلص لّ‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والمحبة له ولرسوله‪ ،‬وخشية الّ ورجاء رحمته‪ ،‬والنابة إليه‪،‬‬
‫والصبر على حكمه‪ ،‬والشكر لنعمه‪.‬‬

‫ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬قراءة القرآن‪ ،‬وذكر الّ‪ ،‬ودعاؤه‪ ،‬ومسألته‪ ،‬والرغبة إليه‪.‬‬

‫ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬والجهاد في سبيل ال للكفار والمنافقين‪.‬‬

‫ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬أن تصل من قطعك‪ ،‬وتعطي من حرمك‪ ،‬وتعفو عمن ظلمك‪ ،‬فإن الّ أعد الجنة للمتقين‪ ،‬الذين‬
‫ينفقون في السراء‪ ،‬والضراء‪ ،‬والكاظمين الغيظ‪ ،‬والعافين عن الناس‪ ،‬والّ يحب المحسنين‪.‬‬

‫ومن أعمال أهل الجنة‪ :‬العدل في جميع المور‪ ،‬وعلى جميع الخلق حتى الكفار‪ ،‬وأمثال هذه العمال‪.‬‬

‫وأما عمل أهل النار‪ ،‬فمثل‪ :‬الشراك بالّ‪ ،‬والتكذيب بالرسل‪ ،‬والكفر والحسد‪ ،‬والكذب‪ ،‬والخيانة‪ ،‬والظلم‪ ،‬والفواحش‪،‬‬
‫والغدر‪ ،‬وقطيعة الرحم‪ ،‬والجبن عن الجهاد‪ ،‬والبخل‪ ،‬واختلف السر والعلنية‪ ،‬واليأس من ‪ /‬روح الّ‪ ،‬والمن من‬
‫مكر الّ‪ ،‬والجزع عند المصائب‪ ،‬والفخر والبطر عند النعم‪ ،‬وترك فرائض الّ‪ ،‬واعتداء حدوده‪ ،‬وانتهاك حرماته‪،‬‬
‫وخوف المخلوق دون الخالق‪ ،‬ورجاء المخلوق دون الخالق‪ ،‬والتوكل على المخلوق دون الخالق‪ ،‬والعمل رياء‬
‫وسمعة‪ ،‬ومخالفة الكتاب والسنة‪ ،‬وطاعة المخلوق في معصية الخالق‪ ،‬والتعصب بالباطل‪ ،‬والستهزاء بآيات الّ‪،‬‬
‫وجحد الحق‪ ،‬والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة‪.‬‬

‫ومن عمل أهل النار‪ :‬السحر‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬وقتل النفس التي حرم الّ بغير الحق‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬وأكل الربا‪،‬‬
‫والفرار من الزحف‪ ،‬وقذف المحصنات الغافلت المؤمنات‪.‬‬

‫وتفصيل الجملتين ل يمكن‪ ،‬لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة الّ ورسوله‪ ،‬وأعمال أهل النار كلها تدخل في‬
‫لْ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َوذَِلكَ ا ْلفَوْزُ ا ْلعَظِيمُ ‪َ .‬ومَنْ َيعْصِ‬
‫ح ِتهَا ا َ‬
‫ن تَ ْ‬
‫ت تَجْرِي مِ ْ‬
‫جنّا ٍ‬ ‫معصية الّ ورسوله‪َ { ،‬ومَنْ يُطِعْ الَّ وَرَسُولَ ُه يُدْ ِ‬
‫خلْهُ َ‬
‫ب ُمهِينٌ}[النساء‪ ]14 ،13 :‬والّ أعلم‪.‬‬ ‫عذَا ٌ‬
‫حدُودَ ُه يُدْخِلْ ُه نَارًا خَاِلدًا فِيهَا وَلَهُ َ‬
‫الَّ وَ َرسُولَهُ َو َي َتعَدّ ُ‬

‫‪/‬وقال الشيخ ـ رحمه الّ تعالى ‪:‬‬


‫َفصْــل‬

‫وأما قوله‪ :‬هل الفضل للسالك العزلة أو الخلطة؟‬

‫فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها؟ إما نزاعًا كليًا وإما حاليًا‪ ،‬فحقيقة المر‪ :‬أن الخلطة تارة تكون واجبة أو‬
‫مستحبة‪ ،‬والشخص الواحد قد يكون مأمورًا بالمخالطة تارة‪ ،‬وبالنفراد تارة‪ .‬وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها‬
‫تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها‪ ،‬وإن كان فيها تعاون على الثم والعدوان فهي منهي عنها‪ ،‬فالختلط‬
‫بالمسلمين في جنس العبادات‪ ،‬كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلة الكسوف‪ ،‬والستسقاء‪ ،‬ونحو ذلك هو‬
‫مما أمر الّ به ورسوله‪.‬‬

‫وكذلك الختلط بهم في الحج‪ ،‬وفي غزو الكفار والخوارج المارقين‪ ،‬وإن كان أئمة ذلك فجارًا‪ ،‬وإن كان في تلك‬
‫الجماعات فجار‪ / ،‬وكذلك الجتماع الذي يزداد العبد به إيمانًا‪ ،‬إما لنتفاعه به‪ ،‬وإما لنفعه له‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫ول بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلح قلبه‪ ،‬وما يختص به‬
‫من المور التي ل يشركه فيها غيره‪ ،‬فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه‪ ،‬إما في بيته‪ ،‬كما قال طاووس‪ :‬نعم صومعة‬
‫الرجل بيته‪ ،‬يكف فيها بصره ولسانه‪ ،‬وإما في غير بيته‪.‬‬

‫فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ‪ ،‬واختيار النفراد مطلقًا خطأ‪ ،‬وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا‪ ،‬وهذا‪ ،‬وما‬
‫هو الصلح له في كل حال‪ ،‬فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم‪.‬‬

‫وكذلك السبب وترك السبب‪ ،‬فمن كان قادرًا على السبب‪ ،‬ول يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به‪ ،‬مع‬
‫التوكل على الّ‪ ،‬وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال‪ ،‬وسبب مثل هذا عبادة الّ‪ ،‬وهو مأمور أن‬
‫ل ويتوكل عليه‪ ،‬فإن تسبب بغير نية صالحة‪ ،‬أو لم يتوكل على الّ‪ ،‬فهو مطيع في هذا وهذا‪ ،‬وهذه طريق‬‫يعبد ا ّ‬
‫النبياء والصحابة‪.‬‬

‫وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل الّ ل يستطيعون ‪ /‬ضربًا في الرض يحسبهم الجاهل أغنياء من‬
‫التعفف‪ ،‬فهذا إما أن يكون عاجزًا عن الكسب‪ ،‬أو قادرًا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع لّ من الكسب‪ ،‬ففعل ما هو فيه‬
‫أطوع هو المشروع في حقه‪ ،‬وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس‪.‬‬

‫وقد تقدم أن الفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات‪ ،‬كما أن جنس الصلة أفضل من جنس القراءة‪ ،‬وجنس‬
‫القراءة أفضل من جنس الذكر‪ ،‬وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء‪ ،‬و تارة يختلف باختلف الوقات‪ ،‬كما أن‬
‫القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلة‪.‬‬

‫وتارة باختلف عمل النسان الظاهر‪ ،‬كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة‪ ،‬وكذلك‬
‫الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالتفاق‪ ،‬وأما القراءة في الطواف‪ ،‬ففيها نزاع معروف‪.‬‬

‫وتارة باختلف المكنة كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون‬
‫الصلة ونحوها‪ ،‬والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلة‪ ،‬والصلة للمقيمين بمكة أفضل‪.‬‬

‫‪/‬وتارة باختلف مرتبة جنس العبادة‪ ،‬فالجهاد للرجال أفضل من الحج‪ ،‬وأما النساء فجهادهن الحج‪ ،‬والمرأة المتزوجة‬
‫طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لبويها‪ ،‬بخلف اليمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها‪.‬‬

‫وتارة يختلف باختلف حال قدرة العبد وعجزه‪ ،‬فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه‪ ،‬وإن كان‬
‫جنس المعجوز عنه أفضل‪ ،‬وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس‪ ،‬ويتبعون أهواءهم‪.‬‬

‫فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له؛ ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه‪ ،‬يريد أن يجعله‬
‫أفضل لجميع الناس‪ ،‬ويأمرهم بمثل ذلك‪.‬‬
‫والّ بعث محمدًا بالكتاب والحكمة‪ ،‬وجعله رحمة للعباد‪ ،‬وهديًا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له‪ ،‬فعلى المسلم أن‬
‫يكون ناصحًا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له‪.‬‬

‫وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له‪ ،‬ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل‪ ،‬ومنهم من‬
‫يكون تطوعه بالعبادات ‪ /‬البدنية ـ كالصلة والصيام ـ أفضل له‪ ،‬والفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم باطنا وظاهرًا‪.‬‬

‫فإن خير الكلم كلم الّ‪ ،‬وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫والّ ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‪.‬‬

‫وقــال الشيخ‪:‬‬ ‫‪/‬‬

‫الحمد لّ رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الّ وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى ال عليه‬
‫وسلم تسليمًا كثيرًا‪.‬‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫اعلم أنه يجب على كل بالغ عاقل من النس والجن‪ ،‬أن يشهد أن ل إله إل الّ‪ ،‬وأن محمدًا عبده ورسوله‪ ،‬أرسله‬
‫بالهدى ودين الحق‪ ،‬ليظهره على الدين كله وكفى بالّ شهيدًا‪ .‬أرسله إلى جميع الخلق‪ ،‬إنسهم وجنهم‪ ،‬وعربهم‬
‫وعجمهم‪ ،‬وفرسهم وهندهم‪ ،‬وبربرهم ورومهم‪ ،‬وسائر أصناف العجم أسودهم‪ ،‬وأبيضهم‪ ،‬والمراد بالعجم من ليس‬
‫بعربي على اختلف ألسنتهم‪.‬‬

‫فمحمد صلى ال عليه وسلم أرسل إلى كل أحد‪ ،‬من النس والجن كتابيهم وغير كتابيهم‪ ،‬في كل ما يتعلق بدينه من‬
‫المور الباطنة والظاهرة‪ ،‬في عقائده وحقائقه‪ ،‬وطرائقه وشرائعه‪ ،‬فل عقيدة إل عقيدته‪ ،‬ول حقيقة إل حقيقته‪ ،‬ول‬
‫طريقة إل طريقته‪ ،‬ول شريعة إل شريعته‪ ،‬ول يصل أحد من الخلق إلى الّ‪ ،‬وإلى رضوانه وجنته وكرامته ‪/‬‬
‫ووليته‪ ،‬إل بمتابعته باطنًا وظاهرًا في القوال والعمال الباطنة والظاهرة في أقوال القلب وعقائده‪ ،‬وأحوال القلب‬
‫وحقائقه‪ ،‬وأقوال اللسان وأعمال الجوارح‪.‬‬

‫ل ولي إل من اتبعه باطنًا‪ ،‬وظاهرًا‪ ،‬فصدقه فيما أخبر به من الغيوب‪ ،‬والتزم طاعته فيما فرض على الخلق‬‫وليس ّ‬
‫من أداء الواجبات وترك المحرمات‪ .‬فمن لم يكن له مصدقًا فيما أخبر ملتزمًا طاعته فيما أوجب‪ ،‬وأمر به في المور‬
‫الباطنة التي في القلوب والعمال الظاهرة التي على البدان لم يكن مؤمنا فضل عن أن يكون وليًا لّ ولو حصل له‬
‫من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل‪ ،‬فإنه ل يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور من أداء الواجبات‬
‫من الصلة وغيرها بطهارتها وواجباتها إل من أهل الحوال الشيطانية‪ ،‬المبعدة لصاحبها عن الّ‪ ،‬والمقربة إلى‬
‫سخطه وعذابه‪.‬‬

‫ل وتقواه باطنًا‬ ‫لكن من ليس بمكلف من الطفال والمجانين قد رفع القلم عنهم‪ ،‬فل يعاقبون وليس لهم من اليمان با ّ‬
‫وظاهرًا ما يكونـون بـه من أولياء الّ المتقين‪ ،‬وحزبه المفلحين وجنده الغالبين‪ ،‬لكن يدخلون في السلم تبعًا لبائهم‪،‬‬
‫ئ ِبمَا كَسَبَ‬
‫ل ا ْمرِ ٍ‬
‫شيْ ٍء كُ ّ‬
‫عمَِلهِ ْم مِنْ َ‬ ‫كما قال تعالى‪{ :‬وَاّلذِي َ‬
‫ن آ َمنُوا وَا ّت َبعَ ْتهُ ْم ذُ ّرّيتُهُ ْم بِإِيمَانٍ َألْحَ ْقنَا ِبهِمْ ذُ ّرّي َتهُمْ َومَا َأَلتْنَا ُه ْم مِنْ َ‬
‫رَهِينٌ} [الطور‪.]21 :‬‬

‫‪/‬وهم مع عدم العقل ل يكونون ممن في قلوبهم حقائق اليمان‪ ،‬ومعارف أهل ولية الّ وأحوال خواص الّ؛ لن هذه‬
‫المور كلها مشروطة بالعقل‪ ،‬فالجنون مضاد العقل والتصديق والمعرفة واليقين والهدى والثناء‪ ،‬وإنما يرفع الّ الذين‬
‫آمنوا والذين أوتوا العلم درجات‪ ،‬فالمجنون وإن كان الّ ل يعاقبه ويرحمه في الخرة فإنه ل يكون من أولياء الّ‬
‫المقربين والمقتصدين الذين يرفع الّ درجاتهم‪.‬‬

‫ومن ظن أن أحدًا من هؤلء الذين ل يؤدون الواجبات ول يتركون المحرمات‪ ،‬سواء كان عاقلً‪ ،‬أو مجنونًا‪ ،‬أو‬
‫مولها‪ ،‬أو متولهًا‪ ،‬فمن اعتقد أن أحدًا من هؤلء من أولياء الّ المتقين‪ ،‬وحزبه المفلحين‪ ،‬وعباده الصالحين وجنده‬
‫الغالبين‪ ،‬السابقين‪ ،‬المقربين والمقتصدين الذين يرفع الّ درجاتهم بالعلم واليمان‪ ،‬مع كونه ل يؤدي الواجبات ول‬
‫يترك المحرمات‪ ،‬كان المعتقد لولية مثل هذا كافرًا مرتدًا عن دين السلم‪ ،‬غير شاهد أن محمدًا رسول الّ صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬بل هو مكذب لمحمد صلى ال عليه وسلم فيما شهد به؛ لن محمدًا أخبر عن الّ‪ ،‬أن أولياء الّ هم المتقون‬
‫لّ لَ خَ ْوفٌ عََل ْيهِمْ َولَ هُ ْم يَحْ َزنُونَ‪ .‬اّلذِي َن آ َمنُوا َوكَانُوا َيتّقُونَ} [يونس‪،]63 ،62 :‬‬ ‫المؤمنون‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬ألَ إِنّ أَوِْليَاءَ ا ِ‬
‫وقال تعالي‪{ :‬يَاَأّيهَا النّاسُ ِإنّا خَلَ ْقنَا ُك ْم مِنْ َذكَرٍ وَأُنثَى وَ َجعَ ْلنَاكُمْ ُشعُوبًا َو َقبَائِلَ ِل َتعَا َرفُوا إِنّ َأكْ َر َمكُمْ ِع ْندَ الِّ َأتْقَا ُكمْ} [الحجرات‪:‬‬
‫‪.]13‬‬

‫‪/‬والتقوى أن يعمل الرجل بطاعة الّ‪ ،‬على نور من الّ‪ ،‬يرجو رحمة الّ‪ ،‬وأن يترك معصية الّ‪ ،‬على نور من الّ‪،‬‬
‫يخاف عذاب الّ‪ ،‬ول يتقرب ولي الّ إل بأداء فرائضه‪ ،‬ثم بأداء نوافله‪ .‬قال تعالى‪( :‬وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء‬
‫ما افترضت عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه) كما جاء في الحديث الصحيح اللهي الذي رواه‬
‫البخاري‪.‬‬

‫َفصْل‬

‫ومن أحب العمال إلى الّ‪ ،‬وأعظم الفرائض عنده‪ :‬الصلوات الخمس في مواقيتها‪ ،‬وهي أول ما يحاسب عليها العبد‬
‫من عمله يوم القيامة‪ ،‬وهي التي فرضها الّ ـ تعالى ـ بنفسه ليلة المعراج لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة‪ ،‬وهي‬
‫عمود السلم الذي ل يقوم إل به‪ ،‬وهي أهم أمر الدين‪ ،‬كما كان ـ أمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله‪:‬‬
‫إن أهم أمركم عندي الصلة‪ ،‬فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه‪ ،‬ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬بين العبد وبين الشرك ترك الصلة) وقال‪( :‬العهد الذي‬
‫بيننا وبينهم ‪ /‬الصلة‪ ،‬فمن تركها فقد كفر)‪ .‬فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ غير حائض ونفساء‪ ،‬فهو كافر‬
‫مرتد باتفاق أئمة المسلمين‪ ،‬وإن اعتقد أنها عمل صالح وإن الّ يحبها ويثيب عليها‪ ،‬وصلى مع ذلك وقام الليل‪ ،‬وصام‬
‫النهار‪ ،‬وهو مع ذلك ل يعتقد وجوبها على كل بالغ‪ ،‬فهو أيضًا كافر مرتد‪ ،‬حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ‬
‫عاقل‪.‬‬

‫ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين‪ ،‬أو أن لّ خواصًا ل تجب عليهم الصلة‪،‬‬
‫بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس‪ ،‬أو لستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى‪ ،‬أو أن المقصود‬
‫حضور القلب مع الرب‪ ،‬أو أن الصلة فيها تفرقة‪ ،‬فإذا كان العبد في جمعيته مع الّ فل يحتاج إلى الصلة‪ ،‬بل‬
‫المقصود من الصلة هي المعرفة‪ ،‬فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلة‪ ،‬فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة‪،‬‬
‫كالطيران في الهواء‪ ،‬والمشي على الماء‪ ،‬أو ملء الوعية ماء من الهواء أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من‬
‫الكنوز‪ ،‬وقتل من يبغضه بالحوال الشيطانية‪ .‬فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلة ونحو ذلك‪.‬‬

‫أو أن لّ رجالً خواصًا ل يحتاجون إلى متابعة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن‬
‫موسى‪ ،‬أو أن كل ‪ /‬من كاشف وطار في الهواء‪ ،‬أو مشى على الماء‪ ،‬فهو ولي سواء صلى أو لم يصل‪.‬‬

‫أو اعتقد أن الصلة تقبل من غير طهارة‪ ،‬أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل‬
‫والطهارات والحانات والقمامين‪ ،‬وغير ذلك من البقاع‪ ،‬وهم ل يتوضؤون ول يصلون الصلوات المفروضات‪ ،‬فمن‬
‫اعتقد أن هؤلء أولياء الّ فهو كافر مرتد عن السلم باتفاق أئمة السلم‪ ،‬ولو كان في نفسه زاهدًا عابدًا‪ ،‬فالرهبان‬
‫أزهد وأعبد‪ ،‬وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول‪ ،‬وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون اتباعه ولكنهم لم يؤمنوا‬
‫ن بِالِّ َورُسُلِهِ‬ ‫بجميع ماجاء به‪ ،‬بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض‪ ،‬فصاروا بذلك كافرين كما قال تعالى‪{ :‬إِنّ اّلذِي َ‬
‫ن َيكْفُرُو َ‬
‫سبِيلً ‪ُ .‬أوَْل ِئكَ ُهمْ ا ْلكَافِرُونَ حَقّا‬
‫خذُوا َبيْنَ ذَِلكَ َ‬‫ن َيتّ ِ‬
‫ن ِببَعْضٍ َو َنكْفُ ُر ِب َبعْضٍ َويُرِيدُونَ أَ ْ‬ ‫ن نُ ْؤمِ ُ‬
‫ن يُ َف ّرقُوا َبيْنَ الِّ وَرُسُلِهِ َويَقُولُو َ‬
‫َويُرِيدُونَ أَ ْ‬
‫غفُورًا‬‫ف يُ ْؤتِيهِمْ ُأجُورَ ُهمْ َوكَانَ الُّ َ‬ ‫حدٍ ِم ْنهُمْ أُوَْل ِئكَ سَ ْو َ‬
‫سلِهِ وَلَ ْم يُ َف ّرقُوا َبيْنَ َأ َ‬
‫عذَابًا ُمهِينًا ‪ .‬وَاّلذِينَ آ َمنُوا بِالِّ وَرُ ُ‬
‫ع َتدْنَا ِل ْلكَافِرِينَ َ‬
‫وَأَ ْ‬
‫رَحِيمًا} [النساء‪.]150-152 :‬‬

‫ومن كان مسلوب العقل أو مجنونًا‪ ،‬فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه‪ ،‬فليس عليه عقاب‪ ،‬ول يصح إيمانه ول صلته‬
‫ول صيامه ول شيء من أعماله‪ ،‬فإن العمال كلها ل تقبل إل مع العقل‪ .‬فمن ل عقل ‪ /‬له ل يصح شيء من عبادته ل‬
‫ت لُِوْلِي ال ّنهَى}‬
‫ليَا ٍ‬ ‫فرائضه ول نوافله‪ ،‬ومن ل فريضة له ول نافلة‪ ،‬ليس من أولياء الّ؛ ولهذا قال تعالى‪{ :‬إِ ّ‬
‫ن فِي ذَِلكَ َ‬
‫جرٍ} [الفجْر‪ ]5 :‬أي لذي عقل‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬وَاتّقُونِي‬ ‫ك قَسَمٌ ِلذِي حِ ْ‬ ‫[طه‪ ]54 :‬أي العقول‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬هَ ْ‬
‫ل فِي ذَِل َ‬
‫ل َيعْقِلُونَ} [النفال‪ ،]22 :‬وقال تعالى‪{ :‬‬ ‫يَاأُوْلِي الَْ ْلبَابِ} [البقرة‪ ]197 :‬وقال‪{ :‬إِنّ شَرّ الدّوَابّ ِ‬
‫ع ْندَ الِّ الصّمّ ا ْل ُبكْمُ اّلذِينَ َ‬
‫ِإنّا أَنزَ ْلنَا ُه قُرْآنًا َع َربِيّا َلعَّلكُ ْم َتعْقِلُونَ} [يوسف‪.]2 :‬‬

‫فإنما مدح الّ وأثنى على من كان له عقل‪ .‬فأما من ل يعقل فإن الّ لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط‪ ،‬بل قال‬
‫سعِيرِ} [الملك‪ ،]10 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََل َقدْ ذَرَ ْأنَا‬
‫ل مَا ُكنّا فِي َأصْحَابِ ال ّ‬ ‫ـ تعالى ـ عن أهل النار‪َ { :‬وقَالُوا َل ْو كُنّا نَ ْ‬
‫سمَعُ َأ ْو نَعْ ِق ُ‬
‫لْ ْنعَا ِم بَلْ ُهمْ‬
‫ك كَا َ‬
‫ن ِبهَا أُوَْل ِئ َ‬
‫س َمعُو َ‬
‫ن لَ يَ ْ‬
‫ن لَ ُيبْصِرُونَ ِبهَا وََلهُ ْم آذَا ٌ‬ ‫عيُ ٌ‬
‫ل يَ ْف َقهُونَ ِبهَا وََلهُمْ أَ ْ‬
‫ب َ‬
‫ج َهنّ َم َكثِيرًا مِنْ الْجِنّ وَالِْنسِ َل ُه ْم قُلُو ٌ‬
‫لِ َ‬
‫لْنْعَا ِم بَلْ هُمْ َأضَ ّ‬
‫ل‬ ‫س َمعُونَ أَ ْو َيعْقِلُونَ إِنْ ُهمْ ِإلّ كَا َ‬ ‫ضلّ أُوَْل ِئكَ هُمْ ا ْلغَافِلُونَ} [العراف‪ ]179 :‬وقال‪َ{ :‬أ ْم تَحْ َ‬
‫سبُ أَنّ َأ ْكثَرَهُ ْم يَ ْ‬ ‫أَ َ‬
‫َسبِيلً} [الفرقان‪.]44 :‬‬

‫فمن ل عقل له ل يصح إيمانه ول فرضه ول نفله‪ ،‬ومن كان يهوديًا أو نصرانيًا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح‬
‫إسلمه ل باطنًا ول ظاهرًا‪ .‬ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار‪ .‬ومن كان مؤمنًا ثم جن بعد‬
‫ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في ‪ /‬حال عقله‪ ،‬ومن ولد مجنونًا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ول كفر‪ .‬وحكم‬
‫المجنون حكم الطفل إذا كان أبواه مسلمين كان مسلمًا تبعًا لبويه باتفاق المسلمين‪ ،‬وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند‬
‫جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد‪.‬‬

‫وكذلك من جن بعد إسلمه يثبت لهم حكم السلم تبعًا لبائهم‪ ،‬وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له‬
‫بالسلم ظاهرًا تبعًا لبويه أو لهل الدار‪ ،‬كما يحكم بذلك للطفال‪ .‬ل لجل إيمان قام به‪ ،‬فأطفال المسلمين ومجانينهم‬
‫ل المتقين الذين‬ ‫يوم القيامة تبع لبائهم‪ ،‬وهذا السلم ل يوجب له مزية على غيره‪ ،‬ول أن يصير به من أولياء ا ّ‬
‫حتّى َتعَْلمُوا مَا تَقُولُونَ َولَ‬
‫سكَارَى َ‬ ‫يتقربون إليه بالفرائض والنوافل‪ .‬وقد قال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِي َ‬
‫ن آ َمنُوا لَ َتقْ َربُوا الصّلَةَ وََأ ْنتُمْ ُ‬
‫ُجُنبًا ِإلّ عَابِرِي َسبِيلٍ َحتّى َت ْغتَسِلُوا} [النساء‪ ]43 :‬فنهى الّ عز وجل عن قربان الصلة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا‬
‫ما يقولون‪.‬‬

‫وهذه الية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم الخمر بالية التي أنزلها الّ في "سورة المائدة"‪ .‬وقد روى أنه كان سبب‬
‫نزولها‪ :‬أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم فخلط في القراءة‪ ،‬فأنزل الّ هذه الية؛ فإذا‬
‫كان قد حرم الّ الصلة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون‪ ،‬علم أن ذلك يوجب أل يصلي ‪/‬أحد‬
‫حتى يعلم ما يقول‪ .‬فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلة‪ ،‬وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم؛ ولهذا اتفق‬
‫العلماء على أنه ل تصح صلة من زال عقله بأي سبب زال‪ ،‬فكيف بالمجنون؟!‪.‬‬

‫وقد قال بعض المفسرين ـ وهو يروي عن الضحاك ـ‪ :‬ل تقربوها وأنتم سكارى من النوم‪ .‬وهذا إذا قيل‪ :‬إن الية دلت‬
‫عليه بطريق العتبار أو شمول معنى اللفظ العام‪ ،‬وإل فل ريب أن سبب نزول الية كان السكر من الخمر‪ .‬واللفظ‬
‫صريح في ذلك؛ والمعنى الخر صحيح أيضًا‪ .‬وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إذا‬
‫قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد‪ ،‬فإنه ل يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ـ وفي لفظ ـ‬
‫إذا قام يصلي فنعس فليرقد)‪.‬‬

‫فقد نهى النبي صلى ال عليه وسلم عن الصلة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس‪ .‬وقد احتج العلماء بهذا على أن‬
‫النعاس ل ينقض الوضوء‪ ،‬إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلة‪ ،‬أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة‪ ،‬والنبي صلى ال‬
‫عليه وسلم إنما علل ذلك بقوله‪( :‬فإنه ل يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه) فعلم أنه قصد النهي عن الصلة لمن‬
‫ل يدري ما يقول وإن كان ذلك بسبب النعاس‪ .‬وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال‪( :‬ل يصلي ‪ /‬أحدكم‪ ،‬وهو‬
‫يدافع الخبثين ول بحضرة طعام) لما في ذلك من شغل القلب‪ .‬وقال أبو الدرداء‪ :‬من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته‬
‫فيقضيها ثم يقبل على صلته وقلبه فارغ‪.‬‬

‫فإذا كانت الصلة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح حتى يعلم ما يقول كانت صلة المجنون ومن يدخل‬
‫في مسمى المجنون‪ ،‬وإن سمي مولها أو متولها‪ ،‬أولى أل تجوز صلته‪.‬‬

‫ومعلوم أن الصلة أفضل العبادات‪ ،‬كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال‪ :‬قلت للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أي‬
‫العمل أحب إلى الّ؟ قال‪( :‬الصلة على وقتها)‪ .‬قلت‪ :‬ثم أي ؟ قال‪( :‬بر الوالدين)‪ .‬قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪( :‬الجهاد)‪ .‬قال‪:‬‬
‫حدثني بهن رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولو استزدته لزادني‪ .‬وثبت أيضًا في الصحيحين عنه‪ :‬أنه جعل أفضل‬
‫العمال إيمان بالّ‪ ،‬وجهاد في سبيله‪ ،‬ثم الحج المبرور‪ .‬ول منافاة بينهما؛ فإن الصلة داخلة في مسمى اليمان بالّ‪،‬‬
‫كما دخلت في قوله تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ الُّ ِليُضِيعَ إِيمَا َنكُمْ} [البقرة‪ .]143 :‬قال البراء بن عازب وغيره من السلف‪ :‬أي‬
‫صلتكم إلى بيت المقدس‪.‬‬

‫ولهذا كانت الصلة كاليمان ل تدخلها النيابة بحال‪ ،‬فل يصلي أحد عن أحد الفرض‪ ،‬ل لعذر ول لغير عذر‪ .‬كما ل‬
‫يؤمن أحد عنه‪ ،‬ول ‪ /‬تسقط بحال كما ل يسقط اليمان‪ ،‬بل عليه الصلة ما دام عقله حاضرًا‪ ،‬وهو متمكن من فعل‬
‫بعض أفعالها‪ .‬فإذا عجز عن جميع الفعال ولم يقدر على القوال‪ ،‬فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الفعال‬
‫بقلبه؟ فيه قولن للعلماء‪ ،‬وإن كان الظهر أن هذا غير مشروع‪.‬‬

‫فإذا كان كذلك‪ ،‬تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى الّ من فرض ونفل‪ ،‬و[الولية] هي اليمان والتقوى‬
‫المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل‪ ،‬فقد حرم ما به يتقرب أولياء الّ إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فل‬
‫يعاقب‪ ،‬كما ل يعاقب الطفال والبهائم؛ إذ ل تكليف عليهم في هذه الحال‪ .‬ثم إن كان مؤمنًا قبل حدوث الجنون به‪ ،‬وله‬
‫أعمال صالحة‪ ،‬وكان يتقرب إلى الّ بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك اليمان والعمل الصالح‬
‫ما تقدم‪ ،‬وكان له من ولية الّ تعالى بحسب ما كان عليه من اليمان والتقوى‪ ،‬كما ل يسقط ذلك بالموت‪ ،‬بخلف ما‬
‫لو ارتد عن السلم؛ فإن الردة تحبط العمال‪ ،‬وليس من السيئات ما يحبط العمال الصالحة إل الردة‪ ،‬كما أنه ليس‬
‫من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إل التوبة‪ ،‬فل يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته‪ ،‬كما‬
‫ل يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالعمال المسكرة والنوم؛ لنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح‪ ،‬ولكن في‬
‫الحديث ‪ /‬الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إذا مرض العبد أو سافر‪ ،‬كتب له من‬
‫العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم)‪.‬‬

‫وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك‪( :‬إن بالمدينة لرجالً ما سرتم مسيرًا‪ ،‬ول قطعتم‬
‫واديًا‪ ،‬إل كانوا معكم) قالوا‪ :‬وهم بالمدينة ؟! قال‪( :‬وهم بالمدينة حبسهم العذر)‪ ،‬فهؤلء كانوا قاصدين للعمل الذي‬
‫كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل؛ بخلف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ول‬
‫عبادة أصلً‪ ،‬بخلف أولئك فإن لهم قصدًا صحيحًا يكتب لهم به الثواب‪.‬‬

‫وأما إن كان قبل جنونه كافرًا أو فاسقًا أو مذنبًا‪ ،‬لم يكن حدوث الجنون به مزيلً؛ لما ثبت من كفره وفسقه؛ ولهذا كان‬
‫من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورًا معهم‪ ،‬وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه‬
‫محشورا مع المؤمنين من المتقين‪ .‬وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمى صاحبه مولهًا أو متولهًا‪ ،‬ل يوجب مزيد‬
‫حال صاحبه من اليمان والتقوى‪ ،‬ول يكون زوال عقله سببًا لمزيد خيره ول صلحه ول ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب‬
‫زوال العقل‪ ،‬فيبقى على ما كان عليه من خير وشر‪ ،‬ل أنه يزيده ول ينقصه‪ ،‬لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير‪،‬‬
‫كما أنه يمنع عقوبته على الشر‪.‬‬

‫‪/‬وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم‪ ،‬كشرب الخمر‪ ،‬وأكل الحشيشة‪ ،‬أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى‬
‫يغيب عقله‪ ،‬أو الذي يتعبد بعبادات بديعة حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله‪ ،‬أو يأكل بنجا يزيل عقله‪،‬‬
‫فهؤلء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول‪ .‬وكثير من هؤلء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه‬
‫فيرقص رقصًا عظيمًا حتى يغيب عقله‪ ،‬أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني‪ ،‬وكثير من هؤلء يقصد التوله‬
‫حتى يصير مولهًا‪ .‬فهؤلء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم‪.‬‬

‫واختلف العلماء‪ :‬هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم؟ والصل "مسألة السكران" والمنصوص عن الشافعي وأحمد‬
‫وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله‪ .‬وقال كثير من العلماء ليس مكلفًا‪ ،‬وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد‪،‬‬
‫وإحدى الروايتين عن أحمد‪ :‬أن طلق السكران ل يقع‪ ،‬وهذا أظهر القولين‪ .‬ولم يقل أحد من العلماء‪ :‬إن هؤلء الذين‬
‫زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء الّ الموحدين المقربين وحزبه المفلحين‪ .‬ومن ذكره العلماء من عقلء‬
‫المجانين الذين ذكروهم بخير‪ ،‬فهم من القسم الول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم‪.‬‬

‫ومن علمة هؤلء‪ :‬أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو ‪ /‬تكلموا بما كان في قلوبهم من اليمان‪ ،‬ل بالكفر‬
‫والبهتان‪ ،‬بخلف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقه بالكفر والشرك‪ ،‬ويهذي في زوال عقله بالكفر‪ ،‬فهذا إنما‬
‫يكون كافرًا ل مسلمًا‪ ،‬ومن كان يهذي بكلم ل يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية‪ ،‬وغير ذلك مما يحصل لبعض‬
‫من يحضر السماع‪ ،‬ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلم ل يعقل ـ أو بغير العربية ـ فهؤلء إنما يتكلم على‬
‫ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع‪.‬‬

‫ل وأحوالً فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب‪.‬‬
‫ومن قال‪ :‬إن هؤلء أعطاهم الّ عقو ً‬

‫قيل‪ :‬قولك وهب الّ لهم أحوالً‪ ،‬كلم مجمل‪ ،‬فإن الحوال تنقسم إلى‪ :‬حال رحماني‪ ،‬وحال شيطاني‪ ،‬وما يكون‬
‫لهؤلء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب‪[ ،‬فتارة] يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان‪ ،‬وتارة يكون من‬
‫الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى واليمان؛ فإن كان هؤلء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية‪،‬‬
‫وكانوا من المؤمنين المتقين‪ ،‬فل ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول‪ ،‬وإن كان ما‬
‫أعطوه من الحوال الشيطانية ـ كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون ـ فهؤلء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا‬
‫بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق‪ ،‬كما لم يخرج الولون عما كانوا عليه من اليمان ‪ /‬والتقوى‪ ،‬كما أن نوم كل‬
‫واحد من الطائفتين وموته وإغماءه ل يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال‬
‫العقل‪ ،‬غايته أن يسقط التكليف‪.‬‬

‫ورفع القلم ل يوجب حمدًا ولمدحًا ول ثوابًا ول يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء الّ‪ ،‬ول‬
‫كرامة من كرامات الصالحين‪ ،‬بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ول مدح في‬
‫ذلك ول ذم‪ ،‬بل النائم أحسن حالً من هؤلء‪ ،‬ولهذا كان النبياء ـ عليهم السلم ـ ينامون وليس فيهم مجنون ول موله‪،‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يجوز عليه النوم والغماء‪ ،‬ول يجوز عليه الجنون‪ ،‬وكان نبينا محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم تنام عيناه ول ينام قلبه‪ ،‬وقد أغمى عليه في مرضه‪.‬‬

‫وأما الجنون فقد نزه الّ أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص النسان؛ إذ كمال النسان بالعقل؛ ولهذا حرم الّ إزالة‬
‫العقل بكل طريق‪ ،‬وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل‪ ،‬كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لنها‬
‫ل كما‬
‫ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل‪ ،‬فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببًا أو شرطًا أو مقربًا إلى ولية ا ّ‬
‫يظنه كثير من أهل الضلل؟! حتى قال قائلهم في هؤلء‪:‬‬

‫‪/‬هم معشر حلوا النظــام وخرقـوا ** السـياج فل فرض لديهم ول نفـل‬

‫مجانــين إل أن سر جنونـــهم ** عـزيز على أبـوابه يسجد العقـــل‬

‫فهذا كلم ضال‪ ،‬بل كافر‪ ،‬يظن أن للمجنون سرًا يسجد العقل على بابه‪ ،‬وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع‬
‫مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة‪ ،‬ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان‪،‬‬
‫فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا لّ ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود‬
‫والنصارى؛ فإن كثيرًا من الكفار والمشركين فضلً عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب‬
‫شياطينهم أضعاف ما لهؤلء؛ لنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لبد في جميع مكاشفة‬
‫هؤلء من الكذب والبهتان‪ .‬ولبد في أعمالهم من فجور وطغيان‪ ،‬كما يكون لخوانهم من السحرة والكهان‪ ،‬قال الّ‬
‫تعالى‪{ :‬هَلْ ُأنَّبُئكُمْ عَلَى مَ ْن َتنَزّلُ ال ّشيَاطِينُ ‪َ .‬تنَزّلُ عَلَى كُلّ َأفّاكٍ َأثِيمٍ} [الشعراء‪.]222 ،221 :‬‬

‫فكل من تنزلت عليه الشياطين لبد أن يكون فيه كذب ‪ /‬وفجور‪ ،‬من أي قسم كان‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم قد‬
‫أخبر أن أولياء الّ هم الذين يتقربون إليه بالفرائض‪ ،‬وحزبه المفلحون‪ ،‬وجنده الغالبون‪ ،‬وعباده الصالحون‪ .‬فمن‬
‫اعتقد فيمن ل يفعل الفرائض ول النوافل أنه من أولياء الّ المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك‪ ،‬فمن اعتقد في‬
‫ل المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين‪ ،‬فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين‪ ،‬وإذا‬ ‫مثل هؤلء أنه من أولياء ا ّ‬
‫قال‪ :‬أنا أشهد أن ل إله إل الّ وأشهد أن محمدًا رسول الّ كان من الكاذبين الذين قيل فيهم‪ِ{ :‬إذَا جَا َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُو َ‬
‫ن قَالُوا‬
‫سبِيلِ الِّ ِإّنهُمْ سَا َء مَا‬
‫صدّوا عَنْ َ‬
‫جنّ ًة فَ َ‬
‫خذُوا َأ ْيمَا َنهُمْ ُ‬
‫ن ‪ .‬اتّ َ‬
‫ش َهدُ إِنّ ا ْل ُمنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُو َ‬
‫لّ يَ ْ‬
‫لّ يَعَْلمُ ِإّنكَ َلرَسُولُهُ وَا ُ‬
‫شهَدُ ِإّنكَ لَرَسُولُ الِّ وَا ُ‬ ‫نَ ْ‬
‫طبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِ ْم َفهُ ْم َل يَ ْف َقهُونَ} [المنافقون‪.]1-3 :‬‬ ‫ك بَِأّنهُ ْم آ َمنُوا ثُ ّم كَفَرُوا فَ ُ‬
‫كَانُوا َي ْعمَلُونَ ‪ .‬ذَِل َ‬
‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬من ترك ثلث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الّ على‬
‫قلبه)‪ ،‬فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر‪ ،‬فكيف بمن ل يصلي ظهرًا ول جمعة ول فريضة‬
‫ول نافلة‪ ،‬ول يتطهر للصلة ل الطهارة الكبرى ول الصغرى؟! فهذا لو كان قبل مؤمنًا‪ ،‬وكان قد طبع على قلبه كان‬
‫كافرًا مرتدًا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض‪ ،‬وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافرًا مرتدًا‪ ،‬فكيف يعتقد أنه من‬
‫أولياء ‪ /‬الّ المتقين‪ ،‬وقد قال تعالى في صفة المنافقين‪{ :‬ا ْستَحْ َوذَ عََل ْيهِمْ ال ّشيْطَا ُن فَأَنسَاهُ ْم ِذكْرَ الِّ} [المجادلة‪ ]19 :‬أي‪:‬‬
‫استولى‪ ،‬يقال‪ :‬حاذ البل حوذًا‪ :‬إذا استاقها‪ ،‬فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلف ما أمر الّ به ورسوله‬
‫علَى ا ْلكَافِرِينَ تَ ُؤزّهُمْ أَزّا} [مريم‪ ]83 :‬أي تزعجهم إزعاجًا‪ ،‬فهؤلء {ا ْ‬
‫ستَحْ َوذَ‬ ‫شيَاطِينَ َ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬أََل ْم تَرَى َأنّا أَرْ َ‬
‫س ْلنَا ال ّ‬
‫عََل ْيهِمْ ال ّشيْطَا ُن فَأَنسَاهُ ْم ِذكْرَ الِّ أُوَْل ِئكَ ِحزْبُ ال ّشيْطَانِ َألَ إِنّ ِحزْبَ ال ّشيْطَانِ ُهمْ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة‪.]19 :‬‬

‫وفي السنن عن أبي الدرداء عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ما من ثلثة في قرية‪ ،‬ل يؤذن ول تقام فيهم‬
‫الصلة‪ ،‬إل استحوذ عليهم الشيطان)‪ ،‬فأي ثلثة كانوا من هؤلء ل يؤذن ول تقام فيهم الصلة كانوا من حزب‬
‫الشيطان الذين استحوذ عليهم‪ ،‬ل من أولياء الرحمن الذين أكرمهم‪ ،‬فإن كانوا عبادًا زهادًا ولهم جوع وسهر وصمت‬
‫وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات‪ ،‬كأهل جبل لبنان‪ ،‬وأهل جبل الفتح الذي بآسون‪ ،‬وجبل‬
‫ليسون‪ ،‬ومغارة الدم بجبل قاسيون‪ ،‬وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلل‪،‬‬
‫ويفعلون فيها خلـوات ورياضات من غير أن يؤذن‪ ،‬وتقام فيهم الصلة الخمس‪ ،‬بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها الّ‬
‫ورسوله‪ ،‬بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لحوالهم بالكتاب والسنة‪ / ،‬ول قصد المتابعة لرسول الّ‬
‫لّ فَاّتبِعُونِي يُ ْح ِب ْبكُمْ الُّ َو َيغْفِرْ َلكُ ْم ذُنُو َبكُمْ} الية [آل عمران‪ ]31 :‬فهؤلء أهل البدع‬
‫حبّونَ ا َ‬ ‫الذي قال الّ فيه‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن ُكنْتُ ْم تُ ِ‬
‫والضللت من حزب الشيطان ل من أولياء الرحمن‪ ،‬فمن شهد لهم بولية الّ فهو شاهد زور كاذب وعن طريق‬
‫الصواب ناكب‪.‬‬

‫ثم إن كان قد عرف أن هؤلء مخالفون للرسول‪ ،‬وشهد مع ذلك أنهم من أولياء الّ‪ ،‬فهو مرتد عن دين السلم وإما‬
‫مكذب للرسول‪ ،‬وإما شاك فيما جاء به مرتاب‪ ،‬وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحودًا أو عنادًا أو اتباعًا لهواه‪،‬‬
‫وكل من هؤلء كافر‪.‬‬

‫وأما إن كان جاهلً بما جاء به الرسول‪ ،‬وهو معتقد مع ذلك أنه رسول الّ إلى كل أحد في المور الباطنة والظاهرة‪،‬‬
‫وأنه ل طريق إلى الّ إل بمتابعته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما‬
‫جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان‪ ،‬لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته‪ ،‬ل لقصد مخالفته‪ ،‬ول‬
‫يرجو الهدى في غير متابعته ـ فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب‪ ،‬فإن تاب وأناب وإل ألحق‬
‫بالقسم الذي قبله وكان كافرًا مرتدًا‪ ،‬ول تنجيه عبادته ول زهادته من عذاب الّ‪ ،‬كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد‬
‫الصلبان وعباد النيران وعباد الوثان‪ ،‬مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية‪ ،‬ومكاشفات شيطانية قال ‪ /‬تعالى‪:‬‬
‫ص ْنعًا} [الكهف‪]104 ،103 :‬‬ ‫سنُونَ ُ‬
‫سبُونَ َأّنهُ ْم يُحْ ِ‬
‫حيَاةِ الدّ ْنيَا وَ ُه ْم يَحْ َ‬
‫س ْع ُيهُ ْم فِي الْ َ‬
‫عمَالً اّلذِينَ ضَلّ َ‬
‫ل نُ َنّبئُكُ ْم بِالَْخْسَرِينَ أَ ْ‬
‫{قُلْ َه ْ‬
‫‪.‬‬

‫قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات‪ .‬وقد روى عن علي بن أبي طالب‬
‫ـ رضي الّ عنه ـ وغيرهم أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضللت‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬هَلْ‬
‫ُأ َنبّ ُئكُمْ عَلَى مَنْ َتنَزّلُ ال ّشيَاطِي ُن ‪َ .‬تنَزّلُ عَلَى كُلّ َأفّاكٍ َأثِيمٍ} [الشعراء‪ ]222 ،221 :‬فالفاك هو الكذاب والثيم الفاجر كما‬
‫طئَةٍ} [العلق‪.]16 ،15 :‬‬ ‫صيَةٍ كَاذِبَةٍ خَا ِ‬ ‫قال‪َ{ :‬لنَسْ َفعًا بِالنّا ِ‬
‫صيَ ِة ‪ .‬نَا ِ‬

‫ومن تكلم في الدين بل علم كان كاذبًا وإن كان ل يتعمد الكذب‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه‬
‫ل فوضعت بعد‬ ‫وسلم‪ ،‬لما قالت له سبيعة السلمية‪ ،‬وقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع‪ ،‬فكانت حام ً‬
‫موت زوجها بليال قلئل‪ ،‬فقال لها أبو السنابل بن بعكك‪ :‬ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الجلين فقال النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬كذب أبو السنابل‪ ،‬بل حللت فانكحى)‪ ،‬وكذلك لما قال سلمة بن الكوع أنهم يقولون‪ :‬إن عامرًا‬
‫قتل نفسه وحبط عمله فقال‪( :‬كذب من قالها‪ ،‬إنه لجاهد مجاهد)‪ ،‬وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب‪ ،‬فإنه كان رجلً‬
‫صالحًا‪ ،‬وقد روى أنه كان أسيد بن الحضير‪ ،‬لكنه لما تكلم بل علم كذبه النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫‪/‬وقد قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ـ فيما يفتون فيه باجتهادهم ـ‪ :‬إن يكن صوابًا فمن الّ‪ ،‬وإن يكن‬
‫خطأ فهو مني ومن الشيطان‪ ،‬والّ ورسوله بريئان منه‪ .‬فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان‪ ،‬فكيف‬
‫بمن تكلم بل اجتهاد يبيح له الكلم في الدين؟ فهذا خطؤه أيضًا من الشيطان‪ ،‬مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب‪ ،‬والمجتهد‬
‫خطؤه من الشيطان وهو مغفور له‪ ،‬كما أن الحتلم والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلف من تكلم‬
‫بل اجتهاد يبيح له ذلك‪ ،‬فهذا كاذب آثم في ذلك‪ ،‬وإن كانت له حسنات في غير ذلك‪ ،‬فإن الشيطان ينزل على كل‬
‫عَليْهِمْ‬ ‫إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له‪ ،‬ويطرد بحسب إخلصه لّ وطاعته له قال تعالى‪{ :‬إِنّ ِ‬
‫عبَادِي َليْسَ َلكَ َ‬
‫سُلْطَانٌ} [الحجر‪.]42 :‬‬

‫وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات‪ ،‬وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد‬
‫عُبدُونِي‬
‫عدُ ّو ُمبِينٌ ‪ .‬وَأَنْ ا ْ‬
‫شيْطَانَ ِإنّهُ َلكُمْ َ‬
‫ل َت ْعبُدُوا ال ّ‬ ‫الشيطان‪ ،‬ل من عباد الرحمن‪ .‬قال تعالى‪{ :‬أََلمْ أَ ْ‬
‫ع َهدْ ِإَليْكُ ْم يَابَنِي آدَمَ أَنْ َ‬
‫ل َكثِيرًا َأفََل ْم َتكُونُوا َتعْ ِقلُونَ} [يس‪.]60-62 :‬‬ ‫جبِ ّ‬
‫ل ِم ْنكُمْ ِ‬
‫ستَقِيمٌ ‪ .‬وََل َقدْ َأضَ ّ‬
‫ط مُ ْ‬
‫َهذَا صِرَا ٌ‬

‫والذين يعبدون الشيطان أكثرهم ل يعرفون أنهم يعبدون الشيطان‪ ،‬بل قد يظنون أنهم يعبدون الملئكة أو الصالحين‪،‬‬
‫كالذين يستغيثون بهم ‪ /‬ويسجدون لهم فهم في الحقيقة‪ ،‬إنما عبدوا الشيطان وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد‬
‫سبْحَا َنكَ َأنْتَ وَِلّينَا مِنْ دُو ِنهِمْ‬
‫ن ‪ .‬قَالُوا ُ‬
‫لئِكَةِ أَهَ ُؤلَءِ ِإيّاكُ ْم كَانُوا َي ْعبُدُو َ‬ ‫الّ الصالحين‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬ويَ ْو َم يَحْشُرُ ُهمْ َ‬
‫جمِيعًا ثُ ّم يَقُولُ لِ ْلمَ َ‬
‫بَ ْل كَانُوا َيعُْبدُونَ الْجِنّ َأ ْكثَرُ ُه ْم بِهِ ْم مُ ْؤ ِمنُونَ} [سبأ‪.]41 ،40 :‬‬

‫ولهذا نهى النبي صلى ال عليه وسلم عن الصلة وقت طلوع الشمس ووقت غربها‪ ،‬فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى‬
‫يكون سجود عباد الشمس له‪ ،‬وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس وسجودهم للشيطان‪ ،‬وكذلك أصحاب دعوات‬
‫الكواكب الذين يدعون كوكبًا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه ويدعونه ويصنعون له من الطعام واللباس والبخور‬
‫والتبركات ما يناسبه‪ ،‬كما ذكره صاحب [السر المكتوم] المشرقي‪ ،‬وصاحب [الشعلة النورانية] البوني المغربي‬
‫وغيرهما؛ فإن هؤلء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض المور وتقضي لهم بعض الحوائج ويسمون ذلك‬
‫روحانية الكواكب‪.‬‬

‫شيْطَانًا َفهُوَ لَهُ‬


‫حمَنِ ُن َقيّضْ لَهُ َ‬ ‫ومنه من يظن أنها ملئكة وإنما هي شياطين تنزل عليهم‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َيعْشُ عَ ْ‬
‫ن ِذكْرِ الرّ ْ‬
‫قَرِينٌ} [الزخرف‪ ]36 :‬وذكر الرحمن هو الذي أنزله وهو الكتاب والسنة اللذان قال الّ فيهما‪{ :‬وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ الِّ‬
‫ظكُ ْم بِهِ} [البقرة‪ ،]231 :‬وقال تعالى‪َ{ :‬ل َقدْ مَنّ الُّ عَلَى ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ ِإ ْذ َبعَثَ فِيهِمْ‬ ‫ح ْكمَةِ َيعِ ُ‬
‫عَليْكُ ْم مِنْ ا ْل ِكتَابِ وَا ْل ِ‬‫عََل ْيكُمْ َومَا أَنزَلَ َ‬
‫ث فِي‬ ‫ح ْكمَةَ} [آل عمران‪ ،]164 :‬وقال تعالى‪{ :‬هُوَ اّلذِي َبعَ َ‬ ‫سهِ ْم َيتْلُوا عََل ْيهِ ْم آيَاتِهِ َويُ َزكّيهِمْ َو ُيعَّل ُمهُمْ ا ْل ِكتَابَ وَا ْل ِ‬
‫رَسُولً مِنْ َأنْ ُف ِ‬
‫ح ْكمَةَ} [الجمعة‪ ،]2 :‬وهو الذكر الذي قال الّ فيه‪ِ{ :‬إنّا نَحْنُ‬ ‫عَليْهِ ْم آيَاتِهِ َويُ َزكّيهِمْ َو ُيعَّل ُمهُمْ ا ْل ِكتَابَ وَالْ ِ‬
‫ل ِم ْنهُ ْم َيتْلُو َ‬‫لْ ّميّينَ رَسُو ً‬ ‫اُ‬
‫نَزّ ْلنَا ال ّذكْرَ وَِإنّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر‪ ،]9 :‬فمن أعرض عن هذا الذكر وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطين‬
‫فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه‪.‬‬

‫وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى كان فيه من اليمان وولية الّ بحسب ما والى فيه الرحمن‪ ،‬وكان فيه‬
‫من عداوة الّ والنفاق بحسب ما والى فيه الشيطان‪ ،‬كما قال حذيفة بن اليمان‪ :‬القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج‬
‫يزهر فذلك قلب المؤمن‪ .‬وقلب أغلف فذلك قلب الكافر ـ والغلف‪ :‬الذي يلف عليه غلف‪ .‬كما قال تعالى عن اليهود‪:‬‬
‫طبَعَ الُّ عََل ْيهَا ِبكُ ْفرِهِمْ} [النساء‪ ]155 :‬وقد تقدم قوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬من ترك ثلث جمع‬
‫ف بَلْ َ‬
‫{ٍ َوقَ ْوِلهِ ْم قُلُو ُبنَا غُلْ ٌ‬
‫طبع الّ على قلبه) ـ وقلب منكوس فذلك قلب المنافق‪ .‬وقلب فيه مادتان‪ :‬مادة تمده لليمان ومادة تمده للنفاق‪ ،‬فأيهما‬
‫غلب كان الحكم له‪ .‬وقد روى هذا في [مسند المام أحمد] مرفوعًا‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن عبد الّ بن عمرو بن العاص عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ /‬أنه قال‪( :‬أربع من كن فيه كان‬
‫منافقًا خالصا‪ ،‬ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها‪ :‬إذا اؤتمن خان‪ ،‬وإذا حدث كذب‪،‬‬
‫وإذا عاهد غدر‪ ،‬وإذا خاصم فجر)‪.‬‬

‫فقد بين النبي صلى ال عليه وسلم أن القلب يكون فيه شعبة نفاق‪ ،‬وشعبة إيمان‪ ،‬فإذا كان فيه شعبة نفاق كان فيه شعبة‬
‫ل وتقواه تكـون‬
‫من وليته وشعبة من عداوته؛ ولهذا يكون بعض هؤلء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه با ّ‬
‫من كرامـات الولياء‪ ،‬وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين؛ ولهذا أمرنا الّ تعالى‪ :‬أن نقول‬
‫كل صـلة‪{ :‬ا ْه ِدنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْستَقِيمَ ‪ .‬صِرَاطَ اّلذِينَ َأ ْن َعمْتَ َعَليْهِمْ َغيْرِ ا ْل َمغْضُوبِ عََل ْيهِمْ َولَ الضّالّينَ} [الفاتحة‪.]7 ،6 :‬‬
‫و(المغضوب عليهم) هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلفه‪ ،‬و(الضالون) الذين يعبدون الّ بغير علم‪ .‬فمن اتبع هواه‬
‫وذوقه ووجده‪ ،‬مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة‪ ،‬فهو من (المغضوب عليهم) وإن كان ل يعلم ذلك فهو من (‬
‫الضالين)‪.‬‬

‫نسأل الّ أن يهدينا الصراط المستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعم عليهم‪ ،‬من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬وحسن‬
‫أولئك رفيقًا‪.‬‬

‫والحمد لّ رب العالمين‪ .‬والعاقبة للمتقين‪ .‬وصلى الّ على محمد‪.‬‬

‫وَسُ ِئلَ عمّن َيقُول‪:‬‬ ‫‪/‬‬

‫الطرق إلى الّ عدد أنفاس الخلئق‪ .‬هل قوله صحيح ؟‬

‫فأجــاب‪:‬‬

‫إن أراد بذلك العمال المشروعة الموافقة للكتاب والسنة‪ ،‬كالصلة‪ ،‬والصدقة‪ ،‬والجهاد‪ ،‬والذكر‪ ،‬والقراءة وغير ذلك‪.‬‬
‫فهذا صحيح‪.‬‬

‫وإن أراد إلى الّ طريقًا مخالفًا للكتاب والسنة‪ ،‬فهو باطل‪ .‬والّ أعلم‪.‬‬

‫قَالَ شَيخ الِسْلم عَلّمة ال ّزمَان أبو العباس أحمد بن تيمية ـ قدس الّ روحه ونور ضريحه‪:‬‬

‫الحمد لّ‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالّ من شرور أنفسنا‪ ،‬ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهد الّ فل‬
‫مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪.‬‬

‫ل وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‪ ،‬صلى الّ عليه وسلم تسليما كثيرًا‪.‬‬
‫وأشهد أن ل إله إل ا ّ‬

‫قال الشيخ أبو محمد عبد القادر في كتاب ]فتوح الغيب[‪ :‬لبد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلثة أشياء‪:‬‬

‫أمر يمتثله‪.‬‬

‫ونهي يجتنبه‪.‬‬

‫وقدر يرضي به‪.‬‬

‫‪/‬فأقل حالة ل يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الشياء الثلثة‪ ،‬فينبغي له أن يلزم بها قلبه‪ ،‬ويحدث بها نفسه‪ ،‬ويأخذ بها‬
‫الجوارح في كل أحواله‪.‬‬

‫قلت‪ :‬هذا كلم شريف‪ ،‬جامع يحتاج إليه كل أحد‪ ،‬وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد‪ ،‬وهي مطابقة لقوله تعالى‪ِ{ :‬إنّهُ َمنْ‬
‫صبِرُوا َو َتتّقُوا َل يَضُ ّركُ ْم َك ْيدُهُمْ َش ْيئًا}[آل‬ ‫سنِينَ} [يوسف‪ ،]90 :‬ولقوله تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن تَ ْ‬ ‫جرَ ا ْلمُحْ ِ‬
‫ل يُضِيعُ أَ ْ‬
‫لّ َ‬
‫صبِ ْر فَإِنّ ا َ‬
‫َيتّقِ َو َي ْ‬
‫صبِرُوا َو َتتّقُوا فَإِ ّن ذَِلكَ مِنْ عَ ْزمِ ا ُلْمُورِ} [آل عمران‪]186 :‬؛ فإن [التقوى]‬
‫ن تَ ْ‬‫عمران‪ ]120 :‬ولقوله تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫تتضمن‪ :‬فعل المأمور‪ ،‬وترك المحظور‪ ،‬و[الصبر] يتضمن‪ :‬الصبر على المقدور‪ .‬فالثلثة ترجع إلى هذين الصلين‪،‬‬
‫والثلثة في الحقيقة ترجع إلى امتثال المر‪ ،‬وهو طاعة الّ ورسوله‪.‬‬

‫فحقيقة المر أن كل عبد فإنه محتاج في كل وقت إلى طاعة الّ ورسوله‪ ،‬وهو‪ :‬أن يفعل في ذلك الوقت ما أمر به في‬
‫ذلك الوقت وطاعة الّ ورسوله هي‪ :‬عبادة الّ التي خلق لها الجن والنس‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا خََلقْتُ ا ْلجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ‬
‫حتّى َي ْأتِ َيكَ ا ْليَقِينُ} [الحجر‪ ،]99 :‬وقال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا النّاسُ ا ْ‬
‫عُبدُوا‬ ‫ِل َيعْ ُبدُونِ} [الذاريات‪ ،]56 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَا ْ‬
‫عُبدْ َرّبكَ َ‬
‫َرّبكُمْ اّلذِي خَلَ َقكُمْ وَاّلذِي َن مِ ْن َقبِْلكُمْ َلعَّلكُ ْم َتتّقُونَ} [البقرة‪.]21 :‬‬
‫والرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا الّ‪ ،‬ول يشركوا به شيئًا‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬وََل َقدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ َرسُولً أَ ْ‬
‫ن‬ ‫‪/‬‬
‫حمَنِ آِلهَةً‬‫ن دُونِ الرّ ْ‬
‫جعَ ْلنَا مِ ْ‬
‫ك مِنْ رُسُِلنَا َأ َ‬ ‫ن َقبِْل َ‬ ‫ج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ} [النحل‪ ،]36 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَاسَْأ ْ‬
‫ل مَنْ َأرْسَ ْلنَا مِ ْ‬ ‫عبُدُوا الَّ وَا ْ‬
‫اُ ْ‬
‫ُيعْ َبدُونَ} [الزخرف‪.]45 :‬‬

‫وإنما كانت الثلثة ترجع إلى امتثال المر؛ لنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل شيء من الفرائض‪ ،‬كالصلوات‬
‫الخمس والحج ونحو ذلك‪ ،‬يحتاج إلى فعل ذلك المأمور‪ ،‬وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى المتناع‬
‫والكراهة والمساك عن ذلك‪ ،‬وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت‪ ،‬وأما من لم تخطر له المعصية ببال‪ ،‬فهذا لم يفعل‬
‫شيئًا يؤجر عليه‪ ،‬ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلمته من عقوبة الذنب‪ ،‬والعدم المحض المستمر ل يؤمر به‪ ،‬وإنما يؤمر‬
‫بأمر يقدر عليه العبد‪ ،‬وذاك ل يكون إل حادثًا‪ ،‬سواء كان إحداث إيجاد أمر‪ ،‬أو إعدام أمر‪.‬‬

‫وأما القدر الذي يرضى به‪ ،‬فإنه إذا ابتلى بالمرض أو الفقر أو الخوف‪ ،‬فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب‪ ،‬ومأمور‬
‫بالرضا‪ ،‬إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولن‪ ،‬ونفس الصبر والرضا‬
‫بالمصائب هو طاعة لّ ورسوله‪ ،‬هو من امتثال المر وهو عبادة لّ‪.‬‬

‫‪/‬لكن هذه الثلثة وإن دخلت في امتثال المر عند الطلق‪ ،‬فعند التفصيل والقتران‪ :‬إما أن تخص بالذكر‪ ،‬وإما أن‬
‫عُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود‪ ،]123 :‬وقوله‪{ :‬فَا ْ‬
‫عُبدْنِي َوَأقِمْ الصّلَةَ ِل ِذكْرِي}‬ ‫يقال‪ :‬يراد بهذا مال يراد بهذا‪ ،‬كما في قوله‪{ :‬فَا ْ‬
‫[طه‪ ،]14 :‬فإن هذا داخل في العبادة إذا أطلق اسم العبادة‪ ،‬وعند القتران إما أن يقال‪ :‬ذكره عمومًا وخصوصًا‪،‬‬
‫وإما أن يقال‪ :‬ذكره خصوصًا يغني عن دخوله في العام‪.‬‬

‫س َتعِينُ}[الفاتحة‪ ،]5 :‬وقوله‪{ :‬وَا ْذكُرْ اسْمَ َرّبكَ َو َتبَتّلْ ِإَليْهِ َت ْبتِيلً ‪َ .‬ربّ ا ْلمَشْ ِرقِ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫ومثل هذا قوله تعالى‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ‬
‫صبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْ ُهمْ هَ ْجرًا َجمِيلً} [المزّمل‪ .]8-10 :‬وقد يقال‪ :‬لفظ [‬ ‫خذْهُ َوكِيلً ‪ .‬وَا ْ‬ ‫ب لَ ِإلَهَ ِإلّ ُه َو فَاتّ ِ‬
‫وَا ْل َمغْرِ ِ‬
‫التبتيل] ل يتناول هذه المور المعطوفة كما يتناولها لفظ العبادة والطاعة‪.‬‬

‫وبالجملة فرق ما بين ما يؤمر به النسان ابتداء‪ ،‬وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة‪ ،‬أو عند‬
‫حب الشيء وبغضه‪.‬‬

‫وكلم الشيخ ـ قدس الّ روحه ـ يدور على هذا القطب‪ ،‬وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور‪ ،‬ويخلوا فيما سواهما‬
‫عن إرادة؛‪ /‬لئل يكون له مراد غير فعل ما أمر الّ به‪ ،‬وما لم يؤمر به العبد بل فعله الرب عز وجل بل واسطة العبد‪،‬‬
‫أو فعله بالعبد بل هوى من العبد‪ .‬فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به‪.‬‬

‫وسيأتي في كلم الشيخ ما يبين مراده‪ ،‬وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به‪ ،‬ويترك ما نهي عنه‪ .‬وأما إذا لم‬
‫يكن هو أمر العبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله‪ ،‬وهذه هي [الحقيقة] في كلم الشيخ‬
‫وأمثاله‪ .‬وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن يكون العبد مأمورًا فيما فعله الرب‪ .‬إما بحب له وإعانة عليه‪ .‬وإما ببغض له ودفع له‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أل يكون العبد مأمورًا بواحد منهما‪.‬‬

‫فالول‪ :‬مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره‪ ،‬فهو مأمور بحبه وإعانته عليه‪ ،‬كإعانة المجاهدين في سبيل الّ على‬
‫الجهاد‪ ،‬وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب المكان‪ ،‬وبمحبة ذلك والرضا به‪ ،‬وكذلك هو مأمور‬
‫عند مصيبة الغير‪ :‬إما بنصر مظلوم‪ ،‬وإما بتعزية مصاب‪ ،‬وإما بإغناء فقير ونحو ذلك‪.‬‬

‫‪/‬وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه‪ ،‬فمثل ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه‪،‬‬
‫وإنكاره بحسب المكان كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪( :‬من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده‪،‬‬
‫فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اليمان)‪.‬‬
‫وأما ما ل يؤمر العبد فيه بواحد منهما‪ ،‬فمثل ما يظهر له من فعل النسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها‬
‫على طاعة ول معصية‪ .‬فهذه ل يؤمر بحبها‪ ،‬ول ببغضها‪ ،‬وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الستعانة بها‬
‫على طاعة ول معصية‪.‬‬

‫مع أن هذا نقص منه‪ ،‬فإن الذي ينبغي أنه ل يفعل من المباحات إل ما يستعين به على الطاعة‪ ،‬ويقصد الستعانة بها‬
‫على الطاعة‪ ،‬فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى الّ تعالى بالنوافل بعد الفرائض‪ ،‬ولم يزل أحدهم يتقرب‬
‫إليه بذلك حتى أحبه‪ ،‬فكان سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها‪،‬‬
‫وأما من فعل المباحات مع الغفلة‪ ،‬أو فعل فضول المباح التي ل يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب‬
‫المحارم باطنًا وظاهرًا‪ ،‬فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين‪.‬‬

‫‪/‬وبالجملة الفعال التي يمكن دخولها تحت المر والنهي ل تكون مستوية من كل وجه‪ ،‬بل إن فعلت على الوجه‬
‫المحبوب كان وجودها خيرًا للعبد‪ ،‬وإل كان تركها خيرًا له وإن لم يعاقب عليها‪ ،‬ففضول المباح التي ل تعين على‬
‫الطاعة عدمها خير من وجودها‪ ،‬إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة الّ‪ ،‬فإنها تكون شاغلة له عن ذلك‪ ،‬وأما إذا قدر‬
‫أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها‪ ،‬وإن شغلته عن معصية الّ كانت رحمة في حقه‪ ،‬وإن كان اشتغاله‬
‫بطاعة الّ خيرًا له من هذا وهذا‪.‬‬

‫وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الستعانة بها على الطاعة‪ ،‬كالنوم الذي يقصد به الستعانة على العبادة؛‬
‫والكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الستعانة به على العبادة‪ ،‬إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نقصًا من العبد‬
‫وفوات حسنة‪ ،‬وخير يحبه ال‪ ،‬ففي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال لسعد‪( :‬إنك لن تنفق نفقة تبتغي‬
‫بها وجه الّ‪ ،‬إل ازددت بها درجة ورفعة‪ ،‬حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك)‪ ،‬وقال في الصحيح‪( :‬نفقة المسلم على‬
‫أهله يحتسبها صدقة)‪.‬‬

‫فما ل يحتاج إليه من المباحات‪ ،‬أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة‪ ،‬فعدمه خير من وجوده‪ ،‬إذا كان مع‬
‫عدمه يشتغل بما هو ‪ /‬خير منه‪ ،‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬في بضع أحدكم صدقة)‪ .‬قالوا‪ :‬يارسول الّ‪،‬‬
‫يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر‪ .‬قال‪( :‬أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر؟) قالوا‪ :‬بلى ! قال‪( :‬فكذلك‬
‫إذا وضعها في الحلل كان له بها أجر‪ ،‬فلم تعتدون بالحرام ول تعتدون بالحلل ؟)‪.‬‬

‫وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه الّ إلى ما أباحه الّ‪ ،‬يقصد فعل المباح معتقدًا أن الّ‬
‫أباحه‪( ،‬والّ يحب أن يأخذ برخصه‪ ،‬كما يكره أن تؤتي معصيته) كما رواه المام أحمد في المسند ورواه غيره؛‬
‫ولهذا أحب القصر والفطر‪ ،‬فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي ل يحبه الّ إلى ما يحبه الّ من‬
‫الرخصة‪ ،‬هو من الحسنات التي يثيبه الّ عليها‪ ،‬وإن فعل مباحًا لما اقترن به من العتقاد والقصد اللذين كلهما‬
‫طاعة لّ ورسوله‪.‬فإنما العمال بالنيات‪ ،‬وإنما لكل امرئ ما نوى‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات‪ ،‬هو مأمور بالكل عند الجوع‪ ،‬والشرب عند العطش؛ ولهذا‬
‫يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها‪ ،‬ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجبًا للوعيد‪ ،‬كما هو قول جماهير‬
‫العلماء من الئمة الربعة وغيرهم‪ ،‬وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه‪ ،‬بل وهو مأمور ‪ /‬بنفس عقد النكاح إذا‬
‫احتاج إليه وقدر عليه‪ ،‬فقول النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬في بضع أحدكم صدقة) فإن المباضعة مأمور بها لحاجته‬
‫ولحاجة المرأة إلى ذلك‪ ،‬فإن قضاء حاجتها التي ل تنقضي إل به بالوجه المباح صدقة‪.‬‬

‫والسلوك سلوكان‪:‬‬

‫سلوك البرار أهل اليمين‪ ،‬وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهرًا‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬سلوك المقربين السابقين‪ ،‬وهو فعل الواجب والمستحب بحسب المكان‪ ،‬وترك المكروه والمحرم‪ ،‬كما قال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه‪ ،‬وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)‪.‬‬
‫وكلم الشيوخ الكبارـ كالشيخ عبد القادر وغيره ـ يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب‬
‫وينهون عما هو مكروه غير محرم‪ ،‬فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة‪ ،‬وبالعامة مسلك العامة‪ ،‬وطريق الخاصة‬
‫ل ويرضاه‪،‬‬‫طريق المقربين أل يفعل العبد إل ما أمر به‪ ،‬ول يريد إل ما أمر الّ ورسوله بإرادته‪ ،‬وهو ما يحبه ‪ /‬ا ّ‬
‫ويريده إرادة دينية شرعية‪ ،‬وإل فالحوادث كلها مرادة له خلقًا وتكوينًا‪.‬‬

‫والوقوف مع الرادة الخلقية القدرية مطلقًا غير مقدور عقلً‪ ،‬ول مأمور شرعًا؛ وذلك لن من الحواث ما يجب دفعه‬
‫ول تجوز إرادته‪ ،‬كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله‪ ،‬أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على‬
‫دفعه‪ ،‬أو أراد إضلل الخلق وإفساد دينهم ودنياهم‪ ،‬فهذه المور يجب دفعها وكراهتها؛ ل تجوز إرادتها‪.‬‬

‫وأما المتناع عقل‪ ،‬فلن النسان مجبول على حب ما يلئمه وبغض ما ينافره‪ ،‬فهو عند الجوع يحب ما يغنيه‬
‫كالطعام‪ ،‬ول يحب ما ل يغنيه كالتراب فل يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء‪.‬‬

‫وكذلك يحب اليمان والعمل الصالح الذي ينفعه‪ ،‬ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره‪ ،‬بل ويحب الّ وعبادته وحده‪،‬‬
‫ويبغض عبادة ما دونه‪ ،‬كما قال الخليل‪َ{ :‬أفَرََأ ْيتُ ْم مَا ُك ْنتُ ْم َتعُْبدُونَ‪َ .‬أنْتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ ا َلْ ْق َدمُونَ‪َ .‬فِإّنهُمْ عَدُوّ لِي ِإلّ رَبّ ا ْلعَاَلمِينَ} [‬
‫ن َمعَهُ ِإ ْذ قَالُوا ِلقَ ْو ِمهِمْ ِإنّا بُرَآ ُء ِمنْكُمْ َو ِممّا‬
‫سنَةٌ فِي ِإبْرَاهِيمَ وَاّلذِي َ‬
‫حَ‬‫الشعراء‪ ،]77 - 75 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ق ْد كَانَتْ َلكُمْ ُأسْوَةٌ َ‬
‫لّ كَفَ ْرنَا ِبكُمْ َوبَدَا َبيْ َننَا َو َب ْي َنكُمْ ا ْل َعدَاوَةُ وَا ْل َبغْضَاءُ َأ َبدًا َحتّى تُ ْؤ ِمنُوا بِالِّ وَ ْحدَهُ} [الممتحنة‪.]4 :‬‬
‫ن دُونِ ا ِ‬
‫َتعْ ُبدُونَ مِ ْ‬

‫فقد أمرنا الّ أن نتأسى بإبراهيم والذين معه‪ ،‬إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون الّ‪ ،‬وقال الخليل‪ِ{ :‬إّننِي‬
‫ط َرنِي فَِإنّهُ َس َي ْهدِينِي} [الزخرف‪ ،]27 ،26 :‬والبراءة ضد الولية‪ ،‬وأصل البراءة البغض‬
‫بَرَا ٌء ِممّا َت ْعبُدُونَ‪ِ .‬إلّ اّلذِي فَ َ‬
‫وأصل الولية الحب‪ ،‬وهذا لن حقيقة التوحيد أل يحب إل الّ‪ ،‬ويحب ما يحبه الّ لّ‪ ،‬فل يحب إل لّ‪ ،‬ول يبغض إل‬
‫س مَ ْن يَتّ ِخ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِحبّونَهُ ْم كَ ُحبّ الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪.]165 :‬‬
‫لّ‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬

‫والفرق ثابت بين الحب لّ والحب مع الّ‪ ،‬فأهل التوحيد والخلص يحبون غير الّ لّ‪ ،‬والمشركون يحبون غير الّ‬
‫مع الّ‪ ،‬كحب المشركين للهتهم‪ ،‬وحب النصارى للمسيح‪ ،‬وحب أهل الهواء رؤوسهم‪.‬‬

‫فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه‪ ،‬وبغض مايضره لم يمكن أن تستوى إرادته لجميع الحوادث فطرة‬
‫وخلقًا‪ ،‬ول هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريدًا لجميع الحوادث‪ ،‬بل قد أمره الّ بإرادة أمور وكراهة أخرى‪.‬‬

‫والرسل ـ صلوات الّ عليهم وسلمه ـ بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها ل بتحويل الفطرة وتغييرها‪ .‬وقد قال‬ ‫‪/‬‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬كل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فََأقِمْ‬
‫س َل َيعَْلمُونَ} [الروم‪،]30 :‬‬‫لّ ذَِلكَ الدّينُ الْ َقيّمُ وََلكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫ل تَ ْبدِيلَ ِلخَلْقِ ا ِ‬
‫طرَةَ الِّ اّلتِي َفطَرَ النّاسَ عََل ْيهَا َ‬
‫حنِيفًا فِ ْ‬
‫ج َهكَ لِلدّينِ َ‬
‫وَ ْ‬
‫وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬يقول الّ تعالى‪ :‬إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ‪،‬‬
‫وحرمت عليهم ما أحللت لهم ‪ ،‬وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا)‪.‬‬

‫والحنيفية‪ :‬هي الستقامة بإخلص الدين لّ‪ ،‬وذلك يتضمن حبه تعالى والذل له‪ ،‬ل يشرك به شيء‪ ،‬ل في الحب ول‬
‫ل وحده‪،‬‬
‫في الذل؛ فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل‪ ،‬وذلك ل يستحقه إل الّ وحده‪ ،‬وكذلك الخشية والتقوى ّ‬
‫ل وحده‪.‬‬‫والتوكل على ا ّ‬

‫ن يُطِعْ الَّ َورَسُولَ ُه‬‫والرسول يطاع ويحب‪ ،‬فالحلل ما أحله والحرام ما حرمه‪ ،‬والدين ما شرعه‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫َويَخْشَ الَّ َو َيتّقِ ِه فَأُوَْل ِئكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور‪ ،]52 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَلَوْ َأّنهُمْ َرضُوا مَا آتَاهُمْ الُّ وَرَسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ‬
‫س ُبنَا الُّ‬
‫لّ مِنْ َفضْلِهِ وَ َرسُولُهُ ِإنّا ِإلَى الِّ رَا ِغبُونَ} [التوبة‪.]59 :‬‬
‫سيُ ْؤتِينَا ا ُ‬
‫َ‬

‫وهذا حقيقة دين السلم‪.‬‬ ‫‪/‬‬

‫ص ْينَا بِهِ ِإبْرَاهِيمَ َومُوسَى‬


‫ح ْينَا إَِل ْيكَ َومَا وَ ّ‬ ‫والرسل بعثوا بذلك‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬شَ َرعَ َلكُ ْم مِ ْ‬
‫ن الدّينِ مَا وَصّى بِهِ نُوحًا وَاّلذِي أَوْ َ‬
‫عمَلُوا صَالِحًا ِإنّي ِبمَا‬‫طّيبَاتِ وَا ْ‬‫ل كُلُوا مِنْ ال ّ‬ ‫سُ‬‫وَعِيسَى أَنْ َأقِيمُوا الدّينَ َولَ َتتَ َف ّرقُوا فِيهِ} [الشورى‪ ،]13 :‬وقال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا الرّ ُ‬
‫َتعْمَلُو َن عَلِيمٌ‪َ .‬وإِنّ َهذِهِ ُأ ّمُتكُمْ ُأمّةً وَا ِحدَةً َوَأنَا َرّبكُ ْم فَاتّقُونِي} [المؤمنون‪.]52 ،51 :‬‬
‫فهذا هو الصل الذي يجب على كل أحد أن يعتصم به‪ ،‬فل بد أن يكون مريدًا محبًا لما أمره الّ بإرادته ومحبته‪.‬‬
‫كارهًا مبغضًا لما أمره الّ بكراهته وبغضه‪.‬‬

‫والناس في هذا الباب أربعة أنواع‪:‬‬

‫أكملهم الذين يحبون ما أحبه الّ ورسوله‪ ،‬ويبغضون ما أبغضه الّ ورسوله‪ ،‬فيريدون ما أمرهم الّ ورسوله بإرادته‪،‬‬
‫ويكرهون ما أمرهم الّ ورسوله بكراهته‪ ،‬وليس عندهم حب ول بغض لغير ذلك‪ .‬فيأمرون بما أمر الّ به ورسوله‪،‬‬
‫ول يأمرون بغير ذلك‪ ،‬وينهون عما نهى الّ عنه ورسوله‪ ،‬ول ينهون عن غيرذلك‪ ،‬وهذه حال الخليلين أفضل البرية‪:‬‬
‫محمد وإبراهيم صلى ال عليهما وسلم‪ ،‬وقد ‪ /‬ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إن الّ‬
‫اتخذني خليلً كما اتخذ إبراهيم خليلً) وقال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪( :‬إني والّ ل أعطي أحدًا‪ ،‬ول‬
‫أمنع أحدًا‪ ،‬وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت)‪.‬‬

‫وذكر‪ :‬أن ربه خيره بين أن يكون نبيًا ملكًا؛ وبين أن يكون عبدًا رسولً‪ ،‬فاختار أن يكون عبدًا رسولً‪ .‬فإن النبي‬
‫الملك مثل‪ :‬داود وسليمان‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬هذَا عَطَا ُؤنَا فَا ْمنُنْ أَوْ َأمْ ِسكْ ِب َغيْرِ ِحسَابٍ} [ص‪ ،]39 :‬قالوا‪ :‬معناه اعط من‬
‫شئت‪ ،‬وامنع من شئت‪ ،‬ل نحاسبك‪.‬‬

‫فالنبي الملك‪ :‬يعطي بإرادته ل يعاقب على ذلك‪ ،‬كالذي يفعل المباحات بإرادته‪ ،‬وأما العبد الرسول فل يعطي ول‬
‫يمنع إل بأمر ربه‪ ،‬وهو محبته ورضاه وإرادته الدينية‪ ،‬والسابقون المقربون أتباع العبد الرسول‪ ،‬والمقتصدون أهل‬
‫اليمين أتباع النبي الملك‪ ،‬وقد يكون للنسان حال هو فيها خال عن الرادتين‪ :‬وهو أل تكون له إرادة في عطاء ول‬
‫منع‪ ،‬ل إرادة دينية هو مأمور بها‪ ،‬ول إرادة نفسانية سواء كان منهيًا عنها أو غير منهي عنها‪ ،‬بل ما وقع كان مرادًا‬
‫له‪ ،‬ومهما فعل به كان مرادًا له‪ ،‬من غير أن يفعل المأمور به شرعًا في ذلك‪.‬‬

‫‪/‬فهذا بمنزلة من له أموال يعطيها وليس له إرادة في إعطاء معين‪ ،‬ل إرادة شرعية ول إرادة مذمومة‪ ،‬بل يعطي كل‬
‫أحد‪ .‬فهذا إذا قدر أنه قام بما يجب عليه بحسب إمكانه ولكنه خفى عليه الرادة الشرعية في تفصيل أفعاله‪ ،‬فإنه ليذم‬
‫على ما فعل ول يمدح مطلقًا‪ ،‬بل يمدح لعدم هواه‪ ،‬ولو علم تفصيل المأمور به وأراده إرادة شرعية لكان أكمل؛ بل‬
‫هذا مع القدرة إما واجب وإما مستحب‪ .‬وحال هذا خير من حال من يريد بحكم هواه ونفسه؛وإن كان ذلك مباحًا له‪،‬‬
‫وهو دون من يريد بأمر ربه ل بهواه‪ ،‬ول بالقدر المحض‪.‬‬

‫فمضمون هذا المقام أن الناس في المباحات من الملك والمال وغير ذلك على ثلثة أقسام‪:‬‬

‫قوم ل يتصرفون فيها إل بحكم المر الشرعي‪ .‬وهو حال نبينا صلى ال عليه وسلم‪ .‬وهو حال العبد الرسول ومن‬
‫اتبعه في ذلك‪.‬‬

‫وقوم يتصرفون فيها بحكم إرادتهم والشهوة التي ليست محرمة‪ .‬وهذا حال النبي الملك‪ .‬وهو حال البرار أهل اليمين‪.‬‬

‫وقوم ل يتصرفون بهذا ول بهذا‪ .‬أما الول‪ :‬فلعدم ‪ /‬علمهم به‪ .‬وأما الثاني‪ :‬فلزهدهم فيه؛ بل يتصرفون فيها بحكم‬
‫القدر المحض‪ ،‬اتباعًا لرادة الّ الخلقية القدرية حين تعذر معرفة الرادة الشرعية المرية‪ ،‬وهذا كالترجيح بالقرعة‬
‫إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم‪ ،‬وقد يتصرف هؤلء في هذا المقام بإلهام يقع في قلوبهم وخطاب‪.‬‬

‫وكلم الشيخ عبد القادر ـ قدس الّ روحه ـ كثيرًا ما يقع في هذا المقام؛ فإنه يأمر بالزهد في إرادة النفس وهواها‪،‬‬
‫حتى ل يتصرف بحكم الرادة والنفس‪ ،‬وهذا رفع له عن حال البرار أهل اليمين وعن طريق الملوك مطلقًا ‪ ،‬ومن‬
‫حصل هذا وتصرف بالمر الشرعي المحمدي القرآني فهو أكمل الخلق‪ ،‬لكن هذا قد يخفى عليه‪ ،‬فإن معرفة هذا على‬
‫التفصيل قد يتعذر أو يتعسر في كثير من المواضع أل ترى أن النبي صلى ال عليه وسلم لما حكم سعد ابن معاذ في‬
‫بني قريظة فحكم بقتل مقاتلتهم‪ ،‬وبسبي ذراريهم‪ ،‬وغنيمة أموالهم‪ .‬قال‪( :‬لقد حكمت فيهم بحكم الّ من فوق سبعة‬
‫أرقعة)‪ ،‬وذلك أن تخيير ولي المر بين القتل والسترقاق‪ ،‬والمن والفداء ليس تخيير شهوة‪ ،‬بل تخيير رأي ومصلحة‪،‬‬
‫فعليه أن يختار الصلح‪ ،‬فإن اختار ذلك فقد وافق حكم الّ‪ ،‬وإل فل‪.‬‬
‫ولما كان هذا يخفي كثيرًا‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث ‪ /‬الصحيح‪( :‬إذا حاصرت أهل حصن فسألوك‬
‫أن تنزلهم على حكم الّ فل تنزلهم على حكم الّ‪ ،‬فإنك ل تدري ماحكم الّ فيهم‪ ،‬ولكن أنزلهم على حكمك وحكم‬
‫أصحابك)‪ ،‬والحاكم الذي ينزل أهل الحصن على حكمه عليه أن يحكم باجتهاده‪ ،‬فلما أمر سعد بما هو الرضي لّ‪،‬‬
‫والحب إليه‪ ،‬حكم بحكمه‪ ،‬ولو حكم بغير ذلك لنفذ حكمه فإنه حكم باجتهاده‪ ،‬وإن لم يكن ذلك هو حكم الّ في الباطن‪.‬‬

‫ففي مثل هذه الحال التي ل يتبين المر الشرعي في الواقعة المعينة‪ ،‬يأمر الشيخ عبدالقادر وأمثاله من الشيوخ‪ :‬تارة‬
‫بالرجوع إلى المر الباطن واللهام إن أمكن ذلك‪ ،‬وتارة بالرجوع إلى القدر المحض لتعذر السباب المرجحة من‬
‫جهة الشرع‪ ،‬كما يرجح الشارع بالقرعة‪ .‬فهم يأمرون أل يرجح بمجرد إرادته وهواه‪ ،‬فإن هذا إما محرم وإما مكروه‪،‬‬
‫وإما منقص‪ ،‬فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات‪.‬‬

‫ثم إن تبين لهم المر الشرعي وجب الترجيح به‪ ،‬وإل رجحوا‪ ،‬إما بسبب باطن من اللهام والذوق‪ ،‬وإما بالقضاء‬
‫والقدر الذي ل يضاف إليهم‪ .‬ومن يرجح في مثل هذه الحال باستخارة الّ‪ ،‬كما كان النبي صلى ال عليه وسلم يعلم‬
‫أصحابه الستخارة في المور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن‪ ،‬فقد أصاب‪.‬‬

‫‪/‬وهذا كما أنه إذا تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد‪ ،‬وعند المقلد المستفتي‪ ،‬فإنه ل يرجح شيئًا‪ ،‬بل‬
‫ما جرى به القدر أقروه‪ ،‬ولم ينكروه‪ ،‬وتارة يرجح أحدهم‪ :‬إما بمنام‪ ،‬وإما برأي مشير ناصح‪ ،‬وإما برؤية المصلحة‬
‫في أحد الفعلين‪.‬‬

‫وأما الترجيح بمجرد الختيار‪ ،‬بحيث إذا تكافأت عنده الدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره‪ .‬فهذا ليس قول أحد من‬
‫أئمة السلم‪ ،‬وإنما هو قول طائفة من أهل الكلم‪ ،‬ولكن قاله طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي‪ :‬أنه يخير بين‬
‫المفتين المختلفين‪ .‬وهذا كما أن طائفة من السالكين إذا استوى عنده المران في الشريعة رجح بمجرد ذوقه وإرادته‪،‬‬
‫فالترجيح بمجرد الرادة التي ل تستند إلى أمر علمي باطن ول ظاهر‪ ،‬ل يقول به أحد من أئمة العلم والزهد‪ .‬فأئمة‬
‫الفقهاء والصوفية ل يقولون هذا‪.‬‬

‫ولكن من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته‪ ،‬فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته‬
‫وذوقه‪.‬‬

‫لكن قد يقال‪ :‬القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي‪ .‬وعلى هذا التقدير ليس من هذا‪ ،‬فمن غلب‬
‫ل أو مكروه‪ ،‬ورأي‬
‫على قلبه إرادة ما يحبه الّ‪ ،‬وبغض ما يكرهه الّ‪ ،‬إذا لم يدر في المر المعين ‪ /‬هل هو محبوب ّ‬
‫قلبه يحبه أو يكرهه‪ ،‬كان هذا ترجيحًا عنده‪ .‬كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه‪ ،‬فإن الترجيح بخبر هذا عند‬
‫انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي‪.‬‬

‫ففي الجملة‪ ،‬متى حصل ما يظن معه أن أحد المرين أحب إلى الّ ورسوله‪ ،‬كان هذا ترجيحًا بدليل شرعي‪ ،‬والذين‬
‫أنكروا كون اللهام طريقًا على الطلق أخطؤوا‪ ،‬كما أخطأ الذين جعلوه طريقًا شرعيًا على الطلق‪.‬‬

‫ولكن إذا اجتهد السالك في الدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحًا‪ ،‬وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن‬
‫قصده وعمارته بالتقوى‪ ،‬فإلهام مثل هذا دليل في حقه؛ قد يكون أقوى من كثير من القيسة الضعيفة‪ ،‬والحاديث‬
‫الضعيفة‪ ،‬والظواهر الضعيفة‪ ،‬والستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب‪ ،‬والخلف‬
‫وأصول الفقه‪.‬‬

‫وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬اتقوا فراسة المؤمن‪ ،‬فإنه ينظر بنور الّ) ثم قرأ‬
‫ك لَيَاتٍ لِ ْل ُمتَوَ ّسمِينََ} [الحجر‪ .]57 :‬وقال عمر بن الخطاب‪ :‬اقتربوا من أفواه المطيعين‪،‬‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬إِ ّ‬
‫ن فِي ذَِل َ‬
‫واسمعوا منهم ما يقولون‪ ،‬فإنه تتجلى لهم أمور ‪ /‬صادقة‪ .‬وقد ثبت في الصحيح قول الّ تعالى‪( :‬ول يزال عبدي‬
‫يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪،‬‬
‫ورجله التي يمشي بها‪ ،‬فبي يسمع‪ ،‬وبي يبصر‪ ،‬وبي يبطش‪ ،‬وبي يمشي)‪.‬‬
‫وأيضًا فالّ ـ سبحانه وتعالى ـ فطر عباده على الحنيفية‪ :‬وهو حب المعروف‪ ،‬وبغض المنكر‪ ،‬فإذا لم تستحل الفطرة‬
‫فالقلوب مفطورة على الحق‪ ،‬فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة اليمان‪ ،‬منورة بنور القرآن‪ ،‬وخفي عليها دللة الدلة‬
‫السمعية الظاهرة‪ ،‬ورأى قلبه يرجح أحد المرين‪ ،‬كان هذا من أقوى المارات عند مثله‪ ،‬وذلك أن الّ علم القرآن‬
‫حجَابٍ أَ ْو يُرْسِلَ رَسُولً} الية ثم قال‪َ { :‬و َكذَِلكَ‬ ‫حيًا أَ ْو مِنْ وَرَاءِ ِ‬ ‫واليمان‪ .‬قال الّ تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ ِلبَشَرٍ أَ ْ‬
‫ن ُيكَّلمَهُ الُّ ِإلّ وَ ْ‬
‫ت تَدْرِي مَا ا ْل ِكتَابُ َولَ الِْيمَانُ َوَلكِنْ َجعَ ْلنَا ُه نُورًا َن ْهدِي بِهِ مَ ْن نَشَا ُء مِنْ ِعبَادِنَا} [الشورى‪:‬‬ ‫ح ْينَا ِإَل ْيكَ رُوحًا مِنْ َأمْ ِرنَا مَا ُكنْ َ‬
‫أَوْ َ‬
‫‪ ،]52 ،51‬وقال جندب بن عبد الّ‪ ،‬وعبد الّ بن عمر‪ :‬تعلمنا اليمان‪ ،‬ثم تعلمنا القرآن‪ ،‬فازددنا إيمانًا‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن حذيفة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إن الّ أنزل المانة في جذر قلوب الرجال‪،‬‬
‫فعلموا من القرآن وعلموا من السنة)‪ ،‬وفي الترمذي وغيره حديث النواس عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ /‬أنه قال‪( :‬‬
‫ضرب الّ مثلً صراطًا مستقيما‪ ،‬وعلى جنبتي الصراط سوران‪ ،‬وفي السورين أبواب مفتحة‪ ،‬وعلى البواب ستور‬
‫مرخاة‪ ،‬وداع يدعو على رأس الصراط‪ ،‬وداع يدعو من فوق الصراط‪ .‬فالصراط المستقيم هو السلم‪ ،‬والستور‬
‫حدود الّ‪ ،‬والبواب المفتحة محارم الّ‪ .‬فإذا أراد العبد أن يفتح بابًا من تلك البواب ناداه المنادي ـ أو كما قال ـ يا‬
‫ل في‬‫عبد الّ ل تفتحه‪ ،‬فإنك إن تفتحه تلجه‪ .‬والداعي على رأس الصراط كتاب الّ‪ ،‬والداعي فوق الصراط واعظ ا ّ‬
‫قلب كل مؤمن)‪.‬‬

‫فقد بين أن في قلب كل مؤمن واعظ‪ ،‬والواعظ المر والنهي بترغيب وترهيب؛ فهذا المر والنهي الذي يقع في قلب‬
‫المؤمن مطابق لمر القرآن ونهيه؛ ولهذا يقوى أحدهما بالخر‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور‪ ،]35 :‬قال‬
‫بعض السلف في الية‪ :‬هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر‪ .‬فإذا سمع بالثر كان نورًا على نور‪ .‬نور‬
‫اليمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن‪ ،‬كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل؛ فإن الّ أنزل الكتاب والميزان‬
‫ليقوم الناس بالقسط‪.‬‬

‫وقد يؤتي العبد أحدهما ول يؤتي الخر‪ ،‬كما في الصحيحين عن أبي موسى الشعري عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫أنه قال‪( :‬مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الترجة طعمها طيب وريحها طيب‪ ،‬ومثل ‪ /‬المؤمن الذي ل يقرأ القرآن‬
‫كمثل التمرة طعمها طيب ول ريح لها‪ ،‬ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر‪ ،‬ومثل‬
‫المنافق الذي ل يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر)‪.‬‬

‫واللهام في القلب تارة يكون من جنس القول والعلم والظن والعتقاد‪ ،‬وتارة يكون من جنس العمل والحب والرادة‬
‫والطلب‪ ،‬فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب‪ ،‬وقد يميل قلبه إلى أحد المرين دون الخر‪ ،‬وفي‬
‫الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬قد كان في المم قبلكم محدثون‪ ،‬فإن يكن في أمتي أحد فعمر)‪،‬‬
‫والمحدث الملهم المخاطب‪ ،‬وفي مثل هذا قول النبي صلى ال عليه وسلم في حديث وابصة‪( :‬البر ما اطمأنت إليه‬
‫النفس وسكن إليه القلب‪ ،‬والثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك) وهو في السنن‪ .‬وفي صحيح مسلم عن‬
‫النواس عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬البر حسن الخلق‪ ،‬والثم ما حاك في نفسك‪ ،‬وكرهت أن يطلع عليه‬
‫الناس)‪ .‬وقال ابن مسعود‪ :‬الثم حزاز القلوب‪.‬‬

‫وأيضًا فإذا كانت المور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقينًا أو ظنًا‪ ،‬فالمور الدينية كذلك بطريق الولى‪ ،‬فإنه إلى‬
‫كشفها أحوج‪ ،‬لكن هذا في الغالب لبد أن يكون كشفًا بدليل‪ ،‬وقد يكون ‪ /‬بدليل ينقدح في قلب المؤمن‪ ،‬ول يمكنه‬
‫التعبير عنه‪ .‬وهذا أحد ما فسر به معنى الستحسان‪.‬‬

‫وقد قال من طعن في ذلك ـ كأبي حامد وأبي محمد ـ‪ :‬ما ل يعبر عنه فهو هوس‪ ،‬وليس كذلك؛ فإنه ليس كل أحد يمكنه‬
‫إبانة المعاني القائمة بقلبه‪ ،‬وكثير من الناس يبينها بيانًا ناقصًا‪ ،‬وكثيرمن أهل الكشف يلقي في قلبه أن هذا الطعام‬
‫ل أو‬
‫حرام‪ ،‬أو أن هذا الرجل كافر أو فاسق‪ ،‬من غيردليل ظاهر‪ ،‬وبالعكس قد يلقي في قلبه محبة شخص وأنه ولي ّ‬
‫أن هذا المال حلل‪.‬‬

‫وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الحكام الشرعية‪ ،‬لكن إن مثل هذا يكون ترجيحًا لطالب الحق إذا‬
‫تكافأت عنده الدلة السمعية الظاهرة‪ .‬فالترجيح بها خير من التسوية بين المرين المتناقضين قطعًا‪ ،‬فإن التسوية‬
‫بينهما باطلة قطعًا‪.‬كما قلنا‪ :‬إن العمل بالظن الناشئ عن ظاهر أو قياس خير من العمل بنقيضه إذا احتيج إلى العمل‬
‫بأحدهما‪ .‬والصواب الذي عليه السلف والجمهور أنه لبد في كل حادثة من دليل شرعي‪ ،‬فليجوز تكافؤ الدلة في‬
‫نفس المر‪ ،‬لكن قد تتكافأ عند الناظر لعدم ظهور الترجيح له‪ ،‬وأما من قال‪ :‬إنه ليس في نفس المر حق معين‪ ،‬بل‬
‫كل مجتهد عالم بالحق الباطن في المسألة‪ ،‬وليس لحدهما على الخر مزية في علم ول عمل‪ ،‬فهؤلء ‪ /‬قد يجوزون‬
‫أو بعضهم تكافؤ الدلة‪ ،‬ويجعلون الواجب التخيير بين القولين‪ ،‬وهؤلء يقولون ليس على الظن دليل في نفس المر؛‬
‫وإنما رجحان أحد القولين هو من باب الرجحان بالميل والرادة‪ ،‬كترجيح النفس الغضبية للنتقام‪ ،‬والنفس الحليمة‬
‫للعفو‪.‬‬

‫وهذا القول خطأ؛ فإنه لبد في نفس المر من حق معين يصيبه المستدل تارة ويخطئه أخرى‪ .‬كالكعبة في حق من‬
‫اشتبهت عليه القبلة والمجتهد إذا أداه اجتهاد إلى جهة سقط عنه الفرض بالصلة إليها كالمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى‬
‫قول فعمل بموجبه كلهما مطيع لّ‪ ،‬وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لّ وله أجر على ذلك‪ ،‬وليس مصيبًا بمعنى أنه علم‬
‫الحق المعين؛ فإن ذلك ل يكون إل واحدًا ومصيبه له أجران وهذا في كشف النواع التي يكون عليها دليل شرعي‬
‫لكن قد يخفي على العبد‪ ،‬فإن الشارع بين الحكام الكلية‪.‬‬

‫وأما الحكام المعينات التي تسمى‪ :‬تنقيح المناط‪ ،‬مثل كون الشخص المعين عدلً أو فاسقًا أو مؤمنًا أو منافقًا أو وليًا‬
‫لّ أو عدوًا له‪ ،‬وكون هذا المعين عدوًا للمسلمين يستحق القتل‪ ،‬وكون هذا العقار ليتيم أو فقير يستحق الحسان إليه‪،‬‬
‫وكون هذا المال يخاف عليه من ظلم ظالم‪ ،‬فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله‪ ،‬فهذه ‪ /‬المور ل يجب أن تعلم بالدلة‬
‫الشرعية العامة الكلية‪ ،‬بل تعلم بأدلة خاصة تدل عليها‪.‬‬

‫ومن طرق ذلك‪ :‬اللهام‪ ،‬فقد يلهم الّ بعض عباده حال هذا المال المعين‪ ،‬وحال هذا الشخص المعين‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫هناك دليل ظاهر يشركه فيه غيره‪.‬‬

‫ل تعالى؛ فإنه ل يجوز قط لحد ل نبي ول‬


‫وقصة موسى مع الخضر هي من هذا الباب‪ ،‬ليس فيها مخالفة لشرع ا ّ‬
‫ولي أن يخالف شرع الّ‪ ،‬لكن فيها علم حال ذاك المعين بسبب باطن يوجب فيه الشرع ما فعله الخضر‪ ،‬كمن دخل‬
‫إلى دار وأخذ ما فيها من المال لعلمه بأن صاحبها أذن له وغيره لم يعلم‪ ،‬ومثل من رأى ضالة أخذها ولم يعرفها‪،‬‬
‫لعلمه بأنه أتى بها هدية له‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬ومثل هذا كثير عند أهل اللهام الصحيح‪.‬‬

‫والنوع الثاني‪ :‬عكس هذا‪ ،‬وهو أنهم يتبعون هواهم‪ ،‬ل أمر الّ‪ ،‬فهؤلء ل يفعلون ول يأمرون إل بما يحبونه بهواهم‪،‬‬
‫ت َتكُونُ‬ ‫خذَ إَِلهَهُ هَوَاهُ َأفََأنْ َ‬
‫ن اتّ َ‬ ‫ول يتركون وينهون إل عما يكرهونه بهواهم‪ ،‬وهؤلء شر الخلق‪ .‬قال تعالى‪{ :‬أَرََأيْ َ‬
‫ت مَ ْ‬
‫ن ا ّتبَعَ هَوَاهُ‬
‫ل ِممّ ْ‬ ‫عََليْهِ َوكِيلً} [الفرقان‪ ]43 :‬قال الحسن‪ :‬هو المنافق ل يهوي شيئًا إل ركبه‪ ،‬وقال تعالى‪َ ْ{ / :‬ومَنْ أَضَ ّ‬
‫ِبغَيْرِ ُهدًى مِنْ الِّ} [القصص‪ ،]50 :‬وقال عمر بن عبد العزيز‪ :‬ل تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه‪ ،‬ويخالفه إذا‬
‫خالف هواه‪ ،‬فإذا أنت ل تثاب على ما اتبعته من الحق‪ ،‬وتعاقب على ما خالفته‪ .‬وهو كما قال ـ رضي الّ عنه ـ لنه‬
‫في الموضعين إنما قصد اتباع هواه لم يعمل لّ‪.‬‬

‫أل ترى أن أبا طالب نصر النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذب عنه أكثر من غيره؛ لكن فعل ذلك لجل القرابة‪ ،‬ل لجل‬
‫ل تعالى‪ ،‬فلم يتقبل الّ ذلك منه‪ ،‬ولم يثبه على ذلك؟! وأبو بكر الصديق ـ رضي الّ عنه ـ أعانه بنفسه وماله لّ؛ فقال‬ ‫ا ّ‬
‫ل ا ْب ِتغَاءَ وَجْهِ َربّهِ الَْعْلَى ‪ .‬وَلَسَ ْوفَ‬
‫جزَى ‪ِ .‬إ ّ‬
‫ع ْندَ ُه مِنْ ِن ْعمَةٍ تُ ْ‬
‫حدٍ ِ‬
‫لْتْقَى ‪ .‬اّلذِي يُ ْؤتِي مَالَ ُه َيتَ َزكّى ‪َ .‬ومَا لَِ َ‬
‫جّنبُهَا ا َ‬ ‫الّ فيه‪َ { :‬و َ‬
‫سيُ َ‬
‫يَرْضَى} [الليل‪.]17-21 :‬‬

‫القسم الثالث‪ :‬الذي يريد تارة إرادة يحبها الّ؛ وتارة إرادة يبغضها الّ‪ .‬وهؤلء أكثر المسلمين‪ ،‬فإنهم يطيعون الّ‬
‫تارة‪ ،‬ويريدون ما أحبه‪ ،‬ويعصونه تارة‪ ،‬ويريدون ما يهوونه‪ ،‬وإن كان يكرهه‪.‬‬

‫والقسم الرابع‪ :‬أن يخلو عن الرادتين‪ ،‬فل يريد لّ ول لهواه‪ ،‬وهذا يقع لكثير من الناس في بعض الشياء‪ ،‬ويقع لكثير‬
‫‪ /‬من الزهاد والنساك في كثير من المور‪.‬‬

‫وأما خلو النسان عن الرادة مطلقًا فممتنع‪ ،‬فإنه مفطور على إرادة مالبد له منه وعلى كراهة ما يضره ويؤذيه‪،‬‬
‫والزاهد الناسك إذا كان مسلمًا فل بد أن يريد أشياء يحبها الّ‪ :‬مثل أداء الفرائض وترك المحارم‪ ،‬بل وكذلك عموم‬
‫المؤمنين لبد أن يريد أحدهم أشياء يحبها الّ‪ ،‬وإل فمن لم يحب الّ‪ ،‬ول أحب شيئًا لّ‪ ،‬فلم يحب شيئًا من الطاعات‪،‬‬
‫ل الشهادتين ول غيرهما ول يريد ذلك فإنه ل يكون مؤمنًا‪ ،‬فلبد لكل مؤمن من أن تكون له إرادة لبعض ما يحبه‬
‫الّ؛ وأما إرادة العبد لما يهواه ول يحبه الّ‪ ،‬فهذا لزم لكل من عصى الّ‪ ،‬فإنه أراد المعصية والّ ل يحبها ول‬
‫يرضاها‪ .‬وأما الخلو عن الرادتين المحمودة والمذمومة فيقع على وجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬مع إعراض العبد عن عبادة الّ تعالى وطاعته وإن علم بها‪ ،‬فإنه قد يعلم كثيرًا من المور أنه مأمور بها‪،‬‬
‫وهو ل يريدها ول يكره من غيره فعلها‪ ،‬وإذا اقتتل المسلمون والكفار لم يكن مريدًا لنتصار هؤلء الذي يحبه الّ‪،‬‬
‫ول لنتصار هؤلء الذي يبغضه الّ‪.‬‬

‫والوجه الثاني‪ :‬يقع من كثير من الزهاد العباد الممتثلين لما ‪ /‬يعلمون أن الّ أمر به‪ ،‬المجتنبين لما يعلمون أن الّ نهى‬
‫عنه‪ ،‬وأمور أخرى ل يعلمون أنها مأمور بها ول منهي عنها‪ ،‬فل يريدونها ول يكرهونها لعدم العلم‪ ،‬وقد يرضونها‬
‫من جهة كونها مخلوقة مقدرة‪ ،‬وقد يعاونون عليها‪ ،‬ويرون هذا موافقة لّ وأنهم لما خلو عن هوى النفس كانوا‬
‫مأمورين بالرضا بكل حادث؛ بل والمعاونة عليه‪ .‬وهذا موضع يقع فيه الغلط‪ ،‬فإن ما أحبه الّ ورسوله علينا أن نحب‬
‫ما أحبه الّ ورسوله‪ .‬وما أبغضه الّ ورسوله فعلينا أن نبغض ما أبغضه الّ ورسوله‪ ،‬وأما ما ل يحبه الّ ورسوله‬
‫ول يبغضه الّ ورسوله كالفعال التي ل تكليف فيها مثل أفعال النائم والمجنون‪ ،‬فهذا إذا كان الّ ل يحبها ويرضاها‬
‫ول يكرهها ويذمها‪ ،‬فالمؤمن أيضًا ل ينبغي أن يحبها ويرضاها ول يكرهها‪.‬‬

‫وأما كونها مقدورة ومخلوقة لّ فذاك ل يختص بها‪ ،‬بل هو شامل لجميع المخلوقات‪ .‬والّ تعالى خلق ما خلقه لما شاء‬
‫من حكمته‪ ،‬وقد أحسن كل شيء خلقه‪ ،‬والرضا بالقضاء ثلثة أنواع‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬الرضا بالطاعات؛ فهذا طاعة مأمور بها‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬الرضا بالمصائب‪ ،‬فهذا مأمور به‪ :‬إما مستحب‪ ،‬وإما واجب‪.‬‬

‫‪/‬والثالث‪ :‬الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬فهذا ل يؤمر بالرضا به‪ ،‬بل يؤمر ببغضه وسخطه‪ ،‬فإن الّ ل يحبه ول‬
‫لّ لَ يُ ِحبّ ا ْلفَسَادَ} [البقرة‪205 :‬‬
‫ل يَرْضَى مِنْ ا ْلقَوْلِ} [النساء‪ ،]108 :‬وقال‪{ :‬وَا ُ‬ ‫يرضاه‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ{ :‬إ ْذ ُيبَ ّيتُو َ‬
‫ن مَا َ‬
‫لّ لَ ُيحِبّ ا ْلكَافِرِينَ} [آل عمران‪ ،]32 :‬وقال‪{ :‬إِنّ ا َ‬
‫لّ لَ‬ ‫ل يَرْضَى ِل ِعبَادِهِ ا ْلكُ ْفرَ} [الزمر‪ ،]7 :‬وقال‪َ { :‬فإِنّ ا َ‬
‫]‪ ،‬وقال‪َ { :‬و َ‬
‫يُحِبّ ا ْل ُمعْ َتدِينَ} [المائدة‪.]87 :‬‬

‫وهو وإن خلقه لما له في ذلك من الحكمة فل يمتنع أن يخلق مال يحبه لفضائه إلى الحكمة التي يحبها‪ ،‬كما خلق‬
‫الشياطين‪ ،‬فنحن راضون عن الّ في أن يخلق ما يشاء‪ ،‬وهو محمود على ذلك‪.‬‬

‫وأما نفس هذا الفعل المذموم وفاعله‪ ،‬فل نرضى به ول نحمده‪ ،‬وفرق بين ما يحب لنفسه‪ ،‬وما يراد لفضائه إلى‬
‫المحبوب‪ ،‬مع كونه مبغضًا من جهة أخرى؛ فإن المر الواحد يراد من وجه ويكره من وجه آخر‪ ،‬كالمريض الذي‬
‫يتناول الدواء الكريه؛ فإنه يبغض الدواء ويكرهه‪ ،‬وهو مع هذا يريد استعماله لفضائه إلى المحبوب‪ ،‬ل لنه في نفسه‬
‫محبوب‪.‬‬

‫وفي الحديث الصحيح يقول الّ تعالى‪( :‬وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن‪ ،‬يكره‬
‫الموت وأكره مساءته ولبد له منه)‪ ،‬فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي ‪ /‬يكره الموت‪ ،‬كان هذا مقتضيًا‬
‫ل تعالى‬
‫أن يكره إماتته‪ ،‬مع أنه يريد إماتته؛ لما له في ذلك من الحكمة ـ سبحانه وتعالى ـ فالمور التي يبغضها ا ّ‬
‫وينهى عنها ل تحب ول ترضى‪ ،‬لكن نرضى بما يرضى الّ به حيث خلقها‪ ،‬لما له في ذلك من الحكمة‪ ،‬فكذلك‬
‫الفعال التي ل يحبها ول يبغضها ل ينبغي أن تحب ول ترضى‪ ،‬كما ل ينبغي أن تبغض‪.‬‬

‫والرضا الثابت بالنص هو أن يرضى بالّ ربًا‪ ،‬وبالسلم دينًا‪ ،‬وبمحمد نبيًا‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬من رضى بالّ ربًا‪ ،‬وبالسلم دينًا‪ ،‬وبمحمد نبيًا‪ ،‬كان حقًا على الّ أن يرضيه)‪ ،‬وأما بالنسبة‬
‫إلى القدر فيرضى عن الّ‪ ،‬إذ له الحمد على كل حال‪ ،‬ويرضى بما يرضاه من الحكمة التي خلق لجلها ما خلق وإن‬
‫كنا نبغض ما يبغضه من المخلوقات‪ ،‬فحيث انتفي المر الشرعي أو خفي المر الشرعي ل يكون المتثال والرضا‬
‫والمحبة‪ ،‬كما يكون في المر الشرعي‪ ،‬وإن كان ذلك مقدورًا‪.‬‬
‫وهذا موضع يغلط فيه كثير من خاصة السالكين وشيوخهم‪ ،‬فضلً عن عامتهم‪ ،‬ويتفاوتون في ذلك بحسب معرفتهم‬
‫بالمر الشرعي وطاعتهم له‪.‬‬

‫فمنهم من هو أعرف من غيره بالمر الشرعي وأطوع له‪ ،‬فهذا ‪ /‬تكون حاله أحسن ممن يقصر عنه في المعرفة‬
‫بالمر الشرعي والطاعة له‪.‬‬

‫ومنهم من يبعد عن المر الشرعي‪ ،‬ويسترسل حتى ينسلخ من السلم بالكلية‪ ،‬ويبقى واقفًا مع هواه والقدر‪.‬‬

‫ومن هؤلء من يموت كافرًا‪ ،‬ومنهم من يتوب الّ عليه‪ ،‬ومنهم من يموت فاسقًا‪ ،‬ومنهم من يتوب الّ عليه‪.‬‬

‫وهؤلء ينظرون إلى الحقيقة القدرية معرضين عن المر الشرعي ول بد مع ذلك من اتباع أمر ونهي غير المر‬
‫الشرعي‪ ،‬إما من أنفسهم وإما من غير الّ ورسوله‪ ،‬إذ السترسال مع القدر مطلقًا ممتنع لذاته‪ ،‬لما تقدم من أن العبد‬
‫مفطور على محبة أشياء وبغض أشياء‪.‬‬

‫وقول من قال‪ :‬إن العبد يكون مع الّ كالميت مع الغاسل ل يصح ول يسوغ على الطلق عن أحد من المسلمين‪،‬‬
‫وإنما يقال ذلك في بعض المواضع؛ ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر الّ عليه‪ ،‬وإل فإذا علم ما أمر الّ به وأحبه‪ ،‬فلبد‬
‫أن يحب ما أحبه الّ‪ ،‬ويبغض ما أبغضه‪.‬‬

‫َفصْـــل‬

‫وكما أن الطريقة العلمية بصحة النظر في الدلة والسباب هي الموجبة للعلم‪ ،‬كتدبر القرآن والحديث‪ ،‬فالطريقة‬
‫العملية بصحة الرادة والسباب هي الموجبة للعمل؛ ولهذا يسمون السالك في ذلك‪ :‬المريد‪ ،‬كما يسميه أولئك‪:‬‬
‫الطالب‪ ،‬و النظر جنس تحته حق وباطل‪ ،‬ومحمود ومذموم‪ ،‬وكذلك‪ :‬الرادة‪.‬‬

‫فكما أن طريق العلم لبد فيه من العلم النبوي الشرعي‪ ،‬بحيث يكون معلومك المعلومات الدينية النبوية‪ ،‬ويكون علمك‬
‫بها مطابقًا لما أخبرت به الرسل‪ ،‬وإل فل ينفعك أي معلوم علمته‪ ،‬ول أي شيء اعتقدته فيما أخبرت به الرسل‪ ،‬بل‬
‫ل وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر‪ ،‬فكذلك [الرادة] لبد فيها من تعيين المراد‪ ،‬وهو الّ‬ ‫لبد من اليمان با ّ‬
‫ل وتكون عبادتك إياه بما شرع على ألسنة رسله‪ ،‬إذ لبد من‬ ‫والطريق إليه‪ ،‬وهو ما أمرت به الرسل‪ .‬فل بد أن تعبد ا ّ‬
‫تصديق الرسول فيما أخبر علمًا‪ ،‬ولبد من طاعته فيما أمر عملً‪.‬‬

‫ل وعملً مع موافقة السنة‪ ،‬فعلم الحق ما وافق علم الّ‪ ،‬والرادة الصالحة ما وافقت محبة الّ‬
‫‪/‬ولهذا كان اليمان قو ً‬
‫ورضاه‪ ،‬وهو حكمه الشرعي‪ ،‬والّ عليم حكيم‪.‬‬

‫ل وخبره؛ والمور العملية لبد أن تطابق حب الّ وأمره‪ ،‬فهذا حكمه‪ ،‬وذاك‬
‫فالمور الخبرية لبد أن تطابق علم ا ّ‬
‫علمه‪.‬‬

‫وأما من جعل حكمه مجرد القدر‪ ،‬كما فعل صاحب [منازل السائرين] وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن‬
‫يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة ـ فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع‪ .‬فل ينفع المريد‬
‫القاصد أن يعبد أي معبود كان‪ ،‬ول أن يعبد الّ بأي عبادة كانت‪ ،‬بل هذه طريقة المشركين المبتدعين الذين لهم‬
‫شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الّ‪ ،‬كالنصارى ومن أشبههم من أهل البدع الذين يعبدون غير الّ بغير أمر‬
‫ل وحده‪ ،‬ويعبدونه بما شرع‪ .‬ل يعبدونه بالبدع إل ما يقع من أحدهم خطأ‪.‬‬ ‫الّ‪ ،‬وأما أهل السلم والسنة فهم يعبدون ا ّ‬

‫فالسالكون طريق الرادة قد يغلطون تارة في المراد‪ ،‬وتارة في الطريق إليه‪ ،‬وتارة يألهون غير الّ بالخوف منه‬
‫والرجاء له‪ ،‬والتعظيم والمحبة له وسؤاله والرغبة إليه‪ ،‬فهذا حقيقة الشرك المحرم‪ ،‬فإن حقيقة ‪ /‬التوحيد أل يعبد إل‬
‫الّ‪.‬‬
‫والعبادة تتضمن كمال الحب‪ ،‬وكمال التعظيم‪ ،‬وكمال الرجاء‪ ،‬والخشية‪ ،‬والجلل والكرام‪ .‬والفناء في هذا التوحيد‬
‫فناء المرسلين واتباعهم‪ ،‬وهو أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه‪ ،‬وبطاعته عن طاعة ما سواه‪ ،‬وبسؤاله عن سؤال‬
‫ما سواه‪ ،‬وبخوفه عن خوف ما سواه‪ ،‬وبرجائه عن رجاء ماسواه‪ ،‬وبحبه والحب فيه عن محبة ما سواه والحب فيه‪.‬‬

‫وأما الغالطون في الطريق فقد يريدون الّ‪ ،‬لكن ل يتبعون المر الشرعي في إرادته‪ ،‬لكن تارة يعبده أحدهم بما يظنه‬
‫يرضيه‪ ،‬ول يكون كذلك‪ ،‬وتارة ينظرون القدر لكونه مراده‪ ،‬فيفنون في القدر الذي ليس لهم فيه غرض‪ ،‬وأما الفناء‬
‫المطلق فيه فممتنع‪ .‬وهؤلء يفني أحدهم متبعًا لذوقه ووجده المخالف للمر الشرعي‪ ،‬أو ناظرًا إلى القدر‪ .‬وهذا يبتلى‬
‫به كثير من خواصهم‪.‬‬

‫والشيخ عبد القادر‪ ،‬ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع‪ ،‬والمر والنهي‪ ،‬وتقديمه على الذوق والقدر‪،‬‬
‫ومن أعظم المشائخ أمرًا بترك الهوى والرادة النفسية‪ .‬فإن الخطأ في الرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه‬
‫الجهة؛ فهو يأمر السالك ‪ /‬أل تكون له إرادة من جهة هواه أصلً‪ ،‬بل يريد ما يريده الرب ـ عز وجل ـ‪ :‬إما إرادة‬
‫شرعية أن تبين له ذلك‪ ،‬وإل جرى مع الرادة القدرية‪ ،‬فهو إما مع أمر الرب‪ ،‬وإما مع خلقه‪ ،‬وهو سبحانه له الخلق‬
‫والمر‪.‬‬

‫وهذه طريقة شرعية صحيحة‪ ،‬إنما يخاف على صاحبها من ترك إرادة شرعية ل يعلم أنها شرعية‪ ،‬أو من تقديم إرادة‬
‫قدرية على الشرعية فإنه إذا لم يعلم أنها شرعية فقد يتركها‪ ،‬وقد يريد ضدها‪ ،‬فيكون ترك مأمورًا أو فعل محظورًا‬
‫وهو ل يعلم‪ .‬فإن طريقة الرادة‪ :‬يخاف على صاحبها من ضعف العلم؛ وما يقترن بالعلم من العمل‪ ،‬والوقوع في‬
‫الضلل‪ ،‬كما أن طريقة العلم يخاف على صاحبها من ضعف العمل‪ ،‬وضعف العلم الذي يقترن بالعمل‪ ،‬لكن ل يكلف‬
‫ط ْعتُمْ} [التغابن‪ ،]16 :‬فإذا تفقه السالك‪ ،‬وتعلم المر‬
‫ستَ َ‬ ‫الّ نفسًا إل وسعها من هذا‪ ،‬وهذا‪ .‬قال تعالى‪{ :‬فَاتّقُوا ا َ‬
‫لّ مَا ا ْ‬
‫والنهي بحسب اجتهاده‪ ،‬وكان علمه وإرادته بحسب ذاك‪ ،‬فهذا مستطاعه‪ .‬وإذا أدى الطالب ما أمر به‪ ،‬وترك ما نهى‬
‫عنه‪ ،‬وكان علمه مطابقًا لعمله‪ ،‬فهذا مستطاعه‪.‬‬

‫َفصْـــل‬ ‫‪/‬‬

‫قال الشيخ عبد القادر ـ قدس الّ روحه ـ‪( :‬افن عن الخلق بحكم الّ‪ ،‬وعن هواك بأمره‪ ،‬وعن إرادتك بفعله‪ ،‬فحينئذ‬
‫يصلح أن تكون وعاء لعلم الّ)‪.‬‬

‫ل والتوكل عليه‪ ،‬فل تطعهم في‬ ‫قلت‪ :‬فحكمه يتناول خلقه وأمره‪ ،‬أي‪ :‬افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة ا ّ‬
‫معصية الّ تعالى ول تتعلق بهم في جلب منفعه ول دفع مضرة‪ .‬وأما الفناء عن الهوى بالمر وعن الرادة بالفعل بأن‬
‫يكون فعله موافقًا للمر الشرعي ل لهواه‪ ،‬وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل الّ ل لرادة نفسه‪ ،‬فالرادة تارة‬
‫تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات‪.‬‬

‫فالول‪ :‬يكون بالمر‪ ،‬والثاني‪ :‬ل تكون له إرادة‪ .‬ول بد في هذا أن يقيد بأل تكون له إرادة لم يؤمر بها‪ ،‬وإل فإذا أمر‬
‫بأن يريد من المقدورات شيئًا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته‪ ،‬سواء كان موافقًا للقدر أم ل‪ .‬وهذا الموضع قد يغلط‬
‫فيه طائفة من السالكين‪/ .‬والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم‬
‫إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور‪.‬‬

‫قال الشيخ‪( :‬فعلمة فنائك عن خلق الّ انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما في أيديهم)‪.‬‬

‫وهو كما قال‪.‬‬

‫فإذا كان القلب ل يرجوهم‪ ،‬ول يخافهم‪ ،‬لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورًا به من المشي‬
‫إليهم لمرهم بما أمر الّ به‪ ،‬ونهيهم عما نهاهم الّ عنه‪ ،‬كذهاب الرسل‪ ،‬واتباع الرسل إلى من يبلغون رسالت الّ‪،‬‬
‫ل متوكلً عليه‪ ،‬وإل فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر‬ ‫فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد‪ .‬ليكون عابدًا ّ‬
‫به؛ فقد يكون ما أضاعه من المر أولى به مما قام به من التوكل‪ ،‬أو مثله أو دونه‪ ،‬كما أن من قام بأمر ولم يتوكل‬
‫عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب‪ ،‬بل قد يكون ما تركه من التوكل والستعانة أولى به مما فعله من المر أو مثله‬
‫أو دونه‪.‬‬

‫قال الشيخ‪( :‬وعلمة فنائك عنك وعن هواك‪ :‬ترك التكسب‪ ،‬والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر‪ ،‬فل تتحرك‬
‫ل فيتوله آخرًا‪ .‬كما‬
‫فيك بك ول تعتمد عليك لك ول تنصر نفسك‪ ،‬ول تذب عنك‪ ،‬لكن تكل ذلك كله ‪ /‬إلى من توله أو ً‬
‫كان ذلك موكولً إليه في حال كونك مغيبًا في الرحم‪ ،‬وكونك رضيعًا طفل في مهدك)‪.‬‬

‫قلت‪ :‬وهذا لن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ودفع ما تبغضه ويضرها‪ ،‬فإذا فنى عن ذاك بالمر فعل ما يحبه‬
‫الّ وترك ما يبغضه الّ فاعتاض بفعل محبوب الّ عن محبوبه وبترك ما يبغضه الّ عما يبغضه وحينئذ فالنفس لبد‬
‫لها من جلب المنفعة ودفع المضرة‪ ،‬فيكون في ذلك متوكلً على الّ‪.‬‬

‫والشيخ ـ رحمه الّ ـ ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لن النفس لبد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة‪ ،‬فإن لم تكن‬
‫متوكلة على الّ في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل المر مطلقًا‪ ،‬بل لبد أن تعصي المر في جلب‬
‫المنفعة ودفع المضرة فل تصح العبادة لّ وطاعة أمره بدون التوكل عليه‪ ،‬كما أن التوكل عليه ل يصح بدون عبادته‬
‫حيْثُ‬‫خرَجًا ‪َ .‬ويَرْ ُزقْ ُه مِنْ َ‬ ‫جعَلْ لَ ُه مَ ْ‬ ‫لّ يَ ْ‬ ‫عُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود‪ ،]123 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫ن َيتّقِ ا َ‬ ‫وطاعته‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فَا ْ‬
‫سبُهُ} [الطلق‪ ،]3 ،2 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَا ْذكُرْ اسْمَ َرّبكَ َو َتبَتّلْ ِإَليْهِ َت ْبتِيلً ‪َ .‬ربّ ا ْلمَشْ ِرقِ‬ ‫حْ‬ ‫لّ َفهُوَ َ‬ ‫ن َيتَ َوكّلْ عَلَى ا ِ‬
‫حتَسِبُ َومَ ْ‬
‫لَ َي ْ‬
‫ب لَ ِإلَهَ ِإلّ ُه َو فَاتّ ِخذْهُ َوكِيلً} [المزمل‪. ]9 ،8 :‬‬ ‫وَا ْل َمغْرِ ِ‬

‫والمقصود أن امتثال المر على الطلق ل يصح بدون ‪ /‬التوكل والستعانة‪ ،‬ومن كان واثقًا بالّ أن يجلب له ما‬
‫ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره‪ ،‬وإل فنفسه ل تدعه أن يترك ما يقول‪ :‬إنه محتاج فيه إلى‬
‫غيره‪.‬‬

‫قال الشيخ ـ رضي الّ عنه ـ‪ :‬وعلمة فناء إرادتك بفعل الّ أنك ل تريد مرادًا قط‪ ،‬فل يكن لك غرض‪ ،‬ول تقف لك‬
‫حاجة ول مرام؛ لنك ل تريد مع إرادة الّ سواها‪ ،‬بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الّ تعالي وفعله‪ ،‬ساكن‬
‫الجوارح مطمئن الجنان‪ ،‬مشروح الصدر‪ ،‬منور الوجه‪ ،‬عامر الباطن‪ ،‬غنيا عن الشياء بخالقها‪ ،‬تقلبك يد القدرة‬
‫ويدعوك لسان الزل‪ ،‬ويعلمك رب الملك ويكسوك نورًا منه والحلل‪ ،‬وينزلك منازل من سلف من أولى العلم الول‪،‬‬
‫فتكون منكسرًا أبدًا‪.‬‬

‫فل تثبت فيك شهوة ول إرادة‪ :‬كالناء المتثلـم الذي ل يثبت فيه مائع ول كدر فتفنوا عـن أخلق البشريـة‪ ،‬فلـن يقبـل‬
‫باطنـك ساكنـًا غيـر إرادة الّ‪ ،‬فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم‬
‫وهو فعل الّ تبارك وتعالى حقًا في العلم فتدخل حينئذ في زمـرة المنكـسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية‪،‬‬
‫وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانيـة وشهوات إضافية ‪.‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬حبب‬
‫إلى من ‪ /‬دنياكم‪ :‬النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلة) فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقًا‬
‫لما أشرت إليه وتقدم‪ ،‬قال الّ تعالى‪( :‬أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) وساق كلمه‪ .‬وفيه‪( :‬ول يزال عبدي يتقرب‬
‫إليّ بالنوافل) الحديث‪.‬‬

‫قلت‪ :‬هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر ـ رضي الّ عنه ـ وحقيقته أنه ل يريد كون شيء إل أن يكون‬
‫مأمورًا بإرادته‪ .‬فقوله‪ :‬علمة فناء إرادتك بفعل الّ أنك ل تريد مرادًا قط‪ .‬أي ل تريد مرادًا لم تؤمر بإرادته‪ ،‬فأما ما‬
‫أمرك الّ ورسوله بإرادتك إياه‪ ،‬فإرادته إما واجب وإما مستحب‪ ،‬وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص ‪.‬‬

‫وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين‪ ،‬فيظنون أن الطريقة الكاملة أل يكون للعبد إرادة أصلً‪ ،‬وإن قول أبي‬
‫يزيد‪ :‬أريد أل أريد ـ لما قيل له‪ :‬ماذا تريد؟ ـ نقص وتناقض؛ لنه قد أراد‪ ،‬ويحملون كلم المشائخ الذين يمدحون‬
‫بترك الرادة على ترك الرادة مطلقًا‪ ،‬وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين‪ ،‬وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك‬
‫الرادة مطلقًا‪ ،‬فإن هذا غلط ممن قاله‪ ،‬فإن ذلك ليس بمقدور ول مأمور‪.‬‬
‫‪/‬فإن الحي لبد له من إرادة‪ ،‬فل يمكن حيًا أل تكون له إرادة‪ ،‬فإن الرادة التي يحبها الّ ورسوله ويأمر بها أمر‬
‫إيجاب أو أمر استحباب ل يدعها إل كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة‪ ،‬وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركًا‬
‫لما هو خير له‪.‬‬

‫ن يَدْعُونَ َرّبهُ ْم بِا ْل َغدَاةِ وَا ْل َعشِيّ‬ ‫والّ ـ تعالى ـ قد وصف النبياء والصديقين بهذه الرادة‪ ،‬فقال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ل تَطْ ُردْ اّلذِي َ‬
‫يُرِيدُونَ َو ْجهَهُ} [النعام‪ ،]52 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا لَِ َحدٍ ِع ْندَهُ مِ ْن ِن ْعمَةٍ تُ ْجزَى ‪ِ .‬إ ّل ا ْب ِتغَاءَ َوجْهِ َربّهِ الَْعْلَى} [الليل‪،19 :‬‬
‫شكُورًا} [النسان‪ ،]9 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن ُك ْنتُنّ تُ ِردْنَ الَّ‬ ‫ل نُرِي ُد ِمنْكُمْ جَزَاءً َولَ ُ‬‫لّ َ‬ ‫‪ ،]20‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إّنمَا نُ ْ‬
‫ط ِع ُمكُمْ لِ َوجْهِ ا ِ‬
‫سعَى َلهَا‬‫جرًا عَظِيمًا} [الحزاب‪ ،]29 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَنْ أَرَادَ الْخِرَةَ وَ َ‬ ‫ت ِمنْكُنّ أَ ْ‬
‫سنَا ِ‬
‫عدّ لِ ْلمُحْ ِ‬
‫وَ َرسُولَهُ وَالدّارَ الْخِرَ َة َفإِنّ الَّ أَ َ‬
‫لّ ُمخْلِصًا لَ ُه الدّينَ ّ‪َ .‬ألَ لِّ الدّينُ‬ ‫عُبدْ ا َ‬ ‫شكُورًا} [السراء‪ ،]19 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَا ْ‬ ‫س ْع ُيهُ ْم مَ ْ‬
‫ك كَانَ َ‬ ‫ن فَأُوَْل ِئ َ‬
‫س ْع َيهَا وَهُ َو مُ ْؤمِ ٌ‬
‫َ‬
‫عُبدُوا الَّ َولَ‬ ‫عبُ ُد مُخِْلصًا لَ ُه دِينِي} [الزمر‪ ،]14 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَا ْ‬ ‫الْخَالِصُ} [الزمر‪ ،]3 ،2 :‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ الَّ أَ ْ‬
‫تُشْ ِركُوا بِهِ َش ْيئًا} [النساء‪ ،]36 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا َخلَ ْقتُ الْجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعُبدُونِ} [الذاريات‪.]56 :‬‬

‫ول عبادة إل بإرادة الّ‪ ،‬ولما أمر به‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬بَلَى مَنْ َأسْلَمَ َو ْجهَهُ لِّ وَهُ َو مُحْسِنٌ} [البقرة‪ ،]112 :‬أي أخلص‬
‫لّ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ}[البينة‪ ،]5 :‬وإخلص الدين له ‪ /‬هو إرادته وحده‬ ‫قصده لّ‪ .‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا ُأمِرُوا ِإلّ ِل َيعْ ُبدُوا ا َ‬
‫بالعبادة‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬يُ ِحّبهُمْ َويُ ِحبّونَهُ}[المائدة‪ ،]54 :‬وقال تعالى‪ِ{ :‬وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ}[البقرة‪ ،]165 :‬وقال‬
‫لّ فَاّت ِبعُونِي يُ ْح ِببْكُمْ الُّ} [آل عمران‪ ،]31 :‬وكل محب فهو مريد‪ ،‬وقال الخليل ـ عليه السلم‬ ‫حبّونَ ا َ‬ ‫تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن ُك ْنتُ ْم تُ ِ‬
‫طرَ ال ّسمَاوَاتِ وَالَْرْضَ} [النعام‪.]79 :‬‬ ‫جهِي لِّلذِي فَ َ‬ ‫لفِلِينََ} [النعام‪ ،]76 :‬ثم قال‪ِ{ :‬إنّي وَ ّ‬
‫جهْتُ َو ْ‬ ‫حبّ ا ْ‬ ‫ـ‪{ :‬لَ أُ ِ‬

‫ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر الّ بإرادته‪ ،‬وإرادة ما يأمر به‪ ،‬وينهى عن إرادة غيره‪ ،‬وإرادة ما نهى عنه‪ ،‬وقد قال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إنما العمال بالنيات‪ ،‬وإنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى الّ ورسوله‬
‫فهجرته إلى الّ ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها‪ ،‬أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)‪ ،‬فهما‬
‫إرادتان‪ :‬إرادة يحبها الّ ويرضاها‪ ،‬وإرادة ل يحبها الّ ول يرضاها‪ ،‬بل إما نهي عنها‪ ،‬وإما لم يأمر بها‪ ،‬ول ينهي‬
‫عنها والناس في الرادة ثلثة أقسام‪:‬‬

‫قوم يريدون ما يهوونه‪ ،‬فهؤلء عبيد أنفسهم والشيطان‪.‬‬

‫وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الرادة مطلقًا‪ ،‬ولم يبق لهم مراد إل ما يقدره الرب‪ ،‬وإن هذا المقام هو أكمل المقامات‪،‬‬
‫ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة‪ ،‬وهي الحقيقة القدرية الكونية؛ وأنه ‪ /‬شهد القيومية العامة‪ ،‬ويجعلون الفناء‬
‫في شهود توحيد الربوبية هو الغاية؛ وقد يسمون هذا الجمع والفناء والصطلم‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وكثير من الشيوخ زلقوا‬
‫في هذا الموضع‪.‬‬

‫وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية؛ فإنهم اتفقوا على شهود توحيد‬
‫الربوبية‪ ،‬وأن الّ خالق كل شيء وربه ومليكه‪ ،‬وهو شهود القدر‪ ،‬وسموا هذا مقام الجمع؛ فإنه خرج به عن الفرق‬
‫الول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا‪ ،‬ورؤية فعل هذا وترك هذا‪ ،‬فإن النسان قبل أن يشهد هذا التوحيد‬
‫يرى للخلق فعلً يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات؛ ويكون متبعًا لهواه فيما يريده‪ ،‬فإذا أراد الحق خرج‬
‫بإرادته عن إرادة الهوى والطبع‪ ،‬ثم شهد أنه خالق كل شيء‪ ،‬فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق‪ ،‬فلما اتفقوا‬
‫على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد الفرق الثاني‪ ،‬وهو بعد هذا الجمع‪ ،‬وهو الفرق الشرعي‪ .‬أل تري أنك تريد ما‬
‫أمرت به‪ ،‬ول تريد ما نهيت عنه؟! وتشهد أن الّ يستحق العبادة دون ما سواه‪ ،‬وأن عبادته هي بطاعة رسله‪ ،‬فتفرق‬
‫بين المأمور والمحظور‪ ،‬وبين أوليائه وأعدائه‪ ،‬وتشهد توحيد اللوهية‪ ،‬فنازعوه في هذا الفرق‪.‬‬

‫منهم من أنكره‪.‬‬

‫‪/‬ومنهم من لم يفهمه‪.‬‬

‫ومنهم من ادعي أن المتكلم فيه لم يصل إليه‪.‬‬


‫ثم إنك تجد كثيرًا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع‪ ،‬وهو‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬والفناء فيه‪ .‬كما في كلم صاحب [‬
‫منازل السائرين] مع جللة قدره‪ ،‬مع أنه قطعًا كان قائمًا بالمر والنهي المعروفين‪ ،‬لكن قد يدعون أن هذا لجل‬
‫العامة‪.‬‬

‫ومنهم من يتناقض‪.‬‬

‫ومنهم من يقول‪ :‬الوقوف مع المر لجل مصلحة العامة‪ ،‬وقد يعبر عنهم بأهل المارستان‪.‬‬

‫ومنهم من يسمى ذلك مقام التلبيس‪.‬‬

‫ومنهم من يقول‪ :‬التحقيق أن يكون الجمع في قلبك مشهودًا‪ ،‬والفرق على لسانك موجودًا‪ ،‬فيشهد بقلبه استواء المأمور‬
‫والمحظور مع تفريقه بينهما‪.‬‬

‫ومنهم من يرى أن هذه هي الحقيقة التي هي منتهى سلوك ‪ /‬العارفين‪ ،‬وغاية منازل الولياء الصديقين‪.‬‬

‫و منهم من يظن أن الوقوف مع إرادة المر والنهي يكون في السلوك والبداية‪ ،‬وأما في النهاية فلتبقى إل إرادة القدر‪.‬‬
‫وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة والطاعة‪ ،‬فإن العبادة لّ والطاعة له ولـرسوله إنما تكون في امتثال المر‬
‫الشرعي ل في الجري مع المقدور‪ ،‬وإن كان كفرًا أو فسوقًا أو عصيانًا‪ ،‬ومن هنا صار كثير من السالكين من أعوان‬
‫الكفار والفجار وخفرائهم‪ ،‬حيث شهدوا القدر معهم؛ ولم يشهدوا المر والنهي الشرعيين‪.‬‬

‫ومن هؤلء من يقول‪ :‬من شهد القدر سقط عنه الملم‪ ،‬ويقولون إن الخضر إنما سقط عنه الملم لما شهد القدر‪.‬‬

‫وأصحاب شهود القدر قد يؤتي أحدهم ملكًا من جهة خرق العادة بالكشف والتصرف‪ ،‬فيظن ذلك كمال في الولية‪،‬‬
‫وتكون تلك الخوارق إنما حصلت بأسباب شيطانية‪ ،‬وأهواء نفسانية‪ ،‬وإنما الكمال في الولية أن يستعمل خرق‬
‫العادات في إقامة المر والنهي الشرعيين مع حصولهما بفعل المأمور وترك المحظور‪ ،‬فإذاحصلت بغير السباب‬
‫الشرعية فهي مذمومة‪ ،‬وإن حصلت بالسباب الشرعية لكن استعملت ليتوصل بها إلى محرم كانت مذمومة‪ ،‬وإن‬
‫توصل بها إلى مباح ‪ /‬ل يستعان بها على طاعة كانت للبرار دون المقربين‪.‬‬

‫وأما إن حصلت بالسبب الشرعي واستعين بها على فعل المر الشرعي‪ ،‬فهذه خوارق المقربين السابقين‪.‬‬

‫فلبد أن ينظر في الخوارق في أسبابها وغاياتها‪ :‬من أين حصلت‪ ،‬وإلى ماذا أوصلت ـ كما ينظر في الموال في‬
‫مستخرجهـا ومصروفهـا ـ ومن استعملها ـ أعني الخوارق ـ في إرادته الطبيعية كان مذمومًا‪ ،‬ومن كان خاليًا عن‬
‫الرادتين الطبيعية والشرعية فهذا حسبه أن يعفي عنه‪ ،‬لكونه لم يعرف الرادة الشرعية‪.‬‬

‫وأما إن عرفها وأعرض عنها فإنه يكون مذمومًا مستحقًا للعقاب إن لم يعف عنه‪ ،‬وهو يمدح بكون إرادته ليست‬
‫بهواه‪ ،‬لكن يجب مع ذلك أن تكون موافقة لمر الّ تعالى ورسوله‪ ،‬ل يكفيه أن تكون ل من هذا ولمن هذا‪ ،‬مع أنه ل‬
‫يمكن خلوه عن الرادة مطلقًا؛ بل لبد له من إرادة‪ ،‬فإن لم يرد ما يحبه الّ ورسوله‪ ،‬أراد مال يحبه الّ ورسوله‪ ،‬لكن‬
‫إذا جاهد نفسه على ترك ما تهواه بقى مريدًا لما يظن أنه مأمور به‪ ،‬فيكون ضالً‪.‬‬

‫غيْرِ‬ ‫فإن هذا يشبه حال الضالين من النصارى‪ .‬وقد قال تعالى‪{ :‬ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْ‬
‫س َتقِيمَ ‪ .‬صِرَاطَ اّلذِينَ َأ ْن َعمْتَ عََل ْيهِمْ َ‬
‫ا ْل َمغْضُوبِ عََل ْيهِمْ َولَ الضّالّينَ} [الفاتحة‪ ،]7 ،6 :‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬اليهود مغضوب عليهم‬
‫والنصارى ضالون)‪.‬‬

‫فاليهود لهم إرادات فاسدة منهي عنها‪ .‬كما أخبر عنهم بأنهم عصوا وكانوا يعتدون‪ .‬وهم يعرفون الحق ول يعملون به‪،‬‬
‫فلهم علم‪ ،‬لكن ليس لهم عمل بالعلم‪ ،‬وهم في الرادة المذمومة المحرمة يتبعون أهواءهم ليسوا في الرادة المحمودة‬
‫المأمور بها‪ ،‬وهي إرادة ما يحبه الّ ورسوله‪.‬‬
‫والنصارى لهم قصد وعبادة وزهد لكنهم ضلل‪ ،‬يعملون بغير علم‪ ،‬فل يعرفون الرادة التي يحبها الّ ورسوله‪ ،‬بل‬
‫غاية أحدهم تجريد نفسه عن الرادات‪ ،‬فل يبقى مريدًا لما أمر الّ به ورسوله‪ ،‬كما ل يريد كثيرًا مما نهى الّ عنه‬
‫ورسوله‪ ،‬وهؤلء ضالون عن مقصودهم فإن مقصودهم إنما هو في طاعة الّ ورسوله‪ ،‬ولهذا كانوا ملعونين‪ :‬أي‬
‫بعيدين عن الرحمة التي تنال بطاعة الّ عز وجل‪.‬‬

‫والعالم الفاجر يشبه اليهود‪ .‬والعابد الجاهل يشبه النصارى‪ .‬ومن أهل العلم من فيه شيء من الول‪ ،‬ومن أهل العبادة‬
‫من فيه شيء من الثاني‪.‬‬

‫‪/‬وهذا الموضع تفرق فيه بنو آدم‪ ،‬وتباينوا تباينًا عظيمًا‪ ،‬ل يحيط به إل الّ‪ .‬ففيهم من لم يخلق الّ خلقًا أكرم عليه منه‪،‬‬
‫وهو خير البرية‪ .‬ومنهم من هو شر البرية‪ ،‬وأفضل الحوال فيه حال الخليلين‪ :‬إبراهيم ومحمد صلى ال عليهما وسلم‬
‫ومحمد سيد ولد آدم‪ ،‬وأفضل الولين والخرين‪ ،‬وخاتم النبيين وإمامهم إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا‪ ،‬وهو‬
‫المعروج به إلى ما فوق النبياء كلهم ـ إبراهيم و موسى وغيرهما‪.‬‬

‫وأفضل النبياء بعده إبراهيم‪ ،‬كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن إبراهيم خير البرية)‬
‫‪ ،‬وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنه كان يقول في خطبة الجمعة‪( :‬خير الكلم‬
‫كلم الّ‪ ،‬وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم)‪ .‬وكذلك كان عبد الّ بن مسعود يخطب بذلك يوم الخميس‪،‬‬
‫كما رواه البخاري في صحيحه‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الّ عنها ـ أنها قالت‪ :‬ما ضرب رسول الّ صلى ال عليه وسلم خادمًا له‬
‫ول امرأة ول دابة ول شيئًا قط‪ ،‬إل أن يجاهد في سبيل الّ‪ ،‬وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه‪ ،‬إل أن تنتهك محارم‬
‫الّ‪ ،‬فإذا انتهكت محارم الّ لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لّ‪.‬‬

‫‪/‬وقال أنس‪ :‬خدمت رسول الّ صلى ال عليه وسلم عشر سنين‪ ،‬فما قال لي‪ :‬أف قط‪ ،‬وما قال لي لشىء فعلته لم‬
‫فعلته؟ ول لشيء لم أفعله لم ل فعلته؟‪ .‬وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال‪( :‬دعوه‪ ،‬فلو قضى شيء لكان)‪.‬‬

‫ورسول الّ صلى ال عليه وسلم هو أفضل الخلئق‪ ،‬وسيد ولد آدم‪ ،‬وله الوسيلة في المقامات كلها‪ ،‬ولم يكن حاله أنه‬
‫ل يريد شيئًا‪ ،‬ولأنه يريد كل واقع‪ ،‬كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى‪ ،‬بل هو منزه عن هذا وهذا‪ ،‬قال الّ تعالى‪{ :‬‬
‫لّ يَدْعُوهُ} [الجن‪]19 :‬‬ ‫ي يُوحَى} [النجم‪ ،]4 ،3 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََأنّهُ َلمّا قَامَ َ‬
‫ع ْبدُ ا ِ‬ ‫حٌ‬ ‫َومَا َينْطِقُ عَنْ ا ْلهَوَى ‪ .‬إِنْ هُوَ ِإلّ وَ ْ‬
‫ب ِممّا نَزّ ْلنَا َعلَى َع ْبدِنَا} [البقرة‪ ،]23 :‬وقال‪ُ { :‬سبْحَانَ اّلذِي أَ ْسرَى ِب َعبْدِهِ َليْلً} [السراء‪.]1 :‬‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن كُنتُ ْم فِي َريْ ٍ‬
‫والمراد بعبده عابده المطيع لمره‪ ،‬وإل فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبودون مخلوقون مدبرون‪.‬‬

‫وقد قال الّ لنبيه‪{ :‬وَا ْعُبدْ َرّبكَ َحتّى َي ْأتِ َيكَ ا ْليَقِينُ} [الحجر‪. ]99 :‬قال الحسن البصري‪ :‬لم يجعل الّ لعمل المؤمن أج ً‬
‫ل‬
‫دون الموت‪ ،‬وقد قال الّ تعالى له‪{ :‬وَِإّنكَ َلعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم‪. ]4 :‬قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن‬
‫حنبل‪ :‬على دين عظيم‪ .‬والدين‪ :‬فعل ما أمر به‪ .‬وقالت عائشة‪ :‬كان خلقه القرآن‪ .‬رواه مسلم‪ .‬وقد أخبرت أنه لم يكن‬
‫يعاقب لنفسه‪ ،‬ول ينتقم لنفسه‪ ،‬لكن يعاقب لّ ‪ /‬وينتقم لّ‪ ،‬وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه‪ ،‬وأما حدود الّ‬
‫فقد قال‪( :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) أخرجاه في الصحيحين‪.‬‬

‫ل ويرضاه من اليمان و العمل الصالح‪ ،‬وأمر بذلك وكره ما يبغضه الّ‬ ‫وهذا هو كمال الرادة؛ فإنه أراد ما يحبه ا ّ‬
‫سَأكْ ُت ُبهَا لِّلذِينَ‬
‫ي ٍء فَ َ‬
‫ت كُلّ شَ ْ‬
‫س َع ْ‬ ‫من الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬ونهى عن ذلك‪ ،‬كما وصفه الّ تعالى بقوله‪َ { :‬ورَ ْ‬
‫ح َمتِي وَ ِ‬
‫ع ْندَهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَالِْنجِيلِ‬
‫جدُونَهُ َم ْكتُوبًا ِ‬
‫لْمّيّ اّلذِي يَ ِ‬
‫َيتّقُونَ َويُ ْؤتُونَ ال ّزكَاةَ وَاّلذِينَ هُ ْم بِآيَا ِتنَا يُ ْؤمِنُونَ ‪ .‬اّلذِينَ َيّت ِبعُونَ الرّسُولَ ال ّنبِيّ ا ُ‬
‫ع ْنهُمْ إِصْرَ ُهمْ وَالَْغْلَلَ اّلتِي كَانَتْ عََل ْيهِمْ‬
‫خبَائِثَ َويَضَعُ َ‬ ‫طّيبَاتِ َويُحَرّمُ عََل ْيهِمْ الْ َ‬
‫يَ ْأمُرُهُ ْم بِا ْل َمعْرُوفِ َو َي ْنهَاهُمْ عَنْ ا ْلمُنكَرِ َويُحِلّ َلهُمْ ال ّ‬
‫صرُوهُ وَاّت َبعُوا النّورَ اّلذِي أُنزِ َل َمعَهُ أُوَْل ِئكَ ُهمْ ا ْلمُ ْفلِحُونَ} [العراف‪.]157 ،156 :‬‬ ‫فَاّلذِينَ آ َمنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ َونَ َ‬

‫وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ول ينتقم‪ ،‬بل يستوفى حق ربه‪ ،‬ويعفو عن حظ نفسه‪ ،‬وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر‪،‬‬
‫فيقول‪( :‬لو قضى شيء لكان)‪ ،‬وفي حق الّ يقوم بالمر فيفعل ما أمر الّ به‪ ،‬ويجاهد في سبيل الّ أكمل الجهاد‬
‫ل تُطِعْ‬
‫ل قَ ْريَ ٍة َنذِيرًا ‪ .‬فَ َ‬ ‫الممكن‪ ،‬فجاهدهم أولً بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وَلَوْ ِ‬
‫ش ْئنَا َل َب َع ْثنَا فِي كُ ّ‬
‫ا ْلكَا ِفرِينَ َوجَا ِهدْهُ ْم بِهِ ِجهَادًا َكبِيرًا} [الفرقان‪ .]52 ،51 :‬ثم لما ‪ /‬هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال‪ ،‬جاهدهم بيده‪.‬‬
‫وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة‪ ،‬وهو معروف أيضًا من حديث عمر بن الخطاب عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم في حديث احتجاج آدم وموسى‪ ،‬لما لم موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب‬
‫الذي فعله‪ ،‬فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوبًا علىّ قبل أن أخلق بمدة طويلة‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬فحج آدم‬
‫موسى)‪.‬‬

‫وذلك لن ملم موسى لدم لم يكن لحق الّ‪ ،‬وإنما كان لما لحقه وغيره من الدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل‪،‬‬
‫فذكر له آدم أن هذا كان أمرًا مقدرًا لبد من كونه‪ ،‬والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر؛ فإن هذا هو‬
‫الذي ينفعهم‪ ،‬وأما لومهم لمن كان سببًا فيها فل فائدة لهم في ذلك‪ ،‬وكذلك ما فاتهم من المور التي تنفعهم يؤمرون في‬
‫ذلك بالنظر إلى القدر‪ ،‬وأما التأسف والحزن فل فائدة فيه‪ ،‬فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم‪ ،‬أو حصول مضرة‬
‫لهم‪ ،‬فلينظروا في ذلك إلى القدر‪ ،‬وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من المعاصي‪ ،‬والصلح في‬
‫المستقبل‪ .‬فإن هذا المر ينفعهم‪ ،‬وهو مقدور لهم بمعونة الّ لهم‪.‬‬

‫‪/‬وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬المؤمن القوي خير وأحب إلى الّ من‬
‫المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي كل خير‪ ،‬احرص على ما ينفعك واستعن بالّ ول تعجزن‪ .‬وإن أصابك شيء فل تقل‪ :‬لو أني‬
‫فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل‪ :‬قدر الّ وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)‪.‬‬

‫أمر النبي صلى ال عليه وسلم بحرص العبد على ما ينفعه‪ ،‬والستعانة بالّ‪ ،‬ونهاه عن العجز‪ ،‬وأنفع ما للعبد طاعة‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ}[الفاتحة‪.]5 :‬‬ ‫الّ ورسوله‪ ،‬وهي عبادة الّ تعالى‪ .‬وهذان الصلن هما حقيقة قوله تعالى‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ‬
‫ونهاه عن العجز وهو الضاعة والتفريط والتواني‪ .‬كما قال في الحديث الخر‪( :‬الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد‬
‫الموت‪ ،‬والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني على الّ الماني) رواه الترمذي‪.‬‬

‫وفي سنن أبي داود‪ :‬أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقضى على أحدهما‪ ،‬فقال المقضي عليه‪ :‬حسبي‬
‫ل ونعم الوكيل‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن الّ يلوم على العجز‪ ،‬ولكن عليك بالكيس‪ ،‬فإذا غلبك أمر فقل‪:‬‬
‫ا ّ‬
‫حسبي الّ ونعم الوكيل) فالكيس ضد العجز‪ .‬وفي الحديث‪( :‬كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) رواه مسلم‪ .‬وليس‬
‫المراد بالعجز في كلم النبي صلى ال عليه وسلم ما يضاد ‪ /‬القدرة؛ فإن من ل قدرة له بحال ل يلم‪ ،‬ول يؤمر بما ل‬
‫يقدر عليه بحال‪.‬‬

‫ثم لما أمره بالجتهاد والستعانة بالّ ونهاه عن العجز‪ ،‬أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر ويقول‪ :‬قدر الّ وما شاء‬
‫فعل‪ ،‬ول يتحسر ويتلهف ويحزن‪ .‬ويقول‪( :‬لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا‪ ،‬فإن لو تفتح عمل الشيطان)‪.‬‬

‫وقد قال بعض الناس في هذا المعنى‪ :‬المر أمران‪ :‬أمر فيه حيلة وأمر ل حيلة فيه؛ فما فيه حيلة ل يعجز عنه‪ ،‬وما ل‬
‫حيلة فيه ل يجزع منه‪ .‬وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين‪ .‬كما ذكر الشيخ عبد القادر وغيره‪ .‬فإنه لبد من فعل المأمور‬
‫وترك المحظور‪ ،‬والرضا والصبر على المقدور‪ .‬وقد قال تعالى حكاية عن يوسف‪َ{ :‬أنَا يُوسُفُ وَهذَا َأخِي َق ْد مَنّ الُّ عََل ْينَا‬
‫لّ لَ يُضِيعُ َأجْرَ ا ْل ُمحْ ِسنِينَ} [يوسف‪.]90 :‬‬
‫صبِ ْر فَإِنّ ا َ‬
‫ِإنّ ُه مَنْ َيتّقِ َويَ ْ‬

‫فالتقوى‪ :‬تتضمن فعل المأمور وترك المحظور‪ .‬والصبر‪ :‬يتضمن الصبر على المقدور‪ .‬وقد قال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِينَ‬
‫ض ّركُ ْم َكيْدُهُمْ َشيْئًا} [آل عمران‪118- :‬‬‫صبِرُوا َو َتتّقُوا لَ يَ ُ‬ ‫خبَالً} إلى قوله‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن تَ ْ‬ ‫ل يَأْلُو َنكُمْ َ‬‫ن دُونِكُ ْم َ‬ ‫خذُوا بِطَانَ ًة مِ ْ‬ ‫آ َمنُوا لَ َتتّ ِ‬
‫صبِرُوا‬‫‪ ،]120‬فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر ل يضر ‪ /‬المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬بَلَى إِنْ َت ْ‬
‫لئِكَ ِة مُسَ ّومِينَ} [آل عمران‪ ،]125 :‬فبين أنه مع الصبر‬ ‫ف مِنْ ا ْلمَ َ‬
‫خمْسَةِ آلَ ٍ‬
‫ن فَوْرِ ِهمْ َهذَا يُ ْمدِ ْدكُمْ َرّبكُ ْم بِ َ‬ ‫َو َتتّقُوا َويَ ْأتُوكُ ْم مِ ْ‬
‫والتقوى يمدهم بالملئكة‪ ،‬وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم‪.‬‬

‫صبِرُوا‬
‫ن تَ ْ‬
‫ش َركُوا َأذًى َكثِيرًا وَإِ ْ‬
‫ن َقبِْلكُمْ َومِنْ اّلذِينَ أَ ْ‬
‫ب مِ ْ‬
‫س َمعُنّ مِنْ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَا َ‬ ‫وقال تعالى‪َ{ :‬ل ُتبْلَوُنّ فِي َأمْوَاِلكُمْ َوَأنْفُ ِ‬
‫سكُمْ َوَلتَ ْ‬
‫ك مِنْ عَزْمِ ا ُلْمُورِ}[آل عمران‪ ]186 :‬فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين وأهل الكتاب لبد أن يؤذوهم‬ ‫ن ذَِل َ‬
‫َو َتتّقُوا فَإِ ّ‬
‫بألسنتهم‪ ،‬وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم المور‪ .‬فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة‪،‬‬
‫المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم‪ ،‬وشر العدو المبطن للعداوة‪ ،‬وهم المنافقون‪ .‬وهذا الذي كان خلق النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم وهديه هو أكمل المور‪.‬‬
‫ل صلى ال‬ ‫فأما من أراد ما يحبه الّ تارة وما ل يحبه تارة‪ ،‬أو لم يرد ل هذا ول هذا‪ ،‬فكلهما دون خلق رسول ا ّ‬
‫عليه وسلم؛ وإن لم يكن على واحد منهما إثم‪ ،‬كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والنتقام المباح‬
‫كما هو خلق بعض النبياء والصالحين‪ ،‬فهو وإن كان جائزًا ل إثم فيه‪ ،‬فخلق رسول الّ صلى ال عليه وسلم أكمل‬
‫منه‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب‪ ،‬ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا‬
‫جاز العفو وإن كان النتقام لّ أرضى لّ‪ .‬كما هو أيضًا خلق بعض النبياء والصالحـين فهـذا وإن كـان جائـزًا ل إثـم‬
‫فيـه فخلـق رسـول الّ صلى ال عليه وسلم أكمل منه‪.‬‬

‫وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فل عيب على نبي فيما شرع الّ له‪.‬‬

‫لكن قد فضل الّ بعض النبيين على بعض‪ ،‬وفضل بعض الرسل على بعض‪ ،‬والشريعة التي بعث الّ بها محمدًا‬
‫صلى ال عليه وسلم أفضل الشرائع؛ إذ كان محمد صلى ال عليه وسلم أفضل النبياء والمرسلين‪ ،‬وأمته خير أمة‬
‫أخرجت للناس‪ .‬قال أبو هريرة في قوله تعالى‪ُ { :‬كنْتُمْ َخيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِرجَتْ لِلنّاسِ} [آل عمران‪ :]110 :‬كنتم خير الناس‬
‫للناس‪ ،‬تأتون بهم في القياد والسلسل حتى تدخلوهم الجنة‪ ،‬يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس‪ ،‬فهم خير‬
‫المم للخلق‪ .‬والخلق عيال الّ‪ ،‬فأحبهم إلى الّ أنفعهم لعياله‪ ،‬وأما غير النبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لتباعه‬
‫لذلك النبي‪ ،‬وأما من كان من أهل شريعة محمد صلى ال عليه وسلم ومنهاجه فإن كان ما تركه واجبًا عليه وما فعله‬
‫محرمًا عليه كان مستحقًا للذم والعقاب‪ ،‬إل أن يكون متأولً مخطئًا فالّ قد وضع عن هذه المة ‪ /‬الخطأ والنسيان‬
‫وذنب أحدهم قد يعفو الّ عنه بأسباب متعددة‪.‬‬

‫ومن أسباب هذا النحراف‪ :‬أن من الناس من تغلب عليه طريقة الزهد في إرادة نفسه‪ ،‬فيزهد في موجب الشهوة‬
‫والغضب‪ ،‬كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين‪ ،‬وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم‪ ،‬وهؤلء يرون الجهاد نقصًا‬
‫لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الموال‪ ،‬ويرون أن الّ لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود؛ لنه‬
‫جرى علي يديه سفك الدماء‪.‬‬

‫ومنهم من ل يري ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة‪ ،‬ومنهم من ل يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى الّ بأنه ل‬
‫يذبح حيوانًا ول يأكل لحمه ول ينكح النساء‪ ،‬ويقول مادحه‪ :‬فلن ما نكح‪ ،‬ول ذبح‪.‬‬

‫وقد أنكر النبي صلى ال عليه وسلم على هؤلء كما في الصحيحين عن أنس‪ :‬أن نفرا من أصحاب النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى ال عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم‪ :‬ل أتزوج النساء‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫ل آكل اللحم‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬ل أنام على فراش‪ .‬فبلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم فحمد الّ وأثني عليه وقال‪( :‬ما‬
‫بال أقوام قالوا‪ :‬كذا وكذا؟! لكني أصلي وأنام‪ / ،‬وأصوم وأفطر‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬وآكل اللحم‪ ،‬فمن رغب عن سنتي‬
‫ت مَا َأحَلّ الُّ َل ُكمْ} [المائدة‪ ]87 :‬نزلت في عثمان ابن‬
‫طّيبَا ِ‬ ‫فليس مني)‪ .‬وقد قال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا َ‬
‫ل تُحَ ّرمُوا َ‬
‫مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل‪ ،‬ونوع من الترهب‪ .‬وفي الصحيحين عن سعد قال‪ :‬رد رسول الّ‬
‫صلى ال عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لختصينا‪.‬‬

‫والزهد النافع المشروع الذي يحبه الّ ورسوله هو الزهد فيما ل ينفع في الخرة‪ ،‬فأما ما ينفع في الخرة وما يستعان‬
‫به على ذلك‪ ،‬فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة الّ وطاعته‪ ،‬والزهد إنما يراد لنه زهد فيما يضر‪ ،‬أو زهد فيما ل‬
‫ينفع‪ ،‬فأما الزهد في النافع فجهل وضلل كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬احرص على ما ينفعك‪ ،‬واستعن بالّ‬
‫ول تعجزن)‪.‬‬

‫والنافع للعبد هو عبادة الّ وطاعته وطاعة رسوله‪ ،‬وكل ما صده عن ذلك فإنه ضار ل نافع‪ ،‬ثم النفع له أن تكون كل‬
‫أعماله عبادة لّ وطاعة له‪ ،‬وإن أدى الفرائض وفعل مباحًا ل يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما ل ينفعه ول‬
‫يضره‪.‬‬

‫وكذلك الورع المشروع‪ ،‬هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو ‪ /‬ما يعلم تحريمه‪ ،‬وما يشك في تحريمه‪ ،‬وليس في‬
‫تركه مفسدة أعظم من فعله ـ مثل محرم معين ـ مثل من يترك أخذ الشبهة ورعًا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك‬
‫محرما بينًا تحريمه‪ ،‬أو يترك واجبًا تركه أعظم فسادًا من فعله مع الشبهة‪ ،‬كمن يكون على أبية أو عليه ديون هو‬
‫مطالب بها‪ ،‬وليس له وفاء إل من مال فيه شبهة فيتورع عنها‪ ،‬ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة‪.‬‬

‫وكذلك من الورع الحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه‪.‬‬

‫وتمام الورع أن يعم النسان خير الخيرين‪ ،‬وشر الشرين‪ ،‬ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها‬
‫وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬وإل فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع‬
‫واجبات ويفعل محرمات‪ ،‬ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع المراء الظلمة ويرى ذلك ورعًا‪ ،‬ويدع الجمعة‬
‫والجماعة خلف الئمة الذين فيهم بدعة أو فجور‪ ،‬ويرى ذلك من الورع‪ ،‬ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم‬
‫العالم لما في صاحبه من بدعة خفية‪ ،‬ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك الزهد والرغبة‪ ،‬من لم يراع مايحبه الّ ورسوله من الرغبة والزهد ومايكرهه من ذلك‪ ،‬وإل فقد يدع واجبات‬
‫ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الكل‪ ،‬أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه‬
‫من حقوق الّ تعالى أو حقوق عباده‪ ،‬أو يدع المر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الّ‪ ،‬لما في فعل‬
‫ذلك من أذى بعض الناس والنتقام منهم‪ ،‬حتى يستولى الكفار والفجار على الصالحين البرار فل ينظر المصلحة‬
‫الراجحة في ذلك‪.‬‬

‫حرَامِ َوإِخْرَاجُ أَهْلِهِ‬


‫جدِ الْ َ‬
‫سبِيلِ الِّ َوكُفْ ٌر بِهِ وَا ْلمَسْ ِ‬
‫صدّ عَنْ َ‬
‫ل فِيهِ َكبِيرٌ وَ َ‬
‫ل ِقتَا ٌ‬
‫ل فِيهِ قُ ْ‬
‫حرَا ِم ِقتَا ٍ‬ ‫وقد قال تعالى‪{ :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنْ ال ّ‬
‫ش ْهرِ الْ َ‬
‫ِمنْهُ َأ ْكبَرُ ِع ْندَ الِّ وَالْ ِف ْتنَةُ َأ ْكبَ ُر مِنْ الْ َقتْلِ} [البقرة‪.]217 :‬‬

‫يقول ـ سبحانه وتعالى ـ‪ :‬وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك‪ ،‬فيدفع‬
‫أعظم الفسادين بالتزام أدناهما‪.‬‬

‫وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلمًا له هو جاهل‪ ،‬فإن هذا الحيوان لبد أن يموت‪ ،‬فإذا قتل‬
‫لمنفعة الدميين ‪ /‬وحاجتهم كان خيرًا من أن يموت موتًا ل ينتفع به أحد‪ ،‬والدمي أكمل منه‪ ،‬ول تتم مصلحته إل‬
‫باستعمال الحيوان في الكل والركوب ونحو ذلك‪ ،‬لكن مال يحتاج إليه من تعذيبه نهي الّ عنه كصبر البهائم وذبحها‬
‫في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك‪ ،‬وأوجب الّ الحسان بحسب المكان فيما أباحه من القتل والذبح‪ .‬كما في‬
‫ل كتب الحسان على كل شيء‪ :‬فإذا‬ ‫صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إن ا ّ‬
‫قتلتم فأحسنوا القتلة‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة‪ ،‬وليحد أحدكم شفرته‪ ،‬وليرح ذبيحته)‪.‬‬

‫وهؤلء الذين زهدوا في الرادات حتى فيما يحبه الّ ورسوله من الرادات بإزائهم طائفتان‪:‬‬

‫طائفة رغبت فيما كره الّ ورسوله الرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان‪.‬‬

‫ل تعالى‪ ،‬وهؤلء الذين يأتون بصور الطاعات مع‬ ‫وطائفة رغبت فيما أمر الّ ورسوله‪ ،‬لكن لهواء أنفسهم ل لعبادة ا ّ‬
‫فساد النيات‪ ،‬كما في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قيل له‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬الرجل يقاتل شجاعة‪،‬‬
‫ويقاتل حمية‪ ،‬ويقاتل رياء‪ ،‬فأي ذلك في سبيل الّ؟ فقال‪( :‬من قاتل لتكون كلمة الّ هي العليا‪ / ،‬فهو في سبيل الّ)‪.‬‬
‫ل َيذْكُرُونَ الَّ ِإلّ َقلِيلً}‬ ‫قال تعالى‪{ :‬إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ُيخَادِعُونَ الَّ وَهُوَ خَادِ ُ‬
‫عهُمْ وَِإذَا قَامُوا إِلَى الصّلَ ِة قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النّاسَ َو َ‬
‫[النساء‪. ]142 :‬‬

‫وهؤلء أهل إرادات فاسدة مذمومة‪ ،‬فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم‪ ،‬وهم يشبهون اليهود‪ ،‬كما يشبه أولئك‬
‫ض ِربَتْ عََل ْيهِمْ‬ ‫ب مِنْ الِّ وَ ُ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ل مِنْ النّاسِ َوبَاءُوا ِبغَ َ‬ ‫حبْ ٍ‬‫ل مِنْ الِّ َو َ‬ ‫حبْ ٍ‬ ‫النصارى‪ .‬قال تعالى‪{ :‬ضُ ِربَتْ َ‬
‫عَليْهِمْ الذّلّةُ َأيْنَ مَا ُثقِفُوا ِإلّ بِ َ‬
‫ق ذَِلكَ ِبمَا َعصَوْا َوكَانُوا َي ْعتَدُونَ}[آل عمران‪ ،]112 :‬وقال‬ ‫ن بِآيَاتِ الِّ َويَ ْقتُلُونَ الَْنبِيَا َء ِبغَيْرِ حَ ّ‬ ‫س َكنَ ُة ذَِلكَ بَِأّنهُ ْم كَانُوا َيكْ ُفرُو َ‬
‫ا ْلمَ ْ‬
‫خذُوهُ‬ ‫ل يَتّ ِ‬‫ش ِد َ‬ ‫سبِيلَ الرّ ْ‬ ‫ن يَرَوْا َ‬ ‫ل آيَ ٍة لَ يُ ْؤ ِمنُوا ِبهَا وَإِ ْ‬ ‫ن يَ َروْا كُ ّ‬ ‫ض ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ وَإِ ْ‬
‫ن فِي الَْ ْر ِ‬ ‫ن َيتَ َكبّرُو َ‬
‫ن آيَاتِي اّلذِي َ‬‫صرِفُ عَ ْ‬ ‫سأَ ْ‬ ‫تعالى‪َ { :‬‬
‫سبِيلً} [العراف‪ ،]146 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَاتْلُ عََل ْيهِ ْم َنبَأَ اّلذِي آ َت ْينَا ُه آيَا ِتنَا فَانسَلَ َ‬
‫خ ِم ْنهَا‬ ‫خذُوهُ َ‬ ‫ي َيتّ ِ‬
‫سبِيلَ الغَ ّ‬ ‫ن يَرَوْا َ‬ ‫سبِيلً َوإِ ْ‬ ‫َ‬
‫حمِلْ عََليْ ِه يَ ْلهَثْ أَ ْو َتتْ ُركْهُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫ش ْئنَا لَ َر َف ْعنَا ُه ِبهَا} إلى قوله‪{ :‬وَا ّتبَعَ هَوَا ُه َف َمثَلُ ُه َكمَثَلِ ا ْلكَلْبِ إِ ْ‬ ‫ن مِنْ ا ْلغَاوِينَ ‪َ .‬ولَوْ ِ‬ ‫ن َفكَا َ‬ ‫شيْطَا ُ‬ ‫فََأ ْت َبعَهُ ال ّ‬
‫صصَ َلعَّلهُ ْم َيتَ َفكّرُونَ}[العراف‪.]176 ،175 :‬‬ ‫ن كَ ّذبُوا بِآيَا ِتنَا فَاقْصُصْ ا ْلقَ َ‬ ‫ث ذَِلكَ َمثَلُ ا ْلقَوْمِ اّلذِي َ‬ ‫يَ ْلهَ ْ‬
‫فهؤلء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق‪ ،‬وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلل والجهل بالحق‪ .‬كما قال تعالى‪َ ِ{ :‬ولَ‬
‫َتتّ ِبعُوا أَهْوَا َء قَوْ ٍم َقدْ ضَلّوا مِنْ َقبْلُ وََأضَلّوا َكثِيرًا َوضَلّوا عَنْ سَوَاءِ ال ّسبِيلِ} [المائدة‪.]77 :‬‬

‫‪/‬وكل الطائفتين تاركة ما أمر الّ ورسوله به من الرادات‪ ،‬والعمال الصالحة‪ ،‬مرتكبة لما نهى الّ ورسوله عنه من‬
‫الرادات والعمال الفاسدة‪.‬‬

‫َفصْـــل‬

‫فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشائخ أهل الستقامة ـ رضي الّ عنهم ـ‪ :‬بأنه ل يريد‬
‫السالك مرادًا قط‪ ،‬وأنه ل يريد مع إرادة الّ ـ عز وجل ـ سواها‪ ،‬بل يجرى فعله فيه‪ ،‬فيكون هو مراد الحق‪ ،‬إنما‬
‫قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر الّ ورسوله فيه‪ ،‬فأما ما علم أن الّ أمر به فعليه أن يريده ويعمل به‪ ،‬وقد صرحوا‬
‫بذلك في غير موضع‪ .‬وإن كان غيرهم من الغالطين يري القيام بالرادة الخلقية هو الكمال‪ ،‬وهو الفناء في توحيد‬
‫الربوبية‪ ،‬وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد‪ ،‬فصاحبه إذا قام بالمر فلجل غيره‪ ،‬أو أنه ل يحتاج أن يقوم بالمر‪،‬‬
‫فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف‪ ،‬مثل الفضيل بن عياض‪ ،‬وإبراهيم بن أدهم‪ ،‬وأبي سليمان‬
‫الداراني ومعروف ‪ /‬الكرخي‪ ،‬والسري السقطي‪ ،‬والجنيد ابن محمد‪ ،‬وغيرهم من المتقدمين ومثل الشيخ عبد القادر‪،‬‬
‫والشيخ حماد‪ ،‬والشيخ أبي البيان‪ ،‬وغيرهم من المتأخرين‪ ،‬فهم ل يسوغون للمسالك ولو طار في الهواء أو مشى على‬
‫الماء أن يخرج عن المر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور‪ ،‬ويدع المحظور إلى أن يموت‪ ،‬وهذا هو الحق‬
‫الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف‪.‬‬

‫وهذا كثير في كلمهم‪ :‬كقول الشيخ عبد القادر في كتاب [فتوح الغيب]‪[ :‬اخرج من نفسك‪ ،‬وتنح عنها‪ ،‬وانعزل عن‬
‫ملكك‪ ،‬وسلم الكل إلى الّ تبارك وتعالى‪ ،‬وكن بوابه علي باب قلبك‪ ،‬وامتثل أمره تبارك وتعالى في إدخال من يأمرك‬
‫بإدخاله‪ ،‬وانته نهيه في صد من يأمرك بصده‪ ،‬فل تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه‪ ،‬وإخراج الهوى من القلب‬
‫بمخالفته وترك متابعته في الحوال كلها‪ ،‬وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته‪ ،‬فل ترد إرادة غير إرادته تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬وغير ذلك منك غير‪ ،‬وهو واد الحمقى‪ ،‬وفيه حتفك وهلكك وسقوطك من عينه تبارك وتعالى‪ ،‬وحجابك‬
‫عنه‪.‬‬

‫احفظ أبدا أمره‪ ،‬وانته أبدا نهيه‪ ،‬وسلم إليه أبدا مقدوره‪ ،‬ول تشركه بشيء من خلقه‪ ،‬فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه‪،‬‬
‫ك ِب ِعبَادَةِ‬
‫ل يُشْ ِر ْ‬
‫عمَلً صَاِلحًا َو َ‬
‫ن يَرْجُو لِقَاءَ َربّ ِه فَ ْل َي ْعمَلْ َ‬ ‫فل ترد ول تهوى ول تشته لئل يكون شركا‪ .‬قال الّ تعالى‪َ { :‬فمَ ْ‬
‫ن كَا َ‬
‫َربّهِ أَ َحدًا} [الكهف‪ ]110 :‬ليس الشرك عبادة الصنام فحسب؛ بل هو أيضًا متابعتك لهواك‪ ،‬وأن تختار مع ربك شيئًا‬
‫سواه من الدنيا وما فيها‪ ،‬والخرة وما فيها‪ ،‬فما سواه تبارك وتعالى غيره‪ ،‬فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره‪،‬‬
‫ل ول مقامًا‪ ،‬ولتدع شيئًا من‬ ‫فاحذر ول تركن‪ ،‬وخف ول تأمن‪ ،‬وفتش ول تغفل فتطمئن‪ ،‬ول تضف إلى نفسك حا ً‬
‫ذلك]‪.‬‬

‫ل وعدوته‪ ،‬والشياء كلها تابعة لّ‪،‬‬‫ل ونفسك‪ ،‬وأنت المخاطب‪ ،‬والنفس ضد ا ّ‬ ‫وقال الشيخ عبد القادر أيضًا‪[ :‬إنما هو ا ّ‬
‫فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصمًا له على نفسك] ـ إلى أن قال ـ‪:‬‬

‫[فالعبادة في مخالفتك نفسك وهواك‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬و َل َتّتبِعْ ا ْلهَوَى َفيُضِّلكَ عَنْ َسبِيلِ الِّ} [ص‪ ] ]26 :‬إلى أن قال‪:‬‬

‫[والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي ـ رحمه الّ تعالى ـ لما رأي رب العزة في المنام فقال له‪ :‬كيف الطريق‬
‫إليك؟ فقال‪[ :‬اترك نفسك وتعال] قال أبو يزيد‪ :‬فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها‪.‬‬

‫فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الحوال كلها‪ ،‬فإن ‪ /‬كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج‬
‫من إجرام الخلق‪ ،‬وشبههم ومنتهم‪ ،‬والتكال عليهم والثقة بهم‪ ،‬والخوف منهم؛ والرجاء لهم‪ ،‬والطمع فيما عندهم من‬
‫حطام الدنيا‪ ،‬فل ترج عطاءهم على طريق الهدية‪ ،‬أو الزكاة‪ ،‬أو الصدقة‪ ،‬أو الكفارة أو النذر‪ ،‬فاقطع همك منهم من‬
‫سائر الوجوه والسباب‪ ،‬فاخرج من الخلق جدًا‪ ،‬واجعلهم كالباب يرد ويفتتح‪ ،‬وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل‬
‫أخرى‪ ،‬كل ذلك بفعل فاعل‪ ،‬وتدبير مدبر‪ ،‬وهو الّ ـ تبارك وتعالى‪.‬‬

‫فإذا صح لك هذا كنت موحدًا له ـ تبارك وتعالى ـ ول تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية‪ ،‬واعتقد أن‬
‫ل فتكفر‪ ،‬وتكون‬
‫الفعال ل تتم لهم دون الّ ـ تبارك وتعالى ـ لكيل تعبدهم‪ ،‬وتنسى الّ ـ تعالى ـ ول تقبل فعلهم دون ا ّ‬
‫قدريًا‪ .‬ولكن قل‪ :‬هي لّ خلقًا وللعباد كسبا‪ .‬كما جاءت به الثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب‪ ،‬وامتثل أمر‬
‫الّ فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ول تجاوزه‪ ،‬فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم‪ ،‬فل تكن أنت الحاكم‪ ،‬وكونك معهم‬
‫قدر‪ ،‬والقدر ظلمة‪ ،‬فادخل في الظلمة بالمصباح وهو الحكم ـ كتاب الّ وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ـ ل تخرج‬
‫عنهما‪.‬‬

‫فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة‪ ،‬فإن وجدت فيهما تحريم ذلك‪ ،‬مثل أن تلهم بالزنا‬
‫أو الربا أو مخالطة ‪ /‬أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك‪ ،‬واهجره ولتقبله‪ ،‬ولتعمل به‬
‫واقطع بأنه من الشيطان اللعين‪ ،‬وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحه من الكل والشرب واللبس والنكاح‬
‫فاهجره أيضًا ول تقبله‪ ،‬واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها‪ ،‬وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها]‬

‫قلت‪ :‬ومراده بهجر المباح‪ ،‬إذا لم يكن مأمورًا به‪ ،‬كما قد بين مراده في غير هذا الموضع‪ ،‬فإن المباح المأمور به إذا‬
‫فعله بحكم المر كان ذلك من أعظم نعمة الّ عليه‪ ،‬وكان واجبًا عليه‪ ،‬وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين‬
‫المقربين؛ ل يقف عند طريقة البرار أصحاب اليمين]‪.‬‬

‫قال‪[ :‬وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ول إباحته بل هو أمر ل تعقله‪ ،‬مثل أن يقال لك‪ :‬ائت موضع كذا وكذا‪،‬‬
‫الق فلنًا الصالح‪ ،‬ول حاجة لك هناك ول في الصالح‪ ،‬لستغنائك عنه بما أولك الّ تعالى من نعمه من العلم‬
‫والمعرفة‪ ،‬فتوقف في ذلك ول تبادر إليه‪ ،‬فتقول‪ :‬هل هذا إلهام إل من الحق فأعمل به؟ بل أنتظر الخير في ذلك‪،‬‬
‫وفعل الحق بأن يتكرر ذلك اللهام وتؤمر بالسعي‪ ،‬أو علمة تظهر لهل العلم بالّ تبارك وتعالى يفعلها العقلء من‬
‫أولياء الّ‪ ،‬والمؤيدون من البدال‪.‬‬

‫وإنما لم تبادر إلى ذلك لنك ل تعلم عاقبته وما يؤول المر إليه‪ ،‬وربما ‪ /‬كان فيه فتنة وهلك ومكر من الّ وامتحان‪،‬‬
‫فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك‪ ،‬فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمولً محفوظًا‬
‫فيها؛ لن الّ تعالى ل يعاقبك على فعله‪ ،‬وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشىء]‪.‬‬

‫قلت‪ :‬فقد أمر ـ رضي الّ عنه ـ بأن ما كان محظورًا في الشرع يجب تركه ولبد‪ ،‬وما كان معلومًا أنه مباح بعينه‬
‫لكونه يفعل بحكم الهوى ل بأمر الشارع فيترك أيضًا‪ ،‬وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح ل مضرة فيه أو فيه مضرة‬
‫مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين‪ ،‬والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين‪ ،‬فإن جنس هذا العمل ليس‬
‫محرمًا ول كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على النسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن‬
‫الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له‬
‫فعله‪ ،‬وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه‪ ،‬فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فل يؤاخذ بالفعل‪ ،‬لخلف ما إذا‬
‫فعله باختياره أو شهوته؛ وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسنًا‪.‬‬

‫وقد جاءت شواهد السنة بأن من ابتلى بغير تعرض منه أعين ومن تعرض للبلء خيف عليه‪ .‬مثل قوله صلى ال عليه‬
‫وسلم لعبد الرحمن بن سمرة‪( :‬ل تسأل المارة‪ ،‬فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها‪ ،‬وإن أعطيتها ‪ /‬عن غير‬
‫مسألة أعنت عليها)‪ ،‬ومنه قوله‪( :‬ل تتمنوا لقاء العدو‪ ،‬واسألوا الّ العافية‪ ،‬فإذا لقيتموهم فاصبروا)‪ .‬وفي السنن‪( :‬من‬
‫سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه‪ ،‬ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل الّ عليه ملكًا يسدده ـ وفي‬
‫رواية ـ وإن أكره عليه)‪ ،‬وفي الصحيحين أنه صلى ال عليه وسلم قال في الطاعون‪( :‬إذا سمعتم به بأرض فل تقدموا‬
‫عليه‪ ،‬وإذا وقع بأرض وأنتم بها فل تخرجوا فرارًا منه)‪ ،‬وعنه أنه صلى ال عليه وسلم نهى عن النذر‪ .‬ومنه قوله‪( :‬‬
‫ذروني ماتركتم‪ ،‬فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلفهم على أنبيائهم‪ ،‬فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه‪ ،‬وإذا‬
‫أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)‪.‬‬

‫َفصْـــل‬
‫قال الشيخ عبد القادر‪ :‬وإن كنت في حال الحقيقة‪ ،‬وهي حال الولية‪ :‬فخالف هواك واتبع المر في الجملة‪ ،‬واتباع‬
‫المر على قسمين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس‪ ،‬وتترك الحظ وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر‬
‫منها وما بطن‪.‬‬

‫‪/‬والقسم الثاني‪ :‬ما كان بأمر باطن‪ ،‬وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه‪ ،‬وإنما يتحقق هذا المر في المباح‬
‫الذي ليس حكمًا في الشرع‪ ،‬على معنى أنه ليس من قبيل النهي ول من قبيل المر الواجب‪ ،‬بل هو مهمل ترك العبد‬
‫يتصرف فيه باختياره‪ ،‬فسمى مباحًا فل يحدث العبد فيه شيئًا من عنده بل ينتظر المر فيه فإذا أمر امتثل فيصير‬
‫ل تعالى‪ ،‬مافي الشرع حكمه فبالشرع‪ ،‬وما ليس له حكم في الشرع فبالمر الباطن‪ ،‬فحينئذ‬ ‫جميع حركاته وسكناته با ّ‬
‫يصير محققًا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم‪.‬‬

‫وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق‪ ،‬والفناء حالة البدال المنكسري القلوب؛ لجل الحق‪ ،‬والموحدين‬
‫العارفين أرباب العلوم والفعل‪ ،‬السادة المراء‪ ،‬السخي الخفراء للحق‪ ،‬خلفاء الرحمن وأجلئه وأعيانه وأحبابه ـ‬
‫عليهم السلم ـ فاتباع المر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة‪ ،‬وأل تكون لك إرادة وهمة في شيء البتة‪،‬‬
‫دنيا وأخرى عبد المَلِك لعبد المَلَك‪ ،‬وعبد المر ل عبد الهوى كالطفل مع الظئر‪ ،‬والميت الغسيل مع الغاسل‪،‬‬
‫والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى المر والنهي‪.‬‬

‫وقال أيضًا‪ :‬اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك‪ ،‬إن كنت في ‪ /‬حال التقوى التي هي القدم الولى‪ ،‬واتبع المر في حالة‬
‫الولية ووجود الهوي ول تتجاوزه‪ ،‬وهي القدم الثانية‪ ،‬وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية‬
‫والصديقية‪ ،‬وهي المنتهى‪ ،‬تنح عن الطريق القذر‪ ،‬خل عن سبيله‪ ،‬رد نفسك وهواك‪ ،‬كف لسانك عن الشكوى‪ ،‬فإذا‬
‫فعلت ذلك‪ ،‬إن كان خيرًا زادك المولى طيبة ولذة وسرورًا‪ ،‬وإن كان شرا ً حفظك في طاعته فيه‪ ،‬وأزال عنك الملمة‬
‫وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله‪ ،‬كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار والبرد في الشتاء فيسفر عن‬
‫الصيف‪ ،‬ذلك النموذج عندك فاعتبر به‪ .‬ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا‪ ،‬ول يصلح‬
‫لمجالسة الكريم إل طاهر عن أنجاس الذنوب والزلت‪ ،‬وليقبل على شدته إل طيب من دون الدعوى والهواشات‪،‬‬
‫كما ل يصلح لمجالسة الملوك إل الطاهر من النجاس وأنواع النتن والوساخ‪ ،‬فالبليا مكفرات‪ .‬قال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪( :‬حمى يوم كفارة سنة)‪.‬‬

‫قلت‪ :‬فقد بين الشيخ عبد القادر ـ رضي الّ عنه ـ أن لزوم المر والنهي لبد منه في كل مقام‪ ،‬وذكر الحوال الثلث‬
‫التي جعلها‪ :‬حال صاحب التقوى‪ ،‬وحال الحقيقة‪ ،‬وحال حق الحق‪ ،‬وقد فسر مقصوده بأنه لبد للعبد في كل حال من‬
‫أن يريد فعل ما أمر به ‪ /‬في الشرع وترك ما نهى عنه في الشرع‪ ،‬وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر‬
‫به ولم ينه عنه‪ ،‬وهذا حق‪ .‬فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ول نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو‬
‫في مثل هذا عن إرادة النقيضين‪.‬‬

‫وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم المر دائمًا المر الشرعي الظاهر إن عرفه‪ ،‬أو المر الباطن‪ ،‬وبين أن‬
‫المر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ول محرم‪ ،‬وإن مثل هذا ينتظر فيه المر الخاص حتى يفعله‬
‫بحكم المر‪.‬‬

‫فإن قلت‪ :‬فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله؟ وصاحب الحق الذي بعده؟‪.‬‬

‫قيل‪ :‬أما الذي بعده الذين سماهم‪ :‬البدال‪ ،‬فهم الذين ل يفعلون إل بأمر الحق ول يفعلون إل به فل يشهدون لنفسهم‬
‫فعلً فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره‪ ،‬ولهذا قال‪ :‬فاتباع المر فيها‬
‫مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة‪.‬‬

‫فهؤلء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد اللهية‪ ،‬فيشهدون ‪ /‬أن الّ هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير‪،‬‬
‫فل يرون لنفسهم حمدًا ول منة على أحد‪ ،‬ويرون أن الّ خالق أفعال العباد فل يرون أحدًا مسيئًا إليهم‪ ،‬ول يرون لهم‬
‫حقًا على أحد إذ قد شهدوا أن الّ خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها‪ ،‬وهم يعلمون أن العبادة ل يستحقون من‬
‫أنفسهم ول بأنفسهم على الّ شيئًا‪ ،‬بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد‪ ،‬ول يشرك به‬
‫شيء وأنه يستحق أن يتقي حق تقاته‪ ،‬وحق تقاته أن يطاع فل يعصى‪ ،‬ويذكر فل ينسى‪ ،‬ويشكر فل يكفر‪ ،‬فيرون إنما‬
‫قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك‪.‬‬

‫ويشهدون‪ :‬أنه ل حول ول قوة إل بالّ‪ .‬وأما ما قام بالعباد من أذاهم‪ ،‬فهو خلقه وهو من عدله‪ ،‬وما تركه الناس من‬
‫حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه‪ ،‬وله الحمد علي كل حال على ما فعل ومالم يفعل‪ .‬ولهذا كانوا‬
‫منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل وعدمهم المحض‪ ،‬ول أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إل العدم ل يرى له‬
‫شيئًا‪ ،‬ول يرى به شيئًا‪.‬‬

‫وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلص الدين لّ‪ ،‬وأنه ل يفعل إلما أمر به‪ ،‬فليفعل إل لّ‪ ،‬لكن‬
‫قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته‪ ،‬وأنه ل حول ول قوة إل بالّ ‪ /‬وأنه ليس له في الحقيقة شيء؛ بل الرب‬
‫هو الخالق الفاعل لكل ما قام به‪ ،‬وإن كمال هذا الشهود ل يبقى شيئًا من العجب ول الكبر ونحو ذلك‪ .‬فكلهما قائم‬
‫بالمر مطيع لّ‪ ،‬لكن هذا يشهد أن الّ هو الذي جعله مسلمًا مصليًا‪ ،‬وأنه في الحقيقة لم يحدث شيئًا‪ .‬وذاك وإن كان‬
‫يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقرًا بأن الّ خالق أفعال العباد؛ لكن قد ل يشهده شهودًا يجعله فيه بمنزلة المعدوم‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬بينهما فرق من جهة ثانية‪ :‬وهي أن الول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها‪ ،‬فهو يميز في مراداته بين‬
‫ما يؤمر به وما ينهى عنه‪ ،‬ومال يؤمر به ول ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصل إل ما أراده الرب‪ ،‬إما أمرًا به‬
‫فيمتثله هو بالّ‪ ،‬وإما فعل فيه فيفعله الّ به‪ ،‬ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر‪ ،‬في غير المر والنهي‪.‬‬

‫وأما الول‪ :‬الذي هو في مقام التقوى العامة‪ ،‬فإن له شهوات للمحرمات‪ ،‬وله التفات إلى الخلق‪ ،‬وله رؤية نفسه‪،‬‬
‫فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى‪ ،‬بأن يكف عن المحرمات‪ ،‬وعن تناول الشهوات بغير المر‪ ،‬فهذا يحتاج أن يميز بين ما‬
‫يفعله ومال يفعله‪ ،‬وهو التقوى‪ ،‬وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إل ما يؤمر به فقط‪ ،‬فل يفعل إل ما أمر به في‬
‫الشرع‪ ،‬وما كان مباحًا لم يفعل إل ما أمر به‪.‬‬

‫ل وبالّ‪ ،‬فل يفعل إل ما أمر الّ به لّ‪ ،‬ويشهد أن الّ هو الذي فعل ذلك‬
‫‪/‬وأما الثالث‪ :‬فقد تم شهوده في أنه ل يفعل إل ّ‬
‫في الحقيقة‪ ،‬ول تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ول لغير الّ‪ ،‬ول يفعل بنفسه ول بغير الّ ـ تعالى‪.‬‬

‫والثلثة مشتركون في الطريق‪ ،‬في أن كلً منهم ل يفعل إل الطاعة‪ ،‬لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة‪ ،‬وبصفاء‬
‫النية والرادة‪ .‬والّ أعلم‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬كلم الشيخ كله يدور على أنه يتبع المر مهما أمكن معرفته باطنًا وظاهرًا‪ ،‬وما ليس فيه أمرًا باطنًا ول‬
‫ظاهرًا يكون فيه مسلمـًا لفعل الرب‪ ،‬بحيث ل يكون له اختيار ل في هذا ول في هذا بل إن عرف المر كان معه‪،‬‬
‫وإن لم يعرفه كان مع القدر‪ ،‬فهو مع أمر الرب إن عرف وإل فمع خلقه‪ ،‬فإنه سبحانه له الخلق والمر‪ ،‬وهذا يقتضي‬
‫أن من الحوادث ماليس فيه أمر ول نهي‪ ،‬فل يكون لّ فيه حكم ل باستحباب ول كراهة‪ ،‬وقد صرح بذلك هو والشيخ‬
‫حماد الدباس‪ ،‬وإن السالك يصل إلى أمور ل يكون فيها حكم شرعي بأمر ول نهي‪ ،‬بل يقف العبد مع القدر؛ وهذا‬
‫الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع الحقيقة القدرية المحضة‪ ،‬إذ ليس هنا حقيقة شرعية‪.‬‬

‫‪/‬وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة‪ ،‬ويقولون‪ :‬الفعل إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راجحًا على‬
‫عدمه‪ ،‬وهو الواجب والمستحب‪ .‬وإما أن يكون عدمه راجحًا على وجوده‪ ،‬وهو المحرم والمكروه‪ ،‬وإما أن يستوى‬
‫المران وهو المباح‪ ،‬وهذا التقسيم بحسب المر المطلق‪.‬‬

‫ثم الفعل المعين الذي يقال‪ :‬هو مباح‪ ،‬إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لستعانته به على طاعته ولحسن نيته‪ .‬فهذا‬
‫يصير أيضًا محبوبًا راجح الوجود بهذا العتبار‪ ،‬وإما أن يكون مفوتًا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن‬
‫مستحب‪ ،‬فهذا عدمه خير له‪.‬‬

‫والسالك المتقرب إلى الّ بالنوافل بعد الفرائض ل يكون المباح المعين في حقه مستوى الطرفين‪ ،‬فإنه إذا لم يستعن به‬
‫على طاعته كان تركه‪ ،‬وفعل الطاعة مكانه خيرًا له‪ ،‬وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح‬
‫مثله‪ .‬فيقال‪ :‬ل فرق بين هذا وهذا‪ ،‬فهذا يصلح للبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى الّ بالفرائض‪ ،‬كأداء الواجبات‪،‬‬
‫وترك المحرمات‪ ،‬ويشتغلون مع ذلك بمباحات‪ .‬فهؤلء قد يكون المباح المعين يستوى وجوده وعدمه في حقهم‪ ،‬إذا‬
‫كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر‪ ،‬ول سبيل إلى أن تترك النفس فعلً إن ‪ /‬لم تشتغل بفعل آخر يضاد الول؛ إذ ل‬
‫تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات‪.‬‬

‫ومن هذا أنكر الكعبي‪ :‬المباح في الشريعة؛ لن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم‪ ،‬وترك المحرم واجب‪ ،‬ول يمكنه‬
‫تركه إل أن يشتغل بضده‪ ،‬وهذا المباح ضده‪ ،‬والمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إل‬
‫ضد واحد‪ ،‬وإل فهو أمر بأحد أضداده‪ ،‬فأي ضد تلبس به كان واجبًا من باب الواجب المخير‪.‬‬

‫وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار‪ .‬فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه‪ :‬كأبي الحسن المدي‪ ،‬وقواه‬
‫طائفة‪ ،‬بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي‪ .‬ومنهم من قال‪ :‬هذا فيما إذا كانت أضداده محصورة‪،‬‬
‫فأما ما ليست أضداده محصورة فل يكون النهي عنه أمرًا بأحدهما‪ ،‬كما يفرق بين الواجب المطلق والواجب المخير‪،‬‬
‫فيقال في المخير‪ :‬هو أمر بأحد الثلثة‪ ،‬ويقال في المطلق‪ :‬هو أمر بالقدر المشترك‪ ،‬وجدنا أبو البركات يميل إلى هذا‪.‬‬

‫وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر‪ ،‬وهو قد يقول‪ :‬عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم‪ ،‬بل إما‬
‫مباح وإما مستحب‪ ،‬وإما واجب‪.‬‬

‫‪/‬وتحقيق المر أن قولنا‪ :‬المر بالشىء نهى عن ضده وأضداده‪ ،‬والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده‪ ،‬من جنس‬
‫قولنا‪ :‬المر بالشىء أمر بلوازمه‪ ،‬وما ل يتم الواجب إل به‪ ،‬فهو واجب‪ ،‬والنهي عن الشىء نهي عما ل يتم اجتنابه‬
‫إل به‪ .‬فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده‪ ،‬بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء‬
‫أضداده‪ ،‬وعدم النهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته‪ ،‬وإذا كان ل يعدم إلبضد يخلقه كالكوان فل بد‬
‫عند عدمه من وجود بعض أضداده‪ ،‬فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم يكن‬
‫مقصوده المر‪ .‬والفرق ثابت بين مايؤمر به قصدًا‪ ،‬وما يلزمه في الوجود‪.‬‬

‫فالول‪ :‬هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلف الثاني‪ ،‬فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن‬
‫يسعى من المكان البعيد‪ ،‬والقريب يسعى من المكان القريب‪ ،‬فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به‪ ،‬ومع هذا فإذا‬
‫ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب‪ ،‬بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد‬
‫أعظم‪ ،‬فلو كانت اللوازم مقصودة للمر لكان يعاقب بتركها‪ ،‬فكان يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا‪.‬‬

‫وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لبد من ترك أضداده‪ ،‬لكن ‪ /‬ترك الضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا‬
‫للمر‪ ،‬بحيث أنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه ل على فعل الضداد التي اشتغل بها‪ ،‬وكذلك المنهي عنه‬
‫مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده‪ ،‬وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك‪.‬‬

‫وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني‪ ،‬ول يقال‪ :‬فعل واجبًا وهو ترك الول؛ لن المقصود‬
‫عدم الول‪ ،‬فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ول بامتثاله أمرًا مقصودًا؛ لكن نهى عن الحرام ومن‬
‫ضرورة ترك المنهي عنه الشتغال بضد من أضداده‪ ،‬فذاك يقع لزمًا لترك المنهي عنه‪ ،‬فليس هو الواجب المحدود‬
‫بقولنا‪ :‬الواجب ما يذم تاركه‪ ،‬ويعاقب تاركه‪ ،‬أو يكون تركه سببًا للذم والعقاب‪.‬‬

‫فقولنا‪ :‬ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب‪ ،‬أو [يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب]‪ .‬يتضمن إيجاب اللوازم‪،‬‬
‫والفرق ثابت بين الواجب الول‪ ،‬والثاني‪ .‬فإن الول يذم تاركه ويعاقب‪ ،‬والثاني واجب وقوعًا‪ ،‬أي ل يحصل إل به‪،‬‬
‫ويؤمر به أمرًا بالوسائل‪ ،‬ويثاب عليه‪ ،‬لكن العقوبة ليست على تركه‪.‬‬

‫‪/‬ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكي‪ ،‬فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما‪ ،‬بحيث إذا أكلهما جميعًا لم‬
‫يعاقب عقوبة من أكل ميتتين‪ ،‬بل عقوبة من أكل ميتة واحدة‪ ،‬والخرى وجب تركها وجوب الوسائل‪ .‬فقول من قال‪:‬‬
‫كلهما محرم صحيح بهذا العتبار؛ وقول من قال‪ :‬المحرم في نفس المر أحدهما صحيح أيضًا بذلك العتبار وهذا‬
‫نظير قول من قال‪ :‬يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب‪.‬‬
‫وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا‪ ،‬ومن قال‪ :‬المحرم أحدهما ل يناسب طريقة الفقهاء‪،‬‬
‫وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي‪ .‬فإن الوجوب والحرمة الثابتة لحدهما ليست ثابتة للخر‪ ،‬بل نوع آخر‪ ،‬حتى لو‬
‫اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الخرى‪ ،‬كان ولده من مملوكته ثابتًا‬
‫نسبه بخلف الخرى‪ ،‬ولو قدرنا أنها اشتبهت بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مثلً‪ ،‬ثم تزوج الخرى لم يحد حدين‪ ،‬مع‬
‫أنه لحد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الجنبية‪.‬‬

‫وبهذا تنحل شبهة الكعبي‪ .‬فإن المحرم تركه مقصود‪ ،‬وأما الشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة؛ فإذا قيل المباح‬
‫واجب بمعنى وجوب الوسائل‪ ،‬أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق‪.‬‬

‫‪/‬ثم إن هذا يعتبر فيه القصد‪ ،‬فإن كان النسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى‬
‫امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الجنبية ووطئها‪ ،‬أو يأكل طعامًا حللً ليشتغل به عن الطعام الحرام‪ ،‬فهذا يثاب‬
‫على هذه النية والفعل؛ كما بين ذلك النبي صلى ال عليه وسلم بقوله‪( :‬وفي بضع أحدكم صدقة)‪ .‬قالوا‪ :‬يارسول الّ‪،‬‬
‫أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال‪( :‬أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر‪ ،‬فلم تحتسبون بالحرام ول‬
‫تحتسبون بالحلل؟!)‪ ،‬ومنه قوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن الّ يحب أن يؤخذ برخصه‪ ،‬كما يكره أن تؤتي معصيته)‬
‫رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه‪.‬‬

‫وقد يقال‪ :‬المباح يصير واجبًا بهذا العتبار‪ ،‬وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا‪ ،‬وإل كان واجبا مخيرًا‪ ،‬لكن مع هذا‬
‫القصد‪ ،‬أما مع الذهول عن ذلك فل يكون واجبًا أصلً‪ ،‬إل وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم ل يشترط فيه‬
‫القصد‪ .‬فكذلك ما يتوسل به إليه‪ ،‬فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم‬
‫يمنع ذلك‪ .‬فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري‪ .‬وإل فالمعاني الصحيحة ل ينازع فيها من فهمها‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن البرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح ‪ /‬عن مباح آخر‪ ،‬فيكون كل من المباحين يستوى‬
‫وجوده وعدمه في حقهم‪ .‬أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها‪،‬‬
‫والستعانة على طاعة الّ‪ ،‬وحينئذ فمباحاتهم طاعات‪ ،‬وإذا كان كذلك لم تكن الفعال في حقهم إل ما يترجح وجوده‪،‬‬
‫فيؤمرون به شرعًا أمر استحباب‪ ،‬أو ما يترجح عدمه فالفضل لهم أن ل يفعلوه‪ ،‬وإن لم يكن فيه إثم‪ .‬والشريعة قد‬
‫بينت أحكام الفعال كلها فهذا سؤال‪.‬‬

‫وسؤال ثان‪ :‬وهو أنه إذا قدر أن من الفعال ماليس فيه أمر ول نهي‪ ،‬كما في حق البرار‪ ،‬فهذا الفعل ل يحمد ول‬
‫يذم‪ ،‬ول يحب ول يبغض‪ ،‬ول ينظر فيه إل وجود القدر وعدمه‪ ،‬بل إن فعلوه لم يحمدوا‪ ،‬وإن لم يفعلوه لم يحمدوا‪،‬‬
‫فل يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل‪ ،‬مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم‬
‫وإرادتهم‪ .‬إذ الكلم في ذلك‪.‬‬

‫وأما غيرالفعال الختيارية‪ ،‬وهو ما فعل بالنسان كما يحمل النسان وهو ل يستطيع المتناع‪ ،‬فهذا خارج عن‬
‫التكليف‪ ،‬مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة‪ ،‬ويبغضه إن كان سيئة‪ ،‬ويخلو عنهما إن لم يكن‬
‫حسنة ول سيئة‪ ،‬فمن جعل النسان فيما يستعمله فيه القدر من الفعال الختيارية كالميت بين ‪ /‬يدي الغاسل فقد رفع‬
‫المر والنهي عنه في الفعال الختيارية وهذا باطل‪.‬‬

‫وسؤال ثالث‪ :‬وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط المر والنهي عن العبد في هذه الحوال‪ ،‬مع كون أفعاله اختيارية‪،‬‬
‫وهب أنه ليس له هوى‪ ،‬فليس كل مال هوى فيه يسقط عنه فيه المر والنهي‪ ،‬بل عليه أن يحب ما أحبه الّ ورسوله‪،‬‬
‫ويبغض ما أبغضه الّ ورسوله‪.‬‬

‫قيل‪ :‬هذه السولة أسئلة صحيحة‪.‬‬

‫وفصل الخطاب‪ :‬أن السالك قد يخفي عليه المر والنهي‪ ،‬بحيث ل يدري هل ذلك الفعل مأمور به شرعًا أو‬
‫منهي عنه شرعًا؛ فيبقى هواه لئل يكون له هوى فيه‪ ،‬ثم يسلم فيه للقدر‪ ،‬وهو فعل الرب لعدم معرفته برضا الرب‬
‫وأمره وحبه في ذلك الفعل‪.‬‬
‫وهذا يعرض لكثير من أئمة العباد‪ ،‬وأئمة العلماء‪ ،‬فإنه قد يكون عندهم أفعال وأقوال ل يعرفون حكم الّ الشرعي‬
‫فيها‪ ،‬بل قد تعارضت عندهم فيها الدلة أو خفيت الدلة بالكلية‪ ،‬فيكونون معذورين لخفاء الشرع عليهم‪ ،‬وحكم الشرع‬
‫إنما يثبت في حق العبد إذا تمكن من ‪ /‬معرفته‪ ،‬وأما ما لم يبلغه ولم يتمكن من معرفته فل يطالب به‪ ،‬وإنما عليه أن‬
‫يتقي الّ ما استطاع‪ .‬وهذا خطأ في العلم‪ ،‬وليس خطأ في العمل‪ ،‬وهو كالمجتهد المخطئ له أجر على قصده‬
‫واجتهاده‪ ،‬وخطؤه مرفوع عنه‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬فإذا كان المر هكذا‪ .‬فالواجب على العبد أن يتوقف في مثل هذه الحال إذا لم يتبين له أن ذلك الفعل مأمور به‬
‫أو منهي عنه‪ ،‬وهو ل يريد أن يفعل شيئًا ل مدح فيه ول ذم‪ ،‬فيقف ل يستسلم للقدر ويصير محلً لما يستعمل فيه من‬
‫الفعال‪ ،‬اللّهم إل إذا فعل غيره فعلً‪ ،‬فهو ل يمدحه ول يذمه‪ ،‬ول يرضاه ول يسخطه؛إذا لم يتبين له حكمه‪.‬‬

‫فأما كونه هو من أفعاله الختيارية يصير مستسلمًا لما يستعمله القدر فيه‪ :‬كالطفل مع الظئر‪ ،‬والميت مع الغاسل‪ ،‬فهذا‬
‫مما لم يأمر الّ به ول رسوله‪ ،‬بل هذا محرم‪ ،‬وإن عفى عن صاحبه وحسب صاحبه أن يعفي عنه؛ لجتهاده وحسن‬
‫قصده‪ ،‬أما كونه يحمد على ذلك‪ ،‬ويجعل هذا أفضل المقامات فليس المر كذلك‪ ،‬وكونه مجردًا عن هواه ليس مسوغًا‬
‫له أن يستسلم لكل مايفعل به‪.‬‬

‫ثم يقال‪ :‬المور مع هذا نوعان‪:‬‬

‫‪/‬أحدهما‪ :‬أن يفعل به بغير اختياره كما يحمل النسان ول يمكنه المتناع‪ ،‬وكما تضجع المرأة قهرًا وتوطأ‪ ،‬فهذا ل إثم‬
‫فيه باتفاق العلماء‪ ،‬وأما أن يكره بالكراه الشرعي حتى يفعل‪ ،‬فهذا أيضًا معفو عنه في الفعال عند الجمهور‪ ،‬وهو‬
‫لّ مِنْ َب ْعدِ ِإ ْكرَا ِههِنّ َغفُورٌ رَحِيمٌ} [النور‪.]33 :‬‬ ‫أصح الروايتين عن أحمد لقوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ ُيكْرِهّ ّ‬
‫ن َفإِنّ ا َ‬

‫وأما إذا لم يكره الكراه الشرعي فاستسلمه للفعل المطلق الذي ل يعرف أخير هو أم شر؟ ليس هو مأمورًا به‪ ،‬وإن‬
‫جرى على يده خرق عادة أو لم يجر‪ ،‬فليس هو مأمورًا أن يفعل إل ما هو خير عند الّ ورسوله‪.‬‬

‫قيل‪ :‬هذا السؤال صحيح‪ ،‬وحقيقة المر‪ :‬أن السالكين إذا وصلوا إلى هذا المقام فيحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم‬
‫لربهم‪ ،‬وطلبهم منه أن يختار لهم ما هو الصلح‪ ،‬إذا استعملوا في أمورهم ل يعرفون حكمه في الشرع رجوا أن‬
‫يكون خيرًا؛ لن معرفتهم بحكمه قد تعذرت عليهم‪ ،‬والنسان غير عالم في كل حال بما هو الصلح له في دينه‪ ،‬وبما‬
‫هو أرضى لّ ورسوله‪ ،‬فيبقى حالهم حال المستخير لّ فيما لم يعلم عاقبته‪ ،‬إذا قال‪( :‬اللهم‪ ،‬إني أستخيرك بعلمك‬
‫وأستقدرك بقدرتك‪ ،‬وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ول أقدر؛ وتعلم ول أعلم؛ وأنت علم الغيوب‪ ،‬اللّهم‪ ،‬إن‬
‫كنت تعلم أن هذا المر خير لي في ديني ‪ /‬ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي‪ ،‬ثم بارك لي فيه‪ .‬وإن كنت‬
‫تعلم أن هذا المر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم‬
‫ارضني به)‪.‬‬

‫فإذا استخار الّ كان ما شرح له صدره وتيسر له من المور هو الذي اختاره الّ له‪ .‬إذ لم يكن معه دليل شرعي على‬
‫أن عين هذا الفعل هو مأمور به في هذه الحال‪ ،‬فإن الدلة الشرعية إنما تأمر بأمر مطلق عام‪ ،‬ل بعين كل فعل من‬
‫كل فاعل‪ ،‬إذ كان هذا ممتنعًا؛ وإن كان ذلك المعين يمكن إدراجه تحت بعض خطاب الشارع العام؛ إذا كانت الفراد‬
‫المعينة داخلة تحت المر العام الكلي؛ لكن ل يقدر كل أحد على استحضار هذا‪ ،‬ول على استحضار أنواع الخطاب ‪.‬‬

‫ولهذا كان الفقهاء يعدلون إلى القياس عند خفاء ذلك عليهم‪.‬‬

‫ثم القياس ـ أيضًا ـ قد ل يحصل في كل واقعة‪ ،‬فقد يخفى على الئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‬
‫دخول الواقعة المعينة تحت خطاب عام‪ ،‬أو اعتبارها بنظير لها‪ ،‬فل يعرف لها أصل‪ ،‬ول نظير‪ .‬هذا مع كثرة نظرهم‬
‫في خطاب الشارع ومعرفة معانيه‪ ،‬ودللته على الحكام‪ .‬فكيف من لم يكن كذلك؟!‬

‫‪/‬ثم السالك ليس قصده معرفة الحلل والحرام؛ بل مقصوده أن هذا الفعل المعين خير من هذا‪ ،‬وهذا خير من هذا‪،‬‬
‫ل ولكل سالك حال تخصه قد يؤمر فيها‬‫وأيهما أحب إلى الّ في حقه في تلك الحال‪ ،‬وهذا باب واسع ل يحيط به إل ا ّ‬
‫بما ينهي عنه غيره‪ ،‬ويؤمر في حال بما ينهي عنه في أخرى‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬نحن نفعل الخير بحسب المكان‪ ،‬وهو فعل ما علمنا أنا أمرنا به‪ ،‬ونترك أصل الشر وهو هوى النفس‪ ،‬ونلجأ‬
‫إلى الّ فيما سوى ذلك أن يوفقنا لما هو أحب إليه وأرضى له؛ فما استعملنا فيه رجونا أن يكون من هذا الباب؛ ثم إن‬
‫أصبنا فلنا أجران‪ ،‬وإل فلنا أجر‪ ،‬وخطؤنا محطوط عنا فهذا هذا‪.‬‬

‫وحينئذ‪ ،‬فمن قدر أنه علم المشروع وفعله فهو أفضل من هذا؛ ولكن كثير ممن يعلم المشروع ل يفعله ول يقصد أحب‬
‫المور إلى الّ وكثير منهم يفعله بشوب من الهوى‪ ،‬فيبقى هذا فعل المشروع بهوى وهذا ترك مالم يعلم أنه مشروع‬
‫بل هوى‪ .‬فهذا نقص في العلم‪ ،‬وذاك نقص في العمل؛ إذ العمل بهوى النفس نقص في العمل‪ ،‬ولو كان المفعول‬
‫واجبًا‪.‬‬

‫فيقال‪ :‬إن تاب صاحب الهوي من هواه كان أرفع بعلمه‪ ،‬وإن ‪ /‬لم يتب فله نصيب من عالم السوء؛ ولهذا تشاجر‬
‫رجلن من المتقدمين عام الحكمين في مثل هذا‪ .‬فقال أحدهما لصاحبه‪ :‬إنما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو‬
‫تتركه يلهث‪ .‬وقال الخر‪ :‬أنت كالحمار يحمل أسفارًا؛ فهذا أحسن قصدًا وأقوى علمًا‪.‬‬

‫ولهذا تجد أصحاب حسن القصد إنما يعيبون على هؤلء اتباع الهوي وحب الدنيا والرئاسة‪ ،‬وأهل العلم يعيبون على‬
‫أولئك نقص علمهم بالشرع‪ ،‬وعدولهم عن المر والنهي فهذا هذا‪.‬‬

‫والّ ـ تعالى ـ المسؤول أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء‬
‫والصالحين وحسن أولئك رفيقًا‪.‬‬

‫وقد قال بعض أهل الفقه والزهد‪ :‬من الناس من سلك الشريعة‪ ،‬ومنهم من سلك الحقيقة‪ .‬ولعله أراد هؤلء وهؤلء؛‬
‫فإن هؤلء يرجحون بما ييسره الّ مع حسن القصد واتباع المر والنهي المعلوم لهم مع خفاء الدلة الشرعية في ذلك‬
‫المتيسر لهم‪ ،‬وهؤلء يرجحون بالدلة الشرعية من الظواهر والقيسة‪ ،‬وأخبار الحاد وأقوال العلماء مع خفاء المر‬
‫المتيسر لهم‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فهؤلء قد يشهدون مافي ذلك الفعل المقدر من ‪ /‬المصلحة والخير‪ ،‬فيرجحونه بحكم اليمان وإن لم يعرفوا‬
‫دليلً من النص على حسنه‪ ،‬وأولئك إنما يرجحون من النصوص‪ ،‬وما استنبط منها‪ ،‬فهؤلء لهم القرآن‪ ،‬وهؤلء لهم‬
‫اليمان‪ ،‬وسبب هذا أن كل من الطائفتين خفي عليه ما مع الخرى من الحق‪ ،‬وكل من الطائفتين في طريقها حق‬
‫وباطل‪.‬‬

‫فأما المدعون للحقيقة بدون مراعاة المر والنهي الشرعيين‪ ،‬فهم ضالون‪ ،‬كالذين يعرفون المر والنهي ول يفعلون‬
‫إل ما يهوونه من الكبائر‪ ،‬فإنهم فساق‪ .‬وهؤلء الذين قيل فيهم‪ :‬احذروا فتنة العالم الفاجر‪ ،‬والعابد الجاهل فإن فتنتهما‬
‫فتنة لكل مفتون‪ .‬والحقيقة قد تكون قدرية وقد تكون ذوقية‪ ،‬وقد تكون شرعية ولفظ الشرع يتناول المنزل‪ ،‬و المؤول‬
‫والمبدل‪.‬‬

‫والمقصود هنا ذكر أهل الستقامة من الطائفتين والكلم على حال أهل العبادة والرادة‪ ،‬الذين خرجوا عن الهوي‬
‫وهو الفرق الطبعي‪ ،‬وقاموا بما علموه من الفرق الشرعي‪.‬‬

‫وبقى قسم ثالث‪ ،‬ليس لهم فيه فرق طبعي ول عندهم فيه فرق شرعي‪ ،‬فهو الذي جروا فيه مع الفعل والقدر‪.‬‬

‫وأما من جري مع الفرق الطبعي‪ ،‬إما عالمًا بأنه عاص وهو العالم ‪ /‬الفاجر‪ ،‬أو محتجًا بالقدر أو بذوقه ووجده‬
‫معرضًا عن الكتاب والسنة‪ ،‬وهو العابد الجاهل فهذا خارج عن الصراط المستقيم‪.‬‬

‫وهذا مما بين حال كمال الصحابة ـ رضي الّ عنهم ـ وأنهم خير قرون هذه المة‪ ،‬إذ كانوا في خلفة النبوة يقومون‬
‫بالفروق الشرعية في جليل المور ودقيقها مع اتساع المر‪ ،‬والواحد من المتأخرين قد يعجز عن معرفة الفروق‬
‫الشرعية فيما يخصه‪ ،‬كما أن الواحد من هؤلء يتبع هواه في أمر قليل‪ .‬فأولئك مع عظيم ما دخلوا فيه من المر‬
‫والنهي لهم العلم الذي يميزون به بين الحسنات والسيئات‪ ،‬ولهم القصد الحسن الذي يفعلون به الحسنات‪ ،‬والكثير من‬
‫المتأخرين العالمين والعابدين يفوت أحدهم العلم في كثير من الحسنات والسيئات حتى يظن السيئة حسنة وبالعكس‪ ،‬أو‬
‫يفوته القصد في كثير من العمال‪ ،‬حتي يتبع هواه فيما وضح له من المر والنهي‪.‬‬

‫فنسأل الّ أن يهدينا الصراط المستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪.‬‬

‫هذا لعمري إذا كان عند العالم ما هو أمر الشارع ونهيه حقيقة‪ ،‬وعند العابد حسن القصد الخالي عن الهوي حقيقة‪،‬‬
‫فأما من خلط الشرع المنزل بالمبدل والمؤول‪ ،‬وخلط القصد الحسن باتباع الهوى‪ ،‬فهؤلء ‪ /‬وهؤلء مخلطون في‬
‫علمهم وعملهم‪ ،‬وتخليط هؤلء في العلم سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في القصد‪ ،‬وتخليط هؤلء في القصد سوى‬
‫تخليطهم وتخليط غيرهم في العلم‪.‬‬

‫فإنه من عمل بما علم ورثه الّ علم ما لم يعلم‪ .‬وحسن القصد‪ :‬من أعون الشياء على نيل العلم ودركه‪ .‬والعلم‬
‫الشرعي‪ :‬من أعون الشياء على حسن القصد والعمل الصالح‪ ،‬فإن العلم قائد والعمل سائق والنفس حرون‪ ،‬فإن ونى‬
‫قائدها لم تستقم لسائقها‪ ،‬وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها‪ ،‬فإذا ضعف العلم حار السالك ولم يدر أين يسلك‪ ،‬فغايته أن‬
‫يستطرح للقدر‪ ،‬وإذا ترك العمل حار السالك عن الطريق فسلك غيره مع علمه أنه تركه‪ ،‬فهذا حائر ل يدري أين‬
‫يسلك مع كثرة سيره وهذا حائر عن الطريق زائغ عنه مع علمه به‪.‬‬

‫ظلُومًا‬
‫لْنْسَانُ ِإنّ ُه كَانَ َ‬ ‫لّ قُلُو َبهُمْ} [الصف‪ .]5 :‬هذا جاهل وهذا ظالم‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫حمََلهَا ا ِ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬فََلمّا زَاغُوا َأزَاغَ ا ُ‬
‫َجهُولً} [الحزاب‪ .]72 :‬مع أن الجهل والظلم متقاربان لكن الجاهل ل يدري أنه ظالم والظالم جهل الحقيقة المانعة‬
‫له من العلم‪ .‬قال تعالى‪ِ{ :‬إّنمَا التّ ْوبَةُ عَلَى الِّ لِّلذِينَ َي ْعمَلُونَ السّو َء بِ َجهَالَ ٍة ُث ّم يَتُوبُو َن مِنْ َقرِيبٍ} [النساء‪.]17 :‬‬

‫قال أبو العالية‪ :‬سألت أصحاب محمد فقالوا‪ :‬كل من عصى الّ ‪ /‬فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من‬
‫قريب‪.‬‬

‫وقد روى الخلل عن أبي حيان التيمي قال‪ :‬العلماء ثلثة‪ :‬فعالم بالّ ليس عالمًا بأمر الّ‪ ،‬وعالم بأمر الّ ليس عالمًا‬
‫بالّ‪ ،‬وعالم بالّ وبأمر الّ‪.‬‬

‫فالعالم بالّ الذي يخشاه‪ ،‬والعالم بأمر الّ الذي يعرف أمره ونهيه‪.‬‬

‫ف مَقَامَ َربّهِ َو َنهَى النّفْسَ عَنْ ا ْلهَوَى ‪ .‬فَإِنّ ا ْل َجنّةَ ِهيَ ا ْلمَ ْأوَى} [‬
‫قلت‪ :‬والخشية تمنع اتباع الهوى قال تعالى‪{ :‬وََأمّا مَنْ خَا َ‬
‫النازعات‪.]41 ،40 :‬‬

‫والكمال في عدم الهوى وفي العلم هو لخاتم الرسل صلى ال عليه وسلم الذي قال فيه‪{ :‬وَالنّ ْ‬
‫جمِ ِإذَا َهوَى ‪ .‬مَا ضَلّ‬
‫ي يُوحَى} [النجم‪ ،]1-4 :‬فنفى عنه الضلل والغي ووصفه بأنه‬ ‫حٌ‬
‫ح ُبكُمْ َومَا غَوَى ‪َ .‬ومَا َينْطِقُ عَنْ ا ْلهَوَى ‪ .‬إِنْ هُوَ ِإلّ وَ ْ‬
‫صَا ِ‬
‫ل ينطق عن الهوى إن هو إل وحي يوحى‪ ،‬فنفى الهوى وأثبت العلم الكامل وهو الوحي‪ ،‬فهذا كمال العلم وذاك كمال‬
‫القصد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ووصف أعداءه بضد هذين‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬إِ ْن َيّتبِعُونَ ِإلّ الظّنّ َومَا َتهْوَى ا َلْنْفُسُ وَلَ َقدْ جَاءَ ُه ْم مِنْ َربّهِمْ ا ْلهُدَى} [النجم‪]23 :‬‬
‫‪ ،‬فالكمال المطلق للنسان هو تكميل العبودية لّ علمًا وقصدًا‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬ومَا َخلَ ْقتُ الْجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعُبدُونِ} [‬
‫لّ يَدْعُوهُ} [الجن‪ ،]19 :‬وقال تعالى فيما حكاه عن إبليس‪{ :‬قَا َ‬
‫ل َف ِبعِ ّز ِتكَ‬ ‫ع ْبدُ ا ِ‬‫الذاريات‪ ،]56 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََأنّهُ َلمّا قَامَ َ‬
‫لَُغْ ِويَّنهُمْ َأ ْج َمعِينَ ‪ِ .‬إلّ ِعبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْلمُخَْلصِينَ} [ص‪ ،]83 ،82 :‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ ِعبَادِي َليْسَ َلكَ َعَليْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر‪:‬‬
‫عبَادِنَا ا ْلمُخْلَصِينَ} [يوسف‪ ،]24 :‬وقال تعالى‪ِ{ :‬إنّهُ َليْسَ‬ ‫عنْهُ السّوءَ وَالْ َفحْشَاءَ ِإنّ ُه مِنْ ِ‬ ‫‪ ،]42‬وقال تعالى‪َ { :‬كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َ‬
‫لَهُ سُ ْلطَانٌ عَلَى اّلذِي َن آ َمنُوا وَعَلَى َرّبهِ ْم َيتَوَكّلُونَ ‪ِ .‬إّنمَا سُلْطَانُهُ عَلَى اّلذِينَ َيتَوَلّ ْونَهُ وَاّلذِينَ ُه ْم بِهِ مُ ْش ِركُونَ} [النحل‪.]100 ،99 :‬‬

‫وعبادته‪ :‬طاعة أمره‪ ،‬وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه‪ ،‬فالكمال في كمال طاعة الّ ورسوله باطنًا وظاهرًا‪ ،‬ومن كان‬
‫لم يعرف ما أمر الّ به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ فعل المأمور به إلى ما اعتقده مأمورًا‬
‫ل مثابون على ما أحسنوه من‬ ‫به‪ ،‬أو تعارضت عنده الدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس المر‪ ،‬فهؤلء مطيعون ّ‬
‫القصد لّ‪ ،‬واستفرغوه من وسعهم في طاعة الّ‪ ،‬وما عجزوا عن علمه فأخطؤوه إلى غيره فمغفور لهم‪.‬‬
‫وهذا من أسباب فتن تقع بين المة‪ ،‬فإن أقوامًا يقولون ويفعلون أمورًا هم مجتهدون فيها‪ .‬وقد أخطؤوا فتبلغ أقوامًا‬
‫يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب‪ ،‬أو يظنون أنهم ل يعذرون بالخطأ‪ ،‬وهم أيضًا مجتهدون مخطئون‪ ،‬فيكون هذا مجتهدًا‬
‫مخطئًا في فعله‪ ،‬وهذا مجتهدًا مخطئًا ‪ /‬في إنكاره‪ ،‬والكل مغفور لهم‪ .‬وقد يكون أحدهما مذنبًا‪ ،‬كما قد يكونان جميعًا‬
‫مذنبين‪.‬‬

‫وخير الكلم كلم الّ‪ ،‬وخير الهدى هدي محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وشر المور محدثاتها وكل بدعة ضللة‪.‬‬

‫والواحد من هؤلء قد يعطي طرفًا بالمر والنهي‪ ،‬فيولي ويعزل ويعطي ويمنع‪ ،‬فيظن الظان أن هذا كمال‪ ،‬وإنما‬
‫يكون كمال إذا كان موافقًا للمر‪ ،‬فيكون طاعة لّ‪ ،‬وإل فهو من جنس الملك‪ ،‬وأفعال الملك‪ :‬إما ذنب‪ ،‬وإما عفو‪ ،‬وإما‬
‫طاعة‪.‬‬

‫فالخلفاء الراشدون أفعالهم طاعة وعبادة‪ ،‬وهم أتباع العبد الرسول وهي طريقة السابقين المقربين‪.‬‬

‫وأما طريقة الملوك العادلين‪ ،‬فإما طاعة وإما عفو‪ ،‬وهي طريقة النبياء الملوك؛ وطريقة البرار أصحاب اليمين‪.‬‬

‫وأما طريقة الملوك الظالمين‪ ،‬فتتضمن المعاصي‪ ،‬وهي طريقة الظالمين لنفسهم‪ .‬قال تعالى‪{ :‬ثُمّ أَوْ َر ْثنَا ا ْلكِتَابَ اّلذِينَ‬
‫لّ ذَِلكَ هُوَ ا ْلفَضْلُ ا ْلكَبِيرُ} [فاطر‪ ]32 :‬فل‬ ‫ت بِِإذْنِ ا ِ‬
‫خيْرَا ِ‬
‫ق بِا ْل َ‬
‫صدٌ َومِ ْنهُمْ سَابِ ٌ‬
‫عبَادِنَا َف ِم ْنهُمْ ظَالِمٌ ِلنَ ْفسِهِ َو ِم ْنهُ ْم مُ ْقتَ ِ‬
‫صطَ َف ْينَا مِنْ ِ‬
‫ا ْ‬
‫يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون ‪ /‬من أحد هذه الصناف‪ :‬إما ظالم لنفسه وإما مقتصد‪ ،‬وإما سابق بالخيرات‪.‬‬

‫وخوارق العادات‪ :‬إما مكاشفة وهي من جنس العلم الخارق‪ ،‬وإما تصرف وهي من جنس القدرة الخارقة‪ ،‬وأصحابها‬
‫ل يخرجون عن القسام الثلثة‪.‬‬

‫حمَه الّ َتعَالَى‪:‬‬


‫خ الِسْــلَم ـ َر ِ‬
‫قالَ شي ُ‬

‫َفصْـــل‬

‫حدثني أبي عن محيى الدين بن النحاس؛ وأظني سمعتها منه أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخبارًا‬
‫عن الحق تعالى‪( :‬من جاءنا تلقيناه من البعيد‪ ،‬ومن تصرف بحولنا ألنا له الحديد‪ ،‬ومن اتبع مرادنا أردنا ما يريد‪،‬‬
‫ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد)‪.‬‬

‫قلت‪ :‬هذا من جهة الرب ـ تبارك وتعالى‪:‬‬

‫فالولتان‪ :‬العبادة والستعانة‪ ،‬والخرتان‪ :‬الطاعة والمعصية‪ ،‬فالذهاب إلى الّ هي عبادته وحده كما قال تعالى‪( :‬من‬
‫تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا‪ ،‬ومن تقرب إلىّ ذراعًا تقربت إليه باعًا‪ ،‬ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)‪.‬‬

‫والتقرب بحوله هو الستعانة‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬فإنه ل حول ول ‪ /‬قوة إل بالّ‪ .‬وفي الثر‪( :‬من سره أن يكون أقوى‬
‫لّ َفهُوَ َح ْسبُهُ} [‬
‫علَى ا ِ‬ ‫الناس فليتوكل على الّ)‪ .‬وعن سعيد بن جبير‪( :‬التوكل جماع اليمان)‪ ،‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَ ْ‬
‫ن َيتَ َوكّلْ َ‬
‫الطلق‪ ،]3 :‬وقال‪ِ{ :‬إ ْذ تَ ْس َتغِيثُونَ َرّبكُ ْم فَا ْستَجَابَ َلكُمْ} [النفال‪ ،]9 :‬وهذا على أصح القولين في أن التوكل عليه ـ‬
‫بمنزلة الدعاء على أصح القولين أيضًا ـ سبب لجلب المنافع ودفع المضار‪ ،‬فإنه يفيد قوة العبد وتصريف الكون ولهذا‬
‫هو الغالب على ذوي الحوال متشرعهم وغير متشرعهم‪ ،‬وبه يتصرفون ويؤثرون تارة بما يوافق المر‪ ،‬وتارة بما‬
‫يخالفه‪.‬‬

‫لّ بِكُمْ ا ْليُسْرَ َو َل يُرِيدُ ِبكُمْ ا ْلعُ ْسرَ} [البقرة‪،]185 :‬‬ ‫وقوله‪( :‬ومن اتبع مرادنا) يعني‪ :‬المراد الشرعي كقوله‪{ :‬يُرِيدُ ا ُ‬
‫طهّ َركُمْ َوِليُتِ ّم ِن ْع َمتَهُ‬
‫ن يُرِيدُ ِليُ َ‬ ‫ع ْنكُمْ} [النساء‪ ،]28 :‬وقوله‪{ :‬مَا يُرِيدُ الُّ ِليَ ْ‬
‫جعَلَ عََل ْيكُ ْم مِنْ حَ َرجٍ وََلكِ ْ‬ ‫خفّفَ َ‬ ‫وقوله‪{ :‬يُرِيدُ الُّ أَ ْ‬
‫ن يُ َ‬
‫عََل ْيكُمْ}[المائدة‪ ]6 :‬هذا هو طاعة أمره‪ ،‬وقد جاء في الحديث‪( :‬وأنت يا عمر لو أطعت الّ لطاعك)‪ ،‬وفي الحديث‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ‬ ‫ستَجِيبُ اّلذِينَ آ َمنُوا وَ َ‬ ‫الصحيح‪( :‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه)‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ { :‬ويَ ْ‬
‫ضلِهِ} [الشورى‪.]26 :‬‬ ‫ن فَ ْ‬‫َويَزِيدُهُمْ مِ ْ‬
‫وقوله‪( :‬ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد)‪ .‬يعني‪ :‬ترك ما كره الّ من المحرم والمكروه لجل الّ‪ :‬رجاء‬
‫ومحبة وخشية أعطيناه فوق المزيد؛ لن هذا مقام الصبر‪ ،‬وقد قال تعالى‪ِ{ :‬إّنمَا يُ َوفّى الصّابِرُونَ َأجْرَ ُه ْم بِ َغيْرِ ِحسَابٍ} [‬
‫الزمر‪.]10 :‬‬

‫سُ ِئلَ عن [إحياء علوم الدين] و [قوت القلوب]‪ . ..‬إلخ‪.‬‬ ‫‪/‬‬

‫فأجــاب‪:‬‬

‫أما [كتاب قوت القلوب] و [كتاب الحياء] تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب‪ :‬مثل الصبر والشكر‪ ،‬والحب‬
‫والتوكل‪ ،‬والتوحيد ونحو ذلك‪ .‬وأبو طالب أعلم بالحديث والثر‪ ،‬وكلم أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم‪ ،‬من‬
‫أبي حامد الغزالي‪ ،‬وكلمه أسد وأجود تحقيقًا‪ ،‬وأبعد عن البدعة مع أن في [قوت القلوب] أحاديث ضعيفة‬
‫وموضوعة‪ ،‬وأشياء كثيرة مردودة‪.‬‬

‫وأما ما في [الحياء] من الكلم في [المهلكات] مثل الكلم على الكبر‪ ،‬والعجب والرياء‪ ،‬والحسد ونحو ذلك‪ ،‬فغالبه‬
‫منقول من كلم الحارث المحاسبي في الرعاية‪ ،‬ومنه ماهو مقبول ومنه ماهو مردود‪ ،‬ومنه ما هو متنازع فيه‪.‬‬

‫و[الحياء] فيه فوائد كثيرة‪ ،‬لكن فيه مواد مذمومة‪ ،‬فإنه فيه مواد فاسدة من كلم الفلسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة‬
‫والمعاد‪ ،‬فإذا ‪ /‬ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين‪.‬‬

‫وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه‪ .‬وقالوا‪ :‬مرضه [الشفاء] يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة‪.‬‬

‫وفيه أحاديث وآثار ضعيفة‪ ،‬بل موضوعة كثيرة‪.‬‬

‫وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم‪.‬‬

‫وفيه مع ذلك من كلم المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة‪ ،‬ومن غير ذلك‬
‫من العبادات والدب ما هو موافق للكتاب والسنة‪ ،‬ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا‬
‫فيه‪.‬‬

‫خ الِسْـلم ـ قدس ال روحه‪:‬‬


‫‪َ /‬وقَالَ شيْ ُ‬

‫َفصْـــل‬

‫قد دل الكتاب والسنة وآثار سلف المة على جنس المشروع المستحب في ذكر الّ ودعائه كسائر العبادات‪ ،‬وبين‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم مراتب الذكار‪ ،‬كقوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن سمرة بن جندب‪( :‬‬
‫أفضل الكلم بعد القرآن أربع‪ ،‬وهن من القرآن‪ :‬سبحان الّ‪ ،‬والحمد لّ‪ ،‬ول إله إل الّ‪ ،‬والّ أكبر‪ ،‬ل يضرك بأيهن‬
‫بدأت) وفي صحيحه عن أبي ذر قال‪ :‬سئل رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ :‬أي الكلم أفضل ؟ قال‪( :‬ما اصطفى الّ‬
‫لملئكته سبحان الّ وبحمده)‪.‬‬

‫وفي [كتاب الذكر] لبن أبي الدنيا وغيره مرفوعًا إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬أفضل الذكر ل إله إل الّ‪ ،‬وأفضل‬
‫الدعاء الحمد ‪ /‬لّ)‪ .‬وفي الموطأ وغيره حديث طلحة بن عبد الّ بن كريز عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬أفضل ما‬
‫قلت أنا والنبيون من قبلي‪ :‬ل إله إل الّ وحده ل شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)‪ ،‬وفي السنن‬
‫حديث الذي قال‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬إني ل أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا‪ ،‬فعلمني ما يجزئني في صلتي فقال‪( :‬قل‪:‬‬
‫ل والّ أكبر)‪ .‬ولهذا قال الفقهاء‪ :‬إن من عجز عن القراءة في الصلة انتقل إلى هذه‬
‫سبحان الّ والحمد لّ‪ ،‬ول إله إل ا ّ‬
‫الكلمات الباقيات الصالحات‪ .‬وفضائل هذه الكلمات ونحوها كثير ليس هذا موضعه‪.‬‬
‫وإنما الغرض من الذكر والدعاء ما ليس بمشروع الجنس أو هو منهي عنه أو عن صفته‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬ادْعُوا َرّبكُمْ‬
‫تَضَرّعًا وَ ُخ ْفيَةً ِإنّ ُه َل يُحِبّ ا ْل ُمعْ َتدِينَ} [العراف‪ ،]55 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَلِّ ا َلْ ْسمَاءُ الْحُ ْسنَى فَادْعُو ُه ِبهَا} [العراف‪]180 :‬‬
‫فل يدعي إل بأسمائه الحسنى‪.‬‬

‫ومن المنهي عنه‪ :‬ما كانوا يقولونه في الجاهلية في تلبيتهم‪ :‬لبيك ل شريك لك‪ ،‬إل شريكًا هو لك‪ ،‬تملكه وما ملك‪.‬‬
‫ومثل قول بعض العراب للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنا نستشفع بالّ عليك‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬شأن‬
‫الّ أعظم من ذلك‪ ،‬إن الّ ل يستشفع به على أحد من خلقه) ومثل ما كانوا يقولون في أول السلم‪ / :‬السلم على الّ‬
‫ل والصلوات‬ ‫قبل عباده‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن الّ هو السلم‪ ،‬فإذا قعد أحدكم فليقل‪ :‬التحيات ّ‬
‫والطيبات)‪.‬‬

‫أشار بذلك إلى أن [السلم] إنما يطلب لمن يحتاج إليه‪ ،‬والّ هو [السلم]‪ ،‬فالسلم يطلب منه ل يطلب له‪ .‬بل يثنى‬
‫ل والصلوات والطيبات‪ .‬فالحق سبحانه يثنى عليه ويطلب منه‪ ،‬وأما المخلوق فيطلب له‪.‬‬ ‫عليه‪ ،‬فإنه له فيقال‪ :‬التحيات ّ‬
‫فيقال‪ :‬السلم عليك أيها النبي ورحمة الّ وبركاته‪ ،‬السلم علينا وعلى عباد الّ الصالحين‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬ومَا خََلقْتُ ا ْل ِ‬
‫جنّ‬
‫ط ِعمُونِ} [الذاريات‪ ،]57 ،56 :‬والرزق يعم كل ما ينتفع به‬ ‫ن يُ ْ‬
‫ن ‪ .‬مَا أُرِي ُد مِ ْنهُ ْم مِنْ رِ ْزقٍ َومَا ُأرِيدُ أَ ْ‬
‫وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعبُدُو ِ‬
‫المرتزق؛ فالنسان يرزق الطعام والشراب واللباس‪ ،‬وما ينتفع بسمعه وبصره وشمه‪ ،‬ويرزق ما ينتفع به باطنه من‬
‫علم وإيمان‪ ،‬وفرح وسرور‪ ،‬وقوة ونور‪ ،‬وتأييد وغير ذلك‪ ،‬والّ سبحانه ما يريد من الخلق من رزق‪ ،‬فإنهم لن يبلغوا‬
‫لّ َفقِيرٌ َونَحْنُ‬
‫ن قَالُوا إِنّ ا َ‬
‫لّ قَوْلَ اّلذِي َ‬ ‫ضره فيضروه‪ ،‬ولن يبلغوا نفعه فينفعوه‪ ،‬بل هو الغني وهم الفقراء‪{ .‬لَ َقدْ َ‬
‫سمِعَ ا ُ‬
‫أَ ْغ ِنيَاءُ} [آل عمران‪ ،]181:‬وهو الحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد‪ ،‬ولم يكن له كفوًا أحد‪.‬‬

‫وكذلك الدعاء المكروه‪ ،‬مثل الدعاء ببغي أو قطيعة رحم أو دعاء منازل النبياء أو دعاء العرابي الذي قال‪ :‬اللهم ما‬
‫كنت معذبي به في ‪ /‬الخرة فعجله لي في الدنيا‪ ،‬ومثل قوله صلى ال عليه وسلم للمصابين بميت لما صاحوا‪( :‬ل‬
‫تدعوا على أنفسكم إل بخير؛فإن الملئكة يؤمنون على ما تقولون) وقد قال تعالى‪{ :‬وَلَ ْو ُيعَجّلُ الُّ لِلنّاسِ الشّرّ ا ْ‬
‫س ِتعْجَاَل ُهمْ‬
‫بِالْ َخيْرِ لَ ُقضِيَ إَِل ْيهِمْ َأجَُلهُمْ} [يونس‪ ،]11 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ويَ ْدعُ الِْنسَا ُن بِالشّ ّر دُعَا َء ُه بِالْ َخيْرِ َوكَانَ الِْنسَانُ عَجُولً} [السراء‪:‬‬
‫‪ ،]11‬وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استيعابه‪ .‬وإنما نبهنا على جنس المكروه‪.‬‬

‫وإنما الغرض هنا أن الشرع لم يستحب من الذكر إل ما كان كلمًا تامًا مفيدًا مثل‪[ :‬ل إله إل الّ]‪ ،‬ومثل‪[ :‬الّ أكبر]‪،‬‬
‫سمُ َرّبكَ} [الرحمن‪{ ،]78 :‬تَبَا َركَ اّلذِي‬ ‫ل والحمد لّ]‪ ،‬ومثل [ل حول ول قوة إل بالّ]‪ ،‬ومثل {تَبَا َركَ ا ْ‬ ‫ومثل [سبحان ا ّ‬
‫ِبيَدِهِ ا ْلمُ ْلكُ} [الملك‪َ { ،]1 :‬سبّحَ لِّ مَا فِي ال ّسمَاوَاتِ وَالَْ ْرضِ} [الحديد‪{ ]1 :‬تَبَا َركَ اّلذِي نَزّلَ ا ْلفُ ْرقَانَ} [الفرقان‪.]1 :‬‬

‫فأما( السم المفرد) مظهرًا مثل‪[ :‬الّ‪ ،‬الّ] أو [مضمرًا] مثل‪[ :‬هو‪ ،‬هو]‪ .‬فهذا ليس بمشروع في كتاب ول سنة‪ ،‬ول‬
‫هو مأثور أيضًا عن أحد من سلف المة‪ ،‬ول عن أعيان المة المقتدى بهم‪ ،‬وإنما لهج به قوم من ضلل المتأخرين‪.‬‬

‫وربما اتبعوا فيه حال شيخ مغلوب فيه‪ ،‬مثلما يروي عن الشبلي أنه كان يقول‪[ :‬الّ‪ ،‬الّ]‪ .‬فقيل له‪ :‬لم ل تقول‪ :‬ل إله‬
‫إل الّ؟ ‪/‬فقال‪ :‬أخاف أن أموت بين النفي والثبات‪ .‬وهذه من زلت الشبلي التي تغفر له لصدق إيمانه‪ ،‬وقوة وجده‪،‬‬
‫وغلبة الحال عليه‪ ،‬فإنه كان ربما يجن ويذهب به إلى المارستان‪ ،‬و يحلق لحيته‪ .‬وله أشياء من هذا النمط التي ل‬
‫يجوز القتداء به فيها؛ وإن كان معذورًا أو مأجورًا‪ ،‬فإن العبد لو أراد أن يقول‪[ :‬ل إله إل الّ] ومات قبل كمالها لم‬
‫يضره ذلك شيئًا؛ إذ العمال بالنيات؛ بل يكتب له ما نواه‪.‬‬

‫وربما غل بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر السم المفرد للخاصة‪ ،‬وذكر الكلمة التامة للعامة‪ ،‬وربما قال بعضهم‪[ :‬‬
‫ل إله إل الّ] للمؤمنين‪ ،‬و[الّ] للعارفين‪ ،‬و[هو] للمحققين‪ ،‬وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على [الّ‪،‬‬
‫الّ‪ ،‬الّ]‪ .‬أو على [هو] أو [يا هو] أو [ل هو إل هو]‪.‬‬

‫وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك‪ .‬واستدل عليه تارة بوجد‪ ،‬وتارة برأي‪ ،‬وتارة بنقل مكذوب‪ ،‬كما‬
‫يروي بعضهم أن النبي صلى ال عليه وسلم لقن عليّا بن أبي طالب أن يقول‪[ :‬الّ‪ ،‬الّ‪ ،‬الّ]‪ .‬فقالها النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ثلثًا‪ .‬ثم أمر عليًا فقالها ثلثا‪ .‬وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث‪.‬‬
‫‪/‬وإنما كان تلقين النبي صلى ال عليه وسلم للذكر المأثور عنه‪ ،‬ورأس الذكر‪( :‬ل إله إل الّ)‪ ،‬وهي الكلمة التي‬
‫عرضها على عمه أبي طالب حين الموت‪ .‬وقال‪( :‬ياعم‪ ،‬قل‪ :‬ل إله إل الّ‪ ،‬كلمة أحاج لك بها عند الّ)‪ ،‬وقال‪( :‬إني‬
‫لعلم كلمة ل يقولها عبد عند الموت إل وجد روحه لها روحًا)‪ ،‬وقال‪( :‬من كان آخر كلمه ل إله إل الّ دخل الجنة)‪،‬‬
‫وقال‪( :‬من مات وهو يعلم أن ل إله إل الّ دخل الجنة)‪ ،‬وقال‪( :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل الّ‪،‬‬
‫وأن محمدًا رسول الّ‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها‪ ،‬وحسابهم على الّ) والحاديث كثيرة‬
‫في هذا المعنى‪.‬‬

‫وقد كتبت فيما تقدم من [القواعد] بعض ما يتعلق بهاتين [الكلمتين] العظيمتين الجامعتين الفارقتين‪ :‬شهادة أن ل إله‬
‫إل الّ‪ ،‬وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله صلى ال عليه وعلى آله وسلم تسليمًا‪.‬‬

‫فأما ذكر [السم المفرد] فلم يشرع بحال‪ ،‬وليس في الدلة الشرعية ما يدل على استحبابه‪.‬‬

‫لّ ثُ ّم ذَرْهُمْ} [النعام‪ ،]91 :‬ويتوهمون أن المراد‬ ‫وأما ما يتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى‪{ :‬قُلْ ا ُ‬
‫ق قَدْرِهِ ِإذْ قَالُوا‬
‫حّ‬‫قول هذا السم فخطأ واضح؛ ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الية‪ ،‬فإنه سبحانه قال‪َ { :‬ومَا قَدَرُوا الَّ َ‬
‫ن َكثِيرًا‬
‫خفُو َ‬
‫س ُت ْبدُو َنهَا َوتُ ْ‬
‫جعَلُونَهُ َقرَاطِي َ‬
‫س تَ ْ‬
‫ل مَنْ أَن َزلَ ا ْل ِكتَابَ اّلذِي جَا َء بِ ِه مُوسَى نُورًا وَ ُهدًى لِلنّا ِ‬
‫شيْ ٍء ُق ْ‬
‫مَا أَنزَلَ الُّ عَلَى بَشَ ٍر مِنْ َ‬
‫وَعُّل ْمتُ ْم مَا َل ْم َتعْلَمُوا َأ ْنتُمْ َو َل آبَا ُؤكُ ْم قُلْ الُّ} [النعام‪ ]91 :‬أي‪ :‬قل‪ :‬الّ أنزل الكتاب الذي جاء به موسى‪ .‬فهذا كلم تام‪،‬‬
‫وجملة إسمية مركبة من مبتدأ وخبر‪ ،‬حذف الخبر منها لدللة السؤال على الجواب‪.‬‬

‫لّ قُلْ َأ َفرََأ ْيتُمْ}‬


‫سمَاوَاتِ وَالَْرْضَ َل َيقُولُنّ ا ُ‬ ‫خلَقَ ال ّ‬‫وهذا قياس مطرد في مثل هذا في كلم العرب كقوله‪{ :‬وََلئِنْ سََأ ْلتَهُ ْم مَنْ َ‬
‫ت َبهْجَ ٍة مَا كَانَ َلكُمْ أَ ْ‬
‫ن‬ ‫ق ذَا َ‬‫حدَائِ َ‬
‫سمَا ِء مَا ًء َفَأ ْنبَ ْتنَا بِهِ َ‬ ‫الية [الزمر‪ ،]38 :‬وقوله‪َ{ :‬أمّنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْ ْرضَ وَأَنزَلَ َل ُك ْم مِنْ ال ّ‬
‫ُتنْ ِبتُوا شَ َجرَهَا َأئِلَ ٌه مَعَ الِّ} [النمل‪ ،]60 :‬وكذلك ما بعدها وقوله‪[ :‬قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم‪.‬‬
‫سيقولون الّ] على قراءة أبي عمرو‪ ،‬وتقول في الكلم‪ :‬من جاء؟ فتقول‪ :‬زيد‪ .‬ومن أكرمت ؟ فتقول‪ :‬زيدًا‪ .‬وبمن‬
‫مررت؟ فتقول‪ :‬بزيد‪ .‬فيذكرون السم الذي هو جواب من‪ ،‬ويحذفون المتصل به‪ ،‬لنه قد ذكر في السؤال مرة‪،‬‬
‫فيكرهون تكريره من غير فائدة بيان‪ ،‬لما في ذلك من التطويل والتكرير‪.‬‬

‫‪/‬وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلء الغالطين في قوله‪َ { :‬ومَا يَعَْل ُم تَأْوِيلَهُ ِإلّ الُّ} [آل عمران‪ ]7 :‬قال‬
‫المعنى‪ :‬وما يعلم تأويل (هو) أي اسم [هو] الذي يقال فيه‪[ :‬هو‪ ،‬هو]‪ .‬وصنف ابن عربي كتابًا في [الهو] فقلت له ـ‬
‫وأنا إذ ذاك صغير جدًا ـ‪ :‬لو كان كما تقول لكتبت في المصحف مفصولة(تأويل هو) ولم تكتب موصولة‪ ،‬وهذا الكلم‬
‫الذي قاله هذا معلوم الفساد بالضطرار‪ .‬وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلت الباطلة في الكتاب‬
‫والسنة‪.‬‬

‫وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحيحًا‪ ،‬لكن ل يدل عليه الكلم وليس هو مراد المتكلم‪ ،‬وقد ل يكون صحيحًا‪ .‬فيقع‬
‫الغلط تارة في الحكم‪ ،‬و تارة في الدليل كقول بعضهم‪{ :‬أَنْ رَآهُ ا ْس َتغْنَى}[العلق‪ ]7 :‬أي‪ :‬إن رأى ربه استغنى‪ ،‬والمعني‬
‫أنه ليطغى أن رأى نفسه استغنى‪ ،‬وكقول بعضهم‪( :‬فإن لم تكن تراه)‪ :‬يعني فإن فنيت عنك رأيت ربك‪ .‬وليس هذا‬
‫معنى الحديث‪ ،‬فإنه لو أريد هذا لقيل‪ :‬فإن لم تكن تره‪ .‬وقد قيل‪[ :‬تراه] ثم كيف يصنع بجواب الشرط ؟ وهو قوله‪:‬‬
‫فإنه يراك؛ ثم إنه على قولهم الباطل تكون كان تامة‪ .‬فالتقدير‪ :‬فإن لم تكن‪ :‬أي لم تقع‪ ،‬ولم تحصل‪ .‬وهذا تقدير محال‬
‫فإن العبد كائن موجود ليس بمعدوم‪ .‬ولو أريد فناؤه عن هواه أو فناء شهوده للغيار لم يعبر بنفي كونه؛ فإن هذا‬
‫محال‪ .‬ومتى كان المعنى صحيحًا والدللة ليست مرادة فقد يسمى ذلك [إشارة]‪.‬‬

‫‪/‬وقد أودع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي [حقائق التفسير] من هذا قطعة‪.‬‬

‫وليس المقصود الن الكلم في هذا فإنه باب آخر‪ ،‬وإنما الغرض بيان حكم ذكر السم وحده من غير كلم تام‪ ،‬وقد‬
‫ظهر بالدلة الشرعية أنه غير مستحب‪.‬‬

‫وكذلك بالدلة العقلية الذوقية؛ فإن السم وحده ل يعطي إيمانًا ول كفرًا‪ ،‬ولهدى ول ضللً‪ ،‬ول علمًا ول جهلً‪ ،‬وقد‬
‫يذكر الذاكر اسم نبي من النبياء‪ ،‬أو فرعون من الفراعنة‪ ،‬أو صنم من الصنام‪ ،‬ول يتعلق بمجرد اسمه حكم إل أن‬
‫يقرن به ما يدل على نفي أو إثبات‪ ،‬أو حب أو بغض‪ ،‬وقد يذكر الموجود والمعدوم‪.‬‬
‫ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أن السم وحده ل يحسن السكوت عليه‪ ،‬ول هو جملة تامة‪ ،‬ول‬
‫كلمًا مفيدًا ولهذا سمع بعض العرب مؤذنا يقول‪ :‬أشهد أن محمدًا رسول الّ‪ .‬قال‪ :‬فعل ماذا؟! فإنه لما نصب السم‬
‫صار صفة‪ ،‬والصفة من تمام السم الموصوف‪ ،‬فطلب بصحة طبعه الخبر المفيد؛ ولكن المؤذن قصد الخبر ولحن‪.‬‬

‫‪/‬ولو كرر النسان اسم [الّ] ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنًا‪ ،‬ولم يستحق ثواب الّ ول جنته؛ فإن الكفار من جميع‬
‫المم يذكرون السم مفردًا‪ ،‬سواء أقروا به وبوحدانيته أم ل؛ حتى إنه لما أمرنا بذكر اسمه كقوله‪َ { :‬فكُلُوا ِممّا َأمْ َ‬
‫سكْنَ‬
‫سمُ الِّ عََليْهِ} [النعام‪ ،]121 :‬وقوله‪َ { :‬‬
‫سبّحْ‬ ‫سمَ الِّ عََليْهِ} [المائدة‪ ،]4 :‬وقوله‪َ { :‬و َ‬
‫ل تَ ْأكُلُوا ِممّا َل ْم يُ ْذكَرْ ا ْ‬ ‫عََل ْيكُمْ وَا ْذكُرُوا ا ْ‬
‫ا ْسمَ َرّبكَ الَْعْلَى} [ العلى‪ ،]1 :‬وقوله‪{ :‬فَ َسبّحْ بِاسْمِ َرّبكَ ا ْلعَظِيمِ} [الواقعة‪ ،96 ،74 :‬الحاقة‪ ]52 :‬ونحو ذلك‪ :‬كان‬
‫ذكر اسمه بكلم تام مثل أن يقول‪ :‬بسم الّ‪ ،‬أو يقول‪ :‬سبحان ربي العلى‪ ،‬وسبحان ربي العظيم‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬ولم‬
‫يشرع ذكر السم المجرد قط‪ ،‬ول يحصل بذلك امتثال أمر‪ ،‬ول [حل صيد] ول ذبيحة ول غير ذلك‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬فالذاكر أو السامع للسم المجرد قد يحصل له وجد محبة‪ ،‬وتعظيم لّ‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ويثاب على ذلك الوجد المشروع‪ ،‬والحال اليماني‪ ،‬ل لن مجرد السم مستحب‪ ،‬وإذا سمع ذلك حرك‬
‫ساكن القلب‪ ،‬وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه‪ ،‬حتى قد يسمع المسلم من يشرك بالّ‪ ،‬أو يسبه فيثور‬
‫ل بقوة نفرته ‪ /‬وبغضه لما سمعه‪ ،‬وقد قال الصحابة للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن أحدنا‬
‫في قلبه حال وجد ومحبة ّ‬
‫ليجد في نفسه ما لن يحترق حتى يصير حممة‪ ،‬أو يخر من السماء إلى الرض‪ ،‬أحب إليه من أن يتكلم به‪ .‬قال‪( :‬أو‬
‫قد وجدتموه؟!) قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪( :‬ذاك صريح اليمان)‪ ،‬وفي رواية‪ :‬قال‪( :‬الحمد لّ الذي رد كيده إلى الوسوسة)‪.‬‬

‫فالشيطان لما قذف في قلوبهم وسوسة مذمومة تحرك اليمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك‪ ،‬والستعظام له‪ ،‬فكان‬
‫ذلك صريح اليمان‪ ،‬ول يقتضى ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأمورًا به‪.‬‬

‫والعبد ـ أيضًا ـ قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيمانِا وتقوى‪ ،‬وليس السبب‬
‫س ُبنَا الُّ َو ِنعْمَ الْ َوكِيلُ ‪.‬‬
‫ج َمعُوا َلكُ ْم فَاخْشَوْ ُه ْم فَزَادَهُمْ إِيمَانًا َوقَالُوا حَ ْ‬ ‫مأمورًا به؛ وقد قال تعالى‪{ :‬اّلذِينَ قَالَ َلهُمْ النّاسُ إِنّ النّا َ‬
‫س َقدْ َ‬
‫فَانْقََلبُوا ِب ِن ْعمَةٍ مِنْ الِّ َو َفضْلٍ} الية [آل عمران‪ ،]174 ،173 :‬فهذا اليمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو‬
‫ل بها‪ ،‬ول يكون الذنب مأمورًا به‪ ،‬وهذا باب واسع‬
‫وليس ذلك مشروعًا بل العبد يفعل ذنبًا فيورثه ذلك توبة يحبه ا ّ‬
‫جدًا‪.‬‬

‫ففرق بين أن يكون نفس السبب موجبًا للخير ومقتضيًا‪ ،‬وبين ‪ /‬أل يكون؛ وإنما نشأ الخير من المحل‪ .‬فالمأمور به من‬
‫الكلمات الطيبات والعمال الصالحات‪ ،‬هي موجبة للخير والرحمة والثواب‪ .‬وإذا اقترن بها قوة إيمان العبد وما يجده‬
‫من حلوة اليمان وتذوقه من طعمه تضاعف الخير والرحمة والبركة‪ ،‬وما ليس مأمورًا به‪ .‬إما من فعل العبد‪:‬‬
‫محرمه ومكروهه ومباحه‪ .‬وإما من فعل غيره معه‪ :‬من النس والجن‪ ،‬وإما من الحوادث السمائية التي يصيبه بها‬
‫الرب‪ ،‬إذا صادفت منه إيمانًا ويقينًا فحركت ذلك اليمان واليقين‪ ،‬وازداد العبد بذلك إيمانا لم يكن ذلك مما يوجب أن‬
‫تحب تلك السباب‪ ،‬أو تحمد أو يؤمر بها‪ ،‬إذا لم يكن كذلك‪ ،‬فإنها ليست مقتضية لذلك الخير‪ ،‬وإنما مقتضاها تحريك‬
‫الساكن وطال ما جرت إلى شر وضرر‪.‬‬

‫ويشبه هذا الباب ذكر الحب المطلق والشوق المطلق‪ ،‬والوجل المطلق‪ ،‬وما يتضمن ذلك من نظم ونثر‪ ،‬فإن هذا من‬
‫المجمل أيضًا‪ :‬يشترك فيه المؤمن والكافر‪ ،‬والبر والفاجر‪ ،‬فلذلك لم يشرعها الّ ورسوله‪ ،‬ولم يأمر بها فإن الّ إنما‬
‫يأمر بالخير والعمل الصالح والبر وذلك ليس من هذا الباب‪ ،‬فإن شعر المحبين مشترك بين محب اليمان ومحب‬
‫الوثان‪ ،‬ومحب النسوان‪ ،‬ومحب المردان‪ ،‬ومحب الوطان‪ ،‬ومحب الخدان‪.‬‬

‫‪/‬فثبت بما ذكرناه أن ذكر السم المجرد ليس مستحبًا‪ ،‬فضلً عن أن يكون هو ذكر الخاصة‪.‬‬

‫وأبعد من ذلك ذكر[السم المضمر] وهو‪[ :‬هو]‪ .‬فإن هذا بنفسه ل يدل على معين‪ ،‬وإنما هو بحسب ما يفسره من‬
‫مذكور أو معلوم فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته؛ ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق‪ .‬وقد‬
‫يقول‪[ :‬ل هو إل هو] ويسرى قلبه في [وحدة الوجود] ومذهب فرعون والسماعيلية وزنادقة هؤلء المتصوفة‬
‫المتأخرين بحيث يكون قوله‪[ :‬هو] كقوله‪[ :‬وجوده]‪ .‬وقد يعني بقوله‪[ :‬ل هو إل هو] أي‪ :‬أنه هو الوجود وأنه ما ثم‬
‫خلق أصلً‪ ،‬وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد‪ .‬كما بينته من مذهب( التحادية) في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ومن أسباب هذه العتقادات والحوال الفاسدة الخروج عن الشرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬فإن البدع هي‪ :‬مبادئ الكفر ومظان الكفر‪ .‬كما أن السنن المشروعة هي‪ :‬مظاهر اليمان‪ ،‬ومقوية‬
‫س َقدْ‬ ‫لليمان؛ فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية‪ .‬كما أخبر الّ عن زيادته في مثل قوله‪{ :‬اّلذِي َ‬
‫ن قَالَ َل ُهمْ النّاسُ إِنّ النّا َ‬
‫شوْهُ ْم فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [ آل عمران‪ ،]173 :‬وقوله‪َ{ :‬أّيكُمْ زَادَتْهُ َهذِهِ إِيمَانًا} [التوبة‪/ ،]124 :‬وقوله‪{ :‬هُوَ‬ ‫ج َمعُوا َلكُ ْم فَاخْ َ‬
‫َ‬
‫اّلذِي َأنْزَلَ ال ّسكِينَةَ فِي ُقلُوبِ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ ِليَ ْزدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَا ِنهِمْ} [الفتح‪ ]4 :‬وغير ذلك‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬إذا لم يكن هذا الذكر مشروعًا‪ .‬فهل هو مكروه؟‬

‫قلت‪ :‬أما في حق المغلوب فل يوصف بكراهة؛ فإنه قد يعرض للقلب أحوال يتعسر عليه فيها نطق اللسان مع امتلء‬
‫القلب بأحوال اليمان‪ ،‬وربما تيسر عليه ذكر السم المجرد دون الكلمة التامة وهؤلء يأتون على ما في قلوبهم من‬
‫أحوال اليمان وما قدروا عليه من نطق اللسان‪ ،‬فإن الناس في الذكر أربع طبقات‪.‬‬

‫إحداها‪ :‬الذكر بالقلب واللسان‪ ،‬وهو المأمور به‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬الذكر بالقلب فقط‪ ،‬فإن كان مع عجز اللسان فحسن وإن كان مع قدرته فترك للفضل‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬الذكر باللسان فقط‪ ،‬وهو كون لسانه رطبًا بذكر الّ‪ ،‬وفيه حكاية التي لم تجد الملئكة فيه خيرًا إل حركة لسانه‬
‫بذكر الّ‪ .‬ويقول الّ تعالى‪( :‬أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬عدم المرين وهو حال الخاسرين‪.‬‬

‫‪/‬وأما مع تيسر الكلمة التامة فالقتصار على مجرد السم مكررًا بدعة‪ ،‬والصل في البدع الكراهة‪.‬‬

‫وما نقل عن أبي يزيد والنوري والشبلي وغيرهم‪ :‬من ذكر السم المجرد‪ ،‬فمحمول على أنهم مغلوبون‪ ،‬فإن أحوالهم‬
‫تشهد بذلك‪ ،‬مع أن المشائخ الذين هم أصح من هؤلء وأكمل لم يذكروا إل الكلمة التامة‪ ،‬وعند التنازع يجب الرد إلى‬
‫ل والرسول‪ ،‬وليس فعل غير الرسول حجة على الطلق‪ .‬والّ أعلم‪.‬‬ ‫ا ّ‬

‫حمَهُ الُّ ‪:‬‬


‫َوقَالَ الشيْخُ ـ َر ِ‬

‫فَصــل‬

‫في الصراط المستقيم‪ ،‬في الزهد والعبادة والورع‪ ،‬في ترك المحرمات والشهوات‪ ،‬والقتصاد‪ ،‬في العبادة‪ .‬وإن لزوم‬
‫السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة‪ ،‬فإن أصحابها لبد أن يقعوا في الصار والغلل‪،‬‬
‫وإن كانوا متأولين‪ ،‬فلبد لهم من اتباع الهوى‪ ،‬ولهذا سمى أصحاب البدع أصحاب الهواء‪ ،‬فإن طريق السنة علم‬
‫وعدل وهدي‪ ،‬وفي البدعة جهل وظلم‪ ،‬وفيها اتباع الظن وما تهوى النفس‪.‬‬

‫والرسول‪ ،‬ما ضل وما غوى‪ ،‬والضلل‪ :‬مقرون بالغي‪ ،‬فكل غاو ضال‪ ،‬والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلل‪،‬‬
‫ن َب ْعدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا‬ ‫وهو مجانبة طريق الفجار وأهل البدع‪ ،‬كما كان السلف ينهون عنهما‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فَخَلَ َ‬
‫ف مِ ْ‬
‫ف يَ ْلقَوْنَ َغيّا} [مريم‪.]59 :‬‬
‫ت َفسَوْ َ‬
‫شهَوَا ِ‬
‫الصّلَةَ وَا ّتبَعُوا ال ّ‬

‫‪/‬والغي في الصل‪ :‬مصدر غوي يغوي غيًا‪ ،‬كما يقال‪ :‬لوى يلوي ليًا‪ .‬وهو ضد الرشد‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن يَرَوْا‬
‫ي َيتّ ِخذُوهُ َسبِيلً} [العراف‪.]146 :‬‬
‫سبِيلَ الغَ ّ‬
‫ن يَرَوْا َ‬
‫سبِيلً وَإِ ْ‬
‫خذُوهُ َ‬
‫ل َيتّ ِ‬
‫شدِ َ‬
‫سبِيلَ الرّ ْ‬
‫َ‬

‫والرشد‪ :‬العمل الذي ينفع صاحبه‪ ،‬والغي‪ :‬العمل الذي يضر صاحبه‪ ،‬فعمل الخير رشد‪ ،‬وعمل الشر غي‪ ،‬ولهذا قالت‬
‫الجن‪{ :‬وََأنّا َل َندْرِي أَ َشرّ أُرِيدَ ِبمَ ْن فِي الَْرْضِ أَمْ َأرَادَ ِبهِمْ َرّبهُمْ رَ َشدًا}[الجن‪ ،]10 :‬فقابلوا بين الشر وبين الرشد‪ ،‬وقال‬
‫ضرّا َولَ َر َشدًا}[الجن‪ ،]21 :‬ومنه الرشيد‪ ،‬الذي يسلم إليه ماله‪ .‬وهو الذي‬
‫في آخر السورة‪{ :‬قُلْ ِإنّي لَ َأمِْلكُ َلكُمْ َ‬
‫يصرف ماله فيما ينفع ل فيما يضر‪.‬‬

‫وقال الشيطان‪{ :‬لَُغْ ِو َيّنهُمْ أَ ْج َمعِينَ‪ِ .‬إلّ ِعبَا َدكَ ِم ْنهُمْ ا ْل ُمخْلَصِينَ} [ص‪ ،]83 ،82 :‬وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم‬
‫ج ْبتُمْ لِي}[إبراهيم‪ ،]22 :‬وقال‪َ { :‬وبُرّ َزتْ‬
‫ستَ َ‬ ‫فيطيعونه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا كَانَ لِي عََل ْيكُ ْم مِنْ سُلْطَانٍ ِإلّ أَ ْ‬
‫ن دَعَ ْو ُتكُ ْم فَا ْ‬
‫ج َمعُونَ} [الشعراء‪91 :‬ـ ‪ ،]95‬وقال‪{ :‬قَالَ اّلذِينَ‬ ‫جنُودُ ِإبْلِيسَ أَ ْ‬ ‫جحِيمُ لِ ْلغَاوِينَ} إلى أن قال‪َ { :‬ف ُك ْبكِبُوا فِيهَا هُمْ وَا ْلغَاوُونَ‪ .‬وَ ُ‬
‫الْ َ‬
‫حَقّ عََل ْيهِمْ الْقَ ْولُ َرّبنَا هَ ُؤلَءِ اّلذِينَ أَغْ َو ْينَا أَغْ َو ْينَاهُ ْم َكمَا غَ َو ْينَا}[القصص‪ ،]63 :‬وقال‪{ :‬مَا َ‬
‫ضلّ صَا ِحُبكُمْ َومَا غَوَى} [النجم‪:‬‬
‫‪.]2‬‬

‫ثم إن الغي‪ ،‬إذا كان اسمًا لعمل الشر الذي يضر صاحبه‪ ،‬فإن عاقبة العمل أيضًا تسمى غيًا‪ ،‬كما أن عاقبة الخير‬
‫تسمى رشدًا‪ ،‬كما ‪ /‬يسمى عاقبة الشر شرًا‪ ،‬وعاقبة الخير خيرًا‪ ،‬وعاقبة الحسنات حسنات‪ ،‬وعاقبة السيئات سيئات‪.‬‬

‫فالحسنات والسيئات‪ ،‬في كتاب الّ يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر‪ ،‬كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من‬
‫جنس العمل‪ ،‬فمن عمل خيرًا وحسنات لقي خيرًا وحسنات‪ ،‬ومن عمل شرًا وسيئات لقي شرًا وسيئات‪ .‬كذلك من عمل‬
‫غيًا لقى غيًا‪ ،‬وترك الصلة واتباع الشهوات غي يلقي صاحبه غيًا‪ .‬فلهذا قال الزمخشري‪ :‬كل شر عند العرب غي‪،‬‬
‫وكل خير رشاد‪ .‬كما قيل‪:‬‬

‫فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو ل يعدم على الغي لئمًا‬

‫وقال الزجاج‪ :‬جزاؤه غي‪ ،‬لقوله‪{ :‬يَلْقَ َأثَامًا} [الفرقان‪ ،]68 :‬أي مجازات آثام‪ .‬وفي الحديث المأثور‪ :‬إن غيا واد في‬
‫جهنم تستعيذ منه أوديتها‪ ،‬وهذا تعبير عن ملقات الشر‪ ،‬وقال سبحانه‪َ{ :‬أضَاعُوا الصّلَةَ وَاتّ َبعُوا ال ّشهَوَاتِ}[مريم‪]59 :‬‬
‫ي يُرِيدُونَ وَ ْجهَهُ} [النعام‪:‬‬ ‫‪ ،‬فإن الصلة فيها إرادة وجه الّ‪ .‬كما قال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ل تَطْ ُردْ اّلذِينَ َيدْعُونَ َرّبهُ ْم بِا ْل َغدَاةِ وَا ْلعَشِ ّ‬
‫‪ ،]52‬أي يصلون صلة الفجر والعصر‪ .‬والداعي يقصد ربه ويريده‪ ،‬فتكون القلوب في هذه الشياء مريدة لربها‬
‫محبة له‪.‬‬

‫‪/‬واتباع الشهوات‪ :‬هو اتباع ما تشتهيه النفس‪ ،‬فإن الشهوات‪ ،‬جمع شهوة‪ ،‬والشهوة هي في الصل مصدر‪ ،‬ويسمي‬
‫المشتهي شهوة‪ .‬تسمية للمفعول باسم المصدر‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬ويُرِيدُ اّلذِينَ َيّت ِبعُونَ ال ّشهَوَاتِ أَنْ َتمِيلُوا َميْلً َعظِيمًا} [النساء‪:‬‬
‫‪ ]27‬فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات‪ ،‬فإنه يريد أن يتوب علينا‪ ،‬أي فالّ يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به‪{ ،‬‬
‫َويُرِيدُ اّلذِينَ َيّت ِبعُونَ ال ّشهَوَاتِ} وهم الغاوون{أَ ْن َتمِيلُوا َميْلً عَظِيمًا} يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات‬
‫عدولً عظيمًا‪ ،‬فإن أصل الميل العدول‪ ،‬فلبد منه للذين يتبعون الشهوات‪ ،‬كما قال صلى ال عليه وسلم‪( :‬استقيموا‬
‫ولن تحصوا‪ ،‬واعلموا أن خير أعمالكم الصلة‪ ،‬ول يحافظ على الوضوء إل مؤمن) رواه أحمد وابن ماجه من حديث‬
‫ثوبان‪.‬‬

‫ل َتمِيلُوا كُلّ‬
‫صتُ ْم فَ َ‬
‫ن َتعْدِلُوا َبيْنَ النّسَاءِ وَلَوْ حَرَ ْ‬
‫ستَطِيعُوا أَ ْ‬ ‫فأخبر أنا ل نطيق الستقامة أو ثوابها إذا استقمنا‪ ،‬وقال‪{ :‬وَلَ ْ‬
‫ن تَ ْ‬
‫ا ْل َميْ ِل َفتَذَرُوهَا كَا ْل ُمعَلّقَةِ} [النساء‪ ،]129 :‬فقوله‪ :‬كل الميل أي‪ :‬يريد نهاية الميل‪ ،‬يريد الزيغ عن الطريق‪ ،‬والعدول عن‬
‫سواء الصراط إلى نهاية الشر‪ ،‬بل إذا بليت بذلك فتوسط‪ ،‬وعد إلى الطريق بالتوبة‪.‬‬

‫كما في الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته‪ .‬كذلك‬
‫عدّتْ‬
‫سمَاوَاتُ وَالَْرْضُ أُ ِ‬
‫ضهَا ال ّ‬ ‫المؤمن يحول ثم يرجع ‪ /‬إلى ربه)‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬وسَارِعُوا إِلَى َمغْ ِفرَ ٍة مِنْ َرّبكُمْ وَ َ‬
‫جنّةٍ عَ ْر ُ‬
‫لِ ْل ُمتّقِينَ} إلى قـوله‪َ { :‬و ِنعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ} [آل عمران‪133 :‬ـ ‪ ،]136‬فلم يقل‪ :‬ل يظلمون ول يذنبون‪ ،‬بل قال‪ِ{ :‬إذَا‬
‫َفعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظََلمُوا َأنْ ُف َسهُمْ} [آل عمران‪ ،]135 :‬أي بذنب آخر غير الفاحشة‪ ،‬فعطف العام على الخاص‪ .‬كما قال‬
‫ت نَ ْفسِي} [النمل‪ ،]44 :‬وقال تعالي‬ ‫ت نَفْسِي} [القصص‪ ،]16 :‬وقالت بلقيس‪{ :‬رَبّ ِإنّي ظََلمْ ُ‬ ‫موسى‪َ { :‬ربّ ِإنّي َ‬
‫ظَلمْ ُ‬
‫عمومًا عن أهل القرى المهلكة‪َ { :‬ومَا ظََل ْمنَا ُهمْ وََلكِنْ ظََلمُوا أَنفُ َسهُمْ} [هود‪ ،]101 :‬فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا‬
‫عنه‪ ،‬وبعصيانهم لنبيائهم‪ ،‬وبتركهم التوبة إلى ربهم‪.‬‬

‫لّ يُرِيدُ أَ ْن َيتُوبَ عََل ْيكُمْ} [النساء‪،]27 :‬‬


‫س َتغْفَرُوا ِلذُنُو ِبهِمْ} [آل عمران‪]135 :‬؛ ولهذا قال‪{ :‬وَا ُ‬ ‫وقوله تعالى‪َ { :‬ذكَرُوا ا َ‬
‫لّ فَا ْ‬
‫ضعِيفًا}[النساء‪ .]28 :‬قال مجاهد وغيره‪ :‬يتبعون الشهوات الزنا‪ ،‬وقال‬ ‫عنْكُمْ َوخُلِقَ الِْنسَانُ َ‬ ‫ن يُخَفّفَ َ‬ ‫ثم قال‪{ :‬يُرِيدُ الُّ أَ ْ‬
‫ابن زيد‪ :‬هم أهل الباطل‪ .‬وقال السدي‪ :‬هم اليهود والنصارى والجميع حق‪ ،‬فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر‪ ،‬وقد‬
‫يكون مع العتراف بأنها معصية‪.‬‬

‫ثم ذكر أنه خلق النسان ضعيفًا‪ ،‬وسياق الكلم يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات‪ .‬فلبد له من شهوة مباحة‬
‫يستغنى بها عن المحرمة‪ ،‬ولهذا قال طاوس ومقاتل‪ :‬ضعيف في قلة الصبر عن النساء‪ ،‬وقال الزجاج وابن كيسان‪:‬‬
‫ضعيف العزم عن قهر الهوى‪ .‬وقيل‪ :‬ضعيف في أصل الخلقة‪ ،‬لنه خلق من ماء مهين‪ ،‬يروي ذلك ‪ /‬عن الحسن‪،‬‬
‫لكن لبد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر؛ ليناسب ما ذكر في الية‪ ،‬فإنه قال‪{ :‬يُرِيدُ الُّ أَ ْن يُ َخفّفَ َع ْنكُمْ} وهو‬
‫شيَ‬‫تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ول تصبروا عنه‪ .‬كما أباح نكاح الفتيات‪ ،‬وقد قال قبل ذلك‪ِ{ :‬لمَنْ خَ ِ‬
‫صبِرُوا َخيْرٌ َلكُمْ وَالُّ َغفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء‪.]25 :‬‬
‫ن تَ ْ‬
‫ت ِم ْنكُمْ وَأَ ْ‬
‫ا ْل َعنَ َ‬

‫صبِرُوا َخيْرٌ َلكُمْ} [النساء‪،]25 :‬‬ ‫فهو ـ سبحانه ـ مع إباحته نكاح الماء عند عدم الطول‪ ،‬وخشية العنت‪ ،‬قال‪{ :‬وَأَ ْ‬
‫ن تَ ْ‬
‫فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت‪ ،‬وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة‪ ،‬فإن ذلك ل يمكن‬
‫الصبر عنه‪.‬‬

‫وكذلك من أباح الستمناء‪ ،‬عند الضرورة فالصبر عن الستمناء أفضل‪ ،‬فقد روى عن ابن عباس‪ :‬أن نكاح الماء‬
‫خير منه‪ ،‬وهو خير من الزنا‪ ،‬فإذا كان الصبر عن نكاح الماء أفضل فعن الستمناء بطريق الولى أفضل‪.‬‬

‫ل سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقًا‪ ،‬وهو أحد القوال في مذهب أحمد‪ .‬واختاره ابن عقيل‬
‫في المفردات والمشهور عنه ـ يعني عن أحمد ـ أنه محرم إل إذا خشي العنت‪ .‬والثالث أنه مكروه إل إذا خشي العنت‪.‬‬
‫صبِرُوا َخيْرٌ َلكُمْ} ففيه أولى‪ .‬وذلك يدل على أن الصبر عن كلهما ممكن‪.‬‬ ‫فإذا كان الّ قد قال في نكاح الماء‪{ :‬وَأَ ْ‬
‫ن تَ ْ‬

‫عنْكُمْ َوخُلِقَ الِْنسَانُ‬ ‫فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه‪ ،‬فذلك لتسهيل التكليـف‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬يُرِيدُ الُّ أَ ْ‬
‫ن يُخَفّفَ َ‬
‫ضعِيفًا}‪.‬‬
‫َ‬

‫و الستمناء ل يباح عند أكثر العلماء سلفًا وخلفًا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك‪ .‬وكلم ابن عباس وما روى عن‬
‫أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت‪ ،‬وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك؛ فأبيح له ذلك‬
‫لتكسير شدة عنته وشهوته‪.‬‬

‫وأما من فعل ذلك تلذذًا أو تذكرًا أو عادة‪ ،‬بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها‪ .‬فهذا كله محرم ل يقول‬
‫به أحمد‪ ،‬ول غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد والصبر عن هذا من الواجبات ل من المستحبات‪.‬‬

‫ن ِنكَاحًا‬
‫جدُو َ‬
‫ن لَ يَ ِ‬ ‫وأما الصبر عن المحرمات فواجب‪ ،‬وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وَ ْليَ ْ‬
‫س َتعْفِفْ اّلذِي َ‬
‫ضلِهِ} [النور‪ ،]33 :‬و الستعفاف‪ :‬هو ترك المنهي عنه‪ .‬كما في الحديث ‪ /‬الصحيح عن أبي سعيد‬ ‫ن فَ ْ‬
‫لّ مِ ْ‬
‫حتّى ُي ْغنِ َيهُمْ ا ُ‬
‫َ‬
‫الخدري عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬من يستعفف يعفه الّ‪ ،‬ومن يستغن يغنه الّ‪ ،‬ومن يتصبر يصبره‬
‫الّ‪ ،‬وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)‪.‬‬

‫فالمستغني‪ ،‬ل يستشرف بقلبه‪ .‬و المستعف‪ :‬هو الذي ل يسأل الناس بلسانه‪ ،‬والمتصبر‪ :‬هو الذي ل يتكلف الصبر‪.‬‬
‫فأخبر أنه من يتصبر يصبره الّ‪ .‬وهذا كأنه في سياق الصبرعلى الفاقة‪ ،‬بأن يصبر على مرارة الحاجة‪ ،‬ل يجزع مما‬
‫ابتلى به من الفقر‪ ،‬وهو الصبر في البأساء والضراء‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وَالصّابِرِي َن فِي ا ْلبَ ْأسَاءِ وَالضّرّاءِ وَحِينَ ا ْلبَ ْأسِ} [البقرة‪:‬‬
‫‪. ]177‬‬

‫والضراء‪ :‬المرض‪ .‬وهو الصبر على ما ابتلى به من حاجة ومرض وخوف‪ .‬والصبر على ما ابتلى به باختياره‪،‬‬
‫كالجهاد‪ ،‬فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره‪ ،‬ولذلك إذا ابتلى بالعنت في‬
‫الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده؛ لن هذا الصبر من تمام الجهاد‪ .‬وكذلك لو ابتلى في الجهاد‬
‫بفاقة‪ ،‬أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل‪ .‬كما قد بسط هذا في مواضع‪.‬‬
‫وكذلك ما يؤذي النسان به في فعله للطاعات‪ ،‬كالصلة‪ ،‬والمر بالمعروف‪ / ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬وطلب العلم من‬
‫المصائب‪ ،‬فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلى به بدون ذلك‪ ،‬وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات‪ :‬من‬
‫رئاسة‪ ،‬وأخذ مال‪ ،‬وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ماهو دون ذلك‪ ،‬فإن أعمال البر‪ ،‬كلما عظمت‬
‫كان الصبر عليها أعظم مما دونهما‪.‬‬

‫فإن في العلم‪ ،‬والمارة‪ ،‬والجهاد‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والصلة‪ ،‬والحج‪ ،‬والصوم‪ ،‬والزكاة‪ ،‬من‬
‫الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها‪ .‬ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور‪ .‬فإذا كانت النفس‬
‫غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه‪ ،‬كما تطمع مع القدرة‪ ،‬فإنها مع القدرة تطلب تلك المور المحرمة‪ ،‬بخلف حالها‬
‫بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد‪ ،‬بل هو من أفضل الجهاد‪ .‬وأكمل من ثلثة أوجه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن الصبر عن المحرمات‪ ،‬أفضل من الصبر على المصائب‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن ترك المحرمات مع القدرة عليها‪ ،‬وطلب النفس لها‪ ،‬أفضل من تركها بدون ذلك‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني ـ كمن ‪ /‬خرج لصلة‪ ،‬أو طلب علم‪ ،‬أو جهاد‪ ،‬فابتلى بما يميل إليه‬
‫من ذلك فإن صبره عن ذلك ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور‪ ،‬بخلف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل‬
‫صالح‪ ،‬ولهذا كان يونس ابن عبيد يوصي بثلث يقول‪ :‬ل تدخل على سلطان‪ ،‬وإن قلت‪ :‬آمره بطاعة الّ‪ .‬ول تدخل‬
‫علي امرأة‪ :‬وإن قلت‪ :‬أعلمها كتاب الّ‪ ،‬ول تصغ أذنك إلى صاحب بدعة‪ ،‬وإن قلت أرد عليه‪.‬‬

‫فأمره بالحتراز من أسباب الفتنة‪ ،‬فإن النسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ول يسلم‪.‬‬

‫ل ويصبر ويخلص ويجاهد‪.‬‬ ‫فإذا قدر أنه ابتلى بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره‪ ،‬وابتلى‪ ،‬فعليه أن يتقى ا ّ‬
‫وصبره على ذلك وسلمته مع قيامه بالواجب‪ ،‬من أفضل العمال‪ ،‬كمن تولى ولية وعدل فيها‪ ،‬أو رد على أصحاب‬
‫البدع بالسنة المحضة‪ ،‬ولم يفتنوه‪ ،‬أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة‪.‬‬

‫لكن الّ إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه‪ ،‬وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلء وكله الّ إلى نفسه‪ .‬كما قال النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة‪( :‬ل تسأل المارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة‪ ،‬وكلت إليها‪ .‬وإن أعطيتها عن‬
‫غير مسألة‪ ،‬أعنت عليها) وكذلك ‪/‬قال في الطاعون‪( :‬إذا وقع ببلد وأنتم بها‪ ،‬فل تخرجوا فرارًا منه‪ ،‬وإذا سمعتم به‬
‫بأرض فل تقدموا عليه) فمن فعل ما أمره الّ به فعرضت له فتنة من غير اختياره‪ ،‬فإن الّ يعينه عليها بخلف من‬
‫تعرض لها‪.‬‬

‫لكن باب التوبة مفتوح‪ ،‬فإن الرجل قد يسأل المارة فيوكل إليها‪ ،‬ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب الّ عليه ويعينه‪ ،‬إما‬
‫ل تَ ْقنَطُوا‬
‫سهِ ْم َ‬
‫علَى َأنْ ُف ِ‬
‫عبَادِي اّلذِينَ أَسْ َرفُوا َ‬ ‫على إقامة الواجب‪ ،‬وإما على الخلص منها‪ ،‬وكذلك سائر الفتن‪ .‬كماقال‪{ :‬قُ ْ‬
‫ل يَا ِ‬
‫لّ َيغْ ِف ُر ال ّذنُوبَ َجمِيعًا} [الزمر‪ ،]53 :‬وهذه المور تحتاج إلى بسط ل يتسع له هذا الموضع‪.‬‬ ‫حمَةِ الِّ إِنّ ا َ‬
‫مِنْ رَ ْ‬

‫والمقصود أن الّ سبحانه يريد أن يبين لنا‪ ،‬ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهم‪{ :‬أُ ْوَل ِئكَ اّلذِينَ َهدَى ا ُ‬
‫لّ َف ِبهُدَاهُ ْم‬
‫ا ْقتَدِهِ}[النعام‪ ،]90 :‬وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله‪{ :‬ا ْه ِدنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْ‬
‫ستَقِيمَ ‪ .‬صِرَاطَ اّلذِينَ َأ ْن َعمْتَ‬
‫عََل ْيهِمْ} [الفاتحة‪ ]7 ،6 :‬فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلء‪ ،‬وهو سبيل من أناب إليه‪ ،‬فذكر هنا ثلثة أمور‪:‬‬
‫البيان‪ ،‬والهداية‪ ،‬والتوبة‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل‪ ،‬أي‪ :‬يريد أن يبين لنا سنن هؤلء وهؤلء‪ ،‬فيهدي عباده المؤمنين‬
‫إلى الحق‪ / ،‬ويضل آخرين‪ ،‬فإن الهدى والضلل إنما يكون بعد البيان‪ .‬كما قال‪َ { :‬ومَا َأرْسَ ْلنَا مِنْ َرسُولٍ ِإ ّ‬
‫ل بِلِسَانِ َق ْومِهِ‬
‫حكِيمُ}[إبراهيم‪ ،]4 :‬وقال‪َ { :‬ومَا كَانَ الُّ ِليُضِ ّ‬
‫ل َق ْومًا َبعْدَ ِإذْ َهدَاهُمْ‬ ‫لّ مَنْ يَشَاءُ َو َي ْهدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫ِل ُيبَيّنَ َلهُ ْم َفيُضِلّ ا ُ‬
‫َحتّى ُي َبيّنَ َلهُ ْم مَا َيتّقُونَ}[التوبة‪.]115 :‬‬
‫فتكون {سُنَنَ} [النساء‪ ،]26 :‬متعلقًا بيبين يعني سنن أهل الباطل ل بيهدي‪ ،‬وأهل الحق متعلق بقوله‪ :‬ويهديكم‪ .‬وقال‬
‫الزجاج‪ :‬السنن الطرق‪ ،‬فالمعنى يدلكم على طاعته‪ ،‬كما دل النبياء وتابعيهم‪ .‬وهذا أولى‪ ،‬لنه قد يقدم فعلين فل يجعل‬
‫طرًا} [الكهف‪.]96 :‬‬ ‫الول هوالعامل وحده‪ ،‬بل العامل إما الثاني وحده‪ .‬وإما الثنان‪ ،‬كقوله‪{ :‬آتُونِي ُأ ْف ِرغْ عََليْ ِه قِ ْ‬

‫أو إذا أريد هذا التقدير‪ :‬يبين لكم سنن الذين من قبلكم‪ ،‬ويهديكم سننًا‪ .‬فدل علي أنه يهدينا سننهم‪ .‬والمراد بذلك سنن‬
‫ف كَانَ عَا ِقبَةُ ا ْل ُمكَ ّذبِينَ} [‬ ‫سنَنٌ} فإنه قال بعدها‪{ :‬فَسِيرُوا فِي الَْ ْر ِ‬
‫ض فَانْظُروا كَيْ َ‬ ‫ن َقبِْلكُمْ ُ‬
‫ت مِ ْ‬ ‫أهل الحق‪ ،‬بخلف قوله‪َ { :‬قدْ َ‬
‫خلَ ْ‬
‫آل عمران‪ ،]137 :‬فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان ‪ ،‬وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين‬
‫من قبلنا‪ ،‬وهم الذين أنعم الّ عليهم‪ .‬وذكر ثلثة أمور‪ :‬التبيين‪ ،‬والهدى‪ ،‬والتوبة‪.‬‬

‫لن النسان أول يحتاج إلى معرفة الخير والشر‪ ،‬وما أمر به وما نهى عنه‪ ،‬ثم يحتاج بعد ذلك ‪ /‬إلى أن يهدي‪ ،‬فيقصد‬
‫الحق ويعمل به دون الباطل‪ .‬وهو سنن النبياء والصالحين‪ .‬ثم لبد له بعد ذلك من الذنوب‪ ،‬فيريد أن يتطهر منها‬
‫بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به‪ .‬وإلى التوبة مع ذلك‪ .‬فلبد له من التقصير‪ ،‬أو الغفلة في سلوك تلك السنن‬
‫التي هداه الّ إليها‪ .‬فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن‪ .‬وهذه السنن‪ :‬تدخل فيها الواجبات‬
‫والمستحبات‪ ،‬فلبد للسالك فيها من تقصير وغفلة‪ ،‬فيستغفر الّ‪ ،‬ويتوب إليه‪ .‬فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد ل‬
‫يستطيع أن يقوم لّ بالحق الذي أوجبه عليه‪ ،‬فما يسعه إل الستغفار والتوبة عقيب كل طاعة‪.‬‬

‫وقد يقال‪ :‬الهداية‪ ،‬هنا البيان والتعريف‪ ،‬أي‪ :‬يعرفكم سنن الذين من قبلكم‪ ،‬من أهل السعادة والشقاوة؛ لتتبعوا هذه‬
‫وتجتنبوا هذه‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وَ َه َد ْينَاهُ النّ ْج َديْنِ} [البلد‪ ،]10 :‬قال علي وابن مسعود‪ :‬سبيل الخير والشر‪ .‬وعن ابن‬
‫عباس‪ :‬سبيل الهدى والضلل‪ .‬وقال مجاهد‪ :‬سبيل السعادة والشقاوة‪ ،‬أي فطرناه على ذلك‪ ،‬وعرفناه إياه‪ ،‬والجميع‬
‫واحد‪ .‬والنجدان الطريقان الواضحان‪ ،‬والنجد المرتفع من الرض‪ ،‬فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له‪،‬‬
‫كتبيين الطريقين العاليين‪ ،‬لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الية يشترك ‪ /‬فيه بنو آدم‪ ،‬ويعرفونه بعقولهم‪.‬‬

‫ب نُوحِيهَا ِإَل ْيكَ مَا كُنتَ‬ ‫وأما طريق من تقدم من النبياء‪ ،‬فل بد من إخبار الّ تعالى عنها‪ ،‬كما قال‪{ :‬تِ ْل َ‬
‫ك مِنْ َأنْبَاءِ ا ْل َغيْ ِ‬
‫َتعَْلمُهَا َأ ْنتَ َولَ َق ْو ُمكَ مِ ْن َقبْلِ َهذَا}[هود‪ ،]49 :‬لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى‪ ،‬لقال‪ :‬يريد الّ ليبين لكم‬
‫سنن الذين من قبلكم‪ ،‬ولم يحتج أن يذكر الهدى‪ ،‬إذا كان المعنى واحدًا‪ ،‬فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدي‪ ،‬علم أن هذا‬
‫غير هذا‪ ،‬فالتبيين‪ :‬التعريف والتعليم‪ ،‬والهدى‪ :‬هو المر والنهي‪ ،‬وهو الدعاء إلى الخير‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬وَِلكُ ّ‬
‫ل َقوْمٍ‬
‫ط مُ ْس َتقِيمٍ} [الشورى‪ ،]52 :‬أي‬ ‫هَادٍ } [الرعد‪ ،]7 :‬أي داع يدعوهم إلى الخير‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬وَِإّنكَ َل َت ْهدِي إِلَى صِرَا ٍ‬
‫تدعوهم إليه دعاء تعليم‪.‬‬

‫وهداه هنا يتعدى بنفسه‪ ،‬لن التقدير‪ :‬ويلزمكم سنن الذين من قبلكم‪ ،‬فل تعدلوا عنها‪ ،‬وليس المراد هنا بالهدى اللهام‪.‬‬
‫كما في قوله‪{ :‬ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْس َتقِيمَ} لكونه لو أراد ذلك لوقع‪ ،‬ولم يكن فينا ضال‪ ،‬بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى‬
‫المحبة والرضا‪ ،‬ولهذا قال الزجاج‪ :‬يريد أن يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم‪ ،‬فعلق الرادة بفعل نفسه‪ .‬فإن الزجاج‬
‫ظن الرادة في القرآن ليست إل كذلك‪ ،‬وليس كما ظن‪ ،‬بل الرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك‪ ،‬فإنه ‪ /‬ما شاء‬
‫كان وما لم يشأ لم يكن‪ .‬وأما الرادة الموجودة في أمره وشرعه‪ ،‬فهو كقوله‪{ :‬مَا يُرِيدُ الُّ ِليَ ْ‬
‫جعَلَ عََل ْيكُ ْم مِنْ حَ َرجٍ وََلكِنْ‬
‫طهّ َركُمْ} الية [المائدة‪ ،]6 :‬وقوله‪ِ{ :‬إّنمَا يُرِيدُ الُّ ِليُذْهِبَ َع ْنكُمْ الرّ ْجسَ أَهْلَ ا ْل َبيْتِ} [الحزاب‪ ،]33 :‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫يُرِيدُ ِليُ َ‬

‫فهذه إرادته لما أمر به‪ ،‬بمعنى أنه يحبه ويرضاه‪ ،‬ويثيب فاعله‪ ،‬ل بمعنى أنه أراد أن يخلقه‪ ،‬فيكون كما قال‪َ { :‬فمَنْ‬
‫ضيّقًا حَرَجًا} الية [النعام‪. ]125 :‬‬
‫صدْرَهُ َ‬
‫جعَلْ َ‬
‫ن يُ ِردْ أَنْ ُيضِلّ ُه يَ ْ‬
‫لْسْلَمِ َومَ ْ‬
‫صدْرَهُ لِ ِ‬
‫ن يَه ِديَهُ يَشْ َرحْ َ‬
‫يُ ِردْ الُّ أَ ْ‬

‫لّ يُرِيدُ أَ ْن يُغْ ِو َيكُمْ هُوَ َرّبكُمْ َوإَِليْهِ تُ ْر َجعُونَ} [هود‪.]34 :‬‬
‫ن كَانَ ا ُ‬ ‫وكما قال نوح‪َ { :‬و َ‬
‫ل يَن َف ُعكُ ْم نُصْحِي إِنْ أَ َردْتُ أَنْ أَنصَحَ َلكُمْ إِ ْ‬

‫فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه‪ .‬كما يقول المسلمون‪ :‬ما شاء الّ كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬وهذه الرادة متعلقة بكل‬
‫حادث‪ ،‬والرادة الشرعية المرية ل تتعلق إل بالطاعات‪ ،‬كما يقول الناس لمن يفعل القبيح‪ :‬يفعل شيئًا ما يريده الّ‪،‬‬
‫مع قولهم‪ :‬ما شاء الّ كان وما لم يشأ لم يكن‪ .‬فإن هذه الرادة نوعان‪ .‬كما قد بسط في موضع آخر‪.‬‬
‫وقد يراد بالهدى اللهام‪ ،‬ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين ‪ /‬هداهم الّ إلى طاعته‪ ،‬فإن الّ تعالى أراد أن‬
‫يتوب عليهم ويهديهم‪ ،‬فاهتدوا‪ ،‬ولول إرادته لهم ذلك لم يهتدوا‪ ،‬كما قالوا‪{ :‬ا ْل َ‬
‫ح ْمدُ لِّ اّلذِي َهدَانَا ِل َهذَا َومَا ُكنّا ِل َن ْهتَدِيَ لَ ْولَ‬
‫أَنْ َهدَانَا الُّ َل َقدْ جَا َءتْ ُرسُلُ َرّبنَا بِا ْلحَقّ} [العراف‪.]43 :‬‬

‫لكن الخطاب في الية لجميع المسلمين‪ ،‬كالخطاب بآية الوضوء‪ .‬والخطاب لهل البيت بقوله‪ِ{ :‬إّنمَا يُرِيدُ الُّ ِليُذْهِبَ‬
‫ع ْنكُمْ الرّجْسَ} [الحزاب‪]33 :‬؛ ولهذا يهدد من لم يطعه‪ .‬وكما في الصيام‪{ :‬يُرِيدُ ا ُ‬
‫لّ ِبكُمْ ا ْليُ ْسرَ َولَ يُرِي ُد ِبكُمْ ا ْلعُسْرَ} [‬ ‫َ‬
‫البقرة‪ ،]185 :‬فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا‪ ،‬ل إرادة الخلق المستلزمة للمراد‪ ،‬لنه لو كان كذلك‬
‫لم تكن الية خطابًا‪ ،‬إل لمن أخذ باليسر‪ ،‬ولمن فعل ما أمر به‪ ،‬وكان من تخلف عن ذلك ل يدخل تحت المر والنهي‬
‫الذي في الية‪ ،‬وليس كذلك‪ .‬بل الحكم الشرعي لزم لجميع المسلمين‪ ،‬فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب‪ ،‬والذين‬
‫أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم‪ ،‬هدي اللهام‪ ،‬والعانة بأن جعلهم مهتدين‪ .‬كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليًا‪،‬‬
‫والمسلم مسلمًا‪.‬‬

‫ولو كانت الرادة هنا من النسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقل‪َ { :‬ويُرِيدُ اّلذِي َن َيتّ ِبعُونَ ال ّشهَوَاتِ أَ ْن َتمِيلُوا مَيْلً عَظِيمًا} [‬
‫النساء‪ ،]27 :‬فإنه حينئذ ل تأثير لرادة هؤلء‪ ،‬بل وجودها وعدمها سواء‪ .‬كما في قول نوح‪َ { :‬و َ‬
‫ل يَن َف ُعكُ ْم نُصْحِي إِنْ‬
‫لّ يُرِيدُ أَنْ ُيغْ ِو َيكُمْ} [هود‪ ،]34 :‬فإن ما شاء الّ كان‪ ،‬وإن لم يشأ الناس‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪،‬‬ ‫ن كَانَ ا ُ‬
‫أَ َردْتُ أَنْ أَنصَحَ َلكُمْ إِ ْ‬
‫وإن شاءه الناس‪.‬‬

‫والمقصود بالية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات‪ .‬والمعنى‪ :‬إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم‪ ،‬وهؤلء‬
‫يريدون لكم الشر الذي يضركم‪ ،‬كالشيطان الذي يريد أن يغويكم‪ ،‬وأتباعه هم أهل الشهوات فل تتخذوه وذريته أولياء‬
‫ل يَضِلّ َولَ‬
‫ي فَ َ‬ ‫من دوني‪ ،‬بل اسلكوا طرق الهدي والرشاد‪ ،‬وإياكم وطرق الغي والفساد‪ .‬كما قال تعالى‪َ { :‬فمَ ْ‬
‫ن ا ّتبَعَ ُهدَا َ‬
‫يَشْقَى} اليات [طه‪.]123 :‬‬

‫شهَوَاتِ} [النساء‪ ،]27 :‬في الموضعين‪ ،‬فاتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬أّنمَا‬ ‫وقوله‪{ :‬يَ ّت ِبعُونَ ال ّ‬
‫سدَتْ‬ ‫ل ِممّنْ ا ّتبَعَ هَوَا ُه ِب َغيْرِ ُهدًى مِنْ الِّ} [القصص‪ ،]50 :‬وقال‪{ :‬وََل ْو ا ّتبَعَ ا ْلحَقّ أَهْوَاءَ ُهمْ لَ َف َ‬
‫ضّ‬‫َيتّ ِبعُونَ أَهْوَاءَهُمْ َومَنْ أَ َ‬
‫ال ّسمَاوَاتُ وَالَْرْضُ َومَ ْن فِيهِنّ} [ المؤمنون‪ ،] 71 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و َل تَّت ِبعُوا أَهْوَا َء قَوْ ٍم َقدْ ضَلّوا مِ ْن َقبْلُ} [المائدة‪،]77 :‬‬
‫ل تَ ّتبِعْ‬‫عمَلِهِ وَا ّت َبعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد‪ ،]14 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و َ‬ ‫وقال تعالى‪َ{ :‬أ َفمَنْ كَانَ عَلَى َبّينَةٍ مِنْ َربّ ِه َكمَنْ ُزيّنَ لَهُ سُوءُ َ‬
‫أَهْوَاءَ اّلذِينَ َل َيعَْلمُونَ} [الجاثية‪ ،]18 :‬وهذا في القرآن كثير‪.‬‬

‫والهوى‪ :‬مصدر هوى يهوي هوى‪ ،‬ونفس المهوي يسمى هوى ما يهوى‪ ،‬فاتباعه كاتباع السبيل‪.‬كما قال تعالى‪َ { :‬ولَ‬
‫َتتّ ِبعُوا أَهْوَا َء قَوْ ٍم َقدْ ضَلّوا مِنْ َقبْلُ} وكما في لفظ الشهوة‪ ،‬فاتباع الهوى يراد به نفس مسمى المصدر‪ ،‬أي اتباع إرادته‬
‫ومحبته التي هي هواه واتباع الرادة‪ :‬هو فعل ما تهواه النفس‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬وَاّتبِعْ َسبِي َل مَنْ َأنَابَ إَِليّ} [لقمان‪،]15 :‬‬
‫سبِيلِهِ} [النعام‪ ،]153 :‬وقال‪َ { :‬و َ‬
‫ل تَ ّت ِبعُوا مِنْ‬ ‫ق ِبكُمْ عَنْ َ‬
‫ل َفتَفَرّ َ‬
‫سبُ َ‬
‫ل َتّتبِعُوا ال ّ‬ ‫وقوله‪{ :‬وَأَنّ َهذَا صِرَاطِي مُ ْ‬
‫ستَقِيمًا فَا ّتبِعُوهُ َو َ‬
‫دُونِهِ أَ ْوِليَاءَ} [العراف‪ ،]3 :‬فلفظ التباع يكون للمر الناهي‪ ،‬وللمر والنهي‪ ،‬وللمأمور به والمنهي عنه‪ ،‬وهو‬
‫الصراط المستقيم‪.‬‬

‫ل مَا‬
‫س لَمّا َر ٌة بِالسّوءِ ِإ ّ‬ ‫كذلك يكون للهوى أمر ونهي‪ ،‬وهو أمر النفس ونهيها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومَا ُأبَرّ ُ‬
‫ئ نَ ْفسِي إِنّ النّفْ َ‬
‫رَ ِحمَ َربّي إِنّ َربّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف‪ ،]53 :‬ولكن ما يأمر به من الفعال المذمومة‪ ،‬فأحدها مستلزم للخر‪ ،‬فاتباع‬
‫المر هو فعل المأمور‪ ،‬واتباع أمر النفس هو فعل ما تهواه‪ ،‬فعلى هذا يعلم أن اتباع الشهوات‪ ،‬واتباع الهواء هو‬
‫اتباع شهوة النفس‪ ،‬وهواها‪ ،‬وذلك بفعل ما تشتهيه وتهواه‪.‬‬

‫بل قد يقال‪ :‬هذا هو الذي يتعين في لفظ اتباع الشهوات والهواء‪ ،‬لن الذي يشتهي ويهوى‪ ،‬إنما يصير موجودًا بعد‬
‫أن يشتهي ويهوى‪ ،‬وإنما يذم النسان إذا فعل ما يشتهي ويهوى عند وجوده‪ / ،‬فهو حينئذ قد فعل‪ ،‬ول ينهى عنه بعد‬
‫وجوده‪ ،‬ول يقال لصاحبه‪ :‬ل تتبع هواك‪.‬‬

‫وأيضًا فالفعل المراد المشتهى‪ ،‬الذي يهواه النسان‪ :‬هو تابع لشهوته وهواه‪ ،‬فليست الشهوة والهوي تابعة له‪ ،‬فاتباع‬
‫الشهوات هو اتباع شهوة النفس‪ ،‬وإذا جعلت الشهوة بمعنى المشتهى كان مع مخالفة الصل يحتاج إلى أن يجعل في‬
‫الخارج ما يشتهي‪ ،‬والنسان يتبعه كالمرأة المطلوبة‪ ،‬أو الطعام المطلوب‪ ،‬وإن سميت المرأة شهوة والطعام أيضًا‪،‬‬
‫كما في قوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬كل عمل ابن آدم له إل الصيام فإنه لي‪ ،‬وأنا أجزي به‪ ،‬يدع طعامه وشرابه‬
‫وشهوته من أجلي) أي‪ :‬يترك شهوته‪ ،‬وهو إنما يترك ما يشتهيه كما يترك الطعام‪ ،‬ل أنه يدع طعامه بترك الشهوة‬
‫الموجودة في نفسه‪ ،‬فإن تلك مخلوقة فيه مجبول عليها‪ ،‬وإنما يثاب إذا ترك ما تطلبه تلك الشهوة‪.‬‬

‫وحقيقة المر‪ ،‬أنهما متلزمان‪ ،‬فمن اتبع نفس شهوته القائمة بنفسه اتبع ما يشتهيه‪ ،‬وكذلك من اتبع الهوى القائم بنفسه‬
‫اتبع ما يهواه‪ ،‬فإن ذلك من آثار الرادة‪ ،‬واتباع الرادة هو امتثال أمرها‪ ،‬وفعل ما تطلبه‪ ،‬كالمأمور الذي يتبع أمر‬
‫أميره‪ ،‬ولبد أن يتصور مراده الذي يهواه ويشتهيه في نفسه ويتخيله قبل فعله‪ .‬فيبقى ذلك المثال كالمام مع المأموم‬
‫يتبعه حيث كان‪ ،‬وفعله في الظاهر ‪ /‬تبع لتباع الباطن‪ ،‬فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهي التي في النفس هي‬
‫المحركة للنسان المرة له‪.‬‬

‫ل للفعل‪ ،‬وهذه‬
‫ولهذا يقال‪ :‬العلة الغائية علة فاعلية‪ ،‬فإن النسان للعلة الغائية ـ بهذا التصور والرادة ـ صار فاع ً‬
‫الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاعلً‪ ،‬فيكون النسان متبعًا لها‪ ،‬والشيطان يمده في‬
‫الغي‪ ،‬فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس اتباعها‪ ،‬وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة ـ‬
‫كالمحبوب من الصور والطعام والشراب ـ ويتناول نفس الفعل الذي هو المباشر لذلك المطلوب المحبوب‪ ،‬والشيطان‬
‫والنفس تحب ذلك‪ ،‬وكلما تصور ذلك المحبوب في نفسه أراد وجوده في الخارج‪ ،‬فإن أول الفكر آخر العمل‪ ،‬وأول‬
‫البغية آخر الدرك‪.‬‬

‫ولهذا يبقى النسان عند شهوته‪ ،‬وهواه أسيرًا لذلك‪ ،‬مقهورًا تحت سلطان الهوى‪ ،‬أعظم من قهر كل قاهر‪ ،‬فإن هذا‬
‫القاهر الهوائي‪ ،‬القاهر للعبد‪ ،‬هو صفة قائمة بنفسه‪ ،‬ليمكنه مفارقته البتة‪ ،‬والصورة الذهنية تطلبها النفس‪ ،‬فإن‬
‫المحبوب تطلب النفس أن تدركه‪ ،‬وتمثله لها في نفسها‪ ،‬فهو متبع للرادة‪ .‬وإن كانت الذهنية والتزين من الزين‬
‫والمراد التصور في نفسه‪ .‬والمشتهى الموجود في الخارج له محركان‪ :‬التصور والمشتهى‪ ،‬هذا يحركه تحريك طلب‬
‫وأمر‪ ،‬وهذا يأمره أن يتبع ‪ /‬طلبه وأمره‪ ،‬فاتباع الشهوات والهواء يتناول هذا كله‪ ،‬بخلف كل قاهر ينفصل عن‬
‫النسان فإنه يمكنه مفارقته مع بقاء نفسه على حالها‪ ،‬وهذا إنما يفارقه بتغير صفة نفسه‪.‬‬

‫ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ثلث مهلكات‪ :‬شح مطاع‪ ،‬وهوي متبع‪ ،‬وإعجاب المرء بنفسه‪ .‬وثلث‬
‫منجيات‪ :‬خشية الّ في السر والعلنية‪ ،‬والقصد في الفقر والغنى‪ ،‬وكلمة الحق في الغضب والرضا)‪.‬‬

‫وقوله في الحديث‪ :‬هوي متبع‪ ،‬فيه دليل على أن المتبع هو ما قام في النفس‪ .‬كقوله‪ :‬في الشح المطاع‪ ،‬وجعل الشح‬
‫مطاعًا‪ ،‬لنه هو المر‪ ،‬وجعل الهوى متبعًا‪ ،‬لن المتبع قد يكون إمامًا يقتدى به ول يكون آمرًا‪ .‬وفي الصحيحين عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إياكم والشح‪ .‬فإن الشح أهلك من كان قبلكم‪ ،‬أمرهم بالبخل فبخلوا‪ ،‬وأمرهم بالظلم‬
‫فظلموا‪ ،‬وأمرهم بالقطيعة فقطعوا)‪ .‬فبين أن الشح يأمر بالبخل والظلم والقطيعة‪ ،‬فالبخل‪ ،‬منع منفعة الناس بنفسه‬
‫وماله‪ ،‬والظلم‪ ،‬هو العتداء عليهم‪.‬‬

‫فالول هو التفريط فيما يجب‪ ،‬فيكون قد فرط فيما يجب‪ ،‬واعتدى عليهم بفعل ما يحرم وخص قطيعة الرحم بالذكر‬
‫إعظامًا لها؛ لنها تدخل ‪ /‬في المرين المتقدمين قبلها‪.‬‬

‫وقال المفسرون في قوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ يُوقَ شُ ّح نَفْسِهِ} [الحشر‪ ،]9 :‬هو أل يأخذ شيئًا مما نهاه الّ عنه‪ ،‬ول يمنع شيئًا‬
‫أمره الّ بأدائه‪ ،‬فالشح يأمر بخلف أمرالّ ورسوله‪ .‬فإن الّ ينهى عن الظلم‪ ،‬ويأمر بالحسان‪ ،‬والشح يأمر بالظلم‪،‬‬
‫وينهى عن الحسان‪.‬‬

‫وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت‪ ،‬وبالوقوف بعرفة أن يقول‪ :‬اللّهم قني شح نفسي‪ ،‬فسئل عن‬
‫ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬إذا وقيت شح نفسي‪ ،‬وقيت الظلم والبخل والقطيعة‪ .‬وفي رواية عنه قال‪ :‬إني أخاف أن أكون قد هلكت‪،‬‬
‫قال‪ :‬وماذاك؟ قال‪ :‬أسمع الّ يقول‪َ { :‬ومَ ْن يُوقَ شُ ّح نَ ْفسِهِ}‪ ،‬وأنا رجل شحيح ل يكاد يخرج من يدي شيء‪ ،‬فقال‪ :‬ليس‬
‫ذاك بالشح الذي ذكره الّ في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا‪ ،‬وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل‪.‬‬
‫صدُورِهِمْ حَاجَ ًة ِممّا أُوتُوا َويُ ْؤثِرُونَ عَلَى‬
‫جدُونَ فِي ُ‬ ‫وقد ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد واليثار في قوله‪َ { :‬و َ‬
‫ل يَ ِ‬
‫َأنْفُ ِس ِهمْ وَلَ ْو كَا َن ِبهِمْ َخصَاصَةٌ}‪ ،‬ثم قال‪َ { :‬ومَنْ يُوقَ شُ ّح نَفْسِ ِه َفأُوَْل ِئكَ هُمْ ا ْل ُمفْلِحُونَ} [الحشر‪ ،]9 :‬فمن وقى شح نفسه لم يكن‬
‫حسودًا باغيًا على المحسود والحسد أصله بغض المحسود‪.‬‬

‫‪/‬والشح يكون في الرجل مع الحرص‪ ،‬وقوة الرغبة في المال‪ ،‬وبغض للغير وظلم له‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬ق ْد يَعَْلمُ ا ُ‬
‫لّ‬
‫خيْرِ أُوَْل ِئكَ‬ ‫ل يَ ْأتُونَ ا ْلبَ ْأسَ ِإلّ َقلِيلً ‪َ .‬أشِحّةً عََل ْيكُمْ} اليات ـ إلى قوله‪{ :‬أَ ِ‬
‫شحّةً عَلَى ا ْل َ‬ ‫ن لِخْوَا ِنهِمْ هَُلمّ إَِل ْينَا َو َ‬
‫ا ْل ُمعَ ّوقِينَ ِم ْنكُمْ وَا ْلقَائِلِي َ‬
‫لَ ْم يُ ْؤ ِمنُوا فََأ ْحبَطَ الُّ أَ ْعمَاَل ُهمْ} [الحزاب‪ ،]19 ،18 :‬فشحهم على المؤمنين‪ ،‬وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه‪،‬‬
‫وبغض الخير يأمر بالشر‪ ،‬وبغض النسان يأمر بظلمه‪ ،‬وقطيعته كالحسد‪ ،‬فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود‬
‫وقطيعته‪ ،‬كابني آدم وإخوة يوسف‪.‬‬

‫فالحسد والشح‪ ،‬يتضمنان بغضًا وكراهية‪ ،‬فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص‪ ،‬فإن الفعل صدر فيه عن‬
‫بغض‪ ،‬بخلف الهوى فإن الفعل صدر فيه عن حب أحب شيئًا فاتبعه ففعله‪ ،‬وذلك مقصوده أمر عدمي والعدم ل ينفع‪.‬‬
‫ولكن ذاك القصد أمر بأمر وجودي‪ ،‬فأطيع أمره‪.‬‬

‫وابن مسعود جعل البخل خارجًا عن الشح والنبي صلى ال عليه وسلم جعل الشح يأمر بالبخل‪.‬‬

‫ومن الناس من يقول‪ :‬الشح‪ ،‬والبخل سواء‪ .‬كما قال ابن جرير‪ :‬الشح في كلم العرب هو البخل‪ ،‬ومنع الفضل من‬
‫المال‪ .‬وليس ‪ /‬كما قال‪ :‬بل ما قاله النبي صلى ال عليه وسلم وابن مسعود أحق أن يتبع ‪ ،‬فإن البخيل قد يبخل بالمال‬
‫محبة لما يحصل لـه به من اللذة والتنعم‪ ،‬وقد ل يكون متلذذًا به ول متنعمًا بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتي‬
‫يكون يكره‪ ،‬أن ينفع نفسه منه مع كثرة ماله‪ ،‬وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته‪ .‬وقد ل يكون هناك‬
‫لذة أصل‪ ،‬بل يكره أن يفعل إحسانًا إلى أحد حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه بغضًا للخير ل للمعطي ول‬
‫للمعطي‪ ،‬بل بغضًا منه للخير وقد يكون بغضًا وحسدًا للمعطي‪ ،‬أو للمعطي وهذا هو الشح وهذا هو الذي يأمر بالبخل‬
‫قطعًا‪ ،‬ولكن كل بخل يكون عن شح‪ ،‬فكل شحيح بخيل وليس كل بخيل شحيحًا‪.‬‬

‫قال الخطابي‪ :‬الشح أبلغ في المنع من البخل‪ ،‬والبخل إنما هو من أفراد المور وخواص الشياء‪ ،‬والشح عام‪ ،‬فهو‬
‫كالوصف اللزم للنسان من قبل الطبع والجبلة‪.‬‬

‫وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال‪ :‬البخل‪ :‬أن يظن النسان بماله‪ ،‬والشح‪ :‬أن يضن بماله ومعروفه‪ ،‬وقيل‪ :‬الشح‪:‬‬
‫أن يشح بمعروف غيره على غيره‪ ،‬و البخل‪ :‬أن يبخل بمعروفه على غيره والذين يتبعون الشهوات‪ ،‬ويتبعون‬
‫أهواءهم يحبون ذلك ويريدونه‪ ،‬فاتبعوا ‪/‬محبتهم وإرادتهم من غير علم‪ ،‬فلم ينظروا هل ذلك نافع لهم في العاقبة أو‬
‫ضار‪.‬‬

‫ولهذا قال‪{ :‬فَاعَْلمْ َأّنمَا يَّت ِبعُونَ أَهْوَاءَ ُهمْ} ثم قال‪َ { :‬ومَنْ أَضَ ّل ِممّ ْن اّتبَعَ هَوَا ُه ِبغَيْرِ ُهدًى مِنْ الِِّ} [القصص‪ ،]50 :‬واتباع‬
‫الهوى درجات‪ :‬فمنهم المشركون والذين يعبدون من دون الّ ما يستحسنون بل علم‪ ،‬ول برهان‪ ،‬كما قال‪َ{ :‬أ َفرََأيْتَ‬
‫مَنْ اتّ َخذَ إَِلهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية‪ ،]23 :‬أي يتخذ إلهه الذي يعبده وهو ما يهواه من آلهة‪ ،‬ولم يقل‪ :‬إن هواه نفس إلهه فليس‬
‫كل من يهوي شيئًا يعبده‪ ،‬فإن الهوى أقسام بل المراد أنه جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه‪ ،‬فكانت عبادته تابعة‬
‫لهوى نفسه في العبادة‪ ،‬فإنه لم يعبد ما يحب أن يعبد‪ ،‬ول عبد العبادة التي أمر بها‪.‬‬

‫وهذه حال أهل البدع‪ ،‬فإنهم عبدوا غير الّ‪ ،‬وابتدعوا عبادات زعموا أنهم يعبدون الّ بها‪ ،‬فهم إنما اتبعوا أهواءهم‪،‬‬
‫فإن أحدهم يتبع محبة نفسه وذوقها ووجدها وهواها من غير علم‪ ،‬ول هدى‪ ،‬ول كتاب منير‪.‬‬

‫فلو اتبع العلم والكتاب المنير‪ ،‬لم يعبد إل الّ بما شاء‪ ،‬ل بالحوادث والبدع‪.‬‬

‫‪/‬والمقصود أن اللهة كثيرة‪ ،‬والعبادات لها متنوعة‪ ،‬وبالجملة فكل ما يريده النسان ويحبه لبد أن يتصوره في نفسه‪،‬‬
‫فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب‪ ،‬فمن عبده عبد غير الّ‪ ،‬وتمثلت له الشياطيـن في صورة‬
‫من يعبـده‪ ،‬وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيئًا غير الّ‪ ،‬فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارن‬
‫الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها‪ ،‬واستوائها ليكون سجود من يعبدها له‪.‬‬
‫وقد كانت الشياطين‪ ،‬تتمثل في صورة من يعبد‪ ،‬كما كانت تكلمهم من الصنام التي يعبدونها‪ ،‬وكذلك في وقتنا خلق‬
‫كثير من المنتسبين إلى السلم‪ ،‬والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يعظمه من الحياء والموات من‬
‫المشايخ وغيرهم‪ ،‬فيدعوه ويستغيث به في حياته وبعد مماته‪ ،‬فيراه قد أتاه وكلمه وقضى حاجته‪ ،‬وإنما هو شيطان‬
‫تمثل على صورته‪ ،‬ليغوى هذا المشرك‪.‬‬

‫والمبتلون بالعشق‪ ،‬ل يزال الشيطان يمثل لحدهم صورة المعشوق‪ ،‬أو يتصور بصورته‪ ،‬فل يزال يرى صورته‪،‬‬
‫مع مغيبه عنه بعد موته‪ ،‬فإنما جله الشيطان على قلبه‪ ،‬ولهذا إذا ذكر العبد الّ الذكر الذي يخنس منه الوسواس‬
‫الخناس خنس هذا المثال الشيطاني‪ ،‬وصورة المحبوب تستولى على المحب أحيانًا حتى ل يرى غيرها‪ ،‬ول يسمع‬
‫غير كلمها‪ ،‬فتبقى ‪ /‬نفسه مشتغلة بها‪.‬‬

‫والذين يسلكون في محبة الّ مسلكا ناقصًا‪ ،‬يحصل لحدهم نوع من ذلك يسمى الصطلم والفناء‪ ،‬يغيب بمحبوبه عن‬
‫ل وصفاته وكلمه وأمره‬ ‫محبته‪ ،‬وبمعروفه عن معرفته‪ ،‬وبمذكوره عن ذكره‪ ،‬حتى ل يشعر بشيء من أسماء ا ّ‬
‫ونهيه‪.‬‬

‫ومنهم من قد ينتقل من هذا إلى التحاد‪ .‬فيقول‪ :‬أنا هو‪ ،‬وهو أنا‪ ،‬وأنا الّ‪ ،‬ويظن كثير من المسالكين‪ ،‬أن هذا هو غاية‬
‫السالكين‪ ،‬وأن هذا هو التوحيد‪ ،‬الذي هو نهاية كل سالك‪ ،‬وهم غالطون في هذا‪ ،‬بل هذا من جنس قول النصارى‪،‬‬
‫ولكن ضلوا لنهم لم يسلكوا الطريق الشرعية في الباطن في خبر الّ وأمره‪.‬‬

‫وقد بسط الكلم على هذا في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والمقصود أن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس‪ ،‬يستولى على قلب أحدهم مايشتهيه حتى‬
‫يقهره ويملكه‪ ،‬ويبقى أسيرًا ما يهواه‪ ،‬يصرفه كيف تصرف ذلك المطلوب؛ ولهذا قال بعض السلف‪ :‬ما أنا على‬
‫الشاب الناسك بأخوف مني عليه من سبع ضار يثب عليه من صبي حدث يجلس إليه‪.‬‬

‫‪/‬وذلك أن النفس الصافية التي فيها رقة الرياضة‪ ،‬ولم تنجذب إلى محبة الّ وعبادته انجذابًا تامًا‪ ،‬ول قام بها من خشية‬
‫الّ التامة ما يصرفها عن هواها متى صارت تحت صورة من الصور استولت تلك الصورة عليها‪ .‬كما يستولى السبع‬
‫على ما يفترسه‪ ،‬فالسبع يأخذ فريسته بالقهر‪ ،‬ول تقدر الفريسة على المتناع منه‪ .‬كذلك ما يمثله النسان في قلبه من‬
‫الصور المحبوبة‪ ،‬تبتلع قلبه وتقهره‪ ،‬فل يقدر قلبه على المتناع منه‪ ،‬فيبقى قلبه مستغرقًا في تلك الصورة أعظم من‬
‫استغراق الفريسة في جوف السد؛ لن المحبوب المراد هو غاية النفس‪ ،‬له عليها سلطان قاهر‪.‬‬

‫والقلب يغرق فيما يستولى عليه‪ ،‬إما من محبوب وإما من مخوف‪ ،‬كما يوجد من محبة المال والجاه والصور‪،‬‬
‫والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقًا فيه‪ ،‬كما يغرق الغريق في الماء‪ ،‬فلبد أن يستولى عليها مايحيط بها من‬
‫الجسام‪ ،‬والقلوب يستولى عليها ما يتمثل لها من المخاوف‪ ،‬والمحبوبات والمكروهات‪ ،‬فالمحبوب يطلبه‪ ،‬والمكروه‬
‫يدفعه‪ ،‬والرجاء يتعلق بالمحبوب والخوف يتعلق بالمكروه‪ ،‬ول يأتي بالحسنات إل الّ‪ ،‬ول يذهب السيئات إل الّ {‬
‫ب بِ ِه مَ ْن يَشَا ُء مِنْ ِعبَادِهِ وَ ُهوَ ا ْلغَفُورُ الرّحِيمُ} [‬
‫خيْ ٍر فَلَ رَادّ ِلفَضْلِ ِه يُصِي ُ‬
‫ن يُ ِر ْدكَ بِ َ‬
‫ض ّر فَلَ كَاشِفَ لَهُ ِإلّ ُهوَ وَإِ ْ‬ ‫لّ بِ ُ‬
‫سكَ ا ُ‬
‫ن َيمْسَ ْ‬
‫وَإِ ْ‬
‫لّ ثُمّ ِإذَا َم ّسكُمْ الضّ ّر فَإَِليْ ِه تَ ْجأَرُونَ} [النحل‪.]53 :‬‬ ‫يونس‪َ { ]107 :‬ومَا ِبكُ ْم مِ ْ‬
‫ن نِ ْعمَ ٍة َفمِنْ ا ِ‬

‫‪/‬وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب‪ ،‬ودفع المرهوب‪ ،‬جعل له من اليمان بالّ‪ ،‬ومحبته‪ ،‬ومعرفته‪ ،‬وتوحيده‪،‬‬
‫ورجائه‪ ،‬وحياة قلبه‪ ،‬واستنارته بنور اليمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عرضًا من الدنيا‪ ،‬وأما إذا‬
‫طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته ومايتبع ذلك‪ ،‬فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب‪ .‬وهو الدعاء‬
‫والمطلوب الذكر والشكر‪ ،‬وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك‪ .‬وهذا لبسطه موضع آخر‪.‬‬

‫والمقصود أن القلب قد يغمره‪ ،‬فيستولى عليه ما يريده العبد‪ ،‬ويحبه‪ ،‬ومايخافه ويحذره‪ ،‬كائنا من كان؛ ولهذا قال‬
‫تعالى‪{ :‬بَ ْل قُلُوُبهُ ْم فِي َغمْ َر ٍة مِنْ َهذَا وََلهُمْ أَ ْعمَا ٌل مِ ْن دُونِ ذَِلكَ هُمْ َلهَا عَامِلُونَ}[المؤمنون‪ ،]36 :‬فهي فيما يغمرها عما‬
‫أنذرت به‪ ،‬فيغمرها ذلك عن ذكر الّ والدار الخرة وما فيها من النعيم‪ ،‬والعذاب الليم‪ .‬قال الّ تعالى‪ّ { :‬فذّرهٍ ًم فٌي‬
‫غّمرّتهٌمً ّحتّى" حٌينُ}[المؤمنون‪ ،]54 :‬أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في‬
‫الخيرات‪ ،‬والعمال الصالحة‪ .‬وقال تعالى‪ُ { :‬قتِلَ الْ َخرّاصُونَ ‪ .‬اّلذِينَ هُ ْم فِي َغمْ َرةٍ سَاهُونَ} اليات [الذاريات‪]11 ،10 :‬‬
‫‪ ،‬أي ساهون عن أمر الخرة‪ ،‬فهم في غمرة عنها‪ ،‬أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها‪ ،‬ساهون عن أمر‬
‫الخرة‪ ،‬وما خلقوا له‪.‬‬

‫وهذا يشبه قوله‪َ { :‬و َل تُطِعْ مَنْ أَ ْغفَ ْلنَا قَ ْلبَهُ عَ ْن ذِكْ ِرنَا وَاّتبَعَ هَوَاهُ َوكَانَ َأمْرُ ُه ُفرُطًا} [الكهف‪ ،]28 :‬فالغمرة تكون من اتباع‬
‫الهوى‪ ،‬والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال‪ :‬السهو‪ :‬الغفلة عن الشيء‪ ،‬وذهاب القلب عنه‪ ،‬وهذا جماع الشر‬
‫الغفلة‪ ،‬والشهوة‪.‬‬

‫فالغفلة عن الّ والدار الخرة تسد باب الخير‪ ،‬الذي هو الذكر واليقظة‪.‬‬

‫والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف‪ ،‬فيبقى القلب مغمورًا فيما يهواه ويخشاه‪ ،‬غافلً عن الّ‪ ،‬رائدًا غير الّ‪،‬‬
‫ساهيًا عن ذكره‪ ،‬قد اشتغل بغير الّ‪ ،‬قد انفرط أمره‪ ،‬قد ران حب الدنيا على قلبه‪ ،‬كما روى في صحيح البخاري‪،‬‬
‫وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬تعس عبد الدينار‪ ،‬تعس عبد الدرهم‪ ،‬تعس عبد‬
‫القطيفة‪ ،‬تعس عبد الخميصة‪ ،‬تعس وانتكس‪ ،‬وإذا شيك فل انتقش‪ ،‬إن أعطى رضى‪ ،‬وإن منع سخط)‪.‬‬

‫جعله عبد ما يرضيه وجوده ويسخطه فقده‪ ،‬حتى يكون عبد الدرهم‪ ،‬وعبد ما وصف في هذا الحديث‪ ،‬والقطيفة‪ :‬هي‬
‫التي يجلس عليها‪ ،‬فهو خادمها‪ ،‬كما قال بعض السلف‪ :‬البس من الثياب ما يخدمك‪ ،‬ول تلبس منها ما تكن أنت تخدمه‪،‬‬
‫وهي كالبساط الذي تجلس عليه‪ ،‬والخميصة‪ :‬هي التي يرتدي بها‪ ،‬وهذا من أقل المال‪ .‬وإنما ‪ /‬نبه به النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم على ما هو أعلي منه‪ ،‬فهو عبد لذلك‪ ،‬فيه أرباب متفرقون‪ ،‬وشركاء متشاكسون‪.‬‬

‫ولهذا قال‪( :‬إن أعطى رضي‪ ،‬وإن منع سخط)‪ .‬فما كان يرضى النسان حصوله ويسخطه فقده‪ ،‬فهو عبده‪ ،‬إذ العبد‬
‫يرضى باتصاله بهما‪ ،‬ويسخط لفقدهما‪ .‬والمعبود الحق الذي ل إله إل هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك‬
‫في قلبه إيمان‪ ،‬وتوحيد ومحبة‪ ،‬وذكر‪ ،‬وعبادة‪ ،‬فيرضى بذلك‪ ،‬وإذا منع من ذلك غضب‪.‬‬

‫وكذلك من أحب شيئًا‪ ،‬فل بد أن يتصوره في قلبه‪ ،‬ويريد اتصاله به بحسب المكان‪.‬‬

‫قال الجنيد‪ :‬ل يكون العبد عبدًا حتى يكون مما سوى الّ تعالى حرًا‪ .‬وهذا مطابق لهذا الحديث‪ ،‬فإنه ل يكون عبدًا ّ‬
‫ل‬
‫خالصًا مخلصًا دينه لّ كله‪ ،‬حتى ل يكون عبدًا لما سواه‪ ،‬ول فيه شعبة‪ ،‬ول أدنى جزء من عبودية ما سوى الّ‪ ،‬فإذا‬
‫كان يرضيه‪ ،‬ويسخطه غير الّ فهو عبد لذلك الغير‪ ،‬ففيه من الشرك بقدر محبته‪ ،‬وعبادته لذلك الغير زيادة‪.‬‬

‫قال الفضيل بن عياض‪ :‬والّ ما صدق الّ في عبوديته‪ ،‬من ‪ /‬لحد من المخلوقين عليه ربانية‪ ،‬وقال زيد بن عمرو بن‬
‫نفيل‪:‬‬

‫أربا ًواحدًا‪ ،‬أم ألف رب ** أدين إذا انقسمت المور؟!‬

‫روى المام أحمد والترمذي‪ ،‬والطبراني‪ ،‬من حديث أسماء بنت عميس‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬‬
‫بئس العبد عبد تخيل‪ ،‬واختال‪ ،‬ونسى الكبير المتعال‪ ،‬بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار العلى‪ ،‬بئس العبد‬
‫عبد سها ولها‪ ،‬ونسى المقابر والبلى‪ ،‬بئس العبد عبد بغى واعتدى‪ ،‬ونسى المبدأ والمنتهى‪ ،‬بئس العبد عبد يختل الدنيا‬
‫بالدين‪ ،‬بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات‪ ،‬بئس العبد عبد رغب يذله ويزيله عن الحق‪ ،‬بئس العبد عبد طمع يقوده‪،‬‬
‫بئس العبد عبد هوى يضله) قال الترمذي‪ :‬غريب‪ .‬وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه‪ .‬والّ أعلم‪.‬‬

‫حبّو َنهُ ْم كَحُبّ‬


‫ن دُونِ الِّ أَندَادًا يُ ِ‬
‫خذُ مِ ْ‬
‫ن َيتّ ِ‬ ‫وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك‪ .‬كما قال تعالى‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬
‫س مَ ْ‬
‫الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪.]165 :‬‬

‫وطالب الرئاسة ـ ولو بالباطل ـ ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلً‪ ،‬وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن‬
‫كانت حقًا‪ / .‬والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه‪ ،‬وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لن الّ تعالى يحب الحق‪،‬‬
‫والصدق‪ ،‬والعدل‪ ،‬ويبغض الكذب‪ ،‬والظلم‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬الحق والصدق والعدل الذي يحبه الّ أحبه‪ ،‬وإن كان فيه مخالفة هواه؛ لن هواه قد صار تبعًا لماجاء به‬
‫ل يبغضه‪ ،‬والمؤمن يبغضه‪ ،‬ولو وافق هواه‪.‬‬ ‫الرسول‪ .‬وإذا قيل‪ :‬الظلم والكذب‪ ،‬فا ّ‬

‫ت َفإِنْ أُعْطُوا ِم ْنهَا َرضُوا وَإِنْ َل ْم ُيعْطَوْا‬


‫ص َدقَا ِ‬
‫ك فِي ال ّ‬ ‫وكذلك طالب المال ـ ولو بالباطل ـ كما قال تعالى‪َ { :‬و ِمنْهُ ْم مَ ْ‬
‫ن يَ ْلمِ ُز َ‬
‫ِمنْهَا ِإذَا ُه ْم يَسْخَطُونَ} [التوبة‪ ]58 :‬وهؤلء هم الذين قال فيهم‪( :‬تعس عبد الدينار) الحديث‪ .‬فكيف إذا استولى على‬
‫القلب ما هو أعظم استعبادًا من الدرهم والدينـار‪ ،‬من الشهوات والهواء‪ ،‬والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال‬
‫محبته لّ وعبادته؟ ! لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات‪ ،‬كيف تدفع القلب‪ ،‬وتزيغه عن كمال محبته لربه‬
‫وعبادته وخشيته؛ لن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه‪ ،‬ويزيغه عن محبة غير محبوبه‪ ،‬وكذلك المكروه يدفعه‪،‬‬
‫ويزيله‪ ،‬ويشغله عن عبادة الّ تعالى‪.‬‬

‫ولهذا روى المام أحمد في مسنده وغيره‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم ‪ /‬قال لصحابه‪( :‬الفقر تخافون؟! ل أخاف‬
‫عليكم الفقر‪ ،‬إنما أخاف عليكم الدنيا‪ ،‬حتى إن قلب أحدكم إذا زاغ ل يزيغه إل هي)‪.‬‬

‫وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه‪ ،‬والذين يبغضونه كأعدائه‪ ،‬فالذين يحبونه يجذبونه إليهم‪ .‬فإذا لم تكن المحبة منهم‬
‫له لّ‪ ،‬كان ذلك مما يقطعه عن الّ‪ ،‬والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن الّ‪ ،‬ولو أحسن إليه‬
‫أصدقاؤه الذين يحبونه‪ ،‬لغير الّ أوجب إحسانهم إليه محبته لهم‪ ،‬وإنجذاب قلبه إليهم‪ .‬ولو كان على غير الستقامة‪،‬‬
‫وأوجب مكافأته لهم‪ ،‬فيقطعونه عن الّ وعبادته‪.‬‬

‫فل تزول الفتنة عن القلب‪ ،‬إل إذا كان دين العبد كله لّ عز وجل‪ ،‬فيكون حبه لّ ولما يحبه الّ‪ ،‬ويبغضه لّ‪ ،‬ولما‬
‫يبغضه الّ‪ ،‬وكذلك موالته ومعاداته‪ ،‬وإل فمحبة المخلوق تجذبه‪ ،‬وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه‪ ،‬ثم قد يكون‬
‫هذا أقوى‪ ،‬وقد يكون هذا أقوى‪ ،‬فإذا كان هو غالبًا لهواه لم يجذبه مغلوب مع هواه‪ ،‬ول محبوباته إليها؛ لكونه غلبًا‬
‫لهواه ناهيًا لنفسه عن الهوى‪ ،‬لما في قلبه من خشية الّ‪ ،‬ومحبته التى تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات‪.‬‬

‫وأما حب الناس له‪ ،‬فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم‪ ،‬فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة الّ‪،‬‬
‫وخشيته ‪ /‬وإل جذبوه وأخذوه إليهم‪ ،‬كحب امرأة العزيز ليوسف‪ ،‬فإن قوة ىوسف ومحبته لّ وإخلصه وخشيته‪،‬‬
‫كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها‪ ،‬هذا إذا أحب أحدهم صورته‪ ،‬مع أن هنا الداعي قوي منه‬
‫ومنهم‪ ،‬فهنا المعصوم من عصمه الّ‪ ،‬وإل فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين‪ ،‬أنه يقع بعض الشر بينهم‪.‬‬

‫ولهذا قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬ل يخلون رجل بامرأة إل كان ثالثهما الشيطان)‪.‬‬

‫وقد يحبونه لعلمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك‪ ،‬فالفتنة في هذا أعظم‪ ،‬إل إذا كانت فيه قوة إيمانية‪ ،‬وخشية وتوحيد‬
‫تام‪ ،‬فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون‪ .‬وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم‪ ،‬إن لم يفعلها وإل نقص‬
‫الحب‪ ،‬أو حصل نوع بغض‪ ،‬وربما زاد أو أدى إلى النسلخ من حبه‪ ،‬فصار مبغوضًا بعد أن كان محبوبا‪ ،‬فأصدقاء‬
‫النسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم‪ ،‬حتى يكون كالعبد لهم‪ ،‬وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره‪،‬‬
‫وأولئك يطلبون منه انتفاعهم‪ ،‬وإن كان مضرًا له مفسدًا لدينه ل يفكرون في ذلك‪ .‬وقليل منهم الشكور‪.‬‬

‫فالطائفتان في الحقيقة ل يقصدون نفعه ول دفع ضرره‪ ،‬وإنما ‪ /‬يقصدون أغراضهم به‪ ،‬فإن لم يكن النسان عابدًا‬
‫الّ‪ ،‬متوكلً عليه مواليًا له ومواليًا فيه ومعاديًا‪ ،‬وإل أكلته الطائفتان‪ ،‬وأدى ذلك إلى هلكه في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم‪ ،‬وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والختلف والفتن‪ .‬قوم يوالون‬
‫زيدًا‪ ،‬ويعادون عمرًا‪ .‬وآخرون بالعكس؛ لجل أغراضهم‪ ،‬فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه‬
‫من زيد انقلبوا إلى عمرو‪ ،‬وكذلك أصحاب عمرو‪ ،‬كما هو الواقع بين أصناف الناس‪.‬‬

‫وكذلك الرأس‪ ،‬من الجانبين‪ ،‬يميل إلى هؤلء الذين يوالونه‪ ،‬وهم إذا لم تكن الموالة لّ أضر عليه من أولئك‪ ،‬فإن‬
‫أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه إما بقتله‪ ،‬أو بأخذ ماله‪ ،‬وإما بإزالة منصبه‪ ،‬وهذا كله ضرر دنيوي‪ ،‬ل يعتد به إذا سلم‬
‫العبد‪ ،‬وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين ليعتدون بفساد دينهم مع سلمة دنياهم‪ .‬فهم ل يبالون بذلك‪ .‬وأما "‬
‫دين العبد" الذي بينه وبين الّ فهم ل يقدرون عليه‪.‬‬
‫وأما أولياءه الذين يوالونه للغراض‪ ،‬فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك‪ ،‬فإن لم يفعل‬
‫انقلبوا أعداء‪ ،‬فدخل بذلك عليه الذى من جهتين‪:‬‬

‫‪/‬من جهة مفارقتهم‪ ،‬ومن جهة عداوتهم‪.‬‬

‫وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لنهم قد شاهدوا منه‪ .‬وعرفوا مالم يعرفه أعداؤه‪ .‬فاستجلبوا بذلك عداوة‬
‫غيرهم‪ ،‬فتتضاعف العداوة‪.‬‬

‫وإن لم يحب مفارقتهم‪ ،‬احتاج إلى مداهنتهم‪ ،‬ومساعدتهم على ما يريدونه‪ ،‬وإن كان فيه فساد دينه‪ .‬فإن ساعدهم على‬
‫نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيبًا وافرًا وحظًا تامًا من ظلمهم وجورهم‪ ،‬وطلبوا منه أيضًا أن يعاونهم‬
‫على أغراضهم‪ ،‬ولو فاتت أغراضه الدنيوية‪ .‬فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده !! فإن النسان ظالم جاهل‪ ،‬ل‬
‫يطلب إل هواه‪.‬‬

‫فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم‪ .‬ويصبر على أذاهم‪ .‬ويقضى حوائجهم لّ‪ ،‬وتكون استعانته عليهم بالّ تامة‪،‬‬
‫وتوكله على الّ تام‪ .‬وإل أفسدوا دينه ودنياه‪ ،‬كما هو الواقع المشاهد من الناس‪ ،‬ممن يطلب الرئاسة الدنيوية‪ ،‬فإنه‬
‫يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة‪ ،‬ويحسن له هذا الرأي‪ ،‬ويعاديه إن لم يقم معه‪ ،‬كما قد ‪/‬جرى‬
‫ذلك مع غير واحد‪.‬‬

‫وذلك يجري فيمن يحب شخصًا لصورته‪ ،‬فإنه يخدمه‪ ،‬ويعظمه‪ ،‬ويعطيه ما يقدر عليه‪ ،‬ويطلب منه من المحرم ما‬
‫يفسد دينه‪.‬‬

‫وفيمن يحب صاحب بدعة؛ لكونه له داعية إلى تلك البدعة‪ ،‬يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل‪ ،‬وإل‬
‫عاداه؛ ولهذا صار علماء الكفار‪ ،‬وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لجل التباع‬
‫والمحبين‪ ،‬ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم‪.‬‬

‫فمن أحب غير الّ‪ ،‬ووالى غيره‪ ،‬كره محب الّ ووليه‪ ،‬ومن أحب أحدًا لغير الّ كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من‬
‫ضرر أعدائه‪ ،‬فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي‪ ،‬والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه‪،‬‬
‫وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة‪ ،‬وذهابها عنه‪ ،‬فأي صداقة هذه؟! ويحبون بقاء ذلك المحبوب؛ ليستعملوه‬
‫في أغراضهم‪ ،‬وفيما يحبونه‪ ،‬وكلهما ضرر عليه‪.‬‬

‫ت ِبهِمْ الَْ ْسبَابُ} [البقرة‪ ،]166 :‬قال الفضيل بن‬ ‫طعَ ْ‬ ‫قال تعالى‪ِ{ :‬إ ْذ َتبَرّأَ اّلذِينَ ا ّت ِبعُوا مِنْ اّلذِي َ‬
‫ن ا ّتبَعُوا َورَأَوْا ا ْلعَذَابَ َوتَقَ ّ‬
‫عياض عن ليث ‪ /‬عن مجاهد‪ :‬هي المودات التي كانت لغير الّ‪ ،‬والوصلت التي كانت بينهم في الدنيا { َوقَالَ اّلذِينَ‬
‫ك يُرِيهِمْ الُّ أَ ْعمَاَلهُمْ حَ َسرَاتٍ عََل ْيهِمْ َومَا هُ ْم بِخَارِجِي َن مِنْ النّارِ} [البقرة‪:‬‬
‫ا ّتبَعُوا َلوْ أَنّ َلنَا كَرّ ًة َف َن َتبَرَّأ ِمنْهُ ْم َكمَا َتبَرّءُوا ِمنّا كَذَِل َ‬
‫‪ .]167‬فالعمال التي أراهم الّ حسرات عليهم‪ :‬هي العمال التي يفعلها بعضهم‪ ،‬مع بعض في الدنيا كانت‪ ،‬لغير‬
‫الّ‪ ،‬ومنها الموالة‪ ،‬والصحبة‪ ،‬والمحبة‪ ،‬لغير الّ‪ .‬فالخير كله في أن يعبد الّ وحده ل يشرك به شيئًا‪ ،‬ول حول ول‬
‫قوة إل بالّ‪.‬‬

‫َفصْل‬

‫ومما يحقق هذه المور أن المحب يجذب‪ ،‬والمحبوب يجذب‪ .‬فمن أحب شيئًا جذبه إليه بحسب قوته‪ ،‬ومن أحب‬
‫صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته‪ .‬فإن المحب عـلته فاعلية‪ ،‬والمحـبوب‬
‫علته غائية‪ ،‬وكـل منهـما لـه تأثير في وجود المعلول‪ ،‬والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته‬
‫التي يتمثلها‪ ،‬فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها‪ ،‬ل أنها هي في نفسها قصد وفعل‪ ،‬فإن في المحبوب من المعنى‬
‫المناسب ما يقتضى انجذاب المحب إليه‪ ،‬كما ينجذب النسان إلى الطعام ليأكله‪ ،‬وإلى امرأة ليباشرها‪ ،‬وإلى ‪ /‬صديقه‬
‫ليعاشره‪ ،‬وكما تنجذب قلوب المحبين لّ ورسوله إلى الّ ورسوله‪ ،‬والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من‬
‫الصفات التي يستحق؛ لجلها أن يحب ويعبد‪.‬‬
‫بل ليجوز أن يحب شيء من الموجودات‪ ،‬لذاته إل هو سبحانه وبحمده‪ ،‬فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب‬
‫لغيره‪ ،‬ل لذاته‪ ،‬والرب تعالى هوالذي يجب أن يحب لنفسه‪ ،‬وهذا من معاني إلهيته و {َلوْ كَانَ فِي ِهمَا آِل َهةٌ ِإلّ الُّ‬
‫َلفَسَدَتَا} [النبياء‪ ،]22 :‬فإن محبة الشيء لذاته شرك‪ ،‬فل يحب لذاته إل الّ‪ ،‬فإن ذلك من خصائص إلهيته‪ ،‬فل‬
‫ل وحده‪ ،‬وكل محبوب سواه إن لم يحب لجله‪ ،‬أو لما يحب لجله فمحبته فاسدة‪.‬‬ ‫يستحق ذلك إل ا ّ‬

‫والّ ـ تعالى ـ خلق في النفوس حب الغذاء‪ ،‬وحب النساء‪ ،‬لما في ذلك من حفظ البدان وبقاء النسان‪ ،‬فإنه لول حب‬
‫الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم‪ ،‬ولول حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل‪ ،‬والمقصود بوجود ذلك‪ :‬بقاء كل‬
‫منهم ؛ليعبدوا الّ وحده‪ ،‬ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي ل يستحق ذلك غيره‪.‬‬

‫وإنما تحب النبياء والصالحون تبعا لمحبته‪ ،‬فإن من تمام حبه حب ما يحبه‪ ،‬وهو يحب النبياء والصالحين‪ ،‬ويحب‬
‫العمال الصالحة‪ ،‬فحبها ‪ /‬لّ هو من تمام حبه‪ ،‬وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب الّ‪،‬‬
‫فالمخلوق إذا أحب لّ كان حبه جاذبًا إلى حب الّ‪ ،‬وإذا تحاب الرجلن في الّ اجتمعا على ذلك‪ ،‬وتفرقا عليه‪ ،‬كان‬
‫كل منهما جاذبا للخر إلى حب الّ‪ ،‬كما قال تعالى‪( :‬حقت محبتي للمتحابين في‪ ،‬وحقت محبتي للمتجالسين في‪،‬‬
‫وحقت محبتي للمتباذلين في‪ ،‬وإن لّ عبادًا ليسوا بأنبياء ول شهداء يغبطهم النبياء والشهداء بقربهم من الّ‪ ،‬وهم قوم‬
‫تحابوا بروح الّ علي غير أموال يتباذلونها‪ ،‬ول أرحام يتواصلون بها‪ ،‬إن لوجوههم لنورًا‪ ،‬وإنهم لعلى كراسي من‬
‫نور‪ ،‬ل يخافون إذا خاف الناس‪ ،‬ول يحزنون إذا حزن الناس)‪.‬‬

‫فإنك إذا أحببت الشخص لّ كان الّ هو المحبوب لذاته‪ ،‬فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته‪،‬‬
‫فازداد حبك لّ‪ ،‬كما إذا ذكرت النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والنبياء قبله‪ ،‬والمرسلين وأصحابهم الصالحين‪،‬‬
‫وتصورتهم في قلبك‪ ،‬فإن ذلك يجـذب قلبك إلى محبة الّ المنعم عليهم‪ ،‬وبهم إذا كنت تحبهم لّ‪ ،‬فالمحبوب لّ يجذب‬
‫ل تعالى‪ ،‬وكل من‬‫إلى محبة الّ‪ ،‬والمحب لّ‪ ،‬إذا أحب شخصًا لّ‪ ،‬فإن الّ هو محبوبه‪ ،‬فهو يحب أن يجذبه إلى ا ّ‬
‫المحب لّ والمحبوب لّ يجذب إلى الّ‪.‬‬

‫وهكذا إذا كان الحب لغير الّ‪ ،‬كما إذا أحب كل من الشخصين ‪ /‬الخر بصورة‪ :‬كالمرأة مع الرجل‪ ،‬فإن المحب‬
‫يطلب المحبوب‪ ،‬والمحبوب يطلب المحب‪ ،‬بانجذاب المحبوب‪ ،‬فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذبًا مجذوبًا من‬
‫الوجهين‪ ،‬فيجب التصال‪ ،‬ولو كان الحب من أحد الجانبين ؛لكان المحب يجذب المحبوب‪ ،‬والمحبوب يجذبه‪ ،‬لكن‬
‫المحبوب ل يقصد جذبه‪ ،‬والمحب يقصد جذبه وينجذب‪.‬‬

‫وهذا سبب التأثير في المحبوب‪ ،‬إما تمثل يحصل في قلبه‪ ،‬فينجذب‪ ،‬وإما أن ينجذب بل محبة‪ :‬كما يأكل الرجل‬
‫الطعام‪ ،‬ويلبس الثوب‪ ،‬ويسكن الدار‪ ،‬ونحو ذلك من المحبوبات التي ل إرادة لها‪.‬‬

‫وأما الحيوان‪ ،‬فيحب بعضه بعضًا بكونه سببًا للحسان إليه وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها‪ ،‬لكن هذا في‬
‫الحقيقة إنما هو محبة الحسان‪ ،‬ل نفس المحسن‪ ،‬ولو قطع ذلك لضمحل ذلك الحب وربما أعقب بغضًا‪ ،‬فإنه ليس لّ‬
‫عز وجل‪.‬‬

‫فإن من أحب إنسانًا ؛لكونه يعطيه‪ ،‬فما أحب إل العطاء‪ ،‬ومن قال‪ :‬إنه يحب من يعطيه لّ فهذا كذب‪ ،‬ومحال‪ ،‬وزور‬
‫من القول‪ ،‬وكذلك من أحب إنسانًا لكونه ينصره إنما أحب النصر ل الناصر‪ .‬وهذا كله من اتباع ما تهوى النفس‪،‬‬
‫فإنه لم يحب في الحقيقة إل ما يصل إليه من جلب منفعة‪ ،‬أو دفع مضرة‪ ،‬فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة‬
‫وإنما ‪ /‬أحب ذلك لكونه وسيلة إلى محبوبه‪ ،‬وليس هذا حبًا لّ ول لذات المحبوب‪.‬‬

‫وعلى هذا تجرى عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض‪ ،‬وهذا ل يثابون عليه في الخرة ول ينفعهم‪ ،‬بل ربما أدى ذلك‬
‫إلى النفاق والمداهنة‪ ،‬فكانوا في الخرة من الخلء الذين بعضهم لبعض عدو إل المتقين‪ .‬وإنما ينفعهم في الخرة‬
‫ل وحده‪ ،‬وأما من يرجو النفع والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه لّ‪ ،‬فهذا من دسائس النفوس‬‫لو ّ‬‫الحب في ا ّ‬
‫ونفاق القوال‪.‬‬

‫وإنما ينفع العبد الحب لّ لما يحبه الّ من خلقه‪ ،‬كالنبياء والصالحين ؛لكون حبهم يقرب إلى الّ ومحبته‪ ،‬وهؤلء هم‬
‫الذين يستحقون محبة الّ لهم‪.‬‬
‫ونبينا كان يعطي المؤلفة قلوبهم‪ ،‬ويدع آخرين هـم أحب إليه من الذي يعطي؛ يكلهم إلى ما في قلوبهم من اليمان‪،‬‬
‫وإنما كان يعطي المؤلفة قلوبهم‪ ،‬لما في قلوبهم من الهلع والجزع؛ ليكون ما يعطيهم سببًا لجلب قلوبهم إلى أن يحبوا‬
‫السلم فيحبوا الّ‪ ،‬فكان مقصوده بذلك دعوة القلوب إلى حب الّ عز وجل‪ ،‬وصرفها عن ضد ذلك؛ ولهذا كان‬
‫يعطي أقوامًا خشية أن يكبهم الّ على وجوههم في النار فمنعهم بذلك العطاء عما ‪ /‬يكرهه منهم فكان يعطي لّ ويمنع‬
‫لّ‪ .‬وقد قال‪( :‬من أحب لّ‪ ،‬وأبغض لّ‪ ،‬وأعطى لّ‪ ،‬ومنع لّ‪ ،‬فقد استكمل اليمان)‪ ،‬وفي صحيح البخاري عنه صلى‬
‫ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إني والّ إنما أنا قاسم ل أعطي أحدًا ول أمنع أحدًا‪ ،‬ولكن أضع حيث أمرت)‪.‬‬

‫وصورة المحبوب المتمثلة في النفس يتحرك لها المحب‪ ،‬ويريد لها‪ ،‬ويحب ويبغض ويبتهج وينشرح عند ذكرها‪ ،‬من‬
‫أي جنس كانت‪ ،‬فتبقى هي كالمر الناهي له؛ ولهذا يجد في نفسه كأنها تخاطبه بأمر ونهي وغير ذلك‪ ،‬كما يرى كثير‬
‫من الناس من يحبه‪ ،‬ويعظمه في منامه‪ ،‬وهو يأمره‪ ،‬وينهاه‪ ،‬ويخبره بأمور‪.‬‬

‫والمشركون تتمثل لهم الشياطين في صور من يعبدونه‪ ،‬تأمرهم وتنهاهم‪.‬‬

‫والقائلون بالشاهد والمنتسبون إلى السلوك يقول أحدهم‪ :‬إنه يخاطب في باطنه على لسان الشاهد‪ ،‬فمنهم من يصلي‬
‫بالليل وذاك بإزائه ليشاهده في الضوء‪ ،‬ومنهم من يشاهده في حال السماع في غيره‪ ،‬ويظنون أنهم يخاطبون ويجدون‬
‫المريد في قلوبهم بذلك‪ ،‬وذلك لنهم يتمثلونه في أنفسهم‪ ،‬وربما كان الشيطان يتمثل في صورته‪ ،‬فيجدون في نفوسهم‬
‫خطابا من تلك الصورة‪ ،‬فيقولون‪ :‬خوطبنا من جهته‪ .‬وهذا وإن كان موجودًا في ‪ /‬المخاطب فمن المخاطب له ؟‬
‫فالفرقان هنا‪ .‬فإنما ذلك المخاطب من وسواس الشيطان والنفس‪.‬‬

‫وقد يخاطبون بأشياء حسنة رشوة منه لهم‪ ،‬ول يخاطبون بما يعرفون أنه باطل؛لئل ينفرون منه‪ ،‬بل الشيطان يخاطب‬
‫أحدهم بما يري أنه حق‪ ،‬والراهب إذا راض نفسه فمرة يرى في نفسه صورة التثليث‪ ،‬وربما خوطب منها؛لنه كان‬
‫قد يتمثلها قبل ذلك‪ ،‬فلما انصقلت نفسه بالرياضة ظهرت له‪ ،‬والمؤمن الذي يحب الّ ورسوله يرى الرسول في منامه‬
‫بحسب إيمانه‪ ،‬وكذلك يري الّ تعالى في منامه بحسب إيمانه‪ ،‬كما قد بسط في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ولهذا كثير من أهل الزهد والعبادة يكون من أعوان الكفار‪ ،‬ويزعم أنه مأمور بذلك‪ ،‬ويخاطب به ويظن أن الّ هو‬
‫الذي أمره بذلك‪ ،‬والّ منزه عن ذلك‪ ،‬وإنما المر له بذلك النفس والشيطان ومافي نفسه من الشرك‪ ،‬إذ لو كان مخلصًا‬
‫لّ الدين‪ ،‬لما عرض له شيء من ذلك‪ ،‬فإن هذا ل يكون إل لمن فيه شرك في عبادته‪ ،‬أو عنده بدعة‪ ،‬ول يقع هذا‬
‫لمخلص متمسك بالسنة البتة‪.‬‬

‫وإذا كانت الرؤيا‪ ،‬على ثلثة أقسام‪:‬‬

‫رؤيا من الّ‪.‬‬

‫‪/‬ورؤيا من حديث النفس‪.‬‬

‫ورؤيا من الشيطان‪.‬‬

‫فكذلك ما يلقي في نفس النسان في حال يقظته ثلثة أقسام‪.‬‬

‫ولهذا كانت الحوال ثلثة‪ :‬رحماني‪ ،‬ونفساني‪ ،‬وشيطاني‪.‬‬

‫وما يحصل من نوع المكاشفة والتصرف ثلثة أصناف‪ :‬ملكي‪ ،‬ونفسي‪ ،‬وشيطاني‪ ،‬فإن الملك له قوة‪ ،‬والنفس لها‬
‫قوة‪ ،‬والشيطان له قوة‪ ،‬وقلب المؤمن له قوة‪ ،‬فما كان من الملك ومن قلب المؤمن‪ ،‬فهو حق‪ ،‬وما كان من الشيطان‬
‫ووسوسة النفس‪ ،‬فهو باطل‪.‬‬

‫ل وأعداء الّ‪ ،‬بل صاروا يظنون في من هو من جنس‬ ‫وقد اشتبه هذا بهذا على طوائف كثيرة‪ ،‬فلم يفرقوا بين أولياء ا ّ‬
‫المشركين والكفار ـ أهل الكتاب من وجوه كثيرة ـ أنه من أولياء الّ المتقين‪ .‬والكلم في هذا مبسوط في موضع آخر‪.‬‬
‫ولهذا في هؤلء من يرى جواز قتال النبياء‪ ،‬ومنهم من يرى أنه أفضل من النبياء‪ ،‬إلى أنواع أخر‪ .‬وذلك ؛لنه‬
‫حصل لهم من النواع الشيطانية والنفسانية ما ظنوا أنها من كرامات الولياء‪ ،‬فظنوا ‪ /‬أنهم منهم‪ ،‬فكان المر‬
‫بالعكس‪ .‬وأصل هذا أنهم تعبدوا بما تحبه النفس‪ ،‬وأما العبادة بما يحبه الّ ويرضاه‪ ،‬فل يحبونه ول يريدونه وحده‪،‬‬
‫ويرون أنهم إذا عبدوا الّ بما أمر به ورسله حط لهم عن منصب الولية‪ ،‬فيحدثون محبة قوية وتألهًا وعبادة وشوقًا‬
‫وزهدًا‪ ،‬ولكن فيه شرك وبدعة‪.‬‬

‫ومحبة التوحيد‪ :‬إنما تكون لّ وحده على متابعة رسوله‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ { :‬قلْ إِنْ كُنْتُمْ ُتحِبّونَ الَّ فَاتّ ِبعُونِي يُحْبِ ْب ُكمْ ا ُ‬
‫لّ‬
‫وَ َيغْفِرْ َلكُمْ ذُنُو َبكُمْ} [آل عمران‪]31 :‬؛ فلهذا يكون أهل التباع فيهم جهاد ونية في محبتهم‪ ،‬يحبون لّ‪ ،‬ويبغضون له‪.‬‬
‫وهم على ملة إبراهيم‪ .‬والذين معه {إِذْ قَالُوا ِلقَ ْو ِمهِمْ إِنّا بُرَآءُ مِ ْنكُمْ َومِمّا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الِّ َكفَرْنَا ِب ُك ْم وَبَدَا بَيْنَنَا‬
‫ح َدهُ} [الممتحنة‪ ،]4 :‬وأولئك محبتهم فيها شرك‪ ،‬وليسوا متابعين‬ ‫لّ وَ ْ‬ ‫وَبَيْ َنكُمْ ا ْلعَدَا َو ُة وَالْ َب ْغضَاءُ أَ َبدًا حَتّى ُت ْؤمِنُوا بِا ِ‬
‫للرسول‪ ،‬ول مجاهدين في سبيل الّ‪ ،‬فليست هي المحبة الخلصية‪ ،‬فإنها مقرونة بالتوحيد؛ ولهذا سمي أبو طالب‬
‫المكي كتابه‪ :‬قوت القلوب في معاملة المحبوب‪ ،‬ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد‪ ،‬والّ ـ سبحانه ـ أعلم‪.‬‬

‫حمَهُ الُّ ـ أَ ْيضًا‪:‬‬


‫‪/‬قَالَ شَيْخُ الِسْـلم ـ رَ ِ‬

‫َفصْـل‬

‫قد كتبت في كراسة الحوادث فصل في‪ :‬جماع الزهد والورع‪.‬‬

‫وإن الزهد‪ :‬هو عما ل ينفع‪ ،‬إما لنتفاء نفعه‪ ،‬أو لكونه مرجوحًا؛ لنه مفوت لما هو أنفع منه‪ ،‬أو محصل لما يربو‬
‫ضرره على نفعه‪ .‬وأما المنافع الخالصة‪ ،‬أو الراجحة فالزهد فيها حمق‬

‫وأما الورع‪ ،‬فإنه المساك عما قد يضر‪ ،‬فتدخل فيه المحرمات والشبهات ؛لنها قد تضر‪ .‬فإنه من اتقى الشبهات‬
‫استبرأ لعرضه ودينه‪ ،‬ومن وقع في الشبهات‪ ،‬وقع في الحرام‪ ،‬كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه‪.‬‬

‫وأما الورع‪ ،‬عما ل مضرة فيه‪ ،‬أو فيه مضرة مرجوحة ـ لما ‪ /‬تقترن به من جلب منفعة راجحة‪ ،‬أو دفع مضرة‬
‫أخرى راجحة ـ فجهل وظلم‪ .‬وذلك يتضمن‪ :‬ثلثة أقسام ل يتورع عنها المنافع المكافئة والراجحة والخالصة كالمباح‬
‫المحض أو المستحب أو الواجب فإن الورع عنها ضللة‪.‬‬

‫وأنا أذكر هنا تفصيل ذلك فأقول‪:‬‬

‫الزهد‪ ،‬خلف الرغبة‪ .‬يقال‪ :‬فلن زاهد في كذا‪ .‬وفلن راغب فيه‪ .‬و الرغبة‪ :‬هي من جنس الرادة‪ .‬فالزهد في‬
‫الشيء انتفاء الرادة له‪ ،‬إما مع وجود كراهته‪ ،‬وإما مع عدم الرادة والكراهة‪ ،‬بحيث ليكون ل مريدًا له‪ ،‬ول كارهًا‬
‫له‪ ،‬وكل من لم يرغب في الشيء ويريده فهو زاهد فيه‪.‬‬

‫وكما أن سبيل الّ يحمد فيه الزهد‪ ،‬فيما زهد الّ فيه من فضول الدنيا‪ ،‬فتحمد فيه الرغبة والرادة لما حمد الّ إرادته‪،‬‬
‫شيّ‬ ‫والرغبة فيه؛ ولهذا كان أساس الطريق الرادة‪ .‬كما قال تعالى‪َ { :‬ولَ َتطْرُدْ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْل َغدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫سعْ ُيهُمْ‬‫سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَُأوْلَ ِئكَ كَانَ َ‬ ‫سعَى َلهَا َ‬ ‫جهَهُ}[النعام‪ ،]52 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَنْ أَرَادَ الْخِ َر َة وَ َ‬
‫ن وَ ْ‬
‫يُرِيدُو َ‬
‫شكُورًا} [السراء‪ ،]19 :‬ونظائره متعددة‪.‬‬ ‫مَ ْ‬

‫عمَاَل ُهمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَ‬


‫‪/‬كما رغـب فـي الزهـد‪ ،‬وذم ضـده فـي قولـه‪{ :‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا ُن َوفّ إِلَ ْيهِمْ أَ ْ‬
‫خسُونَ ‪ُ .‬أوْلَ ِئكَ الّذِينَ لَيْسَ َل ُهمْ فِي الْخِ َرةِ ِإلّ النّار}‬
‫يُبْ َ‬

‫[هود‪ ،]16 ،15 :‬وقال تعالى‪{ :‬أَ ْلهَاكُمْ ال ّتكَاثُرٍُ} السورة [ التكاثر ]‪ ،‬وقـال تعالـى‪{:‬وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ َأكْلً ّلمّا‪.‬‬
‫حبّ ا ْلخَيْرِ‬ ‫شهِيدٌ‪ .‬وَإِنّهُ لِ ُ‬ ‫جمّا }[الفجر‪ ،]20 ،19 :‬وقال‪{ :‬إِنّ الِْنسَانَ لِرَبّهِ َلكَنُودٌ‪ .‬وَإِنّهُ َ‬
‫علَى ذَِلكَ لَ َ‬ ‫وَتُحِبّونَ ا ْلمَالَ حُبّا َ‬
‫شدِيدٌ} [العاديات‪ ،]6-8 :‬وقال تعالى‪{ :‬اعَْلمُوا أَ ّنمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََلهْ ٌو وَزِينَ ٌة وَ َتفَاخُرٌ بَيْ َنكُمْ} الية [الحديد‪:‬‬ ‫لَ َ‬
‫‪ ،]20‬وهذا باب واسع‪.‬‬
‫وإنما المقصود هنا تميز الزهد الشرعي‪ ،‬من غيره‪ ،‬وهو الزهد المحمود‪ ،‬وتميز الرغبة الشرعية‪ ،‬من غيرها‪ ،‬وهي‬
‫الرغبة المحمودة‪ ،‬فإنه كثيرًا ما يشتبه الزهد بالكسل والعجز والبطالة عن الوامر الشرعية‪ ،‬وكثيرًا ما تشتبه الرغبة‬
‫الشرعية بالحرص‪ ،‬والطمع‪ ،‬والعمل الذي ضل سعى صاحبه‪.‬‬

‫وأما الورع‪ ،‬فهو اجتناب الفعل واتقاؤه‪ ،‬والكف والمساك عنه والحذر منه‪ ،‬وهو يعود إلى كراهة المر‪ ،‬والنفرة منه‪،‬‬
‫والبغض له‪ ،‬وهو أمر وجودي أيضًا ـ وإن كان قد اختلف في المطلوب بالنهي‪ .‬هل هو عدم المنهى عنه‪ ،‬أو فعل‬
‫ضده؟ وأكثر أهل الثبات على الثاني ـ فل ريب أنه ليسمى ورعًا‪ ،‬ومتورعًا‪ ،‬ومتقيًا‪ ،‬إل إذا وجد منه المتناع‬
‫والمساك الذي هو فعل ضد المنهي عنه‪.‬‬

‫‪/‬والتحقيق‪ :‬أنه مع عدم المنهي عنه يحصل له عدم مضرة الفعل المنهي عنه‪ ،‬وهو ذمه وعقابه ونحو ذلك‪ ،‬ومع وجود‬
‫المتناع والتقاء والجتناب يكون قد وجد منه عمل صالح وطاعة وتقوى‪ ،‬فيحصل له منفعة هذا العمل‪ ،‬من حمده‬
‫وثوابه‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬فعدم المضرة لعدم السيئات‪ ،‬ووجود المنفعة لوجود الحسنات‪.‬‬

‫فتلخص أن الزهد من باب عدم الرغبة‪ ،‬والرادة في المزهود فيه‪ .‬والورع من باب وجود النفرة‪ ،‬والكراهة للمتورع‬
‫عنه‪ ،‬وانتفاء الرادة‪ ،‬إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة‪ ،‬وأما وجود الكراهة‪ ،‬فإنما يصلح فيما فيه‬
‫مضرة خالصة أو راجحة‪ ،‬فأما إذا فرض مال منفعة فيه ول مضرة‪ ،‬أو منفعته ومضرته سواء من كل وجه‪ ،‬فهذا ل‬
‫يصلح أن يراد‪ ،‬ول يصلح أن يكره‪ ،‬فيصلح فيه الزهد‪ ،‬ول يصلح فيه الورع‪ ،‬فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع‬
‫يصلح فيه الزهد‪ ،‬من غير عكس‪ ،‬وهذا بين‪ ،‬فإن ما صلح أن يكره وينفر عنه صلح أن ل يراد ول يرغب فيه‪ ،‬فإن‬
‫عدم الرادة أولى من وجود الكراهة‪ ،‬ووجود الكراهة مستلزم عدم الرادة من غير عكس‪ ،‬وليس كل ما صلح أن ل‬
‫يراد يصلح أن يكره‪ ،‬بل قد يعرض من المور مال تصلح إرادته ول كراهته‪ ،‬ول حبه ول بغضه ول المر به‪ ،‬ول‬
‫النهي عنه‪.‬‬

‫‪/‬وبهذا يتبين أن الواجبات والمستحبات‪ ،‬ل يصلح فيها زهد ول ورع‪ ،‬وأما المحرمات والمكروهات‪ ،‬فيصلح فيها‬
‫الزهد والورع‪ .‬وأما المباحات‪ ،‬فيصلح فيها الزهد دون الورع‪ ،‬وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل‪.‬‬

‫وإنما الشأن فيما إذا تعارض في الفعل‪ .‬هل هو مأمور به‪ ،‬أو منهي عنه‪ ،‬أو مباح؟ وفيما إذا اقترن بما جنسه مباح ما‬
‫يجعله مأمورًا به‪ ،‬أو منهيًا عنه‪ ،‬أو اقترن بالمأمور به‪ ،‬مايجعله منهيًا عنه وبالعكس‪.‬‬

‫فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها‪ ،‬يحتاج إلى الفرقان‪.‬‬

‫َوقَــال‪:‬‬

‫َفصْـــل‬

‫قول بعض الناس‪ :‬الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الطلق‪ ،‬كما قد يستدل به طوائف على أنواع من‬
‫الرهبانيات‪ ،‬والعبادات المبتدعة‪ ،‬التي لم يشرعها الّ ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الّ من‬
‫الطيبات‪ ،‬ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬حيث قال‪( :‬هلك المتنطعون)‪ ،‬وقال‪( :‬لو مد لي‬
‫الشهر لواصلت وصالً يدع المتعمقون تعمقهم)‪ ،‬مثل الجوع أو العطش المفرط‪ ،‬الذي يضر العقل والجسم‪ ،‬ويمنع‬
‫أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه‪ ،‬وكذلك الحتفاء والتعري والمشي الذي يضر النسان بل فائدة‪ ،‬مثل حديث أبي‬
‫إسرائيل الذي نذر أن يصوم‪ ،‬وأن يقوم قائما ول يجلس ول يستظل ول يتكلم فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬مروه‬
‫فليجلس‪ ،‬وليستظل‪ ،‬وليتكلم‪ ،‬وليتم ‪ /‬صومه) رواه البخاري‪ ،‬وهذا باب واسع‪.‬‬

‫وأما الجر على قدر الطاعة فقد تكون الطاعة لّ ورسوله في عمل ميسر‪ ،‬كما يسر الّ على أهل السلم‪ :‬الكلمتين‪،‬‬
‫وهما أفضل العمال؛ ولذلك قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‪،‬‬
‫ل وبحمده‪ ،‬سبحان الّ العظيم) أخرجاه في الصحيحين‪.‬‬ ‫حبيبتان إلى الرحمن‪ ،‬سبحان ا ّ‬
‫ولو قيل‪ :‬الجر على قدر منفعة العمل‪ ،‬وفائدته ؛لكان صحيحًا اتصاف الول باعتبار تعلقه بالمر والثاني باعتبار‬
‫صفته في نفسه‪ .‬والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة المر فقط‪ ،‬وتارة من جهة صفته في نفسه‪ ،‬وتارة من كل‬
‫المرين‪ .‬فبالعتبار الول ينقسم إلى طاعة ومعصية‪ ،‬وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة‪ ،‬والطاعة والمعصية اسم له‬
‫من جهة المر‪ ،‬والحسنة والسيئة اسم له من جهة نفسه‪ .. .‬وإن كان كثيـر مـن النـاس ل يثبت إل الول‪ ،‬كما تقوله‬
‫الشعرية وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم‪.‬‬

‫ومن الناس من ليثبت إل الثاني‪ ،‬كما تقوله المعتزلة وطائفة ‪ /‬من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم‪ ،‬والصواب إثبات‬
‫العتبارين‪ ،‬كما تدل عليه نصوص الئمة وكلم السلف وجمهور العلماء من أصحابنا وغيرهم‪.‬‬

‫فأما كونه مشقًا‪ ،‬فليس هو سببًا لفضل العمل ورجحانه‪ ،‬ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقًا‪ ،‬ففضله لمعنى غير‬
‫مشقته‪ ،‬والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره‪ ،‬فيزداد الثواب بالمشقة‪ ،‬كما أن من كان بعده عن البيت في الحج‬
‫والعمرة أكثر‪ ،‬يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لعائشة في العمرة‪( :‬أجرك على قدر‬
‫نصبك) لن الجر على قدر العمل في بعد المسافة‪ ،‬وبالبعد يكثر النصب فيكثر الجر‪ ،‬وكذلك الجهاد‪ ،‬وقوله صلى‬
‫ال عليه وسلم‪( :‬الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة‪ ،‬والذي يقرأه ويتتعتع فيه‪ ،‬وهو عليه شاق له أجران)‪.‬‬

‫فكثيرًا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب‪ ،‬ل لن التعب والمشقة مقصود من العمل‪ ،‬لكن ؛لن العمل مستلزم‬
‫للمشقة والتعب‪ ،‬هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الصار والغلل‪ ،‬ولم يجعل علينا فيه حرج‪ ،‬ول أريد بنا فيه‬
‫العسر‪ ،‬وأما في شرع من قبلنا‪ ،‬فقد تكون المشقة مطلوبة منهم‪ .‬وكثير من العباد يرى جنس المشقة واللم والتعب‬
‫مطلوبًا مقربًا إلى الّ؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون ‪ /‬إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علقة الجسد‪ ،‬وهذا‬
‫من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم‪.‬‬

‫ولهذا تجد هؤلء مع من شابههم من الرهبان يعالجون العمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات‪،‬‬
‫مع أنه ل فائدة فيها ول ثمرة لها‪ ،‬ول منفعة إل أن يكون شيئًا يسيرًا ل يقاوم العذاب الليم الذي يجدونه‪.‬‬

‫ونظير هذا الصل الفاسد‪ ،‬مدح بعض الجهال بأن يقول‪ :‬فلن ما نكح ول ذبح‪ .‬وهذا مدح الرهبان الذين ل ينكحون‬
‫ول يذبحون‪ ،‬وأما الحنفاء فقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء‪ ،‬وآكل اللحم‪ ،‬فمن‬
‫رغب عن سنتي فليس مني)‪.‬‬

‫وهذه الشياء هي من الدين الفاسد‪ ،‬وهو مذموم‪ ،‬كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم‪.‬‬

‫والناس أقسام‪:‬‬

‫أصحاب دنيا محضة‪ :‬وهم المعرضون عن الخرة‪.‬‬

‫وأصحاب دين فاسد‪ :‬وهم الكفار‪ ،‬والمبتدعة الذين يتدينون بما لم ‪ /‬يشرعه الّ من أنواع العبادات‪ ،‬والزهادات‪.‬‬

‫والقسم الثالث وهم‪ :‬أهل الدين الصحيح‪ ،‬أهل السلم المستمسكون بالكتاب‪ ،‬والسنة والجماعة‪ ،‬والحمد لّ الذي هدانا‬
‫لهذا‪ ،‬وما كنا لنهتدي لول أن هدانا الّ لقد جاءت رسل ربنا بالحق‪.‬‬

‫حمَهُ الُّ‪:‬‬
‫‪َ /‬وقَالَ شَيخُ الِسْـلم أحمَد بن تيمية ـ َر ِ‬

‫َفصْل‬

‫ح مَنْ َزكّاهَا} [الشمس‪ ،]9 :‬و{‬


‫في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َ‬
‫َقدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّى} [العلى‪.]14 :‬‬
‫قال قتادة وابن عيينة وغيرهما‪ :‬قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الّ‪ ،‬وصالح العمال‪ .‬وقال الفراء والزجاج‪ :‬قد أفلحت‬
‫نفس زكاها الّ‪ ،‬وقد خابت نفس دساها الّ‪ .‬وكذلك ذكره الوالبي‪ ،‬عن ابن عباس وهو منقطع‪ .‬وليس هو مراد من‬
‫الية؛ بل المراد بها الول قطعًا لفظًا ومعنى‪.‬‬

‫أما اللفظ فقوله‪ :‬من زكاها اسم موصول ولبد فيه من عائد‪ /‬على {مّن} فإذا قيل‪ :‬قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان‬
‫ضمير الشخص في زكاها يعود على {مّن}‪ ،‬هذا وجه الكلم الذي ل ريب في صحته كما يقال‪ :‬قد أفلح من اتقى ال‬
‫وقد أفلح من أطاع ربه‪.‬‬

‫وأما إذا كان المعنى‪ :‬قد أفلح من زكاه الّ‪ ،‬لم يبق في الجملة ضمير يعود على {مّن} فإن الضميرعلى هذا يعود على‬
‫الّ‪ ،‬وليس هو {مّن} وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فل يعود على {مّن} ل ضمير الفاعل‪ ،‬ول المفعول‪.‬‬
‫فتخلوا الصلة من عائد وهذا ل يجوز‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬لو قيل‪ :‬قد أفلح من زكى الّ نفسه‪ ،‬أو من زكاها الّ له‪ ،‬ونحو ذلك صح الكلم‪ ،‬وخفاء هذا على من قال به من‬
‫النحاة عجب‪ .‬وهو لم يقل‪ :‬قد أفلحت نفس زكاها‪ .‬فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس ل صلة‪ ،‬بل قال‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َ‬
‫ح مَنْ‬
‫َزكّاهَا} [الشمس‪ ،]9 :‬فالجملة صلة لـ {مّن} ل صفة لها‪.‬‬

‫ول قال أيضًا‪ :‬قد أفلحـت النفس التي زكـاها‪ ،‬فإنـه لـو قيـل ذلك‪ ،‬وجعـل في { ّزكّاهّا } ضمير يعود على اسم الّ‬
‫صح‪ ،‬فإذا تكلفوا‪ ،‬وقالوا‪ :‬التقدير { َقدْ َأفْلَ َح مَنْ َزكّاهَا} هي النفس التي زكاها‪ ،‬وقالوا‪ :‬في زكى ضمير المفعول يعود‬
‫على {مَنْ} وهي تصلح للمذكر والمؤنث ‪ /‬والواحد والعدد‪ ،‬فالضمير عائد على معناها المؤنث‪ ،‬وتأنيثها غير حقيقي؛‬
‫ولهذا قيل‪{ :‬قّد أّفلّح} ولم يقل‪ :‬قد أفلحت‪ ،‬قيل لهم‪ :‬هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة‪ ،‬فإنما يصح إذا دل الكلم‬
‫على ذلك في مثل ومن‪ .. .‬على أن المراد لنا‪ ،‬وكذا قوله‪َ { :‬و ِم ْنهُ ْم مَ ْن يَ ْستَ ِمعُونَ إَِل ْيكَ} [يونس‪ ،]42 :‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫وأما هنا فليس في لفظ {مَنْ}‪ ،‬وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة‪ ،‬فل يجوز أن يراد بالكلم ما ليس‬
‫فيه دليل على إرادته‪ ،‬فإن مثل هذا مما يصان كلم الّ عز وجل عنه‪ ،‬فلو قدر احتمال عود ضمير { َزكّاهَا} إلى نفس‬
‫وإلى {مَنْ}‪ ،‬مع أن لفظ {مَنْ} ل دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل‬
‫التذكير والتأنيث‪ ،‬وهو في التذكير أظهر‪ ،‬لعدم دللته على التأنيث‪ ،‬فإن الكلم إذا احتمل معنيين وجب حمله على‬
‫أظهرهما‪ ،‬ومن تكلف غير ذلك‪ ،‬فقد خرج عن كلم العرب المعروف‪ ،‬والقرآن منزه عن ذلك‪ ،‬والعدول عما يدل‬
‫عليه ظاهر الكلم إلى مال يدل عليه بل دليل ل يجوز البتة فكيف إذا كان نصًا من جهة المعني؟! فقد أخبر الّ أنه‬
‫يلهم التقوى والفجور‪ .‬ولبسط هذا موضع آخر‪.‬‬

‫‪/‬والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم‪ ،‬والتحذير من تدسيتها‪ ،‬كقوله‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّى} [العلى‪ ،]14 :‬فلو قدر‬
‫أن المعنى قد أفلح من زكى الّ نفسه لم يكن فيه أمر لهم ول نهي‪ ،‬ول ترغيب ول ترهيب‪ .‬والقرآن إذا أمر أو نهى ل‬
‫ل مؤمنًا‪ ،‬بل يقول‪َ { :‬قدْ َأفْلَحَ ا ْلمُ ْؤمِنُونَ} [المؤمنون‪َ { ،]1 :‬قدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّى} إذ‬
‫يذكر مجرد القدر فل يقول‪ :‬من جعله ا ّ‬
‫ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود‪ ،‬ول يليق هذا بأضعف الناس عقل فكيف بكلم الّ؟! أل ترى أنه في مقام‬
‫المر‪ ،‬والنهي‪ ،‬والترغيب‪ ،‬والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد‪ ،‬والوعيد‪ ،‬والمدح‪ ،‬والذم‪ ،‬وإنما يذكر القدر عند بيان‬
‫نعمه عليهم‪ ،‬إما بما ليس من أفعالهم‪ ،‬وإما بإنعامه باليمان‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬ويذكره في سياق قدرته ومشيئته‪ ،‬وأما‬
‫في معرض المر فل يذكره إل عند النعم‪ .‬كقوله‪{ :‬وَلَ ْو َل فَضْلُ الِّ عََل ْيكُمْ وَ َر ْحمَتُ ُه مَا َزكَى} الية [النور‪ ،]21 :‬فهذا‬
‫مناسب‪ .‬وقوله‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّى}وهذه الية من جنس الثانية ل الولى‪.‬‬

‫والمقصود ذكر التزكية قال تعالى‪{ :‬قُلْ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َيغُضّوا} الية [النور‪ ،]30 :‬وقال‪{ :‬فَارْ ِجعُوا ُهوَ أَ ْزكَى َل ُكمْ}[النور‪:‬‬
‫‪ ،]28‬وقال‪{ :‬اّلذِي َن لَ يُ ْؤتُونَ ال ّزكَاةَ} [فصلت‪ ،]7 :‬وقال‪َ { :‬ومَا عََل ْيكَ َأ ّل يَ ّزكّى}[عبس‪.]7 :‬‬

‫وأصل الزكاة الزيادة في الخير‪ .‬ومنه يقال‪ :‬زكا الزرع‪ ،‬وزكا ‪/‬المال إذا نما‪ .‬ولن ينمو الخير إل بترك الشر‪ ،‬والزرع‬
‫ل يزكو حتى يزال عنه الدغل‪ ،‬فكذلك النفس والعمال ل تزكوا حتي يزال عنها ما يناقضها ول يكون الرجل متزكيًا‬
‫إل مع ترك الشر‪ ،‬فإنه يدنس النفس ويدسيها‪ .‬قال الزجاج‪{ :‬دّسّاهّا} جعلها ذليلة حقيرة خسيسة‪ ،‬وقال الفراء‪ :‬دساها؛‬
‫لن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله‪ ،‬قال ابن قتيبة‪ :‬أي أخفاها بالفجور والمعصية‪ ،‬فالفاجر دس نفسه‪ ،‬أي قمعها‬
‫وخباها‪ ،‬وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها‪ ،‬وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها‪ ،‬واللئام تنزل‬
‫الطراف والوديان‪.‬‬

‫فالبر والتقوى يبسط النفس‪ ،‬ويشرح الصدر‪ ،‬بحيث يجد النسان في نفسه اتساعًا وبسطًا عما كان عليه قبل ذلك‪ ،‬فإنه‬
‫لما اتسع بالبر والتقوى والحسان بسطه الّ وشرح صدره‪ ،‬والفجور‪ ،‬والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها‪ ،‬بحيث‬
‫يجد البخيل في نفسه أنه ضيق‪ .‬وقد بين النبي صلى ال عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح‪ ،‬فقال‪( :‬مثل البخيل‬
‫والمتصدق‪ ،‬كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد‪ ،‬قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما‪ .‬فجعل المتصدق كلما هم بصدقة‬
‫اتسعت وانبسطت عنه‪ ،‬حتى تغشى أنامله‪ ،‬وتعفو أثره‪ ،‬وجعل البخيل كلما هم بصدقة‪ ،‬قلصت‪ ،‬وأخذت كل حلقة‬
‫بمكانها‪ ،‬وأنا رأيت رسول الّ صلى ال عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه‪ ،‬فلو رأيتها يوسعها فل تتسع) أخرجاه‪.‬‬

‫‪/‬وإخفاء المنزل وإظهاره تبعًا لذلك‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬يَتَوَارَى مِنْ ا ْلقَوْ ِم مِنْ سُو ِء مَا بُشّ َر بِهِ} الية [النحل‪ .]59 :‬فهكذا النفس‬
‫البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في بدنه بعضها في بعض؛ ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من‬
‫الصوف المبتل‪ ،‬والنفس البرة التقية النقية‪ ،‬التي قد زكاها صاحبها فارتفعت‪ ،‬واتسعت‪ ،‬ومجدت‪ ،‬ونبلت فوقت الموت‬
‫تخرج من البدن تسيل‪ ،‬كالقطرة من في السقاء‪ ،‬وكالشعرة من العجين‪ .‬قال ابن عباس‪ :‬إن للحسنة لنورًا في القلب‪،‬‬
‫وضياءً في الوجه‪ ،‬وقوة في البدن‪ ،‬وسعة في الرزق‪ ،‬ومحبة في قلوب الخلق‪ .‬وإن للسيئة لظلمة في القلب‪ ،‬وسوادًا‬
‫طيّبُ} الية [العراف‪:‬‬ ‫في الوجه‪ ،‬ووهنا في البدن‪ ،‬وضيقًا في الرزق‪ ،‬وبغضة في قلوب الخلق‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وَا ْلبََلدُ ال ّ‬
‫صدْرَهُ} الية [النعام‪ .]521 :‬وقال‪{ :‬الُّ وَِليّ اّلذِينَ‬ ‫ن يَه ِديَهُ يَشْ َرحْ َ‬ ‫‪ .]58‬وهذا مثل البخيل والمنفق‪ .‬قال‪َ { :‬فمَ ْ‬
‫ن يُ ِردْ الُّ أَ ْ‬
‫آ َمنُوا} الية [البقرة‪.]257 :‬‬

‫وقال له في سياق الرمي بالفاحشة‪ ،‬وذم من أحب إظهارها في المؤمنين‪ ،‬والمتكلم بما ل يعلم‪{ :‬وَلَ ْو َ‬
‫ل فَضْلُ الِّ عََل ْيكُ ْم‬
‫حدٍ َأ َبدًا}الية[النور‪ .]21 :‬فبين أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة ولهذا قال‪{ :‬قُلْ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ‬
‫ح َمتُهُ مَا َزكَى ِمنْكُ ْم مِنْ َأ َ‬
‫وَ َر ْ‬
‫َيغُضّوا مِنْ َأبْصَارِهِمْ} الية [النور‪ .]30 :‬وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس‪ ،‬فإنها تعلم أن السيئات مذمومة‬
‫ومكروه فعلها‪ ،‬ويجاهد نفسه إذا دعته إليها‪ ،‬إن كان مصدقًا لكتاب ‪ /‬ربه مؤمنا بما جاء عن نبيه صلى ال عليه وسلم؛‬
‫ولهذا التصديق واليمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة ‪ ،‬فتزكو بذلك أيضًا‪ ،‬بخلف ما إذا‬
‫عملت السيئات فإنهـا تتدنس وتندس‪ ،‬وتنقمع‪ ،‬كالزرع إذا نبت معه الدغل‪.‬‬

‫والثواب إنما يكون على عمل موجود‪ ،‬وكذلك العقاب‪ .‬فأما العدم المحض‪ ،‬فل ثواب فيه ول عقاب‪ ،‬لكن فيه عدم‬
‫الثواب والعقاب‪ ،‬والّ سبحانه أمر بالخير‪ ،‬ونهى عن الشر‪ ،‬واتفق الناس على أن المطلوب بالمر فعل موجود‪،‬‬
‫واختلفوا في النهي هل المطلوب أمر وجودي‪ ،‬أم عدمي؟ فقيل‪ :‬وجودي‪ ،‬وهو الترك‪ ،‬وهذا قول الكثر‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫المطلوب عدم الشر‪ ،‬وهو أل يفعله‪.‬‬

‫والتحقيق أن المؤمن إذا نهى عن المنكر‪ ،‬فل بد أل يقربه ويعزم على تركه‪ ،‬ويكره فعله‪ ،‬وهذا أمر وجودي بل ريب‪،‬‬
‫فليتصور أن المؤمن الذي يعلم أنه‪ . ..‬وجودي‪ ،‬لكن قد ل يكون مريدًا له كما يكره أكل الميتة طبعًا‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فلبد‬
‫له من اعتقاد التحريم والعزم على تركه لطاعة الشارع‪ ،‬وهذا قدر زائد على كراهة الطبع‪ ،‬وهو أمر وجودي يثاب‬
‫عليه‪ ،‬ولكن ليس كثواب من كف نفسه وجاهدها عن طلب ‪ /‬المحرم‪ ،‬ومن كانت كراهته للمحرمات كراهة إيمان‪ .‬وقد‬
‫غمر إيمانه حكم طبعه‪ ،‬فهذا أعلى القسام الثلثة‪ ،‬وهذا صاحب النفس المطمئنة‪ ،‬وهو أرفع من صاحب اللوامة التي‬
‫تفعل الذنب‪ ،‬وتلوم صاحبها عليه‪ ،‬وتتلوم وتتردد‪ ،‬هل تفعله أم ل؟!‬

‫وأما من لم يخطر بباله أن الّ حرمه‪ ،‬ول هو مريد له‪ ،‬بل لم يفعله‪ ،‬فهذا ليعاقب ول يثاب‪ ،‬إذ لم يحصل منه أمر‬
‫وجودي يثاب عليه‪ ،‬أو يعاقب فمن قال‪ :‬المطلوب أل يفعل‪ ،‬إن أراد أن هذا المطلوب يكفي في عدم العقاب‪ ،‬فقد‬
‫صدق‪ ،‬وإن أراد أنه يثاب على هذا العدم‪ ،‬فليس كذلك‪ ،‬والكافر إذا لم يؤمن بالّ ورسوله‪ ،‬فل بد لنفسه من أعمال‬
‫يشتغل بها عن اليمان‪ ،‬وترك العمال كفر يعاقب عليها‪.‬‬

‫ل عقوبة الكفار في النار‪ ،‬ذكر أمورًا وجودية وتلك تدس النفس؛ ولهذا كان التوحيد واليمان أعظم ما‬
‫ولهذا لما ذكر ا ّ‬
‫تزكو به النفس‪ ،‬وكان الشرك أعظم ما يدسيها‪ ،‬وتتزكى بالعمال الصالحة والصدقة هذا كله مما ذكره السلف‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫في { َقدْ َأفْلَ َح مَ ْن تَ َزكّى}[العلى‪ ،]14 :‬تطهر من الشرك‪ ،‬ومن المعصية بالتوبة‪ ،‬وعن أبي سعيد وعطاء وقتادة‪:‬‬
‫صدقة الفطر‪ .‬ولم يريدوا أن الية لم تتناول إل هي‪ ،‬بل مقصودهم‪ :‬أن من أعطى صدقة الفطر‪ ،‬وصلى صلة العيد‬
‫فقد تناولته وما بعدها‪ ،‬ولهذا ‪ /‬كان يزيد بن حبيب‪ ،‬كلما خرج إلى الصلة خرج بصدقة‪ ،‬ويتصدق بها‪ ،‬قبل الصلة‪،‬‬
‫ولو لم يجد إل بصلً‪ .‬قال الحسن‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َح مَنْ تَ َزكّى} من كان عمله زاكيًا‪ ،‬وقال أبو الحوص‪ :‬زكاة المور كلها‪،‬‬
‫وقال الزجاج‪ :‬تزكى بطاعة الّ عز وجل‪ ،‬ومعنى الزاكي‪ :‬النامي الكثير‪.‬‬

‫وكذلك قالوا في قوله‪{ :‬وَ َويْلٌ لِ ْلمُ ْش ِركِينَ ‪ .‬اّلذِينَ َل يُ ْؤتُونَ ال ّزكَاةَ}[فصلت‪ ]7 ،6 :‬قال ابن عباس‪ :‬ليشهدون أن ل إله إل‬
‫الّ‪ ،‬وقال مجاهد‪ :‬ل يزكون أعمالهم أي ليست زاكية‪ ،‬وقيل ل يطهرونها بالخلص‪ ،‬كأنه أراد ـ والّ أعلم ـ أهل‬
‫الرياء‪ ،‬فإنه شرك‪ .‬وعن الحسن‪ :‬ل يؤمنون بالزكاة‪ ،‬ول يقرون بها‪ .‬وعن الضحاك‪ :‬ل يتصدقون‪ ،‬ول ينفقون في‬
‫الطاعة‪ ،‬وعن ابن السائب‪ :‬ل يعطون زكاة أموالهم‪ .‬قال‪ :‬كانوا يحجون ويعتمرون ول يزكون‪.‬‬

‫والتحقيق أن الية تتناول كل ما يتزكى به النسان من التوحيد والعمال الصالحة‪ .‬كقوله‪{ :‬هَلْ َلكَ إِلَى أَ ْن تَ َزكّى} [‬
‫النازعات‪ ،]18 :‬وقوله‪َ { :‬قدْ َأفْلَ َح مَنْ تَ َزكّى} [العلى‪ ،]14 :‬والصدقة المفروضة لم تكن فرضت عند نزولها‪.‬‬

‫فإن قيل‪{ :‬يؤتي} فعل متعد‪.‬‬

‫قيل‪ :‬هذا كقوله‪{ :‬ثُمّ ُسئِلُوا الْ ِف ْتنَةَ َلتَوْهَا} [الحزاب‪ ،]14 :‬وتقدم قبلها أن ‪ /‬الرسول دعاهم‪ ،‬وهو طلب منه‪ ،‬فكان هذا‬
‫اللفظ متضمنًا قيام الحجة عليهم بالرسل‪ ،‬والرسل إنما يدعونهم لما تزكو به أنفسهم‪.‬‬

‫طهّرُ ُهمْ} من الشر{‬


‫ص َدقَةً تُ َ‬ ‫ومما يليق‪ :‬أن الزكاة تستلزم الطهارة؛ لن معناها معنى الطهارة‪ .‬قوله‪ُ { :‬‬
‫خذْ مِنْ َأمْوَاِلهِمْ َ‬
‫وَتُ َزكّيهِمْ} [التوبة‪ ]103 :‬بالخير قال صلى ال عليه وسلم‪( :‬اللّهم طهرني بالماء والبرد والثلج) كان يدعو به في‬
‫الستفتاح وفي العتدال من الركوع‪ ،‬والغسل‪.‬‬

‫فهذه المور توجب تبريد المغسول بها‪ ،‬و[البرد] يعطي قوة وصلبة‪ ،‬ومايسر يوصف بالبرد وقرة العين؛ ولهذا كان‬
‫دمع السرور باردًا‪ ،‬ودمع الحزن حارًا؛ لن مايسوء النفس يوجب حزنها وغمها‪ ،‬وما يسرها يوجب فرحها‬
‫وسرورها وذلك مما يبرد الباطن‪.‬‬

‫فسأل النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور‬
‫الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب‪.‬‬

‫وقوله‪ :‬بالثلج والبرد والماء البارد‪ :‬تمثيل بما فيه من هذا الجنس‪ ،‬وإل فنفس الذنوب ل تغسل بذلك‪ ،‬كما يقال‪ :‬أذقنا‬
‫برد عفوك‪ ،‬وحلوة مغفرتك‪ .‬ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال صلى ال عليه وسلم‪( :‬الن ‪ /‬برّدت جلدته)‪ ،‬ويقال‪:‬‬
‫برد اليقين‪ ،‬وحرارة الشك‪ ،‬ويقال‪ :‬هذا المر يثلج له الصدر‪ ،‬إذا كان حقًا يعرفه القلب ويفرح به‪ ،‬حتى يصير في مثل‬
‫برد الثلج‪ ،‬ومرض النفس‪ :‬إما شبهة وإما شهوة أو غضب‪ ،‬والثلثة توجب السخونة‪ ،‬ويقال لمن نال مطلوبه‪ :‬برد‬
‫قلبه‪ ،‬فإن الطالب فيه حرارة الطلب‪.‬‬

‫خ ْذ مِنْ َأمْوَاِلهِمْ}‪ :‬دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة‪ ،‬فإنه قاله بعد قوله‪{ :‬‬ ‫وقوله‪ُ { :‬‬
‫وَآ َخرُونَ ا ْعتَ َرفُوا}الية [التوبة‪ .]102 :‬فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق‬
‫قوله‪{ :‬قُلْ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َيغُضّوا}اليات [النور‪َ { ]30 :‬وتُوبُوا إِلَى الِّ} الية [النور‪ .]31 :‬فأمرهم جميعًا بالتوبة في سياق‬
‫ما ذكره؛ لنه ل يسلم أحد من هذا الجنس‪ .‬كما في الصحيح‪( :‬إن الّ كتب على ابن آدم حظه من الزنا) الحديث‪.‬‬
‫ت ُيذْهِبْنَ ال ّسّيئَاتِ} [هود‪ ]114 :‬نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء‬ ‫وكذلك في الصحيح‪ :‬إن قوله‪{ :‬إِنّ الْحَ َ‬
‫سنَا ِ‬
‫إل الجماع‪ ،‬ثم ندم فنزلت‪.‬‬

‫ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف الّ‪ ،‬وينهى النفس عن الهوى‪ ،‬ونفس الهوى والشهوة ل يعاقب عليه‪ ،‬بل على‬
‫اتباعه والعمل به‪ ،‬فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لّ‪ ،‬وعملً صالحًا‪ ،‬وثبت عنه أنه قال‪( :‬المجاهد‬
‫من جاهد نفسه في ذات الّ)‪ ،‬فيؤمر بجهادها ‪ /‬كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها‪ ،‬وهو إلي جهاد نفسه‬
‫أحوج‪ ،‬فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية‪ ،‬والصبر في هذا من أفضل العمال‪ ،‬فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك‬
‫الجهاد‪ ،‬فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد‪ .‬كما قال‪( :‬والمهاجر من هجر السيئات)‪.‬‬
‫ف نُ ْؤتِيهِ أَ ْجرًا عَظِيمًا}[النساء‪،]74 :‬‬ ‫ثم هذا ل يكون محمودًا فيه‪ ،‬إل إذا غلب‪ ،‬بخلف الول فإنه من{ َفيُ ْقتَلْ أَ ْو َيغْلِ ْ‬
‫ب فَسَ ْو َ‬
‫ولهـذا قال صلى ال عليه وسلم‪( :‬ليـس الشديد بالصرعة‪ ) . ..‬إلخ؛ وذلك لن الّ أمر النسان أن ينهي النفس عن‬
‫الهوى‪ ،‬وأن يخاف مقام ربه‪ ،‬فحصل له من اليمان ما يعينه على الجهاد‪ ،‬فإذا غلب كان لضعف إيمانه‪ ،‬فيكون‬
‫مفرطًا بترك المأمور‪ ،‬بخلف العدو الكافر فإنه قد يكون بدنه أقوى‪.‬‬

‫فالذنوب إنما تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به‪ ،‬ومع امتثال المأمور ل تفعل المحظور‪ ،‬فإنهما ضدان‪ .‬قال‬
‫تعالى‪َ { :‬كذَِلكَ ِلنَصْرِفَ َعنْهُ السّوءَ} الية [يوسف‪ .]24 :‬وقال‪{ :‬إِنّ ِعبَادِي َليْسَ َلكَ عََل ْيهِمْ سُ ْلطَانٌ} [الحجر‪،42 :‬‬
‫السراء‪ ] 65 :‬فعباد الّ المخلصون ل يغويهم الشيطان‪ ،‬والغي خلف الرشد‪ ،‬وهو اتباع الهوى‪ ،‬فمن مالت نفسه‬
‫إلى محرم‪ ،‬فليأت بعبادة الّ كما أمر الّ مخلصًا له الدين‪ ،‬فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء‪ .. ..‬خشية ومحبة‪،‬‬
‫والعبادة له ‪ /‬وحده‪ ،‬وهذا يمنع من السيئات‪.‬‬

‫فإذا كان تائبًا‪ ،‬فإن كان ناقصًا‪ ،‬فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع‪ ،‬فهو كالترياق الذي يدفع أثر‬
‫السم‪ ،‬ويرفعه بعد حصوله‪ ،‬وكالغذاء من الطعام والشراب‪ ،‬وكالستمتاع بالحلل الذي يمنع النفس عن طلب الحرام‪،‬‬
‫فإذا حصل له طلب إزالته‪ ،‬وكالعلم الذي يمنع من الشك‪ ،‬ويرفعه بعد وقوعه‪ ،‬وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع‬
‫المرض‪ ،‬وكذلك ما في القلب من اليمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به‪.‬‬

‫وإذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه‪ ،‬ول يحصل المرض إل لنقص أسباب الصحة‪ ،‬كذلك القلب‬
‫ل يمرض إل لنقص إيمانه‪ .‬وكذلك اليمان والكفران متضادان‪ ،‬فكل ضدين‪ :‬فأحدهما يمنع الخر تارة‪ ،‬ويرفعه‬
‫أخرى‪ ،‬كالسواد والبياض‪ . ..‬حصل موضعه ويرفعه إذا كان حاصلً‪ ،‬كذلك الحسنات والسيئات والحباط‪. ..‬‬
‫والمعتزلة إن الكبيرة تحبط الحسنات حتى اليمان‪ ،‬وإن من مات عليها لم يكن‪ .. .‬الجبائي وابنه بالموازنة‪ .‬لكن قالوا‪:‬‬
‫من رجحت سيئاته خلد في النار‪ ،‬والموازنة بل تخليد قول‪ . ..‬الحباط ما أجمع عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر‬
‫كما قال‪َ { :‬ومَ ْن يَ ْر َتدِ ْد ِمنْكُمْ عَ ْن دِينِهِ}الية[البقرة‪ ،]217 :‬وقوله‪َ { :‬ومَنْ َيكْ ُف ْر بِالِْيمَانِ َف َقدْ َحبِطَ َعمَلُهُ} الية [المائدة‪،]5 :‬‬
‫وقال‪{ :‬وََلوْ أَشْ َركُوا لَ َحبِطَ َع ْنهُ ْم مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ} [النعام‪ ،]88 :‬وقال‪َ{ :‬لئِنْ أَشْ َركْتَ َليَ ْحبَطَنّ َعمَُلكَ} الية [الزمر‪.]65 :‬‬

‫وما ادعته المعتزلة مخالف لقوال السلف‪ ،‬فإنه سبحانه ذكر حد الزاني وغيره‪ ،‬ولم يجعلهم كفارًا حابطي العمال‪،‬‬
‫ول أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين‪ ،‬والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم‪ .‬والنبي صلى ال عليه وسلم أمر‬
‫بالصلة على الغال‪ ،‬وعلى قاتل نفسه‪ ،‬ولو كانوا كفارًا ومنافقين لم تجز الصلة عليهم‪ .‬فعلم أنهم لم يحبط إيمانهم كله‪.‬‬
‫وقال عمن شرب الخمر‪( :‬ل تلعنه فإنه يحب الّ ورسوله) وذلك الحب من أعظم شعب اليمان‪ .‬فعلم أن إدمانه ل‬
‫يذهب الشعب كلها‪ ،‬وثبت من وجوه كثيرة‪( :‬يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ولو حبط لم يكن في‬
‫قلوبهم شيء منه‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬ثُمّ َأوْ َر ْثنَا ا ْل ِكتَابَ}الية[فاطر‪ .]32 :‬فجعل من المصطفين‪.‬‬

‫فإذا كانت السيئات ل تحبط جميع الحسنات‪ ،‬فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر؟ فيه‬
‫ص َدقَا ِتكُمْ‬ ‫قولن للمنتسبين إلى السنة‪ .‬منهم من ينكره‪ ،‬ومنهم من يثبته‪ ،‬كما دلت عليه النصوص‪ ،‬مثل قوله‪َ { :‬‬
‫ل ُتبْطِلُوا َ‬
‫بِا ْلمَنّ وَا َلْذَى} الية[البقرة‪ .]264 :‬دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة‪ ،‬وضرب مثله بالمرائي‪ ،‬وقالت عائشة‪:‬‬
‫ابلغي زيدًا أن جهاده بطل‪ .‬الحديث‪.‬‬

‫عمَاُلكُمْ} [الحجرات‪ ،]2 :‬وحديث صلة العصر ففي ذلك نزاع‪ .‬وقال تعالى‪َ { :‬و َ‬
‫ل تُبْطِلُوا‬ ‫حبَطَ أَ ْ‬ ‫‪/‬وأما قوله‪{ :‬أَ ْ‬
‫ن تَ ْ‬
‫أَ ْعمَاَلكُمْ} [محمد‪ ]33 :‬قال الحسن‪ :‬بالمعاصي والكبائر‪ ،‬وعن عطاء‪ :‬بالشرك والنفاق‪ ،‬وعن ابن السائب‪ :‬بالرياء‬
‫والسمعة‪ ،‬وعن مقاتل‪ :‬بالمن‪ .‬وذلك أن قومًا منوا بإسلمهم‪ ،‬فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر‬
‫تحبط العمال‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬لم يرد إل إبطالها بالكفر‪.‬‬

‫قيل‪ :‬ذلك منهي عنه في نفسه‪ ،‬وموجب للخلود الدائم‪ ،‬فالنهي عنه ل يعبر عنه بهذا‪ ،‬بل يذكره على وجه التغليظ‪.‬‬
‫كقوله‪{ :‬مَ ْن يَ ْرتَ ّد ِم ْنكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة‪ ]54 :‬ونحوها‪ .‬والّ سبحانه في هذه وفي آية المن سماها إبطال‪ ،‬ولم يسمه‬
‫لّ ثُ ّم مَاتُوا وَ ُه ْم كُفّارٌ} الية[محمد‪.]34 :‬‬
‫سبِيلِ ا ِ‬
‫صدّوا عَنْ َ‬ ‫إحباطًا؛ ولهذا ذكر بعدها الكفر بقوله‪{ :‬إِنّ اّلذِي َ‬
‫ن كَفَرُوا وَ َ‬
‫فإن قيل‪ :‬المراد إذا دخلتم فيها فأتموها‪ ،‬وبها احتج من قال‪ :‬يلزم التطوع بالشروع فيه‪.‬‬

‫قيل‪ :‬لو قدر أن الية تدل على أنه منهي عن إبطال بعض العمل‪ ،‬فإبطاله كله أولى‪ ،‬بدخوله فيها فكيف وذلك قبل‬
‫فراغه ل يسمى صلة ول صومًا؟!‬

‫ثم يقال‪ :‬البطال يوجد قبل الفراغ أو بعده‪ ،‬وما ذكروه أمر بالتمام‪ ،‬والبطال هو إبطال الثواب‪ ،‬ول نسلم أن من لم‬
‫يتم العبادة يبطل جميع ثوابه‪ ،‬بل يقال‪ :‬إنه يثاب على ما فعل من ذلك‪ .‬وفي الصحيح حديث المفلس (الذي يأتي‬
‫بحسنات أمثال الجبال)‪.‬‬

‫سُ ِئلَ شَيْـخ الِسْـلم ـ قدس ال روحه ـ عن رجل تفقه وعلم ما أمر الّ به وما نهى عنه‪ ،‬ثم تزهد وترك الدنيا‬ ‫‪/‬‬
‫والمال والهل والولد خائفًا من كسب الحرام والشبهات‪ ،‬وبعث الخرة وطلب رضا الّ ورسوله‪ ،‬وساح في أرض‬
‫الّ والبلدان‪ ،‬فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم ل؟‬

‫فأجــاب‪:‬‬

‫ل وحده‪ ،‬الزهد المشروع هو ترك كل شيء ل ينفع في الدار الخرة‪ ،‬وثقة القلب بما عند الّ‪ ،‬كما في الحديث‬ ‫الحمد ّ‬
‫الذي في الترمذي (ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلل‪ ،‬ول إضاعة المال‪ ،‬ولكن الزهد أن تكون بما في يد الّ أوثق‬
‫بما في يدك‪ ،‬وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك) لن الّ تعالى يقول‪ِ{ :‬ل َكيْلَ‬
‫تَأْسَوْا عَلَى مَا فَا َتكُمْ َولَ َتفْرَحُوا ِبمَا آتَاكُمْ} [الحديد‪ .]23 :‬فهذا صفة القلب‪.‬‬

‫‪/‬وأما في الظاهر‪ ،‬فترك الفضول التي ل يستعان بها على طاعة الّ من مطعم وملبس ومال وغير ذلك‪ ،‬كما قال‬
‫المام أحمد‪ :‬إنما هو طعام دون طعام‪ ،‬ولباس دون لباس‪ ،‬وصبر أيام قلئل‪.‬‬

‫وجماع ذلك خلق رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول‪( :‬خير الكلم كلم الّ‪،‬‬
‫وخير الهدى هدى محمد‪ ،‬وشر المور محدثاتها‪ ،‬وكل بدعة ضللة)‪ .‬وكان عادته في المطعم أنه ل يرد موجودًا‪ ،‬ول‬
‫يتكلف مفقودًا‪ ،‬ويلبس من اللباس ما تيسر من قطن وصوف وغير ذلك‪ ،‬وكان القطن أحب إليه‪ ،‬وكان إذا بلغه أن‬
‫بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد في الزهد‪ ،‬أو العبادة على المشروع‪ ،‬ويقول‪ :‬أينا مثل رسول الّ صلى ال عليه‬
‫وسلم ؟! يغضب لذلك‪ ،‬ويقول‪( :‬والّ إني لخشاكم لّ‪ ،‬وأعلمكم بحدود الّ تعالى) وبلغه أن بعض أصحابه قال‪ :‬أما أنا‬
‫فأصوم فل أفطر‪ ،‬وقال الخر‪ :‬أما أنا فأقوم فل أنام‪ ،‬وقال آخر‪ :‬أما أنا فل أتزوج النساء‪ ،‬وقال آخر‪ :‬أما أنا فل آكل‬
‫اللحم‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪( :‬لكني أصوم وأفطر‪ ،‬وأقوم وأنام‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬وآكل اللحم‪ ،‬فمن رغب عن‬
‫سنتي فليس مني)‪.‬‬

‫فأما العراض عن الهل والولد فليس مما يحبه الّ ورسوله‪ ،‬ول هو من دين النبياء؛ بل قد قال تعالى‪{ :‬وََل َقدْ‬
‫أَ ْرسَ ْلنَا ُرسُلً مِ ْن َقبِْلكَ وَ َجعَ ْلنَا َلهُمْ أَزْوَاجًا َوذُ ّريّةً} [الرعد‪ ]38 :‬والنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجبًا تارة‬
‫ومستحبًا أخرى‪ ،‬فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين‪.‬‬

‫وكذلك السياحة في البلد لغير مقصود مشروع‪ ،‬كما يعانيه بعض النساك أمر منهي عنه‪ ،‬قال المام أحمد‪ :‬ليست‬
‫السياحة من السلم في شىء‪ ،‬ول من فعل النبيين ول الصالحين‪.‬‬

‫وأما السياحة المذكورة في القرآن من قوله‪{ :‬التّائِبُونَ ا ْلعَابِدُونَ ا ْلحَا ِمدُونَ السّائِحُونَ} [التوبة‪ ]112 :‬ومن قوله‪{ :‬مُسِْلمَاتٍ‬
‫ت َثّيبَاتٍ وََأ ْبكَارًا} [التحريم‪ ]5 :‬فليس المراد بها هذه السياحة المبتدعة؛ فإن الّ قد‬ ‫ت تَا ِئبَاتٍ عَا ِبدَاتٍ سَائِحَا ٍ‬
‫ت قَا ِنتَا ٍ‬
‫مُ ْؤ ِمنَا ٍ‬
‫وصف النساء اللتي يتزوجهن رسوله بذلك‪ ،‬والمرأة المزوجة ل يشرع لها أن تسافر في البراري سائحة‪ ،‬بل المراد‬
‫بالسياحة شيئان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬الصيام‪ .‬كما روى عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬الحلل بين‪،‬‬
‫والحرام بين‪ ،‬وبينهما أمور مشتبهات ل يعلمهن كثيرمن الناس‪ ،‬فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه‪ ،‬ومن‬
‫وقع في الشبهات وقع في الحرام‪ ،‬كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه‪ ،‬أل وإن لكل ‪ /‬ملك حمى‪ ،‬أل وإن‬
‫حمى الّ محارمه‪ ،‬أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كله‪ ،‬إل وهي‬
‫القلب)‪ .‬متفق عليه‪.‬‬

‫لكن إذا ترك النسان الحرام‪ ،‬أو الشبهة‪ ،‬بترك واجب أو مستحب‪ ،‬وكان الثم أو النقص الذي عليه في الترك أعظم‬
‫من الثم الذي عليه في الفعل لم يشرع ذلك‪ ،‬كما ذكر أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي‪ ،‬عن المام أحمد بن حنبل‬
‫أنه سئل عمن ترك ما ل شبهة فيه وعليه دين؟ فسأله ولده أترك هذا المال الذي فيه شبهة فل أقضيه؟ فقال له‪ :‬أتدع‪...‬‬
‫[بياض بالصل]‪.‬‬

‫سُ ِئلَ شَيْخُ السلم أَبُو ا ْلعَبّاس أحمد بن تيمية ـ رحمه الّ ـ عن‬

‫قوله تعالى‪{ :‬حَقّ ا ْليَقِينِ} [ الواقعة‪ ]95 :‬و{ َعيْنَ ا ْل َيقِينِ}[التكاثر‪ ] 7 :‬و{عِ ْلمَ ا ْليَقِينِ} [التكاثر‪ ]5 :‬فما معنى كل مقام‬
‫منها؟ وأي مقام أعلى؟‪.‬‬

‫فأجـاب‪:‬‬

‫الحمد لّ رب العالمين‪ ،‬للناس في هذه السماء مقالت معروفة‪.‬‬

‫عيْنَ ا ْليَقِينِ} ما شاهده وعاينه بالبصر‪ ،‬و{حَقّ‬


‫منها‪ :‬أن يقال‪{ :‬عِلْمَ ا ْل َيقِينِِ}ما علمه بالسماع والخبر والقياس والنظر‪ ،‬و{ َ‬
‫ا ْليَقِينِ} ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالعتبار‪.‬‬

‫فالول‪ :‬مثل من أخبر أن هناك عسلً‪ ،‬وصدق المخبر‪ .‬أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه‪ ،‬وهذا أعلى كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ليس المخبر كالمعاين)‬
‫‪.‬‬

‫‪/‬والثالث‪ :‬مثل من ذاق العسل‪ ،‬ووجد طعمه وحلوته‪ ،‬ومعلوم أن هذا أعلى مما قبله؛ ولهذا يشير أهل المعرفة إلى ما‬
‫عندهم من الذوق والوجد‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪( :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة‬
‫اليمان‪ :‬من كان الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ‪ ،‬ومن كان يكره أن يرجع‬
‫إلى الكفر بعد إذ أنقذه الّ منه كما يكره أن يلقي في النار)‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪( :‬ذاق طعم اليمان‪ :‬من رضى‬
‫بالّ ربًا‪ ،‬وبالسلم دينًا‪ ،‬وبمحمد رسولً) فالناس فيما يجده أهل اليمان ويذوقونه من حلوة اليمان وطعمه على‬
‫ثلث درجات‪:‬‬

‫الولى‪ :‬من علم ذلك مثل من يخبره به شيخ له يصدقه‪ ،‬أو يبلغه ما أخبر به العارفون عن أنفسهم‪ ،‬أو يجد من آثار‬
‫أحوالهم ما يدل على ذلك‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬من شاهد ذلك وعاينه‪ ،‬مثل أن يعاين من أحوال أهل المعرفة والصدق واليقين ما يعرف به مواجيدهم‬
‫وأذواقهم‪ ،‬وإن كان هذا في الحقيقة لم يشاهد ما ذاقوه ووجدوه‪ ،‬ولكن شاهد ما دل عليه لكن هو أبلغ من المخبر‪،‬‬
‫والمستدل بآثارهم‪.‬‬

‫والثالثة‪ :‬أن يحصل له من الذوق والوجد في نفسه ما كان ‪ /‬سمعه‪ ،‬كما قال بعض الشيوخ‪ :‬لقد كنت في حال أقول‬
‫فيها‪ :‬إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب‪ .‬وقال آخر‪ :‬إنه ليمر على القلب أوقات‬
‫يرقص منها طربًا‪ .‬وقال الخر‪ :‬لهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم‪.‬‬

‫والناس فيما أخبروا به من أمر الخرة على ثلث درجات‪:‬‬

‫إحداها‪ :‬العلم بذلك لما أخبرتهم الرسل‪ ،‬وما قام من الدلة على وجود ذلك‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬إذا عاينوا ما وعدوا به من الثواب والعقاب والجنة والنار‪.‬‬


‫والثالثة‪ :‬إذا باشروا ذلك؛ فدخل أهل الجنة الجنة‪ ،‬وذاقوا ما كانوا يوعدون‪ ،‬ودخل أهل النار النار‪ ،‬وذاقوا ما كانوا‬
‫يوعدون‪ ،‬فالناس فيما يوجد في القلوب‪ ،‬وفيما يوجد خارج القلوب على هذه الدرجات الثلث‪.‬‬

‫وكذلك في أمور الدنيا‪ :‬فإن من أخبر بالعشق أو النكاح ولم يره ولم يذقه كان له علم به‪ ،‬فإن شاهده ولم يذقه كان له‬
‫معاينة له‪ ،‬فإن ذاقه بنفسه كان له ذوق وخبرة به‪ ،‬ومن لم يذق الشيء لم يعرف حقيقته‪ ،‬فإن ‪ /‬العبارة إنما تفيد التمثيل‬
‫والتقريب‪ .‬وأما معرفة الحقيقة فل تحصل بمجرد العبارة‪ ،‬إل لمن يكون قد ذاق ذلك الشيء المعبر عنه‪ ،‬وعرفه‬
‫وخبره؛ ولهذا يسمون أهل المعرفة؛ لنهم عرفوا بالخبرة والذوق ما يعلمه غيرهم بالخبر والنظر‪ ،‬وفي الحديث‬
‫الصحيح‪( :‬أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان بن حرب فيما سأله عنه من أمور النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬فهل‬
‫يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬وكذلك اليمان إذا خالطت بشاشته القلب ل‬
‫يسخطه أحد)‪.‬‬

‫فاليمان إذا باشر القلب وخالطته بشاشته ل يسخطه القلب‪ ،‬بل يحبه ويرضاه‪ ،‬فإن له من الحلوة في القلب واللذة‬
‫والسرور والبهجة ما ل يمكن التعبير عنه لمن لم يذقه‪ ،‬والناس متفاوتون في ذوقه والفرح والسرور الذي في القلب له‬
‫خيْ ٌر ِممّا‬
‫ح َمتِهِ َف ِبذَِلكَ َف ْليَفْرَحُوا هُوَ َ‬
‫ل بِ َفضْلِ الِّ َوبِرَ ْ‬ ‫من البشاشة ما هو بحسبه‪ ،‬وإذا خالطت القلب لم يسخطه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬قُ ْ‬
‫ب مَنْ يُنكِ ُر َبعْضَهُ} [الرعد‪:‬‬ ‫لْحْزَا ِ‬ ‫ب َيفْرَحُونَ ِبمَا أُنزِلَ إَِل ْيكَ َومِنْ ا َ‬ ‫ج َمعُونَ} [يونس‪ ،]58 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَاّلذِي َ‬
‫ن آ َتيْنَا ُهمْ ا ْل ِكتَا َ‬ ‫يَ ْ‬
‫‪ ،]36‬وقال تعالى‪{ :‬وَِإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَ ٌة َف ِم ْنهُ ْم مَنْ يَقُولُ َأّيكُمْ زَا َدتْهُ َهذِهِ إِيمَانًا َفَأمّا اّلذِي َن آ َمنُوا َفزَا َدتْهُمْ إِيمَانًا وَهُ ْم يَ ْس َتبْشِرُونَ} [‬
‫التوبة‪ ]124 :‬فأخبرـ سبحانه ـ أنهم يستبشرون بما أنزل من القرآن‪ ،‬والستبشار هو الفرح والسرور؛ وذلك لما‬
‫يجدونه في قلوبهم من الحلوة واللذة والبهجة بما أنزل الّ‪.‬‬

‫‪/‬واللذة أبدا تتبع المحبة فمن أحب شيئًا ونال ما أحبه وجد اللّذة به؛ فالذوق هو إدراك المحبوب‪ ،‬اللذة الظاهرة كالكل‬
‫مثلً‪ :‬حال النسان فيها أنه يشتهي الطعام ويحبه‪ ،‬ثم يذوقه ويتناوله فيجد حينئذ لذته وحلوته‪ ،‬وكذلك النكاح وأمثال‬
‫ذلك‪.‬‬

‫وليس للخلق محبة أعظم ول أكمل ول أتم من محبة المؤمنين لربهم‪ ،‬وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من‬
‫ل تعالى‪ ،‬وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه‪ ،‬فإن الرسول عليه الصلة والسلم إنما يحب لجل الّ‪،‬‬ ‫كل وجه إل ا ّ‬
‫لّ فَاّتبِعُونِي يُ ْح ِب ْبكُمْ الُّ}[آل عمران‪ ،]31 :‬وفي‬ ‫حبّونَ ا َ‬ ‫ويطاع لجل الّ‪ ،‬ويتبع لجل الّ‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن ُكنْتُ ْم تُ ِ‬
‫الحديث‪( :‬أحبوا الّ لما يغذوكم به من نعمه‪ ،‬وأحبوني لحب الّ‪ ،‬وأحبوا أهل بيتي لحبي)‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن كَانَ‬
‫لّ َل َيهْدِي ا ْلقَ ْومَ الْفَا ِسقِينَ} [‬
‫لّ بَِأمْ ِرهِ وَا ُ‬
‫حتّى يَ ْأتِيَ ا ُ‬
‫سبِيلِ ِه َفتَ َربّصُوا َ‬ ‫آبَا ُؤكُمْ} إلى قوله‪َ{ :‬أحَبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ َورَسُولِهِ وَ ِ‬
‫جهَا ٍد فِي َ‬
‫التوبة‪ ،]24 :‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس‬
‫أجمعين) وفي حديث الترمذي وغيره‪( :‬من أحب لّ‪ ،‬وأبغض لّ‪ ،‬وأعطى لّ‪ ،‬ومنع لّ‪ ،‬فقد استكمل اليمان) وقال‬
‫س مَ ْن يَتّ ِخ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِحبّونَهُ ْم كَ ُحبّ الِّ وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪ ،]165 :‬فالذين آمنوا أشد‬ ‫تعالى‪َ { :‬ومِنْ النّا ِ‬
‫حبًا لّ‪ ،‬من كل محب لمحبوبه‪ ،‬وقد بسطنا الكلم على هذا في مواضع متعددة‪.‬‬

‫‪/‬والمقصود هنا أن أهل اليمان يجدون بسبب محبتهم لّ ولرسوله من حلوة اليمان ما يناسب هذه المحبة‪ ،‬ولهذا‬
‫علق النبي صلى ال عليه وسلم ما يجدونه بالمحبة فقال‪( :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان‪ :‬أن يكون الّ ورسوله‬
‫أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن يحب المرء ل يحبه إل لّ‪ ،‬وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)‪.‬‬

‫ل وحده‪ ،‬فإن الناس في هذا الباب على ثلث‬


‫ومن ذلك ما يجدونه من ثمرة التوحيد والخلص‪ ،‬والتوكل والدعاء ّ‬
‫درجات‪:‬‬

‫منهم‪ :‬من علم ذلك سماعًا واستدللً‪.‬‬

‫ومنهم‪ :‬من شاهد وعاين ما يحصل لهم‪.‬‬

‫ومنهم‪ :‬من وجد حقيقة الخلص والتوكل على الّ‪ ،‬واللتجاء إليه‪ ،‬والستعانة به‪ ،‬وقطع التعلق بما سواه‪ ،‬وجرب من‬
‫نفسه أنه إذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم‪ ،‬وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة‪ ،‬فإنه يخذل من جهتهم‪،‬‬
‫ول يحصل مقصوده‪ ،‬بل قد يبذل لهم من الخدمة والموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته إليهم‪ ،‬فل‬
‫ينفعونه‪ :‬إما لعجزهم‪ ،‬وإما لنصراف قلوبهم عنه‪ ،‬وإذا ‪ /‬توجه إلى الّ بصدق الفتقار إليه‪ ،‬واستغاث به مخلصًا له‬
‫الدين‪ ،‬أجاب دعاءه؛ وأزال ضرره‪ ،‬وفتح له أبواب الرحمة‪ .‬فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكل والدعاء لّ‪ ،‬ما لم يذق‬
‫غيره‪ .‬وكذلك من ذاق طعم إخلص الدين لّ وإرادة وجهه دون ما سواه؛ يجد من الحوال والنتائج والفوائد مال يجده‬
‫من لم يكن كذلك‪.‬‬

‫بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو؛ وتعلقه بالصور الجميلة‪ ،‬أو جمعه للمال يجد في أثناء ذلك من الهموم‬
‫والغموم والحزان واللم وضيق الصدر ما ل يعبر عنه‪ ،‬وربما ل يطاوعه قلبه على ترك الهوى‪ ،‬ول يحصل له ما‬
‫يسره‪ ،‬بل هو في خوف وحزن دائمًا‪ ،‬إن كان طالبًا لما يهواه فهو قبل إدراكه حزين متألم حيث لم يحصل‪ .‬فإذا أدركه‬
‫كان خائفًا من زواله وفراقه‪.‬‬

‫وأولياء الّ ل خوف عليهم ول هم يحزنون‪ ،‬فإذا ذاق هذا أو غيره حلوة الخلص لّ‪ ،‬والعبادة له‪ ،‬وحلوة ذكره‬
‫ل وهو محسن بحيث يكون عمله صالحًا‪ ،‬ويكون لوجه الّ خالصًا‪ ،‬فإنه يجد من‬ ‫ومناجاته‪ ،‬وفهم كتابه‪ ،‬وأسلم وجهه ّ‬
‫السرور واللذة والفرح ما هو أعظم مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه وتوكله ما ينفعه من الدنيا‪ .‬أو اندفع‬
‫عنه ما يضره‪ ،‬فإن حلوة ذلك هي بحسب ما حصل له من ‪ /‬المنفعة‪ ،‬أو اندفع عنه من المضرة‪ ،‬ول أنفع للقلب من‬
‫التوحيد وإخلص الدين لّ‪ ،‬ول أضر عليه من الشراك‪.‬‬

‫ك نَ ْس َتعِينُ}‪ ،‬كان هذا فوق‬


‫ك َن ْعبُدُ} مع حقيقة التوكل التي هي حقيقة {إيّا َ‬
‫فإذا وجد حقيقة الخلص التي هي حقيقة {إيّا َ‬
‫ما يجده كل أحد لم يجد مثل هذا‪ .‬والّ أعلم‪.‬‬

‫سؤال أبى القاسم المغربى يتفضل الشيخ المام بقية السلف‪ ،‬وقدوة الخلف‪ ،‬أعلم من لقيت ببلد المشرق‬ ‫‪/‬‬
‫والمغرب‪ ،‬تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية‪ ،‬بأن يوصيني بما يكون فيه صلح ديني ودنياي‪ ،‬ويرشدني إلى كتاب‬
‫يكون عليه اعتمادي في علم الحديث‪ ،‬وكذلك في غيره من العلوم الشرعية وينبهني على أفضل العمال الصالحة بعد‬
‫الواجبات‪ ،‬ويبين لي أرجح المكاسب‪ ،‬كل ذلك على قصد اليماء والختصار‪ ،‬والّ تعالى يحفظه‪ .‬والسلم الكريم‬
‫عليه ورحمة الّ وبركاته‪.‬‬

‫فأجـــاب‪:‬‬

‫الحمد لّ رب العالمين‪ ،‬أما الوصية‪ :‬فما أعلم وصية أنفع من وصية الّ ورسوله لمن عقلها ‪ /‬واتبعها‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬‬
‫ب مِ ْن َقبِْلكُمْ وَِإيّاكُمْ أَ ْن اتّقُوا الَّ} [النساء‪.]131 :‬‬
‫صيْنَا اّلذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَا َ‬
‫وََل َقدْ َو ّ‬

‫ووصى النبي صلى ال عليه وسلم معاذًا لما بعثه إلى اليمن فقال‪( :‬يامعاذ‪ ،‬اتق الّ حيثما كنت‪ ،‬وأتبع السيئة الحسنة‬
‫تمحها‪ ،‬وخالق الناس بخلق حسن)‪.‬‬

‫وكان معاذ ـ رضي الّ عنه ـ من النبي صلى ال عليه وسلم بمنزلة علية؛ فإنه قال له‪( :‬يامعاذ‪ ،‬والّ‪ ،‬إني لحبك)‬
‫وكان يردفه وراءه‪ .‬وروى فيه‪( :‬أنه أعلم المة بالحلل والحرام) (وأنه يحشر إمام العلماء برتوة ـ أي بخطوة)‪ .‬ومن‬
‫فضله أنه بعثه النبي صلى ال عليه وسلم مبلغًا عنه داعيًا ومفقهًا ومفتيًا وحاكمًا إلى أهل اليمن‪.‬‬

‫وكان يشبهه بإبراهيم الخليل ـ عليه السلم ـ وإبراهيم إمام الناس‪ .‬وكان ابن مسعود ـ رضي الّ عنه ـ يقول‪ :‬إن معاذًا‬
‫كان أمة قانتًا لّ حنيفًا ولم يك من المشركين؛ تشبيهًا له بإبراهيم‪.‬‬

‫ثم إنه صلى ال عليه وسلم وصاه هذه الوصية‪ ،‬فعلم أنها جامعة وهي كذلك لمن عقلها‪ ،‬مع أنها تفسير الوصية‬
‫القرآنية‪.‬‬

‫أما بيان جمعها؛ فلن العبد عليه حقان‪:‬‬

‫‪/‬حق لّ عز وجل‪ ،‬وحق لعباده‪ .‬ثم الحق الذي عليه لبد أن يخل ببعضه أحيانًا‪ :‬إما بترك مأمور به‪ ،‬أو فعل منهي‬
‫عنه‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬اتق الّ حيثما كنت) وهذه كلمة جامعة‪ ،‬وفي قوله‪( :‬حيثما كنت) تحقيق لحاجته‬
‫إلى التقوى في السر والعلنية‪ .‬ثم قال‪( :‬وأتبع السيئة الحسنة تمحها) فإن الطبيب متى تناول المريض شيئًا مضرًا‬
‫أمره بما يصلحه‪ .‬والذنب للعبد كأنه أمر حتم‪ ،‬فالكيس هو الذي ل يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات‪ .‬وإنما‬
‫قدم في لفظ الحديث(السيئة) وإن كانت مفعولة‪ ،‬لن المقصود هنا محوها ل فعل الحسنة‪ ،‬فصار كقوله في بول‬
‫العرابي‪( :‬صبوا عليه ذنوبًا من ماء)‪.‬‬

‫وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات‪ ،‬فإنه أبلغ في المحو والذنوب يزول موجبها بأشياء‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬التوبة‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬الستغفار من غير توبة‪ .‬فإن الّ تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب‪ ،‬فإذا اجتمعت التوبة والستغفار‬
‫فهو الكمال‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬العمال الصالحة المكفرة‪ :‬إما الكفارات المقدرة‪ / ،‬كما يكفر المجامع في رمضان والمظاهر والمرتكب‬
‫لبعض محظورات الحج أو تارك بعض واجباته‪ ،‬أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة‪ ،‬وهي أربعة أجناس‪ :‬هدى وعتق‬
‫وصدقة وصيام‪.‬‬

‫وإما الكفارات المطلقة‪ ،‬كما قال حذيفة لعمر‪ :‬فتنة الرجل في أهله وماله وولده‪ ،‬يكفرها الصلة والصيام والصدقة‬
‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬وقد دل على ذلك القرآن والحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس‪،‬‬
‫والجمعة والصيام‪ ،‬والحج وسائر العمال التي يقال فيها‪ :‬من قال كذا وعمل كذا غفر له‪ ،‬أو غفر له ما تقدم من ذنبه‪،‬‬
‫وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصوصًا ما صنف في فضائل العمال‪.‬‬

‫واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالنسان الحاجة إليه؛ فإن النسان من حين يبلغ؛ خصوصًا في هذه الزمنة ونحوها‬
‫من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه‪ ،‬فإن النسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من‬
‫أمور الجاهلية بعدة أشياء‪ ،‬فكيف بغير هذا؟!‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم من حديث أبي سعيد ـ رضي الّ عنه ـ‪( :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم‬
‫حذو القذة بالقذة ‪ /‬حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول الّ‪ ،‬اليهود والنصارى ؟ قال‪( :‬فمن؟) هذا‬
‫ضتُ ْم كَاّلذِي خَاضُوا} [التوبة‪،]69 :‬‬
‫خ ْ‬
‫ل ِقهِمْ وَ ُ‬
‫ن َقبِْلكُمْ ِبخَ َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫س َت ْمتَعَ اّلذِي َ‬
‫ل ِقكُ ْم َكمَا ا ْ‬ ‫خبر تصديقه في قوله تعالى‪{ :‬فَا ْ‬
‫س َتمْ َت ْعتُ ْم بِخَ َ‬
‫ولهذا شواهد في الصحاح والحسان‪.‬‬

‫وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة‪ ،‬كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة‪ ،‬فإن كثيرًا من‬
‫أحوال اليهود قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى العلم‪ ،‬وكثيرًا من أحوال النصارى قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى‬
‫الدين‪ ،‬كما يبصر ذلك من فهم دين السلم الذي بعث الّ به محمدًا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم نزله على أحوال الناس‪.‬‬

‫وإذا كان المر كذلك فمن شرح الّ صدره للسلم فهو على نور من ربه‪ ،‬وكان ميتًا فأحياه الّ وجعل له نورًا يمشي‬
‫به في الناس‪ ،‬لبد أن يلحظ أحوال الجاهلية وطريق المتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى‪،‬‬
‫فيرى أن قد ابتلى ببعض ذلك‪.‬‬

‫فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو اتباع السيئات الحسنات‪ .‬والحسنات ما ندب‬
‫الّ إليه على لسان خاتم النبيين من العمال والخلق والصفات‪.‬‬

‫‪/‬ومما يزيل موجب الذنوب المصائب المكفرة‪ ،‬وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن أو أذى في مال أو عرض أو جسد أو‬
‫غير ذلك‪ ،‬لكن ليس هذا من فعل العبد‪.‬‬

‫فلما قضى بهاتين الكلمتين حق الّ‪ :‬من عمل الصالح‪ ،‬وإصلح الفاسد قال‪( :‬وخالق الناس بخلق حسن) وهو حق‬
‫الناس‪.‬‬
‫وجماع الخلق الحسن مع الناس‪ :‬أن تصل من قطعك بالسلم والكرام‪ ،‬والدعاء له والستغفار والثناء عليه‪ ،‬والزيارة‬
‫له وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال‪ ،‬وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض‪ .‬وبعض هذا واجب‪،‬‬
‫وبعضه مستحب‪.‬‬

‫وأما الخلق العظيم الذي وصف الّ به محمدًا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الّ به مطلقًا‪ ،‬هكذا‬
‫قال مجاهد وغيره‪ ،‬وهو تأويل القرآن‪ ،‬كما قالت عائشة ـ رضي الّ عنها ـ‪( :‬كان خلقه القرآن) وحقيقته المبادرة إلى‬
‫امتثال ما يحبه الّ تعالى بطيب نفس وانشراح صدر‪.‬‬

‫وأما بيان أن هذا كله في وصية الّ‪ ،‬فهو‪ :‬أن اسم تقوى الّ يجمع فعل كل ما أمر الّ به إيجابًا واستحبابًا‪ ،‬وما نهى‬
‫عنه تحريمًا ‪ /‬وتنزيهًا‪ ،‬وهذا يجمع حقوق الّ وحقوق العباد‪ .‬لكن لما كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية‬
‫للنكفاف عن المحارم‪ ،‬جاء مفسرًا في حديث معاذ‪ ،‬وكذلك في حديث أبي هريرة ـ رضي الّ عنهما ـ الذي رواه‬
‫الترمذي وصححه‪ :‬قيل‪ :‬يارسول الّ! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال‪( :‬تقوى الّ وحسن الخلق)‪ .‬قيل‪ :‬وما أكثر ما‬
‫يدخل الناس النار؟ قال‪( :‬الجوفان‪ :‬الفم والفرج)‪.‬‬

‫وفي الصحيح عن عبد الّ بن عمر ـ رضي الّ عنهما ـ قال‪ :‬قال رسول الّ صلى ال عليه وسلم‪( :‬أكمل المؤمنين‬
‫إيمانًا أحسنهم خلقا) فجعل كمال اليمان في كمال حسن الخلق‪ .‬ومعلوم أن اليمان كله تقوى الّ‪.‬‬

‫وتفصيل أصول التقوى وفروعها ليحتمله هذا الموضع؛ فإنها الدين كله‪ ،‬لكن ينبوع الخير وأصله‪ :‬إخلص العبد‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة‪ ،]5 :‬وفي قوله‪{ :‬فَا ْعبُدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ} [هود‪:‬‬ ‫لربه عبادة واستعانة‪ ،‬كما في قوله‪ِ{ :‬إيّا َ‬
‫ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ‬
‫‪ ،]123‬وفي قوله‪{ :‬عََليْهِ تَ َوكّ ْلتُ وَإَِليْهِ ُأنِيبُ} [الشورى‪ ،]10 :‬وفي قوله‪{ :‬فَابْ َتغُوا ِع ْندَ الِّ الرّ ْزقَ وَا ْعبُدُوهُ وَا ْشكُرُوا لَهُ} [‬
‫العنكبوت‪ ،]17 :‬بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعًا بهم أو عملً لجلهم‪ ،‬ويجعل همته ربه تعالى‪،‬‬
‫وذلك بملزمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة وغير ذلك‪ / ،‬والعمل له بكل محبوب‪ .‬ومن أحكم‬
‫هذا فل يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك‪.‬‬

‫وأما ما سألت عنه من أفضل العمال بعد الفرائض‪ ،‬فإنه يختلف باختلف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب‬
‫أوقاتهم‪ ،‬فل يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد‪ ،‬لكن مما هو كالجماع بين العلماء بالّ وأمره‪ :‬إن ملزمة ذكر‬
‫الّ دائما هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة‪ ،‬وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم‪( :‬سبق‬
‫المفردون)‪ ،‬قالوا‪ :‬يارسول الّ‪ ،‬ومن المفردون ؟ قال‪( :‬الذاكرون الّ كثيرًا والذاكرات)‪ ،‬وفيما رواه أبو داود عن أبي‬
‫الدرداء ـ رضي الّ عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬أل أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم‪،‬‬
‫وأرفعها في درجاتكم‪ ،‬وخير لكم من إعطاء الذهب والورق‪ ،‬ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا‬
‫أعناقكم؟) قالوا‪ :‬بلى يارسول الّ! قال‪ ( :‬ذكر الّ)‪.‬‬

‫والدلئل القرآنية واليمانية بصرًا وخبرًا ونظرًا على ذلك كثيرة‪.‬‬

‫وأقل ذلك أن يلزم العبد الذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كالذكار المؤقتة في‬
‫أول النهار وآخره‪ / ،‬وعند أخذ المضجع‪ ،‬وعند الستيقاظ من المنام‪ ،‬وأدبار الصلوات‪ ،‬والذكار المقيدة مثل مايقال‬
‫عند الكل والشرب واللباس والجماع‪ ،‬ودخول المنزل والمسجد والخلء والخروج من ذلك‪ ،‬وعند المطر والرعد إلى‬
‫غير ذلك‪ ،‬وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة‪.‬‬

‫ل والّ‬
‫ثم ملزمة الذكر مطلقًا وأفضله [ل إله إل الّ]‪ .‬وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل‪( :‬سبحان الّ والحمد ّ‬
‫أكبر ول حول ول قوة إل بالّ) أفضل منه‪.‬‬

‫ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب إلى الّ‪ ،‬من تعلم علم وتعليمه‪ ،‬وأمر بمعروف ونهى عن‬
‫منكر‪ ،‬فهو من ذكر الّّ‪ .‬ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض‪ ،‬أو جلس مجلسًا يتفقه أو يفقه فيه الفقه‬
‫الذي سماه الّ ورسوله فقها‪ ،‬فهذا أيضًا من أفضل ذكر الّ‪ .‬وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الولين في كلماتهم في‬
‫أفضل العمال كبير اختلف‪.‬‬
‫ل تعالى‪ ،‬وليكثر من ذلك ومن الدعاء‪،‬‬‫وما اشتبه أمره على العبد فعليه بالستخارة المشروعة‪ ،‬فما ندم من استخار ا ّ‬
‫فإنه مفتاح كل خير‪ ،‬ول يعجل فيقول‪ :‬قد دعوت فلم يستجب لي‪ ،‬وليتحر الوقات ‪ /‬الفاضلة‪ ،‬كآخر الليل‪ ،‬وأدبار‬
‫الصلوات‪ ،‬وعند الذان‪ ،‬ووقت نزول المطر‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫وأما أرجح المكاسب‪ ،‬فالتوكل على الّ‪ ،‬والثقة بكفايته‪ ،‬وحسن الظن به‪ .‬وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ‬
‫فيه إلى الّ ويدعــوه‪ ،‬كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه‪( :‬كلكم جائع إل من أطعمته فاستطعموني أطعمكم‪ .‬ياعبادي‪،‬‬
‫كلكم عار إل من كسوته فاستكسوني أكسكم) وفيما رواه الترمذي عن أنس ـ رضي الّ عنه ـ قال‪ :‬قال رسول الّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع‪ ،‬فإنه إن لم ييسره لم يتيسر)‪.‬‬

‫لّ مِنْ َفضْلِهِ} [النساء‪ ،]32 :‬وقال سبحانه‪َ { :‬فِإذَا ُق ِ‬


‫ضيَتْ الصّلَ ُة فَانتَشِرُوا فِي‬ ‫وقد قال الّ تعالى في كتابه‪{ :‬وَا ْ‬
‫سأَلُوا ا َ‬
‫الَْرْضِ وَابْ َتغُوا مِ ْن فَضْلِ الِّ} [الجمعة‪ ]10 :‬وهذا وإن كان في الجمعة فمعناه قائم في جميع الصلوات‪ .‬ولهذا ـ والّ‬
‫أعلم ـ أمر النبي صلى ال عليه وسلم الذي يدخل المسجد أن يقول‪( :‬اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وإذا خرج أن يقول‪:‬‬
‫(اللّهم إني أسألك من فضلك) وقد قال الخليل صلى ال عليه وسلم‪{ :‬فَابْ َتغُوا ِع ْندَ الِّ الرّ ْزقَ وَا ْعبُدُوهُ وَا ْشكُرُوا لَهُ} [‬
‫العنكبوت‪ ]17 :‬وهذا أمر‪ ،‬والمر يقتضي اليجاب فالستعانة بالّ واللجأ إليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم‪.‬‬

‫‪/‬ثم ينبغى له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليبارك له فيه‪ ،‬ول يأخذه بإشراف وهلع؛ بل يكون المال عنده بمنزلة الخلء‬
‫الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة‪ ،‬والسعي فيه إذا سعى كإصلح الخلء‪ .‬وفي الحديث المرفوع‬
‫الذي رواه الترمذي وغيره‪( :‬من أصبح والدنيا أكبر همه‪ ،‬شتت الّ عليه شمله‪ ،‬وفرق عليه ضيعته‪ ،‬ولم يأته من الدنيا‬
‫إل ما كتب له‪ .‬ومن أصبح والخرة أكبر همه‪ ،‬جمع الّ عليه شمله‪ ،‬وجعل غناه في قلبه‪ ،‬وأتته الدنيا وهي راغمة)‪.‬‬

‫وقال بعض السلف‪ :‬أنت محتاج إلى الدنيا‪ ،‬وأنت إلى نصيبك من الخرة أحوج‪ ،‬فإن بدأت بنصيبك من الخرة مر‬
‫على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظامًا‪ ،‬قال الّ تعالى‪َ { :‬ومَا َ‬
‫خلَ ْقتُ الْجِنّ وَالِْنسَ ِإلّ ِل َي ْعُبدُونِ‪ .‬مَا أُرِيدُ ِم ْنهُ ْم مِنْ رِزْقٍ َومَا‬
‫ق ذُو الْ ُقوّةِ ا ْل َمتِينُ} [الذاريات‪.]56-58 :‬‬‫ط ِعمُونِ‪ .‬إِنّ الَّ هُوَ الرّزّا ُ‬
‫أُرِيدُ أَنْ يُ ْ‬

‫فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك‪ ،‬فهذا يختلف باختلف الناس‪ ،‬ول‬
‫أعلم في ذلك شيئًا عامًا‪ ،‬لكن إذا عن للنسان جهة فليستخر الّ تعالى فيها الستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فإن فيها من البركة مال يحاط به‪ .‬ثم ما تيسر له فل يتكلف غيره إل أن يكون منه كراهة شرعية‪.‬‬

‫‪/‬وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم‪ ،‬فهذا باب واسع‪ ،‬وهو أيضًا يختلف باختلف نشء النسان في البلد‪ ،‬فقد‬
‫يتيسر له في بعض البلد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه مال يتيسر له في بلد آخر‪ ،‬لكن جماع الخير أن يستعين‬
‫بالّ ـ سبحانه ـ في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علمًا‪ ،‬وما‬
‫سواه إما أن يكون علمًا فل يكون نافعًا‪ ،‬وإما أن ل يكون علمًا‪ ،‬وإن سمى به‪ ،‬ولئن كان علمًا نافعًا فل بد أن يكون في‬
‫ميراث محمد صلى ال عليه وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه‪ .‬ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره‬
‫ل تعالى ولمع الناس‪ ،‬إذا‬‫ونهيه وسائر كلمه‪ .‬فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فل يعدل عنه فيما بينه وبين ا ّ‬
‫أمكنه ذلك‪.‬‬

‫وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وإذا اشتبه عليه مما قد‬
‫اختلف فيه الناس فليدع بمارواه مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الّ عنها ـ أن رسول الّ صلى ال عليه وسلم‬
‫كان يقول إذا قام يصلي من الليل‪( :‬اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل‪ ،‬فاطر السموات والرض عالم الغيب‬
‫والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‪ ،‬اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى‬
‫صراط مستقيم) فإن الّ تعالى ‪ /‬قد قال فيما رواه عنه رسوله‪( :‬ياعبادي كلكم ضال إل من هديته فاستهدوني أهدكم)‪.‬‬

‫وأما وصف[الكتب والمصنفين]‪ ،‬فقد سمع منا في أثناء المذاكرة ما يسره الّ سبحانه‪ ،‬وما في الكتب المصنفة المبوبة‬
‫كتاب أنفع من [صحيح محمد بن إسماعيل البخاري] لكن هو وحده ل يقوم بأصول العلم‪ .‬ول يقوم بتمام المقصود‬
‫للمتبحر في أبواب العلم‪ ،‬إذ لبد من معرفة أحاديث أخر‪ ،‬وكلم أهل الفقه وأهل العلم في المور التي يختص بعلمها‬
‫بعض العلماء‪ .‬وقد أوعبت المة في كل فن من فنون العلم إيعابًا‪ ،‬فمن نور الّ قلبه هداه بما يبلغه من ذلك‪ ،‬ومن أعماه‬
‫لم تزده كثرة الكتب إل حيرة وضللً‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لبي لبيد النصاري‪( :‬أو ليست التوراة‬
‫والنجيل عند اليهود والنصارى ؟ فماذا تغني عنهم؟)‪.‬‬

‫فنسأل الّ العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد‪ ،‬ويلهمنا رشدنا‪ ،‬ويقينا شر أنفسنا‪ ،‬وأن ل يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا‪ ،‬ويهب‬
‫لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب‪ ،‬والحمد لّ رب العالمين‪ ،‬وصلواته على أشرف المرسلين‪.‬‬

‫خ المَامُ‪ ،‬العَالِمُ العَامل الحبر الكامل‪ ،‬شيخ السلم ومفتي النام تقي الدين ابن تيمية ـ أيده الّ وزاده من‬
‫وَسُئل الشّي ُ‬
‫فضله العظيم ـ عن (الصبرالجميل) و (الصفح الجميل) و(الهجر الجميل) وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه‬
‫الناس؟‬

‫فأجاب ـ رحمه الّ‪:‬‬

‫الحمد لّ‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإن الّ أمر نبيه بالهجر الجميل‪ ،‬والصفح الجميل‪ ،‬والصبر الجميل‪ ،‬فالهجر الجميل‪ :‬هجر بل‬
‫أذى‪ ،‬والصفح الجميل‪ :‬صفح بل عتاب‪ ،‬والصبر الجميل‪ :‬صبر بل شكوى قال يعقوب ـ عليه الصلة والسلم ـ‪ِ{ :‬إّنمَا‬
‫صبْرٌ َجمِيلٌ وَالُّ ا ْلمُ ْس َتعَانُ عَلَى مَا َتصِفُونَ}[يوسف‪ ]18 :‬فالشكوى‬
‫ح ْزنِي إِلَى الِّ}[يوسف‪ ]86 :‬مع قوله‪{ :‬فَ َ‬
‫شكُو َبثّي وَ ُ‬
‫أَ ْ‬
‫إلى الّ ل تنافي الصبر الجميل‪ ،‬ويروي عن موسى ـ عليه الصلة والسلم ـ أنه كان يقول‪( :‬اللهم لك الحمد‪ ،‬وإليك‬
‫المشتكى‪ ،‬وأنت المستعان‪ ،‬وبك ‪ /‬المستغاث وعليك التكلن) ومن دعاء النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬اللّهم إليك أشكو‬
‫ضعف قوتي‪ ،‬وقلة حيلتي‪ ،‬وهواني على الناس‪ ،‬أنت رب المستضعفين وأنت ربي‪ ،‬اللّهم إلي من تكلني؟ إلى بعيد‬
‫يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فل أبالي‪ ،‬غير أن عافيتك هي أوسع لي‪ .‬أعوذ بنور‬
‫وجهك الذي أشرقت له الظلمات‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا والخرة‪ ،‬أن ينزل بي سخطك‪ ،‬أو يحل علي غضبك‪ ،‬لك‬
‫العتبي حتى ترضى)‪.‬‬

‫وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ يقرأ في صلة الفجر‪ِ{ :‬إّنمَا أَ ْشكُو َبثّي وَ ُح ْزنِي إِلَى الِّ} [يوسف‪ ]86 :‬ويبكي‬
‫حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف؛ بخلف الشكوي إلى المخلوق‪ .‬قرئ على المام أحمد في مرض موته أن‬
‫طاووسًا كره أنين المريض‪ ،‬وقال‪ :‬إنه شكوى‪ .‬فما أن حتى مات‪ .‬وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال‪ ،‬إما إزالة ما‬
‫يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬فَِإذَا فَرَغْ َ‬
‫ت فَانصَبْ ‪َ .‬وإِلَى َرّبكَ‬
‫فَارْ َغبْ}[الشرح‪ ،]8 ،7 :‬وقال صلى ال عليه وسلم لبن عباس‪( :‬إذا سألت فاسأل الّ‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن بالّ)‪.‬‬

‫ولبد للنسان من شيئين‪ :‬طاعته بفعل المأمور‪ ،‬وترك المحظور‪ ،‬وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور‪ .‬فالول‬
‫خبَالً} إلى قوله‪{ :‬وَإِنْ‬ ‫ل يَأْلُونَكُمْ َ‬‫ن دُونِكُ ْم َ‬ ‫خذُوا بِطَانَ ًة مِ ْ‬ ‫هو التقوى‪ ،‬والثاني هو الصبر‪ .‬قال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِي َ‬
‫ن آ َمنُوا لَ َتتّ ِ‬
‫ن فَوْرِ ِهمْ َهذَا‬ ‫صبِرُوا َوتَتّقُوا َويَ ْأتُوكُ ْم مِ ْ‬ ‫ن تَ ْ‬‫ن مُحِيطٌ}‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬بَلَى إِ ْ‬ ‫لّ ِبمَا يَ ْعمَلُو َ‬
‫ش ْيئًا إِنّ ا َ‬
‫ض ّركُ ْم َكيْدُهُمْ َ‬
‫ل يَ ُ‬ ‫صبِرُوا َو َتتّقُوا َ‬ ‫تَ ْ‬
‫سكُمْ‬
‫ن فِي َأمْوَاِلكُمْ وََأنْ ُف ِ‬ ‫لئِكَ ِة مُسَ ّومِينَ}[آل عمران‪ ،]118-125 :‬وقال تعالى‪َ{ :‬ل ُتبْلَوُ ّ‬ ‫ف مِنْ ا ْلمَ َ‬ ‫خمْسَةِ آلَ ٍ‬ ‫ُيمْ ِددْكُمْ َرّبكُمْ ِب َ‬
‫ك مِنْ َعزْمِ ا ُلْمُورِ}[آل‬ ‫ن ذَِل َ‬‫صبِرُوا َو َتتّقُوا فَإِ ّ‬ ‫ن تَ ْ‬‫ب مِنْ َقبِْلكُمْ َومِنْ اّلذِينَ أَشْ َركُوا َأذًى َكثِيرًا وَإِ ْ‬ ‫س َمعُنّ مِنْ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَا َ‬‫وََلتَ ْ‬
‫لّ َل يُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْ ِسنِينَ}[‬ ‫صبِ ْر َفإِنّ ا َ‬ ‫ن يَتّقِ َويَ ْ‬ ‫عمران‪ ]186 :‬وقد قال يوسف‪َ{ :‬أنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي َقدْ مَنّ الُّ عََل ْينَا ِإنّ ُه مَ ْ‬
‫يوسف‪.]90 :‬‬

‫ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلمهم بهذين الصلين‪ :‬المسارعة إلى‬
‫فعل المأمور‪ ،‬والتقاعد عن فعل المحظور‪ ،‬والصبر والرضا بالمر المقدور‪ ،‬وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من‬
‫العامة؛ بل ومن السالكين‪ ،‬فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن الّ خالق كل شيء‬
‫ل ويرضاه‪ ،‬وبين ما يسخطه ويبغضه‪ ،‬وإن قدره وقضاه ول يميز بين توحيد اللوهية‪،‬‬ ‫وربه‪ ،‬ول يفرق بين ما يحبه ا ّ‬
‫وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات ـ سعيدها وشقيها ـ مشهد الجمع الذي يشترك فيه‬
‫المؤمن والكافر‪ ،‬والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبئ الكاذب‪ ،‬وأهل الجنة وأهل النار‪ ،‬وأولياء الّ وأعداؤه‪،‬‬
‫والملئكة المقربون والمردة الشياطين‪.‬‬

‫‪/‬فإن هؤلء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية‪ ،‬وهو أن الّ ربهم وخالقهم ومليكهم ل رب لهم غيره‪.‬‬
‫ول يشهد الفرق الذي فرق الّ به بين أوليائه وأعدائه‪ .‬وبين المؤمنين والكافرين‪ ،‬والبرار والفجار‪ ،‬وأهل الجنة‬
‫والنار وهو توحيد اللوهية‪ ،‬وهو عبادته وحده ل شريك له‪ ،‬وطاعته وطاعة رسوله‪ ،‬وفعل ما يحبه ويرضاه‪ ،‬وهو ما‬
‫أمر الّ به ورسوله أمر إيجاب‪ ،‬أو أمر استحباب‪ ،‬وترك ما نهى الّ عنه ورسوله‪ ،‬وموالة أوليائه‪ ،‬ومعاداة أعدائه‪،‬‬
‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان‪ ،‬فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية‬
‫الفارقة بين هؤلء وهؤلء‪ ،‬ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإل فهو من جنس المشركين‪ ،‬وهو شر من اليهود‬
‫والنصارى‪.‬‬

‫خلَ َ‬
‫ق‬ ‫فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية‪ .‬إذ هم يقرون بأن الّ رب كل شيء كما قال تعالى‪{ :‬وََلئِنْ سََأ ْلتَهُ ْم مَنْ َ‬
‫سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَلَ‬‫ن كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ ‪َ .‬‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَْرْضَ َليَقُولُنّ الُّ} [الزمر‪ ،]38 :‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ ِلمَنْ الَْرْضُ َومَ ْ‬
‫ن فِيهَا إِ ْ‬ ‫ال ّ‬
‫شيْءٍ وَ ُه َو يُجِيرُ َولَ‬ ‫ت كُلّ َ‬ ‫ن ِبيَدِ ِه مََلكُو ُ‬
‫ل مَ ْ‬‫ل َتتّقُونَ‪ .‬قُ ْ‬
‫سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَ َ‬
‫سبْعِ وَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلعَظِيمِ‪َ .‬‬
‫سمَاوَاتِ ال ّ‬
‫ل مَنْ َربّ ال ّ‬
‫ن ‪ .‬قُ ْ‬
‫تَ َذكّرُو َ‬
‫يُجَارُ عََليْهِ إِنْ كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ‪َ .‬سيَقُولُونَ لِّ ُق ْل فََأنّا تُ ْسحَرُونَ} [المؤمنون‪]84-89 :‬‬

‫ولهذا قال سبحانه‪َ { :‬ومَا يُ ْؤمِنُ َأ ْكثَرُهُ ْم بِالِّ ِإلّ وَهُ ْم مُ ْش ِركُونَ} [يوسف‪ ]106 :‬قال بعض السلف‪ :‬تسألهم من خلق‬
‫ل وهم مع هذا يعبدون غيره‪.‬‬ ‫السموات والرض فيقولون ا ّ‬

‫فمن أقر بالقضاء والقدر دون المر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى‪ ،‬فإن أولئك يقرون بالملئكة‬
‫ن بِالِّ‬ ‫والرسل الذين جاؤوا بالمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬إِنّ اّلذِي َ‬
‫ن َيكْفُرُو َ‬
‫سبِيلً‪ُ .‬أوَْل ِئكَ ُهمْ‬
‫خذُوا َبيْنَ ذَِلكَ َ‬
‫ن َيتّ ِ‬
‫ن ِببَعْضٍ َو َنكْفُ ُر ِب َبعْضٍ َويُرِيدُونَ أَ ْ‬
‫ن نُ ْؤمِ ُ‬
‫ن يُ َف ّرقُوا َبيْنَ الِّ وَرُسُلِهِ َويَقُولُو َ‬
‫وَ ُرسُلِهِ َويُرِيدُونَ أَ ْ‬
‫ا ْلكَا ِفرُونَ َحقّا} [النساء‪.]151 ،150 :‬‬

‫وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية‪ ،‬وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة‪ ،‬ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر‪ ،‬ويسلك‬
‫هذه الحقيقة‪ ،‬فل يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الّ الذي بعث به رسله‪ ،‬وبين من عصى الّ ورسوله‬
‫من الكفار والفجار‪ ،‬فهؤلء أكفر من اليهود والنصارى‪ .‬لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض المور دون‬
‫بعض‪ ،‬بحيث يفرق بين المؤمن والكافر‪ ،‬ول يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض البرار‪ ،‬وبين بعض الفجار‪،‬‬
‫ول يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه وما يهواه‪ ،‬فيكون ناقص اليمان بحسب ما سوى بين البرار والفجار‪ ،‬ويكون معه‬
‫من اليمان بدين الّ تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه‪.‬‬

‫‪/‬ومن أقر بالمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه المة‪،‬‬
‫فهؤلء يشبهون المجوس‪ ،‬وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس‪.‬‬

‫ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضًا‪ ،‬فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب ـ سبحانه ـ وخاصمه كما نقل ذلك‬
‫عنه‪.‬‬

‫فهذا التقسيم في القول والعتقاد‪.‬‬

‫ل فيفعل المأمور‪ ،‬ويترك المحظور‪،‬‬ ‫وكذلك هم في الحوال والفعال‪ .‬فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي ا ّ‬
‫ويصبر على مايصيبه من المقدور‪ ،‬فهو عند المر والنهي والدين والشريعة ويستعين بالّ على ذلك‪ .‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ك نَ ْس َتعِينُ} [الفاتحة‪.]5 :‬‬
‫ك َن ْعبُدُ وَِإيّا َ‬
‫{ِإيّا َ‬

‫وإذا أذنب استغفر وتاب‪ :‬ل يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات‪ ،‬ول يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات‪ ،‬بل‬
‫يؤمن بالقدر ول يحتج به‪ ،‬كما في الحديث الصحيح الذي فيه‪( :‬سيد الستغفار أن يقول العبد‪ :‬اللهم أنت ربي ل إله إل‬
‫أنت‪ ،‬خلقتني وأنا عبدك‪ ،‬وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت‪ ،‬أعوذ بك من شر ما صنعت‪ ،‬أبوء لك بنعمتك علي‬
‫وأبوء بذنبي‪ ،‬فاغفر لي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت)‪ ،‬فيقر بنعمة ‪ /‬الّ عليه في الحسنات‪ ،‬ويعلم أنه هو هداه ويسره‬
‫لليسرى‪ ،‬ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها‪ ،‬كما قال بعضهم‪ :‬أطعتك بفضلك‪ ،‬والمنة لك وعصيتك بعلمك‪،‬‬
‫والحجة لك‪ ،‬فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي‪ ،‬إل غفرت لي‪ .‬وفي الحديث الصحيح اللهي‪( :‬ياعبادي‬
‫إنما هي أعمالكم‪ ،‬أحصيها لكم‪ ،‬ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الّ‪ ،‬ومن وجد غيرذلك فل يلومن إل نفسه)‪.‬‬

‫وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع‪.‬‬


‫وآخرون قد يشهدون المر فقط‪ :‬فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الستطاعة؛ لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر‬
‫ما يوجب لهم حقيقة الستعانة والتوكل والصبر‪ .‬وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الستعانة والتوكل‬
‫والصبر‪ ،‬ماليس عند أولئك؛ لكنهم ل يلتزمون أمر الّ ورسوله واتباع شريعته‪ ،‬وملزمة ماجاء به الكتاب والسنة من‬
‫الدين فهؤلء يستعينون الّ ول يعبدونه‪ ،‬والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ول يستعينوه؛ والمؤمن يعبده ويستعينه‪.‬‬

‫والقسم الرابع شر القسام‪ ،‬وهو من ل يعبده ول يستعينه‪ ،‬فل هو مع الشريعة المرية؛ ول مع القدر الكوني‪.‬‬
‫وانقسامهم إلى هذه القسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو‪/‬ذلك؛ وما يكون بعده من صبر‬
‫ورضا ونحوذلك‪ ،‬فهم في التقوى وهي طاعة المر الديني‪ ،‬والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام‪.‬‬

‫أحدها‪ :‬أهل التقوى والصبر‪ ،‬وهم الذين أنعم الّ عليهم من أهل السعادة في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬الذين لهم نوع من التقوى بلصبر‪ ،‬مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلة ونحوها‪ ،‬ويتركون المحرمات‪،‬‬
‫لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه‪ ،‬أو ابتلى بعدو يخيفه عظم جزعه‪ ،‬وظهر‬
‫هلعه‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬قوم لهم نوع من الصبر بل تقوى‪ ،‬مثل الفجار الذين يصبرون علي مايصيبهم في مثل أهوائهم‪ ،‬كاللصوص‬
‫والقطاع الذين يصبرون على اللم في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام‪ ،‬والكتاب وأهل الديوان الذين‬
‫يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الموال بالخيانة وغيرها‪ .‬وكذلك طلب الرئاسة والعلو على غيرهم‬
‫يصبرون من ذلك على أنواع من الذى التي ل يصبر عليها أكثر الناس‪ ،‬وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من‬
‫أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الذى واللم‪ .‬وهؤلء هم الذين‬
‫يريدون علوًا في الرض ‪ /‬أو فسادًا من طلب الرئاسة والعلو على الخلق‪ ،‬ومن طلب الموال بالبغي والعدوان‪،‬‬
‫والستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات‪ ،‬ولكن ليس لهم تقوى‬
‫فيما تركوه من المأمور‪ ،‬وفعلوه من المحظور‪ ،‬وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب‪ :‬كالمرض‬
‫والفقر وغير ذلك‪ ،‬ول يكون فيه تقوى إذا قدر‪.‬‬

‫وأما القسم الرابع‪ ،‬فهو شر القسام‪ :‬ل يتقون إذا قدروا‪ ،‬ول يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال الّ تعالى‪{ :‬إِنّ الِْنسَانَ‬
‫خُِلقَ هَلُوعًا ‪ِ .‬إذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا ‪ .‬وَِإذَا مَسّهُ الْ َخيْ ُر َمنُوعًا}[المعارج‪ ]19-21 :‬فهؤلء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم‬
‫إذا قدروا‪ ،‬ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا‪ .‬إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك‪ ،‬وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما‬
‫يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول‪ ،‬وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبًا‪.‬‬
‫وأقلهم رحمة وإحسانًا وعفوًا‪ ،‬كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق اليمان أبعد‪ :‬مثل التتار الذين قاتلهم‬
‫المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم‪ .‬وإن كان متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم‬
‫وصناعهم‪ ،‬فالعتبار بالحقائق‪( :‬فإن الّ ل ينظر إلى صوركم ول إلى أموالكم‪ ،‬وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)‪.‬‬

‫‪/‬فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهًا لهم من هذا الوجه‪ ،‬وكان ما معه من السلم أو‬
‫مايظهره منه بمنزلة ما معهم من السلم وما يظهرونه منه‪ ،‬بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للسلم‬
‫من هو أعظم ردة وأولى بالخلق الجاهلية‪ ،‬وأبعد عن الخلق السلمية‪ ،‬من التتار‪.‬‬

‫وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته‪( :‬خير الكلم كلم الّ‪ ،‬وخير الهدى هدي‬
‫محمد‪ ،‬وشر المور محدثاتها‪ ،‬وكل بدعة ضللة)‪ ،‬وإذا كان خير الكلم كلم الّ‪ ،‬وخير الهدي هدي محمد‪ ،‬فكل من‬
‫كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب‪ ،‬وهو به أحق‪ ،‬ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف‪ ،‬كان‬
‫عن الكمال أبعد‪ ،‬وبالباطل أحق‪ .‬والكامل هو من كان لّ أطوع‪ ،‬وعلى ما يصيبه أصبر‪ ،‬فكلما كان أتبع لما يأمر الّ‬
‫به ورسوله وأعظم موافقة لّ فيما يحبه ويرضاه‪ ،‬وصبرًا على ماقدره وقضاه‪ ،‬كان أكمل وأفضل‪ .‬وكل من نقص عن‬
‫هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك‪.‬‬

‫وقد ذكر الّ ـ تعالى ـ الصبر والتقوى جميعًا في غير موضع من كتابه‪ ،‬وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار‬
‫المحاربين المعاندين والمنافقين‪ ،‬وعلى من ظلمه من المسلمين‪ ،‬ولصاحبه تكون العاقبة‪ / ،‬قال ال تعالى‪{ :‬بَلَى إِنْ‬
‫ل ِئكَةِ مُسَ ّومِينَ}[ آل عمران‪ ،]125 :‬وقال الّ تعالى‪:‬‬
‫ف مِنْ ا ْلمَ َ‬
‫خمْسَةِ آلَ ٍ‬
‫صبِرُوا َو َتتّقُوا َويَ ْأتُوكُ ْم مِنْ َفوْرِهِمْ َهذَا ُيمْ ِد ْدكُمْ َرّبكُ ْم بِ َ‬
‫تَ ْ‬
‫ن ذَِل َ‬
‫ك‬ ‫صبِرُوا َو َتتّقُوا فَإِ ّ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫ب مِنْ َقبِْلكُمْ َومِنْ اّلذِينَ أَشْ َركُوا َأذًى َكثِيرًا وَإِ ْ‬ ‫ن مِنْ اّلذِينَ أُوتُوا ا ْل ِكتَا َ‬ ‫س َمعُ ّ‬‫سكُمْ وََلتَ ْ‬
‫ن فِي َأمْوَاِلكُمْ وََأنْ ُف ِ‬ ‫{َل ُتبْلَوُ ّ‬
‫ع ِنتّمْ‬
‫خبَالً َودّوا مَا َ‬ ‫ل يَأْلُو َنكُمْ َ‬‫خذُوا بِطَانَ ًة مِنْ دُو ِنكُ ْم َ‬ ‫ل َتتّ ِ‬ ‫لْمُورِ}[آل عمران‪ ،]186 :‬وقال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا َ‬ ‫عزْمِ ا ُ‬‫مِنْ َ‬
‫حبّونَكُمْ‬
‫حبّو َنهُمْ َولَ ُي ِ‬ ‫ن ُك ْنتُ ْم َتعْقِلُونَ‪ .‬هَاَأ ْنتُمْ ُأ ْولَ ِء تُ ِ‬‫ليَاتِ إِ ْ‬ ‫صدُورُهُمْ َأكْبَ ُر َق ْد َبيّنّا َل ُكمْ ا ْ‬
‫َقدْ َبدَتْ ا ْل َبغْضَا ُء مِنْ َأفْوَا ِههِمْ َومَا تُخْفِي ُ‬
‫صدُورِ‪.‬‬
‫ظكُمْ إِنّ الَّ عَلِي ٌم ِبذَاتِ ال ّ‬ ‫ل مُوتُوا ِب َغيْ ِ‬ ‫ظ قُ ْ‬
‫ل مِنْ ال َغيْ ِ‬ ‫لْنَامِ َ‬
‫ب كُلّهِ وَِإذَا لَقُوكُ ْم قَالُوا آ َمنّا وَِإذَا خََلوْا عَضّوا عََل ْيكُمْ ا َ‬ ‫َوتُ ْؤ ِمنُونَ بِا ْلكِتَا ِ‬
‫لّ ِبمَا َي ْعمَلُو َن مُحِيطٌ}[آل‬ ‫ش ْيئًا إِنّ ا َ‬‫ل يَضُ ّركُ ْم َك ْيدُهُمْ َ‬ ‫صبِرُوا َو َتتّقُوا َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫سيّئَ ٌة يَفْ َرحُوا ِبهَا وَإِ ْ‬
‫ص ْبكُمْ َ‬
‫ن تُ ِ‬ ‫سؤْهُمْ وَإِ ْ‬ ‫سنَةٌ تَ ُ‬‫حَ‬‫سكُمْ َ‬ ‫ن َتمْسَ ْ‬ ‫إِ ْ‬
‫ن َيتّقِ‬‫عَليْنَا ِإنّهُ مَ ْ‬
‫ف قَالَ َأنَا يُوسُفُ وَهذَا َأخِي َق ْد مَنّ الُّ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ت يُو ُ‬‫عمران‪ ،]118-120 :‬وقال إخوة يوسف له‪َ{ :‬أ ِئّنكَ لَنْ َ‬
‫لّ لَ يُضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْح ِسنِينَ} [يوسف‪.]90 :‬‬ ‫صبِ ْر فَإِنّ ا َ‬
‫َويَ ْ‬

‫خيْرُ‬
‫ح ُكمَ الُّ وَهُوَ َ‬
‫حتّى يَ ْ‬ ‫وقد قرن الصبر بالعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى‪{ :‬وَا ّتبِعْ مَا يُوحَى ِإَل ْيكَ وَا ْ‬
‫صبِرْ َ‬
‫الْحَا ِكمِينَ} [يونس‪.]109 :‬‬

‫وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها تصديقًا لخبر الّ وطاعة لمره وقال تعالى‪{ :‬وََأقِمْ الصّلَةَ َ‬
‫ط َرفِي ال ّنهَارِ وَزَُلفًا مِنْ‬
‫لّ َل يُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْ ِسنِينَ} [هود‪ ،]115 ،114 :‬وقال‬ ‫صبِ ْر َفإِنّ ا َ‬‫ت ذَِلكَ ِذكْرَى لِلذّاكِرِينَ‪ .‬وَا ْ‬ ‫سّيئَا ِ‬
‫ت ُيذْهِبْنَ ال ّ‬‫سنَا ِ‬ ‫الّليْلِ إِنّ الْحَ َ‬
‫علَى‬
‫صبِرْ َ‬ ‫لْبْكَارِ} [غافر‪ ،]55 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَا ْ‬ ‫ك بِا ْلعَشِيّ وَا ِ‬
‫ح ْمدِ َرّب َ‬
‫سبّحْ بِ َ‬
‫س َتغْفِرْ ِلذَ ْن ِبكَ َو َ‬
‫حقّ وَا ْ‬ ‫عدَ الِّ َ‬ ‫صبِرْ إِنّ وَ ْ‬‫تعالى‪{ :‬فَا ْ‬
‫صبْرِ‬
‫س َتعِينُوا بِال ّ‬‫ن آنَاءِ الّليْلِ} [طه‪ ،]130 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَا ْ‬ ‫شمْسِ َو َقبْلَ غُرُو ِبهَا َومِ ْ‬ ‫ك َقبْلَ طُلُوعِ ال ّ‬ ‫حمْدِ َرّب َ‬‫ح بِ َ‬
‫سبّ ْ‬‫مَا يَقُولُونَ وَ َ‬
‫لّ مَعَ الصّابِرِينَ} [‬ ‫صبْرِ وَالصّلَةِ إِنّ ا َ‬ ‫شعِينَ} [البقرة‪ ،]45 :‬وقال تعالى‪{ :‬ا ْ‬
‫س َتعِينُوا بِال ّ‬ ‫وَالصّلَةِ وَِإّنهَا َل َكبِيرَةٌ ِإلّ عَلَى ا ْلخَا ِ‬
‫البقرة‪ ]153 :‬فهذه مواضع قرن فيها الصلة والصبر‪.‬‬

‫صوْا بِا ْلمَ ْر َحمَةِ} [البلد‪ .]17 :‬وفي الرحمة‬ ‫وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى‪َ { :‬وتَوَاصَوْا بِال ّ‬
‫صبْرِ َوتَوَا َ‬
‫الحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها؛ فإن القسمة أيضًا رباعية‪ ،‬إذ من الناس من يصبر ول يرحم كأهل القوة والقسوة‪،‬‬
‫ومنهم من يرحم ول يصبر كأهل الضعف واللين‪ ،‬مثل كثير من النساء‪ ،‬ومن يشبههن‪ ،‬ومنهم من ليصبر ول يرحم‬
‫كأهل القسوة والهلع‪ .‬والمحمود هو الذي يصبر ويرحم‪ ،‬كما قال الفقهاء في المتولي‪ :‬ينبغي أن يكون قويًا من غير‬
‫عنف‪ ،‬لينا من غير ضعف فبصبره يقوى‪ ،‬وبلينه يرحم‪ ،‬وبالصبر ينصر العبد؛ فإن النصر مع الصبر‪ ،‬وبالرحمة‬
‫ل تعالى‪ .‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إنما يرحم الّ من عباده الرحماء)‪ ،‬وقال‪( :‬من ل يرحم ل‬ ‫يرحمه ا ّ‬
‫يرحم)‪ ،‬وقال‪( :‬ل تنزع الرحمة إل من شقي)‪ ،‬وقال‪( :‬الراحمون يرحمهم الرحمن‪ ،‬وارحموا من في الرض يرحمكم‬
‫من في السماء)‪ .‬والّ أعلم‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫وَسُئلَ شَيْخُ السـلم ـ رَحمَهُ الُّ ـ عما ذكر الستاذ القشيري في ( باب الرضا) عن الشيخ أبي سليمان أنه قال‪ :‬الرضا‬
‫ألّ يسأل الّ الجنة‪ ،‬ول يستعيذ من النار‪ ،‬فهل هذا الكلم صحيح؟‬

‫فأجاب‪:‬‬

‫الحمد لّ رب العالمين‪ ،‬الكلم على هذا القول من وجهين‪:‬‬

‫أحدهما ‪ :‬من جهة ثبوته عن الشيخ‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬من جهة صحته في نفسه وفساده‪.‬‬

‫أما المقام الول‪ :‬فينبغي أن يعلم أن الستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان بإسناد‪ ،‬وإنما ذكره مرس ً‬
‫ل‬
‫عنه‪ ،‬وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة والتابعين والمشائخ وغيرهم‪ ،‬تارة‬
‫يذكره بإسناد‪ ،‬وتارة يذكره مرسلً‪ ،‬وكثيرًا ما يقول‪ :‬وقيل كذا ثم الذي يذكره بإسناد تارة يكون إسناده ‪ /‬صحيحًا‪،‬‬
‫وتارة يكون ضعيفًا‪ ،‬بل موضوعًا‪ .‬وما يذكره مرسلً‪ ،‬ومحذوف القائل أولى‪ ،‬وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات‬
‫الفقهاء‪ ،‬فإن فيها من الحاديث والثار ما هو صحيح‪ ،‬ومنها ما هو ضعيف‪ ،‬ومنها ما هو موضوع‪.‬‬

‫فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الثار المنقولة‪ ،‬فيها الصحيح‪ ،‬وفيها الضعيف‪ ،‬وفيها الموضوع‪ .‬وهذا‬
‫المر متفق عليه بين جميع المسلمين ل يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا‪ ،‬بل نفس الكتب المصنفة في [‬
‫التفسير] فيها هذا وهذا‪ ،‬مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولت وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم؟!‬
‫والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه أو التصوف أو الحديث‪ ،‬ويروون هذا تارة؛ لنهم لم يعلموا أنه كذب‪ ،‬وهو‬
‫الغالب على أهل الدين‪ ،‬فإنهم ل يحتجون بما يعلمون أنه كذب‪ ،‬وتارة يذكـرونه وإن علمـوا أنه كـذب؛ إذ قصـدهم‬
‫رواية مـا روي في ذلك الباب‪ ،‬ورواية‬

‫الحاديث المكذوبة مع بيان كونها كذبًا جائز‪ .‬وأما روايتها مع المساك عن ذلك رواية عمل فإنه حـرام عند العلماء‪،‬‬
‫كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد‬
‫الكاذبين) ـ‪ .‬وقد فعل كثير من العلماء ‪ /‬متأولين أنهم لم يكذبوا‪ ،‬وإنما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل إذ رووه‬
‫لتعريف أنه روى؛ ل لجل العمل به ول العتماد عليه‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها‪ :‬من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولت عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع‪ .‬فالصحيح‪ :‬الذي قامت الدللة على‬
‫صدقه‪ ،‬والموضوع الذي قامت الدللة على كذبه‪ ،‬والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقه‪ ،‬إما لسوء حفظه وإما‬
‫لتهامه‪ ،‬ولكن يمكن أن يكون صادقًا فيه؛ فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ‪.‬‬

‫وغالب أبواب الرسالة فيها القسام الثلثة‪ .‬ومن ذلك‪ :‬باب الرضا‪ ،‬فإنه ذكر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬‬
‫ذاق طعم اليمان من رضي بالّ ربًا وبالسلم دينًا وبمحمد صلى ال عليه وسلم نبيًا)‪ .‬وهذا الحديث رواه مسلم في‬
‫صحيحه‪ ،‬وإن كان الستاذ لم يذكر أن مسلمًا رواه لكنه رواه‪ ،‬بإسناد صحيح‪.‬‬

‫وذكر في أول هذا الباب حديثًا ضعيفًا ـ بل موضوعا ـ وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن‬
‫عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر‪ ،‬فهو وإن كان أول حديث ذكره في الباب ‪ /‬فإن أحاديث الفضل بن‬
‫عيسى من أوهى الحاديث وأسقطها‪ ،‬ول نزاع بين الئمة أنه ل يعتمد عليها ول يحتج بها؛ فإن الضعف ظاهر عليها‬
‫وإن كان هو ل يتعمد الكذب‪ ،‬فإن كثيرًا من الفقهاء ل يحتج بحديثهم لسوء الحفظ ل لعتماد الكذب‪ ،‬وهذا الرقاشي‬
‫اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن؛ حتى قال أيوب السختياني‪ :‬لو ولد أخرس لكان خيرًا له‪ ،‬وقال‬
‫سفيان بن عيينة‪ :‬ل شيء‪ ،‬وقال المام أحمد والنسائي‪ :‬هو ضعيف‪ .‬وقال يحيى بن معين‪ :‬رجل سوء‪ .‬وقال أبو حاتم‬
‫وأبو زرعة‪ :‬منكر الحديث‪.‬‬

‫وكذلك ما ذكره من الثار؛ فإنه قد ذكر آثارًا حسنة بأسانيد حسنة مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه‬
‫قال‪ :‬إذا سل العبد عن الشهوات فهو راض‪ ،‬فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي بإسناده‪ ،‬والشيخ أبو‬
‫عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلم هؤلء المشائخ وحكاياتهم‪ ،‬وصنف في السماء كتاب [طبقات الصوفية]‬
‫وكتاب [زهاد السلف] وغير ذلك‪ ،‬وصنف في البواب كتاب [مقامات الولياء] وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على‬
‫القسام الثلثة‪.‬‬

‫وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال‪ :‬سمعت النصر آبادي يقول‪ :‬من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ماجعل ا ّ‬
‫ل‬
‫رضاه فيه‪ ،‬فإن هذا الكلم في غاية الحسن‪ ،‬فإنه من لزم مايرضى الّ من امتثال ‪ /‬أوامره واجتناب نواهيه ل سيما إذا‬
‫قام بواجبها ومستحبها فإن الّ يرضى عنه‪ ،‬كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه الّ‪ ،‬كما قال في الحديث الصحيح‬
‫الذي في البخاري‪( :‬من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه‪ ،‬ول‬
‫يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته) الحديث‪ .‬وذلك أن الرضا نوعان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه‪ .‬ويتناول ما أباحه الّ من غيرتعد إلى المحظور‪ ،‬كما قال‪{ :‬وَا ُ‬
‫لّ‬
‫لّ مِنْ‬
‫سيُ ْؤتِينَا ا ُ‬
‫س ُبنَا الُّ َ‬ ‫ن يُرْضُوهُ}[التوبة‪ ،]62 :‬وقال تعالى‪{ :‬وََلوْ َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ‬ ‫حقّ أَ ْ‬ ‫وَ َرسُولُهُ أَ َ‬
‫غبُونَ} [التوبة‪ ]59 :‬وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذم من تركه بقوله‪َ { :‬و ِم ْنهُ ْم مَ ْ‬
‫ن يَ ْلمِ ُزكَ فِي‬ ‫فَضْلِهِ َورَسُولُهُ ِإنّا إِلَى الِّ رَا ِ‬
‫سيُ ْؤتِينَا‬
‫س ُبنَا الُّ َ‬
‫سخَطُونَ‪ .‬وََلوْ َأّنهُمْ رَضُوا مَا آتَا ُهمْ الُّ وَ َرسُولُهُ َوقَالُوا حَ ْ‬ ‫ت فَإِنْ أُعْطُوا ِمنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَ ْم ُيعْطَوْا ِم ْنهَا ِإذَا هُ ْم يَ ْ‬ ‫ص َدقَا ِ‬
‫ال ّ‬
‫لّ مِ ْن فَضْلِهِ َورَسُولُهُ}[التوبة‪.]59 ،58 :‬‬ ‫ا ُ‬

‫والنوع الثاني‪ :‬الرضا بالمصائب‪ ،‬كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء‪ .‬وليس بواجب‪،‬‬
‫وقد قيل‪ :‬إنه واجب‪ ،‬والصحيح أن الواجب هو الصبر‪ .‬كما قال الحسن‪ :‬الرضا غريزة‪ ،‬ولكن الصبر معول المؤمن‪.‬‬
‫وقد روى في حديث ابن عباس ‪ /‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل‪،‬‬
‫فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا)‪.‬‬

‫وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان‪ :‬فالذي عليه أئمة الدين أنه ل يرضى بذلك‪ ،‬فإن الّ ل يرضاه كما قال‪َ { :‬و َ‬
‫ل‬
‫لّ لَ‬ ‫حبّ ا ْلفَسَادَ} [البقرة‪ ،]205 :‬وقال تعالى‪َ { :‬فإِنْ تَ ْرضَوْا َ‬
‫ع ْنهُ ْم فَإِنّ ا َ‬ ‫يَرْضَى ِل ِعبَادِهِ ا ْلكُفْرَ} [الزمر‪ ]7 :‬وقال‪{ :‬وَا ُ‬
‫لّ لَ يُ ِ‬
‫عذَابًا‬
‫عدّ لَهُ َ‬‫غضِبَ الُّ عََليْهِ وََل َعنَهُ وَأَ َ‬
‫ج َهنّمُ خَاِلدًا فِيهَا وَ َ‬ ‫سقِينَ} [التوبة‪ ،]96 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَ َ‬
‫جزَاؤُهُ َ‬ ‫يَرْضَى عَنْ الْقَ ْومِ ا ْلفَا ِ‬
‫عَظِيمًا} [النساء‪ ،]93 :‬وقال‪{ :‬ذَِلكَ بَِأّنهُ ْم اّت َبعُوا مَا أَ ْسخَطَ الَّ َوكَرِهُوا ِرضْوَانَ ُه فََأ ْحبَطَ أَ ْعمَاَلهُمْ} [محمد‪ ،]28 :‬وقال تعالى‪:‬‬
‫س مَا َق ّدمَتْ َلهُمْ‬‫س ُبهُمْ} [التوبة‪ ،]68 :‬وقال تعالى‪َ{ :‬ل ِبئْ َ‬ ‫ج َهنّمَ خَاِلدِينَ فِيهَا ِهيَ حَ ْ‬
‫عدَ الُّ ا ْل ُمنَا ِفقِينَ وَا ْل ُمنَافِقَاتِ وَا ْل ُكفّا َر نَارَ َ‬
‫{وَ َ‬
‫أَنفُ ُس ُهمْ أَنْ سَ ِخطَ الُّ عََل ْيهِمْ َوفِي ا ْلعَذَابِ ُهمْ خَاِلدُونَ} [المائدة‪ ،]80 :‬وقال تعالى‪{ :‬فََلمّا آ َسفُونَا انتَ َق ْمنَا ِم ْنهُمْ} [ الزخرف‪55 :‬‬
‫] فإذا كان الّ ـ سبحانه ـ ل يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك‪ ،‬وهو يسخط عليهم‪ ،‬ويغضب عليهم‪ ،‬فكيف يشرع‬
‫للمؤمن أن يرضى ذلك وأل يسخط ويغضب لما يسخط الّ ويغضبه؟!‪.‬‬

‫وإنما ضل هنا فريقان من الناس‪:‬‬

‫قوم‪ :‬من أهل الكلم المنتسبين إلى السنة في مناظرة القدرية ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى‬
‫إرادته‪ ،‬وقد ‪ /‬علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلفًا للقدرية‪ .‬وقالوا‪ :‬هو أيضا محب لها مريد لها‪ ،‬ثم أخذوا يحرفون‬
‫الكلم عن مواضعه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل يحب الفساد‪ ،‬بمعنى ل يريد الفساد‪ :‬أي ل يريده للمؤمنين‪ ،‬ول يرضى لعباده الكفر‪ :‬أي‬
‫ل يريده لعباده المؤمنين‪ .‬وهذا غلط عظيم؛ فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال‪ :‬ل يحب اليمان ول يرضى لعباده‬
‫اليمان‪ :‬أي ل يريده للكافرين‪ ،‬ول يرضاه للكافرين‪ ،‬وقد اتفق أهل السلم على أن ما أمر الّ به فإنه يكون مستحبًا‬
‫يحبه‪ .‬ثم قد يكون مع ذلك واجبًا‪ ،‬وقد يكون مستحبًا ليس بواجب سواء فعل أو لم يفعل‪ .‬والكلم على هذا مبسوط في‬
‫غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والفريق الثاني‪ :‬من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين‪ :‬فشهدوا أن الّ رب الكائنات جميعها‪ ،‬وعلموا أنه قدر‬
‫على كل شيء وشاءه‪ ،‬وظنوا أنهم ل يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق‬
‫والعصيان‪ ،‬حتى قال بعضهم‪ :‬المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب‪ .‬قالوا‪ :‬والكون كله مراد‬
‫المحبوب‪ .‬وضل هؤلء ضللً عظيمًا‪ ،‬حيث لم يفرقوا بين الرادة الدينية والكونية‪ ،‬والذن الكوني والديني‪ ،‬والمر‬
‫الكوني والديني‪ ،‬والبعث الكوني والديني‪ ،‬والرسال الكوني والديني‪ .‬كما بسطناه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫‪/‬وهؤلء يؤول المر بهم إلى أل يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء الّ وأعدائه‪ ،‬والنبياء والمتقين‪ .‬ويجعلون‬
‫الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الرض‪ ،‬ويجعلون المتقين كالفجار‪ ،‬ويجعلون المسلمين كالمجرمين‪،‬‬
‫ويعطلون المر والنهي‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬والشرائع وربما سموا هذا‪ :‬حقيقة‪ ،‬ولعمري إنه حقيقة كونية‪ ،‬لكن هذه‬
‫الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الصنام‪ ،‬كما قال‪{ :‬وََلئِنْ َسأَ ْل َتهُ ْم مَنْ خَلَقَ ال ّسمَاوَاتِ وَالَْ ْرضَ َليَقُولُنّ الُّ} [الزمر‪،]38 :‬‬
‫ل َتذَكّرُونَ} اليات [المؤمنون‪.]85 ،84 :‬‬ ‫سيَقُولُونَ لِّ قُلْ َأفَ َ‬ ‫ن كُنتُ ْم َتعَْلمُونَ‪َ .‬‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬قُلْ ِلمَنْ الَْرْضُ َومَ ْ‬
‫ن فِيهَا إِ ْ‬

‫فالمشركون الذين يعبدون الصنام كانوا مقرين بأن الّ خالق كل شيء وربه ومليكه‪ ،‬فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان‬
‫أقرب أن يكون كعباد الصنام‪.‬‬

‫والمؤمن إنما فارق الكفر باليمان بالّ وبرسله‪ ،‬وبتصديقهم فيما أخبروا‪ ،‬وطاعتهم فيما أمروا‪ ،‬واتباع ما يرضاه الّ‪،‬‬
‫ويحبه دون ما يقدر ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬ولكن يرضى بما أصابه من المصائب‪ ،‬ل بما فعله من‬
‫صبِرْ إِنّ وَ ْعدَ الِّ َحقّ وَا ْس َتغْفِرْ ِلذَ ْن ِبكَ}[‬
‫المعائب‪ .‬فهو من الذنوب يستغفر‪ .‬وعلى المصائب يصبر‪ ،‬فهو كما قال تعالى‪{ :‬فَا ْ‬
‫ل يَضُ ّركُ ْم َك ْيدُهُمْ‬ ‫صبِرُوا َو َتتّقُوا َ‬
‫ن تَ ْ‬‫غافر‪ ]55 :‬فيجمع بين طاعة المر والصبر على المصائب‪ .‬كما ‪ /‬قال تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫صبِرُوا َو َتتّقُوا فَإِ ّن ذَِلكَ مِنْ عَ ْزمِ ا ُلْمُورِ}[آل عمران‪ ،]186 :‬وقال‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫ش ْيئًا} [آل عمران‪ ،]120 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬ ‫َ‬
‫لّ لَ يُضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْح ِسنِينَ} [يوسف‪.]90 :‬‬
‫صبِ ْر فَإِنّ ا َ‬ ‫يوسف‪ِ{ :‬إنّهُ مَ ْ‬
‫ن َيتّقِ َويَ ْ‬

‫والمقصود هنا‪ :‬أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلم حيث قال‪ :‬من أراد أن يبلغ محل الرضا‬
‫فليلزم ما جعل الّ رضاه فيه‪ ،‬وكذلك قول الشيخ أبي سليمان‪ :‬إذا سل العبد عن الشهوات فهو راض؛ وذلك أن العبد‬
‫إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها‪ ،‬فإذا لم يحصل سخط‪ ،‬فإذا سل عن شهوات نفسه رضي‬
‫بما قسم الّ له من الرزق‪ ،‬وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي‪ :‬الرضا أفضل من الزهد في‬
‫الدنيا؛ لن الراضي ل يتمنى فوق منزلته‪ ،‬كلم حسن‪ .‬لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل‪.‬‬

‫وكذلك ما ذكره معلقًا قال‪ :‬قال الشبلي بين يدي الجنيد‪ :‬لحول ول قوة إل بالّ‪ .‬فقال الجنيد‪ :‬قولك ذا ضيق صدر‪،‬‬
‫وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء‪ .‬فإن هذا من أحسن الكلم‪ .‬وكان الجنيد ـ رضي الّ عنه ـ سيد الطائفة‪ ،‬ومن‬
‫أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا ـ وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ ل كلـمة استرجاع‪ ،‬وكثير من الناس يقولها عند‬
‫المصائب بمنزلة السترجاع‪ ،‬ويقولها جزعًا ل صبرًا‪ .‬فالجنيد ‪ /‬أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها‪ ،‬إذ كانت‬
‫حالً ينافى الرضا‪ ،‬ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه‪.‬‬

‫وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلقًا‪ .‬قال‪ :‬وقيل‪ :‬قال موسى‪( :‬إلهي‪ ،‬دلني على عمل إذا عملته رضيت عني‪.‬‬
‫فقال‪ :‬إنك ل تطيق ذلك‪ ،‬فخر موسى ساجدًا متضرعًا‪ .‬فأوحى الّ إليه‪ :‬يابن عمران‪ ،‬رضائي في رضاك عني)‪ ،‬فهذه‬
‫الحكاية السرائيلية فيها نظر؛ فإنه قد يقال‪ :‬ل يصلح أن يحكي مثلها عن موسى بن عمران‪ .‬ومعلوم أن هذه‬
‫السرائيليات ليس لها إسناد‪ ،‬ول يقوم بها حجة في شيء من الدين‪ ،‬إل إذا كانت منقولة لنا نقلً صحيحًا‪ ،‬مثل ما ثبت‬
‫عن نبينا أنه حدثنا به عن بني إسرائيل‪ ،‬ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه؛ فإن موسى من أعظم أولي العزم‪ ،‬وأكابر‬
‫المسلمين؛ فكيف يقال‪ :‬إنه ل يطيق أن يعمل ما يرضى الّ به عنه؟! والّ تعالى راض عن السابقين الولين من‬
‫المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان‪ .‬أفل يرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن؟! وقال تعالى‪{ :‬إِنّ‬
‫ن فِيهَا َأ َبدًا رَضِيَ‬
‫لْنْهَارُ خَاِلدِي َ‬
‫ح ِتهَا ا َ‬
‫ن تَ ْ‬
‫عدْنٍ تَجْرِي مِ ْ‬
‫جنّاتُ َ‬
‫ع ْندَ َرّبهِمْ َ‬
‫جزَاؤُهُمْ ِ‬
‫خيْرُ ا ْلبَ ِريّةِ‪َ .‬‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ أُ ْوَل ِئكَ ُهمْ َ‬
‫اّلذِينَ آ َمنُوا وَ َ‬
‫الُّ َع ْنهُمْ وَ َرضُوا َعنْهُ}[البينة‪ ]8 ،7 :‬ومعلوم أن موسى بن عمران ـ عليه السلم ـ من أفضل الذين آمنوا وعملوا‬
‫الصالحات‪.‬‬

‫صنَعَ عَلَى َعيْنِي} [طه‪ .]39 :‬ثم إن‬ ‫‪/‬ثم إن الّ خص موسى بمزية فوق الرضا‪ ،‬حيث قال‪{ :‬وَأَ ْل َقيْتُ عََل ْيكَ مَ َ‬
‫حبّ ًة ِمنّي وَِلتُ ْ‬
‫قوله له في الخطاب‪ :‬يابن عمران‪ ،‬مخالف لماذكره الّ من خطابه في القرآن حيث قال‪ :‬يا موسى‪ ،‬وذلك الخطاب فيه‬
‫نوع غض منه كما يظهر‪ .‬ومثل ما ذكر أنه قيل‪ :‬كتب عمر بن الخطاب ـ رضي الّ عنه ـ إلى أبي موسى الشعري‬
‫أما بعد‪ :‬فإن الخير كله في الرضا فإن استطعت أن ترضى وإل فاصبر‪ .‬فهذا الكلم كلم حسن‪ .‬وإن لم يعلم إسناده‪.‬‬

‫ل ومعلقًا ما هو صحيح وغيره‪ ،‬فهذه الكلمة لم يذكرها عن أبي سليمان إل‬


‫وإذا تبين أن فيما ذكره مسندًا ومرس ً‬
‫مرسلة‪ .‬وبمثل ذلك ل تثبت عن أبي سليمان باتفاق الناس؛ فإنه وإن قال بعض الناس‪ :‬إن المرسل حجة‪ ،‬فهذا لم يعلم‬
‫أن المرسل هو مثل الضعيف وغير الضعيف‪ .‬فأما إذا عرف ذلك فل يبقى حجة باتفاق العلماء‪ .‬كمن علم أنه تارة‬
‫يحفظ السناد وتارة يغلط فيه‪.‬‬

‫والكتب المسندة في أخبار هؤلء المشائخ وكلمهم مثل كتاب "حلية الولياء" لبي نعيم‪ ،‬و"طبقات الصوفية" لبي‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬و [صفوة الصفوة] لبن الجوزي‪ .‬وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان‪ .‬أل‬
‫ترى الذي رواه عنه مسندًا حيث قال‪ :‬قال لحمد بن أبي الحواري‪ :‬يا أحمد‪ ،‬لقد أوتيت من الرضا ‪ /‬نصيبًا لو ألقاني‬
‫في النار لكنت بذلك راضيًا‪ .‬فهذا الكلم مأثور عن أبي سليمان بالسناد؛ ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه‬
‫أبي عبد الرحمن‪ ،‬بخلف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه‪ .‬فل أصل لها عن الشيخ أبي سليمان‪.‬‬

‫ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال‪ :‬وسئل أبو عثمان‬
‫الحيري النيسابوري عن قول النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬أسألك الرضا بعد القضاء)‪ ،‬فقال‪ :‬لن الرضا بعد القضاء‬
‫هوالرضا‪ .‬فهذا الذي قاله الشيخ أبوعثمان كلم حسن سديد‪ .‬ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال‪ :‬أرجو أن‬
‫أكون قد عرفت طرفًا من الرضا‪ .‬لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيًا‪.‬‬

‫فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا‪ .‬وإنما هو عزم على الرضا‪ ،‬وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء‪ ،‬وإن‬
‫كان هذا عزمًا فالعزم قد يدوم‪ ،‬وقد ينفسخ‪ ،‬وما أكثر انفساخ العزائم خصوصًا عزائم الصوفية؛ ولهذا قيل لبعضهم‪:‬‬
‫بماذا عرفت ربك ؟ قال‪ :‬بفسخ العزائم ونقض الهمم‪ .‬وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلء المشائخ‪{ :‬وََل َقدْ ُك ْنتُمْ‬
‫ن تَلْقَوْ ُه َف َقدْ رََأ ْيتُمُوهُ َوَأنْتُ ْم َتنْظُرُونَ} [آل عمران‪ ،]143 :‬وقال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِينَ َآ َمنُوا لِ َم تَقُولُو َ‬
‫ن مَا‬ ‫ن َقبْلِ أَ ْ‬
‫ت مِ ْ‬‫َتتَ َمنّوْن ا ْلمَوْ َ‬
‫لّ يُحِبّ اّلذِينَ ُيقَاتِلُو َن فِي َسبِيلِهِ صَفّا كََأّنهُ ْم بُنيَا ٌن مَ ْرصُوصٌ}[الصف‪2- :‬‬
‫ل تَ ْفعَلُونَ‪ .‬إِنّ ا َ‬
‫ن تَقُولُوا مَا َ‬
‫عنْدَ الِّ أَ ْ‬
‫لَ َت ْفعَلُونَ‪َ .‬كبُرَ َم ْقتًا ِ‬
‫‪ ]4‬وفي الترمذي أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬لو علمنا أي العمل أحب إلى الّ لعملناه فأنزل‬
‫الّ تعالى هذه الية {أََل ْم تَرَ إِلَى اّلذِينَ قِيلَ َلهُ ْم كُفّوا َأ ْيدِ َيكُمْ وََأقِيمُوا الصّلَةَ وَآتُوا ال ّزكَا َة فََلمّا كُتِبَ عََل ْيهِمْ الْ ِقتَالُ ِإذَا َفرِي ٌ‬
‫ق مِ ْنهُمْ‬
‫س كَ َخ ْشيَةِ الِّ أَوْ أَ َشدّ َخ ْشيَةً َوقَالُوا َرّبنَا لِ َم َك َتبْتَ عََل ْينَا الْ ِقتَالَ لَ ْولَ أَخّ ْر َتنَا إِلَى أَجَ ٍل قَرِيبٍ}الية [النساء‪ .]77 :‬فهؤلء‬ ‫يَخْشَوْنَ النّا َ‬
‫الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه‪ ،‬وأين ألم الجهاد من ألم النار؟ وعذاب الّ‬
‫الذي ل طاقة لحد به‪ ،‬ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه كان يقول‪:‬‬

‫وليس لي في سواك حظ ** فكيفما شئت فاختبرني‬

‫فأخذه العسر من ساعته‪ :‬أي حصر بوله؛ فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول‪ :‬ادعوا لعمكم‬
‫الكذاب‪.‬‬

‫وحكى أبو نعيم الصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال سمنون‪ :‬يارب‪ ،‬قد رضيت بكل ما تقضيه عليّ‪ ،‬فاحتبس‬
‫بوله أربعة عشر يومًا‪ ،‬فكان يتلوى كما تتلوى الحية‪ ،‬يتلوى يمينًا وشمالً‪ ،‬فلما ‪ /‬أطلق بوله‪ ،‬قال‪ :‬ربي قد تبت إليك‪.‬‬
‫قال أبو نعيم‪ :‬فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدني بلوي‪ ،‬مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل‪،‬‬
‫وله في المحبة مقام مشهور‪ ،‬حتى روى عن إبراهيم بن فاتك أنه قال‪ :‬رأيت سمنونًا يتكلم على الناس في المسجد‬
‫الحرام‪ ،‬فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده‪ ،‬ثم لم يزل يضرب بمنقاره الرض حتى سقط منه‬
‫دم؛ ومات الطائر‪ .‬وقال‪ :‬رأيته يومًا يتكلم في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بعضًا‪.‬‬

‫وقد ذكر القشيري في (باب الرضا) عن رويم المقري ـ رفيق سمنون ـ حكاية تناسب هذا حيث قال‪ :‬قال رويم‪ :‬إن‬
‫الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل الّ أن يحولها عن يساره‪ ،‬فهذا يشبه قول سمنون‪ :‬فكيف ما شئت فامتحني‪.‬‬
‫وإذا لم يطق الصبر على عسر البول‪ ،‬أفيطيق أن تكون النار عن يمينه ؟‬

‫والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلء وابتلى بعسر البول فغلبه اللم حتى قال‪ :‬بحبي لك أل فرجت عني؛‬
‫ففرج عنه‪.‬‬

‫ورويم ـ وإن كان من رفقاء الجنيد ـ فليس هو عندهم من هذه الطبقة‪ ،‬بل الصوفية يقولون‪ :‬إنه رجع إلى الدنيا وترك‬
‫التصوف؛ حتى روى عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال‪ :‬من أراد أن يستكتم سرًا ‪ /‬فليفعل‪ .‬كما فعل رويم‪ .‬كتم‬
‫حب الدنيا أربعين سنة فقيل‪ :‬وكيف يتصور ذلك؟ قال‪ :‬ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما‬
‫مودة أكيدة‪ ،‬فجذبه إليه‪ ،‬وجعله وكيلً على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وأكل الطيبات‪،‬‬
‫وبنى الدور‪ ،‬وإذا هو كان يكتم حب الدنيا مالم يجدها‪ ،‬فلما وجدها أظهر ماكان يكتم من حبها‪ .‬هذا مع أنه ـ رحمه الّ ـ‬
‫كان له من العبادات ما هو معروف وكان على مذهب داود‪.‬‬

‫وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها ل تجعل طريقة ول تتخذ سبيلً؛ ولكن‬
‫قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق‪ ،‬وما‬
‫يقدر عليه من التقوى والصبر وما ل يقدر عليه من التقوى والصبر‪ ،‬والرسل ـ صلوات الّ عليهم ـ أعلم بطريق سبيل‬
‫الّ وأهدى وأنصح‪ ،‬فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصًا مخطئًا محرومًا‪ ،‬وإن لم يكن عاصيًا أو فاسقًا أو‬
‫كافرًا‪.‬‬

‫ويشبه هذا العرابي الذي دخل عليه النبي صلى ال عليه وسلم وهو مريض كالفرخ فقال‪( :‬هل كنت تدعو الّ بشيء‪،‬‬
‫قال‪ :‬كنت أقول‪ :‬اللّهم ما كنت معذبني به في الخرة فاجعله في الدنيا‪ ،‬فقال‪ :‬سبحان الّ ل تستطيعه ول تطيقه‪ ،‬هل‬
‫قلت‪ :‬ربنا آتنا في ‪ /‬الدنيا حسنة‪ ،‬وفي الخرة حسنة‪ ،‬وقنا عذاب النار) فهذا أيضًا حمله خوفه من عذاب النار‪ ،‬ومحبته‬
‫لسلمة عاقبته على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا‪ ،‬وكان مخطئا في ذلك غالطًا‪ ،‬والخطأ والغلط مع حسن القصـد‬
‫وسلمته‪ ،‬وصلح الرجل وفضله ودينه وزهـده وورعـه وكراماته كثير جدًا‪ ،‬فليس من شرط ولي الّ أن يكـون‬
‫معصومًا مـن الخطأ والغلـط؛ بل ول من الذنوب‪ ،‬وأفضل أولياء الّ بعد الرسل أبو بكر الصديق ـ رضي الّ عنه ـ‬
‫وقد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال له لما عبر الرؤيا‪( :‬أصبت بعضًا وأخطأت بعضا)‪.‬‬

‫ويشبه ـ والّ أعلم ـ أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة ـ‪ :‬لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا ـ أن يكون بعض الناس‬
‫حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال‪ :‬الرضا أل تسأل الّ الجنة‪ ،‬ول تستعيذه من النار‪ .‬وتلك الكلمة التي قالها أبو‬
‫سليمان‪ ،‬مع أنها ل تدل على رضاه بذلك‪ ،‬ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك‪ ،‬فنحن نعلم أن هذا العزم ل يستمر بل‬
‫ينفسخ‪ ،‬وإن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها؛ وأنها مستدركة‪ ،‬كما استدركت دعوى سمنون ورويم وغير ذلك؛‬
‫فإن بين هذه الكلمة وتلك فرقًا عظيمًا‪ .‬فإن تلك الكلمة مضمونها‪ :‬أن من سأل الّ الجنة‪ ،‬واستعاذ من النار‪ ،‬ل يكون‬
‫راضيًا‪.‬‬

‫وفرق بين من يقول‪ :‬أنا إذا فعل كذا كنت راضيًا‪ ،‬وبين ‪ /‬من يقول‪ :‬ل يكون راضيًا إل من ل يطلب خيرًا‪ ،‬ول يهرب‬
‫من شر؛ وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلم‪ ،‬فإن الشيخ أبا سليمان من‬
‫أجلء المشائخ‪ ،‬وساداتهم ومن أتبعهم للشريعة حتى إنه قال‪ :‬إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم‪ ،‬فل أقبلها إل‬
‫بشاهدين‪ :‬الكتاب والسنة‪ .‬فمن ل يقبل نكت قلبه إل بشاهدين‪ ،‬يقول هذا مثل الكلم؟! وقال الشيخ أبو سليمان أيضًا‪:‬‬
‫ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله‪ ،‬حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نورًا على نور؛ بل صاحبه أحمد‬
‫بن أبي الحواري كان من أتبع المشائخ للسنة‪ ،‬فكيف أبو سليمان؟!‪.‬‬

‫وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلم تظهر بالكلم في المقام الثاني وهو قول القائل كائنًا من كان‪ :‬الرضا أل تسأل‬
‫الّ الجنة‪ ،‬ول تستعيذه من النار‪.‬‬

‫ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الشتباه والضطراب‪ ،‬وذلك أن قومًا كثيرًا من‬
‫الناس‪ ،‬من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس‪،‬‬
‫وسماع أصوات طيبة‪ ،‬وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيمًا غير ذلك‪ .‬ثم صاروا ضربين‪:‬‬

‫‪/‬ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم‪ .‬كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم‪.‬‬

‫ومنهم من أقر بالرؤية‪ ،‬إما الرؤية التي أخبر بها النبي صلى ال عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬وإما‬
‫برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم‪ ،‬أو جعلها بحاسة سادسة‪ ،‬ونحو ذلك‬

‫ًاالتي ذهب إليها ضرار بن عمرو وطوائف من أهل الكلم المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية‪ ،‬وإن كان‬
‫ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية‪ .‬والنزاع بينهم لفظي‪ ،‬ونزاعهم مع أهل السنة معنوي؛ ولهذا كان‬
‫بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلء‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه‪ ،‬قالوا‪ :‬لنه ل مناسبة بين‬
‫المحدث والقديم‪ ،‬كما ذكر ذلك الستاذ أبو المعالى الجويني في [الرسالة النظامية]‪ ،‬وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في‬
‫بعض كتبه‪ ،‬ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجل ً يقول‪ :‬أسألك لذة النظر إلى وجهك‪ .‬فقال‪ :‬يا هذا‪ ،‬هب أن له وجهًا‪،‬‬
‫أله وجه يتلذذ بالنظر إليه؟! وذكر أبو المعالي أن الّ يخلق لهم نعيمًا ببعض المخلوقات مقارنًا للرؤية‪ ،‬فأما النعيم‬
‫بنفس الرؤية فأنكـره‪ ،‬وجعل هذا من أسرار التوحيد‪.‬‬

‫‪/‬وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم‪ ،‬وهو مذهب سلف المة وأئمتها‪ ،‬ومشائخ الطريق‪ ،‬كما في‬
‫الحديث الذي في النسائي وغيره عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬اللهم بعلمك الغيب‪ ،‬وقدرتك على الخلق‪ ،‬أحيني إذا‬
‫كانت الحياة خيرًا لي‪ ،‬وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي‪ ،‬اللّهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة‪ ،‬وأسألك كلمة‬
‫الحق في الغضب والرضا‪ ،‬وأسألك القصد في الفقر والغنى‪ ،‬وأسألك نعيمًا ل ينفد‪ ،‬وقرة عين ل تنقطع‪ ،‬وأسألك‬
‫الرضا بعد القضاء‪ ،‬وبرد العيش بعد الموت‪ ،‬وأسألك لذة النظر إلى وجهك‪ ،‬وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء‬
‫مضرة‪ ،‬ول فتنة مضلة‪ ،‬اللّهم زينا بزينة اليمان‪ ،‬واجعلنا هداة مهتدين)‪ .‬وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد‪ ،‬يا أهل الجنة‪ ،‬إن لكم عند الّ موعدًا يريد أن‬
‫ينجزكموه‪ ،‬فيقولون‪ :‬ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة‪ ،‬ويجرنا من النار؟ قال‪ :‬فيكشف‬
‫الحجاب؛ فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه)‪.‬‬

‫وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم‪ ،‬وهذا متفق عليه بين السلف والئمة ومشائخ الطريق‪ ،‬كما روي عن‬
‫الحسن البصري أنه قال‪ :‬لو علم العابدون بأنهم ل يرون ربهم في الخرة لذابت نفوسهم في ‪ /‬الدنيا شوقًا إليه‪،‬‬
‫وكلمهم في ذلك كثير‪.‬‬
‫ثم هؤلء الذين وافقوا السلف والئمة والمشائخ على التنعم بالنظر إلى الّ تعالى‪ ،‬تنازعوا في مسألة المحبة التي هـي‬
‫حبّ َنفْسُهُ‪ ،‬وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا‪ :‬هو‬
‫أصل ذلك؛ فذهب طوائف من‪ . ..‬والفقهاء إلى أن الّ ل ُي َ‬
‫أيضًا ل يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته للحسان إليهم ووليتهم‪ .‬ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر‬
‫السنة من أهل الكـلم‪ ،‬حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد‪ :‬كالقاضي أبي بكـر والقاضي أبي‬
‫يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلء‪.‬‬

‫وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في السلم الجعد بن درهم‪ ،‬أستاذ الجهم بن‬
‫صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد الّ القسري‪ .‬وقال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬ضحوا تقبل الّ ضحاياكم‪ ،‬فإني مضح بالجعد بن‬
‫درهم‪ ،‬فإنه زعم أن الّ لم يتخذ إبراهيم خليلً‪ ،‬ولم يكلم موسى تكليمًا ثم نزل فذبحه‪.‬‬

‫والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف المة وأئمتها ومشائخ الطريق‪ :‬أن الّ يحب ويحب‪ .‬ولهذا وافقهم‬
‫على ذلك من تصوف من ‪ /‬أهل الكلم‪ :‬كأبي القاسم القشيري؛ وأبي حامد الغزالي‪ ،‬وأمثالهما‪ .‬ونصر ذلك أبو حامد‬
‫في (الحياء) وغيره‪ .‬وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في (الرسالة) على طريق الصوفية كما في كتاب أبي طالب المسمى‬
‫بـ (قوت القلوب) وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية‪ ،‬استند في ذلك لما وجده من كتب الفلسفة من إثبات نحو‬
‫ذلك حيث قالوا‪ :‬يعشق ويعشق‪.‬‬

‫وقد بسط الكلم على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه‪ .‬وقد قال تعالى‪{ :‬يُ ِحّبهُمْ َويُ ِحبّونَهُ} [‬
‫المائدة‪ ،]54 :‬وقال تعالى‪{ :‬وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [البقرة‪ ،]165 :‬وقال‪{ :‬أَ َحبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ وَ َرسُولِهِ} [التوبة‪24 :‬‬
‫]‪ ،‬وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان‪ :‬من كان الّ‬
‫ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬ومن كان يحب المرء ل يحبه إل لّ‪ ،‬ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه‬
‫الّ منه كما يكره أن يلقى في النار)‪.‬‬

‫والمقصود هنـا أن هؤلء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم ـ الذين ينكرون حقيقة المحبة ـ يلزمهم أن ينكروا التلذذ‬
‫بالنظر إليه؛ ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إل التنعم بالكل والشرب‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وهذا القول باطل بالكتاب والسنة‬
‫واتفاق سلف المة ومشائخها‪ ،‬فهذا أحد الحزبين الغالطين‪.‬‬

‫والضرب الثاني‪ :‬طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة‪ / :‬وافقوا هؤلء على أن الجنة ليست إل هذه المور التي‬
‫يتنعم بها المخلوق؛ ولكن وافقوا السلف والئمة على إثبات رؤية الّ والتنعم بالنظر إليه‪ ،‬وأصابوا في ذلك وجعلوا‬
‫يطلبون هذا النعيم‪ ،‬وتسمو إليه همتهم‪ ،‬ويخافون فوته‪ ،‬وصار أحدهم يقول‪ :‬ما عبدتك شوقًا إلى جنتك‪ ،‬أو خوفًا من‬
‫نارك‪ ،‬ولكن لنظر إليك وإجللً لك‪ ،‬وأمثال هذه الكلمات‪ .‬مقصودهم بذلك‪ :‬هو أعلى من الكل والشرب والتمتع‬
‫بالمخلوق‪ ،‬لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة‪ .‬وقد يغلطون أيضًا في ظنهم أنهم يعبدون الّ بل حظ ول إرادة‪ ،‬وإن‬
‫كل ما يطلب منه فهو حظ النفس‪ ،‬وتوهموا أن البشر يعمل بل إرادة ول مطلوب ول محبوب‪ ،‬وهو سوء معرفة‬
‫بحقيقة اليمان والدين والخرة‪.‬‬

‫وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه‪ ،‬حتى ل يشعر بنفسه وإرادتها‪ ،‬فيظن‬
‫أنه يفعل لغير مراده‪ ،‬والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه‪ ،‬وهذا كحال كثير من الصالحين‬
‫والصادقين‪ ،‬وأرباب الحوال والمقامات يكون لحدهم وجد صحيح‪ ،‬وذوق سليم‪ ،‬لكن ليس له عبارة تبين كلمه‪،‬‬
‫فيقع في كلمه غلط وسوء أدب‪ ،‬مع صحة مقصوده؛ وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده‪.‬‬

‫فهؤلء الذين قالوا مثل هذا الكلم‪ ،‬إذا عنوا به طلب رؤية الّ ‪ /‬تعالى أصابوا في ذلك‪ ،‬لكن أخطؤوا من جهة أنهم‬
‫جعلوا ذلك خارجًا عن الجنة‪ ،‬فأسقطوا حرمة اسم الجنة‪ ،‬ولزم من ذلك أمور منكرة؛ نظير ما ذكر عن الشبلي ـ‬
‫رحمه الّ ـ أنه سمع قارئًا يقرأ‪ِ { :‬م ْنكُ ْم مَنْ يُرِي ُد ال ّدنْيَا َو ِم ْنكُ ْم مَ ْن يُرِيدُ الْخِ َرةَ} [آل عمران‪ .]152 :‬فصرخ وقال‪ :‬أين‬
‫مريد الّ؟ فيحمد منه كونه أراد الّ؛ ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الخرة ما أرادوا الّ؛ وهذه الية في أصحاب‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم الذين كانوا معه بأحد‪ ،‬وهم أفضل الخلق‪ ،‬فإن لم يريدوا الّ‪ ،‬أفيريد الّ من هو دونهم‪.‬‬
‫كالشبلي‪ ،‬وأمثاله؟!‬
‫سهُمْ وََأمْوَاَلهُ ْم بِأَنّ َلهُمْ‬ ‫ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشائخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى‪{ :‬إِنّ الَّ ا ْ‬
‫شتَرَى مِنْ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َ‬
‫لّ َفيَ ْقتُلُونَ َوُي ْقتَلُونَ} [التوبة‪ ]111 :‬قال‪ :‬فإذا كانت النفس والموال في ثمن الجنة‪ ،‬فالرؤية بم‬ ‫سبِيلِ ا ِ‬
‫ن فِي َ‬
‫جنّ َة يُقَاتِلُو َ‬
‫الْ َ‬
‫تنال ؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال‪.‬‬

‫والواجب أن يعلم أن كل ما أعده الّ للولياء من نعيم‪ ،‬بالنظر إليه وما سوى ذلك‪ ،‬هو في الجنة‪ ،‬كما أن كل ما وعد‬
‫س مَا ُأخْ ِفيَ َلهُ ْم مِ ْن قُرّةِ أَ ْعيُنٍ َجزَا ًء ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ} [السجدة‪،]17 :‬‬
‫به أعداءه هو في النار‪ .‬وقد قال تعالى‪{ :‬فَلَ َتعْلَ ُم َنفْ ٌ‬
‫وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬يقول الّ أعددت لعبادي الصالحين ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن‬
‫سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر بَلْهُ ما أطلعتهم عليه) وإذا علم أن ‪ /‬جميع ذلك داخل في الجنة‪ ،‬فالناس في الجنة‬
‫ضهُمْ َعلَى َبعْضٍ وَلَلْ ِخرَةُ َأ ْكبَ ُر دَرَجَاتٍ وََأ ْكبَ ُر تَ ْفضِيلً} [السراء‪21 :‬‬ ‫ف فَضّ ْلنَا َبعْ َ‬ ‫على درجات متفاوتة‪ ،‬كما قال‪{ :‬انظُ ْر َكيْ َ‬
‫] وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غيرذلك من مطالب الخرة هو في الجنة‪.‬‬

‫وطلب الجنة والستعاذة من النار طريق أنبياء الّ ورسله‪ ،‬وجميع أوليائه السابقين المقربين‪ ،‬وأصحاب اليمين‪ .‬كما‬
‫في السنن أن النبي صلى ال عليه وسلم سأل بعض أصحابه‪( :‬كيف تقول في دعائك؟) قال‪ :‬أقول‪ :‬اللهم إني أسألك‬
‫الجنة‪ ،‬وأعوذ بك من النار؛ أما إني ل أحسن دندنتك‪ ،‬ول دندنة معاذ‪ .‬فقال‪( :‬حولهما ندندن) فقد أخبر أنه هو صلى‬
‫ال عليه وسلم ومعاذ ـ وهو أفضل الئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى ال عليه وسلم ـ إنما يدندنون حول‬
‫الجنة‪ ،‬أفيكون قول أحد فوق قول رسول الّ صلى ال عليه وسلم ومعاذ‪ ،‬ومن يصلي خلفهما من المهاجرين‬
‫والنصار؟! ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة‪.‬‬

‫لْبْرَارِ لَفِي عِّليّينَ‪َ .‬ومَا َأدْرَاكَ مَا‬ ‫وأهل الجنة نوعان‪ :‬سابقون مقربون‪ ،‬وأبرار أصحاب يمين‪ .‬قال تعالى‪{ :‬كَلّ إِ ّ‬
‫ن ِكتَابَ ا َ‬
‫ن مِنْ‬
‫ضرَةَ ال ّنعِيمِ‪ .‬يُسْقَوْ َ‬
‫ف فِي وُجُو ِههِ ْم نَ ْ‬‫لْبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ‪ .‬عَلَى الَْرَا ِئكِ يَنظُرُونَ‪َ .‬تعْرِ ُ‬ ‫ش َهدُهُ ا ْلمُ َق ّربُونَ‪ .‬إِنّ ا َ‬
‫ب مَ ْرقُومٌ‪ .‬يَ ْ‬
‫عِّليّونَ‪ .‬كِتَا ٌ‬
‫ب ِبهَا ا ْلمُ َق ّربُونَ} [المطففين‪]18-28 :‬‬ ‫شرَ ُ‬ ‫ع ْينًا يَ ْ‬
‫سنِيمٍ‪َ .‬‬
‫ن تَ ْ‬
‫سكٌ َوفِي ذَِلكَ فَ ْل َي َتنَافَسْ ا ْل ُم َتنَافِسُونَ‪َ .‬ومِزَاجُ ُه مِ ْ‬ ‫ختَامُ ُه مِ ْ‬
‫ختُومٍ‪ِ .‬‬
‫ق َم ْ‬‫رَحِي ٍ‬
‫قال ابن عباس‪ :‬تمزج لصحاب اليمين مزجًا ويشربها المقربون صرفًا‪.‬‬

‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول‪ ،‬ثم صلوا علي‪،‬‬
‫فإنه من صلى علي مرة صلى الّ عليه عشرًا‪ ،‬ثم سلوا الّ لي الوسيلة‪ ،‬فإنها درجة في الجنة ل تنبغي إل لعبد من‬
‫عباد الّ‪ ،‬وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد‪ ،‬فمن سأل الّ لي الوسيلة‪ ،‬حلت عليه شفاعتي يوم القيامة)‪ ،‬فقد أخبر أن‬
‫الوسيلة ـ التي ل تصلح إل لعبد واحد من عباد الّ ورجاء أن يكون هو ذلك العبد ـ هي درجة في الجنة‪ ،‬فهل بقى بعد‬
‫الوسيلة شيء أعلي منها يكون خارجًا عن الجنة يصلح للمخلوقين؟!‬

‫وثبت في الصحيح ـ أيضًا ـ في حديث الملئكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال‪( :‬فيقولون للرب تبارك‬
‫وتعالى‪ :‬وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك)‪ .‬قال‪( :‬فيقول‪ :‬وما يطلبون؟ قالوا‪ :‬يطلبون الجنة)‪ .‬قال‪( :‬فيقول‪:‬‬
‫وهل رأوها؟) قال‪( :‬فيقولون‪ :‬ل)‪ ،‬قال‪( :‬فيقول‪ :‬فكيف لو رأوها؟!) قال‪( :‬فيقولون‪ :‬لو رأوها لكانوا أشد لها طلبًا)‪.‬‬
‫قال‪( :‬ومم يستعيذون؟!) قالوا‪( :‬يستعيذون من النار)‪ .‬قال‪( :‬فيقول‪ :‬وهل رأوها؟!) قال‪( :‬فيقولون‪ :‬ل)‪ .‬قال‪( :‬فيقول‪/ :‬‬
‫فكيف لو رأوها ؟) قالوا‪( :‬لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة)‪ .‬قال‪( :‬فيقول‪ :‬أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون‪ ،‬وأعذتهم‬
‫مما يستعيذون) ـ أو كما قال ـ قال‪( :‬فيقولون‪ :‬فيهم فلن الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم)‪ ،‬قال‪( :‬فيقول‪ :‬هم القوم‬
‫ليشقى بهم جليسهم)‪ .‬فهؤلء الذين هم من أفضل أولياء الّ كان مطلوبهم الجنة‪ ،‬ومهربهم من النار‪.‬‬

‫والنبي صلى ال عليه وسلم لمّا بايع النصار ليلة العقبة‪ ،‬وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الولين الذين هم‬
‫أفضل من هؤلء المشائخ كلهم‪ ،‬قالوا للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬اشترط لربك ولنفسك ولصحابك قال‪( :‬أشترط‬
‫لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم‪ ،‬وأشترط لصحابي أن تواسوهم)‪ .‬قالوا‪ :‬فإذا فعلنا ذلك فما‬
‫لنا؟ قال‪( :‬لكم الجنة)‪ .‬قالوا‪ :‬مد يدك فوالّ ل نقيلك‪ ،‬ول نستقيلك‪ .‬وقد قالوا له في أثناء البيعة‪ :‬إن بيننا وبين القوم‬
‫حبالً وعهودًا وإنا ناقضوها‪.‬‬

‫فهؤلء الذين بايعوه من أعظم خلق الّ محبة لّ ورسوله‪ ،‬وبذلً لنفوسهم وأموالهم في رضا الّ ورسوله‪ ،‬على وجه ل‬
‫يلحقهم فيه أحد من هؤلء المتأخرين‪ ،‬قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة‪ ،‬فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه‪،‬‬
‫ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما ل تشعر به النفوس لتطلبه‪ ،‬فإن ‪ /‬الطلب والحب‬
‫والرادة فرع عن الشعور والحساس والتصور‪ ،‬فما ل يتصوره النسان ول يحسه ول يشعر به يمتنع أن يطلبه‬
‫ن فِيهَا وََل َديْنَا مَزِيدٌ} [ق‪ ،]35 :‬وقال‪َ { :‬وفِيهَا مَا تَ ْ‬
‫ش َتهِيهِ‬ ‫ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا‪ .‬كما قال تعالى‪َ{ :‬لهُ ْم مَا يَشَاءُو َ‬
‫الَْنفُسُ َوتََلذّ الَْ ْعيُنُ} [الزخرف‪ ]71 :‬ففيها ما يشتهون‪ ،‬وفيها مزيد على ذلك‪ ،‬وهو مالم يبلغه علمهم ليشتهوه‪ .‬كماقال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬مال عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر) وهذا باب واسع‪.‬‬

‫فإذا عرفت هذه المقدمة‪ ،‬فقول القائل‪ :‬الرضا أل تسأل الّ الجنة‪ ،‬ول تستعيذه من النار‪ ،‬إن أراد بذلك أل تسأل الّ ما‬
‫هو داخل في مسمى الجنة الشرعية‪ ،‬فل تسأله النظر إليه‪ ،‬ول غير ذلك مما هو مطلوب جميع النبياء والولياء‪،‬‬
‫وإنك ل تستعيذ به من احتجابه عنك‪ ،‬ول من تعذيبك في النار‪ .‬فهذا الكلم مع كونه مخالفًا لجميع النبياء والمرسلين‪،‬‬
‫وسائر المؤمنين‪ ،‬فهو متناقض في نفسه‪ ،‬فاسد في صريح العقول‪ ،‬وذلك أن الرضا الذي ل يسأل‪ ،‬إنما ل يسأله‬
‫ل ول محبة لّ فكأنه‬ ‫لرضاه عن الّ‪ .‬ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به‪ ،‬ومحبته له‪ ،‬وإذا لم يبق معه رضا عن ا ّ‬
‫قال‪ :‬يرضى أل يرضى وهذا جمع بين النقيضين‪ .‬ول ريب أنه كلم من لم يتصور ما يقول‪ ،‬ول عقله‪ ،‬يوضح ذلك‬
‫أن الراضي إنما يحمله على احتمال المكاره واللم ‪ /‬ما يجده من لذة الرضا وحلوته‪ ،‬فإذا فقد تلك الحلوة واللذة‬
‫امتنع أن يتحمل ألمًا ومرارة‪ ،‬فكيف يتصور أن يكون راضيًا‪ ،‬وليس معه من حلوة الرضا ما يحمل به مرارة‬
‫المكاره؟ وإنما هذا من جنس كلم السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلوة الرضا‪ ،‬فظن أن هذا يبقى معه على أي‬
‫حال كان‪ ،‬وهذا غلط عظيم منه‪ :‬كغلط سمنون كما تقدم‪.‬‬

‫وإن أراد بذلك أل يسأل التمتع بالمخلوق‪ ،‬بل يسأل ما هو أعلى من ذلك؛ فقد غلط من وجهين‪:‬‬

‫من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة‪.‬‬

‫ومن جهة أنه ـ أيضًا ـ أثبت أنه طالب مع كونه راضيًا‪ ،‬فإذا كان الرضا ل ينافى هذا الطلب‪ ،‬فل ينافي طلبًا آخر إذا‬
‫كان محتاجًا إلى مطلوبه؛ ومعلوم أن تمتعه بالنظر ل يتم إل بسلمته من النار‪ ،‬وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر‪،‬‬
‫وما ل يتم المطلوب إل به فهو مطلوب؛ فيكون طلبه للنظر طلبًا للوازمه التي منها النجاة من النار‪ ،‬فيكون رضاه ل‬
‫ينافي طلب حصول المنفعة ودفع المضرة عنه‪ .‬ول طلب حصول الجنة ودفع النار ول غيرهما مما هو من لوازم‬
‫النظر‪ ،‬فتبين تناقض قوله‪.‬‬

‫‪/‬وأيضًا فإذا لم يسأل الّ الجنة‪ ،‬ولم يستعذ به من النار‪ ،‬فإما أن يطلب من الّ ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب‬
‫منفعة ودفع مضرة‪ .‬وإما أل يطلبه‪ ،‬فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى‪ ،‬واستعاذته‬
‫من النار أولى‪ .‬وإن كان الرضا أل يطلب شيئًا قط‪ ،‬ولو كان مضطرًا إليه‪ ،‬ول يستعيذ من شيء قط وإن كان مضرًا‪،‬‬
‫فل يخلو‪ :‬إما أن يكون ملتفتًا بقلبه إلى الّ في أن يفعل به ذلك‪ ،‬وإما أن يكون معرضًا عن ذلك‪ ،‬فإن التفت بقلبه إلى‬
‫الّ فهو طالب مستعيذ بحاله‪ ،‬ول فرق بين الطلب بالحال والقال‪ ،‬وهو بهما أكمل وأتم فل يعدل عنه‪.‬‬

‫وإن كان معرضًا عن جميع ذلك‪ ،‬فمن المعلوم أنه ل يحيا ويبقى إل بما يقيم حياته‪ ،‬ويدفع مضاره بذلك‪ ،‬والذي به‬
‫يحيا من المنافع ودفع المضار‪ ،‬إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد‪ ،‬أو ل يحبه ول يطلبه ول يريده‪ .‬فإن أحبه وطلبه‬
‫ل ول‬‫وأراده من غير الّ كان مشركًا مذمومًا‪ ،‬فضل عن أن يكون محمودًا‪ .‬وإن قال‪ :‬ل أحبه وأطلبه وأريده ل من ا ّ‬
‫من خلقه‪ .‬قيل‪ :‬هذا ممتنع في الحي‪ ،‬فإن الحي ممتنع عليه أل يحب ما به يبقى‪ ،‬وهذا أمر معلوم بالحس‪ ،‬ومن كان‬
‫بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا‪ ،‬فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة‪ ،‬إذ الرضا مستلزم لذلك‪ .‬فكيف‬
‫يسلب عنه ذلك كله؟ ‪ /‬فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلم‪.‬‬

‫وأما في سبيل الّ وطريقه ودينه فمن وجوه‪:‬‬

‫أحدها أن يقال‪ :‬الراضي لبد أن يفعل ما يرضاه الّ‪ ،‬وإل فكيف يكون راضيًا عن الّ من ل يفعل ما يرضاه الّ؟‬
‫وكيف يسوغ رضا ما يكرهه الّ ويسخطه ويذمه‪ ،‬وينهي عنه‪.‬‬

‫وبيان هذا‪ :‬أن الرضا المحمود إما أن يكون الّ يحبه ويرضاه‪ ،‬وإما أل يحبه ويرضاه‪ ،‬فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم‬
‫يكن هذا الرضا مأمورًا به‪ ،‬ل أمر إيجاب ول أمر استحباب؛ فإن من الرضا ما هو كفر‪ ،‬كرضا الكفار بالشرك‪ ،‬وقتل‬
‫حبَطَ‬ ‫النبياء وتكذيبهم‪ ،‬ورضاهم بما يسخطه الّ ويكرهه‪ .‬قال تعالى‪{ :‬ذَِلكَ بَِأّنهُ ْم ا ّت َبعُوا مَا أَ ْ‬
‫سخَطَ الَّ َوكَرِهُوا ِرضْوَانَ ُه فََأ ْ‬
‫أَ ْعمَاَلهُمْ} [محمد‪ ،]28 :‬فمن اتبع مـا أسخط الّ برضاه وعمله فقد أسخط الّ‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن‬
‫الخطيئة إذا عملت في الرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها‪ ،‬ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب‬
‫عنها وأنكرها)‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪( :‬سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون‪ ،‬فمن أنكر فقد برئ‪ ،‬ومن كره‬
‫ل يَرْضَى عَنْ الْقَ ْومِ‬
‫لّ َ‬
‫عنْهُ ْم َفإِنّ ا َ‬
‫ن تَرْضَوْا َ‬
‫ع ْنهُمْ َفإِ ْ‬ ‫فقد سلم ولكن من رضى وتابع هلك)‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬يَحْلِفُونَ َلكُمْ ِلتَرْ َ‬
‫ضوْا َ‬
‫سقِينَ} [التوبة‪ ]96 :‬فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه الّ ويرضاه‪ ،‬وهو ل يرضى عنهم‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬‬ ‫ا ْلفَا ِ‬
‫أَ َرضِيتُ ْم بِالْ َحيَاةِ الدّ ْنيَا مِنْ الْخِ َر ِة َفمَا َمتَاعُ الْ َحيَا ِة ال ّدنْيَا فِي الْخِرَةِ ِإلّ قَلِيلٌ} [التوبة‪ ]38 :‬فهذا رضا قد ذمه الّ‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬
‫ط َمَأنّوا بِهَا} [يونس‪ ]7 :‬فهذا أيضًا رضا مذموم‪ ،‬وسوى هذا‪ ،‬وهذا‬ ‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا وَا ْ‬
‫ن لَ يَ ْرجُونَ ِلقَا َءنَا وَ َرضُوا بِا ْل َ‬
‫{إِنّ اّلذِي َ‬
‫كثير‪.‬‬

‫فمن رضى بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبعًا لرضا الّ ول هو مؤمن‬
‫بالّ‪ .‬بل هو مسخط لربه‪ ،‬وربه غضبان عليه‪ ،‬لعن له‪ ،‬ذام له‪ ،‬متوعد له بالعقاب‪.‬‬

‫وطريق الّ التي يأمر بها المشائخ المهتدون‪ :‬إنما هي المر بطاعة الّ والنهي عن معصيته‪ .‬فمن أمر أو استحب أو‬
‫ل ل ولى لّ وهو يصد عن سبيل الّ‬ ‫مدح الرضا الذي يكرهه الّ ويذمه وينهى عنه ويعاقب أصحابه فهو عدو ّ‬
‫وطريقه‪ ،‬ليس بسالك لطريقه وسبيله‪ .‬وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه الّ‪ ،‬ومنه ما يكرهه‬
‫ويسخطه‪ ،‬ومنه ما هو مباح ل من هذا ول من هذا‪ ،‬كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك‪ ،‬كلها تنقسم‬
‫ل ومكروه لّ مباح‪.‬‬
‫إلى محبوب ّ‬

‫‪/‬فإذا كان المر كذلك فالراضي الذي ل يسأل الّ الجنة ول يستعيذه من النار يقال له‪ :‬سؤال الّ الجنة واستعاذته من‬
‫النار إما أن تكون واجبة‪ ،‬وإما أن تكون مستحبة‪ ،‬وإما أن تكون مباحة‪ ،‬وإما أن تكون مكروهة‪ ،‬ول يقول مسلم‪ :‬إنها‬
‫محرمة ولمكروهة‪ ،‬وليست أيضًا مباحة مستوية الطرفين‪ .‬ولو قيل‪ :‬إنها كذلك ففعل المباح المستوى الطرفين ل‬
‫ينافي الرضا؛ إذ ليس من شرط الراضي أل يأكل ول يشرب ول يلبس ول يفعل أمثال هذه المور‪ ،‬فإذا كان ما يفعله‬
‫من هذه المور ل ينافي رضاه‪ ،‬أينافي رضاه دعاء وسؤال هو مباح؟! وإذا كان السؤال والدعاء كذلك واجبا أو‬
‫ل ل يفعل ما‬‫مستحبا فمعلوم أن الّ يرضى بفعل الواجبات والمستحبات‪ ،‬فكيف يكون الراضي الذي من أولياء ا ّ‬
‫يرضاه ويحبه؛ بل يفعل ما يسخطه ويكرهه وهذه صفة أعداء الّ ل أولياء الّ‪.‬‬

‫والقشيري قد ذكره في أوائل باب الرضا فقال‪ :‬اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء الّ الذي أمـر بالرضا‬
‫به‪ ،‬إذ ليس كـل ماهو بقضائه يجـوز للعبد أو يجب على العبد الرضا به‪ .‬كالمعاصي وفنون محن المسلمين‪ .‬وهذا‬
‫الذي قاله‪ ،‬قاله قبله وبعده ومعه غير واحد من العلماء‪ :‬كالقاضي أبي بكر‪ ،‬والقاضي أبي يعلى وأمثالهما‪ ،‬لمـا احتج‬
‫عليهم القدرية بأن الرضا بقضاء الّ مأمور به‪ ،‬فلو كانت المعاصي ‪ /‬بقضاء الّ لكنا مأمورين بالرضا بها‪ ،‬والرضـا‬
‫بما نهى الّ عنه ل يجـوز فأجابهم أهـل السنة عن ذلك بثلثة أجوبة‪:‬‬

‫أحدها ـ وهو جواب هؤلء وجماهير الئمة ـ‪ :‬أن هذا العموم ليس بصحيح‪ ،‬فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى‬
‫وقدر‪ ،‬ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك‪ ،‬ولكن علينا أن نرضي بما أمرنا أن نرضى به‪ ،‬كطاعة الّ ورسوله‪.‬‬
‫وهذا هو الذي ذكره أبو القاسم‪.‬‬

‫والجواب الثاني‪ :‬أنهم قالوا‪ :‬إنا نرضى بالقضاء الذي هو صفة الّ أو فعله ل بالمقضي الذي هو مفعوله‪ .‬وفي هذا‬
‫الجواب ضعف قد بيناه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أنهم قالوا‪ :‬هذه المعاصي لها وجهان‪ :‬وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه‪ ،‬ووجه إلى الرب من‬
‫حيث هو خلقها وقضاها وقدرها‪ ،‬فيرضى من الوجه الذي يضاف به إلى الّ‪ ،‬ول يرضى من الوجه الذي يضاف به‬
‫إلى العبد‪ ،‬إذ كونها شرًا وقبيحة ومحرمًا وسببًا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد‪.‬‬
‫وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والسرار ما قد ذكرنا منه ما قد ذكرناه في غيرهذا الموضع‪ ،‬ول يحتمله هذا المكان‪.‬‬
‫فإن ‪ /‬هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر‪ ،‬وهي من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الولين والخرين وأدقها على‬
‫عقول أكثر العالمين‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن مشائخ الصوفية والعلماء وغيرهم قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائزًا‪ ،‬ومنه مال يكون جائزًا‬
‫فضل عن كونه مستحبًا أو من صفات المقربين‪ ،‬وإن أبا القاسم ذكر ذلك في [الرسالة] أيضًا‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬هذا الذي ذكـرتموه أمر بين واضح‪ ،‬فمن أين غلط من قال‪ :‬الرضـا أل تسأل الّ الجنة ول تستعيذه من النار؟‬
‫وغلـط من يستحسن مثل هـذا الكلم كائنا من كان؟‪.‬‬

‫قيل‪ :‬غلطوا في ذلك لنهم رأوا أن الراضي بأمر ل يطلب غير ذلك المر‪ ،‬فالعبد إذا كان في حال من الحوال فمن‬
‫رضاه أل يطلب غير تلك الحال‪ ،‬ثم إنهم رأوا أن أقصى المطالب الجنة‪ ،‬وأقصى المكاره النار‪ .‬فقالوا‪ :‬ينبغي أليطلب‬
‫شيئًا ولو أنه الجنة ول يكره ما يناله‪ ،‬ولو أنه النار‪ ،‬وهذا وجه غلطهم‪ ،‬ودخل عليهم الضلل من وجهين‪:‬‬

‫ل ويرضاه ‪ /‬وأن هذا من أعظم طرق أولياء الّ‪ ،‬فجعلوا الرضا‬ ‫أحدهما‪ :‬ظنهم أن الرضا بكل ما يكون أمر يحبه ا ّ‬
‫بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها للعبد طريقًا إلى الّ‪ ،‬فضلوا ضللً مبينًا والطـريق إلى الّ إنمـا هي أن‬
‫ترضيه بأن تفعـل مايحبه ويرضاه ليس أن ترضى بكل مـا يحدث ويكـون‪ ،‬فإنه هو لـم يأمـرك بذلـك‪ ،‬ول رضيه لـك‬
‫ول أحبه؛ بـل هـو ـ سبحانه ـ يكـره ويسخـط ويبغض عـلى أعيـان أفعال موجـودة ل يحصيها إل هو‪ ،‬وولية الّ‬
‫موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض‪ ،‬وتكره ما يكره‪ ،‬وتسخط ما يسخط‪ ،‬وتوالي من يوالي‪ ،‬وتعادي من‬
‫يعادي‪ ،‬فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنـت عدوه ل وليّه‪ ،‬وكان كل ذم نال من رضى ما أسخط الّ قد‬
‫نالك‪.‬‬

‫فتدبر هذا؛ فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من ل يحصيهم إل الّ‪.‬‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أنهم ل يفرقون بين الدعاء الذي أمروا به أمر إيجاب‪ ،‬وأمر استحباب‪ ،‬وبين الدعاء الذي نهوا عنه‪ ،‬أو‬
‫لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه‪ ،‬فإن دعاء العبد لربه ومسألته إياه ثلثة أنواع‪:‬‬

‫نوع أمر العبد به إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب‪ :‬مثل ‪ /‬قوله‪{ :‬ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُ ْس َتقِيمَ} [الفاتحة‪ ،]6 :‬ومثل دعائه‬
‫في آخر الصلة كالدعاء الذي كان النبي صلى ال عليه وسلم يأمر به أصحابه فقال‪( :‬إذا قعد أحدكم في الصلة‬
‫فليستعذ بالّ من أربع‪ :‬من عذاب جهنم‪ ،‬وعذاب القبر‪ ،‬وفتنة المحيا والممات‪ ،‬وفتنة المسيح الدجال)‪ .‬فهذا دعاء‬
‫أمرهم النبي صلى ال عليه وسلم أن يدعوا به في آخر صلتهم‪ .‬وقد اتفقت المة على أنه مشروع يحبه الّ ورسوله‬
‫ويرضاه‪ ،‬وتنازعوا في وجوبه‪ .‬فأوجبه طاووس وطائفة‪ ،‬وهو قول في مذهب أحمد رضي الّ عنه‪ ،‬والكثرون قالوا‪:‬‬
‫هذا مستحب‪ ،‬والدعية التي كان النبي صلى ال عليه وسلم يدعو بها‪ :‬ل تخرج عن أن تكون واجبة‪ ،‬أو مستحبة‪،‬‬
‫ل ويرضاه‪ ،‬ومن فعله ـ رضي الّ عنه وأرضاه ـ فهل يكون من الرضا‬ ‫وكل واحد من الواجب والمستحب يحبه ا ّ‬
‫ترك ما يحبه ويرضاه؟!‬

‫ونوع من الدعاء ينهي عنه‪ :‬كالعتداء مثل أن يسأل الرجل مال يصلح من خصائص النبياء‪ ،‬وليس هو بنبي‪ ،‬وربما‬
‫هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى‪ .‬مثل أن يسأل لنفسه الوسيلة التي ل تصلح إل لعبد من عباده‪ ،‬أو يسأل الّ‬
‫تعالى أن يجعله بكل شيء عليمًا‪ ،‬أو على كل شيء قدير‪ ،‬وأن يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب‪ .‬وأمثال‬
‫ذلك‪ ،‬أو مثل من يدعوه ظانًا أنه محتاج إلى عباده؛ وأنهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل‪ ،‬ويذكر أنه إذا لم‬
‫يفعله ‪ /‬حصل له من الخلق ضير‪ .‬وهذا ونحوه جهل بال واعتداء في الدعاء‪ .‬وإن وقع في ذلك طائفة من الشيوخ‪.‬‬
‫ومثل أن يقولوا‪ :‬اللهم اغفر لي إن شئت‪ ،‬فيظن أن ال قد يفعل الشىء مكرها‪ ،‬وقد يفعل مختارًا‪ ،‬كالملوك‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫اغفر لي إن شئت‪ ،‬وقد نهي النبي صلى ال عليه وسلم عن ذلك وقال‪( :‬ل يقل أحدكم‪ :‬اللهم اغفر لي إن شئت‪ ،‬اللهم‬
‫ارحمني إن شئت‪ ،‬ولكن ليعزم المسألة؛ فإن ال ل مكره له)‪ ،‬ومثل أن يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق‪،‬‬
‫وأمثال ذلك فهذه الدعية ونحوها منهي عنها‪.‬‬

‫ومن الدعاء ما هو مباح كطلب الفضول التي لمعصية فيها‪.‬‬

‫والمقصود أن الرضا الذي هو من طريق ال ل يتضمـن ترك واجب ول ترك مستحب‪ ،‬فالدعاء الذي هو واجب أو‬
‫مستحب ل يكون تركه من الرضا‪ ،‬كما أن ترك سائر الواجبات ل يكون من الرضا المشروع‪ ،‬ول فعل المحرمات‬
‫من المشروع‪ .‬فقد تبين غلط هؤلء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور‪ ،‬ومن جهة أنهم لم يميزوا بين‬
‫الدعاء المشروع إيجابا‪ ،‬واستحبابا‪ ،‬والدعاء غير المشروع‪.‬‬
‫وقد علم بالضطرار من دين السلم أن طلب الجنة من ال‪ ،‬والستعاذة به من النار‪ ،‬هو من أعظم الدعية‬
‫المشروعة لجميع المرسلين ‪ /‬والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬وأن ذلك ل يخرج عن كونه واجبًا أو‬
‫مستحبا‪ ،‬وطريق أولياء ال التي يسلكونها ل تخرج عن فعل واجبات ومستحبات؛ إذ ما سوي ذلك محرم أو مكروه أو‬
‫مباح ل منفعة فيه في الدين‪.‬‬

‫ثم إنه لما أوقع هؤلء في هـذا الغلط أنهـم وجـدوا كثيـرًا من الناس ل يسألون ال جلب المنافع‪ ،‬ودفع المضار‪ ،‬حتى‬
‫طلب الجنة‪ ،‬والستعاذة من النار‪ ،‬من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيرًا‪ ،‬بل من جهة كون النفس تطلب ذلك‪ ،‬فرأوا‬
‫أن من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريـده‪ ،‬وأل يكـون لحـدهم إرادة أصـل‪ ،‬بـل يكـون مطلـوبه الجريان تحت‬
‫القدر ـ كائنًا من كان ـ وهذا هو الذي أدخل كثيرًا منهم في الرهبانية‪ ،‬والخروج عن الشرعية‪ ،‬حتى تركوا من الكل‬
‫والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون إليه‪ ،‬وما ل تتم مصلحة دينهم إل به؛ فإنهم رأوا العامة تعد هذه المور بحكم‬
‫الطبع والهوى والعادة‪ ،‬ومعلوم أن الفعال التي على هذا الوجه ل تكون عبادة ول طاعة ول قربة‪ ،‬فرأي أولئك‬
‫الطريق إلي ال ترك هذه العبادات‪ ،‬والفعال الطبعيات‪ ،‬فلزموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما‬
‫فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق‪ ،‬ما أوقعهم في ترك واجبات ومستحبات‪ ،‬وفعل مكروهات ومحرمات‪.‬‬

‫‪/‬وكل المرين غير محمود‪ ،‬ول مأمور به‪ ،‬ول طريق إلى الّ‪ :‬طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الفعال المحتاج‬
‫إليها على غير وجه العبادة‪ ،‬والتقرب إلى الّ‪ ،‬وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الفعال؛ بل المشروع أن تفعل بنية‬
‫عمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون‪ ،]51 :‬وقال تعالى‪{ :‬كُلُوا‬ ‫التقرب إلى الّ‪ ،‬وأن يشكر الّ‪ .‬قال الّ تعالى‪{ :‬كُلُوا مِنْ ال ّ‬
‫طّيبَاتِ وَا ْ‬
‫ت مَا َر َز ْقنَاكُمْ وَا ْشكُرُوا لِِّ} [البقرة‪ ،]172 :‬فأمر بالكل والشرب‪ ،‬فمن أكل ولم يشكر كان مذمومًا‪ ،‬ومن لم‬ ‫طيّبَا ِ‬
‫مِنْ َ‬
‫يأكل ولم يشكر كان مذمومًا‪ ،‬وفي الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إن الّ ليرضى عن العبد أن يأكل‬
‫الكلة فيحمده عليها‪ ،‬ويشرب الشربة فيحمده عليها)‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم لسعد‪( :‬إنك لن تنفق نفقة تبتغي‬
‫بها وجه الّ‪ ،‬إل ازددت بها درجة ورفعة‪ ،‬حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك)‪ ،‬وفي الصحيح أيضًا أنه قال‪( :‬نفقة‬
‫المؤمن على أهله يحتسبها صدقة)‪ .‬فكذلك الدعية هنا من الناس من يسأل الّ جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه‬
‫طبعًا وعادة ل شرعًا وعبادة‪ ،‬فليس من المشروع أن أدع الدعاء مطلقًا لتقصيرهذا وتفريطه؛ بل أفعله أنا شرعًا‬
‫وعبادة‪.‬‬

‫ثم اعلم أن الذي يفعله شرعًا وعبادة إنما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه‬
‫ن يَقُولُ َرّبنَا آ ِتنَا فِي‬ ‫وآخرته؛ بخلف ‪ /‬الذي يفعله طبعًا فإنه إنما يطلب مصلحة دنياه فقط‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬فمِنْ النّا ِ‬
‫س مَ ْ‬
‫عذَابَ النّارِ‪ .‬أُوَْل ِئكَ َلهُ ْم نَصِيبٌ‬
‫سنَةً َو ِقنَا َ‬
‫سنَةً َوفِي الْخِرَةِ حَ َ‬
‫ن يَقُولُ َرّبنَا آ ِتنَا فِي ال ّد ْنيَا حَ َ‬
‫ال ّدنْيَا َومَا لَ ُه فِي الخِرَ ِة مِنْ خَلَقٍ‪َ .‬ومِ ْنهُ ْم مَ ْ‬
‫ِممّا كَ َسبُوا وَالُّ سَرِيعُ الْ ِحسَابِ} [البقرة‪ ]200-202 :‬وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار إنما يطلب حسنة‬
‫الخرة فهو محمود‪.‬‬

‫ومما يبين المر في ذلك أن يرد قول هؤلء‪ :‬بأن العبد ل يفعل مأمورًا ول يترك محظورًا‪ .‬فل يصلي ول يصوم ول‬
‫يتصدق‪ ،‬ول يحج ول يجاهد ول يفعل شيئًا من القربات‪ ،‬فإن ذلك إنما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب‪ .‬فإذا كان‬
‫هو ل يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة‪ ،‬ول دفع العقاب الذي هو النار‪ ،‬فل يفعل مأمورًا‪ ،‬ول يترك محظورًا‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬أنا راض بكل ما يفعله بي وإن كفرت وفسقت وعصيت؛ بل يقول‪ :‬أنا أكفر وأفسق وأعصى حتى يعاقبني‬
‫وأرضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه‪ ،‬وهذا قول من هو من أجهل الخلق وأحمقهم وأضلهم وأكفرهم‪.‬‬

‫أما جهله وحمقه؛ فلن الرضى بذلك ممتنع متعذر؛ لن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين‪.‬‬

‫‪/‬وأما كفره؛ فلنه مستلزم لتعطيل دين الّ الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه‪.‬‬

‫ول ريب أن ملحظة القضاء والقدر‪ ،‬أوقعت كثيرًا من أهل الرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا‬
‫من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين‪ ،‬وإما عاصين فاسقين‪ ،‬وإما كافرين‪ ،‬وقد رأيت من ذلك ألوانا‪{ .‬‬
‫َومَنْ لَ ْم يَ ْجعَلْ الُّ لَ ُه نُورًا َفمَا لَ ُه مِ ْن نُورٍ} [النور‪.]40 :‬‬

‫وهؤلء المعتزلة ونحوهم من القدرية طرفا نقيض ـ هؤلء يلحظون القدر ويعرضون عن المر‪ .‬وأولئك يلحظون‬
‫المر ويعرضون عن القدر ـ والطائفتان تظن أن ملحظة المر والقدر متعذر‪ .‬كما أن طائفة تجعل ذلك مخالفًا‬
‫للحكمة والعدل‪ .‬وهذه الصناف الثلثة هي‪ :‬القدرية المجوسية‪ ،‬والقدرية المشركية؛ والقدرية البليسية؛ وقد بسطنا‬
‫الكلم عليهم في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫وأصل ما يبتلى به السالكون أهل الرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية‪ ،‬فيشهدون القدر ويعرضون‬
‫عن المر‪ ،‬كما قال فيهم بعض العلماء‪ :‬أنت عند الطاعة قدري‪ ،‬وعند المعصية جبري‪ ،‬أي مذهب وافق هواك‬
‫ل عليهـا قبل الفعـل‪ ،‬ويشكره عليها بعد‬
‫تمذهبت به‪ .‬وإنما المشروع العكس‪ ،‬وهو أن يكون عند الطاعة يستعين ا ّ‬
‫الفعل ‪ /‬ويجتهد أل يعصى فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والستغفار‪ ،‬كما في حديث سيد الستغفار‪( :‬أبوء لك‬
‫بنعمتك علي‪ ،‬وأبوء بذنبي)‪ ،‬وكما في الحديث الصحيح اللهي‪( :‬ياعبادي‪ ،‬إنماهي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم‬
‫إياها‪ ،‬فمن وجد خيرًا فليحمد الّ‪ ،‬ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل نفسه)‪.‬‬

‫ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الرادة في ترك الدعاء‪ ،‬وآخرون جعلوا التوكل والمحبة من مقامات العامة‪ ،‬وأمثال‬
‫هذه الغاليط التي تكلمنا عليها في غير هذا الموضع‪ ،‬وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك؛ ولهذا يوجد في كلم‬
‫هؤلء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة‪ ،‬حتى قال سهل بن عبد الّ التستري‪ :‬كل وجد ل يشهد له الكتاب والسنة‬
‫فهو باطل‪ .‬وقال الجنيد بن محمد‪ :‬علمنا مقيد بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث ل يصح أن يتكلم في‬
‫علمنا‪ ،‬والّ أعلم‪.‬‬

‫ما تقول السادة العلماء فيمن عزم على فعل محرم‪ ،‬كالزنا والسرقة‪ ،‬وشرب الخمر عزمًا جازمًا فعجز عن‬ ‫‪/‬‬
‫فعله‪ :‬إما بموت‪ ،‬أو غيره‪ .‬هل يأثم بمجرد العزم أم ل؟ وإن قلتم‪ :‬يأثم‪ ،‬فما جواب من يحتج على عدم الثم بقوله‪( :‬إذا‬
‫هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه( (‪)1‬وبقوله‪ ) :‬إن الّ تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها‪ ،‬مالم تعمل أو‬
‫تتكلم) واحتج به من وجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنه أخبر بالعفو عن حديث النفس‪ ،‬والعزم داخل في العموم والعزم والهم واحد‪ .‬قاله ابن سيده‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أنه جعل التجاوز ممتدا إلى أن يوجد كلم أوعمل‪ ،‬وما قبل ذلك داخل في حد التجاوز‪ ،‬ويزعم أل دللة في‬
‫قول النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)؛ لن الموجب لدخول‬
‫المقتول في النار مواجهته أخيه‪ ،‬لنه عمل ل مجرد قصد‪ ،‬وأل دللة في قوله صلى ال عليه وسلم في الذي قال‪( :‬لو‬
‫أن لي مال لفعلت وفعلت‪ ،‬إنهما في الثم سواء وفي الجر سواء)؛ لنه تكلم‪ / ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬ما‬
‫ل مكشوفًا مستوفًا‪.‬‬
‫لم تعمل به أو تتكلم) وهذا قد تكلم‪ ،‬وقد وقع في هذه المسألة كلم كثير‪ .‬واحتيج إلى بيانها مطو ً‬

‫فأجاب شيخ السلم ابن تيمية ـ قدس الّ روحه ونور ضريحه‪:‬‬

‫الحمد لّ‪ ،‬هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلم في حكمها إلى حسن التصور لها‪ ،‬فإن اضطراب الناس في هذه‬
‫المسائل وقع عامته من أمرين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها‪ ،‬التي هي مورد الكلم‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬عدم إعطاء الدلة الشرعية حقها‪ ،‬ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب‪ ،‬حتى يجد الناظر في‬
‫كلمهم أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر‪.‬‬

‫فينبغي أن يعلم أن كل واحـد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة والرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله‬
‫وآخره مال يضبطه العباد‪ :‬كالشك‪ ،‬ثم الظن‪ ،‬ثم العلم‪ ،‬ثم اليقين‪ ،‬ومراتبه؛ وكذلك الهم والرادة والعزم وغير ذلك؛‬
‫ولهذا كان الصواب عند جماهير أهل السنة ـ وهو ‪ /‬ظاهر مذهب أحمـد‪ ،‬وهو أصح الروايتين عنه‪ ،‬وقول أكثر‬
‫أصحابه ـ أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان‪ ،‬بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي‪ :‬كاللوان‬
‫والطعوم والرواح‪ .‬فنقول أولً‪ :‬الرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها‪ ،‬إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى‬
‫وجدت الرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل‪ ،‬لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم‪،‬‬
‫ومتي وجدت الرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الرادة جازمة‪ ،‬وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من‬
‫الفعال‪ ،‬ولم يفعلوه‪ ،‬وإن كانت هذه الرادات متفاوتة في القوة والضعف تفاوتًا كثيرًا؛ لكن حيث لم يقع الفعل المراد‬
‫مع وجود القدرة التامة فليست الرادة جازمة جزمًا تامًا‪.‬‬

‫وهذه المسألة إنما كثر فيها النزاع؛ لنهم قدروا إرادة جازمة للفعل ل يقترن بها شىء من الفعل‪ ،‬وهذا ل يكون‪ .‬وإنما‬
‫يكون ذلك في العزم على أن يفعل‪ ،‬فقد يعزم على الفعل في المستقبل من ل يفعل منه شيئا في الحال‪ ،‬والعزم على أن‬
‫يفعل في المستقبل ل يكفي في وجود الفعل‪ ،‬بل لبد عند وجوده من حدوث تمام الرادة المستلزمة للفعل‪ ،‬وهذه هي‬
‫الرادة الجازمة‪.‬‬

‫والرادة الجازمة إذا فعل معها النسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام‪ :‬له ثواب الفاعل التام‪،‬‬
‫وعقاب الفاعل التام ‪ /‬الذي فعل جميع الفعل المراد‪ ،‬حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته‪ ،‬مثل‬
‫المشتركين والمتعاونين على أفعال البر‪ ،‬ومنها ما يتولد عن فعل النسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضللة‪ ،‬والسّان‬
‫سّنة حسنة‪ ،‬وسنة سيئة‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬من دعا إلى هدى كان له‬
‫من الجر مثل أجور من تبعه‪ ،‬من غير أن ينقص من أجورهم شيء‪ ،‬ومن دعا إلى ضللة كان عليه من الوزر مثل‬
‫أوزار من تبعه‪ ،‬من غير أن ينقص أوزارهم شىء)‪ ،‬وثبت عنه في الصحيحين أنه قال‪( :‬من سن سنة حسنة كان له‬
‫أجرها‪ ،‬وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة‪ ،‬من غير أن ينقص من أجورهم شيء)‪.‬‬

‫فالداعي إلى الهدى وإلى الضللة‪ ،‬هو طالب مريد كامل الطلب والرادة لما دعا إليه‪ ،‬لكن قدرته بالدعاء والمر‪،‬‬
‫وقدرة الفاعل بالتباع والقبول؛ ولهذا قرن الّ تعالى في كتابه بين الفعال المباشرة والمتولدة فقال‪{ :‬ذَِلكَ بَِأّنهُ ْم لَ‬
‫عمَ ٌ‬
‫ل‬ ‫ل ُكتِبَ َلهُ ْم بِهِ َ‬‫عدُ ّو َنيْلً ِإ ّ‬‫ن مِنْ َ‬ ‫ل يَنَالُو َ‬‫طئًا َيغِيظُ ا ْلكُفّارَ َو َ‬
‫ن مَوْ ِ‬‫طئُو َ‬
‫ل يَ َ‬
‫سبِيلِ الِّ َو َ‬ ‫خمَصَ ٌة فِي َ‬ ‫ل مَ ْ‬ ‫ل نَصَبٌ َو َ‬ ‫ظمَأٌ َو َ‬
‫يُصِيبُهُمْ َ‬
‫ن مَا كَانُوا‬
‫طعُونَ وَا ِديًا ِإلّ ُكتِبَ َل ُهمْ ِليَجْ ِز َيهُمْ الُّ َأحْسَ َ‬ ‫ل َكبِيرَةً َولَ يَ ْق َ‬
‫صغِيرَةً َو َ‬
‫ن نَ َفقَةً َ‬‫سنِينَ‪َ .‬ولَ يُن ِفقُو َ‬
‫ل يُضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْ ِ‬
‫لّ َ‬‫صَالِحٌ إِنّ ا َ‬
‫َيعْمَلُونَ} [التوبة‪.]121 ،120 :‬‬

‫فذكر في الية الولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة‪ / ،‬وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب‪،‬‬
‫وما يحصل للكفار بهم من الغيظ‪ ،‬وما ينالونه من العدو‪ .‬وقال‪ُ { :‬كتِبَ َلهُ ْم بِهِ َعمَلٌ صَالِحٌ}‪ ،‬فأخبر أن هذه المور التي‬
‫تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها عمل صالح‪ ،‬وذكر في الية الثانية نفس أعمالهم‬
‫المباشرة التي باشروها بأنفسهم‪ :‬وهي النفاق‪ ،‬وقطع المسافة‪ ،‬فلهذا قال فيها‪ِ{ :‬إ ّل كُتِبَ َلهُمْ} فإن هذه نفسها عمل‬
‫صالح‪ ،‬وإرادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله لّ‪ ،‬وأن تكون كلمة الّ هي العليا‪،‬‬
‫فما حدث مع هذه الرادة الجازمة من المور التي تعين فيها قدرتهم بعض العانة هي لهم عمل صالح‪.‬‬

‫وكذلك الداعي إلى الهدى والضللة‪ ،‬لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدي التباع وضللهم‪ ،‬وأتى من العانة على‬
‫ذلك بما يقدر عليه‪ ،‬كان بمنزلة العامل الكامل‪ ،‬فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه‪ :‬للهادي مثل أجور المهتدين‪،‬‬
‫وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة؛ فإن السنة هي ما رسم للتحري‪ ،‬فإن السان كامل‬
‫الرادة لكل ما يفعل من ذلك‪ ،‬وفعله بحسب قدرته ‪.‬‬

‫ومن هذا‪ :‬قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬ل تقتل نفس ظلمًا إل‬
‫كان على ابن آدم الول كفل من دمها؛ لنه أول من سن القتل)‪ ،‬فالكفل ‪ /‬النصيب مثل نصيب القاتل‪ .‬كما فسره‬
‫الحديث الخر‪ ،‬وهو كما استباح جنس قتل المعصوم‪ ،‬لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة‪ ،‬فصار شريكًا في‬
‫ض َفكََأّنمَا َقتَلَ‬
‫لْرْ ِ‬
‫ل نَفْسًا بِ َغيْ ِر نَ ْفسٍ أَ ْو فَسَادٍ فِي ا َ‬
‫ن َقتَ َ‬
‫ل ذَِلكَ َك َتبْنَا عَلَى َبنِي إِسْرَائِيلَ َأنّ ُه مَ ْ‬
‫جِ‬‫قتل كل نفس‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪{ :‬مِنْ أَ ْ‬
‫النّاسَ َجمِيعًا َومَنْ أَ ْحيَاهَا َفكََأّنمَا أَ ْحيَا النّاسَ َجمِيعًا} [المائدة‪.]32 :‬‬

‫ت قَوْ ُم نُوحٍ ا ْلمُرْ َسلِينَ} [الشعراء‪:‬‬


‫ل معينًا كان كتكذيب جنس الرسل‪ ،‬كما قيل فيه‪{ :‬كَ ّذبَ ْ‬
‫ويشبه هذا أنه من كذب رسو ً‬
‫‪َ { ]105‬ك ّذبَتْ عَادٌ ا ْلمُرْسَلِينَ} [الشعراء‪ ]123 :‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫يءٍ‬
‫ن مِنْ خَطَايَاهُ ْم مِنْ شَ ْ‬
‫حمِلْ خَطَايَا ُكمْ َومَا هُ ْم ِبحَامِلِي َ‬
‫سبِيَلنَا وَ ْلنَ ْ‬ ‫ومن هذا الباب قوله تعالى‪َ { :‬وقَالَ اّلذِي َ‬
‫ن كَفَرُوا لِّلذِينَ آ َمنُوا ا ّت ِبعُوا َ‬
‫ِإّنهُمْ َلكَا ِذبُونَ‪ .‬وََليَ ْحمِلُنّ َأثْقَاَلهُمْ وََأثْقَا ًل مَعَ َأ ْثقَاِلهِمْ وََليُسْأَلُ ّن يَ ْومَ الْ ِقيَامَةِ َعمّا كَانُوا يَ ْفتَرُونَ} [ العنكبوت‪ ]13 ،12 :‬فأخبر أن أئمة‬
‫الضلل ل يحملون من خطايا التباع شيئًا‪ ،‬وأخبر أنهم يحملون أثقالهم‪ ،‬وهي أوزار التباع‪ ،‬من غير أن ينقص من‬
‫أوزار التباع شيء؛ لن إرادتهم كانت جازمة بذلك‪ ،‬وفعلوا مقدورهم‪ ،‬فصار لهم جزاء كل عامل؛ لن الجزاء على‬
‫العمل يستحق مع الرادة الجازمة‪ ،‬وفعل المقدور منه‪.‬‬

‫وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان‪ / :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كتب إلى هرقل‪( :‬‬
‫فإن توليت فإن عليك إثم الريسيين)‪ ،‬فأخبر أن هرقل لما كان إمامهم المتبوع في دينهم أن عليه إثم الريسيين‪ ،‬وهم‬
‫التباع‪ ،‬وإن كان قد قيل‪ :‬أن أصل هذه الكلمة من الفلحين والكرة‪ ،‬كلفظ الطاء بالتركي‪ ،‬فإن هذه الكلمة تقلب إلى ما‬
‫هو أعم من ذلك‪ ،‬ومعلوم أنه إذا تولى عن اتباع الرسول كان عليه مثل آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما‬
‫دل عليه سائر نصوص الكتاب والسنة‪.‬‬

‫لّ َيعْلَ ُم مَا يُسِرّونَ َومَا‬ ‫س َت ْكبِرُونَ‪ .‬لَ جَرَمَ أَنّ ا َ‬ ‫ن بِالْخِ َر ِة قُلُو ُبهُ ْم مُنكِرَةٌ وَ ُه ْم مُ ْ‬
‫ن لَ يُ ْؤ ِمنُو َ‬ ‫ومن هذا قوله تعالى‪{ :‬إَِل ُهكُمْ إِلَهٌ وَا ِ‬
‫ح ٌد فَاّلذِي َ‬
‫حمِلُوا أَوْزَارَهُ ْم كَامِلَةً يَ ْومَ ا ْل ِقيَامَةِ َومِنْ َأوْزَارِ‬
‫ستَ ْكبِرِينَ‪ .‬وَِإذَا قِيلَ َلهُ ْم مَاذَا أَنزَلَ َرّبكُ ْم قَالُوا َأسَاطِيرُ الَْوّلِينَ‪ِ .‬ليَ ْ‬ ‫ل يُحِبّ ا ْل ُم ْ‬
‫ُيعْلِنُونَ ِإنّ ُه َ‬
‫اّلذِينَ يُضِلّونَهُ ْم ِب َغيْرِ عِلْمٍ} [النحل‪.]22-25 :‬‬

‫فقوله‪َ { :‬ومِنْ أَ ْوزَارِ اّلذِي َن يُضِلّو َنهُم} [النحل‪ ]25 :‬هي الوزار الحاصلة لضلل التباع‪ ،‬وهي حاصلة من جهة المر‪،‬‬
‫ومن جهة المأمور الممتثل‪ ،‬فالقدرتان مشتركتان في حصول ذلك الضلل؛ فلهذا كان علي هذا بعضه‪ ،‬وعلى هذا‬
‫بعضه‪ ،‬إل أن كل بعض من هذين البعضين هو مثل وزر عامل كامل‪ ،‬كما دلت عليه سائر النصوص‪ ،‬مثل قوله‪( / :‬‬
‫من دعا إلى الضللة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)‪.‬‬

‫حتّى ِإذَا‬
‫خ َتهَا َ‬
‫س فِي النّا ِر كُّلمَا دَخََلتْ ُأمّةٌ َل َعنَتْ أُ ْ‬
‫ن َقبِْلكُ ْم مِنْ الْجِنّ وَالِْن ِ‬
‫ت مِ ْ‬
‫خلَ ْ‬
‫خلُوا فِي ُأ َم ٍم قَدْ َ‬ ‫ومن هذا الباب قوله تعالى‪{ :‬قَا َ‬
‫ل ادْ ُ‬
‫ضعْفٌ وََلكِ ْن َل َتعَْلمُونَ} [‬ ‫ضعْفًا مِنْ النّا ِر قَالَ ِلكُلّ ِ‬
‫عذَابًا ِ‬ ‫خرَاهُ ْم لُِولَهُمْ َرّبنَا هَ ُؤلَءِ َأضَلّونَا فَآتِهِمْ َ‬
‫جمِيعًا قَاَلتْ أُ ْ‬
‫ادّا َركُوا فِيهَا َ‬
‫العراف‪.]38 :‬‬

‫فأخبر ـ سبحانه ـ أن التباع دعوا على أئمة الضلل بتضعيف العذاب‪ ،‬كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالى‪َ { :‬وقَالُوا‬
‫ضعْ َفيْنِ مِنْ ا ْل َعذَابِ وَا ْل َعنْهُمْ َلعْنًا َكبِيرًا} [الحزاب‪.]68 ،67 :‬وأخبر‬
‫سبِيلَ‪َ .‬رّبنَا آ ِتهِمْ ِ‬
‫ط ْعنَا سَا َد َتنَا َو ُكبَرَا َءنَا َفأَضَلّونَا ال ّ‬
‫َرّبنَا ِإنّا َأ َ‬
‫ـ سبحانه ـ أن لكل من المتبعين والتباع تضعيفًا من العذاب‪ .‬ولكن ل يعلم التباع التضعيف‪.‬‬

‫ولهذا وقع عظيم المدح والثناء لئمة الهدى‪ ،‬وعظيم الذم واللعنة لئمة الضلل‪ ،‬حتى روى في أثر ـ ل يحضرني‬
‫إسناده ـ‪( :‬أنه ما من عذاب في النار إل يبدأ فيه بإبليس ثم يصعد بعد ذلك إلى غيره‪ ،‬وما من نعيم في الجنة إل يبدأ فيه‬
‫بالنبي صلى ال عليه وسلم ثم ينتقل إلى غيره) فإنه هو المام المطلق في الهدى لول بني آدم وآخرهم‪ .‬كما قال‪( :‬أنا‬
‫سيد ولد آدم ول فخر‪ ،‬آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ‪ /‬ول فخر)‪ ،‬وهو شفيع الولين والخرين في الحساب‬
‫بينهم ؛ وهو أول من يستفتح باب الجنة‪ ،‬وذلك أن جميع الخلئق أخذ الّ عليهم ميثاق اليمان به كما أخذ على كل نبي‬
‫ح ْكمَةٍ ثُمّ‬
‫ن ِكتَابٍ َو ِ‬
‫لّ مِيثَاقَ ال ّنبِيّينَ َلمَا آ َت ْيتُكُ ْم مِ ْ‬ ‫أن يؤمن بمن قبله من النبياء ؛ ويصدق بمن بعده‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَِإذْ أَ َ‬
‫خذَ ا ُ‬
‫صدّقٌ ِلمَا َمعَكُمْ َلتُ ْؤمِنُ ّن بِهِ وََل َتنْصُ ُرنّهُ} الية [آل عمران‪ .]81 :‬فافتتح الكلم باللم الموطئة للقسم التي‬ ‫ل ُم َ‬
‫جَا َءكُمْ رَسُو ٌ‬
‫يؤتي بها إذا اشتمل الكلم على قسم وشرط؛ وأدخل اللم على ما الشرطية ليبين العموم‪ ،‬ويكون المعنى‪ :‬مهما آتيكم‬
‫من كتاب وحكمة فعليكم إذا جاءكم ذلك النبي المصدق اليمان به ونصره‪ .‬كما قال ابن عباس‪ :‬ما بعث الّ نبيا إل أخذ‬
‫عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه‪.‬‬

‫والّ ـ تعالى ـ قد نوه بذكره وأعلنه في المل العلى‪ ،‬ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه‪ ،‬كما في حديث ميسرة‬
‫الفجر قال‪ ، :‬قلت‪ :‬يا رسول الّ! متى كنت نبيًا؟ وفي رواية ـ متى كتبت نبيًا ؟ فقال‪( :‬وآدم بين الروح والجسد) رواه‬
‫أحمد‪ .‬وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫قال‪( :‬إني عند الّ لخاتم النبيين‪ ،‬وإن آدم لمنجدل في طينته) الحديث‪.‬‬

‫‪/‬فكتب الّ وقدر في ذلك الوقت‪ ،‬وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق‬
‫جسده ونفخ الروح فيه‪ ،‬كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود ‪.‬‬

‫فمن آمن به من الولين والخرين أثيب على ذلك‪ ،‬وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظـم من‬
‫ثـواب من لم يأت إل باليمان المجمل‪ ،‬على أنه إمام مطلق لجميع الذرية‪ ،‬وإن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من‬
‫الولين والخرين‪ ،‬كما أن كل ضلل وغواية في الجن والنس لبليس منه نصيب‪ ،‬فهذا يحقق الثر المروي ويؤيد‬
‫ما في نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي صلى ال عليه وسلم مرسلً ـ إما من مراسيل الزهري‪ ،‬وإما‬
‫من مراسيل من فوقه من التابعين ـ قال‪( :‬بعثت داعيًا وليس إلى من الهداية شيء‪ ،‬وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس‬
‫إليه من الضللة شيء)‪.‬‬

‫ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه‪ :‬قوله في الحديث الذي في السنن‪( :‬وزنت بالمة فرجحت‪ ،‬ثم وزن أبو‬
‫بكر بالمة فرجح‪ ،‬ثم وزن عمر بالمة فرجح‪ ،‬ثم رفع الميزان)‪.‬‬

‫فأما كون النبي صلى ال عليه وسلم راجحًا بالمة فظاهر ؛ لن له مثل أجر جميع المة مضافا إلى أجره‪ .‬وأما أبو‬
‫بكر وعمر؛ فلن لهما ‪ /‬معاونة مع الرادة الجازمة في إيمان المة كلها‪ ،‬وأبو بكر كان في ذلك سابقًا لعمر وأقوى‬
‫إرادة منه‪ ،‬فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي صلى ال عليه وسلم على إيمان المة في دقيق المور وجليلها؛ في‬
‫محياه وبعد وفاته‪.‬‬

‫ولهذا سأل أبو سفيان يوم أحد‪ :‬أفي القوم محمد؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي‪( :‬ل‬
‫تجيبوه)‪ .‬فقال‪ :‬أما هؤلء فقد كفيتموهم‪ .‬فلم يملك عمر نفسه أن قال‪ :‬كذبت ياعدو الّ! إن الذي ذكرت لحياء وقد بقى‬
‫لك ما يسوؤك رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب‪ ،‬فأبو سفيان ـ رأس الكفر حينئذ ـ لم يسأل إل عن‬
‫هؤلء الثلثة؛ لنهم قادة المؤمنين‪ .‬كما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال‪ :‬والّ‬
‫ما على وجه الرض أحد أحب أن ألقي الّ بعمله من هذا المسجي‪ ،‬والّ إني لرجو أن يحشرك الّ مع صاحبيك‪،‬‬
‫فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪( :‬دخلت أنا وأبو بكر وعمر‪ ،‬وخرجت أنا وأبو بكر وعمر‪،‬‬
‫وذهبت أنا وأبو بكر وعمر)‪.‬‬

‫وأمثال هذه النصوص كثيرة‪ ،‬تبين سبب استحقاقهما أن كان لهما مثل أعمال جميع المة‪ ،‬لوجود الرادة الجازمة مع‬
‫التمكن من القدرة ‪ /‬على ذلك كله‪ ،‬بخلف من أعان على بعض ذلك دون بعض‪ ،‬ووجدت منه إرادة في بعض ذلك‬
‫دون بعض‪.‬‬

‫وأيضًا فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل‪ ،‬وإن لم يكن إمامًا وداعيًا‪ ،‬كما قال سبحانه‪{ :‬‬
‫س ِه ْم فَضّلَ الُّ ا ْلمُجَا ِهدِينَ ِبَأمْوَاِلهِمْ‬
‫لّ بَِأمْوَاِل ِهمْ وَأَنفُ ِ‬
‫سبِيلِ ا ِ‬
‫غيْرُ أُوْلِي الضّ َررِ وَا ْلمُجَا ِهدُونَ فِي َ‬‫ن مِنْ ا ْلمُ ْؤمِنِينَ َ‬
‫عدُو َ‬ ‫ستَوِي ا ْلقَا ِ‬
‫لَ يَ ْ‬
‫حمَةً‬
‫ت ِمنْهُ َو َمغْ ِفرَةً وَ َر ْ‬‫سنَى َوفَضّلَ الُّ ا ْلمُجَا ِهدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا‪ .‬دَرَجَا ٍ‬ ‫حْ‬
‫عدَ الُّ الْ ُ‬
‫ن دَرَجَةً َوكُلّ وَ َ‬ ‫سهِمْ عَلَى الْقَاعِدِي َ‬ ‫وَأَن ُف ِ‬
‫َوكَانَ الُّ َغفُورًا رَحِيمًا} [النساء‪.]96 ،95 :‬‬

‫فالّ ـ تعالى ـ نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز‪ ،‬ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز‪،‬‬
‫بل يقال‪ :‬دليل الخطاب يقتضى مساواته إياه‪ .‬ولفظ الية صريح‪ .‬استثنى أولو الضرر من نفي المساواة‪ ،‬فالستثناء هنا‬
‫هو من النفي‪ ،‬وذلك يقتضي أن أولى الضرر قد يساوون القاعدين‪ ،‬وإن لم يساووهم في الجميع‪ ،‬ويوافقه ما ثبت عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك‪( :‬إن بالمدينة رجال ما سرتم مسيرا ول قطعتم واديا إل كانوا‬
‫معكم)‪ .‬قالوا‪ :‬وهم بالمدينة‪ .‬قال‪( :‬وهم بالمدينة حبسهم العذر)‪ ،‬فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إل العذر هو‬
‫مثل من معهم في هذه الغزوة‪ .‬ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته‪ / ،‬فكذلك‬
‫القاعدون الذين لم يحبسهم إل العذر‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬إذا مرض العبد أو‬
‫سافر؛ كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم)‪ ،‬فإنه إذا كان يعمل في الصحة والقامة عمل ثم لم يتركه إل لمرض‬
‫أو سفر؛ ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة‪ ،‬ل لضعف النية وفتورها‪ ،‬فكان له من الرادة الجازمة التي لم‬
‫يتخلف عنها الفعل إل لضعف القدرة‪ ،‬ما للعامل والمسافر وإن كان قادرًا مع مشقة كذلك بعض المرض‪ ،‬إل أن القدرة‬
‫ستَطَاعَ‬ ‫الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{ :‬وَلِّ عَلَى النّاسِ حِجّ ا ْل َبيْ ِ‬
‫ت مَنْ ا ْ‬
‫طعَامُ ِستّي َن مِ ْسكِينًا} [المجادلة‪ ،]4 :‬ونحو ذلك ليس المعتبر في‬ ‫سبِيلً} [آل عمران‪ ،]97 :‬وقوله‪َ { :‬فمَنْ َل ْم يَ ْ‬
‫ستَطِ ْع فَإِ ْ‬ ‫إَِليْهِ َ‬
‫الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان‪ ،‬بل لبد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة‪ ،‬بل أو‬
‫مكافية‪.‬‬
‫ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬من جهز غازيًا فقد غزا‪ ،‬ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)‬
‫‪ ،‬وقوله‪( :‬من فطر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء)‪ ،‬فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس‪،‬‬
‫وجهاد بالمال‪ ،‬فإذا بذل هذا بدنه‪ ،‬وهذا ماله مع وجود الرادة الجازمة في كل منهما؛ كان كل منهما مجاهدًا ‪ /‬بإرادته‬
‫الجازمة ومبلغ قدرته‪ ،‬وكذلك لبد للغازي من خليفة في الهل‪ ،‬فإذا خلفه في أهله بخير فهو أيضًا غاز‪ ،‬وكذلك‬
‫الصيام لبد فيه من إمساك‪ ،‬ول بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم‪ ،‬وإل فالصائم الذي ل يستطيع العشاء ل يتمكن‬
‫من الصوم‪.‬‬

‫وكذلك قوله في الحديث الصحيح‪( :‬إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة‪ ،‬كان لها أجرها بما أنفقت‪ ،‬ولزوجها‬
‫مثل ذلك‪ ،‬ل ينقص بعضهم من أجور بعض شيئًا) وكذلك قوله في حديث أبي موسى‪( :‬الخازن المين الذي يعطي ما‬
‫أمر به كامل موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين) أخرجاه‪ .‬وذلك أن إعطاء الخازن المين الذي يعطي ما أمر به‬
‫موفرًا طيبة به نفسه ل يكون إل مع الرادة الجازمة الموافقة لرادة المر‪ ،‬وقد فعل مقدوره وهو المتثال‪ ،‬فكان أحد‬
‫المتصدقين‪.‬‬

‫ومن هذا الباب حديث أبي كبشة النماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬إنما الدنيا‬
‫لربعة‪ :‬رجل آتاه الّ علما ومال فهو يعمل فيه بطاعة الّ)‪ ،‬فقال رجل‪ :‬لو أن لي مثل فلن لعملت بعمله‪ ،‬فقال النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪( :‬فهما في الجر سواء)‪ ،‬وقد رواه الترمذي مطول‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪ ،‬فهذا التساوي‬
‫مع (الجر والوزر) هو في حكاية حال من قال ذلك‪ / ،‬وكان صادقًا فيه‪ ،‬وعلم الّ منه إرادة جازمة ل يتخلف عنها‬
‫الفعل إل لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب‪.‬‬

‫وليس هذه الحال تحصل لكل من قال‪( :‬لو أن لي ما لفلن لفعلت مثل ما يفعل) إل إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود‬
‫الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة‪ ،‬وإل فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم‪ ،‬لو اقترنت به القدرة لنفسخت‬
‫عزيمته‪ ،‬كعامة الخلق يعاهدون وينقضون‪ ،‬وليس كل من عزم على شيء عزمًا جازمًا قبل القدرة عليه وعدم‬
‫ن َقبْلِ‬
‫ت مِ ْ‬‫الصوارف عن الفعل تبقى تلك الرادة عند القدرة المقارنة للصوارف‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وَلَ َق ْد ُك ْنتُمْ َت َت َمنّوْن ا ْلمَوْ َ‬
‫أَ ْن تَلْقَوْ ُه َف َقدْ رََأ ْيتُمُوهُ َوَأنْتُ ْم َتنْظُرُونَ} [آل عمران‪ ،]143 :‬وكما قال تعالى‪{ :‬يَاَأّيهَا اّلذِينَ َآ َمنُوا لِ َم تَقُولُو َن مَا َل تَ ْفعَلُونَ} [‬
‫ضلِ ِه بَخِلُوا بِهِ‬
‫ن فَ ْ‬
‫ص ّدقَنّ وََل َنكُونَنّ مِنْ الصّاِلحِينَ‪ .‬فََلمّا آتَاهُ ْم مِ ْ‬ ‫الصف‪ ،]2 :‬وكما قال‪َ { :‬و ِم ْنهُ ْم مَنْ عَا َهدَ الَّ َلئِنْ آتَانَا مِ ْ‬
‫ن فَضْلِهِ َلنَ ّ‬
‫َوتَوَلّوا وَ ُه ْم ُمعْرِضُونَ} [التوبة‪.]76 ،75 :‬‬

‫وحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات‪ .‬وهو الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد الّ بن‬
‫عمرو عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أن رجلً من أمة النبي صلى ال عليه وسلم ينشر الّ له يوم القيامة تسعة‬
‫وتسعين سجل كل سجل منها مدى البصر‪ ،‬ويقال له‪ :‬هل تنكر من هذا شيئًا؟ هل ظلمتك؟ فيقول‪ / :‬ل يارب‪ .‬فيقال له‪:‬‬
‫ل ظلم عليك اليوم‪ ،‬فيؤتي ببطاقة فيها التوحيد فتوضع في كفة والسجلت في كفة‪ ،‬فطاشت السجلت وثقلت البطاقة)‪.‬‬
‫فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والخلص والصفاء وحسن النية‪ ،‬إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في‬
‫الصورة الظاهرة‪ ،‬فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما‪.‬‬

‫ومثل هذا الحديث الذي في حديث المرأة البغي التي سقت كلبًا فغفر الّ لها‪ ،‬فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية‬
‫والرحمة إذ ذاك‪ ،‬ومثله قوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الّ ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛‬
‫يكتب الّ له بها رضوانه إلى يوم القيامة‪ ،‬وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الّ ما يظن أن تبلغ ما بلغت ؛ يكتب الّ‬
‫له بها سخطه إلى يوم القيامة)‪.‬‬

‫َفصْل‬

‫وبهذا تبين أن الحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل وأمثالها‪ ،‬إنما هي فيما دون الرادة الجازمة التي لبد أن‬
‫يقترن بها الفعل‪ ،‬كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيما‬
‫يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال‪( / :‬إن الّ كتب الحسنات والسيئات‪ ،‬ثم بين ذلك‪ ،‬فمن هم بحسنة فلم يعملها‪،‬‬
‫كتبها الّ عنده حسنة كاملة‪ ،‬فإن هم بها وعملها؛ كتبها الّ عنده عشر حسنات‪ ،‬ومن هم بسيئة ولم يعملها؛ كتبها له الّ‬
‫حسنة كاملة‪ ،‬فإن هم بها وعملها؛ كتبها الّ له عنده سيئة واحدة) وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة‪.‬‬
‫فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل؛ ولهذا قال‪( :‬فعملها)‪( ،‬فلم يعملها) ومن أمكنه الفعل فلم يفعل؛ لم تكن إرادته‬
‫جازمة‪ ،‬فإن الرادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل‪ ،‬كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل‪ ،‬وموجب له‪ ،‬إذ لو‬
‫توقف على شيء آخر؛ لم تكن الرادة الجازمة مع القدرة تامة كافية في وجود الفعل‪ ،‬ومن المعلوم المحسوس أن‬
‫المر بخلف ذلك‪ ،‬ول ريب أن [الهم] و [العزم] و [الرادة] ونحو ذلك قد يكون جازمًا ل يتخلف عنه الفعل إل‬
‫للعجز‪ ،‬وقد ل يكون هذا على هذا الوجه من الجزم‪.‬‬

‫فهذا القسم الثاني يفرق فيه بين المريد والفاعل‪ ،‬بل يفرق بين إرادة وإرادة‪ ،‬إذ الرادة هي عمل القلب الذي هو ملك‬
‫الجسد‪ ،‬كما قال أبو هريرة‪ :‬القلب ملك‪ ،‬والعضاء جنوده‪ ،‬فإذا طاب الملك؛ طابت جنوده‪ ،‬وإذا خبث الملك؛ خبثت‬
‫جنوده‪ .‬وتحقيق ذلك ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( / :‬إن في الجسد‬
‫مضغة إذا صلحت؛ صلح لها سائر الجسد‪ ،‬وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد أل وهي القلب)‪ .‬فإذا هم بحسنة فلم يعملها‬
‫كان قد أتى بحسنة‪ ،‬وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة‪ ،‬فإن ذلك طاعة وخير‪ ،‬وكذلك هو في عرف الناس كما‬
‫قيل‪:‬‬

‫لشكرنك معروفًا هممت به ** إن اهتمامك بالمعروف معروف‬

‫ول ألومك إن لم يمضه قدر ** فالشيء بالقدر المحتوم مصروف‬

‫فإن عملها كتبها الّ له عشر حسنات‪ ،‬لما مضى من رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‪ ،‬إلى سبعمائة‬
‫ضعف‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬مَ َثلُ الّذِينَ يُنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ الِّ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ}‬
‫[البقرة‪ ،]261 :‬وكما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح لمن جاء بناقة‪( :‬لك بها يوم القيامة‬
‫سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة) إلى أضعاف كثيرة‪ .‬وقد روى عن أبي هريرة مرفوعًا‪( :‬أنه يعطى به ألف ألف‬
‫حسنة)‪.‬‬

‫وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر عليها‪ ،‬فإن الّ ل يكتبها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح‪ ،‬وسواء‬
‫سمى همه إرادة أو عزمًا أو لم يسم‪ ،‬متى كان قادرًا على الفعل وهم به وعزم عليه ولم يفعله مع القدرة فليست إرادته‬
‫جازمة‪ ،‬وهذا موافق لقوله في الحديث الصحيح ‪ /‬ـ حديث أبي هريرة ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن الّ تجاوز‬
‫لمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به)‪ .‬فإن ما هم به العبد من المور التي يقدر عليها من الكلم والعمل‬
‫ولم يتكلم بها ولم يعملها لم تكن إرادته لها جازمة‪ ،‬فتلك مما لم يكتبها الّ عليه‪ ،‬كما شهد به قوله‪( :‬من هم بسيئة فلم‬
‫يعملها)‪ ،‬ومن حكى الجماع كابن عبد البر وغيره في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا العتبار‪.‬‬

‫وهذا الهام بالسيئة‪ ،‬فإما أن يتركها لخشية الّ وخوفه‪ ،‬أو يتركها لغير ذلك‪ ،‬فإن تركها لخشية الّ؛ كتبها الّ له عنده‬
‫حسنة كاملة كما قد صرح به في الحديث‪ ،‬وكما قد جاء في الحديث الخر‪( :‬اكتبوها له حسنة‪ ،‬فإنما تركها من أجلي)‪،‬‬
‫أو قال‪( :‬من جرائي)‪ ،‬وأما إن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة‪ ،‬كما جاء في الحديث الخر‪( :‬فإن لم يعملها لم‬
‫تكتب عليه)‪ .‬وبهذا تتفق معاني الحاديث‪.‬‬

‫وإن عملها لم تكتب عليه إل سيئة واحدة‪ ،‬فإن الّ تعالى ل يضعف السيئات بغير عمل صاحبها‪ ،‬ول يجزي النسان‬
‫جهَنّمَ‬
‫في الخرة إل بما عملت نفسه‪ ،‬ول تمتلئ جهنم إل من أتباع إبليس من الجنة والناس‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬لَمْلَنّ َ‬
‫ج َمعِينَ} [ص‪]85 :‬؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس‪( :‬إن الجنة يبقى‬ ‫مِ ْنكَ َومِمّنْ تَ ِب َعكَ مِ ْنهُمْ أَ ْ‬
‫فيها فضل فينشئ الّ لها أقوامًا في الخرة‪ ،‬وأما النار فإنه ينزوي بعضها إلى ‪ /‬بعض حتى يضع عليها قدمه فتمتلئ‬
‫بمن دخلها من أتباع إبليس)‪.‬‬

‫ولهذا كان الصحيح المنصوص عن أئمة العدل كأحمد وغيره الوقف في أولد المشركين‪ ،‬وأنه ل يجزم لمعين منهم‬
‫بجنة ول نار‪ ،‬بل يقال فيهم كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديثين الصحيحين‪ :‬حديث أبي هريرة وابن‬
‫عباس‪( :‬ال أعلم بما كانوا عاملين)‪ .‬فحديث أبي هريرة في الصحيحين‪ ،‬وحديث ابن عباس في البخاري‪ ،‬وفي حديث‬
‫سمرة ابن جندب الذي رواه البخاري‪( :‬إن منهم من يدخل الجنة)‪ ،‬وثبت‪( :‬أن منهم من يدخل النار) كما في صحيح‬
‫مسلم في قصة الغلم الذي قتله الخضر‪ ،‬وهذا يحقق ما روى من وجوه‪ :‬أنهم يمتحنون يوم القيامة فيظهر على علم الّ‬
‫فيهم‪ ،‬فيجزيهم حينئذ على الطاعة والمعصية‪ ،‬وهذا هو الذي حكاه الشعري عن أهل السنة والحديث واختاره‪.‬‬
‫وأما أئمة الضلل ـ الذين عليهم أوزار من أضلوه ـ ونحوهم‪ ،‬فقد بينا أنهم إنما عوقبوا لوجود الرادة الجازمة مع‬
‫التمكن من الفعل؛ بقوله في حديث أبي كبشة‪( :‬فهما في الوزر سواء)‪ ،‬وقوله‪( :‬من دعا إلى ضللة كان عليه من‬
‫الوزر مثل أوزار من تبعه)‪ ،‬فإذا وجدت الرادة الجازمة‪ ،‬والتمكن من الفعل صاروا بمنزلة الفاعل التام‪ ،‬والهام‬
‫بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه إرادة جازمة‪ ،‬وفاعل ‪ /‬السيئة التي تمضي ل يجزي بها إل سيئة‬
‫واحدة‪ ،‬كما شهد به النص‪ ،‬وبهذا يظهر قول الئمة حيث قال المام أحمد‪( :‬الهم) همان‪ :‬هم خطرات‪ ،‬وهم إصرار‪.‬‬
‫فهم الخطرات يكون من القادر‪ ،‬فإنه لو كان همه إصرارًا جازمًا وهو قادر لوقع الفعل‪.‬‬

‫ومن هذا الباب هم [يوسف]‪ ،‬حيث قال تعالى‪{ :‬وََلقَدْ َه ّمتْ بِ ِه وَ َهمّ ِبهَا َل ْولَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} الية [يوسف‪24 :‬‬
‫]‪ .‬وأما هم المرأة التي راودته فقد قيل‪ :‬إنه كان هم إصرار؛ لنها فعلت مقدورها‪ ،‬وكذلك ما ذكره عن المنافقين في‬
‫قوله تعالى‪{ :‬وَ َهمّوا ِبمَا َلمْ يَنَالُوا} [التوبة‪ ،]74 :‬فهذا الهم المذكور عنهم هم مذموم‪ ،‬كما ذمهم الّ عليه‪ ،‬ومثله يذم‬
‫وإن لم يكن جازمًا‪ ،‬كما سنبينه في آخر الجواب من الفرق بين ما ينافى اليمان‪ ،‬وبين مال ينافيه‪ ،‬وكذلك الحريص‬
‫على السيئات الجازم بإرادة فعلها‪ ،‬إذا لم يمنعه إل مجرد العجز‪ ،‬فهذا يعاقب على ذلك عقوبة الفاعل‪ ،‬لحديث أبي‬
‫كبشة‪ ،‬ولما في الحديث الصحيح‪( :‬إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل‪ :‬هذا القاتل‪ ،‬فما بال‬
‫المقتول ؟ قال‪( :‬إنه كان حريصًا على قتل صاحبه) وفي لفظ‪( :‬إنه أراد قتل صاحبه)‪.‬‬

‫فهذه الرادة هي الحرص‪ ،‬وهي الرادة الجازمة‪ ،‬وقد وجد معها المقدور‪ ،‬وهو القتال لكن عجز عن القتل‪ ،‬وليس هذا‬
‫من الهم الذي ل يكتب‪ ،‬ول يقال‪ :‬إنه استحق ذلك بمجرد قوله‪ :‬لو أن لي ما لفلن ‪ /‬لعملت مثل ما عمل‪ ،‬فإن تمنى‬
‫الكبائر ليس عقوبته كعقوبة فاعلها بمجرد التكلم‪ ،‬بل لبد من أمر آخر‪ ،‬وهـو لم يذكـر أنه يعاقب على كلمه‪ ،‬وإنما‬
‫ذكر أنهما في الوزر سواء‪.‬‬

‫وعلى هذا فقوله‪( :‬إن الّ تجاوز لمتي عما حدثت بها أنفسها مالم تكلم به أو تعمل) ل ينافي العقوبة على الرادة‬
‫الجازمة التي لبد أن يقترن بها الفعل‪ ،‬فإن الرادة الجازمة هي التي يقترن بها المقدور من الفعل‪ ،‬وإل فمتى لم يقترن‬
‫بها المقدور من الفعل لم تكن جازمة‪ ،‬فالمريد الزنا والسرقة وشرب الخمر العازم على ذلك متى كانت إرادته جازمة‬
‫عازمة فلبد أن يقترن بها من الفعل ما يقدر عليه‪ ،‬ولو أنه يقربه إلى جهة المعصية‪ ،‬مثل تقرب السارق إلى مكان‬
‫المال المسروق‪ ،‬ومثل نظر الزاني واستماعه إلى المزني به‪ ،‬وتكلمه معه‪ ،‬ومثل طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك‪،‬‬
‫فلبد مع الرادة الجازمة من شىء من مقدمات الفعل المقدور‪ ،‬بل مقدمات الفعل توجد بدون الرادة الجازمة عليه‪،‬‬
‫كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬في الحديث المتفق عليه‪( :‬العينان تزنيان وزناهما النظر‪ ،‬واللسان يزني وزناه‬
‫النطق‪ ،‬واليد تزني وزناها البطش‪ ،‬والرجل تزني وزناها المشي‪ ،‬والقلب يتمنى ويشتهي‪ ،‬والفرج يصدق ذلك أو‬
‫يكذبه)‪ ،‬وكذلك حديث أبي بكرة المتفق عليه‪( :‬إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)‪ .‬قيل‪ :‬يارسول‬
‫الّ! هذا القاتل‪ ،‬فما بال المقتول؟ ‪ /‬قال‪( :‬إنه أراد قتل صاحبه) وفي رواية في الصحيحين‪( :‬إنه كان حريصًا على قتل‬
‫صاحبه)‪.‬‬

‫فإنه أراد ذلك إرادة جازمة فعل معها مقدوره‪ ،‬منعه منها من قتل صاحبه العجز‪ ،‬وليست مجرد هم ول مجرد عزم‬
‫على فعل مستقبل‪ ،‬فاستحق حينئذ النار‪ ،‬كما قدمنا من أن الرادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها‬
‫مجرى الفاعل التام‪.‬‬

‫والرادة التامة قد ذكرنا أنه لبد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة‪ ،‬بل قد‬
‫تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك‪ ،‬مع القدرة‪ ،‬مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا‪ :‬من اللمس‪ ،‬والنظر والقبلة‪ ،‬ويمتنع‬
‫عن الفاحشة الكبرى ؛ ولهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح‪( :‬العين تزنى‪ ،‬والذن تزني‪ ،‬واللسان يزني ـ إلى أن‬
‫قال ـ‪ :‬والقلب يتمنى ويشتهي) أي يتمنى الوطء ويشتهيه‪ ،‬ولم يقل‪ :‬يريد‪ ،‬ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادة جازمة‪،‬‬
‫ول يستلزم وجود الفعل‪ ،‬فل يعاقب على ذلك‪ ،‬وإنما يعاقب إذا أراد إرادة جازمة مع القدرة والرادة الجازمة التي‬
‫يصدقها الفرج‪.‬‬

‫ومن هذا الحديث الذي في الصحيحين عن ابن مسعود‪ :‬أن رجل أصاب من امرأة قبلة‪ ،‬فأتى رسول الّ صلى ال‬
‫حسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ}‬
‫لةَ طَ َرفِي ال ّنهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللّ ْيلِ إِنّ الْ َ‬
‫عليه وسلم فذكر ذلك ‪ /‬له‪ ،‬فأنزل الّ تعالى‪{ :‬وََأقِمْ الصّ َ‬
‫الية [هود‪ ]114 :‬فقال الرجل‪ :‬ألى هذه ؟ فقال‪( :‬لمن عمل بها من أمتي)‪ .‬فمثل هذا الرجل وأمثاله لبد في الغالب‬
‫أن يهم بما هو أكبر من ذلك‪ ،‬كما قال‪( :‬والقلب يتمنى ويشتهي‪ ،‬والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)‪ .‬لكن إرادته القلبية للقبلة‬
‫كانت إرادة جازمة‪ ،‬فاقترن بها فعل القبلة بالقدرة‪ ،‬وأما إرادته للجماع فقد تكون غير جازمة‪ ،‬وقد تكون جازمة‪ ،‬لكن‬
‫لم يكن قادرا‪ .‬والشبه في الذي نزلت فيه الية أنه كان متمكنًا لكنه لم يفعل‪.‬‬

‫فتفريق أحمد وغيره بين هم الخطرات وهم الصرار هو الذي عليه الجواب‪ ،‬فمن لم يمنعه من الفعل إل العجز‪ ،‬فلبد‬
‫أن يفعل ما يقدر عليه من مقدماته‪ ،‬وإن فعله وهو عازم على العود متى قدر فهو مصر؛ ولهذا قال ابن المبارك‪:‬‬
‫المصر الذي يشرب الخمر اليوم‪ ،‬ثم ل يشربها إلى شهر‪ ،‬وفي رواية إلى ثلثين سنة‪ ،‬ومن نيته أنه إذا قدر على‬
‫شربها (شربها)‪ .‬وقد يكون مصرًا إذا عزم على الفعل في وقت دون وقت‪ ،‬كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر‬
‫رمضان دون غيره‪ ،‬فليس هذا بتائب مطلقا‪ ،‬ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان‪ ،‬ويثاب إذا كان ذلك الترك لّ‬
‫وتعظيم شعائر الّ‪ ،‬واجتناب محارمه في ذلك الوقت‪ ،‬ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة‪ ،‬ول‬
‫هو مصر مطلقًا‪ .‬وأما الذي ‪ /‬وصفه ابن المبارك‪ ،‬فهو مصر إذا كان من نيته العود إلى شربها‪.‬‬

‫قلت‪ :‬والذي قد ترك المعاصي في شهر رمضان من نيته العود إليها في غير شهر رمضان مصر أيضًا‪ ،‬لكن نيته أن‬
‫يشربها إذا قدر عليها‪ ،‬غير النية مع وجود القدرة‪ ،‬فإذا قدر قد تبقى نيته وقد ل تبقى‪ ،‬ولكن متى كان مريدا إرادة‬
‫جازمة ل يمنعه إل العجز فهو معاقب على ذلك‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬

‫وتقدم أن مثل هذا لبد أن يقترن بإرادته ما يتمكن من الفعل معه‪ ،‬وبهذا يظهر ما يذكر عن الحارث المحاسبي أنه‬
‫حكى الجماع على أن الناوي للفعل ليس بمنزلة الفاعل له‪ ،‬فهذا الجماع صحيح مع القدرة‪ ،‬فإن الناوي للفعل القادر‬
‫عليه ليس بمنزلة الفاعل‪ ،‬وأما الناوي الجازم التي بما يمكن‪ ،‬فإنه بمنزلة الفاعل التام‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬

‫ومما يوضح هذا‪ :‬أن الّ ـ سبحانه ـ في القرآن رتب الثواب والعقاب على مجرد الرادة‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ‬
‫جهَنّمَ َيصْلَهَا َم ْذمُومًا مَ ْدحُورًا} [السراء‪ ،]18 :‬وقال‪{ :‬مَنْ‬ ‫جعَلْنَا لَهُ َ‬‫ا ْلعَاجَِلةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا َنشَاءُ ِلمَنْ نُرِيدُ ُثمّ َ‬
‫خسُونَ‪ُ .‬أوْلَ ِئكَ الّذِينَ لَيْسَ َل ُهمْ فِي الْخِ َرةِ ِإلّ‬
‫عمَاَلهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَ يُبْ َ‬
‫كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا ُن َوفّ ِإلَ ْيهِمْ أَ ْ‬
‫ث الْخِ َرةِ نَ ِزدْ َلهُ فِي حَرْثِهِ َومَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا نُؤتِهِ مِ ْنهَا‬ ‫النّارُ} [هود‪ ،]16 ،15 :‬وقال‪{ :‬مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَ ْر َ‬
‫َومَا لَهُ فِي الْخِ َرةِ مِنْ َنصِيبٍ} [الشورى‪.]20 :‬‬

‫فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة‪ ،‬ويريد الحياة الدنيا‪ ،‬ويريد حرث الدنيا‪ ،‬وقال في آية هود‪ُ { :‬ن َوفّ ِإلَ ْيهِمْ‬
‫طلٌ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ} [هود‪ ،]16 ،15 :‬فدل على أنه كان لهم أعمال بطلت‪،‬‬‫عمَاَلهُمْ فِيهَا} إلى أن قال‪{ :‬وَبَا ِ‬ ‫أَ ْ‬
‫وعوقبوا على أعمال أخرى عملوها‪ ،‬وإن الرادة هنا مستلزمة للعمل‪ ،‬ولما ذكر إرادة الخرة‪ ،‬قال‪َ { :‬ومَنْ أَرَادَ‬
‫سعْ َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ} [السراء‪ ،]19 :‬وذلك لن إرادة الخرة وإن استلزمت عملها فالثواب إنما هو‬ ‫سعَى َلهَا َ‬
‫الْخِ َر َة وَ َ‬
‫على العمل المأمور به‪ ،‬ل كل سعي‪ ،‬ولبد مع ذلك من اليمان‪.‬‬

‫جكَ إِنْ كُنْتُنّ تُ ِردْنَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَ َتهَا} الية [الحزاب‪{ ،]28 :‬وَإِنْ كُنْتُنّ تُ ِردْ َ‬
‫ن‬ ‫ل لَِ ْزوَا ِ‬
‫ومنه قوله‪{ :‬يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ ُق ْ‬
‫لّ وَرَسُولَ ُه وَالدّا َر الْخِ َرةَ} [الحزاب‪ ،]29 :‬فهذا نظير تلك الية التي في سورة هود‪ ،‬وهذا يطابق قوله‪( :‬إذا التقى‬ ‫ا َ‬
‫المسلمان بسيفيهما) إل أنه قال‪( :‬فإنه أراد قتل صاحبه)‪ .‬أو‪( :‬إنه كان حريصًا على قتل صاحبه)‪ ،‬فذكر الحرص‬
‫ل عفا لمتي عما حدثت‬ ‫والرادة على القتل وهذا لبد أن يقترن به فعل‪ ،‬وليس هذا مما دخل في حديث العفو‪( :‬إن ا ّ‬
‫به أنفسها)‪.‬‬

‫ومما يبني على هـذا مسألة معروفة ـ بين أهل السنة وأكثر العلماء ‪ /‬وبين بعض القدرية ـ وهي توبة العاجز عن‬
‫الفعل‪ ،‬كتوبة المجبوب عن الزنا‪ ،‬وتوبة القطع العاجز عن السرقة‪ ،‬ونحوه من العجز‪ ،‬فإنها توبة صحيحة عند‬
‫جماهير العلماء من أهل السنة وغيرهم‪ .‬وخالف في ذلك بعض القدرية؛ بناء على أن العاجز عن الفعل ل يصح أن‬
‫يثاب على تركه الفعل‪ ،‬بل يعاقب على تركه وليس كذلك‪ ،‬بل إرادة العاجز عليها الثواب والعقاب كما بينا‪ ،‬وبينا أن‬
‫الرادة الجازمة مع القدرة تجري مجرى الفاعل التام‪ ،‬فهذا العاجز إذا أتى بما يقدر عليه من مباعدة أسباب المعصية‬
‫بقوله وعمله وهجرانها وتركها بقلبه‪ ،‬كالتائب القادر عليها سواء‪ ،‬فتوبة هذا العاجز عن كمال الفعل‪ ،‬كإصرار العاجز‬
‫عن كمال الفعل‪.‬‬

‫ومما يبني على هذا المسألة المشهورة في الطلق‪ ،‬وهو أنه لو طلق في نفسه وجزم بذلك ولم يتكلم به‪ ،‬فإنه ل يقع به‬
‫الطلق عند جمهور العلماء‪ .‬وعند مالك في إحدى الروايتين يقع‪ ،‬وقد استدل أحمد وغيره من الئمة على ترك الوقوع‬
‫بقوله‪( :‬إن الّ تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها) فقال المنازع‪ :‬هذا المتجاوز عنه‪ ،‬إنما هو حديث النفس‪ ،‬والجازم‬
‫بذلك في النفس ليس من حديث النفس‪.‬‬

‫فقال المنازع لهم‪ :‬قد قال‪( :‬ما لم تكلم به أو تعمل به)‪ ،‬فأخبر أن التجاوز عن حديث النفس امتد إلى هذه الغاية التي‬
‫هي الكلم به ‪ /‬والعمل به‪ ،‬كما ذكر ذلك في صدر السؤال من استدلل بعض الناس وهو استدلل حسن‪ ،‬فإنه لو كان‬
‫حديث النفس إذا صار عزمًا ولم يتكلم به أو يعمل يؤاخذ به ؛ لكان خلف النص‪ ،‬لكن يقال‪ :‬هذا في المأمور صاحب‬
‫المقدرة التي يمكن فيها الكلم والعمل‪ ،‬إذا لم يتكلم ولم يعمل‪ ،‬وأما الرادة الجازمة المأتي فيها بالمقدور فتجرى‬
‫مجرى التي أتى معها بكمال العمل‪ ،‬بدليل الخرس لما كان عاجزا عن الكلم‪ ،‬وقد يكون عاجزا عن العمل باليدين‬
‫ونحوهما‪ ،‬لكنه إذا أتى بمبلغ طاقته من الشارة جرى ذلك مجرى الكلم من غيره‪ ،‬والحكام والثواب والعقاب وغير‬
‫ذلك ‪.‬‬

‫وأما الوجه الخر الذي احتج به وهو أن العزم والهم داخل في حديث النفس المعفو عنه مطلقًا فليس كذلك‪ ،‬بل إذا‬
‫قيل‪ :‬إن الرادة الجازمة مستلزمة لوجود فعل ما يتعلق به الذم والعقاب وغير ذلك‪ ،‬يصح ذلك‪ ،‬فإن المراد إن كان‬
‫مقدورا مع الرادة الجازمة؛ وجب وجوده‪ ،‬وإن كان ممتنعًا فلبد مع الرادة الجازمة من فعل بعض مقدماته‪ ،‬وحيث‬
‫لم يوجد فعل أصل فهو هم‪ ،‬وحديث النفس ليس إرادة جازمة ولهذا لم يجئ في النصوص العفو عن مسمى الرادة‬
‫والحب والبغض والحسد والكبر والعجب وغير ذلك من أعمال القلوب‪ ،‬إذ كانت هذه العمال حيث وقع عليهم ذم‬
‫وعقاب فلنها تمت حتى صارت قول وفعل‪.‬‬

‫‪/‬وحينئذ قوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن الّ تجاوز لمتي) الحديث حق‪ ،‬والمؤاخذة بالرادات المستلزمة لعمال‬
‫الجوارح حق‪ ،‬ولكن طائفة من الناس قالوا‪ :‬إن الرادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول‪ ،‬ثم تنازعوا في العقاب‬
‫عليها‪ ،‬فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج بن الجوزي يرون العقوبة على ذلك‪ ،‬وليس معهم دليل‬
‫على أنه يؤاخذ إذا لم يكن هناك قول أو عمل‪.‬‬

‫والقاضي بناها على أصله في اليمان الذي اتبع فيه جهمًا والصالحي‪ ،‬وهو المشهور عن أبي الحسن الشعري‪ ،‬وهو‬
‫أن اليمان مجرد تصديق القلب‪ ،‬ولو كذب بلسانه‪ ،‬وسب الّ ورسوله بلسانه‪ ،‬وإن سب الّ ورسوله إنما هو كفر في‬
‫الظاهر‪ ،‬وأن كلما كان كفرًا في نفس المر‪ ،‬فإنه يمتنع أن يكون معه شيء من تصديق القلب‪ ،‬وهذا أصل فاسد في‬
‫الشرع والعقل‪ ،‬حتى أن الئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيدة وغيرهم كفروا من قال في اليمان بهذا‬
‫القول‪ ،‬بخلف المرجئة من الفقهاء الذين يقولون‪ :‬هو تصديق القلب واللسان‪ ،‬فإن هؤلء لم يكفرهم أحد من الئمة‪،‬‬
‫وإنما بدعوهم‪.‬‬

‫وقد بسط الكلم في اليمان وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع‪ ،‬وبين أن من الناس من يعتقد وجود الشياء بدون‬
‫لوازمها‪ ،‬فيقدر ما ل وجود له‪.‬‬

‫‪/‬وأصل جهم في اليمان تضمن غلطًا من و جوه‪:‬‬

‫منها‪ :‬ظنه أنه مجرد تصديق القلب ومعرفته بدون أعمال القلب‪ ،‬كحب الّ وخشيته ونحو ذلك ‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ظنه ثبوت إيمان قائم في القلب بدون شيء من القوال والعمال‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار‪ ،‬فإنه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق‪ ،‬وجزموا بأن‬
‫إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك‪ .‬وهذا كلمهم في الرادة والكراهة والحب والبغض‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬فإن هذه المور إذا كانت هما وحديث نفس فإنه معفو عنه‪ ،‬وإذا صارت إرادة جازمة وحبًا وبغضًا؛ لزم‬
‫وجود الفعل ووقوعه‪ ،‬وحينئذ فليس لحد أن يقدر وجودها مجردة‪ ،‬ثم يقول‪ :‬ليس فيها إثم‪ ،‬وبهذا يظهر الجواب عن‬
‫حجة السائل‪.‬‬

‫فإن المة مجمعة على أن الّ يثيب على محبته ومحبة رسوله‪ ،‬والحب فيه والبغض فيه‪ ،‬ويعاقب على بغضه وبغض‬
‫رسوله‪ ،‬وبغض أوليائه‪ ،‬وعلى محبة النداد من دونه‪ ،‬وما يدخل في هذه المحبة من الرادات ‪ /‬والعزوم‪ ،‬فإن المحبة‬
‫سواء كانت نوعًا من الرادة أو نوعًا آخر مستلزمًا للرادة‪ ،‬فلبد معها من إرادة وعزم‪ ،‬فل يقال‪ :‬هذا من حديث‬
‫النفس المعفو عنه‪ ،‬بل كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي‪( :‬أوثق عرى اليمان‪ :‬الحب في الّ‪ ،‬والبغض في الّ)‬
‫‪ ،‬وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬والذي نفسي بيده ليؤمن أحدكم حتى أكون أحب‬
‫إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)‪ ،‬وفي صحيح البخاري عن عبد الّ بن هشام قال‪ :‬كنا مع رسول الّ صلى ال‬
‫عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر‪ :‬لنت يا رسول الّ أحب إلي من كل شيء‪ ،‬إل من نفسي‪ .‬فقال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬ل‪ ،‬والذي نفسي بيده ! حتى أكون أحب إليك من نفسك)‪ ،‬فقال عمر‪ :‬فإنك الن أحب إلي‬
‫خوَا ُنكُمْ‬
‫ن آبَا ُؤكُمْ َوَأبْنَا ُؤكُمْ وَإِ ْ‬ ‫من نفسي‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪( :‬الن ياعمر!)‪ ،‬بل قد قال تعالى‪{ :‬قُلْ إِ ْ‬
‫ن كَا َ‬
‫سبِيلِهِ‬
‫جهَادٍ فِي َ‬
‫حبّ إَِل ْيكُ ْم مِنْ الِّ وَرَسُولِهِ وَ ِ‬
‫ض ْو َنهَا أَ َ‬
‫ن تَرْ َ‬
‫ن كَسَادَهَا َومَسَاكِ ُ‬
‫عشِي َر ُتكُمْ وََأمْوَالٌ ا ْقتَ َر ْف ُتمُوهَا َو ِتجَا َر ٌة تَخْشَوْ َ‬
‫جكُمْ وَ َ‬
‫وَأَ ْزوَا ُ‬
‫لّ َل َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الْفَا ِسقِينَ} [التوبة‪.]24 :‬‬ ‫لّ بَِأمْرِهِ وَا ُ‬‫حتّى يَ ْأتِيَ ا ُ‬‫َفتَ َربّصُوا َ‬

‫فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد الّ به من كان أهله وماله أحب إليه من الّ ورسوله وجهاد في سبيله‪ ،‬فعلم‬
‫أنه يجب ‪ /‬أن يكون الّ ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى المؤمن من الهل والمال والمساكن والمتاجر‬
‫والصحاب والخوان‪ ،‬وإل لم يكن مؤمنًا حقًا‪ ،‬ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال‪ :‬قال رسول الّ صلى ال‬
‫عليه وسلم‪( :‬ل يجد أحد حلوة اليمان حتى يحب المرء ل يحبه إل لّ‪ ،‬وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن‬
‫يرجع في الكفر‪ ،‬وحتى يكون الّ ورسوله أحب إليه مما سواهما) وهذا لفظ البخاري‪ ،‬فأخبر أنه ل يجد أحد حلوة‬
‫اليمان إل بهذه المحبات الثلث‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن يكون الّ ورسوله أحب إليه من سواهما‪ ،‬وهذا من أصول اليمان المفروضة التي ل يكون العبد مؤمنًا‬
‫بدونها‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن يحب العبد ل يحبه إل لّ وهذا من لوازم الول‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر‪.‬‬

‫وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علمات صدقه في التوبة هذه الخصال‪ ،‬محبة الّ ورسوله‪ ،‬ومحبة المؤمنين فيه‪،‬‬
‫وإن كانت متعلقة بالعيان ليست من أفعالنـا كالرادة المتعلقة بأفعالنا‪ ،‬فهي مستلزمة لذلك‪ ،‬فإن من كان الّ ورسوله‬
‫أحب إليه من نفسه وأهله وماله لبد ‪ /‬أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة‪ ،‬مثل إرادته نصر الّ ورسوله ودينه‬
‫والتقريب إلى الّ ورسوله‪ ،‬ومثل بغضه لمن يعادي الّ ورسوله‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬مـا استفاض عنه صلى ال عليه وسلم في الصحاح من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم قال‪( :‬المرء مع من أحب)‪ ،‬وفي رواية‪( :‬الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم) أي ولما يعمل‬
‫بأعمالهم‪ ،‬فقال‪( :‬المرء مع من أحب) ‪.‬قال أنس‪ :‬فما فرح المسلمون بشيء بعد السلم فرحهم بهذا الحديث‪ ،‬فأنا أحب‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم وأبا بكر وعمر‪ ،‬وأرجو أن يجعلني الّ معهم‪ ،‬وإن لم أعمل عملهم‪ ،‬وهذا الحديث حق‪ ،‬فإن‬
‫كون المحب مع المحبوب أمر فطري ل يكون غير ذلك‪ ،‬وكونه معه هو على محبته إياه‪ ،‬فإن كانت المحبة متوسطة‬
‫أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك‪ ،‬وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك‪ ،‬والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة‬
‫للمحبوب في محابه‪ ،‬إذا كان المحب قادرًا عليها‪ ،‬فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر‬
‫ذلك‪ ،‬وإن كانت موجودة‪.‬‬

‫جدُ َق ْومًا يُ ْؤ ِمنُونَ بِالِّ وَا ْليَوْمِ‬ ‫وحب الشيء وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته‪ ،‬مع العلم بالتضاد؛ ولهذا قال تعالى‪َ { :‬‬
‫ل تَ ِ‬
‫الْخِ ِر يُوَادّو َن مَنْ حَادّ الَّ َورَسُولَهُ} [المجادلة‪ ،]22 :‬والموادة من أعمال القلوب‪.‬‬

‫فإن اليمان بالّ يستلزم مودته ومودة رسوله‪ ،‬وذلك يناقض موادة من حاد الّ ورسوله‪ ،‬وما ناقض اليمان فإنه‬
‫يستلزم الذم والعقاب؛ لجل عدم اليمان‪ .‬فإن ما ناقض اليمان كالشك والعراض وردة القلب‪ ،‬وبغض الّ ورسوله‬
‫يستلزم الذم والعقاب لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر الّ به رسوله‪ ،‬فاستحق تاركه الذم والعقاب وأعظم الواجبات‬
‫إيمان القلب‪ ،‬فما ناقضه استلزم الذم والعقاب لتركه هذا الواجب‪ ،‬بخلف ما استحق الذم لكونه منهيًا عنه كالفواحش‬
‫والظلم‪ ،‬فإن هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده‪ ،‬إذا كان هذا ل يناقض أصل اليمان‪ ،‬وإن كان يناقض كماله‪ ،‬بل‬
‫نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي‪ ،‬ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات‪ ،‬ولهذا كانت الصلة تنهى‬
‫عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬فالصلة تضمنت شيئين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬نهيها عن الذنوب‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬تضمنها ذكر الّ‪ ،‬وهو أكبر المرين‪ ،‬فما فيها من ذكر الّ أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر‪،‬‬
‫ولبسط هذا موضع آخر‪.‬‬

‫‪/‬والمقصود هنا أن المحبة التامة لّ ورسوله تستلزم وجود محبوباته؛ ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي‪( :‬من‬
‫أحب لّ‪ ،‬وأبغض لّ‪ ،‬وأعطى لّ‪ ،‬ومنع لّ؛ فقد استكمل اليمان)‪ ،‬فإنه إذا كان حبه لّ‪ ،‬وبغضه لّ‪ ،‬وهما عمل قلبه‪،‬‬
‫وعطاؤه لّ‪ ،‬ومنعه لّ‪ ،‬وهما عمل بدنه؛ دل على كمال محبته لّ‪ ،‬ودل ذلك على كمال اليمان؛ وذلك أن كمال‬
‫اليمان أن يكون الدين كله لّ‪ ،‬وذلك عبادة الّ وحده ل شريك له‪ ،‬والعبادة تتضمن كمال الحب‪ ،‬وكمال الذل‪ ،‬والحب‬
‫مبدأ جميع الحركات الرادية‪ ،‬ولبد لكل حي من حب وبغض‪ ،‬فإذا كانت محبته لمن يحبه الّ‪ ،‬وبغضه لمن يبغضه‬
‫الّ؛ دل ذلك على صحة اليمان في قلبه‪ ،‬لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف‪ ،‬بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها‪،‬‬
‫الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس‪ ،‬فإذا كان حبه لّ‪ ،‬وعطاؤه لّ‪ ،‬ومنعه ل؛ دل على كمال اليمان باطنًا‬
‫وظاهرًا‪.‬‬

‫وأصل الشرك في المشركين ـ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ـ إنما هو اتخاذ أنداد يحبونه كحب الّ‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ل وبغضه لّ‪ ،‬ل يحب إل لّ‪،‬‬ ‫س مَ ْن يَتّ ِخ ُذ مِنْ دُونِ الِّ أَندَادًا ُي ِحبّونَهُ ْم كَ ُحبّ الِّ} [البقرة‪ ،]165 :‬ومن كان حبه ّ‬
‫{ َومِنْ النّا ِ‬
‫ول يبغض إل لّ‪ ،‬ول يعطي إل لّ‪ ،‬ول يمنع إل لّ‪ ،‬فهذه حال السابقين من أولياء الّ كما روى البخاري ‪ /‬في‬
‫صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬يقول الّ‪ :‬من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب‪ ،‬وما‬
‫تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه‪ ،‬ول يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته؛ كنت سمعه‬
‫الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬فبي يسمع‪ ،‬وبي يبصر‪ ،‬وبي‬
‫يبطش‪ ،‬وبي يمشي‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه‪ ،‬وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض‬
‫نفس عبدي المؤمن‪ ،‬يكره الموت وأكره مساءته ولبد له منه)‪ .‬فهؤلء الذين أحبوا الّ محبة كاملة تقربوا بما يحبه من‬
‫النوافل‪ ،‬بعد تقربهم بما يحبه من الفرائض‪ ،‬أحبهم الّ محبة كاملة حتى بلغوا ما بلغوه‪ ،‬وصار أحدهم يدرك بالّ‪،‬‬
‫ويتحرك بالّ‪ ،‬بحيث إن الّ يجيب مسألته‪ ،‬ويعيذه مما استعاذ منه‪.‬‬

‫وقد ذم في كتابه من أحب أندادا من دونه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَُأشْ ِربُوا فِي ُقلُو ِبهِمْ ا ْلعِجْ َل ِبكُ ْفرِهِمْ} [البقرة‪ ،]93 :‬وذم من اتخذ‬
‫إلهه هواه وهو أن يتأله ما يهواه ويحبه‪ ،‬وهذا قد يكون فعل القلب فقط‪ ،‬وقد مدح تعالى وذم في كتابه في غير موضع‬
‫على المحبة والرادة والبغض والسخط والفرح والغم‪ ،‬ونحو ذلك من أفعال القلوب كقوله‪ِ{ :‬وَاّلذِي َن آ َمنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِِّ} [‬
‫جلَةَ َويَذَرُونَ‬
‫حبّونَ ا ْلعَا ِ‬‫حبّونَ ا ْلعَاجِلَةَ‪َ .‬و َتذَرُونَ الْخِرَةَ} [القيامة‪ / ،]21 ،20 :‬وقوله‪{ :‬يُ ِ‬
‫ل تُ ِ‬ ‫البقرة‪ ،]165 :‬وقوله‪{ :‬كَ ّ‬
‫ل بَ ْ‬
‫وَرَاءَهُ ْم يَ ْومًا َثقِيلً} [النسان‪.]27 :‬‬

‫شمَأَزّ ْ‬
‫ت‬ ‫حدَهُ ا ْ‬ ‫سّيئَ ٌة يَفْ َرحُوا ِبهَا} [آل عمران‪ ،]120 :‬وقوله‪{ :‬وَِإذَا ُذكِرَ الُّ َو ْ‬ ‫ص ْبكُمْ َ‬‫ن تُ ِ‬‫سؤْهُمْ وَإِ ْ‬ ‫سنَةٌ تَ ُ‬
‫حَ‬ ‫سكُمْ َ‬‫ن َتمْسَ ْ‬ ‫وقوله‪{ :‬إِ ْ‬
‫س َتبْشِرُونَ} [الزمر‪ ،]45 :‬وقوله‪{ :‬وَِإذَا ُتتْلَى عََل ْيهِ ْم آيَا ُتنَا َبّينَاتٍ‬ ‫ن مِنْ دُونِهِ ِإذَا هُ ْم يَ ْ‬ ‫خرَةِ وَِإذَا ذُكِرَ اّلذِي َ‬ ‫ن بِالْ ِ‬‫ل يُ ْؤمِنُو َ‬‫ن َ‬‫قُلُوبُ اّلذِي َ‬
‫ن بِاّلذِينَ َيتْلُونَ عََل ْيهِ ْم آيَا ِتنَا} [الحج‪ ،]72 :‬وقوله‪َ { :‬و ّد َكثِي ٌر مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ‬ ‫ن يَسْطُو َ‬ ‫ف فِي ُوجُوهِ اّلذِينَ َكفَرُوا ا ْل ُمنْكَ َر َيكَادُو َ‬ ‫َتعْرِ ُ‬
‫سهِمْ} [البقرة‪ ،]109 :‬وقوله‪{ :‬مَا يَ َودّ اّلذِينَ كَ َفرُوا مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ َولَ‬ ‫ع ْندِ أَنفُ ِ‬
‫سدًا مِنْ ِ‬ ‫لَ ْو يَ ُردّو َنكُ ْم مِنْ َب ْعدِ إِيمَا ِنكُ ْم كُفّارًا حَ َ‬
‫ا ْلمُشْ ِركِينَ أَ ْن ُينَزّلَ عََل ْيكُ ْم مِنْ َخيْ ٍر مِنْ َرّبكُمْ} [البقرة‪ ،]105 :‬وقوله‪َ { :‬وتَ َودّونَ أَنّ َغيْ َر ذَاتِ الشّ ْوكَ ِة َتكُونُ َلكُمْ} [النفال‪7 :‬‬
‫]‪.‬‬

‫ل يَ ْأتُونَ الصّلَةَ ِإلّ وَهُ ْم كُسَالَى َولَ يُن ِفقُونَ ِإلّ وَهُ ْم‬ ‫وقوله‪َ { :‬ومَا َم َنعَهُمْ أَنْ ُت ْقبَ َ‬
‫ل مِ ْنهُ ْم نَ َفقَا ُتهُمْ ِإلّ َأّنهُ ْم كَ َفرُوا بِالِّ َوبِ َرسُولِهِ َو َ‬
‫عمَاَلهُمْ} [محمد‪ ،]9 :‬وقوله‪{ :‬وَِإذَا مَا أُنزَِلتْ سُو َرةٌ‬ ‫حبَطَ أَ ْ‬ ‫كَارِهُونَ} [التوبة‪ ،]54 :‬وقوله‪{ :‬ذَِلكَ بَِأّنهُ ْم كَرِهُوا مَا أَنزَلَ ا ُ‬
‫لّ َفأَ ْ‬
‫ن ِبمَا أُنزِلَ ِإَل ْيكَ َومِنَ‬ ‫ن يَقُولُ َأّيكُمْ زَا َدتْهُ َهذِهِ إِيمَانًا} الية [التوبة‪ ،]124 :‬وقوله‪{ :‬وَاّلذِينَ آ َت ْينَاهُمُ ا ْل ِكتَا َ‬
‫ب يَفْ َرحُو َ‬ ‫َف ِمنْهُ ْم مَ ْ‬
‫ك فَ ْليَ ْفرَحُوا} [يونس‪.]58 :‬‬ ‫ح َمتِ ِه َفبِذَِل َ‬
‫ضلِ الِّ َوبِرَ ْ‬ ‫ب مَن يُنكِ ُر َبعْضَهُ } [الرعد‪ ،]36 :‬وقوله‪{ :‬قُ ْ‬
‫ل بِفَ ْ‬ ‫الَحْزَا ِ‬
‫ض ِب َغيْرِ‬ ‫ن فِي الَْرْ ِ‬ ‫حبّ ا ْلفَرِحِينَ} [ القصص‪ ،]76 :‬وقال‪{ :‬ذَِلكُ ْم ِبمَا ُكنْتُ ْم َتفْرَحُو َ‬ ‫ل يُ ِ‬
‫لّ َ‬ ‫وقال‪ِ{ :‬إ ْذ قَالَ لَ ُه قَ ْومُهُ َ‬
‫ل تَ ْفرَحْ إِنّ ا َ‬
‫ل َفخُورٍ} [لقمان‪ ،]18 :‬وقال‪{ :‬وَِإنّا ِإذَا َأ َذ ْقنَا‬ ‫ختَا ٍ‬
‫ل مُ ْ‬
‫ب كُ ّ‬
‫ح ّ‬ ‫ل يُ ِ‬
‫لّ َ‬ ‫حقّ َو ِبمَا ُكنْتُ ْم َتمْرَحُونَ} [غافر‪ ،]75 :‬وقال‪{ :‬إِنّ ا َ‬ ‫الْ َ‬
‫س كَفُورٌ‪ .‬وََلئِنْ َأ َذقْنَاهُ‬ ‫عنَاهَا ِمنْهُ ِإنّهُ َل َيئُو ٌ‬
‫حمَ ًة ثُ ّم نَزَ ْ‬ ‫ح ِبهَا} [الشورى‪ ،]48 :‬وقال‪{ :‬وََلئِنْ َأ َذقْنَا الِْنسَا َ‬
‫ن ِمنّا رَ ْ‬ ‫حمَةً َفرِ َ‬‫ن ِمنّا َر ْ‬‫لْنْسَا َ‬
‫اِ‬
‫صبَرُوا وَ َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ} [هود‪ ،]9-11 :‬وقال‪:‬‬ ‫ح فَخُورٌ‪ِ .‬إلّ اّلذِينَ َ‬ ‫عنّي ِإنّهُ َلفَ ِر ٌ‬
‫سّيئَاتُ َ‬
‫ن ذَهَبَ ال ّ‬ ‫ستْهُ َليَقُولَ ّ‬
‫ضرّا َء مَ ّ‬‫َنعْمَا َء َبعْدَ َ‬
‫{ َوتُ ِحبّونَ ا ْلمَالَ ُحبّا َجمّا} [الفجر‪ ،]20 :‬وقال‪{ :‬إِنّ الِْنسَانَ لِ َربّهِ َل َكنُودٌ‪ .‬وَِإنّهُ عَلَى ذَِلكَ لَ َشهِيدٌ‪ .‬وَِإنّهُ لِحُبّ الْ َخيْرِ َل َشدِيدٌ} [‬
‫س مِنْ رَوْحِ الِّ ِإلّ الْ َقوْمُ الكَافِرُونَ}[يوسف‪ ،]87 :‬وقال‪َ { :‬ومَنْ‬ ‫العاديات‪ ،]6-8 :‬وقال‪َ { :‬و َ‬
‫ل تَيَْأسُوا مِنْ رَ ْوحِ الِّ ِإنّ ُه لَ َي ْيئَ ُ‬
‫ط مِنْ رَ ْحمَةِ َربّهِ ِإلّ الضّالّونَ} [الحجر‪.]56 :‬‬ ‫يَ ْقنَ ُ‬

‫ن َينْقَلِبَ الرّسُو ُ‬
‫ل‬ ‫حتُ ْم مِنْ ا ْلخَاسِرِينَ}[فصلت‪ ،]23 :‬وقال‪{ :‬بَلْ َ‬
‫ظ َن ْنتُمْ أَنْ لَ ْ‬ ‫صبَ ْ‬
‫ظنَنتُ ْم بِ َرّبكُمْ أَ ْردَاكُ ْم َفأَ ْ‬
‫ظّنكُمْ اّلذِي َ‬‫وقال‪َ { :‬وذَِلكُمْ َ‬
‫سدُونَ النّاسَ‬ ‫ظ َن ْنتُمْ ظَنّ السّوْءِ َوكُ ْنتُ ْم قَ ْومًا بُورًا} [الفتح‪ ،]12 :‬وقال‪َ{ :‬أ ْم يَحْ ُ‬ ‫ك فِي قُلُو ِبكُمْ وَ َ‬ ‫وَا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ َأبَدًا َو ُزيّنَ ذَِل َ‬
‫صدُورِ ِهمْ‬ ‫ن فِي ُ‬ ‫جدُو َ‬ ‫سدَ} [ الفلق‪ ،]5 :‬وقال‪َ { :‬و َ‬
‫ل يَ ِ‬ ‫سدٍ ِإذَا حَ َ‬ ‫ضلِهِ} [النساء‪ ،]54 :‬وقال‪َ { :‬ومِنْ شَرّ حَا ِ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫لّ مِ ْ‬
‫عَلَى مَا آتَاهُمْ ا ُ‬
‫ع ِنتّ ْم َقدْ َبدَتْ ا ْل َبغْضَا ُء مِنْ َأفْوَا ِههِمْ‬
‫خبَالً َودّوا مَا َ‬
‫خذُوا بِطَانَ ًة مِنْ دُو ِنكُ ْم لَ َيأْلُو َنكُمْ َ‬ ‫حَاجَ ًة ِممّا أُوتُوا} [الحشر‪ ،]9 :‬وقال‪َ { :‬‬
‫ل َتتّ ِ‬
‫صدُورُهُمْ َأ ْكبَ ُر َقدْ َبّينّا َلكُمْ ا ْليَاتِ إِ ْن ُكنْتُ ْم َتعْقِلُونَ‪ .‬هَاَأ ْنتُمْ أُ ْولَ ِء تُ ِحبّو َنهُمْ َو َل يُ ِحبّو َنكُمْ} [آل عمران‪،]119 ،118 :‬‬ ‫خفِي ُ‬ ‫َومَا تُ ْ‬
‫صدُورِ}‬ ‫ل مَا فِي ال ّ‬ ‫ضغَا َنكُمْ} [محمد‪ ،]37 :‬وقال‪ِ{ :‬إذَا ُب ْعثِرَ مَا فِي ا ْل ُقبُورِ‪َ .‬وحُصّ َ‬ ‫خرِجْ َأ ْ‬ ‫ح ِفكُ ْم َتبْخَلُوا َويُ ْ‬‫سأَ ْل ُكمُوهَا َفيُ ْ‬ ‫وقال‪{ :‬إِ ْ‬
‫ن يَ ْ‬
‫طمَعَ اّلذِي فِي قَ ْلبِ ِه مَرَضٌ} [‬ ‫لّ َمرَضًا} [البقرة‪ ،]10 :‬وقال‪َ { :‬فيَ ْ‬ ‫ض فَزَادَهُمْ ا ُ‬ ‫[العاديات‪ ،]10 ،9 :‬وقال‪{ :‬فِي ُقلُو ِبهِ ْم مَرَ ٌ‬
‫الحزاب‪ ،]32 :‬وقال‪{ :‬وَِإذْ َيقُولُ ا ْل ُمنَا ِفقُونَ وَاّلذِينَ فِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَضٌ} [الحزاب‪ ،]12 :‬وقال‪{ :‬أُ ْوَل ِئكَ اّلذِينَ لَ ْم يُ ِردْ الُّ أَنْ‬
‫صدُورِ وَ ُهدًى َورَ ْحمَةٌ لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} [يونس‪:‬‬ ‫شفَاءٌ ِلمَا فِي ال ّ‬ ‫طهّ َر قُلُو َبهُمْ} [المائدة‪ ،]41 :‬وقال‪َ { :‬قدْ جَا َء ْتكُ ْم مَوْعِظَ ٌة مِنْ َرّبكُمْ وَ ِ‬ ‫يُ َ‬
‫‪.]57‬‬

‫ومثل هذا كثير في كتاب الّ وسنة رسوله واتفاق المؤمنين يحمد ويذم على ما شاء الّ من مساعي القلوب وأعمالها‪،‬‬
‫مثل قوله في الحديث الصحيح المتفق عليه‪( :‬ل تباغضوا ول تحاسدوا)‪ ،‬وقوله‪( :‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه من‬
‫الخير ما يحب لنفسه)‪ ،‬وقوله‪( :‬مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه‬
‫عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)‪ ،‬وقوله‪( :‬ل يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)‪ ،‬و(ل يدخل‬
‫النار من في قلبه مثقال ذرة من اليمان)‪ ،‬وقوله‪( :‬ل تسموا العنب الكرم‪ ،‬وإنما الكرم قلب المؤمن) وأمثال هذا كثير‪.‬‬

‫بل قول القلب وعمله هو الصل‪ ،‬مثل تصديقه وتكذيبه وحبه وبغضه‪ ،‬من ذلك ما يحصل به مدح وذم وثواب وعقاب‬
‫بدون فعل الجوارح الظاهرة‪ ،‬ومنه ما ل يقترن به ذلك إل مع الفعل بالجوارح الظاهرة ‪ /‬إذا كانت مقدورة‪ ،‬وأما ما‬
‫ترك فيه فعل الجوارح الظاهرة للعجز عنه فهذا حكم صاحبه حكم الفاعل‪ ،‬فأقوال القلب وأفعاله ثلثة أقسام‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬ما هو حسنة وسيئة بنفسه‪.‬‬

‫وثانيها‪ :‬ما ليس سيئة بنفسه حتى يفعل‪ ،‬وهو السيئة المقدورة كما تقدم‪.‬‬

‫وثالثها‪ :‬ما هو مع العجز كالحسنة والسيئة المفعولة‪ ،‬وليس هو مع القدرة كالحسنة والسيئة المفعولة‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬

‫فالقسم الول‪ :‬هو ما يتعلق بأصول اليمان من التصديق والتكذيب‪ ،‬والحب والبغض‪ ،‬وتوابع ذلك؛ فإن هذه المور‬
‫يحصل فيها الثواب والعقاب‪ ،‬وعلو الدرجات‪ ،‬وأسفل الدركات‪ ،‬بما يكون في القلوب من هذه المور‪ ،‬وإن لم يظهر‬
‫على الجوارح‪ ،‬بل المنافقون يظهرون بجوارحهم القوال والعمال الصالحة‪ ،‬وإنما عقابهم وكونهم في الدرك السفل‬
‫من النار على ما في قلوبهم من المراض‪ ،‬وإن كان ذلك قد يقترن به أحيانًا بغض القول والفعل‪ ،‬لكن ليست العقوبة‬
‫مقصورة على ذلك البغض اليسير‪ ،‬وإنما ذلك البغض دللة كما قال تعالى‪{ :‬وََل ْو نَشَا ُء لَ َر ْينَا َكهُمْ َفَلعَ َر ْفتَهُ ْم بِسِيمَا ُهمْ‬
‫وََل َتعْ ِر َفّنهُ ْم فِي لَحْنِ الْقَ ْولِ} [محمد‪ ،]30 :‬فأخبر أنهم لبد أن يعرفوا في لحن القول‪.‬‬

‫وأما القسم الثاني‪ ،‬والثالث‪ :‬فمظنة الفعال التي ل تنافى أصول اليمان‪ ،‬مثل المعاصي الطبعية‪ ،‬مثل الزنا‪ ،‬والسرقة‪،‬‬
‫وشرب الخمر‪ ،‬كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬من مات يشهد أن ل إله إل الّ وأن‬
‫محمدًا رسول الّ‪ ،‬دخل الجنة‪ ،‬وإن زنا وإن سرق‪ ،‬وإن شرب الخمر)‪ ،‬وكما شهد النبي صلى ال عليه وسلم في‬
‫الحديث الصحيح للرجل الذي كان يكثر شرب الخمر‪ ،‬وكان يجلده كلما جيء به فلعنه رجل‪ ،‬فقال‪( :‬ل تلعنه فإنه يحب‬
‫الّ ورسوله)‪ ،‬وفي رواية قال بعضهم‪ :‬أخزاه الّ ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪( :‬ل تكونوا أعوانًا للشيطان على أخيكم) وهذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة‪.‬‬

‫ولهذا قال‪( :‬إن الّ تجاوز لمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به)‪ ،‬والعفو عن حديث النفس إنما وقع‬
‫لمة محمد المؤمنين بالّ وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر‪ ،‬فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من المور التي ل‬
‫تقدح في اليمان‪ ،‬فأما ما نافى اليمان فذلك ل يتناوله لفظ الحديث؛لنه إذا نافى اليمان لم يكن صاحبه من ‪ /‬أمة‬
‫محمد في الحقيقة‪ ،‬ويكون بمنزلة المنافقين‪ ،‬فل يجب أن يعفى عما في نفسه من كلمه أو عمله‪ ،‬وهذا فرق بين يدل‬
‫عليه الحديث‪ ،‬وبه تأتلف الدلة الشرعية‪ ،‬وهذا كما عفا الّ لهذه المة عن الخطأ والنسيان‪ ،‬كما دل عليه الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬فمن صح إيمانه عفى له عن الخطأ والنسيان‪ ،‬وحديث النفس‪ ،‬كما يخرجون من النار‪ ،‬بخلف من ليس معه‬
‫اليمان فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه؛ ولهذا جاء‪( :‬نية المؤمن خير من‬
‫عمله) هذا الثر رواه أبو الشيخ الصبهاني في [كتاب المثال] من مراسيل ثابت البناني‪ ،‬وقد ذكره ابن القيم في النية‬
‫من طرق عن النبي صلى ال عليه وسلم ثم ضعفها‪ ،‬فالّ أعلم‪.‬‬

‫فإن النية يثاب عليها المؤمن بمجردها‪ ،‬وتجرى مجرى العمل إذا لم يمنع من العمل بها إل العجز‪ ،‬ويمكنه ذلك في‬
‫عامة أفعال الخير‪ ،‬وأما عمل البدن فهو مقيد بالقدرة‪ ،‬وذلك ل يكون إل قليل؛ ولهذا قال بعض السلف‪ :‬قوة المؤمن في‬
‫قلبه‪ ،‬وضعفه في بدنه‪ ،‬وقوة المنافق في بدنه‪ ،‬وضعفه في قلبه‪.‬‬

‫ن يَشَاءُ}‬
‫ب مَ ْ‬
‫لّ َف َيغْ ِفرُ ِلمَنْ يَشَاءُ َويُ َعذّ ُ‬
‫س ْبكُمْ بِهِ ا ُ‬
‫سكُمْ أَ ْو تُخْفُو ُه يُحَا ِ‬ ‫وقد دل على هذا الصل قوله تعالى‪{ :‬وَإِ ْ‬
‫ن ُتبْدُوا مَا فِي أَنفُ ِ‬
‫الية [البقرة‪ ،]284 :‬وهذه الية وإن كان قد قال طائفة من السلف‪ :‬إنها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه‬
‫عن مروان الصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ـ وهو ابن عمر ـ أنها نسخت‪ ،‬فالنسخ في لسان‬
‫السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين‪ ،‬يريدون به رفع الدللة مطلقا‪ ،‬وإن كان تخصيصًا للعام أو تقييدا للمطلق‪،‬‬
‫وغير ذلك‪ ،‬كما هو معروف في عرفهم‪ ،‬وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك‪ ،‬وزعم قوم أن ذلك خبر‪ ،‬والخبر ل‬
‫ينسخ‪ ،‬ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي‪ ،‬كالخبر الذي بمعنى المر والنهي‪.‬‬

‫لّ نَ ْفسًا ِإلّ وُ ْس َعهَا} [البقرة‪ ،]286 :‬كما‬ ‫والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الية التي بعدها وهي قوله‪َ { :‬‬
‫ل ُيكَلّفُ ا ُ‬
‫روى مسلم في صحيحه من حديث أنس في هذه الية‪ ،‬فيكون المرفوع عنهم ما فسرت به الحاديث‪ ،‬وهو ما هموا به‬
‫وحدثوا به أنفسهم من المور المقدورة‪ ،‬ما لم يتكلموا به أو يعملوا به‪ ،‬ورفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا‬
‫عليه‪ .‬كما روى ابن ماجه وغيره بإسناد حسن‪( :‬إن الّ تجاوز لمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)‪.‬‬

‫وحقيقة المر‪ :‬أن قوله سبحانه‪{ :‬وَإِ ْن ُتبْدُوا مَا فِي أَنفُ ِسكُمْ أَ ْو تُخْفُوهُ} [البقرة‪ ،]284 :‬لم يدل على المؤاخذة بذلك؛ بل دل‬
‫ب مَن يَشَاء } ل يستلزم أنه‬
‫على المحاسبة به‪ ،‬ول ‪ /‬يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب؛ ولهذا قال‪َ { :‬فيَغْ ِفرُ ِلمَن يَشَاء َو ُيعَذّ ُ‬
‫قد يغفر ويعذب بل سبب ول ترتيب‪ ،‬ول أنه يغفر كل شيء‪ ،‬أو يعذب على كل شيء‪ ،‬مع العلم بأنه ل يعذب‬
‫المؤمنين‪ ،‬وأنه ل يغفر أن يشرك به إل مع التوبة‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬

‫والصل أن يفرق بين ما كان مجامعًا لصل اليمان وما كان منافيًا له‪ ،‬ويفرق أيضًا بين ما كان مقدورًا عليه فلم‬
‫يفعل‪ ،‬وبين ما لم يترك إل للعجز عنه‪ ،‬فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة‪.‬‬

‫وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في المسألة إنما وقع لكونهم رأوا عزمًا جازمًا ل يقترن به فعل قط‪ ،‬وهذا ل‬
‫يكون إل إذا كان الفعل مقارنًا للعزم‪ ،‬وإن كان العجز مقارنًا للرادة؛ امتنع وجود المراد‪ ،‬لكن ل تكون تلك إرادة‬
‫جازمة‪ ،‬فإن الرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أيضًا‪ ،‬فمع الرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات‬
‫الفعل ولوازمه‪ ،‬وإن لم يوجد الفعل نفسه‪.‬‬

‫والنسان يجد من نفسه‪ :‬أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته‪ ،‬ومع العجز عنه يضعف ذلك‬
‫الطمع‪ ،‬وهو ل يعجز عما يقوله ويفعله على السواء‪ ،‬ول عما يظهر على صفحات وجهه‪/ ،‬وفلتات لسانه‪ ،‬مثل بسط‬
‫الوجه وتعبسه‪ ،‬وإقباله على الشيء والعراض عنه‪ ،‬وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم‬
‫والعقاب‪ ،‬كما يترتب عليها الحمد والثواب‪.‬‬
‫وبعض الناس يقدر عزما جازما ل يقترن به فعل قط‪ ،‬وهذا ل يكون إل لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره‪،‬‬
‫فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازمًا‪ ،‬ول نزاع في إطلق اللفاظ؛ فإن من الناس من يفرق بين العزم‬
‫والقصد فيقول‪ :‬ما قارن الفعل فهو قصد‪ ،‬وما كان قبله فهو عزم‪ .‬ومنهم من يجعل الجميع سواء‪ ،‬وقد تنازعوا‪ :‬هل‬
‫تسمى إرادة الّ لما يفعله في المستقبل عزمًا ؟ وهو نزاع لفظي؛ لكن ما عزم النسان عليه أن يفعله في المستقبل‪،‬‬
‫فلبد حين فعله من تجدد إرادة‪ ،‬غير العزم المتقدم‪ ،‬وهي الرادة المستلزمة لوجود الفعل مع القدرة‪ ،‬وتنازعوا أيضًا‪:‬‬
‫هل يجب وجود الفعل مع القدرة والداعي؟ وقد ذكروا أيضًا في ذلك قولن‪.‬‬

‫والظهر أن القدرة مع الداعي التام تستلزم وجود المقدور‪ ،‬والرادة مع القدرة تستلزم وجود المراد‪.‬‬

‫والمتنازعون في هذه أراد أحدهم إثبات العقاب مطلقًا على كل عزم على فعل مستقبل‪ ،‬وإن لم يقترن به فعل‪ ،‬وإرادة‬
‫الخر رفع العقاب ‪ /‬مطلقًا عن كل ما في النفس من الرادات الجازمة ونحوها‪ ،‬مع ظن الثنين أن ذلك الواحد لم‬
‫يظهر بقول ول عمل‪ ،‬وكل من هذين انحراف عن الوسط‪.‬‬

‫فإذا عرف أن الرادة الجازمة ل يتخلف عنها الفعل مع القدرة إل لعجز يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في‬
‫الثواب والعقاب‪ .‬وأما إذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف ل يكون مرادًا إرادة جازمة‪ ،‬بل هو الهم الذي وقع‬
‫العفو عنه‪ ،‬وبه ائتلفت النصوص والصول‪.‬‬

‫ثم هنا مسائل كثيرة فيما يجتمع في القلب من الرادات المتعارضة كالعتقادات المتعارضة‪ ،‬وإرادة الشيء وضده‪،‬‬
‫مثل شهوة النفس للمعصية وبغض القلب لها‪ ،‬ومثل حديث النفس الذي يتضمن الكفر إذا قارنه بعض ذلك والتعوذ‬
‫منه‪ ،‬كما شكا أصحاب رسول الّ صلى ال عليه وسلم إليه فقالوا‪ :‬إن أحدنا يجد في نفسه ما لن يحترق حتى يصير‬
‫حممة‪ ،‬أو يخر من السماء إلى الرض أحب إليه من أن يتكلم به‪ .‬فقال‪( :‬أو قد وجدتموه؟!) فقالوا‪ :‬نعم‪ .‬قال‪( :‬ذلك‬
‫صريح اليمان) رواه مسلم من حديث ابن مسعود‪ ،‬وأبي هريرة‪ ،‬وفيه‪( :‬الحمد لّ الذي رد كيده إلى الوسوسة)‪.‬‬

‫وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان ‪ /‬به على الجواب‪ ،‬فإن له موارد واسعة‪ .‬فهنا لما اقترن‬
‫بالوسواس هذا البغض وهذه الكراهة‪ ،‬كان هو صريح اليمان‪ ،‬وهو خالصه ومحضه؛ لن المنافق والكافر ل يجد‬
‫هذا البغض‪ ،‬وهذه الكراهة مع الوسوسة بذلك‪ ،‬بل إن كان في الكفر البسيط‪ ،‬وهو العراض عما جاء به الرسول‪،‬‬
‫وترك اليمان به ـ وإن لم يعتقد تكذيبه ـ فهذا قد ل يوسوس له الشيطان بذلك‪ ،‬إذ الوسوسة بالمعارض المنافي لليمان‬
‫إنما يحتاج إليها عند وجود مقتضيه‪ ،‬فإذا لم يكن معه ما يقتضي اليمان لم يحتج إلى معارض يدفعه‪ ،‬وإن كان في‬
‫الكفر المركب وهو التكذيب فالكفر فوق الوسوسة‪ ،‬وليس معه إيمان يكره به ذلك‪.‬‬

‫حتَمَلَ‬
‫سمَا ِء مَا ًء َفسَاَلتْ أَ ْو ِديَةٌ بِ َقدَرِهَا فَا ْ‬ ‫ولهذا لما كانت هذه الوسوسة عارضة لعامة المؤمنين‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬أَن َز َ‬
‫ل مِنْ ال ّ‬
‫ال ّسيْلُ َزبَدًا رَا ِبيًا َو ِممّا يُو ِقدُونَ عََليْ ِه فِي النّا ِر ا ْبتِغَاءَ ِحْليَةٍ َأ ْو مَتَاعٍ َزبَ ٌد ِمثْلُهُ} اليات [ الرعد‪ .]17 :‬فضرب الّ المثل لمـا‬
‫ينزله مـن اليمان والقرآن بالماء الذي ينزل في أودية الرض‪ ،‬وجعل القلوب كالودية‪ ،‬منها الكبير‪ ،‬ومنها الصغير‬
‫كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪( :‬مثل ما بعثني الّ به من الهدى والعلم‬
‫كمثل غيث أصاب أرضًا‪ ،‬فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكل والعشب الكثير‪ ،‬وكانت منها طائفة أمسكـت‬
‫الماء فسقـى الناس وشربـوا‪ ،‬وكانـت منهـا طائفة إنما هي ‪ /‬قيعان ل تمسـك مـا ًء ول تنبـت كل‪ ،‬فذلك مثل من فقه في‬
‫دين الّ ونفعه الّ بما بعثني به من الهدى والعلم‪ ،‬ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الّ الذي أرسلت به)‬
‫فهذا أحد المثلين‪.‬‬

‫والمثل الخر ما يوقد عليه لطلب الحلية والمتاع‪ ،‬من معادن الذهب والفضة والحديد ونحوه‪ ،‬وأخبر أن السيل يحتمل‬
‫ك يَضْ ِربُ الُّ ا ْلحَقّ وَا ْلبَاطِ َل َفَأمّا ال ّز َبدُ} [الرعد‪،]17 :‬‬ ‫زبدًا رابيًا ومما يوقدون عليه في النار زبد مثله‪ ،‬ثم قال‪{ :‬كَذَِل َ‬
‫الرابي على الماء وعلى الموقد عليه فهو نظير ما يقع في قلوب المؤمنين من الشك والشبهات في العقائد والرادات‬
‫الفاسدة كما شكاه الصحابة إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ف َيذْهَبُ ُجفَاءً} يجفوه القلب فيرميه ويقذفه كما‬
‫ث فِي الَْ ْرضِ} وهو مثل ما ثبت في القلوب من اليقين واليمان‪ ،‬كما‬ ‫يقذف الماء الزبد ويجفوه {وََأمّا مَا يَنفَعُ النّا َ‬
‫س َف َي ْمكُ ُ‬
‫حيَاةِ الدّ ْنيَا َوفِي الْخِرَةِ‬ ‫طّيبَةٍ} الية‪ ،‬إلى قوله‪ُ { :‬ي َثبّتُ الُّ اّلذِينَ آ َمنُوا بِا ْلقَوْلِ الثّابِ ِ‬
‫ت فِي الْ َ‬ ‫جرَةٍ َ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬مثَلً كَِلمَةً َ‬
‫طّيبَ ًة كَشَ َ‬
‫لّ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم‪ 24 :‬ـ ‪.]27‬‬ ‫َويُضِلّ الُّ الظّاِلمِينَ َويَ ْفعَلُ ا ُ‬
‫فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكرهه وألقاه ازداد إيمانًا ويقينًا‪ ،‬كما أن كل من حدثته نفسه‬
‫بذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه لّ ازداد صلحًا وبرًا وتقوى‪.‬‬

‫‪/‬وأما المنافق فإذا وقعت له الهواء والراء المتعلقة بالنفاق لم يكرهها ولم ينفها‪ ،‬فإنه قد وجدت منه سيئة الكفر من‬
‫غير حسنة إيمانية تدفعها أو تنفيها‪ ،‬والقلوب يعرض لها اليمان والنفاق‪ ،‬فتارة يغلب هذا‪ ،‬وتارة يغلب هذا‪.‬‬

‫وقوله صلى ال عليه وسلم‪( :‬إن الّ تجاوز لمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها) كما في بعض ألفاظه في‬
‫الصحيح‪ ،‬هو مقيد بالتجاوز للمؤمنين‪ ،‬دون من كان مسلمًا في الظاهر‪ ،‬وهو منافق في الباطن وهم كثيرون في‬
‫المتظاهرين بالسلم قديمًا وحديثًا‪ .‬وهم في هذه الزمان المتأخرة في بعض الماكن أكثر منهم في حال ظهور‬
‫اليمان في أول المر‪ ،‬فمن أظهر اليمان وكان صادقًا مجتنبًا ما يضاده أويضعفه يتجاوز له عما يمكنه التكلم به‬
‫والعمل به‪ ،‬دون ما ليس كذلك‪ .‬كما دل عليه لفظ الحديث‪.‬‬

‫فالقسمان اللذان بينا أن العبد يثاب فيهما ويعاقب على أعمال القلوب خارجة من هذا الحديث‪ ،‬وكذلك قوله‪( :‬من هم‬
‫بحسنة)‪( ،‬من هم بسيئة) إنما هو في المؤمن الذي يهم بسيئة أو حسنة يمكنه فعلها فربما فعلها وربما تركها؛ لنه أخبر‬
‫أن الحسنة تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة‪.‬‬

‫سبِيلِ الِّ} [البقرة‪ ،]261 :‬و {ا ْب ِتغَاءَ‬


‫‪/‬وهذا إنما هو لمن يفعل الحسنات لّ‪ .‬كما قال تعالى‪َ { :‬مثَلُ اّلذِينَ يُن ِفقُونَ َأمْوَاَلهُ ْم فِي َ‬
‫مَرْضَاةِ الِّ} [البقرة‪ ،]265 :‬و {ا ْبتِغَاءَ وَجْهِ َربّهِ} [الليل‪ ]20 :‬وهذا للمؤمنين؛ فإن الكافر وإن كان الّ يطعمه‬
‫بحسناته في الدنيا‪ ،‬وقد يخفف عنه بها في الخرة‪ ،‬كما خفف عن أبي طالب لحسانه إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وبشفاعة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلم يوعد لكافر على حسناته بهذا التضعيف‪ ،‬وقد جاء ذلك مقيدًا في حديث آخر‪:‬‬
‫إنه في المسلم الذي هو حسن السلم‪.‬‬

‫والّ ـ سبحانه ـ أعلم‪ ،‬والحمد لّ رب العالمين‪ ،‬وصلى الّ على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬

You might also like