You are on page 1of 243

‫تفسير الشعراوي‬

‫جمًا بِا ْلغَ ْيبِ وَ َيقُولُونَ سَ ْب َع ٌة وَثَامِ ُنهُمْ‬


‫س ُهمْ كَلْ ُبهُمْ َر ْ‬
‫خمْسَةٌ سَادِ ُ‬
‫سَ َيقُولُونَ ثَلَا َثةٌ رَا ِب ُعهُمْ كَلْ ُبهُ ْم وَ َيقُولُونَ َ‬
‫كَلْ ُبهُمْ ُقلْ رَبّي أَعْلَمُ ِب ِعدّ ِتهِمْ مَا َيعَْل ُمهُمْ إِلّا قَلِيلٌ فَلَا ُتمَارِ فِي ِهمْ إِلّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا َتسْ َتفْتِ فِيهِمْ مِ ْن ُهمْ‬
‫حدًا (‪)22‬‬
‫أَ َ‬

‫ن قال‪ :‬ثلثة رابعهم كلبهم‪ .‬ومنهم مَنْ قال‪ :‬خمسة‬


‫لقد اختلف القوم في عدد أهل الكهف‪ ،‬منهم مَ ْ‬
‫سادسهم كلبهم‪ ،‬وعلّق الحق سبحانه على هذا القول بأنه { رَجْما بِا ْلغَ ْيبِ }؛ لنه َقوْل بل عِلْم‪ ،‬مما‬
‫ن قال‪ :‬سبعة وثامنهم كلبهم‪ ،‬ولم يعلق القرآن على هذا‬
‫يدلّنا على خطئه ومخالفته للواقع‪ .‬ومنهم مَ ْ‬
‫الرأي مما يدّل على أنه القرب للصواب‪.‬‬
‫ثم يأتي القول ال َفصْل في هذه المسألة‪ { :‬قُل رّبّي أَعْلَمُ ِبعِدّ ِتهِم مّا َيعَْل ُمهُمْ ِإلّ قَلِيلٌ‪[ } ..‬الكهف‪]22 :‬‬
‫فلم يُبيّن لنا الحق سبحانه عددهم الحقيقي‪ ،‬وأمرنا أن نترك هذا لعلمه سبحانه‪ ،‬ول نبحث في أمر‬
‫ل طائل منه‪ ،‬ول فائدة من ورائه‪ ،‬فالمهم أنْ يثبت َأصْل القصة وهو‪ :‬الفتية الشدّاء في دينهم‬
‫حوْا في سبيله حتى ل يفتنهم أهل الكفر والطغيان‪ ،‬وقد لجأوا إلى الكهف ففعل‬
‫والذين فَرّوا به وضَ ّ‬
‫ال بهم ما فعل‪ ،‬وجعلهم آيةً وعبر ًة ومثَلً وقدْوة‪.‬‬
‫أما فرعيات القصة فهي أمور ثانوية ل تُقدّم ول تُؤخّر؛ لذلك قال تعالى بعدها‪ { :‬فَلَ ُتمَارِ فِيهِمْ ِإلّ‬
‫مِرَآءً ظَاهِرا‪[ } ..‬الكهف‪ ]22 :‬أي‪ :‬ل تجادل في أمرهم‪.‬‬
‫ثم يأتي فضول الناس ليسألوا عن زمن القصة ومكانها‪ ،‬وعن أشخاصها وعددهم وأسمائهم‪ ،‬حتى‬
‫كلبهم تكلموا في اسمه‪ .‬وهذه كلّها أمور ثانوية ل تنفع في القصة ول تضرّ‪ ،‬ويجب هنا أن نعلم أن‬
‫ال َقصَص القرآني حين يبهم أبطاله يبهمهم لحكمة‪ ،‬فلو تأملتَ إبهام الشخاص في قصة أهل الكهف‬
‫لوجدته عَيْن البيان لصل القصة؛ لن القرآن لو أخبرنا مثلً عن مكان هؤلء الفتية لقال البعض‪:‬‬
‫إن هذا الحدث من الفتية خاص بهذا المكان؛ لنه كان فيه قدر من حرية الرأي‪.‬‬
‫ولو حدد زمانهم لَقال البعض‪ :‬لقد حدث ما حدث منهم؛ لن زمانهم كان من الممكن أن يتأتّى فيه‬
‫مثل هذا العمل‪ ،‬ولو حدد الشخاص وعيّنهم لقالوا‪ :‬هؤلء أشخاص ل يتكررون مرة أخرى‪.‬‬
‫لذلك أبهمهم ال لتتحقّق الفائدة المرجوّة من القصة‪ ،‬أبهمهم زمانا‪ ،‬أبهمهم مكانا‪ ،‬وأبهمهم عددا‪،‬‬
‫وأبهمهم أشخاصا ليشيع خبرهم بهذا الوصف في الدنيا كلها ل يرتبط بزمان ول مكان ول‬
‫أشخاص‪ ،‬فحمل راية الحق‪ ،‬والقيام به أمر واجب وشائع في الزمان والمكان والشخاص‪ ،‬وهذا‬
‫هو عَيْن البيان للقصة‪ ،‬وهذا هو المغزى من هذه القصة‪.‬‬
‫عوْنَ‪[ } ..‬غافر‪]28 :‬‬
‫جلٌ ّم ْؤمِنٌ مّنْ آلِ فِرْ َ‬
‫وانظر إلى قوله تبارك وتعالى‪َ { :‬وقَالَ َر ُ‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جلٌ ّم ْؤمِنٌ } دون أن يذكر عنه شيئا‪ ،‬فالمهم أن الرجولة في اليمان‪ ،‬أيّا كان هذا المؤمن‬
‫هكذا { َر ُ‬
‫في أيّ زمان‪ ،‬وفي أيّ مكان‪ ،‬وبأيّ اسم‪ ،‬وبأيّ صفة‪.‬‬
‫ح وَامْرََأتَ لُوطٍ‪[} ..‬التحريم‪]10 :‬‬
‫كذلك في قوله تعالى‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُو ٍ‬
‫ولم يذكر عنهما شيئا‪ ،‬ولم يُشخّصهما؛ لن التشخيص هنا ل يفيد‪ ،‬فالمهم والمراد من الية بيانُ أن‬
‫الهداية بيد ال وحده‪ ،‬وأن النبي المرسَل من ال لم يستطع هداية زوجته وأقرب الناس إليه‪ ،‬وأن‬
‫عقَيدة مُطْلقة‪.‬‬
‫للمرأة حريةً َ‬

‫عوْنَ‪[} ..‬التحريم‪ ]11 :‬ولم يذكر لنا مَنْ‬


‫وكذلك في قوله‪َ {:‬وضَرَبَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرََأتَ فِرْ َ‬
‫هي‪ ،‬ولم يُشخّصها؛ لن تعيّنها ل يُقدّم ول يُؤخّر‪ ،‬المهم أن نعلم أن فرعونَ الذي ادّعى اللوهية‬
‫وبكل جبروته وسلطانه لم يستطع أنْ يحمل امرأته على اليمان به‪.‬‬
‫ي قلبي‪ ،‬ل يُجبر عليه النسان‪ ،‬وها هي امرأة فرعون تؤمن بال‬
‫إذن‪ :‬العقيدة واليمان أمر شخص ّ‬
‫عمَلِ ِه وَنَجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }‬
‫ن وَ َ‬
‫عوْ َ‬
‫وتقول‪َ {:‬ربّ ابْنِ لِي عِن َدكَ بَيْتا فِي ا ْلجَنّ ِة وَنَجّنِي مِن فِرْ َ‬
‫[التحريم‪]11 :‬‬
‫عمْرَانَ‪[} ..‬التحريم‪ ]12 :‬فشخّصها باسمها‪ ،‬بل‬
‫أما في قصة مريم‪ ،‬فيقول تعالى‪َ {:‬ومَرْيَمَ ابْ َنتَ ِ‬
‫ح َدثٌ فريد وشيء خاصّ بها لن يتكرر في‬
‫واسم أبيها‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬لن الحدث الذي ستتعرّض له َ‬
‫غيرها؛ لذلك عيّنها ال وعرّفها‪ ،‬أما المر العام الذي يتكرر‪ ،‬فمن الحكمة أنْ يظلّ مُبْهما غير‬
‫مرتبط بشخص أو زمان أو مكان‪ ،‬كما في قصة أهل الكهف‪ ،‬فقد أبهمها الحق سبحانه لتكون مثالً‬
‫وقُدْوة لكل مؤمن في كل زمان ومكان‪.‬‬
‫علٌ ذاِلكَ غَدا {‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ولَ َتقُولَنّ ِلشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ‬

‫(‪)2146 /‬‬

‫علٌ ذَِلكَ غَدًا (‪)23‬‬


‫شيْءٍ إِنّي فَا ِ‬
‫وَلَا َتقُولَنّ لِ َ‬

‫وتتجلى في هذه الية رحمة ال بالمحبوب محمد صلى ال عليه وسلم فلم يُ ِردْ سبحانه وتعالى أن‬
‫يصدم رسوله بمسألة المخالفة هذه‪ ،‬بل أعطاه ما أراد‪ ،‬وأجابه إلى ما طَلب من مسألة أهل الكهف‪،‬‬
‫علٌ ذاِلكَ غَدا‬
‫ثم في النهاية ذكّره بهذه المخالفة في أسلوب وَعْظ رقيق‪َ { :‬ولَ َتقُولَنّ لِشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ‬
‫* ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ‪[ } ..‬الكهف‪]24-23 :‬‬
‫وقد سبق أنْ ذكرنا أنه صلى ال عليه وسلم حينما سأله القوم عن هذه القصة قال‪ :‬سأجيبكم غدا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولم َي ُقلْ‪ :‬إن شاء ال‪ .‬فلم يعاجله ال تعالى بالعتاب‪ ،‬بل قضى له حاجته‪ ،‬ثم لفتَ نظره إلى أمر‬
‫هذه المخالفة‪ ،‬وهذا من رحمة ال برسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫عفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ َأذِنتَ َلهُمْ‪[} ..‬التوبة‪]43 :‬‬
‫كما خاطبه بقوله‪َ {:‬‬
‫ل وقرّره؛ لن هذه المسألة منتهية ومعلومة للرسول‪ ،‬ثم عاتبه بعد ذلك‪ .‬كما لو طلب‬
‫فقدّم العفو أو ً‬
‫عوْنا أو مساعدة‪ ،‬وقد سبق أنْ أساء إليك‪ ،‬فمن اللياقة َألّ تَصدِمه بأمر الساءة‪،‬‬
‫منك شخص َ‬
‫وتُذكّره به أولً‪ ،‬بل ا ْقضِ له حاجته‪ ،‬ثم ذكّره بما فعل‪.‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪ِ { :‬إلّ أَن يَشَآءَ اللّ ُه وَا ْذكُر رّ ّبكَ ِإذَا نَسِيتَ‪.} ..‬‬

‫(‪)2147 /‬‬

‫عسَى أَنْ َيهْدِيَنِ رَبّي لَِأقْ َربَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (‪)24‬‬
‫ت َو ُقلْ َ‬
‫إِلّا أَنْ َيشَاءَ اللّ ُه وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ ِإذَا نَسِي َ‬

‫أي‪ :‬على فَرْض أنك نسيت المشيئة ساعة ال َبدْء في الفعل‪ ،‬فعليك أن تعيدها ثانية لتتدارك ما حدث‬
‫منك من نسيان في بداية المر‪.‬‬
‫لقْ َربَ مِنْ هَـاذَا رَشَدا } [الكهف‪ ]24 :‬أي‪ :‬يهديني‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬وقُلْ عَسَىا أَن َيهْدِيَنِ رَبّي َ‬
‫ويعينني‪ ،‬فل أنسى أبدا‪ ،‬وأن يجعل ِذكْره لزمة من لوازمي في كل عمل من أعمالي فل أبدأ‬
‫عملً إل بقوْل‪ :‬إنْ شاء ال‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَلَبِثُواْ فِي َكهْ ِفهِمْ ثَلثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ‪.} ...‬‬

‫(‪)2148 /‬‬

‫سعًا (‪)25‬‬
‫ن وَا ْزدَادُوا تِ ْ‬
‫وَلَبِثُوا فِي َك ْه ِفهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِي َ‬

‫وهذه الية تعطينا لقطةً من المذكرة التفصيلية التي أعطاها ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم‬
‫عن أهل الكهف‪ ،‬وهي تُحدّد عدد السنين التي قضاها الفِتْية في كهفهم بأنها ثلثمائة سنة‪ ،‬وهذا هو‬
‫عددها الفعليّ بحساب الشمس‪.‬‬
‫لذلك؛ فالحق سبحانه لم َي ُقلْ ثلثمائة وتسعا‪ ،‬بل قال‪ { :‬وَازْدَادُواْ تِسْعا } [الكهف‪ ]25 :‬ولما سمع‬
‫أهل الكتاب هذا القول اعترضوا وقالوا‪ :‬نعرف ثلثمائة سنة‪ ،‬ولكن ل نعرف التسعة؛ ذلك لن‬
‫حسابهم لهذه المدة كان حسابا شمسيا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومعلوم أن الخالق سبحانه حينما خلق السماوات والرض قسّم الزمن تقسيما فلكيا‪ ،‬فجعل الشمس‬
‫عنوانا لليوم‪ ،‬نعرفه بشروقها وغروبها‪ ،‬ولما كانت الشمس ل تدلّنا على بداية الشهر جعل الخالق‬
‫ع ّدةَ‬
‫سبحانه الشهر مرتبطا بالقمر الذي يظهر هللً في أول كل شهر‪ ،‬وقد قال تعالى‪ { :‬إِنّ ِ‬
‫ت وَالَرْضَ‪[ } ..‬التوبة‪]36 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ َي ْومَ خََلقَ ال ّ‬
‫عشَرَ َ‬
‫شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا َ‬
‫ال ّ‬
‫فلو حسبتَ الثلثمائة سنة هذه بالحساب القمري لوجدتها ثلثمائة سنة وتسعا‪ ،‬إذن‪ :‬هي في‬
‫حسابكم الشمسي ثلثمائة سنة‪ ،‬وفي حسابنا القمري ثلثمائة وتسعا‪ .‬ونعرف أن السنة الميلدية‬
‫تزيد عن الهجرية بأحد عشر يوما تقريبا في كل عام‪.‬‬
‫ومن حكمة الخالق سبحانه أن ترتبط التوقيتات في السلم بالهلة‪ ،‬ولك أن تتصور لو ارتبط‬
‫الحج مثلً بشهر واحد من التوقيت الشمسي في طقس واحد ل يتغير‪ ،‬فإنْ جاء الحج في الشتاء‬
‫يظل هكذا في كل عام‪ ،‬وكم في هذا من مشقة على مَنْ ل يناسبهم الحج في فصل الشتاء‪ .‬والمر‬
‫كذلك في الصيام‪.‬‬
‫أما في التوقيت القمري فإن هذه العبادات تدور بمدار العام‪ ،‬فتأتي هذه العبادات مرة في الصيف‪،‬‬
‫ومرة في الخريف‪ ،‬ومرة في الشتاء‪ ،‬ومرة في الربيع‪ ،‬فيؤدي كل إنسان هذه العبادة في الوقت‬
‫الذي يناسبه؛ لذلك قالوا‪ :‬يا زمن وفيك كل الزمن‪.‬‬
‫والمتأمل في ارتباط شعائر السلم بالدورة الفلكية يجد كثيرا من اليات والعجائب‪ ،‬فلو تتبعتَ‬
‫مثلً الذان للصلة في ظل هذه الدورة لوجدت أن كلمة " ال أكبر " نداء دائم ل ينقطع في ليل أو‬
‫نهار من مُلْك ال تعالى‪ ،‬وفي الوقت الذي تنادي فيه " ال أكبر " يُنادي آخر " أشهد أل إله إل ال‬
‫" وينادي آخر " أشهد أن محمدا رسول ال " وهكذا دواليك في منظومة ل تتوقف‪.‬‬
‫وكذلك في الصلة‪ ،‬ففي الوقت الذي تصلي أنت الظهر‪ ،‬هناك آخرون يُصلّون العصر‪ ،‬وآخرون‬
‫يُصلّون المغرب‪ ،‬وآخرون يُصلّون العشاء‪ ،‬فل يخلو َكوْنُ ال في لحظة من اللحظات من قائم أو‬
‫ل أوقات الزمن‪ ،‬وب ُكلّ ألوان العبادة‪.‬‬
‫راكع أو ساجد‪ .‬إذن‪ :‬فلفظ الذان وأفعال الصلة شائعة في ُك ّ‬
‫ت وَالَ ْرضِ‪.} ..‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬قلِ اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا لَبِثُواْ لَهُ غَ ْيبُ ال ّ‬

‫(‪)2149 /‬‬

‫ن وَِليّ وَلَا‬
‫سمِع مَا َلهُمْ مِنْ دُونِهِ مِ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ أَ ْبصِرْ بِهِ وَأَ ْ‬
‫ُقلِ اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا لَبِثُوا لَهُ غَ ْيبُ ال ّ‬
‫ح ْكمِهِ َأحَدًا (‪)26‬‬
‫يُشْ ِركُ فِي ُ‬

‫سمِعْ‪[ } ..‬الكهف‪ ]26 :‬وأسلوب تعجّب أي‪ :‬ما أشدّ بصره‪،‬‬


‫السلوب في قوله تعالى‪ { :‬أَ ْبصِرْ ِب ِه وَأَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وما أشدّ سمعه؛ لنه البصر والسمع المستوعب لكلّ شيء بل قانون‪.‬‬
‫ح ْكمِهِ أَحَدا } [الكهف‪ ]26 :‬كأن الحق سبحانه‬
‫ي وَلَ يُشْ ِركُ فِي ُ‬
‫وقوله‪ { :‬مَا َلهُم مّن دُونِهِ مِن وَِل ّ‬
‫وتعالى يُطمئِن عباده بأن كلمه حَقّ ل يتغير ول يتبدل؛ لنه سبحانه واحد أحد ل شريك له يمكن‬
‫أن يُغيّر كلمه‪.‬‬
‫ك لَ‬
‫حيَ إِلَ ْيكَ مِن كِتَابِ رَ ّب َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ { :‬وَا ْتلُ مَآ ُأ ْو ِ‬
‫مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِهِ‪.} ..‬‬

‫(‪)2150 /‬‬

‫جدَ مِنْ دُونِهِ مُلْ َتحَدًا (‪)27‬‬


‫حيَ إِلَ ْيكَ مِنْ كِتَابِ رَ ّبكَ لَا مُ َب ّدلَ ِلكَِلمَاتِ ِه وَلَنْ تَ ِ‬
‫وَا ْتلُ مَا أُو ِ‬

‫أي بعد هذه السئلة التي سألك كفار مكة إياها‪ ،‬وأخبرك ال بها فأجبتهم‪ ،‬اعلم أن لك ربا رفيقا‬
‫بك‪ ،‬ل يتخلّى عنك ول يتركك لكيدهم‪ ،‬فإنْ أرادوا أن يصنعوا لك مأزقا أخرجك ال منه‪ ،‬وإياك‬
‫أنْ تظنّ أن العقبات التي يقيمها خصومك ستُؤثّر في أمر دعوتك‪.‬‬
‫وإنْ أبطأتْ ُنصْرة ال لك فاعلم أن ال يريد أنْ يُمحّص جنود الحق الذين يحملون الرسالة إلى أن‬
‫تقوم الساعة‪ ،‬فل يبقى في ساحة اليمان إل القوياء الناضجون‪ ،‬فالحداث والشدائد التي تمرّ‬
‫حمْل هذه‬
‫ن هو مأمون على َ‬
‫بطريق الدعوة إنما لتغربل أهل اليمان حتى ل يصمد فيها إل مَ ْ‬
‫العقيدة‪.‬‬
‫ن يكون‬
‫وقوله‪ { :‬لَ مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِهِ‪[ } ..‬الكهف‪ ]27 :‬لن كلمات ال ل يستطيع أحد أنْ يُبدّلها إل أ ْ‬
‫معه سبحانه إله آخر‪ ،‬فما دام هو سبحانه إلها واحدا ل شريك له‪ ،‬فاعلم أن قوله الحق الذي ل‬
‫جدَ مِن دُونِهِ مُلْ َتحَدا } [الكهف‪ ]27 :‬أي‪ :‬ملجأ تذهب إليه؛ لن حَسْبك ال‬
‫يُبدّل ول يُغيّر‪ { :‬وَلَن تَ ِ‬
‫وهو ِنعْم الوكيل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬أوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ إِنّ فِي ذاِلكَ‬
‫حمَةً وَ ِذكْرَىا ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }[العنكبوت‪]51 :‬‬
‫لَرَ ْ‬
‫شيّ‪.} ...‬‬
‫سكَ مَعَ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّبهُم بِا ْلغَدَوا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬وَاصْبِرْ َنفْ َ‬

‫(‪)2151 /‬‬

‫جهَ ُه وَلَا َتعْدُ عَيْنَاكَ عَ ْنهُمْ تُرِيدُ زِي َنةَ‬


‫شيّ يُرِيدُونَ َو ْ‬
‫سكَ مَعَ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّب ُهمْ بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫وَاصْبِرْ َنفْ َ‬
‫غفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ِذكْرِنَا وَاتّبَعَ َهوَا ُه َوكَانَ َأمْ ُرهُ فُرُطًا (‪)28‬‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَا ُتطِعْ مَنْ أَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نزلتْ هذه الية في " أهل الصّفّة " وهم جماعة من أهل ال انقطعوا للعبادة فتناولتهم ألسنة الناس‬
‫واعترضوا عليهم‪ ،‬لماذا ل يعملون؟ ولماذا ل يشتغلون كباقي الناس؟ بل وذهبوا إلى رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم يقولون‪ :‬نريد أن تلتفت إلينا‪ ،‬وأن تترك هؤلء المجاذيب‪ ،‬فأنزل ال تعالى‪{ :‬‬
‫سكَ مَعَ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّبهُم‪[ } ..‬الكهف‪]28 :‬‬
‫وَاصْبِرْ َنفْ َ‬
‫لذلك علينا حينما نرى مثل هؤلء الذين نُسمّيهم المجاذيب الذين انقطعوا لعبادة ال أن ل نحتقرهم‪،‬‬
‫ول نُقلّل من شأنهم أو نتهمهم؛ لن ال تعالى جعلهم موازين للتكامل في الكون‪ ،‬ذلك أن صاحب‬
‫الدنيا الذي انغمس فيها وعاش لها وباع دينه من أجل دُنْياه حينما يرى هذا العابد قد نفض يديه من‬
‫الدنيا‪ ،‬وألقاها وراء ظهره‪ ،‬وراح يستند إلى حائط المسجد مُمدّدا رجلً‪ ،‬ل تعنيه أمور الدنيا بما‬
‫فيها‪.‬‬
‫ومن العجيب أن صاحب الدنيا هذا العظيم صاحب الجاه تراه إنْ أصابه مكروه أو نزلتْ به نازلة‬
‫ُيهْرَع إلى هذا الشيخ يُقبّل يديه ويطلب منه الدعاء‪ ،‬وكأن الخالق سبحانه جعل هؤلء المجاذيب‬
‫ليرد بهم جماح أهل الدنيا المنهمكين في دوامتها المغرورين بزهرتها‪.‬‬
‫خدْمة هؤلء العباد‪ ،‬ففي يوم من اليام ُقمْنا لصلة المغرب‬
‫وأيضا‪ ،‬كثيرا ما ترى أهل الدنيا في ِ‬
‫في مسجد سيدنا الحسين‪ ،‬وكان معنا رجل كبير من رجال القتصاد‪ ،‬فإذا به يُخرج مبلغا من المال‬
‫ويطلب من العامل صرفه إلى جنيهات‪ ،‬فأتى العامل بالمبلغ في صورة جنيهات من الحجم‬
‫الصغير‪ ،‬فإذا برجل القتصاد الكبير يقول له‪ :‬ل‪ ،‬ل ُبدّ من جنيهات من الحجم الكبير؛ لن فلنا‬
‫المجذوب على باب الحسين ل يأخذ إل بالجنيه الكبير‪ ،‬فقلت في نفسي‪ :‬سبحان ال مجذوب على‬
‫باب المسجد وشغل أكبر رجل اقتصاد في مصر‪ ،‬ويحرص الرجل على إرضائه ويعطيه ما يريد‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬ولَ َتعْدُ عَيْنَاكَ عَ ْن ُهمْ‪[ } ..‬الكهف‪ ]28 :‬أي‪ :‬اجعل عينيك فيهم‪ ،‬ول تصرفها‬
‫عنهم إلى غيرهم من أهل الدنيا؛ لن مَدد النظرة من رسول ال صلى ال عليه وسلم زاد للمؤمن‬
‫ن فعلتَ ذلك وانصرفتَ عنهم‪ ،‬فكأنك تريد زينة‬
‫{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا‪[ } ..‬الكهف‪ ]28 :‬لنك إ ْ‬
‫الحياة الدنيا وزخارفها‪.‬‬
‫صفّة وعدم النصراف عنهم إلى أهل الدنيا‬
‫وفي أمر الرسول صلى ال عليه وسلم بملزمة أهل ال ّ‬
‫ما يُقوّي هؤلء النفر من أهل اليمان الذين جعلوا دَيْدنهم وشاغلهم الشاغل عبادة ال والتقرّب‬
‫إليه‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬هل المطلوب أن يكون الناس جميعا كأهل الصّفّة منقطعين للعبادة؟ بالطبع ل‪ ،‬فالحق سبحانه‬
‫وتعالى جعلهم بين الناس قِلّة‪ ،‬في كل بلد واحد أو اثنان ليكونوا أُسْوة تُذكّر الناس وتكبح جماح‬
‫تطلّعاتهم إلى الدنيا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومن العجيب أن ترى البعض يدّعي حال هؤلء‪ ،‬ويُوهِم الناس أنه مجذوب‪ ،‬وأنه وَليّ َنصْبا‬
‫واحتيالً‪ ،‬والشيء ل يُدّعَى إل إذا كانت من ورائه فائدة‪ ،‬كالذي يدّعي الطب أو يدّعي العلم لما‬
‫رأى من مَيْزات الطبيب والعالم‪ .‬فلما رأى البعض حال هؤلء المجاذيب‪ ،‬وكيف أنهم عزفوا عن‬
‫عمّا لهم من مكانة ومنزلة في‬
‫الدنيا فجاءتْ إليهم تدقّ أبوابهم‪ ،‬وسعى إليهم أهلها بخيراتها‪ ،‬فضلً َ‬
‫النفس ومحبة في القلوب‪.‬‬
‫فلماذا ـ إذنْ ـ ل يدعون هذه الحال؟ ولماذا ل ينعمون بكل هذه الخيرات دون أدنى مجهود؟ وما‬
‫أفسد على هؤلء العباد حالَهم‪ ،‬وما خاض الناس في سيرتهم إل بسبب هذه الطبقة الدخيلة المدّعية‬
‫التي استمرأتْ حياة الكسل والهوان‪.‬‬
‫غفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ِذكْرِنَا‪[ { ..‬الكهف‪ ]28 :‬لنه ل يأمرك بالنصراف‬
‫طعْ مَنْ أَ ْ‬
‫ثم يقول تعالى‪َ } :‬ولَ تُ ِ‬
‫ن غفل عن ذكر ال‪ ،‬أما مَن اطمأن قلبه إلى ِذكْرنا وذاق‬
‫عن هؤلء واللتفات إلى أهل الدنيا إل مَ ْ‬
‫حلوة اليمان فإنه ل يأمر بمثل هذا المر‪ ،‬بل هو أقرب ما يكون إلى هؤلء المجاذيب الولياء‬
‫صفّة‪ ،‬بل وربما تراوده نفسه أن يكون مثلهم‪ ،‬فكيف يأمر بالنصراف عنهم؟‬
‫من أهل ال ّ‬
‫وقد أوضح النبي صلى ال عليه وسلم الموقف من الدنيا في قوله‪ " :‬أوحى ال إلى الدنيا‪ :‬مَنْ‬
‫خدمني فاخدميه‪ ،‬ومَنْ خدمك فاستخدميه‪ " ..‬فالدنيا بأهلها في خدمة المؤمن الذي يعمر اليمانُ‬
‫قلبه‪ ،‬وليس في باله إل ال في كل ما يأتي أو َيدَع‪.‬‬
‫صفّة ما غفل‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَاتّبَعَ َهوَاهُ‪[ { ..‬الكهف‪ ]28 :‬أي‪ :‬أن هذا الذي يُحرّضك على أهل ال ّ‬
‫قلبه عن ذكرنا إل لنه سار خلف هواه‪ ،‬فأخذه هواه وألهاه عن ذكر ال‪ ،‬فما دام قد انشغل بشيء‬
‫يوافق هواه فلن يهتم بمطلوب ال‪ ،‬إنه مشغول بمطلوب نفسه؛ لذلك يقول صلى ال عليه وسلم‪" :‬‬
‫ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تِبَعا لما جئتُ به "‪.‬‬
‫فالمؤمن الحق سليم اليمان مَنْ كان هواه ورغبته موافقة لمنهج ال‪ ،‬ل يحيد عنه‪ ،‬وقد قال الحق‬
‫ت وَالَرْضُ‪[} ..‬المؤمنون‪]71 :‬‬
‫سمَاوَا ُ‬
‫حقّ أَ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ‬
‫سبحانه وتعالى‪ {:‬وََلوِ اتّ َبعَ الْ َ‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬وكَانَ َأمْ ُرهُ فُرُطا { [الكهف‪ ]28 :‬أي‪ :‬كان أمره ضياعا وهباءً‪ ،‬فكأنه أضاع نفسه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬و ُقلِ ا ْلحَقّ مِن رّ ّبكُمْ َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن‪.{ ...‬‬

‫(‪)2152 /‬‬

‫َوقُلِ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ُكمْ َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِنْ َومَنْ شَاءَ فَلْ َي ْكفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارًا َأحَاطَ ِب ِهمْ سُرَا ِد ُقهَا‬
‫ب وَسَا َءتْ مُرْ َت َفقًا (‪)29‬‬
‫شوِي ا ْل ُوجُوهَ بِئْسَ الشّرَا ُ‬
‫وَإِنْ يَسْ َتغِيثُوا ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ َي ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حقّ مِن رّ ّبكُمْ‪[ } ..‬الكهف‪ ]29 :‬أي‪ُ :‬قلِ الحق جاء من ربكم‪ ،‬واختار كلمة‬
‫قوله تعالى‪َ { :‬و ُقلِ الْ َ‬
‫الرب ولم َي ُقلْ من ال‪ ،‬لن الكل معتقد أن الرب هو الذي خلق‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُم‬
‫مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ }[الزخرف‪]87 :‬‬
‫ت وَالَرْضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[لقمان‪]25 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وقوله‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خََلقَ ال ّ‬
‫فمعنى‪ { :‬مِن رّ ّبكُمْ‪[ } ..‬الكهف‪ ]29 :‬أي‪ :‬بإقراركم أنتم‪ ،‬فالذي خلقكم وربّاكم وتعهدكم هو الذي‬
‫نزّل لكم هذا الحق و { رّ ّبكُمْ‪[ } ..‬الكهف‪ ]29 :‬أي‪ :‬ليس ربي وحدي‪ ،‬بل ربكم وربّ الناس‬
‫جميعا‪.‬‬
‫والحق‪ :‬هو الشيء الثابت‪ ،‬وما دام من ال فلن يُغيّره أحد؛ لن الذي يتغير كلمه هو الذي يقضي‬
‫خفَى عليه شيء ول‬
‫شيئا ويجهل شيئا مُقبلً‪ ،‬وبعد ذلك يُعدّل‪ ،‬فالحق من ال لنه سبحانه ل يَ ْ‬
‫حكْم من أحكامه من أحد من خلقه‪.‬‬
‫َيعْزُب عن عمله شيء‪ ،‬لذلك ل استدراك على ُ‬
‫فالربوبية عطاء‪ ،‬فربك الذي خلقك وأمدّك بالنعم‪ ،‬وهو الذي يُربّيك كما يُربّي الوالد ولده؛ لذلك لم‬
‫يعترض على الربوبية أحد‪ ،‬أما اللوهية فمطلوبها تكليف‪ :‬افعل كذا‪ ،‬ول تفعل كذا‪ ،‬فخاطبهم‬
‫بالربوبية التي فيها مصلحتهم‪ ،‬ولم يخاطبهم باللوهية التي تُقيّد اختياراتهم والنسان بطبعه ل يميل‬
‫إلى ما يُقيّد اختياراته؛ لذلك يلجأون إلى عبادة آلهة أخرى؛ لنها ليس لها مطلوبات‪.‬‬
‫عمّا نهاك؟ فما العبادة إل طاعة‬
‫فالذي يعبد الشمس أو الصنم أو غيره‪ :‬بماذا أمرك معبودك؟ و َ‬
‫عابد لمعبود‪ ،‬إذن‪ :‬فلهم أن يقولوا‪ِ :‬نعْمَ هذا الله‪ ،‬و ِنعْمَ هذا الدين؛ لنه يتركني بحريتي أفعل ما‬
‫أريد‪.‬‬
‫لذلك؛ نجد الذين يدّعُون ألوهية‪ ،‬أو يدعون نُبوّة دائما يميلون إلى تخفيف المناهج؛ لنهم يعلمون‬
‫أن المناهج السماوية تصعُب على الناس؛ لن فيها حَجْرا على حرية حركتهم وحرية اختياراتهم‪،‬‬
‫فلما ادّعى مسيلمة النبوة رأى الناس تتبرم من الزكاة فأسقطها عنهم‪ ،‬وكذلك لما ادعتّ سجاح‬
‫ت الصلة‪ ،‬وإل‪ ،‬فكيف سيجمعون الناس من حولهم؟‬
‫النبوة خفف ْ‬
‫وما أشبه ُمدّعي المس بمدعي اليوم الذين يبيعون الدين بعَ َرضٍ من الدنيا‪ ،‬ف ُيفْتون الناس بتحليل‬
‫ما حرّم ال‪ ،‬مثل الختلط وغيره من القضايا حتى هان أمر الدين على الناس‪ .‬والدين وإنْ كان‬
‫فطريا في النفس النسانية إل أن النسان يميل إلى مَنْ يُخفّف عنه‪ ،‬وتعجب حين ترى بعض‬
‫المثقفين وحملة الشهادات يذهبون إلى الدجالين ويصدقونهم‪ ،‬وترى الواحد منهم يُكذّب نفسه أنه‬
‫على دين يريحه‪ ،‬ويفعل في ظله ما يريد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ما ُدمْتم مؤمنين بربوبية خلق وربوبية إمداد وإنعام‪ ،‬فعليكم أن تؤمنوا بما جاء من ربكم‪ ،‬كما‬
‫نقول في المثل‪( :‬اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي)‪ ،‬ومع ذلك ورغم فضل ال ونعمه عليهم ُقلْ لهم‪:‬‬
‫ل جب َر في اليمان { َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪[ { .‬الكهف‪ ]29 :‬لن منفعة اليمان عائدة عليكم أنتم‪.‬‬
‫وقد جاء في الحديث القدسي‪ " :‬إنكم لن تملكوا نفعي فتنفعوني‪ ،‬ولن تملكوا ضُرّي فتضروني‪ ،‬ولو‬
‫أن أوّلكم وآخركم‪ ،‬وحيكم وميتكم‪ ،‬وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أ ْتقَى قلب رجل واحد منكم ما‬
‫زاد ذلك في مُلْكي شيئا‪ ،‬ولو أن أولكم وآخركم‪ ،‬وحيكم وميتكم‪ ،‬وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على‬
‫أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا "‪.‬‬
‫" ولو أن أولكم وآخركم اجتمعوا في صعيد واحد‪ ،‬وسألني ُكلّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك‬
‫مما عندي إل ك ِمغْرز إبرة إذا غمسها أحدكم في بحر‪ ،‬وذلك أَنّي جواد واجد ماجد‪ ،‬عطائي كلم‬
‫ن أقولَ له كُنْ فيكون "‪.‬‬
‫وعذابي كلم‪ ،‬إنما أمري لشيء إذا أردتُه أ ْ‬
‫ل صَالِحا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَآءَ َفعَلَ ْيهَا‪..‬‬
‫ع ِم َ‬
‫إذن‪ :‬فائدة اليمان تعود على المؤمن‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬مّنْ َ‬
‫}[فصلت‪ ]46 :‬لكني أحب لخَلْقي أن يكونوا دائما على خير مني‪ ،‬فأنا أعطيهم خير الدنيا‪ ،‬وأحب‬
‫أيضا أن أعطيهم خير الخرة‪.‬‬
‫شيّ يُرِيدُونَ‬
‫سكَ مَعَ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّبهُم بِا ْلغَدَاةِ وَا ْلعَ ِ‬
‫جاءت هذه الية بعد قوله تعالى‪ {:‬وَاصْبِرْ َنفْ َ‬
‫جهَهُ‪[} ..‬الكهف‪]28 :‬‬
‫وَ ْ‬
‫وكان خصوم السلم حينما يَ َروْنَ الدعوة تنتشر شيئا فشيئا يحاولون إيقافها‪ ،‬ل من جهتهم‬
‫ن يؤمن‪ ،‬ولكن من جهته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأرسلوا إليه َوفْدا‪ ،‬قالوا‪ :‬يا محمد‬
‫بالعدوان على مَ ْ‬
‫إنّا بعثنا إليك ل ُنعْذرَ فيك‪ ،‬لقد أدخلتَ على قومك ما لم يُدخِلْه أحد قبلك‪ ،‬شتمتَ آلهتنا وسفّ ْهتَ‬
‫أحلمنا وسبَبْت ديننا‪ ،‬فإنْ كنت تريد مالً جمعنا لك المال حتى تصير أغنانا‪ ،‬وإنْ كنت تريد جاها‬
‫سوّدناكَ علينا‪ ،‬وجعلناك رئيسنا‪ ،‬وإنْ كنت تريد مُلْكا ملكْناك‪.‬‬
‫فقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬وال ما بي ما تقولون‪ ،‬ولكن ربي أرسلني بالحق إليكم‪ ،‬فإنْ أنتم‬
‫أطعتُم فبها‪ ،‬وإلّ فإنّ ال ناصري عليكم "‪.‬‬
‫وكانت هذه المحاولة بينهم وبينه صلى ال عليه وسلم لعل المر حين يكون سِرا يتساهل فيه‬
‫ن يقبلَ منا ونحن‬
‫رسول ال‪ ،‬فلما لم يجدوا ُبغْيتهم قالوا‪ :‬نتوسل إليك بمَنْ تحب‪ ،‬فربما خجل أ ْ‬
‫خصومه‪ ،‬فلنرسل إليه مَنْ يحبه‪ ،‬فذهبوا إلى عمه أبي طالب‪ ،‬فلما كلّمه عمه قال قولته المشهورة‪:‬‬
‫" وال‪ ،‬يا عَ ّم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أتركَ هذا المر ما تركته‪،‬‬
‫حتى يُظِهره ال‪ ،‬أو َأهْلِك دونه "‪.‬‬
‫فلما فشلت هذه المحاولة أيضا أ َت ْوهُ من ناحية ثالثة‪ ،‬فقالوا‪ :‬ننتهي إلى أمر هو وسط بيننا وبينك‪:‬‬
‫عكَ من هؤلء الفقراء‪ ،‬واصْرِف وجهك عنهم‪ ،‬ول تربط نفسك بهم‪ ،‬ووجّه وجهك إلينا‪ ،‬فأنزل‬
‫دَ ْ‬
‫سكَ‪[} ..‬الكهف‪]28 :‬‬
‫ال‪ {:‬وَاصْبِرْ َنفْ َ‬
‫ثم بيّن الحق سبحانه وتعالى أن السلم أو الدين الذي أًَنزله ال ل يأخذ أحكامه من القوم الذين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سلَ ليضع لهم موازين الحق‪ ،‬ويدعو قومه إليها‪ ،‬فكيف‬
‫أُنزِل عليهم؛ لن رسول ال إنما أُر ِ‬
‫يضعون هم هذه الموازين‪ ،‬فيأمرون رسول ال بأنْ يصرف وجهه عن الفقراء ويتوجّه إليهم؟‬
‫لذلك قال‪َ } :‬وقُلِ ا ْلحَقّ مِن رّ ّب ُكمْ‪.‬‬

‫‪[ { .‬الكهف‪ ]29 :‬لنه بعثني بالحق رسولً إليكم‪ ،‬وما جئت إل لهدايتكم‪ ،‬فإنْ كنتم تريدون‬
‫توجيهي حسْب أهوائكم فقد انقلبتْ المسألة‪ ،‬ودعوتكم لي أن أنصرف عن هؤلء الذين يدعُون‬
‫ربهم بالغداة والعشيّ وأتوجه إليكم‪ ،‬فهذا دليل على عدم صِدْق إيمانكم‪ ،‬وأنكم لستم جادّين في‬
‫اتباعي؛ لذلك فل حاجة بي إليكم‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪َ } :‬فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ‪[ { ..‬الكهف‪ ]29 :‬أي‪ :‬ادخلوا على هذا‬
‫حقّ ينزل من ال‪ ،‬ل أن آخذ الحق منكم‪ ،‬ثم أردّه إليكم‪ ،‬بل الحق الذي أرسلني‬
‫الساس‪ :‬أن كل َ‬
‫ال به إليكم‪ ،‬وعلى هذا مَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر‪.‬‬
‫والمر في هذه الية سبق أنْ أوضحناه فقلنا‪ :‬إذا وجدنا أمرا بغير مطلوب فلنفهم أن المر استُعمِل‬
‫في غير موضعه‪ ،‬كما يقول الوالد لولده المهمل‪ :‬العب كما تريد‪ ،‬فهو ل يقصد أمر ولده باللعب‬
‫بالطبع‪ ،‬بل يريد تهديده وتأنيبه‪.‬‬
‫وهكذا في‪َ } :‬فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ‪[ { ..‬الكهف‪ ]29 :‬وإل لو أخذتَ الية على‬
‫إطلقها لَكانَ مَنْ آمن مطيعا للمر‪َ } :‬فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن‪[ { ..‬الكهف‪ ]29 :‬والعاصي أيضا مطيع‬
‫للمر‪َ } :‬ومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ‪[ { ..‬الكهف‪ ]29 :‬فكلهما ـ إذن ـ مطيع‪ ،‬فكيف تُعذّب واحدا دون‬
‫الخر؟‬
‫فالمر هنا ليس على حقيقته‪ ،‬وإنما هو للتسوية والتهديد‪ ،‬أي‪ :‬سواء عليكم آمنتم أم لم تؤمنوا‪ ،‬فأنتم‬
‫أحرار في هذه المسألة؛ لن اليمان حصيلته عائدة إليكم‪ ،‬فال سبحانه غنيّ عنكم وعن إيمانكم‪،‬‬
‫وكذلك خَلْق ال الذين آمنوا بمحمد هم أيضا أغنياء عنكم‪ ،‬فاستغناء ال عنكم مَسْحوب على‬
‫استغناء الرسول‪ ،‬وسوف ينتصر محمد وينتشر دين ال دونكم‪.‬‬
‫وقد أراد الحق سبحانه أن يصيح رسول ال صلى ال عليه وسلم بالدعوة في مكة ويجهر بها في‬
‫أُذن صناديد الكفر وعُتَاة الجزيرة العربية الذين ل يخرج أحد عن رأيهم وأمرهم؛ لن لهم مكانةً‬
‫وسيادة بين قبائل العرب‪.‬‬
‫ولحكمة أرادها الحق سبحانه لم ي ْأتِ نصر السلم على يد هؤلء‪ ،‬ولو جاء النصر على أيديهم‬
‫لقيل‪ :‬إنهم أَِلفُوا النصر وألفوا السيادة على العرب‪ ،‬وقد تعصّبوا لواحد منهم ليسُودوا به الدنيا كلها‪،‬‬
‫فالعصبية لمحمد لم تخلق اليمان بمحمد‪ ،‬ولكن اليمان بمحمد خلق العصبية لمحمد‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارا َأحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا‪[ { ..‬الكهف‪]29 :‬‬
‫والعذاب هنا لمن اختار الكفر‪ ،‬لكن لماذا تُهوّل الية وتُفخّم أمر العذاب؟ لن العلم بالعقاب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتهويله وتفظيعه النذار به ل ليقع الناس في موجبات العقاب‪ ،‬بل لينتهوا عن الجريمة‪ ،‬وينأوْا‬
‫خوْف العذاب سيمنعهم من‬
‫عن أسبابها‪ ،‬إذن‪ :‬فتفظيع العقاب وتهويله رحمة من ال بالعباد؛ لن َ‬
‫الجريمة‪.‬‬

‫ومعنى } أَعْ َتدْنَا { أي‪ :‬أعددنا‪ ،‬فالمسألة منتهية مُسْبقا‪ ،‬فالجنة والنار مخلوقة فعلً ومُعدّة ومُجهّزة‪،‬‬
‫ل أنها س ُتعَ ّد في المستقبل‪ ،‬وقد أُعِ ّدتْ إعداد قادر حكيم‪ ،‬فأعدّ ال الجنة لتتسع لكل الخَلْق إنْ آمنوا‪،‬‬
‫وأعدّ النار لتتسع لكل الخلق إنْ كفروا‪ ،‬فإنْ آمن بعض الخلق وكفر البعض‪ ،‬فالذي آمن َوفّر مكانه‬
‫في النار‪ ،‬والذي كفر وفّر مكانه في الجنة‪.‬‬
‫لذلك قال تعالى في هذه المسألة‪ {:‬وَتِ ْلكَ ا ْلجَنّةُ الّتِي أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ }[الزخرف‪]72 :‬‬
‫إذن‪ :‬فخَلْق ال تعالى للجنة وللنار أمر منضبط تماما‪ ،‬ولن يحدث فيهما أزمة أو زحام أبدا‪ ،‬بل‬
‫لكلّ مكانه المعدّ المخصّص‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬لِلظّاِلمِينَ‪[ { ..‬الكهف‪ ]29 :‬والظلم أن تأخذ حقا وتعطيه للغير‪ ،‬وللظلم أشكال‬
‫حقّ ال في العبادة وتعطيه لغيره‪ ،‬وهذا قمة‬
‫كثيرة‪ ،‬أفظعها وأعظمها الشراك بال‪ ،‬لنك تأخذ َ‬
‫الظلم‪ ،‬ثم يأتي الظلم فيما دون ذلك‪ ،‬فيأخذ كل ظالم من العذاب على َقدْر ظُلْمه‪ ،‬إل أن يكون‬
‫مشركا‪ .‬فهذا عذابه دائم ومستمر ل ينقطع ول يفتُر عنه‪ ،‬فإنْ ظلم المؤمن ظلما دون الشرك فإنه‬
‫يُعذّب به‪ ،‬ثم يُدخِله ال الجنة‪ ،‬إنْ لم ي ُتبْ‪ ،‬وإنْ لم يغفر ال له‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬أَحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا‪[ { ..‬الكهف‪ ]29 :‬السرادق‪ ،‬كما نقول الن‪ :‬أقاموا السرادق‬
‫أي‪ :‬الخيمة‪ .‬و معنى سرادق‪ :‬أي محيط بهم‪ ،‬فكأن ال تعالى ضرب سرادقا على النار يحيط بهم‬
‫ويحجزهم‪ ،‬بحيث ل تمتد أعينهم إلى مكان خالٍ من النار؛ لن رؤيته لمكان خَالٍ من النار قد‬
‫تُوحي إليه بالمل في الخروج‪ ،‬فالحق سبحانه يريد أنْ يؤيسَهم من الخروج‪.‬‬
‫ب وَسَآ َءتْ مُرْ َتفَقا‬
‫شوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَا ُ‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُمهْلِ يَ ْ‬
‫{ [الكهف‪]29 :‬‬
‫الستغاثة‪ :‬صَرْخة ألم من متألم لمن يدفع عنه ذلك اللم‪ ،‬كما قال في آية أخرى‪ {:‬مّآ أَنَاْ‬
‫خيّ‪[} ..‬إبراهيم‪ ]22 :‬أي‪ :‬حين يصرخون من العذاب ل أستطيع أنْ‬
‫خكُ ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫ِب ُمصْرِ ِ‬
‫أزيل صراخكم‪ ،‬وأنتم كذلك ل تزيلون صراخي‪.‬‬
‫فأهل النار حين يستغيثون من ألم العذاب } ُيغَاثُواْ { يتبادر إلى الذّهْن أنهم ُيغَاثُون بشيء من رحمة‬
‫ال‪ ،‬فتأتيهم نفحة من الرحمة أو يُخفّف عنهم العذاب‪ ..‬ل } ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ‪[ { ..‬الكهف‪]29 :‬‬
‫أي‪ :‬فإنْ طلبوا ال َغوْث بماء بارد يخفف عنهم ألم النار‪ ،‬فإذا بهم بماء كالمهل‪.‬‬
‫عكَارة الزيت المغلي الذي يسمونه الدّ ْر ِديّ‪ ،‬أو هو المذاب من المعادن كالرصاص‬
‫والمهْل هو ُ‬
‫ونحوه‪ ،‬وهذا يحتاج إلى حرارة أعلى من غَلْي الماء‪ ،‬وهكذا يزدادون حرارة فوق حرارة النار‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويُعذّبون من حيث ينتظرون الرحمة‪.‬‬
‫وقوله تعالى هنا‪ُ } :‬يغَاثُواْ { أسلوب تهكميّ؛ لن القاعدة في الساليب اللغوية أنْ تخاطب‬
‫المخاطب على مقتضى حاله‪ ،‬فتهنئه حال فرحه‪ ،‬وتعزيه حال حزنه بكلم موافق لمقتضى الحال‪،‬‬
‫ت التهكّ َم أو‬
‫ت المقتضى عن الحال الذي يطلبه‪ ،‬فهذا ينافي البلغة إل إنْ أرد َ‬
‫فإنْ أخرج َ‬
‫الستهزاء‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فقوله تعالى‪ } :‬وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ‪[ { ..‬الكهف‪ ]29 :‬تهكّم بهم‪ ،‬لن الكلم فيه‬
‫خرج عن مقتضى الحال‪ ،‬كما يقول الوالد لولده الذي أخفق في المتحان‪ :‬مبارك عليك السقوط‪.‬‬
‫شوِي الْوجُوهَ‪[ { ..‬الكهف‪ ]29 :‬أن الماء من شدة حرارته يشوي وجوههم‪ ،‬قبل أن‬
‫ومعنى‪َ } :‬ي ْ‬
‫يدخل أجوافهم‪ } :‬بِئْسَ الشّرَابُ‪[ { ..‬الكهف‪]29 :‬أي‪ :‬الذي يغاثون به } وَسَآ َءتْ مُرْ َتفَقا { [الكهف‪:‬‬
‫‪ ]29‬المرتفق هو الشيء الذي يضع النسان عليه مِرْفقه ليجلس مُستريحا‪ ،‬لكن بال هل هناك‬
‫راحة في جهنم؟‬
‫إذن‪ :‬فهذه أيضا من التهكّم بهم وتبكيتهم‪ ،‬كما قال تعالى مخاطبا جبابرة الدنيا وأعزّتها وأصحاب‬
‫صوْا ال‪ } :‬ذُقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ { [الدخان‪]49 :‬‬
‫ع َ‬
‫العظمة فيها ِممّنْ َ‬
‫والحق سبحانه وتعالى يتكلم في هذه المسألة بأساليب متعددة منها استخدام كلمة (النّزُل) وهو ما‬
‫عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ كَا َنتْ َلهُمْ جَنّاتُ‬
‫يُعد لكرام الضيف‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ‬
‫ا ْلفِرْ َدوْسِ نُ ُزلً }[الكهف‪]107 :‬‬
‫علَ ْيهِمُ ا ْلمَلَ ِئكَةُ َألّ َتخَافُواْ َولَ تَحْزَنُواْ‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُواْ تَتَنَ ّزلُ َ‬
‫وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * َنحْنُ َأوْلِيَآ ُؤكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َرةِ وََلكُمْ فِيهَا مَا‬
‫غفُورٍ رّحِيمٍ }[فصلت‪ ]32-30 :‬فالذي أَعَدّ هذا‬
‫سكُ ْم وََلكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ * نُ ُزلً مّنْ َ‬
‫تَشْ َتهِي أَنفُ ُ‬
‫النّزُل وهذه الضيافة هو الغفور الرحيم‪ ،‬والذي ُيعِد نُ ُزلً لضيفه ُي ِعدّه على َقدْر غِنَاه وبَسْطة كرمه‪،‬‬
‫فما بالك بنُزل أعدّه ال لحبابه وأوليائه؟‬
‫غفُورٍ رّحِيمٍ }[فصلت‪ ]32 :‬لنه ما من مؤمن إل وقد عمل سيئة‪ ،‬أو همّ بها‪،‬‬
‫وذيّل الية بقوله‪َ {:‬‬
‫وكأن الحق سبحانه يقول‪ :‬إياك أنْ تذكرَ ما كان منك وأنت في هذا النّزُل الكريم‪ ،‬فال غفور‬
‫لسيئتك‪ ،‬رحيم بك‪ ،‬يقبل توبتك‪ ،‬ويمحو أثر سيئتك‪.‬‬
‫والحديث عن النّزل هنا في الجنة‪ ،‬فهي محلّ الكرام والضيافة‪ ،‬فإن استخدم في النار فهو للتهكّم‬
‫حمِيمٍ }‬
‫والسخرية من أهلها‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُ ُزلٌ مّنْ َ‬
‫[الواقعة‪]93-92 :‬‬
‫فقد استخدم النزل في غير مقتضاه‪.‬‬
‫بعد أن جاء المر اللهي في قوله تعالى‪َ } :‬فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ‪[ { ..‬الكهف‪]29 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أراد سبحانه أنْ يُبيّن حكم ُكلّ من الختيارين‪ :‬اليمان‪ ،‬والكفر على طريقة الّلفّ والنشر‪ ،‬وهو‬
‫حسْب ترتيبها الول‪ ،‬أو‬
‫أسلوب معروف في العربية‪ ،‬وهو أن تذكر عدة أشياء‪ ،‬ثم تُورِد أحكامها َ‬
‫تذكرها مُشوّشة دون ترتيب‪.‬‬
‫ج َعلَ َلكُمُ‬
‫حمَ ِتهِ َ‬
‫ومن النوع الول الذي يأتي فيه الّلفّ والنشْر على الترتيب قوله تعالى‪َ {:‬ومِن رّ ْ‬
‫سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ‪[} ..‬القصص‪]73 :‬‬
‫ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ‬
‫الّي َ‬
‫أي‪ :‬لتسكنوا في الليل‪ ،‬وتبتغوا من فضل ال في النهار‪.‬‬

‫فالترتيب إذا كان الحكم الول للمحكوم عليه الول‪ ،‬والحكم الثاني للمحكوم عليه الثاني وهكذا‪،‬‬
‫جفْنِي وَاللسان وخالقي هذه أربع مُخْبر عنها‪ ،‬فما قصتها وبماذا‬
‫ومن ذلك قول الشاعر‪:‬قَلْبِي َو َ‬
‫غفُورُفتكون على الترتيب‪:‬‬
‫ض وباكٍ شَاكِرٌ و َ‬
‫جفْنِي وَاللسَانُ وخاِلقِي رَا ٍ‬
‫أخبرنا عنها؟ يقول‪:‬قَلْبِي وَ َ‬
‫قلبي راضٍ‪ ،‬وجفني باكٍ‪ ،‬ولساني شاكر‪ ،‬وخالقي غفور‪.‬‬
‫ومرة يأتي اللف والنشر على التشويش ودون ترتيب ثقةً بأن نباهةَ السامع ستردّ كل شيء إلى‬
‫أصله كما في الية التي نحن بصددها‪ ،‬فتلحظ أن الحق سبحانه بعد أن قال‪َ } :‬فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن‬
‫َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ‪[ { ..‬الكهف‪ ]29 :‬فبدأ باختيار اليمان ثم ذكر الكفر‪ ،‬أما في الحكم على كل‬
‫منهما فقد ذكر حكم الكفر أولً‪ } :‬إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارا‪[ { ..‬الكهف‪ ]29 :‬ثم ذكر بعده حكم‬
‫عمَلً }[الكهف‪]30 :‬‬
‫حسَنَ َ‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لَ ُنضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَ ْ‬
‫المؤمنين‪ {:‬إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫وليكُنْ في العتبار أن المتكلم َربّ حكيم‪ ،‬ما من حرف من كلمه إل وله مغزى‪ ،‬ووراءه حكمة‪،‬‬
‫ذلك أنه تعالى لما تكلّم عن اليمان جعله اختيارا خاضعا لمشيئة العبد‪ ،‬لكنه تعالى رجّح أن يكونَ‬
‫اليمانُ أولً وأنْ يسبق الكفر‪ .‬أما حينما يتكلم عن حكم كل منهما‪ ،‬فقد بدأ بحكم الكفر من باب أنْ‬
‫" دَرْءَ المفسدة مُقدّم على جَلْب المنفعة "‪.‬‬
‫عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ الّذِينَ ءَامَنُواْ وَ َ‬

‫(‪)2153 /‬‬

‫عمَلًا (‪)30‬‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ إِنّا لَا ُنضِيعُ َأجْرَ مَنْ َأحْسَنَ َ‬
‫إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬

‫وهنا نلحظ أن الحق سبحانه عطف على اليمان العملَ الصالح؛ لن اليمان هو العقيدة التي ينبع‬
‫عن أصلها السلوك‪ ،‬فل جدوى من اليمان بل عمل بمقتضى هذا اليمان‪ ،‬وفائدة اليمان أنْ تُوثّق‬
‫المر أو النهي إلى ال الذي آمنتَ به؛ لذلك جاء الجمع بين اليمان والعمل الصالح في مواضع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمِلُواْ‬
‫ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ ءَامَنُواْ وَ َ‬
‫عدّة من كتاب ال‪ ،‬منها قوله تعالى‪ {:‬وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ‬
‫صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر‪]3-1 :‬‬
‫ق وَ َتوَا َ‬
‫ت وَ َتوَاصَوْاْ بِا ْلحَ ّ‬
‫الصّالِحَا ِ‬
‫ذلك لن المؤمنين إذا ما أثمر فيهم اليمانُ العملَ الصالح فإنهم سيتعرضون ول بُدّ لكثير من‬
‫المتاعب والمشاق التي تحتاج إلى التواصي بالصبر والتواصي بالحق‪ ،‬ولنا أسوة في هذه المسألة‬
‫بصحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم الذين تحمّلوا عِبء الدعوة وصبروا على الذى في سبيل‬
‫إيمانهم بال تعالى‪.‬‬
‫عمَلً } [الكهف‪]30 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬إِنّا لَ ُنضِيعُ أَجْرَ مَنْ َأحْسَنَ َ‬
‫نلحظ أن { مَنْ } هنا عامة للمؤمن والكافر؛ لذلك لم َيقُل سبحانه‪ :‬إنّا ل نضيع أجر مَنْ أحسن‬
‫حقّه‪ ،‬بل‬
‫اليمان؛ لن العامل الذي يُحسِن العمل قد يكون كافرا‪ ،‬ومع ذلك ل يبخسه ال تعالى َ‬
‫يعطيه حظه من الجزاء في الدنيا‪.‬‬
‫فالكافر إن اجتهد واحسن في علم أو زراعة أو تجارة ل يُحرم ثمرة عمله واجتهاده‪ ،‬لكنها تُعجّل‬
‫حظّ له في الخرة‪.‬‬
‫له في الدنيا وتنتهي المسألة حيث ل َ‬
‫جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان‪]23 :‬‬
‫ع َملٍ فَ َ‬
‫عمِلُواْ مِنْ َ‬
‫ويقول تبارك وتعالى‪َ {:‬وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا َ‬
‫جهَنّمَ َيصْلهَا‬
‫جعَلْنَا لَهُ َ‬
‫عجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا َنشَآءُ ِلمَن نّرِيدُ ثُمّ َ‬
‫جلَةَ َ‬
‫ويقول تعالى‪ {:‬مّن كَانَ يُرِيدُ ا ْلعَا ِ‬
‫مَ ْذمُوما مّدْحُورا }[السراء‪]18 :‬‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ يَجِ ْدهُ‬
‫عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ‬
‫ويقول تعالى‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }[النور‪]39 :‬‬
‫فهؤلء قد استوفوا أجورهم‪ ،‬وأخذوا حظّهم في الدنيا ألوانا من النعيم والمدح والثناء‪ ،‬وخُلّدتْ‬
‫ذكراهم‪ ،‬وأقيمت لهم التماثيل والحتفالت؛ لذلك يأتي في الخرة فل يجد إل الحسرة والندامة‬
‫حيث فُوجئ بوجود إله لم يكُنْ يؤمن به‪ ،‬والنسان إنما يطلب أجره ِممّن عمل من أجله‪ ،‬وهؤلء‬
‫ما عملوا ل بل للنسانية وللمجتمع وللشهرة وقد نالوا هذا كله في الدنيا‪ ،‬ولم يَبْقَ لهم شيء في‬
‫الخرة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬أوْلَـائِكَ َلهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ‪.} ...‬‬

‫(‪)2154 /‬‬

‫عدْنٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهِمُ الْأَ ْنهَارُ يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَ َهبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا‬
‫أُولَ ِئكَ َلهُمْ جَنّاتُ َ‬
‫حسُ َنتْ مُرْ َت َفقًا (‪)31‬‬
‫ب وَ َ‬
‫س وَإِسْتَبْ َرقٍ مُ ّتكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَا ِئكِ ِنعْمَ ال ّثوَا ُ‬
‫خضْرًا مِنْ سُنْدُ ٍ‬
‫ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ ُأوْلَـا ِئكَ } أي‪ :‬الذين آمنوا وعملوا الصالحات { َلهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ‪[ } ..‬الكهف‪]31 :‬الجنات رأينا‬
‫منها صورة في الدنيا‪ ،‬وتُطلق إطلقا شرعيا وإطلقا لغويا‪ .‬أما الشرعي‪ :‬فهو الذي نعرفه من أنها‬
‫الدار التي أعدّها ال تعالى لثواب المؤمنين في الخرة‪ .‬أما المعنى اللغوي‪ :‬فهي المكان الذي فيه‬
‫زرع وثمار وأشجار تُوارِي مَنْ سار فيها وتستره؛ ومادة الجيم والنون تدور كلها حول الستتار‬
‫والختفاء فالجنون استتار العقل والجن مخلوقات ل ترى والجُنّة بالضم الدرع يستر الجسم عن‬
‫المهاجم‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن الحق سبحانه حينما يُحدّثنا عن شيء غيبيّ يُحدّثنا بما يوجد في لغتنا من ألفاظ‪ ،‬واللغة‬
‫التي نتكلم بها‪ ،‬يُوجَد المعنى أولً ثم يوجد اللفظ الدالّ عليه‪ ،‬فإذا عرفنا أن هذا اللفظ موضوع لهذا‬
‫المعنى‪ ،‬فإنْ ُنطِق اللفظ نفهم معناه‪ .‬فإذا كانت الشياء التي يُحدّثنا ال عنها غيبا كما قال عنها‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬فيها ما ل عين رأتْ‪ ،‬ول أذن سمعتْ‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‬
‫"‬
‫إذن‪ :‬فمن أين نأتي باللفاظ الدّالة على هذه المعاني ونحن لم نعرفها؟ لذلك يُعبّر عنها الحق‬
‫سبحانه بالشبيه لها في لغتنا‪ ،‬لكن يعطيها الوصف الذي يُميّزها عن جنة الدنيا‪ ،‬كما جاء في قوله‬
‫عدَ ا ْلمُ ّتقُونَ فِيهَآ أَ ْنهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ‪[} ..‬محمد‪]15 :‬‬
‫تعالى‪ {:‬مّ َثلُ الْجَنّةِ الّتِي وُ ِ‬
‫ونحن نعرف النهر‪ ،‬ونعرف الماء‪ ،‬لكن يأتي قوله‪ { :‬غَيْرِ آسِنٍ } ليميز ماء الخرة عن ماء‬
‫خمْرٍ لّ ّذةٍ لّلشّارِبِينَ }[محمد‪]15 :‬‬
‫الدنيا‪ ،‬وكذلك في‪ {:‬وَأَ ْنهَارٌ مّنْ َ‬
‫فالخمر في الدنيا معروفة؛ لكنها ليست لذة لشاربها‪ ،‬فشاربها يبتلعها بسرعة؛ لنه ل يستسيغ لها‬
‫ل كوبا من العصير رشفة رشفة لتلتذ بطعمه وتتمتع به‪ ،‬كما أن‬
‫طعما أو رائحة‪ ،‬كما تشرب مث ً‬
‫خمر الدنيا تغتال العقول على خلف خمر الخرة؛ لذلك لما أعطاها اسم الخمر لنعرفها ميّزها‬
‫خمْر الدنيا ليست كذلك؛ لن لغتنا ل يوجد بها الشياء التي سيخلقها ال لنا في الجنة‪،‬‬
‫بأنها لذة‪ ،‬و َ‬
‫فبها ما ل عَيْن رأت‪ ،‬ول أذن سمعتْ‪ ،‬والعين إدراكاتها أقلّ من إدراكات الذن؛ لن العين تعطيك‬
‫المشهد الذي رأيته فحسب‪ ،‬أما الذن فتعطيك المشهد الذي رأيته والذي رآه غيرك‪ ،‬ثم يقول‪" :‬‬
‫ول خطر على قلب بشر " فوسّع دائرة ما في الجنة‪ ،‬مما ل نستطيع إدراكه‪.‬‬
‫صفّى‪[} ..‬محمد‪]15 :‬‬
‫سلٍ ّم َ‬
‫عَ‬‫وكذلك في قوله تعالى‪ {:‬وَأَ ْنهَارٌ مّنْ َ‬
‫ونحن نعرف العسل فميّزه هنا بأنه مُصفّى‪ ،‬ومعروف أن العسل قديما كانوا يأخذونه من الجبال‪،‬‬
‫وكان يعَلقُ به الحصى والرمل؛ لذلك مُيّز عسل الجنة بأنه مُصفّى‪.‬‬
‫خضُودٍ }[الواقعة‪ ]28 :‬ونعرف سدر الدنيا‪ ،‬وهو نوع من الشجر‬
‫وكذلك في قوله سبحانه‪ {:‬سِدْرٍ مّ ْ‬
‫له شوك‪ ،‬وليس كذلك سِدْر الجنة؛ لنه سدر مخضود ل شوك فيه‪ ،‬ول ُي ْدمِي يديك كسِدْر الدنيا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عدْنٍ‪[ { ..‬الكهف‪ ]31 :‬أي‪ :‬إقامة‬
‫وهنا ميّز ال الجنة في الخرة عن جنات الدنيا‪ ،‬فقال‪ } :‬جَنّاتُ َ‬
‫دائمة ل تنتهي ول تزول‪ ،‬وليست كذلك جنات الدنيا‪ ،‬ف َهبْ أن واحدا يتمتع في الدنيا بالدّور‬
‫والقصور في الحدائق والبساتين التي هي جنة الدنيا‪ ،‬فهل تدوم له؟ إن جنات الدنيا مهما عَظُم‬
‫نعيمها‪ ،‬إما أنْ تفوتك‪ ،‬وإما أنْ تفوتها‪.‬‬
‫والعَدْن اسم للجَنّة‪ ،‬فهناك فَرْق بين المسكن والمسكن في الجنة‪ ،‬كما ترى حدائق عامة وحدائق‬
‫خاصة‪ ،‬فالمؤمن في الجنة له مسكن خاص في جنة عدن‪.‬‬
‫ويقول تعالى عن أنهار الجنة‪ {:‬تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ‪[} ..‬محمد‪]12 :‬‬
‫وفي آية أخرى يقول‪ {:‬تَجْرِي َتحْ َتهَا الَ ْنهَارُ‪[} ..‬التوبة‪ ]100 :‬ليعطينا صورتين لجريان الماء‪،‬‬
‫ففي قوله‪َ {:‬تجْرِي تَحْ َتهَا الَ ْنهَارُ‪[} ..‬التوبة‪ ]100 :‬يدلّ على أن الماء يأتيها من بعيد‪ ،‬وقد تخشى‬
‫أن يمنعه أحد عنك أنْ يَسُدّه دونك؛ لذلك يقول لك‪ :‬اطمئن فالماء يجري } مِن تَحْ ِتهَا { أي‪ :‬من‬
‫الجنة نفسها ل يمنعه أحد عنك‪.‬‬
‫وفي هذه الية كأنّ الحق سبحانه وتعالى يعطينا إشارة لطيفة إلى أننا نستطيع أن نجعل لنا مساكن‬
‫على صفحة الماء‪ ،‬وأن نستغل المسطحات المائية في إقامة المباني عليها‪ ،‬خُذْ مثلً المسطحات‬
‫المائية للنيل‪ ،‬أو الريّاح التوفيقي من القناطر الخيرية حتى دمياط لَوج ْدتَ مساحات كبيرة واسعة‬
‫سكْنى أهل هذه‬
‫يمكن بإقامة العمدة في الماء‪ ،‬واستخدام هندسة البناء أنْ نقيم المساكن الكافية ل ّ‬
‫خضْرة وللزرع ولِقُوتِ الناس‪.‬‬
‫البلد‪ ،‬وتظل الرض الزراعية كما هي لل ُ‬
‫ويمكن أن تُطبّق هذه الطريقة أيضا في الريف‪ ،‬فيقيم الفلحون بيوتهم وحظائر مواشيهم بنفس‬
‫الطريقة على الترع والمصارف المنتشرة في بلدنا‪ ،‬ول نمس الرقعة الزراعية‪.‬‬
‫لقد هجمتْ الحركة العمرانية على الجيزة والدقي والمهندسين‪ ،‬وكانت في يوم من اليام أراضي‬
‫تغل كل الزراعات‪ ،‬وتخدم تموين القاهرة‪ .‬ولما استقدموا الخبراء الجانب لتوسيع القاهرة توجهوا‬
‫إلى الصحراء وأنشأوا مصر الجديدة‪ ،‬ولم يعتد أحد منهم على شبر واحد من الرض الزراعية‪،‬‬
‫بل جعلوا في تخطيطهم رقعة خضراء لكل منزل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬في الية لفتة يمكن أنْ تحلّ لنا أزمة السكان‪ ،‬وتحمي لنا الرقعة الزراعية الضيقة‪ .‬ثم يقول‬
‫تعالى‪ } :‬يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ َأسَاوِرَ مِن ذَ َهبٍ‪[ { ..‬الكهف‪ ]31 :‬وقد يقول قائل‪ :‬وما هذه الساور من‬
‫الذهب التي يتحلّى بها الرجال؟ هذه من الزخرف والزينة‪ ،‬نراه الن في طموحات النسان في‬
‫زُخْرفية الحياة‪ ،‬فنرى الشباب يلبسون ما يُسمّى (بالنسيال) وكذلك أساور الذهب في الخرة زينة‬
‫حلّواْ أَسَاوِرَ مِن ِفضّةٍ‪[} ..‬النسان‪]21 :‬‬
‫وزخرف‪ ،‬وفي آية أخرى‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬وَ ُ‬
‫سهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }[فاطر‪]33 :‬‬
‫ب وَُلؤْلُؤا وَلِبَا ُ‬
‫ومرة أخرى يقول‪ُ {:‬يحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَ َه ٍ‬
‫فالساور إما من ذهب أو فضة أو لؤلؤ؛ لذلك قال صلى ال عليه وسلم عن هذه الحلية في الخرة‬
‫أنها تبلغ ما بلغه الوضوء عند المؤمن‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونلحظ في قوله تعالى‪ُ {:‬يحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن َذ َهبٍ‪[} ..‬الكهف‪ ]31 :‬أن التحلية هنا للزينة‪،‬‬
‫وليست من الضروريات‪ ،‬فجاء الفعل } يُحَّلوْنَ { أي‪ :‬حلّهم غيرهم ولم يقل يتحلون؛ لذلك لما‬
‫س وَِإسْتَبْرَقٍ {‬
‫خضْرا مّن سُنْدُ ٍ‬
‫تكلم بعدها عن الملبس‪ ،‬وهو من الضروريات قال‪ } :‬وَيَلْبَسُونَ ثِيَابا ُ‬
‫[الكهف‪]31 :‬‬
‫فأتى بالفعل مبنيا للمعلوم؛ لن الفعل حدث منهم أنفسهم بالعمل‪ ،‬أما الولى فكانت بالفضل من ال‪،‬‬
‫حمَتِهِ فَ ِبذَِلكَ‬
‫وقد قُدم الفضل على العمل‪ ،‬كما قال تعالى في آية أخرى‪ُ {:‬قلْ ِب َفضْلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ‬
‫فَلْ َيفْرَحُواْ‪[} ..‬يونس‪]58 :‬‬
‫أي‪ :‬إياك أن تقول هذا بعملي‪ ،‬بل بفضل ال وبرحمته؛ لذلك نرى الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫يقر بهذه الحقيقة‪ ،‬فيقول‪ " :‬لن يدخل أحدكم الجنة بعمله‪ ،‬قالوا‪ :‬ول أنت يا رسول ال؟ قال‪ :‬ول أنا‬
‫إل أن يتغمدني ال برحمته " ذلك لنك لو نظرتَ إلى عملك لوجدتَه بعد تكليفك الذي كلفت به في‬
‫سِنّ البلوغ‪ ،‬وقد عِشْت طوال هذه المدة ترتع في ِنعَم ال ورزقه دون أنْ يُكلّفك بشيء؛ لذلك مهما‬
‫قَ ّد ْمتَ ل تعالى من طاعات‪ ،‬فلن تفَِي بما أنعم به عليك‪.‬‬
‫وما تفعله من طاعات إنما هو وفاء لحق ال‪ ،‬فإذا أدخلناك الجنة كان فضلً من ال عليك‪ ،‬لنك‬
‫أخذتَ حقك سابقا ومُقدّما في الدنيا‪ ،‬لكنه قسم هنا فقال‪ } :‬يَلْبَسُونَ‪[ { ..‬الكهف‪ ]31 :‬أي‪ :‬بما‬
‫عملوا‪ ،‬أما في الزينة والتحلية فقال‪ } :‬يُحَّلوْنَ { كالرجل الذي يُجهّز ابنته للزواج‪ ،‬فيأتي لها‬
‫سجّاد أو‬
‫بضروريات الحياة‪ ،‬ثم يزيدها على ذلك من الكماليات وزُخْرف الحياة من نجف أو َ‬
‫خلفه‪.‬‬
‫واللباس من ضروريات الحياة التي امتنّ ال بها على عباده‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬يَابَنِي ءَادَمَ‬
‫سوْءَا ِتكُ ْم وَرِيشا‪[} ..‬العراف‪ ]26 :‬والريش‪ :‬هو الكماليات التي‬
‫قَدْ أَنزَلْنَا عَلَ ْيكُمْ لِبَاسا ُيوَارِي َ‬
‫يتخذها الناس للفَخْفخة والمتعة‪ ،‬وهو ما زاد عن الضروريات‪ .‬والسّندس‪ :‬هو الحرير الرقيق‪،‬‬
‫والستبرق‪ :‬الحرير الغليظ السميك‪.‬‬
‫وقد وقف العلماء عند هذه الكلمة } إِسْتَبْ َرقٍ { وغيرها من الكلمات غير العربية مثل‪ :‬القسطاس‪،‬‬
‫وهي كلمات فارسية الصل‪ ،‬أو كلمة (آمين) التي نتخذها شعارا في الصلة وأصلها يمني أو‬
‫حبشي‪ .‬وقالوا‪ :‬كيف يستخدم القرآن مثل هذه اللفاظ‪ ،‬وهو قرآن عربي؟‬
‫نقول‪ :‬هل أدخل القرآن هذه اللفاظ في لغة العرب ساعةَ نزل‪ ،‬أم جاء القرآن وهي سائرة على‬
‫ألسنة الناس يتكلمون بها ويتفاهمون؟ لقد عرف العرب هذه الكلمات واستعملوها‪ ،‬وأصبحت ألفاظا‬
‫عربية دارتْ على اللسنة‪ ،‬وجرتْ مجرى الكلمة العربية‪.‬‬
‫ومن الكلمات التي دخلتْ العربية حديثا استخدمت ككلمة عربية (بنك)‪ ،‬وربما كانت أخفّ في‬
‫الستعمال من كلمة (مصرف)؛ لذلك أقرّها مَجْمع اللغة العربية وأدخلها العربية‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فهذا القول يمكن أن يُقبَل لو أن القرآن جاء بهذه اللفاظ مجيئا أوليا‪ ،‬وأدخلها في اللغة ولم‬
‫تكُن موجودة‪ ،‬لكن القرآن جاء ليخاطب العرب‪ ،‬وما داموا قد فهموا هذه اللفاظ وتخاطبوا بها‪ ،‬فقد‬
‫أصبحت جُزْءا من لغتهم‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬مّ ّتكِئِينَ فِيهَا عَلَى الَرَآ ِئكِ‪[ { ..‬الكهف‪ ]31 :‬التكاء‪ :‬أن يجلس النسان على‬
‫الجنب الذي يُريحه‪ ،‬والرائك‪ :‬هي السّرر التي لها حِلْية مثل الناموسية مثلً‪ِ } .‬ن ْعمَ ال ّثوَابُ‪..‬‬
‫حسُ َنتْ مُرْ َتفَقا { [الكهف‪ ]31 :‬أي‪ :‬أن هذا هو ُمقْتضى الحال‬
‫{ [الكهف‪ ]31 :‬كلم منطقيّ‪ } :‬وَ َ‬
‫فيها‪ ،‬على خلف ما أخبر به عن أهل النار‪ {:‬وَسَآ َءتْ مُرْ َتفَقا }[الكهف‪]29 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَاضْ ِربْ لهُمْ مّثَلً رّجُلَيْنِ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2155 /‬‬

‫جعَلْنَا بَيْ َن ُهمَا زَرْعًا (‬


‫خلٍ وَ َ‬
‫حفَفْنَا ُهمَا بِ َن ْ‬
‫ب وَ َ‬
‫جعَلْنَا لَِأحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَا ٍ‬
‫وَاضْرِبْ َلهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ َ‬
‫‪)32‬‬

‫وما زال الكلم موصولً بالقوم الذين أرادوا أن يصرفوا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الذين‬
‫يدعُونَ ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‪ ،‬وبذلك انقسم الناس إلى قسميْن‪ :‬قسم مُتكبّر حريص‬
‫على جاهه وسلطانه‪ ،‬وقسم ضعيف مستكين ل جاهَ له ول سلطان‪ ،‬لكن الحق سبحانه يريد‬
‫استطراق آياته استطراقا يشمل الجميع‪ ،‬ويُسوّي بينهم‪.‬‬
‫لذلك؛ أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا مثَلً موجودا في الحياة‪ ،‬ففي الناس الكافر الغني‬
‫ن تتأمل موقف كل منهما‪.‬‬
‫والمؤمن الفقير‪ ،‬وعليك أ ْ‬
‫قوله تعالى‪ { :‬وَاضْ ِربْ ل ُهمْ مّثَلً رّجُلَيْنِ‪[ } ..‬الكهف‪ ]32 :‬قلنا‪ :‬إن الضرب معناه أن تلمس شيئا‬
‫بشيء أقوى منه بقوة تؤلمه‪ ،‬ول بُدّ أن يكون الضارب أقوى من المضروب‪ ،‬إل فلو ضربتَ بيدك‬
‫حجَر ضر ْبتَ‬
‫شيئا أقوى منك فقد ضربتَ نفسك‪ ،‬ومن ذلك قول الشاعر‪:‬وَيَا ضَارِبا ِب َعصَاهُ ال َ‬
‫ال َعصَا أَمْ ضر ْبتَ الحجَر؟وضَرْب المثل يكون لثارة النتباه والحساس‪ ،‬فيُخرجك من حالة إلى‬
‫أخرى‪ ،‬كذلك المثَل‪ :‬الشيء الغامض الذي ل تفهمه ول تعيه‪ ،‬فيضرب الحق سبحانه له مثلً‬
‫يُوضّحه ويُنبّهك إليه؛ لذلك قال‪ { :‬وَاضْ ِربْ ل ُهمْ مّثَلً‪[ } ..‬الكهف‪ ]32 :‬وسبق أن أوضحنا أن‬
‫المثال كلم من كلم العرب‪ ،‬ير ُد في معنى من المعاني‪ ،‬ثم يشيع على اللسنة‪ ،‬فيصير مثلً‬
‫جوّاد فتناديه‪ :‬يا حاتم‪ ،‬فلما اشتهر حاتم بالجود أُطِلقَتْ‬
‫سائرا‪ ،‬كما نقول‪ :‬جود حاتم‪ ،‬وتقابل أي َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليه هذه الصفة‪ .‬وعمرو بن معد اش ُتهِر بالشجاعة والقدام‪ ،‬وإياس اش ُتهِر بالذكاء‪ ،‬وأحنف بن‬
‫سمَاحَةِ حَاتِم في حِلْمِ أح َنفَ‬
‫عمْروٍ في َ‬
‫قيس اشتهر بالحلم‪ .‬لذلك قال أبو تمام في مدح الخليفة‪ِ:‬إقْدامُ َ‬
‫فِي َذكَاءِ إياسفأراد خصوم أبي تمام أن يُحقّروا قوله‪ ،‬وأن يُسقِطوه من عين الخليفة‪ ،‬فقالوا له‪ :‬إن‬
‫ن وصفتَ‪ ،‬وكيف تُشبّه الخليفة بهؤلء وفي جيشه ألفٌ كعمرو‪ ،‬وفي خُزّانه ألف‬
‫الخليفة فوق مَ ْ‬
‫س والغِنَى بمَنْ‬
‫كحاتم فكيف تشبهه بأجلف العرب؟ كما قال أحدهم‪ :‬ـوَشبّهه المـدّاحُ في البـا ِ‬
‫خمْسُونَ أَلْفا كعنْت ٍر وَفي خُزّانِه أ ْلفُ حَا ِتمِفألهمه ال الردّ عليهم‪،‬‬
‫َلوْ رآهُ كانَ َأصْغر خَا ِد ٍمفَفِي جيْشِه َ‬
‫وعلى نفس الوزن ونفس القافية‪ ،‬فقال‪:‬لَ تُنكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَه مثَلً شَرُودا في النّدَى‬
‫شكَاةِ والنّبْراسِإذن‪ :‬فالمثل يأتي لِيُنَبّه الناس‪ ،‬وليُوضّح‬
‫وَالبَاسفالُ َق ْد ضَربَ القلّ لِ ُنوِره مَثَلً مِنَ الم ْ‬
‫القضية غير المفهومة‪ ،‬والحق تبارك وتعالى قال‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ َيسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً‬
‫َفمَا َف ْوقَهَا‪[} ..‬البقرة‪]26 :‬‬
‫خذُواْ‬
‫ثم يعطينا القرآن الكريم أمثالً كثيرة لتوضيح قضايا معينة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬مَ َثلُ الّذِينَ اتّ َ‬
‫خ َذتْ بَيْتا وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَ ْيتُ ا ْلعَنكَبُوتِ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ‬
‫مِن دُونِ اللّهِ َأوْلِيَآءَ َكمَ َثلِ ا ْلعَنكَبُوتِ اتّ َ‬
‫}[العنكبوت‪]41 :‬‬
‫وكذا قوله تعالى عن نقض الوعد وعدم الوفاء به‪َ {:‬ولَ َتكُونُواْ كَالّتِي َن َقضَتْ غَزَْلهَا مِن َبعْدِ ُق ّوةٍ‬
‫أَنكَاثا }‬

‫[النحل‪]92 :‬‬
‫حوْلَهُ َذ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَ َركَهُمْ‬
‫ومنه قوله تعالى‪ {:‬مَثَُلهُمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارا فََلمّآ َأضَا َءتْ مَا َ‬
‫فِي ظُُلمَاتٍ لّ يُ ْبصِرُونَ }[البقرة‪]17 :‬‬
‫ومنه قوله تعالى مُصوّرا حال الدنيا‪ ،‬وأنها سريعة الزوال‪ {:‬وَاضْرِبْ َلهُم مّ َثلَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ‬
‫شيْءٍ‬
‫ح َوكَانَ اللّهُ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫ت الَ ْرضِ فََأصْبَحَ هَشِيما َتذْرُوهُ الرّيا ُ‬
‫سمَاءِ فَاخْتََلطَ بِهِ نَبَا ُ‬
‫أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫ّمقْتَدِرا }[الكهف‪]45 :‬‬
‫فالمثل يُوضّح لك الخفيّ بشيء جَِليّ‪ ،‬يعرفه كل مَنْ سمعه‪ ،‬من ذلك مثلً الشاعر الذي أراد أنْ‬
‫يصفَ لنا الحدب فيُصوّره تصويرا دقيقا كأنك تنظر إليه‪َ :‬قصُـ َرتْ َأخَادعه وَغَاص َقذَالُه فكأنه‬
‫ص ِفعْتَ َقفَاهُ مرةً وأَحسّ ثانيةً َلهَا فتج ّمعَاوهنا يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫مُـتر ّبصٌ أنْ ُيصْ َفعَاوكأنما ُ‬
‫اضرب لهم يا محمد مثلً للكافر إذا استغنى‪ ،‬والفقير إذا َرضِى باليمان‪.‬‬
‫لحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ‬
‫جعَلْنَا َ‬
‫ل المثل‪َ } :‬‬
‫حّ‬‫وقوله‪ } :‬رّجُلَيْنِ‪[ { ..‬الكهف‪ ]32 :‬أي‪ :‬هما َم َ‬
‫جعَلْنَا بَيْ َن ُهمَا زَرْعا { [الكهف‪ ]32 :‬لكن‪ ،‬هل هذا المثل كان موجودا بالفعل‪،‬‬
‫خلٍ َو َ‬
‫حفَفْنَا ُهمَا بِ َن ْ‬
‫وَ َ‬
‫وكان للرجلين وجود فِعليّ في التاريخ؟‬
‫نعم‪ ،‬كانوا واقعا عند بني إسرائيل وهما براكوس ويهوذا‪ ،‬وكان يهوذا مؤمنا راضيا‪ ،‬وبراكوس‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كان مستغنيا‪ ،‬وقد ورثا عن أبيهم ثمانية آلف دينار لكل منهما‪ ،‬أخذ براكوس نصيبه واشترى به‬
‫أرضا يزرعها و َقصْرا يسكنه وتزوج فأصبح له ولدان وحاشية‪ ،‬أما يهوذا‪ ،‬فقد رأى أنْ يتصدّق‬
‫بنصيبه‪ ،‬وأن يشتري به أرضا في الجنة وقصرا في الجنة وفضّل الحور العين والولدان في جنة‬
‫عدن على زوجة الدنيا وولدانها وبهجتها‪.‬‬
‫طغَىا * أَن رّآهُ‬
‫وهكذا استغنى براكوس بما عنده واغتَرّ به‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬كَلّ إِنّ الِنسَانَ لَيَ ْ‬
‫اسْ َتغْنَىا }[العلق‪]7-6 :‬‬
‫وأول الخيبة أن تشغلك النعمة عن المنعِم‪ ،‬وتظن أن ما أنت فيه من نعيم ثمرةُ جهدك وعملك‪،‬‬
‫ونتيجة سعْيك ومهارتك‪ ،‬كما قال قارون‪ {:‬قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي }[القصص‪]78 :‬‬
‫سفْنَا بِ ِه وَبِدَا ِرهِ‬
‫فتركه ال لِعلْمه ومهارته‪ ،‬فليحرص على ماله بما لديه من علم وقوة‪َ {:‬فخَ َ‬
‫الَ ْرضَ‪[} ..‬القصص‪ ]81:‬ولم ينفعه ماله أو علمه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هاتان صورتان واقعيتان في المجتمع‪ :‬كافر يستكبر ويستغني ويستعلي بغناه‪ ،‬ومؤمن قَنُوع‬
‫بما قسم ال له‪.‬‬
‫خلٍ‬
‫ح َففْنَا ُهمَا بِ َن ْ‬
‫ب وَ َ‬
‫جعَلْنَا لَحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَا ٍ‬
‫وانظر إلى الهندسة الزراعية في قوله تعالى‪َ } :‬‬
‫جعَلْنَا بَيْ َن ُهمَا زَرْعا { [الكهف‪]32 :‬‬
‫وَ َ‬
‫فقد علّمنا ال تعالى أن نجعل حول الحدائق والبساتين سُورا من النخيل ليكون سياجا يصدّ الهواء‬
‫والعواصف‪ ،‬وذكر سبحانه النخل والعنب وهي من الفاكهة قبل الزرع الذي منه القوت‬
‫الضروري‪ ،‬كما ذكر من قبل الساور من ذهب‪ ،‬وهي للزينة قبل الثياب‪ ،‬وهي من الضروريات‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬جَنّتَيْنِ‪[ { ..‬الكهف‪ ]32 :‬نراها إلى الن فيمَنْ يريد أن يحافظ على خصوصيات بيته؛‬
‫لن للنسان مسكنا خاصا‪ ،‬وله عموميات أحباب‪ ،‬فيجعل لهم مسكنا آخر حتى ل يطّلع أحد على‬
‫حريمه؛ لذلك يسمونه السلملك والحرملك‪.‬‬
‫شمَالٍ كُلُواْ مِن‬
‫ن وَ ِ‬
‫سكَ ِنهِمْ آ َيةٌ جَنّتَانِ عَن َيمِي ٍ‬
‫وكذلك في قوله تبارك وتعالى‪َ {:‬لقَدْ كَانَ ِلسَبَإٍ فِي مَ ْ‬
‫غفُورٌ }[سبأ‪ ]15 :‬ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬كِلْتَا ا ْلجَنّتَيْنِ‬
‫شكُرُواْ لَهُ بَ ْل َدةٌ طَيّ َب ٌة وَ َربّ َ‬
‫رّزْقِ رَ ّب ُك ْم وَا ْ‬
‫ءَا َتتْ ُأكَُلهَا وَلَمْ َتظْلِم مّ ْنهُ شَيْئا‪.{ ..‬‬

‫(‪)2156 /‬‬

‫كِلْتَا الْجَنّتَيْنِ آَ َتتْ ُأكَُلهَا وَلَمْ َتظْلِمْ مِ ْنهُ شَيْئًا َوفَجّرْنَا خِلَاَل ُهمَا َنهَرًا (‪)33‬‬

‫أي‪ :‬أعطتْ الثمرة المطلوبة منها‪ ،‬والُكُل‪ :‬هو ما يُؤكل‪ ،‬ونعرف أن الزراعات تتلحق ثمارها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فتعطيك شيئا اليوم‪ ،‬وشيئا غدا‪ ،‬وشيئا بعد غد وهكذا‪.‬‬
‫ظلِم } تعطينا إشارة إلى عمل الخير في الدنيا‪،‬‬
‫{ وَلَمْ تَظْلِم مّنْهُ شَيْئا‪[ } ..‬الكهف‪ ]33 :‬كلمة { تَ ْ‬
‫فالرض وهي جماد ل تظلم‪ ،‬ول تمنعك حقا‪ ،‬ول تهدِر لك تعبا‪ ،‬فإنْ أعطيتَها جهدك وعملك‬
‫جادتْ عليك‪ ،‬تبذر فيها كيلة تعطيك إردبا‪ ،‬وتضع فيها البذرة الواحدة ف ُت ِغلّ عليك اللف‪.‬‬
‫سقْيا‪ ،‬وقد تريحك‬
‫ث وبَذْر ورعاية و ُ‬
‫إذن‪ :‬فهي كريمة جوادة شريطة أن تعمل ما عليك من حَ ْر ٍ‬
‫السماء‪ ،‬فتسقى لك‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬لما أراد الحق سبحانه أنْ يضرب لنا المثل في مضاعفة الجر‪ ،‬قال‪ {:‬مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ‬
‫َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنُبلَةٍ مّاْئَةُ حَبّةٍ }[البقرة‪]261 :‬‬
‫فإذا كانت الرض تعطيك بالحبة سبعمائة حبة‪ ،‬فما بالك بخالق الرض؟ ل شك أن عطاءه سيكون‬
‫سعٌ عَلِيمٌ }[البقرة‪]261 :‬‬
‫أعظم؛ لذلك قال بعدها‪ {:‬وَاللّهُ ُيضَاعِفُ ِلمَن يَشَآ ُء وَاللّ ُه وَا ِ‬
‫إذن‪ :‬فالرض ل تظلم‪ ،‬ومن عدل الرض أنْ تعطيك على َقدْر تعبك وكَدّك فيها‪ ،‬والحق سبحانه‬
‫أيضا يُقدّر لك هذا التعب‪ ،‬ويشكر لك هذا المجهود‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم لما رأى أحد‬
‫الصحابة وقد تشققت يداه من العمل قال‪ " :‬هذه يَدٌ يحبها ال ورسوله "‪.‬‬
‫يحبها ال ورسوله؛ لنها تعبت وعملت ل على قَدْر حاجتها‪ ،‬بل على أكثر من حاجتها‪ ،‬عملتْ لها‬
‫وللخرين‪ ،‬وإل لو عمل ُكلّ عامل على َقدْر حاجته‪ ،‬فكيف يعيش الذي ل يقدر على العمل؟‬
‫ن يعملوا لما يكفيهم‪ ،‬ويكفي العاجزين عن العمل‪ ،‬و َهبْ أنك‬
‫إذن‪ :‬فعلى أصحاب القدرة والطاقة أ ْ‬
‫لن تتصدّق بشيء للمحتاج‪ ،‬لكنك ستبيع الفائض عنك‪ ،‬وهذا في حد ذاته نوعٌ من التيسير على‬
‫الناس والتعاون معهم‪.‬‬
‫وما أشبه الرض في عطائها وسخائها بالم التي تُجزِل لك العطاء إنْ بر ْرتَ بها‪ ،‬وكذلك‬
‫الرض‪ ،‬بل إن الم بطبيعتها قد تعطيك دون مقابل وتحنو عليك وإنْ كنت جاحدا‪ ،‬وكذلك الرض‬
‫ألَ تراها تُخرج لك من النبات ما لم تزرعه أو تتعب فيه؟ فكيف إذا أنت أكرَمتها بالبر؟ ل شك‬
‫ستزيد لك العطاء‪.‬‬
‫والحقيقة أن الرض ليست ُأمّنا على وجه التشبيه‪ ،‬بل هي ُأمّنا على وجه الحقيقة؛ لننا من ترابها‬
‫وجزء منها‪ ،‬فالنسان إذا مرض مثلً يصير ثقيلً على كل الناس ل تتحمله وتحنو عليه وتزيل‬
‫عنه الذى مثل أمه‪ ،‬وكذلك إن مات وصار جيفة يأنف منه كل أخ محب وكل قريب‪ ،‬في حين‬
‫تحتضنه الرض‪ ،‬وتمتص كل ما فيه‪ ،‬وتستره في يوم هو أحوج ما يكون إلى الستر‪ .‬ثم يقول‬
‫تعالى‪َ { :‬وفَجّرْنَا خِلَل ُهمَا َنهَرا‪[ } ..‬الكهف‪ ]33 :‬ذلك لن الماء هو َأصْل الزرع‪ ،‬فجعل ال‬
‫للجنتين ماءً مخصوصا يخرج منهما ويتفجر من خللهما ل يأتيهما من الخارج‪ ،‬فيحجبه أحد‬
‫عنهما‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وكَانَ َلهُ َثمَرٌ َفقَالَ ِلصَاحِ ِب ِه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ‪.} ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2157 /‬‬

‫َوكَانَ َلهُ َثمَرٌ َفقَالَ ِلصَاحِبِ ِه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ أَنَا َأكْثَرُ مِ ْنكَ مَالًا وَأَعَزّ َنفَرًا (‪)34‬‬

‫أي‪ :‬لم يقتصر المر على أنْ كان له جنتان فيهما النخيل والعناب والزرع الذي يُؤتي ُأكُله‪ ،‬بل‬
‫كان له فوق ذلك ثمر أي‪ :‬موارد أخرى من ذهب وفضة وأولد؛ لن الولد ثمرة أبيه‪ ،‬وسوف‬
‫يقول لخيه بعد قليل‪ :‬أنا أكثر منك مالً وأعزّ نفرا‪.‬‬
‫ل وَأَعَزّ َنفَرا }‬
‫ثم تدور بينهما هذه المحاورة‪َ { :‬فقَالَ ِلصَاحِ ِب ِه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ أَنَا َأكْثَرُ مِنكَ مَا ً‬
‫[الكهف‪]34 :‬‬
‫دليل على أن ما تقدم ِذكْره من أمر الجنتين وما فيهما من ِنعَم دَعَتْهُ إلى الستعلء هو سبب القول‬
‫{ ِلصَاحِبِهِ } ‪ ،‬والصاحب هو‪ :‬مَنْ يصاحبك ولو لم تكن تحبه { يُحَاوِ ُرهُ } أي‪ :‬يجادله بأن يقول‬
‫أحدهما فيرد عليه الخر حتى يصلوا إلى نتيجة‪ .‬فماذا قال صاحبه؟ قال‪ { :‬أَنَا َأكْثَرُ مِنكَ مَالً‪} ..‬‬
‫[الكهف‪ ]34 :‬يقصد الجنتين وما فيهما من نعم { وَأَعَزّ َنفَرا } [الكهف‪ ]34 :‬داخلة في قوله‪:‬‬
‫{ َوكَانَ لَهُ َثمَرٌ } [الكهف‪ ]34 :‬وهكذا استغنى هذا بالمال والولد‪.‬‬
‫خلَ جَنّ َت ُه وَ ُهوَ ظَاِلمٌ لّ َنفْسِهِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪َ { :‬ودَ َ‬

‫(‪)2158 /‬‬

‫خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ ظَاِلمٌ لِ َنفْسِهِ قَالَ مَا َأظُنّ أَنْ تَبِيدَ هَ ِذهِ أَبَدًا (‪)35‬‬
‫وَدَ َ‬

‫خلَ جَنّتَهُ‪[ } ..‬الكهف‪ ]35 :‬نقول‪ :‬لن النسان إنْ كان له‬
‫عرفنا أنهما جنتان‪ ،‬فلماذا قال‪ { :‬وَ َد َ‬
‫جنتان فلنْ يدخلهما معا في وقت واحد‪ ،‬بل حَالَ دخوله سوف يواجه جن ًة واحدة‪ ،‬ثم بعد ذلك يدخل‬
‫الخرى‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَ ُهوَ ظَاِلمٌ لّ َنفْسِهِ‪[ } ..‬الكهف‪ ]35 :‬قد يظلم النسان غيره‪ ،‬لكن كيف يظلم نفسه هو؟‬
‫يظلم النسان نفسه حينما يُرخيِ لها عنان الشهوات‪ ،‬فيحرمها من مشتهيات أخرى‪ ،‬ويُفوّت عليها‬
‫ما هو أبقى وأعظم‪ ،‬وظلم النسان يقع على نفسه؛ لن النفس لها جانبان‪ :‬نفسٌ تشتهي‪ ،‬ووجدان‬
‫يردع بالفطرة‪.‬‬
‫فالمسألة ـ إذن ـ جدل بين هذه العناصر؛ لذلك يقولون‪ :‬أعدى أعداء النسان نفسه التي بين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ت لوجدتَ أنك ساعة تُحدّث نفسك بشيء ثم‬
‫ن قلت‪ :‬كيف وأنا ونفسي شيء واحد؟ لو تأمل َ‬
‫جنبيه‪ ،‬فإ ْ‬
‫تلوم نفسك عليه؛ لن بداخلك شخصيتين‪ :‬شخصية فطرية‪ ،‬وشخصية أخرى استحوازية شهوانية‪،‬‬
‫فإنْ مَالتْ النفس الشهوانية أو انحرفتْ َقوّمتها النفس الفطرية وعَدلَت من سلوكها‪.‬‬
‫ع ّمتْ المعصية في الناس‪ ،‬ولم َيعُدْ هناك‬
‫لذلك قلنا‪ :‬إن المنهج اللهي في جميع الديانات كان إذا َ‬
‫مَنْ ينصح ويرشد أنزل ال فيهم رسولً يرشدهم ويُذكّرُهم‪ ،‬إل في أمة محمد صلى ال عليه وسلم؛‬
‫حمّلهم رسالة نبيهم‪ ،‬وجعل هدايتهم بأيديهم‪ ،‬وأخرج منهم مَنْ يحملون راية الدعوة‬
‫لنه سبحانه َ‬
‫إلى ال؛ لذلك لن يحتاجوا إلى رسول آخر وكان صلى ال عليه وسلم خاتم النبياء والرسل‪.‬‬
‫ن وُجِد من بين هذه المة العاصون‪ ،‬ففيها أيضا‬
‫وكأنه سبحانه يطمئننا إلى أن الفساد لن َيعُمْ‪ ،‬فإ ْ‬
‫الطائعون الذين يحملون راية المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وهذه مسألة ضرورية‪ ،‬وأساسٌ‬
‫يقوم عليه المجتمع السلمي‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬قَالَ مَآ َأظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا } [الكهف‪]35 :‬‬
‫فهل معنى هذا أنه ظالم لنفسه بالدخول؟ ل‪ ،‬لنها جنتُه يدخلها كما يشاء‪ ،‬إنما المراد بالظلم هنا ما‬
‫حدّث نفسه به حالَ دخوله‪ ،‬فقد ظلم نفسه عندما خطر بباله الستعلء بالغِنَى‪،‬‬
‫دار في خاطره‪ ،‬وما َ‬
‫والغرور بالنعمة‪ ،‬فقال‪ :‬ما أظنّ أنْ تبيدَ هذه النعمة‪ ،‬أو تزول هذه الجنة الوارفة أو تهلك‪ ،‬لقد غَ ّرهُ‬
‫واقع ملموس أمام عينيه استبعد معه أن يزول عنه كل هذا النعيم‪ ،‬ليس هذا وفقط‪ ،‬بل دعاه‬
‫غروره إلى أكثر من هذا فقال‪َ { :‬ومَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَآ ِئمَةً‪.} ...‬‬

‫(‪)2159 /‬‬

‫جدَنّ خَيْرًا مِ ْنهَا مُ ْنقَلَبًا (‪)36‬‬


‫َومَا َأظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَ ًة وَلَئِنْ ُردِ ْدتُ إِلَى رَبّي لَأَ ِ‬

‫هكذا أطلق لغروره العنان‪ ،‬وإنْ قُبَلتْ منه‪ {:‬مَآ َأظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا }[الكهف‪ ]35 :‬فل يُقبَل‬
‫منه { َومَآ َأظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَةً‪[ } ..‬الكهف‪ ]36 :‬لذلك لما أنكر قيام الساعة هَزّته الوامر الوجدانية‪،‬‬
‫فاستدرك قائل‪ { :‬وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي‪[ } ..‬الكهف‪ ]36 :‬أي‪ :‬على كل حال إنْ رُددتُ إلى ربي‬
‫في القيامة‪ ،‬فسوف يكون لي أكثر من هذا وأعظم وكأنه ضمن أن ال تعالى أَعدّ له ما هو أفضل‬
‫من هذا‪.‬‬
‫ونقف لنتأمل َقوْل هذا الجاحد المستعلي بنعمة ال عليه المفتون بها‪ { :‬وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي‪} ..‬‬
‫[الكهف‪ ]36 :‬حيث يعرف أن له ربا سيرجع إليه‪ ،‬فإنْ كنت كذوبا فكُنْ َذكُورا‪ ،‬ل تُناقِض نفسك‪،‬‬
‫شكّ في قيام الساعة يتنافى وقولك { رَبّي } ول يناسبه‪.‬‬
‫فما حدَث منك من استعلء وغرور و َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫و { مُ ْنقَلَبا } أي‪ :‬مرجعا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالَ َل ُه صَاحِبُهُ وَ ُهوَ ُيحَاوِ ُرهُ‪.} ...‬‬

‫(‪)2160 /‬‬

‫سوّاكَ َرجُلًا (‪)37‬‬


‫طفَةٍ ثُمّ َ‬
‫قَالَ لَ ُه صَاحِ ُب ُه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ َأ َكفَرْتَ بِالّذِي خََل َقكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ مِنْ ُن ْ‬

‫هنا يردّ عليه صاحبه المؤمن مُحَاورا ومُجادلً ليجُّليَ له وَجْه الصواب‪َ { :‬أ َكفَرْتَ بِالّذِي خََل َقكَ مِن‬
‫تُرَابٍ‪[ } ..‬الكهف‪ ]37 :‬أي‪ :‬كلمك السابق أنا أنا‪ ،‬وما أنت فيه من استعلء وإنكار‪ ،‬أتذكر هذا‬
‫طفَةٍ‪[ } ..‬الكهف‪]37 :‬‬
‫كله ول تذكر بدايتك ومنشأك من تراب الذي هو أصل خَلْقك { ُثمّ مِن نّ ْ‬
‫سوّاكَ رَجُلً } [الكهف " ‪ ]37‬أي‪ :‬كاملً مُسْتويا (ملو هدومك)‪.‬‬
‫وهي أصل التناسل { ثُمّ َ‬
‫سوّاكَ‪[ } ..‬الكهف‪ ]37 :‬التسوية‪ :‬هي إعداد الشيء إعدادا يناسب مهمته في الحياة‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن‬
‫و{ َ‬
‫العود الحديد السّويّ مستقيم‪ ،‬والخطاف في نهايته أعوج‪ ،‬والعوجاج في الخطاف هو عَيْن‬
‫استقامته واستواء مهمته؛ لن مهمته أن نخطف به الشيء‪ ،‬ولو كان الخطاف هذا مستقيما لما أدّى‬
‫مهمته المرادة‪.‬‬
‫والهمزة في { َأكَفَ ْرتَ‪[ } ..‬الكهف‪ ]37 :‬ليست للستفهام‪ ،‬بل هي استنكار لما يقوله صاحبه‪ ،‬وما‬
‫بدر منه من كُفْر ونسيان لحقيقة أمره وبداية خَلْقه‪.‬‬
‫والتراب هو َأصْل النسان‪ ،‬وهو أيضا مرحلة من مراحل خَلْقه؛ لن ال تعالى ذكر في خلق‬
‫النسان مرة{ مّن مّآءٍ }[السجدة‪ ]8 :‬ومرة{ مِن تُرَابٍ }[آل عمران‪[ ،]59 :‬الروم‪ ]20 :‬ومرة{ مّنْ‬
‫حمَإٍ مّسْنُونٍ }[الحجر‪ ]26 :‬ومرة{ مِن صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ }[الرحمن‪.]14 :‬‬
‫َ‬
‫لذلك يعترض البعض على هذه الشياء المختلفة في خَلْق النسان‪ ،‬والحقيقة أنها شيء واحد‪ ،‬له‬
‫طتَ الطين بعضه ببعض‬
‫ن أضفْتَ الماء للتراب صار طينا‪ ،‬فإذا ما خل ْ‬
‫مراحل متعددة انتقالية‪ ،‬فإ ْ‬
‫صار حمأ مسنونا‪ ،‬فإذا تركته حتى يجفّ ويتماسك صار صَ ْلصَالً‪ ،‬إذن‪ :‬فهي مرحليات لشيء‬
‫واحد‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه أن هذا المؤمن قال‪ { :‬لّاكِنّاْ ُهوَ اللّهُ رَبّي‪.} ...‬‬

‫(‪)2161 /‬‬

‫َلكِنّا ُهوَ اللّهُ رَبّي وَلَا ُأشْ ِركُ بِرَبّي أَحَدًا (‪)38‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قوله‪ { :‬لّاكِنّاْ‪[ } ..‬الكهف‪ ]38 :‬أي‪ :‬لكن أنا‪ ،‬فحذفت الهمزة وأُدغمت النون في النون‪ .‬ولكن‬
‫للستدراك‪ ،‬المؤمن يستدرك على ما قاله صاحبه‪ :‬أنا لستُ مثلك فيما تذهب إليه‪ ،‬فإنْ كنت قد‬
‫كفرتَ بالذي خلقك من تراب‪ ،‬ثم من نطفة‪ .‬ثم سوّاك رجلً‪ ،‬فأنا لم أكفر بمَنْ خلقني‪ ،‬ف َقوْلي‬
‫واعتقادي الذي أومن به‪ُ { :‬هوَ اللّهُ رَبّي‪[ } ..‬الكهف‪]38 :‬‬
‫وتلحظ أن الكافر لم َي ُقلْ‪ :‬ال ربي‪ ،‬إنما جاءتْ ربي على لسانه في معرض الحديث‪ ،‬والفرْق‬
‫كبير بين القولين؛ لن الربّ هو الخالق المتولّي للتربية‪ ،‬وهذا أمر ل يشكّ فيه أحد‪ ،‬ول اعتراض‬
‫عليه‪ ،‬إنما الشكّ في الله المعبود المطاع‪ ،‬فالربوبية عطاء‪ ،‬ولكن اللوهية تكليف؛ لذلك اعترف‬
‫الكافر بالربوبية‪ ،‬وأنكر اللوهية والتكليف‪.‬‬
‫ثم يؤكد المؤمن إيمانه فيقول‪َ { :‬ولَ ُأشْ ِركُ بِرَبّي أَحَدا } [الكهف‪]38 :‬‬
‫ولم يكتفِ المؤمن بأن أبانَ لصاحبه ما هو فيه من الكفر‪ ،‬بل أراد أنْ يُعدّي إيمانه إلى الغير‪ ،‬فهذه‬
‫ن أوضح إيمانه بال تعالى أراد أن‬
‫طبيعة المؤمن أنْ يكون حريصا على هداية غيره‪ ،‬لذلك بعد أ ْ‬
‫يُعلّم صاحبه كيف يكون مؤمنا‪ ،‬ول يكمُل إيمان المؤمن حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه‪ ،‬وأيضا‬
‫من العقل للمؤمن أن يحاول أن يهدي الكافر؛ لن المؤمن صُحح سلوكه بالنسبة للخرين‪ ،‬ومن‬
‫الخير للمؤمن أيضا أن يُصحّح سلوك الكافر باليمان‪.‬‬
‫لذلك من الخير بدل أنْ تدعوَ على عدوك أن تدعو له بالهداية؛ لن دعاءك عليه سيُزيد من شقائك‬
‫به‪ ،‬وها هو يدعو صاحبه‪ ،‬فيقول‪ { :‬وََلوْل إِذْ دَخَ ْلتَ جَنّ َتكَ قُ ْلتَ مَا شَآءَ اللّ ُه لَ ُق ّوةَ ِإلّ بِاللّهِ‪.} ...‬‬

‫(‪)2162 /‬‬

‫وََلوْلَا ِإذْ َدخَ ْلتَ جَنّ َتكَ قُ ْلتَ مَا شَاءَ اللّهُ لَا ُق ّوةَ إِلّا بِاللّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا َأ َقلّ مِ ْنكَ مَالًا َووَلَدًا (‪)39‬‬

‫يريد أنْ يُعلمه سبيل اليمان في استقبال النعمة‪ ،‬بأنْ يردّ النعم إلى المنعم؛ لن النعمة التي يتقلّب‬
‫فيها النسان ل فضْلَ له فيها‪ ،‬فكلها موهوبة من ال‪ ،‬فهذه الحدائق والبساتين كيف آتتْ ُأكُلها؟ إنها‬
‫الرض التي خلقها ال لك‪ ،‬وعندما حرثْتها حرثْتها بآلة من الخشب أو الحديد‪ ،‬وهو موهوب من‬
‫ي وقت‪،‬‬
‫خلَ لك فيه‪ ،‬والقوة التي أعانتك على العمل موهوبة لك يمكن أن تُسلبَ منك في أ ّ‬
‫ال ل دَ ْ‬
‫فتصير ضعيفا ل تقدر على شيء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬حينما تنظر إلى ُكلّ هذه المسائل تجدها منتهيةً إلى العطاء العلى من ال سبحانه‪.‬‬
‫خذْ هذا المقعد الذي تجلس عليه مستريحا وهو في غاية الناقة وإبداع الصّنْعة‪ ،‬من أين أتى‬
‫ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الصّنّاع بمادته؟ لو تتبعتَ هذا لوجدته قطعةَ خشب من إحدى الغابات‪ ،‬ولو سألتَ الغابة‪ :‬من أين‬
‫لك هذا الخشب لجابتْك من ال‪.‬‬
‫لذلك يُعلّمنا الحق سبحانه وتعالى الدب في نعمته علينا‪ ،‬بقوله‪َ {:‬أفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ * َأأَنتُمْ‬
‫تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة‪]64-63 :‬‬
‫هذه الحبة التي بذرتها في حقلك‪ ،‬هل جلستَ بجوارها تنميها وتشدّها من الرض‪ ،‬فتنمو معك يوما‬
‫بعد يوم؟ إن كل عملك فيها أن تحرث الرض وتبذر البذور‪ ،‬حتى عملية الحرث سخّر ال لك‬
‫فيها البهائم لتقوم بهذه العملية‪ ،‬وما كان بوُسْعك أنْ تُطوّعها لهذا العمل لول أنْ سخرها ال لك‪،‬‬
‫وذلّلها لخدمتك‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُ ْم َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس‪]72 :‬‬
‫ما استطعت أنت تسخيرها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لو حلّ ْلتَ أيّ نعمة من النعم التي لك فيها عمل لوجدت أن نصيبك فيها راجع إلى ال‪،‬‬
‫وموهوب منه سبحانه‪ .‬وحتى بعد أن ينمو الزرع ويُزهر أو يُثمر ل تأمن أن تأتيه آفةٌ أو تحلّ به‬
‫حطَاما فَظَلْ ُتمْ َت َف ّكهُونَ * إِنّا َل ُمغْ َرمُونَ *‬
‫جعَلْنَاهُ ُ‬
‫جائحة فتهلكه؛ لذلك يقول تعالى بعدها‪َ {:‬لوْ َنشَآءُ َل َ‬
‫َبلْ نَحْنُ َمحْرُومُونَ }[الواقعة‪]67-65 :‬‬
‫سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ * َولَ‬
‫كما يقول تعالى‪ {:‬إِنّا بََلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ إِذْ َأقْ َ‬
‫حتْ كَالصّرِيمِ }[القلم‪]20-17 :‬‬
‫يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَ ْيهَا طَآ ِئفٌ مّن رّ ّبكَ وَهُمْ نَآ ِئمُونَ * فََأصْبَ َ‬
‫وكذلك في قوله تعالى‪َ {:‬أفَرَأَيْتُمُ ا ْلمَآءَ الّذِي َتشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَن َزلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ َأمْ نَحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ }‬
‫[الواقعة‪]69-68 :‬‬
‫عذْبا زللً‪ ،‬هل تعرفون كيف نزل؟ هل رأيتم بخار الماء الصاعد إلى‬
‫هذا الماء الذي تشربونه َ‬
‫جعَلْنَاهُ ُأجَاجا‪} ..‬‬
‫الجو؟ وكيف ينعقد سحابا تسوقه الريح؟ هل دريْتُم بهذه العملية؟{ َلوْ نَشَآءُ َ‬
‫[الواقعة‪]70 :‬‬
‫أي‪ :‬مِلْحا شديدا ل تنتفعون به‪.‬‬
‫سعْيهم‪ ،‬وعليهم أنْ‬
‫فحينما يمتنّ ال على عبيده بأيّ نعمة يُذكّرهم بما ينقضها‪ ،‬فهي ليست من َ‬
‫يشكروه تعالى عليها لتبقى أمامهم ول تزول‪ ،‬وإلّ فَلْيحافظوا عليها هم إنْ كانت من صُنْع أيديهم!‬
‫وكذلك في مسألة خَلْق النسان يوضح سبحانه وتعالى أنه يمنع الحياة وينقضها بالموت‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪:‬‬

‫{ َأفَرَأَيْ ُتمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخُْلقُونَهُ أَم َنحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ * َنحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْوتَ َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ‬
‫}[الواقعة‪ ]60-58 :‬فإنْ كنتم أنتم الخالقين‪ ،‬فحافظوا عليه وادفعوا عنه الموت‪ .‬فذكر سبحانه‬
‫خلْق‪.‬‬
‫النعمة في الخَلْق‪ ،‬وما ينقض النعمة في َأصْل ال َ‬
‫أما في خَلْق النار‪ ،‬فالمر مختلف‪ ،‬حيث يقول تعالى‪َ {:‬أفَرَأَيْتُمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شجَرَ َتهَآ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنشِئُونَ }[الواقعة‪]72-71 :‬‬
‫َ‬
‫فذكر سبحانه قدرته في خَلْق النار وإشعالها ولم يذكر ما ينقضها‪ ،‬ولم يقُلْ‪ :‬نحن قادرون على‬
‫إطفائها‪ ،‬كما ذكر سبحانه خَلْق النسان وقدرته على نقضه بالموت‪ ،‬وخَلْق الزرع وقدرته على‬
‫جعله حطاما‪ ،‬وخَلْق الماء وقدرته على جعله أجاجا‪ ،‬إل في النار‪ ،‬لنه سبحانه وتعالى يريدها‬
‫جعَلْنَاهَا َت ْذكِ َرةً‬
‫مشتعلة مضطرمة باستمرار لتظل ذكرى للناس‪ ،‬لذلك ذيّل الية بقوله تعالى‪ {:‬نَحْنُ َ‬
‫َومَتَاعا لّ ْلمُ ْقوِينَ }[الواقعة‪]73 :‬‬
‫كما نقف في هذه اليات على ملمح من ملمح العجاز و ِدقّة الداء القرآني؛ لن المتكلم ربّ‬
‫يتحدث عن كل شيء بما يناسبه‪ ،‬ففي الحديث عن الزرع ـ ولن للنسان عملً فيه مثل الحرْث‬
‫جعَلْنَاهُ‬
‫سقْي وغيره ـ نراه يؤكد الفعل الذي ينقض هذا الزرع‪ ،‬فيقول‪َ {:‬لوْ نَشَآءُ لَ َ‬
‫والبذْر وال ّ‬
‫حطَاما‪[} ..‬الواقعة‪ ]65 :‬حتى ل يراودك الغرور بعملك‪.‬‬
‫ُ‬
‫أما في الحديث عن الماء ـ وليس للنسان دخل في تكوينه ـ فل حاجةَ إلى تأكيد الفعل كسابقه‪،‬‬
‫جعَلْنَاهُ أُجَاجا‪[} ..‬الواقعة‪ ]70 :‬دون توكيد؛ لن النسان ل يدعي أن له‬
‫فيقول تعالى‪َ {:‬لوْ نَشَآءُ َ‬
‫فضلً في هذا الماء الذي ينهمر من السماء‪.‬‬
‫نعود إلى المؤمن الذي ينصح صاحبه الكافر‪ ،‬ويُعلّمه كيف يستقبل نعمة ال عليه‪ {:‬وََلوْل ِإذْ َدخَ ْلتَ‬
‫جَنّ َتكَ قُ ْلتَ مَا شَآءَ اللّهُ لَ ُق ّوةَ ِإلّ بِاللّهِ‪[} ..‬الكهف‪َ } ]39 :‬لوْل { بمعنى‪ :‬هلّ وهي للحثّ‬
‫والتحضيض‪ ،‬وعلى النسان إذا رأى ما يعجبه في مال أو ولد حتى لو أعجبه وجهه في المرآة‬
‫عليه أن يقول‪ :‬ما شاء ال ل قوة إل بال‪.‬‬
‫وفي الحديث يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ما قيل عند نعمة‪ :‬ما شاء ال ل قوة إل بال‪،‬‬
‫إل ول ترى فيها آفة إل الموت "‪.‬‬
‫فساعة أن تطالع نعمة ال كان من الواجب عليك ألّ تُلهيكَ النعمة عن المنعم‪ ،‬كان عليك أن تقول‪:‬‬
‫ما شاء ال ل قوة إل بال‪ ،‬أي‪ :‬أن هذا كله ليس بقوتي وحيلتي‪ ،‬بل فضل من ال فتردّ النعمة إلى‬
‫خالقها ومُسديها‪ ،‬وما ُد ْمتَ قد رد ْدتَ النعمة إلى خالقها فقد استأمنْتَهُ عليها واستحفظته إياها‪،‬‬
‫وضم ْنتَ بذلك بقاءها‪.‬‬
‫وذكرنا أن سيدنا جعفر الصادق ـ رضي ال عنه ـ كان عالما بكنوز القرآن‪ ،‬ورأى النفس‬
‫صفْو الحياة من خوف أو قلق أو همّ أو حزن أو‬
‫البشرية‪ ،‬وما يعتريها من تقلّبات تعكر عليه َ‬
‫مكر‪ ،‬أو زهرة الدنيا وطموحات النسان فيها‪.‬‬

‫فكان رضي ال عنه يُخرج لهذه الداءات ما يناسبها من علجات القرآن فكان يقول في الخوف‪" :‬‬
‫عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول ال تعالى‪ {:‬حَسْبُنَا اللّ ُه وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ }[آل عمران‪ ]173 :‬فإني‬
‫سهُمْ سُوءٌ }[آل عمران‪]174 :‬‬
‫ضلٍ لّمْ َي ْمسَ ْ‬
‫سمعت ال بعقبها يقول‪ {:‬فَا ْنقَلَبُواْ بِ ِن ْعمَةٍ مّنَ اللّهِ َوفَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وعجبتُ لمن اغتمّ ـ لن ال َغمّ انسداد القلب وبلبلة الخاطر من شيء ل يعرف سببه ـ وعجبتُ‬
‫لمن اغت ّم ولم يفزع إلى قول ال تعالى‪ {:‬لّ إِلَـاهَ ِإلّ أَنتَ سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ }‬
‫[النبياء‪ ]87 :‬فإني سمعت ال بعقبها يقول‪ {:‬فَاسْ َتجَبْنَا لَ ُه وَ َنجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلغَمّ }[النبياء‪ ]88 :‬ليس هذا‬
‫وفقط‪ ،‬بل‪َ {:‬وكَذاِلكَ نُنجِـي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النبياء‪ ]88 :‬وكأنها (وصْفة) عامة لكل مؤمن‪ ،‬وليست‬
‫خاصة بنبيّ ال يونس عليه السلم‪.‬‬
‫فقوْل المؤمن الذي أصابه الغم‪ {:‬لّ إِلَـاهَ ِإلّ أَنتَ‪[} ..‬النبياء‪ ]87 :‬أي‪ :‬ل مفزع لي سواك‪ ،‬ول‬
‫ملجأ لي غيرك{ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ‪[} ..‬النبياء‪ ]87 :‬اعتراف بالذنب والتقصير‪ ،‬فلعل ما‬
‫وقعتُ فيه من ذنب وما حدث من ظلم لنفسي هو سبب هذا الغم الذي أعانيه‪.‬‬
‫وعجبتُ لمن مُكر به‪ ،‬كيف ل يفزع إلى قول ال تعالى‪ {:‬وَُأ َف ّوضُ َأمْرِي إِلَى اللّهِ‪[} ..‬غافر‪]44 :‬‬
‫فإني سمعت ال بعقبها يقول‪ {:‬فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا َمكَـرُواْ‪[} ..‬غافر‪ ]45 :‬فال تبارك وتعالى هو‬
‫الذي سيتولى الرد عليهم ومقابلة مكرهم بمكره سبحانه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬و َمكَرُواْ َو َمكَرَ اللّهُ وَاللّهُ‬
‫خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل عمران‪]54 :‬‬
‫وعجبتُ لمن طلب الدنيا وزينتها ـ صاحب الطموحات في الدنيا المتطلع إلى زخرفها ـ كيف ل‬
‫يفزع إلى قوله تعالى‪ } :‬مَا شَآءَ اللّ ُه لَ ُق ّوةَ ِإلّ بِاللّهِ‪[ { ..‬الكهف‪ ]39 :‬فإني سمعت ال بعقبها‬
‫يقول‪ {:‬فعسَىا رَبّي أَن ُيؤْتِيَنِ خَيْرا مّن جَنّ ِتكَ }[الكهف‪]40 :‬‬
‫فإن قلتها على نعمتك حُفظتْ ونمَتْ‪ ،‬وإن قلتها على نعمة الغير أعطاك ال فوقها‪.‬‬
‫والعجيب أن المؤمن الفقير الذي ل يملك من متاع الدنيا شيئا يدل صاحبه الكافر على مفتاح الخير‬
‫الذي يزيده من خير الدنيا‪ ،‬رغم ما يتقلّب فيه من نعيمها‪ ،‬فمفتاح زيادة الخير في الدنيا ودوام‬
‫النعمة فيها أن نقول‪ } :‬مَا شَآءَ اللّ ُه لَ ُق ّوةَ ِإلّ بِاللّهِ‪[ { ..‬الكهف‪]39 :‬‬
‫ويستطرد المؤمن‪ ،‬فيُبيّن لصاحبه ما عَيّره به من أنه فقير وهو غني‪ ،‬وما استعلى عليه بماله‬
‫ل َووَلَدا { [الكهف‪]39 :‬‬
‫وولده‪ } :‬إِن تَرَنِ أَنَاْ َأ َقلّ مِنكَ مَا ً‬
‫ثم ذكّره بأن ال تعالى قادر على أنْ يُبدّل هذا الحال‪ ،‬فقال‪ } :‬فعسَىا رَبّي أَن ُيؤْتِيَنِ خَيْرا مّن‬
‫جَنّ ِتكَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)2163 /‬‬

‫صعِيدًا َزَلقًا (‪)40‬‬


‫ح َ‬
‫سمَاءِ فَ ُتصْبِ َ‬
‫علَ ْيهَا حُسْبَانًا مِنَ ال ّ‬
‫سلَ َ‬
‫َفعَسَى رَبّي أَنْ ُيؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنّ ِتكَ وَيُرْ ِ‬

‫وعسى للرجاء‪ ،‬فإن كان الرجاء من ال فهو واقع ل شكّ فيه؛ لذلك حينما تقول عند نعمة الغير‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(ما شاء ال ل قوة إل بال) يعطيك ال خيرا مما قُلْت عليه‪( :‬ما شاء ال ل قوة إل بال)‪ ،‬وإن‬
‫شكَرْتُمْ‬
‫اعترفتَ بنعمة ال عليك ورددْت الفضل إليه سبحانه زادك‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬لَئِن َ‬
‫لَزِيدَ ّنكُمْ }[إبراهيم‪]7 :‬‬
‫فقوله‪ { :‬فعسَىا رَبّي أَن ُيؤْتِيَنِ خَيْرا مّن جَنّ ِتكَ } [الكهف‪ ]40 :‬أي‪ :‬ينقل مسألة الغنى والفقر‬
‫ويُحوّلها‪ ،‬فأنت ل قدرة لك على حفظ هذه النعمة‪ ،‬كما أنك ل قدرةَ لك على جَلْبها من البداية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬يمكن أنْ يعطيني ربي نعمة مثل نعمتك‪ ،‬في حين تظل نعمتك كما هي‪ ،‬لكن إرادة ال تعالى‬
‫سمَآءِ } [الكهف‪ ]40 :‬هذه النعمة التي تعتز‬
‫سلَ عَلَ ْيهَا حُسْبَانا مّنَ ال ّ‬
‫أن يقلبَ نعمتك ويزيلها‪ { :‬وَيُرْ ِ‬
‫حسْبانا‪.‬‬
‫خلْق ال يمكن أنْ يرسلَ ال عليها ُ‬
‫بها وتفخر بزهرتها وتتعالى بها على َ‬
‫س وَا ْل َقمَرُ‬
‫شمْ ُ‬
‫والحُسْبان‪ :‬الشيء المحسوب المقدّر بدقّة وبحساب‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬ال ّ‬
‫عدَدَ‬
‫حسْبَانٍ }[الرحمن‪ ]5 :‬والخالق سبحانه وتعالى جعل الشمس والقمر لمعرفة الوقت‪ {:‬لِ َتعَْلمُواْ َ‬
‫بِ ُ‬
‫ن وَا ْلحِسَابَ }[يونس‪ ]5 :‬ونحن ل نعرف من هذه عدد السنين والحساب إل إذا كانت هي في‬
‫السّنِي َ‬
‫ذاتها منضبطةً على نظام دقيق ل يختلّ‪ ،‬مثل الساعة ل تستطيع أنْ تعرفَ بها الوقت وتضبطه إل‬
‫إذا كانت هي في ذاتها منضبطة‪ ،‬والشيء ل يكون حسبانا لغيره إل إذا كان هو نفسه مُنْشأ على‬
‫حسْبان‪.‬‬
‫ُ‬
‫وحَسب حُسْبانا مثل غفر غفرانا‪ ،‬وقد أرسل ال على هذه الجنة التي اغترّ بها صاحبها صاعقة‬
‫محسوبة مُقدّرة على َقدْر هذه الجنة ل تتعدّاها إلى غيرها‪ ،‬حتى ل يقول‪ :‬إنها آية كونية عامة‬
‫أصابتني كما أصابت غيري‪ ..‬ل‪ .‬إنها صاعقة مخصوصة محسوبة لهذه الجنة دون غيرها‪.‬‬
‫صعِيدا زَلَقا } [الكهف‪ ]40 :‬أي‪ :‬أن هذه الجنة العامرة بالزروع والثمار‪،‬‬
‫ح َ‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬فَ ُتصْبِ َ‬
‫المليئة بالنخيل والعناب بعد أن أصابتها الصاعقة أصبحتْ صَعيدا أي‪ :‬جدباء يعلُوها التراب‪،‬‬
‫صعِيدا‬
‫صعِيدا طَيّبا }[النساء‪ ]43 :‬ليس هذا وفقط‪ ،‬بل { َ‬
‫ومنه قوله تعالى في التيمّم‪ {:‬فَتَ َي ّممُواْ َ‬
‫زَلَقا } [الكهف‪ ]40 :‬أي‪ :‬ترابا مُبلّلً تنزلق عليه القدام‪ ،‬فل يصلح لشيء‪ ،‬حتى المشي عليه‪.‬‬

‫(‪)2164 /‬‬

‫غوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (‪)41‬‬


‫َأوْ ُيصْبِحَ مَاؤُهَا َ‬

‫ن يكونَ الماء غائرا‪ ،‬ونستطيع إخراجه‬


‫غوْرا } أي‪ :‬غائرا في الرض‪ ،‬فإنْ قُلْت‪ :‬يمكن أ ْ‬
‫{ َ‬
‫باللت مثلً‪ ،‬لذلك يقطع أمله في أيّ حيلة يفكر فيها‪ { :‬فَلَن تَسْ َتطِيعَ َلهُ طَلَبا } [الكهف‪ ]41 :‬أي‪:‬‬
‫لن تصل إليه بأيّ وسيلة من وسائلك‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى في آية أخرى‪ُ {:‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ َأصْبَحَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غوْرا َفمَن يَأْتِي ُكمْ ِبمَآءٍ ّمعِينٍ }[الملك‪]30 :‬‬
‫مَآ ُؤكُمْ َ‬
‫لحظ أن هذا الكلم من المؤمن لصاحبه الكافر مجرد رجاء يخاطبه به‪ {:‬فعسَىا رَبّي‪[} ..‬الكهف‪:‬‬
‫‪ ]40‬رجاء لم يحدث َبعْد‪ ،‬ولم يصل إلى إيقاعيات القدر‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَُأحِيطَ بِ َثمَ ِرهِ فََأصْبَحَ ُيقَّلبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَ ْنفَقَ فِيهَا وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا‬
‫شهَا‪.} ...‬‬
‫عُرُو ِ‬

‫(‪)2165 /‬‬

‫شهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ‬


‫وَأُحِيطَ بِ َثمَ ِرهِ فََأصْبَحَ ُيقَّلبُ َكفّيْهِ عَلَى مَا أَ ْنفَقَ فِيهَا وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ‬
‫حدًا (‪)42‬‬
‫أُشْ ِركْ بِرَبّي أَ َ‬

‫هكذا انتقل الرجاء إلى التنفيذ‪ ،‬وكأن ال تعالى استجاب للرجل المؤمن ولم يكذب توقعه { وَُأحِيطَ‬
‫بِ َثمَ ِرهِ } [الكهف‪ ]42 :‬أحيط‪ :‬كأنْ جعل حول الثمر سورا يحيط به‪ ،‬فل يكون له منفذ‪ ،‬كما قال في‬
‫آية أخرى‪ {:‬وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ ُأحِيطَ ِب ِهمْ }[يونس‪]22 :‬‬
‫وتلحظ أنه سبحانه قال‪ { :‬وَأُحِيطَ بِ َثمَ ِرهِ } [الكهف‪ ]42 :‬ولم ي ُقلْ مثلً‪ :‬أحيط بزرعه أو بنخله؛‬
‫لن الحاطة قد تكون بالشيء‪ ،‬ثم يثمر بعد ذلك‪ ،‬لكن الحاطة هنا جاءت على الثمر ذاته‪ ،‬وهو‬
‫قريب الجنْي قريب التناول‪ ،‬وبذلك تكون الفاجعة فيه أشدّ‪ ،‬والثمر هو الغاية والمحصّلة النهائية‬
‫للزرع‪ .‬ثم يُصوّر الحق سبحانه ندم صاحب الجنة وأَسَفه عليها‪ { :‬فََأصْبَحَ ُيقَّلبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَ ْنفَقَ‬
‫فِيهَا } [الكهف‪ ]42 :‬أي‪ :‬يضرب َكفّا بكفّ‪ ،‬كما يفعل النسان حينما يفاجئه أمر ل يتوقعه‪ ،‬فيقف‬
‫مبهوتا ل يدري ما يقول‪ ،‬فيضرب كفّا بكفّ ل يتكلم إل بعد أن يُفيق من َهوْل هذه المفاجأة‬
‫ودَهْشتها‪.‬‬
‫شهَا }‬
‫علَىا عُرُو ِ‬
‫ويُقلّب كفّيْه على أيّ شيء؟ يُقلّب كفيه ندما على ما أنفق فيها { وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ َ‬
‫جدْباء‪ ،‬كما قال سبحانه في آية أخرى‪َ {:‬أوْ كَالّذِي مَرّ‬
‫[الكهف‪ ]42 :‬خاوية‪ :‬أي خَربة جَرْداء َ‬
‫شهَا }[البقرة‪]259 :‬‬
‫عَلَىا قَرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُو ِ‬
‫ومعلوم أن العروش تكون فوق‪ ،‬فلما نزلت عليها الصاعقة من السماء د ّكتْ عروشها‪ ،‬وجعلت‬
‫عاليها سافلها‪ ،‬فوقع العرش أولً‪ ،‬ثم تهدّمتْ عليه الجدران‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَيَقُولُ يالَيْتَنِي َلمْ أُشْ ِركْ بِرَبّي َأحَدا } [الكهف‪ ]42 :‬بعد أن ألجمتْه الدهشة عن‬
‫ي الفوري‪ { :‬يالَيْتَنِي لَمْ‬
‫ح يضرب كفّا بكفّ‪ ،‬أفاق من دهشته‪ ،‬ونزع هذا النزوع القول ّ‬
‫الكلم‪ ،‬فرا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أُشْ ِركْ بِرَبّي أَحَدا } [الكهف‪ ]42 :‬يتمنى أنه لم يشرك بال أحدا؛ لن الشركاء الذين اتخذهم من‬
‫دون ال لم ينفعوه‪ ،‬لذلك قال بعدها‪ { :‬وَلَمْ َتكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ‪.} ...‬‬

‫(‪)2166 /‬‬

‫وَلَمْ َتكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَ ْنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه َومَا كَانَ مُنْ َتصِرًا (‪)43‬‬

‫حلّ به‪ ،‬ويمنعون عنه الخراب الذي حاقَ‬


‫أي‪ :‬ليس لديه أعوان ونُصراء يدفعون عنه هذا الذي َ‬
‫بجنته { َومَا كَانَ مُنْ َتصِرا } [الكهف‪ ]43 :‬أي‪ :‬ما كان ينبغي له أن ينتصر‪ ،‬ول يجوز له‬
‫النتصار‪ ،‬لماذا؟‬
‫حقّ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬هُنَاِلكَ ا ْل َولَيَةُ لِلّهِ الْ َ‬

‫(‪)2167 /‬‬

‫عقْبًا (‪)44‬‬
‫هُنَاِلكَ ا ْلوَلَايَةُ لِلّهِ ا ْلحَقّ ُهوَ خَيْرٌ َثوَابًا وَخَيْرٌ ُ‬

‫هنالك‪ :‬أي في وقت الحالة هذه‪ ،‬وقتَ أنْ نزلتْ الصاعقة من السماء فأتتْ على الجنة‪ ،‬وجعلتها‬
‫خاوية على عروشها‪ ،‬هناك تذكّر المنع َم وتمنّى لو لم يشرك بال‪ ،‬فقوله‪ { :‬هُنَاِلكَ } أي‪ :‬في الوقت‬
‫الدقيق وقت القمة‪ ،‬قمة النكَد والكَدَر‪.‬‬
‫و { هُنَاِلكَ } جاءت في القرآن في المر العجيب‪ ،‬ويدعو إلى المر العجب‪ ،‬من ذلك قصة سيدنا‬
‫زكريا ـ عليه السلم ـ لما دخل على السيدة مريم‪ ،‬فوجد عندها رزقا‪ {:‬قَالَ يامَرْيَمُ أَنّىا َلكِ‬
‫هَـاذَا قَاَلتْ ُهوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران‪]37 :‬‬
‫وكان زكريا ـ عليه السلم ـ هو المتكفّل بها‪ ،‬الذي يُحضِر لها الطعام والشراب‪ ،‬فلما رأى‬
‫عندها أنواعا من الطعام لم يَ ْأتِ بها سألها من أيْن؟ فقالت‪ :‬هو من عند ال إن ال يرزق مَنْ يشاء‬
‫بغير حساب‪ ،‬فأطمع هذا القولُ زكريا في فضل ال‪ ،‬وأراد أن يأخذ بالسباب‪ ،‬فدعا ال أن يرزقه‬
‫الولد‪ ،‬وقد كانت امرأته عاقرا فقال تعالى‪ {:‬هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ }[آل عمران‪]38 :‬‬
‫و { ا ْل َولَيَةُ } أن يكون لك ولي ينصرك‪ ،‬فالولي هو الذي يليك‪ ،‬ويدافع عنك وقت الشدة‪ ،‬وفي‬
‫قراءة أخرى‪( :‬هُنَاِلكَ ا ْلوِليَةُ) بكسر الواو يعني الملك‪ ،‬كما في قوله‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ‬
‫ا ْل َقهّارِ }[غافر‪]16 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله‪ُ { :‬هوَ خَيْرٌ َثوَابا‪[ } ..‬الكهف‪ ]44 :‬لنه سيجازى على العمل الصالح بثواب‪ ،‬هو خير من‬
‫عقْبا } [الكهف‪ ]44 :‬أي‪ :‬خير العاقبة بالرزق الطيب في جنة الخلد‪.‬‬
‫الدنيا وما فيها { وَخَيْرٌ ُ‬
‫هكذا ضرب ال تعالى لنا مثلً‪ ،‬وأوضح لنا عاقبة الغنيّ الكافر‪ ،‬والفقير المؤمن‪ ،‬وبيّن لنا أن‬
‫النسان يجب ألّ تخدعه النعمة ول يغره النعيم؛ لنه موهوب من ال‪ ،‬فاجعل الواهب المنعِمَ‬
‫سبحانه دائما على بالك‪ ،‬كي يحافظ لك على نعمتك وإل َلكُ ْنتَ مثل هذا الجاحد الذي استعلى‬
‫واغترّ بنعمة ال فكانت عاقبته كما رأيت‪.‬‬
‫وهذا مثل في المر الجزئي الذي يتعلق بالمكلّف الواحد‪ ،‬ولو نظرتَ إليه لوجدتَه يعمّ الدنيا كلها؛‬
‫فهو مثال مُصغّر لحال الحياة الدنيا؛ لذلك انتقل الحق سبحانه من المثل الجزئيّ إلى المثل العام‪،‬‬
‫فقال تعالى‪ { :‬وَاضْ ِربْ َلهُم مّ َثلَ الْحَيَواةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ‪.} ...‬‬

‫(‪)2168 /‬‬

‫سمَاءِ فَاخْتََلطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَ ْرضِ فََأصْبَحَ هَشِيمًا‬


‫وَاضْرِبْ َلهُمْ مَ َثلَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫شيْءٍ مُقْتَدِرًا (‪)45‬‬
‫ح َوكَانَ اللّهُ عَلَى ُكلّ َ‬
‫تَذْرُوهُ الرّيَا ُ‬

‫الحق تبارك وتعالى في هذه الية يوضح المجهول لنا بما عُلِم لدينا‪ .‬وأهل البلغة يقولون‪ :‬في‬
‫هذه الية تشبيه تمثيل؛ لنه سبحانه شبّه حال الدنيا في ِقصَرها وسرعة زوالها بالماء الذي نزل‬
‫من السماء‪ ،‬فارتوتْ به الرض‪ ،‬وأنبتتْ ألوانا من الزروع والثمار‪ ،‬ولكن سرعان ما يذبلُ هذا‬
‫النبات ويصير هشيما مُتفتتا تذهب به الريح‪.‬‬
‫وهذه صورة ـ كما يقولون ـ منتزعة من مُتعدّد‪ .‬أي‪ :‬أن وجه الشبه فيها ليس شيئا واحدا‪ ،‬بل‬
‫عِدّة أشياء‪ ،‬فإن كان التشبيه مُركّبا من أشياء متعددة فهو مَثَل‪ ،‬وإنْ كان تشبيه شيء مفرد بشيء‬
‫لمْثَالَ }[النحل‪]74 :‬‬
‫مفرد يُسمّونه مِثْل‪ ،‬نقول‪ :‬هذا مِثْل هذا‪ ،‬لذلك قال تعالى‪ {:‬فَلَ َتضْرِبُواْ لِلّهِ ا َ‬
‫لن ل تعالى المثل العلى‪.‬‬
‫حلْوة َنضِرة‪ ،‬وفجأة ل تجد في يديك منها شيئا؛ لذلك سماها‬
‫وهكذا الدنيا تبدو جميلة مُزهِرة مُثمِرة ُ‬
‫ي وصف أقل من هذا يمكن أن يصفها به؟ لنعرف أن‬
‫القرآن دُنْيا وهو اسم يُوحي بالحقارة‪ ،‬وإل فأ ّ‬
‫ما يقابلها حياة عُلْيا‪.‬‬
‫وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬كما ضربتُ لهم مَثَل الرجلين وما آل إليه‬
‫أمرهما اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلّب بأهلها‪ ،‬وتتبدل بهم‪ ،‬واضرب لهم مثلً للدنيا من‬
‫واقع الدنيا نفسها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل بعضُه‬
‫ت الَ ْرضِ } [الكهف‪ ]45 :‬أي‪ :‬اختلط بسببه نبات الرض‪ ،‬وتداخ َ‬
‫ومعنى { فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَا ُ‬
‫ن كانت‬
‫خصْبة‪ ،‬أما إ ْ‬
‫في بعض‪ ،‬وتشابكتْ أغصانه وفروعه‪ ،‬وهذه صورة النبات في الرض ال ِ‬
‫خصْبة فإنها تُخرِج النبات مفردا‪ ،‬عود هنا وعود هناك‪.‬‬
‫الرض مالحة غير ِ‬
‫خضْرته ونضارته؟ ل‪ ،‬بل سرعان ما جفّ وتكسر وصار هشيما‬
‫لكن‪ ،‬هل ظل النبات على حال ُ‬
‫تطيح به الريح وتذروه‪ ،‬هذا مثلٌ للدنيا حين تأخذ زخرفها وتتزيّن‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬حَتّىا ِإذَآ‬
‫ت وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ َنهَارا‪} ..‬‬
‫خ َذتِ الَرْضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّنَ ْ‬
‫أَ َ‬
‫[يونس‪]24 :‬‬
‫شيْءٍ ّمقْتَدِرا } [الكهف‪ ]45 :‬لنه سبحانه القادر دائما على‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬وكَانَ اللّهُ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫إخراج الشيء إلى ضِدّه‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَإِنّا عَلَىا ذَهَابٍ بِهِ َلقَادِرُونَ }[المؤمنون‪]18 :‬‬
‫فقد اقتدر سبحانه على اليجاد‪ ،‬واقتدر على العدام‪ ،‬فل تنفكّ عنه صفة القدرة أبدا‪ ،‬أحيا وأمات‪،‬‬
‫وأعزّ وأذلّ‪ ،‬وقبض وبسط‪ ،‬وضَرّ ونفع‪..‬‬
‫ولما كان الكلم السابق عن صاحب الجنة الذي اغترّ بماله وولده فناسب الحديث عن المال‬
‫ل وَالْبَنُونَ زِينَةُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا }‪.‬‬
‫والولد‪ ،‬فقال تعالى‪ { :‬ا ْلمَا ُ‬

‫(‪)2169 /‬‬

‫ا ْلمَالُ وَالْبَنُونَ زِي َنةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَ ّبكَ َثوَابًا وَخَيْرٌ َأمَلًا (‪)46‬‬

‫تلك هي العناصر الساسية في فتنة الناس في الدنيا‪ :‬المال والبنون‪ ،‬لكن لماذا قدّم المال؟ أهو‬
‫أغلى عند الناس من البنين؟ نقول‪ :‬قدّم الحق سبحانه المال على البنين‪ ،‬ليس لنه أعزّ أو أغلى؛‬
‫إنما لن المال عام في المخاطب على خلف البنين‪ ،‬فكلّ إنسان لديه المال وإنْ قلّ‪ ،‬أما البنون‬
‫فهذه خصوصية‪ ،‬ومن الناس مَنْ حُرِم منها‪.‬‬
‫كما أن البنين ل تأتي إل بالمال؛ لنه يحتاج إلى الزواج والنفقة لكي يتناسل ويُنجب‪ ،‬إذن‪ :‬كل‬
‫ل وَالْبَنُونَ زِي َنةُ ا ْلحَيَاةِ‬
‫واحد له مال‪ ،‬وليس لكل واحد بنون‪ ،‬والحكم هنا قضية عامة‪ ،‬وهي‪ { :‬ا ْلمَا ُ‬
‫الدّنْيَا‪[ } ..‬الكهف‪ ]46 :‬كلمة { زِينَةُ } أي‪ :‬ليست من ضروريات الحياة‪ ،‬فهو مجرد شكل‬
‫وزخرف؛ لن المؤمن الراضي بما قُسِمَ له يعيش حياته سعيدا بدون مال‪ ،‬وبدون أولد؛ لن‬
‫النسان قد يشقَى بماله‪ ،‬أو يشقى بولده‪ ،‬لدرجة أنه يتمنى لو مات قبل أن يُرزقَ هذا المال أو هذا‬
‫الولد‪.‬‬
‫عقْدة ومشكلة عند كثير من الناس‪ ،‬فترى الرجل كَدِرا مهموما؛ لنه يريد‬
‫وقد باتت مسألة النجاب ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الولد ليكون له عِزْوة وعِزّة‪ ،‬وربما يُزَرق الولد ويرى ال ّذلّ على يديه‪ ،‬وكم من المشاكل تُثار في‬
‫البيوت؛ لن الزوجة ل تنجب‪.‬‬
‫ولو أيقن الناس أن اليجاد من ال نعمة‪ ،‬وأن السّلْب من ال أيضا نعمة لستراح الجميع‪ ،‬ألم نقرأ‬
‫خلُقُ مَا َيشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ‬
‫ت وَالَرْضِ يَ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫قول ال تعالى‪ {:‬لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫عقِيما إِنّهُ عَلِيمٌ َقدِيرٌ }[الشورى‪]50-49 :‬‬
‫ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ‬
‫جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ‬
‫ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ‬
‫عقْمه بأنْ يجعل‬
‫إذن‪ :‬فال ُعقْم في ذاته نعمة وهِبَة من ال لو قبلها النسان من ربه لَعوّضه ال عن ُ‬
‫كل البناء أبناءه‪ ،‬ينظرون إليه ويعاملونه كأنه أبٌ لهم‪ ،‬فيذوق من خللهم لذّة البناء دون أن‬
‫يتعب في تربية أحد‪ ،‬أو يحمل هَمّ أحد‪.‬‬
‫وكذلك‪ ،‬الذي يتكدر لن ال رزقه بالبنات دون البنين‪ ،‬ويكون كالذي قال ال فيه‪ {:‬وَإِذَا بُشّرَ‬
‫سوَدّا وَ ُهوَ َكظِيمٌ }[النحل‪]58 :‬‬
‫جهُهُ مُ ْ‬
‫ظلّ َو ْ‬
‫حدُهُمْ بِالُنْثَىا َ‬
‫أَ َ‬
‫إنه يريد الولد ليكون عِزْوة وعِزّة‪ .‬ونسى أن عزة المؤمن بال ل بغيره‪ ،‬ونقول‪ :‬وال لو استقبلت‬
‫البنت بالفرح والرضا على أنها هِبَة من ال لكانتْ سببا في أن يأتي لها زوج أبرّ بك من ولدك‪ ،‬ثم‬
‫قد تأتي هي لك بالولد الذي يكون أعزّ عندك من ولدك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المال والبنون من زينة الحياة وزخرفها‪ ،‬وليسا من الضروريات‪ ،‬وقد حدد لنا النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم الدنيا‪ ،‬فقال‪ " :‬من أصبح ُمعَافىً في بدنه‪ ،‬آمنا في سِرْبه ـ أي‪ :‬ل يهدد أمنه أحد ـ‬
‫وعنده قوت يومه‪ ،‬فكأنما حِي َزتْ له الدنيا بحذافيرها "‬

‫فما زاد عن ذلك فهو من الزينة‪ ،‬فالنسان ـ إذن ـ يستطيع أن يعيش دون مال أو ولد‪ ،‬يعيش‬
‫بقيم تعطي له الخير‪ ،‬ورضا يرضيه عن خالقه تعالى‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَالْبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ َأمَلً { [الكهف‪]46 :‬‬
‫لن المال والبنين لن يدخل معك القبر‪ ،‬ولن يمنعاك من العذاب‪ ،‬ولن ينفعك إل الباقيات‬
‫الصالحات‪ .‬والنبي صلى ال عليه وسلم حينما أُهد َيتْ إليه شاة‪ ،‬وكانت السيدة عائشة ـ رضي ال‬
‫عنها ـ تعرف أن رسول ال يحب من الشاة الكتف؛ لنه َلحْم رقيق خفيف؛ لذلك احتفظتْ لرسول‬
‫ال بالكتف وتصدّقت بالباقي‪ ،‬فلما جاء صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬ماذا صنعتِ في الشاة "؟ قالت‪:‬‬
‫ت كلها إل كتفها‪ ،‬فضحك صلى ال عليه وسلم وقال‪ " :‬بل بقيت كلها إل كتفها "‪.‬‬
‫ذهب ْ‬
‫وفي حديث آخر قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬هل لك يا ابن آدم من مالك إل ما أكلتَ فأفنيتَ‪ ،‬أو‬
‫ستَ فأبل ْيتَ‪ ،‬أو تص ّد ْقتَ فأبق ْيتَ "‪.‬‬
‫لب ْ‬
‫وهذا معنى‪ } :‬وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ‪[ { ..‬الكهف‪]46 :‬‬
‫والسؤال الذي يتبادر إلى الذّهْن الن‪ :‬إذا لم يكُنْ المال والبنون يمثلن ضرورة من ضروريات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحياة‪ ،‬فما الضروريات في الحياة إذن؟ الضروريات في الحياة هي ُكلّ ما يجعل الدنيا مزرعة‬
‫للخرة‪ ،‬ووسيلة لحياة باقية دائمة ناعمة مسعدة‪ ،‬ل تنتهي أنت من النعيم فتتركه‪ ،‬ول ينتهي النعيم‬
‫منك فيتركك‪ ،‬إنه نعيم الجنة‪.‬‬
‫الضروريات ـ إذن ـ هي الدين ومنهج ال والقِيَم التي تُنظم حركة الحياة على َوفْق ما أراد ال‬
‫من خلق الحياة‪.‬‬
‫ومعنى‪ } :‬وَالْبَاقِيَاتُ { [الكهف‪ ]46 :‬ما دام قال } وَالْبَاقِيَاتُ { فمعنى هذا أن ما قبلها لم يكُنْ من‬
‫الباقيات بل هو زائل بزوال الدنيا‪ ،‬ثم وصفها بالصالحات ليفرق بينها وبين الباقيات السيئات التي‬
‫يخلدون بها في النار‪.‬‬
‫} وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ‪[ { ..‬الكهف‪ ]46 :‬خير عند مَنْ؟ لن كل مضاف إليه يأتي على قوة‬
‫المضاف إليه‪ ،‬فخَيْرك غير خير مَنْ هو أغنى منك‪ ،‬غير خير الحاكم‪ ،‬فما بالك بخير عند ال؟‬
‫} خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا َوخَيْرٌ َأمَلً { [الكهف‪]46 :‬‬
‫والمل‪ :‬ما يتطلع إليه النسان مما لم تكُنْ به حالته‪ ،‬فإنْ كان عنده خير تطلّع إلى أعلى منه‪،‬‬
‫فالمل العلى عند ال تبارك وتعالى‪ُ ،‬كلّ هذا يُبيّن لنا أن هذه الدنيا زائلة‪ ،‬وأننا ذاهبون إلى يوم‬
‫بَاقٍ؛ لذلك أردف الحق سبحانه بعد الباقيات الصالحات ما يناسبها‪ ،‬فقال تعالى‪ } :‬وَ َيوْمَ نُسَيّرُ‬
‫ل وَتَرَى الَ ْرضَ بَارِ َزةً‪.{ ...‬‬
‫الْجِبَا َ‬

‫(‪)2170 /‬‬

‫وَ َيوْمَ نُسَيّرُ ا ْلجِبَالَ وَتَرَى الْأَ ْرضَ بَارِ َز ًة َوحَشَرْنَا ُهمْ فَلَمْ ُنغَادِرْ مِ ْنهُمْ َأحَدًا (‪)47‬‬

‫أي‪ :‬اذكر جيدا يوم نُسيّر الجبال وتنتهي هذه الدنيا‪ ،‬واعمل الباقيات الصالحات لننا سنُسيّر الجبال‬
‫التي تراها ثابتة راسخة تتوارث الجيال حجمها وجِرْمها‪ ،‬وقوتها وصلبتها‪ ،‬وهي باقية على‬
‫حالها‪.‬‬
‫ومعنى تسيير الجبال‪ :‬إزالتها عن أماكنها‪ ،‬كما قال في آية أخرى‪ {:‬وَسُيّ َرتِ الْجِبَالُ َفكَا َنتْ سَرَابا }‬
‫[النبأ‪]20 :‬‬
‫وقال في آية أخرى{ وَإِذَا ا ْلجِبَالُ سُيّ َرتْ }[التكوير‪]3 :‬‬
‫سمَآءُ كَا ْل ُمهْلِ * وَ َتكُونُ الْجِبَالُ‬
‫سفَتْ }[المرسلت‪ ]10 :‬وقال‪َ {:‬يوْمَ َتكُونُ ال ّ‬
‫وقال‪ {:‬وَِإذَا ا ْلجِبَالُ ُن ِ‬
‫كَا ْل ِعهْنِ }[المعارج‪]9-8 :‬‬
‫ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر أقوى مظهر ثابت في الحياة الدنيا‪ ،‬وإل ففي الرض أشياء أخرى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قوية وثابتة كالعمائر ناطحات السحاب‪ ،‬والشجر الكبير الضخم المعمّر وغيرها كثير‪ .‬فإذا كان‬
‫الحق سبحانه سينسف هذه الجبال ويُزيلها عن أماكنها‪ ،‬فغيرها مما على وجه الرض زائل من‬
‫باب َأوْلَى‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَتَرَى الَ ْرضَ بَارِ َزةً } [الكهف‪]47 :‬‬
‫الرض‪ُ :‬كلّ ما أقلّك من هذه البسيطة التي نعيش عليها‪ ،‬وكل ما يعلوك ويُظِلّك فهو سماء‪،‬‬
‫ومعنى‪ { :‬بَارِ َزةً } البَرَازُ‪ :‬هو الفضاء‪ ،‬أي‪ :‬وترى الرض فضاءً خالية مما كان عليها من أشكال‬
‫الجبال والمباني والشجار‪ ،‬حتى البحر الذي يغطي جزءا كبيرا من الرض‪.‬‬
‫كل هذه الشكال ذهبتْ ل وجودَ لها‪ ،‬فكأن الرض بَر َزتْ بعد أنْ كانت مختبئة‪ :‬بعضها تحت‬
‫الجبال‪ ،‬وبعضها تحت الشجار‪ ،‬وبعضها تحت المباني‪ ،‬وبعضها تحت الماء‪ ،‬فأصبحتْ فضاء‬
‫واسعا‪ ،‬ليس فيه َمعْلَمٌ لشيء‪.‬‬
‫ومن ذلك ما نُسمّيه نحن المبارزة‪ ،‬فنرى الفتوة يقول للخر (اطلع لي بره) أي‪ :‬في مكان خال‬
‫حتى ل يجد شيئا يحتمي به‪ ،‬أو حائطا مثلً يستند عليه‪ ،‬وبرز فلن لفلن وبارزه أي‪ :‬صارعه‪.‬‬
‫حشَرْنَاهُمْ } [الكهف‪ ]47 :‬أي‪ :‬جمعناهم ليوم الحساب؛ لنهم فارقوا الدنيا على مراحل من لَدُن‬
‫{ وَ َ‬
‫آدم عليه السلم‪ ،‬والموت يحصد الرواح‪ ،‬وقد جاء اليوم الذي يُجمع فيه هؤلء‪.‬‬
‫{ فََلمْ ُنغَادِرْ مِ ْنهُمْ أَحَدا } [الكهف‪ ]47 :‬أي‪ :‬لم نترك منهم واحدا‪ ،‬الكلّ معرض على ال‪ ،‬وكلمة‬
‫{ ُنغَادِرْ } [الكهف‪ ]47 :‬ومادة (غدر) تؤدي جميعها معنى الترْك‪ ،‬فالغدر مثلً تَرْك الوفاء وخيانة‬
‫سمّي غديرا؛ لن المطر حينما ينزل على الرض‬
‫المانة‪ ،‬حتى غدير وهو جدول الماء الصغير ُ‬
‫ل في المواطئ‪.‬‬
‫يذهب ويترك شيئا قلي ً‬
‫صفّا ّلقَدْ جِئْ ُتمُونَا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ‪.} ...‬‬
‫ك َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَعُ ِرضُواْ عَلَىا رَ ّب َ‬

‫(‪)2171 /‬‬

‫ج َعلَ َل ُكمْ َموْعِدًا (‪)48‬‬


‫عمْ ُتمْ أَلّنْ َن ْ‬
‫صفّا َلقَدْ جِئْ ُتمُونَا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ َبلْ زَ َ‬
‫ك َ‬
‫وَعُ ِرضُوا عَلَى رَ ّب َ‬

‫صفّا‪[ } ..‬الكهف‪ ]48 :‬العرض‪ :‬أن يستقبل العارض‬


‫ك َ‬
‫قوله تعالى‪ { :‬وَعُ ِرضُواْ عَلَىا رَ ّب َ‬
‫المعروضَ استقبالً مُنظّما يدلّ على ُكلّ هيئاته‪ ،‬كما يستعرض القائد الجنود في العرض العسكري‬
‫صفّا } أي‪ :‬صُفوفا منتظمة‪ ،‬حتى الملئكة تأتي صُفوفا‪ ،‬كما‬
‫مثلً‪ ،‬فيرى كل واحد من جنوده { َ‬
‫صفّا }[الفجر‪]22 :‬‬
‫صفّا َ‬
‫ك َ‬
‫ك وَا ْلمََل ُ‬
‫قال تعالى‪َ {:‬وجَآءَ رَ ّب َ‬
‫أي‪ :‬أنها عملية مُنظمة ل يستطيع فيها أحد التخفي‪ ،‬ولن يكون لحد منها مفَرّ‪ ،‬وهي صفوف‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ف الصفّ الذي يليه‪ ،‬فالجميع واضح بكل أحواله‪.‬‬
‫ص ّ‬
‫متداخلة بطريقة ل ُيخِفي فيها َ‬
‫وفي الحديث عن معاذ بن جبل ـ رضي ال عنه ـ قال‪ :‬حدثنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫فقال‪ " :‬يَحشر ال الخَلْق ثم ينادي‪ :‬يا عبادي أحضروا حُجتكم ويسّروا جوابكم‪ ،‬فإنكم مجموعون‬
‫مُحَاسَبُون مَسْئولون‪ ،‬يا ملئكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب "‪.‬‬
‫ن تتصوّر المعاناة واللم الذي يجده مَنْ يقف على أطراف أنامل قدميْه؛ لن ثقل الجسم‬
‫ولك أ ْ‬
‫يُوزّع على القدمين في حال الوقوف‪ ،‬وعلى المقعدة في حال الجلوس‪ ،‬وعلى الجسم كله في حال‬
‫النوم‪ ،‬وهكذا يخفّ ثقل الجسم حسب الحالة التي هو عليها‪ ،‬فإنْ تركّز الثقل كله على أطراف‬
‫شكّ أنه َوضْع مؤلم وشاقّ‪ ،‬يصعُب على الناس حتى إنهم ليتمنون النصراف‬
‫أنامل القدمين‪ ،‬فل َ‬
‫ولو إلى النار‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ّ { :‬لقَدْ جِئْ ُتمُونَا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ‪[ } ..‬الكهف‪]48 :‬‬
‫أي‪ :‬على الحالة التي نزلتَ عليها من بطن أمك عريانا‪ ،‬ل تملك شيئا حتى ما يستر عورتك‪ ،‬وقد‬
‫خوّلْنَاكُمْ‬
‫ُفصّل هذا المعنى في قوله تعالى‪ {:‬وَلَقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَىا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَتَ َركْتُمْ مّا َ‬
‫ضلّ عَنكُم‬
‫عمْ ُتمْ أَ ّنهُمْ فِيكُمْ شُ َركَآءُ َلقَد ّتقَطّعَ بَيْ َنكُ ْم َو َ‬
‫ش َفعَآ َءكُمُ الّذِينَ زَ َ‬
‫ظهُو ِركُ ْم َومَا نَرَىا َم َعكُمْ ُ‬
‫وَرَاءَ ُ‬
‫عمُونَ }[النعام‪]94 :‬‬
‫مّا كُنتُمْ تَزْ ُ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ ّموْعِدا } [الكهف‪ ]48 :‬والخطاب هنا مُوجّه للكفار الذين‬
‫عمْتُمْ أَلّن نّ ْ‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬بلْ زَ َ‬
‫عمْ ُتمْ } [الكهف‪ ]48 :‬والزعْم مطيّة الكذب‪.‬‬
‫أنكروا البعث والحساب { زَ َ‬
‫ش ِفقِينَ ِممّا فِيهِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬و ُوضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ مُ ْ‬

‫(‪)2172 /‬‬

‫شفِقِينَ ِممّا فِي ِه وَ َيقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِرُ‬
‫َووُضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ ُم ْ‬
‫حدًا (‪)49‬‬
‫عمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظِْلمُ رَ ّبكَ أَ َ‬
‫جدُوا مَا َ‬
‫حصَاهَا َووَ َ‬
‫صغِي َرةً وَلَا كَبِي َرةً إِلّا أَ ْ‬
‫َ‬

‫قوله تعالى‪َ { :‬و ُوضِعَ ا ْلكِتَابُ } [الكهف‪ ]49 :‬أي‪ :‬وضعته الملئكة بأمر من ال تعالى‪ ،‬فيعطون‬
‫كل واحد كتابه‪ ،‬فهي ـ إذن ـ صور متعددة‪ ،‬فمَنْ أخذ كتابه بيمينه فرح وقال‪:‬‬
‫{ هَآؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَابيَهْ }[الحاقة‪ ]19 :‬يعرضه على ناس‪ ،‬وهو فخور بما فيه؛ لنه كتاب مُشرّف‬
‫ليس فيه ما يُخجل؛ لذلك يتباهى به ويدعو الناس إلى قراءته‪ ،‬فهو كالتلميذ الذي حصل على‬
‫درجات عالية‪ ،‬فطار بها ليعرضها ويذيعها‪.‬‬
‫وهذا بخلف مَنْ أوتي كتابه بشماله فإنه يقول‪ {:‬يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وََلمْ أَدْرِ مَا حِسَابِ َيهْ *‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يالَيْ َتهَا كَا َنتِ ا ْلقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَىا عَنّي مَالِ َيهْ * هَّلكَ عَنّي سُ ْلطَانِيَهْ }[الحاقة‪]29-25 :‬‬
‫إنه الخزي والنكسار والندم على صحيفة مُخْجِلة‪.‬‬
‫شفِقِينَ ِممّا فِيهِ } [الكهف‪ ]49 :‬أي‪ :‬خائفين يرتعدون‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى‬
‫{ فَتَرَى ا ْل ُمجْ ِرمِينَ مُ ْ‬
‫يصور لنا حالة الخوف هذه لِيُفزع عباده ويُحذّرهم ويُضخّم لهم العقوبة‪ ،‬وهم ما يزالون في وقت‬
‫التدارك والتعديل من السلوك‪ ،‬وهذا من رحمة ال تعالى بعباده‪.‬‬
‫فحالتهم الولى الشفاق‪ ،‬وهو عملية هبوط القلب ولجلجته‪ ،‬ثم يأتي نزوع القول‪ { :‬وَ َيقُولُونَ‬
‫ياوَيْلَتَنَا } [الكهف‪ ]49 :‬يا‪ :‬أداة للنداء‪ ،‬كأنهم يقولون‪ :‬يا حسرتنا يا هلكنا‪ ،‬هذا أوانُك فاحضري‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابني آدم ـ عليه السلم ـ لما قتل قابيل هابيل‪ ،‬وكانت أول حادثة‬
‫قتل‪ ،‬وأول ميت في ذرية آدم؛ لذلك بعث ال له غرابا يُعلّمه كيف يدفن أخاه‪ ،‬فقال‪ {:‬يَاوَيْلَتَا‬
‫سوْ َءةَ أَخِي‪[} ..‬المائدة‪ {]31 :‬يَاوَيْلَتَا }[المائدة‪]31 :‬‬
‫أَعَجَ ْزتُ أَنْ َأكُونَ مِ ْثلَ هَـاذَا ا ْلغُرَابِ فَُأوَا ِريَ َ‬
‫يا هلكي كأن يتحسّر على ما أصبح فيه‪ ،‬وأن الغراب أعقل منه‪ ،‬وأكثر منه خبرة؛ لكي ل نظلم‬
‫هذه المخلوقات ونقول‪ :‬إنها بهائم ل تَفهم‪ ،‬والحقيقة‪ :‬ليتنا مثلهم‪.‬‬
‫حصَاهَا } [الكهف‪ ]49 :‬أي‪ :‬ل‬
‫صغِي َر ًة َولَ كَبِي َرةً ِإلّ َأ ْ‬
‫قوله تعالى‪ { :‬مَالِ هَـاذَا ا ْلكِتَابِ لَ ُيغَادِ ُر َ‬
‫عمِلُواْ حَاضِرا } [الكهف‪ ]49 :‬فكل ما‬
‫يترك كبيرة أو صغيرة إل عدّها وحسبها { َووَجَدُواْ مَا َ‬
‫فعلوه مُسجّل مُسطّر في كُتبهم { َولَ يَظِْلمُ رَ ّبكَ أَحَدا } [الكهف‪ ]49 :‬لنه سبحانه وتعالى عادل ل‬
‫يؤاخذهم إل بما عملوه‪.‬‬
‫سجَدُواْ ِإلّ إِبْلِيسَ‪.} ...‬‬
‫سجُدُو ْا لَ َدمَ فَ َ‬
‫ثم يقول ال سبحانه‪ { :‬وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ ا ْ‬

‫(‪)2173 /‬‬

‫خذُونَ ُه وَذُرّيّتَهُ‬
‫سجَدُوا إِلّا إِ ْبلِيسَ كَانَ مِنَ ا ْلجِنّ َففَسَقَ عَنْ َأمْرِ رَبّهِ َأفَتَتّ ِ‬
‫سجُدُوا لِآَ َدمَ فَ َ‬
‫وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَلَا ِئكَةِ ا ْ‬
‫َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ َل ُكمْ عَ ُدوّ بِئْسَ لِلظّاِلمِينَ َبدَلًا (‪)50‬‬

‫تكررتْ قصة سجود الملئكة لدم ـ عليه السلم ـ كثيرا في القرآن الكريم‪ ،‬وفي كل مرة تُعطينا‬
‫الياتُ لقطةً معينة‪ ،‬والحق سبحانه في هذه الية يقول لنا‪ :‬يجب عليكم أنْ تذكّروا جيدا عداوة‬
‫إبليس لبيكم آدم‪ ،‬وتذكروا جيدا أنه أخذ العهد على نفسه أمام ال تعالى أنْ يُغويكم أجمعين‪ ،‬فكان‬
‫يجب عليكم أن تتنبهوا لهذه العداوة‪ ،‬فإذا حدّثكم بشيء فاذكروا عداوته لكم‪.‬‬
‫والحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يُحذّرنا من إبليس فإنه يُربّي فينا المناعة التي نُقاومه بها‪،‬‬
‫والمناعة أنْ تأتيَ بالشيء الذي يضرّ مستقبلً حين يفاجئك وتضعه في الجسم في صورة مكروب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خامد‪ ،‬وهذا هو التطعيم الذي يُعوّد الجسم على مدافعة المرض وتغلّب عليه إذا أصابه‪.‬‬
‫فكذلك الحق سبحانه يعطينا المناعة ضد إبليس‪ ،‬ويُذكّرنا ما كان منه لبينا آدم واستكباره عن‬
‫السجود له‪ ،‬وأن نذكر دائما قوله‪ {:‬أَرَأَيْ َتكَ هَـاذَا الّذِي كَ ّر ْمتَ عََليّ لَئِنْ أَخّرْتَنِ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ‬
‫لَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّ َتهُ ِإلّ قَلِيلً }[السراء‪]62 :‬‬
‫ن تقفوا موقفا‬
‫فانتبهوا ما دُمنا سنُسيّر الجبال‪ ،‬ونُسوّي الرض‪ ،‬ونحصر لكلّ كتابه‪ ،‬فاحذروا أ ْ‬
‫حرجا يوم القيامة‪ ،‬ثم ُتفَاجأوا بكتاب ل يغادر صغيرة ول كبيرة‪ ،‬وها أنا أُذكّركم من الن في‬
‫وقت السّعة والتدارك‪ ،‬فحاولوا التوبة إلى ال‪ ،‬وأنْ تصلحوا ما بينكم وبين ربكم‪.‬‬
‫والمر هنا جاء للملئكة‪ { :‬وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ‪[ } ..‬الكهف‪ ]50 :‬لنهم أشرف المخلوقات‪ ،‬حيث ل‬
‫يعصون ال ما أمرهم‪ ،‬ويفعلون ما يُؤمَرُون‪ .‬وحين يأمر ال تعالى الملئكة الذين هذه صفاتهم‬
‫ن تكونوا في خدمته‪.‬‬
‫بالسجود لدم‪ ،‬فهذا يعني الخضوع‪ ،‬وأن هذا هو الخليفة الذي آمُركُم أ ْ‬
‫حفَظُونَهُ مِنْ‬
‫لذلك سمّاهم‪ :‬المدبّرات أمرا‪ ،‬وقال تعالى عنهم‪ {:‬لَهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ‬
‫َأمْرِ اللّهِ }[الرعد‪ ]11 :‬فكأن مهمة هؤلء الملئكة أن يكونوا مع البشر وفي خدمتهم‪.‬‬
‫فإذا كان الحق سبحانه قد جنّد هؤلء الملئكة وهم أشرفُ المخلوقات لخدمة النسان‪ ،‬وأمرهم‬
‫بالسجود له إعلنا للخضوع للنسان‪ ،‬فمن باب َأوْلى أن يخضع له الكون كله بسمائه وأرضه‪،‬‬
‫وأن يجعلَه في خدمته‪ ،‬إنما ذكر أشرف المخلوقات لينسحب الحكم على مَنْ دونهم‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن العلماء اختلفوا كثيرا على ماهية إبليس‪ :‬أهو من الجن أم من الملئكة‪ ،‬وقد قطعت هذه‬
‫سمَتْه‪ ،‬فقال تعالى‪ِ { :‬إلّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ‪[ } ..‬الكهف‪ ]50 :‬وطالما جاء‬
‫حَ‬‫الية هذا الخلف و َ‬
‫القرآن بالنص الصريح الذي يُوضّح جنسيته‪ ،‬فليس لحد أن يقول‪ :‬إنه من الملئكة‪.‬‬
‫ن يفعل أو ل يفعل‪ ،‬فقد اختار ألّ يفعل‪َ { :‬ففَسَقَ‬
‫وما دام كان من الجن‪ ،‬وهم جنس مختار في أ ْ‬
‫عَنْ َأمْرِ رَبّهِ‪[ } ..‬الكهف‪ ]50 :‬أي‪ :‬رجع إلى أصله‪ ،‬وخرج عن المر‪.‬‬
‫خذُونَ ُه وَذُرّيّتَهُ َأوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ َلكُمْ عَ ُدوّ‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬أفَتَتّ ِ‬

‫‪[ { .‬الكهف‪ ]50 :‬فهذا أمر عجيب‪ ،‬فكيف بعد ما حدث منه تجعلونه وليا من دون ال الذي خلقكم‬
‫ورزقكم‪ ،‬فكان َأوْلَى بهذه الولية‪.‬‬
‫و } وَذُرّيّ َتهُ‪[ { ..‬الكهف‪ ]50 :‬تدل على تناسل إبليس‪ ،‬وأن له أولدا‪ ،‬وأنهم يتزاوجون‪ ،‬ويمكن أن‬
‫نقول‪ :‬ذريته‪ :‬كل مَنْ كان على طريقته في الضلل والغواء‪ ،‬ولو كان من النس‪ ،‬كما قال‬
‫س وَالْجِنّ يُوحِي َب ْعضُهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ‬
‫ن الِنْ ِ‬
‫جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ عَ ُدوّا شَيَاطِي َ‬
‫تعالى‪َ {:‬وكَذَِلكَ َ‬
‫ا ْل َقوْلِ غُرُورا‪[} ..‬النعام‪]112 :‬‬
‫} بِئْسَ لِلظّاِلمِينَ َب َدلً { [الكهف‪ ]50 :‬أي‪ :‬بئس البدل أن تتخذوا إبليس الذي أبى واستكبر أنْ يسجدَ‬
‫لبيكم وَليا‪ ،‬وتتركوا ولية ال الذي أمر الملئكة أنْ تسجدَ لبيكم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سهِمْ‪.{ ...‬‬
‫ض َولَ خَلْقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫ت وَالَرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شهَدّتهُمْ خَ ْلقَ ال ّ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬مّآ أَ ْ‬

‫(‪)2174 /‬‬

‫ضدًا (‪)51‬‬
‫ع ُ‬
‫سهِ ْم َومَا كُ ْنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫ض وَلَا خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شهَدْ ُت ُهمْ خَ ْلقَ ال ّ‬
‫مَا أَ ْ‬

‫إن هذا الشيطان الذي واليتموه من دون ال‪ ،‬وأعطيتموه الميْزة‪ ،‬واستمعتم إليه ما أشهدتهم خَلْق‬
‫السماوات والرض مجرد المشاهدة‪ ،‬لم يحضروها لن خَلْق السماوات والرض كان قبل خَلْقهم‪،‬‬
‫شهِدوا خَلْق أنفسهم؛ لنهم ساعة خَلْقتهم لم يكونوا موجودين‪ ،‬إنهم لم يشهدوا شيئا من‬
‫وكذلك ما َ‬
‫ذلك لكي يخبروكم‪.‬‬
‫عضُدا } [الكهف‪ ]51 :‬أي‪ :‬مساعدين ومعاونين ومساندين‪ ،‬فما أشهدتهم‬
‫{ َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫الخَلْق وما عاونوني فيه‪.‬‬
‫عضُد النسان‪ ،‬حيث يزاول أغلب‬
‫وال َعضُد‪ :‬هو القوة التي تُسعفك وتسندك‪ ،‬وهو مأخوذ من َ‬
‫أعماله بيده‪ ،‬وحين يزاول أعماله بيده تتحرك فيه مجموعة من العضاء قَبْضا وبَسْطا واتجاها‬
‫يمينا وشمالً‪ ،‬وأعلى وأسفل‪ ،‬و ُكلّ هذه الحركات ل ُبدّ لها من مُنظّم أو موتور هو العضد‪ ،‬وفي‬
‫حركة اليد ودقتها في أداء مهمتها آياتٌ عُظْمى تدلّ على ِدقّة الصّنْعة‪.‬‬
‫وحينما صنع البشر ما يشبه الذراع واليد البشرية من اللت الحديثة‪ ،‬تجد سائق البلدوزر مثلً‬
‫يقوم بعدة حركات لكي يُحرّك هذه اللة‪ ،‬أما أنت فتحرّك يدك كما ش ْئتَ دون أن تعرف ماذا‬
‫يحدث؟ وكيف تتم لك هذه الحركة بمجرد أن تُفكّر فيها دون جهد منك أو تدبير؟‬
‫ت على الفور؛ لذلك إياك أنْ تظن أنك خَلْق‬
‫ل قم َ‬
‫فكل أجزائك مُسخّرة لرادتك‪ ،‬فإنْ أردتَ القيام مث ً‬
‫ميكانيكي‪ ،‬بل أنت صَنْعة ربانية بعيدة عن ميكانيكا اللت‪ ،‬بدليل أنه إذا أراد الخالق سبحانه أن‬
‫ن يقط َع صِلَته به‪ ،‬فيحدث الشلل التام‪ ،‬ول تستطيع أنت َد ْفعَه أو‬
‫يُوقِف جزءا منك أمر المخ أ ْ‬
‫إصلحه‪.‬‬
‫عضُ َدكَ بِأَخِيكَ‪[} ..‬القصص‪ ]35 :‬أي‪ :‬نُقوّيك‬
‫شدّ َ‬
‫ومن ذلك أيضا قوله تعالى في قصة موسى‪ {:‬سَنَ ُ‬
‫ونُعطيك السّنَد وال َعوْن‪.‬‬
‫عوْهُمْ‪.} ...‬‬
‫عمْ ُتمْ فَدَ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ َيوْمَ َيقُولُ نَادُواْ شُ َركَآ ِئيَ الّذِينَ زَ َ‬

‫(‪)2175 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَلْنَا بَيْ َنهُمْ َموْ ِبقًا (‪)52‬‬
‫عوْ ُهمْ فَلَمْ َيسْتَجِيبُوا َل ُه ْم وَ َ‬
‫عمْتُمْ فَدَ َ‬
‫وَ َيوْمَ َيقُولُ نَادُوا شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ زَ َ‬

‫عمْتُمْ‪} ..‬‬
‫يعني‪ :‬واذْكر يا محمد‪ ،‬ولت ْذكُرْ معك أمتك هذا اليوم‪ { :‬وَ َيوْمَ َيقُولُ نَادُواْ شُ َركَآ ِئيَ الّذِينَ زَ َ‬
‫[الكهف‪ ]52 :‬يقول الحق سبحانه للكفار‪ :‬ادعوا شركائي الذين اتخذتموهم من دوني‪ .‬وزعمتم‪:‬‬
‫عوْ ُهمْ فَلَمْ َيسْتَجِيبُواْ َل ُهمْ‪[ } ..‬الكهف‪]52 :‬‬
‫أي‪ :‬كذبتم في ادعائكم أنهم آلهة { فَدَ َ‬
‫وهذا من سماجتهم وتبجّحهم وسوء أدبهم مع الحق سبحانه‪ ،‬فكان عليهم أنْ يخجلوا من ال‪،‬‬
‫عوْهُمْ‪[ } ..‬الكهف‪ ]52 :‬ويجوز أن من‬
‫ويعودوا إلى الحق‪ ،‬ويعترفوا بما كذّبوه‪ ،‬لكنهم تما َدوْا { فَدَ َ‬
‫الشركاء أناسا دون التكليف‪ ،‬وأناسا فوق التكليف‪ ،‬فمثلً منهم مَنْ قالوا‪ :‬عيسى‪ .‬ومنهم مَنْ قالوا‪:‬‬
‫العزير‪ ،‬وهذا باطل‪ ،‬وهل استجابوا لهم؟‬
‫ومنهم مَنِ اتخذوا آلهة أخرى‪ ،‬كالشمس والقمر والصنام وغيرها‪ ،‬ومنهم مَنْ عبد ناسا مثلهم‬
‫عوْهم ونادوهم‪ :‬تعالوا‪ ،‬جادلوا عنّا‪،‬‬
‫وأطاعوهم‪ ،‬وهؤلء كانوا موجودين معهم‪ ،‬ويصح أنهم دَ َ‬
‫ط ْوعَ أمركم‪ ،‬كما قال تعالى عنهم‪ {:‬مَا َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ‬
‫وأخرجونا مما نحن فيه‪ ،‬لقد عبدناكم وكنا َ‬
‫لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى‪[} ..‬الزمر‪]3 :‬‬
‫ولكن‪ ،‬أنّى لهم ما يريدون؟ فقد تقطعتْ بينهم الصلت‪ ،‬وانقطعت حجتهم { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ َل ُهمْ‪} ..‬‬
‫جعَلْنَا بَيْ َنهُم ّموْبِقا‪} ..‬‬
‫[الكهف‪ ]52 :‬ثم جعل الحق سبحانه بين الداعي والمدعو واديا سحيقا‪ { :‬وَ َ‬
‫[الكهف‪]52 :‬‬
‫وال َموْبِق‪ :‬المكان الذي يحصل فيه الهلك‪ ،‬وهو وَادٍ من أودية جهنم يهلكون فيه جميعا‪ ،‬أو‪ :‬أن‬
‫بين الداعي والمدعو مكانا ُمهْلكا‪ ،‬فل الداعي يستطيع أنْ يلوذَ بالمدعو‪ ،‬ول المدعو يستطيع أنْ‬
‫ينتَصرَ للداعي ويُسعفه‪ ،‬لن بينهم منبعَ هلك‪.‬‬
‫ك ليَاتٍ ّل ُكلّ‬
‫ظهْ ِرهِ إِنّ فِي ذَِل َ‬
‫سكِنِ الرّيحَ فَ َيظْلَلْنَ َروَاكِدَ عَلَىا َ‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬إِن َيشَأْ يُ ْ‬
‫شكُورٍ * َأوْ يُوبِ ْقهُنّ ِبمَا كَسَبُوا وَ َي ْعفُ عَن كَثِيرٍ }[الشورى‪ ]34 :‬يعني‪ :‬يهلكهن‪.‬‬
‫صَبّارٍ َ‬
‫ومن العجيب أن تكون هذه أولَ إطاعة منهم ل تعالى‪ ،‬فلما قال لهم‪ { :‬نَادُواْ شُ َركَآ ِئيَ‪[ } ..‬الكهف‪:‬‬
‫‪ ]52‬استجابوا لهذا المر‪ ،‬في حين أنهم لم يطيعوا الوامر الخرى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَرَءَا ا ْلمُجْ ِرمُونَ النّارَ َفظَنّواْ أَ ّنهُمْ ّموَا ِقعُوهَا‪.} ...‬‬

‫(‪)2176 /‬‬

‫وَرَأَى ا ْلمُجْ ِرمُونَ النّارَ فَظَنّوا أَ ّن ُهمْ ُموَا ِقعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَ ْنهَا َمصْ ِرفًا (‪)53‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رأى‪ :‬الرؤية‪ :‬وقوع البصر على المرئيّ‪ ،‬والرؤية هنا ِممّن سيُعذّب في النار‪ ،‬وقد تكون الرؤية‬
‫جهَنّمَ َهلِ‬
‫من النار التي ستعذبهم؛ لنها تراهم وتنتظرهم وتناديهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬يوْمَ َنقُولُ لِ َ‬
‫لتِ وَ َتقُولُ َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق‪ ]30 :‬أي‪ :‬هاأنا ذا أنتظرهم ومستعدة لملقاتهم؟‬
‫امْتَ َ‬
‫والمجرمون‪ :‬الذين ارتكبوا الجرائم‪ ،‬وعلى رأسها الكفر بال‪ .‬إذن‪ :‬فالرؤية هنا متُبَادلة‪ :‬المعذّب‬
‫والمعذّب‪ ،‬كلهما يرى الخر ويعرفه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَظَنّواْ أَ ّنهُمْ ّموَاقِعُوهَا‪[ } ..‬الكهف‪ ]53 :‬الظن هنا يُراد منه اليقين‪ .‬أي‪ :‬أيقنوا أنهم‬
‫واقعون فيها‪ ،‬كما جاء في قول الحق سبحانه‪ {:‬الّذِينَ يَظُنّونَ أَ ّنهُم مّلَاقُواْ رَ ّبهِمْ‪[} ..‬البقرة‪]46 :‬‬
‫أي‪ :‬يوقنون‪.‬‬
‫جدُواْ عَ ْنهَا َمصْرِفا‪[ } ..‬الكهف‪ ]53 :‬أي‪ :‬في حين أن بينهما َموْبقا‪ ،‬وأيضا ل يجدون مفرّا‬
‫{ وَلَمْ يَ ِ‬
‫يفرون منه‪ ،‬أو ملجأ يلجؤون إليه‪ ،‬أو مكانا ينصرفون إليه بعيدا عن النار‪ ،‬فال َموْبِق موجود‪،‬‬
‫والمصْرِف مفقود‪.‬‬
‫ثم يقول تبارك وتعالى‪ { :‬وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن ُكلّ مَ َثلٍ‪.} ...‬‬

‫(‪)2177 /‬‬

‫جدَلًا (‪)54‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫ل َوكَانَ الْإِنْسَانُ َأكْثَرَ َ‬
‫وَلَقَدْ صَ ّرفْنَا فِي َهذَا ا ْلقُرْآَنِ لِلنّاسِ مِنْ ُكلّ مَ َث ٍ‬

‫سبق أن تكلمنا عن تصريف اليات‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن التصريف معناه تحويل الشيء إلى أشياء متعددة‪،‬‬
‫كما يصرّف ال الرياح مثلً‪ ،‬فل تأتي من ناحية واحدة‪ ،‬بل تأتي مرة من هنا‪ ،‬ومرة من هناك‪،‬‬
‫كذلك صَرّف ال المثال‪ .‬أي‪ :‬أتى بأحوال متعددة وصُور شتى منها‪.‬‬
‫والحق سبحانه يضرب المثال كأنه يقرع بها آذان الناس لمر قد يكون غائبا عنهم‪ ،‬فيمثله بأمر‬
‫واضح لهم مُحَسّ ليتفهموه تفهّما دقيقا‪.‬‬
‫وما دام أن الحق سبحانه صرّف في هذا القرآن من كل مثَل‪ ،‬فل عُذْر لمن لم يفهم‪ ،‬فالقرآن قد‬
‫جاء على وجوه شتّى ليُعلم الناس على اختلف أفهامهم ومواهبهم؛ لذلك ترى المي يسمعه فيأخذ‬
‫منه على قدر َفهْمه‪ ،‬والنصف مثقف يسمعه فيأخذ منه على قدر ثقافته‪ ،‬والعالم الكبير يأخذ منه‬
‫على قدر علمه ويجد فيه ُبغْيته‪ ،‬بل وأكثر من ذلك‪ ،‬فالمتخصص في أيّ علم من العلوم يجد في‬
‫كتاب ال أدقّ التفاصيل؛ لن الحق سبحانه بيّن فيه كل شيء‪.‬‬
‫ج َدلً } [الكهف‪ ]54 :‬أي‪ :‬كثير الخصومة والتنازع في‬
‫شيْءٍ َ‬
‫ن الِنْسَانُ َأكْثَرَ َ‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬وكَا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرأي‪ ،‬والجدل‪ :‬هو المحاورة ومحاولة كل طرف أن يثبت صِدْق مذهبه وكلمه‪ ،‬والجدل إما أن‬
‫يكون بالباطل لتثبيت حجة الهواء وتراوغ لتبرر مذهبك ولو خطأً‪ ،‬وهذا هو الجَدل المعيب القائم‬
‫على الهواء‪ .‬وإما أن يكون الجدل بالحق وهو الجدل البنّاء الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة‪،‬‬
‫وهذا بعيد كل البعد عن التحيّز للهوى أو الغراض‪.‬‬
‫حسَنُ‪} ..‬‬
‫ولما تحدّث القرآن الكريم عن الجدل قال تعالى‪َ {:‬ولَ ُتجَادِلُواْ َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫[العنكبوت‪]46 :‬‬
‫وقال‪َ {:‬وجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ‪[} ..‬النحل‪ " ]125 :‬والنبي صلى ال عليه وسلم لما مرّ على عليّ‬
‫وفاطمة ـ رضي ال عنهما ـ ليوقظهما لصلة الفجر‪ ،‬وطرق عليهما الباب مرة بعد أخرى‪،‬‬
‫ويبدو أنهما كانا مستغرقيْن في نوم عميق‪ ،‬فنادى عليهما صلى ال عليه وسلم " أل تصلون؟ " فردّ‬
‫المام علي قائلً‪ :‬يا رسول ال إن أنفسنا بيد ال‪ ،‬إن شاء أطلقها وإن شاء أمسكها‪ ،‬فضحك النبي‬
‫ج َدلً } " [الكهف‪]54 :‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم وقال‪َ { :‬وكَانَ الِنْسَانُ َأكْثَرَ َ‬
‫لن النسان له أهواء متعددة وخواطر متباينة‪ ،‬ويحاول أنْ يُدلّل على صحة أهوائه وخواطره‬
‫بالحجة‪ ،‬فيقارع الحق ويغالط ويراوغ‪ .‬ولو دققتَ في رأيه لوجدتَ له هوىً يسعى إليه ويميل إلى‬
‫تحقيقه‪ ،‬وترى ذلك واضحا إذا اخترتَ أحد الطرق تسلكه أنت وصاحبك مثلً لنه أسهلها وأقربها‪،‬‬
‫فإذا به يقترح عليك طريقا آخر‪ ،‬ويحاول إقناعك به بكل السّبل‪ ،‬والحقيقة أن له غرضا في نفسه‬
‫وهوىً يريد الوصول إليه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ إِذْ جَآءَ ُهمُ ا ْلهُدَىا وَيَسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّبهُمْ‪.} ...‬‬

‫(‪)2178 /‬‬

‫َومَا مَنَعَ النّاسَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا إِذْ جَا َءهُمُ ا ْل ُهدَى وَيَسْ َتغْفِرُوا رَ ّبهُمْ إِلّا أَنْ تَأْتِ َيهُمْ سُنّةُ الَْأوّلِينَ َأوْ يَأْتِ َيهُمُ‬
‫ا ْلعَذَابُ قُبُلًا (‪)55‬‬

‫ما الذي منعهم أن يؤمنوا بعد أن أنزل عليهم القرآن‪ ،‬وصرّفنا فيه من اليات والمثال‪ ،‬بعد أن‬
‫جاءهم مطابقا لكل الحوال؟‬
‫وفي آية أخرى‪ ،‬أوضح الحق سبحانه سبب إعراضهم عن اليمان‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا‬
‫لِلنّاسِ فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ مِن ُكلّ مَ َثلٍ فَأَبَىا َأكْثَرُ النّاسِ ِإلّ كُفُورا * َوقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا‬
‫ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا *‬
‫ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ‬
‫َتفْجُرَ لَنَا مِ َ‬
‫علَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن‬
‫ع ْمتَ َ‬
‫سمَآءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫َأوْ تُ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا ّنقْ َر ُؤهُ }[السراء‪]93-89 :‬‬
‫زُخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ‬
‫ف ُكلّ هذه التعنّتات وهذا العناد هو الذي حال بينهم وبين اليمان بال‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى حينما‬
‫لوّلِينَ‪} ..‬‬
‫يأتي بآية طلبها القوم‪ ،‬ثم لم يؤمنوا بها يُهلكهم؛ لذلك قال بعدها‪ِ { :‬إلّ أَن تَأْتِ َيهُمْ سُنّ ُة ا َ‬
‫[الكهف‪ ]55 :‬فهذه هي الية التي تنتظرهم‪ :‬أن تأتيهم سُنّة ال في إهلك مَنْ كذّب الرسل‪.‬‬
‫فقبل السلم‪ ،‬كانت السماء هي التي تتدخل ل ُنصْرة العقيدة‪ ،‬فكانت تدكّ عليهم قُراهم ومساكنهم‪،‬‬
‫فالرسول عليه الدعوة والبلغ‪ ،‬ولم يكن من مهمته دعوة الناس إلى الحرب والجهاد في سبيل نَشْر‬
‫دعوته‪ ،‬إل أمة محمد فقد َأمِنها على أن تحمل السيف لتُؤدّب الخارجين عن طاعة ال‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَيَسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّبهُمْ‪[ } ..‬الكهف‪ ]55 :‬أي‪ :‬على ما فات من المهاترات والتعنّتات‬
‫لوّلِينَ‪[ } ..‬الكهف‪ ]55 :‬أي‪ :‬بهلك المكذبين‬
‫والستكبار على قبول الحق { ِإلّ أَن تَأْتِ َيهُمْ سُنّ ُة ا َ‬
‫{ َأوْ يَأْتِ َيهُمُ ا ْلعَذَابُ قُبُلً‪[ } ..‬الكهف‪ ]55 :‬أي مُقابِلً لهم‪ ،‬وعيانا أمامهم‪ ،‬أو { قُبُلً } جمع قبيل‪،‬‬
‫وهي ألوان متعددة من العذاب‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ عَذَابا دُونَ ذَِلكَ‪[} ..‬الطور‪]47 :‬‬
‫أي‪ :‬لهم عذاب غير النار‪ ،‬فألوان العذاب لهم متعددة‪.‬‬
‫ثم يُسلّي الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم حتى ل يأبه لعمل الكفار‪ ،‬ول يهلك نفسه أَسَفا‬
‫ن َومُنذِرِينَ‪.} ...‬‬
‫سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ ِإلّ مُبَشّرِي َ‬
‫على إعراضهم‪ ،‬فيقول سبحانه‪َ { :‬ومَا نُ ْر ِ‬

‫(‪)2179 /‬‬

‫خذُوا‬
‫ق وَاتّ َ‬
‫حضُوا ِبهِ ا ْلحَ ّ‬
‫طلِ لِيُ ْد ِ‬
‫ن وَيُجَا ِدلُ الّذِينَ َكفَرُوا بِالْبَا ِ‬
‫ن َومُنْذِرِي َ‬
‫سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ إِلّا مُ َبشّرِي َ‬
‫َومَا نُ ْر ِ‬
‫آَيَاتِي َومَا أُنْذِرُوا هُ ُزوًا (‪)56‬‬

‫قلنا‪ :‬إن الجدل قد يكون بالحق‪ ،‬وقد يكون بالباطل كما يفعل الذين كفروا هنا‪ ،‬فيجادلون بالباطل‬
‫خذُواْ آيَاتِي َومَا أُنْذِرُواْ هُزُوا }‬
‫حضِ الحق أي‪ :‬ليُعطّلوه ويزيلوه { وَاتّ َ‬
‫ويستخدمون كل الحِيَل لد ْ‬
‫[الكهف‪ ]56 :‬أي‪ :‬اليات الكونية التي جاءت لتصديق الرسل‪ ،‬وكذلك آيات القرآن‪ ،‬وآيات‬
‫الحكام اتخذوها سُخْرية واستهزاءً‪ ،‬ولم يعبأوا بما فيها من نذارة‪.‬‬
‫ولذلك قال الحق سبحانه‪َ { :‬ومَنْ أَظَْلمُ ِممّن ُذكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ فَأَعْ َرضَ عَ ْنهَا‪.} ...‬‬

‫(‪)2180 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَنْ‬
‫سيَ مَا قَ ّد َمتْ يَدَاهُ إِنّا َ‬
‫َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ ُذكّرَ بِآَيَاتِ رَبّهِ فَأَعْ َرضَ عَ ْنهَا وَنَ ِ‬
‫عهُمْ إِلَى ا ْلهُدَى فَلَنْ َيهْتَدُوا ِإذًا أَبَدًا (‪)57‬‬
‫َيفْ َقهُوهُ َوفِي آَذَا ِنهِ ْم َوقْرًا وَإِنْ تَدْ ُ‬

‫{ َومَنْ َأظْلَمُ‪[ } ..‬الكهف‪ ]57 :‬جاء الخبر على صورة الستفهام لتأكيد الكلم‪ ،‬كأنْ يدّعي صاحبك‬
‫أنك لم تصِلْه‪ ،‬ولم تصنع معه معروفا‪ ،‬فمن الممكن أن تقول له‪ :‬صنعتُ معك كذا وكذا على سبيل‬
‫الخبر منك‪ ،‬والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب‪.‬‬
‫ضتَ المسألة على سبيل الستفهام فقُ ْلتَ له‪ :‬ألم أصنع معك كذا؟ فسوف تجتذب منه‬
‫إنما لو عر ْ‬
‫خصْم إل وأنت‬
‫القرار بذلك‪ ،‬وتقيم عليه الحجة من كلمه هو‪ ،‬وأنت ل تستفهم عن شيء من َ‬
‫واثق أن جوابه ل يكون إل بما تحب‪.‬‬
‫وهكذا أخرج الحق سبحانه الخبر إلى الستفهام‪َ { :‬ومَنْ َأظْلَمُ ِممّن ُذكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ‪[ } ..‬الكهف‪:‬‬
‫ن فعل ذلك‪ ،‬والقرار سيد الدلة‪.‬‬
‫‪]57‬؟ وترك لنا الجواب لنقول نحن‪ :‬ل أحدَ أظل ُم ممّ ْ‬
‫سيَ مَا قَ ّد َمتْ يَدَاهُ‪[ } ..‬الكهف‪ ]57 :‬نسى‬
‫وقوله { فَأَعْ َرضَ عَ ْنهَا‪[ } ..‬الكهف‪ ]57 :‬تركها { وَنَ ِ‬
‫السيئات‪ ،‬وكان من الواجب أن ينتبه إلى هذه اليات فيؤمن بها‪ ،‬لعل ال يتوب عليه بإيمانه‪ ،‬فيُبدّل‬
‫سيئاته حسنات‪.‬‬
‫جعَلْنَا عَلَىا قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَن َي ْفقَهُوهُ‪[ } ..‬الكهف‪]57 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬إِنّا َ‬
‫أكنة‪ :‬أغطية جمع كِنّ‪ ،‬فجعل ال على قلوبهم أغطية‪ ،‬فل يدخلها اليمان‪ ،‬ول يخرج منها الكفر‪،‬‬
‫وليس هذا اضطهادا منه تعالى لعباده‪ ،‬تعالى ال عن ذلك‪ ،‬بل استجابة لما طلبوا وتلبية لما أحبّوا‪،‬‬
‫فلما أحبّوا الكفر وانشرحتْ به صدورهم زادهم منه؛ لنه َربّ يعطي عبده ما يريد‪.‬‬
‫كما قال عنهم في آية أخرى‪ {:‬فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَ ُهمُ اللّهُ مَرَضا وََلهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُوا‬
‫َيكْذِبُونَ }[البقرة‪]10 :‬‬
‫س ْم ِعهِ ْم وَعَلَىا أَ ْبصَارِ ِهمْ غِشَا َوةٌ }‬
‫وقال تعالى في هذا المعنى‪ {:‬خَتَمَ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِه ْم وَعَلَىا َ‬
‫[البقرة‪]7 :‬‬
‫ومعنى { أَن َيفْ َقهُوهُ‪[ } ..‬الكهف‪ ]57 :‬أي‪ :‬يفهموه‪ ،‬يفهموا آيات ال؛ لنهم سبق أنْ ُذكّرُوا بها‬
‫فأعرضوا عنها‪ ،‬فحرَمهم ال فقهها وفهمها‪.‬‬
‫عهُمْ إِلَىا‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬وفِي آذَا ِنهِ ْم َوقْرا‪[ } ..‬الكهف‪ ]57 :‬أي‪ :‬صمم فل يسمعون { وَإِن َتدْ ُ‬
‫ا ْلهُدَىا فَلَنْ َيهْ َتدُواْ إِذا أَبَدا } [الكهف‪ ]57 :‬وهذا أمر طبيعي‪ ،‬بعد أن ختم ال على قلوبهم وعلى‬
‫أسماعهم‪ ،‬وسد عليهم منافذ العلم والهداية؛ لن الهدى ناشئ من أن تسمع كلمة الحق‪ ،‬فيستقبلها‬
‫قلبك بالرضا‪ ،‬فتنفعل لها جوارحك باللتزام‪ ،‬فتسمع بالذن‪ ،‬وتقبل بالقلب‪ ،‬وتنفعل بالجوارح طاعةً‬
‫والتزاما بما ُأمِ َرتْ به‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صمَمٌ فلن تسمع‪ ،‬وإنْ سمعتْ شيئا أنكره القلب‪ ،‬والجوارح ل تنفعل إل‬
‫وما دام في الذن َوقْر و َ‬
‫شحِن به القلب من عقائد‪.‬‬
‫بما ُ‬
‫ح َمةِ‪.} ...‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ { :‬وَرَ ّبكَ ا ْل َغفُورُ ذُو الرّ ْ‬

‫(‪)2181 /‬‬

‫جلَ َلهُمُ ا ْل َعذَابَ َبلْ َل ُهمْ َموْعِدٌ لَنْ َيجِدُوا مِنْ‬


‫خذُهُمْ ِبمَا َكسَبُوا َلعَ ّ‬
‫حمَةِ َلوْ ُيؤَا ِ‬
‫وَرَ ّبكَ ا ْلغَفُورُ ذُو الرّ ْ‬
‫دُونِهِ َموْئِلًا (‪)58‬‬

‫فمن رحمة ال بالكفار أنه لم يعاجلهم بعذاب يستأصلهم‪ ،‬بل أمهلهم وتركهم؛ لن لهم موعدا لن‬
‫يهربوا منه‪ ،‬ولن يُفلِتوا‪ ،‬ولن يكون لهم مَلْجأ يحميهم منه‪ ،‬ول شكّ أن في إمهالهم في الدنيا حكمة‬
‫ل بالغة‪ ،‬ولعل ال يُخرِج من ظهور هؤلء مَنْ يؤمن به‪ ،‬ومَنْ يحمل راية الدين ويدافع عنه‪ ،‬وقد‬
‫ظهْر أبي جهل جاء عكرمة‪ ،‬وأمهل ال خالد بن الوليد‪،‬‬
‫حدث هذا كثيرا في تاريخ السلم‪ ،‬فمِنْ َ‬
‫فكان أعظمَ قائد في السلم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَتِ ْلكَ ا ْلقُرَىا أَهَْلكْنَا ُهمْ َلمّا ظََلمُواْ‪.} ...‬‬

‫(‪)2182 /‬‬

‫جعَلْنَا ِل َمهِْل ِكهِمْ َموْعِدًا (‪)59‬‬


‫وَتِ ْلكَ ا ْلقُرَى أَ ْهَلكْنَاهُمْ َلمّا ظََلمُوا وَ َ‬

‫تلك‪ :‬أداة إشارة لمؤنث هي القرى‪ ،‬والكاف للخطاب‪ ،‬والخطاب هنا للنبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وأمتُه مُنْضوية في خطابه؛ لن خطابَ الرسول خطاب لمته‪ .‬لكن الشارة ل تكون إل لشيء‬
‫معلوم موجود مُحَسّ‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه‪]17 :‬‬
‫فأين هذه القُرَى؟ وهل كان لها وجود على عهد النبي صلى ال عليه وسلم؟‬
‫نعم‪ ،‬كان لهذه القرى آثار وأطلل تدل عليها ويراها النبي صلى ال عليه وسلم ويراها الناس في‬
‫رحلتهم إلى الشام وغيرها مثل‪ :‬قُرَى ثمود قوم صالح‪ ،‬وقرى قوم لوط‪ ،‬وقد قال تعالى عنها‪{:‬‬
‫وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ّمصْبِحِينَ * وَبِالّيلِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[الصافات‪]138-137 :‬‬
‫إذن‪ :‬فتلك إشارة إلى موجود مُحَسّ دَالّ بما تبقّى منه على ما حاق بهذه القرى من عذاب ال‪ ،‬وما‬
‫حلّ بها من بَأْسِه الذي ل يُ َردّ عن القوم الظالمين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكلمة { ا ْلقُرَىا } جمع قرية‪ ،‬وتُطلَق على المكان الذي تتوفّر فيه مُقوّمات الحياة وضرورياتها‪،‬‬
‫بل بها ما يزيد على الضروريات ومُقوّمات الحياة العادية؛ لن القرية ل تُطلَق إل على مكان‬
‫ن كانت‬
‫تتسع فيه مُقوّمات الحياة اتساعا يكفي لمن يطرأ عليها من الضيوف فيجد بها قِرَى‪ .‬فإ ْ‬
‫قرية كبيرة يأتيها الرزق الوفير من كل مكان كأنها ُأمّ‪ ،‬نسميها (أم القرى)‪.‬‬
‫ج َمعَ الْبَحْرَيْنِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَِإذْ قَالَ مُوسَىا ِلفَتَاهُ ل أَبْرَحُ حَتّىا أَبْلُغَ مَ ْ‬

‫(‪)2183 /‬‬

‫حقُبًا (‪)60‬‬
‫جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ َأوْ َأ ْمضِيَ ُ‬
‫وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِلفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ َم ْ‬

‫قوله تعالى‪ { :‬وَإِذْ قَالَ مُوسَىا ِلفَتَاهُ‪[ } ..‬الكهف‪ ]60 :‬أي‪ :‬اذكر يا محمد وقت أنْ قال موسى‬
‫لفتاه‪ ،‬وفتى موسى هو خادمه يوشع ابن نون‪ ،‬وكان من نَسْل يوسف ـ عليه السلم ـ وكان يتبعه‬
‫ويخدمه ليتعلم منه‪.‬‬
‫جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ‪[ } ..‬الكهف‪]60 :‬‬
‫{ ل أَبْرَحُ حَتّىا أَبْلُغَ َم ْ‬
‫لكن‪ ،‬ما حكاية موسى مع فتاه؟ وما مناسبتها للكلم هنا؟‬
‫مناسبة قصة موسى هنا أن كفار مكة بعثوا ليهود المدينة يسألونهم عن خبر النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم؛ لنهم أهل كتاب وأعلم بالسماء‪ ،‬فأرادوا رأيهم في محمد‪ :‬أهو مُحِقّ أم ل؟ فقال اليهود لوفد‬
‫مكة‪ :‬اسألوه عن ثلثة أشياء‪ ،‬فإن أجابكم فهو نبي‪ :‬اسألوه عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر‪،‬‬
‫والرجل الطواف الذي طاف البلد‪ ،‬وعن الروح‪ ،‬فما كان منهم إل أن سألوا رسول ال هذه‬
‫السئلة‪ ،‬فقال لهم‪ " :‬في الغد أجيبكم "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إجابة هذه السئلة ليست عنده‪ ،‬وهذه تُحسَب له ل عليه‪ ،‬فلو كان محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫يضرب الكلم هكذا دون علم لجابهم‪ ،‬لكنه سكت إلى أن يأتي الجواب من ال تعالى‪ ،‬وهذا من‬
‫أدبه صلى ال عليه وسلم مع ربه الذي أدبه فأحسن تأديبه‪.‬‬
‫ومرّتْ خمسة عشر يوما دون أن يُوحَى لرسول ال في ذلك شيء‪ ،‬حتى شق المر عليه‪ ،‬وفرح‬
‫الكفار والمنافقون؛ لنهم وجدوا على رسول ال مأخذا فاهتبلوا هذه الفرصة لينددوا برسول ال‪،‬‬
‫إنما أدب ال لرسوله فوق كل شيء ليبين لهم أن رسول ال لن يتكلم في هذه المسألة إل بوحي من‬
‫ال؛ لنه ل ينطق عن الهوى ول يصدر عن رأيه‪.‬‬
‫ل صِدق النبي صلى ال عليه‬
‫ولو كان لهؤلء القوم عقول لفهموا أن ال ُبطْ َء في هذه المسألة دلي ُ‬
‫وسلم؛ لذلك جاءت قصة موسى هنا لتردّ على مهاترات القوم‪ ،‬وتُبيّن لهم أن النبي ل يعلم كل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيء‪ ،‬وهل المفروض فيه أن يجيبكم عن كل شيء؟ وهل يقدح في مكانته أنه ل يعرف مسألة ما؟‬
‫جاءت هذه اليات لتقول لليهود ومَنْ َلفّ َلفّهم من كفار مكة‪ :‬أنتم متعصبون لموسى وللتوراة‬
‫ولليهودية‪ ،‬وهاهو موسى يتعلم ليس من ال‪ ،‬بل يتعلم من عبد مثله‪ ،‬ويسير تابعا له طلبا للعلم‪.‬‬
‫جاءت اليات لتقول لهم‪ :‬يا مَنْ لقنتم كفار مكة هذه السئلة وأظهرتم الشماتة بمحمد حينما أبطأ‬
‫عليه الوحي‪ ،‬اعلموا أن إبطاء الوحي لتعلموا أن محمدا ل يقول شيئا من عند نفسه‪ ،‬فكان من‬
‫الواجب أنْ تلفتكم هذه المسألة إلى صدق محمد وأمانته‪ ،‬وما هو على الغيب بضنين‪.‬‬
‫وسبب قصة موسى عليه السلم ـ يُقال‪ :‬إنه سأل ال ـ وكان له دلل على ربه‪:‬‬

‫{ َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ‪[} ..‬العراف‪ ]143 :‬والذي أطمعه في هذا المطلب أن ال كلّمه‪َ {:‬ومَا تِ ْلكَ‬
‫بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه‪ ]17 :‬فأطال موسى الكلم مع ربه‪ ،‬ومَنْ الذي يكلمه ال ول يطيل أمد‬
‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي وَِليَ فِيهَا‬
‫الُنْس بكلم ال؟ لذلك قال موسى‪ِ {:‬هيَ َ‬
‫مَآ ِربُ ُأخْرَىا }[طه‪]18 :‬‬
‫وهكذا أطال موسى مدة النس بال والحديث معه سبحانه‪ ،‬لذلك سأله‪ :‬يا ربّ‪ ،‬أيوجد في الرض‬
‫أعلم مني؟ فأجابه ربّه تبارك وتعالى‪ :‬نعم في الرض مَنْ هو أعلم منك‪ ،‬فاذهب إلى مجمع‬
‫البحرين‪ ،‬وهناك ستجد عبدا من عبيدي هو أعلم منك‪ ،‬فأخذ موسى فتاه وذهب إلى مَجْمع‬
‫البحرين‪.‬‬
‫وقد ورد في حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم أن موسى ـ عليه السلم ـ خطب مرة‬
‫فسُئِل‪ :‬مَنْ أعلم؟ فقال‪ :‬أنا ـ يعني من البشر‪ ،‬فأخبره ال تعالى‪ :‬ل بل في الرض من هو أعلم‬
‫منك من البشر حتى ل يغتَرّ موسى ـ عليه السلم ـ بما أعلمه ال‪.‬‬
‫جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ { [الكهف‪]60 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬ل أَبْرَحُ حَتّىا أَبْلُغَ مَ ْ‬
‫ل أبرح‪ :‬أي ل أترك‪ ،‬والبعض يظن أن ل أبرح تعني‪ :‬ل أترك مكاني الذي أنا فيه‪ ،‬لكنها تعني‪:‬‬
‫ن كنتُ ماشيا ل أترك المشي‪ ،‬وقد قال‬
‫ن كنتُ قاعدا ل أترك القعود‪ ،‬وإ ْ‬
‫ل أترك ما أنا بصدده‪ ،‬فإ ْ‬
‫موسى ـ عليه السلم ـ هذا القول وهو يبتغي بين البحرين‪ ،‬ويسير متجها إليه‪ ،‬فيكون المعنى‪:‬‬
‫ل أترك السير إلى هذا المكان حتى أبلغ مجمع البحرين‪.‬‬
‫ح الَ ْرضَ حَتّىا‬
‫وقد وردت مادة (برح) في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلم‪ } :‬فَلَنْ أَبْرَ َ‬
‫يَأْذَنَ لِي أَبِي‪[ { ..‬يوسف‪ ]80 :‬قالها كبيرهم بعد أن أخذ يوسف أخاه بنيامين ومنعه من الذهاب‬
‫معهم‪ ،‬فهنا استحى الخ الكبر من مواجهة أبيه الذي أخذ عليهم العهد والميثاق أنْ يأتوا به‬
‫ويُعيدوه إليه‪.‬‬
‫جمَع البحرين " أي‪ :‬موضع التقائهما‪ ،‬حيث يصيران بحرا واحدا‪ ،‬كما يلتقي مثلً دجلة‬
‫و"مْ‬
‫والفرات في شَطّ العرب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حقُبا { [الكهف‪]60 :‬‬
‫ضيَ ُ‬
‫وقوله‪َ } :‬أوْ َأ ْم ِ‬
‫حقْبة‪ ،‬وهي الفترة الطويلة من الزمن‪ ،‬وقد قدّروها بحوالي سبعين أو ثمانين سنة‪،‬‬
‫حقُب‪ :‬جمع ِ‬
‫ال ُ‬
‫فإذا كان أقل الجمع ثلثة‪ ،‬فمعنى ذلك أن يسير موسى ـ عليه السلم ـ مائتين وعشرة سنين‪،‬‬
‫حقْبة سبعون سنة‪.‬‬
‫على اعتبار أن ال ِ‬
‫ويكون المعنى‪ :‬ل أترك السير إلى هذا المكان ولو سِ ْرتُ مائتين وعشرة سنين؛ لن موسى عليه‬
‫السلم كان مَشُوقا إلى رؤية هذا الرجل العلم منه‪ ،‬كيف وهو النبي الرسول الذي أوحى ال إليه؛‬
‫لذلك أخبره ربه أن عِلْم هذا الرجل علم من لدنا‪ ،‬علم من ال ل من البشر‪.‬‬
‫جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا نَسِيَا حُو َت ُهمَا‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فََلمّا َبَلغَا مَ ْ‬

‫(‪)2184 /‬‬

‫خذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ سَرَبًا (‪)61‬‬


‫جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا َنسِيَا حُو َت ُهمَا فَاتّ َ‬
‫فََلمّا بََلغَا مَ ْ‬

‫جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا } أي‪ :‬مجمع البحرين { نَسِيَا حُو َت ُهمَا } أي‪ :‬حدث‬
‫{ بََلغَا } أي‪ :‬موسى وفتاه { مَ ْ‬
‫النسيان منهما معا‪ ،‬وإنْ كان حمل الحوت منوطا بفتى موسى وقد نسيه‪ ،‬فكان على موسى أنْ‬
‫يُذكّره به‪ ،‬فرئيس القوم ل ُبدّ أن يتنبه لكل جزئية من جزئيات ال ّركْب‪ ،‬وكانت العادة أنْ يكون هو‬
‫آخر المبارحين للمكان ليتفقده وينظر لعل واحدا نسى شيئا‪ ،‬إذن‪ :‬كان على موسى أن يعقب ساعة‬
‫قيامهم لمتابعة السير‪ ،‬ويُذكّر فتاهُ بما معهم من لوازم الرحلة‪.‬‬
‫والحوت‪ :‬نوع من السمك معروف‪ ،‬وفي بعض البلد يُطلِقون على كل سمك حُوتا‪ ،‬وقد أعدّوه‬
‫للكل إذا جاعوا أثناء السير‪ ،‬وكان الفتى يحمله وهو مشوي في مكتل‪.‬‬
‫خذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ سَرَبا } [الكهف‪ ]61 :‬أي‪ :‬خرج الحوت المشوي من‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَاتّ َ‬
‫المكتل‪ ،‬وتسرّب نحو البحر‪ ،‬والسّرَب‪ :‬مثل النفق أو السرداب‪ ،‬أو هو المنحدر‪ ،‬كما نقول‪ :‬تسرب‬
‫الماء من القِرْبة مثلً؛ ذلك لن مستوى الماء في القِرْبة أعلى فيتسرّب منها‪ ،‬وهذه من عجائب‬
‫اليات أن يقفز الحوت المشويّ‪ ،‬وتعود له الحياة‪ ،‬ويتوجّه نحو البحر؛ لنه يعلم أن الماء مسكنه‬
‫ومكانه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََلمّا جَاوَزَا قَالَ ِلفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا‪.} ...‬‬

‫(‪)2185 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سفَرِنَا َهذَا َنصَبًا (‪)62‬‬
‫غدَاءَنَا َلقَدْ َلقِينَا مِنْ َ‬
‫فََلمّا جَاوَزَا قَالَ ِلفَتَاهُ آَتِنَا َ‬

‫أي‪ :‬جاوزا في سيرهما مجمع البحرين ومكان الموعد‪ ،‬قال موسى ـ عليه السلم ـ لفتاه‪ :‬أحضر‬
‫لنا الغداء فقد تعبنا من السفر‪ ،‬وال ّنصَب‪ :‬هو التعب‪.‬‬
‫فمعنى ذلك أنهما سارا حتى مجمع البحرين‪ ،‬ثم استراحا‪ ،‬فلما جاوزا هذا المكان بدا عليهما‬
‫الرهاق والتعب؛ لذلك طلب موسى الطعام‪ .‬وهنا تذكّر الفتى ما كان من نسيان الحوت‪.‬‬

‫(‪)2186 /‬‬

‫خذَ سَبِيَلهُ‬
‫قَالَ أَرَأَ ْيتَ إِذْ َأوَيْنَا إِلَى الصّخْ َرةِ فَإِنّي نَسِيتُ ا ْلحُوتَ َومَا أَ ْنسَانِيهُ إِلّا الشّيْطَانُ أَنْ أَ ْذكُ َر ُه وَاتّ َ‬
‫عجَبًا (‪)63‬‬
‫فِي الْبَحْرِ َ‬

‫هذا كلم فتى موسى‪ :‬أرأيت‪ :‬أخبرني ِإذْ لجأنا إلى الصخرة عند مَجْمع البحرين لنستريح { فَإِنّي‬
‫نَسِيتُ ا ْلحُوتَ‪[ } ..‬الكهف‪ ]63 :‬ونلحظ أنه قال هنا { نَسِيتُ } وقال في الية السابقة{ نَسِيَا‪} ..‬‬
‫[الكهف‪ ]61 :‬ذلك لن الولى إخبار من ال‪ ،‬والثانية كلم فتى موسى‪.‬‬
‫فكلم ال تبارك وتعالى يدلّنا على أن رئيسا متبوعا ل يترك تابعه ليتصرف في كل شيء؛ لن‬
‫تابعه قد ل يهمه أمر المسير في شيء‪ ،‬وقد ينشغل ذِهْنه بأشياء أخرى تُنسِيه ما هو منُوط به من‬
‫أمر الرحلة‪.‬‬
‫ثم يعتذر الفتى عما َبدَر منه من نسيان الحوت‪ ،‬ويقول‪َ { :‬ومَآ أَنْسَانِيهُ ِإلّ الشّيْطَانُ أَنْ أَ ْذكُ َرهُ }‬
‫[الكهف‪ ]63 :‬فالشيطان هو الذي لعب بأفكاره وخواطره حتى أنساه واجبه‪ ،‬وأنساه ذكْر الحوت‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ عَجَبا } [الكهف‪ ]63 :‬أي‪ :‬اتخذ الحوتُ طريقه في البحر‬
‫عجَبا } لنه‬
‫عَجَبا‪ ،‬في الية السابقة قال‪ {:‬سَرَبا }[الكهف‪ ]61 :‬وهذه حال الحوت‪ ،‬وهنا يقول { َ‬
‫يحكي ما حدث ويتعجب منه‪ ،‬وكيف أن الحوت المشويّ تدبّ فيه الحياة حتى يقفز من المكتل‪،‬‬
‫ص ْوبَ الماء‪ ،‬فهذا حقا عجيبة من العجائب؛ لنها خرجتْ عن المألوف‪.‬‬
‫ويتجه َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالَ ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ‪.} ..‬‬

‫(‪)2187 /‬‬

‫صصًا (‪)64‬‬
‫قَالَ ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْ َتدّا عَلَى آَثَارِ ِهمَا َق َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي‪ :‬قال موسى ـ عليه السلم { ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ‪[ } ..‬الكهف‪ ]64 :‬أي‪ :‬نطلب‪ ،‬فهذا المكان الذي‬
‫ُفقِد فيه الحوت هو المكان المراد‪ ،‬فكأن الحوت كان أعلم بالموعد من موسى‪ ،‬وهكذا عُرف عنوان‬
‫المكان‪ ،‬وهو َمجْمع البحرين‪ ،‬حتى يلتقي البحران فيصيران بحرا واحدا‪.‬‬
‫وهذه الصورة ل توجد إلّ في مسرح بني إسرائيل في سيناء‪ .‬وهناك خليج العقبة وخليج السويس‪،‬‬
‫ويلتقيان في بحر واحد عند رأس محمد‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬فَارْ َتدّا عَلَىا آثَارِ ِهمَا َقصَصا } [الكهف‪ ]64 :‬أي‪ :‬عادا على أثر القدام كما يفعل‬
‫َقصّاصُو الثر‪ ،‬ومعنى‪َ { :‬قصَصا } [الكهف‪ ]64 :‬أي‪ :‬بدقة إلى أنْ وصلَ إلى المكان الذي‬
‫تسرّب فيه الحوت‪ ،‬وهو الموعد الذي ضربه ال تعالى لموسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬حيث سيجد هناك‬
‫العبد الصالح‪.‬‬
‫ح َمةً مّنْ عِندِنَا‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪َ { :‬ف َوجَدَا عَبْدا مّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَ ْ‬

‫(‪)2188 /‬‬

‫حمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَّلمْنَاهُ مِنْ َلدُنّا عِ ْلمًا (‪)65‬‬


‫َفوَجَدَا عَ ْبدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ َر ْ‬

‫سبق أن تحدثنا عن العبودية‪ ،‬فإنْ كانت ل تعالى فهي العزّ والشرف‪ ،‬وإنْ كانت لغير ال فهي‬
‫ل والهوان‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم لم يأخذ حَظْوة السراء والمعراج إل لنه عبد‬
‫الذ ّ‬
‫ل‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ‪[} ..‬السراء‪]1 :‬‬
‫كما أن العبودية ل يأخذ فيه العبد خَيْر سيده‪ ،‬أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خَيْر عبده‪.‬‬
‫ح َمةً مّنْ عِندِنَا‪[ } ..‬الكهف‪]65 :‬وقد‬
‫ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح‪ ،‬فقال‪ { :‬آتَيْنَاهُ رَ ْ‬
‫تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا‪ ،‬فقالوا‪ :‬الرحمة وردتْ في القرآن بمعنى النبوة‪ ،‬كما في قوله‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف‪]31 :‬‬
‫تعالى‪َ {:‬وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ‬
‫ح َمتَ رَ ّبكَ‪[} ..‬الزخرف‪]32 :‬‬
‫سمُونَ رَ ْ‬
‫فكان رَدّ ال عليهم‪ {:‬أَ ُهمْ َيقْ ِ‬
‫أي‪ :‬النبوة‪ ،‬ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل ـ عليه السلم ـ وعلى يد الرسل‪ ،‬أما هذه‬
‫الرحمة‪ ،‬فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملَك؛ لذلك قال تعالى‪ { :‬آتَيْنَاهُ‪[ } ..‬الكهف‪ ]65 :‬نحن‪،‬‬
‫وقال‪ { :‬مّنْ عِندِنَا‪[ } ..‬الكهف‪]65 :‬‬
‫فالتيان والعندية من ال مباشرة‪.‬‬
‫ثم يقول بعدها‪ { :‬وَعَّلمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْما‪[ } ..‬الكهف‪ ]65 :‬أي‪ :‬من عندما ل بواسطة الرسل‪ :‬لذلك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يسمونه العلم اللدني‪ ،‬كأنه ل حرجَ على ال تعالى أن يختار عبدا من عباده‪ ،‬ويُنعِم عليه بعلم‬
‫خاص من وراء النبوة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬علينا أنْ نُفرّق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته‪ ،‬وعلم وفيوضات‬
‫تأتي من ال تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق‬
‫بالتكاليف‪ :‬افعل كذا ول تفعل كذا‪ ،‬لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها عِلَل باطنة فوق العِلل‬
‫الظاهرية‪ ،‬وهذه هي التي اختصّ ال بها هذا العبد الصالح (الخضر) كما سماه النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تُحرّم القتل وتحرم إتلف مال الغير‪ ،‬فأتى الخضر وأتلف‬
‫السفينة وقتل الغلم‪ ،‬وقد اعترض موسى ـ عليه السلم ـ على هذه العمال؛ لنه ل عِلْم َله‬
‫بعلتها‪ ،‬ولو أن موسى ـ عليه السلم ـ علم العلّة في خَرْق السفينة لبادر هو إلى خرقها‪.‬‬
‫ي صَبْرا * َوكَ ْيفَ َتصْبِرُ‬
‫إذن‪ :‬فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له‪ {:‬إِ ّنكَ لَن َتسْتَطِيعَ َم ِع َ‬
‫عَلَىا مَا لَمْ ُتحِطْ بِهِ خُبْرا }[الكهف‪]68-67 :‬‬
‫فهذا عِلْم ليس عندك‪ ،‬فعِلْمي من كيس الولية‪ ،‬وعلمك من كيس الرسل‪ ،‬وهما في الحقيقة ل‬
‫يتعارضان‪ ،‬وإنْ كان لعلم الولية عِلَل باطنة‪ ،‬ولعلم الرسالة عِلَل ظاهرة‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬قَالَ َلهُ مُوسَىا َهلْ أَتّ ِب ُعكَ‪.} ...‬‬

‫(‪)2189 /‬‬

‫عّل ْمتَ ُرشْدًا (‪)66‬‬


‫قَالَ لَهُ مُوسَى َهلْ أَتّ ِب ُعكَ عَلَى أَنْ ُتعَّلمَنِ ِممّا ُ‬

‫كأن موسى عليه السلم يُعلّمنا أدب تلقّي العلم وأدب التلميذ مع معلمه‪ ،‬فمع أن ال تعالى أمره أن‬
‫يتبع الخضر‪ ،‬فلم يقُل له مثلً‪ :‬إن ال أمرني أن أتبعك‪ ،‬بل تلطّف معه واستسمحه بهذا السلوب‪:‬‬
‫{ َهلْ أَتّ ِب ُعكَ‪[ } ..‬الكهف‪]66 :‬‬
‫والرشد‪ :‬هو حُسْن التصرّف في الشياء‪ ،‬وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده‪ ،‬وسبق أن قلنا‪:‬‬
‫ن البلوغ‪ ،‬لكن ل يعني هذا أن كل مَنْ بلغ يكون راشدا‪ ،‬فقد يكون النسان‬
‫إن الرّشْد يكون في س ّ‬
‫بالغا وغير راشد‪ ،‬فقد يكون سفيها‪.‬‬
‫لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن اليتامى قال‪ {:‬وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىا }[النساء‪ ]6 :‬أي‪ :‬اختبروهم‪،‬‬
‫واختبار اليتيم يكون حال يُتْمه وهو ما يزال في كفالتك‪ ،‬فعليك أنْ تكلّفه بعمل لصلح حاله‪،‬‬
‫وتعطيه جزءا من ماله يتصرّف فيه تحت عينك وفي رعايتك‪ ،‬لترى كيف سيكون تصرفه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليك أنْ تحرص على تدريبه لمواجهة الحياة‪ ،‬ل أن تجعله في َمعْزل عنها إلى أنْ يبلغَ الرشْد‪ ،‬ثم‬
‫تدفع إليه بماله فل يستطيع التصرف فيه لعدم خبرته‪ ،‬وإنْ فشل كانت التجربة في ماله والخسارة‬
‫عليه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاختبار اليتيم يتمّ وهو ما يزال في وليتك‪ ،‬وتحت سمعك وبصرك رعاية لحقه‪ {.‬حَتّىا ِإذَا‬
‫بََلغُواْ ال ّنكَاحَ‪[} ..‬النساء‪ ]6 :‬وهو سن البلوغ‪ ،‬ولم ي ُقلْ بعدها‪ :‬فادفعوا إليهم أموالهم؛ لن بعد البلوغ‬
‫عيَ هذا الترتيب‪:‬‬
‫شرطا آخر{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مّ ْنهُمْ رُشْدا‪[} ..‬النساء‪ ]6 :‬فعلى الوصيّ أنْ يُرا ِ‬
‫أنْ تُراعي اليتيم وهو تحت وليتك‪ ،‬وتدفع به في ُمعْتَرك الحياة وتجاربها حتى يتمكن من مواجهة‬
‫الحياة ول يتخبط في ماله لعدم تجربته وخبرته‪ ،‬فإن علمت رشده بعد البلوغ فادفع إليه بماله‬
‫ليتصرف فيه‪ ،‬فإن لم تأنس منه الرشد وحسن التصرف فل تترك له المال يبدده بسوء تصرفه‪.‬‬
‫س َفهَآءَ َأ ْموَاَلكُمُ‪[} ..‬النساء‪ ]5 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬أموالهم؛ لن‬
‫لذلك يقول تعالى في هذا المعنى‪َ {:‬ولَ ُتؤْتُواْ ال ّ‬
‫سفَهه‪ ،‬بل هو مالكم لِتُحسِنوا التصرف فيه وتحفظوه لصاحبه لحين تتأكد من‬
‫السفيه ل مالَ له حال َ‬
‫رُشْده‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الشياء‪،‬‬
‫لكن هل يعني ذلك أن موسى ـ عليه السلم ـ لم يكن راشدا؟ ل‪ ،‬بل كان راشدا في مذهبه هو‬
‫كرسول‪ ،‬راشدا في تبليغ الحكام الظاهرية‪.‬‬
‫أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح‪ ،‬وقد دلّ هذا على أنه طلب شيئا لم يكن‬
‫معلوما له‪ ،‬وهذا ل يقدح في مكانة النبوة؛ لن الحق سبحانه وتعالى قال‪َ {:‬ومَآ أُوتِيتُم مّنَ ا ْلعِلْمِ ِإلّ‬
‫قَلِيلً }[السراء‪ ]85 :‬وقال للنبي صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬وقُل ّربّ زِدْنِي عِلْما }[طه‪]114 :‬‬
‫لذلك يقول الشاعر‪:‬كُلّما ازْ َد ْدتُ عُلوما ِز ْدتُ إيقَانَا بجْهلي‬

‫لن معنى أنه ازداد عِلْما اليوم أنه كان ناقصا بالمس‪ ،‬وكذلك هو ناقص اليوم ليعلمَ غدا‪.‬‬
‫والنسان حينما يكون واسعَ الفق محبا للعلم‪ ،‬تراه كلما عَلِم قضية اشتاق لغيرها‪ ،‬فهو في نَهمٍ دائم‬
‫للعلم ل يشبع منه‪ ،‬كما قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬منهومان ل يشبعان‪ :‬طالب علم‪ ،‬وطالب مال‬
‫"‪.‬‬
‫والشاعر الذي تنّبه لنفسه حينما دَعَتْه إلى الغرور والكبرياء والزّهْو بما لديه من علم قليل‪ ،‬إل أنه‬
‫كان متيقظا لخداعها‪ ،‬فقال‪:‬قالتِ النفْسُ قَدْ عِل ْمتُ كَثِيرا قُ ْلتُ هَذَا الكثيرُ نَ ْزعٌ يسيِرُثم جاء بمثل‬
‫توضيحي‪:‬تمْلُ الكُوزَ غَ ْرفَةٌ من مُحيِط فَـيَرى أنّـهُ المحيـطُ الكَبـيِرُثم يقول الحق سبحانه‪} :‬‬
‫قَالَ إِ ّنكَ لَن تَسْ َتطِيعَ َم ِعيَ صَبْرا {‪.‬‬

‫(‪)2190 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قَالَ إِ ّنكَ لَنْ تَسْ َتطِيعَ َم ِعيَ صَبْرًا (‪)67‬‬

‫هنا يبدأ العبد الصالح يُملي شروط هذه الصّحْبة ويُوضّح لموسى ـ عليه السلم ـ طبيعة عِلْمه‬
‫ومذهبه‪ ،‬فمذهبُك غير مذْهبي‪ ،‬وعلمي من كيس غير كيسك‪ ،‬وسوف ترى مني تصرفات لن‬
‫عذْرا على عدم صَبْره معه؛ لذلك يقول‪{ :‬‬
‫علْم لك ببواطنها‪ ،‬وكأنه يلتمس له ُ‬
‫تصبر عليها؛ لنه ل ِ‬
‫حطْ بِهِ خُبْرا }‪.‬‬
‫َوكَيْفَ َتصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُ ِ‬

‫(‪)2191 /‬‬

‫َوكَيْفَ َتصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ ُتحِطْ بِهِ خُبْرًا (‪)68‬‬

‫فل تحزن لني قُلت‪ :‬لن تستطيع معي صبرا؛ لن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خُبر‬
‫بها‪ ،‬وكيف تصبر على شيء ل عِلْمَ لك به؟‬
‫ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر ـ عليهما السلم ـ أدبَ الحوار واختلفَ الرأي بين‬
‫طريقتين‪ :‬طريقة الحكام الظاهرية‪ ،‬وطريقة ما خلف الحكام الظاهرية‪ ،‬وأن كلً منهما يقبَل ر ْأيَ‬
‫الخر ويحترمه ول يعترض عليه أو يُنكره‪ ،‬كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم‬
‫على بعض‪ ،‬بل ويُكفّر بعضهم بعضا‪ ،‬فإذا رَأوْا مثلً عبدا مَنْ عباد ال اختاره ال بشيء من‬
‫الفيوضات‪ ،‬فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه‪ ،‬وربما وصل المر إلى الشتائم‬
‫والتجريح‪ ،‬بل والتكفير‪.‬‬
‫لقد تجلى في قول الخضر‪َ { :‬وكَ ْيفَ َتصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ ُتحِطْ ِبهِ خُبْرا } [الكهف‪ ]68 :‬مظهر من‬
‫ل منهما‬
‫مظاهر أدب المعلّم مع المتعلّم‪ ،‬حيث احترم رأيه‪ ،‬والتمس له العُذْر إن اعترض عليه‪ ،‬فل ُك ّ‬
‫مذهبه الخاص‪ ،‬ول يحتج بمذهب على مذهب آخَر‪.‬‬
‫جدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ‪.} ..‬‬
‫فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟ { قَالَ سَتَ ِ‬

‫(‪)2192 /‬‬

‫عصِي َلكَ َأمْرًا (‪)69‬‬


‫جدُنِي إِنْ شَاءَ اللّ ُه صَابِرًا وَلَا أَ ْ‬
‫قَالَ سَتَ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي‪ :‬أنا قابل لشروطك أيّها المعلم فاطمئن‪ ،‬فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء‪ .‬وقدّم المشيئة‬
‫فقال‪ { :‬إِن شَآءَ اللّهُ‪[ } ..‬الكهف‪ ]69 :‬ليستميله إليه ويُحنّن قلبه عليه { صَابِرا‪[ } ..‬الكهف‪]69 :‬‬
‫عصِي َلكَ أمْرا } [الكهف‪ ]69 :‬وهكذا جعل نفسه مأمورا‪ ،‬فالمعلم‬
‫على ما تفعل مهما كان { َولَ أَ ْ‬
‫آمرا‪ ،‬والمتعلّم مأمور‪.‬‬

‫(‪)2193 /‬‬

‫شيْءٍ حَتّى ُأحْ ِدثَ َلكَ مِنْهُ ِذكْرًا (‪)70‬‬


‫قَالَ فَإِنِ اتّ َبعْتَنِي فَلَا َتسْأَلْنِي عَنْ َ‬

‫وهذا تأكيد من الخضر لموسى‪ ،‬وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته‪ :‬إنْ تبعتني فل‬
‫تسألْني حتى أخبرك‪ ،‬وكأنه يُعلّمه أدب تناول العلم والصبر عليه‪ ،‬وعدم العجلة لمعرفة كل أمر‬
‫من المور على حِدة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَا ْنطََلقَا‪.} ...‬‬

‫(‪)2194 /‬‬

‫سفِينَةِ خَ َر َقهَا قَالَ َأخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْرِقَ َأهَْلهَا َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئًا ِإمْرًا (‪)71‬‬
‫فَانْطََلقَا حَتّى ِإذَا َركِبَا فِي ال ّ‬

‫{ فَا ْنطََلقَا } سارا معا‪ ،‬حتى ركبا سفينة‪ ،‬وكانت ُمعَدّة لنقل الركاب‪ ،‬فما كان من الخضر إل أنْ‬
‫بادر إلى خَرْقها وإتلفها‪ ،‬عندها لم يُطِق موسى هذا المر‪ ،‬وكبُرت هذه المسألة في نفسه فلم‬
‫يصبر عليها فقال‪ { :‬أَخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْرِقَ أَهَْلهَا َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا ِإمْرا } [الكهف‪]71 :‬‬
‫أي‪ :‬أمرا عجيبا أو فظيعا‪ .‬ونسى موسى ما أخذه على نفسه من طاعة العبد الصالح وعدم‬
‫عصيانه والصبر على ما يرى من تصرفاته‪.‬‬
‫كأن الحقّ ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يُعلّمنا أن الكلم النظري شيء‪ ،‬والعمل الواقعي شيء‬
‫آخر‪ ،‬فقد تسمع من أحدهم القول الجميل الذي يعجبك‪ ،‬فإذا ما جاء وقت العمل والتنفيذ ل تجد‬
‫شيئا؛ لن الكلم قد ُيقَال في أول المر بعبارة الريحية‪ ،‬كمن يقول لك‪ :‬أنا رَهْن أمرك ورقبتي‬
‫لك‪ ،‬فإذا ما أحوجك الواقع إليه كنت كالقابض على الماء ل تجد منه شيئا‪.‬‬
‫ونلحظ هنا أن موسى ـ عليه السلم ـ لم يكتف بالستفهام‪َ { :‬أخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْرِقَ أَ ْهَلهَا‪[ } ..‬الكهف‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪ ]71‬بل تعدّى إلى اتهامه بأنه أتى أمرا منكرا فظيعا؛ لن كلم موسى النظري شيء ورؤيته‬
‫لخرق السفينة وإتلفها دون مبرر شيء آخر؛ لن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلف مال‬
‫الغير‪ ،‬فضلً عن إغراق ركاب السفينة‪ ،‬فرأى المر ضخما والضرر كبيرا‪ ،‬هذا لن موسى يأخذ‬
‫من كيس والخضر يأخذ من كيس آخر‪.‬‬

‫(‪)2195 /‬‬

‫ي صَبْرًا (‪)72‬‬
‫قَالَ أَلَمْ َأ ُقلْ إِ ّنكَ لَنْ َتسْتَطِيعَ َمعِ َ‬

‫وهذا درس آخر من الخضر لموسى ـ عليهما السلم ـ يقول‪ :‬إن كلمي لك كان صادقا‪ ،‬وقد‬
‫حذرتُك أنك لن تصبرَ على ما ترى من تصرفاتي‪ ،‬وها أنت تعترض عليّ‪ ،‬وقد اتفقنا وأخذنا العهد‬
‫ألّ تسألني عن شيء حتى أُخبرك أنا به‪.‬‬
‫خذْنِي ِبمَا َنسِيتُ‪.} ...‬‬
‫ل لَ ُتؤَا ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَا َ‬

‫(‪)2196 /‬‬

‫ت وَلَا تُرْ ِهقْنِي مِنْ َأمْرِي عُسْرًا (‪)73‬‬


‫قَالَ لَا ُتؤَاخِذْنِي ِبمَا نَسِي ُ‬

‫يعتذر موسى ـ عليه السلم ـ عما بدر منه لمعلمه‪ ،‬ويطلب منه مسامحته وعدم مؤاخذته { َولَ‬
‫تُرْ ِهقْنِي مِنْ َأمْرِي عُسْرا } [الكهف‪ ]73 :‬أي‪ :‬ل تُحمّلني من أمر اتباعك عُسْرا ومشقة‪ .‬فسامحه‬
‫الخضر وعاود السير‪.‬‬

‫(‪)2197 /‬‬

‫فَانْطََلقَا حَتّى ِإذَا َلقِيَا غُلَامًا َفقَتَلَهُ قَالَ َأقَتَ ْلتَ َنفْسًا َزكِيّةً ِبغَيْرِ َنفْسٍ َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئًا ُنكْرًا (‪)74‬‬

‫تلحظ أن العتداء الول من الخضر كان على مال أتلفه‪ ،‬وهنا صعّد المر إلى قَتْل نفس زكية‬
‫دون حق‪ ،‬فبأيّ جريرة يُقتل هذا الغلم الذي لم يبلغ رُشْده؟ لذلك قال في الولى‪َ { :‬لقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ِإمْرا } [الكهف‪ ]71 :‬أي عجيبا أما هنا فقال‪ّ { :‬لقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا ّنكْرا } [الكهف‪ ]74 :‬أي‪ :‬مُنكَرا؛‬
‫لن الجريمة كبيرة‪.‬‬
‫والنفس الزكية‪ :‬الطاهرة الصافية التي لم تُلوّثها الذنوب ومخالفة التكاليف اللهية‪.‬‬
‫وكذلك يأتي الرد من الخضْر مخالفا للرد الول‪ ،‬ففي المرة الولى قال‪ {:‬أََلمْ َأ ُقلْ إِ ّنكَ لَن تَسْ َتطِيعَ‬
‫ي صَبْرا }[الكهف‪]72 :‬‬
‫َمعِ َ‬
‫ي صَبْرا }‪.‬‬
‫أي‪ :‬قلت كلما عاما‪ ،‬أما هنا فقال‪ { :‬قَالَ أََلمْ َأ ُقلْ ّلكَ إِ ّنكَ لَن َتسْتَطِيعَ َم ِع َ‬

‫(‪)2198 /‬‬

‫ي صَبْرًا (‪)75‬‬
‫قَالَ أَلَمْ َأ ُقلْ َلكَ إِ ّنكَ لَنْ َتسْتَطِيعَ َمعِ َ‬

‫وأكّدها وأرده بالكلم أي‪ :‬قُلْت لك أنت‪.‬‬


‫ثم بعد المرة الثانية التي يقاطع فيها موسى معلمه الخضر يأخذ عهدا جديدا على نفسه‪.‬‬

‫(‪)2199 /‬‬

‫شيْءٍ َبعْدَهَا فَلَا ُتصَاحِبْنِي قَدْ بََل ْغتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرًا (‪)76‬‬
‫قَالَ إِنْ سَأَلْ ُتكَ عَنْ َ‬

‫وهكذا قطع موسى ـ عليه السلم ـ الطريق على نفسه‪ ،‬وأعطى لها فرصة واحدة يتم بعدها‬
‫الفراق؛ لذلك في الحديث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬رحمنا ال‪ ،‬ورحم أخي موسى‬
‫لو صبر لعرفنا الكثير "‪.‬‬
‫فهذه هي الثالثة‪ ،‬وليس لموسى عذر بعد ذلك‪.‬‬
‫ومعنى‪َ { :‬قدْ بََل ْغتَ مِن لّدُنّي عُذْرا } [الكهف‪ ]76 :‬أي‪ :‬قد فعلت معي كل ما يمكن فعله‪ ،‬وليس لي‬
‫عُذْر بعد ذلك‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬فَانطََلقَا حَتّىا إِذَآ أَتَيَآ أَ ْهلَ قَرْ َيةٍ‪.} ...‬‬

‫(‪)2200 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَ ْن َقضّ‬
‫جدَا فِيهَا ِ‬
‫ط َعمَا أَهَْلهَا فَأَ َبوْا أَنْ ُيضَ ّيفُو ُهمَا َفوَ َ‬
‫فَانْطََلقَا حَتّى ِإذَا أَتَيَا أَ ْهلَ قَرْ َيةٍ اسْ َت ْ‬
‫خ ْذتَ عَلَيْهِ َأجْرًا (‪)77‬‬
‫فََأقَامَهُ قَالَ َلوْ شِ ْئتَ لَاتّ َ‬

‫استطعم‪ :‬أي طلب الطعام‪ ،‬وطَلبُ الطعام هو أصدق أنواع السؤال‪ ،‬فل يسأل الطعام إل جائع‬
‫محتاج‪ ،‬فلو سأل مالً لقلنا‪ :‬إنه يدخره‪ ،‬إنما الطعام ل يعترض عليه أحد‪ ،‬ومنْعُ الطعام عن سائله‬
‫دليل ُبخْل وُلؤْم متأصل في الطباع‪ ،‬وهذا ما حدث من أهل هذه القرية التي مَرّا بها وطلبَا الطعام‬
‫فمنعوهما‪.‬‬
‫والمتأمل في الية يجد أن أسلوب القرآن يُصوّر مدى ُبخْل هؤلء القوم ولُؤْمهم وسُوء طباعهم‪،‬‬
‫فلم ي ُقلْ مثلً‪ :‬فأبوا أن يطعموهما‪ ،‬بل قال‪ { :‬فَأَ َبوْاْ أَن ُيضَيّفُو ُهمَا‪[ } ..‬الكهف‪]77 :‬وفرْق بين‬
‫الطعام والضيافة‪ ،‬أَ َبوْا الطعام يعني منعوهما الطعام‪ ،‬لكن أَ َبوْا أن يُضيّفوهما‪ ،‬يعني كل ما يمكن‬
‫أنْ يُقدّم للضيف حتى مجرد اليواء والستقبال‪ ،‬وهذا مُنْتَهى ما يمكن تصوّره من لُؤمْ هؤلء‬
‫الناس‪.‬‬
‫وتلحظ أيضا تكرار كلمة { أَ ْهلَ } فلما قال‪ { :‬أَتَيَآ أَ ْهلَ قَرْيَةٍ } [الكهف‪ ]77 :‬فكان المقام للضمير‬
‫ط َعمَآ أَهَْلهَا‪[ } ..‬الكهف‪ ]77 :‬لنهم حين دخلوا القرية‪ :‬هل‬
‫فيقول‪ :‬استطعموهم‪ ،‬لكنه قال‪ { :‬اسْتَ ْ‬
‫قابلوا كل أهلها‪ ،‬أم قابلوا بعضهم الذين واجهوهم أثناء الدخول؟‬
‫بالطبع قابلوا بعضهم‪ ،‬أما الستطعام فكان لهل القرية جميعا‪ ،‬كأنهما مرّا على كل بيت في القرية‬
‫وسأل أهلها جميعا واحدا تلو الخر دون جدوى‪ ،‬كأنهم مجمعون على ال ُبخْل ولُؤْم الطباع‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪َ { :‬فوَجَدَا فِيهَا جِدَارا يُرِيدُ أَن يَنقَضّ فََأقَامَهُ‪[ } ..‬الكهف‪]77 :‬‬
‫ن ينقضّ‪ ،‬ونحن نعرف أن الرادة ل تكون‬
‫أي‪ :‬لم يلبثا بين هؤلء اللئام حتى وَجَدا جدارا يريد أ ْ‬
‫إل للمفكر العاقل‪ ،‬فإنْ جاءت لغير العاقل فهي بمعنى‪ :‬قَرُب‪ .‬أي‪ :‬جدارا قارب أنْ ينهار‪ ،‬لما نرى‬
‫فيه من علمات كالتصدّع والشّروخ مثلً‪.‬‬
‫وهذا الفهم يتناسب مع أصحاب التفكير السطحي وضَيّقي الفق‪ ،‬أما أصحاب الفق الواسع الذين‬
‫ن يكون للجدار إرادة‬
‫يعطون للعقل دوره في التفكير والنظر ويُدققون في المسائل فل مانع لديهم أ ْ‬
‫على أساس أن لكل شيء في الكون حياةً تناسبه‪ ،‬ول تعالى أن يخاطبه ويكون بينهما كلم‪.‬‬
‫سمَآ ُء وَالَرْضُ‪[} ..‬الدخان‪]29 :‬‬
‫ألم يقل الحق سبحانه‪َ {:‬فمَا َب َكتْ عَلَ ْي ِهمُ ال ّ‬
‫فإذا كانت السماء تبكي فقد تع ّدتْ مجرد الكلم‪ ،‬وأصبح لها أحاسيس ومشاعر‪ ،‬ولديها عواطف قد‬
‫سمَآ ُء وَالَ ْرضُ‪[} ..‬الدخان‪ ]29 :‬دليل على‬
‫تسمو على عواطف البشر‪ ،‬فقوله‪َ {:‬فمَا َب َكتْ عَلَ ْيهِمُ ال ّ‬
‫أنها تبكي على َفقْد الصالحين‪.‬‬
‫وقد سُئِل المام علي ـ رضي ال عنه ـ عن هذه المسألة فقال‪ " :‬نعم‪ ،‬إذا مات المؤمن بكى عليه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫موضعان‪ :‬موضع في السماء وموضوع في الرض‪ ،‬أما موضعه في الرض فموضع مُصلّه‪،‬‬
‫أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله "‪.‬‬
‫وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع ال َكوْن من حوله‪ ،‬فالكون ساجد ل مُسبّح ل طائع ل يحب‬
‫الطائعين وينُبو بالعاصين ويكرههم ويلعنهم؛ لذلك العرب تقول‪( :‬نَبَا به المكان) أي‪ :‬كرهه لنه‬
‫غير منسجم معه‪ ،‬فالمكان طائع وهو عاصٍ‪ ،‬والمكان مُسبّح وهو غافل‪.‬‬

‫وعلى هذا الفهم فقوله تعالى‪ } :‬يُرِيدُ أَن يَن َقضّ‪[ { ..‬الكهف‪ ]77 :‬قول على حقيقته‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهذه المخلوقات لها إحساس ولها بكاء‪ ،‬وتحزن لفقد الحبة‪ ،‬وفي الحديث أن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم قال‪ " :‬إني لعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أُبعث "‪.‬‬
‫و ُروِي في السيرة حنين الجذع إلى رسول ال‪ ،‬وتسبيح الحصى في يده صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وسبق أن أوضحنا هذه المسألة فقلنا‪ :‬ل ينبغي أن نقول‪ :‬سَبّح الحصى في يد رسول ال؛ لن‬
‫الحصى يُسبّح أيضا في يد أبي جهل‪ ،‬لكن نقول‪ :‬سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم تسبيح‬
‫الحصى في يديه‪.‬‬
‫ول غرابة أن يعطينا القرآن أمثلة لكلم هذه الشياء‪ ،‬فقد رأينا العلماء في العصر الحديث يبحثون‬
‫في لغة للسماك‪ ،‬ولغة للطير‪ ،‬ولغة للوطاويط التي أخذوا منها فكرة الرادار‪ ،‬بل وتوصلوا إلى أن‬
‫الحيوان يستشعر بوقوع الزلزال وخاصة الحمار‪ ،‬وأنها تفرّ من المكان قبل وقوع الزلزال‬
‫مباشرة‪ .‬إذن‪ :‬فلهم وسائل إدراك‪ ،‬ولهم لغة يتفاهمون بها‪ ،‬ولهم منطق يعبرون به‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عن ِفعْل الخضر مع الجدار الذي قارب أن ينقض } فََأقَامَهُ‪[ { ..‬الكهف‪:‬‬
‫‪ ]77‬أي‪ :‬أصلحه ورمّمه } قَالَ َلوْ شِ ْئتَ لَتّخَ ْذتَ عَلَ ْيهِ أَجْرا‪[ { ..‬الكهف‪]77 :‬‬
‫هذا قول موسى ـ عليه السلم ـ لما رأى ُل ْؤ َم القوم وخِسّتهم‪ ،‬فقد طلبنا منهم الطعام فلم‬
‫يُطْعمونا‪ ،‬بل لم يقدموا لنا مجرد المأوى‪ ،‬فكيف نعمل لهم مثل هذا العمل دون أجرة؟‬
‫وجاء هذا القول من موسى ـ عليه السلم ـ لنه ل يعلم الحكمة من وراء هذا العمل‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬قَالَ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْ ِنكَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)2201 /‬‬

‫قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْ ِنكَ سَأُنَبّ ُئكَ بِتَ ْأوِيلِ مَا َلمْ تَسْ َتطِعْ عَلَ ْي ِه صَبْرًا (‪)78‬‬

‫خ ْذتَ عَلَيْهِ‬
‫{ قَالَ } أي‪ :‬العبد الصالح { هَـاذَا } أي‪ :‬ما حدث منك من قولك‪ {:‬قَالَ َلوْ شِ ْئتَ لَتّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أَجْرا }[الكهف‪ ]77 :‬وقد سبق أن اشترط موسى ـ عليه السلم ـ على نفسه إن اعترض على‬
‫معلمه هذه المرة يكون الفِراقُ بينهما‪ ،‬وكأن العبد الصالح لم يَ ْأتِ بشيء من عنده‪ ،‬لقد قال‬
‫شيْءٍ َبعْدَهَا فَلَ ُتصَاحِبْنِي }[الكهف‪ ]76 :‬وها هو يسأله‪ ،‬إذن‪ :‬فليس إل‬
‫موسى‪ {:‬إِن سَأَلْ ُتكَ عَن َ‬
‫الفراق‪ { :‬قَالَ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْ ِنكَ‪[ } ..‬الكهف‪]78 :‬‬
‫قوله‪ { :‬هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْ ِنكَ‪[ } ..‬الكهف‪ ]78 :‬تُعد دُستورا من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ‬
‫ودليلً على أن هذين المذهبين ل يلتقيان‪ ،‬فيظل كل منهما له طريقه‪ :‬المرتاض له طريقه‪ ،‬وغير‬
‫المرتاض له طريقه‪ ،‬ول ينبغي أن يعترض أحدهما على الخر‪ ،‬بل يلزم أدبه في حدود ما علّمه‬
‫ال‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى على لسان الخضر‪ { :‬سَأُنَبّ ُئكَ بِتَ ْأوِيلِ مَا َلمْ تَسْ َتطِع عّلَ ْي ِه صَبْرا } [الكهف‪ ]78 :‬أي‪:‬‬
‫لن أتركك وفي نفسك هذه التساؤلت‪ ،‬حتى ل يكون في نفسك مني شيء‪ ،‬سوف أخبرك بحقيقة‬
‫عكَ‪ ،‬بل أرسلك إلى مَنْ يُعلّمك شيئا لم تكُنْ‬
‫ضتَ عليها لتعلم أن ال لم يخد ْ‬
‫هذه الفعال التي اعتر ْ‬
‫تعلمه‪.‬‬
‫ثم أخذ العبد الصالح يكشف لموسى الحكمة من هذه الفعال واحدا تِلْو الخر‪ ،‬كما لو عتبَ عليك‬
‫صاحبك في أمر ما‪ ،‬وأنت حريص على مودّته فتقول له‪ :‬أمهلني حتى أوضح لك ما حدث‪ ،‬لقد‬
‫فعلتُ كذا من أجل كذا‪ ،‬لتريح قلبه وتُزيل ما التبس عليه من هذا المر‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬إن هذا من أدب الصّحْبة‪ ،‬فل يجوز بعد المصاحبة أنْ نفترقَ على الخلف‪ ،‬ينبغي أن‬
‫نفترق على ِوفَاق ورضا؛ لن الفتراق على الخلف يُنمّي الفجوة ويدعو للقطيعة‪ ،‬إذن‪ :‬فقبل أنْ‬
‫نفترق‪ :‬المسألة كيت وكيت‪ ،‬فتتضح المور وتصفو النفوس‪.‬‬
‫سفِينَةُ َفكَا َنتْ ِلمَسَاكِينَ َي ْعمَلُونَ فِي الْ َبحْرِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬أمّا ال ّ‬

‫(‪)2202 /‬‬

‫سفِينَةٍ‬
‫سفِينَةُ َفكَا َنتْ ِلمَسَاكِينَ َي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَ َر ْدتُ أَنْ أَعِي َبهَا َوكَانَ وَرَا َءهُمْ مَِلكٌ يَ ْأخُذُ ُكلّ َ‬
‫َأمّا ال ّ‬
‫غصْبًا (‪)79‬‬
‫َ‬

‫قوله‪ِ { :‬ل َمسَاكِينَ } اللم هنا للملكية‪ ،‬يعني مملوكة لهم‪ ،‬وقد حسمتْ هذه اليةُ الخلفَ بين العلماء‬
‫حول تعريف الفقير والمسكين‪ ،‬وأيهما أشدّ حاجة من الخر‪ ،‬وعليها فالمسكين‪ :‬هو مَنْ يملك شيئا‬
‫ل يكفيه‪ ،‬كهؤلء الذين كانوا يملكون سفينة تعمل في البحر‪ ،‬وسماهم القرآن مساكين‪ ،‬أما الفقير‪:‬‬
‫فهو مَنْ ل يملك شيئا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومعنى‪َ { :‬ي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ‪[ } ..‬الكهف‪ ]79 :‬أي‪ :‬مجال عملهم البحر‪ ،‬يعملون فيه بنقل الركاب‬
‫أو البضائع‪ ،‬أو الصيد‪ ،‬أو خلفه‪.‬‬
‫خضْر ـ عليه السلم ـ فنسب‬
‫وقوله‪ { :‬فَأَرَدتّ أَنْ أَعِي َبهَا‪[ } ..‬الكهف‪ ]79 :‬المتكلم هنا هو ال ِ‬
‫عمّا ل يليق‪ ،‬أما في الخير‬
‫إرادة عَيْب السفينة إلى نفسه‪ ،‬ولم ينسبها إلى ال تعالى تنزيها له تعالى َ‬
‫شدّ ُهمَا وَيَسْ َتخْرِجَا كَنزَ ُهمَا‪[} ..‬الكهف‪ ]82 :‬لذلك‬
‫فنسب المر إلى ال فقال‪ {:‬فَأَرَادَ رَ ّبكَ أَن يَبُْلغَآ أَ ُ‬
‫فإنه في نهاية القصة يُرجع كل ما فعله إلى ال فيقول‪َ {:‬ومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي‪[} ..‬الكهف‪ ]82 :‬ثم‬
‫غصْبا } [الكهف‪ ]79 :‬كلمة‪ :‬كل ترسم سُورا‬
‫سفِينَةٍ َ‬
‫خذُ ُكلّ َ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬وكَانَ وَرَآءَهُم مِّلكٌ يَأْ ُ‬
‫كُليا ل يترك شيئا‪ ،‬فالمراد يأخْذ كل سفينة‪ ،‬سواء أكانت معيبة أم غير معيبة‪ ،‬لكن الحقيقة أنه يأخذ‬
‫السفينة الصالحة للستعمال فقط‪ ،‬ول حاجةَ له في المعيبة الغير صالحة‪ ،‬وكأن في سياق الية‬
‫غصْبا من صاحبها‪.‬‬
‫صفة مُقدّرة‪ :‬أي يأخذ كل سفينة صالحة َ‬
‫وال َغصْب‪ :‬ما أُخذ بغير الحق‪ ،‬عُنْو ًة و َقهْرا ومُصَادرة‪ ،‬وله صور متعددة منها مثلً السرقة‪ :‬وهي‬
‫أَخْذ المال من حِرْزه خفية ككسر دولب أو خزينة‪ ،‬ومنها ال َغصْب‪ :‬وهو أخْذ مال الغير بالقوة‪،‬‬
‫وتحت سمعه وبصره‪ ،‬وفي هذه الحالة تحدث مقاومة ومشادة بين الغاصب والمغصوب‪.‬‬
‫ومنها الخطف‪ :‬وهو أخْذ مال الغير هكذا علنية‪ ،‬ولكن بحيلةٍ ما‪ ،‬يخطف الشيء ويفرّ به دون أن‬
‫طفُ ـ إذن ـ يتم علنية ولكن دون مقاومة‪ .‬ومنها الختلس‪ :‬وهو أن‬
‫تتمكّن من اللحاق به‪ ،‬فالخَ ْ‬
‫تأخذ مال الغير وأنت مؤتمن عليه‪ ،‬والختلس يحدث خفية‪ ،‬ول يخلو من حيلة تستره‪.‬‬
‫حقّه‪ ،‬وقد‬
‫ن يقاوم ولو بعض مقاومة يدافع بها عن َ‬
‫غصْبا فل ُبدّ لمالك الشيء أ ْ‬
‫وما دام المر هنا َ‬
‫خ ٌذ وَرَدّ‪.‬‬
‫يتوسل إليه أنْ يترك له ماله‪ ،‬فالمسألة ـ إذن ـ فيها كلم وأ ْ‬
‫إذن‪ :‬خَرْق السفينة في ظاهره اعتداء على ملك مُقوّم‪ ،‬وهذا منهيّ عنه شرعا‪ ،‬لكن إذا كان هذا‬
‫العتداء سيكون سببا في نجاة السفينة كلها من الغاصب فل بأس إذن‪ ،‬وسفينة معيبة خير من‬
‫علِم موسى ـ عليه السلم ـ هذه الحكمة لَبادرَ هو إلى خَرْقها‪.‬‬
‫عدمها‪ ،‬ولو َ‬
‫وما دام المر كذلك‪ ،‬فعلينا أن نُحوّل السفينة إلى سفينة غير صالحة ونعيبها بخَرْقها‪ ،‬أو بخلْع َلوْح‬
‫منها لنصرف نظر الملك المغتصب عن أَخْذها‪.‬‬

‫وكلمة } وَرَآءَهُم { هنا بمعنى أمامهم؛ لن هذا الظالم كان يترصّد للسفن التي تمر عليه‪ ،‬فما‬
‫سقَىا‬
‫جهَنّ ُم وَيُ ْ‬
‫وجدها صالحة غصبها‪ ،‬فهو في الحقيقة أمامهم‪ ،‬على حَدّ قوله تعالى‪ {:‬مّن وَرَآئِهِ َ‬
‫مِن مّآ ٍء صَدِيدٍ }[إبراهيم‪ ]16 :‬وهل جهنم وراءه أم أمامه؟‬
‫ق َومِن وَرَآءِ ِإسْحَاقَ َي ْعقُوبَ }‬
‫وتستعمل وراء بمعنى‪َ :‬بعْد‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬فَبَشّرْنَاهَا بِِإسْحَا َ‬
‫[هود‪]71 :‬‬
‫جهِمْ حَافِظُونَ‬
‫وتأتي وراء بمعنى‪ :‬غير‪ .‬كما في قوله تعالى في صفات المؤمنين‪ {:‬وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جهِمْ َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّن ُهمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * َفمَنِ ابْ َتغَىا وَرَآءَ ذاِلكَ فَُأوْلَـائِكَ‬
‫* ِإلّ عَلَىا أَ ْزوَا ِ‬
‫هُمُ ا ْلعَادُونَ }[المؤمنون‪]7-5 :‬‬
‫حلّ َلكُمْ مّا وَرَاءَ ذَاِلكُمْ‪} ..‬‬
‫وفي قوله تعالى‪ {:‬حُ ّر َمتْ عَلَ ْي ُكمْ ُأ ّمهَا ُتكُمْ‪[} ..‬النساء‪ ]23 :‬إلى‪ {..‬وَأُ ِ‬
‫[النساء‪]24 :‬‬
‫خذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ‬
‫وقد تستعمل وراء بمعنى خلف‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَإِذْ أَ َ‬
‫ظهُورِهِمْ‪[} ..‬آل عمران‪]187 :‬‬
‫س َولَ َتكْ ُتمُونَهُ فَنَ َبذُوهُ وَرَآءَ ُ‬
‫لِلنّا ِ‬
‫إذن‪ :‬كلمة } وَرَاءَ { جاءتْ في القرآن على أربعة معَانٍ‪ :‬أمام‪ ،‬خلف‪ ،‬بعد‪ ،‬غير‪ .‬وهذا مما يُميّز‬
‫العربية عن غيرها من اللغات‪ ،‬والملَكة العربية قادرة على أن تُميّز المعنى المناسب للسياق‪ ،‬فكلمة‬
‫العَيْن ـ مثلً ـ تأتي بمعنى العين الباصرة‪ .‬أو‪ :‬عين الماء‪ ،‬أو‪ :‬بمعنى الذهب والفضة‪ ،‬وبمعنى‬
‫الجاسوس‪ .‬والسياق هو الذي يُحدد المعنى المراد‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه في قرآنه عما أوضحه الخضر لموسى عليه السلم مما خفي عليه‪ } :‬وََأمّا‬
‫ا ْلغُلَمُ َفكَانَ أَ َبوَاهُ ُم ْؤمِنَيْنِ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2203 /‬‬

‫طغْيَانًا َوكُفْرًا (‪)80‬‬


‫وََأمّا ا ْلغُلَامُ َفكَانَ أَ َبوَاهُ ُم ْؤمِنَيْنِ َفخَشِينَا أَنْ يُرْ ِه َق ُهمَا ُ‬

‫ن التكليف‪ ،‬وما دام لم يُكلّف فما يزال في سِنّ الطهارة والبراءة‬


‫الغلم‪ :‬الولد الذي لم يبلغ الحُلُم وسِ ّ‬
‫من المعاصي؛ لذلك لما اعترض موسى على قتله قال‪َ {:‬أقَتَ ْلتَ َنفْسا َزكِيّةً‪[} ..‬الكهف‪ ]74 :‬أي‪:‬‬
‫ن تلوّثه المعاصي‪ ،‬ويدخل‬
‫طاهرة‪ ،‬ول شكّ أن أخْذ الغلم في هذه السّنّ خَيْر له ومصلحة قبل أ ْ‬
‫دائرة الحساب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فطهارته هي التي دعتْنَا إلى التعجيل بأخذه‪ .‬هذا عن الغلم‪ ،‬فماذا عن أبيه وأمه؟‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬فكَانَ أَ َبوَاهُ ُم ْؤمِنَيْنِ‪[ } ..‬الكهف‪ ]80 :‬وكثيرا ما يكون الولد فتنة للباء‪ ،‬كما قال‬
‫ج ُك ْم وََأوْلَ ِدكُمْ عَ ُدوّا ّلكُمْ فَاحْذَرُو ُهمْ }[التغابن‪]14 :‬‬
‫تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ مِنْ أَ ْزوَا ِ‬
‫والفتنة بالولد تأتي من حِرْص الباء عليهم‪ ،‬والسعي إلى جعلهم في أحسن حال‪ ،‬وربما كانت‬
‫المكانات غير كافية‪ ،‬فيُضطر الب إلى الحرام من أجل أولده‪ .‬وقد عَلِم الحق ـ سبحانه وتعالى‬
‫ـ أن هذا الغلم سيكون فتنة لبويه‪ ،‬وهما مؤمنان ولم يُرِد ال تعالى لهما الفتنة‪ ،‬وقضى أن‬
‫يقبضهما إليه على حال اليمان‪.‬‬
‫سدِي إلى كليْهما‪ ،‬وحكمة بالغة تستتر‬
‫وكأن قضاء ال جاء خيرا للغلم وخيرا للوالدين‪ ،‬وجميلً أُ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وراء الحدَث الظاهر الذي اعترض عليه موسى عليه السلم‪.‬‬
‫لذلك ُي َعدّ من الغباء إذا مات لدينا الطفل أو الغلم الصغير أَنْ يشتد الحزن عليه‪ ،‬وننعي طفولته‬
‫عدّ له من النعيم‪ ،‬ل ندري أن مَنْ ُأخِذ‬
‫التي ضاعتْ وشبابه الذي لم يتمتع به‪ ،‬ونحن ل ندري ما أُ ِ‬
‫من أولدنا قبل البلوغ ل يُحدّد له مسكن في الجنة‪ ،‬لنها جميعا له‪ ،‬يجري فيها كما يشاء‪ ،‬ويجلس‬
‫فيها أين أحب‪ ،‬يجلس عند النبياء وعند الصحابة‪ ،‬ل يعترضه أحد‪ ،‬ولذلك يُس ّموْن " دعاميص‬
‫الجنة "‪.‬‬
‫طغْيَانا َوكُفْرا } [الكهف‪]80 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬فخَشِينَآ أَن يُرْ ِه َق ُهمَا ُ‬
‫خفْنا‪ .‬فالواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عَيْن وسندا‪ ،‬وقد يكون هذا البن سببا في فساد‬
‫خشينا‪ِ :‬‬
‫دين أبيه‪ ،‬ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة‪ ،‬فهذا البن يقود أباه إلى الجحيم‪ ،‬ومن الخير أن‬
‫يبعد ال هذا الولد من طريق الوالد فل يطغى‪.‬‬

‫(‪)2204 /‬‬

‫حمًا (‪)81‬‬
‫فَأَرَدْنَا أَنْ يُ ْبدَِل ُهمَا رَ ّب ُهمَا خَيْرًا مِ ْنهُ َزكَاةً وََأقْرَبَ ُر ْ‬

‫ول يفوت الخضر ـ عليه السلم ـ أن ينسب الخير هنا أيضا إلى ال‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا أُحب هذا العمل‬
‫وأريده‪ ،‬إنما الذي يُبدّل في الحقيقة هو ال تعالى‪ { :‬فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدَِل ُهمَا رَ ّب ُهمَا خَيْرا } [الكهف‪]81 :‬‬
‫فهذا الخير من ال‪ ،‬وما أنا إل وسيلة لتحقيقه‪.‬‬
‫طهْرا { وََأقْ َربَ ُرحْما } [الكهف‪ ]81 :‬لنهما‬
‫وقوله‪ { :‬خَيْرا مّنْهُ َزكَـاةً‪[ } ..‬الكهف‪ ]81 :‬أي‪ُ :‬‬
‫أرادا الولد لينفعهما في الدنيا‪ ،‬وليكون قُرّة عَيْن لهما‪ ،‬ولما كانت الدنيا فاتنة ل بقاءَ لها‪ ،‬وقد ثبت‬
‫في علمه تعالى أن هذا الولد سيكون فتنة لبويْه‪ ،‬وسيجلب عليهما المعاصي والسيئات‪ ،‬وسيجرّهما‬
‫إلى العذاب‪ ،‬كانت الرحمة الكاملة في أخذه بدل أنْ يتمتّعا به في الدنيا الفانية‪ ،‬ويشقيَا به في‬
‫الخرة الباقية‪.‬‬
‫لمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ا ْلمَدِي َنةِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََأمّا ا ْلجِدَارُ َفكَانَ ِلغُ َ‬

‫(‪)2205 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جدَارُ َفكَانَ ِلغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ا ْلمَدِينَ ِة َوكَانَ تَحْ َتهُ كَنْزٌ َل ُهمَا َوكَانَ أَبُو ُهمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَ ّبكَ‬
‫وََأمّا الْ ِ‬
‫سطِعْ‬
‫ك َومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي ذَِلكَ تَ ْأوِيلُ مَا َلمْ تَ ْ‬
‫حمَةً مِنْ رَ ّب َ‬
‫شدّ ُهمَا وَيَسْ َتخْرِجَا كَنْزَ ُهمَا َر ْ‬
‫أَنْ يَبُْلغَا أَ ُ‬
‫عَلَيْ ِه صَبْرًا (‪)82‬‬

‫لمَيْنِ } أي‪ :‬لم يبلغا سِنّ الرشْد‪ ،‬وفوق ذلك هما يتيمان‪.‬‬
‫{ ِلغُ َ‬
‫وكان تحت هذا الجدار المائل كَنْز لهذين الغلمين الغير قادرين على تدبير شأنهما‪ ،‬ولك أنْ‬
‫تتصوّر ما يحدث لو تهدّم الجدار‪ ،‬وانكشف هذا الكنز‪ ،‬ولمع ذهبه أمام عيون هؤلء القوم الذين‬
‫عرفت صفاتهم‪ ،‬وقد منعوهما الطعام بل ومجرد المأْوى‪ ،‬إنّ أقل ما يُوصفون به أنهم لِئَام ل‬
‫يُؤتمنون على شيء‪ .‬ولقد تعوّدنا أن نعبر عن شدة الضياع بقولنا‪ :‬ضياع اليتام على موائد اللئام‪.‬‬
‫صفْعة‬
‫شكّ أن ما قام به العبد الصالح من بناء الجدار وإقامته أو ترميمه ُيعَدُ بمثابة َ‬
‫إذن‪ :‬فل َ‬
‫لهؤلء اللئام تناسب ما قابلوهم به من تنكّر وسوء استقبال‪ ،‬وترد لهم الصّاع صاعين حين حرمهم‬
‫الخضر من هذا الكنز‪.‬‬
‫فعلّة إصلح الجدار ما كان تحته من مال يجب أنْ يحفظ لحين أنْ يكبُرَ هذان الغلمان ويتمكنا من‬
‫حفظه وحمايته في قرية من اللئام‪ .‬وكأن الحق سبحانه وتعالى أرسله لهذين الغلمين في هذا‬
‫الوقت بالذات‪ ،‬حيث أخذ الجدار في التصدّع‪ ،‬وظهرت عليه علمات النهيار ليقوم بإصلحه قبل‬
‫أنْ يقع وينكشف أمر الكنز وصاحبيه في حال الضعف وعدم القدرة على حمايته‪.‬‬
‫ثم إن العبد الصالح أصلح الجدار ورَدّه إلى ما كان عليه َردّ مَنْ علّمه ال من لَدُنْه‪ ،‬فيقال‪ :‬إنه بنَاهُ‬
‫عمْرَ الغلمين‪ ،‬وكأنه بناه على عمر افتراضي ينتهي ببلوغ الغلمين سِنّ‬
‫بنا ًء موقوتا يتناسب و ُ‬
‫الرشْد والقدرة على حماية الكنز فينهار‪ .‬وهذه في الواقع عملية دقيقة ل يقدر على حسابها إل مَنْ‬
‫أُوتِي علما خاصا من ال تعالى‪.‬‬
‫ن واحدة توأمين لقوله تعالى‪ { :‬فَأَرَادَ رَ ّبكَ أَن يَبُْلغَآ َأشُدّ ُهمَا‪..‬‬
‫ويبدو من سياق الية أنهما كانا في سِ ّ‬
‫} [الكهف‪ ]82 :‬أي‪ :‬سويا‪ ،‬ومعنى الشُدّ‪ :‬أي القوة‪ ،‬حيث تكتمل أجهزة الجسم وتستوي‪ ،‬وأجهزة‬
‫الجسم تكتمل حينما يصبح المرء قادرا على إنجاب مثله‪.‬‬
‫وتلحظ أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قال هنا‪ { :‬يَبُْلغَآ أَشُدّ ُهمَا‪[ } ..‬الكهف‪ ]82 :‬ولم ي ُقلْ‬
‫حسْن التصرّف في المور‪ ،‬أما الشُدّ‪ :‬فهو‬
‫رُشْدهما‪ ،‬لنْ هناك فرْقا بين الرّشْد والَشُدّ فالرّشْد‪ُ :‬‬
‫القوة‪ ،‬والغلمان هنا في حاجة إلى القوة التي تحمي كَنْزهما من هؤلء اللئام فناسب هنا‬
‫{ َأشُدّ ُهمَا‪[ } ..‬الكهف‪]82 :‬‬
‫حمَةً مّن رّ ّبكَ‪[ } ..‬الكهف‪ ]82 :‬أي‪ :‬يستخرجاه بما لديهما‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَيَسْ َتخْرِجَا كَنزَ ُهمَا رَ ْ‬
‫من القوة والفُتوّة‪ .‬والرحمة‪ :‬صفة تُعطَى للمرحوم لتمنعه من الداء‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَنُنَ ّزلُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ‪[} ..‬السراء‪ ]82 :‬فقوله‪ :‬شفاء‪ :‬أي‪ :‬يشفي داءً موجودا‬
‫شفَآ ٌء وَ َر ْ‬
‫مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫ويُبرِئه‪ .‬ورحمة‪ :‬أي رحمة تمنع عودة الداء مرة أخرى‪.‬‬
‫حفْظ حقّهما‪ ،‬ثم لم َيفُتْ العبد‬
‫وكذلك ما حدث لهذين الغلمين‪ ،‬كان رحمة من ال لحماية مالهما و ِ‬
‫الصالح أنْ يُرجِع الفضل لهله‪ ،‬وينفي عن نفسه الغرور بالعلم والستعلء على صاحبه‪ ،‬فيقول‪{ :‬‬
‫َومَا َفعَلُْتهُ عَنْ َأمْرِي‪.‬‬

‫‪[ { .‬الكهف‪ ]82 :‬أي‪ :‬أن ما حدث كان بأمر ال‪ ،‬وما علّمتك إياه كان من عند ال‪ ،‬فليس لي مَيْزة‬
‫عليك‪ ،‬وهذا درس في أَدب التواضع ومعرفة الفضْل لهله‪.‬‬
‫ثم يقول‪ } :‬ذَِلكَ تَ ْأوِيلُ مَا لَمْ َتسْطِـع عّلَيْ ِه صَبْرا { [الكهف‪ ]82 :‬تأويل‪ :‬أي إرجاع المر إلى‬
‫حقيقته‪ ،‬وتفسير ما أشكل منه‪.‬‬
‫***‬
‫بعد ذلك تنتقل اليات إلى سؤال آخر من السئلة الثلثة التي سألها كفار مكة لرسول ال بإيعاز‬
‫من اليهود‪ ،‬وهو السؤال عن الرجل الطّواف الذي طاف البلد‪ } :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2206 /‬‬

‫وَيَسْأَلُو َنكَ عَنْ ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ ُقلْ سَأَتْلُو عَلَ ْيكُمْ مِ ْنهُ ِذكْرًا (‪)83‬‬

‫ذو القرنين‪ :‬هذا لقبه؛ لنه ربما كان في تكوينه ذا قرنين‪ ،‬أو يلبس تاجا له اتجاهان؛ أو لنه بلغ‬
‫قرني الشمس في المشرق وفي المغرب‪.‬‬
‫وقد بحث العلماء في‪ :‬مَنْ هو ذو القرنين؟ فمنهم مَنْ قال‪ :‬هو السكندر الكبر المقدوني الطواف‬
‫في البلد‪ ،‬لكن السكندر الكبر كان في مقدونيا في الغرب‪ ،‬وذو القرنين جاب المشرق والمغرب‬
‫مما دعا عالما محققا من علماء الهند هو‪ :‬أبو الكلم آزاد ـ وزير المعارف الهندي ـ إلى القول‬
‫بأنه ليس هو السكندر الكبر‪ ،‬بل هو قورش الصالح‪ ،‬وهذه رحلته في الشرق والغرب وبين‬
‫السدين‪ ،‬كما أن السكندر كان وثنيا‪ ،‬وكان تلميذا لرسطو‪ ،‬وذو القرنين رجل مؤمن كما سنعرف‬
‫من قصته‪.‬‬
‫حصْرها في شخص بعينه؛ لن تشخيص حادثة القصة‬
‫وعلى العموم‪ ،‬ليس من صالح القصة َ‬
‫يُضعِف من تأثيرها‪ ،‬ويصبغها بِصبْغة شخصية ل تتعدى إلى الغير فنرى مَنْ يقول بأنها مسألة‬
‫شخصية ل تتكرر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬لو جاء العلم في ذاته سنقول‪ :‬هذه الحادثة أو هذا ال َعمَل خاص بهذا الشخص‪ ،‬والحق ـ‬
‫ن مكّنَ‬
‫سبحانه وتعالى ـ يريد أن يضرب لنا مثلً يعُمّ أي شخص‪ ،‬ماذا سيكون مَسْلكه وتصرّفه إ ْ‬
‫ال له ومنحه ال قوة وسلطة؟‬
‫ولو حددَ القرآن هذه الشخصية في السكندر أو قورش أو غيرهما َلقُلْنَا‪ :‬إنه حَدث فرديّ ل يتعدى‬
‫هذا الشخص‪ ،‬وتنصرف النفس عن الُسْوة به‪ ،‬وتفقد القصة مغزاها وتأثيرها‪ .‬ولو كان في تعيينه‬
‫فائدة لَعيّنه ال لَنَا‪.‬‬
‫وسبق أنْ أوضحنا أن الحق ـ سبحانه ـ عندما ضرب مثلً للذين كفروا‪ ،‬قال‪ {:‬امْرََأتَ نُوحٍ‬
‫وَامْرََأتَ لُوطٍ‪[} ..‬التحريم‪ ]10 :‬ولم يُعيّنهما على التحديد؛ لن الهدف من ضرب المثل هنا بيان‬
‫الرسول المرسَل من ال لهداية الناس لم يتمكّن من هداية زوجته وأقرب الناس إليه؛ لن اليمان‬
‫مسألة شخصية‪ ،‬ل سيطرة فيها لحد على أحد‪.‬‬
‫عوْنَ‪[} ..‬التحريم‪]11 :‬‬
‫وكذلك لما ضرب ال مثلً للذين آمنوا قال‪ {:‬امْرََأتَ فِرْ َ‬
‫ضلّ الناس وادّعى اللوهية زوجته مؤمنة‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يُلمّح للناس جميعا‬
‫ففرعون الذي أ َ‬
‫أن رأيك في الدين وفي العقائد رَأْي ذاتي‪ ،‬ل يتأثر بأحد أيّا كان‪ ،‬ل في الهداية بنبي‪ ،‬ول في‬
‫الغواية بأضلّ الضالين الذي ادعى اللوهية‪.‬‬
‫وهكذا يحفظ السلم للمرأة دورها وطاقتها ويحترم رأيها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه وتعالى أتى بهذه القصة غير مُشخّصة لتكون نموذجا وأُسْوة يحتذي بها كل‬
‫أحد‪ ،‬وإلّ لو شخصتْ لرتبطتْ بهذا الشخص دون غيره‪ ،‬أما حينما تكلم الحق سبحانه عن مريم‬
‫فنراه يحددها باسمها‪ ،‬بل واسم أبيها؛ ذلك لن ما سيحدث لمريم مسألة خاصة بها‪ ،‬ولن تحدث‬
‫بعدها أبدا في بنات آدم‪ ،‬لذلك عيّنها وشخّصها؛ لن التشخيص ضروري في مثل هذا الموقف‪.‬‬

‫أما حين يترك المثل أو القصة دون تشخيص‪ ،‬فهذا يعني أنها صالحة لنْ تتكرر في أيّ زمان أو‬
‫في أيّ مكان‪ ،‬كما رأينا في قصة أهل الكهف‪ ،‬وكيف أن الحق سبحانه أبهمهم أسماءً‪ ،‬وأبهمهم‬
‫مكانا وأبهمهم زمانا‪ ،‬وأبهمهم عددا‪ ،‬ليكونوا أُسْوة وقُدْوة للفتيان المؤمنين في أيّ زمان‪ ،‬وفي أيّ‬
‫مكان‪ ،‬وبأيّ عدد‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ‪[ { ..‬الكهف‪ ]83 :‬نلحظ أن مادة السؤال لرسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم في القرآن أخذتْ حيّزا كبيرا فيه‪ ،‬فقد ورد السؤال للنبي من القوم ست عشرة مرة‪،‬‬
‫إحداها بصيغة الماضي في قوله تعالى‪ {:‬وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ‪[} ..‬البقرة‪]186 :‬‬
‫ن الَهِلّةِ‪[} ..‬البقرة‪]189 :‬‬
‫وخمس عشرة مرة بصيغة المضارع‪ ،‬كما في‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ‬
‫وقوله‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلْ مَآ أَ ْن َفقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَاِلدَيْنِ‪[} ..‬البقرة‪ {]215 :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ‪[} ..‬البقرة‪{]219 :‬‬
‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ‪[} ..‬البقرة‪ {]217 :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ‬
‫ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ُقلِ ا ْل َعفْوَ }[البقرة‪ {]219 :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَىا ُقلْ ِإصْلَحٌ ّلهُمْ خَيْرٌ‪} ..‬‬
‫حلّ َل ُهمْ‪[} ..‬المائدة‪{]4 :‬‬
‫[البقرة‪ {]220 :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ‪[} ..‬البقرة‪ {]222 :‬يَسْأَلُو َنكَ مَاذَآ ُأ ِ‬
‫ن الَنْفَالِ‪} ..‬‬
‫عةِ }[العراف‪ ]187 :‬ثلث مرات‪[ ،‬النازعات‪ {]42 :‬يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ‬
‫يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّا َ‬
‫[النفال‪ {]1 :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ‪[} ..‬السراء‪]85 :‬‬
‫سفُهَا رَبّي نَسْفا‪} ..‬‬
‫} وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ‪[ { ..‬الكهف‪ {]83 :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْجِبَالِ َف ُقلْ يَن ِ‬
‫[طه‪]105 :‬‬
‫ل بالمضارع‪ ،‬إل أن الجوابَ عليها مختلف‪ ،‬وكلها صادرة عن ال الحكيم‪ ،‬فل ُبدّ‬
‫خمسة عشر سؤا ً‬
‫ن يكون اختلف الجواب في كل سؤال له مَلْحظ‪ ،‬ومن هذه السئلة ما جاء من الخصوم‪ ،‬ومنها‬
‫أْ‬
‫ما سأله المؤمنون‪ ،‬السؤال من المؤمنين لرسول ال ـ وقد نهاهم أنْ يسألوه حتى يهدأوا ـ إلحاحٌ‬
‫منهم في معرفة تصرّفاتهم وإنْ كانت في الجاهلية‪ ،‬إل أنهم يريدون أنْ يعرفوا رأي السلم فيها‪،‬‬
‫فكأنهم نَسُوا عادات الجاهلية ويرغبون في أن تُشرّع كل أمورهم على َوفْق السلم‪.‬‬
‫وبتأمّل الجابة على هذه السئلة تجد منها واحدةً يأتي الجواب مباشرة دون } ُقلْ { وهي في قوله‬
‫ع َوةَ الدّاعِ‪[} ..‬البقرة‪ ]186 :‬وواحدة وردتْ‬
‫تعالى‪ {:‬وَإِذَا سََأَلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ دَ ْ‬
‫سفُهَا رَبّي نَسْفا‪[} ..‬طه‪:‬‬
‫مقرونة بالفاء } َفقُلْ { وهي قوله تعالى‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْجِبَالِ َف ُقلْ يَن ِ‬
‫‪]105‬‬
‫وباقي السئلة وردت الجابة عليها بالفعل } ُقلْ { ‪ ،‬فما الحكمة في اقتران الفعل بالفاء في هذه‬
‫الية دون غيرها؟‬
‫قالوا‪ :‬حين يقول الحق سبحانه في الجواب } ُقلْ { فهذه إجابة على سؤال سُئَِلهُ رسول ال بالفعل‪،‬‬
‫أي‪ :‬حدث فعلً منهم‪ ،‬أما الفاء فقد أتتْ في الجواب على سؤال لم يُسأله‪ ،‬ولكنه سيُسأله مستقبلً‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلجِبَالِ‪[} ..‬طه‪ ]105 :‬سؤال لم يحدث َبعْد‪ ،‬فالمعنى‪ :‬إذا سألوك َف ُقلْ‪،‬‬
‫وكأنه احتياط لجواب عن سؤال سيقع‪.‬‬
‫فإذا قُ ْلتَ‪ :‬فما الحكمة في أنْ يأتي الجواب في قوله تعالى‪:‬‬

‫{ وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ‪[} ..‬البقرة‪ ]186 :‬خاليا من‪ُ :‬قلْ أو َف ُقلْ‪ :‬مع أن } ِإذَا‬
‫{ تقتضي الفاء في جوابها؟‬
‫نقول‪ :‬لن السؤال هنا عن ال تعالى‪ ،‬ويريد سبحانه وتعالى أنْ يُجيبهم عليه بانتفاء الواسطة من‬
‫أحد؛ لذلك تأتي الجابة مباشرة دون واسطة‪ {:‬وَإِذَا سََأَلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ‪[} ..‬البقرة‪:‬‬
‫‪ ]186‬قوله تعالى‪ } :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ‪[ { ..‬الكهف‪ ]83 :‬أي‪ :‬عن تاريخه وعن خبره‬
‫والمهمة التي قام بها‪ُ } :‬قلْ سَأَتْلُواْ عَلَ ْيكُم مّنْهُ ِذكْرا { [الكهف‪]83 :‬‬
‫وأيّ شرف بعد هذا الشرف‪ ،‬إن الحق تبارك وتعالى يتولّى التأريخ لهذا الرجل‪ ،‬ويُؤرّخ له في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قرآنه الكريم الذي يُتلَى ويُتعبّد به إلى يوم القيامة والذي يُتحدّى به‪ ،‬ليظل ِذكْره باقيا بقاء القرآن‪،‬‬
‫خالدا بخلوده‪ ،‬يظل أثره فيما عمل أُسْوة وقُدْوة لمن يعمل مثله‪ .‬إنْ َدلّ على شيء فإنما يدلّ على‬
‫أن العمل الصالح مذكور عند ال قبل أنْ يُذكَرَ عند الخلق‪.‬‬
‫فأيّ ذكْر أبقى من ذكر ال لخبر ذي القرنين وتاريخه؟‬
‫و } مّنْهُ { أي‪ :‬بعضا من ِذكْره وتاريخه‪ ،‬ل تاريخه كله‪.‬‬
‫وكلمة ( ِذكْر) وردت في القرآن الكريم بمعان متعددة‪ ،‬تلتقي جميعها في الشرف والرفعة‪ ،‬وفي‬
‫التذكّر والعتبار‪ .‬وإنْ كانت إذا أُطلقتْ تنصرف انصرافا أوليا إلى القرآن‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{:‬‬
‫إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ َلحَافِظُونَ }[الحجر‪ ]9 :‬وبعد ذلك تُستعمل في أيّ كتاب أنزله ال تعالى‬
‫من الكتب السابقة‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬ومَآ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ ِإلّ رِجَالً نّوحِي إِلَ ْيهِمْ فَاسْأَلُواْ‬
‫أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ }[النحل‪]43 :‬‬
‫وقد يُطلَق الذكر على ما يتبع هذا من الصّيت والشرف والرفعة وتخليد السم‪ ،‬كما في قوله‬
‫تعالى‪َ {:‬لقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَ ْي ُكمْ كِتَابا فِيهِ ِذكْ ُركُمْ‪[} ..‬النبياء‪]10 :‬‬
‫ك وَِل َق ْومِكَ‪[} ..‬الزخرف‪]44 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ ّل َ‬
‫أي‪ :‬صيت حَسَن وشرف ورفْعة كون القرآن يذكر هذا السم؛ لن السم إذا ُذكِر في القرآن ذاعَ‬
‫صِيتُه و َدوّى الفاق‪.‬‬
‫وقلنا في قصة زيد بن حارثة أنه كان عبدا بعد أنْ خُطِف من قومه وَبيع في مكة لخديجة رضي‬
‫ال عنها‪ ،‬ثم وهبته لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لذلك أطلقوا عليه زيد بن محمد‪ ،‬فلما عَلِم‬
‫أهله بوجوده في مكة أتى أبوه وعمه‪ ،‬وكلّموا رسول ال في شأن زيد فقال‪ :‬خَيّروه‪.‬‬
‫فلما خَيّروا زيدا قال‪ :‬ما كنتُ لختار على رسول ال أحدا‪ ،‬لذلك أكرمه النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫حمّدٌ‬
‫وسمّاه زيدَ بن محمد‪ ،‬فلما أراد الحق سبحانه أن يبطل التبني‪ ،‬ونزل قوله تعالى‪ {:‬مّا كَانَ مُ َ‬
‫أَبَآ َأحَدٍ مّن رّجَاِلكُ ْم وَلَـاكِن رّسُولَ اللّ ِه وَخَا َتمَ النّبِيّينَ‪[} ..‬الحزاب‪ ]40 :‬وقال‪ {:‬ادْعُو ُه ْم لبَآ ِئهِمْ‬
‫سطُ عِندَ اللّهِ‪[} ..‬الحزاب‪]5 :‬‬
‫ُهوَ َأقْ َ‬
‫فل تقولوا‪ :‬زيد بن محمد‪.‬‬

‫وقولوا‪ :‬زيد بن حارثة‪ ،‬وهنا حَزِنَ زَيْد لهذا التغيير‪ ،‬ورأى أنه خسر به شرفا عظيما بانتسابه‬
‫لمحمد‪ ،‬ولكن الحق سبحانه وتعالى يجبر خاطر زيد‪ ،‬ويجعل اسمه عَلَما يتردد في قرآن يُتْلَى‬
‫ويُتعبّد به إلى يوم القيامة‪ ،‬فكان زيد هو الصحابي الوحيد الذي ورد ذكره باسمه في كتاب ال في‬
‫قوله تعالى‪ {:‬فََلمّا َقضَىا زَيْدٌ مّ ْنهَا وَطَرا َزوّجْنَا َكهَا‪[} ..‬الحزاب‪]37 :‬‬
‫فأيّ شرف أعلى وأعظم من هذا الشرف؟‬
‫ونلحظ في هذه الية‪ {:‬ادْعُوهُمْ لبَآئِهِمْ ُهوَ َأقْسَطُ عِندَ اللّهِ‪[} ..‬الحزاب‪ ]5 :‬أن الحق سبحانه لم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يتهم رسوله صلى ال عليه وسلم بالجور‪ ،‬فقال‪ُ {:‬هوَ َأقْسَطُ عِندَ اللّهِ‪[} ..‬الحزاب‪ ]5 :‬فما فعله‬
‫الرسول كان أيضا قِسْطا وعدلً‪ ،‬وما أمر ال به هو القسط والعدل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ف ِذكْر ذي القرنين في كتاب ال شرف كبير‪ ،‬وفي إشارة إلى أن فاعل الخير له مكانته‬
‫ومنزلته عند ال‪ ،‬ومُجازىً بأنْ يُخلّد ذكره ويبقى صِيته بين الناس في الدنيا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّا َمكّنّا لَهُ فِي الَ ْرضِ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2207 /‬‬

‫شيْءٍ سَبَبًا (‪)84‬‬


‫ض وَآَتَيْنَاهُ مِنْ ُكلّ َ‬
‫إِنّا َمكّنّا لَهُ فِي الْأَ ْر ِ‬

‫التمكين‪ :‬أي أننا أعطيناه إمكانات يستطيع بها أن يُصرّف كل أموره التي يريدها؛ لنه مأمون‬
‫على تصريف المور على حَسْب منهج ال‪ ،‬كما قال تعالى في آية أخرى عن يوسف عليه‬
‫سفَ فِي الَ ْرضِ يَتَ َبوّأُ مِ ْنهَا حَ ْيثُ يَشَآءُ‪[} ..‬يوسف‪]56 :‬‬
‫السلم‪َ {:‬وكَذاِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ‬
‫فالتمكين يعني إعطاءه إمكانات لكل غرض يريده فيُصرّف به المور‪ ،‬لكن لماذا مكناه؟ مكنّاه لنه‬
‫مأمون على تصريف المور َوفْق منهج ال‪ ،‬ومأمون على ما أعطاه ال من إمكانات‪.‬‬
‫شيْءٍ سَبَبا } [الكهف‪ ]84 :‬أي‪ :‬أعطيناه أسبابا يصل بها إلى ما يريد‪ ،‬فما‬
‫وقوله‪ { :‬وَآتَيْنَاهُ مِن ُكلّ َ‬
‫من شيء يريده إل ويجعل ال له وسيلة مُوصّلة إليه‪.‬‬
‫فماذا صنع هو؟ { فَأَتْبَعَ سَبَبا }‪.‬‬

‫(‪)2208 /‬‬

‫فَأَتْبَعَ سَبَبًا (‪)85‬‬

‫أتبع السبب‪ ،‬أي‪ :‬ل يذهب لغاية إل بالوسيلة التي جعلها ال له‪ ،‬فلقد مكّن الحق لذي القرنين في‬
‫الرض‪ ،‬وأعطاه من كل شيء سببا‪ ،‬ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أُعطى‪ ،‬فلم يتقاعس‪،‬‬
‫ولم يكسل‪ ،‬بل أخذ من عطاء ال له بشيء من كل سبب‪.‬‬

‫(‪)2209 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمِ َئ ٍة َووَجَدَ عِ ْندَهَا َق ْومًا قُلْنَا يَا ذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّا‬
‫س َوجَدَهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ‬
‫شمْ ِ‬
‫حَتّى إِذَا بَلَغَ َمغْ ِربَ ال ّ‬
‫ب وَِإمّا أَنْ تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (‪)86‬‬
‫أَنْ ُتعَ ّذ َ‬

‫وبلوغه مغرب الشمس دليل على أنه لم يكُنْ بهذا المكان‪ ،‬بل كان قادما إليه من المشرق‪ .‬ومعنى‬
‫شمْسِ } هل الشمس تغرب؟‬
‫{ َمغْ ِربَ ال ّ‬
‫هي تغرب في عين الرائي في مكان واحد‪ ،‬فلو لحظتَ الشمس ساعة الغروب لوجدتها تغربُ‬
‫مثلً في الجيزة‪ ،‬فإذا ذهبت إلى الجيزة وجدتها تغرب في مكان آخر وهكذا‪ ،‬إذن‪ :‬غروبها بمعنى‬
‫غيابها من مرأىَ عينك أنت؛ لن الشمس ل تغيب أبدا‪ ،‬فهي دائما شارقة غاربة‪ ،‬بمعنى أنها حين‬
‫تغرب على قوم تشرق على آخرين؛ لذلك تتعدد المشارق والمغارب‪.‬‬
‫وهذه أعطتنا دوام ذكر ال ودورانه على اللسنة في كل الوقات‪ ،‬فحين نصلي نحن الظهر مثلً‬
‫يصلي غيرنا العصر‪ ،‬ويصلي غيرهم المغرب‪ ،‬وهكذا فالحق سبحانه مذكور في كل وقت بكل‬
‫وقت‪ ،‬فل ينتهي الظهر ل‪ ،‬ول ينتهي العصر ل‪ ،‬ول ينتهي المغرب ل‪ ،‬بل ل ينتهي العلم‬
‫بواحدة منها طوال الوقت‪ ،‬وعلى مَرّ الزمن؛ لذلك يقول أهل المعرفة‪ :‬يا زمن وفيك كل الزمن‪.‬‬
‫حمِ َئةٍ‪[ } ..‬الكهف‪ ]86 :‬أي‪ :‬في عين فيها ماء‪ .‬وقلنا‪ :‬إن‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬وجَدَهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ‬
‫الحمأ المسنون هو الطين الذي اسودّ لكثرة وجوده في الماء‪ .‬وفي تحقيق هذه المسألة قال عالم‬
‫الهند أبو الكلم آزاد‪ ،‬ووافقه فضيلة المرحوم الشيخ عبد الجليل عيسى‪ ،‬قال‪ :‬عند موضع يسمى‬
‫(أزمير)‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬ووَجَدَ عِندَهَا َقوْما‪[ } ..‬الكهف‪ ]86 :‬أي‪ :‬عند هذه العين { قُلْنَا ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّآ أَن ُتعَ ّذبَ‬
‫خذَ فِيهِمْ حُسْنا } [الكهف‪ ]86 :‬إذن‪ :‬فهذا تفويض له من ال‪ ،‬ول يُفوّض إل المأمون‬
‫وَِإمّآ أَن تَتّ ِ‬
‫على التصرّف { ِإمّآ أَن ُتعَ ّذبَ‪[ } ..‬الكهف‪ ]86 :‬ول بُدّ أنهم كانوا كفرة أو وثنيين ل يؤمنون بإله‪،‬‬
‫فإما أنْ تأخذهم بكفرهم‪ ،‬وإما أن تتخذَ فيهم حُسْنا‪.‬‬
‫لكن ما وجه الحُسْن الذي يريد ال أن يتخذه؟ يعني أنهم قد يكونون من أهل الغفلة الذين لم تصلهم‬
‫الدعوة‪ ،‬فبيّن لهم وجه الصواب ودلّهم على دين ال‪ ،‬فَمنْ آمن منهم فأحسن إليه‪ ،‬ومَنْ أصرّ على‬
‫ُكفْرِه فعذّبه‪ ،‬إذن‪ :‬عليك أن تأخذهم أولً بالعِظَة الحسنة والبيان الواضح‪ ،‬ثم تحكم بعد ذلك على‬
‫تصرفاتهم‪.‬‬
‫سوْفَ ُنعَذّ ُبهُ ثُمّ يُ َردّ إِلَىا رَبّهِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالَ َأمّا مَن ظَلَمَ َف َ‬

‫(‪)2210 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عذَابًا ُنكْرًا (‪)87‬‬
‫س ْوفَ ُن َعذّبُهُ ُثمّ يُرَدّ إِلَى رَبّهِ فَ ُيعَذّبُهُ َ‬
‫قَالَ َأمّا مَنْ ظََلمَ فَ َ‬

‫سوْفَ ُنعَذّ ُبهُ‪[ } ..‬الكهف‪ ]87 :‬يعطينا إشارة إلى المهلة التي سيعطيها لهؤلء‪ ،‬مهلة تمكّنه‬
‫قوله‪َ { :‬ف َ‬
‫أنْ يعِظهم ويُذكّرهم ويُفهّمهم مطلوبات دين ال‪.‬‬
‫وسبق أن قلنا‪ :‬إن الظلم أنواع‪ ،‬أفظعها وأعلها الشرك بال‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ‬
‫عَظِيمٌ }[لقمان‪]13 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ُ { :‬ثمّ يُرَدّ إِلَىا رَبّهِ فَ ُيعَذّ ُبهُ عَذَابا ّنكْرا } [الكهف‪]87 :‬‬
‫عتْ لحفظ‬
‫فلن نُعذّبه على قدْر ما فعل‪ ،‬بل نُعذّبه عقوبة دنيوية فقط؛ لن العقوبات الدنيوية شُر َ‬
‫توازن المجتمع‪ ،‬ورَدْع مَنْ ل يرتدع بالموعظة‪ ،‬وإل فما فائدة الموعظة في غير المؤمن؟ لذلك‬
‫نرى المم التي ل تؤمن بإله‪ ،‬ول بالقيامة والخرة تُشرّع هذه العقوبات الدنيوية لتستقيم‬
‫أوضاعها‪.‬‬
‫وبعد عذاب الدنيا وعقوبتها هناك عذاب أشدّ في الخرة { عَذَابا ّنكْرا } [الكهف‪ ]87 :‬والشيء‬
‫عهْد لنا به أو أُلْفة؛ لننا حينما نُعذّب في الدنيا نُعذّب بفطرتنا‬
‫النكر‪ :‬هو الذي ل نعرفه‪ ،‬ول َ‬
‫وطاقتنا‪ ،‬أما عذاب ال في الخرة فهو شيء ل نعرفه‪ ،‬وفوق مداركنا وإمكاناتنا‪.‬‬
‫ل صَالِحا فََلهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا‪.} ...‬‬
‫عمِ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََأمّا مَنْ آمَنَ وَ َ‬

‫(‪)2211 /‬‬

‫ع ِملَ صَاِلحًا فَلَهُ جَزَاءً ا ْلحُسْنَى وَسَ َنقُولُ لَهُ مِنْ َأمْرِنَا يُسْرًا (‪)88‬‬
‫ن وَ َ‬
‫وََأمّا مَنْ َآمَ َ‬

‫قوله‪ { :‬فََلهُ جَزَآءً ا ْلحُسْنَىا‪[ } ..‬الكهف‪ ]88 :‬أي‪ :‬نعطيه الجزاء الحسن { وَسَ َنقُولُ لَهُ مِنْ َأمْرِنَا‬
‫يُسْرا } [الكهف‪ ]88 :‬نقول له الكلم الطيب الذي يُشجّعه ويحْفزه‪ ،‬وإنْ كلّفناه كلّفناه بالمر اليسير‬
‫غير الشاق‪.‬‬
‫وهذه الية تضع لنا أساس عملية الجزاء التي هي ميزان المجتمع وسبب نهضته‪ ،‬فمجتمعٌ بل‬
‫جزاءات تثيب المج ّد وتعاقب المقصّر مجتمع ينتهي إلى الفوضى والتسيّب‪ ،‬فإنْ أمِنْ الناسُ العقابَ‬
‫تكاسلوا‪ ،‬وربما ما تعانيه مصر الن من سوء الدارة راجع إلى ما في المجتمع من أشخاص فوق‬
‫القانون ل نستطيع معاقبتهم فيتسيّب الخرون‪.‬‬
‫ن ل يعمل‪ ،‬ويظفر بها مَنْ يتقرب ويتودد ويتملّق‬
‫وكذلك نرى المراتب والجوائز يظفر بها مَ ْ‬
‫وينافق‪ ،‬ولهؤلء أساليبهم الملتوية التي يجيدونها‪ ،‬أما الذي يجدّ ويعمل ويخلص فهو مُنْهك القوى‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مشغول بإجادة عمله وإتقانه‪ ،‬ل و ْقتَ لديه لهذه الساليب الملتوية‪ ،‬فهو يتقرب بعمله وإتقانه‪ ،‬وهذا‬
‫ن تتصوّر مدى الفساد والتسيّب الذي تسببه هذه‬
‫الذي يستحق التكريم ويستحق الجائزة‪ .‬ولك أ ْ‬
‫الصورة المقلوبة المعوجة‪.‬‬
‫عذَابا‬
‫سوْفَ ُنعَذّ ُبهُ ثُمّ يُ َردّ إِلَىا رَبّهِ فَ ُيعَذّبُهُ َ‬
‫إذن‪ :‬فميزان المجتمع وأساس نهضته‪َ { :‬أمّا مَن ظَلَمَ َف َ‬
‫ع ِملَ صَالِحا فَلَهُ جَزَآءً ا ْلحُسْنَىا وَسَ َنقُولُ لَهُ مِنْ َأمْرِنَا يُسْرا } [الكهف‪:‬‬
‫ن وَ َ‬
‫ّنكْرا * وََأمّا مَنْ آمَ َ‬
‫‪]88-87‬‬
‫فما أجمَل أنْ نرصُدَ المكافآت التشجيعية والجوائز‪ ،‬ونقيم حفلت التكريم للمتميزين والمثاليين‪،‬‬
‫شريطةَ أنْ يقومَ ميزان الختيار على الحق والعدل‪.‬‬
‫والحُسْنى‪ :‬أفعل التفضيل المؤنث لحسن‪ ،‬فإذا أعطيناه الحسنى فالحسن من باب َأوْلَى‪ ،‬ومن هذا‬
‫حسَنُواْ الْحُسْنَىا وَزِيَا َدةٌ‪} ..‬‬
‫قوله تعالى‪ {:‬لّلّذِينَ أَ ْ‬

‫(‪)2212 /‬‬

‫ثُمّ أَتْ َبعَ سَبَبًا (‪)89‬‬

‫أي‪ :‬ذهب إلى مكان آخر‪.‬‬

‫(‪)2213 /‬‬

‫ج َعلْ َلهُمْ مِنْ دُو ِنهَا سِتْرًا (‪)90‬‬


‫س وَجَ َدهَا تَطُْلعُ عَلَى َقوْمٍ لَمْ َن ْ‬
‫شمْ ِ‬
‫حَتّى إِذَا بَلَغَ َمطْلِعَ ال ّ‬

‫شمْسِ‪[ } ..‬الكهف‪ ]90 :‬كما قلنا في مغربها‪ ،‬فهي دائما طالعة؛ لنها ل‬
‫قوله تعالى‪ { :‬مَطِْلعَ ال ّ‬
‫تطلع من مكان واحد‪ ،‬بل كل واحد له مطلع‪ ،‬وكل واحد له مغْرب حسب اتساع الفق‪.‬‬
‫جعَل ّلهُمْ مّن دُو ِنهَا سِتْرا } [الكهف‪ ]90 :‬السّتْر‪ :‬هو‬
‫علَىا َقوْمٍ لّمْ َن ْ‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬وجَدَهَا َتطْلُعُ َ‬
‫الحاجز بين شيئين‪ ،‬وهو إما ليقينيَ الحر أو ليقينيَ البرد‪ ،‬فقد ذهب ذو القرنين إلى قوم من‬
‫المتبدين الذين يعيشون عراة كبعض القبائل في وسط أفريقيا مثلً‪ ،‬أو ليس عندهم ما يسترهم من‬
‫الشمس مثل البيوت يسكنونها‪ ،‬أو الشجار يستظِلّون بها‪.‬‬
‫وهؤلء قوم نسميهم " ضاحون " أي‪ :‬ليس لهم ما يأويهم من حَرّ الصيف أو بَرد الشتاء‪ ،‬وهم‬
‫أُنَاسٌ متأخرون بدائيون غير متحضرين‪ .‬ومثل هؤلء يعطيهم ال تعالى في جلودهم ما يُعوّضهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عن هذه الشياء التي يفتقدونها‪ ،‬فترى في جلودهم ما يمنحهم الدفء في الشتاء والبرودة في‬
‫الصيف‪.‬‬
‫وهذا نلحظه في البيئات العادية‪ ،‬حيث وَجْه النسان وهو مكشوف للحر وللبرد‪ ،‬ولتقلبات الجو‪،‬‬
‫لذلك جعله ال على طبيعة معينة تتحمل هذه التقلبات‪ ،‬على خلف باقي الجسم المستور بالملبس‪،‬‬
‫فإذا انكشف منه جزء كان شديدَ الحساسية للحرّ أو للبرد‪ ،‬وكذلك من الحيوانات ما منحها ال‬
‫خاصية في جلودها تستطيع أنْ تعيش في القطب المتجمد دون أن تتأثر ببرودته‪.‬‬
‫وهؤلء البدائيون يعيشون هكذا‪ ،‬ويتكيفون مع بيئتهم‪ ،‬وتشغلهم مسألة الملبس هذه‪ ،‬ول يفكرون‬
‫فيها‪ ،‬حتى يذهب إليهم المتحضرون ويروْنَ الملبس‪ ،‬وكيف أنها زينة وسَتْر للعورة فيستخدمونها‪.‬‬
‫ونلحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا عن هؤلء القوم شيئا وماذا فعل ذو القرنين معهم‪ ،‬وإنْ قِسْنا‬
‫المر على القوم السابقين الذين قابلهم عند مغرب الشمس نقول‪ :‬ربما حضّرهم ووفّر لهم أسباب‬
‫الرّقي‪.‬‬
‫وبعض المفسرين يروْنَ أن ذا القرنين ذهب إلى موض ٍع يومُه ثلثة أشهر‪ ،‬أو نهاره ستة أشهر‪،‬‬
‫فصادف وصوله وجود الشمس فلم يَرَ لها غروبا في هذا المكان طيلة وجوده به‪ ،‬ولم يَرَ لها سِتْرا‬
‫يسترها عنهم‪ ،‬ويبدو أنه ذهب في أقصى الشمال‪.‬‬
‫ك َوقَدْ َأحَطْنَا ِبمَا َلدَيْهِ خُبْرا }‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ { :‬كَذَِل َ‬

‫(‪)2214 /‬‬

‫ك َوقَدْ َأحَطْنَا ِبمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (‪)91‬‬


‫كَذَِل َ‬

‫كذلك‪ :‬يعني ذهب كذلك‪ ،‬كما ذهب للمغرب ذهب للمشرق‪.‬‬

‫(‪)2215 /‬‬

‫ثُمّ أَتْ َبعَ سَبَبًا (‪)92‬‬

‫ذهب إلى مكان آخر‪.‬‬

‫(‪)2216 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن َوجَدَ مِنْ دُو ِنهِمَا َق ْومًا لَا َيكَادُونَ َي ْفقَهُونَ َقوْلًا (‪)93‬‬
‫حَتّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْ ِ‬

‫السد‪ :‬هو الحاجز بين شيئين‪ ،‬والحاجز قد يكون أمرا معنويا‪ ،‬وقد يكون طبيعيا محسوسا كالجبال‪،‬‬
‫فالمراد بالسدين هنا جبلن بينهما فجوة‪ ،‬وما دام قد قال‪ { :‬بَيْنَ السّدّيْنِ } فالبَيْن هنا يقتضي وجود‬
‫فجوة بين السدين يأتي منها العدو‪.‬‬
‫جدَ مِن دُو ِن ِهمَا‪[ } ..‬الكهف‪ ]93 :‬أي‪ :‬تحتهما { َقوْما لّ َيكَادُونَ َيفْ َقهُونَ َقوْلً } [الكهف‪]93 :‬‬
‫{ وَ َ‬
‫أي‪ :‬ل يعرفون الكلم‪ ،‬ول يفقهون القول؛ لن الذي يقدر أن يفهم يقدر أن يتكلم‪ ،‬وهؤلء ل‬
‫يقولون كلما‪ ،‬ول يفهمون ما يقال لهم‪ ،‬ومعنى‪ { :‬لّ َيكَادُونَ‪[ } ..‬الكهف‪ ]93 :‬ل يقربون من أن‬
‫ل في أن يفهمهم‪.‬‬
‫يفهموا‪ ،‬فل ينفي عنهم الفَهْم‪ ،‬بل مجرد القُرْب من الفهم‪ ،‬وكأنه ل أم َ‬
‫لكن‪ ،‬يكف نفى عنهم الكلم‪ ،‬ثم قال بعدها مباشرة‪ {:‬قَالُواْ ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ‪[} ..‬الكهف‪ ]94 :‬فأثبت لهم‬
‫القول؟‬
‫يبدو أنه خاطبهم بلغة الشارة‪ ،‬واحتال على أن يجعلَ من حركاتهم كلما يفهمه وينفذ لهم ما‬
‫يريدون‪ ،‬ول شكّ أن هذه العملية احتاجت منه جهدا وصبرا حتى يُفهمهم ويفهم منهم‪ ،‬وإل فقد كان‬
‫في وُسْعه أنْ ينصرف عنهم بحجة أنهم ل يتكلمون ول يتفاهمون‪.‬‬
‫جهْدا في َنفْع القوم وهدايتهم‪.‬‬
‫فهو مثال للرجل المؤمن الحريص على عمل الخير‪ ،‬والذي ل يألو َ‬
‫والشارة أصبحت الن لغة مشهورة ومعروفة‪ ،‬ولها قواعد ودارسون يتفاهمون بها‪ ،‬كما نتفاهم‬
‫نحن الن مع الخرس‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالُواْ ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ‪.} ...‬‬

‫(‪)2217 /‬‬

‫ج َعلَ‬
‫ج َعلُ َلكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ َت ْ‬
‫ج َومَأْجُوجَ ُمفْسِدُونَ فِي الْأَ ْرضِ َف َهلْ نَ ْ‬
‫قَالُوا يَا ذَا ا ْلقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُو َ‬
‫سدّا (‪)94‬‬
‫بَيْنَنَا وَبَيْ َنهُمْ َ‬

‫المراد بالقول هنا‪ :‬دللة مُعبّرة تعبير القول‪ ،‬فل ُبدّ أنهم تعارفوا على شيء كالشارة مثلً‬
‫يتفاهمون به‪.‬‬
‫ويأجوج ومأجوج قوم خَلْف السدين أو الجبلين‪ ،‬ينفذون إليهم من هذه الفجوة‪ ،‬فيؤذونهم ويعتدون‬
‫عليهم؛ لذلك عرضوا عليه أن يجعلوا له { خَرْجا } أي‪ :‬أجرا وخراجا يدفعونه إليه على أنْ يسدّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لهم هذه الفجوة‪ ،‬فل ينفذ إليهم أعداؤهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬عن ذي القرنين أنه‪ { :‬قَالَ مَا َمكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْر‪.} ....‬‬

‫(‪)2218 /‬‬

‫ج َعلْ بَيْ َنكُ ْم وَبَيْ َنهُمْ رَ ْدمًا (‪)95‬‬


‫قَالَ مَا َمكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي ِب ُق ّوةٍ َأ ْ‬

‫والقوْل هنا أيضا َقوْل دللة وإشارة تُفهمهم أنه في غِنىً عن الجر‪ ،‬فعنده الكثير من الخير الذي‬
‫أعطاه ال‪ ،‬إنما هو في حاجة إلى قوة بشرية عاملة ُتعِينه‪ ،‬وتقوم معه بتنفيذ هذا العمل‪.‬‬
‫حسْبة ل‪ ،‬وأنْ‬
‫ونفهم من الية أن المعونة من المُمكّن في الرض المالك للشيء يجب أن تكون ِ‬
‫تُعين معونة ل تحوج الذي تعينه إلى أن تُعينه كل وقت‪ ،‬بل أعنه إعانة تغنيه أن يحتاج إلى‬
‫ل ينفقه في يومه وساعته ثم‬
‫المعونة فيما بعد‪ ،‬كأن تعلّمه أنْ يعمل بنفسه بدل أنْ تعطيه مثلً ما ً‬
‫يعود محتاجا؛ لذلك يقولون‪ :‬ل تُعطِني سمكة‪ ،‬ولكن علّمني كيف أصطاد‪ ،‬وهكذا تكون العانة‬
‫عمْر‪.‬‬
‫مستمرة دائمة‪ ،‬لها َنفَس‪ ،‬ولها ُ‬
‫ولما كان ذو القرنين ممكّنا في الرض‪ ،‬وفي يده الكثير من الخيرات والموال‪ ،‬فهو في حاجة ل‬
‫إلى مال بل إلى الطاقة البشرية العاملة‪ ،‬فقال‪ { :‬فَأَعِينُونِي ِبقُ ّوةٍ‪[ } ..‬الكهف‪ ]95 :‬أي‪ :‬قوة وطاقة‬
‫ج َعلْ بَيْ َنكُمْ وَبَيْ َنهُمْ رَدْما } [الكهف‪]95 :‬‬
‫بشرية قوية مخلصة { أَ ْ‬
‫ولم ي ُقلْ‪ :‬سدا؛ لن السدّ الصمّ يعيبه أنه إذا حصلت رَجّة مثلً في ناحية منه ترجّ الناحية‬
‫الخرى؛ لذلك أقام لهم ردما أي‪ :‬يبني حائطا من المام وآخر من الخلف‪ ،‬ثم يجعل بينهما ردما‬
‫من التراب ليكون السد مَرِنا ل يتأثر إذا ما طرأت عليه هزة أرضية مثلً‪ ،‬فيكون به التراب مثل "‬
‫السّوست " التي تمتص الصدمات‪.‬‬
‫ل وتُسوّيها بالرض‪ ،‬ومن ذلك‬
‫حفْرة مث ً‬
‫والردم أن تضع طبقات التراب فوق بعضها‪ ،‬حتى تردم ُ‬
‫ما نسمعه عندما يعاتب أحدهم صاحبه‪ ،‬وهو ل يريد أنْ يسمعَ‪ ،‬فيقول له‪ :‬اردم على هذا‬
‫الموضوع‪.‬‬

‫(‪)2219 /‬‬

‫جعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي ُأفْ ِرغْ‬


‫حدِيدِ حَتّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصّ َدفَيْنِ قَالَ ا ْنفُخُوا حَتّى إِذَا َ‬
‫آَتُونِي زُبَرَ الْ َ‬
‫عَلَيْهِ ِقطْرًا (‪)96‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لم يكن ذو القرنين رجلً رحالة‪ ،‬يسير هكذا بمفرده‪ ،‬بل مكّنه ال من أسباب كل شيء‪ ،‬ومعنى‬
‫ذلك أنه لم يكن وحده‪ ،‬بل معه جيش وقوة وعدد وآلت‪ ،‬معه رجال وعمال‪ ،‬معه القوت ولوازم‬
‫الرحلة‪ ،‬وكان بمقدوره أنْ يأمرَ رجاله بعمل هذا السدّ‪ ،‬لكنه أمر القوم وأشركهم معه في العمل‬
‫لِيُدرّبهم ويُعلّمهم ما داموا قادرين‪ ،‬ولديهم الطاقة البشرية اللزمة لهذا العمل‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول‪ {:‬لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإلّ مَآ آتَاهَا‪[} ..‬الطلق‪ ]7 :‬فما دام ربك قد‬
‫أعطاك القوة فاعمل‪ ،‬ول تعتمد على الخرين؛ لذلك تجد هنا أوامر ثلثة‪ :‬أعينوني بقوة‪ ،‬آتوني‬
‫زبر الحديد‪ ،‬آتوني أفرغ عليه قطرا‪.‬‬
‫زبر الحديد‪ :‬أي قطع الحديد الكبيرة ومفردها زُبْرة‪ ،‬والقِطْر‪ :‬هو النحاس المذاب‪ ،‬لكن‪ ،‬كيف بنى‬
‫ذو القرنين هذا السد من الحديد والنحاس؟‬
‫هذا البناء يشبه ما يفعله الن المهندسون في المعمار بالحديد والخرسانة؛ لكنه استخدم الحديد‪،‬‬
‫وسَدّ ما بينه من فجوات بالنحاس المذاب ليكون أكثر صلبة‪ ،‬فل يتمكن العداء من خَرْقه‪،‬‬
‫وليكون أملسَ ناعما فل يتسلقونه‪ ،‬ويعلُون عليه‪.‬‬
‫فقوله‪ { :‬حَتّىا ِإذَا سَاوَىا بَيْنَ الصّ َدفَيْنِ‪[ } ..‬الكهف‪ ]96 :‬الصدف‪ :‬الجانب‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪{:‬‬
‫َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّن كَ ّذبَ بِآيَاتِ اللّ ِه َوصَ َدفَ عَ ْنهَا‪[} ..‬النعام‪ ]157 :‬أي‪ :‬مال عنها جانبا‪.‬‬
‫فمعنى‪ :‬ساوى بين الصدفين‪ .‬أي‪ :‬ساوى الحائطين المامي والخلفي بالجبلين‪ { :‬قَالَ انفُخُواْ‪} ..‬‬
‫[الكهف‪ ]96 :‬أي‪ :‬في الحديد الذي أشعل فيه‪ ،‬حتى إذا التهب الحديد نادى بالنحاس المذَاب‪ { :‬قَالَ‬
‫آتُونِي ُأفْ ِرغْ عَلَ ْيهِ قِطْرا } [الكهف‪ ]96 :‬وهكذا انسبكَ الحديد الملتهب مع النحاس المذَاب‪ ،‬فأصبح‬
‫لدينا حائطٌ صَ ْلبٌ عالٍ أملس‪.‬‬
‫ظهَرُوهُ‪.} ...‬‬
‫سطَاعُواْ أَن يَ ْ‬
‫لذلك قال تعالى بعدها‪َ { :‬فمَا ا ْ‬

‫(‪)2220 /‬‬

‫ظهَرُو ُه َومَا اسْتَطَاعُوا َلهُ َنقْبًا (‪)97‬‬


‫سطَاعُوا أَنْ يَ ْ‬
‫َفمَا ا ْ‬

‫ظهَرُوهُ } أي‪ :‬ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن يعلوا السد أو يتسلقوه وينفذوا من أعله؛‬
‫{ أَن يَ ْ‬
‫لنه ناعم أملس‪ ،‬ليس به ما يمكن المساك به‪َ { :‬ومَا اسْ َتطَاعُواْ لَهُ َنقْبا } [الكهف‪ ]97 :‬لنه‬
‫صَلْب‪.‬‬
‫حمَةٌ مّن رّبّي‪.} ...‬‬
‫ثم يقول تعالى على لسان ذي القرنين‪ { :‬قَالَ هَـاذَا رَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2221 /‬‬

‫حقّا (‪)98‬‬
‫ن وَعْدُ رَبّي َ‬
‫جعَلَهُ َدكّا َء َوكَا َ‬
‫حمَةٌ مِنْ رَبّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبّي َ‬
‫قَالَ هَذَا َر ْ‬

‫لم َي ُفتْ ذا القرنين ـ وهو الرجل الصالح ـ أنْ يسند النعمة إلى المنعم الول‪ ،‬وأنْ يعترف بأنه‬
‫حمَةٌ مّن رّبّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبّي } [الكهف‪:‬‬
‫مجرد واسطة وأداة لتنفيذ أمر ال‪ { :‬قَالَ هَـاذَا َر ْ‬
‫ت المقوّمات التي منحني ال إياها‪ ،‬واستعملتها في خدمة عباده‪.‬‬
‫‪ ]98‬لنني أخذ ُ‬
‫الفكر مخلوق ل‪ ،‬والطاقة والقوة مخلوقة ل‪ ،‬المواد والعناصر في الطبيعة مخلوقة ل‪ ،‬إذن‪ :‬فما‬
‫لي أن أقول‪ :‬أنا عملتُ كذا وكذا؟‬
‫جعَلَهُ َدكّآءَ } [الكهف‪]98 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ رَبّي } [الكهف‪ ]98 :‬أي‪ :‬الخرة { َ‬
‫فإياكم أن تظنوا أن صلبة هذا السّد ومتانته باقية خالدة‪ ،‬إنما هذا عمل للدنيا فحسب‪ ،‬فإذا أتى وَعْد‬
‫ال بالخرة والقيامة جعله ال دكا وسوّاه بالرض‪ ،‬ذلك لكي ل يغترون به ول يتمردون على‬
‫ن كانوا مُستذلّين مُستضعفين ليأجوج ومأجوج‪ .‬وكأنه يعطيهم رصيدا ومناعة تقيهم‬
‫غيرهم بعد أ ْ‬
‫الطغيان بعد الستغناء‪.‬‬
‫حقّا } [الكهف‪ ]98 :‬واقعا لشك فيه‪.‬‬
‫ن وَعْدُ رَبّي َ‬
‫{ َوكَا َ‬
‫والتحقيق الخير في مسألة ذي القرنين وبناء السد أنه واقع بمكان يُسمّى الن (بلخ) والجبلن من‬
‫جبال القوقاز‪ ،‬وهما موجودان فعلً‪ ،‬وبينهما فَجْوة مبنيّ فيها‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن صاحب هذا البناء هو‬
‫قورش‪ ،‬وهذا المكان الن بين بحر قزوين والبحر السود‪.‬‬
‫ضهُمْ َي ْومَئِذٍ }‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَتَ َركْنَا َب ْع َ‬

‫(‪)2222 /‬‬

‫ج ْمعًا (‪)99‬‬
‫ج َمعْنَاهُمْ َ‬
‫ضهُمْ َي ْومَئِذٍ َيمُوجُ فِي َب ْعضٍ وَنُفِخَ فِي الصّورِ َف َ‬
‫وَتَ َركْنَا َب ْع َ‬

‫فإذا كانت القيامة تركناهم يموج بعضهم في بعض‪ ،‬كموج الماء ل تستطيع أن تفرق بعضهم من‬
‫بعض‪ ،‬كما أنك ل تستطيع فصل ذرات الماء في المواج‪ ،‬يختلط فيهم الحابل بالنابل‪ ،‬والقويّ‬
‫شغِل‬
‫بالضعيف‪ ،‬والخائف بالمخيف‪ ،‬فهم الن في موقف القيامة‪ ،‬وقد انتهت العداوات الدنيوية‪ ،‬و ُ‬
‫كل إنسان بنفسه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جمْعا } [الكهف‪.]99 :‬‬
‫ج َمعْنَاهُمْ َ‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَنُفِخَ فِي الصّورِ َف َ‬
‫صعِقَ مَن‬
‫صعْق‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَنُفِخَ فِي الصّورِ َف َ‬
‫وهذه هي النفخة الثانية؛ لن الولى نفخة ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ ِإلّ مَن شَآءَ اللّهُ ثُمّ ُنفِخَ فِيهِ ُأخْرَىا فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }[الزمر‪:‬‬
‫فِي ال ّ‬
‫‪.]68‬‬
‫صعْق قد يكون مميتا‪ ،‬وقد يكون‬
‫صعْق‪ ،‬والثانية نفخة ال َبعْث والقيامة‪ ،‬وال ّ‬
‫فالنفخة الولى نفخة ال ّ‬
‫صعْق المميت كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫ُم ْغمِيا لفترة ثم يفيق صاحبه‪ ،‬فال ّ‬
‫عقَ ُة وَهُمْ‬
‫خذَ ْتهُمُ الصّا ِ‬
‫{ َوفِي َثمُودَ إِذْ قِيلَ َلهُمْ َتمَ ّتعُواْ حَتّىا حِينٍ * َفعَتَوْاْ عَنْ َأمْرِ رَ ّب ِهمْ فَأَ َ‬
‫يَنظُرُونَ }[الذاريات‪43 :‬ـ ‪.]44‬‬
‫صعْقة التي تُسبّب الغماء فهي مِثْل التي حدثت لموسى ـ عليه السلم ـ حينما قال‪ {:‬قَالَ‬
‫أما ال ّ‬
‫س ْوفَ تَرَانِي فََلمّا‬
‫َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَ َبلِ فَإِنِ اسْ َتقَرّ َمكَانَهُ فَ َ‬
‫ك وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ‬
‫صعِقا فََلمّآ َأفَاقَ قَالَ سُبْحَا َنكَ تُ ْبتُ إِلَ ْي َ‬
‫جعَلَهُ َدكّا وَخَرّ موسَىا َ‬
‫تَجَلّىا رَبّهُ لِلْجَ َبلِ َ‬
‫}[العراف‪.]143 :‬‬
‫فالجبل الشمّ الراسي الصّلْب اندكّ لما تجلّى له ال‪ ،‬وخر موسى مصعوقا مُغمى عليه‪ ،‬وإذا كان‬
‫صعِق من رؤية المتجلّى عليه‪ ،‬فكيف برؤية المتجلّي سبحانه؟‬
‫موسى قد ُ‬
‫وكأن الحق سبحانه أعطى مثلً لموسى ـ عليه السلم ـ فقال له‪ :‬ليست ضنينا عليك بالرؤية‪،‬‬
‫ل ليكون لك مثالً‪ ،‬إذن‪ :‬ل يمنع القرآن أن يتجلى ال على‬
‫ولكن قبل أن تراني انظر إلى الجبل أو ً‬
‫الخَلْق‪ ،‬لكن هل نتحمل نحن تجلّي ال؟‬
‫فمن رحمة ال بنا ألّ يتجلى لنا على الحالة التي نحن عليها في الدنيا‪ .‬أما في الخرة‪ ،‬فإن الخالق‬
‫سبحانه س ُي ِعدّنا إعدادا آخر‪ ،‬وسيخلقنا خِلْقة تناسب تجلّيه سبحانه على المؤمنين في الخرة؛ لنه‬
‫سبحانه القائل‪ {:‬وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ }[القيامة‪22 :‬ـ ‪.]23‬‬
‫ل تقتاتون ول تتغوطون؛ لن‬
‫وسوف نلحظ هذا العداد الجديد في ُكلّ أمور الخرة‪ ،‬ففيها مث ً‬
‫طبيعتكم في الخرة غير طبيعتكم في الدنيا‪.‬‬
‫لذلك جاء السؤال من موسى ـ عليه السلم ـ سؤالً علميا دقيقا‪َ {:‬ربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ }‬
‫[العراف‪ ]143 :‬أي‪ :‬أرِني كيفية النظر إليك؛ لني بطبيعتي وتكويني ل أراك‪ ،‬إنما إنْ أريتني‬
‫أنت أرى‪.‬‬
‫وفي ضوء هذه الحادثة لموسى ـ عليه السلم ـ نفهم حديث النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل‬
‫تُخيّروا بين النبياء‪ ،‬فإن الناس ُيصْعقون يوم القيامة‪ ،‬فأكون أولَ مَنْ تنشقّ عنه الرض‪ ،‬فإذا أنا‬
‫صعْقة الولى "‪.‬‬
‫صعِق‪ ،‬أم حُوسِب ب َ‬
‫بموسى آخ ٌذ بقائمة من قوائم العرش‪ ،‬فل أدري أكان فيمن ُ‬
‫صعِق مرة في الدنيا‪ ،‬ول يجمع ال تعالى على عبده صَعقتَيْن‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬لنه ُ‬
‫جهَنّمَ َي ْومَئِذٍ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَعَ َرضْنَا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2223 /‬‬

‫جهَنّمَ َي ْومَئِذٍ لِ ْلكَافِرِينَ عَ ْرضًا (‪)100‬‬


‫وَعَ َرضْنَا َ‬

‫أي‪ :‬تُعرَض عليهم ليروها ويشاهدوها‪ ،‬وهذا العَرْض أيضا للمؤمنين‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪{:‬‬
‫ل وَارِدُهَا }[مريم‪ ]71 :‬والبعض يظن أن (واردها) يعني‪ :‬داخلها‪ ،‬ل بل واردها‬
‫وَإِن مّنكُمْ ِإ ّ‬
‫بمعنى‪ :‬يراها ويمرّ بها‪ ،‬فقد ترِد الماء بمعنى‪ :‬يراها ويمر بها‪ ،‬فقد ترد الماء بمعنى تصل إليه‬
‫دون أنْ تشربَ منه؛ ذلك لن الصراط الذي سيمر على الجميع مضروبٌ على ظهر جهنم ليراها‬
‫المؤمن والكافر‪.‬‬
‫أما المؤمن فرؤيته للنار قبل أنْ يدخل الجنة تُرِيه مدى نعمة ال عليه ورحمته به‪ ،‬حيث نجّاه من‬
‫هذا العذاب‪ ،‬ويعلم فضل اليمان عليه‪ ،‬وكيف أنه أخذ بيده حتى مَرّ من هذا المكان سالما‪.‬‬
‫خلَ الْجَنّةَ َفقَدْ فَازَ }[آل‬
‫لذلك يُذكّرنا الحق سبحانه بهذه المسألة فيقول‪َ {:‬فمَن زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ‬
‫عمران‪.]185 :‬‬
‫أما الكافر فسيعرض على النار ويراها أولً‪ ،‬فتكون رؤيته لها قبل أن يدخلها رؤية الحسرة‬
‫ت منها‪.‬‬
‫والندامة والفزع؛ لنه يعلم أنه داخلها‪ ،‬ولن يُفِل ْ‬
‫وقد وردتْ هذه المسألة في سورة التكاثر حيث يقول تعالى‪ {:‬أَ ْلهَاكُمُ ال ّتكّاثُرُ * حَتّىا زُرْتُمُ ا ْل َمقَابِرَ‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ * كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ عِلْمَ الْ َيقِينِ * لَتَ َروُنّ ا ْلجَحِيمَ * ُثمّ‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ * ُثمّ كَلّ َ‬
‫* كَلّ َ‬
‫لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ * ثُمّ لَُتسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ }[التكاثر‪1 :‬ـ ‪.]8‬‬
‫والمراد‪ :‬لو أنكم تأخذون عنّي العلم اليقيني فيما أُخبركم به عن النار وعذابها لكُنْتم كمنْ رآها‪،‬‬
‫لنني أنقل لكم الصورة العلمية الصادقة لها‪ ،‬وهذا ما نُسمّيه علم اليقين‪ ،‬أما في الخرة فسوف‬
‫ترون النار عينها‪ .‬وهذا هو عين اليقين أي‪ :‬الصورة العينية التي ستتحقق يوم القيامة حين تمرّون‬
‫على الصراط‪.‬‬
‫وبرحمة ال بالمؤمنين وبفضله وكرمه تنتهي علقة المؤمن بالنار عند هذا الحد‪ ،‬وتُكتب له النجاة؛‬
‫لذلك قال تعالى بعدها‪ {:‬ثُمّ لَُتسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ }[التكاثر‪.]8 :‬‬
‫حقّ اليقين‪ ،‬يوم يدخلها ويباشر حَرّها‪ ،‬كما‬
‫أما الكافر والعياذ بال فلَهُ مع النار مرحلة ثالثة هي ّ‬
‫حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنّ هَـاذَا‬
‫قال تعالى‪ {:‬وََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُ ُزلٌ مّنْ َ‬
‫سمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ }[الواقعة‪92 :‬ـ ‪.]96‬‬
‫َل ُهوَ حَقّ الْ َيقِينِ * فَسَبّحْ بِا ْ‬
‫إذن‪ :‬عندنا عِلْم اليقين‪ ،‬وهو الصورة العلمية للنار‪ ،‬والتي أخبرنا بها الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬وأن‬
‫سعَتها‪ .‬وعَيْن اليقين‪ :‬في‬
‫من صفات النار كذا وكذا وحذّرنا منها‪ ،‬ونحن في بحبوحة الدنيا و ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الخرة عندما نمرّ على الصراط‪ ،‬ونرى النار رؤيا العين‪ .‬ثم حَقّ اليقين‪ :‬وهذه للكفار حين يُ ْل َقوْن‬
‫فيها ويباشرونها فعلً‪.‬‬
‫وقد ضربنا لذلك مثلً‪ :‬لو قُ ْلتُ لك‪ :‬توجد مدينة اسمها نيويورك وبها ناطحات سحاب‪ ،‬وأنها تقع‬
‫على سبع جزر‪ ،‬ومن صفاتها كذا وكذا فأُعطِيك عنها صورة علمية صادقة‪ ،‬فإنْ صدّقتني فهذا‬
‫عِلْم يقين‪ .‬فإنْ مررنا عليها بالطائرة ورأيتها رَ ْأيَ العين فهذا عَيْن اليقين‪ ،‬فإنْ نزلت بها وتجولت‬
‫حقّ اليقين‪.‬‬
‫خللها فهذا َ‬
‫جهَنّمَ َي ْومَئِذٍ لّ ْلكَافِرِينَ عَرْضا } [الكهف‪ ]100 :‬ليس كعرضها على‬
‫إذن‪ :‬فقوله تعالى‪ { :‬وَعَ َرضْنَا َ‬
‫المؤمنين‪ ،‬بل هو عَرْض يتحقّق فيه حَقّ اليقين بدخولها ومباشرتها‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬الّذِينَ كَا َنتْ أَعْيُ ُنهُمْ }‬

‫(‪)2224 /‬‬

‫س ْمعًا (‪)101‬‬
‫غطَاءٍ عَنْ ِذكْرِي َوكَانُوا لَا َيسْتَطِيعُونَ َ‬
‫الّذِينَ كَا َنتْ أَعْيُ ُنهُمْ فِي ِ‬

‫أي‪ :‬على أبصارهم غشاوة تمنعهم إدراك الرؤية‪ ،‬ليس هذا وفقط‪ ،‬بل‪َ { :‬وكَانُو ْا لَ يَسْ َتطِيعُونَ‬
‫سمْعا } [الكهف‪.]101 :‬‬
‫َ‬
‫سمْع العبرة والعِظَة‪ ،‬وإل فآذانهم موجودة وصالحة‬
‫والمراد هنا السمع الذي يستفيد منه السامع‪َ ،‬‬
‫للسمع‪ ،‬ويسمعون بها‪ ،‬لكنه سمَاعٌ ل فائدةَ منه؛ لنهم ينفرون من سماع الحق ومن سماع‬
‫الموعظة ويسدّون دونها آذانهم‪ ،‬فهم في الخير أذن من طين‪ ،‬وأذن من عجين كما نقول‪.‬‬
‫س ِمعُواْ مَآ أُن ِزلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَى أَعْيُ َنهُمْ‬
‫أما المؤمنون فيقول الحق تبارك وتعالى فيهم‪ {:‬وَِإذَا َ‬
‫حقّ }[المائدة‪.]83 :‬‬
‫َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُواْ مِنَ الْ َ‬
‫س ْمعَ لهم‪ ،‬كما نقول نحن في لغتنا العامية‪( :‬أنت‬
‫إذن‪ :‬فكراهية أولئك للمسموع جعلتهم كأنهم ل َ‬
‫مطنش عني)‪ ،‬يعني ل تريد أنْ تسمعَ‪ ،‬ومن أقوال أهل الفكاهة‪ :‬قال الرجل لصاحبه‪ :‬فيك مَنْ يكتم‬
‫السرّ؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أعْطني مائة جنيه‪ ،‬قال‪ :‬كأنّي لم أسمع‪.‬‬
‫ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ }‬
‫س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫ولذلك حكى القرآن عن كفار مكة قولهم‪ {:‬لَ َت ْ‬
‫[فصلت‪.]26 :‬‬
‫شوّشُوا عليه‪ ،‬ول تُعطوا الناس فرصة لسماعه‪ ،‬ولو أنهم علموا أن القرآن ل يؤثر في‬
‫يعني‪َ :‬‬
‫سامعه ما قالوا هذا‪ ،‬لكنهم بأذنهم العربية وملكتهم الفصيحة يعلمون جيدا أن القرآن له تأثير في‬
‫سامعه تأثيرا يملك جوانب نفسه‪ ،‬ولبُدّ لهذا العربي الفصيح أنْ يهتزّ للقرآن‪ ،‬ولبُدّ أنه سيعرف‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنه ُمعْجِز‪ ،‬وأنه غير َقوْل البشر‪ ،‬وحتما سيدعوه هذا إلى اليمان بأن هذا الكلم كلم ال‪ ،‬وأن‬
‫ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ }‬
‫س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫محمدا رسول ال؛ لذلك قال بعضهم لبعض محذرا‪ {:‬لَ تَ ْ‬
‫[فصلت‪.]26 :‬‬
‫سمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَىا عَلَ ْيهِ ثُمّ‬
‫وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَيْلٌ ّل ُكلّ َأفّاكٍ أَثِيمٍ * يَ ْ‬
‫س َم ْعهَا فَبَشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الجاثية‪7 :‬ـ ‪.]8‬‬
‫ُيصِرّ مُسْ َتكْبِرا كَأَن لّمْ يَ ْ‬
‫وقد يتعدّى المر مجرد السماع إلى منْع الكلم كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬أََلمْ يَأْ ِتكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن‬
‫ح وَعَا ٍد وَ َثمُو َد وَالّذِينَ مِن َبعْدِهِمْ لَ َيعَْل ُمهُمْ ِإلّ اللّهُ جَآءَ ْتهُمْ ُرسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرَدّواْ‬
‫قَبِْلكُمْ َقوْمِ نُو ٍ‬
‫أَيْدِ َيهُمْ فِي َأ ْفوَا ِه ِهمْ }[إبراهيم‪.]9 :‬‬
‫فليس المر منْع الستماع‪ ،‬بل أيضا منع الكلم‪ ،‬فربما تصل كلمة إلى آذانهم وهم في حالة انتباه‬
‫فتُؤثّر فيهم‪ ،‬أي منعوهم الكلم كما يُقال‪ :‬اسكت‪ ،‬أو أغلق فمك‪.‬‬
‫سبَ الّذِينَ َكفَرُواْ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬أفَحَ ِ‬

‫(‪)2225 /‬‬

‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ نُزُلًا (‪)102‬‬


‫خذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي َأوْلِيَاءَ إِنّا أَعْ َتدْنَا َ‬
‫سبَ الّذِينَ َكفَرُوا أَنْ يَتّ ِ‬
‫حِ‬‫َأفَ َ‬

‫خذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي َأوْلِيَآءَ } [الكهف‪ ]102 :‬يعني‪:‬‬


‫سبَ الّذِينَ َكفَرُواْ أَن يَتّ ِ‬
‫قوله تعالى‪َ { :‬أ َفحَ ِ‬
‫عمُوا عن الحق فظنّوا أنْ يتخذوا عبادي من دوني أولياء؟ وسبق أن تحدثنا عن كلمة (عِبَادي)‬
‫أَ‬
‫وقلنا‪ :‬إنهم المؤمنون بي المحبون لي‪ ،‬الذين اختاروا مرادات ال على اختيارات نفوسهم‪ ،‬وف ّرقْنا‬
‫بين عبيد وعباد‪.‬‬
‫والكلم هنا عن الذين كفروا الذين اتخذوا عباد ال المقربين إليه المحبين له أولياء من دون ال‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪ {:‬لّن يَسْتَن ِكفَ ا ْلمَسِيحُ أَن َيكُونَ عَبْدا للّ ِه َولَ ا ْلمَل ِئكَةُ ا ْل ُمقَرّبُونَ }[النساء‪.]172 :‬‬
‫فكيف تتخذونهم أولياء من دوني وتعاندونني بهم وهم أحبتي؟‬
‫يقول تعالى‪َ {:‬وقَاَلتْ ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ }[التوبة‪ ]30 :‬ومنهم مَنْ قال‪ :‬الملئكة بنات ال‪،‬‬
‫فكيف تتخذونهم أولياء من دون ال وهم ل يستنكفون أن يكونوا عبادا ل‪ ،‬ويروْنَ شرفهم وعِزّتهم‬
‫في عبوديتهم له سبحانه‪ ،‬فإذا بكم تتخذونهم أولياء من دوني‪ ،‬ويا ليتكم جعلتُم ذلك في أعدائي‪،‬‬
‫فهذا منهم تغفيل حتى في اتخاذ الشركاء؛ لذلك كان جزاءَهم أنْ ُنعِدّ لهم جهنم‪:‬‬
‫جهَنّمَ لِ ْلكَافِرِينَ نُ ُزلً } [الكهف‪ ]102 :‬والنّزُل‪ :‬ما ُيعَدّ لكرام الضيف كالفنادق مثلً‪،‬‬
‫{ إِنّآ أَعْتَدْنَا َ‬
‫خسَرِينَ }‬
‫فهذا من التهكّم بهم والسّخرية منهم‪ .‬ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2226 /‬‬

‫عمَالًا (‪)103‬‬
‫ُقلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُمْ بِالَْأخْسَرِينَ أَ ْ‬

‫عمَالً } [الكهف‪ ]103 :‬الخسر‪ :‬اسم تفضيل من‬


‫( ُقلْ) أي‪ :‬يا محمد { ُقلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ‬
‫عمَالً) أي‪ :‬خسارتهم بسبب أعمالهم‪ .‬وهؤلء الخسرين هم‪{ :‬‬
‫خاسر‪ ،‬فأخسر يعني أكثر خسارة (أْ ْ‬
‫سعْ ُيهُمْ }‬
‫ضلّ َ‬
‫ن َ‬
‫الّذِي َ‬

‫(‪)2227 /‬‬

‫ن صُ ْنعًا (‪)104‬‬
‫سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ َيحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُيحْسِنُو َ‬
‫ضلّ َ‬
‫ن َ‬
‫الّذِي َ‬

‫سعْي هؤلء؛ لنهم يفعلون الشر‪ ،‬ويظنون أنه خير فهم ضالّون من حيث يظنون الهداية‪.‬‬
‫وقد ضلّ َ‬
‫ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر‪،‬‬
‫ويُنَادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة‪ ،‬ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صُنْعا وقدّموا خَيْرا‪ ،‬لكن‬
‫هل أعمالهم هذه كانت ل؟‬
‫الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ‪ ،‬فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيما‬
‫وتكريما وتخليدا لذكراهم‪.‬‬
‫سعْ ُيهُمْ } [الكهف‪ ]104 :‬أي‪ :‬بطُل وذهب وكأنه ل شيءَ‪ ،‬مثل السراب كما‬
‫ضلّ َ‬
‫ومعنى‪َ { :‬‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا‬
‫حسَبُهُ ال ّ‬
‫عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ‬
‫صوّرهم الحق سبحانه في قوله‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫َ‬
‫إِذَا جَآ َءهُ َلمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا }[النور‪.]39 :‬‬
‫وهؤلء ل يبخسهم ال حقوقهم‪ ،‬ول يمنعهم الَجْر؛ لنهم أحسنوا السباب‪ ،‬لكن هذا الجزاء يكون‬
‫في الدنيا؛ لنهم لما عملوا وأحسنوا السباب عملوا للدنيا‪ ،‬ول نصيبَ لهم في جزاء الخرة‪.‬‬
‫وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى‪ {:‬مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ‬
‫فِي حَرْثِ ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى‪.]20 :‬‬
‫حقّه‪ ،‬فل يجوز لحد من المؤمنين أنْ يظلمه أو يعتدي عليه‪ ،‬وفي حديث‬
‫ومع ذلك يُبقي للكافر َ‬
‫سيدنا جابر بن عبد ال ـ رضي ال عنه ـ قال‪ " :‬سمعت أن مُحدّثا حدّث عن رسول ال بحديث‬
‫أحببت أل أموت‪ ،‬أو يموت هو حتى أسمعه منه‪ ،‬فسألت عنه فقيل‪ :‬إنه ذهب إلى الشام‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن وصلتُ إلى الشام‪ ،‬فسألت عنه فقيل‪ :‬إنه عبد ال بن‬
‫فاشتريت ناقة ورحّلتها‪ ،‬وسرْت شهرا إلى أ ْ‬
‫أُنَيْس‪ ،‬فلما ذهبت قال له خادمه‪ :‬إن جابر بن عبد ال بالباب‪ ،‬قال جابر‪ :‬فخرج ابنُ أُنَيْس وقد‬
‫وَطِئ ثيابه من سرعته‪ .‬قال عبد ال‪ :‬واعتنقا‪.‬‬
‫قال جابر‪ :‬حدّثت أنك حدثتَ حديثا عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن ال ينادي يوم‬
‫القيامة‪ :‬يا ملئكتي‪ ،‬أنا الملك‪ ،‬أنا الديان‪ ،‬ل ينبغي لحد من أهل النار أنْ يدخلَ النار وله عند أحد‬
‫من أهل الجنة حَقّ حتى أقصّه منه‪ ،‬ول ينبغي لحد من أهل الجنة أنْ يدخلَ الجنة وله عند أحد‬
‫من أهل النار حق حتى أقصّه منه‪ ،‬حتى اللطمة "‪.‬‬
‫حقّ الكافر‪ ،‬فتقتصّ له قبل أنْ يدخل النارَ‪،‬‬
‫فانظر إلى ِدقّة الميزان وعدالة السماء التي تراعي َ‬
‫حتى ولو كان ظالمه مؤمنا‪.‬‬
‫سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } [الكهف‪ ]104 :‬جاءت كلمة الضلل في القرآن‬
‫ضلّ َ‬
‫وفي قوله تعالى‪َ { :‬‬
‫الكريم في عِدّة استعمالت يُحدّدها السياق الذي وردتْ فيه‪ .‬فقد يأتي الضلل بمعنى الكفر‪ ،‬وهو‬
‫قمة الضلل وقمة المعاصي‪ ،‬كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى‪:‬‬

‫سوَآءَ‬
‫ضلّ َ‬
‫ل َومَن يَتَبَ ّدلِ ا ْل ُكفْرَ بِالِيمَانِ َفقَ ْد َ‬
‫{ َأمْ تُرِيدُونَ أَن َتسْأَلُواْ رَسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَىا مِن قَ ْب ُ‬
‫السّبِيلِ }[البقرة‪.]108 :‬‬
‫ويُطلق الضلل‪ ،‬ويُراد به المعصية حتى من المؤمن‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ‬
‫وَلَ ُم ْؤمِنَةٍ إِذَا َقضَى اللّ ُه وَرَسُولُهُ َأمْرا أَن َيكُونَ َل ُهمُ الْخِيَ َرةُ مِنْ َأمْرِهِ ْم َومَن َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ‬
‫للً مّبِينا }[الحزاب‪.]36 :‬‬
‫ضلّ ضَ َ‬
‫َفقَ ْد َ‬
‫ويُطلق الضلل‪ ،‬ويُراد به أنْ يغيب في الرض‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا‬
‫َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }[السجدة‪.]10 :‬‬
‫ضلّ‬
‫يعني‪ :‬غِبْنا فيها واختفينا‪ .‬ويُطلَق الضلل ويُراد به النسيان‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬أَن َت ِ‬
‫حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الُخْرَىا }[البقرة‪.]282 :‬‬
‫إِ ْ‬
‫ويأتي الضلل بمعنى الغفلة التي تصيب النسان فيقع في الذنب دون قصد‪ .‬كما جاء في قصة‬
‫موسى وفرعون حينما وكز موسى الرجل فقضى عليه‪ ،‬فلما كلمه فرعون قال‪َ {:‬فعَلْ ُتهَآ إِذا وَأَنَاْ مِنَ‬
‫الضّالّينَ }[الشعراء‪.]20 :‬‬
‫أي‪ :‬قتلتُه حال غفلة ودون قصد‪ ،‬ومَنْ يعرف أن الوكزة تقتل؟ والحقيقة أن أجلَ الرجل جاء مع‬
‫الوكزة ل بها‪ .‬ويحدث كثيرا أن واحدا تدهسه سيارة وبتشريح الجثة يتبين أنه مات بالسكتة القلبية‬
‫التي صادفتْ حادثة السيارة‪.‬‬
‫ك ضَآلّ َفهَدَىا }‬
‫ويأتي الضلل بمعنى‪َ :‬ألّ تعرف تفصيل الشيء‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬ووَجَ َد َ‬
‫[الضحى‪ ]7 :‬أي‪ :‬ل يعرف ما هذا الذي يفعله قومه من الكفر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬أوْلَـائِكَ الّذِينَ َكفَرُواْ {‬

‫(‪)2228 /‬‬

‫عمَاُل ُهمْ فَلَا ُنقِيمُ َلهُمْ َي ْومَ ا ْلقِيَامَ ِة وَزْنًا (‪)105‬‬


‫طتْ أَ ْ‬
‫أُولَ ِئكَ الّذِينَ َكفَرُوا بِآَيَاتِ رَ ّب ِه ْم وَِلقَائِهِ فَحَبِ َ‬

‫{ َكفَرُواْ بِآيَاتِ رَ ّب ِهمْ } [الكهف‪ ]105 :‬واليات تُطلَق ثلثة إطلقات‪ ،‬وقد كفروا بها جميعا‬
‫وكذّبوا‪ ،‬كفروا بآيات الكون الدالة على قدرة ال‪ ،‬فلم ينظروا فيها ولم يعتبروا بها‪ ،‬وكفروا بآيات‬
‫الحكام والقرآن والبلغ من رسول ال‪ ،‬وكذلك كفروا بآيات المعجزات التي أنزلها ال لتأييد‬
‫الرسل فلم يصدقوها‪ .‬إذن‪ :‬كلمة‪ { :‬بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ } [الكهف‪ ]105 :‬هنا عامة في كل هذه النواع‪.‬‬
‫(ولقائه) أي‪ :‬وكفروا أيضا بلقاء ال يوم القيامة‪ ،‬وكذّبوا به‪ ،‬فمنهم مَنْ أنكره كليةً فقال‪ {:‬أَِإذَا مِتْنَا‬
‫َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }[المؤمنون‪.]82 :‬‬
‫جدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }‬
‫ومنهم مَن اعترف ببعْث على هواه‪ ،‬فقال‪ {:‬وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَ ِ‬
‫[الكهف‪.]36 :‬‬
‫ومنهم مَنْ قال‪ :‬إن البعث بالروح دون الجسد وقالوا في ذلك كلما طويلً‪ ،‬إذن‪ :‬إما ينكرون‬
‫البعث‪ ،‬وإما يُصوّرونه بصورة ليست هي الحقيقة‪.‬‬
‫عمَاُلهُمْ } [الكهف‪ ]105 :‬أي‪ :‬بَطُلت وذهب نفعُها { فَلَ ُنقِيمُ َل ُهمْ َيوْمَ‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬فحَبِ َ‬
‫ا ْلقِيَامَ ِة وَزْنا } [الكهف‪.]105 :‬‬
‫وقد اعترض المستشرقون على هذه الية { فَلَ ُنقِيمُ َلهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَزْنا } [الكهف‪ ]105 :‬وقالوا‪:‬‬
‫سطَ‬
‫كيف نُوفّق بينها وبين اليات التي تثبت الميزان‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَ َنضَعُ ا ْل َموَازِينَ ا ْلقِ ْ‬
‫لِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ فَلَ ُتظْلَمُ َنفْسٌ شَيْئا وَإِن كَانَ مِ ْثقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَ ْر َدلٍ أَتَيْنَا ِبهَا َوكَفَىا بِنَا حَاسِبِينَ }‬
‫[النبياء‪.]47 :‬‬
‫خ ّفتْ َموَازِينُهُ * فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ * َومَآ أَدْرَاكَ مَا هِ َيهْ‬
‫وقوله تعالى‪َ {:‬فهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ * وََأمّا مَنْ َ‬
‫* نَارٌ حَامِيَةٌ }[القارعة‪7 :‬ـ ‪.]11‬‬
‫ونقول‪ :‬إن العلماء في التوفيق بين هذه اليات قالوا‪ :‬المراد بقوله تعالى‪ { :‬فَلَ ُنقِيمُ َلهُمْ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ‬
‫وَزْنا } [الكهف‪ ]105 :‬جاءتْ على سبيل الحتقار وعدم العتبار‪ ،‬فالمراد ل وزنَ لهم عندنا أي‪:‬‬
‫ل اعتبارَ لهم‪ ،‬وهذه نستعملها الن في نفس هذا المعنى نقول‪ :‬فلن ل وزنَ له عندي‪ .‬أي‪ :‬ل‬
‫قيمة له‪.‬‬
‫وبالبحث في هذه الية وتدبرها تجد أن القرآن الكريم يقول‪ { :‬فَلَ ُنقِيمُ َلهُمْ } [الكهف‪ ]105 :‬ولم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َيقُل‪ :‬عليهم‪ ،‬إذن‪ :‬الميزان موجود‪ ،‬ولكنه ليس في صالحهم‪ ،‬فالمعنى‪ :‬ل نقيم لهم ميزانا لهم‪ ،‬بل‬
‫نقيم لهم ميزانا عليهم‪.‬‬
‫جهَنّمُ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬ذَِلكَ جَزَآؤُهُمْ َ‬

‫(‪)2229 /‬‬

‫جهَنّمُ ِبمَا َكفَرُوا وَاتّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُ ُزوًا (‪)106‬‬


‫ذَِلكَ جَزَاؤُهُمْ َ‬

‫(ذلك) أي‪ :‬ما كان من إحباط أعمالهم‪ ،‬وعدم إقامتنا لهم وزنا ليس تجنّيا مِنّا عليهم أو ظلما لهم‪،‬‬
‫بل جزاءً لهم على كفرهم فقوله { ِبمَا َكفَرُواْ } [الكهف‪ ]106 :‬أي‪ :‬بسبب كفرهم‪.‬‬
‫{ وَاتّخَذُواْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوا } [الكهف‪ ]106 :‬فقد استهزأوا بآيات ال‪ ،‬وكلما سمعوا آية قالوا‪:‬‬
‫أساطيرُ الولين‪ {:‬إِذَا تُ ْتلَىا عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الَوّلِينَ }[القلم‪.]15 :‬‬
‫وكذلك لم َيسْلَم رسول ال صلى ال عليه وسلم من سخريتهم واستهزائهم‪ ،‬والقرآن يحكي عنهم‬
‫قولهم لرسول ال‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ إِ ّنكَ َلمَجْنُونٌ }[الحجر‪ ]6 :‬فقولهم{ نُ ّزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ‬
‫}[الحجر‪ ]6 :‬أي‪ :‬القرآن وهم ل يؤمنون به سُخرية واستهزاءً‪.‬‬
‫ن لَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ َرسُولِ اللّهِ‬
‫وفي سورة " المنافقون " يقول القرآن عنهم‪ {:‬هُمُ الّذِينَ َيقُولُو َ‬
‫حَتّىا يَن َفضّواْ }[المنافقون‪ ]7 :‬فقولهم‪ {:‬رَسُولِ اللّهِ }[المنافقون‪ ]7 :‬ليس إيمانا به‪ ،‬ولكن إمّا غفلة‬
‫سخْرية واستهزا ًء كما لو كنتَ في مجلس‪ ،‬ورأيتَ أحدهم‬
‫منهم عن الكذب الذي يمارسونه‪ ،‬وإما ُ‬
‫يدّعِي العلم ويتظاهر به فتقول‪ :‬اسألوا هذا العالم‪.‬‬
‫وفي آية أخرى يقول سبحانه عن استهزائهم برسول ال‪ {:‬وَإِن َيكَادُ الّذِينَ َكفَرُواْ لَيُ ْزِلقُو َنكَ‬
‫س ِمعُواْ ال ّذكْ َر وَ َيقُولُونَ إِنّهُ َل َمجْنُونٌ }[القلم‪.]51 :‬‬
‫بِأَ ْبصَارِهِمْ َلمّا َ‬
‫عمِلُواْ }‬
‫ثم يتحدث القرآن عن المقابل لهؤلء‪ ،‬فيقول‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬

‫(‪)2230 /‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ كَا َنتْ َل ُهمْ جَنّاتُ ا ْلفِرْ َدوْسِ نُزُلًا (‪)107‬‬
‫إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬

‫قوله‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ } [الكهف‪ ]107 :‬سبق أن قلنا‪ :‬إن اليمان هو تصحيح الينبوع الوجداني‬
‫العقدي لتصدر الفعال مناسبة ليمانك بمَنْ شرّع‪ ،‬ومن هنا كان اليمان أولً وشرطا لقبول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العمل‪ ،‬وإلّ فهناك مَنْ يعمل الخير ل من منطلق إيماني بل لعتبارات أخرى‪ ،‬والنية شَرْط لزم‬
‫في قبول العمل‪.‬‬
‫لذلك يعاقب ال تعالى مَنْ يعمل لغير ال‪ ،‬يعاقبه بأنْ ينكره صاحبه ويجحده ويكرهه بسببه‪ ،‬بدل‬
‫ن يعترفَ له بالجميل‪ .‬ومن هنا قالوا‪( :‬اتق شّرّ مَنْ أحسنتَ إليه)؛ وهذا قول صحيح لنك حين‬
‫أْ‬
‫تُحسِن إلى شخص تدكّ كبرياءه‪ ،‬وتكون يدك العليا عليه‪ ،‬فإذا ما أخذ حظا من الحياة وأصبح ذا‬
‫ن تفضل عليه في يوم من اليام و َدكّ‬
‫س ِويّ النفس فإنه ل يحب مَ ْ‬
‫مكانة بين الناس فإن كان غير َ‬
‫كبرياءه؛ لذلك تراه يكره وجوده‪ ،‬ول يحب أنْ يراه وربما دبّر لك المكائد لتختفي من طريقه‪،‬‬
‫وتُخلي له الساحة؛ لنك الوحيد الذي يحرجه حضورك‪.‬‬
‫ن عمل عملً لغير ال أسلمه ال لمن عمل له‪ ،‬فليأخذ منه الجزاء‪ ،‬وإذا بالجزاء يأتي على‬
‫لذلك‪ ،‬مَ ْ‬
‫حقِرك‪ ،‬فعلتَ له‬
‫خلف ما تنتظر‪ ،‬فقد فعلت له ليُكرمك فإذا به ُيهِينك‪ ،‬فع ْلتَ له ليحترمك فإذا به َي ْ‬
‫لِيُواليك فإذا به عدو لك؛ لذلك يقولون‪ :‬العمل ل عاجل الجزاء‪ ،‬أما العمل لغير ال فغير مضمون‬
‫العواقب‪ ،‬فقد يُوفي لك وقد ل يُوفي‪.‬‬
‫ثم أردف الحق ـ سبحانه وتعالى ـ اليمانَ بالعمل الصالح؛ لن العمل الصالح لبُدّ له أن ينطلق‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } [الكهف‪.]107 :‬‬
‫من اليمان ويصدر عنه‪ ،‬فقال تعالى‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } [الكهف‪ ]107 :‬يعني‪ :‬عمل الشيء الصالح‪ ،‬فإن كان الشيء صالحا بنفسه‬
‫{ وَ َ‬
‫فليتركه على صلحه ل يفسده‪ ،‬أو يزيده صلحا‪ ،‬كبئر الماء الذي يشرب منه الناس‪ ،‬فإمّا أن‬
‫تتركه على حال صلحه ل تُلقي فيه ما يسدّه أو يُفسِده فتُخرج الصالح عن صلحه‪ ،‬وإما أنْ تزيده‬
‫صلحا فتُضيف إليه ما يُحسّن من أدائه ويُزيد من كفاءته كأنْ تبني حوله سورا يحميه أو غطاءً‬
‫يحفظه‪ ،‬أو آلةَ رفع تُيسّر على الناس استعماله‪.‬‬
‫والفرد حين يعمل الصالحات تكون حصيلته من صلح غيره أكثرَ من حصيلته من عمله هو؛ لنه‬
‫فَرْد واحد‪ ،‬ويستفيد بصلح المجتمع كله‪ ،‬ومن هنا ل ينبغي أنْ تستثقلَ أوامر الشارع وتكليفاته؛‬
‫لنه يأخذ منك ليعطيك وَليُؤمّن حياتك وقت الحاجة وال َعوَز‪ ،‬وحينما يتوفّر لك هذا التكافل‬
‫الجتماعي تستقبل الحياة بنفس راضية حال اليُسْر مطمئنة حال العُسْر‪.‬‬
‫وساعةَ أنْ يأمرك الشرع بكافلة اليتيم وإكرامه‪ ،‬فإنه يُطمئِنك على أولدك من بعدك‪ ،‬فل تحزن إنْ‬
‫أصابك مكروه؛ لنك في مجتمع متعاون‪ ،‬سيكفل أولدك‪ ،‬بل قد يكون اليتيم في ظل السلم‬
‫وتعاليمه أسعَد حظا من حياته في رعاية أبيه؛ لنه بموت أبيه يجد المؤمنين جميعا آباءَ له‪ ،‬وربما‬
‫كان أبوه مشغولً عنه في حياته ل يُفيده بشيء‪ ،‬بل ويصدّ عنه الخير حيث يقول الناس‪ :‬أبوه‬
‫موجود وهو يتكفّل به‪.‬‬

‫لذلك يقول أحمد شوقي‪:‬لَيْسَ اليَتيمُ مَنِ انتهَى أَبَواهُ مِنْ هَمّ الحيَاةِ وخَّلفَاهُ ذَليلإنّ اليَتِيمَ ُهوَ الذِي تَ ْلقَى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شغُولوقوله تعالى‪ } :‬كَا َنتْ َلهُمْ جَنّاتُ ا ْلفِرْ َدوْسِ نُ ُزلً { [الكهف‪]107 :‬‬
‫لَهُ ُأمّا تخّلتْ َأوْ أبا مَ ْ‬
‫الفردوس‪ :‬هو أعلى الجنة‪ ،‬والنّزُل‪ :‬ما يُعده النسان لكرام ضيفه من القامة ومَقوّمات الحياة‬
‫حسْب قدراته وإمكانياته وعلمه بالشياء‪ ،‬فما‬
‫وتَرَفها‪ ،‬والنسان حينما ُيعِدّ النُ ْزلَ لضيفه يعده على َ‬
‫بالك إنْ كان المعِدّ لِلنّزُل هو ال تبارك وتعالى؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬خَالِدِينَ فِيهَا لَ يَ ْبغُونَ {‬

‫(‪)2231 /‬‬

‫حوَلًا (‪)108‬‬
‫خَاِلدِينَ فِيهَا لَا يَ ْبغُونَ عَ ْنهَا ِ‬

‫سمَا‪ ،‬كما أن نعيم الدنيا يأتي على قَدْر‬


‫وخلود النعيم في الخرة يُميّزه عن نعيم الدنيا مهما َ‬
‫خوْف‬
‫تصوّرنا في النعيم وعلى حَسْب قدراتنا‪ ،‬وحتى إنْ بلغنا القمة في التنعّم في الدنيا فإننا على َ‬
‫دائم من زواله‪ ،‬فإما أنْ يتركك النعيم‪ ،‬وإما أن تتركه‪ ،‬وأما في الجنة فالنعمة خالدة ل مقطوعة‬
‫ول ممنوعة‪ ،‬وأنت مُخلّد فيها فلن تتركك النعمة ولن تتركها‪.‬‬
‫ح َولً } [الكهف‪ ]108 :‬أي‪ :‬ل يطلبون تحوّلهم عنها إلى‬
‫لذلك يقول تعالى بعدها‪ { :‬لَ يَ ْبغُونَ عَ ْنهَا ِ‬
‫غيرها‪ ،‬لنه ل يُتصوّر في النعيم أعلى من ذلك‪.‬‬
‫ومعلوم أن النسان لديه طموحات ترفيهية‪ ،‬فكلما نال خيرا تطلع إلى أعلى منه‪ ،‬وكلما حاز متعةً‬
‫ابتغى أكثر منها‪ ،‬هذا في الدنيا أما في الخرة فالمر مختلف‪ ،‬وإل فكيف يطلب نعيما أعلى من‬
‫ل وَأُتُواْ‬
‫الجنة الذي قال ال عنه‪ {:‬كُّلمَا رُ ِزقُواْ مِ ْنهَا مِن َثمَ َرةٍ رّزْقا قَالُواْ هَـاذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِن قَ ْب ُ‬
‫بِهِ مُتَشَابِها }[البقرة‪.]25 :‬‬
‫أي‪ :‬كلما رزقهم ال ثمرةً أتتْهم أخرى فقالوا‪ :‬لقد رُ ِزقْنا مثلهم من قبل‪ ،‬وظنّوها كسابقتها‪ ،‬لكنها‬
‫ليست كسابقتها بل بطعم جديد مختلف‪ ،‬وإن كانت نفس الثمرة‪ ،‬ذلك لن قدرة السباب محدودة‪،‬‬
‫أما قدرة المسبّب فليست محدودة‪.‬‬
‫طعْم؛ لن‬
‫والحق سبحانه وتعالى قادر على أن يُخرِج لك الفاكهة الواحدة على ألف َلوْن وألف َ‬
‫كمالته تعالى ل تتناهى في قدرتها؛ لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها }[البقرة‪ ]25 :‬فالثمر‬
‫واحد متشابه‪ ،‬أمّا الطعم فمختلف‪.‬‬
‫والنسان مِنّا لِيشقّ طريقه في الحياة يظل يتعلّم‪ ،‬ليأخذ شهادة مثلً أو يتعلم مهنة‪ ،‬ويظل في تعب‬
‫ومشقة ما يقرب من خمسة وعشرين عاما من عمره أملً في أن يعيش باقي حياته المظنونة‬
‫مرتاحا هانئا‪ ،‬وَهْب أنك ستعيش باقي حياتك في راحة‪ ،‬فكم سيكون الباقي منها؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أما الراحة البدية في الخرة فهي زمن ل نهايةَ له‪ ،‬ونعيم خالد ل ينتهي‪ ،‬ففي أيّ شيء يطمع‬
‫النسان بعد هذا كله؟ وإلى أيّ شيء يطمح؟‬
‫لذلك قال تعالى بعدها‪ { :‬قُل ّلوْ كَانَ الْبَحْرُ }‬

‫(‪)2232 /‬‬

‫ُقلْ َلوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا ِلكَِلمَاتِ رَبّي لَ َنفِدَ الْبَحْرُ قَ ْبلَ أَنْ تَ ْنفَدَ كَِلمَاتُ رَبّي وََلوْ جِئْنَا ِبمِثِْلهِ مَدَدًا (‬
‫‪)109‬‬

‫لن قدرته تعالى ل حدود لها‪ ،‬ومادامت قدرته ل حدود لها فالمقدورات أيضا ل حدود لها؛ لذلك‬
‫لو كان البحر مدادا أي‪ :‬حِبْرا يكتب به كلمات ال التي هي (كُنْ) التي تبرز المقدورات ما كان‬
‫كافيا لكلمات ال { وََلوْ جِئْنَا ِبمِثْلِهِ مَدَدا } [الكهف‪ ]109 :‬أي‪ :‬بمثل البحر‪.‬‬
‫ونحن نقول مثلً عن السلعة الجيدة‪ :‬ل يستطيع المصنع أنْ يُخرِج أحسن من هذه‪ ،‬أما صنعة ال‬
‫فل تقف عند حد؛ لن المصنع يعالج الشياء‪ ،‬أما الحق ـ تبارك وتعالى ـ فيصنعها بكلمة كُنْ؛‬
‫لذلك نجد في أرقى فنادق الدنيا أقصى ما توصّل إليه العلم في خدمة البشر أنْ تضغط على زِرّ‬
‫معين‪ ،‬فيُخرِج لك ما تريد من طعام أو شراب‪.‬‬
‫وهذه الشياء بل شكّ مُعدّة ومُجهّزة مُسْبقا‪ ،‬فقط يتم استدعاؤها بالضغط على زر خاص بكل‬
‫نوع‪ ،‬لكن هل يوجد نعيم في الدنيا يحضر لك ما تريد بمجرد أن يخطر على بالك؟ إذن‪ :‬فنعيم‬
‫الدنيا له حدود ينتهي عندها‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ت الَ ْرضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ‬
‫خ َذ ِ‬
‫{ حَتّىا إِذَآ أَ َ‬
‫صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }[يونس‪.]24 :‬‬
‫لمْسِ كَذاِلكَ ُن َف ّ‬
‫حصِيدا كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ‬
‫جعَلْنَاهَا َ‬
‫َنهَارا فَ َ‬
‫وكأن الحق سبحانه يقول لنا‪ :‬لقد استنفدتم وسائلكم في الدنيا‪ ،‬وبلغتم أقصى ما يمكن من مُ َتعِها‬
‫وزينتها‪ ،‬فتعالوا إلى ما أعددتُه أنا لكم‪ ،‬اتركوا ما كنتم فيه من أسباب ال‪ ،‬وتعالوا عِيشُوا بال‪،‬‬
‫كنتم في عالم السباب فتعالوْا إلى المسبّب‪.‬‬
‫وإنْ كان الحق سبحانه قد تكلم في هذه الية عن المداد الذي تُكتب به كلمات ال‪ ،‬فقد تكلّم عن‬
‫القلم التي يكتب بها في آية أخرى أكثر تفصيلً لهذه المسألة‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬وََلوْ أَ ّنمَا فِي الَ ْرضِ‬
‫شجَ َرةٍ َأقْلَ ٌم وَالْبَحْرُ َيمُ ّدهُ مِن َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَ ْبحُرٍ مّا َنفِ َدتْ كَِلمَاتُ اللّهِ }[لقمان‪.]27 :‬‬
‫مِن َ‬
‫ونقف هنا عند ِدقّة البيان القرآني‪ ،‬فلو تصوّرنا ما في الرض من شجر أقلم‪ ،‬مع ما يتميز به‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حصْر لها ول تنتهي‪ ،‬وتصوّرنا‬
‫الشجر من تجدّد مستمر‪ ،‬وتكرّر دائم يجعل من الشجار ثروة ل َ‬
‫ماء البحر مدادا يُكتب به إل أنّ ماء البحر منذ خلقه ال تعالى محدود ثابت لَ يزيد ول ينقص‪.‬‬
‫لذلك لما كان الشجر يتجدّد ويتكرّر‪ ،‬والبحر ماؤه ثابت ل يزيد‪ .‬قال سبحانه‪ {:‬وَالْ َبحْرُ َيمُ ّدهُ مِن‬
‫َبعْ ِدهِ سَ ْب َعةُ أَبْحُرٍ }[لقمان‪ ]27 :‬ليتناسب تزايد الماء مع تزايد الشجر‪ ،‬والمراد سبعة أمثاله‪ ،‬واختار‬
‫هذا العدد بالذات؛ لنه مُنتَهى العدد عند العرب‪.‬‬
‫وقد أوضح لنا العلم دورة الماء في الطبيعة‪ ،‬ومنها نعلم أن كمية الماء في الرض ثابتة ل تزيد؛‬
‫لن ما يتم استهلكه من الماء يتبخّر ويعود من جديد فالنسان مثلً لو شَرِب طيلة عمره مائة طن‬
‫من الماء‪ ،‬فاحسب ما يخرج منه من بول وعرق وفضلت في عملية الخراج تجدها نفس الكمية‬
‫التي شربها‪ ،‬وقد تبخرتْ وأخ َذتْ دورتها من جديد؛ لذلك يقولون‪ُ :‬ربّ شربةِ ماء شربها من آدم‬
‫المليين‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬قلْ إِ ّنمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثُْلكُمْ‪} ...‬‬

‫(‪)2233 /‬‬

‫عمَلًا صَالِحًا‬
‫ُقلْ إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ يُوحَى إَِليّ أَ ّنمَا إَِل ُهكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ َفمَنْ كَانَ يَ ْرجُو ِلقَاءَ رَبّهِ فَلْ َي ْع َملْ َ‬
‫حدًا (‪)110‬‬
‫وَلَا يُشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ أَ َ‬

‫خذُوني‬
‫( ُقلْ) أي‪ :‬يا محمد‪ ،‬وهذا كلم جديد { ُقلْ إِ ّنمَآ أَنَاْ َبشَرٌ مّثُْلكُمْ‪[ } ...‬الكهف‪ ]110 :‬يعني‪ُ :‬‬
‫أُسْوة‪ ،‬فأنا لست ملَكا إنما أنا بشر مثلكم‪ ،‬وحملتُ نفسي على المنهج الذي أطالبكم به‪ ،‬فأنا ل‬
‫جوَى‪ .‬بل بالعكس كان صلى ال عليه وسلم أقلّ الناس حَظّا من مُتَعِ‬
‫آمركم بشيء وأنا عنه بن ْ‬
‫الحياة وزينتها‪.‬‬
‫فكان في المؤمنين به الغنياء الذين يتمتعون بأطايب الطعام ويرتدُونَ أغْلى الثياب في حين كان‬
‫صلى ال عليه وسلم يمر عليه الشهر والشهران دون أنْ يُوقَد في بيته نار لطعام‪ ،‬وكان يرتدي‬
‫المرقّع من الثياب‪ ،‬كما أن أولده ل يرثونه‪ ،‬كما يرث باقي الناس‪ ،‬ول تحل لهم الزكاة كغيرهم‪،‬‬
‫حقّ تمتع به الخرون‪.‬‬
‫فحُرِموا من َ‬
‫لذلك كان صلى ال عليه وسلم أدنى السوات أي‪ :‬أقل الموجودين في مُتع الحياة وزُخْرفها‪ ،‬وهذا‬
‫يلفتنا إلى أن الرسالة لم ُتجْرِ لمحمد نفعا دنيويا‪ ،‬ولم تُميّزه عن غيره في زَهْرة الدنيا الفانية‪ ،‬إنما‬
‫مَيّزتْه في القيم والفضائل‪.‬‬
‫ومن هنا كان صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬يرد عليّ ـ يعني من العلى ـ فأقول‪ :‬أنا لست‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مثلكم‪ ،‬ويؤخذ مني فأقول‪ :‬ما أنا إل بشر مثلكم "‪.‬‬
‫والية هنا ل تميزه صلى ال عليه وسلم عن البشر إل في أنه‪ { :‬يُوحَىا إَِليّ } [الكهف‪ ]110 :‬فما‬
‫زاد محمد عن البشر إل أنه يُوحَى إليه‪.‬‬
‫حدٌ‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬أَ ّنمَآ إِلَـا ُهكُمْ إِلَـا ٌه وَاحِدٌ } [الكهف‪ ]110 :‬أنما‪ :‬أداة َقصْر { إِلَـا ُه ُكمْ إِلَـا ٌه وَا ِ‬
‫} [الكهف‪ ]110 :‬أي‪ :‬ل إله غيره‪ ،‬وهذه ِقمّة المسائل‪ ،‬فل تلتفتوا إلى إله غيره‪ ،‬ومن أعظم نعم‬
‫ن يكونَ له إله واحد‪ ،‬وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلً ليوضح لنا هذه المسألة‬
‫ال على النسان أ ْ‬
‫فقال تعالى‪:‬‬
‫جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً }[الزمر‪:‬‬
‫{ ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُتَشَا ِكسُونَ وَ َرجُلً سَلَما لّ َر ُ‬
‫‪.]29‬‬
‫فل يستوي عبد مملوك لعدة أسياد يتجاذبونه؛ لنهم متشاكسون مختلفون َيحَارُ فيما بينهم‪ ،‬إنْ‬
‫أرضي هذا سخط ذاك‪ .‬هل يستوي وعبد مملوك لسيد واحد؟ إذن‪ :‬فمما يُحمَد ال عليه أنه إله‬
‫واحد‪.‬‬
‫{ َفمَن كَانَ يَ ْرجُواْ ِلقَآءَ رَبّهِ } [الكهف‪ ]110 :‬الناس يعملون الخير لغايات رسمها ال لهم في‬
‫الجزاء‪ ،‬ومن هذه الغايات الجنة ونعيمها‪ ،‬لكن هذه الية تُوضّح لنا غاية أَسْمى من الجنة ونعيمها‪،‬‬
‫هي لقاء ال تعالى والنظر إلى وجهه الكريم‪ ،‬فقوله تعالى‪ { :‬يَرْجُواْ ِلقَآءَ رَبّهًِ } [الكهف‪]110 :‬‬
‫تصرف النظر عن النعمة إلى المنعم تبارك وتعالى‪.‬‬
‫عمَلً صَالِحا } [الكهف‪ ]110 :‬فهذه هي‬
‫فمن أراد لقاء ربه ل مُجرّد جزائه في الخرة‪ { :‬فَلْ َي ْع َملْ َ‬
‫الوسيلة إلى لقاء ال؛ لن العمل الصالح دليل على أنك احترمتَ أمر الخر بالعمل‪ ،‬ووثقتَ من‬
‫حكمته ومن حُبّه لك فارتاحتْ نفسك في ظلّ طاعته‪ ،‬فإذا بك إذا أو ْيتَ إلى فراشك تستعرض‬
‫شريط أعمالك‪ ،‬فل تجد إل خيرا تسعَدُ به نفسك‪ ،‬وينشرح له صدرك‪ ،‬ول تتوجّس شرا من أحد‪،‬‬
‫ول تخاف عاقبة أمر ل تُحمَدُ عقباه‪ ،‬فمَنِ الذي أنعم عليك بكل هذه النعم ووفّقك لها؟‬
‫ثم‪َ { :‬ولَ ُيشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدَا } [الكهف‪ ]110 :‬وسبق أن قُلْنا‪ :‬إن الجنة أحد‪ ،‬فل تشرك بعبادة‬
‫ال شيئا‪ ،‬ولو كان هذا الشيء هو الجنة‪ ،‬فعليك أنْ تسموَ بغاياتك‪ ،‬ل إلى الجنة بل إلى لقاء ربها‬
‫وخالقها والمنعِم بها عليك‪.‬‬

‫وقد ضربنا لذلك مثلً بالرجل الذي أعدّ وليمة عظيمة فيها أطايب الطعام والشراب‪ ،‬ودعا إليها‬
‫أحبابه فلما دخلوا شغلهم الطعام إل واحدا لم يهتم بالطعام والشراب‪ ،‬وسأل عن صاحب الوليمة‬
‫ليُسلّم عليه ويأنس به‪.‬‬
‫خ ْوفِ نا ٍر ويروْنَ النّجاةَ حَظّا جَزِيلًَأوْ بأنْ‬
‫وما أصدق ما قالته رابعة العدوية‪:‬كُلّهم يَعبدُونَ مِنْ َ‬
‫ظوْاَ بقصُورٍ ويشْرَبُوا سَلْسَبِيلليسَ لِي بالجنَانِ والنّارِ حظّ أنَا ل ابتغِي بحُبّي‬
‫يسكنُوا الجِنَان فيح َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بَدِيلوهذا يشرح لنا الحديث القدسي‪ " :‬لوْ لَم أخلق جنة ونارا‪ ،‬أما كنتُ أَهْلً لنْ أُعْبَد؟ "‪.‬‬
‫فل ينبغي للعبد أن يكون نفعيا حتى في العبادة‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى أهْل بذاته لن يُعبد‪ ،‬ل‬
‫خوفا من ناره‪ ،‬ول طمعا في جنته‪ ،‬فاللهم ارزقنا هذه المنزلة‪ ،‬واجعلنا برحمتك من أهلها‪.‬‬

‫(‪)2234 /‬‬

‫كهيعص (‪)1‬‬

‫هذه خمسة حروف مقطعة ‪ ،‬تُنطق باسم الحرف ل بمُسمّاه‪ ،‬لن الحرف له اسم وله مُسمّى ‪ ،‬فمثلً‬
‫كلمة (كتب) مسماها (كتب) أما بالسم فهي كاف ‪ ،‬تاء ‪ ،‬باء‪ .‬فالسم هو العَلَم الذي ُوضِع للدللة‬
‫على هذا اللفظ‪.‬‬
‫وفي القرآن الكريم سور كثيرة ابتُدِ َئتْ بحروف مُقطعة تُنطق باسم الحرف ل مُسمّاه ‪ ،‬وهذه‬
‫الحروف قد تكون حَرفا واحدا مثل‪ :‬ن ‪ ،‬ص ‪ ،‬ق‪ .‬وقد تكون حرفين مثل‪ :‬طه ‪ ،‬طس‪ .‬وقد تكون‬
‫ثلثة أحرف مثل‪ :‬الم ‪ ،‬طسم‪ .‬وقد تأتى أربعة أحرف مثل‪ :‬المر‪ .‬وقد تأتى بخمسة أحرف مثل‪:‬‬
‫كهيعص ‪ ،‬حمعسق‪.‬‬
‫ل فكيف تُفرّق بين الم في أول البقرة فتنطقها‬
‫لذلك نقول‪ :‬ل بُدّ في تعلّم القرآن من السماع ‪ ،‬وإ ّ‬
‫صدْ َركَ }[الشرح‪ ]1 :‬فتنطقها موصولة؟ وصدق ال تعالى حين قال‪{:‬‬
‫ك َ‬
‫مُقطّعة وبين{ أََلمْ نَشْرَحْ َل َ‬
‫فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّ ِبعْ قُرْآنَهُ }[القيامة‪.]18 :‬‬
‫ونلحظ في هذه الحروف أنه يَنطِق بالمسمّى المتعلم وغير المتعلم ‪ ،‬أما السم فل ينطق به ول‬
‫يعرفه إل المتعلّم الذي عرف حروف الهجاء‪ .‬فإذا كان الرسول صلى ال عليه وسلم أميّاَ لم يجلس‬
‫إلى معلم ‪ ،‬وهذا بشهادة أعدائه ‪ ،‬فمن الذي علمه هذه الحروف؟‬
‫إذن‪ :‬فإذا رأيت هذه الحروف المقطعة فاعلم أن الحق سبحانه وتعالى نطق بها بأسماء الحروف ‪،‬‬
‫ونحن نتكلم بمُسمّيات الحروف ل بأسمائها‪.‬‬
‫حمَةِ رَ ّبكَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ِ { :‬ذكْرُ َر ْ‬

‫(‪)2235 /‬‬

‫حمَةِ رَ ّبكَ عَبْ َدهُ َزكَرِيّا (‪)2‬‬


‫ِذكْرُ َر ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذكْر‪ :‬له معانٍ متعددة ‪ ،‬فالذكْر هو الخبار بشيء ابتداءً ‪ ،‬والحديث عن شيء لم يكُنْ لك به‬
‫سابق معرفة ‪ ،‬ومنه التذكير بشيء عرفته أولً ‪ ،‬ونريد أن نُذكّرك به ‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{:‬‬
‫وَ َذكّرْ فَإِنّ ال ّذكْرَىا تَنفَعُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[الذاريات‪.]55 :‬‬
‫ويُطلَق الذكْر على القرآن‪ {:‬إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر‪ ]9 :‬وفي القرآن أفضل‬
‫الذكر ‪ ،‬وأصدق الخبار والحداث‪ .‬كما يُطلق الذكر على كل كتاب سابق من عند ال ‪ ،‬كما جاء‬
‫في قوله تعالى‪ {:‬فَاسْأَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ }[النحل‪.]43 :‬‬
‫ك وَِل َق ْومِكَ }[الزخرف‪:‬‬
‫والذكْر هو الصّيت وال ّرفْعة والشرف ‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ ّل َ‬
‫‪ ]44‬وقوله تعالى‪َ {:‬لقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكُمْ كِتَابا فِيهِ ِذكْ ُركُمْ }[النبياء‪ ]10 :‬أي‪ :‬فيه صِيتكم وشرفكم ‪،‬‬
‫ومن ذلك قولنا‪ :‬فلن له ِذكْر في قومه‪.‬‬
‫ومن الذكْر ِذكْر النسان لربه بالطاعة والعبادة ‪ ،‬وذكْر ال لعبده بالمثوبة والجزاء والرحمة ومن‬
‫ذلك قوله تعالى‪ {:‬فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْر ُكمْ }[البقرة‪.]152 :‬‬
‫ح َمةِ رَ ّبكَ } [مريم‪ ]2 :‬أي‪ :‬هذا يا محمد خبر زكريا وقصته ورحمة ال به‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ِ { :‬ذكْرُ رَ ْ‬
‫والرحمة‪ :‬هي تجليّات الراحم على المرحوم بما يُديم له صلحه لمهمته ‪ ،‬إذن‪ :‬فكلّ راحم ولو من‬
‫البشر ‪ ،‬وكلّ مرحوم ولو من البشر ‪ ،‬ماذا يصنع؟ يعطى غيره شيئا من النصائح تُعينه على أداء‬
‫مهمته على اكمل وجه ‪ ،‬فما بالك إنْ كانت الرحمة من الخالق الذي خلق الخلق؟ وما بالك إذا‬
‫كانت رحمة ال لخير خَلْقه محمد؟‬
‫إنها رحمة عامة ورحمة شاملة؛ لنه صلى ال عليه وسلم أشرف النبياء وأكرمهم وخاتمهم ‪ ،‬فل‬
‫خلْق ‪ ،‬ورحمة‬
‫حيَ ول رسالة من بعده ‪ ،‬ول إكمال‪ .‬إذن فهو أشرف الرسل الذين هم أشرف ال َ‬
‫وَ ْ‬
‫كل نبي تأخذ حظها من الحق سبحانه بمقدار مهمته ‪ ،‬ومهمة محمد أكرم المهمات‪.‬‬
‫حمَة) هنا مصدر يؤدي معنى فعله ‪ ،‬فالمصدر مثل الفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول ‪،‬كما‬
‫وكلمة (رَ ْ‬
‫ح َمةِ رَ ّبكَ عَبْ َدهُ َزكَرِيّآ } [مريم‪ ]2 :‬أي‪ :‬رحم ربّك‬
‫نقول‪ :‬آلمني ضَرْب الرجل ولدَه ‪ ،‬فمعنى‪ { :‬رَ ْ‬
‫عبده زكريا‪.‬‬
‫حمَةِ رَ ّبكَ } [مريم‪ ]2 :‬لنها أعلى أنواع الرحمة ‪ ،‬وإن كان هنا يذكر رحمته‬
‫لذلك قال تعالى‪َ { :‬ر ْ‬
‫حمَةً‬
‫تعالى بعبده زكريا ‪ ،‬فقد خاطب محمدا صلى ال عليه وسلم بقوله‪َ {:‬ومَآ أَ ْرسَلْنَاكَ ِإلّ َر ْ‬
‫لّ ْلعَاَلمِينَ }[النبياء‪ ]107 :‬فرحمة ال تعالى بمحمد ليست رحمة خاصة به ‪ ،‬بل هي رحمة عامة‬
‫لجميع العاملين ‪ ،‬وهذه منزلة كبيرة عالية‪.‬‬
‫حمَةِ رَ ّبكَ عَبْ َدهُ َزكَرِيّآ } [مريم‪ ]2 :‬يعنى هذا الذي يُتلَى عليك الن يا محمد‬
‫فالمراد من { ِذكْرُ َر ْ‬
‫هو ِذكْر وحديث وخبر رحمة ربك التي هي أجلّ الرحمات بعبده زكريا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسبق أن أوضحنا أن العبودية للخَلْق مهانة ومذلّة ‪ ،‬وهي كلمة بشعة ل تُقبل ‪ ،‬أما العبودية ل‬
‫تعالى فهي عِزّ وشرف ‪ ،‬بل مُنتهَى العِزّ والشرف والكرامة ‪ ،‬وعللنا ذلك بأن العبودية التي تسوء‬
‫وتُحزِن هي عبودية العبد لسيد يأخذ خيره ‪ ،‬أما العبودية ل تعالى فيأخذ العبد خير سيده‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما نوع الرحمة التي تجلى ال تعالى بها حين أخبر رسوله صلى ال عليه وسلم بخبر عبده‬
‫زكريا؟‬
‫قالوا‪ :‬لنها رحمة تتعلق بطلقة القدرة في الكون ‪ ،‬وطلقة القدرة في أن ال تبارك وتعالى خلق‬
‫للمسبّبات أسبابا ‪ ،‬ثم قال للسباب‪ :‬أنت لست فاعلة بذاتك ‪ ،‬ولكن بإرادتي وقدرتي‪ ،‬فإذا أردتُك ألّ‬
‫تفعلي أبط ْلتُ عملك ‪ ،‬وإذا كنت ل تنهضين بالخير وحدك فأنا أجعلك تنهضين به‪.‬‬
‫ومن ذلك ما حدث في قصة خليل ال إبراهيم حين ألقاه الكفار في النار ‪ ،‬ولم يكن حظ ال بإطفاء‬
‫جعْل النار بَرْدا وسلما على إبراهيم أن يُنجي إبراهيم؛ لنه كان من‬
‫النار عن إبراهيم ‪ ،‬أو ب َ‬
‫الممكن ألّ يُمكّنَ خصوم إبراهيم عليه السلم من القبض عليه ‪ ،‬أو يُنزِل مطرا يُطفئ ما أوقدوه‬
‫من نار ‪ ،‬لكن ليست نكاية القوم في هذا ‪ ،‬فلو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم ‪ ،‬أو نزل المطر فأطفأ‬
‫النار لقالوا‪ :‬لو كُنّا تمكنّا منه لفعلنا كذا وكذا ‪ ،‬ولو لم ينزل المطر لفعلنا به كذا وكذا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬شاءت إرادة ال أنْ تكيد هؤلء ‪ ،‬وأن تُظهِر لهم طلقة القدرة اللهية فتُمكّنهم من إبراهيم‬
‫حتى يلقوه في النار فعلً ‪ ،‬ثم يأتي المر العلى من الخالق سبحانه للنار أن تتعطل فيها خاصية‬
‫الحراق‪ {:‬قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء‪.]69 :‬‬
‫وكذلك في قصة رحمة ال لعبده زكريا تعطينا دليلً على طلقة القدرة في مسألة الخَلْق ‪ ،‬وليلفتنا‬
‫إلى أن الخالق سبحانه جعل للكون أسبابا ‪ ،‬فمَنْ أخذ بالسباب يصل إلى المسبّب‪ ،‬ولكن إياكم أنْ‬
‫تُفتَنوا في السباب؛ لن الخالق سبحانه قد يعطيكم بالسباب ‪ ،‬وقد يُلغيها نهائيا ويأتي بالمسبّبات‬
‫دون أسباب‪.‬‬
‫وقد تجّلتْ طلقة القدرة في قصة َبدْء الخَلْق ‪ ،‬فنحن نعلم أن جمهرة الناس وتكاثرهم يتم عن‬
‫طريق التزاوج بين رجل وامرأة ‪ ،‬إل أن طلقة القدرة ل تتوقف عند هذه السباب والخالق‬
‫سبحانه يُدير خلقه على ُكلّ أوجه الخَلْق ‪ ،‬فيأتي آدم دون ذكر أو أنثى ‪ ،‬ويخلق حواء من ذكر‬
‫دون أنثى ‪ ،‬ويخلق عيسى من أنثى بدون ذكر‪.‬‬
‫فالقدرة اللهية ـ إذن ـ غير مُقيّدة بالسباب ‪ ،‬وتظلّ طلقة القدرة هذه في الخَلْق إلى أنْ تقومَ‬
‫الساعة ‪ ،‬فنرى الرجل والمرأة زوجين ‪ ،‬لكن ل يتم بينهما النجاب وتتعطل فيهما السباب حتى‬
‫ل نعتمد على السباب وننسى المسبّب سبحانه ‪ ،‬فهو القائل‪:‬‬

‫ت وَالَرْضِ َيخْلُقُ مَا َيشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫علِيمٌ قَدِيرٌ }[الشورى‪49 :‬ـ ‪.]50‬‬
‫عقِيما إِنّهُ َ‬
‫ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ‬
‫جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ‬
‫يُ َزوّ ُ‬
‫وطلقة القدرة في قصة زكريا عليه السلم تتجلى في أن ال تعالى استجاب لدعاء زكريا في أنْ‬
‫ح َمةِ رَ ّبكَ عَبْ َدهُ َزكَرِيّآ { [مريم‪.]2 :‬‬
‫يرزقَه الولد‪ .‬قال تعالى‪ِ } :‬ذكْرُ رَ ْ‬
‫أي‪ :‬رحمه ال ‪ ،‬لكن متى كانت هذه الرحمة؟‬
‫يقول الحق تبارك وتعالى‪ } :‬إِذْ نَادَىا رَبّهُ {‬

‫(‪)2236 /‬‬

‫خفِيّا (‪)3‬‬
‫إِذْ نَادَى رَبّهُ ِندَاءً َ‬

‫أي‪ :‬في الوقت الذي نادى فيه ربه نداءً خفيا‪.‬‬


‫والنداء َلوْن من ألوان الساليب الكلمية ‪ ،‬والبلغيون يقسمون الكلم إلى خبر ‪ ،‬وهو أن تخبر‬
‫عن شيء بكلم يحتمل الصدق أو الكذب‪ .‬وإنشاء‪ ،‬وهو أنْ تطلب بكلمك شيئا‪ ،‬والنشاء َق ْولٌ ل‬
‫يحتمل الصدق أو الكذب‪.‬‬
‫والنداء من النشاء؛ لنك تريد أن تنشىء شيئا من عندك ‪ ،‬فلو قُلْت‪ :‬يا محمد فأنت تريد أن تنشئ‬
‫ب القبال عليك ‪ ،‬لكن هل يصح أن يكون النداء من ال تعالى‬
‫إقبالً عليك ‪ ،‬فالنداء ـ إذن ـ طل ُ‬
‫بهذا المعنى؟ إنك ل تنادى إل البعيد عنك الذي تريد أن تستدنية منك‪.‬‬
‫فكيف تنادى ربك ـ تبارك وتعالى ـ وهو أقرب إليك من حبل الوريد؟ وكيف تناديه سبحانه وهو‬
‫يسمعك حتى قبل أن تتكلم؟ فإذا كان إقباله عليك موجودا في كل وقت ‪ ،‬فما الغرض من النداء‬
‫هنا؟ نقول‪ :‬الغرض من النداء‪ :‬الدعاء‪.‬‬
‫خفِيّا } [مريم‪ ]3 :‬لنه ليس كنداء الخَلْق للخَلْق ‪ ،‬يحتاج إلى َرفْع‬
‫ووَصْف النداء هنا بأنه‪ِ { :‬ندَآءً َ‬
‫الصوت حتى يسمع ‪ ،‬إنه نداء ل ـ تبارك وتعالى ـ الذى يستوي عنده السر والجهر ‪ ،‬وهو‬
‫جهَرُواْ بِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ }[الملك‪.]13 :‬‬
‫القائل‪ {:‬وَأَسِرّواْ َقوَْلكُمْ َأوِ ا ْ‬
‫خفْيَةً }[العراف‪.]55 :‬‬
‫ومن أدب الدعاء أنْ ندعوَه سبحانه كما أمرنا‪ {:‬ادْعُواْ رَ ّبكُمْ َتضَرّعا وَ ُ‬
‫خفَى }[طه‪ ]7 :‬أي‪ :‬وما هو أَخْفى من السر؛ لنه سبحانه قبل أن يكون‬
‫وهو سبحانه{ َيعَْلمُ السّ ّر وََأ ْ‬
‫سِرّا ‪ ،‬علم أنه سيكون سرا‪.‬‬
‫لذلك ‪ ،‬جعل الحق سبحانه أحسن الدعاء الدعاء الخفي؛ لن النسان قد يدعو ربه بشيء ‪ ،‬إنْ‬
‫سمعه غيره ربما استنقصه ‪ ،‬فجعل الدعاء خَفيا بين العبد وربه حتى ل يُفتضحَ أمره عند الناس‪.‬‬
‫أما الحق سبحانه فهو ستّار يحب الستر حتى على العاصين‪ ،‬وكذلك ليدعو العبد رَبّه بما يستحي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنْ يذكره أمام الناس ‪ ،‬وليكون طليقا في الدعاء فيدعو ربه بما يشاء؛ لنه ربّه ووليه الذي يفزع‬
‫إليه‪ .‬وإنْ كان الناس سيحزنون ويتضجرون إن سألتهم أدنى شئ ‪ ،‬فإن ال تعالى يفرح بك أن‬
‫سألته‪.‬‬
‫لكن لماذا أخفي زكريا دعاءه؟‬
‫دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد ‪ ،‬ولكن كيف يتحقق هذا المطلب وقد بلغ من الكبر عتيا وامرأته‬
‫عاقر؟ فكأن السباب الموجودة جميعها مُعطّلة عنده؛ لذلك توجه إلى ال بالدعاء‪ :‬يا رب ل ملجأ‬
‫لي إل أنت فأنت وحدك القادر على خَرْق الناموس والقانون ‪ ،‬وهذا مطلب من زكريا جاء في‬
‫غير وقته‪.‬‬
‫أخفاه أيضا؛ لنه طلب الولد في وجود أبناء عمومته الذين سيحملون منهجه من بعده ‪ ،‬إلّ أنه لم‬
‫يأتمنهم على منهج ال؛ لن ظاهر حركتهم في الحياة غير متسقة مع المنهج ‪ ،‬فكيف يأمنهم على‬
‫منهج ال وهم غير مؤتمنين على أنفسهم؟ فإذا دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد ليرث النبوة من‬
‫بعده ‪ ،‬فسوف يغضب هؤلء من دعاء زكريا ويعادونه؛ لذلك جاء دعاؤه خفيا يُسِرّه بينه وبين‬
‫ربه تعالى‪.‬‬

‫سؤال آخر تنبغي الجابة عليه هنا‪ :‬لماذا يطلب زكريا الولد في هذه السن المتأخرة‪ ،‬وبعد أن بلغ‬
‫من الكبر عتيا‪ ،‬وأصبحت امرأته عاقرا؟‬
‫لقد أوضح زكريا عليه السلم العلة في ذلك في اليات القادمة فقال‪ {:‬يَرِثُنِي وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َيعْقُوبَ‬
‫}[مريم‪.]6 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالعِلّة في طلب الولد دينية َمحْضة ‪ ،‬ل يطلبه لمغْنَم دنيوي ‪ ،‬إنما شغفه بالولد أنه لم يأمن‬
‫القوم من بعده على منهج ال وحمايته من الفساد‪.‬‬
‫لذلك قوله‪( :‬يرثني) هنا ل يفهم منه ميراث المال كما يتصوره البعض؛ لن النبياء ل يورثون ‪،‬‬
‫كما قال النبي صلى ال عليه وسلم " نحن معاشر النبياء ل نورث ما تركناه صدقة " وبذلك‬
‫يخرج النبي من الدنيا دون أن ينتفع أحد من أقاربه بماله حتى الفقراء منهم‪.‬‬
‫فالمسألة مع النبياء خالصة كلها لوجه ال تعالى؛ لذلك قال بعدها‪ {:‬وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ }[مريم‪:‬‬
‫‪ ]6‬أي‪ :‬النبوة التي تناقلوها‪ .‬فل يستقيم هنا أبدا أن نفهم الميراث على انه ميراث المال أو متاع‬
‫الدنيا الفاني‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪َ {:‬ووَ ِرثَ سُلَ ْيمَانُ دَاوُودَ }[النمل‪ ]16 :‬ففي أيّ شئ ورثه؟ أورثه في تركته؟‬
‫إذن‪ :‬فما موقف إخوته الباقين؟ ل بد أنه ورثه في النبوة والملك ‪ ،‬فالمسألة بعيدة كل البعد عن‬
‫الميراث المادي‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه أن زكريا عليه السلم قال‪ } :‬قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ {‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2237 /‬‬

‫شقِيّا (‪)4‬‬
‫قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْل َعظْمُ مِنّي وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ َأكُنْ ِبدُعَا ِئكَ َربّ َ‬

‫هذا هو النداء‪ ،‬أو الدعاء الذي دعا به زكريا عليه السلم‪َ { :‬ربّ إِنّي وَهَنَ ا ْل َعظْمُ مِنّي } [مريم‪:‬‬
‫‪ ]4‬ويرد في الدعاء أن نقول‪ :‬يا رب‪ .‬أو نقول‪ :‬يا ال‪ ،‬فقال زكريا (رب) أي‪ :‬يا رب؛ لنه يدعو‬
‫بأمر يتعلق بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمن والكافر‪ ،‬إنه يطلب الولد‪ ،‬وهذا أمر يتعلق ببنية‬
‫الحياة وصلحها للنجاب‪ ،‬وهذه من عطاء الرب سبحانه وتعالى‪ ،‬وإن كانت العلقة في طلب الولد‬
‫إلهية‪ ،‬وهي أنْ يحمل المنهج من بعد أبيه‪.‬‬
‫فكأن زكريا عليه السلم دعا ربه‪ :‬يا ربّ يا مَنْ تعطي مَنْ آمن بك‪ ،‬وتعطي مَنْ كفر‪ ،‬يا مَنْ‬
‫ن عصى‪ ،‬حاشاك أن تمنع عطاءك عمّن أطاعك ويدعو الناس إلى‬
‫تعطي مَنْ أطاع‪ ،‬وتعطي مَ ْ‬
‫طاعتك‪.‬‬
‫أما الدعاء بال ففي أمور العبادة والتكليف‪.‬‬

‫ثم يُقدّم زكريا عليه السلم حيثيات هذا المطلب‪َ { :‬ربّ إِنّي وَهَنَ ا ْل َعظْمُ مِنّي } [مريم‪ ]4 :‬والوَهَن‬
‫هو الضعف‪ ،‬وقال‪ { :‬وَهَنَ ا ْل َعظْمُ } [مريم‪ ]4 :‬لن لكل شيء قواما في الصلبة والقوة‪ ،‬فمثلً‬
‫الماء له قوام معروف والدّهْن له قوام‪ ،‬واللحم له قوام‪ ،‬والعصب والعظم وكل عناصر تكوين‬
‫النسان‪ ،‬والعَظْم هو أقوى هذه الشياء‪ ،‬وال َعظْم في بناء الجسم البشري مثل (الشاسيه) في لغة‬
‫العصر الحديث‪ ،‬وعلى العظم يبنى جسم النسان من لحم ودم وعصب‪ ،‬فإذا أصاب العظام ـ‬
‫وهي أقوى العناصر ـ ضعفٌ ووهنٌ فغيرها من باب َأوْلى‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن الرجل العربي حينما شكا الجدب والقحط ماذا قال؟ قال‪ :‬م ّرتْ بنا سنون صعبة‪ :‬فَسنة‬
‫أذابتْ الشحم ـ أي‪ :‬بعد الجوع وعدم الطعام ـ وسنة أذهبت اللحم ـ أي‪ :‬بعد أن أنهت الشحم ـ‬
‫وسنة محّت العظم‪.‬‬
‫فكأن العَظْم هو آخر مخزن من مخازن القوت في جسم النسان ساعة أن ينقطع عنه الطعام‬
‫والشراب‪ .‬والعظم في هذه الحالة يُوجّه غذاءه للمخ خاصة؛ لنه ما دام في المخ بقية قبول حياة‬
‫فما حدث للجسم من تلف قابل للصلح والعودة إلى طبيعته‪ ،‬إذن‪ :‬فسلمة النسان مرتبطة‬
‫بسلمة المخ‪.‬‬
‫لذلك نجد الطباء في الحالت الحرجة يُركّزون اهتمامهم على سلمة المخ‪ ،‬ويرتبون عليه حياة‬
‫ن توقف‬
‫النسان أو موته‪ ،‬حتى إن توقف القلب فيمكنهم بالتدليك إعادته إلى حالته الطبيعية‪ ،‬أما إ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المخ فهذا يعني الموت‪.‬‬
‫ي إل المصدر‬
‫فكأن نبي ال زكريا ـ عليه السلم ـ يقول‪ :‬يا رب ضعف عظمي‪ ،‬ولم َيعُدْ لد ّ‬
‫الخير لستقباء الحياة‪.‬‬
‫ولما كان العظم شيئا باطنا مدفونا تحت الجلد‪ ،‬فهوحيثية باطنة‪ ،‬فأراد زكريا عليه السلم أنْ يأتيَ‬
‫بحيثية أخرى ظاهرة بينة‪ ،‬فأتى بأمر واضح‪ { :‬وَاشْ َت َعلَ الرّ ْأسُ شَيْبا } [مريم‪ ]4 :‬فشبّه انتشار‬
‫الشيب في رَأْسه باشتعال النار‪ ،‬فالشعر البيض الذي يعلوه واضح كالنار‪.‬‬

‫والمتأمل في هذا التشبيه يجد أن النار أيضا تتغذى على الحطب وتظل مشتعلة لها لهب يعلو طالما‬
‫في الحطب الحيوية النباتية التي تمد النار‪ ،‬فإذا ما انتهتْ هذه الحيوية النباتية في الحطب أخذت‬
‫النار في التضاؤل‪ ،‬حتى تصير جَذْوة ل لَهبَ لها ثم تنطفىء‪.‬‬
‫واشتعال الرأس بالشيب أيضا دليل على ضعف الجسم ووَهَن قُوته؛ لن الشعر يكتسب لونه من‬
‫مادة مُلوّنة سوداء أو حمراء أو صفراء توجد في ُبصَيْلة الشعرة‪ ،‬وتُمد الشعرة بهذا اللون‪،‬‬
‫وض ْعفُ الجسم يُضعِف هذه المادة تدريجيا‪ ،‬حتى تختفي‪ ،‬وبالتالي تخرج الشعرة بيضاء‪ ،‬والبياض‬
‫ضعْف ال ُغدَد التي تفرز هذا اللون‪.‬‬
‫ضعْف الجسم و َ‬
‫ليس لونا‪ ،‬إنما البياض عدم اللون نتيجة َ‬
‫لذلك‪ ،‬نجد المترفين الذين يعنون كثيرا بشعرهم ويضعُون عليه المواد المختلفة أول ما يظهر‬
‫الشيب عندهم تبيض سوالفهم؛ لن السوالف عادة بعد أنْ يُهذّبها الحلق تأخذ أكبر قدر من المواد‬
‫الكاوية التي تؤثر على بُصيْلت الشعر وعلى هذه المادة الملونة‪ ،‬والشعرة مثل النبوبة يسهل‬
‫توصيل هذه المواد منها خاصة بعد الحلقة مباشرة وما تزال الشعرة مفتوحة‪.‬‬
‫ن فيما مضى بسبب دعائي لك شقيا؛‬
‫شقِيّا { [مريم‪ ]4 :‬أي‪ :‬لم أكُ ْ‬
‫ثم يقول‪ } :‬وَلَمْ َأكُنْ ِبدُعَآ ِئكَ َربّ َ‬
‫لني مُستجَابُ الدعوة عندك‪ ،‬فكما أكرمتني سابقا بالجابة فلم أكُنْ شقيا بدعائك‪ ،‬بل كنتُ سعيدا‬
‫بالجابة‪ ،‬فل تُخلِف عادتك معي هذه المرة‪ ،‬واجعلني سعيدا بأنْ تُجيبني‪ ،‬خاصة وأن طلبي منك‬
‫طاعة لك‪ ،‬فأنا ل أريد أنْ أخرج من الدنيا إلّ وأنا مطمئن على مَنْ يحمل المنهج‪ ،‬ويقوم بهذه‬
‫المهمة من بعدي‪.‬‬
‫وأنت قد تدعو ال لمر تحبه‪ ،‬فإذا لم ي ْأتِ ما تحبه ولم تحب حزنت وكأنك شقيت بدعائك‪ ،‬وقد‬
‫يكون شقاءَ كذب‪ ،‬لنك ل تدري الحكمة من المنع وعدم الجابة‪ ،‬ل تدري أن ال تعالى يتحكم في‬
‫تصرفاتك‪.‬‬
‫وربما دعوْت بأمر تراه الخير من وجهة نظرك وفي علم ال أنه ل خَيْرَ لك فيه‪ ،‬فمنعه عنك‬
‫وعدّل لك ما أخطأتَ فيه من تقدير الخير‪ ،‬فأعطاك ربك من حيث ترى أنه منعك‪ ،‬وأحسن إليك‬
‫من حيث ترى أنه حرمك‪ ،‬لنك طلبتَ الخير من حيث تعلم أنت أنه خير ومنع ال من حيث يعلم‬
‫أن الخير ليس في ذلك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خفْتُ‬
‫ثم يذكر زكريا عليه السلم عِلّة أخرى هي علة العِلَل وُلبّ هذه المسألة‪ ،‬فيقول‪ } :‬وَإِنّي ِ‬
‫ا ْل َموَاِليَ {‬

‫(‪)2238 /‬‬

‫ك وَلِيّا (‪)5‬‬
‫خفْتُ ا ْل َموَاِليَ مِنْ وَرَائِي َوكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا َف َهبْ لِي مِنْ لَدُ ْن َ‬
‫وَإِنّي ِ‬

‫(الموَالِي) من الولء‪ ،‬وهم أقاربه من أبناء عمومته‪ ،‬فهم الجيل الثاني الذي سيأتي بعده‪ ،‬ويخاف‬
‫أنْ يحملوا المنهج ودين ال من بعده؛ لنه رأى من سلوكياتهم في الحياة عدم أهليتهم لحمْل هذه‬
‫المهمة‪.‬‬
‫{ مِن وَرَآئِي } [مريم‪ ]5 :‬سبق أن أوضحنا في سورة (الكهف) أن كلمة وراء تأتي بمعنى‪ :‬خلف‪،‬‬
‫أو أمام‪ ،‬أو بعد‪ ،‬أو غير‪ .‬وهنا جاءت بمعنى‪ :‬من بعدي‪.‬‬
‫ثم يقول‪َ { :‬وكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا } [مريم‪ ]5 :‬والعاقر هي التي ل تلد بطبيعتها بداية‪ ،‬أو صارت‬
‫عاقرا بسبب بلوغها سِنّ اليأس مثلً‪ .‬ونحن نعلم أن التكاثر والنجاب في الجنس البشري ينشأ من‬
‫ن وصفَ زكريا حاله من الضعف والكبر‪ ،‬ثم يخبر عن زوجته بأنها‬
‫رجل وامرأة‪ ،‬وقد سبق أ ْ‬
‫عاقرٌ ل تلد‪ ،‬إذن‪ :‬فأسباب النجاب جميعها مُعطلّة‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬وكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرا } [مريم‪ ]5 :‬أي‪ :‬هي بطبيعتها عاقر‪ ،‬وهذا أمر مصاحب لها ليس‬
‫طارئا عليها‪ ،‬فلم يسبق لها النجاب قبل ذلك‪.‬‬
‫ثم يقول‪َ { :‬ف َهبْ لِي } [مريم‪ ]5 :‬والهِبَة هي العطاء بل مقابل‪ ،‬فالسباب هنا مُعطّلة‪ ،‬والمقدمات‬
‫تقول‪ :‬ل يوجد إنجاب؛ لذلك لم يقُلْ مثلً‪ :‬أعطني؛ لن العطاء قد يكون عن مقابل‪ ،‬أما في هذه‬
‫ن كنتَ ستعطيني الولد فهو هِبَة منك ل‬
‫الحالة فالعطاء بل مقابل وبل مقدمات‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬يارب إ ْ‬
‫ح ْمدُ للّهِ الّذِي وَ َهبَ لِي عَلَى‬
‫أملك أسبابها؛ لذلك قال في آية أخرى عن إبراهيم عليه السلم‪ {:‬الْ َ‬
‫سحَاقَ }[إبراهيم‪.]39 :‬‬
‫ل وَإِ ْ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫ا ْلكِبَرِ إِ ْ‬
‫ولنا َوقْفة ومَلْحظ في قوله تعالى{ عَلَى ا ْلكِبَرِ }[إبراهيم‪ ]39 :‬حيث قال المفسرون‪( :‬على) هنا‬
‫بمعنى (مع) و(على) ثلثة أحرف و(مع) حرفان‪ ،‬فلماذا عدل الحق تبارك وتعالى عن الخفيف إلى‬
‫الثقيل؟ ل بد أن وراء هذه اللفظ إضافةً جديدة‪ ،‬وهي أن (مع) تفيد المعية فقط‪ ،‬أما (على) فتفيد‬
‫ل يوجد الولد‪ ،‬لكن طلقة قدرتك أعلى‬
‫المعية والستعلء‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬إن الكِبَر يا رب يقتضي أ ّ‬
‫من الكِبَر‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضا قوله تعالى‪ {:‬وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َم ْغفِ َرةٍ لّلنّاسِ عَلَىا ظُ ْل ِمهِمْ }[الرعد‪ ]6 :‬كأن الظلم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يقتضي أن يُعاقبوا‪ ،‬لكن رحمة ال بهم ومغفرته لهم عََلتْ على استحقاق العقاب‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬مِن لّدُ ْنكَ } [مريم‪ ]5 :‬أي‪ :‬من عندك أنت ل بالسباب (وَلِيا) أي‪ :‬ولدا صالحا يليني في‬
‫حمْل أمانة تبليغ منهجك إلى الناس لِتسْلَم لهم حركة الحياة‪.‬‬
‫َ‬
‫ثم يقول‪ { :‬يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ }‬

‫(‪)2239 /‬‬

‫جعَ ْلهُ َربّ َرضِيّا (‪)6‬‬


‫ب وَا ْ‬
‫يَرِثُنِي وَيَ ِرثُ مِنْ َآلِ َي ْعقُو َ‬

‫سبق أن أوضحنا أن الميراث هنا ل يُراد به ميراث المال؛ لن النبياء ل يورثون‪ ،‬وما تركوه من‬
‫حمْل منهج ال إلى‬
‫مال فهو صدقة من بعدهم‪ ،‬إنما المراد هنا ميراث العلم والنبوة والملْك‪ ،‬و َ‬
‫ف بقوله (يَرِثُنِي) بل قال‪ { :‬يَرِثُنِي وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ } [مريم‪]6 :‬‬
‫الناس‪ ،‬ونلحظ أنه لم يك َت ِ‬
‫فلستُ أنا القمة في الطاعة في آل يعقوب‪ ،‬فهناك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب‪ ،‬وهذا‬
‫تواضع منه ومراعاة لقدار الرجال وإنزالهم منازلهم‪.‬‬
‫جعَ ْلهُ َربّ َرضِيّا } [مريم‪ ]6 :‬أي‪ :‬مرضيا عنه منك‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَا ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬يا َزكَرِيّآ إِنّا نُبَشّ ُركَ ِبغُلَمٍ }‬

‫(‪)2240 /‬‬

‫سمِيّا (‪)7‬‬
‫ج َعلْ لَهُ مِنْ قَ ْبلُ َ‬
‫س ُمهُ يَحْيَى لَمْ نَ ْ‬
‫يَا َزكَرِيّا إِنّا نُبَشّ ُركَ ِبغُلَامٍ ا ْ‬

‫المتأمل لهذه القصة يجد هذه الية قد اختصرت من القصة ما يفهم من سياقها ثقةً في نباهة‬
‫السامع‪ ،‬وأنه قادر على إكمال المعنى‪ ،‬فكأن معنى الية‪ :‬سمع ال دعاء زكريا وحيثيات طلبه‪،‬‬
‫فأجابه بقوله‪ { :‬يا َزكَرِيّآ } [مريم‪.]7 :‬‬
‫وتوجيه الكلم إلى زكريا عليه السلم هكذا مباشرة دليلٌ على سرعة الستجابة لدعائه‪ ،‬فجاءت‬
‫الجابة مباشِرة دون مُقدّمات‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬ما حكاه القرآن من قصة سليمان ـ عليه السلم ـ وبلقيس‪ ،‬قال سليمان‪ {:‬أَ ّي ُكمْ يَأْتِينِي‬
‫ك وَإِنّي‬
‫عفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن مّقَا ِم َ‬
‫سِلمِينَ * قَالَ ِ‬
‫شهَا قَ ْبلَ أَن يَأْتُونِي مُ ْ‬
‫ِبعَرْ ِ‬
‫عَلَيْهِ َل َق ِويّ َأمِينٌ * قَالَ الّذِي عِن َدهُ عِلْمٌ مّنَ ا ْلكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ فََلمّا رَآهُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شكُرُ أَمْ َأ ْكفُرُ }[النمل‪38 :‬ـ ‪ ]40‬فبيْنَ قوله‪ {:‬قَ ْبلَ‬
‫مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ قَالَ هَـاذَا مِن َفضْلِ رَبّي لِيَبُْلوَنِي أَأَ ْ‬
‫أَن يَرْتَدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ }[النمل‪ ]40 :‬وقوله‪ {:‬رَآهُ مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ }[النمل‪ ]40 :‬كلم يقتضيه سياق‬
‫القصة‪ ،‬كأن نقول‪ :‬فأذِن له فذهب وأتى بالعرش‪ ،‬لكن جاء السلوب سريعا ليتناسب مع سرعة‬
‫الحدث في إحضار عرش بلقيس من مكانه‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّا نُ َبشّ ُركَ } [مريم‪ ]7 :‬البشارة‪ :‬هي الخبار بما يسرّك قبل أن يجيء ليستطيل أمدَ‬
‫الفرح بالشيء السّار‪ ،‬وقد يُبشرك مُساويك ويكذب في البُشْرى‪ ،‬وقد تأتي الظروف والحداث‬
‫مُخالفة لما يظنه‪ ،‬فكيف بك إذا بشّرك ال تعالى؟ ساعة أن تكون البشارة من ال فاعلم أنها حَقّ‬
‫وواقعٌ ل شكّ فيه‪.‬‬
‫سمُهُ َيحْيَىا } [مريم‪ ]7 :‬أي‪ :‬وسماه أيضا‪ .‬ونحن نعلم أن للبشر اختيارات في‬
‫وقوله‪ِ { :‬بغُلَمٍ ا ْ‬
‫َوضْع السماء للمسميات‪ ،‬ولهم الحرية في ذلك‪ ،‬فواحدة تُسمى ولدها (حرنكش) هي حرة‪،‬‬
‫والخرى تسمى ابنتها الزنجية (قمر) هي أيضا حرة‪.‬‬
‫إل أن الناس حين يُسمّون يتمنون في المسمّى مواصفات تَسرّ النفس وتقرّ العين‪ ،‬فحين نُسمّي‬
‫سعيدا تفاؤلً بأن يكون سعيدا فعلً‪ ،‬والسم ُوضِع للدللة على المسمى‪ ،‬لكن‪ ،‬أيملك هذا المتفائل‬
‫أن يأتي المسمى على َوفْق ما يحب ويتمنى؟ ل‪ ،‬ل يملك ذلك ول يضمنه؛ لن هناك قوة أعلى‬
‫منه تتحكم في هذه المسألة‪ ،‬وقد يأتي المسمّى على غير مُراده‪.‬‬
‫أما إذا كان الذي سمّى هو ال تعالى فلبد أن يتحقق السم في المسمّى‪ ،‬وينطبق عليه‪ ،‬ولبُدّ أنْ‬
‫سمّى الحق تبارك وتعالى ابن زكريا يحيى فل بُدّ أن تنطبق‬
‫سمّاه‪ ،‬وقد َ‬
‫يتحقّق مراده تعالى في مَنْ َ‬
‫عليه هذه الصفة‪ ،‬ويحيى فعل ضده يموت‪ ،‬إذن‪ :‬فهو سبحانه القادر على أن يُحييه‪ ،‬لكن يحييه إلى‬
‫متى؟ وكم عاما؟ الحياة هنا والعيش يتحقق ولو بمتوسط العمار مثلً‪ ،‬فقد أحياه وتحققت فيه صفة‬
‫الحياة‪.‬‬
‫ولذلك استدل أهل المعرفة من تسميته يحيى على أن ابن زكريا سيموت شهيدا ليظل حيا كما سماه‬
‫ال وقد كان‪.‬‬

‫سمِيّا { [مريم‪ ]7 :‬السميّ‪ :‬اختلف العلماء في معناها فقالوا‪ :‬تأتي‬


‫جعَل لّهُ مِن قَ ْبلُ َ‬
‫وقوله‪َ } :‬لمْ نَ ْ‬
‫بمعنى‪ :‬نظير أو مثيل أو شبيه وإما سميا يعني‪ :‬اسمه كاسمه‪.‬‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فَاعْبُ ْد ُه وَاصْطَبِرْ ِلعِبَادَ ِتهِ َهلْ َتعْلَمُ لَهُ‬
‫ت وَالَرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ّ {:‬ربّ ال ّ‬
‫سمِيّا }[مريم‪ ]65 :‬فقالوا‪ :‬سميا هنا تحمل المعنيين‪ :‬هل تعلم له نظيرا أو شبيها؛ لنه سبحانه{ لَيْسَ‬
‫َ‬
‫شيْءٌ }[الشورى‪ {]11 :‬وَلَمْ َيكُنْ لّهُ ُكفُوا َأحَدٌ }[الخلص‪.]4 :‬‬
‫َكمِثْلِهِ َ‬
‫ويمكن أن نقول بهذا المعنى أيضا في قصة يحيى عليه السلم‪ ،‬إل أنه يقع فيه شيء وهو‪ :‬أن ال‬
‫سمِيّا { [مريم‪ ]7 :‬واعتبرناها بمعنى‬
‫جعَل لّهُ مِن قَ ْبلُ َ‬
‫تعالى حينما قال في مسألة يحيى‪ } :‬لَمْ َن ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المِثْل أو النظير والشبيه‪ ،‬فهذا يعني أنه لم يسبق يحيى واحد مثله في الصلح والتقوى‪ ،‬فأين ـ‬
‫إذن ـ أبو النبياء إبراهيم عليه السلم؟ وأين إسماعيل وإسحق؟‬
‫فهذا المعنى وإن كان السياق يحتمله في غير هذا الموضع إل أنه ل يستقيم هنا؛ لن ال تعالى‬
‫جعل من قَبْل يحيى مَنْ هو أفضل من يحيى‪ ،‬أو مثله على القل‪.‬‬
‫سمِيّا }[مريم‪ ]65 :‬أي‪ :‬هل هناك مَنْ تسمى باسمه تعالى؟‬
‫أما المعنى الخر فيكون‪َ {:‬هلْ َتعْلَمُ َلهُ َ‬
‫وهذا هو المعنى الذي يستقيم في قصة يحيى عليه السلم؛ لنه أول اسم وضعه الحق سبحانه على‬
‫ابن زكريا‪ ،‬ولم يكن أحدٌ تسمى به من قبل‪ ،‬أما بعده فقد انتشر هذا السم‪ ،‬حتى قال‬
‫سمّيتُه َيحْيى ليحيى فلم يكُنْ لِردّ َقضَاءِ الِ فِيهِ سَبِيلُونقف هنا على آية من آيات ال في‬
‫الشاعر‪:‬و َ‬
‫التسمية‪ ،‬حيث لم يجرؤ أحد حتى من الكفرة والملحدة الذين يجاهرون بإلحادهم ويعلنون إنكارهم‬
‫للخالق سبحانه‪ ،‬لم يجرؤ أحدهم أن يسمى ولده (ال)‪ ،‬وحرية اختيار السماء مكفولة‪ ،‬وهذا إنْ َدلّ‬
‫فإنما يدلّ على أن كفرهم عناد ولَجَجٌ‪ ،‬وأنهم غير صادقين في ُكفْرهم‪ ،‬ويعلمون أن ال موجود؛‬
‫لذلك يخافون على أنفسهم وعلى أولدهم أنْ يُسمّوا بهذا السم‪.‬‬
‫سمِيا) في مسألة اللوهية تُؤخَذ على المعنيين‪ ،‬أما في مسألة يحيى فل تحتمل إل‬
‫إذن‪ :‬كلمة ( َ‬
‫المعنى الثاني‪.‬‬
‫سمّى (ال)‬
‫وَهبْ أن الحق سبحانه وتعالى استعرض السماء السابقة فلم يجد في الماضي من ُ‬
‫سمِيّا }[مريم‪]65 :‬؟ فلم يحدث بعد هذا التحدي أنْ يُسمّى أحد بهذا‬
‫فأعلنها تحديا‪َ {:‬هلْ َتعَْلمُ لَهُ َ‬
‫السم‪.‬‬

‫(‪)2241 /‬‬

‫قَالَ َربّ أَنّى َيكُونُ لِي غُلَا ٌم َوكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ ا ْلكِبَرِ عِتِيّا (‪)8‬‬

‫لما سمع زكريا عليه السلم البشارة من ربه‪ ،‬واطمأن إلى حصولها أغراه ذلك في أنْ يُوغل في‬
‫ل كوْنه قد بلغ من الكبر عتيا وامرأته‬
‫معرفة الوسيلة‪ ،‬وكيف سيتم ذلك‪ ،‬وتتحقق هذه البشارة حا َ‬
‫عاقر؟‬
‫لكن ماذا يقصد زكريا من سؤاله‪ ،‬وهو يعلم تماما أن ال تعالى عالم بحاله وحال زوجه؟ الواقع أن‬
‫ن يقصد ذلك‪،‬‬
‫زكريا عليه السلم ل يستنكر حدوث هذه البشرى‪ ،‬ول يستدرك على ال‪ ،‬وحاشاه أ ْ‬
‫وإنما أطمعته ال ُبشْرى في أنْ يعرف الكيفية‪ ،‬كما حدث في قصة موسى ـ عليه السلم ـ حينما‬
‫كلّمه ربه واختاره‪ ،‬وأفرده بهذه الميزة فأغراه الكلم في أنْ يطلب الرؤيا‪ ،‬فقال‪َ {:‬ربّ أَرِنِي أَنظُرْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إِلَ ْيكَ }[العراف‪.]143 :‬‬
‫وكما حدث في قصة ـ إبراهيم عليه السلم ـ لما قال لربه‪َ {:‬ربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِـي ا ْل َموْتَىا }‬
‫ن يعرف‬
‫[البقرة‪ ]260 :‬وأبو النبياء ل يشكّ في قدرة ال تعالى على إحياء الموتى‪ ،‬ولكنه يريد أ ْ‬
‫هذه الطريقة العجيبة‪ ،‬فالكلم ليس في الحقيقة وجودا وعدما‪ ،‬إنما في كيفية وجود الحقيقة‪ ،‬والكلم‬
‫خلَ له بالوجود‪.‬‬
‫في الكيفية ل د ْ‬
‫فأخبره الحق سبحانه أن هذه المسألة ل تُقال إنما تُباشَر عمليا‪ ،‬فأمره بما نعلم من هذه القصة‪:‬‬
‫وهو أن يحضر أربعة من الطير بنفسه‪ ،‬ثم يضمهنّ إليه ليتأكد بنفسه من حقيقتها‪ ،‬ثم أمره أنْ‬
‫يُقطّعهن أجزاء‪ ،‬ثم يُفرّق هذه الجزاء على قمم الجبال‪ ،‬ثم بعد ذلك ترك له الخالق سبحانه أنْ‬
‫عوَهُن بنفسه‪ ،‬وأن يصدر المر منه فتتجمع هذه القطع المبعثرة وتدبّ فيها الحياة من جديد‪،‬‬
‫يدْ ُ‬
‫وهذا من مظاهر عظمته سبحانه وتعالى أنه لم يفعل‪ ،‬بل جعل مَنْ ل يستطيع ذلك يفعله‪ .‬ويقدر‬
‫عليه‪.‬‬
‫حمْل شيء يأتي بمَنْ يحمله له‪،‬‬
‫فإنْ كان البشر ُي َعدّون أثر قدرتهم إلى الضعفاء‪ ،‬فمَنْ ل يقدر على َ‬
‫ن يقوم به‪ ،‬ويظل هو ضعيفا ل يقدر على شيء‪ ،‬أما الحق‬
‫ومَنْ يعجز عن عمل شيء يأتي بمَ ْ‬
‫سبحانه وتعالى فيُعدّي قوته بنفسه إلى الضعيف فيصير قويا قادرا على الفعل‪.‬‬
‫لمٌ } [مريم‪]8 :‬؟ سؤال عن الكيفية‪ ،‬كما أن إبراهيم عليه السلم لما قال‬
‫فقوله‪ { :‬أَنّىا َيكُونُ لِي غُ َ‬
‫له ربه‪َ {:‬أوَلَمْ ُت ْؤمِن }[البقرة‪]260 :‬؟ أي‪ :‬بقدرتي على إحياء الموتى‪ ،‬قال (بَلَى) أي‪ :‬نعم أومن{‬
‫طمَئِنّ قَلْبِي }[البقرة‪ ]260 :‬أي‪ :‬الكيفية التي يتم بها الحياء‪.‬‬
‫وَلَـكِن لّ َي ْ‬
‫لمٌ } [مريم‪ ]8 :‬يريد أن يُوثّق هذه البشرى‬
‫أو‪ :‬أن زكريا عليه السلم بقوله‪ { :‬أَنّىا َيكُونُ لِي غُ َ‬
‫ويُسجّلها‪ ،‬كما َتعِد ولدك بأنْ تشتري له هدية فيُلِحّ عليك في هذه المسألة ليؤكد وَعْدك له‪ ،‬ويستلذ‬
‫بأنه وَعْد مُحقّق ل شكّ فيه‪ ،‬ثم يذكر زكريا حيثيات تعجّبه من هذا المر فيقول‪:‬‬
‫{ َوكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرا َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ ا ْلكِبَرِ عِتِيّا } [مريم‪.]8 :‬‬

‫عتيا‪ :‬من عَتَا يعني طغى وتجبر وأفسد كثيرا‪ ،‬والعُتُو‪ :‬الكفر‪ ،‬والعَتيّ‪ :‬هو القوي الذي ل يُغالب؛‬
‫ضعْف ل‬
‫لذلك وصف الكِبَر الذي هو رمز للضعف بأنه عَ ِتيّ؛ لن ضعف الشيب والشيخوخة َ‬
‫يقدر أحد على مقاومته‪ ،‬أو دفعه أبدا‪ ،‬مهما احتال عليه بالدوية والعقاقير (والفيتامينات)‪.‬‬
‫ويبدو أن مسألة الولد هذه كانت تشغل زكريا عليه السلم؛ وتُلِح عليه؛ لنه دعا ال كثيرا أنْ‬
‫ب لَ َتذَرْنِي فَرْدا وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ }[النبياء‪.]89 :‬‬
‫يرزقه الولد‪ ،‬ففي موضع آخر يقول‪َ {:‬ر ّ‬
‫فزكريا عليه السلم يريد الولد الذي يَرِثه وهو موروث؛ لن ال تعالى خير الوارثين‪.‬‬
‫لكن يأتي الرد‪ {:‬فَاسْتَجَبْنَا لَ ُه َووَهَبْنَا لَهُ َيحْيَىا وََأصْلَحْنَا َلهُ َزوْجَهُ }[النبياء‪ ]90 :‬ونلحظ أنه‬
‫تعالى قبل أن يقول‪ {:‬وََأصْلَحْنَا لَهُ َزوْجَهُ }[النبياء‪ ]90 :‬التي ستنجب هذا الولد‪ ،‬قال‪َ {:‬ووَهَبْنَا لَهُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يَحْيَىا }[النبياء‪ ]90 :‬فصلح الزوجَة ليس شرطا في تحقّق هذه البشرى وحدوث هذه الهبة‪.‬‬
‫وهنا مظهر من مظاهر طلقة القدرة اللهية التي ل يُعجِزها شيء‪ ،‬فهو سبحانه قادر على إصلح‬
‫هذه الزوجة العاقر‪ ،‬فالصنعة اللهية ل تقف عند حَدّ‪ ،‬كما لو تعطّل عندك أحد الجهزة مثلً‬
‫فذهبتَ به إلى الكهربائي لصلحه فوجد التلفَ به كبيرا‪ ،‬فينصحك بترْكه وشراء آخر جديد‪ ،‬فل‬
‫حيلةَ في إصلحه‪.‬‬
‫لذلك أصلح ال تعالى لزكريا زوجه حتى ل نظنّ أن يحيى جاء بطريقة أخرى‪ ،‬والزوجة ما تزال‬
‫على حالها‪.‬‬
‫ثم يقول الحق‪ } :‬قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ {‬

‫(‪)2242 /‬‬

‫ل وَلَمْ َتكُ شَيْئًا (‪)9‬‬


‫ن َوقَدْ خََلقْتُكَ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫قَالَ َكذَِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ هَيّ ٌ‬

‫(قَالَ) أي‪ :‬الحق تبارك وتعالى { كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ } [مريم‪ ]9 :‬أي‪ :‬أنه تعالى قال ذلك وقضى به‪،‬‬
‫فل تناقش في هذه المسألة‪ ،‬فنحن أعلَم بك وما أنتَ فيه من كِبَر‪ ،‬وأن زوجتك عاقر‪ ،‬ومع ذلك‬
‫سأهبك الولد‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ُ { :‬هوَ عََليّ هَيّنٌ } [مريم‪ ]9 :‬وفي آية أخرى يقول في آية البعث‪ {:‬وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ }‬
‫[الروم‪ ]27 :‬فل تظن أن المر بالنسبة ل تعالى فيه شيء هَيّن وشيء أَ ْهوَن‪ ،‬وشيء شاقّ‪،‬‬
‫فالمراد بهذه اللفاظ تقريب المعنى إلى أذهاننا‪.‬‬
‫والحق سبحانه يخاطبنا على كلمنا نحن وعلى منطقنا‪ ،‬فالخَلْق من موجود أهون في نظرنا من‬
‫ل ّولِ َبلْ ُهمْ فِي لَبْسٍ مّنْ‬
‫قاَ‬
‫الخلق من غير موجود‪ ،‬كما قال الحق سبحانه تعالى‪َ {:‬أ َفعَيِينَا بِالْخَ ْل ِ‬
‫جدِيدٍ }[ق‪.]15 :‬‬
‫خَ ْلقٍ َ‬
‫صعْب وأصعب‪ ،‬لن هذه تُقال‬
‫سهَل أو َ‬
‫سهْل وأ ْ‬
‫إذن‪ :‬فمسألة اليجاد بالنسبة له تعالى ليس فيها َ‬
‫ن يعمل العمال علجا‪ ،‬ويُزوالها مُزَاولة‪ ،‬وهذا في إعمالنا نحن البشر‪ ،‬أما الحق تبارك وتعالى‬
‫لمَ ْ‬
‫فإنه ل يعالج الفعال‪ ،‬بل يقول للشيء كُنْ فيكون‪ {:‬إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ َلهُ كُن‬
‫فَ َيكُونُ }[يس‪.]82 :‬‬
‫ل وَلَمْ َتكُ شَيْئا } [مريم‪ ]9 :‬فلن‬
‫لقْوى‪ ،‬فيقول‪َ { :‬وقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْب ُ‬
‫ثم يُدلّل الحق سبحانه وتعالى با َ‬
‫يوجد يحيى من شيء أقلّ غرابة من أن أوجد من لشيء‪ .‬ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالَ َربّ‬
‫جعَل لِي آ َيةً }‬
‫اْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2243 /‬‬

‫سوِيّا (‪)10‬‬
‫ج َعلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَ ُتكَ أَلّا ُتكَلّمَ النّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ َ‬
‫قَالَ َربّ ا ْ‬

‫(آية) أي‪ :‬علمة على أن امرأته قد حملتْ في يحيى‪ ،‬وكأن زكريا عليه السلم يتعجل المور ول‬
‫ظلّ هذه النعمة‪ ،‬وكأنها واقع ل ينفكّ لسانه‬
‫صبرَ له طوال تسعة أشهر‪ ،‬بل يريد أن يعيش في ِ‬
‫حامدا شاكرا عليها‪ ،‬وتظل النعمة في باله رغم أن ولده ما يزال جنينا في بطن أمه‪.‬‬
‫سوِيّا } [مريم‪ ]10 :‬علمتك َألّ ُتكَلّم الناس ثلث‬
‫لثَ لَيَالٍ َ‬
‫فيجيبه ربه‪ { :‬آيَ ُتكَ َألّ ُتكَلّمَ النّاسَ ثَ َ‬
‫ليال و(أَلّ) ليست للنهي عن الكلم‪ ،‬بل هي إخبار عن حالة ستحدث له دون إرادته‪ ،‬فل يكلم‬
‫الناس مع سلمة جوارحه ودون عِلّة تمنعه من الكلم‪ ،‬كخرس أو غيره‪.‬‬
‫سوِيّا } [مريم‪ ]10 :‬أي‪ :‬سليما مُعاَفىً‪ ،‬سويّ التكوين‪ ،‬ل نقص فيك‪ ،‬ول‬
‫لثَ لَيَالٍ َ‬
‫لذلك قال‪ { :‬ثَ َ‬
‫قصور في جارحة من جوارحك‪ .‬وهكذا ل يكون عدم الكلم عَيْبا‪ ،‬بل آية من آيات ال‪.‬‬
‫ي وأمر شرعي‪ ،‬المر الكونيّ هو ما يكون وليس لك فيه اختيار في ألّ‬
‫وهناك فَرْق بين أمر كون ّ‬
‫يكون‪ ،‬والمر الشرعيّ ما لك فيه اختيار من الممكن أن تطعيه فتكون طائعا‪ ،‬أو تعصيه فتكون‬
‫عاصيا‪.‬‬
‫وهذا الذي حدث لزكريا أمر كوني‪ ،‬وآية من ال ل اختيار له فيها‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يعطينا‬
‫الدليل على أنه يوجد مِنْ ل مظنّة أسباب‪ ،‬وقد يبقي السباب سليمة صالحة ول يظهر المسبّب‪،‬‬
‫فاللسان هنا موجود‪ ،‬وآلت النطق سليمة‪ ،‬ولكنه ل يقدر على الكلم‪.‬‬
‫فتأمل طلقة القدرة‪ ،‬فقد شاء سبحانه لزكريا الولد بغير أسباب‪ ،‬وهنا منع مع وجود السباب‪ ،‬فكل‬
‫اليتين سواء في قدرته تعالى ومشيئته‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬فخَرَجَ عَلَىا َق ْومِهِ }‬

‫(‪)2244 /‬‬

‫فَخَرَجَ عَلَى َق ْومِهِ مِنَ ا ْل ِمحْرَابِ فََأ ْوحَى إِلَ ْي ِهمْ أَنْ سَبّحُوا ُبكْ َر ًة وَعَشِيّا (‪)11‬‬

‫إذن‪ :‬حدثتْ هذه المسألة لزكريا وهو في (المحرَابِ) أي‪ :‬مكان العبادة والصلة‪ ،‬وعاد ًة ما يكون‬
‫مرتفعا على شرف عما حوله‪ ،‬وكان مصلى النبياء والصالحين‪ ،‬وسُمي محرابا لنه يحارب فيه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الشيطان بكيْده ووسوسته‪ .‬وقد ذُكر المحراب أيضا في قصة داود عليه السلم‪ {:‬وَ َهلْ أَتَاكَ نَبَأُ‬
‫سوّرُواْ ا ْل ِمحْرَابَ }[ص‪.]21 :‬‬
‫صمِ إِذْ َت َ‬
‫خ ْ‬
‫الْ َ‬
‫وقد وردتْ هذه اللقطة من قصة زكريا عليه السلم في آية أخرى دَّلتْ أيضا على أن البشارة‬
‫بيحيى كانت وهو في محرابه‪ ،‬حيث قال تعالى‪ {:‬فَنَادَ ْتهُ ا ْلمَل ِئكَ ُة وَ ُهوَ قَائِمٌ ُيصَلّي فِي ا ْلمِحْرَابِ أَنّ‬
‫اللّهَ يُ َبشّ ُركَ بِيَحْيَـىا ُمصَدّقا }[آل عمران‪.]39 :‬‬
‫ي ومعنى شرعي‪ ،‬الوحي‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فََأوْحَىا إِلَ ْيهِمْ } [مريم‪ ]11 :‬قلنا‪ :‬إن الوَحْي له معنى ُلغَو ّ‬
‫لُغةً‪ :‬الخبار بطريق خفيّ‪ .‬وعلى هذا المعنى يأتي الوحي بطرق متعددة‪ ،‬فال تعالى يُوحِي للرسل‬
‫والنبياء‪ ،‬ويُوحي لغير الرسل من المصطفين‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأمّ مُوسَىا أَنْ‬
‫ضعِيهِ }[القصص‪ ]7 :‬أي‪ :‬أخبرها بطريق خفيّ‪ ،‬هو طريق اللهام‪.‬‬
‫أَ ْر ِ‬
‫ويُوحِي إلى الملئكة‪ {:‬إِذْ يُوحِي رَ ّبكَ ِإلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ }[النفال‪.]12 :‬‬
‫حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي }[المائدة‪:‬‬
‫ويُوحِي للصالحين من أتباع الرسل‪ {:‬وَِإذْ َأوْحَ ْيتُ إِلَى الْ َ‬
‫‪.]111‬‬
‫حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتا َومِنَ‬
‫ويتعدّى العلم بخفاء إلى الحشرات‪ {:‬وََأوْحَىا رَ ّبكَ ِإلَىا النّ ْ‬
‫الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْ ِرشُونَ }[النحل‪.]68 :‬‬
‫ت الَ ْرضُ‬
‫ج ِ‬
‫بل يتعدّى الوحي إلى الجماد في قوله تعالى‪ {:‬إِذَا ُزلْزَِلتِ الَ ْرضُ زِلْزَاَلهَا * وََأخْرَ َ‬
‫ل الِنسَانُ مَا َلهَا * َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ َأخْبَارَهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة‪1 :‬ـ ‪.]5‬‬
‫أَ ْثقَاَلهَا * َوقَا َ‬
‫ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َق ْولِ غُرُورا }‬
‫وقد يُوحي الشياطين بعضهم إلى بعض‪ {:‬يُوحِي َب ْع ُ‬
‫[النعام‪.]112 :‬‬
‫ويُوحون إلى أوليائهم‪ {:‬وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُمْ }[النعام‪ ]121 :‬لن‬
‫الشيطان ل يأتي النسان إل بطريق خفيّ‪ ،‬ووسوسة في خواطره‪.‬‬
‫أما الوحي الشرعي فهو إعلم من ال وحده إلى نبي يدّعي النبوة ومعه معجزة‪ ،‬إذن فالوحي‪:‬‬
‫إعلم خفيّ من ال للرسول‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬فََأوْحَىا إِلَ ْيهِمْ } [مريم‪ ]11 :‬أي‪ :‬قال لهم بطريق الشارة؛ لنه ل يتكلم { أَن‬
‫سَبّحُواْ ُبكْ َر ًة وَعَشِيّا } [مريم‪ ]11 :‬بُكرة‪ :‬أول النهار‪ ،‬وعَشيا‪ :‬آخره‪ ،‬يعني‪ :‬طوّقوا النهار بالتسبيح‬
‫بداية ونهاية‪ .‬وكأن زكريا عليه السلم قد بدتْ عليه علمات الفرح والنبساط بالبُشْرى‪ ،‬ورأى أن‬
‫شكْره ل وتسبيحه ل ينهض بهذه النعمة‪ ،‬فأمر قومه أنْ يُسبّحوا ال معه‪ ،‬ويشكروه معه على هذه‬
‫ُ‬
‫النعمة؛ لنها ل تخصّه وحده‪ ،‬بل هي عامة لكل القوم‪.‬‬
‫خذِ ا ْلكِتَابَ }‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬يا َيحْيَىا ُ‬

‫(‪)2245 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكْمَ صَبِيّا (‪)12‬‬
‫يَا يَحْيَى خُذِ ا ْلكِتَابَ ِب ُق ّوةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْ ُ‬

‫نلحظ أن الية الكريمة انتقلتْ بنا َنقْلة واسعة‪ ،‬وط َوتْ فترة طويلة من حياة يحيى ـ عليه السلم‬
‫ـ فقد كان السياق يتحدث عنه وهو بُشْرى لوالده‪ ،‬وهو ما يزال في بطن أمه جنينا‪ ،‬وفجأة‬
‫يخاطبه وكأنه أصبح أمرا واقعا‪ { :‬يايَحْيَىا خُذِ ا ْلكِتَابَ ِب ُق ّوةٍ } [مريم‪ ]12 :‬فقد بلغ مبلغ الّنضْج‪،‬‬
‫وأصبح أهْلً لحمْل مهمة الدعوة‪ ،‬إذن‪ :‬المسألة مأخوذة مأخَذ الجدّ‪ ،‬وهي حقيقة واقعة‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬خُذِ ا ْلكِتَابَ } [مريم‪ ]12 :‬أي‪ :‬التوراة‪ ،‬وفيها منهج ال الذي يُنظّم لهم حركة حياتهم‬
‫حفْظه وحِرْص على العمل به؛ لن العلم السماوي والمنهج‬
‫{ ِب ُق ّوةٍ } [مريم‪ ]12 :‬أي‪ :‬بأخلص في ِ‬
‫اللهي الذي جاءكم في التوراة ليس المراد أن تعلمه فقط بل وتعمل به‪.‬‬
‫ح ِملُ‬
‫حمَارِ َي ْ‬
‫حمِلُوهَا َكمَ َثلِ الْ ِ‬
‫حمّلُواْ ال ّتوْرَاةَ ُثمّ َلمْ يَ ْ‬
‫وإل فقد قال تعالى في بني إسرائيل‪ {:‬مَ َثلُ الّذِينَ ُ‬
‫حمّلهم ال التوراة‪ ،‬فلم يحملوها ولم يعملوا بها‪.‬‬
‫سفَارا }[الجمعة‪ ]5 :‬فقد َ‬
‫أَ ْ‬
‫خذْ مثلً سفينة الفضاء التي‬
‫والقوة‪ :‬هي الطاقة الفاعلة التي تدير دولب الحياة حركةً وسكونا‪ ،‬و ُ‬
‫تنطلق إلى الفضاء الخارجي‪ ،‬وتظل تدور فيه عدة سنوات وتتساءل‪ :‬من أين لها بالوقود الذي‬
‫يُحرّكها طوال هذه المدة؟ والحقيقة أنها ل تحتاج‪:‬إلى وقود إل بمقدار ما يُخرِجها من مدار‬
‫الجاذبية الرضية‪ ،‬فإذا ما خرجت من نطاق الجاذبية وهي متحركة تظل متحركة ول تتوقف إل‬
‫بقوة توقفها‪ ،‬وكذلك الساكن يظل ساكنا إلى أنْ تأتيَ قوة تحركه‪.‬‬
‫سكِن المتحرك وتصده‪ ،‬ومن ذلك ما نراه في السكك الحديدية‬
‫إذن‪ :‬القوة إمّا أنْ تُحرّك الساكن أو تُ ْ‬
‫من مصدّات تُوقِف القطارات؛ لنك إنْ أردتَ أن توقف القطار تمنع عنه الوقود‪ ،‬لكن يظل به قوة‬
‫دفع تحركه تحتاج إلى قوة معاكسة توقفه‪ ،‬وهذا ما يسمونه قانون العطالة‪ .‬يعني‪ :‬إن كان الشيء‬
‫متحركا فيحتاج إلى قوة توقفه‪ ،‬وإن كان ساكنا يحتاج إلى قوة تحركه‪.‬‬
‫ومن ذلك قانون القصور الذاتي الذي تعلمناه في المدارس‪ ،‬وتلحظه إذا تحركتْ بك السيارة تجد‬
‫ن توقفتْ السيارة تحرّك جسمك‬
‫أن جسمك يندفع للخلف؛ لنها تحركتْ للمام وأنت ساكن‪ ،‬فإ ْ‬
‫للمام لنها توقفت وأنت متحرك‪ .‬إذن‪ :‬هذه الشياء التي تتحرك في الكون أو الساكنة نتيجة قوة‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬خُذِ ا ْلكِتَابَ ِب ُق ّوةٍ } [مريم‪ ]12 :‬لن الكتاب فيه أوامر وفيه َنوَاهٍ‪ ،‬يأمر بالخير‬
‫وينهاك عن الشر‪ ،‬فإنْ أمركَ بالخير وأنت ل تفعله تحتاج إلى قوة َدفْع تدفعك إلى الخير‪ ،‬وكأنك‬
‫كنتَ ساكنا تحتاج إلى قوة تحركك‪ ،‬وإنْ نهاك عن الشر وأنت تفعله فأنت في حاجة إلى قوة‬
‫تمنعك وتوقف حركتك في الشر‪ .‬والمنهج هو هذه القوة التي تُحرّكك إلى الخير وأنت ساكن‪،‬‬
‫وتُسكنك عن الشر وأنت متحرك‪.‬‬
‫ح ْك َم صَبِيّا } [مريم‪ ]12 :‬الحكم‪ :‬العلم والفهم للتوراة‪ ،‬أو الطاعة‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَآتَيْنَاهُ الْ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن مبكرة؛ لن المسألة عطاء من ال ل يخضع للسباب‪،‬‬
‫والعبادة‪ { ،‬صَبِيّا } [مريم‪ ]12 :‬في سِ ّ‬
‫فجاء يحيى عليه السلم مُبكّر النضج والذكاء‪ ،‬يفوق أقرانه‪ ،‬ويسبق زمانه‪ ،‬وقد أُثِر عنه وهو‬
‫صغير أنْ دعاه أقرانه للعب فقال لهم‪ " :‬ما للعب خُِلقْنا "‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪َ { :‬وحَنَانا مّن لّدُنّا }‬

‫(‪)2246 /‬‬

‫وَحَنَانًا مِنْ َلدُنّا وَ َزكَاةً َوكَانَ َتقِيّا (‪)13‬‬

‫ولن يحيى جاء إلى الدنيا حال كِبَر وضعف والديه‪ ،‬وهو كطفل يحتاج مَنْ يشمله بالعطف‬
‫والحنان‪ ،‬ويُعوّضه حنان الوالدين‪ ،‬ويحتاج إلى مَنْ يُعلّمه ويُربّيه؛ لذلك تولّى الحق سبحانه وتعالى‬
‫هذه المهمة‪ ،‬فهو سبحانه خالقه ومُسمّيه ومُتولّيه فوهبه حنانا منه سبحانه { مّن لّدُنّا } [مريم‪]13 :‬‬
‫من عندنا؛ لن طاقة الحنان عند الوالدين قد نضبتْ‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَ َزكَاةً } [مريم‪ ]13 :‬أي‪ :‬طهارة من الذنوب وصفا َء نفْسٍ وبركة‪ ،‬وهذه كلها نتيجة‬
‫التربية اللهية بمنهج ال الذي يرسم له حركته في الحياة‪ :‬افعل كذا ول تفعل كذا‪.‬‬
‫{ َوكَانَ َتقِيّا } [مريم‪ ]13 :‬أي‪ :‬استجاب لهذا الحنان‪ ،‬وأثمرت فيه هذه التربية فكان تقيا‪ ،‬أي‪ :‬مُنفذا‬
‫لوامر ال مُجتنبا لنواهيه‪ ،‬وبذلك وقَى نفسه من صفات الجلل من ال تعالى‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما تتقيه مانعا يحميك ويبعدك عن إيذائه‪ ،‬فنقول‪ :‬اتقِ ال‬
‫واتقِ النار‪ ،‬كيف ذلك ونحن نريد أن نصل إلى معيته سبحانه؟‬
‫نقول‪ :‬اتق ال أي‪ :‬اجعل بينك وبين صفات جلله وجبروته وقايةً تحميك من جبروته وجباريته‬
‫وقهره‪ ،‬فلسْت مطيقا لدنى شيء من العذاب‪ ،‬والنار من جنود ال ومظهر من مظاهر قهره‪،‬‬
‫فاتقاء النار جزء من اتقاء ال‪ ،‬والوقاية التي تحميك من صفات الجبروت والجلل هي الطاعة‬
‫بامتثال الوامر والنواهي‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَبَرّا ِبوَاِلدَيْ ِه وَلَمْ َيكُن }‬

‫(‪)2247 /‬‬

‫عصِيّا (‪)14‬‬
‫وَبَرّا ِبوَالِدَيْ ِه وََلمْ َيكُنْ جَبّارًا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فرغم أن يحيى عليه السلم جاء أبويْه في حال كِبَرهما وضعفهما‪ ،‬ولم يجد منهما الحنان الكافي‬
‫والتربية المناسبة‪ ،‬ولم يشعر معهما بالُبوة الكاملة‪ ،‬فكان دورهما في حياته ثانويا‪ ،‬وحمايلهم عليه‬
‫عصِيّا‬
‫باهتة متواضعة‪ ،‬مع هذا كله كان بارا بهما حانيا عليهما‪ .‬وقال عنه أيضا‪ { :‬وَلَمْ َيكُن جَبّارا َ‬
‫} [مريم‪.]14 :‬‬
‫وصفة الجبروت وصفة العصيان ل يُتصوّران من الولد على والديه‪ ،‬إل حين يرى من أبيه‬
‫شرودا عنه وانصرافا عن رعايته‪ ،‬وحين يرى من أمه انشغالً عن تربيته‪ ،‬فهي تاركة له غير‬
‫مُراعية لحقه‪.‬‬
‫لذلك نرى صورا من هذا الجبروت ومن هذا العصيان‪ ،‬ونسمع مَنْ يقسو على أمه وعلى أبيه؛‬
‫لنه لم يجد منهما العطف والحنان والرعاية‪ ،‬فتقعطتْ بينهما أواصر البوة‪ .‬ويبدو أن زكريا حكى‬
‫ي تقصير‪ ،‬فكان بهما بارا‬
‫لولده ما حدث‪ ،‬وقصّ عليه ِقصّته‪ ،‬فتفهّم الولد دور والديه ونفى عنهما أ ّ‬
‫رحيما‪ ،‬ولهما طائعا متواضعا‪.‬‬
‫لمٌ عَلَيْهِ َيوْ َم وُلِدَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَسَ َ‬

‫(‪)2248 /‬‬

‫ت وَ َيوْمَ يُ ْب َعثُ حَيّا (‪)15‬‬


‫وَسَلَامٌ عَلَ ْيهِ َيوْ َم وُلِدَ وَيَوْمَ َيمُو ُ‬

‫خصّه ال بالسلم يوم‬


‫هذه مسائل ثلث ُتعَدّ أعلم حياة للنسان‪ :‬الميلد‪ ،‬والموت‪ ،‬والبعث‪ .‬وقد َ‬
‫مولده؛ لنه وُلِد على غير العادة في الميلد فُأمّه عاقر أسنتْ‪ ،‬ومع ذلك لم تتعرض للسنة الناس‬
‫ولم يعترض أحد على ولدتها‪ ،‬وهي على هذا الوصف‪ ،‬فلم يتجرأ أحد عليها؛ لن ما حدث لها‬
‫كان آيةً من آيات ال وقد بشّر ال بها زكريا لتكون البُشْرى إعدادا ومقدمة لهذا الحدث العجيب‪.‬‬
‫خصّه بالسلم يوم يموت؛ لنه سيموت شهيدا‪ ،‬والشهادة غير الموت‪ ،‬الشهادة تعطيه حياة‬
‫وَ‬
‫خصّه بالسلم يوم القيامة يوم يُبعث حيّا‪.‬‬
‫موصولةً بالحياة البدية الخالدة‪ .‬وكذلك َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ }‬

‫(‪)2249 /‬‬

‫وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مَرْ َيمَ إِذِ انْتَبَ َذتْ مِنْ أَهِْلهَا َمكَانًا شَ ْرقِيّا (‪)16‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقصة مريم في واقع المر كانت قبل قصة زكريا ويحيى؛ لن طلب زكريا للولد جاء نتيجة لما‬
‫سمعه من مريم حين سألها عن طعام عندها لم ي ْأتِ به‪ ،‬وهو كافلها ومُتولّي أمرها‪ ،‬فتعجب أنْ‬
‫يرى عندها رِزْقا لم يحمله إليها‪ ،‬وهي مقيمة على عبادتها في محرابها‪ ،‬فقال لها‪ {:‬يامَرْيَمُ أَنّىا َلكِ‬
‫هَـاذَا قَاَلتْ ُهوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران‪.]37 :‬‬
‫وكأن هذا أول بداية قانون‪ :‬من أين لك هذا؟ لكن عطاءه تعالى ل يخضع للسباب‪ ،‬بل هو سبحانه‬
‫يرزق مَنْ يشاء متى شاء وبغير حساب‪.‬‬
‫طقَ مريم بهذه المقولة‪ {:‬إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران‪:‬‬
‫وشاءتْ إرادة ال أن تن ِ‬
‫حمْل من غير‬
‫‪ ]37‬لنها ستُنبّه زكريا إلى شيء‪ ،‬وستحتاجها أيضا مريم فيما بعد حينما تشعر بال َ‬
‫َزوْج‪ ،‬فلن تعترض على هذا الوضع‪ ،‬وستعلم أنه عطاءٌ من ال‪.‬‬
‫سعَة رحمته‪ ،‬وهذا أمر ل يغيب‬
‫وكذلك نبّهتْ هذه الية زكريا ـ عليه السلم ـ إلى َفضْل ال و ِ‬
‫عن نبي ال‪ ،‬ولكن هناك قضايا في النفس البشرية إل أنها بعيدة عن ُبؤْرة الشعور وبعيدة عن‬
‫الهتمام‪ ،‬فإذا ما ُذكّر بها انتبه إليها؛ لذلك يقول الحق ـ سبحانه وتعالى‪ {:‬هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ }‬
‫[آل عمران‪.]38 :‬‬
‫فما دام أن ال يرزق مَنْ يشاء بغير حساب‪ ،‬فلماذا ل أدعو ال بولد صالح يحمل أمر الدعوة من‬
‫بعدي‪ ،‬وطالما أن الرزق بغير حساب فلن يمعنه كِبَر السّنّ أو ال ُعقْم أو خلفه‪.‬‬
‫حتْ لزكريا بهذا الدعاء‪ ،‬واستجاب ال لزكريا ورزقه يحيى؛ ليكون ذلك‬
‫إذن‪ :‬فمريم هي التي أو َ‬
‫حمْلها‪ ،‬وتردّ هذه المسألة إلىأن ال يرزق مَنْ يشاء بغير‬
‫مقدمة وتمهيدا لمريم‪ ،‬فل تنزعج من َ‬
‫حساب‪ ،‬وليكون ذلك إيناسا لنفسها واطمئنانا‪ ،‬وإلّ فمن الممكن أن تلعبَ بها الظنون وتنتابها‬
‫الشكوك‪ ،‬وتتصور أن هذا الحمْل نتيجة شيء حدث لم تشعر به‪ ،‬أو كانت نائمة مثلً‪.‬‬
‫لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقطع عنها كل هذه الشكوك‪ ،‬ويعطيها مقدمة تراها وتعايشها بنفسها‬
‫حمْل زوجة زكريا وهي عاقر ل تلِد‪.‬‬
‫في طعام لم يَ ْأتِ به أحد إليها‪ ،‬وفي َ‬
‫قوله تعالى‪ { :‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مَرْيَمَ } [مريم‪ ]16 :‬الكتاب هو القرآن الكريم‪ ،‬أي‪ :‬اذكُر يا محمد‬
‫في كتاب ال الذي أوحاه إليك مما تذكر قصة مريم‪ ،‬وقد سبق الحديث عن هذه القصة في سورة‬
‫(آل عمران) لما تكلم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ عن نَذْر أمها لما في بطنها لخدمة بيت المقدس‪،‬‬
‫ولم يكن يصلح لخدمة بيت المقدس إل الذكْران الذين يتحمّلون مشقة هذا العمل‪ ،‬فلما وضعْتها أنثى‬
‫لم يوافق ظنّها إرادة ال‪ ،‬ولم تستطع مريم خدمة البيت مكانا أفرغتْ نفسها لخدمته قِيما‪ ،‬ودينا‬
‫حمْلً‪ ،‬حتى إنها هجرتْ أهلها وذهبت إلى هذا المكان الذي اتخذته خُلْوة لها‬
‫حملتْ نفسها عليه َ‬
‫لعبادة ال بعيدا عن أعيُنِ الناس‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ختَ هَارُونَ }[مريم‪ ]28 :‬ولذلك حدث‬
‫ومريم هي ابنة عمران‪ ،‬وقد قال القرآن في خطابها‪ {:‬ياأُ ْ‬
‫لَبْسٌ عند كثير من الناس‪ ،‬فظنوها أخت نبي ال موسى بن عمران وأخت هارون أخي موسى‬
‫عليهما السلم‪.‬‬
‫والحقيقة أن هذه المسألة جاءتْ مصادفة اتفقتْ فيها السماء؛ لذلك لما ذهب بعض الصحابة إلى‬
‫اليمن قال لهم أهلها‪ :‬إنكم تقولون‪ :‬إن مريم هي أخت موسى وهارون‪ ،‬مع أن بين مريم وعمران‬
‫أبي موسى أحد عشر جيلً!!‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أما ذكرتُمْ لهم أن الناس كانوا يتفاءلون بذكِر السماء‬
‫خاصة النبياء فيُسمّون على أسمائهم عمران ويسمون على أسمائهم هارون "‪.‬‬
‫حتى ذكروا أنهم في جنازة بعض العلماء سار فيها أربعة آلف رجل اسمهم هارون‪ .‬إذن‪:‬‬
‫فالسماء هنا مصادفة‪ ،‬فهي ابنة عمران‪ ،‬لكن ليس أبا موسى‪ ،‬وأخت هارون‪ ،‬لكن ليس هو أخو‬
‫موسى‪.‬‬
‫وقد أفرد القرآن سورة كاملة باسم مريم وخصّها وشخّصها باسمها واسم أبيها‪ ،‬وسبق أنْ أوضحنا‬
‫أن التشخيص في قصة مريم جاء لنها فذّة ومُفردة بين نساء العالم بشيء ل يحدث ولن يحدث إل‬
‫لها‪ ،‬فهذا أمر شخصي لن يتكرر في واحدة أخرى من بنات حواء‪.‬‬
‫أما إنْ كان المر عاما يصح أنْ يتكرّر فتأتي القصة دون تشخيص‪ ،‬كما في حديث القرآن عن‬
‫زوجة نوح وزوجة لوط كمثال للكفر‪ ،‬وهما زوجتان لنبيين كريمين‪ ،‬وعن زوجة فرعون كمثال‬
‫عقْر داره‪ ،‬فالمراد هنا ليس الشخاص‪ ،‬بل المراد بيان حرية‬
‫لليمان الذي قام في بيت الكفر وفي ُ‬
‫العقيدة‪ ،‬وأن المرأة لها في السلم حريةٌ عقدية مستقلة ذاتية‪ ،‬وأنها غيرُ تابعة في عقيدتها لحد‪،‬‬
‫سواء أكانت زوجة نبي أم زوجة إمام من أئمة الكفر‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬إِذِ انتَ َب َذتْ مِنْ أَهِْلهَا َمكَانا شَ ْرقِيا { [مريم‪.]16 :‬‬
‫} انتَ َب َذتْ مِنْ أَهِْلهَا { [مريم‪ ]16 :‬أي‪ :‬ابتعدتْ عنهم‪ ،‬من نبذ الشيء عنه أي أبعده‪ ،‬فكأن أُنْسها ل‬
‫بالهل‪ ،‬ولكن أُنْسها كان برب الهل‪ ،‬والقرآن يقول‪ } :‬مِنْ َأهِْلهَا { [مريم‪ ]16 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬من‬
‫الناس‪ ،‬فقد تركتْ مريم أقرب الناس إليها وأحبّهم عندها وذهبت‪ ،‬إلى هذا المكان‪.‬‬
‫} َمكَانا شَ ْرقِيا { [مريم‪ ]16 :‬لكن شرقيّ أيّ شيء؟ فكل مكان يصح أن يكون شرقيا‪ ،‬ويصح أن‬
‫يكون غربيا‪ ،‬فهي ـ إذن ـ كلمة دائرة في كل مكان‪ .‬لكن هناك عَلَم بارز في هذا المكان‪ ،‬هو‬
‫بيت المقدس‪ ،‬فالمراد إذن‪ :‬شرقي بيت المقدس‪ ،‬وقد جاء ابتعادها عن أهلها إلى هذا المكان‬
‫المقدس لتتفرغ للعبادة ولخدمة هذا المكان‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا اختارتْ الجهة الشرقية من بيت المقدس بالذات دون غيرها من الجهات؟ قالوا‪ :‬لنهم‬
‫سمَة النور المادىْ الذي يسير الناس على هُدَاه فل يتعثرون‪،‬‬
‫كانوا يتفاءلون بشروق الشمس‪ ،‬لنها ِ‬
‫وللنسان في سَيْره نوران‪ :‬نور مادىّ من الشمس أو القمر أو النجوم والمصابيح‪ ،‬وهو النور الذي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يظهر له الشياء من حوله‪ ،‬فل تصطدم بما هو أقوى منه فيحطمك ول بأضعف منه فتحطمه‪.‬‬
‫وكذلك له نور من منهج ال يهديه في مسائل القيم‪ ،‬حتى ل يتخبّط تائها بين دُروبها‪ ،‬ومن ذلك‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }[النور‪ ]35 :‬ثم يقول بعدها‪ {:‬نّورٌ عَلَىا نُورٍ }[النور‪:‬‬
‫قوله تعالى‪ {:‬اللّهُ نُورُ ال ّ‬
‫‪.]35‬‬
‫أي‪ :‬نور السماء الذي ينزل بالوحي لهداية الناس‪.‬‬

‫(‪)2250 /‬‬

‫سوِيّا (‪)17‬‬
‫حجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَ ْيهَا رُوحَنَا فَ َتمَ ّثلَ َلهَا بَشَرًا َ‬
‫خ َذتْ مِنْ دُو ِنهِمْ ِ‬
‫فَاتّ َ‬

‫الحجاب‪ :‬هو الساتر الذي يحجب النسان عن غيره ويحجب غيره عنه‪ ،‬فما فائدة أنْ تتخذ بينها‬
‫وبين أهلها سِتْرا بعد أن ابتعدتْ عنهم؟ نقول‪ :‬انتبذتْ من أهلها مكانا بعيدا‪ ،‬هذا في المكان‪ ،‬إنما ل‬
‫ن يكونَ هناك مكينٌ آخر يسترها حتى ل يطّلع عليها أحد‪ ،‬فهناك إذن مكان ومكين‪.‬‬
‫يمنع أ ْ‬
‫والحجاب قد يكون حجابا ُمفْردا فهو ساتر فقط‪ ،‬وقد يكون حجابا مستورا بحجاب غيره‪ ،‬فهو‬
‫حجاب مُركّب‪ ،‬كما يصنع أهل الترف الن الستائر من طبقتين‪ ،‬إحداهما تستر الخرى‪ ،‬فيكون‬
‫ن لَ‬
‫ك وَبَيْنَ الّذِي َ‬
‫جعَلْنَا بَيْ َن َ‬
‫الحجاب نفسه مَسْتورا‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬وَِإذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرآنَ َ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ حِجَابا مّسْتُورا }[السراء‪.]45 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَأَرْسَلْنَآ إِلَ ْيهَآ رُوحَنَا } [مريم‪.]17 :‬‬
‫كلمة الروح في القرآن الكريم لها إطلقات مُتعدّدة‪ ،‬أولها الروح التي بها قِوام حياتنا المادية‪ ،‬فإذا‬
‫س والحركة‪ ،‬ودارت كل أجهزة الجسم‪ ،‬وهذا‬
‫نفخَ ال الروح في المادة د ّبتْ فيها الحياة والحِ ّ‬
‫المعنى في قوله تعالى‪:‬‬
‫ختُ فِيهِ مِن رّوحِي َف َقعُواْ َلهُ سَاجِدِينَ }[الحجر‪.]29 :‬‬
‫سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ‬
‫{ فَِإذَا َ‬
‫لكن‪ ،‬هل هذه الحياة التي تسري في المادة بروح من ال هي الحياة المقصودة من خَلْق ال للخَلْق؟‬
‫قالوا‪ :‬إنْ كانت هذه الحياة هي المقصودة فما أهونها؛ لن النسان قد يمرّ بها ويموت بعد ساعة‪،‬‬
‫أو بعد يوم‪ ،‬أو بعد سنة‪ ،‬أو عدة سنوات‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هي حياة قصيرة حقيرة هيّنة‪ ،‬هي أقرب إلى حياة الديدان والهوام‪ ،‬أما النسان الذي كرّمه‬
‫ال وخلق الكون من أجله فل بُدّ أن تكون له حياة أخرى تناسب تكريمَ ال له‪ ،‬هذه الحياة الخرى‬
‫الدائمة الباقية يقول عنها القرآن‪ {:‬وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت‪:‬‬
‫‪.]64‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ } أي‪ :‬الحياة الحقيقية‪ ،‬أما حياتك الدنيا فهي مُهدّدة بالموت حتى لو بلغتَ من الكبر‬
‫عتيا‪ ،‬فنهايتك إلى الموت‪ ،‬فإنْ أردتَ الحياة الحقيقية التي ل يُهدّدها موت فهي في الخرة‪.‬‬
‫فإذا كان الخالق ـ تبارك وتعالى ـ جعل لك روحا في الدنيا تتحرك بها وتناسب ُمدّة بقائك فيها‪،‬‬
‫ألَ يجعل لك في الخرة رُوحا تناسبها‪ ،‬تناسب بقاءها وسَرْمديتها‪ ،‬والقرآن حينما يتحدث عن هذه‬
‫الروح يقول للناس‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ }[النفال‪]24 :‬‬
‫فكيف يدعوهم لما يُحييهم ويُخاطبهم وهم أحياء؟ نعم‪ ،‬هم أحياء الحياة الدنيا‪ ،‬لكنه يدعوهم إلى‬
‫حياة أخرى دائمة باقية‪ ،‬أما مَنْ لم يستجب لهذا النداء ويسعى لهذه الحياة فلن يأخذ إل هذه الحياة‬
‫القصيرة الفانية التي ل بقاءَ لها‪.‬‬
‫وكما سمّى ال السّرّ الذي ينفخه في المادة فتدبّ فيها الحركة والحياة " روحا " ‪ ،‬كذلك سمّى القيم‬
‫التي تحيا بها النفوس حياة سعيدة " روحا " ‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬

‫{ َوكَذَِلكَ َأ ْوحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا }[الشورى‪ ]52 :‬أي‪ :‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫لمِينُ }[الشعراء‪ ]193 :‬وهو جبريل‬
‫حاَ‬
‫سمّى الملَك الذي ينزل بالروح رُوحا‪ {:‬نَ َزلَ ِبهِ الرّو ُ‬
‫كما َ‬
‫عليه السلم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقوله تعالى‪ } :‬فَأَرْسَلْنَآ إِلَ ْيهَآ رُوحَنَا { [مريم‪ ]17 :‬أي‪ :‬جبريل عليه السلم‪ } .‬فَ َتمَ ّثلَ َلهَا بَشَرا‬
‫سوِيّا { [مريم‪ ]17 :‬معنى تمثّل‪ :‬أي‪ :‬ليستْ هذه حقيقته‪ ،‬إنه تمثّل بها‪ ،‬أما حقيقته فنورانية ذات‬
‫َ‬
‫صفات أخرى‪ ،‬وذات أجنحة مَثْنى وثُلَث ورُبَاع‪ ،‬فلماذا ـ إذن ـ جاء المَلكُ مريمَ في صورة‬
‫بشرية؟‬
‫خفْية‪ ،‬وكذلك يستحيل أنْ يلتقيَ المَلكُ بملكتيه مع‬
‫لنهما سيلتقيان‪ ،‬ول يمكن أنْ يتمّ هذا اللقاء ُ‬
‫ن يتصوّر‬
‫البشر ببشريته‪ ،‬فلكل منهما قانونه الخاص الذي ل يناسب الخر‪ ،‬ولبُدّ في لقائهما أ ْ‬
‫الملَك في صورة بشر‪ ،‬أو يُرقّى البشر إلى صفات الملئكة‪ ،‬كما رُقي محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫إلى صفات الملئكة في حادثة السراء والمعراج‪ ،‬ول يتم اللتقاء بين الجنسين إل بهذا التقارب‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬لما طلب الكفار أن يكون الرسول ملَكا َردّ عليهم الحق تبارك وتعالى‪ {:‬قُل َلوْ كَانَ فِي‬
‫سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء‪.]95 :‬‬
‫طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ‬
‫الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َي ْمشُونَ ُم ْ‬
‫جعَلْنَاهُ َرجُلً وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا َيلْبِسُونَ }[النعام‪ ]9 :‬إذن‪ :‬ل يمكن أن‬
‫جعَلْنَاهُ مَلَكا لّ َ‬
‫وقال‪ {:‬وََلوْ َ‬
‫يلتقي المَلكُ بالبشر إل بهذا التقارب‪.‬‬
‫جاء جبريل ـ عليه السلم ـ إلى مريم في صورة بشرية لتأنس به‪ ،‬ول تفزع إنْ رأتْه على‬
‫سوِيّا { [مريم‪.]17 :‬‬
‫صورته الملئكية } فَ َتمَ ّثلَ َلهَا بَشَرا { [مريم‪ ]17 :‬أي‪ :‬من جنسها } َ‬
‫ت أعضاؤه وتناسقتْ على أجمل ما يكون البشر‪ ،‬فل‬
‫أي‪ :‬سويّ الخِلْقة والتكوين‪ ،‬وسيما‪ ،‬قد انسجم ْ‬
‫يعيبه كِبَر جبهته أو أنفه أو فمه‪ ،‬كما نرى في بعض الناس‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذا كله ليناس مريم وطمأنينتها‪ ،‬وأيضا ليثبت أنها العذراء العفيفة؛ لنها لما رأت هذا الفتى‬
‫الوسيم القَسِيم ما أبدتْ له إعجابا ول تلطفتْ إليه في الحديث‪ ،‬ول نطقتْ بكلمة واحدة يُفهَم منها‬
‫حمَـانِ {‬
‫مَيْل إليه‪ ،‬بل قالت كما حكى القرآن‪ } :‬قَاَلتْ إِنّي أَعُوذُ بِالرّ ْ‬

‫(‪)2251 /‬‬

‫حمَنِ مِ ْنكَ إِنْ كُ ْنتَ َتقِيّا (‪)18‬‬


‫قَاَلتْ إِنّي أَعُوذُ بِالرّ ْ‬

‫عفّتها وطهارتها واستقامتها‬


‫فلم تُظهِر له إعجابا‪ ،‬ول مالتْ إليه بكلمة واحدة‪ ،‬وهذا دليل على ِ‬
‫والتزامها‪.‬‬
‫ن تفتك بي‪ ،‬أو تعتدي‬
‫وقولها‪ { :‬أَعُوذُ } [مريم‪ ]18 :‬أي‪ :‬ألجأ وأعتصم بال منك؛ لنني أخاف أ ْ‬
‫ح ْولَ لي ول قوة إل بال‪ ،‬فأستعيذ به منك‪ .‬والمؤمن هو الذي يحترم‬
‫عليّ وأنا ضعيفة ل َ‬
‫الستعاذة بال ويُقدّرها‪ ،‬فإنْ استعذتَ بال أعاذك‪ ،‬وإن استجرتَ بال أجارك‪.‬‬
‫" ولما خطب النبي صلى ال عليه وسلم امرأة‪ ،‬كانت على شيء من الحسن أثار غَيْرة نسائه‪،‬‬
‫فخشينَ أنْ تغلبهن على قلب رسول ال‪ ،‬فدبّرْنَ لها أمرا يبعدها من أمامهن‪ ،‬فقُلْنَ لها ـ وكانت‬
‫غِرّة ساذجة ـ أن رسول ال صلى ال عليه وسلم يحب إذا اقترب منه إنسان أن يقول له‪ :‬أعوذ‬
‫بال منك‪ ،‬فما كان من المرأة إل أنْ قالت هكذا لرسول ال عندما دخلت عليه‪ ،‬فقال لها‪ " :‬لقد‬
‫استعذت بمعيذ‪ ،‬الحقي بأهلك "‪.‬‬
‫حمَـانِ مِنكَ إِن كُنتَ َتقِيّا } [مريم‪ ]18 :‬لن المؤمن التقيّ هو الذي‬
‫فقول مريم‪ { :‬إِنّي أَعُوذُ بِالرّ ْ‬
‫يخاف ال‪ ،‬ويحترم الستعاذة به‪ ،‬وكأنها قالتْ‪ :‬إنْ كنت تقيا فابتعد عني‪ ،‬واختارت الستعاذة‬
‫بالرحمن لما عندها من المل إنْ لم يكُنْ تقيا مؤمنا أن يبتعد عنها رحم ًة بها وبضعفها‪ ،‬ولجأتْ‬
‫إلى الرحمن الرحيم الذي يحميها ويحرسها منه‪.‬‬

‫(‪)2252 /‬‬

‫قَالَ إِ ّنمَا أَنَا رَسُولُ رَ ّبكِ لِأَ َهبَ َلكِ غُلَامًا َزكِيّا (‪)19‬‬

‫قال‪ { :‬رَسُولُ رَ ّبكِ } [مريم‪ ]19 :‬ولم يقلْ رسول ال؛ لن الربّ هو المتولّي للتربية الذي يُحسِنها‬
‫ويصونها من الفساد‪ ،‬فعطاء الربوبية عطاء ماديّ‪ ،‬أما عطاء اللوهية فهو عطاء معنوي قِيَمي هو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العبادة‪ ،‬فأنا رسول ربك الذي يتولّك ويرعاك ويحرسك فل تخافي‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬لَ َهبَ َلكِ } [مريم‪ ]19 :‬يفهم منه أن ما سيحدث لمريم هبة من ال غير خاضعة للسباب‬
‫حضَة‪ ،‬فقد قلنا في قصة زكريا ويحيى أن ال تعالى‬
‫التكوينية‪ ،‬فالهبة في هذه الحالة هبة حقيقية مَ ْ‬
‫وهب يحيى لزكريا حال كونه كبير السّن وامرأته عاقر‪ ،‬لكن على أية حال فالجهازان موجودان‪:‬‬
‫الذكورة والنوثة‪ ،‬لكن في حالة مريم فهي أنثى بل ذكر‪ ،‬فهنا الهِبَة المحضة‪ ،‬والمعجزة الحقيقية‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬غُلَما َزكِيّا } [مريم‪ ]19 :‬أي مُنقّى مُطهّر صافي الخِلْقة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عن مريم‪ { :‬قَاَلتْ أَنّىا َيكُونُ لِي }‬

‫(‪)2253 /‬‬

‫قَاَلتْ أَنّى َيكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ َيمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ َأكُ َبغِيّا (‪)20‬‬

‫(أَنّى) استفهام عن الكيفيات التي يمكن أن تتم بها هذه المسألة‪ ،‬وتعجّب كيف يحدث ذلك‪.‬‬
‫سسْنِي } [مريم‪ ]20 :‬المسّ هنا كناية وتعبير مُهذّب عن النكاح‪ ،‬وقد نفتْ السيدة مريم‬
‫وقوله‪َ { :‬يمْ َ‬
‫كل صور اللقاء بين الذكر والنثى حين قالت‪ { :‬وَلَمْ َي ْمسَسْنِي بَشَ ٌر وَلَمْ َأكُ َبغِيّا } [مريم‪]20 :‬‬
‫فالتقاء الذكر بالنثى له وسائل‪ :‬الوسيلة الولى‪ :‬هي الزواج الشرعي الذي شرعه ال لعباده‬
‫حفْظ النسل‪ ،‬وهو إيجاب وقبول‪ ،‬وعقد وشهادة‪ ،‬وهذا هو المسّ الحلل‪.‬‬
‫للتكاثر و ِ‬
‫غصْبا عنها‪ .‬وقد نفتْ مريم‬
‫الوسيلة الثانية‪ :‬أنْ يتم هذه اللقاء بصورة محرمة بموافقة النثى أو َ‬
‫سسْنِي بَشَرٌ } [مريم‪ ]20 :‬ل في الحلل‪ ،‬ول في‬
‫عن نفسها كل هذه الوسائل فقالت‪ { :‬وَلَمْ َيمْ َ‬
‫الحرام‪ ،‬وأنا بذاتي { لَمْ َأكُ َبغِيّا } [مريم‪ ]20 :‬إذن‪ :‬فمن أين لي بالغلم؟‬
‫وكلمة‪ :‬مسّ جاءتْ في القرآن للدللة على الجماع‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬لّ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِن طَّلقْتُمُ‬
‫النّسَآءَ مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ }[البقرة‪ ]236 :‬فالمراد بالمسّ هنا الجماع‪ ،‬لذلك فقد فسر المام أبو حنيفة‬
‫لمَسْتُمُ النّسَآءَ }[النساء‪ ]43 :‬بأنه الجماع؛ لن القرآن أطلق المسّ‪ ،‬وأراد به النكاح‪،‬‬
‫قوله تعالى‪َ {:‬‬
‫س فعل من طرف واحد‪ ،‬أما الملمسة فهي ُمفَاعلة بين اثنين‪ ،‬فهي من باب َأوْلَى تعني‪:‬‬
‫والم ّ‬
‫جامعتم‪.‬‬
‫وقولها‪ { :‬وَلَمْ َأكُ َبغِيّا } [مريم‪ ]20 :‬الب ِغيّ‪ :‬هي المرأة التي تبغي الرجال‪ .‬وال ِبغَاء‪ :‬هو الزنا‪،‬‬
‫وال َبغِيّ‪ :‬التي تعرض نفسها على الرجال وتدعوهم‪ ،‬وربما تُكرههم على هذه الجريمة‪.‬‬
‫وقولها‪َ { :‬بغِيّا } [مريم‪ ]20 :‬مبالغة في ال َبغْي وهو الظلم‪ ،‬واختارتْ صيغة المبالغة َب ِغيّ ولم ت ُقلْ‬
‫باغية؛ لن باغية تتعلق بحقوق ما حول العِرْض‪ ،‬أما العتداء على العِرْض ذاته فيناسبه المبالغة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في هذا الفعل‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ }‬

‫(‪)2254 /‬‬

‫حمَةً مِنّا َوكَانَ َأمْرًا َم ْقضِيّا (‪)21‬‬


‫س وَرَ ْ‬
‫جعَلَهُ آَيَةً لِلنّا ِ‬
‫ن وَلِنَ ْ‬
‫قَالَ َكذَِلكِ قَالَ رَ ّبكِ ُهوَ عََليّ هَيّ ٌ‬

‫كما قال الحق سبحانه لزكريا حينما تعجب أن يكون له ولد‪ {:‬قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ }[مريم‪ ]9 :‬أي‪:‬‬
‫أنا أعرف ما أنت فيه من كِبَر السن‪ ،‬وأن امرأتك عاقر ل تلِد‪ ،‬لكن المر جاء من ال وصدر‬
‫حكمه‪ ،‬وهو وحده الذي يملك التنفيذ‪ ،‬فَِلمَ التعجب إذن؟‬
‫وهنا نجد بعض المتورّكين على القرآن يعترضون على قوله تعالى‪َ ( :‬كذَِلكَ) بالفتح في قصة‬
‫زكريا وبالكسر في قصة مريم (كذلكِ)‪ ،‬والسياق والمعنى واحد‪ ،‬وأيّهما أبلغ من الخرى‪ ،‬وإنْ‬
‫كانت أحدهما بليغة فالخرى غير بليغة؟‬
‫وهذا العتراض منهم ناتج عن قصور َفهْمهم لكلم ال‪ ،‬فكلمة (كذلك) عبارة عن ذا اسم إشارة‪،‬‬
‫وكاف الخطاب التي تُفتح في خطاب المذكر‪ ،‬وتُكسر في خطاب المؤنث‪.‬‬
‫وهنا أيضا قال‪( :‬ربك) أي‪ :‬الذي يتولى تربيتك ورعايتك‪ ،‬والذي يُربيه ربّه يربيه تربية كاملة‬
‫تعينه على أداء مهمته المرادة للمربّي‪.‬‬
‫وقوله‪ُ { :‬هوَ عََليّ هَيّنٌ } [مريم‪ ]21 :‬كما قال في مسألة البعث بعد الموت‪ {:‬وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَ ْيهِ }‬
‫[الروم‪ ]27 :‬فكلمة هيّن وأَ ْهوَن بالنسبة للحق ـ تبارك وتعالى ـ ل تُؤخَذ على حقيقتها؛ لن هَيّن‬
‫وأهوَنَ تقتضي صعب وأصعب‪ ،‬وهذه مسائل تناسب ِف ْعلَ النسان في معالجته للشياء على َقدْر‬
‫طاقته وإمكاناته‪ ،‬أما بالنسبة للخالق سبحانه فليس عنده هَيّن وأهون منه؛ لنه سبحانه ل يفعل‬
‫الفعال ُمعَالجةً‪ ،‬ول يزاولها‪ ،‬وإنما بقوله تعالى (كُنْ)‪.‬‬
‫فالحق سبحانه يخاطبنا على َقدْر عقولنا‪ ،‬فقوله‪ُ { :‬هوَ عََليّ هَيّنٌ } [مريم‪ ]21 :‬أي‪ :‬بمنطقكم أنتم‬
‫إنْ كنت قد خَلقْتكم من غير شيء‪ ،‬فإعادتكم من شيء موجود أمر هَيّن‪.‬‬
‫حمَةً مّنّا } [مريم‪.]21 :‬‬
‫جعَلَهُ آيَةً لّلْنّاسِ وَرَ ْ‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَلِ َن ْ‬
‫هل كان الغرض من خَلْق عيسى عليه السلم على هذه الصورة أن يُظهِر الحق سبحانه قدرته في‬
‫جعَلَهُ آ َيةً لّلْنّاسِ } [مريم‪ ]21 :‬أي‪ :‬أمرا‬
‫الخلق وطلقة قدرته فقط؟ ل‪ ،‬بل هناك هدف آخر { وَلِ َن ْ‬
‫حسْن‪ ،‬آية في الذكاء‪ ،‬فالية‬
‫عجيبا‪ ،‬يخرج عن مألوف العادة والسباب‪ ،‬كما نقول‪ :‬هذا آية في ال ُ‬
‫ل تُقال إل للشيء الذي يخرج عن معتاد التناول‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والية هنا أن الخالق ـ تبارك وتعالى ـ كما خلق آدم ـ عليه السلم ـ من غير أب أو أم‪،‬‬
‫وخلق حواء من غير أم‪ ،‬خلق عيسى ـ عليه السلم ـ من أم دون أب‪ ،‬ثم يخلقكم جميعا من أب‬
‫وأم‪ ،‬وقد يوجد الب والم ول يريد ال لهما فيجعل مَنْ يشاء عقيما‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهذا المر ل يحكمه إل إرادة المكوّن سبحانه‪ .‬فالية للناس في إنْ يعلموا طلقة قدرته تعالى‬
‫في الخَلْق‪ ،‬وأنها غير خاضعة للسباب‪ ،‬وليستْ عملية ميكانيكية‪ ،‬بل إرادة للخالق سبحانه أن يريد‬
‫أو ل يريد‪.‬‬
‫ن يوجد عيسى من أب‬
‫لكن‪ ،‬أكانتْ الية في خَلْق عيسى عليه السلم َأمْ في أمه؟ كان من الممكن أ ْ‬
‫وأم‪ ،‬فالية ـ إذن ـ في أمه‪ ،‬إنما هو السبب الصيل في هذه الية؛ لذلك يقول تعالى في آية‬
‫أخرى‪:‬‬

‫جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَةً }[المؤمنون‪ ]50 :‬فعيسى ومريم آية واحدة‪ ،‬وليسا آيتين؛ لنهما ل‬
‫{ وَ َ‬
‫ينفصلن‪.‬‬
‫حمَةً مّنّا { [مريم‪ ]21 :‬ووجْه الرحمة في خَلْق عيسى عليه السلم على هذه‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَ َر ْ‬
‫الصورة‪ ،‬أنه سبحانه يرحم الناس من أنْ يشكّوا في أن قدرة ال منوطة بالسباب ومتوقفة عليها‪،‬‬
‫ولو كان هذا الشكّ مجرد خاطر‪ ،‬فإنه ل يجوز ول يصحّ بالنسبة للخالق سبحانه‪ ،‬وكأنه تبارك‬
‫وتعالى يرحمنا من مجرد الخواطر بواقع يؤكد أن طلقة القدرة تأتي في الخَلْق من شيء‪ ،‬ومن‬
‫بعض شيء‪ ،‬ومن ل شيء‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬وكَانَ َأمْرا مّ ْقضِيّا { [مريم‪ ]21 :‬أي‪ :‬مسألة منتهية ل تقبل المناقشة‪ ،‬فإياك أن‬
‫تناقش في كيفيتها؛ لن الكلم عن شيء في المستقبل إنْ كان من متكلم ل يملك إنفاذ ما يقول‬
‫فيمكن ألّ يتم مراده ليّ سبب من السباب كأن تقول‪ :‬سأفعل غدا كذا وكذا‪ ،‬ويأتي غد ويحول‬
‫بينك وبين ما تريد أشياء كثيرة ربما تكون خارجة عن إرادتك‪ ،‬إذن‪ :‬فأنت ل تملك ُكلّ عناصر‬
‫الفعل‪.‬‬
‫أما إذا كان الكلم من ال تعالى الذي يملك كل عناصر الفعل فإن قوله حَقّ وواقع‪ ،‬فقال تعالى‪} :‬‬
‫َوكَانَ َأمْرا مّ ْقضِيّا { [مريم‪.]21 :‬‬
‫ولما تكلمنا عن تقسيمات الفعال بين الماضي الذي حدث قبل الكلم‪ ،‬والمضارع الذي يحدث في‬
‫الحال‪ ،‬أو في الستقبال قلنا‪ :‬إن هذه الفعال بالنسبة للحق سبحانه تنحل عنها الماضوية والحالية‬
‫والستقبالية‪.‬‬
‫غفُورا رّحِيما }[الفتح‪ ]14 :‬فهل كان الحق سبحانه غفورا رحيما في‬
‫فإذا قال تعالى‪َ {:‬وكَانَ اللّهُ َ‬
‫الماضي‪ ،‬وليس كذلك في الحاضر والمستقبل؟ ل‪ ،‬لن الحق سبحانه كان ول يزال غفورا رحيما‪،‬‬
‫فرحمتُه ومغفرتُه أزلية حتى قبل أنْ يوجدَ مَنْ يغفر له ومَنْ يرحمه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك جاء الفعل بصيغة الماضي‪ ،‬فالصفة موجودة فيه سبحانه أزلً‪ ،‬فهو سبحانه خالق قبل أن‬
‫خلْق خَلَقَ‪ ،‬كما ضربنا مثلً لذلك‪ :‬نقول فلن شاعر‪ ،‬فهل هو شاعر لنه‬
‫يخلق الخَلْق وبصفة ال َ‬
‫قال قصيدة؟ أم قال القصيدة لنه شاعر‪ ،‬وبالشعر صنع القصيدة؟ إذن‪ :‬فهو شاعر قبل أن يقول‬
‫القصيدة‪ ،‬ولول وجود الصفة فيه ما قال‪.‬‬
‫غفُورا رّحِيما }[الفتح‪ ]14 :‬فقد‬
‫فالصفة ـ إذن ـ أزلية في الحق سبحانه‪ ،‬فإذا قلت‪َ {:‬وكَانَ اللّهُ َ‬
‫ثبتتْ له هذه الصفة أزلً‪ ،‬ولنه سبحانه ل يتغير‪ ،‬ول يعارضه أحد فقد بقيتْ له‪ ،‬هذا معنى‪ :‬كان‬
‫ول يزال‪.‬‬
‫وهذه المسألة واضحة في استهلل سورة النحل‪ {:‬أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ تَسْ َت ْعجِلُوهُ }[النحل‪ ]1 :‬لذلك‬
‫وقف بعض المستشرقين أمام هذه الية‪ ،‬كيف يقول سبحانه (أَتَى) بصيغة الماضي‪ ،‬ثم يقول‪ {:‬فَلَ‬
‫تَسْ َتعْجِلُوهُ }[النحل‪ ]1 :‬أي‪ :‬في المستقبل؟ نقول‪ :‬لن قوله تعالى‪( :‬أتَى) فهذه قضية منتهية ل شكّ‬
‫فيها ول جدالَ‪ ،‬فليس هناك قوة أخرى تعارضها أو تمنع حدوثها؛ لذلك جاءت بصيغة الماضي‬
‫وهي في الواقع أمر مستقبل‪.‬‬
‫حمَلَتْهُ فَانْتَ َب َذتْ ِبهِ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ف َ‬

‫(‪)2255 /‬‬

‫حمَلَتْهُ فَانْتَبَ َذتْ بِهِ َمكَانًا َقصِيّا (‪)22‬‬


‫فَ َ‬

‫ل ومحمولً‪ { .‬فَانْتَبَ َذتْ بِهِ‬


‫(فَحَملتْهُ) أي‪ :‬حملتْ به على الحذف واليصال‪ ،‬والحمل يقتضي حام ً‬
‫َمكَانا َقصِيّا } [مريم‪ ]22 :‬ل تظن أن هذه اللقطة من القصة لقطةٌ ُمعَادة‪ ،‬فالنتباذ الول كان‬
‫ستْ بالحمل‪،‬‬
‫للخلوة للعبادة‪ ،‬وهنا { فَانْتَ َب َذتْ ِبهِ } [مريم‪ ]22 :‬أي‪ :‬ابتعدتْ عن القوم لما أح ّ‬
‫وخشيت أعيُنَ الناس وفضولهم فخرجتْ إلى مكان بعيد‪.‬‬

‫(‪)2256 /‬‬

‫فَأَجَا َءهَا ا ْلمَخَاضُ إِلَى جِ ْذعِ النّخْلَةِ قَاَلتْ يَا لَيْتَنِي ِمتّ قَ ْبلَ هَذَا َوكُ ْنتُ نَسْيًا مَنْسِيّا (‪)23‬‬

‫{ فََأجَآءَهَا } [مريم‪ ]23 :‬الفعل جاء فلن‪ .‬أي‪ :‬باختياره و ِرضَاه‪ ،‬إنما إجاءه فلن أي جاء به رغما‬
‫عنه ودون إرادته‪ ،‬فكأن المخاض هو الذي ألجأها إلى جِذْع النخلة وحملها على الذهاب إلى هذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المكان رَغْما عنها { فََأجَآءَهَا } [مريم‪ ]23 :‬أي‪ :‬جاء بها‪ ،‬فكأن هناك قوة خارجة عنها تشدّها إلى‬
‫هذا المكان‪.‬‬
‫والمخاض‪ :‬هو اللم الذي ينتاب المرأة قبل الولدة‪ ،‬وليس هو الطّلْق الذي يسبق نزول الجنين‪.‬‬
‫جذْع‬
‫ج ْذعِ النّخَْلةِ } [مريم‪ ]23 :‬أوضح لنا عِلّة مجيئها إلى ِ‬
‫وقوله‪ { :‬فَأَجَآءَهَا ا ْل َمخَاضُ إِلَىا ِ‬
‫النخلة؛ لن المرأة حينما يأتي وقت ولدتها تحتاج إلى ما تستند إليه‪ ،‬وتتشبث به ليخفف عنها ألم‬
‫الوضع‪ ،‬أو رفيقة لها تفزع إليها وتقاسمها هذه المعاناة‪ ،‬فألجأها المخاض ـ إذن ـ إلى جذع‬
‫(النخلة)‪ ،‬وجاءت النخلة مُعرّفة لنها نخلة معلومة معروفة‪.‬‬
‫وجذع النخلة‪ :‬ساقها الذي يبدأ من الجذر إلى بداية الجريد‪ ،‬فهل ستتشبث مريم عند وضعها بكل‬
‫هذه الساق؟ بالطبع ستأخذ الجزء القريب منها فقط‪ ،‬وأُطلق الجذع على سبيل المبالغة‪ ،‬كما في‬
‫صوَاعِقِ حَذَرَ ا ْل َموْتِ }[البقرة‪.]19 :‬‬
‫جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِنهِم مّنَ ال ّ‬
‫قوله تعالى‪ {:‬يَ ْ‬
‫ومعلوم أن النسان يسدّ أذنه بأطراف الصابع ل بأصابعه كلها‪ ،‬فعبّر عن المعنى بالصابع مبالغةً‬
‫في كَتْم الصوت المزعج والصواعق التي تنزل بهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالسيدة مريم أصبحت أمام أمر واقع وحمل ظاهر ل تستطيع إخفاءه‪ ،‬ول تقدر على ستره‪،‬‬
‫فقد قبلتْ قبل ذلك أنْ يُبشّرها الملَك بغلم زكيّ‪ ،‬وقبلتْ أنْ تحمل به‪ ،‬فكيف بها الن وقد تحوّل‬
‫المر من الكلم إلى الواقع الفعلي‪ ،‬وها هو الوليد في أحشائها‪ ،‬وقد حان موعد ولدته؟‬
‫لبُدّ أن ينتابها نزوع انفعالي فالمر قد خرج عن نطاق السّتْر والتكتّم‪ ،‬فإذا بها تقول‪ { :‬يالَيْتَنِي‬
‫ِمتّ قَ ْبلَ هَـاذَا َوكُنتُ َنسْيا مّنسِيّا } [مريم‪ ]23 :‬أي‪ :‬تمنتْ لو ماتت قبل أن تقف هذا الموقف‬
‫العصيب‪ ،‬مع أن الملك حين أخبرها من قبل بأن ال تعالى سي َهبُ لها غلما زكيا تعجبتْ قائلة‪{:‬‬
‫سسْنِي َبشَ ٌر وَلَمْ َأكُ َبغِيّا }[مريم‪.]20 :‬‬
‫ل ٌم وَلَمْ َيمْ َ‬
‫أَنّىا َيكُونُ لِي غُ َ‬
‫مجرد تعجّب وانفعال هادىء‪ ،‬أما وقد أصبح المر ولدة حقيقية فل ُبدّ من فعل نزوعي شديد‬
‫ت الموتْ‪ ،‬مع أن ال تعالى نهانا عن تمني الموت‪ ،‬كما ورد‬
‫يُعبّر عما هي فيه من حَيْرة‪ ،‬لذلك تمن ْ‬
‫في الحديث الشريف الذي يرشدنا إذا ضاقتْ بنا الحياة ألّ نتمنى الموت‪ ،‬بل نقول‪ " :‬اللهم أحْيني‬
‫ما كانت الحياة خيرا لي‪ ،‬وتوفّني ما كانت الوفاة خيرا لي "‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن تمني الموت المنهيّ عنه ما كان فيه اعتراض على َقدَر ال‪ ،‬وتمرد على إرادته سبحانه‪،‬‬
‫كأنْ تكره الحياة والعيش إذا ضاق بك فتتمنى الموت‪ ،‬أما أن تتمنى الموت لعلمك أنك ستصبر إلى‬
‫خير مما تركت فهذا أمر آخر‪.‬‬

‫وقد ورد في القرآن مسألة تمني الموت هذه في الكلم عن بني إسرائيل الذين قالوا‪ :‬نحن أبناء ال‬
‫وأحباؤه‪ ،‬وقالوا‪ :‬لن تمسنا النار إل أياما معدودة‪ ،‬وأن الدار الخرة لنا خالصة عند ال‪ ،‬فبماذا َردّ‬
‫عليهم القرآن الكريم؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وال طالما أن المر كما تقولون‪ ،‬والخرة لكم{ فَ َتمَ ّنوُاْ ا ْل َم ْوتَ إِن كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ }[البقرة‪ ]94 :‬ثم‬
‫قرّر الحق سبحانه ما سيكون منهم فقال‪ {:‬وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَبَدا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ }[البقرة‪.]95 :‬‬
‫جدَ ّنهُمْ َأحْ َرصَ النّاسِ عَلَىا حَيَاةٍ }[البقرة‪.]96 :‬‬
‫وقال عنهم‪ {:‬وَلَتَ ِ‬
‫وما داما لن يتمنوا الموت‪ ،‬وما داموا أحرصَ الناس على الحياة‪ ،‬فل بُدّ أن حياتهم هذه التي‬
‫يعيشونها أفضل لديهم من الحياة الخرى‪.‬‬
‫فالمؤمن ـ إذن ـ ل يجوز أن يتمنى الموت هَربا من بلء أصابه أو اعتراض على َقدَرِ ال‪،‬‬
‫ويجوز له ذلك إنْ علم أنه صائر إلى أفضل ممّا هو فيه‪.‬‬
‫وقولها‪ } :‬نَسْيا مّنسِيّا { [مريم‪ ]23 :‬النسيّ‪ :‬هو الشيء التافه الذي ل ُيؤْبَه به‪ ،‬وهذا عادةً ما يُنْسَي‬
‫لعدم أهميته‪ ،‬كالرجل الذي نسى عند صاحبه علبة كبريت بها عودان اثنان‪ ،‬وفي الطريق تذكرها‬
‫فعاد إلى صاحبه يطلب ما نسيه‪ ،‬وهكذا تمنتْ مريم أن تكون نسيا منسيا حتى ل يذكرها أحد‪.‬‬
‫ولم تكتفِ بهذا‪ ،‬بل قالت‪َ } :‬نسْيا مّنسِيّا { [مريم‪ ]23 :‬لن النسيّ‪ :‬الشيء التافه الذي يُنسَي في‬
‫ي بقولها (منسيا) أي‪ :‬ل يذكره‬
‫ذاته‪ ،‬لكن رغم تفاهته فربما يجد مَنْ يتذكره ويعرفه‪ ،‬فأكدت النس ّ‬
‫أحد‪ ،‬ول يفكر فيه أحد‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَنَادَاهَا مِن َتحْ ِتهَآ {‬

‫(‪)2257 /‬‬

‫ج َعلَ رَ ّبكِ َتحْ َتكِ سَرِيّا (‪)24‬‬


‫فَنَادَاهَا مِنْ تَحْ ِتهَا أَلّا َتحْزَنِي قَدْ َ‬

‫{ مِن َتحْ ِتهَآ } [مريم‪ ]24 :‬فيها قراءتان (مِنْ‪ ،‬مَنْ) صحيح أن جبريل عليه السلم ما زال موجودا‬
‫معها لكنه ليس تحتها‪ ،‬فدلّ ذلك على أن الذي ناداها هو الوليد { َألّ تَحْزَنِي } [مريم‪ ،]24 :‬وحزن‬
‫مريم منشؤه النقطاع عن الناس‪ ،‬وأنها في حالة ولدة‪ ،‬وليس معها مَنْ يسندها ويساعدها‪ ،‬وليس‬
‫معها مَنْ يَحضِر لها لوازم هذه المسألة من طعام وشراب ونحوه‪.‬‬
‫ج َعلَ رَ ّبكِ‬
‫لذلك تعهّدها ربها تبارك وتعالى فوفّر لها ما يُقيتها من الطعام والشراب‪ ،‬فقال‪َ { :‬قدْ َ‬
‫تَحْ َتكِ سَرِيّا } [مريم‪ ]24 :‬والسريّ‪ :‬هو النهر الذي يجري بالماء العَذْب الزّلل‪ ،‬وثم يعطيها‬
‫ج ْذعِ }‬
‫الطعام المناسب لحالتها‪ ،‬فيقول تعالى‪ { :‬وَهُزّى إِلَ ْيكِ بِ ِ‬

‫(‪)2258 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ج ْذعِ النّخَْلةِ تُسَاقِطْ عَلَ ْيكِ رُطَبًا جَنِيّا (‪)25‬‬
‫وَهُزّي إِلَ ْيكِ بِ ِ‬

‫وهكذا وفّر الحق سبحانه وتعالى لمريم مقوّمات الحياة وعناصر استبقائها‪ ،‬وهي مُرتّبة على حَسْب‬
‫ن يأكلَ‪،‬‬
‫أهميتها للنسان‪ :‬الهواء والشراب والطعام‪ ،‬والنسان يصبر على الطعام شهرا دون أ ْ‬
‫ن يقتاتَ على ما هو مخزون في جسمه من غذاء‪ ،‬لكنه ل يصبر على الماء أكثر من‬
‫ويمكنه أ ْ‬
‫ثلثة أيام إلى عشرة أيام حسب ما في جسمه من مائية‪ ،‬في حين ل يصبر على الهواء لحظة‬
‫ن يموتَ من كَتْم نفَسٍ واحد‪.‬‬
‫واحدة‪ ،‬ويمكن أ ْ‬
‫لذلك‪ ،‬من حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يُملّك الطعام كثيرا‪ ،‬ويُملك الماء قليلً‪ ،‬ول يُملّك الهواء‬
‫لحد أبدا‪ ،‬لنك لو غضبتَ على أحد فمنعتَ عنه الهواء لمات قبل أنْ ترضى عنه‪ ،‬إذن‪ :‬فعناصر‬
‫استبقاء الحياة مرتبة حَسْب أهميتها في حياة النسان‪ ،‬وقد ضمنها الحق سبحانه لمريم وجعلها في‬
‫متناول يدها وأغناها عن أنْ يخدمها أحد‪.‬‬
‫فالهواء موجود وهي في الخلء‪ ،‬ثم الماء فأجري تحتها نهرا عذبا زللً‪ ،‬ثم الطعام فقال‪:‬‬
‫{ وَهُزّى إِلَ ْيكِ ِبجِ ْذعِ النّخْلَةِ ُتسَاقِطْ عَلَ ْيكِ ُرطَبا جَنِيّا } [مريم‪ ]25 :‬وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ‬
‫يريد أنْ يُظهِر لمريم آية أخرى من آياته‪ ،‬فأمرها أنْ تهزّ جذع النخلة اليابس الذي ل يستطيع هَزّه‬
‫الرجل القويّ‪ ،‬فما بالها وهي الضعيفة التي تعاني ألم الولدة ومشاقها؟‬
‫جهْد منها ودون هَزّها‪ ،‬إنما أراد سبحانه‬
‫كما أن الحق سبحانه قادر على أنْ يُنزِل لها طعامها دون َ‬
‫أن يجمع لها بين شيئين‪ :‬طلب السباب والعتماد على المسبب‪ ،‬والخذ بالسباب في هَزّ النخلة‪،‬‬
‫رغم أنها متعبة قد أرهقها الحمل والولدة‪ ،‬وجاء بها إلى النخلة لتستند إليها وتتشبث بها في‬
‫وحدتها لنعلم أن النسان في سعيه مُطَالب بالخذ بالسباب مهما كان ضعيفا‪.‬‬
‫ضعْفها وعدم قدرتها‪ ،‬ثم تعتمد على المسبّب سبحانه الذي‬
‫لذلك أبقى لمريم اتخاذ السباب مع َ‬
‫أنزل لها الرّطَب مُسْتويا ناضجا‪ ،‬وهل استطاعت مريم أنْ تهزّ الجذع الكبير اليابس؟‬
‫صوّر‬
‫ل على امتثال المر‪ ،‬وال تعالى يتولى إنزال الطعام لها‪ ،‬وقد َ‬
‫إنها مجرد إشارة إليه تد ّ‬
‫الشاعر هذا الموقف بقوله‪:‬أََلمْ تَرَ أنّ ال قَالَ لمرْيَم وَهُزّي إليك الج ْذعَ يَسّاقَط الرّط ْبوَإنْ شَاءَ‬
‫أعطَاهَا ومِنْ غير هَزّة ولكن ُكلّ شَيءٍ لَهُ سَبَبْوقوله‪ { :‬تُسَا ِقطْ } مريم‪ ]25 :‬أي‪ :‬تتساقط عليك‬
‫{ ُرطَبا جَنِيّا } [مريم‪ ]25 :‬أي‪ :‬استوى واستحق أن يُجنى‪ ،‬وليس مُبْتسرا قبل موعده‪ ،‬ومن‬
‫الرّطَب ما يتساقط قبل ُنضْجه فل يكون صالحا للكل‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬تُسَا ِقطْ عَلَ ْيكِ } [مريم‪ ]25 :‬فيه دليل على استجابة الجماد وانفعاله‪ ،‬وإل فالبلحة لم تخرج‬
‫طوْع أمها‪ ،‬إذن‪ :‬فقد ألقتْها طواعيةً واستجابة حين َتمّ نضجها‪.‬‬
‫عن َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬فكُلِي وَاشْرَبِي َوقَرّي }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2259 /‬‬

‫حمَنِ صَ ْومًا فَلَنْ ُأكَلّمَ‬


‫حدًا َفقُولِي إِنّي نَذَ ْرتُ لِلرّ ْ‬
‫َفكُلِي وَاشْرَبِي َوقَرّي عَيْنًا فَِإمّا تَرَيِنّ مِنَ الْبَشَرِ أَ َ‬
‫الْ َيوْمَ إِ ْنسِيّا (‪)26‬‬

‫ج َعلَ‬
‫ونلحظ هنا أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ عند إيجاد القُوت لمريم جاء بالماء أولً‪ ،‬فقال‪ {:‬قَدْ َ‬
‫خلَةِ تُسَا ِقطْ عَلَ ْيكِ ُرطَبا‬
‫رَ ّبكِ تَحْ َتكِ سَرِيّا }[مريم‪ ،]24 :‬ثم أتى بالطعام فقال‪ {:‬وَهُزّى إِلَ ْيكِ ِبجِ ْذعِ النّ ْ‬
‫جَنِيّا }[مريم‪ ]25 :‬لن الماء أوْلى من الطعام في احتياج النسان‪ ،‬أما عند المر بالنتفاع قال‪:‬‬
‫{ َفكُلِي وَاشْرَبِي } [مريم‪ ]26 :‬فبدأ بالطعام قبل الشراب‪ ،‬لماذا؟ لن النسان عادةً يأكل أولً‪ ،‬ثم‬
‫يشرب‪ ،‬فالماء مع أهميته‪ ،‬إل أنه يأتي في العادة بعد الطعام‪ ،‬فسبحان مَنْ هذا كلمه‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬وقَرّي عَيْنا } [مريم‪ ]26 :‬بعد أن وفّر لها الحق سبحانه الطعام والشراب الذي هو ِقوَام‬
‫المادة‪ ،‬وبه يتم استبقاء الحياة‪ ،‬لكن بعد الطعام والشراب يبقى لديها حُزْن عميق وألم وحَيْرة ِممّا‬
‫هي فيه؛ لذلك يعطيها ربها تبارك وتعالى بعد القوت الذي هو قوام المادة يعطيها السكينة‬
‫والطمأنينة ويُخفّف عنها ألم النفس وحَيْرة الفؤاد‪.‬‬
‫{ َوقَرّي عَيْنا } [مريم‪ ]26 :‬قرّي‪ :‬أي‪ :‬اسكني‪ .‬وهذا التعبير عند العرب كناية عن السرور‪ ،‬ومنه‬
‫قوله تعالى على لسان امرأة فرعون‪ {:‬قُ ّرتُ عَيْنٍ لّي وََلكَ }[القصص‪.]9 :‬‬
‫والعرب تعبر ِبقُرّة العين وسكونها عن السرور؛ لن سكون العين على مَرَأىً واحد ل تتحول عنه‬
‫دليلٌ على أن العين صادفت مرأى جميلً تسعد به وتُسَرّ فل يُغني عنه مَر ْأىً آخر‪ ،‬فتظل ساكنة‬
‫عليه ل تتحرك عنه‪.‬‬
‫وقد يستعمل هذه التعبير في المقابل أي‪ :‬في الشر والدعاء على إنسان وتمني الشر له‪ ،‬كالمرأة‬
‫التي دخلتْ على أحد الخلفاء فنهرَها فقالت له‪ :‬أتمّ ال عليك نعمته وأقرّ عينك‪ .‬فظنّ الحضور أنها‬
‫تدعو له‪ ،‬لكنه فَطِن لمرادها‪ ،‬فقال لجلسائه‪ :‬ما فهمتم ما تقول‪ ،‬إنها تقصد أتمّ ال عليك نعمته أي‪:‬‬
‫أزالها‪ ،‬أما سمعتم قول الشاعر‪:‬إذَا َتمّ شَيءٌ َبدَا َن ْقصُه تر ّقبْ َزوَالً إذَا قِيلَ َتمْذلك لن النسان‬
‫بطبيعته ابن أغيار‪ ،‬ل يثبت على حال‪ ،‬فإذا ما وصل إلى القمة وتمتْ له النعمة‪ ،‬وهو ابن أغيار‬
‫فل بُدّ أنْ يتحوّل عنها‪.‬‬
‫سكَنَها بالعمى‪.‬‬
‫وقولها‪ :‬أقرّ ال عينك‪ ،‬أي‪ :‬أ ْ‬
‫فقوله تعالى لمريم‪َ { :‬وقَرّي عَيْنا } [مريم‪ ]26 :‬أي‪ :‬كوني سعيدة باصطفاء ال لك مسرورة بما‬
‫أعطاك‪ ،‬فما تهتمين به وتحزنين هو عَيْن النعمة التي ليستْ لحد غيرك من نساء العالمين‪.‬‬
‫صوْما فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ‬
‫ن َ‬
‫حمَـا ِ‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬فَِإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ َأحَدا َفقُولِي إِنّي َنذَ ْرتُ لِلرّ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إِنسِيّا } [مريم‪.]26 :‬‬
‫وهنا يتولّى الحق سبحانه وتعالى الدفاع عن مريم وتبرير موقفها الذي ل تجد له هي مبررا في‬
‫عذْرا لمرأة تحمل وتلد دون أن يكون لها زوج؟ ومهما قالت فلن‬
‫أعراف الناس‪ ،‬فَمنْ يلتمس ُ‬
‫تُصدّق ولن تسْلَم من ألسنة القوم وتجريحهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فجواب ما يكره السكوت‪ ،‬فأمرها سبحانه أنْ تلزم الصمت ول تجادل أحدا في أمرها‪:‬‬
‫صوْما فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ إِنسِيّا } [مريم‪ ]26 :‬والصوم هنا أي‪ :‬عن‬
‫ن َ‬
‫حمَـا ِ‬
‫{ َفقُولِي إِنّي نَذَ ْرتُ لِلرّ ْ‬
‫الكلم‪ ،‬كما حدث مثل هذا في قصة زكريا؛ لن المعجزات قريبة من بعضها‪ ،‬فقد أعطى ال‬
‫زكريا مع عَطَب اللت‪ ،‬وأعطى مريم بنقص اللت‪ ،‬ول يبرر هذه المعجزات ول يدافع عنها‬
‫إل صانعها تبارك وتعالى‪.‬‬

‫ن ينتقموا على القرآن‪ ،‬فقالوا‪ :‬كيف يأمرها‬


‫وهذه المسألة اعترض عليها بعض الذين يحبون أ ْ‬
‫بالصوم عن الكلم‪ ،‬وفي نفس الوقت يأمرها أن تقول‪ :‬نذرت للرحمن صوما؟‬
‫يجوز أنها قالت هذه العبارة أولً لول بشر رأته ليتم بذلك إعلن صومها‪ ،‬ثم انقطعت عن الكلم‪،‬‬
‫ويجوز أن يكون المراد بالكلم هنا الشارة‪ ،‬والدللة بالشارات أقوى الدللت وأعمّها‪ ،‬فإن‬
‫اختلفت اللغات بين البشر لن كل جماعة تواضعوا على لغة خاصة بهم‪ ،‬فإن لغة الشارة تظل‬
‫لغة عامة يتفق عليها الجميع‪ ،‬فمثلً حين تُومىء برأسك هكذا تعني نعم في كل اللغات‪ ،‬وحين‬
‫تُشير بأصبعك هكذا تعني ل‪ ،‬إذن‪ :‬فالدللة لغة عالمية وعامّة‪.‬‬
‫وقد تع ّرضَ القرآن الكريم في موضع آخر لهذه المسألة في قوله تعالى‪ {:‬حَتّىا إِذَا بََلغَ بَيْنَ السّدّيْنِ‬
‫وَجَدَ مِن دُو ِن ِهمَا َقوْما لّ َيكَادُونَ َيفْ َقهُونَ َق ْولً }[الكهف‪.]93 :‬‬
‫أي‪ :‬ل يقربون من الفهم‪َ ،‬فهُ ْم يفهمون من باب َأوْلى‪ ،‬ومع ذلك كان بينهم كلم وإشارة ولغة‪ ،‬و َفهِم‬
‫كل منهم عن الخر‪ {:‬قَالُواْ ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ إِنّ يَ ْأجُوجَ َومَأْجُوجَ }[الكهف‪.]94 :‬‬
‫ونلحظ في قولها‪ } :‬فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ إِنسِيّا { [مريم‪ ]26 :‬أن النهي عن الكلم مع البشر خاصة فلم‬
‫َتقُل‪ :‬لن أتكلم‪ ،‬وإلّ فمعها جبريل ـ عليه السلم ـ يُكلّمها وبينهما تفاهم‪ ،‬لعلّه يرى لها مَخْرجا‪،‬‬
‫وقد كانت مريم واثقة مطمئنة إلى هذا المخرج‪ ،‬فإذا كان ربها ـ تبارك وتعالى ـ أمرها بالصوم‬
‫عن الكلم‪ ،‬فإنه سينطق الوليد ليتكلم هو ويدافع عن أمه أمام اتهامات القوم‪.‬‬
‫ولما تكلّمنا في قوله تعالى‪ {:‬فَنَادَاهَا مِن َتحْ ِتهَآ َألّ َتحْزَنِي }[مريم‪ ]24 :‬استبعدنا أنْ يكون هذا‬
‫عظْمى‪،‬‬
‫النداء من جبريل‪ ،‬وقلنا‪ :‬إنه نداء الوليد؛ لذلك اطمأنتْ مريم وعَلِمتْ أنها أمام معجزة ُ‬
‫ووثقتْ تمام الثقة أنها حين تُشير إليه سيتكلم هو ويردّ عنها الحَرج مع قومها؛ لن الكلم ممّنْ‬
‫يقدر على الكلم ل يأتي بحجة تُقنِع الناس عن خلف العادة‪ ،‬أما حين يتكلم وهو في المهد‪ ،‬فهذا‬
‫يعني أنه معجزة خارقة للعادة‪ ،‬فإذا كان الوليد معجزةً فالمعجزة في ُأمّه من باب َأوْلَى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمِلُهُ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَأَ َتتْ ِبهِ َق ْومَهَا َت ْ‬

‫(‪)2260 /‬‬

‫حمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْ َيمُ َلقَدْ جِ ْئتِ شَيْئًا فَرِيّا (‪)27‬‬
‫فَأَ َتتْ ِبهِ َق ْو َمهَا َت ْ‬

‫ونعجب للسيدة مريم‪ ،‬فبدلَ أن تخجل مما حدث وتستتر بوليدها عن أعيُن الناس‪ ،‬أو تنتقل به إلى‬
‫مكان آخر في فيافي الرض إذا بها تحمله‪ ،‬وتذهب به‪ ،‬وتبادر به قومها‪ ،‬وما كانت لتفعل ذلك‬
‫وتتجرأ عليه إل لثقتها في الحجة التي معها‪ ،‬والتي ستوافيها على يد وليدها‪.‬‬
‫ي وجه قابلتْ عائشة‬
‫لذلك لما سأل بعض المستشرقين المام محمد عبده رحمه ال في باريس‪ :‬بأ ّ‬
‫قومها بعد حديث ال ْفكِ؟ سبحان ال إنهم يعلمون أنه إ ْفكٌ وباطل‪ ،‬لكنهم يرددونه كأنهم ل يفهمون‪.‬‬
‫فأجاب الشيخ رحمه ال ببساطة‪ :‬بالوجه الذي قابلتْ به مريم قومها وهي تحمل وليدها‪ .‬أي‪ :‬بوجه‬
‫الواثق من البراءة‪ ،‬المطمئن إلى تأييد ال‪ ،‬وأنه سبحانه لن يُسْلِمها أبدا؛ لذلك لما نزلتْ براءة‬
‫عائشة في كتاب ال قالوا لها‪ :‬اشكري النبي‪ ،‬فقالت‪ :‬بل أشكر ال الذي برأني من فوق سبع‬
‫سموات‪.‬‬
‫فلما رآها القوم على هذه الحال قالوا فيها قولً غليظا‪ { :‬يامَرْيَمُ َلقَدْ جِ ْئتِ شَيْئا فَرِيّا } [مريم‪]27 :‬‬
‫فريا‪ :‬الفَ ْريُ للجلد‪ :‬تقطيعه‪ ،‬والمر الفري‪ :‬الذي يقطع معتادا عند الناس فليس له مثيل‪ ،‬أو من‬
‫الفِرْية وهو تعمد الكذب‪.‬‬
‫ختَ هَارُونَ مَا كَانَ }‬
‫ثم قالوا لها‪ { :‬ياأُ ْ‬

‫(‪)2261 /‬‬

‫سوْ ٍء َومَا كَا َنتْ ُأ ّمكِ َبغِيّا (‪)28‬‬


‫ختَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ َ‬
‫يَا أُ ْ‬

‫ختَ هَارُونَ } [مريم‪ ]28 :‬هذا كلم جارح وتقريع ومبالغة منهم في تعييرها‪،‬‬
‫قولهم لمريم‪ { :‬ياأُ ْ‬
‫سمّي على اسم النبي‪ ،‬فأنتِ من بيت صلح ونشأت في طاعة ال‪،‬‬
‫فنسبوها إلى هارون الذي ُ‬
‫فكيف يصدر منك هذا الفعل؟ كما ترى أنت سيدة محجبة يصدر منها في الشارع عمل ل يتناسب‬
‫ومظهرها فتلومها على هذا السلوك الذي ل يُتصوّر من مثلها‪.‬‬
‫سوْءٍ } [مريم‪ ]28 :‬الرجل السوء هو الذي إنْ صحبْتَه أصابك منه‬
‫وقوله‪ { :‬مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سوء‪ ،‬ونالك بالذى { َومَا كَا َنتْ ُأ ّمكِ َبغِيّا } [مريم‪ ]28 :‬قلنا‪ :‬إن البَغيّ‪ :‬هي المرأة التي تبغي‬
‫الرجال وتدعوهم إليها‪ ،‬فالمراد‪ :‬من أين لك هذه الصفة‪ ،‬وأنت من أسرة خَيّرة صالحة؟‬
‫وفي هذا دليل على أن َنضْج الُسَرِ يؤثر في البناء‪ ،‬فحين نُكوّن السرة المؤمنة والبيت الملتزم‬
‫ل مؤمنا واعيا‬
‫بشرع ال‪ ،‬وحين نحتضن البناء ونحوطهم بالعناية والرعاية‪ ،‬فسوف نستقبل جي ً‬
‫نافعا لنفسه ولمجتمعه‪.‬‬
‫سوْ ٍء َومَا كَا َنتْ ُأ ّمكِ َبغِيّا } [مريم‪ ]28 :‬اتهام صريح لمريم‪،‬‬
‫إذن‪ :‬فقولهم‪ { :‬مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ َ‬
‫وتأكيد على أنها وقعتْ في محظور وكأنهم مصرون على َرمْيها بالفاحشة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََأشَا َرتْ إِلَيْهِ قَالُواْ }‬

‫(‪)2262 /‬‬

‫فَأَشَا َرتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَ ْيفَ ُنكَلّمُ مَنْ كَانَ فِي ا ْل َمهْدِ صَبِيّا (‪)29‬‬

‫أي‪ :‬حين قال القوم ما قالوا أشارتْ إلى الوليد وهي واثقة أنه سيتكلم‪ ،‬مطمئنة إلى أنها ل تحمل‬
‫دليل الجريمة‪ ،‬بل دليل البراءة‪.‬‬
‫فلما أشارتْ إليه تقول لقومها‪ :‬اسألوه‪ ،‬تعجّبُوا‪ { :‬قَالُواْ كَ ْيفَ ُنكَلّمُ مَن كَانَ فِي ا ْل َمهْدِ صَبِيّا } [مريم‪:‬‬
‫‪ ]29‬ونلحظ في قولهم أنهم لم يستبعدوا أنْ يتكلّمَ الوليد‪ ،‬فلم يقولوا‪ :‬كيف يتكلم مَنْ كان في المهد‬
‫ن يكلموه‪ ،‬فكأنهم يطعنون في‬
‫صبيا؟ بل قالوا‪ { :‬كَ ْيفَ ُنكَلّمُ } [مريم‪ ]29 :‬أي‪ :‬نحن‪ ،‬فاستبعدوا أ ْ‬
‫أنفسهم وفي قدرتهم على َفهْم الوليد إنْ كلّمهم‪.‬‬
‫والمهد‪ :‬هو المكان الممهد المعَدّ لنوم الطفل‪ ،‬لن الوليد ل يقدر أن يبعد الذى عن نفسه‪ ،‬فالكبير‬
‫مثلً يستطيع أنْ يُمهد لنفسه مكان نومه‪ ،‬وأن يُخرِج منه ما يُؤرّق نومه وراحته‪ ،‬وعنده وَعْي‪،‬‬
‫فإذا آلمه شيء في نومه يستطيع أنْ يتحلّل من الحالة التي هو عليها‪ ،‬وينظر ماذا يؤلمه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ }‬

‫(‪)2263 /‬‬

‫جعَلَنِي نَبِيّا (‪)30‬‬


‫قَالَ إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ آَتَا ِنيَ ا ْلكِتَابَ وَ َ‬

‫وكأنه قال للقوم‪ :‬ل تتكلموا أنتم‪ ،‬أنا الذي سأتكلم‪ .‬ثم بادرهم بالكلم‪ { :‬قَالَ إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ } [مريم‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪ ]30‬وهكذا استهلّ عيسى عليه السلم كلمه بإظهار عبوديته ل تعالى‪ ،‬وفي هذه دليل على أنه قد‬
‫يُقال فيه أنه ليس عبدا‪ ،‬وأنه إله أو شريك للله‪.‬‬
‫ت بي ل تمنع‬
‫لذلك كانت أو كلمة نطق بها { قَالَ إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ } [مريم‪ ]30 :‬فالمعجزة التي جاء ْ‬
‫َكوْني عبدا ل؛ لذلك لو سألتَ الذين يعتقدون في عيسى عليه السلم أنه إله أو شريك للله‪ :‬إنكم‬
‫تقولون أنه تكلّم في المهد‪ ،‬فماذا قال؟ فل يعترفون بقوله أبدا؛ لن قوله ونُطْقه‪ { :‬إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ }‬
‫[مريم‪ ]30 :‬ينفي معتقدهم من أساسه‪.‬‬
‫ليس هذا وفقط‪ ،‬بل‪ { :‬آتَا ِنيَ ا ْلكِتَابَ } [مريم‪ ]30 :‬لكن كيف آتاه الكتاب وهو ما يزال وليدا في‬
‫شكّ فيه‪ ،‬كأنه يقول‪ :‬أنا أَهْل لنْ أتحملَ‬
‫َمهْده؟ قالوا‪ :‬على اعتبار أنه أم ٌر مفروغ منه‪ ،‬وحادث ل َ‬
‫أمانةَ السماء إلى أهل الرض‪ .‬مع أن الكتاب لم يأتِ بعد‪ ،‬إل أنه مُلقّن لقّنه ربه الكتاب بالفعل‪،‬‬
‫وإنْ لم يأت الوقت الذي يُبلّغ فيه هذا الكتاب‪.‬‬
‫جعَلَنِي نَبِيّا } [مريم‪ ]30 :‬فسلوكي سلوك قويم‪ ،‬ول يمكن أن يكون فيّ مطعَنٌ بعد ذلك‪ ،‬وإنْ‬
‫{ وَ َ‬
‫كان هناك مطعن فهو بعيد عني‪ ،‬ول ذنبَ لي فيه‪.‬‬
‫جعَلَنِي مُبَارَكا أَيْنَ مَا كُنتُ }‬
‫ثم يقول‪ { :‬وَ َ‬

‫(‪)2264 /‬‬

‫جعَلَنِي مُبَا َركًا أَيْنَ مَا كُ ْنتُ وََأ ْوصَانِي بِالصّلَا ِة وَال ّزكَاةِ مَا ُد ْمتُ حَيّا (‪)31‬‬
‫وَ َ‬

‫أي‪ :‬وشرّع لي أيضا ما ُدمْت حيا‪ ..‬وقد قال عيسى عليه السلم في المهد هذه الكلمات ليبرّىء‬
‫أمه الصّدّيقة‪ ،‬ذلك أنهم اتهموها في أعزّ شيء لديْها؛ ولذلك لم يكُنْ ليُجدي أيّ كلم منها‪ ،‬وإنقاذا‬
‫حمَـانِ‬
‫لها أبلغها الحق عن طريق جبريل أو عيسى عليهما السلم أن تقول‪ {:‬إِنّي َنذَ ْرتُ لِلرّ ْ‬
‫صوْما فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ إِنسِيّا }[مريم‪.]26 :‬‬
‫َ‬
‫جعَلْنِي }‬
‫ثم يقول‪ { :‬وَبَرّا ِبوَالِدَتِي وَلَمْ َي ْ‬

‫(‪)2265 /‬‬

‫شقِيّا (‪)32‬‬
‫جعَلْنِي جَبّارًا َ‬
‫وَبَرّا ِبوَالِدَتِي وَلَمْ يَ ْ‬

‫فلِمَ ذكر والدته هنا؟ ولِمَ حرص على تقرير بِرّه بها؟ قالوا‪ :‬لن البعض قد يظن أن عيسى ـ عليه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السلم ـ حينما يكبر ويعرف قصة خَلْقه‪ ،‬وأن أمه أ َتتْ به من غير أب‪ ،‬ودون أنْ يمسسْها بشر‬
‫قد تترك هذه المسألة ظللً فلي نفسه وتُساوِره الشكوك في أمه‪ ،‬فأراد أنْ يقطع كل هذه الظنون‪.‬‬
‫ذلك لنه هو نفسه الدليل‪ ،‬وهو نفسه الشاهد على براءة أمه‪ ،‬والدليل ل يُشكّك في المدلول‪ ،‬فكأنه‬
‫يقول للقوم‪ :‬إياكم أنْ تظنوا أني سأتجرأ على أمي‪ ،‬أو يخطر ببالي خاطر سوء نحوها‪.‬‬
‫شقِيّا } [مريم‪ ]32 :‬فنفى عن نفسه صفة الجبروت والقسوة‬
‫جعَلْنِي جَبّارا َ‬
‫ثم يقول‪ { :‬وَلَمْ َي ْ‬
‫والتعاظم؛ لن الرسول لبُدّ أنْ يكون ليّنَ الجانب رفيقا بقومه؛ لنه أتى ليُخرِج الناس ِممّا أِلفُوه‬
‫من الفساد إلى ما يثقل عليهم من الطاعة‪.‬‬
‫والنسان بطبعه حين يألَف الفساد يكره مَنْ يُخرِجه عن فساده‪ ،‬فمن الطبيعي أن يتعرّض النبي‬
‫لستفزاز القوم وعنَادهم ومكابرتهم‪ ،‬فلو لم يكُنْ ليّن الجانب‪ ،‬رقيق الكلمة‪ ،‬يستميل الذن لتسمع‬
‫والقلوب لتعي ما صلح لهذه المهمة‪.‬‬
‫لذلك يخاطب الحق ـ تبارك وتعالى ـ نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم بقوله‪ {:‬وََلوْ كُ ْنتَ َفظّا‬
‫حوِْلكَ }[آل عمران‪.]159 :‬‬
‫ب لَ ْنفَضّواْ مِنْ َ‬
‫غَلِيظَ ا ْلقَلْ ِ‬
‫شقِيّا } [مريم‪ ]32 :‬أي‪ :‬عاصيا‪ ،‬وما أبعدَ مَنْ هذه صفاته عن معصية ال التي يشقى‬
‫ومعنى { َ‬
‫بسببها النسان‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى عن عيسى عليه السلم أنه قال‪ { :‬وَالسّلَمُ عََليّ َيوْ َم وُِل ْدتّ }‬

‫(‪)2266 /‬‬

‫ت وَ َيوْمَ أُ ْب َعثُ حَيّا (‪)33‬‬


‫وَالسّلَامُ عََليّ َيوْمَ وُلِ ْدتُ وَيَوْمَ َأمُو ُ‬

‫سبق أن قلنا في قصة يحيى عليه السلم‪ :‬إن هذه الحداث أعلم ثلثة في حياة النسان‪ :‬يوم‬
‫مولده‪ ،‬ويوم موته‪ ،‬ويوم أنْ يُبعث يوم القيامة‪ .‬فما وجه السلمة في هذه الحداث بالنسبة لعيسى‬
‫عليه السلم؟‬
‫قوله‪ { :‬وَالسّلَمُ عََليّ َيوْ َم وُلِ ْدتّ } [مريم‪ ]33 :‬لن يوم مولده مَرّ بسلم‪ ،‬رغم ما فيه من عجائب‪،‬‬
‫فلم يتعرّض له أحد بسوء‪ ،‬وهو الوليد الذي جاء من دون أب‪ ،‬وكان من الممكن أنْ يتعرّض له‬
‫ولمه بعض المتحمسين الغيورين باليذاء‪ ،‬لكن شيئا من ذلك لم يحدث‪ ،‬ومَرّ الميلد بسلم عليه‬
‫وعلى أمه‪.‬‬
‫{ وَ َيوْمَ َأمُوتُ } [مريم‪ ]33 :‬لنهم أخذوه ليصلبوه‪ ،‬فنجّاه ال من أيديهم‪ ،‬وألقى شبهه على شخص‬
‫آخر‪ ،‬ورفعه ال تعالى إلى السماء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ وَ َيوْمَ أُ ْب َعثُ حَيّا } [مريم‪ ]33 :‬فليس هناك من الرسل مَنْ سيسأل هذه السئلة‪ ،‬ويناقش هذه‬
‫المناقشة التي نُوقِشها عيسى في الدنيا‪:‬‬
‫{ وَإِذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْ َيمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأمّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ‬
‫سُ ْبحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي ِبحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي َولَ أَعَْلمُ‬
‫سكَ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ * مَا قُ ْلتُ َل ُهمْ ِإلّ مَآ َأمَرْتَنِي ِبهِ }[المائدة‪116 :‬ـ ‪.]117‬‬
‫مَا فِي َنفْ ِ‬
‫وليس هذا قَدْحا في مكانة عيسى عليه السلم؛ لن ربّه تبارك وتعالى يعلم أنه ما قال لقومه إل ما‬
‫ُأمِرَ به‪ ،‬ولكن أراد سبحانه توبيخ القوم الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون ال‪ ،‬فوجْه السلم في‬
‫يوم { أُ ْب َعثُ حَيّا } [مريم‪ ]33 :‬أنه نُوقِش في الدنيا وبُرّئتْ ساحته‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬ذاِلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْ َيمَ }‬

‫(‪)2267 /‬‬

‫حقّ الّذِي فِيهِ َيمْتَرُونَ (‪)34‬‬


‫ذَِلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ َق ْولَ الْ َ‬

‫{ ذاِلكَ } [مريم‪ ]34 :‬أي‪ :‬ما تقدّم من قصة عيسى عليه السلم { َقوْلَ ا ْلحَقّ } [مريم‪ ]34 :‬أي‪:‬‬
‫حقّ‪ ،‬والحق هو ال‪ ،‬فالذي َقصّ عليك هذا ال َقصَص هو ال‪ ،‬وقوله الحق‬
‫يقولها ال تعالى َقوْلَة َ‬
‫الذي ل باطلَ فيه‪ ،‬فيكون الحق الذي هو ضد الباطل‪ ،‬فالمعنيان ملتقيان‪.‬‬
‫خلْق‪.‬‬
‫أو‪ :‬يكون المراد بقول الحق كلمة (كُنْ) التي بها يتمّ ال َ‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬الّذِي فِيهِ َيمْتُرُونَ } [مريم‪ ]34 :‬من المراء‪ :‬وهو الختلف والجدال بالباطل‪،‬‬
‫فالحق سبحانه يعلم أنهم سيشكّون فيه‪ ،‬ويتجادلون بالباطل‪ ،‬وأنهم سيقولون فيه القاويل‪ ،‬وكأن ال‬
‫تعالى يقول لهم‪ :‬اتركوا هذه القاويل والباطيل في شأن عيسى وخُذُوا بما أخبرتُكم به من خبره‪،‬‬
‫فهو الحق الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خَلْفه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ }‬

‫(‪)2268 /‬‬

‫ن وَلَدٍ سُ ْبحَانَهُ ِإذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ (‪)35‬‬
‫خذَ مِ ْ‬
‫مَا كَانَ لِلّهِ أَنْ يَتّ ِ‬

‫لماذا تكلم الحق سبحانه هنا عن نفي الولد بالذات؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قالوا‪ :‬لن مسألة الشريك ل تعالى تُنفَى بأولية العقل‪ ،‬فإنْ كان ُكلّ إ له صالحا للفعل وللترك‪ ،‬فهذه‬
‫صورة مُكرّرة ل تناسب الله‪ ،‬وإنْ كان هذا إلها لكذا وهذا إله لكذا‪ ،‬فما عند أحدهما نقص في‬
‫الخر‪ ،‬وهذا محال في الله‪ ،‬ولو أن هناك إلها آخر لذهب كل منهما بجزء‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬إِذا‬
‫ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ }[المؤمنون‪.]91 :‬‬
‫ق وََلعَلَ َب ْع ُ‬
‫لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَ َ‬
‫لذلك نفى مسألة الولد؛ لنها ذات أهمية خاصة بالنسبة لقصة عيسى عليه السلم؛ لن الولد من‬
‫حبّ الولد‪ ،‬والنسان يحب الولد‬
‫الممكن أنْ يُستبعَد فيه الدليل‪ ،‬لماذا؟ لن دليله اتخاذُ الولد أو ُ‬
‫ويسعى إليه‪ ،‬لماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن النسان ابْنُ دنياه‪ ،‬وهو يعلم أنه ميت ميت‪ ،‬فيحبّ أن يكون له امتداد في الدنيا و ِذكْر‬
‫من بعده‪ ،‬فالنسان يتمسّح في الدنيا حتى بعد موته‪ ،‬وهو ل يدري أن ِذكْر النسان ل يأتي بعده‪،‬‬
‫بل ِذكْره يسبقه إلى الخرة بالعمل الصالح‪.‬‬
‫حقّ ال تبارك وتعالى؛ لنه الباقي‬
‫إذن‪ :‬فحبّ الولد هنا لستدامة استبقاء الحياة‪ ،‬وهذا مُحَال في َ‬
‫الذي ل يزول‪.‬‬
‫ضعْف‪ ،‬والحق سبحانه هو القويّ‬
‫وقد يتخذ الولد ليكون عِزْوة لبيه وسَندا و ُمعِينا‪ ،‬وهذا دليل ال ّ‬
‫الذي ل يحتاج إلى معونة أحد‪ .‬إذن‪ :‬فاتخاذ الولد أمر منفيّ عنه تبارك وتعالى‪ ،‬فهو أمر ل يليق‬
‫بمقام اللوهية‪ ،‬ويجب أنْ تُنزّه ال تعالى أن يكون له ولد؛ لذلك يقول تعالى بعدها‪ { :‬سُ ْبحَانَهُ }‬
‫[مريم‪.]35 :‬‬
‫وسبحان تدل على التنزيه المطلق ل تعالى تنزيها له في ذاته‪ ،‬وفي صفاته‪ ،‬وفي أفعاله‪ ،‬فهو‬
‫ن وجدتَ صفة مشتركة بينك وبين ال كأنْ يكونَ ل تعالى وجه ويد‪،‬‬
‫سبحانه ليس كمثله شيء‪ ،‬وإ ْ‬
‫ولكَ وجه ويد‪ ،‬فإياك أنْ تنزل بالمستوى العلى فتقول‪ :‬وجهه كوجهي‪ ،‬أو يده كيدي‪ ،‬لن لك‬
‫وجودا ول تعالى وجود‪ ،‬فهل وجودك كوجود ال؟‬
‫وجودك مسبوق بعدم ويلحقه العدم‪ ،‬ووجوده تعالى لم يُسبَق بعدم ول يلحقه العدم‪ ،‬فعليك ـ إذن‬
‫سمِيعُ الْ َبصِيرُ }[الشورى‪.]11 :‬‬
‫شيْءٌ وَ ُهوَ ال ّ‬
‫ـ أن تقول في مثل هذه المسائل‪ {:‬لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫والمتتبع لمادة (سَبّح) في القرآن الكريم يجد أنها جاءت بكل الصّيَغ‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }[الحديد‪.]1 :‬‬
‫الماضي‪ {:‬سَبّحَ للّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫ت َومَا فِي الَ ْرضِ }[الجمعة‪.]1 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫والمضارع‪ُ {:‬يسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫والمر في‪ {:‬سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ الَعْلَىا }[العلى‪.]1 :‬‬
‫فما دام الكون كله سبّح ل‪ ،‬ولم ينقطع عن تسبيحه‪ ،‬بل ما زال مُسبّحا‪ ،‬فلما خلق الخلق أمرهم‬
‫بالتسبيح؛ لنهم جزء من منظومة الكون المسبّح‪ ،‬وعليهم أنْ ينتظموا معه‪ ،‬ول يكونوا نشازا في‬
‫كون ال‪.‬‬
‫أما المصدر (سبحان) فقد جاء ليدل على التنزيه المطلق ل تعالى‪ ،‬حتى قبل أن يخلق الخَلْق‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التنزيه ثابت له تعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُنزّهه كما في قوله تعالى‪:‬‬

‫حوْلَهُ }‬
‫ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫سجِ ِد ا َ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ‬
‫{ سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَ ْب ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ‬
‫[السراء‪.]1 :‬‬
‫لن المسألة عجيبة وفوق إدراك العقل‪ ،‬فقد جاء بالمصدر (سبحان) الدالّ على التنزيه المطلَق ل‪،‬‬
‫كأنه تعالى يُحذّر الذين يُحكّمون عقولهم‪ ،‬ول يُحكّمون قدرة ال الذي خلقهم بقانون الزمان والمكان‬
‫ل فعل يتناسب قوةً وقدرةً مع فاعله‪.‬‬
‫وال ُبعْد والمسافة‪ ،‬ف ُك ّ‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬إِذَا َقضَىا َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُن فَ َيكُونُ { [مريم‪ ]35 :‬ذلك لن الية في خَلْق‬
‫عيسى عليه السلم مخالفة للنواميس كلها‪ ،‬وخارقة للعادة التي أَلِفها الناس‪ ،‬فإياك أنْ تتعجب من‬
‫ِفعْل ال تعالى في يحيى‪ ،‬حيث جاء به مع عطب اللت‪ ،‬أو تتعجب من خَلْق عيسى حيث جاء به‬
‫مع نقص اللت‪.‬‬
‫وإياك أنْ تتعَجّب من كلم عيسى وهو في المهد صَبِيا‪ ،‬فهي أمور نعم خارقة للعادة وللنواميس‪،‬‬
‫خذْها في إطار (سبحانه) وتنزيها له؛ لنه تعالى إذا أراد شيئا ل يعالجه بعمل ومُزاولة‪ ،‬وإنما‬
‫فُ‬
‫يعالجه (بكُنْ) فيكون‪.‬‬
‫ول تظن أن خَلْق الشياء متوقف على هذا المر (كُنْ)‪ ،‬فإن كان الفعل مُكوّنا من (كاف) و(نون)‬
‫فقبل أن تنطق النون يكون الشيء موجودا‪ ،‬لكن (كُنْ) هو أقصر ما يمكن تصوّره لنا‪ ،‬والحق‬
‫سبحانه يخاطبنا بما يُقرّب هذه المسألة إلى عقولنا‪ ،‬وإل فإرادته سبحانه ليستْ في حاجة إلى قول‬
‫(كُنْ) فما يريده ال يكون بمجرد إرادته‪.‬‬
‫كما أنك لو أمعنتَ النظر في قوله تعالى‪ } :‬إِذَا َقضَىا َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُن فَ َيكُونُ { [مريم‪]35 :‬‬
‫تجد (يقُولُ لَهُ) أي‪ :‬للشيء‪ ،‬فكأن الشيء موجود بالفعل‪ ،‬موجود أزلً‪ ،‬فالمر بكُنْ ليس ليجاده من‬
‫العدم‪ ،‬بل لمجرد إظهاره في عالم الواقع‪.‬‬
‫ثم يقول‪ } :‬وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ {‬

‫(‪)2269 /‬‬

‫وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْ ُبدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ (‪)36‬‬

‫الرب‪ :‬هو المتولّي للتربية والرعاية‪ .‬والتربية تعني أن يأخذ المربّي المربّى بالرياضة إلى مَا‬
‫يصلحه لداء مهمته والقيام بها‪ ،‬كما لو أردتَ مهندسا تُربّيه تربيه مهندس‪ ،‬وإن أردت طبيبا تربية‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تربية طبيب‪ .‬ونحن هنا أمام قوم أشركوا بال‪ ،‬ونحتاج لداعية يُخرِجهم من الشرك إلى اليمان‪،‬‬
‫ومن المعصية إلى الطاعة‪.‬‬
‫فالمعنى‪ :‬ما دام أن ال تعالى ربي وربكم‪ ،‬والمتولّي لتربيتنا جميعا‪ ،‬فل بُدّ أن يُربّى لكم مَنْ‬
‫يصلحكم؛ لنه تعالى ل يخاطبكم مباشرة‪ ،‬بل سيبعثني إليكم أبلغكم رسالته‪ ،‬وأدعوكم إلى عبادته‬
‫وحده ل شريك له‪ ،‬وما دام ال ربي وربكم فمن الواجب أنْ تُطيعوه { فَاعْبُدُوهُ } [مريم‪]36 :‬‬
‫والعبادة أنْ يطيعَ العابدُ معبوده في أوامره وفي نواهيه‪ .‬كما قال تعالى‪َ {:‬ومَآ ُأمِرُواْ ِإلّ لِ َيعْبُدُواْ اللّهَ‬
‫}[البينة‪.]5 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬هَـاذَا صِرَاطٌ مّسْ َتقِيمٌ } [مريم‪ ]36 :‬أي‪ :‬الذي ل التواءَ فيه ول اعوجاجَ‪ ،‬وهو‬
‫الطريق الذي يُوصّلك لمقصودك من أقرب طريق‪ ،‬وبأقلّ مجهود‪ ،‬ومعلوم أن الخط المستقيم هو‬
‫أقرب طريق بين نقطتين‪.‬‬
‫ف الَحْزَابُ مِن بَيْ ِنهِمْ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَاخْتََل َ‬

‫(‪)2270 /‬‬

‫عظِيمٍ (‪)37‬‬
‫شهَدِ َيوْمٍ َ‬
‫فَاخْتََلفَ الَْأحْزَابُ مِنْ بَيْ ِنهِمْ َفوَ ْيلٌ ِللّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َم ْ‬

‫ن قال‪ :‬هو إله‪ ،‬ومنهم مَن‬


‫الحزاب‪ :‬أي الذين اختلفوا في عيسى عليه السلم من قومه‪ ،‬فمنهم مَ ْ‬
‫قال‪ :‬ابن إله‪ .‬وآخر قال‪ :‬هو ثالث ثلثة‪ .‬ومنهم مَنْ رماه بالسحر وقال عنه بعضهم‪ :‬ابن زنى ـ‬
‫نستغفر ال مما يقوله الظالمون والكافرون ـ‪.‬‬
‫والحزاب‪ :‬جمع حِزْب‪ ،‬وهم طائفة من الناس اجتمعوا حول مبدأ من المبادىء‪ ،‬ورأْي مَن الراء‬
‫يدافعون عنه ويعتقدونه‪ ،‬ويسيرون في حياتهم على وفقه‪ ،‬ويُخضِعون حركة حياتهم لخدمته‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬مِن بَيْ ِن ِهمْ } [مريم‪ ]37 :‬يعني من داخل المؤمنين به ومن أتباع عيسى أنفسهم‪ ،‬فالذين‬
‫قالوا عنه هذه الباطيل ليسو من أعدائه‪ ،‬بل من المؤمنين به‪.‬‬
‫وهكذا اختلف القوم في أمر عيسى‪ ،‬وكان لكل منهم رَأْي‪ ،‬وجميعها مُنَافِية للصواب بعيدة عن‬
‫شهَدِ َيوْمٍ عَظِيمٍ } [مريم‪:‬‬
‫الحقيقة؛ لذلك توعّدهم الخالق سبحانه بقوله‪َ { :‬فوْ ْيلٌ لّلّذِينَ َكفَرُواْ مِن مّ ْ‬
‫‪.]37‬‬
‫خضْتم فيه بما أحبب ُت ْم من القول؛ لن ال تعالى جعل إرادتكم‬
‫فقد قلتم في عيسى ما قُلْتم في الدنيا‪ ،‬و ُ‬
‫نافذة على جوارحكم‪ ،‬وأعطاكم حرية الفعل والختيار‪ ،‬فوجّهتم جوارحكم واخترتم ما يُغضب ال‪،‬‬
‫فكأن عقوبة الدنيا ل تناسب ما فعلوه‪ ،‬ولبُدّ لهم من عقوبة آجلة في الخرة تناسب ما حدث منهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في حَقّ نبيهم وفي حَقّ ربهم تبارك وتعالى‪.‬‬
‫شهَدِ َيوْمٍ عَظِيمٍ } [مريم‪ ]37 :‬ومشهد يوم عظيم هو يوم القيامة‪ ،‬يوم‬
‫{ َفوْ ْيلٌ لّلّذِينَ َكفَرُواْ مِن مّ ْ‬
‫تُبْلَى السرائر‪ ،‬يوم يقوم الناس لرب العالمين‪ ،‬يوم ل تملك نفس لنفس شيئا والمر يومئذ ل‪.‬‬
‫وسماه المشهد العظيم؛ لنه يوم مشهود يشهده الجميع؛ لن العذاب في الدنيا مثلً ل يشهده إل‬
‫الحاضرون المعاصرون‪ ،‬ول يشهده السابقون ول اللحقون‪ ،‬أما عذاب الخرة فهو المشهد العظيم‬
‫الذي يراه كل الخَلْق‪.‬‬
‫وربما كان بعض العذاب أهونَ من رؤية الغير للنسان وهو يُعذّب‪ ،‬فربما تحمّل هو العذاب في‬
‫نفسه أما كونه يُعذّب على مرأىً من الناس جمعيا‪ ،‬ويرونه في هذه المهانة وهذه الذلة وقد كان في‬
‫الدنيا عظيما أو جبارا أو عاتيا أو ظالما‪ ،‬ل شكّ أن رؤيتهم له في هذه الحالة تكون أنكَى له‬
‫وأبلغ‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عنهم في آية أخرى‪ {:‬وََلوْ تَرَىا إِ ْذ ُو ِقفُواْ عَلَى النّارِ َفقَالُواْ يالَيْتَنَا‬
‫نُرَ ّد َولَ ُنكَ ّذبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النعام‪ ]27 :‬هذا منهم مجرد كلم‪َ {:‬بلْ َبدَا َلهُمْ‬
‫خفُونَ مِن قَ ْبلُ }[النعام‪ ]28 :‬أي‪ :‬ظهر لهم ما كانوا يخفون ولم ي ُقلْ يخفَى عنهم‪ ،‬كأنهم‬
‫مّا كَانُواْ ُي ْ‬
‫كانوا يعلمون عنه شيئا ولكنهم أخفوْه‪.‬‬
‫جعْنَا‬
‫س ِمعْنَا فَا ْر ِ‬
‫سهِمْ عِندَ رَ ّبهِمْ رَبّنَآ أَ ْبصَرْنَا وَ َ‬
‫وقال عنهم‪ {:‬وََلوْ تَرَىا إِذِ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ نَاكِسُواْ ُرءُو ِ‬
‫َن ْع َملْ صَالِحا إِنّا مُوقِنُونَ }[السجدة‪.]12 :‬‬
‫فلماذا أبصروا وسمعوا الن؟ لنهم كانوا يسمعون في الدنيا عن غير وَعْي‪ ،‬فينكرون ويُبصرون‬
‫آيات ال في الكون ول يؤمنون‪ ،‬أما في الخرة فقد انكشفتْ لهم الحقائق التي طالما أنكَروها‪ ،‬ولم‬
‫سمِعْ ِبهِ ْم وَأَ ْبصِرْ }‬
‫َيعُدْ هناك مجال للمكابرة أو النكار؛ لذلك يقول تعالى بعدها‪َ { :‬أ ْ‬

‫(‪)2271 /‬‬

‫سمِعْ ِب ِه ْم وَأَ ْبصِرْ َي ْومَ يَأْتُونَنَا َلكِنِ الظّاِلمُونَ الْ َيوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (‪)38‬‬
‫أَ ْ‬

‫سمِعْ ِبهِ ْم وَأَ ْبصِرْ } [مريم‪ ]38 :‬أي‪ :‬أسمع بهم وأ ْبصِر بهم‪ ،‬وهذه من صِيَغ التعجّب على‬
‫قوله‪َ { :‬أ ْ‬
‫وزن (أفعل به) يعني ما أشدّ سمعهم‪ ،‬وما أشدّ بصرهم‪ ،‬فهم الن يُرهِفون السمع ويُدقّقون النظر‬
‫حتى إن النسان ليتعجب من سمعهم الدقيق‪ ،‬وبصرهم المحيط بعد أن كانوا في الدنيا يضعون‬
‫أصابعهم في آذانهم فل يسمعون‪ ،‬ويستغشون ثيابهم فل يبصرون‪ ،‬كانوا في عَمىً عن آيات ال‬
‫صدْق الرسل‪ ،‬وعن اليات التي تحمل الحكام‪ ،‬وعن اليات الكونية التي‬
‫الواضحات التي تثبت ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تدلّ على قدرة الصانع الحكيم‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬يوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم‪ ]38 :‬أي‪ :‬أسمع بهم وأبصر بهم في هذا اليوم يوم القيامة‪ ،‬والنسان‬
‫بحكم خَلْق ال تعالى له‪ ،‬واستخلفه في الرض جعل له السيطرة على جوارحه فهو يأمرها‬
‫فتطيعه‪ ،‬فجوارح النسان وطاقاته مُسخّرة لرادته‪ ،‬فلسانك تستطيع أنْ تنطقَ بـ ل إله إل ال‪.‬‬
‫كما تستطيع أن تقول‪ :‬ل إله أو تقول‪ :‬ال ثالث ثلثة‪ .‬واللسان مِطْواع لك ل يعصاك في هذه أو‬
‫تلك‪ ،‬وما أعطاك ال هذه الحرية وكفَل لَك الختيار إل لنه سيحاسبك عليها يوم القيامة‪ :‬أأردتَ‬
‫الخير الذي وجّهك إليه أم أردتَ الشر الذي نهاك عنه؟‬
‫أما يوم القيامة فتنحلّ هذه الرادة‪ ،‬ويبطل سلطانها على الجوارح في يوم يُنادِي فيه الحق تبارك‬
‫وتعالى‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر‪ ]16 :‬يومها ستشهد الجوارح على صاحبها‪،‬‬
‫شهَدُ عَلَ ْيهِمْ أَ ْلسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }‬
‫وكما قال الحق سبحانه تعالى‪َ {:‬يوْمَ تَ ْ‬
‫[النور‪.]24 :‬‬
‫شيْءٍ }[فصلت‪:‬‬
‫طقَنَا اللّهُ الّذِي أَنطَقَ ُكلّ َ‬
‫شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ‬
‫ويقول تعالى‪َ {:‬وقَالُواْ ِلجُلُودِهِمْ لِمَ َ‬
‫‪.]21‬‬
‫لم ل؟ وقد تحررتْ الجوارح من قَيْد الرادة‪ ،‬وجاء الوقت لتشتكي إلى ال‪ ،‬وتنطق بكلمة الحق‬
‫التي كتمتْها تحت وطأة الرادة وقهْرها‪.‬‬
‫وسبق أن ضربنا مثالً لذلك بمجموعة من الجنود يسيرون تحت إمْرة قائدهم المباشر‪ ،‬ويأتمرون‬
‫بأمره‪ ،‬ويطيعونه طاعة عمياء‪ ،‬فإذا ما عادوا إلى القائد العلى انطلقتْ ألسنتُهم بالشكوى من‬
‫تعسّف قائدهم وغَطْرسته‪.‬‬
‫للٍ مّبِينٍ } [مريم‪ ]38 :‬فيا ليتهم فهموا هذه‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬لَـاكِنِ الظّاِلمُونَ الْ َيوْمَ فِي ضَ َ‬
‫المسألة‪ ،‬لكنهم ظلموا‪ ،‬وما ظلموا إل أنفسهم‪ ،‬فال تبارك وتعالى ل يضره كفر الكافرين‪ ،‬ول‬
‫ينقص من مُلْكه تعالى وسلطانه‪ ،‬لكن كيف يظلم النسان نفسه؟‬
‫عقْل واعٍ يستقبل الشياء ويميزها‪ ،‬وصاحب نفس شهوانية‬
‫يظلم النسان نفسه؛ لنه صاحب َ‬
‫تصادم بشهواتها العاجلة هذا العقل الواعي‪ ،‬وتصادم المنهج الربّاني الذي يأمرها بالخير وينهاها‬
‫عن الشر‪ ،‬هذه النفس بشهواتها تدعو النسان إلى مرادها وت ُوقِعه في المتعة الوقتية واللذة الفانية‬
‫التي تستوجب العذاب وتُفوّت عليه الخير الباقي والنعيم الدائم‪.‬‬
‫س ُهمْ يَظِْلمُونَ }[يونس‪.]44 :‬‬
‫لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَلَـاكِنّ النّاسَ أَنفُ َ‬
‫حسْ َرةِ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَأَ ْنذِرْهُمْ َي ْومَ الْ َ‬

‫(‪)2272 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غفْلَةٍ وَهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ (‪)39‬‬
‫وَأَنْذِرْ ُهمْ َيوْمَ ا ْلحَسْ َرةِ ِإذْ ُقضِيَ الَْأمْ ُر وَ ُهمْ فِي َ‬

‫قوله تعالى‪ { :‬وَأَنْذِرْ ُهمْ َيوْمَ ا ْلحَسْ َرةِ } [مريم‪ ]39 :‬النذار‪ :‬هو التحذير من شر قادم‪.‬‬
‫والحسرة‪ :‬هي الندم البالغ الذي يصيب النفس النسانية حينما يفوتها خير ل يمكن تداركه‪ ،‬وحينما‬
‫تلقى شيئا ل تستطيع دفعه أما الندم فيكون حزنا على خير فا َتكَ‪ ،‬لكن يمكن تداركه‪ ،‬كالتلميذ الذي‬
‫يخفق في امتحان شهر من الشهور فيندم‪ ،‬لكنه يمكنه تدارك هذا الخفاق في الشهر التالي‪ ،‬أما إذا‬
‫أخفق في امتحان آخر العام فإنه يندم ندما شديدا‪ ،‬ويتحسّر على عام فات ل يمكن تداركُ الخسارة‬
‫فيه‪.‬‬
‫حسْرَتَنَا عَلَىا مَا فَرّطْنَا فِيهَا }[النعام‪.]31 :‬‬
‫لذلك سيقول الكفار يوم القيامة‪ {:‬يا َ‬
‫والمعنى‪ :‬يا حسرتنا تعاَلىْ فهذا أوانك‪ ،‬واحضري فقد فاتتْ الفرصة إلى غير رجعة‪ .‬إذن‪ :‬فيوم‬
‫الحسرة هو يوم القيامة‪ ،‬حيث لن يعود أحدٌ ليتدارك ما فاته من الخير في الدنيا‪ ،‬وليتَ العقول تعي‬
‫سعَة الدنيا‪.‬‬
‫هذه الحقيقة‪ ،‬وتعمل لها وهي ما تزال في َ‬
‫لمْرُ } [مريم‪ ]39 :‬أي‪ :‬وقع وحدث‪ ،‬ول يمكن تلفيه‪ ،‬ولم َيعُدْ هناك مجال‬
‫ضيَ ا َ‬
‫ومعنى‪ِ { :‬إذْ ُق ِ‬
‫لتدا ُركِ ما فات؛ لن الذي قضى هذا المر وحكم به هو ال تبارك وتعالى الذي ل يملك أحدٌ ردّ‬
‫أمرِه أو تأخيره عن موعده أو مناقشته فيه‪ ،‬فسبحانه‪ ،‬المر أمره‪ ،‬والقضاء قضاؤه‪ ،‬ول إله إل‬
‫هو‪.‬‬
‫وروي عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أن ال حينما يُدخل أهلَ الجنةِ الجنةَ‪ ،‬ويُدخِل أهلَ‬
‫النارِ النار يأتي بالموت على هيئة كبش‪ ،‬فيقول للمؤمنين‪ :‬أتعرفون هذا؟ قالوا‪ :‬نعم هو الموت‬
‫جاءنا وعرفناه‪ ،‬ويقول للكفار‪ :‬أتعرفون هذا؟ يقولون‪ :‬عرفناه‪ ،‬فيميت ال الموت ويقول لهل‬
‫الجنة‪ :‬خلود بل موت‪ .‬ولهل النار‪ :‬خلود بل موت "‪.‬‬
‫وهكذا قضى الُ المرَ ليقطع المل على الكفار الذين قد يظنّون أن الموت سيأتي ليُخرجهم مما‬
‫هُمْ فيه من العذاب ويريحهم‪ ،‬فقطع ال عليهم هذا المل وآيسهم منه‪ ،‬حيث جاء بالموت مُشخّصا‬
‫وذبحه أمامهم‪ ،‬فل موتَ بعد الن فقد مات الموت‪.‬‬
‫لذلك يخبر عنهم الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَنَا َدوْاْ يامَاِلكُ لِ َي ْقضِ عَلَيْنَا رَ ّبكَ قَالَ إِ ّنكُمْ مّاكِثُونَ }‬
‫[الزخرف‪.]77 :‬‬
‫غفْلَ ٍة وَهُ ْم لَ ُي ْؤمِنُونَ } [مريم‪.]39 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَ ُهمْ فِي َ‬
‫الغفلة‪ :‬أن يصرف النسان ذِهْنه عن الفكر في شيء واضح الدليل على صحته؛ لن الحق ـ‬
‫تبارك وتعالى ـ ما كان لِيُعذّب خَلْقه إل وقد أظهر لهم الدلة التي يستقبلها العقل الطبيعي فيؤمن‬
‫بها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالذي ل يؤمن ـ إذن ـ‪:‬إما غافل عن هذه الدلة أو متغافل عنها أو جاحد لها‪ ،‬كما قال سبحانه‪{:‬‬
‫سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا }[النمل‪.]14 :‬‬
‫حدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ‬
‫وَجَ َ‬
‫ومن الغفلة غفلتهم عن الموت‪ ،‬وقد قالوا‪ :‬من مات قامت قيامته‪.‬‬
‫ومن حكمة ال أنْ أبهم الموت‪ ،‬أبهمه وقتا‪ ،‬وأبهمه سببا‪ ،‬وأبهمه مكانا‪ ،‬فكان إبهام الموت هو عَيْن‬
‫ي وقت‪ ،‬وبأيّ سبب‪ ،‬وفي أيّ‬
‫البيان للموت؛ لن إبهامه يجعل النسان على استعداد للقائه في أ ّ‬
‫مكان‪ ،‬فالموت يأتي غفلة؛ لنه ل يتوقف على وقت أو سبب أو مكان‪.‬‬

‫فالطفل يموت وهو في بطن أمه‪ ،‬ويموت بعد يوم‪ ،‬أو أيام من ولدته‪ ،‬ويموت بعد مائة عام‪،‬‬
‫ويموت بسبب وبدون سبب‪ ،‬وقد نتعجّب من موت أحدنا فجأة دون سبب ظاهر‪ ،‬فلم تصدمه‬
‫سيارة‪ ،‬ولم يقع عليه جدار أو حجر‪ ،‬ولم يداهمه مرض‪ ،‬فما السبب؟ السبب هو الموت‪ ،‬إنه‬
‫سيموت‪ ،‬أي أنه مات لنه يموت‪ ،‬كما يقال‪ :‬والموت من دون أسباب هو السبب‪.‬‬
‫ث الَ ْرضَ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّا نَحْنُ نَ ِر ُ‬

‫(‪)2273 /‬‬

‫جعُونَ (‪)40‬‬
‫إِنّا نَحْنُ نَ ِرثُ الْأَ ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا وَإِلَيْنَا يُ ْر َ‬

‫ث الَ ْرضَ } [مريم‪ ]40 :‬وهي والكون كله مِلْك له تعالى؟ قالوا‪:‬‬
‫كيف يقول الحق سبحانه‪ { :‬نَ ِر ُ‬
‫لنه تبارك وتعالى هو المالك العلى‪ ،‬وقد ملّك من خَلْقه من ملّك‪ ،‬هذا في الدنيا‪ ،‬أما في الخرة‬
‫فليس لحد ملك على شيء‪ ،‬ليس للنسان سيطرة حتى على جوارحه وأعضائه‪ ،‬فالمر كله يومئذ‬
‫ك إل ال تعالى‪.‬‬
‫ل تعَالى‪ ،‬فيُردّ الملْك إلى صاحبه العلى‪ ،‬ول أحدَ يرث هذا الم ْل َ‬
‫لذلك‪ ،‬فالذين اغترّوا بنعم ال في الدنيا فظنوا أن لهم مثْلها في الخرة‪ ،‬فقال أحدهم‪ {:‬وَلَئِن رّدِدتّ‬
‫إِلَىا رَبّي لَجِدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف‪ ]36 :‬نقول له‪ :‬ل‪ ،‬صحيح ستُردّ إلى ربك‪ ،‬لكن لن‬
‫يكون لك عنده شيء؛ لن الذي ملّكك في الدنيا ملّكك من باطن مِلكيته تعالى‪ ،‬فإذا ما جاءت‬
‫الخرة كان هو الوارث الوحيد‪.‬‬
‫جعُونَ } [مريم‪ ]40 :‬أي‪ :‬أن المر ل يتوقف على أنْ نرث مُلْكهم‪ ،‬ويذهبوا هم‬
‫وقوله‪ { :‬وَإِلَيْنَا يُ ْر َ‬
‫لحال سبيلهم‪ ،‬بل سنرث مُلْكهم‪ ،‬ثم يرجعون إلينا لنحاسبهم فلن يخرجوا هم أيضا من قبضة‬
‫الملكية‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2274 /‬‬

‫ن صِدّيقًا نَبِيّا (‪)41‬‬


‫وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَا َ‬

‫بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في استهلل سورة مريم عن ميلد سيدنا يحيى لزكريا‪ ،‬وعن‬
‫ميلد سيدنا المسيح بن مريم‪ ،‬أراد أن يعرض لنا موكبا من مواكب الرسالت التي أرسلها ال‬
‫نورا من السماء لهداية الرض‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{ وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ } [مريم‪.]41 :‬‬
‫فهو أبو النبياء وقمتهم؛ لن ال تعالى مدحه بقوله‪:‬‬
‫{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً }[النحل‪.]120 :‬‬
‫فليس هناك فرد يحتوي على خصال الكمال ومواهب الفضل كلها‪ ،‬لكن المجموع يحتويها فهذا‬
‫شجاع قوي البنية‪ ،‬وهذا ذكي‪ ،‬وهذا حادّ البصر‪ ،‬وهذا نابغ في الطب‪ ،‬وهذا في الزراعة‪ ،‬مواهب‬
‫متفرقة بين البشر‪ ،‬ل يجمعها واحد منه‪ ،‬فل طاقته ول حياته ول مجهوده يستطيع أن يكون‬
‫خلْق‪ ،‬إل إبراهيم‪ ،‬فقد كان عليه السلم يساوي في‬
‫موهوبا في كل شيء‪ ،‬فالكمال كله مُوزّع في ال َ‬
‫مواهبه أم ًة بأكملها‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّهُ كَانَ صِدّيقا نّبِيّا } [مريم‪ ]41 :‬صِدّيق‪ :‬من مادة صدق‪ ،‬ومعناها‪ :‬تكلّم بواقع؛ لن‬
‫صدّيق أي‪ :‬مبالغة في‬
‫الكذب أنْ يتكلّم بغير واقع‪ .‬وهذا يُسمّى‪ :‬صادق في ذاته‪ ،‬أما قولنا‪ِ :‬‬
‫الصدق‪ ،‬فقد بلغ الغاية في تصديق ما يأتي من الحق تبارك وتعالى‪ ،‬فهو يطيع ويُذعِن ول يناقش‪،‬‬
‫خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ‬
‫كما رأينا من أم موسى ـ عليه السلم ـ لما قال لها الحق سبحانه‪ {:‬فَإِذَا ِ‬
‫وَلَ َتخَافِي َولَ تَحْزَنِي }[القصص‪.]7 :‬‬
‫بال‪ ،‬أي أم يمكن أن تُصدّق هذا الكلم‪ ،‬وتنصاع لهذا المر؟ وكيف تُنجّي ولدها من شر أو موت‬
‫مظنون بموت مُحقّق؟‬
‫إذن‪ :‬فهذا كلم ل يُصدّق‪ ،‬وفوق نطاق العقل عند عامة الناس‪ ،‬أما في موكب الرسالت فالمر‬
‫مختلف‪ ،‬فساعة أنْ سمعتْ أم موسى هذا النداء لم يساورها خاطر مخالف لمر ال‪ ،‬ولم يراودها‬
‫شكّ فيه؛ لن وارد ال عند هؤلء القوم ل يُعارض بوارد الشيطان أبدا‪ ،‬وهذه قضية مُسلّمة عند‬
‫َ‬
‫الرسل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الصّدّيق هو الذي بلغ الغاية في تصديق الحق‪ ،‬فيورثه ال شفافية وإشراقا بحيث يهتدي إلى‬
‫الحق ويُميّزه عن الباطل من أول نظرة في المر ودون بحث وتدقيق في المسألة؛ لن ال تعالى‬
‫يه ُبكَ النور الذي يُبدّد عندك غيامات الشك‪ ،‬ويهبك الميزان الدقيق الذي تزنُ به الشياء‪ ،‬كما قال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا }[النفال‪.]29 :‬‬
‫سبحانه‪ {:‬يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ يَ ْ‬
‫سمّي أبو بكر رضي ال عنه صِدّيقا‪ ،‬ليس لنه صادق في ذاته‪ ،‬بل لنه يُصدّق كل ما‬
‫ومن هنا ُ‬
‫جاءه من رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لذلك لما أخبروه خبر السراء والمعراج الذي كذّب به‬
‫كثيرون‪ ،‬ماذا قال؟ قال‪ " :‬إنْ كان قال فقد صدق "‪.‬‬

‫فالمر عنده متوقف على مجرد قول رسول ال‪ ،‬فهذا هو الميزان عنده‪ ،‬وطالما أن رسول ال قد‬
‫قال فهو صادق‪ ،‬هكذا دون جدال‪ ،‬ودون مناقشة‪ ،‬ودون بَحْث في ملبسات هذه المسألة؛ لذلك من‬
‫يومها وهو صِدّيق عن جدارة‪.‬‬

‫والسيدة مريم قال عنها الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَُأمّهُ صِدّيقَةٌ }[المائدة‪ ]75 :‬فسماها صديقة؛ لنها‬
‫ك لَ َهبَ َلكِ غُلَما َزكِيّا }[مريم‪.]19 :‬‬
‫صدّقتْ ساعة أنْ قال لها الملَك‪ {:‬قَالَ إِ ّنمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَ ّب ِ‬
‫فوثقتْ بهذه البشارة‪ ،‬وأخذتْها على أنها حقيقة واقعة‪ ،‬فلما جاء الوليد أشارت إليه وهي على ثقة‬
‫كاملة ويقين تام أنه سينطق ويتكلم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالصّديق ليس هو الذي يَصدُق‪ ،‬بل الذي يُصدّق‪ .‬وهكذا كان خليل ال إبراهيم (صديقا)‬
‫وكان أيضا (نبيا) لن النسان قد يكون صديقا يعطيه ال شفافية خاصة‪ ،‬وليس من الضروري أن‬
‫صدّيقة وأبو بكر صِدّيقا‪ ،‬فهذه إذن صفة ذاتية إشراقية من ال‪ ،‬أما‬
‫يكون نبيا‪ ،‬كما كانت مريم ِ‬
‫النبوة فهي عطاء وتشريع يأتي من أعلى‪ ،‬وهُدى يأتي من السماء يحمل النبي مسئوليته؟‪.‬‬
‫ل لَبِيهِ ياأَ َبتِ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِذْ قَا َ‬

‫(‪)2275 /‬‬

‫س َم ُع وَلَا يُ ْبصِرُ وَلَا ُيغْنِي عَ ْنكَ شَيْئًا (‪)42‬‬


‫إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَ َبتِ لِمَ َتعْ ُبدُ مَا لَا يَ ْ‬

‫هذا الحديث من إبراهيم عليه السلم لبيه على اعتبار أنه نبي جاء ليُعدّل سلوك الناس على َوفْق‬
‫منهج ال‪ ،‬وأوّلهم أبوه‪ ،‬وقد ذكره القرآن هكذا بأبوته لبراهيم دون أن يذكر اسمه‪ ،‬إل في آية‬
‫واحدة قال فيها‪ {:‬لَبِيهِ آزَرَ }[النعام‪.]74 :‬‬
‫وهذه الية أحدثتْ إشكالً فظنّ البعض أن آزر هو أبو إبراهيم الحقيقي الصّلبي‪ ،‬وهذا القول‬
‫يتعارض مع الحديث النبوي الشريف الذي يُوضّح طهارة أصْل النبي محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫حيث قال‪ " :‬أنا خيار من خيار‪ ،‬ما زِلت أنتقل من أصلب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فأصول النبي إلى آدم " طاهر متزوج طاهرة " ‪ ،‬فلو قلنا‪ :‬إن آزر الذي قال ال في حقه‪{:‬‬
‫فََلمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ للّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ }[التوبة‪ ]114 :‬هو أبو إبراهيم‪ ،‬لكَانَ في ذلك تعارض مع‬
‫الحديث النبوي‪ ،‬فكيف يكون من آباء محمد صلى ال عليه وسلم مثل هذا الكافر؟‬
‫ولو تأملنا إطلقات الُبوّة في القرآن الكريم لخرجنا من هذا الشكال‪ ،‬فالقرآن تكلم عن البوة‬
‫الصّلْبية المباشرة‪ ،‬وتكلم عن الُبوة غير المباشرة في الجد وفي العم‪ ،‬فسمّى الجد أبا‪ ،‬والعم أبا؛‬
‫لنه يشترك مع أبي في جدي‪ ،‬فله واسطة استحق بها أن يُسمّى أبا‪ .‬وفي القرآن نصّان‪ :‬أحدهما‪:‬‬
‫يُطلِق على الجد أبا‪ ،‬والخر يُطلِق على العم أبا‪.‬‬
‫فالول في قوله تعالى من قصة يوسف عليه السلم‪:‬‬
‫ح ِملُ َفوْقَ‬
‫خمْرا َوقَالَ الخَرُ إِنّي أَرَانِي َأ ْ‬
‫عصِرُ َ‬
‫حدُ ُهمَآ إِنّي أَرَانِي أَ ْ‬
‫خلَ َمعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَ َ‬
‫{ وَ َد َ‬
‫رَأْسِي خُبْزا تَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَ ْأوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْل ُمحْسِنِينَ }[يوسف‪.]36 :‬‬
‫فاختاروا يوسف لتأويل رؤياهم؛ لنهم رأوه من المحسنين‪ ،‬فكأن الحسان له مقاييس معروفة حتى‬
‫عند غير المحسن‪ ،‬فلما تعرّضوا لمر يُهمهم لم يلجئوا إل لهذا الرجل الطيب‪ ،‬فمقاييس الكمال‬
‫محترمة ومعتبرة حتى عند فاقد الكمال‪.‬‬
‫حسِنِينَ }[يوسف‪ ]36 :‬علم أنهم متتبعون حركاته وتصرفاته‪ ،‬وكيف‬
‫فلما قالوا له{ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُ ْ‬
‫سلوكه بينهم‪ ،‬فأراد أنْ يزيدهم مما عنده من إشراقات‪ ،‬فأمْره ليس مجرد سلوك طيب وسيرة‬
‫طعَامٌ تُرْ َزقَانِهِ ِإلّ نَبّأْ ُت ُكمَا بِتَ ْأوِيلِهِ قَ ْبلَ أَن‬
‫حسنة بينهم‪ ،‬بل عنده أشياء أخرى‪ ،‬فقال‪ {:‬لَ يَأْتِي ُكمَا َ‬
‫يَأْتِي ُكمَا }[يوسف‪.]37 :‬‬
‫ثم ترك الجابة عن سؤالهم‪ ،‬وأخذ في الحديث فيما يخصّه كنبيّ وداعية إلى ال‪ ،‬فأخبرهم أن ما‬
‫عنده من مواهب هو عطاء من ال‪ ،‬وليس هو بأذكى منهم‪ ،‬فقال‪ {:‬ذاِل ُكمَا ِممّا عَّلمَنِي رَبّي إِنّي‬
‫تَ َر ْكتُ مِلّةَ َقوْ ٍم لّ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتّ َب ْعتُ مِلّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِي َم وَإِسْحَاقَ‬
‫وَ َيعْقُوبَ }[يوسف‪37 :‬ـ ‪.]38‬‬
‫ثم يلفت نظر رفاقه إلى بطلن ما هم عليه من عبادة أرباب متفرقين لم ينفعوهم بشيء‪ ،‬فهاهم‬
‫يتركونهم ويلجئون إلى يوسف الذي له َربّ واحد‪:‬‬

‫حدُ ا ْل َقهّارُ }[يوسف‪.]39 :‬‬


‫{ ياصَاحِ َبيِ السّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مّ ّتفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ ا ْلوَا ِ‬
‫وهكذا كان يوسف النبي الداعية حريصا على َنشْر دعوته وهداية مَنْ حوله‪ ،‬حتى وهو في سجنه‬
‫ي مهمته‪ ،‬وما قصّر في دعوته‪ ،‬فلما فرغ من موعظته واستطاع بلباقة أنْ يُسمعِهم ما يريد‪،‬‬
‫سَ‬‫ما ن ِ‬
‫وإلّ لو أجابهم عن سؤالهم من بداية المر لنصرفوا عن هذه الموعظة‪ ،‬وما أعاروها اهتماما‪.‬‬
‫خمْرا وََأمّا الخَرُ فَ ُيصَْلبُ فَتَ ْأ ُكلُ‬
‫سقِي رَبّهُ َ‬
‫والن يعود إلى سؤالهم وتفسير رؤياهم‪َ {:‬أمّآ َأحَ ُد ُكمَا فَيَ ْ‬
‫لمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْ َتفْتِيَانِ }[يوسف‪.]41 :‬‬
‫ياَ‬
‫ضَ‬‫الطّيْرُ مِن رّأْسِهِ ُق ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ }[يوسف‪:‬‬
‫شَا ِهدُنا في هذه القصة هو قوله تعالى‪ {:‬وَاتّ َب ْعتُ مِلّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫‪ ]38‬ويوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم‪ ،‬فسمّى الجداد آباءً‪.‬‬
‫حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َم ْوتُ ِإذْ قَالَ لِبَنِيهِ‬
‫شهَدَآءَ إِذْ َ‬
‫وقد يُسمّى العَمّ أبا‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬أمْ كُنتُمْ ُ‬
‫سمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ }[البقرة‪]133 :‬‬
‫مَا َتعْبُدُونَ مِن َبعْدِي قَالُواْ َنعْبُدُ ِإلَـا َهكَ وَإِلَـاهَ آبَا ِئكَ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫عمّه‪.‬‬
‫فعَدّ إسماعيلَ في آباء يعقوب‪ ،‬وهو َ‬
‫إذن‪ :‬لو أن القرآن الكريم حينما تحدث عن أبي إبراهيم فقال (لبيه) في كل اليات ل نصرف‬
‫المعنى إلى الُبوة الصّلْبية الحقيقية‪ ،‬أما أنْ يقول ولو مرة واحدة{ لَبِيهِ آزَرَ }[النعام‪ ]74 :‬فهذا‬
‫يعني أن المراد عمه؛ لنه ل يُؤتي بالعَلَم بعد البوة إل إذا أردنا العم‪ ،‬كما نقول نحن الن حين‬
‫نريد البوة الحقيقية‪ :‬جاء أبوك هكذا مبهمة دون تسمية‪ ،‬وفي البوة غير الحقيقية نقول‪ :‬جاء أبوك‬
‫فلن‪.‬‬
‫وبناءً عليه فقد ورد قوله تعالى‪ {:‬لَبِيهِ آزَرَ }[النعام‪ ]74 :‬مرة واحدة‪ ،‬ليثبت لنا أن آزر ليس هو‬
‫عمّه‪ ،‬وبذلك يسْلَم لرسول ال صلى ال عليه وسلم طهارة نسبه‬
‫الب الصّلْبي لبراهيم‪ ،‬وإنما هو َ‬
‫ونقاء سِلْسلته إلى آدم عليه السلم‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬ياأَ َبتِ { [مريم‪ ]42 :‬وكان التركيب العربي يقتضي أن يقول‪ :‬يا أبي‪ ،‬إل أنهم يحذفون‬
‫ياء المتكلم ويُعوّضون عنها بالتاء‪ ،‬فلماذا؟ قالوا‪ :‬لن (أبت) لها مَلْحظ دقيق‪ ،‬فهو يريد أنْ يُثبت‬
‫أنه وإنْ كان أبا إل أن فيه حنان البوين‪ :‬الب والم‪ .‬فجاء بالتاء التي تشير إلى الجانب الخر؛‬
‫لذلك نجدها ل تُقال إل في الحنانية المطلقة (يَا أَ َبتِ) كما لو ماتتْ الم مثلً‪ ،‬فقام الب بالمهمتين‬
‫معا‪ ،‬وعوض البناء حنان الم المفقود‪.‬‬
‫سمَ ُع َولَ يُ ْبصِ ُر َولَ ُيغْنِي عَنكَ شَيْئا { [مريم‪ ]42 :‬يبدو من أسلوب‬
‫وقوله‪ِ } :‬لمَ َتعْبُدُ مَا لَ يَ ْ‬
‫إبراهيم عليه السلم مع أبيه أ َدبُ الدعوة‪ ،‬حيث قدّم الموعظة على سبيل الستفهام حتى ل يُشعِر‬
‫أباه بالنقص‪ ،‬أو يُظهِر له أنه أعلم منه‪.‬‬
‫س َم ُع وَلَ يُ ْبصِ ُر َولَ ُيغْنِي عَنكَ شَيْئا { [مريم‪ ]42 :‬نلحظ أنه لم يقُلْ من البداية‪ِ :‬لمَ‬
‫} ِلمَ َتعْبُدُ مَا لَ يَ ْ‬
‫تعبد الشيطان‪ ،‬بل أخّر هذه الحقيقة إلى نهاية المناقشة‪ ،‬وبدل أنْ يقولَ الشيطان حلّل شخصيته‪،‬‬
‫وأبان عناصره‪ ،‬وكشف عن حقيقته‪ :‬ل يسمع ول يبصر‪ ،‬ول يُغني عنك شيئا‪ ،‬فهذه الصفات ل‬
‫تكون في المعبود‪ ،‬وهي العِلّة في أنْ نتجنبَ عبادة ما دون ال من شجر أو حجر أو شيطان‪،‬‬
‫وخصوصا في بيئة إبراهيم ـ عليه السلم ـ وكانت مليئة بالوثان والصنام‪.‬‬

‫لن العبادة ماذا تعني؟ تعني طاعةَ عابدٍ لمعبود في َأمْره و َنهْيه‪ ،‬فالذين يعبدون ما دون ال من‬
‫صنم أو وَثَنٍ أو شمس أو قمر‪ ،‬بماذا أمرتْهم هذه المعبودات؟ وعن أيّ شيء نه ْتهُم؟ وماذا أع ّدتْ‬
‫هذه المعبودات لمنْ عبدها؟ وماذا أع ّدتْ لمَنْ عصاها؟ ما المنهج الذي جاءتْ به حتى تستحقّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العبادة؟ ل يوجد شيء من هذا كله‪ ،‬إذن‪ :‬فعبادتهم باطلة‪.‬‬
‫ثم يقول‪ } :‬ياأَ َبتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي {‬

‫(‪)2276 /‬‬

‫سوِيّا (‪)43‬‬
‫ك صِرَاطًا َ‬
‫يَا أَ َبتِ إِنّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلمْ يَأْ ِتكَ فَاتّ ِبعْنِي أَهْ ِد َ‬

‫يُكرّر نبي ال إبراهيم هذا النداء الحنون مرة أخرى‪ ،‬وكأنه يريد أنْ يثير في أبيه غريزة الحنان‪،‬‬
‫ويُوقِظ عنده أواصر الرحم‪ ،‬كأنه يقول له‪ :‬إن كلمي معك كلم البن لبيه‪ ،‬كما نفعل نحن الن‬
‫إنْ أراد أحدنا أنْ يُحنّن إليه قلب أبيه يقول‪ :‬يا والدي كذا وكذا‪ ..‬يا أبي اسمع لي‪ .‬وكذلك حال‬
‫إبراهيم ـ عليه السلم ـ حيث نادى أباه هذا النداء في هذه اليات أربع مرات متتاليات‪ ،‬وما ذلك‬
‫إل لحرصه على هدايته‪ ،‬والخْذ بيده إلى الطريق المستقيم‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا لَمْ يَأْ ِتكَ } [مريم‪ ]43 :‬أي‪ :‬ل تظن يا أبي أنّي متعالم عليك‪،‬‬
‫أو أَنّي أفضل‪ ،‬أو أذكى منك‪ ،‬فهذا الكلم ليس من عندي‪ ،‬بل من أعلى مني ومنك‪ ،‬فل غضاضةَ‬
‫في سماعه والنصياع له‪ ،‬وهو رسالة كُّل ْفتُ بإبلغك إياها‪ ،‬وهذا الذي جاءني من العلم لم يأ ِتكَ‬
‫أنت‪ ،‬وهذا اعتذار رقيق من خليل ال‪ ،‬فالمسألة ليستْ ذاتية بين ولد وعمه‪ ،‬أو ولد وأبيه‪ ،‬إنها‬
‫مسألة عامة تع ّدتْ حدود الُبُوة والعمومة‪.‬‬
‫ولذلك لما تحدّثْنا في سورة الكهف عن قصة موسى والخضر ـ عليهما السلم ـ‪ ،‬قلنا‪ :‬إن العبد‬
‫الصالح التمس لموسى عُذْرا؛ لنه تصرّف بناءً على علم عنده‪ ،‬ليس عند موسى مثله‪ ،‬فقال له‪{:‬‬
‫حطْ بِهِ خُبْرا }[الكهف‪ ]68 :‬وكذلك قال إبراهيم لبيه حتى ل تأخذه‬
‫َوكَيْفَ َتصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُ ِ‬
‫العِزّة‪ ،‬ويأنف من الستماع لولده‪.‬‬
‫سوِيّا } [مريم‪ ]43 :‬لن هذا المنهج الذي أدعوك إليه ليس من‬
‫ك صِرَاطا َ‬
‫ثم يقول‪ { :‬فَاتّ ِبعْنِي َأهْ ِد َ‬
‫عندي‪ ،‬بل من أعلى مني ومنك‪ ،‬والصراط السّويّ‪ :‬هو الطريق المستقيم الذي يُوصّلك للغاية‬
‫بأيسر مشقة‪ ،‬وفي أقصر وقت‪.‬‬
‫ت لَ َتعْ ُبدِ الشّ ْيطَانَ }‬
‫ثم يقول‪ { :‬ياأَ َب ِ‬

‫(‪)2277 /‬‬

‫عصِيّا (‪)44‬‬
‫حمَنِ َ‬
‫يَا أَ َبتِ لَا َتعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلرّ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَ ُع َولَ يُ ْبصِ ُر َولَ ُيغْنِي عَنكَ شَيْئا‬
‫نلحظ أن إبراهيم في بداية محاورته لبيه قال‪ {:‬لِمَ َتعْبُدُ مَا لَ َي ْ‬
‫}[مريم‪ ]42 :‬وهنا يقول‪ { :‬لَ َتعْ ُبدِ الشّ ْيطَانَ } [مريم‪ ]44 :‬مع أن الشيطان يمكن أن يسمع‬
‫ويبصر‪ ،‬فكيف يكون ذلك؟‬
‫قالوا‪ :‬لن الشيطان هو الذي يُسوّل عبادة الصنم أو الشجر أو الشمس أو القمر‪ ،‬فالمر مردود إليه‬
‫وهو سببه‪ ،‬إل أن إبراهيم عليه السلم حَلّل المسألة المباشرة؛ لن أباه يعبد صنما ل يسمع ول‬
‫يُبصر‪ ،‬ول يُغني عنه شيئا‪ ،‬وهذا بشهادتهم أنفسهم‪ ،‬كما جاء في قوله تبارك وتعالى‪َ {:‬هلْ‬
‫س َمعُو َنكُمْ إِذْ َتدْعُونَ * َأوْ يَن َفعُو َنكُمْ َأوْ َيضُرّونَ }[الشعراء‪72 :‬ـ ‪.]73‬‬
‫يَ ْ‬
‫فهذا استفهام‪ ،‬ول يستفهم مُستفهِم مجادل ممّن يجادله عن شيء‪ ،‬إل وقد عَلِم أن الجواب ل ُبدّ أن‬
‫يكون في صالحه؛ لنه ائتمنه على الجواب‪ .‬إذن‪ :‬فعبادة ما دون ال مردّها إلى إغواء الشيطان‪.‬‬
‫عصِيّا } [مريم‪ ]44 :‬عصيا‪ :‬مبالغة في‬
‫حمَـانِ َ‬
‫ثم يستطرد إبراهيم قائلً‪ { :‬إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلرّ ْ‬
‫عصِيا يعصي أوامر ال بلَ َددٍ وعناد‪.‬‬
‫العصيان‪ ،‬فالشيطان ليس عاصيا‪ ،‬بل َ‬
‫ثم يقول‪ { :‬ياأَ َبتِ إِنّي أَخَافُ }‬

‫(‪)2278 /‬‬

‫ن وَلِيّا (‪)45‬‬
‫حمَنِ فَ َتكُونَ لِلشّ ْيطَا ِ‬
‫عذَابٌ مِنَ الرّ ْ‬
‫سكَ َ‬
‫يَا أَ َبتِ إِنّي أَخَافُ أَنْ َيمَ ّ‬

‫عذَابٌ } [مريم‪ ]45 :‬ولم ي ُقلْ مثلً‪ :‬يصيبك‪.‬‬


‫سكَ َ‬
‫مازال خليل ال يتلطف في دعوة أبيه فيقول‪َ { :‬يمَ ّ‬
‫فهو ل يريد أنْ يصدمه بهذه الحقيقة‪ ،‬والمسّ‪ :‬هو اللتصاق الخفيف‪ ،‬وكأنه يقول له‪ :‬إن أمرك‬
‫يُهمني‪ ،‬وأخاف عليك مجرد هبو التراب أن ينالك‪ .‬وهذا منتهى الشفقة عليه والحرص على نجاته‪.‬‬
‫ثم يقول‪ { :‬فَ َتكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّا } [مريم‪ ]45 :‬أي‪ :‬قريبا منه‪ ،‬وتابعا له يصيبك من العذاب مَا‬
‫يصيبه‪ ،‬وتُعذّب كما يُعذّب‪.‬‬
‫وهكذا انتهتْ هذه المحاورة التي احتوتْ أربعة نداءات حانية‪ ،‬وجاءت نموذجا فريدا للدعوة إلى‬
‫ال بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فراعتْ مشاعر الب الذي يدعوه ولده ويُقدّم له الّنصْح‪ ،‬ورتبت‬
‫المور ترتيبا طبيعيا‪ ،‬وسَلْسَلَتْها تسلْسُلً لطيفا ل يثير حفيظة السامع ول يصدمه‪.‬‬
‫وقد راعى الحق ـ تبارك وتعالى ـ جوانب النفس البشرية فأمر أنْ تكونَ الدعوة إليه بالحكمة‬
‫والموعظة الحسنة حتى ل تجمع على المدعو قسوة الدعوة‪ ،‬وقسوة أنْ يترك ما أَلِف‪ ،‬ويخرج منه‬
‫إلى ما لم يألف‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فأنت حين تدعو شخصا إلى ال فإنما تُخرِجه عن الفساد الذي أَلِفه‪ ،‬وهو لم يألف الفساد إل بعد أن‬
‫اشتهاه أولً‪ ،‬ثم اعتاده بالفعل والممارسة ثانيا‪ ،‬وهاتان مصيبتان آخذتان بزمامه‪ ،‬فما أحوجه‬
‫لسلوب لَيّن يستميل مشاعره ويعطفه نحوك فيستجيب لك‪.‬‬
‫وما أشبه الداعية في هذا الموقف بالذي يحتال ليخلص الثوب الحرير من الشواك‪ ،‬أما إنْ نهرته‬
‫وقسوْتَ عليه فسوف يُعرض عنك وينصرف عن دعوتك‪ ،‬ويظلّ على ما هو عليه من الفساد؛‬
‫حسَنَ ِة وَجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ }‬
‫ظةِ الْ َ‬
‫ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِ َ‬
‫لذلك قال تعالى‪ {:‬ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ بِالْ ِ‬
‫[النحل‪.]125 :‬‬
‫خفّة‬
‫ويقولون‪ :‬النصح ثقيل فل تُرسِلْه جبلً‪ ،‬ول تجعله جدلً‪ ،‬وقالوا‪ :‬الحقائق مُرّة فاستعيروا لها ِ‬
‫البيان‪.‬‬
‫غبٌ أَنتَ عَنْ آِلهَتِي }‬
‫وبعد أنْ أنهى إبراهيم مقالته يرد الب قائلً‪ { :‬قَالَ أَرَا ِ‬

‫(‪)2279 /‬‬

‫جمَ ّنكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّا (‪)46‬‬


‫غبٌ أَ ْنتَ عَنْ آَِلهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ َلمْ تَنْتَهِ لَأَ ْر ُ‬
‫قَالَ أَرَا ِ‬

‫الفعل (رغب) يحمل المعنى وضده حَسْب حرف الجر بعده‪ ،‬نقول‪ :‬رغب في كذا‪ .‬أي‪ :‬أحبه‬
‫غبٌ أَنتَ عَنْ آِلهَتِي ياإِبْرَاهِيمُ }‬
‫وذهب إليه‪ ،‬ورَغب عن كذا أي‪ :‬كرهه واعتزله‪ ،‬فمعنى { أَرَا ِ‬
‫غبُ عَن مّلّةِ إِبْرَاهِيمَ ِإلّ‬
‫[إبراهيم‪ ]46 :‬أي‪ :‬تاركها إلى غيرها‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬ومَن يَرْ َ‬
‫سفِهَ َنفْسَهُ }[البقرة‪ ]130 :‬أي‪ :‬تركها إلى مِلّة أخرى‪.‬‬
‫مَن َ‬
‫ونلحظ أن الفعل رَغِب لم ي ْأتِ مقترنا بعده بفي إل مرة واحدة‪ ،‬وإنْ كانت (في) مُقدّرة بعد الفعل‪،‬‬
‫وهذا في قوله تعالى عن نكاح يتامى النساء‪ {:‬وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ }[النساء‪.]127 :‬‬
‫والرغبة في الشيء تعني حُبه وعِشْقه‪ ،‬والرغبة في الطريق الموصّل إليه‪ ،‬إل أنك لم تسلك هذا‬
‫الطريق بالفعل‪ ،‬ولم تأخذ بالسباب التي تُوصّلك إلى ما ترغب فيه‪ ،‬وهذا المعنى واضح في قصة‬
‫أصحاب الجنة في سورة (ن) حيث يقول تعالى‪:‬‬
‫سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ * َولَ َيسْتَثْنُونَ * فَطَافَ‬
‫{ إِنّا بََلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ ِإذْ َأقْ َ‬
‫حتْ كَالصّرِيمِ }[القلم‪17 :‬ـ ‪.]20‬‬
‫ك وَهُمْ نَآ ِئمُونَ * فََأصْ َب َ‬
‫عَلَ ْيهَا طَآ ِئفٌ مّن رّ ّب َ‬
‫فقد اتفقوا على قَطْف ثمار بستانهم في الصباح‪ ،‬ولم يقولوا‪ :‬إن شاء ال‪ ،‬فدمّرها ال وأهلكها وهم‬
‫نائمون‪ ،‬وفي الصباح انطلقوا إلى جنتهم وهم يقولون فيما بينهم‪:‬‬
‫سكِينٌ }[القلم‪.]24 :‬‬
‫علَ ْيكُمْ مّ ْ‬
‫{ لّ يَ ْدخُلَ ّنهَا الْ َيوْمَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا قطعوا الطريق على أنفسهم حينما حَ َرمُوا المسكين{ فََلمّا رََأوْهَا قَالُواْ إِنّا َلضَآلّونَ * َبلْ َنحْنُ‬
‫مَحْرُومُونَ }[القلم‪26 :‬ـ ‪ ]27‬ثم تنبهوا إلى ما وقعوا فيه من خطأ‪ ،‬وعادوا إلى صوابهم فقالو‪{:‬‬
‫عَسَىا رَبّنَآ أَن يُ ْبدِلَنَا خَيْرا مّ ْنهَآ إِنّآ إِلَىا رَبّنَا رَاغِبُونَ }[القلم‪.]32 :‬‬
‫أي‪ :‬راغبون في الطريق الموصّل إليه تعالى‪ ،‬فقبل أنْ تقول‪ :‬أنا راغب في ال‪ .‬قل‪ :‬أنا راغب‬
‫سعْي وعَمل يُوصّلك إلى ما تحب‪ .‬إذن‪ :‬قبل أنْ‬
‫إلى ال‪ ،‬فالمسألة ليست حُبا فقط بل حُبا بثمن و َ‬
‫تكونوا راغبين في ربكم ارغبوا إليه أولً‪.‬‬
‫وفي موضع آخر يقول تعالى‪َ {:‬ومِ ْنهُمْ مّن يَ ْلمِ ُزكَ فِي الصّ َدقَاتِ }[التوبة‪ ]58 :‬أي‪ :‬يعيبك في‬
‫سخَطُونَ }[التوبة‪ ]58 :‬فهم ـ إذن ـ‬
‫طوْاْ مِنهَا ِإذَا ُهمْ يَ ْ‬
‫توزيعها{ فَإِنْ أُعْطُواْ مِ ْنهَا َرضُو ْا وَإِن لّمْ ُي ْع َ‬
‫ل يحبون ال‪ ،‬وإنما يحبون العطاء والعَرَض الزائل‪ ،‬بدليل أنهم لما مُ ِنعُوا سخطوا وصرفوا‬
‫نظرهم عن دين ال كمَنْ قال ال فيهم‪:‬‬
‫طمَأَنّ بِ ِه وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْ َنةٌ ا ْنقََلبَ عَلَىا‬
‫{ َومِنَ النّاسِ مَن َيعْ ُبدُ اللّهَ عَلَىا حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ‬
‫جهِهِ }[الحج‪.]11 :‬‬
‫وَ ْ‬
‫ضوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ‬
‫لذلك يُعدّل لهم الحق سبحانه سلوكهم‪ ،‬ويرشدهم إلى المنهج القويم‪ {:‬وََلوْ أَ ّنهُمْ َر ُ‬
‫وَرَسُولُ ُه َوقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَ ُيؤْتِينَا اللّهُ مِن َفضْلِ ِه وَرَسُوُلهُ إِنّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }[التوبة‪ ]59 :‬أي‪:‬‬
‫آخذين الوسيلة الموصّلة إليه‪ ،‬فالذي يرغب في حب ال عليه أنْ يرغبَ في الطريق الموصّل إليه‪.‬‬
‫جمَ ّنكَ } [مريم‪ ]46 :‬أي‪ :‬تترك هذه المسألة التي تدعو‬
‫ثم يقول أبو إبراهيم‪ { :‬لَئِن لّمْ تَنتَ ِه لَرْ ُ‬
‫إليها‪ .‬والرجْم‪ :‬هو الرمي بالحجارة‪ ،‬ويبدو أن عملية الرجم كانت طريقة للتعذيب الشديد‪ ،‬كما في‬
‫جمُوكُمْ َأوْ ُيعِيدُوكُمْ فِي مِلّ ِتهِمْ }[الكهف‪.]20 :‬‬
‫ظهَرُواْ عَلَ ْيكُمْ يَ ْر ُ‬
‫قوله تعالى‪ {:‬إِ ّنهُمْ إِن يَ ْ‬
‫{ وَا ْهجُرْنِي مَلِيّا } [مريم‪ ]46 :‬أي‪ :‬ابتعد عني وفارقني { مَلِيّا } [مريم‪ ]46 :‬المليّ‪ :‬البُرْهة‬
‫الطويلة من الزمن‪ .‬ومنها الملوة‪ :‬الفترة الطويلة من الزمن‪ ،‬والملوَان‪ :‬الليل والنهار‪.‬‬
‫سمْته العادل‪ ،‬ولم يتعدّ أدب‬
‫فماذا قال نبي ال إبراهيم لعمه بعد هذه القسوة؟ لم يخرج إبراهيم عن َ‬
‫الحوار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة‪ .‬قال‪ { :‬قَالَ سَلَمٌ عَلَ ْيكَ }‬

‫(‪)2280 /‬‬

‫حفِيّا (‪)47‬‬
‫علَ ْيكَ سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي إِنّهُ كَانَ بِي َ‬
‫قَالَ سَلَامٌ َ‬

‫وكأن إبراهيم ـ عليه السلم ـ يريد أنْ يَل ِفتَ نظر عمه‪ ،‬ويؤكد له أنه في خطر عظيم يستوجب‬
‫العذاب من ال‪ ،‬وهذا أمر يُحزِنه ول يُرضيه‪ ،‬وكيف يترك عمه دون أنْ يأخذَ بيده؟ فقال له أولً‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ سَلَمٌ عَلَ ْيكَ } [مريم‪ ]47 :‬أي‪ :‬سلم مني أنا‪ ،‬سلم أقابل به ما بدر منك فأمْري معك سلم‪ ،‬فلن‬
‫أقابلَك بمثل ما قُلْت‪ ،‬ولن أُغلِظ لك‪ ،‬ولن ينالك مني أذىً‪ ،‬ولن أقول لك‪ُ :‬أفّ‪.‬‬
‫ن يكونَ لك سلما أيضا من ال تعالى؛ لنك وقعت في أمر‬
‫لكن السلم منّي أنا ل يكفي‪ ،‬فل ُبدّ أ ْ‬
‫خطير ل يُغفر ويستوجب العذاب‪ ،‬وأخشى ألّ يكونَ لك سلم من ال‪.‬‬
‫لذلك قال بعدها‪ { :‬سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي } [مريم‪ ]47 :‬كأنه يعتذر عن قوله‪ { :‬سَلَمٌ عَلَ ْيكَ } [مريم‪:‬‬
‫‪ ]47‬فأنا ما قُ ْلتُ لك‪ :‬سلم عليك إل وأنا أنوي أن أستغفرَ لك ربي‪ ،‬حتى يتمّ لك السلم إنْ رجعتَ‬
‫عن عقيدتك في عبادة الصنام‪ ،‬وهو بذلك يريد أنْ يُحنّنه ويستميل قلبه‪.‬‬
‫ثم أخبر عن الستغفار في المستقبل فلم يقُلْ استغفرتُ‪ ،‬بل { سََأسْ َتغْفِرُ } [مريم‪ ]47 :‬يريد أنْ‬
‫يُبرىء استغفاره لعمه من المجاملة والنفاق والخداع‪ ،‬وربما لو استغفرتُ لك الن لظنِنتُ أنّي‬
‫ظهْر غيب‪ ،‬وهو‬
‫أجاملك‪ ،‬أما { سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ } [مريم‪ ]47 :‬أي‪ :‬بعيدا عنك ليكون دعاءً عن َ‬
‫أَرْجَى للقبول عند ال‪.‬‬
‫حفِيّا } [مريم‪ ]47 :‬يريد أنْ يُطمئِن عمه إلى أن له منزلة عند ال‪ ،‬فإذا‬
‫ثم يقول‪ { :‬إِنّهُ كَانَ بِي َ‬
‫استغفر له ربه فإنه تعالى سيقبل منه‪.‬‬
‫ح ِفيَ يَحْفيَ ك َرضِي يرضى‪ ،‬ويأتي بعده حرف جر يُحدّد معناها‪ .‬تقول‪ :‬حفيّ به‪:‬‬
‫وحَفيا‪ :‬من الفعل َ‬
‫أي بالغٍ في إكرامه إكراما يستوعب متطلبات سعادته‪ ،‬وقابله بالحفاوة‪ :‬أي بالكرام الذي يتناسب‬
‫مع ما يُحقّق له السعادة‪.‬‬
‫وهذا أمر نسبيّ يختلف باختلف الناس‪ ،‬فمنهم مَنْ تكون الحفاوة به مجرد أنْ تستقبلَه ولو على‬
‫حصيرة‪ ،‬وتُقدّم له ولو كوبا من الشاي‪ ،‬ومن الناس مَنْ يحتاج إلى الزينات والفُرُش الفاخرة‬
‫والموائد الفخمة ليشعر بالحفاوة به‪.‬‬
‫حفِيّ عنه‪ :‬أي بالغ في البحث عنه ليعرف أخباره‪ ،‬وبلغ من ذلك مبلغا شَقّ عليه وأضناه‪،‬‬
‫ونقول‪َ :‬‬
‫ح ِفيّ‬
‫وبالعامية يقولون‪ :‬وصلتُ له بعدما حفيتُ‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى عن الساعة‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ‬
‫س لَ َيعَْلمُونَ }[العراف‪ ]187 :‬أي‪ :‬كأنك معنيّ‬
‫عَ ْنهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِندَ اللّ ِه وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫بالساعة‪ُ ،‬مغْرم بالبحث عنها‪ ،‬دائم الكلم في شأنها‪.‬‬
‫حفِيّا } [مريم‪ ]47 :‬أي‪ :‬أن ربي يبالغ في إكرامي إكراما يُحقّق‬
‫إذن‪ :‬المعنى‪ { :‬إِنّهُ كَانَ بِي َ‬
‫سعادتي‪ ،‬ومن سعادتي أن ال يغفر لك الذنب الكبير الذي ُتصِرّ عليه‪ ،‬وكأنه عليه السلم يُضخّم‬
‫أمرينْ‪ :‬يُضخّم الذنب الذي وقع فيه عمه‪ ،‬وهو الكفر بال‪ ،‬ويُعظّم الرب الذي سيستغفر لعمه عنده‬
‫حفِيّا } [مريم‪.]47 :‬‬
‫{ إِنّهُ كَانَ بِي َ‬

‫حفِيّا بي فلن يخذلني‪ ،‬كيف وقد جعلني نبيا واحتفى بي‪ ،‬فكُنْ مطمئنا إنْ أنت تُ ْبتَ مما‬
‫وما دام ربي َ‬
‫أنت عليه من المعتقدات الباطلة‪ ،‬إنه سيغفر لك‪ .‬وكأن إبراهيم عليه السلم يؤكد لعمه على منزلته‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عند ربه‪ ،‬وما على عمه إل أنْ يسمع كلمه‪ ،‬ويستجيب لدعوته‪.‬‬
‫ظلّ إبراهيم ـ عليه السلم ـ يستغفر لعمه كما وعده‪ ،‬إلى أنْ تبيّن له أنه عدو ل فانصرف عند‬
‫وَ‬
‫ذلك‪ ،‬وتبرأ منه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬ومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِي َم لَبِيهِ ِإلّ عَن ّموْعِ َدةٍ وَعَدَهَآ إِيّاهُ فََلمّا‬
‫تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ للّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ }[التوبة‪.]114 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عن إبراهيم ـ عليه السلم ـ أنه قال لقومه‪ } :‬وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا تَدْعُونَ مِن‬
‫دُونِ اللّهِ {‬

‫(‪)2281 /‬‬

‫شقِيّا (‪)48‬‬
‫وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَأَدْعُو رَبّي عَسَى أَلّا َأكُونَ بِدُعَاءِ رَبّي َ‬

‫اعتزل‪ :‬ترك صحبة إلى خير منها ولو في اعتقاده‪ ،‬وهنا يلفتنا الحق سبحانه إلى إن النسان حين‬
‫خصْمه لددا وعنادا في الباطل‪ ،‬ل يطيل معه الكلم حتى ل يُؤصّل‬
‫يجادل في قضية‪ ،‬ويرى عند َ‬
‫فيه العناد‪ ،‬ويدعوه إلى كبرياء الغَلَبة ولو بالباطل‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يُعلّم المعاصرين لرسول ال صلى ال عليه وسلم إنْ أرادوا‬
‫البحث في أمره صِدْقا أو كذبا والعياذ بال‪ ،‬أنْ يبحثوه مَثْنى أو فُرَادى‪ ،‬ول يبحثوه بَحْثا جماهيريا‬
‫غوغائيا؛ لن العمل الغوغائي بعيد عن الموضوعية يستتر فيه الواحد في الجماعة‪ ،‬وقد يحدث ما‬
‫ل تُحمد عُقباه ول يعرفه أحد‪.‬‬
‫والغوغائية ل يحكمها عقل ول منطق‪ ،‬والجمهور كما يقولون‪ :‬عقله في أذنيه‪ .‬وسبق أن قلنا‪ :‬إن‬
‫صوّروا هذه الهزيمة على أنها نصر‪ ،‬كما حدث كثيرا على مَرّ‬
‫كليوباترا حين هُزِمت وحليفها َ‬
‫شعْب دُيُونُ ك ْيفَ يُوحُونَ إليْهمَلَ الجوّ هِتافا بحياتيْ قاتِليْهأثّر‬
‫سمَعُ ال ّ‬
‫التاريخ‪ ،‬وفيها يقول الشاعر‪:‬أ ْ‬
‫البُهتانُ فيه وَانْطلَي الزّورُ عليْهيَاَلهُ مِنْ بَ ّبغَاءٍ عقلُه في أُذُنيْهإذن‪ :‬فالجمهرة ل تُبدي رأيا‪ ،‬ول تصل‬
‫إلى صواب‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه للمعاصرين لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ح َدةٍ أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن جِنّةٍ }[سبأ‪:‬‬
‫ظكُمْ ِبوَا ِ‬
‫عُ‬‫{ ُقلْ إِ ّنمَآ أَ ِ‬
‫‪.]46‬‬
‫فبَحْث مثل هذا المر يحتاج إلى فرديْن يتبادلن النظر وال ِفكْر والدليل ويتقصيّان المسألة‪ ،‬فإنْ‬
‫تغلّب أحدهما على الخر كان المر بينهما دون ثالث يمكن أنْ يشمتَ في المغلوب‪ ،‬أو يبحثه فرد‬
‫واحد بينه وبين نفسه فينظر في شخص رسول ال‪ ،‬وما هو عليه من أدب وخُلق‪ ،‬وكيف يكون مع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا مجنونا؟ وهل رأينا عليه أمارات الجنون؟ والذين قالوا عنه‪ :‬ساحر لماذا لم يسحرهم كما سحر‬
‫التابعين له؟‬
‫إذن‪ :‬لو أدار الشخص الواحد هذه الحقائق على ذِهْنه‪ ،‬واستعرض الراء المختلفة لهتدى وحده‬
‫إلى الصواب‪ ،‬فالعتزال أمر مطلوب إنْ وجد النسان البيئة غير صالحة لنقاش الباطل مع الحق‬
‫خصْم‪.‬‬
‫ل نُؤصّل الجدل والعناد في نفس ال َ‬
‫ض َعفِينَ فِي‬
‫سهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْ َت ْ‬
‫لذلك يقول تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َت َوفّا ُهمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ‬
‫سعَةً فَ ُتهَاجِرُواْ فِيهَا }[النساء‪.]97 :‬‬
‫الَ ْرضِ قَالْواْ أََلمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ‬
‫أي‪ :‬كانت الفرصة أمامكم لتتركوا هذه ال ُبقْعة إلى غيرها من أرض ال الواسعة‪ ،‬وكأن الحق ـ‬
‫تبارك وتعالى ـ يُلفت نظرنا إلى أن الرض كلها أرض ال‪ ،‬فأرض ال الواسعة ليست هي‬
‫مصر أو سوريا أو ألمانيا‪ ،‬بل الرض كلها بل حواجز هي أرض ال‪ ،‬فمَنْ ضاق به مكانٌ ذهب‬
‫إلى غيره ل يمنعه مانع‪ ،‬وهل يوجد هذا الن؟ هل تستطيع أن تخترق هذه الحواجز ودونها نظم‬
‫وقوانين ما أنزل ال بها من سلطان‪.‬‬

‫ض َعهَا لِلَنَامِ }[الرحمن‪.]10 :‬‬


‫لذلك يقول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَالَ ْرضَ وَ َ‬
‫أي‪ :‬الرض كل الرض للنام كل النام وهذا من المبادىء التي جعلها الخالق سبحانه للنسانية‪،‬‬
‫فلما استحدثَ النسانُ الحواجز والحدود‪ ،‬وأقام السوار والسلك ومنع النام من الحركة في‬
‫شتَ‬
‫أرض ال نشأ في الكون فساد كبير‪ ،‬فإنْ ضاق بك موضع ل تجد بديلً عنه في غيره‪ ،‬وإنْ عِ ْ‬
‫في بيئة غير مستقيمة التكوين كتب عليك أنْ تشقى بها طوال حياتك‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن هذه الحدود وتلك الحواجز أفرزتْ أرضا بل رجال‪ ،‬ورجالً بل أرض‪ ،‬ولو تكاملتْ هذه‬
‫الطاقات ل ستقامتْ الدنيا‪.‬‬
‫ومسألة العتزال هذه‪ ،‬أو الهجرة من أرض الباطل‪ ،‬أو من بيئة ل ينتصر فيها الحق وردتْ في‬
‫نصوص عِدّة بالنسبة لسيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ منها قوله تعالى‪:‬‬
‫{ قَالُواْ حَ ّرقُوهُ وَانصُرُواْ آِلهَ َتكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ *‬
‫خسَرِينَ * وَنَجّيْنَا ُه وَلُوطا إِلَى الَ ْرضِ الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا لِ ْلعَاَلمِينَ }‬
‫جعَلْنَا ُه ُم الَ ْ‬
‫وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدا فَ َ‬
‫[النبياء‪68 :‬ـ ‪.]71‬‬
‫ت على منهج ال إلى أرض أخرى‪ ،‬وهاجر بدعوته إلى بيئة‬
‫فترك إبراهيم الرض التي استعص ْ‬
‫صالحة لها من أرض الشام‪.‬‬
‫نعود إلى اعتزال إبراهيم عليه السلم للقوم‪ ،‬ل لطلب الرزق وسَعة العيش‪ ،‬بل العتزال من أجل‬
‫ال وفي سبيل مبدأ إيماني يدعو إليه‪ } :‬وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ { [مريم‪ ]48 :‬وأول ما‬
‫سمَعُ وَلَ‬
‫نلحظ أن في هذه النص عدولً‪ ،‬حيث كان الكلم عن العبادة‪ {:‬ياأَ َبتِ ِلمَ َتعْبُدُ مَا لَ يَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يُ ْبصِرُ }[مريم‪ {،]42 :‬ياأَ َبتِ لَ َتعْبُدِ الشّ ْيطَانَ }[مريم‪.]44 :‬‬
‫والقياس يقتضي أن يقول‪ :‬وأعتزلكم وما تعبدون‪ ..‬وأدعو ربي‪ .‬أي‪ :‬أعبده‪ ،‬إل أنه عدل عن‬
‫العبادة هنا وقال‪ } :‬وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا َتدْعُونَ { [مريم‪ ]48 :‬فلماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن النسان ل ينصرف عن ربه وعن وحدانيته تعالى إل حين يستغني‪ ،‬فإنْ ألجأتْهُ‬
‫الحداث واضطرته الظروف ل يجد ملجأ إل إلى ال فيدعو‪ .‬إذن‪ :‬فالعبادة ستصل قَطْعا إلى‬
‫الدعاء‪ ،‬وما ُد ْمتَ ستضطر إلى الدعاء فليكُنْ من بداية المر‪:‬‬
‫} وَأَعْتَزُِلكُمْ َومَا َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ { [مريم‪.]48 :‬‬
‫إذن‪ :‬استخدم الدعاء بدل العبادة؛ لنني أعبد ال في الرخاء‪ ،‬فإنْ حدثتْ لي شِ ّدةٌ ل أجد إل هو‬
‫أدعوه‪.‬‬
‫ل أكون شقيا‬
‫شقِيّا { [مريم‪ ]48 :‬أي‪ :‬عسى أ ّ‬
‫وقوله‪ } :‬وَأَدْعُو رَبّي عَسَى َألّ َأكُونَ ِبدُعَآءِ رَبّي َ‬
‫بسبب دعائي لربي؛ لنه تبارك وتعالى ل يُشقي مَنْ عبده ودعاه‪ ،‬فإنْ أردتَ المقابل َفقُلْ‪ :‬الشقيّ‬
‫ن ل يعبد ال ول يدعوه‪.‬‬
‫مَ ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فََلمّا اعْتَزََلهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ {‬

‫(‪)2282 /‬‬

‫جعَلْنَا نَبِيّا (‪)49‬‬


‫ب َوكُلّا َ‬
‫ق وَ َي ْعقُو َ‬
‫سحَا َ‬
‫فََلمّا اعْتَزََلهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَهَبْنَا َلهُ إِ ْ‬

‫سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ } [مريم‪ ]49 :‬لم يذكر هنا إسماعيل؛ لن إسحق جاء جزاءً من‬
‫قوله‪ { :‬وَهَبْنَا لَهُ إِ ْ‬
‫ال لبراهيم على صبره في مسألة ذَبْح إسماعيل‪ ،‬وما حدث من تفويضهما المر ل تعالى‪،‬‬
‫والتسليم لقضائه وقَدرهِ‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬فََلمّا أَسَْلمَا }[الصافات‪ ]103 :‬أي‪ :‬إبراهيم وإسماعيل{‬
‫وَتَلّهُ لِ ْلجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَ ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا كَ َذِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ * إِنّ هَـاذَا‬
‫عظِيمٍ }[الصافات‪103 :‬ـ ‪.]107‬‬
‫َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ * َوفَدَيْنَاهُ ِبذِبْحٍ َ‬
‫سحَاقَ }[الصافات‪ ]112 :‬فلما امتثل لمر ال في‬
‫ولم يقتصر المر على الفداء‪ ،‬بل{ وَبَشّرْنَاهُ بِإِ ْ‬
‫الولد الول وهبنا له الثاني‪.‬‬
‫جعَلْنَا صَالِحِينَ }[النبياء‪:‬‬
‫ق وَ َي ْعقُوبَ نَافِلَ ًة َوكُلّ َ‬
‫سحَا َ‬
‫وفي آية أخرى يقول تعالى‪ {:‬وَوَهَبْنَا َلهُ إِ ْ‬
‫‪.]72‬‬
‫كأن الحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية‪ ،‬ومبالغة في الكرام‪.‬‬
‫جعَلْنَا نَبِيّا } [مريم‪ ]49 :‬فليس المتنان بأنْ‬
‫ثم يتمنّ ال على الجميع بأن يجعلَهم أنبياء { َوكُلّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهب له إسحاق ومن بعده يعقوب‪ ،‬بل بأنْ جعلهم أنبياء‪ ،‬وهذه جاءت بشرى لبراهيم‪ ،‬وكان حظّه‬
‫ن تكونَ في ذريته من بعده‪ ،‬وكانت هذه هي فكرة زكريا ـ‬
‫أنْ يرعى دعوة ال حيا‪ ،‬ويطمع أ ْ‬
‫عليه السلم ـ فكلهم يحرصون على الذرية ل للعزوة والتكاثر وميراث عَ َرضِ الدنيا‪ ،‬بل لحمل‬
‫منهج ال وامتداد الدعوة فيهم والقيام بواجبها‪.‬‬
‫انظر إلى قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلم‪ {:‬وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }‬
‫حمّله تشريعات فقام بها على أت ّم وجه وأدّاها على وجهها الصحيح‪ ،‬فلما علم‬
‫[البقرة‪ ]124 :‬أي‪َ :‬‬
‫عُلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما }[البقرة‪ ]124 :‬فتثور مسألة المامة‬
‫ال منه عِشْقه للتكليف أتمها عليه‪ {:‬إِنّي جَا ِ‬
‫ن تكونَ في ذريته من بعده فيقول‪َ {:‬ومِن ذُرّيّتِي }[البقرة‪ ]124 :‬لذلك‬
‫في نفس إبراهيم‪ ،‬ويطمع أ ْ‬
‫يُعدّل الحق سبحانه فكرة إبراهيم عن المامة‪ ،‬ويضع المبدأ العام لها‪ ،‬فهي ليستْ ميراثا‪ ،‬إنها‬
‫تكليف له شروط‪.‬‬
‫عهْدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة‪.]124 :‬‬
‫ل لَ يَنَالُ َ‬
‫{ قَا َ‬
‫فالظالمون ل يصلحون لهذه المهمة‪ .‬فوعي إبراهيم عليه السلم هذا الدرس‪ ،‬وأخذ هذا المبدأ‪،‬‬
‫ج َعلْ هَـاذَا بَلَدا‬
‫وأراد أنْ يحتاط به في سؤاله لربه بعد ذلك‪ ،‬فلما دعا ربه‪ {:‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ‬
‫آمِنا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ }[البقرة‪ ]126 :‬فاحتاط لنْ يكونَ في بلده ظالمون‪ ،‬فقال‪ {:‬مَنْ آمَنَ‬
‫مِ ْنهُمْ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ }[البقرة‪.]126 :‬‬
‫لكن جاء قياس إبراهيم هنا في غير محله‪ ،‬فعدّل ال له المسألة؛ لنه يتكلم في أمر خاص بعطاء‬
‫الربوبية الذي يشمل المؤمنَ والكافر‪ ،‬والطائ َع والعاصي‪ ،‬فقد ضمن ال الرزق للجميع فل داعي‬
‫ل َومَن َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيلً ُثمّ َأضْطَ ّرهُ ِإلَىا عَذَابِ‬
‫للحتياط في عطاء الربوبية؛ لذلك أجابه ربه‪ {:‬قَا َ‬
‫النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }[البقرة‪.]126 :‬‬
‫إذن‪ :‬فهناك فارق بين العطاءين‪ :‬عطاء الربوبية وعطاء اللوهية‪ ،‬والمامية في منهج ال‪ ،‬فعطاء‬
‫الربوبية رِزْق يُسَاق للجميع وخاضع للسباب‪ ،‬فمَنْ أخذ بأسبابه نال منه مَا يريد‪ ،‬أما عطاء‬
‫اللوهية فتكليف وطاعة وعبادة‪.‬‬
‫يقول تعالى‪ {:‬مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا‬
‫َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى‪.]20 :‬‬
‫حمَتِنَا }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ووَهَبْنَا َلهْم مّن رّ ْ‬

‫(‪)2283 /‬‬

‫ن صِدْقٍ عَلِيّا (‪)50‬‬


‫جعَلْنَا َلهُمْ ِلسَا َ‬
‫حمَتِنَا َو َ‬
‫َووَهَبْنَا َلهُمْ مِنْ رَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمَتِنَا } [مريم‪ ]50 :‬المراد بالرحمة النبوة؛ لذلك لما قال أهل العظمة والجاه‬
‫قوله تعالى‪ { :‬مّن رّ ْ‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ‬
‫المعاصرون لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ‬
‫عَظِيمٍ }[الزخرف‪ ]31 :‬وكأنهم استقلّوا رسول ال أن يكون في هذه المنزلة‪ ،‬رَدّ عليهم القرآن‪{:‬‬
‫ح َمتَ رَ ّبكَ }[الزخرف‪.]32 :‬‬
‫سمُونَ َر ْ‬
‫أَهُمْ َيقْ ِ‬
‫إذن‪ :‬فعطاؤه تعالى في النبوات رحمةٌ أشاعها ال في ذرية إبراهيم‪.‬‬
‫صدْقٍ عَلِيّا } [مريم‪ ]50 :‬أي‪ :‬كلمة صدق وحق ثابت مطابق للواقع‪،‬‬
‫ن ِ‬
‫جعَلْنَا َل ُهمْ لِسَا َ‬
‫وقوله‪ { :‬وَ َ‬
‫ولسان الصّدْق يعني مَدْحا في موضعه‪ ،‬وثناءً بحق ل مجاملةَ فيه‪ ،‬والثناء يكون باللسان‪ ،‬وها نحن‬
‫نذكر هذا الرْكب من النبياء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بالثناء الحسَن والسيرة الطيبة‪،‬‬
‫ونأخذهم قدوة‪ ،‬وهذا كله من لسان الصدق‪ ،‬ويبدو أنها دعوةُ إبراهيم حين قال‪:‬‬
‫ن صِ ْدقٍ فِي الخِرِينَ }[الشعراء‪83 :‬ـ‬
‫جعَل لّي لِسَا َ‬
‫حقْنِي بِالصّالِحِينَ * وَا ْ‬
‫حكْما وَأَ ْل ِ‬
‫{ َربّ َهبْ لِي ُ‬
‫‪.]84‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مُوسَىا }‬

‫(‪)2284 /‬‬

‫وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مُوسَى إِنّهُ كَانَ مُخَْلصًا َوكَانَ رَسُولًا نَبِيّا (‪)51‬‬

‫وهذا أيضا ركْب من ركْب النبوات‪ ،‬وقد أخذ قصة موسى عليه السلم حَيّزا كبيرا من كتاب ال لم‬
‫تأخذه قصة نبي آخر‪ ،‬مما دعا الناس إلى التساؤل عن سبب ذلك‪ ،‬حتى بنو إسرائيل يُفضّلون‬
‫أنفسهم على الناس بأنهم أكثر المم أنبياءً‪ ،‬وهذا من غبائهم؛ لن هذه تُحسَب عليهم ل لهم‪ ،‬فكثرة‬
‫النبياء فيهم دليل على عنادهم وغطرستهم مع أنبيائهم‪.‬‬
‫فما من أمة حيّرتْ النبياء‪ ،‬وآذتْهم كبني إسرائيل؛ لذلك كَثُرَ أنبياؤهم‪ ،‬والنبياء أطباء القِيَم وُأسَاة‬
‫عضَالً يحتاج في علجه ل لطبيب‬
‫أمراضها‪ ،‬فكثرتهم دليل تقشّي المرض‪ ،‬وأنه أصبح مرضا ُ‬
‫واحد‪ ،‬بل لفريق من الطباء‪.‬‬
‫والبعض يظن أن قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ‪ ،‬كما نقول نحن ونقصّ‪ :‬كان يا ما‬
‫كان حدث كذا وكذا‪ ،‬ولو كانت قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ لجاءتْ مرة واحدة‪.‬‬
‫لكنها ليست كذلك؛ لن الحكمة من َقصّها على رسول ال كما قال تعالى‪َ {:‬وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ‬
‫سلِ مَا نُثَ ّبتُ ِبهِ ُفؤَا َدكَ }[هود‪.]120 :‬‬
‫أَنْبَاءِ الرّ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فالهدف من هذا ال َقصَص تثبيت النبي صلى ال عليه وسلم في دعوته لقومه؛ لنه سيتعرض‬
‫لمواقف وشدائد كثيرة يحتاج فيها إلى تثبيت ومواساة وتسلية‪ ،‬فكلما جَدّ بينه وبين قومه أمر قال له‬
‫ربه‪ :‬اذكر موسى حين فعل كذا وكذا‪ ،‬وأنت خاتم الرسل‪ ،‬وأنت التاج بينهم‪ ،‬فل ُبدّ لك أنْ تتحمّل‬
‫وتصبر‪.‬‬
‫أما لو نزلت مثل هذه القصة مرة واحدة لكان التثبيت بها مرة واحدة‪ ،‬وما أكثر الحداث التي‬
‫تحتاج إلى تثبيت في حياة الدعوة‪.‬‬
‫لذلك نجد خصوم السلم يتهمون القرآن بالتكرار في قصة موسى عليه السلم‪ ،‬وهذا دليلٌ على‬
‫قصورهم في َفهْم القرآن‪ ،‬فهذه المواضع التي يروْنَ فيها تكرارا ما هي إل لقطات مختلفة‬
‫لموضوع واحد‪ ،‬لكن لكل لقطة منها موقع وميلد‪ ،‬فإذا جاء موقعها وحان ميلدها نزلتْ‪.‬‬
‫ومما رأوا فيه تكرارا‪ ،‬وليس كذلك قوله تعالى عن موسى عليه السلم طفلً‪ {:‬عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّهُ }‬
‫[طه‪ ]39 :‬ونتساءل‪ :‬متى تستعر العداوة بين عدوين؟ إنْ كانت العداوة من طرف واحد فإن‬
‫الطرف الخر يقابلها بموضوعية ودون َلدَدٍ في الخصومة إلى أنْ تهدأ العداوة بينهما‪ ،‬فهو عدو‬
‫دون عداوة‪ ،‬فحينما يراه صاحب العداوة على هذا الخُلق يصرف ما في نفسه من عداوة له‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى‪:‬‬
‫حمِيمٌ }[فصلت‪.]34 :‬‬
‫عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫ك وَبَيْنَهُ َ‬
‫{ ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ‬
‫أمّا إنْ كانت العداوة بين عدوّيْن حقيقيين‪ :‬هذا عدو وهذا عدو‪ ،‬هنا تستعر العداوة‪ ،‬وتزكو نارها‪،‬‬
‫ويحتدم بينهما صراع‪ ،‬ول بُدّ أنْ يصرَع أحدهما الخر‪.‬‬
‫والحق تبارك وتعالى حينما تكلّم عن موسى وفرعون‪ ،‬جعل العداوة مرة من موسى في قوله‬
‫تعالى‪:‬‬

‫عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ عَ ُدوّا َوحَزَنا }[القصص‪.]8 :‬‬


‫طهُ آلُ فِرْ َ‬
‫{ فَالْ َتقَ َ‬
‫فالعداوة هنا من موسى ليفضح ال أمر فرعون‪ ،‬فها هو يأخذ موسى ويُربّيه‪ ،‬وهو ل يعلم أنه عدو‬
‫له‪ ،‬وعلى يديْه ستكون نهايته غريقا‪ ،‬فالمقاييس عنده خاطئة‪ ،‬وهو يدّعِي اللوهية‪.‬‬
‫ومرة أخرى يُثبت العداوة من فرعون في قوله تعالى‪:‬‬
‫ع ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّهُ }[طه‪.]39 :‬‬
‫{ يَ ْأخُ ْذهُ َ‬
‫فالعداوة هنا من فرعون‪ :‬إذن‪ :‬فالعداوة من الطرفين‪ ،‬لذلك فالمعركة بينهما كانت حامية‪.‬‬
‫ضعِيهِ فَإِذَا‬
‫كذلك من المواضع التي ظنوا بها تكرارا قوله تعالى‪ {:‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ‬
‫ك وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص‪:‬‬
‫خ ْفتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَمّ وَلَ تَخَافِي َولَ تَحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ‬
‫ِ‬
‫‪.]7‬‬
‫وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى‪ِ {:‬إذْ َأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا * أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ع ُدوّ لّهُ }[طه‪38 :‬ـ ‪.]39‬‬
‫ع ُدوّ لّي وَ َ‬
‫حلِ يَ ْأخُ ْذهُ َ‬
‫فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْ َيمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ‬
‫والمستشرقون أحدثوا ضجة حول هذه اليات‪ :‬لنهم ل يفهمون أسلوب القرآن‪ ،‬وليست لديهم‬
‫خ ْفتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي‬
‫المَلكَة العربية للتلقّي عن ال‪ ،‬فهناك فَرْق بين السياقين‪ ،‬فالكلم الول‪ {:‬فَإِذَا ِ‬
‫اليَمّ }[القصص‪ ]7 :‬هذه أحداث لم تقع بعد‪ ،‬إنها ستحدث في المستقبل‪ ،‬والكلم مجرد إعداد أم‬
‫موسى للحداث قبل أنْ تقعَ‪.‬‬
‫أمّا المعنى الثاني فهو مباشر للحداث وقت وقوعها؛ لذلك جاء في عبارات مختصرة كأنها‬
‫برقيات حاسمة لتناسب واقع الحداث‪:‬‬
‫{ أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْ َيمّ }[طه‪.]39 :‬‬
‫كما أن الية الولى ذكرت‪ {:‬فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ }[القصص‪ ]7 :‬ولم تذكر التابوت كما في الية‬
‫الخرى‪ {:‬أَنِ ا ْق ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْ َيمّ }[طه‪.]39 :‬‬
‫إذن‪ :‬ليس في المسألة تكرار كما يدّعي المغرضون؛ فكل منهما تتحدث عن حال معين ومرحلة‬
‫من مراحل القصة‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مُوسَىا إِنّهُ كَانَ مُخْلِصا { [مريم‪ ]51 :‬من خَّلصَ شيئا من‬
‫أشياء‪ ،‬أي‪ :‬استخرج شيئا من أشياء كانت مختلطة به‪ ،‬كما نستخلص مثلً العطور من الزهور‪،‬‬
‫فقد أخذت الجيد وتركت الرديء‪ ،‬وبالنسبة للنسان نقول‪ :‬فلن مُخلص لن النسان مركب من‬
‫ملكات متعددة لتخدم كل حركة في الحياة‪ ،‬وكل مََلكَة من مَلكَاته‪ ،‬أو جهاز من أجهزته له مهمة‬
‫يؤديها‪ ،‬إل أنها قد تدخل عليها أشياء ليست من مهمته‪ ،‬أو تخرج عن غاياتها فتحدث فيه بعض‬
‫الشوائب‪ ،‬فيحتاج النسان لنْ يُخلّص نفسه من هذه الشوائب‪.‬‬
‫فمثلً‪ ،‬الحق ـ تبارك وتعالى ـ جعل التقاء الرجل والمرأة لهدف محدد‪ ،‬وهو بقاء النوع؛ لذلك‬
‫تجد الحيوان المحكوم بالغريزة ل بالعقل والختيار إذا أدى ُكلّ من الذكر والنثى هذه المهمة ل‬
‫يمكن أنْ تُمكّن النثى الذكر منها‪ ،‬وكذلك الذكر ل يأتي النثى إذا علم من رائحتها أنها حامل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬وقف الحيوان بهذه الغريزة عند مهمتها‪ ،‬وهي حفظ النوع‪ ،‬لكن النسان لم يقف بهذه الغريزة‬
‫حفْظ النوع تابعا لها‪.‬‬
‫عند حدودها‪ ،‬بل جعلها مُتعةً شخصية يأتي ِ‬

‫ن يأكلَ‪ ،‬والحكمة من ذلك‬


‫وكذلك الحال في غريزة الطعام‪ ،‬فالنسان إذا جاع يحتاج بغريزته إلى أ ْ‬
‫استبقاء الحياة‪ ،‬ل المتلء باللحم والشحم‪ .‬فالحيوان يقف بهذه الغريزة عند حَدّها‪ ،‬فإذا شبع ل‬
‫يمكن أنْ تُجبره على عود برسيم واحد فوق ما أكل‪.‬‬
‫أما في النسان فالمر مختلف تماما‪ ،‬فيأكل النسان حتى الشّبَع‪ ،‬ثم حتى التّخْمة‪ ،‬ول مانع بعد‬
‫ذلك من الحلو والمشروبات وخلفه؛ لذلك وضع لنا الخالق سبحانه وتعالى المنهج الذي يُنظّم لنا‬
‫هذه الغريزة‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬وكُلُو ْا وَاشْرَبُو ْا َولَ تُسْ ِرفُواْ }[العراف‪.]31 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفي الحديث الشريف‪ " :‬بحسب ابن آدم لقيمات ُي ِقمْنَ صُلْبه‪ ،‬فإن كان ول بُدّ فاعلً‪ ،‬فثُلث لطعامه‪،‬‬
‫وثُلث لشرابه‪ ،‬وثُلث لنفَسِه "‪.‬‬
‫ومن الغرائز أيضا غريزة حب الستطلع‪ ،‬فالنسان يحب أن يعرف ما عند الخر ليحدث بين‬
‫الناس الترقي اللزم لحركة الحياة‪ ،‬ومعرفة أسرار ال في الكون‪ ،‬وهذا هو الحد المقبول أما أن‬
‫يتحول حب الستطلع إلى التجسس وتتبّع عورات الخرين‪ ،‬فهذا ل يُقبل و ُيعَدّ من شوائب‬
‫النفوس‪ ،‬يحتاج إلى أنْ نُخلّص أنفسنا منه‪.‬‬
‫حدّها‬
‫إذن‪ :‬لكل غريزة حكمة ومهمة يجب ألّ نخرج عنها‪ ،‬والمُخْلَص هو الذي يقف بغرائزه عند َ‬
‫ل يتعدّاها ويخلصها من الشوائب التي تحوط بها‪ .‬وهذه الصفة إمّا أنْ يكرم ال بها العبد فيُخلّصه‬
‫من البداية من هذه الشوائب‪ ،‬أو يجتهد هو ليُخلّص نفسه من شوائبها باتباعه لمنهج ال‪ .‬هذا هو‬
‫المُخْلَص‪ :‬أي الذي خلص نفسه‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬يقولون‪ :‬من الناس مَنْ يصِل بطاعة ال إلى كرامة ال‪ ،‬ومن الناس مَنْ يصل بكرامة ال‬
‫إلى طاعة ال‪ .‬وقد جعل ال تعالى النبياء مخْلَصين من بدايتهم‪ ،‬ليكونوا جاهزين لهداية الناس‪،‬‬
‫ول يُضيّعون أوقاتهم في تخليص أنفسهم من شوائب الحياة وتجاربها‪.‬‬
‫ألم يستمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثا وعشرين سنة يُعلّم الناس كيف ُيخِلصون أنفسهم؟‬
‫فكيف إنْ كان النبي نفسه في حاجة لنْ يُخلص نفسه؟‬
‫غوِيَ ّنهُمْ‬
‫ك لُ ْ‬
‫ولمكانة هؤلء المخْلَصين ومنزلتهم تأدّب إبليس وراعى هذه المنزلة حين قال‪ {:‬فَ ِبعِزّ ِت َ‬
‫ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص‪82 :‬ـ ‪.]83‬‬
‫أَ ْ‬
‫لن هؤلء ل يقدر إبليس على غوايتهم‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪َ } :‬وكَانَ رَسُولً نّبِيّا { [مريم‪ ]51 :‬لن من عباد ال مَنْ يكون مخْلَصا دون أن‬
‫يكون نبيا أو رسولً كالعبد الصالح مثلً؛ لذلك أخبر تعالى عن موسى ـ عليه السلم ـ أنه جمع‬
‫له كل هذه الصفات‪.‬‬
‫والرسول‪ :‬مَنْ أُوحي إليه بشرع يعمل به و ُي ْؤمَر بتبليغه لقومه‪ ،‬أما النبي‪ ،‬فهو مَنْ أُوحِي إليه‬
‫بشرع يعمل به لكن لم ُي ْؤمَر بتبليغه‪ .‬إذن‪ :‬فكل رسول نبي‪ ،‬وليس كل نبي رسولً؛ لن النبي‬
‫يعيش على منهج الرسول الذي يعاصره أو يسبقه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَنَادَيْنَاهُ مِن جَا ِنبِ الطّورِ {‬

‫(‪)2285 /‬‬

‫ن َوقَرّبْنَاهُ نَجِيّا (‪)52‬‬


‫وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَا ِنبِ الطّورِ الْأَ ْيمَ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ي مكان ل‬
‫قوله تعالى‪ { :‬مِن جَا ِنبِ الطّو ِر الَ ْيمَنِ } [مريم‪ ]52 :‬أيمن الطور‪ ،‬أَمْ أيمن موسى؟ أ ّ‬
‫يُقال له أيمن ول أيسر‪ ،‬إنما اليمن واليسر بالنسبة لك أو لغيرك‪ ،‬فالذي تعتبره أنت يمينا يعتبره‬
‫غيرُك يسارا‪ ،‬ول يُقال للمكان أيمن ول أيسر إل إذا قِسْته إلى شيء ثابت كالقِبْلة مثلً فتقول‪ :‬أيمن‬
‫القبلة‪ ،‬وأيسر القبلة‪ ،‬وخلف القِبْلة‪ ،‬وأمام القِبْلة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقوله‪ { :‬مِن جَا ِنبِ الطّو ِر الَ ْيمَنِ } [مريم‪ ]52 :‬أي‪ :‬أيمن موسى‪ ،‬وهو مُقبل على الجبل‪،‬‬
‫ل وَسَارَ‬
‫جَ‬‫وهذه لقطة مختصرة من القصة جاءت مُفصّلة في قوله تعالى‪ {:‬فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ‬
‫بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَا ِنبِ الطّورِ نَارا }[القصص‪.]29 :‬‬
‫وقوله‪َ { :‬وقَرّبْنَاهُ نَجِيّا } [مريم‪ ]52 :‬أي‪ :‬قرّبْناه لِنُنَاجيه بكلم‪ .‬والنجيّ‪ :‬هو المنَاجِي الذي ُيسِرّ‬
‫القول إلى صاحبه‪ ،‬كما جاء في الحديث الشريف‪ " :‬إذا كنتم ثلثة فل ينتاجَ اثنان دون الخر‪ ،‬فإن‬
‫ذلك يُحزِنه "‪.‬‬
‫وقد قرّب ال تعالى موسى ليناجيه؛ لن هذه خصوصية لموسى عليه السلم‪ ،‬فكلم ال لموسى‬
‫ن قلتَ‪ :‬فكيف يكلّمه ال بكلم‪ ،‬ويسمى مناجاة؟ قالوا‪ :‬لنه‬
‫خاصّ به وحده ل يسمعه أحد غيره‪ ،‬فإ ْ‬
‫تعالى أسمعه موسى‪ ،‬وأخفاه عن غيره‪ ،‬فصار مناجاة كما يتناجى اثنان سِرا‪ .‬وهذا من طلقة‬
‫قدرته تعالى أن يُسمع هذا‪ ،‬ول يُسمع ذاك‪.‬‬
‫وبعض المفسرين يرى أن (اليمن) ليس من اليمين‪ ،‬ولكن من ال ُيمْن والبركة‪ .‬و { َوقَرّبْنَاهُ }‬
‫[مريم‪ ]52 :‬أي‪ :‬من حضرة الحق تبارك وتعالى‪ .‬لكن هل حضرة الحق قُرْب منه‪ ،‬أم موسى هو‬
‫الذي قَرُب من حضرة الحق سبحانه؟ كيف نقول إن ال قرب منه وهو سبحانه أقرب إليه من حبل‬
‫الوريد‪ ،‬فالتقريب إذن لموسى عليه السلم‪.‬‬
‫وهكذا جمع الحق ـ تبارك وتعالى ـ لموسى عدةٍ خصال‪ ،‬حيث جعله مخلَصا ورسولً ونبيا‪،‬‬
‫حمَتِنَآ }‬
‫خصّه بالكلم والمناجاة‪ ،‬ثم يزيده هِبةً أخرى في قوله‪َ { :‬ووَهَبْنَا َلهُ مِن رّ ْ‬
‫وَ‬

‫(‪)2286 /‬‬

‫حمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّا (‪)53‬‬


‫َووَهَبْنَا لَهُ مِنْ َر ْ‬

‫وهب ال لموسى أخاه هارون رحم ًة بموسى؛ لن هارون كان مُعينا لخيه ومساندا له في مسألة‬
‫الدعوة‪ ،‬وهذه لم تحدث مع نبي آخر أن يجعل ال له معينا في حمل هذه المهمة؛ لذلك قال موسى‬
‫عليه السلم‪ {:‬وَأَخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ مِنّي ِلسَانا فَأَرْسِ ْلهُ َمعِيَ ِردْءا ُيصَ ّدقُنِي إِنّي أَخَافُ أَن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ُيكَذّبُونِ }[القصص‪.]34 :‬‬
‫والرّدْء‪ :‬هو المعين‪ .‬وهكذا أعطانا الحق ـ تبارك وتعالى ـ لقطة سريعة من موكب النبوة في‬
‫قصة موسى‪ ،‬ولمحة مُوجَزة هنا أتى تفصيلها في موضع آخر‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ }‬

‫(‪)2287 /‬‬

‫ن صَا ِدقَ ا ْلوَعْ ِد َوكَانَ رَسُولًا نَبِيّا (‪)54‬‬


‫سمَاعِيلَ إِنّهُ كَا َ‬
‫وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ ِإ ْ‬

‫قوله تعالى‪ { :‬إِنّهُ كَانَ صَادِقَ ا ْلوَعْدِ } [مريم‪ ]54 :‬ما الميزة هنا وكل الرسل كانوا صادقي الوعد؟‬
‫قالوا‪ :‬لن هناك صفة تبرز في شخص ويتميز بها‪ ،‬وإن كانت موجودة في غيره‪ ،‬فالذي يصدُق‬
‫في وعد أعطاه‪ ،‬أو كلمة قالها صدق في أمر يملكه ويتعلق به‪.‬‬
‫أما إسماعيل ـ عليه السلم ـ فكان صادق الوعد في أمر حياة أو موت‪ ،‬أمر يتعلق بنفسه‪ ،‬حين‬
‫قال لبيه‪ {:‬ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }[الصافات‪.]102 :‬‬
‫وليت المر جاء مباشرة‪ ،‬إنما رآه غيره‪ ،‬وربما كانت المسألة أيسَر لو أن الولد هو الذي رأى أباه‬
‫يذبحه‪ ،‬لكنها ُرؤْيا رآها الب‪ ،‬والرؤيا ل يثبت بها حكم إل عند النبياء‪ .‬فكان إسماعيل دقيقا في‬
‫حكَ فَانظُرْ‬
‫إجابته حينما أخبره أبوه كأنه يأخذ رأيه في هذا المر‪ {:‬إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي َأذْبَ ُ‬
‫مَاذَا تَرَىا }[الصافات‪.]102 :‬‬
‫فخاف إبراهيم عليه السلم أن يُقبل على ذَبْح ولده دون أن يخبره حتى ل تأتي عليه فترة يمتلىء‬
‫غيظا من أبيه إذا كان ل يعرف السبب‪ ،‬فأحبّ إبراهيم أن يكون استسلمُ ولده للذبح قُرْبَى منه ل‪،‬‬
‫له أجْرُها وثوابها‪.‬‬
‫قال إسماعيل عليه السلم لبيه إبراهيم‪ {:‬ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ }[الصافات‪.]102 :‬‬
‫والوعد الذي صدق فيه قوله‪ {:‬سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }[الصافات‪ ]102 :‬وصدق‬
‫إسماعيل في وعده‪ ،‬واستسلم للذبح‪ ،‬ولم يتردد ولم يتراجع؛ لذلك استحق أنْ يميزه ربه بهذه الصفة‬
‫ن صَا ِدقَ ا ْلوَعْدِ } [مريم‪.]54 :‬‬
‫{ إِنّهُ كَا َ‬
‫فلما رأى الحق ـ تبارك وتعالى ـ استسلم إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلم ـ لقضاء ال‬
‫رفع عنه قضاءه وناداه‪ {:‬وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَ ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا َكذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ *‬
‫عظِيمٍ }[الصافات‪104 :‬ـ ‪ ]107‬فكانت نتيجة الصبر‬
‫إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ * َوفَدَيْنَاهُ ِبذِبْحٍ َ‬
‫على هذا البتلء أنْ فدى ال الذبيح‪ ،‬وخلّصه من الذبح‪ ،‬ثم أكرم إبراهيم فوق الولد بولد آخر‪{:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سحَاقَ }[النعام‪.]84 :‬‬
‫َووَهَبْنَا لَهُ إِ ْ‬
‫وهذه لقطة قرآنية تُعلّمنا أن المسلم إذا استسلم لقضاء ال‪ ،‬و َرضِي بقدره فسوف يجني ثمار هذا‬
‫الستسلم‪ ،‬والذي يطيل أمد القضاء على الناس أنهم ل يرضون به‪ ،‬والحق تبارك وتعالى ل‬
‫يجبره أحد‪ ،‬فالقضاء نافذ نافذ‪ ،‬رضيتَ به أم لم تَ ْرضَ‪.‬‬
‫وحين تسلم ل وترضى بقضائه يرفعه عنك‪ ،‬أو يُبيّن لك وجه الخير فيه‪ .‬إذن‪ :‬عليك أن تحترم‬
‫القدر وترضى به؛ لنه من ربك الخالق الحكيم‪ ،‬ول يُرفع قضاء ال عن الخلق حتى يرضوا به‪.‬‬
‫وكثيرا ما نرى اعتراض الناس على قضاء ال خاصة عند موت الطفل الصغير‪ ،‬فنراهم يُكثِرون‬
‫عليه البكاء والعويل‪ ،‬يقول أحدهم‪ :‬إنه لم يتمتع بشبابه‪.‬‬
‫صغَره دنيا باطلة زائلة‪،‬‬
‫ونعجب من مثل هذه الجهالت‪ :‬أيّ شباب؟ وأيّة متعة هذه؟ وقد فارق في ِ‬
‫ومتعة موقوتة إلى دار باقية ومتعة دائمة؟ كيف وقد فارق العيش مع المخلوق‪ ،‬وذهب إلى رحاب‬
‫الخالق سبحانه؟‬
‫إنه في نعيم لو عرفتَه لتمنيتَ أن تكون مكانه‪ ،‬ويكفي أن هؤلء الطفال ل يُسألون ول يُحاسبون‪،‬‬
‫وليس لهم مسكن خاص في الجنة؛ لنهم طلقاء فيها يمرحون كما يشاؤون؛ لذلك يسمونهم‬
‫(دعاميص الجنة)‪.‬‬

‫وآخر يعترض لن زميله في العمل ُرقّي حتى صار رئيسا له‪ ،‬فإذا به يحقد عليه ويحقره‪،‬‬
‫وتشتعل نفسه عليه غضبا‪ ،‬وكان عليه أن يتساءل قبل هذا كله‪ :‬أأخذ زميله شيئا من مُلْك ال دون‬
‫قضائه وقدره‪ ،‬إذن‪ :‬فعليك إذا لم تحترم هذا الزميل أن تحترم قدر ال فيه‪ ،‬فما أخذَ شيئا غصبا‬
‫عن ال‪.‬‬
‫لذلك فالنبي صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬اسمعوا وأطيعوا‪ ،‬ولو وُلّى عليكم عبد حبشيّ‪ ،‬كأنّ رأسَه‬
‫زبيبة "‪.‬‬
‫لةِ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬وكَانَ يَ ْأمُرُ أَ ْهلَهُ بِالصّـ َ‬

‫(‪)2288 /‬‬

‫َوكَانَ يَ ْأمُرُ َأهْلَهُ بِالصّلَا ِة وَال ّزكَا ِة َوكَانَ عِنْدَ رَبّهِ مَ ْرضِيّا (‪)55‬‬

‫لةِ‬
‫أي‪ :‬من خصال إسماعيل العظيمة التي ذكرها ال تعالى له‪َ { :‬وكَانَ يَ ْأمُرُ أَهَْلهُ بِالصّـ َ‬
‫خصْلة ول يذكرها إل إنْ‬
‫وَال ّزكَـاةِ } [مريم‪ ]55 :‬أي‪ :‬زوجته‪ .‬والحق تبارك وتعالى ل يهتم ب َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن يتصفَ بصفة من‬
‫كانت كبيرة عنده‪ ،‬تساوي كونه صادقَ الوعد وكونه رسولً ونبيا‪ ،‬فمَنْ أراد أ ْ‬
‫صفات النبوة‪ ،‬فعليه أنْ يأمرَ أهله بالصلة والزكاة‪.‬‬
‫ن صَلُحتْ للرجل صَلُحَ له‬
‫لكن‪ ،‬لماذا اختص أهله بالذات؟ اختص أهله لنهم البيئة المباشرة التي إ ْ‬
‫حتْ له ذريته‪ ،‬إذا كان الرجل يلفت أهله إلى ذكر ال والصلة خمس مرات في اليوم‬
‫بيته‪ ،‬وصَلُ َ‬
‫والليلة فإنه بذلك يسدّ الطريق على الشيطان‪ ،‬فليس له مجال في بيت يصلي أهله الخمس صلوات‪.‬‬
‫لذلك فالنبي صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬رحم ال امرأ استيقظ من الليل‪ ،‬فصلّى ركعتين ثم أيقظ‬
‫أهله فإن امتنعتْ نضح في وجهها الماء‪ ،‬ورحم ال امرأة قامت من الليل فصّلتْ ركعتين‪ ،‬ثم‬
‫أيقظتْ زوجها‪ ،‬فإنِ امتنع نضحتْ في وجهه الماء "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكل رجل وكل امراة يستطيع في كل ليلة أن يكون رسولً لهله ولبيئته يقوم فيها بمهمة‬
‫الرسول؛ لن محمدا صلى ال عليه وسلم هو خاتم النبياء والرسل‪ ،‬فليس بعد تشريعه تشريع‪،‬‬
‫حكْما‬
‫وليس بعد كتابه كتاب؛ لن أمته ستحمل رسالته من بعده‪ ،‬وكل مؤمن منهم يعلم من السلم ُ‬
‫فهو خليفة لرسول ال في تبليغه‪.‬‬
‫شهِيدا }[البقرة‪ ]143 :‬فالرسول‬
‫شهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫كما قال تعالى‪ {:‬لّ َتكُونُواْ ُ‬
‫يشهد أنه بلّغكم‪ ،‬وعليكم أنْ تشهدوا أنكم بلّغتُم الناس‪ ،‬وما ُدمْتم بلّغتم الناس مَنْطِقا ولفظا فل بُدّ أنْ‬
‫يكون سلوكا أيضا‪ ،‬لن لكم في رسول ال أسوة حسنة‪.‬‬
‫ودائما ما يقرن الحق ـ تبارك وتعالى ـ بين الصلة والزكاة‪ ،‬والصلة تأخذ بعض الوقت‪،‬‬
‫والزكاة تأخذ المال الذي هو فرع العمل الذي هو فرع الوقت‪ ،‬فإنْ كانت الزكاة تأخذ نتيجة الوقت‪،‬‬
‫فالصلة تأخذ الوقت نفسه‪ .‬إذن‪ :‬ففي الصلة زكاة أبلغ من الزكاة‪.‬‬
‫وإنْ كان في الزكاة نماء المال وبركته ـ وإنْ كانت في ظاهرها نقصا ـ ففي الصلة نماء الوقت‬
‫وبركته‪ ،‬فإياك أنْ تقول‪ :‬أنا مشغول‪ ،‬ول أجد وقتا للصلة؛ لن الدقائق التي ستصلي فيها فَرْض‬
‫ربك هي التي ستُشِيع البركة في وقتك كله‪.‬‬
‫كما أنك حين تقف بين يَ َديْ ربك في الصلة تأخذ شحنة إيمانية نوارنية تُعينك على أداء مهمتك‬
‫في الحياة‪ ،‬وتعرض نفسك على ربّك وخالقك وصانعك‪ ،‬ولن تُعدم خيرا ينالك من هذا اللقاء‪.‬‬
‫ن تتصوّر صنعةً تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم‪ ،‬هل يصيبها عُطْل أو عَطَب؟!‬
‫ولك أ ْ‬
‫سيّ مشهود‪ ،‬أما الخالق سبحانه فهو غَيْب‬
‫وإنْ كان المهندس الصانع يعالج بأشياء مادية فلنه حِ ّ‬
‫يصلحك من حيث ل تدري‪.‬‬
‫وإنْ كان إسماعيل ـ عليه السلم ـ يأمر أهله بالصلة والزكاة فهو حريص عليها من باب َأوْلَى‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬وكَانَ عِندَ رَبّهِ مَ ْرضِيّا } [مريم‪ ]55 :‬أي‪ :‬رضي ال عنه‪ ،‬ليس لخصال الخير‬
‫التي وصفه بها‪ ،‬بل من بدايته‪ ،‬فقد رضي عنه فاختاره رسولً ونبيا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ ِإدْرِيسَ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2289 /‬‬

‫ن صِدّيقًا نَبِيّا (‪)56‬‬


‫وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ ِإدْرِيسَ إِنّهُ كَا َ‬

‫ت من موكب الرسالت والنبوات‪ .‬وإدريس عليه السلم أوّل نبي بعد‬


‫ما زال القرآن يعطينا لقطا ٍ‬
‫آدم عليه السلم‪ ،‬فهو إدريس بن شيث بن آدم‪ .‬وبعد إدريس جاء نوح ثم إبراهيم‪ ،‬ومنه جاءت‬
‫سلسلة النبوات المختلفة‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّهُ كَانَ صِدّيقا نّبِيّا } [مريم‪.]56 :‬‬
‫تحدثنا عن معنى الصّدّيق في الكلم عن إبراهيم عليه السلم‪ ،‬والصّدّيق هو الذي يبالغ في تصديق‬
‫ما جاءه من الحق‪ ،‬فيجعل ال له بذلك فُرْقانا وإشراقا يُميّز به الحق فل يتصادم معه شيطان؛ لن‬
‫الشيطان قد ينفذ إلى عقلي وعقلك‪.‬‬
‫أما الوارد من الحق سبحانه وتعالى فل يستطيع الشيطان أن يعارضه أو يدخل فيه‪ ،‬لذلك فالصّدّيق‬
‫وإن لم يكُنْ نبيا فهو مُلْحقِ بالنبياء والشهداء‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬ومَن ُيطِعِ اللّ َه وَالرّسُولَ فَُأوْلَـا ِئكَ‬
‫حسُنَ أُولَـا ِئكَ َرفِيقا }‬
‫ن وَ َ‬
‫شهَدَآ ِء وَالصّالِحِي َ‬
‫ن وَالصّدّيقِينَ وَال ّ‬
‫مَعَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْيهِم مّنَ النّبِيّي َ‬
‫[النساء‪.]69 :‬‬
‫وكذلك كان إدريس عليه السلم (نبيا) ولم ي ُقلْ‪ :‬رسولً نبيا‪ ،‬لن بينه وبين آدم عليه السلم جيلين‪،‬‬
‫فكانت الرسالة لدم ما زالت قائمة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ َر َفعْنَاهُ َمكَانا عَلِيّا }‬

‫(‪)2290 /‬‬

‫وَ َر َفعْنَاهُ َمكَانًا عَلِيّا (‪)57‬‬

‫خذْها كما شئتَ‪ ،‬لكن إياك أنْ تجادل‪ :‬كيف‬


‫مكانا عاليا في السماء‪ِ ،‬رفْعه معنوية‪ ،‬أو ِرفْعة حِسّية‪ُ ،‬‬
‫رفعه؟ لن ال ّرفْعة من ال تعالى‪ ،‬والذي خلقه هو الذي رفعه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬أُولَـائِكَ الّذِينَ أَ ْنعَمَ اللّهُ عَلَ ْيهِم }‬

‫(‪)2291 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ح َومِنْ ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ‬
‫حمَلْنَا مَعَ نُو ٍ‬
‫أُولَ ِئكَ الّذِينَ أَ ْن َعمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنَ النّبِيّينَ مِنْ ذُرّيّةِ آَ َد َم َو ِممّنْ َ‬
‫سجّدًا وَ ُبكِيّا (‪)58‬‬
‫حمَنِ خَرّوا ُ‬
‫ل َو ِممّنْ َهدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آَيَاتُ الرّ ْ‬
‫وَإِسْرَائِي َ‬

‫قوله تعالى‪ { :‬أُولَـا ِئكَ } [مريم‪ ]58 :‬أي‪ :‬الذين تقدّموا وسبق الحديث عنهم من النبياء والرسل {‬
‫حمَلْنَا مَعَ نُوحٍ }‬
‫مِن ذُرّيّةِ ءَا َدمَ } [مريم‪ ]58 :‬أي‪ :‬مباشرة مثل إدريس عليه السلم { َومِمّنْ َ‬
‫[مريم‪ ]58 :‬الذين جاءوا بعد إدريس مباشرة { َومِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ } [مريم‪ ]58 :‬أي‪ :‬الذين جاءوا‬
‫بعد نوح‪.‬‬
‫وقد انقسموا إلى فرعين من ذرية إبراهيم‪.‬‬
‫الول‪ :‬فرع إسحق الذي جاء منه جمهرة النبوة‪ ،‬بداية من يعقوب‪ ،‬ثم يوسف‪ ،‬ثم موسى وهارون‪،‬‬
‫ثم داود وسليمان‪ ،‬ثم زكريا ويحيى‪ ،‬ثم ذو الكفل‪ ،‬ثم أيوب‪ ،‬ثم النون‪.‬‬
‫والفرع الخر‪ :‬فرع إسماعيل عليه السلم الذي جاء منه جماع جواهر النبوة‪ ،‬وهو محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.‬‬
‫{ وَإِسْرَائِيلَ } [مريم‪ ]58 :‬هو نبيّ ال يعقوب { َو ِممّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ } [مريم‪ ]58 :‬الذي هديناهم‬
‫حمَـانِ خَرّواْ سُجّدا وَ ُبكِيّا‬
‫واجتبيناهم‪ .‬أي‪ :‬اخترناهم واصطفيناهم للنبوة { إِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُ الرّ ْ‬
‫} [مريم‪.]58 :‬‬
‫حمَـانِ } [مريم‪ ]58 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬آيات ال؟ قالوا‪ :‬لن آيات ال تحمل منهجا‬
‫لماذا قال { آيَاتُ الرّ ْ‬
‫ن تفهموا أن ال يُكلّفكم بالمشقة‪ ،‬وإنما‬
‫وتكليفا‪ ،‬وهذا يشقّ على الناس‪ ،‬فكأنه يقول لنا‪ :‬إياكم أ ْ‬
‫يُكلّفكم بما يُسعِد حركة حياتكم وتتساندون‪ ،‬ثم يسعدكم به في الخرة؛ لذلك اختار هنا صفة‬
‫الرحمانية‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬خَرّواْ سُجّدا وَ ُبكِيّا } [مريم‪ ]58 :‬لم يقُل‪ :‬سجدوا‪ ،‬بل سقطوا بوجوههم سريعا إلى‬
‫خلَ للعقل فيه ول للتفكير‪ ،‬فالساجد يستطيع أنْ يسجدَ‬
‫الرض‪ .‬وهذا انفعال قَسْري طبيعي‪ ،‬ل َد ْ‬
‫سقْفُ مِن‬
‫بهدوء ونظام‪ ،‬أما الذي يخ ّر فل يفكر في ذلك‪ ،‬وهذا أشبه بقوله تعالى‪ {:‬فَخَرّ عَلَ ْيهِمُ ال ّ‬
‫َف ْو ِقهِمْ }[النحل‪ ]26 :‬أي‪ :‬سقط عليهم فجأة‪.‬‬
‫وهذا النفعال يُسمّونه " انفعال نزوعي " ناتج عن الوجدان‪ ،‬والوجدان ناتج عن الدراك‪ ،‬وهذه‬
‫مظاهر الشعور الثلثة‪ :‬الدراك‪ ،‬ثم الوجدان‪ ،‬ثم النزوع‪ .‬والنسان له حواس يُدرِك بها‪ :‬العين‬
‫والذن والنف واللسان‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫فهذه وسائل إدراك المحسّات‪ ،‬فإذا أدركتَ شيئا بحواسّك تجد له تأثيرا في نفسك‪ ،‬إما حُبا وإما‬
‫ُبغْضا‪ ،‬إما إعجابا وإما انصرافا‪ ،‬وهذا الثر في نفسك هو الوجدان‪ ،‬ثم يصدر عن هذا الوجدان‬
‫حركة هي " النزوع "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فمثلً‪ ،‬لو رأيتَ وردة جميلة فهذه الرؤيا " إدراك " ‪ ،‬فإنْ أُعج ْبتَ بها وسُ رِ ْرتَ فهذا " وجدان " ‪،‬‬
‫فإنْ مد ْدتَ يدك لتقطفها فهذا " نزوع "‪ .‬والشرع ل يحاسبك على الدراك ول على الوجدان‪ ،‬لكن‬
‫حين تمد يدك لقطف هذه الوردة نقول لك‪ :‬قفْ فهذه ليست لك‪ ،‬ول يمنعك الشارع ويتركك‪ ،‬إنما‬
‫يمنعك ويوحي لك بالحلّ المناسب لنزوعك‪ ،‬فعليك أنْ تزرع مثلها‪ ،‬فتكون مِلْكا لك أو على القل‬
‫تستأذن صاحبها‪.‬‬
‫كذلك الحال فيمن تسمّع لكلم ال وقرآنه يدرك القرآن بسمعه فينشأ عنه حلوة ومواجيد في نفسه‪،‬‬
‫وهذا هو الوجدان الذي ينشأ عنه انفعال نُزوعي‪ ،‬فل يجد إل أنْ يخر ساجدا ل تعالى‪.‬‬

‫والنزوع هنا لم يُكنْ نزوعا ظاهريا بل وأيضا داخليا‪ ،‬ففاضت أعينهم بالدمع } سُجّدا وَ ُبكِيّا‬
‫{ [مريم‪.]58 :‬‬
‫وقد عُولج هذا المعنى في عِدّة مواضع ُأخَر‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ُ {:‬قلْ آمِنُواْ ِبهِ َأ ْو لَ ُت ْؤمِنُواْ إِنّ‬
‫الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِ ْلمَ مِن قَبْلِهِ ِإذَا يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ يَخِرّونَ لِلَ ْذقَانِ سُجّدا }[السراء‪.]107 :‬‬
‫ومعنى‪ :‬للذقان‪ :‬مبالغة في الخضوع والخشوع واستيفاء السجود؛ لن السجود يكون أولً على‬
‫الجبهة ثم النف لكن على الذقان‪ ،‬فهذا سجود على حَقّ‪ ،‬وليس كنقْر الديكَة كما يقولون‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فأهل الكتاب كانوا على علم ببعثة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنه سيأتي بالقرآن على فَتْرة‬
‫ن وَعْدُ رَبّنَا َلمَ ْفعُولً }‬
‫من الرسل‪ ،‬وها هم الن يسمعون القرآن؛ لذلك يقولون‪ {:‬سُ ْبحَانَ رَبّنَآ إِن كَا َ‬
‫[السراء‪.]108 :‬‬
‫س ِمعُواْ مَآ أُن ِزلَ ِإلَى الرّسُولِ تَرَى‬
‫ومن النزوع النفعالي أيضا قوله تعالى عن أهل الكتاب‪ {:‬وَإِذَا َ‬
‫أَعْيُ َنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُواْ مِنَ ا ْلحَقّ }[المائدة‪.]83 :‬‬
‫شوْنَ رَ ّب ُهمْ ثُمّ‬
‫شعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْ َ‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬اللّهُ نَ ّزلَ َأحْسَنَ ا ْلحَدِيثِ كِتَابا مّتَشَابِها مّثَا ِنيَ َتقْ َ‬
‫جلُودُهُ ْم َوقُلُو ُبهُمْ إِلَىا ِذكْرِ اللّهِ }[الزمر‪.]23 :‬‬
‫تَلِينُ ُ‬
‫فلماذا يُؤثّر النفعال بالقرآن في ُكلّ هذه الحواس والعضاء من جسم النسان؟ قالوا‪ :‬لن الذي‬
‫خلق التكوين النساني هو الذي يتكلم‪ ،‬والخالق سبحانه حينما يتكلم وحينما تفهم عنه وتعي‪ ،‬فإنه‬
‫سبحانه ل يخاطب عقلك فقط‪ ،‬بل يخاطب كل ذرة من ذَرّات تكوينك؛ لذلك تخِرّ العضاء ساجدة‪،‬‬
‫وتدمع العيون‪ ،‬وتقشعر الجلود‪ ،‬وتلين القلوب‪ ،‬كيف ل والمتكلم هو ال؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬فخََلفَ مِن َبعْدِ ِهمْ خَ ْلفٌ {‬

‫(‪)2292 /‬‬

‫س ْوفَ يَ ْل َقوْنَ غَيّا (‪)59‬‬


‫ش َهوَاتِ فَ َ‬
‫فَخََلفَ مِنْ َبعْدِ ِهمْ خَ ْلفٌ َأضَاعُوا الصّلَا َة وَاتّ َبعُوا ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خَلفَ مِن َب ْعدِهِمْ خَ ْلفٌ } [مريم‪ ]59 :‬أي‪ :‬أن المسائل لم تستمر على ما هي عليه‬
‫قوله تعالى‪ { :‬فَ َ‬
‫من الكلم السابق ِذكْره‪ ،‬بل خَلفَ هؤلء القوم (خَ ْلفٌ) والخَلْف‪ :‬هم القوم الذين يخلُفون النسان‪:‬‬
‫أي‪ :‬يأتون بعده أو من ورائهم‪.‬‬
‫عقِب النسان وأولده‪،‬‬
‫وهناك فَرْق بين خَلْف وخَلَف‪ :‬الولى‪ :‬بسكون اللم ويُراد بها الشرار من َ‬
‫والخرى‪ :‬بفتح اللم ويُراد بها الخيار‪ .‬لذل‪ ،‬فالشاعر حينما أراد أنْ يتحسّر على أهل الخير الذي‬
‫َمضَوْا قال‪:‬ذَ َهبَ الذِينَ يُعاشُ فِي أكنَافِه ْم و َبقِيتُ في خَلْف كجِ ْلدِ الجْرَبِفماذا تنتظر من هؤلء‬
‫ش َهوَاتِ } [مريم‪]59 :‬‬
‫ل َة وَاتّ َبعُواْ ال ّ‬
‫الشرار؟ ل بُدّ أنْ يأتي بعدهم صفات سوء { َأضَاعُواْ الصّ َ‬
‫إذن‪ :‬هم خَلْف فاسد‪ ،‬فأول ما أضاعوا أضاعوا الصلة التي هي عماد الدين‪ ،‬وَأوْلَى أركانه‬
‫بالداء‪.‬‬
‫عدّة أركان‪ ،‬لكن بعض هذه الركان قد يسقط عن المسلم‪ ،‬ول يُطْلب‬
‫صحيح أن السلم بُني على ِ‬
‫منه كالزكاة والحج والصيام‪ ،‬فيبقى ركنان أساسيان ل يسقطان عن المسلم بحال من الحوال‪،‬‬
‫هما‪ :‬شهادة أن ل إله إل ال‪ ،‬وأن محمدا رسول ال‪ ،‬وإقامة الصلة‪.‬‬
‫وسُئِلْنَا مرة من بعض إخواننا في الجزائر‪ :‬لماذا نقول لمن يؤدي فريضة الحج‪ :‬الحاج فلن‪ ،‬ول‬
‫نقول للمصلى‪ :‬المصلى فلن‪ ،‬أو المزكّى فلن‪ ،‬أو الصائم فلن؟‬
‫فقلت للسائل‪ :‬لن الحج تتم نعمة ال على العبد‪ ،‬وحين نقول‪ :‬الحاج فلن‪ .‬فهذا إشعار وإعلم أن‬
‫ال أتمّ له النعمة‪ ،‬واستوفى كل أركان السلم‪ ،‬فمعنى أنه أدّى فريضة الحج أنه مستطيع مالً‬
‫وصحة‪ ،‬وما دام عنده مال فهو يُزكّي‪ ،‬وما دام عنده صحة فهو يصوم‪ ،‬وهو بالطبع يشهد أل إله‬
‫إل ال وأن محمدا رسول ال ويؤدي الصلة‪ ،‬وهكذا ت ّمتْ له بالحج جميع أركان السلم‪.‬‬
‫سوْفَ يَ ْلقُونَ غَيّا } [مريم‪ ]59 :‬هذه العبارة أخذها المتمحّكون الذين يريدون أنْ‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬ف َ‬
‫يدخلوا على القرآن بنقد‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال َغيّ هو الشر والضلل والعقائد الفاسدة‪ ،‬وهذه حدثتْ منهم بالفعل‬
‫في الدنيا فأضاعوا الصلة واتبعوا الشهوات‪ ،‬فكيف يقول‪ :‬فسوف يلقوْنه في المستقبل؟‬
‫لكن المراد بالغيّ هنا أي‪ :‬جزاء الغي وعاقبته‪ .‬كما لو قُلْت‪ :‬أمْطرتْ السماء نباتا‪ ،‬فالسماء لم‬
‫تُمطر النبات‪ ،‬وإنما الماء الذي يُخرِج النبات‪ ،‬كذلك غيّهم وفسادهم في الدنيا هو الذي جَرّ عليهم‬
‫العذاب في الخرة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المعنى‪ :‬فسوفَ يلقْونَ عذابا وهلكا في الخرة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فالحق ـ تبارك وتعالى ـ لرحمته بخَلْقه شرع لهم التوبة‪ ،‬وفتح لهم بابها‪ ،‬ويفرح بهم‬
‫إنْ تابوا؛ لذلك فالذين اتصفُوا بهذه الصفات السيئة فأضاعوا الصلة واتبعوا الشهوات ل ييأسون‬
‫من رحمة ال‪ ،‬مادام بابُ التوبة مفتوحا‪.‬‬
‫وفَتْح باب التوبة أمام العاصين رحمة يرحم ال بها المجتمع كله من أصحاب الشهوات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والنحرافات‪ ،‬وإلّ لو أغقلنا الباب في وجوههم لَش ِقيَ بهم المجتمع‪ ،‬حيث سيتما َدوْن في باطلهم‬
‫وغَيّهم‪ ،‬فليس أمامهم ما يستقيمون من أجله‪.‬‬
‫والتوبة تكون من العبد‪ ،‬وتكون من الرب تبارك وتعالى‪ ،‬فتشريع التوبة وقبولها من ال وإحداث‬
‫التوبة من العبد؛ لذلك قال تعالى‪ {:‬ثُمّ تَابَ عَلَ ْي ِهمْ لِيَتُوبُواْ }[التوبة‪ ]118 :‬أي‪ :‬شرعها لهم ليتوبوا‬
‫ع ِملَ‬
‫ن وَ َ‬
‫فيقبل توبتهم‪ ،‬فهي من ال أولً وأخيرا؛ لذلك يأتي هذا الستثناء‪ِ { .‬إلّ مَن تَابَ وَآمَ َ‬
‫صَالِحا }‬

‫(‪)2293 /‬‬

‫ع ِملَ صَاِلحًا فَأُولَ ِئكَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّ َة وَلَا ُيظَْلمُونَ شَيْئًا (‪)60‬‬
‫ن وَ َ‬
‫ب وَ َآمَ َ‬
‫إِلّا مَنْ تَا َ‬

‫وللتوبة شروط يجب مراعاتها‪ ،‬وهي‪ :‬أن تُقلِع عن الذنب الذي تقع فيه‪ ،‬وأن تندم على ما بدر‬
‫منك‪ ،‬وإنْ تنوي وتعزم عدم العودة إليه مرة أخرى‪ .‬وليس معنى ذلك أنك إنْ عُ ْدتَ فلن ُتقْبلَ منك‬
‫التوبة‪ ،‬فقد تتعرض لظروف تُوقِعك في الذنب مرة أخرى‪.‬‬
‫لكن المراد أنْ تعزم صادقا عند التوبة عدم ال َعوْد‪ ،‬فإنْ وقعت فيه مرة أخرى تكون عن غير َقصْد‬
‫ودون إصرار‪ .‬وإلّ لو دبرتَ لهذه المسألة فقُلْت‪ :‬أذنب ثم أتوب‪ ،‬فمن يُدرِيك أن ال تعالى‬
‫سيمهلك إلى أن تتوبَ؟ إذن‪ :‬فبادر بها قبل فَوات أوانها‪.‬‬
‫هذه ـ إذن ـ شروط التوبة إنْ كانت في أمر بين العبد وربه‪ ،‬فإنْ كانت تتعلق بالعباد فل ُبدّ أنْ‬
‫يتوفّر لها شرط آخر وهو َردّ المظالم إلى أهلها إنْ كانت ترد‪ ،‬أو التبرع بها في وجوه الخير على‬
‫ن ينويَ ثوابها لصحابها‪ ،‬إنْ كانت مظالم ل تُردّ‪.‬‬
‫أْ‬
‫ع ِملَ صَالِحا } [مريم‪ ]60 :‬معنى‪ :‬وآمن بعد أنْ تاب‪ ،‬تعني أن ما‬
‫ن وَ َ‬
‫ثم يقول تعالى بعدها‪ { :‬وَآمَ َ‬
‫أحدثه من معصية خدش إيمانه‪ ،‬فيحتاج إلى تجديده‪ .‬وهذا واضح في الحديث الشريف‪:‬‬
‫" ليزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‪ ،‬ول يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن‪ ،‬ول يشرب‬
‫الخمر حين يشربها وهو مؤمن "‪.‬‬
‫فساعةَ مباشرة هذه المعاصي تنتنفي عن النسان صفة اليمان؛ لن إيمانه غاب في هذه اللحظة؛‬
‫لنه لو استحضر اليمان وما يلزمه من عقوبات الدنيا والخرة ما وقع في هذه المعاصي‪.‬‬
‫ل صَالِحا } [مريم‪ ]60 :‬ليصلح به‬
‫عمِ َ‬
‫لذلك قال‪( :‬وَآمَنَ) أي‪ :‬جدّد إيمانه‪ ،‬وأعاده بعد توبته‪ ،‬ثم { وَ َ‬
‫ما أفسده بفعل المعاصي‪.‬‬
‫ظَلمُونَ شَيْئا } [مريم‪ ]60 :‬وفي موضع آخر‪ ،‬كان جزاء‬
‫خلُونَ الْجَنّةَ وَلَ يُ ْ‬
‫والنتيجة‪ { :‬فَُأوْلَـا ِئكَ يَدْ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مَنْ تاب وآمن وعمل صالحا‪ {:‬فَُأوْلَـا ِئكَ يُ َب ّدلُ اللّهُ سَيّئَا ِتهِمْ حَسَنَاتٍ }[الفرقان‪.]70 :‬‬
‫فلماذا ُكلّ هذا الكرم من ال تعالى لهل المعاصي الذين تابوا؟ قالوا‪ :‬لن الذي أَِلفَ الشهوة واعتاد‬
‫المعصية‪ ،‬وأدرك لذّته فيها يحتاج إلى مجهود كبير في مجاهدة نفسه وكَبْحها‪ ،‬على خلف مَنْ لم‬
‫يتعوّد عليها‪ ،‬لذلك احتاج العاصون إلى حافز يدفعهم ليعودوا إلى ساحة ربهم‪.‬‬
‫لذلك قال سبحانه‪ { :‬فَُأوْلَـا ِئكَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّةَ } [مريم‪ ]60 :‬دون أنْ يُعيّروا بما فعلوه؛ لنهم‬
‫صَ َدقُوا التوبة إلى ال { وَلَ ُيظَْلمُونَ شَيْئا } [مريم‪ ]60 :‬وبقدر ما تكون التوبة صادقة‪ ،‬والندم‬
‫عليها عظيما‪ ،‬وبقدر ما تلوم نفسَك‪ ،‬وتسكب الدمْع على معصيتك بقدر ما يكون لك من الجر‬
‫والثواب‪ ،‬وبقدر ما تُبدّل سيئاتك حسناتٍ‪ .‬و ُكلّ هذا بفضل ال وبرحمته‪.‬‬
‫حمَـانُ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ الرّ ْ‬

‫(‪)2294 /‬‬

‫ن وَعْ ُدهُ مَأْتِيّا (‪)61‬‬


‫حمَنُ عِبَا َدهُ بِا ْلغَ ْيبِ إِنّهُ كَا َ‬
‫جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ الرّ ْ‬

‫قوله‪ { :‬جَنّاتِ عَدْنٍ } [مريم‪ ]61 :‬أي‪ :‬إقامة دائمة؛ لنك قد تجد في الدنيا جنات‪ ،‬وتجد أسباب‬
‫النعيم‪ ،‬لكنه نعيم زائل‪ ،‬إمّا أنْ تتركه أو يتركك‪ .‬إذن‪ :‬ف ُكلّ نعيم الدنيا ل ضامنَ له‪.‬‬
‫وجنات عَدْن ليست هي مساكن أهل الجنة‪ ،‬بل هي بساتين عمومية يتمتع بها الجميع‪ ،‬بدليل أن ال‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ‬
‫تعالى عطف عليها في آية أخرى ( َومَسَاكِنَ طَيّبةً) في قوله تعالى‪ {:‬وَعَدَ اللّهُ ا ْل ُمؤْمِنِي َ‬
‫جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ }[التوبة‪.]72 :‬‬
‫حمَـانُ عِبَا َدهُ بِا ْلغَ ْيبِ } [مريم‪ ]61 :‬والوعْد‪ :‬إخبار بخير قبل أوانه؛ ليشجع‬
‫وقوله‪ { :‬الّتِي وَعَدَ الرّ ْ‬
‫الموعود على العمل لينالَ هذا الخير‪ ،‬وضِدّه الوعيد‪ :‬إخبار بشَرّ قبل أوانه ليحذره المتوعد‪،‬‬
‫ويتفادى الوقوع في أسبابه‪.‬‬
‫واختبار هنا اسم الرحمن ليُطمئِنَ الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي أن ربهم رحمن رحيم‪ ،‬إنْ‬
‫تابوا إليه قبلهم‪ ،‬وإنْ وعدهم وَعْدا َوفَى‪ .‬وقد وعدنا ال تعالى في قرآن فآمنّا بوعده غيْبا { وَعَدَ‬
‫حمَـانُ عِبَا َدهُ بِا ْلغَ ْيبِ } [مريم‪.]61 :‬‬
‫الرّ ْ‬
‫وحجة اليمان بالغيب فيما لم يوجد بعد المشهد الذي نراه الن‪ ،‬فالكون الذي نشاهده قد خُلِق على‬
‫هيئة مُهندسةٍ هندسةً ل يوجد أبدعُ منها‪ ،‬فالذي خلق لنا هذا الكون العجيب المتناسق إذا أخبرنا عن‬
‫نعيم آخر دائم في الخرة‪ ،‬فل ُبدّ أن نُصدّق‪ ،‬ونأخذ من المشاهدَ لنا دليلً على ما غاب عَنّا؛ لذلك‬
‫نؤمن بالخرة إيمانا غيبيا ثقةً مِنّا في قدرته تعالى التي رأينا طَرَفا منها في الدنيا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن وَعْ ُدهُ مَأْتِيّا } [مريم‪ ]61 :‬فما دام الرحمن ـ تبارك وتعالى ـ هو الذي‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬إِنّهُ كَا َ‬
‫شكّ فيه‪ ،‬ووعْده تعالى ل يتخلّف و‬
‫وعد‪ ،‬فل بُدّ أن يكون وعدُه (مَأْتِيا) أي‪ :‬مُحقّقا وواقعا ل َ‬
‫(مَأْتِيا) أى نأتيه نحن‪ ،‬فهي اسم مفعول‪.‬‬
‫وبعض العلماء يرى أن (مَأتِيا) بمعنى آتيا‪ ،‬فجاء باسم المفعول‪ ،‬وأراد اسم الفاعل‪ ،‬لكن المعنى‬
‫هنا واضح ل يحتاج إلى هذا التأويل؛ لن وعد ال تعالى مُحقّق‪ ،‬والموعود به ثابت في مكانه‪،‬‬
‫والماهر هو الذي يسعى إليه ويسلك طريقه بالعمل الصالح حتى يصل إليه‪.‬‬
‫س َمعُونَ فِيهَا َلغْوا }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عن أهل الجنة في الجنة‪ { :‬لّ يَ ْ‬

‫(‪)2295 /‬‬

‫س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا إِلّا سَلَامًا وََلهُمْ رِ ْز ُق ُهمْ فِيهَا ُبكْ َرةً وَعَشِيّا (‪)62‬‬
‫لَا يَ ْ‬

‫اللغو‪ :‬هو الكلم الفُضولي الذي ل فائدة منه‪ ،‬فهو يضيع الوقت و ُيهْدِر طاقة المتكلم وطاقة‬
‫المستمع‪ ،‬وبعد ذلك ل طائلَ من ورائه ول معنى له‪.‬‬
‫س َمعُونَ فِيهَا َلغْوا } [مريم‪ ]62 :‬فإن كانوا قد سمعوا َلغْوا كثيرا في‬
‫والكلم هنا عن الخرة { لّ يَ ْ‬
‫الدنيا فل مجالَ للغو في الخرة‪ .‬ثم يستثني من عدم السماع { ِإلّ سَلَما } [مريم‪ ]62 :‬و السلم‬
‫لمٌ }[يونس‪.]10 :‬‬
‫ليس من اللغو‪ ،‬وهو تحية أهل الجنة وتحية الملئكة‪َ {:‬تحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَ َ‬
‫وقد يُرَادُ بالسلم السلمة من الفات التي عاينوها في الدنيا‪ ،‬وهم في الخرة سالمون منها‪ ،‬فل‬
‫عاهة ول مرضَ ول كَ ّد ول نصبَ‪ .‬لكن نرجح هنا المعنى الول أي‪ :‬التحية؛ لن السلم في‬
‫سمَع‪.‬‬
‫الية مما يُ ْ‬
‫فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬فكيف يستثنى السلم من الّلغْو؟ نقول‪ :‬من أساليب اللغة‪ :‬تأكيد المدح بما يشبه الذم‪ ،‬كأن‬
‫نقول‪ :‬ل عيبَ في فلن إل أنه شجاع‪ ،‬وكنت تنتظر أنْ نستثني من العيب عَيْبا‪ ،‬لكن المعنى هنا‪:‬‬
‫إنْ عددتَ الشجاعة عيبا‪ ،‬ففي هذا الشخص عَيْب‪ ،‬فقد نظرنا في هذا الشخص فلم نجد به عَيْبا‪ ،‬إل‬
‫إذا ارتكبنا مُحَالً وعددنا الشجاعة عيبا‪ .‬وهكذا نؤكد مدحه بما يشبه الذم‪.‬‬
‫ومن ذلك قول الشاعر‪:‬ولَ عَ ْيبَ فِيهِم غَيْرَ أنّ سُيُو َفهُمْ بِهنّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاع الكَتَائِبِثم يقول تعالى‪:‬‬
‫{ وََلهُمْ رِ ْز ُق ُهمْ فِيهَا ُبكْ َرةً وَعَشِيّا } [مريم‪ ]62 :‬لم يقُل الحق سبحانه وتعالى‪ :‬وعلينا رزقهم‪ ،‬بل‪:‬‬
‫خصّص لهم‪ ،‬فهو أمر مفروغ منه‪ .‬والرزق‪ُ :‬كلّ ما يُنتفع‬
‫ولهم زرقهم‪ :‬أي أنه أمر قد تقرّر له و ُ‬
‫به‪ ،‬وهو في الخرة على قَدْر عمل صاحبه من خير في الدنيا‪.‬‬
‫ل ومن حسد ومن حقد‪،‬‬
‫غّ‬‫ومن رحمة ال تعالى بعباده من أهل الجنة أنْ نزعَ ما في صدورهم من ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فل يحقد أحدٌ على أحد أفضل مرتبة منه‪ ،‬ول يشتهي من نعيم الجنة إل على َقدْر عمله ودرجته‪،‬‬
‫حقْدا عليه؛ لن موجب ال ِغلّ في‬
‫فإنْ رأى مَنْ هو أفضل منه درجةً ل يجد في نفسه غِلً منه‪ ،‬أو ِ‬
‫الدنيا أنْ ترى مَنْ هو أفضل منك‪.‬‬
‫أما في الخرة فسوف ترى هذه المسألة بمنظار آخر‪ ،‬منظار النفس الصافية التي ل تعرف الغلّ‪،‬‬
‫خوَانا عَلَىا سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ }[الحجر‪.]47 :‬‬
‫غلّ إِ ْ‬
‫قال تعالى‪ {:‬وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ ِ‬
‫فإنْ رأيت مَنْ هو أعلى منك درجةً فسوف تقول‪ :‬إنه يستحق ما نال من الخير والنعيم‪ ،‬فقد كان‬
‫يجاهد نفسه وهواه في الدنيا‪ .‬ويكفي في َوصْف ما في الجنة من الرزق والنعيم قوله تعالى‪ {:‬فِيهَا‬
‫س وَتَلَ ّذ الَعْيُنُ }[الزخرف‪.]71 :‬‬
‫مَا تَشْ َتهِي ِه الَ ْنفُ ُ‬
‫وقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬فيها ما ل عَيْن رأت‪ ،‬ول إذن سمعتْ‪ ،‬ول خطر على قلب‬
‫بشر "‪.‬‬

‫إذن‪ :‬ففي الجنة أشياء ل تقع تحت إدراكنا؛ لذلك ليس في لغتنا ألفاظ تُعبّر عن هذا النعيم؛ لنك‬
‫تضع في اللغة اللفظ الذي أدركتَ معناه‪ ،‬وفي الجنة أشياء ل تدركها ول عِلْمَ لك بها؛ لذلك حينما‬
‫صفَ لنا نعيم الجنة بصفة بما نعرف من نعيم الدينا‪ :‬نخل‬
‫يريد الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن ي ِ‬
‫وفاكهة ورمان ولحم طير وريحان‪.‬‬
‫ط ْعمُهُ‬
‫ن وَأَ ْنهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَ َتغَيّرْ َ‬
‫عدَ ا ْلمُ ّتقُونَ فِيهَآ أَ ْنهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِ ٍ‬
‫ويقول‪ {:‬مّ َثلُ الْجَنّةِ الّتِي وُ ِ‬
‫صفّى }[محمد‪.]15 :‬‬
‫سلٍ ّم َ‬
‫ن وَأَ ْنهَارٌ مّنْ عَ َ‬
‫خمْرٍ لّ ّذةٍ لّلشّارِبِي َ‬
‫وَأَ ْنهَارٌ مّنْ َ‬
‫مع الفارق بين هذه الشياء في الدنيا والخرة‪ .‬ويكفي أن تعرف الفرق بين خمر الدنيا وما فيها‬
‫من سوء في طعمها ورائحتها واغتيالها للعقل‪ ،‬وبين خمر الخرة التي نفى ال عنها السوء‪ ،‬فقال‪{:‬‬
‫ل َولَ هُمْ عَ ْنهَا يُن َزفُونَ }[الصافات‪.]47 :‬‬
‫غ ْو ٌ‬
‫لَ فِيهَا َ‬
‫وقوله‪ُ } :‬بكْ َر ًة وَعَشِيّا { [مريم‪ ]62 :‬فكيف يأتيهم رزقهم ُبكْرة وعشيا‪ ،‬وليس في الجنة وقت ل‬
‫ُبكْرة ول عَشِيا‪ ،‬ل لَيْل ول نهار؟ نقول‪ :‬إن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يخاطبنا على َقدْر عقولنا‪،‬‬
‫وما نعرف نحن من مقاييس في الدنيا‪ ،‬وإلّ فنعيم الجنة دائم ل يرتبط بوقت‪ ،‬كما قال سبحانه‪{:‬‬
‫ُأكُُلهَا دَآئِ ٌم وِظِّلهَا }[الرعد‪.]35 :‬‬
‫وفي آية أخرى قال تعالى‪ُ {:‬أوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْلوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }‬
‫[المؤمنون‪10 :‬ـ ‪.]11‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ِ } :‬ت ْلكَ الْجَنّةُ الّتِي نُورِثُ {‬

‫(‪)2296 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تِ ْلكَ الْجَنّةُ الّتِي نُو ِرثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ َتقِيّا (‪)63‬‬

‫قوله‪ { :‬تِ ْلكَ الْجَنّةُ } [مريم‪ ]63 :‬أي‪ :‬التي يعطينا صور لها هي‪ { :‬الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ‬
‫َتقِيّا } [مريم‪ ]63 :‬أ ي‪ :‬يرثونها‪ ،‬فهل كان في الجنة أحد قبل هؤلء‪َ ،‬فهُم يرثونه؟‬
‫الحق ـ تبارك وتعالى ـ قبل أن يخلق الخَلْق عرف منهم مَنْ سيؤمن باختياره‪ ،‬ومَنْ سيكفر‬
‫ن سيعصي‪ ،‬فلم يُرغِم سبحانه عباده على شيء‪ ،‬إنما علم ما سيكون‬
‫باختياره‪ ،‬علم مَنْ سيطيع ومَ ْ‬
‫منهم بطلقة علمه تعالى‪ ،‬إل أنه تعالى أعدّ الجنة لتسع جميع الخَلْق إنْ أطاعوا‪ ،‬وأعدّ النار لتسع‬
‫صوْا‪ ،‬فلن يكون هناك إذن زحام ول أزمة إسكان‪ ،‬إنْ دخل الناس جميعا الجنة‪،‬‬
‫ع َ‬
‫جميع الخَلْق إنْ َ‬
‫أو دخلوا جميعا النار‪.‬‬
‫ع ّدتْ لهم في الجنة؟ تذهب إلى أهل‬
‫إذن‪ :‬حينما يدخل أهلُ النارِ النارَ‪ ،‬أين تذهب أماكنهم التي أُ ِ‬
‫الجنة‪ ،‬فيرثونها بعد أنْ حُرم منها هؤلء‪.‬‬
‫ثم يقول رب العزة سبحانه‪َ { :‬ومَا نَتَنَ ّزلُ ِإلّ بَِأمْرِ رَ ّبكَ }‬

‫(‪)2297 /‬‬

‫ك َومَا كَانَ رَ ّبكَ نَسِيّا (‪)64‬‬


‫َومَا نَتَنَ ّزلُ إِلّا بَِأمْرِ رَ ّبكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِينَا َومَا خَ ْلفَنَا َومَا بَيْنَ ذَِل َ‬

‫هنا ينتقل السياق إلى موضوع آخر‪ ،‬فبعد أنْ تحدّث عن الجنة وأهلها عرض لمر حدث لرسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو ما يحدث له حين ينزل عليه الوحي‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن الوحي ينزل‬
‫بواسطة جبريل عليه السلم ‪ ،‬وهو مََلكٌ‪ ،‬على محمد صلى ال عليه وسلم وهو بشر‪.‬‬
‫ولقاء جبريل بقانون ملكيته بمحمد صلى ال عليه وسلم بقانون بشريته ل يمكن أن يتم إلّ بتقارب‬
‫هذيْن الجنسين وعملية تغيير ل بُدّ أنْ تطرأ على أحدهما‪ ،‬إما أَنْ ينزل المَلكُ على صورة بشرية‪،‬‬
‫وإما أن يرتفع ببشرية الرسول إلى درجة تقرب من المَلك ليأخذ عنه‪ ،‬وذلك ما كان يحدث لرسول‬
‫ال حين يأتيه الوحي‪.‬‬
‫وقد وصف النبي صلى ال عليه وسلم هذا التغيير فقال‪ ..." :‬فغطّني حتى بلغ مني الجهْد‪" ...‬‬
‫وكان صلى ال عليه وسلم يتفصّد جبينه عرقا لما يحدث في جسمه من تفاعل وعمليات كيماوية‪،‬‬
‫ثم حينما يُسرّي عنه تذهب هذه العراض‪.‬‬
‫وقد أخبر بعض الصحابة‪ ،‬وكان يجلس بجوار رسول ال‪ ،‬والرسول صلى ال عليه وسلم يضع‬
‫ُركْبته على ُركْبته‪ ،‬فلما نزل على رسول ال الوحي قال الصحابي‪ :‬شعرتُ ب ُركْبة رسول ال‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكأنها جبل‪.‬‬
‫وإذا أتاه الوحي وهودابة كانت الدابة تئط أي‪ :‬تنخ من ِثقَل الوحي‪ ،‬وقد قال تعالى‪ {:‬إِنّا سَُن ْلقِي‬
‫عَلَ ْيكَ َقوْلً َثقِيلً }[المزمل‪.]5 :‬‬
‫إذن‪ :‬كان النبي صلى ال عليه وسلم يتعب بعد هذا اللقاء ويشقّ عليه‪ ،‬حتى يذهب إلى السيدة‬
‫خديجة رضي ال عنها يقول‪َ " :‬زمّلوني َزمّلوني " أو " دَثّروني دَثّروني " كأن به حمى مما لقى‬
‫من لقاء الملَك ومباشرة الوحي أولً‪.‬‬
‫ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الوحي يفتر عن رسوله ليرتاح من تعبه ومشقته‪ ،‬فإذا ما‬
‫ارتاح وذهب عنه التعب بقيتْ له حلوة ما نزل من الوحي‪ ،‬فيتشوق إليه من جديد‪ ،‬كما يشتاق‬
‫النسان لمكانٍ يحبه دونه الشواك ومصاعب الطريق‪ ،‬فالحب للشيء يحدث علمية كالتخدير‪ ،‬فل‬
‫تشعر في سبيله بالتعب‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬لما فتر الوحي عن رسول ال شمت فيه الكفار وقالوا‪ :‬إن َربّ محمد قد قله يعني‪ :‬أبغضه‬
‫وتركه‪.‬‬
‫وهذا القول دليل على غبائهم وحماقتهم‪ ،‬كيف وقد كانوا بالمس يقولون عنه‪ :‬ساحر وكذاب؟ ففي‬
‫البغض يتذكرون أنه له ربا منع عنه الوحي‪ ،‬وحين دعاهم إلى اليمان بهذا الرب قالوا‪ :‬من أين‬
‫جاء بهذا الكلم؟‬
‫ك صَدْ َركَ‬
‫لذلك‪ ،‬فالحق تبارك وتعالى يخاطب رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلً‪ {:‬أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ‬
‫ظهْ َركَ * وَ َر َفعْنَا َلكَ ِذكْ َركَ }[الشرح‪1 :‬ـ ‪ ]4‬إذن‪ :‬كانت‬
‫ك وِزْ َركَ * الّذِي أَن َقضَ َ‬
‫ضعْنَا عَن َ‬
‫* َووَ َ‬
‫مسألة الوحي شاقة على رسول ال‪.‬‬
‫فأراد الحق سبحانه أن يعطي هؤلء درسا من خلل درس كونيّ مشاهد يشهد به المؤمن والكافر‪،‬‬
‫هذا المر الكونيّ هو الزمن‪ ،‬وهو ينقسم إلى ليل ونهار‪ ،‬ولكل منهما مهمته التي خلقه ال من‬
‫أجلها‪ ،‬كما قال سبحانه‪:‬‬

‫{ وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ إِذَا تَجَلّىا }[الليل‪1 :‬ـ ‪.]2‬‬
‫فإياك أنْ تُغيّر مهمة الليل إلى النهار‪ ،‬أو مهمة النهار إلى الليل‪.‬‬
‫عكَ رَ ّبكَ َومَا قَلَىا * وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ‬
‫ثم يرد عليهم قائلً‪ {:‬وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ إِذَا سَجَىا * مَا َودّ َ‬
‫ن الُولَىا }[الضحى‪1 :‬ـ ‪.]4‬‬
‫ّلكَ مِ َ‬
‫والمعنى‪ :‬إنْ كان النهار لحركة الحياة واستبقائها‪ ،‬والليل للراحة والسكون‪ ،‬فهما آيتان متكاملتان ل‬
‫مُتضادتان‪ ،‬وليس معنى أن يأتي الليل بسكونه أن النهار لن يأتي من بعد‪ ،‬بل سيأتي نهار آخر‪،‬‬
‫وستستمر حركة الحياة‪.‬‬
‫وكذلك المر إنْ فترَ الوحي عن رسول ال‪ ،‬فل تظنوا أنه انقطع إلىغير َرجْعة‪ ،‬بل هي فترة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ليرتاح فيها رسول ال‪ ،‬كالليل الذي ترتاحون فيه من عناء العمل في النهار‪ ،‬ومن هنا كانت‬
‫ك َومَا قَلَىا }‬
‫عكَ رَ ّب َ‬
‫الحكمة في أنْ يُقسم سبحانه وتعالى بالضحى والليل إذا سجى على{ مَا وَدّ َ‬
‫[الضحى‪.]3 :‬‬
‫عكَ }[ضحى‪ ]3 :‬بكاف‬
‫ونلحظ في هذا التعبير ِدقّة العجاز في أداء القرآن‪ ،‬حيث قال‪ {:‬مَا وَدّ َ‬
‫الخطاب؛ لن التوديع يكون لمَنْ تحب ولمَنْ تكره‪ ،‬أما في القِلَى فلم يقُلْ‪ :‬قَلَك‪ .‬لن القِلَى ل يكون‬
‫إل لمَنْ تكره‪.‬‬
‫ن الُولَىا }الضحى‪ ]4 :‬الخرة أي‪ :‬الفترة الخيرة من نزول الوحي‬
‫ومعنى‪ {:‬وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ ّلكَ مِ َ‬
‫خَيْر لك من الفترة الولى؛ لنها ستكون أوسع‪ ،‬وستأتيك بل َتعَب ول مشقة‪ ،‬وفعلً نزلت جمهرة‬
‫القرآن بعد ذلك في يُسْر على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وهكذا كان المر في الية التي نحن بصددها‪َ } :‬ومَا نَتَنَ ّزلُ ِإلّ بَِأمْرِ رَ ّبكَ { [مريم‪ ]64 :‬فيقال‪:‬‬
‫إنها نزلت حينما قال الكفار‪ :‬إن ربّ محمد قد قله‪ ،‬أو أنها نزلت بعد أن سأل كفار مكة السئلة‬
‫الثلثة التي تحدثنا عنها في سورة الكهف‪ .‬وأن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لهم‪" :‬‬
‫سأخبركم غدا " لكن الوحي لم يأته مدة خمسة عشر يوما‪ ،‬فشقّ ذلك عليه وحزِنَ له فنزلت‪َ } :‬ومَا‬
‫نَتَنَ ّزلُ ِإلّ بَِأمْرِ رَ ّبكَ { [مريم‪ ]64 :‬أي‪ :‬الملئكة ل تنزل إل بأمر‪ ،‬ول تغيب إل بأمر‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه تعالى‪َ } :‬لهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا َومَا خَ ْلفَنَا َومَا بَيْنَ ذاِلكَ { [مريم‪.]64 :‬‬
‫قوله تعالى‪ } :‬مَا بَيْنَ أَ ْيدِينَا { [مريم‪ ]64 :‬أي‪ :‬الذي أمامنا } َومَا خَ ْلفَنَا { [مريم‪ ]64 :‬أي‪ :‬في‬
‫الخلف } َومَا بَيْنَ ذاِلكَ { [مريم‪ ]64 :‬أي‪ :‬ما بين المام والخلف‪ ،‬فماذا بين المام والخلف؟ ليس‬
‫بين المام والخلف إل أنت‪ .‬فسبحانه وتعالى المالك‪ ،‬الذي له الملك والمملوك‪ ،‬وله المكان‬
‫والمكين‪ ،‬وله الزمان والزمين‪.‬‬
‫وقوله‪َ } :‬ومَا كَانَ رَ ّبكَ نَسِيّا { [مريم‪ ]64 :‬هل يرسل الحق ـ تبارك وتعالى ـ رسولً‪ ،‬ثم ينساه‬
‫هكذا دون إمداد وتأييد؟ فسبحانه تنزّه عن الغفلة وعن النيسان‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ّ } :‬ربّ ال ّ‬

‫(‪)2298 /‬‬

‫سمِيّا (‪)65‬‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فَاعْبُ ْد ُه وَاصْطَبِرْ ِلعِبَادَتِهِ َهلْ َتعَْلمُ لَهُ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫َربّ ال ّ‬

‫أولً‪ :‬ما علقة قوله تعالى‪َ {:‬ومَا كَانَ رَ ّبكَ َنسِيّا }[مريم‪ ]64 :‬بقوله تعالى في هذه الية‪ّ { :‬ربّ‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } [مريم‪]65 :‬؟‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قالوا‪ :‬لن هذا الكون العظيم بسمائه وأرضه‪ ،‬وما فيه من هندسة التكوين وإبداع الخلق قائم‬
‫ت وَالَرْضَ أَن تَزُولَ }[فاطر‪:‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫بقيومية ال تعالى عليه‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ‬
‫‪.]41‬‬
‫فل تظن أن الكون قائم على قانون يُديره‪ ،‬بل على القيومية القائمة على كل أمر من أمور الكون‪،‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ ل تأخذه سنة ول نوم‪ .‬فما دام المر كذلك‪ ،‬وأنه تعالى يعلم ما بين‬
‫أيدينا وما خلفنا‪ ،‬وما بين ذلك‪ ،‬وأنه تعالى قيّوم ل ينسى ول يغفل وبه يقوم الكون‪ .‬فهو ـ إذن ـ‬
‫يستحق العبادة والطاعة فيما أمر‪ ،‬وقد أعطاك قبل أن يُكلّفك عطاء ل تستطيع أنت أن تفعله‬
‫لنفسك‪ ،‬ثم تركك تربع في هذا النعيم خمس عشرة سنة دون أنْ يُكلّفك بشيء من العبادات‪.‬‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فَاعْ ُب ْد ُه وَاصْطَبِرْ ِلعِبَادَ ِتهِ } [مريم‪:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫لذلك هنا يقول تعالى‪ّ { :‬ربّ ال ّ‬
‫‪ ]65‬وقد أكّد القرآن الكريم في آيات كثيرة مسألة الوحدانية‪ ،‬وأنه َربّ واحد فقال‪ّ { :‬ربّ‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } [مريم‪.]65 :‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫وقال‪َ {:‬ربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الفاتحة‪.]2 :‬‬
‫لوّلِينَ }[الشعراء‪.]26 :‬‬
‫وقال‪ {:‬رَ ّب ُك ْم وَ َربّ آبَآ ِئكُ ُم ا َ‬
‫لن القدماء‪ ،‬ومنهم ـ مثلً قدماء المصريين كانوا يجعلون ربا للسماء‪ ،‬وربا للرض‪ ،‬وربا للجو‪،‬‬
‫وربا للموات‪ ،‬وربا للزرع‪ ..‬إلخ وما دام هو سبحانه رب كل شيء فقد رتب العبادة على‬
‫الربوبية‪ .‬والعبادة‪ :‬طاعة معبود فيما أمر وفيما نهى‪ ،‬وكيف ل نطيع ال ونحن خَلْقه وصَنْعته‪،‬‬
‫ونأكل رزقه‪ ،‬ونتقلب في نعمه؟ وفي ريفنا يقول الرجل لولده المتمرد عليه‪( :‬مَنْ يأكل لقمتي يسمع‬
‫كلمتي)‪.‬‬
‫ول ُبدّ أن نعلم أن ال تعالى له الكمال المطلق قبل أنْ يخلق الخَلْق وبصفات الكمال خلق‪ ،‬فل‬
‫تنفعه طاعة‪ ،‬ول تضره معصية‪ .‬فإن قلتَ‪ :‬فلماذا ـ إذن ـ يُكلّف الخَلْق بالمر والنهي؟ نقول‪:‬‬
‫كلّف ال الخَلْق لتستمر حركة الحياة وتتساند الجهود ول تتصادم‪ ،‬فيحدث في حياتهم الرتقاء‬
‫ويسعدوا بها‪ ،‬إنما لو تركهم وأهواءهم لَفسدتِ الحياة‪ ،‬فأنت تبني وغيرك يهدم‪.‬‬
‫لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "‪.‬‬
‫سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ }[المؤمنون‪:‬‬
‫س َدتِ ال ّ‬
‫حقّ أَ ْهوَآءَهُمْ َلفَ َ‬
‫والحق تبارك وتعالى يقول‪ {:‬وََلوِ اتّبَعَ الْ َ‬
‫‪.]71‬‬
‫إذن‪ :‬التشريعات جُعَلتْ لصالحنا نحن‪ { :‬فَاعْ ُب ْد ُه وَاصْطَبِرْ ِلعِبَادَ ِتهِ } [مريم‪ ]65 :‬لن العبادة فيها‬
‫ن تفعلها‪ ،‬وينهاك عَنْ أشياء يشقّ‬
‫مشقة‪ ،‬فل بُدّ لها من صبر؛ لنها تأمرك بأشياء يشقّ عليك أ ْ‬
‫عليك أن تتركها لنك أِلفْتها‪.‬‬
‫والصبر يكون منا جميعا‪ ،‬يصبر ُكلّ مِنّا على الخر؛ لننا أبناء أغيار‪ ،‬فإن صبرتَ على الذى‬
‫صبر الناس عليك إنْ حدث منك إيذاء لهم؛ لذلك يقول تعالى‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر‪.]3 :‬‬
‫صوْاْ بِا ْلحَقّ وَتَوَا َ‬
‫{ وَ َتوَا َ‬
‫حقْك‪ ،‬أو أساء إليك فاغفر له كما تحب أن‬
‫والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يُعلّمنا‪ :‬إن أذنب أحد في َ‬
‫أغفر لك ذنبك‪ ،‬واعفوَ عن سيئتك‪.‬‬
‫ن وَا ْل ُمهَاجِرِينَ‬
‫س َعةِ أَن ُيؤْتُواْ ُأوْلِي ا ْلقُرْبَىا وَا ْلمَسَاكِي َ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وَلَ يَأْ َتلِ ُأوْلُواْ ا ْل َفضْلِ مِنكُ ْم وَال ّ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }[النور‪.]22 :‬‬
‫صفَحُواْ َألَ تُحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُك ْم وَاللّهُ َ‬
‫فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلْ َي ْعفُواْ وَلْ َي ْ‬
‫ول تظن أن صبرك على أذى الخرين أو غفرانك لهم تطوّع من عندك؛ لنه لن يضيع عليك عند‬
‫ال‪ ،‬وستُردّ لك في سيئة تُغفَر لك‪ .‬حتى مَنْ ُفضِح مثلً أو ادُعي عليه ظُلْما ل يضيعها ال‪ ،‬بل‬
‫يدّخرها له في فضيحة سترها عليه‪ ،‬فمَنْ ُفضِح بما لم يفعل‪ ،‬سُتر عليه ما فعل‪.‬‬
‫سمِيّا { [مريم‪]65 :‬؟ سبق أن تكلمنا في معنى (السّميّ) وقد اختلف‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬هلْ َتعْلَمُ َلهُ َ‬
‫العلماء في معناها‪ ،‬قالوا‪ :‬السّميّ‪ :‬الذي يُساميك‪ ،‬أي‪ :‬أنت تسمو وهو يسمو عليك‪ ،‬أو السّميّ‪:‬‬
‫النظير والمثيل‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى ليس له سميّ يُساميه في صفات الكمال‪ ،‬وليس له نظير أو مثيل أو شبيه‪،‬‬
‫شيْءٌ }[الشورى‪.]11 :‬‬
‫بدليل قوله تعالى‪ {:‬لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫صمَدُ * لَمْ يَِل ْد وَلَمْ يُوَلدْ * وَلَمْ َيكُنْ لّهُ ُكفُوا َأحَدٌ }‬
‫وقوله تعالى‪ُ {:‬قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ * اللّهُ ال ّ‬
‫[الخلص‪1 :‬ـ ‪.]4‬‬
‫سمِيّا }[مريم‪:‬‬
‫جعَل لّهُ مِن قَ ْبلُ َ‬
‫وللسميّ معنى آخر أوضحناه في قصة يحيى‪ ،‬حيث قال تعالى‪َ {:‬لمْ نَ ْ‬
‫‪ ]7‬أي‪ :‬لم يسبق أنْ تسمّى أحد بهذا السم‪ .‬وكذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يتسمّ أحدٌ باسمه‪،‬‬
‫ل قبل هذه الية‪ ،‬ول بعد أنْ أطلقها رسول ال تحدّيا بين الكفار والملحدة الذين يتجرؤون على‬
‫ال‪ .‬فلماذا لم يجرؤ أحد من هؤلء أنْ يُسمى ولده ال؟‬
‫ن كانوا كفارا وملحدة إل أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بال‪ ،‬ويعترفون‬
‫الحقيقة أن هؤلء وإ ْ‬
‫بوجوده‪ ،‬ويخافون من عاقبة هذه التسمية‪ ،‬ول يأمنون أنْ يصيبهم السوء بسببها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لم تحدث‪ ،‬ولم يجرؤ أحد عليها؛ لن ال تعالى قالها وأعلنها تحديا‪ ،‬وإذا قال ال تعالى‪ ،‬مَلكَ‬
‫اختيار الخَلْق‪ ،‬وعلم أنهم لن يجرؤوا على هذه الفعلة‪.‬‬
‫ل الِنسَانُ أَِإذَا مَا ِمتّ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَ َيقُو ُ‬

‫(‪)2299 /‬‬

‫س ْوفَ ُأخْرَجُ حَيّا (‪)66‬‬


‫وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَ ِئذَا مَا ِمتّ لَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن الِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعا }‬
‫ما المراد بالنسان؟ النسان تُطلق ويُراد بها عموم أي إنسان مثل‪ {:‬إِ ّ‬
‫[المعارج‪ ]19 :‬ويُراد بها خصوصية لبعض الناس‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬أَمْ َيحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىا‬
‫مَآ آتَا ُهمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ }[النساء‪ ]54 :‬فالمراد بالناس هنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫شوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا َوقَالُواْ حَسْبُنَا‬
‫ج َمعُواْ َلكُمْ فَاخْ َ‬
‫أو قوله تعالى‪ {:‬الّذِينَ قَالَ َل ُهمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ َ‬
‫اللّ ُه وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ }[آل عمران‪ ]173 :‬فالمراد‪ :‬ناسٌ مخصوصون‪.‬‬
‫والمعنى هنا‪ { :‬وَ َيقُولُ الِنسَانُ } [مريم‪ ]66 :‬أي‪ :‬الكافر الذي ل يؤمن بالخرة‪ ،‬ويستبعد الحياة‬
‫س ْوفَ أُخْرَجُ حَيّا } [مريم‪ ]66 :‬والستفهام هنا للنكار‪ ،‬لكن هذه مسألة‬
‫بعد الموت‪ { :‬أَِإذَا مَا ِمتّ لَ َ‬
‫سهْل مَيْسور‪ ،‬فيقول تعالى‪َ { :‬أوَلَ يَ ْذكُ ُر الِنسَانُ }‬
‫الردّ عليها َ‬

‫(‪)2300 /‬‬

‫ل وَلَمْ َيكُ شَيْئًا (‪)67‬‬


‫َأوَلَا يَ ْذكُرُ الْإِ ْنسَانُ أَنّا خََلقْنَاهُ مِنْ قَ ْب ُ‬

‫فلنْ يُعادَ النسانُ من شيء أهونُ من إنْ يعاد من ل شيء؛ لذلك قال تعالى في توضيح هذه‬
‫المسألة‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ }[الروم‪ ]27 :‬مع أن الخالق سبحانه‬
‫وتعالى ل يُقال في حقه تعالى هَيّن وأهون‪ ،‬أو صعب وأصعب‪ ،‬ولكنه يحدثنا بما نفهم وبما نعلم‬
‫في أعرافنا‪.‬‬
‫ففي عُرْفنا نحن أن تنشيء من موجود أسهل من أنْ تنشيء من عدم‪ ،‬وإنْ كان فعل العبد يقوم‬
‫ن فيكون "‪.‬‬
‫على المعالجة ومزاولة السباب‪ ،‬ف ِفعْل الخالق سبحانه إنما يكون بقوله للشيء " كُ ْ‬
‫ح َدةٍ }[لقمان‪.]28 :‬‬
‫س وَا ِ‬
‫وفي آية أخرى يقول تعالى‪ {:‬مّا خَ ْل ُقكُ ْم َولَ َبعْ ُث ُكمْ ِإلّ كَنَفْ ٍ‬
‫ولما سُئِل المام علي ـ كرّم ال وجهه‪ :‬كيف يُحاسِب الُ الناسَ جميعا في وقت واحد؟ قال‪ :‬كما‬
‫يرزقهم جميعا في وقت واحد‪.‬‬
‫فقوله‪َ { :‬أ َولَ َي ْذكُ ُر الِنسَانُ } [مريم‪ ]67 :‬أي‪ :‬لو تذكّر هذه الحقيقة ما كذّب بالبعث‪ ،‬وقد عولجت‬
‫سيَ خَ ْلقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ا ْلعِظَا َم وَ ِهيَ‬
‫هذه المسألة أيضا في قوله تعالى‪َ {:‬وضَ َربَ لَنَا مَثَلً وَنَ ِ‬
‫َرمِيمٌ }[يس‪.]78 :‬‬
‫خلْقه الول ما ضرب لنا هذا المثل‪ .‬ثم يأتي الجواب منطقيا‪ُ {:‬قلْ يُحْيِيهَا الّذِي أَنشََأهَآ‬
‫فلو تذكّر َ‬
‫َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَ ُهوَ ِب ُكلّ خَ ْلقٍ عَلِيمٌ }[يس‪.]79 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهنا أيضا يكون الدليل‪ { :‬أَنّا خََلقْنَاهُ مِن قَ ْبلُ وَلَمْ َيكُ شَيْئا } [مريم‪.]67 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬فوَرَ ّبكَ لَ َنحْشُرَ ّنهُ ْم وَالشّيَاطِينَ }‬

‫(‪)2301 /‬‬

‫جهَنّمَ جِثِيّا (‪)68‬‬


‫ح ْولَ َ‬
‫حضِرَ ّنهُمْ َ‬
‫َفوَرَ ّبكَ لَ َنحْشُرَ ّنهُمْ وَالشّيَاطِينَ ُثمّ لَ ُن ْ‬

‫حشُرَ ّنهُ ْم وَالشّيَاطِينَ } [مريم‪ ]68 :‬الحشر‪ :‬أن يبعثهم ال من قبورهم‪ ،‬ثم‬
‫قوله تعالى‪َ { :‬فوَرَ ّبكَ لَنَ ْ‬
‫يسوقهم مجتمعين إلى النار هم والشياطين الذين كانوا ُيغْرونهم بالمعصية ويُزينونها لهم‪.‬‬
‫جهَنّمَ جِثِيّا } [مريم‪ ]68 :‬يقال‪ :‬جثا يجثو فهو جَاثٍ‪ .‬أي‪ :‬ينزل على ركبتيه‪،‬‬
‫ح ْولَ َ‬
‫حضِرَ ّنهُمْ َ‬
‫{ ُثمّ لَنُ ْ‬
‫وهي دللة على الذّلّة والنكسار والمهانة التي ل َيقْوى معها على القيام‪.‬‬

‫(‪)2302 /‬‬

‫حمَنِ عِتِيّا (‪)69‬‬


‫ثُمّ لَنَنْزِعَنّ مِنْ ُكلّ شِيعَةٍ أَ ّيهُمْ َأشَدّ عَلَى الرّ ْ‬

‫النزع‪ :‬خَلْع الشيء من أصله بشدة‪ ،‬ول يقال‪ :‬نزع إل إذا كان المنزوع متماسكا مع المنزوع منه‪،‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ُ {:‬قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآءُ }[آل‬
‫عمران‪ ]26 :‬كأنهم كانوا مُتمسّكين به حريصين عليه‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬مِن ُكلّ شِيعَةٍ } [مريم‪ ]69 :‬أي‪ :‬جماعة متشايعون على رأي باطل‪ ،‬ويقتنعون به‪،‬‬
‫حمَـانِ عِتِيّا } [مريم‪ ]69 :‬العتي‪ :‬وهو الذي بلغ القمة في‬
‫ويسايرون أصحابه‪ { :‬أَ ّيهُمْ َأشَدّ عَلَى الرّ ْ‬
‫الجبروت والطغيان‪ ،‬بحيث ل يقف أحد في وجهه‪ ،‬كما قلنا كذلك في صفة الكِبَر{ َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ‬
‫ا ْلكِبَرِ عِتِيّا }[مريم‪ ]8 :‬لنه إذا جاء الكبر ل حيلةَ فيه‪ ،‬ول يقدر عليه أحد‪.‬‬
‫ومعلوم أن رسالت السماء لما نزلتْ على أهل الرض كان هناك أناس يُضارون من هذه‬
‫حقّا‪،‬‬
‫الرسالت في أنفسهم‪ ،‬وفي أموالهم‪ ،‬وفي مكانتهم وسيادتهم‪ ،‬فرسالت ال جاءتْ لتؤكد َ‬
‫وتثبت وحدانية ال‪ ،‬وسواسية الخَلْق بالنسبة لمنهج ال‪.‬‬
‫وهناك طغاة وجَبّارون وسادة لهم عبيد‪ ،‬وفي الدنيا القوى والضعيف‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬والسليم‬
‫والمريض‪ ،‬فجاءت رسالت السماء لِتُحدِث استطراقا للعبودية‪.‬‬
‫فَمن الذي ُيضَار و َي ْغضَب ويعادي رسالت السماء؟ إنهم هؤلء الطغاة الجبارون‪ ،‬أصحاب السلطة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمال والنفوذ‪ ،‬ول ُب ّد أن لهؤلء أتباعا يتبعونهم ويشايعونهم على باطلهم‪.‬‬
‫فإذا كان يوم القيامة ويوم الحساب‪ ،‬فبمَنْ نبدأ؟ النكَى أن نبدا بهؤلء الطغاة الجبابرة‪ ،‬ونقدم‬
‫هؤلء السادة أمام تابعيهم حتى يروهم أذلء صاغرين‪ ،‬وقد كانوا في الدنيا طغاةً متكبرين‪ ،‬كذلك‬
‫لنقطع أمل التابعين في النجاة‪.‬‬
‫فربما ظَنّوا أن هؤلء الطغاة الجبابرة سيتدخلون ويدافعون عنهم‪ ،‬فقد كانوا في الدنيا خدمهم‪،‬‬
‫وكانوا تابعين لهم ومناصرين‪ ،‬فإذا ما أخذناهم أولً وبدأنا بهم‪ ،‬فقد قطعنا أمل التابعين في النجاة‪.‬‬
‫وقد ورد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى‪ {:‬وَ َيوْمَ َنحْشُرُ مِن ُكلّ ُأمّةٍ َفوْجا ّممّن ُيكَ ّذبُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ‬
‫طغَاتهم‪ ،‬ليرى التابعون مصارع المتبوعين‪ ،‬ويشهد‬
‫يُوزَعُونَ }[النمل‪ ]83 :‬أي‪ :‬من كبارهم و ُ‬
‫الضعفاء مصارع القوياء‪ ،‬فينقطع أملهم في النجاة‪.‬‬
‫وفي حديث القرآن عن فرعون‪ ،‬وقد بلغ قمة الطغيان والجبروت حيث ادّعى اللوهية‪ ،‬فقال عنه‪{:‬‬
‫َيقْدُمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فََأوْرَ َدهُمُ النّارَ وَبِئْسَ ا ْلوِرْدُ ا ْل َموْرُودُ }[هود‪ ]98 :‬فهو قائدهم ومقدمتهم إلى‬
‫جهنم‪ ،‬كما كان قائدهم إلى الضلل في الدنيا‪ ،‬فهو المعلم وهم المقلّدون‪.‬‬
‫فعليه ـ إذن ـ وزْران‪ :‬ضلله في نفسه‪ ،‬ووزْر إضلله لقومه‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬فوَيْلٌ‬
‫لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً }[البقرة‪.]79 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬ثمّ لَ َنحْنُ أَعْلَمُ بِالّذِينَ }‬

‫(‪)2303 /‬‬

‫ثُمّ لَ َنحْنُ أَعَْلمُ بِالّذِينَ هُمْ َأوْلَى ِبهَا صِلِيّا (‪)70‬‬

‫صليا‪ :‬اصطلء واحتراقا في النار من صَِليَ يصْلَى‪ :‬أي دخل النار وذاق حرّها‪ .‬أما‪ :‬اصطلى‬
‫أي‪ :‬طلب هو النار‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ّ {:‬لعَّلكُمْ َتصْطَلُونَ }[النمل‪.]7 :‬‬
‫والمعنى‪ :‬أننا نعرف مَنْ هو َأوْلى بدخول النار أولً‪ ،‬وكأن لهم في ذلك أولويات معروفة؛ لنهم‬
‫سيتجادلون في الخرة ويتناقشون ويتلومون وسيدور بينهم مشهد فظيع رَهيب يفضح ما اقترفوه‪.‬‬
‫فالتابع والمتبوع‪ ،‬والعابد والمعبود‪ُ ،‬كلّ يُلقي باللئمة على الخر‪ ،‬اسمعهم وهم يقولون‪ {:‬رَبّنَآ إِنّآ‬
‫ض ْعفَيْنِ مِنَ ا ْل َعذَابِ وَا ْلعَ ْنهُمْ َلعْنا كَبِيرا }‬
‫طعْنَا سَادَتَنَا َوكُبَرَآءَنَا فََأضَلّونَا السّبِيلْ * رَبّنَآ آ ِتهِ ْم ِ‬
‫أَ َ‬
‫[الحزاب‪67 :‬ـ ‪.]68‬‬
‫ط َعتْ ِب ِه ُم الَسْبَابُ }‬
‫ب وَ َتقَ ّ‬
‫وفي آية أخرى‪ {:‬إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُو ْا وَرََأوُاْ ا ْلعَذَا َ‬
‫[البقرة‪.]166 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف‪.]67 :‬‬
‫وصدق ال العظيم حين قال‪ {:‬الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬وَإِن مّنكُمْ ِإلّ وَا ِردُهَا }‬

‫(‪)2304 /‬‬

‫وَإِنْ مِ ْنكُمْ إِلّا وَارِ ُدهَا كَانَ عَلَى رَ ّبكَ حَ ْتمًا َم ْقضِيّا (‪)71‬‬

‫وهذا خطاب عام لجميع الخلْق دون استثناء‪ ،‬بدليل قوله تعالى بعدها‪ُ {:‬ثمّ نُنَجّي الّذِينَ ا ّتقَواْ }‬
‫[مريم‪ ]72 :‬إذن‪ :‬فالورود هنا يشمل التقياء وغيرهم‪.‬‬
‫فما معنى الورود هنا؟ الورود أن تذهب إلى مصدر الماء للسقيا أي‪ :‬أخْذ الماء دون أنْ تشرب‬
‫سقُونَ }[القصص‪]23 :‬‬
‫ن َوجَدَ عَلَ ْيهِ ُأمّةً مّنَ النّاسِ يَ ْ‬
‫منه‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وََلمّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَ َ‬
‫أي‪ :‬وصل إلى الماء‪.‬‬
‫ل وَارِ ُدهَا } [مريم‪ ]71 :‬أي‪ :‬أنكم جميعا مُتقون ومجرمون‪ ،‬سترِدُون‬
‫إذن‪ :‬معنى‪ { :‬وَإِن مّنكُمْ ِإ ّ‬
‫النار وتروْنها؛ لن الصراط الذي يمرّ عليه الجميع مضروب على مَتْن جهنم‪.‬‬
‫وقد ورد في ذلك حديث أبي سعيد الخدري قال قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬يوضع الصراط بين‬
‫ظهراني جهنم‪ ،‬عليه حسك كحسك السعدان‪ ،‬ثم يستجيز الناس‪ ،‬فنَاجٍ مُسلّم‪ ،‬ومخدوش به‪ ،‬ثم ناج‬
‫ومحتبس به‪ ،‬ومنكوس ومكدوس فيها "‪.‬‬
‫فإذا ما رأى المؤمن النار التي نجاه ال منها يحمد ال ويعلم نعمته ورحمته به‪.‬‬
‫ومن العلماء مَنْ يرى أن ورد أي‪ :‬أتى وشرب منه ويستدلون بقوله تعالى‪َ {:‬يقْ ُدمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ‬
‫فََأوْرَدَهُمُ النّارَ }[هود‪ ]98 :‬أي‪ :‬أدخلهم‪ .‬لكن هذا يخالف النسق العربي الذي نزل القرآن به‪ ،‬حيث‬
‫صيّ الحاضِرِ المتَخَ ّيمِأي‪ :‬حينما وصلوا إلى‬
‫ع ِ‬
‫ضعْنَا ِ‬
‫يقول الشاعر‪:‬وََلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقا جِمامُه َو َ‬
‫ن وصلوا إليه وضربوا عنده خيامهم لم يكونوا شَرِبوا منه‪ ،‬أو‬
‫الماء ضربوا عنده خيامهم‪ ،‬فساعةَ أ ْ‬
‫أخذوا من مائه‪ ،‬فمعنى الورود أي‪ :‬الوصول إليه دون الشّرب من مائه‪.‬‬
‫وأصحاب هذه الرأي الذين يقولون { وَارِدُهَا } [مريم‪ ]71 :‬أي‪ :‬داخلها يستدلون كذلك بقوله‬
‫تعالى‪ {:‬ثُمّ نُ َنجّي الّذِينَ ا ّتقَو ْا وّنَذَرُ الظّاِلمِينَ فِيهَا جِثِيّا }[مريم‪ ]72 :‬يقولون‪ :‬لو أن الورود مجرد‬
‫الوصول إلى موضع الماء دون الشرب منه أو الدخول فيه ما قال تعالى‪ {:‬وّ َنذَرُ الظّاِلمِينَ فِيهَا }‬
‫[مريم‪ ]72 :‬ولِقَال‪ :‬ثم يُنجّي الُ الذين اتقوا ويُدخِل الظالمين‪ ..‬لكن{ وّنَذَرُ الظّاِلمِينَ }[مريم‪]72 :‬‬
‫فيها الدليل على دخولهم جميعا النار‪.‬‬
‫فعلى الرأي الول‪ :‬الورود بمعنى رؤية النار دون دخولها‪ ،‬تكون الحكمة منه أن ال تعالى يمتنّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على عباده المؤمنين فيُريهم النار وتسعيرها؛ ليعلموا فضل ال عليهم‪ ،‬وماذا قدّم لهم اليمان بال‬
‫خلَ الْجَنّةَ َفقَدْ فَازَ }[آل‬
‫من النجاة من هذه النار‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬فمَن زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ‬
‫عمران‪.]185 :‬‬
‫ويمكن َفهْم الية على المعنى الخر‪ :‬الورود بمعنى الدخول؛ لن الخالق سبحانه وتعالى خلق‬
‫الشياء‪ ،‬وخلق لكل شيء طبيعةً تحكمه‪ ،‬وهو سبحانه وحده القادر على تعطيل هذه الطبيعة‬
‫وسلبها خصائصها‪.‬‬
‫كما رأينا في قصة إبراهيم عليه السلم‪ ،‬فيكون دخول المؤمنين النارَ كما حدث مع إبراهيم‪،‬‬
‫جعْلها ال تعالى عليه بَرْدا وسلما‪ ،‬وقد مكّنكم ال منه‪ ،‬فألقوه في النار‪ ،‬وهي على طبيعتها‬
‫وَ‬
‫بقانون الحراق فيها‪ ،‬ولم يُنزِل مثلً على النار مطرا يُطفِئها ليوفر لهم كل أسباب الحراق‪ ،‬ومع‬
‫ذلك ينجيه منها لتكون المعجزة ماثلةً أمام أعينهم‪.‬‬

‫وكما سلب ال طبيعة الماء في قصة موسى عليه السلم فتجمد وتوقفت سيولته‪ ،‬حتى صار كل‬
‫فِرْقٍ كالطوْد العظيم‪ ،‬فهو سبحانه القادر على تغيير طبائع الشياء‪ .‬إذن‪ :‬ل مانع من دخول‬
‫المؤمنين النارَ على طريقة إبراهيم عليه السلم{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }‬
‫[النبياء‪.]69 :‬‬
‫ثم يُنجّي ال المؤمنين‪ ،‬ويترك فيها الكافرين‪ ،‬فيكون ذلك أ ْنكَى لهم وأغيظ‪.‬‬
‫علَىا رَ ّبكَ حَتْما ّم ْقضِيّا { [مريم‪ ]71 :‬الحتْم‪ :‬هي الشيء الذي يقع ل‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬كَانَ َ‬
‫محالةَ‪ ،‬والعبد ل يستطيع أنْ يحكم بالحتمية على أيّ شيء؛ لنه ل يملك المحتوم ول المحتوم‬
‫عليه‪ .‬فقد تقول لصديقك‪ :‬أحتم عليك أنْ تزورني غدا‪ ،‬وأنت ل تملك من أسباب تحقيق هذه‬
‫الزيارة شيئا‪ ،‬فمَنْ يدريك أن تعيشَ لغد؟ ومَنْ يدريك أن الظروف لن تتغير وتحُول دون حضور‬
‫هذا الصديق؟‬
‫إذن‪ :‬أنت ل تحتم على شيء‪ ،‬إنما الذي يُحتّم هو القادر على السيطرة على الشياء بحيث ل‬
‫يخرج شيء عن موارده‪.‬‬
‫ن قلتَ‪ :‬فمَنِ الذي حتّم على ال؟ حتّم ال على نفسه تعالى‪ ،‬وليست هناك قوة أخرى حتّمتْ‬
‫فإ ْ‬
‫حمَةَ }[النعام‪.]54 :‬‬
‫عليه‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَىا َنفْسِهِ الرّ ْ‬
‫حكْم ال ل يُعدّله أحد‪،‬‬
‫ثم يؤكد هذا الحتم بقوله‪ّ } :‬مقْضِيّا { [مريم‪ ]71 :‬أي‪ :‬حكم ل رجعةَ فيه‪ ،‬و ُ‬
‫فهو حكم قاطع‪ .‬فمثلً‪ :‬حينما قال كفار مكة لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬نعبد إلهك سنة وتعبد‬
‫إلهنا سنة‪ ،‬يريدون أنْ يتعايش اليمان والكفر‪.‬‬
‫لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد قَطْع العلقات معهم بصورة نهائية قطعية‪ ،‬ل تعرف هذه‬
‫الحلول الوسط‪ ،‬فقال سبحانه‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ ُقلْ ياأَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ * لَ أَعْبُدُ مَا َتعْ ُبدُونَ * وَلَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َولَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ *‬
‫وَلَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َلكُمْ دِي ُنكُ ْم وَِليَ دِينِ }[الكفارون‪1 :‬ـ ‪.]6‬‬
‫وقَطْع العلقات هنا ليس كالذي نراه مثلً بين دولتين‪ ،‬تقطع كل منهما علقتها سياسيا بالخرى‪،‬‬
‫وقد تحكم الوضاع بعد ذلك بالتصالح بينهما والعودة إلى ما كانا عليه‪ ،‬إنما قَطْع العلقات مع‬
‫الكفار َقطْعا حتميا ودون رجعة‪ ،‬وكأنه يقول لهم‪ :‬إياكم أنْ تظنوا أننا قد نعيد العلقات معكم مرة‬
‫أخرى؛ لذلك تكرّر النفي في هذه السورة‪ ،‬حتى ظنّ البعض أنه تكرار؛ ذلك لنهم يستقبلون القرآن‬
‫بدون تدبّر‪.‬‬
‫فالمراد الن‪ :‬ل أعبد ما تعبدون‪ ،‬ول أنتم عابدون ما أعبد‪ ،‬وكذلك في المستقبل‪ :‬ول أنا عابد ما‬
‫عبدتم‪ ،‬ول أنتم عابدون ما أعبد‪ .‬فلن يُرغمنا أحد على تعديل هذا القرار أو العودة إلى المصالحة‪.‬‬
‫حدٌ }[الخلص‪ ]1 :‬فل ثانيَ له يُعدّل‬
‫لذلك أتى بعد سورة (الكافرين) سورة الحكم‪ُ {:‬قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫عليه‪ ،‬فكلمه تعالى وحكمه نهائي وحَتْما مقضيا ل رجعةَ فيه ول تعديل‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬ثمّ نُ َنجّي الّذِينَ ا ّتقَواْ {‬

‫(‪)2305 /‬‬

‫ثُمّ نُ َنجّي الّذِينَ ا ّت َقوْا وَنَذَرُ الظّاِلمِينَ فِيهَا جِثِيّا (‪)72‬‬

‫جِثيا‪ :‬من جَثَا يجثُو أي‪ :‬قعد على ُركَبه دللة على المهانة والتنكيل‪ .‬ثم ينقلنا الحَق سبحانه إلى‬
‫لقطة أخرى‪ ،‬فيقول‪ { :‬وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا }‬

‫(‪)2306 /‬‬

‫حسَنُ نَدِيّا (‪)73‬‬


‫وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آَيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِينَ َآمَنُوا َأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَ ْ‬

‫هذا حوار دار بين المؤمنين والكافرين‪ ،‬المؤمنين وكانوا عادةً هم الضعفاء الذين ل يقدرون حتى‬
‫على حماية أنفسهم‪ ،‬وليس لهم جاه ول سيادة يحافظون عليها‪ ،‬وجاء منهج ال في صالحهم يُسوّي‬
‫بين الناس جميعا‪ :‬السادة والعبيد‪ ،‬والقوي والضعيف‪.‬‬
‫فطبيعي أنْ يُقابلَ هذا الدين بالتكذيب من كفار مكة‪ ،‬أهل الجاه والسيادة‪ ،‬وأهل القوة الذين يأخذون‬
‫خَيْر الناس من حولهم‪ ،‬أما الضعفاء فقد آمنُوا بدين ال في وقت لم يكن لديهم القوة الكافية لحماية‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪.]45 :‬‬
‫أنفسهم‪ ،‬فعندما نزل َقوْل الحق ـ تبارك وتعالى ـ‪ {:‬سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ‬
‫قال عمر ـ رضي ال عنه ـ وما أدراك مَنْ هو عمر؟ قال‪ :‬أيّ جمع هذا؟ وأيّ هزيمة‪ ،‬ونحن‬
‫غير قادرين على حماية أنفسنا؟‬
‫وفي هذه الونة‪ ،‬يأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم المؤمنين المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة‬
‫وإلى المدينة‪ .‬فلما جاء نصر ال للمؤمنين‪ ،‬وتأييده لهم في بدر‪ .‬قال عمر‪ :‬صدق ال‪ {:‬سَ ُيهْزَمُ‬
‫جمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪.]45 :‬‬
‫الْ َ‬
‫وفي هذا الحوار يُعيّر الكفار المؤمنين بال‪ :‬ماذا أفادكم اليمان بال وها أنتم على حال من‬
‫الضعف والهوان والذّلّة وضيق العيش؟ أيرضي َربّ أن يكون المؤمنون به على هذه الحال‪،‬‬
‫وأعداؤه والكافرون به هم أهل الجاه والسيادة وسَعة الرزق؟‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ }[النعام‪.]53 :‬‬
‫وهكذا فتَن ال بعضهم ببعض‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬وكَذاِلكَ فَتَنّا َب ْع َ‬
‫فالمؤمن والكافر‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬والصحيح والمريض‪ُ ،‬كلّ منهم فتنة للخر لِيُمحّص ال اليمان‪،‬‬
‫ويختبر اليقين في قلوب المؤمنين؛ لن ال تعالى يعدهم لحمل رسالته صلى ال عليه وسلم إلى‬
‫الدنيا كلها في جميع أزمنتها وأماكنها‪ ،‬فل بُدّ أن يختار لهذه المهمة أقوياء اليمان الذين يدخلون‬
‫في السلم‪ ،‬ليس لمغنم دنيوي‪ ،‬بل لحمل رسالته والقيام بأعبائه‪ ،‬فهذا هو المؤمن المؤتمن على‬
‫حمْل منهج ال‪.‬‬
‫َ‬
‫ومن ذلك ما نراه من أن مناهج الباطل في الدنيا مَنْ يدعو إليها يرشو المدعو ويعطيه‪ ،‬أمّا منهج‬
‫ال فيأخذ منه ليختبره وليُمحصه‪.‬‬
‫سعَة من‬
‫فكيف يكون الغني فتنة للفقير‪ ،‬والفقير فتنة للغني؟ الغني مفتون بالفقير حيث هو في َ‬
‫العيش والفقير في ضيق‪ ،‬الغني يأكل حتى التّخمة والفقير جائع‪ ،‬ويرتدي الغني الفاخر من الثياب‬
‫والفقير عريان‪ .‬فهل سيعرف نعمة ال عليه ويؤدي حقها؟‬
‫والفقير مفتون بالغني حين يراه على هذه الحال‪ ،‬فهل سيصبر على هذه الشدة؟ أم سيعترض على‬
‫ما قدّره ال له‪ ،‬ويحقد على الغنيّ‪.‬‬
‫ولو علم الفقير أن الفقر درس تدريبي أُجْرِي لجنود الحق الذين يحملون منهج ال إلى خَلْق ال في‬
‫كل زمان ومكان‪ ،‬وأن هذه قسمة ال بين خَلْقه َلمَا اعترض على قسمة ال‪ ،‬وَلمَا حقد على صاحب‬
‫الغني‪.‬‬

‫وكذلك يُفتَن الصحيح بالمريض والمريض بالصحيح‪ ،‬فالصحيح يعيش مع نعمة ال بالعافية‪ ،‬أما‬
‫ضتُ فَلِم‬
‫المريض فيعيش مع المنعم سبحانه‪ ،‬كما جاء في الحديث القدسي‪ " :‬يا ابْن آدم‪ ،‬مر ْ‬
‫تعُدْني‪ .‬فيقول‪ :‬وكيف أعودك وأنت ربّ العاليمن؟ قال‪ :‬أما علمتَ أن عبدي فلنا مرض فلم َتعُدْه؟‬
‫أما علمت أنك لو عُدّته لوجدتني عنده "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك ترى أهل المراض من المؤمنين يتألم ُزوّارهم من أمراضهم‪ ،‬في حين أنهم في أُنْس بال‬
‫يشغلهم عن أمراضهم وعن آلمهم‪ ،‬ومَنِ الذي يزهد في معية ال؟ إذن‪ :‬لو حقد المريض على‬
‫السليم فهو مفتون به‪ ،‬وكان يجب عليه أن يعلم‪ :‬إنْ كان الصحيح في معية النعمة فهو في معية‬
‫المنعِم سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وسيدنا نوح ـ عليه السلم ـ بعد أن لبث يدعو قومه ألف سنة إل خمسين عاما كان جواب‬
‫قومه‪َ {:‬ومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ ُهمْ أَرَاذِلُنَا بَا ِديَ الرّ ْأيِ }[هود‪ ]27 :‬فكان أتباع نوح في نظرهم‬
‫حثالة القوم‪ ،‬ثم حاولوا أنْ يُغروه بهم ليطردهم‪ ،‬فهم ضِعاف ل جاهَ له ول سلطان‪ ،‬فما كان منه‬
‫لقُو رَ ّبهِمْ }[هود‪.]29 :‬‬
‫إل أنْ قال‪َ {:‬ومَآ أَنَاْ بِطَا ِردِ الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنهُمْ مّ َ‬
‫ك َولَ َأقُولُ‬
‫وقال في آية أخرى‪ {:‬وَلَ َأقُولُ َلكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّ ِه َولَ أَعْلَمُ ا ْلغَ ْيبَ َولَ َأقُولُ إِنّي مََل ٌ‬
‫س ِهمْ إِنّي إِذا ّلمِنَ الظّاِلمِينَ }[هود‪:‬‬
‫لِلّذِينَ تَ ْزدَرِي أَعْيُ ُنكُمْ لَن ُيؤْتِ َيهُمُ اللّهُ خَيْرا اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫‪.]31‬‬
‫فعلى مَرّ الزمان واختلف الرسالت كان الكفار تزدري أعينهم الفقراء والضعفاء المؤمنين‪،‬‬
‫ويحاولون طردهم وإخراجهم من ديارهم‪ ،‬ألم يقل الحق ـ تبارك وتعالى ـ لرسوله صلى ال‬
‫جهَهُ مَا عَلَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِم مّن‬
‫ن وَ ْ‬
‫شيّ يُرِيدُو َ‬
‫عليه وسلم‪َ {:‬ولَ تَطْ ُردِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْل َغدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫شيْءٍ فَتَطْرُ َدهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ }[النعام‪.]52 :‬‬
‫حسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مّن َ‬
‫شيْ ٍء َومَا مِنْ ِ‬
‫َ‬
‫وهكذا جاء اللقطة التي معنا‪ } :‬وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ َكفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ َأيّ‬
‫حسَنُ نَدِيّا { [مريم‪.]73 :‬‬
‫ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ ّمقَاما وَأَ ْ‬
‫قوله‪ } :‬آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ { [مريم‪ ]73 :‬اليات‪ :‬جمع آية وهي الشيء العجيب الذي يتحدث به‪ ،‬وتُطلق‬
‫ـ كما قلنا ـ على اليات الكونية التي تثبت قدرة ال تعالى‪ ،‬وتلفتنا إلى بديع صُنْعه كآيات الليل‬
‫والنهار والشمس والقمر‪ ،‬وتُطلق على المعجزات التي تُثبت صِدْق الرسول‪ ،‬كما جاء في قوله‬
‫تعالى‪:‬‬
‫ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِ َنبٍ‬
‫{ َوقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا ِكسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ وَا ْلمَلئِكَةِ‬
‫سمَآءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ ُت ْ‬
‫سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا‬
‫قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن ُزخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ‬
‫ّنقْرَ ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ ِإلّ بَشَرا رّسُولً }[السراء‪90 :‬ـ ‪.]93‬‬
‫كما تُطلق اليات على آيات القرآن التي تحمل الحكام‪ ،‬وهذه هي المرادة هنا؛ لن آيات القرآن‬
‫تنطوي فيها كل اليات‪.‬‬

‫وقوله‪ } :‬قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ َأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ { [مريم‪ ]73 :‬أي‪ :‬لقد ارتضينا حكمكم في هذه‬
‫ل اليمان في ضيق‪ ،‬فأيّ الفريقين خير مقاما؟ وال‬
‫سعَة‪ ،‬وأنتم يا أه َ‬
‫المسألة‪ :‬نحن الكفار في َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بمقاييسكم أنتم‪ .‬فأنتم خير‪ ،‬أمّا بمقياس العلى والبقى فنحن‪.‬‬
‫والمقام ـ بفتح الميم‪ :‬اسم لمكان قيامك من الفعل‪ :‬قام‪.‬‬
‫أما " مُقام " بضم الميم‪ ،‬فمِنْ أقام‪ .‬والمراد هنا } خَيْرٌ ّمقَاما { [مريم‪ ]73 :‬أي‪ :‬مكانا يقوم فيه على‬
‫الخر أي‪ :‬بيت كبير وأثاث ومجلس يتباهى به على غيره‪.‬‬
‫} وََأحْسَنُ نَدِيّا { [مريم‪ ]73 :‬النسان عادةً له بيت يَأويه‪ ،‬وله مجلس يَأوي إليه‪ ،‬ويجلس فيه مع‬
‫أصحابه وأحبابه يُسمّونه " حجرة الجلوس " أو " المندرة " ‪ ،‬وفيها يجلس كبير القوم ومن حوله‬
‫أهله وأتباعه‪ ،‬كما نقول في العامية‪( :‬عامل قعر مجلس)؛ لذلك إذا قام أنفضّ المجلس كله؛ لنهم‬
‫تابعون له‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬وانفضّ َبعْ َدكَ يَا كُل ْيبُ المجلِسُ وهناك النادي‪ ،‬وهو المكان الذي‬
‫يجتمع فيه عظماء القوم والعيان‪ ،‬بدل أنْ يكون لكل منهم مجلسه الخاص‪ ،‬كما نرى الن‪ :‬نادى‬
‫الرياضيين ونادى القضاة‪ ..‬إلخ إذن‪ :‬فالنادي دليلٌ على أنهم متفقون ومتكاتفون ومتكتلون ضد‬
‫السلم وضد الحق‪.‬‬
‫ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬فَلْ َي ْدعُ نَادِيَهُ }[العلق‪ ]17 :‬ومن ذلك ما كان يُسمّى قبل‬
‫السلم " دار الندوة " ‪ ،‬و كانوا يجتمعون فيها ليدبروا المكائد لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ومن النادي ما كان مأخوذا لعمل المنكر والفاحشة والعياذ بال‪ ،‬فيجتمعون فيه ل ُكلّ ما هو خبيث‬
‫من شُرْب الخمر والرقص والفواحش‪ ،‬كما في َقوْل الحق ـ تبارك وتعالى ـ‪ {:‬وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ‬
‫ا ْلمُ ْنكَرَ }[العنكبوت‪.]29 :‬‬
‫وفي هذا دليل على شيوع الفاحشة و القِحَةِ بين القادرين والمجاهرة بها‪ ،‬فلم يكونوا يقترفونها‬
‫جمْع من ُروّاد هذه الماكن‪.‬‬
‫سِرّا‪ ،‬بل في َ‬
‫حتْ المرأة العربية زوجها قالت‪ :‬رَفيع‬
‫والنادي أو المنتدَى مأخوذ من النّدَى أي‪ :‬الكرم‪ ،‬ولما مد َ‬
‫العِماد‪ ،‬كثير الرماد‪ ،‬قريب البيت من الناد‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬أن بيته أقرب البيوت إلى النادي‪ ،‬فهو َمقْصد الناس في قضاء حاجياتهم‪.‬‬
‫حسَنُ نَدِيّا { [مريم‪ ]73 :‬موضع فتنة‬
‫إذن‪ :‬كان قول الكفار للمؤمنين‪َ } :‬أيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاما وَأَ ْ‬
‫للفريقين‪ ،‬فقال المؤمنون‪َ {:‬لوْ كَانَ خَيْرا مّا سَ َبقُونَآ إِلَ ْيهِ }[الحقاف‪ ]11 :‬وقال الكفار‪ :‬ما دام أن ال‬
‫حبانا في الدنيا وهو الرزاق‪ ،‬فل بد أنْ َيحْ ُبوَنَا في الخرة‪ ،‬لكن لم تتعرض اليات للقول المقابل‬
‫من المؤمنين‪ ،‬إنما جاء الرد عليهم من طريق آخر‪ ،‬فقال تعالى‪َ } :‬وكَمْ َأهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ {‬

‫(‪)2307 /‬‬

‫َوكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (‪)74‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كم‪ :‬خبرية تدل على الكثرة التي ل تُحصَى‪ ،‬وأن المقول بعدها وقع كثيرا‪ ،‬كأن يقول لك صاحبك‪:‬‬
‫أنت ما عملتَ معي معروفا أبدا‪ ،‬فتُعدّد له صنائع المعروف التي أسديتها إليه‪ ،‬فتقول‪ :‬كم فعلتُ‬
‫معك كذا‪ ،‬وكم فعلتُ كذا‪.‬‬
‫والقرن‪ :‬هم الجماعة المتعايشون زمانا‪ .‬بحيث تتداخل بينهم الجيال‪ ،‬فترى الجدّ والب والبن‬
‫والحفيد معا‪ ،‬وقد قدّروا القرن بمائة عام‪ .‬كما يُطلَق القرن على الجماعة الذين يجتمعون على مُلك‬
‫واحد‪ ،‬أو رسالة واحدة مهما طال زمنهم كقوم نوح مثلً‪.‬‬
‫والثاث‪ :‬هو فراش البيت‪ ،‬وهذا أمر يتناسب وإمكانات صاحبه‪.‬‬
‫والرّئْى‪ :‬على وزن ِفعْل‪ ،‬ويراد به المفعول أي‪ :‬المرئي‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬وفَدَيْنَاهُ ِبذِبْحٍ‬
‫عَظِيمٍ }[الصافات‪ ]107 :‬فذبْح بمعنى‪ :‬مذبوح‪.‬‬
‫وورد في قراءة أخرى‪( :‬أحْسَنُ أثَاثا وزِيّا) وهي غير بعيدة عن المعنى الول‪ :‬لن الزيّ أيضا‬
‫من المرئي‪ ،‬إل أنه يتكوّن من الزي والذي يرتديه‪ ،‬والمراد هنا جمال الشكل والهيئة ونضارة‬
‫شعْثا غُبْرا يرتدون المرقّع‬
‫الشخص وهندامه‪ ،‬وقد افتخر الكفار بذلك‪ ،‬في حين كان المؤمنين ُ‬
‫والبالي من الثياب‪.‬‬
‫وقد جاء الختلف في بعض ألفاظ القرآن من قراءة الخرى؛ لن القرآن الكريم ُدوّن أول ما‬
‫ُدوّن غير منقوط ول مشكول اعتمادا على مََلكَة العربي وفصاحته التي تُمكّنه من توجيه الحرف‬
‫حسْب المعنى المناسب للسياق‪ ،‬وظل كذلك إلى أن وضع له العلماء النقاط فوق الحروف في‬
‫َ‬
‫العصر الموي‪ .‬فمثلً النّبْرة في كلمةٍ دون نقط يحتمل أنْ تُقرأ من أعلى‪ :‬نون أو تاء أو ثاء‪ .‬ومن‬
‫أسفل تقرأ‪ :‬باء أو ياء‪.‬‬
‫والعربي لمعرفته بمواقع اللفاظ يستطيع تحديد الحرف المراد‪ ،‬فكلمة (رئْيَا) تقرأ (زيا) والمعنى‬
‫غير بعيد‪.‬‬
‫ومن ذلك كلمة{ فَتَبَيّنُواْ }[النساء‪ ]94 :‬قرأها بعضهم (فتثبتوا) وكلمة{ صِ ْبغَةَ }[البقرة‪ ]138 :‬قرأها‬
‫بعضهم (صنعة)‪ ،‬ودليل فصاحتهم أن الختلف في مثل هذه الحروف ل يؤدي إلى اختلف‬
‫المعنى‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬كان العربي قديما يغضب إنْ كُتِب إليه كتاب مُشَكل‪ ،‬لن تشكيل الكلم كأنه اتهام له بالغباء‬
‫وعدم معرفته باللغة‪ .‬ومن هنا وجدنا العلماء الذين وضعوا قواعد اللغة ليسوا من العرب؛ لن‬
‫العربي في هذا الوقت كان يستنكف أن يضع للغة قواعد‪ ،‬فهي بالنسبة له مََلكَة معروفة ل تحتاج‬
‫إلى دراسة أو تعليم‪ .‬أما العاجم فلما دخلوا السلم ما كان لهم أنْ يتعلّموا لغته إل بهذه الدراسة‬
‫لقواعدها‪.‬‬
‫حسَنُ أَثَاثا وَرِءْيا } [مريم‪]74 :‬‬
‫والحق تبارك وتعالى يقول هنا‪َ { :‬وكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْل ُهمْ مّن قَرْنٍ ُهمْ أَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ح ْمقَى ل‬
‫لنهم قالوا‪َ {:‬أيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ ّمقَاما وََأحْسَنُ َندِيّا }[مريم‪ ]73 :‬يريد أنْ يُدلّل على أنهم َ‬
‫ينظرون إلى واقع الحياة ليروا عاقبة مَنْ كانوا أعزّ منهم مكانا ومكانة‪ ،‬وكيف صار المر إليهم؟‬
‫الحق ـ تبارك وتعالى ـ ير ّد على الكفار ادعاءهم الخيرية على المؤمنين‪ ،‬فهذه الخيرية ليستْ‬
‫بذاتيتكم‪ ،‬بل هي عطاء من ال وفِتْنة‪ ،‬حتى إذا أخذكم أخذكم عن عِزّة وجاهٍ؛ ليكون أنكى لهم وأشدّ‬
‫وأغَيظ‪ ،‬أما إنْ أخذهم على حال ذِلّة وَهَوان لم يكن لخذه هذا الثر فيهم‪.‬‬

‫فالحق سبحانه يُملي لهم بنعمه ليستشرفوا الخير ثم يأخذهم‪ ،‬على حَ ّد قول الشاعر‪َ :‬كمَا أبر َقتْ َقوْما‬
‫ش َعتْ وتجلّتِفأطمعهم في البداية‪ ،‬ثم أخذهم وخيّب آمالهم في النهاية‪.‬‬
‫عِطَاشا غَمامَةً فَلمّا رأوْهَا َأقْ َ‬
‫وضربنا لذلك مثلً بالسير الذي بلغ به العطش مَبْلغا‪ ،‬فطلب الماء‪ ،‬فجاءه الحارس بالماء حتى‬
‫كان على فِيهِ‪ ،‬واستشرف الريّ منعه وحرمه لتكون حسرته أشد‪ ،‬وألمهُ أعظم‪ ،‬ولو لم يأتِه بالماء‬
‫لكان أهونَ عليه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬حينما تُجرون مُقارنة بينكم وبين المؤمنين وتُعيّرونهم بما معكم من زينة الدنيا‪ ،‬فقد قارنتم‬
‫الوسائل وطرحتُم الغايات‪ ،‬ومن الغباء أنْ نهتم بالوسائل وننسى الغايات‪ ،‬فلكي تكون المقارنةُ‬
‫صحيحة فقارنوا حالكم بحال المؤمنين‪ ،‬بداية ونهاية‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬فلح مجتهد في زراعته يعتني بها ويُعفّر نفسه من تراب أرضه كل يوم‪ ،‬وآخر ينعَم‬
‫بالثياب النظيفة والجلوس على المقهى والتسكع هنا وهناك‪ ،‬وينظر إلى صاحبه الذي أجهده العمل‪،‬‬
‫ويرى نفسه أفضل منه‪ ،‬فإذا ما جاء وقت الحصاد وجد الولُ ثمرة تعبه ونتيجة مجهوده‪ ،‬وجلس‬
‫الخر حزينا محروما‪ .‬فل بُدّ أن تأخذ في العتبار عند المقارنة الوسائل مع الغايات‪.‬‬
‫لذلك ُوفّق الشاعر حين قال‪:‬ألَ مَنْ يُرِينِي غَايتِي قَبْل مذْهَبِي ومِنْ أينْ والغَايَاتُ َبعْد المذَا ِهبِ؟وقد‬
‫عزل الكفار الوسيلة في الدنيا عن الغاية في الخرة‪ ،‬فتباهوا وعَيّروا المؤمنين‪َ {:‬أيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ‬
‫حسَنُ نَدِيّا }[مريم‪.]73 :‬‬
‫ّمقَاما وَأَ ْ‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ َأوْ حَ ّرقُوهُ }‬
‫وفي قصة سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـ‪َ {:‬فمَا كَانَ َ‬
‫[العنكبوت‪.]24 :‬‬
‫سعْيهم‪ ،‬ثم كانت الغاية في الخرة‪َ {:‬وقَالَ إِ ّنمَا‬
‫وهكذا اتفقوا على الحراق‪ ،‬ونجّى ال نبيه وخيّب َ‬
‫ض وَيَ ْلعَنُ‬
‫ضكُمْ بِ َب ْع ٍ‬
‫خذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ َأوْثَانا ّموَ ّدةَ بَيْ ِنكُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكْفُرُ َب ْع ُ‬
‫اتّ َ‬
‫ضكُمْ َبعْضا َومَ ْأوَاكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مّن نّاصِرِينَ }[العنكبوت‪.]25 :‬‬
‫َب ْع ُ‬
‫فكان عليهم ألّ ينظروا إلى الوسيلة منفصلةً عن غايتها‪.‬‬
‫وهنا يردّ الحق ـ تبارك وتعالى ـ على هؤلء المغترّين بنعمة ال‪:‬‬
‫} َوكَمْ َأهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ َأحْسَنُ أَثَاثا وَرِءْيا { [مريم‪ ]74 :‬وكما قال في آيات أخرى‪ {:‬أََلمْ تَرَ‬
‫كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ * وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُواْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لوْتَادِ }[الفجر‪6 :‬ـ ‪.]10‬‬
‫عوْنَ ذِى ا َ‬
‫الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْ َ‬
‫سهْل ل يكلف الحق سبحانه إل أنْ ت ُهبّ عليهم عواصف الرمال‪ ،‬فتطمس‬
‫وهلك هؤلء وأمثالهم َ‬
‫حضارتهم‪ ،‬وتجعهلم أثرا بعد عَيْن‪.‬‬
‫فدعاهم إلى النظر في التاريخ‪ ،‬والتأمّل في عاقبة أمثالهم من الكفرة والمكذبين‪ ،‬وما عساه أنْ يُغني‬
‫عنهم من المقام والندىّ الذي يتباهون به‪ ،‬وهل وسائل الدنيا هذه تدفع عنهم الغاية التي تنتظرهم‬
‫في الخرة؟‬
‫وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يردّ عليهم بكلم نظري يقول‪ :‬إن عاقبتكم كذا وكذا من‬
‫العذاب‪ ،‬بل يعطيهم مثالً من الواقع‪.‬‬

‫ويخاطب نبيه صلى ال عليه وسلم بقوله‪ {:‬فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ }[غافر‪ ]77 :‬أي‪ :‬من‬
‫جعُونَ }[غافر‪ ]77 :‬فمَنْ أفلت من عذاب الدنيا‪،‬‬
‫القهر والهزيمة والنكسار{ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُ ْر َ‬
‫فلن يفلت من عذاب الخرة‪.‬‬
‫والقرآن حين يدعوهم إلى النظر في عاقبة من قبلهم } َوكَمْ أَ ْهَلكْنَا قَبَْلهُمْ مّن قَرْنٍ { [مريم‪]74 :‬‬
‫صدْق غ ْيبٍ‬
‫فإنما يحثّهم على أخْذ العِبْرة والعِظَة ممّنْ سبقوهم‪ ،‬ويستدل بواقع شيء حاضر على ِ‬
‫آتٍ‪ ،‬فالحضارات التي سبقتهم والتي لم يوجد مثلها في البلد‪ ،‬وكان من صفاتها كذا وكذا‪ ،‬ماذا‬
‫حدث لهم؟ فهل أنتم أش ّد منهم قوة؟ وهل تمنعون عن أنفسكم ما نزل بغيركم من المكذّبين؟‬
‫هذا من ناحية الواقع‪ ،‬أما الغيب فيعرض له القرآن في مشهد آخر‪ ،‬حيث يقول تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ‬
‫حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا َأهِْلهِمُ‬
‫أَجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َيضْ َ‬
‫انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْهُمْ قَالُواْ إِنّ هَـاؤُلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُرْسِلُواْ عَلَ ْي ِهمْ حَا ِفظِينَ }[المطفيين‪:‬‬
‫‪29‬ـ ‪.]33‬‬
‫حكُونَ * عَلَى‬
‫هذا المشهد في الدنيا‪ ،‬فما بالهم في الخرة؟‪ {:‬فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْلكُفّارِ َيضْ َ‬
‫الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ }[المطففين‪34 :‬ـ ‪.]35‬‬
‫ثم يخاطب الحق ـ سبحانه وتعالى ـ المؤمنين فيقول‪َ {:‬هلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }‬
‫[المطففين‪.]36 :‬‬
‫عمّا فعلوه بكم من استهزاء في الدنيا؟‬
‫يعني‪ :‬بعد ما رأيتموه من عذابهم‪ ،‬هل قدرنا أنْ نُجازيهم َ‬
‫يل‬
‫وعلى ُكلّ فإن استهزاءهم بكم في الدنيا موقوت الجل‪ ،‬أما ضِحْككم الن عليهم فأمر أبد ّ‬
‫نهايةَ له‪ .‬فأيّ الفريقين خَيْر إذن؟‬
‫فإياكم أنْ تغرّكم ظواهر الشياء‪ ،‬أو تخدعكم بَرقات النعيم وانظروا إلى الغايات والنهايات؛ لذلك‬
‫يقول سبحانه‪:‬‬
‫ل وَالْبَنُونَ زِينَةُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ َأمَلً }[الكهف‪:‬‬
‫{ ا ْلمَا ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]46‬‬
‫وفي سورة العراف لقطة أخرى من مواقف القيامة‪ ،‬حيث يقول أصحاب العراف لهل النار‪{:‬‬
‫ج ْم ُعكُ ْم َومَا كُنْ ُتمْ تَسْ َتكْبِرُونَ }[العراف‪ ]48 :‬ثم يلتفتون إلى المؤمنين في الجنة‪{:‬‬
‫مَآ أَغْنَىا عَنكُمْ َ‬
‫حمَةٍ }[العراف‪ ]49 :‬فأين أنتم منهم الن؟‬
‫سمْتُ ْم لَ يَنَاُلهُمُ اللّهُ بِ َر ْ‬
‫أَهَـؤُلءِ الّذِينَ َأ ْق َ‬

‫(‪)2308 /‬‬

‫حمَنُ مَدّا حَتّى إِذَا رََأوْا مَا يُوعَدُونَ ِإمّا ا ْل َعذَابَ وَِإمّا السّاعَةَ‬
‫ُقلْ مَنْ كَانَ فِي الضّلَاَلةِ فَلْ َيمْدُدْ لَهُ الرّ ْ‬
‫ضعَفُ جُنْدًا (‪)75‬‬
‫فَسَ َيعَْلمُونَ مَنْ ُهوَ شَرّ َمكَانًا وََأ ْ‬

‫حمَـانُ مَدّا }‬
‫قوله‪( :‬قل) أمر لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ { :‬مَن كَانَ فِي الضّلَلَةِ فَلْ َيمْدُدْ لَهُ الرّ ْ‬
‫[مريم‪ ]75 :‬أي‪ :‬يُمهله ويستدرجه؛ لنه َربّ للجميع‪ ،‬وبحكم ربوبيته يعطي المؤمن والكافر‪ ،‬وكما‬
‫يعين المؤمن بالنصر‪ ،‬كذلك يعين الكافر بمراده‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَهُمُ‬
‫اللّهُ مَرَضا }[البقرة‪.]10 :‬‬
‫لنهم ارتاحوا إليه‪ ،‬و َرضُوا به‪ ،‬وطلبوا منه المزيد‪.‬‬
‫حمَـانُ } [مريم‪ ]75 :‬أي‪ :‬في الدنيا وزينتها‪ ،‬كما قال‪ {:‬مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ‬
‫{ فَلْ َي ْمدُدْ َلهُ الرّ ْ‬
‫الخِ َرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }‬
‫[الشورى‪.]20 :‬‬
‫وفي موضع آخر يقول‪ :‬إياك أنْ تعجبك أموالهم وأولدهم؛ لنها فتنة لهم‪ ،‬يُعذّبهم بها في الدنيا‬
‫سعْي في جمع الموال وتربية الولد‪ ،‬ثم الحسرة على فقدهما‪ ،‬ثم يُعذّبهم بسببها في الخرة‪{:‬‬
‫بال ّ‬
‫سهُ ْم وَ ُهمْ‬
‫فَلَ ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأوْلَ ُدهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُ ُ‬
‫كَافِرُونَ }[التوبة‪.]55 :‬‬
‫عةَ } [مريم‪.]75 :‬‬
‫ب وَِإمّا السّا َ‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬حَتّىا إِذَا رََأوْاْ مَا يُوعَدُونَ ِإمّا العَذَا َ‬
‫العذاب‪ :‬عذاب الدنيا‪ .‬أي‪ :‬بنصر المؤمنين على الكافرين وإهانتهم وإذللهم { وَِإمّا السّاعَةَ }‬
‫ضعَفُ جُندا‬
‫[مريم‪ ]75 :‬أي‪ :‬ما ينتظرهم من عذابها‪ ،‬وعند ذلك‪ { :‬فَسَ َيعَْلمُونَ مَنْ ُهوَ شَرّ ّمكَانا وََأ ْ‬
‫} [مريم‪ ]75 :‬لكنه عِلْم ل يُجدي‪ ،‬فقد فات أوانه‪ ،‬فالموقف في الخرة حيث ل استئناف لليمان‪،‬‬
‫فالنكاية هنا أعظم والحسرة أشدّ‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما من مناسبة ذكر الجند هنا والكلم عن الخرة؟ وماذا يُغني الجند في مثل هذا اليوم؟ قالوا‪:‬‬
‫جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْبُدُونَ * مِن دُونِ‬
‫هذا تهكّم بهم كما في قوله تعالى‪ {:‬احْشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُو ْا وَأَ ْزوَا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىا صِرَاطِ ا ْلجَحِيمِ }[الصافات‪22 :‬ـ ‪ ،]23‬فهل َأخْذهم إلى النار هداية؟‬
‫ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ‬
‫ثم يلتفت إليهم‪ {:‬مَا َلكُ ْم لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َي ْومَ مُسْتَسِْلمُونَ * وََأقْ َبلَ َب ْع ُ‬
‫يَتَسَآءَلُونَ * قَالُواْ إِ ّن ُكمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْ َيمِينِ * قَالُواْ َبلْ لّمْ َتكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * َومَا كَانَ لَنَا عَلَ ْيكُمْ‬
‫مّن سُ ْلطَانٍ َبلْ كُنتُمْ َقوْما طَاغِينَ }[الصافات‪25 :‬ـ ‪.]30‬‬
‫أي‪ :‬لم نُجبركم على شيء‪ ،‬مجرد أنْ أشَرْنَا لكم أطعتمونا‪.‬‬
‫حتَ َأقْدَامِنَا‬
‫جعَ ْل ُهمَا َت ْ‬
‫ن وَالِنسِ نَ ْ‬
‫لذلك‪ ،‬سيقولون في موضع آخر‪ {:‬رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ الْجِ ّ‬
‫سفَلِينَ }[فصلت‪.]29 :‬‬
‫ن الَ ْ‬
‫لِ َيكُونَا مِ َ‬

‫(‪)2309 /‬‬

‫وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَ َدوْا ُهدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِ ْندَ رَ ّبكَ َثوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدّا (‪)76‬‬

‫قلنا‪ :‬إن للهداية معنيَيْن‪ :‬هداية بمعنى الدللة على الخير وبيان طريقه‪ ،‬وهداية المعونة والتوفيق‬
‫لليمان‪ ،‬فمَنْ صدّق في الُولى أعانه ال على الخرى‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ‬
‫زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد‪.]17 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَالْبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ مّرَدّا } [مريم‪ ]76 :‬الباقيات‬
‫الصالحات‪ :‬هي العمال الصالحة التي كانت منك خالصةً لوجه ال‪ { :‬خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ‬
‫مّرَدّا } [مريم‪ ]76 :‬هذه هي الغاية التي ننتظرها ونسعى إليها‪ ،‬فساعةَ أنْ تقارن السّبل الشاقة‬
‫فاقْرِنها بالغاية المسعدة‪ ،‬فيهون عليك عناء العبادة ومشقّة التكليف‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَخَيْرٌ مّ َردّا } [مريم‪ ]76 :‬أي‪ :‬مرجعا تُرَدّ إليه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬أفَرَأَ ْيتَ الّذِي َكفَرَ }‬

‫(‪)2310 /‬‬

‫َأفَرَأَ ْيتَ الّذِي َكفَرَ بِآَيَاتِنَا َوقَالَ لَأُوتَيَنّ مَالًا َووَلَدًا (‪)77‬‬

‫ن كان معلوما‬
‫نلحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا هذا الشخص الذي قال هذه المقولة ولم يُعيّنه‪ ،‬وإ ْ‬
‫لرسول ال الذي خُوطب بهذا الكلم؛ وذلك لن هذه المقولة يمكن أنْ تُقال في زماننا وفي كل‬
‫زمان‪ ،‬إذنْ‪ :‬فليس المهم الشخص بل القول نفسه‪ .‬وقد أخبر عنه أنه أمية بن خلف‪ ،‬أو العاصي بن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سهْمي‪.‬‬
‫وائل ال ّ‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬أفَرَأَ ْيتَ } [مريم‪ ]77 :‬يعني‪ :‬ألم تَرَ هذا‪ ،‬كأنه يستدلّ بالذي رآه على هذه القضية {‬
‫الّذِي َكفَرَ بِآيَاتِنَا َوقَالَ لُوتَيَنّ مَالً َووَلَدا } [مريم‪ ]77 :‬ويروي أنه قال‪ :‬إنْ كان هناك َب ْعثٌ فسوف‬
‫ب مال وولد‪.‬‬
‫أكون في الخرة كما كنت في الدنيا‪ ،‬صاح َ‬
‫كما قال صاحب الجنة لخيه‪ {:‬وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَجِدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف‪.]36 :‬‬
‫والنسان ل يعتزّ إل بما هو ذاتيّ فيه‪ ،‬وليس له في ذاتيته شيء‪ ،‬وكذلك ل يعتز بنعمة ل يقدر‬
‫على صيانتها‪ ،‬ول يصون النعمة إل المنعِم الوهاب سبحانه إذن‪ :‬فَلِمَ الغترار بها؟‬
‫غوْرا َفمَن يَأْتِيكُمْ ِبمَآءٍ ّمعِينٍ }[الملك‪:‬‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪ُ {:‬قلْ أَ َرأَيْتُمْ إِنْ َأصْبَحَ مَآ ُؤكُمْ َ‬
‫‪.]30‬‬
‫عذَابٍ أَلِيمٍ }[الملك‪:‬‬
‫حمَنَا َفمَن يُجِيرُ ا ْلكَافِرِينَ مِنْ َ‬
‫ويقول‪ُ {:‬قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهَْلكَ ِنيَ اللّ ُه َومَن ّم ِعيَ َأوْ َر ِ‬
‫‪.]28‬‬
‫خذَ }‬
‫ثم يردّ الحق ـ تبارك وتعالى ـ على هذه المقولة الكاذبة‪َ { :‬أطّلَعَ ا ْلغَ ْيبَ َأمِ اتّ َ‬

‫(‪)2311 /‬‬

‫عهْدًا (‪)78‬‬
‫حمَنِ َ‬
‫أَطَّلعَ ا ْلغَ ْيبَ أَمِ اتّخَذَ عِ ْندَ الرّ ْ‬

‫يعني‪َ :‬أقُ ْلتَ هذا القول مُتطوّعا به من عند نفسك‪ ،‬أم اطلعتَ على الغيب‪ ،‬فعرفتَ منه ما سيكون‬
‫عهْدا } [مريم‪ ]78 :‬أي‪ :‬أعطاه ال تعالى عهدا بأن‬
‫حمَـانِ َ‬
‫خذَ عِندَ الرّ ْ‬
‫لك في الخرة‪َ { :‬أمِ اتّ َ‬
‫يكون له في الخرة كما له في الدنيا‪ ،‬فإمّا هذه وإمّا هذه‪ ،‬فأيّهما توافرتْ لك حتى تجزم بهذا‬
‫القول؟‬
‫ح ُكمُونَ * أَمْ‬
‫ج َعلُ ا ْلمُسِْلمِينَ كَا ْلمُجْ ِرمِينَ * مَا َل ُكمْ كَ ْيفَ َت ْ‬
‫وهذا المعنى واضح في قوله تعالى‪َ {:‬أفَ َن ْ‬
‫َلكُمْ كِتَابٌ فِيهِ َتدْرُسُونَ * إِنّ َل ُكمْ فِيهِ َلمَا َتخَيّرُونَ * أَمْ َلكُمْ أَ ْيمَانٌ عَلَيْنَا بَاِل َغةٌ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ‬
‫ح ُكمُونَ }[القلم‪35 :‬ـ ‪.]39‬‬
‫َلكُمْ َلمَا َت ْ‬
‫والمراد‪ :‬مَنْ يضمن لهم هذا الذي يدّعونه؟‬
‫وقد أخبر النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬مَنْ أدخل على مؤمن سرورا فقد أخذ العهد من ال " ‪" ،‬‬
‫ومَنْ صلى الصلوات بفرائضها وفي وقتها فقد أخذ العهد من ال "‪.‬‬
‫عهْد من ال تعالى ألّ يدخلهم النار؟‬
‫فمَنْ هؤلء الذين لهم َ‬
‫عهْد غير موثوق به‪ ،‬فقد ينفذ أو‬
‫وال َعهْد‪ :‬الشيء الموثّق بين اثنين‪ ،‬والعهد إنْ كان بين الناس فهو َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل ينفذ؛ لن النسانَ أبنُ أغيار‪ ،‬ويمكن أنْ تحُول الظروف بينه وبين ما وعد به‪ ،‬أما إنْ كان‬
‫العهد من ال تعالى المالك لكل شيء‪ ،‬وليست هناك قوة تبطل إرادته تعالى‪ ،‬فهو ال َعهْد الحقّ‬
‫الموثوق به‪ ،‬والذي ل يتخلف أبدا‪.‬‬
‫فحين تعاهد ربك على اليمان فإنك ل تضمن ما يطرأ عليك من الغيار‪ ،‬أما حين يعاهدك ربك‬
‫على الجزاء‪ ،‬فثِقْ أنه نافذ ل يُخلَف‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالنبي صلى ال عليه وسلم لما أراد أن ينصحَ المام عليا رضي ال عنه قال‪ " :‬أدعو ال‬
‫أن يجعل لك عهدا في قلوب المؤمنين "‪.‬‬
‫أي‪ :‬حُبا ومودة في قلوبهم‪ ،‬وما دام أن ال أعطاه هذا العهد‪ ،‬فهو نافذ مُحقّق‪.‬‬
‫واختار هنا اسم الرحمن لما فيه من صفة الرحمانية التي تناسب المعونة على الوفاء‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬كَلّ سَ َنكْ ُتبُ مَا َيقُولُ }‬

‫(‪)2312 /‬‬

‫ل وَ َنمُدّ لَهُ مِنَ ا ْلعَذَابِ مَدّا (‪)79‬‬


‫كَلّا سَ َنكْ ُتبُ مَا َيقُو ُ‬

‫كل‪ :‬أداة لنفي ما قيل قبلها وإبطاله‪ ،‬أي‪ :‬قوله‪ {:‬لُوتَيَنّ مَالً وَوَلَدا * أَطَّلعَ ا ْلغَ ْيبَ أَمِ اتّخَذَ عِندَ‬
‫عهْدا }[مريم‪77 :‬ـ ‪ ]78‬ثم يأتي ما بعد كل حُجة‪ ،‬ودليلً على النفي‪.‬‬
‫حمَـانِ َ‬
‫الرّ ْ‬
‫لهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَهُ وَ َنعّمَهُ فَ َيقُولُ‬
‫وقد ورد هذا الحرف (كَلّ) في قوله تعالى‪ {:‬فََأمّا الِنسَانُ ِإذَا مَا ابْتَ َ‬
‫لهُ َفقَدَرَ عَلَ ْيهِ رِ ْزقَهُ فَ َيقُولُ رَبّي أَهَانَنِ * كَلّ }[الفجر‪15 :‬ـ ‪.]17‬‬
‫رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّآ ِإذَا مَا ابْتَ َ‬
‫سعَة الرزق ليست دليلَ إكرام‪ ،‬كما أن الفقر‬
‫فالحق تبارك وتعالى ينفي الكلم السابق؛ لن النعمة و َ‬
‫وضِيق الرزق ليس دليلَ إهانةٍ‪ ،‬فكلهما ابتلء واختبار كما أوضحتْ اليات‪ ،‬فإتيان النعمة في حَدّ‬
‫ذاته ليس هو النعمة إنما النعمة هي النجاح في البتلء في الحالتين‪.‬‬
‫فقد يعطيك ال المال فل تصرفه فيما أحلّ ال‪ ،‬فيكون لك فتنة وتخفق في الختبار‪ ،‬إذن‪ :‬لم‬
‫يكرمك بالمال‪ ،‬بل جعله لك وسيلة إغواء وإغراء‪ ،‬فبيدك يتحوّل المال إلى نعمة أو نقمة‪ ،‬ويكون‬
‫إكراما أو إهانة‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ سَ َنكْ ُتبُ مَا َيقُولُ وَ َنمُدّ َلهُ مِنَ ا ْلعَذَابِ َمدّا } [مريم‪.]79 :‬‬
‫لقد جاءت كلمة (سَ َنكْ ُتبُ) حتى ل يؤاخذه سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنه فعله‪ ،‬ولكن‬
‫بما كتب عليه وليقرأه بنفسه‪ ،‬وليكون حجة عليه‪ ،‬كأن الكتابة ليست كما نظن فقط‪ ،‬ولكنها تسجيل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للصوت وللنفاس‪ ،‬ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطورا‪.‬‬
‫سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا }[السراء‪ ]14 :‬وهذا القول يدل على أنه‬
‫يقول تعالى‪ {:‬اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَىا بِ َنفْ ِ‬
‫ساعة يرى النسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه‪ ،‬وإذا كنا نحن الن نسجل على خصومنا‬
‫أنفاسهم وكلماتهم‪ ،‬أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل النفاس والصوات والحركات بحيث إذا‬
‫قرأها النسان ورآها ل يستطيع أن يكابر فيها أو ينكرها‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬وَ َنمُدّ لَهُ مِنَ ا ْلعَذَابِ َمدّا } [مريم‪ ]79 :‬أي‪ :‬يزيده في العذاب‪ ،‬لن المد هو أن‬
‫تزيد الشيء‪ ،‬ولكن مرة تزيد في الشيء من ذاته‪ ،‬ومرة تزيد عليه من غيره‪ ،‬قد تأتي بخيط‬
‫وتفرده إلى آخره‪ ،‬وقد تصله بخيط آخر‪ ،‬فتكون مددته من غيره‪ ،‬فال يزيده في العذاب‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَنَرِثُهُ مَا َيقُولُ }‬

‫(‪)2313 /‬‬

‫ل وَيَأْتِينَا فَرْدًا (‪)80‬‬


‫وَنَرِثُهُ مَا َيقُو ُ‬

‫أي‪ :‬في حين ينتظر أنْ نزيدَه ونعطيه سنأخذ منه { وَنَرِثُهُ } [مريم‪ ]80 :‬أي‪ :‬نأخذ منه كما في‬
‫جعُونَ }[مريم‪.]40 :‬‬
‫قوله تعالى‪ {:‬إِنّا َنحْنُ نَ ِرثُ الَ ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا وَإِلَيْنَا يُرْ َ‬
‫وقوله‪َ {:‬وكُنّا نَحْنُ ا ْلوَارِثِينَ }[القصص‪.]58 :‬‬
‫فكأن قوله تعالى‪ { :‬وَنَرِثُهُ } [مريم‪ ]80 :‬تقابل قوله‪ {:‬لُوتَيَنّ مَالً }[مريم‪ ]77 :‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ وَيَأْتِينَا فَرْدا } [مريم‪ ]80 :‬تقابل{ َووَلَدا }[مريم‪ ،]77 :‬فسيأتينا من القيامة فَرْدا‪ ،‬ليس معه من‬
‫أولده أحد يدفع عنه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ }‬

‫(‪)2314 /‬‬

‫وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آَِلهَةً لِ َيكُونُوا َلهُمْ عِزّا (‪)81‬‬

‫آلهة‪ :‬جمع إله‪ ،‬وهو المعبود و الرب الذي أوجدك من عَدَم‪ ،‬وأمدّك من عُدْم‪ ،‬وتولّك بالتربية‪،‬‬
‫فعطاء اللوهية تكليف وعبادة‪ ،‬وعطاء الربوبية ِنعَم وهِبَات‪ .‬إذن‪ :‬فمَنْ َأوْلى بعبادتك ومَنْ أحقّ‬
‫بطاعتك؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هؤلء الذين اتخذوا من دون ال آلهة من شمس‪ ،‬أو قمر‪ ،‬أو حجر‪ ،‬أو شجر‪ ،‬بماذا تعبّدتكم هذه‬
‫اللهة؟ بماذا أمرتكم؟ وعن أي شيء نه ْتكُم؟ وبماذا أنعمتْ عليك؟ وأين كانت وأنت جنين في بطن‬
‫أمك؟‬
‫إن أباك الذي رباك وأنت صغير وتكفّل بكل حاجياتك‪ ،‬وأمك التي حملتْك في بطنها وسهرتْ على‬
‫راحتك‪ ،‬هما أوْلَى الناس بطاعتك‪ ،‬ول ينبغي أنْ تُقدّم على أمرهما أمرا‪ .‬أما أنْ يستحوذَ عليك‬
‫آخرون‪ ،‬ويكون لهم طاعتك وولؤك دون أبويْك فهذا ل يجوز وأنت في رَيْعان شبابك وَأوْج‬
‫قوتك‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬من أصول التربية أنْ يُربّي الباء أبناءهم على السمع والطاعة لهم‪ ،‬ونُحذّرهم من طاعة‬
‫الخرين خاصة غير المؤتمنين على التربية‪ ،‬من العامة في الشارع‪ ،‬أو أصدقاء السّوء الذين‬
‫يجرّون البناء على مَا ل تُحمد عُقباه‪.‬‬
‫والن نُحذّر أبناءنا من السّيْر مع شخص مجهول‪ ،‬أو قبول طعام‪ ،‬أو شراب منه‪ .‬وما نراه في‬
‫عصرنا الحاضر يُغني عن الطالة في هذه المسالة‪ .‬هذه ـ إذن ـ مناعة يجب أنْ تُعطَى للبناء‪،‬‬
‫كالمناعة ضد المراض تماما‪.‬‬
‫وهكذا الحالُ فيمَنْ اتخذوا من دون ال آلهة وارتاحوا إلى إله ل تكليفَ له ول مشقةَ في عبادته‪،‬‬
‫إله يتركهم يعبدونه كما يحلو لهم‪ ،‬إنهم أخذوا عطاء الربوبية فتمتّعوا بنعمة ال‪ ،‬وتركوا عطاء‬
‫اللوهية فلم يعبدوه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ولما كان النسان متدينا بطبعه فقد اختار هؤلء دينا على َوفْق أهوائهم وشهواتهم‪ ،‬واتخذوا آلهة‬
‫ل أمرَ لها ول تكليفَ‪ .‬ومن ذلك ما نراه من كثير من المثقفين الذين يأخذون دين ال على هواهم‪،‬‬
‫ويطيعون أعداء ال في قضايا بعيدة كل ال ُبعْد عن دين ال‪ ،‬وهم أصحاب ثقافة وعقول ناضجة‪،‬‬
‫ومع ذلك يُقنعون أنفسهم أنهم على دين وأنهم على الحق‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬لّ َيكُونُواْ َلهُمْ عِزّا } [مريم‪ ]81 :‬العز‪ :‬هو الغَلَبة والمتناع من الغير‪ ،‬بحيث ل‬
‫ينال أحد منه شيئا‪ ،‬يقولون‪ :‬فلن عزيز أي‪ :‬ل يُغلب‪.‬‬
‫ولنا أن نسأل‪ :‬ما العزة في عبادة هذه اللهة؟ وما الذي سيعود عليكم من عبادتها؟ لذلك يردّ عليهم‬
‫الحق تبارك وتعالى‪ { :‬كَلّ سَ َي ْكفُرُونَ ِبعِبَادَ ِتهِمْ }‬

‫(‪)2315 /‬‬

‫ضدّا (‪)82‬‬
‫كَلّا سَ َي ْكفُرُونَ ِبعِبَادَ ِتهِ ْم وَ َيكُونُونَ عَلَ ْيهِ ْم ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كل‪ :‬تنفي أن يكون لهؤلء عِزٌّ في عبادة ما دون ال‪ ،‬بل { كَلّ سَ َيكْفُرُونَ ِبعِبَادَ ِتهِمْ } [مريم‪.]82 :‬‬
‫هذه اللهة نفسها ستكفر بعبادتهم‪ ،‬وتنكر أن تكون هي آلهة من دون ال‪ ،‬وأكثر من ذلك‬
‫{ وَ َيكُونُونَ عَلَ ْي ِه ْم ضِدّا } [مريم‪ ]82 :‬أي‪ :‬في حين اتخاذها الكفار آلهة من دون ال وطلبوا العزة‬
‫خصْما‪.‬‬
‫في عبادتها تنقلب عليهم‪ ،‬وتكون ضِدّا لهم و َ‬
‫والضد‪ :‬هو العدو المخالف لك‪ ،‬والذي يحاول أنْ ينكّل بك‪ .‬وفي القرآن الكريم حوارات كثيرة بين‬
‫هذه المعبودات ومَنْ عبدوها‪ ،‬فمثلً الذين عبدوا الملئكة واتخذوها آلهةً من دون ال‪ :‬يسأل ال‬
‫الملئكة‪َ {:‬أهَـاؤُلَءِ إِيّا ُكمْ كَانُواْ َيعْ ُبدُونَ }؟ [سبأ‪ ]40 :‬فيُجيبون‪ {:‬سُ ْبحَا َنكَ أَنتَ وَلِيّنَا مِن دُو ِنهِمْ َبلْ‬
‫كَانُواْ َيعْ ُبدُونَ الْجِنّ َأكْـثَرُهُم ِبهِم ّم ْؤمِنُونَ }[سبأ‪.]41 :‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ }[البقرة‪.]166 :‬‬
‫ضلّ ِممّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ مَن لّ يَسْ َتجِيبُ‬
‫لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن هؤلء‪َ {:‬ومَنْ َأ َ‬
‫لَهُ إِلَىا َي ْومِ ا ْلقِيَامَ ِة وَهُمْ عَن دُعَآ ِئهِمْ غَافِلُونَ }[الحقاف‪.]5 :‬‬
‫ت لبيها‪ :‬يا أبتِ ما‬
‫ضدّا وعداوة‪ ،‬كالفتاة التي قال ْ‬
‫إذن‪ :‬ما ظنّه الكفار عِزّا ومَنَعة صار عليهم ِ‬
‫حملك على أنْ تقبلني مخطوبة لبن فلن؟ أي‪ :‬ماذا أعجبك فيه؟ قال‪ :‬يا بُنيّتي إنهم أهل عِ ّز وأهل‬
‫جا ٍه وشرف وأهل قوة ومنعة‪ ،‬فقالت‪ :‬يا أبتِ لقد قدّ ْرتَ أن يكون بيني وبين ابنهم وُدّ‪ ،‬ولم تٌقدّر أن‬
‫يكون بيني وبينه كراهية‪ ،‬فإن حدثتْ الكراهية سيكون ما قلته ضدك‪ ،‬وستشْقى أنت بهذا العزّ‬
‫وبهذا الجاه‪.‬‬
‫حدّ َقوْل الشاعر‪:‬وَللمالِ َقوْمٌ إنْ بَدا المالُ قَائِلً أنَا المالُ‬
‫ومن الناس من اتخذ من المال إلها‪ ،‬على َ‬
‫قالَ القومُ إيّاكَ نع ُبدُوهؤلء الذين يعبدون المال‪ ،‬ويروْن فيه القوة‪ ،‬ويعتزّون به ل يدرون أنه‬
‫جهَنّمَ فَ ُت ْكوَىا ِبهَا جِبَا ُههُمْ‬
‫حمَىا عَلَ ْيهَا فِي نَارِ َ‬
‫ل ونَكالً عليهم يوم القيامة‪َ {:‬ي ْومَ يُ ْ‬
‫سيكون وَبَا ً‬
‫سكُمْ َفذُوقُواْ مَا كُن ُتمْ َتكْنِزُونَ }[التوبة‪.]35 :‬‬
‫ظهُورُهُمْ هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ لَنْفُ ِ‬
‫وَجُنو ُبهُ ْم وَ ُ‬
‫وهكذا‪ ،‬كلما زاد حرصه على المال زاد كَيّه‪ .‬وتلحظ في الية الترتيب الطبيعي لموقف السؤال‬
‫ل الفقير أمام الغني اللئيم‪ ،‬فأوّل ما يطالع السائل يتغيّر وجهه‪ ،‬ثم يُشيح عنه‬
‫حين يقف السائ ُ‬
‫بوجهه‪ ،‬فيعطيه جَنْبه‪ ،‬ثم يُدير له ظهره ُمعْرِضا عنه‪ ،‬وبنفسِ هذا الترتيب يكون العذاب ويكون‬
‫ل ووبَالٍ‪.‬‬
‫الكيّ والعياذ بال‪ .‬وينقلب المال الذي ظَنّ العزة فيه إلى نكَا ٍ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُواْ َل ُهمْ أَعْدَآ ًء َوكَانُواْ ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ }[الحقاف‪.]6 :‬‬
‫شهَدُ عَلَ ْي ِهمْ أَلْسِنَ ُت ُه ْم وَأَيْدِيهِمْ‬
‫ت بمعصيتك في الدنيا ستشهد عليك‪َ {:‬يوْمَ تَ ْ‬
‫حتى الجوارح التي تمتع ْ‬
‫وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النور‪.]24 :‬‬
‫ذلك لنك غفلتَ عمّنْ كان يجب ألّ تغفل عنه‪ ،‬وذكرت مَنْ كان يجب ألّ تذكره‪ ،‬فالله الحق الذي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غفلْتَ عنه يطلبك الن ويحاسبك‪ ،‬والله الباطل الذي اتخذته يتخلى عنك ويُسلمِك للهلك‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا }‬

‫(‪)2316 /‬‬

‫أَلَمْ تَرَ أَنّا أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ َتؤُزّهُمْ أَزّا (‪)83‬‬

‫الزّ‪ :‬هو الهزّ الشديد بعنف أي‪ :‬تُزعجهم وتُهيجهم‪ ،‬ومثْلُه النزغ في قوله سبحانه وتعالى‪ {:‬وَإِماّ‬
‫يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ }[العراف‪.]200 :‬‬
‫والَزّ أو النّزْغ يكون بالوسوسة والتسويل ليهيجه على المعصية والشر‪ ،‬كما يأتي هذا المعنى‬
‫سهُمْ طَا ِئفٌ مّنَ الشّ ْيطَانِ‬
‫أيضا بلفظ الطائف‪ ،‬كما في قوله تبارك وتعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ ا ّتقَواْ ِإذَا مَ ّ‬
‫تَ َذكّرُواْ فَإِذَا هُم مّ ْبصِرُونَ }[العراف‪.]201 :‬‬
‫وهذه الية‪ { :‬أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ } [مريم‪ ]83 :‬تثير سؤالً‪ :‬إذا كان الحق تبارك وتعالى‬
‫يكره ما تفعله الشياطين بالنسان المؤمن أو الكافر‪ ،‬فلماذا أرسلهم ال عليه؟‬
‫أرسل ال الشياطين على النسان لمهمة يؤدونها‪ ،‬هذه المهمة هي البتلء والختبار‪ ،‬كما قال‬
‫سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن َيقُولُواْ آمَنّا وَهُ ْم لَ ُيفْتَنُونَ }[العنكبوت‪.]2 :‬‬
‫حِ‬‫تعالى‪ {:‬أَ َ‬
‫إذن‪ :‬فهم يُؤدّون مهمتهم التي خُلِقوا من أجلها‪ ،‬فيقفوا للمؤمن ليصرفوه عن اليمان فيُمحص ال‬
‫المؤمنين بذلك‪ ،‬ويُظهر صلبة مَنْ يثبت أمام كيد الشيطان‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن للشيطان تاريخا مع النسان‪ ،‬بداية من آدم عليه السلم حين أَبَى أن يطيع أمر ال له‬
‫بالسجود لدم‪ ،‬فطرده ال تعالى وأبعده من رحمته‪ ،‬فأراد الشيطان أنْ ينتقمَ من ذرية آدم بسبب ما‬
‫ج َمعِينَ }[ص‪.]82 :‬‬
‫ك لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫ناله من آدم‪ ،‬فقال‪ {:‬قَالَ فَ ِبعِزّ ِت َ‬
‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف‪.]16 :‬‬
‫لقْعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ‬
‫غوَيْتَنِي َ‬
‫وقال‪ {:‬قَالَ فَ ِبمَآ أَ ْ‬
‫وهكذا أعلن عن منهجه وطريقته‪ ،‬فهو يتربص لصحاب الستقامة‪ ،‬أما أصحاب الطريق العوج‬
‫فليسوا في حاجة إلى إضلله وغوايته‪.‬‬
‫شمَآئِِل ِهمْ }‬
‫لذلك نراه يتهدد المؤمنين‪ُ {:‬ث ّم لتِيَ ّنهُمْ مّن بَيْنِ أَ ْيدِيهِ ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ أَ ْيمَا ِنهِ ْم وَعَن َ‬
‫[العراف‪.]17 :‬‬
‫ومعلوم أن الجهات ست‪ ،‬يأتي منها الشيطان إل فوق وتحت؛ لنهما مرتبطتان بعزّ اللوهية من‬
‫أعلى‪ ،‬و ُذلّ العبودية من أسفل‪ ،‬حين يرفع العبد يديه ل ضارعا وحين يخِرّ ل ساجدا؛ لذلك أُغِل َقتْ‬
‫دونه هاتان الجهتان؛ لنهما جهتا طاعة وعبادة وهو ل يعمل إل في الغفلة ينتهزها من النسان‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمتأمل في مسألة الشيطان يجد أن هذه المعركة وهذا الصراع ليس بين الشيطان وربه تبارك‬
‫ج َمعِينَ }[ص‪:‬‬
‫ك لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫وتعالى‪ ،‬بل بين الشيطان والنسان؛ لنه حين قال لربه تعالى‪ {:‬فَ ِبعِزّ ِت َ‬
‫‪ ]82‬التزم الدب مع ال‪.‬‬
‫ن يؤمن‪،‬‬
‫فالغواية ليست مهارة مني‪ ،‬ولكن إغويهم بعزتك عن خَلْقك‪ ،‬وت ْر ِككَ لهم الخيا َر ليؤمن مَ ْ‬
‫ن يكفر‪ ،‬هذه هي النافذة التي أنفذ منها إليهم‪ ،‬بدليل أنه ل سلطانَ لي على أهلك وأوليائك‬
‫ويكفر مَ ْ‬
‫الذين تستخلصهم وتصطفيهم‪ِ {:‬إلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْل ُمخَْلصِينَ }[ص‪.]83 :‬‬
‫وهنا أيضا يثار سؤال‪ :‬إذا كان الشيطان ل يقعد إل على الصراط المستقيم لِيُضلّ أهله‪ ،‬فلماذا‬
‫يتعرّض للكافر؟‬
‫نقول‪ :‬لن الكافر بطبعه وفطرته يميل إلى اليمان وإلى الصراط المستقيم‪ ،‬وها هو الكون يآياته‬
‫أمامه يتأمله‪ ،‬فربما قاده التأمل في َكوْن ال إلى اليمان بال؛ لذلك يقعد له الشيطان على هذا‬
‫المسلْك مسلْك الفكر والتأمل لِيحُول بينه وبين اليمان بالخالق عز وجل‪.‬‬

‫فالشيطان ينزغك‪ ،‬إما ليحرك فيك شهوة‪ ،‬أو ليُنسِيك طاعة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬ومَآ أَنْسَانِيهُ ِإلّ‬
‫الشّ ْيطَانُ }[الكهف‪.]63 :‬‬
‫وقال‪ {:‬وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ الشّ ْيطَانُ فَلَ َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَىا َمعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[النعام‪.]68 :‬‬
‫وكثير من الخوان يسألون‪ :‬لماذا في الصلة بالذات تُلِحّ علينا مشاكل الحياة ومشاغل الدنيا؟‬
‫نقول‪ :‬هذه ظاهرة صحية في اليمان‪ ،‬لن الشيطان لول علمه بأهمية الصلة‪ ،‬وأنها ستُقبل منك‬
‫ويُغفر لك بها الذنوب ما أفسدها عليك‪ ،‬لكن مشكلتنا الحقيقية أننا إذا أعطانا الشيطان طرفَ الخيط‬
‫نتبعه ونغفل عن َقوْل ربنا تبارك وتعالى‪:‬‬
‫{ وَِإمّا يَنزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ }[فصلت‪.]36 :‬‬
‫ن تقول‪ :‬أعوذ‬
‫فما عليك ساعةَ أنْ تشعر أنك ستخرج عن خطّ العبادة والقامة بين يدي ال إلّ أ ْ‬
‫ن كنت تقرأ القرآن‪ ،‬لك أنْ تقطعَ القراءة وتستعيذ بال منه‪،‬‬
‫بال من الشيطان الرجيم‪ ،‬حتى وإ ْ‬
‫وساعةَ أن يعلم منك النتباه لكيده وألعيبه مرة بعد أخرى سينصرف عنك وييأس من اليقاع بك‪.‬‬
‫وسبق أن ضربنا لذلك مثلً باللص؛ لنه ل يحوم حول البيت الخرب‪ ،‬إنما يحوم حول البيت‬
‫العامر‪ ،‬فإذا ما اقترب منه تنبّه صاحب البيت وزجره‪ ،‬فإذا به يلوذ بالفرار‪ ،‬وربما قال اللص في‬
‫نفسه‪ :‬لعل صاحب البيت صاح مصادفة فيعاود مرة أخرى‪ ،‬لكن صاحب الدار يقظٌ منتبه‪ ،‬وعندها‬
‫يفرّ ول يعود مرة أخرى‪.‬‬
‫ويجب أن نعلم أن من حيل الشيطان ومكائده أنه إذا عَزّ عليه إغواؤك في باب‪ ،‬أتاك من باب‬
‫نل‬
‫آخر؛ لنه يعلم جيدا أن للناس مفاتيح‪ ،‬ولكل منا نقطة ضعف يُؤتَى من ناحيتها‪ ،‬فمن الناس مَ ْ‬
‫تستميله بقناطير الذهب‪ ،‬إنما تستميله بكلمة مدح وثناء‪ .‬وهذا اللعين لديه (طفاشات) مختلفة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫باختلف الشخصيات‪.‬‬
‫لذلك من السهل عليك أنْ تُميّز بين المعصية إنْ كانت من النفس أم من الشيطان‪ :‬النفس تقف بك‬
‫ت إل‬
‫أمام شهوة واحدة تريدها بعينها ول تقبل سواها‪ ،‬فإنْ حاولتَ زحزحتها إلى شهوة أخرى أب ْ‬
‫ما تريد‪ ،‬أما الشيطان فإنْ ع ّزتْ عليك معصية دعاك إلى غيرها‪ ،‬المهم أن يُوقِع بك‪.‬‬
‫فالحق تبارك وتعالى يُحذرنا الشيطان؛ لنه يحارب في النسان فطرته اليمانية التي تُلح عليه بأن‬
‫للكون خالقا قادرا‪ ،‬والدليل على الوجود اللهي دليل فطري ل يحتاج إلى فلسفة‪ ،‬كما قال العربي‬
‫قديما‪ :‬البعرة تدل على البعير‪ ،‬والقدم تدل على المسير‪ ..‬سماء ذات أبراج‪ ،‬وأرض ذات فجاج‪،‬‬
‫وبحار ذات أمواج‪ ،‬أل يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!‬
‫وكذلك‪ ،‬فكل صاحب صنعة عالم بصنعته وخبير بدقائقها ومواطن العطب فيها‪ ،‬فما بالك بالخالق‬
‫ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك‪.]14 :‬‬
‫سبحانه‪َ {:‬ألَ َيعَْلمُ مَنْ خََل َ‬
‫إذن‪ :‬فالدلة اليمانية أدلة فطرية يشترك فيها الفيلسوف وراعي الشاة‪ ،‬بل ربما جاءت الفلسفة‬
‫فعقّدتْ الدلة‪.‬‬

‫ولنا وقفة مع قوله تعالى‪ } :‬أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ { [مريم‪ ]83 :‬ومعلوم أن عمل الشيطان‬
‫ث لَ تَ َروْ َنهُمْ }[العراف‪.]27 :‬‬
‫عمل مستتر‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬إِنّهُ يَرَاكُمْ ُهوَ َوقَبِيلُهُ مِنْ حَ ْي ُ‬
‫فكيف يخاطب الحق ـ تبارك وتعالى ـ رسوله صلى ال عليه وسلم في هذه المسألة بقوله‪ } :‬أَلَمْ‬
‫تَرَ { [مريم‪ ]83 :‬وهي مسألة ل يراها النسان؟‬
‫نقول‪ } :‬أََلمْ تَرَ { [مريم‪ ]83 :‬بمعنى ألم تعلم؟ فعدَل عن العلم إلى الرؤيا‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬أَلَمْ‬
‫تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل‪ ]1 :‬والنبي صلى ال عليه وسلم لم يَرَ هذه الحادثة‪،‬‬
‫فكيف يخاطبه ربه عنها بقوله‪ {:‬أََلمْ تَرَ }[الفيل‪]1 :‬؟‬
‫ذلك‪ ،‬ليدلك على أن إخبار ال لك أصحّ من إخبار عينك لك؛ لن رؤية العين بما تخدعك‪ ،‬أمّا‬
‫إعلم ال فهو صادق ل يخدعك أبدا‪ .‬فعلمك من إخبار ال لك َأوْلَى وأوثق من علمك بحواسّك‪.‬‬
‫والشياطين‪ :‬جمعه شيطان‪ ،‬وهو العاصي من الجنّ‪ ،‬والجن خَلْق مقابل للنسان قال ال عنهم‪{:‬‬
‫ن َومِنّا دُونَ ذَِلكَ كُنّا طَرَآ ِئقَ قِدَدا }[الجن‪ ]11 :‬فَمنْ هم دون الصالحين‪ ،‬هم‬
‫وَأَنّا مِنّا الصّالِحُو َ‬
‫الشياطين‪.‬‬
‫جلْ عَلَ ْيهِمْ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَلَ َت ْع َ‬

‫(‪)2317 /‬‬

‫جلْ عَلَ ْيهِمْ إِ ّنمَا َنعُدّ َلهُمْ عَدّا (‪)84‬‬


‫فَلَا َتعْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تمنّى النبي صلى ال عليه وسلم لو أن ال أراحه من رؤوس الكفر وأعداء الدعوة‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫علَ ْيهِمْ إِ ّنمَا َنعُدّ َلهُمْ عَدّا } [مريم‪ ]84 :‬فال يريد أنْ تطول أعمارهم‪ ،‬وتسوء فعالهم‪،‬‬
‫جلْ َ‬
‫{ فَلَ َت ْع َ‬
‫حصُون ذنوبهم‪.‬‬
‫وتكثر ذنوبهم‪ ،‬فالكتبة يعدّون عليهم ويُ ْ‬
‫عدّا } [مريم‪ ]84 :‬أنها مسألة ستنتهي؛ لن كل ما ُيعَ ّد ينتهي‪ ،‬إنما الشيء‬
‫ومعنى‪ { :‬إِ ّنمَا َن ُعدّ َلهُمْ َ‬
‫الذي ل يُحصَى ول َي ُع ّد فل ينتهي‪ ،‬كما في قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ‬
‫حصُوهَا }[إبراهيم‪.]34 :‬‬
‫تُ ْ‬
‫لن ِنعَم ال ل تُحصَى ول ُتعَدّ ول تنتهي؛ لذلك سُ ِب َقتْ بإن التي تفيد الشكّ‪ ،‬فهي مسألة ل يجرؤ‬
‫أحد عليها؛ لن‪ {:‬مَا عِن َد ُكمْ يَنفَ ُد َومَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }[النحل‪.]96 :‬‬
‫وها نحن نرى علم الحصاء وما وصل إليه من تقدّم حتى أصبح له جامعات وعلماء متخصصون‬
‫أدخلوا الحصاء في كل شيء‪ ،‬لكن لم يفكر أحد منهم أنْ يُحصِي ِنعَم ال في َكوْنه‪ ،‬لماذا؟ لن‬
‫عدّوا ومهما‬
‫القبال على العَدّ معناه ظن أنك تستطيع أنْ تنتهي‪ ،‬وهم يعلمون تماما أنهم مهما َ‬
‫حصَوا فلن يصِلّوا إلى نهاية‪.‬‬
‫أَ ْ‬
‫إذن‪َ { :‬نعُدّ َل ُهمْ عَدّا } [مريم‪ ]84 :‬نُحصي سيئاتهم ونَعدّ ذنوبهم قبل أن تنتهي أعمارهم‪ ،‬وكلما‬
‫طالت العمار كثرتْ الذنوب‪ ،‬وكل ما ينتهي بالعدد ينتهي بالمُدد‪.‬‬
‫حشُرُ ا ْلمُ ّتقِينَ }‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪َ { :‬ي ْومَ نَ ْ‬

‫(‪)2318 /‬‬

‫ن َوفْدًا (‪)85‬‬
‫حمَ ِ‬
‫حشُرُ ا ْلمُ ّتقِينَ إِلَى الرّ ْ‬
‫َيوْمَ نَ ْ‬

‫الحق ـ تبارك وتعالى ـ أعطانا صورا متعددة ومشاهد مختلفة ليوم القيامة‪ ،‬فأعطانا صورة‬
‫للمعبود الباطل‪ ،‬وللعابدين للباطل‪ ،‬وما حدث بين الطرفين من جدال ونقاش‪ ،‬وأعطانا صورة لمن‬
‫تعاونوا على الشر‪ ،‬ولمَنْ تعاونوا على الخير‪ .‬وهذه صورة أخرى تعرض للمتقين في ناحية‪،‬‬
‫والمجرمين في ناحية‪ ،‬فما هي صورة المتقين؟‬
‫نحشر‪ :‬أي‪ :‬نجمع‪ ،‬والوفد هم الجماعة ت ِردُ على الملِك لخْذ عطاياه‪ ،‬جمعها وفود‪ ،‬والواحد وافد‪.‬‬
‫وهذه حال المتقين حين يجمعهم ال يوم القيامة َوفْدا لخذ عطايا ربهم تبارك وتعالى‪ .‬ول تظن‬
‫حسْنها‪َ ،‬رحْلها من ذهب‪،‬‬
‫أنهم يُحشَرون ما شين مثلً‪ ،‬ل‪ ،‬بل كل مؤمن تقي يركب ناقة لم يُرَ مثل ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأزمّتها من الزبرجد‪.‬‬
‫جهَنّمَ }‬
‫وفي المقابل يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬وَنَسُوقُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ ِإلَىا َ‬

‫(‪)2319 /‬‬

‫جهَنّ َم وِرْدًا (‪)86‬‬


‫وَنَسُوقُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ إِلَى َ‬

‫نسوق‪ :‬والسائق يكون من الخلف ينهرهم ويزجرهم‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬يوْمَ يُدَعّونَ إِلَىا‬
‫جهَنّمَ دَعّا }[الطور‪ ]13 :‬ولم يقل مثلً‪ :‬نقودهم؛ لن القائد يكون من المام‪ ،‬وربما غافله‬
‫نَارِ َ‬
‫أحدهم وشرد منه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وِرْدا } [مريم‪ ]86 :‬الوِرْد‪ :‬هو الذّهَاب للماء لطلب الريّ‪ ،‬أما النار فمحلّ اللظى‬
‫سمّي إتيان النار بحرّها و ِردْا؟‬
‫والشّواظ واللهب والحميم‪ .‬فلماذا ُ‬
‫شوِي الْوجُوهَ }‬
‫وهذا تهكّم بهم‪ ،‬كما جاء في آيات أخرى‪ {:‬وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُمهْلِ يَ ْ‬
‫[الكهف‪.]29 :‬‬
‫وأنت ساعةَ تسمع (يغاثوا) تنتظر الخير وتأمل الرحمة‪ ،‬لكن هؤلء يُغاثون بماء كالمهل يشوي‬
‫الوجوه‪.‬‬
‫وكذلك في قوله تعالى‪ {:‬ذُقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان‪ ]49 :‬في توبيخ عُتَاة الكفر‬
‫والجرام‪ .‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬فَ َبشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[لقمان‪ ]7 :‬والبشرى ل تكون إل بشيء‪ .‬سَار‪.‬‬
‫جهَنّ َم وِرْدا } [مريم‪ ]86 :‬تهكّم‪ ،‬كما تقول للولد‬
‫إذن‪ :‬فقوله تعالى‪ { :‬وَنَسُوقُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ إِلَىا َ‬
‫المهمل الذي أخفق في المتحان‪ :‬مبروك عليك السقوط‪.‬‬
‫شفَاعَةَ ِإلّ مَنِ اتّخَذَ }‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬لّ َيمِْلكُونَ ال ّ‬

‫(‪)2320 /‬‬

‫عهْدًا (‪)87‬‬
‫حمَنِ َ‬
‫شفَاعَةَ إِلّا مَنِ اتّخَذَ عِنْدَ الرّ ْ‬
‫لَا َيمِْلكُونَ ال ّ‬

‫الكافر حين يباشر العذاب يطمع أول ما يطمع في أن يشفعَ له مبعوده‪ ،‬ويُخرجه ممّا هو فيه لكِنْ‬
‫ضلّ ِممّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ مَن لّ يَسْ َتجِيبُ َلهُ‬
‫هيهات‪ ،‬ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى‪َ {:‬ومَنْ َأ َ‬
‫إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة وَهُمْ عَن دُعَآ ِئهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُواْ َل ُهمْ أَعْدَآ ًء َوكَانُواْ ِبعِبَادَ ِتهِمْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كَافِرِينَ }[الحقاف‪5 :‬ـ ‪.]6‬‬
‫شفَاعَةَ } [مريم‪ ]87 :‬لن الشفاعة ل تكون‬
‫لذلك يقول تعالى عن هؤلء يوم القيامة‪ { :‬لّ َيمِْلكُونَ ال ّ‬
‫عهْدا } [مريم‪.]87 :‬‬
‫حمَـانِ َ‬
‫إل لمن أخذ الذن بها { ِإلّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّ ْ‬
‫والعهد الذي تأخذه على ال بالشفاعة أنْ تُقدّم من الحسنات ما يسع تكاليفك أنت‪ ،‬ثم تزيد عليها ما‬
‫يؤهلُك لن تشفع للخرين‪ ،‬والخير ل يضيع عند ال‪ ،‬فما زاد عن التكليف فهو في رصيدك في‬
‫كتاب ل يغادر صغيرة ول كبيرة‪ ،‬ول يهمل مثقال ذرة‪.‬‬
‫وعلى المؤمن ـ مهما كان مُسْرفا على نفسه ـ ساعةَ يرى إنسانا مُقبلً على ال مُستزيدا من‬
‫الطاعات أنْ يدعوَ له بالمزيد‪ ،‬وأن يفرح به؛ لن فائض طاعاته لعله يعود عليك‪ ،‬ولعلك تحتاج‬
‫شفاعته في يوم من اليام‪ .‬أما مَنْ يحلو لهم الستهزاء والسخرية من أهل الطاعات‪ ،‬كما أخبر‬
‫الحق تبارك وتعالى‪:‬‬
‫حكُونَ * وَِإذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا‬
‫ضَ‬‫{ إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َي ْ‬
‫أَهِْلهِمُ انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا َرَأوْهُمْ قَالُواْ إِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ }[المطفيين‪29 :‬ـ ‪.]32‬‬
‫فكيف ستقابل أهل الطاعات‪ ،‬وتطمع في شفاعتهم بعدما كان منك؟ فإنْ لم تكُنْ طائعا فل أقلّ من‬
‫أنْ تحب الطائعين وتتمسح بهم‪ ،‬فهذه في حَدّ ذاتها حسنةٌ لك ترجو نفعها يوم القيامة‪.‬‬
‫وما أشبه الشفاعة في الخرة بما حدث بيننا من شفاعة في الدنيا‪ ،‬فحين يستعصي عليك قضاءُ‬
‫مصلحة يقولون لك‪ :‬اذهب إلى فلن وسوف يقضيها لك‪ .‬وفعلً يذهب معك فلن هذا‪ ،‬ويقضي لك‬
‫حاجتك‪ ،‬فلماذا ُقضِيتْ على يديه هو؟ ل بُد أن له عند صاحب الحاجة هذه أياديَ ل يستطيع معها‬
‫أنْ يرد له طلبا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل بُدّ لمن يشفع أن يكون له رصيد من الطاعات يسمح له بالشفاعة‪ ،‬وإذا تأملت لوجدت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم أول مَنْ قدّم رصيدا إيمانيا وسع تكليفه وتكليف أمته‪ ،‬ألم يخبر‬
‫عنه ربه بقوله‪ُ {:‬ي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَ ُي ْؤمِنُ لِ ْل ُمؤْمِنِينَ }[التوبة‪ ]61 :‬لذلك وجبت له الشفاعة‪ ،‬وأُذِن له فيها‪.‬‬
‫والحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يغفل الرصيد في خَلقه أبدا‪ ،‬فكل ما قدّمت من طاعات فوق ما كلّفك‬
‫ال به ُمدّخَر لك‪ ،‬حتى إن النسان إذا اّتهِم ظلما‪ ،‬وعُوقِب على عمل لم يرتكبه فإن ال يدّخرها له‬
‫ويستر عليه ما ارتكبه فعلً فل يُعاقب عليه‪.‬‬

‫عهْدا { [مريم‪ ]87 :‬أن تدخل مع‬


‫حمَـانِ َ‬
‫فالعهد ـ إذن ـ في قوله تعالى‪ِ } :‬إلّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّ ْ‬
‫ربك في مقام الحسان‪ ،‬ول يدخل هذا المقام إل مَنْ أدّى ما عليه من تكليف‪ ،‬وإل فكيف تكون‬
‫مُحسِنا وأنت مٌقصّر في مقام اليمان؟‬
‫وأقرأ إنْ شئت قول ال تعالى‪ {:‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَا ُهمْ رَ ّبهُمْ }[الذاريات‪:‬‬
‫سحَارِ‬
‫جعُونَ * وَبِالَ ْ‬
‫‪15‬ـ ‪ ]16‬ما العلة؟{ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ َذِلكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َي ْه َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات‪16 :‬ـ ‪.]19‬‬
‫حقّ لّلسّآ ِئ ِ‬
‫هُمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ َ‬
‫فالمحسن مَنْ يُؤدّي من الطاعات فوق ما فرض ال عليه‪ ،‬ومن جنس ما فرض‪ ،‬فال تعالى لم‬
‫يُكلّفنا بقيام الليل والستغفار بالسحار‪ ،‬ولم يفرض علينا صدقة للسائل والمحروم‪ ،‬ول بُدّ أنْ نُفرّق‬
‫هنا بين (حق) و(حق معلوم) هنا قال (حق) فقط؛ لن الكلم عن الصدقة أما الحق المعلوم ففي‬
‫الزكاة‪.‬‬
‫حمَـانُ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬وقَالُواْ اتّخَذَ الرّ ْ‬

‫(‪)2321 /‬‬

‫ن وَلَدًا (‪)88‬‬
‫حمَ ُ‬
‫َوقَالُوا اتّخَذَ الرّ ْ‬

‫هذا الكلم منهم عبث وافتراء؛ لنه متى كان اتخاذ هذا الولد؟ في أيّ قَرْن من القرون من ميلد‬
‫المسيح عليه السلم؟ إن هذه المقولة لم ت ْأتِ إل بعد ثلثمائة سنة من ميلد المسيح‪ ،‬فما الموقف‬
‫قبلها؟ وما الذي زاد في مُلْك ال بعد أنْ جاء هذا الولد؟‬
‫الشمس هي الشمس‪ ،‬والنجوم هي النجوم‪ ،‬والهواء هو الهواء‪ ،‬إذن‪ :‬موضوعية اتخاذ الولد هذه‬
‫عبث؛ لنه لم يَ ِزدْ شيء في المْلك على يد هذا الولد‪ ،‬ولم تكن عند ال تعالى صفة مُعطلة اكتملتْ‬
‫بمجىء الولد؛ لن الصفات الكمالية ل تعالى موجودة قبل أنْ يخلق أيّ شيء‪.‬‬
‫حيٍ قبل أنْ يحيى‪ ،‬ومميت قبل‬
‫فهو سبحانه وتعالى خالق قبل أن َيخْلق‪ ،‬ورازق قبل أنْ يَرزُق‪ ،‬ومُ ْ‬
‫أن يميت‪ .‬فالبصفات أوجد هذه الشياء‪ ،‬فصفات الكمال فيه سبحانه موجودة قبل متعلقاتها‪.‬‬
‫ل ـ ول المثل العلى ـ بالشاعر الذي قال قصيدة‪ .‬وقلنا‪ :‬إنه قال القصيدة لنه‬
‫وضربنا لذلك مث ً‬
‫شاعر بدايةً‪ ،‬ولول أنه شاعر ما قالها‪.‬‬
‫لذلك يرد الحق سبحانه على هذا الفتراء بقوله‪ {:‬كَبُ َرتْ كَِلمَةً َتخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ إِن َيقُولُونَ ِإلّ‬
‫كَذِبا }[الكهف‪.]5 :‬‬
‫وهنا يرد عليهم بقوله‪ّ { :‬لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئا }‬

‫(‪)2322 /‬‬

‫َلقَدْ جِئْ ُتمْ شَيْئًا إِدّا (‪)89‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والدّ‪ :‬المتناهي في النكْر والفظاعة‪ ،‬وهو المر المستبشع‪ ،‬من‪ :‬آده المر‪ .‬أي‪ :‬أثقله ولم َيقْو‬
‫ظ ُهمَا }[البقرة‪ ]255 :‬أي‪ :‬ل يثقل عليه‪.‬‬
‫حفْ ُ‬
‫عليه‪ ،‬ومنه قوله تعالى في آية الكرسي‪َ {:‬ولَ َيؤُو ُدهُ ِ‬
‫لكن‪ ،‬لماذا جعل هذا المر إدّا ومنكرا فظيعا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن اتخاذ الولد له مقاصد‪ ،‬فالولد يُتخذ ليكون لك عِزْوة وقوة؛ أو ليكون امتدادا لكل بعد‬
‫موتك‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى هو العزيز‪ ،‬الذي ل يحتاج إلى أحد‪ ،‬وهو الباقي الدائم الذي ل‬
‫يحتاج إلى امتداد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاتخاذ الولد بالنسبة ل تعالى ل عِلةَ له‪ ،‬كما أن اتخاذ الولد ل تعالى ينفي سواسية العبودية‬
‫له سبحانه‪.‬‬
‫سمَاوَاتُ يَ َتفَطّرْنَ }‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪َ { :‬تكَادُ ال ّ‬

‫(‪)2323 /‬‬

‫ض وَتَخِرّ الْجِبَالُ َهدّا (‪)90‬‬


‫س َموَاتُ يَ َتفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الْأَ ْر ُ‬
‫َتكَادُ ال ّ‬

‫أي‪ :‬فلسنا نحن فحسْب الذين ننكر هذا المر‪ ،‬بل الجماد غير المكلف أيضا ينكره‪ ،‬فالسموات‬
‫بقوتها وعظمها تتفطر أي‪ :‬تتشقق‪ ،‬وتكاد تكون مِزَعا له ْولِ ما قيل‪ ،‬تقرب أن تنفطر لكن لماذا لم‬
‫ت وَالَ ْرضَ أَن تَزُولَ }[فاطر‪:‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫تنفطر بالفعل؟ لم تنفطر؛ لن ال يمسكها‪ {:‬إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ‬
‫‪.]41‬‬
‫طعِم خيرك‬
‫وفي الحديث القدسي‪ " :‬قالت السماء يا رب ائذن لي أنْ أسقط كِسَفا على ابن آدم‪ ،‬فقد َ‬
‫ومنع شكرك‪ ،‬وقالت الرض‪ :‬يارب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك‪،‬‬
‫وقالت الجبال‪ :‬يا رب ائذن لي أن أخِرّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك‪ .‬وقالت البحار‪:‬‬
‫يا ربّ ائذن لي أن أُغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك‪ .‬فقال لهم‪ :‬دعوني وخلقي لو‬
‫خلقتموهم لرحمتموهم‪ ،‬فإن تابوا إليّ فأنا حبيبهم‪ ،‬وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم "‪.‬‬
‫فما العِلّة في أن السماء تقرب أن تنفطر‪ ،‬والرض تقرب أن تنشق‪ ،‬والجبال تقرب أن تخِرّ؟‬

‫(‪)2324 /‬‬

‫ن وَلَدًا (‪)91‬‬
‫حمَ ِ‬
‫عوْا لِلرّ ْ‬
‫أَنْ دَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه هي العلة والحيثية التي من أجلها يكاد الكونُ كلّه أن يتزلزل‪ ،‬ويثور غاضبا لهذه المقولة‬
‫الشنيعة‪.‬‬
‫حمَـانِ أَن يَتّخِذَ }‪.‬‬
‫ثم يعقب الحق سبحانه فيقول‪َ { :‬ومَا يَن َبغِي لِلرّ ْ‬

‫(‪)2325 /‬‬

‫خ َذ وَلَدًا (‪)92‬‬
‫حمَنِ أَنْ يَتّ ِ‬
‫َومَا يَنْ َبغِي لِلرّ ْ‬

‫وعلينا هنا أنْ نُفرق بين َنفْي الحدث ونفي انبغاء الحدث‪ ،‬فمثلً في قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ‬
‫شعْ َر َومَا يَن َبغِي لَهُ }[يس‪ ]69 :‬فنفى عنه َقوْل‬
‫في شأن نبيه صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬ومَا عَّلمْنَاهُ ال ّ‬
‫الشعر‪ ،‬ونفي عنه انبغاء ذلك له‪ ،‬فقد يظن ظانّ أن النبي ل يستطيع أن يقول شعرا‪ ،‬أو أن أدوات‬
‫الشعر من اللغة و ِرقّة الحساس غير متوافرة لديه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لكن رسول ال قادر على‬
‫َقوْل الشعر إنْ أراد‪ ،‬فهو قادر على الحدث‪ ،‬إل أنه ل ينبغي له‪.‬‬
‫حمَـانِ أَن يَتّخِ َذ وَلَدا } [مريم‪ ]92 :‬فإنْ أراد سبحانه وتعالى‬
‫كذلك في قوله تعالى‪َ { :‬ومَا يَن َبغِي لِلرّ ْ‬
‫ن وَلَدٌ فَأَنَاْ َأ ّولُ‬
‫حمَـا ِ‬
‫أن يكون له ولد لَكانَ ذلك‪ ،‬كما جاء في قوله تبارك وتعالى‪ُ {:‬قلْ إِن كَانَ لِلرّ ْ‬
‫ا ْلعَابِدِينَ }[الزخرف‪.]81 :‬‬
‫أي‪ :‬إن كان له سبحانه ولد فعلى العَيْن والرأس‪ ،‬إنما هذه مسألة ما أرادها الحق سبحانه‪ ،‬وما‬
‫تنبغي له‪ ،‬فكيف أدّعي أنا أن ل ولدا هكذا من عندي؟‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }‬
‫وما حاجته تعالى للولد‪ ،‬وقد قال في الية بعدها‪ { :‬إِن ُكلّ مَن فِي ال ّ‬

‫(‪)2326 /‬‬

‫حمَنِ عَ ْبدًا (‪)93‬‬


‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ إِلّا آَتِي الرّ ْ‬
‫إِنْ ُكلّ مَنْ فِي ال ّ‬

‫ذلك لن الخالق ـ تبارك وتعالى ـ خلق النسان‪ ،‬وجعل له منطقة اختيار يفعل أو ل يفعل‪،‬‬
‫يؤمن أو ل يؤمن‪ ،‬وكذلك جعل فيه منطقة َقهْر‪ ،‬فالكافر الذي أَلِف الكفر‪ ،‬وتعوّد عليه‪ ،‬وتمرد على‬
‫الطاعة واليمان‪ ،‬هل يستطيع أنْ يتمرّد مثلً على المرض أو يتمرّد على الموت‪ ،‬أو على الفقر؟‬
‫إذن‪ :‬فأنت مُختار في شيء وعَبْد في أشياء‪ ،‬كما أن منطقة الختيار هذه لك في الدنيا‪ ،‬وليست لك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في الخرة‪ .‬وسبق أنْ فرّقنا بين العباد والعبيد‪ ،‬فالجميع‪ :‬المؤمن والكافر عبيد ل تعالى‪ ،‬أما العباد‬
‫فهم الذين تنازلوا عن اختيارهم ومرادهم لمراد ربهم‪ ،‬فجاءت ُكلّ تصرفاتهم وفقا لما يريده ال‪.‬‬
‫حمَـانِ الّذِينَ َيمْشُونَ عَلَىا الَ ْرضِ َهوْنا }[الفرقان‪.]63 :‬‬
‫وهؤلء الذين قال ال فيهم‪ {:‬وَعِبَادُ الرّ ْ‬
‫حمَـانِ عَبْدا } [مريم‪ ]93 :‬أي‪ :‬في الخرة‪ ،‬حيث تُ ْلغَى منطقة الختيار‪ ،‬ول‬
‫ومعنى‪ِ { :‬إلّ آتِي الرّ ْ‬
‫يستطيع أحد الخروج عن مراد ال تعالى‪ ،‬ويسلب الملك من الجميع‪ ،‬فيقول تعالى‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر‪.]16 :‬‬
‫الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫وهو سبحانه القادر على العطاء‪ ،‬القادر على السلب‪ُ {:‬تؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ‬
‫تَشَآءُ وَ ُتعِزّ مَن َتشَآ ُء وَتُ ِذلّ مَن تَشَآءُ }[آل عمران‪.]26 :‬‬
‫حصَا ُه ْم وَعَدّ ُهمْ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ّ { :‬لقَدْ أَ ْ‬

‫(‪)2327 /‬‬

‫حصَا ُه ْم وَعَدّ ُهمْ عَدّا (‪)94‬‬


‫َلقَدْ أَ ْ‬

‫الحصاء‪ :‬هو ال َعدّ‪ ،‬وكانوا قديما يستخدمون الحصَى أو النوى في العَدّ‪ ،‬لكن النوى فرع ملكية‬
‫النخل‪ ،‬فقد ل يتوفر للجميع؛ لذلك كانوا يستخدمون الحصَى‪ ،‬ومنه كلمة الحصاء‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪َ { :‬وكُّلهُمْ آتِيهِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ }‬

‫(‪)2328 /‬‬

‫َوكُّلهُمْ آَتِيهِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فَرْدًا (‪)95‬‬

‫أي‪ .‬وحده‪ ،‬ليس معه أهل أو أولد أو عِزْوة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬يوْمَ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَُأمّهِ‬
‫وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }[عبس‪34 :‬ـ ‪.]37‬‬
‫ض َعتْ }‬
‫عمّآ أَ ْر َ‬
‫ضعَةٍ َ‬
‫فكل مشغول بحاله‪ ،‬ذاهل عن أقرب الناس إليه‪َ {:‬يوْمَ تَ َروْ َنهَا تَذْ َهلُ ُكلّ مُ ْر ِ‬
‫[الحج‪.]2 :‬‬
‫وتأمّل قوله‪ { :‬آتِيهِ } [مريم‪ ]95 :‬فالعبد هو الذي يأتي بنفسه ُمخْتارا ل ُيؤْتَى به‪ ،‬فكأن الجميع‬
‫منضبط على وقت معلوم‪ ،‬إذا جاء ُيهْرَع الجميع طواعيةً إلى ال عز وجل‪.‬‬
‫عمِلُواْ }‬
‫ثم يقول رب العزة سبحانه‪ { :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2329 /‬‬

‫ن وُدّا (‪)96‬‬
‫حمَ ُ‬
‫ج َعلُ َل ُهمُ الرّ ْ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ سَ َي ْ‬
‫إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬

‫وُدا‪ :‬مودة ومحبة تقوم على اليمان‪ ،‬وتقود إلى شدة التعلّق‪ ،‬وقد جعل الحق ـ تبارك وتعالى ـ‬
‫َكوْنه أسبابا لهذه المحبة والمودة‪ ،‬كأنْ ترى إنسانا يُحبك ويتودّد إليك‪ ،‬فساعةَ تراه مُقبلً عليك تقوم‬
‫له وتبشّ في وجهه‪ ،‬وتُفسِح له في المجلس‪ ،‬ثم تسأل عنه إنْ غاب‪ ،‬وتعوده إنْ مرض‪ ،‬وتشاركه‬
‫حبّ ومودة سابقة‪.‬‬
‫الفراح وتواسيه في الحزان وتؤازره عند الشدائد‪ ،‬فهذه المودة ناشئة عن ُ‬
‫وقد تنشأ المودة بسبب القرابة أو المصالح المتبادلة أو الصداقة‪ ،‬فهذه أسباب المودة في الدنيا بين‬
‫ن وُدّا }[مريم‪.]96 :‬‬
‫حمَـا ُ‬
‫ج َعلُ َلهُمُ الرّ ْ‬
‫الخَلْق جميعا مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬أمّا هنا‪ {:‬سَيَ ْ‬
‫أي‪ :‬بدون سبب من أسباب المودة هذه‪ ،‬مودة بدون قرابة‪ ،‬وبدون مصالح مشتركة أو صداقة‪،‬‬
‫وهذه المودة بين الذين آمنوا‪ ،‬كأنْ ترى شخصا لول مرة فتشعر نحوه بارتياح كأنك تعرفه‪،‬‬
‫وتقول له‪ :‬إني أحبك ل‪.‬‬
‫هذه محبة جعلها ال بين المؤمنين‪ ،‬فضلً منه سبحانه وتكرّما‪ ،‬ل بسبب من أسباب المودة‬
‫المعروفة‪.‬‬
‫لذلك قال هرم بن حَيّان ـ رحمه ال ـ‪ :‬إن الحق تبارك وتعالى حين يرى عبده المؤمن قد أقبل‬
‫عليه بقلبه وأسكنه فيه‪ ،‬وأبعد عن قلبه الغيار‪ ،‬وسلّم قلبه وهو أسمى ما يملك من مستودعات‬
‫العقائد وينبوع الصالحات وقدّمه لربه إل فتح له قلوب المؤمنين جميعا‪.‬‬
‫كما جاء في الحديث القدسي‪:‬‬
‫" ما أقبل عليّ عبد بقلبه إل أقلبتُ عليه بقلوب المؤمنين جميعا " أي‪ :‬بالمودة والرحمة دون‬
‫أسباب‪.‬‬
‫وفي الحديث القدسي‪ " :‬إن ال إذا أحب عبدا نادى في السماء‪ :‬إنني أحببتُ فلنا فأحبّوه‪ ،‬وينادي‬
‫حبريل في الرض‪ :‬إن ال أحبّ فلنا فأحبوه‪ .‬ويوضع له القبول في الرض "‪.‬‬
‫ن كنتَ قد تبرعتَ ل‬
‫فيحبه كل مَنْ رآه عطية من ال وفضلً‪ ،‬دون سبب من أسباب المودة‪ ،‬وإ ْ‬
‫تعالى بما تملك وهو قلبك مستودع العقائد وينبوع الصالحات كلها‪ ،‬فإنه تعالى وهب لك ما يملك‬
‫من قلوب الناس جميعا‪ ،‬فهي في يده تعالى يُوجّهها كيف يشاء‪.‬‬
‫وقد علّمنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في قوله‪ {:‬وَإِذَا حُيّيتُم بِ َتحِيّةٍ َفحَيّواْ بَِأحْسَنَ مِ ْنهَآ َأوْ ُردّوهَآ }‬
‫[النساء‪ ]86 :‬أن نرد الجميل بأحسن منه‪ ،‬فإنْ لم نقدر على الحسن فل أقلّ من الرد بالمثل‪ ،‬فإنْ‬
‫كان هذا عطاء العبد‪ ،‬فما بالك بعطاء الرب؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومن ذلك ما جاء في الحديث الشريف‪ " :‬من يسّر على معسر يسّر ال عليه في الدنيا والخرة‪،‬‬
‫ومن ستر مسلما ستره ال في الدنيا والخرة‪ ،‬وال في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "‪.‬‬
‫وال َعوْن يقتضي مُعينا و ُمعَانا‪ ،‬ول بُدّ أن يكون المعين أقوى من المعان‪ ،‬فيفيض عليه من فضل ما‬
‫عنده‪ :‬صحة‪ ،‬أو قدرة‪ ،‬أو غنىً‪ ،‬أو علما‪.‬‬

‫وإعانةُ العبد لخيه محدودة بقدراته وإمكاناته‪ ،‬أمّا معونة ال لعبده فغير محدودة؛ لنها تناسب‬
‫قدرة وإمكانات الحق تبارك وتعالى‪.‬‬
‫وهكذا عوّدنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ حين نُضحّي بالقليل أنْ يعطينا الكثير وبل حدود‪ ،‬فضلً‬
‫من ال وكرما‪ .‬ألم تَرَ أن الحسنة عنده تعالى بعشر أمثالها‪ ،‬وتضاعف إلى سبعمائة ضعف؟‬
‫أليست هذه تجارة مع ال رابحة‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َهلْ َأدُلّكمْ عَلَىا ِتجَا َرةٍ‬
‫تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الصف‪.]10 :‬‬
‫وقال عنها‪ِ {:‬تجَا َرةً لّن تَبُورَ }[فاطر‪.]29 :‬‬
‫وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد منا المحبة المتبادلة التي تربط بين قلوبنا وتُؤلّف بيننا‪ ،‬ثم‬
‫يمنحنا سبحانه الثمن‪.‬‬
‫إذن‪ :‬العملية اليمانية ل تظن أنها إيثار‪ ،‬بل اليمان أثره‪ ،‬وأنت حين تتصدق بكذا إنما تأمل ما‬
‫عند ال من مضاعفة الجر‪ ،‬فاليمان ـ إذن ـ أنانية عالية‪.‬‬
‫والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يريد منا أنْ نعودَ على غيرنا بفضل ما نملك‪ ،‬كما جاء في الحديث‪" :‬‬
‫ن ل مالَ له‪." ...‬‬
‫مَنْ كان عنده فضل مال فلي ُعدْ به على مَ ْ‬
‫واعلم أن ال سيُعوّضك خيرا مما أعط ْيتَ‪ .‬ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ‪َ :‬هبْ أن عندك‬
‫ولدين‪ ،‬أعطيتَ لكل منهما مصروفة‪ ،‬فالول اشترى به حلوى أكل منها‪ ،‬وأعطى رفاقه‪ ،‬والخر‬
‫بدّد مصروفه فيما ل يُجدي من ألعاب أو خلفه‪ ،‬فأيهما تعطي بعد ذلك؟ كذلك الحق سبحانه‬
‫يعاملنا هذه المعاملة‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ } :‬فَإِ ّنمَا َيسّرْنَاهُ بِلِسَا ِنكَ {‬

‫(‪)2330 /‬‬

‫فَإِ ّنمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَا ِنكَ لِتُبَشّرَ بِهِ ا ْلمُ ّتقِينَ وَتُنْذِرَ ِبهِ َق ْومًا لُدّا (‪)97‬‬

‫الفاء هنا تفيد‪ :‬ترتيب شيء على شيء فابحث في الجملة بعدها عن هذا الترتيب‪ ،‬فالمعنى‪ :‬بشّر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المتقين‪ ،‬وأنذر القوم اللّد لننا يسرنا لك القرآن‪.‬‬
‫حفْظا وأدا ًء وإلقاء معانٍ‪ ،‬فأنت تُوظّفه في المهمة التي نزل من‬
‫ويسّرنا القرآن‪ :‬أي‪ :‬طوعناه لك ِ‬
‫أجلها‪.‬‬
‫وتيسير القرآن ورد في آيات كثيرة‪ ،‬كقوله تعالى في سورة القمر‪ {:‬وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ‬
‫مِن مّ ّدكِرٍ }[القمر‪.]17 :‬‬
‫والمتأمل في تيسير القرآن يجد العجائب في أسلوبه‪ ،‬فترى الية تأتي في سورة بنص‪ ،‬وتأتي في‬
‫نفس السياق في سورة أخرى بنص آخر‪ ،‬فالمسألة ـ إذن ـ ليست (أكلشيه) ثابت‪ ،‬وليست‬
‫عملية ميكانيكية صماء‪ ،‬إنه كلم رب‪.‬‬
‫خذْ مثلً قوله تعالى‪:‬‬
‫ُ‬
‫{ كَلّ إِنّهُ تَ ْذكِ َرةٌ * َفمَن شَآءَ َذكَ َرهُ }[المدثر‪54 :‬ـ ‪.]55‬‬
‫وفي آية آخرى‪ {:‬إِنّ هَـا ِذهِ تَ ْذكِ َرةٌ َفمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىا رَبّهِ سَبِيلً }[النسان‪.]29 :‬‬
‫مرة يقول‪ {:‬إِنّ هَـا ِذهِ تَ ْذكِ َرةٌ }[النسان‪ ]29 :‬ومرة يقول‪ {:‬كَلّ إِ ّنهَا تَ ْذكِ َرةٌ }[عبس‪.]11 :‬‬
‫ونقف هنا أمام ملحظ دقيق في سورة (الرحمن) حيث يقول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ‬
‫ل إلى‬
‫ن يص َ‬
‫رَبّهِ جَنّتَانِ }[الرحمن‪ ]46 :‬ثم يأتي الحديث عنهما‪ :‬فيهما كذا‪ ،‬فيهما كذا إلى أ ْ‬
‫قاصرات الطرف فيقول‪ {:‬فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ }[الرحمن‪.]56 :‬‬
‫ن يصلَ إلى الحور‬
‫وكذلك في‪َ {:‬ومِن دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ }[الرحمن‪ ]62 :‬فيهما كذا وفيهما كذا إلى أ ْ‬
‫العين فيقول‪ {:‬فِيهِنّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ }[الرحمن‪.]70 :‬‬
‫ولك أنْ تتساءل‪ :‬الحديث هنا عن الجنتين‪ ،‬فلماذا عدل السياق عن (فيهما) إلى (فيهن) في هذه‬
‫النعمة بالذات؟‬
‫قالوا‪ :‬لن نعيم الجنة مشترك‪ ،‬يصح أنْ يشترك فيه الجميع إل في نعمة الحور العين‪ ،‬فلها‬
‫خصوصيتها‪ ،‬فكأن الحق تبارك وتعالى يحترم مشاعر الغَيْرة عند الرجال‪ ،‬ففي هذه المسألة يكون‬
‫لكل منها جنته الخاصة التي ل يشاركه فيها أحد‪.‬‬
‫لذلك " لما رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم الجنة رأى فيها قصرا فابتعد عنه‪ ،‬فلما سُئِل عن‬
‫ذلك صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬إنه لعمر‪ ،‬وأنا أعرف غَيْرة عمر "‪.‬‬
‫فإلى هذه الدرجة تكون غيرة المؤمن‪ ،‬وإلى هذه الدرجة تكون ِدقّة التعبير في القرآن الكريم‪.‬‬
‫ولول أن ال تعالى أنزل القرآن ويسّره َلمَا حفظه أحد فالنبي صلى ال عليه وسلم كان ينزل عليه‬
‫اليات‪ ،‬وحِين يسري عنه يمليها على الصحابة‪ ،‬ويظل يقرؤها كما هي‪ ،‬ولول أن ال قال له‪{:‬‬
‫سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى‪ ]6 :‬ما تيسّر له ذلك‪.‬‬
‫ونحن في حفْظنا لكتاب ال تعالى نجد العجائب أيضا‪ ،‬فالصبي في سنّ السابعة يستطيع حفْظ‬
‫ن غفل عنه بعد ذلك تَفّلتَ منه‪ ،‬على خلف ما لو حفظ نصا من النصوص في‬
‫القرآن وتجويده‪ ،‬فإ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه السن يظل عالقا بذهنه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬مسألة حفظ القرآن ليست مجرد استذكار حافظة‪ ،‬بل معونة حافظ‪ ،‬فإن كنت على وُ ّد وأُلْفة‬
‫ت منك‪ ،‬كما جاء في الحديث الشريف‪:‬‬
‫ل معك‪ ،‬وإنْ تركته وجفوْته تفّل َ‬
‫بكتاب ال ظ ّ‬

‫عقَلها "‪.‬‬
‫" تعاهدوا القرآن‪ ،‬فو الذي نفسي بيده َلهُو أش ّد تفصّيا من البل في ُ‬
‫ذلك؛ لن حروف القرآن ليست مجرد حرف له رسم ومنطوق‪ ،‬إنما حروف القرآن ملئكة‬
‫ن وددتَ الحرف‪ ،‬وودتَ الكلمة والية‪ ،‬ودّتْك الملئكة‪،‬‬
‫تُصفّ‪ ،‬فتكون كلمة‪ ،‬وتكون آية‪ ،‬فإ ْ‬
‫وتراصتْ عند قراءتك‪.‬‬
‫ن أعلمتَ عقلك في القراءة تتخبّط فيها وتخطىء‪ ،‬فإنْ‬
‫ومن العجائب في تيسير حفظ القرآن أنك إ ْ‬
‫أعدتَ القراءة هكذا على السليقة كما حفظت تتابعت معك اليات وطاوعتك‪.‬‬
‫وتلحظ هنا أن القرآن لم ي ْأتِ باللفظ الصريح‪ ،‬إنما جاء بضمير الغيبة في } يَسّرْنَاهُ { [مريم‪]97 :‬‬
‫لن الهاء هنا ل يمكن أن تعود إل على القرآن‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ُ {:‬قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ }[الخلص‪:‬‬
‫‪ ]1‬فضمير الغيبة هنا ل يعود إل على ال تعالى‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬بِلِسَا ِنكَ { [مريم‪ ]97 :‬أي‪ :‬بلغتك‪ ،‬فجعلناه قرآنا عربيا في أمة عربية؛ ليفهموا عنك‬
‫البلغ عن ال في البشارة والنذارة‪ ،‬ولو جاءهم بلغة أخرى لقالوا كما حكى القرآن عنهم‪.‬‬
‫ي وَعَرَبِيّ }[فصلت‪.]44 :‬‬
‫ج ِم ّ‬
‫عَ‬‫جمِيّا ّلقَالُواْ َل ْولَ ُفصّلَتْ آيَاتُهُ ءَا ْ‬
‫جعَلْنَاهُ قُرْآنا أعْ َ‬
‫{ وََلوْ َ‬
‫وقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬وَتُنْذِرَ بِهِ َقوْما لّدّا { [مريم‪.]97 :‬‬
‫والنذار‪ :‬التحذير من شَرّ سيقع في المستقبل‪ ،‬واللّدَد‪ :‬عُنْف الخصومة‪ ،‬وشراسة العداوة‪ ،‬نقول‪:‬‬
‫فلن عنده َلدَد أي‪ :‬يبالغ في الخصومة‪ ،‬ول يخضع للحجة والقناع‪ ،‬ومهما حاولتَ معه ُيصِرّ‬
‫على خصومته‪.‬‬
‫ويُنهي الحق سبحانه سورة مريم بقوله تعالى‪َ } :‬وكَمْ أَ ْهَلكْنَا قَبَْلهُمْ {‬

‫(‪)2331 /‬‬

‫سمَعُ َلهُمْ ِركْزًا (‪)98‬‬


‫حدٍ َأوْ تَ ْ‬
‫َوكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْنٍ َهلْ تُحِسّ مِ ْنهُمْ مِنْ أَ َ‬

‫الحق ـ تبارك وتعالى ـ يُسرّي عن نبيه صلى ال عليه وسلم ما يلقي من عنت في سبيل‬
‫دعوته‪ ،‬كأنه يقول له‪ :‬إياك أنْ ينالَ منك ُبغْض القوم لك وكُرههم لمنهج ال‪ ،‬إياك أنْ تتضاءلَ أمام‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جبروتهم في عنادك‪ ،‬فهؤلء ليسوا أعزّ من سابقيهم من المكذبين‪ ،‬الذين أهلكهم ال‪ ،‬إنما أستبقى‬
‫هؤلء لن لهم مهمة معك‪.‬‬
‫وسبق أن أوضحنا أن الذين نجوْا من القتل من الكفار في بعض الغزوات‪ ،‬وحزن المسلمون‬
‫لنجاتهم‪ ،‬كان منهم فيما َبعْد سيف ال المسلول خالد بن الوليد‪.‬‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬وكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْل ُهمْ مّن قَرْنٍ } [مريم‪.]98 :‬‬
‫كم‪ :‬خبرية تفيد الكثرة‪ ،‬من قرن‪ :‬من أمة { َهلْ ُتحِسّ مِ ْنهُمْ مّنْ َأحَدٍ } [مريم‪ ]98 :‬لننا أخذناهم‬
‫فلم نُبق منهم أثرا يحس‪.‬‬
‫س أو الدراك كما هو معروف‪ :‬العين للرؤية‪ ،‬والذن للسمع‪ ،‬والنف للشمّ‪ ،‬واللسان‬
‫ووسائل الحِ ّ‬
‫للتذوق‪ ،‬واليد للمس‪ ،‬فبأيّ آداة من أدوات الحسّ ل تجد لهم أثرا‪.‬‬
‫سمَعُ َلهُمْ ِركْزا } [مريم‪ ]98 :‬الركْز‪ :‬الصوت الخفيّ‪ ،‬الذي ل تكاد تسمعه‪ .‬وهذه‬
‫وقوله‪َ { :‬أوْ تَ ْ‬
‫سُنّة ال في المكذبين من المم السابقة كما قال سبحانه‪ {:‬أَهُمْ خَيْرٌ َأمْ َقوْمُ تُبّ ٍع وَالّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ‬
‫أَهَْلكْنَا ُهمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ مُجْ ِرمِينَ }[الدخان‪.]37 :‬‬
‫أين عاد وثمود وإرم ذات العماد التي لم يُخلَق مثلها في البلد؟ وأين فرعون ذو الوتاد؟ فكل‬
‫جبار مهما عََلتْ حضارته ما استطاع أنْ يُبقي هذه الحضارة؛ لن ال تعالى أراد لها أنْ تزول‪،‬‬
‫وهل كفار مكة أش ّد من كل هؤلء؟‬
‫سعْك‬
‫سمَعُ َلهُمْ ِركْزا } [مريم‪ ]98 :‬ل ي َ‬
‫لذلك حين تسمع هذا السؤال‪َ { :‬هلْ ُتحِسّ مِ ْنهُمْ مّنْ َأحَدٍ َأوْ َت ْ‬
‫إلّ أنْ تُجيب‪ :‬ل أحسّ منهم من أحد‪ ،‬ول أسمع لهم ركزا‪.‬‬

‫(‪)2332 /‬‬

‫طه (‪)1‬‬

‫تكلمنا كثيرا عن الحروف المقطّعة في بدايات السور‪ ،‬ول مانع هنا أنْ نشير إلى ما ورد في‬
‫(طه)‪ ،‬فالبعض يرى أنها حروف متصلة‪ ،‬وهي اسم من أسماء الرسول صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وآخرون يروْنَ أنها حروف مُقطّعة مثل (الم) ومثل (يس) فهي حروف مُقطّعة‪ ،‬إل أنها صادفتْ‬
‫اسما من السماء كما في (ن) حرف وهو اسم للحوت‪َ {:‬وذَا النّونِ إِذ ذّ َهبَ ُمغَاضِبا }[النبياء‪:‬‬
‫‪ ]87‬و(ق) حرف‪ ،‬وهو اسم لجبل اسمه جبل قاف‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل مانع أن تدل هذه الحروف على اسم من السماء‪ ،‬فتكون (طه) اسما من أسماء الرسول‬
‫شقَىا }[طه‪.]2 :‬‬
‫صلى ال عليه وسلم خاصة‪ ،‬وأن بعدها‪ {:‬مَآ أَنَزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لِتَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكن تلحظ هنا مفارقة‪ ،‬حيث نطق الطاء والهاء بدون الهمزة‪ ،‬مع أنها حروف مقطعة مثل الف‬
‫خفّفونها‪ ،‬كما في ذئب يقولون‪:‬‬
‫لم ميم‪ ،‬لكن لم ينطق الحرف كاملً‪ ،‬لنهم كانوا يستثقلون ال َهمْز فيُ َ‬
‫ذيب وفي بئر‪ ،‬يقولون‪ :‬بير‪ .‬وهذا النطق يُرجح القول بأنها اسم من أسماء النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫وسبق أنْ أوضحنا أن فواتح السور بالحروف المقطّعة تختلف عن باقي آيات القرآن‪ ،‬ف ُكلّ آيات‬
‫القرآن من بدايته لنهايته بُن َيتْ على ال َوصْل‪ ،‬وإنْ كان لك أن تقف؛ لذلك فكل المصاحف تُبنَى على‬
‫ال َوصْل في اليات وفي السور‪ ،‬فتنطق آخر السورة على الوصل ببسم ال الرحمن الرحيم في‬
‫السورة التي بعدها‪.‬‬
‫سمَعُ َلهُمْ ِركْزا }[مريم‪( ]98 :‬بسم ال الرحمن الرحيم) حتى‬
‫تقول‪َ {:‬هلْ ُتحِسّ مِ ْنهُمْ مّنْ َأحَدٍ َأوْ َت ْ‬
‫في آخر سور القرآن ونهايته تقول‪ {:‬مِنَ ا ْلجِنّ ِة وَالنّاسِ }[الناس‪( ]6 :‬بسم ال الرحمن الرحيم) مع‬
‫أنها آخر كلمة في القرآن‪ ،‬وماذا سيقول بعدها؟ لكنها جاءت على ال َوصْل إشارة إلى أن القرآن‬
‫موصولٌ أوّله بآخره‪ ،‬ل ينعزل بعضه عن بعض‪ ،‬فإياك أن تجف َوهُ‪ ،‬أو تظن أنك أنهيته؛ لن نهايته‬
‫موصولة ببدايته؛ فنقرأ { مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ } { بِسمِ ال الرّحْمانِ الرّحِيـمِ } الحمدُ لِ رب‬
‫العالمين‪....‬‬
‫إذن‪ :‬فالقرآن كله في كل جملة وكل آية وكل سورة مبنيّ على ال َوصْل‪ ،‬إل في فواتح السور‬
‫بالحروف المقطّعة تُبنَى على الوقف (ألف ـ لم ـ ميم)‪ ،‬وهذا وجه من وجوه العجاز‪ ،‬وأن‬
‫القرآن ليس ميكانيكا‪ ،‬بل كلم ُمعْجِز من ربّ العالمين‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالنبي صلى ال عليه وسلم أوضح استقللية هذه الحروف بذاتها‪ ،‬فقال " تعلموا هذا القرآن‪،‬‬
‫فإنكم تؤجرون بتلوته‪ ،‬بكل حرف عشر حسنات‪ ،‬أما إني ل أقول الم حرف‪ ،‬ولكن ألف حرف‪،‬‬
‫ولم حرف‪ ،‬وميم حرف‪ ،‬بكل حرف عشر حسنات "‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانة‪ { :‬مَآ أَنَزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ }‬

‫(‪)2333 /‬‬

‫شقَى (‪)2‬‬
‫مَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآَنَ لِ َت ْ‬

‫الشقاء‪ :‬هو التعب وال ّنصَب والكدّ‪ ،‬فالحق سبحانه ينفي عن رسوله صلى ال عليه وسلم التعب‬
‫بسبب إنزال القرآن عليه‪ ،‬إذن‪ :‬فما المقابل؟ المقابل‪ :‬أنزلنا عليك القرآن لتسعد‪ ،‬تسعد أولً بأن‬
‫اصطفاك لن تكون أَهْلً لنزول القرآن عليك‪ ،‬وتسعد بأن تحمل نفسك أولً على منهج ال و ِفعْل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الخير كل الخير‪.‬‬
‫شقَىا } [طه‪]2 :‬؟‪.‬‬
‫فلماذا ـ إذن ـ جاءتْ كلمة { لِ َت ْ‬
‫هذا كلم الكفار أمثال أبي جهل‪ ،‬ومُطعِم بن عدي‪ ،‬والنضر بن الحارث‪ ،‬والوليد بن المغيرة حينما‬
‫ذهبوا إلى النبي صلى ال عليه وسلم وقالوا له‪ :‬لقد أشقيتَ نفسك بهذه الدعوة‪.‬‬
‫وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن ال بعثني رحمة للعالمين "‪.‬‬
‫فقد بعث رسول ال ليسعد ويسعد معه قومه والناس أجمعين ل ليشقى ويُشقِي معه الناس‪ .‬لكن من‬
‫أين جاء الكفار بمسألة الشقاء هذه؟ المؤمن لو نظر إلى منهج ال الذي نزل به القرآن لوجده‬
‫يتدخل في إراداته واختياراته‪ ،‬ويقف أمام شهواته‪ ،‬فيأمره بما يكره وما يشقّ على نفسه‪ ،‬ويمنعه‬
‫مما يألَف ومما يحب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمنهج ال ضد مرادات الختيار‪ ،‬وهذا يُتعِب النفس ويشقّ عليها إذا عُزَِلتْ الوسيلة عن‬
‫غايتها‪ ،‬فنظرت إلى الدنيا والتكليف منفصلً عن الخرة والجزاء‪.‬‬
‫أمّا المؤمن فيقرن بين الوسيلة والغاية‪ ،‬ويتعب في الدنيا على أمل الثواب في الخرة‪ ،‬فيسعد بمنهج‬
‫ال‪ ،‬ل يشقى به أبدا‪ .‬كالتلميذ الذي يتحمل مشقّة الدرس والتحصيل؛ لنه يستحضر فَرْحة الفوز‬
‫والنجاح آخر العام‪.‬‬
‫من هنا رأى هؤلء الكفار في منهج ال مشقة وتعبا‪ ،‬لنهم عزلوا الوسيلة عن غايتها؛ لذلك‬
‫شعروا بالمشقة‪ ،‬في حين شعر المؤمنون بلذة العبادة ومتعة التكليف من ال‪ ،‬وهذه المسألة هي‬
‫ب لها‪ ،‬ول منهج‪ ،‬ول تكليف‪ ،‬آلهة يعبدونها على هواهم‪،‬‬
‫التي جعلتهم يتخذون آلهةً ل مطال َ‬
‫حلّ شعورهم‪.‬‬
‫ويسيرون في ظلها على َ‬
‫شقَىا } [طه‪:‬‬
‫لذلك أوضح القرآن أنهم مغفلون في هذه المسألة‪ ،‬فقال‪ { :‬مَآ أَنَزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لِتَ ْ‬
‫‪.]2‬‬
‫أو يكون الشقاء‪ :‬تعرّضه ِلعُتاة قريش وصناديدها الذين سخروا منه‪ ،‬وآذوه وسلّطوا عليه سفهاءهم‬
‫وصبيانهم‪ ،‬يشتمونه ويرمونه بالحجارة‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم يُشقِي نفسه بدعوتهم والحرص‬
‫على هدايتهم‪.‬‬
‫شقَىا } [طه‪]2 :‬‬
‫والحق تبارك وتعالى ينفي الشقاء بهذا المعنى أيضا‪ { :‬مَآ أَنَ َزلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لِتَ ْ‬
‫أي‪ :‬لتُشقي نفسك معهم‪ ،‬إنما أنزلناه لتبليغهم فحسب‪ ،‬وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيرا في‬
‫سكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ َأسَفا }[الكهف‪]6 :‬‬
‫مثل قوله تعالى‪ {:‬فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫ضعِينَ }[الشعراء‪.]4 :‬‬
‫سمَآءِ آ َيةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ‬
‫علَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ‬
‫وقوله‪ {:‬إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ َ‬
‫ل ـ ول المثَل العلى ـ برجل عنده عبدان‪ :‬ربط أحدهما إليه بحبل‪،‬‬
‫وسبق أنْ ضربنا لذلك مث ً‬
‫وأطلق الخر حُرا‪ ،‬فإذا ما دعاهما فاستجابا لمره‪ ،‬فأيهما أطوع له‪ ،‬وأكثر احتراما لمره؟‬
‫ل شكّ أنه الحر الطليق؛ لنه جاء مختارا‪ ،‬في حين كان قادرا على العصيان‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل تؤمن‪.‬‬
‫وكذلك ربك ـ تبارك وتعالى ـ يريد منك أن تأتيه حُرا مختارا مؤمنا‪ ،‬وأنت قادر أ ّ‬
‫والبعض يحلو لهم نقد السلم واتهام الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيقولون‪ :‬إن رسول ال‬
‫يخطىء وال يُصوّب له‪ ،‬ونتعجب‪ :‬وما يضيركم أنتم؟ طالما أن ربه هو الذي يُصوّب له‪ ،‬هل أنتم‬
‫صوّبتم لرسول ال!؟ ثم مَنْ أخبركم بخطأ رسول ال؟ أليس هو الذي أخبركم؟ أليس هذا من‬
‫الذين َ‬
‫قوة أمانته في التبليغ ويجب أن تحمد له؟‬
‫إذن‪ :‬فرسول ال صلى ال عليه وسلم ل يستنكف أنْ يُربّيه ربه؛ لذلك يقول‪ " :‬إنما أنا بشر يَرِد‬
‫عليّ ـ يعني من الحق ـ فأقول‪ :‬أنا لست كأحدكم‪ ،‬ويُؤخذ مني فأقول‪ :‬ما أنا إل بشر مثلكم "‪.‬‬
‫وقد تمحّك هؤلء كثيرا في قصة عبد ال بن أم مكتوم‪ ،‬حينما انشغل عنه رسول ال بكبار قريش‪،‬‬
‫والمتأمل في هذه القصة يجد أن ابن أم مكتوم كان رجلً مؤمنا جاء ليستفهم من رسول ال عن‬
‫سهْل‪ ،‬أمّا هؤلء فهم رؤوس الكفر وكبار القوم‪ ،‬ولديهم مع ذلك‬
‫شيء‪ ،‬فالكلم معه ميسور وأمر َ‬
‫لَدَد في خصومتهم للسلم‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم يحرص على هدايتهم ويُرهِق نفسه في‬
‫جدالهم أملً في أنْ يهدي ال بهم مَنْ دونهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬النبي في هذا الموقف اختار لنفسه الصعب‪ ،‬وربه يعاتبه على ذلك‪ ،‬فهو عِتَاب لصالحه‪ ،‬له‬
‫ل عليه‪.‬‬
‫خشَىا {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ِ } :‬إلّ َت ْذكِ َرةً ّلمَن يَ ْ‬

‫(‪)2334 /‬‬

‫إِلّا تَ ْذكِ َرةً ِلمَنْ َيخْشَى (‪)3‬‬

‫خوْف‬
‫خشَى) الخشية‪َ :‬‬
‫أي‪ :‬ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‪ ،‬وإنما أنزلناه (تذكرةً) أي تذكيرا (لمَنْ يَ ْ‬
‫بمهابة؛ لن الخوفَ قد يكون خوفا دون مهابة‪ ،‬أمّا الخوف من ال فخوْف ومهابة معا‪.‬‬

‫(‪)2335 /‬‬

‫سمَاوَاتِ ا ْلعُلَا (‪)4‬‬


‫ض وَال ّ‬
‫تَنْزِيلًا ِممّنْ خََلقَ الْأَ ْر َ‬

‫تنزيلً‪ :‬مصدر أي‪ :‬أنزلناه تنزيلً‪ ،‬وقد ورد في نزول القرآن‪ :‬أنزلناه‪ ،‬ونزلناه ونزل‪ ،‬يقول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شهْرٍ *‬
‫تعالى‪ {:‬إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ * َومَآ أَدْرَاكَ مَا لَيَْلةُ ا ْلقَدْرِ * لَيَْلةُ ا ْلقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَ ْلفِ َ‬
‫تَنَ ّزلُ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَالرّوحُ فِيهَا }[القدر‪1 :‬ـ ‪.]4‬‬
‫عدّة في النزول‪ ،‬فقد كان في اللوح المحفوظ‪ ،‬فأراد ال له أن يباشر القرآن‬
‫لن القرآن أخذ أدوارا ِ‬
‫مهمته في الوجود‪ ،‬فأنزله من اللوح المحفوظ مرة واحدة إلى السماء الدنيا‪ .‬فأنزله ـ أي ال تعالى‬
‫ـ ثم تَنزّل مُفرّقا حسْب الحداث من السماء الدنيا على قلب رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫لمِينُ }[الشعراء‪.]193 :‬‬
‫حاَ‬
‫والذي نزل به جبريل‪ {:‬نَ َزلَ بِهِ الرّو ُ‬
‫سمَاوَاتِ ا ْلعُلَى } [طه‪.]4 :‬‬
‫ق الَ ْرضَ وَال ّ‬
‫وقوله تعالى‪ّ { :‬ممّنْ خََل َ‬
‫خلْق ال‪ ،‬وقد أعدهما ال ليستقبل النسان‪ ،‬فالنسان‬
‫خصّ السموات والرض‪ ،‬لنها من أعظم َ‬
‫َ‬
‫طرأ على َكوْن ُمعَدّ جاهز لستقباله‪ ،‬فكان عليه ساعة أنْ يرى هذا الكون المُعدّ لخدمته بأرضه‬
‫وسمائه‪ ،‬ول قدرة له على تسيير شيء منها‪ ،‬كان عليه أن يُع ِملَ عقله‪ ،‬ويستدل بها على الموجد‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫كأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول لك‪ :‬إذا كان الخالق سبحانه قد أعدّ لك الكون بما يُقيم حياتك‬
‫المادية‪ ،‬أيترك حياتك المعنوية بدون عطاء؟‬
‫والخالق عز وجل خلق هذا الكون بهندسة قيومية عادلة حكيمة تُوفّر لخليفته في الرض استبقاءَ‬
‫حياته‪ ،‬وتعطيه كل ما يحتاج إليه بقدر دقيق‪ ،‬واستبقاء الحياة يحتاج إلى طعام وشراب وهواء‪ ،‬وقد‬
‫أعطاها ال للنسان بحكمة بالغة‪.‬‬
‫فالطعام يحتاجه النسان‪ ،‬ويستطيع أنْ يصبر عليه شهرا‪ ،‬دون أن يأكل‪ ،‬ويحتاج إلى الماء ولكن‬
‫ل يستطيع أنْ يصبر عليه أكثر من عشرة أيام‪ ،‬ويحتاج إلى الهواء ولكن ل يصبر عليه لحظةً‬
‫تستغرق عِدّة أنفاس‪.‬‬
‫ن يمتلك بعضُ الناس القوتَ‪ ،‬فالوقت أمامك طويل لتحتالَ على‬
‫لذلك‪ ،‬فمن رحمته تعالى بعباده أ ْ‬
‫كَسْبه‪ ،‬وقليلً ما يملك أحدٌ الماءَ‪ ،‬أما الهواء الذي ل صَبْر لك عليه‪ ،‬فمن حكمة ال أنه ل يملكه‬
‫أحد‪ ،‬وإل لو منع أحد عنك الهواء ل ُمتّ قبل أنْ يرضى عنك‪.‬‬
‫فمن حكمة ال أنْ خلق جسمك يستقبل مُقوّمات استبقاء الحياة فترة من الزمن تتسع للحيلة وللعطف‬
‫من الغير‪ ،‬وحين تأكل يأخذ الجسم ما يحتاجه على قَدْر الطاقة المبذولة‪ ،‬وما فاض يُختزَن في‬
‫جسمك على شكل دُهْن يُغذّي الجسم حين ل يتوفر الطعام‪.‬‬
‫ومن عجائب قدرة ال أن هذه المادة الدّهنية تتحول تلقائيا إلى أي مادة أخرى يحتاجها الجسم‪ ،‬فإن‬
‫احتاج الحديد تتحول كيماويا إلى الحديد‪ ،‬وإن احتاج الزرنيخ تتحول كيماويا إلى زرنيخ‪ ،‬وهي في‬
‫الواقع مادة واحدة‪ ،‬فمَنْ يقدر على هذه العملية غيره تعالى؟‬
‫وبعد أنْ أعطاك ما يستبقي حياتك من الطعام والشراب والهواء أعطاك ما يستبقي نوعك بالزواج‬
‫والتناسل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَاوَاتِ ا ْلعُلَى } [طه‪ ]4 :‬العل‪ :‬جمع عُليا‪ ،‬كما نقول في جمع كبرى‪ :‬كُبَر{ إِ ّنهَا‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬ال ّ‬
‫لِحْدَى ا ْلكُبَرِ }[المدثر‪.]35 :‬‬
‫وهكذا تكتمل مُقوّمات التكوين العالي لخليفة ال في الرض‪ ،‬فكما أعطاه ما يقيم حياته ونوعه‬
‫بخَلْق السموات والرض‪ ،‬أعطاه ما يُقيم معنوياته بنزول القرآن الذي يحرس حركاتنا من شراسة‬
‫الشهوات‪ ،‬فالذي أنزل القرآن هو الذي خلق الرض والسموات العل‪.‬‬
‫صفَة الرحمانية؛ لذلك قال بعدها‪:‬‬
‫والصفة البارزة في هذا التكوين العالي للنسان هي ِ‬
‫حمَـانُ عَلَى ا ْلعَرْشِ }‬
‫{ الرّ ْ‬

‫(‪)2336 /‬‬

‫حمَنُ عَلَى ا ْلعَرْشِ اسْ َتوَى (‪)5‬‬


‫الرّ ْ‬

‫فالية السابقة أعطتْنا مظهرا من مظاهر العطف والرحمة‪ ،‬وهذه تعطينا مظهرا من مظاهر ال َقهْر‬
‫والغَلَبة‪ ،‬واستواء الرحمن ـ تبارك وتعالى ـ على العرش يُؤخَذ في إطار‪.‬‬
‫شيْءٌ }[الشورى‪.]11 :‬‬
‫{ لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫وسبق أن تكلمنا في الصفات المشتركة بين الحق سبحانه وبين خَلْقه‪ ،‬فَلكَ سم ٌع وبصر‪ ،‬ول سمع‬
‫وبصر‪ ،‬لكن إياك أنْ تظن أن سمع ال كسمْعك‪ ،‬أو أن بصره كبصرك‪.‬‬
‫كذلك في مسألة الستواء على العرش‪ ،‬فاللحقّ سبحانه استواء على عرشه‪ ،‬لكنه ليس كاستوائك‬
‫أنت على الكرسي مثلً‪.‬‬
‫والعرش في عُرْف العرب هو سرير المْلك‪ ،‬وهل يجلس الملك على سريره ليباشر أمر مملكته‬
‫ويدير شئونها إل بعد أ نْ يستتبّ له المر؟‬
‫جلّ وعل ـ خلق الكون بأرضه وسمائه‪ ،‬وخلق الخَلْق‪ ،‬وأنزل القرآن لينظم‬
‫وكذلك الخالق ـ َ‬
‫حياتهم‪ ،‬وبعد أن استتبّ له المر لم يترك الكون هكذا يعمل ميكانيكيا‪ ،‬ولم ينعزل عن َكوْنه وعن‬
‫خَلْقه؛ لنهم في حاجة إلى قيوميته تعالى في خَلْقه‪.‬‬
‫ألم يقل الحق سبحانه في الحديث القدسي‪ " :‬يا عبادي ناموا ِملْءَ جفونكم‪ ،‬لنّي قَيّوم ل أنام "‪.‬‬
‫فكوْنُ ال ليس آل ًة تعمل من تلقاء نفسها‪ ،‬وإنما هو قائم بقيوميته عليه ل يخرج عنها؛ لذلك كانت‬
‫المعجزات التي تخرق نواميس الكون دليلً على هذه القيومية‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬لَهُ مَا فِي ال ّ‬

‫(‪)2337 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حتَ الثّرَى (‪)6‬‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا َومَا َت ْ‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لَهُ مَا فِي ال ّ‬

‫الحق ـ تبارك وتعالى ـ يمتنّ بما يملكه سبحانه في السموات وفي الرض وما تحت الثرى‪،‬‬
‫وال تعالى ل يمتنّ إل بملكية الشيء النفيس الذي يُنتفع به‪.‬‬
‫وكأنه سبحانه يلفت أنظار خَلْقه إلى ما في الكون من مُقوّمات حياتهم المادية ليبحثوا عنها‪،‬‬
‫ويستنبطوا ما ادّخره لهم من أسرار وثروات في السموات والرض‪ ،‬والناظر في حضارات المم‬
‫حفْريات الرض‪ ،‬أو من أسرار الفضاء العلى في عصر الفضاء‪.‬‬
‫يجد أنها جاءت إما َ‬
‫ولو فهم المسلمون هذه الية منذ نزلت لَعلموا أن في الرض وتحت الثرى وهو‪( :‬التراب) كنوزا‬
‫وثروات ما عرفوها إل في العصر الحديث بعد الكتشافات والحفريات‪ ،‬فوجدنا البترول والمعادن‬
‫والحجار الثمينة‪ ،‬كلها تحت الثّرى مطمورةً تنتظر مَنْ يُنقّب عنها وينتفع بها‪.‬‬
‫وقد أوضح العلماء أن هذه الثروات موزعة في أرض ال بالتساوي‪ ،‬بحيث لو أخذتَ قطاعاتٍ‬
‫متساوية من أراض مختلفة لوجدتَ أن الثروات بها متساوية‪ :‬هذه بها ماء‪ ،‬وهذه مزروعات‪،‬‬
‫وهذه معادن‪ ،‬وهذه بترول وهكذا‪ .‬فهي أشبه بالبطيخة حين تقسمها إلى قِطع متساوية من السطح‬
‫إلى المركز‪.‬‬
‫شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائِنُ ُه َومَا نُنَزّلُهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }[الحجر‪.]21 :‬‬
‫لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَإِن مّن َ‬
‫إذن‪ :‬فالخير موجود ينتظر القَدَر ليظهر لنا وننتفع به‪.‬‬
‫جهَرْ بِا ْلقَ ْولِ }‬
‫ثم يقول تبارك وتعالى‪ { :‬وَإِن َت ْ‬

‫(‪)2338 /‬‬

‫خفَى (‪)7‬‬
‫جهَرْ بِا ْل َق ْولِ فَإِنّهُ َيعْلَمُ السّ ّر وَأَ ْ‬
‫وَإِنْ تَ ْ‬

‫الحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يطلب من رسوله أن يذكر يريد منه أن يُذكّر تذكيرا مرتبطا‬
‫بنيته‪ ،‬ل ليقطع العَتْب عنه نفسه‪ ،‬فالمسألة ليست جهرا بالتذكير‪.‬‬
‫وإذا كان تعالى يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنني سأحرس سرك كما أحرس علنيتك‪ ،‬وأن‬
‫الجهر عندي مثل السر‪ ،‬بل وأخفى من السر‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم مؤتمن على الرسالة فإنه‬
‫تعالى يقول أيضا لمته‪ :‬إياكم أن تقولوا كلما ظاهره فيه الرحمة‪ ،‬ونيتكم غير مستقرة عليه؛ لن‬
‫ال كما يعلم الجهر يعلم السر‪ ،‬وما هو أخفى من السر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ص واحدا بأن تضع في أذنه‬
‫وتكلمنا عن الجهر‪ ،‬وهو أن تُسمع مَنْ يريد أن يسمع‪ ،‬والسر‪ :‬أن تخ ّ‬
‫كلما ل تحب أن يشيع عند الناس‪ ،‬وتهمس في أذنه بأنك المأمون على هذا الكلم‪ ،‬وأنت ترتاح‬
‫نفسيا حينما تُلقِي بسرّك إلى مَنْ تثق فيه‪ ،‬وتأمن َألّ يذيعه‪ ،‬وهناك في حياة كل منا أمور تضيق‬
‫ش ْكوَى إِلَى ذِي مُرُو َءةٍ‬
‫النفس بها‪ ،‬فل بُدّ لك أن تُنفّسَ عن نفسك‪ ،‬كما قال الشاعر‪َ :‬ولَ بُدّ مِنْ َ‬
‫جعُفأنت ـ إذن ـ في حاجة لمَنْ يسمع منك ليريحك‪ ،‬ويُنفّس عنك‪ ،‬ول‬
‫يوَاسِيكَ َأوْ يُسْلِيكَ َأوْ يتو ّ‬
‫يفضحك بما أسر ْرتَ إليه‪.‬‬
‫خفَى } [طه‪ ]7 :‬أي‪ :‬أَخْفى من السر‪ ،‬فإنْ كان سِرّك قد خرج من فمك إلى أذن‬
‫ومعنى { وََأ ْ‬
‫خفَى من السر‪ ،‬أي‪ :‬ما احتفظتَ به لنفسك ولم تتفوّه به لحد‪.‬‬
‫سامعك‪ ،‬فهناك ما هو أَ ْ‬
‫جهَرُواْ بِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ }[الملك‪ ]13 :‬أي‪:‬‬
‫لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَأَسِرّواْ َقوَْلكُمْ َأوِ ا ْ‬
‫مكنوناتها قبل أن تصير كلما‪.‬‬
‫سوِسُ بِهِ َنفْسُهُ }[ق‪ ]16 :‬فوسوسة النفس‪ ،‬وذات الصدور هي الَخْفى من‬
‫وقال أيضا‪ {:‬وَ َنعْلَمُ مَا ُتوَ ْ‬
‫جهْر‪ ،‬وسِرّ‪ ،‬وأخفى من السر‪ ،‬لكن بعض العارفين يقول‪ :‬وهناك في علم‬
‫السر‪ ،‬فلديْنَا ـ إذن ـ َ‬
‫ال ما هو أخْفى من الَخفى‪ ،‬فما هو؟ يقول‪ :‬إنه تعالى يعلم ما سيكون في النفس قبل أن يكون‪.‬‬
‫وبعد ذلك جاء الحق سبحانه بالكلمة التي بعث عليها الرسل جميعا‪ { :‬اللّهُ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }‬

‫(‪)2339 /‬‬

‫سمَاءُ ا ْلحُسْنَى (‪)8‬‬


‫اللّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ لَهُ الْأَ ْ‬

‫هذه الكلمة (ل إله إل هو) هي قمة العقيدة‪ ،‬وقال عنها النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬خير ما قلته‬
‫أنا والنبيون من قبلي‪ :‬ل إله إل ال "‪.‬‬
‫وما دام ل إله إل ال‪ ،‬فهو سبحانه المؤْتَمن عليك‪ ،‬فليس هناك إله آخر يُعقّب عليه‪ ،‬فاعمل لوجهه‬
‫يكْفك كل الوجه وتريح نفسك أن تتنازعك قوى شتى ومختلفة‪ ،‬ويُغنيك عن كل غنى‪.‬‬
‫" وحينما دخل أعرابي على رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يتكلم مع أبي بكر ـ رضي ال‬
‫عنه ـ لم يفهم من كلمهما شيئا‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال أنا ل أُحسن دندنتك ول دندنة أبي بكر‪ ،‬أنا‬
‫حوْلَها ندندن يا أخا‬
‫ل أعرف إل‪ :‬ل إله إل ال محمد رسول ال‪ .‬فقال صلى ال عليه وسلم‪َ " :‬‬
‫العرب "‪.‬‬
‫فهي الساس والمركز الذي يدور حوله السلم‪.‬‬
‫وكلمة (الُ) عَلَم على واجب الوجود بكل صفات الكمال له‪ ،‬فهو ال الموجود‪ ،‬ال القادر‪ ،‬ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العالم‪ ،‬ال الحيّ‪ ،‬ال المحيي‪ ،‬ال الضار‪ .‬فكل هذه صفات له سبحانه‪ ،‬لكن هذه الصفات لما بلغتْ‬
‫حدّ الكمال فيه تعالى أصبحتْ كالسم العَلَم‪ ،‬بحيث إذا أُطلِق الخالق ل ينصرف إل له‪ ،‬والرازق ل‬
‫َ‬
‫ينصرف إل له‪.‬‬
‫سمَةَ ُأوْلُواْ‬
‫حضَرَ ا ْلقِ ْ‬
‫وقد يشترك الخلْق مع الخالق في بعض الصفات‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَإِذَا َ‬
‫ا ْلقُرْبَىا وَالْيَتَامَىا وَا ْلمَسَاكِينُ فَارْ ُزقُوهُمْ }[النساء‪.]8 :‬‬
‫فالنسان أيضا يرزق‪ ،‬لكن رزقه من باطن رزق ال‪ ،‬فهو سبحانه الرازق العلى‪ ،‬ومن َبحْره‬
‫يغترف الجميع‪.‬‬
‫حسَنُ الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون‪ ]14 :‬وقال تعالى‪ {:‬وَتَخُْلقُونَ ِإفْكا }‬
‫وكما في قوله تعالى‪ {:‬فَتَبَا َركَ اللّهُ أَ ْ‬
‫[العنكبوت‪.]17 :‬‬
‫ومعنى ذلك أن هناك خالقين غيره سبحانه‪ ،‬ومعنى الخَلْق‪ :‬اليجاد من عدم‪ ،‬فالذي جاء بالرمل‬
‫وصنع منه كوبا فهو خالق للكوب‪ ،‬فأنت أوجدتَ شيئا من عدم‪ ،‬وال تعالى أوجد شيئا من عدم‪،‬‬
‫ولكنك أوجدت من موجود ال قبل أن توجد أنتَ‪ ،‬فهو ـ إذن ـ أحسن الخالقين في حين لم يضِنّ‬
‫ن ينصفك ويسميك خالقا‪ .‬وهذا يوجب عليك أنْ تنصفه سبحانه وتقول{ َأحْسَنُ‬
‫عليك ربك بأ ْ‬
‫الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون‪.]14 :‬‬
‫وأيضا‪ ،‬فإن ال تعالى إذا احترم إيجادك لمعدوم فسمّاك خالقا له‪ ،‬ولم َيضِنّ عليك فأعطاك صفة‬
‫من صفاته إنما أخبرك أنه أحسن الخالقين؛ لنك تُوجِد معدوما يظل على إيجادك ويجمد على هذه‬
‫الحالة‪ ،‬لكن الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ يُوجِد معدوما ويمنحه الحياة‪ ،‬ويجعله يتلقى بمثله‬
‫ويُنجب‪ ،‬فهل يستطيع النسان الذي أوجد كوبا أن يجعل منه ذكرا وأنثى ينتجان لنا الكواب؟!‬
‫وهل يكبر الكوب الصغير‪ ،‬أو يتألم إنْ كُسِر مثلً؟!‬
‫إذن‪ :‬فالخالق سبحانه هو أحسن الخالقين‪ ،‬وكذلك هو خير الرازقين‪ ،‬وخَيْر الوارثين‪ ،‬وخَيْر‬
‫الماكرين‪.‬‬

‫حسْنَىا { [طه‪ ]8 :‬الحُسْنى‪ :‬صيغة تفضيل للمؤنث مثل‪ :‬كُبْرى‪ ،‬تقابل‬


‫سمَآءُ الْ ُ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬لَ ُه الَ ْ‬
‫" أحسن " للمذكر‪ .‬إذن‪ :‬فهناك أسماء حسنة هي أسماء الخَلْق‪ ،‬أما أسماء ال فحسنى؛ لنها بلغتْ‬
‫القمة في الكمال‪ ،‬ولن السماء والصفات التي تنطبق عليها موجودة في الخالق العلى سبحانه‪،‬‬
‫حسْنى ل الحسنة‪.‬‬
‫فحين تقول في أسماء ال تعالى (الرازق) فهي الصفة ال ُ‬
‫لذلك لما أراد رجل ُيدْعى (سعد) أن يشاور أباه في خطبة ابنته حسنى وقد تقدم لها رجلن‪ :‬حسن‬
‫وأحسن‪ .‬فقال له أبوه (فحسنى يا سعد للحسن)‪.‬‬
‫حسْنَىا وَزِيَا َدةٌ }[يونس‪ ]26 :‬فلم يقل‪ :‬حسنة‪ ،‬لنهم أحسنوا فاستحقوا‬
‫حسَنُواْ الْ ُ‬
‫وقال تعالى‪ {:‬لّلّذِينَ أَ ْ‬
‫حسْنى بل وزيادة‪.‬‬
‫ال ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأسماء ال تعالى هي في الحقيقة صفات‪ ،‬إل أنها لما أُطلِقت على الحق ـ تبارك وتعالى ـ‬
‫أصبحتْ أسماء‪ .‬وَلكَ أنْ تُسمّى فتاة زنجية (قمر) وتسمى قِزْما (الطويل) لن السم إذا أُطلِق عَلَما‬
‫على الغير انحلّ عن معناه الصلي ولزم العَلَمية فقط‪ ،‬لكن أسماء ال بقيتْ على معناها الصلي‬
‫حتى بعد أنْ أصبحتْ عَلَما على ال تعالى‪ ،‬فهي ـ إذن ـ أسماء حُسْنى‪.‬‬
‫وبعد أن تكلّم الحق ـ تبارك وتعالى ـ عن الرسول الخاتم صاحب المنهج الخاتم ـ فليس بعده‬
‫نبي وليس بعد منهجه منهج ـ أراد سبحانه أنْ يُسلّيه تسليةً تُبيّن مركزه في موكب الرسالت‪،‬‬
‫وأنْ يعطيه نموذجا لمن سبقوه من الرسل‪ ،‬وكيف أن كل رسول تعب على َقدْر رسالته‪ ،‬فإنْ كانت‬
‫الرسالت السابقة محدودة الزمان محدودة المكان‪ ،‬ومع ذلك تعب أصحابها في سبيلها‪ ،‬فما بالك‬
‫برسول جاء لكل الزمان ولكل المكان؟ ل بُدّ أنه سيواجه من المتاعب مثل هؤلء جميعا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فوطّن نفسك يا محمد على أنك ست ْلقَى من المتاعب والصعاب ما يناسب عظمتك في الرسالة‬
‫وخاتميتك للنبياء‪ ،‬وامتداد رسالتك في الزمان إلى أنْ تقومَ الساعة‪ ،‬وفي المكان إلى ما اتسعتْ‬
‫الرض‪.‬‬
‫لذلك اختار الحق ـ تبارك وتعالى ـ لرسوله صلى ال عليه وسلم نبيا من أُولي العزم؛ لنه جاء‬
‫لبني إسرائيل وجاء لفرعون‪ ،‬وقد كان بنو إسرائيل قوما ماديين‪ ،‬أما فرعون فقد ادّعى اللوهية‪،‬‬
‫اختار موسى ـ عليه السلم ـ ليقصّ على رسول ال قصته ويُسلّيه فيما يواجهه من متاعب‬
‫ك وَجَآ َءكَ فِي هَـا ِذهِ‬
‫سلِ مَا نُثَ ّبتُ ِبهِ ُفؤَا َد َ‬
‫الدعوة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ‬
‫ق َو َموْعِظَ ٌة وَ ِذكْرَىا لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[هود‪.]120 :‬‬
‫حّ‬‫الْ َ‬
‫سلِ }[الحقاف‪.]9 :‬‬
‫وقال تعالى‪ُ {:‬قلْ مَا كُنتُ بِدْعا مّنَ الرّ ُ‬
‫فأنت يا محمد كغيرك من الرسل‪ ،‬وقد وجدوا من المشقة على قَدْر رسالتهم‪ ،‬وسوف تجد أنت‬
‫أيضا من المشقة على قَدْر رسالتك‪ .‬ونضرب لذلك مثلً بالتلميذ الذي يكتفي بالعدادية وآخر‬
‫شكّ أن كلّ منهم يبذل من الجهد على َقدْر‬
‫بالثانوية أو الجامعة‪ ،‬وآخر يسعى للدكتوراة‪ ،‬فل َ‬
‫مهمته‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى‪ } :‬وَ َهلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىا {‬

‫(‪)2340 /‬‬

‫وَ َهلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (‪)9‬‬

‫إذا جاء الستفهام من ال تعالى فاعلم أنه استفهام على غير حقيقته‪ ،‬فل يُرَاد هنا طب الفهم‪ ،‬لن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أخبار محمد تأتيه من ربه ـ عز وجل ـ فكيف يستفهم منه‪ .‬إنما المراد بالستفهام هنا التشويق‬
‫لما سيأتي كما تقول لصاحبك‪ :‬هل بلغك ما حدث بالمس؟ فيُشوّقه لسماع ما حدث‪.‬‬
‫والحديث‪ :‬أي الخبر عنه سواء أكان بالوحي‪ ،‬أو بغير الوحي‪ ،‬كأن حكيت له قصة موسى عليه‬
‫ل لَهْلِهِ }‬
‫السلم‪ ..‬فهل بلغتْك هذه القصة؟ اسمعها الن مني‪ { :‬إِذْ رَأَى نَارا َفقَا َ‬

‫(‪)2341 /‬‬

‫ستُ نَارًا َلعَلّي آَتِي ُكمْ مِ ْنهَا ِبقَبَسٍ َأوْ َأجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى (‪)10‬‬
‫إِذْ رَأَى نَارًا َفقَالَ لِأَهِْلهِ ا ْمكُثُوا إِنّي آَنَ ْ‬

‫نلحظ هنا أن السياق لم يذكر قصة موسى من أولها لما قال تعالى‪ {:‬وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ‬
‫ضعِيهِ }[القصص‪ ]7 :‬ثم خروجه من المدينة خائفا وذهابه إلى شعيب‪ ..‬الخ‪ ،‬وإنما قصد إلى‬
‫أَ ْر ِ‬
‫مَنَاط المر‪ ،‬وهي الرسالة مباشرة‪.‬‬
‫جدُ عَلَى النّارِ ُهدًى } [طه‪ ]10 :‬آنست‪ :‬أي‬
‫ستُ نَارا ّلعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا ِبقَبَسٍ َأوْ أَ ِ‬
‫وقوله‪ { :‬إِنّي آ َن ْ‬
‫أبصرت‪ ،‬وشعرت بشيء يستأنس به ويُفرَح به ويُطمأن إليه‪ ،‬ومقابلها (توجست) للشر الذي يخاف‬
‫منه كما في قوله‪ {:‬فََأوْجَسَ فِي َنفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىا }[طه‪.]67 :‬‬
‫(لَعلّى) رجاء أنْ أجدَ فيها القبس‪ ،‬وهو شعلة النار التي تُتّخذ من النار إنْ إدركت النار وهي ذات‬
‫َلهَب‪ ،‬فتأخذ منها عودا مشتعلً مثل الشمعة‪.‬‬
‫وفي سياق آخر قال‪( :‬جذوة) وهي النار حينما ينطفىء لهبها ويبقى منها جمرات يمكن أن تشعل‬
‫شهَابٍ قَبَسٍ }[النمل‪.]7 :‬‬
‫منها النار‪ .‬وفي موضع آخر قال‪ {:‬سَآتِي ُكمْ مّ ْنهَا بِخَبَرٍ َأوْ آتِيكُمْ بِ ِ‬
‫وهذه كلها صور متعددة‪ ،‬وحالت للنار‪ ،‬ليس فيها تعارض كما يحلو للبعض أن يقول‪ ،‬فموسى‬
‫عليه السلم حينما قال { ّلعَلّي آتِي ُكمْ } [طه‪ ]10 :‬يرجو أن يجد القبس‪ ،‬لكن ل يدري حال النار‬
‫عندما يأتيها‪ ،‬أتكون قَبَسا أم جَذوة؟‬
‫وقد طلب موسى ـ عليه السلم ـ القَبَس لهله؛ لنهم كانوا في ليلة مطيرة شديدة البرد‪ ،‬وهم‬
‫غرباء ل يعلمون شيئا عن المكان‪ ،‬فهو غير مطروق لهم فيسيرون ل يعرفون لهم اتجاها‪ ،‬فماذا‬
‫يفعل موسى عليه السلم ومعه زوجته وولده الصغير وخادمه؟‬
‫إنهم في أمسّ الحاجة للنار‪ ،‬إما للتدفئة في هذا الجو القارس‪ ،‬وإما لطلب هداية الطريق‪ ،‬لذلك قال‪:‬‬
‫{ َأوْ َأجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى } [طه‪ ]10 :‬أي‪ :‬هاديا يدلّنا على الطريق‪.‬‬
‫وفي موضع آخر قال‪ّ {:‬لعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا ِبخَبَرٍ }[القصص‪.]29 :‬‬
‫ستُ نَارا }‬
‫لذلك لما أبصر موسى عليه السلم النار أسرع إليها بعد أنْ طمأن أهله‪ { :‬ا ْمكُثُواْ إِنّي آنَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[طه‪.]10 :‬‬
‫وهذه المسألة من قصة موسى كانت مثَارَ تشكيك من خصوم السلم‪ ،‬حيث وجدوا سياقات مختلفة‬
‫ستُ نَارا ّلعَلّي آتِيكُمْ } [طه‪ ،]10 :‬وفي موضع آخر‬
‫لقصة واحدة‪ ،‬فمرة يقول‪ { :‬ا ْمكُثُواْ إِنّي آ َن ْ‬
‫يقول‪ّ {:‬لعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا ِبخَبَرٍ }[القصص‪.]29 :‬‬
‫جدُ عَلَى النّارِ‬
‫ومرة يقول‪( :‬قَبَس) وأخرى يقول (بِشهَابٍ قَ َبسٍ) ومرة (بجَ ْذوَة) ومرة يقول‪َ { :‬أوْ أَ ِ‬
‫هُدًى } [طه‪ ]10 :‬ومرة يقول‪ّ {:‬لعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا بِخَبَرٍ }[القصص‪.]29 :‬‬
‫والمتأمل في الموقف الذي يعيشه الن موسى وامرأته وولده الصغير وخادمه في هذا المكان‬
‫المنقطع وقد أكفهرّ عليهم الجو‪ ،‬يجد اختلف السياق هنا أمرا طبيعيا‪ ،‬فكلّ منهم يستقبل الخبر من‬
‫موسى بشكل خاص‪ ،‬فلما رأى النار وأخبرهم بها أراد أنْ يُطمئنهم فقال‪ {:‬سَآتِيكُمْ }[النمل‪ ]7 :‬فلما‬
‫رآهم مُتعلّقين به يقولون‪ :‬ل تتركنا في هذا المكان قال‪ { :‬ا ْمكُثُواْ } [طه‪ ]10 :‬وربما قال هذه‬
‫لزوجه وولده وقال هذه لخادمه‪ .‬فل بُدّ أنهم راجعوه‪ .‬فاختلفت القوال حول الموقف الواحد‪.‬‬
‫جذْوةٍ لنه حين قال‪ّ { :‬لعَلّي آتِيكُمْ } [طه‪ ]10 :‬يرجو أن يجد هناك القبس‪،‬‬
‫كذلك في قوله‪ :‬قَبَسٍ أو َ‬
‫لكن لعله يذهب فيجد النار جَذْوة‪ .‬وفي مرة أخرى يجزم فيقول‪ {:‬سَآتِيكُمْ }[النمل‪.]7 :‬‬
‫ت الكلمات لن الموقف قابلٌ للمراجعة‪،‬‬
‫إذن‪ :‬هي لقطات مختلفة تُكوّن نسيج القصة الكاملة‪ ،‬وتعدد ْ‬
‫ول ينتهي بكلمة واحدة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فََلمّآ أَتَاهَا نُو ِديَ }‬

‫(‪)2342 /‬‬

‫فََلمّا أَتَاهَا نُو ِديَ يَا مُوسَى (‪)11‬‬

‫يقال‪ :‬إن موسى عليه السلم لما أتاها وجد نورا يتلل في شجرة‪ ،‬لكن ل خضرةُ الشجرة تؤثر في‬
‫النور فتبهته‪ ،‬ول النورُ يطغي على خضرة الشجرة فيمنع عنها الخضرة‪ ،‬فهي ـ إذن ـ مسألة‬
‫عجيبة ل يقدر عليها إل ال‪.‬‬
‫فكانت هذه النار هي أول اليناس لموسى في هذا المكان الموحِش‪ ،‬وكأن هذا المنظر العجيب‬
‫الذي رآه إعداد إلهي لموسى حتى يتلقّى عن ربه‪ ،‬فليستْ المسألة مجرد منظر طبيعي‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬نُو ِديَ يامُوسَىا } [طه‪ ]11 :‬أي‪ :‬في هذه الدهشة { نُو ِديَ } [طه‪ ]11 :‬فالذي يناديه‬
‫يعرفه تماما؛ لذلك ناداه باسمه { يامُوسَىا } [طه‪ ]11 :‬وما دام المر كذلك فطَمع الخير فيه‬
‫موجود‪ ،‬وبدأ موسى يطمئن إلى مصدر النداء‪ ،‬ويأنَسُ به‪ ،‬ويبحث عن مصدر هذا الصوت‪ ،‬ول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يعرف من أين هو؛ لذلك اعتبرها مسألة عجيبة مثل منظر الشجرة التي ينبعث منها النور‪.‬‬
‫{ إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ فَاخْلَعْ َنعْلَ ْيكَ }‬

‫(‪)2343 /‬‬

‫طوًى (‪)12‬‬
‫إِنّي أَنَا رَ ّبكَ فَاخَْلعْ َنعْلَ ْيكَ إِ ّنكَ بِا ْلوَادِ ا ْل ُمقَدّسِ ُ‬

‫فساعة أنْ كلّمه ربه‪ { :‬إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ } [طه‪ ]12 :‬أزال ما في نفسه من العجب والدهشة لما رآه‬
‫وسمعه‪ ،‬وعلم أنها من ال تعالى فاطمأنّ واستبشر أنْ يرى عجائب أخرى؟‬
‫ونلحظ في قوله تعالى‪ { :‬إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ } [طه‪ ]12 :‬أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يتحدّث‬
‫عن ذاته تعالى يتحدث بضمير المفرد { إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ } [طه‪ ]12 :‬وحينما يتحدث عن ِفعْله يتحدث‬
‫بصيغة الجمع‪ ،‬كما في قوله عز وجل‪ {:‬إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ }[القدر‪ {]1 :‬إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا‬
‫ض َومَنْ عَلَ ْيهَا }[مريم‪.]40 :‬‬
‫ث الَ ْر َ‬
‫ال ّذكْرَ }[الحجر‪ {]9 :‬إِنّا نَحْنُ نَ ِر ُ‬
‫فلماذا تكلّم عن الفعل بصيغة الجمع‪ ،‬في حين يدعونا إلى توحيده وعدم الشراك به؟ قالوا‪ :‬الكلم‬
‫لةَ‬
‫عن ذاته تعالى ل ُبدّ فيه من التوحيد‪ ،‬كما في‪ {:‬إِنّنِي أَنَا اللّهُ ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وََأقِمِ الصّ َ‬
‫لِ ِذكْرِي }[طه‪.]14 :‬‬
‫لكن في الفعل يتكلم بصيغة الجمع؛ لن الفعل يحتاج إلى صفات متعددة وإمكانات شتّى‪ ،‬يحتاج‬
‫إلى إرادة تريده‪ ،‬وقدرة على تنفيذه وإمكانات وعلم وحكمة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كل صفات الحق تتكاتف في الفعل؛ لذلك جاء الحديث عنه بصيغة الجمع‪ ،‬ويقولون في النون‬
‫ث الَ ْرضَ }[مريم‪ ]40 :‬أنها‪ :‬نون التعظيم‪.‬‬
‫في قوله‪ {:‬نَزّلْنَا ال ّذكْرَ }[الحجر‪ {]9 :‬نَ ِر ُ‬
‫وقد جاء الخطاب لموسى بلفظ الربوبية { إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ } [طه‪ ]12 :‬ليناس موسى؛ لن الربوبية‬
‫عطاء‪ ،‬فخطابه (بربك) أي الذي يتولّى رعايتك وتربيتك‪ ،‬وقد خلقك من عَدَم‪ ،‬وأمدك من عُدم‪،‬‬
‫ولم ي ُقلْ‪ :‬إني أنا ال؛ لن اللوهية مطلوبها تكليف وعبادة وتقييد للحركة بافعل كذا ول تفعل كذا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ } [طه‪ ]12 :‬أي‪ :‬ربك أنت بالذات ل الرب المطلق؛ لن الرسل‬
‫مختلفون عن الخَ ْلقِ جميعا‪ ،‬فلهم تربية مخصوصة‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه‪:‬‬
‫‪ ]39‬وقال‪ {:‬وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي }[طه‪.]41 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق تبارك وتعالى يُربّي الرسل تربيةً تناسب المهمة التي سيقومون بها‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَاخْلَعْ َنعْلَ ْيكَ } [طه‪ ]12 :‬هذا أول أمر‪ ،‬وخَ ْلعِ النعل للتواضع وإظهار المهابة؛‬
‫طوًى } [طه‪ ]12 :‬فاخلع نعليك حتى ل تفصل‬
‫ولن المكان مُقدّس والعلة { إِ ّنكَ بِا ْلوَادِ ا ْل ُمقَدّسِ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بينك وبين مباشرة ذرات هذا التراب‪.‬‬
‫ومن ذلك ما نراه في مدينة رسول ال من أناس يمشون بها حافيي القدام‪ ،‬يقول أحدهم‪ :‬لَعلّي‬
‫أصادف بقدمي موضع قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫طوًى } [طه‪ ]12 :‬اسم الوادي وهذا كلم عام جاء تحديده في موضع آخر‪ ،‬فقال‬
‫وقوله‪ُ { :‬‬
‫سبحانه‪ {:‬فََلمّآ أَتَاهَا نُو ِديَ مِن شَاطِىءِ ا ْلوَادِي الَ ْيمَنِ فِي الْ ُب ْقعَةِ ا ْلمُبَا َركَةِ مِنَ الشّجَ َرةِ }[القصص‪:‬‬
‫‪.]30‬‬
‫والبعض يرى في الية تكرارا‪ ،‬وليست الية كذلك‪ ،‬إنما هو تأسيس لكلم جديد يُوضّح ويُحدّد‬
‫مكان الوادي المقدس طوى أين هو‪ ،‬فإنْ قلتَ‪ :‬أين طوى؟ يقول لك‪ :‬في الواد اليمن‪ ،‬لكن الواد‬
‫اليمن نفسه طويل‪ ،‬فأين منه هذا المكان؟ يقول لك‪ :‬عند البقعة المباركة من الشجرة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالية الثانية تحدد لك المكان‪ ،‬كما تقول أنت‪ :‬أسكن في حي كذا‪ ،‬وفي شارع كذا‪ ،‬في رقم‬
‫كذا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَأَنَا اخْتَرْ ُتكَ فَاسْ َتمِعْ }‬

‫(‪)2344 /‬‬

‫وَأَنَا اخْتَرْ ُتكَ فَاسْ َت ِمعْ ِلمَا يُوحَى (‪)13‬‬

‫أي‪ :‬وإنْ كنتُ ربا لك وربا للكافرين فسوف أزيدك خصوصية لك { وَأَنَا اخْتَرْ ُتكَ } [طه‪ ]13 :‬أي‪:‬‬
‫للرسالة‪ ،‬وال أعلم حيث يجعل رسالته‪.‬‬
‫لذلك لم نزل القرآن على سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ما اعترض كفار مكة على‬
‫القرآن‪ ،‬ولم يجدوا فيه عيبا فيما يدعو إليه من أخلق فاضلة ومُثل عليا‪ ،‬ولم يجدوا فيه مَأْخذا في‬
‫أسلوبه‪ ،‬وهم أمة ألِفتْ السلوب الجيد‪ ،‬وعَش َقتْ آذانها فصاحة الكلم‪ ،‬فتوجهوا بنقدهم إلى رسول‬
‫عظِيمٍ }[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ‬
‫ال فقالوا‪َ {:‬لوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ‬
‫فكلّ اعتراضهم أنْ ينزلَ القرآن على محمد بالذات؛ لذلك َردّ عليهم القرآن بما يكشف غباءهم في‬
‫ح َمتَ رَ ّبكَ }[الزخرف‪ ]32 :‬كيف ونحن قد قسمنا بينهم‬
‫سمُونَ َر ْ‬
‫هذه المسألة‪ ،‬فقال‪ {:‬أَ ُهمْ َيقْ ِ‬
‫سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ }[الزخرف‪.]32 :‬‬
‫معيشتهم الدْنى‪َ {:‬نحْنُ قَ َ‬
‫ن يقسموا رحمة ال فيقولون‪ :‬نزل هذا على هذا‪ ،‬وهذا على هذا؟‬
‫وهم يريدون أ ْ‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬فَاسْ َتمِعْ ِلمَا يُوحَى } [طه‪ ]13 :‬مادة‪ :‬سمع‪ .‬منها‪ :‬سمع‪ ،‬واستمع وتسمّع‪ .‬قولنا‪:‬‬
‫سمع أي مصادفة وأنت تسير في الطريق تسمع كلما كثيرا‪ .‬منه ما يُهمك وما ل يهمك‪ ،‬فليس‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على الذن حجاب يمنع السمع كالجفْنِ للعين‪ ،‬مثلً حين ترى منظرا ل تحبه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أنت تسمع كل ما يصل إلى أذنك‪ ،‬فليس لك فيه خيار‪.‬‬
‫إنما‪ :‬استمع أنْ تتكلّف السماع‪ ،‬والمتكلم حُر في أنْ يتكلم أو ل يتكلم‪.‬‬
‫وتسمّع‪ .‬أي‪ :‬تكلّف أشدّ تكلّفا لكي يسمع‪.‬‬
‫لذلك؛ فالنبي صلى ال عليه وسلم حين يخبر أنه ستُعم بلوى الغِنَاء‪ ،‬وستنتشر الجهزة التي ستشيع‬
‫هذه البلوى‪ ،‬وتصبها في كل الذان رَغْما عنها يقول‪ " :‬مَنْ تسمّع إلى قَيْنة صب النك في أذنيه "‪.‬‬

‫أي‪ :‬تكلّف أنْ يسمع‪ ،‬وتعمّد أن يوجه جهاز الراديو أو التلفزيون إلى هذا الغناء‪ ،‬ولم يقُل‪ :‬سمع‪،‬‬
‫وإلّ فالجميع يناله من هذا الشر رَغْما عنه‪.‬‬
‫ن يتكلم‪ ،‬ومعنى‪ :‬استمع‬
‫وهنا قال تعالى‪( :‬فَاسْ َتمِعْ) ولم يقُلْ‪ :‬تسمّع‪ :‬لنه ل يقترح على ال تعالى أ ْ‬
‫أي‪ :‬جَنّد كلّ جوارحك‪ ،‬وهيىء ُكلّ حواسّك لن تسمع‪ ،‬فإنْ كانت الذن للسمع‪ ،‬فهناك حواسّ‬
‫أخرى يمكن أنْ تشغلها عن النتباه‪ ،‬فالعين تبصر‪ ،‬والنف يشمّ‪ ،‬واللسان يتكلم‪.‬‬
‫فعليك أنْ تُجنّد كل الحواسّ لكي تسمع‪ ،‬وتستحضر قلبك لتعي ما تسمعه‪ ،‬وتنفذ ما طلب منك؛‬
‫لذلك حين تخاطب صاحبك فتجده مُنْشغِلً عنك تقول‪ :‬كأنك لست معنا‪ .‬لماذا؟ لن جارحة من‬
‫جوارحه شردتْ‪ ،‬فشغلتْه عن السماع‪.‬‬
‫ي ليّ في أيّ‪ ،‬خيرا كان‬
‫وقوله تعالى‪ِ { :‬لمَا يُوحَى } [طه‪ ]13 :‬الوحي عموما‪ :‬إعلم بخفاء من أ ّ‬
‫أم شرا‪ ،‬أمّا الوحي الشرعي فهو‪ :‬إعلم من ال إلى رسول أرسله بمنهج خَيْر للعباد‪ ،‬فإنْ كان‬
‫الوحي من ال إلى أم موسى مثلً‪ ،‬أو إلى الحواريين فليس هذا من الوحي الشرعي‪.‬‬

‫ي ليّ في أيّ‪.‬‬
‫وهكذا تحدّ َدتْ من أ ّ‬
‫عُلوّها بالبشرية في‬
‫لكن‪ ،‬كيف ينزل الوحي من ال تعالى على الرسول؟ كيف تلتقى اللوهية في ُ‬
‫ل َومِنَ النّاسِ }‬
‫طفِي مِنَ ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُ ً‬
‫دُنوها؟ إذن‪ :‬ل ُبدّ من واسطة؛ لذلك قال تعالى‪ {:‬اللّهُ َيصْ َ‬
‫[الحج‪.]75 :‬‬
‫فالمصطفى من الملئكة يتقبّل من ال‪ ،‬ويعطي للمصطفى من البشر؛ لن العلى ل يمكن أنْ‬
‫سلَ رَسُولً‬
‫حجَابٍ َأوْ يُ ْر ِ‬
‫ل وَحْيا َأوْ مِن وَرَآءِ ِ‬
‫يلتقي بالدنى مباشرة{ َومَا كَانَ لِ َبشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ‬
‫حيَ بِإِذْنِهِ مَا َيشَآءُ }[الشورى‪.]51 :‬‬
‫فَيُو ِ‬
‫فاستعداد النسان وطبيعته ل تُؤهّله لهذا اللقاء‪ ،‬كيف ولما تجلّى الحق ـ سبحانه ـ للجبل جعله‬
‫حسّه بأيّ حاسة من حواسنا‪،‬‬
‫َدكّا‪ ،‬ومن عظمته سبحانه أننا ل نراه ول نتكلم معه مباشرة‪ ،‬ول نُ ِ‬
‫ولو حُسّ الله بأيّ حاسة ما استحق أنْ يكونَ إلها‪.‬‬
‫حسّ الحق ـ تبارك وتعالى ـ ومن خَلْقه وصَنْعته مَا ل ُيحَسّ‪ ،‬كالروح مثلً؟ فنحن ل‬
‫وكيف يُ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسّها بأيّ حاسّة من حواسنا‪ ،‬فإذا كانت الروح المخلوقة لم نستطع‬
‫نعلم كُنْهها‪ ،‬ول أين هي‪ ،‬ول نُ ِ‬
‫أنْ ندركها‪ ،‬فكيف ندرك خالقها؟‬
‫الحق الذي يدّعيه الناس ويتمسّحون فيه‪ ،‬ويفخر كل منهم أنه يقول كلمة الحق‪ ،‬وكذلك العدل‬
‫وغيرها من المعاني‪ :‬أتدركها‪ ،‬أتعرف لها شكلً؟ فكيف ـ إذن ـ تطمع في أنْ تدرك الخالق عز‬
‫وجل؟‬
‫إذن‪ :‬من عظمته سبحانه أنه ل تدركه الحواس‪ ،‬ول يلتقي بالخَلْق لقاءً مباشرا‪ ،‬فالمصطفى من‬
‫الملئكة يأخذ عن ال‪ ،‬ويعطي للمصطفى من الخَلْق‪ ،‬ثم المصطفى من الخَلْق يعطي للخَلْق‪ ،‬ومع‬
‫ذلك كان صلى ال عليه وسلم يجهد‪ ،‬ويتصبّب جبينه عَرَقا في أول الوحي؟‬
‫ولذلك شاء الحق سبحانه أنْ يحجبَ الوحي عن رسوله فترة ليستريح من مباشرة المَلِك له‪،‬‬
‫وبانقطاع الوحي تبقى لرسول ال حلوة ما أوحي إليه ويتشوّق إلى الوحي من جديد‪ ،‬فيهون عليه‬
‫ما يلقي في سبيله من مشقة؛ لن انشغال القلب بالشيء يُنسي متاعبه؟‪.‬‬
‫وقد رُوي أنه صلى ال عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي يُسمَع حوله َد ِويّ كدَويّ النحل‪ ،‬ولو‬
‫صادف أن رسول ال وضع رجله على أحد أصحابه حين نزول الوحي عليه فكان الصحابي‬
‫يشعر كأنها جبل‪ ،‬وإن نزل الوحي وهو على دابة كانت تنخ وتئن من ِثقَله‪.‬‬
‫وقد مثّلنا للواسطة بين الطبيعة اللهية والطبيعة البشرية بالتيار الكهربائي حين نُوصّله بمصباح‬
‫صغير ل يتحمل قوة التيار‪ ،‬فيضعون له جهازا ينظم التيار‪ ،‬ويعطي للمصباح على قَدْر حاجته‬
‫وإلّ يحترق‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّنِي أَنَا اللّهُ {‬

‫(‪)2345 /‬‬

‫إِنّنِي أَنَا اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وََأقِمِ الصّلَاةَ لِ ِذكْرِي (‪)14‬‬

‫في الية قبل السابقة خاطبه ربه‪ {:‬إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ }[طه‪ ]12 :‬ليُطمئنه ويُؤنسه بأنه المربّي العطوف‪،‬‬
‫يعطي حتى للكافر الذي يعصاه‪ ،‬لكن هنا يخاطبه بقوله‪ { :‬إِنّنِي أَنَا اللّهُ } [طه‪ ]14 :‬أي‪ :‬صاحب‬
‫التكاليف‪ ،‬والمعبود المطاع في المر والنهي‪ ،‬وأوّل هذه التكاليف وقمّتها‪ ،‬والينبوع الذي يصدر‬
‫عنه كل السلوك اليماني‪ { :‬إِنّنِي أَنَا اللّ ُه ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ } [طه‪.]14 :‬‬
‫لذلك قال عنها النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي‪ :‬ل إله إل ال "‪.‬‬
‫وما دام ل إله إل هو فل يصح أنْ نتلقّى المر والنهي إلّ منه‪ ،‬ول نعتمد إل عليه‪ ،‬ول يشغل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حيّ الّذِي لَ َيمُوتُ }[الفرقان‪:‬‬
‫قلوبنا غيره‪ ،‬وهو سبحانه يريد منا أنْ نكون وكلء‪ {:‬وَ َت َو ّكلْ عَلَى ا ْل َ‬
‫‪.]58‬‬
‫فالناصح الفطن الذي ل يتوكل على أحد غير ال‪ ،‬فربما توكّلت على أحد غيره‪ ،‬فأصبحت فلم‬
‫ج َعلْ بر ّبكَ ُكلّ عِ ّزكَ يسْتقِ ّر وَيثب ُتفَإِذَا اعْتَز ْزتَ بمَنْ يموتُ فإنّ‬
‫تجده‪ ،‬وصدق الشاعر حين قال‪:‬ا ْ‬
‫عِ ّزكَ ميّتُفكأن الحق سبحانه في قوله‪ { :‬ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ } [طه‪ ]14 :‬يقول لموسى‪ :‬ل تخفْ‪ ،‬فلن‬
‫تتلقى أوامر من غيري‪ ،‬كما قال سبحانه في أية أخرى‪ُ {:‬قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا‬
‫لّبْ َتغَوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء‪.]42 :‬‬
‫أي‪ :‬لذهبَ هؤلء الذي يدّعُون اللوهية إلى ال يجادلونه أو يتودّدون إليه‪ ،‬ولم يحدث شيء من‬
‫هذا‪.‬‬
‫ويشترط فيمن يُعطي الوامر ويُشرّع ويُقنّن ألّ ينتفع بشيء من ذلك‪ ،‬وأن تكون أوامره ونواهيه‬
‫لمصلحة المأمورين‪ ،‬ومن هنا يختلف قانون ال عن قانون البشر الذي يدخله الهوى وتخالطه‬
‫المصالح والغراض‪ ،‬فمثلً إنْ كان المشرّع والمقنّن من العمال انحاز لهم ورفعهم فوق‬
‫الرأسماليين‪ ،‬وإن كان من هؤلء رفعهم فوق العمال‪.‬‬
‫وكذلك ألّ يغيب عنه شيء يمكن أنْ يُستدرك فيما بعد‪ ،‬وهذه الشروط ل توجد إل في التشريع‬
‫خلْق‪.‬‬
‫اللهي‪ ،‬فله سبحانه صفات الكمال قبل أن يخلق ال َ‬
‫لذلك قال بعدها‪ { :‬فَاعْ ُبدْنِي } [طه‪ ]14 :‬بطاعة أوامري واجتناب نواهيّ‪ ،‬فليس لي َهوَى فيما‬
‫آمرك به‪ ،‬إنما هي مصلحتك وسلمتك‪.‬‬
‫ومعنى العبادة‪ :‬الناس يظنون أنها الصلة والزكاة والصوم والحج‪ ،‬إنما للعبادة معنى أوسع من‬
‫ذلك بكثير‪ ،‬فكلّ حركة في الحياة تؤدي إلى العبادة‪ ،‬فهي عبادة كما نقول في القاعدة‪ُ :‬كلّ ما ل يتمّ‬
‫الواجب إل به فهو واجب‪.‬‬
‫فالصلة مثلً ل تتم إل بستْر العورة‪ ،‬وعليك أنْ تتأمل قطعة القماش هذه التي تستر بها عورتك‪:‬‬
‫كم يد ساهمتْ فيها منذ كانتْ بذرة في الرض‪ ،‬إلى أنْ أصبحتْ قماشا رقيقا يستر عورتك؟ فكلّ‬
‫واحد من هؤلء كان في عبادة وهو يُؤدّي مهمته في هذه المسألة‪.‬‬

‫كذلك رغيف العيش الذي تأكله‪ ،‬صنبور المياه الذي تتوضأ منه‪ ،‬كم وراءها من أيا ٍد وعمال‬
‫ومصانع وعلماء وإمكانات جُنّ َدتْ لخدمتك‪ ،‬لتتمكن من أداء حركتك في الحياة؟‬
‫لذلك‪ ،‬فالحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يُحدّثنا عن الصلة يوم الجمعة يقول‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ‬
‫س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَِلكُمْ خَيْرٌ ّلكُمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ‬
‫ج ُمعَةِ فَا ْ‬
‫لةِ مِن َي ْومِ الْ ُ‬
‫إِذَا نُو ِديَ لِلصّ َ‬
‫ضلِ اللّهِ }[الجمعة‪9 :‬ـ ‪.]10‬‬
‫لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ‬
‫* فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ‬
‫وهكذا أخرجنا إلى الصلة من عمل‪ ،‬وبعد الصلة أمرنا بالعمل والسعي والنتشار في الرض‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَ ْيعَ ذَِل ُكمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن‬
‫والبتغاء من فضل ال‪ ،‬فمخالفة المر في‪ {:‬فَا ْ‬
‫ضلِ اللّهِ }‬
‫كُنتُمْ َتعَْلمُونَ }[الجمعة‪ ]9 :‬كمخالفة المر في‪ {:‬فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ‬
‫[الجمعة‪.]10 :‬‬
‫خصّ البيع هنا؛ لن البائع أحرص على بيْعه من المشتري على شرائه‪ ،‬وربما كان من مصلحة‬
‫وَ‬
‫المشتري ألّ يشتري؟‬
‫فالسلم ـ إذن ـ ل يعرف التكاسل‪ ،‬ول يرضى بالتنبلة والقعود‪ ،‬ومَنْ أراد السكون فل ينتفع‬
‫بحركة متحرّك‪.‬‬
‫وسيدنا عمر ـ رضي ال عنه ـ حينما رأى رجلً يقيم بالمسجد ل يفارقه سأل‪ :‬ومَنْ ينفق عليه؟‬
‫قالوا‪ :‬أخوه‪ ،‬قال‪ :‬أخوه أعبد منه‪ .‬لماذا؟ لنه يسهم في حركة الحياة ويوسع المنفعة على الناس‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكلّ عمل نافع عبادة شريطة أنْ تتوفر له النية‪ ،‬فالكافر يعمل وفي نيته أنْ يرزق نفسه‪ ،‬فلو‬
‫فعل المؤمن كذلك‪ ،‬فما الفرق بينهما؟ المؤمن يعمل‪ ،‬نعم لِيقوتَ نفسه‪ ،‬وأيضا ليُيسّر لخوانه قُوتَهم‬
‫وحركة حياتهم‪ .‬فسائق التاكسي مثلً إذا عمل بمبلغ يكفيه‪ ،‬ثم انصرف إلى بيته‪ ،‬وأوقف سيارته‪،‬‬
‫فمَنْ للمريض الذي يحتاج مَنْ يُوصّله للطبيب؟ والبائع لو اكتسب رزقه‪ ،‬ثم أغلق دكانه مَنْ يبيع‬
‫للناس؟‬
‫ن فعلتَ ذلك فأنت في عبادة‪ .‬تعمل‬
‫إذن‪ :‬اعمل لنفسك‪ ،‬وفي بالك أيضا مصلحة الغير وحاجتهم‪ ،‬فإ ْ‬
‫على قَدْر طاقتك‪ ،‬ل على قَدْر حاجتك‪ ،‬ثم تأخذ حاجتك من منتوج الطاقة‪ ،‬والباقي يُ َردّ على الناس‬
‫حسْبك أنْ يسرت له السبيل‪.‬‬
‫إما في صورة صدقة‪ ،‬وإما بثمن‪ ،‬و َ‬
‫إذن‪ :‬نقول‪ :‬العبادة كل حركة تؤدي خدمة في الكون نيتك فيها ل‪.‬‬
‫خصّ الصلة دون سائر العبادات؟‬
‫لةَ لِ ِذكْرِي { [طه‪ ]14 :‬فلماذا َ‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وََأ ِقمِ الصّ َ‬
‫قالوا‪ :‬لن الصلة هي العبادة الدائمة التي ل تنحلّ عن المؤمن‪ ،‬ما دام فيه َنفَس‪ ،‬فالزكاة مثلً‬
‫تسقط عن الفقير‪ ،‬والصيام يسقط عن المريض‪ ،‬والحج يسقط عن غير المستطيع‪ ،‬أمّا الصلة فل‬
‫عذر أبدا يبيح تركها‪ ،‬فتصلي قائما أو قاعدا أو مضطجعا‪ ،‬فإنْ لم تستطيع تصلي‪ ،‬ولو إيماءً‬
‫برأسك أو بجفونك‪ ،‬فإنْ لم تستطع فحَسْبُك أن تخطرها على قلبك‪ ،‬ما دام لك وَعْي‪ ،‬فهي ل تسقط‬
‫عنك بحال‪.‬‬
‫كذلك‪ ،‬فالصلة عبادة مُتكرّرة‪ :‬خمس مرات في اليوم والليلة؛ لتذكرك باستمرار إنْ أنستْك مشاغل‬
‫الحياة رب هذه الحياة‪ ،‬وتعرض نفسك على ربك وخالقك خمس مرات كل يوم‪.‬‬

‫عطَب؟‬
‫وما بالك بآلة تُعرَض على صانعها هكذا‪ ،‬أيمكن أن يحدث بها عُطّْل أو َ‬
‫أما الزكاة فهي كل عام‪ ،‬أو كل محصول‪ ،‬والصوم شهر في العام‪ ،‬والحج مرة واحدة في العمر‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬كان النبي صلى ال عليه وسلم كلما حَزَبه أمر قام إلى الصلة ليعرض نفسه على ربه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وخالقه عز وجل‪ ،‬ونحن نصنع هذا في الصنعة المادية حين نعرض اللة على صانعها ومهندسها‬
‫الذي يعرف قانون صيانتها‪.‬‬
‫وفي الحديث الشريف‪ " :‬وجعلت قرة عيني في الصلة "‪.‬‬
‫وسبق أن ذكرنا أن للصلة أهميتها؛ لنها تُذكّرك بربك كل يوم خمس مرات‪ ،‬وتُذكّرك أيضا‬
‫بنفسك‪ ،‬وبقَدر ال في الخرين حين ترى الرئيس ومرؤوسه جَنْبا إلى جَنْب في صفوف الصلة‪،‬‬
‫فإنْ جئتَ قبل رئيسك جلستَ في الصف الول‪ ،‬وجلس هو خلفك‪ ،‬ثم تراه وهو منُكسِر ذليل ل‬
‫تعالى‪ ،‬وهو يعرف أنك تراه على هذه الهيئة فيكون ذلك أدْعى لتواضعه معك وعدم تعاليه عليك‬
‫بعد ذلك‪.‬‬
‫وكم رأينا من أصحاب مناصب وقيادة يبكون عند الحرم‪ ،‬ويتعلقون بأستار الكعبة وعند المتلزم‪،‬‬
‫وهو العظيم الذي يعمل له الناس ألف حساب‪ .‬ففي الصلة ـ إذن ـ استطراق للعبودية ل تعالى‪.‬‬
‫ل في المسجد أماكن خاصة لنوعية معينة يُخلَى لها‬
‫لذلك من أخطر ما مُنِي به المسلمون أنْ تجع َ‬
‫المكَان‪ ،‬ويصاحبها الحرس حتى في بيت ال‪ ،‬ثم يأتي في آخر الوقت ويجلس في الصف الول‪،‬‬
‫وآخر يفرش سجادته ليحجز بها مكانا لحين حضوره‪ ،‬فيجد المكان خاليا‪.‬‬
‫وينبغي على عامة المسلمين أن يرفضوا هذا السلوك‪ ،‬وعليك أنْ تُنحّي سجادته جانبا‪ ،‬وتجلس‬
‫أنت؛ لن أولوية الجلوس بأولوية الحضور‪ ،‬فقد صفها ال في المسجد إقبالً عليه‪ .‬وهذه العادة‬
‫السيئة تُوقع صاحبها في كثير من المحظورات‪ ،‬حيث يتخطى رقاب الناس‪ ،‬ويُميّز نفسه عنهم‬
‫دون حق‪ ،‬ويحدث انتقاص عبودي في بيت ال‪.‬‬
‫ولهمية الصلة ومكانتها بين العبادات تميّزت في فرضها بما يناسب أهميتها‪ ،‬فكُلّ العبادات‬
‫ضتْ بالوحي إل الصلة‪ ،‬فقد استدعى الحق رسوله الصدق ليبلغه بها مباشرة لهميتها‪.‬‬
‫فُ ِر َ‬
‫ل ـ ول المثل العلى ـ بالرئيس إذا أراد أنْ يُبلّغ مرؤوسه أمرا يكتب إليه‪،‬‬
‫وقد ضربنا لذلك مث ً‬
‫ن كان المر مهما اتصل به تليفونيا‪ ،‬فإنْ كان أهمّ استدعاه إليه لِيُبلّغه بنفسه‪ .‬ولما قرّبه ال إليه‬
‫فإ ْ‬
‫بفرض الصلة جعل الصلة تقرّبا لعباده إلى ال‪.‬‬
‫لةَ ِل ِذكْرِي { [طه‪ ]14 :‬أقام الشيء‪ :‬جعله قائما على أُسس محكمة‪ ،‬فإقامة‬
‫وقوله‪ } :‬وََأقِمِ الصّ َ‬
‫الصلة أن تؤديها مُحكَمة كاملة الركان غير ناقصة‪.‬‬
‫} ِل ِذكْرِي { [طه‪ ]14 :‬أي‪ :‬لتذكري؛ لن دوام ورتابة النعمة قد تُنسيك المنعم‪ ،‬فحين تسمع نداء‬
‫ن كنتَ ناسيا‪ ،‬وينتبه‬
‫(ال أكبر)‪ ،‬وترى الناس تُهرَع إلى بيوت ال ل يشغلهم عنها شاغل تتذكر إ ْ‬
‫ن كنتَ غافلً‪.‬‬
‫قلبك إ ْ‬
‫خفِيهَا {‬
‫عةَ آتِيَةٌ َأكَادُ ُأ ْ‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى‪ } :‬إِنّ السّا َ‬

‫(‪)2346 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سعَى (‪)15‬‬
‫خفِيهَا لِتُجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا تَ ْ‬
‫عةَ آَتِ َيةٌ َأكَادُ ُأ ْ‬
‫إِنّ السّا َ‬

‫أي‪ :‬مع ما سبق وَطّنْ نفسك على أن الساعة آتية ل محالةَ‪ ،‬والساعة هنا هي عمر الكون كله‪ ،‬أمّا‬
‫أعمار المكين في الكون فمتفاوته‪ ،‬كل حسب أجله‪ ،‬فمَنْ مات فقد قامت قيامته وانتهت المسألة‬
‫بالنسبة له‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نقول‪ :‬الساعة نوعان‪ :‬ساعة ل ُكلّ منا‪ ،‬وهي عمره وأجَله الذي ل يعلم متى سيكون‪ ،‬وساعة‬
‫للكون كله‪ ،‬وهي القيامة الكبرى‪.‬‬
‫عةَ آتِيَة } [طه‪ ]15 :‬أي‪ :‬اجعل ذلك في بالك دائما‪ ،‬ومادام الموت سينقلك‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬إِنّ السّا َ‬
‫ن تقول‪ :‬سأموت قريبا‪ ،‬أما القيامة فبعد آلف أو مليين السنين؛ لن الزمن‬
‫إليها سريعا فإياك أ ْ‬
‫مُلغىً بعد الموت‪ ،‬كيف؟‬
‫الزمن ل يضبطه إل الحدث‪ ،‬فإن انعدم الحدث فقد انعدم الزمن‪ ،‬كما يحدث لنا في النوم‪ ،‬وهل‬
‫تستطيع أنْ تُحدّد الوقت الذي نمْتَه؟ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا لَمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ‬
‫ضحَاهَا }[النازعات‪.]46 :‬‬
‫عَشِيّةً َأوْ ُ‬
‫والعبد الذي أماته ال مائة عام لما بعثه قال‪ :‬يوما أو بعض يوم‪ ،‬وكذلك قال أهل الكهف بعد‬
‫ثلثمائة سنة وتسع‪ ،‬لن يوما أو بعض يوم هي أقْصى ما يمكن تصوّره للنائم حين ينام؛ لذلك‬
‫نقول‪ " :‬مَنْ مات فقد قامت قيامته "‪.‬‬
‫ومن حكمته سبحانه أن أخفى الساعة‪ ،‬أخفاها للفرد‪ ،‬وأخفاها للجميع؛ وربما لو عرف النسان‬
‫ساعته لقال‪ :‬أفعل ما أريد ثم أتوب قبل الموت؛ لذلك أخفاها الحق ـ تبارك وتعالى ـ لنكون على‬
‫ن نلقى ال على حال معصية‪.‬‬
‫حذر أ ْ‬
‫وكذلك أخفى الساعة الكبرى‪ ،‬حتى ل تأخذ ما ليس لك من خَلْق ال‪ ،‬وتنتفع به ظُلْما وعدوانا‪،‬‬
‫وتعلم أنك إنْ سرقتَ سترجع إلى ال فيحاسبك‪ ،‬فما ُد ْمتَ سترجع إلى ال فاستقِمْ وعَدّل من‬
‫سلوكك‪ ،‬كما يقول أهل الريف (ارع مساوي)‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬آتِيَةٌ } [طه‪ ]15 :‬أي‪ :‬ليس مَأْتِيا بها‪ ،‬فهي التية‪ ،‬مع أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ‬
‫هو الذي سيأتي بها‪ ،‬لكن المعنى (آتية) كأنها منضبطة (أوتوماتيكيا)‪ ،‬فإنْ جاء وقتها حدثتْ‪.‬‬
‫خفِيهَا } [طه‪ ]15 :‬كاد‪ :‬أي‪ :‬قَرُب مثل‪ :‬كاد زيد أن يجيء أي‪ :‬قَرُب لكنه لم‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬أكَادُ ُأ ْ‬
‫ي ْأتِ بعد‪ ،‬فالمراد‪ :‬أقرب أن أخفيها‪ ،‬فل يعلم أحد موعدها‪ ،‬فإذا ما وقعتْ فقد عرفناها‪ .‬كما قال‬
‫تعالى‪ {:‬إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِنْدَ رَبّي لَ يُجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَآ ِإلّ ُهوَ }[العراف‪.]187 :‬‬
‫خفِيهَا } [طه‪ ]15 :‬بمعنى آخر‪ ،‬فبعض الفعال الثلثية تُعطى عكس معناها عند‬
‫وقد تكون { ُأ ْ‬
‫تضعيف الحرف الثاني منها‪ ،‬كما في‪ :‬مرض أي‪ :‬أصابه المرض‪ .‬ومرّضه الطبيب‪ .‬أي‪ :‬عالجه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأزال مرضه‪ .‬وقَشَرتُ الشيء أي‪ :‬جع ْلتُ له قشرة‪ ،‬وقشّرتُ البرتقالة أز ْلتُ قِشْرها‪.‬‬
‫سفَ حَتّىا َتكُونَ حَرَضا }‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬تَال َتفْ َتؤُاْ َت ْذكُرُ يُو ُ‬

‫[يوسف‪ ]85 :‬والحَرض‪ :‬هو الهلك‪ .‬من‪ :‬حَرِض مثل‪ :‬تَعب‪.‬‬


‫وقوله تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ حَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ عَلَى ا ْلقِتَالِ }[النفال‪.]65 :‬‬
‫ومعنى (حَرّض) حثّهم على القتال‪ ،‬الذي يُزيل عنهم الهلك أمام الكفار؛ لنهم إنْ لم يجاهدوا‬
‫هلكوا‪ ،‬فَحرِض‪ :‬هلك‪ ،‬وحرّض‪ :‬أزال الهلك‪.‬‬
‫جهَنّمَ حَطَبا }[الجن‪:‬‬
‫وقد يأتي مضاد الفعل بزيادة الهمزة على الفعل مثل‪ {:‬وََأمّا ا ْلقَاسِطُونَ َفكَانُواْ لِ َ‬
‫‪ ]15‬فالقاسط من قسط‪ .‬أي‪ :‬الجائر بالكفر‪.‬‬
‫حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ }[المائدة‪ ]42 :‬فالمقسط من أقسط‪ :‬العادل الذي يُزيل‬
‫أما في قوله تعالى‪ {:‬إِنّ اللّهَ يُ ِ‬
‫الجوْرَ‪ .‬وإنْ كانت المادة واحدة هي (قَسَط) فالمصدر مختلف نقول‪ :‬قسط قِسْطا أي‪ :‬عدل‪ ،‬وقسط‬
‫قَسْطا وقسوطا يعني‪ :‬جار‪ .‬فهذه الهمزة في أقسط تسمى " همزة الزالة "‪.‬‬
‫ومن الفعل الثلثي قَسَطَ يستعمل منها‪ :‬القسط والميزان والفرق بين قَسَط وأقسط‪ :‬قسط أي‪ :‬عدل‬
‫من أول المر وبادىء ذي بَدْء‪ ،‬إنما أقسط‪ :‬إذا وجد ظُلْما فرفعه وأزاله‪ ،‬فزاد على العدل أنْ أزال‬
‫جوْرا‪.‬‬
‫َ‬
‫وأيضا الفعل (عجم) عجم المر‪ :‬أخفاه‪ ،‬وأعجمه‪ :‬أزال خفاءه‪ .‬ومن ذلك كلمة المعجم الذي يزيل‬
‫خفاء الكلمات ويُوضّحها‪.‬‬
‫خفِيهَا { [طه‪ ]15 :‬خفى بمعنى‪ :‬استتر وأخفاها‪ :‬أزال خفاءها‪ ،‬ول‬
‫وكذلك في قوله تعالى‪َ } :‬أكَادُ ُأ ْ‬
‫يُزَال خفاء الشيء إل بإعلنه‪.‬‬
‫سعَىا { [طه‪.]15 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬لِتُجْزَىا ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا تَ ْ‬
‫وإل لو لم يكُنْ في الخرة حساب وجزاء َلكَان الذين أسرفوا على أنفسهم وعربدوا في الوجود‬
‫أكثر حظا من المؤمنين المتلزمين بمنهج ال؛ لذلك في نقاشنا مع الشيوعيين قُلْنا لهم‪ :‬لقد قتلتم مَنْ‬
‫أدركتموه من أعدائكم من الرأسماليين‪ ،‬فما بال مَنْ مات ولم تدركوه؟ وكيف يفلت منكم هؤلء؟‬
‫لقد كان َأوْلَى بكم أن تؤمنوا بمكان آخر ل يفلت منه هؤلء‪ ،‬وينالون فيه جزاءهم‪ ،‬إنها الخرة‬
‫ل نفس بما تسعى‪.‬‬
‫التي تُجزَى فيها ُك ّ‬
‫صدّ ّنكَ عَ ْنهَا مَن لّ ُي ْؤمِنُ {‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَلَ َي ُ‬

‫(‪)2347 /‬‬

‫فَلَا َيصُدّ ّنكَ عَ ْنهَا مَنْ لَا ُي ْؤمِنُ ِبهَا وَاتّبَعَ َهوَاهُ فَتَ ْردَى (‪)16‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كأن الحق تبارك وتعالى يعطي لموسى ـ عليه السلم ـ مناعة لما سيقوله الكافرون الذين‬
‫يُشكّكون في الخرة ويخافون منها‪ ،‬وغرضهم أنْ يكون هذا كذبا فليست الخرة في صالحهم‪ ،‬ومن‬
‫حظهم إنكارها‪.‬‬
‫عظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ *‬
‫ن تصغي إليهم حين يصدونك عنها‪ ،‬يقولون‪ {:‬أَإِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَ ِ‬
‫فإياك أ ْ‬
‫لوّلُونَ }[الصافات‪16 :‬ـ ‪.]17‬‬
‫َأوَ آبَآؤُنَا ا َ‬
‫ولماذا يستبعدها هؤلء؟ أليس الذي خلقهم مِنْ ل شيء بقادر على أنْ يعيدهم بعد أن صاروا‬
‫عِظاما؟‬
‫والحق سبحانه يقول‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَ ْيهِ }[الروم‪.]27 :‬‬
‫وهذا قياس على َقدْر أفهامكم وما تعارفتم عليه من هَيّن وأ ْهوَن‪ ،‬أما بالنسبة للحق ـ تبارك‬
‫وتعالى ـ فليس هناك هيّن وأهون منه؛ لن أمره بين الكاف والنون؟‬
‫لكن لماذا يص ّد الكفار عن الخرة‪ ،‬واليمان بها؟ لنهم يعلمون أنهم سَيُجازون بما عملوا‪ ،‬وهذه‬
‫مسألة صعبة عليهم‪ ،‬ومن مصلحتهم أن تكون الخرة كذبا‪.‬‬
‫جسَادُ قُ ْلتُ إل ْي ُكمَاإنْ‬
‫وصدق أبو العلء المعري حين قال‪:‬زَعَمَ المنجّ ُم والطبيبُ كِلَ ُهمَا لَ ُتحْشَرُ ال ْ‬
‫ستُ بخَاسِرٍ َأ ْو صَحّ َقوْلِي فَالخسَارُ علي ُكمَاأي أن المؤمن بالبعث إن لم يكسب فلن‬
‫صَحّ قَولكُمَا فل ْ‬
‫يخسر‪ ،‬أما أنتم أيها المنكرون فخاسرون‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَتَرْدَىا } [طه‪ ]16 :‬أي‪ :‬تهلك من الردَى‪ ،‬وهو الهلك‪.‬‬
‫وهكذا جاء الكلم من ال تعالى لموسى ـ عليه السلم ـ أولً‪ :‬البداية إيمانا بال وحده ل شريك‬
‫له‪ ،‬وهذه القمة الولى‪ ،‬ثم جاء بالقمة الخيرة‪ ،‬وهي البعث فالمر ـ إذن ـ منه بداية‪ ،‬وإليه‬
‫خفِيهَا }[طه‪:‬‬
‫نهاية‪ {:‬إِنّنِي أَنَا اللّهُ ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ }[طه‪ ]14 :‬إلى أنْ قال‪ {:‬إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ َأكَادُ ُأ ْ‬
‫‪.]15‬‬
‫وبعد ذلك شرح لنا الحق ـ سبحانه ـ بَدْء إيحائه لرسوله موسى عليه السلم‪َ { :‬ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ‬
‫يامُوسَىا }‬

‫(‪)2348 /‬‬

‫َومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يَا مُوسَى (‪)17‬‬

‫ما‪ :‬استفهامية‪ .‬والتاء بعدها إشارة لشيء مؤنّت‪ ،‬هو الذي يمسكه موسى في يده‪ ،‬والكاف‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للخطاب‪ ،‬كأنه قال له‪ :‬ما هذا الشيء الذي معك؟ والجواب عن هذا السؤال يتم بكلمة واحدة‪:‬‬
‫عصَا‪.‬‬
‫َ‬
‫خفَى عليه ما في يده‪،‬‬
‫أمّا موسى ـ عليه السلم ـ فهو يعرف أن ال تعالى هو الذي يسأل‪ ،‬ول َي ْ‬
‫ولكنه كلم اليناس؛ لن الموقف صعب عليه‪ ،‬ويريد ربه أنْ يُطمئنَه ويُؤنِسَه‪.‬‬
‫وإذا كان اليناس من ال‪ ،‬فعلى العبد أنْ يستغلّ هذه الفرصة ويُطيل أمدَ الئتناس بال عز وجل‪،‬‬
‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ‬
‫ول يقطع مجال الكلم هكذا بكلمة واحدة؛ لذلك رد موسى عليه السلم‪ { :‬قَالَ ِهيَ َ‬
‫عَلَ ْيهَا }‬

‫(‪)2349 /‬‬

‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَى غَ َنمِي وَِليَ فِيهَا مَآَ ِربُ أُخْرَى (‪)18‬‬
‫قَالَ ِهيَ َ‬

‫عصَايَ } [طه‪ ،]18 :‬ثم يفتح لنفسه مجالً آخر للكلم‪ { :‬أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا‬
‫قال موسى‪ { :‬قَالَ ِهيَ َ‬
‫وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي } [طه‪ ]18 :‬وهنا يرى موسى أنه تمادى وزاد‪ ،‬فيحاول الختصار‪ { :‬وَِليَ‬
‫فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَىا } [طه‪.]18 :‬‬
‫وكان موسى ينتظر سؤالً يقول‪ :‬وما هذه المآرب؟ ليُطيل أُنْسه بربه‪ ،‬وإذا كان الخطاب مع ال فل‬
‫يُنهِيه إل زاهد في ال‪.‬‬
‫وللعصا تاريخ طويل مع النسان‪ ،‬فهي لزمة من لوازم التأديب والرياضة‪ ،‬ولزمة من لوازم‬
‫السفار‪ ،‬ولها أهميتها في الرعي‪ ..‬الخ وهنا يذكر موسى ـ عليه السلم ـ بعض هذه الفوائد ـ‬
‫يقول‪:‬‬
‫{ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا } [طه‪ ]18 :‬أي‪ :‬أعتمد عليها‪ ،‬وأستند عندما أمشي‪ ،‬والنسان يحتاج إلى العتماد‬
‫على عصا عند السير وعند التعب؛ لنه يحتاج إلى طاقتين‪ :‬طاقة للحركة والمشي‪ ،‬وطاقة لحمل‬
‫حمْله‪.‬‬
‫حمْل ثقل جسمه‪ ،‬خاصة إنْ كان مُتْعبا ل تقوَى قدماه على َ‬
‫الجسم والعصا تساعده في َ‬
‫فقوله‪ { :‬أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا } [طه‪ ]18 :‬أي‪ :‬أعتمد عليها حين المشي وحين أقف لرعي الغنم فأستند‬
‫عليها‪ ،‬والتكاء يراوح النسان بين قدميْه فيُريح القدم التي تعبتْ‪ ،‬وينتقل من جنب إلى جنب‪.‬‬
‫والنسان إذا ما استقرّ جسمه على شيء لمدة طويلة تنسدّ مسامّ الجسم في هذا المكان‪ ،‬ول تسمح‬
‫بإفراز العرق‪ ،‬فيُسبّب ذلك ضررا بالغا نراه في المرضى الذين يلزمون الفراش لمدة طويلة‪،‬‬
‫ويظهر هذا الضرر في صورة قرحة يسمونها " قرحة الفراش "؛ لذلك ينصح الطباء هؤلء‬
‫ضعِهم‪ ،‬فل ينامون على جنب واحد‪.‬‬
‫المرضى بأن يُغيّروا من و ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك شاءت قدرة ال عز وجل أنْ يُقلّب أهل الكهف في نومهم من جَنْب إلى جَنْب‪ ،‬كما قال‬
‫شمَالِ }[الكهف‪.]18 :‬‬
‫سبحانه‪ {:‬وَ ُنقَلّ ُبهُمْ ذَاتَ ال َيمِينِ وَذَاتَ ال ّ‬
‫لذلك إذا وقف النسان طويلً‪ ،‬أو جلس طويلً ولم يجد له متكأ تراه قَلِقا غير مستقر‪ ،‬ومن هنا‬
‫كان المتّكأ من مظاهر النعمة والترف في الدنيا وفي الخرة‪ ،‬كما قال تعالى في شأن امرأة‬
‫العزيز‪ {:‬وَأَعْتَ َدتْ َلهُنّ مُ ّتكَئا }[يوسف‪.]31 :‬‬
‫وقال عن نعيم الخرة‪ {:‬مُ ّتكِئِينَ عَلَىا سُرُرٍ ّمصْفُوفَةٍ }[الطور‪.]20 :‬‬
‫وقال‪ {:‬مُ ّتكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ َبطَآئِ ُنهَا مِنْ إِسْتَبْ َرقٍ }[الرحمن‪.]54 :‬‬
‫خضْ ٍر وَعَ ْبقَ ِريّ حِسَانٍ }[الرحمن‪.]76 :‬‬
‫وقال الحق تبارك وتعالى‪ {:‬مُ ّتكِئِينَ عَلَىا َرفْ َرفٍ ُ‬
‫فالتكاء وسيلة من وسائل الراحة‪ ،‬وعلى النسان أنْ يُغيٍّر مُتكاهُ من جنب إلى جنب حتى ل‬
‫يتعرّض لما يسمى بـ " قرحة الفراش "‪.‬‬
‫ومن فوائد العصا‪ { :‬وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي } [طه‪ ]18 :‬أي‪ :‬أضرب بها أوراق الشجر فتتساقط‬
‫فتأكلها الغنم والماشية؛ لن الراعي يمشي بها في الصحراء‪ ،‬فتأكل من العِذْي‪ ،‬وهو النبات‬
‫الطبيعي الذي لم يزرعه أحد‪ ،‬ول يسقيه إل المطر‪ ،‬فإن انتهى هذا العُشْب اتجه الراعي إلى‬
‫الشجر العالي فيُسقِِط ورقه لتأكله الغنم‪ ،‬فيحتاج إلى العصا ليؤدي بها هذه المهمة‪.‬‬

‫إذن‪ :‬قوله‪ } :‬أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا { [طه‪ ]18 :‬لراحته هو‪ ،‬و } وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي { [طه‪ ]18 :‬لخدمة‬
‫الرعية‪ ،‬وفيها سياسة إدارة الرزق كلها للماشية وللناس‪ ،‬ورَعْي الغنم وسياستها تدريب على‬
‫سياسة المة بأسْرها؛ لذلك ما بعث ال من نبي إل ورَعَى الغنم ليتعلم من سياسة الماشية سياسة‬
‫النسان‪.‬‬
‫وفي الحديث الشريف‪ " :‬ما بعث ال من نبي إل ورعى الغنم‪ ،‬وأنا كنت أرعاها على قراريط‬
‫لهل مكة "‪.‬‬
‫ولما أحسّ موسى ـ عليه السلم ـ أنه أطال في خطاب ربه عز وجل أجمل فقال‪ } :‬وَِليَ فِيهَا‬
‫مَآ ِربُ ُأخْرَىا { [طه‪ ]18 :‬أي‪ :‬منافع‪.‬‬
‫وقد حاول العلماء جزاهم ال عَنّا خيرا البحث في هذه المآرب الخرى التي لم يذكرها موسى‬
‫عليه السلم‪ ،‬فتأملوا حال الرعاة‪ ،‬وما وظيفة العصا في حياتهم فوجدوا لها منافع أخرى غير ما‬
‫ذكر‪.‬‬
‫من هذه المنافع أن الراعي البدائي يضع عصاه على كتفه ويُعلّق عليها زاده من الطعام والشراب‪،‬‬
‫وبعض الرعاة يستغل وقته أيضا في الصيد‪ ،‬فيحتاج إلى أدوات مثل‪ :‬القوس‪ ،‬والنبل‪ ،‬والسهام‬
‫والمخلة التي يجمع فيها صَيْده‪ ،‬فتراه يضع عصاه على كتفه هكذا بالعرض‪ ،‬ويُعلّق عليها هذه‬
‫الدوات من الجانبين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا ما اشتدت حرارة الشمس ولم يجد ظللً غرز عصاه في الرض‪ ،‬وألقى بثوبه عليها فجعل‬
‫منها مثل الخيمة أو المظلة تقيه حرارة الجو‪ .‬فإن احتاج للماء ذهب للبئر‪ ،‬وربما وجده غائر الماء‬
‫ل يبلغه الدلو فيحتاج للعصا يربطها ويُطيل بها الحبل‪ ،‬إلى غير ذلك من المنافع‪.‬‬
‫وبعض العلماء يقولون‪ :‬لقد كان موسى عليه السلم ينتظر أن يسأله ربه عن هذه المآرب ليطيل‬
‫الحديث معه‪ ،‬لكن الحق سبحانه لم يسأله عن ذلك؛ لنه سينقله إلى شيء أهم من مسألة العصا‪،‬‬
‫فما ذكْرتَه يا موسى مهمة العصا معك‪ ،‬أمّا أنا فأريد أنْ أخبرك بمهمتها معي‪:‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬قَالَ أَ ْل ِقهَا يامُوسَىا {‬

‫(‪)2350 /‬‬

‫قَالَ أَ ْلقِهَا يَا مُوسَى (‪)19‬‬

‫ارْم بها على الرض‪ ،‬وهو هنا إلقاء الدّرْبة والتمرين على لقاء فرعون‪ ،‬وهنا خرجت العصا عن‬
‫ناموسها الذي يعلمه موسى عليه السلم‪ ،‬لم تعد للتوكؤ والهش على الغنم‪ ،‬ولكنها تنتقل من جنس‬
‫الخشب إلى جنس الحيوان فتصير حية‪ ،‬قال الحق سبحانه‪ { :‬فَأَ ْلقَاهَا فَِإذَا ِهيَ حَيّةٌ }‬

‫(‪)2351 /‬‬

‫سعَى (‪)20‬‬
‫فَأَ ْلقَاهَا فَإِذَا ِهيَ حَيّةٌ َت ْ‬

‫وهذه َنقْلة كبيرة في مسألة العصا‪ ،‬فقد كان في المكان لثبات المعجزة أنْ تتحوّل العصا‪ ،‬وهي‬
‫عود جاف من الخشب إلى شجرة خضراء‪ ،‬لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يُجرِي لموسى هذه‬
‫المعجزة؛ لنه سيحتاج إليها فيما بعد‪ ،‬ولو تحولتْ العصا إلى شجرة خضراء فسوف تستقر في‬
‫مكانها‪ ،‬أما حين تتحول إلى حيّة فهي حيوان مُتحَرّك‪ ،‬تجري هنا وهناك‪ ،‬وهذا ما سيحتاجه موسى‬
‫في معركته القادمة‪.‬‬
‫ألقى موسى عصاه { فَإِذَا ِهيَ } [طه‪ ]20 :‬إذا هنا فجائية كما تقول‪ :‬خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب‪.‬‬
‫وحينما ألقى موسى العصا سرعان ما تحولت وهي جافة يابسة إلى حيّة‪ ،‬وحيّة تسعى ليستْ جامدة‬
‫ميتة‪ ،‬أليست هذه مفاجأة؟‬
‫خفْ }‬
‫وطبيعي أن يخاف موسى ـ عليه السلم ـ مما رآه‪ ،‬فطمأنه ربه فقال‪ { :‬قَالَ خُذْهَا َولَ تَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2352 /‬‬

‫خفْ سَ ُنعِيدُهَا سِيرَ َتهَا الْأُولَى (‪)21‬‬


‫قَالَ خُ ْذهَا وَلَا تَ َ‬

‫أي‪ :‬امسكها بيدك‪ ،‬وسوف نعيدها في الحال { سِيَر َتهَا الُولَىا } [طه‪ ]21 :‬أي‪ :‬كما كانت عصا‬
‫خفْ } [طه‪ ]21 :‬لما ظهر عليه من أمارات الخوف‪ .‬وقد أخبر‬
‫يابسة جافة في يدك‪ ،‬وقال‪ { :‬لَ َت َ‬
‫عن خوفه في آية أخرى‪ {:‬فََأوْجَسَ فِي َنفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىا }[طه‪.]67 :‬‬
‫وكانت هذه المسألة تدريبا لموسى ـ عليه السلم ـ وتجربةً‪ ،‬فللعصا مهمة في رسالته‪ ،‬وسوف‬
‫تكون هي معجزته في صراعه مع فرعون حين يضرب بها البحر وفي دعوته لبني إسرائيل حين‬
‫يضرب بها الحجر فيتفجّر منه الماء‪.‬‬
‫وقد عالج القرآن هذه القصة في لقطات مختلفة‪ ،‬فمرة يقول عن العصا كأنها ثعبان‪ .‬ومرة يقول‪:‬‬
‫حيّة‪ .‬وأخرى يقول‪ :‬جان؛ لذلك اعترض البعض على هذه الختلفات‪ ،‬فأيها كانت العصا؟‬
‫الحقيقة أنها صور مختلفة للعصا حينما انقلبتْ‪ ،‬فمن ناحية قتْلتها المميتة هي حية‪ ،‬ومن ناحية‬
‫خفّة حركتها جان‪ ،‬وكل هذه الخصائص كانت في العصا‪ ،‬وحين‬
‫ضخامتها ثعبان‪ ،‬ومن ناحية ِ‬
‫تجمع كل هذه اللقطات تعطيك الصورة الكاملة للعصا بعد أنْ صارت حية‪ .‬فآيات القرآن ـ إذن‬
‫ـ تتكامل لترسم الصورة المرادة للحق تبارك وتعالى‪.‬‬
‫حكَ }‬
‫ضمُمْ َي َدكَ إِلَىا جَنَا ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَا ْ‬

‫(‪)2353 /‬‬

‫حكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (‪)22‬‬


‫ضمُمْ يَ َدكَ إِلَى جَنَا ِ‬
‫وَا ْ‬

‫اليد معروفة‪ ،‬والجناح للطائر‪ ،‬ويقابله في النسان الذراع بداية من ال َعضُد‪ ،‬والحق سبحانه حينما‬
‫حمَةِ }[السراء‪ ]24 :‬يعني‪ :‬تواضع لهما‪،‬‬
‫خ ِفضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ الرّ ْ‬
‫أوصانا بالوالدين قال‪ {:‬وَا ْ‬
‫ول تتعالَ عليهما‪.‬‬
‫وفي موضع آخر قال تعالى‪ {:‬اسُْلكْ يَ َدكَ فِي جَيْ ِبكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ }[القصص‪.]32 :‬‬
‫سمّي جَيْبا؛ لنهم كانوا في الماضي يجعلون الجيب الذي يضعون به‬
‫طوْق القميص‪ُ ،‬‬
‫والجَيْب‪َ :‬‬
‫النقود أو خلفه في داخل الثوب‪ ،‬ليكون بعيدا عن يد السارق‪ ،‬فإذا ما احتاج النسان شيئا في جَيْبه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمّي الطوق جيبا‪ .‬وهذا من مظاهر التكامل بين‬
‫طوْق القميص ليصل إلى الجيْب ف ُ‬
‫يُدخِل يده من َ‬
‫اليات‪.‬‬
‫عضُدك اليسر { تَخْرُجْ‬
‫طوْق قميصك إلى تحت َ‬
‫والمعنى هنا‪ :‬اضمم كف يدك اليمنى‪ ،‬وأدْخله من َ‬
‫بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [طه‪ ]22 :‬أي‪ :‬ساعة أنْ تُخرِج يدك تجدها بيضاء‪ ،‬لها ضوء ولمعان‬
‫وبريق وشعاع‪.‬‬
‫ومعلوم أن موسى ـ عليه السلم ـ كان أسمر اللون‪ ،‬كما وصفه النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫حينما طُلِب منه أنْ يَصف الرسل الذين لقيهم في رحلة السراء والمعراج‪ ،‬فقال‪ " :‬أما موسى‪،‬‬
‫طوَال‪ ،‬كأنه من رجال أزدشنوءة‪." ....‬‬
‫فرجل آدم ُ‬
‫طوَال يعني‪ :‬أكثر طولً من الطويل‪.‬‬
‫أي‪ :‬أسمر شديد الطول؛ لن ُ‬
‫سمْرة لونه آيةً من آيات ال‪ ،‬ولو كان موسى أبيض اللون ما‬
‫ومن هنا كان بياضُ اليد ونورها في ُ‬
‫ظهر بياضُ يده‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [طه‪ ]22 :‬أي‪ :‬من غير مرض‪ ،‬فقد يكون البياض في السّمرة مرضا ـ‬
‫والعياذ بال ـ كالبرص مثلً‪ .‬فنفى عنه ذلك‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬آيَةً أُخْرَىا } [طه‪ ]22 :‬أي‪ :‬معجزة‪ ،‬لكنه لم ي ُقلْ شيئا عن الية الولى‪ ،‬فدلّ ذلك‬
‫على أن العصا كانت الية الولى‪ ،‬واليد الية الخرى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬لِنُرِ َيكَ مِنْ آيَاتِنَا ا ْلكُبْرَىا }‬

‫(‪)2354 /‬‬

‫لِنُرِ َيكَ مِنْ آَيَاتِنَا ا ْلكُبْرَى (‪)23‬‬

‫أي‪ :‬نُريك اليات العجيبة عندنا؛ لتكون مقدمة لك‪ ،‬فحين نأمرك بشيء من هذا القبيل فاعلم أن‬
‫الذي يأمرك ربّ لن يغشّك‪ ،‬ولن يتخلى عنك‪ ،‬وسوف يُؤيدك وينصرك‪ ،‬فل تر َتعْ ول تخف أو‬
‫تتراجع‪.‬‬
‫وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ ُيعِدّ نبيه موسى للقاء مرتقب مع عدوه فرعون الذي ادعى‬
‫اللوهية‪.‬‬
‫طغَىا }‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫ثم بعد هذه الشحنة والتجربة العملية يقول له‪ { :‬اذْ َهبْ إِلَىا فِرْ َ‬

‫(‪)2355 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طغَى (‪)24‬‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫اذْ َهبْ إِلَى فِرْ َ‬

‫فلماذا أرسله إلى فرعون أولً‪ ،‬ولم يرسله إلى قومه؟ قالوا‪ :‬لن فرعون فعل فعلً فظيعا‪ ،‬حيث‬
‫ادعى اللوهية‪ ،‬وهي القمة في العتداء‪ ،‬ثم استعبد بني إسرائيل‪ ،‬فل ُبدّ أن نُصفّي الموقف أولً‬
‫مع فرعون‪.‬‬
‫لذلك حدثت معجزة العصا في ثلثة مواقف‪.‬‬
‫الول‪ :‬وكان لِدُرْبة موسى ورياضته على هذه العملية‪ ،‬وكانت هذه المرة بين موسى وربه ـ عز‬
‫وجل ـ تدريبا‪ ،‬حتى إذا أتى وقت مزاولتها أمام فرعون لم يتهيّب منها أو يتراجع‪ ،‬بل باشرها‬
‫بقلب ثابت واثق‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬كان مع فرعون بمفرده ترويعا له‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬مع السّحَرة تجميعا‪.‬‬
‫ف ُكلّ موقف من هذه المواقف كان لحكمة وله دور‪ ،‬وليس في المسألة تكرار كما يدّعي البعض‪.‬‬
‫طغَىا } [طه‪ ]24 :‬الطغيان‪ :‬مجاوزة الحدّ‪ ،‬ومجاوزة الحدّ يكون بأخْذ ما ليس‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬إِنّهُ َ‬
‫لك والمبالغة في ذلك‪ ،‬وليْتَه أخذ من المساوي له من العباد‪ ،‬إنما أخذ ما ليس له من صفات ال‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫ولما سمع موسى اسم فرعون‪ ،‬تذكّر ما كان من أمره في مصر‪ ،‬وأنه تربّى في بيت هذا الفرعون‬
‫الذي ادّعى اللوهية‪ ،‬فكيف سيواجهه‪.‬‬
‫كما تذكّر قصة الرجل الذي وكَزه فقتله‪ ،‬ثم خرج منها خائفا يترقب‪ ،‬فلما شعر موسى أن العبء‬
‫ثقيل قال‪ { :‬قَالَ َربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي }‬

‫(‪)2356 /‬‬

‫قَالَ َربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (‪)25‬‬

‫كأنه قال‪ :‬يا رب أنا سأنفّذ أوامرك؛ لكني ل أريد أنْ أُقبل على هذه المهمة وأنا منقبض الصدر‬
‫منْ ناحيتها؛ لن انقباضَ الصدر من الشيء يُهدِر الطاقة ويُبدّدها‪ ،‬ويعين الحداث على النفس‪.‬‬
‫لذلك دعا موسى بهذا الدعاء‪َ { :‬ربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي } [طه‪ ]25 :‬ليوفر قوته لداء هذه المهمة‬
‫الصعبة التي تحتاج إلى مجهود يناسبها‪ ،‬ومعنى ذلك أنه انقبض صدره من لقاء فرعون للسباب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذي ُذكِرت‪.‬‬
‫ثم قال‪ { :‬وَيَسّرْ لِي َأمْرِي }‬

‫(‪)2357 /‬‬

‫وَيَسّرْ لِي َأمْرِي (‪)26‬‬

‫لن شَرْح الصدر في هذه المسألة ل يكفي‪ ،‬فشَرْح الصدر من جهة الفاعل‪ ،‬وقد يجد من القليل‬
‫لَدَدا شديدا وعنادا؛ لذلك قال بعدها‪ { :‬وَيَسّرْ لِي َأمْرِي } [طه‪ ]26 :‬فل أجد َلدَدا وطغيانا من‬
‫فرعون‪ ،‬فتيسير المر من جهة القابل للفعل بعد شرح الصدر عند الفاعل‪.‬‬

‫(‪)2358 /‬‬

‫عقْ َدةً مِنْ لِسَانِي (‪)27‬‬


‫وَاحُْللْ ُ‬

‫لن الكلم وتبليغ الرسالة يحتاج إلى منطق ولسان مُنطلِق بالكلم‪ ،‬وكان موسى ـ عليه السلم ـ‬
‫لديه رُتّة أو حُبْسَة في لسانه‪ ،‬فل ينطلق في الكلم‪.‬‬
‫وكانت هذه الرّتّة أيضا في لسان الحسين بن علي ـ رضي ال عنهما ـ وكان النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم إذا سمع الحسين يضحك ويقول‪ " :‬ورثها عن عمه موسى "‪.‬‬
‫وتلحظ ِدقّة التعبير في قوله‪ { :‬مّن لّسَانِي } [طه‪ ]27 :‬ولم يقل‪ :‬احلل عقدة لساني‪ .‬فقد يُفهم منها‬
‫أنه مُتمرّد على َقدَر ال من حُبسة لسانه‪ ،‬إنما هو ل يعترض ويطلب مجرد جزءٍ من لسانه‪ ،‬ي َمكّنه‬
‫من القيام بمهمته في التبليغ‪.‬‬

‫(‪)2359 /‬‬

‫َيفْ َقهُوا َقوْلِي (‪)28‬‬

‫هذه هي العِلّة في طلبه‪ ،‬ولولها ما طلب انطلقة اللسان‪ .‬والفقه هو أن يفهموا الكلم والحديث‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عنه‪.‬‬
‫جعَل لّي وَزِيرا مّنْ‬
‫ويواصل موسى ـ عليه السلم ـ ما يراه مُعينا له على أداء مهمته‪ { :‬وَا ْ‬
‫أَهْلِي }‬

‫(‪)2360 /‬‬

‫ج َعلْ لِي وَزِيرًا مِنْ َأهْلِي (‪)29‬‬


‫وَا ْ‬

‫وزيرا‪ :‬أي‪ :‬معينا وظهيرا‪ .‬والحق ـ سبحانه وتعالى ـ لما أراد أنْ يُخوّف الناس من الخرة‬
‫ل لَ وَزَرَ * إِلَىا رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمُسْ َتقَرّ }[القيامة‪11 :‬ـ ‪.]12‬‬
‫قال‪ {:‬كَ ّ‬
‫أي‪ :‬ل ملجأ ول معين تفزع إليه إل ال‪ ،‬فالوزير من (وَزَر)‪ ،‬ويطلب الوزير حين ل يستطيع‬
‫صاحب المر القيام به بمفرده‪ ،‬فيحتاج إلى مَنْ يعينه على أمره‪ ،‬وهو وزير إنْ كان ناصحا أمينا‬
‫صدْق‪ ،‬فإنْ كان غاشّا لئيما يعمل لصالح نفسه‪ ،‬فليس بوزير‪ ،‬بل هو (وِزْر) ‪ ،‬ومنه‬
‫يُعين صاحبه ب ِ‬
‫قوله تعالى‪َ {:‬ولَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَىا }[فاطر‪.]18 :‬‬
‫وفي الحديث النبوي الشريف‪ " :‬خَيْر الملوك ملك جعل ال له وزيرا‪ ،‬إنْ نسي ذكّره‪ ،‬وإنْ نوى‬
‫على خير ـ مجرد نيّة ـ أعانه‪ ،‬وإن أراد شرّا كفّه‪." ...‬‬
‫تلك علمات الوزير الناصح للرعية كما بيّنتها سياسة السماء؛ لن لكل حاكم بطانتين‪ :‬واحدة تأمر‬
‫بالمعروف‪ ،‬وأخرى تأمر بالمنكر كما جاء في الحديث الشريف‪.‬‬
‫فإنْ كانت هذه هي سياسة السماء‪ ،‬فماذا عن سياسة البشر؟‬
‫ل واحد مهمته‪ ،‬فإنْ زدت في‬
‫يقول أنو شروان‪ :‬إياكم أنْ تفهموا أن أحدا مِنّا يستغني عن أحد‪ ،‬فل ُك ّ‬
‫شيء فقد نقصت في أشياء‪ ،‬جعلها ال في غيرك ليكمل بها نقصك‪ ،‬فالمعايشة مشتركة‪ ،‬لكن هذه‬
‫المشاركة تفرضها الضرورة ل التفضّل‪ ،‬وإلّ لو لم يتفضّل عليك غيرك فماذا تفعل؟‬
‫وسبق أن ضربنا مثلً لحاجة الناس بعضهم لبعض‪ ،‬قلنا‪ :‬ماذا يحدث لو امتنع رجال الصرف‬
‫الصحي أو الكناسون عن العمل لعدة أيام؟ أما لو غاب الوزراء لعدة أيام فلن يحدث شيء‪.‬‬
‫ن كنتَ خيرا منه في هذه‬
‫إذن‪ :‬ل تظن أنك أفضل من الخرين؛ لن لكل منهم مهمة يؤديها‪ ،‬فإ ْ‬
‫ن قلتَ‪:‬‬
‫فهو خير منك في هذه؛ لن مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الخر‪ ،‬فإ ْ‬
‫فلماذا وُجِد التفاوت بين الناس؟‬
‫قالوا‪ :‬لتكون هناك ضرورة في حاجة بعضنا لبعض‪ ،‬فلو تساوَى الجميع لقلنا لجماعة منا‪ :‬تفضّلوا‬
‫بكنس الشوارع يوم كذا فلن يتفضلوا‪ ،‬أما إنْ ألجأتْهم الحاجة إلى مثل هذا العمل فسوف يسارعون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ق المهن وأصعب المهام التي ينفر منها الناس بل ويحتقرونها ترى‬
‫إليه‪ ،‬كما نرى الن في أش ّ‬
‫صاحبها مُقبلً عليها حريصا على القيام بها‪ ،‬رغم ما فيها من مشقّة‪ ،‬بل ويغضب إنْ لم يجد‬
‫فرصة للعمل‪ ،‬لماذا؟ لنه مصدر قُوته وقُوت عياله‪.‬‬
‫وبهذه النظرة ل يتعالى أحد أو يستكبر ليحدث في المجتمع توازن استطراقي‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬مّنْ أَهْلِي } [طه‪ ]29 :‬أي‪ :‬ليكون مأمونا عليّ‪.‬‬
‫وهذا المطلب من موسى ـ عليه السلم ـ يشير لدب عال من آداب النبوة‪ ،‬وقد اختار ال موسى‬
‫للرسالة‪ ،‬فلماذا يشرك معه أخاه في هذه المهمة؟ إذن‪ :‬موسى ل يريد أنْ يفخَر بالرسالة‪ ،‬أو يتعالى‬
‫بها‪ ،‬أو يطغى‪ ،‬إنما يريد أن يقوم بها على أكمل وجه؛ لذلك يحاول أنْ يُكمل ما فيه من نقص‬
‫بأخيه ليُعينه على تبليغ رسالته‪ ،‬ولو أراد الستئثار بالرسالة ما طلب هذا الطلب‪.‬‬
‫وهذا نموذج يجب أنْ يُحتذَى‪ ،‬فإنْ كُلّفت بأمر فوق طاقتك فل غبارَ عليك أن تستعين عليه بغيرك‪،‬‬
‫فهذا دليل على إخلصك للمهمة التي كُلّفت بها‪.‬‬

‫(‪)2361 /‬‬

‫هَارُونَ أَخِي (‪)30‬‬

‫فاختار أخاه هارون ليعينه في مهمة الرسالة‪.‬‬


‫ثم أوضح العلّةَ في ذلك‪ ،‬فقال في آية آخرى‪ {:‬وَأَخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ مِنّي ِلسَانا }[القصص‪:‬‬
‫‪.]34‬‬
‫وهكذا يتكامل موسى وهارون ويُعوّض كل منهم النقص في أخيه‪ .‬ويُقال‪ :‬إن هارون ـ عليه‬
‫السلم ـ كان يمتاز على موسى في أمور آخرى‪ ،‬فكان به لِينٌ وحِلْم‪ ،‬وكان موسى حادا سريع‬
‫الغضب‪ ،‬فكان هارون للّين‪ ،‬وموسى للشدة‪.‬‬
‫ويتضح هذا حينما عاد موسى إلى قومه‪ ،‬وقد تركهم في صُحْبة أخيه هارون فعبدوا العجل فاشتد‬
‫غضْبَانَ أَسِفا }[العراف‪.]150 :‬‬
‫غضبه‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وََلمّا َرجَعَ مُوسَىا إِلَىا َق ْومِهِ َ‬
‫حدّته‪ .‬وقَسْوته‪ ،‬فماذا قال هارون؟{ قَالَ ابْنَ أُمّ }‬
‫تم احتدّ على أخيه‪ ،‬وجذبه من َذقْنه‪ ،‬وظهرتْ ِ‬
‫خذْ بِِلحْيَتِي َولَ بِرَأْسِي }[طه‪،]94 :‬‬
‫[العراف‪ ]150 :‬ليستعطفه ويُذكّره برأفة الم وحنانها{ لَ تَأْ ُ‬
‫كأنه يقول لخيه‪ :‬اضربني كما تريد‪ ،‬لكن ل تروعني في لحيتي‪ ،‬وفي رأسي‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالفصاحة في هارون تجبر العُقدة في لسان موسى‪ ،‬واللين يجبر الشدة والحدة‪ .‬وأيضا فإن‬
‫موسى ـ عليه السلم ـ كان أسمر اللون‪ ،‬أجعد الشعر‪ ،‬أقنى النف‪ ،‬أما هارون فكان أبيض‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اللون‪ ،‬مُرْسَل الشعر‪ ،‬وسيم التقاطيع والملمح‪ ،‬ترتاح له البصار‪ ،‬فمَنْ لم يرتَحْ لموسى ارتاح‬
‫لهارون‪.‬‬
‫ولقد كان النبي صلى ال عليه وسلم يحب أن ينزل الوحي عليه في صورة دِحيْة الكلبي‪ ،‬وكان ـ‬
‫رضي ال عنه ـ وسيما‪ ،‬ترتاح له العين لرؤيته‪ ،‬فكان جبريل ـ عليه السلم ـ ينزل عليه في‬
‫هذه الصورة لِيُؤنسه‪.‬‬
‫وموسى ـ عليه السلم ـ مع ما تميّز به أخوه هارون عليه من هذه الصفات لم يحقد على أخيه‪،‬‬
‫ولم ينظر إليه على أنه أفضل منه‪ ،‬إنما جعل صفات أخيه مكملة لصفاته‪ ،‬والجميع من أجل أداء‬
‫الرسالة وتبليغها على وجهها الكمل‪ ،‬فلم ينظر إلى نفسه ونجاحه هو‪ ،‬وإنما إلى نجاح المهمة التي‬
‫كلّفه ال بها‪.‬‬
‫خصْلةَ خَيْر في غيرك‪ ،‬أو وجها من وجوه‬
‫ويجب أنْ يشيعَ هذا الخُلق بين الناس‪ ،‬فإنْ رأيت َ‬
‫الكمال في غيرك‪ ،‬فاحمد ال عليها‪ ،‬واعلم أنها سيعود عليك نفعها‪ ،‬وستجبر ما عندك من نقص‬
‫فل تحقد عليه؛ لنه سيتحمل ما فيك من قصور‪ ،‬وتنتفع أنت بخيره‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه أن موسى ـ عليه السلم ـ قال‪ { :‬اشْ ُددْ بِهِ أَزْرِي }‬

‫(‪)2362 /‬‬

‫شدُدْ بِهِ أَزْرِي (‪)31‬‬


‫اْ‬

‫حمْل الرسالة إلى فرعون وإلى قومه من‬


‫الَزْر‪ :‬القوة‪ .‬وكأن موسى ـ عليه السلم ـ عرف أن َ‬
‫بعده عملية شاقة‪ ،‬فقال ل‪ :‬أعطني أخي يساعدني في هذه المشقة‪.‬‬

‫(‪)2363 /‬‬

‫وَأَشْ ِركْهُ فِي َأمْرِي (‪)32‬‬

‫قوله‪( :‬وَأشْ ِركْهُ) أي‪ :‬أنت يا ربّ‪ ،‬ليس أنا الذي أشركه تفضّلً مني عليه‪ ،‬فأراد موسى ـ عليه‬
‫السلم ـ أن يكون الفضل من ال‪ ،‬وأن يكون التكليف أيضا من ال حتى ل يعترض هارون أو‬
‫يتضجر عند مباشرة أمر الدعوة‪.‬‬
‫لذلك لما ذَهَبا إلى فرعون قال‪ {:‬إِنّا رَسُولَ رَ ّبكَ }[طه‪ ]47 :‬ولم ي ُقلْ موسى‪ :‬إن هارون تابع له‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بل هو مثله تماما مُرْسَل من ال‪ ،‬وإذا تكلّم موسى تكلّم عنه وعن هارون‪.‬‬
‫شدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ‬
‫طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَا ْ‬
‫فلما دعا موسى على قومه‪ {:‬رَبّنَا ا ْ‬
‫ب الَلِيمَ }[يونس‪.]88 :‬‬
‫ا ْلعَذَا َ‬
‫عوَ ُتكُمَا }[يونس‪]89 :‬؛ لن الدعاء كان من موسى‪،‬‬
‫جاءت الجابة من ال‪ {:‬قَالَ َقدْ أُجِي َبتْ دّ ْ‬
‫وهارون يُؤمّن عليه‪ ،‬والمؤمّن أحد الداعيَيْن‪.‬‬
‫حكَ كَثِيرا }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عن هارون وموسى أنهما قال‪ { :‬كَيْ نُسَبّ َ‬

‫(‪)2364 /‬‬

‫حكَ كَثِيرًا (‪ )33‬وَنَ ْذكُ َركَ كَثِيرًا (‪)34‬‬


‫َكيْ ُنسَبّ َ‬

‫فهذه هي العِلّة في مشاركة هارون لخيه في مهمته‪ ،‬ل طلبا لراحة نفسه‪ ،‬وإنما لتتضافر جهودهما‬
‫في طاعة ال‪ ،‬وتسبيحه و ِذكْره‪.‬‬
‫والتسبيح‪ :‬تقديس ال وتنزيهه ذاتا وصفاتا وأفعالً‪ ،‬ذاتا‪ .‬فل ذات مثل ذاته تعالى‪ {:‬لَيْسَ َكمِثْلِهِ‬
‫سمْع ال‬
‫شيْءٌ }[الشورى‪ ]11 :‬ل في الذات‪ ،‬ول في الصفات ول في الفعال‪ ،‬فل تقل‪ :‬إن َ‬
‫َ‬
‫سمْعك‪ ،‬أو أن بصره تعالى كبصرك‪ ،‬أو أن ِفعْله كفِعلْك‪.‬‬
‫كَ‬
‫والمعنى‪ :‬نُسبّحك ونُقدّسك تقديسا يرفعك إلى مستوى اللوهية الثابتة لك‪ ،‬فل نزيد شيئا من عندنا‪.‬‬
‫حكَ كَثِيرا } [طه‪ ]33 :‬أي‪ :‬دائما‪ ،‬فكأن التسبيح يُورِث المسبّح لذة في نفسه‪ ،‬والطاعة‬
‫وقوله‪ { :‬نُسَبّ َ‬
‫جعِلتْ قرّة عيني في‬
‫من الطائع تُورثه لذة في نفسه‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ ..." :‬و ُ‬
‫الصلة "‪.‬‬
‫وكان صلى ال عليه وسلم " إذا حزبه أمر قام إلى الصلة "‪.‬‬

‫(‪)2365 /‬‬

‫إِ ّنكَ كُ ْنتَ بِنَا َبصِيرًا (‪)35‬‬

‫فأنت قيّوم علينا‪ ،‬مُطلع على أفعالنا‪ ،‬أنؤدّيها على الوجه الكمل‪ ،‬أم نُقصّر فيها؟‬
‫سؤَْلكَ يامُوسَىا }‬
‫ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬قَالَ قَدْ أُوتِيتَ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2366 /‬‬

‫سؤَْلكَ يَا مُوسَى (‪)36‬‬


‫قَالَ َقدْ أُوتِيتَ ُ‬

‫سؤْل‪ :‬أي‪ :‬الشيء المسئول مثل (خُبز) أي‪ :‬مخبوز‪ ،‬فالمراد‪ :‬أعطيناك ما سألتَ‪ ،‬بل وأعطيناك‬
‫ُ‬
‫قبل أن تسأل‪ ،‬بل وقبل أن تعرف كيف تسأل‪ { :‬وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً ُأخْرَىا }‬

‫(‪)2367 /‬‬

‫وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً أُخْرَى (‪)37‬‬

‫(مّننا) من المنة‪ ،‬وهي العطاء بل مقابل على خلف الجزاء‪ ،‬وهو العطاء مقابل عمل { مَ ّرةً‬
‫أُخْرَىا } [طه‪ ]37 :‬إذن‪ :‬هناك مرة أولى‪ ،‬لكن المراد بالمنّة هنا ما حدث من الوحي إلى أم‬
‫موسى وهو صغير‪ ،‬فهي في الحقيقة المنّة الولى إنما قال هنا { مَ ّرةً أُخْرَىا } [طه‪ ]37 :‬هذا‬
‫حسْب ِذكْر الحداث‪.‬‬
‫ترتيب ذكري َ‬
‫فمتى كانت هذه المنّة؟‬

‫(‪)2368 /‬‬

‫إِذْ َأ ْوحَيْنَا إِلَى ُأ ّمكَ مَا يُوحَى (‪)38‬‬

‫إذ‪ :‬يعني وقت أنْ أوحينا إلى أمك ما يُوحَى‪ .‬فكانت هذه هي المنة الولى عليك حين وُلدت في‬
‫خ ْفتِ عَلَ ْيهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَ ّم َولَ تَخَافِي‬
‫عام‪ ،‬يقتل فيه فرعون الذكور‪ ،‬فمنّنا عليك لما قلنا لمك‪ {:‬فَإِذَا ِ‬
‫ك َوجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص‪.]7 :‬‬
‫وَلَ َتحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ‬
‫ومعنى { مَا يُوحَىا } [طه‪ ]38 :‬أي‪ :‬أمرا عظيما لك أن تقدره أنت فتذهب فيها نفسك كل مذهب‪،‬‬
‫كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬فغَشِ َي ُهمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِ َيهُمْ }[طه‪ ]78 :‬ويُفصّل الحق سبحانه هذا الوحي‬
‫لم موسى‪ ،‬فيقول تعالى‪ { :‬أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2369 /‬‬

‫خ ْذهُ عَ ُدوّ لِي وَعَ ُدوّ لَ ُه وَأَ ْلقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ‬
‫حلِ يَأْ ُ‬
‫أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْ َيمّ بِالسّا ِ‬
‫مَحَبّةً مِنّي وَلِ ُتصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (‪)39‬‬

‫هذا ما أوحينا به إلى أم موسى‪.‬‬


‫واليمّ‪ :‬البحر الكبير‪ ،‬سواء أكان مالحا أم عَذْبا‪ ،‬فلما تكلّم الحق سبحانه عن فرعون قال‪{:‬‬
‫فَأَغْ َرقْنَاهُمْ فِي الْ َيمّ }[العراف‪ ]136 :‬والمراد‪ :‬البحر الحمر‪ ،‬أما موسى فقد وُلِد في مصر وأُ ْلقِي‬
‫تابوته في النيل‪ ،‬وكان على النيل قصر فرعون‪.‬‬
‫خ ْفتِ على ولدك فألقيه في اليم؟ وكيف يمكن لها أن‬
‫وبال‪ ..‬أي أم هذه التي تُصدّق هذه الكلم‪ :‬إنْ ِ‬
‫تنقذه من هلك مظنون وترمي به في هلك مُتيقّن؟‬
‫ومع ذلك لم تتردد أم موسى لحظة في تنفيذ أمر ال‪ ،‬ولم تتراجع‪ ،‬وهذا هو الفرق بين وارد‬
‫الرحمن ووارد الشيطان‪ ،‬وارد الرحمن ل تجد النفس له ردّا‪ ،‬بل تتلقاه على أنه قضية مُسلّمة‪،‬‬
‫فوارد الشيطان ل يجرؤ أن يزاحم وارد الرحمن‪ ،‬فأخذتْ الم الوليد وأَ ْلقَتْه كما أوحى إليها ربها‪.‬‬
‫خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ‬
‫وتلحظ في هذه اليات أن آية القصص لم تذكر شيئا عن مسألة التابوت‪ {:‬فَإِذَا ِ‬
‫فِي اليَمّ }[القصص‪ ]7 :‬هكذا مباشرة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬لن الحق سبحانه تكلم عن الغاية التي تخيف‪ ،‬وهي الرّمي في اليم‪ ،‬وطبيعي في حنان الم‬
‫طفْو على‬
‫أنْ تحتال لولدها وتعمل على نجاته‪ ،‬فتصنع له مثل هذا التابوت‪ ،‬و ُتعِدّه إعدادا مناسبا لل َ‬
‫صفحة الماء‪.‬‬
‫فالكلم هنا لعداد الم وتهيئتها لحين الحادثة‪ ،‬وفَرْق بين الخطاب للعداد قبل الحادثة والخطاب‬
‫حين الحادثة‪ ،‬فسوف يكون للمومة ترتيب ووسائل تساعد على النجاة‪ ،‬صنعتْ له صندوقا جعلت‬
‫فيه َمهْدا ليّنا واحتاطتْ للمر‪ ،‬ثم يطمئنها الحق سبحانه على ولدها‪ {:‬وَلَ تَخَافِي َولَ تَحْزَنِي }‬
‫ك وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }‬
‫[القصص‪ ]7 :‬فسوف نُنجيه؛ لن له مهمة عندي{ إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ‬
‫[القصص‪.]7 :‬‬
‫فإذا ما جاء وقت التنفيذ جاء المر في عبارات سريعة متلحقة‪ { :‬أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ‬
‫حلِ } [طه‪.]39 :‬‬
‫فِي الْيَمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْ َيمّ بِالسّا ِ‬
‫لذلك‪ ،‬تجد السياق في الية الولى هادئا رتيبا يناسب مرحلة العداد‪ ،‬أما في التنفيذ فقد جاء‬
‫السياق سريعا متلحقا يناسب سرعة التنفيذ‪ ،‬فكأن الحق سبحانه أوحى إاليها‪ :‬أسرعي إلى المر‬
‫الذي سبق أنْ أوحيتُه إليك‪ ،‬هذا الكلم في الحبْكة الخيرة لهذه المسألة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حلِ } [طه‪ ]39 :‬أي‪ :‬تحمله المواج وتسير به‪ ،‬وكأن لديها أوامر‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ‬
‫أن تُدخِله في المجرى الموصّل لقصر فرعون‪.‬‬
‫فعندنا ـ إذن ـ لموسى ثلثة إلقاءات‪ :‬إلقاء الرحمة والحنان في التابوت‪ ،‬وإلقاء التابوت في اليم‬
‫تنفيذا لمر ال‪ ،‬وإلقاء ال َيمّ للتابوت عند قصر فرعون‪.‬‬
‫خ ْذهُ عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّهُ } [طه‪( ]39 :‬عَدُو لِي) أي‪ :‬ل تعالى؛ لن فرعون ادعى‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬يَأْ ُ‬
‫اللوهية‪( ،‬وَعَ ُدوّ لَهُ) أي‪ :‬لموسى؛ لنه سيقف في وجهه ويُوقفه عند حَدّه‪.‬‬
‫وفي الية إشارة إلى إنفاذ إرادته سبحانه‪ ،‬فإذا أراد شيئا قضاه‪ ،‬ولو حتى على يد أعدائه وهم‬
‫ن يتصور أو يصدق أن فرعون في جبروته وعُتوه وتقتيله للذكور من أولد بني‬
‫غافلون‪ ،‬فمَ ْ‬
‫إسرائيل هو الذي يضم إليه موسى ويرعاه في بيته‪ ،‬بل ويُحبه ويجد له قبولً في نفسه‪.‬‬

‫وهل التقطه فرعون بداية ليكون له عَدوا؟ أم التقطه ليكون ابنا؟ كما قالت زوجته آسية‪ {:‬قُ ّرةُ عَيْنٍ‬
‫شعُرُونَ }[القصص‪.]9 :‬‬
‫عسَىا أَن يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدا وَهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫لّي وََلكَ لَ َتقْتُلُوهُ َ‬
‫إذن‪ :‬كانت محبة‪ ،‬إل أنها آلتْ إلى العداوة فيما بعد‪ ،‬آلتْ إلى أن يكون موسى هو العدو الذي‬
‫ستُربيه بنفسك وتحافظ عليه ليكون تقويضُ ملكك على يديه؛ لذلك سيقول فرعون‪ {:‬أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا‬
‫عمُ ِركَ سِنِينَ }[الشعراء‪.]18 :‬‬
‫وَلِيدا وَلَبِ ْثتَ فِينَا مِنْ ُ‬
‫ومسألة العداوة هذه استغلها المشككون في القرآن واتهموه بالتكرار في قوله تعالى‪ } :‬يَأْخُ ْذهُ عَ ُدوّ‬
‫ع ُدوّا وَحَزَنا }‬
‫عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ َ‬
‫طهُ آلُ فِرْ َ‬
‫لّي وَعَ ُدوّ لّهُ { [طه‪ ]39 :‬ثم قال في آية أخرى‪ {:‬فَالْ َتقَ َ‬
‫[القصص‪.]8 :‬‬
‫والمتأمل في اليتين يجد أن العداوة في الية الولى من جانب فرعون لموسى وربه تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬أما العداوة في الية الثانية فمن جانب موسى لفرعون‪ ،‬وهكذا تكون العداوة متبادلة‪ ،‬وهذا‬
‫يضمن شراستها واستمرارها‪ ،‬وهذا مُرَاد في هذه القصة‪.‬‬
‫أمّا إنْ كانت العداوة من جانب واحد‪ ،‬فلربما تسامح غير العدو وخَجِل العدو فتكون المصالحة‪.‬‬
‫والعداوة بين موسى وفرعون ينبغي أن تكونَ شرسة؛ لنها عداوة في قضية ال ِقمّة‪ ،‬وهي التوحيد‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬لماذا لم يُلفِت مجيء موسى على هذه الحالة انتباه فرعون فيسأل عن حكايته ويبحث في‬
‫أمره؟ إنها إرادة ال التي ل يُعجِزها شيء‪ ،‬فتحبه زوجة فرعون‪ ،‬وتقول‪ {:‬قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََلكَ }‬
‫[القصص‪]9 :‬؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعدها‪ } :‬وَأَ ْلقَيْتُ عَلَ ْيكَ مَحَبّةً مّنّي { [طه‪.]39 :‬‬
‫فأحبته آسية امرأة فرعون لما رأته‪ ،‬وأحبّه فرعون لما رآه‪ ،‬وهذه محبة من ال بل سبب للمحبة؛‬
‫لن المحبة لها أسباب بين الناس‪ ،‬فتحب شخصا لنك تودّه‪ ،‬أو لنه قريب لك أو صديق‪ ،‬أو‬
‫أسْدى لك معروفا‪ ،‬وقد يكون الحب من ال دون سبب من هذه السباب‪ ،‬فل سببَ له إل إرادة ال‪.‬‬
‫فمعنى‪ } :‬وَأَلْقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ مَحَبّةً مّنّي { [طه‪ ]39 :‬وليس فيك ما يُوجب المحبة‪ ،‬وليس لديك أسبابها‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خاصة وقد كان موسى عليه السلم أسمر اللون‪ ،‬أجعد الشعر‪ ،‬أقنى النف‪ ،‬أكتف‪ ،‬وكأن هذه‬
‫عتْ فرعون لمحبة موسى‪ ،‬كما قال‬
‫الخِلْقة جاءت تمهيدا لهذه المحبة‪ ،‬وإثباتا لرادة ال التي طوّ َ‬
‫تعالى‪ {:‬وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيحُولُ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء َوقَلْبِهِ }[النفال‪.]24 :‬‬
‫وهكذا‪ ،‬حوّل ال قلب فرعون‪ ،‬وأدخل فيه محبة موسى ليُمرّر هذه المسألة على هذا المغفل الكبير‪،‬‬
‫فجعله يأخذ عدوه ويُربّيه في بيته‪ ،‬ولم يكن في موسى الوسامة والجمال الذي يجذب إليه القلوب‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي { [طه‪ ]39 :‬أي‪ :‬تُربّى على عَيْن ال وفي رعايته‪ ،‬وإنْ‬
‫كان الواقع أنه يُربّى في بيت فرعون‪ ،‬فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يرعاه‪ ،‬فإنْ تعرّض لشيء في‬
‫التربية تدخّل ربّه عز وجل ليعلمه ويُربّيه‪.‬‬

‫ومن هذه المواقف أن فرعون كان يجلس وزوجته آسية‪ ،‬ومعهما موسى صغير يلعب‪ ،‬فإذا به‬
‫يمسك بلحية فرعون ويجذبها بشدة أغاظته‪ ،‬فأمر بقتله‪ ،‬فتدخلّت امرأته قائلة‪ :‬إنه ما يزال صغيرا‬
‫ل يفقه شيئا‪ ،‬إنه ل يعرف التمرة من الجمرة‪.‬‬
‫فأتوا له بتمرة وجمرة ليمتحنوه‪ ،‬فأزاح ال يده عن التمرة إلى الجمرة لِيُفوّت المسألة على هذا‬
‫المغفل الكبير‪ ،‬بل وأكثر من هذا‪ ،‬فأخذها موسى رغم حرارتها حتى وضعها في فمه‪ ،‬فلدغتْ‬
‫لسانه‪ ،‬وسبّبت له هذه ال ُعقْدة في لسانه التي اشتكى منها فيما بعد‪.‬‬
‫وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يُطمئِن نبيه موسى ـ عليه السلم ـ‪ :‬ل تخف‪ ،‬فأنت تحت عيني‬
‫وفي رعايتي‪ ،‬وإنْ فعلوا بك شيئا سأتدخل‪ ،‬وفي آية أخرى قال‪ {:‬وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي }[طه‪]41 :‬‬
‫فأنا أرعاك وأحافظ عليك؛ لن لك مهمة عندي‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬إِذْ َت ْمشِي ُأخْ ُتكَ {‬

‫(‪)2370 /‬‬

‫جعْنَاكَ إِلَى ُأ ّمكَ َكيْ َتقَرّ عَيْ ُنهَا وَلَا تَحْزَنَ َوقَتَلْتَ‬
‫إِذْ َت ْمشِي ُأخْ ُتكَ فَ َتقُولُ َهلْ أَدُّل ُكمْ عَلَى مَنْ َي ْكفُلُهُ فَرَ َ‬
‫َنفْسًا فَنَجّيْنَاكَ مِنَ ا ْل َغ ّم َوفَتَنّاكَ فُتُونًا فَلَبِ ْثتَ سِنِينَ فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِ ْئتَ عَلَى َقدَرٍ يَا مُوسَى (‪)40‬‬

‫إذن‪ :‬كان لخت موسى دور في قصته‪ ،‬كما قال تعالى في موضع آخر‪َ {:‬وقَاَلتْ لُخْ ِتهِ ُقصّيهِ‬
‫شعُرُونَ }[القصص‪.]11 :‬‬
‫ب وَ ُه ْم لَ َي ْ‬
‫فَ َبصُ َرتْ ِبهِ عَن جُ ُن ٍ‬
‫ن علمتِ نجاته من اليمّ‪ ،‬فتتبعته‪ ،‬وعرفتْ أنه في بيت فرعون‪ ،‬ثم حرّم ال‬
‫والمراد‪ :‬تتبعيه بعد أ ْ‬
‫ف المرضعات‪ ،‬وهنا تدخلت أخته لتقول‪َ { :‬هلْ أَ ُدّلكُمْ عَلَىا مَن َي ْكفُلُهُ }‬
‫عليه المراضع‪ ،‬فكان يعَا ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[طه‪ ]40 :‬وهذا الترتيب ل يقدر عليه إل ال‪.‬‬
‫جعْنَاكَ إِلَىا ُأ ّمكَ } [طه‪ ]40 :‬حين نستقرىء مادة (رجع) في القرآن نجدها‬
‫ويقول تعالى‪ { :‬فَرَ َ‬
‫جعَ مُوسَىا إِلَىا َق ْومِهِ }[العراف‪,]150 :‬‬
‫تأتي مرة لزمة كما في‪ {:‬وََلمّا رَ َ‬
‫ج َعكَ اللّهُ إِلَىا طَآ ِئفَةٍ‬
‫جعْنَاكَ إِلَىا ُأ ّمكَ } [طه‪ ]40 :‬وفي‪ {:‬فَإِن رّ َ‬
‫وتأتي متعدية كما في‪ { :‬فَرَ َ‬
‫مّ ْنهُمْ }[التوبة‪.]83 :‬‬
‫والفَرْق بين اللزم والمتعدّي أن اللزم رجع بذاته‪ ،‬أمّا المتعدي فقد أرجعه غيره‪ ،‬فالرجوع أن‬
‫تصير إلى حال كنتَ عليها وتركتها‪ ،‬فإنْ رجعت بنفسك دون دوافع حملتْك على الرجوع فالفعل‬
‫لزم‪ ،‬فإنْ كانت هناك أمور دفعتْك للرجوع فالفعل مُتعَدّ‪.‬‬
‫ومثل رجعك‪ :‬أرجعك‪ ،‬إل أن رجعك‪ :‬الرجوع ـ في ظاهر المر منك من دون دوافع منك‪.‬‬
‫وأرجعك‪ :‬أي رَغْما عن إرادتك‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬كيْ َتقَرّ عَيْنُها } [طه‪ ]40 :‬تقرّ العين أي‪ :‬تثبت؛ لن التطلعات إما أن تكون معنوية أو‬
‫حسّية‪ ،‬فالنسان لديه أمانٍ يتطلع إلى تحقيقها‪ ،‬فإذا ما تحققت نقول‪ :‬لم يعُدْ يتطلع إلى شيء‪.‬‬
‫ِ‬
‫سيّ‪ ،‬فالعرب يقولون للشيء الجميل‪ :‬قيد النواظر‪ .‬أي‪ :‬يقيد العين فل تتحول‬
‫وكذلك في الشيء الح ّ‬
‫عنه؛ لن النسان ل يتحول عن الجميل إل إذا رأى ما هو أجمل ‪ ،‬وهذا ما يسمونه قُرّة العين‪.‬‬
‫حسْن‪.‬‬
‫يعني الشيء الحسن الذي تستقر عنده العين‪ ،‬ول تطلب عليه مزيدا في ال ُ‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬وقَتَ ْلتَ َنفْسا فَنَجّيْنَاكَ مِنَ ا ْلغَ ّم َوفَتَنّاكَ فُتُونا } [طه‪ ]40:‬وهذه مِنّة أخرى من مِنَن‬
‫ال تعالى على موسى عليه السلم‪ ،‬فمِنَنُ ال عليه كثيرة كما قال‪ {:‬وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً أُخْرَىا }‬
‫[طه‪ ]37 :‬فهي مرة‪ ،‬لكن هناك مرات‪.‬‬
‫غفْلَةٍ مّنْ َأهِْلهَا َفوَجَدَ فِيهَا‬
‫علَىا حِينِ َ‬
‫خلَ ا ْلمَدِينَةَ َ‬
‫ومسألة القتل هذه وردتْ في قوله تعالى‪ {:‬وَ َد َ‬
‫ع ُد ّوهِ‬
‫رَجُلَيْنِ َيقْتَتِلَنِ هَـاذَا مِن شِيعَتِ ِه وَهَـاذَا مِنْ عَ ُد ّوهِ فَاسْ َتغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ َ‬
‫َف َوكَ َزهُ مُوسَىا َف َقضَىا عَلَ ْيهِ }[القصص‪.]15 :‬‬
‫وخرج من المدينة خائفا يترقب الناس لئل يلحقوا به فيقتلوه‪ ،‬وهذا معنى { فَنَجّيْنَاكَ مِنَ ا ْل َغمّ }‬
‫[طه‪ ]40 :‬أي‪ :‬من القتل‪ ،‬أو من المساك بك { َوفَتَنّاكَ فُتُونا } [طه‪ ]40 :‬أي‪ :‬عرّضناك لمحن‬
‫كثيرة‪ ،‬ثم نجيناك منها‪ ،‬أولها‪ :‬أنك وُلِدْت في عام يُقتل فيه الطفال‪ ،‬ثم رم ْتكَ أمك في اليم‪ ،‬ثم ما‬
‫حدث منه مع فرعون لما جذبه من ذقنه‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬فَلَبِ ْثتَ سِنِينَ فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِ ْئتَ عَلَىا قَدَرٍ يامُوسَىا } [طه‪ ]40 :‬ذكر ال‬
‫تعالى مدة ُمكْثه في أهل مدين على أنها من مننه على موسى مع أنه كان فيها أجيرا‪ ،‬وقال عن‬
‫نفسه‪:‬‬

‫{ َربّ إِنّي ِلمَآ أَنزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ }[القصص‪.]24 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفي مدين تعرّف على شعيب عليه السلم‪ ،‬وتزوج من ابنته وأنجب منها ولدا‪ ،‬وموسى في هذا‬
‫شوّقه إلى وطنه ورؤية أمه‪ ،‬وقَدّر‬
‫كله غريب عن وطنه‪ ،‬بعيد عن أمه‪ ،‬فلما أراد ال له الرسالة َ‬
‫له العودة؛ فقال تعالى‪ } :‬ثُمّ جِ ْئتَ عَلَىا قَدَرٍ يامُوسَىا { [طه‪.]40 :‬‬
‫أي‪ :‬على قَدَر من اصطفائك‪ ،‬فقَدَر ال هو الذي حرّك في قلبك الشوق للعودة‪ ،‬وحملك على أنْ‬
‫تمشي في الطريق غير المأهول‪ ،‬وتتحمل مشقة البرد وعناء السفر‪َ ،‬قدَر ال هو الذي حرّك فيك‬
‫خاطر الشوق لمك‪ ،‬ففي طريق العودة وفي طُوىً أنت على موعد مع الصطفاء والرسالة‪.‬‬
‫ل َف َة أ ْو كانتْ َلهُ قَدَرا كَما أتَى ربّه مُوسَى‬
‫لذلك‪ ،‬فإن الشاعر الذي مدح الخليفة قال له‪:‬جاء الخِ َ‬
‫عَلَى قَدَرِثم يقول الحق سبحانه لموسى‪ } :‬وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي {‬

‫(‪)2371 /‬‬

‫وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي (‪)41‬‬

‫أي‪ :‬نجّيْتك وحافظت عليك؛ لنني أُعِدّك لمهمة عندي‪ ،‬هي إرسالك رسولً بمنهجي إلى فرعون‬
‫وإلى قومك‪.‬‬
‫وقد حاول العلماء إحصاء المطالب التي طلبها موسى عليه السلم من ربه فوجدوها ثمانية‪ {:‬قَالَ‬
‫جعَل لّي‬
‫عقْ َدةً مّن لّسَانِي * َيفْ َقهُواْ َقوْلِي * وَا ْ‬
‫َربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسّرْ لِي َأمْرِي * وَاحُْللْ ُ‬
‫حكَ كَثِيرا *‬
‫وَزِيرا مّنْ أَهْلِي * هَارُونَ َأخِي * اشْ ُددْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْ ِركْهُ فِي َأمْرِي * َكيْ ُنسَبّ َ‬
‫وَنَ ْذكُ َركَ كَثِيرا }[طه‪25 :‬ـ ‪.]34‬‬
‫ثم وجدوا أن ال تعالى أعطاه ثمانية أخرى دون سؤال منه‪ِ {:‬إذْ َأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا * أَنِ‬
‫حلِ يَأْخُ ْذهُ عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّ ُه وَأَ ْلقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ َمحَبّةً‬
‫اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْ َيمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْ َيمّ بِالسّا ِ‬
‫جعْنَاكَ إِلَىا ُأ ّمكَ‬
‫مّنّي وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي * ِإذْ َتمْشِي أُخْ ُتكَ فَ َتقُولُ َهلْ َأدُّلكُمْ عَلَىا مَن َي ْكفُلُهُ فَ َر َ‬
‫ن َوقَتَ ْلتَ َنفْسا فَنَجّيْنَاكَ مِنَ ا ْلغَمّ َوفَتَنّاكَ فُتُونا فَلَبِ ْثتَ سِنِينَ فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ ُثمّ‬
‫َكيْ َتقَرّ عَيْنُها َولَ َتحْزَ َ‬
‫جِ ْئتَ عَلَىا قَدَرٍ يامُوسَىا }[طه‪38 :‬ـ ‪.]40‬‬
‫فإنْ كان موسى عليه السلم قد طلب من ربه ثمانية مطالب فقد أعطاه ربه عز وجل ثمانية أخرى‬
‫دون أن يسألها موسى؛ ليجمع له بين العطاء بالسؤال‪ ،‬والعطاء تكرّما من غير سؤال؛ لنك إنْ‬
‫سألت ال فأعطاك َدلّ ذلك على قدرته تعالى في إجابة طلبك‪ ،‬لكن إنْ أعطاك بدون سؤال منك َدلّ‬
‫ذلك على محبته لك‪.‬‬
‫ت وَأَخُوكَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬اذْ َهبْ أَن َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2372 /‬‬

‫ت وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ِذكْرِي (‪)42‬‬


‫اذْ َهبْ أَ ْن َ‬

‫{ بِآيَاتِي } [طه‪ ]42 :‬اليات هنا هي المعجزات الباهرات التي تبهر فرعون‪ ،‬فلن تذهبا مُجرّديْن‪،‬‬
‫بل معكما دليل على صِدْق الرسالة التي تحملونها إليه‪ { :‬لَ تَنِيَا فِي ِذكْرِي } [طه‪ ]42 :‬من‬
‫التّواني أي‪ :‬الفتور أو التقصير؛ لنني أعددتكما العداد المناسب لهذه المهمة الشاقة‪ ،‬فإياكم‬
‫والتهاون فيها‪ ،‬فإنْ حدث منكما تقصير فهو تقصير في الداء‪ ،‬ل في العداد‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬فِي ِذكْرِي } [طه‪ ]42 :‬أي‪ :‬لكُنْ دائما على بالكما‪ ،‬فأنا الذي أرسلتُ‪ ،‬وأنا الذي أيدتُ‬
‫بالمعجزات‪ ،‬وأنا الذي أرعاكما وأرقبكما‪ ،‬وأنا الذي سأجازيكما فل يَغبْ ذلك عنكما‪.‬‬
‫عوْنَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬اذْهَبَآ ِإلَىا فِرْ َ‬

‫(‪)2373 /‬‬

‫طغَى (‪)43‬‬
‫عوْنَ إِنّهُ َ‬
‫اذْهَبَا إِلَى فِرْ َ‬

‫عوْنَ َلعَالٍ فِي‬


‫وهل هناك طغيان فوق ادعاء أنه َربّ؟ وقد قال تعالى في موضع آخر‪ {:‬وَإِنّ فِرْ َ‬
‫الَ ْرضِ وَإِنّهُ َلمِنَ ا ْلمُسْ ِرفِينَ }[يونس‪ ]83 :‬والمسرف‪ :‬هو الذي يتجاوز الحدود‪ ،‬وهو قد تجاوز‬
‫ل في الرض علوّ طاغية من البشر على غيره من البشر‬
‫في إسرافه وادّعى اللوهية‪ ،‬فعَ َ‬
‫المستضعفين‪.‬‬

‫(‪)2374 /‬‬

‫َفقُولَا لَهُ َقوْلًا لَيّنًا َلعَلّهُ يَ َت َذكّرُ َأوْ يَخْشَى (‪)44‬‬

‫ن طغى‪ ،‬ومن الذي حكم عليه بالطغيان؟ حين تحكم أنت عليه بالطغيان فهو‬
‫هذا لفرعون بعد أ ْ‬
‫طغَىا }[طه‪:‬‬
‫طغيان يناسب قدرات وإمكانات البشر‪ ،‬أمّا أن يقول عنه الحق تبارك وتعالى{ إِنّهُ َ‬
‫‪ ]43‬فل ُبدّ أنه تجاوز كل الحدود‪ ،‬وبلغ قمة الطغيان‪ ،‬فربّنا هو الذي يقول‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حجَجك وآياتك‪ ،‬ول‬
‫فقوله‪َ { :‬فقُولَ لَهُ َق ْولً لّيّنا } [طه‪ ]44 :‬فل ُبدّ أنْ تعطيه فُسْحة كي يرى ُ‬
‫تبادره بعنف وغِلْضة‪ ،‬وقالوا‪ :‬النصح ثقيل‪ ،‬فل ترسله جبلً‪ ،‬ول تجعله جدلً‪ ،‬ول تجمع على‬
‫المنصوح شدتين‪ :‬أنْ تُخرِجه مما ألف بما يكره‪ ،‬بل تُخرِجه مما ألِف بما يحب‪.‬‬
‫ح ْكمَةِ‬
‫وهذا منهج في الدعوة واضح وثابت‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ بِالْ ِ‬
‫وَا ْل َموْعِظَةِ ا ْلحَسَنَةِ }[النحل‪.]125 :‬‬
‫عمّا أحبّ من حرية واستهتار في الشهوات والملذات‪ ،‬ثم‬
‫لنك تخلعه مما اعتاد وألف‪ ،‬وتُخرجه َ‬
‫تُقيّده بالمنهج‪ ،‬فليكُنْ ذلك برفق ولُطْف‪.‬‬
‫وهذه سياسة يستخدمها البشر الن في مجال الدواء‪ ،‬فبعد أن كان الدواء مُرّا يعافُه المرضى‪،‬‬
‫توصلوا الن إلى برشمة الدواء المر وتغليفه بطبقة حلوة المذاق حتى تتم علمية البَلْع‪ ،‬ويتجاوز‬
‫الدواء منطقة المذاق‪.‬‬
‫وكذلك الحال في مرارة الحق والنصيحة‪ ،‬عليك أنْ تُغلّفها بالقول اللين اللطيف‪.‬‬
‫خشَىا } [طه‪ ]44 :‬لعل‪ :‬رجاء‪ ،‬فكيف يقول الحق تبارك وتعالى‪ّ { :‬لعَلّهُ‬
‫وقوله‪ّ { :‬لعَلّهُ يَتَ َذكّرُ َأوْ يَ ْ‬
‫علْمه تعالى أنه لن يتذكّر ولن يخشى‪ ،‬وسيموت كافرا غريقا؟‬
‫يَتَ َذكّرُ َأوْ َيخْشَىا } [طه‪ ]44 :‬وفي ِ‬
‫قالوا‪ :‬لن الحق سبحانه يريد لموسى أن يدخل على فرعون دخول الواثق من أنه سيهتدي‪ ،‬ل‬
‫دخولَ اليائس من هدايته‪ ،‬لتكون لديه الطاقة الكافية لمناقشته وعَرْض الحجج عليه‪ ،‬أمّا لو دخل‬
‫وهو يعلم هذه النتيجة لكان محبطا ل يرى من كلمه فائدة‪ ،‬كما يقولون (ضربوا العور على‬
‫عينه قال خسرانه خسرانه)‪.‬‬
‫فالحق سبحانه يعلم ما سيكون من أمر فرعون‪ ،‬لكنْ يريد أنْ يقيمَ الحجة عليه{ لِئَلّ َيكُونَ لِلنّاسِ‬
‫سلِ }[النساء‪.]165 :‬‬
‫عَلَى اللّهِ حُجّةٌ َبعْدَ الرّ ُ‬
‫وقوله‪ { :‬يَتَ َذكّرُ َأوْ َيخْشَىا } [طه‪ ]44 :‬كأن النسان إذا ما ترك شراسة تفكيره‪ ،‬وغُمة شهواته في‬
‫نفسه‪ ،‬ل بُدّ أنْ يهتدي بفطرته إلى وجود ال أو (يتذكر) عالم الذّر‪ ،‬والعهد الذي أخذه ال عليه يوم‬
‫شهِدْنَآ }[العراف‪.]172 :‬‬
‫ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ‬
‫أنْ قال‪ {:‬أََل ْ‬
‫ل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه يُهوّدانه‪ ،‬أو‬
‫والذي قال عنه النبي صلى ال عليه وسلم‪ُ " :‬ك ّ‬
‫يُنصّرانه‪ ،‬أو يُمجّسانه "‪.‬‬
‫فلو تذكّر النسان‪ ،‬وجرّد نفسه من هواها ل ُبدّ له أنْ يهتدي إلى وجود ال‪ ،‬لكن الحق ـ سبحانه‬
‫ن َومُنذِرِينَ }‬
‫وتعالى ـ جعل للغفلة مجالً‪ ،‬وأرسل الرسل للتذكير؛ لذلك قال‪ {:‬رّسُلً مّبَشّرِي َ‬
‫[النساء‪ ]165 :‬ولم يقل‪ :‬بادئين‪.‬‬
‫أمّا مسألة اليمان بال فكان ينبغي أن تكون واضحة معروفة للناس أن هناك إيمانا بإله خالق قادر‬
‫فقط ينتظرون ما يطلبه منهم وما يتعبّدهم به‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ماذا تفعل؟ وماذا تترك؟ وهذه هي مهمة الرسل‪.‬‬
‫وسبق أن ضربنا مثلً برجل انقطعت به السّبل في صحراء دَويّة‪ ،‬ل يجد ماءً ول طعاما‪ ،‬حتى‬
‫أشرف على الهلك‪ ،‬ثم غلبه النوم فنام‪ ،‬فلما استيقظ إذا بمائدة عليها ألوان الطعام والشراب‪ .‬بال‬
‫قبل أنْ يمد يده للطعام‪ ،‬ألَ يسأل‪ :‬مَنْ أتى إليه به؟‬
‫وهكذا النسان‪ ،‬طرأ على كون ُم َعدّ لستقباله‪ :‬أرض‪ ،‬وسماء‪ ،‬وشمس‪ ،‬وقمر‪ ،‬وزرع‪ ،‬ومياه‪،‬‬
‫وهواء‪ .‬أليس جديرا به أن يسأل‪ :‬من الذي خلق هذا الكون البديع؟ فلو تذكرتَ ما طرأتَ عليه من‬
‫الخير في الدنيا ل نتهيتَ إلى اليمان‪.‬‬
‫فمعنى‪ } :‬يَتَ َذكّرُ { [طه‪ ]44 :‬أي‪ :‬النعم السابقة فيؤمن بالمنعم } َأوْ يَخْشَىا { [طه‪ ]44 :‬يخاف‬
‫العقوبة اللحقة‪ ،‬فيؤمن بال الذي تصير إليه المور في الخرة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق تبارك وتعالى عنهما‪ } :‬قَالَ رَبّنَآ إِنّنَا َنخَافُ {‬

‫(‪)2375 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like