Professional Documents
Culture Documents
()2146 /
وتتجلى في هذه الية رحمة ال بالمحبوب محمد صلى ال عليه وسلم فلم يُ ِردْ سبحانه وتعالى أن
يصدم رسوله بمسألة المخالفة هذه ،بل أعطاه ما أراد ،وأجابه إلى ما طَلب من مسألة أهل الكهف،
علٌ ذاِلكَ غَدا
ثم في النهاية ذكّره بهذه المخالفة في أسلوب وَعْظ رقيقَ { :ولَ َتقُولَنّ لِشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ
* ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ[ } ..الكهف]24-23 :
وقد سبق أنْ ذكرنا أنه صلى ال عليه وسلم حينما سأله القوم عن هذه القصة قال :سأجيبكم غدا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولم َي ُقلْ :إن شاء ال .فلم يعاجله ال تعالى بالعتاب ،بل قضى له حاجته ،ثم لفتَ نظره إلى أمر
هذه المخالفة ،وهذا من رحمة ال برسوله صلى ال عليه وسلم.
عفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ َأذِنتَ َلهُمْ[} ..التوبة]43 :
كما خاطبه بقولهَ {:
ل وقرّره؛ لن هذه المسألة منتهية ومعلومة للرسول ،ثم عاتبه بعد ذلك .كما لو طلب
فقدّم العفو أو ً
عوْنا أو مساعدة ،وقد سبق أنْ أساء إليك ،فمن اللياقة َألّ تَصدِمه بأمر الساءة،
منك شخص َ
وتُذكّره به أولً ،بل ا ْقضِ له حاجته ،ثم ذكّره بما فعل.
والحق سبحانه يقولِ { :إلّ أَن يَشَآءَ اللّ ُه وَا ْذكُر رّ ّبكَ ِإذَا نَسِيتَ.} ..
()2147 /
عسَى أَنْ َيهْدِيَنِ رَبّي لَِأقْ َربَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ()24
ت َو ُقلْ َ
إِلّا أَنْ َيشَاءَ اللّ ُه وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ ِإذَا نَسِي َ
أي :على فَرْض أنك نسيت المشيئة ساعة ال َبدْء في الفعل ،فعليك أن تعيدها ثانية لتتدارك ما حدث
منك من نسيان في بداية المر.
لقْ َربَ مِنْ هَـاذَا رَشَدا } [الكهف ]24 :أي :يهديني
وقوله تعالىَ { :وقُلْ عَسَىا أَن َيهْدِيَنِ رَبّي َ
ويعينني ،فل أنسى أبدا ،وأن يجعل ِذكْره لزمة من لوازمي في كل عمل من أعمالي فل أبدأ
عملً إل بقوْل :إنْ شاء ال.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَلَبِثُواْ فِي َكهْ ِفهِمْ ثَلثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ.} ...
()2148 /
سعًا ()25
ن وَا ْزدَادُوا تِ ْ
وَلَبِثُوا فِي َك ْه ِفهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِي َ
وهذه الية تعطينا لقطةً من المذكرة التفصيلية التي أعطاها ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم
عن أهل الكهف ،وهي تُحدّد عدد السنين التي قضاها الفِتْية في كهفهم بأنها ثلثمائة سنة ،وهذا هو
عددها الفعليّ بحساب الشمس.
لذلك؛ فالحق سبحانه لم َي ُقلْ ثلثمائة وتسعا ،بل قال { :وَازْدَادُواْ تِسْعا } [الكهف ]25 :ولما سمع
أهل الكتاب هذا القول اعترضوا وقالوا :نعرف ثلثمائة سنة ،ولكن ل نعرف التسعة؛ ذلك لن
حسابهم لهذه المدة كان حسابا شمسيا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعلوم أن الخالق سبحانه حينما خلق السماوات والرض قسّم الزمن تقسيما فلكيا ،فجعل الشمس
عنوانا لليوم ،نعرفه بشروقها وغروبها ،ولما كانت الشمس ل تدلّنا على بداية الشهر جعل الخالق
ع ّدةَ
سبحانه الشهر مرتبطا بالقمر الذي يظهر هللً في أول كل شهر ،وقد قال تعالى { :إِنّ ِ
ت وَالَرْضَ[ } ..التوبة]36 :
سمَاوَا ِ
شهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ َي ْومَ خََلقَ ال ّ
عشَرَ َ
شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا َ
ال ّ
فلو حسبتَ الثلثمائة سنة هذه بالحساب القمري لوجدتها ثلثمائة سنة وتسعا ،إذن :هي في
حسابكم الشمسي ثلثمائة سنة ،وفي حسابنا القمري ثلثمائة وتسعا .ونعرف أن السنة الميلدية
تزيد عن الهجرية بأحد عشر يوما تقريبا في كل عام.
ومن حكمة الخالق سبحانه أن ترتبط التوقيتات في السلم بالهلة ،ولك أن تتصور لو ارتبط
الحج مثلً بشهر واحد من التوقيت الشمسي في طقس واحد ل يتغير ،فإنْ جاء الحج في الشتاء
يظل هكذا في كل عام ،وكم في هذا من مشقة على مَنْ ل يناسبهم الحج في فصل الشتاء .والمر
كذلك في الصيام.
أما في التوقيت القمري فإن هذه العبادات تدور بمدار العام ،فتأتي هذه العبادات مرة في الصيف،
ومرة في الخريف ،ومرة في الشتاء ،ومرة في الربيع ،فيؤدي كل إنسان هذه العبادة في الوقت
الذي يناسبه؛ لذلك قالوا :يا زمن وفيك كل الزمن.
والمتأمل في ارتباط شعائر السلم بالدورة الفلكية يجد كثيرا من اليات والعجائب ،فلو تتبعتَ
مثلً الذان للصلة في ظل هذه الدورة لوجدت أن كلمة " ال أكبر " نداء دائم ل ينقطع في ليل أو
نهار من مُلْك ال تعالى ،وفي الوقت الذي تنادي فيه " ال أكبر " يُنادي آخر " أشهد أل إله إل ال
" وينادي آخر " أشهد أن محمدا رسول ال " وهكذا دواليك في منظومة ل تتوقف.
وكذلك في الصلة ،ففي الوقت الذي تصلي أنت الظهر ،هناك آخرون يُصلّون العصر ،وآخرون
يُصلّون المغرب ،وآخرون يُصلّون العشاء ،فل يخلو َكوْنُ ال في لحظة من اللحظات من قائم أو
ل أوقات الزمن ،وب ُكلّ ألوان العبادة.
راكع أو ساجد .إذن :فلفظ الذان وأفعال الصلة شائعة في ُك ّ
ت وَالَ ْرضِ.} ..
سمَاوَا ِ
ثم يقول الحق سبحانهُ { :قلِ اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا لَبِثُواْ لَهُ غَ ْيبُ ال ّ
()2149 /
ن وَِليّ وَلَا
سمِع مَا َلهُمْ مِنْ دُونِهِ مِ ْ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ أَ ْبصِرْ بِهِ وَأَ ْ
ُقلِ اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا لَبِثُوا لَهُ غَ ْيبُ ال ّ
ح ْكمِهِ َأحَدًا ()26
يُشْ ِركُ فِي ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما أشدّ سمعه؛ لنه البصر والسمع المستوعب لكلّ شيء بل قانون.
ح ْكمِهِ أَحَدا } [الكهف ]26 :كأن الحق سبحانه
ي وَلَ يُشْ ِركُ فِي ُ
وقوله { :مَا َلهُم مّن دُونِهِ مِن وَِل ّ
وتعالى يُطمئِن عباده بأن كلمه حَقّ ل يتغير ول يتبدل؛ لنه سبحانه واحد أحد ل شريك له يمكن
أن يُغيّر كلمه.
ك لَ
حيَ إِلَ ْيكَ مِن كِتَابِ رَ ّب َ
ثم يقول الحق سبحانه لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم { :وَا ْتلُ مَآ ُأ ْو ِ
مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِهِ.} ..
()2150 /
أي بعد هذه السئلة التي سألك كفار مكة إياها ،وأخبرك ال بها فأجبتهم ،اعلم أن لك ربا رفيقا
بك ،ل يتخلّى عنك ول يتركك لكيدهم ،فإنْ أرادوا أن يصنعوا لك مأزقا أخرجك ال منه ،وإياك
أنْ تظنّ أن العقبات التي يقيمها خصومك ستُؤثّر في أمر دعوتك.
وإنْ أبطأتْ ُنصْرة ال لك فاعلم أن ال يريد أنْ يُمحّص جنود الحق الذين يحملون الرسالة إلى أن
تقوم الساعة ،فل يبقى في ساحة اليمان إل القوياء الناضجون ،فالحداث والشدائد التي تمرّ
حمْل هذه
ن هو مأمون على َ
بطريق الدعوة إنما لتغربل أهل اليمان حتى ل يصمد فيها إل مَ ْ
العقيدة.
ن يكون
وقوله { :لَ مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِهِ[ } ..الكهف ]27 :لن كلمات ال ل يستطيع أحد أنْ يُبدّلها إل أ ْ
معه سبحانه إله آخر ،فما دام هو سبحانه إلها واحدا ل شريك له ،فاعلم أن قوله الحق الذي ل
جدَ مِن دُونِهِ مُلْ َتحَدا } [الكهف ]27 :أي :ملجأ تذهب إليه؛ لن حَسْبك ال
يُبدّل ول يُغيّر { :وَلَن تَ ِ
وهو ِنعْم الوكيل ،كما قال تعالىَ {:أوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ إِنّ فِي ذاِلكَ
حمَةً وَ ِذكْرَىا ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }[العنكبوت]51 :
لَرَ ْ
شيّ.} ...
سكَ مَعَ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّبهُم بِا ْلغَدَوا ِة وَا ْلعَ ِ
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى { :وَاصْبِرْ َنفْ َ
()2151 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نزلتْ هذه الية في " أهل الصّفّة " وهم جماعة من أهل ال انقطعوا للعبادة فتناولتهم ألسنة الناس
واعترضوا عليهم ،لماذا ل يعملون؟ ولماذا ل يشتغلون كباقي الناس؟ بل وذهبوا إلى رسول ال
صلى ال عليه وسلم يقولون :نريد أن تلتفت إلينا ،وأن تترك هؤلء المجاذيب ،فأنزل ال تعالى{ :
سكَ مَعَ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّبهُم[ } ..الكهف]28 :
وَاصْبِرْ َنفْ َ
لذلك علينا حينما نرى مثل هؤلء الذين نُسمّيهم المجاذيب الذين انقطعوا لعبادة ال أن ل نحتقرهم،
ول نُقلّل من شأنهم أو نتهمهم؛ لن ال تعالى جعلهم موازين للتكامل في الكون ،ذلك أن صاحب
الدنيا الذي انغمس فيها وعاش لها وباع دينه من أجل دُنْياه حينما يرى هذا العابد قد نفض يديه من
الدنيا ،وألقاها وراء ظهره ،وراح يستند إلى حائط المسجد مُمدّدا رجلً ،ل تعنيه أمور الدنيا بما
فيها.
ومن العجيب أن صاحب الدنيا هذا العظيم صاحب الجاه تراه إنْ أصابه مكروه أو نزلتْ به نازلة
ُيهْرَع إلى هذا الشيخ يُقبّل يديه ويطلب منه الدعاء ،وكأن الخالق سبحانه جعل هؤلء المجاذيب
ليرد بهم جماح أهل الدنيا المنهمكين في دوامتها المغرورين بزهرتها.
خدْمة هؤلء العباد ،ففي يوم من اليام ُقمْنا لصلة المغرب
وأيضا ،كثيرا ما ترى أهل الدنيا في ِ
في مسجد سيدنا الحسين ،وكان معنا رجل كبير من رجال القتصاد ،فإذا به يُخرج مبلغا من المال
ويطلب من العامل صرفه إلى جنيهات ،فأتى العامل بالمبلغ في صورة جنيهات من الحجم
الصغير ،فإذا برجل القتصاد الكبير يقول له :ل ،ل ُبدّ من جنيهات من الحجم الكبير؛ لن فلنا
المجذوب على باب الحسين ل يأخذ إل بالجنيه الكبير ،فقلت في نفسي :سبحان ال مجذوب على
باب المسجد وشغل أكبر رجل اقتصاد في مصر ،ويحرص الرجل على إرضائه ويعطيه ما يريد.
ثم يقول تعالىَ { :ولَ َتعْدُ عَيْنَاكَ عَ ْن ُهمْ[ } ..الكهف ]28 :أي :اجعل عينيك فيهم ،ول تصرفها
عنهم إلى غيرهم من أهل الدنيا؛ لن مَدد النظرة من رسول ال صلى ال عليه وسلم زاد للمؤمن
ن فعلتَ ذلك وانصرفتَ عنهم ،فكأنك تريد زينة
{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا[ } ..الكهف ]28 :لنك إ ْ
الحياة الدنيا وزخارفها.
صفّة وعدم النصراف عنهم إلى أهل الدنيا
وفي أمر الرسول صلى ال عليه وسلم بملزمة أهل ال ّ
ما يُقوّي هؤلء النفر من أهل اليمان الذين جعلوا دَيْدنهم وشاغلهم الشاغل عبادة ال والتقرّب
إليه.
لكن ،هل المطلوب أن يكون الناس جميعا كأهل الصّفّة منقطعين للعبادة؟ بالطبع ل ،فالحق سبحانه
وتعالى جعلهم بين الناس قِلّة ،في كل بلد واحد أو اثنان ليكونوا أُسْوة تُذكّر الناس وتكبح جماح
تطلّعاتهم إلى الدنيا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن العجيب أن ترى البعض يدّعي حال هؤلء ،ويُوهِم الناس أنه مجذوب ،وأنه وَليّ َنصْبا
واحتيالً ،والشيء ل يُدّعَى إل إذا كانت من ورائه فائدة ،كالذي يدّعي الطب أو يدّعي العلم لما
رأى من مَيْزات الطبيب والعالم .فلما رأى البعض حال هؤلء المجاذيب ،وكيف أنهم عزفوا عن
عمّا لهم من مكانة ومنزلة في
الدنيا فجاءتْ إليهم تدقّ أبوابهم ،وسعى إليهم أهلها بخيراتها ،فضلً َ
النفس ومحبة في القلوب.
فلماذا ـ إذنْ ـ ل يدعون هذه الحال؟ ولماذا ل ينعمون بكل هذه الخيرات دون أدنى مجهود؟ وما
أفسد على هؤلء العباد حالَهم ،وما خاض الناس في سيرتهم إل بسبب هذه الطبقة الدخيلة المدّعية
التي استمرأتْ حياة الكسل والهوان.
غفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ِذكْرِنَا[ { ..الكهف ]28 :لنه ل يأمرك بالنصراف
طعْ مَنْ أَ ْ
ثم يقول تعالىَ } :ولَ تُ ِ
ن غفل عن ذكر ال ،أما مَن اطمأن قلبه إلى ِذكْرنا وذاق
عن هؤلء واللتفات إلى أهل الدنيا إل مَ ْ
حلوة اليمان فإنه ل يأمر بمثل هذا المر ،بل هو أقرب ما يكون إلى هؤلء المجاذيب الولياء
صفّة ،بل وربما تراوده نفسه أن يكون مثلهم ،فكيف يأمر بالنصراف عنهم؟
من أهل ال ّ
وقد أوضح النبي صلى ال عليه وسلم الموقف من الدنيا في قوله " :أوحى ال إلى الدنيا :مَنْ
خدمني فاخدميه ،ومَنْ خدمك فاستخدميه " ..فالدنيا بأهلها في خدمة المؤمن الذي يعمر اليمانُ
قلبه ،وليس في باله إل ال في كل ما يأتي أو َيدَع.
صفّة ما غفل
وقوله تعالى } :وَاتّبَعَ َهوَاهُ[ { ..الكهف ]28 :أي :أن هذا الذي يُحرّضك على أهل ال ّ
قلبه عن ذكرنا إل لنه سار خلف هواه ،فأخذه هواه وألهاه عن ذكر ال ،فما دام قد انشغل بشيء
يوافق هواه فلن يهتم بمطلوب ال ،إنه مشغول بمطلوب نفسه؛ لذلك يقول صلى ال عليه وسلم" :
ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تِبَعا لما جئتُ به ".
فالمؤمن الحق سليم اليمان مَنْ كان هواه ورغبته موافقة لمنهج ال ،ل يحيد عنه ،وقد قال الحق
ت وَالَرْضُ[} ..المؤمنون]71 :
سمَاوَا ُ
حقّ أَ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
سبحانه وتعالى {:وََلوِ اتّ َبعَ الْ َ
وقوله تعالىَ } :وكَانَ َأمْ ُرهُ فُرُطا { [الكهف ]28 :أي :كان أمره ضياعا وهباءً ،فكأنه أضاع نفسه.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :و ُقلِ ا ْلحَقّ مِن رّ ّبكُمْ َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن.{ ...
()2152 /
َوقُلِ ا ْلحَقّ مِنْ رَ ّب ُكمْ َفمَنْ شَاءَ فَلْ ُي ْؤمِنْ َومَنْ شَاءَ فَلْ َي ْكفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارًا َأحَاطَ ِب ِهمْ سُرَا ِد ُقهَا
ب وَسَا َءتْ مُرْ َت َفقًا ()29
شوِي ا ْل ُوجُوهَ بِئْسَ الشّرَا ُ
وَإِنْ يَسْ َتغِيثُوا ُيغَاثُوا ِبمَاءٍ كَا ْل ُم ْهلِ َي ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّ مِن رّ ّبكُمْ[ } ..الكهف ]29 :أيُ :قلِ الحق جاء من ربكم ،واختار كلمة
قوله تعالىَ { :و ُقلِ الْ َ
الرب ولم َي ُقلْ من ال ،لن الكل معتقد أن الرب هو الذي خلق ،كما في قوله تعالى {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم
مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ }[الزخرف]87 :
ت وَالَرْضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[لقمان]25 :
سمَاوَا ِ
وقوله {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خََلقَ ال ّ
فمعنى { :مِن رّ ّبكُمْ[ } ..الكهف ]29 :أي :بإقراركم أنتم ،فالذي خلقكم وربّاكم وتعهدكم هو الذي
نزّل لكم هذا الحق و { رّ ّبكُمْ[ } ..الكهف ]29 :أي :ليس ربي وحدي ،بل ربكم وربّ الناس
جميعا.
والحق :هو الشيء الثابت ،وما دام من ال فلن يُغيّره أحد؛ لن الذي يتغير كلمه هو الذي يقضي
خفَى عليه شيء ول
شيئا ويجهل شيئا مُقبلً ،وبعد ذلك يُعدّل ،فالحق من ال لنه سبحانه ل يَ ْ
حكْم من أحكامه من أحد من خلقه.
َيعْزُب عن عمله شيء ،لذلك ل استدراك على ُ
فالربوبية عطاء ،فربك الذي خلقك وأمدّك بالنعم ،وهو الذي يُربّيك كما يُربّي الوالد ولده؛ لذلك لم
يعترض على الربوبية أحد ،أما اللوهية فمطلوبها تكليف :افعل كذا ،ول تفعل كذا ،فخاطبهم
بالربوبية التي فيها مصلحتهم ،ولم يخاطبهم باللوهية التي تُقيّد اختياراتهم والنسان بطبعه ل يميل
إلى ما يُقيّد اختياراته؛ لذلك يلجأون إلى عبادة آلهة أخرى؛ لنها ليس لها مطلوبات.
عمّا نهاك؟ فما العبادة إل طاعة
فالذي يعبد الشمس أو الصنم أو غيره :بماذا أمرك معبودك؟ و َ
عابد لمعبود ،إذن :فلهم أن يقولواِ :نعْمَ هذا الله ،و ِنعْمَ هذا الدين؛ لنه يتركني بحريتي أفعل ما
أريد.
لذلك؛ نجد الذين يدّعُون ألوهية ،أو يدعون نُبوّة دائما يميلون إلى تخفيف المناهج؛ لنهم يعلمون
أن المناهج السماوية تصعُب على الناس؛ لن فيها حَجْرا على حرية حركتهم وحرية اختياراتهم،
فلما ادّعى مسيلمة النبوة رأى الناس تتبرم من الزكاة فأسقطها عنهم ،وكذلك لما ادعتّ سجاح
ت الصلة ،وإل ،فكيف سيجمعون الناس من حولهم؟
النبوة خفف ْ
وما أشبه ُمدّعي المس بمدعي اليوم الذين يبيعون الدين بعَ َرضٍ من الدنيا ،ف ُيفْتون الناس بتحليل
ما حرّم ال ،مثل الختلط وغيره من القضايا حتى هان أمر الدين على الناس .والدين وإنْ كان
فطريا في النفس النسانية إل أن النسان يميل إلى مَنْ يُخفّف عنه ،وتعجب حين ترى بعض
المثقفين وحملة الشهادات يذهبون إلى الدجالين ويصدقونهم ،وترى الواحد منهم يُكذّب نفسه أنه
على دين يريحه ،ويفعل في ظله ما يريد.
إذن :ما ُدمْتم مؤمنين بربوبية خلق وربوبية إمداد وإنعام ،فعليكم أن تؤمنوا بما جاء من ربكم ،كما
نقول في المثل( :اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي) ،ومع ذلك ورغم فضل ال ونعمه عليهم ُقلْ لهم:
ل جب َر في اليمان { َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[ { .الكهف ]29 :لن منفعة اليمان عائدة عليكم أنتم.
وقد جاء في الحديث القدسي " :إنكم لن تملكوا نفعي فتنفعوني ،ولن تملكوا ضُرّي فتضروني ،ولو
أن أوّلكم وآخركم ،وحيكم وميتكم ،وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أ ْتقَى قلب رجل واحد منكم ما
زاد ذلك في مُلْكي شيئا ،ولو أن أولكم وآخركم ،وحيكم وميتكم ،وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على
أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ".
" ولو أن أولكم وآخركم اجتمعوا في صعيد واحد ،وسألني ُكلّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك
مما عندي إل ك ِمغْرز إبرة إذا غمسها أحدكم في بحر ،وذلك أَنّي جواد واجد ماجد ،عطائي كلم
ن أقولَ له كُنْ فيكون ".
وعذابي كلم ،إنما أمري لشيء إذا أردتُه أ ْ
ل صَالِحا فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَآءَ َفعَلَ ْيهَا..
ع ِم َ
إذن :فائدة اليمان تعود على المؤمن ،كما قال تعالى {:مّنْ َ
}[فصلت ]46 :لكني أحب لخَلْقي أن يكونوا دائما على خير مني ،فأنا أعطيهم خير الدنيا ،وأحب
أيضا أن أعطيهم خير الخرة.
شيّ يُرِيدُونَ
سكَ مَعَ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّبهُم بِا ْلغَدَاةِ وَا ْلعَ ِ
جاءت هذه الية بعد قوله تعالى {:وَاصْبِرْ َنفْ َ
جهَهُ[} ..الكهف]28 :
وَ ْ
وكان خصوم السلم حينما يَ َروْنَ الدعوة تنتشر شيئا فشيئا يحاولون إيقافها ،ل من جهتهم
ن يؤمن ،ولكن من جهته صلى ال عليه وسلم ،فأرسلوا إليه َوفْدا ،قالوا :يا محمد
بالعدوان على مَ ْ
إنّا بعثنا إليك ل ُنعْذرَ فيك ،لقد أدخلتَ على قومك ما لم يُدخِلْه أحد قبلك ،شتمتَ آلهتنا وسفّ ْهتَ
أحلمنا وسبَبْت ديننا ،فإنْ كنت تريد مالً جمعنا لك المال حتى تصير أغنانا ،وإنْ كنت تريد جاها
سوّدناكَ علينا ،وجعلناك رئيسنا ،وإنْ كنت تريد مُلْكا ملكْناك.
فقال صلى ال عليه وسلم " :وال ما بي ما تقولون ،ولكن ربي أرسلني بالحق إليكم ،فإنْ أنتم
أطعتُم فبها ،وإلّ فإنّ ال ناصري عليكم ".
وكانت هذه المحاولة بينهم وبينه صلى ال عليه وسلم لعل المر حين يكون سِرا يتساهل فيه
ن يقبلَ منا ونحن
رسول ال ،فلما لم يجدوا ُبغْيتهم قالوا :نتوسل إليك بمَنْ تحب ،فربما خجل أ ْ
خصومه ،فلنرسل إليه مَنْ يحبه ،فذهبوا إلى عمه أبي طالب ،فلما كلّمه عمه قال قولته المشهورة:
" وال ،يا عَ ّم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أتركَ هذا المر ما تركته،
حتى يُظِهره ال ،أو َأهْلِك دونه ".
فلما فشلت هذه المحاولة أيضا أ َت ْوهُ من ناحية ثالثة ،فقالوا :ننتهي إلى أمر هو وسط بيننا وبينك:
عكَ من هؤلء الفقراء ،واصْرِف وجهك عنهم ،ول تربط نفسك بهم ،ووجّه وجهك إلينا ،فأنزل
دَ ْ
سكَ[} ..الكهف]28 :
ال {:وَاصْبِرْ َنفْ َ
ثم بيّن الحق سبحانه وتعالى أن السلم أو الدين الذي أًَنزله ال ل يأخذ أحكامه من القوم الذين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سلَ ليضع لهم موازين الحق ،ويدعو قومه إليها ،فكيف
أُنزِل عليهم؛ لن رسول ال إنما أُر ِ
يضعون هم هذه الموازين ،فيأمرون رسول ال بأنْ يصرف وجهه عن الفقراء ويتوجّه إليهم؟
لذلك قالَ } :وقُلِ ا ْلحَقّ مِن رّ ّب ُكمْ.
[ { .الكهف ]29 :لنه بعثني بالحق رسولً إليكم ،وما جئت إل لهدايتكم ،فإنْ كنتم تريدون
توجيهي حسْب أهوائكم فقد انقلبتْ المسألة ،ودعوتكم لي أن أنصرف عن هؤلء الذين يدعُون
ربهم بالغداة والعشيّ وأتوجه إليكم ،فهذا دليل على عدم صِدْق إيمانكم ،وأنكم لستم جادّين في
اتباعي؛ لذلك فل حاجة بي إليكم.
ثم يقول تعالىَ } :فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ[ { ..الكهف ]29 :أي :ادخلوا على هذا
حقّ ينزل من ال ،ل أن آخذ الحق منكم ،ثم أردّه إليكم ،بل الحق الذي أرسلني
الساس :أن كل َ
ال به إليكم ،وعلى هذا مَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر.
والمر في هذه الية سبق أنْ أوضحناه فقلنا :إذا وجدنا أمرا بغير مطلوب فلنفهم أن المر استُعمِل
في غير موضعه ،كما يقول الوالد لولده المهمل :العب كما تريد ،فهو ل يقصد أمر ولده باللعب
بالطبع ،بل يريد تهديده وتأنيبه.
وهكذا فيَ } :فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ[ { ..الكهف ]29 :وإل لو أخذتَ الية على
إطلقها لَكانَ مَنْ آمن مطيعا للمرَ } :فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن[ { ..الكهف ]29 :والعاصي أيضا مطيع
للمرَ } :ومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ[ { ..الكهف ]29 :فكلهما ـ إذن ـ مطيع ،فكيف تُعذّب واحدا دون
الخر؟
فالمر هنا ليس على حقيقته ،وإنما هو للتسوية والتهديد ،أي :سواء عليكم آمنتم أم لم تؤمنوا ،فأنتم
أحرار في هذه المسألة؛ لن اليمان حصيلته عائدة إليكم ،فال سبحانه غنيّ عنكم وعن إيمانكم،
وكذلك خَلْق ال الذين آمنوا بمحمد هم أيضا أغنياء عنكم ،فاستغناء ال عنكم مَسْحوب على
استغناء الرسول ،وسوف ينتصر محمد وينتشر دين ال دونكم.
وقد أراد الحق سبحانه أن يصيح رسول ال صلى ال عليه وسلم بالدعوة في مكة ويجهر بها في
أُذن صناديد الكفر وعُتَاة الجزيرة العربية الذين ل يخرج أحد عن رأيهم وأمرهم؛ لن لهم مكانةً
وسيادة بين قبائل العرب.
ولحكمة أرادها الحق سبحانه لم ي ْأتِ نصر السلم على يد هؤلء ،ولو جاء النصر على أيديهم
لقيل :إنهم أَِلفُوا النصر وألفوا السيادة على العرب ،وقد تعصّبوا لواحد منهم ليسُودوا به الدنيا كلها،
فالعصبية لمحمد لم تخلق اليمان بمحمد ،ولكن اليمان بمحمد خلق العصبية لمحمد.
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارا َأحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا[ { ..الكهف]29 :
والعذاب هنا لمن اختار الكفر ،لكن لماذا تُهوّل الية وتُفخّم أمر العذاب؟ لن العلم بالعقاب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتهويله وتفظيعه النذار به ل ليقع الناس في موجبات العقاب ،بل لينتهوا عن الجريمة ،وينأوْا
خوْف العذاب سيمنعهم من
عن أسبابها ،إذن :فتفظيع العقاب وتهويله رحمة من ال بالعباد؛ لن َ
الجريمة.
ومعنى } أَعْ َتدْنَا { أي :أعددنا ،فالمسألة منتهية مُسْبقا ،فالجنة والنار مخلوقة فعلً ومُعدّة ومُجهّزة،
ل أنها س ُتعَ ّد في المستقبل ،وقد أُعِ ّدتْ إعداد قادر حكيم ،فأعدّ ال الجنة لتتسع لكل الخَلْق إنْ آمنوا،
وأعدّ النار لتتسع لكل الخلق إنْ كفروا ،فإنْ آمن بعض الخلق وكفر البعض ،فالذي آمن َوفّر مكانه
في النار ،والذي كفر وفّر مكانه في الجنة.
لذلك قال تعالى في هذه المسألة {:وَتِ ْلكَ ا ْلجَنّةُ الّتِي أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ }[الزخرف]72 :
إذن :فخَلْق ال تعالى للجنة وللنار أمر منضبط تماما ،ولن يحدث فيهما أزمة أو زحام أبدا ،بل
لكلّ مكانه المعدّ المخصّص.
وقوله تعالى } :لِلظّاِلمِينَ[ { ..الكهف ]29 :والظلم أن تأخذ حقا وتعطيه للغير ،وللظلم أشكال
حقّ ال في العبادة وتعطيه لغيره ،وهذا قمة
كثيرة ،أفظعها وأعظمها الشراك بال ،لنك تأخذ َ
الظلم ،ثم يأتي الظلم فيما دون ذلك ،فيأخذ كل ظالم من العذاب على َقدْر ظُلْمه ،إل أن يكون
مشركا .فهذا عذابه دائم ومستمر ل ينقطع ول يفتُر عنه ،فإنْ ظلم المؤمن ظلما دون الشرك فإنه
يُعذّب به ،ثم يُدخِله ال الجنة ،إنْ لم ي ُتبْ ،وإنْ لم يغفر ال له.
وقوله تعالى } :أَحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا[ { ..الكهف ]29 :السرادق ،كما نقول الن :أقاموا السرادق
أي :الخيمة .و معنى سرادق :أي محيط بهم ،فكأن ال تعالى ضرب سرادقا على النار يحيط بهم
ويحجزهم ،بحيث ل تمتد أعينهم إلى مكان خالٍ من النار؛ لن رؤيته لمكان خَالٍ من النار قد
تُوحي إليه بالمل في الخروج ،فالحق سبحانه يريد أنْ يؤيسَهم من الخروج.
ب وَسَآ َءتْ مُرْ َتفَقا
شوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَا ُ
ثم يقول تعالى } :وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُمهْلِ يَ ْ
{ [الكهف]29 :
الستغاثة :صَرْخة ألم من متألم لمن يدفع عنه ذلك اللم ،كما قال في آية أخرى {:مّآ أَنَاْ
خيّ[} ..إبراهيم ]22 :أي :حين يصرخون من العذاب ل أستطيع أنْ
خكُ ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ
ِب ُمصْرِ ِ
أزيل صراخكم ،وأنتم كذلك ل تزيلون صراخي.
فأهل النار حين يستغيثون من ألم العذاب } ُيغَاثُواْ { يتبادر إلى الذّهْن أنهم ُيغَاثُون بشيء من رحمة
ال ،فتأتيهم نفحة من الرحمة أو يُخفّف عنهم العذاب ..ل } ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ[ { ..الكهف]29 :
أي :فإنْ طلبوا ال َغوْث بماء بارد يخفف عنهم ألم النار ،فإذا بهم بماء كالمهل.
عكَارة الزيت المغلي الذي يسمونه الدّ ْر ِديّ ،أو هو المذاب من المعادن كالرصاص
والمهْل هو ُ
ونحوه ،وهذا يحتاج إلى حرارة أعلى من غَلْي الماء ،وهكذا يزدادون حرارة فوق حرارة النار،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويُعذّبون من حيث ينتظرون الرحمة.
وقوله تعالى هناُ } :يغَاثُواْ { أسلوب تهكميّ؛ لن القاعدة في الساليب اللغوية أنْ تخاطب
المخاطب على مقتضى حاله ،فتهنئه حال فرحه ،وتعزيه حال حزنه بكلم موافق لمقتضى الحال،
ت التهكّ َم أو
ت المقتضى عن الحال الذي يطلبه ،فهذا ينافي البلغة إل إنْ أرد َ
فإنْ أخرج َ
الستهزاء.
إذن :فقوله تعالى } :وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ[ { ..الكهف ]29 :تهكّم بهم ،لن الكلم فيه
خرج عن مقتضى الحال ،كما يقول الوالد لولده الذي أخفق في المتحان :مبارك عليك السقوط.
شوِي الْوجُوهَ[ { ..الكهف ]29 :أن الماء من شدة حرارته يشوي وجوههم ،قبل أن
ومعنىَ } :ي ْ
يدخل أجوافهم } :بِئْسَ الشّرَابُ[ { ..الكهف]29 :أي :الذي يغاثون به } وَسَآ َءتْ مُرْ َتفَقا { [الكهف:
]29المرتفق هو الشيء الذي يضع النسان عليه مِرْفقه ليجلس مُستريحا ،لكن بال هل هناك
راحة في جهنم؟
إذن :فهذه أيضا من التهكّم بهم وتبكيتهم ،كما قال تعالى مخاطبا جبابرة الدنيا وأعزّتها وأصحاب
صوْا ال } :ذُقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ { [الدخان]49 :
ع َ
العظمة فيها ِممّنْ َ
والحق سبحانه وتعالى يتكلم في هذه المسألة بأساليب متعددة منها استخدام كلمة (النّزُل) وهو ما
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ كَا َنتْ َلهُمْ جَنّاتُ
يُعد لكرام الضيف ،كما في قوله تعالى {:إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
ا ْلفِرْ َدوْسِ نُ ُزلً }[الكهف]107 :
علَ ْيهِمُ ا ْلمَلَ ِئكَةُ َألّ َتخَافُواْ َولَ تَحْزَنُواْ
وقوله تعالى {:إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ُثمّ اسْ َتقَامُواْ تَتَنَ ّزلُ َ
وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * َنحْنُ َأوْلِيَآ ُؤكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َرةِ وََلكُمْ فِيهَا مَا
غفُورٍ رّحِيمٍ }[فصلت ]32-30 :فالذي أَعَدّ هذا
سكُ ْم وََلكُمْ فِيهَا مَا تَدّعُونَ * نُ ُزلً مّنْ َ
تَشْ َتهِي أَنفُ ُ
النّزُل وهذه الضيافة هو الغفور الرحيم ،والذي ُيعِد نُ ُزلً لضيفه ُي ِعدّه على َقدْر غِنَاه وبَسْطة كرمه،
فما بالك بنُزل أعدّه ال لحبابه وأوليائه؟
غفُورٍ رّحِيمٍ }[فصلت ]32 :لنه ما من مؤمن إل وقد عمل سيئة ،أو همّ بها،
وذيّل الية بقولهَ {:
وكأن الحق سبحانه يقول :إياك أنْ تذكرَ ما كان منك وأنت في هذا النّزُل الكريم ،فال غفور
لسيئتك ،رحيم بك ،يقبل توبتك ،ويمحو أثر سيئتك.
والحديث عن النّزل هنا في الجنة ،فهي محلّ الكرام والضيافة ،فإن استخدم في النار فهو للتهكّم
حمِيمٍ }
والسخرية من أهلها ،كما قال تعالى {:وََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُ ُزلٌ مّنْ َ
[الواقعة]93-92 :
فقد استخدم النزل في غير مقتضاه.
بعد أن جاء المر اللهي في قوله تعالىَ } :فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ[ { ..الكهف]29 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أراد سبحانه أنْ يُبيّن حكم ُكلّ من الختيارين :اليمان ،والكفر على طريقة الّلفّ والنشر ،وهو
حسْب ترتيبها الول ،أو
أسلوب معروف في العربية ،وهو أن تذكر عدة أشياء ،ثم تُورِد أحكامها َ
تذكرها مُشوّشة دون ترتيب.
ج َعلَ َلكُمُ
حمَ ِتهِ َ
ومن النوع الول الذي يأتي فيه الّلفّ والنشْر على الترتيب قوله تعالىَ {:ومِن رّ ْ
سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ[} ..القصص]73 :
ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ
الّي َ
أي :لتسكنوا في الليل ،وتبتغوا من فضل ال في النهار.
فالترتيب إذا كان الحكم الول للمحكوم عليه الول ،والحكم الثاني للمحكوم عليه الثاني وهكذا،
جفْنِي وَاللسان وخالقي هذه أربع مُخْبر عنها ،فما قصتها وبماذا
ومن ذلك قول الشاعر:قَلْبِي َو َ
غفُورُفتكون على الترتيب:
ض وباكٍ شَاكِرٌ و َ
جفْنِي وَاللسَانُ وخاِلقِي رَا ٍ
أخبرنا عنها؟ يقول:قَلْبِي وَ َ
قلبي راضٍ ،وجفني باكٍ ،ولساني شاكر ،وخالقي غفور.
ومرة يأتي اللف والنشر على التشويش ودون ترتيب ثقةً بأن نباهةَ السامع ستردّ كل شيء إلى
أصله كما في الية التي نحن بصددها ،فتلحظ أن الحق سبحانه بعد أن قالَ } :فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن
َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ[ { ..الكهف ]29 :فبدأ باختيار اليمان ثم ذكر الكفر ،أما في الحكم على كل
منهما فقد ذكر حكم الكفر أولً } :إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارا[ { ..الكهف ]29 :ثم ذكر بعده حكم
عمَلً }[الكهف]30 :
حسَنَ َ
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لَ ُنضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَ ْ
المؤمنين {:إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
وليكُنْ في العتبار أن المتكلم َربّ حكيم ،ما من حرف من كلمه إل وله مغزى ،ووراءه حكمة،
ذلك أنه تعالى لما تكلّم عن اليمان جعله اختيارا خاضعا لمشيئة العبد ،لكنه تعالى رجّح أن يكونَ
اليمانُ أولً وأنْ يسبق الكفر .أما حينما يتكلم عن حكم كل منهما ،فقد بدأ بحكم الكفر من باب أنْ
" دَرْءَ المفسدة مُقدّم على جَلْب المنفعة ".
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّ الّذِينَ ءَامَنُواْ وَ َ
()2153 /
عمَلًا ()30
عمِلُوا الصّالِحَاتِ إِنّا لَا ُنضِيعُ َأجْرَ مَنْ َأحْسَنَ َ
إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
وهنا نلحظ أن الحق سبحانه عطف على اليمان العملَ الصالح؛ لن اليمان هو العقيدة التي ينبع
عن أصلها السلوك ،فل جدوى من اليمان بل عمل بمقتضى هذا اليمان ،وفائدة اليمان أنْ تُوثّق
المر أو النهي إلى ال الذي آمنتَ به؛ لذلك جاء الجمع بين اليمان والعمل الصالح في مواضع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمِلُواْ
ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ ءَامَنُواْ وَ َ
عدّة من كتاب ال ،منها قوله تعالى {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر]3-1 :
ق وَ َتوَا َ
ت وَ َتوَاصَوْاْ بِا ْلحَ ّ
الصّالِحَا ِ
ذلك لن المؤمنين إذا ما أثمر فيهم اليمانُ العملَ الصالح فإنهم سيتعرضون ول بُدّ لكثير من
المتاعب والمشاق التي تحتاج إلى التواصي بالصبر والتواصي بالحق ،ولنا أسوة في هذه المسألة
بصحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم الذين تحمّلوا عِبء الدعوة وصبروا على الذى في سبيل
إيمانهم بال تعالى.
عمَلً } [الكهف]30 :
ثم يقول تعالى { :إِنّا لَ ُنضِيعُ أَجْرَ مَنْ َأحْسَنَ َ
نلحظ أن { مَنْ } هنا عامة للمؤمن والكافر؛ لذلك لم َيقُل سبحانه :إنّا ل نضيع أجر مَنْ أحسن
حقّه ،بل
اليمان؛ لن العامل الذي يُحسِن العمل قد يكون كافرا ،ومع ذلك ل يبخسه ال تعالى َ
يعطيه حظه من الجزاء في الدنيا.
فالكافر إن اجتهد واحسن في علم أو زراعة أو تجارة ل يُحرم ثمرة عمله واجتهاده ،لكنها تُعجّل
حظّ له في الخرة.
له في الدنيا وتنتهي المسألة حيث ل َ
جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان]23 :
ع َملٍ فَ َ
عمِلُواْ مِنْ َ
ويقول تبارك وتعالىَ {:وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا َ
جهَنّمَ َيصْلهَا
جعَلْنَا لَهُ َ
عجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا َنشَآءُ ِلمَن نّرِيدُ ثُمّ َ
جلَةَ َ
ويقول تعالى {:مّن كَانَ يُرِيدُ ا ْلعَا ِ
مَ ْذمُوما مّدْحُورا }[السراء]18 :
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ يَجِ ْدهُ
عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ
ويقول تعالى {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }[النور]39 :
فهؤلء قد استوفوا أجورهم ،وأخذوا حظّهم في الدنيا ألوانا من النعيم والمدح والثناء ،وخُلّدتْ
ذكراهم ،وأقيمت لهم التماثيل والحتفالت؛ لذلك يأتي في الخرة فل يجد إل الحسرة والندامة
حيث فُوجئ بوجود إله لم يكُنْ يؤمن به ،والنسان إنما يطلب أجره ِممّن عمل من أجله ،وهؤلء
ما عملوا ل بل للنسانية وللمجتمع وللشهرة وقد نالوا هذا كله في الدنيا ،ولم يَبْقَ لهم شيء في
الخرة.
ثم يقول الحق سبحانهُ { :أوْلَـائِكَ َلهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ.} ...
()2154 /
عدْنٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهِمُ الْأَ ْنهَارُ يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَ َهبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا
أُولَ ِئكَ َلهُمْ جَنّاتُ َ
حسُ َنتْ مُرْ َت َفقًا ()31
ب وَ َ
س وَإِسْتَبْ َرقٍ مُ ّتكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَا ِئكِ ِنعْمَ ال ّثوَا ُ
خضْرًا مِنْ سُنْدُ ٍ
ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ ُأوْلَـا ِئكَ } أي :الذين آمنوا وعملوا الصالحات { َلهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ[ } ..الكهف]31 :الجنات رأينا
منها صورة في الدنيا ،وتُطلق إطلقا شرعيا وإطلقا لغويا .أما الشرعي :فهو الذي نعرفه من أنها
الدار التي أعدّها ال تعالى لثواب المؤمنين في الخرة .أما المعنى اللغوي :فهي المكان الذي فيه
زرع وثمار وأشجار تُوارِي مَنْ سار فيها وتستره؛ ومادة الجيم والنون تدور كلها حول الستتار
والختفاء فالجنون استتار العقل والجن مخلوقات ل ترى والجُنّة بالضم الدرع يستر الجسم عن
المهاجم ..الخ.
وقلنا :إن الحق سبحانه حينما يُحدّثنا عن شيء غيبيّ يُحدّثنا بما يوجد في لغتنا من ألفاظ ،واللغة
التي نتكلم بها ،يُوجَد المعنى أولً ثم يوجد اللفظ الدالّ عليه ،فإذا عرفنا أن هذا اللفظ موضوع لهذا
المعنى ،فإنْ ُنطِق اللفظ نفهم معناه .فإذا كانت الشياء التي يُحدّثنا ال عنها غيبا كما قال عنها
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :فيها ما ل عين رأتْ ،ول أذن سمعتْ ،ول خطر على قلب بشر
"
إذن :فمن أين نأتي باللفاظ الدّالة على هذه المعاني ونحن لم نعرفها؟ لذلك يُعبّر عنها الحق
سبحانه بالشبيه لها في لغتنا ،لكن يعطيها الوصف الذي يُميّزها عن جنة الدنيا ،كما جاء في قوله
عدَ ا ْلمُ ّتقُونَ فِيهَآ أَ ْنهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ[} ..محمد]15 :
تعالى {:مّ َثلُ الْجَنّةِ الّتِي وُ ِ
ونحن نعرف النهر ،ونعرف الماء ،لكن يأتي قوله { :غَيْرِ آسِنٍ } ليميز ماء الخرة عن ماء
خمْرٍ لّ ّذةٍ لّلشّارِبِينَ }[محمد]15 :
الدنيا ،وكذلك في {:وَأَ ْنهَارٌ مّنْ َ
فالخمر في الدنيا معروفة؛ لكنها ليست لذة لشاربها ،فشاربها يبتلعها بسرعة؛ لنه ل يستسيغ لها
ل كوبا من العصير رشفة رشفة لتلتذ بطعمه وتتمتع به ،كما أن
طعما أو رائحة ،كما تشرب مث ً
خمر الدنيا تغتال العقول على خلف خمر الخرة؛ لذلك لما أعطاها اسم الخمر لنعرفها ميّزها
خمْر الدنيا ليست كذلك؛ لن لغتنا ل يوجد بها الشياء التي سيخلقها ال لنا في الجنة،
بأنها لذة ،و َ
فبها ما ل عَيْن رأت ،ول أذن سمعتْ ،والعين إدراكاتها أقلّ من إدراكات الذن؛ لن العين تعطيك
المشهد الذي رأيته فحسب ،أما الذن فتعطيك المشهد الذي رأيته والذي رآه غيرك ،ثم يقول" :
ول خطر على قلب بشر " فوسّع دائرة ما في الجنة ،مما ل نستطيع إدراكه.
صفّى[} ..محمد]15 :
سلٍ ّم َ
عَوكذلك في قوله تعالى {:وَأَ ْنهَارٌ مّنْ َ
ونحن نعرف العسل فميّزه هنا بأنه مُصفّى ،ومعروف أن العسل قديما كانوا يأخذونه من الجبال،
وكان يعَلقُ به الحصى والرمل؛ لذلك مُيّز عسل الجنة بأنه مُصفّى.
خضُودٍ }[الواقعة ]28 :ونعرف سدر الدنيا ،وهو نوع من الشجر
وكذلك في قوله سبحانه {:سِدْرٍ مّ ْ
له شوك ،وليس كذلك سِدْر الجنة؛ لنه سدر مخضود ل شوك فيه ،ول ُي ْدمِي يديك كسِدْر الدنيا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدْنٍ[ { ..الكهف ]31 :أي :إقامة
وهنا ميّز ال الجنة في الخرة عن جنات الدنيا ،فقال } :جَنّاتُ َ
دائمة ل تنتهي ول تزول ،وليست كذلك جنات الدنيا ،ف َهبْ أن واحدا يتمتع في الدنيا بالدّور
والقصور في الحدائق والبساتين التي هي جنة الدنيا ،فهل تدوم له؟ إن جنات الدنيا مهما عَظُم
نعيمها ،إما أنْ تفوتك ،وإما أنْ تفوتها.
والعَدْن اسم للجَنّة ،فهناك فَرْق بين المسكن والمسكن في الجنة ،كما ترى حدائق عامة وحدائق
خاصة ،فالمؤمن في الجنة له مسكن خاص في جنة عدن.
ويقول تعالى عن أنهار الجنة {:تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ[} ..محمد]12 :
وفي آية أخرى يقول {:تَجْرِي َتحْ َتهَا الَ ْنهَارُ[} ..التوبة ]100 :ليعطينا صورتين لجريان الماء،
ففي قولهَ {:تجْرِي تَحْ َتهَا الَ ْنهَارُ[} ..التوبة ]100 :يدلّ على أن الماء يأتيها من بعيد ،وقد تخشى
أن يمنعه أحد عنك أنْ يَسُدّه دونك؛ لذلك يقول لك :اطمئن فالماء يجري } مِن تَحْ ِتهَا { أي :من
الجنة نفسها ل يمنعه أحد عنك.
وفي هذه الية كأنّ الحق سبحانه وتعالى يعطينا إشارة لطيفة إلى أننا نستطيع أن نجعل لنا مساكن
على صفحة الماء ،وأن نستغل المسطحات المائية في إقامة المباني عليها ،خُذْ مثلً المسطحات
المائية للنيل ،أو الريّاح التوفيقي من القناطر الخيرية حتى دمياط لَوج ْدتَ مساحات كبيرة واسعة
سكْنى أهل هذه
يمكن بإقامة العمدة في الماء ،واستخدام هندسة البناء أنْ نقيم المساكن الكافية ل ّ
خضْرة وللزرع ولِقُوتِ الناس.
البلد ،وتظل الرض الزراعية كما هي لل ُ
ويمكن أن تُطبّق هذه الطريقة أيضا في الريف ،فيقيم الفلحون بيوتهم وحظائر مواشيهم بنفس
الطريقة على الترع والمصارف المنتشرة في بلدنا ،ول نمس الرقعة الزراعية.
لقد هجمتْ الحركة العمرانية على الجيزة والدقي والمهندسين ،وكانت في يوم من اليام أراضي
تغل كل الزراعات ،وتخدم تموين القاهرة .ولما استقدموا الخبراء الجانب لتوسيع القاهرة توجهوا
إلى الصحراء وأنشأوا مصر الجديدة ،ولم يعتد أحد منهم على شبر واحد من الرض الزراعية،
بل جعلوا في تخطيطهم رقعة خضراء لكل منزل.
إذن :في الية لفتة يمكن أنْ تحلّ لنا أزمة السكان ،وتحمي لنا الرقعة الزراعية الضيقة .ثم يقول
تعالى } :يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ َأسَاوِرَ مِن ذَ َهبٍ[ { ..الكهف ]31 :وقد يقول قائل :وما هذه الساور من
الذهب التي يتحلّى بها الرجال؟ هذه من الزخرف والزينة ،نراه الن في طموحات النسان في
زُخْرفية الحياة ،فنرى الشباب يلبسون ما يُسمّى (بالنسيال) وكذلك أساور الذهب في الخرة زينة
حلّواْ أَسَاوِرَ مِن ِفضّةٍ[} ..النسان]21 :
وزخرف ،وفي آية أخرى ،يقول تعالى {:وَ ُ
سهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }[فاطر]33 :
ب وَُلؤْلُؤا وَلِبَا ُ
ومرة أخرى يقولُ {:يحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَ َه ٍ
فالساور إما من ذهب أو فضة أو لؤلؤ؛ لذلك قال صلى ال عليه وسلم عن هذه الحلية في الخرة
أنها تبلغ ما بلغه الوضوء عند المؤمن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونلحظ في قوله تعالىُ {:يحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن َذ َهبٍ[} ..الكهف ]31 :أن التحلية هنا للزينة،
وليست من الضروريات ،فجاء الفعل } يُحَّلوْنَ { أي :حلّهم غيرهم ولم يقل يتحلون؛ لذلك لما
س وَِإسْتَبْرَقٍ {
خضْرا مّن سُنْدُ ٍ
تكلم بعدها عن الملبس ،وهو من الضروريات قال } :وَيَلْبَسُونَ ثِيَابا ُ
[الكهف]31 :
فأتى بالفعل مبنيا للمعلوم؛ لن الفعل حدث منهم أنفسهم بالعمل ،أما الولى فكانت بالفضل من ال،
حمَتِهِ فَ ِبذَِلكَ
وقد قُدم الفضل على العمل ،كما قال تعالى في آية أخرىُ {:قلْ ِب َفضْلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ
فَلْ َيفْرَحُواْ[} ..يونس]58 :
أي :إياك أن تقول هذا بعملي ،بل بفضل ال وبرحمته؛ لذلك نرى الرسول صلى ال عليه وسلم
يقر بهذه الحقيقة ،فيقول " :لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ،قالوا :ول أنت يا رسول ال؟ قال :ول أنا
إل أن يتغمدني ال برحمته " ذلك لنك لو نظرتَ إلى عملك لوجدتَه بعد تكليفك الذي كلفت به في
سِنّ البلوغ ،وقد عِشْت طوال هذه المدة ترتع في ِنعَم ال ورزقه دون أنْ يُكلّفك بشيء؛ لذلك مهما
قَ ّد ْمتَ ل تعالى من طاعات ،فلن تفَِي بما أنعم به عليك.
وما تفعله من طاعات إنما هو وفاء لحق ال ،فإذا أدخلناك الجنة كان فضلً من ال عليك ،لنك
أخذتَ حقك سابقا ومُقدّما في الدنيا ،لكنه قسم هنا فقال } :يَلْبَسُونَ[ { ..الكهف ]31 :أي :بما
عملوا ،أما في الزينة والتحلية فقال } :يُحَّلوْنَ { كالرجل الذي يُجهّز ابنته للزواج ،فيأتي لها
سجّاد أو
بضروريات الحياة ،ثم يزيدها على ذلك من الكماليات وزُخْرف الحياة من نجف أو َ
خلفه.
واللباس من ضروريات الحياة التي امتنّ ال بها على عباده ،كما جاء في قوله تعالى {:يَابَنِي ءَادَمَ
سوْءَا ِتكُ ْم وَرِيشا[} ..العراف ]26 :والريش :هو الكماليات التي
قَدْ أَنزَلْنَا عَلَ ْيكُمْ لِبَاسا ُيوَارِي َ
يتخذها الناس للفَخْفخة والمتعة ،وهو ما زاد عن الضروريات .والسّندس :هو الحرير الرقيق،
والستبرق :الحرير الغليظ السميك.
وقد وقف العلماء عند هذه الكلمة } إِسْتَبْ َرقٍ { وغيرها من الكلمات غير العربية مثل :القسطاس،
وهي كلمات فارسية الصل ،أو كلمة (آمين) التي نتخذها شعارا في الصلة وأصلها يمني أو
حبشي .وقالوا :كيف يستخدم القرآن مثل هذه اللفاظ ،وهو قرآن عربي؟
نقول :هل أدخل القرآن هذه اللفاظ في لغة العرب ساعةَ نزل ،أم جاء القرآن وهي سائرة على
ألسنة الناس يتكلمون بها ويتفاهمون؟ لقد عرف العرب هذه الكلمات واستعملوها ،وأصبحت ألفاظا
عربية دارتْ على اللسنة ،وجرتْ مجرى الكلمة العربية.
ومن الكلمات التي دخلتْ العربية حديثا استخدمت ككلمة عربية (بنك) ،وربما كانت أخفّ في
الستعمال من كلمة (مصرف)؛ لذلك أقرّها مَجْمع اللغة العربية وأدخلها العربية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فهذا القول يمكن أن يُقبَل لو أن القرآن جاء بهذه اللفاظ مجيئا أوليا ،وأدخلها في اللغة ولم
تكُن موجودة ،لكن القرآن جاء ليخاطب العرب ،وما داموا قد فهموا هذه اللفاظ وتخاطبوا بها ،فقد
أصبحت جُزْءا من لغتهم.
ثم يقول تعالى } :مّ ّتكِئِينَ فِيهَا عَلَى الَرَآ ِئكِ[ { ..الكهف ]31 :التكاء :أن يجلس النسان على
الجنب الذي يُريحه ،والرائك :هي السّرر التي لها حِلْية مثل الناموسية مثلًِ } .ن ْعمَ ال ّثوَابُ..
حسُ َنتْ مُرْ َتفَقا { [الكهف ]31 :أي :أن هذا هو ُمقْتضى الحال
{ [الكهف ]31 :كلم منطقيّ } :وَ َ
فيها ،على خلف ما أخبر به عن أهل النار {:وَسَآ َءتْ مُرْ َتفَقا }[الكهف]29 :
ثم يقول الحق سبحانه } :وَاضْ ِربْ لهُمْ مّثَلً رّجُلَيْنِ.{ ..
()2155 /
وما زال الكلم موصولً بالقوم الذين أرادوا أن يصرفوا رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الذين
يدعُونَ ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ،وبذلك انقسم الناس إلى قسميْن :قسم مُتكبّر حريص
على جاهه وسلطانه ،وقسم ضعيف مستكين ل جاهَ له ول سلطان ،لكن الحق سبحانه يريد
استطراق آياته استطراقا يشمل الجميع ،ويُسوّي بينهم.
لذلك؛ أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا مثَلً موجودا في الحياة ،ففي الناس الكافر الغني
ن تتأمل موقف كل منهما.
والمؤمن الفقير ،وعليك أ ْ
قوله تعالى { :وَاضْ ِربْ ل ُهمْ مّثَلً رّجُلَيْنِ[ } ..الكهف ]32 :قلنا :إن الضرب معناه أن تلمس شيئا
بشيء أقوى منه بقوة تؤلمه ،ول بُدّ أن يكون الضارب أقوى من المضروب ،إل فلو ضربتَ بيدك
حجَر ضر ْبتَ
شيئا أقوى منك فقد ضربتَ نفسك ،ومن ذلك قول الشاعر:وَيَا ضَارِبا ِب َعصَاهُ ال َ
ال َعصَا أَمْ ضر ْبتَ الحجَر؟وضَرْب المثل يكون لثارة النتباه والحساس ،فيُخرجك من حالة إلى
أخرى ،كذلك المثَل :الشيء الغامض الذي ل تفهمه ول تعيه ،فيضرب الحق سبحانه له مثلً
يُوضّحه ويُنبّهك إليه؛ لذلك قال { :وَاضْ ِربْ ل ُهمْ مّثَلً[ } ..الكهف ]32 :وسبق أن أوضحنا أن
المثال كلم من كلم العرب ،ير ُد في معنى من المعاني ،ثم يشيع على اللسنة ،فيصير مثلً
جوّاد فتناديه :يا حاتم ،فلما اشتهر حاتم بالجود أُطِلقَتْ
سائرا ،كما نقول :جود حاتم ،وتقابل أي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه هذه الصفة .وعمرو بن معد اش ُتهِر بالشجاعة والقدام ،وإياس اش ُتهِر بالذكاء ،وأحنف بن
سمَاحَةِ حَاتِم في حِلْمِ أح َنفَ
عمْروٍ في َ
قيس اشتهر بالحلم .لذلك قال أبو تمام في مدح الخليفةِ:إقْدامُ َ
فِي َذكَاءِ إياسفأراد خصوم أبي تمام أن يُحقّروا قوله ،وأن يُسقِطوه من عين الخليفة ،فقالوا له :إن
ن وصفتَ ،وكيف تُشبّه الخليفة بهؤلء وفي جيشه ألفٌ كعمرو ،وفي خُزّانه ألف
الخليفة فوق مَ ْ
س والغِنَى بمَنْ
كحاتم فكيف تشبهه بأجلف العرب؟ كما قال أحدهم :ـوَشبّهه المـدّاحُ في البـا ِ
خمْسُونَ أَلْفا كعنْت ٍر وَفي خُزّانِه أ ْلفُ حَا ِتمِفألهمه ال الردّ عليهم،
َلوْ رآهُ كانَ َأصْغر خَا ِد ٍمفَفِي جيْشِه َ
وعلى نفس الوزن ونفس القافية ،فقال:لَ تُنكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَه مثَلً شَرُودا في النّدَى
شكَاةِ والنّبْراسِإذن :فالمثل يأتي لِيُنَبّه الناس ،وليُوضّح
وَالبَاسفالُ َق ْد ضَربَ القلّ لِ ُنوِره مَثَلً مِنَ الم ْ
القضية غير المفهومة ،والحق تبارك وتعالى قال {:إِنّ اللّ َه لَ َيسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً
َفمَا َف ْوقَهَا[} ..البقرة]26 :
خذُواْ
ثم يعطينا القرآن الكريم أمثالً كثيرة لتوضيح قضايا معينة ،كما في قوله تعالى {:مَ َثلُ الّذِينَ اتّ َ
خ َذتْ بَيْتا وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَ ْيتُ ا ْلعَنكَبُوتِ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ
مِن دُونِ اللّهِ َأوْلِيَآءَ َكمَ َثلِ ا ْلعَنكَبُوتِ اتّ َ
}[العنكبوت]41 :
وكذا قوله تعالى عن نقض الوعد وعدم الوفاء بهَ {:ولَ َتكُونُواْ كَالّتِي َن َقضَتْ غَزَْلهَا مِن َبعْدِ ُق ّوةٍ
أَنكَاثا }
[النحل]92 :
حوْلَهُ َذ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَ َركَهُمْ
ومنه قوله تعالى {:مَثَُلهُمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارا فََلمّآ َأضَا َءتْ مَا َ
فِي ظُُلمَاتٍ لّ يُ ْبصِرُونَ }[البقرة]17 :
ومنه قوله تعالى مُصوّرا حال الدنيا ،وأنها سريعة الزوال {:وَاضْرِبْ َلهُم مّ َثلَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ
شيْءٍ
ح َوكَانَ اللّهُ عَلَىا ُكلّ َ
ت الَ ْرضِ فََأصْبَحَ هَشِيما َتذْرُوهُ الرّيا ُ
سمَاءِ فَاخْتََلطَ بِهِ نَبَا ُ
أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
ّمقْتَدِرا }[الكهف]45 :
فالمثل يُوضّح لك الخفيّ بشيء جَِليّ ،يعرفه كل مَنْ سمعه ،من ذلك مثلً الشاعر الذي أراد أنْ
يصفَ لنا الحدب فيُصوّره تصويرا دقيقا كأنك تنظر إليهَ :قصُـ َرتْ َأخَادعه وَغَاص َقذَالُه فكأنه
ص ِفعْتَ َقفَاهُ مرةً وأَحسّ ثانيةً َلهَا فتج ّمعَاوهنا يقول الحق سبحانه:
مُـتر ّبصٌ أنْ ُيصْ َفعَاوكأنما ُ
اضرب لهم يا محمد مثلً للكافر إذا استغنى ،والفقير إذا َرضِى باليمان.
لحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ
جعَلْنَا َ
ل المثلَ } :
حّوقوله } :رّجُلَيْنِ[ { ..الكهف ]32 :أي :هما َم َ
جعَلْنَا بَيْ َن ُهمَا زَرْعا { [الكهف ]32 :لكن ،هل هذا المثل كان موجودا بالفعل،
خلٍ َو َ
حفَفْنَا ُهمَا بِ َن ْ
وَ َ
وكان للرجلين وجود فِعليّ في التاريخ؟
نعم ،كانوا واقعا عند بني إسرائيل وهما براكوس ويهوذا ،وكان يهوذا مؤمنا راضيا ،وبراكوس
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كان مستغنيا ،وقد ورثا عن أبيهم ثمانية آلف دينار لكل منهما ،أخذ براكوس نصيبه واشترى به
أرضا يزرعها و َقصْرا يسكنه وتزوج فأصبح له ولدان وحاشية ،أما يهوذا ،فقد رأى أنْ يتصدّق
بنصيبه ،وأن يشتري به أرضا في الجنة وقصرا في الجنة وفضّل الحور العين والولدان في جنة
عدن على زوجة الدنيا وولدانها وبهجتها.
طغَىا * أَن رّآهُ
وهكذا استغنى براكوس بما عنده واغتَرّ به ،كما قال تعالى {:كَلّ إِنّ الِنسَانَ لَيَ ْ
اسْ َتغْنَىا }[العلق]7-6 :
وأول الخيبة أن تشغلك النعمة عن المنعِم ،وتظن أن ما أنت فيه من نعيم ثمرةُ جهدك وعملك،
ونتيجة سعْيك ومهارتك ،كما قال قارون {:قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي }[القصص]78 :
سفْنَا بِ ِه وَبِدَا ِرهِ
فتركه ال لِعلْمه ومهارته ،فليحرص على ماله بما لديه من علم وقوةَ {:فخَ َ
الَ ْرضَ[} ..القصص ]81:ولم ينفعه ماله أو علمه.
إذن :هاتان صورتان واقعيتان في المجتمع :كافر يستكبر ويستغني ويستعلي بغناه ،ومؤمن قَنُوع
بما قسم ال له.
خلٍ
ح َففْنَا ُهمَا بِ َن ْ
ب وَ َ
جعَلْنَا لَحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَا ٍ
وانظر إلى الهندسة الزراعية في قوله تعالىَ } :
جعَلْنَا بَيْ َن ُهمَا زَرْعا { [الكهف]32 :
وَ َ
فقد علّمنا ال تعالى أن نجعل حول الحدائق والبساتين سُورا من النخيل ليكون سياجا يصدّ الهواء
والعواصف ،وذكر سبحانه النخل والعنب وهي من الفاكهة قبل الزرع الذي منه القوت
الضروري ،كما ذكر من قبل الساور من ذهب ،وهي للزينة قبل الثياب ،وهي من الضروريات.
وقوله } :جَنّتَيْنِ[ { ..الكهف ]32 :نراها إلى الن فيمَنْ يريد أن يحافظ على خصوصيات بيته؛
لن للنسان مسكنا خاصا ،وله عموميات أحباب ،فيجعل لهم مسكنا آخر حتى ل يطّلع أحد على
حريمه؛ لذلك يسمونه السلملك والحرملك.
شمَالٍ كُلُواْ مِن
ن وَ ِ
سكَ ِنهِمْ آ َيةٌ جَنّتَانِ عَن َيمِي ٍ
وكذلك في قوله تبارك وتعالىَ {:لقَدْ كَانَ ِلسَبَإٍ فِي مَ ْ
غفُورٌ }[سبأ ]15 :ثم يقول الحق سبحانه } :كِلْتَا ا ْلجَنّتَيْنِ
شكُرُواْ لَهُ بَ ْل َدةٌ طَيّ َب ٌة وَ َربّ َ
رّزْقِ رَ ّب ُك ْم وَا ْ
ءَا َتتْ ُأكَُلهَا وَلَمْ َتظْلِم مّ ْنهُ شَيْئا.{ ..
()2156 /
كِلْتَا الْجَنّتَيْنِ آَ َتتْ ُأكَُلهَا وَلَمْ َتظْلِمْ مِ ْنهُ شَيْئًا َوفَجّرْنَا خِلَاَل ُهمَا َنهَرًا ()33
أي :أعطتْ الثمرة المطلوبة منها ،والُكُل :هو ما يُؤكل ،ونعرف أن الزراعات تتلحق ثمارها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فتعطيك شيئا اليوم ،وشيئا غدا ،وشيئا بعد غد وهكذا.
ظلِم } تعطينا إشارة إلى عمل الخير في الدنيا،
{ وَلَمْ تَظْلِم مّنْهُ شَيْئا[ } ..الكهف ]33 :كلمة { تَ ْ
فالرض وهي جماد ل تظلم ،ول تمنعك حقا ،ول تهدِر لك تعبا ،فإنْ أعطيتَها جهدك وعملك
جادتْ عليك ،تبذر فيها كيلة تعطيك إردبا ،وتضع فيها البذرة الواحدة ف ُت ِغلّ عليك اللف.
سقْيا ،وقد تريحك
ث وبَذْر ورعاية و ُ
إذن :فهي كريمة جوادة شريطة أن تعمل ما عليك من حَ ْر ٍ
السماء ،فتسقى لك.
لذلك ،لما أراد الحق سبحانه أنْ يضرب لنا المثل في مضاعفة الجر ،قال {:مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ
َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنُبلَةٍ مّاْئَةُ حَبّةٍ }[البقرة]261 :
فإذا كانت الرض تعطيك بالحبة سبعمائة حبة ،فما بالك بخالق الرض؟ ل شك أن عطاءه سيكون
سعٌ عَلِيمٌ }[البقرة]261 :
أعظم؛ لذلك قال بعدها {:وَاللّهُ ُيضَاعِفُ ِلمَن يَشَآ ُء وَاللّ ُه وَا ِ
إذن :فالرض ل تظلم ،ومن عدل الرض أنْ تعطيك على َقدْر تعبك وكَدّك فيها ،والحق سبحانه
أيضا يُقدّر لك هذا التعب ،ويشكر لك هذا المجهود ،والنبي صلى ال عليه وسلم لما رأى أحد
الصحابة وقد تشققت يداه من العمل قال " :هذه يَدٌ يحبها ال ورسوله ".
يحبها ال ورسوله؛ لنها تعبت وعملت ل على قَدْر حاجتها ،بل على أكثر من حاجتها ،عملتْ لها
وللخرين ،وإل لو عمل ُكلّ عامل على َقدْر حاجته ،فكيف يعيش الذي ل يقدر على العمل؟
ن يعملوا لما يكفيهم ،ويكفي العاجزين عن العمل ،و َهبْ أنك
إذن :فعلى أصحاب القدرة والطاقة أ ْ
لن تتصدّق بشيء للمحتاج ،لكنك ستبيع الفائض عنك ،وهذا في حد ذاته نوعٌ من التيسير على
الناس والتعاون معهم.
وما أشبه الرض في عطائها وسخائها بالم التي تُجزِل لك العطاء إنْ بر ْرتَ بها ،وكذلك
الرض ،بل إن الم بطبيعتها قد تعطيك دون مقابل وتحنو عليك وإنْ كنت جاحدا ،وكذلك الرض
ألَ تراها تُخرج لك من النبات ما لم تزرعه أو تتعب فيه؟ فكيف إذا أنت أكرَمتها بالبر؟ ل شك
ستزيد لك العطاء.
والحقيقة أن الرض ليست ُأمّنا على وجه التشبيه ،بل هي ُأمّنا على وجه الحقيقة؛ لننا من ترابها
وجزء منها ،فالنسان إذا مرض مثلً يصير ثقيلً على كل الناس ل تتحمله وتحنو عليه وتزيل
عنه الذى مثل أمه ،وكذلك إن مات وصار جيفة يأنف منه كل أخ محب وكل قريب ،في حين
تحتضنه الرض ،وتمتص كل ما فيه ،وتستره في يوم هو أحوج ما يكون إلى الستر .ثم يقول
تعالىَ { :وفَجّرْنَا خِلَل ُهمَا َنهَرا[ } ..الكهف ]33 :ذلك لن الماء هو َأصْل الزرع ،فجعل ال
للجنتين ماءً مخصوصا يخرج منهما ويتفجر من خللهما ل يأتيهما من الخارج ،فيحجبه أحد
عنهما.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وكَانَ َلهُ َثمَرٌ َفقَالَ ِلصَاحِ ِب ِه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ.} ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2157 /
َوكَانَ َلهُ َثمَرٌ َفقَالَ ِلصَاحِبِ ِه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ أَنَا َأكْثَرُ مِ ْنكَ مَالًا وَأَعَزّ َنفَرًا ()34
أي :لم يقتصر المر على أنْ كان له جنتان فيهما النخيل والعناب والزرع الذي يُؤتي ُأكُله ،بل
كان له فوق ذلك ثمر أي :موارد أخرى من ذهب وفضة وأولد؛ لن الولد ثمرة أبيه ،وسوف
يقول لخيه بعد قليل :أنا أكثر منك مالً وأعزّ نفرا.
ل وَأَعَزّ َنفَرا }
ثم تدور بينهما هذه المحاورةَ { :فقَالَ ِلصَاحِ ِب ِه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ أَنَا َأكْثَرُ مِنكَ مَا ً
[الكهف]34 :
دليل على أن ما تقدم ِذكْره من أمر الجنتين وما فيهما من ِنعَم دَعَتْهُ إلى الستعلء هو سبب القول
{ ِلصَاحِبِهِ } ،والصاحب هو :مَنْ يصاحبك ولو لم تكن تحبه { يُحَاوِ ُرهُ } أي :يجادله بأن يقول
أحدهما فيرد عليه الخر حتى يصلوا إلى نتيجة .فماذا قال صاحبه؟ قال { :أَنَا َأكْثَرُ مِنكَ مَالً} ..
[الكهف ]34 :يقصد الجنتين وما فيهما من نعم { وَأَعَزّ َنفَرا } [الكهف ]34 :داخلة في قوله:
{ َوكَانَ لَهُ َثمَرٌ } [الكهف ]34 :وهكذا استغنى هذا بالمال والولد.
خلَ جَنّ َت ُه وَ ُهوَ ظَاِلمٌ لّ َنفْسِهِ.} ...
ثم يقول الحق تبارك وتعالىَ { :ودَ َ
()2158 /
خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ ظَاِلمٌ لِ َنفْسِهِ قَالَ مَا َأظُنّ أَنْ تَبِيدَ هَ ِذهِ أَبَدًا ()35
وَدَ َ
خلَ جَنّتَهُ[ } ..الكهف ]35 :نقول :لن النسان إنْ كان له
عرفنا أنهما جنتان ،فلماذا قال { :وَ َد َ
جنتان فلنْ يدخلهما معا في وقت واحد ،بل حَالَ دخوله سوف يواجه جن ًة واحدة ،ثم بعد ذلك يدخل
الخرى.
وقوله { :وَ ُهوَ ظَاِلمٌ لّ َنفْسِهِ[ } ..الكهف ]35 :قد يظلم النسان غيره ،لكن كيف يظلم نفسه هو؟
يظلم النسان نفسه حينما يُرخيِ لها عنان الشهوات ،فيحرمها من مشتهيات أخرى ،ويُفوّت عليها
ما هو أبقى وأعظم ،وظلم النسان يقع على نفسه؛ لن النفس لها جانبان :نفسٌ تشتهي ،ووجدان
يردع بالفطرة.
فالمسألة ـ إذن ـ جدل بين هذه العناصر؛ لذلك يقولون :أعدى أعداء النسان نفسه التي بين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت لوجدتَ أنك ساعة تُحدّث نفسك بشيء ثم
ن قلت :كيف وأنا ونفسي شيء واحد؟ لو تأمل َ
جنبيه ،فإ ْ
تلوم نفسك عليه؛ لن بداخلك شخصيتين :شخصية فطرية ،وشخصية أخرى استحوازية شهوانية،
فإنْ مَالتْ النفس الشهوانية أو انحرفتْ َقوّمتها النفس الفطرية وعَدلَت من سلوكها.
ع ّمتْ المعصية في الناس ،ولم َيعُدْ هناك
لذلك قلنا :إن المنهج اللهي في جميع الديانات كان إذا َ
مَنْ ينصح ويرشد أنزل ال فيهم رسولً يرشدهم ويُذكّرُهم ،إل في أمة محمد صلى ال عليه وسلم؛
حمّلهم رسالة نبيهم ،وجعل هدايتهم بأيديهم ،وأخرج منهم مَنْ يحملون راية الدعوة
لنه سبحانه َ
إلى ال؛ لذلك لن يحتاجوا إلى رسول آخر وكان صلى ال عليه وسلم خاتم النبياء والرسل.
ن وُجِد من بين هذه المة العاصون ،ففيها أيضا
وكأنه سبحانه يطمئننا إلى أن الفساد لن َيعُمْ ،فإ ْ
الطائعون الذين يحملون راية المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهذه مسألة ضرورية ،وأساسٌ
يقوم عليه المجتمع السلمي.
ثم يقول تعالى { :قَالَ مَآ َأظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا } [الكهف]35 :
فهل معنى هذا أنه ظالم لنفسه بالدخول؟ ل ،لنها جنتُه يدخلها كما يشاء ،إنما المراد بالظلم هنا ما
حدّث نفسه به حالَ دخوله ،فقد ظلم نفسه عندما خطر بباله الستعلء بالغِنَى،
دار في خاطره ،وما َ
والغرور بالنعمة ،فقال :ما أظنّ أنْ تبيدَ هذه النعمة ،أو تزول هذه الجنة الوارفة أو تهلك ،لقد غَ ّرهُ
واقع ملموس أمام عينيه استبعد معه أن يزول عنه كل هذا النعيم ،ليس هذا وفقط ،بل دعاه
غروره إلى أكثر من هذا فقالَ { :ومَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَآ ِئمَةً.} ...
()2159 /
هكذا أطلق لغروره العنان ،وإنْ قُبَلتْ منه {:مَآ َأظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا }[الكهف ]35 :فل يُقبَل
منه { َومَآ َأظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَةً[ } ..الكهف ]36 :لذلك لما أنكر قيام الساعة هَزّته الوامر الوجدانية،
فاستدرك قائل { :وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي[ } ..الكهف ]36 :أي :على كل حال إنْ رُددتُ إلى ربي
في القيامة ،فسوف يكون لي أكثر من هذا وأعظم وكأنه ضمن أن ال تعالى أَعدّ له ما هو أفضل
من هذا.
ونقف لنتأمل َقوْل هذا الجاحد المستعلي بنعمة ال عليه المفتون بها { :وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي} ..
[الكهف ]36 :حيث يعرف أن له ربا سيرجع إليه ،فإنْ كنت كذوبا فكُنْ َذكُورا ،ل تُناقِض نفسك،
شكّ في قيام الساعة يتنافى وقولك { رَبّي } ول يناسبه.
فما حدَث منك من استعلء وغرور و َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و { مُ ْنقَلَبا } أي :مرجعا.
ثم يقول الحق سبحانه { :قَالَ َل ُه صَاحِبُهُ وَ ُهوَ ُيحَاوِ ُرهُ.} ...
()2160 /
هنا يردّ عليه صاحبه المؤمن مُحَاورا ومُجادلً ليجُّليَ له وَجْه الصوابَ { :أ َكفَرْتَ بِالّذِي خََل َقكَ مِن
تُرَابٍ[ } ..الكهف ]37 :أي :كلمك السابق أنا أنا ،وما أنت فيه من استعلء وإنكار ،أتذكر هذا
طفَةٍ[ } ..الكهف]37 :
كله ول تذكر بدايتك ومنشأك من تراب الذي هو أصل خَلْقك { ُثمّ مِن نّ ْ
سوّاكَ رَجُلً } [الكهف " ]37أي :كاملً مُسْتويا (ملو هدومك).
وهي أصل التناسل { ثُمّ َ
سوّاكَ[ } ..الكهف ]37 :التسوية :هي إعداد الشيء إعدادا يناسب مهمته في الحياة ،وقلنا :إن
و{ َ
العود الحديد السّويّ مستقيم ،والخطاف في نهايته أعوج ،والعوجاج في الخطاف هو عَيْن
استقامته واستواء مهمته؛ لن مهمته أن نخطف به الشيء ،ولو كان الخطاف هذا مستقيما لما أدّى
مهمته المرادة.
والهمزة في { َأكَفَ ْرتَ[ } ..الكهف ]37 :ليست للستفهام ،بل هي استنكار لما يقوله صاحبه ،وما
بدر منه من كُفْر ونسيان لحقيقة أمره وبداية خَلْقه.
والتراب هو َأصْل النسان ،وهو أيضا مرحلة من مراحل خَلْقه؛ لن ال تعالى ذكر في خلق
النسان مرة{ مّن مّآءٍ }[السجدة ]8 :ومرة{ مِن تُرَابٍ }[آل عمران[ ،]59 :الروم ]20 :ومرة{ مّنْ
حمَإٍ مّسْنُونٍ }[الحجر ]26 :ومرة{ مِن صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ }[الرحمن.]14 :
َ
لذلك يعترض البعض على هذه الشياء المختلفة في خَلْق النسان ،والحقيقة أنها شيء واحد ،له
طتَ الطين بعضه ببعض
ن أضفْتَ الماء للتراب صار طينا ،فإذا ما خل ْ
مراحل متعددة انتقالية ،فإ ْ
صار حمأ مسنونا ،فإذا تركته حتى يجفّ ويتماسك صار صَ ْلصَالً ،إذن :فهي مرحليات لشيء
واحد.
ثم يقول الحق سبحانه أن هذا المؤمن قال { :لّاكِنّاْ ُهوَ اللّهُ رَبّي.} ...
()2161 /
َلكِنّا ُهوَ اللّهُ رَبّي وَلَا ُأشْ ِركُ بِرَبّي أَحَدًا ()38
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قوله { :لّاكِنّاْ[ } ..الكهف ]38 :أي :لكن أنا ،فحذفت الهمزة وأُدغمت النون في النون .ولكن
للستدراك ،المؤمن يستدرك على ما قاله صاحبه :أنا لستُ مثلك فيما تذهب إليه ،فإنْ كنت قد
كفرتَ بالذي خلقك من تراب ،ثم من نطفة .ثم سوّاك رجلً ،فأنا لم أكفر بمَنْ خلقني ،ف َقوْلي
واعتقادي الذي أومن بهُ { :هوَ اللّهُ رَبّي[ } ..الكهف]38 :
وتلحظ أن الكافر لم َي ُقلْ :ال ربي ،إنما جاءتْ ربي على لسانه في معرض الحديث ،والفرْق
كبير بين القولين؛ لن الربّ هو الخالق المتولّي للتربية ،وهذا أمر ل يشكّ فيه أحد ،ول اعتراض
عليه ،إنما الشكّ في الله المعبود المطاع ،فالربوبية عطاء ،ولكن اللوهية تكليف؛ لذلك اعترف
الكافر بالربوبية ،وأنكر اللوهية والتكليف.
ثم يؤكد المؤمن إيمانه فيقولَ { :ولَ ُأشْ ِركُ بِرَبّي أَحَدا } [الكهف]38 :
ولم يكتفِ المؤمن بأن أبانَ لصاحبه ما هو فيه من الكفر ،بل أراد أنْ يُعدّي إيمانه إلى الغير ،فهذه
ن أوضح إيمانه بال تعالى أراد أن
طبيعة المؤمن أنْ يكون حريصا على هداية غيره ،لذلك بعد أ ْ
يُعلّم صاحبه كيف يكون مؤمنا ،ول يكمُل إيمان المؤمن حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه ،وأيضا
من العقل للمؤمن أن يحاول أن يهدي الكافر؛ لن المؤمن صُحح سلوكه بالنسبة للخرين ،ومن
الخير للمؤمن أيضا أن يُصحّح سلوك الكافر باليمان.
لذلك من الخير بدل أنْ تدعوَ على عدوك أن تدعو له بالهداية؛ لن دعاءك عليه سيُزيد من شقائك
به ،وها هو يدعو صاحبه ،فيقول { :وََلوْل إِذْ دَخَ ْلتَ جَنّ َتكَ قُ ْلتَ مَا شَآءَ اللّ ُه لَ ُق ّوةَ ِإلّ بِاللّهِ.} ...
()2162 /
وََلوْلَا ِإذْ َدخَ ْلتَ جَنّ َتكَ قُ ْلتَ مَا شَاءَ اللّهُ لَا ُق ّوةَ إِلّا بِاللّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا َأ َقلّ مِ ْنكَ مَالًا َووَلَدًا ()39
يريد أنْ يُعلمه سبيل اليمان في استقبال النعمة ،بأنْ يردّ النعم إلى المنعم؛ لن النعمة التي يتقلّب
فيها النسان ل فضْلَ له فيها ،فكلها موهوبة من ال ،فهذه الحدائق والبساتين كيف آتتْ ُأكُلها؟ إنها
الرض التي خلقها ال لك ،وعندما حرثْتها حرثْتها بآلة من الخشب أو الحديد ،وهو موهوب من
ي وقت،
خلَ لك فيه ،والقوة التي أعانتك على العمل موهوبة لك يمكن أن تُسلبَ منك في أ ّ
ال ل دَ ْ
فتصير ضعيفا ل تقدر على شيء.
إذن :حينما تنظر إلى ُكلّ هذه المسائل تجدها منتهيةً إلى العطاء العلى من ال سبحانه.
خذْ هذا المقعد الذي تجلس عليه مستريحا وهو في غاية الناقة وإبداع الصّنْعة ،من أين أتى
ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصّنّاع بمادته؟ لو تتبعتَ هذا لوجدته قطعةَ خشب من إحدى الغابات ،ولو سألتَ الغابة :من أين
لك هذا الخشب لجابتْك من ال.
لذلك يُعلّمنا الحق سبحانه وتعالى الدب في نعمته علينا ،بقولهَ {:أفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ * َأأَنتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة]64-63 :
هذه الحبة التي بذرتها في حقلك ،هل جلستَ بجوارها تنميها وتشدّها من الرض ،فتنمو معك يوما
بعد يوم؟ إن كل عملك فيها أن تحرث الرض وتبذر البذور ،حتى عملية الحرث سخّر ال لك
فيها البهائم لتقوم بهذه العملية ،وما كان بوُسْعك أنْ تُطوّعها لهذا العمل لول أنْ سخرها ال لك،
وذلّلها لخدمتك ،كما قال تعالى {:وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُ ْم َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس]72 :
ما استطعت أنت تسخيرها.
إذن :لو حلّ ْلتَ أيّ نعمة من النعم التي لك فيها عمل لوجدت أن نصيبك فيها راجع إلى ال،
وموهوب منه سبحانه .وحتى بعد أن ينمو الزرع ويُزهر أو يُثمر ل تأمن أن تأتيه آفةٌ أو تحلّ به
حطَاما فَظَلْ ُتمْ َت َف ّكهُونَ * إِنّا َل ُمغْ َرمُونَ *
جعَلْنَاهُ ُ
جائحة فتهلكه؛ لذلك يقول تعالى بعدهاَ {:لوْ َنشَآءُ َل َ
َبلْ نَحْنُ َمحْرُومُونَ }[الواقعة]67-65 :
سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ * َولَ
كما يقول تعالى {:إِنّا بََلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ إِذْ َأقْ َ
حتْ كَالصّرِيمِ }[القلم]20-17 :
يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَ ْيهَا طَآ ِئفٌ مّن رّ ّبكَ وَهُمْ نَآ ِئمُونَ * فََأصْبَ َ
وكذلك في قوله تعالىَ {:أفَرَأَيْتُمُ ا ْلمَآءَ الّذِي َتشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَن َزلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ َأمْ نَحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ }
[الواقعة]69-68 :
عذْبا زللً ،هل تعرفون كيف نزل؟ هل رأيتم بخار الماء الصاعد إلى
هذا الماء الذي تشربونه َ
جعَلْنَاهُ ُأجَاجا} ..
الجو؟ وكيف ينعقد سحابا تسوقه الريح؟ هل دريْتُم بهذه العملية؟{ َلوْ نَشَآءُ َ
[الواقعة]70 :
أي :مِلْحا شديدا ل تنتفعون به.
سعْيهم ،وعليهم أنْ
فحينما يمتنّ ال على عبيده بأيّ نعمة يُذكّرهم بما ينقضها ،فهي ليست من َ
يشكروه تعالى عليها لتبقى أمامهم ول تزول ،وإلّ فَلْيحافظوا عليها هم إنْ كانت من صُنْع أيديهم!
وكذلك في مسألة خَلْق النسان يوضح سبحانه وتعالى أنه يمنع الحياة وينقضها بالموت ،قال
تعالى:
{ َأفَرَأَيْ ُتمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخُْلقُونَهُ أَم َنحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ * َنحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْوتَ َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ
}[الواقعة ]60-58 :فإنْ كنتم أنتم الخالقين ،فحافظوا عليه وادفعوا عنه الموت .فذكر سبحانه
خلْق.
النعمة في الخَلْق ،وما ينقض النعمة في َأصْل ال َ
أما في خَلْق النار ،فالمر مختلف ،حيث يقول تعالىَ {:أفَرَأَيْتُمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شجَرَ َتهَآ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنشِئُونَ }[الواقعة]72-71 :
َ
فذكر سبحانه قدرته في خَلْق النار وإشعالها ولم يذكر ما ينقضها ،ولم يقُلْ :نحن قادرون على
إطفائها ،كما ذكر سبحانه خَلْق النسان وقدرته على نقضه بالموت ،وخَلْق الزرع وقدرته على
جعله حطاما ،وخَلْق الماء وقدرته على جعله أجاجا ،إل في النار ،لنه سبحانه وتعالى يريدها
جعَلْنَاهَا َت ْذكِ َرةً
مشتعلة مضطرمة باستمرار لتظل ذكرى للناس ،لذلك ذيّل الية بقوله تعالى {:نَحْنُ َ
َومَتَاعا لّ ْلمُ ْقوِينَ }[الواقعة]73 :
كما نقف في هذه اليات على ملمح من ملمح العجاز و ِدقّة الداء القرآني؛ لن المتكلم ربّ
يتحدث عن كل شيء بما يناسبه ،ففي الحديث عن الزرع ـ ولن للنسان عملً فيه مثل الحرْث
جعَلْنَاهُ
سقْي وغيره ـ نراه يؤكد الفعل الذي ينقض هذا الزرع ،فيقولَ {:لوْ نَشَآءُ لَ َ
والبذْر وال ّ
حطَاما[} ..الواقعة ]65 :حتى ل يراودك الغرور بعملك.
ُ
أما في الحديث عن الماء ـ وليس للنسان دخل في تكوينه ـ فل حاجةَ إلى تأكيد الفعل كسابقه،
جعَلْنَاهُ أُجَاجا[} ..الواقعة ]70 :دون توكيد؛ لن النسان ل يدعي أن له
فيقول تعالىَ {:لوْ نَشَآءُ َ
فضلً في هذا الماء الذي ينهمر من السماء.
نعود إلى المؤمن الذي ينصح صاحبه الكافر ،ويُعلّمه كيف يستقبل نعمة ال عليه {:وََلوْل ِإذْ َدخَ ْلتَ
جَنّ َتكَ قُ ْلتَ مَا شَآءَ اللّهُ لَ ُق ّوةَ ِإلّ بِاللّهِ[} ..الكهفَ } ]39 :لوْل { بمعنى :هلّ وهي للحثّ
والتحضيض ،وعلى النسان إذا رأى ما يعجبه في مال أو ولد حتى لو أعجبه وجهه في المرآة
عليه أن يقول :ما شاء ال ل قوة إل بال.
وفي الحديث يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما قيل عند نعمة :ما شاء ال ل قوة إل بال،
إل ول ترى فيها آفة إل الموت ".
فساعة أن تطالع نعمة ال كان من الواجب عليك ألّ تُلهيكَ النعمة عن المنعم ،كان عليك أن تقول:
ما شاء ال ل قوة إل بال ،أي :أن هذا كله ليس بقوتي وحيلتي ،بل فضل من ال فتردّ النعمة إلى
خالقها ومُسديها ،وما ُد ْمتَ قد رد ْدتَ النعمة إلى خالقها فقد استأمنْتَهُ عليها واستحفظته إياها،
وضم ْنتَ بذلك بقاءها.
وذكرنا أن سيدنا جعفر الصادق ـ رضي ال عنه ـ كان عالما بكنوز القرآن ،ورأى النفس
صفْو الحياة من خوف أو قلق أو همّ أو حزن أو
البشرية ،وما يعتريها من تقلّبات تعكر عليه َ
مكر ،أو زهرة الدنيا وطموحات النسان فيها.
فكان رضي ال عنه يُخرج لهذه الداءات ما يناسبها من علجات القرآن فكان يقول في الخوف" :
عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول ال تعالى {:حَسْبُنَا اللّ ُه وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ }[آل عمران ]173 :فإني
سهُمْ سُوءٌ }[آل عمران]174 :
ضلٍ لّمْ َي ْمسَ ْ
سمعت ال بعقبها يقول {:فَا ْنقَلَبُواْ بِ ِن ْعمَةٍ مّنَ اللّهِ َوفَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعجبتُ لمن اغتمّ ـ لن ال َغمّ انسداد القلب وبلبلة الخاطر من شيء ل يعرف سببه ـ وعجبتُ
لمن اغت ّم ولم يفزع إلى قول ال تعالى {:لّ إِلَـاهَ ِإلّ أَنتَ سُ ْبحَا َنكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ }
[النبياء ]87 :فإني سمعت ال بعقبها يقول {:فَاسْ َتجَبْنَا لَ ُه وَ َنجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلغَمّ }[النبياء ]88 :ليس هذا
وفقط ،بلَ {:وكَذاِلكَ نُنجِـي ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النبياء ]88 :وكأنها (وصْفة) عامة لكل مؤمن ،وليست
خاصة بنبيّ ال يونس عليه السلم.
فقوْل المؤمن الذي أصابه الغم {:لّ إِلَـاهَ ِإلّ أَنتَ[} ..النبياء ]87 :أي :ل مفزع لي سواك ،ول
ملجأ لي غيرك{ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّاِلمِينَ[} ..النبياء ]87 :اعتراف بالذنب والتقصير ،فلعل ما
وقعتُ فيه من ذنب وما حدث من ظلم لنفسي هو سبب هذا الغم الذي أعانيه.
وعجبتُ لمن مُكر به ،كيف ل يفزع إلى قول ال تعالى {:وَُأ َف ّوضُ َأمْرِي إِلَى اللّهِ[} ..غافر]44 :
فإني سمعت ال بعقبها يقول {:فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا َمكَـرُواْ[} ..غافر ]45 :فال تبارك وتعالى هو
الذي سيتولى الرد عليهم ومقابلة مكرهم بمكره سبحانه ،كما قال تعالىَ {:و َمكَرُواْ َو َمكَرَ اللّهُ وَاللّهُ
خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل عمران]54 :
وعجبتُ لمن طلب الدنيا وزينتها ـ صاحب الطموحات في الدنيا المتطلع إلى زخرفها ـ كيف ل
يفزع إلى قوله تعالى } :مَا شَآءَ اللّ ُه لَ ُق ّوةَ ِإلّ بِاللّهِ[ { ..الكهف ]39 :فإني سمعت ال بعقبها
يقول {:فعسَىا رَبّي أَن ُيؤْتِيَنِ خَيْرا مّن جَنّ ِتكَ }[الكهف]40 :
فإن قلتها على نعمتك حُفظتْ ونمَتْ ،وإن قلتها على نعمة الغير أعطاك ال فوقها.
والعجيب أن المؤمن الفقير الذي ل يملك من متاع الدنيا شيئا يدل صاحبه الكافر على مفتاح الخير
الذي يزيده من خير الدنيا ،رغم ما يتقلّب فيه من نعيمها ،فمفتاح زيادة الخير في الدنيا ودوام
النعمة فيها أن نقول } :مَا شَآءَ اللّ ُه لَ ُق ّوةَ ِإلّ بِاللّهِ[ { ..الكهف]39 :
ويستطرد المؤمن ،فيُبيّن لصاحبه ما عَيّره به من أنه فقير وهو غني ،وما استعلى عليه بماله
ل َووَلَدا { [الكهف]39 :
وولده } :إِن تَرَنِ أَنَاْ َأ َقلّ مِنكَ مَا ً
ثم ذكّره بأن ال تعالى قادر على أنْ يُبدّل هذا الحال ،فقال } :فعسَىا رَبّي أَن ُيؤْتِيَنِ خَيْرا مّن
جَنّ ِتكَ.{ ...
()2163 /
وعسى للرجاء ،فإن كان الرجاء من ال فهو واقع ل شكّ فيه؛ لذلك حينما تقول عند نعمة الغير:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
(ما شاء ال ل قوة إل بال) يعطيك ال خيرا مما قُلْت عليه( :ما شاء ال ل قوة إل بال) ،وإن
شكَرْتُمْ
اعترفتَ بنعمة ال عليك ورددْت الفضل إليه سبحانه زادك ،كما جاء في قوله تعالى {:لَئِن َ
لَزِيدَ ّنكُمْ }[إبراهيم]7 :
فقوله { :فعسَىا رَبّي أَن ُيؤْتِيَنِ خَيْرا مّن جَنّ ِتكَ } [الكهف ]40 :أي :ينقل مسألة الغنى والفقر
ويُحوّلها ،فأنت ل قدرة لك على حفظ هذه النعمة ،كما أنك ل قدرةَ لك على جَلْبها من البداية.
إذن :يمكن أنْ يعطيني ربي نعمة مثل نعمتك ،في حين تظل نعمتك كما هي ،لكن إرادة ال تعالى
سمَآءِ } [الكهف ]40 :هذه النعمة التي تعتز
سلَ عَلَ ْيهَا حُسْبَانا مّنَ ال ّ
أن يقلبَ نعمتك ويزيلها { :وَيُرْ ِ
حسْبانا.
خلْق ال يمكن أنْ يرسلَ ال عليها ُ
بها وتفخر بزهرتها وتتعالى بها على َ
س وَا ْل َقمَرُ
شمْ ُ
والحُسْبان :الشيء المحسوب المقدّر بدقّة وبحساب ،كما جاء في قوله تعالى {:ال ّ
عدَدَ
حسْبَانٍ }[الرحمن ]5 :والخالق سبحانه وتعالى جعل الشمس والقمر لمعرفة الوقت {:لِ َتعَْلمُواْ َ
بِ ُ
ن وَا ْلحِسَابَ }[يونس ]5 :ونحن ل نعرف من هذه عدد السنين والحساب إل إذا كانت هي في
السّنِي َ
ذاتها منضبطةً على نظام دقيق ل يختلّ ،مثل الساعة ل تستطيع أنْ تعرفَ بها الوقت وتضبطه إل
إذا كانت هي في ذاتها منضبطة ،والشيء ل يكون حسبانا لغيره إل إذا كان هو نفسه مُنْشأ على
حسْبان.
ُ
وحَسب حُسْبانا مثل غفر غفرانا ،وقد أرسل ال على هذه الجنة التي اغترّ بها صاحبها صاعقة
محسوبة مُقدّرة على َقدْر هذه الجنة ل تتعدّاها إلى غيرها ،حتى ل يقول :إنها آية كونية عامة
أصابتني كما أصابت غيري ..ل .إنها صاعقة مخصوصة محسوبة لهذه الجنة دون غيرها.
صعِيدا زَلَقا } [الكهف ]40 :أي :أن هذه الجنة العامرة بالزروع والثمار،
ح َ
ثم يقول تعالى { :فَ ُتصْبِ َ
المليئة بالنخيل والعناب بعد أن أصابتها الصاعقة أصبحتْ صَعيدا أي :جدباء يعلُوها التراب،
صعِيدا
صعِيدا طَيّبا }[النساء ]43 :ليس هذا وفقط ،بل { َ
ومنه قوله تعالى في التيمّم {:فَتَ َي ّممُواْ َ
زَلَقا } [الكهف ]40 :أي :ترابا مُبلّلً تنزلق عليه القدام ،فل يصلح لشيء ،حتى المشي عليه.
()2164 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غوْرا َفمَن يَأْتِي ُكمْ ِبمَآءٍ ّمعِينٍ }[الملك]30 :
مَآ ُؤكُمْ َ
لحظ أن هذا الكلم من المؤمن لصاحبه الكافر مجرد رجاء يخاطبه به {:فعسَىا رَبّي[} ..الكهف:
]40رجاء لم يحدث َبعْد ،ولم يصل إلى إيقاعيات القدر.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَُأحِيطَ بِ َثمَ ِرهِ فََأصْبَحَ ُيقَّلبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَ ْنفَقَ فِيهَا وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا
شهَا.} ...
عُرُو ِ
()2165 /
هكذا انتقل الرجاء إلى التنفيذ ،وكأن ال تعالى استجاب للرجل المؤمن ولم يكذب توقعه { وَُأحِيطَ
بِ َثمَ ِرهِ } [الكهف ]42 :أحيط :كأنْ جعل حول الثمر سورا يحيط به ،فل يكون له منفذ ،كما قال في
آية أخرى {:وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ ُأحِيطَ ِب ِهمْ }[يونس]22 :
وتلحظ أنه سبحانه قال { :وَأُحِيطَ بِ َثمَ ِرهِ } [الكهف ]42 :ولم ي ُقلْ مثلً :أحيط بزرعه أو بنخله؛
لن الحاطة قد تكون بالشيء ،ثم يثمر بعد ذلك ،لكن الحاطة هنا جاءت على الثمر ذاته ،وهو
قريب الجنْي قريب التناول ،وبذلك تكون الفاجعة فيه أشدّ ،والثمر هو الغاية والمحصّلة النهائية
للزرع .ثم يُصوّر الحق سبحانه ندم صاحب الجنة وأَسَفه عليها { :فََأصْبَحَ ُيقَّلبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَ ْنفَقَ
فِيهَا } [الكهف ]42 :أي :يضرب َكفّا بكفّ ،كما يفعل النسان حينما يفاجئه أمر ل يتوقعه ،فيقف
مبهوتا ل يدري ما يقول ،فيضرب كفّا بكفّ ل يتكلم إل بعد أن يُفيق من َهوْل هذه المفاجأة
ودَهْشتها.
شهَا }
علَىا عُرُو ِ
ويُقلّب كفّيْه على أيّ شيء؟ يُقلّب كفيه ندما على ما أنفق فيها { وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ َ
جدْباء ،كما قال سبحانه في آية أخرىَ {:أوْ كَالّذِي مَرّ
[الكهف ]42 :خاوية :أي خَربة جَرْداء َ
شهَا }[البقرة]259 :
عَلَىا قَرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُو ِ
ومعلوم أن العروش تكون فوق ،فلما نزلت عليها الصاعقة من السماء د ّكتْ عروشها ،وجعلت
عاليها سافلها ،فوقع العرش أولً ،ثم تهدّمتْ عليه الجدران.
وقوله تعالى { :وَيَقُولُ يالَيْتَنِي َلمْ أُشْ ِركْ بِرَبّي َأحَدا } [الكهف ]42 :بعد أن ألجمتْه الدهشة عن
ي الفوري { :يالَيْتَنِي لَمْ
ح يضرب كفّا بكفّ ،أفاق من دهشته ،ونزع هذا النزوع القول ّ
الكلم ،فرا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أُشْ ِركْ بِرَبّي أَحَدا } [الكهف ]42 :يتمنى أنه لم يشرك بال أحدا؛ لن الشركاء الذين اتخذهم من
دون ال لم ينفعوه ،لذلك قال بعدها { :وَلَمْ َتكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ.} ...
()2166 /
وَلَمْ َتكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَ ْنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه َومَا كَانَ مُنْ َتصِرًا ()43
()2167 /
عقْبًا ()44
هُنَاِلكَ ا ْلوَلَايَةُ لِلّهِ ا ْلحَقّ ُهوَ خَيْرٌ َثوَابًا وَخَيْرٌ ُ
هنالك :أي في وقت الحالة هذه ،وقتَ أنْ نزلتْ الصاعقة من السماء فأتتْ على الجنة ،وجعلتها
خاوية على عروشها ،هناك تذكّر المنع َم وتمنّى لو لم يشرك بال ،فقوله { :هُنَاِلكَ } أي :في الوقت
الدقيق وقت القمة ،قمة النكَد والكَدَر.
و { هُنَاِلكَ } جاءت في القرآن في المر العجيب ،ويدعو إلى المر العجب ،من ذلك قصة سيدنا
زكريا ـ عليه السلم ـ لما دخل على السيدة مريم ،فوجد عندها رزقا {:قَالَ يامَرْيَمُ أَنّىا َلكِ
هَـاذَا قَاَلتْ ُهوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران]37 :
وكان زكريا ـ عليه السلم ـ هو المتكفّل بها ،الذي يُحضِر لها الطعام والشراب ،فلما رأى
عندها أنواعا من الطعام لم يَ ْأتِ بها سألها من أيْن؟ فقالت :هو من عند ال إن ال يرزق مَنْ يشاء
بغير حساب ،فأطمع هذا القولُ زكريا في فضل ال ،وأراد أن يأخذ بالسباب ،فدعا ال أن يرزقه
الولد ،وقد كانت امرأته عاقرا فقال تعالى {:هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ }[آل عمران]38 :
و { ا ْل َولَيَةُ } أن يكون لك ولي ينصرك ،فالولي هو الذي يليك ،ويدافع عنك وقت الشدة ،وفي
قراءة أخرى( :هُنَاِلكَ ا ْلوِليَةُ) بكسر الواو يعني الملك ،كما في قولهّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ
ا ْل َقهّارِ }[غافر]16 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقولهُ { :هوَ خَيْرٌ َثوَابا[ } ..الكهف ]44 :لنه سيجازى على العمل الصالح بثواب ،هو خير من
عقْبا } [الكهف ]44 :أي :خير العاقبة بالرزق الطيب في جنة الخلد.
الدنيا وما فيها { وَخَيْرٌ ُ
هكذا ضرب ال تعالى لنا مثلً ،وأوضح لنا عاقبة الغنيّ الكافر ،والفقير المؤمن ،وبيّن لنا أن
النسان يجب ألّ تخدعه النعمة ول يغره النعيم؛ لنه موهوب من ال ،فاجعل الواهب المنعِمَ
سبحانه دائما على بالك ،كي يحافظ لك على نعمتك وإل َلكُ ْنتَ مثل هذا الجاحد الذي استعلى
واغترّ بنعمة ال فكانت عاقبته كما رأيت.
وهذا مثل في المر الجزئي الذي يتعلق بالمكلّف الواحد ،ولو نظرتَ إليه لوجدتَه يعمّ الدنيا كلها؛
فهو مثال مُصغّر لحال الحياة الدنيا؛ لذلك انتقل الحق سبحانه من المثل الجزئيّ إلى المثل العام،
فقال تعالى { :وَاضْ ِربْ َلهُم مّ َثلَ الْحَيَواةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ.} ...
()2168 /
الحق تبارك وتعالى في هذه الية يوضح المجهول لنا بما عُلِم لدينا .وأهل البلغة يقولون :في
هذه الية تشبيه تمثيل؛ لنه سبحانه شبّه حال الدنيا في ِقصَرها وسرعة زوالها بالماء الذي نزل
من السماء ،فارتوتْ به الرض ،وأنبتتْ ألوانا من الزروع والثمار ،ولكن سرعان ما يذبلُ هذا
النبات ويصير هشيما مُتفتتا تذهب به الريح.
وهذه صورة ـ كما يقولون ـ منتزعة من مُتعدّد .أي :أن وجه الشبه فيها ليس شيئا واحدا ،بل
عِدّة أشياء ،فإن كان التشبيه مُركّبا من أشياء متعددة فهو مَثَل ،وإنْ كان تشبيه شيء مفرد بشيء
لمْثَالَ }[النحل]74 :
مفرد يُسمّونه مِثْل ،نقول :هذا مِثْل هذا ،لذلك قال تعالى {:فَلَ َتضْرِبُواْ لِلّهِ ا َ
لن ل تعالى المثل العلى.
حلْوة َنضِرة ،وفجأة ل تجد في يديك منها شيئا؛ لذلك سماها
وهكذا الدنيا تبدو جميلة مُزهِرة مُثمِرة ُ
ي وصف أقل من هذا يمكن أن يصفها به؟ لنعرف أن
القرآن دُنْيا وهو اسم يُوحي بالحقارة ،وإل فأ ّ
ما يقابلها حياة عُلْيا.
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم :كما ضربتُ لهم مَثَل الرجلين وما آل إليه
أمرهما اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلّب بأهلها ،وتتبدل بهم ،واضرب لهم مثلً للدنيا من
واقع الدنيا نفسها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل بعضُه
ت الَ ْرضِ } [الكهف ]45 :أي :اختلط بسببه نبات الرض ،وتداخ َ
ومعنى { فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَا ُ
ن كانت
خصْبة ،أما إ ْ
في بعض ،وتشابكتْ أغصانه وفروعه ،وهذه صورة النبات في الرض ال ِ
خصْبة فإنها تُخرِج النبات مفردا ،عود هنا وعود هناك.
الرض مالحة غير ِ
خضْرته ونضارته؟ ل ،بل سرعان ما جفّ وتكسر وصار هشيما
لكن ،هل ظل النبات على حال ُ
تطيح به الريح وتذروه ،هذا مثلٌ للدنيا حين تأخذ زخرفها وتتزيّن ،كما قال تعالى {:حَتّىا ِإذَآ
ت وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ َنهَارا} ..
خ َذتِ الَرْضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّنَ ْ
أَ َ
[يونس]24 :
شيْءٍ ّمقْتَدِرا } [الكهف ]45 :لنه سبحانه القادر دائما على
ثم يقول تعالىَ { :وكَانَ اللّهُ عَلَىا ُكلّ َ
إخراج الشيء إلى ضِدّه ،كما قال سبحانه {:وَإِنّا عَلَىا ذَهَابٍ بِهِ َلقَادِرُونَ }[المؤمنون]18 :
فقد اقتدر سبحانه على اليجاد ،واقتدر على العدام ،فل تنفكّ عنه صفة القدرة أبدا ،أحيا وأمات،
وأعزّ وأذلّ ،وقبض وبسط ،وضَرّ ونفع..
ولما كان الكلم السابق عن صاحب الجنة الذي اغترّ بماله وولده فناسب الحديث عن المال
ل وَالْبَنُونَ زِينَةُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا }.
والولد ،فقال تعالى { :ا ْلمَا ُ
()2169 /
ا ْلمَالُ وَالْبَنُونَ زِي َنةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَ ّبكَ َثوَابًا وَخَيْرٌ َأمَلًا ()46
تلك هي العناصر الساسية في فتنة الناس في الدنيا :المال والبنون ،لكن لماذا قدّم المال؟ أهو
أغلى عند الناس من البنين؟ نقول :قدّم الحق سبحانه المال على البنين ،ليس لنه أعزّ أو أغلى؛
إنما لن المال عام في المخاطب على خلف البنين ،فكلّ إنسان لديه المال وإنْ قلّ ،أما البنون
فهذه خصوصية ،ومن الناس مَنْ حُرِم منها.
كما أن البنين ل تأتي إل بالمال؛ لنه يحتاج إلى الزواج والنفقة لكي يتناسل ويُنجب ،إذن :كل
ل وَالْبَنُونَ زِي َنةُ ا ْلحَيَاةِ
واحد له مال ،وليس لكل واحد بنون ،والحكم هنا قضية عامة ،وهي { :ا ْلمَا ُ
الدّنْيَا[ } ..الكهف ]46 :كلمة { زِينَةُ } أي :ليست من ضروريات الحياة ،فهو مجرد شكل
وزخرف؛ لن المؤمن الراضي بما قُسِمَ له يعيش حياته سعيدا بدون مال ،وبدون أولد؛ لن
النسان قد يشقَى بماله ،أو يشقى بولده ،لدرجة أنه يتمنى لو مات قبل أن يُرزقَ هذا المال أو هذا
الولد.
عقْدة ومشكلة عند كثير من الناس ،فترى الرجل كَدِرا مهموما؛ لنه يريد
وقد باتت مسألة النجاب ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الولد ليكون له عِزْوة وعِزّة ،وربما يُزَرق الولد ويرى ال ّذلّ على يديه ،وكم من المشاكل تُثار في
البيوت؛ لن الزوجة ل تنجب.
ولو أيقن الناس أن اليجاد من ال نعمة ،وأن السّلْب من ال أيضا نعمة لستراح الجميع ،ألم نقرأ
خلُقُ مَا َيشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ
ت وَالَرْضِ يَ ْ
سمَاوَا ِ
قول ال تعالى {:لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
عقِيما إِنّهُ عَلِيمٌ َقدِيرٌ }[الشورى]50-49 :
ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ
ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ
عقْمه بأنْ يجعل
إذن :فال ُعقْم في ذاته نعمة وهِبَة من ال لو قبلها النسان من ربه لَعوّضه ال عن ُ
كل البناء أبناءه ،ينظرون إليه ويعاملونه كأنه أبٌ لهم ،فيذوق من خللهم لذّة البناء دون أن
يتعب في تربية أحد ،أو يحمل هَمّ أحد.
وكذلك ،الذي يتكدر لن ال رزقه بالبنات دون البنين ،ويكون كالذي قال ال فيه {:وَإِذَا بُشّرَ
سوَدّا وَ ُهوَ َكظِيمٌ }[النحل]58 :
جهُهُ مُ ْ
ظلّ َو ْ
حدُهُمْ بِالُنْثَىا َ
أَ َ
إنه يريد الولد ليكون عِزْوة وعِزّة .ونسى أن عزة المؤمن بال ل بغيره ،ونقول :وال لو استقبلت
البنت بالفرح والرضا على أنها هِبَة من ال لكانتْ سببا في أن يأتي لها زوج أبرّ بك من ولدك ،ثم
قد تأتي هي لك بالولد الذي يكون أعزّ عندك من ولدك.
إذن :المال والبنون من زينة الحياة وزخرفها ،وليسا من الضروريات ،وقد حدد لنا النبي صلى ال
عليه وسلم الدنيا ،فقال " :من أصبح ُمعَافىً في بدنه ،آمنا في سِرْبه ـ أي :ل يهدد أمنه أحد ـ
وعنده قوت يومه ،فكأنما حِي َزتْ له الدنيا بحذافيرها "
فما زاد عن ذلك فهو من الزينة ،فالنسان ـ إذن ـ يستطيع أن يعيش دون مال أو ولد ،يعيش
بقيم تعطي له الخير ،ورضا يرضيه عن خالقه تعالى.
ثم يقول تعالى } :وَالْبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ َأمَلً { [الكهف]46 :
لن المال والبنين لن يدخل معك القبر ،ولن يمنعاك من العذاب ،ولن ينفعك إل الباقيات
الصالحات .والنبي صلى ال عليه وسلم حينما أُهد َيتْ إليه شاة ،وكانت السيدة عائشة ـ رضي ال
عنها ـ تعرف أن رسول ال يحب من الشاة الكتف؛ لنه َلحْم رقيق خفيف؛ لذلك احتفظتْ لرسول
ال بالكتف وتصدّقت بالباقي ،فلما جاء صلى ال عليه وسلم قال " :ماذا صنعتِ في الشاة "؟ قالت:
ت كلها إل كتفها ،فضحك صلى ال عليه وسلم وقال " :بل بقيت كلها إل كتفها ".
ذهب ْ
وفي حديث آخر قال صلى ال عليه وسلم " :هل لك يا ابن آدم من مالك إل ما أكلتَ فأفنيتَ ،أو
ستَ فأبل ْيتَ ،أو تص ّد ْقتَ فأبق ْيتَ ".
لب ْ
وهذا معنى } :وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ[ { ..الكهف]46 :
والسؤال الذي يتبادر إلى الذّهْن الن :إذا لم يكُنْ المال والبنون يمثلن ضرورة من ضروريات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحياة ،فما الضروريات في الحياة إذن؟ الضروريات في الحياة هي ُكلّ ما يجعل الدنيا مزرعة
للخرة ،ووسيلة لحياة باقية دائمة ناعمة مسعدة ،ل تنتهي أنت من النعيم فتتركه ،ول ينتهي النعيم
منك فيتركك ،إنه نعيم الجنة.
الضروريات ـ إذن ـ هي الدين ومنهج ال والقِيَم التي تُنظم حركة الحياة على َوفْق ما أراد ال
من خلق الحياة.
ومعنى } :وَالْبَاقِيَاتُ { [الكهف ]46 :ما دام قال } وَالْبَاقِيَاتُ { فمعنى هذا أن ما قبلها لم يكُنْ من
الباقيات بل هو زائل بزوال الدنيا ،ثم وصفها بالصالحات ليفرق بينها وبين الباقيات السيئات التي
يخلدون بها في النار.
} وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ[ { ..الكهف ]46 :خير عند مَنْ؟ لن كل مضاف إليه يأتي على قوة
المضاف إليه ،فخَيْرك غير خير مَنْ هو أغنى منك ،غير خير الحاكم ،فما بالك بخير عند ال؟
} خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا َوخَيْرٌ َأمَلً { [الكهف]46 :
والمل :ما يتطلع إليه النسان مما لم تكُنْ به حالته ،فإنْ كان عنده خير تطلّع إلى أعلى منه،
فالمل العلى عند ال تبارك وتعالىُ ،كلّ هذا يُبيّن لنا أن هذه الدنيا زائلة ،وأننا ذاهبون إلى يوم
بَاقٍ؛ لذلك أردف الحق سبحانه بعد الباقيات الصالحات ما يناسبها ،فقال تعالى } :وَ َيوْمَ نُسَيّرُ
ل وَتَرَى الَ ْرضَ بَارِ َزةً.{ ...
الْجِبَا َ
()2170 /
وَ َيوْمَ نُسَيّرُ ا ْلجِبَالَ وَتَرَى الْأَ ْرضَ بَارِ َز ًة َوحَشَرْنَا ُهمْ فَلَمْ ُنغَادِرْ مِ ْنهُمْ َأحَدًا ()47
أي :اذكر جيدا يوم نُسيّر الجبال وتنتهي هذه الدنيا ،واعمل الباقيات الصالحات لننا سنُسيّر الجبال
التي تراها ثابتة راسخة تتوارث الجيال حجمها وجِرْمها ،وقوتها وصلبتها ،وهي باقية على
حالها.
ومعنى تسيير الجبال :إزالتها عن أماكنها ،كما قال في آية أخرى {:وَسُيّ َرتِ الْجِبَالُ َفكَا َنتْ سَرَابا }
[النبأ]20 :
وقال في آية أخرى{ وَإِذَا ا ْلجِبَالُ سُيّ َرتْ }[التكوير]3 :
سمَآءُ كَا ْل ُمهْلِ * وَ َتكُونُ الْجِبَالُ
سفَتْ }[المرسلت ]10 :وقالَ {:يوْمَ َتكُونُ ال ّ
وقال {:وَِإذَا ا ْلجِبَالُ ُن ِ
كَا ْل ِعهْنِ }[المعارج]9-8 :
ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر أقوى مظهر ثابت في الحياة الدنيا ،وإل ففي الرض أشياء أخرى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قوية وثابتة كالعمائر ناطحات السحاب ،والشجر الكبير الضخم المعمّر وغيرها كثير .فإذا كان
الحق سبحانه سينسف هذه الجبال ويُزيلها عن أماكنها ،فغيرها مما على وجه الرض زائل من
باب َأوْلَى.
ثم يقول سبحانه { :وَتَرَى الَ ْرضَ بَارِ َزةً } [الكهف]47 :
الرضُ :كلّ ما أقلّك من هذه البسيطة التي نعيش عليها ،وكل ما يعلوك ويُظِلّك فهو سماء،
ومعنى { :بَارِ َزةً } البَرَازُ :هو الفضاء ،أي :وترى الرض فضاءً خالية مما كان عليها من أشكال
الجبال والمباني والشجار ،حتى البحر الذي يغطي جزءا كبيرا من الرض.
كل هذه الشكال ذهبتْ ل وجودَ لها ،فكأن الرض بَر َزتْ بعد أنْ كانت مختبئة :بعضها تحت
الجبال ،وبعضها تحت الشجار ،وبعضها تحت المباني ،وبعضها تحت الماء ،فأصبحتْ فضاء
واسعا ،ليس فيه َمعْلَمٌ لشيء.
ومن ذلك ما نُسمّيه نحن المبارزة ،فنرى الفتوة يقول للخر (اطلع لي بره) أي :في مكان خال
حتى ل يجد شيئا يحتمي به ،أو حائطا مثلً يستند عليه ،وبرز فلن لفلن وبارزه أي :صارعه.
حشَرْنَاهُمْ } [الكهف ]47 :أي :جمعناهم ليوم الحساب؛ لنهم فارقوا الدنيا على مراحل من لَدُن
{ وَ َ
آدم عليه السلم ،والموت يحصد الرواح ،وقد جاء اليوم الذي يُجمع فيه هؤلء.
{ فََلمْ ُنغَادِرْ مِ ْنهُمْ أَحَدا } [الكهف ]47 :أي :لم نترك منهم واحدا ،الكلّ معرض على ال ،وكلمة
{ ُنغَادِرْ } [الكهف ]47 :ومادة (غدر) تؤدي جميعها معنى الترْك ،فالغدر مثلً تَرْك الوفاء وخيانة
سمّي غديرا؛ لن المطر حينما ينزل على الرض
المانة ،حتى غدير وهو جدول الماء الصغير ُ
ل في المواطئ.
يذهب ويترك شيئا قلي ً
صفّا ّلقَدْ جِئْ ُتمُونَا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ.} ...
ك َ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَعُ ِرضُواْ عَلَىا رَ ّب َ
()2171 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ف الصفّ الذي يليه ،فالجميع واضح بكل أحواله.
ص ّ
متداخلة بطريقة ل ُيخِفي فيها َ
وفي الحديث عن معاذ بن جبل ـ رضي ال عنه ـ قال :حدثنا رسول ال صلى ال عليه وسلم
فقال " :يَحشر ال الخَلْق ثم ينادي :يا عبادي أحضروا حُجتكم ويسّروا جوابكم ،فإنكم مجموعون
مُحَاسَبُون مَسْئولون ،يا ملئكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب ".
ن تتصوّر المعاناة واللم الذي يجده مَنْ يقف على أطراف أنامل قدميْه؛ لن ثقل الجسم
ولك أ ْ
يُوزّع على القدمين في حال الوقوف ،وعلى المقعدة في حال الجلوس ،وعلى الجسم كله في حال
النوم ،وهكذا يخفّ ثقل الجسم حسب الحالة التي هو عليها ،فإنْ تركّز الثقل كله على أطراف
شكّ أنه َوضْع مؤلم وشاقّ ،يصعُب على الناس حتى إنهم ليتمنون النصراف
أنامل القدمين ،فل َ
ولو إلى النار.
ثم يقول تعالىّ { :لقَدْ جِئْ ُتمُونَا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ[ } ..الكهف]48 :
أي :على الحالة التي نزلتَ عليها من بطن أمك عريانا ،ل تملك شيئا حتى ما يستر عورتك ،وقد
خوّلْنَاكُمْ
ُفصّل هذا المعنى في قوله تعالى {:وَلَقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَىا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَتَ َركْتُمْ مّا َ
ضلّ عَنكُم
عمْ ُتمْ أَ ّنهُمْ فِيكُمْ شُ َركَآءُ َلقَد ّتقَطّعَ بَيْ َنكُ ْم َو َ
ش َفعَآ َءكُمُ الّذِينَ زَ َ
ظهُو ِركُ ْم َومَا نَرَىا َم َعكُمْ ُ
وَرَاءَ ُ
عمُونَ }[النعام]94 :
مّا كُنتُمْ تَزْ ُ
ج َعلَ َلكُمْ ّموْعِدا } [الكهف ]48 :والخطاب هنا مُوجّه للكفار الذين
عمْتُمْ أَلّن نّ ْ
وقوله تعالىَ { :بلْ زَ َ
عمْ ُتمْ } [الكهف ]48 :والزعْم مطيّة الكذب.
أنكروا البعث والحساب { زَ َ
ش ِفقِينَ ِممّا فِيهِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانهَ { :و ُوضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ مُ ْ
()2172 /
شفِقِينَ ِممّا فِي ِه وَ َيقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا ا ْلكِتَابِ لَا ُيغَادِرُ
َووُضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ ُم ْ
حدًا ()49
عمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظِْلمُ رَ ّبكَ أَ َ
جدُوا مَا َ
حصَاهَا َووَ َ
صغِي َرةً وَلَا كَبِي َرةً إِلّا أَ ْ
َ
قوله تعالىَ { :و ُوضِعَ ا ْلكِتَابُ } [الكهف ]49 :أي :وضعته الملئكة بأمر من ال تعالى ،فيعطون
كل واحد كتابه ،فهي ـ إذن ـ صور متعددة ،فمَنْ أخذ كتابه بيمينه فرح وقال:
{ هَآؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَابيَهْ }[الحاقة ]19 :يعرضه على ناس ،وهو فخور بما فيه؛ لنه كتاب مُشرّف
ليس فيه ما يُخجل؛ لذلك يتباهى به ويدعو الناس إلى قراءته ،فهو كالتلميذ الذي حصل على
درجات عالية ،فطار بها ليعرضها ويذيعها.
وهذا بخلف مَنْ أوتي كتابه بشماله فإنه يقول {:يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وََلمْ أَدْرِ مَا حِسَابِ َيهْ *
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يالَيْ َتهَا كَا َنتِ ا ْلقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَىا عَنّي مَالِ َيهْ * هَّلكَ عَنّي سُ ْلطَانِيَهْ }[الحاقة]29-25 :
إنه الخزي والنكسار والندم على صحيفة مُخْجِلة.
شفِقِينَ ِممّا فِيهِ } [الكهف ]49 :أي :خائفين يرتعدون ،والحق سبحانه وتعالى
{ فَتَرَى ا ْل ُمجْ ِرمِينَ مُ ْ
يصور لنا حالة الخوف هذه لِيُفزع عباده ويُحذّرهم ويُضخّم لهم العقوبة ،وهم ما يزالون في وقت
التدارك والتعديل من السلوك ،وهذا من رحمة ال تعالى بعباده.
فحالتهم الولى الشفاق ،وهو عملية هبوط القلب ولجلجته ،ثم يأتي نزوع القول { :وَ َيقُولُونَ
ياوَيْلَتَنَا } [الكهف ]49 :يا :أداة للنداء ،كأنهم يقولون :يا حسرتنا يا هلكنا ،هذا أوانُك فاحضري.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابني آدم ـ عليه السلم ـ لما قتل قابيل هابيل ،وكانت أول حادثة
قتل ،وأول ميت في ذرية آدم؛ لذلك بعث ال له غرابا يُعلّمه كيف يدفن أخاه ،فقال {:يَاوَيْلَتَا
سوْ َءةَ أَخِي[} ..المائدة {]31 :يَاوَيْلَتَا }[المائدة]31 :
أَعَجَ ْزتُ أَنْ َأكُونَ مِ ْثلَ هَـاذَا ا ْلغُرَابِ فَُأوَا ِريَ َ
يا هلكي كأن يتحسّر على ما أصبح فيه ،وأن الغراب أعقل منه ،وأكثر منه خبرة؛ لكي ل نظلم
هذه المخلوقات ونقول :إنها بهائم ل تَفهم ،والحقيقة :ليتنا مثلهم.
حصَاهَا } [الكهف ]49 :أي :ل
صغِي َر ًة َولَ كَبِي َرةً ِإلّ َأ ْ
قوله تعالى { :مَالِ هَـاذَا ا ْلكِتَابِ لَ ُيغَادِ ُر َ
عمِلُواْ حَاضِرا } [الكهف ]49 :فكل ما
يترك كبيرة أو صغيرة إل عدّها وحسبها { َووَجَدُواْ مَا َ
فعلوه مُسجّل مُسطّر في كُتبهم { َولَ يَظِْلمُ رَ ّبكَ أَحَدا } [الكهف ]49 :لنه سبحانه وتعالى عادل ل
يؤاخذهم إل بما عملوه.
سجَدُواْ ِإلّ إِبْلِيسَ.} ...
سجُدُو ْا لَ َدمَ فَ َ
ثم يقول ال سبحانه { :وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ ا ْ
()2173 /
خذُونَ ُه وَذُرّيّتَهُ
سجَدُوا إِلّا إِ ْبلِيسَ كَانَ مِنَ ا ْلجِنّ َففَسَقَ عَنْ َأمْرِ رَبّهِ َأفَتَتّ ِ
سجُدُوا لِآَ َدمَ فَ َ
وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَلَا ِئكَةِ ا ْ
َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ َل ُكمْ عَ ُدوّ بِئْسَ لِلظّاِلمِينَ َبدَلًا ()50
تكررتْ قصة سجود الملئكة لدم ـ عليه السلم ـ كثيرا في القرآن الكريم ،وفي كل مرة تُعطينا
الياتُ لقطةً معينة ،والحق سبحانه في هذه الية يقول لنا :يجب عليكم أنْ تذكّروا جيدا عداوة
إبليس لبيكم آدم ،وتذكروا جيدا أنه أخذ العهد على نفسه أمام ال تعالى أنْ يُغويكم أجمعين ،فكان
يجب عليكم أن تتنبهوا لهذه العداوة ،فإذا حدّثكم بشيء فاذكروا عداوته لكم.
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يُحذّرنا من إبليس فإنه يُربّي فينا المناعة التي نُقاومه بها،
والمناعة أنْ تأتيَ بالشيء الذي يضرّ مستقبلً حين يفاجئك وتضعه في الجسم في صورة مكروب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خامد ،وهذا هو التطعيم الذي يُعوّد الجسم على مدافعة المرض وتغلّب عليه إذا أصابه.
فكذلك الحق سبحانه يعطينا المناعة ضد إبليس ،ويُذكّرنا ما كان منه لبينا آدم واستكباره عن
السجود له ،وأن نذكر دائما قوله {:أَرَأَيْ َتكَ هَـاذَا الّذِي كَ ّر ْمتَ عََليّ لَئِنْ أَخّرْتَنِ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ
لَحْتَ ِنكَنّ ذُرّيّ َتهُ ِإلّ قَلِيلً }[السراء]62 :
ن تقفوا موقفا
فانتبهوا ما دُمنا سنُسيّر الجبال ،ونُسوّي الرض ،ونحصر لكلّ كتابه ،فاحذروا أ ْ
حرجا يوم القيامة ،ثم ُتفَاجأوا بكتاب ل يغادر صغيرة ول كبيرة ،وها أنا أُذكّركم من الن في
وقت السّعة والتدارك ،فحاولوا التوبة إلى ال ،وأنْ تصلحوا ما بينكم وبين ربكم.
والمر هنا جاء للملئكة { :وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ[ } ..الكهف ]50 :لنهم أشرف المخلوقات ،حيث ل
يعصون ال ما أمرهم ،ويفعلون ما يُؤمَرُون .وحين يأمر ال تعالى الملئكة الذين هذه صفاتهم
ن تكونوا في خدمته.
بالسجود لدم ،فهذا يعني الخضوع ،وأن هذا هو الخليفة الذي آمُركُم أ ْ
حفَظُونَهُ مِنْ
لذلك سمّاهم :المدبّرات أمرا ،وقال تعالى عنهم {:لَهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ
َأمْرِ اللّهِ }[الرعد ]11 :فكأن مهمة هؤلء الملئكة أن يكونوا مع البشر وفي خدمتهم.
فإذا كان الحق سبحانه قد جنّد هؤلء الملئكة وهم أشرفُ المخلوقات لخدمة النسان ،وأمرهم
بالسجود له إعلنا للخضوع للنسان ،فمن باب َأوْلى أن يخضع له الكون كله بسمائه وأرضه،
وأن يجعلَه في خدمته ،إنما ذكر أشرف المخلوقات لينسحب الحكم على مَنْ دونهم.
وقلنا :إن العلماء اختلفوا كثيرا على ماهية إبليس :أهو من الجن أم من الملئكة ،وقد قطعت هذه
سمَتْه ،فقال تعالىِ { :إلّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ[ } ..الكهف ]50 :وطالما جاء
حَالية هذا الخلف و َ
القرآن بالنص الصريح الذي يُوضّح جنسيته ،فليس لحد أن يقول :إنه من الملئكة.
ن يفعل أو ل يفعل ،فقد اختار ألّ يفعلَ { :ففَسَقَ
وما دام كان من الجن ،وهم جنس مختار في أ ْ
عَنْ َأمْرِ رَبّهِ[ } ..الكهف ]50 :أي :رجع إلى أصله ،وخرج عن المر.
خذُونَ ُه وَذُرّيّتَهُ َأوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ َلكُمْ عَ ُدوّ.
وقوله تعالىَ { :أفَتَتّ ِ
[ { .الكهف ]50 :فهذا أمر عجيب ،فكيف بعد ما حدث منه تجعلونه وليا من دون ال الذي خلقكم
ورزقكم ،فكان َأوْلَى بهذه الولية.
و } وَذُرّيّ َتهُ[ { ..الكهف ]50 :تدل على تناسل إبليس ،وأن له أولدا ،وأنهم يتزاوجون ،ويمكن أن
نقول :ذريته :كل مَنْ كان على طريقته في الضلل والغواء ،ولو كان من النس ،كما قال
س وَالْجِنّ يُوحِي َب ْعضُهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ
ن الِنْ ِ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ عَ ُدوّا شَيَاطِي َ
تعالىَ {:وكَذَِلكَ َ
ا ْل َقوْلِ غُرُورا[} ..النعام]112 :
} بِئْسَ لِلظّاِلمِينَ َب َدلً { [الكهف ]50 :أي :بئس البدل أن تتخذوا إبليس الذي أبى واستكبر أنْ يسجدَ
لبيكم وَليا ،وتتركوا ولية ال الذي أمر الملئكة أنْ تسجدَ لبيكم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سهِمْ.{ ...
ض َولَ خَلْقَ أَ ْنفُ ِ
ت وَالَرْ ِ
سمَاوَا ِ
شهَدّتهُمْ خَ ْلقَ ال ّ
ثم يقول الحق سبحانه } :مّآ أَ ْ
()2174 /
ضدًا ()51
ع ُ
سهِ ْم َومَا كُ ْنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
ض وَلَا خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ
ت وَالْأَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
شهَدْ ُت ُهمْ خَ ْلقَ ال ّ
مَا أَ ْ
إن هذا الشيطان الذي واليتموه من دون ال ،وأعطيتموه الميْزة ،واستمعتم إليه ما أشهدتهم خَلْق
السماوات والرض مجرد المشاهدة ،لم يحضروها لن خَلْق السماوات والرض كان قبل خَلْقهم،
شهِدوا خَلْق أنفسهم؛ لنهم ساعة خَلْقتهم لم يكونوا موجودين ،إنهم لم يشهدوا شيئا من
وكذلك ما َ
ذلك لكي يخبروكم.
عضُدا } [الكهف ]51 :أي :مساعدين ومعاونين ومساندين ،فما أشهدتهم
{ َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
الخَلْق وما عاونوني فيه.
عضُد النسان ،حيث يزاول أغلب
وال َعضُد :هو القوة التي تُسعفك وتسندك ،وهو مأخوذ من َ
أعماله بيده ،وحين يزاول أعماله بيده تتحرك فيه مجموعة من العضاء قَبْضا وبَسْطا واتجاها
يمينا وشمالً ،وأعلى وأسفل ،و ُكلّ هذه الحركات ل ُبدّ لها من مُنظّم أو موتور هو العضد ،وفي
حركة اليد ودقتها في أداء مهمتها آياتٌ عُظْمى تدلّ على ِدقّة الصّنْعة.
وحينما صنع البشر ما يشبه الذراع واليد البشرية من اللت الحديثة ،تجد سائق البلدوزر مثلً
يقوم بعدة حركات لكي يُحرّك هذه اللة ،أما أنت فتحرّك يدك كما ش ْئتَ دون أن تعرف ماذا
يحدث؟ وكيف تتم لك هذه الحركة بمجرد أن تُفكّر فيها دون جهد منك أو تدبير؟
ت على الفور؛ لذلك إياك أنْ تظن أنك خَلْق
ل قم َ
فكل أجزائك مُسخّرة لرادتك ،فإنْ أردتَ القيام مث ً
ميكانيكي ،بل أنت صَنْعة ربانية بعيدة عن ميكانيكا اللت ،بدليل أنه إذا أراد الخالق سبحانه أن
ن يقط َع صِلَته به ،فيحدث الشلل التام ،ول تستطيع أنت َد ْفعَه أو
يُوقِف جزءا منك أمر المخ أ ْ
إصلحه.
عضُ َدكَ بِأَخِيكَ[} ..القصص ]35 :أي :نُقوّيك
شدّ َ
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في قصة موسى {:سَنَ ُ
ونُعطيك السّنَد وال َعوْن.
عوْهُمْ.} ...
عمْ ُتمْ فَدَ َ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَ َيوْمَ َيقُولُ نَادُواْ شُ َركَآ ِئيَ الّذِينَ زَ َ
()2175 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلْنَا بَيْ َنهُمْ َموْ ِبقًا ()52
عوْ ُهمْ فَلَمْ َيسْتَجِيبُوا َل ُه ْم وَ َ
عمْتُمْ فَدَ َ
وَ َيوْمَ َيقُولُ نَادُوا شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ زَ َ
عمْتُمْ} ..
يعني :واذْكر يا محمد ،ولت ْذكُرْ معك أمتك هذا اليوم { :وَ َيوْمَ َيقُولُ نَادُواْ شُ َركَآ ِئيَ الّذِينَ زَ َ
[الكهف ]52 :يقول الحق سبحانه للكفار :ادعوا شركائي الذين اتخذتموهم من دوني .وزعمتم:
عوْ ُهمْ فَلَمْ َيسْتَجِيبُواْ َل ُهمْ[ } ..الكهف]52 :
أي :كذبتم في ادعائكم أنهم آلهة { فَدَ َ
وهذا من سماجتهم وتبجّحهم وسوء أدبهم مع الحق سبحانه ،فكان عليهم أنْ يخجلوا من ال،
عوْهُمْ[ } ..الكهف ]52 :ويجوز أن من
ويعودوا إلى الحق ،ويعترفوا بما كذّبوه ،لكنهم تما َدوْا { فَدَ َ
الشركاء أناسا دون التكليف ،وأناسا فوق التكليف ،فمثلً منهم مَنْ قالوا :عيسى .ومنهم مَنْ قالوا:
العزير ،وهذا باطل ،وهل استجابوا لهم؟
ومنهم مَنِ اتخذوا آلهة أخرى ،كالشمس والقمر والصنام وغيرها ،ومنهم مَنْ عبد ناسا مثلهم
عوْهم ونادوهم :تعالوا ،جادلوا عنّا،
وأطاعوهم ،وهؤلء كانوا موجودين معهم ،ويصح أنهم دَ َ
ط ْوعَ أمركم ،كما قال تعالى عنهم {:مَا َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ
وأخرجونا مما نحن فيه ،لقد عبدناكم وكنا َ
لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى[} ..الزمر]3 :
ولكن ،أنّى لهم ما يريدون؟ فقد تقطعتْ بينهم الصلت ،وانقطعت حجتهم { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ َل ُهمْ} ..
جعَلْنَا بَيْ َنهُم ّموْبِقا} ..
[الكهف ]52 :ثم جعل الحق سبحانه بين الداعي والمدعو واديا سحيقا { :وَ َ
[الكهف]52 :
وال َموْبِق :المكان الذي يحصل فيه الهلك ،وهو وَادٍ من أودية جهنم يهلكون فيه جميعا ،أو :أن
بين الداعي والمدعو مكانا ُمهْلكا ،فل الداعي يستطيع أنْ يلوذَ بالمدعو ،ول المدعو يستطيع أنْ
ينتَصرَ للداعي ويُسعفه ،لن بينهم منبعَ هلك.
ك ليَاتٍ ّل ُكلّ
ظهْ ِرهِ إِنّ فِي ذَِل َ
سكِنِ الرّيحَ فَ َيظْلَلْنَ َروَاكِدَ عَلَىا َ
ومن ذلك قوله تعالى {:إِن َيشَأْ يُ ْ
شكُورٍ * َأوْ يُوبِ ْقهُنّ ِبمَا كَسَبُوا وَ َي ْعفُ عَن كَثِيرٍ }[الشورى ]34 :يعني :يهلكهن.
صَبّارٍ َ
ومن العجيب أن تكون هذه أولَ إطاعة منهم ل تعالى ،فلما قال لهم { :نَادُواْ شُ َركَآ ِئيَ[ } ..الكهف:
]52استجابوا لهذا المر ،في حين أنهم لم يطيعوا الوامر الخرى.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَرَءَا ا ْلمُجْ ِرمُونَ النّارَ َفظَنّواْ أَ ّنهُمْ ّموَا ِقعُوهَا.} ...
()2176 /
وَرَأَى ا ْلمُجْ ِرمُونَ النّارَ فَظَنّوا أَ ّن ُهمْ ُموَا ِقعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَ ْنهَا َمصْ ِرفًا ()53
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رأى :الرؤية :وقوع البصر على المرئيّ ،والرؤية هنا ِممّن سيُعذّب في النار ،وقد تكون الرؤية
جهَنّمَ َهلِ
من النار التي ستعذبهم؛ لنها تراهم وتنتظرهم وتناديهم ،كما قال تعالىَ {:يوْمَ َنقُولُ لِ َ
لتِ وَ َتقُولُ َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق ]30 :أي :هاأنا ذا أنتظرهم ومستعدة لملقاتهم؟
امْتَ َ
والمجرمون :الذين ارتكبوا الجرائم ،وعلى رأسها الكفر بال .إذن :فالرؤية هنا متُبَادلة :المعذّب
والمعذّب ،كلهما يرى الخر ويعرفه.
وقوله تعالى { :فَظَنّواْ أَ ّنهُمْ ّموَاقِعُوهَا[ } ..الكهف ]53 :الظن هنا يُراد منه اليقين .أي :أيقنوا أنهم
واقعون فيها ،كما جاء في قول الحق سبحانه {:الّذِينَ يَظُنّونَ أَ ّنهُم مّلَاقُواْ رَ ّبهِمْ[} ..البقرة]46 :
أي :يوقنون.
جدُواْ عَ ْنهَا َمصْرِفا[ } ..الكهف ]53 :أي :في حين أن بينهما َموْبقا ،وأيضا ل يجدون مفرّا
{ وَلَمْ يَ ِ
يفرون منه ،أو ملجأ يلجؤون إليه ،أو مكانا ينصرفون إليه بعيدا عن النار ،فال َموْبِق موجود،
والمصْرِف مفقود.
ثم يقول تبارك وتعالى { :وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ لِلنّاسِ مِن ُكلّ مَ َثلٍ.} ...
()2177 /
جدَلًا ()54
شيْءٍ َ
ل َوكَانَ الْإِنْسَانُ َأكْثَرَ َ
وَلَقَدْ صَ ّرفْنَا فِي َهذَا ا ْلقُرْآَنِ لِلنّاسِ مِنْ ُكلّ مَ َث ٍ
سبق أن تكلمنا عن تصريف اليات ،وقلنا :إن التصريف معناه تحويل الشيء إلى أشياء متعددة،
كما يصرّف ال الرياح مثلً ،فل تأتي من ناحية واحدة ،بل تأتي مرة من هنا ،ومرة من هناك،
كذلك صَرّف ال المثال .أي :أتى بأحوال متعددة وصُور شتى منها.
والحق سبحانه يضرب المثال كأنه يقرع بها آذان الناس لمر قد يكون غائبا عنهم ،فيمثله بأمر
واضح لهم مُحَسّ ليتفهموه تفهّما دقيقا.
وما دام أن الحق سبحانه صرّف في هذا القرآن من كل مثَل ،فل عُذْر لمن لم يفهم ،فالقرآن قد
جاء على وجوه شتّى ليُعلم الناس على اختلف أفهامهم ومواهبهم؛ لذلك ترى المي يسمعه فيأخذ
منه على قدر َفهْمه ،والنصف مثقف يسمعه فيأخذ منه على قدر ثقافته ،والعالم الكبير يأخذ منه
على قدر علمه ويجد فيه ُبغْيته ،بل وأكثر من ذلك ،فالمتخصص في أيّ علم من العلوم يجد في
كتاب ال أدقّ التفاصيل؛ لن الحق سبحانه بيّن فيه كل شيء.
ج َدلً } [الكهف ]54 :أي :كثير الخصومة والتنازع في
شيْءٍ َ
ن الِنْسَانُ َأكْثَرَ َ
ثم يقول تعالىَ { :وكَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرأي ،والجدل :هو المحاورة ومحاولة كل طرف أن يثبت صِدْق مذهبه وكلمه ،والجدل إما أن
يكون بالباطل لتثبيت حجة الهواء وتراوغ لتبرر مذهبك ولو خطأً ،وهذا هو الجَدل المعيب القائم
على الهواء .وإما أن يكون الجدل بالحق وهو الجدل البنّاء الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة،
وهذا بعيد كل البعد عن التحيّز للهوى أو الغراض.
حسَنُ} ..
ولما تحدّث القرآن الكريم عن الجدل قال تعالىَ {:ولَ ُتجَادِلُواْ َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
[العنكبوت]46 :
وقالَ {:وجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ[} ..النحل " ]125 :والنبي صلى ال عليه وسلم لما مرّ على عليّ
وفاطمة ـ رضي ال عنهما ـ ليوقظهما لصلة الفجر ،وطرق عليهما الباب مرة بعد أخرى،
ويبدو أنهما كانا مستغرقيْن في نوم عميق ،فنادى عليهما صلى ال عليه وسلم " أل تصلون؟ " فردّ
المام علي قائلً :يا رسول ال إن أنفسنا بيد ال ،إن شاء أطلقها وإن شاء أمسكها ،فضحك النبي
ج َدلً } " [الكهف]54 :
شيْءٍ َ
صلى ال عليه وسلم وقالَ { :وكَانَ الِنْسَانُ َأكْثَرَ َ
لن النسان له أهواء متعددة وخواطر متباينة ،ويحاول أنْ يُدلّل على صحة أهوائه وخواطره
بالحجة ،فيقارع الحق ويغالط ويراوغ .ولو دققتَ في رأيه لوجدتَ له هوىً يسعى إليه ويميل إلى
تحقيقه ،وترى ذلك واضحا إذا اخترتَ أحد الطرق تسلكه أنت وصاحبك مثلً لنه أسهلها وأقربها،
فإذا به يقترح عليك طريقا آخر ،ويحاول إقناعك به بكل السّبل ،والحقيقة أن له غرضا في نفسه
وهوىً يريد الوصول إليه.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ إِذْ جَآءَ ُهمُ ا ْلهُدَىا وَيَسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّبهُمْ.} ...
()2178 /
َومَا مَنَعَ النّاسَ أَنْ ُي ْؤمِنُوا إِذْ جَا َءهُمُ ا ْل ُهدَى وَيَسْ َتغْفِرُوا رَ ّبهُمْ إِلّا أَنْ تَأْتِ َيهُمْ سُنّةُ الَْأوّلِينَ َأوْ يَأْتِ َيهُمُ
ا ْلعَذَابُ قُبُلًا ()55
ما الذي منعهم أن يؤمنوا بعد أن أنزل عليهم القرآن ،وصرّفنا فيه من اليات والمثال ،بعد أن
جاءهم مطابقا لكل الحوال؟
وفي آية أخرى ،أوضح الحق سبحانه سبب إعراضهم عن اليمان ،فقال تعالى {:وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا
لِلنّاسِ فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ مِن ُكلّ مَ َثلٍ فَأَبَىا َأكْثَرُ النّاسِ ِإلّ كُفُورا * َوقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا
ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا *
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ
َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
علَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن
ع ْمتَ َ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
َأوْ تُ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا ّنقْ َر ُؤهُ }[السراء]93-89 :
زُخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ
ف ُكلّ هذه التعنّتات وهذا العناد هو الذي حال بينهم وبين اليمان بال ،والحق سبحانه وتعالى حينما
لوّلِينَ} ..
يأتي بآية طلبها القوم ،ثم لم يؤمنوا بها يُهلكهم؛ لذلك قال بعدهاِ { :إلّ أَن تَأْتِ َيهُمْ سُنّ ُة ا َ
[الكهف ]55 :فهذه هي الية التي تنتظرهم :أن تأتيهم سُنّة ال في إهلك مَنْ كذّب الرسل.
فقبل السلم ،كانت السماء هي التي تتدخل ل ُنصْرة العقيدة ،فكانت تدكّ عليهم قُراهم ومساكنهم،
فالرسول عليه الدعوة والبلغ ،ولم يكن من مهمته دعوة الناس إلى الحرب والجهاد في سبيل نَشْر
دعوته ،إل أمة محمد فقد َأمِنها على أن تحمل السيف لتُؤدّب الخارجين عن طاعة ال.
وقوله تعالى { :وَيَسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّبهُمْ[ } ..الكهف ]55 :أي :على ما فات من المهاترات والتعنّتات
لوّلِينَ[ } ..الكهف ]55 :أي :بهلك المكذبين
والستكبار على قبول الحق { ِإلّ أَن تَأْتِ َيهُمْ سُنّ ُة ا َ
{ َأوْ يَأْتِ َيهُمُ ا ْلعَذَابُ قُبُلً[ } ..الكهف ]55 :أي مُقابِلً لهم ،وعيانا أمامهم ،أو { قُبُلً } جمع قبيل،
وهي ألوان متعددة من العذاب ،كما قال تعالى {:وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ عَذَابا دُونَ ذَِلكَ[} ..الطور]47 :
أي :لهم عذاب غير النار ،فألوان العذاب لهم متعددة.
ثم يُسلّي الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم حتى ل يأبه لعمل الكفار ،ول يهلك نفسه أَسَفا
ن َومُنذِرِينَ.} ...
سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ ِإلّ مُبَشّرِي َ
على إعراضهم ،فيقول سبحانهَ { :ومَا نُ ْر ِ
()2179 /
خذُوا
ق وَاتّ َ
حضُوا ِبهِ ا ْلحَ ّ
طلِ لِيُ ْد ِ
ن وَيُجَا ِدلُ الّذِينَ َكفَرُوا بِالْبَا ِ
ن َومُنْذِرِي َ
سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ إِلّا مُ َبشّرِي َ
َومَا نُ ْر ِ
آَيَاتِي َومَا أُنْذِرُوا هُ ُزوًا ()56
قلنا :إن الجدل قد يكون بالحق ،وقد يكون بالباطل كما يفعل الذين كفروا هنا ،فيجادلون بالباطل
خذُواْ آيَاتِي َومَا أُنْذِرُواْ هُزُوا }
حضِ الحق أي :ليُعطّلوه ويزيلوه { وَاتّ َ
ويستخدمون كل الحِيَل لد ْ
[الكهف ]56 :أي :اليات الكونية التي جاءت لتصديق الرسل ،وكذلك آيات القرآن ،وآيات
الحكام اتخذوها سُخْرية واستهزاءً ،ولم يعبأوا بما فيها من نذارة.
ولذلك قال الحق سبحانهَ { :ومَنْ أَظَْلمُ ِممّن ُذكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ فَأَعْ َرضَ عَ ْنهَا.} ...
()2180 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَنْ
سيَ مَا قَ ّد َمتْ يَدَاهُ إِنّا َ
َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ ُذكّرَ بِآَيَاتِ رَبّهِ فَأَعْ َرضَ عَ ْنهَا وَنَ ِ
عهُمْ إِلَى ا ْلهُدَى فَلَنْ َيهْتَدُوا ِإذًا أَبَدًا ()57
َيفْ َقهُوهُ َوفِي آَذَا ِنهِ ْم َوقْرًا وَإِنْ تَدْ ُ
{ َومَنْ َأظْلَمُ[ } ..الكهف ]57 :جاء الخبر على صورة الستفهام لتأكيد الكلم ،كأنْ يدّعي صاحبك
أنك لم تصِلْه ،ولم تصنع معه معروفا ،فمن الممكن أن تقول له :صنعتُ معك كذا وكذا على سبيل
الخبر منك ،والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.
ضتَ المسألة على سبيل الستفهام فقُ ْلتَ له :ألم أصنع معك كذا؟ فسوف تجتذب منه
إنما لو عر ْ
خصْم إل وأنت
القرار بذلك ،وتقيم عليه الحجة من كلمه هو ،وأنت ل تستفهم عن شيء من َ
واثق أن جوابه ل يكون إل بما تحب.
وهكذا أخرج الحق سبحانه الخبر إلى الستفهامَ { :ومَنْ َأظْلَمُ ِممّن ُذكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ[ } ..الكهف:
ن فعل ذلك ،والقرار سيد الدلة.
]57؟ وترك لنا الجواب لنقول نحن :ل أحدَ أظل ُم ممّ ْ
سيَ مَا قَ ّد َمتْ يَدَاهُ[ } ..الكهف ]57 :نسى
وقوله { فَأَعْ َرضَ عَ ْنهَا[ } ..الكهف ]57 :تركها { وَنَ ِ
السيئات ،وكان من الواجب أن ينتبه إلى هذه اليات فيؤمن بها ،لعل ال يتوب عليه بإيمانه ،فيُبدّل
سيئاته حسنات.
جعَلْنَا عَلَىا قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَن َي ْفقَهُوهُ[ } ..الكهف]57 :
ثم يقول تعالى { :إِنّا َ
أكنة :أغطية جمع كِنّ ،فجعل ال على قلوبهم أغطية ،فل يدخلها اليمان ،ول يخرج منها الكفر،
وليس هذا اضطهادا منه تعالى لعباده ،تعالى ال عن ذلك ،بل استجابة لما طلبوا وتلبية لما أحبّوا،
فلما أحبّوا الكفر وانشرحتْ به صدورهم زادهم منه؛ لنه َربّ يعطي عبده ما يريد.
كما قال عنهم في آية أخرى {:فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَ ُهمُ اللّهُ مَرَضا وََلهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُوا
َيكْذِبُونَ }[البقرة]10 :
س ْم ِعهِ ْم وَعَلَىا أَ ْبصَارِ ِهمْ غِشَا َوةٌ }
وقال تعالى في هذا المعنى {:خَتَمَ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِه ْم وَعَلَىا َ
[البقرة]7 :
ومعنى { أَن َيفْ َقهُوهُ[ } ..الكهف ]57 :أي :يفهموه ،يفهموا آيات ال؛ لنهم سبق أنْ ُذكّرُوا بها
فأعرضوا عنها ،فحرَمهم ال فقهها وفهمها.
عهُمْ إِلَىا
وقوله تعالىَ { :وفِي آذَا ِنهِ ْم َوقْرا[ } ..الكهف ]57 :أي :صمم فل يسمعون { وَإِن َتدْ ُ
ا ْلهُدَىا فَلَنْ َيهْ َتدُواْ إِذا أَبَدا } [الكهف ]57 :وهذا أمر طبيعي ،بعد أن ختم ال على قلوبهم وعلى
أسماعهم ،وسد عليهم منافذ العلم والهداية؛ لن الهدى ناشئ من أن تسمع كلمة الحق ،فيستقبلها
قلبك بالرضا ،فتنفعل لها جوارحك باللتزام ،فتسمع بالذن ،وتقبل بالقلب ،وتنفعل بالجوارح طاعةً
والتزاما بما ُأمِ َرتْ به.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صمَمٌ فلن تسمع ،وإنْ سمعتْ شيئا أنكره القلب ،والجوارح ل تنفعل إل
وما دام في الذن َوقْر و َ
شحِن به القلب من عقائد.
بما ُ
ح َمةِ.} ...
ويقول الحق سبحانه { :وَرَ ّبكَ ا ْل َغفُورُ ذُو الرّ ْ
()2181 /
فمن رحمة ال بالكفار أنه لم يعاجلهم بعذاب يستأصلهم ،بل أمهلهم وتركهم؛ لن لهم موعدا لن
يهربوا منه ،ولن يُفلِتوا ،ولن يكون لهم مَلْجأ يحميهم منه ،ول شكّ أن في إمهالهم في الدنيا حكمة
ل بالغة ،ولعل ال يُخرِج من ظهور هؤلء مَنْ يؤمن به ،ومَنْ يحمل راية الدين ويدافع عنه ،وقد
ظهْر أبي جهل جاء عكرمة ،وأمهل ال خالد بن الوليد،
حدث هذا كثيرا في تاريخ السلم ،فمِنْ َ
فكان أعظمَ قائد في السلم.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَتِ ْلكَ ا ْلقُرَىا أَهَْلكْنَا ُهمْ َلمّا ظََلمُواْ.} ...
()2182 /
تلك :أداة إشارة لمؤنث هي القرى ،والكاف للخطاب ،والخطاب هنا للنبي صلى ال عليه وسلم،
وأمتُه مُنْضوية في خطابه؛ لن خطابَ الرسول خطاب لمته .لكن الشارة ل تكون إل لشيء
معلوم موجود مُحَسّ ،كما جاء في قوله تعالىَ {:ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه]17 :
فأين هذه القُرَى؟ وهل كان لها وجود على عهد النبي صلى ال عليه وسلم؟
نعم ،كان لهذه القرى آثار وأطلل تدل عليها ويراها النبي صلى ال عليه وسلم ويراها الناس في
رحلتهم إلى الشام وغيرها مثل :قُرَى ثمود قوم صالح ،وقرى قوم لوط ،وقد قال تعالى عنها{:
وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ّمصْبِحِينَ * وَبِالّيلِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[الصافات]138-137 :
إذن :فتلك إشارة إلى موجود مُحَسّ دَالّ بما تبقّى منه على ما حاق بهذه القرى من عذاب ال ،وما
حلّ بها من بَأْسِه الذي ل يُ َردّ عن القوم الظالمين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة { ا ْلقُرَىا } جمع قرية ،وتُطلَق على المكان الذي تتوفّر فيه مُقوّمات الحياة وضرورياتها،
بل بها ما يزيد على الضروريات ومُقوّمات الحياة العادية؛ لن القرية ل تُطلَق إل على مكان
ن كانت
تتسع فيه مُقوّمات الحياة اتساعا يكفي لمن يطرأ عليها من الضيوف فيجد بها قِرَى .فإ ْ
قرية كبيرة يأتيها الرزق الوفير من كل مكان كأنها ُأمّ ،نسميها (أم القرى).
ج َمعَ الْبَحْرَيْنِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :وَِإذْ قَالَ مُوسَىا ِلفَتَاهُ ل أَبْرَحُ حَتّىا أَبْلُغَ مَ ْ
()2183 /
حقُبًا ()60
جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ َأوْ َأ ْمضِيَ ُ
وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِلفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ َم ْ
قوله تعالى { :وَإِذْ قَالَ مُوسَىا ِلفَتَاهُ[ } ..الكهف ]60 :أي :اذكر يا محمد وقت أنْ قال موسى
لفتاه ،وفتى موسى هو خادمه يوشع ابن نون ،وكان من نَسْل يوسف ـ عليه السلم ـ وكان يتبعه
ويخدمه ليتعلم منه.
جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ[ } ..الكهف]60 :
{ ل أَبْرَحُ حَتّىا أَبْلُغَ َم ْ
لكن ،ما حكاية موسى مع فتاه؟ وما مناسبتها للكلم هنا؟
مناسبة قصة موسى هنا أن كفار مكة بعثوا ليهود المدينة يسألونهم عن خبر النبي صلى ال عليه
وسلم؛ لنهم أهل كتاب وأعلم بالسماء ،فأرادوا رأيهم في محمد :أهو مُحِقّ أم ل؟ فقال اليهود لوفد
مكة :اسألوه عن ثلثة أشياء ،فإن أجابكم فهو نبي :اسألوه عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر،
والرجل الطواف الذي طاف البلد ،وعن الروح ،فما كان منهم إل أن سألوا رسول ال هذه
السئلة ،فقال لهم " :في الغد أجيبكم ".
إذن :إجابة هذه السئلة ليست عنده ،وهذه تُحسَب له ل عليه ،فلو كان محمد صلى ال عليه وسلم
يضرب الكلم هكذا دون علم لجابهم ،لكنه سكت إلى أن يأتي الجواب من ال تعالى ،وهذا من
أدبه صلى ال عليه وسلم مع ربه الذي أدبه فأحسن تأديبه.
ومرّتْ خمسة عشر يوما دون أن يُوحَى لرسول ال في ذلك شيء ،حتى شق المر عليه ،وفرح
الكفار والمنافقون؛ لنهم وجدوا على رسول ال مأخذا فاهتبلوا هذه الفرصة لينددوا برسول ال،
إنما أدب ال لرسوله فوق كل شيء ليبين لهم أن رسول ال لن يتكلم في هذه المسألة إل بوحي من
ال؛ لنه ل ينطق عن الهوى ول يصدر عن رأيه.
ل صِدق النبي صلى ال عليه
ولو كان لهؤلء القوم عقول لفهموا أن ال ُبطْ َء في هذه المسألة دلي ُ
وسلم؛ لذلك جاءت قصة موسى هنا لتردّ على مهاترات القوم ،وتُبيّن لهم أن النبي ل يعلم كل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيء ،وهل المفروض فيه أن يجيبكم عن كل شيء؟ وهل يقدح في مكانته أنه ل يعرف مسألة ما؟
جاءت هذه اليات لتقول لليهود ومَنْ َلفّ َلفّهم من كفار مكة :أنتم متعصبون لموسى وللتوراة
ولليهودية ،وهاهو موسى يتعلم ليس من ال ،بل يتعلم من عبد مثله ،ويسير تابعا له طلبا للعلم.
جاءت اليات لتقول لهم :يا مَنْ لقنتم كفار مكة هذه السئلة وأظهرتم الشماتة بمحمد حينما أبطأ
عليه الوحي ،اعلموا أن إبطاء الوحي لتعلموا أن محمدا ل يقول شيئا من عند نفسه ،فكان من
الواجب أنْ تلفتكم هذه المسألة إلى صدق محمد وأمانته ،وما هو على الغيب بضنين.
وسبب قصة موسى عليه السلم ـ يُقال :إنه سأل ال ـ وكان له دلل على ربه:
{ َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ[} ..العراف ]143 :والذي أطمعه في هذا المطلب أن ال كلّمهَ {:ومَا تِ ْلكَ
بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه ]17 :فأطال موسى الكلم مع ربه ،ومَنْ الذي يكلمه ال ول يطيل أمد
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي وَِليَ فِيهَا
الُنْس بكلم ال؟ لذلك قال موسىِ {:هيَ َ
مَآ ِربُ ُأخْرَىا }[طه]18 :
وهكذا أطال موسى مدة النس بال والحديث معه سبحانه ،لذلك سأله :يا ربّ ،أيوجد في الرض
أعلم مني؟ فأجابه ربّه تبارك وتعالى :نعم في الرض مَنْ هو أعلم منك ،فاذهب إلى مجمع
البحرين ،وهناك ستجد عبدا من عبيدي هو أعلم منك ،فأخذ موسى فتاه وذهب إلى مَجْمع
البحرين.
وقد ورد في حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم أن موسى ـ عليه السلم ـ خطب مرة
فسُئِل :مَنْ أعلم؟ فقال :أنا ـ يعني من البشر ،فأخبره ال تعالى :ل بل في الرض من هو أعلم
منك من البشر حتى ل يغتَرّ موسى ـ عليه السلم ـ بما أعلمه ال.
جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ { [الكهف]60 :
ثم يقول تعالى } :ل أَبْرَحُ حَتّىا أَبْلُغَ مَ ْ
ل أبرح :أي ل أترك ،والبعض يظن أن ل أبرح تعني :ل أترك مكاني الذي أنا فيه ،لكنها تعني:
ن كنتُ ماشيا ل أترك المشي ،وقد قال
ن كنتُ قاعدا ل أترك القعود ،وإ ْ
ل أترك ما أنا بصدده ،فإ ْ
موسى ـ عليه السلم ـ هذا القول وهو يبتغي بين البحرين ،ويسير متجها إليه ،فيكون المعنى:
ل أترك السير إلى هذا المكان حتى أبلغ مجمع البحرين.
ح الَ ْرضَ حَتّىا
وقد وردت مادة (برح) في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلم } :فَلَنْ أَبْرَ َ
يَأْذَنَ لِي أَبِي[ { ..يوسف ]80 :قالها كبيرهم بعد أن أخذ يوسف أخاه بنيامين ومنعه من الذهاب
معهم ،فهنا استحى الخ الكبر من مواجهة أبيه الذي أخذ عليهم العهد والميثاق أنْ يأتوا به
ويُعيدوه إليه.
جمَع البحرين " أي :موضع التقائهما ،حيث يصيران بحرا واحدا ،كما يلتقي مثلً دجلة
و"مْ
والفرات في شَطّ العرب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقُبا { [الكهف]60 :
ضيَ ُ
وقولهَ } :أوْ َأ ْم ِ
حقْبة ،وهي الفترة الطويلة من الزمن ،وقد قدّروها بحوالي سبعين أو ثمانين سنة،
حقُب :جمع ِ
ال ُ
فإذا كان أقل الجمع ثلثة ،فمعنى ذلك أن يسير موسى ـ عليه السلم ـ مائتين وعشرة سنين،
حقْبة سبعون سنة.
على اعتبار أن ال ِ
ويكون المعنى :ل أترك السير إلى هذا المكان ولو سِ ْرتُ مائتين وعشرة سنين؛ لن موسى عليه
السلم كان مَشُوقا إلى رؤية هذا الرجل العلم منه ،كيف وهو النبي الرسول الذي أوحى ال إليه؛
لذلك أخبره ربه أن عِلْم هذا الرجل علم من لدنا ،علم من ال ل من البشر.
جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا نَسِيَا حُو َت ُهمَا.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :فََلمّا َبَلغَا مَ ْ
()2184 /
جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا } أي :مجمع البحرين { نَسِيَا حُو َت ُهمَا } أي :حدث
{ بََلغَا } أي :موسى وفتاه { مَ ْ
النسيان منهما معا ،وإنْ كان حمل الحوت منوطا بفتى موسى وقد نسيه ،فكان على موسى أنْ
يُذكّره به ،فرئيس القوم ل ُبدّ أن يتنبه لكل جزئية من جزئيات ال ّركْب ،وكانت العادة أنْ يكون هو
آخر المبارحين للمكان ليتفقده وينظر لعل واحدا نسى شيئا ،إذن :كان على موسى أن يعقب ساعة
قيامهم لمتابعة السير ،ويُذكّر فتاهُ بما معهم من لوازم الرحلة.
والحوت :نوع من السمك معروف ،وفي بعض البلد يُطلِقون على كل سمك حُوتا ،وقد أعدّوه
للكل إذا جاعوا أثناء السير ،وكان الفتى يحمله وهو مشوي في مكتل.
خذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ سَرَبا } [الكهف ]61 :أي :خرج الحوت المشوي من
وقوله تعالى { :فَاتّ َ
المكتل ،وتسرّب نحو البحر ،والسّرَب :مثل النفق أو السرداب ،أو هو المنحدر ،كما نقول :تسرب
الماء من القِرْبة مثلً؛ ذلك لن مستوى الماء في القِرْبة أعلى فيتسرّب منها ،وهذه من عجائب
اليات أن يقفز الحوت المشويّ ،وتعود له الحياة ،ويتوجّه نحو البحر؛ لنه يعلم أن الماء مسكنه
ومكانه.
ثم يقول الحق سبحانه { :فََلمّا جَاوَزَا قَالَ ِلفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا.} ...
()2185 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سفَرِنَا َهذَا َنصَبًا ()62
غدَاءَنَا َلقَدْ َلقِينَا مِنْ َ
فََلمّا جَاوَزَا قَالَ ِلفَتَاهُ آَتِنَا َ
أي :جاوزا في سيرهما مجمع البحرين ومكان الموعد ،قال موسى ـ عليه السلم ـ لفتاه :أحضر
لنا الغداء فقد تعبنا من السفر ،وال ّنصَب :هو التعب.
فمعنى ذلك أنهما سارا حتى مجمع البحرين ،ثم استراحا ،فلما جاوزا هذا المكان بدا عليهما
الرهاق والتعب؛ لذلك طلب موسى الطعام .وهنا تذكّر الفتى ما كان من نسيان الحوت.
()2186 /
خذَ سَبِيَلهُ
قَالَ أَرَأَ ْيتَ إِذْ َأوَيْنَا إِلَى الصّخْ َرةِ فَإِنّي نَسِيتُ ا ْلحُوتَ َومَا أَ ْنسَانِيهُ إِلّا الشّيْطَانُ أَنْ أَ ْذكُ َر ُه وَاتّ َ
عجَبًا ()63
فِي الْبَحْرِ َ
هذا كلم فتى موسى :أرأيت :أخبرني ِإذْ لجأنا إلى الصخرة عند مَجْمع البحرين لنستريح { فَإِنّي
نَسِيتُ ا ْلحُوتَ[ } ..الكهف ]63 :ونلحظ أنه قال هنا { نَسِيتُ } وقال في الية السابقة{ نَسِيَا} ..
[الكهف ]61 :ذلك لن الولى إخبار من ال ،والثانية كلم فتى موسى.
فكلم ال تبارك وتعالى يدلّنا على أن رئيسا متبوعا ل يترك تابعه ليتصرف في كل شيء؛ لن
تابعه قد ل يهمه أمر المسير في شيء ،وقد ينشغل ذِهْنه بأشياء أخرى تُنسِيه ما هو منُوط به من
أمر الرحلة.
ثم يعتذر الفتى عما َبدَر منه من نسيان الحوت ،ويقولَ { :ومَآ أَنْسَانِيهُ ِإلّ الشّيْطَانُ أَنْ أَ ْذكُ َرهُ }
[الكهف ]63 :فالشيطان هو الذي لعب بأفكاره وخواطره حتى أنساه واجبه ،وأنساه ذكْر الحوت.
وقوله تعالى { :وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ عَجَبا } [الكهف ]63 :أي :اتخذ الحوتُ طريقه في البحر
عجَبا } لنه
عَجَبا ،في الية السابقة قال {:سَرَبا }[الكهف ]61 :وهذه حال الحوت ،وهنا يقول { َ
يحكي ما حدث ويتعجب منه ،وكيف أن الحوت المشويّ تدبّ فيه الحياة حتى يقفز من المكتل،
ص ْوبَ الماء ،فهذا حقا عجيبة من العجائب؛ لنها خرجتْ عن المألوف.
ويتجه َ
ثم يقول الحق سبحانه { :قَالَ ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ.} ..
()2187 /
صصًا ()64
قَالَ ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْ َتدّا عَلَى آَثَارِ ِهمَا َق َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :قال موسى ـ عليه السلم { ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ[ } ..الكهف ]64 :أي :نطلب ،فهذا المكان الذي
ُفقِد فيه الحوت هو المكان المراد ،فكأن الحوت كان أعلم بالموعد من موسى ،وهكذا عُرف عنوان
المكان ،وهو َمجْمع البحرين ،حتى يلتقي البحران فيصيران بحرا واحدا.
وهذه الصورة ل توجد إلّ في مسرح بني إسرائيل في سيناء .وهناك خليج العقبة وخليج السويس،
ويلتقيان في بحر واحد عند رأس محمد.
ثم يقول تعالى { :فَارْ َتدّا عَلَىا آثَارِ ِهمَا َقصَصا } [الكهف ]64 :أي :عادا على أثر القدام كما يفعل
َقصّاصُو الثر ،ومعنىَ { :قصَصا } [الكهف ]64 :أي :بدقة إلى أنْ وصلَ إلى المكان الذي
تسرّب فيه الحوت ،وهو الموعد الذي ضربه ال تعالى لموسى -عليه السلم -حيث سيجد هناك
العبد الصالح.
ح َمةً مّنْ عِندِنَا.} ...
ثم يقول الحق تبارك وتعالىَ { :ف َوجَدَا عَبْدا مّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَ ْ
()2188 /
سبق أن تحدثنا عن العبودية ،فإنْ كانت ل تعالى فهي العزّ والشرف ،وإنْ كانت لغير ال فهي
ل والهوان ،وقلنا :إن النبي صلى ال عليه وسلم لم يأخذ حَظْوة السراء والمعراج إل لنه عبد
الذ ّ
ل ،كما قال سبحانه {:سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ[} ..السراء]1 :
كما أن العبودية ل يأخذ فيه العبد خَيْر سيده ،أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خَيْر عبده.
ح َمةً مّنْ عِندِنَا[ } ..الكهف]65 :وقد
ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح ،فقال { :آتَيْنَاهُ رَ ْ
تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا ،فقالوا :الرحمة وردتْ في القرآن بمعنى النبوة ،كما في قوله
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف]31 :
تعالىَ {:وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
ح َمتَ رَ ّبكَ[} ..الزخرف]32 :
سمُونَ رَ ْ
فكان رَدّ ال عليهم {:أَ ُهمْ َيقْ ِ
أي :النبوة ،ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل ـ عليه السلم ـ وعلى يد الرسل ،أما هذه
الرحمة ،فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملَك؛ لذلك قال تعالى { :آتَيْنَاهُ[ } ..الكهف ]65 :نحن،
وقال { :مّنْ عِندِنَا[ } ..الكهف]65 :
فالتيان والعندية من ال مباشرة.
ثم يقول بعدها { :وَعَّلمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْما[ } ..الكهف ]65 :أي :من عندما ل بواسطة الرسل :لذلك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يسمونه العلم اللدني ،كأنه ل حرجَ على ال تعالى أن يختار عبدا من عباده ،ويُنعِم عليه بعلم
خاص من وراء النبوة.
إذن :علينا أنْ نُفرّق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته ،وعلم وفيوضات
تأتي من ال تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق
بالتكاليف :افعل كذا ول تفعل كذا ،لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها عِلَل باطنة فوق العِلل
الظاهرية ،وهذه هي التي اختصّ ال بها هذا العبد الصالح (الخضر) كما سماه النبي صلى ال
عليه وسلم.
والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تُحرّم القتل وتحرم إتلف مال الغير ،فأتى الخضر وأتلف
السفينة وقتل الغلم ،وقد اعترض موسى ـ عليه السلم ـ على هذه العمال؛ لنه ل عِلْم َله
بعلتها ،ولو أن موسى ـ عليه السلم ـ علم العلّة في خَرْق السفينة لبادر هو إلى خرقها.
ي صَبْرا * َوكَ ْيفَ َتصْبِرُ
إذن :فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له {:إِ ّنكَ لَن َتسْتَطِيعَ َم ِع َ
عَلَىا مَا لَمْ ُتحِطْ بِهِ خُبْرا }[الكهف]68-67 :
فهذا عِلْم ليس عندك ،فعِلْمي من كيس الولية ،وعلمك من كيس الرسل ،وهما في الحقيقة ل
يتعارضان ،وإنْ كان لعلم الولية عِلَل باطنة ،ولعلم الرسالة عِلَل ظاهرة.
ثم يقول تعالى { :قَالَ َلهُ مُوسَىا َهلْ أَتّ ِب ُعكَ.} ...
()2189 /
كأن موسى عليه السلم يُعلّمنا أدب تلقّي العلم وأدب التلميذ مع معلمه ،فمع أن ال تعالى أمره أن
يتبع الخضر ،فلم يقُل له مثلً :إن ال أمرني أن أتبعك ،بل تلطّف معه واستسمحه بهذا السلوب:
{ َهلْ أَتّ ِب ُعكَ[ } ..الكهف]66 :
والرشد :هو حُسْن التصرّف في الشياء ،وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده ،وسبق أن قلنا:
ن البلوغ ،لكن ل يعني هذا أن كل مَنْ بلغ يكون راشدا ،فقد يكون النسان
إن الرّشْد يكون في س ّ
بالغا وغير راشد ،فقد يكون سفيها.
لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن اليتامى قال {:وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىا }[النساء ]6 :أي :اختبروهم،
واختبار اليتيم يكون حال يُتْمه وهو ما يزال في كفالتك ،فعليك أنْ تكلّفه بعمل لصلح حاله،
وتعطيه جزءا من ماله يتصرّف فيه تحت عينك وفي رعايتك ،لترى كيف سيكون تصرفه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليك أنْ تحرص على تدريبه لمواجهة الحياة ،ل أن تجعله في َمعْزل عنها إلى أنْ يبلغَ الرشْد ،ثم
تدفع إليه بماله فل يستطيع التصرف فيه لعدم خبرته ،وإنْ فشل كانت التجربة في ماله والخسارة
عليه.
إذن :فاختبار اليتيم يتمّ وهو ما يزال في وليتك ،وتحت سمعك وبصرك رعاية لحقه {.حَتّىا ِإذَا
بََلغُواْ ال ّنكَاحَ[} ..النساء ]6 :وهو سن البلوغ ،ولم ي ُقلْ بعدها :فادفعوا إليهم أموالهم؛ لن بعد البلوغ
عيَ هذا الترتيب:
شرطا آخر{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مّ ْنهُمْ رُشْدا[} ..النساء ]6 :فعلى الوصيّ أنْ يُرا ِ
أنْ تُراعي اليتيم وهو تحت وليتك ،وتدفع به في ُمعْتَرك الحياة وتجاربها حتى يتمكن من مواجهة
الحياة ول يتخبط في ماله لعدم تجربته وخبرته ،فإن علمت رشده بعد البلوغ فادفع إليه بماله
ليتصرف فيه ،فإن لم تأنس منه الرشد وحسن التصرف فل تترك له المال يبدده بسوء تصرفه.
س َفهَآءَ َأ ْموَاَلكُمُ[} ..النساء ]5 :ولم ي ُقلْ :أموالهم؛ لن
لذلك يقول تعالى في هذا المعنىَ {:ولَ ُتؤْتُواْ ال ّ
سفَهه ،بل هو مالكم لِتُحسِنوا التصرف فيه وتحفظوه لصاحبه لحين تتأكد من
السفيه ل مالَ له حال َ
رُشْده.
إذن :فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الشياء،
لكن هل يعني ذلك أن موسى ـ عليه السلم ـ لم يكن راشدا؟ ل ،بل كان راشدا في مذهبه هو
كرسول ،راشدا في تبليغ الحكام الظاهرية.
أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح ،وقد دلّ هذا على أنه طلب شيئا لم يكن
معلوما له ،وهذا ل يقدح في مكانة النبوة؛ لن الحق سبحانه وتعالى قالَ {:ومَآ أُوتِيتُم مّنَ ا ْلعِلْمِ ِإلّ
قَلِيلً }[السراء ]85 :وقال للنبي صلى ال عليه وسلمَ {:وقُل ّربّ زِدْنِي عِلْما }[طه]114 :
لذلك يقول الشاعر:كُلّما ازْ َد ْدتُ عُلوما ِز ْدتُ إيقَانَا بجْهلي
لن معنى أنه ازداد عِلْما اليوم أنه كان ناقصا بالمس ،وكذلك هو ناقص اليوم ليعلمَ غدا.
والنسان حينما يكون واسعَ الفق محبا للعلم ،تراه كلما عَلِم قضية اشتاق لغيرها ،فهو في نَهمٍ دائم
للعلم ل يشبع منه ،كما قال صلى ال عليه وسلم " :منهومان ل يشبعان :طالب علم ،وطالب مال
".
والشاعر الذي تنّبه لنفسه حينما دَعَتْه إلى الغرور والكبرياء والزّهْو بما لديه من علم قليل ،إل أنه
كان متيقظا لخداعها ،فقال:قالتِ النفْسُ قَدْ عِل ْمتُ كَثِيرا قُ ْلتُ هَذَا الكثيرُ نَ ْزعٌ يسيِرُثم جاء بمثل
توضيحي:تمْلُ الكُوزَ غَ ْرفَةٌ من مُحيِط فَـيَرى أنّـهُ المحيـطُ الكَبـيِرُثم يقول الحق سبحانه} :
قَالَ إِ ّنكَ لَن تَسْ َتطِيعَ َم ِعيَ صَبْرا {.
()2190 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قَالَ إِ ّنكَ لَنْ تَسْ َتطِيعَ َم ِعيَ صَبْرًا ()67
هنا يبدأ العبد الصالح يُملي شروط هذه الصّحْبة ويُوضّح لموسى ـ عليه السلم ـ طبيعة عِلْمه
ومذهبه ،فمذهبُك غير مذْهبي ،وعلمي من كيس غير كيسك ،وسوف ترى مني تصرفات لن
عذْرا على عدم صَبْره معه؛ لذلك يقول{ :
علْم لك ببواطنها ،وكأنه يلتمس له ُ
تصبر عليها؛ لنه ل ِ
حطْ بِهِ خُبْرا }.
َوكَيْفَ َتصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُ ِ
()2191 /
فل تحزن لني قُلت :لن تستطيع معي صبرا؛ لن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خُبر
بها ،وكيف تصبر على شيء ل عِلْمَ لك به؟
ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر ـ عليهما السلم ـ أدبَ الحوار واختلفَ الرأي بين
طريقتين :طريقة الحكام الظاهرية ،وطريقة ما خلف الحكام الظاهرية ،وأن كلً منهما يقبَل ر ْأيَ
الخر ويحترمه ول يعترض عليه أو يُنكره ،كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم
على بعض ،بل ويُكفّر بعضهم بعضا ،فإذا رَأوْا مثلً عبدا مَنْ عباد ال اختاره ال بشيء من
الفيوضات ،فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه ،وربما وصل المر إلى الشتائم
والتجريح ،بل والتكفير.
لقد تجلى في قول الخضرَ { :وكَ ْيفَ َتصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ ُتحِطْ ِبهِ خُبْرا } [الكهف ]68 :مظهر من
ل منهما
مظاهر أدب المعلّم مع المتعلّم ،حيث احترم رأيه ،والتمس له العُذْر إن اعترض عليه ،فل ُك ّ
مذهبه الخاص ،ول يحتج بمذهب على مذهب آخَر.
جدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ.} ..
فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟ { قَالَ سَتَ ِ
()2192 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أنا قابل لشروطك أيّها المعلم فاطمئن ،فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء .وقدّم المشيئة
فقال { :إِن شَآءَ اللّهُ[ } ..الكهف ]69 :ليستميله إليه ويُحنّن قلبه عليه { صَابِرا[ } ..الكهف]69 :
عصِي َلكَ أمْرا } [الكهف ]69 :وهكذا جعل نفسه مأمورا ،فالمعلم
على ما تفعل مهما كان { َولَ أَ ْ
آمرا ،والمتعلّم مأمور.
()2193 /
وهذا تأكيد من الخضر لموسى ،وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته :إنْ تبعتني فل
تسألْني حتى أخبرك ،وكأنه يُعلّمه أدب تناول العلم والصبر عليه ،وعدم العجلة لمعرفة كل أمر
من المور على حِدة.
ثم يقول الحق سبحانه { :فَا ْنطََلقَا.} ...
()2194 /
سفِينَةِ خَ َر َقهَا قَالَ َأخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْرِقَ َأهَْلهَا َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئًا ِإمْرًا ()71
فَانْطََلقَا حَتّى ِإذَا َركِبَا فِي ال ّ
{ فَا ْنطََلقَا } سارا معا ،حتى ركبا سفينة ،وكانت ُمعَدّة لنقل الركاب ،فما كان من الخضر إل أنْ
بادر إلى خَرْقها وإتلفها ،عندها لم يُطِق موسى هذا المر ،وكبُرت هذه المسألة في نفسه فلم
يصبر عليها فقال { :أَخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْرِقَ أَهَْلهَا َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا ِإمْرا } [الكهف]71 :
أي :أمرا عجيبا أو فظيعا .ونسى موسى ما أخذه على نفسه من طاعة العبد الصالح وعدم
عصيانه والصبر على ما يرى من تصرفاته.
كأن الحقّ ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يُعلّمنا أن الكلم النظري شيء ،والعمل الواقعي شيء
آخر ،فقد تسمع من أحدهم القول الجميل الذي يعجبك ،فإذا ما جاء وقت العمل والتنفيذ ل تجد
شيئا؛ لن الكلم قد ُيقَال في أول المر بعبارة الريحية ،كمن يقول لك :أنا رَهْن أمرك ورقبتي
لك ،فإذا ما أحوجك الواقع إليه كنت كالقابض على الماء ل تجد منه شيئا.
ونلحظ هنا أن موسى ـ عليه السلم ـ لم يكتف بالستفهامَ { :أخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْرِقَ أَ ْهَلهَا[ } ..الكهف:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]71بل تعدّى إلى اتهامه بأنه أتى أمرا منكرا فظيعا؛ لن كلم موسى النظري شيء ورؤيته
لخرق السفينة وإتلفها دون مبرر شيء آخر؛ لن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلف مال
الغير ،فضلً عن إغراق ركاب السفينة ،فرأى المر ضخما والضرر كبيرا ،هذا لن موسى يأخذ
من كيس والخضر يأخذ من كيس آخر.
()2195 /
ي صَبْرًا ()72
قَالَ أَلَمْ َأ ُقلْ إِ ّنكَ لَنْ َتسْتَطِيعَ َمعِ َ
وهذا درس آخر من الخضر لموسى ـ عليهما السلم ـ يقول :إن كلمي لك كان صادقا ،وقد
حذرتُك أنك لن تصبرَ على ما ترى من تصرفاتي ،وها أنت تعترض عليّ ،وقد اتفقنا وأخذنا العهد
ألّ تسألني عن شيء حتى أُخبرك أنا به.
خذْنِي ِبمَا َنسِيتُ.} ...
ل لَ ُتؤَا ِ
ثم يقول الحق سبحانه { :قَا َ
()2196 /
يعتذر موسى ـ عليه السلم ـ عما بدر منه لمعلمه ،ويطلب منه مسامحته وعدم مؤاخذته { َولَ
تُرْ ِهقْنِي مِنْ َأمْرِي عُسْرا } [الكهف ]73 :أي :ل تُحمّلني من أمر اتباعك عُسْرا ومشقة .فسامحه
الخضر وعاود السير.
()2197 /
فَانْطََلقَا حَتّى ِإذَا َلقِيَا غُلَامًا َفقَتَلَهُ قَالَ َأقَتَ ْلتَ َنفْسًا َزكِيّةً ِبغَيْرِ َنفْسٍ َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئًا ُنكْرًا ()74
تلحظ أن العتداء الول من الخضر كان على مال أتلفه ،وهنا صعّد المر إلى قَتْل نفس زكية
دون حق ،فبأيّ جريرة يُقتل هذا الغلم الذي لم يبلغ رُشْده؟ لذلك قال في الولىَ { :لقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ِإمْرا } [الكهف ]71 :أي عجيبا أما هنا فقالّ { :لقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا ّنكْرا } [الكهف ]74 :أي :مُنكَرا؛
لن الجريمة كبيرة.
والنفس الزكية :الطاهرة الصافية التي لم تُلوّثها الذنوب ومخالفة التكاليف اللهية.
وكذلك يأتي الرد من الخضْر مخالفا للرد الول ،ففي المرة الولى قال {:أََلمْ َأ ُقلْ إِ ّنكَ لَن تَسْ َتطِيعَ
ي صَبْرا }[الكهف]72 :
َمعِ َ
ي صَبْرا }.
أي :قلت كلما عاما ،أما هنا فقال { :قَالَ أََلمْ َأ ُقلْ ّلكَ إِ ّنكَ لَن َتسْتَطِيعَ َم ِع َ
()2198 /
ي صَبْرًا ()75
قَالَ أَلَمْ َأ ُقلْ َلكَ إِ ّنكَ لَنْ َتسْتَطِيعَ َمعِ َ
()2199 /
شيْءٍ َبعْدَهَا فَلَا ُتصَاحِبْنِي قَدْ بََل ْغتَ مِنْ لَدُنّي عُذْرًا ()76
قَالَ إِنْ سَأَلْ ُتكَ عَنْ َ
وهكذا قطع موسى ـ عليه السلم ـ الطريق على نفسه ،وأعطى لها فرصة واحدة يتم بعدها
الفراق؛ لذلك في الحديث أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :رحمنا ال ،ورحم أخي موسى
لو صبر لعرفنا الكثير ".
فهذه هي الثالثة ،وليس لموسى عذر بعد ذلك.
ومعنىَ { :قدْ بََل ْغتَ مِن لّدُنّي عُذْرا } [الكهف ]76 :أي :قد فعلت معي كل ما يمكن فعله ،وليس لي
عُذْر بعد ذلك.
ثم يقول سبحانه { :فَانطََلقَا حَتّىا إِذَآ أَتَيَآ أَ ْهلَ قَرْ َيةٍ.} ...
()2200 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَ ْن َقضّ
جدَا فِيهَا ِ
ط َعمَا أَهَْلهَا فَأَ َبوْا أَنْ ُيضَ ّيفُو ُهمَا َفوَ َ
فَانْطََلقَا حَتّى ِإذَا أَتَيَا أَ ْهلَ قَرْ َيةٍ اسْ َت ْ
خ ْذتَ عَلَيْهِ َأجْرًا ()77
فََأقَامَهُ قَالَ َلوْ شِ ْئتَ لَاتّ َ
استطعم :أي طلب الطعام ،وطَلبُ الطعام هو أصدق أنواع السؤال ،فل يسأل الطعام إل جائع
محتاج ،فلو سأل مالً لقلنا :إنه يدخره ،إنما الطعام ل يعترض عليه أحد ،ومنْعُ الطعام عن سائله
دليل ُبخْل وُلؤْم متأصل في الطباع ،وهذا ما حدث من أهل هذه القرية التي مَرّا بها وطلبَا الطعام
فمنعوهما.
والمتأمل في الية يجد أن أسلوب القرآن يُصوّر مدى ُبخْل هؤلء القوم ولُؤْمهم وسُوء طباعهم،
فلم ي ُقلْ مثلً :فأبوا أن يطعموهما ،بل قال { :فَأَ َبوْاْ أَن ُيضَيّفُو ُهمَا[ } ..الكهف]77 :وفرْق بين
الطعام والضيافة ،أَ َبوْا الطعام يعني منعوهما الطعام ،لكن أَ َبوْا أن يُضيّفوهما ،يعني كل ما يمكن
أنْ يُقدّم للضيف حتى مجرد اليواء والستقبال ،وهذا مُنْتَهى ما يمكن تصوّره من لُؤمْ هؤلء
الناس.
وتلحظ أيضا تكرار كلمة { أَ ْهلَ } فلما قال { :أَتَيَآ أَ ْهلَ قَرْيَةٍ } [الكهف ]77 :فكان المقام للضمير
ط َعمَآ أَهَْلهَا[ } ..الكهف ]77 :لنهم حين دخلوا القرية :هل
فيقول :استطعموهم ،لكنه قال { :اسْتَ ْ
قابلوا كل أهلها ،أم قابلوا بعضهم الذين واجهوهم أثناء الدخول؟
بالطبع قابلوا بعضهم ،أما الستطعام فكان لهل القرية جميعا ،كأنهما مرّا على كل بيت في القرية
وسأل أهلها جميعا واحدا تلو الخر دون جدوى ،كأنهم مجمعون على ال ُبخْل ولُؤْم الطباع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالىَ { :فوَجَدَا فِيهَا جِدَارا يُرِيدُ أَن يَنقَضّ فََأقَامَهُ[ } ..الكهف]77 :
ن ينقضّ ،ونحن نعرف أن الرادة ل تكون
أي :لم يلبثا بين هؤلء اللئام حتى وَجَدا جدارا يريد أ ْ
إل للمفكر العاقل ،فإنْ جاءت لغير العاقل فهي بمعنى :قَرُب .أي :جدارا قارب أنْ ينهار ،لما نرى
فيه من علمات كالتصدّع والشّروخ مثلً.
وهذا الفهم يتناسب مع أصحاب التفكير السطحي وضَيّقي الفق ،أما أصحاب الفق الواسع الذين
ن يكون للجدار إرادة
يعطون للعقل دوره في التفكير والنظر ويُدققون في المسائل فل مانع لديهم أ ْ
على أساس أن لكل شيء في الكون حياةً تناسبه ،ول تعالى أن يخاطبه ويكون بينهما كلم.
سمَآ ُء وَالَرْضُ[} ..الدخان]29 :
ألم يقل الحق سبحانهَ {:فمَا َب َكتْ عَلَ ْي ِهمُ ال ّ
فإذا كانت السماء تبكي فقد تع ّدتْ مجرد الكلم ،وأصبح لها أحاسيس ومشاعر ،ولديها عواطف قد
سمَآ ُء وَالَ ْرضُ[} ..الدخان ]29 :دليل على
تسمو على عواطف البشر ،فقولهَ {:فمَا َب َكتْ عَلَ ْيهِمُ ال ّ
أنها تبكي على َفقْد الصالحين.
وقد سُئِل المام علي ـ رضي ال عنه ـ عن هذه المسألة فقال " :نعم ،إذا مات المؤمن بكى عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
موضعان :موضع في السماء وموضوع في الرض ،أما موضعه في الرض فموضع مُصلّه،
أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله ".
وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع ال َكوْن من حوله ،فالكون ساجد ل مُسبّح ل طائع ل يحب
الطائعين وينُبو بالعاصين ويكرههم ويلعنهم؛ لذلك العرب تقول( :نَبَا به المكان) أي :كرهه لنه
غير منسجم معه ،فالمكان طائع وهو عاصٍ ،والمكان مُسبّح وهو غافل.
وعلى هذا الفهم فقوله تعالى } :يُرِيدُ أَن يَن َقضّ[ { ..الكهف ]77 :قول على حقيقته.
إذن :فهذه المخلوقات لها إحساس ولها بكاء ،وتحزن لفقد الحبة ،وفي الحديث أن النبي صلى ال
عليه وسلم قال " :إني لعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أُبعث ".
و ُروِي في السيرة حنين الجذع إلى رسول ال ،وتسبيح الحصى في يده صلى ال عليه وسلم.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة فقلنا :ل ينبغي أن نقول :سَبّح الحصى في يد رسول ال؛ لن
الحصى يُسبّح أيضا في يد أبي جهل ،لكن نقول :سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم تسبيح
الحصى في يديه.
ول غرابة أن يعطينا القرآن أمثلة لكلم هذه الشياء ،فقد رأينا العلماء في العصر الحديث يبحثون
في لغة للسماك ،ولغة للطير ،ولغة للوطاويط التي أخذوا منها فكرة الرادار ،بل وتوصلوا إلى أن
الحيوان يستشعر بوقوع الزلزال وخاصة الحمار ،وأنها تفرّ من المكان قبل وقوع الزلزال
مباشرة .إذن :فلهم وسائل إدراك ،ولهم لغة يتفاهمون بها ،ولهم منطق يعبرون به.
ثم يقول الحق سبحانه عن ِفعْل الخضر مع الجدار الذي قارب أن ينقض } فََأقَامَهُ[ { ..الكهف:
]77أي :أصلحه ورمّمه } قَالَ َلوْ شِ ْئتَ لَتّخَ ْذتَ عَلَ ْيهِ أَجْرا[ { ..الكهف]77 :
هذا قول موسى ـ عليه السلم ـ لما رأى ُل ْؤ َم القوم وخِسّتهم ،فقد طلبنا منهم الطعام فلم
يُطْعمونا ،بل لم يقدموا لنا مجرد المأوى ،فكيف نعمل لهم مثل هذا العمل دون أجرة؟
وجاء هذا القول من موسى ـ عليه السلم ـ لنه ل يعلم الحكمة من وراء هذا العمل.
ثم يقول الحق سبحانه } :قَالَ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْ ِنكَ.{ ...
()2201 /
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْ ِنكَ سَأُنَبّ ُئكَ بِتَ ْأوِيلِ مَا َلمْ تَسْ َتطِعْ عَلَ ْي ِه صَبْرًا ()78
خ ْذتَ عَلَيْهِ
{ قَالَ } أي :العبد الصالح { هَـاذَا } أي :ما حدث منك من قولك {:قَالَ َلوْ شِ ْئتَ لَتّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أَجْرا }[الكهف ]77 :وقد سبق أن اشترط موسى ـ عليه السلم ـ على نفسه إن اعترض على
معلمه هذه المرة يكون الفِراقُ بينهما ،وكأن العبد الصالح لم يَ ْأتِ بشيء من عنده ،لقد قال
شيْءٍ َبعْدَهَا فَلَ ُتصَاحِبْنِي }[الكهف ]76 :وها هو يسأله ،إذن :فليس إل
موسى {:إِن سَأَلْ ُتكَ عَن َ
الفراق { :قَالَ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْ ِنكَ[ } ..الكهف]78 :
قوله { :هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْ ِنكَ[ } ..الكهف ]78 :تُعد دُستورا من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ
ودليلً على أن هذين المذهبين ل يلتقيان ،فيظل كل منهما له طريقه :المرتاض له طريقه ،وغير
المرتاض له طريقه ،ول ينبغي أن يعترض أحدهما على الخر ،بل يلزم أدبه في حدود ما علّمه
ال.
ثم يقول تعالى على لسان الخضر { :سَأُنَبّ ُئكَ بِتَ ْأوِيلِ مَا َلمْ تَسْ َتطِع عّلَ ْي ِه صَبْرا } [الكهف ]78 :أي:
لن أتركك وفي نفسك هذه التساؤلت ،حتى ل يكون في نفسك مني شيء ،سوف أخبرك بحقيقة
عكَ ،بل أرسلك إلى مَنْ يُعلّمك شيئا لم تكُنْ
ضتَ عليها لتعلم أن ال لم يخد ْ
هذه الفعال التي اعتر ْ
تعلمه.
ثم أخذ العبد الصالح يكشف لموسى الحكمة من هذه الفعال واحدا تِلْو الخر ،كما لو عتبَ عليك
صاحبك في أمر ما ،وأنت حريص على مودّته فتقول له :أمهلني حتى أوضح لك ما حدث ،لقد
فعلتُ كذا من أجل كذا ،لتريح قلبه وتُزيل ما التبس عليه من هذا المر.
وقالوا :إن هذا من أدب الصّحْبة ،فل يجوز بعد المصاحبة أنْ نفترقَ على الخلف ،ينبغي أن
نفترق على ِوفَاق ورضا؛ لن الفتراق على الخلف يُنمّي الفجوة ويدعو للقطيعة ،إذن :فقبل أنْ
نفترق :المسألة كيت وكيت ،فتتضح المور وتصفو النفوس.
سفِينَةُ َفكَا َنتْ ِلمَسَاكِينَ َي ْعمَلُونَ فِي الْ َبحْرِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانهَ { :أمّا ال ّ
()2202 /
سفِينَةٍ
سفِينَةُ َفكَا َنتْ ِلمَسَاكِينَ َي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَ َر ْدتُ أَنْ أَعِي َبهَا َوكَانَ وَرَا َءهُمْ مَِلكٌ يَ ْأخُذُ ُكلّ َ
َأمّا ال ّ
غصْبًا ()79
َ
قولهِ { :ل َمسَاكِينَ } اللم هنا للملكية ،يعني مملوكة لهم ،وقد حسمتْ هذه اليةُ الخلفَ بين العلماء
حول تعريف الفقير والمسكين ،وأيهما أشدّ حاجة من الخر ،وعليها فالمسكين :هو مَنْ يملك شيئا
ل يكفيه ،كهؤلء الذين كانوا يملكون سفينة تعمل في البحر ،وسماهم القرآن مساكين ،أما الفقير:
فهو مَنْ ل يملك شيئا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنىَ { :ي ْعمَلُونَ فِي الْبَحْرِ[ } ..الكهف ]79 :أي :مجال عملهم البحر ،يعملون فيه بنقل الركاب
أو البضائع ،أو الصيد ،أو خلفه.
خضْر ـ عليه السلم ـ فنسب
وقوله { :فَأَرَدتّ أَنْ أَعِي َبهَا[ } ..الكهف ]79 :المتكلم هنا هو ال ِ
عمّا ل يليق ،أما في الخير
إرادة عَيْب السفينة إلى نفسه ،ولم ينسبها إلى ال تعالى تنزيها له تعالى َ
شدّ ُهمَا وَيَسْ َتخْرِجَا كَنزَ ُهمَا[} ..الكهف ]82 :لذلك
فنسب المر إلى ال فقال {:فَأَرَادَ رَ ّبكَ أَن يَبُْلغَآ أَ ُ
فإنه في نهاية القصة يُرجع كل ما فعله إلى ال فيقولَ {:ومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي[} ..الكهف ]82 :ثم
غصْبا } [الكهف ]79 :كلمة :كل ترسم سُورا
سفِينَةٍ َ
خذُ ُكلّ َ
يقول تعالىَ { :وكَانَ وَرَآءَهُم مِّلكٌ يَأْ ُ
كُليا ل يترك شيئا ،فالمراد يأخْذ كل سفينة ،سواء أكانت معيبة أم غير معيبة ،لكن الحقيقة أنه يأخذ
السفينة الصالحة للستعمال فقط ،ول حاجةَ له في المعيبة الغير صالحة ،وكأن في سياق الية
غصْبا من صاحبها.
صفة مُقدّرة :أي يأخذ كل سفينة صالحة َ
وال َغصْب :ما أُخذ بغير الحق ،عُنْو ًة و َقهْرا ومُصَادرة ،وله صور متعددة منها مثلً السرقة :وهي
أَخْذ المال من حِرْزه خفية ككسر دولب أو خزينة ،ومنها ال َغصْب :وهو أخْذ مال الغير بالقوة،
وتحت سمعه وبصره ،وفي هذه الحالة تحدث مقاومة ومشادة بين الغاصب والمغصوب.
ومنها الخطف :وهو أخْذ مال الغير هكذا علنية ،ولكن بحيلةٍ ما ،يخطف الشيء ويفرّ به دون أن
طفُ ـ إذن ـ يتم علنية ولكن دون مقاومة .ومنها الختلس :وهو أن
تتمكّن من اللحاق به ،فالخَ ْ
تأخذ مال الغير وأنت مؤتمن عليه ،والختلس يحدث خفية ،ول يخلو من حيلة تستره.
حقّه ،وقد
ن يقاوم ولو بعض مقاومة يدافع بها عن َ
غصْبا فل ُبدّ لمالك الشيء أ ْ
وما دام المر هنا َ
خ ٌذ وَرَدّ.
يتوسل إليه أنْ يترك له ماله ،فالمسألة ـ إذن ـ فيها كلم وأ ْ
إذن :خَرْق السفينة في ظاهره اعتداء على ملك مُقوّم ،وهذا منهيّ عنه شرعا ،لكن إذا كان هذا
العتداء سيكون سببا في نجاة السفينة كلها من الغاصب فل بأس إذن ،وسفينة معيبة خير من
علِم موسى ـ عليه السلم ـ هذه الحكمة لَبادرَ هو إلى خَرْقها.
عدمها ،ولو َ
وما دام المر كذلك ،فعلينا أن نُحوّل السفينة إلى سفينة غير صالحة ونعيبها بخَرْقها ،أو بخلْع َلوْح
منها لنصرف نظر الملك المغتصب عن أَخْذها.
وكلمة } وَرَآءَهُم { هنا بمعنى أمامهم؛ لن هذا الظالم كان يترصّد للسفن التي تمر عليه ،فما
سقَىا
جهَنّ ُم وَيُ ْ
وجدها صالحة غصبها ،فهو في الحقيقة أمامهم ،على حَدّ قوله تعالى {:مّن وَرَآئِهِ َ
مِن مّآ ٍء صَدِيدٍ }[إبراهيم ]16 :وهل جهنم وراءه أم أمامه؟
ق َومِن وَرَآءِ ِإسْحَاقَ َي ْعقُوبَ }
وتستعمل وراء بمعنىَ :بعْد ،كما في قوله تعالى {:فَبَشّرْنَاهَا بِِإسْحَا َ
[هود]71 :
جهِمْ حَافِظُونَ
وتأتي وراء بمعنى :غير .كما في قوله تعالى في صفات المؤمنين {:وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهِمْ َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّن ُهمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * َفمَنِ ابْ َتغَىا وَرَآءَ ذاِلكَ فَُأوْلَـائِكَ
* ِإلّ عَلَىا أَ ْزوَا ِ
هُمُ ا ْلعَادُونَ }[المؤمنون]7-5 :
حلّ َلكُمْ مّا وَرَاءَ ذَاِلكُمْ} ..
وفي قوله تعالى {:حُ ّر َمتْ عَلَ ْي ُكمْ ُأ ّمهَا ُتكُمْ[} ..النساء ]23 :إلى {..وَأُ ِ
[النساء]24 :
خذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ
وقد تستعمل وراء بمعنى خلف ،كما في قوله تعالى {:وَإِذْ أَ َ
ظهُورِهِمْ[} ..آل عمران]187 :
س َولَ َتكْ ُتمُونَهُ فَنَ َبذُوهُ وَرَآءَ ُ
لِلنّا ِ
إذن :كلمة } وَرَاءَ { جاءتْ في القرآن على أربعة معَانٍ :أمام ،خلف ،بعد ،غير .وهذا مما يُميّز
العربية عن غيرها من اللغات ،والملَكة العربية قادرة على أن تُميّز المعنى المناسب للسياق ،فكلمة
العَيْن ـ مثلً ـ تأتي بمعنى العين الباصرة .أو :عين الماء ،أو :بمعنى الذهب والفضة ،وبمعنى
الجاسوس .والسياق هو الذي يُحدد المعنى المراد.
ثم يقول الحق سبحانه في قرآنه عما أوضحه الخضر لموسى عليه السلم مما خفي عليه } :وََأمّا
ا ْلغُلَمُ َفكَانَ أَ َبوَاهُ ُم ْؤمِنَيْنِ.{ ..
()2203 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وراء الحدَث الظاهر الذي اعترض عليه موسى عليه السلم.
لذلك ُي َعدّ من الغباء إذا مات لدينا الطفل أو الغلم الصغير أَنْ يشتد الحزن عليه ،وننعي طفولته
عدّ له من النعيم ،ل ندري أن مَنْ ُأخِذ
التي ضاعتْ وشبابه الذي لم يتمتع به ،ونحن ل ندري ما أُ ِ
من أولدنا قبل البلوغ ل يُحدّد له مسكن في الجنة ،لنها جميعا له ،يجري فيها كما يشاء ،ويجلس
فيها أين أحب ،يجلس عند النبياء وعند الصحابة ،ل يعترضه أحد ،ولذلك يُس ّموْن " دعاميص
الجنة ".
طغْيَانا َوكُفْرا } [الكهف]80 :
ثم يقول تعالىَ { :فخَشِينَآ أَن يُرْ ِه َق ُهمَا ُ
خفْنا .فالواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عَيْن وسندا ،وقد يكون هذا البن سببا في فساد
خشيناِ :
دين أبيه ،ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة ،فهذا البن يقود أباه إلى الجحيم ،ومن الخير أن
يبعد ال هذا الولد من طريق الوالد فل يطغى.
()2204 /
حمًا ()81
فَأَرَدْنَا أَنْ يُ ْبدَِل ُهمَا رَ ّب ُهمَا خَيْرًا مِ ْنهُ َزكَاةً وََأقْرَبَ ُر ْ
ول يفوت الخضر ـ عليه السلم ـ أن ينسب الخير هنا أيضا إلى ال ،فيقول :أنا أُحب هذا العمل
وأريده ،إنما الذي يُبدّل في الحقيقة هو ال تعالى { :فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدَِل ُهمَا رَ ّب ُهمَا خَيْرا } [الكهف]81 :
فهذا الخير من ال ،وما أنا إل وسيلة لتحقيقه.
طهْرا { وََأقْ َربَ ُرحْما } [الكهف ]81 :لنهما
وقوله { :خَيْرا مّنْهُ َزكَـاةً[ } ..الكهف ]81 :أيُ :
أرادا الولد لينفعهما في الدنيا ،وليكون قُرّة عَيْن لهما ،ولما كانت الدنيا فاتنة ل بقاءَ لها ،وقد ثبت
في علمه تعالى أن هذا الولد سيكون فتنة لبويْه ،وسيجلب عليهما المعاصي والسيئات ،وسيجرّهما
إلى العذاب ،كانت الرحمة الكاملة في أخذه بدل أنْ يتمتّعا به في الدنيا الفانية ،ويشقيَا به في
الخرة الباقية.
لمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ا ْلمَدِي َنةِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :وََأمّا ا ْلجِدَارُ َفكَانَ ِلغُ َ
()2205 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جدَارُ َفكَانَ ِلغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ا ْلمَدِينَ ِة َوكَانَ تَحْ َتهُ كَنْزٌ َل ُهمَا َوكَانَ أَبُو ُهمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَ ّبكَ
وََأمّا الْ ِ
سطِعْ
ك َومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي ذَِلكَ تَ ْأوِيلُ مَا َلمْ تَ ْ
حمَةً مِنْ رَ ّب َ
شدّ ُهمَا وَيَسْ َتخْرِجَا كَنْزَ ُهمَا َر ْ
أَنْ يَبُْلغَا أَ ُ
عَلَيْ ِه صَبْرًا ()82
لمَيْنِ } أي :لم يبلغا سِنّ الرشْد ،وفوق ذلك هما يتيمان.
{ ِلغُ َ
وكان تحت هذا الجدار المائل كَنْز لهذين الغلمين الغير قادرين على تدبير شأنهما ،ولك أنْ
تتصوّر ما يحدث لو تهدّم الجدار ،وانكشف هذا الكنز ،ولمع ذهبه أمام عيون هؤلء القوم الذين
عرفت صفاتهم ،وقد منعوهما الطعام بل ومجرد المأْوى ،إنّ أقل ما يُوصفون به أنهم لِئَام ل
يُؤتمنون على شيء .ولقد تعوّدنا أن نعبر عن شدة الضياع بقولنا :ضياع اليتام على موائد اللئام.
صفْعة
شكّ أن ما قام به العبد الصالح من بناء الجدار وإقامته أو ترميمه ُيعَدُ بمثابة َ
إذن :فل َ
لهؤلء اللئام تناسب ما قابلوهم به من تنكّر وسوء استقبال ،وترد لهم الصّاع صاعين حين حرمهم
الخضر من هذا الكنز.
فعلّة إصلح الجدار ما كان تحته من مال يجب أنْ يحفظ لحين أنْ يكبُرَ هذان الغلمان ويتمكنا من
حفظه وحمايته في قرية من اللئام .وكأن الحق سبحانه وتعالى أرسله لهذين الغلمين في هذا
الوقت بالذات ،حيث أخذ الجدار في التصدّع ،وظهرت عليه علمات النهيار ليقوم بإصلحه قبل
أنْ يقع وينكشف أمر الكنز وصاحبيه في حال الضعف وعدم القدرة على حمايته.
ثم إن العبد الصالح أصلح الجدار ورَدّه إلى ما كان عليه َردّ مَنْ علّمه ال من لَدُنْه ،فيقال :إنه بنَاهُ
عمْرَ الغلمين ،وكأنه بناه على عمر افتراضي ينتهي ببلوغ الغلمين سِنّ
بنا ًء موقوتا يتناسب و ُ
الرشْد والقدرة على حماية الكنز فينهار .وهذه في الواقع عملية دقيقة ل يقدر على حسابها إل مَنْ
أُوتِي علما خاصا من ال تعالى.
ن واحدة توأمين لقوله تعالى { :فَأَرَادَ رَ ّبكَ أَن يَبُْلغَآ َأشُدّ ُهمَا..
ويبدو من سياق الية أنهما كانا في سِ ّ
} [الكهف ]82 :أي :سويا ،ومعنى الشُدّ :أي القوة ،حيث تكتمل أجهزة الجسم وتستوي ،وأجهزة
الجسم تكتمل حينما يصبح المرء قادرا على إنجاب مثله.
وتلحظ أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قال هنا { :يَبُْلغَآ أَشُدّ ُهمَا[ } ..الكهف ]82 :ولم ي ُقلْ
حسْن التصرّف في المور ،أما الشُدّ :فهو
رُشْدهما ،لنْ هناك فرْقا بين الرّشْد والَشُدّ فالرّشْدُ :
القوة ،والغلمان هنا في حاجة إلى القوة التي تحمي كَنْزهما من هؤلء اللئام فناسب هنا
{ َأشُدّ ُهمَا[ } ..الكهف]82 :
حمَةً مّن رّ ّبكَ[ } ..الكهف ]82 :أي :يستخرجاه بما لديهما
ثم يقول تعالى { :وَيَسْ َتخْرِجَا كَنزَ ُهمَا رَ ْ
من القوة والفُتوّة .والرحمة :صفة تُعطَى للمرحوم لتمنعه من الداء ،كما في قوله تعالى {:وَنُنَ ّزلُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ[} ..السراء ]82 :فقوله :شفاء :أي :يشفي داءً موجودا
شفَآ ٌء وَ َر ْ
مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
ويُبرِئه .ورحمة :أي رحمة تمنع عودة الداء مرة أخرى.
حفْظ حقّهما ،ثم لم َيفُتْ العبد
وكذلك ما حدث لهذين الغلمين ،كان رحمة من ال لحماية مالهما و ِ
الصالح أنْ يُرجِع الفضل لهله ،وينفي عن نفسه الغرور بالعلم والستعلء على صاحبه ،فيقول{ :
َومَا َفعَلُْتهُ عَنْ َأمْرِي.
[ { .الكهف ]82 :أي :أن ما حدث كان بأمر ال ،وما علّمتك إياه كان من عند ال ،فليس لي مَيْزة
عليك ،وهذا درس في أَدب التواضع ومعرفة الفضْل لهله.
ثم يقول } :ذَِلكَ تَ ْأوِيلُ مَا لَمْ َتسْطِـع عّلَيْ ِه صَبْرا { [الكهف ]82 :تأويل :أي إرجاع المر إلى
حقيقته ،وتفسير ما أشكل منه.
***
بعد ذلك تنتقل اليات إلى سؤال آخر من السئلة الثلثة التي سألها كفار مكة لرسول ال بإيعاز
من اليهود ،وهو السؤال عن الرجل الطّواف الذي طاف البلد } :وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ.{ ..
()2206 /
وَيَسْأَلُو َنكَ عَنْ ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ ُقلْ سَأَتْلُو عَلَ ْيكُمْ مِ ْنهُ ِذكْرًا ()83
ذو القرنين :هذا لقبه؛ لنه ربما كان في تكوينه ذا قرنين ،أو يلبس تاجا له اتجاهان؛ أو لنه بلغ
قرني الشمس في المشرق وفي المغرب.
وقد بحث العلماء في :مَنْ هو ذو القرنين؟ فمنهم مَنْ قال :هو السكندر الكبر المقدوني الطواف
في البلد ،لكن السكندر الكبر كان في مقدونيا في الغرب ،وذو القرنين جاب المشرق والمغرب
مما دعا عالما محققا من علماء الهند هو :أبو الكلم آزاد ـ وزير المعارف الهندي ـ إلى القول
بأنه ليس هو السكندر الكبر ،بل هو قورش الصالح ،وهذه رحلته في الشرق والغرب وبين
السدين ،كما أن السكندر كان وثنيا ،وكان تلميذا لرسطو ،وذو القرنين رجل مؤمن كما سنعرف
من قصته.
حصْرها في شخص بعينه؛ لن تشخيص حادثة القصة
وعلى العموم ،ليس من صالح القصة َ
يُضعِف من تأثيرها ،ويصبغها بِصبْغة شخصية ل تتعدى إلى الغير فنرى مَنْ يقول بأنها مسألة
شخصية ل تتكرر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :لو جاء العلم في ذاته سنقول :هذه الحادثة أو هذا ال َعمَل خاص بهذا الشخص ،والحق ـ
ن مكّنَ
سبحانه وتعالى ـ يريد أن يضرب لنا مثلً يعُمّ أي شخص ،ماذا سيكون مَسْلكه وتصرّفه إ ْ
ال له ومنحه ال قوة وسلطة؟
ولو حددَ القرآن هذه الشخصية في السكندر أو قورش أو غيرهما َلقُلْنَا :إنه حَدث فرديّ ل يتعدى
هذا الشخص ،وتنصرف النفس عن الُسْوة به ،وتفقد القصة مغزاها وتأثيرها .ولو كان في تعيينه
فائدة لَعيّنه ال لَنَا.
وسبق أنْ أوضحنا أن الحق ـ سبحانه ـ عندما ضرب مثلً للذين كفروا ،قال {:امْرََأتَ نُوحٍ
وَامْرََأتَ لُوطٍ[} ..التحريم ]10 :ولم يُعيّنهما على التحديد؛ لن الهدف من ضرب المثل هنا بيان
الرسول المرسَل من ال لهداية الناس لم يتمكّن من هداية زوجته وأقرب الناس إليه؛ لن اليمان
مسألة شخصية ،ل سيطرة فيها لحد على أحد.
عوْنَ[} ..التحريم]11 :
وكذلك لما ضرب ال مثلً للذين آمنوا قال {:امْرََأتَ فِرْ َ
ضلّ الناس وادّعى اللوهية زوجته مؤمنة ،وكأن الحق سبحانه يُلمّح للناس جميعا
ففرعون الذي أ َ
أن رأيك في الدين وفي العقائد رَأْي ذاتي ،ل يتأثر بأحد أيّا كان ،ل في الهداية بنبي ،ول في
الغواية بأضلّ الضالين الذي ادعى اللوهية.
وهكذا يحفظ السلم للمرأة دورها وطاقتها ويحترم رأيها.
إذن :الحق سبحانه وتعالى أتى بهذه القصة غير مُشخّصة لتكون نموذجا وأُسْوة يحتذي بها كل
أحد ،وإلّ لو شخصتْ لرتبطتْ بهذا الشخص دون غيره ،أما حينما تكلم الحق سبحانه عن مريم
فنراه يحددها باسمها ،بل واسم أبيها؛ ذلك لن ما سيحدث لمريم مسألة خاصة بها ،ولن تحدث
بعدها أبدا في بنات آدم ،لذلك عيّنها وشخّصها؛ لن التشخيص ضروري في مثل هذا الموقف.
أما حين يترك المثل أو القصة دون تشخيص ،فهذا يعني أنها صالحة لنْ تتكرر في أيّ زمان أو
في أيّ مكان ،كما رأينا في قصة أهل الكهف ،وكيف أن الحق سبحانه أبهمهم أسماءً ،وأبهمهم
مكانا وأبهمهم زمانا ،وأبهمهم عددا ،ليكونوا أُسْوة وقُدْوة للفتيان المؤمنين في أيّ زمان ،وفي أيّ
مكان ،وبأيّ عدد.
وقوله } :وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ[ { ..الكهف ]83 :نلحظ أن مادة السؤال لرسول ال صلى
ال عليه وسلم في القرآن أخذتْ حيّزا كبيرا فيه ،فقد ورد السؤال للنبي من القوم ست عشرة مرة،
إحداها بصيغة الماضي في قوله تعالى {:وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ[} ..البقرة]186 :
ن الَهِلّةِ[} ..البقرة]189 :
وخمس عشرة مرة بصيغة المضارع ،كما في {:يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ
وقوله {:يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلْ مَآ أَ ْن َفقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَاِلدَيْنِ[} ..البقرة {]215 :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ
خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ[} ..البقرة{]219 :
شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ[} ..البقرة {]217 :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ
ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ُقلِ ا ْل َعفْوَ }[البقرة {]219 :وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَىا ُقلْ ِإصْلَحٌ ّلهُمْ خَيْرٌ} ..
حلّ َل ُهمْ[} ..المائدة{]4 :
[البقرة {]220 :وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ[} ..البقرة {]222 :يَسْأَلُو َنكَ مَاذَآ ُأ ِ
ن الَنْفَالِ} ..
عةِ }[العراف ]187 :ثلث مرات[ ،النازعات {]42 :يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ
يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّا َ
[النفال {]1 :وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ[} ..السراء]85 :
سفُهَا رَبّي نَسْفا} ..
} وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ[ { ..الكهف {]83 :وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْجِبَالِ َف ُقلْ يَن ِ
[طه]105 :
ل بالمضارع ،إل أن الجوابَ عليها مختلف ،وكلها صادرة عن ال الحكيم ،فل ُبدّ
خمسة عشر سؤا ً
ن يكون اختلف الجواب في كل سؤال له مَلْحظ ،ومن هذه السئلة ما جاء من الخصوم ،ومنها
أْ
ما سأله المؤمنون ،السؤال من المؤمنين لرسول ال ـ وقد نهاهم أنْ يسألوه حتى يهدأوا ـ إلحاحٌ
منهم في معرفة تصرّفاتهم وإنْ كانت في الجاهلية ،إل أنهم يريدون أنْ يعرفوا رأي السلم فيها،
فكأنهم نَسُوا عادات الجاهلية ويرغبون في أن تُشرّع كل أمورهم على َوفْق السلم.
وبتأمّل الجابة على هذه السئلة تجد منها واحدةً يأتي الجواب مباشرة دون } ُقلْ { وهي في قوله
ع َوةَ الدّاعِ[} ..البقرة ]186 :وواحدة وردتْ
تعالى {:وَإِذَا سََأَلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ُأجِيبُ دَ ْ
سفُهَا رَبّي نَسْفا[} ..طه:
مقرونة بالفاء } َفقُلْ { وهي قوله تعالى {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْجِبَالِ َف ُقلْ يَن ِ
]105
وباقي السئلة وردت الجابة عليها بالفعل } ُقلْ { ،فما الحكمة في اقتران الفعل بالفاء في هذه
الية دون غيرها؟
قالوا :حين يقول الحق سبحانه في الجواب } ُقلْ { فهذه إجابة على سؤال سُئَِلهُ رسول ال بالفعل،
أي :حدث فعلً منهم ،أما الفاء فقد أتتْ في الجواب على سؤال لم يُسأله ،ولكنه سيُسأله مستقبلً.
فقوله تعالى {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلجِبَالِ[} ..طه ]105 :سؤال لم يحدث َبعْد ،فالمعنى :إذا سألوك َف ُقلْ،
وكأنه احتياط لجواب عن سؤال سيقع.
فإذا قُ ْلتَ :فما الحكمة في أنْ يأتي الجواب في قوله تعالى:
{ وَإِذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ[} ..البقرة ]186 :خاليا منُ :قلْ أو َف ُقلْ :مع أن } ِإذَا
{ تقتضي الفاء في جوابها؟
نقول :لن السؤال هنا عن ال تعالى ،ويريد سبحانه وتعالى أنْ يُجيبهم عليه بانتفاء الواسطة من
أحد؛ لذلك تأتي الجابة مباشرة دون واسطة {:وَإِذَا سََأَلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ[} ..البقرة:
]186قوله تعالى } :وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ[ { ..الكهف ]83 :أي :عن تاريخه وعن خبره
والمهمة التي قام بهاُ } :قلْ سَأَتْلُواْ عَلَ ْيكُم مّنْهُ ِذكْرا { [الكهف]83 :
وأيّ شرف بعد هذا الشرف ،إن الحق تبارك وتعالى يتولّى التأريخ لهذا الرجل ،ويُؤرّخ له في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قرآنه الكريم الذي يُتلَى ويُتعبّد به إلى يوم القيامة والذي يُتحدّى به ،ليظل ِذكْره باقيا بقاء القرآن،
خالدا بخلوده ،يظل أثره فيما عمل أُسْوة وقُدْوة لمن يعمل مثله .إنْ َدلّ على شيء فإنما يدلّ على
أن العمل الصالح مذكور عند ال قبل أنْ يُذكَرَ عند الخلق.
فأيّ ذكْر أبقى من ذكر ال لخبر ذي القرنين وتاريخه؟
و } مّنْهُ { أي :بعضا من ِذكْره وتاريخه ،ل تاريخه كله.
وكلمة ( ِذكْر) وردت في القرآن الكريم بمعان متعددة ،تلتقي جميعها في الشرف والرفعة ،وفي
التذكّر والعتبار .وإنْ كانت إذا أُطلقتْ تنصرف انصرافا أوليا إلى القرآن ،كما في قوله تعالى{:
إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ َلحَافِظُونَ }[الحجر ]9 :وبعد ذلك تُستعمل في أيّ كتاب أنزله ال تعالى
من الكتب السابقة ،كما جاء في قوله تعالىَ {:ومَآ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ ِإلّ رِجَالً نّوحِي إِلَ ْيهِمْ فَاسْأَلُواْ
أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ }[النحل]43 :
وقد يُطلَق الذكر على ما يتبع هذا من الصّيت والشرف والرفعة وتخليد السم ،كما في قوله
تعالىَ {:لقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَ ْي ُكمْ كِتَابا فِيهِ ِذكْ ُركُمْ[} ..النبياء]10 :
ك وَِل َق ْومِكَ[} ..الزخرف]44 :
وقوله تعالى {:وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ ّل َ
أي :صيت حَسَن وشرف ورفْعة كون القرآن يذكر هذا السم؛ لن السم إذا ُذكِر في القرآن ذاعَ
صِيتُه و َدوّى الفاق.
وقلنا في قصة زيد بن حارثة أنه كان عبدا بعد أنْ خُطِف من قومه وَبيع في مكة لخديجة رضي
ال عنها ،ثم وهبته لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لذلك أطلقوا عليه زيد بن محمد ،فلما عَلِم
أهله بوجوده في مكة أتى أبوه وعمه ،وكلّموا رسول ال في شأن زيد فقال :خَيّروه.
فلما خَيّروا زيدا قال :ما كنتُ لختار على رسول ال أحدا ،لذلك أكرمه النبي صلى ال عليه وسلم
حمّدٌ
وسمّاه زيدَ بن محمد ،فلما أراد الحق سبحانه أن يبطل التبني ،ونزل قوله تعالى {:مّا كَانَ مُ َ
أَبَآ َأحَدٍ مّن رّجَاِلكُ ْم وَلَـاكِن رّسُولَ اللّ ِه وَخَا َتمَ النّبِيّينَ[} ..الحزاب ]40 :وقال {:ادْعُو ُه ْم لبَآ ِئهِمْ
سطُ عِندَ اللّهِ[} ..الحزاب]5 :
ُهوَ َأقْ َ
فل تقولوا :زيد بن محمد.
وقولوا :زيد بن حارثة ،وهنا حَزِنَ زَيْد لهذا التغيير ،ورأى أنه خسر به شرفا عظيما بانتسابه
لمحمد ،ولكن الحق سبحانه وتعالى يجبر خاطر زيد ،ويجعل اسمه عَلَما يتردد في قرآن يُتْلَى
ويُتعبّد به إلى يوم القيامة ،فكان زيد هو الصحابي الوحيد الذي ورد ذكره باسمه في كتاب ال في
قوله تعالى {:فََلمّا َقضَىا زَيْدٌ مّ ْنهَا وَطَرا َزوّجْنَا َكهَا[} ..الحزاب]37 :
فأيّ شرف أعلى وأعظم من هذا الشرف؟
ونلحظ في هذه الية {:ادْعُوهُمْ لبَآئِهِمْ ُهوَ َأقْسَطُ عِندَ اللّهِ[} ..الحزاب ]5 :أن الحق سبحانه لم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يتهم رسوله صلى ال عليه وسلم بالجور ،فقالُ {:هوَ َأقْسَطُ عِندَ اللّهِ[} ..الحزاب ]5 :فما فعله
الرسول كان أيضا قِسْطا وعدلً ،وما أمر ال به هو القسط والعدل.
إذن :ف ِذكْر ذي القرنين في كتاب ال شرف كبير ،وفي إشارة إلى أن فاعل الخير له مكانته
ومنزلته عند ال ،ومُجازىً بأنْ يُخلّد ذكره ويبقى صِيته بين الناس في الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّا َمكّنّا لَهُ فِي الَ ْرضِ.{ ..
()2207 /
التمكين :أي أننا أعطيناه إمكانات يستطيع بها أن يُصرّف كل أموره التي يريدها؛ لنه مأمون
على تصريف المور على حَسْب منهج ال ،كما قال تعالى في آية أخرى عن يوسف عليه
سفَ فِي الَ ْرضِ يَتَ َبوّأُ مِ ْنهَا حَ ْيثُ يَشَآءُ[} ..يوسف]56 :
السلمَ {:وكَذاِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ
فالتمكين يعني إعطاءه إمكانات لكل غرض يريده فيُصرّف به المور ،لكن لماذا مكناه؟ مكنّاه لنه
مأمون على تصريف المور َوفْق منهج ال ،ومأمون على ما أعطاه ال من إمكانات.
شيْءٍ سَبَبا } [الكهف ]84 :أي :أعطيناه أسبابا يصل بها إلى ما يريد ،فما
وقوله { :وَآتَيْنَاهُ مِن ُكلّ َ
من شيء يريده إل ويجعل ال له وسيلة مُوصّلة إليه.
فماذا صنع هو؟ { فَأَتْبَعَ سَبَبا }.
()2208 /
أتبع السبب ،أي :ل يذهب لغاية إل بالوسيلة التي جعلها ال له ،فلقد مكّن الحق لذي القرنين في
الرض ،وأعطاه من كل شيء سببا ،ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أُعطى ،فلم يتقاعس،
ولم يكسل ،بل أخذ من عطاء ال له بشيء من كل سبب.
()2209 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمِ َئ ٍة َووَجَدَ عِ ْندَهَا َق ْومًا قُلْنَا يَا ذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّا
س َوجَدَهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ
شمْ ِ
حَتّى إِذَا بَلَغَ َمغْ ِربَ ال ّ
ب وَِإمّا أَنْ تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ()86
أَنْ ُتعَ ّذ َ
وبلوغه مغرب الشمس دليل على أنه لم يكُنْ بهذا المكان ،بل كان قادما إليه من المشرق .ومعنى
شمْسِ } هل الشمس تغرب؟
{ َمغْ ِربَ ال ّ
هي تغرب في عين الرائي في مكان واحد ،فلو لحظتَ الشمس ساعة الغروب لوجدتها تغربُ
مثلً في الجيزة ،فإذا ذهبت إلى الجيزة وجدتها تغرب في مكان آخر وهكذا ،إذن :غروبها بمعنى
غيابها من مرأىَ عينك أنت؛ لن الشمس ل تغيب أبدا ،فهي دائما شارقة غاربة ،بمعنى أنها حين
تغرب على قوم تشرق على آخرين؛ لذلك تتعدد المشارق والمغارب.
وهذه أعطتنا دوام ذكر ال ودورانه على اللسنة في كل الوقات ،فحين نصلي نحن الظهر مثلً
يصلي غيرنا العصر ،ويصلي غيرهم المغرب ،وهكذا فالحق سبحانه مذكور في كل وقت بكل
وقت ،فل ينتهي الظهر ل ،ول ينتهي العصر ل ،ول ينتهي المغرب ل ،بل ل ينتهي العلم
بواحدة منها طوال الوقت ،وعلى مَرّ الزمن؛ لذلك يقول أهل المعرفة :يا زمن وفيك كل الزمن.
حمِ َئةٍ[ } ..الكهف ]86 :أي :في عين فيها ماء .وقلنا :إن
ثم يقول تعالىَ { :وجَدَهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ
الحمأ المسنون هو الطين الذي اسودّ لكثرة وجوده في الماء .وفي تحقيق هذه المسألة قال عالم
الهند أبو الكلم آزاد ،ووافقه فضيلة المرحوم الشيخ عبد الجليل عيسى ،قال :عند موضع يسمى
(أزمير).
وقولهَ { :ووَجَدَ عِندَهَا َقوْما[ } ..الكهف ]86 :أي :عند هذه العين { قُلْنَا ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّآ أَن ُتعَ ّذبَ
خذَ فِيهِمْ حُسْنا } [الكهف ]86 :إذن :فهذا تفويض له من ال ،ول يُفوّض إل المأمون
وَِإمّآ أَن تَتّ ِ
على التصرّف { ِإمّآ أَن ُتعَ ّذبَ[ } ..الكهف ]86 :ول بُدّ أنهم كانوا كفرة أو وثنيين ل يؤمنون بإله،
فإما أنْ تأخذهم بكفرهم ،وإما أن تتخذَ فيهم حُسْنا.
لكن ما وجه الحُسْن الذي يريد ال أن يتخذه؟ يعني أنهم قد يكونون من أهل الغفلة الذين لم تصلهم
الدعوة ،فبيّن لهم وجه الصواب ودلّهم على دين ال ،فَمنْ آمن منهم فأحسن إليه ،ومَنْ أصرّ على
ُكفْرِه فعذّبه ،إذن :عليك أن تأخذهم أولً بالعِظَة الحسنة والبيان الواضح ،ثم تحكم بعد ذلك على
تصرفاتهم.
سوْفَ ُنعَذّ ُبهُ ثُمّ يُ َردّ إِلَىا رَبّهِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :قَالَ َأمّا مَن ظَلَمَ َف َ
()2210 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عذَابًا ُنكْرًا ()87
س ْوفَ ُن َعذّبُهُ ُثمّ يُرَدّ إِلَى رَبّهِ فَ ُيعَذّبُهُ َ
قَالَ َأمّا مَنْ ظََلمَ فَ َ
سوْفَ ُنعَذّ ُبهُ[ } ..الكهف ]87 :يعطينا إشارة إلى المهلة التي سيعطيها لهؤلء ،مهلة تمكّنه
قولهَ { :ف َ
أنْ يعِظهم ويُذكّرهم ويُفهّمهم مطلوبات دين ال.
وسبق أن قلنا :إن الظلم أنواع ،أفظعها وأعلها الشرك بال ،كما قال تعالى {:إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ
عَظِيمٌ }[لقمان]13 :
ثم يقول تعالىُ { :ثمّ يُرَدّ إِلَىا رَبّهِ فَ ُيعَذّ ُبهُ عَذَابا ّنكْرا } [الكهف]87 :
عتْ لحفظ
فلن نُعذّبه على قدْر ما فعل ،بل نُعذّبه عقوبة دنيوية فقط؛ لن العقوبات الدنيوية شُر َ
توازن المجتمع ،ورَدْع مَنْ ل يرتدع بالموعظة ،وإل فما فائدة الموعظة في غير المؤمن؟ لذلك
نرى المم التي ل تؤمن بإله ،ول بالقيامة والخرة تُشرّع هذه العقوبات الدنيوية لتستقيم
أوضاعها.
وبعد عذاب الدنيا وعقوبتها هناك عذاب أشدّ في الخرة { عَذَابا ّنكْرا } [الكهف ]87 :والشيء
عهْد لنا به أو أُلْفة؛ لننا حينما نُعذّب في الدنيا نُعذّب بفطرتنا
النكر :هو الذي ل نعرفه ،ول َ
وطاقتنا ،أما عذاب ال في الخرة فهو شيء ل نعرفه ،وفوق مداركنا وإمكاناتنا.
ل صَالِحا فََلهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا.} ...
عمِ َ
ثم يقول الحق سبحانه { :وََأمّا مَنْ آمَنَ وَ َ
()2211 /
ع ِملَ صَاِلحًا فَلَهُ جَزَاءً ا ْلحُسْنَى وَسَ َنقُولُ لَهُ مِنْ َأمْرِنَا يُسْرًا ()88
ن وَ َ
وََأمّا مَنْ َآمَ َ
قوله { :فََلهُ جَزَآءً ا ْلحُسْنَىا[ } ..الكهف ]88 :أي :نعطيه الجزاء الحسن { وَسَ َنقُولُ لَهُ مِنْ َأمْرِنَا
يُسْرا } [الكهف ]88 :نقول له الكلم الطيب الذي يُشجّعه ويحْفزه ،وإنْ كلّفناه كلّفناه بالمر اليسير
غير الشاق.
وهذه الية تضع لنا أساس عملية الجزاء التي هي ميزان المجتمع وسبب نهضته ،فمجتمعٌ بل
جزاءات تثيب المج ّد وتعاقب المقصّر مجتمع ينتهي إلى الفوضى والتسيّب ،فإنْ أمِنْ الناسُ العقابَ
تكاسلوا ،وربما ما تعانيه مصر الن من سوء الدارة راجع إلى ما في المجتمع من أشخاص فوق
القانون ل نستطيع معاقبتهم فيتسيّب الخرون.
ن ل يعمل ،ويظفر بها مَنْ يتقرب ويتودد ويتملّق
وكذلك نرى المراتب والجوائز يظفر بها مَ ْ
وينافق ،ولهؤلء أساليبهم الملتوية التي يجيدونها ،أما الذي يجدّ ويعمل ويخلص فهو مُنْهك القوى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مشغول بإجادة عمله وإتقانه ،ل و ْقتَ لديه لهذه الساليب الملتوية ،فهو يتقرب بعمله وإتقانه ،وهذا
ن تتصوّر مدى الفساد والتسيّب الذي تسببه هذه
الذي يستحق التكريم ويستحق الجائزة .ولك أ ْ
الصورة المقلوبة المعوجة.
عذَابا
سوْفَ ُنعَذّ ُبهُ ثُمّ يُ َردّ إِلَىا رَبّهِ فَ ُيعَذّبُهُ َ
إذن :فميزان المجتمع وأساس نهضتهَ { :أمّا مَن ظَلَمَ َف َ
ع ِملَ صَالِحا فَلَهُ جَزَآءً ا ْلحُسْنَىا وَسَ َنقُولُ لَهُ مِنْ َأمْرِنَا يُسْرا } [الكهف:
ن وَ َ
ّنكْرا * وََأمّا مَنْ آمَ َ
]88-87
فما أجمَل أنْ نرصُدَ المكافآت التشجيعية والجوائز ،ونقيم حفلت التكريم للمتميزين والمثاليين،
شريطةَ أنْ يقومَ ميزان الختيار على الحق والعدل.
والحُسْنى :أفعل التفضيل المؤنث لحسن ،فإذا أعطيناه الحسنى فالحسن من باب َأوْلَى ،ومن هذا
حسَنُواْ الْحُسْنَىا وَزِيَا َدةٌ} ..
قوله تعالى {:لّلّذِينَ أَ ْ
()2212 /
()2213 /
شمْسِ[ } ..الكهف ]90 :كما قلنا في مغربها ،فهي دائما طالعة؛ لنها ل
قوله تعالى { :مَطِْلعَ ال ّ
تطلع من مكان واحد ،بل كل واحد له مطلع ،وكل واحد له مغْرب حسب اتساع الفق.
جعَل ّلهُمْ مّن دُو ِنهَا سِتْرا } [الكهف ]90 :السّتْر :هو
علَىا َقوْمٍ لّمْ َن ْ
ثم يقول تعالىَ { :وجَدَهَا َتطْلُعُ َ
الحاجز بين شيئين ،وهو إما ليقينيَ الحر أو ليقينيَ البرد ،فقد ذهب ذو القرنين إلى قوم من
المتبدين الذين يعيشون عراة كبعض القبائل في وسط أفريقيا مثلً ،أو ليس عندهم ما يسترهم من
الشمس مثل البيوت يسكنونها ،أو الشجار يستظِلّون بها.
وهؤلء قوم نسميهم " ضاحون " أي :ليس لهم ما يأويهم من حَرّ الصيف أو بَرد الشتاء ،وهم
أُنَاسٌ متأخرون بدائيون غير متحضرين .ومثل هؤلء يعطيهم ال تعالى في جلودهم ما يُعوّضهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عن هذه الشياء التي يفتقدونها ،فترى في جلودهم ما يمنحهم الدفء في الشتاء والبرودة في
الصيف.
وهذا نلحظه في البيئات العادية ،حيث وَجْه النسان وهو مكشوف للحر وللبرد ،ولتقلبات الجو،
لذلك جعله ال على طبيعة معينة تتحمل هذه التقلبات ،على خلف باقي الجسم المستور بالملبس،
فإذا انكشف منه جزء كان شديدَ الحساسية للحرّ أو للبرد ،وكذلك من الحيوانات ما منحها ال
خاصية في جلودها تستطيع أنْ تعيش في القطب المتجمد دون أن تتأثر ببرودته.
وهؤلء البدائيون يعيشون هكذا ،ويتكيفون مع بيئتهم ،وتشغلهم مسألة الملبس هذه ،ول يفكرون
فيها ،حتى يذهب إليهم المتحضرون ويروْنَ الملبس ،وكيف أنها زينة وسَتْر للعورة فيستخدمونها.
ونلحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا عن هؤلء القوم شيئا وماذا فعل ذو القرنين معهم ،وإنْ قِسْنا
المر على القوم السابقين الذين قابلهم عند مغرب الشمس نقول :ربما حضّرهم ووفّر لهم أسباب
الرّقي.
وبعض المفسرين يروْنَ أن ذا القرنين ذهب إلى موض ٍع يومُه ثلثة أشهر ،أو نهاره ستة أشهر،
فصادف وصوله وجود الشمس فلم يَرَ لها غروبا في هذا المكان طيلة وجوده به ،ولم يَرَ لها سِتْرا
يسترها عنهم ،ويبدو أنه ذهب في أقصى الشمال.
ك َوقَدْ َأحَطْنَا ِبمَا َلدَيْهِ خُبْرا }.
ويقول الحق سبحانه { :كَذَِل َ
()2214 /
()2215 /
()2216 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن َوجَدَ مِنْ دُو ِنهِمَا َق ْومًا لَا َيكَادُونَ َي ْفقَهُونَ َقوْلًا ()93
حَتّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السّدّيْ ِ
السد :هو الحاجز بين شيئين ،والحاجز قد يكون أمرا معنويا ،وقد يكون طبيعيا محسوسا كالجبال،
فالمراد بالسدين هنا جبلن بينهما فجوة ،وما دام قد قال { :بَيْنَ السّدّيْنِ } فالبَيْن هنا يقتضي وجود
فجوة بين السدين يأتي منها العدو.
جدَ مِن دُو ِن ِهمَا[ } ..الكهف ]93 :أي :تحتهما { َقوْما لّ َيكَادُونَ َيفْ َقهُونَ َقوْلً } [الكهف]93 :
{ وَ َ
أي :ل يعرفون الكلم ،ول يفقهون القول؛ لن الذي يقدر أن يفهم يقدر أن يتكلم ،وهؤلء ل
يقولون كلما ،ول يفهمون ما يقال لهم ،ومعنى { :لّ َيكَادُونَ[ } ..الكهف ]93 :ل يقربون من أن
ل في أن يفهمهم.
يفهموا ،فل ينفي عنهم الفَهْم ،بل مجرد القُرْب من الفهم ،وكأنه ل أم َ
لكن ،يكف نفى عنهم الكلم ،ثم قال بعدها مباشرة {:قَالُواْ ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ[} ..الكهف ]94 :فأثبت لهم
القول؟
يبدو أنه خاطبهم بلغة الشارة ،واحتال على أن يجعلَ من حركاتهم كلما يفهمه وينفذ لهم ما
يريدون ،ول شكّ أن هذه العملية احتاجت منه جهدا وصبرا حتى يُفهمهم ويفهم منهم ،وإل فقد كان
في وُسْعه أنْ ينصرف عنهم بحجة أنهم ل يتكلمون ول يتفاهمون.
جهْدا في َنفْع القوم وهدايتهم.
فهو مثال للرجل المؤمن الحريص على عمل الخير ،والذي ل يألو َ
والشارة أصبحت الن لغة مشهورة ومعروفة ،ولها قواعد ودارسون يتفاهمون بها ،كما نتفاهم
نحن الن مع الخرس.
ثم يقول الحق سبحانه { :قَالُواْ ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ.} ...
()2217 /
ج َعلَ
ج َعلُ َلكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ َت ْ
ج َومَأْجُوجَ ُمفْسِدُونَ فِي الْأَ ْرضِ َف َهلْ نَ ْ
قَالُوا يَا ذَا ا ْلقَرْنَيْنِ إِنّ يَأْجُو َ
سدّا ()94
بَيْنَنَا وَبَيْ َنهُمْ َ
المراد بالقول هنا :دللة مُعبّرة تعبير القول ،فل ُبدّ أنهم تعارفوا على شيء كالشارة مثلً
يتفاهمون به.
ويأجوج ومأجوج قوم خَلْف السدين أو الجبلين ،ينفذون إليهم من هذه الفجوة ،فيؤذونهم ويعتدون
عليهم؛ لذلك عرضوا عليه أن يجعلوا له { خَرْجا } أي :أجرا وخراجا يدفعونه إليه على أنْ يسدّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لهم هذه الفجوة ،فل ينفذ إليهم أعداؤهم.
ثم يقول الحق -تبارك وتعالى -عن ذي القرنين أنه { :قَالَ مَا َمكّنّي فِيهِ رَبّي خَيْر.} ....
()2218 /
والقوْل هنا أيضا َقوْل دللة وإشارة تُفهمهم أنه في غِنىً عن الجر ،فعنده الكثير من الخير الذي
أعطاه ال ،إنما هو في حاجة إلى قوة بشرية عاملة ُتعِينه ،وتقوم معه بتنفيذ هذا العمل.
حسْبة ل ،وأنْ
ونفهم من الية أن المعونة من المُمكّن في الرض المالك للشيء يجب أن تكون ِ
تُعين معونة ل تحوج الذي تعينه إلى أن تُعينه كل وقت ،بل أعنه إعانة تغنيه أن يحتاج إلى
ل ينفقه في يومه وساعته ثم
المعونة فيما بعد ،كأن تعلّمه أنْ يعمل بنفسه بدل أنْ تعطيه مثلً ما ً
يعود محتاجا؛ لذلك يقولون :ل تُعطِني سمكة ،ولكن علّمني كيف أصطاد ،وهكذا تكون العانة
عمْر.
مستمرة دائمة ،لها َنفَس ،ولها ُ
ولما كان ذو القرنين ممكّنا في الرض ،وفي يده الكثير من الخيرات والموال ،فهو في حاجة ل
إلى مال بل إلى الطاقة البشرية العاملة ،فقال { :فَأَعِينُونِي ِبقُ ّوةٍ[ } ..الكهف ]95 :أي :قوة وطاقة
ج َعلْ بَيْ َنكُمْ وَبَيْ َنهُمْ رَدْما } [الكهف]95 :
بشرية قوية مخلصة { أَ ْ
ولم ي ُقلْ :سدا؛ لن السدّ الصمّ يعيبه أنه إذا حصلت رَجّة مثلً في ناحية منه ترجّ الناحية
الخرى؛ لذلك أقام لهم ردما أي :يبني حائطا من المام وآخر من الخلف ،ثم يجعل بينهما ردما
من التراب ليكون السد مَرِنا ل يتأثر إذا ما طرأت عليه هزة أرضية مثلً ،فيكون به التراب مثل "
السّوست " التي تمتص الصدمات.
ل وتُسوّيها بالرض ،ومن ذلك
حفْرة مث ً
والردم أن تضع طبقات التراب فوق بعضها ،حتى تردم ُ
ما نسمعه عندما يعاتب أحدهم صاحبه ،وهو ل يريد أنْ يسمعَ ،فيقول له :اردم على هذا
الموضوع.
()2219 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لم يكن ذو القرنين رجلً رحالة ،يسير هكذا بمفرده ،بل مكّنه ال من أسباب كل شيء ،ومعنى
ذلك أنه لم يكن وحده ،بل معه جيش وقوة وعدد وآلت ،معه رجال وعمال ،معه القوت ولوازم
الرحلة ،وكان بمقدوره أنْ يأمرَ رجاله بعمل هذا السدّ ،لكنه أمر القوم وأشركهم معه في العمل
لِيُدرّبهم ويُعلّمهم ما داموا قادرين ،ولديهم الطاقة البشرية اللزمة لهذا العمل.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول {:لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإلّ مَآ آتَاهَا[} ..الطلق ]7 :فما دام ربك قد
أعطاك القوة فاعمل ،ول تعتمد على الخرين؛ لذلك تجد هنا أوامر ثلثة :أعينوني بقوة ،آتوني
زبر الحديد ،آتوني أفرغ عليه قطرا.
زبر الحديد :أي قطع الحديد الكبيرة ومفردها زُبْرة ،والقِطْر :هو النحاس المذاب ،لكن ،كيف بنى
ذو القرنين هذا السد من الحديد والنحاس؟
هذا البناء يشبه ما يفعله الن المهندسون في المعمار بالحديد والخرسانة؛ لكنه استخدم الحديد،
وسَدّ ما بينه من فجوات بالنحاس المذاب ليكون أكثر صلبة ،فل يتمكن العداء من خَرْقه،
وليكون أملسَ ناعما فل يتسلقونه ،ويعلُون عليه.
فقوله { :حَتّىا ِإذَا سَاوَىا بَيْنَ الصّ َدفَيْنِ[ } ..الكهف ]96 :الصدف :الجانب ،ومنه قوله تعالى{:
َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّن كَ ّذبَ بِآيَاتِ اللّ ِه َوصَ َدفَ عَ ْنهَا[} ..النعام ]157 :أي :مال عنها جانبا.
فمعنى :ساوى بين الصدفين .أي :ساوى الحائطين المامي والخلفي بالجبلين { :قَالَ انفُخُواْ} ..
[الكهف ]96 :أي :في الحديد الذي أشعل فيه ،حتى إذا التهب الحديد نادى بالنحاس المذَاب { :قَالَ
آتُونِي ُأفْ ِرغْ عَلَ ْيهِ قِطْرا } [الكهف ]96 :وهكذا انسبكَ الحديد الملتهب مع النحاس المذَاب ،فأصبح
لدينا حائطٌ صَ ْلبٌ عالٍ أملس.
ظهَرُوهُ.} ...
سطَاعُواْ أَن يَ ْ
لذلك قال تعالى بعدهاَ { :فمَا ا ْ
()2220 /
ظهَرُوهُ } أي :ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن يعلوا السد أو يتسلقوه وينفذوا من أعله؛
{ أَن يَ ْ
لنه ناعم أملس ،ليس به ما يمكن المساك بهَ { :ومَا اسْ َتطَاعُواْ لَهُ َنقْبا } [الكهف ]97 :لنه
صَلْب.
حمَةٌ مّن رّبّي.} ...
ثم يقول تعالى على لسان ذي القرنين { :قَالَ هَـاذَا رَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2221 /
حقّا ()98
ن وَعْدُ رَبّي َ
جعَلَهُ َدكّا َء َوكَا َ
حمَةٌ مِنْ رَبّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبّي َ
قَالَ هَذَا َر ْ
لم َي ُفتْ ذا القرنين ـ وهو الرجل الصالح ـ أنْ يسند النعمة إلى المنعم الول ،وأنْ يعترف بأنه
حمَةٌ مّن رّبّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبّي } [الكهف:
مجرد واسطة وأداة لتنفيذ أمر ال { :قَالَ هَـاذَا َر ْ
ت المقوّمات التي منحني ال إياها ،واستعملتها في خدمة عباده.
]98لنني أخذ ُ
الفكر مخلوق ل ،والطاقة والقوة مخلوقة ل ،المواد والعناصر في الطبيعة مخلوقة ل ،إذن :فما
لي أن أقول :أنا عملتُ كذا وكذا؟
جعَلَهُ َدكّآءَ } [الكهف]98 :
ثم يقول تعالى { :فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ رَبّي } [الكهف ]98 :أي :الخرة { َ
فإياكم أن تظنوا أن صلبة هذا السّد ومتانته باقية خالدة ،إنما هذا عمل للدنيا فحسب ،فإذا أتى وَعْد
ال بالخرة والقيامة جعله ال دكا وسوّاه بالرض ،ذلك لكي ل يغترون به ول يتمردون على
ن كانوا مُستذلّين مُستضعفين ليأجوج ومأجوج .وكأنه يعطيهم رصيدا ومناعة تقيهم
غيرهم بعد أ ْ
الطغيان بعد الستغناء.
حقّا } [الكهف ]98 :واقعا لشك فيه.
ن وَعْدُ رَبّي َ
{ َوكَا َ
والتحقيق الخير في مسألة ذي القرنين وبناء السد أنه واقع بمكان يُسمّى الن (بلخ) والجبلن من
جبال القوقاز ،وهما موجودان فعلً ،وبينهما فَجْوة مبنيّ فيها ،ويقولون :إن صاحب هذا البناء هو
قورش ،وهذا المكان الن بين بحر قزوين والبحر السود.
ضهُمْ َي ْومَئِذٍ }.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَتَ َركْنَا َب ْع َ
()2222 /
ج ْمعًا ()99
ج َمعْنَاهُمْ َ
ضهُمْ َي ْومَئِذٍ َيمُوجُ فِي َب ْعضٍ وَنُفِخَ فِي الصّورِ َف َ
وَتَ َركْنَا َب ْع َ
فإذا كانت القيامة تركناهم يموج بعضهم في بعض ،كموج الماء ل تستطيع أن تفرق بعضهم من
بعض ،كما أنك ل تستطيع فصل ذرات الماء في المواج ،يختلط فيهم الحابل بالنابل ،والقويّ
شغِل
بالضعيف ،والخائف بالمخيف ،فهم الن في موقف القيامة ،وقد انتهت العداوات الدنيوية ،و ُ
كل إنسان بنفسه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جمْعا } [الكهف.]99 :
ج َمعْنَاهُمْ َ
وقوله تعالى { :وَنُفِخَ فِي الصّورِ َف َ
صعِقَ مَن
صعْق ،كما قال تعالى {:وَنُفِخَ فِي الصّورِ َف َ
وهذه هي النفخة الثانية؛ لن الولى نفخة ال ّ
سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ ِإلّ مَن شَآءَ اللّهُ ثُمّ ُنفِخَ فِيهِ ُأخْرَىا فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }[الزمر:
فِي ال ّ
.]68
صعْق قد يكون مميتا ،وقد يكون
صعْق ،والثانية نفخة ال َبعْث والقيامة ،وال ّ
فالنفخة الولى نفخة ال ّ
صعْق المميت كما في قوله تعالى:
ُم ْغمِيا لفترة ثم يفيق صاحبه ،فال ّ
عقَ ُة وَهُمْ
خذَ ْتهُمُ الصّا ِ
{ َوفِي َثمُودَ إِذْ قِيلَ َلهُمْ َتمَ ّتعُواْ حَتّىا حِينٍ * َفعَتَوْاْ عَنْ َأمْرِ رَ ّب ِهمْ فَأَ َ
يَنظُرُونَ }[الذاريات43 :ـ .]44
صعْقة التي تُسبّب الغماء فهي مِثْل التي حدثت لموسى ـ عليه السلم ـ حينما قال {:قَالَ
أما ال ّ
س ْوفَ تَرَانِي فََلمّا
َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَ َبلِ فَإِنِ اسْ َتقَرّ َمكَانَهُ فَ َ
ك وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ
صعِقا فََلمّآ َأفَاقَ قَالَ سُبْحَا َنكَ تُ ْبتُ إِلَ ْي َ
جعَلَهُ َدكّا وَخَرّ موسَىا َ
تَجَلّىا رَبّهُ لِلْجَ َبلِ َ
}[العراف.]143 :
فالجبل الشمّ الراسي الصّلْب اندكّ لما تجلّى له ال ،وخر موسى مصعوقا مُغمى عليه ،وإذا كان
صعِق من رؤية المتجلّى عليه ،فكيف برؤية المتجلّي سبحانه؟
موسى قد ُ
وكأن الحق سبحانه أعطى مثلً لموسى ـ عليه السلم ـ فقال له :ليست ضنينا عليك بالرؤية،
ل ليكون لك مثالً ،إذن :ل يمنع القرآن أن يتجلى ال على
ولكن قبل أن تراني انظر إلى الجبل أو ً
الخَلْق ،لكن هل نتحمل نحن تجلّي ال؟
فمن رحمة ال بنا ألّ يتجلى لنا على الحالة التي نحن عليها في الدنيا .أما في الخرة ،فإن الخالق
سبحانه س ُي ِعدّنا إعدادا آخر ،وسيخلقنا خِلْقة تناسب تجلّيه سبحانه على المؤمنين في الخرة؛ لنه
سبحانه القائل {:وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ }[القيامة22 :ـ .]23
ل تقتاتون ول تتغوطون؛ لن
وسوف نلحظ هذا العداد الجديد في ُكلّ أمور الخرة ،ففيها مث ً
طبيعتكم في الخرة غير طبيعتكم في الدنيا.
لذلك جاء السؤال من موسى ـ عليه السلم ـ سؤالً علميا دقيقاَ {:ربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ }
[العراف ]143 :أي :أرِني كيفية النظر إليك؛ لني بطبيعتي وتكويني ل أراك ،إنما إنْ أريتني
أنت أرى.
وفي ضوء هذه الحادثة لموسى ـ عليه السلم ـ نفهم حديث النبي صلى ال عليه وسلم " :ل
تُخيّروا بين النبياء ،فإن الناس ُيصْعقون يوم القيامة ،فأكون أولَ مَنْ تنشقّ عنه الرض ،فإذا أنا
صعْقة الولى ".
صعِق ،أم حُوسِب ب َ
بموسى آخ ٌذ بقائمة من قوائم العرش ،فل أدري أكان فيمن ُ
صعِق مرة في الدنيا ،ول يجمع ال تعالى على عبده صَعقتَيْن.
قالوا :لنه ُ
جهَنّمَ َي ْومَئِذٍ }
ثم يقول الحق سبحانه { :وَعَ َرضْنَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2223 /
أي :تُعرَض عليهم ليروها ويشاهدوها ،وهذا العَرْض أيضا للمؤمنين ،كما جاء في قوله تعالى{:
ل وَارِدُهَا }[مريم ]71 :والبعض يظن أن (واردها) يعني :داخلها ،ل بل واردها
وَإِن مّنكُمْ ِإ ّ
بمعنى :يراها ويمرّ بها ،فقد ترِد الماء بمعنى :يراها ويمر بها ،فقد ترد الماء بمعنى تصل إليه
دون أنْ تشربَ منه؛ ذلك لن الصراط الذي سيمر على الجميع مضروبٌ على ظهر جهنم ليراها
المؤمن والكافر.
أما المؤمن فرؤيته للنار قبل أنْ يدخل الجنة تُرِيه مدى نعمة ال عليه ورحمته به ،حيث نجّاه من
هذا العذاب ،ويعلم فضل اليمان عليه ،وكيف أنه أخذ بيده حتى مَرّ من هذا المكان سالما.
خلَ الْجَنّةَ َفقَدْ فَازَ }[آل
لذلك يُذكّرنا الحق سبحانه بهذه المسألة فيقولَ {:فمَن زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ
عمران.]185 :
أما الكافر فسيعرض على النار ويراها أولً ،فتكون رؤيته لها قبل أن يدخلها رؤية الحسرة
ت منها.
والندامة والفزع؛ لنه يعلم أنه داخلها ،ولن يُفِل ْ
وقد وردتْ هذه المسألة في سورة التكاثر حيث يقول تعالى {:أَ ْلهَاكُمُ ال ّتكّاثُرُ * حَتّىا زُرْتُمُ ا ْل َمقَابِرَ
س ْوفَ َتعَْلمُونَ * كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ عِلْمَ الْ َيقِينِ * لَتَ َروُنّ ا ْلجَحِيمَ * ُثمّ
س ْوفَ َتعَْلمُونَ * ُثمّ كَلّ َ
* كَلّ َ
لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ * ثُمّ لَُتسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ }[التكاثر1 :ـ .]8
والمراد :لو أنكم تأخذون عنّي العلم اليقيني فيما أُخبركم به عن النار وعذابها لكُنْتم كمنْ رآها،
لنني أنقل لكم الصورة العلمية الصادقة لها ،وهذا ما نُسمّيه علم اليقين ،أما في الخرة فسوف
ترون النار عينها .وهذا هو عين اليقين أي :الصورة العينية التي ستتحقق يوم القيامة حين تمرّون
على الصراط.
وبرحمة ال بالمؤمنين وبفضله وكرمه تنتهي علقة المؤمن بالنار عند هذا الحد ،وتُكتب له النجاة؛
لذلك قال تعالى بعدها {:ثُمّ لَُتسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ }[التكاثر.]8 :
حقّ اليقين ،يوم يدخلها ويباشر حَرّها ،كما
أما الكافر والعياذ بال فلَهُ مع النار مرحلة ثالثة هي ّ
حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنّ هَـاذَا
قال تعالى {:وََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُ ُزلٌ مّنْ َ
سمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ }[الواقعة92 :ـ .]96
َل ُهوَ حَقّ الْ َيقِينِ * فَسَبّحْ بِا ْ
إذن :عندنا عِلْم اليقين ،وهو الصورة العلمية للنار ،والتي أخبرنا بها الحق سبحانه وتعالى ،وأن
سعَتها .وعَيْن اليقين :في
من صفات النار كذا وكذا وحذّرنا منها ،ونحن في بحبوحة الدنيا و ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخرة عندما نمرّ على الصراط ،ونرى النار رؤيا العين .ثم حَقّ اليقين :وهذه للكفار حين يُ ْل َقوْن
فيها ويباشرونها فعلً.
وقد ضربنا لذلك مثلً :لو قُ ْلتُ لك :توجد مدينة اسمها نيويورك وبها ناطحات سحاب ،وأنها تقع
على سبع جزر ،ومن صفاتها كذا وكذا فأُعطِيك عنها صورة علمية صادقة ،فإنْ صدّقتني فهذا
عِلْم يقين .فإنْ مررنا عليها بالطائرة ورأيتها رَ ْأيَ العين فهذا عَيْن اليقين ،فإنْ نزلت بها وتجولت
حقّ اليقين.
خللها فهذا َ
جهَنّمَ َي ْومَئِذٍ لّ ْلكَافِرِينَ عَرْضا } [الكهف ]100 :ليس كعرضها على
إذن :فقوله تعالى { :وَعَ َرضْنَا َ
المؤمنين ،بل هو عَرْض يتحقّق فيه حَقّ اليقين بدخولها ومباشرتها.
ثم يقول الحق سبحانه { :الّذِينَ كَا َنتْ أَعْيُ ُنهُمْ }
()2224 /
س ْمعًا ()101
غطَاءٍ عَنْ ِذكْرِي َوكَانُوا لَا َيسْتَطِيعُونَ َ
الّذِينَ كَا َنتْ أَعْيُ ُنهُمْ فِي ِ
أي :على أبصارهم غشاوة تمنعهم إدراك الرؤية ،ليس هذا وفقط ،بلَ { :وكَانُو ْا لَ يَسْ َتطِيعُونَ
سمْعا } [الكهف.]101 :
َ
سمْع العبرة والعِظَة ،وإل فآذانهم موجودة وصالحة
والمراد هنا السمع الذي يستفيد منه السامعَ ،
للسمع ،ويسمعون بها ،لكنه سمَاعٌ ل فائدةَ منه؛ لنهم ينفرون من سماع الحق ومن سماع
الموعظة ويسدّون دونها آذانهم ،فهم في الخير أذن من طين ،وأذن من عجين كما نقول.
س ِمعُواْ مَآ أُن ِزلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَى أَعْيُ َنهُمْ
أما المؤمنون فيقول الحق تبارك وتعالى فيهم {:وَِإذَا َ
حقّ }[المائدة.]83 :
َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُواْ مِنَ الْ َ
س ْمعَ لهم ،كما نقول نحن في لغتنا العامية( :أنت
إذن :فكراهية أولئك للمسموع جعلتهم كأنهم ل َ
مطنش عني) ،يعني ل تريد أنْ تسمعَ ،ومن أقوال أهل الفكاهة :قال الرجل لصاحبه :فيك مَنْ يكتم
السرّ؟ قال :نعم ،قال :أعْطني مائة جنيه ،قال :كأنّي لم أسمع.
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ }
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
ولذلك حكى القرآن عن كفار مكة قولهم {:لَ َت ْ
[فصلت.]26 :
شوّشُوا عليه ،ول تُعطوا الناس فرصة لسماعه ،ولو أنهم علموا أن القرآن ل يؤثر في
يعنيَ :
سامعه ما قالوا هذا ،لكنهم بأذنهم العربية وملكتهم الفصيحة يعلمون جيدا أن القرآن له تأثير في
سامعه تأثيرا يملك جوانب نفسه ،ولبُدّ لهذا العربي الفصيح أنْ يهتزّ للقرآن ،ولبُدّ أنه سيعرف
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنه ُمعْجِز ،وأنه غير َقوْل البشر ،وحتما سيدعوه هذا إلى اليمان بأن هذا الكلم كلم ال ،وأن
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ }
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
محمدا رسول ال؛ لذلك قال بعضهم لبعض محذرا {:لَ تَ ْ
[فصلت.]26 :
سمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَىا عَلَ ْيهِ ثُمّ
وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى {:وَيْلٌ ّل ُكلّ َأفّاكٍ أَثِيمٍ * يَ ْ
س َم ْعهَا فَبَشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الجاثية7 :ـ .]8
ُيصِرّ مُسْ َتكْبِرا كَأَن لّمْ يَ ْ
وقد يتعدّى المر مجرد السماع إلى منْع الكلم كما جاء في قوله تعالى {:أََلمْ يَأْ ِتكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن
ح وَعَا ٍد وَ َثمُو َد وَالّذِينَ مِن َبعْدِهِمْ لَ َيعَْل ُمهُمْ ِإلّ اللّهُ جَآءَ ْتهُمْ ُرسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرَدّواْ
قَبِْلكُمْ َقوْمِ نُو ٍ
أَيْدِ َيهُمْ فِي َأ ْفوَا ِه ِهمْ }[إبراهيم.]9 :
فليس المر منْع الستماع ،بل أيضا منع الكلم ،فربما تصل كلمة إلى آذانهم وهم في حالة انتباه
فتُؤثّر فيهم ،أي منعوهم الكلم كما يُقال :اسكت ،أو أغلق فمك.
سبَ الّذِينَ َكفَرُواْ }
ثم يقول الحق سبحانهَ { :أفَحَ ِ
()2225 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2226 /
عمَالًا ()103
ُقلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُمْ بِالَْأخْسَرِينَ أَ ْ
()2227 /
ن صُ ْنعًا ()104
سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ َيحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُيحْسِنُو َ
ضلّ َ
ن َ
الّذِي َ
سعْي هؤلء؛ لنهم يفعلون الشر ،ويظنون أنه خير فهم ضالّون من حيث يظنون الهداية.
وقد ضلّ َ
ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر،
ويُنَادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة ،ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صُنْعا وقدّموا خَيْرا ،لكن
هل أعمالهم هذه كانت ل؟
الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ ،فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيما
وتكريما وتخليدا لذكراهم.
سعْ ُيهُمْ } [الكهف ]104 :أي :بطُل وذهب وكأنه ل شيءَ ،مثل السراب كما
ضلّ َ
ومعنىَ { :
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا
حسَبُهُ ال ّ
عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ
صوّرهم الحق سبحانه في قوله {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
َ
إِذَا جَآ َءهُ َلمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا }[النور.]39 :
وهؤلء ل يبخسهم ال حقوقهم ،ول يمنعهم الَجْر؛ لنهم أحسنوا السباب ،لكن هذا الجزاء يكون
في الدنيا؛ لنهم لما عملوا وأحسنوا السباب عملوا للدنيا ،ول نصيبَ لهم في جزاء الخرة.
وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ
فِي حَرْثِ ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى.]20 :
حقّه ،فل يجوز لحد من المؤمنين أنْ يظلمه أو يعتدي عليه ،وفي حديث
ومع ذلك يُبقي للكافر َ
سيدنا جابر بن عبد ال ـ رضي ال عنه ـ قال " :سمعت أن مُحدّثا حدّث عن رسول ال بحديث
أحببت أل أموت ،أو يموت هو حتى أسمعه منه ،فسألت عنه فقيل :إنه ذهب إلى الشام ،قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن وصلتُ إلى الشام ،فسألت عنه فقيل :إنه عبد ال بن
فاشتريت ناقة ورحّلتها ،وسرْت شهرا إلى أ ْ
أُنَيْس ،فلما ذهبت قال له خادمه :إن جابر بن عبد ال بالباب ،قال جابر :فخرج ابنُ أُنَيْس وقد
وَطِئ ثيابه من سرعته .قال عبد ال :واعتنقا.
قال جابر :حدّثت أنك حدثتَ حديثا عن رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال ينادي يوم
القيامة :يا ملئكتي ،أنا الملك ،أنا الديان ،ل ينبغي لحد من أهل النار أنْ يدخلَ النار وله عند أحد
من أهل الجنة حَقّ حتى أقصّه منه ،ول ينبغي لحد من أهل الجنة أنْ يدخلَ الجنة وله عند أحد
من أهل النار حق حتى أقصّه منه ،حتى اللطمة ".
حقّ الكافر ،فتقتصّ له قبل أنْ يدخل النارَ،
فانظر إلى ِدقّة الميزان وعدالة السماء التي تراعي َ
حتى ولو كان ظالمه مؤمنا.
سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا } [الكهف ]104 :جاءت كلمة الضلل في القرآن
ضلّ َ
وفي قوله تعالىَ { :
الكريم في عِدّة استعمالت يُحدّدها السياق الذي وردتْ فيه .فقد يأتي الضلل بمعنى الكفر ،وهو
قمة الضلل وقمة المعاصي ،كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى:
سوَآءَ
ضلّ َ
ل َومَن يَتَبَ ّدلِ ا ْل ُكفْرَ بِالِيمَانِ َفقَ ْد َ
{ َأمْ تُرِيدُونَ أَن َتسْأَلُواْ رَسُوَلكُمْ َكمَا سُ ِئلَ مُوسَىا مِن قَ ْب ُ
السّبِيلِ }[البقرة.]108 :
ويُطلق الضلل ،ويُراد به المعصية حتى من المؤمن ،كما جاء في قوله تعالىَ {:ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ
وَلَ ُم ْؤمِنَةٍ إِذَا َقضَى اللّ ُه وَرَسُولُهُ َأمْرا أَن َيكُونَ َل ُهمُ الْخِيَ َرةُ مِنْ َأمْرِهِ ْم َومَن َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ
للً مّبِينا }[الحزاب.]36 :
ضلّ ضَ َ
َفقَ ْد َ
ويُطلق الضلل ،ويُراد به أنْ يغيب في الرض ،كما في قوله تعالى {:أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا
َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }[السجدة.]10 :
ضلّ
يعني :غِبْنا فيها واختفينا .ويُطلَق الضلل ويُراد به النسيان ،كما في قوله تعالى {:أَن َت ِ
حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الُخْرَىا }[البقرة.]282 :
إِ ْ
ويأتي الضلل بمعنى الغفلة التي تصيب النسان فيقع في الذنب دون قصد .كما جاء في قصة
موسى وفرعون حينما وكز موسى الرجل فقضى عليه ،فلما كلمه فرعون قالَ {:فعَلْ ُتهَآ إِذا وَأَنَاْ مِنَ
الضّالّينَ }[الشعراء.]20 :
أي :قتلتُه حال غفلة ودون قصد ،ومَنْ يعرف أن الوكزة تقتل؟ والحقيقة أن أجلَ الرجل جاء مع
الوكزة ل بها .ويحدث كثيرا أن واحدا تدهسه سيارة وبتشريح الجثة يتبين أنه مات بالسكتة القلبية
التي صادفتْ حادثة السيارة.
ك ضَآلّ َفهَدَىا }
ويأتي الضلل بمعنىَ :ألّ تعرف تفصيل الشيء ،كما في قوله تعالىَ {:ووَجَ َد َ
[الضحى ]7 :أي :ل يعرف ما هذا الذي يفعله قومه من الكفر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول الحق سبحانهُ } :أوْلَـائِكَ الّذِينَ َكفَرُواْ {
()2228 /
{ َكفَرُواْ بِآيَاتِ رَ ّب ِهمْ } [الكهف ]105 :واليات تُطلَق ثلثة إطلقات ،وقد كفروا بها جميعا
وكذّبوا ،كفروا بآيات الكون الدالة على قدرة ال ،فلم ينظروا فيها ولم يعتبروا بها ،وكفروا بآيات
الحكام والقرآن والبلغ من رسول ال ،وكذلك كفروا بآيات المعجزات التي أنزلها ال لتأييد
الرسل فلم يصدقوها .إذن :كلمة { :بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ } [الكهف ]105 :هنا عامة في كل هذه النواع.
(ولقائه) أي :وكفروا أيضا بلقاء ال يوم القيامة ،وكذّبوا به ،فمنهم مَنْ أنكره كليةً فقال {:أَِإذَا مِتْنَا
َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }[المؤمنون.]82 :
جدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }
ومنهم مَن اعترف ببعْث على هواه ،فقال {:وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَ ِ
[الكهف.]36 :
ومنهم مَنْ قال :إن البعث بالروح دون الجسد وقالوا في ذلك كلما طويلً ،إذن :إما ينكرون
البعث ،وإما يُصوّرونه بصورة ليست هي الحقيقة.
عمَاُلهُمْ } [الكهف ]105 :أي :بَطُلت وذهب نفعُها { فَلَ ُنقِيمُ َل ُهمْ َيوْمَ
طتْ أَ ْ
ثم يقول تعالىَ { :فحَبِ َ
ا ْلقِيَامَ ِة وَزْنا } [الكهف.]105 :
وقد اعترض المستشرقون على هذه الية { فَلَ ُنقِيمُ َلهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَزْنا } [الكهف ]105 :وقالوا:
سطَ
كيف نُوفّق بينها وبين اليات التي تثبت الميزان ،كما في قوله تعالى {:وَ َنضَعُ ا ْل َموَازِينَ ا ْلقِ ْ
لِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ فَلَ ُتظْلَمُ َنفْسٌ شَيْئا وَإِن كَانَ مِ ْثقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَ ْر َدلٍ أَتَيْنَا ِبهَا َوكَفَىا بِنَا حَاسِبِينَ }
[النبياء.]47 :
خ ّفتْ َموَازِينُهُ * فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ * َومَآ أَدْرَاكَ مَا هِ َيهْ
وقوله تعالىَ {:فهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ * وََأمّا مَنْ َ
* نَارٌ حَامِيَةٌ }[القارعة7 :ـ .]11
ونقول :إن العلماء في التوفيق بين هذه اليات قالوا :المراد بقوله تعالى { :فَلَ ُنقِيمُ َلهُمْ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ
وَزْنا } [الكهف ]105 :جاءتْ على سبيل الحتقار وعدم العتبار ،فالمراد ل وزنَ لهم عندنا أي:
ل اعتبارَ لهم ،وهذه نستعملها الن في نفس هذا المعنى نقول :فلن ل وزنَ له عندي .أي :ل
قيمة له.
وبالبحث في هذه الية وتدبرها تجد أن القرآن الكريم يقول { :فَلَ ُنقِيمُ َلهُمْ } [الكهف ]105 :ولم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َيقُل :عليهم ،إذن :الميزان موجود ،ولكنه ليس في صالحهم ،فالمعنى :ل نقيم لهم ميزانا لهم ،بل
نقيم لهم ميزانا عليهم.
جهَنّمُ }
ثم يقول الحق سبحانه { :ذَِلكَ جَزَآؤُهُمْ َ
()2229 /
(ذلك) أي :ما كان من إحباط أعمالهم ،وعدم إقامتنا لهم وزنا ليس تجنّيا مِنّا عليهم أو ظلما لهم،
بل جزاءً لهم على كفرهم فقوله { ِبمَا َكفَرُواْ } [الكهف ]106 :أي :بسبب كفرهم.
{ وَاتّخَذُواْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوا } [الكهف ]106 :فقد استهزأوا بآيات ال ،وكلما سمعوا آية قالوا:
أساطيرُ الولين {:إِذَا تُ ْتلَىا عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الَوّلِينَ }[القلم.]15 :
وكذلك لم َيسْلَم رسول ال صلى ال عليه وسلم من سخريتهم واستهزائهم ،والقرآن يحكي عنهم
قولهم لرسول ال {:ياأَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ إِ ّنكَ َلمَجْنُونٌ }[الحجر ]6 :فقولهم{ نُ ّزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ
}[الحجر ]6 :أي :القرآن وهم ل يؤمنون به سُخرية واستهزاءً.
ن لَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ َرسُولِ اللّهِ
وفي سورة " المنافقون " يقول القرآن عنهم {:هُمُ الّذِينَ َيقُولُو َ
حَتّىا يَن َفضّواْ }[المنافقون ]7 :فقولهم {:رَسُولِ اللّهِ }[المنافقون ]7 :ليس إيمانا به ،ولكن إمّا غفلة
سخْرية واستهزا ًء كما لو كنتَ في مجلس ،ورأيتَ أحدهم
منهم عن الكذب الذي يمارسونه ،وإما ُ
يدّعِي العلم ويتظاهر به فتقول :اسألوا هذا العالم.
وفي آية أخرى يقول سبحانه عن استهزائهم برسول ال {:وَإِن َيكَادُ الّذِينَ َكفَرُواْ لَيُ ْزِلقُو َنكَ
س ِمعُواْ ال ّذكْ َر وَ َيقُولُونَ إِنّهُ َل َمجْنُونٌ }[القلم.]51 :
بِأَ ْبصَارِهِمْ َلمّا َ
عمِلُواْ }
ثم يتحدث القرآن عن المقابل لهؤلء ،فيقول { :إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
()2230 /
عمِلُوا الصّالِحَاتِ كَا َنتْ َل ُهمْ جَنّاتُ ا ْلفِرْ َدوْسِ نُزُلًا ()107
إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
قوله { :إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ } [الكهف ]107 :سبق أن قلنا :إن اليمان هو تصحيح الينبوع الوجداني
العقدي لتصدر الفعال مناسبة ليمانك بمَنْ شرّع ،ومن هنا كان اليمان أولً وشرطا لقبول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العمل ،وإلّ فهناك مَنْ يعمل الخير ل من منطلق إيماني بل لعتبارات أخرى ،والنية شَرْط لزم
في قبول العمل.
لذلك يعاقب ال تعالى مَنْ يعمل لغير ال ،يعاقبه بأنْ ينكره صاحبه ويجحده ويكرهه بسببه ،بدل
ن يعترفَ له بالجميل .ومن هنا قالوا( :اتق شّرّ مَنْ أحسنتَ إليه)؛ وهذا قول صحيح لنك حين
أْ
تُحسِن إلى شخص تدكّ كبرياءه ،وتكون يدك العليا عليه ،فإذا ما أخذ حظا من الحياة وأصبح ذا
ن تفضل عليه في يوم من اليام و َدكّ
س ِويّ النفس فإنه ل يحب مَ ْ
مكانة بين الناس فإن كان غير َ
كبرياءه؛ لذلك تراه يكره وجوده ،ول يحب أنْ يراه وربما دبّر لك المكائد لتختفي من طريقه،
وتُخلي له الساحة؛ لنك الوحيد الذي يحرجه حضورك.
ن عمل عملً لغير ال أسلمه ال لمن عمل له ،فليأخذ منه الجزاء ،وإذا بالجزاء يأتي على
لذلك ،مَ ْ
حقِرك ،فعلتَ له
خلف ما تنتظر ،فقد فعلت له ليُكرمك فإذا به ُيهِينك ،فع ْلتَ له ليحترمك فإذا به َي ْ
لِيُواليك فإذا به عدو لك؛ لذلك يقولون :العمل ل عاجل الجزاء ،أما العمل لغير ال فغير مضمون
العواقب ،فقد يُوفي لك وقد ل يُوفي.
ثم أردف الحق ـ سبحانه وتعالى ـ اليمانَ بالعمل الصالح؛ لن العمل الصالح لبُدّ له أن ينطلق
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } [الكهف.]107 :
من اليمان ويصدر عنه ،فقال تعالى { :إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } [الكهف ]107 :يعني :عمل الشيء الصالح ،فإن كان الشيء صالحا بنفسه
{ وَ َ
فليتركه على صلحه ل يفسده ،أو يزيده صلحا ،كبئر الماء الذي يشرب منه الناس ،فإمّا أن
تتركه على حال صلحه ل تُلقي فيه ما يسدّه أو يُفسِده فتُخرج الصالح عن صلحه ،وإما أنْ تزيده
صلحا فتُضيف إليه ما يُحسّن من أدائه ويُزيد من كفاءته كأنْ تبني حوله سورا يحميه أو غطاءً
يحفظه ،أو آلةَ رفع تُيسّر على الناس استعماله.
والفرد حين يعمل الصالحات تكون حصيلته من صلح غيره أكثرَ من حصيلته من عمله هو؛ لنه
فَرْد واحد ،ويستفيد بصلح المجتمع كله ،ومن هنا ل ينبغي أنْ تستثقلَ أوامر الشارع وتكليفاته؛
لنه يأخذ منك ليعطيك وَليُؤمّن حياتك وقت الحاجة وال َعوَز ،وحينما يتوفّر لك هذا التكافل
الجتماعي تستقبل الحياة بنفس راضية حال اليُسْر مطمئنة حال العُسْر.
وساعةَ أنْ يأمرك الشرع بكافلة اليتيم وإكرامه ،فإنه يُطمئِنك على أولدك من بعدك ،فل تحزن إنْ
أصابك مكروه؛ لنك في مجتمع متعاون ،سيكفل أولدك ،بل قد يكون اليتيم في ظل السلم
وتعاليمه أسعَد حظا من حياته في رعاية أبيه؛ لنه بموت أبيه يجد المؤمنين جميعا آباءَ له ،وربما
كان أبوه مشغولً عنه في حياته ل يُفيده بشيء ،بل ويصدّ عنه الخير حيث يقول الناس :أبوه
موجود وهو يتكفّل به.
لذلك يقول أحمد شوقي:لَيْسَ اليَتيمُ مَنِ انتهَى أَبَواهُ مِنْ هَمّ الحيَاةِ وخَّلفَاهُ ذَليلإنّ اليَتِيمَ ُهوَ الذِي تَ ْلقَى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شغُولوقوله تعالى } :كَا َنتْ َلهُمْ جَنّاتُ ا ْلفِرْ َدوْسِ نُ ُزلً { [الكهف]107 :
لَهُ ُأمّا تخّلتْ َأوْ أبا مَ ْ
الفردوس :هو أعلى الجنة ،والنّزُل :ما يُعده النسان لكرام ضيفه من القامة ومَقوّمات الحياة
حسْب قدراته وإمكانياته وعلمه بالشياء ،فما
وتَرَفها ،والنسان حينما ُيعِدّ النُ ْزلَ لضيفه يعده على َ
بالك إنْ كان المعِدّ لِلنّزُل هو ال تبارك وتعالى؟
ثم يقول الحق سبحانه } :خَالِدِينَ فِيهَا لَ يَ ْبغُونَ {
()2231 /
حوَلًا ()108
خَاِلدِينَ فِيهَا لَا يَ ْبغُونَ عَ ْنهَا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما الراحة البدية في الخرة فهي زمن ل نهايةَ له ،ونعيم خالد ل ينتهي ،ففي أيّ شيء يطمع
النسان بعد هذا كله؟ وإلى أيّ شيء يطمح؟
لذلك قال تعالى بعدها { :قُل ّلوْ كَانَ الْبَحْرُ }
()2232 /
ُقلْ َلوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا ِلكَِلمَاتِ رَبّي لَ َنفِدَ الْبَحْرُ قَ ْبلَ أَنْ تَ ْنفَدَ كَِلمَاتُ رَبّي وََلوْ جِئْنَا ِبمِثِْلهِ مَدَدًا (
)109
لن قدرته تعالى ل حدود لها ،ومادامت قدرته ل حدود لها فالمقدورات أيضا ل حدود لها؛ لذلك
لو كان البحر مدادا أي :حِبْرا يكتب به كلمات ال التي هي (كُنْ) التي تبرز المقدورات ما كان
كافيا لكلمات ال { وََلوْ جِئْنَا ِبمِثْلِهِ مَدَدا } [الكهف ]109 :أي :بمثل البحر.
ونحن نقول مثلً عن السلعة الجيدة :ل يستطيع المصنع أنْ يُخرِج أحسن من هذه ،أما صنعة ال
فل تقف عند حد؛ لن المصنع يعالج الشياء ،أما الحق ـ تبارك وتعالى ـ فيصنعها بكلمة كُنْ؛
لذلك نجد في أرقى فنادق الدنيا أقصى ما توصّل إليه العلم في خدمة البشر أنْ تضغط على زِرّ
معين ،فيُخرِج لك ما تريد من طعام أو شراب.
وهذه الشياء بل شكّ مُعدّة ومُجهّزة مُسْبقا ،فقط يتم استدعاؤها بالضغط على زر خاص بكل
نوع ،لكن هل يوجد نعيم في الدنيا يحضر لك ما تريد بمجرد أن يخطر على بالك؟ إذن :فنعيم
الدنيا له حدود ينتهي عندها.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
ت الَ ْرضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ
خ َذ ِ
{ حَتّىا إِذَآ أَ َ
صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }[يونس.]24 :
لمْسِ كَذاِلكَ ُن َف ّ
حصِيدا كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ
جعَلْنَاهَا َ
َنهَارا فَ َ
وكأن الحق سبحانه يقول لنا :لقد استنفدتم وسائلكم في الدنيا ،وبلغتم أقصى ما يمكن من مُ َتعِها
وزينتها ،فتعالوا إلى ما أعددتُه أنا لكم ،اتركوا ما كنتم فيه من أسباب ال ،وتعالوا عِيشُوا بال،
كنتم في عالم السباب فتعالوْا إلى المسبّب.
وإنْ كان الحق سبحانه قد تكلم في هذه الية عن المداد الذي تُكتب به كلمات ال ،فقد تكلّم عن
القلم التي يكتب بها في آية أخرى أكثر تفصيلً لهذه المسألة ،فقال تعالى {:وََلوْ أَ ّنمَا فِي الَ ْرضِ
شجَ َرةٍ َأقْلَ ٌم وَالْبَحْرُ َيمُ ّدهُ مِن َبعْ ِدهِ سَ ْبعَةُ أَ ْبحُرٍ مّا َنفِ َدتْ كَِلمَاتُ اللّهِ }[لقمان.]27 :
مِن َ
ونقف هنا عند ِدقّة البيان القرآني ،فلو تصوّرنا ما في الرض من شجر أقلم ،مع ما يتميز به
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حصْر لها ول تنتهي ،وتصوّرنا
الشجر من تجدّد مستمر ،وتكرّر دائم يجعل من الشجار ثروة ل َ
ماء البحر مدادا يُكتب به إل أنّ ماء البحر منذ خلقه ال تعالى محدود ثابت لَ يزيد ول ينقص.
لذلك لما كان الشجر يتجدّد ويتكرّر ،والبحر ماؤه ثابت ل يزيد .قال سبحانه {:وَالْ َبحْرُ َيمُ ّدهُ مِن
َبعْ ِدهِ سَ ْب َعةُ أَبْحُرٍ }[لقمان ]27 :ليتناسب تزايد الماء مع تزايد الشجر ،والمراد سبعة أمثاله ،واختار
هذا العدد بالذات؛ لنه مُنتَهى العدد عند العرب.
وقد أوضح لنا العلم دورة الماء في الطبيعة ،ومنها نعلم أن كمية الماء في الرض ثابتة ل تزيد؛
لن ما يتم استهلكه من الماء يتبخّر ويعود من جديد فالنسان مثلً لو شَرِب طيلة عمره مائة طن
من الماء ،فاحسب ما يخرج منه من بول وعرق وفضلت في عملية الخراج تجدها نفس الكمية
التي شربها ،وقد تبخرتْ وأخ َذتْ دورتها من جديد؛ لذلك يقولونُ :ربّ شربةِ ماء شربها من آدم
المليين.
ثم يقول الحق سبحانهُ { :قلْ إِ ّنمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثُْلكُمْ} ...
()2233 /
عمَلًا صَالِحًا
ُقلْ إِ ّنمَا أَنَا بَشَرٌ مِثُْلكُمْ يُوحَى إَِليّ أَ ّنمَا إَِل ُهكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ َفمَنْ كَانَ يَ ْرجُو ِلقَاءَ رَبّهِ فَلْ َي ْع َملْ َ
حدًا ()110
وَلَا يُشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ أَ َ
خذُوني
( ُقلْ) أي :يا محمد ،وهذا كلم جديد { ُقلْ إِ ّنمَآ أَنَاْ َبشَرٌ مّثُْلكُمْ[ } ...الكهف ]110 :يعنيُ :
أُسْوة ،فأنا لست ملَكا إنما أنا بشر مثلكم ،وحملتُ نفسي على المنهج الذي أطالبكم به ،فأنا ل
جوَى .بل بالعكس كان صلى ال عليه وسلم أقلّ الناس حَظّا من مُتَعِ
آمركم بشيء وأنا عنه بن ْ
الحياة وزينتها.
فكان في المؤمنين به الغنياء الذين يتمتعون بأطايب الطعام ويرتدُونَ أغْلى الثياب في حين كان
صلى ال عليه وسلم يمر عليه الشهر والشهران دون أنْ يُوقَد في بيته نار لطعام ،وكان يرتدي
المرقّع من الثياب ،كما أن أولده ل يرثونه ،كما يرث باقي الناس ،ول تحل لهم الزكاة كغيرهم،
حقّ تمتع به الخرون.
فحُرِموا من َ
لذلك كان صلى ال عليه وسلم أدنى السوات أي :أقل الموجودين في مُتع الحياة وزُخْرفها ،وهذا
يلفتنا إلى أن الرسالة لم ُتجْرِ لمحمد نفعا دنيويا ،ولم تُميّزه عن غيره في زَهْرة الدنيا الفانية ،إنما
مَيّزتْه في القيم والفضائل.
ومن هنا كان صلى ال عليه وسلم يقول " :يرد عليّ ـ يعني من العلى ـ فأقول :أنا لست
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مثلكم ،ويؤخذ مني فأقول :ما أنا إل بشر مثلكم ".
والية هنا ل تميزه صلى ال عليه وسلم عن البشر إل في أنه { :يُوحَىا إَِليّ } [الكهف ]110 :فما
زاد محمد عن البشر إل أنه يُوحَى إليه.
حدٌ
ثم يقول تعالى { :أَ ّنمَآ إِلَـا ُهكُمْ إِلَـا ٌه وَاحِدٌ } [الكهف ]110 :أنما :أداة َقصْر { إِلَـا ُه ُكمْ إِلَـا ٌه وَا ِ
} [الكهف ]110 :أي :ل إله غيره ،وهذه ِقمّة المسائل ،فل تلتفتوا إلى إله غيره ،ومن أعظم نعم
ن يكونَ له إله واحد ،وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلً ليوضح لنا هذه المسألة
ال على النسان أ ْ
فقال تعالى:
جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً }[الزمر:
{ ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُتَشَا ِكسُونَ وَ َرجُلً سَلَما لّ َر ُ
.]29
فل يستوي عبد مملوك لعدة أسياد يتجاذبونه؛ لنهم متشاكسون مختلفون َيحَارُ فيما بينهم ،إنْ
أرضي هذا سخط ذاك .هل يستوي وعبد مملوك لسيد واحد؟ إذن :فمما يُحمَد ال عليه أنه إله
واحد.
{ َفمَن كَانَ يَ ْرجُواْ ِلقَآءَ رَبّهِ } [الكهف ]110 :الناس يعملون الخير لغايات رسمها ال لهم في
الجزاء ،ومن هذه الغايات الجنة ونعيمها ،لكن هذه الية تُوضّح لنا غاية أَسْمى من الجنة ونعيمها،
هي لقاء ال تعالى والنظر إلى وجهه الكريم ،فقوله تعالى { :يَرْجُواْ ِلقَآءَ رَبّهًِ } [الكهف]110 :
تصرف النظر عن النعمة إلى المنعم تبارك وتعالى.
عمَلً صَالِحا } [الكهف ]110 :فهذه هي
فمن أراد لقاء ربه ل مُجرّد جزائه في الخرة { :فَلْ َي ْع َملْ َ
الوسيلة إلى لقاء ال؛ لن العمل الصالح دليل على أنك احترمتَ أمر الخر بالعمل ،ووثقتَ من
حكمته ومن حُبّه لك فارتاحتْ نفسك في ظلّ طاعته ،فإذا بك إذا أو ْيتَ إلى فراشك تستعرض
شريط أعمالك ،فل تجد إل خيرا تسعَدُ به نفسك ،وينشرح له صدرك ،ول تتوجّس شرا من أحد،
ول تخاف عاقبة أمر ل تُحمَدُ عقباه ،فمَنِ الذي أنعم عليك بكل هذه النعم ووفّقك لها؟
ثمَ { :ولَ ُيشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدَا } [الكهف ]110 :وسبق أن قُلْنا :إن الجنة أحد ،فل تشرك بعبادة
ال شيئا ،ولو كان هذا الشيء هو الجنة ،فعليك أنْ تسموَ بغاياتك ،ل إلى الجنة بل إلى لقاء ربها
وخالقها والمنعِم بها عليك.
وقد ضربنا لذلك مثلً بالرجل الذي أعدّ وليمة عظيمة فيها أطايب الطعام والشراب ،ودعا إليها
أحبابه فلما دخلوا شغلهم الطعام إل واحدا لم يهتم بالطعام والشراب ،وسأل عن صاحب الوليمة
ليُسلّم عليه ويأنس به.
خ ْوفِ نا ٍر ويروْنَ النّجاةَ حَظّا جَزِيلًَأوْ بأنْ
وما أصدق ما قالته رابعة العدوية:كُلّهم يَعبدُونَ مِنْ َ
ظوْاَ بقصُورٍ ويشْرَبُوا سَلْسَبِيلليسَ لِي بالجنَانِ والنّارِ حظّ أنَا ل ابتغِي بحُبّي
يسكنُوا الجِنَان فيح َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بَدِيلوهذا يشرح لنا الحديث القدسي " :لوْ لَم أخلق جنة ونارا ،أما كنتُ أَهْلً لنْ أُعْبَد؟ ".
فل ينبغي للعبد أن يكون نفعيا حتى في العبادة ،والحق سبحانه وتعالى أهْل بذاته لن يُعبد ،ل
خوفا من ناره ،ول طمعا في جنته ،فاللهم ارزقنا هذه المنزلة ،واجعلنا برحمتك من أهلها.
()2234 /
كهيعص ()1
هذه خمسة حروف مقطعة ،تُنطق باسم الحرف ل بمُسمّاه ،لن الحرف له اسم وله مُسمّى ،فمثلً
كلمة (كتب) مسماها (كتب) أما بالسم فهي كاف ،تاء ،باء .فالسم هو العَلَم الذي ُوضِع للدللة
على هذا اللفظ.
وفي القرآن الكريم سور كثيرة ابتُدِ َئتْ بحروف مُقطعة تُنطق باسم الحرف ل مُسمّاه ،وهذه
الحروف قد تكون حَرفا واحدا مثل :ن ،ص ،ق .وقد تكون حرفين مثل :طه ،طس .وقد تكون
ثلثة أحرف مثل :الم ،طسم .وقد تأتى أربعة أحرف مثل :المر .وقد تأتى بخمسة أحرف مثل:
كهيعص ،حمعسق.
ل فكيف تُفرّق بين الم في أول البقرة فتنطقها
لذلك نقول :ل بُدّ في تعلّم القرآن من السماع ،وإ ّ
صدْ َركَ }[الشرح ]1 :فتنطقها موصولة؟ وصدق ال تعالى حين قال{:
ك َ
مُقطّعة وبين{ أََلمْ نَشْرَحْ َل َ
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّ ِبعْ قُرْآنَهُ }[القيامة.]18 :
ونلحظ في هذه الحروف أنه يَنطِق بالمسمّى المتعلم وغير المتعلم ،أما السم فل ينطق به ول
يعرفه إل المتعلّم الذي عرف حروف الهجاء .فإذا كان الرسول صلى ال عليه وسلم أميّاَ لم يجلس
إلى معلم ،وهذا بشهادة أعدائه ،فمن الذي علمه هذه الحروف؟
إذن :فإذا رأيت هذه الحروف المقطعة فاعلم أن الحق سبحانه وتعالى نطق بها بأسماء الحروف ،
ونحن نتكلم بمُسمّيات الحروف ل بأسمائها.
حمَةِ رَ ّبكَ }
ثم يقول الحق سبحانه وتعالىِ { :ذكْرُ َر ْ
()2235 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذكْر :له معانٍ متعددة ،فالذكْر هو الخبار بشيء ابتداءً ،والحديث عن شيء لم يكُنْ لك به
سابق معرفة ،ومنه التذكير بشيء عرفته أولً ،ونريد أن نُذكّرك به ،كما في قوله تعالى{:
وَ َذكّرْ فَإِنّ ال ّذكْرَىا تَنفَعُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[الذاريات.]55 :
ويُطلَق الذكْر على القرآن {:إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر ]9 :وفي القرآن أفضل
الذكر ،وأصدق الخبار والحداث .كما يُطلق الذكر على كل كتاب سابق من عند ال ،كما جاء
في قوله تعالى {:فَاسْأَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ }[النحل.]43 :
ك وَِل َق ْومِكَ }[الزخرف:
والذكْر هو الصّيت وال ّرفْعة والشرف ،كما في قوله تعالى {:وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ ّل َ
]44وقوله تعالىَ {:لقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكُمْ كِتَابا فِيهِ ِذكْ ُركُمْ }[النبياء ]10 :أي :فيه صِيتكم وشرفكم ،
ومن ذلك قولنا :فلن له ِذكْر في قومه.
ومن الذكْر ِذكْر النسان لربه بالطاعة والعبادة ،وذكْر ال لعبده بالمثوبة والجزاء والرحمة ومن
ذلك قوله تعالى {:فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْر ُكمْ }[البقرة.]152 :
ح َمةِ رَ ّبكَ } [مريم ]2 :أي :هذا يا محمد خبر زكريا وقصته ورحمة ال به.
فقوله تعالىِ { :ذكْرُ رَ ْ
والرحمة :هي تجليّات الراحم على المرحوم بما يُديم له صلحه لمهمته ،إذن :فكلّ راحم ولو من
البشر ،وكلّ مرحوم ولو من البشر ،ماذا يصنع؟ يعطى غيره شيئا من النصائح تُعينه على أداء
مهمته على اكمل وجه ،فما بالك إنْ كانت الرحمة من الخالق الذي خلق الخلق؟ وما بالك إذا
كانت رحمة ال لخير خَلْقه محمد؟
إنها رحمة عامة ورحمة شاملة؛ لنه صلى ال عليه وسلم أشرف النبياء وأكرمهم وخاتمهم ،فل
خلْق ،ورحمة
حيَ ول رسالة من بعده ،ول إكمال .إذن فهو أشرف الرسل الذين هم أشرف ال َ
وَ ْ
كل نبي تأخذ حظها من الحق سبحانه بمقدار مهمته ،ومهمة محمد أكرم المهمات.
حمَة) هنا مصدر يؤدي معنى فعله ،فالمصدر مثل الفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول ،كما
وكلمة (رَ ْ
ح َمةِ رَ ّبكَ عَبْ َدهُ َزكَرِيّآ } [مريم ]2 :أي :رحم ربّك
نقول :آلمني ضَرْب الرجل ولدَه ،فمعنى { :رَ ْ
عبده زكريا.
حمَةِ رَ ّبكَ } [مريم ]2 :لنها أعلى أنواع الرحمة ،وإن كان هنا يذكر رحمته
لذلك قال تعالىَ { :ر ْ
حمَةً
تعالى بعبده زكريا ،فقد خاطب محمدا صلى ال عليه وسلم بقولهَ {:ومَآ أَ ْرسَلْنَاكَ ِإلّ َر ْ
لّ ْلعَاَلمِينَ }[النبياء ]107 :فرحمة ال تعالى بمحمد ليست رحمة خاصة به ،بل هي رحمة عامة
لجميع العاملين ،وهذه منزلة كبيرة عالية.
حمَةِ رَ ّبكَ عَبْ َدهُ َزكَرِيّآ } [مريم ]2 :يعنى هذا الذي يُتلَى عليك الن يا محمد
فالمراد من { ِذكْرُ َر ْ
هو ِذكْر وحديث وخبر رحمة ربك التي هي أجلّ الرحمات بعبده زكريا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسبق أن أوضحنا أن العبودية للخَلْق مهانة ومذلّة ،وهي كلمة بشعة ل تُقبل ،أما العبودية ل
تعالى فهي عِزّ وشرف ،بل مُنتهَى العِزّ والشرف والكرامة ،وعللنا ذلك بأن العبودية التي تسوء
وتُحزِن هي عبودية العبد لسيد يأخذ خيره ،أما العبودية ل تعالى فيأخذ العبد خير سيده.
لكن ،ما نوع الرحمة التي تجلى ال تعالى بها حين أخبر رسوله صلى ال عليه وسلم بخبر عبده
زكريا؟
قالوا :لنها رحمة تتعلق بطلقة القدرة في الكون ،وطلقة القدرة في أن ال تبارك وتعالى خلق
للمسبّبات أسبابا ،ثم قال للسباب :أنت لست فاعلة بذاتك ،ولكن بإرادتي وقدرتي ،فإذا أردتُك ألّ
تفعلي أبط ْلتُ عملك ،وإذا كنت ل تنهضين بالخير وحدك فأنا أجعلك تنهضين به.
ومن ذلك ما حدث في قصة خليل ال إبراهيم حين ألقاه الكفار في النار ،ولم يكن حظ ال بإطفاء
جعْل النار بَرْدا وسلما على إبراهيم أن يُنجي إبراهيم؛ لنه كان من
النار عن إبراهيم ،أو ب َ
الممكن ألّ يُمكّنَ خصوم إبراهيم عليه السلم من القبض عليه ،أو يُنزِل مطرا يُطفئ ما أوقدوه
من نار ،لكن ليست نكاية القوم في هذا ،فلو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم ،أو نزل المطر فأطفأ
النار لقالوا :لو كُنّا تمكنّا منه لفعلنا كذا وكذا ،ولو لم ينزل المطر لفعلنا به كذا وكذا.
إذن :شاءت إرادة ال أنْ تكيد هؤلء ،وأن تُظهِر لهم طلقة القدرة اللهية فتُمكّنهم من إبراهيم
حتى يلقوه في النار فعلً ،ثم يأتي المر العلى من الخالق سبحانه للنار أن تتعطل فيها خاصية
الحراق {:قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء.]69 :
وكذلك في قصة رحمة ال لعبده زكريا تعطينا دليلً على طلقة القدرة في مسألة الخَلْق ،وليلفتنا
إلى أن الخالق سبحانه جعل للكون أسبابا ،فمَنْ أخذ بالسباب يصل إلى المسبّب ،ولكن إياكم أنْ
تُفتَنوا في السباب؛ لن الخالق سبحانه قد يعطيكم بالسباب ،وقد يُلغيها نهائيا ويأتي بالمسبّبات
دون أسباب.
وقد تجّلتْ طلقة القدرة في قصة َبدْء الخَلْق ،فنحن نعلم أن جمهرة الناس وتكاثرهم يتم عن
طريق التزاوج بين رجل وامرأة ،إل أن طلقة القدرة ل تتوقف عند هذه السباب والخالق
سبحانه يُدير خلقه على ُكلّ أوجه الخَلْق ،فيأتي آدم دون ذكر أو أنثى ،ويخلق حواء من ذكر
دون أنثى ،ويخلق عيسى من أنثى بدون ذكر.
فالقدرة اللهية ـ إذن ـ غير مُقيّدة بالسباب ،وتظلّ طلقة القدرة هذه في الخَلْق إلى أنْ تقومَ
الساعة ،فنرى الرجل والمرأة زوجين ،لكن ل يتم بينهما النجاب وتتعطل فيهما السباب حتى
ل نعتمد على السباب وننسى المسبّب سبحانه ،فهو القائل:
ت وَالَرْضِ َيخْلُقُ مَا َيشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ
سمَاوَا ِ
{ لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علِيمٌ قَدِيرٌ }[الشورى49 :ـ .]50
عقِيما إِنّهُ َ
ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ
يُ َزوّ ُ
وطلقة القدرة في قصة زكريا عليه السلم تتجلى في أن ال تعالى استجاب لدعاء زكريا في أنْ
ح َمةِ رَ ّبكَ عَبْ َدهُ َزكَرِيّآ { [مريم.]2 :
يرزقَه الولد .قال تعالىِ } :ذكْرُ رَ ْ
أي :رحمه ال ،لكن متى كانت هذه الرحمة؟
يقول الحق تبارك وتعالى } :إِذْ نَادَىا رَبّهُ {
()2236 /
خفِيّا ()3
إِذْ نَادَى رَبّهُ ِندَاءً َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنْ يذكره أمام الناس ،وليكون طليقا في الدعاء فيدعو ربه بما يشاء؛ لنه ربّه ووليه الذي يفزع
إليه .وإنْ كان الناس سيحزنون ويتضجرون إن سألتهم أدنى شئ ،فإن ال تعالى يفرح بك أن
سألته.
لكن لماذا أخفي زكريا دعاءه؟
دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد ،ولكن كيف يتحقق هذا المطلب وقد بلغ من الكبر عتيا وامرأته
عاقر؟ فكأن السباب الموجودة جميعها مُعطّلة عنده؛ لذلك توجه إلى ال بالدعاء :يا رب ل ملجأ
لي إل أنت فأنت وحدك القادر على خَرْق الناموس والقانون ،وهذا مطلب من زكريا جاء في
غير وقته.
أخفاه أيضا؛ لنه طلب الولد في وجود أبناء عمومته الذين سيحملون منهجه من بعده ،إلّ أنه لم
يأتمنهم على منهج ال؛ لن ظاهر حركتهم في الحياة غير متسقة مع المنهج ،فكيف يأمنهم على
منهج ال وهم غير مؤتمنين على أنفسهم؟ فإذا دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد ليرث النبوة من
بعده ،فسوف يغضب هؤلء من دعاء زكريا ويعادونه؛ لذلك جاء دعاؤه خفيا يُسِرّه بينه وبين
ربه تعالى.
سؤال آخر تنبغي الجابة عليه هنا :لماذا يطلب زكريا الولد في هذه السن المتأخرة ،وبعد أن بلغ
من الكبر عتيا ،وأصبحت امرأته عاقرا؟
لقد أوضح زكريا عليه السلم العلة في ذلك في اليات القادمة فقال {:يَرِثُنِي وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َيعْقُوبَ
}[مريم.]6 :
إذن :فالعِلّة في طلب الولد دينية َمحْضة ،ل يطلبه لمغْنَم دنيوي ،إنما شغفه بالولد أنه لم يأمن
القوم من بعده على منهج ال وحمايته من الفساد.
لذلك قوله( :يرثني) هنا ل يفهم منه ميراث المال كما يتصوره البعض؛ لن النبياء ل يورثون ،
كما قال النبي صلى ال عليه وسلم " نحن معاشر النبياء ل نورث ما تركناه صدقة " وبذلك
يخرج النبي من الدنيا دون أن ينتفع أحد من أقاربه بماله حتى الفقراء منهم.
فالمسألة مع النبياء خالصة كلها لوجه ال تعالى؛ لذلك قال بعدها {:وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ }[مريم:
]6أي :النبوة التي تناقلوها .فل يستقيم هنا أبدا أن نفهم الميراث على انه ميراث المال أو متاع
الدنيا الفاني.
ومن ذلك قوله تعالىَ {:ووَ ِرثَ سُلَ ْيمَانُ دَاوُودَ }[النمل ]16 :ففي أيّ شئ ورثه؟ أورثه في تركته؟
إذن :فما موقف إخوته الباقين؟ ل بد أنه ورثه في النبوة والملك ،فالمسألة بعيدة كل البعد عن
الميراث المادي.
ثم يقول الحق سبحانه أن زكريا عليه السلم قال } :قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ {
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2237 /
شقِيّا ()4
قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْل َعظْمُ مِنّي وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ َأكُنْ ِبدُعَا ِئكَ َربّ َ
هذا هو النداء ،أو الدعاء الذي دعا به زكريا عليه السلمَ { :ربّ إِنّي وَهَنَ ا ْل َعظْمُ مِنّي } [مريم:
]4ويرد في الدعاء أن نقول :يا رب .أو نقول :يا ال ،فقال زكريا (رب) أي :يا رب؛ لنه يدعو
بأمر يتعلق بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمن والكافر ،إنه يطلب الولد ،وهذا أمر يتعلق ببنية
الحياة وصلحها للنجاب ،وهذه من عطاء الرب سبحانه وتعالى ،وإن كانت العلقة في طلب الولد
إلهية ،وهي أنْ يحمل المنهج من بعد أبيه.
فكأن زكريا عليه السلم دعا ربه :يا ربّ يا مَنْ تعطي مَنْ آمن بك ،وتعطي مَنْ كفر ،يا مَنْ
ن عصى ،حاشاك أن تمنع عطاءك عمّن أطاعك ويدعو الناس إلى
تعطي مَنْ أطاع ،وتعطي مَ ْ
طاعتك.
أما الدعاء بال ففي أمور العبادة والتكليف.
ثم يُقدّم زكريا عليه السلم حيثيات هذا المطلبَ { :ربّ إِنّي وَهَنَ ا ْل َعظْمُ مِنّي } [مريم ]4 :والوَهَن
هو الضعف ،وقال { :وَهَنَ ا ْل َعظْمُ } [مريم ]4 :لن لكل شيء قواما في الصلبة والقوة ،فمثلً
الماء له قوام معروف والدّهْن له قوام ،واللحم له قوام ،والعصب والعظم وكل عناصر تكوين
النسان ،والعَظْم هو أقوى هذه الشياء ،وال َعظْم في بناء الجسم البشري مثل (الشاسيه) في لغة
العصر الحديث ،وعلى العظم يبنى جسم النسان من لحم ودم وعصب ،فإذا أصاب العظام ـ
وهي أقوى العناصر ـ ضعفٌ ووهنٌ فغيرها من باب َأوْلى.
لذلك ،فإن الرجل العربي حينما شكا الجدب والقحط ماذا قال؟ قال :م ّرتْ بنا سنون صعبة :فَسنة
أذابتْ الشحم ـ أي :بعد الجوع وعدم الطعام ـ وسنة أذهبت اللحم ـ أي :بعد أن أنهت الشحم ـ
وسنة محّت العظم.
فكأن العَظْم هو آخر مخزن من مخازن القوت في جسم النسان ساعة أن ينقطع عنه الطعام
والشراب .والعظم في هذه الحالة يُوجّه غذاءه للمخ خاصة؛ لنه ما دام في المخ بقية قبول حياة
فما حدث للجسم من تلف قابل للصلح والعودة إلى طبيعته ،إذن :فسلمة النسان مرتبطة
بسلمة المخ.
لذلك نجد الطباء في الحالت الحرجة يُركّزون اهتمامهم على سلمة المخ ،ويرتبون عليه حياة
ن توقف
النسان أو موته ،حتى إن توقف القلب فيمكنهم بالتدليك إعادته إلى حالته الطبيعية ،أما إ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المخ فهذا يعني الموت.
ي إل المصدر
فكأن نبي ال زكريا ـ عليه السلم ـ يقول :يا رب ضعف عظمي ،ولم َيعُدْ لد ّ
الخير لستقباء الحياة.
ولما كان العظم شيئا باطنا مدفونا تحت الجلد ،فهوحيثية باطنة ،فأراد زكريا عليه السلم أنْ يأتيَ
بحيثية أخرى ظاهرة بينة ،فأتى بأمر واضح { :وَاشْ َت َعلَ الرّ ْأسُ شَيْبا } [مريم ]4 :فشبّه انتشار
الشيب في رَأْسه باشتعال النار ،فالشعر البيض الذي يعلوه واضح كالنار.
والمتأمل في هذا التشبيه يجد أن النار أيضا تتغذى على الحطب وتظل مشتعلة لها لهب يعلو طالما
في الحطب الحيوية النباتية التي تمد النار ،فإذا ما انتهتْ هذه الحيوية النباتية في الحطب أخذت
النار في التضاؤل ،حتى تصير جَذْوة ل لَهبَ لها ثم تنطفىء.
واشتعال الرأس بالشيب أيضا دليل على ضعف الجسم ووَهَن قُوته؛ لن الشعر يكتسب لونه من
مادة مُلوّنة سوداء أو حمراء أو صفراء توجد في ُبصَيْلة الشعرة ،وتُمد الشعرة بهذا اللون،
وض ْعفُ الجسم يُضعِف هذه المادة تدريجيا ،حتى تختفي ،وبالتالي تخرج الشعرة بيضاء ،والبياض
ضعْف ال ُغدَد التي تفرز هذا اللون.
ضعْف الجسم و َ
ليس لونا ،إنما البياض عدم اللون نتيجة َ
لذلك ،نجد المترفين الذين يعنون كثيرا بشعرهم ويضعُون عليه المواد المختلفة أول ما يظهر
الشيب عندهم تبيض سوالفهم؛ لن السوالف عادة بعد أنْ يُهذّبها الحلق تأخذ أكبر قدر من المواد
الكاوية التي تؤثر على بُصيْلت الشعر وعلى هذه المادة الملونة ،والشعرة مثل النبوبة يسهل
توصيل هذه المواد منها خاصة بعد الحلقة مباشرة وما تزال الشعرة مفتوحة.
ن فيما مضى بسبب دعائي لك شقيا؛
شقِيّا { [مريم ]4 :أي :لم أكُ ْ
ثم يقول } :وَلَمْ َأكُنْ ِبدُعَآ ِئكَ َربّ َ
لني مُستجَابُ الدعوة عندك ،فكما أكرمتني سابقا بالجابة فلم أكُنْ شقيا بدعائك ،بل كنتُ سعيدا
بالجابة ،فل تُخلِف عادتك معي هذه المرة ،واجعلني سعيدا بأنْ تُجيبني ،خاصة وأن طلبي منك
طاعة لك ،فأنا ل أريد أنْ أخرج من الدنيا إلّ وأنا مطمئن على مَنْ يحمل المنهج ،ويقوم بهذه
المهمة من بعدي.
وأنت قد تدعو ال لمر تحبه ،فإذا لم ي ْأتِ ما تحبه ولم تحب حزنت وكأنك شقيت بدعائك ،وقد
يكون شقاءَ كذب ،لنك ل تدري الحكمة من المنع وعدم الجابة ،ل تدري أن ال تعالى يتحكم في
تصرفاتك.
وربما دعوْت بأمر تراه الخير من وجهة نظرك وفي علم ال أنه ل خَيْرَ لك فيه ،فمنعه عنك
وعدّل لك ما أخطأتَ فيه من تقدير الخير ،فأعطاك ربك من حيث ترى أنه منعك ،وأحسن إليك
من حيث ترى أنه حرمك ،لنك طلبتَ الخير من حيث تعلم أنت أنه خير ومنع ال من حيث يعلم
أن الخير ليس في ذلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خفْتُ
ثم يذكر زكريا عليه السلم عِلّة أخرى هي علة العِلَل وُلبّ هذه المسألة ،فيقول } :وَإِنّي ِ
ا ْل َموَاِليَ {
()2238 /
ك وَلِيّا ()5
خفْتُ ا ْل َموَاِليَ مِنْ وَرَائِي َوكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا َف َهبْ لِي مِنْ لَدُ ْن َ
وَإِنّي ِ
(الموَالِي) من الولء ،وهم أقاربه من أبناء عمومته ،فهم الجيل الثاني الذي سيأتي بعده ،ويخاف
أنْ يحملوا المنهج ودين ال من بعده؛ لنه رأى من سلوكياتهم في الحياة عدم أهليتهم لحمْل هذه
المهمة.
{ مِن وَرَآئِي } [مريم ]5 :سبق أن أوضحنا في سورة (الكهف) أن كلمة وراء تأتي بمعنى :خلف،
أو أمام ،أو بعد ،أو غير .وهنا جاءت بمعنى :من بعدي.
ثم يقولَ { :وكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا } [مريم ]5 :والعاقر هي التي ل تلد بطبيعتها بداية ،أو صارت
عاقرا بسبب بلوغها سِنّ اليأس مثلً .ونحن نعلم أن التكاثر والنجاب في الجنس البشري ينشأ من
ن وصفَ زكريا حاله من الضعف والكبر ،ثم يخبر عن زوجته بأنها
رجل وامرأة ،وقد سبق أ ْ
عاقرٌ ل تلد ،إذن :فأسباب النجاب جميعها مُعطلّة.
وقولهَ { :وكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرا } [مريم ]5 :أي :هي بطبيعتها عاقر ،وهذا أمر مصاحب لها ليس
طارئا عليها ،فلم يسبق لها النجاب قبل ذلك.
ثم يقولَ { :ف َهبْ لِي } [مريم ]5 :والهِبَة هي العطاء بل مقابل ،فالسباب هنا مُعطّلة ،والمقدمات
تقول :ل يوجد إنجاب؛ لذلك لم يقُلْ مثلً :أعطني؛ لن العطاء قد يكون عن مقابل ،أما في هذه
ن كنتَ ستعطيني الولد فهو هِبَة منك ل
الحالة فالعطاء بل مقابل وبل مقدمات ،فكأنه قال :يارب إ ْ
ح ْمدُ للّهِ الّذِي وَ َهبَ لِي عَلَى
أملك أسبابها؛ لذلك قال في آية أخرى عن إبراهيم عليه السلم {:الْ َ
سحَاقَ }[إبراهيم.]39 :
ل وَإِ ْ
سمَاعِي َ
ا ْلكِبَرِ إِ ْ
ولنا َوقْفة ومَلْحظ في قوله تعالى{ عَلَى ا ْلكِبَرِ }[إبراهيم ]39 :حيث قال المفسرون( :على) هنا
بمعنى (مع) و(على) ثلثة أحرف و(مع) حرفان ،فلماذا عدل الحق تبارك وتعالى عن الخفيف إلى
الثقيل؟ ل بد أن وراء هذه اللفظ إضافةً جديدة ،وهي أن (مع) تفيد المعية فقط ،أما (على) فتفيد
ل يوجد الولد ،لكن طلقة قدرتك أعلى
المعية والستعلء ،فكأنه قال :إن الكِبَر يا رب يقتضي أ ّ
من الكِبَر.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى {:وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َم ْغفِ َرةٍ لّلنّاسِ عَلَىا ظُ ْل ِمهِمْ }[الرعد ]6 :كأن الظلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقتضي أن يُعاقبوا ،لكن رحمة ال بهم ومغفرته لهم عََلتْ على استحقاق العقاب.
وقوله { :مِن لّدُ ْنكَ } [مريم ]5 :أي :من عندك أنت ل بالسباب (وَلِيا) أي :ولدا صالحا يليني في
حمْل أمانة تبليغ منهجك إلى الناس لِتسْلَم لهم حركة الحياة.
َ
ثم يقول { :يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ }
()2239 /
سبق أن أوضحنا أن الميراث هنا ل يُراد به ميراث المال؛ لن النبياء ل يورثون ،وما تركوه من
حمْل منهج ال إلى
مال فهو صدقة من بعدهم ،إنما المراد هنا ميراث العلم والنبوة والملْك ،و َ
ف بقوله (يَرِثُنِي) بل قال { :يَرِثُنِي وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ } [مريم]6 :
الناس ،ونلحظ أنه لم يك َت ِ
فلستُ أنا القمة في الطاعة في آل يعقوب ،فهناك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ،وهذا
تواضع منه ومراعاة لقدار الرجال وإنزالهم منازلهم.
جعَ ْلهُ َربّ َرضِيّا } [مريم ]6 :أي :مرضيا عنه منك.
وقوله { :وَا ْ
ثم يقول الحق سبحانه { :يا َزكَرِيّآ إِنّا نُبَشّ ُركَ ِبغُلَمٍ }
()2240 /
سمِيّا ()7
ج َعلْ لَهُ مِنْ قَ ْبلُ َ
س ُمهُ يَحْيَى لَمْ نَ ْ
يَا َزكَرِيّا إِنّا نُبَشّ ُركَ ِبغُلَامٍ ا ْ
المتأمل لهذه القصة يجد هذه الية قد اختصرت من القصة ما يفهم من سياقها ثقةً في نباهة
السامع ،وأنه قادر على إكمال المعنى ،فكأن معنى الية :سمع ال دعاء زكريا وحيثيات طلبه،
فأجابه بقوله { :يا َزكَرِيّآ } [مريم.]7 :
وتوجيه الكلم إلى زكريا عليه السلم هكذا مباشرة دليلٌ على سرعة الستجابة لدعائه ،فجاءت
الجابة مباشِرة دون مُقدّمات.
ومثال ذلك :ما حكاه القرآن من قصة سليمان ـ عليه السلم ـ وبلقيس ،قال سليمان {:أَ ّي ُكمْ يَأْتِينِي
ك وَإِنّي
عفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن مّقَا ِم َ
سِلمِينَ * قَالَ ِ
شهَا قَ ْبلَ أَن يَأْتُونِي مُ ْ
ِبعَرْ ِ
عَلَيْهِ َل َق ِويّ َأمِينٌ * قَالَ الّذِي عِن َدهُ عِلْمٌ مّنَ ا ْلكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ فََلمّا رَآهُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكُرُ أَمْ َأ ْكفُرُ }[النمل38 :ـ ]40فبيْنَ قوله {:قَ ْبلَ
مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ قَالَ هَـاذَا مِن َفضْلِ رَبّي لِيَبُْلوَنِي أَأَ ْ
أَن يَرْتَدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ }[النمل ]40 :وقوله {:رَآهُ مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ }[النمل ]40 :كلم يقتضيه سياق
القصة ،كأن نقول :فأذِن له فذهب وأتى بالعرش ،لكن جاء السلوب سريعا ليتناسب مع سرعة
الحدث في إحضار عرش بلقيس من مكانه.
وقوله { :إِنّا نُ َبشّ ُركَ } [مريم ]7 :البشارة :هي الخبار بما يسرّك قبل أن يجيء ليستطيل أمدَ
الفرح بالشيء السّار ،وقد يُبشرك مُساويك ويكذب في البُشْرى ،وقد تأتي الظروف والحداث
مُخالفة لما يظنه ،فكيف بك إذا بشّرك ال تعالى؟ ساعة أن تكون البشارة من ال فاعلم أنها حَقّ
وواقعٌ ل شكّ فيه.
سمُهُ َيحْيَىا } [مريم ]7 :أي :وسماه أيضا .ونحن نعلم أن للبشر اختيارات في
وقولهِ { :بغُلَمٍ ا ْ
َوضْع السماء للمسميات ،ولهم الحرية في ذلك ،فواحدة تُسمى ولدها (حرنكش) هي حرة،
والخرى تسمى ابنتها الزنجية (قمر) هي أيضا حرة.
إل أن الناس حين يُسمّون يتمنون في المسمّى مواصفات تَسرّ النفس وتقرّ العين ،فحين نُسمّي
سعيدا تفاؤلً بأن يكون سعيدا فعلً ،والسم ُوضِع للدللة على المسمى ،لكن ،أيملك هذا المتفائل
أن يأتي المسمى على َوفْق ما يحب ويتمنى؟ ل ،ل يملك ذلك ول يضمنه؛ لن هناك قوة أعلى
منه تتحكم في هذه المسألة ،وقد يأتي المسمّى على غير مُراده.
أما إذا كان الذي سمّى هو ال تعالى فلبد أن يتحقق السم في المسمّى ،وينطبق عليه ،ولبُدّ أنْ
سمّى الحق تبارك وتعالى ابن زكريا يحيى فل بُدّ أن تنطبق
سمّاه ،وقد َ
يتحقّق مراده تعالى في مَنْ َ
عليه هذه الصفة ،ويحيى فعل ضده يموت ،إذن :فهو سبحانه القادر على أن يُحييه ،لكن يحييه إلى
متى؟ وكم عاما؟ الحياة هنا والعيش يتحقق ولو بمتوسط العمار مثلً ،فقد أحياه وتحققت فيه صفة
الحياة.
ولذلك استدل أهل المعرفة من تسميته يحيى على أن ابن زكريا سيموت شهيدا ليظل حيا كما سماه
ال وقد كان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المِثْل أو النظير والشبيه ،فهذا يعني أنه لم يسبق يحيى واحد مثله في الصلح والتقوى ،فأين ـ
إذن ـ أبو النبياء إبراهيم عليه السلم؟ وأين إسماعيل وإسحق؟
فهذا المعنى وإن كان السياق يحتمله في غير هذا الموضع إل أنه ل يستقيم هنا؛ لن ال تعالى
جعل من قَبْل يحيى مَنْ هو أفضل من يحيى ،أو مثله على القل.
سمِيّا }[مريم ]65 :أي :هل هناك مَنْ تسمى باسمه تعالى؟
أما المعنى الخر فيكونَ {:هلْ َتعْلَمُ َلهُ َ
وهذا هو المعنى الذي يستقيم في قصة يحيى عليه السلم؛ لنه أول اسم وضعه الحق سبحانه على
ابن زكريا ،ولم يكن أحدٌ تسمى به من قبل ،أما بعده فقد انتشر هذا السم ،حتى قال
سمّيتُه َيحْيى ليحيى فلم يكُنْ لِردّ َقضَاءِ الِ فِيهِ سَبِيلُونقف هنا على آية من آيات ال في
الشاعر:و َ
التسمية ،حيث لم يجرؤ أحد حتى من الكفرة والملحدة الذين يجاهرون بإلحادهم ويعلنون إنكارهم
للخالق سبحانه ،لم يجرؤ أحدهم أن يسمى ولده (ال) ،وحرية اختيار السماء مكفولة ،وهذا إنْ َدلّ
فإنما يدلّ على أن كفرهم عناد ولَجَجٌ ،وأنهم غير صادقين في ُكفْرهم ،ويعلمون أن ال موجود؛
لذلك يخافون على أنفسهم وعلى أولدهم أنْ يُسمّوا بهذا السم.
سمِيا) في مسألة اللوهية تُؤخَذ على المعنيين ،أما في مسألة يحيى فل تحتمل إل
إذن :كلمة ( َ
المعنى الثاني.
سمّى (ال)
وَهبْ أن الحق سبحانه وتعالى استعرض السماء السابقة فلم يجد في الماضي من ُ
سمِيّا }[مريم]65 :؟ فلم يحدث بعد هذا التحدي أنْ يُسمّى أحد بهذا
فأعلنها تحدياَ {:هلْ َتعَْلمُ لَهُ َ
السم.
()2241 /
قَالَ َربّ أَنّى َيكُونُ لِي غُلَا ٌم َوكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ ا ْلكِبَرِ عِتِيّا ()8
لما سمع زكريا عليه السلم البشارة من ربه ،واطمأن إلى حصولها أغراه ذلك في أنْ يُوغل في
ل كوْنه قد بلغ من الكبر عتيا وامرأته
معرفة الوسيلة ،وكيف سيتم ذلك ،وتتحقق هذه البشارة حا َ
عاقر؟
لكن ماذا يقصد زكريا من سؤاله ،وهو يعلم تماما أن ال تعالى عالم بحاله وحال زوجه؟ الواقع أن
ن يقصد ذلك،
زكريا عليه السلم ل يستنكر حدوث هذه البشرى ،ول يستدرك على ال ،وحاشاه أ ْ
وإنما أطمعته ال ُبشْرى في أنْ يعرف الكيفية ،كما حدث في قصة موسى ـ عليه السلم ـ حينما
كلّمه ربه واختاره ،وأفرده بهذه الميزة فأغراه الكلم في أنْ يطلب الرؤيا ،فقالَ {:ربّ أَرِنِي أَنظُرْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إِلَ ْيكَ }[العراف.]143 :
وكما حدث في قصة ـ إبراهيم عليه السلم ـ لما قال لربهَ {:ربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِـي ا ْل َموْتَىا }
ن يعرف
[البقرة ]260 :وأبو النبياء ل يشكّ في قدرة ال تعالى على إحياء الموتى ،ولكنه يريد أ ْ
هذه الطريقة العجيبة ،فالكلم ليس في الحقيقة وجودا وعدما ،إنما في كيفية وجود الحقيقة ،والكلم
خلَ له بالوجود.
في الكيفية ل د ْ
فأخبره الحق سبحانه أن هذه المسألة ل تُقال إنما تُباشَر عمليا ،فأمره بما نعلم من هذه القصة:
وهو أن يحضر أربعة من الطير بنفسه ،ثم يضمهنّ إليه ليتأكد بنفسه من حقيقتها ،ثم أمره أنْ
يُقطّعهن أجزاء ،ثم يُفرّق هذه الجزاء على قمم الجبال ،ثم بعد ذلك ترك له الخالق سبحانه أنْ
عوَهُن بنفسه ،وأن يصدر المر منه فتتجمع هذه القطع المبعثرة وتدبّ فيها الحياة من جديد،
يدْ ُ
وهذا من مظاهر عظمته سبحانه وتعالى أنه لم يفعل ،بل جعل مَنْ ل يستطيع ذلك يفعله .ويقدر
عليه.
حمْل شيء يأتي بمَنْ يحمله له،
فإنْ كان البشر ُي َعدّون أثر قدرتهم إلى الضعفاء ،فمَنْ ل يقدر على َ
ن يقوم به ،ويظل هو ضعيفا ل يقدر على شيء ،أما الحق
ومَنْ يعجز عن عمل شيء يأتي بمَ ْ
سبحانه وتعالى فيُعدّي قوته بنفسه إلى الضعيف فيصير قويا قادرا على الفعل.
لمٌ } [مريم]8 :؟ سؤال عن الكيفية ،كما أن إبراهيم عليه السلم لما قال
فقوله { :أَنّىا َيكُونُ لِي غُ َ
له ربهَ {:أوَلَمْ ُت ْؤمِن }[البقرة]260 :؟ أي :بقدرتي على إحياء الموتى ،قال (بَلَى) أي :نعم أومن{
طمَئِنّ قَلْبِي }[البقرة ]260 :أي :الكيفية التي يتم بها الحياء.
وَلَـكِن لّ َي ْ
لمٌ } [مريم ]8 :يريد أن يُوثّق هذه البشرى
أو :أن زكريا عليه السلم بقوله { :أَنّىا َيكُونُ لِي غُ َ
ويُسجّلها ،كما َتعِد ولدك بأنْ تشتري له هدية فيُلِحّ عليك في هذه المسألة ليؤكد وَعْدك له ،ويستلذ
بأنه وَعْد مُحقّق ل شكّ فيه ،ثم يذكر زكريا حيثيات تعجّبه من هذا المر فيقول:
{ َوكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرا َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ ا ْلكِبَرِ عِتِيّا } [مريم.]8 :
عتيا :من عَتَا يعني طغى وتجبر وأفسد كثيرا ،والعُتُو :الكفر ،والعَتيّ :هو القوي الذي ل يُغالب؛
ضعْف ل
لذلك وصف الكِبَر الذي هو رمز للضعف بأنه عَ ِتيّ؛ لن ضعف الشيب والشيخوخة َ
يقدر أحد على مقاومته ،أو دفعه أبدا ،مهما احتال عليه بالدوية والعقاقير (والفيتامينات).
ويبدو أن مسألة الولد هذه كانت تشغل زكريا عليه السلم؛ وتُلِح عليه؛ لنه دعا ال كثيرا أنْ
ب لَ َتذَرْنِي فَرْدا وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ }[النبياء.]89 :
يرزقه الولد ،ففي موضع آخر يقولَ {:ر ّ
فزكريا عليه السلم يريد الولد الذي يَرِثه وهو موروث؛ لن ال تعالى خير الوارثين.
لكن يأتي الرد {:فَاسْتَجَبْنَا لَ ُه َووَهَبْنَا لَهُ َيحْيَىا وََأصْلَحْنَا َلهُ َزوْجَهُ }[النبياء ]90 :ونلحظ أنه
تعالى قبل أن يقول {:وََأصْلَحْنَا لَهُ َزوْجَهُ }[النبياء ]90 :التي ستنجب هذا الولد ،قالَ {:ووَهَبْنَا لَهُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يَحْيَىا }[النبياء ]90 :فصلح الزوجَة ليس شرطا في تحقّق هذه البشرى وحدوث هذه الهبة.
وهنا مظهر من مظاهر طلقة القدرة اللهية التي ل يُعجِزها شيء ،فهو سبحانه قادر على إصلح
هذه الزوجة العاقر ،فالصنعة اللهية ل تقف عند حَدّ ،كما لو تعطّل عندك أحد الجهزة مثلً
فذهبتَ به إلى الكهربائي لصلحه فوجد التلفَ به كبيرا ،فينصحك بترْكه وشراء آخر جديد ،فل
حيلةَ في إصلحه.
لذلك أصلح ال تعالى لزكريا زوجه حتى ل نظنّ أن يحيى جاء بطريقة أخرى ،والزوجة ما تزال
على حالها.
ثم يقول الحق } :قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ {
()2242 /
(قَالَ) أي :الحق تبارك وتعالى { كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ } [مريم ]9 :أي :أنه تعالى قال ذلك وقضى به،
فل تناقش في هذه المسألة ،فنحن أعلَم بك وما أنتَ فيه من كِبَر ،وأن زوجتك عاقر ،ومع ذلك
سأهبك الولد.
وقوله تعالىُ { :هوَ عََليّ هَيّنٌ } [مريم ]9 :وفي آية أخرى يقول في آية البعث {:وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ }
[الروم ]27 :فل تظن أن المر بالنسبة ل تعالى فيه شيء هَيّن وشيء أَ ْهوَن ،وشيء شاقّ،
فالمراد بهذه اللفاظ تقريب المعنى إلى أذهاننا.
والحق سبحانه يخاطبنا على كلمنا نحن وعلى منطقنا ،فالخَلْق من موجود أهون في نظرنا من
ل ّولِ َبلْ ُهمْ فِي لَبْسٍ مّنْ
قاَ
الخلق من غير موجود ،كما قال الحق سبحانه تعالىَ {:أ َفعَيِينَا بِالْخَ ْل ِ
جدِيدٍ }[ق.]15 :
خَ ْلقٍ َ
صعْب وأصعب ،لن هذه تُقال
سهَل أو َ
سهْل وأ ْ
إذن :فمسألة اليجاد بالنسبة له تعالى ليس فيها َ
ن يعمل العمال علجا ،ويُزوالها مُزَاولة ،وهذا في إعمالنا نحن البشر ،أما الحق تبارك وتعالى
لمَ ْ
فإنه ل يعالج الفعال ،بل يقول للشيء كُنْ فيكون {:إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ َلهُ كُن
فَ َيكُونُ }[يس.]82 :
ل وَلَمْ َتكُ شَيْئا } [مريم ]9 :فلن
لقْوى ،فيقولَ { :وقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْب ُ
ثم يُدلّل الحق سبحانه وتعالى با َ
يوجد يحيى من شيء أقلّ غرابة من أن أوجد من لشيء .ثم يقول الحق سبحانه { :قَالَ َربّ
جعَل لِي آ َيةً }
اْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2243 /
سوِيّا ()10
ج َعلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَ ُتكَ أَلّا ُتكَلّمَ النّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ َ
قَالَ َربّ ا ْ
(آية) أي :علمة على أن امرأته قد حملتْ في يحيى ،وكأن زكريا عليه السلم يتعجل المور ول
ظلّ هذه النعمة ،وكأنها واقع ل ينفكّ لسانه
صبرَ له طوال تسعة أشهر ،بل يريد أن يعيش في ِ
حامدا شاكرا عليها ،وتظل النعمة في باله رغم أن ولده ما يزال جنينا في بطن أمه.
سوِيّا } [مريم ]10 :علمتك َألّ ُتكَلّم الناس ثلث
لثَ لَيَالٍ َ
فيجيبه ربه { :آيَ ُتكَ َألّ ُتكَلّمَ النّاسَ ثَ َ
ليال و(أَلّ) ليست للنهي عن الكلم ،بل هي إخبار عن حالة ستحدث له دون إرادته ،فل يكلم
الناس مع سلمة جوارحه ودون عِلّة تمنعه من الكلم ،كخرس أو غيره.
سوِيّا } [مريم ]10 :أي :سليما مُعاَفىً ،سويّ التكوين ،ل نقص فيك ،ول
لثَ لَيَالٍ َ
لذلك قال { :ثَ َ
قصور في جارحة من جوارحك .وهكذا ل يكون عدم الكلم عَيْبا ،بل آية من آيات ال.
ي وأمر شرعي ،المر الكونيّ هو ما يكون وليس لك فيه اختيار في ألّ
وهناك فَرْق بين أمر كون ّ
يكون ،والمر الشرعيّ ما لك فيه اختيار من الممكن أن تطعيه فتكون طائعا ،أو تعصيه فتكون
عاصيا.
وهذا الذي حدث لزكريا أمر كوني ،وآية من ال ل اختيار له فيها ،وكأن الحق سبحانه يعطينا
الدليل على أنه يوجد مِنْ ل مظنّة أسباب ،وقد يبقي السباب سليمة صالحة ول يظهر المسبّب،
فاللسان هنا موجود ،وآلت النطق سليمة ،ولكنه ل يقدر على الكلم.
فتأمل طلقة القدرة ،فقد شاء سبحانه لزكريا الولد بغير أسباب ،وهنا منع مع وجود السباب ،فكل
اليتين سواء في قدرته تعالى ومشيئته.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :فخَرَجَ عَلَىا َق ْومِهِ }
()2244 /
فَخَرَجَ عَلَى َق ْومِهِ مِنَ ا ْل ِمحْرَابِ فََأ ْوحَى إِلَ ْي ِهمْ أَنْ سَبّحُوا ُبكْ َر ًة وَعَشِيّا ()11
إذن :حدثتْ هذه المسألة لزكريا وهو في (المحرَابِ) أي :مكان العبادة والصلة ،وعاد ًة ما يكون
مرتفعا على شرف عما حوله ،وكان مصلى النبياء والصالحين ،وسُمي محرابا لنه يحارب فيه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشيطان بكيْده ووسوسته .وقد ذُكر المحراب أيضا في قصة داود عليه السلم {:وَ َهلْ أَتَاكَ نَبَأُ
سوّرُواْ ا ْل ِمحْرَابَ }[ص.]21 :
صمِ إِذْ َت َ
خ ْ
الْ َ
وقد وردتْ هذه اللقطة من قصة زكريا عليه السلم في آية أخرى دَّلتْ أيضا على أن البشارة
بيحيى كانت وهو في محرابه ،حيث قال تعالى {:فَنَادَ ْتهُ ا ْلمَل ِئكَ ُة وَ ُهوَ قَائِمٌ ُيصَلّي فِي ا ْلمِحْرَابِ أَنّ
اللّهَ يُ َبشّ ُركَ بِيَحْيَـىا ُمصَدّقا }[آل عمران.]39 :
ي ومعنى شرعي ،الوحي
وقوله تعالى { :فََأوْحَىا إِلَ ْيهِمْ } [مريم ]11 :قلنا :إن الوَحْي له معنى ُلغَو ّ
لُغةً :الخبار بطريق خفيّ .وعلى هذا المعنى يأتي الوحي بطرق متعددة ،فال تعالى يُوحِي للرسل
والنبياء ،ويُوحي لغير الرسل من المصطفين ،كما في قوله تعالى {:وََأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأمّ مُوسَىا أَنْ
ضعِيهِ }[القصص ]7 :أي :أخبرها بطريق خفيّ ،هو طريق اللهام.
أَ ْر ِ
ويُوحِي إلى الملئكة {:إِذْ يُوحِي رَ ّبكَ ِإلَى ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ }[النفال.]12 :
حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي }[المائدة:
ويُوحِي للصالحين من أتباع الرسل {:وَِإذْ َأوْحَ ْيتُ إِلَى الْ َ
.]111
حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتا َومِنَ
ويتعدّى العلم بخفاء إلى الحشرات {:وََأوْحَىا رَ ّبكَ ِإلَىا النّ ْ
الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْ ِرشُونَ }[النحل.]68 :
ت الَ ْرضُ
ج ِ
بل يتعدّى الوحي إلى الجماد في قوله تعالى {:إِذَا ُزلْزَِلتِ الَ ْرضُ زِلْزَاَلهَا * وََأخْرَ َ
ل الِنسَانُ مَا َلهَا * َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ َأخْبَارَهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة1 :ـ .]5
أَ ْثقَاَلهَا * َوقَا َ
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َق ْولِ غُرُورا }
وقد يُوحي الشياطين بعضهم إلى بعض {:يُوحِي َب ْع ُ
[النعام.]112 :
ويُوحون إلى أوليائهم {:وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُمْ }[النعام ]121 :لن
الشيطان ل يأتي النسان إل بطريق خفيّ ،ووسوسة في خواطره.
أما الوحي الشرعي فهو إعلم من ال وحده إلى نبي يدّعي النبوة ومعه معجزة ،إذن فالوحي:
إعلم خفيّ من ال للرسول.
فقوله تعالى { :فََأوْحَىا إِلَ ْيهِمْ } [مريم ]11 :أي :قال لهم بطريق الشارة؛ لنه ل يتكلم { أَن
سَبّحُواْ ُبكْ َر ًة وَعَشِيّا } [مريم ]11 :بُكرة :أول النهار ،وعَشيا :آخره ،يعني :طوّقوا النهار بالتسبيح
بداية ونهاية .وكأن زكريا عليه السلم قد بدتْ عليه علمات الفرح والنبساط بالبُشْرى ،ورأى أن
شكْره ل وتسبيحه ل ينهض بهذه النعمة ،فأمر قومه أنْ يُسبّحوا ال معه ،ويشكروه معه على هذه
ُ
النعمة؛ لنها ل تخصّه وحده ،بل هي عامة لكل القوم.
خذِ ا ْلكِتَابَ }
ثم يقول تعالى { :يا َيحْيَىا ُ
()2245 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكْمَ صَبِيّا ()12
يَا يَحْيَى خُذِ ا ْلكِتَابَ ِب ُق ّوةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْ ُ
نلحظ أن الية الكريمة انتقلتْ بنا َنقْلة واسعة ،وط َوتْ فترة طويلة من حياة يحيى ـ عليه السلم
ـ فقد كان السياق يتحدث عنه وهو بُشْرى لوالده ،وهو ما يزال في بطن أمه جنينا ،وفجأة
يخاطبه وكأنه أصبح أمرا واقعا { :يايَحْيَىا خُذِ ا ْلكِتَابَ ِب ُق ّوةٍ } [مريم ]12 :فقد بلغ مبلغ الّنضْج،
وأصبح أهْلً لحمْل مهمة الدعوة ،إذن :المسألة مأخوذة مأخَذ الجدّ ،وهي حقيقة واقعة.
وقوله { :خُذِ ا ْلكِتَابَ } [مريم ]12 :أي :التوراة ،وفيها منهج ال الذي يُنظّم لهم حركة حياتهم
حفْظه وحِرْص على العمل به؛ لن العلم السماوي والمنهج
{ ِب ُق ّوةٍ } [مريم ]12 :أي :بأخلص في ِ
اللهي الذي جاءكم في التوراة ليس المراد أن تعلمه فقط بل وتعمل به.
ح ِملُ
حمَارِ َي ْ
حمِلُوهَا َكمَ َثلِ الْ ِ
حمّلُواْ ال ّتوْرَاةَ ُثمّ َلمْ يَ ْ
وإل فقد قال تعالى في بني إسرائيل {:مَ َثلُ الّذِينَ ُ
حمّلهم ال التوراة ،فلم يحملوها ولم يعملوا بها.
سفَارا }[الجمعة ]5 :فقد َ
أَ ْ
خذْ مثلً سفينة الفضاء التي
والقوة :هي الطاقة الفاعلة التي تدير دولب الحياة حركةً وسكونا ،و ُ
تنطلق إلى الفضاء الخارجي ،وتظل تدور فيه عدة سنوات وتتساءل :من أين لها بالوقود الذي
يُحرّكها طوال هذه المدة؟ والحقيقة أنها ل تحتاج:إلى وقود إل بمقدار ما يُخرِجها من مدار
الجاذبية الرضية ،فإذا ما خرجت من نطاق الجاذبية وهي متحركة تظل متحركة ول تتوقف إل
بقوة توقفها ،وكذلك الساكن يظل ساكنا إلى أنْ تأتيَ قوة تحركه.
سكِن المتحرك وتصده ،ومن ذلك ما نراه في السكك الحديدية
إذن :القوة إمّا أنْ تُحرّك الساكن أو تُ ْ
من مصدّات تُوقِف القطارات؛ لنك إنْ أردتَ أن توقف القطار تمنع عنه الوقود ،لكن يظل به قوة
دفع تحركه تحتاج إلى قوة معاكسة توقفه ،وهذا ما يسمونه قانون العطالة .يعني :إن كان الشيء
متحركا فيحتاج إلى قوة توقفه ،وإن كان ساكنا يحتاج إلى قوة تحركه.
ومن ذلك قانون القصور الذاتي الذي تعلمناه في المدارس ،وتلحظه إذا تحركتْ بك السيارة تجد
ن توقفتْ السيارة تحرّك جسمك
أن جسمك يندفع للخلف؛ لنها تحركتْ للمام وأنت ساكن ،فإ ْ
للمام لنها توقفت وأنت متحرك .إذن :هذه الشياء التي تتحرك في الكون أو الساكنة نتيجة قوة.
فقوله تعالى { :خُذِ ا ْلكِتَابَ ِب ُق ّوةٍ } [مريم ]12 :لن الكتاب فيه أوامر وفيه َنوَاهٍ ،يأمر بالخير
وينهاك عن الشر ،فإنْ أمركَ بالخير وأنت ل تفعله تحتاج إلى قوة َدفْع تدفعك إلى الخير ،وكأنك
كنتَ ساكنا تحتاج إلى قوة تحركك ،وإنْ نهاك عن الشر وأنت تفعله فأنت في حاجة إلى قوة
تمنعك وتوقف حركتك في الشر .والمنهج هو هذه القوة التي تُحرّكك إلى الخير وأنت ساكن،
وتُسكنك عن الشر وأنت متحرك.
ح ْك َم صَبِيّا } [مريم ]12 :الحكم :العلم والفهم للتوراة ،أو الطاعة
ثم يقول تعالى { :وَآتَيْنَاهُ الْ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن مبكرة؛ لن المسألة عطاء من ال ل يخضع للسباب،
والعبادة { ،صَبِيّا } [مريم ]12 :في سِ ّ
فجاء يحيى عليه السلم مُبكّر النضج والذكاء ،يفوق أقرانه ،ويسبق زمانه ،وقد أُثِر عنه وهو
صغير أنْ دعاه أقرانه للعب فقال لهم " :ما للعب خُِلقْنا ".
ثم يقول الحق تبارك وتعالىَ { :وحَنَانا مّن لّدُنّا }
()2246 /
ولن يحيى جاء إلى الدنيا حال كِبَر وضعف والديه ،وهو كطفل يحتاج مَنْ يشمله بالعطف
والحنان ،ويُعوّضه حنان الوالدين ،ويحتاج إلى مَنْ يُعلّمه ويُربّيه؛ لذلك تولّى الحق سبحانه وتعالى
هذه المهمة ،فهو سبحانه خالقه ومُسمّيه ومُتولّيه فوهبه حنانا منه سبحانه { مّن لّدُنّا } [مريم]13 :
من عندنا؛ لن طاقة الحنان عند الوالدين قد نضبتْ.
وقوله { :وَ َزكَاةً } [مريم ]13 :أي :طهارة من الذنوب وصفا َء نفْسٍ وبركة ،وهذه كلها نتيجة
التربية اللهية بمنهج ال الذي يرسم له حركته في الحياة :افعل كذا ول تفعل كذا.
{ َوكَانَ َتقِيّا } [مريم ]13 :أي :استجاب لهذا الحنان ،وأثمرت فيه هذه التربية فكان تقيا ،أي :مُنفذا
لوامر ال مُجتنبا لنواهيه ،وبذلك وقَى نفسه من صفات الجلل من ال تعالى.
وقلنا :إن التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما تتقيه مانعا يحميك ويبعدك عن إيذائه ،فنقول :اتقِ ال
واتقِ النار ،كيف ذلك ونحن نريد أن نصل إلى معيته سبحانه؟
نقول :اتق ال أي :اجعل بينك وبين صفات جلله وجبروته وقايةً تحميك من جبروته وجباريته
وقهره ،فلسْت مطيقا لدنى شيء من العذاب ،والنار من جنود ال ومظهر من مظاهر قهره،
فاتقاء النار جزء من اتقاء ال ،والوقاية التي تحميك من صفات الجبروت والجلل هي الطاعة
بامتثال الوامر والنواهي.
ثم يقول تعالى { :وَبَرّا ِبوَاِلدَيْ ِه وَلَمْ َيكُن }
()2247 /
عصِيّا ()14
وَبَرّا ِبوَالِدَيْ ِه وََلمْ َيكُنْ جَبّارًا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فرغم أن يحيى عليه السلم جاء أبويْه في حال كِبَرهما وضعفهما ،ولم يجد منهما الحنان الكافي
والتربية المناسبة ،ولم يشعر معهما بالُبوة الكاملة ،فكان دورهما في حياته ثانويا ،وحمايلهم عليه
عصِيّا
باهتة متواضعة ،مع هذا كله كان بارا بهما حانيا عليهما .وقال عنه أيضا { :وَلَمْ َيكُن جَبّارا َ
} [مريم.]14 :
وصفة الجبروت وصفة العصيان ل يُتصوّران من الولد على والديه ،إل حين يرى من أبيه
شرودا عنه وانصرافا عن رعايته ،وحين يرى من أمه انشغالً عن تربيته ،فهي تاركة له غير
مُراعية لحقه.
لذلك نرى صورا من هذا الجبروت ومن هذا العصيان ،ونسمع مَنْ يقسو على أمه وعلى أبيه؛
لنه لم يجد منهما العطف والحنان والرعاية ،فتقعطتْ بينهما أواصر البوة .ويبدو أن زكريا حكى
ي تقصير ،فكان بهما بارا
لولده ما حدث ،وقصّ عليه ِقصّته ،فتفهّم الولد دور والديه ونفى عنهما أ ّ
رحيما ،ولهما طائعا متواضعا.
لمٌ عَلَيْهِ َيوْ َم وُلِدَ }
ثم يقول الحق سبحانه { :وَسَ َ
()2248 /
()2249 /
وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مَرْ َيمَ إِذِ انْتَبَ َذتْ مِنْ أَهِْلهَا َمكَانًا شَ ْرقِيّا ()16
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقصة مريم في واقع المر كانت قبل قصة زكريا ويحيى؛ لن طلب زكريا للولد جاء نتيجة لما
سمعه من مريم حين سألها عن طعام عندها لم ي ْأتِ به ،وهو كافلها ومُتولّي أمرها ،فتعجب أنْ
يرى عندها رِزْقا لم يحمله إليها ،وهي مقيمة على عبادتها في محرابها ،فقال لها {:يامَرْيَمُ أَنّىا َلكِ
هَـاذَا قَاَلتْ ُهوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران.]37 :
وكأن هذا أول بداية قانون :من أين لك هذا؟ لكن عطاءه تعالى ل يخضع للسباب ،بل هو سبحانه
يرزق مَنْ يشاء متى شاء وبغير حساب.
طقَ مريم بهذه المقولة {:إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران:
وشاءتْ إرادة ال أن تن ِ
حمْل من غير
]37لنها ستُنبّه زكريا إلى شيء ،وستحتاجها أيضا مريم فيما بعد حينما تشعر بال َ
َزوْج ،فلن تعترض على هذا الوضع ،وستعلم أنه عطاءٌ من ال.
سعَة رحمته ،وهذا أمر ل يغيب
وكذلك نبّهتْ هذه الية زكريا ـ عليه السلم ـ إلى َفضْل ال و ِ
عن نبي ال ،ولكن هناك قضايا في النفس البشرية إل أنها بعيدة عن ُبؤْرة الشعور وبعيدة عن
الهتمام ،فإذا ما ُذكّر بها انتبه إليها؛ لذلك يقول الحق ـ سبحانه وتعالى {:هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ }
[آل عمران.]38 :
فما دام أن ال يرزق مَنْ يشاء بغير حساب ،فلماذا ل أدعو ال بولد صالح يحمل أمر الدعوة من
بعدي ،وطالما أن الرزق بغير حساب فلن يمعنه كِبَر السّنّ أو ال ُعقْم أو خلفه.
حتْ لزكريا بهذا الدعاء ،واستجاب ال لزكريا ورزقه يحيى؛ ليكون ذلك
إذن :فمريم هي التي أو َ
حمْلها ،وتردّ هذه المسألة إلىأن ال يرزق مَنْ يشاء بغير
مقدمة وتمهيدا لمريم ،فل تنزعج من َ
حساب ،وليكون ذلك إيناسا لنفسها واطمئنانا ،وإلّ فمن الممكن أن تلعبَ بها الظنون وتنتابها
الشكوك ،وتتصور أن هذا الحمْل نتيجة شيء حدث لم تشعر به ،أو كانت نائمة مثلً.
لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقطع عنها كل هذه الشكوك ،ويعطيها مقدمة تراها وتعايشها بنفسها
حمْل زوجة زكريا وهي عاقر ل تلِد.
في طعام لم يَ ْأتِ به أحد إليها ،وفي َ
قوله تعالى { :وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مَرْيَمَ } [مريم ]16 :الكتاب هو القرآن الكريم ،أي :اذكُر يا محمد
في كتاب ال الذي أوحاه إليك مما تذكر قصة مريم ،وقد سبق الحديث عن هذه القصة في سورة
(آل عمران) لما تكلم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ عن نَذْر أمها لما في بطنها لخدمة بيت المقدس،
ولم يكن يصلح لخدمة بيت المقدس إل الذكْران الذين يتحمّلون مشقة هذا العمل ،فلما وضعْتها أنثى
لم يوافق ظنّها إرادة ال ،ولم تستطع مريم خدمة البيت مكانا أفرغتْ نفسها لخدمته قِيما ،ودينا
حمْلً ،حتى إنها هجرتْ أهلها وذهبت إلى هذا المكان الذي اتخذته خُلْوة لها
حملتْ نفسها عليه َ
لعبادة ال بعيدا عن أعيُنِ الناس.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ختَ هَارُونَ }[مريم ]28 :ولذلك حدث
ومريم هي ابنة عمران ،وقد قال القرآن في خطابها {:ياأُ ْ
لَبْسٌ عند كثير من الناس ،فظنوها أخت نبي ال موسى بن عمران وأخت هارون أخي موسى
عليهما السلم.
والحقيقة أن هذه المسألة جاءتْ مصادفة اتفقتْ فيها السماء؛ لذلك لما ذهب بعض الصحابة إلى
اليمن قال لهم أهلها :إنكم تقولون :إن مريم هي أخت موسى وهارون ،مع أن بين مريم وعمران
أبي موسى أحد عشر جيلً!!
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أما ذكرتُمْ لهم أن الناس كانوا يتفاءلون بذكِر السماء
خاصة النبياء فيُسمّون على أسمائهم عمران ويسمون على أسمائهم هارون ".
حتى ذكروا أنهم في جنازة بعض العلماء سار فيها أربعة آلف رجل اسمهم هارون .إذن:
فالسماء هنا مصادفة ،فهي ابنة عمران ،لكن ليس أبا موسى ،وأخت هارون ،لكن ليس هو أخو
موسى.
وقد أفرد القرآن سورة كاملة باسم مريم وخصّها وشخّصها باسمها واسم أبيها ،وسبق أنْ أوضحنا
أن التشخيص في قصة مريم جاء لنها فذّة ومُفردة بين نساء العالم بشيء ل يحدث ولن يحدث إل
لها ،فهذا أمر شخصي لن يتكرر في واحدة أخرى من بنات حواء.
أما إنْ كان المر عاما يصح أنْ يتكرّر فتأتي القصة دون تشخيص ،كما في حديث القرآن عن
زوجة نوح وزوجة لوط كمثال للكفر ،وهما زوجتان لنبيين كريمين ،وعن زوجة فرعون كمثال
عقْر داره ،فالمراد هنا ليس الشخاص ،بل المراد بيان حرية
لليمان الذي قام في بيت الكفر وفي ُ
العقيدة ،وأن المرأة لها في السلم حريةٌ عقدية مستقلة ذاتية ،وأنها غيرُ تابعة في عقيدتها لحد،
سواء أكانت زوجة نبي أم زوجة إمام من أئمة الكفر.
وقوله تعالى } :إِذِ انتَ َب َذتْ مِنْ أَهِْلهَا َمكَانا شَ ْرقِيا { [مريم.]16 :
} انتَ َب َذتْ مِنْ أَهِْلهَا { [مريم ]16 :أي :ابتعدتْ عنهم ،من نبذ الشيء عنه أي أبعده ،فكأن أُنْسها ل
بالهل ،ولكن أُنْسها كان برب الهل ،والقرآن يقول } :مِنْ َأهِْلهَا { [مريم ]16 :ولم ي ُقلْ :من
الناس ،فقد تركتْ مريم أقرب الناس إليها وأحبّهم عندها وذهبت ،إلى هذا المكان.
} َمكَانا شَ ْرقِيا { [مريم ]16 :لكن شرقيّ أيّ شيء؟ فكل مكان يصح أن يكون شرقيا ،ويصح أن
يكون غربيا ،فهي ـ إذن ـ كلمة دائرة في كل مكان .لكن هناك عَلَم بارز في هذا المكان ،هو
بيت المقدس ،فالمراد إذن :شرقي بيت المقدس ،وقد جاء ابتعادها عن أهلها إلى هذا المكان
المقدس لتتفرغ للعبادة ولخدمة هذا المكان.
لكن ،لماذا اختارتْ الجهة الشرقية من بيت المقدس بالذات دون غيرها من الجهات؟ قالوا :لنهم
سمَة النور المادىْ الذي يسير الناس على هُدَاه فل يتعثرون،
كانوا يتفاءلون بشروق الشمس ،لنها ِ
وللنسان في سَيْره نوران :نور مادىّ من الشمس أو القمر أو النجوم والمصابيح ،وهو النور الذي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يظهر له الشياء من حوله ،فل تصطدم بما هو أقوى منه فيحطمك ول بأضعف منه فتحطمه.
وكذلك له نور من منهج ال يهديه في مسائل القيم ،حتى ل يتخبّط تائها بين دُروبها ،ومن ذلك
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }[النور ]35 :ثم يقول بعدها {:نّورٌ عَلَىا نُورٍ }[النور:
قوله تعالى {:اللّهُ نُورُ ال ّ
.]35
أي :نور السماء الذي ينزل بالوحي لهداية الناس.
()2250 /
سوِيّا ()17
حجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَ ْيهَا رُوحَنَا فَ َتمَ ّثلَ َلهَا بَشَرًا َ
خ َذتْ مِنْ دُو ِنهِمْ ِ
فَاتّ َ
الحجاب :هو الساتر الذي يحجب النسان عن غيره ويحجب غيره عنه ،فما فائدة أنْ تتخذ بينها
وبين أهلها سِتْرا بعد أن ابتعدتْ عنهم؟ نقول :انتبذتْ من أهلها مكانا بعيدا ،هذا في المكان ،إنما ل
ن يكونَ هناك مكينٌ آخر يسترها حتى ل يطّلع عليها أحد ،فهناك إذن مكان ومكين.
يمنع أ ْ
والحجاب قد يكون حجابا ُمفْردا فهو ساتر فقط ،وقد يكون حجابا مستورا بحجاب غيره ،فهو
حجاب مُركّب ،كما يصنع أهل الترف الن الستائر من طبقتين ،إحداهما تستر الخرى ،فيكون
ن لَ
ك وَبَيْنَ الّذِي َ
جعَلْنَا بَيْ َن َ
الحجاب نفسه مَسْتورا ،ومن ذلك قوله تعالى {:وَِإذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرآنَ َ
ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ حِجَابا مّسْتُورا }[السراء.]45 :
وقوله تعالى { :فَأَرْسَلْنَآ إِلَ ْيهَآ رُوحَنَا } [مريم.]17 :
كلمة الروح في القرآن الكريم لها إطلقات مُتعدّدة ،أولها الروح التي بها قِوام حياتنا المادية ،فإذا
س والحركة ،ودارت كل أجهزة الجسم ،وهذا
نفخَ ال الروح في المادة د ّبتْ فيها الحياة والحِ ّ
المعنى في قوله تعالى:
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي َف َقعُواْ َلهُ سَاجِدِينَ }[الحجر.]29 :
سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ
{ فَِإذَا َ
لكن ،هل هذه الحياة التي تسري في المادة بروح من ال هي الحياة المقصودة من خَلْق ال للخَلْق؟
قالوا :إنْ كانت هذه الحياة هي المقصودة فما أهونها؛ لن النسان قد يمرّ بها ويموت بعد ساعة،
أو بعد يوم ،أو بعد سنة ،أو عدة سنوات.
إذن :هي حياة قصيرة حقيرة هيّنة ،هي أقرب إلى حياة الديدان والهوام ،أما النسان الذي كرّمه
ال وخلق الكون من أجله فل بُدّ أن تكون له حياة أخرى تناسب تكريمَ ال له ،هذه الحياة الخرى
الدائمة الباقية يقول عنها القرآن {:وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت:
.]64
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ } أي :الحياة الحقيقية ،أما حياتك الدنيا فهي مُهدّدة بالموت حتى لو بلغتَ من الكبر
عتيا ،فنهايتك إلى الموت ،فإنْ أردتَ الحياة الحقيقية التي ل يُهدّدها موت فهي في الخرة.
فإذا كان الخالق ـ تبارك وتعالى ـ جعل لك روحا في الدنيا تتحرك بها وتناسب ُمدّة بقائك فيها،
ألَ يجعل لك في الخرة رُوحا تناسبها ،تناسب بقاءها وسَرْمديتها ،والقرآن حينما يتحدث عن هذه
الروح يقول للناس {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ }[النفال]24 :
فكيف يدعوهم لما يُحييهم ويُخاطبهم وهم أحياء؟ نعم ،هم أحياء الحياة الدنيا ،لكنه يدعوهم إلى
حياة أخرى دائمة باقية ،أما مَنْ لم يستجب لهذا النداء ويسعى لهذه الحياة فلن يأخذ إل هذه الحياة
القصيرة الفانية التي ل بقاءَ لها.
وكما سمّى ال السّرّ الذي ينفخه في المادة فتدبّ فيها الحركة والحياة " روحا " ،كذلك سمّى القيم
التي تحيا بها النفوس حياة سعيدة " روحا " ،كما قال تعالى:
{ َوكَذَِلكَ َأ ْوحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا }[الشورى ]52 :أي :القرآن الكريم.
لمِينُ }[الشعراء ]193 :وهو جبريل
حاَ
سمّى الملَك الذي ينزل بالروح رُوحا {:نَ َزلَ ِبهِ الرّو ُ
كما َ
عليه السلم.
إذن :فقوله تعالى } :فَأَرْسَلْنَآ إِلَ ْيهَآ رُوحَنَا { [مريم ]17 :أي :جبريل عليه السلم } .فَ َتمَ ّثلَ َلهَا بَشَرا
سوِيّا { [مريم ]17 :معنى تمثّل :أي :ليستْ هذه حقيقته ،إنه تمثّل بها ،أما حقيقته فنورانية ذات
َ
صفات أخرى ،وذات أجنحة مَثْنى وثُلَث ورُبَاع ،فلماذا ـ إذن ـ جاء المَلكُ مريمَ في صورة
بشرية؟
خفْية ،وكذلك يستحيل أنْ يلتقيَ المَلكُ بملكتيه مع
لنهما سيلتقيان ،ول يمكن أنْ يتمّ هذا اللقاء ُ
ن يتصوّر
البشر ببشريته ،فلكل منهما قانونه الخاص الذي ل يناسب الخر ،ولبُدّ في لقائهما أ ْ
الملَك في صورة بشر ،أو يُرقّى البشر إلى صفات الملئكة ،كما رُقي محمد صلى ال عليه وسلم
إلى صفات الملئكة في حادثة السراء والمعراج ،ول يتم اللتقاء بين الجنسين إل بهذا التقارب.
لذلك ،لما طلب الكفار أن يكون الرسول ملَكا َردّ عليهم الحق تبارك وتعالى {:قُل َلوْ كَانَ فِي
سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء.]95 :
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َي ْمشُونَ ُم ْ
جعَلْنَاهُ َرجُلً وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا َيلْبِسُونَ }[النعام ]9 :إذن :ل يمكن أن
جعَلْنَاهُ مَلَكا لّ َ
وقال {:وََلوْ َ
يلتقي المَلكُ بالبشر إل بهذا التقارب.
جاء جبريل ـ عليه السلم ـ إلى مريم في صورة بشرية لتأنس به ،ول تفزع إنْ رأتْه على
سوِيّا { [مريم.]17 :
صورته الملئكية } فَ َتمَ ّثلَ َلهَا بَشَرا { [مريم ]17 :أي :من جنسها } َ
ت أعضاؤه وتناسقتْ على أجمل ما يكون البشر ،فل
أي :سويّ الخِلْقة والتكوين ،وسيما ،قد انسجم ْ
يعيبه كِبَر جبهته أو أنفه أو فمه ،كما نرى في بعض الناس.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا كله ليناس مريم وطمأنينتها ،وأيضا ليثبت أنها العذراء العفيفة؛ لنها لما رأت هذا الفتى
الوسيم القَسِيم ما أبدتْ له إعجابا ول تلطفتْ إليه في الحديث ،ول نطقتْ بكلمة واحدة يُفهَم منها
حمَـانِ {
مَيْل إليه ،بل قالت كما حكى القرآن } :قَاَلتْ إِنّي أَعُوذُ بِالرّ ْ
()2251 /
()2252 /
قَالَ إِ ّنمَا أَنَا رَسُولُ رَ ّبكِ لِأَ َهبَ َلكِ غُلَامًا َزكِيّا ()19
قال { :رَسُولُ رَ ّبكِ } [مريم ]19 :ولم يقلْ رسول ال؛ لن الربّ هو المتولّي للتربية الذي يُحسِنها
ويصونها من الفساد ،فعطاء الربوبية عطاء ماديّ ،أما عطاء اللوهية فهو عطاء معنوي قِيَمي هو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العبادة ،فأنا رسول ربك الذي يتولّك ويرعاك ويحرسك فل تخافي.
وقوله { :لَ َهبَ َلكِ } [مريم ]19 :يفهم منه أن ما سيحدث لمريم هبة من ال غير خاضعة للسباب
حضَة ،فقد قلنا في قصة زكريا ويحيى أن ال تعالى
التكوينية ،فالهبة في هذه الحالة هبة حقيقية مَ ْ
وهب يحيى لزكريا حال كونه كبير السّن وامرأته عاقر ،لكن على أية حال فالجهازان موجودان:
الذكورة والنوثة ،لكن في حالة مريم فهي أنثى بل ذكر ،فهنا الهِبَة المحضة ،والمعجزة الحقيقية.
وقوله { :غُلَما َزكِيّا } [مريم ]19 :أي مُنقّى مُطهّر صافي الخِلْقة.
ثم يقول الحق سبحانه عن مريم { :قَاَلتْ أَنّىا َيكُونُ لِي }
()2253 /
قَاَلتْ أَنّى َيكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ َيمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ َأكُ َبغِيّا ()20
(أَنّى) استفهام عن الكيفيات التي يمكن أن تتم بها هذه المسألة ،وتعجّب كيف يحدث ذلك.
سسْنِي } [مريم ]20 :المسّ هنا كناية وتعبير مُهذّب عن النكاح ،وقد نفتْ السيدة مريم
وقولهَ { :يمْ َ
كل صور اللقاء بين الذكر والنثى حين قالت { :وَلَمْ َي ْمسَسْنِي بَشَ ٌر وَلَمْ َأكُ َبغِيّا } [مريم]20 :
فالتقاء الذكر بالنثى له وسائل :الوسيلة الولى :هي الزواج الشرعي الذي شرعه ال لعباده
حفْظ النسل ،وهو إيجاب وقبول ،وعقد وشهادة ،وهذا هو المسّ الحلل.
للتكاثر و ِ
غصْبا عنها .وقد نفتْ مريم
الوسيلة الثانية :أنْ يتم هذه اللقاء بصورة محرمة بموافقة النثى أو َ
سسْنِي بَشَرٌ } [مريم ]20 :ل في الحلل ،ول في
عن نفسها كل هذه الوسائل فقالت { :وَلَمْ َيمْ َ
الحرام ،وأنا بذاتي { لَمْ َأكُ َبغِيّا } [مريم ]20 :إذن :فمن أين لي بالغلم؟
وكلمة :مسّ جاءتْ في القرآن للدللة على الجماع ،كما في قوله تعالى {:لّ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِن طَّلقْتُمُ
النّسَآءَ مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ }[البقرة ]236 :فالمراد بالمسّ هنا الجماع ،لذلك فقد فسر المام أبو حنيفة
لمَسْتُمُ النّسَآءَ }[النساء ]43 :بأنه الجماع؛ لن القرآن أطلق المسّ ،وأراد به النكاح،
قوله تعالىَ {:
س فعل من طرف واحد ،أما الملمسة فهي ُمفَاعلة بين اثنين ،فهي من باب َأوْلَى تعني:
والم ّ
جامعتم.
وقولها { :وَلَمْ َأكُ َبغِيّا } [مريم ]20 :الب ِغيّ :هي المرأة التي تبغي الرجال .وال ِبغَاء :هو الزنا،
وال َبغِيّ :التي تعرض نفسها على الرجال وتدعوهم ،وربما تُكرههم على هذه الجريمة.
وقولهاَ { :بغِيّا } [مريم ]20 :مبالغة في ال َبغْي وهو الظلم ،واختارتْ صيغة المبالغة َب ِغيّ ولم ت ُقلْ
باغية؛ لن باغية تتعلق بحقوق ما حول العِرْض ،أما العتداء على العِرْض ذاته فيناسبه المبالغة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في هذا الفعل.
ثم يقول الحق سبحانه { :قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ }
()2254 /
كما قال الحق سبحانه لزكريا حينما تعجب أن يكون له ولد {:قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ }[مريم ]9 :أي:
أنا أعرف ما أنت فيه من كِبَر السن ،وأن امرأتك عاقر ل تلِد ،لكن المر جاء من ال وصدر
حكمه ،وهو وحده الذي يملك التنفيذ ،فَِلمَ التعجب إذن؟
وهنا نجد بعض المتورّكين على القرآن يعترضون على قوله تعالىَ ( :كذَِلكَ) بالفتح في قصة
زكريا وبالكسر في قصة مريم (كذلكِ) ،والسياق والمعنى واحد ،وأيّهما أبلغ من الخرى ،وإنْ
كانت أحدهما بليغة فالخرى غير بليغة؟
وهذا العتراض منهم ناتج عن قصور َفهْمهم لكلم ال ،فكلمة (كذلك) عبارة عن ذا اسم إشارة،
وكاف الخطاب التي تُفتح في خطاب المذكر ،وتُكسر في خطاب المؤنث.
وهنا أيضا قال( :ربك) أي :الذي يتولى تربيتك ورعايتك ،والذي يُربيه ربّه يربيه تربية كاملة
تعينه على أداء مهمته المرادة للمربّي.
وقولهُ { :هوَ عََليّ هَيّنٌ } [مريم ]21 :كما قال في مسألة البعث بعد الموت {:وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَ ْيهِ }
[الروم ]27 :فكلمة هيّن وأَ ْهوَن بالنسبة للحق ـ تبارك وتعالى ـ ل تُؤخَذ على حقيقتها؛ لن هَيّن
وأهوَنَ تقتضي صعب وأصعب ،وهذه مسائل تناسب ِف ْعلَ النسان في معالجته للشياء على َقدْر
طاقته وإمكاناته ،أما بالنسبة للخالق سبحانه فليس عنده هَيّن وأهون منه؛ لنه سبحانه ل يفعل
الفعال ُمعَالجةً ،ول يزاولها ،وإنما بقوله تعالى (كُنْ).
فالحق سبحانه يخاطبنا على َقدْر عقولنا ،فقولهُ { :هوَ عََليّ هَيّنٌ } [مريم ]21 :أي :بمنطقكم أنتم
إنْ كنت قد خَلقْتكم من غير شيء ،فإعادتكم من شيء موجود أمر هَيّن.
حمَةً مّنّا } [مريم.]21 :
جعَلَهُ آيَةً لّلْنّاسِ وَرَ ْ
ثم يقول تعالى { :وَلِ َن ْ
هل كان الغرض من خَلْق عيسى عليه السلم على هذه الصورة أن يُظهِر الحق سبحانه قدرته في
جعَلَهُ آ َيةً لّلْنّاسِ } [مريم ]21 :أي :أمرا
الخلق وطلقة قدرته فقط؟ ل ،بل هناك هدف آخر { وَلِ َن ْ
حسْن ،آية في الذكاء ،فالية
عجيبا ،يخرج عن مألوف العادة والسباب ،كما نقول :هذا آية في ال ُ
ل تُقال إل للشيء الذي يخرج عن معتاد التناول.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والية هنا أن الخالق ـ تبارك وتعالى ـ كما خلق آدم ـ عليه السلم ـ من غير أب أو أم،
وخلق حواء من غير أم ،خلق عيسى ـ عليه السلم ـ من أم دون أب ،ثم يخلقكم جميعا من أب
وأم ،وقد يوجد الب والم ول يريد ال لهما فيجعل مَنْ يشاء عقيما.
إذن :فهذا المر ل يحكمه إل إرادة المكوّن سبحانه .فالية للناس في إنْ يعلموا طلقة قدرته تعالى
في الخَلْق ،وأنها غير خاضعة للسباب ،وليستْ عملية ميكانيكية ،بل إرادة للخالق سبحانه أن يريد
أو ل يريد.
ن يوجد عيسى من أب
لكن ،أكانتْ الية في خَلْق عيسى عليه السلم َأمْ في أمه؟ كان من الممكن أ ْ
وأم ،فالية ـ إذن ـ في أمه ،إنما هو السبب الصيل في هذه الية؛ لذلك يقول تعالى في آية
أخرى:
جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَةً }[المؤمنون ]50 :فعيسى ومريم آية واحدة ،وليسا آيتين؛ لنهما ل
{ وَ َ
ينفصلن.
حمَةً مّنّا { [مريم ]21 :ووجْه الرحمة في خَلْق عيسى عليه السلم على هذه
ثم يقول تعالى } :وَ َر ْ
الصورة ،أنه سبحانه يرحم الناس من أنْ يشكّوا في أن قدرة ال منوطة بالسباب ومتوقفة عليها،
ولو كان هذا الشكّ مجرد خاطر ،فإنه ل يجوز ول يصحّ بالنسبة للخالق سبحانه ،وكأنه تبارك
وتعالى يرحمنا من مجرد الخواطر بواقع يؤكد أن طلقة القدرة تأتي في الخَلْق من شيء ،ومن
بعض شيء ،ومن ل شيء.
وقوله تعالىَ } :وكَانَ َأمْرا مّ ْقضِيّا { [مريم ]21 :أي :مسألة منتهية ل تقبل المناقشة ،فإياك أن
تناقش في كيفيتها؛ لن الكلم عن شيء في المستقبل إنْ كان من متكلم ل يملك إنفاذ ما يقول
فيمكن ألّ يتم مراده ليّ سبب من السباب كأن تقول :سأفعل غدا كذا وكذا ،ويأتي غد ويحول
بينك وبين ما تريد أشياء كثيرة ربما تكون خارجة عن إرادتك ،إذن :فأنت ل تملك ُكلّ عناصر
الفعل.
أما إذا كان الكلم من ال تعالى الذي يملك كل عناصر الفعل فإن قوله حَقّ وواقع ،فقال تعالى} :
َوكَانَ َأمْرا مّ ْقضِيّا { [مريم.]21 :
ولما تكلمنا عن تقسيمات الفعال بين الماضي الذي حدث قبل الكلم ،والمضارع الذي يحدث في
الحال ،أو في الستقبال قلنا :إن هذه الفعال بالنسبة للحق سبحانه تنحل عنها الماضوية والحالية
والستقبالية.
غفُورا رّحِيما }[الفتح ]14 :فهل كان الحق سبحانه غفورا رحيما في
فإذا قال تعالىَ {:وكَانَ اللّهُ َ
الماضي ،وليس كذلك في الحاضر والمستقبل؟ ل ،لن الحق سبحانه كان ول يزال غفورا رحيما،
فرحمتُه ومغفرتُه أزلية حتى قبل أنْ يوجدَ مَنْ يغفر له ومَنْ يرحمه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك جاء الفعل بصيغة الماضي ،فالصفة موجودة فيه سبحانه أزلً ،فهو سبحانه خالق قبل أن
خلْق خَلَقَ ،كما ضربنا مثلً لذلك :نقول فلن شاعر ،فهل هو شاعر لنه
يخلق الخَلْق وبصفة ال َ
قال قصيدة؟ أم قال القصيدة لنه شاعر ،وبالشعر صنع القصيدة؟ إذن :فهو شاعر قبل أن يقول
القصيدة ،ولول وجود الصفة فيه ما قال.
غفُورا رّحِيما }[الفتح ]14 :فقد
فالصفة ـ إذن ـ أزلية في الحق سبحانه ،فإذا قلتَ {:وكَانَ اللّهُ َ
ثبتتْ له هذه الصفة أزلً ،ولنه سبحانه ل يتغير ،ول يعارضه أحد فقد بقيتْ له ،هذا معنى :كان
ول يزال.
وهذه المسألة واضحة في استهلل سورة النحل {:أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ تَسْ َت ْعجِلُوهُ }[النحل ]1 :لذلك
وقف بعض المستشرقين أمام هذه الية ،كيف يقول سبحانه (أَتَى) بصيغة الماضي ،ثم يقول {:فَلَ
تَسْ َتعْجِلُوهُ }[النحل ]1 :أي :في المستقبل؟ نقول :لن قوله تعالى( :أتَى) فهذه قضية منتهية ل شكّ
فيها ول جدالَ ،فليس هناك قوة أخرى تعارضها أو تمنع حدوثها؛ لذلك جاءت بصيغة الماضي
وهي في الواقع أمر مستقبل.
حمَلَتْهُ فَانْتَ َب َذتْ ِبهِ {
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ف َ
()2255 /
()2256 /
فَأَجَا َءهَا ا ْلمَخَاضُ إِلَى جِ ْذعِ النّخْلَةِ قَاَلتْ يَا لَيْتَنِي ِمتّ قَ ْبلَ هَذَا َوكُ ْنتُ نَسْيًا مَنْسِيّا ()23
{ فََأجَآءَهَا } [مريم ]23 :الفعل جاء فلن .أي :باختياره و ِرضَاه ،إنما إجاءه فلن أي جاء به رغما
عنه ودون إرادته ،فكأن المخاض هو الذي ألجأها إلى جِذْع النخلة وحملها على الذهاب إلى هذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المكان رَغْما عنها { فََأجَآءَهَا } [مريم ]23 :أي :جاء بها ،فكأن هناك قوة خارجة عنها تشدّها إلى
هذا المكان.
والمخاض :هو اللم الذي ينتاب المرأة قبل الولدة ،وليس هو الطّلْق الذي يسبق نزول الجنين.
جذْع
ج ْذعِ النّخَْلةِ } [مريم ]23 :أوضح لنا عِلّة مجيئها إلى ِ
وقوله { :فَأَجَآءَهَا ا ْل َمخَاضُ إِلَىا ِ
النخلة؛ لن المرأة حينما يأتي وقت ولدتها تحتاج إلى ما تستند إليه ،وتتشبث به ليخفف عنها ألم
الوضع ،أو رفيقة لها تفزع إليها وتقاسمها هذه المعاناة ،فألجأها المخاض ـ إذن ـ إلى جذع
(النخلة) ،وجاءت النخلة مُعرّفة لنها نخلة معلومة معروفة.
وجذع النخلة :ساقها الذي يبدأ من الجذر إلى بداية الجريد ،فهل ستتشبث مريم عند وضعها بكل
هذه الساق؟ بالطبع ستأخذ الجزء القريب منها فقط ،وأُطلق الجذع على سبيل المبالغة ،كما في
صوَاعِقِ حَذَرَ ا ْل َموْتِ }[البقرة.]19 :
جعَلُونَ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِنهِم مّنَ ال ّ
قوله تعالى {:يَ ْ
ومعلوم أن النسان يسدّ أذنه بأطراف الصابع ل بأصابعه كلها ،فعبّر عن المعنى بالصابع مبالغةً
في كَتْم الصوت المزعج والصواعق التي تنزل بهم.
إذن :فالسيدة مريم أصبحت أمام أمر واقع وحمل ظاهر ل تستطيع إخفاءه ،ول تقدر على ستره،
فقد قبلتْ قبل ذلك أنْ يُبشّرها الملَك بغلم زكيّ ،وقبلتْ أنْ تحمل به ،فكيف بها الن وقد تحوّل
المر من الكلم إلى الواقع الفعلي ،وها هو الوليد في أحشائها ،وقد حان موعد ولدته؟
لبُدّ أن ينتابها نزوع انفعالي فالمر قد خرج عن نطاق السّتْر والتكتّم ،فإذا بها تقول { :يالَيْتَنِي
ِمتّ قَ ْبلَ هَـاذَا َوكُنتُ َنسْيا مّنسِيّا } [مريم ]23 :أي :تمنتْ لو ماتت قبل أن تقف هذا الموقف
العصيب ،مع أن الملك حين أخبرها من قبل بأن ال تعالى سي َهبُ لها غلما زكيا تعجبتْ قائلة{:
سسْنِي َبشَ ٌر وَلَمْ َأكُ َبغِيّا }[مريم.]20 :
ل ٌم وَلَمْ َيمْ َ
أَنّىا َيكُونُ لِي غُ َ
مجرد تعجّب وانفعال هادىء ،أما وقد أصبح المر ولدة حقيقية فل ُبدّ من فعل نزوعي شديد
ت الموتْ ،مع أن ال تعالى نهانا عن تمني الموت ،كما ورد
يُعبّر عما هي فيه من حَيْرة ،لذلك تمن ْ
في الحديث الشريف الذي يرشدنا إذا ضاقتْ بنا الحياة ألّ نتمنى الموت ،بل نقول " :اللهم أحْيني
ما كانت الحياة خيرا لي ،وتوفّني ما كانت الوفاة خيرا لي ".
وقلنا :إن تمني الموت المنهيّ عنه ما كان فيه اعتراض على َقدَر ال ،وتمرد على إرادته سبحانه،
كأنْ تكره الحياة والعيش إذا ضاق بك فتتمنى الموت ،أما أن تتمنى الموت لعلمك أنك ستصبر إلى
خير مما تركت فهذا أمر آخر.
وقد ورد في القرآن مسألة تمني الموت هذه في الكلم عن بني إسرائيل الذين قالوا :نحن أبناء ال
وأحباؤه ،وقالوا :لن تمسنا النار إل أياما معدودة ،وأن الدار الخرة لنا خالصة عند ال ،فبماذا َردّ
عليهم القرآن الكريم؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وال طالما أن المر كما تقولون ،والخرة لكم{ فَ َتمَ ّنوُاْ ا ْل َم ْوتَ إِن كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ }[البقرة ]94 :ثم
قرّر الحق سبحانه ما سيكون منهم فقال {:وَلَنْ يَ َتمَ ّن ْوهُ أَبَدا ِبمَا قَ ّد َمتْ أَيْدِيهِمْ }[البقرة.]95 :
جدَ ّنهُمْ َأحْ َرصَ النّاسِ عَلَىا حَيَاةٍ }[البقرة.]96 :
وقال عنهم {:وَلَتَ ِ
وما داما لن يتمنوا الموت ،وما داموا أحرصَ الناس على الحياة ،فل بُدّ أن حياتهم هذه التي
يعيشونها أفضل لديهم من الحياة الخرى.
فالمؤمن ـ إذن ـ ل يجوز أن يتمنى الموت هَربا من بلء أصابه أو اعتراض على َقدَرِ ال،
ويجوز له ذلك إنْ علم أنه صائر إلى أفضل ممّا هو فيه.
وقولها } :نَسْيا مّنسِيّا { [مريم ]23 :النسيّ :هو الشيء التافه الذي ل ُيؤْبَه به ،وهذا عادةً ما يُنْسَي
لعدم أهميته ،كالرجل الذي نسى عند صاحبه علبة كبريت بها عودان اثنان ،وفي الطريق تذكرها
فعاد إلى صاحبه يطلب ما نسيه ،وهكذا تمنتْ مريم أن تكون نسيا منسيا حتى ل يذكرها أحد.
ولم تكتفِ بهذا ،بل قالتَ } :نسْيا مّنسِيّا { [مريم ]23 :لن النسيّ :الشيء التافه الذي يُنسَي في
ي بقولها (منسيا) أي :ل يذكره
ذاته ،لكن رغم تفاهته فربما يجد مَنْ يتذكره ويعرفه ،فأكدت النس ّ
أحد ،ول يفكر فيه أحد.
ثم يقول الحق سبحانه } :فَنَادَاهَا مِن َتحْ ِتهَآ {
()2257 /
{ مِن َتحْ ِتهَآ } [مريم ]24 :فيها قراءتان (مِنْ ،مَنْ) صحيح أن جبريل عليه السلم ما زال موجودا
معها لكنه ليس تحتها ،فدلّ ذلك على أن الذي ناداها هو الوليد { َألّ تَحْزَنِي } [مريم ،]24 :وحزن
مريم منشؤه النقطاع عن الناس ،وأنها في حالة ولدة ،وليس معها مَنْ يسندها ويساعدها ،وليس
معها مَنْ يَحضِر لها لوازم هذه المسألة من طعام وشراب ونحوه.
ج َعلَ رَ ّبكِ
لذلك تعهّدها ربها تبارك وتعالى فوفّر لها ما يُقيتها من الطعام والشراب ،فقالَ { :قدْ َ
تَحْ َتكِ سَرِيّا } [مريم ]24 :والسريّ :هو النهر الذي يجري بالماء العَذْب الزّلل ،وثم يعطيها
ج ْذعِ }
الطعام المناسب لحالتها ،فيقول تعالى { :وَهُزّى إِلَ ْيكِ بِ ِ
()2258 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج ْذعِ النّخَْلةِ تُسَاقِطْ عَلَ ْيكِ رُطَبًا جَنِيّا ()25
وَهُزّي إِلَ ْيكِ بِ ِ
وهكذا وفّر الحق سبحانه وتعالى لمريم مقوّمات الحياة وعناصر استبقائها ،وهي مُرتّبة على حَسْب
ن يأكلَ،
أهميتها للنسان :الهواء والشراب والطعام ،والنسان يصبر على الطعام شهرا دون أ ْ
ن يقتاتَ على ما هو مخزون في جسمه من غذاء ،لكنه ل يصبر على الماء أكثر من
ويمكنه أ ْ
ثلثة أيام إلى عشرة أيام حسب ما في جسمه من مائية ،في حين ل يصبر على الهواء لحظة
ن يموتَ من كَتْم نفَسٍ واحد.
واحدة ،ويمكن أ ْ
لذلك ،من حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يُملّك الطعام كثيرا ،ويُملك الماء قليلً ،ول يُملّك الهواء
لحد أبدا ،لنك لو غضبتَ على أحد فمنعتَ عنه الهواء لمات قبل أنْ ترضى عنه ،إذن :فعناصر
استبقاء الحياة مرتبة حَسْب أهميتها في حياة النسان ،وقد ضمنها الحق سبحانه لمريم وجعلها في
متناول يدها وأغناها عن أنْ يخدمها أحد.
فالهواء موجود وهي في الخلء ،ثم الماء فأجري تحتها نهرا عذبا زللً ،ثم الطعام فقال:
{ وَهُزّى إِلَ ْيكِ ِبجِ ْذعِ النّخْلَةِ ُتسَاقِطْ عَلَ ْيكِ ُرطَبا جَنِيّا } [مريم ]25 :وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ
يريد أنْ يُظهِر لمريم آية أخرى من آياته ،فأمرها أنْ تهزّ جذع النخلة اليابس الذي ل يستطيع هَزّه
الرجل القويّ ،فما بالها وهي الضعيفة التي تعاني ألم الولدة ومشاقها؟
جهْد منها ودون هَزّها ،إنما أراد سبحانه
كما أن الحق سبحانه قادر على أنْ يُنزِل لها طعامها دون َ
أن يجمع لها بين شيئين :طلب السباب والعتماد على المسبب ،والخذ بالسباب في هَزّ النخلة،
رغم أنها متعبة قد أرهقها الحمل والولدة ،وجاء بها إلى النخلة لتستند إليها وتتشبث بها في
وحدتها لنعلم أن النسان في سعيه مُطَالب بالخذ بالسباب مهما كان ضعيفا.
ضعْفها وعدم قدرتها ،ثم تعتمد على المسبّب سبحانه الذي
لذلك أبقى لمريم اتخاذ السباب مع َ
أنزل لها الرّطَب مُسْتويا ناضجا ،وهل استطاعت مريم أنْ تهزّ الجذع الكبير اليابس؟
صوّر
ل على امتثال المر ،وال تعالى يتولى إنزال الطعام لها ،وقد َ
إنها مجرد إشارة إليه تد ّ
الشاعر هذا الموقف بقوله:أََلمْ تَرَ أنّ ال قَالَ لمرْيَم وَهُزّي إليك الج ْذعَ يَسّاقَط الرّط ْبوَإنْ شَاءَ
أعطَاهَا ومِنْ غير هَزّة ولكن ُكلّ شَيءٍ لَهُ سَبَبْوقوله { :تُسَا ِقطْ } مريم ]25 :أي :تتساقط عليك
{ ُرطَبا جَنِيّا } [مريم ]25 :أي :استوى واستحق أن يُجنى ،وليس مُبْتسرا قبل موعده ،ومن
الرّطَب ما يتساقط قبل ُنضْجه فل يكون صالحا للكل.
وقوله { :تُسَا ِقطْ عَلَ ْيكِ } [مريم ]25 :فيه دليل على استجابة الجماد وانفعاله ،وإل فالبلحة لم تخرج
طوْع أمها ،إذن :فقد ألقتْها طواعيةً واستجابة حين َتمّ نضجها.
عن َ
ثم يقول الحق سبحانهَ { :فكُلِي وَاشْرَبِي َوقَرّي }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2259 /
ج َعلَ
ونلحظ هنا أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ عند إيجاد القُوت لمريم جاء بالماء أولً ،فقال {:قَدْ َ
خلَةِ تُسَا ِقطْ عَلَ ْيكِ ُرطَبا
رَ ّبكِ تَحْ َتكِ سَرِيّا }[مريم ،]24 :ثم أتى بالطعام فقال {:وَهُزّى إِلَ ْيكِ ِبجِ ْذعِ النّ ْ
جَنِيّا }[مريم ]25 :لن الماء أوْلى من الطعام في احتياج النسان ،أما عند المر بالنتفاع قال:
{ َفكُلِي وَاشْرَبِي } [مريم ]26 :فبدأ بالطعام قبل الشراب ،لماذا؟ لن النسان عادةً يأكل أولً ،ثم
يشرب ،فالماء مع أهميته ،إل أنه يأتي في العادة بعد الطعام ،فسبحان مَنْ هذا كلمه.
وقولهَ { :وقَرّي عَيْنا } [مريم ]26 :بعد أن وفّر لها الحق سبحانه الطعام والشراب الذي هو ِقوَام
المادة ،وبه يتم استبقاء الحياة ،لكن بعد الطعام والشراب يبقى لديها حُزْن عميق وألم وحَيْرة ِممّا
هي فيه؛ لذلك يعطيها ربها تبارك وتعالى بعد القوت الذي هو قوام المادة يعطيها السكينة
والطمأنينة ويُخفّف عنها ألم النفس وحَيْرة الفؤاد.
{ َوقَرّي عَيْنا } [مريم ]26 :قرّي :أي :اسكني .وهذا التعبير عند العرب كناية عن السرور ،ومنه
قوله تعالى على لسان امرأة فرعون {:قُ ّرتُ عَيْنٍ لّي وََلكَ }[القصص.]9 :
والعرب تعبر ِبقُرّة العين وسكونها عن السرور؛ لن سكون العين على مَرَأىً واحد ل تتحول عنه
دليلٌ على أن العين صادفت مرأى جميلً تسعد به وتُسَرّ فل يُغني عنه مَر ْأىً آخر ،فتظل ساكنة
عليه ل تتحرك عنه.
وقد يستعمل هذه التعبير في المقابل أي :في الشر والدعاء على إنسان وتمني الشر له ،كالمرأة
التي دخلتْ على أحد الخلفاء فنهرَها فقالت له :أتمّ ال عليك نعمته وأقرّ عينك .فظنّ الحضور أنها
تدعو له ،لكنه فَطِن لمرادها ،فقال لجلسائه :ما فهمتم ما تقول ،إنها تقصد أتمّ ال عليك نعمته أي:
أزالها ،أما سمعتم قول الشاعر:إذَا َتمّ شَيءٌ َبدَا َن ْقصُه تر ّقبْ َزوَالً إذَا قِيلَ َتمْذلك لن النسان
بطبيعته ابن أغيار ،ل يثبت على حال ،فإذا ما وصل إلى القمة وتمتْ له النعمة ،وهو ابن أغيار
فل بُدّ أنْ يتحوّل عنها.
سكَنَها بالعمى.
وقولها :أقرّ ال عينك ،أي :أ ْ
فقوله تعالى لمريمَ { :وقَرّي عَيْنا } [مريم ]26 :أي :كوني سعيدة باصطفاء ال لك مسرورة بما
أعطاك ،فما تهتمين به وتحزنين هو عَيْن النعمة التي ليستْ لحد غيرك من نساء العالمين.
صوْما فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ
ن َ
حمَـا ِ
ثم يقول تعالى { :فَِإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ َأحَدا َفقُولِي إِنّي َنذَ ْرتُ لِلرّ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إِنسِيّا } [مريم.]26 :
وهنا يتولّى الحق سبحانه وتعالى الدفاع عن مريم وتبرير موقفها الذي ل تجد له هي مبررا في
عذْرا لمرأة تحمل وتلد دون أن يكون لها زوج؟ ومهما قالت فلن
أعراف الناس ،فَمنْ يلتمس ُ
تُصدّق ولن تسْلَم من ألسنة القوم وتجريحهم.
إذن :فجواب ما يكره السكوت ،فأمرها سبحانه أنْ تلزم الصمت ول تجادل أحدا في أمرها:
صوْما فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ إِنسِيّا } [مريم ]26 :والصوم هنا أي :عن
ن َ
حمَـا ِ
{ َفقُولِي إِنّي نَذَ ْرتُ لِلرّ ْ
الكلم ،كما حدث مثل هذا في قصة زكريا؛ لن المعجزات قريبة من بعضها ،فقد أعطى ال
زكريا مع عَطَب اللت ،وأعطى مريم بنقص اللت ،ول يبرر هذه المعجزات ول يدافع عنها
إل صانعها تبارك وتعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمِلُهُ {
ثم يقول الحق سبحانه } :فَأَ َتتْ ِبهِ َق ْومَهَا َت ْ
()2260 /
حمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْ َيمُ َلقَدْ جِ ْئتِ شَيْئًا فَرِيّا ()27
فَأَ َتتْ ِبهِ َق ْو َمهَا َت ْ
ونعجب للسيدة مريم ،فبدلَ أن تخجل مما حدث وتستتر بوليدها عن أعيُن الناس ،أو تنتقل به إلى
مكان آخر في فيافي الرض إذا بها تحمله ،وتذهب به ،وتبادر به قومها ،وما كانت لتفعل ذلك
وتتجرأ عليه إل لثقتها في الحجة التي معها ،والتي ستوافيها على يد وليدها.
ي وجه قابلتْ عائشة
لذلك لما سأل بعض المستشرقين المام محمد عبده رحمه ال في باريس :بأ ّ
قومها بعد حديث ال ْفكِ؟ سبحان ال إنهم يعلمون أنه إ ْفكٌ وباطل ،لكنهم يرددونه كأنهم ل يفهمون.
فأجاب الشيخ رحمه ال ببساطة :بالوجه الذي قابلتْ به مريم قومها وهي تحمل وليدها .أي :بوجه
الواثق من البراءة ،المطمئن إلى تأييد ال ،وأنه سبحانه لن يُسْلِمها أبدا؛ لذلك لما نزلتْ براءة
عائشة في كتاب ال قالوا لها :اشكري النبي ،فقالت :بل أشكر ال الذي برأني من فوق سبع
سموات.
فلما رآها القوم على هذه الحال قالوا فيها قولً غليظا { :يامَرْيَمُ َلقَدْ جِ ْئتِ شَيْئا فَرِيّا } [مريم]27 :
فريا :الفَ ْريُ للجلد :تقطيعه ،والمر الفري :الذي يقطع معتادا عند الناس فليس له مثيل ،أو من
الفِرْية وهو تعمد الكذب.
ختَ هَارُونَ مَا كَانَ }
ثم قالوا لها { :ياأُ ْ
()2261 /
ختَ هَارُونَ } [مريم ]28 :هذا كلم جارح وتقريع ومبالغة منهم في تعييرها،
قولهم لمريم { :ياأُ ْ
سمّي على اسم النبي ،فأنتِ من بيت صلح ونشأت في طاعة ال،
فنسبوها إلى هارون الذي ُ
فكيف يصدر منك هذا الفعل؟ كما ترى أنت سيدة محجبة يصدر منها في الشارع عمل ل يتناسب
ومظهرها فتلومها على هذا السلوك الذي ل يُتصوّر من مثلها.
سوْءٍ } [مريم ]28 :الرجل السوء هو الذي إنْ صحبْتَه أصابك منه
وقوله { :مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سوء ،ونالك بالذى { َومَا كَا َنتْ ُأ ّمكِ َبغِيّا } [مريم ]28 :قلنا :إن البَغيّ :هي المرأة التي تبغي
الرجال وتدعوهم إليها ،فالمراد :من أين لك هذه الصفة ،وأنت من أسرة خَيّرة صالحة؟
وفي هذا دليل على أن َنضْج الُسَرِ يؤثر في البناء ،فحين نُكوّن السرة المؤمنة والبيت الملتزم
ل مؤمنا واعيا
بشرع ال ،وحين نحتضن البناء ونحوطهم بالعناية والرعاية ،فسوف نستقبل جي ً
نافعا لنفسه ولمجتمعه.
سوْ ٍء َومَا كَا َنتْ ُأ ّمكِ َبغِيّا } [مريم ]28 :اتهام صريح لمريم،
إذن :فقولهم { :مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ َ
وتأكيد على أنها وقعتْ في محظور وكأنهم مصرون على َرمْيها بالفاحشة.
ثم يقول الحق سبحانه { :فََأشَا َرتْ إِلَيْهِ قَالُواْ }
()2262 /
فَأَشَا َرتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَ ْيفَ ُنكَلّمُ مَنْ كَانَ فِي ا ْل َمهْدِ صَبِيّا ()29
أي :حين قال القوم ما قالوا أشارتْ إلى الوليد وهي واثقة أنه سيتكلم ،مطمئنة إلى أنها ل تحمل
دليل الجريمة ،بل دليل البراءة.
فلما أشارتْ إليه تقول لقومها :اسألوه ،تعجّبُوا { :قَالُواْ كَ ْيفَ ُنكَلّمُ مَن كَانَ فِي ا ْل َمهْدِ صَبِيّا } [مريم:
]29ونلحظ في قولهم أنهم لم يستبعدوا أنْ يتكلّمَ الوليد ،فلم يقولوا :كيف يتكلم مَنْ كان في المهد
ن يكلموه ،فكأنهم يطعنون في
صبيا؟ بل قالوا { :كَ ْيفَ ُنكَلّمُ } [مريم ]29 :أي :نحن ،فاستبعدوا أ ْ
أنفسهم وفي قدرتهم على َفهْم الوليد إنْ كلّمهم.
والمهد :هو المكان الممهد المعَدّ لنوم الطفل ،لن الوليد ل يقدر أن يبعد الذى عن نفسه ،فالكبير
مثلً يستطيع أنْ يُمهد لنفسه مكان نومه ،وأن يُخرِج منه ما يُؤرّق نومه وراحته ،وعنده وَعْي،
فإذا آلمه شيء في نومه يستطيع أنْ يتحلّل من الحالة التي هو عليها ،وينظر ماذا يؤلمه.
ثم يقول الحق سبحانه { :قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ }
()2263 /
وكأنه قال للقوم :ل تتكلموا أنتم ،أنا الذي سأتكلم .ثم بادرهم بالكلم { :قَالَ إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ } [مريم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]30وهكذا استهلّ عيسى عليه السلم كلمه بإظهار عبوديته ل تعالى ،وفي هذه دليل على أنه قد
يُقال فيه أنه ليس عبدا ،وأنه إله أو شريك للله.
ت بي ل تمنع
لذلك كانت أو كلمة نطق بها { قَالَ إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ } [مريم ]30 :فالمعجزة التي جاء ْ
َكوْني عبدا ل؛ لذلك لو سألتَ الذين يعتقدون في عيسى عليه السلم أنه إله أو شريك للله :إنكم
تقولون أنه تكلّم في المهد ،فماذا قال؟ فل يعترفون بقوله أبدا؛ لن قوله ونُطْقه { :إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ }
[مريم ]30 :ينفي معتقدهم من أساسه.
ليس هذا وفقط ،بل { :آتَا ِنيَ ا ْلكِتَابَ } [مريم ]30 :لكن كيف آتاه الكتاب وهو ما يزال وليدا في
شكّ فيه ،كأنه يقول :أنا أَهْل لنْ أتحملَ
َمهْده؟ قالوا :على اعتبار أنه أم ٌر مفروغ منه ،وحادث ل َ
أمانةَ السماء إلى أهل الرض .مع أن الكتاب لم يأتِ بعد ،إل أنه مُلقّن لقّنه ربه الكتاب بالفعل،
وإنْ لم يأت الوقت الذي يُبلّغ فيه هذا الكتاب.
جعَلَنِي نَبِيّا } [مريم ]30 :فسلوكي سلوك قويم ،ول يمكن أن يكون فيّ مطعَنٌ بعد ذلك ،وإنْ
{ وَ َ
كان هناك مطعن فهو بعيد عني ،ول ذنبَ لي فيه.
جعَلَنِي مُبَارَكا أَيْنَ مَا كُنتُ }
ثم يقول { :وَ َ
()2264 /
جعَلَنِي مُبَا َركًا أَيْنَ مَا كُ ْنتُ وََأ ْوصَانِي بِالصّلَا ِة وَال ّزكَاةِ مَا ُد ْمتُ حَيّا ()31
وَ َ
أي :وشرّع لي أيضا ما ُدمْت حيا ..وقد قال عيسى عليه السلم في المهد هذه الكلمات ليبرّىء
أمه الصّدّيقة ،ذلك أنهم اتهموها في أعزّ شيء لديْها؛ ولذلك لم يكُنْ ليُجدي أيّ كلم منها ،وإنقاذا
حمَـانِ
لها أبلغها الحق عن طريق جبريل أو عيسى عليهما السلم أن تقول {:إِنّي َنذَ ْرتُ لِلرّ ْ
صوْما فَلَنْ ُأكَلّمَ الْ َيوْمَ إِنسِيّا }[مريم.]26 :
َ
جعَلْنِي }
ثم يقول { :وَبَرّا ِبوَالِدَتِي وَلَمْ َي ْ
()2265 /
شقِيّا ()32
جعَلْنِي جَبّارًا َ
وَبَرّا ِبوَالِدَتِي وَلَمْ يَ ْ
فلِمَ ذكر والدته هنا؟ ولِمَ حرص على تقرير بِرّه بها؟ قالوا :لن البعض قد يظن أن عيسى ـ عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السلم ـ حينما يكبر ويعرف قصة خَلْقه ،وأن أمه أ َتتْ به من غير أب ،ودون أنْ يمسسْها بشر
قد تترك هذه المسألة ظللً فلي نفسه وتُساوِره الشكوك في أمه ،فأراد أنْ يقطع كل هذه الظنون.
ذلك لنه هو نفسه الدليل ،وهو نفسه الشاهد على براءة أمه ،والدليل ل يُشكّك في المدلول ،فكأنه
يقول للقوم :إياكم أنْ تظنوا أني سأتجرأ على أمي ،أو يخطر ببالي خاطر سوء نحوها.
شقِيّا } [مريم ]32 :فنفى عن نفسه صفة الجبروت والقسوة
جعَلْنِي جَبّارا َ
ثم يقول { :وَلَمْ َي ْ
والتعاظم؛ لن الرسول لبُدّ أنْ يكون ليّنَ الجانب رفيقا بقومه؛ لنه أتى ليُخرِج الناس ِممّا أِلفُوه
من الفساد إلى ما يثقل عليهم من الطاعة.
والنسان بطبعه حين يألَف الفساد يكره مَنْ يُخرِجه عن فساده ،فمن الطبيعي أن يتعرّض النبي
لستفزاز القوم وعنَادهم ومكابرتهم ،فلو لم يكُنْ ليّن الجانب ،رقيق الكلمة ،يستميل الذن لتسمع
والقلوب لتعي ما صلح لهذه المهمة.
لذلك يخاطب الحق ـ تبارك وتعالى ـ نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم بقوله {:وََلوْ كُ ْنتَ َفظّا
حوِْلكَ }[آل عمران.]159 :
ب لَ ْنفَضّواْ مِنْ َ
غَلِيظَ ا ْلقَلْ ِ
شقِيّا } [مريم ]32 :أي :عاصيا ،وما أبعدَ مَنْ هذه صفاته عن معصية ال التي يشقى
ومعنى { َ
بسببها النسان.
ثم يقول تعالى عن عيسى عليه السلم أنه قال { :وَالسّلَمُ عََليّ َيوْ َم وُِل ْدتّ }
()2266 /
سبق أن قلنا في قصة يحيى عليه السلم :إن هذه الحداث أعلم ثلثة في حياة النسان :يوم
مولده ،ويوم موته ،ويوم أنْ يُبعث يوم القيامة .فما وجه السلمة في هذه الحداث بالنسبة لعيسى
عليه السلم؟
قوله { :وَالسّلَمُ عََليّ َيوْ َم وُلِ ْدتّ } [مريم ]33 :لن يوم مولده مَرّ بسلم ،رغم ما فيه من عجائب،
فلم يتعرّض له أحد بسوء ،وهو الوليد الذي جاء من دون أب ،وكان من الممكن أنْ يتعرّض له
ولمه بعض المتحمسين الغيورين باليذاء ،لكن شيئا من ذلك لم يحدث ،ومَرّ الميلد بسلم عليه
وعلى أمه.
{ وَ َيوْمَ َأمُوتُ } [مريم ]33 :لنهم أخذوه ليصلبوه ،فنجّاه ال من أيديهم ،وألقى شبهه على شخص
آخر ،ورفعه ال تعالى إلى السماء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ وَ َيوْمَ أُ ْب َعثُ حَيّا } [مريم ]33 :فليس هناك من الرسل مَنْ سيسأل هذه السئلة ،ويناقش هذه
المناقشة التي نُوقِشها عيسى في الدنيا:
{ وَإِذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْ َيمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأمّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ
سُ ْبحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي ِبحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي َولَ أَعَْلمُ
سكَ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ * مَا قُ ْلتُ َل ُهمْ ِإلّ مَآ َأمَرْتَنِي ِبهِ }[المائدة116 :ـ .]117
مَا فِي َنفْ ِ
وليس هذا قَدْحا في مكانة عيسى عليه السلم؛ لن ربّه تبارك وتعالى يعلم أنه ما قال لقومه إل ما
ُأمِرَ به ،ولكن أراد سبحانه توبيخ القوم الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون ال ،فوجْه السلم في
يوم { أُ ْب َعثُ حَيّا } [مريم ]33 :أنه نُوقِش في الدنيا وبُرّئتْ ساحته.
ثم يقول الحق سبحانه { :ذاِلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْ َيمَ }
()2267 /
{ ذاِلكَ } [مريم ]34 :أي :ما تقدّم من قصة عيسى عليه السلم { َقوْلَ ا ْلحَقّ } [مريم ]34 :أي:
حقّ ،والحق هو ال ،فالذي َقصّ عليك هذا ال َقصَص هو ال ،وقوله الحق
يقولها ال تعالى َقوْلَة َ
الذي ل باطلَ فيه ،فيكون الحق الذي هو ضد الباطل ،فالمعنيان ملتقيان.
خلْق.
أو :يكون المراد بقول الحق كلمة (كُنْ) التي بها يتمّ ال َ
ثم يقول تعالى { :الّذِي فِيهِ َيمْتُرُونَ } [مريم ]34 :من المراء :وهو الختلف والجدال بالباطل،
فالحق سبحانه يعلم أنهم سيشكّون فيه ،ويتجادلون بالباطل ،وأنهم سيقولون فيه القاويل ،وكأن ال
تعالى يقول لهم :اتركوا هذه القاويل والباطيل في شأن عيسى وخُذُوا بما أخبرتُكم به من خبره،
فهو الحق الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خَلْفه.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى { :مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ }
()2268 /
ن وَلَدٍ سُ ْبحَانَهُ ِإذَا َقضَى َأمْرًا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ ()35
خذَ مِ ْ
مَا كَانَ لِلّهِ أَنْ يَتّ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قالوا :لن مسألة الشريك ل تعالى تُنفَى بأولية العقل ،فإنْ كان ُكلّ إ له صالحا للفعل وللترك ،فهذه
صورة مُكرّرة ل تناسب الله ،وإنْ كان هذا إلها لكذا وهذا إله لكذا ،فما عند أحدهما نقص في
الخر ،وهذا محال في الله ،ولو أن هناك إلها آخر لذهب كل منهما بجزء ،كما قال سبحانه {:إِذا
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ }[المؤمنون.]91 :
ق وََلعَلَ َب ْع ُ
لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَ َ
لذلك نفى مسألة الولد؛ لنها ذات أهمية خاصة بالنسبة لقصة عيسى عليه السلم؛ لن الولد من
حبّ الولد ،والنسان يحب الولد
الممكن أنْ يُستبعَد فيه الدليل ،لماذا؟ لن دليله اتخاذُ الولد أو ُ
ويسعى إليه ،لماذا؟
قالوا :لن النسان ابْنُ دنياه ،وهو يعلم أنه ميت ميت ،فيحبّ أن يكون له امتداد في الدنيا و ِذكْر
من بعده ،فالنسان يتمسّح في الدنيا حتى بعد موته ،وهو ل يدري أن ِذكْر النسان ل يأتي بعده،
بل ِذكْره يسبقه إلى الخرة بالعمل الصالح.
حقّ ال تبارك وتعالى؛ لنه الباقي
إذن :فحبّ الولد هنا لستدامة استبقاء الحياة ،وهذا مُحَال في َ
الذي ل يزول.
ضعْف ،والحق سبحانه هو القويّ
وقد يتخذ الولد ليكون عِزْوة لبيه وسَندا و ُمعِينا ،وهذا دليل ال ّ
الذي ل يحتاج إلى معونة أحد .إذن :فاتخاذ الولد أمر منفيّ عنه تبارك وتعالى ،فهو أمر ل يليق
بمقام اللوهية ،ويجب أنْ تُنزّه ال تعالى أن يكون له ولد؛ لذلك يقول تعالى بعدها { :سُ ْبحَانَهُ }
[مريم.]35 :
وسبحان تدل على التنزيه المطلق ل تعالى تنزيها له في ذاته ،وفي صفاته ،وفي أفعاله ،فهو
ن وجدتَ صفة مشتركة بينك وبين ال كأنْ يكونَ ل تعالى وجه ويد،
سبحانه ليس كمثله شيء ،وإ ْ
ولكَ وجه ويد ،فإياك أنْ تنزل بالمستوى العلى فتقول :وجهه كوجهي ،أو يده كيدي ،لن لك
وجودا ول تعالى وجود ،فهل وجودك كوجود ال؟
وجودك مسبوق بعدم ويلحقه العدم ،ووجوده تعالى لم يُسبَق بعدم ول يلحقه العدم ،فعليك ـ إذن
سمِيعُ الْ َبصِيرُ }[الشورى.]11 :
شيْءٌ وَ ُهوَ ال ّ
ـ أن تقول في مثل هذه المسائل {:لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
والمتتبع لمادة (سَبّح) في القرآن الكريم يجد أنها جاءت بكل الصّيَغ:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }[الحديد.]1 :
الماضي {:سَبّحَ للّهِ مَا فِي ال ّ
ت َومَا فِي الَ ْرضِ }[الجمعة.]1 :
سمَاوَا ِ
والمضارعُ {:يسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
والمر في {:سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ الَعْلَىا }[العلى.]1 :
فما دام الكون كله سبّح ل ،ولم ينقطع عن تسبيحه ،بل ما زال مُسبّحا ،فلما خلق الخلق أمرهم
بالتسبيح؛ لنهم جزء من منظومة الكون المسبّح ،وعليهم أنْ ينتظموا معه ،ول يكونوا نشازا في
كون ال.
أما المصدر (سبحان) فقد جاء ليدل على التنزيه المطلق ل تعالى ،حتى قبل أن يخلق الخَلْق،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التنزيه ثابت له تعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُنزّهه كما في قوله تعالى:
حوْلَهُ }
ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ
سجِ ِد ا َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ
{ سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَ ْب ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ
[السراء.]1 :
لن المسألة عجيبة وفوق إدراك العقل ،فقد جاء بالمصدر (سبحان) الدالّ على التنزيه المطلَق ل،
كأنه تعالى يُحذّر الذين يُحكّمون عقولهم ،ول يُحكّمون قدرة ال الذي خلقهم بقانون الزمان والمكان
ل فعل يتناسب قوةً وقدرةً مع فاعله.
وال ُبعْد والمسافة ،ف ُك ّ
ثم يقول تعالى } :إِذَا َقضَىا َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُن فَ َيكُونُ { [مريم ]35 :ذلك لن الية في خَلْق
عيسى عليه السلم مخالفة للنواميس كلها ،وخارقة للعادة التي أَلِفها الناس ،فإياك أنْ تتعجب من
ِفعْل ال تعالى في يحيى ،حيث جاء به مع عطب اللت ،أو تتعجب من خَلْق عيسى حيث جاء به
مع نقص اللت.
وإياك أنْ تتعَجّب من كلم عيسى وهو في المهد صَبِيا ،فهي أمور نعم خارقة للعادة وللنواميس،
خذْها في إطار (سبحانه) وتنزيها له؛ لنه تعالى إذا أراد شيئا ل يعالجه بعمل ومُزاولة ،وإنما
فُ
يعالجه (بكُنْ) فيكون.
ول تظن أن خَلْق الشياء متوقف على هذا المر (كُنْ) ،فإن كان الفعل مُكوّنا من (كاف) و(نون)
فقبل أن تنطق النون يكون الشيء موجودا ،لكن (كُنْ) هو أقصر ما يمكن تصوّره لنا ،والحق
سبحانه يخاطبنا بما يُقرّب هذه المسألة إلى عقولنا ،وإل فإرادته سبحانه ليستْ في حاجة إلى قول
(كُنْ) فما يريده ال يكون بمجرد إرادته.
كما أنك لو أمعنتَ النظر في قوله تعالى } :إِذَا َقضَىا َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُن فَ َيكُونُ { [مريم]35 :
تجد (يقُولُ لَهُ) أي :للشيء ،فكأن الشيء موجود بالفعل ،موجود أزلً ،فالمر بكُنْ ليس ليجاده من
العدم ،بل لمجرد إظهاره في عالم الواقع.
ثم يقول } :وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ {
()2269 /
وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْ ُبدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ ()36
الرب :هو المتولّي للتربية والرعاية .والتربية تعني أن يأخذ المربّي المربّى بالرياضة إلى مَا
يصلحه لداء مهمته والقيام بها ،كما لو أردتَ مهندسا تُربّيه تربيه مهندس ،وإن أردت طبيبا تربية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تربية طبيب .ونحن هنا أمام قوم أشركوا بال ،ونحتاج لداعية يُخرِجهم من الشرك إلى اليمان،
ومن المعصية إلى الطاعة.
فالمعنى :ما دام أن ال تعالى ربي وربكم ،والمتولّي لتربيتنا جميعا ،فل بُدّ أن يُربّى لكم مَنْ
يصلحكم؛ لنه تعالى ل يخاطبكم مباشرة ،بل سيبعثني إليكم أبلغكم رسالته ،وأدعوكم إلى عبادته
وحده ل شريك له ،وما دام ال ربي وربكم فمن الواجب أنْ تُطيعوه { فَاعْبُدُوهُ } [مريم]36 :
والعبادة أنْ يطيعَ العابدُ معبوده في أوامره وفي نواهيه .كما قال تعالىَ {:ومَآ ُأمِرُواْ ِإلّ لِ َيعْبُدُواْ اللّهَ
}[البينة.]5 :
ثم يقول تعالى { :هَـاذَا صِرَاطٌ مّسْ َتقِيمٌ } [مريم ]36 :أي :الذي ل التواءَ فيه ول اعوجاجَ ،وهو
الطريق الذي يُوصّلك لمقصودك من أقرب طريق ،وبأقلّ مجهود ،ومعلوم أن الخط المستقيم هو
أقرب طريق بين نقطتين.
ف الَحْزَابُ مِن بَيْ ِنهِمْ }
ثم يقول الحق سبحانه { :فَاخْتََل َ
()2270 /
عظِيمٍ ()37
شهَدِ َيوْمٍ َ
فَاخْتََلفَ الَْأحْزَابُ مِنْ بَيْ ِنهِمْ َفوَ ْيلٌ ِللّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َم ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في حَقّ نبيهم وفي حَقّ ربهم تبارك وتعالى.
شهَدِ َيوْمٍ عَظِيمٍ } [مريم ]37 :ومشهد يوم عظيم هو يوم القيامة ،يوم
{ َفوْ ْيلٌ لّلّذِينَ َكفَرُواْ مِن مّ ْ
تُبْلَى السرائر ،يوم يقوم الناس لرب العالمين ،يوم ل تملك نفس لنفس شيئا والمر يومئذ ل.
وسماه المشهد العظيم؛ لنه يوم مشهود يشهده الجميع؛ لن العذاب في الدنيا مثلً ل يشهده إل
الحاضرون المعاصرون ،ول يشهده السابقون ول اللحقون ،أما عذاب الخرة فهو المشهد العظيم
الذي يراه كل الخَلْق.
وربما كان بعض العذاب أهونَ من رؤية الغير للنسان وهو يُعذّب ،فربما تحمّل هو العذاب في
نفسه أما كونه يُعذّب على مرأىً من الناس جمعيا ،ويرونه في هذه المهانة وهذه الذلة وقد كان في
الدنيا عظيما أو جبارا أو عاتيا أو ظالما ،ل شكّ أن رؤيتهم له في هذه الحالة تكون أنكَى له
وأبلغ.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عنهم في آية أخرى {:وََلوْ تَرَىا إِ ْذ ُو ِقفُواْ عَلَى النّارِ َفقَالُواْ يالَيْتَنَا
نُرَ ّد َولَ ُنكَ ّذبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النعام ]27 :هذا منهم مجرد كلمَ {:بلْ َبدَا َلهُمْ
خفُونَ مِن قَ ْبلُ }[النعام ]28 :أي :ظهر لهم ما كانوا يخفون ولم ي ُقلْ يخفَى عنهم ،كأنهم
مّا كَانُواْ ُي ْ
كانوا يعلمون عنه شيئا ولكنهم أخفوْه.
جعْنَا
س ِمعْنَا فَا ْر ِ
سهِمْ عِندَ رَ ّبهِمْ رَبّنَآ أَ ْبصَرْنَا وَ َ
وقال عنهم {:وََلوْ تَرَىا إِذِ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ نَاكِسُواْ ُرءُو ِ
َن ْع َملْ صَالِحا إِنّا مُوقِنُونَ }[السجدة.]12 :
فلماذا أبصروا وسمعوا الن؟ لنهم كانوا يسمعون في الدنيا عن غير وَعْي ،فينكرون ويُبصرون
آيات ال في الكون ول يؤمنون ،أما في الخرة فقد انكشفتْ لهم الحقائق التي طالما أنكَروها ،ولم
سمِعْ ِبهِ ْم وَأَ ْبصِرْ }
َيعُدْ هناك مجال للمكابرة أو النكار؛ لذلك يقول تعالى بعدهاَ { :أ ْ
()2271 /
سمِعْ ِب ِه ْم وَأَ ْبصِرْ َي ْومَ يَأْتُونَنَا َلكِنِ الظّاِلمُونَ الْ َيوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ()38
أَ ْ
سمِعْ ِبهِ ْم وَأَ ْبصِرْ } [مريم ]38 :أي :أسمع بهم وأ ْبصِر بهم ،وهذه من صِيَغ التعجّب على
قولهَ { :أ ْ
وزن (أفعل به) يعني ما أشدّ سمعهم ،وما أشدّ بصرهم ،فهم الن يُرهِفون السمع ويُدقّقون النظر
حتى إن النسان ليتعجب من سمعهم الدقيق ،وبصرهم المحيط بعد أن كانوا في الدنيا يضعون
أصابعهم في آذانهم فل يسمعون ،ويستغشون ثيابهم فل يبصرون ،كانوا في عَمىً عن آيات ال
صدْق الرسل ،وعن اليات التي تحمل الحكام ،وعن اليات الكونية التي
الواضحات التي تثبت ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تدلّ على قدرة الصانع الحكيم.
وقولهَ { :يوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم ]38 :أي :أسمع بهم وأبصر بهم في هذا اليوم يوم القيامة ،والنسان
بحكم خَلْق ال تعالى له ،واستخلفه في الرض جعل له السيطرة على جوارحه فهو يأمرها
فتطيعه ،فجوارح النسان وطاقاته مُسخّرة لرادته ،فلسانك تستطيع أنْ تنطقَ بـ ل إله إل ال.
كما تستطيع أن تقول :ل إله أو تقول :ال ثالث ثلثة .واللسان مِطْواع لك ل يعصاك في هذه أو
تلك ،وما أعطاك ال هذه الحرية وكفَل لَك الختيار إل لنه سيحاسبك عليها يوم القيامة :أأردتَ
الخير الذي وجّهك إليه أم أردتَ الشر الذي نهاك عنه؟
أما يوم القيامة فتنحلّ هذه الرادة ،ويبطل سلطانها على الجوارح في يوم يُنادِي فيه الحق تبارك
وتعالىّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر ]16 :يومها ستشهد الجوارح على صاحبها،
شهَدُ عَلَ ْيهِمْ أَ ْلسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }
وكما قال الحق سبحانه تعالىَ {:يوْمَ تَ ْ
[النور.]24 :
شيْءٍ }[فصلت:
طقَنَا اللّهُ الّذِي أَنطَقَ ُكلّ َ
شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ
ويقول تعالىَ {:وقَالُواْ ِلجُلُودِهِمْ لِمَ َ
.]21
لم ل؟ وقد تحررتْ الجوارح من قَيْد الرادة ،وجاء الوقت لتشتكي إلى ال ،وتنطق بكلمة الحق
التي كتمتْها تحت وطأة الرادة وقهْرها.
وسبق أن ضربنا مثالً لذلك بمجموعة من الجنود يسيرون تحت إمْرة قائدهم المباشر ،ويأتمرون
بأمره ،ويطيعونه طاعة عمياء ،فإذا ما عادوا إلى القائد العلى انطلقتْ ألسنتُهم بالشكوى من
تعسّف قائدهم وغَطْرسته.
للٍ مّبِينٍ } [مريم ]38 :فيا ليتهم فهموا هذه
ثم يقول تعالى { :لَـاكِنِ الظّاِلمُونَ الْ َيوْمَ فِي ضَ َ
المسألة ،لكنهم ظلموا ،وما ظلموا إل أنفسهم ،فال تبارك وتعالى ل يضره كفر الكافرين ،ول
ينقص من مُلْكه تعالى وسلطانه ،لكن كيف يظلم النسان نفسه؟
عقْل واعٍ يستقبل الشياء ويميزها ،وصاحب نفس شهوانية
يظلم النسان نفسه؛ لنه صاحب َ
تصادم بشهواتها العاجلة هذا العقل الواعي ،وتصادم المنهج الربّاني الذي يأمرها بالخير وينهاها
عن الشر ،هذه النفس بشهواتها تدعو النسان إلى مرادها وت ُوقِعه في المتعة الوقتية واللذة الفانية
التي تستوجب العذاب وتُفوّت عليه الخير الباقي والنعيم الدائم.
س ُهمْ يَظِْلمُونَ }[يونس.]44 :
لذلك يقول تعالى {:وَلَـاكِنّ النّاسَ أَنفُ َ
حسْ َرةِ }
ثم يقول الحق سبحانه { :وَأَ ْنذِرْهُمْ َي ْومَ الْ َ
()2272 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غفْلَةٍ وَهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ ()39
وَأَنْذِرْ ُهمْ َيوْمَ ا ْلحَسْ َرةِ ِإذْ ُقضِيَ الَْأمْ ُر وَ ُهمْ فِي َ
قوله تعالى { :وَأَنْذِرْ ُهمْ َيوْمَ ا ْلحَسْ َرةِ } [مريم ]39 :النذار :هو التحذير من شر قادم.
والحسرة :هي الندم البالغ الذي يصيب النفس النسانية حينما يفوتها خير ل يمكن تداركه ،وحينما
تلقى شيئا ل تستطيع دفعه أما الندم فيكون حزنا على خير فا َتكَ ،لكن يمكن تداركه ،كالتلميذ الذي
يخفق في امتحان شهر من الشهور فيندم ،لكنه يمكنه تدارك هذا الخفاق في الشهر التالي ،أما إذا
أخفق في امتحان آخر العام فإنه يندم ندما شديدا ،ويتحسّر على عام فات ل يمكن تداركُ الخسارة
فيه.
حسْرَتَنَا عَلَىا مَا فَرّطْنَا فِيهَا }[النعام.]31 :
لذلك سيقول الكفار يوم القيامة {:يا َ
والمعنى :يا حسرتنا تعاَلىْ فهذا أوانك ،واحضري فقد فاتتْ الفرصة إلى غير رجعة .إذن :فيوم
الحسرة هو يوم القيامة ،حيث لن يعود أحدٌ ليتدارك ما فاته من الخير في الدنيا ،وليتَ العقول تعي
سعَة الدنيا.
هذه الحقيقة ،وتعمل لها وهي ما تزال في َ
لمْرُ } [مريم ]39 :أي :وقع وحدث ،ول يمكن تلفيه ،ولم َيعُدْ هناك مجال
ضيَ ا َ
ومعنىِ { :إذْ ُق ِ
لتدا ُركِ ما فات؛ لن الذي قضى هذا المر وحكم به هو ال تبارك وتعالى الذي ل يملك أحدٌ ردّ
أمرِه أو تأخيره عن موعده أو مناقشته فيه ،فسبحانه ،المر أمره ،والقضاء قضاؤه ،ول إله إل
هو.
وروي عن رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أن ال حينما يُدخل أهلَ الجنةِ الجنةَ ،ويُدخِل أهلَ
النارِ النار يأتي بالموت على هيئة كبش ،فيقول للمؤمنين :أتعرفون هذا؟ قالوا :نعم هو الموت
جاءنا وعرفناه ،ويقول للكفار :أتعرفون هذا؟ يقولون :عرفناه ،فيميت ال الموت ويقول لهل
الجنة :خلود بل موت .ولهل النار :خلود بل موت ".
وهكذا قضى الُ المرَ ليقطع المل على الكفار الذين قد يظنّون أن الموت سيأتي ليُخرجهم مما
هُمْ فيه من العذاب ويريحهم ،فقطع ال عليهم هذا المل وآيسهم منه ،حيث جاء بالموت مُشخّصا
وذبحه أمامهم ،فل موتَ بعد الن فقد مات الموت.
لذلك يخبر عنهم الحق تبارك وتعالى {:وَنَا َدوْاْ يامَاِلكُ لِ َي ْقضِ عَلَيْنَا رَ ّبكَ قَالَ إِ ّنكُمْ مّاكِثُونَ }
[الزخرف.]77 :
غفْلَ ٍة وَهُ ْم لَ ُي ْؤمِنُونَ } [مريم.]39 :
ثم يقول تعالى { :وَ ُهمْ فِي َ
الغفلة :أن يصرف النسان ذِهْنه عن الفكر في شيء واضح الدليل على صحته؛ لن الحق ـ
تبارك وتعالى ـ ما كان لِيُعذّب خَلْقه إل وقد أظهر لهم الدلة التي يستقبلها العقل الطبيعي فيؤمن
بها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالذي ل يؤمن ـ إذن ـ:إما غافل عن هذه الدلة أو متغافل عنها أو جاحد لها ،كما قال سبحانه{:
سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا }[النمل.]14 :
حدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
وَجَ َ
ومن الغفلة غفلتهم عن الموت ،وقد قالوا :من مات قامت قيامته.
ومن حكمة ال أنْ أبهم الموت ،أبهمه وقتا ،وأبهمه سببا ،وأبهمه مكانا ،فكان إبهام الموت هو عَيْن
ي وقت ،وبأيّ سبب ،وفي أيّ
البيان للموت؛ لن إبهامه يجعل النسان على استعداد للقائه في أ ّ
مكان ،فالموت يأتي غفلة؛ لنه ل يتوقف على وقت أو سبب أو مكان.
فالطفل يموت وهو في بطن أمه ،ويموت بعد يوم ،أو أيام من ولدته ،ويموت بعد مائة عام،
ويموت بسبب وبدون سبب ،وقد نتعجّب من موت أحدنا فجأة دون سبب ظاهر ،فلم تصدمه
سيارة ،ولم يقع عليه جدار أو حجر ،ولم يداهمه مرض ،فما السبب؟ السبب هو الموت ،إنه
سيموت ،أي أنه مات لنه يموت ،كما يقال :والموت من دون أسباب هو السبب.
ث الَ ْرضَ {
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّا نَحْنُ نَ ِر ُ
()2273 /
جعُونَ ()40
إِنّا نَحْنُ نَ ِرثُ الْأَ ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا وَإِلَيْنَا يُ ْر َ
ث الَ ْرضَ } [مريم ]40 :وهي والكون كله مِلْك له تعالى؟ قالوا:
كيف يقول الحق سبحانه { :نَ ِر ُ
لنه تبارك وتعالى هو المالك العلى ،وقد ملّك من خَلْقه من ملّك ،هذا في الدنيا ،أما في الخرة
فليس لحد ملك على شيء ،ليس للنسان سيطرة حتى على جوارحه وأعضائه ،فالمر كله يومئذ
ك إل ال تعالى.
ل تعَالى ،فيُردّ الملْك إلى صاحبه العلى ،ول أحدَ يرث هذا الم ْل َ
لذلك ،فالذين اغترّوا بنعم ال في الدنيا فظنوا أن لهم مثْلها في الخرة ،فقال أحدهم {:وَلَئِن رّدِدتّ
إِلَىا رَبّي لَجِدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف ]36 :نقول له :ل ،صحيح ستُردّ إلى ربك ،لكن لن
يكون لك عنده شيء؛ لن الذي ملّكك في الدنيا ملّكك من باطن مِلكيته تعالى ،فإذا ما جاءت
الخرة كان هو الوارث الوحيد.
جعُونَ } [مريم ]40 :أي :أن المر ل يتوقف على أنْ نرث مُلْكهم ،ويذهبوا هم
وقوله { :وَإِلَيْنَا يُ ْر َ
لحال سبيلهم ،بل سنرث مُلْكهم ،ثم يرجعون إلينا لنحاسبهم فلن يخرجوا هم أيضا من قبضة
الملكية.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2274 /
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في استهلل سورة مريم عن ميلد سيدنا يحيى لزكريا ،وعن
ميلد سيدنا المسيح بن مريم ،أراد أن يعرض لنا موكبا من مواكب الرسالت التي أرسلها ال
نورا من السماء لهداية الرض ،فقال:
{ وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ } [مريم.]41 :
فهو أبو النبياء وقمتهم؛ لن ال تعالى مدحه بقوله:
{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً }[النحل.]120 :
فليس هناك فرد يحتوي على خصال الكمال ومواهب الفضل كلها ،لكن المجموع يحتويها فهذا
شجاع قوي البنية ،وهذا ذكي ،وهذا حادّ البصر ،وهذا نابغ في الطب ،وهذا في الزراعة ،مواهب
متفرقة بين البشر ،ل يجمعها واحد منه ،فل طاقته ول حياته ول مجهوده يستطيع أن يكون
خلْق ،إل إبراهيم ،فقد كان عليه السلم يساوي في
موهوبا في كل شيء ،فالكمال كله مُوزّع في ال َ
مواهبه أم ًة بأكملها.
وقوله { :إِنّهُ كَانَ صِدّيقا نّبِيّا } [مريم ]41 :صِدّيق :من مادة صدق ،ومعناها :تكلّم بواقع؛ لن
صدّيق أي :مبالغة في
الكذب أنْ يتكلّم بغير واقع .وهذا يُسمّى :صادق في ذاته ،أما قولناِ :
الصدق ،فقد بلغ الغاية في تصديق ما يأتي من الحق تبارك وتعالى ،فهو يطيع ويُذعِن ول يناقش،
خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ
كما رأينا من أم موسى ـ عليه السلم ـ لما قال لها الحق سبحانه {:فَإِذَا ِ
وَلَ َتخَافِي َولَ تَحْزَنِي }[القصص.]7 :
بال ،أي أم يمكن أن تُصدّق هذا الكلم ،وتنصاع لهذا المر؟ وكيف تُنجّي ولدها من شر أو موت
مظنون بموت مُحقّق؟
إذن :فهذا كلم ل يُصدّق ،وفوق نطاق العقل عند عامة الناس ،أما في موكب الرسالت فالمر
مختلف ،فساعة أنْ سمعتْ أم موسى هذا النداء لم يساورها خاطر مخالف لمر ال ،ولم يراودها
شكّ فيه؛ لن وارد ال عند هؤلء القوم ل يُعارض بوارد الشيطان أبدا ،وهذه قضية مُسلّمة عند
َ
الرسل.
إذن :الصّدّيق هو الذي بلغ الغاية في تصديق الحق ،فيورثه ال شفافية وإشراقا بحيث يهتدي إلى
الحق ويُميّزه عن الباطل من أول نظرة في المر ودون بحث وتدقيق في المسألة؛ لن ال تعالى
يه ُبكَ النور الذي يُبدّد عندك غيامات الشك ،ويهبك الميزان الدقيق الذي تزنُ به الشياء ،كما قال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا }[النفال.]29 :
سبحانه {:يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ يَ ْ
سمّي أبو بكر رضي ال عنه صِدّيقا ،ليس لنه صادق في ذاته ،بل لنه يُصدّق كل ما
ومن هنا ُ
جاءه من رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لذلك لما أخبروه خبر السراء والمعراج الذي كذّب به
كثيرون ،ماذا قال؟ قال " :إنْ كان قال فقد صدق ".
فالمر عنده متوقف على مجرد قول رسول ال ،فهذا هو الميزان عنده ،وطالما أن رسول ال قد
قال فهو صادق ،هكذا دون جدال ،ودون مناقشة ،ودون بَحْث في ملبسات هذه المسألة؛ لذلك من
يومها وهو صِدّيق عن جدارة.
والسيدة مريم قال عنها الحق تبارك وتعالى {:وَُأمّهُ صِدّيقَةٌ }[المائدة ]75 :فسماها صديقة؛ لنها
ك لَ َهبَ َلكِ غُلَما َزكِيّا }[مريم.]19 :
صدّقتْ ساعة أنْ قال لها الملَك {:قَالَ إِ ّنمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَ ّب ِ
فوثقتْ بهذه البشارة ،وأخذتْها على أنها حقيقة واقعة ،فلما جاء الوليد أشارت إليه وهي على ثقة
كاملة ويقين تام أنه سينطق ويتكلم.
إذن :فالصّديق ليس هو الذي يَصدُق ،بل الذي يُصدّق .وهكذا كان خليل ال إبراهيم (صديقا)
وكان أيضا (نبيا) لن النسان قد يكون صديقا يعطيه ال شفافية خاصة ،وليس من الضروري أن
صدّيقة وأبو بكر صِدّيقا ،فهذه إذن صفة ذاتية إشراقية من ال ،أما
يكون نبيا ،كما كانت مريم ِ
النبوة فهي عطاء وتشريع يأتي من أعلى ،وهُدى يأتي من السماء يحمل النبي مسئوليته؟.
ل لَبِيهِ ياأَ َبتِ {
ثم يقول الحق سبحانه } :إِذْ قَا َ
()2275 /
هذا الحديث من إبراهيم عليه السلم لبيه على اعتبار أنه نبي جاء ليُعدّل سلوك الناس على َوفْق
منهج ال ،وأوّلهم أبوه ،وقد ذكره القرآن هكذا بأبوته لبراهيم دون أن يذكر اسمه ،إل في آية
واحدة قال فيها {:لَبِيهِ آزَرَ }[النعام.]74 :
وهذه الية أحدثتْ إشكالً فظنّ البعض أن آزر هو أبو إبراهيم الحقيقي الصّلبي ،وهذا القول
يتعارض مع الحديث النبوي الشريف الذي يُوضّح طهارة أصْل النبي محمد صلى ال عليه وسلم
حيث قال " :أنا خيار من خيار ،ما زِلت أنتقل من أصلب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فأصول النبي إلى آدم " طاهر متزوج طاهرة " ،فلو قلنا :إن آزر الذي قال ال في حقه{:
فََلمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ للّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ }[التوبة ]114 :هو أبو إبراهيم ،لكَانَ في ذلك تعارض مع
الحديث النبوي ،فكيف يكون من آباء محمد صلى ال عليه وسلم مثل هذا الكافر؟
ولو تأملنا إطلقات الُبوّة في القرآن الكريم لخرجنا من هذا الشكال ،فالقرآن تكلم عن البوة
الصّلْبية المباشرة ،وتكلم عن الُبوة غير المباشرة في الجد وفي العم ،فسمّى الجد أبا ،والعم أبا؛
لنه يشترك مع أبي في جدي ،فله واسطة استحق بها أن يُسمّى أبا .وفي القرآن نصّان :أحدهما:
يُطلِق على الجد أبا ،والخر يُطلِق على العم أبا.
فالول في قوله تعالى من قصة يوسف عليه السلم:
ح ِملُ َفوْقَ
خمْرا َوقَالَ الخَرُ إِنّي أَرَانِي َأ ْ
عصِرُ َ
حدُ ُهمَآ إِنّي أَرَانِي أَ ْ
خلَ َمعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَ َ
{ وَ َد َ
رَأْسِي خُبْزا تَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَ ْأوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْل ُمحْسِنِينَ }[يوسف.]36 :
فاختاروا يوسف لتأويل رؤياهم؛ لنهم رأوه من المحسنين ،فكأن الحسان له مقاييس معروفة حتى
عند غير المحسن ،فلما تعرّضوا لمر يُهمهم لم يلجئوا إل لهذا الرجل الطيب ،فمقاييس الكمال
محترمة ومعتبرة حتى عند فاقد الكمال.
حسِنِينَ }[يوسف ]36 :علم أنهم متتبعون حركاته وتصرفاته ،وكيف
فلما قالوا له{ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُ ْ
سلوكه بينهم ،فأراد أنْ يزيدهم مما عنده من إشراقات ،فأمْره ليس مجرد سلوك طيب وسيرة
طعَامٌ تُرْ َزقَانِهِ ِإلّ نَبّأْ ُت ُكمَا بِتَ ْأوِيلِهِ قَ ْبلَ أَن
حسنة بينهم ،بل عنده أشياء أخرى ،فقال {:لَ يَأْتِي ُكمَا َ
يَأْتِي ُكمَا }[يوسف.]37 :
ثم ترك الجابة عن سؤالهم ،وأخذ في الحديث فيما يخصّه كنبيّ وداعية إلى ال ،فأخبرهم أن ما
عنده من مواهب هو عطاء من ال ،وليس هو بأذكى منهم ،فقال {:ذاِل ُكمَا ِممّا عَّلمَنِي رَبّي إِنّي
تَ َر ْكتُ مِلّةَ َقوْ ٍم لّ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتّ َب ْعتُ مِلّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِي َم وَإِسْحَاقَ
وَ َيعْقُوبَ }[يوسف37 :ـ .]38
ثم يلفت نظر رفاقه إلى بطلن ما هم عليه من عبادة أرباب متفرقين لم ينفعوهم بشيء ،فهاهم
يتركونهم ويلجئون إلى يوسف الذي له َربّ واحد:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ }[يوسف:
شَا ِهدُنا في هذه القصة هو قوله تعالى {:وَاتّ َب ْعتُ مِلّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
]38ويوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ،فسمّى الجداد آباءً.
حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َم ْوتُ ِإذْ قَالَ لِبَنِيهِ
شهَدَآءَ إِذْ َ
وقد يُسمّى العَمّ أبا ،كما جاء في قوله تعالىَ {:أمْ كُنتُمْ ُ
سمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ }[البقرة]133 :
مَا َتعْبُدُونَ مِن َبعْدِي قَالُواْ َنعْبُدُ ِإلَـا َهكَ وَإِلَـاهَ آبَا ِئكَ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
عمّه.
فعَدّ إسماعيلَ في آباء يعقوب ،وهو َ
إذن :لو أن القرآن الكريم حينما تحدث عن أبي إبراهيم فقال (لبيه) في كل اليات ل نصرف
المعنى إلى الُبوة الصّلْبية الحقيقية ،أما أنْ يقول ولو مرة واحدة{ لَبِيهِ آزَرَ }[النعام ]74 :فهذا
يعني أن المراد عمه؛ لنه ل يُؤتي بالعَلَم بعد البوة إل إذا أردنا العم ،كما نقول نحن الن حين
نريد البوة الحقيقية :جاء أبوك هكذا مبهمة دون تسمية ،وفي البوة غير الحقيقية نقول :جاء أبوك
فلن.
وبناءً عليه فقد ورد قوله تعالى {:لَبِيهِ آزَرَ }[النعام ]74 :مرة واحدة ،ليثبت لنا أن آزر ليس هو
عمّه ،وبذلك يسْلَم لرسول ال صلى ال عليه وسلم طهارة نسبه
الب الصّلْبي لبراهيم ،وإنما هو َ
ونقاء سِلْسلته إلى آدم عليه السلم.
وقوله } :ياأَ َبتِ { [مريم ]42 :وكان التركيب العربي يقتضي أن يقول :يا أبي ،إل أنهم يحذفون
ياء المتكلم ويُعوّضون عنها بالتاء ،فلماذا؟ قالوا :لن (أبت) لها مَلْحظ دقيق ،فهو يريد أنْ يُثبت
أنه وإنْ كان أبا إل أن فيه حنان البوين :الب والم .فجاء بالتاء التي تشير إلى الجانب الخر؛
لذلك نجدها ل تُقال إل في الحنانية المطلقة (يَا أَ َبتِ) كما لو ماتتْ الم مثلً ،فقام الب بالمهمتين
معا ،وعوض البناء حنان الم المفقود.
سمَ ُع َولَ يُ ْبصِ ُر َولَ ُيغْنِي عَنكَ شَيْئا { [مريم ]42 :يبدو من أسلوب
وقولهِ } :لمَ َتعْبُدُ مَا لَ يَ ْ
إبراهيم عليه السلم مع أبيه أ َدبُ الدعوة ،حيث قدّم الموعظة على سبيل الستفهام حتى ل يُشعِر
أباه بالنقص ،أو يُظهِر له أنه أعلم منه.
س َم ُع وَلَ يُ ْبصِ ُر َولَ ُيغْنِي عَنكَ شَيْئا { [مريم ]42 :نلحظ أنه لم يقُلْ من البدايةِ :لمَ
} ِلمَ َتعْبُدُ مَا لَ يَ ْ
تعبد الشيطان ،بل أخّر هذه الحقيقة إلى نهاية المناقشة ،وبدل أنْ يقولَ الشيطان حلّل شخصيته،
وأبان عناصره ،وكشف عن حقيقته :ل يسمع ول يبصر ،ول يُغني عنك شيئا ،فهذه الصفات ل
تكون في المعبود ،وهي العِلّة في أنْ نتجنبَ عبادة ما دون ال من شجر أو حجر أو شيطان،
وخصوصا في بيئة إبراهيم ـ عليه السلم ـ وكانت مليئة بالوثان والصنام.
لن العبادة ماذا تعني؟ تعني طاعةَ عابدٍ لمعبود في َأمْره و َنهْيه ،فالذين يعبدون ما دون ال من
صنم أو وَثَنٍ أو شمس أو قمر ،بماذا أمرتْهم هذه المعبودات؟ وعن أيّ شيء نه ْتهُم؟ وماذا أع ّدتْ
هذه المعبودات لمنْ عبدها؟ وماذا أع ّدتْ لمَنْ عصاها؟ ما المنهج الذي جاءتْ به حتى تستحقّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العبادة؟ ل يوجد شيء من هذا كله ،إذن :فعبادتهم باطلة.
ثم يقول } :ياأَ َبتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي {
()2276 /
سوِيّا ()43
ك صِرَاطًا َ
يَا أَ َبتِ إِنّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلمْ يَأْ ِتكَ فَاتّ ِبعْنِي أَهْ ِد َ
يُكرّر نبي ال إبراهيم هذا النداء الحنون مرة أخرى ،وكأنه يريد أنْ يثير في أبيه غريزة الحنان،
ويُوقِظ عنده أواصر الرحم ،كأنه يقول له :إن كلمي معك كلم البن لبيه ،كما نفعل نحن الن
إنْ أراد أحدنا أنْ يُحنّن إليه قلب أبيه يقول :يا والدي كذا وكذا ..يا أبي اسمع لي .وكذلك حال
إبراهيم ـ عليه السلم ـ حيث نادى أباه هذا النداء في هذه اليات أربع مرات متتاليات ،وما ذلك
إل لحرصه على هدايته ،والخْذ بيده إلى الطريق المستقيم.
وقوله { :إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا لَمْ يَأْ ِتكَ } [مريم ]43 :أي :ل تظن يا أبي أنّي متعالم عليك،
أو أَنّي أفضل ،أو أذكى منك ،فهذا الكلم ليس من عندي ،بل من أعلى مني ومنك ،فل غضاضةَ
في سماعه والنصياع له ،وهو رسالة كُّل ْفتُ بإبلغك إياها ،وهذا الذي جاءني من العلم لم يأ ِتكَ
أنت ،وهذا اعتذار رقيق من خليل ال ،فالمسألة ليستْ ذاتية بين ولد وعمه ،أو ولد وأبيه ،إنها
مسألة عامة تع ّدتْ حدود الُبُوة والعمومة.
ولذلك لما تحدّثْنا في سورة الكهف عن قصة موسى والخضر ـ عليهما السلم ـ ،قلنا :إن العبد
الصالح التمس لموسى عُذْرا؛ لنه تصرّف بناءً على علم عنده ،ليس عند موسى مثله ،فقال له{:
حطْ بِهِ خُبْرا }[الكهف ]68 :وكذلك قال إبراهيم لبيه حتى ل تأخذه
َوكَيْفَ َتصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُ ِ
العِزّة ،ويأنف من الستماع لولده.
سوِيّا } [مريم ]43 :لن هذا المنهج الذي أدعوك إليه ليس من
ك صِرَاطا َ
ثم يقول { :فَاتّ ِبعْنِي َأهْ ِد َ
عندي ،بل من أعلى مني ومنك ،والصراط السّويّ :هو الطريق المستقيم الذي يُوصّلك للغاية
بأيسر مشقة ،وفي أقصر وقت.
ت لَ َتعْ ُبدِ الشّ ْيطَانَ }
ثم يقول { :ياأَ َب ِ
()2277 /
عصِيّا ()44
حمَنِ َ
يَا أَ َبتِ لَا َتعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلرّ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَ ُع َولَ يُ ْبصِ ُر َولَ ُيغْنِي عَنكَ شَيْئا
نلحظ أن إبراهيم في بداية محاورته لبيه قال {:لِمَ َتعْبُدُ مَا لَ َي ْ
}[مريم ]42 :وهنا يقول { :لَ َتعْ ُبدِ الشّ ْيطَانَ } [مريم ]44 :مع أن الشيطان يمكن أن يسمع
ويبصر ،فكيف يكون ذلك؟
قالوا :لن الشيطان هو الذي يُسوّل عبادة الصنم أو الشجر أو الشمس أو القمر ،فالمر مردود إليه
وهو سببه ،إل أن إبراهيم عليه السلم حَلّل المسألة المباشرة؛ لن أباه يعبد صنما ل يسمع ول
يُبصر ،ول يُغني عنه شيئا ،وهذا بشهادتهم أنفسهم ،كما جاء في قوله تبارك وتعالىَ {:هلْ
س َمعُو َنكُمْ إِذْ َتدْعُونَ * َأوْ يَن َفعُو َنكُمْ َأوْ َيضُرّونَ }[الشعراء72 :ـ .]73
يَ ْ
فهذا استفهام ،ول يستفهم مُستفهِم مجادل ممّن يجادله عن شيء ،إل وقد عَلِم أن الجواب ل ُبدّ أن
يكون في صالحه؛ لنه ائتمنه على الجواب .إذن :فعبادة ما دون ال مردّها إلى إغواء الشيطان.
عصِيّا } [مريم ]44 :عصيا :مبالغة في
حمَـانِ َ
ثم يستطرد إبراهيم قائلً { :إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلرّ ْ
عصِيا يعصي أوامر ال بلَ َددٍ وعناد.
العصيان ،فالشيطان ليس عاصيا ،بل َ
ثم يقول { :ياأَ َبتِ إِنّي أَخَافُ }
()2278 /
ن وَلِيّا ()45
حمَنِ فَ َتكُونَ لِلشّ ْيطَا ِ
عذَابٌ مِنَ الرّ ْ
سكَ َ
يَا أَ َبتِ إِنّي أَخَافُ أَنْ َيمَ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فأنت حين تدعو شخصا إلى ال فإنما تُخرِجه عن الفساد الذي أَلِفه ،وهو لم يألف الفساد إل بعد أن
اشتهاه أولً ،ثم اعتاده بالفعل والممارسة ثانيا ،وهاتان مصيبتان آخذتان بزمامه ،فما أحوجه
لسلوب لَيّن يستميل مشاعره ويعطفه نحوك فيستجيب لك.
وما أشبه الداعية في هذا الموقف بالذي يحتال ليخلص الثوب الحرير من الشواك ،أما إنْ نهرته
وقسوْتَ عليه فسوف يُعرض عنك وينصرف عن دعوتك ،ويظلّ على ما هو عليه من الفساد؛
حسَنَ ِة وَجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ }
ظةِ الْ َ
ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِ َ
لذلك قال تعالى {:ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ بِالْ ِ
[النحل.]125 :
خفّة
ويقولون :النصح ثقيل فل تُرسِلْه جبلً ،ول تجعله جدلً ،وقالوا :الحقائق مُرّة فاستعيروا لها ِ
البيان.
غبٌ أَنتَ عَنْ آِلهَتِي }
وبعد أنْ أنهى إبراهيم مقالته يرد الب قائلً { :قَالَ أَرَا ِ
()2279 /
الفعل (رغب) يحمل المعنى وضده حَسْب حرف الجر بعده ،نقول :رغب في كذا .أي :أحبه
غبٌ أَنتَ عَنْ آِلهَتِي ياإِبْرَاهِيمُ }
وذهب إليه ،ورَغب عن كذا أي :كرهه واعتزله ،فمعنى { أَرَا ِ
غبُ عَن مّلّةِ إِبْرَاهِيمَ ِإلّ
[إبراهيم ]46 :أي :تاركها إلى غيرها ،كما جاء في قوله تعالىَ {:ومَن يَرْ َ
سفِهَ َنفْسَهُ }[البقرة ]130 :أي :تركها إلى مِلّة أخرى.
مَن َ
ونلحظ أن الفعل رَغِب لم ي ْأتِ مقترنا بعده بفي إل مرة واحدة ،وإنْ كانت (في) مُقدّرة بعد الفعل،
وهذا في قوله تعالى عن نكاح يتامى النساء {:وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ }[النساء.]127 :
والرغبة في الشيء تعني حُبه وعِشْقه ،والرغبة في الطريق الموصّل إليه ،إل أنك لم تسلك هذا
الطريق بالفعل ،ولم تأخذ بالسباب التي تُوصّلك إلى ما ترغب فيه ،وهذا المعنى واضح في قصة
أصحاب الجنة في سورة (ن) حيث يقول تعالى:
سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ * َولَ َيسْتَثْنُونَ * فَطَافَ
{ إِنّا بََلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ ِإذْ َأقْ َ
حتْ كَالصّرِيمِ }[القلم17 :ـ .]20
ك وَهُمْ نَآ ِئمُونَ * فََأصْ َب َ
عَلَ ْيهَا طَآ ِئفٌ مّن رّ ّب َ
فقد اتفقوا على قَطْف ثمار بستانهم في الصباح ،ولم يقولوا :إن شاء ال ،فدمّرها ال وأهلكها وهم
نائمون ،وفي الصباح انطلقوا إلى جنتهم وهم يقولون فيما بينهم:
سكِينٌ }[القلم.]24 :
علَ ْيكُمْ مّ ْ
{ لّ يَ ْدخُلَ ّنهَا الْ َيوْمَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا قطعوا الطريق على أنفسهم حينما حَ َرمُوا المسكين{ فََلمّا رََأوْهَا قَالُواْ إِنّا َلضَآلّونَ * َبلْ َنحْنُ
مَحْرُومُونَ }[القلم26 :ـ ]27ثم تنبهوا إلى ما وقعوا فيه من خطأ ،وعادوا إلى صوابهم فقالو{:
عَسَىا رَبّنَآ أَن يُ ْبدِلَنَا خَيْرا مّ ْنهَآ إِنّآ إِلَىا رَبّنَا رَاغِبُونَ }[القلم.]32 :
أي :راغبون في الطريق الموصّل إليه تعالى ،فقبل أنْ تقول :أنا راغب في ال .قل :أنا راغب
سعْي وعَمل يُوصّلك إلى ما تحب .إذن :قبل أنْ
إلى ال ،فالمسألة ليست حُبا فقط بل حُبا بثمن و َ
تكونوا راغبين في ربكم ارغبوا إليه أولً.
وفي موضع آخر يقول تعالىَ {:ومِ ْنهُمْ مّن يَ ْلمِ ُزكَ فِي الصّ َدقَاتِ }[التوبة ]58 :أي :يعيبك في
سخَطُونَ }[التوبة ]58 :فهم ـ إذن ـ
طوْاْ مِنهَا ِإذَا ُهمْ يَ ْ
توزيعها{ فَإِنْ أُعْطُواْ مِ ْنهَا َرضُو ْا وَإِن لّمْ ُي ْع َ
ل يحبون ال ،وإنما يحبون العطاء والعَرَض الزائل ،بدليل أنهم لما مُ ِنعُوا سخطوا وصرفوا
نظرهم عن دين ال كمَنْ قال ال فيهم:
طمَأَنّ بِ ِه وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْ َنةٌ ا ْنقََلبَ عَلَىا
{ َومِنَ النّاسِ مَن َيعْ ُبدُ اللّهَ عَلَىا حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ
جهِهِ }[الحج.]11 :
وَ ْ
ضوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ
لذلك يُعدّل لهم الحق سبحانه سلوكهم ،ويرشدهم إلى المنهج القويم {:وََلوْ أَ ّنهُمْ َر ُ
وَرَسُولُ ُه َوقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَ ُيؤْتِينَا اللّهُ مِن َفضْلِ ِه وَرَسُوُلهُ إِنّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }[التوبة ]59 :أي:
آخذين الوسيلة الموصّلة إليه ،فالذي يرغب في حب ال عليه أنْ يرغبَ في الطريق الموصّل إليه.
جمَ ّنكَ } [مريم ]46 :أي :تترك هذه المسألة التي تدعو
ثم يقول أبو إبراهيم { :لَئِن لّمْ تَنتَ ِه لَرْ ُ
إليها .والرجْم :هو الرمي بالحجارة ،ويبدو أن عملية الرجم كانت طريقة للتعذيب الشديد ،كما في
جمُوكُمْ َأوْ ُيعِيدُوكُمْ فِي مِلّ ِتهِمْ }[الكهف.]20 :
ظهَرُواْ عَلَ ْيكُمْ يَ ْر ُ
قوله تعالى {:إِ ّنهُمْ إِن يَ ْ
{ وَا ْهجُرْنِي مَلِيّا } [مريم ]46 :أي :ابتعد عني وفارقني { مَلِيّا } [مريم ]46 :المليّ :البُرْهة
الطويلة من الزمن .ومنها الملوة :الفترة الطويلة من الزمن ،والملوَان :الليل والنهار.
سمْته العادل ،ولم يتعدّ أدب
فماذا قال نبي ال إبراهيم لعمه بعد هذه القسوة؟ لم يخرج إبراهيم عن َ
الحوار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة .قال { :قَالَ سَلَمٌ عَلَ ْيكَ }
()2280 /
حفِيّا ()47
علَ ْيكَ سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي إِنّهُ كَانَ بِي َ
قَالَ سَلَامٌ َ
وكأن إبراهيم ـ عليه السلم ـ يريد أنْ يَل ِفتَ نظر عمه ،ويؤكد له أنه في خطر عظيم يستوجب
العذاب من ال ،وهذا أمر يُحزِنه ول يُرضيه ،وكيف يترك عمه دون أنْ يأخذَ بيده؟ فقال له أولً:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ سَلَمٌ عَلَ ْيكَ } [مريم ]47 :أي :سلم مني أنا ،سلم أقابل به ما بدر منك فأمْري معك سلم ،فلن
أقابلَك بمثل ما قُلْت ،ولن أُغلِظ لك ،ولن ينالك مني أذىً ،ولن أقول لكُ :أفّ.
ن يكونَ لك سلما أيضا من ال تعالى؛ لنك وقعت في أمر
لكن السلم منّي أنا ل يكفي ،فل ُبدّ أ ْ
خطير ل يُغفر ويستوجب العذاب ،وأخشى ألّ يكونَ لك سلم من ال.
لذلك قال بعدها { :سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي } [مريم ]47 :كأنه يعتذر عن قوله { :سَلَمٌ عَلَ ْيكَ } [مريم:
]47فأنا ما قُ ْلتُ لك :سلم عليك إل وأنا أنوي أن أستغفرَ لك ربي ،حتى يتمّ لك السلم إنْ رجعتَ
عن عقيدتك في عبادة الصنام ،وهو بذلك يريد أنْ يُحنّنه ويستميل قلبه.
ثم أخبر عن الستغفار في المستقبل فلم يقُلْ استغفرتُ ،بل { سََأسْ َتغْفِرُ } [مريم ]47 :يريد أنْ
يُبرىء استغفاره لعمه من المجاملة والنفاق والخداع ،وربما لو استغفرتُ لك الن لظنِنتُ أنّي
ظهْر غيب ،وهو
أجاملك ،أما { سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ } [مريم ]47 :أي :بعيدا عنك ليكون دعاءً عن َ
أَرْجَى للقبول عند ال.
حفِيّا } [مريم ]47 :يريد أنْ يُطمئِن عمه إلى أن له منزلة عند ال ،فإذا
ثم يقول { :إِنّهُ كَانَ بِي َ
استغفر له ربه فإنه تعالى سيقبل منه.
ح ِفيَ يَحْفيَ ك َرضِي يرضى ،ويأتي بعده حرف جر يُحدّد معناها .تقول :حفيّ به:
وحَفيا :من الفعل َ
أي بالغٍ في إكرامه إكراما يستوعب متطلبات سعادته ،وقابله بالحفاوة :أي بالكرام الذي يتناسب
مع ما يُحقّق له السعادة.
وهذا أمر نسبيّ يختلف باختلف الناس ،فمنهم مَنْ تكون الحفاوة به مجرد أنْ تستقبلَه ولو على
حصيرة ،وتُقدّم له ولو كوبا من الشاي ،ومن الناس مَنْ يحتاج إلى الزينات والفُرُش الفاخرة
والموائد الفخمة ليشعر بالحفاوة به.
حفِيّ عنه :أي بالغ في البحث عنه ليعرف أخباره ،وبلغ من ذلك مبلغا شَقّ عليه وأضناه،
ونقولَ :
ح ِفيّ
وبالعامية يقولون :وصلتُ له بعدما حفيتُ ،ومن ذلك قوله تعالى عن الساعة {:يَسْأَلُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ
س لَ َيعَْلمُونَ }[العراف ]187 :أي :كأنك معنيّ
عَ ْنهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِندَ اللّ ِه وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
بالساعةُ ،مغْرم بالبحث عنها ،دائم الكلم في شأنها.
حفِيّا } [مريم ]47 :أي :أن ربي يبالغ في إكرامي إكراما يُحقّق
إذن :المعنى { :إِنّهُ كَانَ بِي َ
سعادتي ،ومن سعادتي أن ال يغفر لك الذنب الكبير الذي ُتصِرّ عليه ،وكأنه عليه السلم يُضخّم
أمرينْ :يُضخّم الذنب الذي وقع فيه عمه ،وهو الكفر بال ،ويُعظّم الرب الذي سيستغفر لعمه عنده
حفِيّا } [مريم.]47 :
{ إِنّهُ كَانَ بِي َ
حفِيّا بي فلن يخذلني ،كيف وقد جعلني نبيا واحتفى بي ،فكُنْ مطمئنا إنْ أنت تُ ْبتَ مما
وما دام ربي َ
أنت عليه من المعتقدات الباطلة ،إنه سيغفر لك .وكأن إبراهيم عليه السلم يؤكد لعمه على منزلته
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عند ربه ،وما على عمه إل أنْ يسمع كلمه ،ويستجيب لدعوته.
ظلّ إبراهيم ـ عليه السلم ـ يستغفر لعمه كما وعده ،إلى أنْ تبيّن له أنه عدو ل فانصرف عند
وَ
ذلك ،وتبرأ منه ،كما قال تعالىَ {:ومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِي َم لَبِيهِ ِإلّ عَن ّموْعِ َدةٍ وَعَدَهَآ إِيّاهُ فََلمّا
تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ للّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ }[التوبة.]114 :
ثم يقول الحق سبحانه عن إبراهيم ـ عليه السلم ـ أنه قال لقومه } :وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا تَدْعُونَ مِن
دُونِ اللّهِ {
()2281 /
شقِيّا ()48
وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَأَدْعُو رَبّي عَسَى أَلّا َأكُونَ بِدُعَاءِ رَبّي َ
اعتزل :ترك صحبة إلى خير منها ولو في اعتقاده ،وهنا يلفتنا الحق سبحانه إلى إن النسان حين
خصْمه لددا وعنادا في الباطل ،ل يطيل معه الكلم حتى ل يُؤصّل
يجادل في قضية ،ويرى عند َ
فيه العناد ،ويدعوه إلى كبرياء الغَلَبة ولو بالباطل.
لذلك ،فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يُعلّم المعاصرين لرسول ال صلى ال عليه وسلم إنْ أرادوا
البحث في أمره صِدْقا أو كذبا والعياذ بال ،أنْ يبحثوه مَثْنى أو فُرَادى ،ول يبحثوه بَحْثا جماهيريا
غوغائيا؛ لن العمل الغوغائي بعيد عن الموضوعية يستتر فيه الواحد في الجماعة ،وقد يحدث ما
ل تُحمد عُقباه ول يعرفه أحد.
والغوغائية ل يحكمها عقل ول منطق ،والجمهور كما يقولون :عقله في أذنيه .وسبق أن قلنا :إن
صوّروا هذه الهزيمة على أنها نصر ،كما حدث كثيرا على مَرّ
كليوباترا حين هُزِمت وحليفها َ
شعْب دُيُونُ ك ْيفَ يُوحُونَ إليْهمَلَ الجوّ هِتافا بحياتيْ قاتِليْهأثّر
سمَعُ ال ّ
التاريخ ،وفيها يقول الشاعر:أ ْ
البُهتانُ فيه وَانْطلَي الزّورُ عليْهيَاَلهُ مِنْ بَ ّبغَاءٍ عقلُه في أُذُنيْهإذن :فالجمهرة ل تُبدي رأيا ،ول تصل
إلى صواب.
يقول الحق سبحانه للمعاصرين لرسول ال صلى ال عليه وسلم:
ح َدةٍ أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن جِنّةٍ }[سبأ:
ظكُمْ ِبوَا ِ
عُ{ ُقلْ إِ ّنمَآ أَ ِ
.]46
فبَحْث مثل هذا المر يحتاج إلى فرديْن يتبادلن النظر وال ِفكْر والدليل ويتقصيّان المسألة ،فإنْ
تغلّب أحدهما على الخر كان المر بينهما دون ثالث يمكن أنْ يشمتَ في المغلوب ،أو يبحثه فرد
واحد بينه وبين نفسه فينظر في شخص رسول ال ،وما هو عليه من أدب وخُلق ،وكيف يكون مع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا مجنونا؟ وهل رأينا عليه أمارات الجنون؟ والذين قالوا عنه :ساحر لماذا لم يسحرهم كما سحر
التابعين له؟
إذن :لو أدار الشخص الواحد هذه الحقائق على ذِهْنه ،واستعرض الراء المختلفة لهتدى وحده
إلى الصواب ،فالعتزال أمر مطلوب إنْ وجد النسان البيئة غير صالحة لنقاش الباطل مع الحق
خصْم.
ل نُؤصّل الجدل والعناد في نفس ال َ
ض َعفِينَ فِي
سهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْ َت ْ
لذلك يقول تعالى {:إِنّ الّذِينَ َت َوفّا ُهمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ
سعَةً فَ ُتهَاجِرُواْ فِيهَا }[النساء.]97 :
الَ ْرضِ قَالْواْ أََلمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ
أي :كانت الفرصة أمامكم لتتركوا هذه ال ُبقْعة إلى غيرها من أرض ال الواسعة ،وكأن الحق ـ
تبارك وتعالى ـ يُلفت نظرنا إلى أن الرض كلها أرض ال ،فأرض ال الواسعة ليست هي
مصر أو سوريا أو ألمانيا ،بل الرض كلها بل حواجز هي أرض ال ،فمَنْ ضاق به مكانٌ ذهب
إلى غيره ل يمنعه مانع ،وهل يوجد هذا الن؟ هل تستطيع أن تخترق هذه الحواجز ودونها نظم
وقوانين ما أنزل ال بها من سلطان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُ ْبصِرُ }[مريم {،]42 :ياأَ َبتِ لَ َتعْبُدِ الشّ ْيطَانَ }[مريم.]44 :
والقياس يقتضي أن يقول :وأعتزلكم وما تعبدون ..وأدعو ربي .أي :أعبده ،إل أنه عدل عن
العبادة هنا وقال } :وَأَعْتَزُِلكُ ْم َومَا َتدْعُونَ { [مريم ]48 :فلماذا؟
قالوا :لن النسان ل ينصرف عن ربه وعن وحدانيته تعالى إل حين يستغني ،فإنْ ألجأتْهُ
الحداث واضطرته الظروف ل يجد ملجأ إل إلى ال فيدعو .إذن :فالعبادة ستصل قَطْعا إلى
الدعاء ،وما ُد ْمتَ ستضطر إلى الدعاء فليكُنْ من بداية المر:
} وَأَعْتَزُِلكُمْ َومَا َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ { [مريم.]48 :
إذن :استخدم الدعاء بدل العبادة؛ لنني أعبد ال في الرخاء ،فإنْ حدثتْ لي شِ ّدةٌ ل أجد إل هو
أدعوه.
ل أكون شقيا
شقِيّا { [مريم ]48 :أي :عسى أ ّ
وقوله } :وَأَدْعُو رَبّي عَسَى َألّ َأكُونَ ِبدُعَآءِ رَبّي َ
بسبب دعائي لربي؛ لنه تبارك وتعالى ل يُشقي مَنْ عبده ودعاه ،فإنْ أردتَ المقابل َفقُلْ :الشقيّ
ن ل يعبد ال ول يدعوه.
مَ ْ
ثم يقول الحق سبحانه } :فََلمّا اعْتَزََلهُ ْم َومَا َيعْبُدُونَ {
()2282 /
سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ } [مريم ]49 :لم يذكر هنا إسماعيل؛ لن إسحق جاء جزاءً من
قوله { :وَهَبْنَا لَهُ إِ ْ
ال لبراهيم على صبره في مسألة ذَبْح إسماعيل ،وما حدث من تفويضهما المر ل تعالى،
والتسليم لقضائه وقَدرهِ ،كما قال تعالى {:فََلمّا أَسَْلمَا }[الصافات ]103 :أي :إبراهيم وإسماعيل{
وَتَلّهُ لِ ْلجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَ ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا كَ َذِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ * إِنّ هَـاذَا
عظِيمٍ }[الصافات103 :ـ .]107
َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ * َوفَدَيْنَاهُ ِبذِبْحٍ َ
سحَاقَ }[الصافات ]112 :فلما امتثل لمر ال في
ولم يقتصر المر على الفداء ،بل{ وَبَشّرْنَاهُ بِإِ ْ
الولد الول وهبنا له الثاني.
جعَلْنَا صَالِحِينَ }[النبياء:
ق وَ َي ْعقُوبَ نَافِلَ ًة َوكُلّ َ
سحَا َ
وفي آية أخرى يقول تعالى {:وَوَهَبْنَا َلهُ إِ ْ
.]72
كأن الحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية ،ومبالغة في الكرام.
جعَلْنَا نَبِيّا } [مريم ]49 :فليس المتنان بأنْ
ثم يتمنّ ال على الجميع بأن يجعلَهم أنبياء { َوكُلّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهب له إسحاق ومن بعده يعقوب ،بل بأنْ جعلهم أنبياء ،وهذه جاءت بشرى لبراهيم ،وكان حظّه
ن تكونَ في ذريته من بعده ،وكانت هذه هي فكرة زكريا ـ
أنْ يرعى دعوة ال حيا ،ويطمع أ ْ
عليه السلم ـ فكلهم يحرصون على الذرية ل للعزوة والتكاثر وميراث عَ َرضِ الدنيا ،بل لحمل
منهج ال وامتداد الدعوة فيهم والقيام بواجبها.
انظر إلى قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلم {:وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }
حمّله تشريعات فقام بها على أت ّم وجه وأدّاها على وجهها الصحيح ،فلما علم
[البقرة ]124 :أيَ :
عُلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما }[البقرة ]124 :فتثور مسألة المامة
ال منه عِشْقه للتكليف أتمها عليه {:إِنّي جَا ِ
ن تكونَ في ذريته من بعده فيقولَ {:ومِن ذُرّيّتِي }[البقرة ]124 :لذلك
في نفس إبراهيم ،ويطمع أ ْ
يُعدّل الحق سبحانه فكرة إبراهيم عن المامة ،ويضع المبدأ العام لها ،فهي ليستْ ميراثا ،إنها
تكليف له شروط.
عهْدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة.]124 :
ل لَ يَنَالُ َ
{ قَا َ
فالظالمون ل يصلحون لهذه المهمة .فوعي إبراهيم عليه السلم هذا الدرس ،وأخذ هذا المبدأ،
ج َعلْ هَـاذَا بَلَدا
وأراد أنْ يحتاط به في سؤاله لربه بعد ذلك ،فلما دعا ربه {:وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ
آمِنا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ }[البقرة ]126 :فاحتاط لنْ يكونَ في بلده ظالمون ،فقال {:مَنْ آمَنَ
مِ ْنهُمْ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ }[البقرة.]126 :
لكن جاء قياس إبراهيم هنا في غير محله ،فعدّل ال له المسألة؛ لنه يتكلم في أمر خاص بعطاء
الربوبية الذي يشمل المؤمنَ والكافر ،والطائ َع والعاصي ،فقد ضمن ال الرزق للجميع فل داعي
ل َومَن َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيلً ُثمّ َأضْطَ ّرهُ ِإلَىا عَذَابِ
للحتياط في عطاء الربوبية؛ لذلك أجابه ربه {:قَا َ
النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }[البقرة.]126 :
إذن :فهناك فارق بين العطاءين :عطاء الربوبية وعطاء اللوهية ،والمامية في منهج ال ،فعطاء
الربوبية رِزْق يُسَاق للجميع وخاضع للسباب ،فمَنْ أخذ بأسبابه نال منه مَا يريد ،أما عطاء
اللوهية فتكليف وطاعة وعبادة.
يقول تعالى {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا
َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى.]20 :
حمَتِنَا }
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ووَهَبْنَا َلهْم مّن رّ ْ
()2283 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَتِنَا } [مريم ]50 :المراد بالرحمة النبوة؛ لذلك لما قال أهل العظمة والجاه
قوله تعالى { :مّن رّ ْ
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ
المعاصرون لرسول ال صلى ال عليه وسلمَ {:ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
عَظِيمٍ }[الزخرف ]31 :وكأنهم استقلّوا رسول ال أن يكون في هذه المنزلة ،رَدّ عليهم القرآن{:
ح َمتَ رَ ّبكَ }[الزخرف.]32 :
سمُونَ َر ْ
أَهُمْ َيقْ ِ
إذن :فعطاؤه تعالى في النبوات رحمةٌ أشاعها ال في ذرية إبراهيم.
صدْقٍ عَلِيّا } [مريم ]50 :أي :كلمة صدق وحق ثابت مطابق للواقع،
ن ِ
جعَلْنَا َل ُهمْ لِسَا َ
وقوله { :وَ َ
ولسان الصّدْق يعني مَدْحا في موضعه ،وثناءً بحق ل مجاملةَ فيه ،والثناء يكون باللسان ،وها نحن
نذكر هذا الرْكب من النبياء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بالثناء الحسَن والسيرة الطيبة،
ونأخذهم قدوة ،وهذا كله من لسان الصدق ،ويبدو أنها دعوةُ إبراهيم حين قال:
ن صِ ْدقٍ فِي الخِرِينَ }[الشعراء83 :ـ
جعَل لّي لِسَا َ
حقْنِي بِالصّالِحِينَ * وَا ْ
حكْما وَأَ ْل ِ
{ َربّ َهبْ لِي ُ
.]84
ثم يقول الحق سبحانه { :وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مُوسَىا }
()2284 /
وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مُوسَى إِنّهُ كَانَ مُخَْلصًا َوكَانَ رَسُولًا نَبِيّا ()51
وهذا أيضا ركْب من ركْب النبوات ،وقد أخذ قصة موسى عليه السلم حَيّزا كبيرا من كتاب ال لم
تأخذه قصة نبي آخر ،مما دعا الناس إلى التساؤل عن سبب ذلك ،حتى بنو إسرائيل يُفضّلون
أنفسهم على الناس بأنهم أكثر المم أنبياءً ،وهذا من غبائهم؛ لن هذه تُحسَب عليهم ل لهم ،فكثرة
النبياء فيهم دليل على عنادهم وغطرستهم مع أنبيائهم.
فما من أمة حيّرتْ النبياء ،وآذتْهم كبني إسرائيل؛ لذلك كَثُرَ أنبياؤهم ،والنبياء أطباء القِيَم وُأسَاة
عضَالً يحتاج في علجه ل لطبيب
أمراضها ،فكثرتهم دليل تقشّي المرض ،وأنه أصبح مرضا ُ
واحد ،بل لفريق من الطباء.
والبعض يظن أن قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ ،كما نقول نحن ونقصّ :كان يا ما
كان حدث كذا وكذا ،ولو كانت قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ لجاءتْ مرة واحدة.
لكنها ليست كذلك؛ لن الحكمة من َقصّها على رسول ال كما قال تعالىَ {:وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ
سلِ مَا نُثَ ّبتُ ِبهِ ُفؤَا َدكَ }[هود.]120 :
أَنْبَاءِ الرّ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فالهدف من هذا ال َقصَص تثبيت النبي صلى ال عليه وسلم في دعوته لقومه؛ لنه سيتعرض
لمواقف وشدائد كثيرة يحتاج فيها إلى تثبيت ومواساة وتسلية ،فكلما جَدّ بينه وبين قومه أمر قال له
ربه :اذكر موسى حين فعل كذا وكذا ،وأنت خاتم الرسل ،وأنت التاج بينهم ،فل ُبدّ لك أنْ تتحمّل
وتصبر.
أما لو نزلت مثل هذه القصة مرة واحدة لكان التثبيت بها مرة واحدة ،وما أكثر الحداث التي
تحتاج إلى تثبيت في حياة الدعوة.
لذلك نجد خصوم السلم يتهمون القرآن بالتكرار في قصة موسى عليه السلم ،وهذا دليلٌ على
قصورهم في َفهْم القرآن ،فهذه المواضع التي يروْنَ فيها تكرارا ما هي إل لقطات مختلفة
لموضوع واحد ،لكن لكل لقطة منها موقع وميلد ،فإذا جاء موقعها وحان ميلدها نزلتْ.
ومما رأوا فيه تكرارا ،وليس كذلك قوله تعالى عن موسى عليه السلم طفلً {:عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّهُ }
[طه ]39 :ونتساءل :متى تستعر العداوة بين عدوين؟ إنْ كانت العداوة من طرف واحد فإن
الطرف الخر يقابلها بموضوعية ودون َلدَدٍ في الخصومة إلى أنْ تهدأ العداوة بينهما ،فهو عدو
دون عداوة ،فحينما يراه صاحب العداوة على هذا الخُلق يصرف ما في نفسه من عداوة له ،كما
قال تعالى:
حمِيمٌ }[فصلت.]34 :
عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
ك وَبَيْنَهُ َ
{ ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ
أمّا إنْ كانت العداوة بين عدوّيْن حقيقيين :هذا عدو وهذا عدو ،هنا تستعر العداوة ،وتزكو نارها،
ويحتدم بينهما صراع ،ول بُدّ أنْ يصرَع أحدهما الخر.
والحق تبارك وتعالى حينما تكلّم عن موسى وفرعون ،جعل العداوة مرة من موسى في قوله
تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ع ُدوّ لّهُ }[طه38 :ـ .]39
ع ُدوّ لّي وَ َ
حلِ يَ ْأخُ ْذهُ َ
فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْ َيمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ
والمستشرقون أحدثوا ضجة حول هذه اليات :لنهم ل يفهمون أسلوب القرآن ،وليست لديهم
خ ْفتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي
المَلكَة العربية للتلقّي عن ال ،فهناك فَرْق بين السياقين ،فالكلم الول {:فَإِذَا ِ
اليَمّ }[القصص ]7 :هذه أحداث لم تقع بعد ،إنها ستحدث في المستقبل ،والكلم مجرد إعداد أم
موسى للحداث قبل أنْ تقعَ.
أمّا المعنى الثاني فهو مباشر للحداث وقت وقوعها؛ لذلك جاء في عبارات مختصرة كأنها
برقيات حاسمة لتناسب واقع الحداث:
{ أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْ َيمّ }[طه.]39 :
كما أن الية الولى ذكرت {:فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ }[القصص ]7 :ولم تذكر التابوت كما في الية
الخرى {:أَنِ ا ْق ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْ َيمّ }[طه.]39 :
إذن :ليس في المسألة تكرار كما يدّعي المغرضون؛ فكل منهما تتحدث عن حال معين ومرحلة
من مراحل القصة.
ثم يقول تعالى } :وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ مُوسَىا إِنّهُ كَانَ مُخْلِصا { [مريم ]51 :من خَّلصَ شيئا من
أشياء ،أي :استخرج شيئا من أشياء كانت مختلطة به ،كما نستخلص مثلً العطور من الزهور،
فقد أخذت الجيد وتركت الرديء ،وبالنسبة للنسان نقول :فلن مُخلص لن النسان مركب من
ملكات متعددة لتخدم كل حركة في الحياة ،وكل مََلكَة من مَلكَاته ،أو جهاز من أجهزته له مهمة
يؤديها ،إل أنها قد تدخل عليها أشياء ليست من مهمته ،أو تخرج عن غاياتها فتحدث فيه بعض
الشوائب ،فيحتاج النسان لنْ يُخلّص نفسه من هذه الشوائب.
فمثلً ،الحق ـ تبارك وتعالى ـ جعل التقاء الرجل والمرأة لهدف محدد ،وهو بقاء النوع؛ لذلك
تجد الحيوان المحكوم بالغريزة ل بالعقل والختيار إذا أدى ُكلّ من الذكر والنثى هذه المهمة ل
يمكن أنْ تُمكّن النثى الذكر منها ،وكذلك الذكر ل يأتي النثى إذا علم من رائحتها أنها حامل.
إذن :وقف الحيوان بهذه الغريزة عند مهمتها ،وهي حفظ النوع ،لكن النسان لم يقف بهذه الغريزة
حفْظ النوع تابعا لها.
عند حدودها ،بل جعلها مُتعةً شخصية يأتي ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي الحديث الشريف " :بحسب ابن آدم لقيمات ُي ِقمْنَ صُلْبه ،فإن كان ول بُدّ فاعلً ،فثُلث لطعامه،
وثُلث لشرابه ،وثُلث لنفَسِه ".
ومن الغرائز أيضا غريزة حب الستطلع ،فالنسان يحب أن يعرف ما عند الخر ليحدث بين
الناس الترقي اللزم لحركة الحياة ،ومعرفة أسرار ال في الكون ،وهذا هو الحد المقبول أما أن
يتحول حب الستطلع إلى التجسس وتتبّع عورات الخرين ،فهذا ل يُقبل و ُيعَدّ من شوائب
النفوس ،يحتاج إلى أنْ نُخلّص أنفسنا منه.
حدّها
إذن :لكل غريزة حكمة ومهمة يجب ألّ نخرج عنها ،والمُخْلَص هو الذي يقف بغرائزه عند َ
ل يتعدّاها ويخلصها من الشوائب التي تحوط بها .وهذه الصفة إمّا أنْ يكرم ال بها العبد فيُخلّصه
من البداية من هذه الشوائب ،أو يجتهد هو ليُخلّص نفسه من شوائبها باتباعه لمنهج ال .هذا هو
المُخْلَص :أي الذي خلص نفسه.
لذلك ،يقولون :من الناس مَنْ يصِل بطاعة ال إلى كرامة ال ،ومن الناس مَنْ يصل بكرامة ال
إلى طاعة ال .وقد جعل ال تعالى النبياء مخْلَصين من بدايتهم ،ليكونوا جاهزين لهداية الناس،
ول يُضيّعون أوقاتهم في تخليص أنفسهم من شوائب الحياة وتجاربها.
ألم يستمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلثا وعشرين سنة يُعلّم الناس كيف ُيخِلصون أنفسهم؟
فكيف إنْ كان النبي نفسه في حاجة لنْ يُخلص نفسه؟
غوِيَ ّنهُمْ
ك لُ ْ
ولمكانة هؤلء المخْلَصين ومنزلتهم تأدّب إبليس وراعى هذه المنزلة حين قال {:فَ ِبعِزّ ِت َ
ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص82 :ـ .]83
أَ ْ
لن هؤلء ل يقدر إبليس على غوايتهم.
ثم يقول تعالىَ } :وكَانَ رَسُولً نّبِيّا { [مريم ]51 :لن من عباد ال مَنْ يكون مخْلَصا دون أن
يكون نبيا أو رسولً كالعبد الصالح مثلً؛ لذلك أخبر تعالى عن موسى ـ عليه السلم ـ أنه جمع
له كل هذه الصفات.
والرسول :مَنْ أُوحي إليه بشرع يعمل به و ُي ْؤمَر بتبليغه لقومه ،أما النبي ،فهو مَنْ أُوحِي إليه
بشرع يعمل به لكن لم ُي ْؤمَر بتبليغه .إذن :فكل رسول نبي ،وليس كل نبي رسولً؛ لن النبي
يعيش على منهج الرسول الذي يعاصره أو يسبقه.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَنَادَيْنَاهُ مِن جَا ِنبِ الطّورِ {
()2285 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ي مكان ل
قوله تعالى { :مِن جَا ِنبِ الطّو ِر الَ ْيمَنِ } [مريم ]52 :أيمن الطور ،أَمْ أيمن موسى؟ أ ّ
يُقال له أيمن ول أيسر ،إنما اليمن واليسر بالنسبة لك أو لغيرك ،فالذي تعتبره أنت يمينا يعتبره
غيرُك يسارا ،ول يُقال للمكان أيمن ول أيسر إل إذا قِسْته إلى شيء ثابت كالقِبْلة مثلً فتقول :أيمن
القبلة ،وأيسر القبلة ،وخلف القِبْلة ،وأمام القِبْلة.
إذن :فقوله { :مِن جَا ِنبِ الطّو ِر الَ ْيمَنِ } [مريم ]52 :أي :أيمن موسى ،وهو مُقبل على الجبل،
ل وَسَارَ
جَوهذه لقطة مختصرة من القصة جاءت مُفصّلة في قوله تعالى {:فََلمّا َقضَىا مُوسَى الَ َ
بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَا ِنبِ الطّورِ نَارا }[القصص.]29 :
وقولهَ { :وقَرّبْنَاهُ نَجِيّا } [مريم ]52 :أي :قرّبْناه لِنُنَاجيه بكلم .والنجيّ :هو المنَاجِي الذي ُيسِرّ
القول إلى صاحبه ،كما جاء في الحديث الشريف " :إذا كنتم ثلثة فل ينتاجَ اثنان دون الخر ،فإن
ذلك يُحزِنه ".
وقد قرّب ال تعالى موسى ليناجيه؛ لن هذه خصوصية لموسى عليه السلم ،فكلم ال لموسى
ن قلتَ :فكيف يكلّمه ال بكلم ،ويسمى مناجاة؟ قالوا :لنه
خاصّ به وحده ل يسمعه أحد غيره ،فإ ْ
تعالى أسمعه موسى ،وأخفاه عن غيره ،فصار مناجاة كما يتناجى اثنان سِرا .وهذا من طلقة
قدرته تعالى أن يُسمع هذا ،ول يُسمع ذاك.
وبعض المفسرين يرى أن (اليمن) ليس من اليمين ،ولكن من ال ُيمْن والبركة .و { َوقَرّبْنَاهُ }
[مريم ]52 :أي :من حضرة الحق تبارك وتعالى .لكن هل حضرة الحق قُرْب منه ،أم موسى هو
الذي قَرُب من حضرة الحق سبحانه؟ كيف نقول إن ال قرب منه وهو سبحانه أقرب إليه من حبل
الوريد ،فالتقريب إذن لموسى عليه السلم.
وهكذا جمع الحق ـ تبارك وتعالى ـ لموسى عدةٍ خصال ،حيث جعله مخلَصا ورسولً ونبيا،
حمَتِنَآ }
خصّه بالكلم والمناجاة ،ثم يزيده هِبةً أخرى في قولهَ { :ووَهَبْنَا َلهُ مِن رّ ْ
وَ
()2286 /
وهب ال لموسى أخاه هارون رحم ًة بموسى؛ لن هارون كان مُعينا لخيه ومساندا له في مسألة
الدعوة ،وهذه لم تحدث مع نبي آخر أن يجعل ال له معينا في حمل هذه المهمة؛ لذلك قال موسى
عليه السلم {:وَأَخِي هَارُونُ ُهوَ َأ ْفصَحُ مِنّي ِلسَانا فَأَرْسِ ْلهُ َمعِيَ ِردْءا ُيصَ ّدقُنِي إِنّي أَخَافُ أَن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ُيكَذّبُونِ }[القصص.]34 :
والرّدْء :هو المعين .وهكذا أعطانا الحق ـ تبارك وتعالى ـ لقطة سريعة من موكب النبوة في
قصة موسى ،ولمحة مُوجَزة هنا أتى تفصيلها في موضع آخر.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ }
()2287 /
قوله تعالى { :إِنّهُ كَانَ صَادِقَ ا ْلوَعْدِ } [مريم ]54 :ما الميزة هنا وكل الرسل كانوا صادقي الوعد؟
قالوا :لن هناك صفة تبرز في شخص ويتميز بها ،وإن كانت موجودة في غيره ،فالذي يصدُق
في وعد أعطاه ،أو كلمة قالها صدق في أمر يملكه ويتعلق به.
أما إسماعيل ـ عليه السلم ـ فكان صادق الوعد في أمر حياة أو موت ،أمر يتعلق بنفسه ،حين
قال لبيه {:ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }[الصافات.]102 :
وليت المر جاء مباشرة ،إنما رآه غيره ،وربما كانت المسألة أيسَر لو أن الولد هو الذي رأى أباه
يذبحه ،لكنها ُرؤْيا رآها الب ،والرؤيا ل يثبت بها حكم إل عند النبياء .فكان إسماعيل دقيقا في
حكَ فَانظُرْ
إجابته حينما أخبره أبوه كأنه يأخذ رأيه في هذا المر {:إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي َأذْبَ ُ
مَاذَا تَرَىا }[الصافات.]102 :
فخاف إبراهيم عليه السلم أن يُقبل على ذَبْح ولده دون أن يخبره حتى ل تأتي عليه فترة يمتلىء
غيظا من أبيه إذا كان ل يعرف السبب ،فأحبّ إبراهيم أن يكون استسلمُ ولده للذبح قُرْبَى منه ل،
له أجْرُها وثوابها.
قال إسماعيل عليه السلم لبيه إبراهيم {:ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ }[الصافات.]102 :
والوعد الذي صدق فيه قوله {:سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }[الصافات ]102 :وصدق
إسماعيل في وعده ،واستسلم للذبح ،ولم يتردد ولم يتراجع؛ لذلك استحق أنْ يميزه ربه بهذه الصفة
ن صَا ِدقَ ا ْلوَعْدِ } [مريم.]54 :
{ إِنّهُ كَا َ
فلما رأى الحق ـ تبارك وتعالى ـ استسلم إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلم ـ لقضاء ال
رفع عنه قضاءه وناداه {:وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَ ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا َكذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ *
عظِيمٍ }[الصافات104 :ـ ]107فكانت نتيجة الصبر
إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ * َوفَدَيْنَاهُ ِبذِبْحٍ َ
على هذا البتلء أنْ فدى ال الذبيح ،وخلّصه من الذبح ،ثم أكرم إبراهيم فوق الولد بولد آخر{:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سحَاقَ }[النعام.]84 :
َووَهَبْنَا لَهُ إِ ْ
وهذه لقطة قرآنية تُعلّمنا أن المسلم إذا استسلم لقضاء ال ،و َرضِي بقدره فسوف يجني ثمار هذا
الستسلم ،والذي يطيل أمد القضاء على الناس أنهم ل يرضون به ،والحق تبارك وتعالى ل
يجبره أحد ،فالقضاء نافذ نافذ ،رضيتَ به أم لم تَ ْرضَ.
وحين تسلم ل وترضى بقضائه يرفعه عنك ،أو يُبيّن لك وجه الخير فيه .إذن :عليك أن تحترم
القدر وترضى به؛ لنه من ربك الخالق الحكيم ،ول يُرفع قضاء ال عن الخلق حتى يرضوا به.
وكثيرا ما نرى اعتراض الناس على قضاء ال خاصة عند موت الطفل الصغير ،فنراهم يُكثِرون
عليه البكاء والعويل ،يقول أحدهم :إنه لم يتمتع بشبابه.
صغَره دنيا باطلة زائلة،
ونعجب من مثل هذه الجهالت :أيّ شباب؟ وأيّة متعة هذه؟ وقد فارق في ِ
ومتعة موقوتة إلى دار باقية ومتعة دائمة؟ كيف وقد فارق العيش مع المخلوق ،وذهب إلى رحاب
الخالق سبحانه؟
إنه في نعيم لو عرفتَه لتمنيتَ أن تكون مكانه ،ويكفي أن هؤلء الطفال ل يُسألون ول يُحاسبون،
وليس لهم مسكن خاص في الجنة؛ لنهم طلقاء فيها يمرحون كما يشاؤون؛ لذلك يسمونهم
(دعاميص الجنة).
وآخر يعترض لن زميله في العمل ُرقّي حتى صار رئيسا له ،فإذا به يحقد عليه ويحقره،
وتشتعل نفسه عليه غضبا ،وكان عليه أن يتساءل قبل هذا كله :أأخذ زميله شيئا من مُلْك ال دون
قضائه وقدره ،إذن :فعليك إذا لم تحترم هذا الزميل أن تحترم قدر ال فيه ،فما أخذَ شيئا غصبا
عن ال.
لذلك فالنبي صلى ال عليه وسلم يقول " :اسمعوا وأطيعوا ،ولو وُلّى عليكم عبد حبشيّ ،كأنّ رأسَه
زبيبة ".
لةِ {
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وكَانَ يَ ْأمُرُ أَ ْهلَهُ بِالصّـ َ
()2288 /
َوكَانَ يَ ْأمُرُ َأهْلَهُ بِالصّلَا ِة وَال ّزكَا ِة َوكَانَ عِنْدَ رَبّهِ مَ ْرضِيّا ()55
لةِ
أي :من خصال إسماعيل العظيمة التي ذكرها ال تعالى لهَ { :وكَانَ يَ ْأمُرُ أَهَْلهُ بِالصّـ َ
خصْلة ول يذكرها إل إنْ
وَال ّزكَـاةِ } [مريم ]55 :أي :زوجته .والحق تبارك وتعالى ل يهتم ب َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن يتصفَ بصفة من
كانت كبيرة عنده ،تساوي كونه صادقَ الوعد وكونه رسولً ونبيا ،فمَنْ أراد أ ْ
صفات النبوة ،فعليه أنْ يأمرَ أهله بالصلة والزكاة.
ن صَلُحتْ للرجل صَلُحَ له
لكن ،لماذا اختص أهله بالذات؟ اختص أهله لنهم البيئة المباشرة التي إ ْ
حتْ له ذريته ،إذا كان الرجل يلفت أهله إلى ذكر ال والصلة خمس مرات في اليوم
بيته ،وصَلُ َ
والليلة فإنه بذلك يسدّ الطريق على الشيطان ،فليس له مجال في بيت يصلي أهله الخمس صلوات.
لذلك فالنبي صلى ال عليه وسلم يقول " :رحم ال امرأ استيقظ من الليل ،فصلّى ركعتين ثم أيقظ
أهله فإن امتنعتْ نضح في وجهها الماء ،ورحم ال امرأة قامت من الليل فصّلتْ ركعتين ،ثم
أيقظتْ زوجها ،فإنِ امتنع نضحتْ في وجهه الماء ".
إذن :فكل رجل وكل امراة يستطيع في كل ليلة أن يكون رسولً لهله ولبيئته يقوم فيها بمهمة
الرسول؛ لن محمدا صلى ال عليه وسلم هو خاتم النبياء والرسل ،فليس بعد تشريعه تشريع،
حكْما
وليس بعد كتابه كتاب؛ لن أمته ستحمل رسالته من بعده ،وكل مؤمن منهم يعلم من السلم ُ
فهو خليفة لرسول ال في تبليغه.
شهِيدا }[البقرة ]143 :فالرسول
شهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ َ
كما قال تعالى {:لّ َتكُونُواْ ُ
يشهد أنه بلّغكم ،وعليكم أنْ تشهدوا أنكم بلّغتُم الناس ،وما ُدمْتم بلّغتم الناس مَنْطِقا ولفظا فل بُدّ أنْ
يكون سلوكا أيضا ،لن لكم في رسول ال أسوة حسنة.
ودائما ما يقرن الحق ـ تبارك وتعالى ـ بين الصلة والزكاة ،والصلة تأخذ بعض الوقت،
والزكاة تأخذ المال الذي هو فرع العمل الذي هو فرع الوقت ،فإنْ كانت الزكاة تأخذ نتيجة الوقت،
فالصلة تأخذ الوقت نفسه .إذن :ففي الصلة زكاة أبلغ من الزكاة.
وإنْ كان في الزكاة نماء المال وبركته ـ وإنْ كانت في ظاهرها نقصا ـ ففي الصلة نماء الوقت
وبركته ،فإياك أنْ تقول :أنا مشغول ،ول أجد وقتا للصلة؛ لن الدقائق التي ستصلي فيها فَرْض
ربك هي التي ستُشِيع البركة في وقتك كله.
كما أنك حين تقف بين يَ َديْ ربك في الصلة تأخذ شحنة إيمانية نوارنية تُعينك على أداء مهمتك
في الحياة ،وتعرض نفسك على ربّك وخالقك وصانعك ،ولن تُعدم خيرا ينالك من هذا اللقاء.
ن تتصوّر صنعةً تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم ،هل يصيبها عُطْل أو عَطَب؟!
ولك أ ْ
سيّ مشهود ،أما الخالق سبحانه فهو غَيْب
وإنْ كان المهندس الصانع يعالج بأشياء مادية فلنه حِ ّ
يصلحك من حيث ل تدري.
وإنْ كان إسماعيل ـ عليه السلم ـ يأمر أهله بالصلة والزكاة فهو حريص عليها من باب َأوْلَى.
وقوله تعالىَ { :وكَانَ عِندَ رَبّهِ مَ ْرضِيّا } [مريم ]55 :أي :رضي ال عنه ،ليس لخصال الخير
التي وصفه بها ،بل من بدايته ،فقد رضي عنه فاختاره رسولً ونبيا.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ ِإدْرِيسَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2289 /
()2290 /
()2291 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ح َومِنْ ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ
حمَلْنَا مَعَ نُو ٍ
أُولَ ِئكَ الّذِينَ أَ ْن َعمَ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنَ النّبِيّينَ مِنْ ذُرّيّةِ آَ َد َم َو ِممّنْ َ
سجّدًا وَ ُبكِيّا ()58
حمَنِ خَرّوا ُ
ل َو ِممّنْ َهدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آَيَاتُ الرّ ْ
وَإِسْرَائِي َ
قوله تعالى { :أُولَـا ِئكَ } [مريم ]58 :أي :الذين تقدّموا وسبق الحديث عنهم من النبياء والرسل {
حمَلْنَا مَعَ نُوحٍ }
مِن ذُرّيّةِ ءَا َدمَ } [مريم ]58 :أي :مباشرة مثل إدريس عليه السلم { َومِمّنْ َ
[مريم ]58 :الذين جاءوا بعد إدريس مباشرة { َومِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ } [مريم ]58 :أي :الذين جاءوا
بعد نوح.
وقد انقسموا إلى فرعين من ذرية إبراهيم.
الول :فرع إسحق الذي جاء منه جمهرة النبوة ،بداية من يعقوب ،ثم يوسف ،ثم موسى وهارون،
ثم داود وسليمان ،ثم زكريا ويحيى ،ثم ذو الكفل ،ثم أيوب ،ثم النون.
والفرع الخر :فرع إسماعيل عليه السلم الذي جاء منه جماع جواهر النبوة ،وهو محمد صلى
ال عليه وسلم.
{ وَإِسْرَائِيلَ } [مريم ]58 :هو نبيّ ال يعقوب { َو ِممّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ } [مريم ]58 :الذي هديناهم
حمَـانِ خَرّواْ سُجّدا وَ ُبكِيّا
واجتبيناهم .أي :اخترناهم واصطفيناهم للنبوة { إِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُ الرّ ْ
} [مريم.]58 :
حمَـانِ } [مريم ]58 :ولم ي ُقلْ :آيات ال؟ قالوا :لن آيات ال تحمل منهجا
لماذا قال { آيَاتُ الرّ ْ
ن تفهموا أن ال يُكلّفكم بالمشقة ،وإنما
وتكليفا ،وهذا يشقّ على الناس ،فكأنه يقول لنا :إياكم أ ْ
يُكلّفكم بما يُسعِد حركة حياتكم وتتساندون ،ثم يسعدكم به في الخرة؛ لذلك اختار هنا صفة
الرحمانية.
وقوله { :خَرّواْ سُجّدا وَ ُبكِيّا } [مريم ]58 :لم يقُل :سجدوا ،بل سقطوا بوجوههم سريعا إلى
خلَ للعقل فيه ول للتفكير ،فالساجد يستطيع أنْ يسجدَ
الرض .وهذا انفعال قَسْري طبيعي ،ل َد ْ
سقْفُ مِن
بهدوء ونظام ،أما الذي يخ ّر فل يفكر في ذلك ،وهذا أشبه بقوله تعالى {:فَخَرّ عَلَ ْيهِمُ ال ّ
َف ْو ِقهِمْ }[النحل ]26 :أي :سقط عليهم فجأة.
وهذا النفعال يُسمّونه " انفعال نزوعي " ناتج عن الوجدان ،والوجدان ناتج عن الدراك ،وهذه
مظاهر الشعور الثلثة :الدراك ،ثم الوجدان ،ثم النزوع .والنسان له حواس يُدرِك بها :العين
والذن والنف واللسان ..الخ.
فهذه وسائل إدراك المحسّات ،فإذا أدركتَ شيئا بحواسّك تجد له تأثيرا في نفسك ،إما حُبا وإما
ُبغْضا ،إما إعجابا وإما انصرافا ،وهذا الثر في نفسك هو الوجدان ،ثم يصدر عن هذا الوجدان
حركة هي " النزوع ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فمثلً ،لو رأيتَ وردة جميلة فهذه الرؤيا " إدراك " ،فإنْ أُعج ْبتَ بها وسُ رِ ْرتَ فهذا " وجدان " ،
فإنْ مد ْدتَ يدك لتقطفها فهذا " نزوع " .والشرع ل يحاسبك على الدراك ول على الوجدان ،لكن
حين تمد يدك لقطف هذه الوردة نقول لك :قفْ فهذه ليست لك ،ول يمنعك الشارع ويتركك ،إنما
يمنعك ويوحي لك بالحلّ المناسب لنزوعك ،فعليك أنْ تزرع مثلها ،فتكون مِلْكا لك أو على القل
تستأذن صاحبها.
كذلك الحال فيمن تسمّع لكلم ال وقرآنه يدرك القرآن بسمعه فينشأ عنه حلوة ومواجيد في نفسه،
وهذا هو الوجدان الذي ينشأ عنه انفعال نُزوعي ،فل يجد إل أنْ يخر ساجدا ل تعالى.
والنزوع هنا لم يُكنْ نزوعا ظاهريا بل وأيضا داخليا ،ففاضت أعينهم بالدمع } سُجّدا وَ ُبكِيّا
{ [مريم.]58 :
وقد عُولج هذا المعنى في عِدّة مواضع ُأخَر ،كما في قوله تعالىُ {:قلْ آمِنُواْ ِبهِ َأ ْو لَ ُت ْؤمِنُواْ إِنّ
الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِ ْلمَ مِن قَبْلِهِ ِإذَا يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ يَخِرّونَ لِلَ ْذقَانِ سُجّدا }[السراء.]107 :
ومعنى :للذقان :مبالغة في الخضوع والخشوع واستيفاء السجود؛ لن السجود يكون أولً على
الجبهة ثم النف لكن على الذقان ،فهذا سجود على حَقّ ،وليس كنقْر الديكَة كما يقولون.
إذن :فأهل الكتاب كانوا على علم ببعثة محمد صلى ال عليه وسلم ،وأنه سيأتي بالقرآن على فَتْرة
ن وَعْدُ رَبّنَا َلمَ ْفعُولً }
من الرسل ،وها هم الن يسمعون القرآن؛ لذلك يقولون {:سُ ْبحَانَ رَبّنَآ إِن كَا َ
[السراء.]108 :
س ِمعُواْ مَآ أُن ِزلَ ِإلَى الرّسُولِ تَرَى
ومن النزوع النفعالي أيضا قوله تعالى عن أهل الكتاب {:وَإِذَا َ
أَعْيُ َنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُواْ مِنَ ا ْلحَقّ }[المائدة.]83 :
شوْنَ رَ ّب ُهمْ ثُمّ
شعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْ َ
وقوله تعالى {:اللّهُ نَ ّزلَ َأحْسَنَ ا ْلحَدِيثِ كِتَابا مّتَشَابِها مّثَا ِنيَ َتقْ َ
جلُودُهُ ْم َوقُلُو ُبهُمْ إِلَىا ِذكْرِ اللّهِ }[الزمر.]23 :
تَلِينُ ُ
فلماذا يُؤثّر النفعال بالقرآن في ُكلّ هذه الحواس والعضاء من جسم النسان؟ قالوا :لن الذي
خلق التكوين النساني هو الذي يتكلم ،والخالق سبحانه حينما يتكلم وحينما تفهم عنه وتعي ،فإنه
سبحانه ل يخاطب عقلك فقط ،بل يخاطب كل ذرة من ذَرّات تكوينك؛ لذلك تخِرّ العضاء ساجدة،
وتدمع العيون ،وتقشعر الجلود ،وتلين القلوب ،كيف ل والمتكلم هو ال؟
ثم يقول الحق سبحانهَ } :فخََلفَ مِن َبعْدِ ِهمْ خَ ْلفٌ {
()2292 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خَلفَ مِن َب ْعدِهِمْ خَ ْلفٌ } [مريم ]59 :أي :أن المسائل لم تستمر على ما هي عليه
قوله تعالى { :فَ َ
من الكلم السابق ِذكْره ،بل خَلفَ هؤلء القوم (خَ ْلفٌ) والخَلْف :هم القوم الذين يخلُفون النسان:
أي :يأتون بعده أو من ورائهم.
عقِب النسان وأولده،
وهناك فَرْق بين خَلْف وخَلَف :الولى :بسكون اللم ويُراد بها الشرار من َ
والخرى :بفتح اللم ويُراد بها الخيار .لذل ،فالشاعر حينما أراد أنْ يتحسّر على أهل الخير الذي
َمضَوْا قال:ذَ َهبَ الذِينَ يُعاشُ فِي أكنَافِه ْم و َبقِيتُ في خَلْف كجِ ْلدِ الجْرَبِفماذا تنتظر من هؤلء
ش َهوَاتِ } [مريم]59 :
ل َة وَاتّ َبعُواْ ال ّ
الشرار؟ ل بُدّ أنْ يأتي بعدهم صفات سوء { َأضَاعُواْ الصّ َ
إذن :هم خَلْف فاسد ،فأول ما أضاعوا أضاعوا الصلة التي هي عماد الدين ،وَأوْلَى أركانه
بالداء.
عدّة أركان ،لكن بعض هذه الركان قد يسقط عن المسلم ،ول يُطْلب
صحيح أن السلم بُني على ِ
منه كالزكاة والحج والصيام ،فيبقى ركنان أساسيان ل يسقطان عن المسلم بحال من الحوال،
هما :شهادة أن ل إله إل ال ،وأن محمدا رسول ال ،وإقامة الصلة.
وسُئِلْنَا مرة من بعض إخواننا في الجزائر :لماذا نقول لمن يؤدي فريضة الحج :الحاج فلن ،ول
نقول للمصلى :المصلى فلن ،أو المزكّى فلن ،أو الصائم فلن؟
فقلت للسائل :لن الحج تتم نعمة ال على العبد ،وحين نقول :الحاج فلن .فهذا إشعار وإعلم أن
ال أتمّ له النعمة ،واستوفى كل أركان السلم ،فمعنى أنه أدّى فريضة الحج أنه مستطيع مالً
وصحة ،وما دام عنده مال فهو يُزكّي ،وما دام عنده صحة فهو يصوم ،وهو بالطبع يشهد أل إله
إل ال وأن محمدا رسول ال ويؤدي الصلة ،وهكذا ت ّمتْ له بالحج جميع أركان السلم.
سوْفَ يَ ْلقُونَ غَيّا } [مريم ]59 :هذه العبارة أخذها المتمحّكون الذين يريدون أنْ
ثم يقول تعالىَ { :ف َ
يدخلوا على القرآن بنقد ،فقالوا :ال َغيّ هو الشر والضلل والعقائد الفاسدة ،وهذه حدثتْ منهم بالفعل
في الدنيا فأضاعوا الصلة واتبعوا الشهوات ،فكيف يقول :فسوف يلقوْنه في المستقبل؟
لكن المراد بالغيّ هنا أي :جزاء الغي وعاقبته .كما لو قُلْت :أمْطرتْ السماء نباتا ،فالسماء لم
تُمطر النبات ،وإنما الماء الذي يُخرِج النبات ،كذلك غيّهم وفسادهم في الدنيا هو الذي جَرّ عليهم
العذاب في الخرة.
إذن :المعنى :فسوفَ يلقْونَ عذابا وهلكا في الخرة.
ومع ذلك ،فالحق ـ تبارك وتعالى ـ لرحمته بخَلْقه شرع لهم التوبة ،وفتح لهم بابها ،ويفرح بهم
إنْ تابوا؛ لذلك فالذين اتصفُوا بهذه الصفات السيئة فأضاعوا الصلة واتبعوا الشهوات ل ييأسون
من رحمة ال ،مادام بابُ التوبة مفتوحا.
وفَتْح باب التوبة أمام العاصين رحمة يرحم ال بها المجتمع كله من أصحاب الشهوات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والنحرافات ،وإلّ لو أغقلنا الباب في وجوههم لَش ِقيَ بهم المجتمع ،حيث سيتما َدوْن في باطلهم
وغَيّهم ،فليس أمامهم ما يستقيمون من أجله.
والتوبة تكون من العبد ،وتكون من الرب تبارك وتعالى ،فتشريع التوبة وقبولها من ال وإحداث
التوبة من العبد؛ لذلك قال تعالى {:ثُمّ تَابَ عَلَ ْي ِهمْ لِيَتُوبُواْ }[التوبة ]118 :أي :شرعها لهم ليتوبوا
ع ِملَ
ن وَ َ
فيقبل توبتهم ،فهي من ال أولً وأخيرا؛ لذلك يأتي هذا الستثناءِ { .إلّ مَن تَابَ وَآمَ َ
صَالِحا }
()2293 /
ع ِملَ صَاِلحًا فَأُولَ ِئكَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّ َة وَلَا ُيظَْلمُونَ شَيْئًا ()60
ن وَ َ
ب وَ َآمَ َ
إِلّا مَنْ تَا َ
وللتوبة شروط يجب مراعاتها ،وهي :أن تُقلِع عن الذنب الذي تقع فيه ،وأن تندم على ما بدر
منك ،وإنْ تنوي وتعزم عدم العودة إليه مرة أخرى .وليس معنى ذلك أنك إنْ عُ ْدتَ فلن ُتقْبلَ منك
التوبة ،فقد تتعرض لظروف تُوقِعك في الذنب مرة أخرى.
لكن المراد أنْ تعزم صادقا عند التوبة عدم ال َعوْد ،فإنْ وقعت فيه مرة أخرى تكون عن غير َقصْد
ودون إصرار .وإلّ لو دبرتَ لهذه المسألة فقُلْت :أذنب ثم أتوب ،فمن يُدرِيك أن ال تعالى
سيمهلك إلى أن تتوبَ؟ إذن :فبادر بها قبل فَوات أوانها.
هذه ـ إذن ـ شروط التوبة إنْ كانت في أمر بين العبد وربه ،فإنْ كانت تتعلق بالعباد فل ُبدّ أنْ
يتوفّر لها شرط آخر وهو َردّ المظالم إلى أهلها إنْ كانت ترد ،أو التبرع بها في وجوه الخير على
ن ينويَ ثوابها لصحابها ،إنْ كانت مظالم ل تُردّ.
أْ
ع ِملَ صَالِحا } [مريم ]60 :معنى :وآمن بعد أنْ تاب ،تعني أن ما
ن وَ َ
ثم يقول تعالى بعدها { :وَآمَ َ
أحدثه من معصية خدش إيمانه ،فيحتاج إلى تجديده .وهذا واضح في الحديث الشريف:
" ليزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ،ول يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ،ول يشرب
الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
فساعةَ مباشرة هذه المعاصي تنتنفي عن النسان صفة اليمان؛ لن إيمانه غاب في هذه اللحظة؛
لنه لو استحضر اليمان وما يلزمه من عقوبات الدنيا والخرة ما وقع في هذه المعاصي.
ل صَالِحا } [مريم ]60 :ليصلح به
عمِ َ
لذلك قال( :وَآمَنَ) أي :جدّد إيمانه ،وأعاده بعد توبته ،ثم { وَ َ
ما أفسده بفعل المعاصي.
ظَلمُونَ شَيْئا } [مريم ]60 :وفي موضع آخر ،كان جزاء
خلُونَ الْجَنّةَ وَلَ يُ ْ
والنتيجة { :فَُأوْلَـا ِئكَ يَدْ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مَنْ تاب وآمن وعمل صالحا {:فَُأوْلَـا ِئكَ يُ َب ّدلُ اللّهُ سَيّئَا ِتهِمْ حَسَنَاتٍ }[الفرقان.]70 :
فلماذا ُكلّ هذا الكرم من ال تعالى لهل المعاصي الذين تابوا؟ قالوا :لن الذي أَِلفَ الشهوة واعتاد
المعصية ،وأدرك لذّته فيها يحتاج إلى مجهود كبير في مجاهدة نفسه وكَبْحها ،على خلف مَنْ لم
يتعوّد عليها ،لذلك احتاج العاصون إلى حافز يدفعهم ليعودوا إلى ساحة ربهم.
لذلك قال سبحانه { :فَُأوْلَـا ِئكَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّةَ } [مريم ]60 :دون أنْ يُعيّروا بما فعلوه؛ لنهم
صَ َدقُوا التوبة إلى ال { وَلَ ُيظَْلمُونَ شَيْئا } [مريم ]60 :وبقدر ما تكون التوبة صادقة ،والندم
عليها عظيما ،وبقدر ما تلوم نفسَك ،وتسكب الدمْع على معصيتك بقدر ما يكون لك من الجر
والثواب ،وبقدر ما تُبدّل سيئاتك حسناتٍ .و ُكلّ هذا بفضل ال وبرحمته.
حمَـانُ }
ثم يقول الحق سبحانه { :جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ الرّ ْ
()2294 /
قوله { :جَنّاتِ عَدْنٍ } [مريم ]61 :أي :إقامة دائمة؛ لنك قد تجد في الدنيا جنات ،وتجد أسباب
النعيم ،لكنه نعيم زائل ،إمّا أنْ تتركه أو يتركك .إذن :ف ُكلّ نعيم الدنيا ل ضامنَ له.
وجنات عَدْن ليست هي مساكن أهل الجنة ،بل هي بساتين عمومية يتمتع بها الجميع ،بدليل أن ال
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ
تعالى عطف عليها في آية أخرى ( َومَسَاكِنَ طَيّبةً) في قوله تعالى {:وَعَدَ اللّهُ ا ْل ُمؤْمِنِي َ
جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ }[التوبة.]72 :
حمَـانُ عِبَا َدهُ بِا ْلغَ ْيبِ } [مريم ]61 :والوعْد :إخبار بخير قبل أوانه؛ ليشجع
وقوله { :الّتِي وَعَدَ الرّ ْ
الموعود على العمل لينالَ هذا الخير ،وضِدّه الوعيد :إخبار بشَرّ قبل أوانه ليحذره المتوعد،
ويتفادى الوقوع في أسبابه.
واختبار هنا اسم الرحمن ليُطمئِنَ الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي أن ربهم رحمن رحيم ،إنْ
تابوا إليه قبلهم ،وإنْ وعدهم وَعْدا َوفَى .وقد وعدنا ال تعالى في قرآن فآمنّا بوعده غيْبا { وَعَدَ
حمَـانُ عِبَا َدهُ بِا ْلغَ ْيبِ } [مريم.]61 :
الرّ ْ
وحجة اليمان بالغيب فيما لم يوجد بعد المشهد الذي نراه الن ،فالكون الذي نشاهده قد خُلِق على
هيئة مُهندسةٍ هندسةً ل يوجد أبدعُ منها ،فالذي خلق لنا هذا الكون العجيب المتناسق إذا أخبرنا عن
نعيم آخر دائم في الخرة ،فل ُبدّ أن نُصدّق ،ونأخذ من المشاهدَ لنا دليلً على ما غاب عَنّا؛ لذلك
نؤمن بالخرة إيمانا غيبيا ثقةً مِنّا في قدرته تعالى التي رأينا طَرَفا منها في الدنيا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن وَعْ ُدهُ مَأْتِيّا } [مريم ]61 :فما دام الرحمن ـ تبارك وتعالى ـ هو الذي
ثم يقول تعالى { :إِنّهُ كَا َ
شكّ فيه ،ووعْده تعالى ل يتخلّف و
وعد ،فل بُدّ أن يكون وعدُه (مَأْتِيا) أي :مُحقّقا وواقعا ل َ
(مَأْتِيا) أى نأتيه نحن ،فهي اسم مفعول.
وبعض العلماء يرى أن (مَأتِيا) بمعنى آتيا ،فجاء باسم المفعول ،وأراد اسم الفاعل ،لكن المعنى
هنا واضح ل يحتاج إلى هذا التأويل؛ لن وعد ال تعالى مُحقّق ،والموعود به ثابت في مكانه،
والماهر هو الذي يسعى إليه ويسلك طريقه بالعمل الصالح حتى يصل إليه.
س َمعُونَ فِيهَا َلغْوا }
ثم يقول الحق سبحانه عن أهل الجنة في الجنة { :لّ يَ ْ
()2295 /
س َمعُونَ فِيهَا َل ْغوًا إِلّا سَلَامًا وََلهُمْ رِ ْز ُق ُهمْ فِيهَا ُبكْ َرةً وَعَشِيّا ()62
لَا يَ ْ
اللغو :هو الكلم الفُضولي الذي ل فائدة منه ،فهو يضيع الوقت و ُيهْدِر طاقة المتكلم وطاقة
المستمع ،وبعد ذلك ل طائلَ من ورائه ول معنى له.
س َمعُونَ فِيهَا َلغْوا } [مريم ]62 :فإن كانوا قد سمعوا َلغْوا كثيرا في
والكلم هنا عن الخرة { لّ يَ ْ
الدنيا فل مجالَ للغو في الخرة .ثم يستثني من عدم السماع { ِإلّ سَلَما } [مريم ]62 :و السلم
لمٌ }[يونس.]10 :
ليس من اللغو ،وهو تحية أهل الجنة وتحية الملئكةَ {:تحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَ َ
وقد يُرَادُ بالسلم السلمة من الفات التي عاينوها في الدنيا ،وهم في الخرة سالمون منها ،فل
عاهة ول مرضَ ول كَ ّد ول نصبَ .لكن نرجح هنا المعنى الول أي :التحية؛ لن السلم في
سمَع.
الية مما يُ ْ
فإنْ قُ ْلتَ :فكيف يستثنى السلم من الّلغْو؟ نقول :من أساليب اللغة :تأكيد المدح بما يشبه الذم ،كأن
نقول :ل عيبَ في فلن إل أنه شجاع ،وكنت تنتظر أنْ نستثني من العيب عَيْبا ،لكن المعنى هنا:
إنْ عددتَ الشجاعة عيبا ،ففي هذا الشخص عَيْب ،فقد نظرنا في هذا الشخص فلم نجد به عَيْبا ،إل
إذا ارتكبنا مُحَالً وعددنا الشجاعة عيبا .وهكذا نؤكد مدحه بما يشبه الذم.
ومن ذلك قول الشاعر:ولَ عَ ْيبَ فِيهِم غَيْرَ أنّ سُيُو َفهُمْ بِهنّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاع الكَتَائِبِثم يقول تعالى:
{ وََلهُمْ رِ ْز ُق ُهمْ فِيهَا ُبكْ َرةً وَعَشِيّا } [مريم ]62 :لم يقُل الحق سبحانه وتعالى :وعلينا رزقهم ،بل:
خصّص لهم ،فهو أمر مفروغ منه .والرزقُ :كلّ ما يُنتفع
ولهم زرقهم :أي أنه أمر قد تقرّر له و ُ
به ،وهو في الخرة على قَدْر عمل صاحبه من خير في الدنيا.
ل ومن حسد ومن حقد،
غّومن رحمة ال تعالى بعباده من أهل الجنة أنْ نزعَ ما في صدورهم من ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فل يحقد أحدٌ على أحد أفضل مرتبة منه ،ول يشتهي من نعيم الجنة إل على َقدْر عمله ودرجته،
حقْدا عليه؛ لن موجب ال ِغلّ في
فإنْ رأى مَنْ هو أفضل منه درجةً ل يجد في نفسه غِلً منه ،أو ِ
الدنيا أنْ ترى مَنْ هو أفضل منك.
أما في الخرة فسوف ترى هذه المسألة بمنظار آخر ،منظار النفس الصافية التي ل تعرف الغلّ،
خوَانا عَلَىا سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ }[الحجر.]47 :
غلّ إِ ْ
قال تعالى {:وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ ِ
فإنْ رأيت مَنْ هو أعلى منك درجةً فسوف تقول :إنه يستحق ما نال من الخير والنعيم ،فقد كان
يجاهد نفسه وهواه في الدنيا .ويكفي في َوصْف ما في الجنة من الرزق والنعيم قوله تعالى {:فِيهَا
س وَتَلَ ّذ الَعْيُنُ }[الزخرف.]71 :
مَا تَشْ َتهِي ِه الَ ْنفُ ُ
وقول النبي صلى ال عليه وسلم " :فيها ما ل عَيْن رأت ،ول إذن سمعتْ ،ول خطر على قلب
بشر ".
إذن :ففي الجنة أشياء ل تقع تحت إدراكنا؛ لذلك ليس في لغتنا ألفاظ تُعبّر عن هذا النعيم؛ لنك
تضع في اللغة اللفظ الذي أدركتَ معناه ،وفي الجنة أشياء ل تدركها ول عِلْمَ لك بها؛ لذلك حينما
صفَ لنا نعيم الجنة بصفة بما نعرف من نعيم الدينا :نخل
يريد الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن ي ِ
وفاكهة ورمان ولحم طير وريحان.
ط ْعمُهُ
ن وَأَ ْنهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَ َتغَيّرْ َ
عدَ ا ْلمُ ّتقُونَ فِيهَآ أَ ْنهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِ ٍ
ويقول {:مّ َثلُ الْجَنّةِ الّتِي وُ ِ
صفّى }[محمد.]15 :
سلٍ ّم َ
ن وَأَ ْنهَارٌ مّنْ عَ َ
خمْرٍ لّ ّذةٍ لّلشّارِبِي َ
وَأَ ْنهَارٌ مّنْ َ
مع الفارق بين هذه الشياء في الدنيا والخرة .ويكفي أن تعرف الفرق بين خمر الدنيا وما فيها
من سوء في طعمها ورائحتها واغتيالها للعقل ،وبين خمر الخرة التي نفى ال عنها السوء ،فقال{:
ل َولَ هُمْ عَ ْنهَا يُن َزفُونَ }[الصافات.]47 :
غ ْو ٌ
لَ فِيهَا َ
وقولهُ } :بكْ َر ًة وَعَشِيّا { [مريم ]62 :فكيف يأتيهم رزقهم ُبكْرة وعشيا ،وليس في الجنة وقت ل
ُبكْرة ول عَشِيا ،ل لَيْل ول نهار؟ نقول :إن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يخاطبنا على َقدْر عقولنا،
وما نعرف نحن من مقاييس في الدنيا ،وإلّ فنعيم الجنة دائم ل يرتبط بوقت ،كما قال سبحانه{:
ُأكُُلهَا دَآئِ ٌم وِظِّلهَا }[الرعد.]35 :
وفي آية أخرى قال تعالىُ {:أوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْلوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
[المؤمنون10 :ـ .]11
ثم يقول الحق سبحانهِ } :ت ْلكَ الْجَنّةُ الّتِي نُورِثُ {
()2296 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تِ ْلكَ الْجَنّةُ الّتِي نُو ِرثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ َتقِيّا ()63
قوله { :تِ ْلكَ الْجَنّةُ } [مريم ]63 :أي :التي يعطينا صور لها هي { :الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ
َتقِيّا } [مريم ]63 :أ ي :يرثونها ،فهل كان في الجنة أحد قبل هؤلءَ ،فهُم يرثونه؟
الحق ـ تبارك وتعالى ـ قبل أن يخلق الخَلْق عرف منهم مَنْ سيؤمن باختياره ،ومَنْ سيكفر
ن سيعصي ،فلم يُرغِم سبحانه عباده على شيء ،إنما علم ما سيكون
باختياره ،علم مَنْ سيطيع ومَ ْ
منهم بطلقة علمه تعالى ،إل أنه تعالى أعدّ الجنة لتسع جميع الخَلْق إنْ أطاعوا ،وأعدّ النار لتسع
صوْا ،فلن يكون هناك إذن زحام ول أزمة إسكان ،إنْ دخل الناس جميعا الجنة،
ع َ
جميع الخَلْق إنْ َ
أو دخلوا جميعا النار.
ع ّدتْ لهم في الجنة؟ تذهب إلى أهل
إذن :حينما يدخل أهلُ النارِ النارَ ،أين تذهب أماكنهم التي أُ ِ
الجنة ،فيرثونها بعد أنْ حُرم منها هؤلء.
ثم يقول رب العزة سبحانهَ { :ومَا نَتَنَ ّزلُ ِإلّ بَِأمْرِ رَ ّبكَ }
()2297 /
هنا ينتقل السياق إلى موضوع آخر ،فبعد أنْ تحدّث عن الجنة وأهلها عرض لمر حدث لرسول
ال صلى ال عليه وسلم ،وهو ما يحدث له حين ينزل عليه الوحي ،وقلنا :إن الوحي ينزل
بواسطة جبريل عليه السلم ،وهو مََلكٌ ،على محمد صلى ال عليه وسلم وهو بشر.
ولقاء جبريل بقانون ملكيته بمحمد صلى ال عليه وسلم بقانون بشريته ل يمكن أن يتم إلّ بتقارب
هذيْن الجنسين وعملية تغيير ل بُدّ أنْ تطرأ على أحدهما ،إما أَنْ ينزل المَلكُ على صورة بشرية،
وإما أن يرتفع ببشرية الرسول إلى درجة تقرب من المَلك ليأخذ عنه ،وذلك ما كان يحدث لرسول
ال حين يأتيه الوحي.
وقد وصف النبي صلى ال عليه وسلم هذا التغيير فقال ..." :فغطّني حتى بلغ مني الجهْد" ...
وكان صلى ال عليه وسلم يتفصّد جبينه عرقا لما يحدث في جسمه من تفاعل وعمليات كيماوية،
ثم حينما يُسرّي عنه تذهب هذه العراض.
وقد أخبر بعض الصحابة ،وكان يجلس بجوار رسول ال ،والرسول صلى ال عليه وسلم يضع
ُركْبته على ُركْبته ،فلما نزل على رسول ال الوحي قال الصحابي :شعرتُ ب ُركْبة رسول ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكأنها جبل.
وإذا أتاه الوحي وهودابة كانت الدابة تئط أي :تنخ من ِثقَل الوحي ،وقد قال تعالى {:إِنّا سَُن ْلقِي
عَلَ ْيكَ َقوْلً َثقِيلً }[المزمل.]5 :
إذن :كان النبي صلى ال عليه وسلم يتعب بعد هذا اللقاء ويشقّ عليه ،حتى يذهب إلى السيدة
خديجة رضي ال عنها يقولَ " :زمّلوني َزمّلوني " أو " دَثّروني دَثّروني " كأن به حمى مما لقى
من لقاء الملَك ومباشرة الوحي أولً.
ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الوحي يفتر عن رسوله ليرتاح من تعبه ومشقته ،فإذا ما
ارتاح وذهب عنه التعب بقيتْ له حلوة ما نزل من الوحي ،فيتشوق إليه من جديد ،كما يشتاق
النسان لمكانٍ يحبه دونه الشواك ومصاعب الطريق ،فالحب للشيء يحدث علمية كالتخدير ،فل
تشعر في سبيله بالتعب.
وقلنا :لما فتر الوحي عن رسول ال شمت فيه الكفار وقالوا :إن َربّ محمد قد قله يعني :أبغضه
وتركه.
وهذا القول دليل على غبائهم وحماقتهم ،كيف وقد كانوا بالمس يقولون عنه :ساحر وكذاب؟ ففي
البغض يتذكرون أنه له ربا منع عنه الوحي ،وحين دعاهم إلى اليمان بهذا الرب قالوا :من أين
جاء بهذا الكلم؟
ك صَدْ َركَ
لذلك ،فالحق تبارك وتعالى يخاطب رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلً {:أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ
ظهْ َركَ * وَ َر َفعْنَا َلكَ ِذكْ َركَ }[الشرح1 :ـ ]4إذن :كانت
ك وِزْ َركَ * الّذِي أَن َقضَ َ
ضعْنَا عَن َ
* َووَ َ
مسألة الوحي شاقة على رسول ال.
فأراد الحق سبحانه أن يعطي هؤلء درسا من خلل درس كونيّ مشاهد يشهد به المؤمن والكافر،
هذا المر الكونيّ هو الزمن ،وهو ينقسم إلى ليل ونهار ،ولكل منهما مهمته التي خلقه ال من
أجلها ،كما قال سبحانه:
{ وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ إِذَا تَجَلّىا }[الليل1 :ـ .]2
فإياك أنْ تُغيّر مهمة الليل إلى النهار ،أو مهمة النهار إلى الليل.
عكَ رَ ّبكَ َومَا قَلَىا * وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ
ثم يرد عليهم قائلً {:وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ إِذَا سَجَىا * مَا َودّ َ
ن الُولَىا }[الضحى1 :ـ .]4
ّلكَ مِ َ
والمعنى :إنْ كان النهار لحركة الحياة واستبقائها ،والليل للراحة والسكون ،فهما آيتان متكاملتان ل
مُتضادتان ،وليس معنى أن يأتي الليل بسكونه أن النهار لن يأتي من بعد ،بل سيأتي نهار آخر،
وستستمر حركة الحياة.
وكذلك المر إنْ فترَ الوحي عن رسول ال ،فل تظنوا أنه انقطع إلىغير َرجْعة ،بل هي فترة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليرتاح فيها رسول ال ،كالليل الذي ترتاحون فيه من عناء العمل في النهار ،ومن هنا كانت
ك َومَا قَلَىا }
عكَ رَ ّب َ
الحكمة في أنْ يُقسم سبحانه وتعالى بالضحى والليل إذا سجى على{ مَا وَدّ َ
[الضحى.]3 :
عكَ }[ضحى ]3 :بكاف
ونلحظ في هذا التعبير ِدقّة العجاز في أداء القرآن ،حيث قال {:مَا وَدّ َ
الخطاب؛ لن التوديع يكون لمَنْ تحب ولمَنْ تكره ،أما في القِلَى فلم يقُلْ :قَلَك .لن القِلَى ل يكون
إل لمَنْ تكره.
ن الُولَىا }الضحى ]4 :الخرة أي :الفترة الخيرة من نزول الوحي
ومعنى {:وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ ّلكَ مِ َ
خَيْر لك من الفترة الولى؛ لنها ستكون أوسع ،وستأتيك بل َتعَب ول مشقة ،وفعلً نزلت جمهرة
القرآن بعد ذلك في يُسْر على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وهكذا كان المر في الية التي نحن بصددهاَ } :ومَا نَتَنَ ّزلُ ِإلّ بَِأمْرِ رَ ّبكَ { [مريم ]64 :فيقال:
إنها نزلت حينما قال الكفار :إن ربّ محمد قد قله ،أو أنها نزلت بعد أن سأل كفار مكة السئلة
الثلثة التي تحدثنا عنها في سورة الكهف .وأن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لهم" :
سأخبركم غدا " لكن الوحي لم يأته مدة خمسة عشر يوما ،فشقّ ذلك عليه وحزِنَ له فنزلتَ } :ومَا
نَتَنَ ّزلُ ِإلّ بَِأمْرِ رَ ّبكَ { [مريم ]64 :أي :الملئكة ل تنزل إل بأمر ،ول تغيب إل بأمر.
ثم يقول الحق سبحانه تعالىَ } :لهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا َومَا خَ ْلفَنَا َومَا بَيْنَ ذاِلكَ { [مريم.]64 :
قوله تعالى } :مَا بَيْنَ أَ ْيدِينَا { [مريم ]64 :أي :الذي أمامنا } َومَا خَ ْلفَنَا { [مريم ]64 :أي :في
الخلف } َومَا بَيْنَ ذاِلكَ { [مريم ]64 :أي :ما بين المام والخلف ،فماذا بين المام والخلف؟ ليس
بين المام والخلف إل أنت .فسبحانه وتعالى المالك ،الذي له الملك والمملوك ،وله المكان
والمكين ،وله الزمان والزمين.
وقولهَ } :ومَا كَانَ رَ ّبكَ نَسِيّا { [مريم ]64 :هل يرسل الحق ـ تبارك وتعالى ـ رسولً ،ثم ينساه
هكذا دون إمداد وتأييد؟ فسبحانه تنزّه عن الغفلة وعن النيسان.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ {
ثم يقول الحق سبحانهّ } :ربّ ال ّ
()2298 /
سمِيّا ()65
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فَاعْبُ ْد ُه وَاصْطَبِرْ ِلعِبَادَتِهِ َهلْ َتعَْلمُ لَهُ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
َربّ ال ّ
أولً :ما علقة قوله تعالىَ {:ومَا كَانَ رَ ّبكَ َنسِيّا }[مريم ]64 :بقوله تعالى في هذه اليةّ { :ربّ
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } [مريم]65 :؟
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قالوا :لن هذا الكون العظيم بسمائه وأرضه ،وما فيه من هندسة التكوين وإبداع الخلق قائم
ت وَالَرْضَ أَن تَزُولَ }[فاطر:
سمَاوَا ِ
سكُ ال ّ
بقيومية ال تعالى عليه ،كما قال سبحانه {:إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ
.]41
فل تظن أن الكون قائم على قانون يُديره ،بل على القيومية القائمة على كل أمر من أمور الكون،
والحق ـ تبارك وتعالى ـ ل تأخذه سنة ول نوم .فما دام المر كذلك ،وأنه تعالى يعلم ما بين
أيدينا وما خلفنا ،وما بين ذلك ،وأنه تعالى قيّوم ل ينسى ول يغفل وبه يقوم الكون .فهو ـ إذن ـ
يستحق العبادة والطاعة فيما أمر ،وقد أعطاك قبل أن يُكلّفك عطاء ل تستطيع أنت أن تفعله
لنفسك ،ثم تركك تربع في هذا النعيم خمس عشرة سنة دون أنْ يُكلّفك بشيء من العبادات.
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا فَاعْ ُب ْد ُه وَاصْطَبِرْ ِلعِبَادَ ِتهِ } [مريم:
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
لذلك هنا يقول تعالىّ { :ربّ ال ّ
]65وقد أكّد القرآن الكريم في آيات كثيرة مسألة الوحدانية ،وأنه َربّ واحد فقالّ { :ربّ
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا } [مريم.]65 :
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
ال ّ
وقالَ {:ربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الفاتحة.]2 :
لوّلِينَ }[الشعراء.]26 :
وقال {:رَ ّب ُك ْم وَ َربّ آبَآ ِئكُ ُم ا َ
لن القدماء ،ومنهم ـ مثلً قدماء المصريين كانوا يجعلون ربا للسماء ،وربا للرض ،وربا للجو،
وربا للموات ،وربا للزرع ..إلخ وما دام هو سبحانه رب كل شيء فقد رتب العبادة على
الربوبية .والعبادة :طاعة معبود فيما أمر وفيما نهى ،وكيف ل نطيع ال ونحن خَلْقه وصَنْعته،
ونأكل رزقه ،ونتقلب في نعمه؟ وفي ريفنا يقول الرجل لولده المتمرد عليه( :مَنْ يأكل لقمتي يسمع
كلمتي).
ول ُبدّ أن نعلم أن ال تعالى له الكمال المطلق قبل أنْ يخلق الخَلْق وبصفات الكمال خلق ،فل
تنفعه طاعة ،ول تضره معصية .فإن قلتَ :فلماذا ـ إذن ـ يُكلّف الخَلْق بالمر والنهي؟ نقول:
كلّف ال الخَلْق لتستمر حركة الحياة وتتساند الجهود ول تتصادم ،فيحدث في حياتهم الرتقاء
ويسعدوا بها ،إنما لو تركهم وأهواءهم لَفسدتِ الحياة ،فأنت تبني وغيرك يهدم.
لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم " :ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".
سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ }[المؤمنون:
س َدتِ ال ّ
حقّ أَ ْهوَآءَهُمْ َلفَ َ
والحق تبارك وتعالى يقول {:وََلوِ اتّبَعَ الْ َ
.]71
إذن :التشريعات جُعَلتْ لصالحنا نحن { :فَاعْ ُب ْد ُه وَاصْطَبِرْ ِلعِبَادَ ِتهِ } [مريم ]65 :لن العبادة فيها
ن تفعلها ،وينهاك عَنْ أشياء يشقّ
مشقة ،فل بُدّ لها من صبر؛ لنها تأمرك بأشياء يشقّ عليك أ ْ
عليك أن تتركها لنك أِلفْتها.
والصبر يكون منا جميعا ،يصبر ُكلّ مِنّا على الخر؛ لننا أبناء أغيار ،فإن صبرتَ على الذى
صبر الناس عليك إنْ حدث منك إيذاء لهم؛ لذلك يقول تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر.]3 :
صوْاْ بِا ْلحَقّ وَتَوَا َ
{ وَ َتوَا َ
حقْك ،أو أساء إليك فاغفر له كما تحب أن
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يُعلّمنا :إن أذنب أحد في َ
أغفر لك ذنبك ،واعفوَ عن سيئتك.
ن وَا ْل ُمهَاجِرِينَ
س َعةِ أَن ُيؤْتُواْ ُأوْلِي ا ْلقُرْبَىا وَا ْلمَسَاكِي َ
يقول تعالى {:وَلَ يَأْ َتلِ ُأوْلُواْ ا ْل َفضْلِ مِنكُ ْم وَال ّ
غفُورٌ رّحِيمٌ }[النور.]22 :
صفَحُواْ َألَ تُحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُك ْم وَاللّهُ َ
فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلْ َي ْعفُواْ وَلْ َي ْ
ول تظن أن صبرك على أذى الخرين أو غفرانك لهم تطوّع من عندك؛ لنه لن يضيع عليك عند
ال ،وستُردّ لك في سيئة تُغفَر لك .حتى مَنْ ُفضِح مثلً أو ادُعي عليه ظُلْما ل يضيعها ال ،بل
يدّخرها له في فضيحة سترها عليه ،فمَنْ ُفضِح بما لم يفعل ،سُتر عليه ما فعل.
سمِيّا { [مريم]65 :؟ سبق أن تكلمنا في معنى (السّميّ) وقد اختلف
وقوله تعالىَ } :هلْ َتعْلَمُ َلهُ َ
العلماء في معناها ،قالوا :السّميّ :الذي يُساميك ،أي :أنت تسمو وهو يسمو عليك ،أو السّميّ:
النظير والمثيل.
والحق سبحانه وتعالى ليس له سميّ يُساميه في صفات الكمال ،وليس له نظير أو مثيل أو شبيه،
شيْءٌ }[الشورى.]11 :
بدليل قوله تعالى {:لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
صمَدُ * لَمْ يَِل ْد وَلَمْ يُوَلدْ * وَلَمْ َيكُنْ لّهُ ُكفُوا َأحَدٌ }
وقوله تعالىُ {:قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ * اللّهُ ال ّ
[الخلص1 :ـ .]4
سمِيّا }[مريم:
جعَل لّهُ مِن قَ ْبلُ َ
وللسميّ معنى آخر أوضحناه في قصة يحيى ،حيث قال تعالىَ {:لمْ نَ ْ
]7أي :لم يسبق أنْ تسمّى أحد بهذا السم .وكذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يتسمّ أحدٌ باسمه،
ل قبل هذه الية ،ول بعد أنْ أطلقها رسول ال تحدّيا بين الكفار والملحدة الذين يتجرؤون على
ال .فلماذا لم يجرؤ أحد من هؤلء أنْ يُسمى ولده ال؟
ن كانوا كفارا وملحدة إل أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بال ،ويعترفون
الحقيقة أن هؤلء وإ ْ
بوجوده ،ويخافون من عاقبة هذه التسمية ،ول يأمنون أنْ يصيبهم السوء بسببها.
إذن :لم تحدث ،ولم يجرؤ أحد عليها؛ لن ال تعالى قالها وأعلنها تحديا ،وإذا قال ال تعالى ،مَلكَ
اختيار الخَلْق ،وعلم أنهم لن يجرؤوا على هذه الفعلة.
ل الِنسَانُ أَِإذَا مَا ِمتّ {
ثم يقول الحق سبحانه } :وَ َيقُو ُ
()2299 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن الِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعا }
ما المراد بالنسان؟ النسان تُطلق ويُراد بها عموم أي إنسان مثل {:إِ ّ
[المعارج ]19 :ويُراد بها خصوصية لبعض الناس ،كما في قوله تعالى {:أَمْ َيحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىا
مَآ آتَا ُهمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ }[النساء ]54 :فالمراد بالناس هنا رسول ال صلى ال عليه وسلم.
شوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا َوقَالُواْ حَسْبُنَا
ج َمعُواْ َلكُمْ فَاخْ َ
أو قوله تعالى {:الّذِينَ قَالَ َل ُهمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ َ
اللّ ُه وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ }[آل عمران ]173 :فالمراد :ناسٌ مخصوصون.
والمعنى هنا { :وَ َيقُولُ الِنسَانُ } [مريم ]66 :أي :الكافر الذي ل يؤمن بالخرة ،ويستبعد الحياة
س ْوفَ أُخْرَجُ حَيّا } [مريم ]66 :والستفهام هنا للنكار ،لكن هذه مسألة
بعد الموت { :أَِإذَا مَا ِمتّ لَ َ
سهْل مَيْسور ،فيقول تعالىَ { :أوَلَ يَ ْذكُ ُر الِنسَانُ }
الردّ عليها َ
()2300 /
فلنْ يُعادَ النسانُ من شيء أهونُ من إنْ يعاد من ل شيء؛ لذلك قال تعالى في توضيح هذه
المسألة {:وَ ُهوَ الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ }[الروم ]27 :مع أن الخالق سبحانه
وتعالى ل يُقال في حقه تعالى هَيّن وأهون ،أو صعب وأصعب ،ولكنه يحدثنا بما نفهم وبما نعلم
في أعرافنا.
ففي عُرْفنا نحن أن تنشيء من موجود أسهل من أنْ تنشيء من عدم ،وإنْ كان فعل العبد يقوم
ن فيكون ".
على المعالجة ومزاولة السباب ،ف ِفعْل الخالق سبحانه إنما يكون بقوله للشيء " كُ ْ
ح َدةٍ }[لقمان.]28 :
س وَا ِ
وفي آية أخرى يقول تعالى {:مّا خَ ْل ُقكُ ْم َولَ َبعْ ُث ُكمْ ِإلّ كَنَفْ ٍ
ولما سُئِل المام علي ـ كرّم ال وجهه :كيف يُحاسِب الُ الناسَ جميعا في وقت واحد؟ قال :كما
يرزقهم جميعا في وقت واحد.
فقولهَ { :أ َولَ َي ْذكُ ُر الِنسَانُ } [مريم ]67 :أي :لو تذكّر هذه الحقيقة ما كذّب بالبعث ،وقد عولجت
سيَ خَ ْلقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ا ْلعِظَا َم وَ ِهيَ
هذه المسألة أيضا في قوله تعالىَ {:وضَ َربَ لَنَا مَثَلً وَنَ ِ
َرمِيمٌ }[يس.]78 :
خلْقه الول ما ضرب لنا هذا المثل .ثم يأتي الجواب منطقياُ {:قلْ يُحْيِيهَا الّذِي أَنشََأهَآ
فلو تذكّر َ
َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَ ُهوَ ِب ُكلّ خَ ْلقٍ عَلِيمٌ }[يس.]79 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا أيضا يكون الدليل { :أَنّا خََلقْنَاهُ مِن قَ ْبلُ وَلَمْ َيكُ شَيْئا } [مريم.]67 :
ثم يقول الحق سبحانهَ { :فوَرَ ّبكَ لَ َنحْشُرَ ّنهُ ْم وَالشّيَاطِينَ }
()2301 /
حشُرَ ّنهُ ْم وَالشّيَاطِينَ } [مريم ]68 :الحشر :أن يبعثهم ال من قبورهم ،ثم
قوله تعالىَ { :فوَرَ ّبكَ لَنَ ْ
يسوقهم مجتمعين إلى النار هم والشياطين الذين كانوا ُيغْرونهم بالمعصية ويُزينونها لهم.
جهَنّمَ جِثِيّا } [مريم ]68 :يقال :جثا يجثو فهو جَاثٍ .أي :ينزل على ركبتيه،
ح ْولَ َ
حضِرَ ّنهُمْ َ
{ ُثمّ لَنُ ْ
وهي دللة على الذّلّة والنكسار والمهانة التي ل َيقْوى معها على القيام.
()2302 /
النزع :خَلْع الشيء من أصله بشدة ،ول يقال :نزع إل إذا كان المنزوع متماسكا مع المنزوع منه،
ومن ذلك قوله تعالىُ {:قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآءُ }[آل
عمران ]26 :كأنهم كانوا مُتمسّكين به حريصين عليه.
وقوله { :مِن ُكلّ شِيعَةٍ } [مريم ]69 :أي :جماعة متشايعون على رأي باطل ،ويقتنعون به،
حمَـانِ عِتِيّا } [مريم ]69 :العتي :وهو الذي بلغ القمة في
ويسايرون أصحابه { :أَ ّيهُمْ َأشَدّ عَلَى الرّ ْ
الجبروت والطغيان ،بحيث ل يقف أحد في وجهه ،كما قلنا كذلك في صفة الكِبَر{ َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ
ا ْلكِبَرِ عِتِيّا }[مريم ]8 :لنه إذا جاء الكبر ل حيلةَ فيه ،ول يقدر عليه أحد.
ومعلوم أن رسالت السماء لما نزلتْ على أهل الرض كان هناك أناس يُضارون من هذه
حقّا،
الرسالت في أنفسهم ،وفي أموالهم ،وفي مكانتهم وسيادتهم ،فرسالت ال جاءتْ لتؤكد َ
وتثبت وحدانية ال ،وسواسية الخَلْق بالنسبة لمنهج ال.
وهناك طغاة وجَبّارون وسادة لهم عبيد ،وفي الدنيا القوى والضعيف ،والغني والفقير ،والسليم
والمريض ،فجاءت رسالت السماء لِتُحدِث استطراقا للعبودية.
فَمن الذي ُيضَار و َي ْغضَب ويعادي رسالت السماء؟ إنهم هؤلء الطغاة الجبارون ،أصحاب السلطة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمال والنفوذ ،ول ُب ّد أن لهؤلء أتباعا يتبعونهم ويشايعونهم على باطلهم.
فإذا كان يوم القيامة ويوم الحساب ،فبمَنْ نبدأ؟ النكَى أن نبدا بهؤلء الطغاة الجبابرة ،ونقدم
هؤلء السادة أمام تابعيهم حتى يروهم أذلء صاغرين ،وقد كانوا في الدنيا طغاةً متكبرين ،كذلك
لنقطع أمل التابعين في النجاة.
فربما ظَنّوا أن هؤلء الطغاة الجبابرة سيتدخلون ويدافعون عنهم ،فقد كانوا في الدنيا خدمهم،
وكانوا تابعين لهم ومناصرين ،فإذا ما أخذناهم أولً وبدأنا بهم ،فقد قطعنا أمل التابعين في النجاة.
وقد ورد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى {:وَ َيوْمَ َنحْشُرُ مِن ُكلّ ُأمّةٍ َفوْجا ّممّن ُيكَ ّذبُ بِآيَاتِنَا َفهُمْ
طغَاتهم ،ليرى التابعون مصارع المتبوعين ،ويشهد
يُوزَعُونَ }[النمل ]83 :أي :من كبارهم و ُ
الضعفاء مصارع القوياء ،فينقطع أملهم في النجاة.
وفي حديث القرآن عن فرعون ،وقد بلغ قمة الطغيان والجبروت حيث ادّعى اللوهية ،فقال عنه{:
َيقْدُمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فََأوْرَ َدهُمُ النّارَ وَبِئْسَ ا ْلوِرْدُ ا ْل َموْرُودُ }[هود ]98 :فهو قائدهم ومقدمتهم إلى
جهنم ،كما كان قائدهم إلى الضلل في الدنيا ،فهو المعلم وهم المقلّدون.
فعليه ـ إذن ـ وزْران :ضلله في نفسه ،ووزْر إضلله لقومه ،كما جاء في قوله تعالىَ {:فوَيْلٌ
لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً }[البقرة.]79 :
ثم يقول الحق سبحانهُ { :ثمّ لَ َنحْنُ أَعْلَمُ بِالّذِينَ }
()2303 /
صليا :اصطلء واحتراقا في النار من صَِليَ يصْلَى :أي دخل النار وذاق حرّها .أما :اصطلى
أي :طلب هو النار ،كما في قوله تعالىّ {:لعَّلكُمْ َتصْطَلُونَ }[النمل.]7 :
والمعنى :أننا نعرف مَنْ هو َأوْلى بدخول النار أولً ،وكأن لهم في ذلك أولويات معروفة؛ لنهم
سيتجادلون في الخرة ويتناقشون ويتلومون وسيدور بينهم مشهد فظيع رَهيب يفضح ما اقترفوه.
فالتابع والمتبوع ،والعابد والمعبودُ ،كلّ يُلقي باللئمة على الخر ،اسمعهم وهم يقولون {:رَبّنَآ إِنّآ
ض ْعفَيْنِ مِنَ ا ْل َعذَابِ وَا ْلعَ ْنهُمْ َلعْنا كَبِيرا }
طعْنَا سَادَتَنَا َوكُبَرَآءَنَا فََأضَلّونَا السّبِيلْ * رَبّنَآ آ ِتهِ ْم ِ
أَ َ
[الحزاب67 :ـ .]68
ط َعتْ ِب ِه ُم الَسْبَابُ }
ب وَ َتقَ ّ
وفي آية أخرى {:إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُو ْا وَرََأوُاْ ا ْلعَذَا َ
[البقرة.]166 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف.]67 :
وصدق ال العظيم حين قال {:الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
ثم يقول الحق تبارك وتعالى { :وَإِن مّنكُمْ ِإلّ وَا ِردُهَا }
()2304 /
وَإِنْ مِ ْنكُمْ إِلّا وَارِ ُدهَا كَانَ عَلَى رَ ّبكَ حَ ْتمًا َم ْقضِيّا ()71
وهذا خطاب عام لجميع الخلْق دون استثناء ،بدليل قوله تعالى بعدهاُ {:ثمّ نُنَجّي الّذِينَ ا ّتقَواْ }
[مريم ]72 :إذن :فالورود هنا يشمل التقياء وغيرهم.
فما معنى الورود هنا؟ الورود أن تذهب إلى مصدر الماء للسقيا أي :أخْذ الماء دون أنْ تشرب
سقُونَ }[القصص]23 :
ن َوجَدَ عَلَ ْيهِ ُأمّةً مّنَ النّاسِ يَ ْ
منه ،كما في قوله تعالى {:وََلمّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَ َ
أي :وصل إلى الماء.
ل وَارِ ُدهَا } [مريم ]71 :أي :أنكم جميعا مُتقون ومجرمون ،سترِدُون
إذن :معنى { :وَإِن مّنكُمْ ِإ ّ
النار وتروْنها؛ لن الصراط الذي يمرّ عليه الجميع مضروب على مَتْن جهنم.
وقد ورد في ذلك حديث أبي سعيد الخدري قال قال صلى ال عليه وسلم " :يوضع الصراط بين
ظهراني جهنم ،عليه حسك كحسك السعدان ،ثم يستجيز الناس ،فنَاجٍ مُسلّم ،ومخدوش به ،ثم ناج
ومحتبس به ،ومنكوس ومكدوس فيها ".
فإذا ما رأى المؤمن النار التي نجاه ال منها يحمد ال ويعلم نعمته ورحمته به.
ومن العلماء مَنْ يرى أن ورد أي :أتى وشرب منه ويستدلون بقوله تعالىَ {:يقْ ُدمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ
فََأوْرَدَهُمُ النّارَ }[هود ]98 :أي :أدخلهم .لكن هذا يخالف النسق العربي الذي نزل القرآن به ،حيث
صيّ الحاضِرِ المتَخَ ّيمِأي :حينما وصلوا إلى
ع ِ
ضعْنَا ِ
يقول الشاعر:وََلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقا جِمامُه َو َ
ن وصلوا إليه وضربوا عنده خيامهم لم يكونوا شَرِبوا منه ،أو
الماء ضربوا عنده خيامهم ،فساعةَ أ ْ
أخذوا من مائه ،فمعنى الورود أي :الوصول إليه دون الشّرب من مائه.
وأصحاب هذه الرأي الذين يقولون { وَارِدُهَا } [مريم ]71 :أي :داخلها يستدلون كذلك بقوله
تعالى {:ثُمّ نُ َنجّي الّذِينَ ا ّتقَو ْا وّنَذَرُ الظّاِلمِينَ فِيهَا جِثِيّا }[مريم ]72 :يقولون :لو أن الورود مجرد
الوصول إلى موضع الماء دون الشرب منه أو الدخول فيه ما قال تعالى {:وّ َنذَرُ الظّاِلمِينَ فِيهَا }
[مريم ]72 :ولِقَال :ثم يُنجّي الُ الذين اتقوا ويُدخِل الظالمين ..لكن{ وّنَذَرُ الظّاِلمِينَ }[مريم]72 :
فيها الدليل على دخولهم جميعا النار.
فعلى الرأي الول :الورود بمعنى رؤية النار دون دخولها ،تكون الحكمة منه أن ال تعالى يمتنّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على عباده المؤمنين فيُريهم النار وتسعيرها؛ ليعلموا فضل ال عليهم ،وماذا قدّم لهم اليمان بال
خلَ الْجَنّةَ َفقَدْ فَازَ }[آل
من النجاة من هذه النار ،كما قال تعالىَ {:فمَن زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ
عمران.]185 :
ويمكن َفهْم الية على المعنى الخر :الورود بمعنى الدخول؛ لن الخالق سبحانه وتعالى خلق
الشياء ،وخلق لكل شيء طبيعةً تحكمه ،وهو سبحانه وحده القادر على تعطيل هذه الطبيعة
وسلبها خصائصها.
كما رأينا في قصة إبراهيم عليه السلم ،فيكون دخول المؤمنين النارَ كما حدث مع إبراهيم،
جعْلها ال تعالى عليه بَرْدا وسلما ،وقد مكّنكم ال منه ،فألقوه في النار ،وهي على طبيعتها
وَ
بقانون الحراق فيها ،ولم يُنزِل مثلً على النار مطرا يُطفِئها ليوفر لهم كل أسباب الحراق ،ومع
ذلك ينجيه منها لتكون المعجزة ماثلةً أمام أعينهم.
وكما سلب ال طبيعة الماء في قصة موسى عليه السلم فتجمد وتوقفت سيولته ،حتى صار كل
فِرْقٍ كالطوْد العظيم ،فهو سبحانه القادر على تغيير طبائع الشياء .إذن :ل مانع من دخول
المؤمنين النارَ على طريقة إبراهيم عليه السلم{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }
[النبياء.]69 :
ثم يُنجّي ال المؤمنين ،ويترك فيها الكافرين ،فيكون ذلك أ ْنكَى لهم وأغيظ.
علَىا رَ ّبكَ حَتْما ّم ْقضِيّا { [مريم ]71 :الحتْم :هي الشيء الذي يقع ل
ثم يقول تعالى } :كَانَ َ
محالةَ ،والعبد ل يستطيع أنْ يحكم بالحتمية على أيّ شيء؛ لنه ل يملك المحتوم ول المحتوم
عليه .فقد تقول لصديقك :أحتم عليك أنْ تزورني غدا ،وأنت ل تملك من أسباب تحقيق هذه
الزيارة شيئا ،فمَنْ يدريك أن تعيشَ لغد؟ ومَنْ يدريك أن الظروف لن تتغير وتحُول دون حضور
هذا الصديق؟
إذن :أنت ل تحتم على شيء ،إنما الذي يُحتّم هو القادر على السيطرة على الشياء بحيث ل
يخرج شيء عن موارده.
ن قلتَ :فمَنِ الذي حتّم على ال؟ حتّم ال على نفسه تعالى ،وليست هناك قوة أخرى حتّمتْ
فإ ْ
حمَةَ }[النعام.]54 :
عليه ،كما في قوله تعالى {:كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَىا َنفْسِهِ الرّ ْ
حكْم ال ل يُعدّله أحد،
ثم يؤكد هذا الحتم بقولهّ } :مقْضِيّا { [مريم ]71 :أي :حكم ل رجعةَ فيه ،و ُ
فهو حكم قاطع .فمثلً :حينما قال كفار مكة لرسول ال صلى ال عليه وسلم :نعبد إلهك سنة وتعبد
إلهنا سنة ،يريدون أنْ يتعايش اليمان والكفر.
لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد قَطْع العلقات معهم بصورة نهائية قطعية ،ل تعرف هذه
الحلول الوسط ،فقال سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ ُقلْ ياأَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ * لَ أَعْبُدُ مَا َتعْ ُبدُونَ * وَلَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َولَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ *
وَلَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َلكُمْ دِي ُنكُ ْم وَِليَ دِينِ }[الكفارون1 :ـ .]6
وقَطْع العلقات هنا ليس كالذي نراه مثلً بين دولتين ،تقطع كل منهما علقتها سياسيا بالخرى،
وقد تحكم الوضاع بعد ذلك بالتصالح بينهما والعودة إلى ما كانا عليه ،إنما قَطْع العلقات مع
الكفار َقطْعا حتميا ودون رجعة ،وكأنه يقول لهم :إياكم أنْ تظنوا أننا قد نعيد العلقات معكم مرة
أخرى؛ لذلك تكرّر النفي في هذه السورة ،حتى ظنّ البعض أنه تكرار؛ ذلك لنهم يستقبلون القرآن
بدون تدبّر.
فالمراد الن :ل أعبد ما تعبدون ،ول أنتم عابدون ما أعبد ،وكذلك في المستقبل :ول أنا عابد ما
عبدتم ،ول أنتم عابدون ما أعبد .فلن يُرغمنا أحد على تعديل هذا القرار أو العودة إلى المصالحة.
حدٌ }[الخلص ]1 :فل ثانيَ له يُعدّل
لذلك أتى بعد سورة (الكافرين) سورة الحكمُ {:قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
عليه ،فكلمه تعالى وحكمه نهائي وحَتْما مقضيا ل رجعةَ فيه ول تعديل.
ثم يقول الحق سبحانهُ } :ثمّ نُ َنجّي الّذِينَ ا ّتقَواْ {
()2305 /
جِثيا :من جَثَا يجثُو أي :قعد على ُركَبه دللة على المهانة والتنكيل .ثم ينقلنا الحَق سبحانه إلى
لقطة أخرى ،فيقول { :وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا }
()2306 /
هذا حوار دار بين المؤمنين والكافرين ،المؤمنين وكانوا عادةً هم الضعفاء الذين ل يقدرون حتى
على حماية أنفسهم ،وليس لهم جاه ول سيادة يحافظون عليها ،وجاء منهج ال في صالحهم يُسوّي
بين الناس جميعا :السادة والعبيد ،والقوي والضعيف.
فطبيعي أنْ يُقابلَ هذا الدين بالتكذيب من كفار مكة ،أهل الجاه والسيادة ،وأهل القوة الذين يأخذون
خَيْر الناس من حولهم ،أما الضعفاء فقد آمنُوا بدين ال في وقت لم يكن لديهم القوة الكافية لحماية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر.]45 :
أنفسهم ،فعندما نزل َقوْل الحق ـ تبارك وتعالى ـ {:سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
قال عمر ـ رضي ال عنه ـ وما أدراك مَنْ هو عمر؟ قال :أيّ جمع هذا؟ وأيّ هزيمة ،ونحن
غير قادرين على حماية أنفسنا؟
وفي هذه الونة ،يأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم المؤمنين المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة
وإلى المدينة .فلما جاء نصر ال للمؤمنين ،وتأييده لهم في بدر .قال عمر :صدق ال {:سَ ُيهْزَمُ
جمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر.]45 :
الْ َ
وفي هذا الحوار يُعيّر الكفار المؤمنين بال :ماذا أفادكم اليمان بال وها أنتم على حال من
الضعف والهوان والذّلّة وضيق العيش؟ أيرضي َربّ أن يكون المؤمنون به على هذه الحال،
وأعداؤه والكافرون به هم أهل الجاه والسيادة وسَعة الرزق؟
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ }[النعام.]53 :
وهكذا فتَن ال بعضهم ببعض ،كما قال سبحانهَ {:وكَذاِلكَ فَتَنّا َب ْع َ
فالمؤمن والكافر ،والغني والفقير ،والصحيح والمريضُ ،كلّ منهم فتنة للخر لِيُمحّص ال اليمان،
ويختبر اليقين في قلوب المؤمنين؛ لن ال تعالى يعدهم لحمل رسالته صلى ال عليه وسلم إلى
الدنيا كلها في جميع أزمنتها وأماكنها ،فل بُدّ أن يختار لهذه المهمة أقوياء اليمان الذين يدخلون
في السلم ،ليس لمغنم دنيوي ،بل لحمل رسالته والقيام بأعبائه ،فهذا هو المؤمن المؤتمن على
حمْل منهج ال.
َ
ومن ذلك ما نراه من أن مناهج الباطل في الدنيا مَنْ يدعو إليها يرشو المدعو ويعطيه ،أمّا منهج
ال فيأخذ منه ليختبره وليُمحصه.
سعَة من
فكيف يكون الغني فتنة للفقير ،والفقير فتنة للغني؟ الغني مفتون بالفقير حيث هو في َ
العيش والفقير في ضيق ،الغني يأكل حتى التّخمة والفقير جائع ،ويرتدي الغني الفاخر من الثياب
والفقير عريان .فهل سيعرف نعمة ال عليه ويؤدي حقها؟
والفقير مفتون بالغني حين يراه على هذه الحال ،فهل سيصبر على هذه الشدة؟ أم سيعترض على
ما قدّره ال له ،ويحقد على الغنيّ.
ولو علم الفقير أن الفقر درس تدريبي أُجْرِي لجنود الحق الذين يحملون منهج ال إلى خَلْق ال في
كل زمان ومكان ،وأن هذه قسمة ال بين خَلْقه َلمَا اعترض على قسمة ال ،وَلمَا حقد على صاحب
الغني.
وكذلك يُفتَن الصحيح بالمريض والمريض بالصحيح ،فالصحيح يعيش مع نعمة ال بالعافية ،أما
ضتُ فَلِم
المريض فيعيش مع المنعم سبحانه ،كما جاء في الحديث القدسي " :يا ابْن آدم ،مر ْ
تعُدْني .فيقول :وكيف أعودك وأنت ربّ العاليمن؟ قال :أما علمتَ أن عبدي فلنا مرض فلم َتعُدْه؟
أما علمت أنك لو عُدّته لوجدتني عنده ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك ترى أهل المراض من المؤمنين يتألم ُزوّارهم من أمراضهم ،في حين أنهم في أُنْس بال
يشغلهم عن أمراضهم وعن آلمهم ،ومَنِ الذي يزهد في معية ال؟ إذن :لو حقد المريض على
السليم فهو مفتون به ،وكان يجب عليه أن يعلم :إنْ كان الصحيح في معية النعمة فهو في معية
المنعِم سبحانه وتعالى.
وسيدنا نوح ـ عليه السلم ـ بعد أن لبث يدعو قومه ألف سنة إل خمسين عاما كان جواب
قومهَ {:ومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ ُهمْ أَرَاذِلُنَا بَا ِديَ الرّ ْأيِ }[هود ]27 :فكان أتباع نوح في نظرهم
حثالة القوم ،ثم حاولوا أنْ يُغروه بهم ليطردهم ،فهم ضِعاف ل جاهَ له ول سلطان ،فما كان منه
لقُو رَ ّبهِمْ }[هود.]29 :
إل أنْ قالَ {:ومَآ أَنَاْ بِطَا ِردِ الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنهُمْ مّ َ
ك َولَ َأقُولُ
وقال في آية أخرى {:وَلَ َأقُولُ َلكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّ ِه َولَ أَعْلَمُ ا ْلغَ ْيبَ َولَ َأقُولُ إِنّي مََل ٌ
س ِهمْ إِنّي إِذا ّلمِنَ الظّاِلمِينَ }[هود:
لِلّذِينَ تَ ْزدَرِي أَعْيُ ُنكُمْ لَن ُيؤْتِ َيهُمُ اللّهُ خَيْرا اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا فِي أَ ْنفُ ِ
.]31
فعلى مَرّ الزمان واختلف الرسالت كان الكفار تزدري أعينهم الفقراء والضعفاء المؤمنين،
ويحاولون طردهم وإخراجهم من ديارهم ،ألم يقل الحق ـ تبارك وتعالى ـ لرسوله صلى ال
جهَهُ مَا عَلَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِم مّن
ن وَ ْ
شيّ يُرِيدُو َ
عليه وسلمَ {:ولَ تَطْ ُردِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْل َغدَا ِة وَا ْلعَ ِ
شيْءٍ فَتَطْرُ َدهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ }[النعام.]52 :
حسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مّن َ
شيْ ٍء َومَا مِنْ ِ
َ
وهكذا جاء اللقطة التي معنا } :وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ َكفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ َأيّ
حسَنُ نَدِيّا { [مريم.]73 :
ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ ّمقَاما وَأَ ْ
قوله } :آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ { [مريم ]73 :اليات :جمع آية وهي الشيء العجيب الذي يتحدث به ،وتُطلق
ـ كما قلنا ـ على اليات الكونية التي تثبت قدرة ال تعالى ،وتلفتنا إلى بديع صُنْعه كآيات الليل
والنهار والشمس والقمر ،وتُطلق على المعجزات التي تُثبت صِدْق الرسول ،كما جاء في قوله
تعالى:
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِ َنبٍ
{ َوقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
ع ْمتَ عَلَيْنَا ِكسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ وَا ْلمَلئِكَةِ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ ُت ْ
سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا
قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن ُزخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ
ّنقْرَ ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ ِإلّ بَشَرا رّسُولً }[السراء90 :ـ .]93
كما تُطلق اليات على آيات القرآن التي تحمل الحكام ،وهذه هي المرادة هنا؛ لن آيات القرآن
تنطوي فيها كل اليات.
وقوله } :قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ َأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ { [مريم ]73 :أي :لقد ارتضينا حكمكم في هذه
ل اليمان في ضيق ،فأيّ الفريقين خير مقاما؟ وال
سعَة ،وأنتم يا أه َ
المسألة :نحن الكفار في َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بمقاييسكم أنتم .فأنتم خير ،أمّا بمقياس العلى والبقى فنحن.
والمقام ـ بفتح الميم :اسم لمكان قيامك من الفعل :قام.
أما " مُقام " بضم الميم ،فمِنْ أقام .والمراد هنا } خَيْرٌ ّمقَاما { [مريم ]73 :أي :مكانا يقوم فيه على
الخر أي :بيت كبير وأثاث ومجلس يتباهى به على غيره.
} وََأحْسَنُ نَدِيّا { [مريم ]73 :النسان عادةً له بيت يَأويه ،وله مجلس يَأوي إليه ،ويجلس فيه مع
أصحابه وأحبابه يُسمّونه " حجرة الجلوس " أو " المندرة " ،وفيها يجلس كبير القوم ومن حوله
أهله وأتباعه ،كما نقول في العامية( :عامل قعر مجلس)؛ لذلك إذا قام أنفضّ المجلس كله؛ لنهم
تابعون له ،كما قال الشاعر:وانفضّ َبعْ َدكَ يَا كُل ْيبُ المجلِسُ وهناك النادي ،وهو المكان الذي
يجتمع فيه عظماء القوم والعيان ،بدل أنْ يكون لكل منهم مجلسه الخاص ،كما نرى الن :نادى
الرياضيين ونادى القضاة ..إلخ إذن :فالنادي دليلٌ على أنهم متفقون ومتكاتفون ومتكتلون ضد
السلم وضد الحق.
ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى {:فَلْ َي ْدعُ نَادِيَهُ }[العلق ]17 :ومن ذلك ما كان يُسمّى قبل
السلم " دار الندوة " ،و كانوا يجتمعون فيها ليدبروا المكائد لرسول ال صلى ال عليه وسلم.
ومن النادي ما كان مأخوذا لعمل المنكر والفاحشة والعياذ بال ،فيجتمعون فيه ل ُكلّ ما هو خبيث
من شُرْب الخمر والرقص والفواحش ،كما في َقوْل الحق ـ تبارك وتعالى ـ {:وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ
ا ْلمُ ْنكَرَ }[العنكبوت.]29 :
وفي هذا دليل على شيوع الفاحشة و القِحَةِ بين القادرين والمجاهرة بها ،فلم يكونوا يقترفونها
جمْع من ُروّاد هذه الماكن.
سِرّا ،بل في َ
حتْ المرأة العربية زوجها قالت :رَفيع
والنادي أو المنتدَى مأخوذ من النّدَى أي :الكرم ،ولما مد َ
العِماد ،كثير الرماد ،قريب البيت من الناد.
والمعنى :أن بيته أقرب البيوت إلى النادي ،فهو َمقْصد الناس في قضاء حاجياتهم.
حسَنُ نَدِيّا { [مريم ]73 :موضع فتنة
إذن :كان قول الكفار للمؤمنينَ } :أيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مّقَاما وَأَ ْ
للفريقين ،فقال المؤمنونَ {:لوْ كَانَ خَيْرا مّا سَ َبقُونَآ إِلَ ْيهِ }[الحقاف ]11 :وقال الكفار :ما دام أن ال
حبانا في الدنيا وهو الرزاق ،فل بد أنْ َيحْ ُبوَنَا في الخرة ،لكن لم تتعرض اليات للقول المقابل
من المؤمنين ،إنما جاء الرد عليهم من طريق آخر ،فقال تعالىَ } :وكَمْ َأهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ {
()2307 /
َوكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ()74
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كم :خبرية تدل على الكثرة التي ل تُحصَى ،وأن المقول بعدها وقع كثيرا ،كأن يقول لك صاحبك:
أنت ما عملتَ معي معروفا أبدا ،فتُعدّد له صنائع المعروف التي أسديتها إليه ،فتقول :كم فعلتُ
معك كذا ،وكم فعلتُ كذا.
والقرن :هم الجماعة المتعايشون زمانا .بحيث تتداخل بينهم الجيال ،فترى الجدّ والب والبن
والحفيد معا ،وقد قدّروا القرن بمائة عام .كما يُطلَق القرن على الجماعة الذين يجتمعون على مُلك
واحد ،أو رسالة واحدة مهما طال زمنهم كقوم نوح مثلً.
والثاث :هو فراش البيت ،وهذا أمر يتناسب وإمكانات صاحبه.
والرّئْى :على وزن ِفعْل ،ويراد به المفعول أي :المرئي ،كما جاء في قوله تعالىَ {:وفَدَيْنَاهُ ِبذِبْحٍ
عَظِيمٍ }[الصافات ]107 :فذبْح بمعنى :مذبوح.
وورد في قراءة أخرى( :أحْسَنُ أثَاثا وزِيّا) وهي غير بعيدة عن المعنى الول :لن الزيّ أيضا
من المرئي ،إل أنه يتكوّن من الزي والذي يرتديه ،والمراد هنا جمال الشكل والهيئة ونضارة
شعْثا غُبْرا يرتدون المرقّع
الشخص وهندامه ،وقد افتخر الكفار بذلك ،في حين كان المؤمنين ُ
والبالي من الثياب.
وقد جاء الختلف في بعض ألفاظ القرآن من قراءة الخرى؛ لن القرآن الكريم ُدوّن أول ما
ُدوّن غير منقوط ول مشكول اعتمادا على مََلكَة العربي وفصاحته التي تُمكّنه من توجيه الحرف
حسْب المعنى المناسب للسياق ،وظل كذلك إلى أن وضع له العلماء النقاط فوق الحروف في
َ
العصر الموي .فمثلً النّبْرة في كلمةٍ دون نقط يحتمل أنْ تُقرأ من أعلى :نون أو تاء أو ثاء .ومن
أسفل تقرأ :باء أو ياء.
والعربي لمعرفته بمواقع اللفاظ يستطيع تحديد الحرف المراد ،فكلمة (رئْيَا) تقرأ (زيا) والمعنى
غير بعيد.
ومن ذلك كلمة{ فَتَبَيّنُواْ }[النساء ]94 :قرأها بعضهم (فتثبتوا) وكلمة{ صِ ْبغَةَ }[البقرة ]138 :قرأها
بعضهم (صنعة) ،ودليل فصاحتهم أن الختلف في مثل هذه الحروف ل يؤدي إلى اختلف
المعنى.
لذلك ،كان العربي قديما يغضب إنْ كُتِب إليه كتاب مُشَكل ،لن تشكيل الكلم كأنه اتهام له بالغباء
وعدم معرفته باللغة .ومن هنا وجدنا العلماء الذين وضعوا قواعد اللغة ليسوا من العرب؛ لن
العربي في هذا الوقت كان يستنكف أن يضع للغة قواعد ،فهي بالنسبة له مََلكَة معروفة ل تحتاج
إلى دراسة أو تعليم .أما العاجم فلما دخلوا السلم ما كان لهم أنْ يتعلّموا لغته إل بهذه الدراسة
لقواعدها.
حسَنُ أَثَاثا وَرِءْيا } [مريم]74 :
والحق تبارك وتعالى يقول هناَ { :وكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْل ُهمْ مّن قَرْنٍ ُهمْ أَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ح ْمقَى ل
لنهم قالواَ {:أيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ ّمقَاما وََأحْسَنُ َندِيّا }[مريم ]73 :يريد أنْ يُدلّل على أنهم َ
ينظرون إلى واقع الحياة ليروا عاقبة مَنْ كانوا أعزّ منهم مكانا ومكانة ،وكيف صار المر إليهم؟
الحق ـ تبارك وتعالى ـ ير ّد على الكفار ادعاءهم الخيرية على المؤمنين ،فهذه الخيرية ليستْ
بذاتيتكم ،بل هي عطاء من ال وفِتْنة ،حتى إذا أخذكم أخذكم عن عِزّة وجاهٍ؛ ليكون أنكى لهم وأشدّ
وأغَيظ ،أما إنْ أخذهم على حال ذِلّة وَهَوان لم يكن لخذه هذا الثر فيهم.
فالحق سبحانه يُملي لهم بنعمه ليستشرفوا الخير ثم يأخذهم ،على حَ ّد قول الشاعرَ :كمَا أبر َقتْ َقوْما
ش َعتْ وتجلّتِفأطمعهم في البداية ،ثم أخذهم وخيّب آمالهم في النهاية.
عِطَاشا غَمامَةً فَلمّا رأوْهَا َأقْ َ
وضربنا لذلك مثلً بالسير الذي بلغ به العطش مَبْلغا ،فطلب الماء ،فجاءه الحارس بالماء حتى
كان على فِيهِ ،واستشرف الريّ منعه وحرمه لتكون حسرته أشد ،وألمهُ أعظم ،ولو لم يأتِه بالماء
لكان أهونَ عليه.
إذن :حينما تُجرون مُقارنة بينكم وبين المؤمنين وتُعيّرونهم بما معكم من زينة الدنيا ،فقد قارنتم
الوسائل وطرحتُم الغايات ،ومن الغباء أنْ نهتم بالوسائل وننسى الغايات ،فلكي تكون المقارنةُ
صحيحة فقارنوا حالكم بحال المؤمنين ،بداية ونهاية.
ومثال ذلك :فلح مجتهد في زراعته يعتني بها ويُعفّر نفسه من تراب أرضه كل يوم ،وآخر ينعَم
بالثياب النظيفة والجلوس على المقهى والتسكع هنا وهناك ،وينظر إلى صاحبه الذي أجهده العمل،
ويرى نفسه أفضل منه ،فإذا ما جاء وقت الحصاد وجد الولُ ثمرة تعبه ونتيجة مجهوده ،وجلس
الخر حزينا محروما .فل بُدّ أن تأخذ في العتبار عند المقارنة الوسائل مع الغايات.
لذلك ُوفّق الشاعر حين قال:ألَ مَنْ يُرِينِي غَايتِي قَبْل مذْهَبِي ومِنْ أينْ والغَايَاتُ َبعْد المذَا ِهبِ؟وقد
عزل الكفار الوسيلة في الدنيا عن الغاية في الخرة ،فتباهوا وعَيّروا المؤمنينَ {:أيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ
حسَنُ نَدِيّا }[مريم.]73 :
ّمقَاما وَأَ ْ
جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ َأوْ حَ ّرقُوهُ }
وفي قصة سيدنا إبراهيم ـ عليه السلم ـَ {:فمَا كَانَ َ
[العنكبوت.]24 :
سعْيهم ،ثم كانت الغاية في الخرةَ {:وقَالَ إِ ّنمَا
وهكذا اتفقوا على الحراق ،ونجّى ال نبيه وخيّب َ
ض وَيَ ْلعَنُ
ضكُمْ بِ َب ْع ٍ
خذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ َأوْثَانا ّموَ ّدةَ بَيْ ِنكُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َيكْفُرُ َب ْع ُ
اتّ َ
ضكُمْ َبعْضا َومَ ْأوَاكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مّن نّاصِرِينَ }[العنكبوت.]25 :
َب ْع ُ
فكان عليهم ألّ ينظروا إلى الوسيلة منفصلةً عن غايتها.
وهنا يردّ الحق ـ تبارك وتعالى ـ على هؤلء المغترّين بنعمة ال:
} َوكَمْ َأهَْلكْنَا قَبَْلهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ َأحْسَنُ أَثَاثا وَرِءْيا { [مريم ]74 :وكما قال في آيات أخرى {:أََلمْ تَرَ
كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ * وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُواْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لوْتَادِ }[الفجر6 :ـ .]10
عوْنَ ذِى ا َ
الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْ َ
سهْل ل يكلف الحق سبحانه إل أنْ ت ُهبّ عليهم عواصف الرمال ،فتطمس
وهلك هؤلء وأمثالهم َ
حضارتهم ،وتجعهلم أثرا بعد عَيْن.
فدعاهم إلى النظر في التاريخ ،والتأمّل في عاقبة أمثالهم من الكفرة والمكذبين ،وما عساه أنْ يُغني
عنهم من المقام والندىّ الذي يتباهون به ،وهل وسائل الدنيا هذه تدفع عنهم الغاية التي تنتظرهم
في الخرة؟
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يردّ عليهم بكلم نظري يقول :إن عاقبتكم كذا وكذا من
العذاب ،بل يعطيهم مثالً من الواقع.
ويخاطب نبيه صلى ال عليه وسلم بقوله {:فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ }[غافر ]77 :أي :من
جعُونَ }[غافر ]77 :فمَنْ أفلت من عذاب الدنيا،
القهر والهزيمة والنكسار{ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُ ْر َ
فلن يفلت من عذاب الخرة.
والقرآن حين يدعوهم إلى النظر في عاقبة من قبلهم } َوكَمْ أَ ْهَلكْنَا قَبَْلهُمْ مّن قَرْنٍ { [مريم]74 :
صدْق غ ْيبٍ
فإنما يحثّهم على أخْذ العِبْرة والعِظَة ممّنْ سبقوهم ،ويستدل بواقع شيء حاضر على ِ
آتٍ ،فالحضارات التي سبقتهم والتي لم يوجد مثلها في البلد ،وكان من صفاتها كذا وكذا ،ماذا
حدث لهم؟ فهل أنتم أش ّد منهم قوة؟ وهل تمنعون عن أنفسكم ما نزل بغيركم من المكذّبين؟
هذا من ناحية الواقع ،أما الغيب فيعرض له القرآن في مشهد آخر ،حيث يقول تعالى {:إِنّ الّذِينَ
حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا َأهِْلهِمُ
أَجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َيضْ َ
انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْهُمْ قَالُواْ إِنّ هَـاؤُلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُرْسِلُواْ عَلَ ْي ِهمْ حَا ِفظِينَ }[المطفيين:
29ـ .]33
حكُونَ * عَلَى
هذا المشهد في الدنيا ،فما بالهم في الخرة؟ {:فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْلكُفّارِ َيضْ َ
الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ }[المطففين34 :ـ .]35
ثم يخاطب الحق ـ سبحانه وتعالى ـ المؤمنين فيقولَ {:هلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }
[المطففين.]36 :
عمّا فعلوه بكم من استهزاء في الدنيا؟
يعني :بعد ما رأيتموه من عذابهم ،هل قدرنا أنْ نُجازيهم َ
يل
وعلى ُكلّ فإن استهزاءهم بكم في الدنيا موقوت الجل ،أما ضِحْككم الن عليهم فأمر أبد ّ
نهايةَ له .فأيّ الفريقين خَيْر إذن؟
فإياكم أنْ تغرّكم ظواهر الشياء ،أو تخدعكم بَرقات النعيم وانظروا إلى الغايات والنهايات؛ لذلك
يقول سبحانه:
ل وَالْبَنُونَ زِينَةُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ َأمَلً }[الكهف:
{ ا ْلمَا ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]46
وفي سورة العراف لقطة أخرى من مواقف القيامة ،حيث يقول أصحاب العراف لهل النار{:
ج ْم ُعكُ ْم َومَا كُنْ ُتمْ تَسْ َتكْبِرُونَ }[العراف ]48 :ثم يلتفتون إلى المؤمنين في الجنة{:
مَآ أَغْنَىا عَنكُمْ َ
حمَةٍ }[العراف ]49 :فأين أنتم منهم الن؟
سمْتُ ْم لَ يَنَاُلهُمُ اللّهُ بِ َر ْ
أَهَـؤُلءِ الّذِينَ َأ ْق َ
()2308 /
حمَنُ مَدّا حَتّى إِذَا رََأوْا مَا يُوعَدُونَ ِإمّا ا ْل َعذَابَ وَِإمّا السّاعَةَ
ُقلْ مَنْ كَانَ فِي الضّلَاَلةِ فَلْ َيمْدُدْ لَهُ الرّ ْ
ضعَفُ جُنْدًا ()75
فَسَ َيعَْلمُونَ مَنْ ُهوَ شَرّ َمكَانًا وََأ ْ
حمَـانُ مَدّا }
قوله( :قل) أمر لرسوله صلى ال عليه وسلم { :مَن كَانَ فِي الضّلَلَةِ فَلْ َيمْدُدْ لَهُ الرّ ْ
[مريم ]75 :أي :يُمهله ويستدرجه؛ لنه َربّ للجميع ،وبحكم ربوبيته يعطي المؤمن والكافر ،وكما
يعين المؤمن بالنصر ،كذلك يعين الكافر بمراده ،كما في قوله تعالى {:فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَهُمُ
اللّهُ مَرَضا }[البقرة.]10 :
لنهم ارتاحوا إليه ،و َرضُوا به ،وطلبوا منه المزيد.
حمَـانُ } [مريم ]75 :أي :في الدنيا وزينتها ،كما قال {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ
{ فَلْ َي ْمدُدْ َلهُ الرّ ْ
الخِ َرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }
[الشورى.]20 :
وفي موضع آخر يقول :إياك أنْ تعجبك أموالهم وأولدهم؛ لنها فتنة لهم ،يُعذّبهم بها في الدنيا
سعْي في جمع الموال وتربية الولد ،ثم الحسرة على فقدهما ،ثم يُعذّبهم بسببها في الخرة{:
بال ّ
سهُ ْم وَ ُهمْ
فَلَ ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأوْلَ ُدهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُ ُ
كَافِرُونَ }[التوبة.]55 :
عةَ } [مريم.]75 :
ب وَِإمّا السّا َ
ثم يقول تعالى { :حَتّىا إِذَا رََأوْاْ مَا يُوعَدُونَ ِإمّا العَذَا َ
العذاب :عذاب الدنيا .أي :بنصر المؤمنين على الكافرين وإهانتهم وإذللهم { وَِإمّا السّاعَةَ }
ضعَفُ جُندا
[مريم ]75 :أي :ما ينتظرهم من عذابها ،وعند ذلك { :فَسَ َيعَْلمُونَ مَنْ ُهوَ شَرّ ّمكَانا وََأ ْ
} [مريم ]75 :لكنه عِلْم ل يُجدي ،فقد فات أوانه ،فالموقف في الخرة حيث ل استئناف لليمان،
فالنكاية هنا أعظم والحسرة أشدّ.
لكن ،ما من مناسبة ذكر الجند هنا والكلم عن الخرة؟ وماذا يُغني الجند في مثل هذا اليوم؟ قالوا:
جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْبُدُونَ * مِن دُونِ
هذا تهكّم بهم كما في قوله تعالى {:احْشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُو ْا وَأَ ْزوَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىا صِرَاطِ ا ْلجَحِيمِ }[الصافات22 :ـ ،]23فهل َأخْذهم إلى النار هداية؟
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ
ثم يلتفت إليهم {:مَا َلكُ ْم لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َي ْومَ مُسْتَسِْلمُونَ * وََأقْ َبلَ َب ْع ُ
يَتَسَآءَلُونَ * قَالُواْ إِ ّن ُكمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْ َيمِينِ * قَالُواْ َبلْ لّمْ َتكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * َومَا كَانَ لَنَا عَلَ ْيكُمْ
مّن سُ ْلطَانٍ َبلْ كُنتُمْ َقوْما طَاغِينَ }[الصافات25 :ـ .]30
أي :لم نُجبركم على شيء ،مجرد أنْ أشَرْنَا لكم أطعتمونا.
حتَ َأقْدَامِنَا
جعَ ْل ُهمَا َت ْ
ن وَالِنسِ نَ ْ
لذلك ،سيقولون في موضع آخر {:رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ الْجِ ّ
سفَلِينَ }[فصلت.]29 :
ن الَ ْ
لِ َيكُونَا مِ َ
()2309 /
وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَ َدوْا ُهدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِ ْندَ رَ ّبكَ َثوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدّا ()76
قلنا :إن للهداية معنيَيْن :هداية بمعنى الدللة على الخير وبيان طريقه ،وهداية المعونة والتوفيق
لليمان ،فمَنْ صدّق في الُولى أعانه ال على الخرى ،ومن ذلك قوله تعالى {:وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ
زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد.]17 :
وقوله تعالى { :وَالْبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ مّرَدّا } [مريم ]76 :الباقيات
الصالحات :هي العمال الصالحة التي كانت منك خالصةً لوجه ال { :خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ
مّرَدّا } [مريم ]76 :هذه هي الغاية التي ننتظرها ونسعى إليها ،فساعةَ أنْ تقارن السّبل الشاقة
فاقْرِنها بالغاية المسعدة ،فيهون عليك عناء العبادة ومشقّة التكليف.
وقوله { :وَخَيْرٌ مّ َردّا } [مريم ]76 :أي :مرجعا تُرَدّ إليه.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :أفَرَأَ ْيتَ الّذِي َكفَرَ }
()2310 /
َأفَرَأَ ْيتَ الّذِي َكفَرَ بِآَيَاتِنَا َوقَالَ لَأُوتَيَنّ مَالًا َووَلَدًا ()77
ن كان معلوما
نلحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا هذا الشخص الذي قال هذه المقولة ولم يُعيّنه ،وإ ْ
لرسول ال الذي خُوطب بهذا الكلم؛ وذلك لن هذه المقولة يمكن أنْ تُقال في زماننا وفي كل
زمان ،إذنْ :فليس المهم الشخص بل القول نفسه .وقد أخبر عنه أنه أمية بن خلف ،أو العاصي بن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سهْمي.
وائل ال ّ
وقوله تعالىَ { :أفَرَأَ ْيتَ } [مريم ]77 :يعني :ألم تَرَ هذا ،كأنه يستدلّ بالذي رآه على هذه القضية {
الّذِي َكفَرَ بِآيَاتِنَا َوقَالَ لُوتَيَنّ مَالً َووَلَدا } [مريم ]77 :ويروي أنه قال :إنْ كان هناك َب ْعثٌ فسوف
ب مال وولد.
أكون في الخرة كما كنت في الدنيا ،صاح َ
كما قال صاحب الجنة لخيه {:وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَجِدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف.]36 :
والنسان ل يعتزّ إل بما هو ذاتيّ فيه ،وليس له في ذاتيته شيء ،وكذلك ل يعتز بنعمة ل يقدر
على صيانتها ،ول يصون النعمة إل المنعِم الوهاب سبحانه إذن :فَلِمَ الغترار بها؟
غوْرا َفمَن يَأْتِيكُمْ ِبمَآءٍ ّمعِينٍ }[الملك:
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالىُ {:قلْ أَ َرأَيْتُمْ إِنْ َأصْبَحَ مَآ ُؤكُمْ َ
.]30
عذَابٍ أَلِيمٍ }[الملك:
حمَنَا َفمَن يُجِيرُ ا ْلكَافِرِينَ مِنْ َ
ويقولُ {:قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهَْلكَ ِنيَ اللّ ُه َومَن ّم ِعيَ َأوْ َر ِ
.]28
خذَ }
ثم يردّ الحق ـ تبارك وتعالى ـ على هذه المقولة الكاذبةَ { :أطّلَعَ ا ْلغَ ْيبَ َأمِ اتّ َ
()2311 /
عهْدًا ()78
حمَنِ َ
أَطَّلعَ ا ْلغَ ْيبَ أَمِ اتّخَذَ عِ ْندَ الرّ ْ
يعنيَ :أقُ ْلتَ هذا القول مُتطوّعا به من عند نفسك ،أم اطلعتَ على الغيب ،فعرفتَ منه ما سيكون
عهْدا } [مريم ]78 :أي :أعطاه ال تعالى عهدا بأن
حمَـانِ َ
خذَ عِندَ الرّ ْ
لك في الخرةَ { :أمِ اتّ َ
يكون له في الخرة كما له في الدنيا ،فإمّا هذه وإمّا هذه ،فأيّهما توافرتْ لك حتى تجزم بهذا
القول؟
ح ُكمُونَ * أَمْ
ج َعلُ ا ْلمُسِْلمِينَ كَا ْلمُجْ ِرمِينَ * مَا َل ُكمْ كَ ْيفَ َت ْ
وهذا المعنى واضح في قوله تعالىَ {:أفَ َن ْ
َلكُمْ كِتَابٌ فِيهِ َتدْرُسُونَ * إِنّ َل ُكمْ فِيهِ َلمَا َتخَيّرُونَ * أَمْ َلكُمْ أَ ْيمَانٌ عَلَيْنَا بَاِل َغةٌ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ
ح ُكمُونَ }[القلم35 :ـ .]39
َلكُمْ َلمَا َت ْ
والمراد :مَنْ يضمن لهم هذا الذي يدّعونه؟
وقد أخبر النبي صلى ال عليه وسلم " :مَنْ أدخل على مؤمن سرورا فقد أخذ العهد من ال " " ،
ومَنْ صلى الصلوات بفرائضها وفي وقتها فقد أخذ العهد من ال ".
عهْد من ال تعالى ألّ يدخلهم النار؟
فمَنْ هؤلء الذين لهم َ
عهْد غير موثوق به ،فقد ينفذ أو
وال َعهْد :الشيء الموثّق بين اثنين ،والعهد إنْ كان بين الناس فهو َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل ينفذ؛ لن النسانَ أبنُ أغيار ،ويمكن أنْ تحُول الظروف بينه وبين ما وعد به ،أما إنْ كان
العهد من ال تعالى المالك لكل شيء ،وليست هناك قوة تبطل إرادته تعالى ،فهو ال َعهْد الحقّ
الموثوق به ،والذي ل يتخلف أبدا.
فحين تعاهد ربك على اليمان فإنك ل تضمن ما يطرأ عليك من الغيار ،أما حين يعاهدك ربك
على الجزاء ،فثِقْ أنه نافذ ل يُخلَف.
لذلك ،فالنبي صلى ال عليه وسلم لما أراد أن ينصحَ المام عليا رضي ال عنه قال " :أدعو ال
أن يجعل لك عهدا في قلوب المؤمنين ".
أي :حُبا ومودة في قلوبهم ،وما دام أن ال أعطاه هذا العهد ،فهو نافذ مُحقّق.
واختار هنا اسم الرحمن لما فيه من صفة الرحمانية التي تناسب المعونة على الوفاء.
ثم يقول الحق سبحانه { :كَلّ سَ َنكْ ُتبُ مَا َيقُولُ }
()2312 /
كل :أداة لنفي ما قيل قبلها وإبطاله ،أي :قوله {:لُوتَيَنّ مَالً وَوَلَدا * أَطَّلعَ ا ْلغَ ْيبَ أَمِ اتّخَذَ عِندَ
عهْدا }[مريم77 :ـ ]78ثم يأتي ما بعد كل حُجة ،ودليلً على النفي.
حمَـانِ َ
الرّ ْ
لهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَهُ وَ َنعّمَهُ فَ َيقُولُ
وقد ورد هذا الحرف (كَلّ) في قوله تعالى {:فََأمّا الِنسَانُ ِإذَا مَا ابْتَ َ
لهُ َفقَدَرَ عَلَ ْيهِ رِ ْزقَهُ فَ َيقُولُ رَبّي أَهَانَنِ * كَلّ }[الفجر15 :ـ .]17
رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّآ ِإذَا مَا ابْتَ َ
سعَة الرزق ليست دليلَ إكرام ،كما أن الفقر
فالحق تبارك وتعالى ينفي الكلم السابق؛ لن النعمة و َ
وضِيق الرزق ليس دليلَ إهانةٍ ،فكلهما ابتلء واختبار كما أوضحتْ اليات ،فإتيان النعمة في حَدّ
ذاته ليس هو النعمة إنما النعمة هي النجاح في البتلء في الحالتين.
فقد يعطيك ال المال فل تصرفه فيما أحلّ ال ،فيكون لك فتنة وتخفق في الختبار ،إذن :لم
يكرمك بالمال ،بل جعله لك وسيلة إغواء وإغراء ،فبيدك يتحوّل المال إلى نعمة أو نقمة ،ويكون
إكراما أو إهانة.
وقوله تعالى:
{ سَ َنكْ ُتبُ مَا َيقُولُ وَ َنمُدّ َلهُ مِنَ ا ْلعَذَابِ َمدّا } [مريم.]79 :
لقد جاءت كلمة (سَ َنكْ ُتبُ) حتى ل يؤاخذه سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنه فعله ،ولكن
بما كتب عليه وليقرأه بنفسه ،وليكون حجة عليه ،كأن الكتابة ليست كما نظن فقط ،ولكنها تسجيل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للصوت وللنفاس ،ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطورا.
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا }[السراء ]14 :وهذا القول يدل على أنه
يقول تعالى {:اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَىا بِ َنفْ ِ
ساعة يرى النسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه ،وإذا كنا نحن الن نسجل على خصومنا
أنفاسهم وكلماتهم ،أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل النفاس والصوات والحركات بحيث إذا
قرأها النسان ورآها ل يستطيع أن يكابر فيها أو ينكرها.
وقوله سبحانه { :وَ َنمُدّ لَهُ مِنَ ا ْلعَذَابِ َمدّا } [مريم ]79 :أي :يزيده في العذاب ،لن المد هو أن
تزيد الشيء ،ولكن مرة تزيد في الشيء من ذاته ،ومرة تزيد عليه من غيره ،قد تأتي بخيط
وتفرده إلى آخره ،وقد تصله بخيط آخر ،فتكون مددته من غيره ،فال يزيده في العذاب.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَنَرِثُهُ مَا َيقُولُ }
()2313 /
أي :في حين ينتظر أنْ نزيدَه ونعطيه سنأخذ منه { وَنَرِثُهُ } [مريم ]80 :أي :نأخذ منه كما في
جعُونَ }[مريم.]40 :
قوله تعالى {:إِنّا َنحْنُ نَ ِرثُ الَ ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا وَإِلَيْنَا يُرْ َ
وقولهَ {:وكُنّا نَحْنُ ا ْلوَارِثِينَ }[القصص.]58 :
فكأن قوله تعالى { :وَنَرِثُهُ } [مريم ]80 :تقابل قوله {:لُوتَيَنّ مَالً }[مريم ]77 :وقوله تعالى:
{ وَيَأْتِينَا فَرْدا } [مريم ]80 :تقابل{ َووَلَدا }[مريم ،]77 :فسيأتينا من القيامة فَرْدا ،ليس معه من
أولده أحد يدفع عنه.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ }
()2314 /
آلهة :جمع إله ،وهو المعبود و الرب الذي أوجدك من عَدَم ،وأمدّك من عُدْم ،وتولّك بالتربية،
فعطاء اللوهية تكليف وعبادة ،وعطاء الربوبية ِنعَم وهِبَات .إذن :فمَنْ َأوْلى بعبادتك ومَنْ أحقّ
بطاعتك؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هؤلء الذين اتخذوا من دون ال آلهة من شمس ،أو قمر ،أو حجر ،أو شجر ،بماذا تعبّدتكم هذه
اللهة؟ بماذا أمرتكم؟ وعن أي شيء نه ْتكُم؟ وبماذا أنعمتْ عليك؟ وأين كانت وأنت جنين في بطن
أمك؟
إن أباك الذي رباك وأنت صغير وتكفّل بكل حاجياتك ،وأمك التي حملتْك في بطنها وسهرتْ على
راحتك ،هما أوْلَى الناس بطاعتك ،ول ينبغي أنْ تُقدّم على أمرهما أمرا .أما أنْ يستحوذَ عليك
آخرون ،ويكون لهم طاعتك وولؤك دون أبويْك فهذا ل يجوز وأنت في رَيْعان شبابك وَأوْج
قوتك.
لذلك ،من أصول التربية أنْ يُربّي الباء أبناءهم على السمع والطاعة لهم ،ونُحذّرهم من طاعة
الخرين خاصة غير المؤتمنين على التربية ،من العامة في الشارع ،أو أصدقاء السّوء الذين
يجرّون البناء على مَا ل تُحمد عُقباه.
والن نُحذّر أبناءنا من السّيْر مع شخص مجهول ،أو قبول طعام ،أو شراب منه .وما نراه في
عصرنا الحاضر يُغني عن الطالة في هذه المسالة .هذه ـ إذن ـ مناعة يجب أنْ تُعطَى للبناء،
كالمناعة ضد المراض تماما.
وهكذا الحالُ فيمَنْ اتخذوا من دون ال آلهة وارتاحوا إلى إله ل تكليفَ له ول مشقةَ في عبادته،
إله يتركهم يعبدونه كما يحلو لهم ،إنهم أخذوا عطاء الربوبية فتمتّعوا بنعمة ال ،وتركوا عطاء
اللوهية فلم يعبدوه سبحانه وتعالى.
ولما كان النسان متدينا بطبعه فقد اختار هؤلء دينا على َوفْق أهوائهم وشهواتهم ،واتخذوا آلهة
ل أمرَ لها ول تكليفَ .ومن ذلك ما نراه من كثير من المثقفين الذين يأخذون دين ال على هواهم،
ويطيعون أعداء ال في قضايا بعيدة كل ال ُبعْد عن دين ال ،وهم أصحاب ثقافة وعقول ناضجة،
ومع ذلك يُقنعون أنفسهم أنهم على دين وأنهم على الحق.
ثم يقول تعالى { :لّ َيكُونُواْ َلهُمْ عِزّا } [مريم ]81 :العز :هو الغَلَبة والمتناع من الغير ،بحيث ل
ينال أحد منه شيئا ،يقولون :فلن عزيز أي :ل يُغلب.
ولنا أن نسأل :ما العزة في عبادة هذه اللهة؟ وما الذي سيعود عليكم من عبادتها؟ لذلك يردّ عليهم
الحق تبارك وتعالى { :كَلّ سَ َي ْكفُرُونَ ِبعِبَادَ ِتهِمْ }
()2315 /
ضدّا ()82
كَلّا سَ َي ْكفُرُونَ ِبعِبَادَ ِتهِ ْم وَ َيكُونُونَ عَلَ ْيهِ ْم ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كل :تنفي أن يكون لهؤلء عِزٌّ في عبادة ما دون ال ،بل { كَلّ سَ َيكْفُرُونَ ِبعِبَادَ ِتهِمْ } [مريم.]82 :
هذه اللهة نفسها ستكفر بعبادتهم ،وتنكر أن تكون هي آلهة من دون ال ،وأكثر من ذلك
{ وَ َيكُونُونَ عَلَ ْي ِه ْم ضِدّا } [مريم ]82 :أي :في حين اتخاذها الكفار آلهة من دون ال وطلبوا العزة
خصْما.
في عبادتها تنقلب عليهم ،وتكون ضِدّا لهم و َ
والضد :هو العدو المخالف لك ،والذي يحاول أنْ ينكّل بك .وفي القرآن الكريم حوارات كثيرة بين
هذه المعبودات ومَنْ عبدوها ،فمثلً الذين عبدوا الملئكة واتخذوها آلهةً من دون ال :يسأل ال
الملئكةَ {:أهَـاؤُلَءِ إِيّا ُكمْ كَانُواْ َيعْ ُبدُونَ }؟ [سبأ ]40 :فيُجيبون {:سُ ْبحَا َنكَ أَنتَ وَلِيّنَا مِن دُو ِنهِمْ َبلْ
كَانُواْ َيعْ ُبدُونَ الْجِنّ َأكْـثَرُهُم ِبهِم ّم ْؤمِنُونَ }[سبأ.]41 :
ويقول الحق سبحانه وتعالى {:إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ }[البقرة.]166 :
ضلّ ِممّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ مَن لّ يَسْ َتجِيبُ
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن هؤلءَ {:ومَنْ َأ َ
لَهُ إِلَىا َي ْومِ ا ْلقِيَامَ ِة وَهُمْ عَن دُعَآ ِئهِمْ غَافِلُونَ }[الحقاف.]5 :
ت لبيها :يا أبتِ ما
ضدّا وعداوة ،كالفتاة التي قال ْ
إذن :ما ظنّه الكفار عِزّا ومَنَعة صار عليهم ِ
حملك على أنْ تقبلني مخطوبة لبن فلن؟ أي :ماذا أعجبك فيه؟ قال :يا بُنيّتي إنهم أهل عِ ّز وأهل
جا ٍه وشرف وأهل قوة ومنعة ،فقالت :يا أبتِ لقد قدّ ْرتَ أن يكون بيني وبين ابنهم وُدّ ،ولم تٌقدّر أن
يكون بيني وبينه كراهية ،فإن حدثتْ الكراهية سيكون ما قلته ضدك ،وستشْقى أنت بهذا العزّ
وبهذا الجاه.
حدّ َقوْل الشاعر:وَللمالِ َقوْمٌ إنْ بَدا المالُ قَائِلً أنَا المالُ
ومن الناس من اتخذ من المال إلها ،على َ
قالَ القومُ إيّاكَ نع ُبدُوهؤلء الذين يعبدون المال ،ويروْن فيه القوة ،ويعتزّون به ل يدرون أنه
جهَنّمَ فَ ُت ْكوَىا ِبهَا جِبَا ُههُمْ
حمَىا عَلَ ْيهَا فِي نَارِ َ
ل ونَكالً عليهم يوم القيامةَ {:ي ْومَ يُ ْ
سيكون وَبَا ً
سكُمْ َفذُوقُواْ مَا كُن ُتمْ َتكْنِزُونَ }[التوبة.]35 :
ظهُورُهُمْ هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ لَنْفُ ِ
وَجُنو ُبهُ ْم وَ ُ
وهكذا ،كلما زاد حرصه على المال زاد كَيّه .وتلحظ في الية الترتيب الطبيعي لموقف السؤال
ل الفقير أمام الغني اللئيم ،فأوّل ما يطالع السائل يتغيّر وجهه ،ثم يُشيح عنه
حين يقف السائ ُ
بوجهه ،فيعطيه جَنْبه ،ثم يُدير له ظهره ُمعْرِضا عنه ،وبنفسِ هذا الترتيب يكون العذاب ويكون
ل ووبَالٍ.
الكيّ والعياذ بال .وينقلب المال الذي ظَنّ العزة فيه إلى نكَا ٍ
يقول تعالى {:وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُواْ َل ُهمْ أَعْدَآ ًء َوكَانُواْ ِبعِبَادَ ِتهِمْ كَافِرِينَ }[الحقاف.]6 :
شهَدُ عَلَ ْي ِهمْ أَلْسِنَ ُت ُه ْم وَأَيْدِيهِمْ
ت بمعصيتك في الدنيا ستشهد عليكَ {:يوْمَ تَ ْ
حتى الجوارح التي تمتع ْ
وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النور.]24 :
ذلك لنك غفلتَ عمّنْ كان يجب ألّ تغفل عنه ،وذكرت مَنْ كان يجب ألّ تذكره ،فالله الحق الذي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غفلْتَ عنه يطلبك الن ويحاسبك ،والله الباطل الذي اتخذته يتخلى عنك ويُسلمِك للهلك.
ثم يقول الحق سبحانه { :أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا }
()2316 /
أَلَمْ تَرَ أَنّا أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ َتؤُزّهُمْ أَزّا ()83
الزّ :هو الهزّ الشديد بعنف أي :تُزعجهم وتُهيجهم ،ومثْلُه النزغ في قوله سبحانه وتعالى {:وَإِماّ
يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ }[العراف.]200 :
والَزّ أو النّزْغ يكون بالوسوسة والتسويل ليهيجه على المعصية والشر ،كما يأتي هذا المعنى
سهُمْ طَا ِئفٌ مّنَ الشّ ْيطَانِ
أيضا بلفظ الطائف ،كما في قوله تبارك وتعالى {:إِنّ الّذِينَ ا ّتقَواْ ِإذَا مَ ّ
تَ َذكّرُواْ فَإِذَا هُم مّ ْبصِرُونَ }[العراف.]201 :
وهذه الية { :أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ } [مريم ]83 :تثير سؤالً :إذا كان الحق تبارك وتعالى
يكره ما تفعله الشياطين بالنسان المؤمن أو الكافر ،فلماذا أرسلهم ال عليه؟
أرسل ال الشياطين على النسان لمهمة يؤدونها ،هذه المهمة هي البتلء والختبار ،كما قال
سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن َيقُولُواْ آمَنّا وَهُ ْم لَ ُيفْتَنُونَ }[العنكبوت.]2 :
حِتعالى {:أَ َ
إذن :فهم يُؤدّون مهمتهم التي خُلِقوا من أجلها ،فيقفوا للمؤمن ليصرفوه عن اليمان فيُمحص ال
المؤمنين بذلك ،ويُظهر صلبة مَنْ يثبت أمام كيد الشيطان.
وقلنا :إن للشيطان تاريخا مع النسان ،بداية من آدم عليه السلم حين أَبَى أن يطيع أمر ال له
بالسجود لدم ،فطرده ال تعالى وأبعده من رحمته ،فأراد الشيطان أنْ ينتقمَ من ذرية آدم بسبب ما
ج َمعِينَ }[ص.]82 :
ك لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
ناله من آدم ،فقال {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِت َ
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف.]16 :
لقْعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ
غوَيْتَنِي َ
وقال {:قَالَ فَ ِبمَآ أَ ْ
وهكذا أعلن عن منهجه وطريقته ،فهو يتربص لصحاب الستقامة ،أما أصحاب الطريق العوج
فليسوا في حاجة إلى إضلله وغوايته.
شمَآئِِل ِهمْ }
لذلك نراه يتهدد المؤمنينُ {:ث ّم لتِيَ ّنهُمْ مّن بَيْنِ أَ ْيدِيهِ ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ أَ ْيمَا ِنهِ ْم وَعَن َ
[العراف.]17 :
ومعلوم أن الجهات ست ،يأتي منها الشيطان إل فوق وتحت؛ لنهما مرتبطتان بعزّ اللوهية من
أعلى ،و ُذلّ العبودية من أسفل ،حين يرفع العبد يديه ل ضارعا وحين يخِرّ ل ساجدا؛ لذلك أُغِل َقتْ
دونه هاتان الجهتان؛ لنهما جهتا طاعة وعبادة وهو ل يعمل إل في الغفلة ينتهزها من النسان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمتأمل في مسألة الشيطان يجد أن هذه المعركة وهذا الصراع ليس بين الشيطان وربه تبارك
ج َمعِينَ }[ص:
ك لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
وتعالى ،بل بين الشيطان والنسان؛ لنه حين قال لربه تعالى {:فَ ِبعِزّ ِت َ
]82التزم الدب مع ال.
ن يؤمن،
فالغواية ليست مهارة مني ،ولكن إغويهم بعزتك عن خَلْقك ،وت ْر ِككَ لهم الخيا َر ليؤمن مَ ْ
ن يكفر ،هذه هي النافذة التي أنفذ منها إليهم ،بدليل أنه ل سلطانَ لي على أهلك وأوليائك
ويكفر مَ ْ
الذين تستخلصهم وتصطفيهمِ {:إلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْل ُمخَْلصِينَ }[ص.]83 :
وهنا أيضا يثار سؤال :إذا كان الشيطان ل يقعد إل على الصراط المستقيم لِيُضلّ أهله ،فلماذا
يتعرّض للكافر؟
نقول :لن الكافر بطبعه وفطرته يميل إلى اليمان وإلى الصراط المستقيم ،وها هو الكون يآياته
أمامه يتأمله ،فربما قاده التأمل في َكوْن ال إلى اليمان بال؛ لذلك يقعد له الشيطان على هذا
المسلْك مسلْك الفكر والتأمل لِيحُول بينه وبين اليمان بالخالق عز وجل.
فالشيطان ينزغك ،إما ليحرك فيك شهوة ،أو ليُنسِيك طاعة ،كما قال تعالىَ {:ومَآ أَنْسَانِيهُ ِإلّ
الشّ ْيطَانُ }[الكهف.]63 :
وقال {:وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ الشّ ْيطَانُ فَلَ َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَىا َمعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[النعام.]68 :
وكثير من الخوان يسألون :لماذا في الصلة بالذات تُلِحّ علينا مشاكل الحياة ومشاغل الدنيا؟
نقول :هذه ظاهرة صحية في اليمان ،لن الشيطان لول علمه بأهمية الصلة ،وأنها ستُقبل منك
ويُغفر لك بها الذنوب ما أفسدها عليك ،لكن مشكلتنا الحقيقية أننا إذا أعطانا الشيطان طرفَ الخيط
نتبعه ونغفل عن َقوْل ربنا تبارك وتعالى:
{ وَِإمّا يَنزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ }[فصلت.]36 :
ن تقول :أعوذ
فما عليك ساعةَ أنْ تشعر أنك ستخرج عن خطّ العبادة والقامة بين يدي ال إلّ أ ْ
ن كنت تقرأ القرآن ،لك أنْ تقطعَ القراءة وتستعيذ بال منه،
بال من الشيطان الرجيم ،حتى وإ ْ
وساعةَ أن يعلم منك النتباه لكيده وألعيبه مرة بعد أخرى سينصرف عنك وييأس من اليقاع بك.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلً باللص؛ لنه ل يحوم حول البيت الخرب ،إنما يحوم حول البيت
العامر ،فإذا ما اقترب منه تنبّه صاحب البيت وزجره ،فإذا به يلوذ بالفرار ،وربما قال اللص في
نفسه :لعل صاحب البيت صاح مصادفة فيعاود مرة أخرى ،لكن صاحب الدار يقظٌ منتبه ،وعندها
يفرّ ول يعود مرة أخرى.
ويجب أن نعلم أن من حيل الشيطان ومكائده أنه إذا عَزّ عليه إغواؤك في باب ،أتاك من باب
نل
آخر؛ لنه يعلم جيدا أن للناس مفاتيح ،ولكل منا نقطة ضعف يُؤتَى من ناحيتها ،فمن الناس مَ ْ
تستميله بقناطير الذهب ،إنما تستميله بكلمة مدح وثناء .وهذا اللعين لديه (طفاشات) مختلفة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
باختلف الشخصيات.
لذلك من السهل عليك أنْ تُميّز بين المعصية إنْ كانت من النفس أم من الشيطان :النفس تقف بك
ت إل
أمام شهوة واحدة تريدها بعينها ول تقبل سواها ،فإنْ حاولتَ زحزحتها إلى شهوة أخرى أب ْ
ما تريد ،أما الشيطان فإنْ ع ّزتْ عليك معصية دعاك إلى غيرها ،المهم أن يُوقِع بك.
فالحق تبارك وتعالى يُحذرنا الشيطان؛ لنه يحارب في النسان فطرته اليمانية التي تُلح عليه بأن
للكون خالقا قادرا ،والدليل على الوجود اللهي دليل فطري ل يحتاج إلى فلسفة ،كما قال العربي
قديما :البعرة تدل على البعير ،والقدم تدل على المسير ..سماء ذات أبراج ،وأرض ذات فجاج،
وبحار ذات أمواج ،أل يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!
وكذلك ،فكل صاحب صنعة عالم بصنعته وخبير بدقائقها ومواطن العطب فيها ،فما بالك بالخالق
ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ }[الملك.]14 :
سبحانهَ {:ألَ َيعَْلمُ مَنْ خََل َ
إذن :فالدلة اليمانية أدلة فطرية يشترك فيها الفيلسوف وراعي الشاة ،بل ربما جاءت الفلسفة
فعقّدتْ الدلة.
ولنا وقفة مع قوله تعالى } :أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ { [مريم ]83 :ومعلوم أن عمل الشيطان
ث لَ تَ َروْ َنهُمْ }[العراف.]27 :
عمل مستتر ،كما قال تعالى {:إِنّهُ يَرَاكُمْ ُهوَ َوقَبِيلُهُ مِنْ حَ ْي ُ
فكيف يخاطب الحق ـ تبارك وتعالى ـ رسوله صلى ال عليه وسلم في هذه المسألة بقوله } :أَلَمْ
تَرَ { [مريم ]83 :وهي مسألة ل يراها النسان؟
نقول } :أََلمْ تَرَ { [مريم ]83 :بمعنى ألم تعلم؟ فعدَل عن العلم إلى الرؤيا ،كما في قوله تعالى {:أَلَمْ
تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل ]1 :والنبي صلى ال عليه وسلم لم يَرَ هذه الحادثة،
فكيف يخاطبه ربه عنها بقوله {:أََلمْ تَرَ }[الفيل]1 :؟
ذلك ،ليدلك على أن إخبار ال لك أصحّ من إخبار عينك لك؛ لن رؤية العين بما تخدعك ،أمّا
إعلم ال فهو صادق ل يخدعك أبدا .فعلمك من إخبار ال لك َأوْلَى وأوثق من علمك بحواسّك.
والشياطين :جمعه شيطان ،وهو العاصي من الجنّ ،والجن خَلْق مقابل للنسان قال ال عنهم{:
ن َومِنّا دُونَ ذَِلكَ كُنّا طَرَآ ِئقَ قِدَدا }[الجن ]11 :فَمنْ هم دون الصالحين ،هم
وَأَنّا مِنّا الصّالِحُو َ
الشياطين.
جلْ عَلَ ْيهِمْ {
ثم يقول الحق سبحانه } :فَلَ َت ْع َ
()2317 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تمنّى النبي صلى ال عليه وسلم لو أن ال أراحه من رؤوس الكفر وأعداء الدعوة ،فقال تعالى:
علَ ْيهِمْ إِ ّنمَا َنعُدّ َلهُمْ عَدّا } [مريم ]84 :فال يريد أنْ تطول أعمارهم ،وتسوء فعالهم،
جلْ َ
{ فَلَ َت ْع َ
حصُون ذنوبهم.
وتكثر ذنوبهم ،فالكتبة يعدّون عليهم ويُ ْ
عدّا } [مريم ]84 :أنها مسألة ستنتهي؛ لن كل ما ُيعَ ّد ينتهي ،إنما الشيء
ومعنى { :إِ ّنمَا َن ُعدّ َلهُمْ َ
الذي ل يُحصَى ول َي ُع ّد فل ينتهي ،كما في قول الحق سبحانه وتعالى {:وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ
حصُوهَا }[إبراهيم.]34 :
تُ ْ
لن ِنعَم ال ل تُحصَى ول ُتعَدّ ول تنتهي؛ لذلك سُ ِب َقتْ بإن التي تفيد الشكّ ،فهي مسألة ل يجرؤ
أحد عليها؛ لن {:مَا عِن َد ُكمْ يَنفَ ُد َومَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }[النحل.]96 :
وها نحن نرى علم الحصاء وما وصل إليه من تقدّم حتى أصبح له جامعات وعلماء متخصصون
أدخلوا الحصاء في كل شيء ،لكن لم يفكر أحد منهم أنْ يُحصِي ِنعَم ال في َكوْنه ،لماذا؟ لن
عدّوا ومهما
القبال على العَدّ معناه ظن أنك تستطيع أنْ تنتهي ،وهم يعلمون تماما أنهم مهما َ
حصَوا فلن يصِلّوا إلى نهاية.
أَ ْ
إذنَ { :نعُدّ َل ُهمْ عَدّا } [مريم ]84 :نُحصي سيئاتهم ونَعدّ ذنوبهم قبل أن تنتهي أعمارهم ،وكلما
طالت العمار كثرتْ الذنوب ،وكل ما ينتهي بالعدد ينتهي بالمُدد.
حشُرُ ا ْلمُ ّتقِينَ }
ثم يقول الحق تبارك وتعالىَ { :ي ْومَ نَ ْ
()2318 /
ن َوفْدًا ()85
حمَ ِ
حشُرُ ا ْلمُ ّتقِينَ إِلَى الرّ ْ
َيوْمَ نَ ْ
الحق ـ تبارك وتعالى ـ أعطانا صورا متعددة ومشاهد مختلفة ليوم القيامة ،فأعطانا صورة
للمعبود الباطل ،وللعابدين للباطل ،وما حدث بين الطرفين من جدال ونقاش ،وأعطانا صورة لمن
تعاونوا على الشر ،ولمَنْ تعاونوا على الخير .وهذه صورة أخرى تعرض للمتقين في ناحية،
والمجرمين في ناحية ،فما هي صورة المتقين؟
نحشر :أي :نجمع ،والوفد هم الجماعة ت ِردُ على الملِك لخْذ عطاياه ،جمعها وفود ،والواحد وافد.
وهذه حال المتقين حين يجمعهم ال يوم القيامة َوفْدا لخذ عطايا ربهم تبارك وتعالى .ول تظن
حسْنهاَ ،رحْلها من ذهب،
أنهم يُحشَرون ما شين مثلً ،ل ،بل كل مؤمن تقي يركب ناقة لم يُرَ مثل ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأزمّتها من الزبرجد.
جهَنّمَ }
وفي المقابل يقول الحق تبارك وتعالى { :وَنَسُوقُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ ِإلَىا َ
()2319 /
نسوق :والسائق يكون من الخلف ينهرهم ويزجرهم ،كما جاء في قوله تعالىَ {:يوْمَ يُدَعّونَ إِلَىا
جهَنّمَ دَعّا }[الطور ]13 :ولم يقل مثلً :نقودهم؛ لن القائد يكون من المام ،وربما غافله
نَارِ َ
أحدهم وشرد منه.
وقوله تعالى { :وِرْدا } [مريم ]86 :الوِرْد :هو الذّهَاب للماء لطلب الريّ ،أما النار فمحلّ اللظى
سمّي إتيان النار بحرّها و ِردْا؟
والشّواظ واللهب والحميم .فلماذا ُ
شوِي الْوجُوهَ }
وهذا تهكّم بهم ،كما جاء في آيات أخرى {:وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُمهْلِ يَ ْ
[الكهف.]29 :
وأنت ساعةَ تسمع (يغاثوا) تنتظر الخير وتأمل الرحمة ،لكن هؤلء يُغاثون بماء كالمهل يشوي
الوجوه.
وكذلك في قوله تعالى {:ذُقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان ]49 :في توبيخ عُتَاة الكفر
والجرام .ومنه قوله تعالى {:فَ َبشّ ْرهُ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[لقمان ]7 :والبشرى ل تكون إل بشيء .سَار.
جهَنّ َم وِرْدا } [مريم ]86 :تهكّم ،كما تقول للولد
إذن :فقوله تعالى { :وَنَسُوقُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ إِلَىا َ
المهمل الذي أخفق في المتحان :مبروك عليك السقوط.
شفَاعَةَ ِإلّ مَنِ اتّخَذَ }
ثم يقول تعالى { :لّ َيمِْلكُونَ ال ّ
()2320 /
عهْدًا ()87
حمَنِ َ
شفَاعَةَ إِلّا مَنِ اتّخَذَ عِنْدَ الرّ ْ
لَا َيمِْلكُونَ ال ّ
الكافر حين يباشر العذاب يطمع أول ما يطمع في أن يشفعَ له مبعوده ،ويُخرجه ممّا هو فيه لكِنْ
ضلّ ِممّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ مَن لّ يَسْ َتجِيبُ َلهُ
هيهات ،ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالىَ {:ومَنْ َأ َ
إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَ ِة وَهُمْ عَن دُعَآ ِئهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُواْ َل ُهمْ أَعْدَآ ًء َوكَانُواْ ِبعِبَادَ ِتهِمْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كَافِرِينَ }[الحقاف5 :ـ .]6
شفَاعَةَ } [مريم ]87 :لن الشفاعة ل تكون
لذلك يقول تعالى عن هؤلء يوم القيامة { :لّ َيمِْلكُونَ ال ّ
عهْدا } [مريم.]87 :
حمَـانِ َ
إل لمن أخذ الذن بها { ِإلّ مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّ ْ
والعهد الذي تأخذه على ال بالشفاعة أنْ تُقدّم من الحسنات ما يسع تكاليفك أنت ،ثم تزيد عليها ما
يؤهلُك لن تشفع للخرين ،والخير ل يضيع عند ال ،فما زاد عن التكليف فهو في رصيدك في
كتاب ل يغادر صغيرة ول كبيرة ،ول يهمل مثقال ذرة.
وعلى المؤمن ـ مهما كان مُسْرفا على نفسه ـ ساعةَ يرى إنسانا مُقبلً على ال مُستزيدا من
الطاعات أنْ يدعوَ له بالمزيد ،وأن يفرح به؛ لن فائض طاعاته لعله يعود عليك ،ولعلك تحتاج
شفاعته في يوم من اليام .أما مَنْ يحلو لهم الستهزاء والسخرية من أهل الطاعات ،كما أخبر
الحق تبارك وتعالى:
حكُونَ * وَِإذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا
ضَ{ إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َي ْ
أَهِْلهِمُ انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا َرَأوْهُمْ قَالُواْ إِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ }[المطفيين29 :ـ .]32
فكيف ستقابل أهل الطاعات ،وتطمع في شفاعتهم بعدما كان منك؟ فإنْ لم تكُنْ طائعا فل أقلّ من
أنْ تحب الطائعين وتتمسح بهم ،فهذه في حَدّ ذاتها حسنةٌ لك ترجو نفعها يوم القيامة.
وما أشبه الشفاعة في الخرة بما حدث بيننا من شفاعة في الدنيا ،فحين يستعصي عليك قضاءُ
مصلحة يقولون لك :اذهب إلى فلن وسوف يقضيها لك .وفعلً يذهب معك فلن هذا ،ويقضي لك
حاجتك ،فلماذا ُقضِيتْ على يديه هو؟ ل بُد أن له عند صاحب الحاجة هذه أياديَ ل يستطيع معها
أنْ يرد له طلبا.
إذن :ل بُدّ لمن يشفع أن يكون له رصيد من الطاعات يسمح له بالشفاعة ،وإذا تأملت لوجدت
رسول ال صلى ال عليه وسلم أول مَنْ قدّم رصيدا إيمانيا وسع تكليفه وتكليف أمته ،ألم يخبر
عنه ربه بقولهُ {:ي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَ ُي ْؤمِنُ لِ ْل ُمؤْمِنِينَ }[التوبة ]61 :لذلك وجبت له الشفاعة ،وأُذِن له فيها.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ ل يغفل الرصيد في خَلقه أبدا ،فكل ما قدّمت من طاعات فوق ما كلّفك
ال به ُمدّخَر لك ،حتى إن النسان إذا اّتهِم ظلما ،وعُوقِب على عمل لم يرتكبه فإن ال يدّخرها له
ويستر عليه ما ارتكبه فعلً فل يُعاقب عليه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات16 :ـ .]19
حقّ لّلسّآ ِئ ِ
هُمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ َ
فالمحسن مَنْ يُؤدّي من الطاعات فوق ما فرض ال عليه ،ومن جنس ما فرض ،فال تعالى لم
يُكلّفنا بقيام الليل والستغفار بالسحار ،ولم يفرض علينا صدقة للسائل والمحروم ،ول بُدّ أنْ نُفرّق
هنا بين (حق) و(حق معلوم) هنا قال (حق) فقط؛ لن الكلم عن الصدقة أما الحق المعلوم ففي
الزكاة.
حمَـانُ {
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وقَالُواْ اتّخَذَ الرّ ْ
()2321 /
ن وَلَدًا ()88
حمَ ُ
َوقَالُوا اتّخَذَ الرّ ْ
هذا الكلم منهم عبث وافتراء؛ لنه متى كان اتخاذ هذا الولد؟ في أيّ قَرْن من القرون من ميلد
المسيح عليه السلم؟ إن هذه المقولة لم ت ْأتِ إل بعد ثلثمائة سنة من ميلد المسيح ،فما الموقف
قبلها؟ وما الذي زاد في مُلْك ال بعد أنْ جاء هذا الولد؟
الشمس هي الشمس ،والنجوم هي النجوم ،والهواء هو الهواء ،إذن :موضوعية اتخاذ الولد هذه
عبث؛ لنه لم يَ ِزدْ شيء في المْلك على يد هذا الولد ،ولم تكن عند ال تعالى صفة مُعطلة اكتملتْ
بمجىء الولد؛ لن الصفات الكمالية ل تعالى موجودة قبل أنْ يخلق أيّ شيء.
حيٍ قبل أنْ يحيى ،ومميت قبل
فهو سبحانه وتعالى خالق قبل أن َيخْلق ،ورازق قبل أنْ يَرزُق ،ومُ ْ
أن يميت .فالبصفات أوجد هذه الشياء ،فصفات الكمال فيه سبحانه موجودة قبل متعلقاتها.
ل ـ ول المثل العلى ـ بالشاعر الذي قال قصيدة .وقلنا :إنه قال القصيدة لنه
وضربنا لذلك مث ً
شاعر بدايةً ،ولول أنه شاعر ما قالها.
لذلك يرد الحق سبحانه على هذا الفتراء بقوله {:كَبُ َرتْ كَِلمَةً َتخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ إِن َيقُولُونَ ِإلّ
كَذِبا }[الكهف.]5 :
وهنا يرد عليهم بقولهّ { :لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئا }
()2322 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والدّ :المتناهي في النكْر والفظاعة ،وهو المر المستبشع ،من :آده المر .أي :أثقله ولم َيقْو
ظ ُهمَا }[البقرة ]255 :أي :ل يثقل عليه.
حفْ ُ
عليه ،ومنه قوله تعالى في آية الكرسيَ {:ولَ َيؤُو ُدهُ ِ
لكن ،لماذا جعل هذا المر إدّا ومنكرا فظيعا؟
قالوا :لن اتخاذ الولد له مقاصد ،فالولد يُتخذ ليكون لك عِزْوة وقوة؛ أو ليكون امتدادا لكل بعد
موتك ،والحق سبحانه وتعالى هو العزيز ،الذي ل يحتاج إلى أحد ،وهو الباقي الدائم الذي ل
يحتاج إلى امتداد.
إذن :فاتخاذ الولد بالنسبة ل تعالى ل عِلةَ له ،كما أن اتخاذ الولد ل تعالى ينفي سواسية العبودية
له سبحانه.
سمَاوَاتُ يَ َتفَطّرْنَ }
ولذلك يقول الحق سبحانهَ { :تكَادُ ال ّ
()2323 /
أي :فلسنا نحن فحسْب الذين ننكر هذا المر ،بل الجماد غير المكلف أيضا ينكره ،فالسموات
بقوتها وعظمها تتفطر أي :تتشقق ،وتكاد تكون مِزَعا له ْولِ ما قيل ،تقرب أن تنفطر لكن لماذا لم
ت وَالَ ْرضَ أَن تَزُولَ }[فاطر:
سمَاوَا ِ
سكُ ال ّ
تنفطر بالفعل؟ لم تنفطر؛ لن ال يمسكها {:إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ
.]41
طعِم خيرك
وفي الحديث القدسي " :قالت السماء يا رب ائذن لي أنْ أسقط كِسَفا على ابن آدم ،فقد َ
ومنع شكرك ،وقالت الرض :يارب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك،
وقالت الجبال :يا رب ائذن لي أن أخِرّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك .وقالت البحار:
يا ربّ ائذن لي أن أُغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك .فقال لهم :دعوني وخلقي لو
خلقتموهم لرحمتموهم ،فإن تابوا إليّ فأنا حبيبهم ،وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
فما العِلّة في أن السماء تقرب أن تنفطر ،والرض تقرب أن تنشق ،والجبال تقرب أن تخِرّ؟
()2324 /
ن وَلَدًا ()91
حمَ ِ
عوْا لِلرّ ْ
أَنْ دَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه هي العلة والحيثية التي من أجلها يكاد الكونُ كلّه أن يتزلزل ،ويثور غاضبا لهذه المقولة
الشنيعة.
حمَـانِ أَن يَتّخِذَ }.
ثم يعقب الحق سبحانه فيقولَ { :ومَا يَن َبغِي لِلرّ ْ
()2325 /
خ َذ وَلَدًا ()92
حمَنِ أَنْ يَتّ ِ
َومَا يَنْ َبغِي لِلرّ ْ
وعلينا هنا أنْ نُفرق بين َنفْي الحدث ونفي انبغاء الحدث ،فمثلً في قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ
شعْ َر َومَا يَن َبغِي لَهُ }[يس ]69 :فنفى عنه َقوْل
في شأن نبيه صلى ال عليه وسلمَ {:ومَا عَّلمْنَاهُ ال ّ
الشعر ،ونفي عنه انبغاء ذلك له ،فقد يظن ظانّ أن النبي ل يستطيع أن يقول شعرا ،أو أن أدوات
الشعر من اللغة و ِرقّة الحساس غير متوافرة لديه صلى ال عليه وسلم ،لكن رسول ال قادر على
َقوْل الشعر إنْ أراد ،فهو قادر على الحدث ،إل أنه ل ينبغي له.
حمَـانِ أَن يَتّخِ َذ وَلَدا } [مريم ]92 :فإنْ أراد سبحانه وتعالى
كذلك في قوله تعالىَ { :ومَا يَن َبغِي لِلرّ ْ
ن وَلَدٌ فَأَنَاْ َأ ّولُ
حمَـا ِ
أن يكون له ولد لَكانَ ذلك ،كما جاء في قوله تبارك وتعالىُ {:قلْ إِن كَانَ لِلرّ ْ
ا ْلعَابِدِينَ }[الزخرف.]81 :
أي :إن كان له سبحانه ولد فعلى العَيْن والرأس ،إنما هذه مسألة ما أرادها الحق سبحانه ،وما
تنبغي له ،فكيف أدّعي أنا أن ل ولدا هكذا من عندي؟
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }
وما حاجته تعالى للولد ،وقد قال في الية بعدها { :إِن ُكلّ مَن فِي ال ّ
()2326 /
ذلك لن الخالق ـ تبارك وتعالى ـ خلق النسان ،وجعل له منطقة اختيار يفعل أو ل يفعل،
يؤمن أو ل يؤمن ،وكذلك جعل فيه منطقة َقهْر ،فالكافر الذي أَلِف الكفر ،وتعوّد عليه ،وتمرد على
الطاعة واليمان ،هل يستطيع أنْ يتمرّد مثلً على المرض أو يتمرّد على الموت ،أو على الفقر؟
إذن :فأنت مُختار في شيء وعَبْد في أشياء ،كما أن منطقة الختيار هذه لك في الدنيا ،وليست لك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الخرة .وسبق أنْ فرّقنا بين العباد والعبيد ،فالجميع :المؤمن والكافر عبيد ل تعالى ،أما العباد
فهم الذين تنازلوا عن اختيارهم ومرادهم لمراد ربهم ،فجاءت ُكلّ تصرفاتهم وفقا لما يريده ال.
حمَـانِ الّذِينَ َيمْشُونَ عَلَىا الَ ْرضِ َهوْنا }[الفرقان.]63 :
وهؤلء الذين قال ال فيهم {:وَعِبَادُ الرّ ْ
حمَـانِ عَبْدا } [مريم ]93 :أي :في الخرة ،حيث تُ ْلغَى منطقة الختيار ،ول
ومعنىِ { :إلّ آتِي الرّ ْ
يستطيع أحد الخروج عن مراد ال تعالى ،ويسلب الملك من الجميع ،فيقول تعالىّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
وهو سبحانه القادر على العطاء ،القادر على السلبُ {:تؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ
تَشَآءُ وَ ُتعِزّ مَن َتشَآ ُء وَتُ ِذلّ مَن تَشَآءُ }[آل عمران.]26 :
حصَا ُه ْم وَعَدّ ُهمْ }
ثم يقول الحق سبحانهّ { :لقَدْ أَ ْ
()2327 /
الحصاء :هو ال َعدّ ،وكانوا قديما يستخدمون الحصَى أو النوى في العَدّ ،لكن النوى فرع ملكية
النخل ،فقد ل يتوفر للجميع؛ لذلك كانوا يستخدمون الحصَى ،ومنه كلمة الحصاء.
ثم يقول الحق تبارك وتعالىَ { :وكُّلهُمْ آتِيهِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ }
()2328 /
أي .وحده ،ليس معه أهل أو أولد أو عِزْوة ،كما قال تعالىَ {:يوْمَ َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَُأمّهِ
وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }[عبس34 :ـ .]37
ض َعتْ }
عمّآ أَ ْر َ
ضعَةٍ َ
فكل مشغول بحاله ،ذاهل عن أقرب الناس إليهَ {:يوْمَ تَ َروْ َنهَا تَذْ َهلُ ُكلّ مُ ْر ِ
[الحج.]2 :
وتأمّل قوله { :آتِيهِ } [مريم ]95 :فالعبد هو الذي يأتي بنفسه ُمخْتارا ل ُيؤْتَى به ،فكأن الجميع
منضبط على وقت معلوم ،إذا جاء ُيهْرَع الجميع طواعيةً إلى ال عز وجل.
عمِلُواْ }
ثم يقول رب العزة سبحانه { :إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2329 /
ن وُدّا ()96
حمَ ُ
ج َعلُ َل ُهمُ الرّ ْ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ سَ َي ْ
إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
وُدا :مودة ومحبة تقوم على اليمان ،وتقود إلى شدة التعلّق ،وقد جعل الحق ـ تبارك وتعالى ـ
َكوْنه أسبابا لهذه المحبة والمودة ،كأنْ ترى إنسانا يُحبك ويتودّد إليك ،فساعةَ تراه مُقبلً عليك تقوم
له وتبشّ في وجهه ،وتُفسِح له في المجلس ،ثم تسأل عنه إنْ غاب ،وتعوده إنْ مرض ،وتشاركه
حبّ ومودة سابقة.
الفراح وتواسيه في الحزان وتؤازره عند الشدائد ،فهذه المودة ناشئة عن ُ
وقد تنشأ المودة بسبب القرابة أو المصالح المتبادلة أو الصداقة ،فهذه أسباب المودة في الدنيا بين
ن وُدّا }[مريم.]96 :
حمَـا ُ
ج َعلُ َلهُمُ الرّ ْ
الخَلْق جميعا مؤمنهم وكافرهم ،أمّا هنا {:سَيَ ْ
أي :بدون سبب من أسباب المودة هذه ،مودة بدون قرابة ،وبدون مصالح مشتركة أو صداقة،
وهذه المودة بين الذين آمنوا ،كأنْ ترى شخصا لول مرة فتشعر نحوه بارتياح كأنك تعرفه،
وتقول له :إني أحبك ل.
هذه محبة جعلها ال بين المؤمنين ،فضلً منه سبحانه وتكرّما ،ل بسبب من أسباب المودة
المعروفة.
لذلك قال هرم بن حَيّان ـ رحمه ال ـ :إن الحق تبارك وتعالى حين يرى عبده المؤمن قد أقبل
عليه بقلبه وأسكنه فيه ،وأبعد عن قلبه الغيار ،وسلّم قلبه وهو أسمى ما يملك من مستودعات
العقائد وينبوع الصالحات وقدّمه لربه إل فتح له قلوب المؤمنين جميعا.
كما جاء في الحديث القدسي:
" ما أقبل عليّ عبد بقلبه إل أقلبتُ عليه بقلوب المؤمنين جميعا " أي :بالمودة والرحمة دون
أسباب.
وفي الحديث القدسي " :إن ال إذا أحب عبدا نادى في السماء :إنني أحببتُ فلنا فأحبّوه ،وينادي
حبريل في الرض :إن ال أحبّ فلنا فأحبوه .ويوضع له القبول في الرض ".
ن كنتَ قد تبرعتَ ل
فيحبه كل مَنْ رآه عطية من ال وفضلً ،دون سبب من أسباب المودة ،وإ ْ
تعالى بما تملك وهو قلبك مستودع العقائد وينبوع الصالحات كلها ،فإنه تعالى وهب لك ما يملك
من قلوب الناس جميعا ،فهي في يده تعالى يُوجّهها كيف يشاء.
وقد علّمنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ في قوله {:وَإِذَا حُيّيتُم بِ َتحِيّةٍ َفحَيّواْ بَِأحْسَنَ مِ ْنهَآ َأوْ ُردّوهَآ }
[النساء ]86 :أن نرد الجميل بأحسن منه ،فإنْ لم نقدر على الحسن فل أقلّ من الرد بالمثل ،فإنْ
كان هذا عطاء العبد ،فما بالك بعطاء الرب؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن ذلك ما جاء في الحديث الشريف " :من يسّر على معسر يسّر ال عليه في الدنيا والخرة،
ومن ستر مسلما ستره ال في الدنيا والخرة ،وال في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ".
وال َعوْن يقتضي مُعينا و ُمعَانا ،ول بُدّ أن يكون المعين أقوى من المعان ،فيفيض عليه من فضل ما
عنده :صحة ،أو قدرة ،أو غنىً ،أو علما.
وإعانةُ العبد لخيه محدودة بقدراته وإمكاناته ،أمّا معونة ال لعبده فغير محدودة؛ لنها تناسب
قدرة وإمكانات الحق تبارك وتعالى.
وهكذا عوّدنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ حين نُضحّي بالقليل أنْ يعطينا الكثير وبل حدود ،فضلً
من ال وكرما .ألم تَرَ أن الحسنة عنده تعالى بعشر أمثالها ،وتضاعف إلى سبعمائة ضعف؟
أليست هذه تجارة مع ال رابحة ،كما قال سبحانه {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َهلْ َأدُلّكمْ عَلَىا ِتجَا َرةٍ
تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الصف.]10 :
وقال عنهاِ {:تجَا َرةً لّن تَبُورَ }[فاطر.]29 :
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد منا المحبة المتبادلة التي تربط بين قلوبنا وتُؤلّف بيننا ،ثم
يمنحنا سبحانه الثمن.
إذن :العملية اليمانية ل تظن أنها إيثار ،بل اليمان أثره ،وأنت حين تتصدق بكذا إنما تأمل ما
عند ال من مضاعفة الجر ،فاليمان ـ إذن ـ أنانية عالية.
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يريد منا أنْ نعودَ على غيرنا بفضل ما نملك ،كما جاء في الحديث" :
ن ل مالَ له." ...
مَنْ كان عنده فضل مال فلي ُعدْ به على مَ ْ
واعلم أن ال سيُعوّضك خيرا مما أعط ْيتَ .ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـَ :هبْ أن عندك
ولدين ،أعطيتَ لكل منهما مصروفة ،فالول اشترى به حلوى أكل منها ،وأعطى رفاقه ،والخر
بدّد مصروفه فيما ل يُجدي من ألعاب أو خلفه ،فأيهما تعطي بعد ذلك؟ كذلك الحق سبحانه
يعاملنا هذه المعاملة.
ويقول الحق سبحانه } :فَإِ ّنمَا َيسّرْنَاهُ بِلِسَا ِنكَ {
()2330 /
فَإِ ّنمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَا ِنكَ لِتُبَشّرَ بِهِ ا ْلمُ ّتقِينَ وَتُنْذِرَ ِبهِ َق ْومًا لُدّا ()97
الفاء هنا تفيد :ترتيب شيء على شيء فابحث في الجملة بعدها عن هذا الترتيب ،فالمعنى :بشّر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المتقين ،وأنذر القوم اللّد لننا يسرنا لك القرآن.
حفْظا وأدا ًء وإلقاء معانٍ ،فأنت تُوظّفه في المهمة التي نزل من
ويسّرنا القرآن :أي :طوعناه لك ِ
أجلها.
وتيسير القرآن ورد في آيات كثيرة ،كقوله تعالى في سورة القمر {:وََلقَدْ يَسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ
مِن مّ ّدكِرٍ }[القمر.]17 :
والمتأمل في تيسير القرآن يجد العجائب في أسلوبه ،فترى الية تأتي في سورة بنص ،وتأتي في
نفس السياق في سورة أخرى بنص آخر ،فالمسألة ـ إذن ـ ليست (أكلشيه) ثابت ،وليست
عملية ميكانيكية صماء ،إنه كلم رب.
خذْ مثلً قوله تعالى:
ُ
{ كَلّ إِنّهُ تَ ْذكِ َرةٌ * َفمَن شَآءَ َذكَ َرهُ }[المدثر54 :ـ .]55
وفي آية آخرى {:إِنّ هَـا ِذهِ تَ ْذكِ َرةٌ َفمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىا رَبّهِ سَبِيلً }[النسان.]29 :
مرة يقول {:إِنّ هَـا ِذهِ تَ ْذكِ َرةٌ }[النسان ]29 :ومرة يقول {:كَلّ إِ ّنهَا تَ ْذكِ َرةٌ }[عبس.]11 :
ونقف هنا أمام ملحظ دقيق في سورة (الرحمن) حيث يقول الحق تبارك وتعالى {:وَِلمَنْ خَافَ َمقَامَ
ل إلى
ن يص َ
رَبّهِ جَنّتَانِ }[الرحمن ]46 :ثم يأتي الحديث عنهما :فيهما كذا ،فيهما كذا إلى أ ْ
قاصرات الطرف فيقول {:فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّ ْرفِ }[الرحمن.]56 :
ن يصلَ إلى الحور
وكذلك فيَ {:ومِن دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ }[الرحمن ]62 :فيهما كذا وفيهما كذا إلى أ ْ
العين فيقول {:فِيهِنّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ }[الرحمن.]70 :
ولك أنْ تتساءل :الحديث هنا عن الجنتين ،فلماذا عدل السياق عن (فيهما) إلى (فيهن) في هذه
النعمة بالذات؟
قالوا :لن نعيم الجنة مشترك ،يصح أنْ يشترك فيه الجميع إل في نعمة الحور العين ،فلها
خصوصيتها ،فكأن الحق تبارك وتعالى يحترم مشاعر الغَيْرة عند الرجال ،ففي هذه المسألة يكون
لكل منها جنته الخاصة التي ل يشاركه فيها أحد.
لذلك " لما رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم الجنة رأى فيها قصرا فابتعد عنه ،فلما سُئِل عن
ذلك صلى ال عليه وسلم قال " :إنه لعمر ،وأنا أعرف غَيْرة عمر ".
فإلى هذه الدرجة تكون غيرة المؤمن ،وإلى هذه الدرجة تكون ِدقّة التعبير في القرآن الكريم.
ولول أن ال تعالى أنزل القرآن ويسّره َلمَا حفظه أحد فالنبي صلى ال عليه وسلم كان ينزل عليه
اليات ،وحِين يسري عنه يمليها على الصحابة ،ويظل يقرؤها كما هي ،ولول أن ال قال له{:
سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى ]6 :ما تيسّر له ذلك.
ونحن في حفْظنا لكتاب ال تعالى نجد العجائب أيضا ،فالصبي في سنّ السابعة يستطيع حفْظ
ن غفل عنه بعد ذلك تَفّلتَ منه ،على خلف ما لو حفظ نصا من النصوص في
القرآن وتجويده ،فإ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه السن يظل عالقا بذهنه.
إذن :مسألة حفظ القرآن ليست مجرد استذكار حافظة ،بل معونة حافظ ،فإن كنت على وُ ّد وأُلْفة
ت منك ،كما جاء في الحديث الشريف:
ل معك ،وإنْ تركته وجفوْته تفّل َ
بكتاب ال ظ ّ
عقَلها ".
" تعاهدوا القرآن ،فو الذي نفسي بيده َلهُو أش ّد تفصّيا من البل في ُ
ذلك؛ لن حروف القرآن ليست مجرد حرف له رسم ومنطوق ،إنما حروف القرآن ملئكة
ن وددتَ الحرف ،وودتَ الكلمة والية ،ودّتْك الملئكة،
تُصفّ ،فتكون كلمة ،وتكون آية ،فإ ْ
وتراصتْ عند قراءتك.
ن أعلمتَ عقلك في القراءة تتخبّط فيها وتخطىء ،فإنْ
ومن العجائب في تيسير حفظ القرآن أنك إ ْ
أعدتَ القراءة هكذا على السليقة كما حفظت تتابعت معك اليات وطاوعتك.
وتلحظ هنا أن القرآن لم ي ْأتِ باللفظ الصريح ،إنما جاء بضمير الغيبة في } يَسّرْنَاهُ { [مريم]97 :
لن الهاء هنا ل يمكن أن تعود إل على القرآن ،كما في قوله تعالىُ {:قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ }[الخلص:
]1فضمير الغيبة هنا ل يعود إل على ال تعالى.
وقوله } :بِلِسَا ِنكَ { [مريم ]97 :أي :بلغتك ،فجعلناه قرآنا عربيا في أمة عربية؛ ليفهموا عنك
البلغ عن ال في البشارة والنذارة ،ولو جاءهم بلغة أخرى لقالوا كما حكى القرآن عنهم.
ي وَعَرَبِيّ }[فصلت.]44 :
ج ِم ّ
عَجمِيّا ّلقَالُواْ َل ْولَ ُفصّلَتْ آيَاتُهُ ءَا ْ
جعَلْنَاهُ قُرْآنا أعْ َ
{ وََلوْ َ
وقول الحق سبحانه وتعالى } :وَتُنْذِرَ بِهِ َقوْما لّدّا { [مريم.]97 :
والنذار :التحذير من شَرّ سيقع في المستقبل ،واللّدَد :عُنْف الخصومة ،وشراسة العداوة ،نقول:
فلن عنده َلدَد أي :يبالغ في الخصومة ،ول يخضع للحجة والقناع ،ومهما حاولتَ معه ُيصِرّ
على خصومته.
ويُنهي الحق سبحانه سورة مريم بقوله تعالىَ } :وكَمْ أَ ْهَلكْنَا قَبَْلهُمْ {
()2331 /
الحق ـ تبارك وتعالى ـ يُسرّي عن نبيه صلى ال عليه وسلم ما يلقي من عنت في سبيل
دعوته ،كأنه يقول له :إياك أنْ ينالَ منك ُبغْض القوم لك وكُرههم لمنهج ال ،إياك أنْ تتضاءلَ أمام
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جبروتهم في عنادك ،فهؤلء ليسوا أعزّ من سابقيهم من المكذبين ،الذين أهلكهم ال ،إنما أستبقى
هؤلء لن لهم مهمة معك.
وسبق أن أوضحنا أن الذين نجوْا من القتل من الكفار في بعض الغزوات ،وحزن المسلمون
لنجاتهم ،كان منهم فيما َبعْد سيف ال المسلول خالد بن الوليد.
يقول تعالىَ { :وكَمْ أَهَْلكْنَا قَبَْل ُهمْ مّن قَرْنٍ } [مريم.]98 :
كم :خبرية تفيد الكثرة ،من قرن :من أمة { َهلْ ُتحِسّ مِ ْنهُمْ مّنْ َأحَدٍ } [مريم ]98 :لننا أخذناهم
فلم نُبق منهم أثرا يحس.
س أو الدراك كما هو معروف :العين للرؤية ،والذن للسمع ،والنف للشمّ ،واللسان
ووسائل الحِ ّ
للتذوق ،واليد للمس ،فبأيّ آداة من أدوات الحسّ ل تجد لهم أثرا.
سمَعُ َلهُمْ ِركْزا } [مريم ]98 :الركْز :الصوت الخفيّ ،الذي ل تكاد تسمعه .وهذه
وقولهَ { :أوْ تَ ْ
سُنّة ال في المكذبين من المم السابقة كما قال سبحانه {:أَهُمْ خَيْرٌ َأمْ َقوْمُ تُبّ ٍع وَالّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ
أَهَْلكْنَا ُهمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ مُجْ ِرمِينَ }[الدخان.]37 :
أين عاد وثمود وإرم ذات العماد التي لم يُخلَق مثلها في البلد؟ وأين فرعون ذو الوتاد؟ فكل
جبار مهما عََلتْ حضارته ما استطاع أنْ يُبقي هذه الحضارة؛ لن ال تعالى أراد لها أنْ تزول،
وهل كفار مكة أش ّد من كل هؤلء؟
سعْك
سمَعُ َلهُمْ ِركْزا } [مريم ]98 :ل ي َ
لذلك حين تسمع هذا السؤالَ { :هلْ ُتحِسّ مِ ْنهُمْ مّنْ َأحَدٍ َأوْ َت ْ
إلّ أنْ تُجيب :ل أحسّ منهم من أحد ،ول أسمع لهم ركزا.
()2332 /
طه ()1
تكلمنا كثيرا عن الحروف المقطّعة في بدايات السور ،ول مانع هنا أنْ نشير إلى ما ورد في
(طه) ،فالبعض يرى أنها حروف متصلة ،وهي اسم من أسماء الرسول صلى ال عليه وسلم،
وآخرون يروْنَ أنها حروف مُقطّعة مثل (الم) ومثل (يس) فهي حروف مُقطّعة ،إل أنها صادفتْ
اسما من السماء كما في (ن) حرف وهو اسم للحوتَ {:وذَا النّونِ إِذ ذّ َهبَ ُمغَاضِبا }[النبياء:
]87و(ق) حرف ،وهو اسم لجبل اسمه جبل قاف.
إذن :ل مانع أن تدل هذه الحروف على اسم من السماء ،فتكون (طه) اسما من أسماء الرسول
شقَىا }[طه.]2 :
صلى ال عليه وسلم خاصة ،وأن بعدها {:مَآ أَنَزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لِتَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن تلحظ هنا مفارقة ،حيث نطق الطاء والهاء بدون الهمزة ،مع أنها حروف مقطعة مثل الف
خفّفونها ،كما في ذئب يقولون:
لم ميم ،لكن لم ينطق الحرف كاملً ،لنهم كانوا يستثقلون ال َهمْز فيُ َ
ذيب وفي بئر ،يقولون :بير .وهذا النطق يُرجح القول بأنها اسم من أسماء النبي صلى ال عليه
وسلم.
وسبق أنْ أوضحنا أن فواتح السور بالحروف المقطّعة تختلف عن باقي آيات القرآن ،ف ُكلّ آيات
القرآن من بدايته لنهايته بُن َيتْ على ال َوصْل ،وإنْ كان لك أن تقف؛ لذلك فكل المصاحف تُبنَى على
ال َوصْل في اليات وفي السور ،فتنطق آخر السورة على الوصل ببسم ال الرحمن الرحيم في
السورة التي بعدها.
سمَعُ َلهُمْ ِركْزا }[مريم( ]98 :بسم ال الرحمن الرحيم) حتى
تقولَ {:هلْ ُتحِسّ مِ ْنهُمْ مّنْ َأحَدٍ َأوْ َت ْ
في آخر سور القرآن ونهايته تقول {:مِنَ ا ْلجِنّ ِة وَالنّاسِ }[الناس( ]6 :بسم ال الرحمن الرحيم) مع
أنها آخر كلمة في القرآن ،وماذا سيقول بعدها؟ لكنها جاءت على ال َوصْل إشارة إلى أن القرآن
موصولٌ أوّله بآخره ،ل ينعزل بعضه عن بعض ،فإياك أن تجف َوهُ ،أو تظن أنك أنهيته؛ لن نهايته
موصولة ببدايته؛ فنقرأ { مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ } { بِسمِ ال الرّحْمانِ الرّحِيـمِ } الحمدُ لِ رب
العالمين....
إذن :فالقرآن كله في كل جملة وكل آية وكل سورة مبنيّ على ال َوصْل ،إل في فواتح السور
بالحروف المقطّعة تُبنَى على الوقف (ألف ـ لم ـ ميم) ،وهذا وجه من وجوه العجاز ،وأن
القرآن ليس ميكانيكا ،بل كلم ُمعْجِز من ربّ العالمين.
لذلك ،فالنبي صلى ال عليه وسلم أوضح استقللية هذه الحروف بذاتها ،فقال " تعلموا هذا القرآن،
فإنكم تؤجرون بتلوته ،بكل حرف عشر حسنات ،أما إني ل أقول الم حرف ،ولكن ألف حرف،
ولم حرف ،وميم حرف ،بكل حرف عشر حسنات ".
يقول الحق سبحانة { :مَآ أَنَزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ }
()2333 /
شقَى ()2
مَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآَنَ لِ َت ْ
الشقاء :هو التعب وال ّنصَب والكدّ ،فالحق سبحانه ينفي عن رسوله صلى ال عليه وسلم التعب
بسبب إنزال القرآن عليه ،إذن :فما المقابل؟ المقابل :أنزلنا عليك القرآن لتسعد ،تسعد أولً بأن
اصطفاك لن تكون أَهْلً لنزول القرآن عليك ،وتسعد بأن تحمل نفسك أولً على منهج ال و ِفعْل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخير كل الخير.
شقَىا } [طه]2 :؟.
فلماذا ـ إذن ـ جاءتْ كلمة { لِ َت ْ
هذا كلم الكفار أمثال أبي جهل ،ومُطعِم بن عدي ،والنضر بن الحارث ،والوليد بن المغيرة حينما
ذهبوا إلى النبي صلى ال عليه وسلم وقالوا له :لقد أشقيتَ نفسك بهذه الدعوة.
وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال بعثني رحمة للعالمين ".
فقد بعث رسول ال ليسعد ويسعد معه قومه والناس أجمعين ل ليشقى ويُشقِي معه الناس .لكن من
أين جاء الكفار بمسألة الشقاء هذه؟ المؤمن لو نظر إلى منهج ال الذي نزل به القرآن لوجده
يتدخل في إراداته واختياراته ،ويقف أمام شهواته ،فيأمره بما يكره وما يشقّ على نفسه ،ويمنعه
مما يألَف ومما يحب.
إذن :فمنهج ال ضد مرادات الختيار ،وهذا يُتعِب النفس ويشقّ عليها إذا عُزَِلتْ الوسيلة عن
غايتها ،فنظرت إلى الدنيا والتكليف منفصلً عن الخرة والجزاء.
أمّا المؤمن فيقرن بين الوسيلة والغاية ،ويتعب في الدنيا على أمل الثواب في الخرة ،فيسعد بمنهج
ال ،ل يشقى به أبدا .كالتلميذ الذي يتحمل مشقّة الدرس والتحصيل؛ لنه يستحضر فَرْحة الفوز
والنجاح آخر العام.
من هنا رأى هؤلء الكفار في منهج ال مشقة وتعبا ،لنهم عزلوا الوسيلة عن غايتها؛ لذلك
شعروا بالمشقة ،في حين شعر المؤمنون بلذة العبادة ومتعة التكليف من ال ،وهذه المسألة هي
ب لها ،ول منهج ،ول تكليف ،آلهة يعبدونها على هواهم،
التي جعلتهم يتخذون آلهةً ل مطال َ
حلّ شعورهم.
ويسيرون في ظلها على َ
شقَىا } [طه:
لذلك أوضح القرآن أنهم مغفلون في هذه المسألة ،فقال { :مَآ أَنَزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لِتَ ْ
.]2
أو يكون الشقاء :تعرّضه ِلعُتاة قريش وصناديدها الذين سخروا منه ،وآذوه وسلّطوا عليه سفهاءهم
وصبيانهم ،يشتمونه ويرمونه بالحجارة ،وهو صلى ال عليه وسلم يُشقِي نفسه بدعوتهم والحرص
على هدايتهم.
شقَىا } [طه]2 :
والحق تبارك وتعالى ينفي الشقاء بهذا المعنى أيضا { :مَآ أَنَ َزلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لِتَ ْ
أي :لتُشقي نفسك معهم ،إنما أنزلناه لتبليغهم فحسب ،وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيرا في
سكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ َأسَفا }[الكهف]6 :
مثل قوله تعالى {:فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ضعِينَ }[الشعراء.]4 :
سمَآءِ آ َيةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ
علَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
وقوله {:إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ َ
ل ـ ول المثَل العلى ـ برجل عنده عبدان :ربط أحدهما إليه بحبل،
وسبق أنْ ضربنا لذلك مث ً
وأطلق الخر حُرا ،فإذا ما دعاهما فاستجابا لمره ،فأيهما أطوع له ،وأكثر احتراما لمره؟
ل شكّ أنه الحر الطليق؛ لنه جاء مختارا ،في حين كان قادرا على العصيان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل تؤمن.
وكذلك ربك ـ تبارك وتعالى ـ يريد منك أن تأتيه حُرا مختارا مؤمنا ،وأنت قادر أ ّ
والبعض يحلو لهم نقد السلم واتهام الرسول صلى ال عليه وسلم ،فيقولون :إن رسول ال
يخطىء وال يُصوّب له ،ونتعجب :وما يضيركم أنتم؟ طالما أن ربه هو الذي يُصوّب له ،هل أنتم
صوّبتم لرسول ال!؟ ثم مَنْ أخبركم بخطأ رسول ال؟ أليس هو الذي أخبركم؟ أليس هذا من
الذين َ
قوة أمانته في التبليغ ويجب أن تحمد له؟
إذن :فرسول ال صلى ال عليه وسلم ل يستنكف أنْ يُربّيه ربه؛ لذلك يقول " :إنما أنا بشر يَرِد
عليّ ـ يعني من الحق ـ فأقول :أنا لست كأحدكم ،ويُؤخذ مني فأقول :ما أنا إل بشر مثلكم ".
وقد تمحّك هؤلء كثيرا في قصة عبد ال بن أم مكتوم ،حينما انشغل عنه رسول ال بكبار قريش،
والمتأمل في هذه القصة يجد أن ابن أم مكتوم كان رجلً مؤمنا جاء ليستفهم من رسول ال عن
سهْل ،أمّا هؤلء فهم رؤوس الكفر وكبار القوم ،ولديهم مع ذلك
شيء ،فالكلم معه ميسور وأمر َ
لَدَد في خصومتهم للسلم ،والنبي صلى ال عليه وسلم يحرص على هدايتهم ويُرهِق نفسه في
جدالهم أملً في أنْ يهدي ال بهم مَنْ دونهم.
إذن :النبي في هذا الموقف اختار لنفسه الصعب ،وربه يعاتبه على ذلك ،فهو عِتَاب لصالحه ،له
ل عليه.
خشَىا {
ثم يقول الحق سبحانهِ } :إلّ َت ْذكِ َرةً ّلمَن يَ ْ
()2334 /
خوْف
خشَى) الخشيةَ :
أي :ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ،وإنما أنزلناه (تذكرةً) أي تذكيرا (لمَنْ يَ ْ
بمهابة؛ لن الخوفَ قد يكون خوفا دون مهابة ،أمّا الخوف من ال فخوْف ومهابة معا.
()2335 /
تنزيلً :مصدر أي :أنزلناه تنزيلً ،وقد ورد في نزول القرآن :أنزلناه ،ونزلناه ونزل ،يقول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شهْرٍ *
تعالى {:إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ * َومَآ أَدْرَاكَ مَا لَيَْلةُ ا ْلقَدْرِ * لَيَْلةُ ا ْلقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَ ْلفِ َ
تَنَ ّزلُ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَالرّوحُ فِيهَا }[القدر1 :ـ .]4
عدّة في النزول ،فقد كان في اللوح المحفوظ ،فأراد ال له أن يباشر القرآن
لن القرآن أخذ أدوارا ِ
مهمته في الوجود ،فأنزله من اللوح المحفوظ مرة واحدة إلى السماء الدنيا .فأنزله ـ أي ال تعالى
ـ ثم تَنزّل مُفرّقا حسْب الحداث من السماء الدنيا على قلب رسول ال صلى ال عليه وسلم
لمِينُ }[الشعراء.]193 :
حاَ
والذي نزل به جبريل {:نَ َزلَ بِهِ الرّو ُ
سمَاوَاتِ ا ْلعُلَى } [طه.]4 :
ق الَ ْرضَ وَال ّ
وقوله تعالىّ { :ممّنْ خََل َ
خلْق ال ،وقد أعدهما ال ليستقبل النسان ،فالنسان
خصّ السموات والرض ،لنها من أعظم َ
َ
طرأ على َكوْن ُمعَدّ جاهز لستقباله ،فكان عليه ساعة أنْ يرى هذا الكون المُعدّ لخدمته بأرضه
وسمائه ،ول قدرة له على تسيير شيء منها ،كان عليه أن يُع ِملَ عقله ،ويستدل بها على الموجد
سبحانه وتعالى.
كأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول لك :إذا كان الخالق سبحانه قد أعدّ لك الكون بما يُقيم حياتك
المادية ،أيترك حياتك المعنوية بدون عطاء؟
والخالق عز وجل خلق هذا الكون بهندسة قيومية عادلة حكيمة تُوفّر لخليفته في الرض استبقاءَ
حياته ،وتعطيه كل ما يحتاج إليه بقدر دقيق ،واستبقاء الحياة يحتاج إلى طعام وشراب وهواء ،وقد
أعطاها ال للنسان بحكمة بالغة.
فالطعام يحتاجه النسان ،ويستطيع أنْ يصبر عليه شهرا ،دون أن يأكل ،ويحتاج إلى الماء ولكن
ل يستطيع أنْ يصبر عليه أكثر من عشرة أيام ،ويحتاج إلى الهواء ولكن ل يصبر عليه لحظةً
تستغرق عِدّة أنفاس.
ن يمتلك بعضُ الناس القوتَ ،فالوقت أمامك طويل لتحتالَ على
لذلك ،فمن رحمته تعالى بعباده أ ْ
كَسْبه ،وقليلً ما يملك أحدٌ الماءَ ،أما الهواء الذي ل صَبْر لك عليه ،فمن حكمة ال أنه ل يملكه
أحد ،وإل لو منع أحد عنك الهواء ل ُمتّ قبل أنْ يرضى عنك.
فمن حكمة ال أنْ خلق جسمك يستقبل مُقوّمات استبقاء الحياة فترة من الزمن تتسع للحيلة وللعطف
من الغير ،وحين تأكل يأخذ الجسم ما يحتاجه على قَدْر الطاقة المبذولة ،وما فاض يُختزَن في
جسمك على شكل دُهْن يُغذّي الجسم حين ل يتوفر الطعام.
ومن عجائب قدرة ال أن هذه المادة الدّهنية تتحول تلقائيا إلى أي مادة أخرى يحتاجها الجسم ،فإن
احتاج الحديد تتحول كيماويا إلى الحديد ،وإن احتاج الزرنيخ تتحول كيماويا إلى زرنيخ ،وهي في
الواقع مادة واحدة ،فمَنْ يقدر على هذه العملية غيره تعالى؟
وبعد أنْ أعطاك ما يستبقي حياتك من الطعام والشراب والهواء أعطاك ما يستبقي نوعك بالزواج
والتناسل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاوَاتِ ا ْلعُلَى } [طه ]4 :العل :جمع عُليا ،كما نقول في جمع كبرى :كُبَر{ إِ ّنهَا
وقوله تعالى { :ال ّ
لِحْدَى ا ْلكُبَرِ }[المدثر.]35 :
وهكذا تكتمل مُقوّمات التكوين العالي لخليفة ال في الرض ،فكما أعطاه ما يقيم حياته ونوعه
بخَلْق السموات والرض ،أعطاه ما يُقيم معنوياته بنزول القرآن الذي يحرس حركاتنا من شراسة
الشهوات ،فالذي أنزل القرآن هو الذي خلق الرض والسموات العل.
صفَة الرحمانية؛ لذلك قال بعدها:
والصفة البارزة في هذا التكوين العالي للنسان هي ِ
حمَـانُ عَلَى ا ْلعَرْشِ }
{ الرّ ْ
()2336 /
فالية السابقة أعطتْنا مظهرا من مظاهر العطف والرحمة ،وهذه تعطينا مظهرا من مظاهر ال َقهْر
والغَلَبة ،واستواء الرحمن ـ تبارك وتعالى ـ على العرش يُؤخَذ في إطار.
شيْءٌ }[الشورى.]11 :
{ لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
وسبق أن تكلمنا في الصفات المشتركة بين الحق سبحانه وبين خَلْقه ،فَلكَ سم ٌع وبصر ،ول سمع
وبصر ،لكن إياك أنْ تظن أن سمع ال كسمْعك ،أو أن بصره كبصرك.
كذلك في مسألة الستواء على العرش ،فاللحقّ سبحانه استواء على عرشه ،لكنه ليس كاستوائك
أنت على الكرسي مثلً.
والعرش في عُرْف العرب هو سرير المْلك ،وهل يجلس الملك على سريره ليباشر أمر مملكته
ويدير شئونها إل بعد أ نْ يستتبّ له المر؟
جلّ وعل ـ خلق الكون بأرضه وسمائه ،وخلق الخَلْق ،وأنزل القرآن لينظم
وكذلك الخالق ـ َ
حياتهم ،وبعد أن استتبّ له المر لم يترك الكون هكذا يعمل ميكانيكيا ،ولم ينعزل عن َكوْنه وعن
خَلْقه؛ لنهم في حاجة إلى قيوميته تعالى في خَلْقه.
ألم يقل الحق سبحانه في الحديث القدسي " :يا عبادي ناموا ِملْءَ جفونكم ،لنّي قَيّوم ل أنام ".
فكوْنُ ال ليس آل ًة تعمل من تلقاء نفسها ،وإنما هو قائم بقيوميته عليه ل يخرج عنها؛ لذلك كانت
المعجزات التي تخرق نواميس الكون دليلً على هذه القيومية.
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ }
ثم يقول الحق سبحانه { :لَهُ مَا فِي ال ّ
()2337 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حتَ الثّرَى ()6
ض َومَا بَيْ َن ُهمَا َومَا َت ْ
ت َومَا فِي الْأَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
لَهُ مَا فِي ال ّ
الحق ـ تبارك وتعالى ـ يمتنّ بما يملكه سبحانه في السموات وفي الرض وما تحت الثرى،
وال تعالى ل يمتنّ إل بملكية الشيء النفيس الذي يُنتفع به.
وكأنه سبحانه يلفت أنظار خَلْقه إلى ما في الكون من مُقوّمات حياتهم المادية ليبحثوا عنها،
ويستنبطوا ما ادّخره لهم من أسرار وثروات في السموات والرض ،والناظر في حضارات المم
حفْريات الرض ،أو من أسرار الفضاء العلى في عصر الفضاء.
يجد أنها جاءت إما َ
ولو فهم المسلمون هذه الية منذ نزلت لَعلموا أن في الرض وتحت الثرى وهو( :التراب) كنوزا
وثروات ما عرفوها إل في العصر الحديث بعد الكتشافات والحفريات ،فوجدنا البترول والمعادن
والحجار الثمينة ،كلها تحت الثّرى مطمورةً تنتظر مَنْ يُنقّب عنها وينتفع بها.
وقد أوضح العلماء أن هذه الثروات موزعة في أرض ال بالتساوي ،بحيث لو أخذتَ قطاعاتٍ
متساوية من أراض مختلفة لوجدتَ أن الثروات بها متساوية :هذه بها ماء ،وهذه مزروعات،
وهذه معادن ،وهذه بترول وهكذا .فهي أشبه بالبطيخة حين تقسمها إلى قِطع متساوية من السطح
إلى المركز.
شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائِنُ ُه َومَا نُنَزّلُهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }[الحجر.]21 :
لذلك يقول تعالى {:وَإِن مّن َ
إذن :فالخير موجود ينتظر القَدَر ليظهر لنا وننتفع به.
جهَرْ بِا ْلقَ ْولِ }
ثم يقول تبارك وتعالى { :وَإِن َت ْ
()2338 /
خفَى ()7
جهَرْ بِا ْل َق ْولِ فَإِنّهُ َيعْلَمُ السّ ّر وَأَ ْ
وَإِنْ تَ ْ
الحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يطلب من رسوله أن يذكر يريد منه أن يُذكّر تذكيرا مرتبطا
بنيته ،ل ليقطع العَتْب عنه نفسه ،فالمسألة ليست جهرا بالتذكير.
وإذا كان تعالى يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم :إنني سأحرس سرك كما أحرس علنيتك ،وأن
الجهر عندي مثل السر ،بل وأخفى من السر ،وهو صلى ال عليه وسلم مؤتمن على الرسالة فإنه
تعالى يقول أيضا لمته :إياكم أن تقولوا كلما ظاهره فيه الرحمة ،ونيتكم غير مستقرة عليه؛ لن
ال كما يعلم الجهر يعلم السر ،وما هو أخفى من السر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ص واحدا بأن تضع في أذنه
وتكلمنا عن الجهر ،وهو أن تُسمع مَنْ يريد أن يسمع ،والسر :أن تخ ّ
كلما ل تحب أن يشيع عند الناس ،وتهمس في أذنه بأنك المأمون على هذا الكلم ،وأنت ترتاح
نفسيا حينما تُلقِي بسرّك إلى مَنْ تثق فيه ،وتأمن َألّ يذيعه ،وهناك في حياة كل منا أمور تضيق
ش ْكوَى إِلَى ذِي مُرُو َءةٍ
النفس بها ،فل بُدّ لك أن تُنفّسَ عن نفسك ،كما قال الشاعرَ :ولَ بُدّ مِنْ َ
جعُفأنت ـ إذن ـ في حاجة لمَنْ يسمع منك ليريحك ،ويُنفّس عنك ،ول
يوَاسِيكَ َأوْ يُسْلِيكَ َأوْ يتو ّ
يفضحك بما أسر ْرتَ إليه.
خفَى } [طه ]7 :أي :أَخْفى من السر ،فإنْ كان سِرّك قد خرج من فمك إلى أذن
ومعنى { وََأ ْ
خفَى من السر ،أي :ما احتفظتَ به لنفسك ولم تتفوّه به لحد.
سامعك ،فهناك ما هو أَ ْ
جهَرُواْ بِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ }[الملك ]13 :أي:
لذلك يقول تعالى {:وَأَسِرّواْ َقوَْلكُمْ َأوِ ا ْ
مكنوناتها قبل أن تصير كلما.
سوِسُ بِهِ َنفْسُهُ }[ق ]16 :فوسوسة النفس ،وذات الصدور هي الَخْفى من
وقال أيضا {:وَ َنعْلَمُ مَا ُتوَ ْ
جهْر ،وسِرّ ،وأخفى من السر ،لكن بعض العارفين يقول :وهناك في علم
السر ،فلديْنَا ـ إذن ـ َ
ال ما هو أخْفى من الَخفى ،فما هو؟ يقول :إنه تعالى يعلم ما سيكون في النفس قبل أن يكون.
وبعد ذلك جاء الحق سبحانه بالكلمة التي بعث عليها الرسل جميعا { :اللّهُ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }
()2339 /
هذه الكلمة (ل إله إل هو) هي قمة العقيدة ،وقال عنها النبي صلى ال عليه وسلم " :خير ما قلته
أنا والنبيون من قبلي :ل إله إل ال ".
وما دام ل إله إل ال ،فهو سبحانه المؤْتَمن عليك ،فليس هناك إله آخر يُعقّب عليه ،فاعمل لوجهه
يكْفك كل الوجه وتريح نفسك أن تتنازعك قوى شتى ومختلفة ،ويُغنيك عن كل غنى.
" وحينما دخل أعرابي على رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يتكلم مع أبي بكر ـ رضي ال
عنه ـ لم يفهم من كلمهما شيئا ،فقال :يا رسول ال أنا ل أُحسن دندنتك ول دندنة أبي بكر ،أنا
حوْلَها ندندن يا أخا
ل أعرف إل :ل إله إل ال محمد رسول ال .فقال صلى ال عليه وسلمَ " :
العرب ".
فهي الساس والمركز الذي يدور حوله السلم.
وكلمة (الُ) عَلَم على واجب الوجود بكل صفات الكمال له ،فهو ال الموجود ،ال القادر ،ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العالم ،ال الحيّ ،ال المحيي ،ال الضار .فكل هذه صفات له سبحانه ،لكن هذه الصفات لما بلغتْ
حدّ الكمال فيه تعالى أصبحتْ كالسم العَلَم ،بحيث إذا أُطلِق الخالق ل ينصرف إل له ،والرازق ل
َ
ينصرف إل له.
سمَةَ ُأوْلُواْ
حضَرَ ا ْلقِ ْ
وقد يشترك الخلْق مع الخالق في بعض الصفات ،كما في قوله تعالى {:وَإِذَا َ
ا ْلقُرْبَىا وَالْيَتَامَىا وَا ْلمَسَاكِينُ فَارْ ُزقُوهُمْ }[النساء.]8 :
فالنسان أيضا يرزق ،لكن رزقه من باطن رزق ال ،فهو سبحانه الرازق العلى ،ومن َبحْره
يغترف الجميع.
حسَنُ الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون ]14 :وقال تعالى {:وَتَخُْلقُونَ ِإفْكا }
وكما في قوله تعالى {:فَتَبَا َركَ اللّهُ أَ ْ
[العنكبوت.]17 :
ومعنى ذلك أن هناك خالقين غيره سبحانه ،ومعنى الخَلْق :اليجاد من عدم ،فالذي جاء بالرمل
وصنع منه كوبا فهو خالق للكوب ،فأنت أوجدتَ شيئا من عدم ،وال تعالى أوجد شيئا من عدم،
ولكنك أوجدت من موجود ال قبل أن توجد أنتَ ،فهو ـ إذن ـ أحسن الخالقين في حين لم يضِنّ
ن ينصفك ويسميك خالقا .وهذا يوجب عليك أنْ تنصفه سبحانه وتقول{ َأحْسَنُ
عليك ربك بأ ْ
الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون.]14 :
وأيضا ،فإن ال تعالى إذا احترم إيجادك لمعدوم فسمّاك خالقا له ،ولم َيضِنّ عليك فأعطاك صفة
من صفاته إنما أخبرك أنه أحسن الخالقين؛ لنك تُوجِد معدوما يظل على إيجادك ويجمد على هذه
الحالة ،لكن الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ يُوجِد معدوما ويمنحه الحياة ،ويجعله يتلقى بمثله
ويُنجب ،فهل يستطيع النسان الذي أوجد كوبا أن يجعل منه ذكرا وأنثى ينتجان لنا الكواب؟!
وهل يكبر الكوب الصغير ،أو يتألم إنْ كُسِر مثلً؟!
إذن :فالخالق سبحانه هو أحسن الخالقين ،وكذلك هو خير الرازقين ،وخَيْر الوارثين ،وخَيْر
الماكرين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأسماء ال تعالى هي في الحقيقة صفات ،إل أنها لما أُطلِقت على الحق ـ تبارك وتعالى ـ
أصبحتْ أسماء .وَلكَ أنْ تُسمّى فتاة زنجية (قمر) وتسمى قِزْما (الطويل) لن السم إذا أُطلِق عَلَما
على الغير انحلّ عن معناه الصلي ولزم العَلَمية فقط ،لكن أسماء ال بقيتْ على معناها الصلي
حتى بعد أنْ أصبحتْ عَلَما على ال تعالى ،فهي ـ إذن ـ أسماء حُسْنى.
وبعد أن تكلّم الحق ـ تبارك وتعالى ـ عن الرسول الخاتم صاحب المنهج الخاتم ـ فليس بعده
نبي وليس بعد منهجه منهج ـ أراد سبحانه أنْ يُسلّيه تسليةً تُبيّن مركزه في موكب الرسالت،
وأنْ يعطيه نموذجا لمن سبقوه من الرسل ،وكيف أن كل رسول تعب على َقدْر رسالته ،فإنْ كانت
الرسالت السابقة محدودة الزمان محدودة المكان ،ومع ذلك تعب أصحابها في سبيلها ،فما بالك
برسول جاء لكل الزمان ولكل المكان؟ ل بُدّ أنه سيواجه من المتاعب مثل هؤلء جميعا.
إذن :فوطّن نفسك يا محمد على أنك ست ْلقَى من المتاعب والصعاب ما يناسب عظمتك في الرسالة
وخاتميتك للنبياء ،وامتداد رسالتك في الزمان إلى أنْ تقومَ الساعة ،وفي المكان إلى ما اتسعتْ
الرض.
لذلك اختار الحق ـ تبارك وتعالى ـ لرسوله صلى ال عليه وسلم نبيا من أُولي العزم؛ لنه جاء
لبني إسرائيل وجاء لفرعون ،وقد كان بنو إسرائيل قوما ماديين ،أما فرعون فقد ادّعى اللوهية،
اختار موسى ـ عليه السلم ـ ليقصّ على رسول ال قصته ويُسلّيه فيما يواجهه من متاعب
ك وَجَآ َءكَ فِي هَـا ِذهِ
سلِ مَا نُثَ ّبتُ ِبهِ ُفؤَا َد َ
الدعوة ،كما قال تعالىَ {:وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
ق َو َموْعِظَ ٌة وَ ِذكْرَىا لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[هود.]120 :
حّالْ َ
سلِ }[الحقاف.]9 :
وقال تعالىُ {:قلْ مَا كُنتُ بِدْعا مّنَ الرّ ُ
فأنت يا محمد كغيرك من الرسل ،وقد وجدوا من المشقة على قَدْر رسالتهم ،وسوف تجد أنت
أيضا من المشقة على قَدْر رسالتك .ونضرب لذلك مثلً بالتلميذ الذي يكتفي بالعدادية وآخر
شكّ أن كلّ منهم يبذل من الجهد على َقدْر
بالثانوية أو الجامعة ،وآخر يسعى للدكتوراة ،فل َ
مهمته.
لذلك يقول تعالى } :وَ َهلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىا {
()2340 /
إذا جاء الستفهام من ال تعالى فاعلم أنه استفهام على غير حقيقته ،فل يُرَاد هنا طب الفهم ،لن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أخبار محمد تأتيه من ربه ـ عز وجل ـ فكيف يستفهم منه .إنما المراد بالستفهام هنا التشويق
لما سيأتي كما تقول لصاحبك :هل بلغك ما حدث بالمس؟ فيُشوّقه لسماع ما حدث.
والحديث :أي الخبر عنه سواء أكان بالوحي ،أو بغير الوحي ،كأن حكيت له قصة موسى عليه
ل لَهْلِهِ }
السلم ..فهل بلغتْك هذه القصة؟ اسمعها الن مني { :إِذْ رَأَى نَارا َفقَا َ
()2341 /
ستُ نَارًا َلعَلّي آَتِي ُكمْ مِ ْنهَا ِبقَبَسٍ َأوْ َأجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى ()10
إِذْ رَأَى نَارًا َفقَالَ لِأَهِْلهِ ا ْمكُثُوا إِنّي آَنَ ْ
نلحظ هنا أن السياق لم يذكر قصة موسى من أولها لما قال تعالى {:وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ
ضعِيهِ }[القصص ]7 :ثم خروجه من المدينة خائفا وذهابه إلى شعيب ..الخ ،وإنما قصد إلى
أَ ْر ِ
مَنَاط المر ،وهي الرسالة مباشرة.
جدُ عَلَى النّارِ ُهدًى } [طه ]10 :آنست :أي
ستُ نَارا ّلعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا ِبقَبَسٍ َأوْ أَ ِ
وقوله { :إِنّي آ َن ْ
أبصرت ،وشعرت بشيء يستأنس به ويُفرَح به ويُطمأن إليه ،ومقابلها (توجست) للشر الذي يخاف
منه كما في قوله {:فََأوْجَسَ فِي َنفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىا }[طه.]67 :
(لَعلّى) رجاء أنْ أجدَ فيها القبس ،وهو شعلة النار التي تُتّخذ من النار إنْ إدركت النار وهي ذات
َلهَب ،فتأخذ منها عودا مشتعلً مثل الشمعة.
وفي سياق آخر قال( :جذوة) وهي النار حينما ينطفىء لهبها ويبقى منها جمرات يمكن أن تشعل
شهَابٍ قَبَسٍ }[النمل.]7 :
منها النار .وفي موضع آخر قال {:سَآتِي ُكمْ مّ ْنهَا بِخَبَرٍ َأوْ آتِيكُمْ بِ ِ
وهذه كلها صور متعددة ،وحالت للنار ،ليس فيها تعارض كما يحلو للبعض أن يقول ،فموسى
عليه السلم حينما قال { ّلعَلّي آتِي ُكمْ } [طه ]10 :يرجو أن يجد القبس ،لكن ل يدري حال النار
عندما يأتيها ،أتكون قَبَسا أم جَذوة؟
وقد طلب موسى ـ عليه السلم ـ القَبَس لهله؛ لنهم كانوا في ليلة مطيرة شديدة البرد ،وهم
غرباء ل يعلمون شيئا عن المكان ،فهو غير مطروق لهم فيسيرون ل يعرفون لهم اتجاها ،فماذا
يفعل موسى عليه السلم ومعه زوجته وولده الصغير وخادمه؟
إنهم في أمسّ الحاجة للنار ،إما للتدفئة في هذا الجو القارس ،وإما لطلب هداية الطريق ،لذلك قال:
{ َأوْ َأجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى } [طه ]10 :أي :هاديا يدلّنا على الطريق.
وفي موضع آخر قالّ {:لعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا ِبخَبَرٍ }[القصص.]29 :
ستُ نَارا }
لذلك لما أبصر موسى عليه السلم النار أسرع إليها بعد أنْ طمأن أهله { :ا ْمكُثُواْ إِنّي آنَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[طه.]10 :
وهذه المسألة من قصة موسى كانت مثَارَ تشكيك من خصوم السلم ،حيث وجدوا سياقات مختلفة
ستُ نَارا ّلعَلّي آتِيكُمْ } [طه ،]10 :وفي موضع آخر
لقصة واحدة ،فمرة يقول { :ا ْمكُثُواْ إِنّي آ َن ْ
يقولّ {:لعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا ِبخَبَرٍ }[القصص.]29 :
جدُ عَلَى النّارِ
ومرة يقول( :قَبَس) وأخرى يقول (بِشهَابٍ قَ َبسٍ) ومرة (بجَ ْذوَة) ومرة يقولَ { :أوْ أَ ِ
هُدًى } [طه ]10 :ومرة يقولّ {:لعَلّي آتِيكُمْ مّ ْنهَا بِخَبَرٍ }[القصص.]29 :
والمتأمل في الموقف الذي يعيشه الن موسى وامرأته وولده الصغير وخادمه في هذا المكان
المنقطع وقد أكفهرّ عليهم الجو ،يجد اختلف السياق هنا أمرا طبيعيا ،فكلّ منهم يستقبل الخبر من
موسى بشكل خاص ،فلما رأى النار وأخبرهم بها أراد أنْ يُطمئنهم فقال {:سَآتِيكُمْ }[النمل ]7 :فلما
رآهم مُتعلّقين به يقولون :ل تتركنا في هذا المكان قال { :ا ْمكُثُواْ } [طه ]10 :وربما قال هذه
لزوجه وولده وقال هذه لخادمه .فل بُدّ أنهم راجعوه .فاختلفت القوال حول الموقف الواحد.
جذْوةٍ لنه حين قالّ { :لعَلّي آتِيكُمْ } [طه ]10 :يرجو أن يجد هناك القبس،
كذلك في قوله :قَبَسٍ أو َ
لكن لعله يذهب فيجد النار جَذْوة .وفي مرة أخرى يجزم فيقول {:سَآتِيكُمْ }[النمل.]7 :
ت الكلمات لن الموقف قابلٌ للمراجعة،
إذن :هي لقطات مختلفة تُكوّن نسيج القصة الكاملة ،وتعدد ْ
ول ينتهي بكلمة واحدة.
ثم يقول الحق سبحانه { :فََلمّآ أَتَاهَا نُو ِديَ }
()2342 /
يقال :إن موسى عليه السلم لما أتاها وجد نورا يتلل في شجرة ،لكن ل خضرةُ الشجرة تؤثر في
النور فتبهته ،ول النورُ يطغي على خضرة الشجرة فيمنع عنها الخضرة ،فهي ـ إذن ـ مسألة
عجيبة ل يقدر عليها إل ال.
فكانت هذه النار هي أول اليناس لموسى في هذا المكان الموحِش ،وكأن هذا المنظر العجيب
الذي رآه إعداد إلهي لموسى حتى يتلقّى عن ربه ،فليستْ المسألة مجرد منظر طبيعي.
وقوله تعالى { :نُو ِديَ يامُوسَىا } [طه ]11 :أي :في هذه الدهشة { نُو ِديَ } [طه ]11 :فالذي يناديه
يعرفه تماما؛ لذلك ناداه باسمه { يامُوسَىا } [طه ]11 :وما دام المر كذلك فطَمع الخير فيه
موجود ،وبدأ موسى يطمئن إلى مصدر النداء ،ويأنَسُ به ،ويبحث عن مصدر هذا الصوت ،ول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعرف من أين هو؛ لذلك اعتبرها مسألة عجيبة مثل منظر الشجرة التي ينبعث منها النور.
{ إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ فَاخْلَعْ َنعْلَ ْيكَ }
()2343 /
طوًى ()12
إِنّي أَنَا رَ ّبكَ فَاخَْلعْ َنعْلَ ْيكَ إِ ّنكَ بِا ْلوَادِ ا ْل ُمقَدّسِ ُ
فساعة أنْ كلّمه ربه { :إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ } [طه ]12 :أزال ما في نفسه من العجب والدهشة لما رآه
وسمعه ،وعلم أنها من ال تعالى فاطمأنّ واستبشر أنْ يرى عجائب أخرى؟
ونلحظ في قوله تعالى { :إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ } [طه ]12 :أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يتحدّث
عن ذاته تعالى يتحدث بضمير المفرد { إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ } [طه ]12 :وحينما يتحدث عن ِفعْله يتحدث
بصيغة الجمع ،كما في قوله عز وجل {:إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ }[القدر {]1 :إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا
ض َومَنْ عَلَ ْيهَا }[مريم.]40 :
ث الَ ْر َ
ال ّذكْرَ }[الحجر {]9 :إِنّا نَحْنُ نَ ِر ُ
فلماذا تكلّم عن الفعل بصيغة الجمع ،في حين يدعونا إلى توحيده وعدم الشراك به؟ قالوا :الكلم
لةَ
عن ذاته تعالى ل ُبدّ فيه من التوحيد ،كما في {:إِنّنِي أَنَا اللّهُ ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وََأقِمِ الصّ َ
لِ ِذكْرِي }[طه.]14 :
لكن في الفعل يتكلم بصيغة الجمع؛ لن الفعل يحتاج إلى صفات متعددة وإمكانات شتّى ،يحتاج
إلى إرادة تريده ،وقدرة على تنفيذه وإمكانات وعلم وحكمة.
إذن :كل صفات الحق تتكاتف في الفعل؛ لذلك جاء الحديث عنه بصيغة الجمع ،ويقولون في النون
ث الَ ْرضَ }[مريم ]40 :أنها :نون التعظيم.
في قوله {:نَزّلْنَا ال ّذكْرَ }[الحجر {]9 :نَ ِر ُ
وقد جاء الخطاب لموسى بلفظ الربوبية { إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ } [طه ]12 :ليناس موسى؛ لن الربوبية
عطاء ،فخطابه (بربك) أي الذي يتولّى رعايتك وتربيتك ،وقد خلقك من عَدَم ،وأمدك من عُدم،
ولم ي ُقلْ :إني أنا ال؛ لن اللوهية مطلوبها تكليف وعبادة وتقييد للحركة بافعل كذا ول تفعل كذا.
وقوله تعالى { :إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ } [طه ]12 :أي :ربك أنت بالذات ل الرب المطلق؛ لن الرسل
مختلفون عن الخَ ْلقِ جميعا ،فلهم تربية مخصوصة ،كما قال تعالى {:وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه:
]39وقال {:وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي }[طه.]41 :
إذن :فالحق تبارك وتعالى يُربّي الرسل تربيةً تناسب المهمة التي سيقومون بها.
وقوله تعالى { :فَاخْلَعْ َنعْلَ ْيكَ } [طه ]12 :هذا أول أمر ،وخَ ْلعِ النعل للتواضع وإظهار المهابة؛
طوًى } [طه ]12 :فاخلع نعليك حتى ل تفصل
ولن المكان مُقدّس والعلة { إِ ّنكَ بِا ْلوَادِ ا ْل ُمقَدّسِ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بينك وبين مباشرة ذرات هذا التراب.
ومن ذلك ما نراه في مدينة رسول ال من أناس يمشون بها حافيي القدام ،يقول أحدهم :لَعلّي
أصادف بقدمي موضع قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم.
طوًى } [طه ]12 :اسم الوادي وهذا كلم عام جاء تحديده في موضع آخر ،فقال
وقولهُ { :
سبحانه {:فََلمّآ أَتَاهَا نُو ِديَ مِن شَاطِىءِ ا ْلوَادِي الَ ْيمَنِ فِي الْ ُب ْقعَةِ ا ْلمُبَا َركَةِ مِنَ الشّجَ َرةِ }[القصص:
.]30
والبعض يرى في الية تكرارا ،وليست الية كذلك ،إنما هو تأسيس لكلم جديد يُوضّح ويُحدّد
مكان الوادي المقدس طوى أين هو ،فإنْ قلتَ :أين طوى؟ يقول لك :في الواد اليمن ،لكن الواد
اليمن نفسه طويل ،فأين منه هذا المكان؟ يقول لك :عند البقعة المباركة من الشجرة.
إذن :فالية الثانية تحدد لك المكان ،كما تقول أنت :أسكن في حي كذا ،وفي شارع كذا ،في رقم
كذا.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَأَنَا اخْتَرْ ُتكَ فَاسْ َتمِعْ }
()2344 /
أي :وإنْ كنتُ ربا لك وربا للكافرين فسوف أزيدك خصوصية لك { وَأَنَا اخْتَرْ ُتكَ } [طه ]13 :أي:
للرسالة ،وال أعلم حيث يجعل رسالته.
لذلك لم نزل القرآن على سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ما اعترض كفار مكة على
القرآن ،ولم يجدوا فيه عيبا فيما يدعو إليه من أخلق فاضلة ومُثل عليا ،ولم يجدوا فيه مَأْخذا في
أسلوبه ،وهم أمة ألِفتْ السلوب الجيد ،وعَش َقتْ آذانها فصاحة الكلم ،فتوجهوا بنقدهم إلى رسول
عظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
ال فقالواَ {:لوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
فكلّ اعتراضهم أنْ ينزلَ القرآن على محمد بالذات؛ لذلك َردّ عليهم القرآن بما يكشف غباءهم في
ح َمتَ رَ ّبكَ }[الزخرف ]32 :كيف ونحن قد قسمنا بينهم
سمُونَ َر ْ
هذه المسألة ،فقال {:أَ ُهمْ َيقْ ِ
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ }[الزخرف.]32 :
معيشتهم الدْنىَ {:نحْنُ قَ َ
ن يقسموا رحمة ال فيقولون :نزل هذا على هذا ،وهذا على هذا؟
وهم يريدون أ ْ
ثم يقول تعالى { :فَاسْ َتمِعْ ِلمَا يُوحَى } [طه ]13 :مادة :سمع .منها :سمع ،واستمع وتسمّع .قولنا:
سمع أي مصادفة وأنت تسير في الطريق تسمع كلما كثيرا .منه ما يُهمك وما ل يهمك ،فليس
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على الذن حجاب يمنع السمع كالجفْنِ للعين ،مثلً حين ترى منظرا ل تحبه.
إذن :أنت تسمع كل ما يصل إلى أذنك ،فليس لك فيه خيار.
إنما :استمع أنْ تتكلّف السماع ،والمتكلم حُر في أنْ يتكلم أو ل يتكلم.
وتسمّع .أي :تكلّف أشدّ تكلّفا لكي يسمع.
لذلك؛ فالنبي صلى ال عليه وسلم حين يخبر أنه ستُعم بلوى الغِنَاء ،وستنتشر الجهزة التي ستشيع
هذه البلوى ،وتصبها في كل الذان رَغْما عنها يقول " :مَنْ تسمّع إلى قَيْنة صب النك في أذنيه ".
أي :تكلّف أنْ يسمع ،وتعمّد أن يوجه جهاز الراديو أو التلفزيون إلى هذا الغناء ،ولم يقُل :سمع،
وإلّ فالجميع يناله من هذا الشر رَغْما عنه.
ن يتكلم ،ومعنى :استمع
وهنا قال تعالى( :فَاسْ َتمِعْ) ولم يقُلْ :تسمّع :لنه ل يقترح على ال تعالى أ ْ
أي :جَنّد كلّ جوارحك ،وهيىء ُكلّ حواسّك لن تسمع ،فإنْ كانت الذن للسمع ،فهناك حواسّ
أخرى يمكن أنْ تشغلها عن النتباه ،فالعين تبصر ،والنف يشمّ ،واللسان يتكلم.
فعليك أنْ تُجنّد كل الحواسّ لكي تسمع ،وتستحضر قلبك لتعي ما تسمعه ،وتنفذ ما طلب منك؛
لذلك حين تخاطب صاحبك فتجده مُنْشغِلً عنك تقول :كأنك لست معنا .لماذا؟ لن جارحة من
جوارحه شردتْ ،فشغلتْه عن السماع.
ي ليّ في أيّ ،خيرا كان
وقوله تعالىِ { :لمَا يُوحَى } [طه ]13 :الوحي عموما :إعلم بخفاء من أ ّ
أم شرا ،أمّا الوحي الشرعي فهو :إعلم من ال إلى رسول أرسله بمنهج خَيْر للعباد ،فإنْ كان
الوحي من ال إلى أم موسى مثلً ،أو إلى الحواريين فليس هذا من الوحي الشرعي.
ي ليّ في أيّ.
وهكذا تحدّ َدتْ من أ ّ
عُلوّها بالبشرية في
لكن ،كيف ينزل الوحي من ال تعالى على الرسول؟ كيف تلتقى اللوهية في ُ
ل َومِنَ النّاسِ }
طفِي مِنَ ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُ ً
دُنوها؟ إذن :ل ُبدّ من واسطة؛ لذلك قال تعالى {:اللّهُ َيصْ َ
[الحج.]75 :
فالمصطفى من الملئكة يتقبّل من ال ،ويعطي للمصطفى من البشر؛ لن العلى ل يمكن أنْ
سلَ رَسُولً
حجَابٍ َأوْ يُ ْر ِ
ل وَحْيا َأوْ مِن وَرَآءِ ِ
يلتقي بالدنى مباشرة{ َومَا كَانَ لِ َبشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ
حيَ بِإِذْنِهِ مَا َيشَآءُ }[الشورى.]51 :
فَيُو ِ
فاستعداد النسان وطبيعته ل تُؤهّله لهذا اللقاء ،كيف ولما تجلّى الحق ـ سبحانه ـ للجبل جعله
حسّه بأيّ حاسة من حواسنا،
َدكّا ،ومن عظمته سبحانه أننا ل نراه ول نتكلم معه مباشرة ،ول نُ ِ
ولو حُسّ الله بأيّ حاسة ما استحق أنْ يكونَ إلها.
حسّ الحق ـ تبارك وتعالى ـ ومن خَلْقه وصَنْعته مَا ل ُيحَسّ ،كالروح مثلً؟ فنحن ل
وكيف يُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسّها بأيّ حاسّة من حواسنا ،فإذا كانت الروح المخلوقة لم نستطع
نعلم كُنْهها ،ول أين هي ،ول نُ ِ
أنْ ندركها ،فكيف ندرك خالقها؟
الحق الذي يدّعيه الناس ويتمسّحون فيه ،ويفخر كل منهم أنه يقول كلمة الحق ،وكذلك العدل
وغيرها من المعاني :أتدركها ،أتعرف لها شكلً؟ فكيف ـ إذن ـ تطمع في أنْ تدرك الخالق عز
وجل؟
إذن :من عظمته سبحانه أنه ل تدركه الحواس ،ول يلتقي بالخَلْق لقاءً مباشرا ،فالمصطفى من
الملئكة يأخذ عن ال ،ويعطي للمصطفى من الخَلْق ،ثم المصطفى من الخَلْق يعطي للخَلْق ،ومع
ذلك كان صلى ال عليه وسلم يجهد ،ويتصبّب جبينه عَرَقا في أول الوحي؟
ولذلك شاء الحق سبحانه أنْ يحجبَ الوحي عن رسوله فترة ليستريح من مباشرة المَلِك له،
وبانقطاع الوحي تبقى لرسول ال حلوة ما أوحي إليه ويتشوّق إلى الوحي من جديد ،فيهون عليه
ما يلقي في سبيله من مشقة؛ لن انشغال القلب بالشيء يُنسي متاعبه؟.
وقد رُوي أنه صلى ال عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي يُسمَع حوله َد ِويّ كدَويّ النحل ،ولو
صادف أن رسول ال وضع رجله على أحد أصحابه حين نزول الوحي عليه فكان الصحابي
يشعر كأنها جبل ،وإن نزل الوحي وهو على دابة كانت تنخ وتئن من ِثقَله.
وقد مثّلنا للواسطة بين الطبيعة اللهية والطبيعة البشرية بالتيار الكهربائي حين نُوصّله بمصباح
صغير ل يتحمل قوة التيار ،فيضعون له جهازا ينظم التيار ،ويعطي للمصباح على قَدْر حاجته
وإلّ يحترق.
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّنِي أَنَا اللّهُ {
()2345 /
إِنّنِي أَنَا اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وََأقِمِ الصّلَاةَ لِ ِذكْرِي ()14
في الية قبل السابقة خاطبه ربه {:إِنّي أَنَاْ رَ ّبكَ }[طه ]12 :ليُطمئنه ويُؤنسه بأنه المربّي العطوف،
يعطي حتى للكافر الذي يعصاه ،لكن هنا يخاطبه بقوله { :إِنّنِي أَنَا اللّهُ } [طه ]14 :أي :صاحب
التكاليف ،والمعبود المطاع في المر والنهي ،وأوّل هذه التكاليف وقمّتها ،والينبوع الذي يصدر
عنه كل السلوك اليماني { :إِنّنِي أَنَا اللّ ُه ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ } [طه.]14 :
لذلك قال عنها النبي صلى ال عليه وسلم " :خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي :ل إله إل ال ".
وما دام ل إله إل هو فل يصح أنْ نتلقّى المر والنهي إلّ منه ،ول نعتمد إل عليه ،ول يشغل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حيّ الّذِي لَ َيمُوتُ }[الفرقان:
قلوبنا غيره ،وهو سبحانه يريد منا أنْ نكون وكلء {:وَ َت َو ّكلْ عَلَى ا ْل َ
.]58
فالناصح الفطن الذي ل يتوكل على أحد غير ال ،فربما توكّلت على أحد غيره ،فأصبحت فلم
ج َعلْ بر ّبكَ ُكلّ عِ ّزكَ يسْتقِ ّر وَيثب ُتفَإِذَا اعْتَز ْزتَ بمَنْ يموتُ فإنّ
تجده ،وصدق الشاعر حين قال:ا ْ
عِ ّزكَ ميّتُفكأن الحق سبحانه في قوله { :ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ } [طه ]14 :يقول لموسى :ل تخفْ ،فلن
تتلقى أوامر من غيري ،كما قال سبحانه في أية أخرىُ {:قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا
لّبْ َتغَوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء.]42 :
أي :لذهبَ هؤلء الذي يدّعُون اللوهية إلى ال يجادلونه أو يتودّدون إليه ،ولم يحدث شيء من
هذا.
ويشترط فيمن يُعطي الوامر ويُشرّع ويُقنّن ألّ ينتفع بشيء من ذلك ،وأن تكون أوامره ونواهيه
لمصلحة المأمورين ،ومن هنا يختلف قانون ال عن قانون البشر الذي يدخله الهوى وتخالطه
المصالح والغراض ،فمثلً إنْ كان المشرّع والمقنّن من العمال انحاز لهم ورفعهم فوق
الرأسماليين ،وإن كان من هؤلء رفعهم فوق العمال.
وكذلك ألّ يغيب عنه شيء يمكن أنْ يُستدرك فيما بعد ،وهذه الشروط ل توجد إل في التشريع
خلْق.
اللهي ،فله سبحانه صفات الكمال قبل أن يخلق ال َ
لذلك قال بعدها { :فَاعْ ُبدْنِي } [طه ]14 :بطاعة أوامري واجتناب نواهيّ ،فليس لي َهوَى فيما
آمرك به ،إنما هي مصلحتك وسلمتك.
ومعنى العبادة :الناس يظنون أنها الصلة والزكاة والصوم والحج ،إنما للعبادة معنى أوسع من
ذلك بكثير ،فكلّ حركة في الحياة تؤدي إلى العبادة ،فهي عبادة كما نقول في القاعدةُ :كلّ ما ل يتمّ
الواجب إل به فهو واجب.
فالصلة مثلً ل تتم إل بستْر العورة ،وعليك أنْ تتأمل قطعة القماش هذه التي تستر بها عورتك:
كم يد ساهمتْ فيها منذ كانتْ بذرة في الرض ،إلى أنْ أصبحتْ قماشا رقيقا يستر عورتك؟ فكلّ
واحد من هؤلء كان في عبادة وهو يُؤدّي مهمته في هذه المسألة.
كذلك رغيف العيش الذي تأكله ،صنبور المياه الذي تتوضأ منه ،كم وراءها من أيا ٍد وعمال
ومصانع وعلماء وإمكانات جُنّ َدتْ لخدمتك ،لتتمكن من أداء حركتك في الحياة؟
لذلك ،فالحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يُحدّثنا عن الصلة يوم الجمعة يقول {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ
س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَِلكُمْ خَيْرٌ ّلكُمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ
ج ُمعَةِ فَا ْ
لةِ مِن َي ْومِ الْ ُ
إِذَا نُو ِديَ لِلصّ َ
ضلِ اللّهِ }[الجمعة9 :ـ .]10
لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ
* فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ
وهكذا أخرجنا إلى الصلة من عمل ،وبعد الصلة أمرنا بالعمل والسعي والنتشار في الرض
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَ ْيعَ ذَِل ُكمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن
والبتغاء من فضل ال ،فمخالفة المر في {:فَا ْ
ضلِ اللّهِ }
كُنتُمْ َتعَْلمُونَ }[الجمعة ]9 :كمخالفة المر في {:فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ
[الجمعة.]10 :
خصّ البيع هنا؛ لن البائع أحرص على بيْعه من المشتري على شرائه ،وربما كان من مصلحة
وَ
المشتري ألّ يشتري؟
فالسلم ـ إذن ـ ل يعرف التكاسل ،ول يرضى بالتنبلة والقعود ،ومَنْ أراد السكون فل ينتفع
بحركة متحرّك.
وسيدنا عمر ـ رضي ال عنه ـ حينما رأى رجلً يقيم بالمسجد ل يفارقه سأل :ومَنْ ينفق عليه؟
قالوا :أخوه ،قال :أخوه أعبد منه .لماذا؟ لنه يسهم في حركة الحياة ويوسع المنفعة على الناس.
إذن :فكلّ عمل نافع عبادة شريطة أنْ تتوفر له النية ،فالكافر يعمل وفي نيته أنْ يرزق نفسه ،فلو
فعل المؤمن كذلك ،فما الفرق بينهما؟ المؤمن يعمل ،نعم لِيقوتَ نفسه ،وأيضا ليُيسّر لخوانه قُوتَهم
وحركة حياتهم .فسائق التاكسي مثلً إذا عمل بمبلغ يكفيه ،ثم انصرف إلى بيته ،وأوقف سيارته،
فمَنْ للمريض الذي يحتاج مَنْ يُوصّله للطبيب؟ والبائع لو اكتسب رزقه ،ثم أغلق دكانه مَنْ يبيع
للناس؟
ن فعلتَ ذلك فأنت في عبادة .تعمل
إذن :اعمل لنفسك ،وفي بالك أيضا مصلحة الغير وحاجتهم ،فإ ْ
على قَدْر طاقتك ،ل على قَدْر حاجتك ،ثم تأخذ حاجتك من منتوج الطاقة ،والباقي يُ َردّ على الناس
حسْبك أنْ يسرت له السبيل.
إما في صورة صدقة ،وإما بثمن ،و َ
إذن :نقول :العبادة كل حركة تؤدي خدمة في الكون نيتك فيها ل.
خصّ الصلة دون سائر العبادات؟
لةَ لِ ِذكْرِي { [طه ]14 :فلماذا َ
ثم يقول تعالى } :وََأ ِقمِ الصّ َ
قالوا :لن الصلة هي العبادة الدائمة التي ل تنحلّ عن المؤمن ،ما دام فيه َنفَس ،فالزكاة مثلً
تسقط عن الفقير ،والصيام يسقط عن المريض ،والحج يسقط عن غير المستطيع ،أمّا الصلة فل
عذر أبدا يبيح تركها ،فتصلي قائما أو قاعدا أو مضطجعا ،فإنْ لم تستطيع تصلي ،ولو إيماءً
برأسك أو بجفونك ،فإنْ لم تستطع فحَسْبُك أن تخطرها على قلبك ،ما دام لك وَعْي ،فهي ل تسقط
عنك بحال.
كذلك ،فالصلة عبادة مُتكرّرة :خمس مرات في اليوم والليلة؛ لتذكرك باستمرار إنْ أنستْك مشاغل
الحياة رب هذه الحياة ،وتعرض نفسك على ربك وخالقك خمس مرات كل يوم.
عطَب؟
وما بالك بآلة تُعرَض على صانعها هكذا ،أيمكن أن يحدث بها عُطّْل أو َ
أما الزكاة فهي كل عام ،أو كل محصول ،والصوم شهر في العام ،والحج مرة واحدة في العمر.
لذلك ،كان النبي صلى ال عليه وسلم كلما حَزَبه أمر قام إلى الصلة ليعرض نفسه على ربه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وخالقه عز وجل ،ونحن نصنع هذا في الصنعة المادية حين نعرض اللة على صانعها ومهندسها
الذي يعرف قانون صيانتها.
وفي الحديث الشريف " :وجعلت قرة عيني في الصلة ".
وسبق أن ذكرنا أن للصلة أهميتها؛ لنها تُذكّرك بربك كل يوم خمس مرات ،وتُذكّرك أيضا
بنفسك ،وبقَدر ال في الخرين حين ترى الرئيس ومرؤوسه جَنْبا إلى جَنْب في صفوف الصلة،
فإنْ جئتَ قبل رئيسك جلستَ في الصف الول ،وجلس هو خلفك ،ثم تراه وهو منُكسِر ذليل ل
تعالى ،وهو يعرف أنك تراه على هذه الهيئة فيكون ذلك أدْعى لتواضعه معك وعدم تعاليه عليك
بعد ذلك.
وكم رأينا من أصحاب مناصب وقيادة يبكون عند الحرم ،ويتعلقون بأستار الكعبة وعند المتلزم،
وهو العظيم الذي يعمل له الناس ألف حساب .ففي الصلة ـ إذن ـ استطراق للعبودية ل تعالى.
ل في المسجد أماكن خاصة لنوعية معينة يُخلَى لها
لذلك من أخطر ما مُنِي به المسلمون أنْ تجع َ
المكَان ،ويصاحبها الحرس حتى في بيت ال ،ثم يأتي في آخر الوقت ويجلس في الصف الول،
وآخر يفرش سجادته ليحجز بها مكانا لحين حضوره ،فيجد المكان خاليا.
وينبغي على عامة المسلمين أن يرفضوا هذا السلوك ،وعليك أنْ تُنحّي سجادته جانبا ،وتجلس
أنت؛ لن أولوية الجلوس بأولوية الحضور ،فقد صفها ال في المسجد إقبالً عليه .وهذه العادة
السيئة تُوقع صاحبها في كثير من المحظورات ،حيث يتخطى رقاب الناس ،ويُميّز نفسه عنهم
دون حق ،ويحدث انتقاص عبودي في بيت ال.
ولهمية الصلة ومكانتها بين العبادات تميّزت في فرضها بما يناسب أهميتها ،فكُلّ العبادات
ضتْ بالوحي إل الصلة ،فقد استدعى الحق رسوله الصدق ليبلغه بها مباشرة لهميتها.
فُ ِر َ
ل ـ ول المثل العلى ـ بالرئيس إذا أراد أنْ يُبلّغ مرؤوسه أمرا يكتب إليه،
وقد ضربنا لذلك مث ً
ن كان المر مهما اتصل به تليفونيا ،فإنْ كان أهمّ استدعاه إليه لِيُبلّغه بنفسه .ولما قرّبه ال إليه
فإ ْ
بفرض الصلة جعل الصلة تقرّبا لعباده إلى ال.
لةَ ِل ِذكْرِي { [طه ]14 :أقام الشيء :جعله قائما على أُسس محكمة ،فإقامة
وقوله } :وََأقِمِ الصّ َ
الصلة أن تؤديها مُحكَمة كاملة الركان غير ناقصة.
} ِل ِذكْرِي { [طه ]14 :أي :لتذكري؛ لن دوام ورتابة النعمة قد تُنسيك المنعم ،فحين تسمع نداء
ن كنتَ ناسيا ،وينتبه
(ال أكبر) ،وترى الناس تُهرَع إلى بيوت ال ل يشغلهم عنها شاغل تتذكر إ ْ
ن كنتَ غافلً.
قلبك إ ْ
خفِيهَا {
عةَ آتِيَةٌ َأكَادُ ُأ ْ
ثم يقول الحق تبارك وتعالى } :إِنّ السّا َ
()2346 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سعَى ()15
خفِيهَا لِتُجْزَى ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا تَ ْ
عةَ آَتِ َيةٌ َأكَادُ ُأ ْ
إِنّ السّا َ
أي :مع ما سبق وَطّنْ نفسك على أن الساعة آتية ل محالةَ ،والساعة هنا هي عمر الكون كله ،أمّا
أعمار المكين في الكون فمتفاوته ،كل حسب أجله ،فمَنْ مات فقد قامت قيامته وانتهت المسألة
بالنسبة له.
إذن :نقول :الساعة نوعان :ساعة ل ُكلّ منا ،وهي عمره وأجَله الذي ل يعلم متى سيكون ،وساعة
للكون كله ،وهي القيامة الكبرى.
عةَ آتِيَة } [طه ]15 :أي :اجعل ذلك في بالك دائما ،ومادام الموت سينقلك
فقوله تعالى { :إِنّ السّا َ
ن تقول :سأموت قريبا ،أما القيامة فبعد آلف أو مليين السنين؛ لن الزمن
إليها سريعا فإياك أ ْ
مُلغىً بعد الموت ،كيف؟
الزمن ل يضبطه إل الحدث ،فإن انعدم الحدث فقد انعدم الزمن ،كما يحدث لنا في النوم ،وهل
تستطيع أنْ تُحدّد الوقت الذي نمْتَه؟ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى {:كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا لَمْ يَلْبَثُواْ ِإلّ
ضحَاهَا }[النازعات.]46 :
عَشِيّةً َأوْ ُ
والعبد الذي أماته ال مائة عام لما بعثه قال :يوما أو بعض يوم ،وكذلك قال أهل الكهف بعد
ثلثمائة سنة وتسع ،لن يوما أو بعض يوم هي أقْصى ما يمكن تصوّره للنائم حين ينام؛ لذلك
نقول " :مَنْ مات فقد قامت قيامته ".
ومن حكمته سبحانه أن أخفى الساعة ،أخفاها للفرد ،وأخفاها للجميع؛ وربما لو عرف النسان
ساعته لقال :أفعل ما أريد ثم أتوب قبل الموت؛ لذلك أخفاها الحق ـ تبارك وتعالى ـ لنكون على
ن نلقى ال على حال معصية.
حذر أ ْ
وكذلك أخفى الساعة الكبرى ،حتى ل تأخذ ما ليس لك من خَلْق ال ،وتنتفع به ظُلْما وعدوانا،
وتعلم أنك إنْ سرقتَ سترجع إلى ال فيحاسبك ،فما ُد ْمتَ سترجع إلى ال فاستقِمْ وعَدّل من
سلوكك ،كما يقول أهل الريف (ارع مساوي).
وقوله تعالى { :آتِيَةٌ } [طه ]15 :أي :ليس مَأْتِيا بها ،فهي التية ،مع أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ
هو الذي سيأتي بها ،لكن المعنى (آتية) كأنها منضبطة (أوتوماتيكيا) ،فإنْ جاء وقتها حدثتْ.
خفِيهَا } [طه ]15 :كاد :أي :قَرُب مثل :كاد زيد أن يجيء أي :قَرُب لكنه لم
وقوله تعالىَ { :أكَادُ ُأ ْ
ي ْأتِ بعد ،فالمراد :أقرب أن أخفيها ،فل يعلم أحد موعدها ،فإذا ما وقعتْ فقد عرفناها .كما قال
تعالى {:إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِنْدَ رَبّي لَ يُجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَآ ِإلّ ُهوَ }[العراف.]187 :
خفِيهَا } [طه ]15 :بمعنى آخر ،فبعض الفعال الثلثية تُعطى عكس معناها عند
وقد تكون { ُأ ْ
تضعيف الحرف الثاني منها ،كما في :مرض أي :أصابه المرض .ومرّضه الطبيب .أي :عالجه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأزال مرضه .وقَشَرتُ الشيء أي :جع ْلتُ له قشرة ،وقشّرتُ البرتقالة أز ْلتُ قِشْرها.
سفَ حَتّىا َتكُونَ حَرَضا }
ومن ذلك قوله تعالى {:تَال َتفْ َتؤُاْ َت ْذكُرُ يُو ُ
()2347 /
فَلَا َيصُدّ ّنكَ عَ ْنهَا مَنْ لَا ُي ْؤمِنُ ِبهَا وَاتّبَعَ َهوَاهُ فَتَ ْردَى ()16
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كأن الحق تبارك وتعالى يعطي لموسى ـ عليه السلم ـ مناعة لما سيقوله الكافرون الذين
يُشكّكون في الخرة ويخافون منها ،وغرضهم أنْ يكون هذا كذبا فليست الخرة في صالحهم ،ومن
حظهم إنكارها.
عظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ *
ن تصغي إليهم حين يصدونك عنها ،يقولون {:أَإِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَ ِ
فإياك أ ْ
لوّلُونَ }[الصافات16 :ـ .]17
َأوَ آبَآؤُنَا ا َ
ولماذا يستبعدها هؤلء؟ أليس الذي خلقهم مِنْ ل شيء بقادر على أنْ يعيدهم بعد أن صاروا
عِظاما؟
والحق سبحانه يقول {:وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَ ْيهِ }[الروم.]27 :
وهذا قياس على َقدْر أفهامكم وما تعارفتم عليه من هَيّن وأ ْهوَن ،أما بالنسبة للحق ـ تبارك
وتعالى ـ فليس هناك هيّن وأهون منه؛ لن أمره بين الكاف والنون؟
لكن لماذا يص ّد الكفار عن الخرة ،واليمان بها؟ لنهم يعلمون أنهم سَيُجازون بما عملوا ،وهذه
مسألة صعبة عليهم ،ومن مصلحتهم أن تكون الخرة كذبا.
جسَادُ قُ ْلتُ إل ْي ُكمَاإنْ
وصدق أبو العلء المعري حين قال:زَعَمَ المنجّ ُم والطبيبُ كِلَ ُهمَا لَ ُتحْشَرُ ال ْ
ستُ بخَاسِرٍ َأ ْو صَحّ َقوْلِي فَالخسَارُ علي ُكمَاأي أن المؤمن بالبعث إن لم يكسب فلن
صَحّ قَولكُمَا فل ْ
يخسر ،أما أنتم أيها المنكرون فخاسرون.
وقوله تعالى { :فَتَرْدَىا } [طه ]16 :أي :تهلك من الردَى ،وهو الهلك.
وهكذا جاء الكلم من ال تعالى لموسى ـ عليه السلم ـ أولً :البداية إيمانا بال وحده ل شريك
له ،وهذه القمة الولى ،ثم جاء بالقمة الخيرة ،وهي البعث فالمر ـ إذن ـ منه بداية ،وإليه
خفِيهَا }[طه:
نهاية {:إِنّنِي أَنَا اللّهُ ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ }[طه ]14 :إلى أنْ قال {:إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ َأكَادُ ُأ ْ
.]15
وبعد ذلك شرح لنا الحق ـ سبحانه ـ بَدْء إيحائه لرسوله موسى عليه السلمَ { :ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ
يامُوسَىا }
()2348 /
ما :استفهامية .والتاء بعدها إشارة لشيء مؤنّت ،هو الذي يمسكه موسى في يده ،والكاف
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للخطاب ،كأنه قال له :ما هذا الشيء الذي معك؟ والجواب عن هذا السؤال يتم بكلمة واحدة:
عصَا.
َ
خفَى عليه ما في يده،
أمّا موسى ـ عليه السلم ـ فهو يعرف أن ال تعالى هو الذي يسأل ،ول َي ْ
ولكنه كلم اليناس؛ لن الموقف صعب عليه ،ويريد ربه أنْ يُطمئنَه ويُؤنِسَه.
وإذا كان اليناس من ال ،فعلى العبد أنْ يستغلّ هذه الفرصة ويُطيل أمدَ الئتناس بال عز وجل،
عصَايَ أَ َت َوكّأُ
ول يقطع مجال الكلم هكذا بكلمة واحدة؛ لذلك رد موسى عليه السلم { :قَالَ ِهيَ َ
عَلَ ْيهَا }
()2349 /
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَى غَ َنمِي وَِليَ فِيهَا مَآَ ِربُ أُخْرَى ()18
قَالَ ِهيَ َ
عصَايَ } [طه ،]18 :ثم يفتح لنفسه مجالً آخر للكلم { :أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا
قال موسى { :قَالَ ِهيَ َ
وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي } [طه ]18 :وهنا يرى موسى أنه تمادى وزاد ،فيحاول الختصار { :وَِليَ
فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَىا } [طه.]18 :
وكان موسى ينتظر سؤالً يقول :وما هذه المآرب؟ ليُطيل أُنْسه بربه ،وإذا كان الخطاب مع ال فل
يُنهِيه إل زاهد في ال.
وللعصا تاريخ طويل مع النسان ،فهي لزمة من لوازم التأديب والرياضة ،ولزمة من لوازم
السفار ،ولها أهميتها في الرعي ..الخ وهنا يذكر موسى ـ عليه السلم ـ بعض هذه الفوائد ـ
يقول:
{ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا } [طه ]18 :أي :أعتمد عليها ،وأستند عندما أمشي ،والنسان يحتاج إلى العتماد
على عصا عند السير وعند التعب؛ لنه يحتاج إلى طاقتين :طاقة للحركة والمشي ،وطاقة لحمل
حمْله.
حمْل ثقل جسمه ،خاصة إنْ كان مُتْعبا ل تقوَى قدماه على َ
الجسم والعصا تساعده في َ
فقوله { :أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا } [طه ]18 :أي :أعتمد عليها حين المشي وحين أقف لرعي الغنم فأستند
عليها ،والتكاء يراوح النسان بين قدميْه فيُريح القدم التي تعبتْ ،وينتقل من جنب إلى جنب.
والنسان إذا ما استقرّ جسمه على شيء لمدة طويلة تنسدّ مسامّ الجسم في هذا المكان ،ول تسمح
بإفراز العرق ،فيُسبّب ذلك ضررا بالغا نراه في المرضى الذين يلزمون الفراش لمدة طويلة،
ويظهر هذا الضرر في صورة قرحة يسمونها " قرحة الفراش "؛ لذلك ينصح الطباء هؤلء
ضعِهم ،فل ينامون على جنب واحد.
المرضى بأن يُغيّروا من و ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك شاءت قدرة ال عز وجل أنْ يُقلّب أهل الكهف في نومهم من جَنْب إلى جَنْب ،كما قال
شمَالِ }[الكهف.]18 :
سبحانه {:وَ ُنقَلّ ُبهُمْ ذَاتَ ال َيمِينِ وَذَاتَ ال ّ
لذلك إذا وقف النسان طويلً ،أو جلس طويلً ولم يجد له متكأ تراه قَلِقا غير مستقر ،ومن هنا
كان المتّكأ من مظاهر النعمة والترف في الدنيا وفي الخرة ،كما قال تعالى في شأن امرأة
العزيز {:وَأَعْتَ َدتْ َلهُنّ مُ ّتكَئا }[يوسف.]31 :
وقال عن نعيم الخرة {:مُ ّتكِئِينَ عَلَىا سُرُرٍ ّمصْفُوفَةٍ }[الطور.]20 :
وقال {:مُ ّتكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ َبطَآئِ ُنهَا مِنْ إِسْتَبْ َرقٍ }[الرحمن.]54 :
خضْ ٍر وَعَ ْبقَ ِريّ حِسَانٍ }[الرحمن.]76 :
وقال الحق تبارك وتعالى {:مُ ّتكِئِينَ عَلَىا َرفْ َرفٍ ُ
فالتكاء وسيلة من وسائل الراحة ،وعلى النسان أنْ يُغيٍّر مُتكاهُ من جنب إلى جنب حتى ل
يتعرّض لما يسمى بـ " قرحة الفراش ".
ومن فوائد العصا { :وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي } [طه ]18 :أي :أضرب بها أوراق الشجر فتتساقط
فتأكلها الغنم والماشية؛ لن الراعي يمشي بها في الصحراء ،فتأكل من العِذْي ،وهو النبات
الطبيعي الذي لم يزرعه أحد ،ول يسقيه إل المطر ،فإن انتهى هذا العُشْب اتجه الراعي إلى
الشجر العالي فيُسقِِط ورقه لتأكله الغنم ،فيحتاج إلى العصا ليؤدي بها هذه المهمة.
إذن :قوله } :أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا { [طه ]18 :لراحته هو ،و } وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي { [طه ]18 :لخدمة
الرعية ،وفيها سياسة إدارة الرزق كلها للماشية وللناس ،ورَعْي الغنم وسياستها تدريب على
سياسة المة بأسْرها؛ لذلك ما بعث ال من نبي إل ورَعَى الغنم ليتعلم من سياسة الماشية سياسة
النسان.
وفي الحديث الشريف " :ما بعث ال من نبي إل ورعى الغنم ،وأنا كنت أرعاها على قراريط
لهل مكة ".
ولما أحسّ موسى ـ عليه السلم ـ أنه أطال في خطاب ربه عز وجل أجمل فقال } :وَِليَ فِيهَا
مَآ ِربُ ُأخْرَىا { [طه ]18 :أي :منافع.
وقد حاول العلماء جزاهم ال عَنّا خيرا البحث في هذه المآرب الخرى التي لم يذكرها موسى
عليه السلم ،فتأملوا حال الرعاة ،وما وظيفة العصا في حياتهم فوجدوا لها منافع أخرى غير ما
ذكر.
من هذه المنافع أن الراعي البدائي يضع عصاه على كتفه ويُعلّق عليها زاده من الطعام والشراب،
وبعض الرعاة يستغل وقته أيضا في الصيد ،فيحتاج إلى أدوات مثل :القوس ،والنبل ،والسهام
والمخلة التي يجمع فيها صَيْده ،فتراه يضع عصاه على كتفه هكذا بالعرض ،ويُعلّق عليها هذه
الدوات من الجانبين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا ما اشتدت حرارة الشمس ولم يجد ظللً غرز عصاه في الرض ،وألقى بثوبه عليها فجعل
منها مثل الخيمة أو المظلة تقيه حرارة الجو .فإن احتاج للماء ذهب للبئر ،وربما وجده غائر الماء
ل يبلغه الدلو فيحتاج للعصا يربطها ويُطيل بها الحبل ،إلى غير ذلك من المنافع.
وبعض العلماء يقولون :لقد كان موسى عليه السلم ينتظر أن يسأله ربه عن هذه المآرب ليطيل
الحديث معه ،لكن الحق سبحانه لم يسأله عن ذلك؛ لنه سينقله إلى شيء أهم من مسألة العصا،
فما ذكْرتَه يا موسى مهمة العصا معك ،أمّا أنا فأريد أنْ أخبرك بمهمتها معي:
ثم يقول الحق سبحانه } :قَالَ أَ ْل ِقهَا يامُوسَىا {
()2350 /
ارْم بها على الرض ،وهو هنا إلقاء الدّرْبة والتمرين على لقاء فرعون ،وهنا خرجت العصا عن
ناموسها الذي يعلمه موسى عليه السلم ،لم تعد للتوكؤ والهش على الغنم ،ولكنها تنتقل من جنس
الخشب إلى جنس الحيوان فتصير حية ،قال الحق سبحانه { :فَأَ ْلقَاهَا فَِإذَا ِهيَ حَيّةٌ }
()2351 /
سعَى ()20
فَأَ ْلقَاهَا فَإِذَا ِهيَ حَيّةٌ َت ْ
وهذه َنقْلة كبيرة في مسألة العصا ،فقد كان في المكان لثبات المعجزة أنْ تتحوّل العصا ،وهي
عود جاف من الخشب إلى شجرة خضراء ،لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يُجرِي لموسى هذه
المعجزة؛ لنه سيحتاج إليها فيما بعد ،ولو تحولتْ العصا إلى شجرة خضراء فسوف تستقر في
مكانها ،أما حين تتحول إلى حيّة فهي حيوان مُتحَرّك ،تجري هنا وهناك ،وهذا ما سيحتاجه موسى
في معركته القادمة.
ألقى موسى عصاه { فَإِذَا ِهيَ } [طه ]20 :إذا هنا فجائية كما تقول :خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب.
وحينما ألقى موسى العصا سرعان ما تحولت وهي جافة يابسة إلى حيّة ،وحيّة تسعى ليستْ جامدة
ميتة ،أليست هذه مفاجأة؟
خفْ }
وطبيعي أن يخاف موسى ـ عليه السلم ـ مما رآه ،فطمأنه ربه فقال { :قَالَ خُذْهَا َولَ تَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2352 /
أي :امسكها بيدك ،وسوف نعيدها في الحال { سِيَر َتهَا الُولَىا } [طه ]21 :أي :كما كانت عصا
خفْ } [طه ]21 :لما ظهر عليه من أمارات الخوف .وقد أخبر
يابسة جافة في يدك ،وقال { :لَ َت َ
عن خوفه في آية أخرى {:فََأوْجَسَ فِي َنفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىا }[طه.]67 :
وكانت هذه المسألة تدريبا لموسى ـ عليه السلم ـ وتجربةً ،فللعصا مهمة في رسالته ،وسوف
تكون هي معجزته في صراعه مع فرعون حين يضرب بها البحر وفي دعوته لبني إسرائيل حين
يضرب بها الحجر فيتفجّر منه الماء.
وقد عالج القرآن هذه القصة في لقطات مختلفة ،فمرة يقول عن العصا كأنها ثعبان .ومرة يقول:
حيّة .وأخرى يقول :جان؛ لذلك اعترض البعض على هذه الختلفات ،فأيها كانت العصا؟
الحقيقة أنها صور مختلفة للعصا حينما انقلبتْ ،فمن ناحية قتْلتها المميتة هي حية ،ومن ناحية
خفّة حركتها جان ،وكل هذه الخصائص كانت في العصا ،وحين
ضخامتها ثعبان ،ومن ناحية ِ
تجمع كل هذه اللقطات تعطيك الصورة الكاملة للعصا بعد أنْ صارت حية .فآيات القرآن ـ إذن
ـ تتكامل لترسم الصورة المرادة للحق تبارك وتعالى.
حكَ }
ضمُمْ َي َدكَ إِلَىا جَنَا ِ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَا ْ
()2353 /
اليد معروفة ،والجناح للطائر ،ويقابله في النسان الذراع بداية من ال َعضُد ،والحق سبحانه حينما
حمَةِ }[السراء ]24 :يعني :تواضع لهما،
خ ِفضْ َل ُهمَا جَنَاحَ ال ّذلّ مِنَ الرّ ْ
أوصانا بالوالدين قال {:وَا ْ
ول تتعالَ عليهما.
وفي موضع آخر قال تعالى {:اسُْلكْ يَ َدكَ فِي جَيْ ِبكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ }[القصص.]32 :
سمّي جَيْبا؛ لنهم كانوا في الماضي يجعلون الجيب الذي يضعون به
طوْق القميصُ ،
والجَيْبَ :
النقود أو خلفه في داخل الثوب ،ليكون بعيدا عن يد السارق ،فإذا ما احتاج النسان شيئا في جَيْبه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمّي الطوق جيبا .وهذا من مظاهر التكامل بين
طوْق القميص ليصل إلى الجيْب ف ُ
يُدخِل يده من َ
اليات.
عضُدك اليسر { تَخْرُجْ
طوْق قميصك إلى تحت َ
والمعنى هنا :اضمم كف يدك اليمنى ،وأدْخله من َ
بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [طه ]22 :أي :ساعة أنْ تُخرِج يدك تجدها بيضاء ،لها ضوء ولمعان
وبريق وشعاع.
ومعلوم أن موسى ـ عليه السلم ـ كان أسمر اللون ،كما وصفه النبي صلى ال عليه وسلم
حينما طُلِب منه أنْ يَصف الرسل الذين لقيهم في رحلة السراء والمعراج ،فقال " :أما موسى،
طوَال ،كأنه من رجال أزدشنوءة." ....
فرجل آدم ُ
طوَال يعني :أكثر طولً من الطويل.
أي :أسمر شديد الطول؛ لن ُ
سمْرة لونه آيةً من آيات ال ،ولو كان موسى أبيض اللون ما
ومن هنا كان بياضُ اليد ونورها في ُ
ظهر بياضُ يده.
وقوله { :مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [طه ]22 :أي :من غير مرض ،فقد يكون البياض في السّمرة مرضا ـ
والعياذ بال ـ كالبرص مثلً .فنفى عنه ذلك.
وقوله تعالى { :آيَةً أُخْرَىا } [طه ]22 :أي :معجزة ،لكنه لم ي ُقلْ شيئا عن الية الولى ،فدلّ ذلك
على أن العصا كانت الية الولى ،واليد الية الخرى.
ثم يقول الحق سبحانه { :لِنُرِ َيكَ مِنْ آيَاتِنَا ا ْلكُبْرَىا }
()2354 /
أي :نُريك اليات العجيبة عندنا؛ لتكون مقدمة لك ،فحين نأمرك بشيء من هذا القبيل فاعلم أن
الذي يأمرك ربّ لن يغشّك ،ولن يتخلى عنك ،وسوف يُؤيدك وينصرك ،فل تر َتعْ ول تخف أو
تتراجع.
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ ُيعِدّ نبيه موسى للقاء مرتقب مع عدوه فرعون الذي ادعى
اللوهية.
طغَىا }
عوْنَ إِنّهُ َ
ثم بعد هذه الشحنة والتجربة العملية يقول له { :اذْ َهبْ إِلَىا فِرْ َ
()2355 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طغَى ()24
عوْنَ إِنّهُ َ
اذْ َهبْ إِلَى فِرْ َ
فلماذا أرسله إلى فرعون أولً ،ولم يرسله إلى قومه؟ قالوا :لن فرعون فعل فعلً فظيعا ،حيث
ادعى اللوهية ،وهي القمة في العتداء ،ثم استعبد بني إسرائيل ،فل ُبدّ أن نُصفّي الموقف أولً
مع فرعون.
لذلك حدثت معجزة العصا في ثلثة مواقف.
الول :وكان لِدُرْبة موسى ورياضته على هذه العملية ،وكانت هذه المرة بين موسى وربه ـ عز
وجل ـ تدريبا ،حتى إذا أتى وقت مزاولتها أمام فرعون لم يتهيّب منها أو يتراجع ،بل باشرها
بقلب ثابت واثق.
والثاني :كان مع فرعون بمفرده ترويعا له.
والثالث :مع السّحَرة تجميعا.
ف ُكلّ موقف من هذه المواقف كان لحكمة وله دور ،وليس في المسألة تكرار كما يدّعي البعض.
طغَىا } [طه ]24 :الطغيان :مجاوزة الحدّ ،ومجاوزة الحدّ يكون بأخْذ ما ليس
وقوله تعالى { :إِنّهُ َ
لك والمبالغة في ذلك ،وليْتَه أخذ من المساوي له من العباد ،إنما أخذ ما ليس له من صفات ال
عز وجل.
ولما سمع موسى اسم فرعون ،تذكّر ما كان من أمره في مصر ،وأنه تربّى في بيت هذا الفرعون
الذي ادّعى اللوهية ،فكيف سيواجهه.
كما تذكّر قصة الرجل الذي وكَزه فقتله ،ثم خرج منها خائفا يترقب ،فلما شعر موسى أن العبء
ثقيل قال { :قَالَ َربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي }
()2356 /
كأنه قال :يا رب أنا سأنفّذ أوامرك؛ لكني ل أريد أنْ أُقبل على هذه المهمة وأنا منقبض الصدر
منْ ناحيتها؛ لن انقباضَ الصدر من الشيء يُهدِر الطاقة ويُبدّدها ،ويعين الحداث على النفس.
لذلك دعا موسى بهذا الدعاءَ { :ربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي } [طه ]25 :ليوفر قوته لداء هذه المهمة
الصعبة التي تحتاج إلى مجهود يناسبها ،ومعنى ذلك أنه انقبض صدره من لقاء فرعون للسباب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي ُذكِرت.
ثم قال { :وَيَسّرْ لِي َأمْرِي }
()2357 /
لن شَرْح الصدر في هذه المسألة ل يكفي ،فشَرْح الصدر من جهة الفاعل ،وقد يجد من القليل
لَدَدا شديدا وعنادا؛ لذلك قال بعدها { :وَيَسّرْ لِي َأمْرِي } [طه ]26 :فل أجد َلدَدا وطغيانا من
فرعون ،فتيسير المر من جهة القابل للفعل بعد شرح الصدر عند الفاعل.
()2358 /
لن الكلم وتبليغ الرسالة يحتاج إلى منطق ولسان مُنطلِق بالكلم ،وكان موسى ـ عليه السلم ـ
لديه رُتّة أو حُبْسَة في لسانه ،فل ينطلق في الكلم.
وكانت هذه الرّتّة أيضا في لسان الحسين بن علي ـ رضي ال عنهما ـ وكان النبي صلى ال
عليه وسلم إذا سمع الحسين يضحك ويقول " :ورثها عن عمه موسى ".
وتلحظ ِدقّة التعبير في قوله { :مّن لّسَانِي } [طه ]27 :ولم يقل :احلل عقدة لساني .فقد يُفهم منها
أنه مُتمرّد على َقدَر ال من حُبسة لسانه ،إنما هو ل يعترض ويطلب مجرد جزءٍ من لسانه ،ي َمكّنه
من القيام بمهمته في التبليغ.
()2359 /
هذه هي العِلّة في طلبه ،ولولها ما طلب انطلقة اللسان .والفقه هو أن يفهموا الكلم والحديث
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عنه.
جعَل لّي وَزِيرا مّنْ
ويواصل موسى ـ عليه السلم ـ ما يراه مُعينا له على أداء مهمته { :وَا ْ
أَهْلِي }
()2360 /
وزيرا :أي :معينا وظهيرا .والحق ـ سبحانه وتعالى ـ لما أراد أنْ يُخوّف الناس من الخرة
ل لَ وَزَرَ * إِلَىا رَ ّبكَ َي ْومَئِذٍ ا ْلمُسْ َتقَرّ }[القيامة11 :ـ .]12
قال {:كَ ّ
أي :ل ملجأ ول معين تفزع إليه إل ال ،فالوزير من (وَزَر) ،ويطلب الوزير حين ل يستطيع
صاحب المر القيام به بمفرده ،فيحتاج إلى مَنْ يعينه على أمره ،وهو وزير إنْ كان ناصحا أمينا
صدْق ،فإنْ كان غاشّا لئيما يعمل لصالح نفسه ،فليس بوزير ،بل هو (وِزْر) ،ومنه
يُعين صاحبه ب ِ
قوله تعالىَ {:ولَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَىا }[فاطر.]18 :
وفي الحديث النبوي الشريف " :خَيْر الملوك ملك جعل ال له وزيرا ،إنْ نسي ذكّره ،وإنْ نوى
على خير ـ مجرد نيّة ـ أعانه ،وإن أراد شرّا كفّه." ...
تلك علمات الوزير الناصح للرعية كما بيّنتها سياسة السماء؛ لن لكل حاكم بطانتين :واحدة تأمر
بالمعروف ،وأخرى تأمر بالمنكر كما جاء في الحديث الشريف.
فإنْ كانت هذه هي سياسة السماء ،فماذا عن سياسة البشر؟
ل واحد مهمته ،فإنْ زدت في
يقول أنو شروان :إياكم أنْ تفهموا أن أحدا مِنّا يستغني عن أحد ،فل ُك ّ
شيء فقد نقصت في أشياء ،جعلها ال في غيرك ليكمل بها نقصك ،فالمعايشة مشتركة ،لكن هذه
المشاركة تفرضها الضرورة ل التفضّل ،وإلّ لو لم يتفضّل عليك غيرك فماذا تفعل؟
وسبق أن ضربنا مثلً لحاجة الناس بعضهم لبعض ،قلنا :ماذا يحدث لو امتنع رجال الصرف
الصحي أو الكناسون عن العمل لعدة أيام؟ أما لو غاب الوزراء لعدة أيام فلن يحدث شيء.
ن كنتَ خيرا منه في هذه
إذن :ل تظن أنك أفضل من الخرين؛ لن لكل منهم مهمة يؤديها ،فإ ْ
ن قلتَ:
فهو خير منك في هذه؛ لن مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الخر ،فإ ْ
فلماذا وُجِد التفاوت بين الناس؟
قالوا :لتكون هناك ضرورة في حاجة بعضنا لبعض ،فلو تساوَى الجميع لقلنا لجماعة منا :تفضّلوا
بكنس الشوارع يوم كذا فلن يتفضلوا ،أما إنْ ألجأتْهم الحاجة إلى مثل هذا العمل فسوف يسارعون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ق المهن وأصعب المهام التي ينفر منها الناس بل ويحتقرونها ترى
إليه ،كما نرى الن في أش ّ
صاحبها مُقبلً عليها حريصا على القيام بها ،رغم ما فيها من مشقّة ،بل ويغضب إنْ لم يجد
فرصة للعمل ،لماذا؟ لنه مصدر قُوته وقُوت عياله.
وبهذه النظرة ل يتعالى أحد أو يستكبر ليحدث في المجتمع توازن استطراقي.
وقوله { :مّنْ أَهْلِي } [طه ]29 :أي :ليكون مأمونا عليّ.
وهذا المطلب من موسى ـ عليه السلم ـ يشير لدب عال من آداب النبوة ،وقد اختار ال موسى
للرسالة ،فلماذا يشرك معه أخاه في هذه المهمة؟ إذن :موسى ل يريد أنْ يفخَر بالرسالة ،أو يتعالى
بها ،أو يطغى ،إنما يريد أن يقوم بها على أكمل وجه؛ لذلك يحاول أنْ يُكمل ما فيه من نقص
بأخيه ليُعينه على تبليغ رسالته ،ولو أراد الستئثار بالرسالة ما طلب هذا الطلب.
وهذا نموذج يجب أنْ يُحتذَى ،فإنْ كُلّفت بأمر فوق طاقتك فل غبارَ عليك أن تستعين عليه بغيرك،
فهذا دليل على إخلصك للمهمة التي كُلّفت بها.
()2361 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللون ،مُرْسَل الشعر ،وسيم التقاطيع والملمح ،ترتاح له البصار ،فمَنْ لم يرتَحْ لموسى ارتاح
لهارون.
ولقد كان النبي صلى ال عليه وسلم يحب أن ينزل الوحي عليه في صورة دِحيْة الكلبي ،وكان ـ
رضي ال عنه ـ وسيما ،ترتاح له العين لرؤيته ،فكان جبريل ـ عليه السلم ـ ينزل عليه في
هذه الصورة لِيُؤنسه.
وموسى ـ عليه السلم ـ مع ما تميّز به أخوه هارون عليه من هذه الصفات لم يحقد على أخيه،
ولم ينظر إليه على أنه أفضل منه ،إنما جعل صفات أخيه مكملة لصفاته ،والجميع من أجل أداء
الرسالة وتبليغها على وجهها الكمل ،فلم ينظر إلى نفسه ونجاحه هو ،وإنما إلى نجاح المهمة التي
كلّفه ال بها.
خصْلةَ خَيْر في غيرك ،أو وجها من وجوه
ويجب أنْ يشيعَ هذا الخُلق بين الناس ،فإنْ رأيت َ
الكمال في غيرك ،فاحمد ال عليها ،واعلم أنها سيعود عليك نفعها ،وستجبر ما عندك من نقص
فل تحقد عليه؛ لنه سيتحمل ما فيك من قصور ،وتنتفع أنت بخيره.
ثم يقول الحق سبحانه أن موسى ـ عليه السلم ـ قال { :اشْ ُددْ بِهِ أَزْرِي }
()2362 /
()2363 /
قوله( :وَأشْ ِركْهُ) أي :أنت يا ربّ ،ليس أنا الذي أشركه تفضّلً مني عليه ،فأراد موسى ـ عليه
السلم ـ أن يكون الفضل من ال ،وأن يكون التكليف أيضا من ال حتى ل يعترض هارون أو
يتضجر عند مباشرة أمر الدعوة.
لذلك لما ذَهَبا إلى فرعون قال {:إِنّا رَسُولَ رَ ّبكَ }[طه ]47 :ولم ي ُقلْ موسى :إن هارون تابع له
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بل هو مثله تماما مُرْسَل من ال ،وإذا تكلّم موسى تكلّم عنه وعن هارون.
شدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ
طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَا ْ
فلما دعا موسى على قومه {:رَبّنَا ا ْ
ب الَلِيمَ }[يونس.]88 :
ا ْلعَذَا َ
عوَ ُتكُمَا }[يونس]89 :؛ لن الدعاء كان من موسى،
جاءت الجابة من ال {:قَالَ َقدْ أُجِي َبتْ دّ ْ
وهارون يُؤمّن عليه ،والمؤمّن أحد الداعيَيْن.
حكَ كَثِيرا }
ثم يقول الحق سبحانه عن هارون وموسى أنهما قال { :كَيْ نُسَبّ َ
()2364 /
فهذه هي العِلّة في مشاركة هارون لخيه في مهمته ،ل طلبا لراحة نفسه ،وإنما لتتضافر جهودهما
في طاعة ال ،وتسبيحه و ِذكْره.
والتسبيح :تقديس ال وتنزيهه ذاتا وصفاتا وأفعالً ،ذاتا .فل ذات مثل ذاته تعالى {:لَيْسَ َكمِثْلِهِ
سمْع ال
شيْءٌ }[الشورى ]11 :ل في الذات ،ول في الصفات ول في الفعال ،فل تقل :إن َ
َ
سمْعك ،أو أن بصره تعالى كبصرك ،أو أن ِفعْله كفِعلْك.
كَ
والمعنى :نُسبّحك ونُقدّسك تقديسا يرفعك إلى مستوى اللوهية الثابتة لك ،فل نزيد شيئا من عندنا.
حكَ كَثِيرا } [طه ]33 :أي :دائما ،فكأن التسبيح يُورِث المسبّح لذة في نفسه ،والطاعة
وقوله { :نُسَبّ َ
جعِلتْ قرّة عيني في
من الطائع تُورثه لذة في نفسه ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم ..." :و ُ
الصلة ".
وكان صلى ال عليه وسلم " إذا حزبه أمر قام إلى الصلة ".
()2365 /
فأنت قيّوم علينا ،مُطلع على أفعالنا ،أنؤدّيها على الوجه الكمل ،أم نُقصّر فيها؟
سؤَْلكَ يامُوسَىا }
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى { :قَالَ قَدْ أُوتِيتَ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2366 /
سؤْل :أي :الشيء المسئول مثل (خُبز) أي :مخبوز ،فالمراد :أعطيناك ما سألتَ ،بل وأعطيناك
ُ
قبل أن تسأل ،بل وقبل أن تعرف كيف تسأل { :وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً ُأخْرَىا }
()2367 /
(مّننا) من المنة ،وهي العطاء بل مقابل على خلف الجزاء ،وهو العطاء مقابل عمل { مَ ّرةً
أُخْرَىا } [طه ]37 :إذن :هناك مرة أولى ،لكن المراد بالمنّة هنا ما حدث من الوحي إلى أم
موسى وهو صغير ،فهي في الحقيقة المنّة الولى إنما قال هنا { مَ ّرةً أُخْرَىا } [طه ]37 :هذا
حسْب ِذكْر الحداث.
ترتيب ذكري َ
فمتى كانت هذه المنّة؟
()2368 /
إذ :يعني وقت أنْ أوحينا إلى أمك ما يُوحَى .فكانت هذه هي المنة الولى عليك حين وُلدت في
خ ْفتِ عَلَ ْيهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَ ّم َولَ تَخَافِي
عام ،يقتل فيه فرعون الذكور ،فمنّنا عليك لما قلنا لمك {:فَإِذَا ِ
ك َوجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص.]7 :
وَلَ َتحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ
ومعنى { مَا يُوحَىا } [طه ]38 :أي :أمرا عظيما لك أن تقدره أنت فتذهب فيها نفسك كل مذهب،
كما جاء في قوله تعالىَ {:فغَشِ َي ُهمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِ َيهُمْ }[طه ]78 :ويُفصّل الحق سبحانه هذا الوحي
لم موسى ،فيقول تعالى { :أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2369 /
خ ْذهُ عَ ُدوّ لِي وَعَ ُدوّ لَ ُه وَأَ ْلقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ
حلِ يَأْ ُ
أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْ َيمّ بِالسّا ِ
مَحَبّةً مِنّي وَلِ ُتصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ()39
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حلِ } [طه ]39 :أي :تحمله المواج وتسير به ،وكأن لديها أوامر
وقوله تعالى { :فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ
أن تُدخِله في المجرى الموصّل لقصر فرعون.
فعندنا ـ إذن ـ لموسى ثلثة إلقاءات :إلقاء الرحمة والحنان في التابوت ،وإلقاء التابوت في اليم
تنفيذا لمر ال ،وإلقاء ال َيمّ للتابوت عند قصر فرعون.
خ ْذهُ عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّهُ } [طه( ]39 :عَدُو لِي) أي :ل تعالى؛ لن فرعون ادعى
وقوله تعالى { :يَأْ ُ
اللوهية( ،وَعَ ُدوّ لَهُ) أي :لموسى؛ لنه سيقف في وجهه ويُوقفه عند حَدّه.
وفي الية إشارة إلى إنفاذ إرادته سبحانه ،فإذا أراد شيئا قضاه ،ولو حتى على يد أعدائه وهم
ن يتصور أو يصدق أن فرعون في جبروته وعُتوه وتقتيله للذكور من أولد بني
غافلون ،فمَ ْ
إسرائيل هو الذي يضم إليه موسى ويرعاه في بيته ،بل ويُحبه ويجد له قبولً في نفسه.
وهل التقطه فرعون بداية ليكون له عَدوا؟ أم التقطه ليكون ابنا؟ كما قالت زوجته آسية {:قُ ّرةُ عَيْنٍ
شعُرُونَ }[القصص.]9 :
عسَىا أَن يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدا وَهُ ْم لَ يَ ْ
لّي وََلكَ لَ َتقْتُلُوهُ َ
إذن :كانت محبة ،إل أنها آلتْ إلى العداوة فيما بعد ،آلتْ إلى أن يكون موسى هو العدو الذي
ستُربيه بنفسك وتحافظ عليه ليكون تقويضُ ملكك على يديه؛ لذلك سيقول فرعون {:أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا
عمُ ِركَ سِنِينَ }[الشعراء.]18 :
وَلِيدا وَلَبِ ْثتَ فِينَا مِنْ ُ
ومسألة العداوة هذه استغلها المشككون في القرآن واتهموه بالتكرار في قوله تعالى } :يَأْخُ ْذهُ عَ ُدوّ
ع ُدوّا وَحَزَنا }
عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ َ
طهُ آلُ فِرْ َ
لّي وَعَ ُدوّ لّهُ { [طه ]39 :ثم قال في آية أخرى {:فَالْ َتقَ َ
[القصص.]8 :
والمتأمل في اليتين يجد أن العداوة في الية الولى من جانب فرعون لموسى وربه تبارك
وتعالى ،أما العداوة في الية الثانية فمن جانب موسى لفرعون ،وهكذا تكون العداوة متبادلة ،وهذا
يضمن شراستها واستمرارها ،وهذا مُرَاد في هذه القصة.
أمّا إنْ كانت العداوة من جانب واحد ،فلربما تسامح غير العدو وخَجِل العدو فتكون المصالحة.
والعداوة بين موسى وفرعون ينبغي أن تكونَ شرسة؛ لنها عداوة في قضية ال ِقمّة ،وهي التوحيد.
ولكن ،لماذا لم يُلفِت مجيء موسى على هذه الحالة انتباه فرعون فيسأل عن حكايته ويبحث في
أمره؟ إنها إرادة ال التي ل يُعجِزها شيء ،فتحبه زوجة فرعون ،وتقول {:قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََلكَ }
[القصص]9 :؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعدها } :وَأَ ْلقَيْتُ عَلَ ْيكَ مَحَبّةً مّنّي { [طه.]39 :
فأحبته آسية امرأة فرعون لما رأته ،وأحبّه فرعون لما رآه ،وهذه محبة من ال بل سبب للمحبة؛
لن المحبة لها أسباب بين الناس ،فتحب شخصا لنك تودّه ،أو لنه قريب لك أو صديق ،أو
أسْدى لك معروفا ،وقد يكون الحب من ال دون سبب من هذه السباب ،فل سببَ له إل إرادة ال.
فمعنى } :وَأَلْقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ مَحَبّةً مّنّي { [طه ]39 :وليس فيك ما يُوجب المحبة ،وليس لديك أسبابها،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خاصة وقد كان موسى عليه السلم أسمر اللون ،أجعد الشعر ،أقنى النف ،أكتف ،وكأن هذه
عتْ فرعون لمحبة موسى ،كما قال
الخِلْقة جاءت تمهيدا لهذه المحبة ،وإثباتا لرادة ال التي طوّ َ
تعالى {:وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيحُولُ بَيْنَ ا ْلمَرْ ِء َوقَلْبِهِ }[النفال.]24 :
وهكذا ،حوّل ال قلب فرعون ،وأدخل فيه محبة موسى ليُمرّر هذه المسألة على هذا المغفل الكبير،
فجعله يأخذ عدوه ويُربّيه في بيته ،ولم يكن في موسى الوسامة والجمال الذي يجذب إليه القلوب.
ثم يقول سبحانه } :وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي { [طه ]39 :أي :تُربّى على عَيْن ال وفي رعايته ،وإنْ
كان الواقع أنه يُربّى في بيت فرعون ،فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يرعاه ،فإنْ تعرّض لشيء في
التربية تدخّل ربّه عز وجل ليعلمه ويُربّيه.
ومن هذه المواقف أن فرعون كان يجلس وزوجته آسية ،ومعهما موسى صغير يلعب ،فإذا به
يمسك بلحية فرعون ويجذبها بشدة أغاظته ،فأمر بقتله ،فتدخلّت امرأته قائلة :إنه ما يزال صغيرا
ل يفقه شيئا ،إنه ل يعرف التمرة من الجمرة.
فأتوا له بتمرة وجمرة ليمتحنوه ،فأزاح ال يده عن التمرة إلى الجمرة لِيُفوّت المسألة على هذا
المغفل الكبير ،بل وأكثر من هذا ،فأخذها موسى رغم حرارتها حتى وضعها في فمه ،فلدغتْ
لسانه ،وسبّبت له هذه ال ُعقْدة في لسانه التي اشتكى منها فيما بعد.
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يُطمئِن نبيه موسى ـ عليه السلم ـ :ل تخف ،فأنت تحت عيني
وفي رعايتي ،وإنْ فعلوا بك شيئا سأتدخل ،وفي آية أخرى قال {:وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي }[طه]41 :
فأنا أرعاك وأحافظ عليك؛ لن لك مهمة عندي.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى } :إِذْ َت ْمشِي ُأخْ ُتكَ {
()2370 /
جعْنَاكَ إِلَى ُأ ّمكَ َكيْ َتقَرّ عَيْ ُنهَا وَلَا تَحْزَنَ َوقَتَلْتَ
إِذْ َت ْمشِي ُأخْ ُتكَ فَ َتقُولُ َهلْ أَدُّل ُكمْ عَلَى مَنْ َي ْكفُلُهُ فَرَ َ
َنفْسًا فَنَجّيْنَاكَ مِنَ ا ْل َغ ّم َوفَتَنّاكَ فُتُونًا فَلَبِ ْثتَ سِنِينَ فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِ ْئتَ عَلَى َقدَرٍ يَا مُوسَى ()40
إذن :كان لخت موسى دور في قصته ،كما قال تعالى في موضع آخرَ {:وقَاَلتْ لُخْ ِتهِ ُقصّيهِ
شعُرُونَ }[القصص.]11 :
ب وَ ُه ْم لَ َي ْ
فَ َبصُ َرتْ ِبهِ عَن جُ ُن ٍ
ن علمتِ نجاته من اليمّ ،فتتبعته ،وعرفتْ أنه في بيت فرعون ،ثم حرّم ال
والمراد :تتبعيه بعد أ ْ
ف المرضعات ،وهنا تدخلت أخته لتقولَ { :هلْ أَ ُدّلكُمْ عَلَىا مَن َي ْكفُلُهُ }
عليه المراضع ،فكان يعَا ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[طه ]40 :وهذا الترتيب ل يقدر عليه إل ال.
جعْنَاكَ إِلَىا ُأ ّمكَ } [طه ]40 :حين نستقرىء مادة (رجع) في القرآن نجدها
ويقول تعالى { :فَرَ َ
جعَ مُوسَىا إِلَىا َق ْومِهِ }[العراف,]150 :
تأتي مرة لزمة كما في {:وََلمّا رَ َ
ج َعكَ اللّهُ إِلَىا طَآ ِئفَةٍ
جعْنَاكَ إِلَىا ُأ ّمكَ } [طه ]40 :وفي {:فَإِن رّ َ
وتأتي متعدية كما في { :فَرَ َ
مّ ْنهُمْ }[التوبة.]83 :
والفَرْق بين اللزم والمتعدّي أن اللزم رجع بذاته ،أمّا المتعدي فقد أرجعه غيره ،فالرجوع أن
تصير إلى حال كنتَ عليها وتركتها ،فإنْ رجعت بنفسك دون دوافع حملتْك على الرجوع فالفعل
لزم ،فإنْ كانت هناك أمور دفعتْك للرجوع فالفعل مُتعَدّ.
ومثل رجعك :أرجعك ،إل أن رجعك :الرجوع ـ في ظاهر المر منك من دون دوافع منك.
وأرجعك :أي رَغْما عن إرادتك.
وقولهَ { :كيْ َتقَرّ عَيْنُها } [طه ]40 :تقرّ العين أي :تثبت؛ لن التطلعات إما أن تكون معنوية أو
حسّية ،فالنسان لديه أمانٍ يتطلع إلى تحقيقها ،فإذا ما تحققت نقول :لم يعُدْ يتطلع إلى شيء.
ِ
سيّ ،فالعرب يقولون للشيء الجميل :قيد النواظر .أي :يقيد العين فل تتحول
وكذلك في الشيء الح ّ
عنه؛ لن النسان ل يتحول عن الجميل إل إذا رأى ما هو أجمل ،وهذا ما يسمونه قُرّة العين.
حسْن.
يعني الشيء الحسن الذي تستقر عنده العين ،ول تطلب عليه مزيدا في ال ُ
ثم يقول تعالىَ { :وقَتَ ْلتَ َنفْسا فَنَجّيْنَاكَ مِنَ ا ْلغَ ّم َوفَتَنّاكَ فُتُونا } [طه ]40:وهذه مِنّة أخرى من مِنَن
ال تعالى على موسى عليه السلم ،فمِنَنُ ال عليه كثيرة كما قال {:وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً أُخْرَىا }
[طه ]37 :فهي مرة ،لكن هناك مرات.
غفْلَةٍ مّنْ َأهِْلهَا َفوَجَدَ فِيهَا
علَىا حِينِ َ
خلَ ا ْلمَدِينَةَ َ
ومسألة القتل هذه وردتْ في قوله تعالى {:وَ َد َ
ع ُد ّوهِ
رَجُلَيْنِ َيقْتَتِلَنِ هَـاذَا مِن شِيعَتِ ِه وَهَـاذَا مِنْ عَ ُد ّوهِ فَاسْ َتغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ َ
َف َوكَ َزهُ مُوسَىا َف َقضَىا عَلَ ْيهِ }[القصص.]15 :
وخرج من المدينة خائفا يترقب الناس لئل يلحقوا به فيقتلوه ،وهذا معنى { فَنَجّيْنَاكَ مِنَ ا ْل َغمّ }
[طه ]40 :أي :من القتل ،أو من المساك بك { َوفَتَنّاكَ فُتُونا } [طه ]40 :أي :عرّضناك لمحن
كثيرة ،ثم نجيناك منها ،أولها :أنك وُلِدْت في عام يُقتل فيه الطفال ،ثم رم ْتكَ أمك في اليم ،ثم ما
حدث منه مع فرعون لما جذبه من ذقنه.
ثم يقول تعالى { :فَلَبِ ْثتَ سِنِينَ فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِ ْئتَ عَلَىا قَدَرٍ يامُوسَىا } [طه ]40 :ذكر ال
تعالى مدة ُمكْثه في أهل مدين على أنها من مننه على موسى مع أنه كان فيها أجيرا ،وقال عن
نفسه:
{ َربّ إِنّي ِلمَآ أَنزَ ْلتَ إَِليّ مِنْ خَيْرٍ َفقِيرٌ }[القصص.]24 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي مدين تعرّف على شعيب عليه السلم ،وتزوج من ابنته وأنجب منها ولدا ،وموسى في هذا
شوّقه إلى وطنه ورؤية أمه ،وقَدّر
كله غريب عن وطنه ،بعيد عن أمه ،فلما أراد ال له الرسالة َ
له العودة؛ فقال تعالى } :ثُمّ جِ ْئتَ عَلَىا قَدَرٍ يامُوسَىا { [طه.]40 :
أي :على قَدَر من اصطفائك ،فقَدَر ال هو الذي حرّك في قلبك الشوق للعودة ،وحملك على أنْ
تمشي في الطريق غير المأهول ،وتتحمل مشقة البرد وعناء السفرَ ،قدَر ال هو الذي حرّك فيك
خاطر الشوق لمك ،ففي طريق العودة وفي طُوىً أنت على موعد مع الصطفاء والرسالة.
ل َف َة أ ْو كانتْ َلهُ قَدَرا كَما أتَى ربّه مُوسَى
لذلك ،فإن الشاعر الذي مدح الخليفة قال له:جاء الخِ َ
عَلَى قَدَرِثم يقول الحق سبحانه لموسى } :وَاصْطَ َنعْ ُتكَ لِ َنفْسِي {
()2371 /
أي :نجّيْتك وحافظت عليك؛ لنني أُعِدّك لمهمة عندي ،هي إرسالك رسولً بمنهجي إلى فرعون
وإلى قومك.
وقد حاول العلماء إحصاء المطالب التي طلبها موسى عليه السلم من ربه فوجدوها ثمانية {:قَالَ
جعَل لّي
عقْ َدةً مّن لّسَانِي * َيفْ َقهُواْ َقوْلِي * وَا ْ
َربّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسّرْ لِي َأمْرِي * وَاحُْللْ ُ
حكَ كَثِيرا *
وَزِيرا مّنْ أَهْلِي * هَارُونَ َأخِي * اشْ ُددْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْ ِركْهُ فِي َأمْرِي * َكيْ ُنسَبّ َ
وَنَ ْذكُ َركَ كَثِيرا }[طه25 :ـ .]34
ثم وجدوا أن ال تعالى أعطاه ثمانية أخرى دون سؤال منهِ {:إذْ َأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا * أَنِ
حلِ يَأْخُ ْذهُ عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّ ُه وَأَ ْلقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ َمحَبّةً
اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْ َيمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْ َيمّ بِالسّا ِ
جعْنَاكَ إِلَىا ُأ ّمكَ
مّنّي وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي * ِإذْ َتمْشِي أُخْ ُتكَ فَ َتقُولُ َهلْ َأدُّلكُمْ عَلَىا مَن َي ْكفُلُهُ فَ َر َ
ن َوقَتَ ْلتَ َنفْسا فَنَجّيْنَاكَ مِنَ ا ْلغَمّ َوفَتَنّاكَ فُتُونا فَلَبِ ْثتَ سِنِينَ فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ ُثمّ
َكيْ َتقَرّ عَيْنُها َولَ َتحْزَ َ
جِ ْئتَ عَلَىا قَدَرٍ يامُوسَىا }[طه38 :ـ .]40
فإنْ كان موسى عليه السلم قد طلب من ربه ثمانية مطالب فقد أعطاه ربه عز وجل ثمانية أخرى
دون أن يسألها موسى؛ ليجمع له بين العطاء بالسؤال ،والعطاء تكرّما من غير سؤال؛ لنك إنْ
سألت ال فأعطاك َدلّ ذلك على قدرته تعالى في إجابة طلبك ،لكن إنْ أعطاك بدون سؤال منك َدلّ
ذلك على محبته لك.
ت وَأَخُوكَ }
ثم يقول الحق سبحانه { :اذْ َهبْ أَن َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2372 /
{ بِآيَاتِي } [طه ]42 :اليات هنا هي المعجزات الباهرات التي تبهر فرعون ،فلن تذهبا مُجرّديْن،
بل معكما دليل على صِدْق الرسالة التي تحملونها إليه { :لَ تَنِيَا فِي ِذكْرِي } [طه ]42 :من
التّواني أي :الفتور أو التقصير؛ لنني أعددتكما العداد المناسب لهذه المهمة الشاقة ،فإياكم
والتهاون فيها ،فإنْ حدث منكما تقصير فهو تقصير في الداء ،ل في العداد.
ومعنى { :فِي ِذكْرِي } [طه ]42 :أي :لكُنْ دائما على بالكما ،فأنا الذي أرسلتُ ،وأنا الذي أيدتُ
بالمعجزات ،وأنا الذي أرعاكما وأرقبكما ،وأنا الذي سأجازيكما فل يَغبْ ذلك عنكما.
عوْنَ }
ثم يقول الحق سبحانه { :اذْهَبَآ ِإلَىا فِرْ َ
()2373 /
طغَى ()43
عوْنَ إِنّهُ َ
اذْهَبَا إِلَى فِرْ َ
()2374 /
ن طغى ،ومن الذي حكم عليه بالطغيان؟ حين تحكم أنت عليه بالطغيان فهو
هذا لفرعون بعد أ ْ
طغَىا }[طه:
طغيان يناسب قدرات وإمكانات البشر ،أمّا أن يقول عنه الحق تبارك وتعالى{ إِنّهُ َ
]43فل ُبدّ أنه تجاوز كل الحدود ،وبلغ قمة الطغيان ،فربّنا هو الذي يقول.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حجَجك وآياتك ،ول
فقولهَ { :فقُولَ لَهُ َق ْولً لّيّنا } [طه ]44 :فل ُبدّ أنْ تعطيه فُسْحة كي يرى ُ
تبادره بعنف وغِلْضة ،وقالوا :النصح ثقيل ،فل ترسله جبلً ،ول تجعله جدلً ،ول تجمع على
المنصوح شدتين :أنْ تُخرِجه مما ألف بما يكره ،بل تُخرِجه مما ألِف بما يحب.
ح ْكمَةِ
وهذا منهج في الدعوة واضح وثابت ،كما في قوله تعالى {:ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ بِالْ ِ
وَا ْل َموْعِظَةِ ا ْلحَسَنَةِ }[النحل.]125 :
عمّا أحبّ من حرية واستهتار في الشهوات والملذات ،ثم
لنك تخلعه مما اعتاد وألف ،وتُخرجه َ
تُقيّده بالمنهج ،فليكُنْ ذلك برفق ولُطْف.
وهذه سياسة يستخدمها البشر الن في مجال الدواء ،فبعد أن كان الدواء مُرّا يعافُه المرضى،
توصلوا الن إلى برشمة الدواء المر وتغليفه بطبقة حلوة المذاق حتى تتم علمية البَلْع ،ويتجاوز
الدواء منطقة المذاق.
وكذلك الحال في مرارة الحق والنصيحة ،عليك أنْ تُغلّفها بالقول اللين اللطيف.
خشَىا } [طه ]44 :لعل :رجاء ،فكيف يقول الحق تبارك وتعالىّ { :لعَلّهُ
وقولهّ { :لعَلّهُ يَتَ َذكّرُ َأوْ يَ ْ
علْمه تعالى أنه لن يتذكّر ولن يخشى ،وسيموت كافرا غريقا؟
يَتَ َذكّرُ َأوْ َيخْشَىا } [طه ]44 :وفي ِ
قالوا :لن الحق سبحانه يريد لموسى أن يدخل على فرعون دخول الواثق من أنه سيهتدي ،ل
دخولَ اليائس من هدايته ،لتكون لديه الطاقة الكافية لمناقشته وعَرْض الحجج عليه ،أمّا لو دخل
وهو يعلم هذه النتيجة لكان محبطا ل يرى من كلمه فائدة ،كما يقولون (ضربوا العور على
عينه قال خسرانه خسرانه).
فالحق سبحانه يعلم ما سيكون من أمر فرعون ،لكنْ يريد أنْ يقيمَ الحجة عليه{ لِئَلّ َيكُونَ لِلنّاسِ
سلِ }[النساء.]165 :
عَلَى اللّهِ حُجّةٌ َبعْدَ الرّ ُ
وقوله { :يَتَ َذكّرُ َأوْ َيخْشَىا } [طه ]44 :كأن النسان إذا ما ترك شراسة تفكيره ،وغُمة شهواته في
نفسه ،ل بُدّ أنْ يهتدي بفطرته إلى وجود ال أو (يتذكر) عالم الذّر ،والعهد الذي أخذه ال عليه يوم
شهِدْنَآ }[العراف.]172 :
ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ
أنْ قال {:أََل ْ
ل مولود يولد على الفطرة ،فأبواه يُهوّدانه ،أو
والذي قال عنه النبي صلى ال عليه وسلمُ " :ك ّ
يُنصّرانه ،أو يُمجّسانه ".
فلو تذكّر النسان ،وجرّد نفسه من هواها ل ُبدّ له أنْ يهتدي إلى وجود ال ،لكن الحق ـ سبحانه
ن َومُنذِرِينَ }
وتعالى ـ جعل للغفلة مجالً ،وأرسل الرسل للتذكير؛ لذلك قال {:رّسُلً مّبَشّرِي َ
[النساء ]165 :ولم يقل :بادئين.
أمّا مسألة اليمان بال فكان ينبغي أن تكون واضحة معروفة للناس أن هناك إيمانا بإله خالق قادر
فقط ينتظرون ما يطلبه منهم وما يتعبّدهم به.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ماذا تفعل؟ وماذا تترك؟ وهذه هي مهمة الرسل.
وسبق أن ضربنا مثلً برجل انقطعت به السّبل في صحراء دَويّة ،ل يجد ماءً ول طعاما ،حتى
أشرف على الهلك ،ثم غلبه النوم فنام ،فلما استيقظ إذا بمائدة عليها ألوان الطعام والشراب .بال
قبل أنْ يمد يده للطعام ،ألَ يسأل :مَنْ أتى إليه به؟
وهكذا النسان ،طرأ على كون ُم َعدّ لستقباله :أرض ،وسماء ،وشمس ،وقمر ،وزرع ،ومياه،
وهواء .أليس جديرا به أن يسأل :من الذي خلق هذا الكون البديع؟ فلو تذكرتَ ما طرأتَ عليه من
الخير في الدنيا ل نتهيتَ إلى اليمان.
فمعنى } :يَتَ َذكّرُ { [طه ]44 :أي :النعم السابقة فيؤمن بالمنعم } َأوْ يَخْشَىا { [طه ]44 :يخاف
العقوبة اللحقة ،فيؤمن بال الذي تصير إليه المور في الخرة.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى عنهما } :قَالَ رَبّنَآ إِنّنَا َنخَافُ {
()2375 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا