Professional Documents
Culture Documents
ممد قطب
-1-
بسم ال الرحمن الرحيم
صدق ال العظيم
مقدمة
مراحله التاريخية ،إن لم تكن أسوأ ما مر به في تاريخه كله .فلم تكن الزمات الماضية
تصيب المسلمين كلهم في وقت واحد في كل بقاع الرض كما هو الحال في هذه المرة .ولم
يكن الذل والهوان والضياع يشمل المة السلمية كلها كما يشملها في هذه المرة .
الماضية ،فنكبة فلسطين أسوأ .فحينما كان ظل المسلمين يتقلص عن الندلس ،كانت الدولة
العثمانية الفتية تقتحم القسطنطينية وتجعل منها عاصمة الخلفة السلمية ،ثم تتوغل بجيوشها
في
أوربا حتى تصل إلى فينا وبطرسبورج .أما نكبة فلسطين فإنها تحدث وظل المسلمين منحسر
في كـل الرض ،والمذابح ل تكف عنهم في كل مكان :في الفلبين .في الحبشة .في
أريتريا .في تشاد .في نيجريا .في الهند .في أفغانستان .في العالم الشيوعي كله حيث
يخيرون بين الكفر أو الموت .والمؤامرات تحاك للسلم والمسلمين على نطاق القوى الدولية
كلها مجتمعة .والعالم السلمي يفتت ،ثم يعود فيفتت ،ثم يعود فيفتت .وتقوم المحاولة إثر
المحاولة لقامة دول لغير المسلمين في الرض السلمية ،تقتطع في كل مرة جزءا من
أرض السلم ،وتستعبد من يبقى فيها من المسلمين أو تقتّلهم ..ثم الدعاة المسلمون يقتّلون
ويعذبون أبشع تعذيب في التاريخ ،على يد حكومات تناوئ الدعوة السلمية ،وترفض أن
)(1في كتاب " واقعنا المعاصر " .وقد كان الصل أن يصدر كتاب " المفاهيم " قبل " واقعنا المعاصر " لنه
مكتوب قبله بعدة سنوات ولكن شاء ال أن يتأخر كتاب المفاهيم كل هذه السنوات ،وتصدر قبله كتب أخرى
كتبت بعده بسنوات ! وكل شيء عنده بمقدار.
هذا هو الوضع السيىء الذي يعيشه العالم السلمي اليوم بغير شبيه له في التاريخ .
ول شيء في هذا الوضع يحدث اعتباطا ،ول يمكن أن يحدث شيء واحد في حياة
البشر اعتباطا ! إنما يجري كل شيء في حياة البشر حسب سنة ال التي ل تتخلف ول تحابي
. ()1
سنّتِ اللّ ِه َتحْوِيلً )
جدَ ِل ُ
سنّتِ اللّ ِه َت ْبدِيلً وََلنْ َت ِ
جدَ ِل ُ
ن َت ِ
( فَلَ ْ
ومن سنة ال أنه ل يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ،أي ينحرفوا
. ()2
سمِيعٌ عَلِيمٌ )
َ
ومن سنته أنه ل يحابي أحدا لكونه من " ذرية " قوم صالحين :
ن ُذ ّريّتِي
س ِإمَاما قَالَ َومِ ْ
ن قَالَ ِإنّي جَاعُِلكَ لِلنّا ِ
( وَِإذِ ا ْبتَلَى ِإ ْبرَاهِيمَ َربّ ُه ِبكَِلمَاتٍ َفَأتَ ّمهُ ّ
. ()3
ن)
ع ْهدِي الظّاِلمِي َ
قَالَ ل َينَالُ َ
س َتخْلَفَ
ض َكمَا ا ْ
س َتخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْ ِ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ
ن آ َمنُوا ِم ْن ُكمْ َو َ
عدَ اللّهُ اّلذِي َ
( وَ َ
أما الذين يرثون الكتاب وراثة ،أي ل يعتبرونه خاصا بهم ،ول ملزما لهم ،إنما هو
شيء موروث عن الباء والجداد فأولئك هم الخلف السيىء الذين أشير إليهم في كتاب ال في
حقّ
ن ل َيقُولُوا عَلَى اللّ ِه إِلّا ا ْل َ
خذْ عََل ْي ِهمْ مِيثَاقُ ا ْل ِكتَابِ أَ ْ
خذُوهُ أََلمْ ُي ْؤ َ
ض ِمثْلُهُ َي ْأ ُ
عرَ ٌ
وَِإنْ َي ْأ ِت ِهمْ َ
ن ) (. )2
ن َأفَل َتعْقِلُو َ
خيْ ٌر لِّلذِينَ َيتّقُو َ
خرَ ُة َ
َو َد َرسُوا مَا فِيهِ وَالدّارُ الْآ ِ
هذه كلها سنن ربانية تجري بها المور في الحياة البشرية ،ل تحابي أحدا ،ول تتبدل
ولقد أنعم ال على المة السلمية بالتمكين والستخلف والتأمين ،وفتح عليها بركات
ثم تغير الحال من الستخلف والتمكين والتأمين إلى الذل والضعف والهوان ،والتشريد
والتنكيل والتقتيل حين صاروا إلى الصورة التي أنذرهم بها رسول ال -صلى ال عليه وسلم
يومئذ يا رسول ال ؟ قال :أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل . )1( " ..
لقد حدثت انحرافات كثيرة في حياة المسلمين في مسيرتهم الطويلة خلل التاريخ .
وكل انحراف وقع في حياتهم عن المنهج الرباني كانت له ول شك عاقبته البطيئة أو
السريعة حسـب نوع النحراف ،ودرجة تفشيه ،وموقف المة منه بحكامها وعلمائها
وعامتها ..حتى إذا وصل النحراف إلى حده القصى كانت عاقبته ما نراه اليوم من ضعف
()2
وما بنا في هذا الكتاب أن نتحدث عن خط النحراف الطويل كله ..
إنما نتحدث هنا عن نوع معين من النحراف ،قد يكون هو الشد خطرا في حياة
المسلمين في الوقت الحاضـر ،أو قد يكون هو الخلصة التي آل إليها النحراف التاريخي
كله ..
إن كثيرا من الدعاة المخلصين أنفسهم ليظنون أن ما أصاب المسلمين قد أصابهم بسبب
وانحراف المسلمين في سلوكهم أمر أوضح من أن يشار إليه ..فإن ما تفشى في حياتهم
من الكذب والغش والنفاق ،والضعف والجبن والستخذاء ،والبدع والمعاصي ،وما صار
إليه الشباب من تفلت وتحلل ،وما صار الناس إليه من تبلد على الفجور والمنكر ..وعشرات
ومع ذلك فليس النحراف السلوكي هو النحراف الوحيد في حياة أولئك " المسلمين " ،
ول هو النحراف الخطر في حياتهم .ولو كان المر مقصورا على النحراف السلوكي
ولكن المر تجاوز ذلك إلى النحراف في " المفاهيم " ..كل مفاهيم السلم الرئيسية
ابتداء من ل إله إل ال !
وحين تجد إنسانا منحرفا في سلوكه ،ولكن تصوره لحقيقة الدين صحيح ،فستبذل جهدا
ما لرده عن انحرافه السلوكي ،ولكنك ل تحتاج أن تبذل جهدا في تصحيح مفاهيمه ،لنها
صحيحة عنده وإن كان سلوكه منحرفا عنها .أما حين يقع النحراف في المفاهيم ذاتها ،فكم
تحتاج من الجهد لتصحيح المفاهيم أول ،ثم تصحيح السلوك بعد ذلك ؟
تجاوز النحراف منطقة السلوك ،ووصل إلى المفاهيم الرئيسية لهذا الدين .
ومن أجل ذلك يعاني السلم اليوم تلك الغربة التي تحدث عنها رسول ال -صلى ال
" بدأ السلم غريبا ،وسيعود غريبا كما بدأ " (. )1
ولقد عاد غريبا بالفعل ..غريبا بين أهله أنفسهم ،يتصورونه على غير حقيقته -فضل
عن سلوكهم المنحرف عنه -ويستغربونه حين يعرض لهم في صورته الحقيقية كما جاءت
في كتاب ال وسنة رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وأخذت تطبيقها الكامل في حياة
فإن أي جهد نبذله في تصحيح السلوك وحده -مع بقاء المفاهيم منحرفة -لن يؤتي
ثماره كاملة ،ولن يخرج المة من وهدتها التي انتكست إليها في عصرها الحاضر .إنما
نحتاج أن نبذل جهدا مضاعفا لزالة الغربة الثانية كالجهد الذي بذلته الجماعة الولى من
وهذا الجهد المضاعف هو المهمة الملقاة اليوم على عاتق الصحوة السلمية .
من أين نتلقى فهمنا لهذا الدين ؟ من كتاب ال وسنة رسوله -صلى ال عليه وسلم -
وسيرة السلف الصالح -رضوان ال عليهم -؟ أم مما دخل على هذا الفهم الواضح المستقيم
من أفكار دخيلة ومنحرفة ،بتأثير عوامل متعددة في أثناء المسيرة الطويلة للمة السلمية ،
فإذا صححنا منهج التلقي ،وصححنا بناء على ذلك ما انحرف في حس المسلمين
المتأخرين من مفاهيم السلم الرئيسية بقيت علينا مهمة أخرى ل تقل خطرا هي مهمة التربية
والتربية هي الجهد الحقيقي الذي ترجى معه الثمرة .ولكنه لن يؤتي ثمرته حتى يقوم
وهذا الكتاب محاولة متواضعة لتصحيح بعض المفاهيم السلمية ،بردها إلى صورتها
الولى ،المستمدة من كتاب ال وسنة رسوله -صلى ال عليه وسلم -وسيرة السلف الصالح
-رضوان ال عليهم -وإزالة ما علق بها من انحراف في أثناء المسيرة التاريخية للمة
السلمية .
وقد تناولت فيه خمسة مفاهيم رئيسية من مفاهيم السلم :مفهوم ل إله إل ال .مفهوم
العبـادة .مفهوم القضاء والقدر .مفهوم الدنيا والخرة .مفهوم الحضارة وعمارة الرض .
وسيجـد القارىء أن القسم الكبر من الكتاب قد استغرقه الحديث عن مفهوم ل إله إل
ال ،ثم مفهوم العبادة ،ول غرابة في ذلك .فل إله إل ال هي الركن الول -والكبر -من
أركان السلم ،كما أن النحراف الكبر -والخطر -في حياة المسلمين هو الذي وقع في
مفهوم ل إله إل ال ! وكذلك مفهوم العبادة ،فقد كان له في معناه الواسع الشامل صداه في
عظمة هذه المة وعظمة منجزاتها ،كما كان له في معناه الضيق الهزيل الذي صار إليه
وحين تصحح هذه المفاهيم ،وتعود لها في نفوس المسلمين صورتها الحقيقية الحية
فإن وفقنـي ال إلى شيء في هذه المحاولة المتواضعة فإني شاكر لنعمه .وما توفيقي
محمد قطب
مفهوم ل إله إل ال
ومن يتدبر القرآن يلحظ ول شك الهمية العظمى التي يوليها كتاب ال لقضيـة
التوحيـد ..قضية ل إله إل ال ،بحيث تشغل الحيز الكبر من القرآن كله ،وإن كان
وقد يتبادر إلى الذهان لول وهلة -كما أشرت في كتاب " دراسات قرآنية " -أن هذا
الهتمام البالغ بقضية ل إله إل ال في كتاب ال كان سببه أن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة
كانوا قوما مشركين ،فكان من المناسب أن يركّز الحديث لهم في قضية التوحيد لتصحيح
ولكن استمرار الحديث عن هذه القضية في السور المدنية ،بعد استقرار العقيدة ،وقيام
المجتمع السلمي والدولة السلمية ،والتزام ذلك المجتمع بتكاليف السلم ومقتضياته ،
وعلى رأسها الجهاد في سبيل ال ..كل ذلك له دللته الواضحة على الهمية الذاتيه لهذه
القضية ،حتى بالنسبة للمؤمنين الذين تخاطبهم اليات المدنية مبدوءة بقوله تعالى " :يَا َأ ّيهَا
اّلذِينَ آ َمنُوا " ..وأن قضية التوحيد -قضية ل إله إل ال -ليست حديثا يذكر لفترة من
الوقت ثم ينتقل منه إلى غيره ،إنما هي حديث يذكر ثم ينتقل معه إلى غيره ..حديث ل
وربما كانت هذه الية في سورة النساء حاسمة الدللة فيما ذهبنا إليه :
ب اّلذِي َنزّلَ عَلَى َرسُوِلهِ وَا ْل ِكتَابِ اّلذِي
ن آ َمنُوا آ ِمنُوا بِاللّهِ َو َرسُولِهِ وَا ْل ِكتَا ِ
( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ
. ()1
َبعِيـدا )
فالذين ُيدْعَون إلى اليمان هم المؤمنون بالفعل " :يا أيها الذين آمنوا " ! والذين ُيدْعَوْن
إلى اليمان به هو الذي آمنوا به بالفعل ! فهم يدعون إلى اليمان بال ورسوله والكتاب الذي
نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ،وال يقول عنهم في آخر سورة البقرة ( :آمَنَ
ن رُسُلِ ِه ! ) ..
حدٍ مِ ْ
َأ َ
فقضية ل إله إل ال إذن قضية دائمة في حياة البشرية ..ل يدعى إليها الكفار وحدهم
لكي يؤمنوا ،ول المشركون وحدهم ليصححوا اعتقادهم ،ولكن يدعى إليها المؤمنون بها
كذلك ويذكّرون بها ،لكي تظل حية في قلوبهم ،راسخة في ضمائرهم ،عاملة في واقع
حياتهم ،ل يفترون عنها ،ول يغفلون عن مقتضياتها " :يا أيها الذين آمنوا ،آمنوا " ..
وليس السبب في اهتمام القرآن بها أنه كتاب دين ! إنما السبب في ذلك أنه الكتاب الذي
فحياة النسان ل تستقيم حتى يعلم " الحق " الذي خلقت به السماوات والرض ،وحتى
تتوافق حياته مع ذلك الحق ،فل تنحرف عنه ،ول تشذ عن مقتضياته .
والحق أنـه ل إله إل ال ..هو الخالق وحده ،وهو الرازق وحده ،وهو المسيطر
وحده ،وهو المدبـر وحده ،وهو القيوم وحده ..ول أحد غيره يخلق أو يرزق أو يدبر
ومقتضى ذلك كله أن ُي ْع َبدَ وحده ،ل يشرك به غيره ،ول توجه العبادة لحد سواه ..
المتفضل أل توجه العبادة إلى غيره ممن لم يخلق ولم يرزق ولم ينعم ولم يتفضل ..
فال الخالق الرازق المنعم المتفضل حقيق بأن تفرد له العبودية لنه هو المتفرد
باللوهية والربوبية .ولكنه -سبحانه وتعالى -غني عن العباد وعبادتهم ،ل يؤثر في ملكه
يقول ال في الحديث القدسي " :يا عبادي ،لو أن مؤمنكم وكافركم ،برّكم وفاجركم
كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ،ولو أن مؤمنكم وكافركم ،بركم
. ()1
وفاجركم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا "
ويقول تعالى في محكم التنزيل على لسان موسى -عليه السلم : -
. ()2
حمِيدٌ )
ن اللّ َه َل َغ ِنيّ َ
جمِيعا َفإِ ّ
ض َ
ن فِي ا ْلَأرْ ِ
ن َتكْ ُفرُوا َأ ْن ُتمْ َومَ ْ
ل مُوسَى إِ ْ
( َوقَا َ
سمَاءِ
ن ال ّ
غ ْيرُ اللّهِ َي ْرزُ ُق ُكمْ مِ َ
س ا ْذكُرُوا ِن ْعمَتَ اللّهِ عََل ْي ُكمْ هَلْ ِمنْ خَاِلقٍ َ
( يَا َأ ّيهَا النّا ُ
()3
ن)
وَا ْلَأرْضِ ل إِلَ َه إِلّا ُهوَ َفَأنّى تُ ْؤ َفكُو َ
لشيء ما ،واعيا بذلك أم على غير وعي منه ( . )1وهو -في أي لحظة من حياته -بين
أمرين اثنين ل ثالث لهما :إما أن يكون عابدا ل وحده بل شريك ،وإما أن يكون عابدا لشيء
آخر غير ال ،معه أو من دونه ،كلهما سواء ! مما يسميه ال -سبحانه وتعالى " -عبادة
ع ُبدُونِي َهذَا
ع ُدوّ ُمبِينٌ وََأنِ ا ْ
ن ِإنّ ُه َل ُكمْ َ
ش ْيطَا َ
ع َهدْ إَِل ْي ُكمْ يَا َبنِي آ َدمَ َأنْ ل َت ْعبُدُوا ال ّ
( أََلمْ َأ ْ
كما أن في تركيب النسان -في فطرته التي فطره ال عليها -حبا عميقا للشهوات ،
. ()3
حيَا ِة ال ّد ْنيَا ) ..
حرْثِ ذَِلكَ َمتَاعُ ا ْل َ
ل ا ْل ُمسَ ّومَةِ وَا ْلَأ ْنعَامِ وَا ْل َ
خيْ ِ
وَا ْل َ
المداخل التي يستدرج الشيطان منها النسان النسان ليبعده عن عبادة ال ،بعدا مؤقتا كما يقع
في المعصية " :ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ،ول يسرق السارق حين يسرق وهو
مؤمن )5( " ..أو بعدا كامل ينقطع فيه ما بينه وبين ال ،في شرك أو كفر وجحود :
ن خَلْ ِف ِهمْ
ستَقِيمَ ُثمّ لَآ ِت َي ّن ُهمْ مِنْ َب ْينِ َأ ْيدِي ِهمْ َومِ ْ
صرَاطَكَ ا ْل ُم ْ
غ َو ْي َتنِي َلَأ ْق ُعدَنّ َل ُهمْ ِ
( قَالَ َف ِبمَا أَ ْ
حتى الذين يقولون إنهم " ملحدون " ل يؤمنون بشيء ول يعبدون شيئا هم عابدون لهوائهم وشهواتهم ()
1
كما يقول سبحانه وتعالى " :أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ؟ " [ سورة الجاثية . ] 23 :
سورة يس [ . ] 61 - 60 ()
2
سورة آل عمران [ . ] 14 ()
3
هي من " الدوافع " التي يعلم ال أنها لزمة للنسان ليقوم بدور الخلفة في الرض ولكن في الحدود التي ()
4
أباحها ال ،وهي في الوقت ذاته نقطة البتلء في حياة النسان .انظر الفصل القادم " مفهوم العبادة " .
أخرجه الشيخان . ()
5
. ()1
جدُ َأ ْك َثرَ ُهمْ شَا ِكرِينَ )
شمَائِلِ ِهمْ وَل َت ِ
ن َ
ن َأ ْيمَا ِن ِهمْ وَعَ ْ
َوعَ ْ
. ()2
صرَاطٍ ُمسْتَقِيمٍ )
ن َي ْمشِي سَ ِويّا عَلَى ِ
جهِ ِه أَ ْهدَى َأمّ ْ
( َأ َفمَنْ َي ْمشِي ُم ِكبّا عَلَى َو ْ
ومن فضل ال وكرمه أنه حين يؤدي العباد حق ال عليهم ،من إفراده باللوهية
والربوبية ،وتوجيه العبادة خالصة إليه ،يكونون في أحسن تقويم كما خلقهم ال .وتكون
حياتهم في الدنيا خير حياة وأنظف حياة وأجمل حياة ،ويكون لهم في الخرة ما وعدهم ال
من الجزاء ،بينما يتمتعون في الدنيا -إذا كفروا -متاع الحيوان ،ويكون لهم في الخرة ما
. ()4
ن َكمَا َت ْأكُلُ ا ْلَأ ْنعَامُ وَالنّارُ َمثْوىً َل ُهمْ )
ن كَ َفرُوا َي َت َم ّتعُونَ َو َي ْأكُلُو َ
( َاّلذِي َ
يحتاج إليها وهو كافر أو مشرك ليصحح أصل اعتقاده ،ويحتاج إليها وهو مؤمن ليتنبه
ويحذر ،ويضيّق في نفسه مداخل الشيطان ،لكي ل يفتنه عن العبادة الحقة الواجبة ل .
وفي جميـع الحـوال تؤدي ل إله إل ال مهمـة معينـة في حياة النسان ،ول
تكون " كلمة " تطلق في الهواء بغير مقتضى لها ول أثر في واقع الحياة .
فلننظر الن المهمة التي أدتها ل إله إل ال في حياة الجيـل الول -رضوان ال
عليهم -ولننظر قبل ذلك لماذا رفضها العرب المشركون وصارعوا الدعوة إليها ذلك الصراع
إن ل إله إل ال هي دعوة الرسل جميعا -صلوات ال وسلمه عليهم -من لدن آدم
ونوح إلى محمد -صلى ال عليه وسلم -وموقف الجاهلية تجاهها موقف واحد لم يتغير
فما الذي فيها يدعو الجاهلية إلى اتخاذ هذا الموقف الموحد خلل التاريخ ،وخاصة من
ك ا ّت َبعَكَ إِلّا
ن قَ ْومِ ِه مَا َنرَاكَ إِلّا َبشَرا ِمثَْلنَا َومَا َنرَا َ
ل ا ْلمََلأُ اّلذِينَ كَ َفرُوا مِ ْ
ب يَ ْومٍ أَلِيمٍ فَقَا َ
عذَا َ
َ
ن َلكَ
ن قَوِْلكَ َومَا َنحْ ُ
حنُ ِبتَا ِركِي آِل َه ِتنَا عَ ْ
ج ْئتَنَا ِب َب ّينَةٍ َومَا َن ْ
مُ ْف َترُونَ ) ( ..قَالُوا يَا هُودُ مَا ِ
. ()2
ِبمُ ْؤ ِمنِينَ )
ح َقدْ ُكنْتَ
ب ُمجِيبٌ قَالُوا يَا صَالِ ُ
س َتغْ ِفرُو ُه ُثمّ تُوبُوا إَِل ْيهِ ِإنّ َربّي قَرِي ٌ
س َت ْع َم َركُمْ فِيهَا فَا ْ
ا ْلَأرْضِ وَا ْ
شعَيْبُ
ب يَ ْومٍ ُمحِيطٍ ) ( ..قَالُوا يَا ُ
عذَا َ
خ ْيرٍ وَِإنّي َأخَافُ عََل ْي ُكمْ َ
ا ْل ِم ْكيَالَ وَا ْلمِيزَانَ ِإنّي َأرَا ُكمْ ِب َ
ك َلَأنْتَ ا ْلحَلِيمُ
ل فِي َأ ْموَاِلنَا مَا َنشَاءُ ِإ ّن َ
ن نَ ْفعَ َ
ن َنتْ ُركَ مَا َي ْع ُبدُ آبَا ُؤنَا أَ ْو أَ ْ
ك أَ ْ
َأصَلتُـكَ َت ْأ ُمرُ َ
ولم تكن الجاهلية العربية بدعا من الجاهليات تجاه ذات الدعوة التي أرسل بها كل
رسول من قبل .فلماذا وقفت الجاهلية العربية هذا الموقف العنيد ،وأبت ذلك الباء ،كما
أمن أجل الكلمـة ؟ أم من أجل مدلولها ومقتضاها ؟ وماذا كان مدلولها في حسهم
بالضبط ؟ وما الفارق -حسب مدلول الكلمة -بين صورة حياتهم التي كانوا عليها وبين
أما الكلمة في ذاتها -بغير مقتضى ول مدلول -فل يتصور من قريش خاصة أن تقف
من أجلها موقف العناد الشديد كله الذي وقفته ،وتخوض من أجلها ذلك الصراع كله الذي
خاضته ،حتى يفلت المر من أيديها ،ويقتل من صناديدها من يقتل ..كما ل يتصور من
بقية العرب كذلك أن يخوضوا صراعا هائل من أجل كلمة ،لو كانت تلك الكلمة ل تغير من
فأما قريش ،فإن القبيلة التي كان يولد فيها شاعر كانت تتيه فخرا على بقية القبائل ،
فكيف بالتي يخرج منها نبي ؟ ! وقد كان لقريش خاصة زعامة " دينية " تعطيها في الوقت
ذاته مركزا سياسيا واقتصاديا متميزا ،ومولد نبي فيها يزيد الزعامة الدينية بروزا ،ومن ثم
فلماذا رفضت قريش أن تنطق الكلمة ..لو أنها مجرد كلمة تقال ؟ !
قلها يا عم ! كلمة أشفع لك بها عند ال ! فهل كان يتصور من أبي طالب أن يرفض الكلمة لو
أنها مجرد الكلمة ،أي لو لم يكن لها مقتضى ،ول يترتب على قولها تغيير ؟ أم إنه رفضها
من أجل ما يترتب على التلفظ بها من تغيير كامل في منهج الحياة كله ،وفي كل جزئية من
جزئياته ؟
لقد كان البون شاسعا جدا بين صورة حياتهم التي كانوا عليها والصورة التي يدعون
إليها ،وكانت معارضتهم لهذه الدعوة متعددة الصور متعددة السباب :
وكانوا يرفضون أن يتركوا ما عليه آباؤهم ويتبعوا ما أنزل ال ،وأن يكون حللهم
وذلك فضل عن المور " الخلقية " الخرى كالخمر والميسر والزنا والقتل والسلب
والنهب ووأد البنات وأكل مال اليتيم والظلم المتفشي بينهم والبغي بغير الحق ..
باختصار ..كانوا يرفضون أن يتلقوا " الدين " من عند ال ،بمعناه الواسع الشامل ،
الذي يشمل العتقاد والشعائر والتحليل والتحريم ،والخلقيات والتصورات ،كما يرفضون
وكانت أهم القضايا التي ركز عليها القرآن قضيتان رئيسيتان ،تجمعان في طياتهما
جميع القضايا :قضية توجيه العبادة ل الواحد ،وقضية اتباع ما أنزل ال في التحليل
والتحريم :
( وَِإذَا قِيلَ َل ُهمُ اتّ ِبعُوا مَا أَنْ َز َل الّلهُ قَالُوا َبلْ نَتّبِ ُع مَا َوجَدْنَا عَلَ ْيهِ آبَاءَنَا َأوَلَ ْو كَانَ
()2
سعِيرِ )
ب ال ّ
عذَا ِ
ن َيدْعُو ُهمْ إِلَى َ
شيْطَا ُ
ال ّ
ويلخص القرآن موقف الشرك في هاتين القضيتين تلخيصا دقيقا في سورة النعام
ح ّر ْمنَا
ن وَل آبَا ُؤنَا وَل َ
شيْءٍ َنحْ ُ
ع َبدْنَا ِمنْ دُو ِنهِ ِمنْ َ
ش َركُوا َلوْ شَا َء اللّ ُه مَا َ
ل اّلذِينَ َأ ْ
( َوقَا َ
. ()4
ن شَيْ ٍء َكذَِلكَ َفعَلَ اّلذِينَ ِمنْ َقبِْلهِ ْم فَهَلْ عَلَى ال ّرسُلِ إِلّا ا ْلبَلغُ ا ْل ُمبِينُ )
ن دُونِ ِه مِ ْ
مِ ْ
فالشرك يتمثل -في صورته العتقادية -في العتقاد بوجود آلهة أخرى غير ال ،
وفي صورته العملية في التوجه بالعبادة لغير ال ،والتحريم والتحليل من دون ال .
العربية وحدها ،إنما هو أمر عام في كل الجاهليات التي كانت من قبل .وآيتا سورة النعام
كما أن قصص النبياء تشير كلها إلى هذه الحقيقة التاريخية .ففي كل جاهلية أرسل
إليها رسول نجد " المل " يسارعون إلى التصدي للرسول وتكذيبه ومحاول،ة تخذيله عن
دعوته ،ونجد " الجماهير " المستضعفة تتبع سادتها -إل القليل منهم -وتصد عن السبيل .
وقد ترفض الجماهير أن تترك مألوف عبادتها من اللهة المتعددة ،لن الجماهير -في
جاهليتها -تكون أكثر التصاقا بعالم الحس .وهذه اللهة المحسوسة القريبة تلبي انحرافاتها
الجاهلية ،وتجعلها تحس كلما رأتها أو لمستها أو قدمت لها القرابين أو شعائر التعبد ،أنها
وأما المل -وهم أكثر تنورا وأكثر استعلء عن الجماهير -فإن الذي يحركهم لمحاربة
الرسول المبعوث إليهم ليس قضية اللهة المزعومة بقدر ما هو قضية " السلطة " !
إن ولءهم لهذه اللهة صوري أكثـر مما هو حقيقي ! وإن دفاعهم عنها -مهما بدا
حارا -ل ينبعث من العتقاد بألوهيتها بقدر ما ينبعث من كونها هي الداة التي يستعبدون
باسمها الجماهير ،ويعطون أنفسهم سلطانا مقدسا مستمدا من قداستها في نفوس الجماهير !
أما القضية الحقيقية بالنسبة إليهم فهي قضية الحاكمية :من يحكم هذه الجماهير ؟ هم ؟
هذه هي القضية الحقيقية التي تستفز المل في كل جاهلية ليحاربوا دعوة ل إله إل ال .
إن السلطة التي في أيديهم ،سلطة التشريع التي يحكمون بها الجماهير -ويستذلونهم
بها -ليست سلطتهم أصل ،إنما هي حق الخالق الرازق المنعم المتفضل ،الذي خلق ،ثم
رزق وأنعم وتفضل ،فكان من حقه وحده أن يحل ويحرم ،وأن يبيح ويمنع ،وليس لحد
غيره أن يشرع -أي يحل ويحرم -إل أن يكون خالقا مثل ال ،رازقا مثل ال ،منعما
. ()2
ن ل َيخُْلقُ َأفَل َت َذ ّكرُون )
( َأ َفمَنْ َيخُْلقُ َكمَ ْ
ن ) (. )3
سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ ل إِلَ َه إِلّا ُهوَ َفَأنّى تُ ْؤ َفكُو َ
غ ْيرُ اللّ ِه َيرْ ُز ُقكُ ْم مِنَ ال ّ
ن خَالِقٍ َ
ل مِ ْ
( هَ ْ
ولكن " المل " يتجاهلون هذه الحقيقة ،ويتجاهلون أسسها " العتقادية " ومقتضياتها
العملية ،حين يستبدون بالسلطة -سواء حكموا بالدكتاتورية الصريحة أم من وراء ستار كما
هو الحال في " الديمقراطية " ( ، )4وسواء استجابوا لشهوات الجماهير وأهوائهم أم اكتفوا
بشهواتهم هم وأهوائهم ( - )5ويظلون يؤصلون سلطانهم " بأنظمة " للحكم و " دساتير " عرفية
أو مكتوبة تجعل لهم الحق في التحليل والتحريم ،والباحة والمنع ..
حتى إذا جاء رسول من عند ال يقول " :ل إله إل ال " " اعبدوا ال ما لكم من إله
إن المل قد يختصمون فيما بينهم أيهم الذي يتولى " السلطة " ويستعبد الجماهير .وقد
يختصمون فيما بينهم وبين الجماهير -كما حدث في الديمقراطية -أي قدر من السلطة
الذي يقول " :ل إله إل ال " " اعبدوا ال ما لكم من إله غيره " فإن جوهر القضية يتغير ..
وتصبح القضية هي نزع السلطة أصل من أيدي المل ،بل من أيدي البشر جميعا ،وردها
ومن أجل ذلك يفزع " المل " من دعوة ل إله إل ال أضعاف أضعاف ما يفزعون من
منازعيهم على السلطان الرضي ،ويجندون طاقتهم كلها لمحاربة الدعوة ،ويستخدمون
الجماهير ذاتها من بين الدوات التي يستخدمونها لهذه الحرب ،بتزييف الحقائق لها تارة ،
وتارة بالرهاب !
ظ ِهرَ فِي
ن ُي َبدّلَ دِي َنكُمْ َأوْ َأنْ ُي ْ
ل مُوسَى وَ ْل َي ْدعُ َربّ ُه ِإنّي َأخَافُ أَ ْ
ن ذَرُونِي َأقْتُ ْ
عوْ ُ
ل فِرْ َ
( َوقَا َ
. ()1
ا ْلَأرْضِ الْ َفسَادَ )
ن َب ْعدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى ِفرْعَ ْونَ َومََلأِ ِه بِآيا ِتنَا فَاسْ َت ْك َبرُوا َوكَانُوا قَوْما
( ُثمّ َب َع ْثنَا مِ ْ
حقّ َلمّا
ن لِ ْل َ
ل مُوسَى َأتَقُولُو َ
ن قَا َ
حرٌ ُمبِي ٌ
سْن َهذَا َل ِ
ع ْن ِدنَا قَالُوا إِ ّ
ق مِنْ ِ
ن فَلَمّا جَاءَ ُه ُم ا ْلحَ ّ
ُمجْ ِرمِي َ
ن ) (. )2
حنُ َل ُكمَا ِبمُ ْؤ ِمنِي َ
ض َومَا َن ْ
ا ْلكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْ ِ
وفي مكة كانت القضية هي ذات القضية ..وكانت قريش هي " المل " الذي يتصدى
للدعوة بالصد والحرب .ولم تكن في حقيقتها حربا بين قريش ومحمد -صلى ال عليه
وسلم : -
وفي ذروة المعمعة أرسلت قريش رسولها إلى رسول ال -صلى ال عليه وسلم -
يعرض عليه الملك والمال ومتاع الرض كله على أن يتخلى عن تلك الدعوة ! فلم تكن
العداوة بينهم وبين شخص الرسول -صلى ال عليه وسلم -إنما نجمت العداوة من تمسكه
بهذه الدعوة وعدم تخليه عنها ،وهم ل يطيقونها ول يصبرون عليها ! ثم كان ل بد أن تتحول
في النهاية إلى معركة بينهم وبين ممثل الدعوة -عليه الصلة والسلم .. -
ثم شاء ال أن يؤمن من آمن بل إله إل ال ،فكان منهم ذلك الجيل الفريد في التاريخ ..
هل كانت مجرد تصديق بأن ال واحد -سبحانه وتعالى -وأنه ل إله غيره في هذا
أم كانت في نفوسهم وفي واقع حياتهم شيئا أضخم من ذلك بكثير ،وأعمق من ذلك
يتجمع رغم وجود كل عوامل التجمع ،من وحدة الرض ،ووحدة البيئة ،ووحدة اللغة ،
لم تكن الصنام وحدها هي الرباب المعبودة في الجزيرة العربية كما تلح بعض كتب
التاريخ التي تحصر قضية ل إله إل ال في إزالة ذلك اللون الحسّي الغليظ من الشرك ،ول
كان الفساد مقصورا على تلك المفاسد الخلقية من الخمر والميسر والزنا ووأد البنات وغارات
السلب والنهب والمظالم الجتماعية كما تلح كتب أخرى من كتب التاريخ !
لقد كانت ل إله إل ال تستخلص النفوس من الشرك كافة ،ولم يكن الشرك لونا واحدا
وإنما ألوانا متعددة تندرج في النهاية تحت هاتين القضيتين الرئيسيتين :تعدد اللهة واتباع
. ()1
ج ْدنَا عََليْ ِه آبَا َءنَا )
ل َن ّتبِعُ مَا َو َ
( وَِإذَا قِيلَ َل ُهمُ ا ّت ِبعُوا مَا َأ ْنزَلَ اللّ ُه قَالُوا بَ ْ
. ()2
ا ْلكَا ِفرِينَ )
ح ُكمُونَ
ش َركَا ِئهِمْ سَا َء مَا َي ْ
ن لِلّ ِه َفهُوَ َيصِلُ إِلَى ُ
ش َركَا ِئ ِهمْ فَل َيصِلُ إِلَى اللّهِ َومَا كَا َ
َفمَا كَانَ ِل ُ
ش َركَاؤُ ُهمْ ِل ُي ْردُو ُهمْ وَِليَ ْل ِبسُوا عََل ْي ِهمْ دِي َنهُمْ وََلوْ شَاءَ
ن َقتْلَ أَوْلدِ ِهمْ ُ
ش ِركِي َ
ن ِل َكثِيرٍ ِمنَ ا ْل ُم ْ
َو َكذَِلكَ َزيّ َ
ع ِم ِهمْ
ن َنشَاءُ ِبزَ ْ
ط َع ُمهَا إِلّا مَ ْ
جرٌ ل َي ْ
حْحرْثٌ ِ
اللّ ُه مَا َفعَلُو ُه َفذَرْ ُهمْ َومَا يَ ْف َترُونَ َوقَالُوا َهذِ ِه َأ ْنعَامٌ َو َ
. ()3
ن)
ح ّرمُوا مَا رَ َز َقهُ ُم اللّ ُه افْ ِترَاءً عَلَى اللّهِ َقدْ ضَلّوا َومَا كَانُوا ُم ْه َتدِي َ
َو َ
ومن كل هذه اللوان من الشرك -إلى جانب عبادة الصنام -وعلى درجة واحدة من
الهميـة ،كان القرآن يدعو -بل إله إل ال -لتخليص النفوس والقلوب ،والمشاعر
والسلوك .وكان جهاد الرسول -صلى ال عليه وسلم -في مكة موجها إليها جميعا بأمر ال
ولئن كانت قضية البعث والحساب قد شغلت حيزا كبيرا من خطاب القرآن للمشركين
كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بحرمة الشهر الحرم الربعة التي حرمها ال ،ولكنهم كانوا إذا ()
1
اقتضتهم أهواؤهم يحلون ما شاءوا من هذه الشهر ،ويحرمون بدل منها ما شاءوا بحيث يظل مجموع
الشهر الحرم أربعة في العام ! وإلى هذا تشير الية الكريمة .
)(2سورة التوبة [ . ] 37
سورة النعام [ . ] 140 - 136 ()
3
في مكة ،فإن ال يعلم -سبحانه -ما لليمان باليوم الخر من أثر في اقتلع الشرك بجميع
أنواعه وجميع آثاره من القلوب ،ذلك أنهم إن لم يؤمنوا اليمان القاطع أنهم سيبعثون بعد
الموت ،ويحاسبون على شركهم ،فلن َيدَعُوا ذلك الشرك ولن يقلعوا عنه ،سواء كان شرك
وحين خلصت نفوس المؤمنين بل إله إل ال من تلك اللوان من الشرك ،فقد حدث في
لقد كان -كما ذكرنا في غير هذا الكتاب -كأنه إعادة ترتيب ذرات نفوسهم على
وضع جديد ،كما يعاد ترتيب الذرات في قطعة الحديد فتتحول إلى طاقة مغنطيسية كهربائية .
كان الهتداء إلى " الحق " هائل الثر في كل جوانب حياتهم ..
لقد زالت لتوها كل الرباب الزائفة التي كانت تحتل قلوبهم وأرواحهم وواقع سلوكهم ،
ولم يعد يشغل تلك القلوب والرواح إل عبادة واحدة ،ل الواحد ل شريك له ..
وسقط مع تلك الرباب الزائفة كل ما كان متعلقا بها من أعراف ،وكل ما كان حولها
لم تعد القبيلة ،ول عرف الباء والجداد ( ، )1ول العادات ول التقاليد الموروثة تزن في
حسهم جناح بعوضة أو تضغط على حسهم لتشكل سلوكهم أو مشاعرهم ..ولم تعد روابط الدم
،ول روابط " المصالح " هي التي تجمّع بينهم أو تفرّقهم ..
كانت قبـل إيمانهم بل إله إل ال ،ولم تعد " القيم " هي التي تقررها الدنيا منقطعة عن
الخرة !
لقد صارت " ل إله إل ال " هي مفتاح التجمع والفتراق ..هي الرباط الذي يربط
القلوب التي آمنت بها ،ويفصل بينها وبين غيرها من القلوب .وصار التجمّع الجديد ،الذي
أخذ في نفوسهم مكان التجمعات القديمة كلها ،منبثقا كله من ل إله إل ال ،دائرا حول ل إله
ثم كان الرسول -صلى ال عليه وسلم -الذي هداهم لل إله إل ال ،والذي تمثلت فيه
رسالة ال إليهم -يلتقي بهم في دار الرقم ليقوم بأعظم عمل قام به إنسان فرد في تاريخ
البشرية كله ،وهو تربية ذلك الجيل الفريد على مقتضيات ل إله إل ال ،وأخلقيات ل إله إل
ال ..
ومن خلل هذه التربية الفذة على مقتضيات ل إله إل ال ،وأخلقيات ل إله إل ال ،
على يد رسول ال -صلى ال عليه وسلم -خرجت خير أمة في التاريخ ..
يتوهم كثير من الناس أن ل إله إل ال كانت مطلوبة بكل مقتضياتها ،ومؤثرة في ذلك
الجيل الفريد بكل آثارها لنهم كانوا -قبل ذلك -مشركين ! ! وأنهم لو كانوا في غير هذا
وتلك هي الجناية الكبرى التي جناها الفكر الرجائي على المة السلمية ،والتي ظلت
-مع عوامل أخرى -تفرغ ل إله إل ال من محتواها الحقيقي تدريجيا حتى أحالتها في
إن حديث ل إله إل ال -كما أسلفنا -لم ينقطع في المدينة ،لنه ليس حديثا يذكر في
مبدإ الطريق ثم ينتقل منه إلى موضوع آخر ،إنما يذكر في مبدإ الطريق ثم ينتقل معه إلى كل
إن سورة البقرة التي تناولت موضوعات متعددة بدأ بها تنظيم حياة المؤمنين في
المجتمع الجديد بعد قيام الدولة ،تبدأ بوصف المؤمنين الذين صح اعتقادهم ورسخ على
. ()1
ن)
عَلَى هُدىً ِمنْ َر ّب ِهمْ وَأُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلمُفِْلحُو َ
فماذا يقال لهؤلء " المؤمنين " " المتقين " " المفلحين " الذين لم يستوفوا فقط شرط
التصديق والقرار ،بل أضافوا إلى ذلك إقامة الصلة ،وإيتاء الزكاة ،وهما العبادتان اللتان
هل يقال لهم :يكفيكم ! أحرزتم المطلوب كله وضمنتم الجنة ..أم يقال لهم :إن ال
فرض عليكم ،وفرض عليكم وفرض عليكم ..على سبيل الوجوب ل على سبيل التخيير ؟
ويقال لهم ،لكي يعلموا يقينا أن حقيقة اليمان ل تتحقق بالتصديق والقرار وحده ،
وسورة آل عمران ،المشغولة كلها بقضية ل إله إل ال ( ، )2والتي تبدأ بهذه اليات
. ()3
ن َقبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وََأ ْنزَلَ الْ ُف ْرقَانَ ) ..
التّ ْورَاةَ وَا ْلِأ ْنجِيلَ مِ ْ
هذه السورة تقرر أصول العقيدة واضحة حاسمة وتقرر إلى جانبها مقتضياتها ،وتبرز
من بين هذه المقتضيات قضية القتال لقرار هذا الحق في واقع الرض ،ويرد فيها بالذات
ن مِنْ
خزَ ْيتَهُ َومَا لِلظّالِمِي َ
ن ُت ْدخِلِ النّارَ فَ َقدْ َأ ْ
عذَابَ النّارِ َر ّبنَا ِإ ّنكَ مَ ْ
س ْبحَا َنكَ فَ ِقنَا َ
َهذَا بَاطِلً ُ
ن آ ِمنُوا ِبرَ ّب ُكمْ فَآمَنّا َر ّبنَا فَاغْ ِفرْ َلنَا ُذنُو َبنَا َوكَ ّفرْ
ن أَ ْ
س ِمعْنَا ُمنَادِيا ُينَادِي لِ ْلإِيمَا ِ
َأ ْنصَارٍ َر ّبنَا ِإ ّننَا َ
ع ْد َتنَا عَلَى ُرسُِلكَ وَل ُتخْ ِزنَا َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة ِإ ّنكَ ل
س ّيئَا ِتنَا َوتَ َو ّفنَا مَ َع ا ْلَأبْرَارِ َر ّبنَا وَآ ِتنَا مَا َو َ
عنّا َ
َ
ض ُكمْ مِنْ
ن َذكَرٍ َأ ْو ُأ ْنثَى َب ْع ُ
عمَلَ عَامِلٍ ِم ْن ُكمْ مِ ْ
ستَجَابَ َل ُه ْم رَ ّب ُهمْ َأنّي ل ُأضِيعُ َ
ف ا ْلمِيعَادَ فَا ْ
ُتخْلِ ُ
ع ْن ُهمْ
سبِيلِي َوقَاتَلُوا َو ُقتِلُوا َلُأكَ ّفرَنّ َ
خ ِرجُوا ِمنْ ِديَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي َ
جرُوا وَُأ ْ
َبعْضٍ فَاّلذِينَ هَا َ
حسْنُ
ع ْندَ ُه ُ
ع ْندِ اللّهِ وَاللّهُ ِ
حتِهَا ا ْلَأ ْنهَارُ ثَوَابا ِمنْ ِ
ن َت ْ
جرِي مِ ْ
جنّاتٍ َت ْ
س ّيئَاتـهِمْ وََلُأ ْدخَِلنّـ ُهمْ َ
َ
فهؤلء المؤمنون الصادقون الذين يذكرون ال قياما وقعودا وعلى جنوبهم -والذكر من
عمل الجوارح إلى جانب عمل القلب -ويتفكرون في خلق السموات والرض ،فيهتدون إلى
أنها لم تخلق باطل ،إنما خلقت بالحق ،والحق يقتضي أن يحاسب الناس على أعمالهم التي
قاموا بها في الحياة الدنيا ،فل بد من بعث وحساب وجزاء ،فيدعون ال أن يقيهم النار
ويدخلهم الجنة ،ويتقدمون بمؤهلت الطلب :أنهم بمجرد سماعهم للمنادي الذي ينادي لليمان
خبَرُون
-عليه الصلة والسلم -قد آمنوا ..هؤلء المؤمنون الذين هذه حالهم وهذه صفاتهم ُي ْ
أن ال استجاب لهم ..فلي شيء استجاب سبحانه ؟ أللتصديق والقرار ؟ أللتفكر والتدبر ؟
أللذكر الدائم الذي ل ينقطع ؟ أللضراعة الحارة للوقاية من النار ودخول الجنة ؟ أم لشيء بعد
"فاستجاب لهم ربهم أني ل أضيع عمل عامل منكم " ...
والتوجيه التربوي واضح ..فالمطلوب ،والذي يستجيب له ال -جل وعل -هو أن
يتحول التفكر والتدبر والتذكر إلى عمل .ولما كانت السورة مشغولة بقضية الجهاد لقرار
الحق في واقع الرض ،أبرزت الية أنواعا من العمل تناسب السياق ،فذكرت الذين هاجروا
في سبيل ال ،والذين أخرجوا من ديارهم في سبيل ال ،والذين أوذوا في سبيل ال ،والذين
قتلوا في سبيل ال ،ل لنها العمال الوحيدة المطلوبـة ،ولكن لنهـا هي المناسبة في
وسورة النساء ،التي وردت فيها الية التي تخاطب " الذين آمنوا " فتطلب منهم أن
يؤمنوا ،بل تطلب منهم أن يؤمنوا بذات الشياء التي هم مؤمنون بها بالفعل -كما أشرنا من
قبل -ل تقول للذين آمنوا إنكم إذا آمنتم هذا اليمان المطلوب ،بل رسختموه وحافظتم عليه
يكـون سلوككم الواقعي وتصرفاتكم العملية كما تملي عليكم أهواؤكم ،أو كما تقرر لكم
عذَابٌ
حدُودَ ُه ُي ْدخِلْهُ نَارا خَالِدا فِيهَا وََلهُ َ
ن َيعْصِ اللّهَ َو َرسُولَهُ َو َي َت َعدّ ُ
فِيهَا َوذَِلكَ الْ َف ْوزُ ا ْل َعظِيمُ َومَ ْ
. ()2
ُمهِينٌ )
ويوجههم توجيهات معينة يقيمون عليها علقاتهم السرية ،وعلقاتهم الجتماعية ،
. ()3
خرِ ) ..
شَيْءٍ فَرُدّو ُه إِلَى الّل ِه وَال ّرسُولِ إِنْ كُنْ ُتمْ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَا ْليَ ْومِ الْآ ِ
فيربط رد المور إلى ال والرسول ،وإجراء الحياة كلها بحسب ما يقضي به ال
ورسوله -صلى ال عليه وسلم -باليمان بال واليوم الخر ويجعله شرطه " :إن كنتم
ثم يخبرهم أنه لم يرسل رسله لمجرد التبليغ والعلم ،حتى يقول من يقول :لقد بلغني
. ()4
ل إِلّا ِل ُيطَاعَ ِبِإذْنِ اللّهِ ) ..
( َومَا َأ ْرسَلْنَا ِمنْ َرسُو ٍ
ثم يعلمهم -بعد بيان أحكامه وأوامره ونواهيه وتوجيهاته التي فرضها على " الذين
محسوس :
ن دُونِ اللّهِ
جدْ َلهُ مِ ْ
جزَ ِبهِ وَل َي ِ
س بِ َأمَانِ ّي ُكمْ وَل َأمَانِيّ أَ ْهلِ ا ْل ِكتَابِ َمنْ َي ْعمَلْ سُوءا ُي ْ
( لَيْ َ
جنّةَ
ن َذكَرٍ َأ ْو ُأ ْنثَى وَهُ َو مُ ْؤ ِمنٌ َفأُوَل ِئكَ َي ْدخُلُونَ ا ْل َ
وَِليّا وَل َنصِيرا َومَنْ َي ْع َملْ ِمنَ الصّاِلحَاتِ مِ ْ
. ()1
وَل ُيظْلَمُونَ نَقِيرا )
وسورة المائدة التي ورد فيها العلن باكتمال " الدين " وإتمام النعمة :
هذه السورة كلها بيان لما أحل ال وما حرم من المطاعم والمشارب والمعاملت
والحكام ،وهي كلها موجهة " للمؤمنين " من أول آية في السورة :
وهي السورة التي نصت نصا صريحا على وجوب التحاكم إلى شريعة ال دون غيرها
من الشرائع كافة ،وبينت أن الحكم نوعان اثنان ل ثالث لهما ول واسطة بينهما :إما حكم ال
. ()3
ن)
حكْما لِ َق ْومٍ يُو ِقنُو َ
ن اللّ ِه ُ
ن مِ َ
حسَ ُ
حكْ َم ا ْلجَاهِِليّةِ َي ْبغُونَ َومَنْ َأ ْ
( َأ َف ُ
وأن من لم يحكم بما أنزل ال فحكمهم عند ال أنهم الكافرون الفاسقون الظالمون :
وهكذا بقية السـور المدنية على إطلقها ..كلها خطاب للذين آمنوا ،أي أقروا
وصدقوا ،تقول لهـم :إن التصديق والقرار الذي جاءوا به من مكة مهاجرين به في سبيل
ال -والهجرة ذاتها " عمل " كلفوا به فنفذوه -أو الذي كانوا عليه في المدينة ( إن كانوا من
النصار ) يقتضيهم أن يلتزموا بما ج ّد في المدينة من الحكام والتكاليف والوامر والنواهي ،
وأن إيمانهم -الن -صار مرتبطا باللتزام بما جاء من عند ال من هذا كله ،وأن هذا
اللتزام هو المحك لصدق إيمانهم ،وإل فهو النفاق الذي ل يقبله ال ،ول يجزي به إل
ن أَنْ
عمُونَ َأ ّن ُهمْ آ َمنُوا ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْيكَ َومَا ُأ ْنزِلَ ِمنْ َقبِْلكَ ُيرِيدُو َ
( أََلمْ َترَ إِلَى اّلذِينَ َيزْ ُ
حرَجا
س ِهمْ َ
جدُوا فِي َأنْ ُف ِ
شجَ َر َب ْينَ ُهمْ ُثمّ ل َي ِ
َبعِيدا ) ( ...فَل َورَبّكَ ل ُي ْؤمِنُونَ حَتّى ُيحَ ّكمُوكَ فِيمَا َ
ن َيكُنْ َل ُهمُ
ح ُكمَ َب ْي َن ُهمْ ِإذَا َفرِيقٌ ِم ْن ُهمْ ُم ْعرِضُونَ وَإِ ْ
ن وَِإذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ َورَسُوِلهِ ِل َي ْ
بِا ْل ُم ْؤمِنِي َ
ن يَقُولُوا
ح ُكمَ َب ْي َن ُهمْ أَ ْ
ن قَوْلَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ِإذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ َورَسُوِلهِ ِل َي ْ
ن ِإ ّنمَا كَا َ
بَلْ أُوَل ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُو َ
ك ُهمُ
ن ُيطِعِ اللّهَ َو َرسُوَلهُ َو َيخْشَ اللّهَ َو َيتّ ْقهِ َفأُوَل ِئ َ
ك ُهمُ ا ْلمُفِْلحُونَ َومَ ْ
ط ْعنَا وَأُوَل ِئ َ
س ِمعْنَا وََأ َ
َ
. ()2
جدَ َل ُهمْ َنصِيرا )
ن النّارِ وََلنْ َت ِ
( ِإنّ ا ْل ُمنَافِقِينَ فِي ال ّد ْركِ ا ْلَأسْفَلِ مِ َ
فإذا كان هذا ما جاءت به السور المدنية من مقتضيات ل إله إل ال ،قفد وضح لنا أنه
حين اكتمل الدين ..يوم أنزل ال قوله تعالى " :اليوم أكملت لكم دينكم ،وأتممت عليكم
نعمتي ،ورضيت لكم السلم دينا " كانت ل إله إل ال منهج حياة كامل ،يشمل الجانب
العتقادي ،والجانب التعبدي ،والجانب السلوكي العملي .يشمل العتقاد بوحدانية ال ( أي
توحيده في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله ) وتوجيه الشعائر التعبدية له وحده بل شريك ،
وتحكيم شريعته وحدها دون غيرها من الشرائع ،والتخلق بأخلق ل إله إل ال ،إلى جانب
وإذا كانت السور المكية قد ركزت على الجانب العتقادي :اليمان بال واليوم الخر
والملئكة والكتاب والنبيين ،والقدر خيره وشره ،وعلى الجانب الخلقي كذلك ،وما كان قد
فرض في مكة من الشعائر التعبدية ،فإن السور المدنية قد ركزت تركيزا شديدا على قضية
الحاكمية ،واللتزام بتحكيم شريعة ال ،واعتبار ذلك هو المحك لصدق اليمان ،مع التوكيد
الحاكميـة ل وحـده ،وأن حـق التشـريـع مـن تحليـل وتحريـم وإباحـة ومنـع
هـو حـق خالص ل ل يشـاركـه فيـه البشـر ،وأن التشريـع بغيـر ما أنـزل ال -
معـه أو من دونه -شـرك ،وأن إطاعـة الذيـن يشرعـون بغيـر ما أنـزل ال
شـرك ..
التشريعات تتنـزل ليقيم المسلمون حياتهم عليها .بل لقد تقررت تقريرا واضحا حاسما في
مكة ،في أكثر من سورة مكية ،كأصل من أصول العتقاد بل إله إل ال ،ل بوصفها
خذ على سبيل المثال هذه الية من سورة العراف المكية :
ن َر ّبكُمْ وَل َت ّت ِبعُوا مِنْ دُونِ ِه أَوِْليَا َء قَلِيلً مَا َت َذكّرُونَ ) (. )1
( ا ّت ِبعُوا مَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْي ُكمْ مِ ْ
إنها تفيد أن الناس في حالتين اثنتين :إحداهما مأمور بها والخرى منهي عنها .الولى
فاليمان ملخص في قوله تعالى " :اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " .
والمقابل -أي اتباع غير ما أنزل ال -هو اتباع الولياء -أي الشركاء -وهو
. ()2
( أَل لَ ُه ا ْلخَ ْلقُ وَا ْلَأ ْمرُ )
فهي تقرر أمرين في وقت واحد :أن المر ل وحده .بصيغة القصر .المر على
إطلقه غير محدد بنطاق معين ول مجال معين .المر في السماوات والرض وفي حياة
البشر كذلك .فأما في السماوات والرض فمستفاد من قوله تعالى قبل هذه العبارة ( :إِنّ
ل ال ّنهَارَ
ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْشِ ُي ْغشِي الّليْ َ
ستّ ِة َأيّامٍ ُثمّ ا ْ
ض فِي ِ
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْ َ
َربّ ُكمُ اللّهُ اّلذِي خََلقَ ال ّ
قوله تعالى بعدها ( :ادْعُوا َر ّب ُكمْ َتضَرّعا َوخُ ْف َيةً إِ ّنهُ ل ُيحِبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ وَل ُت ْفسِدُوا فِي الْ َأرْضِ
حهَا ) ( )2أي ل تعتدوا بالخروج على أمر ال ،ول تفسدوا في الرض باتباع غير
َبعْدَ إِصْل ِ
أما المر الخر الذي تقرره الية فهو كون حق الحاكمية في السماوات والرض وفي
حياة البشر مستمدا من الخالقية ،أي من القدرة على الخلق .فالذي له القدرة على الخلق هو
وحده صاحب المر .وإذ كان ال وحده -سبحانه وتعالى -هو المتفرد بالخلق ،فهو وحده
كذلك صاحب المر ،في السماوات والرض وفي حياة البشر سواء .
. ()3
ح ْكمُهُ إِلَى اللّ ِه ذَِلكُ ُم اللّ ُه َربّي عََليْ ِه تَ َوكّلْتُ وَإَِليْ ِه ُأنِيبُ )
شيْءٍ َف ُ
ختَلَ ْف ُتمْ فِيهِ ِمنْ َ
( َومَا ا ْ
فهي تقرر ذات المبدأ ،وهو رد الحاكمية ل في كل شيء يعرض للناس في حياتهم ،
فقوله تعالى " :من شيء " معناها جنس الشيء وعمومه ،أي كل شيء على إطلقه .وكل
شيء على إطلقه حكمه إلى ال في كونه حلل أ حراما أو مباحا أو مكروها أو مندوبا .
والية السابقة لها تقرر ذات المعنى الذي قررته آية العراف :
شيْءٍ
حيِي ا ْلمَ ْوتَى وَ ُهوَ عَلَى كُلّ َ
( َأمِ ا ّتخَـذُوا مِنْ دُونِ ِه أَوِْليَا َء فَاللّ ُه هُ َو ا ْلوَِليّ وَ ُهوَ ُي ْ
الشـرك -وهو عمل باطل ،لن ال وحده هو الولي ،وهو الذي يحيي الموتى ،وهو على
سورة العراف [ . ] 54 ()
1
سورة العراف [ . ] 56 - 55 ()
2
سورة الشورى [ . ] 10 ()
3
سورة الشورى [ . ] 9 ()
4
كل شيء قدير .
. ()1
بِ ِه اللّ ُه )
ولكن آيات سورة النعام ربما كانت أكثر تفصيل في القضية :
حكَما وَهُ َو اّلذِي َأ ْنزَلَ إَِل ْي ُكمُ ا ْل ِكتَابَ مُ َفصّلً وَاّلذِينَ آ َت ْينَا ُهمُ ا ْل ِكتَابَ
( َأ َف َغيْرَ اللّ ِه َأ ْب َتغِي َ
ع ْدلً ل
صدْقا َو َ
ت كَِلمَتُ َر ّبكَ ِ
ن ا ْل ُم ْمتَرِينَ َو َتمّ ْ
ن مِ َ
حقّ فَل َتكُونَ ّ
ل مِنْ َر ّبكَ بِا ْل َ
ن َأنّ ُه ُمنَزّ ٌ
َيعَْلمُو َ
سمُ
ن كُنْتُمْ بِآيا ِتهِ ُم ْؤمِنِينَ َومَا َل ُكمْ أَلّا َت ْأكُلُوا ِممّا ُذكِرَ ا ْ
سمُ اللّهِ عََليْ ِه إِ ْ
بِا ْل ُمهْ َتدِينَ َفكُلُوا ِممّا ُذ ِكرَ ا ْ
ن إِلَى
شيَاطِينَ َليُوحُو َ
ن ال ّ
سقٌ وَإِ ّ
سمُ اللّهِ عََليْهِ وَِإنّ ُه لَ ِف ْ
كَانُوا يَ ْق َت ِرفُونَ وَل َت ْأكُلُوا ِممّا َل ْم ُي ْذكَرِ ا ْ
()2
طعْتُمُو ُهمْ إِ ّن ُكمْ َل ُمشْ ِركُونَ )
أَوِْليَا ِئ ِهمْ ِل ُيجَادِلُو ُكمْ َوإِنْ َأ َ
وهي تبدأ بهذا السؤال النكاري " :أفغير ال أبتغي حكما ؟! " الذي يفيد أن الحاكمية ل
وحده .هو الذي ينبغي أن يتخذ حكما ،ول ينبغي لحد غيره أن يحتكم إليه في أمر من
المور .ثم تفيد أن ال قد أنزل الكتاب مفصل فلم تعد هناك حجة لحد أن يتخذ حكما غير
ال في أمر من المور ..ويلحظ أن هذه آية مكية في سورة مكية .وأنه في مكة لم تكن قد
نزلت كل التشريعات التي يحتاج إليها الناس في حياتهم ،إنما كان ذلك في المدينة .فالتفصيل
الذي تشير إليه الية ليس هو تفصيل الحكام -أي تفصيل الفروع -إنما كان تفصيل القضية
الكبرى -قضية الحاكمية -وأنها من أصل العتقاد .وأن العتقاد ل يتم ول يصح إل إذا
من عنـد ال أم قليل ،ومختصـا بالعتقاد كان أم مختصـا بالخلق ،أم مختصـا
()1
بالحكام ..
ثم تمضي اليات في تقرير أن كلمة ال هي الكلمة الفاصلة ،وهي الصدق والعدل ،
وأن من ل يتبعها هم الضالون الذين يتبعون الظن ،ومن ثم ل يهتدون ،وأن ال يعلم من
ثم تأتي القضية التي تأتي هذه المقدمات كلها توكيدا لها ،وتأصيل لقاعدتها ،وهي
قضية التحليل والتحريم ،ومن الذي يقرر المر فيها ،وموقف المؤمنين منها وموقف
المشركين ،وما يجعل النسان في شأنها مؤمنا أو يجعله مشركا .ومدارها أن المشركين في
مكة كانوا ل يذكرون اسم ال على الميتة ثم يحلون أكلها ،ويعطون هذا المر شرعية من عند
أنفسهم بغير إذن من ال وبغير برهان .فينهى ال المؤمنين أن يأكلوا مما لم يذكر اسم ال
عليه -وهو الميتـة التي حرمها ال -وينذرهم أنهم إن أطاعوا المشركين فهم مشركون
ومن ذلك يتبين أن قضية الحاكمية لم تبدأ في المدينة بعد نزول التشريع ،إنما بدأت في
مكة في وقت تأصيل العقيدة وبيان مقتضيات ل إله إل ال ،وجاءت الحكام القاطعة بعد ذلك
في المدينة تقرر أنه من لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون ،وأنه ل يعتبر أحد مؤمنا
حتى يحتكم إلى ال ورسوله ،تطبيقا وتوكيدا لما تقرر في مكة وقت تأصيل العقيدة .
فإذا كان هذا من جانب التكليف الرباني ،فلننظر إلى الجانب التطبيقي في حياة المؤمنين
لم يكن أحد في ذلك الجيل المتفرد يتلبث حتى يسأل :هل هذه الوامر الربانية -سواء
منها ما جاء في كتاب ال أو في السنة المطهرة -مُ ْل ِزمَة ؟! هل هي داخلة في مسمى اليمان
أم زائدة عليه ؟ هل يكفي التصديق بأنها من عند ال ،أم ينبغي تنفيذها كذلك ؟!! وهل يكون
لم يكن أحد يصنع ذلك ،سواء كان من المؤمنين الذين شهد لهم ال ورسوله -صلى
ال عليه وسلم -باليمان ،أم كانوا حتى من المنافقين ،الذين يتظاهرون باليمان وهم في
فقد كان هؤلء وهؤلء يعلمون أن ل إله إل ال ليسـت كلمة تنطق باللسان وينتهي
المر ،وإنما هي كلمة ذات مقتضيات ،وكانوا يؤدون هذه المقتضيات بالفعل ،مع فارق
أساسي بين المؤمنين والمنافقين ،أن الولين يؤدونها إيمانا بها ،وطاعة ل الذي أمر بها
وأنزلها ،وطمعا في جنته ورضوانه ،وأما الخرون فيؤدونها نفاقا بغير إيمان ،ويؤدونها
. ()1
النّاسَ وَل َي ْذكُرُونَ اللّهَ إِلّا قَلِيلً )
شهِيدا
ن َم َعهُمْ َ
ن َأصَا َب ْت ُكمْ ُمصِيبَ ٌة قَالَ َقدْ َأ ْنعَ َم اللّهُ عََليّ ِإ ْذ َلمْ َأكُ ْ
طئَنّ َفإِ ْ
ن ِم ْنكُمْ َل َمنْ َل ُي َب ّ
( وَإِ ّ
ولم يكن أحد من أولئك المنافقين -فضل عن المؤمنين ! -يتصور أنه يستطيع أن
واحدا من مقتضياتها ..ول كان هذا -في المجتمع المسلم -ممكن الحدوث !!
إن تصور وجود فرد واحد في المجتمع المسلم -أي المجتمع الذي يتحاكم إلى شريعة
ال -يسمى " مسلما " ويحتفظ بهذا السم -سواء كان في حقيقته مؤمنا أو منافقا -دون أن
ل يستطيع فرد واحد في المجتمع المسلم -أي المجتمع الذي يتحاكم إلى شريعة ال -
أن يبقى ثلثة أيام متوالية ل يقيم الصلة دون أن توقع عليه عقوبة القتل ! ويستوى أن يقتل
حدّا أو يقتل كفرا .فليست العبرة هنا ! إنما العبرة -كما قال المام ابن تيمية بحق -أنه ل
يمكن في الواقع العملي أن يوجد إنسان في قلبه ذرة واحدة من اليمان يتعرض للقتل بسبب
عدم أدائه الصلة ثم يظل مصرا على عدم الصلة حتى يقتل بالفعل !! مستحيل !!
وهناك أيضا القرار الواقعي العملي بحاكمية شريعة ال ،والتحاكم إليها وحدها ،وعدم
التحاكم إلى أي شريعة سواها ..وإل ،فلو أنه خرج عليها -في المجتمع المسلم -أو أنكر
شيئا منها ،فهل يظل " مسلما " ؟ وهل يظل حيا ؟ أم يصبح مرتدا يوقع عليه حد الردة ؟!
وهكذا يتبين أنه من المستحيل -في المجتمع المسلم -أن يوجد فرد واحد ل يعمل
عمل واحدا من أعمال السلم ،ثم يظل يسمى مسلما ويحتفظ بهذا السم ،فضل عن أن تظل
له حياة في ذلك المجتمع !! إنما تثار مثل هذه الدعوى الفارغة في المجتمعات الجاهلية التي
تدعي السلم ،مستندة إلى الفكر الرجائي ،الغريب غربة كاملة عن روح هذا الدين ..
ولننظر الن في هذه القضية الخطيرة -قضية مقتضيات ل إله إل ال -من ثلثة
منطلقات مختلفة ،تؤدي كلها إلى نتيجة واحدة في النهاية :
أول :هل يمكن أن يؤدي هذا الدين أهدافه التي نزل من أجلها إذا كان المطلوب كله هو
التصديق والقرار ،أو إذا كان التصديق والقرار -وحده -يكفي لعطاء صفة السلم ،ل
ثانيا :هل كان ما يفعله رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وصحابته الكرام في
تطبيق مقتضيات ل إله إل ال ،تطوعا من عند أنفسهم ،غير واجب عليهم ؟!
ثالثا :هل يمكن في واقع النفس البشرية أن يؤمن إنسان بشيء ثم يكون سلوكه الواقعي
ونبدأ بالمنطلق الول فنسأل أول :لماذا يرسل ال الرسل إلى البشرية ،ولماذا ينزل
معهم الرسالت ؟
ول نجيب من عند أنفسنا في هذا المر الخطير ،فإنه ل ينبغي لحد أن يجيب من عند
نفسه في هذا المر ،لن ال -سبحانه وتعالى -قد تكفل بهذا في كتابه المنزل الذي ل يأتيه
. ()2
عزِيزٌ )
َ
هاتين اليتين اللتين تتحدثان عن الرسالت عامة من لدن آدم ونوح إلى محمد -صلى ال
فإحدى اليتين تقرر أن إرسال الرسل ل يتم من عند ال لمجرد التبليغ والعلم ،بحيث
يسع أي إنسان أرسل إليه رسول أن يقول :لقد بلغني المر وعلمته ( . )1إنما ينبغي أن يقول :
لقد بلغني المر وعلمته وأطعته ،ليكون بذلك قد استجاب للرسول المرسل إليه ،وحقق
والية الخرى تبين ذلك الهدف وتحدده ،وهو إقامة حياة الناس بالقسط .وهي عبارة
موجزة شاملة جامعة تفصلها آيات القرآن الخرى ( والسنة المطهرة كذلك ) تفصيل دقيقا
محـددا غير متروك لهواء البشر .ذلك أن تحديد القسط لو ترك لهواء الناس لفسد كل
شيء :
. ()2
ن فِيهِنّ )
سمَاوَاتُ وَا ْلَأرْضُ َومَ ْ
سدَتِ ال ّ
حقّ أَهْوَاءَ ُهمْ لَ َف َ
( وَلَ ِو ا ّتبَعَ ا ْل َ
ومقتضى الية المشار إليها آنفا إن إرسال الرسل وإنزال الكتاب ليس لمجرد التبليغ
والعلم ،إنما لتحقيق هدف عملي واقعي في حياة الناس هو إقامة شريعة ال ومنهجه ،
وإخضاع الناس لهذه الشريعة وذلك المنهج ،لن هذا هو السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى قيام
الناس بالقسط .أي أن هناك عمل ينبغي أن يتم في واقع الرض بعد التصديق والقرار .
وبغيره ل يكون الهدف من إرسال الرسل وإنزال الدين قد تحقق ،إنما يظل الدين شعارات
مرفوعة بغير رصيد واقعي ،أو أمانيّ في الضمائر ,ل تقدم ول تؤخر ،ول تغير شيئا في
حياة الناس ،والشارة -في الية -إلى الحديد والبأس ،ونصرة ال ورسله ،واضحة
العلم في اللغة يفيد اليقين ،فهو يشمل " التصديق " الذي يتكلم عنه المرجئة ويقولون إنه هو المعنيّ ()
1
باليمان .
)(2سورة المؤمنون [ . ] 71
الدللة في أن من بين العمال المطلوبة الجهاد في سبيل ال لكي " يقوم الناس بالقسط " .
فإذا كان هذا المعنى متحققا في جميع الرسالت من لدن آدم ونوح
إلى محمد -صلى ال عليه وسلم -فالرسالة الخيرة لها وضع خاص ،وتكاليف خاصة ،
فـإذا كان هذا المر شامل للرسالت كلها حتى رسالة محمد -صلى ال عليه
وسلم -فإن الرسالة الخيرة -الخاتمة -التي أرسل إليها الرسول الخاتم -عليه الصلة
والسلم -لها شأن آخر غير بقية الرسالت ،وتكاليف إضافية غير بقية الرسالت .
لقد كان في قدر ال ومشيئته أل يرسل رسول بعد محمد -صلى ال عليه وسلم : -
ن ) (. )2
ن َرسُولَ اللّهِ َوخَاتَ َم ال ّن ِبيّي َ
حدٍ ِمنْ ِرجَاِلكُمْ وََلكِ ْ
ح ّمدٌ َأبَا َأ َ
ن ُم َ
( مَا كَا َ
. ()3
" أل إنه ليس بعدي نبي "
وكان في قدر ال ومشيئته أن يتم الدين بهذه الرسالة الخاتمة ،وأن تكون للبشرية كافة :
. ()3
" ..وبعثت إلى المم كافة "
فإذا كانت المم المؤمنة السابقة كلها قد كلفت أن تعبد ال " مخلصين له الدين حنفاء " ،
وتستقيم على الدين وتكاليفه في حدود ذاتها فحسب ،فإن المة المسلمة قد كلفت هذا التكليف
ذاته ،ثم كلفت فوق ذلك أن تنشر هذا الدين في كل بقاع الرض ،خلفاء عن الرسول -
صلى ال عليه وسلم -وامتدادا له ،وأن تجاهد حتى يكون الدين كله ل .
. ()4
عنِ ا ْل ُم ْن َكرِ )
ن بِا ْلمَ ْعرُوفِ َو َي ْنهَوْنَ َ
خيْرِ َو َي ْأ ُمرُو َ
( وَ ْل َتكُنْ ِم ْن ُكمْ ُأمّ ٌة َيدْعُونَ إِلَى ا ْل َ
ومقتضى ذلك أن يكون " العمل " المطلوب من هذه المة بعد التصديق والقرار أضخم
وإذا كان التصديق والقرار وحدهما ،بغير عمل ،ل يفيان بالتكليف الرباني لي أمة
من المم السابقة ،لن ال فرض على كل واحدة منها تكاليف ،وأرسل إليها رسول ليطاع
بإذن ال ،ل ليبلغ فحسب ،فهذه المة -بصفة خاصة -ل يمكن أن يفي التصديق والقرار
وهل كان يتصور -لو أن المطلوب كله هو التصديق والقرار ول زيادة -أن تطهر
الكعبة وحدها من أوثان الشرك ،ول نقول مكة وحدها ،ول الجزيرة العربية ،فضل عن
بقية العالم السلمي الذي امتد إليه النور بجهاد المجاهدين في سبيل ال .
وهل كان يتصور -لو أن المطلوب كله هو التصديق والقرار -أن تقوم للسلم دولة
في المدينة ( ، )1فضل عن أن تشمل هذه الدولة الجزيرة العربية بأكملها ،فضل عن أن تمتد ،
فتشمل في نصف قرن ما بين المحيط غربا إلى الهند شرقا كما حدث بالفعل .
وهل كان يتصور -لو أن المطلوب كله هو التصديق والقرار ،أو لو أن المسلمين
فهموا أن المطلوب كله هو التصديق والقرار -أن ُت َثبّت دعائم الدولة في المدينة ،واليهود
يكيدون لها من داخلها ،ومشركو قريش يكيدون لها من خارجها ،فضل عن أن تثبّت
دعائمها في الجزيرة بأكملها ،فضل عن أن تزال إحدى دولتي الشرك العظميين عن آخرها (
فارس ) وتزلزل الدولة الخرى ( الروم ) عن عرشها وسلطانها ويتقلص ظلها في الرض ..
وفضل عن أن تكون هذه الدولة -فيما بعد -هي مركز الدنيا ومحورها ،فيها العلم ،وفيها
من هذا المنطلق الذي أسلفنا الحديث عنه ننتقل إلى المنطلق الثاني ،وقد اقتربنا منه ،
فنسأل :هل كان ما يفعله رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وصحابته الكرام في تطبيق
لم تقم الدولة في المدينة إل بعد الهجرة ،وهي -كما أسلفنا القول -عمل قام به المسلمون بتكليف من ()
1
ال ،عمل زائد على التصديق والقرار .
وهنا نقطة قد تختلط على الذهـان ،فيما بين التطوع والتكليف بالنسبة لجيل الصحابة
وقد بينت في كتاب " واقعنا المعاصر " أن الذي تفرد به الجيل الفريد لم يكن هو قيامه
بالتكاليف الربانية ،فذلك أمر مفروض على كل الجيال ،ومطلوب من كل الجيال ،إنما
تفرد ذلك الجيل بالدرجة العالية العجيبة التي نفذ بها تلك التكاليف .
فقد فرض ال القتال ،أما ذلك الذي خرج من بيته يريد القتال ومعه تمرات يقتات بها
فاستبطأ الطريق إلى الجنة ،فقال :لئن بقيت حتى أنتهي من هذه إنه لمر يطول ! فألقى
التمرات من يده وألقـى بنفسه في المعركة فاستشهد ..فهذه درجة فذة في تنفيذ التكليف
الرباني ،تفرد بها وبأمثالها ذلك الجيل الفريد .أما القتال في ذاته ،استجابة للتكليف الرباني ،
وقد أمر ال أن يشترك المجتمع السلمي كله في الخير العام الذي يفيضه ال على ذلك
المجتمع ،وجعل أداة ذلك الزكاة يدفعها الغنياء من فائض أموالهم ( أي ما يزيد على
ص َدقَاتُ
النصاب ) فتوزعها الدولة على المحتاجين إليها ،الذين بينتهم الية الكريمة ِ ( :إ ّنمَا ال ّ
كما جعل أداتها النفاق في سبيل ال بغير نسب معينة كما هو الحال في أنصبة ()1
سبِيلِ )
ال ّ
.ولم ()2
الزكاة ،وقال رسول ال -صلى ال عليه وسلم " : -في المال حق سوى الزكاة "
يكن هذا النفاق في سبيل ال أمرا تفرد به الجيل الول ،لنه تكليف لكل الجيال .أما الذي
خرج من كل ماله ..وأما الذي جاءه الضيف وهو ل يملك إل قوت عياله فقال لهله :أطفئي
السراج وآوي الطفال إلى فراشهم ،ثم جعل يتظاهر هو وأهله أنهم يشاركون في الطعام حتى
يأتنس الضيف ويأكل ،حتى أكل بمفرده الطعام الموجود كله ،فأنزل ال فيهم َ ( :و ُي ْؤ ِثرُونَ
وقد قال رسول ال -صلى ال عليه وسلم " : -الحلل بيّن والحرام بيّن ،وبينهما
متشابهـات .فمن اتقى الشبهات فقد استبـرأ لدينه ،ومن حام حول الحمى أوشـك أن يقع
فيه " ( )2فطلب من المؤمنين أن يتقوا الشبهات ليستبرئوا لدينهم ،وأن يقفوا عند حدود الحلل
البين ،ويبتعدوا عما سوى ذلك .وهو تكليف لجميع المسلمين في جميع العصور .أما الذين
قالوا " :كنا نترك تسعة أعشار الحلل مخافة أن نقع في الحرام " فهذا تطوع نبيل لم يفرضه
وهكذا نفرق تفريقا حاسما بين أمرين يختلطان أحيانا في أذهان بعض الناس .بين ما
قام به ذلك الجيل الفريد تكليفا من عند ال ،ل يختص بهم وحدهم ،إنما هو للجيال كافة ،
يأثمون إذا تركوه ،وبين ما تطوعوا به من اللتزام بالمندوبات كأنها فروض ،منطلقين في
ذلك من عمق إيمانهم ورسوخه ،وحساسية ضمائرهم المرهفة تجاه ما كلفهم به ال ..
فلننظر الن في التكاليف التي قاموا بها لنها تكاليف ،ل المندوبات التي التزموا بها
هل اللتزام بما جاء في كتاب ال وسنة رسوله -صلى ال عليه وسلم -والرجوع إلى
هل تحقيق معنى المة في صورته الحقيقية ،بما يشتمل عليه من التكافل بين فئات
المجتمع ،والخوة الصادقة بين المؤمنين ،والتعاون على البر والتقوى ،وحرمة الموال
()1
هل كان الوفاء بالمواثيق تطوعا لم يكلفوا به ؟
وهل كان في حسهم أنهم يقومون بهذا كله تطوعًا زائدا على أصل اليمان ،وأن
اليمان متحقق في نفوسهم وفي واقع حياتهم بمجرد التصديق والقرار وإن لم يقوموا بشيء
أم كان يمـل نفوسهم -كما تعلموا من كتاب ال ومن رسول ال -صلى ال عليه
وسلم -أن القيام بهذه التكاليف هو مقتضى اليمان بأنه ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ..
ثم كانوا -في الداء -يرتفعون إلى تلك القمم السامقة تقربا إلى ال ؟!
وهل يعقل أن يكون الواقع العملي للسلم كله زيادات على الصل ،غير داخلة في
ما قيمة هذا الدين إذن ؟ ما المهمة التي يؤديها في حياة الناس ؟!
وهل ينزل ال الكتب ،ويرسل الرسل ،ويكلفهم بالصبر والمصابرة ،والجهاد المرير ،
من أجل تلك الحصيلة السلبية التي تظل مستسرة في القلوب ،كامنة في الضمائر ،ل تغيّر
شيئا من واقع الناس ،ول تحق حقا ول تزهق باطل ،ول تقيم معروفا ول تبطل منكرا ؟!
تلك أبرز سمات المة المسلمة التي تحدثنا عنها في كتاب " واقعنا المعاصر " مضافا إليها الحركة العلمية ()
1
السلمية والحركة الحضارية السلمية اللتان جاءتا -بطبيعتهما -متأخرتين في الزمن ،ولكن بذورهما
الولى وجدت في أطواء النطلقة العظمى التي حققها الجيل الول .
خ ِرجَـتْ لِلنّاسِ تَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ َوُت ْؤ ِمنُونَ
خيْرَ ُأمّةٍ ُأ ْ
( ُكنْتـ ْم َ
هل يعقل أن يكون الهدف الرئيسي من إخراج هذه المة أمرا زائدا ،بمعنى أن تحققه
أم يقولون إن الرتبـاط بيـن ل إله إل ال ومقتضياتهـا كان خاصا بجيل الصحابـة
-رضـوان ال عليهم -وأما من أتى بعدهم فل عليهم من العمل إذا تحقق منهم التصديق
والقرار ؟!
هل هناك نص -أو منطق -يقول :إن جيل معينا أو أشخاصا بأعيانهم هم الذين
ينبغي أن يتقيدوا بمقتضيات ل إله إل ال ،أما من عداهم فليس عليهم إل أن يصدقوا بقلوبهم ،
وينطقوا بألسنتهم أنه ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ،فإذا نطقوا بها -مصدقين بها -
فقد تم المطلوب منهم كله ،ولم يعد لحد أن يطالبهم بعد ذلك بشيء ! فإن هم " تفضلوا " من
عند أنفسهم فعملوا بشيء من مقتضيات ل إله إل ال فلهم الفضل ،وإن لم يفعلوا فل تثريب
حقيقة إن الجيل الول قد قام بتحقيق مقتضيات ل إله إل ال في ذات نفسه وفي واقع
حياته بصورة فذة لم تتكرر في التاريخ ،بينما الجيال التالية ظلت تتفلت تدريجيا من تلك
المقتضيات خلل القرون الطويلة حتى كادت تنفلت منها جميعا .ولكن ذلك لم يكن بسبب أن
الجيل الول كان بذاته مكلفا تكاليف خاصة غير بقية الجيال ،ول بسبب أن الجيال التالية
المتفرد في التاريخ .فقد شهد الجاهلية ثم شهد السلم ،فأحس بالنعمة الربانية وقدرها حق
قدرها فحرص عليها .وكان الرسول -صلى ال عليه وسلم -يعيش بين ظهرانيهم ،يتلقون
منه تلقيا مباشرا ،ويتربون على عينه -صلى ال عليه وسلم -فيرتفعون إلى أقصى طاقة
البشر في الرتفاع .بالضافة إلى ما تصنعه النشأة الجديدة في النفوس من شحذ العزائم
والطاقات إلى أقصى درجاتها ،بخلف الجيال التي تولد بعد تمام البناء ،كما أن الجيل الذي
ينشىء البناء بيديه ،ويتعب في إقامته ،يكون حريصا عليه أل يصيبه خدش يفسد جمال
()1
رونقه ..
هذه الظروف مجتمعة جعلت ذلك الجيل الفذ يصل في تطبيق مقتضيات ل إله إل ال
إلى ذلك المرتقى السامق الذي وصل إليه دون بقية الجيال .أما التكاليف فهي التكاليف ..
هي هي كما احتواها كتاب ال وسنة رسوله -صلى ال عليه وسلم -وأما كون القيام بها هو
مقتضى اليمان بل إله إل ال ،فحقيقة ل علقة لها بكون أي جيل من الجيال هو الول أو
. ()2
الوسط أو الخير !
ونأتي الن إلى المنطلق الخير فنسأل :هل يمكن في واقع النفس البشرية أن يؤمن
إنسان بشيء ،ثم يكون سلوكه الواقعي كله مغايرا لمقتضيات ذلك اليمان أو مناقضا له ؟!
هناك حالة واحدة يعرفها المشتغلون بعلج المراض النفسية هي حالة " انفصام
الشخصية " يكون للمريض فيها شخصيتان منفصلتان تماما إحداهما عن الخرى -كأنه ل
صلة بينهما على الطلق -إحداهما -مثل -خيرة والخرى شريرة ،يتنقل المريض بينهما
)(1تعرضت للحديث عن هذه الظروف وأثرها في تكوين الجيل الول على صورته الفذة في كتاب " واقعنا
المعاصر " فصل " نظرة إلى الجيل الفريد " .
)(2تحدثت عن هذه النقطة كذلك في الفصل المشار إليه من كتاب " واقعنا المعاصر " .
في نوبات عصبية ل سلطان له عليها .وهي حالة مرضية تسقط التكليف عن صاحبها ..
ومع ذلك فإن هذه الحالة ذاتها تكتشف من التصرفات المصاحبة لها والدالة عليها ! أي من
أما الحالة المفترضة ،وهي وجود إنسان في حالة طبيعية -أي في وعيه وإرادته -
يؤمن في دخيلة نفسه بشيء ما ،ثم ل يبدو في مجموع تصرفاته كلها أمر واحد يدل على
وجود ذلك اليمان المستسر في الضمير ( في غير حالة القهر التي توجب التستر الكامل عن
عيون العداء المتربصين ) فهي حالة مستحيلة في واقع النفس البشرية ،لم يتحدث عن مثلها
إنما الذي يمكن أن يوجد بالفعل هو وجود إيمان بشيء ما ،ووجود بعض التصرفات
مخالفـة لمقتضى ذلك اليمان .هذه حالة طبيعية ..بل هي الحالة الغالبة على تصرفات
البشر ! ولكنها ل تقع اعتباطا بغير أسباب ! وليست خالية من الدللة كذلك .
أما أسبابها فهي الجنوح الموجود في النفس البشرية نحو التفلت من التكاليف استجابة
لدوافع تعتمل في باطن النفس .إذ التكاليف -كما هو ظاهر -قيد على الرغبات ،سواء في
تحديد مقدارها أو تحديد مسارها .ومن ثم تجنح النفس إلى التفلت من تلك التكاليف حين تركن
إلى الستجابة للرغبات دون ضوابط .ولكن يبقى شيء -ملحوظ من الدراسات النفسية -هو
أن " اليمان " -وهو فطرة ،إذ من فطرة النفس البشرية أن تؤمن بشيء ما -هو ذاته قيد
على الرغبات ،يحدد مقدارها أو يحدد مسارها .ومن ثم ل تنطلق الرغبات مع وجود اليمان
بنفس القدر وفي نفس المسار كما يحدث في حالة عدم وجود ذلك اليمان .ويكون التصرف
الواقعي للنسان هو محصلة القوى والضوابط التي تعتمل داخل نفسه .فيكون أكثر استجابة
لمقتضيات اليمان أو أكثر تفلتا منها بحسب مقدار هذه القوى وتلك الضوابط معا في ذات
الوقت .وتختلف أحوال النسان الفرد ما بين لحظة ولحظة حسب اختلف المقادير بين هذه
وتلك ،ولكن ل تكون حصيلة اليمان صفرا في أي حالة من الحالت ،بحيث يصبح وجوده
وعدمه سيان ..
تلك طبيعة النفس البشرية ..ولذلك قال العلماء المستبصرون بنور ال إن اليمان يزيد
والدين قيد ل شك فيه ..سواء على القدر المسموح به من الستجابة للرغبات ،أو في
تَ ْق َربُوهَا ) ( )2فيحدد الحدود التي يستجيب فيها النسان لرغائبه التي تعتمل في كيانه ،والتي
ش ِركَةٍ وَ َلوْ
خيْ ٌر مِنْ ُم ْ
حتّى يُ ْؤمِـنّ وََلَأمَ ٌة مُ ْؤ ِمنَ ٌة َ
ت َ
ش ِركَا ِ
ويقول ( :وَل َت ْن ِكحُوا ا ْل ُم ْ
. ()5
عجَبَتْ ُكمْ ) ..
أَ ْ
. ()6
ُمسَا ِفحِينَ ) ..
وفضل عن ذلك فهناك تكاليف أخرى تضع قيودا من نوع آخر في طريق الشهوات
فتحدد مقدارها ومسارها ،كالصلة والزكاة والصيام والحج ،وأخلقيات ل إله إل ال ،وعلى
والشهوات -أو " الدوافع " -لم يضعها ال قي الكيان البشري عبثا ،تعالى ال عن
فقد علم ال -سبحانه وتعالى -أن مهمة الخلفة في الرض التي خلق النسان من
أجلها تحتاج إلى دوافع تدفع النسان إلى العمل والحركة والنتاج من أجل تعمير الرض ،
. ()1
علٌ فِي ا ْلَأرْضِ خَلِي َفةً )
( وَِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ ِإنّي جَا ِ
. ()2
س َت ْعمَ َر ُكمْ فِيهَا )
شَأ ُكمْ مِنَ ا ْلَأرْضِ وَا ْ
( ُهوَ َأ ْن َ
كما أنها من وسائل " المتاع " الذي قدره ال للنسان في الرض :
ن ) (. )3
ستَقَرّ َو َمتَاعٌ إِلَى حِي ٍ
ض ُم ْ
( وََل ُكمْ فِي ا ْلَأرْ ِ
وهي في الوقت ذاته نقطة البتلء التي خلق النسان لها :
ل ) (. )4
عمَ ً
حسَنُ َ
جعَ ْلنَا مَا عَلَى ا ْلَأرْضِ زِينَ ًة َلهَا ِل َنبْلُوَ ُهمْ َأ ّي ُهمْ َأ ْ
( ِإنّا َ
الخلفة الراشدة المطلوبة منه .فالستجابة الكاملة للدوافع ،التي تتعدى بها الحدود المأمونة
مهلكة للنسان ومفسدة له ،وصارفة له عن الرفعة التي قدرها ال للنسان الصالح ،الذي
خلقه ال في أحسن تقويم ،متميزا تميزا حاسما عن الحيوان ،والتي بها ُهيّىء لحمل المانة
التي أبت أن تحملها السماوات والرض والجبال وأشفقت من حملها لنها لم تهيأ لها ،وحملها
النسان ..
تحدد المقدار الذي يستجيب به النسان لدوافعه وشهواته ،فتحبس قدرا من الطاقة أن
يتبدد كله في المجال الحسيّ .ثم تحدد مسار هذه الطاقة فترفعها عن المجال الحسيّ الخالص
إلى مجال " القيم " ،التي ترسم الوجود العلى للنسان ،وهي هي المانة التي تميز النسان
وهكذا ..بين الدوفع والضوابط يتوازن كيان النسان ،ويحقق غاية وجوده وهو في
. ()1
أحسن تقويم
ولكنه ل ينضبط تماما في كل حالة .ول يستمر على توازنه في كل حالة :
. ()3
" كل بني آدم خطاء ،وخير الخطائين التوابون "
اقرأ إن شئت " منهج التربية السلمية " الجزء الول ،و " دراسات في النفس النسانية " فصل " الدوافع ()
1
والضوابط " .
سورة طه [ . ] 115 ()
2
أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي . ()
3
تحدث بأحد سببين ،أو بهما معا في وقت واحد ..إما اشتداد ضغط الدوافع على
النسان ،وإما ضعف الضوابط في لحظة من اللحظات ،أو باجتماع السببين معا في وقت
واحد :شدة الدافع ،وضعف الرادة الضابطة التي تحدد المقدار والمسار ..وعلى قدر
اشتراك العوامل المسبّبة تكون النتيجة ..فحين يكون الدافع ضعيفا يمكن ضبطه بسهولة .أما
حين يكون عنيفا فيتوقف المر على مدى قوة الرادة .فإن كانت قوية فقد تكفي لرد الدافع
تماما فل تحدث المعصية ،أو تحدث خفيفة عابرة مما عبر عنه القرآن باللمم .أما حين تكون
واليمان بال واليوم الخر هو أقوى الدوات المعينة للنسان على مقاومة ضغط
الشهوات .وبمقدار ما يكون اليمان قويا وراسخا تكون قدرة النسان على النضباط في
داخل الحدود التي رسمها ال ،أي تكون الطاعة لوامر ال ،والقيام بالتكاليف التي فرضها
ال .وليس معنى هذا أن يخرج النسان من بشريته ويصبح ملكا ل َي ْعصِي ! ولكن معناه أن
الطاعة والنضباط والقيام بالتكاليف تصبح في حياته هي الصل ،وغيرها هو الشذوذ العابر
الذي ل يتلبث عنده ول ينغمس فيه ،فيشمله هذا الوصف الرباني :
ن َيغْ ِفرُ
س َتغْ َفرُوا ِل ُذنُو ِب ِهمْ َومَ ْ
سهُمْ َذ َكرُوا اللّ َه فَا ْ
( وَاّلذِينَ ِإذَا فَعَلُوا فَاحِشَ ًة أَ ْو ظََلمُوا َأ ْن ُف َ
جنّاتٌ
جزَاؤُ ُهمْ َمغْ ِفرَةٌ ِمنْ َر ّب ِهمْ َو َ
ك َ
ن أُوَل ِئ َ
ب إِلّا اللّ ُه وََلمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُو َ
ال ّذنُو َ
ن ) (. )1
ن فِيهَا َو ِنعْ َم َأجْ ُر ا ْلعَامِلِي َ
ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِي َ
ن َت ْ
َتجْرِي مِ ْ
أما حين يضعف اليمان بال واليوم الخر -وبمقدار ما يضعف -فإن العكس يصبح
هو الصل ،وتصبح الستقامة على أمر ال هي الحالة العابرة التي ينتكس بعدها إلى
وفي جميع الحوال ل تكون حصيلة اليمان صفرا ،ول يكون وجوده وعدمه سواء ،
()2
إنما يخرجه من السلم استحلل المعصية -ولو لم يقترفها -والستحلل عمل
فالوقوع في المعصية هو لحظة الضعف التي تنتاب الكائن البشري فينسى ،كما نسي
آدم من قبـل ،وتخور عزيمته ،فل يكون اليمان مذكورا في حسه ،وإن يكن ما زال في
قلبه ،ولعل هذا ما أشار إليه حديث الرسول -صلى ال عليه وسلم " : -ل يزني الزاني
حين يزني وهو مؤمن ،ول يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )3( " ..ثم يفيق النسان
أما الستحلل فهو الستكبار عن عبادة ال والخضوع لمره ،فكأنما يقول صاحبه
بلسان الحال أو بلسان المقال :هذا ما يقوله ال ،أما أنا فلي في المر حكم آخر ،كما قال
حمَـأٍ
ل مِنْ َ
شرٍ خَلَ ْقتَـهُ ِمنْ صَ ْلصَا ٍ
جدَ ِل َب َ
سُأو قال َ ( :لمْ َأ ُكنْ ِلَأ ْ ()4
ن طِينٍ )
نَارٍ َوخَلَ ْقتَ ُه مِ ْ
. ()6
ن ُيشْ َركَ ِبهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِل َمنْ َيشَاءُ )
( ِإنّ اللّهَ ل َيغْ ِفرُ أَ ْ
ويبقى مجتمعا " مسلما " بعد ذلك ؟! بمجرد التصديق والقرار ؟!
إننا إن أبحنا مبدأ " التصديق والقرار " بوصفهما هما " اليمان " ..وجعلنا اليمان
متحققا بهما ولو لم يعمل النسان عمل واحدا من أعمال السلم ،بدعوى أن العمل ليس
داخل في مسمى اليمان ،وقررنا -بناء على ذلك -أن هذا القدر يكفي لعطاء صفة
السلم في الدنيا ودخول الجنة في الخرة ..إذا أبحنا ذلك لفرد واحد فهل نملك أن نمنعه عن
فكيف يكون الحال لو وجد عندنا مجتمع كله " مسلم " " مؤمن " على هذا النحو ؟!
هل يتحقق فيه شيء مما أراده ال ببعث الرسل وإنزال الكتب ؟
من باب التذكير نعود إلى الية التي تحدد الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب :
ومن باب التذكير مرة أخرى نعود إلى الية أو اليات التي تحدد الهدف من إخراج هذه
خ ِرجَـتْ لِلنّاسِ تَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ َوُت ْؤ ِمنُونَ
خيْرَ ُأمّةٍ ُأ ْ
( ُك ْنتُـ ْم َ
حرَجٍ مِلّةَ
ن َ
ن مِ ْ
جعَلَ عََل ْي ُكمْ فِي الدّي ِ
ج َتبَاكُمْ َومَا َ
جهَادِهِ هُ َو ا ْ
ق ِ
( َوجَاهِدُوا فِي الّل ِه حَ ّ
أليس من مثل هذا الوهم -أو هذا السلوك الخاطئ -حذرنا ال -جل وعل -بذكر
ن سَ ُيغْفَ ُر لَنَا
عرَضَ َهذَا ا ْلَأ ْدنَى َويَقُولُو َ
خذُونَ َ
( َفخََلفَ مِنْ َب ْعدِ ِهمْ خَ ْلفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ َي ْأ ُ
حقّ
ن ل َيقُولُوا عَلَى اللّ ِه إِلّا ا ْل َ
خذْ عََل ْي ِهمْ مِيثَاقُ ا ْل ِكتَابِ أَ ْ
خذُوهُ أََلمْ ُي ْؤ َ
ض ِمثْلُهُ َي ْأ ُ
عرَ ٌ
وَِإنْ َي ْأ ِت ِهمْ َ
ن ) (. )3
ن َأفَل َتعْقِلُو َ
خيْ ٌر لِّلذِينَ َيتّقُو َ
خرَ ُة َ
َو َد َرسُوا مَا فِيهِ وَالدّارُ الْآ ِ
أم إن هذا تكليـف يقع على عاتق بني إسرائيـل وحدهم بينمـا تعفى منه " المة
لدرء هذا الوهم قال حذيفة -رضي ال عنه : -نعم الخوة لكم بنو إسرائيل إن كان
!! ()4
لكم كل حلوة ولهم كل مرة
ل جرم أن يصبـح " المجتمع " الذي تنتشر فيه هذه الفكار الفاسدة عن " اليمان "
وسلم -منذرا محذرا " :يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلة إلى قصعتها .قالوا :
()1
أمن قلة نحن يومئذ يا رسول ال ؟ قال :أنتم يومئذ كثير ،ولكنكم غثاء كغثاء السيل " !
وتتداعى المم بالفعل على ذلك الغثاء ،وهو قانع بالتصديق والقرار ،توهما منه أنه
أما المجتمع المسلم -أي الذي يحكم بشريعة ال -فتحدث منه المعاصي ما قدر ال لها
أن تحدث ،ولكن يبقى في جميع الحوال عملن اثنان على أقل تقدير ل يكف عنهما أي
إنسان ليظل يعامل في المجتمع المسلم على أنه مسلم ،وحسابه على ال ،ولكي ينجو من
العقاب الماحق في الحياة الدنيا ،هما الصلة والتحاكم إلى شريعة ال ،وهما العملن اللذان
ظل ثلثة عشر قرنا من بديهيات عمل المسلم في المجتمع السلمي ( ولو كان في دخيلة
نفسه كافرا منافقا ) رغم كل النحراف الذي وقع فيه المسلمون خلل الجيال ،ورغم كل
التفلت الذي تفلتوه من تكاليف السلم ..ولم يتخل الناس عنهما جهارا نهارا إل في القرن
الخير ..
إذا تبين أنه من المستحيل أن يتخلى النسان عن كل مقتضيات ل إله إل ال ،ثم يظل
مؤمنا بل إله إل ال ..مستحيل بالنسبة للهداف التي من أجلها أرسل ال الرسل وأنزل معهم
الكتاب ،ومستحيل بالنسبة لواقع المجتمع المسلم الذي يحكم بشريعة ال ،ومستحيل بالنسبة
لواقع النفس البشرية ،فإلى أي شيء استند الذين يقولون :إن التصديق والقرار هما كل
متطلبات اليمان ،وإن العمال -إن قام بها النسان بعد ذلك -فهي رفعة في الدرجات ،
وإن لم يقم بها فل بأس على إيمانه ،الذي يتحقق كامل بمجرد التصديق والقرار ؟!
المصدر الذي جاءت منه هذه القولة الغريبة على روح السلم .وإن كان الحق أن المرجئة
القدامى -على كل ما أحدثـوه من انحراف في فهم السلم -لم يتطرقوا قط -ولم يصلوا
قط -إلى إسقاط الصلة أو التحاكم إلى شريعة ال كما أسقطها المرجئة المحدثون ،لنه لم
يكن يدور بخلد أحد خلل القرون الثلثة عشر الولى أن هناك إنسانا واحدا في الرض
السلمية يمكن أن يسمى مسلما في الحياة الدنيا ،ويظل على قيد الحياة ،وهو يهمل الصلة
ولكن المرجئة القدامى -مع ذلك -هم الذين وضعوا البذور السامة التي التقطها
المرجئة المحدثون ،واستنبتوا منها إسلما جديدا لم يتنزل به كتاب ولم يُ ْرسَلْ به رسول ..
لثبات اليمان هو القرار اللساني بالنسبة للحياة الدنيا ،والتصديق والقرار بالنسبة للحياة
الخرى ؟!
أول ما استندوا إليه هو المدلول اللغوي لليمان ،فقالوا :هو التصديق .ثم قالوا :إن
عمـل الصالحات يرد في اليات القرآنية معطوفا على اليمان " :الذن آمنوا وعملوا
الصالحات " والواو تقتضي المغايرة ،وإذن فاليمان شيء وعمل الصالحات شيء آخر ،ليس
فالمدلول الصطلحي -الذي اتخذته ألفاظ معينة في القرآن كاليمان ،والصلة ،
والزكاة -يدخل في عموم المعنى اللغوي ،ولكنه يكتسب باستخدام السلم له معنى خاصا
المصطلح السلمي -إنها مجرد الدعاء ،بحيث يغني الدعاء -في أي صورة -عن الصلة
بركوعها وسجودها ،وما تشتمل عليه من التلوة ،وما لها من الضوابط من وجوب الطهارة
كذلك اليمان ..هو في اللغة التصديق .ولكنه -بمعناه الصطلحي السلمي -
صورة معينة من التصديق ذات مقتضيات معينة ،من عملٍ قلبيّ كالحب والخشوع والخبات
والخضوع والذعان ،ووجوب الرجوع إلى ال عند الحكم على أي أمر من المور ،أو
موقف من المواقف ،أو تصرف من التصرفات ،بأنه حلل أو حرام أو مباح أو مكروه أو
مندوب ،وعمل بالجوارح يشمل أداء الشعائر التعبدية ،واللتزام بأخلقيات ل إله إل ال في
السلوك العملي ،والخضوع العملي لحكام الشريعة فيما يشجر في حياة الناس في كل لحظة
ت قُلُو ُبهُمْ وَِإذَا تُِليَتْ عََل ْي ِهمْ آيَاتُ ُه زَادَ ْت ُهمْ إِيمَانا
ن اّلذِينَ ِإذَا ُذكِرَ اللّهُ َوجِلَ ْ
( ِإ ّنمَا ا ْل ُم ْؤ ِمنُو َ
ن حَقّا َل ُهمْ
ن أُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلمُ ْؤ ِمنُو َ
ن الصّلةَ َو ِممّا رَ َز ْقنَاهُمْ ُينْ ِفقُو َ
ن اّلذِينَ ُيقِيمُو َ
َوعَلَى َر ّبهِمْ َي َت َوكّلُو َ
حرَجا ِممّا
س ِهمْ َ
جدُوا فِي َأنْ ُف ِ
جرَ َب ْي َنهُمْ ُثمّ ل َي ِ
شَك فِيمَا َ
ح ّكمُو َ
حتّى ُي َ
( فَل َو َربّكَ ل يُ ْؤ ِمنُونَ َ
ع ُتمْ فِي
ن َتنَازَ ْ
ن آ َمنُوا َأطِيعُوا اللّهَ وََأطِيعُوا ال ّرسُولَ وَأُولِي ا ْلَأ ْمرِ ِم ْنكُمْ َفإِ ْ
( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ
. ()3
ن بِاللّهِ وَا ْليَ ْو ِم الْآخِرِ ) ..
ن ُك ْنتُمْ ُت ْؤ ِمنُو َ
ل إِ ْ
شيْءٍ فَ ُردّوهُ إِلَى اللّهِ وَال ّرسُو ِ
َ
ع ْهدِ ِهمْ
ن ُهمْ ِلَأمَانَاتِ ِهمْ وَ َ
ك ُهمُ ا ْلعَادُونَ وَاّلذِي َ
ك فَأُوَل ِئ َ
ن ا ْب َتغَى َورَاءَ ذَِل َ
غ ْيرُ مَلُومِينَ َفمَ ِ
َفإِ ّن ُهمْ َ
س ُهمْ فِيهَا
ن الْ ِف ْردَوْ َ
ن اّلذِينَ َي ِرثُو َ
رَاعُونَ وَاّلذِينَ ُهمْ عَلَى صَلَوَا ِت ِهمْ ُيحَافِظُونَ أُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلوَا ِرثُو َ
ن ) (. )1
خَاِلدُو َ
تلك كلها من مقتضيات " التصديق " بمعناه الصطلحي الخاص الذي يعبر عنه القرآن
باليمان ،والتي ل يحتج فيها بالمدلول اللغوي ،كما ل يحتج به في معنى الصلة ومعنى
الزكاة وغيرها من المصطلحات السلمية ،التي حددت الستعمال اللغوي ،وألحقت به
وأما الحتجاج بورود عمل الصالحات في التعبير القرآني معطوفا على اليمان ،
والستدلل من ذلك على أن العمل ليس داخل في مسمى اليمان لن " الواو " تقتضي
المغايرة ،إذ أن الشيء ل يعطف على نفسه ..فهو ل يقل تهافتا ول مغالطة عن الحتجاج
الول !
ن اللّهَ
عدُوّا لِلّهِ َومَل ِئكَ ِتهِ َو ُرسُلِهِ َوجِبْرِي َل َومِيكَالَ َفإِ ّ
يقول سبحانه وتعالى ( :مَنْ كَانَ َ
ومعلوم أن جبريل وميكال هما من الملئكة المذكورين من قبل ،ولم يمنع ()2
عدُ ّو لِ ْلكَافِرِينَ )
َ
ذلك من عطف جبريل وميكال على الملئكة ،لن عطف الجزء على الكل ،أو عطف
الخاص على العام جائز ومعروف في اللغة التي نزل بها القرآن لمعانٍ بلغية معروفة .
ح ْمدِ َر ّب ِهمْ
ن حَوَْلهُ ُيسَ ّبحُونَ ِب َ
ن ا ْل َعرْشَ َومَ ْ
حمِلُو َ
ن َي ْ
ويقول سبحانه وتعالى ( :اّلذِي َ
. ()3
وَ ُي ْؤمِنُونَ بِ ِه )
فالتسبيح المقدم في اللفظ ،هو من مقتضيات اليمان ،أو من العمال المقترنة به ،ولم
ومعروف في اللغة لمعانٍ بلغية ..ول يقتضي شيء من ذلك المغايرة بين المعطوف
والمعطوف عليه ،ل في المثال الول ول المثال الثاني ،بل هما مقترنان اقتران الحتواء :
كما أن الستدلل بالعطف الوارد في اليات القرآنية بين اليمان وعمل الصالحات على
استقلل كل منهما عن الخر وعدم دخوله في مسماه ول في معناه ساقط من جهة أخرى
باليات التي ورد فيها ذكر اليمان مقترنا بعمل الصالحات ل معطوفا عليه .
ن َتجْرِي مِنْ
عدْ ٍ
جنّاتُ َ
ع ِم َل الصّا ِلحَاتِ َفأُوَل ِئكَ َل ُهمُ ال ّد َرجَاتُ ا ْلعُلَى َ
( َومَنْ َي ْأتِ ِه مُ ْؤمِنا قَدْ َ
ل تحتمل إل أحد معنيين :إما أن يكون عمل الصالحات هو مقتضى اليمان ومضمونه ،
بمعنى أنه من كان مؤمنا فحاله أنه يكون قد عمل الصالحات .وإما أن يكون عمل الصالحات
-مع اليمان -هما شرط دخول الجنة .وفي الحالين يكون اليمان وعمل الصالحات
فإن قيل :إن عمل الصالحات شرط للوصول إلى " الدرجات العلى " وحدها ل مجرد
دخول الجنة ،وإن دخول الجنة ل يشترط له إل التصديق والقرار فحسب ،فالية الواردة في
جنّةَ وَل
ن ا ْل َ
ن َي ْع َملْ مِنَ الصّا ِلحَاتِ ِمنْ َذ َكرٍ أَ ْو ُأ ْنثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َفأُوَل ِئكَ َي ْدخُلُو َ
( َومَ ْ
فهنا تقدم ذكر العمل الصالح وجاء القيد -أو الشرط -في جملة الحال " وهو مؤمن "
ن َلهُـمْ َأجْرا
ن الصّاِلحَـاتِ أَ ّ
ن َي ْعمَلُو َ
كذلك قوله تعالى َ ( :و ُي َبشّـ َر ا ْلمُ ْؤ ِمنِيـنَ اّلذِي َ
. ()1
حسَنا )
َ
فل يخرج المعنى عن أن يكون أن عمل الصالحات هو شأن المؤمنين ،أو أن يكون
واليات كلها ذات دللة واضحة تدحض كل ما قاله المرجئة في شأن انفصال اليمان
عن العمل ،واعتبار اليمان المقبول عند ال ،المستوجب لدخول الجنة هو التصديق والقرار
فحسب !
فالمعصية في عمل الجوارح ل تخرج من اليمان كما اتفق علماء السلم .فل بد إذن
أن يكون اليمان شيئا قائما بذاته ،غير مرتبط بالعمل ،وإل لزالت صفة اليمان عمن يرتكب
والحتجاج بالمعصية على هذه الصورة فيه -ككل حججهم -مغالطة مكشوفة !
وتأثير المعصية في حال النسان حقيقة ل تحتاج إلى تأكيد ،لنها ملحوظة مشهودة
معهودة .ولكن يكفينا هذا التقرير من رسول ال -صلى ال عليه وسلم -أعلم الناس بحقيقة
اليمان ،وحقيقة القلب البشري ،وحقيقة ما يحدث من أثر المعصية فيه .
قلبه ،وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ،وهو الران الذي ذكره ال تعالى " :كل بل ران
على قلوبهـم وكانوا يكسبـون .كل إنهـم عن ربهم يومئذ لمحجوبـون ،ثم إنهـم لصالوا
. ()1
الجحيم "
والقلب هو محـل اليمان ..فكيف يستوي القلب السود مـع القلب البيض في
اليمان ؟!
إنما يتأثر اليمان بالطاعة والمعصية فيزيد وينقص ،ول يتصور بحال أن يكون حاله
ومع ذلك فينبغي -كما أشرنا من قبل -أن نضع حدودا للمعصية ل تتعداها مهما اتسع
نطاقها ،وهي حدود ل نضعها من عند أنفسنا ،إنما هي مستنبطة من كتاب ال وسنة رسوله
فالمعصية غير الستحلل .والستحلل يخرج من اليمان ولو لم يقترف النسان العمل
والمعصية ل يدخل فيها ما ينقض أصل اليمان .والتشريع بغير ما أنزل ال ( أي
الشخص الواحد .ومن لم يعمل عمل واحدا من أعمال السلم في حياته كلها يستحيل أن
نطق بالشهادتين اعتبر لتوه مسلما ،وأجريت عليه الحكام الظاهرة في الحياة الدنيا ،وحسابه
وتلك من أكبر مزالق الفهم في شأن مقتضيات ل إله إل ال ! لنها في ذاتها حقيقة ،
ولكن دللتها ليست على النحو الذي يذهبون إليه ..وإليك الدليل !
حقيقة إنه من كان يجيء إلى رسول ال -صلى ال عليه وسلم -يقول :أشهد أل إله
إل ال وأن محمدا رسول ال ( أو ما في معناها ) كان يعتبر لتوه مسلما ،ويدخل في عداد
ولكن الستدلل بهذا على أن نطق ل إله إل ال باللسان -وحده -هو الذي أعطى
صفة السلم في الحياة الدنيا ،وأنه ل ُيطْلَبُ من النسان غيره ليصبح مسلما في الحياة الدنيا
فالمرتد الذي ما يزال ينطق بلسانه :ل إله إل ال محمد رسول ال ،ولكنه أنكر شيئا
من مقتضيات ل إله إل ال ،فأنكر الصلة أو الصيام أو الزكاة أو الحج ،أو تحاكم مريدا
راضيا إلى غير شريعة ال ،عقوبته في الحياة الدنيا هي القتل ،وعقوبته في الخرة الخلود
فهل يتصور من عدل ال سبحانه ،أن يأمر بقتل إنسان في الحياة الدنيا ،وأن يدخله
النار خالدا فيها في الخرة على أمر لم يطلبه منه ولم يلزمه به ولم ُيعِْلمْ ُه به ؟!
ب من ذلك
ف لفّهم -فإنه لم ُيطْلَ ْ
إذا أخذنا ظاهر الحال -الذي يستدل به المرجئة ومن ل ّ
محمد رسول ال ،ول يستقيم تصور عدل ال -سبحانه وتعالى -في الدنيا والخرة ،إل أن
يكون هذا النطق باللسان قد تضمن مقتضى معينا ،علمه الناطق ،وعلم أنه مُ ْل َزمٌ به ،فلما
نكل عنه -مع أنه ما يزال ينطق اللفاظ بلسانه -حكم عليه بالقتل في الحياة الدنيا ،والخلود
أعني هل يمكن أن يكون كل المطلوب هو أن ينطق بلسانه أنه ل إله إل ال وأن محمدا
كل ! ل يستقيم المر إل على أساس واحد ..هو أنه حين طلب منه أن يقول بلسانه :
ل إله إل ال محمد رسول ال ،قد طلب منه ضمنا أن يلتزم بمقتضى الشهادتين ،وهو
فإذا قال قائل :لو كان هذا اللتزام مطلوبا لكتساب صفة السلم لنص عليه الرسول
-صلى ال عليه وسلم -نصا ،كما نص على ضرورة النطق بل إله إل ال ..ولكنا ل نجد
فنقول :صحيح أن رسول ال -صلى ال عليه وسلم -لم ينص على هذا المر .فلم
يقل لمن جاءه يقول ل إله إل ال محمد رسول ال :وتتعهد أيضا أن تقيم الصلة وتؤتي
الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيل ،وتتعهد كذلك بالتحاكم إلى
شريعـة ال وعدم التحاكم إلى شرائع الجاهليـة ( وهذا كله هو المقتضى المرتبط بل إله إل
ال ) .
بل قال -صلى ال عليه وسلم " : -أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ل إله إل ال ،
فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم ،إل بحقها " (. )1
نعم ،لم ينص -عليه الصلة والسلم -إل على النطق ،ولم ينص على المقتضى
المتضمن في النطق إل في مرحلة التعليم .فقد قال لمعاذ -رضي ال عنه -وهو يبعثه إلى
" إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة ال -عز وجل -فإذا
هم عرفوا ذلك فأخبرهم أن ال فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ،فإذا فعلوا
. ()2
فأخبرهم أن ال فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " ..
فلما تم التعليم أصبح هذا المر " من المعلوم من الدين بالضرورة " كما يقول علماء هذا
الدين .أي أصبح من المعلوم عند من ينطق بل إله إل ال وأن محمدا رسول ال أنه مطلوب
منه إقامة الصلة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيل .وأصبح
من المعلوم عنده أن ال قد أنزل أحكاما وفرضها على من يعتنق هذا الدين ،وأن هذه الحكام
هي التي يجري العمل بها في المجتمع السلمي وما سواها باطل .وبناء على هذا العلم ،
أصبـح من نكـل عن مقتضـى ل إله إل ال يعاقب هذا العقاب الشديد في الدنيـا والخرة
وهناك أمر آخر مستمد من واقع المجتمع السلمي له نفس القوة في شأن اللتزام
بمقتضيات ل إله إل ال .فقد كان للسلم منذ وجد المجتمع السلمي كيان قائم بالفعل ،له
صورة واقعة ،معلومة وذائعة ،ل مفترضة افتراضا ول متخيلة خيال .فمعلوم سلفا عند كل
من جاء يقول ل إله إل ال أن " المسلم " يصلي صلوات معينة في اليوم والليلة ،ويصوم
بأحكام معينة منزلة من عند ال حدد فيها للمسلمين الحلل والحرام .ومعلوم عنده سلفا أن
المسلم ملتزم بهذا كله ،وأن هذا هو مقتضى كونه مسلما ،وأنه إن نكل عن شيء من ذلك
فهو مرتد يوقع عليه حد الردة .فل يعقل أن يجيء لينطق بالشهادتين وهو يعتزم في دخيلة
نفسه أن يعرض نفسه للقتل من قبل سلطان الشريعة القائم في الرض بالفعل ! إنما المنطقي
والمعقول ،أن يكون -وقد جاء ينطق بالشهادتين -قد اعتزم اللتزام بسلطان الشريعة القائم
و ل ينفي هذا بطبيعة الحال أن يكون جاهل بكثير من الحكام الفرعية .فكثير منها ل
يعلمه إل المتفقهون في أمر الدين ولكن الذي ل يمكن أن يجهله هو مبدأ اللتزام بما جاء من
عند ال ،وأن هذا اللتزام -على الجملة -هو مقتضى نطقه بل إله إل ال .
من أجل هذا كان يطلب ممن جاء يدخل في السلم أن ينطق بالشهادتين ،ول يطلب
منه أن يقر بالصلة والصيام والزكاة والحج ،ويقر باللتزام بأحكام شرع ال ،لن هذا كله
صار " من المعلوم من الدين بالضرورة " بعد أن انتهت فترة التعليم في مبدإ السلم .وأصبح
الذي ينطق بلسانه " ل إله إل ال محمد رسول ال " ثم ينكل عن شيء من مقتضياتها يوقع
عليه حد الردة في الحياة الدنيا ،ويخلد في النار في الخرة ،بالتزام واضح ل لبس فيه .
ولم يكن هذا اللتزام بمقتضيات ل إله إل ال في المجتمع المسلم شأن المؤمن بهذا الدين
وحده كما يتوهم بعض الناس ،بل هو شأن كل إنسان ينطق بل إله إل ال ولو كان كافرا
منافقا ممن هم في الدرك السفل من النار ! فإن المنافق -الذي قد يُعرف في لحن القول وقد
يعرف من فتوره في أداء الصلة أو غير ذلك من العلمات -ل يحتفظ بحياته في المجتمع
المسلم ،ول تجري عليه أحكام السلم ،إل بنطقه بل إله إل ال ،والتزامه بالتحاكم إلى
فهذا هو الحد الذي يستوي فيه الناس جميعا ليحصلوا على صفة السلم في المجتمع المسلم ،
وليحافظوا على هذه الصفة ،وليحافظوا على أنفسهم من توقيع حد الردة عليهم ..إنما الفارق
أن المؤمن يصنع ذلك كله إيمانا وتصديقا وطاعة وقربى إلى ال بينما يفعل المنافق ذلك كله
أي أن مظهرية السلم ذاتها في المجتمع المسلم -أي الذي يتحاكم إلى شريعة ال -ل
تنال إل بنطق الشهادتين واللتزام بمقتضاهما ،وأداء الصلة على أقل تقدير .وهي المور
التي ظل الناس متعارفين عليها ،وملتزمين بها -مؤمنهم ومنافقهم سواء -طيلة ثلثة عشر
يحتجون كذلك بحادثة أسامة بن زيد حين قتل رجل قال ل إله إل ال بعد أن عله
أسامة بالسيف ،وأن رسول ال -صلى ال عليه وسلم -غضب منه غضبا شديدا وعاتبه
عتابا قاسيا ،وظل يكرر عليه :قتلته بعد أن قال ل إله إل ال ؟! ولم يقبل منه اعتذاره بأن
الرجل قالها متعوذا ( أي من السيف ) ،يعني لم يكن مؤمنا بها .وقال له :هل شققت عن
إن ل إله إل ال ترفع السيف قطعا .أي تمنع قتل من نطق بها .ولكن هل تعطيه صفة
فحكم ال في القضية أنه من قال ل إله إل ال ولو كان متعوذا ل يجوز قتله .ولكن إذا
لم يلتزم بأحكام السلم فهل يظل يعامل على أنه مسلم ؟!
يعني جاء وقت أول صلة بعد قوله ل إله إل ال فلم يَ ُقمْ للصلة ،وأبى ،فما حكمه ؟
فنطق ل إله إل ال قد رفع عنه السيف ،نعم ،ولكنه وضعه موضع المراقبة للتبين .
فإن تبين أنه التزم بمقتضيات ل إله إل ال -ولو كان منافقا -فهو مسلم في الحياة الدنيا
وحسابه على ال في الخرة ،وإل احتسبت عليه قولته ،ووقع عليه حد الردة لنكوله عن
وفي جميع الحوال يكون ثبات صفة السلم لي إنسان في الحياة الدنيا موكول
باللتزام بمقتضيات ل إله إل ال بعد نطقه بالشهادتين ،سواء كان مؤمنا حقا أم كان من
المنافقين .
ثم تحدث المعاصي في المجتمع المسلم ،وتمتد وتمتد ،ولكنها تقف عن نقطتين
ويحتجون بحادثة الجارية التي سألها رسول ال -صلى ال عليه وسلم : -أين ال ؟
فأشارت إلـى السماء ،فسألهـا :من أنا ؟ قالت رسول ال .فقال لسيدها " :أعتقها فإنها
مؤمنة " .ويقولون :لو كان المطلوب لثبات اليمان شيئا آخر وراء النطق بالشهادتين ما
أعطى رسول ال -صلى ال عليه وسلم -صفة اليمان بمجرد النطق ( أو ما يدل عليه ) .
وتلك من أكبر القضايا التي أثارها المرجئة -قدماؤهم ومحدثوهم -ليثبتوا أن كل
والتصديق .
لن النص أقوى دللة منها وأوثق ،أي أنها صحيحة في ذاتها ولكن ل يقاس عليها (.. )1
أو أخذنا بقول المام ابن تيمية -رحمه ال -أن نطق الشهادتين كافٍ لجراء الحكام
في الحياة الدنيا -والعتق من بينها -ولكنه ليس دليل على اليمان (.. )2
سواء أخذنا بهذا القول أو ذاك ،فالقضية الصلية ما تزال واحدة .فالذي ينطق بل إله
إل ال يفترض فيه أنه ملتزم بمقتضيات ل إله إل ال ،ول يفترض فيه ابتداء غير ذلك ،لن
يقول المام الشاطبي ( :الموافقات جـ 3ص ، 166 - 165مطبعة محمد علي صبيح ،القاهرة ) ()
1
إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فل تؤثر فيها معارضة قضايا العيان ول حكايات الحوال .والدليل على ذلك
أمور :
أحدها :أن القاعدة مقطوع بها بالفرض ،لنا إنما نتكلم في الصول الكلية القطعية ،وقضايا العيان
مظنونة أو متوهمة ،والمظنون ل يقف للقطعي ول يعارضه .
والثاني :أن القاعدة غير محتملة ( أي لتحتمل وجها آخر ) لستنادها إلى الدلة القطعية ،وقضايا
العيان محتملة ،لمكان أن تكون على غير ظاهرها ،أو على ظاهرها وهي مقتطعة مستثناة من ذلك
الصل ،فل يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه .
والثالث :أن قضايا العيان جزئية ،والقواعد المطردة كليات ،ول تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات ...
يقول المام ابن تيمية ( :الفتاوى -كتاب اليمان -الجزء السابع ) مقتطفات من ص - 209ص 215 ()
2
،طبع مؤسسة الرسالة ،بيروت 1398 ،هـ قلت :وأما احتجاجهم بقوله للمة " :أعتقها فإنها مؤمنة " فهو
من حججهم المشهورة ،وبه احتج ابن كلّب ،وكان يقول :اليمان هو التصديق والقول جميعا ،فكان قوله
أقرب من قول جهم وأتباعه .وهذا ل حجة فيه ،لن اليمان الظاهر الذي تجري عليه الحكام في الدنيا ل
يستلزم اليمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الخرين .فإن المنافقين الذي قالوا ( :آمنا
بال وباليوم الخر وما هم بمؤمنين ) هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون
،والمسلمون يناكحونهم ويوراثونهم كما كان المنافقون على عهد رسول ال -صلى ال عليه وسلم ... -
وال تعالى لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة ،لم يكن على الناس أل يعتقوا إل من يعلموا أن اليمان في
قلبه ،فإن هذا كما لو قيل لهم :اقتلوا إل من علمتم أن اليمان في قلبه .وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب
الناس ول يشقوا بطونهم ،فإذا رأوا رجل يظهر اليمان جاز لهم عتقه .وصاحب الجارية لما سأل النبي -
صلى ال عليه وسلم -هل هي مؤمنة ؟ إنما أراد اليمان الظاهر الذي يفرق به بين المسلم والكافر .وكذلك
من عليه نذر لم يلزمه أن يعتق إل من علم أن اليمان في قلبه ،فإنه ل يعلم ذلك مطلقا ،بل ول أحد من
الخلق يعلم ذلك مطلقا ...والمقصود أن النبي -صلى ال عليه وسلم -إنما أخبر عن تلك المة باليمان
الظاهر الذي علقت به الحكام الظاهرة ...
هذا اللتزام هو من المعلوم من الدين بالضرورة ،وبهذا اللتزام المفترض يأخذ صفـة
السلم ،أي بالمقتضى المتضمن في النطق ل بالنطق وحده .فإن نكل عن المقتضى وإن
كان ما يزال مستمرا في النطق فهو مرتد عن السلم ،ل ينجيه من توقيع حد الردة عليه في
المجتمع المسلم أن يقول :لم أكن أعلم ! ولم يحدث مرة واحدة في تاريخ السلم خلل الثلثة
عشر قرنا التي كانت تطبق فيها شريعة السلم أن أحدا من الناس قال :لم أكن أعلم أن
للسلم مقتضيات !! وإن جهل أحكام الفروع كلها واحتاج إلى السؤال عنها ليتعلمها !!
ويحتجون أخيرا بأن رسول ال -صلى ال عليه وسلم -قال " :من قال ل إله إل ال
دخل الجنة " وقال -عليه الصلة والسلم " : -من مات وهو يعلم أنه ل إله إل ال دخل
وليس من الضروري أن نقول في شأن هذه الحاديث إنها قيلت في مكة قبل نزول
التكاليف وإنها نسخت في المدينة بعد نزولها كما يقول بعض العلماء .
يقول الحافظ المنذري " :ذهبت طوائف من أساطين أهل العلم إلى أن مثل هذه
الطلقات التي وردت فيمن قال ل إله إل ال دخل الجنة أو حرّم على النار أو نحو ذلك كان
في ابتداء السلم حين كانت الدعوة إلى مجرد القرار بالتوحيد ،فلما فرضت الفرائض
وحدّت الحدود نسخ ذلك ،والدلئل على هذا كثيرة متظاهرة ،وإلى هذا القول ذهب الضحاك
والزهري وسفيان الثوري وغيرهم .وقالت طائفـة أخرى :ل احتياج إلى ادعاء النسخ في
وتتماتـه ،فإذا أقر ثم امتنـع عن شيء من الفرائض جحدا أو تهاونا على تفصيل الخلف
. ()1
فيه ،حكمنا عليه بالكفر وعدم دخول الجنة "
الترغيب والترهيب 220 / 3تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد . ()
1
ويقول ابن القيم " :وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه ل خالق إل ال وأن ال رب
كل شيء ومليكه كما كان عباد الصنام يقرون بذلك وهم مشركون .بل التوحيد يتضمن من
محبة ال والخضوع له والذلة له وكمال النقياد لطاعته وإخلص العبادة له وإرادة وجهه
العلى بجميع القوال والعمال والمنع والعطاء والحب والبغض ما يحول بين صاحبه وبين
السباب الداعية إلى المعاصي والصرار عليها .ومن عرف هذا عرف قول النبي -صلى
ال عليه وسلم " : -إن ال حرّم على النـار من قال ل إله إل ال يبتغي بذلك وجه ال "
وقوله " :ل يدخل النار من قال ل إله إل ال " وما جاء من هذا الضرب من الحاديث التي
أشكلت على كثير من الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة ،وظنها بعضهم قيلت قبل ورود
الوامر والنواهي واستقرار الشرع ،وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار ،وأوّل
بعضهم الدخول بالخلود فقال :المعنى ل يدخلها خالدا ،ونحو ذلك من التأويلت المستكرهة .
والشارع -صلوات ال وسلمه عليه -لم يجعل ذلك حاصل لمجرد قول اللسان فقط ،فإن
هذا خلف المعلوم من دين السلم .فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين لها ،
في الدرك السفل من النار ..فل بد من قول القلب وقول اللسان .وقول القلب يتضمن من
معرفتها والتصديق بها ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والثبات ،ومعرفة حقيقة اللهية
المنفية عن غير ال ،المختصة به ،التي يستحيل ثبوتها لغيره ،وقيام هذا المعنى بالقلب علما
ومعرفة ويقينا وحال ما يوجب تحريم قائلها على النار ..وتأمل قيام ما قام في قلب قاتل
المائة من حقائق اليمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية وحملته وهو في تلك
الحال على أن جعل ينتقل بصدره ويعالج سكرات الموت ،فهذا أمر آخر وإيمان آخر ،ول
()1
جرم أنه ألحق بالقرية الصالحة وجعل بين أهلها " ...
ونقول بعد ذلك :إنه ل حرج على فضل ال .فإن شاء -سبحانه وتعالى -أن يخرج
من النار من قال ل إله إل ال وفي قلبه مثقال ذرة من خير ..أو إن أخرج -بفضله -من
مدارج السالكين ج 1ص 332 - 330طبعة دار الكتاب العربي 1392هـ . ()
1
النار قوما لم يفعلوا خيرا قط ..فهذا شأنه سبحانه ،وهذا فضله ،وتلك رحمته ..
فهذا المصير الذي يصير إليه فئة من الناس -بعد أن يذوقوا العذاب على معاصيهم
وآثامهم ،وبعد أن يقضي ال في حق العباد ،فيدخل الجنة -بفضله -من يستحقها من
العاملين بمقتضيات ل إله إل ال ،وبعد أن يشفع الرسول -صلى ال عليه وسلم -لمن يشفع
من عباد ال ..هذا المصير الذي يصير إليه هؤلء ،فينجون -بفضل ال ورحمته -من
الخلود في النار بعد أن يمكثوا فيها ما شاء ال لهم أن يمكثوا ..هل ينبغي أن يكون هو غاية
السعي التي يسعى النسان إليها ،ويحدد جهده من أول لحظة على مقاسه ؟!
تشكل لجان في الختبارات تسمـى " لجان الرأفة " تنظر في شأن الراسبين في
الختبار ،فتحاول أن تستنقذ من الرسوب من تجد مسوغا لستنقاذه .ثم تظل تراجع وتراجع
حتى تنتهي في النهاية إلى التعطف على من تجد أدنى مبرر لخراجه من قائمة الرسوب .
فلو أن الطلب قالوا لنفسهم من مبدإ الطريق :هناك لجان الرأفة سترأف بحالنا
وتمنحنا النجاح على أدنى جهـد نقوم به ،بل إنها قد تمنحـه لقوم لم يبذلوا جهدا على
الطلق ..فهل يكون لعملية التعليم كلها قيمة ؟ وهل تؤدي أي هدف من أهدافها ؟ وهل يكون
إنما تبقى هذه اللجان تقـوم بعملها ،فتستنقذ فريقـا من الضعفاء حقا ،الذين حاولـوا
-بصدق -ولكن لم يحصلوا ،فتكافئهم على صدق النية وصدق المحاولة رغم ضعف
الحصيلة .ولكنها حين تجد القوياء القادرين -الذين تعـرف منهم قوتهم وقدرتهم -قد
تواكلوا ،وبددوا في اللهو والعبث طاقتهم التي كان يمكـن أن يصرفوها في التحصيل
والدرس ،استهانة منهم بالتبعة ،واستخفافا بالختبار ،واعتمادا على أن لجان الرأفة
ستنجحهم مهما تكن نتيجة عملهم ..فهل تقوم لجان الرأفة عندئذ بإنقاذهم ؟!
مرة أخرى نقول :ل حرج على فضل ال ..وسعت رحمته كل شيء سبحانه ..ندعوه
أن يغفر لنا ذنوبنا ويكفر عنا سيئاتنا ،ويرحم ضعفنا ،ويقيل عثرتنا ،ويسدد خطانا .
ولكنا نحسب أن حديث الرسول -صلى ال عليه وسلم -قد قصد به أل ييأس أحد من
رحمة ال ،ولم يقصد به أن يفصّل منه المرجئة إسلما بل تكاليف ،ثم يزعموا أن هذا ما
أراده ال بهذا الدين ! ودليلنا أن رسول ال -صلى ال عليه وسلم -لما سأله معاذ -رضي
. ()1
ال عنه : -يا رسول ال أفل أبشر الناس ؟ قال " :ل تبشرهم فيتكلوا "
ثم إنه إن سامح ال أولئك المذنبين في الخرة بعد أن يذوقوا العذاب على ما اقترفوا من
الذنوب ،فلم يخلدهم في النار ،إنما شملهم برحمته الواسعة فأنقذهم من الخلود فيها وأدخلهم
الجنة ..فهل يصلح أمر هذا الدين في الحياة الدنيا حين يصبح أهله -كلهم أو غالبيتهم -من
الساقطين الذين يتهافتون في النار ،حتى تنقذهم رحمة ربهم من الخلود فيها ؟!
إن الواقع الذي نعيشه اليوم خير شاهد في هذه القضية .فالذل والهوان والضعف ،
وغلبة العداء الذين ل يرقبون في المسلمين إلّ ول ذمة ،وعدوانهم المستمر على كراماتهم
ودمائهم وأعراضهم وأموالهم ،هو الحال حين يكون الناس غثاء كغثاء السيل ..وهم ل
يكونون كذلك إل حين يكون إسلمهم هو إسلم التصديق والقرار ،بل عمل يعمل من
مقتضيات التصديق والقرار ..فهل يقبل ال من عباده أن يضيعوا دينه ،وينكلوا عن المهمة
التي أخرجهم من أجلها ،ثم يكون هذا هو الصل الذي يفصّل الدين كله على مقاسه ؟!
إن المجتمع القوي اليمان ،الراسخ القدم في العمل بمقتضيات ل إله إل ال ،يستطيع
أن يحمل في تياره ضعاف اليمان ،والكسالى والمتباطئين والمتثاقلين ،ويمضي في طريقه
والمتباطئين والمتثاقلين ،فهل يقدر على شيء ،وهل يصل إلى شيء ؟!
تستطيع الشجرة القوية أن تحمل بعض الوراق الذابلة المصفرة ،بل بعض الغصان
المتهاوية كذلك ،ثم تؤتي ثمارها ل تضيرها تلك الوريقات ول الغصان .ولكن حين تطالب
كل ورقة في الشجرة بحقها في أن تكون ذابلة مصفرة ،وأن يحتسب لها مع ذلك حقها في
الوجود على هذه الصورة ما دامت لم تسقط من الشجرة بعد ،فهل لهذه الشجرة من مصير إل
فإذا كان ال -من رحمته بعباده -يتقبل أولئك الضعفاء ،بعد أن يطهرهم من
أرجاسهم بالمكوث في نار جهنم ما شاء ال أن يمكثوا ،فهل يجوز لنا أن نقول :إن هذا هو
المطلوب من المؤمنين ول زيادة ،ومن قال إنهم مكلفون بأكثر من ذلك فهو متزيد على دين
ال ؟!
مرة ثالثة نقول :ل حرج على فضل ال ،يدخل في رحمته من يشاء .ولكن ال هو
الذي أنزل هذه التكاليف وفرضها على المؤمنين .وهو الذي قال :إن دخول الجنة ل يكون
ن دُونِ اللّهِ
جدْ َلهُ مِ ْ
جزَ ِبهِ وَل َي ِ
س بِ َأمَانِ ّي ُكمْ وَل َأمَانِيّ أَ ْهلِ ا ْل ِكتَابِ َمنْ َي ْعمَلْ سُوءا ُي ْ
( لَيْ َ
جنّةَ
ن َذكَرٍ َأوْ ُأ ْنثَى وَهُ َو مُ ْؤ ِمنٌ َفأُوَل ِئكَ َي ْدخُلُونَ ا ْل َ
ن الصّا ِلحَاتِ مِ ْ
وَِليّا وَل َنصِيرا َومَنْ َي ْع َملْ مِ َ
أسلفنا -عند نقطتين اثنتين ،ل يتجاوزونهما في كل ما يخرجونه من " العمل " من مقتضى
اليمان :الصلة والتحاكم إلى شريعة ال ،وإن كانوا -نظريا -يقولون :إن العمل كله
خارج من مقتضى اليمان ،إل أنهم حين يتكلمون في الفقه -وكثير منهم كانوا فقهاء -
يعرفون جيدا أن هناك أعمال ل بد من أن يحافظ عليها النسان لكي تظل له صفة السلم في
لقد ولدوا في مجتمع ل يحكم بشريعة ال ..وفي مجتمع ل تؤدى فيه الصلة ( ول
غيرها من العبادات ) ،ثم تناولوا الجرعة المسمومة من الفكر الرجائي ،فمدوا فكرهم حتى
شملوا به كل شيء من مقتضيات ل إله إل ال ،فقالوا :من قال ل إله إل ال فهو مؤمن ولو
لم يعمل عمل واحدا من أعمال السلم ..فتجاوزوا الحاجزين الخيرين اللذين كان المرجئون
القدامى قد وقفوا عندهما :حاجز الصلة وحاجز الشريعة ..فوصفوا المجتمعات التي ل تحكم
بما أنزل ال بأنها مجتمعات إسلمية ،ووصفوا الناس -كل الناس -بأنهم مسلمون ،ما
ونحب أول أن نرجع إلى الحديث الذي يستندون إليه " :من قال ل إله إل ال دخل
أسلفنا القول أننا ل نحتاج أن نقول إنه نسخ بنزول التكاليف في المدينة .ولكنا نقول
فقط إنه خصص بأحاديث أخرى من قول الرسول -صلى ال عليه وسلم -فاشترط فيه
وقال -عليه الصلة والسلم " : -من مات ل يشرك بال شيئا دخل الجنة " (. )2
وبالمقابلة والجمع بين الحديثين يتحدد لنا في شأن ل إله إل ال أن البراءة من الشرك
هي شرط قبولها عند ال في الخرة .وقد حدد ال ذلك تحديدا قاطعا في كتابه المنزل :
. ()3
ن ُيشْ َركَ ِبهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِل َمنْ َيشَاءُ )
( ِإنّ اللّهَ ل َيغْ ِفرُ أَ ْ
فالتوجه لغير ال بشيء من ألوان العبادة كالدعاء أو الستعانة أو الستغاثة أو النذر أو
الذبح ..شرك ل شك فيه .وما أكثر ما يتكلم الخطباء في هذا اللون من الشرك !
والظن بأن مع ال من يرزق أو يضر أو ينفع ..شرك ل شك فيه ..وما أكثر ما يتكلم
فيه الخطباء !
فلم يعودوا يفرقون بين المعصية والشرك ،وصاروا ينظرون إلى هذا اللون من الشرك على
أنه معصية مغفورة ..إن لم ينظروا إليه على أنه " ضرورة " مباحة ل إثم فيها .بل إن لم
يكن في حسهم -من وراء ذلك -أنها تقدم وتحضر وانعتاق من الغلل !!
لقد جاء الغزو الصليبـي بادئ ذي بدء فنحّى الشريعة السلمية من كل بلد دنستها
قدماه .ثم قيل للناس :ل بأس عليكم ! ما دمتم تصلون وتصومون فأنتم مسلمون وإن لم
ثم سلط الغزو الصليبي ( واليهودي في أطوائه ) على الناس ما يصرفهم حتى عن
الصلة والصوم .ثم قيـل للناس :ل بأس عليكم ! ما دمتم تقولون ل إله إل ال فأنتم
مسلمون !
وهكذا بقي السلم معلقا بذلك الخيط الرفيع ،وهو نطق ل إله إل ال باللسان ،بغير
مقتضى في حياة الناس على الطلق .ثم جاء المرجئة المحدثون -بما تناولوا من سموم
الفكر الرجائي -فقالوا :ل بأس على الناس ! فاليمان هو التصديق والقرار .ومن قال ل
ولكنا نحتاج أن نتذكر قضية ذات أهمية بالغة ..إن ل إله إل ال تظل مقبولة عند ال
طالما هي بريئة من الشرك -بصرف النظر مؤقتا عن قضية " العمل " وما دار حولها من
ضللت المرجئة المحدثون -فإن أصابها الشرك فقد نُ ِقضَتْ نقضا ،ولم تعد مقبولة أي قبول
عند ال ..
ومن مصائبنا التي ابتلينا بها في قرننا الخير هذا أننا نحدّث الناس عن نواقـض
الوضوء وندرسها للطلب في معاهدنا الدينية مئات المرات وفي مئات الصفحات ..و ل
نحدثهم عن نواقـض ل إله إل إل ! فإن حدثناهم فعن شرك العتقاد وشرك العبادة وحدهما
خذُوا
دخل عدي بن حاتم على رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وهو يتلو ( ا ّت َ
-صلى ال عليه وسلم : -ألم يحلوا لهـم الحرام ويحرموا عليهم الحلل فاتبعوهم ؟ قال :
! ()2
بلى ! قال :فذلك عبادتهم إياهم
هكذا يقول ال سبحانه وتعالى ،وهكذا يقول رسوله -صلى ال عليه وسلم -ثم هم
مرّ بنا القول أن قضية التشريع هي من قضايا العقيدة الرئيسية ،وأن السور المكية
تحدثت عنها حتى قبل نزول الحكام التفصيلية التي تحكم حياة المجتمع السلمي .فقال تعالى
()3
ن َر ّبكُمْ وَل َت ّت ِبعُوا مِنْ دُونِ ِه أَوِْليَا َء )
( ا ّت ِبعُوا مَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْي ُكمْ مِ ْ
()4
ن الدّينِ مَا َلمْ َي ْأذَنْ ِبهِ اللّهُ )
شرَعُوا َل ُهمْ مِ َ
ش َركَاءُ َ
( َأمْ َل ُهمْ ُ
ثم لما نزلت الحكام التفصيلية في المدينة ،وصار للسلم صورة تطبيقية عملية ،
ملتزمة بأحكام ال بالضافة إلى العبادات ،الحلل فيها هو ما أحل ال ،والحرام هو ما حرم
ال ،نشأت قضية جديدة في المدينة هي قضية المنافقين الذين يتظاهرون بقبول السلم ولكن
نفوسهم غير مذعنة لحكام ال ،يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ( وكل حكم غير حكم ال
طاغـوت ) ويريدون أن يكون الحلل والحرام حسب أهوائهم أو أعرافهم ل حسب ما أنزل
ال .
حرَجا ِممّا
س ِهمْ َ
جدُوا فِي َأنْ ُف ِ
شجَ َر َب ْينَ ُهمْ ُثمّ ل َي ِ
ح ّكمُوكَ فِيمَا َ
( فَل َو َربّكَ ل ُي ْؤمِنُونَ حَتّى ُي َ
. ()4
ح ُكمَ َب ْي َن ُهمْ ِإذَا َفرِيقٌ ِم ْن ُهمْ ُم ْعرِضُونَ )
ن وَِإذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ َورَسُوِلهِ ِل َي ْ
بِا ْل ُم ْؤمِنِي َ
فتبين من ذلك أن محك صدق اليمان -بعد اكتمال الدين -أصبح هو التحاكم إلى
شريعة ال بعد سلمة العتقاد وأداء العبادات .وأن سلمة العتقاد وحدها لم تعد تكفي .ولم
مما كان لها من المقتضيات في مكة .واليمان بل إله إل ال يقتضي اللتزام بكل ما لها من
المقتضيات ( مع وقوع المعصية التي ل تنقض أصل اللتزام ) .فحين كان كل مقتضى ل إله
إل ال في مبدإ الدعوة في مكة هو اليمان بوحدانية ال -سبحانه وتعالى -واليمان بأنه
أرسل رسوله -صلى ال عليه وسلم -ليبلغ عنه ،كان اليمان بذلك هو كل المطلوب من أي
إنسان يدخل في دين ال .ولما فرضت بعض العبادات صار المقتضى المطلوب هو اليمان
بوحدانية ال وإرساله لرسوله -صلى ال عليه وسلم -وأداء تلك العبادات ،فلما تمت
العبادات في المدينة وأنزلت الحكام صار المقتضى المطلوب هو اليمان بال ورسوله ( وما
حول ذلك من تفاصيل حددها الوحي ) والقيام بالعبادات المفروضة ،واللتزام بشرع ال .ولم
ولكن المنافقين لم يكونوا يجادلون في قضية التوحيد ،ولم يكونوا يجادلون كذلك في أمر
العبادات ( وإن أدوها في فتور وكسل ) ولكنهم كانوا َيزْ َورّون ويعرضون عن الحكام التي
تضبط تصرفات المؤمن في حياته الدنيا ،فيميلون عنها إلى حكم الطاغوت ( وهو كل حكم
غير حكم ال كما أسلفنا ) .لذلك ركزت اليات القرآنية في المدينة -بمناسبة الحديث عن
، ()1
المنافقين -على قضية الحكم بما أنزل ال ،لنها هي القضية التي كانت مثارة يومئذ
()2
ل اللّ ُه َفأُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلكَافِرُونَ )
حكُمْ ِبمَا َأنْزَ َ
( َومَنْ َل ْم َي ْ
()3
ن)
ل اللّ ُه َفأُوَل ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُو َ
حكُمْ ِبمَا َأنْزَ َ
( َومَنْ َل ْم َي ْ
()2
ن)
حكْما لِ َق ْومٍ يُو ِقنُو َ
ن اللّ ِه ُ
ن مِ َ
حسَ ُ
حكْ َم ا ْلجَاهِِليّةِ َي ْبغُونَ َومَنْ َأ ْ
( َأ َف ُ
من أعجب العجب أن يقول لك قائل :إن ال قد أنزل فيهم هـذا الحكم لنهم كانوا
منافقين ! فقال عنهم :إنهم ل يؤمنون حتى يحتكموا إلى شريعة ال !! أما لو كانوا مؤمنين فلم
هل كان المؤمنون مؤمنين إل بأنهم تحاكموا إلى شريعة ال مع سلمة العتقاد وأداء
العبادات ؟!
س ِمعْنَا َوَأطَعْنَا
ن يَقُولُوا َ
حكُمَ َب ْي َن ُهمْ أَ ْ
ل ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ ِإذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ َو َرسُولِ ِه ِل َي ْ
ن قَوْ َ
( ِإ ّنمَا كَا َ
()3
ن)
وَأُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلمُفِْلحُو َ
خيَرَ ُة مِنْ
ن َل ُهمُ ا ْل ِ
ن ِلمُ ْؤمِنٍ وَل مُ ْؤ ِمنَ ٍة ِإذَا َقضَـى اللّ ُه َورَسُوُلهُ َأمْرا َأنْ َيكُو َ
( َومَا كَا َ
()4
َأ ْمرِهِمْ )
إنما أصبح المؤمنون مؤمنين لنهم التزموا -منذ قالوا ل إله إل ال محمد رسول ال -
وأطعنا ،فاستمرت لهم صفة اليمان لنهم ظلوا عاملين بمقتضى ل إله إل ال .
ولم يكن وجـوب التحاكم إلى شريعة ال مفروضـا على المنافقين وحدهم لنهم
منافقون !! بل هو مفروض على كل من يقول ل إله إل ال محمد رسول ال .فإن التزم بذلك
مع التسليم النفسي والرضى فأولئك هم المؤمنون .أما إن أذعن إذعانا ظاهرا وهو في دخيلة
نفسه غير راض ول ُمسَلّم فأولئك هم الذين قال ال عنهم إنهم منافقون ( وهم مع ذلك لم
يكونوا ممتنعين امتناعا ظاهرا لنهم حينئذ يصبحون مرتدين ل منافقين ،ويكون جزاؤهم في
وخلصة المر أن قضية التشريع ترتبط ارتباطا مباشرا وثيقا بل إله إل ال .وأن هذا
إنما قال الفقهاء في قوله تعالى " :ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون " إنه
ل يكفـر إذا كان مستحل وإنه إن لم يكن مستحل فهو كفر دون كفر ..كفر ل يخرج من
الملة .
فالقاضي الذي يحكم بغير ما أنزل ال في القضية المعروضة عليه لنه ارتشى من أحد
الخصمين ل يكفر بذلك وإن كان آثما يتعرض لسخط ال وغضبه .
والمتأول الذي اجتهد فأخطأ فحكم في المر المعروض عليه بغير ما أنزل ال ل إثم
نعم ..ولكن ذلك كله ل ينصرف إلى التشريع بغير ما أنزل ال .فالحكم في قضية
معروضة بغير ما أنزل ال ،بدافع من الدوافع المذكورة في كتب الفقه ،بغير استحلل لذلك
الحكم ،هذا شيء ،والتشريع بغير ما أنزل ال شيء آخر مختلف بالمرة .لنه في الحالة
الولى ل ينقض اعترافه وإقراره بأن شرع ال هو المرجع الذي يرجع إليه في الحكم وإن
خالف في التنفيذ .أما في الحالة الثانية فهو يضع من عند نفسه -بغير سلطان من ال -
شرعا آخر مخالفا لشرع ال ،ثم يقول -بلسان الحال أو بلسان المقال -ل تنفذوا شرع ال ،
ولكن نفذوا هذا الشرع الذي وضعته لنه مماثل لشرع ال ،أو لنه أفضل من شرع ال ،أو
وهذا المر لم يختلف الفقهاء في تاريخ السلم كله على أنه كفر مخرج من الملة .
وأمر آخر لم يختلف الفقهاء في تاريخ السلم كله على أنه كفر مخرج من الملة ،هو
الرضى عن علم وإرادة بشرع غير شرع ال ،ول يدخل في ذلك الكراه بطبيعة الحال لن
فالتشريع بغير ما أنزل ال ،والرضى بتشريعٍ مخالفٍ لما أنزل ال ،كلهما -في حكم
يقول المام ابن كثير في تفسير قوله تعالى " :أفحكم الجااهلية يبغون ؟ ومن أحسن من
" ينكر تعالى على من خرج عن حكم ال المشتمل على كل خير ،الناهي عن كل شر ،
كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضللت والجهالت مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم ،
وكا يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم
الياسق ،وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية
والنصرانية والملة السلمية وغيرها ،وفيها كثير من الحكام أخذها بمجرد نظره وهواه ،
فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب ال وسنة رسوله -صلى ال عليه
وسلم -فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم ال ورسوله ،فل يحكّم
()1
سواه في قليل ول كثير "
هذا الرتباط الوثيق بين ل إله إل ال وتحكيم شريعة ال ،ظل ثلثة عشر قرنا متوالية
بديهية في حس المسلمين ،ل يتصورون السلم من غيرها ،ول يتصورون في " مسلم " أنه
يكون مسلما من غيرها .وكان حكم الشريعة القائم بالفعل في الرض يعطي القضية ثقل
المر الواقع ،فل يفكر الناس في غيره ،ول يفكرون في أن غيره يمكن أن يقع !
وكان الفارق -في حس المسلمين -بين السلم والكفر ،وبين المسلمين والكفار
أمران رئيسيان ،فضل عن أمور كثيرة أخرى ،هما الصلة وشريعة ال .فالمسلمون
يصلون ،ويتحاكمون إلى شريعة ال ،والكفار ل يصلون ،ول يتحاكمون إلى شريعة ال .
ولكن المر تغير كثيرا في حس المسلمين بعد الحتلل الصليبي لبلدهم وتنحية شريعة ال
عن الحكم ،ثم تسليط كل العوامل التي تخرج المسلمين من السلم .
فأما الجيل الول فقد كان يرى الحقيقة " الشرعية " واضحة ..
فتنحية الشريعة -من حيث المبدأ -كفر .والذين يقومون بذلك -من حيث الواقع -
وفي غير هذا المكان تحدثت عن عملية التغريب ،وعن الغزو الفكري ،وعن مناهج
التعليم ،وعن وسائل العلم ،وعن الفساد الذي تم في عالم الفكر والدب ،وفي عالم
. ()1
السياسة ،وفي قضية المرأة ،وفي مجال الخلق ..لخراج المسلمين من السلم
ثم جاء حكام يحملون أسماء إسلمية ،ويحكمون بغير ما أنزل ال ،ينوبون عن
الحتلل الصليبي في تنفيذ كل أهدافه ،ويقال للناس إنهم مسلمون ،وإن " الضرورة " تقتضي
. ()2
أن يحكموا بغير ما أنزل ال
ثم يزداد الناس بعدا عن السلم -بفعل كل العوامل المسلطة عليهم -فيقال لهم
صراحة إن الرقي والتحضر والتقدم والتحرر والنطلق يقتضي تنحية شريعة ال عن الحكم ،
واستيراد النظم والمبادئ والدساتير والقوانين من أوربا المتحضرة -من غربها أول ثم من
شرقها بعد ذلك -وإن الشريعة التي نزلت قبل أربعة عشر قرنا ل يمكن -ول يجوز -أن
تحكم حياة الناس اليوم .وإن " التطور " ل بد أن يأخذ طريقه ،وإن الدين هو " الغلل "
التي تعوّق الناس عن النطلق ،وإن مصيرنا -رضينا أم أبينا -هو مصير أوربا ،التي لم
تتقدم إل بعد أن نبذت الدين ،وإن " الرجعية " ل يمكن -حسب قوانين التطور -أن تبثت
ويقال للناس في أثناء ذلك كله إنهم " مسلمون " ..ما داموا يقولون ل إله إل ال !!
انظر فصل " آثار النحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " . ()
1
انظر في كتاب " واقعنا المعاصر " فتوى الشيخ رشيد رضا بهذا المعنى وردنا عليها . ()
2
هذا هو واقع " المسلم المعاصر " !
لقد أفرغت ل إله إل ال من محتواها كله ،ومقتضاها كله ،وأصبحت كلمة تطلق في
الهواء ،ويتعلق بها ذلك " الغثاء " الذي تحدث عنه رسول ال -صلى ال عليه وسلم -
إن جذور هذه المة التي تمكّن لها في الرض هي " ل إله إل ال محمد رسول ال " .
فإن أفرغت هذه الجذور من محتواها الحقيقي ،وظلت القشرة خاوية من المحتوى الحيّ ،فهل
يمكن أن تمسك بشيء ،وهل يمكن أن تقاوم الدوامة الضارية التي يصنعها السيل ؟ وهل
تكون هي ذات الجذور التي أنبتت من قبل " خير أمة أخرجت للناس " ؟!
لقد عملت عوامل كثيرة خلل التاريخ السلمي الطويل لفراغ ل إله إل ال من
فالتفلت من التكاليف ،وعدم كفاية التذكير ،والترف المتلف ،والسلبية الصوفية ،
والستبداد السياسي ،والفكر الرجائي ،كل واحد من هؤلء قد فعل فعله في إفراغ ل إله إل
. ()1
ال من محتواها الحي على المدى الطويل
التفلت من التكاليف طبع في البشر ،تمده ثقلة الرض ..ثقلة الشهوات ..وعلجه هو
التذكير :
()2
ن ال ّذكْرَى َتنْفَ ُع ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ )
( َو َذكّرْ َفإِ ّ
فحين ل يكون التذكير كافيا -في الدرجة أو في النوع -فإن التفلت من التكاليف يظل
)(1تكلمت عن هذه العوامل بشيء من التوسع في فصل " خط النحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " .
سورة الذاريات [ . ] 55 ()
2
والترف الذي أصاب المسلمين حين مكّنوا في الض ،أرخى قبضتهم من حبل ال
المتين ..فتفلتوا من التكاليف بحكم الرغبة في المتاع الرضي ،فكثرت البدع والمعاصي ،
وجاء الفكر الصوفي ردّ فعل للترف ،فخلص المتطهرون بأنفسهم من الدنس المستشري
في المجتمع المترف ،ولكنهم -من جانب آخر -انعزلوا عن المر بالمعروف والنهي عن
أصبح المر بالمعروف والنهي عن المنكر يغضب المستبديـن من ذوي السلطـان ،فيفتكون
" بالمعارضين " الذين يعترضون على انحرافاتهم وتجاوزاتهم ،فينحسر الناس إلى ذوات
أنفسهم ويتحول " الدين " إلى ممارسة فردية ،تركز على الجانب العبادي وحده ،وينحسر عن
صورته الجماعيـة ،أي عن جانبه السياسـي بصفـة خاصة ..وينفصل ما بين " الدين " و
ثم يجيء الفكر الرجائي فيغطي هذا النحسار كله ..ويقول للناس :إن اليمان هو
التصديق والقرار !
وحين جاء الغزو الصليبي كانت ل إله إل ال قد وصلت في نفوس المسلمين إلى حدها
الدنى الذي يحفظ المسلمين في داخل إطار السلم ،مع وقوعهم في المعاصي والثام ،أي
في حدود إقامة الصلة وتحكيم شريعة ال ..وكان انحسارها في نفوس المسلمين إلى ذلك
الحد هو الذي جاء بالصليبييـن ومكّن لهم في أرض السلم ،فما كان لهم أن يغامروا
بالمجيء ،وما كان لهم أن يتمكنوا في الرض ،لو أن المسلمين كانوا على ذكر بمقتضيات
ل إله إل ال ،عاملين بتلك المقتضيـات في عالم الواقـع .فإن من بيـن تلك المقتضيـات
-الكثيرة -إعداد العدة لعداء ال ،والنفاق في ذلك السبيل :
عدُ ّو ُكمْ
ع ُدوّ اللّهِ وَ َ
ن بِهِ َ
خيْلِ ُترْ ِهبُو َ
ن قُوّةٍ َومِنْ ِربَاطِ ا ْل َ
طعْ ُتمْ مِ ْ
س َت َ
عدّوا َل ُهمْ مَا ا ْ
( وَأَ ِ
ن ) (. )1
ل ُتظَْلمُو َ
ومن مقتضياتها -الكثيرة -طلب العلم الذي يؤدي إلى التمكين في الرض ..فل
()2
" طلب العلم فريضة "
العمل واحترام حقوق الغير والتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الثم والعدوان ..
الخ ..الخ ..وهي من أكبر أدوات التمكيـن في الرض ،كما أن فقدانها من أكبر عوامل
البوار ..
()3
ب رِيحُ ُكمْ )
( وَل َتنَازَعُوا فَتَ ْفشَلُوا َو َتذْهَ َ
()4
جمِيعا وَل تَ َف ّرقُوا )
حبْلِ اللّ ِه َ
صمُوا ِب َ
ع َت ِ
( وَا ْ
وكان الفراغ من تلك المقتضيات هو الذي أصاب المسلمين " بالتخلف العقيدي " الذي
نشأ عنه التخلف العلمي والحضاري والمادي والقتصادي والحربي والسياسي ..الذي أغرى
. ()2
الصليبيين بالمجيء ،ثم مكن لهم في أرض السلم
ولكن الحد الدنى الذي كان يحفظ المسلمين داخل إطار السلم -مع كل هذه المعاصي
والثام -لم يكن ليرضى الصليبية الحاقدة وفي أطوائها اليهودية الشريرة ،ولم يكن ليطمئنهما
. ()3
س َتطَاعُوا )
ن يُقَاتِلُو َن ُكمْ حَتّى َيرُدّوكُمْ عَنْ دِي ِن ُكمْ ِإنِ ا ْ
( وَل َيزَالُو َ
سهِمْ ِمنْ
ع ْن ِد َأنْ ُف ِ
حسَدا مِنْ ِ
ن َبعْدِ إِيمَا ِنكُمْ ُكفّارا َ
( َودّ َكثِيرٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْل ِكتَابِ َل ْو يَرُدّو َن ُكمْ مِ ْ
نعم ..فوجود المسلمين في داخل إطار السلم ،في هذا الحد الدنى منه ،مع كل
البعد الذي ابتعدوه عن حقيقته الشاملة الهائلة ،ل ُي ْؤمَن معه أن يعودوا إلى تلك الحقيقة مرة
أخرى ،إذا بعث ال لهذه المة من يجدد لها أمر دينها ،كما تتجدد الشجرة الذابلة حين ُتتَعهد
سمَاءِ
عهَا فِي ال ّ
ط ّيبَ ٍة َأصُْلهَا ثَابِتٌ َو َفرْ ُ
جرَةٍ َ
شَط ّيبَةً َك َ
ضرَبَ اللّهُ َمثَلً كَِلمَ ًة َ
( أََلمْ َترَ َك ْيفَ َ
قال جلدستون رئيس الوزارة البريطانية وقت دخول النجليز مصر مشيرا إلى
المصحف " :طالما كان هذا الكتاب في أيدي المصريين فلن يقر لنا قرار في تلك البلد " .
وقال توماس بين -المستشرق المريكي -في مقدمة كتابه " السيف المقدس " ،بعد أن
لخص تاريخ المسلمين وانتصاراتهم في آسيا وأفريقيا وأوربا " :والن تغير الحال ،وصار
المسلمون في قبضة أيدينا ،ولكن ما حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى .وإن الشعلة التي
أشعلها محمد ( صلى ال عليه وسلم ) في قلوب أتباعه ،لهي شعلة غير قابلة للنطفاء " ..
من أجل هذا عمل الصليبيون ( واليهود في أطوائهم ) لخراج المسلمين نهائيا من
السـلم لكي يأمنوا ،ويطمئنوا ،ويستريحوا ،وإن كانوا ساروا على مخططهم المعروف :
" بطيء ولكنه أكيد المفعول ، " Slow but sureكما قال " كرومـر " أول " معتمد
" إن مهمة الرجل البيض الذي وضعته العناية اللهية ( ! ) على رأس هذه البلد هي
تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن ،بحيث تصبح هي أساس العلقات بين
،وإن كان من الواجب -منعا من إثارة الشكوك -أل يعمل على تنصيـر ()2
الناس
المسلمين ،وأن يرعى من منصبه الرسمي المظاهر الزائفة للدين السلمي ،كالحتفالت
وتم لهم -في غفلة المسلمين -كل ما أرادوه ،فبدأوا بتنحية الشريعة السلمية عن
الحكم ،وانتهوا بتنحية المسلمين عن الصلة ،وانسحب " المسلمون " بذلك من كل ما كان قد
الجاهلية -التي ل تحكم بما أنزل ال -مجتمعات إسلمية ،وأطلق صفة السلم على كل
من يقول بلسانه :ل إله إل ال ! إذ السلم هو مجرد التصديق وعلمته الظاهرة هي مجرد
القرار !
حين نصل في حديثنا إلى هذه النقطة ،يتصور قوم أننا مقدمون ل محالة على إصدار
الحكم على الجيال الحاضرة من الناس بالكفر ،لنهم ل يتحاكمون إلى شريعة ال ،فيستشعر
القوم في أنفسهم " الخطر " من هذه القضية كلها ،فيسارعون إلى معارضتها من حيث المبدإ ،
وقد أكدنا في غير هذا المكان أن قضيتنا ليست هي إصدار الحكم على الناس ( ! )1وأننا
نهدف إلى قضية أخرى ،أبعد كثيرا ،وأخطر -في نظرنا -كثيرا من محاولة إصدار حكم
إن حكمنا على الناس الذين يعيشون اليوم في الرض السلمية بالسلم أو الكفر ليس
هو الذي سيدخلهم الجنة أو النار ! فال -سبحانه وتعالى -هو المتصرف في شأنهم وشأن
حتى توقع حد الردة على المرتدين من أولئك البشر ..إنما نحن دعوة ،نحاول أن نقوم
بالمانة الملقاة على عاتقنا تجاه هذا الدين .والمهمة التي نسعى إليها ،ونحاول جاهدين أن
نصل إلى شيء منها ،هي مهمة " البيان " للناس .فنحاول أن نبين لهم ما غاب عنهم -في
انظر " قضية الحكم على الناس " في فصل " الصحوة السلمية " من كتاب " واقعنا المعاصر " .وقد ()
1
فصلت الحديث هناك عن السباب التي تدعوني إلى عدم الخوض في هذه القضية في الوقت الحاضر ،
وتركيز الجهد كله في عملية البيان والتعليم دون التعرض لصدار الحكام على الناس .
سورة النسان [ . ] 31 ()
2
-من حقائق هذا الدين . ()1
غربة السلم الثانية
والذين يظنون أننا حين نطلق على المجتمعـات التي تعيش اليـوم في الرض
السلمية ( )2أنها " مجتمعات جاهلية " نقصد بذللك أن أهلها ليسوا مسلمين ،أو أن الصل
فيهم هو الكفر إل إذا تبين منهم غير ذلك ..هؤلء نقول لهم هنا -كما قلنا في غير هذا
المكان -إن حكم المجتمع ل ينصرف إلى الفراد -أي العيان -إنما هو شبيه بالحكم على
الدار بأنها دار كفر أو دار إسلم .والفقهاء مجمعون على أن وصف الدار بأنها دار كفر أو
دار إسلم ل يتعلق بعقائد القاطنين فيها إنما يتعلق بغلبة الحكام فيها ،فالرض التي تحكمها
شريعة غير شريعة ال هي دار كفر مهما تكن عقائد أهلها .
وقد كانت مصر دار إسلم حين فتحها المسلمون مع أن غالبية أهلها كانوا على غير
دين السلم ،وظلوا كذلك فترة من الوقت .وكانت الهند دار إسلم حين فتحها المسلمون مع
أن غالبية أهلها كانوا -وما زالوا -على غير دين السلم .إنما اعتبرت دار إسلم لكون
وكذلك كانت الدويلت التي أقامها الصليبيون في الشام -واستمر بعضها مائتي عام -
دار كفر مع أن أهلها ظلوا مسلمين ،لن الصليبيين كانوا يحكمون فيها بغير ما أنزل ال .
ومفاهيمه وآدابه وأنماط سلوكه ،بصرف النظر عن عقائد أهله .والمجتمع الجاهلي هو
المجتمع الذي ل تحكمه شريعة ال ،ول تصورات السلم ومفاهيمه وآدابه وأنماط سلوكه ،
بصرف النظر عن عقائد أهله ،وعن حكم ال عليهم في الخرة بالدخول إلى الجنة أو الدخول
)(1قال عليه الصلة والسلم " :بدأ السلم غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ،فطوبى للغرباء " رواه مسلم .
نطلق لفظ " الرض السلمية " على كل أرض كان السلم يحكمها ذات يوم ثم تراجع الحكم فيها عن ()
2
شريعة ال وحكمتها شرائع الجاهلية .وحكم الفقهاء فيها أن أهلها مطالبون بردها إلى الحكم السلمي ل
يسقط هذا الواجب عنهم أبد الدهر .
إلى النار .
والناس الذين يعيشون اليوم في الرض السلمية هم خليط ل يجمعه حكم واحد .فمنهم
شريعة ال ،ويتحاكمون إليها فيما يقدرون عليه من أمورهم ،ومنهم كفار بل شبهة -بحسب
()1
الظاهر من أحوالهم ،وحسابهم على ال في الخرة -لنهم -حتى إن قالوا ل إله إل ال
-ينكرون أن تكون شريعة ال واجبة التحكيم ،ويقولون في ذلك مقالت شتى ،فمنهم من
يقول :ما للدين والسياسة ؟! ومنهم من يقول :كيف تحكم الشريعة التي نزلت قبل أربعة
عشر قرنا حياة الناس المتطورة اليوم ؟ ل بد من أنظمة متطورة تحكم الحياة المتطورة .
فلنأخذ الديمقراطية أو فلنأخذ الشتراكية بديل من السلم ! ومنهم من يقول :إن الدين قد
استنفد أغراضه ولم يعد له مكان في الحياة اليوم ! ومنهم من يقول :إن الدين رجعية وتأخر
ينبغي نبذه والنسلخ منه من أجل أن نصبح تقدميين ! ومنهم من يقول :إن الدين علقة بين
ومنهم كتلة متميعة غير واضحة السمات ،يختلط فيها الحابل بالنابل ،ولكن مظهرها
العام بعيد عن مقتضيات السلم ،وهي التي يختلف الناس في حكمهم عليها ،وهي كذلك
التي نقول إننا ل نهدف إلى إصدار حكم عليها .إنما نهدف إلى أن نبين للناس جميعا حقيقة ل
إله إل ال ،لننا نعتقد أن هذا البيان -فضل عن كونه أمانة ل -فإنه هو الذي يمكن أن
يقنع الناس بتغيير واقع حياتهم ،فيغير ال لهم -حين يغيرون ما بأنفسهم ويستقيمون على أمر
ال -فيخرجهم من الذل والهوان والضياع الذي يعيشونه اليوم في كل الرض ،ويرد لهم
ن آ َمنّا
)(1بعضهم ل يكتفي بقول ل إله إل ال ،بل يزعم أنه هو الذي تتحقق فيه حقيقة السلم ! ( َويَقُولُو َ
ن َبعْ ِد ذَِلكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْ ُمؤْ ِمنِينَ ) [ سورة النور . ]47 :
ق ِمنْهُ ْم مِ ْ
طعْنَا ثُ ّم يَتَوَلّى فَرِي ٌ
ل وَأَ َ
بِاللّهِ َوبِالرّسُو ِ
س َتخْلَفَ
ض َكمَا ا ْ
س َتخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْ ِ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ
ن آ َمنُوا ِم ْن ُكمْ َو َ
عدَ اللّهُ اّلذِي َ
( وَ َ
هذا أمر الناس -أعيان الناس -أما " المجتمع " فله -كما ب ّينّا -حكم آخر ..
إن " المجتمع " ليس هو مجموع الفراد فحسب .إنما هو كذلك " النظام " الذي يربط
أولئك الفراد ،ويتعاملون من خلله بعضهم مع بعض ،وعلى أساسه يقيمون علقاتهم
فهل يمكن -على هذه القاعدة -أن نقول : -إن هذه المجتمعات القائمة اليوم
مجتمعات إسلمية ؟! هل النظام الذي يحكمهم هو السلم :شريعته ومنهجه وتوجيهاته ؟ هل
الذي يحدد علقاتهم وينشىء ارتباطاتهم هو السلم ؟ هل الذي يشكل تصوراتهم ويرسم
لقد قال رسول ال -صلى ال عليه وسلم -لرجل من أجلّة الصحابة -رضوان ال
عليهم : -أنت أمرؤ فيك جاهلية ،لكلمة واحدة خرجت من فمه في لحظة غضب ،فقال
لرجل أسود :يا ابن السوداء !! فقال له رسول ال -صلى ال عليه وسلم : -عيرته بأمه ؟!
()2
أنت امرؤ فيك جاهلية !
إن الذين يسمون هذه المجتمعات مجتمعات إسلمية ،ويطلقون على كل من قال ل إله
إل ال أنه مسلم ،مهما يكن واقع حياته ،ومهما يكن هذا الواقع مناقضا لمقتضيات ل إله إل
ال ،من باب التورع والتقوى ..إن هؤلء -على كل تقواهم -يرتكبون في حق الدعوة
فإذا كانت هذه المجتمعات إسلمية ،وإذا كان هؤلء الناس كلهم مسلمين ،فما الذي
إن الواقع الذي تعيشه هذه المجتمعات -بكل ما يشتمل عليه من سوء -لهو أشد ما
يصد الناس عن السلم ! فإذا أضفينا عليه صفة السلم ،وقلنا :إن السلم يتغاضى عن
كل ذلك السوء ،ويظل يضفي صفته على الناس مهما فعلوا ،ما داموا ينطقون بألسنتهم :ل
إذا كنا نطلق صفة السلم على كل هذا القدر من السوء والنحراف الذي يقوم اليوم في
الرض السلمية من باب التورع والتقوى ،فلنتق ال في الشباب الذين نصدهم عن السلم ،
حين نصف هذا السوء كله بأنه داخل في إطار السلم !!
إذا اتضح لنا أن إطلق صفة الجاهلية على هذه المجتمعات ل ينصرف إلى أعيان
الناس ..
وأن الذي نسعى إليه من وراء هذا البحث ليس إطلق الحكم على أعيان الناس ،إنما
بيان ما جهله الناس في غربة السلم الثانية من حقيقة اليمان المتعلقة بل إله إل ال ،ودعوة
)(1يحتج كثير من الناس المخدوعين بالديمقراطية على وضعها بين المذاهب الهدامة ! وقد بينت حقيقتها في
كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " وكيف أنها مسرحية جميلة تخفي في أطوائها سيطرة الرأسماليـة على
المجتمع .وسيطرة اليهود على مقدرات الناس .وأن الفساد الذي تحتوي عليه أكبر بكثير من الخير الجزئي
الذي تحققه !
إذا اتضح لنا هذا نعود -مطمئنين -إلى وصل ما انقطع من الحديث عن مقتضيات ل
إله إل ال .
لقد تحدثنا فيما مضى عن مقتضيات ل إله إل ال كما فهمها الجيل الول -رضوان ال
عليهم -من كتاب ال ومن تعليم رسوله -صلى ال عليه وسلم -وبينا بوضوح -فيما
الناس لكي يكونوا مؤمنين هو التصديق والقرار دون العمل بمقتضى ل إله إل ال -وخاصة
التحاكم إلى شريعة ال -ليس له سند من كتاب ال ول من سنة رسوله -صلى ال عليه
وسلم -ول من واقع الجيل الذي فهم حقيقة السلم أصدق فهم وطبقها أصح تطبيق ..وأن
التحاكم إلى شريعة ال -على أقل تقدير -هو الحد الدنى الذي يحفظ للناس صفة السلم
في الرض ،وحسابهم على ال في الخرة ..وأن عدم التحاكم إلى شريعة ال -عن رضى
والن نتحدث عن الواقع الذي يعيشه " المسلم المعاصر ! " ..
نتحدث عنه من زاويتين اثنتين على القل :الزاوية الولى هي تحديد الحد الدنى الذي
طريق الخلص للناس اليوم مما هم فيه من أوضاع لم يسبق لها مثيل -في سوئها -في
ونعود إلى التذكير بحقيقة نرجو أل تكون قد نسيت في أطواء الحديث ..
هذه الحقيقة هي أن الناس كانوا يدخلون السلم ،ويعتبرون مسلمين في الحياة الدنيا ،
وحسابهـم على ال في الخرة ،في أثناء قيام المجتمع المسلم -أي الذي يتحاكم إلى شريعة
ال -بمجرد أن ينطقوا بألسنتهم ل إله إل ال محمد رسول ال .ولكن هذا ليس معناه أن
مجرد النطق -دون أي مقتضى -هو الذي يعطيهم هذه الصفة ،إنما هو النطق المتضمن
مقتضى معينا ،معلوما من الدين بالضرورة ،هو القرار بحاكمية الشريعة الربانية ،وأنها
هي وحدها -دون سواها -التي يجب تحكيمها ،وهي وحدها -دون سواها -التي يرجع
وأن الذي ينكل عن هذا المقتضى -المعلوم من الدين بالضرورة ،والذي له في
المجتمع المسلم ثقل المر الواقع -يطبق عليه حد الردة مع أنه ما زال ينطق بفمه ل إله إل
ال محمد رسول ال ،مما يقطع بأن نطق اللسـان وحده -دون المقتضى المتضمـن في
والن نعود إلى الواقع المعاصر ،حيث ل تحكم شريعة ال .وإنما تحكم بدل منها
شرائع الجاهلية ،سواء اسمها الديمقراطية الليبرالية أو اسمها الشتراكية أو اسمها الشيوعية
كيف يتحقق مقتضى ل إله إل ال في حده الدنى الذي يعطي الناس صفة السلم ؟!
ولسنا نتحدث هنا عن مظهرية السلم ! وإن كنا سنلم بها في أثناء الحديث ..
إن مهمة الدعاة ليست أن يعطوا الناس شهادات مزورة بالسلم ! وليست أن يدلوهم
مهمتهم أن يبينوا للناس كيف يكونون مؤمنين حقا ،مقبولين عند ال في اليوم الخر ( ،يَ ْومَ
()1
ن إِلّا َمنْ َأتَى اللّهَ ِبقَلْبٍ سَلِيمٍ )
ل َينْفَ ُع مَالٌ وَل َبنُو َ
وحتى مظهرية السلم في الحياة الدنيا لها شروط غير قول ل إله إل ال ،كما سيأتي
()2
بيانه عما قليل ..
إن الحد الدنى الذي يعطى صفة السلم عند ال حين ل تكون شريعة ال قائمة في
الرض ،قد بينها الحديث الصحيح بصورة حاسمة ل تحتمل التأويل .يقول رسول ال -
" ما من نبي بعثه ال في امة قبلي إل كان له من أمته حواريون وأصحاب ،يأخذون
بسنته ويقتدون بأمره .ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ،يقولون ما ل يفعلون ،ويفعلون ما
يؤمرون .فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بقلبه
()3
فهو مؤمن .وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل "
" إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون .فمن كره فقد برىء ،ومن أنكر فقـد
فالحديث الول يثبت اليمان -بدرجات مختلفة -لكل من جاهد حكم الجاهلية بيده ،أو
ومن المعلوم جيدا عند كل من يتدبر كتاب ال وسنة رسوله -صلى ال عليه وسلم -
أنه إذا ذكر لفظ اليمان والسلم معا في نص واحد فالمقصود باليمان عمل القلب وبالسلم
عمل الجوارح .أما إذا ذكر أحدهما فهو شامل لكليهما سواء في الثبات أو النفي .أي أن
النفي الحاسم المذكور في الحديث ينفي السلم واليمان معا في ذات الوقت ،ل كما يقول
المتمحكون إنه ينفي اليمان ولكنه ل ينفي السلم ،مخالفين بذلك ما أجمع عليه علماء هذا
الدين !
أما مظهرية السلم في الحياة الدنيا فشرطها -إلى جانب قول ل إله إل ال محمد
رسول ال -عدم التحاكم إلى الطاغوت عن رضى ومتابعة ،لن ذلك التحاكم ينقض ل إله
إل ال نقضا ،ول يبقي لها واقعا يعتد به حتى في إثبات مظهرية السلم .
ولسنا نقول هذا لنصدر به حكما على أحد من الناس ،فليس في وسعنا -ول هو من
شأننا -أن نشق صدور الناس لنعلم هل هم يتابعون حكم الطاغوت عن رضى وإرادة ،
وتسليم بأحقيته في الحكم بدل من شريعة ال ،أم هم مكرهون كارهون ،يرغبون في تحكيم
شريعة ال ولكنهم ل يستطيعون .إل من أظهر بلسانه أو بواقعه انتماءه إلى فكر جاهلي يدعو
إلى تحكيم شريعة غير شريعة ال أو ظهر من حاله أن أمر الدين ل يهمه ،وأنه يستوي عنده
. ()1
سطِ )
ب وَا ْلمِيزَانَ ِليَقُومَ النّاسُ بِالْ ِق ْ
( لَ َق ْد َأرْسَ ْلنَا ُرسَُلنَا بِا ْل َبيّنَاتِ وََأ ْنزَ ْلنَا َم َعهُمُ ا ْل ِكتَا َ
()1
ن)
حكْما لِ َق ْومٍ يُو ِقنُو َ
ن اللّ ِه ُ
ن مِ َ
حسَ ُ
حكْ َم ا ْلجَاهِِليّةِ َي ْبغُونَ َومَنْ َأ ْ
( َأ َف ُ
فهناك إذن مظلة جاهلية تظلل الناس في واقعهم المعاصر ..هي الحكم بغير ما أنزل
ال .والناس جميعا واقفون تحت هذه المظلة ،تشملهم بظلها الكئيب الناشز عن أمر ال ،
ولكنهم في ميزان ال فريقان مختلفان :فمن رضي بالمظلة الجاهلية فهو منها ،ومن أنكرها
وكرهها وجاهدها فهو المقبول عند ال ،بحسب درجته من المجاهدة ،ودرجته من النكار .
هذا هو الميزان الرباني الذي ل يملك أحد تغييره بحسب هواه .
خيَرَ ُة مِنْ
ن َل ُهمُ ا ْل ِ
ن ِلمُ ْؤمِـنٍ وَل ُم ْؤ ِمنَةٍ ِإذَا قَضَى اللّ ُه َورَسُوُلهُ َأمْرا َأنْ َيكُو َ
( َومَا كَا َ
()2
َأ ْمرِهِمْ )
ولكن هذا القدر من المعرفة بميزان ال ل يكفي حتى نعرف معنى المجاهدة بالقلب ،
وهي الحد الدنى من العمل الذي يحفظ الناس في إطار اليمان حين تكون شريعة ال غير
قائمة في الرض ،والذي ليس وراءه من اليمان حبة خردل ،فإن كثيرا من الناس -بتأثير
الفكر الرجائي -صارت تحسب أنه يكفي في المجاهدة بالقلب -أو النكار بالقلب -أن
يقول النسان بلسانه :اللهم إن هذا منكرا ل يرضيك ! أو أن يعتقد في قرارة قلبه أن هذا
منكر ل يرضي ال ،ثم يكون سلوكه مع هذا المنكر بعد ذلك هو نفس سلوك الراضي به ،
المقبل عليه !
ذلك أن الفكر الرجائي كما فعل باليمان ،فجعله مجرد التصديق والقرار ،وجرّده
من العمل ،فكذلك فعل بالنكار بالقلب فجعله أمرا مستسرا في داخل القلب ليس له واقع
يقول المام الغزالي -مع أنه رجل صوفي -في بيان حقيقة النكار بالقلب :
" وعن عكرمة عن ابن عباس -رضي ال عنهما -قال :قال رسول ال -صلى ال
عليه وسلم " : -ل تقفن عند رجل يقتل مظلوما فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع
عنه .قال :وقال رسول ال -صلى ال عليه وسلم " : -ل ينبغي لمرئ شهد مقاما فيه
وهذ الحديث يدل على أنه ل يجوز دخول دور الظلمة والفسقة ،ول حضور المواضع
التي يشاهد المنكر فيها ول يقدر على تغييره ،فإنه قال اللعنة تنزل على من حضر .ول
()1
يجوز له مشاهدة المنكر من غير حاجة اعتذارا بأنه عاجز "
ومن أجل هذا المعنى استحقت المجاهدة بالقلب أن تسمى " مجاهدة " -أي أن تدخل في
باب الجهاد -واستحقت أن تكون " إيمانا " ولو في الحد الدنى منه ،واستحقت أن تكون
حاجزا بين النسان وبين غضب ال .أما النكار بالقلب على طريقة المرجئة ،فهو كاليمان
على طريقة المرجئة ،ل يستحق أن يلتفت إليه ،ول يسمن ول يغني من جوع !
والن نأتي إلى النقطة الخيرة في هذا الفصل ،وهي طريق الخلص ..
حين نقول للناس إن طريق الخلص هو تصحيح المفاهيم السلمية -وبصفة خاصة
فعند بعض القوم أن طريق الخلص هو محاربة الفقر والجهل والمرض .هو البناء
القتصادي المتين .هو إيجاد الطعام لكل جائع ،والعمل لكل عامل .والتعليم لكل متعلم ..
إحياء علوم الدين المجلد الثالث الجزء السابع ص ، 9دار الفكر العربي . ()
1
وعند بعضهم هو إزالة التخلف الحضاري والمادي والعلمي والتكنولوجي ..
وعند بعضهم هو إصلح الخلق المنهارة :الرشوة المتفشية .والكذب والنفاق .
وعند بعضهم هو جمع الكلمة وإزالة الفرقة وتوحيد الصف وإزالة البغضاء وتغليب
ونحن نقول :نعم لهذا كله ! كله إصلح ! وكله مطلوب ! ولكن كيف السبيل ؟!
لقد جربنا خلل قرن كامل من الزمان أن نصلح هذا كله .وفتحنا مدارس وفتحنا معاهد
وفتحنا جامعات .وأنشأنا طرقا وأنشأنا مصانع .وملنا الطرق بالسيارات ،وملنا البيوت
ثم ..؟!
زادت مشاكلنا كلها حـدة .وزادت أزماتنا كلها تعقيدا .وزدنا ضعفا وهوانا على
الناس .ولم تعد " المم " وحدها هي التي تتداعى علينا كما يتداعى الكلة إلى قصعتهم ..
وإنما صار شذاذ الفاق ،الذين كتب ال عليهم الذلة والمسكنة أول المتداعين إلى القصعة ،
ونحن نقول :إن طريق الخلص هو تصحيح المفاهيم السلمية بدءا بمفهوم ل إله إل
ال ،وإن فغر الناس أفواههم من العجب ..وإن أنكر المنكرون ..
إن الذين يظنون أن ل إله إل ال هي الكلمة المنطوقة باللسان ،سيفتحون أفواههم عجبا
وإنكارا ول شك ..لنهم يرون الكلمة منطوقة كل يوم بمئات المليين ،ويرون السوء مع
ذلك ل يتزحزح من مكانه ،بل يرونه يمتد ويتسع ويشتد ،ويتضاعف حجمه بمرور اليام ..
عجبا وإنكارا دون شك ..لنهم يرون التصديق قائما -حسب رؤيتهم -ويرون القرار ،ثم
ل يجدون مشكل واحدا قد انحل ،ول أزمة واحدة قد آذنت بالنفراج .
والذين يرون عموما أن " العقيدة " من " المسلمات " ،وأن التسليم حاصل بالفعل ،
يسعون جاهدين إلى شيء آخر غير العقيدة ،لنهم يرونها -حسب رؤيتهم -قائمة ،ومع
ذلك ل تغيّر شيئا من الواقع ،ول يبدو أنها قادرة على تغيير شيء في المستقبل القريب أو
وهؤلء وهؤلء وهؤلء هم ضحايا الفكر الرجائي الذي أفرغ ل إله إل ال من
مضموننها الحيّ ،وحولها كلمة تنطق باللسان ،ل مدلول لها ،ول وزن لها في واقع الحياة .
ونحن حين ننكر ذلك الفكر الرجائي ،وندعو إلى تصحيحه وتقويمه ،ل نصنع ذلك
لمجرد الجدل الذهني ،ولكن لننا نرى آثاره السامة في حياة المة ،ومقدار بعده -في
ونحب أن نسأل ،لنتعرف على الطريق :هل المراض التي يعانيها المسلمون اليوم :
التخلف العلمي والحضاري والفكري والخلقي والقتصادي والسياسـي والمادي ..الخ ..
الخ ..هل هي أمراض " إسلمية " ؟ بمعنى أنها نشأت من اعتناق السلم ،وممارسة
ولكي نجيب إجابة علمية واقعية ل تصدر عن الهوى ول تحركها العصبية ،نسأل :
هل المجتمع الول الذي اعتنق السلم ومارسه وحافظ عليه كان متصفا بشيء من هذا كله ؟
أم كان النقيض الكامل لهذا الصورة التي نراها في واقعنا المعاصر ؟!
ثم نسأل لنصل إلى النتيجة :أي الجيلين كان يحقق ل إله إل ال بكل مقتضياتها ؟
فإذا عرفنا الجابة عرفنا السر في كل المراض التي أصابت العالم السلمي في
حقيقة إنه ليست ل إله إل ال وحدها هي التي فسد مفهومها في حس الجيال المتأخرة ،
إنما هي المفاهيم السلمية كلها بل استثناء .وحقيقة إن الواقع المعاصر هو حصيلة الفساد
في المفاهيم كلها في وقت واحد ،كما سيتبين من قراءة " مفهوم العبادة " و " مفهوم القضاء
والقدر " و " مفهوم الدنيا والخرة " و " مفهوم الحضارة وعمارة الرض " ..
ولكن ل إله إل ال هي ركن السلم الول والكبر كما أسلفنا القول ،ولذلك كان
تأثيرها هو الكبر والخطر ،سواء في حالة تطبيقها الصحيح أو في حالة النحراف عن
حقيقتها .ومن أجل ذلك كانت العناية الشديدة التي أولها السلم لهذه القضية خلل ثلثة
ول بد أن نستعيد في ذاكرتنا مقتضيات ل إله إل ال كما وعاها الجيل الول ،من تعليم
العتقاد ) .
ومقتضاها الرابع هو القيام بالتكاليف التي فرضها ال على المؤمنين -غير ما سبق -
ومن بينها طلب العلم ،وعمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني ،وإعداد العدة لعداء ال ،
هل هذا تفسير مفتعل لمقتضيات ل إله إل ال أقحمناه من عندنا إقحاما بغير دليل ؟!
قال لي أحد العاملين في حقل الدعوة ذات مرة -وكنت ألمح الخلص في تساؤله -
لقد أخبرنا رسول ال -صلى ال عليه وسلم -أن السلم بني على خمس :شهادة أل إله إل
ال وأن محمدا رسول ال ،وإقام الصلة وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وحج البيت من
استطاع إليه سبيل ،فمن أين جئت أنت باشتراط التحاكم إلى شريعة ال ،وعلى أي شيء
بنيت كونها من مقتضيات ل إله إل ال ،والرسول -صلى ال عليه وسلم -لم يطلب إل
النطق بها فحسب ؟! وقلت له على الفور :أما اشتراط التحاكم إلى شريعة ال فمنصوص عليه
س ِهمْ
جدُوا فِي َأنْ ُف ِ
شجَ َر َب ْينَ ُهمْ ُثمّ ل َي ِ
ح ّكمُوكَ فِيمَا َ
حتّى ُي َ
في كتاب ال ( :فَل َو َر ّبكَ ل يُ ْؤ ِمنُونَ َ
ضيْتَ َو ُيسَلّمُوا َتسْلِيما ) ( )3وأما إدخال هذا المر في مقتضيات ل إله إل ال فهو
حرَجا ِممّا َق َ
َ
أمر بديهي في هذا الدين .فما دمنا أقررنا أن اليمان ل يتحقق إل بالتحاكم إلى شريعة ال
فأين يدخل التحاكم في أركان السلم :هل يدخل في الصلة ؟ هل يدخل في الزكاة ؟ هل
قولنا الول والثاني والثالث ليس ترتيب أهمية ،إنما هو من ضرورة الكلم .وإل فهي كلها على مستوى ()
1
واحد من حيث كونها متعلقة بالعقيدة -أي بأصل اليمان -وكون الخروج عليها شركا مخرجا من السلم .
)(2كذلك قولنا الرابع والخامس ليس ترتيب أهمية فكلهما لزم لتحقيق " اليمان الحق " " :أولئك هم
المؤمنون حقا " .
سورة النساء [ . ] 65 ()
3
فإذا لم يدخل في واحد من هذه الركان كلها ،فهل بقي إل أن يدخل في الركن الول ،
ركن ل إله إل ال ،الذي يعني اللتزام بكل ما جاء من عند ال ،فيدخل فيه شرط التحاكم
إن السلم كله في الحقيقة هو مقتضى ل إله إل ال .لن مقتضى القرار بأن ال
واحد ل شريك له في ملكه ،ول في خلقه ول في تدبيره ،ول في هيمنته ،ول في رزقه ،
ول في قدرته سبحانه ،هو عبادته وحده بل شريك ،أي طاعته فيما أمر به ،ومجموع ما
وإذا كان ال سبحانه وتعالى قد أبرز عبادات معينة فجعلها أركانا قائمة بذاتها ،فإن ما
بقي من التكاليف التي أمر بها ال ل بد بداهة أن يدخل في الركن الول الشامل ،الذي يشمل
فإذا لم يكن المر كذلك ،فليقل لنا المرجئة -القدامى أو المحدثون -في أي أركان
السلم تدخل تلك التكاليف ؟! وإن لم تكن تدخل في أي ركن من أركانه فأين موقعها من
العتقاد ؟!
إن معنى القرار بالشهادة -كما أسلفنا مرارا -هو اللتزام بما جاء من عند ال .ومن
ولسنا هنا في مجال تصنيف المخالفات التي تقع من البشر في نحقيق مقتضيات ل إله
إل ال ،وأيها يقع في دائرة اللمم وأيها يقع في دائرة الكبائر ،وأيها يقع في دائرة الشرك ،
لننا في مجال بيان الثر الذي يحدثه في حياة البشر قيامهم بمقتضيات ل إله إل ال -كلها -
على وجهها الصحيح ،والثر العكسي الذي يحدث من إفراغ ل إله إل ال من مضمونها ،
وجعلها كلمة تنطق باللسان بغير مقتضى واقعي ،سواء كان ذلك شركا أو معصية فحسب .
ولكن هذا ل يمنعنا من إشارة عابرة إلى أن أي انحراف في توحيد العتقاد ( أي توحيد
اللوهية والربوبية والسماء والصفات ) هو شرك ،وأي انحراف في توحيد العبادة ( أي
توجيـه كل ألوان العبادة ل وحده بل شريك ) هو شرك ،وأي انحراف في توحيد الحاكميـة
( أي التحاكم إلى شريعة ال وحدها دون غيرها من الشرائع ) هو كذلك شرك .وكلها -
الثلثة -على ذات المستوى من الدخول في أصل العقيدة ،والشرك في أيها هو الشرك
. ()2
ن)
ش ِركُو َ
عمّا ُي ْ
سبْحَانَهُ َ
إِلَها وَاحِدا ل إَِلهَ إِلّا هُ َو ُ
حين كانت الجيال الولى من المسلمين تدرك مفهوم ل إله إل ال على حقيقته ،وتحققه
في واقع حياتها ،كانت " خير أمة أخرجت للناس " وكانت هي المة الممكنة في الرض ،
وكانت هي أمة العلم والحضارة ،وأمة القيم والخلق ،وحدثت على يديها تلك المعجزات
وحين انحسر مفهوم ل إله إل ال في نفوس الجيال المتأخرة من هذه المة -مع غيره
وسلم : -
" يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلى إلى قصعتها .قالوا :أمن قلة نحن
()1
يومئذ يا رسول ال ؟ قال :إنكم يومئذ كثير ،ولكنكم غثاء كغثاء السيل "
وصارت هذه المة ألعوبة في يد أعدائها ،يجرونها إلى الهلك بكل مهلكة من القول
طريق الغيّ !
وحين نقول للناس :إن طريق الخلص يبدأ بتصحيح مفاهيم السلم كلها بدءا بمفهوم
ل إله إل ال ،يظن بعض الناس -بسذاجة حقيقية أو سذاجة مفتعلة -أننا نضع تصحيح
المفاهيم بديل من توفير الخبز للجائعين ،أو توفير العلم للمتعلمين ،أو إقامة المصانع أو
تسليح الجيوش !
ولم يكن الرسول -صلى ال عليه وسلم -وهو يصحح اعتقاد الناس في مكة ،ويدل
المؤمنين على المفهوم الحقيقي لل إله إل ال ،لم يكن يقول لهم :ل تأكلوا حتى تصححوا
اعتقادكم ،ول تبيعوا ول تشتروا ،ول تبحثوا لنفسكم عن مصدر رزق حتى تفهموا جيدا
معنى ل إله إل ال !
الرض -كان يربيهم على المقتضيات الحقيقية لل إله إل ال ،بحسب تنزلها من عند ال ،
حتى يستقيم سعيهم كله ،ويصبحوا في النهاية " خير أمة أخرجت للناس "
وحين نقول اليوم :إنه ل بد من تصحيح مفاهيم السلم بدءا بمفهوم ل إله إل ال نقصد
هذا الذي صنعه رسول ال -صلى ال عليه وسلم -أول مرة .ول نقصد تعطيل البحث عن
الخبز ،أو تسليح الجيوش ،أو إنشاء المصانع ،أو فتح المدارس حتى يتم تصحيح مفهوم ل
إله إل ال !
نشكو اليوم -ونحن نحاول " الصلح " -من فقدان روح " الحساس بالواجب " عند
الناس .فل أحد يتحرك أو يعمل انطلقا من إحساسه بأن عليه واجبا يجب أن يؤديه .إنما
يعمل -إذا عمل -لتحقيق مصلحة شخصية ،ل يبالي أن تجيء من طريق حلل أو حرام .
فل يعمل الموظف الصغير إل أن يرتشي ،ول يعمل الموظف " الكبير ! " إل أن ينهب من
ونشكو من الرتجالية والفوضى في أعمالنا كلها مما يضيع علينا أموال كثيرة وأوقاتا
عزيـزة وفرصا نادرة ،ويؤدي إلى بوار كثير من مشروعاتنا ..فكيف الطريق إلى
الصلح ؟
ونشكو من النفاق والكذب والغش والخديعة وقلة المانة عند الناس ..فكيف الطريق إلى
الصلح ؟
ونشكو من الكسل والتواكل وانعدام الجدية في أخذ المور ..فكيف الطريق إلى
الصلح ؟
ونشكو من فقدان الروح العلمية في تناول مشكلتنا ،لننا نفتقد النظرة الموضوعية -
التي ل تتدخل فيها الهواء -ونكره التخطيط والتنظيم ..فكيف الطريق إلى الصلح ؟
ونشكو من فقدان " الروح الجماعية " ،وغلبة الروح الفردية النانية الضيقة البغيضة ..
ونشكو من خيانة " زعمائنا " ،وعمالتهم لعدائنا ،وتسخيرهم أوطانهم لمصلحة
ونشكو ..ونشكو ..ونشكو ..ومر ما يزيد على قرن من الزمان ونحن نوهم أنفسنا -
خادعين أو مخدوعين -أننا نسعى إلى الصلح ،ونبحث عن طريق الخلص ..
يحسب الذين يفكرون في فتح المدارس ،وإقامة المصانع ،وتقوية الجيوش ،وتوفير
الخبز بل قاعدة من عقيدة ،أنهم هم القوم " العمليون " " الواقعيون " " العلميون " الخذون
بالوسائل الصحيحة ،المتنزهون عن " الغيبيات " ،البعيدون عن الخيالت ،الواصلون -ل
محالة -إلى " الحلول العملية " التي تنقذ الناس من مشكلتهم ..
ونحن ل نقول لحد ل تفتحوا المدارس ،ول تقيموا المصانع ،ول توفروا الخبز ،ول
تقووا الجيوش ..ولكنا نقول لهم بملء أفواهنا :إن صنعتم هذا كله بغير عقيدة صحيحة ،
فالنتيجة هي ما ترونه بأنفسكم من أحوال أمتكم بعد جهد ما يزيد على قرن كامل من الزمان !
ننشئ وسائل العلم " الحديثة " فماذا نبث فيها لشعوبنا ؟!
ننشئ المصانع فكيف يعمل مديروها وموظفوها وعمالها ؟! وأين يذهب إنتاجها ؟!
ونسلح الجيوش ..فكيف يصنع قادتها وزعماؤها ؟!
حدثني اللواء عبد المنعم حسني ،حاكم غزة في زمن النكسة ،وقد جمعني به معتقل
واحد لعدة شهور ( ، )1عن استجواب اليهود له يوم وقع أسيرا في أيديهم بسبب دخول سيارته
قال إن أول سؤال وجهوه إليه -بعد أن أعلموه بخبر الحرب والهزيمة ولم يكن يعلم
بأيهما ! -كان هو السؤال التي :أما زال يوجد إخوان مسلمون في الجيش المصري ؟!
قالوا :إننا ل نستطيع أن ننسى ما حدث في عام ، 1956حين قام اثنان من ضباط
الخوان المسلمين بتعطيل الزحف اليهودي ست ساعات كاملة عند ممر " ِمتْلَ " حتى قتل
على مدفعيهما !
وهكذا ل يفزع اليهود من المدفع في ذاته ،فعندهم -دائما -ما هو أفتك منه !
ولكنهم يفزعون من عقيدة الرجل الذي يقاتـل وراء المدفع ..يفزعـون من ل إله إل
يذكر أمام الطائرات الفتاكة والدبابات المدمرة والقنابل الحارقة والغازات السامة وكل وسائل
البادة الوحشية التي يستخدمها الروس .ولكنهم يفزعون من ل إله إل ال ،لنها هي التي
حفظت عزيمة المجاهد الفغاني سبع سنوات متوالية أمام هجومهم الوحشي ،بصرف النظر
عن النتيجة النهائية التي يمكن أن تسفر عنها المعركة في هذا الجانب أو ذاك .
)(1كان اليهود قد اعتقلوه صبيحة النكسة ثم أفرجـوا عنه ،ثم اعتقله جمال عبد الناصر لسباب ل يعرفها
هو ! وظل في معتقل " القناطر " عدة أشهر حتى مات جمال عبد الناصر فأفرجوا عنه !
ومرة أخرى ل نقول أعطوا الجندي ل إله إل ال ول تعطوه المدفع ،كما قد يفسر
كلمنا صاحب سذاجة حقيقية أو سذاجة مصطنعة ! إنما نقول :إن المدفع وحده ل يكسب
المعركة ،ما لم يكن الرجل الذي يقاتل وراءه صاحب عقيدة ..فلنشتر المدفع نعم ،ولكن
فَ ْلنُقِ ْم إلى جواره رجل يؤمن حقا بل إله إل ال ..عندئذ ل تستطيع الذئاب أن تنهش الوطن
السلمي وهي آمنة كما تصنع اليوم ! ولهذا السبب ذاته يحرص العداء -وعملؤهم في
الداخل -أن يخرجوا من الجيوش كل من يؤمن إيمانا حقيقيا بل إله إل ال ،لنهم يعرفون
جيدا حقيقة هذا الدين ،ويعرفون ماذا يمكن أن تصنع ل إله إل ال حين يعود لها في القلوب
()1
ب َيعْ ِرفُونَ ُه َكمَا َي ْعرِفُونَ َأ ْبنَاءَ ُهمْ ) ..
ن آ َت ْينَاهُمُ ا ْل ِكتَا َ
( اّلذِي َ
يقول " الواقعيون " " العمليون " العلميون " :دعونا بال من حديث العقيدة ! تعالوا ننظر
إلى الواقع ! تعالوا إلى مليين الفواه المفتوحة والمعدات الجائعة ..ابحثوا معنا عن " حلول
عملية " للمشاكل القتصادية التي يعانيها العالم السلمي في تخلفه المزري وفقره المدقع
ونقول :نعم ! ابحثوا ! ما زلتم تبحثون منذ قرن كامل أو يزيد ..فبأي شيء خرجتم ؟!
لماذا ؟!
هل كان المسلمون فقراء يوم كانوا مسلمين حقا ،يحققون في واقع حياتهم مقتضيات ل
إله إل ال كلها ،ومن بينها عمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني ،وطلب العلم ،وإعداد
أم كان المسلمـون هم أكثر أهل الرض ثراء وأكثرهـم تقدما وأكثرهم تمكنا في
الرض ؟
ثم لما تخلفوا عقيديا ( ، )1فتخلفـوا علميـا واقتصاديـا وحربيا وسياسيا وفكريا
غلبت عليهم أوربا الصليبية فعدت على أرضهم ،وسرقت خيراتهم ،وأذلتهم ()2
وأخلقيا ..
واستعبدتهم ،وامتصت دماءهم ،فتضخمت أوربا على حسابهم ،وزادوا هم هزال حتى
واليوم يسعون إلى تخليص أنفسهم مما حل بهم ،رافضين الرجوع إلى المنهج الرباني ،
باحثين عن الشتراكية مرة ،وعن التصنيـع مرة ،وعن القتراض من الدول " الكبرى "
مرة ..ثم تزداد المشاكل تعقدا في كل مرة .وتهبط عملت البلد إلى الحضيض ،وتثقل
الديون الميزانيـات ،وينحط النتاج ،ويزداد الجوع ..وتفسد معه الخلق ،أو تزداد فسادا
إلى فساد !
ولن نقول للناس :هلموا استردوا سيادتكم على أرضكم ومواردكم ،واطردوا الغاصبين
راجع الحديث عن " التخلف العقيدي " في فصل " آثار النحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " . ()
1
2وراجع كذلك بيان الصلة بين التخلف العقيدي والتخلف العلمي والحضاري والقتصادي والحربي ()
فمع أن هذا صحيح في ذاته ..ولن يعود المسلمون إلى ما كانوا عليه من قوة وثراء
وتمكن إل حين يستردون سيادتهم على أرضهم ومواردهم ،ويمنعون عمليات السطو الضخمة
التي مارسها العدو على كيانهم القتصادي كله وما زال يمارسها حتى اللحظة ..
مع أن هذا صحيح في ذاته ،إل أن بيننا وبين تحقيق ذلك جهادا طويل قد يمتد إلى
أجيال ..والفواه الجائعة لن تصبر أياما معدودة فضل عن أن تصبر مدى أجيال !
ولسنا نقول للقوم " العمليين " " الواقعيين " العلميين " :كفوا عن التصنيع ،أو كفوا عن
ولكنا نقول لهم :إن أي جهد يبذل في هذا السبيل دون رد الناس إلى المفهوم الصحيح
للعقيدة ،وتربيتهم على المفهوم الصحيح ،سيظل كالناء المملوء بالثقوب ،كلما حاولنا ملئه
إن التصنيع -كما يقولون في لغتهم -جهد " حضاري " وليس مجرد جهد آلي تقوم به
اللة ..
أما نحن فنقول :إن عمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني هي أحد مقتضيات ل إله
إل ال الكثيرة المتنوعة الشاملة .وحين يقوم التصنيع على منهج ل إله إل ال فلن يسرق
العمال الوقت كما يسرقونه اليوم في ظل " الشتراكية ! " معتمدين على التقرب إلى ذوي
السلطان بالملق والنفاق والتجسس على إخوانهم ! ولن يسرق كبار الموظفين إنتاج المصنع
ويبيعوه في السوق السوداء ليحصلوا على الثروة الحرام من أيسر سبيل ! ولن يغمض الحكام
المحلية وتوفير وسائل القوة للبلد فضل عن " البركة " التي تصيب حياة الناس حين يرفعون
من حياتهم لعنة الربا ،فيرفع ال عنهم المحن ،ويفتح عليهم بركات من السماء والرض ..
يشكو " المصلحون " كما قلنا من روح الفوضى والرتجال وفقدان الروح العلمية
ألم يحاول أولئك " المصلحـون " خلل قرن كامل من الزمان أن يصلحوا كل هذه
العيوب ؟
إن المنطقة التي انتشر فيها السلم بقدر من ال ،يقع معظمها -كما أوضحنا في كتاب
" واقعنا المعاصر " -في المنطقة الحارة والمنطقة المعتدلة الحارة ( إل ما ندر منها ) ،وهذه
البيئة -بطبيعتها -بيئة فوضوية تكره النظام ،عفوية تكره التخطيط ،قصيرة النفس تشتعل
ومن هناك التقطها السلم ،فأنشأ منها " خير أمة أخرجت للناس " .
ولكن هذه المة تعلمت من دينها النضباط والنظام وطول النفس والروح العملية
والنظرة الموضوعية في خط مضاد تماما لثر البيئة الفوضوية الرتجالية المبعثرة ..وكان
ذلك أثرا من آثار العمل بمقتضيات ل إله إل ال الكثيرة المتنوعة الشاملة .فلما انحسر تأثير
السلم ،حين أفرغت ل إله إل ال من مضمونها الحقيقي ،وأصبح كل المطلوب منها هو
التصديق والقرار ،عاد أثر البيئة هو المسيطر على الناس ،وعاد الناس إلى فوضويتهم ،
ولكن كيف السبيل إلى إصلح هذا الثر الطاغي للبيئة في نفوس الناس ،في غيبة
العنصر الواحد الذي يمكن أن يتغلب على أثر البيئة ،وهو العقيدة بمفهومها الحقيقي ،كما
أنزلها ال أول مرة ،وكما أدت أول مرة مهمتها كاملة في حياة المة ( )1؟!
حين نقول للناس :إن طريق الخلص يبدأ بتصحيح مفاهيم السلم كلها بدءا بمفهوم ل
إننا ندرك جيدا أن لنا مشكلت سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وأخلقية ضخمةً
ولكنا ندرك كذلك أن أي محاولة للصلح ل تضع في حسابها عودة الناس إلى حقيقة
إن الذين يطمعون في الصلح على الطريقة الغربية -الرأسمالية أو الشيوعية -
بدعوى أن أوربا -بقسميها -تملك كل أسباب القوة والتمكين التي نحن محرومون منها ،
راجع إن شئت فصل " الصحوة السلمية " في كتاب " واقعنا المعاصر " . ()
1
فعلينا أن نتبع طريقهم لنصل إلى ذات النتائج التي وصلوا إليها من القوة والتمكين ..هؤلء
يغفلون عن مجرى السنن الربانية في حياة البشر ،لنهم محجوبون عن نور ال ،فيفكرون
إن الذي يجري في أوربا الكافرة الجاحدة هو تحقيق لسنتين اثنتين على القل من سنن
ال :
. ()1
شيْءٍ ) ..
ب كُلّ َ
( فََلمّا َنسُوا مَا ُذكّرُوا بِ ِه َف َتحْنَا عََل ْي ِهمْ َأبْوَا َ
. ()2
ن)
ُي ْبخَسُـو َ
فقد كفرت أوربا ،وفي الوقت ذاته رغبت في الحياة الدنيا وزينتها ،وبذلت في سبيل
ذلك جهدها ،فمكن ال لها في الرض حسب هاتين السنتين مجتمعتين .
ولكن يغفل " المصلحون " ذوو العقول المترجمة ،عن أمرين معا هما كذلك من سنن
ال .
المر الول ان ال ل يمكّن للمسلمين بالطريقة ذاتها التي يمكّن بها للكفار ! إنما يمكّن
س َتخَْلفَ
ستَخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْضِ َكمَا ا ْ
عمِلُوا الصّا ِلحَاتِ َل َي ْ
ن آمَنُوا مِ ْن ُكمْ وَ َ
عدَ اللّهُ الّذِي َ
( وَ َ
. ()3
شيْئا )
ُيشْ ِركُونَ بِي َ
والمر الثاني أن هذا التمكين -على الكفر -ل يستمر إلى البد ..إنما هو مرحلة
زمنية محدودة يقدرها ال -سبحانه وتعالى -ثم تكتمل السنة بالتدمير على الكافرين :
خ ْذنَا ُهمْ
حتّى ِإذَا َف ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا َأ َ
شيْءٍ َ
ل َ
حنَا عََل ْي ِهمْ َأ ْبوَابَ كُ ّ
( فََلمّا َنسُوا مَا ُذ ّكرُوا بِهِ َف َت ْ
وقد بدأ اليوم يظهر للغرب ذاته أن حضارته آخذة في النهيار ،مهما بدا أن ذلك بعيد
الحدوث !
سنّتِ اللّهِ
جدَ ِل ُ
ن َت ِ
سنّتِ اللّهِ َت ْبدِيلً وَلَ ْ
جدَ ِل ُ
ن فَلَنْ َت ِ
سنّتَ ا ْلأَوّلِيـ َ
( َفهَـلْ َي ْنظُرُونَ إِلّا ُ
وذلك كله فضل عن حقيقة ضخمة تغفل عنها أوربا الكافرة -لنها كافرة -أما الذين
يقولون إنهم مسلمون فل ينبغي لهم أن يغفلوا عنها ،وإل أصبحوا -مثل " إخوانهم " -
كافرين !
ال المؤمنين وحدهم -هو متاع الحياة الدنيا وحدها ،وليس لهم في الخرة إل النار :
ن أُوَل ِئكَ
خسُو َ
عمَاَل ُهمْ فِيهَا وَ ُهمْ فِيهَا ل ُي ْب َ
حيَا َة ال ّد ْنيَا َوزِي َن َتهَا ُن َوفّ إَِل ْي ِهمْ أَ ْ
ن ُيرِيدُ ا ْل َ
ن كَا َ
( مَ ْ
. ()3
ن)
صنَعُوا فِيهَا َوبَاطِلٌ مَا كَانُوا َي ْعمَلُو َ
حبِطَ مَا َ
س َل ُهمْ فِي الْآخِرَ ِة إِلّا النّارُ َو َ
اّلذِينَ َليْ َ
()4
ن َكمَا َت ْأكُلُ ا ْلَأ ْنعَامُ وَالنّارُ َمثْوىً َل ُهمْ ) .
ن كَ َفرُوا َي َتمَ ّتعُونَ َو َي ْأكُلُو َ
( وَاّلذِي َ
الرض -وهو أقصى ما يطمع فيه الذين يريدون الحياة الدنيا -ووعدهم كذلك أن يفتح عليهم
في الحياة الدنيـا بركات من السماء والرض ،محجوبة عن الكفار مهما كثرت عندهم
الخيرات ،مع طمأنينة القلب التي يفتقدها الكفار لن طريقها هو ذكر ال وهم ل يذكرونه ..
ووعدهم فوق ذلك كله جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها ،ورضوان من ال أكبر :
. ()1
سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ )
ن ال ّ
ت مِ َ
حنَا عََل ْيهِ ْم بَ َركَا ٍ
ن أَهْلَ ا ْل ُقرَى آ َمنُوا وَاتّقَوْا لَ َف َت ْ
( وَلَ ْو أَ ّ
. ()2
طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ )
ط َمئِنّ قُلُو ُب ُهمْ ِب ِذ ْكرِ اللّ ِه أَل بِ ِذكْرِ الّل ِه َت ْ
ن آ َمنُوا َو َت ْ
( اّلذِي َ
ع ْدنٍ َورِضْوَانٌ ِمنَ اللّهِ َأ ْك َبرُ ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَ ْوزُ ا ْل َعظِيمُ ) (. )3
جنّاتِ َ
طيّبَ ًة فِي َ
َ
فمن ذا الذي يستبدل النار بالجنة ،ويزعم بعد ذلك أنه من المسلمين ؟!
طريق الخلص هو تصحيح المفاهيم السلمية كلها بدءا بمفهوم ل إله إل ال ..
ولسنا نزعم للناس أن هناك عصا سحرية ستمتد إليهم فتحل لهم مشكلتهم بمجرد أن
يصححوا في نفوسهم مفاهيم السلم ،ويعودوا إلى ممارسته في عالم الواقع ..
بل نحن ننذرهم حربا ضروسا يشنها العالم كله عليهم ،كما يشن الكفر حربه على
المسلمين اليوم في أفغانستان ..فضل عن الجهد " الموضوعي " الذي يجب أن يبذلوه ليجاد
الحلول العملية لمشكلتهم ،مستمدة من شريعة ال ،ومنهجه الذي ينبغي أن يحكم الحياة ،
وهنا قد يقول قائل :إذا كنا سنبذل الجهد في الحالتين ،فلماذا نتعب أنفسنا فوق الحد ..
أنفسنا عداء العالم كله لنا ،والجهد الذي سنبذله في مواجهة ذلك العداء ؟!
قرن كامل لم تحل فيه المشاكل الساسية بل زادت تعقدا وحدّة ،فضل عن المزيد من
وإنها لحماقة مرة أن يستزيد النسان من السم ،ويتوهم في كل مرة أنه مقبل على
الشفاء !
أما طريق السلم فهو طريق شاق نعم ..مجهد نعم ..محفوف بالمخاطر نعم ..ولكنه
ول إله إل ال التي ندعو إليها ليست هي التي دعا إليها المرجئة القدامى أو المحدثون !
إن التي دعا إليها المرجئة -القدامى والمحدثون -وهي " التصديق والقرار " ،ل
تغير شيئا من الواقع المر الذي يعيشه الناس اليوم ،فضـل عن كونها هي التي تصد الشباب
" المثقف " عن السلم ،وتبعده عن الطريق الوحد الذي يتحقق فيه الخير الحقيقي ..خير
الدنيا والخرة على السواء ،لننا حين نقول لذلك الشباب المفتون بالغرب إن المجتمعات
القائمة اليوم إسلمية ،وإن هذا الغثاء الذي يعيش اليوم هو " المسلمون " ..فكيف نتوقع منه
أن يتجه إلى السلم لحل مشكلة واحدة من مشكلته ؟! وكيف نطمع في أن يقيم وجهه (، )1
إنما ل إله إل ال التي ندعو إليها هي التي أنزلها ال في كتابه المنزل ،وعلمها رسول
ال -صلى ال عليه وسلم -لصحابه ،ومارسها السلف الصالح رضوان ال عليهم .
توحيد العتقاد .توحيد العبادة .توحيد الحاكمية .التخلق بأخلق ل إله إل ال .القيام
بالتكاليف الربانية التي تشمل طلب العلم ،وعمارة الرض بمفتضى المنهج الرباني ،وإعداد
وحين تبرأ ل إله إل ال في قلوب الناس مما أصابها من الفكر الرجائي ،خاصة فكر
حين يصبح مقتضاها في حياة الناطقين بها أن يعبدوا ال وحده بل شريك ،وأن يقيموا
يومئذ ستتغير حياتهم كلها ..وينفضون عنهم الهوان والذل ،والضياع والتيه ،والفقر
والجهل والمرض ،ويمكّن ال لهم مرة أخرى في الرض كما وعد ال سبحانه ..ل بعصا
سحرية ،ولكن بالجهد والعرق والدماء والدموع ..ولكنه لن يكون كالجهد الذي يبذلونه اليوم
في التيه ،والعرق الذي يبذلونه في الذل ،والدماء التي يبذلونها ضريبة لذلك الذل ،والدموع
إنما ستكون كلها في سبيل ال ..فيبارك ال بها في الحياة الدنيا ..ويجزي عليها في
من أخطر النحرافات التي وقعت فيها الجيال المتأخرة من المسلمين -بعد انحرافهم
وحين يعقد النسان مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق الذي كانت الجيال
الولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة ،والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الجيال
المعاصرة ،ل يستغرب كيف هوت هذه المة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي
تعيشه اليوم ،وكيف هبطت من مقام القيادة والريادة للبشرية كلها ،لتصبح ذلك الغثاء الذي
تتداعى عليه المم تنهشه من كل جانب ،كما تنهش الفريسةَ الذئابُ .ويعلم النسان في الوقت
ذاته الطريق الذي ينبغي أن تسلكه الصحوة السلمية وهي تجاهد لرفع هذا الغثاء من
كان المفهوم الصحيح للعبادة في حسن الجيال الولى أن عبادة ال هي غاية الوجود
ن ) (. )2
ن وَا ْلِأنْسَ إِلّا ِل َي ْع ُبدُو ِ
النساني كله ،كما فهموا من قوله تعالى َ ( :ومَا خَلَ ْقتُ ا ْلجِ ّ
إن هذه الية الكريمة كانت تمثل في حسهم معنى هائل جدا ،وعميقا جدا ،وشامل لكل
حياة النسان .فالقرآن نازل بلغتهم ،وهم يفهمون إيحاءات تلك اللغة ،ويدركون أسرار
بلغتها .فيدركون من معنى الية أن غاية الوجود النساني كله محصورة في العبادة ل
تتعداها إلى شيء غيرها على الطلق .فالنفي والستثناء هما أقوى صور الحصر والقصر
في اللسان العربي .ومعناهما النفي البات من جهة والحصر الكامل من الجهة الخرى :نفي
وكانوا إلى جانب ذلك يحسون إحساسا صادقا بعظمة ال -جل جلله -فيحسون تبعا
لذلك بما ينبغي للعبد -في مقام عبوديته -تجاه ال -في مقام ألوهيته -من إخلص
ومن ثم لم ينحصر مفهوم العبادة في حسهم في نطاق الشعائر التعبدية وحدها ،كما
انحصر في حس الجيال المتأخرة التي جاءت بفهم للسلم غريب عن السلم .
إن شعائر التعبد ل يمكن بداهة أن تكون هي كل " العبادة " المطلوبة من النسان .فما
دامت غاية الوجود النساني كما تنص الية الكريمة محصورة في عباة ال ،فأنّى يستطيع
وبقية العمر ؟ وبقية الطاقة ؟ وبقية الوقت ؟ أين تنفق وأين تذهب ؟ تنفق في العبادة أم
في غير العبادة ؟ وإن كانت في غير العبادة فكيف تتحقق غاية الوجود النساني التي حصرتها
اليـة حصرا كامل في عبادة ال ؟ وكيف يجوز للنسان -من عند نفسه -أن يجعل
)(3يثير بعض الناس جدل ذهنيا ل طائل وراءه ،مفاده أن النسان خلق للبتلء ل للعبادة ،استنادا إلى قوله
حيَاةَ
ج َن ْبتَلِيهِ) [ سورة النسان ] 2 :وقوله تعالى ( :خَلَقَ ا ْلمَ ْوتَ وَالْ َ
ن نُطْفَةٍ َأمْشَا ٍ
ن مِ ْ
تعالى ِ ( :إنّا خََل ْقنَا ا ْلِأنْسَا َ
ض زِينَةً َلهَا ِل َنبْلُوَهُمْ
علَى ا ْلأَرْ ِ
جعَ ْلنَا مَا َ
ل ) [ سورة الملك ] 2 :وقوله تعالى ِ ( :إنّا َ
عمَ ً
ن َ
ِل َيبْلُ َوكُمْ َأّيكُمْ أَحْسَ ُ
ل ) [ سورة الكهف ] 7 :والقرآن ل يناقض بعضه بعضا إنما يفسر بعضه بعضا ويفصله .
عمَ ً
حسَنُ َ
َأّيهُمْ أَ ْ
فل تناقض بين هذه اليات جميعا ،إذ أن البتلء الذي يتعرض له النسان في حياته الدنيا هو جعل ما على
الرض زينة لها ثم اختبار النسان في موقفه من هذه الزينة :هل يلتزم فيها بعبادة ال ،أي يقف في
استمتاعه بها عند ما أحل ال ،أم يعبد الشيطان فيتجاوز حدود ال ؟ ومن ثم تصبح عبادة ال هي المطلب ،
وهي غاية الوجود النساني ول شيء سواها .
إن النسان ل يستطيع -مهما حاول -أن يقضي واجب العبادة المفروض عليه نحو
ال من خلل الشعائر التعبدية وحدها ،من صلة وصيام وزكاة وحج ..
والملئكة -وحدهم فيما نعلم -هم ذلك الخلق النوراني الشفيف الذي يسبح الليل
وهم -وحدهم -الذين ل يعصون ال في أمر من المور ( :ل َيعْصُونَ اللّهَ ()1
ل يَ ْف ُترُونَ )
. ()2
ن)
ن مَا يُ ْؤ َمرُو َ
مَا َأ َمرَ ُهمْ َويَ ْفعَلُو َ
أما النسان ،ذلك الكائن المخلوق من قبضة من طين الرض ونفخة من روح ال ،
المشتمل -إلى جانب روحه الشفيفة -على جسد يكدح وينزع ،ويأكل ويشرب ،ويتعب
وينام ،وعقل يفكر في تدبير مطالب الحياة الحسية والمعنوية ،ويسرح بخواطره في شتى
المجالت ،فإنه ل يستطيع أن يعبد ال على طريقة الملئكة التي تسبح الليل والنهار ل تفتر ،
ولو شاء ال أن يكلف النسان العبادة على طريقة الملئكة لمنحه طاقة الملئكة في
التسبيح الدائم بغير فتور ،ولركبه منذ البدء تركيبا آخر ،ل يفتر ول يكل ول يمل ،لن ال
من رحمته ل يكلف نفسا إل وسعها ،ويجعل العبادة المفروضة على كل كائن من خلقه
ل على طريقته
..وك ّ ()3
والكون كله -بما فيه من كائنات -عابد لربه بأمر ربه
ي ُدخَانٌ فَقَالَ َلهَا وَلِ ْلَأرْضِ ا ْئ ِتيَا طَوْعا َأوْ َكرْها قَاَلتَا َأ َت ْينَا
سمَاءِ وَ ِه َ
ستَوَى إِلَى ال ّ
( ُثمّ ا ْ
ن ) (. )3
طَا ِئعِي َ
ولكن ال -سبحانه وتعالى -قد شاء أن يخلق النسان على نمط متفرد بين جميع
الكائنات ..
سمْعَ
جعَلَ َل ُكمُ ال ّ
سوّاهُ َونَ َفخَ فِي ِه مِنْ رُوحِهِ َو َ
ن سُللَةٍ ِمنْ مَا ٍء َمهِينٍ ُثمّ َ
جعَلَ َنسْلَ ُه مِ ْ
ن ُثمّ َ
ن طِي ٍ
مِ ْ
فعدّد مواهبه ،وعلمه من العلم ما يناسب المهمة التي خلقه من أجلها :
. ()5
علٌ فِي ا ْلَأرْضِ خَلِي َفةً )
( وَِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ ِإنّي جَا ِ
وهيأه من خلل ذلك كله لحمل المانة التي أشفقت من حملها السماوات والرض :
وهو في ذلك كله -ومن ذلك كله -في كبد دائم وفي كدح :
()3
( لَ َق ْد خَلَ ْقنَا ا ْلِأ ْنسَانَ فِي َك َبدٍ )
()4
ن ِإ ّنكَ كَادِحٌ إِلَى َر ّبكَ َكدْحا َفمُلقِي ِه )
( يَا َأ ّيهَا ا ْلِأ ْنسَا ُ
ثم إن ال فرض عليه عبادة تناسب تكوينه وتناسب مهمته :تناسب طاقاته المتنوعة ،
والكبد الذي يعانيه ،والكدح الذي يلزمه ،وتناسب في الوقت ذاته مواهبه التي اختص بها
بين الكائنات ،ومجالت نشاطه الواسعة ،والمانة التي يحملها ..عبادة ل تعنته في شيء ،
ول تكلفه ما ل يطيق ،وتتسع في الوقت ذاته حتى تشمل وجوده كله وعمره كله من لحظة
التكليف إلى لحظة الموت ،ل تند عنها لحظة واحدة من لحظات الوعي ،ول لمحة ول خاطر
()5
شرِيكَ لَ ُه ) ..
ب ا ْلعَاَلمِينَ ل َ
سكِي َو َمحْيَايَ َو َممَاتِي لِلّهِ رَ ّ
( قُلْ ِإنّ صَلتِي َو ُن ُ
تلك هي العبادة التي كلف بها النسان ،تشمل الصلة والنسك -أي الشعائر التعبدية -
وتشمل معها كل الحياة ..وكذلك فهم الجيل الول -رضوان ال عليهم -معنى العبادة ..
بأداء الشعائر التعبدية هي وحدها لحظات العبادة ،وتكون بقية حياتهم " خارج العبادة " !
إنما كان في حسهم أن حياتهم كلها عبادة ،وأن الشعائر إنما هي لحظات مركزة ،
يتزود النسان فيها بالطاقة الروحية التي تعينه على أداء بقية العبادة المطلوبة منه ،ولذلك
كانوا يحتفلون بها احتفال خاصا ،كما يحتفل المسافر بالزاد الذي يعينه على الطريق ،
()1
جنُو ِبهِمْ )
ن اللّهَ ِقيَاما َو ُقعُودا وَعَلَى ُ
كانوا كما وصفهم ربهم َ ( :يذْ ُكرُو َ
وكما في قلنا في أكثر من موضع في أكثر من كتاب ،لم يكن ذكرهم مجرد الذكر
باللسـان ،ول مجرد الذكر بالقلب ،إنما كان إلى جانب هذا وذاك عمل يؤدى بروح العبادة
ل.
فأما الذكر على طريقة الطقطقة بالمسابح فلم يؤثر عنهم -رضوان ال عليهم . -
وأما الذكر على طريقة الخلوة التعبدية التي يغيب فيها النسان عن الواقع المحسوس ،
وينقطع عن الدنيا من أجل أن يخلو إلى ربه ،فينقطع بذلك عن العمل في واقع الرض ..
ولما همّ بذلك قوم من المسلمين نهاهم رسول ال -صلى ال عليه وسلم -فيما رواه
الشيخان :
" ذهب ثلثة رهط إلى بيت من بيوت رسول ال -صلى ال عليه وسلم -فسألوا عن
عبادته -صلى ال عليه وسلم -فلما أخبروا كأنهم تقالّوها .فقالوا :أين نحن من رسول ال
الدهر ول أفطر ،وقال الخر :أما أنا فأقوم الليل ول أنام .وقال الثالث :أما أنا فل أتزوج
النساء .فلما سمع رسول ال -صلى ال عليه وسلم -قال :أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما
وال إني لخشاكم ل وأعبدكم له ولكني أصوم وأفطر ،وأقوم وأنام ،وأتزوج النساء ،فمن
إنما كانوا يقومون بالعبادة وهم يمارسون الحياة في شتى مجالتها ،وكانت عبادتهم
الكبرى هي العمل في شتى مجالت الحياة .كانوا يذكرون ال فيسألون أنفسهم :هل هم في
الموضع الذي يرضى ال عنه أم فيما يسخط ال ؟ فإن كانوا في موضع الرضى حمدوا ال ،
سهُمْ َذكَرُوا الّلهَ فَاسْ َت ْغفَرُوا لِذُنُو ِب ِهمْ َو َمنْ َيغْ ِفرُ
( وَاّلذِينَ ِإذَا فَعَلُوا فَاحِشَ ًة أَ ْو ظََلمُوا َأ ْن ُف َ
جنّاتٌ
جزَاؤُ ُهمْ َمغْ ِفرَةٌ ِمنْ َر ّب ِهمْ َو َ
ك َ
ن أُوَل ِئ َ
ب إِلّا اللّ ُه وََلمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُو َ
ال ّذنُو َ
. ()1
ن)
ن فِيهَا َو ِنعْ َم َأجْ ُر ا ْلعَامِلِي َ
ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِي َ
ن َت ْ
َتجْرِي مِ ْ
وكانوا يذكرون ال فيسألون أنفسهم :ماذا يريد ال منا في هذه اللحظة ؟ أي :ما
حيَا َة ال ّد ْنيَا بِالْآخِرَ ِة ) ( )2كان ذكر ال مؤديا إلى القيام بالجهاد في سبيل ال .
َيشْرُونَ ا ْل َ
ذكر ال هو المشي في مناكب الرض وابتغاء رزق ال في حدود الحلل الذي أحله ال ،لنه
العلم من أجل عمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني ،سواء كان العلم هو العلم الشرعي
الذي يعرف به النسان الحلل والحرام ،والمباح والمندوب المكروه ،أو العلم بما في الكون
من طاقات ،لتحقيق التسخير الربانـي الذي سخر ال به ما في السماوات والرض للنسان :
علمي يبذله النسان في التعرف على خواص المادة ومدخرات الطاقة في الكون ،وجهد بدني
يبذله في تحويل الخامات والطاقات إلى عمران يحقق حاجات الناس في الرض ،كما يحقق
وقد مرت بنا في الفصل السابق تلك اليات التي وصفهم فيها ربهم ،والدللة الواضحة
ن مِنْ
خزَ ْيتَهُ َومَا لِلظّالِمِي َ
ن ُت ْدخِلِ النّارَ فَ َقدْ َأ ْ
عذَابَ النّارِ َر ّبنَا ِإ ّنكَ مَ ْ
س ْبحَا َنكَ فَ ِقنَا َ
َهذَا بَاطِلً ُ
ن آ ِمنُوا ِبرَ ّب ُكمْ فَآمَنّا َر ّبنَا فَاغْ ِفرْ َلنَا ُذنُو َبنَا َوكَ ّفرْ
ن أَ ْ
س ِمعْنَا ُمنَادِيا ُينَادِي لِ ْلإِيمَا ِ
َأ ْنصَارٍ َر ّبنَا ِإ ّننَا َ
ض ُكمْ مِنْ
ن َذكَرٍ َأ ْو ُأ ْنثَى َب ْع ُ
عمَلَ عَامِلٍ ِم ْن ُكمْ مِ ْ
ستَجَابَ َل ُه ْم رَ ّب ُهمْ َأنّي ل ُأضِيعُ َ
ف ا ْلمِيعَادَ فَا ْ
ُتخْلِ ُ
ع ْن ُهمْ
سبِيلِي َوقَاتَلُوا َو ُقتِلُوا َلُأكَ ّفرَنّ َ
خ ِرجُوا ِمنْ ِديَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي َ
جرُوا وَُأ ْ
َبعْضٍ فَاّلذِينَ هَا َ
حسْنُ
ع ْندَ ُه ُ
ع ْندِ اللّهِ وَاللّهُ ِ
حتِهَا ا ْلَأ ْنهَارُ ثَوَابا ِمنْ ِ
ن َت ْ
جرِي مِ ْ
جنّاتٍ َت ْ
س ّيئَاتِهـمْ وََلُأ ْدخَِل ّنهُـمْ َ
َ
ب ) (. )1
الثّوَا ِ
ودللتها -كما أشرنا من قبل -أن ال سبحانه قد استجاب للتفكر والتدبر والدعاء
والضراعة حين تحول هذا كله إلى عمل في واقع الحياة .
ومن مثل هذه التوجيهات المبثوثة في كتاب ال ،ومن تعليم الرسول -صلى ال عليه
وسلم -فهم المؤمنون من الجيل الول والجيال التالية له ،أن العبادة المطلوبة ل تنحصر في
وفهموا أن الصلة والنسك -أي الشعائر -إنما هي المنطلق الذي ينطلق منه النسان
ليقوم ببقية العبادة ،التي تشمل الحياة كلها ،بل الموت كذلك !
والموت في حد ذاته ل يمكن أن يكون عبادة بطبيعة الحال لنه ل خيار للنسان فيه ،
ولكن المقصود في قوله تعالى " :ومحياي ومماتي ل رب العالمين ،ل شريك له " هو أن
يموت النسان غير مشرك بال ،وذلك هو الحد الدنى الذي يكون به النسان -في موته -
عابدا ل .أما الحد العلى فهو أن يكون موته استشهادا في سبيل ال ..وتلك قمة العبادة ..
وبهذا النهج وحده ..أي بأداء تلك العبادة الشاملة المتكاملة ،التي تشمـل الحياة
والموت ،تتحقق غاية الوجود النساني ،ويكون النسان قد قام -قدر جهده -بالعبادة
منذ أجيال أن ننظر إلى الشعائر التعبدية على أنها هي كل العبادة المطلوبة من المسلم ،وأنه
إذا أداها فقد أدى كل ما عليه من العبادة ،ولم يعد لحد أن يطالبه بالمزيد !
ولكن مرجعنا في تحديد المفاهيم السلمية ينبغي أن يكون هو الكتاب والسنة ،
والصورة التطبيقية الصحيحة للكتاب والسنة كما مارسها الجيل الول -رضوان ال عليهم -
الذين شهد لهم رسول ال -صلى ال عليه وسلم -بأنهم خير القرون قاطبة :
()1
" خيركم قرني ،ثم الذي يليه "
هذا هو المرجع ..وليس ما طرأ على المسلمين خلل مسيرتهم التاريخية الطويلة من
ووقوع القصور أو النحراف خلل تلك المسيرة الطويلة أمر قد ل يستغرب من البشر
. ()2
عزْما )
جدْ لَهُ َ
سيَ وََل ْم َن ِ
ن َقبْلُ َفنَ ِ
ع ِه ْدنَا إِلَى آ َدمَ مِ ْ
( وَلَ َقدْ َ
ولكن العجب -في الغربة التي يعيشها السلم اليوم -أن تتبدل بالصورة الصحيحة
صورة خاطئة ،ثم نصر على أنها هي الصورة الصحيحة ! ..فإذا جاء أحد يعرض علينا
الصورة الصحيحة كما هي في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح ،اتهمناه بالغلو ،وامتنعنا
عن التصحيح !
جاء في الكتاب المنزل -كما بينا من قبل -أن ال قد خلق الجن والنس لغير شيء إل
()1
ت ا ْلجِنّ وَا ْلِأنْسَ إِلّا ِل َي ْعبُدُونِ )
( َومَا خَلَقْ ُ
ح ُكمُوا
ن النّاسِ َأنْ َت ْ
ح َكمْ ُتمْ َبيْ َ
وَِإذَا َ ()3
( ِإنّ اللّهَ َي ْأ ُم ُركُمْ َأنْ ُت َؤدّوا ا ْلَأمَانَاتِ إِلَى أَهِْلهَا
. ()4
ن َتأْوِيلً )
حسَ ُ
خ ْيرٌ وََأ ْ
خرِ ذَِلكَ َ
تُ ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَا ْل َي ْومِ الْآ ِ
. ()5
عظِيما )
أَ ْو َيغْلِبْ َفسَ ْوفَ نُ ْؤتِيهِ َأجْرا َ
عدُ ّو ُكمْ
ع ُدوّ اللّهِ وَ َ
ن بِهِ َ
خيْلِ ُترْ ِهبُو َ
ن قُوّةٍ َومِنْ ِربَاطِ ا ْل َ
طعْ ُتمْ مِ ْ
س َت َ
عدّوا َل ُهمْ مَا ا ْ
( وَأَ ِ
خيْرا
جعَلَ اللّهُ فِي ِه َ
شيْئا َو َي ْ
ن كَرِ ْه ُتمُو ُهنّ َف َعسَى َأنْ َت ْكرَهُوا َ
ن بِا ْلمَ ْعرُوفِ َفإِ ْ
شرُوهُ ّ
( وَعَا ِ
()2
ن ِرزْقِهِ ) ..
ل فَا ْمشُوا فِي َمنَا ِك ِبهَا َوكُلُوا مِ ْ
ل َل ُكمُ ا ْلَأرْضَ ذَلُو ً
جعَ َ
( ُهوَ اّلذِي َ
. ()3
ن)
سرُوا ا ْلمِيزَا َ
سطِ وَل ُتخْ ِ
ن بِالْ ِق ْ
( وََأقِيمُوا الْ َوزْ َ
()4
" طلب العلم فريضة " ..
" إن ال كتب الحسان على كل شيء .فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ،وإذا ذبحتم فأحسنوا
()5
الذبحة ،وليحد أحدكم شفرته ،وليرح ذبيحته "
" اجتنبوا السبع الموبقات .قيل :يا رسول ال وما هن ؟ قال :الشرك بال ،والسحر ،
وقتل النفس التي حرم ال إل بالحق ،وأكل الربا ،وأكل مال اليتيم ،والتولي يوم الزحف ،
()6
وقذف المحصنات الغافلت المؤمنات "
" إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ،وإذا شرب فليشرب بيمينه ،فإن الشيطان يأكل بشماله
()7
ويشرب بشماله "
" أمرنا رسول ال بسبع ونهانا عن سبع .أمرنا بعيادة المريض ،واتباع الجنائز ،
وتشميت العاطس ،وإبرار القسم أو المقسم ،ونصر المظلوم ،وإجابة الداعـي ،وإفشاء
السلم ،ونهانا عن خواتيم أو تختم بالذهب ،وعن شرب بالفضة وعن المياثـر ،وعن
()2
القسى ،وعن لبس الحرير والستبرق والديباج "
" ما من نبي بعثه ال في أمة قبلي إل كان له من أمته حواريون وأصحاب ،يأخذون
بسنته ويقتدون بأمره ،ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما ل يفعلون ،ويفعلون ما ل
يؤمرون .فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن .ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن .ومن جاهدهم بقلبه
فهو مؤمن .وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل " (. )3
فما موضع ذلك كله من العبادة التي بيّن ال -سبحانه وتعالى -أنها هي وحدها الغاية
وإذا كانت في خارجها فكيف يستقيم المعنى في الية الكريمة التي تحصر التكليف كله
ل بد إذن -بداهة -أل تنحصر العبادة في الشعائر التعبدية وحدها كما ظنت الجيال
المتأخرة من المسلمين ،وأن يكون معنى العبادة هو المعنى الشامل الواسع الذي تحمله اليتان
. ()1
ن)
ل ا ْل ُمسْلِمِي َ
وََأنَا َأوّ ُ
موجه للمة كلها من ورائه ،وأن الخصوصية لرسول ال -صلى ال عليه وسلم -هي في
كونه أول المسلمين ،وليست في التكليف ذاته ،الذي هو تكليف لكل مسلم يشهد أنه ل إله إل
كان إحساس المسلم في تلك الجيال بواجبه في الجهاد في سبيل ال كإحساسه بواجبه
في الصلة .هنا يعبد ال وهناك يعبد ال .ول تغني إحدى العبادتين عن الخرى ،لن كل
منهما -بمفردها -ل تحقق المعنى الكامل للعبادة التي يريدها ال .
وكان إحساسه بضرورة الزواج لكي يحصن نفسه من الفاحشة ،ولكي يتخذ السبيل إلى
تكثير المة المسلمة التي تجاهد لقتلع الشرك من الرض ،ونشر التوحيد وإقامة شريعة ال
في ربوعها ،هو إحساس العبادة .ول يتناقض في حسه معنى العبادة مع الحساس بمتعة
الجسد ما دامت في حلل أباحـه ال .ولما قال لهـم رسول ال -صلى ال عليه وسلم : -
" وفي بضع أحدكم صدقة " دهشوا بادئ المر ،وقالوا :يا رسول ال إن أحدنا ليأتي زوجه
شهوة منه ثم يكون له عليها أجر ؟! فبين لهم الرسول المعلم -صلى ال عليه وسلم : -قال :
" أرأيت لو وضعهـا في حرام أكان عليـه فيها وزر ؟ فإذ وضعهـا في حلل فله عليهـا
ومن ثم لم يعودوا بعد ذلك يدهشون .وعلموا أن نشاط الجسد الطبيعي هو في ()2
أجر "
كذلك كان إحساس المسلم بسعيه في طلب الرزق ،وطلبه للعلم ،وعمارته للرض ،
وكل نشاط جسده وعقله وروحه ..كلها عبادة .عبادة على الحقيقة ل على المجاز .عبادة
ومن ثم حققت تلك المة ما حققته من منجـزات في كل اتجاه ،وما حققته من
معجزات ..
وما كانت تلك المة لتقدر على دك حصون الشرك واقتلعها بمثل هذه السهولة ،
وما كانت لتقدر على إبراز تلك المثل الرفيعة التي أبرزتها في عالم الواقع ،من إقامة
العدل الرباني في الرض ،ونظافة التعامل ،والوفاء بالمواثيق ،وشجاعة النفس ،والبطولة
وما كانت لتقدر على إنشاء حركتها العلمية الضخمة ،ول حركتها الحضارية الفائقة ..
ما كانت لتقدر على ذلك كله ،ول على شيء منه ،لول هذا الحساس العميق لديها
بأنها في ذلك كله تقوم بالعبادة التي خلق ال النسان من أجلها ،وتقوم به بذات الحس التي
على أي صورة إذن ينبغي أن يعبد المسلم ربه ليحقق غاية وجوده التي خلقه ال من
()2
شيْئا )
ع ُبدُوا اللّهَ وَل ُتشْ ِركُوا بِ ِه َ
( وَا ْ
وهذه العبادة الولى -كما أسلفنا في الفصـل السابق -لها مقتضياتها التي ل تتم إل
بها ،وليست مجرد كلمة تنطق باللسان وينتهي المر و " تسدد الخانة " ،كما زعم الفكر
الرجائي للناس بغير سند من كتاب ال ول سنة رسوله صلى ال عليه وسلم .
ومقتضياتها -كما مر بنا من قبـل -هي السلم كله ! مع اختلف في درجة "
اللزام " ..فمن مقتضياتها ما يتعلق بأصل اليمان -كالعتقاد بوحدانية ال بل شريك ،
والتوجه بالشعائر التعبدية إليه وحده بل شريك ،وتحكيم شريعته وحدها بل شريك -فهذا ل
يكون العبد مؤمنا إل به ،ومنها ما يتعلق بكمال اليمان -وهو أخلقيات ل إله إل ال ،
. ()3
وبقية التكاليف التي فرضها ال -فل يكون العبد كامل اليمان إل به
ثم تأتي الشعائر التعبدية في موضعها بعد القرار بل إله إل ال ،الذي يعني -كما
وقد احتفى السلم حفاوة ظاهرة بالشعائر التعبدية لحكمة ظاهرة ،فهي التي تربط
القلب ربطا دائما ومتجددا بال ،وهي -كما بينا -محطات التزود التي يتزود فيها النسان
وقد أحس المسلمون -دائما -بالهمية الخاصة التي أولها السلم لهذه الشعائر ،
وكان الخطأ الول -والخطر -هو حصر العبادة المطلوبة كلها في الشعائر التعبدية .
وقد ترتب على هذا التصور الخاطئ إخراج ل إله إل ال بكل مقتضياتها العتقادية
والسلوكية من دائرة العبادة ،فأصبحت العبادة تبدأ في -حس الناس -بالصلة ،ول تبدأ بل
إله إل ال !
ولقد كان مبدأ التفرقة في أول المر قضية " اصطلح " .فل إله إل ال " عقيدة " ،
والشعائر " عبادات " ومع خطورة هذه التفرقة الصطلحية في ذاتها -كخطورة التفرقة
الصطلحية بين " العبادات " و " المعاملت " )1( -فإن الخطر كان محدود الثر في بادئ
المر حين كانت " العقيدة " تؤخذ بمعناها الحقيقي الذي نزلت به من عند ال ،وفهمه السلف
الصالح ،وهو توحيد الربوبية وتوحيد اللوهية وتوحيد السماء والصفات ،وما يقتضيه ذلك
في حياة النسان اعتقادا وفكرا وسلوكا ..فأما حين عمل الفكر الرجائي على اختزال عقيدة
التوحيد ،وإفراغها من مضمونها الحيّ كلـه ،وحصرها في مجرد التصديق للنجاة في
الخرة ،والقرار اللفظي للنجاة في الدنيا ..فقد تقلص جانب ضخم من " العبادة " الحقيقية
التي افترضها ال على العباد ،وأصبح الباقي منها -حتى لو ُأ ّديَ على أكمل صورة -
قاصرا على أن يوفي المعنى الحقيقي للعبادة التي خلق ال الخلق من أجلها ،وقال عنها
سبحانه :
)(1فرق علماء السلم تفريقا اصطلحيا بين " العقيدة " و " العبادات " و " المعاملت " لمقتضيات " علمية "
ي منها ،وأن أي واحدة منها
تخصصية ،ولكن كان في حسهم أن " الدين " يشملها كلها ،ول يقتصر على أ ّ
-بمفردها -ل تمثل الدين سواء في شموله وتكامله ،أو في كونه مفروضا على الناس لللتزام والتنفيذ ..
ولكن حيـن حدث التخلخل خلل المسيرة التاريخية أثرت هذه التفرقة الصطلحية تأثيرا سيئا في مفاهيم
الناس ،حين اقتصر مفهوم " العبادة " على أداء الشعائر التعبدية فحسب ،وخرجت منها العقيدة والمعاملت .
()2
ت ا ْلجِنّ وَا ْلِأنْسَ إِلّا ِل َي ْعبُدُونِ )
( َومَا خَلَقْ ُ
وقد يبدو لول وهلة أن المر ليس بهذه الخطورة ! وأن المسلمين -وإن اصطلحوا
على أن مفهوم العبادة هو أداء الشعائر -ل يمكن أن يكونوا في دخيلة أنفسهم قد أغفلوا ركن
ولكن الحقيقة الواقعة في حياة " المسلم المعاصر " تؤكد خطورة المر ..
فحين يوجد إدراك صحيح للعبادة ،وأنها تبدأ بالقرار بالعبودية ل وحده دون شريك ،
قبـل الصلة والصيـام والزكاة والحـج ،ل يمكـن أن توجد الظاهرة القائمة اليوم في حياة
" المسلم المعاصر " وهي وجود مليين من البشر يعتقدون أن النسان إذا أدى الشعائر التعبدية
فهو مؤمن كامل اليمان ،ولو تحاكم راضيا إلى شريعة غير شريعة ال ،وأن قضية التحاكم
منفصلة تماما عن العبادة كما هي منفصلة تماما عن اليمان ..لن رسول ال -صلى ال
عليه وسلم -قال " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له باليمان ( ! )2فذكر في الحديث
وأقوال رسول ال -صلى ال عليه وسلم -الثابتة حق كلها ..ولكن الجتزاء بحديث
معيـن من أحاديث اليمان منقطعا عن بقية الحاديث التي تحدد حقيقة اليمان أو تحدد
نواقضه ،ل يمكن أن يؤدي إلى إدراك صحيح ..وإل فهل يعقل بداهة أن يطلب رسول ال
-صلى ال عليه وسلم -الشهادة لرجل باليمان ( إن صح الحديث ) لمجرد أنه يعتاد
المساجد ،إذا كان الرجل واقعا في شرك صريح ينقض ل إله إل ال من أساسها ،وينقض
أصل اليمان ؟! أليس القرار بل إله إل ال -ومن مقتضياتها التحاكم إلى شريعة ال -
شرطا لزما لليمان قبل اعتياد المساجد وإقامة الصلة وإن لم يذكر ذلك في الحديث النف
ولقد كان المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر -رضي ال عنه -يقيمون الصلة ويعتادون
المساجد ،ومع ذلك لم يشهد لهم أحد باليمان ! بل قوتلوا وحوربوا لنهم أعرضوا عن حكم
واحد من أحكام ال ،مع إقرارهم -وتنفيذهم -لبقية الحكام ..فكيف بمن يعرضون عن
حكم ال كله ،ويُ ْقبِلُون راضين على حكم غير حكم ال ؟!
والناس اليوم قد يجهلون أن التحاكم إلى غير شريعة ال عن رضا وإرادة هو ارتداد عن
السلم ينقض أصل اليمان .وما نريد أن ندخل في قضية الحكم على هذا الجيل من الناس ،
وهل هم معذورون بجهلهم أم غير معذورين ،فتلك قضية ل نخوض فيها أصل للسباب التي
إن إخراج ل إله إل ال -ومقتضياتها -من دائرة العبادة ،وتوهم أن العبادة تبدأ
بالشعائر ،وتنحصر في الشعائر ،قد أحدث اختللت ضخمة في حياة المسلم المعاصر ل
يستقيم معها إسلم .ول بد من تصحيحها في التصور وفي السلوك معا لتصحيح حياة
المسلمين ،وإخراج الناس من الوهدة التي سقطوا فيها ،وأصبحوا -بسبب سقوطهم هذا -
وكان من بين ما خرج من مفهوم العبادة حين انحصرت في الشعائر التعبدية " العمل "
بجميع أنواعه ،بدءا بالعمل السياسي المتمثل في رقابة المة على الحاكم ،وتقديم النصح له ،
اقرأ إن شئت " قضية الحكم على الناس " ص 454 - 439من كتاب " واقعنا المعاصر " . ()
1
وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ليستقيم على أمر ال وشريعته ،ويطبق العدل الرباني كما
()1
ت َل ُكمُ ا ْلِأسْلمَ دِينا )
( ا ْليَ ْو َم َأ ْكمَلْتُ َل ُكمْ دِي َن ُكمْ وََأ ْت َممْتُ عََل ْي ُكمْ ِن ْع َمتِي َورَضِي ُ
ع ُتمْ فِي
ن َتنَازَ ْ
ن آ َمنُوا َأطِيعُوا اللّهَ وََأطِيعُوا ال ّرسُولَ وَأُولِي ا ْلَأ ْمرِ ِم ْنكُمْ َفإِ ْ
( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ
حسَنُ
خيْـرٌ وََأ ْ
ن بِالّل ِه وَالْ َيوْ ِم الْآخِرِ ذَِلكَ َ
ل إِنْ كُنْتُـمْ ُت ْؤمِنُـو َ
شيْءٍ فَ ُردّوهُ إِلَى اللّهِ وَال ّرسُو ِ
َ
()2
َتأْوِيلً )
" ما من نبي بعثه ال في أمة قبلي إل كان له من أمته حواريون وأصحاب ،يأخذون
بسنته ويقتدون بأمره .ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما ل يفعلون ،ويفعلون ما ل
يؤمرون .فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بقلبه
()3
فهو مؤمن .وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل "
فتحدد الية الكريمة مصدر السلطة في المجتمع المسلم :ال ورسوله .وتأمر بطاعة
ال وطاعة الرسول طاعة مطلقة في كل أمر أو نهي جاء في كتاب ال أو في سنة رسوله -
صلى ال عليه وسلم . -ثم تأمر الية بطاعة أولي المر ل قائمة بذاتها ،ول مطلقة كطاعة
ال ورسوله ،ولكن معطوفة على طاعة ال والرسول ،أي فيما أمروا به غير مخالف لما
جاء من عند ال والرسول ،إذ أنه ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق " :إنما الطاعة في
()4
المعروف "
سورة المائدة [ . ] 3 ()
1
سورة النساء [ . ] 59 ()
2
أخرجه مسلم . ()
3
أخرجه الشيخان . ()
4
ثم تبين الية المرجع الذي يرجـع إليه المسلمون في أي نزاع يعرض لهم :ال
والرسول .ول أحد غير هذا المرجع .كما تربط الية هذا المر ،وهو الرجوع إلى ال
والرسول في أي نزاع يعرض ،باليمان بال واليوم الخر ،أي بالعقيدة مباشرة .وهكذا
تصبح القضية السياسية الكبرى وهي تحديد مصدر السلطة ،والمرجع الذي يرجع إليه في
حالة النزاع ،قضية عقيدية مرتبطة بالصل الذي تقوم عليه العقيدة كلها ،وهو :ل إله إل
أما الحديث الذي أوردناه فيحدد سلوك المة حين تقع مخالفة لحكم ال ،فيقرر أن تلك
المخالفة تستوجب المجاهدة باليد أو باللسان أو بالقلب لرد المور إلى الصل الذي تردّ إليه
المور كلها ،وهو ما جاء من عند ال ومن عند رسوله -صلى ال عليه وسلم . -ويربط
هذا السلوك ربطا مباشرا بقضية اليمان ،وذلك بنفي اليمان نفيا باتا عمن يرى المخالفة ول
يقوم بمجاهدتها بدرجة من الدرجات الثلث وأدناها الكراهية بالقلب ،إذ يقول -عليه الصلة
والسلم " : -وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل " .
وهكذا يصبح " العمل السياسي " جزءا من العقيدة وجزءا من العبادة ،ل خارج هذه
الدائرة ول تلك .وهكذا فهمت المة وهي تراجع عمر -رضي ال عنه -فيقول له واحد من
رعيتـه :ل سمع لك اليوم علينا ول طاعة حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت
به ! وتقول له امرأة من رعيته حين أمر بعدم المغالة في المهور :لقد حجرت واسعا ! ال
يقول " :وآتيتم إحداهن قنطارا " وأنت تضيق على الناس ؟! فيقول :أخطأ عمر وأصابت
امرأة !
ولكن الستبداد السياسي الذي بدأه المويون في حياة المة السلمية منذ وقت مبكر ،
مضافا إليه التفلت التدريجي من التكاليف ،والصوفية التي أنشأتها ظروف معينة في حياة
المة ،والفكر الرجائي الذي حصر اليمان -الذي يدخل به الناس الجنة -في التصديق
والقرار ..كل هذه العوامل مجتمعة حصرت العبادة في حس الناس في الشعائر التعبدية
فحسب ،وأصبح السلم في حس الناس أقرب إلى أن يكون ممارسة فردية يقوم بها كل
إنسان بمفرده ،حين بعد الناس عن ممارسة " العمل السياسي " السلمي ،وهو أبرز ما تقوم
به الجماعة المسلمة من المور ،وهو الذي استحقت من أجله وصف ال لها بأنها خير أمة
خ ِرجَـتْ لِلنّاسِ تَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ َوُت ْؤ ِمنُونَ
خيْرَ ُأمّةٍ ُأ ْ
( ُكنْتـ ْم َ
()1
بِاللّهِ )
وحين خرج العمل السياسي من دائرة العبادة تخلخلت أول عروة من عرى السلم -
عروة الحكم -وإن كانت لم تنقض تماما في مبدأ المر ،فقد بقي الناس في المجتمع
السلمي يتحاكمون إلى شريعة ال ،ل يرون غيرها شريعـة واجبة الطاعة ول واجبة
التنفيذ .ولكن صحب تحكيم شريعة ال جور من الحكام ومظالم تجعل التطبيق غير كامل كما
أوجبه ال ونفذه السلف الصالح ..ومرت قرون من هذا التحكيم المصحوب بالجور والظلم
حتى نقضت تلك العروة تماما في العصر الحديث حين نحيت شريعة ال عن الحكم أصل
واستبدلت بها شرائع البشر ،فكانت أول عرى السلم نقضا كما قال الصادق الصدوق -
صلى ال عليه وسلم " : -لتنقضن عرى هذا الدين عروة عروة ،فأولها نقضا الحكم ،
()2
وآخرها نقضا الصلة "
ومع وجود العوامل التي أشرنا إليها ،والتي أخرجت العمل السياسي من دائرة العبادة ،
لم يكن من المتوقع أن يقف النحسار في مفهوم العقيدة ومفهوم العبادة عند هذا الحد .إنما
كان المتوقع أن يسري النحسار تدريجيا إلى بقية أنواع العمل ،فأُخرجت تدريجيا من دائرة
()1
ن ِإ ّنكَ كَادِحٌ إِلَى َر ّبكَ َكدْحا َفمُلقِي ِه )
( يَا َأ ّيهَا ا ْلِأ ْنسَا ُ
إنما بمعنى أن العمل في الحياة الدنيا انفصل في حس الناس عن دائرة اليمان حين
انحصرت هذه في التصديق والقرار ،وعن دائرة العبادة حين انحصرت هذه في الشعائر ..
فصار للعمل ركيزة أخرى غير العبادة ،لتكن هي الكسب ،أو هي القتناء والملك ،أو هي
الغلبـة والسيطرة ،أو هي المتـاع الحسي أو المتـاع المعنوي ..أو أي دافع من الدوافـع
" الذاتية " التي تدفع النسان للنتاج والعمل غير مرتبطة باليمان بال أو التعبد إليه ..وصار
في حس النسان أنه حين " يعبد " ينقطع عن العمل ،وحين " يعمل " ينقطع عن العبادة ،
وصارت له ساعتان منفصلتان تماما ل يربط بينهما رابط :ساعة العمل وساعة العبادة ،
فضل عن ساعة ثالثة خارج العمل والعبادة جميعا ،هي ساعة اللهو أو الترويح -بريئا أو
غير بريء ! -فصارت كل واحدة من هذه الدوائر الثلث منفصلة عن الخرى " ،مقفلة "
على ما فيهـا ،ولم يعد النسان يصل إلى أي واحدة منها إل بالخروج من الدائرتين
الخريين !
لم يكن الجيل الول الذي رباه رسول ال -صلى ال عليه وسلم -يفهم المر على هذا
النحو الشائه الذي انحرفت إليه الجيال المتأخرة .إنما كان -كما قدمنا -يفهم الحياة كلها
على أنها عبادة ،تشمل الصلة والنسك وتشمل العمل كله ،وتشمل لحظة الترويح كذلك .فل
شيء في حياة النسان كلها خارج من دائرة العبادة التي تنحصر فيها غاية الوجود النساني
والكدح عبادة ،سواء كان كدحا سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو فكريا أو علميا ..
الخ .
فأما الصلة والنسك فأمر العبادة فيها واضح ل يحتاج إلى بيان .
وأما الكدح فقد كان المر فيه واضحا تماما للجيل الذي رباه رسول ال -صلى ال
عليه وسلم -على عينه .الذين كانوا يذكرون ال قياما وقعودا وعلى جنوبهم ،على النحو
كان الكدح -وهو العمل في واقع الحياة -هو العبادة الدائمة التي يقوم بها المسلم ،
والتي يتزود -من أجل القيام بها -بذلك الزاد الروحي العميق الذي تمنحه إياه الشعائر
التعبدية ،حين يقوم بها على صورتها الحقة ،من الخلوص إلى ال ،والتجرد إليه ،
التوجه به إلى ال ،واللتزام فيه بما أنزل ال ،ومن ثم يتحول لتوه إلى عبادة يتقرب
ويدخل السرور على أهله ،ويتبسط مع أصحابه -رضوان ال عليهم -ويصحبهم إلى جلسة
في بستان أو رياضة إلى خارج المدينة ،وتقام بين يديه مباريات في الفروسية ..وكان
يدعوهم ويوجههم إلى ما يجلو الكلل والملل عن قلوبهم في غير مأثم ول استغراق يطغى على
الواجبات ،فكانوا يستشعرون أن الترويح على هذه الصورة -حين تسمح به ظروفهم
المكتظة بالعباء -منشّط للعبادة ومعين عليها ،ومن ثم فهو داخل في إطارها ..
وهكذا يقضون الحياة كلها في عبادة ..عبادة تشمل نشاط الروح كله ،ونشاط العقـل
كله ،ونشاط الجسد كله ،ما دام هذا كله ُمتَوجّها به إلى ال ،ومل َتزَما فيه بما أنزل ال ..
وهي في الوقت ذاته عبادة ل تعنت النسان ول تكلفه ما ل طاقة له به ،لنها تأخذ نشاطه
الطبيعي ،الذي يمكن أن يصدر عنه بحكم تكوينه ذاته ،فتحوله إلى عبادة بتلك اللمسة
البسيطة العميقة في ذات الوقت ،التي توجهه إلى ال ،وتبتغي به مرضاة ال .
وهذا هو المفهوم الصحيح للعبادة كما أنزله ال ..المفهوم الشامل الواسع العميق :
()1
شرِيكَ لَهُ ) ..
نل َ
حيَايَ َو َممَاتِي لِلّهِ رَبّ ا ْلعَاَلمِي َ
سكِي َو َم ْ
( قُلْ ِإنّ صَلتِي َو ُن ُ
وحين كان المر على هذا الفهم الذي فهمه الجيل الول من كتاب ال ومن تعليم رسوله
-صلى ال عليه وسلم -لم تكن هناك دوائر مغلقة في حياة المسلم ينتقل من واحدة إلى
الخرى ساعة بعد ساعة ..ولم تكن " العبادة " مجرد ساعة من الساعات ،يخرج المسلم منها
إلى غيرها ..إنما كانت هناك دائرة واسعة شاملة ،ينتقل النسان في مختلف جوانبها من
نشاط إلى نشاط ،وهو في جميع الحوال قائم أو متحرك في داخلها يعبد ال :
ولم يكن ذلك تطوعا منهم يتفردون به ،ويعفى غيرهم منه ..إنما كان هو الفهم
الصحيح للعبادة ،والممارسة الصحيحة لها ،ثم يتفاضلون فيما بينهم ل في هذا الجوهر
المشترك ،وهو شمول العبادة لكل ألوان نشاطهم ،إنما يتفاضلون في القدر الذي يجتهد كل
وكانت الشعائر تلقى منهم حفاوة بالغة كما قلنا ،ل باعتبارها هي مجال العبادة الوحد
فيصبّوا فيها كل وجداناتهم ،وكل مشاعرهم ،وكل حضورهم الروحي ،وكل خشوعهم
وإخباتهم ل ..إنما لنها في حسهم -كما هي في الحقيقة -محطات التزود ،التي يتزود فيها
النسان بالزاد لبقية الطريق ..أو النبع الذي يجدد الطاقة للقيام ببقية العبادة المفروضة على
النسان ..وكلما نفد الزاد أو كاد يكون المسافر قد أتى إلى المحطة التالية يتزود فيها للمشوار
الجديد ..
الصلة زاد يومي يتكرر خمس مرات في اليوم والليلة .والصيام زاد سنوي مركّز
مجمّع يستغرق شهرا كامل يتقلب فيه النسان من عبادة إلى عبادة إلى عبادة .والزكاة موسم
أو مواسم سنوية يتطهر فيها النسان من الشح ،ويمارس العطاء الروحي والمادي .والحج
موسم في العمر يتجرد فيه النسان من متاع الرض الزائل كله ،ويقبـل على ال ..وكلها
الحقيقة العميقة الدقيقة ،وهي شمول العبادة في حسهم لكل عمل وكل فكر وكل شعور ،وكل
لحظة من لحظات العمر ،وعدم اقتصارها على لحظات معينة هي التي تؤدى فيها الشعائر
خذ هذا العرابي الذي أعطاه رسول ال -صلى ال عليه وسلم -قسمه من الغنائم
فقال :ما على هذا اتبعتك ! ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا -وأشار إلى حلقه -
بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال :إن تصدق ال يصدقك (. )1
ألم يكـن في قمة العبادة وهو يفعل ذلك ؟! وما كان في لحظتها يؤدي شعيرة من
الشعائر ! إنما كان يؤدي عبادة اللحظة القائمة ،في المناسبة القائمة ،ويؤديها على مستوى
القمة في الداء !
وخذ هذه المرأة التي كانت تصرع فتتكشف ،فسألت رسول ال -صلى ال عليه وسلم
-أن يدعو لها بالشفاء .فقال لها :إن شئت صبرت ولك الجنة ،وإن شئت دعوت ال -عز
وجل -أن يعافيك .قال :أصبر ! قالت :فإني أتكشف ،فادع ال أل أتكشف ،فدعا لها ..
ألم تكن في قمة العبادة وهي تقول كذلك ؟! وما كانت في لحظتها تؤدي شعيرة من
الشعائر ! إنما كانت تؤدي عبادة اللحظة القائمة ،في المناسبة القائمة ،وتؤديها على مستوى
القمة في الداء !
وخذ سلمان الفارسي حين قام عمر -رضي ال عنه -على المنبر يقول :أيها الناس ،
اسمعوا وأطيعوا ،فقال له سلمان :ل سمع لك اليوم علينا ول طاعة ! فقال عمر -ولم
يغضب -ولمه ؟ قال :حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به ! فلم يغضب
عمر ،ونادى ابنه عبد ال بن عمر فقال له :نشدتك ال ! هذا البرد الذي ائتزرت به أهو
ال بالرقابة على أعمال الحاكم للتأكد من جريان العدل الرباني مجراه ،وعمر -بروح العبادة
في قمتها -ل يغضب من مساءلة الرعية له على متر زائد من القماش !
وخذ هذا الرجل الفقير وامرأته ،إذ همّ الرجل أن يشكو فقره إلى رسول ال -صلى
ال عليه وسلم -ليعطيه ما يذهب عنه فاقته ،فتقول له امرأته :أتشكو ال إلى رسوله صلى
وخذ هذا الرجل الذي خرج للقتال وفي يده تمرات ،فأعجلته ريح الجنة فلم يصبر ،
فرمى التمرات من يده وهو يقول :لئن بقيت حتى أنتهي من هذه إنه لمر يطول !!
سمّـى هذه اللحظات الفائقة ..إن لم تكن لحظات عبادة في أعلى القمة من
كيف ُت َ
العبادة ؟!
وفرق كبير بين أن تقتصر العبادة على الصلة والنسك والشعائر ،ويخرج منها العمل
والترويح ،وبين أن تكون كلها عبادة ،يتنقل النسان فيما بينها ساعة بعد ساعة ،ولكنه ل
يخرج في أي ساعة من دائرة العبادة التي يتوجه فيها القلب إلى ال ،ويلتزم فيهـا بأوامـر
ال ..
وفارق في نوع " النجاز " الذي يقوم به النسان في الرض ،فردا كان أو جماعة ..
فحين يكون العمل عبادة فلن يدخله الغش ،ول الخيانة ،ول الكذب ،ول الخديعة ،ول
الفتئات على حقوق الناس بالجور والظلم ،ول ارتكاب المحرمات من أجل الكسب أو التسلط
وحين يكون الترويح عبادة فل يمكن أن يسفل ،وأن يتفه ،وأن يسفّ ،ول أن يهبط
بإنسانية النسان كما هو حادث في الجاهلية المعاصرة في ألوان " اللهو " المبذول في كل
وأما النجاز فقد يخيل لبعض الناس اليوم أن أضخم إنجاز في التاريخ هو النجاز الذي
قامت به أوربا في عصرها الحاضر ..وقد قامت به وهي بعيدة تماما عن " الدين " وعن
عبادة ال ..
فقد أنجزت الحضارة المادية المعاصرة إنجازا ضخما ل شك فيه في بعض جوانب
الحياة ،أبرزها التقدم العلمي الهائل ،والتقدم التكنولوجي الذي استخدم ثمار العلم في تيسير
الحياة وتخفيف الجهد عن النسان ،وعبقرية التنظيم التي تسهم بدورها في تيسير الحياة
وتخفيف الجهد وتوفير كثيـر من الوقت ،وبعض الجوانب " النسانيـة " الخرى المتمثلة
في " الحقوق " و " الضمانات " التي يتمتع بها الناس هناك .
ولكن الحصيلة النهائية لهذه الحضارة المادية بعيدة كل البعد عن أن تكون صورة
مشرقة " للنسان " أو صورة مشرّفة له ،رغم كل الجوانب المضيئة فيها ،بسبب ما تحمله
من جور سياسي واقتصادي واجتماعي ،واستعمار ،وانتهاك للحرمات ،وقذارة حسية
ومعنوية ،وتحلل أخلقي ،وانطماس روحي ،وانتكاس نفسي ،وهبوط بالنسان من مكانه
اللئـق الذي خلقه ال له ،وكرمه به ،لكي يصبـح في النهاية عبدا ذليل لكل شيء ..إل
()1
ال !
وهذا هو مفرق الطريق بين النجاز الوربي المعاصر وإنجاز المة السلمية حين
إن ما تقوم به أوربا اليوم ليس هو الذي قامـت به المة السلمية الولى ،ول قريبا
إن الذي قامت به المة السلمية الولى لم يكن مجرد التوسع والفتح ،والغلبة
والسلطان ،ول مجرد إقامة حركة علمية أو حركة حضارية أو عمارة مادية للرض ..فهذا
()2
حظُورا )
عطَا ُء َربّكَ َم ْ
عطَا ِء َربّكَ َومَا كَانَ َ
( كُلّا ُن ِمدّ َهؤُلءِ وَ َهؤُلءِ مِنْ َ
اقرأ إن شئت فصل " الديمقراطية " من كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " . ()
1
سورة السراء [ . ] 20 ()
2
ن َقبِْلهِمْ كَانُوا َأشَدّ مِ ْن ُهمْ ُقوّةً
ن مِ ْ
ظرُوا َك ْيفَ كَانَ عَا ِقبَةُ اّلذِي َ
( َأوََلمْ َيسِيرُوا فِي ا ْلَأرْضِ َف َينْ ُ
( فََلمّا جَا َء ْت ُهمْ رُسُُل ُهمْ بِا ْل َب ّينَاتِ فَ ِرحُوا ِبمَا عِنْ َد ُهمْ مِنَ ا ْلعِ ْلمِ َوحَاقَ ِبهِ ْم مَا كَانُوا ِبهِ
()2
ن)
ستَ ْه ِزئُو َ
َي ْ
إنما الذي صنعته المة السلمية هو إقامة هذه العمارة وهذه الحضارة وهذه القوة
الغالبة الساحقة على أساس من القيم والمثل لم تتحقق في صورة واقع عملي سلوكي إل في
ومن شاء فليعقد مقارنة بين حركة الفتح السلمي وبين الغزو الستعماري ،وبين
العدل الرباني كما طبقه المسلمون في الرض و " عدالة " الجاهلية المعاصرة بين البيض
والسود في أمريكا وفي جنوب أفريقيا ،وبين الصليبية الصهيونية وبين المسلمين في فلسطين
أو الحبشة أو أرتيريا أو تشاد أو الفلبين أو العالم الشيوعي ،أو أي صقع من الرض كان فيه
مسلمون تحت سيطرة غير المسلمين ! وليعقد المقارنة بين وفاء المسلمين بمواثيقهم وبين
مواثيق الدول التي تبرمها وهي تتحين الفرصة المناسبة لنقضها ! وبين تمحض الحركة
العلمية السلمية للخير ،وبين استخدام العلم في الجاهلية المعاصرة لفتنة الناس عن عقيدتهم
الحضارة السلمية " للنسان " من كل جوانبه ،الروحي منها والمادي ،وتركيز هذه
إن هذا بالضبط هو الفارق بين ممارسة الحياة بحس العبادة ،أي عبادة ال ،وممارستها
-بوعي أو بغير وعي -عباد ًة للشيطان ،على تعدد الصـور التي تمارس بها عبادة
الشيطان !
ولقد كانت المة السلمية في ذروتها حين كانت تمارس " العمل " بحس العبادة ،فأما
حين خرج العمل تدريجيا من مفهوم العبادة فقد بدأت تهبط من ذروتها درجات مختلفة من
الهبوط ..
ولم يكن العمل وحده -بجميع مجالته -هو الذي خرج من مفهوم العبادة حين
انحصرت في الشعائر التعبدية ..إنما كانت الطامة في خروج " الخلق " من دائرة العبادة ..
إن من المزايا الكبرى لهذا الدين قاعدته الخلقية العريضة الشاملة ،التي تشمل كل
ل شيء في حياة النسان يخرج من دائرة الخلق .ل سلوكه ول فكره ول مشاعره
ول أي لون من ألوان نشاطه ،سياسيا كان أم اجتماعيا أم اقتصاديا أم فنيا ..الخ .بل كل
نشاطه مرتبط بالخلق وقائم على قاعدة أخلقية نابعة من الميثاق الذي يقر فيه النسان
بعبوديته ل :
صبَرُوا ا ْب ِتغَاءَ َوجْهِ َر ّب ِهمْ وََأقَامُوا الصّلةَ وََأنْفَقُوا ِممّا َرزَ ْقنَا ُهمْ
ن َ
حسَابِ وَاّلذِي َ
ن سُو َء ا ْل ِ
َو َيخَافُو َ
()1
ك َل ُهمْ عُ ْقبَى الدّارِ )
س ّيئَ َة أُوَل ِئ َ
سنَةِ ال ّ
حَسِرّا وَعَل ِن َيةً َو َيدْرَأُونَ بِا ْل َ
والميثاق قد يكون هو ميثاق الفطرة الذي أخذ عليها في عالم الذر ،أو يكون هو العهد
()3
ج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ )
ع ُبدُوا اللّهَ وَا ْ
( وَلَ َقدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ َرسُولً َأنِ ا ْ
ولكـن المهم في السيـاق أن " الميثـاق " تفصل بعض مقتضياتـه فإذا هي مقتضيات
" أخلقية " في أساسها ،وإن كانت تشمل أمورا اعتقادية ،وأمورا سلوكية ،وأمورا نفسية :
حسَابِ وَاّلذِينَ
ن سُو َء ا ْل ِ
خشَ ْونَ َر ّب ُهمْ َو َيخَافُو َ
ن مَا َأ َمرَ اللّهُ ِبهِ َأنْ يُوصَلَ َو َي ْ
( َاّلذِينَ َيصِلُو َ
س ّيئَةَ ) ..
سنَ ِة ال ّ
بِا ْلحَ َ
فيتبين لنا من ذلك منشأ اللتزام الخلقي في السلم .إنه عبادة ال ،بعد اليقين
بألوهيته ،وبأن ما أنزله على رسوله -صلى ال عليه وسلم -هو الحق .أي أنه مقتضى :
ثم يتبين لنا من هذه اليات ومن آيات أخرى في كتاب ال أن الميثاق مع ال ،الذي
تنشأ منه القاعدة الخلقية في السلم ،يتسع حتى يشمل العمال كلها :
ن ذَِلكَ قَوَاما
سرِفُوا وََلمْ َي ْقتُرُوا َوكَانَ َبيْ َ
ن ِإذَا َأنْ َفقُوا َلمْ ُي ْ
ت ُمسْتَ َقرّا َومُقَاما وَاّلذِي َ
غرَاما ِإ ّنهَا سَاءَ ْ
َ
عمِلَ
ن تَابَ وَآمَنَ َو َ
ب يَ ْومَ الْ ِقيَامَةِ َو َيخُْلدْ فِي ِه ُمهَانا إِلّا مَ ْ
عفْ َلهُ ا ْل َعذَا ُ
يَ ْفعَلْ ذَِلكَ يَ ْلقَ َأثَاما ُيضَا َ
ل صَالِحا
عمِ َ
ن تَابَ وَ َ
سنَاتٍ َوكَانَ اللّهُ غَفُورا َرحِيما َومَ ْ
حَس ّيئَا ِتهِمْ َ
عمَلً صَالِحا َفأُوَل ِئكَ ُي َبدّلُ اللّهُ َ
َ
جنَا
ن َأزْوَا ِ
ب َلنَا مِ ْ
ع ْميَانا وَاّلذِينَ يَقُولُونَ َر ّبنَا هَ ْ
خرّوا عََل ْيهَا صُمّا وَ ُ
ُذكّرُوا بِآياتِ َر ّبهِ ْم َلمْ َي ِ
حيّةً
ص َبرُوا َويُلَقّ ْونَ فِيهَا َت ِ
ك ُيجْزَ ْونَ ا ْل ُغ ْرفَةَ ِبمَا َ
ن ِإمَاما أُوَل ِئ َ
جعَ ْلنَا لِ ْل ُمتّقِي َ
عيُنٍ وَا ْ
َو ُذ ّريّاتِنَا ُقرّةَ َأ ْ
()1
ستَ َقرّا َومُقَاما )
سنَتْ ُم ْ
حَُوسَلما خَاِلدِينَ فِيهَا َ
ع ْهدِ ِهمْ
ن ُهمْ ِلَأمَانَاتِ ِهمْ وَ َ
ك ُهمُ ا ْلعَادُونَ وَاّلذِي َ
ك فَأُوَل ِئ َ
ن ا ْب َتغَى َورَاءَ ذَِل َ
غ ْيرُ مَلُومِينَ َفمَ ِ
َفإِ ّن ُهمْ َ
س ُهمْ فِيهَا
ن الْ ِف ْردَوْ َ
ن اّلذِينَ َي ِرثُو َ
رَاعُونَ وَاّلذِينَ ُهمْ عَلَى صَلَوَا ِت ِهمْ ُيحَافِظُونَ أُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلوَا ِرثُو َ
وتجيء أحاديث الرسول -صلى ال عليه وسلم -تربط الخلق ربطا وثيقا باليمان ،
" من كان يؤمن بال واليوم الخر فليحسن إلى جاره ،ومن كان يؤمن بال واليوم
()3
الخر فليكرم ضيفه ،ومن كان يؤمن بال واليوم الخر فليقل خيرا أو ليسكت "
" والذي نفسي بيده ،ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه " (. )2
" اليمان بضع وسبعون ( أو بضع وستون ) شعبة فأفضلها قول ل إله إل ال ،وأدناها
()3
إماطة الذى عن الطريق .والحياء شعبة من اليمان "
" أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ،ومن كان فيه خلة منهن كان فيه خلة من النفاق
()4
حتى يدعها :إذا حدّث كذب ،وإذا عاهد غدر ،وإذا وعد أخلف ،وإذا خاصم فجر "
سئلت عائشة -رضي ال عنها -عن خلق رسول ال -صلى ال عليه وسلم -
()5
فقالـت :كان خلقه القرآن .
عن سفيان بن عبد ال الثقفي قال :قلت يا رسول ال قل لي في السلم قول ل أسأل
عنه أحدا بعدك ؟ ( أو قال غيـرك ) قال " :قل آمنت بال ثم استقـم " ( .. )6الخ ..الخ ..
الخ .
ويتبين من هذا كله أن الخلق جزء أصيل من هذا الدين ،ينبع نبعا مباشرا من اليمان
بال ،ويمارسها المؤمن عبادة ل ،فل هي أمور هامشية في حياة المؤمن ،ول هي -في
كانت النتيجة أنه أصبح أمرا مألوفا في العالم السلمي أن تجد الرجل يصلي في
المسجد -ويعتاد المساجد -ثم يكذب ! بينما سئل رسول ال -صلى ال عليه وسلم : -
()1
أيكون المؤمن جبانا قال :نعم .ثم سئل :أيكون المؤمن كذابا قال :ل !
وأصبح أمرا مألوفا أن يخرج الرجل من الصلة بالمسجد ثم يغش المسلمين .بينما
()2
يقول رسول ال -صلى ال عليه وسلم " : -من غشنا فليس منا "
وأصبح مألوفا أن يخرج الرجل من الصلة وقد خان المانة التي اؤتمن عليها ،أو
أخلف الوعد الذي أعطاه ،بينما جعل رسول ال -صلى ال عليه وسلم -ذلك من علمات
النفاق !
وليس الغريب أن يتفلت الناس من قيود الخلق .فهي قيود ثقيلة إل على الذين هدى
ال !
ولكن الغريب أن هذا التفلت -بكل آثاره المدمرة في حياة المة -غير موصول في
حس الناس بأمر العبادة ! فالعبادة هي الشعائر ..ومن أدى الشعائر فقـد أدى العبادة
المطلوبـة ..وأما هذه السقطات الخلقية فهي معيبة نعم ،والوعاظ يتكلمون عنها في كل
خطبة ،نعم ،ولكنها في دائرة أخرى غير دائرة العبادة ..فهـذه " مقفلة " على الشعائر
فحسب !
المة " السلمية ! " غارقة إلى قمة رأسها في الكذب والغش والخيانة وخلف الوعد ..إل من
رحم ال !
إن أوربا -في اعتقادنا -ليست أمة ذات أخلق حقيقية أصيلة ..
وما يوجد من أخلقيات في معاملتها اليومية فهو أخلق نفعية هدفها تحقيق المنفعة في
الحياة الدنيا فحسب .ولقد تعلمت أوربا من التاجر اليهودي الذكي ،الذي سيطر على مقدرات
أوربا في القرنين الخيرين ،والخير بصفة خاصة ،أن التودد اللطيف إلى " الزبون "
والصدق معه ،والتعامل المين ،أدوم لكسبه ،وأدوم للنتفاع منه ،من الغش والكذب وخلف
الوعد ..فراضوا أنفسهم على تلك الخلقيات النافعة ،وربوا عليها أولدهم تربية جادة ،
ُي ْبذَل فيها جهد حقيقي مدروس منظم ،وتؤدي يالفعل إلى صورة طيبة المظهر في واقع حياة
الناس .
ونحن نشك في ذلك كثيرا لن الرأسمالية كلها تحكم الغرب وتدير شئون قائمة على
ألوان كثيرة من الغش والكذب والخداع من أجل الحصول على أكبر قسط من الربح .فالربح
-من أي سبيل -هو هدفها الول ،وليس الصدق ول المانة ول غيرهما من الفضائل ،إنما
تجيء هذه -في الطريق -بوصفها وسائل نافعة للحصول على أكبر قدر من الربح ،كما
قدمنا من خصال التاجر اليهودي الذكي ،الذي هو عماد تلك الرأسمالية .وفي الوقت الذي ل
تؤدي فيه هذه الفضائل إلى الربح ،أو يتحقق النفع بأضدادها يتخلى الوربي بسهولة عن كثير
من " أخلقياته " كما يحدث دائما في عالمهم السياسي المخادع ،وكما يحدث في الستعمار ،
وفي العلقات الدولية ،وفي تعامل البيض مع الملونين ..الخ ..الخ .
أما في السلم -في صورته الصحيحة -فقد كانت الخلق قيما حقيقية أصيلة لن
هدفها لم يكن الربح المادي ،ول كانت قائمة عليه ،إنما هدفها الوفاء " بالميثاق " المعقود مع
ال ،وقائمة على قاعدة " العبادة " ل .كما كانت كذلك قيما حضارية أصيلة لنها ذات صبغة
" إنسانية " غير محصورة في جنس ول لون ،إنما هي صادرة من " النسان " بوصفه إنسانا
-مؤمنا -وموجهة إلى " النسان " حتى ولو لم يكن مؤمنا بما يؤمن به المسلمون .
وحين كانت المة تمارس إيمانها الحق ،وعبادتها الحقة ،وكانت " الخلق " في حسها
جزءا من العبادة المفروضة على المسلم المؤمن حدثت معجزات كثيرة لم تتكرر في التاريخ .
ففي أقل من نصف قرن امتد الفتح السلمي من الهند شرقا إلى المحيط غربا ،وهي
سرعة مذهلة ل مثيل لها في التاريخ كله .ولم يكن الكسب هو " الرض " التي فتحت ،فما
خرج المسلمون من الجزيرة يريدون التوسع في الرض ! إنما كان هدفهم ،كما قال ربعي بن
عامر لرستم قائد الفرس " :ال ابتثعنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة ال ،ومن
كان الكسب العظم هو " القلوب " التي اهتدت بنور ال فدخلت في دين ال .
ولم يكن ذلك عن رهبة من سطوة الفاتحين ،ول قهرا قهرهم عليه الفاتحون ! فقد
أمنوهم على أنفسهم وعلى عقائدهم ،وشهد الناس بأعينهم حقيقة المان الذي منحه المسلمون
إنما كانت " أخلق " الفاتحين من أكبر السباب التي فتحت قلوب الناس لهذا الدين .ول
عجب فقد كانت أخلق رسول ال -صلى ال عليه وسلم -من قبل من أكبر السباب في
()2
ك)
ن حَوِْل َ
ب لَانْفَضّوا مِ ْ
ظ الْقَلْ ِ
ت فَظّا غَلِي َ
ت َل ُهمْ وََلوْ ُكنْ َ
ن اللّ ِه ِلنْ َ
( َف ِبمَا َرحْمَ ٍة مِ َ
ولم تقف المعجزة عند السرعة المذهلة التي تم بها الفتح ،ول عند دخول مليين من
البشر طواعية وحبا في الدين الذي أتى به الفاتحون ،ول في تحول المهتدين إلى جنود
مخلصين للعقيدة التي اعتنقوها يجاهدون لنشرها في الرض مختارين متطوعين ل يدفعهم أحد
ول يضغط عليهم أحد ..إنما امتدت المعجزة إلى ظاهرة لم تتكرر قبل ول بعد ،هي دخول
هذه المليين في اللسان العربي ،حتى من بقي منهم على دينه ولم يعتنق السلم ،ونسي
النصارى في مصر والشام وغيرها من البلد المفتوحة لغاتهم التي كانوا يتكلمون بها ،
بل امتد السلم إلى رقاع واسعة من آسيا وأفريقيا -سلما -على يد تجار جاءوا
للتجارة ل للدعوة ! ولكن أخلقهم السلمية حببت الناس فيهم ،وفي دينهم الذي رباهم على
ضَعْ في مقابل ذلك ما يحدث اليوم من صدّ عن سبيل ال يقوم به " المسلمون " بسبب
سوء أخلقهم !
إن أوربا ،بامتدادها الغربي كله حتى أمريكا ،قد وقعت اليوم في الضنك الذي أنذر به
حشُرُ ُه يَ ْومَ
ضنْكا َو َن ْ
ن لَ ُه َمعِيشَ ًة َ
ن ِذكْرِي َفإِ ّ
عرَضَ عَ ْ
ن أَ ْ
ال من أعرض عن ذكره َ ( :ومَ ْ
()3
عمَى )
الْ ِقيَامَ ِة أَ ْ
والقتصادي والعمراني الذي يعيشون فيه ،بل إن " مجتمع الوفرة " الذي وصلت إليه بعض
في القلق والجنون والنتحار والمراض النفسية والعصبية وإدمان الخمر وإدمان المخدرات
والناس هناك يبحثون عن طريق الخلص ..ومنهم من يعتنق البوذية ،ومنهم من
والسلم هو طريق الخلص ..أنزله ال ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ..
ولكن هذه المئات كان يمكن أن تكون ألوفا ومليين لول عوامل كثيرة تصد الوربيين
عن السلم ،منها الحاجز الصليبي ول شك ،ومنها النفور من " الدين " عامة بسبب ما فعلته
الكنيسة الوربية في تشويه صورة الدين وتنفير الناس منه بفظاظتها وطغيانها ..ومنها كذلك
واقع المسلمين !
إن كثيرا من الناس في الغرب يستمعون إلى الدعاة المسلمين يحدثونهم عن السلم ،ثم
يقولون لهم بلسان الحال أو بلسان المقال :إذا كان السلم بهذه الصورة الجميلة التي
تعرضونها ،فلماذا أنتم هكذا ؟! لماذا أنتم كذابون غشاشون مخادعون مخلفون للوعد غير
مستقيمين في تعاملكم ..فضل عن كونكم -فيما بينكم وبين أنفسكم -متعادين متباغضين ل
()2
تجتمعون على شيء ؟!
كانت الشعوب " المتقدمة " تبحث أول عن رفع مستوى المعيشة ،فلما رفعته سعت إلى الرفاهية ،فلما ()
1
بلغتها صارت تبحث عن الوفرة ،وهي مرحلة اقتصادية أبعد ..
ينفر الغرب كذلك من التخلف الحضاري والمادي والعلمي عند المسلمين ،ولكن الذي ينفره أكثر هو ()
2
وهكذا يقف واقع المسلمين في وجه الدعوة إلى السلم ،يصد المليين الحائرة عن
طريق الخلص !
ومع ذلك يمر كثير من الناس على هذا المر الخطير مرورا عابرا ،ل يثير عندهم
أكثر من أسفٍ عابر ،ثم يهزون أكتافهم ويمضون ..ول شك أن من أكبر أسباب ذلك خروج
وما زلت أذكر داعية مرموقا له في الدعوة جهود مشكورة يجزيه ال عنها خيرا إن
شاء ال ،قال محتدا على أحد الطلب في مناقشة لرسالة جامعية :ما علقة الخلق بل إله
إل ال ؟! العقيدة -كما تعلمناها -إلهيات ونبوات وسمعيات ،ول شيء وراء ذلك ! فمن أين
جئت بهذه العلقة التي تريد أن تقيمها بين ل إله إل ال وبين الخلق ؟!
وهكذا ُي ْنظَرُ إلى الخلق -بعد إخراجها من دائرة العقيدة ودائرة العبادة -على أنها
أمر " إضافي " إن وجد فنعمّا هو ! وإن لم يوجـد فل بأس ! فاليمان مستقر بقول ل إله إل
ال ،والعبادة مؤداة بالشعائر .أما هذه " النافلة " الخلقيـة فل علينا إن أسقطناها من
الحساب ! ونحن طبعا ل نسقطها من الحساب ! فنحن " نتحدث " عنها دائما في خطب الوعظ
السبوعية ،والدورية ،والموسمية .وقد نعلم قبل أن نتحدث ،وبعد أن نتحدث ،أنه كلم
()1
ذاهب في الهواء .ومع ذلك ل نكف عن الوعظ الدائم طمعا في هداية الناس !
ترى كم شعبة من شعب اليمان المنصوص عليها في حديث الرسول -صلى ال عليه
()2
وسلم -قد هدمت حين هدمت الخلق ؟!
السوء الخلقي الذي يرونه في حياة المسلمين من الكذب والغش وخلف الوعد والطرق الملتوية في التعامل .
في النية إصدار كتيب بعنوان " كيف ندعو الناس ،نتعرض فيه لقضية الوعظ ومدى جدواه . ()
1
" اليمان بضع وسبعون شعبة " .. ()
2
وحين ضاق مفهوم العبادة في الجيال المتأخرة فانحصر في الشعائر ،وخرج من دائرة
العبادة النشاط اليومي العملي ،سواء منه النشاط السياسي أو الجتماعي أو القتصادي ..
وخرجت منها أخلقيات ل إله إل ال كذلك ،كثرت المعاصي بالطبع وكثر العصاة ،
واضطرب سير المجتمع ،وكثرت فيه النحرافات والمظالم ،وسقط أكثر من مرة في
ومع ذلك فلم يكن هذا القدر هو كل السوء الذي حل بمفهوم العبادة ..إنما كان مرحلة
لقد كان الذي مر بنا حتى الن هو انحسار مفهوم العبادة حتى ينحصر في الشعائر
التعبدية وحدها دون سائر العمال .ولكن هذا المر ذاته قد أدى -بالطبيعة -إلى مزيد من
فأما الدرجة الولى فهي انحسار الشعائر ذاتها إلى أعمال مقصودة لذاتها ،بغير
مقتضيات لها ! بحيث يصبح أداؤها في ذاتها هو كل " العبادة " المطلوبة من النسان !
ول شك أن الجيل الول -الذي تلقى علمه من الكتاب والسنة -لم يكن يفهم المر
فالكتاب والسنة قد أعطيا لكل شعيرة من الشعائر التعبدية بعدا نفسيا وسلوكيا ل يقتصر
على أدائها ..بل الصح أن تقول إنه يبدأ بأدائها ..ثم يمتد ليشمل مساحة واسعة من حياة
النسان !
حشَاءِ
ن ا ْلفَ ْ
ن الصّلةَ تَ ْنهَى عَ ِ
يقول ال تعالى في محكم التنزيـل ( :وََأقِ ِم الصّل َة إِ ّ
()1
وَا ْلمُنْكَرِ )
ن َقبِْلكُمْ
ن مِ ْ
صيَامُ َكمَا ُكتِبَ عَلَى اّلذِي َ
وقال تعالى ( :يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا ُكتِبَ عََل ْي ُكمُ ال ّ
()2
ن)
َلعَّل ُكمْ َتتّقُو َ
ويقول عليه الصلة والسلم " :من لم يدع قول الزور والعمل به فل حاجة ل بتركه
ويقول " :رب صائم ليس له من صيامه إل الجوع والعطش " (. )4 ()3
طعامه وشرابه "
()5
طهّرُ ُهمْ َو ُت َزكّي ِهمْ ِبهَا )
خذْ ِمنْ َأ ْموَاِل ِهمْ صَ َدقَ ًة ُت َ
وقال تعالى ُ ( :
وقال -عليه الصلة والسلم " : -أيها الناس إن ال طيب ل يقبل إل طيبا ،وإن ال
أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ،فقال " :يا أيها الرسل كلوا من الطيبـات واعملوا
صالحا ،إني بما تعملون عليم " وقال " :يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " ثم
ذكر الرجل يطيـل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء :يا رب ! يا رب ! ومطعمه
. ()6
حرام ،ومشربه حرام ،وملبسه حرام ،وغذي بالحرام .فأنّى يستجاب لذلك ؟! "
ن يَا أُولِي
خ ْيرٍ َيعَْلمْ ُه اللّ ُه وَتَ َزوّدُوا فَِإنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَى وَاتّقُو ِ
جدَالَ فِي ا ْلحَجّ َومَا تَ ْفعَلُوا ِمنْ َ
ِ
. ()7
ا ْلأَ ْلبَابِ )
ط ِعمُوا الْبَائِسَ ا ْل َفقِيرَ ُثمّ ْليَ ْقضُوا تَ َف َث ُهمْ وَ ْليُوفُوا ُنذُورَهُمْ وَ ْل َيطّ ّوفُوا بِا ْل َبيْتِ ا ْل َعتِيقِ ذَِلكَ
ِم ْنهَا َوأَ ْ
شعَائِرَ الّلهِ
ظمْ َ
ك َومَنْ ُي َع ّ
سحِيقٍ ذَلِ َ
طيْرُ َأوْ َت ْهوِي بِ ِه الرّيحُ فِي َمكَانٍ َ
خطَفُ ُه ال ّ
سمَا ِء َفتَ ْ
ن ال ّ
خرّ مِ َ
َ
خ ْرنَاهَا َل ُكمْ
سّط ِعمُوا الْقَانِ َع وَا ْل ُمعْتَرّ َكذَِلكَ َ
جنُو ُبهَا َفكُلُوا ِم ْنهَا َوأَ ْ
جبَتْ ُ
اللّهِ عََل ْيهَا صَوَافّ َفِإذَا َو َ
سخّرَهَا َل ُكمْ
ك َ
ن َينَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا وَل ِدمَاؤُهَا وَ َلكِنْ يَنَاُل ُه ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ كَذَلِ َ
ن لَ ْ
َلعَّل ُكمْ َتشْ ُكرُو َ
()1
ن)
سنِي َ
حِشرِ ا ْل ُم ْ
لِ ُتكَبّرُوا الّلهَ عَلَى مَا هَدَا ُكمْ َو َب ّ
. ()3
"
()4
ويقول " :من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ،رجع كما ولدته أمه "
وخلصة هذه اليات والحاديث أن الشعائر التعبدية ذات مقتضيات ،وأنها ل تنتهي
بذات نفسها ،أي بمجرد أدائها ،إنما تصحبها وتتبعها مقتضيات ،هي التي تعطيها معناها
صحيح أن ال -سبحانه وتعالى -تعبد هذه المة بهذه العبادات بالذات .وال يقضي
سأَلُونَ ) ( )1وليس لحد أن يتعبد إل بما فرضه ال عليه من ألوان العبادة أو بما استحبه منه
ُي ْ
سبحانه .ومن هذه الوجهة نقول :إن هذه العبادات مقصودة بذاتها ل يغني شيء عنها ،مهما
اجتهد العبد من عند نفسه ،ومهما زعم أنه يترضى ال بما ابتدعه من عند نفسه من ألوان
العبادة ..ولكن الواضح من اليات والحاديث أن هذه العبادات لها غاية أبعد منها ،
منصوص عليها نصا صريحا بحيث ل تحتاج إلى استنباط أو اجتهاد ( ، )2مما يقطع بأنها
ليست غاية في حد ذاتها ،وأن القيام بها دون أداء مقتضياتها يضيّع الحكمة منها ،والغاية من
افتراضها ..
والقول بأن ال افترضها ليتعبد بها عباده فحسب ،ولينظر من يطيعه بالغيب ومن
يعصيه ،وأنه ليس من الضروري أن تكون هناك حكمة معلومة للبشر من وراء افتراضها ،
هذا القول ل يوفي العبادات قدرها ،ول يغطي كل مجالها ،مع أنه صحيح في ذاته ..
فما دام ال -سبحانه وتعالى -قد بين الحكمة -أو بعض الحكمة -من افتراض هذه
العبادات ،فليس لنا نحن أن نلغي ما نص ال ورسوله عليه من الحكمة ،ونقول :إن
مقصودة بذاتها نعم ،ولكن ل لذاتها فحسب ،وإنما لذاتها ولما وراءها من
تلك هي القضية التي غفلت عنها الجيال المتأخرة حين حصرت العبادة في الشعائر ،
وصحيح أن الناس استنكروا ما حدث من تنائج هذا النحسار ،حين رأوا قوما يؤدون
الشعائر ثم ل يعملون بمقتضاها بل يعملون بعكس مقتضاها ،فيصلون ول تنهاهم صلتهم عن
الفحشاء والمنكر ،ويصومون ول يؤدي بهم الصوم إلى التقوى ،ويزكون وأموالهم حرام أو
مختلطة بالحرام ،ويحجون فل يزودهم الحج بالتقوى والخبات إلى ال ،ول يمنعهم عن
شهادة الزور !
ولكنه استنكار قاصر ل يصل إلى تغيير ذلك المنكر الضخم ،لنه قد وقر حتى في
وأداء العبادة !
إنه ل توجد عبادة واحدة في السلم يقتصـر المطلوب فيها على أدائهـا -مجرد
إنما الصح -كما بينا من قبل -أن نقول :إن العبادة تبدأ بالداء ،ول تتم إل بوقوع
" مظهرية السلم " في الحياة الدنيا ،فتجري الحكـام على صاحبهـا أنـه مسلم ..ولكنه
ل إله إل ال تبدأ بنطقها ..ولكن نطقها وحده ل يحقـق التوحيد ،الذي هو حقيقة
السلم ،إل أن يلتزم النسان التزاما سلوكيا واقعيا بما ل بد من اللتزام به ،وهو عدم
الشرك في العتقاد ،وتقديم الشعائر التعبدية ل وحده بل شريك ،وتحكيم شريعة ال في كل
والصلة تبدأ بأدائها -على الصورة التي بينها ال ورسوله -وتعطي مظهرية السلم
بالداء ،ولكنها ل تقبل عند ال حتى تؤدي مقتضاها من النتهاء عن الفحشاء والمنكر .ومن
ن ُهمْ ُيرَاؤُونَ
ن صَل ِتهِمْ سَاهُونَ اّلذِي َ
هنا يقول سبحانه وتعالى َ ( :فوَ ْيلٌ لِ ْلمُصَلّينَ اّلذِينَ ُهمْ عَ ْ
()1
ن)
ن ا ْلمَاعُو َ
َو َي ْم َنعُو َ
وحين وصل الفساد في مفهوم العبادة إلى الحد الذي بيناه ،من حصرها في الشعائر ،
ثم حصر الشعائر في مجرد الداء دون تحقيق ما يتعلق بها من المقتضيات ..فقد كان هذا
فسادا ضخما ول شك .ومع ذلك فلم يكن المر ليتوقف عند هذا الحد ،فمن طبيعة النحسار
أن يزداد ما دام الناس ل يحسون أنه انحسار ،وأنهم مقصرون في أداء الواجب ،ومنحرفون
العبادة فيها -لنها تحس -كما أسلفنا -أنها محطات التزود بالزاد ،وتحس بحاجة المسافر
()2
إلى ذلك الزاد .
لقد كانت الصلة في حسهم -كما ينبغي أن تكون -وقوفا بين يدي ال ،وخشوعا
وإخباتا يناسب ذلك الموقف بين يدي ال .كان ال حاضرا في قلوبهم -وكان هذا الحضور
يحكم الموقف كله .فال قريب منهم مطّلع عليهم .يراهم وهم يتهيأون للصلة ،ويراهم وهم
يؤدونها ،وهم يتلون القرآن ،وهم يركعون ويسجدون ويقومون .ويحسون في كل لحظة أنه
قريب منهم ،يرقب حركاتهم وسكناتهم ،ويطلع على خفقات قلوبهم ،ويتقبل إخباتهم ،
ويستجيب دعاءهم ..فيكون لهذا كله أثره في نفوسهم ،فتؤدي الصلة -من ثم -وظيفتها
في حياتهم .تزيدهم قربا من ال .وتنهاهم عن الفحشاء والمنكر .وتزيدهم رغبة في طاعة
ال ورسوله ،لنهم بهذه الطاعة ينالـون رضوان ال في الحياة الدنيا وفي يوم الموقف
العظيم ..
وكان الصيام في حسهم -كما ينبغي أن يكون -مهرجانا هائل للعبادة ،والتقرب إلى
كان موسما يستعدون له نفسيا وروحيا كمن يتهيأ لدخول حرم قدسي ،يهيئ نفسه إليه
بالخشوع والخبات قبل أن تخطو إليه قدماه ،ومن ثم تتأثر نفسه بكل خطوة يخطوها في
محيطة ،كأنما يتلقى منه إشعاعات تنفذ منه إلى العماق ..
ن يَا
خيْرَ الزّا ِد التّقْوَى وَاتّقُو ِ
ن َ
)(2ورد ذكر " الزاد " صريحا في شأن الحج في قوله تعالى َ ( :وتَزَ ّودُوا فَإِ ّ
أُولِي الَْأ ْلبَابِ ) [ سورة البقرة . ]197 :
كان عبادة شاملة تطهر النفس من أدران كثيرة تترسب في النفس في معتاد حياة
النسـان ،فيخرج عنها حين يغير نظام حياته ،ويدخل في نظام جديد للحياة ..
فكما أن تغيير نظام الطعام يعيد النشاط إلى خليا الجسم فيجدد حيويتها ،فكذلك التغيير
النفسي الذي يحدث في الصوم ،يجدد حياة الروح ،فتنطلق شفيفة رفافة إلى آفاق لم تكن
ترتادها من قبل ،أو كانت ترتادها فهجرتها تحت وطأة المشاغل اليومية التي تتعامل مع عالم
الحس أكثر مما تتعامل مع عالم الروح ،فيعيد ذلك الشهر المبارك إلى النفس طاقتها الروحية
الشفيفة ،فيتجدد بناء النسان ،وتتوازن في نفسه المشاعر ،وتتوازن الرغبات ..
ثم إن الصيام تجنيد للنفس وتدريب على الستعلء على الشهوات ،ينمي في القلوب
إن التقوى ل تكون مع غلبة الشهوات ..إنما تكون مع النضباط الذي يلزم النفس
حدُودُ اللّهِ
حدُودُ اللّهِ فَل َت ْقرَبُوهَا ) ( )1أو ( تِ ْلكَ ُ
بالحدود التي حددها ال ،وقال عنها ( :تِ ْلكَ ُ
()2
فَل َت ْعتَدُوهَا )
والنضباط يحتاج إلى تدريب لكي يصبح عادة ،حتى تستسلم شهوات النفس والجسد
لرادة النسان ،ويصبح قيادها في ديه ،يطلقها -بقدر -حين يشاء ،ويحبسها -بقدر -
والصيام هو ذلك التدريب ! وهو يتناول من الجسد والنفس أقوى دفعاتها :الطعام
ن َقبِْلكُمْ َلعَّلكُـمْ
صيَامُ َكمَا ُكتِـبَ عَلَى اّلذِينَ مِ ْ
ن آ َمنُـوا ُكتِبَ عََل ْي ُكمُ ال ّ
( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ
وكانت الزكاة في حسهم -كما ينبغي أن تكون -زكاة للنفس والمال معا ،وطهرا
لم تكن " ضريبة " تؤدى للدولة ..ولكنها قربة تقدم إلى ال .
وفرق كبير بين أن تكون ضريبة مالية أو عينية ،تمتزج في حس دافعيها بسطوة الدولة
وقهرها ،وبين أن يشعر من يؤديها بأنه يتطهر بأدائها ..يغسل أدرانه ،ثم يبدأ صفحة جديدة
من الكدح خالية مما يشوب بياضها .فيمشي في مناكب الرض ليأكل من رزق ال ،متطلعا
ط ّهرُ ُهمْ
خذْ ِمنْ َأ ْموَاِل ِهمْ صَ َدقَ ًة تُ َ
والتطهـر الذي تشير إليه اليـة الكريمـة ُ ( :
ليس هو التطهر من الشح وحده ،وهو المعنى القريب الذي يتبادر إلى ()3
َو ُت َزكّيهِمْ ِبهَا )
الذهن حين تذكر زكاة المال .ولكنه تطهير السعي كله في مناكب الرض من أن يدخله
والنسان الصالح الذي يهدف السلم إلى تنشئته ليقوم بدور الخلفة في الرض ،ل بد
أن يستعلي على شهوة المال من ناحية ،ول بد أن يشعر برابطة الخوة بينه وبين المؤمنين
من ناحية أخرى .أخوة توجب عليه كفالة العاجزين منهم وإعانتهم على توفير الحياة الكريمة
وحين يتحرى النسان الطيب الحلل وهو يسعى إلى الرزق ،ويتحرى هذه الخوة بينه
()1
وبين المؤمنين فل شك تسمو نفسه وترتفع فتزكو كما يريدها ال َ ( :قدْ َأفْلَحَ َمنْ َزكّاهَا )
والسعي وراء الرزق من أكبر المزالق التي يتعرض لها النسان ،لن هناك شهوات
والنفوس عرضة للستغراق في تلك الشهوات ما لم تلتزم بالطيب الحلل من ناحية ،
وما لم تنشغل من ناحية أخرى بالقيم العليا التي تستوعب مشاعر النفس وترتفع بها عن المتاع
غ ِفرْ
ن َربّنَا ِإ ّننَا آ َمنّا فَا ْ
ن يَقُولُو َ
ن مِنَ اللّهِ وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْل ِعبَادِ اّلذِي َ
ج ُمطَ ّهرَةٌ َو ِرضْوَا ٌ
فِيهَا وََأزْوَا ٌ
والحرص على التطهر في السعي وراء الرزق ،مع النفاق من حصيلة ذلك السعي في
سبيل ال -وهما حقيقة الزكاة -من أكبر المعينات للنفس البشرية لكي تستقيم على الفق
()1
" إن ال طيب ل يقبل إل طيبا "
ومن ثم كذلك كانت الزكاة تؤدي مقتضاها في حياة المسلم على اتساعها ،ل في جانب
()3
ن)
جعُو َ
ن يُ ْؤتُونَ مَا آتَوْا َوقُلُو ُب ُهمْ َوجِلَ ٌة َأ ّنهُمْ إِلَى َربّ ِهمْ رَا ِ
( َاّلذِي َ
أما الحج -على كونه مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيل ،وعلى كونه " أياما
معدودات " -فهو عبادة عميقة الثر في حياة المسلم حين يعيشه كما كانت تعيشه الجيال
إنه عبادة تشمل في طياتها كل العبادات ..بتركيز واضح على عبادة التوحيد بالذات ..
إنه خلوص وتجرد إلى ال ..تجرد من كل ما تتعلق به النفس في الحياة الدنيا من أهل
ومسكن وموطن ومتاع ..حتى الملبس الذي تعود النسان أن " يتزين " به ويتأنق بخياطته
تجرد من ذلك كله إلى ال ..وحده ..تلبية وذكرا وتوجها وصلة ونسكا وعبادة ..
وفي شيء من الجهد والمشقة ،ولكن في غير المعتاد من " الكدح " الذي ينفق فيه معتاد
حياته ..في كدح من نوع آخر ،يشد النفس إلى اليوم الخر بقدر ما ينتزعها من متاع
الرض ..
" أياما معدودات " ..ولكنها في حساب النفس حدث هائل عميق ..تغيير كامل شامل
يتوغل في النفس حتى أعماقها ويلقي عنها خبثها كله ..لتعود كأنما هي خلق آخر ..ولد
اللحظة ،ليبدأ رحلة حياة جديدة غير التي كانت من قبل ..
ومن هنا كان الحج يؤدي مقتضاه في حياة المسلم ،مصداقا لقول الرسول -صلى ال
()1
عليه وسلم " : -من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ،رجع كما ولدته أمه "
كل هذا تغيّر تغيرا عنيفا حين تغيّر مفهوم العبادة ..
فحين غفل الناس عن " مقتضيات " العبادة ،من التوجه المخلص ل ،والخبات له
والخشوع في حضرته سبحانه ،وحين انقطعت العبادة عن لوازمها المتعلقة بها ،ونتائجها
حين صار المطلوب كله هو أداء الشعيرة ،وانحصرت " العبادة " كلها في هذا المر ،
كان حريا بهذا اللون من العبادة أن ينحسر أكثر فأكثر ،حتى يصبح المطلوب هو أداء
وتلك هي الصورة التي انتهت إليها العبادة في الجيل الذي شهد النهيار ..
وصلت الصلة أن تكون مجرد حركات تؤدى بل خشوع ول إخبات ،ول التفات إلى
معنى ما يتلى فيها من اليات والذكر ،وينصرف منها المصلي ل تكاد تحس أنها قد تركت
أثرا في نفسه ،أو انعكست على تصرف من تصرفاته ،هذا إن لم يكن قد انشغل عنها تماما
-وهو فيها -بحساب خسائره وأرباحه ،أو شيء من سائر مشاغله اليومية !
وأصبح الصيام مجرد امتناع عن الطعام والشراب ساعات النهار ،مع نهم ضخم إلى
الطعام بعد الفطار يصل إلى حد السراف ،كأنما هو شهر الطعام ل شهر الصوم ! فضل
عن البحث عن " المسليات " في ليل الصوم ،من عكوف علىالمذياع أو التلفاز ،أو ما هو
أعجب من ذلك وأسوأ ،مما تنشره صحف " محترمة " في البلد " السلمية " " المتقدمة " من
إعلنات تقول :إن الراقصة الفلنية " تحيي ليالي رمضان !! " في المسرح الفلني إلى ما
بعد منتصف الليل ،ويعج المسرح " بالصائمين " الذين صاموا من قبل الرقص ومن بعده ،
بل حرج في صدورهم ول تأثم ،ول إحساس بالتناقض بين ما يجري في الليل وما يجري في
النهار ،فإنما هي -حفظك ال -ساعة بعد ساعة ! " ..ساعة لربك وساعة لقلبك " كما
والزكاة -إن أداها صاحب المال -ل تمنعه من أكل الربا ول تحرج صدره منه !
فهذه عبادة وهذا عمل ! ول علقة ول تداخل بين العبادة وبين العمل ! فضل عن اللعيب
والحيل التي يسترد بها " المزكي " جزءا من المال الذي تصدق به بالتحايل على من أداه إليهم
أن يحلـف اليمين المغموس إذا اقتضت ذلك " مصلحة " التجارة أو أي نوع من التعامل يقوم
به ! فضل عما يقع في الحج ذاته من أمور يذهل لها العاقل ،فضل عن المسلم المؤمن ،من
تدافع -مقصود -بالمناكب ،ومن " حجاج " يدوسون فوق إخوان لهم في السلم وإخوان
لهم في الحج حتى يزهقوا أرواحهم غير مبالين ،من أجل النتهاء من الرجم بأية صورة
أوالنتهاء من الطواف ! وفضل عن جهالة الجاهلين الذين يتركون أركانا ل يصح الحج إل
بها ،أو يرتكبون مخالفات صريحة دون فدية ول نسك ..لنهم ل يعلمون !
يقول علماؤنا :سقط الواجب بالداء ،أيّا كانت صورة الداء ..حتى وإن لم يكن له
ثواب !
ويقول علماؤنا :ما دام قد قام بالواجب على أي نحو فهو مؤمن ل يخلد في النار ..بل
قال المرجئة :يدخل الجنة ولو لم يعمل عمل واحدا من أعمال السلم !
ونسلم بما يقوله علماؤنا توفيرا للجدل ! بصرف النظر عن كون اليات والحاديث التي
ثم ..إذا بنا أمام أمة ل تبالي -إل من رحم ربك -أن تدخل النار ما دامت ل تخلّد
وما يقول أحد إن البقاء في النار خمسين ألف سنة ثم الخروج منها برحمة من ال ،مثل
المتحان على أمل أن تلتقطها " لجان الرأفة " ..ل جرم تكون كما أسلفنا غثاء كغثاء السيل ،
تتداعى عليها المم كما تداعى الكله إلى قصعتها ،ل يقام لها وزن ول اعتبار ،كتلك القبيلة
فرق شاسع بين مفهوم العبادة كما نزل من عند ال ،وعلمه رسول ال -صلى ال
عليه وسلم -ووعاه الجيل الول ومارسه ،وبين المفهوم الشائه الهزيل الضامر الذي فهمته
المفهوم الول هو الذي أخرج " خير أمة أخرجت للناس " ..
()1
حتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبَأنْ ُفسِ ِهمْ )
( ِإنّ اللّهَ ل ُي َغيّرُ مَا بِقَ ْومٍ َ
إن المسألة ليست هامشية ول ثانوية ..ول هي مسألة هينة يكفي لحلها شيء من الوعظ
إن العبادة على هذا النحو الشائه الهزيل الضامر ،ولو قام بها اللف مليون كلهم الذين
يعيشون اليوم من المحيط إلى المحيط ،لن تنقذهم مما هم فيه ،ولن ترفعهم من وهدة الهوان
لمر بسيط ...لنها ليست هي العبادة التي كتبها ال ،وكتب معها العزة لمن يقومون
س َتخْلَفَ
ض َكمَا ا ْ
س َتخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْ ِ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ
ن آ َمنُوا ِم ْن ُكمْ َو َ
عدَ اللّهُ اّلذِي َ
( وَ َ
. ()1
شيْئا )
ُيشْ ِركُونَ بِي َ
والمَعول كله كما هو واضح من الية هو على تلك " العبادة " حين تؤدى على النحو
أما العبادة التي يقوم بها الغثاء الموجود اليوم من المحيط إلى المحيط -إل من رحم
ربك -العبادة التي تفرغ ل إله إل ال من مقتضياتها ،وتجعلها مجرد كلمة تنطق باللسان ،
وتخرج التكاليف كلها من دائرة العبادة ،وتفرغ الشعائر من شحنتها الحية الدافعة ،وتتركها
أداء شائها هزيل ل روح فيه ،فإنها ل تحقق إل هذا الخسران الذي يمارسه ذلك الغثاء في
والغثاء -بهذه العبادة الهزيلة الشائهة الضامرة -ل يعجز عن إنقاذ نفسه فحسب ،بل
أعمال السلم ،يغفلون في حرارة دفاعهم -ونعتقد فيهم الخلص -يغفلون عن الثر
الثر السيئ في الغثاء نفسه ،إذ يملي له في الخدر الذي يعيش فيه ،ول يجعله يغير ما
بنفسه فيغيّر ال له ،والثر السيئ في الشباب " المثقف " الذي ندعوه إلى السلم !
فحين نقول لذلك الشبـاب " المثقف " :إن السلم هو الحل ،وإن ل إله إل ال هي
الحل ،وإن العبادة الصحيحة ل هي الحل ..يهز كتفيه ساخرا ويقول :ها هو ذا السلم
موجودا ،وها هي ذي ل إله إل ال موجودة ،وها هي ذي العبادة قائمة ،ومع ذلك فأكثر
الناس تأخرا هم المسلمون ،وأكثر الناس مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية هم المسلمون ،
وأسوأ الناس خلقا هم المسلمون ! فلنبحث عن الحل إذن خارج السلم ،لنه -وهو قائم -
ول بد لنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا ومع الناس ،ونقول لهم -بعيدا عن قضية
الدين الذي أنزله ال ،ول العبادة التي أمر بها ال .وإنه ل بد لنا من تصحيح المفاهيم أول ،
ثم نقول لهم :إن ما حل بالمسلمين من تأخر حضاري وعلمي وعسكري وسياسي
ومادي واقتصادي واجتماعي وفكري وروحي ..الخ لم يكن سببه أنهم مسلمون ( ! )2ولم يكن
سببه حتميات تاريخية ول أطوارا اقتصادية ! ( )3إنما سببه الصيل هو فساد سلوك المسلمين
سبق أن أشرنا إلى هذه القضية في الفصل الول " :مفهوم ل إله إل ال " وفي كتاب " واقعنا المعاصر " ()
1
فصل " :الصحوة السلمية " .
تلك قولة الغرب التي استخدمها في الغزو الفكري لسلخ المسلمين مما بقي لهم من إسلم ! ()
2
تلك قولة الشيوعيين التي يستخدمونها في الغزو الفكري لقناع الناس أنه ل حل لهم إل الشيوعية ! ()
3
أول ،ثم فساد تصورهم ثانيا ،وإفراغ السلم أخيرا من كل محتواه .
فيوم كانت " وأعدوا لهم ما استطعتم من " عبادة لم يجرؤ أحد على احتلل أرض
ويوم كان " طلب العلم فريضة " لم يكن هناك تخلف علمي ،بل كانت المة المسلمة
ويوم كانت " فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه " عبادة ،كانت المجتمعات السلمية
ويوم كانت " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " عبادة ،وكان ولي المر يستشعر أنه
راع ومسئول عن رعيته ،لم يكن للفقراء في المجتمع السلمي قضية ،لن العلج الرباني
ويوم كانت " وعاشروهن بالمعروف " عبادة ،لم تكن للمرأة المسلمة قضية ! لن كل
الحقوق والضمانات التي أمر ال لها بها كانت تؤدى إليها ،طاعة ل ،وعبادة ل !
يقول يحيى بن سعيد :بعثني عمر على صدقات إفريقية فاقتضيتها ،فبحثت عن فقراء أعطيها لهم فلم ()
1
أجد ،فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ،فاشتريت بها عبيدا فأعتقتهم .وجاء في كتاب " الموال " للمام
الحافظ أبي عبيد القاسم بن سلم المتوفـى عام 224هـ ( ص : ) 358 - 357وحدثني سعيد بن أبي مريم
..قال :كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق " :أن أخرج للناس
أعطياتهم " فكتب إليه عبد الحميد :إنني أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت مال المسلمين مال " فكتب
إليه " :أن انظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه " فكتب إليه " إني قد زوجت كل
من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال " فكتب إليه بعد مخرج هذا " :أن انظر من كانت عليه جزية
فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على أرضه ،فإنا ل نريدهم لعام أو لعامين " !
()1
تصحيح المفاهيم أول ،ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة للسلم ..
ولن يكون هناك سحر يمحو الضعف والتخلف في لحظات ويبدلهما تقدما وقوة ..
إنما هناك سنن ربانية تقوم عليها حياة الناس في الرض ..
جزَ بِهِ
ن َي ْعمَلْ سُوءا ُي ْ
س بِ َأمَانِ ّيكُ ْم وَل َأمَانِيّ أَ ْه ِل ا ْلكِتَابِ مَ ْ
وقال عن الحياة الخرة ( :لَيْ َ
. ()3
ن نَقِيرا )
جنّةَ وَل ُيظَْلمُو َ
ُم ْؤمِنٌ َفأُوَل ِئكَ َي ْدخُلُونَ ا ْل َ
يقول الشيوعيون عنا إننا نختـزل القضايا اختزال مخلّ ،ونجرد العامل الخلقـي ( ويقصدون به ()
1
العقيدة ! ) ،ونرد إليه المور كلها ،مجردا عن الطار المادي والقتصادي والطبقي والتاريخي ،سذاجـة
منا ،وجهل بالمادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ ! وقد ناقشت الفكر المادي وسائر مقولت الشيوعيين
مناقشة مستفيضة في كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " ( ص - 258ص 444من الطبعة الولى 1403هـ
1983 -م ) ول مجال هنا للعادة .ولكنا نقول فقط :إن الذي ندعو إليه ليس عامل أخلقيا مجردا كما
يتوهمون من كلمنا بسبب جهلهم بحقيقة السلم .فالسلم عقيدة ينبثق منها نظام سياسي اجتماعي اقتصادي
فكري حضاري مادي ،ثابت السس متغير الصورة بما يناسب أوضاع البشرية خلل مسيرتها التاريخية ،
وهو في تغيره الدائم محكوم أبدا بالسس الثابتة التي ل يجوز أن تتغير ،لن تغيرها يفسد الحياة البشرية ،
وإذا كنا " نبرز " العامل الخلقي -دون أن نجرده -فإننا نفعل ذلك لن الشيوعيين يغفلونه إغفال متعمدا ،
متأثرين بالفكر اليهودي الذي صاغ لهم الشيوعية .
سورة النور [ . ] 55 ()
2
سورة النساء [ . ] 124 - 123 ()
3
وواضح من اليات أن طريق الفوز في الدنيا هو ذاته طريق الفوز في الخرة بل
افتراق .
فالمستخلفون الممكّنون في الدنيا هم " :الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات "
" ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " فأولئك هم الفائزون في
الخرة .
ول غرابة في ذلك في الدين الذي يجعل الدنيا مزرعة الخرة ،ويجعل إقامة حكم ال
في الرض ،وتحقيق العدل الرباني ،وطلب العلم ،والمشي في مناكب الرض سعيا وراء
الرزق ،ومعاشرة الهل بالمعروف ،وإعداد العدة لعداء ال ،والتخلق بالخلق الفاضلة ..
()1
جزءا من العبادة ،مطلوبا كالصلة والزكاة والصيام والحج
أما طريـق المرجئة ،الذي يخرج العمل من مسمى اليمان ،ويخرجه من مفهوم
()2
ل َي ْعمَلُ عَلَى شَاكَِلتِ ِه )
( قُلْ كُ ّ
()3
عمِلُوا )
( وَِلكُلّ َد َرجَاتٌ ِممّا َ
)(1سنعود إلى تفصيل هذا المعنى في فصل تال بعنوان " مفهوم الدنيا والخرة " .
سورة السراء [ . ] 84 ()
2
سورة النعام [ . ] 132 ()
3
مَفهُوم القضَاءِ وَالقَدَر
اليمان بالقضاء والقدر جزء رئيسي من عقيدة المسلم ،كما بينها حديث جبريل عليه
السـلم " :اليمان أن تؤمـن بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخـر والقـدر خيره
ولكنه كان في حس الجيال الولى من هذه المة قوة دافعة بناءة محركة ،بقدر ما
صار في حس الجيال المتأخرة منها قوة سلبية هدامة مخذّلة ،حين انحرف مفهوم القضاء
والقدر في حسها عن صورته الصحيحة التي عاشت بها الجيال الولى وبنت وعمرت
وتحركت .
والصورة الظاهرة واحدة في الحالين ،ولكن شتان ما بين هذه وتلك في حقيقة المر ..
إن ألفاظ الشهادة التي كانت تنطقها الجيال الولى من المسلمين هي ذات اللفاظ التي
جرت على لسان الجيال المتأخرة " أشهد أل إله إل ال ،وأشهد أن محمدا رسول ال " ولكن
الولى كانت تهز الرض كلها وتحركها لنها كانت تعمل في واقع الرض برصيدها الكامل
وشحنتها الكاملة ،والخيرة لم تعد تصنع شيئا في الرض ،بل لم تعد تستطيع حتى أن تحافظ
الذي هو أخطر من هؤلء جميعا ،لنها صارت كلمة بغير شحنة ول رصيد !
وحركات الصلة من قيام وقعود وركوع وسجود ،وقرآن يتلى ،وألفاظ تردد ،هي
هي منذ كانت إلى اليوم لم يتغير فيها شيء .ولكنها كانت تقام فتعلن عن وجود أمة حية قوية
مهيبة ،لنها كانت تؤدّى على حقيقتها ،وتؤدّي مقتضاها ،فتعلن عن وجود المة التي حققت
في عالم الواقع غاية الوجود النساني ،فكان لها من ثم الغلبة على أية أمة أخرى ل تحقق هذا
. ()1
ن)
عبَا ِديَ الصّاِلحُو َ
ض َيرِ ُثهَا ِ
ن َب ْعدِ ال ّذكْرِ َأنّ ا ْلَأرْ َ
( وَلَ َقدْ َك َت ْبنَا فِي ال ّزبُورِ مِ ْ
س َتخْلَفَ
ض َكمَا ا ْ
س َتخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْ ِ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ
ن آ َمنُوا ِم ْن ُكمْ َو َ
عدَ اللّهُ اّلذِي َ
( وَ َ
. ()2
شيْئا )
ُيشْ ِركُونَ بِي َ
وكذلك عقيدة القضاء والقدر ..صورتها الظاهرة هي اليمان بأن كل ما يحدث في هذا
الكون وفي حياة النسان يتم بقضاء من ال وقدر ،وأنه ل يحدث في هذا الكون العريض كله
. ()1
ذَِلكَ عَلَى اللّ ِه َيسِيرٌ )
شيْءٍ
ن اللّهِ َو َمنْ ُي ْؤمِـنْ بِاللّ ِه َي ْهدِ قَ ْلبَـهُ وَاللّ ُه ِبكُلّ َ
( مَا َأصَابَ ِمنْ ُمصِيبَـ ٍة إِلّا ِبِإذْ ِ
. ()2
عَلِيـمٌ )
. ()3
ل ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ )
ب اللّ ُه َلنَا هُ َو مَوْلنَا وَعَلَى اللّ ِه فَ ْليَتَ َوكّ ِ
( قُلْ َلنْ ُيصِي َبنَا إِلّا مَا َكتَ َ
ولكن الفارق الضخم في حقيقة هذه العقيدة بين الجيال الولى والجيال المتأخرة هو
الفارق بين التوكل على ال كما مارسته الجيال الولى والتواكل الذي حدث في عصر
النحسار ،ثم عصر النحدار ،وهو فارق ل يقل ضخامة عن فارق ل إله إل ال ،وفارق
كان المسلم الول يؤمن بأن كل ما يحدث له أو يحدث في الكون هو بقضاء ال وقدره ،
ثم كانت نتيجة إيمانـه بـذلك أن يقول لنفسه ،أإذا ذهبت إلى ميدان القتال ُأقْـتَلُ
بسـبب ذهـابي إلى هناك ؟ أم إنه يجري عليّ ما قـدره ال لي ،فإن كان كـتب لي
الشهادة هناك فسـأقتل -بقضاء من ال وقدر -وإن كان كتب لي العودة فسأعود ؟ ثم إنني
ي المـوت فسأموت ولو كنت في مكاني هذا ولم أذهب إلى القتال ..
إن كان ال قد كتب عل ّ
إذن فما الذي يقعدني عن القتال ؟ خـوف المـوت وهـو مقدر على أي حال ؟ أم خوف
الذى ولـن ينـالني منه إل ما قدره ال في كل حال ؟ كـل فـلنذهب إلى أداء فريضـة
الرض ،وينصر به هذا الدين ويمكن له ،ثم يكـون من أمره ما قدره ال له ،إما الشهادة
. ()1
حسْ َن َييْنِ )
حدَى ا ْل ُ
ل َت َربّصُونَ ِبنَا إِلّا ِإ ْ
( قُلْ هَ ْ
ولما اضطربت نفوس المنافقين وضعاف الميان بعد هزيمة أحد نزلت آيات بينات تقرر
سهُمْ
( ُثمّ َأ ْنزَلَ عََل ْي ُكمْ مِنْ َب ْعدِ ا ْل َغ ّم َأ َمنَةً ُنعَاسا َي ْغشَى طَائِفَ ًة ِم ْن ُكمْ َوطَائِفَ ٌة َقدْ أَ َه ّم ْتهُمْ َأ ْن ُف ُ
ج ِعهِمْ وَِل َي ْبتَِليَ اللّ ُه مَا فِي صُدُو ِر ُكمْ وَِل ُي َمحّصَ
ن ُكتِبَ عََل ْيهِمُ ا ْل َقتْلُ إِلَى َمضَا ِ
فِي ُبيُو ِتكُ ْم َلبَ َرزَ اّلذِي َ
ض أَوْ
خوَا ِنهِمْ ِإذَا ضَ َربُوا فِي ا ْلأَرْ ِ
لْن كَ َفرُوا َوقَالُوا ِ
ن آ َمنُوا ل َتكُونُوا كَاّلذِي َ
( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ
حيِي
حسْرَ ًة فِي قُلُو ِب ِهمْ وَاللّهُ ُي ْ
ل اللّ ُه ذَِلكَ َ
جعَ َ
ع ْن َدنَا مَا مَاتُوا َومَا ُقتِلُوا ِل َي ْ
ى لَ ْو كَانُوا ِ
غزّ ً
كَانُوا ُ
خ ْيرٌ
حمَةٌ َ
سبِيلِ اللّ ِه َأوْ ُمّتمْ َل َمغْ ِفرَ ٌة مِنَ اللّهِ َو َر ْ
ن ُقتِلْ ُتمْ فِي َ
َو ُيمِيتُ وَاللّ ُه ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ وََلئِ ْ
. ()3
ن)
شرُو َ
ن ُمّتمْ أَ ْو ُقتِ ْلتُمْ لِلَى اللّ ِه ُتحْ َ
ج َمعُونَ وََلئِ ْ
ِممّا َي ْ
كذلك كان المسلم الول يفعـل وهو يكشف مجاهيل الرض لنشر الدعوة ،ولطلب
العلم ،وللسعي وراء الرزق ،ويمشي في مناكب الرض ويتعرض للخطار والمشقات .
كيف تحول هذا القدام إلى تقاعس وقعود في انتظار ما قدره ال ؟!
كذلك كان في حس المسلم الول أن إيمانه بالقضاء والقدر ل ينفي مسئوليته عن عمله
وفي وقعة أحد كان الدرس هائل وعميقا في نفوس المؤمنين .
لقد خالف الرماة أمر قائدهم ورسولهم -صلى ال عليه وسلم -إذ أمرهم أل يبرحوا
أماكنهم ولو رأوا المسلمين تتخطفهم الطير .ولكنهم حين رأوا النصر ،وظنوا أن المعركة قد
انتهت إلى غايتها ،شغلتهم الغنائم عن أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فغادروا أماكنهم
ونزلوا مخافة أل يحسب لهم نصيب من الغنائم ! ومن هنا كرّ المشركون بخيلهم على جيش
المسلمين مطمئنين إلى انصراف القوة الضاربة من فوق جبل الرماة .وكانت الهزيمة
والضطراب العنيف في صفوف الجيش ،وإصابة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وما
أشاع الكفار من قتله عليه الصلة والسلم ،وأثر ذلك في تفريق وحدة الجيش ..
ونزل القرآن بعتاب شديد للمؤمنين على ما فعلوا .ونزل كذلك بالشرح والبيان .وكان
المسئولية عن الخطأ قائمة ،واليمان بأنه من قضاء ال وقدره قائم ..ل يتعارضان .
ولقد كان هذا من أعظم ما تعلمته هذه المة ومن أعظم ما تميزت به :إزالة التعارض
بين إيمان النسان بمسئوليته عن عمله ،وإيمانه بقضاء ال وقدره ،وإقرار المرين معا في
القلب البشري ليتوازن بينهما ،ويتوازن بهما في مسيرته في هذه الرض ،فل يزايله
الحساس الدائم بقدر ال والتطلع إليه في الكبيرة والصغيرة ،ول يزايله كذلك مراقبته لعمال
كبف تحول هذا التوازن البديع إلى تنصل من كل مسئولية بدعوى اليمان بقضاء ال
وقدره ؟
السباب .
لقـد كانوا يدركون من جانب أن ل سننا في هذا الكون وفي حياة البشر غير قابلة
للتغيير .ومع أن ل -سبحانه وتعالى -سنة خارقة تملك أن تصنع كل شيء ،وليعجزها
ول يقيدها شيء ،لن مشيئة ال طليقة من كل قيد ،إل أن ال جلت قدرته قد قضى بأن تكون
سنته الجارية ثابتة في الحياة الدنيا ،وأن تكون سنته الخارقة استثناء لها ،وكلتاهما معلقة
بمشيئة ال .
لذلك كان في حسهم أنه ل بد لهم من مجاراة السنن الجارية إذا رغبوا في الوصول إلى
نتيجة معينة في واقع حياتهم ،أي أنه ل بد من اتخاذ السباب المؤدية إلى النتائج بحسب تلك
السنن الجارية .
فلقد قدر ال لدينه أن ينتصر ويمكّن في الرض ،وقدر لكيد الكفار أن يحبط :
. ()1
ا ْل ُمشْ ِركُونَ )
. ()2
سبَقُوا ِإ ّن ُهمْ ل ُي ْعجِزُونَ )
ن كَ َفرُوا َ
سبَنّ اّلذِي َ
حَ( وَل َي ْ
ل يعجزون ال الذي كتب لدينه النصر ،ول يسبقون قدره .فقدره هو السابق وإرادته
ومع ذلك فهل قال لهم :ما دمت قدرت لديني النصر والتمكين فاقعدوا وانتظروا نفاذ
قدري ،وهو ل بد نافذ ؟ كل ! إنما قال لهم -في نفس الوقت الذي عرفهم فيه بقدره المكتوب
لهذا الدين ،وبأنه نافذ ل محالة -إنه ل بد لهم أن يجاهدوا ويعدوا :
. ()3
ن)
سبِيلِ اللّ ِه يُ َوفّ إَِل ْي ُكمْ وََأ ْن ُتمْ ل ُتظَْلمُو َ
شيْءٍ فِي َ
ن َ
ُتنْفِقُوا مِ ْ
. ()4
ص ْر ُكمْ َو ُي َثبّتْ َأ ْقدَا َمكُمْ )
ن تَنْصُرُوا الّلهَ َينْ ُ
( إِ ْ
المؤدية إلى النتائج بحسب السنة الجارية ،وإن كانت هذه المة لم تترك لتفتن بالسباب ،
تظنها مؤدية -بذاتها -إلى النتائج بمعزل عن قدر ال كما تصنع الجاهلية المعاصرة ،فقد
عجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُت ُكمْ َفَلمْ ُتغْنِ عَ ْن ُكمْ شَيْئا َوضَاقَتْ عََل ْي ُكمُ ا ْلَأرْضُ ِبمَا
ن إِذْ أَ ْ
ح َنيْ ٍ
( َ ..ويَ ْومَ ُ
جنُودا َلمْ
سكِي َنتَهُ عَلَى َرسُولِهِ َوعَلَى ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وََأ ْنزَلَ ُ
ت ُثمّ وَّل ْي ُتمْ ُم ْد ِبرِينَ ُثمّ َأ ْنزَلَ اللّهُ َ
َرحُبَ ْ
. ()1
جزَا ُء ا ْلكَا ِفرِينَ )
ن كَ َفرُوا َوذَِلكَ َ
عذّبَ اّلذِي َ
َترَوْهَا وَ َ
وكان هذا كذلك من أبدع ما تعلمته هذه المة وتربّتْ عليه ،لتتوازن في مسيرتها
الرضية بين التواكل بغير اتخاذ السباب ،وبين التكال على السباب .
كيف تحول هذا التوازن الرائع إلى سلبية كاملة ،وقعود عن اتخاذ السباب بدعوى
التكال على ال ؟
ثم إنه لم يكن في حس المة الولى تعارض بين التسليم لقدر ال ،والعمل على تغيير
إن كل شيء في هذا الوجود وفي حياة البشر واقع بقضاء ال وقدره .ل جدال في ذلك
عند الناس كما حدث للمؤمنين يوم أحد بسبب مخالفتهم لمر رسول ال -صلى ال عليه وسلم
-أو لمر ل مسئولية لهم فيه كما كان الحال في طاعون عمواس أيام الخليفة عمر ابن
الخطاب -رضي ال عنه ( -ولم تكن أسباب الطاعون معروفة يومئذ ول وسائل علجه ،
فل مسئولية على أحد في ذلك الحين ) أو ابتلء من عند ال للمؤمنين ليمحصهم كما يحدث في
ن يَقُولُوا آ َمنّا وَ ُهمْ ل يُ ْف َتنُونَ وَلَ َقدْ َف َتنّا اّلذِينَ ِمنْ َقبِْل ِهمْ فَلَ َيعَْلمَنّ
ن ُيتْ َركُوا أَ ْ
س أَ ْ
حسِبَ النّا ُ
( َأ َ
هذا وغيره مما يصيب الناس في الرض يحدث كله بقضاء ال وقدره ..
ولكن ال لم يأمر الناس أن يستسلموا لقدر ال بمعنى عدم العمل على تغيير الواقع
السيئ الذي هم فيه .إنما أمرهم بالتسليم ( أو الستسلم ) لقدر ال بمعنى الرضى بما وقع
بالفعل على أنه قدر محتوم لم يكن يمكن تلفيه .أما القعود عنده ،وعدم تغييره أو محاولة
تغييره فأمر آخر لم يأمر ال به ول حث عليه ،ول علقة له بالرضى بما وقع على أنه قدر
ولنأخذ النماذج الثلثة التي أشرنا إليها على سبيل المثال .
فحين وقعت هزيمة أحد ،بسبب من عند المؤمنين وبقدر من عند ال في الوقت ذاته :
ج ْمعَانِ
شيْءٍ َقدِيرٌ َومَا َأصَا َبكُمْ َي ْومَ ا ْلتَقَى ا ْل َ
ل َ
ن اللّهَ عَلَى كُ ّ
س ُكمْ إِ ّ
ع ْندِ َأنْ ُف ِ
( قُلْ ُهوَ ِمنْ ِ
. ()2
ن اللّ ِه )
َفبِِإذْ ِ
ولكن هل طلب منهم أن يستسلموا للهزيمة ويقعدوا ،ول يحاولوا تغيير الموقف السيئ
الذي وجدوا أنفسهم فيه ،بحجة أنه قدر مقدور لم يكونوا ليفلتوا منه مهما حاولوا ؟! .
كل ! إن الرسول صلى ال عليه وسلم ،القائد والصاحب والمربي ،تصرف في ذلك
الموقف تصرفا يدل على اتجاه مغاير تماما لهذا الظن .فقد جمع المسلمين -بجراحاتهم -
للقاء العدو مرة أخرى ،والهزيمة لما تنته آثارها من الجساد ول من النفوس ! وامتدح ال
موقف المؤمنين " الذين استجابوا ل والرسول من بعد ما أصابهم القرح " :
جرٌ
سنُوا ِم ْنهُمْ وَاتّ َقوْا َأ ْ
حَح لِّلذِينَ َأ ْ
ن َب ْعدِ مَا َأصَابَ ُهمُ الْ َقرْ ُ
ل مِ ْ
س َتجَابُوا لِلّهِ وَال ّرسُو ِ
ناْ
( اّلذِي َ
حسْبُنَا الّلهُ
خشَوْ ُهمْ َفزَادَ ُهمْ إِيمَانا َوقَالُوا َ
ج َمعُوا َل ُكمْ فَا ْ
ن النّاسَ َقدْ َ
س إِ ّ
عظِيمٌ اّلذِينَ قَالَ َل ُهمُ النّا ُ
َ
فهـؤلء هم الذين هزموا بقدر من ال ( وإن كان بسبب من عند أنفسهـم في الوقت
ذاته ) يقولون " :حسبنا ال ونعم الوكيل " .فهم يتوكلون على ال ليخرجوا من الواقع السيئ
إلى واقع جديد ! ول يمنعهم قدر ال السابق من التطلع إلى قدر جديد ! وإذا كان قدر ال
الول قد أصابهم بخطأ ارتكبوه ،فهم يتطلعون إلى قدر ال الخر بعمل يقدمونه بين يدي ذلك
التطلع ،وهو الستجابة ل والرسول ،أي بسلوك صحيح بعد السلوك الذي وقعت فيه
وفي طاعون عمواس ،علم الخليفة رضي ال عنه بخبر الطاعون فأمر الجند
بالنصراف ،فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي ال عنه " :أتفر من قدر ال ؟! " قال " :
أفر من قدر ال إلى قدر ال ! " وهي عبارة بليغة تدل على عمق فهم الخليفة -رضي ال
عنه -لقضية القضاء والقدر .إن الطاعون قدر واقع على الناس بالفعل ،ولكن لم يقع بعد
على عمر وجيشه .فالعمل على تحاشيه أمر واجب .وهو يتم -حين يتم -بقدر من ال
كذلك .فقدر ال بالطاعون ل يمنع قدر ال بالنجاة من الطاعون ! ولقد اتخذ عمر السباب
وفي البتلء الذي أصاب المؤمنين على يد قريش -وهو سنة من سنن ال لم تتخلف
مع أي جماعة من المؤمنين تواجه الجاهلية في بدء الدعوة قبل التمكين -كان البتلء واقعا
. ()1
ن)
ن ا ْلكَاذِبِي َ
صدَقُوا وََل َيعَْلمَ ّ
ن َ
( فََل َيعَْلمَنّ اللّهُ اّلذِي َ
فهل منع ذلك رسول ال -صلى ال عليه وسلم -والمؤمنين من محاولة التغيير ؟
بطلب الجوار من بعض المشركين حينا ،وبالهجرة إلى الحبشة حينا ،حتى جاء الذن
كل ! إن وقوع البتلء بقدر من ال ،وبمقتضى سنة من سنن ال الحتمية ،ل يمنع
الجتهاد في تحاشي البتلء أو التخلص منه ،وحين يتم شيء من ذلك فإنه يتم بقدر من ال ،
إلى قدر جديد من عند ال .وكان هذا من روائع ما تربّتْ عليه المة لتتوازن به بين سلبية
الستسلم التي تحطم الرادة وبين الرغبة الجامحة التي ل تعرف التسليم .
كيف تحول هذا التوازن إلى قعود عن التغيير بدعوى الستسلم لقدر ال ؟
إن عقيدة القضاء والقدر في صورتها الصحيحة تمثل نقط توازن هائلة ورائعة في حس
وأفعاله ،فهي على ذلك من أصل العقيدة ،ومن جوهر ل إله إل ال ،لن أي تصور بأنه
فضل عن ذلك فإنها عقيدة ذات مقتضى ضخم جدا في حياة النسان المؤمن ..
إنها نقطة توازن بين اتجاهات شتى يتعرض لها النسان حين ل ينضبط سلوكه وفكره
فشعور النسان بعظمة ال التي ل تحدها حدود ،وهيمنته سبحانه على كل شيء ،
وجريان المر كله بمشيئته ،عرضة أن ينتهي بالنسان إلى سلبية منحسرة ل تعمل شيئا ول
وشعور النسان بذاتيته ،ومقدرته على العمل والتصرف ،ورؤيته لنتاجه الذي ينتجه
بفكره وجسمه ،عرضة أن ينتهي بالنسان إلى التأله والجحود والطغيان ،إعجابا منه
بإيجابيته وفاعليته !
ومن ناحية أخرى فإن شعور النسان بعظمة ال وهيمنته ،وجريان المر كله بمشيئته ،
عرضة أن ينتهي بالنسان إلى نسيان السباب جملة ،ونسيان السنن الربانية الجارية التي
أودعها ال في بنية الكون وفي حياة النسان ،تطلعا إلى تلك المشيئة التي ل يحدها حد ول
يقيدها قيد !
كما أن شعور النسان بانتظام السنن التي يجري بها الكون وتجري بها حياة الناس ،
عرضة أن ينتهي بالنسان إلى نسيان قدر ال جملة أو إغفاله ،والتعلق بالسباب على أنها
ومن ناحية ثالثة فإن شعور النسان بجريان المـر كله بمشيئة ال ،عمل هو أو لم
يعمل ،وأراد أم لم يرد ،عرضة أن ينتهي بالنسان إلى ترك العمل جملة ،يأسا من أن يؤثر
عمله في مجرى الحداث ،أو ضنا بجهد ل يوصل -بذاته -إلى نتيجة !
كما أن شعور النسان بتأثير عمله في مجرى الحداث ،وبأن الحداث مترتبة على
مقدار ما يعمل ونوع ما يعمل ،عرضة أن ينتهي بالنسان إلى الفتنة بعمله ،والظن بأنه هو
وإذا كانت الهندوكية والرهبانية نموذجا للنوع الول من النحراف :السلبية ،ونسيان
السباب جملة ،والزهد في العمل والنتاج ،فإن الجاهلية المعاصرة عنوان حاد على النوع
الثاني من النحراف :شعور النسان المضخم بذاتيته ،وفتنته بالسباب .وفتنته بعمله ،
من جاهلية المسيحية الكنسية المحرفة إلى الجاهلية المعاصرة التي وصلت ذروتها في القرن
الخير .
كان " النسان " مسحوقا في جاهلية القرون الوسطى ،المظلمة عندهم ،تحت ضغوط
،ومنها ()1
كثيرة متنوعة ،منها ضغط الكنيسة بطغيانها الروحي والفكري والمالي والسياسي
ضغط القطاع بطغيانه السياسي والقتصادي والجتماعي ،ومنها الجهالة المتفشية ،وضحالة
ثم انفتحت أوربا على علوم المسلمين من ناحية ،واحتكت بهم في حروبها الصليبية
معهم من جهة أخرى ،فتغير الحال ،وبدأ " النسان " هناك يحس بوجوده ،ولكن على غير
استقامة السلم وانضباطه ،فقد أخذوا من المسلمين علومهم وأسس حضارتهم المادية ،
ومن ثم انقلبوا من النقيض إلى النقيض دون التوقف عند نقطة الوسط الموزون .
فعلى قدر انسحاق الوجود النساني في جاهلية العصور الوسطى كان شعور النسان
بذاتيته في الجاهلية المعاصرة .وعلى قدر الجهل بالسباب عامة ،وجدت فتنة بالسباب .
وعلى قدر تفاهة العمل ،وتفاهة آثاره في الحياة الواقعة ،وجدت فتنة بالعمل ،وفتنة
وجاء التقدم العلمي والمادي الذي ولد مع " النهضة " ،والذي استمدت أوربا أصوله من
راجع إن شئت فصل " الدين والكنيسة " في كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " . ()
1
الله ،وهو القدر ،وهوالذي ينشئ كل شيء ويحكم كل شيء .
والوربي الجاهلي المعاصر قد نبذ الدين بكل مضمونه وإيحاءاته ،ولم يعد ل صلة في
حسه بحياته الواقعة على الرض .إنما صار في حسه أنه هو -النسان -هو الذي يصوغ
حياتـه كما يحلو له ،وهو الذي يكتب قدره بنفسه ،وهو الذي يصنع التاريخ ويصنع
. ()1
الحداث
وإلى جانب فتنته بنفسه إلى هذا الحد كانت فتنته في الوقت ذاته بالسباب الظاهرة .فلقد
قال له " العلم " إن هناك قوانين حتمية سموها في أوربا " قوانين الطبيعة " ،لنهم -وقد
نبذوا إله الكنيسة -رفضوا أن ينسبوا السنن الكونية إلى ال ،ونسبوها إلى إله جديد ل كنيسة
له ول تكاليف ،سموه " الطبيعة " ونسبوا إليه الخلق والتدبير .
وما دامت القوانين في حسهم حتمية فل مجال للقدر إذن في تصورهم ! فماذا يصنع
القدر إذا كان ل يملك أن يغير ما هو حتمي الوقوع ؟! ونسوا -في غفلتهم -أن ثبات السنن
الجارية في الكون هو ذاته قدر مقـدر من عند ال الخالق يوم خلق سبحانه السماوات
والرض ! ونفوا من حسهم -في غفلتهم كذلك -إمكان تغيير هذه السنن بإرادة من ال حين
يشاء ،فنفوا المعجزات والخوارق من جهة ،ونفوا إمكـان تغير نظام الكون كله حين يشاء
ال !
ثم بدا لهم حين اتسع " علمهم " -أو اتسعت غفلتهم -أن الحياة البشرية -بل النفس
البشرية -تحكمها قوانين حتمية كتلك التي تحكم الكون المادي .وسرت هذه الحتمية في
ثم أغفلوا -في عناد جاهلي -كل فترات الهدى في حياة البشرية ،التي كانت كلها
بقدر من ال ،ولم تكن " حتمية " بأي تفسير من تلك التفسيرات الجاهلية التي تحاول أن تفسر
الحياة والتاريخ بمعزل عن قدر ال ،كما أغفلوا -عن عمد -كل أثر لفترات الهداية تلك في
ومن الجانب الخر وجدت -كما أشرنا من قبل -جاهليات كثيرة في التاريخ تمثل
النحراف الخر :انحراف السلبية والنكماش والتقوقع ،انتظارا لما تصنعه " اللهة " ،وما
في البوذية والهندوكية والرهبانية ألوان من تلك السلبية والقعود وعدم إيمان النسان
بنفسه على أنه قوة فاعلة في الرض ،أو أن لعمله أثرا في الحياة ..
كلها تطلعت إلى " فناء " النسان ..سواء كان الفناء في " الكائن العظم " الذي يمثل
الله في حسهم ،أو في تناسخ الرواح المؤدي في النهاية إلى الفناء الكبر في ذلك الكائن
العظـم ،أو فناء الجسد بكبته وقمعه لتنطلق الروح من إساره ،أو فناء السلبية في داخل
الدير ..أو أي نوع من أنواع الفناء ! ( وليس بعيدا عن ذلك مسعى الصوفية إلى " الفناء " في
والطابع الغالب على هذه النحرافات كلها هو السى والكآبة والنحسـار إلى داخل
لذائذ الحس ،والبعد عن إصلح النفس من الداخل ،والنطلق إلى خارج اللذات .
بين هذين الطرفين المتناقضين تجيء عقيدة القضاء والقدر في صورتها الصحيحة في
السلم ،تقرر هيمنة ال الشاملة على كل ما يجري في الكون وفي حياة النسان ،ول تلغي
في الوقت ذاته فاعلية النسان ،ول تلغي العمل ،ول تلغي اتخاذ السباب .
في توازن كامل يؤمن المسلم بأن كل ما يحدث في الكون وفي حياته هو قدر مقدور من
وفي الوقت ذاته يؤمن بأن عليه أن يعمل ،وأن يتخذ السباب ،وبأن ما يجري من
المقادير في الرض مرتبط بالسباب التي يتخذها ( أو يدع الخذ بها ) ،وبنوع العمل الذي
يقوم به :
()2
حرِ ِبمَا َكسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ )
ظ َهرَ الْ َفسَادُ فِي ا ْلبَرّ وَا ْل َب ْ
( َ
()3
سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ )
ت مِنَ ال ّ
حنَا عََل ْي ِهمْ َب َركَا ٍ
( وَ َل ْو أَنّ أَ ْه َل الْقُرَى آمَنُوا وَا ّتقَوْا َل َف َت ْ
ومن ثم يحس بوجوده الذاتي ،ويعمل ،ويتخذ السباب ،دون أن يفتن بنفسه ول بعمله
وفي الوقت ذاته يؤمن بأن كل ما يحدث له مقدر من عند ال دون أن يقعده ذلك عن
وحين يبدو هذا في حس بعض الناس تناقضا ،فإنه يُحدث في حس المؤمن توازنا
جميل رائعا يعينه على القيام بدور الخلفة الراشدة في الرض ،ويجعله يعمل في الرض
إنه يتخذ السباب عبادة ل ،وانطلقا مع سنة ال الجارية ،ويحس في الوقت ذاته أن
النتيجة التي وصل إليها هي قدر قدره ال ،وليست حصيلة أسبابه التي اتخذها ،وأن السباب
ل تؤدي بذاتها أداء حتميا إلى النتيجة .إنما تؤدي إلى النتيجة بقدر من ال ،ولو شاء ال أل
يوصل السبب إلى النتيجة فإن الذي ينفذ بالفعل هو إرادة ال وليس حتمية السباب !
وهذا هو الفارق الصيل بين المسلم وبين نظيريه من الجاهليين من هنا ومن هناك .
أحدهما يقعد عن العمل ،ول يحس بقيمة وجوده النساني ،والثاني يعمل مفتونا بالسباب ،
إن المسلم الحق ل يقل إيمانا بقدر ال عن أي مؤمن به في هذا الوجود ،ولكنه ل يغفل
عن عظم دوره في الرض ،لن قدر ال قد شاء أن يجعل النسان خليفة في الرض ،وأن
يسخر له ما في السماوات وما في الرض جميعا منه ،وأن يكرمه ويفضله على كثير ممن
وهو من جانب آخر ل يقل اتخاذا للسباب ،ول إدراكا لقانون السبب والنتيجة عن أشد
البشر اتخاذا للسباب .ولكنها في حسه ليست حتمية ،وليست نهائية ما لم يقررها قدر من
عند ال .
والجاهلي الوربي المعاصر ينظر بسذاجة إلى العقلية السلمية فيقول إنها عقلية غيبية
ل تؤمن بقانون السببية .وهو في قولته هذه يكشف عن جهله بأمر ل يستطيع حسه الضيق أن
يلم به .فالعقلية السلمية -الصحيحة -غيبية نعم ،لنها تؤمن بالغيب ،وتؤمن بقدر ال .
ولكنها في الوقت ذاته عقلية علمية أصيلة ،بدليل أنها هي التي اهتدت إلى المنهج التجريبي
في البحث العلمي ،وأهدته إلى أوربا ،وهو منهج قائم كله على الملحظة والتجربة وعلقة
السبب بالنتيجة ! ولكنها -وهي تتعامل مع سنة ال الجارية -ل تغلق قلبها عن مشيئة ال
ومزية هذه العقلية العلمية الغيبية في آن واحد ،أنها ل تفاجأ حين تجد نتيجة ل تفسرها
السباب الظاهرة ،لنها تعلم أنها تمت بقدر من ال .ول يصيبها ما أصاب هتلر ،حين اتخذ
كل السباب التي كان في طوق بشر أن يتخذها ،فلما خاب مسعاه انتحر ،ولم يطق النتيجة
من عجائب الجاهلية المعاصرة التي تعجز أو تزعم أنها تعجز عن فهم العقيدة القضاء والقدر في وضعها ()
1
الصحيح عند المسلمين ،أنها في ذاتها واقعة في تناقض بين إيمانها بفاعلية النسان وإيجابيته ،وإيمانها
بالحتميات التي ل تجعل للنسان وجودا حقيقيا ول إراداة ،وهي إما أن تكون غير فاطنة إلى وجود هذا
التناقض وإما أنها ل ترى مانعا من وجوده ! بينما تشير هذه الجاهلية إلى وجود التناقض في عقيدة المسلم !
والمر في حقيقته في حس المسلم توازن مريح ،يجعله يبدع ما يبدع في الرض وهومطمئن إلى قدر ال .
هذه العقيدة الرائعة التي أنشأت في حياة الجيال الولى من هذه المة ما أنشأت من
منجزات تشبه المعجزات ..ماذا أصابها خلل القرون ،فانحدرت إلى مثل ما انحدرت إليه
كيف صارت إلى تقاعس وقعود وتنصل من المسئولية وانصراف عن التغيير ،أدى كله
في النهاية إلى هذا الضعف الفكري والعلمي والمادي ،وهذا التخلف الحضاري ،الذي اجتذب
قوى الشر من كل صوب تحاول اقتلع جذور السلم من الرض ،وتندد بواقع المسلمين
إن شكل العقيدة كما قلنا لم يتغير ..ولكن جوهرها تغير تغيرا هائل بكل تأكيد .
لقد أصابه ما أصاب ل إله إل ال وبقية العبادات ..أفرغ من محتواه الحقيقي ،وأصبح
وفي أثناء ذلك كانت عقيدة القضاء والقدر قد تحولت إلى مباحث كلمية تختلف الفرق
من حولها ،ولم تعد منهجا للتربية السلمية ! قضايا فلسفية يجهد الذهن في إيجاد حلول لها ،
والمة ل ُت َربّى ،ول يلتفت أحد إلى القيمة التربوية الهائلة لعقيدة القضاء والقدر في صورتها
السلمية الصحيحة ! على نفس النحو الذي تحولت به عقيدة التوحيد إلى مباحث كلمية ذهنية
تجريدية باردة ،ل تحرك الوجدان الديني ،ول تؤدي إلى سلوك عملي ،وتزرع في القلب
الشبهات أكثر مما ترسخ اليمان ! ويتناولها الدارسون على أنها " العقيدة " ،فينعزل
الدارسون عن واقع الناس الحيّ ،وعن مقتضيات الدعوة ومقتضيات التربية ،ويدورون مع "
ثم يجيء طور على " المسلمين المعاصرين " ينسلخون فيه من عقيدة القضاء والقدر كما
انسلخ سادتهم الوربيون من قبل ،ويقولون :نريد أن نترك العقلية الغيبية التي كانت سبب
تأخرنا ،وتكون لنا عقلية علمية تقدمية ! إن القضاء والقدر ل وجود له إل حيث توجد
الفوضى والجهل والنحطاط والتأخر .أما حيث يوجد النظام والعلم والتقدم والتخطيط العلمي
والعقول اللكترونية فأنّى للقدر أن يتدخل ،وكل شيء محسوب له ألف حساب ؟!
ب كُلّ
حنَا عََل ْي ِهمْ َأبْوَا َ
و َيغْفُلُ هؤلء عن معنى قوله تعالى ( :فََلمّا َنسُوا مَا ُذ ّكرُوا بِ ِه َف َت ْ
. ()1
شيْءٍ حَتّى إِذَا َف ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا َأخَذْنَا ُهمْ َبغْ َتةً فَإِذَا ُهمْ مُبْ ِلسُونَ )
َ
بل َيغْفُلُون عما هو أقرب إلى المشاهدة الحسية من ذلك الغيب الذي يوشك أن يتحقق .
يغفلون عن المراض التي تفاجئ أولئك الحاسبين المخططين الذين يحسبون أنهم أغلقوا
بحساباتهم كل فرصة لقدر ال أن ينفذ إلى واقع المور ! أمراض من كل نوع :نفسية
وعصبية وعقلية وجثمانية وأخلقية واجتماعية وفكرية وسياسية واقتصادية ..كلها لم تكن في
الحسبان !
والمسلمون اليوم في حاجة إلى تصحيح مفهوم القضاء والقدر الذي اختل في حسهم
خلل القرون .فل هو بالسلبية التي غشت القرون الخيرة ،ول هو الفتنة بالسباب التي
توشك أن تعم العالم السلمي اليوم مع الغزو الفكري القادم من جاهلية الغرب ..
يحتاج المسلمون إلى إعادة ذلك التوازن البديع الذي تمثله تلك العقيدة في صورتها
يحشون بها رءوس طلب الشريعة والدراسات السلمية ،لتصبح -ككل شيء غيرها في
هذا الدين -جزءا من منهج التربية السلمية ،الذي يهدف إلى إخراج " النسان الصالح "
الذي يحقق المنهج الرباني في واقع الرض ،والذي ُينْ ِفذُ ال به قدره :
. ()1
شهِيدا )
َ
لم يكن في حس الجيال الولى من المسلمين ذلك الفاصل الحاد بين الدنيا والخرة الذي
لم يكن في حسهم أن هناك أعمال معينة هي للدنيا وحدها منقطعة عن الخرة ،وأعمال
صحيح أن هناك أعمال -بطبيعتها -يغلب عليها الطابع الروحي ،كالصلة والدعاء
والذكر ،والشعائر التعبدية عامة ،وأعمال أخرى يغلب عليها الطابع الفكري ،كطلب العلم
والتبحر فيه ،وتدبير شئون الحياة من سياسة واقتصاد وحرب وسلم ..الخ ،وأعمال يغلب
عليها الطابع الحسي ،كالطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ..الخ ..ولكن ذلك ل
يفصل بين بعضها وبعض من جهة ،لنها صادرة عن الكيان النساني الموحد المترابط ،
ومن جهة أخرى ل يجعل بعضها للخرة خالصة من دون الدنيا ،وبعضها للدنيا خالصة من
كان المفهوم الصحيح للعبادة هو الذي يحكم حياتهم ،ويحكم تصورهم :
()1
شرِيكَ لَهُ ) ..
نل َ
حيَايَ َو َممَاتِي لِلّهِ رَبّ ا ْلعَاَلمِي َ
سكِي َو َم ْ
( قُلْ ِإنّ صَلتِي َو ُن ُ
وفي هذا المفهوم ل يمكن أن تنفصل الشعائر التعبدية عن العمل ،ول الدنيا عن
الخـرة .لذلك كانت الحياة في حسهم حلقة متصلة ل انفصام فيها بين جزء وجزء .الصلة
فيها والنسك ،والطعام والشراب والجنس ،والقتال في سبيل ال ،والسعي وراء الرزق ،
وطلب العلم ،وعمارة الرض ..كلها عبادة ،وكلها للدنيا والخرة في آن .وكل لحظة
واعية تمر بالنسان في نهاره أو ليله ،وكل عمل يقوم به -متوجها فيه إلى ال ،وملتزما
فيه بما أنزل ال -فهو لون من ألوان العبادة ،متصل بعضها ببعض ،وهو على الدوام يتنقل
من عبادة إلى عبادة ،تحقيقا لغاية الوجود النساني ،التي تشمل وجوده كله ،وتوجهه إلى ال
.
وإذا كانت الشعائر التعبدية من صلة وزكاة وصيام وحج ذات صبغة روحية غالبة ،
فليس معنى ذلك أنها هي وحدها العبادة ،ول أنها للخرة منقطعة عن الدنيا ،فلكل منها
مقتضىً ل بد أن تحققه في الحياة الدنيا .الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر ،والزكاة تطهر
النفس والمال ،والصيام يدرب على التقوى ،والحج يدعو إلى البر ..وهكذا تصبح كلها للدنيا
والخرة في آن .
وإذا كانت العمال الخرى التي يقوم بها النسان في حياته ذات صبغة عقلية أو حسية
غالبة ،فليس معنى ذلك أنها خارجة من نطاق العبادة بمعناها الواسع الشامل ،ما دام يتوجه
فيها إلى ال ،ويلتزم فيها بأوامر ال .ومن ثم فهي ليست للدنيا وحدها منقطعة عن الخرة .
ومن مجموع حياة النسان ،ومن مجموع نشاطه على الرض ،تتكامل العبادة التي
. ()2
يحقق بها غاية وجوده ،وتتصل في حسه الدنيا والخرة بل افتراق
كان الذي يجمّع حياتهم كلهم ،ويؤلف بينها ،ويوحد وجهتها ،هو ل إله إل ال ،
من ثم هي اللتزام الجاد بمنهج الحياة الشامل المنزل من عند ال ليصحح مسيرة النسان في
الحياة الدنيا ليصل به إلى مستقره المن في الخرة ..فعندئذ ل يمكن الفصل بين أمر في هذا
! ()1
الدين وأمر ،ول يمكن الفصل بين جزء من هذا المنهج وجزء
وحين كانت الجاهليـة تعبد آلهة شتى -حتى مع قولهم بألسنتهم إن ال هو رب
الرباب ،وإنهم ل يعبدون اللهة الخرى إل لتقربهم إلى ال زلفى ! -كانت حياتهم شتاتا ل
يتجمع .
كانوا ل يؤمنون بالخرة ،ومن ثم فل صلة في حسهم بين الدنيا والخرة .
وكانت الرباب المعبودة شتى ،ومن ثم كانت العبادة مفرقة موزعة .
فالصنام تعبد ساعة .والقبيلة تعبد ساعة .وعرف الباء والجداد يعبد ساعة .
والهوى والشهوات تعبد ساعة .أو هي تعبد كلها جميعا ولكن بغير اتصال في الحس ول
ترابط .فالحياة تعاش ساعة بساعة بغير هدف حقيقي ول غاية :
وما دامت على هذا النحو فهي تعاش بمقتضى هوى اللحظة القائمة بغير حساب لما
ومن ثم كان الشتات هو الطابع المميز لتلك الجاهلية ككل جاهلية في التاريخ ،وإن
. ()2
اختلفت درجات التشتت ومظاهره بين جاهلية وجاهلية على مدار التاريخ !
تجمعت القبائل المتناحرة لتكوّن " أمة " لول مرة في تاريخها ،وكان قد مضى عليها
من الزمن ما ل يحصيه إل ال ،ول تقدر على هذه الوحدة لنها تفتقد عنصر التجميع ! .
وتجمعت أجناس وألوان ولغات وثقافات متباينة ،فانصهرت كلها في بوتقة تلك المة
لم تعد لحظة الجسد تسير في اتجاه ،ولحظة العقل في اتجاه ،ولحظة الـروح في
اتجاه .
فالنسان كما فطره ال وحدة مترابطة متكاملة ،ل ينفصل فيها جانب عن حانب ،ول
توحد معبوده ،وتوحدت عبادته ،تجمع الشتات المتناثر ،وعاد كما خلقه ال ،تلك الوحدة
لم يعد إنسان يقول :اليوم خمر وغدا أمر .فما الفرق بين اليوم والغد ؟ هل اليوم لله
ومن ثم تجمعت ألوان النشـاط المختلفة لينتظمها منهج واحد ،مستمد من عند ال
صارت حياة المسلم كلها :طعامه وشرابه ،وكيله وميزانه ،وبيعه وشراؤه ،وصلته
وعمله ،وحربه وسلمه ..محكومة كلها بدستور واحد هو شريعة ال .حرامه ما حرّم ال ،
وحلله ما أحله ال ،ومباحه ما أباحه ال .والمستحب عنده ما أحبه ال .والمكروه عنده ما
كرهه ال .ومن ثم صار المتجه واحدا مهما اختلفت المور .واصطبغ السلوك كله بصبغة
واحدة على اختلف مفرداته :صبغة اللتزام بما جاء من عند ال .وصار هذا هو السمت
هل الله الذي يحكم الحياة الدنيا بشريعته ،غير الله الذي يحاسب الناس يوم القيامة
ويجازيهم ؟
حسَنا في ميزان
هل ميزان الحياة الخرة غير ميزان الحياة الدنيا ؟ هل يكون العمل َ
الدنيا وقبيحا في ميزان الخرة ؟ أو قبيحا في ميزان الدنيا وحسنا في ميزان الخرة ؟
أليس هو ذات الميزان وذات المعيار :ما كان حسنا في الدنيا فجزاؤه الحسنى في
جنّةِ ُهمْ
ب ا ْل َ
صحَا ُ
ك َأ ْ
سنَى َو ِزيَادَةٌ وَل َيرْ َهقُ ُوجُو َه ُهمْ َقتَرٌ وَل ذِلّ ٌة أُوَل ِئ َ
حْسنُوا ا ْل ُ
حَن َأ ْ
( لِّلذِي َ
صمٍ
س ّيئَةٍ ِب ِمثِْلهَا َوتَرْهَ ُق ُهمْ ذِلّةٌ مَا َل ُهمْ ِمنَ اللّهِ ِمنْ عَا ِ
جزَاءُ َ
ت َ
س ّيئَا ِ
سبُوا ال ّ
فِيهَا خَاِلدُونَ وَاّلذِينَ َك َ
ن ) (. )1
صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُو َ
ل ُمظْلِما أُوَل ِئكَ َأ ْ
شيَتْ ُوجُو ُه ُهمْ ِقطَعا ِمنَ الّليْ ِ
غَِكَأ ّنمَا ُأ ْ
عذَابٌ
حدُودَ ُه ُي ْدخِلْهُ نَارا خَالِدا فِيهَا وََلهُ َ
ن َيعْصِ اللّهَ َو َرسُولَهُ َو َي َت َعدّ ُ
فِيهَا َوذَِلكَ الْ َف ْوزُ ا ْل َعظِيمُ َومَ ْ
صبَرُوا ا ْب ِتغَاءَ َوجْهِ َر ّب ِهمْ وََأقَامُوا الصّلةَ وََأنْفَقُوا ِممّا َرزَ ْقنَا ُهمْ
ن َ
حسَابِ وَاّلذِي َ
ن سُو َء ا ْل ِ
َو َيخَافُو َ
ص َب ْرتُمْ
ل بَابٍ سَلمٌ عََل ْي ُكمْ ِبمَا َ
ج ِهمْ َو ُذ ّريّاتِ ِهمْ وَا ْلمَل ِئكَةُ َي ْدخُلُونَ عََل ْيهِمْ ِمنْ كُ ّ
ن آبَا ِئهِمْ وََأزْوَا ِ
مِ ْ
ن يُوصَلَ
ن مَا َأ َمرَ اللّ ُه بِ ِه أَ ْ
طعُو َ
ع ْهدَ اللّهِ ِمنْ َب ْعدِ مِيثَاقِهِ َويَ ْق َ
ن َينْ ُقضُونَ َ
َفنِ ْعمَ عُ ْقبَى الدّارِ وَاّلذِي َ
. ()1
سدُونَ فِي ا ْلَأرْضِ أُوَل ِئكَ َل ُهمُ الّل ْعنَةُ وََل ُهمْ سُوءُ الدّارِ )
َويُ ْف ِ
بلى ! فكيف إذن تنفصل الدنيا عن الخرة ،ويصبحان طريقين منفصلين ؟!
كل ! إنه طريق واحد ،أوله في الدنيا وآخره في الخرة ..وهو طريق ذو جانبين
ولكنه موحد التجاه نحو الخرة ..جانب منه يسلكه أصحاب العمل الصالح فيصل بهم إلى
الجنة ،والجانب الخر يسلكه أهل السوء فيفضي بهم إلى العذاب .ولكنه موحد غير منقطع
ن أَوِْليَاءَ
شيَاطِي َ
خذُوا ال ّ
حقّ عََل ْي ِهمُ الضّللَ ُة ِإ ّن ُهمُ ا ّت َ
( َكمَا َبدََأ ُكمْ َتعُودُونَ َفرِيقا َهدَى َو َفرِيقا َ
. ()2
ن اللّ ِه )
ن دُو ِ
مِ ْ
بل وصل من اتصال الدنيا بالخرة في حس المسلمين الوائل أنهم كانوا يعيشون
بواقعهم في الحياة الدنيا ،ولكن مشاعرهم وأفكارهم متعلقة بالخرة ،يعيشونها كأنها حاضر
لقد كان من شدة التركيز في القرآن على البعث والحساب والجزاء ،ومن الحيوية
الفياضة في عرض مشاهد القيامة في القرآن ،أن عاش المسلمون بحسهم وخيالهم في اليوم
الخر كأنما يرونـه أمامهم اللحظة ويعيشون أحداثه ،بل كأنما الدنيا بكل واقعها ماضٍ قد
. ()1
سمُومِ ِإنّا ُكنّا مِنْ قَ ْبلُ َندْعُو ُه ِإنّ ُه هُ َو ا ْل َبرّ ال ّرحِيمُ )
عذَابَ ال ّ
َو َوقَانَا َ
وبهذا اليمان الراسخ باليوم الخر إلى درجة اليقين ،وبهذه الحيوية في العرض ،التي
تهز الوجدان من أعماقه ،كان الواحد منهم يعيش لحظته الحاضرة ،ثم يعيش -في التوّ -
جزاءها في الخرة ! ها هو ذا يعمل العمل في هذه اللحظة في الحياة الدنيا ،ثم يتصور
موقعه من الجنة حين يكون عمله في طاعة ال .ثم ها هو ذا يعمل العمل في هذه اللحظة في
الحياة الدنيا -أو يهم به -ثم ينظر -في خوف وإشفاق -ليرى موقعه من النار إذا كان
ومن ثم صلحت أعمالهم في الحياة الدنيا -في غالبيتها العظمى -بل ارتفعت إلى تلك
لم يكونوا ملئكة ،ول كان مطلوبا منهم أن يخرجوا عن بشريتهم ..والبشر كلهم
عرضة للخطأ إل المعصومين عليهم صلوات ال وسلمه .ولكنهم -إذا أخطأوا -سرعان
ن َيغْ ِفرُ
س َتغْ َفرُوا ِل ُذنُو ِب ِهمْ َومَ ْ
سهُمْ َذ َكرُوا اللّ َه فَا ْ
( وَاّلذِينَ ِإذَا فَعَلُوا فَاحِشَ ًة أَ ْو ظََلمُوا َأ ْن ُف َ
جنّاتٌ
جزَاؤُ ُهمْ َمغْ ِفرَةٌ ِمنْ َر ّب ِهمْ َو َ
ك َ
ن أُوَل ِئ َ
ب إِلّا اللّ ُه وََلمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُو َ
ال ّذنُو َ
. ()2
ن)
ن فِيهَا َو ِنعْ َم َأجْ ُر ا ْلعَامِلِي َ
ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِي َ
ن َت ْ
َتجْرِي مِ ْ
ومن ثم كذلك كانت الدنيا والخرة في حسهم حسبة واحدة متصلة ،ل حسبتين
منفصلتين !
حقا إن الدنيا ذمت في القرآن ،ولعنت على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
ونصح الناس بالتخلي عن حبها والتعلق بها ..ولكن في أي مجال جاءت هذه التوجيهات في
القرآن والحديث ؟
لقد جاءت في مجالين اثنين :حين تكون الدنيا -أي حبها والتعلق بها -حاجزا بين
الناس وبين اليمان بال واليوم الخر ،أو حاجزا بينهم وبين الجهاد في سبيل ال .
. ()2
حيَا ُة ال ّد ْنيَا فِي الْآخِرَ ِة إِلّا َمتَاعٌ )
( َوفَ ِرحُوا بِا ْلحَيَا ِة ال ّد ْنيَا َومَا ا ْل َ
ن آيَا ِتنَا
ن ُهمْ عَ ْ
طمََأنّوا ِبهَا وَاّلذِي َ
حيَاةِ ال ّد ْنيَا وَا ْ
ن لِقَا َءنَا َو َرضُوا بِا ْل َ
ن ل َي ْرجُو َ
( ِإنّ اّلذِي َ
. ()3
سبُونَ )
ك َمأْوَا ُهمُ النّارُ ِبمَا كَانُوا َيكْ ِ
ن أُوَل ِئ َ
غَافِلُو َ
صدّونَ عَنْ
حيَاةَ ال ّد ْنيَا عَلَى الْآخِرَ ِة َويَ ُ
ن ا ْل َ
حبّو َ
س َت ِ
شدِي ٍد اّلذِينَ َي ْ
ب َ
عذَا ٍ
ل لِ ْلكَا ِفرِينَ مِنْ َ
( وَ َويْ ٌ
. ()4
سبِيلِ اللّهِ َو َي ْبغُو َنهَا عِوَجا أُوَل ِئكَ فِي ضَللٍ َبعِيدٍ )
َ
وهذه وأمثالها واردة في حب الدنيا الذي يصرف الناس عن اليمان بال واليوم الخر .
أما حب الدنيا الذي يصرف عن الجهاد في سبيل ال بالنفس والموال فقد جاء فيه
حتّى
سبِيلِهِ َف َت َربّصُوا َ
جهَادٍ فِي َ
ن اللّهِ َو َرسُولِهِ َو ِ
ب إَِل ْي ُكمْ مِ َ
ن َترْضَ ْو َنهَا َأحَ ّ
ن َكسَادَهَا َو َمسَاكِ ُ
خشَوْ َ
َت ْ
. ()2
َي ْأتِيَ اللّ ُه ِبَأمْرِهِ وَاللّهُ ل َي ْهدِي ا ْلقَ ْومَ ا ْلفَاسِقِينَ )
ل ِم ْنهُمْ َوقَالُوا
س َتأْ َذ َنكَ أُولُوا الطّوْ ِ
ن آ ِمنُوا بِاللّهِ َوجَا ِهدُوا مَعَ َرسُولِ ِه ا ْ
( وَِإذَا ُأ ْنزِلَتْ سُورَ ٌة أَ ْ
. ()3
يَفْ َقهُونَ )
سهِمْ فِي
ن ُيجَاهِدُوا ِبَأمْوَاِل ِهمْ وََأ ْن ُف ِ
( َفرِحَ ا ْل ُمخَلّفُونَ ِبمَ ْق َعدِ ِهمْ خِلفَ َرسُولِ اللّهِ َو َكرِهُوا أَ ْ
. ()4
حرّا َلوْ كَانُوا يَفْ َقهُونَ )
شدّ َ
ج َه ّنمَ َأ َ
ل نَارُ َ
حرّ قُ ْ
سبِيلِ اللّهِ َوقَالُوا ل َتنْ ِفرُوا فِي ا ْل َ
َ
والمتحدث عنهم في تلك اليات جميعا هم إما من الكفار الخلص ،وإما من المنافقين ،
الذين يتظاهرون بالسلم نفاقا ورياء ولكنهم في دخيلة أنفسهم غير مؤمنين ،وهم في الدرك
ن الصّلةَ إِلّا
( َومَا َم َن َعهُمْ َأنْ ُت ْقبَلَ ِم ْن ُهمْ نَفَقَا ُت ُهمْ إِلّا َأ ّن ُهمْ كَ َفرُوا بِاللّهِ َو ِب َرسُولِهِ وَل َي ْأتُو َ
ن فَل ُت ْعجِ ْبكَ َأ ْموَاُل ُهمْ وَل أَوْلدُ ُهمْ ِإ ّنمَا ُيرِيدُ اللّ ُه ِل ُي َعذّ َب ُهمْ
ن إِلّا وَ ُهمْ كَارِهُو َ
وَ ُهمْ ُكسَالَى وَل ُينْفِقُو َ
. ()2
ن)
س ُهمْ وَ ُه ْم كَا ِفرُو َ
حيَاةِ ال ّد ْنيَا َو َتزْ َهقَ َأنْ ُف ُ
ِبهَا فِي ا ْل َ
وفي هذين المجالين تذم الدنيا للسباب الواضحة المبينة في اليات ..
حقيقة الموقف أن الدنيا هنا منفصلة في حس صاحبها عن الخرة ،إما لنه ل يؤمن بها
أصل ،وإما لن اعتقاده بها ضعيف مبهم متداخل ،ل يكوّن في حسه صورة واضحة ،ول
والقضية في حسه على هذا النحو :جنة يوعد بها -على غير إيمان منه ،أو إيمان
يستوي وجوده وعدمه -ذات تكاليف في النفس والمال ،وقعها في حسه أنها حرمان من
المتاع ،لنه ل يريد أن يكتفي بالقدر الذي أباحه ال ،إنما يريد أن يسترسل مع شهواته ،ول
يستخدم جهاز " الضبط " الذي وهبه ال إياه ليتحكم في هذه الشهوات .وفي مقابل ذلك متاع
قائم بالفعل ،هو مسترسل فيه إلى أقصى المدى ،ويقال له إن استمتاعه به على النحو الذي
وحين صارت القضية على هذا النحو ،وصار الخيار بين الجنة الموعودة مع الحرمان
من المتاع الزائد عن الحد ،وبين المتاع الطاغي مع الحرمان من الجنـة في الخرة
. ()2
خ ْيرٌ وََأ ْبقَى )
خرَةُ َ
حيَاةَ ال ّد ْنيَا وَالْآ ِ
ن ا ْل َ
ل تُ ْؤ ِثرُو َ
( بَ ْ
. ()3
ى َل ُهمْ )
( وَاّلذِينَ كَ َفرُوا َي َت َم ّتعُونَ َو َي ْأكُلُونَ َكمَا َت ْأكُلُ ا ْلَأ ْنعَامُ وَالنّارُ َمثْو ً
وقد آثر أن يستمتع بما بين يديه من المتاع الزائد عن الحد ،لن الحرمان منه أشد لذعا
في حسه من العذاب الذي توعده ال به ،إما لنه ل يؤمن بالخرة أصل ،فالعذاب المتوعد
به في حسه وهم ل حقيقة له ،وإما لنه ضعيف اليمان بالخـرة ،ومن ثم فإن ذلك
العذاب ،المنبهم في خياله ،أخـف وزنا في حسه من العذاب القريب الـذي يحدثه حرمانه
وفي الحالين هي حالة غير سوية ،تختل الموازين فيها في حس صاحبها ،لنه ل
أو هو كالعشى الذي ل تتضح في نظره إل المشاهد القريبة ،فتكون وحدها هي ذات
الوقع الواضح على جهاز التلقي عنده ،أما المشاهد البعيدة فهي مختلطة مبهمة متداخلة غير
. ()1
ن َأ ّن ُهمْ ُم ْه َتدُونَ )
سبُو َ
حَسبِيلِ َو َي ْ
ال ّ
إن النسان السوي -بادئ ذي بدء -ل يغلق روحه دون عالم الغيب ،ول يحصر
نفسه في محيط ما تدركه حواسه فحسب ،فقد زوده خالقه سبحانه -لكي يعينه على القيام
بمهمة الخلفة التي خلقه من أجلها -بقدرتين متقابلتين ،يؤدي بكل منهما جانبا من مهمة
الخلفة ،ويتوازن بهما معا فل يفقد توازنه من هنا ول من هناك .إحداهما هي اليمان بما
تدركه الحواس والثانية هي اليمان بالغيب .وبالقدرة الولى يتعامل مع واقع الحس القريب ،
ومع الكون المادي من حوله ،فيتعرف على خواص المادة ،ويستثمر علمه في تحقيق ما
سخر ال له من طاقات السماوات والرض من أجل تحسين أحواله على الرض .وبالقدرة
الثانية يتعامل مع الحقائق التي ل يدركها حسه -وإن كان يدرك آثار وجودها -والتي هي
مفطور على اليمان بها ،والتعامل معها ،والرتباط بها ،كحقيقة اللوهية ،وحقيقة النبوة
والوحي اللهي ،وحقيقة البعث والجزاء ،ليقوم بالجانب الخر -الهم في الحقيقة -وهو
إقامة العمارة المادية للرض على مقتضى المنهج الرباني ،فل تكون مجرد عمارة مادية ،
ول تكون محصورة في مطالب الجسد وملذاته ،إنما ترتفع لتكون " حضارة " بالمعنى الحقيقي
للحضارة .أي عمارة تحيط بها قيم عليا ،توجهها الوجهة اللئقة " بالنسان " ،الذي خلقه ال
من قبضة من طين الرض ونفخة من روح ال ،ول يتحقق مقتضى النفخة الروحية فيه إل
بهذه القيم المستمدة من الوحي الرباني ،والتي يبقى النسان بدونها غارقا في الطين ،ل يقدر
على الرتفاع عنه ،لنه يعطل في نفسه جهاز الرتفاع والتحليق ..
نظام حياته من المنهج الرباني -ترتسم القضية في حسه بصورة مختلفة ..
ففي الحياة الدنيا قدر من المتاع أباحه ال ..أباحه منذ هبط آدم وزوجه إلى الرض :
. ()1
ستَ َقرّ َو َمتَاعٌ إِلَى حِينٍ )
عدُوّ وََل ُكمْ فِي ا ْلَأرْضِ ُم ْ
( َوقُلْنَا ا ْه ِبطُوا َب ْعضُ ُكمْ ِل َبعْضٍ َ
هذا القدر الذي حدده ال بعلمه وحكمته ،يعلم سبحانه أنه هو القدر المناسب للكيان
البشـري ،الذي يعينه على القيام بدور الخلفة في الرض دون أن يدمر هذا الكيان أو
يعطبه .وفي الوقت ذاته يتمثل فيه البتلء الذي خلق النسان له .فقد خلق ال الكيان البشري
. ()2
حيَا ِة ال ّد ْنيَا ) ..
حرْثِ ذَِلكَ َمتَاعُ ا ْل َ
ل ا ْل ُمسَ ّومَةِ وَا ْلَأ ْنعَامِ وَا ْل َ
خيْ ِ
وَا ْل َ
. ()4
حدُو ُد اللّ ِه فَل َت ْع َتدُوهَا )
( تِ ْلكَ ُ
ومن رحمته حدد له تلك الحدود التي علم سبحانه أنها تحقق القدر المعقول من المتاع
دون أن تعطب كيان النسان ،ولكن نقطة البتلء هي تزيين الشهوات له بحيث يرغب في
ولكن ال وقد حدد للنسان هذا القدر من المتاع لمصلحـة النسان ذاته -وال هو
الغني -لم يترك النسان ليتعذب بالحرمان ،بين حب الشهوات المزين له ،وبين القيود
المفوضة عليه -ولو أنها لمصلحته -وإنما وهب له أداة عظيمة النفع ،عظيمة التأثير ،
يستطيع بها أن " يضبط " منطلق شهواته دون أن يحس بلذع الحرمان ،بل يحس -عن
طريقها -بالرفعة والقتدار ..الرفعة عن مباذل الشهوة ،والقتدار على الضبط ،فيعوضه
هذا الحساس العظيم عما قد يحسه في مبدإ المر من الحرمان ،حتى يتعـود فل يعود يحس
به ..
: ()1
تلك الداة العظيمة هي " القلب " أو " العقل " أو " الفؤاد "
ن ) (. )2
َلعَّل ُكمْ َتشْ ُكرُو َ
ونقطة البتلء في المر كله هي :هل يستخدم النسان هذه الداة العظيمة التي وهبها
ال له ،فيضبط منطلق شهواتـه ،ويرتفـع بذلك الضبط إلى المستوى اللئـق له ،وينشئ
" الحضارة " بمعناها الحقيقي ،ويحقق دور الخلفة الراشدة ..وينال فوق ذلك كله الجزاء
الوفى في الخرة ،في الجنة التي " فيها ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب
)(1ترد هذه اللفاظ مترادفة في اللغة العربية وكذلك يرد اسم القلب أو الفؤاد في القرآن بمعنى العقل .
سورة النحل [ . ] 78 ()
2
سورة الحج [ . ] 46 ()
3
بشر " ( )1أم يلقي هذه الداة العظيمة جانبا ،وينساق مع شهواته ،فيهبط وينتكس ،ويدمر
نفسه فردا وجماعة على المدى القريب أو المدى البعيد ،ول ينشئ " الحضارة " الحقيقية
اللئقة به ،ول يحقق الخلفة الراشدة في الرض ،وفضل عن ذلك كله يتعرض للعقاب
غ ْيرَهَا
ضجَتْ جُلُودُ ُهمْ َبدّ ْلنَا ُهمْ جُلُودا َ
ن كَ َفرُوا بِآيَا ِتنَا سَ ْوفَ ُنصْلِيهِمْ نَارا كُّلمَا َن ِ
( ِإنّ اّلذِي َ
جنّاتٍ
س ُندْخُِل ُهمْ َ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َ
حكِيما وَاّلذِينَ آ َمنُوا وَ َ
عزِيزا َ
ن اللّ َه كَانَ َ
ب إِ ّ
ِل َيذُوقُوا ا ْل َعذَا َ
وإذا كانت هذه هي القضية في حس النسان السوي فالموقف الذي تمليه الحكمة ،
ويتناسب مع " الفؤاد " الذي وهبه ال له ،أن يكتفي بالقدر المباح من المتاع ل يتجاوزه إلى
ما حرم ال ،فتستقيم حياته في الدنيا ،وينجو من عذاب ال الرهيب ،ويستمتع في الخرة
وهكذا كان المر في حس الجيال الولى التي تربت على المنابع الصافية لهذا الدين ،
كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم .وكانت الدنيا والخرة في حسهم -تبعا لذلك -
. ()3
ك اللّ ُه الدّارَ الْآخِرَ َة وَل َتنْسَ َنصِي َبكَ مِنَ ال ّد ْنيَا )
( وَا ْبتَغِ فِيمَا آتَا َ
ل فَا ْمشُـوا فِي َمنَا ِكبِهَا َوكُلُـوا ِمنْ ِرزْقِهِ وَإَِل ْيهِ
ل َل ُكمُ ا ْلَأرْضَ ذَلُو ً
جعَ َ
( ُهوَ اّلذِي َ
. ()4
الّنشُـورُ )
ولكن هذا التوازن الجميل الذي أنشأه السلم في النفس البشرية ،وحققته الجيال
الولى من المسلمين ذلك التحقيق الرائع .الذي وعاه التاريخ ،والذي أثر في الواقع البشري
هذا التوازن الجميل بدأ يختل بعد تلك الجيال الولى ،وإن كان الخلل في هذه المرة قد
وقع في التجاه المقابل تماما لما كان عليه في الجاهلية العربية ..
إيمانهم بالخرة والبعث والجزاء ،ومن ثم إيثار الحياة الدنيا ؛ وهو الن انفصال الدنيا في
حس الناس عن الخرة لستصغارهم شأن الحياة الدنيا واحتقارها ،ومن ثم إيثار الخرة !
ولول وهلة يبدو هذا المر هو عين اليمان ! وهو الواجب الذي ينبغي للمرء المؤمن
أن يسعى إليه ،وحين يصل إليه يدون قد بلغ الذروة التي ما بعدها ذروة ،وحقق أروع ما في
وهذا ول شك هو الذي خطر في بال أولئك الذين آثروا الخرة على الدنيا على الصورة
التي قدمتها الصوفية ،التي انتشرت قرونا طويلة على امتداد الرض السلمية ،وما تزال
؟ ()1
ا ْلغُـرُو ِر )
هو الفائز حقا ،والمحقق لجوهر الدين حقا ،والضارب لروع المثلة حقا ؟! ()1
يعلمون "
ولكن عند التحقيق تتبين جوانب من المر قد تكون خافية لول وهلة ..
ول نتكلم الن عن شطحات الصوفية ،ول عن وحدة الوجود ،ول عن الحلول ،ول
ول نتكلم الن كذلك عن عبادة الضرحة والولياء ،وما انتشر حولها من بدع
وخرافات وأساطير ،وعن اتخاذ وسطاء بين العباد وبين ال ،وقد جاء هذا الدين لينفي
الوساطة كلها ،ويحرر القلب البشري منها ،ويعقد صلته بال مباشـرة بل وسطاء ول
شركاء :
لنتحدث الن عن هذه النحرافات كلها ،وعن الشرك الواقع فيها ،لن مجال حديثنا
الحاضر هو " مفهوم الدنيا والخرة " ،لذلك نتحدث هنا عما أفسدته الصوفية في هذا المجال
بالذات .
لقد اتكأ الصوفية كثيرا على اليات التي وردت في ذم الدنيا ،والحاديث التي وردت
خرَةَ َلهِيَ
ن الدّا َر الْآ ِ
حيَا ُة ال ّد ْنيَا إِلّا َلهْوٌ وََلعِبٌ وَإِ ّ
جاء في سورة العنكبوت ( آية َ " : ) 64ومَا َهذِهِ ا ْل َ ()
1
حيَوَانُ َل ْو كَانُوا َيعَْلمُونَ " .
الْ َ
سورة البقرة [ . ] 186 ()
2
. ()1
في لعنها
واتكأوا كذلك كثيرا على حال الزهاد من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
الذين هجروا متاع الحياة الدنيا ولم يتعلقوا بشيء منه .
واتكأوا كذلك كثيرا على أن التعلق بالدنيا يؤدي في حياة المؤمن إلى المعصية التي
تجلب عليه غضب الرب ،وتعرضه للعذاب في الخرة ،وقالوا :إنه ل سبيل إلى درء
المعاصي إل باحتقار الدنيا وازدرائها ،والخروج من زخرفها وزينتها ،والبعد عنها قدر
المستطاع ..
فأما اليات فقد وردت -كما قلنا -في حق الكفار والمنافقين ..
وصحيح أن المؤمن يناله نصيب منها إن وقـع في بعض ما يقع فيه الكفار -وإن كان
ل يكفر بذلك ما دام محافظا على أصل اليمان -كما ورد في هذه الية التي تخاطب
المؤمنين :
. ()2
شيْءٍ َقدِيرٌ )
شيْئا وَاللّهُ عَلَى كُلّ َ
ضرّو ُه َ
وَ َيسْتَبْ ِدلْ َقوْما غَيْ َر ُكمْ وَل َت ُ
وكما كان سيدنا عمر -رضي ال عنه -في خوف دائـم من أن يناله قول ال تعالى :
مع ()4
ن ال ّنعِيمِ )
ن يَ ْو َم ِئذٍ عَ ِ
وقوله تعالى ُ ( :ث ّم َل ُتسْأَلُ ّ ()3
حيَا ِتكُمُ ال ّد ْنيَا )
ط ّيبَا ِتكُمْ فِي َ
( َأذْ َه ْبتُمْ َ
كقوله صلى ال عليه وسلم " :الدنيا ملعونة ،ملعون ما فيها ،إل ذكر ال أو عالم أو متعلم " رواه ابن ()
1
ماجه والترمذي .
)(2سورة التوبة [ . ] 39 - 38
سورة الحقاف [ . ] 20 ()
3
سورة التكاثر [ . ] 8 ()
4
علمه بأنهما نزلتا في حق الكفار ..
والتعلق بالدنيا ،الذي يؤدي إلى الغفلة عن الخرة ،أمر ل يقبله ال من مؤمن ول
ولكن هذا كله شيء ،واعتبار الدنيا والخرة معسكرين متقابلين إن اتجه النسان
لحدهما انفصل -بالضرورة -عن الخر ،ومن ثم ينبغي الختيار بينهما لختيار أحدهما
: ()1
ولنستمع لقول رب العالمين
ل فَا ْمشُوا فِي َمنَا ِكبِـهَا َوكُلُـوا ِمنْ ِرزْقِهِ وَإَِل ْيهِ
ل َل ُكمُ ا ْلَأرْضَ ذَلُو ً
جعَ َ
( ُهوَ اّلذِي َ
. ()3
الّنشُـورُ )
. ()4
حيَاةِ ال ّد ْنيَا خَاِلصَةً َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة )
ا ْل َ
هو قول محكي عن قوم قارون ،ولكن السياق يدل على أنه قول مرضي عند ال . ()
1
سورة القصص [ . ] 77 ()
2
سورة الملك [ . ] 15 ()
3
سورة العراف [ . ] 32 ()
4
وقول رسول ال صلى ال عليه وسلم .. " :أل إني أعبدكم ل وأخشاكم له ،ولكني
أصوم وأفطر ،وأقوم وأنام وأتزوج النساء ،فمن رغب عن سنتي فليس مني " (. )1
وتقف وقفة خاصة عند قوله تعالى " :قل من حرم زينة ال التي أخرج لعباده " ..
فذكر الزينة في هذا المجال له دللته الخاصة .إذ الزينة جمال .والجمال شيء زائد
على الضرورة .أي أن الذي يبيحه ال -سبحانه وتعالى -لعباده ليس هو مجرد الضرورة
التي تحفظ الحياة على أي صورة كانت ،إنما هو شيء زائد على الضرورة ،يصل إلى
وفي القرآن إشارات جمة إلى " الجمال " تحمل هذه الدللة :
جةٍ
ت َب ْه َ
سمَاءِ مَاءً َفَأ ْن َب ْتنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَا َ
ن ال ّ
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ وََأ ْنزَلَ َل ُكمْ مِ َ
ن خََلقَ ال ّ
( َأمّ ْ
. ()2
جرَهَا )
شَن ُت ْن ِبتُوا َ
ن َل ُكمْ أَ ْ
مَا كَا َ
خرِجُ
جنَا ِمنْ ُه خَضِرا ُن ْ
شيْءٍ َفَأخْ َر ْ
ل َ
جنَا بِ ِه َنبَاتَ كُ ّ
خرَ ْ
سمَا ِء مَاءً َفَأ ْ
ن ال ّ
( وَهُ َو اّلذِي َأ ْنزَلَ مِ َ
ن وَالرّمّانَ
عنَابٍ وَال ّز ْيتُو َ
ن أَ ْ
جنّاتٍ مِ ْ
ن دَا ِنيَةٌ َو َ
ل مِنْ طَ ْل ِعهَا ِقنْوَا ٌ
حبّا ُمتَرَاكِبا َو ِمنَ ال ّنخْ ِ
ِمنْهُ َ
ن ) (. )4
يُ ْؤ ِمنُـو َ
ن ُترِيحُونَ
جمَالٌ حِي َ
( وَا ْلَأ ْنعَامَ خَلَ َقهَا َل ُكمْ فِيهَا ِدفْءٌ َو َمنَافِعُ َو ِم ْنهَا َت ْأكُلُونَ وََل ُكمْ فِيهَا َ
أما الحديث النبوي فيقرر أن العبادة التي يرضاها ال لعباده ل يدخل فيها المتناع البات
عن متاع الرض والنصراف الكامل عنه .وأن هذا المتناع ليس هو التعبير الصحيح عن
صدق العبادة والخشية ل .لن أعبد الخلق جميعا -عليه الصلة والسلم -وأخشاهم ل ل
يفعل ذلك ،ول يأمر به ،بل يعتبر من يقوم به راغبا عن سنته صلى ال عليه وسلم ،وينذره
بأنه حائد عن الطريق " :فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
أما الزهاد الذين احتج بهم الصوفية فهم على طريق آخر غير طريق الصوفية !
ولقد يشتبه المظهر لول وهلة بين الزاهد والصوفي من بعض الجوانب .
كلهما مترفع عن المتاع ،منصرف عنه أكثر وقته .وكلهما صارف همه إلى أنواع
نعم ..ولكنهما يفترقان بعد ذلك ! ويكاد يصل الفتراق بينهما إلى طرفي نقيض !
يفترقان في نوع العبادة التي يتجه كل منهما إليها ..أي أنهما في الحقيقـة يفترقان في
" مفهوم العبادة " ،ومن ثم يفترقان في منهج الحياة ،وفي منهج السلوك .
إن المتناع عن بعض الشهوات يحتاج بادئ ذي بدء إلى عزيمة قوية ،لبناء " السد "
الذي يقف في وجه هذه الشهوات .ثم إن هذا المتناع ذاته ،حين يقف في وجه التيار المتدفق
للشهوات ،يجمّع في النفس طاقة هائلة ،رفيعة في ذاتها ،تتجه إلى مستويات أعلى ،وتنطلق
مستواه ،فيصل إلى مستويات لم يكن يصل التيار إليها في مجراه الصلي ..
وإلى هنا تتشابه " العملية النفسية " التي تنشأ عن الزهد ،والتي تنشأ عن التصوف ..
وتتجمع في نفس الزاهد وفي نفس الصوفي طاقة نفسية هائلة ،رفيعة المستوى ،قابلة للتوجه
فأما زهاد الجيل الول ،وعلى رأسهم سيد الزهاد -صلى ال عليه وسلم -فقد علمنا
الجهاد في سبيل ال .الجهاد لتكون كلمة ال هي العليا .الجهاد ليكون الدين كله ل .
الجهاد لقامة العدل الرباني في واقع الرض .الجهاد لقامة المجتمع المثالي الذي يحقق في
عالم الواقع ما يتخيله الناس في عالم المثال .اليجابية الهائلة التي تغير الواقع المنحرف ،
وتنشئ بدل منه الواقع السوي .المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،اللذان هما رسالة المة
آفاق عالية ،تنطلق فيها الطاقة المخزونة التي رفعها الزهد ،فتنشئ في عالم الواقع
بناء شامخا يبهر النظار ،فيسري نوره في الرض ،فيضيء من ظلمات البشرية ما قدر ال
أن يستضيء ..ويسري النور في نصف قرن فيضيء ما بين المحيط في الغرب إلى ما وراء
هذا ،والزهاد -وعلى رأسهم رسول ال صلى ال عليه وسلم -ل يحرّمون المتاع ،
إنما يرتفعون فوقه ،فل يعود يشغلهم عن الجهاد في تلك الفاق العالية التي يجاهدون فيها ،
ول عن الهداف العالية التي يعملون بطاقتهم اليجابية كلها لتحقيقها في عالم الواقع .
وحين تجد الزوج الودود عائشة -رضي ال عنها -رسول ال -صلى ال عليه وسلم
-ينام على عباءته فوق الرض اليابسة فتشفق عليه ،فتطبق له العباءة طبقتين لتكون ألين
لجسده الشريف ،يغضب -عليه الصلة والسلم -ويأمرها أن تعيدها كما كانت ،ليظل
على درجته الرفيعة من التبتل إلى ال ،ل يشغله هذا " اللين " النسبي عن توفير طاقته كلها
للجهاد في سبيل ال .ومع ذلك فهو -صلى ال عليه وسلم -الذي قال " :ولكني أصوم
وأفطر ،وأقوم وأنام ،وأتزوج النساء ،فمن رغب عن سنتي فليس مني ! " .
أما الصوفية فماذا صنعـوا بتلك الطاقة الهائلة التي وفرها في نفوسهم ترفعهم عن
المتاع ؟!
لقد صرفوها إلى نوع آخر من الجهاد ..جهاد الشيطان في داخل النفوس .وأوّلوا في
سبيل ذلك كل آيات الجهاد الواردة في كتاب ال ،حتى تلك التي تشمل ألفاظا صريحة تنص
وجهاد الشيطان مأمور به ول شك ..ومن تحصيل الحاصل أن نقول :إن ذلك الجيل
الفريد الذي حقق في عالم الواقع ما حقق من ال ُمثُل الرفيعة ،قد جاهد الشيطان وظفر في
جهاده له بأكبر نصر عرفه التاريخ .ولكنهم ما جعلوا معركتهم مع الشيطان هي نهاية
المطاف ..حتى بعد أن انتهى سلطانه من نفوسهم بشهادة العليم الخبير :
ن ِإ ّنمَا سُ ْلطَانُهُ عَلَى اّلذِينَ
ن آ َمنُوا َوعَلَى َر ّبهِمْ َي َت َوكّلُو َ
( ِإنّ ُه َليْسَ َل ُه سُلْطَانٌ عَلَى اّلذِي َ
. ()1
ن)
َيتَوَلّ ْو َنهُ وَاّلذِينَ ُه ْم بِ ِه ُمشْ ِركُو َ
وهو وصف يصدق على المؤمنين جميعا ،ولكنه يصدق بصفة خاصة على الذين شهد
. ()2
ل ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِليْ ِه مِنْ َربّهِ وَا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ ) ..
( آ َمنَ ال ّرسُو ُ
حتِهَا
ن َت ْ
جرِي مِ ْ
جنّاتٍ َت ْ
( أُوَل ِئكَ َكتَبَ فِي قُلُو ِب ِهمُ ا ْلأِيمَانَ وََأ ّيدَ ُهمْ ِبرُوحٍ ِمنْ ُه َو ُيدْخُِل ُهمْ َ
. ()3
ا ْلمُفِْلحُونَ )
إنما كانت معركتهم مع الشيطان وظفرهم عليه هي نقطة النطلق التي ينطلقون منها
إلى البناء ..إلى الجهاد ..إلى المر بالمعروف والنهي عن المنكر ..إلى إقامة العدل الرباني
في الرض ..إلى دك حصون الشرك وإقامة حصون اليمان ..إلى إزالة الطواغيت وإقامة
وما كانوا يستطيعون أن يقوموا بشيء من هذا كله لو لم يبدأوا بجهاد الشيطان داخل
نفوسهم ،أو لو بقيت معركتهم مع الشيطان معلقة بغير نصر حاسم عليه ..ولكنهم لم يتوقفوا
قط عند معركتهم تلك مع الشيطان ليقولوا :هنا غاية الغاية ونهاية المطاف !
لقد كانت سبيل الصوفية في معركتهم مع الشيطان هي قتل " النفس " التي يأوي إليها
الشيطان حتى ل يجد له مأوى فينصرف ! فإنما مأواه هو الشهوات المزينة للنسان ،يظل
ينفث فيها وينفخ فيها حتى تشتعل ،فيعجز صاحبها عن إطفائها فتزداد اشتعال ! أما إذا ماتت
الشهوات فما عاد للشيطان مأوى في النفس يأوي إليه ،وما عاد يستطيع أن يقوم بدوره الذي
يضطلع به :
لذلك يظل الصوفي " يجاهد " ،ويتحمل في سبيل ذلك الجهد ،حتى يظفر أخيرا بقتل
أما الزاهد فليست سبيله في معركته مع الشيطان هي " قتل النفس " بقتل الشهوات .
إنما سبيله التي يستمدها من المنهج الرباني ،هي " تحصين النفس " من غواية الشيطان
جهد الطاقة ،مع البقاء على حيويتها من أجل عمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني ،ومن
إن هذه الدوافع التي أوجدها ال في النفس النسانية لم يوجدها عبثا ،إنما أوجدها
. ()2
س َت ْعمَ َر ُكمْ فِيهَا )
شَأ ُكمْ مِنَ ا ْلَأرْضِ وَا ْ
( ُهوَ َأ ْن َ
ولحكمة ما خلقه من قبضة من طين الرض ،ثم نفخ فيه من روحه ،ولم يخلقه -كما
ن رُوحِي فَ َقعُوا
ن فَِإذَا سَ ّو ْيُتهُ َونَ َفخْتُ فِي ِه مِ ْ
( ِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَ ِة ِإنّي خَاِلقٌ َبشَرا ِمنْ طِي ٍ
ن ) (. )3
لَ ُه سَاجِدِي َ
ومع قبضة الطين وجدت في النفس البشرية تلك الشهوات المزينة للنسان :
. ()4
حيَا ِة ال ّد ْنيَا ) ..
حرْثِ ذَِلكَ َمتَاعُ ا ْل َ
ل ا ْل ُمسَ ّومَةِ وَا ْلَأ ْنعَامِ وَا ْل َ
خيْ ِ
وَا ْل َ
ولكنها بالنفخة العلوية لم تعد طينا معتما ،ومتعة حسية غليظة كمتعة الحيوان ،إنما
صار لها -وهي طين بعد -شفافية روحية تقيها من عتامة الطين ،وتشع فيها قيما ومبادئ
وأهدافا وآفاقا جديرة " بالنسان " الذي كرمه ال وفضّله :
ويعلم الخالق اللطيف الخبير أن هذه " الشهوات " أو قل " الدوافع " لزمة للوجود
البشري ،لتدفعه إلى العمل والنتاج والنجاز والنشاط والحركة والبناء والتعمير -التي هي
مقتضى الخلفة في الرض -حتى ل تقف الحواجز والموانع -وهي كثيرة -دون تحقيق
كما يعلم سبحانه أنه ل بد لها من الضبط لكي ل تتحول عن وظيفتها السوية وتصبح
والمنهج الرباني هو الذي يحدث التوازن المطلوب ،الذي يضبط هذه الشهوات دون أن
وصحيح أن هذه " الدوافع " أو قل " الشهوات " هي نقطة البتلء في حياة النسان :
ل ) (. )2
عمَ ً
حسَنُ َ
جعَ ْلنَا مَا عَلَى ا ْلَأرْضِ زِينَ ًة َلهَا ِل َنبْلُوَ ُهمْ َأ ّي ُهمْ َأ ْ
( ِإنّا َ
وهذا هو الجانب الذي لمحته الصوفية فركزت عليه ..إذ رأت أن النسان يسقط في
البتلء من جانب شهواته ،وأنه إذا استطاع أن يقضي عليها ويقتلها فقد نجح في البتلء ..
ولكنهم أغفلوا الحكمة من إيجادها ،ومن ضرورة البقاء عليها حية في نفس النسان ،
مع ضرورة ضبطها ما وسع النسان الجهد ..كما يقضي بذلك المنهج الرباني كما أنزله ال
إن النسان ل يستطيع أن يكون نورا خالصا كما تشتهي الصوفية من جهادها الضخم
مع الشهوات !
وفي الوقت ذاتـه هل يكون النسان قد قام بالعبادة المطلوبة منه -المفصلة على قده
-لو نجـح في الوصول إلـى الشفافية النورانية الروحية بقتـل الجسد وإماتة ()2
هو
الشهوات ؟!
روحه خفيفة من ثقلة الجسد ،طليقة من جذب الشهوات ،فترتاد عوالم ل يقدر عليها اللصق
لكن يقع الصوفي من جانب آخر في خدر لذيذ يخيّل إليه أنه " واصل " ..ومن هنا ل
يعمل ! لنه إذا كان العمل هو وسيلة الوصول للنسان " العادي " ،وهو قد وصل بالفعل ،
فما حاجته بعد إلى الوسيلة ! إنما يسعى إلى الوسيلة من لم يتمكن من " الوصول " ..أما
وهكذا تلتقي في نفس الصوفي عوامل كثيرة تصرفه عن العمل في واقع الحيـاة ..عن
" الجهاد " الذي يخوضه الزاهد لقامة منهج ال في الرض ..لتكون كلمة ال هي العليا ..
العامل الول هو نظرته للدنيا -وهي في حسه منفصلة عن الخرة -على أنها السجن
الذي يسعى إلى الخلص منه ،بانطلقة الروح التي تخلصت من ثقلة الجسد ،فاتصلت بالنور
وحين تكون الدنيا هي السجن ..فهل يسعى السجين قط إلى عمارة السجن ،وهو يعاني
إنما ينصرف بفكره عنه ..ول يعنيه ما تلف منه أو تهدم ..ول يسعى إلى إصلح
والعامل الثاني هو انعدام " الرغبة " ..بسبب انعدام " الدوافع " التي تحرك الرغبات ..
إنما " يرغب " النسان في الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ..أو " يرغب "
في القوة ..أو " يرغب " في التملك ..أو " يرغب " في العلم ..أو " يرغب " في الغلبة ..أو
" يرغب " في المكانة ..أو " يرغب " في السبـق ..أو " يرغب " في البناء الحسّي أو
المعنوي ..فيتحرك ..يتحرك لتحقيق ما يعتمل في نفسه من رغبات ،بصرف النظر عن
فأما حين يكون َهمّ الرياضة الروحية هو قتل تلك الرغبات " لتخليص " النفس منها ..
فلي شيء يتحرك ؟ لي شيء يسعى ؟ وهو ل يطلب شيئا من هذه الدنيا كلها ..وإن طلب
فمجرد القوت الذي يحفظ الحياة ..وبأقل قدر من المئونة التي تحفظ الحياة ؟!
وأما العامل الثالث فهو تلك الشراقات الروحية ،أو إن شئت قل ذلك الخدر الذي يخيّل
لصاحبه أنه " واصل " ..أو قل لذة الفناء التي تحدث الوجود !
وأيّا سميتها ..فهي شعور يوحي للنفس بالرضى والكتفاء ..الكتفاء بما هو حاصل ..
وعدم الرغبة في شيء بعد ! أو إن رغب فإنما يرغب في " مقامات " أعلى ..فيبذل مزيدا
من الرياضة الروحيـة ..مزيدا من قتل النفس لكي تحيا ..مزيدا من الفناء الذي يحدث
الوجود !
وحين تجتمع تلك العوامل الثلثة ،مضافا إليها المفهوم السلبي لعقيدة القضاء والقدر ،
الذي ل يسعى إلى تغيير شيء مما وجد بالفعل -أيا كان سوؤه -لنه وجد بقدر من ال !
حين تجتمع تلك العوامل كلها في نفس الصوفي فأي شيء يدفعه للحركة في خضم
الحياة الموّار ؟! إنما قصاراه -إن تحرك -أن يتحرك ليتجنب اللجة ،لكي ينعم في الرض
بالسلم !
وأخيرا تتكئ الصوفية -كما أسلفنا -على فتنة الدنيا التي تؤدي إلى الوقوع في
المعاصي ،والتي ل تتقى إل بقتل شهوات النفس ،لكي تبتعد عن مزالق الشيطان ..
ويجدون في هذا المجال وفرة من توجيهات القرآن ،ووفرة من توجيهات الرسول صلى
. ()1
ا ْلغَـرُورُ )
. ()1
حيَا ُة ال ّد ْنيَا وَل َيغُ ّر ّن ُكمْ بِاللّ ِه ا ْلغَرُو ُر )
حقّ فَل َت ُغ ّر ّنكُمُ ا ْل َ
عدَ اللّهِ َ
شيْئا إِنّ َو ْ
وَاِلدِ ِه َ
صبَحَ
ختََلطَ بِ ِه َنبَاتُ ا ْلَأرْضِ َفَأ ْ
سمَا ِء فَا ْ
ن ال ّ
حيَاةِ ال ّد ْنيَا َكمَا ٍء َأ ْنزَلْنَا ُه مِ َ
( وَاضْرِبْ َل ُه ْم َمثَلَ ا ْل َ
. ()2
ل شَيْ ٍء مُ ْق َتدِرا )
َهشِيما َت ْذرُوهُ ال ّريَاحُ َوكَانَ اللّهُ عَلَى كُ ّ
شدِيدٌ
ب َ
عذَا ٌ
حطَاما َوفِي الْآخِرَةِ َ
ن ُ
ج َفتَرَا ُه ُمصْ َفرّا ُثمّ َيكُو ُ
ب ا ْلكُفّارَ َنبَاتُهُ ُثمّ َيهِي ُ
عجَ َ
ث أَ ْ
غيْ ٍ
َك َمثَلِ َ
. ()3
حيَاةُ ال ّد ْنيَا إِلّا َمتَاعُ ا ْل ُغرُورِ )
ن اللّهِ َو ِرضْوَانٌ َومَا ا ْل َ
َو َمغْ ِفرَ ٌة مِ َ
" ...فو ال ما الفقر أخشى عليكم ،ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما
بسطت على من كان قبلكم ،فتنافسوها كما تنافسوها ،وتلهيكم كما ألهتهم " (. )4
وعن أبي ذر -رضي ال عنه -قال " :كنت أمشي مع النبي -صلى ال عليه وسلم
-في حرة المدينة فاستقبلنا أحد ،فقال :يا أبا ذر ! قلت :لبيك يا رسول ال .قال :ما
يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي عليّ ثالثة وعندي منه دينار ،إل شيئا أرصده
لدين ،إل أن أقول به في عباد ال هكذا وهكذا وهكذا -عن يمينه وعن شماله ومن خلفه .ثم
مشى ثم قال :إن الكثرين هم المقلون يوم القيامة إل من قال هكذا وهكذا وهكذا ،عن يمينه
. ()5
وعن شماله ومن خلفه .وقليل ما هم "
ولقد سمع الصحابة -رضوان ال عليهم -هذه التحذيرات في كتاب ال المنزل ،وفي
زائل ،وأن الخرة هي النعيم الحقيقي الذي يستحق أن يحرص عليه ،فزهدوا في كثير من
ولكنه -كما أسلفنا -ذلك الزهد اليجابي المقدام البنّاء ،الذي يدفع أصحابه إلى الجهاد
والمجالدة والمواجهة ،ل إلى النحسار في داخل النفس .وهو -كما أسلفنا كذلك -الزهد
إن هذه التحذيرات جاءت للتذكير ،حتى ل يفتن الناس بالدنيا وينسوا الخرة ،ولم
تجيء لمنع ممارسة الحياة في الدنيا ،أو منع الحركة والنشاط والعمل فيها ..
إنها أشبه بلفتات تنبه الناس إلى الخطر عند منزلقات الطريق ..ل لكي يمتنعوا عن
السير ! وإنما ليحذروا النزلق ! فإذا جاء قوم فقالوا :ل نسير في هذا الطريق لن هناك
لفتات تحذّر من النزلق ،فقد بالغوا ول شك في الحذر حتى وصل بهم الحذر إلى القعود !
ل على السير ويحاول أن يتقي المزالق .أما الخائف فإنه يكف عن
والواثق من نفسه يُ ْقبِ ُ
المسير !
وانظر إلى هذا الحديث من أحاديث الرسول صلى ال عليه وسلم :
" والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا فتستغفروا لذهب ال بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون
. ()1
فيغفر ال لهم "
كل بالقطع !
يحض الناس على إتيان الذنوب ،وهو الذي يدعو الناس إلى طاعة ال والبتعاد -قدر الطاقة
-عن الذنوب !
فحين يمارس النسان العمـل في واقع الحياة فإنه يتعرض لوقوع الذنـوب منه ل
محالة !
()1
" كل بني آدم خطاء " ..
وعندئذ يكون سبيل المؤمن الذي يعمل في واقع الحياة ثم يقع منه الذنب أن يستغفر :
ن َيغْ ِفرُ
س َتغْ َفرُوا ِل ُذنُو ِب ِهمْ َومَ ْ
سهُمْ َذ َكرُوا اللّ َه فَا ْ
( وَاّلذِينَ ِإذَا فَعَلُوا فَاحِشَ ًة أَ ْو ظََلمُوا َأ ْن ُف َ
جنّاتٌ
جزَاؤُ ُهمْ َمغْ ِفرَةٌ ِمنْ َر ّب ِهمْ َو َ
ك َ
ن أُوَل ِئ َ
ب إِلّا اللّ ُه وََلمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُو َ
ال ّذنُو َ
. ()2
ن فِيهَا وَ ِن ْعمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ )
ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِي َ
ن َت ْ
َتجْرِي مِ ْ
أما الذي ل يذنب أبدا -إن وجد هذا النسان قط -فهو الذي ل يعمل أبدا ! وتكون
خطيئته الكبرى -التي ل يتنبه لها -هي أنه ل يعمل !! وهي خطيئة ثقيلة في الميزان ،
ليست البراعة أن يحمل النسان فوق رأسه سلة مملوءة بالشياء ،ثم يجلس ساكنا ل
يتحرك أي حركة لكي ل يقع من السلة شيء ! لنه مهما بذل من الجهد وتحمل من المشقة في
إنما البراعة أن يتحرك الحركة المطلوبة والسلة فوق رأسه ل تقع على الرض ،ول
يتبعثر ما فيها من الشياء ! فإذا وقع منه شيء -رغم الجهد والمحاولة ،والنية السليمة -
فهنا يتفضل ال سبحانه بالعفو والمغفرة لمن لم يتهاون في المر ،ولم يستصغر وقوع ما وقع
منه ،ولم يصرّ على ما فعل ،بل سارع بالتذكر وسارع بالستغفار .
وهنا تتبدى رحمة ال بالنسان حتى وهو مذنب ،ما دام قائما بالعمل المطلوب منه ،
وما دام الخطـأ يقع منه في أثناء أدائه للواجبات ،ل في أثناء قعوده أو إعراضه عن
الواجبات !
وتتبدى كذلك عظمة المنهج الرباني في التعامل مع " النسان " ..
ليس المطلوب من النسان -في المنهج الرباني -أن يقتل رغباته لكي يسلم من
ارتكاب الذنوب -وهو ل يسلم أبدا في الحقيقة ! -لن ذلك يعطل جوانب كثيرة من مهمة
إنما المطلوب منه أن يعمل ويتحرك -في جميع المجالت المتاحة المباحة -ليعمر
فتمتلئ الرض بالنشاط والحركة ،والنماء والقوة ،مع النظافة بقدر ما يطيق البشر ..
وهذا هو " إصلح الرض " كما ورد في التعبير القرآني :
ثم يحدث الصراع والدفع في واقع الرض ،لرد الرض إلى الصلح إذا أفسد فيها
المفسدون :
. ()2
ا ْلعَاَلمِينَ )
جدُ ُي ْذكَرُ
ض ُهمْ ِب َبعْضٍ َل ُه ّدمَتْ صَوَامِعُ َو ِبيَعٌ َوصَلَوَاتٌ َو َمسَا ِ
س َبعْ َ
( وَلَوْل دَفْعُ اللّهِ النّا َ
. ()3
عزِيزٌ )
ن اللّ َه لَ َق ِويّ َ
صرَنّ اللّهُ َمنْ َي ْنصُرُ ُه إِ ّ
سمُ اللّهِ َكثِيرا وََل َي ْن ُ
فِيهَا ا ْ
وهكذا يقوم الفرد المسلم والمة المسلمة بمهمتهما في الرض ..ول تنتهي هذه المهمة
وهكذا يكون الفرد المسلم والمة المسلمة قد قاما " بالعبادة " المطلوبة -في نطاقها
فأما " الزهاد " فقد قاموا بالمر على مستوى الحسان :
" قال :وما الحسان ؟ قال :الحسان أن تعبد ال كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه
وأما الصوفية فقد انصرفوا إلى الصلة والصيام و " الذكر " ..وقالوا :هذه هي
ثم ! ..
بالكفاف .
وانصرفوا عن التقدم المادي لنه زخرف الحياة الدنيا المؤدي إلى التهلكة !
وانصرفوا عن مصارعة الباطل ومحاولة إزهاقه ،لن ال قد أقام العباد فيما أراد ،
ولو أراد غير ذلك لكان ،وحين يريد فإنه سيغير من عنده ويخلق السباب ..
ول يستقيم أمر الدين على هـذا النحو ،ول يستقيم حال المة كـذلك ،ول تستطيع أن
تؤدي رسـالتها الكبرى التي ناطـها ال بها ،وهي أن تكون هـادية ورائـدة لكـل
البشـرية :
. ()1
شهِيدا )
َ
وحين يسعى كل إنسان إلى الرزق بالقدر الذي يكفيه لعيشة الكفاف ،فمن أين تجد
الدولة " الفائض " الذي تنفقه في سبيل ال ،والذي تنفذ به هذا المر الرباني :
ع ُدوّ اللّـهِ
ن بِهِ َ
ل تُرْ ِهبُـو َ
خيْـ ِ
ط ا ْل َ
ن قُوّةٍ َو ِمنْ ِربَا ِ
طعْتُـمْ مِ ْ
س َت َ
عدّوا َل ُهمْ مَا ا ْ
( وَأَ ِ
()1
عدُ ّو ُكمْ ) ..
َو َ
وحيـن ل يكون هناك علم أرضي ،ول تقدم مادي ،فكيف تعد القوة التي ترهب
العداء ؟
وحين ينتشر المرض فل ُيدَاوَى ،جهلً بالطب من ناحية ،وقعودا عن التداوي من
ناحية أخرى بدعوى التسليم بقدر ال والرضا به ،فكيف توجد الجسام القوية التي تحمل
كل ! إن هذا المر الرباني -وحده -فضل عن أوامر ربانية كثيرة أخرى يستلزم
يستلزم أن يقبل الناس على العلم الدنيوي فيتمكنوا فيه ،ويتفوقوا فيه على العداء .وأن
يسعوا إلى التقدم المادي ويتفوقوا فيه على العداء .وأن يكون في أيديهم مال وفير ،ينشئون
وأن يكون عندهم " إنتاج " وفير في كل مجال وفي كل ميدان .
حقا إن الزهد في متاع الحياة الدنيا هو القمة في السلوك اليماني ،وهو أرفع ما يصل
فالمؤمن الحق ينتج بأقصى طاقته في المجال الذي يعمل فيه ،ثم يستهلك لنفسه أقل قدر
من الطيبات ،والباقي ينفقه في سبيل ال .وبذلك يتكافل المجتمع ويترابط ،فيحمل القادرون
منه غير القادرين ،وتتقارب معيشة الناس فل يوجد الغنى الطاغي ول الفقر المدمر ..ثم تجد
الدولة الفائض الذي يعينها على أداء رسالة السلم .ولن تؤدي رسالتها حتى تكون قوية
وما نريد أن نظلم الصوفية فنحملها وحدها وزر الضعف والتخلف الذي أغرى العداء
بالهجوم من كل صوب ،حتى تحقق النذير الذي أنذر به رسول ال -صلى ال عليه وسلم -
" يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلة إلى قصعتها .قالوا :أمن قلة نحن
. ()1
يومئذ يا رسول ال ؟ قال :إنكم يومئذ كثير ،ولكنكم غثاء كغثاء السيل "
فقد كان مع الصوفية الفكر الرجائي ،والستبداد السياسي ،والتفلت من التكاليف ،
لنشر الدعوة ،ومن قاد الجيوش لقتال العداء ،ومن وقف للسلطان الجائر يرده عن ظلم
والنحرافات -حين عـزّ العلماء ،ولم يعد للعامة باب يلجون منه إلى الدين إل باب
. ()1
الصوفية
كما أنهم هم الذين حفظوا شيئا من ترابط المة المسلمة حين فرقتها السياسة والحرب ،
ولكن هذا الجهد الذي بذلوه كله ل ينفي عنهم خطأ المنهج الذي أدى إلى فساد المفاهيم :
فصل الدنيا عن الخرة ،ووضعهما في موضع التضاد والتقابل ،بحيث يصبح التعامل
وحصر العبادة في الشعائر التعبدية ،والتركيز عليها ،وإهمال المفهوم الشامل للعبادة ،
حين دخل رسول ال -صلى ال عليه وسلم -المدينة أمر ببناء المسجد ..ثم وجه
الصحابة -رضوان ال عليهم -إلى السوق ..وقد كانت السوق يومئذ في يد اليهود ،ولهم
هناك صولة القتصاد قائم ًة على الربا وأكل أموال الناس بالباطل .فهل أمر الزاهد العظيم -
صلى ال عليه وسلم -أصحابه الزاهدين أن يزهدوا في أمور القتصاد -وهي في حس
المتأخرين من أمور الدنيا -ليفوزوا بالخرة ،ويدعوا السيطرة القتصادية لليهود ،تزيد من
الحقيقة أن هناك تناسبا عكسيا بين وجود الصوفيـة ووجود العلماء .فكلما كثر العلماء انحسرت ()
1
الصوفية ،وكلما ع ّز العلماء انتشرت الصوفية !
إن توجيه رسول ال -صلى ال عليه وسلم -للصحابة أن يجاهدوا لنزع السيطرة
فالمسجد ،الذي بدأ ببنائه ،هو الذي تقام فيه الصلة المعلِنة عن قيام أمة ل إله إل ال
ممكنـة في الرض ..وهو الذي تتربى فيه المة على هدي رسول ال -صلى ال عليه
وسلم -ويقضى فيه بين المسلمين ،وتقرر فيه سياستهم ،وسلمهم وحربهم ..والسوق هي
التي تقام فيها الحياة القتصادية التي تقوم عليها حياة المة المسلمة :
()1
جعَلَ اللّ ُه َل ُكمْ قِيَاما )
( َأمْوَاَل ُك ُم اّلتِي َ
ول بد من هذه وتلك ،ليتكامل كيان المة التي تدعو إلى الخير ،وتأمر بالمعروف ،
. ()2
ا ْلمُفِْلحُونَ )
أما استخلص جانب من العبادة التي فرضها ال على النسان -وهو الشعائر التعبدية
-والزعم بأنها وحدها هي المؤدية إلى الفوز في الخرة ،وإهمال الجانب الخر من العبادة
على زعم أنه جانب أرضي متعلق بالحياة الدنيا ،وأن في إهماله قربى إلى ال ..فقد كان أهم
ما تركوه ،وأخطره أثرا في حياة المة ،هو المقتضى الواقعي لل إله إل ال ! أو قل بعبارة
الحقيقي ،وتحولها إلى كلمة تقال باللسان ،بغير دللة ول رصيد واقعي .وحصر مفهوم
العبادة في شعائر التعبد .وتحوّل عقيدة القضاء والقدر إلى سلبية وقعود عن الخذ بالسباب ،
وتخل عن دور النسان اليجابي في الرض .ووضع الدنيا والخرة موضـع التقابل
حين وقعت كل هذه النحرافات في حياة المة لم يكن غريبا إذن أن يختل مفهومها عن
لقد كان فهم الجيال الولى من المسلمين للحضارة مستمدا من روح السلم ،ومتفردا
فإذا كانت جاهليات معاصرة لمولد السلم وسابقة له ولحقة قد ركزت على المعنى
الروحي للحضارة ،وأهملت الحياة الدنيا ،وأهملت العمارة المادية للرض ،بوصفها أمورا
ألصق بالحس ،وأقرب إلى متاع الجسد ،والجسد ملعون ومحتقر ومستقذر ..
وإذا كانت جاهليات أخرى معاصرة لمولد السلم وسابقة له ولحقة قد ركزت على
الجانب المادي للحضارة ،وأهملت الخرة ،وأهملت عالم الروح ،بوصفهما أمورا شخصية
ل علقة لها بالواقع العملي ،بل بوصفهما -في كثير من الحيان -معوقات لنطلق
الحضارة ( ! ) وأكبّت على عالم الحس وعالم المادة ،تبدع فيهما كل عبقريتها ،وتصب
فإن السلم -المنزل من عند ال اللطيف الخبير ،خالق النسان والعليم بأحواله
وحاجاته ،وما يصلحه وما يصلح له -هو المنهج الشامل الكامل ،الذي ل يهمل جانبا من
جوانب النسان ،ول يلبي جانبا منه على حساب جانب آخر ،والذي يستجيب للفطرة السوية
ن رُوحِي فَ َقعُوا
ن فَِإذَا سَ ّو ْيُتهُ َونَ َفخْتُ فِي ِه مِ ْ
( ِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَ ِة ِإنّي خَاِلقٌ َبشَرا ِمنْ طِي ٍ
ن ) (. )1
لَ ُه سَاجِدِي َ
هذا التكوين النساني المترابط ،الذي ل تنفصل فيه قبضة الطين عن نفخة الروح ،ول
نفخة الروح عن قبضة الطين ،له مفهوم حيوي شامل لعالم الجسد وعالم الروح ،وينبغي أن
يكون له واقع حيوي يتسم بذات الشمول والترابط المتمثل في تكوين " النسان " .
والمنهج الرباني هو الذي يرسم خطوط هذا الواقع الحيوي ويرسم تفصيلته .
شمول لكل جوانب النسان والحياة البشرية ،وربط وثيق بينها ،وموازنة بين شتى
جوانبها .
وتلك عظمة السلم ،وتلك مزيته على المناهج الجاهلية التي تحكم حياة الناس في
معزل عن العقيدة الصحيحة ،أي في معزل عن ل إله إل ال ،والتي يشملها قوله تعالى :
وحكم ال ليس مقصورا على إقامة الحدود ،كما أن حكم الجاهلية ليس مقصورا على
القوانين التي يتحاكم الناس إليها في المحاكم ..إنما حكم ال شامل لكل صغيرة وكبيرة في
حياة النسان ،سواء كان مما يصل إلى القضاء أو ل يصل إليه ،بل سواء كان عمل ظاهرا
أو نية مضمرة في الضمير .وكذلك حكم الجاهلية ليس محصورا في تلك القوانين التي تحكم
المخالفات والجنح والجنايات ،أو المعاملت المدنية أو المعاملت التجارية ..الخ ..إنما هو
كذلك نظم ومؤسسات وأفكار وسلوك ومشاعر ،قائمة كلها بمعزل عن ل إله إل ال ،وعن
ومن ثم فإن الحضارة وعمارة الرض ذات صلة وثيقة بل إله إل ال ،والمنهج المنزل
تحقيق غاية الوجود النساني هو الذي تنشأ عنه الحضارة في الواقع البشري .وهو
فحين تكون غاية الوجود النساني هي الفناء في الكائن العظم كما تقول " النرفانا " ،
أو الخلص من ربقة الجسد وإطلق الروح لتتحد مع الخالق ..تصبح الحضارة هي تحقيق
عالم الروح على حساب الجسد ،وعلى حساب الجانب المادي من عمارة الرض .
وحين تكون غاية الوجود النساني هي الستمتاع بما في الرض من متاع ،بصرف
النظر عن القيم المصاحبة لهذا المتاع من حلل وحرام ،وخير وشر ،وفضيلة ورذيلة ،
ورفعة وانتكاس ..تكون الحضارة هي العمارة المادية للرض ،وهي تيسير الحياة الرضية
وتزيينها ،والنكباب على متعها ولذائذها ،وتكون في الوقت ذاته هي محاولة التغلب على
الخرين للستئثار بأكبر قدر من المتاع ،ومحاولة إخضاعهم بالقوة والقهر ،سواء بالقوة
المادية أو القوة العسكرية أو القوة السياسية أو القوة القتصادية أو القوة العلمية ..أو كلها
جميعا ..
وحين تكون الغاية هي عبادة ال -على المعنى الواسع الشامل للعبادة الذي بيناه من
قبل ( - )1يكون مفهوم الحضارة مختلفا عن هذا المفهوم وذاك ،وكذلك يكون تفسير التاريخ ،
لن المعيار الذي يقوم على أساسه التفسير ،هو مدى تحقيق النسان لغاية وجوده ،ومدى
سبق أن بينا في فصل مفهوم العبادة أن ال -من رحمته -جعل النشاط الطبيعي
للنسان في جميـع مجالته :الجسدية والعقلية والروحية عبادة ما دام يتوجه به النسان إلى
وهذا النشاط ذاته هو الذي ينشئ الحضارة ..وما الحضارة إل منجزات ذلك النشاط
وحين ندقق في المر فليس كل نشاط للجسد أو العقل أو الروح يشكّل حضارة ،أو
يكون جزءا من الحضارة -وهذا أمر واضح بالبداهة -إنما هو النشاط الهادف ،الذي يهدف
فالمشي في الرض أو الحفر فيها ل يشكل في ذاته نشاطا حضاريا .ولكن المشي
الهادف ،الذي يهدف مثل إلى كشف مجاهل الرض لسكناها وعمارتها ،والحفر الهادف
لخراج كنوز الرض وتصنيعها من أجل تلك العمارة ،هذا هو الذي يمكـن أن يشكل
وكذلك نشاط العقل ونشاط الروح ،يشترط فيهما لكي يشكل حضارة أن يكونا هادفين ،
وأن يكون هدفهما في الوقت ذاته متجها إلى تحقيق غاية الوجود النساني ،وليس معاكسا
ومن هنا نستطيع أن نقول -واثقين -أن ما تنتجه الجاهليات من منجزات مادية أو
عقلية ( أو روحية أحيانا ) ليس حضارة حقيقية ،وإن بدا رائعا وضخما أحيانا ،وإن بهر
أعيننا لول وهلة ،لنه يفقد هذا الشرط الساسي الذي يجعل من النشاط البشري والمنجزات
البشرية حضارة ،وهو أن يكون هدفها متجها إلى تحقيق غاية الوجود النساني ،وليس
عزلة عنه ،ل يحقق غاية الوجود النساني كاملة كما بينها المنهج الرباني .وإن تحقيق
الجانب الحسي والمادي من النسان والحياة البشرية على حساب الجانب الروحي وفي عزلة
عنه ،ل يحقق كذلك غاية الوجود النساني ،بل يتجه به إلى الدمار والبوار ..ومن ثم
فكلهما ل يشكل حضارة بالمفهوم الصحيح للحضارة .أو إنه يشكل " حضارة جاهلية " إن
كما أن اجتماع الجانبين معا ولكن على غير قاعدة صحيحة -كما حدث في الجاهلية
الفرعونية التي شملت عالم المادة وعالم الروح ،ولكن على قاعدة تأليه الفرعون والعبودية له
من دون ال -ل يشكل كذلك حضارة بالمفهوم الصحيح .أو إنه -كما أسلفنا -يشكل
إنما الحضارة الصحيحة هي التحقيق السوي لغاية الوجود النساني في الرض ،التي
ت ا ْلجِنّ وَا ْلِأنْسَ إِلّا ِل َي ْعبُدُونِ ) ( )1وفسرها قوله تعالى ( قُلْ إِنّ
حددها قوله تعالى َ ( :ومَا خَلَقْ ُ
إن الصلة والنسك جزء من المفهوم السلمي للحضارة ،بمدلولهما الحقيقي ،
. ()3
ومقتضاهما الحقيقي
وإن إقامة شريعة ال في الرض ،والحكم بما أنزل ال ،وهو المقتضى المباشر لل إله
لتقيمه ،وقال لها سبحانه في توجيهاته لها وإعداده إياها لحمل هذه المانة الكبرى ( :يَا َأ ّيهَا
ن اللّ َه كَانَ
غ ِنيّا َأوْ فَقِيرا فَاللّهُ َأوْلَى ِب ِهمَا فَل َت ّت ِبعُوا ا ْلهَوَى َأنْ َت ْعدِلُوا وَِإنْ تَلْوُوا أَ ْو ُتعْ ِرضُوا َفإِ ّ
َ
سطِ وَل
ش َهدَاءَ بِالْ ِق ْ
ن لِلّ ِه ُ
ن آ َمنُوا كُونُوا قَوّامِي َ
وقال ( :يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ ()1
خبِيرا )
ن َ
ِبمَا َت ْعمَلُو َ
وإن إقامة الحياة كلها -بكل ألوان النشاط فيها -على قاعدة أخلقية مدارها تقوى ال
وخشيته ..فتكون السياسة ذات أخلق قائمة على حكم ولي المر بشريعة ال ،والسمع
والطاعة من المة لولي المر فيما يأمر به موافقا لشريعة ال ،والنصح ل ورسوله ،والمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ،والتعاون على البر والتقوى ،وعدم التعاون على الثم
والعدوان ،وإقامة المر على الشورى التي أمر بها ال ..ويكون القتصاد له أخلق ،قائمة
على اللتزام بما أحله ال ،وتحريم ما حرم ال من ربا واحتكار وغش وسلب ونهب ،وسرقة
وغصب ،وأكل مال الجير ،وأكل أموال الناس بالباطل ،وقائمة على تطهير المال بأداء
الزكاة ،والنفاق في سبيل ال ،وعدم النفاق في ترف أو سرف أو معصية أو مخيلة ..
وتكون علقات المجتمع ذات أخلق قائمة على التواد والتحاب والتكافل ،والتعاون على البر
والتقوى ،وحرمة الدم والعرض والمال ،وكظم الغيب والعفو عن الناس ،والكف عن الغمز
واللمز والغيبة والنميمة والتجسس والطلع على العورات ..وتكون علقات السرة ذات
أخلق ..وعلقات الجنسين ذات أخلق ..إن إقامة الحياة كلها على هذه القاعدة الخلقية
وإن طلب العلم ،سواء العلم بدين ال وأحكامه ،أو العلم بسنن ال في الكون وخواص
المادة ،الذي يعين على استخلص ما سخر ال للنسان من طاقات السماوات والرض ،
واستخدامها في عمارة الرض ،أو العلم بسنن ال في الحياة البشرية ،التي يقوم على أساسها
مجتمع صالح ،أو العلم بالتاريخ البشري وما فيه من فترات الهدى والضلل ،والنتائج
المترتبة على كل منهما في واقع الحياة البشرية ..إن هذا العلم بمختلف فروعه واتجاهاته ،
وإن إقامة فنون نظيفة ،تلتفت إلى الجمال في الكون وفي الحياة البشرية وتعبر عنه في
أداء جميل ..فنون ل تزين الفاحشة لن الفاحشة ليست جمال ولكنها هبوط .ول تزين لحظة
الضعف لنها ليست جمال إنما هي لحظة غفلة عن إدراك غاية الوجود النساني ،أو لحظة
تقصير في تحقيق ذلك الوجود .ول تزين النحراف والشذوذ لنه ليس جمال ،وإنما هو
نشاز نافر عن الجمال ،ول تزين عبادة الشيطان وعبادة الهوى والشهوات ،لنها ليست
جمال ،وإنما هي حطة للنسان الذي كرمه ال وفضله ،وأراد له أن يتحرر من كل عبودية
زائفـة تزري بكيانه وتستذله ..إن إقامة مثل هذه الفنون جزء من المفهوم السلمي
. ()1
للحضارة
وهذا كله ،وما كان في مثل اتجاهه ،هو الجانب المعنوي من الحضارة في المفهوم
السلمي .
ثم إن هناك جانبا ماديا للحضارة النسانية يشمله المفهوم السلمي ،وهو جانب ضخم
راجع إن شئت كتاب " منهج الفن السلمي " . ()
1
كذلك .
فلئن كان النسان مخلوقا لعبادة ال ،فإن عمارة الرض هي جانب من مفهوم العبادة
. ()1
علٌ فِي ا ْلَأرْضِ خَلِي َفةً )
( وَِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ ِإنّي جَا ِ
. ()2
س َت ْعمَ َر ُكمْ فِيهَا )
شَأ ُكمْ مِنَ ا ْلَأرْضِ وَا ْ
( ُهوَ َأ ْن َ
وإذا اعتبرنا إقامة ل إله إل ال في الرض ،أي إزالة الشرك ،وإقامة التوحيد ،
وإقامة العدل الرباني والخلق اليمانية جانبا من " العمارة " ،لن الرض ل تعمر حقا إل
تحت المظلة اليمانية التي تقيها من النحراف والفساد والشر ..فإن الجانب الخر هو العمارة
وهذا الجانب من العمارة يحتاج إلى كدح ذهني وعضلي لتحقيقه .يحتاج إلى معرفة
خواص المادة والسنن الربانية التي ُيجْري ال بها هذا الكون ( والتي يسمونها في الجاهلية
وحين تعتبـر الجاهلية المعاصرة هذا الجانب هو الحضارة ،أو هو أهم ما في
الحضارة ،وأبرز منتجات النسان ،فإن السلم يشترط شرطا واحدا لدخال هذه النجازات
في مدلول الحضارة ،هو أن تكون كلها قائمة وفق المنهج الرباني ،غير حائدة عن
مقتضياتـه ..
)(3ذلك حين كفرت الجاهلية المعاصرة بال ،وعبدت الطبيعة بدل منه !
إن استخلص الطاقات الكونية -على ضرورته -ليس هو أهم ما يقوم به النسان
على الرض ،ولو وصل به إلى القمر أو إلى المريخ .إنما الهم من ذلك هو الغاية الكامنة
وحين نقول " :الهم " يفهم بعض الناس أننا نقول " البديل " ! يعني أننا نضع القيم
المعنوية بديل من القيم المادية ! و ل يقول بهذا عاقل ! فالقيم المعنوية وحدها ل تمل المعدات
الخاوية إن لم يكن هناك خبز ،ول تسيّر السيارات والقطارات والطائرات إن لم يكن هناك
وقود ،ول تصنع المدفع والدبابة والصاروخ إن لم تكن هناك مصانع وآلت .
تلك بديهيـة ل يحتاج النسان لذكرها ..ولكن هناك بديهية مقابلة لها ل تقل عنها
بداهة ،ول تقل عنها أهمية ،وإن جادلت فيها الجاهليات كثيرا ،والجاهلية المعاصرة بصفة
والدبابات والمدافع وحدها ل تصنع حضارة ،ول إنسانا متحضرا ،ول عمارة حقيقية
للرض ،لنها -وحدها -بدون " القيم " -تؤدي إلى الخراب !
وهذا الذي ل تصدقه الجاهلية المعاصرة أو ل تريد أن تصدقه رغم كل دللة التاريخ ،
بل رغم النذر التي تحيط بها هي ذاتها وتكتنفها من كل جانب ،وتشيع في صفوفها الخبال !
إن النسان -بكل النتاج المادي الذي ينتجه -يمكن أن يهبط أسفل سافلين إذا تخلّى
عن القيم التي تجعل النسان إنسانا وترفعه عن مستوى الحيوان ..
إن بين يديها أكبر قدر من " العلم " شهدته البشرية ،وأكبر قدر من النتاج المادي في
التاريخ .كما أن بين يديها من المخترعات والتيسيرات المادية ما لم يتجمع قط لي جيل من
أجيال البشرية ..
ضغطة زر واحدة صارت تصنع أشياء كثيرة ورائعة ..تدير آلة ضخمة .أو تنقل إليك
أخبار العالم في الذاعة المسموعة أو المرئيـة ..أو تنطلق بك في الفضاء إلى القمر أو
المريخ .
ابحث عنه شاردا في المراقص والحانات ،أو غارقا في شهوة جنس هابطة ،أو مجرما
يعتدي على المنين ،أو نزيل في أحد المصحات العقلية ،أو مترددا على إحدى العيادات
النفسية ،أو مصابا بالحيرة والقلق والضياع تفسد أعصابه وتدمر سعادته ..
وليس القضية هي وجود " حالت " من ذلك كله .فإنه ل يوجد مجتمع في الرض أيّا
كانت القيم التي يعيش عليها يخلو من حالت من تلك النواع .ولكن القضية هي النسب
المخيفة التي ترتفع إليها تلك الحالت حتى تصبح ظواهر اجتماعية ،ثم تصبح هي السمة
ذلك إذن هو المفهوم السلمي للحضارة ..حضارة " النسان " الخليفة في الرض ،
المخلوق من قبضة من طين الرض ونفخة من روح ال .إنه ليس ذلك الحيوان الدارويني
الذي يلفظ -بحكم تكوينه -كل القيم والخلق والمبادئ ،ول ذلك الله الزائف الذي يتبع
وعلى أساس هذا المفهوم قامت حضارة إسلمية متفردة في التاريخ .
قامت -عند مولدها -بأعظم قدر من القيم في تاريخ البشرية ،وبأقل قدر من المظاهر
المادية قامت عليه حضارة في التاريخ :مجموعـة من الخيام ،وبيوت الطين ،وبساتين
فهذا القدر من العمارة المادية للرض ل يتصور إنسان أنه ينشئ حضارة ،فضل عن
تلك الحضارة السامقة الفريدة .ولكن الفيض الهائل من القيم ،الذي ل مثيل له في التاريخ ،
مطبقا في صورة واقع ،ل في صورة شعارات أو ُمثُلٍ معلقة في الفضاء ،هو الذي عوض
هذا النقص في العمارة المادية وغطاه ،وأخرج " خير أمة أخرجت للناس " .
ومع أن هذه لم تكن الصورة النهائية لتلك الحضارة ،إنما كانت هي " المولد " فحسب ،
إل أن لنا وقفة عند هذه الصورة الفريدة التي شهدتها البشرية .وقفة تجيب على هذا التساؤل :
أي جانبي الحضارة يمكن أن يغطي النقص في الجانب الخر ويعوضه ( حين يوجد نقص
لسبب من السباب ) :أهو الجانب المعنوي -جانب القيم -أم الجانب الحسيّ المادي ؟!
إن التجربة السلمية الرائعة -في مقابل الجاهلية المعاصرة -تجيب إجابة حاسمة
على هذا التساؤل .فقد استطاع الفيض الهائل من القيم أن يعوض التخلف المادي ،ويخرج
خير جيل شهدته البشرية ،بشهادة ال وشهادة رسوله -صلى ال عليه وسلم -بينما لم
يستطع الفيض الهائل من النتاج المادي والعلمي والتكنولوجي أن يعوض التخلف الروحي
ولكن صورة " المولد " لم تكن هي الصورة النهائية ،وما كان ينبغي لهاأن تكون .
لقد كان كامنا في هذا المولد كل عناصر النماء والقوة التي برزت فيما بعد .
فهذا المولد الفذ هو الذي دفع هذه المة تبحث عن " العلم " في كل مصادره ،وتتعلم
اللغة اليونانية واللتينية ،وكل لغة للعلم في ذلك العصر ،لتترجم عنها ،ثم تنشئ حركتها
العلمية الذاتية فيما بعد ،التي كان أروع ما ابتكرته المنهج التجريبي في البحث العلمي ،الذي
قامت عليه -فيما بعد -حركة أوربا العلمية المعاصرة ،بما تعلمته في مدارس المسلمين .
وهو الذي دفع هذه المة إلى التعمير المادي والتنظيمي في الرض ،بما تشهد به المدن
السلمية وما حفلت به من صناعة وتجارة وحركة موارة .وما تشهد به نظم الدارة
والقضاء والحسبة ونظم التعليم ونظام الوقف والتنظيمات الحربية وديوان المظالم وديوان
وهو الذي دفع هذه المة أن تكشف مجاهل الرض ،وترسم الخرائط وتحدد المواقع ،
في حركة من أكبر حركات الكشف الجغرافي في التاريخ ،والتي على أساسها قامت حركات
الكشف الوربي فيما بعد ،بما فيها حركات فاسكوداجاما ،وكولومبوس ،وماجلن .
وهو الذي أنشأ التراث الفكري الهائل الذي تعجب له الجيال المعاصرة :كيف تم بهذه
وهو الذي أنشأ فنونا في الدب وفي العمارة وغيرها من ألوان الفنون ..
ولكن أهم ما تميزت به تلك الحضارة أنها قامت بكل ما قامت به من عمارة الرض
وهي تستظل بظل العقيدة الصحيحة ،بل تنطلق من مطلقاتها ،فتعمر ما تعمر في الرض
وهي تؤمن بال واليوم الخر ،وتحقق مقتضيات اليمان بال واليوم الخر من قيم وأخلق
وتلك مشكلة من مشاكل الكيان البشري والحياة البشرية ليس هنا مجال الحديث عنها ،
وإن كنا نلم بها إلمامة سريعة في مجال الحديث عن " مفهوم " الحضارة وعمارة الرض ..
إن المم تبدأ نشأتها متجمعة العزيمة مشحوذة الهمة متوفرة الجهد ،لنها تواجه تحديات
جمة .ومن شأن التحديات أن تشحذ الهمة وتستنفر الجهد وتجمّع العزيمة .وتمضي بضعة
أجيال حتى يتم " النجاز " بالصورة التي تحقق الوجود وتؤمّنه وتمكّن له ،وتتغلب على
التحديات ..وعندئذ يحدث نوع من الطمئنان إلى ما تم إنجازه بالفعل ،فيحدث معه نوع من
التراخي ،وفتور الهمة ،والنصراف إلى الدعة والترف ،وخاصة مع كثرة الموارد المالية
وتجيء الخطار والمة لهية في ترفها ،مشغولة بمتاع الرض القريب ،غير مقدّرة
للخطر الذي يقترب منها ،مخدوعة بقوتها ،أو مستنيمة لهواتف الراحة والسلمة والخلد
ل َفدَ ّم ْرنَاهَا
حقّ عََل ْيهَا ا ْلقَوْ ُ
ن ُنهِْلكَ قَ ْريَ ًة َأ َمرْنَا ُم ْت َرفِيهَا فَ َفسَقُوا فِيهَا َف َ
( وَِإذَا َأ َر ْدنَا أَ ْ
. ()1
َت ْدمِيـرا )
والسنن الربانية ل تحابي أحدا من الخلق ،مهما زعموا لنفسهم من مسوغات تسوغ
ل َأ ْن ُتمْ َبشَرٌ
ل فَلِمَ ُي َع ّذ ُب ُكمْ ِب ُذنُو ِبكُمْ بَ ْ
حبّا ُؤهُ قُ ْ
ت ا ْل َيهُودُ وَالّنصَارَى َنحْنُ َأ ْبنَا ُء اللّهِ وََأ ِ
( َوقَالَ ِ
()1
ِممّنْ خََلقَ ) ..
ولقد جرت السنة الربانية على المة السلمية حين جنحت إلى الترف وأخلدت إلى
. ()2
ت اللّ ِه َتحْوِيلً )
سنّ ِ
جدَ ِل ُ
سنّتِ اللّهِ َت ْبدِيلً وََلنْ َت ِ
جدَ ِل ُ
ن َت ِ
( ..فَلَ ْ
وكان الترف القتّال من جانب ،مصحوبا -أو متبوعا -برد فعل خطر على الجانب
الخر ،هو النزواء والنصراف عن العمارة المادية للرض ،وعن اتخاذ أسباب القوة
وبذلك كانت الحضارة تنهار من جانبيها في وقت واحد :الجانب الروحي والمعنوي -
جانب القيم والخلق والمبادئ -يفسده الترف المنحلّ ،والجانب المادي والحسيّ تفسده
ول الترف مقبول من المة المسلمة ،ول الطريق الصحيح لتقويمه هو النزواء
والنصراف عن عمارة الرض ،فقد كان كلهما من أسباب الضعف الذي أغرى أعداء
المة السلمية ،فجاءوا من الشرق والغرب يحاولون القضاء على دين ال .
النتاج المادي الصناعي والزراعي .ميدان السلوك الخلقي ..وكذلك -وقبل كل شيء -في
مجال العقيدة الصحيحة .في مفهوم العبادة ومفهوم ل إله إل ال (. )1
واستمر هذا الواقع عدة قرون ،والعالم السلمي ينحدر كل يوم ،وأعداؤه يتقوون على
حسابه ،ويتحولون من الدفاع إلى الهجوم ،ويقتطعون كل يوم قطعة من العالم السلمي ،
ثم استيقظ العالم السلمي على الصدمة ،حين وجد كل شيء في داخله ينهار ويقع في
لقد كان النهيار نتيجة طبيعية لكل ما حدث من انحراف خلل القرون .
الخواء الذي أصاب مفهوم ل إله إل ال .الخواء الذي أصاب مفهوم العبادة .السلبية
المتواكلة المريضة .النصراف عن وسائل القوة التي أمر ال بإعدادها لعداء ال .
ولكن الصدمة العنيفة -الموازية في شدتها لشدة الخواء -أحدثت هزيمة داخلية عنيفة
لم يفق منها " المسلمون المعاصرون " بعد ،إل الذين رجعوا إلى حقيقة هذا الدين ،ومارسوا
تلك الحقيقة في عالم الواقع ..تلك الهزيمة الروحية هي التي مهدت في نفوسهم لتقبل الغزو
ومن بين المفاهيم الضالة التي أدخلها الغزو الفكري في قلوبهم ورءوسهم مفهوم
لقد توهموا -بتأثير الغزو الفكري -أنهم تأخروا لنهم كانوا مسلمين !
راجع إن شئت فصل " خط النحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " . ()
1
وما أبعد هذا الوهم عن الحقيقة ! فيوم تأخروا ما كان أبعدهم يومئذ عن السلم ! وإن
. ()2
بعدهم عن حقيقة السلم لهو الذي أدى بهم إلى ذلك التخلف المعيب
ولكن هذا الوهم جعلهم يبحثون عن الحلول ل في إسلمهم -الذي انسلخوا منه -وإنما
وقالت لهم الجاهلية المعاصرة :إن الحضارة هي التقدم المادي والعلمي والتكنولوجي ،
والتيسيرات المادية التي تأخذ عن عاتق النسان ما كان يحمله من جهد فتحمّله لللة ،وما
وقالت لهم تلك الجاهلية -بلسان حالها وإن أنكرت في مقالها -إن القيم والخلق
وقام " المسلمون المعاصرون " يتحضرون ! قاموا ينفضون عن أنفسهم غبار التخلف ،
" يتحضرون " على النهج الغربي ،منسلخين أو نافرين من منهج ال .
قاموا يأخذون ببعض أسباب القوة المادية -على فتور ظاهر وتقاعس -بينما يغرقون
في الترف الغربي إلى أذقانهم ،في صورة بيوت حديثة ،وفراش وثير ،وسيارات
ودع عنك المفاسد الخلقية التي يقر الجميع بأنها مفاسد ،وإن كانوا في دخيلة أنفسهم
مسرورين بها ،راغبين في المزيد منها ،متطلعين إلى اليوم الذي تصبح فيه هي " العملة
وراجع إن شئت فصل " آثار النحراف " من نفس الكتاب . ()
2
السارية " ،فيمارسوا -باسم التحضر والتقدم -كل ما تصبو إليه نفوسهم من أرجاس ..
وخذ الجانب الحقيقي من التقدم المادي الذي يصبون إليه :عملية التصنيع ،وزيادة
ما قيمة ذلك كله بغير قيم ول مبادئ ول أخلق ؟! ما قيمته بغير " السلم " الذي
هل يحسبون أنهم سيخرجون بذلك من ذلتهم وهوانهم على الناس ؟!
فليسمعوا مقالة المؤرخ المعاصر " توينبي " عن تركيا أتاتورك :
" ولم يكتف التراك بتغيير دستورهم ( وهو شيء سهل نسبيا في مجال الصلح
الدستوري ) ،بل قامت الجمهورية التركية الوليدة بخلع المدافع عن الدين السلمي -الخليفة
-وألغت منصبه -أي الخلفة -وجردت رجال الدين المسلمين وحلت منظماتهم ،وأزالت
الحجاب عن رأس المرأة ،واستنكرت كل ما يرمز إليه الحجاب ،وأجبرت الرجال على
ارتداء القبعات التي تمنع لبسيها من أداء شعائر الصلة السلمية التقليدية ،بخاصة في
السجود ،وكنست ( )1الشريعة السلمية بأكملها ،وتبنت القانون المدني السويسري بعد أن
ترجمته إلى التركية ،وطبقت قانون الجرائم اليطالي ،وذلك بفرض هذين القانونين بعد
التصويت عليهما في المجلس الوطني ،وغيرت الحرف العربية بأحرف لتينية ،وهذا أمر
لم يتم إل بطرح القسم الكبر من التراث الدبي العثماني القديم ..
" ..ويجب على المراقب الغربي أن يراعي حدود اللياقة فل يغالط ول يسخر ،لن ما
يحاول " المقلدون " التراك القيام به هو تغيير وطنهم ومواطنيهم مما هم فيه ،إلى حالة كنا
علق المترجم " الدكتور نبيل صبحي " على هذه الكلمة بقوله -في الهامش " : -هذا هو تعبير المؤلف ()
1
..الديب !! " .
نحن -منذ التقاء الغرب بالسلم -ننتقدهم لعدم وجودها طبيعة فيهم .وها هم حاولوا -ولو
متأخرين -إقامة صورة طبق الصل لدولة غربية وشعب غربي .
" وعندما ندرك تماما هدفهم الذي رموا إليه ،ل نستطيع إل التساؤل بحيرة :هل يبرر
" من المؤكد أننا لم نكن نحب التركي التقليدي المسلم " المتحمس " الذي كان يثير حنقنا
عندما ينظر إلينا من علٍ على أننا فريسيون زناديق ! ويحمد -أي التركي -يحمد ال على
أنه لم يجعله مثلنا .وبما أن التركي التقليدي القديم كان يعتبر نفسه من طينة خاصة ،حاولنا
أن نحـط من كبريائه ،بتصوير هذه " الطينة الخاصة " شيئا ممقوتا ،وسميناه " التركي
النكرة " ..إلى أن استطعنا أخيرا أن نحطم سلحه النفسي ،وحرضناه على القيام بهذه الثورة
" والن وبعد أن تغير التركي بتحريضنا ورقابتنا ،وبعد أن أصبح يفتش عن كل وسيلة
لجعل نفسه مماثل لنا وللشعوب الغربية من حوله ..الن نحس نحن بالضيق والحرج ،بل
ونميل إلى الشعور بالسخط والحنق ...وبإمكان التركي أن يجيبنا أنه مهما فعل فهو مخطئ
في نظرنا ،وهو -أي التركي -قادر على ترديد مقطع من كتابنا المقدس على مسامعنا ،
يقول :
" لقد نفخنا معكم في القرب فلم ترقصوا ،وحزنا معكم فلم ترقصوا ،وحزنا معكم فلم
تبكوا " !
" على كل حال قد يكون انتقادنا للتراك فظا وغير لئق ..ولكن ليس فيه أي تحامل ،
ول هو خارج عن الموضوع .إذ ما الذي سيكسبه التراث الحضاري في حالة عدم ذهاب
جهود التراك سدى ؟ أي في حالة نجاحهم -فرضا -النجاح المرجو ؟؟ وهذه النقطة تكشف
حركة " المقلدين " عن نقطتي ضعفها الصيلتين فيها :
" أولهما :أن الحركة المقلدة متبعة وليست مخترعة مبتدعة ،لذا ففي حالة نجاحها -
جدل -لن تزيد إل في كمية المصنوعات التي تنتجها اللة في المجتمعات المقلّدة ،بدل أن
" ثانيهما :أنه في حالـة النجاح الباهت -المفترض -هذا ،وهو أقصـى ما يمكـن
" للمقلدين " الوصول إليه ،سيكون هناك خلص -مجرد خلص -لقلية ضئيلة في أي
مجتمع تبنـى طريق " التقليد " ..ومآل الغالبيـة :هو تضخيم عدد بروليتاريا الحضارة
إنها الزراية الصريحة ،والشماتة الصليبية الواضحة .الشماتة بالذين فقدوا ذاتيتهم ،
والمسلمون الحقيقيون عندهم الكثير الكثير يعطونه للبشرية الضالة في جاهلية القرن
العشرين ..
فليأخذوا العمارة المادية للرض من أي مكان يريدون .ولكن فليقيموها على المنهج
الرباني ،لينشئوا الحضارة الحقيقية الصيلة التي تستحق هذا السم .
فليأخذوا العلم والتقدم المادي والتكنولوجي ،ولكن فليحددوا لي شيء يستخدمون هذا
كله ..
من كتاب مترجم بعنوان " السلم ..والغرب ..والمستقبل " هو ترجمة محاضرتين ألقاهما توينبي في ()
1
عامي 1952 ، 1947ترجمة الدكتور نبيل صبحي ،دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت ،ط
1389هـ 1969 -م ص ( 53 - 50مقتطفات ) .
في العبودية الذليلة للشهوات ؟ في الستغراق في الحياة الدنيا إلى حد نسيان الخرة ؟
لكن يستخدمونه في إقامة المنهج الرباني ؟ ..في إعادة شريعة ال لتحكم الرض ؟ ..
في إقامة العدل الرباني كما يريده ال ؟ في إقامة الحياة على قاعدة أخلقية في السياسة
والقتصاد وعلقات المجتمع وعلقات السرة وعلقات الجنسين والفكر والدب والفن ..؟
بعبارة أخرى :يحققون غاية الوجود النساني ؟ يحققون ل إله إل ال في عالم الواقع ؟
عندئذ سيخلصون أنفسهم مما حل بهم ،ويمدون يد الخلص إلى البشرية الضالة
س َتخْلَفَ
ض َكمَا ا ْ
س َتخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْ ِ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ
ن آ َمنُوا ِم ْن ُكمْ َو َ
عدَ اللّهُ اّلذِي َ
( وَ َ
. ()1
شيْئا )
ُيشْ ِركُونَ بِي َ
. ()2
شهِيدا )
َ
. ()1
ا ْل ُم ْنكَرِ وَلِلّهِ عَا ِقبَ ُة ا ْلُأمُورِ )
عرضنا فيما مضى من الكتاب بعض المفاهيم الرئيسية للسلم ،وبيّنا كيف كانت في
حس الجيل الول الذي تلقى الدين تلقيا مباشرا من رسول ال -صلى ال عليه وسلم -
وتربى على عينه ،والجيال التالية التي كانت على مقربة من منابع النور ..وكيف تحوّلت
في حس الجيال المتأخرة تحول خطيرا عن صورتها الصحيحة ..وكيف أثر ذلك التحول في
حياة المسلمين ،فهبط بهم من الذروة التي كانوا عليها إلى الحضيض الذي يعيشونه اليوم ،
ماذا بعد أن وصلت المور إلى هذه الصورة ،وبعدت المة كل هذا البعد عن حقيقة
السلم ؟!
فأما الجابة على هذا السؤال فقد تكفل بها قدر ال الذي أخرج " الصحوة السلمية "
. ()1
ن)
( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى َأ ْمرِهِ وََل ِكنّ َأ ْك َثرَ النّاسِ ل َيعَْلمُو َ
والصحوة السلمية هي قدر ال الغالب ،الذي قدره ال ليخرج به هذه المة من حالة
الضياع التي تكتنفها ،وتجعلها غثاء كغثاء السيل ،إلى الستقامة على الطريق ،ومد الجذور
والشتات والتيه ،وتطلق في الوقت ذاته بصيصا من النور للبشرية الحائرة ،لعلها تهتدي إلى
. ()1
الطريق
ولكن الطريق أمام الصحوة ذاتها مملوء بالعقبات .مملوء بالشواك .مملوء بالعثرات .
مملوء بالوحوش الضارية تتلقف السائرين فيه لتفتك بهم أول بأول ،لنها تعلم جيدا أنها إن لم
ولكن المبشرات -كما أشرت في كتاب " واقعنا المعاصر " أكبر من المعوّقات .وقدر
. ()2
سبَقُوا ِإ ّن ُهمْ ل ُي ْعجِزُونَ )
ن كَ َفرُوا َ
سبَنّ اّلذِي َ
حَ( وَل َي ْ
ولكن الصحوة في حاجة لن تتعرف على عثرات الطريق لكيل تتعثر ،وعلى عقباته
لكي تعد لها العدة اللزمة ،كما ل بد لها أن تعرف طبيعة الوحوش الضارية ،لتعرف طبيعة
المعركة معهم ،وتعرف مجالتهـا وميادينهـا ،ولكيل تتوهـم في الوقت ذاته أن بعضها
يمكن أن يكون أرأف بالمسلمين من بعض ،أو أن بعضها يمكن أن يهادن السائرين في
الطريق !
وعليها أن تعرف قبل كل شيء عدة النصر في المعركة الضارية التي تقوم بينها وبين
أعداء ال ،والتي عليها أن تخوضها ل محالة رضيت أو كرهت ،لن أولئك العداء ل يمكن
راجع إن شئت فصل " الصحوة السلميـة " وفصل " نظرة إلى المستقبـل " من كتاب " واقعنا ()
1
المعاصر " .
)(2سورة النفال [ . ] 59
. ()1
حتّى َت ّتبِعَ مِّل َت ُهمْ )
ع ْنكَ ا ْل َيهُودُ وَل الّنصَارَى َ
ن َترْضَى َ
( وَلَ ْ
. ()2
س َتطَاعُوا )
ن دِي ِنكُمْ ِإنِ ا ْ
حتّى َيرُدّو ُكمْ عَ ْ
ن يُقَاتِلُو َن ُكمْ َ
( وَل َيزَالُو َ
ينبغي أول أن تدرك الصحوة جيدا أن المعركة ليست معركة هذه الجماعة ول تلك ،
ول معركة هذا العدو أو ذاك ..إنما هي معركة المة السلمية جميعا مع أعدائها جميعا ..
فالخصـومة قائمة أصل بين أعداء ال وبين السلم ،حيثما كان العداء ،وحيثما كان
السلم ..
ومقتضى ذلك أن تعلم أن النصر ل يتم والمعركة قائمة بين العداء وبين جماعات
منعزلة هنا وهناك ،تستفرد بها الوحوش الضارية وتغتالها على تمكن ..ولكنه يتم -بتوفيق
ال -حين تصبع المعركة هي معركة " المة السلمية " على اتساعها ،إزاء العداء
المتكتلين في حرب السلم كتلة واحدة ،وإن تفرقوا في كل شيء عدا ذاك !
وحين نقول المة على اتساعها يظن بعض الناس أننا نقصد كل فرد من أفرادها ،وهذا
مستحيل ! فل يوجد مجتمع واحد في التاريخ -فضل عن أمة يبلغ تعدادها اليوم ألف مليون
من البشر -يكون كله على قلب رجل واحد ،وعلى مستوى واحد من الرفعة ،أو الصلبة ،
ومجتمع الرسول ذاته لم يكن كذلك ،كما أوضحنا في أكثر من موضع وفي أكثر من
كتاب ..
الرسول صلى ال عليه وسلم -يبلغ من قوتها وصلبتها أن تحمل ضعاف اليمان ،
والمعوّقين ،والمبطئين ،والمتثاقلين ،والمنافقين ،وتسير بهم جميعا إلى هدفها ،كما سارت
القاعدة الصلبة التي رباها رسول ال -صلى ال عليه وسلم -على عينه ،ولم يعوّقها وجود
وينبغي أن تدرك الصحوة جيدا كذلك أن المعركة ليست مجرد معركة بين فريق من
البشر وفريق ،أو بين شعب من الشعوب وشعب ،أو بين نوع من السلح ونوع ..إنما هي
قبل ذلك كله -وأهم من ذلك كله -معركة بين عقيدة وعقيدة ،ومنهج للحياة ومنهج .
عقيدة تؤمن بال واليوم الخر ،وعقيدة تشرك في إيمانها بال آلهة أخرى أو تنكر
وجوده أصل ..ومنهج للحياة قائم على عقيدة التوحيد ومتناسق معه ،مستمد من المصدر
الرباني المنزل على رسول ال -صلى ال عليه وسلم -ومنهج مبني على الشرك أو الكفر
ومقتضى ذلك أن النصر ل يتم حتى تتمحض تلك العقيدة في نفوس أصحابها وتصفو ،
وتتخلص من كل ما شابها من عناصر دخيلة عليها ،أيّا كان المدى الذي توغلته تلك العناصر
الدخيلة ،وأيّا كان الزمن الذي استغرقته وهي متلبسة بعقائد الناس .
إن الجاهلية لم تقف برمتها أمام عقيدة التوحيد وجها لوجه كما تقف اليوم ،إل مرة
واحدة من قبل ،أيام بعثة محمد -صلى ال عليه وسلم -والصدر الول من السلم ..مع
الفارق الذي أحدثه التقدم العلمي ،والتقدم التكنولوجي ،ووسائل النقل ،ووسائل العلم ،
الذي جعل الكتلة المتكتلة ضد السلم أكثر ترابطا ،وأكثر توحدا ،وأكثر ضراوة ..
ولكن المعركة في جوهرها لم تتغير ..
ولقد واجه السلم -بعد تمكنه في الرض -كثيرا من عداوات الجاهلية ،مع
الصليبيين مرة ،ومع التتار مرة ،ومع اليهود من قبل مرة ..ولكنه لم يقف في وجه جاهلية
الرض كلها مجتمعة إل مرتين اثنتين :الولى وقت البعثة المحمدية وصدر السلم ،والثانية
وهذا يستلزم كما ألمحنا أن تكون العقيدة من النقاء في نفوس أصحابها ،ومن رسوخ
اليمان بها ،والتجرد ل بها ،كما كانت في المواجهة الولى ،لتكون كفؤا للجاهلية الواقفة
أمر ثالث ينبغي أن تدركه الصحوة جيدا ..أن الجاهلية تواجه السلم اليوم وهي في
قمة حضارتها المادية ،وقمة افتتانها بتلك الحضارة ،والمسلمون في درجة شديدة من التخلف
ومقتضى ذلك أن يواجه المسلمون تلك الحضارة بمثل ما واجه المسلمون الوائل
الحضارة الفارسية والبيزنطية وهما في أوج تمكنهما المادي ..أي بالقيم الحضارية المواجهة
لقد تمت المواجهة الولى بين السلم والجاهلية والمسلمون يكادون يكونون مجردين
من أدوات الحضـارة المادية وتنظيماتها ،بينما الدولتان " العظميان " يومئذ -فارس
وبيزنطة -في قمة من قمم الحضارة المادية والتنظيمية لم يكن قد بلغها أحد قبلهم في ذلك
التاريخ ..
انتصر بحسب السنن الجارية ،ل بسنة خارقة ..وإن كانت هذه وتلك جميعا تتم بقدر
من ال .
فمن سنن ال الجارية أن ينتفش الباطل في غيبة الحق .فإذا جاء الحق زهق الباطل ..
. ()1
ن زَهُوقا )
ق ا ْلبَاطِلُ ِإنّ ا ْلبَاطِلَ كَا َ
حقّ َوزَهَ َ
( َوقُلْ جَاءَ ا ْل َ
ومن سنن ال الجارية أن يتدافع الحق والباطل ليتم إنقاذ الرض من الفساد :
ومن سنته أن يكون للحق جنود يؤمنون به ،لن الحق المجرد من الجنود ل ينتصر ،
وأن يكون هؤلء الجنود مخلصين ل ،مترابطين على العقيدة ،مؤتلفة قلوبهم عليها :
جمِيعا
ت مَا فِي ا ْلَأرْضِ َ
ك بِنَصْرِ ِه وَبِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َوأَلّفَ بَ ْينَ قُلُو ِب ِهمْ لَ ْو َأنْفَقْ َ
( ُهوَ الّذِي أَيّدَ َ
وأن يكونـوا مجاهدين في سبيل ال ،إذا دعت دواعي الجهاد يقاتلون صابرين
محتسبين :
ن َيغِْلبُوا
عشْرُونَ صَا ِبرُو َ
ن َيكُنْ ِم ْن ُكمْ ِ
ل إِ ْ
ض ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ عَلَى الْ ِقتَا ِ
حرّ ِ
( يَا َأ ّيهَا ال ّن ِبيّ َ
ع ْن ُكمْ
ن خَ ّففَ اللّهُ َ
ن الْآ َ
ن كَ َفرُوا ِبَأ ّنهُمْ قَ ْو ٌم ل يَفْ َقهُو َ
ن ِم ْن ُكمْ مِائَةٌ َيغِْلبُوا أَلْفا مِنَ اّلذِي َ
مِا َئتَيْنِ وَِإنْ َيكُ ْ
ثم إن من سنته الجارية كذلك أن الباطل المنتفش بقوته المادية -في غيبة الحق -ل
أصالة له لنه باطل ،ومع ذلك يمكّن في الرض فترة من الوقت لحكمة يريدها ال ،وبسنة
يجريها ال :
خ ْذنَا ُهمْ
حتّى ِإذَا فَ ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا َأ َ
شيْءٍ َ
ب كُلّ َ
( فََلمّا َنسُوا مَا ُذكّرُوا بِ ِه َف َتحْنَا عََل ْي ِهمْ َأبْوَا َ
()4
ب ا ْلعَاَلمِينَ )
ح ْمدُ لِلّهِ رَ ّ
ن فَ ُقطِعَ دَا ِبرُ الْقَ ْو ِم اّلذِينَ ظََلمُوا وَا ْل َ
َب ْغتَةً َفِإذَا ُهمْ ُمبِْلسُو َ
فإذا جاء الحق -وهو وحده صاحب الصالة -وتمت له مقوماته ،أي الجنود
فيه أصالة ،ولو كان أقل جنودا وأقل عدة ،لنه يحمل القيم الصيلة التي كتب ال لها البقاء
والصلحية :
()2
عزِيزٌ )
ن اللّ َه قَ ِويّ َ
ن َأنَا َو ُرسُلِي إِ ّ
ب اللّ ُه َلأَغِْلبَ ّ
( َكتَ َ
()3
ن)
عبَا ِديَ الصّاِلحُو َ
ض َيرِ ُثهَا ِ
ن َب ْعدِ ال ّذكْرِ َأنّ ا ْلَأرْ َ
( وَلَ َقدْ َك َت ْبنَا فِي ال ّزبُورِ مِ ْ
ج ْن َدنَا َل ُهمُ
ن ُ
ت كَِل َم ُتنَـا ِل ِعبَا ِدنَـا ا ْل ُم ْرسَلِينَ ِإ ّنهُـمْ َلهُـ ُم ا ْل َمنْصُورُونَ وَإِ ّ
سبَقَ ْ
( وَلَ َقدْ َ
ن ) (. )4
ا ْلغَاِلبُو َ
تلك -وأمثالها من السنن الجارية -هي التي قررت في علم ال انتصار السلم في
مواجهته الولى مع الدولتين " العظميين " يومئذ ،فضل عن سائر الجاهليات القائمة في ذلك
الحين ..ولم يكن للقوة المادية الساحقة ،الخاوية من " القيم " ،الخاوية من " الحق " أصالة
تحميها من غلبة السلم عليها ،وتمت كلمة ربك صدقا وعدل ل مبدل لكلماته ،فانتصر
واليوم تقف الجاهلية -بدولتيها " العظميين " -ذات الموقف مرة أخرى ..
قمة في القوة المادية والتقدم العلمي والمادي والتكنولوجي لم يبلغها أحد من قبل ..
وحين يكون النسان في عرف الجاهلية المعاصرة حيوانا كما أراده دارون ،وحين
سورة الرعد [ . ] 17 ()
1
سورة المجادلة [ . ] 21 ()
2
3سورة النبياء [ . ] 105 ()
وحين تكون الحضارة هي حضارة " قبضة الطين " منقطعة الصلة " بنفخة الروح " ،
فهي حضارة غير أصيلة ،لن قبضة الطين المنفصلة عن نفخة الروح ل وجود لها في
الحقيقة ،وكل بناء يبنى على أساس وجودها فهو مجافٍ للحق ،ومن ثم ل أصالة فيه ..
ول ينفي هذا أن يكون لهذه الحضارة المجافية للحق منجزات ضخمة نافعة ،كمنجزاتها
العلمية والتنظيمية ،فهذا من العطاء الرباني المتاح للبشر جميعا مؤمنهم وكافرهم ،وكان
()1
حظُورا )
عطَا ُء َربّكَ َم ْ
عطَا ِء َربّكَ َومَا كَانَ َ
( كُلّا ُن ِمدّ َهؤُلءِ وَ َهؤُلءِ مِنْ َ
ول ينفي كذلك أن تكون بعض الفكار والقيم ذات قيمة ونفع ،فإن النفس البشرية ل
تتمحض للشر الخالص مهما بعدت عن الحق ،ول يتمحض مجموع الناس في الجاهليات
. ()2
" خياركم في الجاهلية خياركم في السلم إذا فقهوا "
ولكن العبرة في النهاية -في صراع الحق والباطل -ليست بالمنجزات المادية مهما
يكن من ضخامتها ونفعها ،وليست بالفكار والقيم الجزئية التي يمكن أن تكون في
ولكن ذلك كله لم يحمِ هاتين الجاهليتين من النهيار أمام السلم ،الذي يقوم كله على
القاعدة الصحيحة السليمة ،التي تحقق الغاية الحقيقية للوجود النساني ،وهي عبادة ال ،
يومئذ ،ورغم الفراغ من المنجزات المادية والتنظيمية إل القليل الذي ل يكاد يذكر .
وتلك -كما بينا -سنة جارية .ومعنى كونها جارية أنها يمكن أن تتحقق -بقدر من
ال -في كل مرة تتحقق مقوماتها وعناصرها ،وتتم المواجهة بمقتضاها ..
ومن جانب الجاهلية فكل المقومات والعناصر قائمة ..قوة مادية هائلة ،وفراغ هائل
ويسلتزم سريان السنة الجارية -وهي تجري في كل مرة بقدر من ال -أن يكون
المسلمون في المواجهة قائمين على الشرط ،كما كان المسلمون في المواجهة الولى ،فيتم
النصر -بقدر من ال -كما تم أول مرة ،ويتغير وجه الرض كما تغيّر من قبل ..
ول شك عندي -من وعد ال ورسوله صلى ال عليه وسلم ...أن ذلك سيحدث ..
يملكون العقيدة الصحيحة والمنهج الصحيح ..المنهج الشامل الكامل المتوازن المترابط ،الذي
وحين يحققون العقيدة الصحيحة في ذوات أنفسهم ،ويحققون المنهج الصحيح في واقع
حياتهم ،تجري السنة بقدر من ال ،وينتصر السلم في المواجهة الحاضرة بينه وبين
ولكن العقيدة ينبغي أن تكون في صفائها كله ،وفي بهائها كله ،وفي أَلَ ِقهَا كله ،لتحدث
في واقـع الرض الفارق الحقيقي الذي يلمسه الناس في صورته الخّاذة -كما حدث أول
مرة -فيهرعون إليه ،ويدخلون في ظله ..والمنهج -بما يشتمل عليه من قيم فذة ،
وأخلقيات عالية ،وصدق وعمق ،ورسوخ وتمكن ،وشمول وتوازن -ينبغي أن يكون
محققا في نماذج بشرية فذة ُ ،ت ْب ِرزُ للناس في عالم الواقع الفارق الهائل بين السلم
والجاهليـة ،كما حدث أول مرة ،فيحب الناس المنهج ويدخلون فيه ..
عندئذ ينتصر الحق بجدارة -حسبب السنن الجارية -لنه يثبت جدارته بالفعل .
ويكون له دور حقيقي يؤديه في حياة الناس لنه يعطي الناس بالفعل ما هم في حاجة حقيقية
إليه ،ولو لم يشعروا بتلك الحاجة وهم سادرون في غيهم ،بل ولو كانوا رافضين للخير
والهدى في مبدإ المر كما يكون الناس في كل جاهلية ..ولكن الفطرة البشرية تقدره ،حين
تراه مطبقا في عالم الواقع -في الصورة الباهرة التي يلتقي فيها الواقع بالمثال -وعندئذ
يشعر الناس بما يشتملون عليه من نقص ،ويهرعون إلى الكمال ..
وسيزيدهم طمأنينة إلى المنهج الرباني وإقبال عليه ،أن يروا -من خلل التجربة
الواقعية -أن السلم لن يهدم تقدمهم العلمي والتكنولوجي والتنظيمي ،إنما سيقيمه فقط على
القاعدة اليمانية الصحيحة ،ويمنحه " الخلق " التي تسلبه إياها الجاهلية ،ويمنحه " الروح "
من أجل ذلك كله ينبغي للصحوة أن تقدر المر حق قدره ،وتمنحه الطاقة اللزمة
لنجازه ..
إنه ليس نزهة قريبة ..ول هو أمر يخصهم وحدهم في ذوات أنفسهم ..
إنه أمر المة السلمية بأكملها ..وأمر البشرية كذلك ،من شاء منهم أن يستقيم ..
أمر خلص " النسان " من حمأة الطين التي يتمرغ فيها اليوم ،والتي انساق "
المسلمون " إليها -أو ساقهم أعداؤهم إليها -حين تخلفوا عن عقيدتهم ،فتخلوا عن ذاتيتهم ،
. ()1
فصبحوا كغثاء السيل
أمر جاد ..ل تكفي فيه جهود هامشية مبعثرة ،ول يكفي فيه جهد يبذل لمجرد ممارسة
أمر يحتاج إلى كل الطاقة مجمعة ..ويحتاج إلى محاولة الصعود إلى القمة التي صعد
إليها المسلمون أول مرة ،حين عوضت القيم الفذة ،والممارسة الفذة لهاتيك القيم ،كل
الفروق المادية بين المسلمين وأعدائهم ،وكتبت النصر لصحاب القيم الفذة الصيلة على
انظر -إن شئت -فصل " خط النحراف " وفصل " آثار النحراف " في كتاب " واقعنا المعاصر " . ()
1
* * *
إن على " الصحوة " في كل بلد إسلمي أن تربي القاعدة الصلبة على المستوى الفائق ،
وليس هنا بيان منهج التربية اللزم لبناء القاعدة الصلبة على ذلك المستوى الفائق ،ول
.. ()1
منهج الدعوة التي توجه إلى الجماهير
ولكنا نشير هنا إلى أمر أساسي ،سواء في بناء القاعدة أو في دعوة الجماهير ..إنه ل
بد أول من تصحيح المفاهيم ..إذ كيف تبنى القاعدة على المفاهيم الخاطئة للسلم ؟!
كيف تبنى قاعدة صلبة على الفكرالرجائي الذي يقول :إن اليمان هو التصديق
والقرار ؟! وإن العمل ليس داخل في سممى اليمان ؟ وإنه من قال ل إله إل ال فهو مؤمن
كيف تبنى قاعدة صلبة على مفهوم قاصر للعبادة يحصرها في الشعائر التعبدية ،
ويخرج العمل كله من دائرة العبادة ،ويخرج الخلق ،ويقسم الحياة إلى " ساعة لقلبك
وساعة لربك " فتنقلب ساعة القلب إلى لهو عابث ،وساعة الرب إلى مجرد أداء للشعائر
وكيف تبنى على عقيدة للقضاء والقدر سلبية مخذّلة متواكلة ل تأخذ بالسباب ؟
وكيف تبنى على تصور خاطئ يفصل ما بين الدنيا والخرة ،ويجنح بالسلوك سواء
في النية -بإذن ال -إصدار كتيب في هذا الموضوع بعنوان " كيف ندعو الناس " . ()
1
وكيف تبنى على إهمالٍ لعمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني الشامل المتكامل الذي
وماذا تستطيع مثل هذه القاعدة في الصراع الهائل مع الجاهلية ؟ وماذا تمنح الناس
وكذلك الدعوة الموجهة إلى الجماهير ،لتكون سندا للقاعدة الصلبة بدل من أن تكون
لماذا نقوم بالدعوة أصل إن لم نغير عند الناس مفاهيمهم الخاطئة عن السلم ؟!
لي هدف ندعوهم إذا قلنا لهم إن اليمان هو التصديق والقرار ،وإن العمل ليس
داخل في مسمى اليمان ،وإنه من قال ل إله إل ال فهو مؤمن ،ولو لم يعمل عمل واحدا
هل ندعوهم لنثبت فيهم السباب التي أدت بهم إلى الضياع والتيه ،وجعلتهم غثاء كغثاء
السيل ؟ سواء ما وقعوا فيه من شرك العتقـاد عن طريق عبادة الولياء والضرحة
والمشايخ ،أو شرك التباع ،باتباع غير ما أنزل ال ،واتخاذ البشر -المشرعين من عند
الجماهير المؤمنة الواعية التي تمارس السلم في عالم الواقع ..عندئذ يتحقق الوعد الذي
" تكون النبوة فيكم ما شاء ال أن تكون ،ثم يرفعها ال إذا شاء أن يرفعها .ثم تكون
خلفة على منهاج النبوة ،فتكون ما شاء ال أن تكون ،ثم يرفعها ال إن شاء أن يرفعها ،ثم
تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء ال أن تكون ،ثم يرفعها إذا شاء ال أن يرفعها ،ثم تكون
ملكا جبريا فتكون ما شاء ال أن تكون ،ثم يرفعها ال إذا شاء أن يرفعها ،ثم تكون خلفة
. ()1
على منهاج النبوة "
وتتحقق للسلم جولة جديدة ،يخرج فيها الناس من الظلمات إلى النور ،ومن عبادة
العباد إلى عبادة ال ,ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والخرة ..
()2
صرُ مَنْ َيشَاءُ وَ ُهوَ ا ْل َعزِيزُ ال ّرحِيمُ )
ن ِب َنصْرِ اللّهِ َي ْن ُ
( َويَ ْو َم ِئذٍ يَ ْفرَحُ ا ْل ُم ْؤ ِمنُو َ
3 مقدمة