You are on page 1of 288

‫َمفَاهِ ْيمُ يَنْبَغِيْ أَنْ ُتصَحّح‬

‫ممد قطب‬

‫موقعنا على النترنت‬


‫منب التوحيد والهاد‬
‫‪http://www.tawhed.ws‬‬
‫‪http://www.almaqdese.com‬‬
‫‪http://www.alsunnah.info‬‬
‫الدّال على الي كفاعله‬

‫‪-1-‬‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫ن بِاللّهِ وَا ْليَ ْومِ‬


‫ن آمَ َ‬
‫ن ا ْل ِبرّ مَ ْ‬
‫ن تُوَلّوا ُوجُو َه ُكمْ ِقبَلَ ا ْل َمشْ ِرقِ وَا ْل َمغْرِبِ وََلكِ ّ‬
‫س ا ْلبِ ّر أَ ْ‬
‫( َليْ َ‬

‫حبّ ِه ذَوِي الْ ُق ْربَى وَا ْل َيتَامَى وَا ْل َمسَاكِينَ وَابْنَ‬


‫الْآخِرِ وَا ْلمَل ِئكَةِ وَا ْل ِكتَابِ وَال ّن ِبيّينَ وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَى ُ‬

‫ن ِب َع ْهدِهِمْ ِإذَا عَا َهدُوا‬


‫سبِيلِ وَالسّائِلِينَ َوفِي الرّقَابِ وََأقَامَ الصّلةَ وَآتَى ال ّزكَاةَ وَا ْلمُوفُو َ‬
‫ال ّ‬

‫ن صَ َدقُوا وَأُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمتّقُونَ )‬


‫ضرّاءِ َوحِينَ ا ْل َبأْسِ أُوَل ِئكَ اّلذِي َ‬
‫ن فِي ا ْل َبأْسَاءِ وَال ّ‬
‫وَالصّابِرِي َ‬

‫صدق ال العظيم‬
‫مقدمة‬

‫‪ -‬مرحلة من أسوأ‬ ‫(‪)1‬‬


‫يعيش العالم السلمي اليوم ‪ -‬كما أشرت في غير هذا الكتاب‬

‫مراحله التاريخية ‪ ،‬إن لم تكن أسوأ ما مر به في تاريخه كله ‪ .‬فلم تكن الزمات الماضية‬

‫تصيب المسلمين كلهم في وقت واحد في كل بقاع الرض كما هو الحال في هذه المرة ‪ .‬ولم‬

‫يكن الذل والهوان والضياع يشمل المة السلمية كلها كما يشملها في هذه المرة ‪.‬‬

‫فإذا كانت نكبة الندلس ‪ -‬مثل ‪ -‬تعتبر من أسوأ ما مر بالمسلمين في القرون‬

‫الماضية ‪ ،‬فنكبة فلسطين أسوأ ‪ .‬فحينما كان ظل المسلمين يتقلص عن الندلس ‪ ،‬كانت الدولة‬

‫العثمانية الفتية تقتحم القسطنطينية وتجعل منها عاصمة الخلفة السلمية ‪ ،‬ثم تتوغل بجيوشها‬

‫في‬

‫أوربا حتى تصل إلى فينا وبطرسبورج ‪ .‬أما نكبة فلسطين فإنها تحدث وظل المسلمين منحسر‬

‫في كـل الرض ‪ ،‬والمذابح ل تكف عنهم في كل مكان ‪ :‬في الفلبين ‪ .‬في الحبشة ‪ .‬في‬

‫أريتريا ‪ .‬في تشاد ‪ .‬في نيجريا ‪ .‬في الهند ‪ .‬في أفغانستان ‪ .‬في العالم الشيوعي كله حيث‬

‫يخيرون بين الكفر أو الموت ‪ .‬والمؤامرات تحاك للسلم والمسلمين على نطاق القوى الدولية‬

‫كلها مجتمعة ‪ .‬والعالم السلمي يفتت ‪ ،‬ثم يعود فيفتت ‪ ،‬ثم يعود فيفتت ‪ .‬وتقوم المحاولة إثر‬

‫المحاولة لقامة دول لغير المسلمين في الرض السلمية ‪ ،‬تقتطع في كل مرة جزءا من‬

‫أرض السلم ‪ ،‬وتستعبد من يبقى فيها من المسلمين أو تقتّلهم ‪ ..‬ثم الدعاة المسلمون يقتّلون‬

‫ويعذبون أبشع تعذيب في التاريخ ‪ ،‬على يد حكومات تناوئ الدعوة السلمية ‪ ،‬وترفض أن‬

‫تحكم المسلمين بشريعة ال ‪.‬‬

‫‪ )(1‬في كتاب " واقعنا المعاصر " ‪ .‬وقد كان الصل أن يصدر كتاب " المفاهيم " قبل " واقعنا المعاصر " لنه‬
‫مكتوب قبله بعدة سنوات ولكن شاء ال أن يتأخر كتاب المفاهيم كل هذه السنوات ‪ ،‬وتصدر قبله كتب أخرى‬
‫كتبت بعده بسنوات ! وكل شيء عنده بمقدار‪.‬‬
‫هذا هو الوضع السيىء الذي يعيشه العالم السلمي اليوم بغير شبيه له في التاريخ ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ول شيء في هذا الوضع يحدث اعتباطا ‪ ،‬ول يمكن أن يحدث شيء واحد في حياة‬

‫البشر اعتباطا ! إنما يجري كل شيء في حياة البشر حسب سنة ال التي ل تتخلف ول تحابي‬

‫أحدا من الخلق ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سنّتِ اللّ ِه َتحْوِيلً )‬
‫جدَ ِل ُ‬
‫سنّتِ اللّ ِه َت ْبدِيلً وََلنْ َت ِ‬
‫جدَ ِل ُ‬
‫ن َت ِ‬
‫( فَلَ ْ‬

‫ومن سنة ال أنه ل يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ‪ ،‬أي ينحرفوا‬

‫عن الطريق ‪:‬‬

‫س ِهمْ وََأنّ اللّهَ‬


‫حتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبَأنْ ُف ِ‬
‫ن اللّ َه َلمْ َيكُ ُم َغيّرا ِن ْعمَةً َأ ْن َع َمهَا عَلَى قَ ْومٍ َ‬
‫( ذَلـكَ ِبأَ ّ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ )‬
‫َ‬

‫ومن سنته أنه ل يحابي أحدا لكونه من " ذرية " قوم صالحين ‪:‬‬

‫ن ُذ ّريّتِي‬
‫س ِإمَاما قَالَ َومِ ْ‬
‫ن قَالَ ِإنّي جَاعُِلكَ لِلنّا ِ‬
‫( وَِإذِ ا ْبتَلَى ِإ ْبرَاهِيمَ َربّ ُه ِبكَِلمَاتٍ َفَأتَ ّمهُ ّ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫ع ْهدِي الظّاِلمِي َ‬
‫قَالَ ل َينَالُ َ‬

‫إنما يمكنهم حين يكونون هم بأنفسهم مؤمنين صالحين ‪:‬‬

‫س َتخْلَفَ‬
‫ض َكمَا ا ْ‬
‫س َتخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ‬
‫ن آ َمنُوا ِم ْن ُكمْ َو َ‬
‫عدَ اللّهُ اّلذِي َ‬
‫( وَ َ‬

‫ن َب ْعدِ خَ ْو ِف ِهمْ َأمْنا َي ْع ُبدُو َننِي ل‬


‫اّلذِينَ ِمنْ َقبِْلهِمْ وََل ُي َم ّكنَنّ َل ُهمْ دِي َن ُهمُ اّلذِي ا ْرتَضَى َل ُهمْ وََل ُي َبدّلَ ّن ُهمْ مِ ْ‬

‫سورة فاطر [ ‪. ] 43‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬سورة النفال [ ‪. ] 53‬‬ ‫()‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 124‬‬ ‫()‬


‫‪3‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫شيْئا )‬
‫ُيشْ ِركُونَ بِي َ‬

‫أما الذين يرثون الكتاب وراثة ‪ ،‬أي ل يعتبرونه خاصا بهم ‪ ،‬ول ملزما لهم ‪ ،‬إنما هو‬

‫شيء موروث عن الباء والجداد فأولئك هم الخلف السيىء الذين أشير إليهم في كتاب ال في‬

‫معرض الحديث عن نبي إسرائيل لتحذير المسلمين من عاقبتهم ‪:‬‬

‫سيُغْ َفرُ َلنَا‬


‫ن َ‬
‫عرَضَ َهذَا ا ْلَأ ْدنَى َو َيقُولُو َ‬
‫خذُونَ َ‬
‫( َفخََلفَ مِنْ َب ْعدِ ِهمْ خَ ْلفٌ َو ِرثُوا ا ْل ِكتَابَ َي ْأ ُ‬

‫حقّ‬
‫ن ل َيقُولُوا عَلَى اللّ ِه إِلّا ا ْل َ‬
‫خذْ عََل ْي ِهمْ مِيثَاقُ ا ْل ِكتَابِ أَ ْ‬
‫خذُوهُ أََلمْ ُي ْؤ َ‬
‫ض ِمثْلُهُ َي ْأ ُ‬
‫عرَ ٌ‬
‫وَِإنْ َي ْأ ِت ِهمْ َ‬

‫ن ) (‪. )2‬‬
‫ن َأفَل َتعْقِلُو َ‬
‫خيْ ٌر لِّلذِينَ َيتّقُو َ‬
‫خرَ ُة َ‬
‫َو َد َرسُوا مَا فِيهِ وَالدّارُ الْآ ِ‬

‫وهم هم الذين يقول ال فيهم ‪:‬‬

‫غيّا ) (‪. )3‬‬


‫شهَوَاتِ َفسَ ْوفَ يَلْ َقوْنَ َ‬
‫( َفخََلفَ مِنْ َب ْعدِ ِهمْ خَ ْلفٌ َأضَاعُوا الصّلةَ وَا ّت َبعُوا ال ّ‬

‫هذه كلها سنن ربانية تجري بها المور في الحياة البشرية ‪ ،‬ل تحابي أحدا ‪ ،‬ول تتبدل‬

‫على هوى أحد من البشر ‪.‬‬

‫ولقد أنعم ال على المة السلمية بالتمكين والستخلف والتأمين ‪ ،‬وفتح عليها بركات‬

‫حنَا عََل ْي ِهمْ َب َركَاتٍ‬


‫ل الْ ُقرَى آ َمنُوا وَاتّ َقوْا َل َف َت ْ‬
‫ن أَهْ َ‬
‫من السماء والرض كما وعد المتقين ( وَلَ ْو أَ ّ‬

‫سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ ) (‪. )4‬‬


‫ن ال ّ‬
‫مِ َ‬

‫ثم تغير الحال من الستخلف والتمكين والتأمين إلى الذل والضعف والهوان ‪ ،‬والتشريد‬

‫والتنكيل والتقتيل حين صاروا إلى الصورة التي أنذرهم بها رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم‬

‫‪ -‬وحذرهم منها ‪:‬‬

‫سورة النور [ ‪. ] 55‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 169‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة مريم [ ‪. ] 59‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 96‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫" يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلة إلى قصعتها ‪ .‬قالوا ‪ :‬أمن قلة نحن‬

‫يومئذ يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ‪. )1( " ..‬‬

‫فما الذي تغير ؟ ‪ ..‬وكيف حدث التغيير ؟‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫لقد حدثت انحرافات كثيرة في حياة المسلمين في مسيرتهم الطويلة خلل التاريخ ‪.‬‬

‫وكل انحراف وقع في حياتهم عن المنهج الرباني كانت له ول شك عاقبته البطيئة أو‬

‫السريعة حسـب نوع النحراف ‪ ،‬ودرجة تفشيه ‪ ،‬وموقف المة منه بحكامها وعلمائها‬

‫وعامتها ‪ ..‬حتى إذا وصل النحراف إلى حده القصى كانت عاقبته ما نراه اليوم من ضعف‬

‫ومذلة وخوف ‪ ،‬بدل من الستخلف والتمكين والتأمين ‪..‬‬

‫(‪)2‬‬
‫وما بنا في هذا الكتاب أن نتحدث عن خط النحراف الطويل كله ‪..‬‬

‫إنما نتحدث هنا عن نوع معين من النحراف ‪ ،‬قد يكون هو الشد خطرا في حياة‬

‫المسلمين في الوقت الحاضـر ‪ ،‬أو قد يكون هو الخلصة التي آل إليها النحراف التاريخي‬

‫كله ‪..‬‬

‫إن كثيرا من الدعاة المخلصين أنفسهم ليظنون أن ما أصاب المسلمين قد أصابهم بسبب‬

‫انحراف سلوكهم عن الصورة السلمية الصحيحة ‪.‬‬

‫وانحراف المسلمين في سلوكهم أمر أوضح من أن يشار إليه ‪ ..‬فإن ما تفشى في حياتهم‬

‫من الكذب والغش والنفاق ‪ ،‬والضعف والجبن والستخذاء ‪ ،‬والبدع والمعاصي ‪ ،‬وما صار‬

‫إليه الشباب من تفلت وتحلل ‪ ،‬وما صار الناس إليه من تبلد على الفجور والمنكر ‪ ..‬وعشرات‬

‫أخرجه أحمد وأبو داود ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬تحدثت عنه وعن آثاره في كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬
‫()‬
‫غيرها من الصفات والعمال ‪ ،‬كلها ليست من السلم في شيء ‪ ،‬بينما هي الواقع الذي‬

‫يعيشه " المسلمون " !‬

‫ومع ذلك فليس النحراف السلوكي هو النحراف الوحيد في حياة أولئك " المسلمين " ‪،‬‬

‫ول هو النحراف الخطر في حياتهم ‪ .‬ولو كان المر مقصورا على النحراف السلوكي‬

‫وحده لكان المر ‪ -‬على سوئه ‪ -‬أهون بكثير !‬

‫ولكن المر تجاوز ذلك إلى النحراف في " المفاهيم " ‪ ..‬كل مفاهيم السلم الرئيسية‬

‫ابتداء من ل إله إل ال !‬

‫وحين تجد إنسانا منحرفا في سلوكه ‪ ،‬ولكن تصوره لحقيقة الدين صحيح ‪ ،‬فستبذل جهدا‬

‫ما لرده عن انحرافه السلوكي ‪ ،‬ولكنك ل تحتاج أن تبذل جهدا في تصحيح مفاهيمه ‪ ،‬لنها‬

‫صحيحة عنده وإن كان سلوكه منحرفا عنها ‪ .‬أما حين يقع النحراف في المفاهيم ذاتها ‪ ،‬فكم‬

‫تحتاج من الجهد لتصحيح المفاهيم أول ‪ ،‬ثم تصحيح السلوك بعد ذلك ؟‬

‫تلك هي حقيقة الوضع في العالم السلمي اليوم ‪.‬‬

‫تجاوز النحراف منطقة السلوك ‪ ،‬ووصل إلى المفاهيم الرئيسية لهذا الدين ‪.‬‬

‫ومن أجل ذلك يعاني السلم اليوم تلك الغربة التي تحدث عنها رسول ال ‪ -‬صلى ال‬

‫عليه وسلم ‪: -‬‬

‫" بدأ السلم غريبا ‪ ،‬وسيعود غريبا كما بدأ " (‪. )1‬‬

‫ولقد عاد غريبا بالفعل ‪ ..‬غريبا بين أهله أنفسهم ‪ ،‬يتصورونه على غير حقيقته ‪ -‬فضل‬

‫عن سلوكهم المنحرف عنه ‪ -‬ويستغربونه حين يعرض لهم في صورته الحقيقية كما جاءت‬

‫في كتاب ال وسنة رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وأخذت تطبيقها الكامل في حياة‬

‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫السلف الصالح ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪! -‬‬

‫وعلينا أن نواجه المر على حقيقته ‪..‬‬

‫فإن أي جهد نبذله في تصحيح السلوك وحده ‪ -‬مع بقاء المفاهيم منحرفة ‪ -‬لن يؤتي‬

‫ثماره كاملة ‪ ،‬ولن يخرج المة من وهدتها التي انتكست إليها في عصرها الحاضر ‪ .‬إنما‬

‫نحتاج أن نبذل جهدا مضاعفا لزالة الغربة الثانية كالجهد الذي بذلته الجماعة الولى من‬

‫المسلمين لزالة الغربة الولى للسلم ‪.‬‬

‫وهذا الجهد المضاعف هو المهمة الملقاة اليوم على عاتق الصحوة السلمية ‪.‬‬

‫وأول ما نبدأ به من هذا الجهد هو تصحيح منهج التلقي ‪..‬‬

‫من أين نتلقى فهمنا لهذا الدين ؟ من كتاب ال وسنة رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬

‫وسيرة السلف الصالح ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪ -‬؟ أم مما دخل على هذا الفهم الواضح المستقيم‬

‫من أفكار دخيلة ومنحرفة ‪ ،‬بتأثير عوامل متعددة في أثناء المسيرة الطويلة للمة السلمية ‪،‬‬

‫واحتكاكها الدائم بأخلط من المذاهب وأخلط من الفكار ؟ !‬

‫فإذا صححنا منهج التلقي ‪ ،‬وصححنا بناء على ذلك ما انحرف في حس المسلمين‬

‫المتأخرين من مفاهيم السلم الرئيسية بقيت علينا مهمة أخرى ل تقل خطرا هي مهمة التربية‬

‫على المفاهيم الصحيحة لهذا الدين ‪.‬‬

‫والتربية هي الجهد الحقيقي الذي ترجى معه الثمرة ‪ .‬ولكنه لن يؤتي ثمرته حتى يقوم‬

‫على أساسه الصحيح ‪.‬‬

‫وهذا الكتاب محاولة متواضعة لتصحيح بعض المفاهيم السلمية ‪ ،‬بردها إلى صورتها‬

‫الولى ‪ ،‬المستمدة من كتاب ال وسنة رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وسيرة السلف الصالح‬

‫‪ -‬رضوان ال عليهم ‪ -‬وإزالة ما علق بها من انحراف في أثناء المسيرة التاريخية للمة‬
‫السلمية ‪.‬‬

‫وقد تناولت فيه خمسة مفاهيم رئيسية من مفاهيم السلم ‪ :‬مفهوم ل إله إل ال ‪ .‬مفهوم‬

‫العبـادة ‪ .‬مفهوم القضاء والقدر ‪ .‬مفهوم الدنيا والخرة ‪ .‬مفهوم الحضارة وعمارة الرض ‪.‬‬

‫وسيجـد القارىء أن القسم الكبر من الكتاب قد استغرقه الحديث عن مفهوم ل إله إل‬

‫ال ‪ ،‬ثم مفهوم العبادة ‪ ،‬ول غرابة في ذلك ‪ .‬فل إله إل ال هي الركن الول ‪ -‬والكبر ‪ -‬من‬

‫أركان السلم ‪ ،‬كما أن النحراف الكبر ‪ -‬والخطر ‪ -‬في حياة المسلمين هو الذي وقع في‬

‫مفهوم ل إله إل ال ! وكذلك مفهوم العبادة ‪ ،‬فقد كان له في معناه الواسع الشامل صداه في‬

‫عظمة هذه المة وعظمة منجزاتها ‪ ،‬كما كان له في معناه الضيق الهزيل الذي صار إليه‬

‫صداه في الواقع المنحسر الذي يعانيه المسلمون اليوم ‪...‬‬

‫وحين تصحح هذه المفاهيم ‪ ،‬وتعود لها في نفوس المسلمين صورتها الحقيقية الحية‬

‫الفاعلة ‪ ،‬فسيصبح الطريق ميسرا ‪ -‬بعون ال ‪ -‬لتصحيح كل ما أصاب المسلميـن من‬

‫انحراف ‪ ،‬وكل ما ترتب عليه في حياتهم من آثار ‪..‬‬

‫فإن وفقنـي ال إلى شيء في هذه المحاولة المتواضعة فإني شاكر لنعمه ‪ .‬وما توفيقي‬

‫إل بال ‪،‬‬

‫محمد قطب‬
‫مفهوم ل إله إل ال‬

‫ل إله إل ال هي الركن الول ‪ -‬والكبر ‪ -‬في السلم ‪ ..‬قبل الصلة والصيام‬

‫والزكاة والحج ‪ ..‬وقبل كل شيء في هذا الدين ‪.‬‬

‫ومن يتدبر القرآن يلحظ ول شك الهمية العظمى التي يوليها كتاب ال لقضيـة‬

‫التوحيـد ‪ ..‬قضية ل إله إل ال ‪ ،‬بحيث تشغل الحيز الكبر من القرآن كله ‪ ،‬وإن كان‬

‫التركيز عليها في السور المكية أشد ‪.‬‬

‫وقد يتبادر إلى الذهان لول وهلة ‪ -‬كما أشرت في كتاب " دراسات قرآنية " ‪ -‬أن هذا‬

‫الهتمام البالغ بقضية ل إله إل ال في كتاب ال كان سببه أن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة‬

‫كانوا قوما مشركين ‪ ،‬فكان من المناسب أن يركّز الحديث لهم في قضية التوحيد لتصحيح‬

‫اعتقاداتهم الباطلة وتصوراتهم الفاسدة في قضية اللوهية ‪.‬‬

‫ولكن استمرار الحديث عن هذه القضية في السور المدنية ‪ ،‬بعد استقرار العقيدة ‪ ،‬وقيام‬

‫المجتمع السلمي والدولة السلمية ‪ ،‬والتزام ذلك المجتمع بتكاليف السلم ومقتضياته ‪،‬‬

‫وعلى رأسها الجهاد في سبيل ال ‪ ..‬كل ذلك له دللته الواضحة على الهمية الذاتيه لهذه‬

‫القضية ‪ ،‬حتى بالنسبة للمؤمنين الذين تخاطبهم اليات المدنية مبدوءة بقوله تعالى ‪ " :‬يَا َأ ّيهَا‬

‫اّلذِينَ آ َمنُوا ‪ " ..‬وأن قضية التوحيد ‪ -‬قضية ل إله إل ال ‪ -‬ليست حديثا يذكر لفترة من‬

‫الوقت ثم ينتقل منه إلى غيره ‪ ،‬إنما هي حديث يذكر ثم ينتقل معه إلى غيره ‪ ..‬حديث ل‬

‫ينقطع في أيّ وقت من الوقات ‪.‬‬

‫وربما كانت هذه الية في سورة النساء حاسمة الدللة فيما ذهبنا إليه ‪:‬‬
‫ب اّلذِي َنزّلَ عَلَى َرسُوِلهِ وَا ْل ِكتَابِ اّلذِي‬
‫ن آ َمنُوا آ ِمنُوا بِاللّهِ َو َرسُولِهِ وَا ْل ِكتَا ِ‬
‫( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬

‫خرِ فَقَـ ْد ضَلّ ضَلل‬


‫َأنْـزَلَ ِمنْ َقبْلُ َومَـنْ َيكْ ُفرْ بِاللّهِ َومَل ِئكَتِهِ َو ُك ُتبِ ِه َورُسُلِهِ وَا ْل َي ْومِ الْآ ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫َبعِيـدا )‬

‫فالذين ُيدْعَون إلى اليمان هم المؤمنون بالفعل ‪ " :‬يا أيها الذين آمنوا " ! والذين ُيدْعَوْن‬

‫إلى اليمان به هو الذي آمنوا به بالفعل ! فهم يدعون إلى اليمان بال ورسوله والكتاب الذي‬

‫نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ‪ ،‬وال يقول عنهم في آخر سورة البقرة ‪ ( :‬آمَنَ‬

‫ن بِاللّهِ َومَل ِئ َكتِهِ َو ُك ُتبِهِ َو ُرسُلِ ِه ل نُ َف ّرقُ َبيْنَ‬


‫ن كُلّ آمَ َ‬
‫ن َربّهِ وَا ْلمُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫الرّسُولُ ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْيهِ مِ ْ‬

‫ن رُسُلِ ِه ‪! ) ..‬‬
‫حدٍ مِ ْ‬
‫َأ َ‬

‫فقضية ل إله إل ال إذن قضية دائمة في حياة البشرية ‪ ..‬ل يدعى إليها الكفار وحدهم‬

‫لكي يؤمنوا ‪ ،‬ول المشركون وحدهم ليصححوا اعتقادهم ‪ ،‬ولكن يدعى إليها المؤمنون بها‬

‫كذلك ويذكّرون بها ‪ ،‬لكي تظل حية في قلوبهم ‪ ،‬راسخة في ضمائرهم ‪ ،‬عاملة في واقع‬

‫حياتهم ‪ ،‬ل يفترون عنها ‪ ،‬ول يغفلون عن مقتضياتها ‪ " :‬يا أيها الذين آمنوا ‪ ،‬آمنوا ‪" ..‬‬

‫ول عجب أن تكون قضية ل إله إل ال هي القضية !‬

‫وليس السبب في اهتمام القرآن بها أنه كتاب دين ! إنما السبب في ذلك أنه الكتاب الذي‬

‫يحدد منهج الحياة للنسان (‪! )2‬‬

‫فحياة النسان ل تستقيم حتى يعلم " الحق " الذي خلقت به السماوات والرض ‪ ،‬وحتى‬

‫تتوافق حياته مع ذلك الحق ‪ ،‬فل تنحرف عنه ‪ ،‬ول تشذ عن مقتضياته ‪.‬‬

‫والحق أنـه ل إله إل ال ‪ ..‬هو الخالق وحده ‪ ،‬وهو الرازق وحده ‪ ،‬وهو المسيطر‬

‫وحده ‪ ،‬وهو المدبـر وحده ‪ ،‬وهو القيوم وحده ‪ ..‬ول أحد غيره يخلق أو يرزق أو يدبر‬

‫سورة النساء [ ‪. ] 136‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أشرت إلى هذا المعنى في كتاب " دراسات قرآنية " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫المر ‪..‬‬

‫ومقتضى ذلك كله أن ُي ْع َبدَ وحده ‪ ،‬ل يشرك به غيره ‪ ،‬ول توجه العبادة لحد سواه ‪..‬‬

‫وفضل عن كون ذلك هو حق ال على عباده ‪ ،‬إذ أن حق الخالق الرازق المنعم‬

‫المتفضل أل توجه العبادة إلى غيره ممن لم يخلق ولم يرزق ولم ينعم ولم يتفضل ‪..‬‬

‫فضل عن ذلك فهي قضية النسان ذاته ‪..‬‬

‫فال الخالق الرازق المنعم المتفضل حقيق بأن تفرد له العبودية لنه هو المتفرد‬

‫باللوهية والربوبية ‪ .‬ولكنه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬غني عن العباد وعبادتهم ‪ ،‬ل يؤثر في ملكه‬

‫أن يعبده عباده أو يكفروا به !‬

‫يقول ال في الحديث القدسي ‪ " :‬يا عبادي ‪ ،‬لو أن مؤمنكم وكافركم ‪ ،‬برّكم وفاجركم‬

‫كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ‪ ،‬ولو أن مؤمنكم وكافركم ‪ ،‬بركم‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫وفاجركم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا "‬

‫ويقول تعالى في محكم التنزيل على لسان موسى ‪ -‬عليه السلم ‪: -‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫حمِيدٌ )‬
‫ن اللّ َه َل َغ ِنيّ َ‬
‫جمِيعا َفإِ ّ‬
‫ض َ‬
‫ن فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫ن َتكْ ُفرُوا َأ ْن ُتمْ َومَ ْ‬
‫ل مُوسَى إِ ْ‬
‫( َوقَا َ‬

‫أما النسان فأمره مختلف ‪..‬‬

‫فهو من ناحية ل يستغني عن فضل ال لحظة واحدة من حياته ‪:‬‬

‫سمَاءِ‬
‫ن ال ّ‬
‫غ ْيرُ اللّهِ َي ْرزُ ُق ُكمْ مِ َ‬
‫س ا ْذكُرُوا ِن ْعمَتَ اللّهِ عََل ْي ُكمْ هَلْ ِمنْ خَاِلقٍ َ‬
‫( يَا َأ ّيهَا النّا ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫وَا ْلَأرْضِ ل إِلَ َه إِلّا ُهوَ َفَأنّى تُ ْؤ َفكُو َ‬

‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة إبراهيم [ ‪. ] 8‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة فاطر [ ‪. ] 3‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫ومن ناحية أخرى هو عابد بفطرته ‪ .‬ل تمر عليه لحظة من عمره ل يكون فيها عابدا‬

‫لشيء ما ‪ ،‬واعيا بذلك أم على غير وعي منه (‪ . )1‬وهو ‪ -‬في أي لحظة من حياته ‪ -‬بين‬

‫أمرين اثنين ل ثالث لهما ‪ :‬إما أن يكون عابدا ل وحده بل شريك ‪ ،‬وإما أن يكون عابدا لشيء‬

‫آخر غير ال ‪ ،‬معه أو من دونه ‪ ،‬كلهما سواء ! مما يسميه ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ " -‬عبادة‬

‫الشيطان " لنه استجابة لدعوة الشيطان ‪:‬‬

‫ع ُبدُونِي َهذَا‬
‫ع ُدوّ ُمبِينٌ وََأنِ ا ْ‬
‫ن ِإنّ ُه َل ُكمْ َ‬
‫ش ْيطَا َ‬
‫ع َهدْ إَِل ْي ُكمْ يَا َبنِي آ َدمَ َأنْ ل َت ْعبُدُوا ال ّ‬
‫( أََلمْ َأ ْ‬

‫ستَقِيمٌ ) (‪. )2‬‬


‫صِرَاطٌ ُم ْ‬

‫كما أن في تركيب النسان ‪ -‬في فطرته التي فطره ال عليها ‪ -‬حبا عميقا للشهوات ‪،‬‬

‫يصفه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬على هذه الصورة ‪:‬‬

‫ن الذّهَبِ وَالْ ِفضّةِ‬


‫ن ال ّنسَاءِ وَا ْل َبنِينَ وَا ْل َقنَاطِيرِ ا ْلمُ َق ْنطَرَ ِة مِ َ‬
‫ش َهوَاتِ مِ َ‬
‫س حُبّ ال ّ‬
‫( زُيّنَ لِلنّا ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا ‪) ..‬‬
‫حرْثِ ذَِلكَ َمتَاعُ ا ْل َ‬
‫ل ا ْل ُمسَ ّومَةِ وَا ْلَأ ْنعَامِ وَا ْل َ‬
‫خيْ ِ‬
‫وَا ْل َ‬

‫‪ -‬فهي هي‬ ‫(‪)4‬‬


‫وهذه الشهوات ‪ -‬وإن كانت مركبة في فطرة النسان لحكمة يريدها ال‬

‫المداخل التي يستدرج الشيطان منها النسان النسان ليبعده عن عبادة ال ‪ ،‬بعدا مؤقتا كما يقع‬

‫في المعصية ‪ " :‬ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ‪ ،‬ول يسرق السارق حين يسرق وهو‬

‫مؤمن ‪ )5( " ..‬أو بعدا كامل ينقطع فيه ما بينه وبين ال ‪ ،‬في شرك أو كفر وجحود ‪:‬‬

‫ن خَلْ ِف ِهمْ‬
‫ستَقِيمَ ُثمّ لَآ ِت َي ّن ُهمْ مِنْ َب ْينِ َأ ْيدِي ِهمْ َومِ ْ‬
‫صرَاطَكَ ا ْل ُم ْ‬
‫غ َو ْي َتنِي َلَأ ْق ُعدَنّ َل ُهمْ ِ‬
‫( قَالَ َف ِبمَا أَ ْ‬

‫حتى الذين يقولون إنهم " ملحدون " ل يؤمنون بشيء ول يعبدون شيئا هم عابدون لهوائهم وشهواتهم‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫كما يقول سبحانه وتعالى ‪ " :‬أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ؟ " [ سورة الجاثية ‪. ] 23 :‬‬
‫سورة يس [ ‪. ] 61 - 60‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 14‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫هي من " الدوافع " التي يعلم ال أنها لزمة للنسان ليقوم بدور الخلفة في الرض ولكن في الحدود التي‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫أباحها ال ‪ ،‬وهي في الوقت ذاته نقطة البتلء في حياة النسان ‪ .‬انظر الفصل القادم " مفهوم العبادة " ‪.‬‬
‫أخرجه الشيخان ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫جدُ َأ ْك َثرَ ُهمْ شَا ِكرِينَ )‬
‫شمَائِلِ ِهمْ وَل َت ِ‬
‫ن َ‬
‫ن َأ ْيمَا ِن ِهمْ وَعَ ْ‬
‫َوعَ ْ‬

‫ول تستوي حياة النسان عابدا ل وعابدا للشيطان ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صرَاطٍ ُمسْتَقِيمٍ )‬
‫ن َي ْمشِي سَ ِويّا عَلَى ِ‬
‫جهِ ِه أَ ْهدَى َأمّ ْ‬
‫( َأ َفمَنْ َي ْمشِي ُم ِكبّا عَلَى َو ْ‬

‫ستَوِي الظُّلمَاتُ وَالنّورُ ) (‪. )3‬‬


‫عمَى وَا ْل َبصِيرُ َأمْ َهلْ َت ْ‬
‫ستَوِي ا ْلأَ ْ‬
‫ل َي ْ‬
‫( قُلْ هَ ْ‬

‫ومن فضل ال وكرمه أنه حين يؤدي العباد حق ال عليهم ‪ ،‬من إفراده باللوهية‬

‫والربوبية ‪ ،‬وتوجيه العبادة خالصة إليه ‪ ،‬يكونون في أحسن تقويم كما خلقهم ال ‪ .‬وتكون‬

‫حياتهم في الدنيا خير حياة وأنظف حياة وأجمل حياة ‪ ،‬ويكون لهم في الخرة ما وعدهم ال‬

‫من الجزاء ‪ ،‬بينما يتمتعون في الدنيا ‪ -‬إذا كفروا ‪ -‬متاع الحيوان ‪ ،‬ويكون لهم في الخرة ما‬

‫توعد ال به من الجزاء ‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫ن َكمَا َت ْأكُلُ ا ْلَأ ْنعَامُ وَالنّارُ َمثْوىً َل ُهمْ )‬
‫ن كَ َفرُوا َي َت َم ّتعُونَ َو َي ْأكُلُو َ‬
‫( َاّلذِي َ‬

‫عبَادِ ) (‪. )5‬‬


‫شرْ ِ‬
‫شرَى َفبَ ّ‬
‫ن َي ْعبُدُوهَا وََأنَابُوا إِلَى اللّهِ َل ُهمُ ا ْل ُب ْ‬
‫ت أَ ْ‬
‫ج َت َنبُوا الطّاغُو َ‬
‫( وَاّلذِينَ ا ْ‬

‫من أجل ذلك يحتاج النسان دائما إلى ل إله إل ال ‪..‬‬

‫يحتاج إليها وهو كافر أو مشرك ليصحح أصل اعتقاده ‪ ،‬ويحتاج إليها وهو مؤمن ليتنبه‬

‫ويحذر ‪ ،‬ويضيّق في نفسه مداخل الشيطان ‪ ،‬لكي ل يفتنه عن العبادة الحقة الواجبة ل ‪.‬‬

‫وفي جميـع الحـوال تؤدي ل إله إل ال مهمـة معينـة في حياة النسان ‪ ،‬ول‬

‫تكون " كلمة " تطلق في الهواء بغير مقتضى لها ول أثر في واقع الحياة ‪.‬‬

‫سورة العراف [ ‪. ] 17 - 16‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الملك [ ‪. ] 22‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة الرعد [ ‪. ] 16‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة محمد [ ‪. ] 12‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫سورة الزمر [ ‪. ] 17‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫فلننظر الن المهمة التي أدتها ل إله إل ال في حياة الجيـل الول ‪ -‬رضوان ال‬

‫عليهم ‪ -‬ولننظر قبل ذلك لماذا رفضها العرب المشركون وصارعوا الدعوة إليها ذلك الصراع‬

‫المرير الذي يعرفه التاريخ ‪..‬‬

‫إن ل إله إل ال هي دعوة الرسل جميعا ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليهم ‪ -‬من لدن آدم‬

‫ونوح إلى محمد ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وموقف الجاهلية تجاهها موقف واحد لم يتغير‬

‫خلل التاريخ ‪ :‬موقف الرفض والصد والعراض والجنوح ‪..‬‬

‫فما الذي فيها يدعو الجاهلية إلى اتخاذ هذا الموقف الموحد خلل التاريخ ‪ ،‬وخاصة من‬

‫جهة المل المستكبرين في كل جاهلية ‪.‬‬

‫ن ل َت ْع ُبدُوا إِلّا اللّ َه ِإنّي َأخَافُ عََل ْي ُكمْ‬


‫ن أَ ْ‬
‫( وَلَ َقدْ َأ ْرسَ ْلنَا نُوحا إِلَى قَ ْومِهِ ِإنّي َل ُكمْ َنذِيرٌ ُمبِي ٌ‬

‫ك ا ّت َبعَكَ إِلّا‬
‫ن قَ ْومِ ِه مَا َنرَاكَ إِلّا َبشَرا ِمثَْلنَا َومَا َنرَا َ‬
‫ل ا ْلمََلأُ اّلذِينَ كَ َفرُوا مِ ْ‬
‫ب يَ ْومٍ أَلِيمٍ فَقَا َ‬
‫عذَا َ‬
‫َ‬

‫ل َنظُّن ُكمْ كَا ِذبِينَ ) (‪. )1‬‬


‫اّلذِينَ ُه ْم َأرَاذُِلنَا بَا ِديَ الرّ ْأيِ َومَا َنرَى َل ُكمْ عََل ْينَا مِنْ َفضْلٍ بَ ْ‬

‫غيْـرُهُ ِإنْ َأ ْن ُتمْ إِلّا‬


‫ن إِلَهٍ َ‬
‫ع ُبدُوا اللّ َه مَا لَكـمْ مِ ْ‬
‫( وَإِلَى عَادٍ َأخَا ُهمْ هُودا قَالَ يَا قَ ْومِ ا ْ‬

‫ن َلكَ‬
‫ن قَوِْلكَ َومَا َنحْ ُ‬
‫حنُ ِبتَا ِركِي آِل َه ِتنَا عَ ْ‬
‫ج ْئتَنَا ِب َب ّينَةٍ َومَا َن ْ‬
‫مُ ْف َترُونَ ) ‪ ( ..‬قَالُوا يَا هُودُ مَا ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ِبمُ ْؤ ِمنِينَ )‬

‫شأَ ُكمْ مِنَ‬


‫غ ْيرُ ُه هُ َو َأ ْن َ‬
‫ن إِلَهٍ َ‬
‫ع ُبدُوا اللّ َه مَا َل ُكمْ مِ ْ‬
‫( وَإِلَى َثمُودَ َأخَا ُهمْ صَالِحا قَالَ يَا قَ ْومِ ا ْ‬

‫ح َقدْ ُكنْتَ‬
‫ب ُمجِيبٌ قَالُوا يَا صَالِ ُ‬
‫س َتغْ ِفرُو ُه ُثمّ تُوبُوا إَِل ْيهِ ِإنّ َربّي قَرِي ٌ‬
‫س َت ْع َم َركُمْ فِيهَا فَا ْ‬
‫ا ْلَأرْضِ وَا ْ‬

‫شكّ ِممّا َتدْعُونَا إَِليْ ِه ُمرِيبٍ ) (‪. )3‬‬


‫ن َن ْعبُدَ مَا َي ْعبُدُ آبَا ُؤنَا وَِإ ّننَا لَفِي َ‬
‫ل َهذَا َأ َت ْنهَانَا أَ ْ‬
‫فِينَا َم ْرجُوّا قَبْ َ‬

‫‪ )(1‬سورة هود [ ‪. ] 27 - 25‬‬


‫‪ )(2‬سورة هود [ ‪ 50‬إلى ‪. ] 53‬‬
‫‪ )(3‬سورة هود [ ‪. ] 62 - 61‬‬
‫غ ْيرُهُ وَل َتنْقُصُوا‬
‫ن إِلَهٍ َ‬
‫ع ُبدُوا اللّهَ مَا َل ُكمْ مِ ْ‬
‫ش َعيْبا قَالَ يَا قَ ْومِ ا ْ‬
‫( وَإِلَى َم ْديَنَ َأخَا ُهمْ ُ‬

‫شعَيْبُ‬
‫ب يَ ْومٍ ُمحِيطٍ ) ‪ ( ..‬قَالُوا يَا ُ‬
‫عذَا َ‬
‫خ ْيرٍ وَِإنّي َأخَافُ عََل ْي ُكمْ َ‬
‫ا ْل ِم ْكيَالَ وَا ْلمِيزَانَ ِإنّي َأرَا ُكمْ ِب َ‬

‫ك َلَأنْتَ ا ْلحَلِيمُ‬
‫ل فِي َأ ْموَاِلنَا مَا َنشَاءُ ِإ ّن َ‬
‫ن نَ ْفعَ َ‬
‫ن َنتْ ُركَ مَا َي ْع ُبدُ آبَا ُؤنَا أَ ْو أَ ْ‬
‫ك أَ ْ‬
‫َأصَلتُـكَ َت ْأ ُمرُ َ‬

‫الرّشِيدُ ) (‪. )1‬‬

‫ولم تكن الجاهلية العربية بدعا من الجاهليات تجاه ذات الدعوة التي أرسل بها كل‬

‫رسول من قبل ‪ .‬فلماذا وقفت الجاهلية العربية هذا الموقف العنيد ‪ ،‬وأبت ذلك الباء ‪ ،‬كما‬

‫وقفت كل جاهلية من قبل ؟‬

‫أمن أجل الكلمـة ؟ أم من أجل مدلولها ومقتضاها ؟ وماذا كان مدلولها في حسهم‬

‫بالضبط ؟ وما الفارق ‪ -‬حسب مدلول الكلمة ‪ -‬بين صورة حياتهم التي كانوا عليها وبين‬

‫عوْن إليها ‪ ،‬أو يتوقعون أن تكون عليها حين يدخلون في ل إله إل ال ؟‬


‫الصورة التي ُيدْ َ‬

‫أما الكلمة في ذاتها ‪ -‬بغير مقتضى ول مدلول ‪ -‬فل يتصور من قريش خاصة أن تقف‬

‫من أجلها موقف العناد الشديد كله الذي وقفته ‪ ،‬وتخوض من أجلها ذلك الصراع كله الذي‬

‫خاضته ‪ ،‬حتى يفلت المر من أيديها ‪ ،‬ويقتل من صناديدها من يقتل ‪ ..‬كما ل يتصور من‬

‫بقية العرب كذلك أن يخوضوا صراعا هائل من أجل كلمة ‪ ،‬لو كانت تلك الكلمة ل تغير من‬

‫حياتهم شيئا ‪ ،‬ول تقدم ول تؤخر ‪.‬‬

‫فأما قريش ‪ ،‬فإن القبيلة التي كان يولد فيها شاعر كانت تتيه فخرا على بقية القبائل ‪،‬‬

‫فكيف بالتي يخرج منها نبي ؟ ! وقد كان لقريش خاصة زعامة " دينية " تعطيها في الوقت‬

‫ذاته مركزا سياسيا واقتصاديا متميزا ‪ ،‬ومولد نبي فيها يزيد الزعامة الدينية بروزا ‪ ،‬ومن ثم‬

‫يؤكد المركز السياسي والقتصادي ويزيده وثاقة ‪.‬‬

‫فلماذا رفضت قريش أن تنطق الكلمة ‪ ..‬لو أنها مجرد كلمة تقال ؟ !‬

‫‪ )(1‬سورة هود [ ‪. ] 87 - 84‬‬


‫ولقد قال رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬لعمه أبي طالب وهو يناشده أن يسلم ‪:‬‬

‫قلها يا عم ! كلمة أشفع لك بها عند ال ! فهل كان يتصور من أبي طالب أن يرفض الكلمة لو‬

‫أنها مجرد الكلمة ‪ ،‬أي لو لم يكن لها مقتضى ‪ ،‬ول يترتب على قولها تغيير ؟ أم إنه رفضها‬

‫من أجل ما يترتب على التلفظ بها من تغيير كامل في منهج الحياة كله ‪ ،‬وفي كل جزئية من‬

‫جزئياته ؟‬

‫تلك بديهية ل نحسبها موضع جدال ‪.‬‬

‫لقد كان البون شاسعا جدا بين صورة حياتهم التي كانوا عليها والصورة التي يدعون‬

‫إليها ‪ ،‬وكانت معارضتهم لهذه الدعوة متعددة الصور متعددة السباب ‪:‬‬

‫كانوا يكذبون بقضية الوحي ‪..‬‬

‫ويكذبون بالبعث والحشر والحساب والجزاء ‪..‬‬

‫وكانوا يرفضون أن يجعلوا اللهة إلها واحدا ‪..‬‬

‫وكانوا يرفضون أن يتركوا ما عليه آباؤهم ويتبعوا ما أنزل ال ‪ ،‬وأن يكون حللهم‬

‫وحرامهم ما أحل ال وما حرم ال ‪..‬‬

‫وذلك فضل عن المور " الخلقية " الخرى كالخمر والميسر والزنا والقتل والسلب‬

‫والنهب ووأد البنات وأكل مال اليتيم والظلم المتفشي بينهم والبغي بغير الحق ‪..‬‬

‫باختصار ‪ ..‬كانوا يرفضون أن يتلقوا " الدين " من عند ال ‪ ،‬بمعناه الواسع الشامل ‪،‬‬

‫الذي يشمل العتقاد والشعائر والتحليل والتحريم ‪ ،‬والخلقيات والتصورات ‪ ،‬كما يرفضون‬

‫أن يلتزموا بما يلزمهم به الدين المنزل من عند ال ‪.‬‬

‫وكانت أهم القضايا التي ركز عليها القرآن قضيتان رئيسيتان ‪ ،‬تجمعان في طياتهما‬
‫جميع القضايا ‪ :‬قضية توجيه العبادة ل الواحد ‪ ،‬وقضية اتباع ما أنزل ال في التحليل‬

‫والتحريم ‪:‬‬

‫ج َعلَ الْآ ِل َهةَ إِلَها وَاحِدا‬


‫حرٌ َكذّابٌ َأ َ‬
‫ن َهذَا سَا ِ‬
‫ن جَاءَ ُهمْ ُم ْنذِ ٌر ِم ْنهُمْ َوقَالَ ا ْلكَا ِفرُو َ‬
‫جبُوا أَ ْ‬
‫عِ‬‫( وَ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫عجَابٌ )‬
‫شيْءٌ ُ‬
‫ن َهذَا َل َ‬
‫إِ ّ‬

‫( وَِإذَا قِيلَ َل ُهمُ اتّ ِبعُوا مَا أَنْ َز َل الّلهُ قَالُوا َبلْ نَتّبِ ُع مَا َوجَدْنَا عَلَ ْيهِ آبَاءَنَا َأوَلَ ْو كَانَ‬
‫(‪)2‬‬
‫سعِيرِ )‬
‫ب ال ّ‬
‫عذَا ِ‬
‫ن َيدْعُو ُهمْ إِلَى َ‬
‫شيْطَا ُ‬
‫ال ّ‬

‫ويلخص القرآن موقف الشرك في هاتين القضيتين تلخيصا دقيقا في سورة النعام‬

‫وسورة النحل ‪:‬‬

‫ن شَيْ ٍء َكذَِلكَ َكذّبَ‬


‫ح ّر ْمنَا مِ ْ‬
‫ن َأشْ َركُوا لَ ْو شَاءَ اللّهُ مَا َأشْ َر ْكنَا وَل آبَا ُؤنَا وَل َ‬
‫ل اّلذِي َ‬
‫سيَقُو ُ‬
‫( َ‬

‫حتّى ذَاقُوا َب ْأسَنَا ) (‪. )3‬‬


‫اّلذِينَ ِمنْ َقبِْلهِ ْم َ‬

‫ح ّر ْمنَا‬
‫ن وَل آبَا ُؤنَا وَل َ‬
‫شيْءٍ َنحْ ُ‬
‫ع َبدْنَا ِمنْ دُو ِنهِ ِمنْ َ‬
‫ش َركُوا َلوْ شَا َء اللّ ُه مَا َ‬
‫ل اّلذِينَ َأ ْ‬
‫( َوقَا َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫ن شَيْ ٍء َكذَِلكَ َفعَلَ اّلذِينَ ِمنْ َقبِْلهِ ْم فَهَلْ عَلَى ال ّرسُلِ إِلّا ا ْلبَلغُ ا ْل ُمبِينُ )‬
‫ن دُونِ ِه مِ ْ‬
‫مِ ْ‬

‫فالشرك يتمثل ‪ -‬في صورته العتقادية ‪ -‬في العتقاد بوجود آلهة أخرى غير ال ‪،‬‬

‫وفي صورته العملية في التوجه بالعبادة لغير ال ‪ ،‬والتحريم والتحليل من دون ال ‪.‬‬

‫وهذا الذي من أجله رفض المشركون العرب أن ينطقوا بل إله إل ال ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫سورة ص [ ‪. ] 5 - 4‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة لقمان [ ‪. ] 21‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 148‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة النحل [ ‪. ] 35‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫أشرنا فيما سبق إلى أن هذا الموقف ‪ -‬موقف الرفض والصد ‪ -‬لم يكن خاصا بالجاهلية‬

‫العربية وحدها ‪ ،‬إنما هو أمر عام في كل الجاهليات التي كانت من قبل ‪ .‬وآيتا سورة النعام‬

‫وسورة النحل اللتان ذكرناهما آنفا تشيران إلى ذلك ‪:‬‬

‫" كذلك كذب الذين من قبلهم " ‪.‬‬

‫" كذلك فعل الذين من قبلهم " ‪.‬‬

‫كما أن قصص النبياء تشير كلها إلى هذه الحقيقة التاريخية ‪ .‬ففي كل جاهلية أرسل‬

‫إليها رسول نجد " المل " يسارعون إلى التصدي للرسول وتكذيبه ومحاول‪،‬ة تخذيله عن‬

‫دعوته ‪ ،‬ونجد " الجماهير " المستضعفة تتبع سادتها ‪ -‬إل القليل منهم ‪ -‬وتصد عن السبيل ‪.‬‬

‫وقد ترفض الجماهير أن تترك مألوف عبادتها من اللهة المتعددة ‪ ،‬لن الجماهير ‪ -‬في‬

‫جاهليتها ‪ -‬تكون أكثر التصاقا بعالم الحس ‪ .‬وهذه اللهة المحسوسة القريبة تلبي انحرافاتها‬

‫الجاهلية ‪ ،‬وتجعلها تحس كلما رأتها أو لمستها أو قدمت لها القرابين أو شعائر التعبد ‪ ،‬أنها‬

‫قريبة من آلهتها قربا ماديا محسوسا !‬

‫وأما المل ‪ -‬وهم أكثر تنورا وأكثر استعلء عن الجماهير ‪ -‬فإن الذي يحركهم لمحاربة‬

‫الرسول المبعوث إليهم ليس قضية اللهة المزعومة بقدر ما هو قضية " السلطة " !‬

‫إن ولءهم لهذه اللهة صوري أكثـر مما هو حقيقي ! وإن دفاعهم عنها ‪ -‬مهما بدا‬

‫حارا ‪ -‬ل ينبعث من العتقاد بألوهيتها بقدر ما ينبعث من كونها هي الداة التي يستعبدون‬

‫باسمها الجماهير ‪ ،‬ويعطون أنفسهم سلطانا مقدسا مستمدا من قداستها في نفوس الجماهير !‬

‫أما القضية الحقيقية بالنسبة إليهم فهي قضية الحاكمية ‪ :‬من يحكم هذه الجماهير ؟ هم ؟‬

‫أم ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عن طريق تحكيم شريعته ؟‬

‫هذه هي القضية الحقيقية التي تستفز المل في كل جاهلية ليحاربوا دعوة ل إله إل ال ‪.‬‬
‫إن السلطة التي في أيديهم ‪ ،‬سلطة التشريع التي يحكمون بها الجماهير ‪ -‬ويستذلونهم‬

‫بها ‪ -‬ليست سلطتهم أصل ‪ ،‬إنما هي حق الخالق الرازق المنعم المتفضل ‪ ،‬الذي خلق ‪ ،‬ثم‬

‫رزق وأنعم وتفضل ‪ ،‬فكان من حقه وحده أن يحل ويحرم ‪ ،‬وأن يبيح ويمنع ‪ ،‬وليس لحد‬

‫غيره أن يشرع ‪ -‬أي يحل ويحرم ‪ -‬إل أن يكون خالقا مثل ال ‪ ،‬رازقا مثل ال ‪ ،‬منعما‬

‫شيْءٌ ) (‪. )1‬‬


‫متفضل مثل ال ‪ .‬وال ( َليْسَ َك ِمثْلِ ِه َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ن ل َيخُْلقُ َأفَل َت َذ ّكرُون )‬
‫( َأ َفمَنْ َيخُْلقُ َكمَ ْ‬

‫ن ) (‪. )3‬‬
‫سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ ل إِلَ َه إِلّا ُهوَ َفَأنّى تُ ْؤ َفكُو َ‬
‫غ ْيرُ اللّ ِه َيرْ ُز ُقكُ ْم مِنَ ال ّ‬
‫ن خَالِقٍ َ‬
‫ل مِ ْ‬
‫( هَ ْ‬

‫ولكن " المل " يتجاهلون هذه الحقيقة ‪ ،‬ويتجاهلون أسسها " العتقادية " ومقتضياتها‬

‫العملية ‪ ،‬حين يستبدون بالسلطة ‪ -‬سواء حكموا بالدكتاتورية الصريحة أم من وراء ستار كما‬

‫هو الحال في " الديمقراطية " (‪ ، )4‬وسواء استجابوا لشهوات الجماهير وأهوائهم أم اكتفوا‬

‫بشهواتهم هم وأهوائهم (‪ - )5‬ويظلون يؤصلون سلطانهم " بأنظمة " للحكم و " دساتير " عرفية‬

‫أو مكتوبة تجعل لهم الحق في التحليل والتحريم ‪ ،‬والباحة والمنع ‪..‬‬

‫حتى إذا جاء رسول من عند ال يقول ‪ " :‬ل إله إل ال " " اعبدوا ال ما لكم من إله‬

‫غيره " يتغير الموقف كله !‬

‫إن المل قد يختصمون فيما بينهم أيهم الذي يتولى " السلطة " ويستعبد الجماهير ‪ .‬وقد‬

‫يختصمون فيما بينهم وبين الجماهير ‪ -‬كما حدث في الديمقراطية ‪ -‬أي قدر من السلطة‬

‫سورة الشورى [ ‪. ] 11‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النحل [ ‪. ] 17‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة فاطر [ ‪. ] 3‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫انظر إن شئت فصل " الديمقراطية " من كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " حيث بينا كيف تحكم الرأسمالية‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫من خلل الديمقراطية ‪ ،‬وكيف تحقق جميع مصالحها بينما يتوهم " الشعب " أنه هو مصدر السلطات ‪.‬‬
‫في الديمقراطية بالذات يستجاب لكثير من شهوات الجماهير الهابطة ‪ ،‬كجزء من اللعبة الضخمة ‪ ،‬لتمرير‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫مصالح الرأ سمالية الحاكمة وإيهام الجماهير أنها هي صاحبة السلطان !‬
‫يحتفظون به في أيديهم وأي قدر يسقطونه فُتَاتا تتلهى به الجماهير ‪ .‬أما حين يأتي الرسول‬

‫الذي يقول ‪ " :‬ل إله إل ال " " اعبدوا ال ما لكم من إله غيره " فإن جوهر القضية يتغير ‪..‬‬

‫وتصبح القضية هي نزع السلطة أصل من أيدي المل ‪ ،‬بل من أيدي البشر جميعا ‪ ،‬وردها‬

‫إلى ال صاحب السلطان ‪ ،‬صاحب الحق في المنع والباحة ‪ ،‬والتحليل والتحريم !‬

‫ومن أجل ذلك يفزع " المل " من دعوة ل إله إل ال أضعاف أضعاف ما يفزعون من‬

‫منازعيهم على السلطان الرضي ‪ ،‬ويجندون طاقتهم كلها لمحاربة الدعوة ‪ ،‬ويستخدمون‬

‫الجماهير ذاتها من بين الدوات التي يستخدمونها لهذه الحرب ‪ ،‬بتزييف الحقائق لها تارة ‪،‬‬

‫وتارة بالرهاب !‬

‫ظ ِهرَ فِي‬
‫ن ُي َبدّلَ دِي َنكُمْ َأوْ َأنْ ُي ْ‬
‫ل مُوسَى وَ ْل َي ْدعُ َربّ ُه ِإنّي َأخَافُ أَ ْ‬
‫ن ذَرُونِي َأقْتُ ْ‬
‫عوْ ُ‬
‫ل فِرْ َ‬
‫( َوقَا َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ا ْلَأرْضِ الْ َفسَادَ )‬

‫ن َب ْعدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى ِفرْعَ ْونَ َومََلأِ ِه بِآيا ِتنَا فَاسْ َت ْك َبرُوا َوكَانُوا قَوْما‬
‫( ُثمّ َب َع ْثنَا مِ ْ‬

‫حقّ َلمّا‬
‫ن لِ ْل َ‬
‫ل مُوسَى َأتَقُولُو َ‬
‫ن قَا َ‬
‫حرٌ ُمبِي ٌ‬
‫سْ‬‫ن َهذَا َل ِ‬
‫ع ْن ِدنَا قَالُوا إِ ّ‬
‫ق مِنْ ِ‬
‫ن فَلَمّا جَاءَ ُه ُم ا ْلحَ ّ‬
‫ُمجْ ِرمِي َ‬

‫ج ْدنَا عََليْ ِه آبَا َءنَا وَ َتكُونَ َل ُكمَا‬


‫عمّا َو َ‬
‫ج ْئتَنَا ِلتَلْ ِف َتنَا َ‬
‫ح السّاحِرُونَ قَالُوا َأ ِ‬
‫سحْرٌ َهذَا وَل يُفْلِ ُ‬
‫جَا َء ُكمْ َأ ِ‬

‫ن ) (‪. )2‬‬
‫حنُ َل ُكمَا ِبمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫ض َومَا َن ْ‬
‫ا ْلكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْ ِ‬

‫خفّ قَ ْومَ ُه َفأَطَاعُو ُه ِإ ّنهُ ْم كَانُوا قَوْما فَاسِقِينَ ) (‪. )3‬‬


‫( فَاسْ َت َ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وفي مكة كانت القضية هي ذات القضية ‪ ..‬وكانت قريش هي " المل " الذي يتصدى‬

‫للدعوة بالصد والحرب ‪ .‬ولم تكن في حقيقتها حربا بين قريش ومحمد ‪ -‬صلى ال عليه‬

‫سورة غافر [ ‪. ] 26‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة يونس [ ‪. ] 78 - 75‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة الزخرف [ ‪. ] 54‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫وسلم‪ -‬إنما كانت حربـا بينهـم وبين " الدعوة " التي يحملها رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪: -‬‬

‫حدُونَ ) (‪. )1‬‬


‫جَ‬‫( َفِإ ّنهُمْ ل ُي َك ّذبُو َنكَ وََل ِكنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ َي ْ‬

‫وفي ذروة المعمعة أرسلت قريش رسولها إلى رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬

‫يعرض عليه الملك والمال ومتاع الرض كله على أن يتخلى عن تلك الدعوة ! فلم تكن‬

‫العداوة بينهم وبين شخص الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬إنما نجمت العداوة من تمسكه‬

‫بهذه الدعوة وعدم تخليه عنها ‪ ،‬وهم ل يطيقونها ول يصبرون عليها ! ثم كان ل بد أن تتحول‬

‫في النهاية إلى معركة بينهم وبين ممثل الدعوة ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪.. -‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ثم شاء ال أن يؤمن من آمن بل إله إل ال ‪ ،‬فكان منهم ذلك الجيل الفريد في التاريخ ‪..‬‬

‫فكيف كانت ل إله إل ال في حياتهم ‪ ،‬وكيف كان مدلولها لديهم ؟ !‬

‫هل كانت مجرد تصديق بأن ال واحد ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬وأنه ل إله غيره في هذا‬

‫الكون العريض كله ؟ أو كانت مجرد تصديق بالقلب وإقرار باللسان ؟ !‬

‫أم كانت في نفوسهم وفي واقع حياتهم شيئا أضخم من ذلك بكثير ‪ ،‬وأعمق من ذلك‬

‫بكثير ‪ ،‬وأشمل من ذلك بكثير ؟ !‬

‫فلننظر إلى حقيقة الواقع ‪..‬‬

‫‪ -‬شتيتا متناثرا ل يأتلف ول‬ ‫(‪)2‬‬


‫كان العرب ‪ -‬كما أشرنا في كتاب " واقعنا المعاصر "‬

‫يتجمع رغم وجود كل عوامل التجمع ‪ ،‬من وحدة الرض ‪ ،‬ووحدة البيئة ‪ ،‬ووحدة اللغة ‪،‬‬

‫سورة النعام [ ‪. ] 33‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬فصل " نظرة إلى الجبل الفريد ‪.‬‬ ‫()‬
‫ووحدة المعتقدات ‪ ،‬ووحدة الثقافة ‪ ،‬ووحدة التاريخ ‪ ..‬ومن هناك التقطهم السلم فأخرج منهم‬

‫" خير أمة أخرجت للناس " ‪.‬‬

‫لم تكن الصنام وحدها هي الرباب المعبودة في الجزيرة العربية كما تلح بعض كتب‬

‫التاريخ التي تحصر قضية ل إله إل ال في إزالة ذلك اللون الحسّي الغليظ من الشرك ‪ ،‬ول‬

‫كان الفساد مقصورا على تلك المفاسد الخلقية من الخمر والميسر والزنا ووأد البنات وغارات‬

‫السلب والنهب والمظالم الجتماعية كما تلح كتب أخرى من كتب التاريخ !‬

‫لقد كانت ل إله إل ال تستخلص النفوس من الشرك كافة ‪ ،‬ولم يكن الشرك لونا واحدا‬

‫وإنما ألوانا متعددة تندرج في النهاية تحت هاتين القضيتين الرئيسيتين ‪ :‬تعدد اللهة واتباع‬

‫غير ما أنزل ال ‪..‬‬

‫كانت القبيلة ربا معبودا ‪ ،‬كما يقول الشاعر ‪:‬‬

‫وهل أنا من غزية ‪ ،‬إن غوت‬

‫غويت ‪ ،‬وإن ترشد غزية أرشد !‬

‫وكان عرف الباء والجداد ربا معبودا ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ج ْدنَا عََليْ ِه آبَا َءنَا )‬
‫ل َن ّتبِعُ مَا َو َ‬
‫( وَِإذَا قِيلَ َل ُهمُ ا ّت ِبعُوا مَا َأ ْنزَلَ اللّ ُه قَالُوا بَ ْ‬

‫وكان الهوى والشهوات أربابا معبودة ‪:‬‬

‫أل أيهذا الزاجري أحضر الوغى‬

‫وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي ؟ !‬

‫سورة لقمان [ ‪. ] 21‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫وكانت قريش وغيرها من القبائل الكبيرة أربابا تحرم للعرب ما تشاء وتحل ما تشاء ‪،‬‬

‫كما كان كهنة الصنام ‪:‬‬

‫ن كَ َفرُوا ُيحِلّونَهُ عَاما َو ُيحَ ّرمُو َنهُ عَاما‬


‫( ِإ ّنمَا ال ّنسِيءُ ِزيَادَةٌ فِي ا ْلكُ ْفرِ ُيضَلّ ِبهِ اّلذِي َ‬

‫عمَاِل ِهمْ وَاللّهُ ل َي ْهدِي ا ْلقَ ْومَ‬


‫ح ّرمَ اللّ ُه ُزيّنَ َل ُه ْم سُو ُء أَ ْ‬
‫َفيُحِلّوا مَا َ‬ ‫(‪)1‬‬
‫ح ّرمَ اللّ ُه‬
‫عدّ َة مَا َ‬
‫طئُوا ِ‬
‫ِليُوَا ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ا ْلكَا ِفرِينَ )‬

‫ع ِم ِهمْ وَ َهذَا ِلشُ َركَا ِئنَا‬


‫حرْثِ وَا ْلَأ ْنعَا ِم نَصِيبا فَقَالُوا َهذَا لِلّ ِه ِبزَ ْ‬
‫جعَلُوا لِلّهِ ِممّا ذَرَأَ ِمنَ ا ْل َ‬
‫( َو َ‬

‫ح ُكمُونَ‬
‫ش َركَا ِئهِمْ سَا َء مَا َي ْ‬
‫ن لِلّ ِه َفهُوَ َيصِلُ إِلَى ُ‬
‫ش َركَا ِئ ِهمْ فَل َيصِلُ إِلَى اللّهِ َومَا كَا َ‬
‫َفمَا كَانَ ِل ُ‬

‫ش َركَاؤُ ُهمْ ِل ُي ْردُو ُهمْ وَِليَ ْل ِبسُوا عََل ْي ِهمْ دِي َنهُمْ وََلوْ شَاءَ‬
‫ن َقتْلَ أَوْلدِ ِهمْ ُ‬
‫ش ِركِي َ‬
‫ن ِل َكثِيرٍ ِمنَ ا ْل ُم ْ‬
‫َو َكذَِلكَ َزيّ َ‬

‫ع ِم ِهمْ‬
‫ن َنشَاءُ ِبزَ ْ‬
‫ط َع ُمهَا إِلّا مَ ْ‬
‫جرٌ ل َي ْ‬
‫حْ‬‫حرْثٌ ِ‬
‫اللّ ُه مَا َفعَلُو ُه َفذَرْ ُهمْ َومَا يَ ْف َترُونَ َوقَالُوا َهذِ ِه َأ ْنعَامٌ َو َ‬

‫جزِيهِمْ ِبمَا كَانُوا‬


‫سيَ ْ‬
‫سمَ اللّهِ عََل ْيهَا افْ ِترَاءً عََليْ ِه َ‬
‫ناْ‬
‫ظهُورُها وََأ ْنعَامٌ ل َيذْ ُكرُو َ‬
‫ح ّرمَتْ ُ‬
‫وََأ ْنعَامٌ ُ‬

‫جنَا وَِإنْ َي ُكنْ َم ْيتَةً‬


‫ن َهذِهِ ا ْلَأ ْنعَامِ خَاِلصَةٌ ِل ُذكُو ِرنَا َو ُمحَ ّرمٌ عَلَى َأزْوَا ِ‬
‫يَ ْف َترُونَ َوقَالُوا مَا فِي ُبطُو ِ‬

‫ن َقتَلُوا َأوْلدَ ُهمْ سَفَها ِب َغيْرِ عِ ْلمٍ‬


‫خسِرَ اّلذِي َ‬
‫حكِيمٌ عَلِيمٌ َقدْ َ‬
‫جزِيهِمْ َوصْ َف ُهمْ ِإنّ ُه َ‬
‫س َي ْ‬
‫َفهُمْ فِي ِه شُ َركَاءُ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫ح ّرمُوا مَا رَ َز َقهُ ُم اللّ ُه افْ ِترَاءً عَلَى اللّهِ َقدْ ضَلّوا َومَا كَانُوا ُم ْه َتدِي َ‬
‫َو َ‬

‫ومن كل هذه اللوان من الشرك ‪ -‬إلى جانب عبادة الصنام ‪ -‬وعلى درجة واحدة من‬

‫الهميـة ‪ ،‬كان القرآن يدعو ‪ -‬بل إله إل ال ‪ -‬لتخليص النفوس والقلوب ‪ ،‬والمشاعر‬

‫والسلوك ‪ .‬وكان جهاد الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬في مكة موجها إليها جميعا بأمر ال‬

‫وتوجيهه لرسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪. -‬‬

‫ولئن كانت قضية البعث والحساب قد شغلت حيزا كبيرا من خطاب القرآن للمشركين‬

‫كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بحرمة الشهر الحرم الربعة التي حرمها ال ‪ ،‬ولكنهم كانوا إذا‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫اقتضتهم أهواؤهم يحلون ما شاءوا من هذه الشهر ‪ ،‬ويحرمون بدل منها ما شاءوا بحيث يظل مجموع‬
‫الشهر الحرم أربعة في العام ! وإلى هذا تشير الية الكريمة ‪.‬‬
‫‪ )(2‬سورة التوبة [ ‪. ] 37‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 140 - 136‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫في مكة ‪ ،‬فإن ال يعلم ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ما لليمان باليوم الخر من أثر في اقتلع الشرك بجميع‬

‫أنواعه وجميع آثاره من القلوب ‪ ،‬ذلك أنهم إن لم يؤمنوا اليمان القاطع أنهم سيبعثون بعد‬

‫الموت ‪ ،‬ويحاسبون على شركهم ‪ ،‬فلن َيدَعُوا ذلك الشرك ولن يقلعوا عنه ‪ ،‬سواء كان شرك‬

‫العبادة أو شرك التباع ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وحين خلصت نفوس المؤمنين بل إله إل ال من تلك اللوان من الشرك ‪ ،‬فقد حدث في‬

‫نفوسهم تحوّل هائل ‪ ..‬كأنه ميلد جديد ‪.‬‬

‫لم يكن مجرد التصديق ‪ ،‬ول مجرد القرار ‪..‬‬

‫لقد كان ‪ -‬كما ذكرنا في غير هذا الكتاب ‪ -‬كأنه إعادة ترتيب ذرات نفوسهم على‬

‫وضع جديد ‪ ،‬كما يعاد ترتيب الذرات في قطعة الحديد فتتحول إلى طاقة مغنطيسية كهربائية ‪.‬‬

‫كان الهتداء إلى " الحق " هائل الثر في كل جوانب حياتهم ‪..‬‬

‫لقد زالت لتوها كل الرباب الزائفة التي كانت تحتل قلوبهم وأرواحهم وواقع سلوكهم ‪،‬‬

‫ولم يعد يشغل تلك القلوب والرواح إل عبادة واحدة ‪ ،‬ل الواحد ل شريك له ‪..‬‬

‫وسقط مع تلك الرباب الزائفة كل ما كان متعلقا بها من أعراف ‪ ،‬وكل ما كان حولها‬

‫من اهتمامات ‪..‬‬

‫لم تعد القبيلة ‪ ،‬ول عرف الباء والجداد (‪ ، )1‬ول العادات ول التقاليد الموروثة تزن في‬

‫حسهم جناح بعوضة أو تضغط على حسهم لتشكل سلوكهم أو مشاعرهم ‪ ..‬ولم تعد روابط الدم‬

‫‪ ،‬ول روابط " المصالح " هي التي تجمّع بينهم أو تفرّقهم ‪..‬‬

‫‪ )(1‬يقابل هذا العرف في وقتنا الحاضر ما يسمى بالرأي العام !‬


‫بل لم تعد الدنيا كلها ‪ -‬بكل اشتباكاتها وكل وشائجها ‪ -‬هي الشغل الشاغل لهم كما‬

‫كانت قبـل إيمانهم بل إله إل ال ‪ ،‬ولم تعد " القيم " هي التي تقررها الدنيا منقطعة عن‬

‫الخرة !‬

‫لقد صارت " ل إله إل ال " هي مفتاح التجمع والفتراق ‪ ..‬هي الرباط الذي يربط‬

‫القلوب التي آمنت بها ‪ ،‬ويفصل بينها وبين غيرها من القلوب ‪ .‬وصار التجمّع الجديد ‪ ،‬الذي‬

‫أخذ في نفوسهم مكان التجمعات القديمة كلها ‪ ،‬منبثقا كله من ل إله إل ال ‪ ،‬دائرا حول ل إله‬

‫إل ال ‪ ،‬مستمدا وجوده الجديد كله من ل إله إل ال ‪.‬‬

‫ثم كان الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬الذي هداهم لل إله إل ال ‪ ،‬والذي تمثلت فيه‬

‫رسالة ال إليهم ‪ -‬يلتقي بهم في دار الرقم ليقوم بأعظم عمل قام به إنسان فرد في تاريخ‬

‫البشرية كله ‪ ،‬وهو تربية ذلك الجيل الفريد على مقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬وأخلقيات ل إله إل‬

‫ال ‪..‬‬

‫ومن خلل هذه التربية الفذة على مقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬وأخلقيات ل إله إل ال ‪،‬‬

‫على يد رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬خرجت خير أمة في التاريخ ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫يتوهم كثير من الناس أن ل إله إل ال كانت مطلوبة بكل مقتضياتها ‪ ،‬ومؤثرة في ذلك‬

‫الجيل الفريد بكل آثارها لنهم كانوا ‪ -‬قبل ذلك ‪ -‬مشركين ! ! وأنهم لو كانوا في غير هذا‬

‫الوضع لكان كل المطلوب منهم هو التصديق والقرار ! !‬

‫وتلك هي الجناية الكبرى التي جناها الفكر الرجائي على المة السلمية ‪ ،‬والتي ظلت‬

‫‪ -‬مع عوامل أخرى ‪ -‬تفرغ ل إله إل ال من محتواها الحقيقي تدريجيا حتى أحالتها في‬

‫النهاية كلمة خاوية من الروح ‪.‬‬


‫وقبل أن نناقش هذا الوهم ‪ ،‬نريد أن نستعرض ‪ -‬قليل ‪ -‬صورة ل إله إل ال مع‬

‫المؤمنين في المدينة ‪.‬‬

‫إن حديث ل إله إل ال ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬لم ينقطع في المدينة ‪ ،‬لنه ليس حديثا يذكر في‬

‫مبدإ الطريق ثم ينتقل منه إلى موضوع آخر ‪ ،‬إنما يذكر في مبدإ الطريق ثم ينتقل معه إلى كل‬

‫موضوع آخر ‪.‬‬

‫ولنأخذ نماذج من السور المدنية تبين هذا المر ‪.‬‬

‫إن سورة البقرة التي تناولت موضوعات متعددة بدأ بها تنظيم حياة المؤمنين في‬

‫المجتمع الجديد بعد قيام الدولة ‪ ،‬تبدأ بوصف المؤمنين الذين صح اعتقادهم ورسخ على‬

‫الصورة الصحيحة ‪ ،‬ثم أدوا العبادات التي فرضت عليهم ‪:‬‬

‫ن بِا ْلغَيْبِ َويُقِيمُونَ الصّلةَ َو ِممّا‬


‫ن اّلذِينَ يُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫ك ا ْل ِكتَابُ ل َريْبَ فِي ِه هُدىً لِ ْل ُمتّقِي َ‬
‫( الم ذَِل َ‬

‫ن قَبِْلكَ َوبِالْآخِرَ ِة ُهمْ يُو ِقنُونَ أُوَل ِئكَ‬


‫ن ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْيكَ َومَا ُأ ْنزِلَ مِ ْ‬
‫ن يُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫رَ َز ْقنَاهُمْ ُينْفِقُونَ وَاّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫عَلَى هُدىً ِمنْ َر ّب ِهمْ وَأُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلمُفِْلحُو َ‬

‫فماذا يقال لهؤلء " المؤمنين " " المتقين " " المفلحين " الذين لم يستوفوا فقط شرط‬

‫التصديق والقرار ‪ ،‬بل أضافوا إلى ذلك إقامة الصلة ‪ ،‬وإيتاء الزكاة ‪ ،‬وهما العبادتان اللتان‬

‫كانتا وقتئذ قد فرضتا عليهم ؟‬

‫هل يقال لهم ‪ :‬يكفيكم ! أحرزتم المطلوب كله وضمنتم الجنة ‪ ..‬أم يقال لهم ‪ :‬إن ال‬

‫فرض عليكم ‪ ،‬وفرض عليكم وفرض عليكم ‪ ..‬على سبيل الوجوب ل على سبيل التخيير ؟‬

‫ويقال لهم ‪ ،‬لكي يعلموا يقينا أن حقيقة اليمان ل تتحقق بالتصديق والقرار وحده ‪،‬‬

‫ولكن بأعمال معينة دالة على اليمان ‪:‬‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 5 - 1‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫ن بِاللّهِ وَا ْليَ ْومِ‬
‫ن آمَ َ‬
‫ن ا ْل ِبرّ مَ ْ‬
‫ن تُوَلّوا ُوجُو َه ُكمْ ِقبَلَ ا ْل َمشْ ِرقِ وَا ْل َمغْرِبِ وََلكِ ّ‬
‫س ا ْلبِ ّر أَ ْ‬
‫( َليْ َ‬

‫حبّ ِه ذَوِي الْ ُق ْربَى وَا ْل َيتَامَى وَا ْل َمسَاكِينَ وَابْنَ‬


‫الْآخِرِ وَا ْلمَل ِئكَةِ وَا ْل ِكتَابِ وَال ّن ِبيّينَ وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَى ُ‬

‫ن ِب َع ْهدِهِمْ ِإذَا عَا َهدُوا‬


‫سبِيلِ وَالسّائِلِينَ َوفِي الرّقَابِ وََأقَامَ الصّلةَ وَآتَى ال ّزكَاةَ وَا ْلمُوفُو َ‬
‫ال ّ‬

‫ك الّذِينَ صَ َدقُوا َوأُولَئِكَ ُه ُم ا ْلمُتّقُونَ ) (‪. )1‬‬


‫ضرّاءِ َوحِينَ ا ْل َبأْسِ أُولَئِ َ‬
‫ن فِي ا ْل َبأْسَاءِ وَال ّ‬
‫وَالصّابِرِي َ‬

‫وسورة آل عمران ‪ ،‬المشغولة كلها بقضية ل إله إل ال (‪ ، )2‬والتي تبدأ بهذه اليات‬

‫المتعلقة بالعقيدة ‪:‬‬

‫ن َي َديْهِ وََأ ْنزَلَ‬


‫صدّقا ِلمَا َبيْ َ‬
‫حقّ ُم َ‬
‫ي الْ َقيّومُ َنزّلَ عََل ْيكَ ا ْل ِكتَابَ بِا ْل َ‬
‫حّ‬‫( الم اللّهُ ل إِلَ َه إِلّا ُهوَ ا ْل َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن َقبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وََأ ْنزَلَ الْ ُف ْرقَانَ ‪) ..‬‬
‫التّ ْورَاةَ وَا ْلِأ ْنجِيلَ مِ ْ‬

‫هذه السورة تقرر أصول العقيدة واضحة حاسمة وتقرر إلى جانبها مقتضياتها ‪ ،‬وتبرز‬

‫من بين هذه المقتضيات قضية القتال لقرار هذا الحق في واقع الرض ‪ ،‬ويرد فيها بالذات‬

‫هذا الدرس التربوي العظيم ‪:‬‬

‫ختِلفِ الّليْلِ وَال ّنهَارِ لَآياتٍ ِلأُولِي ا ْلأَ ْلبَابِ اّلذِينَ‬


‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ وَا ْ‬
‫( ِإنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬

‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ َر ّبنَا مَا خَلَقْتَ‬


‫ن فِي خَ ْلقِ ال ّ‬
‫جنُو ِب ِهمْ َو َيتَ َف ّكرُو َ‬
‫َي ْذكُرُونَ اللّهَ ِقيَاما َو ُقعُودا وَعَلَى ُ‬

‫ن مِنْ‬
‫خزَ ْيتَهُ َومَا لِلظّالِمِي َ‬
‫ن ُت ْدخِلِ النّارَ فَ َقدْ َأ ْ‬
‫عذَابَ النّارِ َر ّبنَا ِإ ّنكَ مَ ْ‬
‫س ْبحَا َنكَ فَ ِقنَا َ‬
‫َهذَا بَاطِلً ُ‬

‫ن آ ِمنُوا ِبرَ ّب ُكمْ فَآمَنّا َر ّبنَا فَاغْ ِفرْ َلنَا ُذنُو َبنَا َوكَ ّفرْ‬
‫ن أَ ْ‬
‫س ِمعْنَا ُمنَادِيا ُينَادِي لِ ْلإِيمَا ِ‬
‫َأ ْنصَارٍ َر ّبنَا ِإ ّننَا َ‬

‫ع ْد َتنَا عَلَى ُرسُِلكَ وَل ُتخْ ِزنَا َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة ِإ ّنكَ ل‬
‫س ّيئَا ِتنَا َوتَ َو ّفنَا مَ َع ا ْلَأبْرَارِ َر ّبنَا وَآ ِتنَا مَا َو َ‬
‫عنّا َ‬
‫َ‬

‫ض ُكمْ مِنْ‬
‫ن َذكَرٍ َأ ْو ُأ ْنثَى َب ْع ُ‬
‫عمَلَ عَامِلٍ ِم ْن ُكمْ مِ ْ‬
‫ستَجَابَ َل ُه ْم رَ ّب ُهمْ َأنّي ل ُأضِيعُ َ‬
‫ف ا ْلمِيعَادَ فَا ْ‬
‫ُتخْلِ ُ‬

‫ع ْن ُهمْ‬
‫سبِيلِي َوقَاتَلُوا َو ُقتِلُوا َلُأكَ ّفرَنّ َ‬
‫خ ِرجُوا ِمنْ ِديَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي َ‬
‫جرُوا وَُأ ْ‬
‫َبعْضٍ فَاّلذِينَ هَا َ‬

‫حسْنُ‬
‫ع ْندَ ُه ُ‬
‫ع ْندِ اللّهِ وَاللّهُ ِ‬
‫حتِهَا ا ْلَأ ْنهَارُ ثَوَابا ِمنْ ِ‬
‫ن َت ْ‬
‫جرِي مِ ْ‬
‫جنّاتٍ َت ْ‬
‫س ّيئَاتـهِمْ وََلُأ ْدخَِلنّـ ُهمْ َ‬
‫َ‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 177‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫انظر بالتفصيل إن شئت كتاب " دراسات قرآنية " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 4 - 1‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫ب ) (‪. )1‬‬
‫الثّوَا ِ‬

‫فهؤلء المؤمنون الصادقون الذين يذكرون ال قياما وقعودا وعلى جنوبهم ‪ -‬والذكر من‬

‫عمل الجوارح إلى جانب عمل القلب ‪ -‬ويتفكرون في خلق السموات والرض ‪ ،‬فيهتدون إلى‬

‫أنها لم تخلق باطل ‪ ،‬إنما خلقت بالحق ‪ ،‬والحق يقتضي أن يحاسب الناس على أعمالهم التي‬

‫قاموا بها في الحياة الدنيا ‪ ،‬فل بد من بعث وحساب وجزاء ‪ ،‬فيدعون ال أن يقيهم النار‬

‫ويدخلهم الجنة ‪ ،‬ويتقدمون بمؤهلت الطلب ‪ :‬أنهم بمجرد سماعهم للمنادي الذي ينادي لليمان‬

‫خبَرُون‬
‫‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬قد آمنوا ‪ ..‬هؤلء المؤمنون الذين هذه حالهم وهذه صفاتهم ُي ْ‬

‫أن ال استجاب لهم ‪ ..‬فلي شيء استجاب سبحانه ؟ أللتصديق والقرار ؟ أللتفكر والتدبر ؟‬

‫أللذكر الدائم الذي ل ينقطع ؟ أللضراعة الحارة للوقاية من النار ودخول الجنة ؟ أم لشيء بعد‬

‫ذلك كله ‪ ،‬هو من " مقتضيات " ذلك كله ؟!‬

‫"فاستجاب لهم ربهم أني ل أضيع عمل عامل منكم ‪" ...‬‬

‫والتوجيه التربوي واضح ‪ ..‬فالمطلوب ‪ ،‬والذي يستجيب له ال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬هو أن‬

‫يتحول التفكر والتدبر والتذكر إلى عمل ‪ .‬ولما كانت السورة مشغولة بقضية الجهاد لقرار‬

‫الحق في واقع الرض ‪ ،‬أبرزت الية أنواعا من العمل تناسب السياق ‪ ،‬فذكرت الذين هاجروا‬

‫في سبيل ال ‪ ،‬والذين أخرجوا من ديارهم في سبيل ال ‪ ،‬والذين أوذوا في سبيل ال ‪ ،‬والذين‬

‫قتلوا في سبيل ال ‪ ،‬ل لنها العمال الوحيدة المطلوبـة ‪ ،‬ولكن لنهـا هي المناسبة في‬

‫السياق (‪. )2‬‬

‫وسورة النساء ‪ ،‬التي وردت فيها الية التي تخاطب " الذين آمنوا " فتطلب منهم أن‬

‫يؤمنوا ‪ ،‬بل تطلب منهم أن يؤمنوا بذات الشياء التي هم مؤمنون بها بالفعل ‪ -‬كما أشرنا من‬

‫قبل ‪ -‬ل تقول للذين آمنوا إنكم إذا آمنتم هذا اليمان المطلوب ‪ ،‬بل رسختموه وحافظتم عليه‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 195 - 190‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أشرت إلى هذا المعنى في كتاب " دراسات قرآنية " في عرض سورة آل عمران ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫وحرصتم عليه ‪ ،‬وامتلت به قلوبكم ووجداناتكم ‪ ،‬وصدقتم وأقررتم ‪ ،‬فل عليكم بعد ذلك أن‬

‫يكـون سلوككم الواقعي وتصرفاتكم العملية كما تملي عليكم أهواؤكم ‪ ،‬أو كما تقرر لكم‬

‫يختم بيانها بقوله تعالى ‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫أعرافكم ‪ ..‬إنما يفرض عليهم " فرائض "‬

‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِينَ‬


‫ن َت ْ‬
‫جرِي مِ ْ‬
‫جنّاتٍ َت ْ‬
‫حدُو ُد اللّهِ َو َمنْ ُيطِعِ اللّهَ َو َرسُولَ ُه ُي ْدخِلْهُ َ‬
‫( تِ ْلكَ ُ‬

‫عذَابٌ‬
‫حدُودَ ُه ُي ْدخِلْهُ نَارا خَالِدا فِيهَا وََلهُ َ‬
‫ن َيعْصِ اللّهَ َو َرسُولَهُ َو َي َت َعدّ ُ‬
‫فِيهَا َوذَِلكَ الْ َف ْوزُ ا ْل َعظِيمُ َومَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ُمهِينٌ )‬

‫ويوجههم توجيهات معينة يقيمون عليها علقاتهم السرية ‪ ،‬وعلقاتهم الجتماعية ‪،‬‬

‫ويوجههم إلى المرجع الذي يرجعون إليه في ذلك كله ‪:‬‬

‫ن تَنَازَعْ ُتمْ فِي‬


‫ن آ َمنُوا َأطِيعُوا اللّهَ وََأطِيعُوا ال ّرسُولَ وَأُولِي ا ْلَأ ْمرِ ِم ْنكُمْ فَإِ ْ‬
‫( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫خرِ ‪) ..‬‬
‫شَيْءٍ فَرُدّو ُه إِلَى الّل ِه وَال ّرسُولِ إِنْ كُنْ ُتمْ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَا ْليَ ْومِ الْآ ِ‬

‫فيربط رد المور إلى ال والرسول ‪ ،‬وإجراء الحياة كلها بحسب ما يقضي به ال‬

‫ورسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬باليمان بال واليوم الخر ويجعله شرطه ‪ " :‬إن كنتم‬

‫تؤمنون بال واليوم الخر " ‪.‬‬

‫ثم يخبرهم أنه لم يرسل رسله لمجرد التبليغ والعلم ‪ ،‬حتى يقول من يقول ‪ :‬لقد بلغني‬

‫وقد علمت ‪ ،‬وصدقت وأقررت ‪ ..‬إنما أرسلهم ليطاعوا ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫ل إِلّا ِل ُيطَاعَ ِبِإذْنِ اللّهِ ‪) ..‬‬
‫( َومَا َأ ْرسَلْنَا ِمنْ َرسُو ٍ‬

‫ثم يعلمهم ‪ -‬بعد بيان أحكامه وأوامره ونواهيه وتوجيهاته التي فرضها على " الذين‬

‫هي المورايث ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 14 - 13‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 59‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 64‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫آمنوا " ‪ -‬أن اليمان ليس بالتمنـي ‪ ،‬إنما بالتصديق الواقعي لليمان في صورة عمل‬

‫محسوس ‪:‬‬

‫ن دُونِ اللّهِ‬
‫جدْ َلهُ مِ ْ‬
‫جزَ ِبهِ وَل َي ِ‬
‫س بِ َأمَانِ ّي ُكمْ وَل َأمَانِيّ أَ ْهلِ ا ْل ِكتَابِ َمنْ َي ْعمَلْ سُوءا ُي ْ‬
‫( لَيْ َ‬

‫جنّةَ‬
‫ن َذكَرٍ َأ ْو ُأ ْنثَى وَهُ َو مُ ْؤ ِمنٌ َفأُوَل ِئكَ َي ْدخُلُونَ ا ْل َ‬
‫وَِليّا وَل َنصِيرا َومَنْ َي ْع َملْ ِمنَ الصّاِلحَاتِ مِ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫وَل ُيظْلَمُونَ نَقِيرا )‬

‫وسورة المائدة التي ورد فيها العلن باكتمال " الدين " وإتمام النعمة ‪:‬‬

‫ت َل ُكمُ ا ْلِأسْلمَ دِينا ) (‪. )2‬‬


‫( ا ْليَ ْو َم َأ ْكمَلْتُ َل ُكمْ دِي َن ُكمْ وََأ ْت َممْتُ عََل ْي ُكمْ ِن ْع َمتِي َورَضِي ُ‬

‫هذه السورة كلها بيان لما أحل ال وما حرم من المطاعم والمشارب والمعاملت‬

‫والحكام ‪ ،‬وهي كلها موجهة " للمؤمنين " من أول آية في السورة ‪:‬‬

‫" يا أيها الذي آمنوا أوفوا بالعقود ‪" ..‬‬

‫وهي السورة التي نصت نصا صريحا على وجوب التحاكم إلى شريعة ال دون غيرها‬

‫من الشرائع كافة ‪ ،‬وبينت أن الحكم نوعان اثنان ل ثالث لهما ول واسطة بينهما ‪ :‬إما حكم ال‬

‫وإما حكم الجاهلية ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫حكْما لِ َق ْومٍ يُو ِقنُو َ‬
‫ن اللّ ِه ُ‬
‫ن مِ َ‬
‫حسَ ُ‬
‫حكْ َم ا ْلجَاهِِليّةِ َي ْبغُونَ َومَنْ َأ ْ‬
‫( َأ َف ُ‬

‫وأن من لم يحكم بما أنزل ال فحكمهم عند ال أنهم الكافرون الفاسقون الظالمون ‪:‬‬

‫ل اللّ ُه َفأُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلكَافِرُونَ ) (‪. )4‬‬


‫حكُمْ ِبمَا َأنْزَ َ‬
‫( َومَنْ َل ْم َي ْ‬

‫سورة النساء [ ‪. ] 124 - 123‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 3‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 50‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 44‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫ن ) (‪. )1‬‬
‫ل اللّ ُه َفأُوَل ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُو َ‬
‫حكُمْ ِبمَا َأنْزَ َ‬
‫( َومَنْ َل ْم َي ْ‬

‫ل اللّ ُه َفأُوَل ِئكَ ُهمُ الْفَاسِقُونَ ) (‪. )2‬‬


‫حكُمْ ِبمَا َأنْزَ َ‬
‫( َومَنْ َل ْم َي ْ‬

‫وهكذا بقية السـور المدنية على إطلقها ‪ ..‬كلها خطاب للذين آمنوا ‪ ،‬أي أقروا‬

‫وصدقوا ‪ ،‬تقول لهـم ‪ :‬إن التصديق والقرار الذي جاءوا به من مكة مهاجرين به في سبيل‬

‫ال ‪ -‬والهجرة ذاتها " عمل " كلفوا به فنفذوه ‪ -‬أو الذي كانوا عليه في المدينة ( إن كانوا من‬

‫النصار ) يقتضيهم أن يلتزموا بما ج ّد في المدينة من الحكام والتكاليف والوامر والنواهي ‪،‬‬

‫وأن إيمانهم ‪ -‬الن ‪ -‬صار مرتبطا باللتزام بما جاء من عند ال من هذا كله ‪ ،‬وأن هذا‬

‫اللتزام هو المحك لصدق إيمانهم ‪ ،‬وإل فهو النفاق الذي ل يقبله ال ‪ ،‬ول يجزي به إل‬

‫الخلود في الدرك السفل من النار ‪..‬‬

‫ن أَنْ‬
‫عمُونَ َأ ّن ُهمْ آ َمنُوا ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْيكَ َومَا ُأ ْنزِلَ ِمنْ َقبِْلكَ ُيرِيدُو َ‬
‫( أََلمْ َترَ إِلَى اّلذِينَ َيزْ ُ‬

‫ش ْيطَانُ َأنْ ُيضِّلهُ ْم ضَللً‬


‫ن َيكْ ُفرُوا بِهِ َو ُيرِيـدُ ال ّ‬
‫َي َتحَا َكمُـوا إِلَى الطّاغُـوتِ َوقَـدْ ُأ ِمرُوا أَ ْ‬

‫حرَجا‬
‫س ِهمْ َ‬
‫جدُوا فِي َأنْ ُف ِ‬
‫شجَ َر َب ْينَ ُهمْ ُثمّ ل َي ِ‬
‫َبعِيدا ) ‪ ( ...‬فَل َورَبّكَ ل ُي ْؤمِنُونَ حَتّى ُيحَ ّكمُوكَ فِيمَا َ‬

‫ضيْتَ َو ُيسَّلمُوا َتسْلِيما ) (‪. )3‬‬


‫ِممّا قَ َ‬

‫ن َب ْعدِ ذَِلكَ َومَا أُولَئِكَ‬


‫ط ْعنَا ُث ّم َيتَوَلّى َفرِيقٌ ِم ْن ُهمْ مِ ْ‬
‫ن آ َمنّا بِاللّهِ َوبِال ّرسُولِ وََأ َ‬
‫( َويَقُولُو َ‬

‫ن َيكُنْ َل ُهمُ‬
‫ح ُكمَ َب ْي َن ُهمْ ِإذَا َفرِيقٌ ِم ْن ُهمْ ُم ْعرِضُونَ وَإِ ْ‬
‫ن وَِإذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ َورَسُوِلهِ ِل َي ْ‬
‫بِا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬

‫ن َيحِيفَ اللّهُ عََل ْي ِهمْ َورَسُوُلهُ‬


‫ن أَ ْ‬
‫ض َأمِ ا ْرتَابُوا َأمْ َيخَافُو َ‬
‫ن َأفِي قُلُو ِبهِ ْم مَرَ ٌ‬
‫عنِي َ‬
‫حقّ َي ْأتُوا إَِل ْيهِ ُمذْ ِ‬
‫ا ْل َ‬

‫ن يَقُولُوا‬
‫ح ُكمَ َب ْي َن ُهمْ أَ ْ‬
‫ن قَوْلَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ِإذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ َورَسُوِلهِ ِل َي ْ‬
‫ن ِإ ّنمَا كَا َ‬
‫بَلْ أُوَل ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُو َ‬

‫ك ُهمُ‬
‫ن ُيطِعِ اللّهَ َو َرسُوَلهُ َو َيخْشَ اللّهَ َو َيتّ ْقهِ َفأُوَل ِئ َ‬
‫ك ُهمُ ا ْلمُفِْلحُونَ َومَ ْ‬
‫ط ْعنَا وَأُوَل ِئ َ‬
‫س ِمعْنَا وََأ َ‬
‫َ‬

‫سورة المائدة [ ‪. ] 45‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 47‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النساء [ ‪ 60‬إلى ‪. ] 65‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫الْفَا ِئزُو َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫جدَ َل ُهمْ َنصِيرا )‬
‫ن النّارِ وََلنْ َت ِ‬
‫( ِإنّ ا ْل ُمنَافِقِينَ فِي ال ّد ْركِ ا ْلَأسْفَلِ مِ َ‬

‫فإذا كان هذا ما جاءت به السور المدنية من مقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬قفد وضح لنا أنه‬

‫حين اكتمل الدين ‪ ..‬يوم أنزل ال قوله تعالى ‪ " :‬اليوم أكملت لكم دينكم ‪ ،‬وأتممت عليكم‬

‫نعمتي ‪ ،‬ورضيت لكم السلم دينا " كانت ل إله إل ال منهج حياة كامل ‪ ،‬يشمل الجانب‬

‫العتقادي ‪ ،‬والجانب التعبدي ‪ ،‬والجانب السلوكي العملي ‪ .‬يشمل العتقاد بوحدانية ال ( أي‬

‫توحيده في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله ) وتوجيه الشعائر التعبدية له وحده بل شريك ‪،‬‬

‫وتحكيم شريعته وحدها دون غيرها من الشرائع ‪ ،‬والتخلق بأخلق ل إله إل ال ‪ ،‬إلى جانب‬

‫التكاليف المتعددة التي كلفهم إياها ‪..‬‬

‫وإذا كانت السور المكية قد ركزت على الجانب العتقادي ‪ :‬اليمان بال واليوم الخر‬

‫والملئكة والكتاب والنبيين ‪ ،‬والقدر خيره وشره ‪ ،‬وعلى الجانب الخلقي كذلك ‪ ،‬وما كان قد‬

‫فرض في مكة من الشعائر التعبدية ‪ ،‬فإن السور المدنية قد ركزت تركيزا شديدا على قضية‬

‫الحاكمية ‪ ،‬واللتزام بتحكيم شريعة ال ‪ ،‬واعتبار ذلك هو المحك لصدق اليمان ‪ ،‬مع التوكيد‬

‫على الجانب الخلقي ‪ ،‬والعبادات الخرى التي فرضت في المدينة ‪..‬‬

‫ولكـن من الخطـأ البالـغ أن نظـن أن قضية الحاكميـة ‪ ،‬أي تقرير كون‬

‫الحاكميـة ل وحـده ‪ ،‬وأن حـق التشـريـع مـن تحليـل وتحريـم وإباحـة ومنـع‬

‫هـو حـق خالص ل ل يشـاركـه فيـه البشـر ‪ ،‬وأن التشريـع بغيـر ما أنـزل ال ‪-‬‬

‫معـه أو من دونه ‪ -‬شـرك ‪ ،‬وأن إطاعـة الذيـن يشرعـون بغيـر ما أنـزل ال‬

‫شـرك ‪..‬‬

‫سورة النور [ ‪. ] 52 - 47‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 145‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫من الخطأ الظن بأن هذه القضية ‪ -‬بتفصيلتها تلك ‪ -‬قد تقررت في المدينة حين بدأت‬

‫التشريعات تتنـزل ليقيم المسلمون حياتهم عليها ‪ .‬بل لقد تقررت تقريرا واضحا حاسما في‬

‫مكة ‪ ،‬في أكثر من سورة مكية ‪ ،‬كأصل من أصول العتقاد بل إله إل ال ‪ ،‬ل بوصفها‬

‫التزاما سلوكيا فحسب ‪.‬‬

‫خذ على سبيل المثال هذه الية من سورة العراف المكية ‪:‬‬

‫ن َر ّبكُمْ وَل َت ّت ِبعُوا مِنْ دُونِ ِه أَوِْليَا َء قَلِيلً مَا َت َذكّرُونَ ) (‪. )1‬‬
‫( ا ّت ِبعُوا مَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْي ُكمْ مِ ْ‬

‫فماذا تفيد هذه الية ؟‬

‫إنها تفيد أن الناس في حالتين اثنتين ‪ :‬إحداهما مأمور بها والخرى منهي عنها ‪ .‬الولى‬

‫هي اليمان ‪ ،‬والثانية هي الشرك ‪.‬‬

‫فاليمان ملخص في قوله تعالى ‪ " :‬اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " ‪.‬‬

‫والمقابل ‪ -‬أي اتباع غير ما أنزل ال ‪ -‬هو اتباع الولياء ‪ -‬أي الشركاء ‪ -‬وهو‬

‫الشرك الصريح ‪.‬‬

‫وخذ هذه الية أيضا من سورة العراف ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫( أَل لَ ُه ا ْلخَ ْلقُ وَا ْلَأ ْمرُ )‬

‫فهي تقرر أمرين في وقت واحد ‪ :‬أن المر ل وحده ‪ .‬بصيغة القصر ‪ .‬المر على‬

‫إطلقه غير محدد بنطاق معين ول مجال معين ‪ .‬المر في السماوات والرض وفي حياة‬

‫البشر كذلك ‪ .‬فأما في السماوات والرض فمستفاد من قوله تعالى قبل هذه العبارة ‪ ( :‬إِنّ‬

‫ل ال ّنهَارَ‬
‫ستَوَى عَلَى ا ْل َعرْشِ ُي ْغشِي الّليْ َ‬
‫ستّ ِة َأيّامٍ ُثمّ ا ْ‬
‫ض فِي ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْ َ‬
‫َربّ ُكمُ اللّهُ اّلذِي خََلقَ ال ّ‬

‫سورة العراف [ ‪. ] 3‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 54‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ ،‬وأما في حياة البشر فمستفاد من‬ ‫(‪)1‬‬
‫ت ِبَأمْرِ ِه )‬
‫سخّرَا ٍ‬
‫شمْسَ وَالْ َق َمرَ وَال ّنجُومَ ُم َ‬
‫حثِيثا وَال ّ‬
‫َيطْلُبُ ُه َ‬

‫قوله تعالى بعدها ‪ ( :‬ادْعُوا َر ّب ُكمْ َتضَرّعا َوخُ ْف َيةً إِ ّنهُ ل ُيحِبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ وَل ُت ْفسِدُوا فِي الْ َأرْضِ‬

‫حهَا ) (‪ )2‬أي ل تعتدوا بالخروج على أمر ال ‪ ،‬ول تفسدوا في الرض باتباع غير‬
‫َبعْدَ إِصْل ِ‬

‫شرع ال ومنهجه بعد إصلحها بما نزل من عند ال ‪.‬‬

‫أما المر الخر الذي تقرره الية فهو كون حق الحاكمية في السماوات والرض وفي‬

‫حياة البشر مستمدا من الخالقية ‪ ،‬أي من القدرة على الخلق ‪ .‬فالذي له القدرة على الخلق هو‬

‫وحده صاحب المر ‪ .‬وإذ كان ال وحده ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬هو المتفرد بالخلق ‪ ،‬فهو وحده‬

‫كذلك صاحب المر ‪ ،‬في السماوات والرض وفي حياة البشر سواء ‪.‬‬

‫وخذ هذه الية من سورة الشورى المكية ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ح ْكمُهُ إِلَى اللّ ِه ذَِلكُ ُم اللّ ُه َربّي عََليْ ِه تَ َوكّلْتُ وَإَِليْ ِه ُأنِيبُ )‬
‫شيْءٍ َف ُ‬
‫ختَلَ ْف ُتمْ فِيهِ ِمنْ َ‬
‫( َومَا ا ْ‬

‫فهي تقرر ذات المبدأ ‪ ،‬وهو رد الحاكمية ل في كل شيء يعرض للناس في حياتهم ‪،‬‬

‫فقوله تعالى ‪ " :‬من شيء " معناها جنس الشيء وعمومه ‪ ،‬أي كل شيء على إطلقه ‪ .‬وكل‬

‫شيء على إطلقه حكمه إلى ال في كونه حلل أ حراما أو مباحا أو مكروها أو مندوبا ‪.‬‬

‫والية السابقة لها تقرر ذات المعنى الذي قررته آية العراف ‪:‬‬

‫شيْءٍ‬
‫حيِي ا ْلمَ ْوتَى وَ ُهوَ عَلَى كُلّ َ‬
‫( َأمِ ا ّتخَـذُوا مِنْ دُونِ ِه أَوِْليَا َء فَاللّ ُه هُ َو ا ْلوَِليّ وَ ُهوَ ُي ْ‬

‫قَدِيرٌ ) (‪. )4‬‬

‫فرد الحاكمية في كل شيء ل هو اليمان ‪ ،‬وخلف ذلك هو اتخاذ الولياء ‪ -‬أي‬

‫الشـرك ‪ -‬وهو عمل باطل ‪ ،‬لن ال وحده هو الولي ‪ ،‬وهو الذي يحيي الموتى ‪ ،‬وهو على‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 54‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 56 - 55‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة الشورى [ ‪. ] 10‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة الشورى [ ‪. ] 9‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫كل شيء قدير ‪.‬‬

‫ن مَا َلمْ َي ْأذَنْ‬


‫شرَكَا ُء شَرَعُوا َل ُهمْ ِمنَ الدّي ِ‬
‫كذلك قوله تعالى في سورة الشورى ‪َ ( :‬أ ْم َل ُهمْ ُ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫بِ ِه اللّ ُه )‬

‫ولكن آيات سورة النعام ربما كانت أكثر تفصيل في القضية ‪:‬‬

‫حكَما وَهُ َو اّلذِي َأ ْنزَلَ إَِل ْي ُكمُ ا ْل ِكتَابَ مُ َفصّلً وَاّلذِينَ آ َت ْينَا ُهمُ ا ْل ِكتَابَ‬
‫( َأ َف َغيْرَ اللّ ِه َأ ْب َتغِي َ‬

‫ع ْدلً ل‬
‫صدْقا َو َ‬
‫ت كَِلمَتُ َر ّبكَ ِ‬
‫ن ا ْل ُم ْمتَرِينَ َو َتمّ ْ‬
‫ن مِ َ‬
‫حقّ فَل َتكُونَ ّ‬
‫ل مِنْ َر ّبكَ بِا ْل َ‬
‫ن َأنّ ُه ُمنَزّ ٌ‬
‫َيعَْلمُو َ‬

‫سبِيلِ اللّ ِه إِنْ‬


‫عنْ َ‬
‫ض ُيضِلّوكَ َ‬
‫ن فِي ا ْلأَرْ ِ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ وَِإنْ ُتطِعْ َأ ْك َثرَ مَ ْ‬
‫ُم َبدّلَ ِلكَِلمَاتِهِ وَهُ َو ال ّ‬

‫سبِيلِهِ وَهُ َو أَعَْلمُ‬


‫ن َ‬
‫ن َر ّبكَ هُ َو أَعَْل ُم مَنْ َيضِلّ عَ ْ‬
‫ن إِ ّ‬
‫ن ُهمْ إِلّا َيخْ ُرصُو َ‬
‫ن إِلّا الظّنّ وَإِ ْ‬
‫َي ّت ِبعُو َ‬

‫سمُ‬
‫ن كُنْتُمْ بِآيا ِتهِ ُم ْؤمِنِينَ َومَا َل ُكمْ أَلّا َت ْأكُلُوا ِممّا ُذكِرَ ا ْ‬
‫سمُ اللّهِ عََليْ ِه إِ ْ‬
‫بِا ْل ُمهْ َتدِينَ َفكُلُوا ِممّا ُذ ِكرَ ا ْ‬

‫ن َكثِيرا َليُضِلّونَ ِبأَ ْهوَا ِئهِمْ ِب َغ ْيرِ‬


‫ضطُ ِر ْرتُمْ إَِل ْيهِ وَإِ ّ‬
‫ح ّرمَ عََل ْيكُمْ إِلّا مَا ا ْ‬
‫اللّهِ عََل ْيهِ َوقَدْ َفصّلَ َل ُكمْ مَا َ‬

‫س ُيجْزَ ْونَ ِبمَا‬


‫ن ا ْلِأ ْثمَ َ‬
‫سبُو َ‬
‫ن اّلذِينَ َي ْك ِ‬
‫طنَ ُه إِ ّ‬
‫عِ ْلمٍ ِإنّ َر ّبكَ ُهوَ َأعَْلمُ بِا ْل ُم ْعتَدِينَ َو َذرُوا ظَاهِرَ ا ْلِأ ْثمِ َوبَا ِ‬

‫ن إِلَى‬
‫شيَاطِينَ َليُوحُو َ‬
‫ن ال ّ‬
‫سقٌ وَإِ ّ‬
‫سمُ اللّهِ عََليْهِ وَِإنّ ُه لَ ِف ْ‬
‫كَانُوا يَ ْق َت ِرفُونَ وَل َت ْأكُلُوا ِممّا َل ْم ُي ْذكَرِ ا ْ‬
‫(‪)2‬‬
‫طعْتُمُو ُهمْ إِ ّن ُكمْ َل ُمشْ ِركُونَ )‬
‫أَوِْليَا ِئ ِهمْ ِل ُيجَادِلُو ُكمْ َوإِنْ َأ َ‬

‫وهي تبدأ بهذا السؤال النكاري ‪ " :‬أفغير ال أبتغي حكما ؟! " الذي يفيد أن الحاكمية ل‬

‫وحده ‪ .‬هو الذي ينبغي أن يتخذ حكما ‪ ،‬ول ينبغي لحد غيره أن يحتكم إليه في أمر من‬

‫المور ‪ .‬ثم تفيد أن ال قد أنزل الكتاب مفصل فلم تعد هناك حجة لحد أن يتخذ حكما غير‬

‫ال في أمر من المور ‪ ..‬ويلحظ أن هذه آية مكية في سورة مكية ‪ .‬وأنه في مكة لم تكن قد‬

‫نزلت كل التشريعات التي يحتاج إليها الناس في حياتهم ‪ ،‬إنما كان ذلك في المدينة ‪ .‬فالتفصيل‬

‫الذي تشير إليه الية ليس هو تفصيل الحكام ‪ -‬أي تفصيل الفروع ‪ -‬إنما كان تفصيل القضية‬

‫الكبرى ‪ -‬قضية الحاكمية ‪ -‬وأنها من أصل العتقاد ‪ .‬وأن العتقاد ل يتم ول يصح إل إذا‬

‫سورة الشورى [ ‪. ] 21‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 121 - 114‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫كان معناه ومؤداه هو اللتزام ‪ -‬من حيث المبدإ ‪ -‬بما جاء من عند ال ‪ ،‬كثيرا كان ما جاء‬

‫من عنـد ال أم قليل ‪ ،‬ومختصـا بالعتقاد كان أم مختصـا بالخلق ‪ ،‬أم مختصـا‬
‫(‪)1‬‬
‫بالحكام ‪..‬‬

‫ثم تمضي اليات في تقرير أن كلمة ال هي الكلمة الفاصلة ‪ ،‬وهي الصدق والعدل ‪،‬‬

‫وأن من ل يتبعها هم الضالون الذين يتبعون الظن ‪ ،‬ومن ثم ل يهتدون ‪ ،‬وأن ال يعلم من‬

‫يضل عن سبيله ويعلم من يهتدي إليه ‪.‬‬

‫ثم تأتي القضية التي تأتي هذه المقدمات كلها توكيدا لها ‪ ،‬وتأصيل لقاعدتها ‪ ،‬وهي‬

‫قضية التحليل والتحريم ‪ ،‬ومن الذي يقرر المر فيها ‪ ،‬وموقف المؤمنين منها وموقف‬

‫المشركين ‪ ،‬وما يجعل النسان في شأنها مؤمنا أو يجعله مشركا ‪ .‬ومدارها أن المشركين في‬

‫مكة كانوا ل يذكرون اسم ال على الميتة ثم يحلون أكلها ‪ ،‬ويعطون هذا المر شرعية من عند‬

‫أنفسهم بغير إذن من ال وبغير برهان ‪ .‬فينهى ال المؤمنين أن يأكلوا مما لم يذكر اسم ال‬

‫عليه ‪ -‬وهو الميتـة التي حرمها ال ‪ -‬وينذرهم أنهم إن أطاعوا المشركين فهم مشركون‬

‫مثلهم ‪ ،‬لنهم يطيعون تشريعا جاهليا ما أنزل ال به من سلطان ‪.‬‬

‫ومن ذلك يتبين أن قضية الحاكمية لم تبدأ في المدينة بعد نزول التشريع ‪ ،‬إنما بدأت في‬

‫مكة في وقت تأصيل العقيدة وبيان مقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬وجاءت الحكام القاطعة بعد ذلك‬

‫في المدينة تقرر أنه من لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون ‪ ،‬وأنه ل يعتبر أحد مؤمنا‬

‫حتى يحتكم إلى ال ورسوله ‪ ،‬تطبيقا وتوكيدا لما تقرر في مكة وقت تأصيل العقيدة ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫فإذا كان هذا من جانب التكليف الرباني ‪ ،‬فلننظر إلى الجانب التطبيقي في حياة المؤمنين‬

‫ف مقدمة سورة النعام في ظلل القرآن ج ‪ 7‬ص ‪، 1029 - 1004‬‬


‫اقرأ في هذا الموضوع بتفصيل وا ٍ‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫وفصل " ألوهية وعبودية " في كتاب " مقومات التصور السلمي " ‪.‬‬
‫في المدينة ‪ ..‬كيف تلقوا المر الرباني وكيف نفذوه ‪..‬‬

‫لم يكن أحد في ذلك الجيل المتفرد يتلبث حتى يسأل ‪ :‬هل هذه الوامر الربانية ‪ -‬سواء‬

‫منها ما جاء في كتاب ال أو في السنة المطهرة ‪ -‬مُ ْل ِزمَة ؟! هل هي داخلة في مسمى اليمان‬

‫أم زائدة عليه ؟ هل يكفي التصديق بأنها من عند ال ‪ ،‬أم ينبغي تنفيذها كذلك ؟!! وهل يكون‬

‫النسان مؤمنا إذا لم يعمل بشيء منها على الطلق ؟!!‬

‫لم يكن أحد يصنع ذلك ‪ ،‬سواء كان من المؤمنين الذين شهد لهم ال ورسوله ‪ -‬صلى‬

‫ال عليه وسلم ‪ -‬باليمان ‪ ،‬أم كانوا حتى من المنافقين ‪ ،‬الذين يتظاهرون باليمان وهم في‬

‫دخيلة أنفسهم كافرون ‪.‬‬

‫فقد كان هؤلء وهؤلء يعلمون أن ل إله إل ال ليسـت كلمة تنطق باللسان وينتهي‬

‫المر ‪ ،‬وإنما هي كلمة ذات مقتضيات ‪ ،‬وكانوا يؤدون هذه المقتضيات بالفعل ‪ ،‬مع فارق‬

‫أساسي بين المؤمنين والمنافقين ‪ ،‬أن الولين يؤدونها إيمانا بها ‪ ،‬وطاعة ل الذي أمر بها‬

‫وأنزلها ‪ ،‬وطمعا في جنته ورضوانه ‪ ،‬وأما الخرون فيؤدونها نفاقا بغير إيمان ‪ ،‬ويؤدونها‬

‫بفتور ظاهر أو خفي ‪ ،‬أو يتحايلون للتفلت منها ‪:‬‬

‫ع ُهمْ وَِإذَا قَامُوا إِلَى الصّل ِة قَامُوا ُكسَالَى ُيرَاؤُونَ‬


‫( ِإنّ ا ْل ُمنَافِقِينَ ُيخَادِعُونَ اللّهَ وَهُ َو خَادِ ُ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫النّاسَ وَل َي ْذكُرُونَ اللّهَ إِلّا قَلِيلً )‬

‫شهِيدا‬
‫ن َم َعهُمْ َ‬
‫ن َأصَا َب ْت ُكمْ ُمصِيبَ ٌة قَالَ َقدْ َأ ْنعَ َم اللّهُ عََليّ ِإ ْذ َلمْ َأكُ ْ‬
‫طئَنّ َفإِ ْ‬
‫ن ِم ْنكُمْ َل َمنْ َل ُي َب ّ‬
‫( وَإِ ّ‬

‫ن َب ْي َن ُكمْ َو َب ْينَ ُه مَ َودّ ٌة يَا َل ْي َتنِي ُكنْتُ َم َع ُهمْ َفأَفُوزَ‬


‫ن اللّ ِه َليَقُوَلنّ َكَأنْ َلمْ َتكُ ْ‬
‫ن َأصَا َبكُمْ َفضْلٌ مِ َ‬
‫وََلئِ ْ‬

‫عظِيما ) (‪. )2‬‬


‫فَوْزا َ‬

‫ولم يكن أحد من أولئك المنافقين ‪ -‬فضل عن المؤمنين ! ‪ -‬يتصور أنه يستطيع أن‬

‫سورة النساء [ ‪. ] 142‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 73 - 72‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫يحصل على مظهرية السلم في الحياة الدنيا بمجرد نطق ل إله إل ال ‪ ،‬دون أن يعمل عمل‬

‫واحدا من مقتضياتها ‪ ..‬ول كان هذا ‪ -‬في المجتمع المسلم ‪ -‬ممكن الحدوث !!‬

‫إن تصور وجود فرد واحد في المجتمع المسلم ‪ -‬أي المجتمع الذي يتحاكم إلى شريعة‬

‫ال ‪ -‬يسمى " مسلما " ويحتفظ بهذا السم ‪ -‬سواء كان في حقيقته مؤمنا أو منافقا ‪ -‬دون أن‬

‫يعمل عمل واحدا من أعمال السلم ‪ ..‬هو تصور مستحيل !‬

‫فهناك على أقل تقدير مسألة الصلة !‬

‫ل يستطيع فرد واحد في المجتمع المسلم ‪ -‬أي المجتمع الذي يتحاكم إلى شريعة ال ‪-‬‬

‫أن يبقى ثلثة أيام متوالية ل يقيم الصلة دون أن توقع عليه عقوبة القتل ! ويستوى أن يقتل‬

‫حدّا أو يقتل كفرا ‪ .‬فليست العبرة هنا ! إنما العبرة ‪ -‬كما قال المام ابن تيمية بحق ‪ -‬أنه ل‬

‫يمكن في الواقع العملي أن يوجد إنسان في قلبه ذرة واحدة من اليمان يتعرض للقتل بسبب‬

‫عدم أدائه الصلة ثم يظل مصرا على عدم الصلة حتى يقتل بالفعل !! مستحيل !!‬

‫وهناك أيضا القرار الواقعي العملي بحاكمية شريعة ال ‪ ،‬والتحاكم إليها وحدها ‪ ،‬وعدم‬

‫التحاكم إلى أي شريعة سواها ‪ ..‬وإل ‪ ،‬فلو أنه خرج عليها ‪ -‬في المجتمع المسلم ‪ -‬أو أنكر‬

‫شيئا منها ‪ ،‬فهل يظل " مسلما " ؟ وهل يظل حيا ؟ أم يصبح مرتدا يوقع عليه حد الردة ؟!‬

‫وهكذا يتبين أنه من المستحيل ‪ -‬في المجتمع المسلم ‪ -‬أن يوجد فرد واحد ل يعمل‬

‫عمل واحدا من أعمال السلم ‪ ،‬ثم يظل يسمى مسلما ويحتفظ بهذا السم ‪ ،‬فضل عن أن تظل‬

‫له حياة في ذلك المجتمع !! إنما تثار مثل هذه الدعوى الفارغة في المجتمعات الجاهلية التي‬

‫تدعي السلم ‪ ،‬مستندة إلى الفكر الرجائي ‪ ،‬الغريب غربة كاملة عن روح هذا الدين ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ولننظر الن في هذه القضية الخطيرة ‪ -‬قضية مقتضيات ل إله إل ال ‪ -‬من ثلثة‬
‫منطلقات مختلفة ‪ ،‬تؤدي كلها إلى نتيجة واحدة في النهاية ‪:‬‬

‫أول ‪ :‬هل يمكن أن يؤدي هذا الدين أهدافه التي نزل من أجلها إذا كان المطلوب كله هو‬

‫التصديق والقرار ‪ ،‬أو إذا كان التصديق والقرار ‪ -‬وحده ‪ -‬يكفي لعطاء صفة السلم ‪ ،‬ل‬

‫في الدنيا وحدها ‪ ،‬بل في الخرة كذلك ؟!‬

‫ثانيا ‪ :‬هل كان ما يفعله رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وصحابته الكرام في‬

‫تطبيق مقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬تطوعا من عند أنفسهم ‪ ،‬غير واجب عليهم ؟!‬

‫ثالثا ‪ :‬هل يمكن في واقع النفس البشرية أن يؤمن إنسان بشيء ثم يكون سلوكه الواقعي‬

‫كله مغايرا لمقتضيات ذلك اليمان ‪ ،‬أو مناقضا له ؟!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ونبدأ بالمنطلق الول فنسأل أول ‪ :‬لماذا يرسل ال الرسل إلى البشرية ‪ ،‬ولماذا ينزل‬

‫معهم الرسالت ؟‬

‫ول نجيب من عند أنفسنا في هذا المر الخطير ‪ ،‬فإنه ل ينبغي لحد أن يجيب من عند‬

‫نفسه في هذا المر ‪ ،‬لن ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬قد تكفل بهذا في كتابه المنزل الذي ل يأتيه‬

‫الباطل من بين يديه ول من خلفه ‪:‬‬

‫ن اللّ ِه ) (‪. )1‬‬


‫ل إِلّا لِ ُيطَاعَ ِبِإذْ ِ‬
‫( َومَا َأ ْرسَلْنَا ِمنْ َرسُو ٍ‬

‫سطِ وََأ ْنزَ ْلنَا‬


‫س بِا ْل ِق ْ‬
‫( لَ َق ْد َأرْسَ ْلنَا ُرسَُلنَا بِا ْل َبيّنَاتِ وََأ ْنزَ ْلنَا َم َعهُمُ ا ْل ِكتَابَ وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّا ُ‬

‫صرُهُ َو ُرسُلَهُ بِا ْل َغيْبِ ِإنّ اللّ َه قَ ِويّ‬


‫ن َينْ ُ‬
‫شدِيدٌ َو َمنَافِعُ لِلنّاسِ وَِل َيعْـَلمَ اللّ ُه مَ ْ‬
‫حدِيـدَ فِي ِه َبأْسٌ َ‬
‫ا ْل َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫عزِيزٌ )‬
‫َ‬

‫سورة النساء [ ‪. ] 64‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الحديد [ ‪. ] 25‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫وقبل أن نتحدث عن الرسالة الخاتمة ‪ -‬ذات الوضع الخاص والهداف الخاصة ‪ -‬نتدبر‬

‫هاتين اليتين اللتين تتحدثان عن الرسالت عامة من لدن آدم ونوح إلى محمد ‪ -‬صلى ال‬

‫عليه وسلم ‪. -‬‬

‫فإحدى اليتين تقرر أن إرسال الرسل ل يتم من عند ال لمجرد التبليغ والعلم ‪ ،‬بحيث‬

‫يسع أي إنسان أرسل إليه رسول أن يقول ‪ :‬لقد بلغني المر وعلمته (‪ . )1‬إنما ينبغي أن يقول ‪:‬‬

‫لقد بلغني المر وعلمته وأطعته ‪ ،‬ليكون بذلك قد استجاب للرسول المرسل إليه ‪ ،‬وحقق‬

‫الهدف الذي من أجله أرسل ‪.‬‬

‫والية الخرى تبين ذلك الهدف وتحدده ‪ ،‬وهو إقامة حياة الناس بالقسط ‪ .‬وهي عبارة‬

‫موجزة شاملة جامعة تفصلها آيات القرآن الخرى ( والسنة المطهرة كذلك ) تفصيل دقيقا‬

‫محـددا غير متروك لهواء البشر ‪ .‬ذلك أن تحديد القسط لو ترك لهواء الناس لفسد كل‬

‫شيء ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ن فِيهِنّ )‬
‫سمَاوَاتُ وَا ْلَأرْضُ َومَ ْ‬
‫سدَتِ ال ّ‬
‫حقّ أَهْوَاءَ ُهمْ لَ َف َ‬
‫( وَلَ ِو ا ّتبَعَ ا ْل َ‬

‫ومقتضى الية المشار إليها آنفا إن إرسال الرسل وإنزال الكتاب ليس لمجرد التبليغ‬

‫والعلم ‪ ،‬إنما لتحقيق هدف عملي واقعي في حياة الناس هو إقامة شريعة ال ومنهجه ‪،‬‬

‫وإخضاع الناس لهذه الشريعة وذلك المنهج ‪ ،‬لن هذا هو السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى قيام‬

‫الناس بالقسط ‪ .‬أي أن هناك عمل ينبغي أن يتم في واقع الرض بعد التصديق والقرار ‪.‬‬

‫وبغيره ل يكون الهدف من إرسال الرسل وإنزال الدين قد تحقق ‪ ،‬إنما يظل الدين شعارات‬

‫مرفوعة بغير رصيد واقعي ‪ ،‬أو أمانيّ في الضمائر ‪ ,‬ل تقدم ول تؤخر ‪ ،‬ول تغير شيئا في‬

‫حياة الناس ‪ ،‬والشارة ‪ -‬في الية ‪ -‬إلى الحديد والبأس ‪ ،‬ونصرة ال ورسله ‪ ،‬واضحة‬

‫العلم في اللغة يفيد اليقين ‪ ،‬فهو يشمل " التصديق " الذي يتكلم عنه المرجئة ويقولون إنه هو المعنيّ‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫باليمان ‪.‬‬
‫‪ )(2‬سورة المؤمنون [ ‪. ] 71‬‬
‫الدللة في أن من بين العمال المطلوبة الجهاد في سبيل ال لكي " يقوم الناس بالقسط " ‪.‬‬

‫فإذا كان هذا المعنى متحققا في جميع الرسالت من لدن آدم ونوح‬

‫إلى محمد ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فالرسالة الخيرة لها وضع خاص ‪ ،‬وتكاليف خاصة ‪،‬‬

‫غير الرسالت السابقة جميعا ‪ ،‬وبالضافة إليها جميعا ‪.‬‬

‫يقول ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عن الرسالت السابقة وأهلها ‪:‬‬

‫حنَفَاءَ َويُقِيمُوا الصّلةَ َويُ ْؤتُوا ال ّزكَاةَ َوذَِلكَ‬


‫ن ُ‬
‫( َومَا ُأ ِمرُوا إِلّا ِل َي ْع ُبدُوا اللّهَ ُمخِْلصِينَ َلهُ الدّي َ‬

‫دِينُ ا ْل َق ّيمَةِ ) (‪. )1‬‬

‫فـإذا كان هذا المر شامل للرسالت كلها حتى رسالة محمد ‪ -‬صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ -‬فإن الرسالة الخيرة ‪ -‬الخاتمة ‪ -‬التي أرسل إليها الرسول الخاتم ‪ -‬عليه الصلة‬

‫والسلم ‪ -‬لها شأن آخر غير بقية الرسالت ‪ ،‬وتكاليف إضافية غير بقية الرسالت ‪.‬‬

‫لقد كان في قدر ال ومشيئته أل يرسل رسول بعد محمد ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪: -‬‬

‫ن ) (‪. )2‬‬
‫ن َرسُولَ اللّهِ َوخَاتَ َم ال ّن ِبيّي َ‬
‫حدٍ ِمنْ ِرجَاِلكُمْ وََلكِ ْ‬
‫ح ّمدٌ َأبَا َأ َ‬
‫ن ُم َ‬
‫( مَا كَا َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫" أل إنه ليس بعدي نبي "‬

‫وكان في قدر ال ومشيئته أن يتم الدين بهذه الرسالة الخاتمة ‪ ،‬وأن تكون للبشرية كافة ‪:‬‬

‫ت َل ُكمُ ا ْلِأسْلمَ دِينا ) (‪. )4‬‬


‫( ا ْليَ ْو َم َأ ْكمَلْتُ َل ُكمْ دِي َن ُكمْ وََأ ْت َممْتُ عََل ْي ُكمْ ِن ْع َمتِي َورَضِي ُ‬

‫‪ )(1‬سورة البينة [ ‪. ] 5‬‬


‫سورة الحزاب [ ‪. ] 4‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫أخرجه الشيخان ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 3‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫( َومَا َأ ْرسَلْنَاكَ إِلّا كَافّ ًة لِلنّاسِ َبشِيرا َو َنذِيرا )‬

‫جمِيعا ) (‪. )2‬‬


‫( قُلْ يَا َأ ّيهَا النّاسُ ِإنّي َرسُولُ اللّهِ إَِل ْي ُكمْ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫" ‪ ..‬وبعثت إلى المم كافة "‬

‫ت الرسال ِة الخاتمة تكليفين اثنين ل‬


‫وقد اقتضى ذلك جميعه أن تكلف المة الخاتمة ذا ُ‬

‫تكليفا واحدا كبقية المم المؤمنة من قبل ‪.‬‬

‫فإذا كانت المم المؤمنة السابقة كلها قد كلفت أن تعبد ال " مخلصين له الدين حنفاء " ‪،‬‬

‫وتستقيم على الدين وتكاليفه في حدود ذاتها فحسب ‪ ،‬فإن المة المسلمة قد كلفت هذا التكليف‬

‫ذاته ‪ ،‬ثم كلفت فوق ذلك أن تنشر هذا الدين في كل بقاع الرض ‪ ،‬خلفاء عن الرسول ‪-‬‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وامتدادا له ‪ ،‬وأن تجاهد حتى يكون الدين كله ل ‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫عنِ ا ْل ُم ْن َكرِ )‬
‫ن بِا ْلمَ ْعرُوفِ َو َي ْنهَوْنَ َ‬
‫خيْرِ َو َي ْأ ُمرُو َ‬
‫( وَ ْل َتكُنْ ِم ْن ُكمْ ُأمّ ٌة َيدْعُونَ إِلَى ا ْل َ‬

‫ن كُلّهُ لِلّهِ ) (‪. )5‬‬


‫ن الدّي ُ‬
‫ن ِف ْتنَةٌ َو َيكُو َ‬
‫حتّى ل َتكُو َ‬
‫( َوقَاتِلُو ُه ْم َ‬

‫ومقتضى ذلك أن يكون " العمل " المطلوب من هذه المة بعد التصديق والقرار أضخم‬

‫ل طلب من أمة سابقة في التاريخ ‪.‬‬


‫بكثير ‪ ،‬وأخطر بكثير من كل عم ٍ‬

‫وإذا كان التصديق والقرار وحدهما ‪ ،‬بغير عمل ‪ ،‬ل يفيان بالتكليف الرباني لي أمة‬

‫من المم السابقة ‪ ،‬لن ال فرض على كل واحدة منها تكاليف ‪ ،‬وأرسل إليها رسول ليطاع‬

‫بإذن ال ‪ ،‬ل ليبلغ فحسب ‪ ،‬فهذه المة ‪ -‬بصفة خاصة ‪ -‬ل يمكن أن يفي التصديق والقرار‬

‫سورة سبأ [ ‪. ] 28‬‬ ‫()‬


‫‪5‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 158‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫أخرجه الشيخان ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 104‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫‪ 5‬سورة النفال [ ‪. ] 39‬‬ ‫()‬
‫بالتكليف الرباني الملقى على عاتقها ‪ ،‬وقد كلفت تكليفين في آن واحد ‪ :‬أن تستقيم ل في ذات‬

‫نفسها ‪ ،‬ثم تنشر الهدي الرباني في كل الرض ‪..‬‬

‫وهل كان يتصور ‪ -‬لو أن المطلوب كله هو التصديق والقرار ول زيادة ‪ -‬أن تطهر‬

‫الكعبة وحدها من أوثان الشرك ‪ ،‬ول نقول مكة وحدها ‪ ،‬ول الجزيرة العربية ‪ ،‬فضل عن‬

‫بقية العالم السلمي الذي امتد إليه النور بجهاد المجاهدين في سبيل ال ‪.‬‬

‫وهل كان يتصور ‪ -‬لو أن المطلوب كله هو التصديق والقرار ‪ -‬أن تقوم للسلم دولة‬

‫في المدينة (‪ ، )1‬فضل عن أن تشمل هذه الدولة الجزيرة العربية بأكملها ‪ ،‬فضل عن أن تمتد ‪،‬‬

‫فتشمل في نصف قرن ما بين المحيط غربا إلى الهند شرقا كما حدث بالفعل ‪.‬‬

‫وهل كان يتصور ‪ -‬لو أن المطلوب كله هو التصديق والقرار ‪ ،‬أو لو أن المسلمين‬

‫فهموا أن المطلوب كله هو التصديق والقرار ‪ -‬أن ُت َثبّت دعائم الدولة في المدينة ‪ ،‬واليهود‬

‫يكيدون لها من داخلها ‪ ،‬ومشركو قريش يكيدون لها من خارجها ‪ ،‬فضل عن أن تثبّت‬

‫دعائمها في الجزيرة بأكملها ‪ ،‬فضل عن أن تزال إحدى دولتي الشرك العظميين عن آخرها (‬

‫فارس ) وتزلزل الدولة الخرى ( الروم ) عن عرشها وسلطانها ويتقلص ظلها في الرض ‪..‬‬

‫وفضل عن أن تكون هذه الدولة ‪ -‬فيما بعد ‪ -‬هي مركز الدنيا ومحورها ‪ ،‬فيها العلم ‪ ،‬وفيها‬

‫الحضارة ‪ ،‬ولها القوة والتمكين في الرض ؟!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫من هذا المنطلق الذي أسلفنا الحديث عنه ننتقل إلى المنطلق الثاني ‪ ،‬وقد اقتربنا منه ‪،‬‬

‫فنسأل ‪ :‬هل كان ما يفعله رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وصحابته الكرام في تطبيق‬

‫مقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬تطوعا من عند أنفسهم ‪ ،‬غير واجب عليهم ؟‬

‫لم تقم الدولة في المدينة إل بعد الهجرة ‪ ،‬وهي ‪ -‬كما أسلفنا القول ‪ -‬عمل قام به المسلمون بتكليف من‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫ال ‪ ،‬عمل زائد على التصديق والقرار ‪.‬‬
‫وهنا نقطة قد تختلط على الذهـان ‪ ،‬فيما بين التطوع والتكليف بالنسبة لجيل الصحابة‬

‫‪ -‬رضوان ال عليهم ‪-‬‬

‫وقد بينت في كتاب " واقعنا المعاصر " أن الذي تفرد به الجيل الفريد لم يكن هو قيامه‬

‫بالتكاليف الربانية ‪ ،‬فذلك أمر مفروض على كل الجيال ‪ ،‬ومطلوب من كل الجيال ‪ ،‬إنما‬

‫تفرد ذلك الجيل بالدرجة العالية العجيبة التي نفذ بها تلك التكاليف ‪.‬‬

‫فقد فرض ال القتال ‪ ،‬أما ذلك الذي خرج من بيته يريد القتال ومعه تمرات يقتات بها‬

‫فاستبطأ الطريق إلى الجنة ‪ ،‬فقال ‪ :‬لئن بقيت حتى أنتهي من هذه إنه لمر يطول ! فألقى‬

‫التمرات من يده وألقـى بنفسه في المعركة فاستشهد ‪ ..‬فهذه درجة فذة في تنفيذ التكليف‬

‫الرباني ‪ ،‬تفرد بها وبأمثالها ذلك الجيل الفريد ‪ .‬أما القتال في ذاته ‪ ،‬استجابة للتكليف الرباني ‪،‬‬

‫فأمر مطلوب من الجيال كافة ‪ ،‬لم يتفرد به ذلك الجيل ‪.‬‬

‫وقد أمر ال أن يشترك المجتمع السلمي كله في الخير العام الذي يفيضه ال على ذلك‬

‫المجتمع ‪ ،‬وجعل أداة ذلك الزكاة يدفعها الغنياء من فائض أموالهم ( أي ما يزيد على‬

‫ص َدقَاتُ‬
‫النصاب ) فتوزعها الدولة على المحتاجين إليها ‪ ،‬الذين بينتهم الية الكريمة ‪ِ ( :‬إ ّنمَا ال ّ‬

‫سبِيلِ اللّهِ وَابْنِ‬


‫لِلْفُ َقرَاءِ وَا ْل َمسَاكِينِ وَا ْلعَامِلِينَ عََل ْيهَا وَا ْلمُؤَلّفَ ِة قُلُو ُبهُمْ َوفِي الرّقَابِ وَا ْلغَا ِرمِينَ َوفِي َ‬

‫كما جعل أداتها النفاق في سبيل ال بغير نسب معينة كما هو الحال في أنصبة‬ ‫(‪)1‬‬
‫سبِيلِ )‬
‫ال ّ‬

‫‪ .‬ولم‬ ‫(‪)2‬‬
‫الزكاة ‪ ،‬وقال رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ " : -‬في المال حق سوى الزكاة "‬

‫يكن هذا النفاق في سبيل ال أمرا تفرد به الجيل الول ‪ ،‬لنه تكليف لكل الجيال ‪ .‬أما الذي‬

‫خرج من كل ماله ‪ ..‬وأما الذي جاءه الضيف وهو ل يملك إل قوت عياله فقال لهله ‪ :‬أطفئي‬

‫السراج وآوي الطفال إلى فراشهم ‪ ،‬ثم جعل يتظاهر هو وأهله أنهم يشاركون في الطعام حتى‬

‫يأتنس الضيف ويأكل ‪ ،‬حتى أكل بمفرده الطعام الموجود كله ‪ ،‬فأنزل ال فيهم ‪َ ( :‬و ُي ْؤ ِثرُونَ‬

‫‪ )(1‬سورة التوبة [ ‪. ] 60‬‬


‫أخرجه ابن ماجه ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫خصَاصَةٌ ) (‪ ، )1‬فهذا وذلك تطوع نبيل لم يفرضه ال ‪ -‬سبحانه‬
‫س ِهمْ وَلَ ْو كَانَ ِب ِهمْ َ‬
‫عَلَى َأنْ ُف ِ‬

‫وتعالى ‪ -‬وهو هو الذي تفرد به وبأمثاله الجيل الفريد ‪.‬‬

‫وقد قال رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ " : -‬الحلل بيّن والحرام بيّن ‪ ،‬وبينهما‬

‫متشابهـات ‪ .‬فمن اتقى الشبهات فقد استبـرأ لدينه ‪ ،‬ومن حام حول الحمى أوشـك أن يقع‬

‫فيه " (‪ )2‬فطلب من المؤمنين أن يتقوا الشبهات ليستبرئوا لدينهم ‪ ،‬وأن يقفوا عند حدود الحلل‬

‫البين ‪ ،‬ويبتعدوا عما سوى ذلك ‪ .‬وهو تكليف لجميع المسلمين في جميع العصور ‪ .‬أما الذين‬

‫قالوا ‪ " :‬كنا نترك تسعة أعشار الحلل مخافة أن نقع في الحرام " فهذا تطوع نبيل لم يفرضه‬

‫ال ‪ ،‬وهو الذي تفرد به ذلك الجيل ‪...‬‬

‫وهكذا نفرق تفريقا حاسما بين أمرين يختلطان أحيانا في أذهان بعض الناس ‪ .‬بين ما‬

‫قام به ذلك الجيل الفريد تكليفا من عند ال ‪ ،‬ل يختص بهم وحدهم ‪ ،‬إنما هو للجيال كافة ‪،‬‬

‫يأثمون إذا تركوه ‪ ،‬وبين ما تطوعوا به من اللتزام بالمندوبات كأنها فروض ‪ ،‬منطلقين في‬

‫ذلك من عمق إيمانهم ورسوخه ‪ ،‬وحساسية ضمائرهم المرهفة تجاه ما كلفهم به ال ‪..‬‬

‫فلننظر الن في التكاليف التي قاموا بها لنها تكاليف ‪ ،‬ل المندوبات التي التزموا بها‬

‫وفرضوها على أنفسهم كأنها فروض ‪..‬‬

‫هل اللتزام بما جاء في كتاب ال وسنة رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬والرجوع إلى‬

‫ال ورسوله في كل أمر من المور ‪ ،‬كان تطوعا من الجيل الول لم يكلفوا به ؟‬

‫هل صدق الجهاد في سبيل ال كان تطوعا لم يكلفوا به ؟‬

‫هل تحقيق معنى المة في صورته الحقيقية ‪ ،‬بما يشتمل عليه من التكافل بين فئات‬

‫المجتمع ‪ ،‬والخوة الصادقة بين المؤمنين ‪ ،‬والتعاون على البر والتقوى ‪ ،‬وحرمة الموال‬

‫سورة الحشر [ ‪. ] 9‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬متفق عليه ‪.‬‬ ‫()‬
‫والدماء والعراض وصيانتها ‪ ..‬هل كان هذا كله تطوعا لم يكلفوا به ؟‬

‫هل كان تحقيق العدل الرباني في واقع الرض تطوعا لم يكلفوا به ؟‬

‫هل كان التخلق بأخلقيات ل إله إل ال تطوعا لم يكلفوا به ؟‬

‫(‪)1‬‬
‫هل كان الوفاء بالمواثيق تطوعا لم يكلفوا به ؟‬

‫وهل كان في حسهم أنهم يقومون بهذا كله تطوعًا زائدا على أصل اليمان ‪ ،‬وأن‬

‫اليمان متحقق في نفوسهم وفي واقع حياتهم بمجرد التصديق والقرار وإن لم يقوموا بشيء‬

‫من هذا كله على الطلق ؟‬

‫أم كان يمـل نفوسهم ‪ -‬كما تعلموا من كتاب ال ومن رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ -‬أن القيام بهذه التكاليف هو مقتضى اليمان بأنه ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ‪..‬‬

‫ثم كانوا ‪ -‬في الداء ‪ -‬يرتفعون إلى تلك القمم السامقة تقربا إلى ال ؟!‬

‫وهل يعقل أن يكون الواقع العملي للسلم كله زيادات على الصل ‪ ،‬غير داخلة في‬

‫ذلك الصل ؟!‬

‫ما قيمة هذا الدين إذن ؟ ما المهمة التي يؤديها في حياة الناس ؟!‬

‫وهل ينزل ال الكتب ‪ ،‬ويرسل الرسل ‪ ،‬ويكلفهم بالصبر والمصابرة ‪ ،‬والجهاد المرير ‪،‬‬

‫من أجل تلك الحصيلة السلبية التي تظل مستسرة في القلوب ‪ ،‬كامنة في الضمائر ‪ ،‬ل تغيّر‬

‫شيئا من واقع الناس ‪ ،‬ول تحق حقا ول تزهق باطل ‪ ،‬ول تقيم معروفا ول تبطل منكرا ؟!‬

‫وهل لهذا أخرجت تلك المة إلى الوجود ؟!‬

‫تلك أبرز سمات المة المسلمة التي تحدثنا عنها في كتاب " واقعنا المعاصر " مضافا إليها الحركة العلمية‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫السلمية والحركة الحضارية السلمية اللتان جاءتا ‪ -‬بطبيعتهما ‪ -‬متأخرتين في الزمن ‪ ،‬ولكن بذورهما‬
‫الولى وجدت في أطواء النطلقة العظمى التي حققها الجيل الول ‪.‬‬
‫خ ِرجَـتْ لِلنّاسِ تَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ َوُت ْؤ ِمنُونَ‬
‫خيْرَ ُأمّةٍ ُأ ْ‬
‫( ُكنْتـ ْم َ‬

‫بِاللّهِ ) (‪. )1‬‬

‫هل يعقل أن يكون الهدف الرئيسي من إخراج هذه المة أمرا زائدا ‪ ،‬بمعنى أن تحققه‬

‫أو عدم تحققه ل يؤثر على الصل ؟!‬

‫أم يقولون إن الرتبـاط بيـن ل إله إل ال ومقتضياتهـا كان خاصا بجيل الصحابـة‬

‫‪ -‬رضـوان ال عليهم ‪ -‬وأما من أتى بعدهم فل عليهم من العمل إذا تحقق منهم التصديق‬

‫والقرار ؟!‬

‫فهل لهذا القول من سند حقيقي من كتابٍ أو سن ٍة أو منطقٍ عاقل ؟!‬

‫هل هناك نص ‪ -‬أو منطق ‪ -‬يقول ‪ :‬إن جيل معينا أو أشخاصا بأعيانهم هم الذين‬

‫ينبغي أن يتقيدوا بمقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬أما من عداهم فليس عليهم إل أن يصدقوا بقلوبهم ‪،‬‬

‫وينطقوا بألسنتهم أنه ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ‪ ،‬فإذا نطقوا بها ‪ -‬مصدقين بها ‪-‬‬

‫فقد تم المطلوب منهم كله ‪ ،‬ولم يعد لحد أن يطالبهم بعد ذلك بشيء ! فإن هم " تفضلوا " من‬

‫عند أنفسهم فعملوا بشيء من مقتضيات ل إله إل ال فلهم الفضل ‪ ،‬وإن لم يفعلوا فل تثريب‬

‫عليهم ‪ ..‬فقد حازوا اليمان !!‬

‫حقيقة إن الجيل الول قد قام بتحقيق مقتضيات ل إله إل ال في ذات نفسه وفي واقع‬

‫حياته بصورة فذة لم تتكرر في التاريخ ‪ ،‬بينما الجيال التالية ظلت تتفلت تدريجيا من تلك‬

‫المقتضيات خلل القرون الطويلة حتى كادت تنفلت منها جميعا ‪ .‬ولكن ذلك لم يكن بسبب أن‬

‫الجيل الول كان بذاته مكلفا تكاليف خاصة غير بقية الجيال ‪ ،‬ول بسبب أن الجيال التالية‬

‫كانت معفاة من التكاليف التي فرضت على الجيل الول ‪.‬‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 110‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫إنما كانت الظروف التي أحاطت بنشأة الجيل الول هي التي جعلت منه ذلك الجيل‬

‫المتفرد في التاريخ ‪ .‬فقد شهد الجاهلية ثم شهد السلم ‪ ،‬فأحس بالنعمة الربانية وقدرها حق‬

‫قدرها فحرص عليها ‪ .‬وكان الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬يعيش بين ظهرانيهم ‪ ،‬يتلقون‬

‫منه تلقيا مباشرا ‪ ،‬ويتربون على عينه ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فيرتفعون إلى أقصى طاقة‬

‫البشر في الرتفاع ‪ .‬بالضافة إلى ما تصنعه النشأة الجديدة في النفوس من شحذ العزائم‬

‫والطاقات إلى أقصى درجاتها ‪ ،‬بخلف الجيال التي تولد بعد تمام البناء ‪ ،‬كما أن الجيل الذي‬

‫ينشىء البناء بيديه ‪ ،‬ويتعب في إقامته ‪ ،‬يكون حريصا عليه أل يصيبه خدش يفسد جمال‬
‫(‪)1‬‬
‫رونقه ‪..‬‬

‫هذه الظروف مجتمعة جعلت ذلك الجيل الفذ يصل في تطبيق مقتضيات ل إله إل ال‬

‫إلى ذلك المرتقى السامق الذي وصل إليه دون بقية الجيال ‪ .‬أما التكاليف فهي التكاليف ‪..‬‬

‫هي هي كما احتواها كتاب ال وسنة رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وأما كون القيام بها هو‬

‫مقتضى اليمان بل إله إل ال ‪ ،‬فحقيقة ل علقة لها بكون أي جيل من الجيال هو الول أو‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫الوسط أو الخير !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ونأتي الن إلى المنطلق الخير فنسأل ‪ :‬هل يمكن في واقع النفس البشرية أن يؤمن‬

‫إنسان بشيء ‪ ،‬ثم يكون سلوكه الواقعي كله مغايرا لمقتضيات ذلك اليمان أو مناقضا له ؟!‬

‫هناك حالة واحدة يعرفها المشتغلون بعلج المراض النفسية هي حالة " انفصام‬

‫الشخصية " يكون للمريض فيها شخصيتان منفصلتان تماما إحداهما عن الخرى ‪ -‬كأنه ل‬

‫صلة بينهما على الطلق ‪ -‬إحداهما ‪ -‬مثل ‪ -‬خيرة والخرى شريرة ‪ ،‬يتنقل المريض بينهما‬

‫‪ )(1‬تعرضت للحديث عن هذه الظروف وأثرها في تكوين الجيل الول على صورته الفذة في كتاب " واقعنا‬
‫المعاصر " فصل " نظرة إلى الجيل الفريد " ‪.‬‬
‫‪ )(2‬تحدثت عن هذه النقطة كذلك في الفصل المشار إليه من كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬
‫في نوبات عصبية ل سلطان له عليها ‪ .‬وهي حالة مرضية تسقط التكليف عن صاحبها ‪..‬‬

‫ومع ذلك فإن هذه الحالة ذاتها تكتشف من التصرفات المصاحبة لها والدالة عليها ! أي من‬

‫سلوك عملي يصاحب الحالة النفسية !‬

‫أما الحالة المفترضة ‪ ،‬وهي وجود إنسان في حالة طبيعية ‪ -‬أي في وعيه وإرادته ‪-‬‬

‫يؤمن في دخيلة نفسه بشيء ما ‪ ،‬ثم ل يبدو في مجموع تصرفاته كلها أمر واحد يدل على‬

‫وجود ذلك اليمان المستسر في الضمير ( في غير حالة القهر التي توجب التستر الكامل عن‬

‫عيون العداء المتربصين ) فهي حالة مستحيلة في واقع النفس البشرية ‪ ،‬لم يتحدث عن مثلها‬

‫أحد في التاريخ !!‬

‫إنما الذي يمكن أن يوجد بالفعل هو وجود إيمان بشيء ما ‪ ،‬ووجود بعض التصرفات‬

‫مخالفـة لمقتضى ذلك اليمان ‪ .‬هذه حالة طبيعية ‪ ..‬بل هي الحالة الغالبة على تصرفات‬

‫البشر ! ولكنها ل تقع اعتباطا بغير أسباب ! وليست خالية من الدللة كذلك ‪.‬‬

‫أما أسبابها فهي الجنوح الموجود في النفس البشرية نحو التفلت من التكاليف استجابة‬

‫لدوافع تعتمل في باطن النفس ‪ .‬إذ التكاليف ‪ -‬كما هو ظاهر ‪ -‬قيد على الرغبات ‪ ،‬سواء في‬

‫تحديد مقدارها أو تحديد مسارها ‪ .‬ومن ثم تجنح النفس إلى التفلت من تلك التكاليف حين تركن‬

‫إلى الستجابة للرغبات دون ضوابط ‪ .‬ولكن يبقى شيء ‪ -‬ملحوظ من الدراسات النفسية ‪ -‬هو‬

‫أن " اليمان " ‪ -‬وهو فطرة ‪ ،‬إذ من فطرة النفس البشرية أن تؤمن بشيء ما ‪ -‬هو ذاته قيد‬

‫على الرغبات ‪ ،‬يحدد مقدارها أو يحدد مسارها ‪ .‬ومن ثم ل تنطلق الرغبات مع وجود اليمان‬

‫بنفس القدر وفي نفس المسار كما يحدث في حالة عدم وجود ذلك اليمان ‪ .‬ويكون التصرف‬

‫الواقعي للنسان هو محصلة القوى والضوابط التي تعتمل داخل نفسه ‪ .‬فيكون أكثر استجابة‬

‫لمقتضيات اليمان أو أكثر تفلتا منها بحسب مقدار هذه القوى وتلك الضوابط معا في ذات‬

‫الوقت ‪ .‬وتختلف أحوال النسان الفرد ما بين لحظة ولحظة حسب اختلف المقادير بين هذه‬

‫وتلك ‪ ،‬ولكن ل تكون حصيلة اليمان صفرا في أي حالة من الحالت ‪ ،‬بحيث يصبح وجوده‬
‫وعدمه سيان ‪..‬‬

‫تلك طبيعة النفس البشرية ‪ ..‬ولذلك قال العلماء المستبصرون بنور ال إن اليمان يزيد‬

‫وينقص ‪ ..‬ينقص بالمعاصي ويزيد بالطاعات ‪..‬‬

‫والدين قيد ل شك فيه ‪ ..‬سواء على القدر المسموح به من الستجابة للرغبات ‪ ،‬أو في‬

‫تحديد مسارها ‪.‬‬

‫حدُودُ اللّهِ فَل‬


‫حدُو ُد اللّ ِه فَل َت ْعتَدُوهَا ) (‪ ( )1‬تِ ْلكَ ُ‬
‫يقول ال سبحانه وتعالى ‪ ( :‬تِ ْلكَ ُ‬

‫تَ ْق َربُوهَا ) (‪ )2‬فيحدد الحدود التي يستجيب فيها النسان لرغائبه التي تعتمل في كيانه ‪ ،‬والتي‬

‫ن ال ّنسَاءِ وَا ْل َبنِينَ وَا ْل َقنَاطِيرِ ا ْلمُ َق ْنطَرَ ِة مِنَ‬


‫ت مِ َ‬
‫شهَوَا ِ‬
‫س حُبّ ال ّ‬
‫تلخصها الية الكريمة ‪ُ ( :‬زيّنَ لِلنّا ِ‬

‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا ) (‪. )3‬‬


‫حرْثِ ذَِلكَ َمتَاعُ ا ْل َ‬
‫خيْلِ ا ْل ُمسَ ّو َمةِ وَا ْلَأ ْنعَامِ وَا ْل َ‬
‫الذّهَبِ وَالْ ِفضّةِ وَا ْل َ‬

‫ض حَللً طَيّبا وَل َت ّت ِبعُوا‬


‫س كُلُوا ِممّا فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫ويقول سبحانه وتعالى ‪ ( :‬يَا َأ ّيهَا النّا ُ‬

‫عدُ ّو ُمبِينٌ ) (‪. )4‬‬


‫ش ْيطَانِ ِإنّهُ َل ُكمْ َ‬
‫خطُوَاتِ ال ّ‬
‫ُ‬

‫ش ِركَةٍ وَ َلوْ‬
‫خيْ ٌر مِنْ ُم ْ‬
‫حتّى يُ ْؤمِـنّ وََلَأمَ ٌة مُ ْؤ ِمنَ ٌة َ‬
‫ت َ‬
‫ش ِركَا ِ‬
‫ويقول ‪ ( :‬وَل َت ْن ِكحُوا ا ْل ُم ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫عجَبَتْ ُكمْ ‪) ..‬‬
‫أَ ْ‬

‫ن َت ْب َتغُـوا ِبَأمْوَاِلكُـمْ ُمحْصِنِينَ غَ ْيرَ‬


‫ويقول ‪ ( :‬وَُأحِـلّ َلكُـمْ مَا َورَاءَ ذَِلكُـمْ أَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫ُمسَا ِفحِينَ ‪) ..‬‬

‫فيحدد مسار الرغبات كذلك ‪.‬‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 229‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 187‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة آل عمران [ ‪. ] 14‬‬ ‫()‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 168‬‬ ‫()‬


‫‪4‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 221‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 24‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫والحلل والحرام كله هو القيود التي يضعها الدين في طريق الشهوات ليحدد مقدارها أو‬

‫يحدد مسارها ‪.‬‬

‫وفضل عن ذلك فهناك تكاليف أخرى تضع قيودا من نوع آخر في طريق الشهوات‬

‫فتحدد مقدارها ومسارها ‪ ،‬كالصلة والزكاة والصيام والحج ‪ ،‬وأخلقيات ل إله إل ال ‪ ،‬وعلى‬

‫القمة من ذلك كله الجهاد في سبيل ال ‪.‬‬

‫والشهوات ‪ -‬أو " الدوافع " ‪ -‬لم يضعها ال قي الكيان البشري عبثا ‪ ،‬تعالى ال عن‬

‫العبث ‪ .‬وكذلك القيود لم يضعها ال في طريق الدوافع لغير غاية ‪..‬‬

‫فقد علم ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أن مهمة الخلفة في الرض التي خلق النسان من‬

‫أجلها تحتاج إلى دوافع تدفع النسان إلى العمل والحركة والنتاج من أجل تعمير الرض ‪،‬‬

‫وهو أحد الهداف المطلوبة من النسان ‪ ،‬والمقدرة له في مقامه في الرض ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫علٌ فِي ا ْلَأرْضِ خَلِي َفةً )‬
‫( وَِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ ِإنّي جَا ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫س َت ْعمَ َر ُكمْ فِيهَا )‬
‫شَأ ُكمْ مِنَ ا ْلَأرْضِ وَا ْ‬
‫( ُهوَ َأ ْن َ‬

‫كما أنها من وسائل " المتاع " الذي قدره ال للنسان في الرض ‪:‬‬

‫ن ) (‪. )3‬‬
‫ستَقَرّ َو َمتَاعٌ إِلَى حِي ٍ‬
‫ض ُم ْ‬
‫( وََل ُكمْ فِي ا ْلَأرْ ِ‬

‫وهي في الوقت ذاته نقطة البتلء التي خلق النسان لها ‪:‬‬

‫ل ) (‪. )4‬‬
‫عمَ ً‬
‫حسَنُ َ‬
‫جعَ ْلنَا مَا عَلَى ا ْلَأرْضِ زِينَ ًة َلهَا ِل َنبْلُوَ ُهمْ َأ ّي ُهمْ َأ ْ‬
‫( ِإنّا َ‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 30‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬سورة هود [ ‪. ] 61‬‬ ‫()‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 36‬‬ ‫()‬


‫‪3‬‬
‫سورة الكهف [ ‪. ] 7‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫أما القيود والضوابط فقد علم ال كذلك أنها ضرورية للكيان البشري ليقوم بمهمة‬

‫الخلفة الراشدة المطلوبة منه ‪ .‬فالستجابة الكاملة للدوافع ‪ ،‬التي تتعدى بها الحدود المأمونة‬

‫مهلكة للنسان ومفسدة له ‪ ،‬وصارفة له عن الرفعة التي قدرها ال للنسان الصالح ‪ ،‬الذي‬

‫خلقه ال في أحسن تقويم ‪ ،‬متميزا تميزا حاسما عن الحيوان ‪ ،‬والتي بها ُهيّىء لحمل المانة‬

‫التي أبت أن تحملها السماوات والرض والجبال وأشفقت من حملها لنها لم تهيأ لها ‪ ،‬وحملها‬

‫النسان ‪..‬‬

‫وتؤدي القيود مهمة مزدوجة في حياة النسان ‪.‬‬

‫تحدد المقدار الذي يستجيب به النسان لدوافعه وشهواته ‪ ،‬فتحبس قدرا من الطاقة أن‬

‫يتبدد كله في المجال الحسيّ ‪ .‬ثم تحدد مسار هذه الطاقة فترفعها عن المجال الحسيّ الخالص‬

‫إلى مجال " القيم " ‪ ،‬التي ترسم الوجود العلى للنسان ‪ ،‬وهي هي المانة التي تميز النسان‬

‫عن الحيوان ‪..‬‬

‫وهكذا ‪ ..‬بين الدوفع والضوابط يتوازن كيان النسان ‪ ،‬ويحقق غاية وجوده وهو في‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أحسن تقويم‬

‫ولكنه ل ينضبط تماما في كل حالة ‪ .‬ول يستمر على توازنه في كل حالة ‪:‬‬

‫ي وَ َلمْ َنجِدْ َل ُه عَزْما ) (‪. )2‬‬


‫ن َقبْلُ فَ َنسِ َ‬
‫ع ِه ْدنَا إِلَى آ َدمَ مِ ْ‬
‫( وَلَ َقدْ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫" كل بني آدم خطاء ‪ ،‬وخير الخطائين التوابون "‬

‫وهنا تحدث المعصية ‪..‬‬

‫اقرأ إن شئت " منهج التربية السلمية " الجزء الول ‪ ،‬و " دراسات في النفس النسانية " فصل " الدوافع‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫والضوابط " ‪.‬‬
‫سورة طه [ ‪. ] 115‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫تحدث بأحد سببين ‪ ،‬أو بهما معا في وقت واحد ‪ ..‬إما اشتداد ضغط الدوافع على‬

‫النسان ‪ ،‬وإما ضعف الضوابط في لحظة من اللحظات ‪ ،‬أو باجتماع السببين معا في وقت‬

‫واحد ‪ :‬شدة الدافع ‪ ،‬وضعف الرادة الضابطة التي تحدد المقدار والمسار ‪ ..‬وعلى قدر‬

‫اشتراك العوامل المسبّبة تكون النتيجة ‪ ..‬فحين يكون الدافع ضعيفا يمكن ضبطه بسهولة ‪ .‬أما‬

‫حين يكون عنيفا فيتوقف المر على مدى قوة الرادة ‪ .‬فإن كانت قوية فقد تكفي لرد الدافع‬

‫تماما فل تحدث المعصية ‪ ،‬أو تحدث خفيفة عابرة مما عبر عنه القرآن باللمم ‪ .‬أما حين تكون‬

‫ضعيفة فإنها تنهار أمام الضغط ‪..‬‬

‫واليمان بال واليوم الخر هو أقوى الدوات المعينة للنسان على مقاومة ضغط‬

‫الشهوات ‪ .‬وبمقدار ما يكون اليمان قويا وراسخا تكون قدرة النسان على النضباط في‬

‫داخل الحدود التي رسمها ال ‪ ،‬أي تكون الطاعة لوامر ال ‪ ،‬والقيام بالتكاليف التي فرضها‬

‫ال ‪ .‬وليس معنى هذا أن يخرج النسان من بشريته ويصبح ملكا ل َي ْعصِي ! ولكن معناه أن‬

‫الطاعة والنضباط والقيام بالتكاليف تصبح في حياته هي الصل ‪ ،‬وغيرها هو الشذوذ العابر‬

‫الذي ل يتلبث عنده ول ينغمس فيه ‪ ،‬فيشمله هذا الوصف الرباني ‪:‬‬

‫ن َيغْ ِفرُ‬
‫س َتغْ َفرُوا ِل ُذنُو ِب ِهمْ َومَ ْ‬
‫سهُمْ َذ َكرُوا اللّ َه فَا ْ‬
‫( وَاّلذِينَ ِإذَا فَعَلُوا فَاحِشَ ًة أَ ْو ظََلمُوا َأ ْن ُف َ‬

‫جنّاتٌ‬
‫جزَاؤُ ُهمْ َمغْ ِفرَةٌ ِمنْ َر ّب ِهمْ َو َ‬
‫ك َ‬
‫ن أُوَل ِئ َ‬
‫ب إِلّا اللّ ُه وََلمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُو َ‬
‫ال ّذنُو َ‬

‫ن ) (‪. )1‬‬
‫ن فِيهَا َو ِنعْ َم َأجْ ُر ا ْلعَامِلِي َ‬
‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِي َ‬
‫ن َت ْ‬
‫َتجْرِي مِ ْ‬

‫أما حين يضعف اليمان بال واليوم الخر ‪ -‬وبمقدار ما يضعف ‪ -‬فإن العكس يصبح‬

‫هو الصل ‪ ،‬وتصبح الستقامة على أمر ال هي الحالة العابرة التي ينتكس بعدها إلى‬

‫المعصية والغيّ والفساد ‪.‬‬

‫وفي جميع الحوال ل تكون حصيلة اليمان صفرا ‪ ،‬ول يكون وجوده وعدمه سواء ‪،‬‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 136 - 135‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫بحيث ل يعمل النسان عمل واحدا من أعمال السلم !!‬

‫والمعصية ‪ -‬بإجماع العلماء ‪ -‬ل تخرج النسان من السلم ‪. )1( ..‬‬

‫(‪)2‬‬
‫إنما يخرجه من السلم استحلل المعصية ‪ -‬ولو لم يقترفها ‪ -‬والستحلل عمل‬

‫يختلف اختلفا تاما عن الوقوع في المعصية ‪.‬‬

‫فالوقوع في المعصية هو لحظة الضعف التي تنتاب الكائن البشري فينسى ‪ ،‬كما نسي‬

‫آدم من قبـل ‪ ،‬وتخور عزيمته ‪ ،‬فل يكون اليمان مذكورا في حسه ‪ ،‬وإن يكن ما زال في‬

‫قلبه ‪ ،‬ولعل هذا ما أشار إليه حديث الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ " : -‬ل يزني الزاني‬

‫حين يزني وهو مؤمن ‪ ،‬ول يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ‪ )3( " ..‬ثم يفيق النسان‬

‫من لحظة الضعف فيتذكر ‪ ،‬ويستغفر ‪ ،‬فيغفر ال له ‪.‬‬

‫أما الستحلل فهو الستكبار عن عبادة ال والخضوع لمره ‪ ،‬فكأنما يقول صاحبه‬

‫بلسان الحال أو بلسان المقال ‪ :‬هذا ما يقوله ال ‪ ،‬أما أنا فلي في المر حكم آخر ‪ ،‬كما قال‬

‫خ ْيرٌ ِمنْ ُه خَلَ ْق َتنِي مِنْ‬


‫الشيطان وهو يعلن عصيانه لمر ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬بالسجود لدم ‪َ ( :‬أنَا َ‬

‫حمَـأٍ‬
‫ل مِنْ َ‬
‫شرٍ خَلَ ْقتَـهُ ِمنْ صَ ْلصَا ٍ‬
‫جدَ ِل َب َ‬
‫سُ‬‫أو قال ‪َ ( :‬لمْ َأ ُكنْ ِلَأ ْ‬ ‫(‪)4‬‬
‫ن طِينٍ )‬
‫نَارٍ َوخَلَ ْقتَ ُه مِ ْ‬

‫سنُونٍ ) (‪ )5‬وهذا الذي ل يغفره ال سبحانه لنه شرك ‪.‬‬


‫َم ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫ن ُيشْ َركَ ِبهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِل َمنْ َيشَاءُ )‬
‫( ِإنّ اللّهَ ل َيغْ ِفرُ أَ ْ‬

‫ولكن ما حدود المعصية في المجتمع المسلم ؟‬

‫‪ )(1‬لم يشذ عن هذا إل الخوارج ‪ ،‬وهم فرقة خارجة عن السلم ‪.‬‬


‫هو عمل من أعمال القلب يحدث به الكفر ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫أخرجه الشيخان ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة ص [ ‪. ] 76‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫سورة الحجر [ ‪. ] 33‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 116‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫هل يمكن أن تمتد فتشمل كل المجتمع ‪ ،‬ثم تمتد فتشمل كل عمل من أعمال السلم ؟!‬

‫ويبقى مجتمعا " مسلما " بعد ذلك ؟! بمجرد التصديق والقرار ؟!‬

‫إننا إن أبحنا مبدأ " التصديق والقرار " بوصفهما هما " اليمان " ‪ ..‬وجعلنا اليمان‬

‫متحققا بهما ولو لم يعمل النسان عمل واحدا من أعمال السلم ‪ ،‬بدعوى أن العمل ليس‬

‫داخل في مسمى اليمان ‪ ،‬وقررنا ‪ -‬بناء على ذلك ‪ -‬أن هذا القدر يكفي لعطاء صفة‬

‫السلم في الدنيا ودخول الجنة في الخرة ‪ ..‬إذا أبحنا ذلك لفرد واحد فهل نملك أن نمنعه عن‬

‫أي فرد ؟ وعن كل الفراد إن أرادوا ؟!‬

‫فكيف يكون الحال لو وجد عندنا مجتمع كله " مسلم " " مؤمن " على هذا النحو ؟!‬

‫هل يتحقق فيه شيء مما أراده ال ببعث الرسل وإنزال الكتب ؟‬

‫من باب التذكير نعود إلى الية التي تحدد الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب ‪:‬‬

‫سطِ ) (‪. )1‬‬


‫س بِا ْل ِق ْ‬
‫( لَ َق ْد َأرْسَ ْلنَا ُرسَُلنَا بِا ْل َبيّنَاتِ وََأ ْنزَ ْلنَا َم َعهُمُ ا ْل ِكتَابَ وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّا ُ‬

‫فهل يقوم الناس بالقسط على هذا النحو ؟!‬

‫ومن باب التذكير مرة أخرى نعود إلى الية أو اليات التي تحدد الهدف من إخراج هذه‬

‫المة بالذات ‪:‬‬

‫خ ِرجَـتْ لِلنّاسِ تَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ َوُت ْؤ ِمنُونَ‬
‫خيْرَ ُأمّةٍ ُأ ْ‬
‫( ُك ْنتُـ ْم َ‬

‫بِاللّهِ ) (‪. )2‬‬

‫ن الرّسُولُ عََل ْي ُكمْ‬


‫شهَدَا َء عَلَى النّاسِ َو َيكُـو َ‬
‫جعَ ْلنَاكُـمْ ُأمّةً َوسَطا لِ َتكُونُـوا ُ‬
‫( َو َكذَِلكَ َ‬

‫سورة الحديد [ ‪. ] 25‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 110‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫شهِيدا ) (‪. )1‬‬
‫َ‬

‫حرَجٍ مِلّةَ‬
‫ن َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫جعَلَ عََل ْي ُكمْ فِي الدّي ِ‬
‫ج َتبَاكُمْ َومَا َ‬
‫جهَادِهِ هُ َو ا ْ‬
‫ق ِ‬
‫( َوجَاهِدُوا فِي الّل ِه حَ ّ‬

‫شهِيدا عََل ْي ُكمْ وَ َتكُونُوا‬


‫ل َ‬
‫ن مِنْ َقبْلُ َوفِي َهذَا ِل َيكُونَ ال ّرسُو ُ‬
‫سمّاكُمُ ا ْل ُمسِْلمِي َ‬
‫َأبِيكُمْ ِإ ْبرَاهِيمَ هُ َو َ‬

‫صمُوا بِاللّهِ ُهوَ َموْلكُ ْم فَ ِن ْعمَ ا ْلمَوْلَى َو ِن ْعمَ‬


‫ع َت ِ‬
‫شهَدَاءَ عَلَى النّاسِ َفَأقِيمُوا الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ وَا ْ‬
‫ُ‬

‫الّنصِيرُ ) (‪. )2‬‬

‫فهل يتحقق شيء من هذه الهداف على هذا النحو ؟!‬

‫أليس من مثل هذا الوهم ‪ -‬أو هذا السلوك الخاطئ ‪ -‬حذرنا ال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬بذكر‬

‫حال بني إسرائيل لكي ل نقع فيه ‪:‬‬

‫ن سَ ُيغْفَ ُر لَنَا‬
‫عرَضَ َهذَا ا ْلَأ ْدنَى َويَقُولُو َ‬
‫خذُونَ َ‬
‫( َفخََلفَ مِنْ َب ْعدِ ِهمْ خَ ْلفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ َي ْأ ُ‬

‫حقّ‬
‫ن ل َيقُولُوا عَلَى اللّ ِه إِلّا ا ْل َ‬
‫خذْ عََل ْي ِهمْ مِيثَاقُ ا ْل ِكتَابِ أَ ْ‬
‫خذُوهُ أََلمْ ُي ْؤ َ‬
‫ض ِمثْلُهُ َي ْأ ُ‬
‫عرَ ٌ‬
‫وَِإنْ َي ْأ ِت ِهمْ َ‬

‫ن ) (‪. )3‬‬
‫ن َأفَل َتعْقِلُو َ‬
‫خيْ ٌر لِّلذِينَ َيتّقُو َ‬
‫خرَ ُة َ‬
‫َو َد َرسُوا مَا فِيهِ وَالدّارُ الْآ ِ‬

‫أم إن هذا تكليـف يقع على عاتق بني إسرائيـل وحدهم بينمـا تعفى منه " المة‬

‫المسلمة " ؟!‬

‫لدرء هذا الوهم قال حذيفة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ : -‬نعم الخوة لكم بنو إسرائيل إن كان‬

‫!!‬ ‫(‪)4‬‬
‫لكم كل حلوة ولهم كل مرة‬

‫ل جرم أن يصبـح " المجتمع " الذي تنتشر فيه هذه الفكار الفاسدة عن " اليمان "‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 143‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الحج [ ‪. ] 78‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 169‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫رواه الطبري عن حذيفـة من أكثر من طريـق ‪ .‬انظر تفسيـر الطبـري ‪ 253 / 6‬الطبعة الثالثة‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫‪ 1388‬هـ ‪.‬‬
‫وعن " مقتضيـات ل إله إل ال " هو الغثـاء الذي أخبر عنه رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ -‬منذرا محذرا ‪ " :‬يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلة إلى قصعتها ‪ .‬قالوا ‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أمن قلة نحن يومئذ يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬أنتم يومئذ كثير ‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء السيل " !‬

‫وتتداعى المم بالفعل على ذلك الغثاء ‪ ،‬وهو قانع بالتصديق والقرار ‪ ،‬توهما منه أنه‬

‫بذلك حائز على اليمان !!‬

‫أما المجتمع المسلم ‪ -‬أي الذي يحكم بشريعة ال ‪ -‬فتحدث منه المعاصي ما قدر ال لها‬

‫أن تحدث ‪ ،‬ولكن يبقى في جميع الحوال عملن اثنان على أقل تقدير ل يكف عنهما أي‬

‫إنسان ليظل يعامل في المجتمع المسلم على أنه مسلم ‪ ،‬وحسابه على ال ‪ ،‬ولكي ينجو من‬

‫العقاب الماحق في الحياة الدنيا ‪ ،‬هما الصلة والتحاكم إلى شريعة ال ‪ ،‬وهما العملن اللذان‬

‫ظل ثلثة عشر قرنا من بديهيات عمل المسلم في المجتمع السلمي ( ولو كان في دخيلة‬

‫نفسه كافرا منافقا ) رغم كل النحراف الذي وقع فيه المسلمون خلل الجيال ‪ ،‬ورغم كل‬

‫التفلت الذي تفلتوه من تكاليف السلم ‪ ..‬ولم يتخل الناس عنهما جهارا نهارا إل في القرن‬

‫الخير ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫إذا تبين أنه من المستحيل أن يتخلى النسان عن كل مقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬ثم يظل‬

‫مؤمنا بل إله إل ال ‪ ..‬مستحيل بالنسبة للهداف التي من أجلها أرسل ال الرسل وأنزل معهم‬

‫الكتاب ‪ ،‬ومستحيل بالنسبة لواقع المجتمع المسلم الذي يحكم بشريعة ال ‪ ،‬ومستحيل بالنسبة‬

‫لواقع النفس البشرية ‪ ،‬فإلى أي شيء استند الذين يقولون ‪ :‬إن التصديق والقرار هما كل‬

‫متطلبات اليمان ‪ ،‬وإن العمال ‪ -‬إن قام بها النسان بعد ذلك ‪ -‬فهي رفعة في الدرجات ‪،‬‬

‫وإن لم يقم بها فل بأس على إيمانه ‪ ،‬الذي يتحقق كامل بمجرد التصديق والقرار ؟!‬

‫سبق ذكره ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫ف لفّهم ‪ ..‬وأبسط مراجعة لتاريخ الفرق تدلنا على‬
‫ل شك أنها قولة المرجئة ومن ل ّ‬

‫المصدر الذي جاءت منه هذه القولة الغريبة على روح السلم ‪ .‬وإن كان الحق أن المرجئة‬

‫القدامى ‪ -‬على كل ما أحدثـوه من انحراف في فهم السلم ‪ -‬لم يتطرقوا قط ‪ -‬ولم يصلوا‬

‫قط ‪ -‬إلى إسقاط الصلة أو التحاكم إلى شريعة ال كما أسقطها المرجئة المحدثون ‪ ،‬لنه لم‬

‫يكن يدور بخلد أحد خلل القرون الثلثة عشر الولى أن هناك إنسانا واحدا في الرض‬

‫السلمية يمكن أن يسمى مسلما في الحياة الدنيا ‪ ،‬ويظل على قيد الحياة ‪ ،‬وهو يهمل الصلة‬

‫ثلثة أيام متوالية ‪ ،‬أو يتحاكم إلى غير شريعة ال ‪..‬‬

‫ولكن المرجئة القدامى ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬هم الذين وضعوا البذور السامة التي التقطها‬

‫المرجئة المحدثون ‪ ،‬واستنبتوا منها إسلما جديدا لم يتنزل به كتاب ولم يُ ْرسَلْ به رسول ‪..‬‬

‫إسلما بل تكاليف ! أو قل ‪ :‬إسلم بل إسلم !!‬

‫إلى أي شيء استند المرجئة ‪ -‬القدامى أو المحدثون سواء ‪ -‬في أن كل المطلوب‬

‫لثبات اليمان هو القرار اللساني بالنسبة للحياة الدنيا ‪ ،‬والتصديق والقرار بالنسبة للحياة‬

‫الخرى ؟!‬

‫أول ما استندوا إليه هو المدلول اللغوي لليمان ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هو التصديق ‪ .‬ثم قالوا ‪ :‬إن‬

‫عمـل الصالحات يرد في اليات القرآنية معطوفا على اليمان ‪ " :‬الذن آمنوا وعملوا‬

‫الصالحات " والواو تقتضي المغايرة ‪ ،‬وإذن فاليمان شيء وعمل الصالحات شيء آخر ‪ ،‬ليس‬

‫من جنسه وليس داخل فيه ‪.‬‬

‫فأما الستدلل بالمدلول اللغوي فهو مغالطة مكشوفة !‬

‫فالمدلول الصطلحي ‪ -‬الذي اتخذته ألفاظ معينة في القرآن كاليمان ‪ ،‬والصلة ‪،‬‬

‫والزكاة ‪ -‬يدخل في عموم المعنى اللغوي ‪ ،‬ولكنه يكتسب باستخدام السلم له معنى خاصا‬

‫وصفة خاصة ‪ ،‬ل يصلح أن يحتج فيها بالمعنى اللغوي ‪.‬‬


‫فالصلة لغ ًة هي الدعاء ‪ .‬ولكن هل يمكن أن نقول عن الصلة ‪ -‬بمعناها الخاص في‬

‫المصطلح السلمي ‪ -‬إنها مجرد الدعاء ‪ ،‬بحيث يغني الدعاء ‪ -‬في أي صورة ‪ -‬عن الصلة‬

‫بركوعها وسجودها ‪ ،‬وما تشتمل عليه من التلوة ‪ ،‬وما لها من الضوابط من وجوب الطهارة‬

‫قبلها ووجوب أدائها في أوقاتها ‪ ..‬الخ ‪ ..‬الخ ؟!‬

‫كذلك اليمان ‪ ..‬هو في اللغة التصديق ‪ .‬ولكنه ‪ -‬بمعناه الصطلحي السلمي ‪-‬‬

‫صورة معينة من التصديق ذات مقتضيات معينة ‪ ،‬من عملٍ قلبيّ كالحب والخشوع والخبات‬

‫والخضوع والذعان ‪ ،‬ووجوب الرجوع إلى ال عند الحكم على أي أمر من المور ‪ ،‬أو‬

‫موقف من المواقف ‪ ،‬أو تصرف من التصرفات ‪ ،‬بأنه حلل أو حرام أو مباح أو مكروه أو‬

‫مندوب ‪ ،‬وعمل بالجوارح يشمل أداء الشعائر التعبدية ‪ ،‬واللتزام بأخلقيات ل إله إل ال في‬

‫السلوك العملي ‪ ،‬والخضوع العملي لحكام الشريعة فيما يشجر في حياة الناس في كل لحظة‬

‫من لحظات حياتهم ‪:‬‬

‫ت قُلُو ُبهُمْ وَِإذَا تُِليَتْ عََل ْي ِهمْ آيَاتُ ُه زَادَ ْت ُهمْ إِيمَانا‬
‫ن اّلذِينَ ِإذَا ُذكِرَ اللّهُ َوجِلَ ْ‬
‫( ِإ ّنمَا ا ْل ُم ْؤ ِمنُو َ‬

‫ن حَقّا َل ُهمْ‬
‫ن أُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلمُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫ن الصّلةَ َو ِممّا رَ َز ْقنَاهُمْ ُينْ ِفقُو َ‬
‫ن اّلذِينَ ُيقِيمُو َ‬
‫َوعَلَى َر ّبهِمْ َي َت َوكّلُو َ‬

‫ع ْندَ َر ّبهِمْ َو َمغْ ِفرَةٌ َو ِرزْقٌ َكرِيمٌ ) (‪. )1‬‬


‫َدرَجَاتٌ ِ‬

‫حرَجا ِممّا‬
‫س ِهمْ َ‬
‫جدُوا فِي َأنْ ُف ِ‬
‫جرَ َب ْي َنهُمْ ُثمّ ل َي ِ‬
‫شَ‬‫ك فِيمَا َ‬
‫ح ّكمُو َ‬
‫حتّى ُي َ‬
‫( فَل َو َربّكَ ل يُ ْؤ ِمنُونَ َ‬

‫ضيْتَ َو ُيسَّلمُوا َتسْلِيما ) (‪. )2‬‬


‫قَ َ‬

‫ع ُتمْ فِي‬
‫ن َتنَازَ ْ‬
‫ن آ َمنُوا َأطِيعُوا اللّهَ وََأطِيعُوا ال ّرسُولَ وَأُولِي ا ْلَأ ْمرِ ِم ْنكُمْ َفإِ ْ‬
‫( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن بِاللّهِ وَا ْليَ ْو ِم الْآخِرِ ‪) ..‬‬
‫ن ُك ْنتُمْ ُت ْؤ ِمنُو َ‬
‫ل إِ ْ‬
‫شيْءٍ فَ ُردّوهُ إِلَى اللّهِ وَال ّرسُو ِ‬
‫َ‬

‫عنِ الّل ْغوِ ُم ْعرِضُونَ‬


‫ن ُهمْ َ‬
‫شعُونَ وَاّلذِي َ‬
‫ن ُهمْ فِي صَل ِت ِهمْ خَا ِ‬
‫ن اّلذِي َ‬
‫( َقدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤ ِمنُو َ‬

‫‪ )(1‬سورة النفال [ ‪. ] 4 - 2‬‬


‫سورة النساء [ ‪. ] 65‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 59‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫جهِ ْم أَ ْو مَا مََلكَتْ َأ ْيمَا ُن ُهمْ‬
‫ج ِهمْ حَافِظُونَ إِلّا عَلَى َأزْوَا ِ‬
‫ن ُهمْ لِ ُفرُو ِ‬
‫ن ُهمْ لِل ّزكَاةِ فَاعِلُونَ وَاّلذِي َ‬
‫وَاّلذِي َ‬

‫ع ْهدِ ِهمْ‬
‫ن ُهمْ ِلَأمَانَاتِ ِهمْ وَ َ‬
‫ك ُهمُ ا ْلعَادُونَ وَاّلذِي َ‬
‫ك فَأُوَل ِئ َ‬
‫ن ا ْب َتغَى َورَاءَ ذَِل َ‬
‫غ ْيرُ مَلُومِينَ َفمَ ِ‬
‫َفإِ ّن ُهمْ َ‬

‫س ُهمْ فِيهَا‬
‫ن الْ ِف ْردَوْ َ‬
‫ن اّلذِينَ َي ِرثُو َ‬
‫رَاعُونَ وَاّلذِينَ ُهمْ عَلَى صَلَوَا ِت ِهمْ ُيحَافِظُونَ أُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلوَا ِرثُو َ‬

‫ن ) (‪. )1‬‬
‫خَاِلدُو َ‬

‫تلك كلها من مقتضيات " التصديق " بمعناه الصطلحي الخاص الذي يعبر عنه القرآن‬

‫باليمان ‪ ،‬والتي ل يحتج فيها بالمدلول اللغوي ‪ ،‬كما ل يحتج به في معنى الصلة ومعنى‬

‫الزكاة وغيرها من المصطلحات السلمية ‪ ،‬التي حددت الستعمال اللغوي ‪ ،‬وألحقت به‬

‫مقتضيات معينة ل يحملها المعنى اللغوي بالضرورة ‪.‬‬

‫وأما الحتجاج بورود عمل الصالحات في التعبير القرآني معطوفا على اليمان ‪،‬‬

‫والستدلل من ذلك على أن العمل ليس داخل في مسمى اليمان لن " الواو " تقتضي‬

‫المغايرة ‪ ،‬إذ أن الشيء ل يعطف على نفسه ‪ ..‬فهو ل يقل تهافتا ول مغالطة عن الحتجاج‬

‫الول !‬

‫ن اللّهَ‬
‫عدُوّا لِلّهِ َومَل ِئكَ ِتهِ َو ُرسُلِهِ َوجِبْرِي َل َومِيكَالَ َفإِ ّ‬
‫يقول سبحانه وتعالى ‪ ( :‬مَنْ كَانَ َ‬

‫ومعلوم أن جبريل وميكال هما من الملئكة المذكورين من قبل ‪ ،‬ولم يمنع‬ ‫(‪)2‬‬
‫عدُ ّو لِ ْلكَافِرِينَ )‬
‫َ‬

‫ذلك من عطف جبريل وميكال على الملئكة ‪ ،‬لن عطف الجزء على الكل ‪ ،‬أو عطف‬

‫الخاص على العام جائز ومعروف في اللغة التي نزل بها القرآن لمعانٍ بلغية معروفة ‪.‬‬

‫ح ْمدِ َر ّب ِهمْ‬
‫ن حَوَْلهُ ُيسَ ّبحُونَ ِب َ‬
‫ن ا ْل َعرْشَ َومَ ْ‬
‫حمِلُو َ‬
‫ن َي ْ‬
‫ويقول سبحانه وتعالى ‪ ( :‬اّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫وَ ُي ْؤمِنُونَ بِ ِه )‬

‫فالتسبيح المقدم في اللفظ ‪ ،‬هو من مقتضيات اليمان ‪ ،‬أو من العمال المقترنة به ‪ ،‬ولم‬

‫‪ )(1‬سورة المؤمنون [ ‪. ] 11 - 1‬‬


‫سورة البقرة [ ‪. ] 98‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة غافر [ ‪. ] 7‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫يمنع ذلك من عطف اليمان عليه ‪ ،‬لن عطف الكل المؤخر على الجزء المقدم جائز‬

‫ومعروف في اللغة لمعانٍ بلغية ‪ ..‬ول يقتضي شيء من ذلك المغايرة بين المعطوف‬

‫والمعطوف عليه ‪ ،‬ل في المثال الول ول المثال الثاني ‪ ،‬بل هما مقترنان اقتران الحتواء ‪:‬‬

‫احتواء أحدهما على الخر ‪ ،‬أو اقتران العموم بالخصوص ‪.‬‬

‫كما أن الستدلل بالعطف الوارد في اليات القرآنية بين اليمان وعمل الصالحات على‬

‫استقلل كل منهما عن الخر وعدم دخوله في مسماه ول في معناه ساقط من جهة أخرى‬

‫باليات التي ورد فيها ذكر اليمان مقترنا بعمل الصالحات ل معطوفا عليه ‪.‬‬

‫ن َتجْرِي مِنْ‬
‫عدْ ٍ‬
‫جنّاتُ َ‬
‫ع ِم َل الصّا ِلحَاتِ َفأُوَل ِئكَ َل ُهمُ ال ّد َرجَاتُ ا ْلعُلَى َ‬
‫( َومَنْ َي ْأتِ ِه مُ ْؤمِنا قَدْ َ‬

‫فجملة الحال هنا " قد عمل الصالحات "‬ ‫(‪)1‬‬


‫ن تَ َزكّى )‬
‫جزَا ُء مَ ْ‬
‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َوذَِلكَ َ‬
‫َت ْ‬

‫ل تحتمل إل أحد معنيين ‪ :‬إما أن يكون عمل الصالحات هو مقتضى اليمان ومضمونه ‪،‬‬

‫بمعنى أنه من كان مؤمنا فحاله أنه يكون قد عمل الصالحات ‪ .‬وإما أن يكون عمل الصالحات‬

‫‪ -‬مع اليمان ‪ -‬هما شرط دخول الجنة ‪ .‬وفي الحالين يكون اليمان وعمل الصالحات‬

‫مقترنين في المبدإ أو المصير أو في كليهما جميعا ‪.‬‬

‫فإن قيل ‪ :‬إن عمل الصالحات شرط للوصول إلى " الدرجات العلى " وحدها ل مجرد‬

‫دخول الجنة ‪ ،‬وإن دخول الجنة ل يشترط له إل التصديق والقرار فحسب ‪ ،‬فالية الواردة في‬

‫سورة النساء تدحض ذلك ‪:‬‬

‫جنّةَ وَل‬
‫ن ا ْل َ‬
‫ن َي ْع َملْ مِنَ الصّا ِلحَاتِ ِمنْ َذ َكرٍ أَ ْو ُأ ْنثَى وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َفأُوَل ِئكَ َي ْدخُلُو َ‬
‫( َومَ ْ‬

‫ُيظْلَمُونَ َنقِيرا ) (‪. )2‬‬

‫فهنا تقدم ذكر العمل الصالح وجاء القيد ‪ -‬أو الشرط ‪ -‬في جملة الحال " وهو مؤمن "‬

‫سورة طه [ ‪. ] 76 - 75‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 124‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫وكان المصير هو دخول الجنة ل درجاتها العليا !‬

‫ن َلهُـمْ َأجْرا‬
‫ن الصّاِلحَـاتِ أَ ّ‬
‫ن َي ْعمَلُو َ‬
‫كذلك قوله تعالى ‪َ ( :‬و ُي َبشّـ َر ا ْلمُ ْؤ ِمنِيـنَ اّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫حسَنا )‬
‫َ‬

‫فل يخرج المعنى عن أن يكون أن عمل الصالحات هو شأن المؤمنين ‪ ،‬أو أن يكون‬

‫عمل الصالحات شرطا مع اليمان لنيل الجر الحسن ‪.‬‬

‫واليات كلها ذات دللة واضحة تدحض كل ما قاله المرجئة في شأن انفصال اليمان‬

‫عن العمل ‪ ،‬واعتبار اليمان المقبول عند ال ‪ ،‬المستوجب لدخول الجنة هو التصديق والقرار‬

‫فحسب !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫احتج المرجئة كذلك بالمعصية ‪..‬‬

‫فالمعصية في عمل الجوارح ل تخرج من اليمان كما اتفق علماء السلم ‪ .‬فل بد إذن‬

‫أن يكون اليمان شيئا قائما بذاته ‪ ،‬غير مرتبط بالعمل ‪ ،‬وإل لزالت صفة اليمان عمن يرتكب‬

‫المعصية ولم يعد مؤمنا ‪..‬‬

‫والحتجاج بالمعصية على هذه الصورة فيه ‪ -‬ككل حججهم ‪ -‬مغالطة مكشوفة !‬

‫فالمعصية حقا ل تخرج من اليمان ‪ .‬ولكنها بالتأكيد تؤثر فيه !‬

‫وتأثير المعصية في حال النسان حقيقة ل تحتاج إلى تأكيد ‪ ،‬لنها ملحوظة مشهودة‬

‫معهودة ‪ .‬ولكن يكفينا هذا التقرير من رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أعلم الناس بحقيقة‬

‫اليمان ‪ ،‬وحقيقة القلب البشري ‪ ،‬وحقيقة ما يحدث من أثر المعصية فيه ‪.‬‬

‫سورة الكهف [ ‪. ] 2‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫" إن العبد إذا أخطأ خطيئـة نكتت في قلبه نكتة ‪ ،‬فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل‬

‫قلبه ‪ ،‬وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ‪ ،‬وهو الران الذي ذكره ال تعالى ‪ " :‬كل بل ران‬

‫على قلوبهـم وكانوا يكسبـون ‪ .‬كل إنهـم عن ربهم يومئذ لمحجوبـون ‪ ،‬ثم إنهـم لصالوا‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الجحيم "‬

‫والقلب هو محـل اليمان ‪ ..‬فكيف يستوي القلب السود مـع القلب البيض في‬

‫اليمان ؟!‬

‫إنما يتأثر اليمان بالطاعة والمعصية فيزيد وينقص ‪ ،‬ول يتصور بحال أن يكون حاله‬

‫في الزيادة كحاله في النقصان ‪.‬‬

‫ومع ذلك فينبغي ‪ -‬كما أشرنا من قبل ‪ -‬أن نضع حدودا للمعصية ل تتعداها مهما اتسع‬

‫نطاقها ‪ ،‬وهي حدود ل نضعها من عند أنفسنا ‪ ،‬إنما هي مستنبطة من كتاب ال وسنة رسوله‬

‫‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪. -‬‬

‫فالمعصية غير الستحلل ‪ .‬والستحلل يخرج من اليمان ولو لم يقترف النسان العمل‬

‫المنهي عنه ‪.‬‬

‫والمعصية ل يدخل فيها ما ينقض أصل اليمان ‪ .‬والتشريع بغير ما أنزل ال ( أي‬

‫التحليل والتحريم من دون ال ) من نواقض اليمان ‪.‬‬

‫والمعصية ل يمكن أن تشمل كل مقتضيات ل إله إل ال في الن الواحد ‪ ،‬أو في‬

‫الشخص الواحد ‪ .‬ومن لم يعمل عمل واحدا من أعمال السلم في حياته كلها يستحيل أن‬

‫يكون في قلبه ذرة من اليمان !!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫أخرجه مسلم ومالك في الموطأ ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫واحتجوا بأنه لم يكن يطلب من الناس للدخول في السلم إل النطق بالشهادتين ‪ .‬فمن‬

‫نطق بالشهادتين اعتبر لتوه مسلما ‪ ،‬وأجريت عليه الحكام الظاهرة في الحياة الدنيا ‪ ،‬وحسابه‬

‫على ال في الخرة ‪.‬‬

‫وتلك من أكبر مزالق الفهم في شأن مقتضيات ل إله إل ال ! لنها في ذاتها حقيقة ‪،‬‬

‫ولكن دللتها ليست على النحو الذي يذهبون إليه ‪ ..‬وإليك الدليل !‬

‫حقيقة إنه من كان يجيء إلى رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬يقول ‪ :‬أشهد أل إله‬

‫إل ال وأن محمدا رسول ال ( أو ما في معناها ) كان يعتبر لتوه مسلما ‪ ،‬ويدخل في عداد‬

‫المجتمع المسلم ‪ ،‬ولو قالها نفاقا ‪.‬‬

‫ولكن الستدلل بهذا على أن نطق ل إله إل ال باللسان ‪ -‬وحده ‪ -‬هو الذي أعطى‬

‫صفة السلم في الحياة الدنيا ‪ ،‬وأنه ل ُيطْلَبُ من النسان غيره ليصبح مسلما في الحياة الدنيا‬

‫وحسابه على ال في الخرة هو استدلل مردود !‬

‫والذي يحسم في هذا المر هو الردة ‪..‬‬

‫فالمرتد الذي ما يزال ينطق بلسانه ‪ :‬ل إله إل ال محمد رسول ال ‪ ،‬ولكنه أنكر شيئا‬

‫من مقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬فأنكر الصلة أو الصيام أو الزكاة أو الحج ‪ ،‬أو تحاكم مريدا‬

‫راضيا إلى غير شريعة ال ‪ ،‬عقوبته في الحياة الدنيا هي القتل ‪ ،‬وعقوبته في الخرة الخلود‬

‫في النار ( ما لم يتب ) ‪..‬‬

‫فهل يتصور من عدل ال سبحانه ‪ ،‬أن يأمر بقتل إنسان في الحياة الدنيا ‪ ،‬وأن يدخله‬

‫النار خالدا فيها في الخرة على أمر لم يطلبه منه ولم يلزمه به ولم ُيعِْلمْ ُه به ؟!‬

‫ب من ذلك‬
‫ف لفّهم ‪ -‬فإنه لم ُيطْلَ ْ‬
‫إذا أخذنا ظاهر الحال ‪ -‬الذي يستدل به المرجئة ومن ل ّ‬

‫النسان إل أن يقول بلسانه ل إله إل ال محمد رسول ال ‪.‬‬


‫ولكن ل تستقيم عقوبة المرتد في الدنيا والخرة وهو ما يزال ينطق بلسانه ل إله إل ال‬

‫محمد رسول ال ‪ ،‬ول يستقيم تصور عدل ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬في الدنيا والخرة ‪ ،‬إل أن‬

‫يكون هذا النطق باللسان قد تضمن مقتضى معينا ‪ ،‬علمه الناطق ‪ ،‬وعلم أنه مُ ْل َزمٌ به ‪ ،‬فلما‬

‫نكل عنه ‪ -‬مع أنه ما يزال ينطق اللفاظ بلسانه ‪ -‬حكم عليه بالقتل في الحياة الدنيا ‪ ،‬والخلود‬

‫في النار في الخرة ‪.‬‬

‫هل يمكن أن يكون المر غير ذلك ؟‬

‫أعني هل يمكن أن يكون كل المطلوب هو أن ينطق بلسانه أنه ل إله إل ال وأن محمدا‬

‫ن في هذا النطق ‪ ،‬وملزمٍ للناطق به ‪ ،‬ثم يعاقب هذا العقاب‬


‫رسول ال ‪ ،‬بغير مقتضىً متضم ٍ‬

‫الشديد ‪ ،‬وهو ما يزال قائما بما طلب منه ؟!‬

‫كل ! ل يستقيم المر إل على أساس واحد ‪ ..‬هو أنه حين طلب منه أن يقول بلسانه ‪:‬‬

‫ل إله إل ال محمد رسول ال ‪ ،‬قد طلب منه ضمنا أن يلتزم بمقتضى الشهادتين ‪ ،‬وهو‬

‫اللتزام بما جاء من عند ال ‪ ،‬والتحاكم إلى شريعة ال ‪.‬‬

‫فإذا قال قائل ‪ :‬لو كان هذا اللتزام مطلوبا لكتساب صفة السلم لنص عليه الرسول‬

‫‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬نصا ‪ ،‬كما نص على ضرورة النطق بل إله إل ال ‪ ..‬ولكنا ل نجد‬

‫شواهد على ذلك ‪..‬‬

‫فنقول ‪ :‬صحيح أن رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬لم ينص على هذا المر ‪ .‬فلم‬

‫يقل لمن جاءه يقول ل إله إل ال محمد رسول ال ‪ :‬وتتعهد أيضا أن تقيم الصلة وتؤتي‬

‫الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيل ‪ ،‬وتتعهد كذلك بالتحاكم إلى‬

‫شريعـة ال وعدم التحاكم إلى شرائع الجاهليـة ( وهذا كله هو المقتضى المرتبط بل إله إل‬

‫ال ) ‪.‬‬
‫بل قال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ " : -‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ل إله إل ال ‪،‬‬

‫فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم ‪ ،‬إل بحقها " (‪. )1‬‬

‫نعم ‪ ،‬لم ينص ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬إل على النطق ‪ ،‬ولم ينص على المقتضى‬

‫المتضمن في النطق إل في مرحلة التعليم ‪ .‬فقد قال لمعاذ ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬وهو يبعثه إلى‬

‫أهل اليمن ‪:‬‬

‫" إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فإذا‬

‫هم عرفوا ذلك فأخبرهم أن ال فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ‪ ،‬فإذا فعلوا‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫فأخبرهم أن ال فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ‪" ..‬‬

‫فلما تم التعليم أصبح هذا المر " من المعلوم من الدين بالضرورة " كما يقول علماء هذا‬

‫الدين ‪ .‬أي أصبح من المعلوم عند من ينطق بل إله إل ال وأن محمدا رسول ال أنه مطلوب‬

‫منه إقامة الصلة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيل ‪ .‬وأصبح‬

‫من المعلوم عنده أن ال قد أنزل أحكاما وفرضها على من يعتنق هذا الدين ‪ ،‬وأن هذه الحكام‬

‫هي التي يجري العمل بها في المجتمع السلمي وما سواها باطل ‪ .‬وبناء على هذا العلم ‪،‬‬

‫أصبـح من نكـل عن مقتضـى ل إله إل ال يعاقب هذا العقاب الشديد في الدنيـا والخرة‬

‫ع ْدلً ل ُم َبدّلَ ِلكَِلمَاتِ ِه ) (‪. )3‬‬


‫ت َر ّبكَ صِدْقا َو َ‬
‫‪َ ( .‬و َتمّتْ كَِلمَ ُ‬

‫وهناك أمر آخر مستمد من واقع المجتمع السلمي له نفس القوة في شأن اللتزام‬

‫بمقتضيات ل إله إل ال ‪ .‬فقد كان للسلم منذ وجد المجتمع السلمي كيان قائم بالفعل ‪ ،‬له‬

‫صورة واقعة ‪ ،‬معلومة وذائعة ‪ ،‬ل مفترضة افتراضا ول متخيلة خيال ‪ .‬فمعلوم سلفا عند كل‬

‫من جاء يقول ل إله إل ال أن " المسلم " يصلي صلوات معينة في اليوم والليلة ‪ ،‬ويصوم‬

‫‪ )(1‬متفق عليه ‪.‬‬


‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 115‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫صياما معينا كل سنة ‪ ،‬ويؤدي زكاة أمواله ‪ ،‬ويحج إلى بيت ال الحرام إن استطاع ‪ ،‬ويتقيد‬

‫بأحكام معينة منزلة من عند ال حدد فيها للمسلمين الحلل والحرام ‪ .‬ومعلوم عنده سلفا أن‬

‫المسلم ملتزم بهذا كله ‪ ،‬وأن هذا هو مقتضى كونه مسلما ‪ ،‬وأنه إن نكل عن شيء من ذلك‬

‫فهو مرتد يوقع عليه حد الردة ‪ .‬فل يعقل أن يجيء لينطق بالشهادتين وهو يعتزم في دخيلة‬

‫نفسه أن يعرض نفسه للقتل من قبل سلطان الشريعة القائم في الرض بالفعل ! إنما المنطقي‬

‫والمعقول ‪ ،‬أن يكون ‪ -‬وقد جاء ينطق بالشهادتين ‪ -‬قد اعتزم اللتزام بسلطان الشريعة القائم‬

‫وعدم الخروج عليه ‪.‬‬

‫و ل ينفي هذا بطبيعة الحال أن يكون جاهل بكثير من الحكام الفرعية ‪ .‬فكثير منها ل‬

‫يعلمه إل المتفقهون في أمر الدين ولكن الذي ل يمكن أن يجهله هو مبدأ اللتزام بما جاء من‬

‫عند ال ‪ ،‬وأن هذا اللتزام ‪ -‬على الجملة ‪ -‬هو مقتضى نطقه بل إله إل ال ‪.‬‬

‫من أجل هذا كان يطلب ممن جاء يدخل في السلم أن ينطق بالشهادتين ‪ ،‬ول يطلب‬

‫منه أن يقر بالصلة والصيام والزكاة والحج ‪ ،‬ويقر باللتزام بأحكام شرع ال ‪ ،‬لن هذا كله‬

‫صار " من المعلوم من الدين بالضرورة " بعد أن انتهت فترة التعليم في مبدإ السلم ‪ .‬وأصبح‬

‫الذي ينطق بلسانه " ل إله إل ال محمد رسول ال " ثم ينكل عن شيء من مقتضياتها يوقع‬

‫عليه حد الردة في الحياة الدنيا ‪ ،‬ويخلد في النار في الخرة ‪ ،‬بالتزام واضح ل لبس فيه ‪.‬‬

‫ولم يكن هذا اللتزام بمقتضيات ل إله إل ال في المجتمع المسلم شأن المؤمن بهذا الدين‬

‫وحده كما يتوهم بعض الناس ‪ ،‬بل هو شأن كل إنسان ينطق بل إله إل ال ولو كان كافرا‬

‫منافقا ممن هم في الدرك السفل من النار ! فإن المنافق ‪ -‬الذي قد يُعرف في لحن القول وقد‬

‫يعرف من فتوره في أداء الصلة أو غير ذلك من العلمات ‪ -‬ل يحتفظ بحياته في المجتمع‬

‫المسلم ‪ ،‬ول تجري عليه أحكام السلم ‪ ،‬إل بنطقه بل إله إل ال ‪ ،‬والتزامه بالتحاكم إلى‬

‫شريعة ال ‪ ،‬والتزامه ‪ -‬على أقل تقدير ‪ -‬بإقامة الصلة ‪.‬‬


‫إنما يفترق المؤمن عن المنافق ل باللتزام بأحكام ال وأداء الصلة ( على أقل تقدير )‬

‫فهذا هو الحد الذي يستوي فيه الناس جميعا ليحصلوا على صفة السلم في المجتمع المسلم ‪،‬‬

‫وليحافظوا على هذه الصفة ‪ ،‬وليحافظوا على أنفسهم من توقيع حد الردة عليهم ‪ ..‬إنما الفارق‬

‫أن المؤمن يصنع ذلك كله إيمانا وتصديقا وطاعة وقربى إلى ال بينما يفعل المنافق ذلك كله‬

‫نفاقا ‪ ،‬وحرصا على الحياة !‬

‫أي أن مظهرية السلم ذاتها في المجتمع المسلم ‪ -‬أي الذي يتحاكم إلى شريعة ال ‪ -‬ل‬

‫تنال إل بنطق الشهادتين واللتزام بمقتضاهما ‪ ،‬وأداء الصلة على أقل تقدير ‪ .‬وهي المور‬

‫التي ظل الناس متعارفين عليها ‪ ،‬وملتزمين بها ‪ -‬مؤمنهم ومنافقهم سواء ‪ -‬طيلة ثلثة عشر‬

‫قرنا من تاريخ السلم !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫يحتجون كذلك بحادثة أسامة بن زيد حين قتل رجل قال ل إله إل ال بعد أن عله‬

‫أسامة بالسيف ‪ ،‬وأن رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬غضب منه غضبا شديدا وعاتبه‬

‫عتابا قاسيا ‪ ،‬وظل يكرر عليه ‪ :‬قتلته بعد أن قال ل إله إل ال ؟! ولم يقبل منه اعتذاره بأن‬

‫الرجل قالها متعوذا ( أي من السيف ) ‪ ،‬يعني لم يكن مؤمنا بها ‪ .‬وقال له ‪ :‬هل شققت عن‬

‫قلبه فتعلم إن كان قالها ‪.‬‬

‫والحجة في هذه الحادثة ل توصل إلى ما يستدلون به ‪.‬‬

‫إن ل إله إل ال ترفع السيف قطعا ‪ .‬أي تمنع قتل من نطق بها ‪ .‬ولكن هل تعطيه صفة‬

‫السلم ؟! هنا موضع اللبس في الستدلل بحادثة أسامة ‪.‬‬

‫فحكم ال في القضية أنه من قال ل إله إل ال ولو كان متعوذا ل يجوز قتله ‪ .‬ولكن إذا‬

‫لم يلتزم بأحكام السلم فهل يظل يعامل على أنه مسلم ؟!‬
‫يعني جاء وقت أول صلة بعد قوله ل إله إل ال فلم يَ ُقمْ للصلة ‪ ،‬وأبى ‪ ،‬فما حكمه ؟‬

‫حكمه أنه مرتد يوقع عليه حد الردة !‬

‫فنطق ل إله إل ال قد رفع عنه السيف ‪ ،‬نعم ‪ ،‬ولكنه وضعه موضع المراقبة للتبين ‪.‬‬

‫فإن تبين أنه التزم بمقتضيات ل إله إل ال ‪ -‬ولو كان منافقا ‪ -‬فهو مسلم في الحياة الدنيا‬

‫وحسابه على ال في الخرة ‪ ،‬وإل احتسبت عليه قولته ‪ ،‬ووقع عليه حد الردة لنكوله عن‬

‫مقتضيات ل إله إل ال التي نطقها بلسانه !‬

‫وفي جميع الحوال يكون ثبات صفة السلم لي إنسان في الحياة الدنيا موكول‬

‫باللتزام بمقتضيات ل إله إل ال بعد نطقه بالشهادتين ‪ ،‬سواء كان مؤمنا حقا أم كان من‬

‫المنافقين ‪.‬‬

‫ثم تحدث المعاصي في المجتمع المسلم ‪ ،‬وتمتد وتمتد ‪ ،‬ولكنها تقف عن نقطتين‬

‫أساسيتين ل تتعداهما بحال ‪ :‬التحاكم إلى شريعة ال ‪ ،‬وإقامة الصلة ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ويحتجون بحادثة الجارية التي سألها رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ : -‬أين ال ؟‬

‫فأشارت إلـى السماء ‪ ،‬فسألهـا ‪ :‬من أنا ؟ قالت رسول ال ‪ .‬فقال لسيدها ‪ " :‬أعتقها فإنها‬

‫مؤمنة " ‪ .‬ويقولون ‪ :‬لو كان المطلوب لثبات اليمان شيئا آخر وراء النطق بالشهادتين ما‬

‫أعطى رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬صفة اليمان بمجرد النطق ( أو ما يدل عليه ) ‪.‬‬

‫وتلك من أكبر القضايا التي أثارها المرجئة ‪ -‬قدماؤهم ومحدثوهم ‪ -‬ليثبتوا أن كل‬

‫المطلوب في الحياة الدنيا هو النطق بالشهادتيـن ‪ ،‬وكل المطلوب للخرة هو القرار‬

‫والتصديق ‪.‬‬

‫ومن قديم رد العلماء عليهم استدللهم ورفضوه ‪..‬‬


‫وسواء أخذنا بقول المام الشاطبي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬أن قضايا العيان ل تنقض النص ‪،‬‬

‫لن النص أقوى دللة منها وأوثق ‪ ،‬أي أنها صحيحة في ذاتها ولكن ل يقاس عليها (‪.. )1‬‬

‫أو أخذنا بقول المام ابن تيمية ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬أن نطق الشهادتين كافٍ لجراء الحكام‬

‫في الحياة الدنيا ‪ -‬والعتق من بينها ‪ -‬ولكنه ليس دليل على اليمان (‪.. )2‬‬

‫سواء أخذنا بهذا القول أو ذاك ‪ ،‬فالقضية الصلية ما تزال واحدة ‪ .‬فالذي ينطق بل إله‬

‫إل ال يفترض فيه أنه ملتزم بمقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬ول يفترض فيه ابتداء غير ذلك ‪ ،‬لن‬

‫يقول المام الشاطبي ‪ ( :‬الموافقات جـ ‪ 3‬ص ‪ ، 166 - 165‬مطبعة محمد علي صبيح ‪ ،‬القاهرة )‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فل تؤثر فيها معارضة قضايا العيان ول حكايات الحوال ‪ .‬والدليل على ذلك‬
‫أمور ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن القاعدة مقطوع بها بالفرض ‪ ،‬لنا إنما نتكلم في الصول الكلية القطعية ‪ ،‬وقضايا العيان‬
‫مظنونة أو متوهمة ‪ ،‬والمظنون ل يقف للقطعي ول يعارضه ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬أن القاعدة غير محتملة ( أي لتحتمل وجها آخر ) لستنادها إلى الدلة القطعية ‪ ،‬وقضايا‬
‫العيان محتملة ‪ ،‬لمكان أن تكون على غير ظاهرها ‪ ،‬أو على ظاهرها وهي مقتطعة مستثناة من ذلك‬
‫الصل ‪ ،‬فل يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن قضايا العيان جزئية ‪ ،‬والقواعد المطردة كليات ‪ ،‬ول تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات ‪...‬‬
‫يقول المام ابن تيمية ‪ ( :‬الفتاوى ‪ -‬كتاب اليمان ‪ -‬الجزء السابع ) مقتطفات من ص ‪ - 209‬ص ‪215‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ ،‬طبع مؤسسة الرسالة ‪ ،‬بيروت ‪1398 ،‬هـ قلت ‪ :‬وأما احتجاجهم بقوله للمة ‪ " :‬أعتقها فإنها مؤمنة " فهو‬
‫من حججهم المشهورة ‪ ،‬وبه احتج ابن كلّب ‪ ،‬وكان يقول ‪ :‬اليمان هو التصديق والقول جميعا ‪ ،‬فكان قوله‬
‫أقرب من قول جهم وأتباعه ‪ .‬وهذا ل حجة فيه ‪ ،‬لن اليمان الظاهر الذي تجري عليه الحكام في الدنيا ل‬
‫يستلزم اليمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الخرين ‪ .‬فإن المنافقين الذي قالوا ‪ ( :‬آمنا‬
‫بال وباليوم الخر وما هم بمؤمنين ) هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون‬
‫‪ ،‬والمسلمون يناكحونهم ويوراثونهم كما كان المنافقون على عهد رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪... -‬‬
‫وال تعالى لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة ‪ ،‬لم يكن على الناس أل يعتقوا إل من يعلموا أن اليمان في‬
‫قلبه ‪ ،‬فإن هذا كما لو قيل لهم ‪ :‬اقتلوا إل من علمتم أن اليمان في قلبه ‪ .‬وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب‬
‫الناس ول يشقوا بطونهم ‪ ،‬فإذا رأوا رجل يظهر اليمان جاز لهم عتقه ‪ .‬وصاحب الجارية لما سأل النبي ‪-‬‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ -‬هل هي مؤمنة ؟ إنما أراد اليمان الظاهر الذي يفرق به بين المسلم والكافر ‪ .‬وكذلك‬
‫من عليه نذر لم يلزمه أن يعتق إل من علم أن اليمان في قلبه ‪ ،‬فإنه ل يعلم ذلك مطلقا ‪ ،‬بل ول أحد من‬
‫الخلق يعلم ذلك مطلقا ‪ ...‬والمقصود أن النبي ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬إنما أخبر عن تلك المة باليمان‬
‫الظاهر الذي علقت به الحكام الظاهرة ‪...‬‬
‫هذا اللتزام هو من المعلوم من الدين بالضرورة ‪ ،‬وبهذا اللتزام المفترض يأخذ صفـة‬

‫السلم ‪ ،‬أي بالمقتضى المتضمن في النطق ل بالنطق وحده ‪ .‬فإن نكل عن المقتضى وإن‬

‫كان ما يزال مستمرا في النطق فهو مرتد عن السلم ‪ ،‬ل ينجيه من توقيع حد الردة عليه في‬

‫المجتمع المسلم أن يقول ‪ :‬لم أكن أعلم ! ولم يحدث مرة واحدة في تاريخ السلم خلل الثلثة‬

‫عشر قرنا التي كانت تطبق فيها شريعة السلم أن أحدا من الناس قال ‪ :‬لم أكن أعلم أن‬

‫للسلم مقتضيات !! وإن جهل أحكام الفروع كلها واحتاج إلى السؤال عنها ليتعلمها !!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ويحتجون أخيرا بأن رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قال ‪ " :‬من قال ل إله إل ال‬

‫دخل الجنة " وقال ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ " : -‬من مات وهو يعلم أنه ل إله إل ال دخل‬

‫الجنة " أو ما في هذه المعاني ‪.‬‬

‫وليس من الضروري أن نقول في شأن هذه الحاديث إنها قيلت في مكة قبل نزول‬

‫التكاليف وإنها نسخت في المدينة بعد نزولها كما يقول بعض العلماء ‪.‬‬

‫يقول الحافظ المنذري ‪ " :‬ذهبت طوائف من أساطين أهل العلم إلى أن مثل هذه‬

‫الطلقات التي وردت فيمن قال ل إله إل ال دخل الجنة أو حرّم على النار أو نحو ذلك كان‬

‫في ابتداء السلم حين كانت الدعوة إلى مجرد القرار بالتوحيد ‪ ،‬فلما فرضت الفرائض‬

‫وحدّت الحدود نسخ ذلك ‪ ،‬والدلئل على هذا كثيرة متظاهرة ‪ ،‬وإلى هذا القول ذهب الضحاك‬

‫والزهري وسفيان الثوري وغيرهم ‪ .‬وقالت طائفـة أخرى ‪ :‬ل احتياج إلى ادعاء النسخ في‬

‫ذلك ‪ ،‬فإن كل ما هو من أركان الدين وفرائض السلم هو من لوازم القرار بالشهادتين‬

‫وتتماتـه ‪ ،‬فإذا أقر ثم امتنـع عن شيء من الفرائض جحدا أو تهاونا على تفصيل الخلف‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فيه ‪ ،‬حكمنا عليه بالكفر وعدم دخول الجنة "‬

‫الترغيب والترهيب ‪ 220 / 3‬تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫ويقول ابن القيم ‪ " :‬وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه ل خالق إل ال وأن ال رب‬

‫كل شيء ومليكه كما كان عباد الصنام يقرون بذلك وهم مشركون ‪ .‬بل التوحيد يتضمن من‬

‫محبة ال والخضوع له والذلة له وكمال النقياد لطاعته وإخلص العبادة له وإرادة وجهه‬

‫العلى بجميع القوال والعمال والمنع والعطاء والحب والبغض ما يحول بين صاحبه وبين‬

‫السباب الداعية إلى المعاصي والصرار عليها ‪ .‬ومن عرف هذا عرف قول النبي ‪ -‬صلى‬

‫ال عليه وسلم ‪ " : -‬إن ال حرّم على النـار من قال ل إله إل ال يبتغي بذلك وجه ال "‬

‫وقوله ‪ " :‬ل يدخل النار من قال ل إله إل ال " وما جاء من هذا الضرب من الحاديث التي‬

‫أشكلت على كثير من الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة ‪ ،‬وظنها بعضهم قيلت قبل ورود‬

‫الوامر والنواهي واستقرار الشرع ‪ ،‬وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار ‪ ،‬وأوّل‬

‫بعضهم الدخول بالخلود فقال ‪ :‬المعنى ل يدخلها خالدا ‪ ،‬ونحو ذلك من التأويلت المستكرهة ‪.‬‬

‫والشارع ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليه ‪ -‬لم يجعل ذلك حاصل لمجرد قول اللسان فقط ‪ ،‬فإن‬

‫هذا خلف المعلوم من دين السلم ‪ .‬فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين لها ‪،‬‬

‫في الدرك السفل من النار ‪ ..‬فل بد من قول القلب وقول اللسان ‪ .‬وقول القلب يتضمن من‬

‫معرفتها والتصديق بها ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والثبات ‪ ،‬ومعرفة حقيقة اللهية‬

‫المنفية عن غير ال ‪ ،‬المختصة به ‪ ،‬التي يستحيل ثبوتها لغيره ‪ ،‬وقيام هذا المعنى بالقلب علما‬

‫ومعرفة ويقينا وحال ما يوجب تحريم قائلها على النار ‪ ..‬وتأمل قيام ما قام في قلب قاتل‬

‫المائة من حقائق اليمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية وحملته وهو في تلك‬

‫الحال على أن جعل ينتقل بصدره ويعالج سكرات الموت ‪ ،‬فهذا أمر آخر وإيمان آخر ‪ ،‬ول‬
‫(‪)1‬‬
‫جرم أنه ألحق بالقرية الصالحة وجعل بين أهلها ‪" ...‬‬

‫ونقول بعد ذلك ‪ :‬إنه ل حرج على فضل ال ‪ .‬فإن شاء ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أن يخرج‬

‫من النار من قال ل إله إل ال وفي قلبه مثقال ذرة من خير ‪ ..‬أو إن أخرج ‪ -‬بفضله ‪ -‬من‬

‫مدارج السالكين ج ‪ 1‬ص ‪ 332 - 330‬طبعة دار الكتاب العربي ‪ 1392‬هـ ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫النار قوما لم يفعلوا خيرا قط ‪ ..‬فهذا شأنه سبحانه ‪ ،‬وهذا فضله ‪ ،‬وتلك رحمته ‪..‬‬

‫ولكن يبقى بعد ذلك أمر ينبغي النظر فيه ‪..‬‬

‫فهذا المصير الذي يصير إليه فئة من الناس ‪ -‬بعد أن يذوقوا العذاب على معاصيهم‬

‫وآثامهم ‪ ،‬وبعد أن يقضي ال في حق العباد ‪ ،‬فيدخل الجنة ‪ -‬بفضله ‪ -‬من يستحقها من‬

‫العاملين بمقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬وبعد أن يشفع الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬لمن يشفع‬

‫من عباد ال ‪ ..‬هذا المصير الذي يصير إليه هؤلء ‪ ،‬فينجون ‪ -‬بفضل ال ورحمته ‪ -‬من‬

‫الخلود في النار بعد أن يمكثوا فيها ما شاء ال لهم أن يمكثوا ‪ ..‬هل ينبغي أن يكون هو غاية‬

‫السعي التي يسعى النسان إليها ‪ ،‬ويحدد جهده من أول لحظة على مقاسه ؟!‬

‫نضرب مثل للتقريب ‪ ..‬ول المثل العلى ‪.‬‬

‫تشكل لجان في الختبارات تسمـى " لجان الرأفة " تنظر في شأن الراسبين في‬

‫الختبار ‪ ،‬فتحاول أن تستنقذ من الرسوب من تجد مسوغا لستنقاذه ‪ .‬ثم تظل تراجع وتراجع‬

‫حتى تنتهي في النهاية إلى التعطف على من تجد أدنى مبرر لخراجه من قائمة الرسوب ‪.‬‬

‫فلو أن الطلب قالوا لنفسهم من مبدإ الطريق ‪ :‬هناك لجان الرأفة سترأف بحالنا‬

‫وتمنحنا النجاح على أدنى جهـد نقوم به ‪ ،‬بل إنها قد تمنحـه لقوم لم يبذلوا جهدا على‬

‫الطلق ‪ ..‬فهل يكون لعملية التعليم كلها قيمة ؟ وهل تؤدي أي هدف من أهدافها ؟ وهل يكون‬

‫للختبار ذاته أي مهمة يؤديها ؟!‬

‫إنما تبقى هذه اللجان تقـوم بعملها ‪ ،‬فتستنقذ فريقـا من الضعفاء حقا ‪ ،‬الذين حاولـوا‬

‫‪ -‬بصدق ‪ -‬ولكن لم يحصلوا ‪ ،‬فتكافئهم على صدق النية وصدق المحاولة رغم ضعف‬

‫الحصيلة ‪ .‬ولكنها حين تجد القوياء القادرين ‪ -‬الذين تعـرف منهم قوتهم وقدرتهم ‪ -‬قد‬

‫تواكلوا ‪ ،‬وبددوا في اللهو والعبث طاقتهم التي كان يمكـن أن يصرفوها في التحصيل‬
‫والدرس ‪ ،‬استهانة منهم بالتبعة ‪ ،‬واستخفافا بالختبار ‪ ،‬واعتمادا على أن لجان الرأفة‬

‫ستنجحهم مهما تكن نتيجة عملهم ‪ ..‬فهل تقوم لجان الرأفة عندئذ بإنقاذهم ؟!‬

‫مرة أخرى نقول ‪ :‬ل حرج على فضل ال ‪ ..‬وسعت رحمته كل شيء سبحانه ‪ ..‬ندعوه‬

‫أن يغفر لنا ذنوبنا ويكفر عنا سيئاتنا ‪ ،‬ويرحم ضعفنا ‪ ،‬ويقيل عثرتنا ‪ ،‬ويسدد خطانا ‪.‬‬

‫ولكنا نحسب أن حديث الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قد قصد به أل ييأس أحد من‬

‫رحمة ال ‪ ،‬ولم يقصد به أن يفصّل منه المرجئة إسلما بل تكاليف ‪ ،‬ثم يزعموا أن هذا ما‬

‫أراده ال بهذا الدين ! ودليلنا أن رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬لما سأله معاذ ‪ -‬رضي‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ال عنه ‪ : -‬يا رسول ال أفل أبشر الناس ؟ قال ‪ " :‬ل تبشرهم فيتكلوا "‬

‫ثم إنه إن سامح ال أولئك المذنبين في الخرة بعد أن يذوقوا العذاب على ما اقترفوا من‬

‫الذنوب ‪ ،‬فلم يخلدهم في النار ‪ ،‬إنما شملهم برحمته الواسعة فأنقذهم من الخلود فيها وأدخلهم‬

‫الجنة ‪ ..‬فهل يصلح أمر هذا الدين في الحياة الدنيا حين يصبح أهله ‪ -‬كلهم أو غالبيتهم ‪ -‬من‬

‫الساقطين الذين يتهافتون في النار ‪ ،‬حتى تنقذهم رحمة ربهم من الخلود فيها ؟!‬

‫إن الواقع الذي نعيشه اليوم خير شاهد في هذه القضية ‪ .‬فالذل والهوان والضعف ‪،‬‬

‫وغلبة العداء الذين ل يرقبون في المسلمين إلّ ول ذمة ‪ ،‬وعدوانهم المستمر على كراماتهم‬

‫ودمائهم وأعراضهم وأموالهم ‪ ،‬هو الحال حين يكون الناس غثاء كغثاء السيل ‪ ..‬وهم ل‬

‫يكونون كذلك إل حين يكون إسلمهم هو إسلم التصديق والقرار ‪ ،‬بل عمل يعمل من‬

‫مقتضيات التصديق والقرار ‪ ..‬فهل يقبل ال من عباده أن يضيعوا دينه ‪ ،‬وينكلوا عن المهمة‬

‫التي أخرجهم من أجلها ‪ ،‬ثم يكون هذا هو الصل الذي يفصّل الدين كله على مقاسه ؟!‬

‫إن المجتمع القوي اليمان ‪ ،‬الراسخ القدم في العمل بمقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬يستطيع‬

‫أن يحمل في تياره ضعاف اليمان ‪ ،‬والكسالى والمتباطئين والمتثاقلين ‪ ،‬ويمضي في طريقه‬

‫رواه الشيخان ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫يحقق أهدافه ‪ .‬ولكن حين يصبح كله ‪ -‬أو حتى غالبيته ‪ -‬من ضعاف اليمان والكسالى‬

‫والمتباطئين والمتثاقلين ‪ ،‬فهل يقدر على شيء ‪ ،‬وهل يصل إلى شيء ؟!‬

‫تستطيع الشجرة القوية أن تحمل بعض الوراق الذابلة المصفرة ‪ ،‬بل بعض الغصان‬

‫المتهاوية كذلك ‪ ،‬ثم تؤتي ثمارها ل تضيرها تلك الوريقات ول الغصان ‪ .‬ولكن حين تطالب‬

‫كل ورقة في الشجرة بحقها في أن تكون ذابلة مصفرة ‪ ،‬وأن يحتسب لها مع ذلك حقها في‬

‫الوجود على هذه الصورة ما دامت لم تسقط من الشجرة بعد ‪ ،‬فهل لهذه الشجرة من مصير إل‬

‫الفناء والموت ؟!‬

‫فإذا كان ال ‪ -‬من رحمته بعباده ‪ -‬يتقبل أولئك الضعفاء ‪ ،‬بعد أن يطهرهم من‬

‫أرجاسهم بالمكوث في نار جهنم ما شاء ال أن يمكثوا ‪ ،‬فهل يجوز لنا أن نقول ‪ :‬إن هذا هو‬

‫المطلوب من المؤمنين ول زيادة ‪ ،‬ومن قال إنهم مكلفون بأكثر من ذلك فهو متزيد على دين‬

‫ال ؟!‬

‫مرة ثالثة نقول ‪ :‬ل حرج على فضل ال ‪ ،‬يدخل في رحمته من يشاء ‪ .‬ولكن ال هو‬

‫الذي أنزل هذه التكاليف وفرضها على المؤمنين ‪ .‬وهو الذي قال ‪ :‬إن دخول الجنة ل يكون‬

‫بالتمني مع القعود ‪:‬‬

‫ن دُونِ اللّهِ‬
‫جدْ َلهُ مِ ْ‬
‫جزَ ِبهِ وَل َي ِ‬
‫س بِ َأمَانِ ّي ُكمْ وَل َأمَانِيّ أَ ْهلِ ا ْل ِكتَابِ َمنْ َي ْعمَلْ سُوءا ُي ْ‬
‫( لَيْ َ‬

‫جنّةَ‬
‫ن َذكَرٍ َأوْ ُأ ْنثَى وَهُ َو مُ ْؤ ِمنٌ َفأُوَل ِئكَ َي ْدخُلُونَ ا ْل َ‬
‫ن الصّا ِلحَاتِ مِ ْ‬
‫وَِليّا وَل َنصِيرا َومَنْ َي ْع َملْ مِ َ‬

‫وَل ُيظْلَمُونَ نَقِيرا ) (‪. )1‬‬

‫ثم يتفضل ال من بعد ذلك على من يشاء من عباده بغير حدود !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫سورة النساء [ ‪. ] 124 - 123‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫على أن أهم ما يهمنا في شأن هذه الحاديث هو ما وصّلها إليه المرجئة المحدثون !‬

‫ل ما حرفوا في مفهوم ل إله إل ال ‪ ،‬قد وقفوا ‪ -‬كما‬


‫لقد كان المرجئة القدامى على ك ّ‬

‫أسلفنا ‪ -‬عند نقطتين اثنتين ‪ ،‬ل يتجاوزونهما في كل ما يخرجونه من " العمل " من مقتضى‬

‫اليمان ‪ :‬الصلة والتحاكم إلى شريعة ال ‪ ،‬وإن كانوا ‪ -‬نظريا ‪ -‬يقولون ‪ :‬إن العمل كله‬

‫خارج من مقتضى اليمان ‪ ،‬إل أنهم حين يتكلمون في الفقه ‪ -‬وكثير منهم كانوا فقهاء ‪-‬‬

‫يعرفون جيدا أن هناك أعمال ل بد من أن يحافظ عليها النسان لكي تظل له صفة السلم في‬

‫المجتمع المسلم ‪ ،‬أهمها الصلة والتحاكم إلى شريعة ال ‪.‬‬

‫أما المرجئة المحدثون فلم يقفوا عند حد ‪..‬‬

‫لقد ولدوا في مجتمع ل يحكم بشريعة ال ‪ ..‬وفي مجتمع ل تؤدى فيه الصلة ( ول‬

‫غيرها من العبادات ) ‪ ،‬ثم تناولوا الجرعة المسمومة من الفكر الرجائي ‪ ،‬فمدوا فكرهم حتى‬

‫شملوا به كل شيء من مقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬من قال ل إله إل ال فهو مؤمن ولو‬

‫لم يعمل عمل واحدا من أعمال السلم ‪ ..‬فتجاوزوا الحاجزين الخيرين اللذين كان المرجئون‬

‫القدامى قد وقفوا عندهما ‪ :‬حاجز الصلة وحاجز الشريعة ‪ ..‬فوصفوا المجتمعات التي ل تحكم‬

‫بما أنزل ال بأنها مجتمعات إسلمية ‪ ،‬ووصفوا الناس ‪ -‬كل الناس ‪ -‬بأنهم مسلمون ‪ ،‬ما‬

‫داموا يقولون بأفواههم ل إله إل ال محمد رسول ال !‬

‫ونحب أول أن نرجع إلى الحديث الذي يستندون إليه ‪ " :‬من قال ل إله إل ال دخل‬

‫الجنة " ‪.‬‬

‫أسلفنا القول أننا ل نحتاج أن نقول إنه نسخ بنزول التكاليف في المدينة ‪ .‬ولكنا نقول‬

‫فقط إنه خصص بأحاديث أخرى من قول الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فاشترط فيه‬

‫البراءة من الشرك ‪.‬‬


‫يقول ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ " : -‬ما من عبد قال ل إله إل ال ثم مات على ذلك إل‬

‫دخل الجنة " (‪. )1‬‬

‫وقال ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ " : -‬من مات ل يشرك بال شيئا دخل الجنة " (‪. )2‬‬

‫وبالمقابلة والجمع بين الحديثين يتحدد لنا في شأن ل إله إل ال أن البراءة من الشرك‬

‫هي شرط قبولها عند ال في الخرة ‪ .‬وقد حدد ال ذلك تحديدا قاطعا في كتابه المنزل ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن ُيشْ َركَ ِبهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِل َمنْ َيشَاءُ )‬
‫( ِإنّ اللّهَ ل َيغْ ِفرُ أَ ْ‬

‫والشرك أنواع ‪ ..‬يتحدث الخطباء والوعاظ عن بعضها ‪ -‬الذي ل يغضب ذوي‬

‫السلطان ‪ -‬ويهملون الحديث عن بعضها الخر !‬

‫فالتوجه لغير ال بشيء من ألوان العبادة كالدعاء أو الستعانة أو الستغاثة أو النذر أو‬

‫الذبح ‪ ..‬شرك ل شك فيه ‪ .‬وما أكثر ما يتكلم الخطباء في هذا اللون من الشرك !‬

‫والظن بأن مع ال من يرزق أو يضر أو ينفع ‪ ..‬شرك ل شك فيه ‪ ..‬وما أكثر ما يتكلم‬

‫فيه الخطباء !‬

‫والتشريع ( أي التحليل والتحريم ) بغير ما أنزل ال ‪ ،‬والرضى بذلك التشريع ‪ ،‬شرك‬

‫جهّلُوا ‪ -‬هذه الحقيقة الخطيرة ‪،‬‬


‫جهِلُوا ‪ -‬أو ُ‬
‫ل شك فيه ‪ .‬ولكن الناس في قرنهم الخير هذا قد َ‬

‫فلم يعودوا يفرقون بين المعصية والشرك ‪ ،‬وصاروا ينظرون إلى هذا اللون من الشرك على‬

‫أنه معصية مغفورة ‪ ..‬إن لم ينظروا إليه على أنه " ضرورة " مباحة ل إثم فيها ‪ .‬بل إن لم‬

‫يكن في حسهم ‪ -‬من وراء ذلك ‪ -‬أنها تقدم وتحضر وانعتاق من الغلل !!‬

‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 116‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫كيف حدث ذلك ؟!‬

‫لقد جاء الغزو الصليبـي بادئ ذي بدء فنحّى الشريعة السلمية من كل بلد دنستها‬

‫قدماه ‪ .‬ثم قيل للناس ‪ :‬ل بأس عليكم ! ما دمتم تصلون وتصومون فأنتم مسلمون وإن لم‬

‫تتحاكموا إلى شريعة ال !‬

‫ثم سلط الغزو الصليبي ( واليهودي في أطوائه ) على الناس ما يصرفهم حتى عن‬

‫الصلة والصوم ‪ .‬ثم قيـل للناس ‪ :‬ل بأس عليكم ! ما دمتم تقولون ل إله إل ال فأنتم‬

‫مسلمون !‬

‫وهكذا بقي السلم معلقا بذلك الخيط الرفيع ‪ ،‬وهو نطق ل إله إل ال باللسان ‪ ،‬بغير‬

‫مقتضى في حياة الناس على الطلق ‪ .‬ثم جاء المرجئة المحدثون ‪ -‬بما تناولوا من سموم‬

‫الفكر الرجائي ‪ -‬فقالوا ‪ :‬ل بأس على الناس ! فاليمان هو التصديق والقرار ‪ .‬ومن قال ل‬

‫إله إل ال فهو مؤمن ‪ ،‬ولو لم يعمل عمل واحدا من أعمال السلم !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وما بنا أن نكرر كل ما قلناه من قبل ‪..‬‬

‫ولكنا نحتاج أن نتذكر قضية ذات أهمية بالغة ‪ ..‬إن ل إله إل ال تظل مقبولة عند ال‬

‫طالما هي بريئة من الشرك ‪ -‬بصرف النظر مؤقتا عن قضية " العمل " وما دار حولها من‬

‫ضللت المرجئة المحدثون ‪ -‬فإن أصابها الشرك فقد نُ ِقضَتْ نقضا ‪ ،‬ولم تعد مقبولة أي قبول‬

‫عند ال ‪..‬‬

‫ومن مصائبنا التي ابتلينا بها في قرننا الخير هذا أننا نحدّث الناس عن نواقـض‬

‫الوضوء وندرسها للطلب في معاهدنا الدينية مئات المرات وفي مئات الصفحات ‪ ..‬و ل‬
‫نحدثهم عن نواقـض ل إله إل إل ! فإن حدثناهم فعن شرك العتقاد وشرك العبادة وحدهما‬

‫ئ من أساسه ‪ ،‬هو أن شرك التباع هو من " كفر العمل‬


‫دون شرك التباع ‪ ،‬على أساسٍ خاط ٍ‬

‫" الذي ل يخرج من الملة !!‬

‫خذُوا‬
‫دخل عدي بن حاتم على رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وهو يتلو ( ا ّت َ‬

‫ن َم ْريَمَ َومَا ُأ ِمرُوا إِلّا ِل َي ْع ُبدُوا إِلَها وَاحِدا ل‬


‫ن دُونِ اللّهِ وَا ْل َمسِيحَ ابْ َ‬
‫حبَارَ ُهمْ َورُهْبَا َن ُهمْ َأ ْربَابا مِ ْ‬
‫َأ ْ‬

‫فقال عدي ‪ :‬يا رسول ال ما عبدوهم ! فقال رسول ال‬ ‫(‪)1‬‬


‫شرِكُونَ )‬
‫عمّا ُي ْ‬
‫س ْبحَانَهُ َ‬
‫إِلَ َه إِلّا ُهوَ ُ‬

‫‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ : -‬ألم يحلوا لهـم الحرام ويحرموا عليهم الحلل فاتبعوهم ؟ قال ‪:‬‬

‫!‬ ‫(‪)2‬‬
‫بلى ! قال ‪ :‬فذلك عبادتهم إياهم‬

‫هكذا يقول ال سبحانه وتعالى ‪ ،‬وهكذا يقول رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬ثم هم‬

‫يقولون هذا من كفر العمل ‪ ،‬وكفر العمل ل يخرج من الملة !!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫مرّ بنا القول أن قضية التشريع هي من قضايا العقيدة الرئيسية ‪ ،‬وأن السور المكية‬

‫تحدثت عنها حتى قبل نزول الحكام التفصيلية التي تحكم حياة المجتمع السلمي ‪ .‬فقال تعالى‬

‫للناس في مكة يدعوهم للسلم ‪:‬‬

‫(‪)3‬‬
‫ن َر ّبكُمْ وَل َت ّت ِبعُوا مِنْ دُونِ ِه أَوِْليَا َء )‬
‫( ا ّت ِبعُوا مَا ُأ ْنزِلَ إَِل ْي ُكمْ مِ ْ‬

‫(‪)4‬‬
‫ن الدّينِ مَا َلمْ َي ْأذَنْ ِبهِ اللّهُ )‬
‫شرَعُوا َل ُهمْ مِ َ‬
‫ش َركَاءُ َ‬
‫( َأمْ َل ُهمْ ُ‬

‫‪ )(1‬سورة التوبة [ ‪. ] 31‬‬


‫أخرجه الترمذي ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 3‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة الشورى [ ‪. ] 21‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ح ْكمُهُ إِلَى اللّ ِه )‬
‫شيْءٍ َف ُ‬
‫ختَلَ ْف ُتمْ فِيهِ ِمنْ َ‬
‫( َومَا ا ْ‬

‫وقال للمؤمنين في مكة ‪:‬‬

‫ن َليُوحُونَ إِلَى أَوِْليَا ِئ ِهمْ‬


‫شيَاطِي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫( وَل َت ْأكُلُوا ِممّا َلمْ ُي ْذكَ ِر اسْمُ اللّهِ عََليْهِ وَِإنّهُ َل ِفسْقٌ وَإِ ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫طعْتُمُو ُهمْ إِ ّن ُكمْ َل ُمشْ ِركُونَ )‬
‫ِل ُيجَادِلُو ُك ْم َوإِنْ َأ َ‬

‫ثم لما نزلت الحكام التفصيلية في المدينة ‪ ،‬وصار للسلم صورة تطبيقية عملية ‪،‬‬

‫ملتزمة بأحكام ال بالضافة إلى العبادات ‪ ،‬الحلل فيها هو ما أحل ال ‪ ،‬والحرام هو ما حرم‬

‫ال ‪ ،‬نشأت قضية جديدة في المدينة هي قضية المنافقين الذين يتظاهرون بقبول السلم ولكن‬

‫نفوسهم غير مذعنة لحكام ال ‪ ،‬يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ( وكل حكم غير حكم ال‬

‫طاغـوت ) ويريدون أن يكون الحلل والحرام حسب أهوائهم أو أعرافهم ل حسب ما أنزل‬

‫ال ‪.‬‬

‫وهنا نزل حكم ال فيهم حاسما قاطعا ‪:‬‬

‫حرَجا ِممّا‬
‫س ِهمْ َ‬
‫جدُوا فِي َأنْ ُف ِ‬
‫شجَ َر َب ْينَ ُهمْ ُثمّ ل َي ِ‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا َ‬
‫( فَل َو َربّكَ ل ُي ْؤمِنُونَ حَتّى ُي َ‬

‫ضيْتَ َو ُيسَّلمُوا َتسْلِيما ) (‪. )3‬‬


‫قَ َ‬

‫ن َب ْعدِ ذَِلكَ َومَا أُولَئِكَ‬


‫ط ْعنَا ُث ّم َيتَوَلّى َفرِيقٌ ِم ْن ُهمْ مِ ْ‬
‫ن آ َمنّا بِاللّهِ َوبِال ّرسُولِ وََأ َ‬
‫( َويَقُولُو َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫ح ُكمَ َب ْي َن ُهمْ ِإذَا َفرِيقٌ ِم ْن ُهمْ ُم ْعرِضُونَ )‬
‫ن وَِإذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ َورَسُوِلهِ ِل َي ْ‬
‫بِا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬

‫فتبين من ذلك أن محك صدق اليمان ‪ -‬بعد اكتمال الدين ‪ -‬أصبح هو التحاكم إلى‬

‫شريعة ال بعد سلمة العتقاد وأداء العبادات ‪ .‬وأن سلمة العتقاد وحدها لم تعد تكفي ‪ .‬ولم‬

‫سورة الشورى [ ‪. ] 10‬‬ ‫()‬


‫‪5‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 121‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 65‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة النور [ ‪. ] 48 - 47‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫يعد يكفي كذلك سلمة العتقاد وأداء العبادات ‪ ،‬لن ل إله إل ال صارت ذات مقتضيات أكثر‬

‫مما كان لها من المقتضيات في مكة ‪ .‬واليمان بل إله إل ال يقتضي اللتزام بكل ما لها من‬

‫المقتضيات ( مع وقوع المعصية التي ل تنقض أصل اللتزام ) ‪ .‬فحين كان كل مقتضى ل إله‬

‫إل ال في مبدإ الدعوة في مكة هو اليمان بوحدانية ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬واليمان بأنه‬

‫أرسل رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬ليبلغ عنه ‪ ،‬كان اليمان بذلك هو كل المطلوب من أي‬

‫إنسان يدخل في دين ال ‪ .‬ولما فرضت بعض العبادات صار المقتضى المطلوب هو اليمان‬

‫بوحدانية ال وإرساله لرسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وأداء تلك العبادات ‪ ،‬فلما تمت‬

‫العبادات في المدينة وأنزلت الحكام صار المقتضى المطلوب هو اليمان بال ورسوله ( وما‬

‫حول ذلك من تفاصيل حددها الوحي ) والقيام بالعبادات المفروضة ‪ ،‬واللتزام بشرع ال ‪ .‬ولم‬

‫تعد واحدة من هؤلء تغني عن أختها أو تجزئ عنها ‪.‬‬

‫ولكن المنافقين لم يكونوا يجادلون في قضية التوحيد ‪ ،‬ولم يكونوا يجادلون كذلك في أمر‬

‫العبادات ( وإن أدوها في فتور وكسل ) ولكنهم كانوا َيزْ َورّون ويعرضون عن الحكام التي‬

‫تضبط تصرفات المؤمن في حياته الدنيا ‪ ،‬فيميلون عنها إلى حكم الطاغوت ( وهو كل حكم‬

‫غير حكم ال كما أسلفنا ) ‪ .‬لذلك ركزت اليات القرآنية في المدينة ‪ -‬بمناسبة الحديث عن‬

‫‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫المنافقين ‪ -‬على قضية الحكم بما أنزل ال ‪ ،‬لنها هي القضية التي كانت مثارة يومئذ‬

‫ونزل قول ال الحاسم ‪:‬‬

‫(‪)2‬‬
‫ل اللّ ُه َفأُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلكَافِرُونَ )‬
‫حكُمْ ِبمَا َأنْزَ َ‬
‫( َومَنْ َل ْم َي ْ‬

‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫ل اللّ ُه َفأُوَل ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُو َ‬
‫حكُمْ ِبمَا َأنْزَ َ‬
‫( َومَنْ َل ْم َي ْ‬

‫وهي المثارة اليوم كذلك !‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 44‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 45‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ل اللّ ُه َفأُوَل ِئكَ ُهمُ الْفَاسِقُونَ )‬
‫حكُمْ ِبمَا َأنْزَ َ‬
‫( َومَنْ َل ْم َي ْ‬

‫(‪)2‬‬
‫ن)‬
‫حكْما لِ َق ْومٍ يُو ِقنُو َ‬
‫ن اللّ ِه ُ‬
‫ن مِ َ‬
‫حسَ ُ‬
‫حكْ َم ا ْلجَاهِِليّةِ َي ْبغُونَ َومَنْ َأ ْ‬
‫( َأ َف ُ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫من أعجب العجب أن يقول لك قائل ‪ :‬إن ال قد أنزل فيهم هـذا الحكم لنهم كانوا‬

‫منافقين ! فقال عنهم ‪ :‬إنهم ل يؤمنون حتى يحتكموا إلى شريعة ال !! أما لو كانوا مؤمنين فلم‬

‫يكن ال ليشترط عليهم هذا الشرط !!‬

‫عجبا ! وكيف أصبح المؤمنون مؤمنين ؟!‬

‫ولماذا صار المنافقون منافقين ؟!‬

‫هل كان المؤمنون مؤمنين إل بأنهم تحاكموا إلى شريعة ال مع سلمة العتقاد وأداء‬

‫العبادات ؟!‬

‫وهل كان في وسعهم أن يكونوا مؤمنين بغير ذلك ؟!‬

‫س ِمعْنَا َوَأطَعْنَا‬
‫ن يَقُولُوا َ‬
‫حكُمَ َب ْي َن ُهمْ أَ ْ‬
‫ل ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ ِإذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ َو َرسُولِ ِه ِل َي ْ‬
‫ن قَوْ َ‬
‫( ِإ ّنمَا كَا َ‬
‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫وَأُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلمُفِْلحُو َ‬

‫خيَرَ ُة مِنْ‬
‫ن َل ُهمُ ا ْل ِ‬
‫ن ِلمُ ْؤمِنٍ وَل مُ ْؤ ِمنَ ٍة ِإذَا َقضَـى اللّ ُه َورَسُوُلهُ َأمْرا َأنْ َيكُو َ‬
‫( َومَا كَا َ‬
‫(‪)4‬‬
‫َأ ْمرِهِمْ )‬

‫إنما أصبح المؤمنون مؤمنين لنهم التزموا ‪ -‬منذ قالوا ل إله إل ال محمد رسول ال ‪-‬‬

‫سورة المائدة [ ‪. ] 47‬‬ ‫()‬


‫‪4‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 50‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النور [ ‪. ] 51‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة الحزاب [ ‪. ] 36‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫أن يقروا ويذعنوا لما جاء من عند ال ‪ .‬فلما دعاهم أن يحتكموا إلى شريعته قالوا ‪ :‬سمعنا‬

‫وأطعنا ‪ ،‬فاستمرت لهم صفة اليمان لنهم ظلوا عاملين بمقتضى ل إله إل ال ‪.‬‬

‫ولم يكن وجـوب التحاكم إلى شريعة ال مفروضـا على المنافقين وحدهم لنهم‬

‫منافقون !! بل هو مفروض على كل من يقول ل إله إل ال محمد رسول ال ‪ .‬فإن التزم بذلك‬

‫مع التسليم النفسي والرضى فأولئك هم المؤمنون ‪ .‬أما إن أذعن إذعانا ظاهرا وهو في دخيلة‬

‫نفسه غير راض ول ُمسَلّم فأولئك هم الذين قال ال عنهم إنهم منافقون ( وهم مع ذلك لم‬

‫يكونوا ممتنعين امتناعا ظاهرا لنهم حينئذ يصبحون مرتدين ل منافقين ‪ ،‬ويكون جزاؤهم في‬

‫المجتمع المسلم هو القتل ) ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وخلصة المر أن قضية التشريع ترتبط ارتباطا مباشرا وثيقا بل إله إل ال ‪ .‬وأن هذا‬

‫الرتباط ل يمكن أن ينفصم في أي حال من الحوال ‪.‬‬

‫إنما قال الفقهاء في قوله تعالى ‪ " :‬ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون " إنه‬

‫ل يكفـر إذا كان مستحل وإنه إن لم يكن مستحل فهو كفر دون كفر ‪ ..‬كفر ل يخرج من‬

‫الملة ‪.‬‬

‫فالقاضي الذي يحكم بغير ما أنزل ال في القضية المعروضة عليه لنه ارتشى من أحد‬

‫الخصمين ل يكفر بذلك وإن كان آثما يتعرض لسخط ال وغضبه ‪.‬‬

‫والمتأول الذي اجتهد فأخطأ فحكم في المر المعروض عليه بغير ما أنزل ال ل إثم‬

‫عليه ‪ ،‬بل له أجر اجتهاده ما دام قد أخلص النية فيه ‪.‬‬

‫إلى آخر تلك الحالت التي عددها الفقهاء ‪..‬‬

‫نعم ‪ ..‬ولكن ذلك كله ل ينصرف إلى التشريع بغير ما أنزل ال ‪ .‬فالحكم في قضية‬
‫معروضة بغير ما أنزل ال ‪ ،‬بدافع من الدوافع المذكورة في كتب الفقه ‪ ،‬بغير استحلل لذلك‬

‫الحكم ‪ ،‬هذا شيء ‪ ،‬والتشريع بغير ما أنزل ال شيء آخر مختلف بالمرة ‪ .‬لنه في الحالة‬

‫الولى ل ينقض اعترافه وإقراره بأن شرع ال هو المرجع الذي يرجع إليه في الحكم وإن‬

‫خالف في التنفيذ ‪ .‬أما في الحالة الثانية فهو يضع من عند نفسه ‪ -‬بغير سلطان من ال ‪-‬‬

‫شرعا آخر مخالفا لشرع ال ‪ ،‬ثم يقول ‪ -‬بلسان الحال أو بلسان المقال ‪ -‬ل تنفذوا شرع ال ‪،‬‬

‫ولكن نفذوا هذا الشرع الذي وضعته لنه مماثل لشرع ال ‪ ،‬أو لنه أفضل من شرع ال ‪ ،‬أو‬

‫لنه أنسب من شرع ال !‬

‫وهذا المر لم يختلف الفقهاء في تاريخ السلم كله على أنه كفر مخرج من الملة ‪.‬‬

‫وأمر آخر لم يختلف الفقهاء في تاريخ السلم كله على أنه كفر مخرج من الملة ‪ ،‬هو‬

‫الرضى عن علم وإرادة بشرع غير شرع ال ‪ ،‬ول يدخل في ذلك الكراه بطبيعة الحال لن‬

‫الكراه ينتفي فيه الرضى ‪ ،‬ولذلك قال تعالى ‪:‬‬

‫شرَحَ بِا ْلكُ ْفرِ‬


‫ن بِا ْلأِيمَانِ وََل ِكنْ َمنْ َ‬
‫طمَئِ ّ‬
‫ن َب ْعدِ إِيمَانِهِ إِلّا مَنْ ُأ ْكرِهَ َوقَ ْلبُ ُه ُم ْ‬
‫ن كَ َفرَ بِاللّ ِه مِ ْ‬
‫( مَ ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫عظِيمٌ )‬
‫عذَابٌ َ‬
‫ن اللّهِ وََل ُهمْ َ‬
‫غضَبٌ مِ َ‬
‫صَدْرا َفعََل ْيهِمْ َ‬

‫فالتشريع بغير ما أنزل ال ‪ ،‬والرضى بتشريعٍ مخالفٍ لما أنزل ال ‪ ،‬كلهما ‪ -‬في حكم‬

‫ح ُكمْ ِبمَا َأ ْنزَلَ اللّهُ‬


‫ن َلمْ َي ْ‬
‫ال ‪ -‬نقض لل إله إل ال ‪ ،‬لذلك نزل فيه الحكم القاطع الحاسم ‪َ ( :‬ومَ ْ‬
‫(‪)2‬‬
‫َفأُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلكَافِرُونَ )‬

‫يقول المام ابن كثير في تفسير قوله تعالى ‪ " :‬أفحكم الجااهلية يبغون ؟ ومن أحسن من‬

‫ال حكم القوم يوقنون " ‪:‬‬

‫" ينكر تعالى على من خرج عن حكم ال المشتمل على كل خير ‪ ،‬الناهي عن كل شر ‪،‬‬

‫سورة النحل [ ‪. ] 106‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 44‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫وعدل إلى ما سواه من الراء والصطلحات التي وضعها الرجال بل مستند من شريعة ال ‪،‬‬

‫كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضللت والجهالت مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم ‪،‬‬

‫وكا يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم‬

‫الياسق ‪ ،‬وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية‬

‫والنصرانية والملة السلمية وغيرها ‪ ،‬وفيها كثير من الحكام أخذها بمجرد نظره وهواه ‪،‬‬

‫فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب ال وسنة رسوله ‪ -‬صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ -‬فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم ال ورسوله ‪ ،‬فل يحكّم‬
‫(‪)1‬‬
‫سواه في قليل ول كثير "‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫هذا الرتباط الوثيق بين ل إله إل ال وتحكيم شريعة ال ‪ ،‬ظل ثلثة عشر قرنا متوالية‬

‫بديهية في حس المسلمين ‪ ،‬ل يتصورون السلم من غيرها ‪ ،‬ول يتصورون في " مسلم " أنه‬

‫يكون مسلما من غيرها ‪ .‬وكان حكم الشريعة القائم بالفعل في الرض يعطي القضية ثقل‬

‫المر الواقع ‪ ،‬فل يفكر الناس في غيره ‪ ،‬ول يفكرون في أن غيره يمكن أن يقع !‬

‫وكان الفارق ‪ -‬في حس المسلمين ‪ -‬بين السلم والكفر ‪ ،‬وبين المسلمين والكفار‬

‫أمران رئيسيان ‪ ،‬فضل عن أمور كثيرة أخرى ‪ ،‬هما الصلة وشريعة ال ‪ .‬فالمسلمون‬

‫يصلون ‪ ،‬ويتحاكمون إلى شريعة ال ‪ ،‬والكفار ل يصلون ‪ ،‬ول يتحاكمون إلى شريعة ال ‪.‬‬

‫ولكن المر تغير كثيرا في حس المسلمين بعد الحتلل الصليبي لبلدهم وتنحية شريعة ال‬

‫عن الحكم ‪ ،‬ثم تسليط كل العوامل التي تخرج المسلمين من السلم ‪.‬‬

‫فأما الجيل الول فقد كان يرى الحقيقة " الشرعية " واضحة ‪..‬‬

‫فتنحية الشريعة ‪ -‬من حيث المبدأ ‪ -‬كفر ‪ .‬والذين يقومون بذلك ‪ -‬من حيث الواقع ‪-‬‬

‫انظر تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪. 68‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫هم الكفار الصليبيون المغتصبون لرض السلم ‪.‬‬

‫ولكن المر اختلط كثيرا على الجيال التالية ‪..‬‬

‫وفي غير هذا المكان تحدثت عن عملية التغريب ‪ ،‬وعن الغزو الفكري ‪ ،‬وعن مناهج‬

‫التعليم ‪ ،‬وعن وسائل العلم ‪ ،‬وعن الفساد الذي تم في عالم الفكر والدب ‪ ،‬وفي عالم‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫السياسة ‪ ،‬وفي قضية المرأة ‪ ،‬وفي مجال الخلق ‪ ..‬لخراج المسلمين من السلم‬

‫ثم جاء حكام يحملون أسماء إسلمية ‪ ،‬ويحكمون بغير ما أنزل ال ‪ ،‬ينوبون عن‬

‫الحتلل الصليبي في تنفيذ كل أهدافه ‪ ،‬ويقال للناس إنهم مسلمون ‪ ،‬وإن " الضرورة " تقتضي‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أن يحكموا بغير ما أنزل ال‬

‫ثم يزداد الناس بعدا عن السلم ‪ -‬بفعل كل العوامل المسلطة عليهم ‪ -‬فيقال لهم‬

‫صراحة إن الرقي والتحضر والتقدم والتحرر والنطلق يقتضي تنحية شريعة ال عن الحكم ‪،‬‬

‫واستيراد النظم والمبادئ والدساتير والقوانين من أوربا المتحضرة ‪ -‬من غربها أول ثم من‬

‫شرقها بعد ذلك ‪ -‬وإن الشريعة التي نزلت قبل أربعة عشر قرنا ل يمكن ‪ -‬ول يجوز ‪ -‬أن‬

‫تحكم حياة الناس اليوم ‪ .‬وإن " التطور " ل بد أن يأخذ طريقه ‪ ،‬وإن الدين هو " الغلل "‬

‫التي تعوّق الناس عن النطلق ‪ ،‬وإن مصيرنا ‪ -‬رضينا أم أبينا ‪ -‬هو مصير أوربا ‪ ،‬التي لم‬

‫تتقدم إل بعد أن نبذت الدين ‪ ،‬وإن " الرجعية " ل يمكن ‪ -‬حسب قوانين التطور ‪ -‬أن تبثت‬

‫في مكانها ‪ ،‬فضل عن أن تقف عجلة التطور عن النطلق !‬

‫ويقال للناس في أثناء ذلك كله إنهم " مسلمون " ‪ ..‬ما داموا يقولون ل إله إل ال !!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫انظر فصل " آثار النحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫انظر في كتاب " واقعنا المعاصر " فتوى الشيخ رشيد رضا بهذا المعنى وردنا عليها ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫هذا هو واقع " المسلم المعاصر " !‬

‫لقد أفرغت ل إله إل ال من محتواها كله ‪ ،‬ومقتضاها كله ‪ ،‬وأصبحت كلمة تطلق في‬

‫الهواء ‪ ،‬ويتعلق بها ذلك " الغثاء " الذي تحدث عنه رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬

‫فيجرفه السيل ‪ ،‬ل يملك نفسه منه ‪ ..‬لنه بل جذور !‬

‫إن جذور هذه المة التي تمكّن لها في الرض هي " ل إله إل ال محمد رسول ال " ‪.‬‬

‫فإن أفرغت هذه الجذور من محتواها الحقيقي ‪ ،‬وظلت القشرة خاوية من المحتوى الحيّ ‪ ،‬فهل‬

‫يمكن أن تمسك بشيء ‪ ،‬وهل يمكن أن تقاوم الدوامة الضارية التي يصنعها السيل ؟ وهل‬

‫تكون هي ذات الجذور التي أنبتت من قبل " خير أمة أخرجت للناس " ؟!‬

‫لقد عملت عوامل كثيرة خلل التاريخ السلمي الطويل لفراغ ل إله إل ال من‬

‫محتواها الحقيقي ‪..‬‬

‫فالتفلت من التكاليف ‪ ،‬وعدم كفاية التذكير ‪ ،‬والترف المتلف ‪ ،‬والسلبية الصوفية ‪،‬‬

‫والستبداد السياسي ‪ ،‬والفكر الرجائي ‪ ،‬كل واحد من هؤلء قد فعل فعله في إفراغ ل إله إل‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ال من محتواها الحي على المدى الطويل‬

‫التفلت من التكاليف طبع في البشر ‪ ،‬تمده ثقلة الرض ‪ ..‬ثقلة الشهوات ‪ ..‬وعلجه هو‬

‫التذكير ‪:‬‬

‫(‪)2‬‬
‫ن ال ّذكْرَى َتنْفَ ُع ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ )‬
‫( َو َذكّرْ َفإِ ّ‬

‫فحين ل يكون التذكير كافيا ‪ -‬في الدرجة أو في النوع ‪ -‬فإن التفلت من التكاليف يظل‬

‫مستمرا ‪ ..‬ثم يزداد ‪.‬‬

‫‪ )(1‬تكلمت عن هذه العوامل بشيء من التوسع في فصل " خط النحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬
‫سورة الذاريات [ ‪. ] 55‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫والترف الذي أصاب المسلمين حين مكّنوا في الض ‪ ،‬أرخى قبضتهم من حبل ال‬

‫المتين ‪ ..‬فتفلتوا من التكاليف بحكم الرغبة في المتاع الرضي ‪ ،‬فكثرت البدع والمعاصي ‪،‬‬

‫وكلها خروج على مقتضيات ل إله إل ال ‪.‬‬

‫وجاء الفكر الصوفي ردّ فعل للترف ‪ ،‬فخلص المتطهرون بأنفسهم من الدنس المستشري‬

‫في المجتمع المترف ‪ ،‬ولكنهم ‪ -‬من جانب آخر ‪ -‬انعزلوا عن المر بالمعروف والنهي عن‬

‫المنكر ‪ ،‬فأفرغوا ل إله إل ال من جانب مهم من محتواها الحي ‪..‬‬

‫وأسهم الستبداد السياسي في إفراغ ل إله إل ال من محتواها في الجانب ذاته ‪ ،‬حين‬

‫أصبح المر بالمعروف والنهي عن المنكر يغضب المستبديـن من ذوي السلطـان ‪ ،‬فيفتكون‬

‫" بالمعارضين " الذين يعترضون على انحرافاتهم وتجاوزاتهم ‪ ،‬فينحسر الناس إلى ذوات‬

‫أنفسهم ويتحول " الدين " إلى ممارسة فردية ‪ ،‬تركز على الجانب العبادي وحده ‪ ،‬وينحسر عن‬

‫صورته الجماعيـة ‪ ،‬أي عن جانبه السياسـي بصفـة خاصة ‪ ..‬وينفصل ما بين " الدين " و‬

‫" السياسة " وتصبح السياسة ل علقه لها بل إله إل ال !‬

‫ثم يجيء الفكر الرجائي فيغطي هذا النحسار كله ‪ ..‬ويقول للناس ‪ :‬إن اليمان هو‬

‫التصديق والقرار !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وحين جاء الغزو الصليبي كانت ل إله إل ال قد وصلت في نفوس المسلمين إلى حدها‬

‫الدنى الذي يحفظ المسلمين في داخل إطار السلم ‪ ،‬مع وقوعهم في المعاصي والثام ‪ ،‬أي‬

‫في حدود إقامة الصلة وتحكيم شريعة ال ‪ ..‬وكان انحسارها في نفوس المسلمين إلى ذلك‬

‫الحد هو الذي جاء بالصليبييـن ومكّن لهم في أرض السلم ‪ ،‬فما كان لهم أن يغامروا‬

‫بالمجيء ‪ ،‬وما كان لهم أن يتمكنوا في الرض ‪ ،‬لو أن المسلمين كانوا على ذكر بمقتضيات‬

‫ل إله إل ال ‪ ،‬عاملين بتلك المقتضيـات في عالم الواقـع ‪ .‬فإن من بيـن تلك المقتضيـات‬
‫‪ -‬الكثيرة ‪ -‬إعداد العدة لعداء ال ‪ ،‬والنفاق في ذلك السبيل ‪:‬‬

‫عدُ ّو ُكمْ‬
‫ع ُدوّ اللّهِ وَ َ‬
‫ن بِهِ َ‬
‫خيْلِ ُترْ ِهبُو َ‬
‫ن قُوّةٍ َومِنْ ِربَاطِ ا ْل َ‬
‫طعْ ُتمْ مِ ْ‬
‫س َت َ‬
‫عدّوا َل ُهمْ مَا ا ْ‬
‫( وَأَ ِ‬

‫سبِيلِ اللّهِ ُي َوفّ إَِل ْي ُكمْ وََأ ْن ُتمْ‬


‫شيْ ٍء فِي َ‬
‫ن مِنْ دُو ِن ِهمْ ل َتعَْلمُو َن ُهمُ اللّ ُه َيعَْل ُم ُهمْ َومَا ُتنْ ِفقُوا مِنْ َ‬
‫خرِي َ‬
‫وَآ َ‬

‫ن ) (‪. )1‬‬
‫ل ُتظَْلمُو َ‬

‫ومن مقتضياتها ‪ -‬الكثيرة ‪ -‬طلب العلم الذي يؤدي إلى التمكين في الرض ‪ ..‬فل‬

‫تمكين بغير علم ‪:‬‬

‫(‪)2‬‬
‫" طلب العلم فريضة "‬

‫ومن مقتضياتها التخلق بأخلقيات ل إله إل ال من الصدق والمانة والخلص وإتقان‬

‫العمل واحترام حقوق الغير والتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الثم والعدوان ‪..‬‬

‫الخ ‪ ..‬الخ ‪ ..‬وهي من أكبر أدوات التمكيـن في الرض ‪ ،‬كما أن فقدانها من أكبر عوامل‬

‫البوار ‪..‬‬

‫(‪)3‬‬
‫ب رِيحُ ُكمْ )‬
‫( وَل َتنَازَعُوا فَتَ ْفشَلُوا َو َتذْهَ َ‬

‫(‪)4‬‬
‫جمِيعا وَل تَ َف ّرقُوا )‬
‫حبْلِ اللّ ِه َ‬
‫صمُوا ِب َ‬
‫ع َت ِ‬
‫( وَا ْ‬

‫خيْرا ِم ْن ُهمْ وَل ِنسَاءٌ ِمنْ‬


‫ن َيكُونُوا َ‬
‫عسَى أَ ْ‬
‫ن قَ ْومٍ َ‬
‫خرْ قَ ْومٌ مِ ْ‬
‫سَ‬‫ن آ َمنُوا ل َي ْ‬
‫( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬

‫سمُ ا ْل ُفسُوقُ َبعْدَ‬


‫ب بِئْسَ الِا ْ‬
‫سكُمْ وَل َتنَا َبزُوا بِا ْلأَلْقَا ِ‬
‫خيْرا ِم ْنهُنّ وَل تَ ْل ِمزُوا َأ ْن ُف َ‬
‫ن َ‬
‫عسَى َأنْ َيكُ ّ‬
‫ِنسَاءٍ َ‬

‫ن الظّنّ ِإنّ َبعْضَ‬


‫ج َت ِنبُوا َكثِيرا مِ َ‬
‫ن آ َمنُوا ا ْ‬
‫ن يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬
‫ب َفأُوَل ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُو َ‬
‫الْأِيمَانِ َو َمنْ َلمْ َيتُ ْ‬

‫حمَ َأخِيهِ َميْتا َف َكرِ ْهتُمُوهُ‬


‫ل َل ْ‬
‫ح ُدكُمْ َأنْ َي ْأكُ َ‬
‫ب َأ َ‬
‫ض ُكمْ َبعْضا َأ ُيحِ ّ‬
‫ب َبعْ ُ‬
‫سسُوا وَل َي ْغتَ ْ‬
‫جّ‬‫الظّنّ ِإ ْثمٌ وَل َت َ‬

‫‪ )(1‬سورة النفال [ ‪. ] 60‬‬


‫أخرجه ابن ماجه ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة النفال [ ‪. ] 46‬‬ ‫()‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 103‬‬ ‫()‬


‫‪4‬‬
‫ب َرحِيمٌ ) (‪. )1‬‬
‫وَاتّقُوا اللّهَ ِإنّ اللّ َه تَوّا ٌ‬

‫ومن مقتضياتها ‪ ..‬ومن مقتضياتها ‪..‬‬

‫وكان الفراغ من تلك المقتضيات هو الذي أصاب المسلمين " بالتخلف العقيدي " الذي‬

‫نشأ عنه التخلف العلمي والحضاري والمادي والقتصادي والحربي والسياسي ‪ ..‬الذي أغرى‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫الصليبيين بالمجيء ‪ ،‬ثم مكن لهم في أرض السلم‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ولكن الحد الدنى الذي كان يحفظ المسلمين داخل إطار السلم ‪ -‬مع كل هذه المعاصي‬

‫والثام ‪ -‬لم يكن ليرضى الصليبية الحاقدة وفي أطوائها اليهودية الشريرة ‪ ،‬ولم يكن ليطمئنهما‬

‫على مصير مخططاتهما تجاه السلم ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫س َتطَاعُوا )‬
‫ن يُقَاتِلُو َن ُكمْ حَتّى َيرُدّوكُمْ عَنْ دِي ِن ُكمْ ِإنِ ا ْ‬
‫( وَل َيزَالُو َ‬

‫سهِمْ ِمنْ‬
‫ع ْن ِد َأنْ ُف ِ‬
‫حسَدا مِنْ ِ‬
‫ن َبعْدِ إِيمَا ِنكُمْ ُكفّارا َ‬
‫( َودّ َكثِيرٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْل ِكتَابِ َل ْو يَرُدّو َن ُكمْ مِ ْ‬

‫َب ْعدِ مَا َت َبيّنَ َل ُه ُم ا ْلحَقّ ) (‪. )4‬‬

‫نعم ‪ ..‬فوجود المسلمين في داخل إطار السلم ‪ ،‬في هذا الحد الدنى منه ‪ ،‬مع كل‬

‫البعد الذي ابتعدوه عن حقيقته الشاملة الهائلة ‪ ،‬ل ُي ْؤمَن معه أن يعودوا إلى تلك الحقيقة مرة‬

‫أخرى ‪ ،‬إذا بعث ال لهذه المة من يجدد لها أمر دينها ‪ ،‬كما تتجدد الشجرة الذابلة حين ُتتَعهد‬

‫بالرعاية والسقي ‪ ،‬ما دامت الجذور ما تزال في حيز الحياة ‪:‬‬

‫سمَاءِ‬
‫عهَا فِي ال ّ‬
‫ط ّيبَ ٍة َأصُْلهَا ثَابِتٌ َو َفرْ ُ‬
‫جرَةٍ َ‬
‫شَ‬‫ط ّيبَةً َك َ‬
‫ضرَبَ اللّهُ َمثَلً كَِلمَ ًة َ‬
‫( أََلمْ َترَ َك ْيفَ َ‬

‫سورة الحجرات [ ‪. ] 12 - 11‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫انظر فصل " آثار النحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 217‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 109‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫ن َر ّبهَا ‪. )1( ) ..‬‬
‫ل حِينٍ ِبِإذْ ِ‬
‫تُ ْؤتِي ُأكَُلهَا كُ ّ‬

‫قال جلدستون رئيس الوزارة البريطانية وقت دخول النجليز مصر مشيرا إلى‬

‫المصحف ‪ " :‬طالما كان هذا الكتاب في أيدي المصريين فلن يقر لنا قرار في تلك البلد " ‪.‬‬

‫وقال توماس بين ‪ -‬المستشرق المريكي ‪ -‬في مقدمة كتابه " السيف المقدس " ‪ ،‬بعد أن‬

‫لخص تاريخ المسلمين وانتصاراتهم في آسيا وأفريقيا وأوربا ‪ " :‬والن تغير الحال ‪ ،‬وصار‬

‫المسلمون في قبضة أيدينا ‪ ،‬ولكن ما حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى ‪ .‬وإن الشعلة التي‬

‫أشعلها محمد ( صلى ال عليه وسلم ) في قلوب أتباعه ‪ ،‬لهي شعلة غير قابلة للنطفاء ‪" ..‬‬

‫من أجل هذا عمل الصليبيون ( واليهود في أطوائهم ) لخراج المسلمين نهائيا من‬

‫السـلم لكي يأمنوا ‪ ،‬ويطمئنوا ‪ ،‬ويستريحوا ‪ ،‬وإن كانوا ساروا على مخططهم المعروف ‪:‬‬

‫" بطيء ولكنه أكيد المفعول ‪ ، " Slow but sure‬كما قال " كرومـر " أول " معتمد‬

‫بريطاني " في مصر ‪:‬‬

‫" إن مهمة الرجل البيض الذي وضعته العناية اللهية ( ! ) على رأس هذه البلد هي‬

‫تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن ‪ ،‬بحيث تصبح هي أساس العلقات بين‬

‫‪ ،‬وإن كان من الواجب ‪ -‬منعا من إثارة الشكوك ‪ -‬أل يعمل على تنصيـر‬ ‫(‪)2‬‬
‫الناس‬

‫المسلمين ‪ ،‬وأن يرعى من منصبه الرسمي المظاهر الزائفة للدين السلمي ‪ ،‬كالحتفالت‬

‫الدينية وما شابه ذلك " !‬

‫وتم لهم ‪ -‬في غفلة المسلمين ‪ -‬كل ما أرادوه ‪ ،‬فبدأوا بتنحية الشريعة السلمية عن‬

‫الحكم ‪ ،‬وانتهوا بتنحية المسلمين عن الصلة ‪ ،‬وانسحب " المسلمون " بذلك من كل ما كان قد‬

‫بقي لهم من السلم ‪ ،‬على المخطط البطيء ‪ ..‬الكيد المفعول ‪.‬‬

‫سورة إبراهيم [ ‪. ] 25 - 24‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬أي بدل من السلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫ولم يجد الفكر الرجائي صعوبة كبيرة في تغطية النسحاب ‪ ..‬فسمى المجتمعات‬

‫الجاهلية ‪ -‬التي ل تحكم بما أنزل ال ‪ -‬مجتمعات إسلمية ‪ ،‬وأطلق صفة السلم على كل‬

‫من يقول بلسانه ‪ :‬ل إله إل ال ! إذ السلم هو مجرد التصديق وعلمته الظاهرة هي مجرد‬

‫القرار !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫حين نصل في حديثنا إلى هذه النقطة ‪ ،‬يتصور قوم أننا مقدمون ل محالة على إصدار‬

‫الحكم على الجيال الحاضرة من الناس بالكفر ‪ ،‬لنهم ل يتحاكمون إلى شريعة ال ‪ ،‬فيستشعر‬

‫القوم في أنفسهم " الخطر " من هذه القضية كلها ‪ ،‬فيسارعون إلى معارضتها من حيث المبدإ ‪،‬‬

‫خشية أن يجرهم إقرار المبدإ إلى إصدار الحكم !‬

‫وقد أكدنا في غير هذا المكان أن قضيتنا ليست هي إصدار الحكم على الناس (‪ ! )1‬وأننا‬

‫نهدف إلى قضية أخرى ‪ ،‬أبعد كثيرا ‪ ،‬وأخطر ‪ -‬في نظرنا ‪ -‬كثيرا من محاولة إصدار حكم‬

‫على هذا الجيل من الناس !‬

‫إن حكمنا على الناس الذين يعيشون اليوم في الرض السلمية بالسلم أو الكفر ليس‬

‫هو الذي سيدخلهم الجنة أو النار ! فال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬هو المتصرف في شأنهم وشأن‬

‫عذَابا أَلِيما ) (‪ . )2‬ولسنا الن دولة‬


‫عدّ َل ُهمْ َ‬
‫ن َيشَاءُ فِي َرحْ َمتِهِ وَالظّاِلمِينَ َأ َ‬
‫الكون كله ( ُي ْدخِلُ مَ ْ‬

‫حتى توقع حد الردة على المرتدين من أولئك البشر ‪ ..‬إنما نحن دعوة ‪ ،‬نحاول أن نقوم‬

‫بالمانة الملقاة على عاتقنا تجاه هذا الدين ‪ .‬والمهمة التي نسعى إليها ‪ ،‬ونحاول جاهدين أن‬

‫نصل إلى شيء منها ‪ ،‬هي مهمة " البيان " للناس ‪ .‬فنحاول أن نبين لهم ما غاب عنهم ‪ -‬في‬

‫انظر " قضية الحكم على الناس " في فصل " الصحوة السلمية " من كتاب " واقعنا المعاصر " ‪ .‬وقد‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫فصلت الحديث هناك عن السباب التي تدعوني إلى عدم الخوض في هذه القضية في الوقت الحاضر ‪،‬‬
‫وتركيز الجهد كله في عملية البيان والتعليم دون التعرض لصدار الحكام على الناس ‪.‬‬
‫سورة النسان [ ‪. ] 31‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬من حقائق هذا الدين ‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫غربة السلم الثانية‬

‫والذين يظنون أننا حين نطلق على المجتمعـات التي تعيش اليـوم في الرض‬

‫السلمية (‪ )2‬أنها " مجتمعات جاهلية " نقصد بذللك أن أهلها ليسوا مسلمين ‪ ،‬أو أن الصل‬

‫فيهم هو الكفر إل إذا تبين منهم غير ذلك ‪ ..‬هؤلء نقول لهم هنا ‪ -‬كما قلنا في غير هذا‬

‫المكان ‪ -‬إن حكم المجتمع ل ينصرف إلى الفراد ‪ -‬أي العيان ‪ -‬إنما هو شبيه بالحكم على‬

‫الدار بأنها دار كفر أو دار إسلم ‪ .‬والفقهاء مجمعون على أن وصف الدار بأنها دار كفر أو‬

‫دار إسلم ل يتعلق بعقائد القاطنين فيها إنما يتعلق بغلبة الحكام فيها ‪ ،‬فالرض التي تحكمها‬

‫شريعة غير شريعة ال هي دار كفر مهما تكن عقائد أهلها ‪.‬‬

‫وقد كانت مصر دار إسلم حين فتحها المسلمون مع أن غالبية أهلها كانوا على غير‬

‫دين السلم ‪ ،‬وظلوا كذلك فترة من الوقت ‪ .‬وكانت الهند دار إسلم حين فتحها المسلمون مع‬

‫أن غالبية أهلها كانوا ‪ -‬وما زالوا ‪ -‬على غير دين السلم ‪ .‬إنما اعتبرت دار إسلم لكون‬

‫أحكام الشريعة هي الحاكمة فيها بصرف النظر عن عقائد أهلها ‪.‬‬

‫وكذلك كانت الدويلت التي أقامها الصليبيون في الشام ‪ -‬واستمر بعضها مائتي عام ‪-‬‬

‫دار كفر مع أن أهلها ظلوا مسلمين ‪ ،‬لن الصليبيين كانوا يحكمون فيها بغير ما أنزل ال ‪.‬‬

‫فالمجتمع المسلم هو المجتمع الذي تحكمه شريعة ال ‪ ،‬وتحكمه تصورات السلم‬

‫ومفاهيمه وآدابه وأنماط سلوكه ‪ ،‬بصرف النظر عن عقائد أهله ‪ .‬والمجتمع الجاهلي هو‬

‫المجتمع الذي ل تحكمه شريعة ال ‪ ،‬ول تصورات السلم ومفاهيمه وآدابه وأنماط سلوكه ‪،‬‬

‫بصرف النظر عن عقائد أهله ‪ ،‬وعن حكم ال عليهم في الخرة بالدخول إلى الجنة أو الدخول‬

‫‪ )(1‬قال عليه الصلة والسلم ‪ " :‬بدأ السلم غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ‪ ،‬فطوبى للغرباء " رواه مسلم ‪.‬‬
‫نطلق لفظ " الرض السلمية " على كل أرض كان السلم يحكمها ذات يوم ثم تراجع الحكم فيها عن‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫شريعة ال وحكمتها شرائع الجاهلية ‪ .‬وحكم الفقهاء فيها أن أهلها مطالبون بردها إلى الحكم السلمي ل‬
‫يسقط هذا الواجب عنهم أبد الدهر ‪.‬‬
‫إلى النار ‪.‬‬

‫والناس الذين يعيشون اليوم في الرض السلمية هم خليط ل يجمعه حكم واحد ‪ .‬فمنهم‬

‫مسلمون بل شبهة ‪ -‬بحسب الظاهر من أحوالهم ‪ ،‬وحسابهم على ال في الخرة ‪ -‬لنهم‬

‫يقولون ل إله إل ال ‪ ،‬ويؤدون العبادات ‪ ،‬وينكرون حكم الجاهلية ‪ ،‬ويرغبون في تحكيم‬

‫شريعة ال ‪ ،‬ويتحاكمون إليها فيما يقدرون عليه من أمورهم ‪ ،‬ومنهم كفار بل شبهة ‪ -‬بحسب‬
‫(‪)1‬‬
‫الظاهر من أحوالهم ‪ ،‬وحسابهم على ال في الخرة ‪ -‬لنهم ‪ -‬حتى إن قالوا ل إله إل ال‬

‫‪ -‬ينكرون أن تكون شريعة ال واجبة التحكيم ‪ ،‬ويقولون في ذلك مقالت شتى ‪ ،‬فمنهم من‬

‫يقول ‪ :‬ما للدين والسياسة ؟! ومنهم من يقول ‪ :‬كيف تحكم الشريعة التي نزلت قبل أربعة‬

‫عشر قرنا حياة الناس المتطورة اليوم ؟ ل بد من أنظمة متطورة تحكم الحياة المتطورة ‪.‬‬

‫فلنأخذ الديمقراطية أو فلنأخذ الشتراكية بديل من السلم ! ومنهم من يقول ‪ :‬إن الدين قد‬

‫استنفد أغراضه ولم يعد له مكان في الحياة اليوم ! ومنهم من يقول ‪ :‬إن الدين رجعية وتأخر‬

‫ينبغي نبذه والنسلخ منه من أجل أن نصبح تقدميين ! ومنهم من يقول ‪ :‬إن الدين علقة بين‬

‫العبد والرب ‪ ،‬محلها القلب ول علقة له بواقع الحياة !‬

‫ومنهم كتلة متميعة غير واضحة السمات ‪ ،‬يختلط فيها الحابل بالنابل ‪ ،‬ولكن مظهرها‬

‫العام بعيد عن مقتضيات السلم ‪ ،‬وهي التي يختلف الناس في حكمهم عليها ‪ ،‬وهي كذلك‬

‫التي نقول إننا ل نهدف إلى إصدار حكم عليها ‪ .‬إنما نهدف إلى أن نبين للناس جميعا حقيقة ل‬

‫إله إل ال ‪ ،‬لننا نعتقد أن هذا البيان ‪ -‬فضل عن كونه أمانة ل ‪ -‬فإنه هو الذي يمكن أن‬

‫يقنع الناس بتغيير واقع حياتهم ‪ ،‬فيغير ال لهم ‪ -‬حين يغيرون ما بأنفسهم ويستقيمون على أمر‬

‫ال ‪ -‬فيخرجهم من الذل والهوان والضياع الذي يعيشونه اليوم في كل الرض ‪ ،‬ويرد لهم‬

‫العزة والتمكين كما وعد ال عباده المؤمنين ‪:‬‬

‫ن آ َمنّا‬
‫‪ )(1‬بعضهم ل يكتفي بقول ل إله إل ال ‪ ،‬بل يزعم أنه هو الذي تتحقق فيه حقيقة السلم ! ( َويَقُولُو َ‬
‫ن َبعْ ِد ذَِلكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْ ُمؤْ ِمنِينَ ) [ سورة النور ‪. ]47 :‬‬
‫ق ِمنْهُ ْم مِ ْ‬
‫طعْنَا ثُ ّم يَتَوَلّى فَرِي ٌ‬
‫ل وَأَ َ‬
‫بِاللّهِ َوبِالرّسُو ِ‬
‫س َتخْلَفَ‬
‫ض َكمَا ا ْ‬
‫س َتخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ‬
‫ن آ َمنُوا ِم ْن ُكمْ َو َ‬
‫عدَ اللّهُ اّلذِي َ‬
‫( وَ َ‬

‫ن َب ْعدِ خَ ْو ِف ِهمْ َأمْنا َي ْع ُبدُو َننِي ل‬


‫اّلذِينَ ِمنْ َقبِْلهِمْ وََل ُي َم ّكنَنّ َل ُهمْ دِي َن ُهمُ اّلذِي ا ْرتَضَى َل ُهمْ وََل ُي َبدّلَ ّن ُهمْ مِ ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫شيْئا )‬
‫ُيشْ ِركُونَ بِي َ‬

‫هذا أمر الناس ‪ -‬أعيان الناس ‪ -‬أما " المجتمع " فله ‪ -‬كما ب ّينّا ‪ -‬حكم آخر ‪..‬‬

‫إن " المجتمع " ليس هو مجموع الفراد فحسب ‪ .‬إنما هو كذلك " النظام " الذي يربط‬

‫أولئك الفراد ‪ ،‬ويتعاملون من خلله بعضهم مع بعض ‪ ،‬وعلى أساسه يقيمون علقاتهم‬

‫وينشئون ارتباطاتهم ‪.‬‬

‫فهل يمكن ‪ -‬على هذه القاعدة ‪ -‬أن نقول ‪ : -‬إن هذه المجتمعات القائمة اليوم‬

‫مجتمعات إسلمية ؟! هل النظام الذي يحكمهم هو السلم ‪ :‬شريعته ومنهجه وتوجيهاته ؟ هل‬

‫الذي يحدد علقاتهم وينشىء ارتباطاتهم هو السلم ؟ هل الذي يشكل تصوراتهم ويرسم‬

‫مناهجهم التعليمية وبرامجهم العلمية وأنماطهم السلوكية هو السلم ؟‬

‫لقد قال رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬لرجل من أجلّة الصحابة ‪ -‬رضوان ال‬

‫عليهم ‪ : -‬أنت أمرؤ فيك جاهلية ‪ ،‬لكلمة واحدة خرجت من فمه في لحظة غضب ‪ ،‬فقال‬

‫لرجل أسود ‪ :‬يا ابن السوداء !! فقال له رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ : -‬عيرته بأمه ؟!‬
‫(‪)2‬‬
‫أنت امرؤ فيك جاهلية !‬

‫فكيف يمكن أن يسمي رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬مجتمعاتنا ؟!‬

‫إن الذين يسمون هذه المجتمعات مجتمعات إسلمية ‪ ،‬ويطلقون على كل من قال ل إله‬

‫إل ال أنه مسلم ‪ ،‬مهما يكن واقع حياته ‪ ،‬ومهما يكن هذا الواقع مناقضا لمقتضيات ل إله إل‬

‫ال ‪ ،‬من باب التورع والتقوى ‪ ..‬إن هؤلء ‪ -‬على كل تقواهم ‪ -‬يرتكبون في حق الدعوة‬

‫سورة النور [ ‪. ] 55‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬متفق عليه ‪.‬‬ ‫()‬
‫خطيئة ضخمة دون أن يدروا ول يقصدوا ‪.‬‬

‫فإذا كانت هذه المجتمعات إسلمية ‪ ،‬وإذا كان هؤلء الناس كلهم مسلمين ‪ ،‬فما الذي‬

‫يدفع الناس إلى اعتناق السلم او البقاء فيه ؟!‬

‫إن الواقع الذي تعيشه هذه المجتمعات ‪ -‬بكل ما يشتمل عليه من سوء ‪ -‬لهو أشد ما‬

‫يصد الناس عن السلم ! فإذا أضفينا عليه صفة السلم ‪ ،‬وقلنا ‪ :‬إن السلم يتغاضى عن‬

‫كل ذلك السوء ‪ ،‬ويظل يضفي صفته على الناس مهما فعلوا ‪ ،‬ما داموا ينطقون بألسنتهم ‪ :‬ل‬

‫والفوضوية والعدمية‬ ‫(‪)1‬‬


‫إله إل ال ‪ ،‬فما الذي يمنعه من الشيوعية والشتراكية والديمقراطية‬

‫والعبثية وغيرها من المذاهب الهدامة والفكار الهدامة ؟‬

‫إذا كنا نطلق صفة السلم على كل هذا القدر من السوء والنحراف الذي يقوم اليوم في‬

‫الرض السلمية من باب التورع والتقوى ‪ ،‬فلنتق ال في الشباب الذين نصدهم عن السلم ‪،‬‬

‫حين نصف هذا السوء كله بأنه داخل في إطار السلم !!‬

‫إذا اتضحت لنا هذا المور ‪..‬‬

‫إذا اتضح لنا أن إطلق صفة الجاهلية على هذه المجتمعات ل ينصرف إلى أعيان‬

‫الناس ‪..‬‬

‫وأن الذي نسعى إليه من وراء هذا البحث ليس إطلق الحكم على أعيان الناس ‪ ،‬إنما‬

‫بيان ما جهله الناس في غربة السلم الثانية من حقيقة اليمان المتعلقة بل إله إل ال ‪ ،‬ودعوة‬

‫الناس ‪ -‬من ثم ‪ -‬إلى تصحيح أوضاعهم بمقتضى هذه الحقيقة ‪.‬‬

‫‪ )(1‬يحتج كثير من الناس المخدوعين بالديمقراطية على وضعها بين المذاهب الهدامة ! وقد بينت حقيقتها في‬
‫كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " وكيف أنها مسرحية جميلة تخفي في أطوائها سيطرة الرأسماليـة على‬
‫المجتمع ‪ .‬وسيطرة اليهود على مقدرات الناس ‪ .‬وأن الفساد الذي تحتوي عليه أكبر بكثير من الخير الجزئي‬
‫الذي تحققه !‬
‫إذا اتضح لنا هذا نعود ‪ -‬مطمئنين ‪ -‬إلى وصل ما انقطع من الحديث عن مقتضيات ل‬

‫إله إل ال ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫لقد تحدثنا فيما مضى عن مقتضيات ل إله إل ال كما فهمها الجيل الول ‪ -‬رضوان ال‬

‫عليهم ‪ -‬من كتاب ال ومن تعليم رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وبينا بوضوح ‪ -‬فيما‬

‫أحسب ‪ -‬أن كل ما احتج به المرجئة ‪ -‬القدامى أو المحدثون ‪ -‬من أن كل المطلوب من‬

‫الناس لكي يكونوا مؤمنين هو التصديق والقرار دون العمل بمقتضى ل إله إل ال ‪ -‬وخاصة‬

‫التحاكم إلى شريعة ال ‪ -‬ليس له سند من كتاب ال ول من سنة رسوله ‪ -‬صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ -‬ول من واقع الجيل الذي فهم حقيقة السلم أصدق فهم وطبقها أصح تطبيق ‪ ..‬وأن‬

‫التحاكم إلى شريعة ال ‪ -‬على أقل تقدير ‪ -‬هو الحد الدنى الذي يحفظ للناس صفة السلم‬

‫في الرض ‪ ،‬وحسابهم على ال في الخرة ‪ ..‬وأن عدم التحاكم إلى شريعة ال ‪ -‬عن رضى‬

‫وعلم وإرادة ‪ -‬ينقض ل إله إل ال من أساسها ‪ ،‬ويخرج الناس من السلم ‪..‬‬

‫والن نتحدث عن الواقع الذي يعيشه " المسلم المعاصر ! " ‪..‬‬

‫نتحدث عنه من زاويتين اثنتين على القل ‪ :‬الزاوية الولى هي تحديد الحد الدنى الذي‬

‫حكّم فيه شريعة ال ‪ .‬والزاوية الثانية هي‬


‫يحفظ للناس إسلمهم في الواقع المعاصر الذي ل ُت َ‬

‫طريق الخلص للناس اليوم مما هم فيه من أوضاع لم يسبق لها مثيل ‪ -‬في سوئها ‪ -‬في‬

‫تاريخ السلم كله ‪.‬‬

‫ونعود إلى التذكير بحقيقة نرجو أل تكون قد نسيت في أطواء الحديث ‪..‬‬

‫هذه الحقيقة هي أن الناس كانوا يدخلون السلم ‪ ،‬ويعتبرون مسلمين في الحياة الدنيا ‪،‬‬

‫وحسابهـم على ال في الخرة ‪ ،‬في أثناء قيام المجتمع المسلم ‪ -‬أي الذي يتحاكم إلى شريعة‬
‫ال ‪ -‬بمجرد أن ينطقوا بألسنتهم ل إله إل ال محمد رسول ال ‪ .‬ولكن هذا ليس معناه أن‬

‫مجرد النطق ‪ -‬دون أي مقتضى ‪ -‬هو الذي يعطيهم هذه الصفة ‪ ،‬إنما هو النطق المتضمن‬

‫مقتضى معينا ‪ ،‬معلوما من الدين بالضرورة ‪ ،‬هو القرار بحاكمية الشريعة الربانية ‪ ،‬وأنها‬

‫هي وحدها ‪ -‬دون سواها ‪ -‬التي يجب تحكيمها ‪ ،‬وهي وحدها ‪ -‬دون سواها ‪ -‬التي يرجع‬

‫إليها الناس في كل ما يتنازعون فيه من أمر ‪ ،‬تحقيقا لقوله تعالى ‪:‬‬

‫ح ْكمُهُ إِلَى اللّ ِه ) (‪. )1‬‬


‫شيْءٍ َف ُ‬
‫ختَلَ ْف ُتمْ فِيهِ ِمنْ َ‬
‫( َومَا ا ْ‬

‫ن بِاللّهِ وَا ْليَ ْومِ‬


‫ن ُك ْن ُتمْ تُ ْؤ ِمنُـو َ‬
‫ل إِ ْ‬
‫شيْ ٍء فَ ُردّو ُه إِلَى اللّهِ وَال ّرسُـو ِ‬
‫عتُـمْ فِي َ‬
‫( َفإِنْ َتنَازَ ْ‬

‫الْآخِرِ ) (‪. )2‬‬

‫وأن الذي ينكل عن هذا المقتضى ‪ -‬المعلوم من الدين بالضرورة ‪ ،‬والذي له في‬

‫المجتمع المسلم ثقل المر الواقع ‪ -‬يطبق عليه حد الردة مع أنه ما زال ينطق بفمه ل إله إل‬

‫ال محمد رسول ال ‪ ،‬مما يقطع بأن نطق اللسـان وحده ‪ -‬دون المقتضى المتضمـن في‬

‫داخله ‪ -‬ليس هو الذي يعطي صفة السلم ‪.‬‬

‫والن نعود إلى الواقع المعاصر ‪ ،‬حيث ل تحكم شريعة ال ‪ .‬وإنما تحكم بدل منها‬

‫شرائع الجاهلية ‪ ،‬سواء اسمها الديمقراطية الليبرالية أو اسمها الشتراكية أو اسمها الشيوعية‬

‫أو أي اسم من السماء التي ما أنزل ال بها من سلطان‬

‫كيف يتحقق مقتضى ل إله إل ال في حده الدنى الذي يعطي الناس صفة السلم ؟!‬

‫ولسنا نتحدث هنا عن مظهرية السلم ! وإن كنا سنلم بها في أثناء الحديث ‪..‬‬

‫إن مهمة الدعاة ليست أن يعطوا الناس شهادات مزورة بالسلم ! وليست أن يدلوهم‬

‫سورة الشورى [ ‪. ] 10‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 59‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫كيف يحافظون على مظهرية السلم في الحياة الدنيا ولو كانوا مرفوضين عند ربهم ! إنما‬

‫مهمتهم أن يبينوا للناس كيف يكونون مؤمنين حقا ‪ ،‬مقبولين عند ال في اليوم الخر ‪ ( ،‬يَ ْومَ‬
‫(‪)1‬‬
‫ن إِلّا َمنْ َأتَى اللّهَ ِبقَلْبٍ سَلِيمٍ )‬
‫ل َينْفَ ُع مَالٌ وَل َبنُو َ‬

‫وحتى مظهرية السلم في الحياة الدنيا لها شروط غير قول ل إله إل ال ‪ ،‬كما سيأتي‬
‫(‪)2‬‬
‫بيانه عما قليل ‪..‬‬

‫إن الحد الدنى الذي يعطى صفة السلم عند ال حين ل تكون شريعة ال قائمة في‬

‫الرض ‪ ،‬قد بينها الحديث الصحيح بصورة حاسمة ل تحتمل التأويل ‪ .‬يقول رسول ال ‪-‬‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪: -‬‬

‫" ما من نبي بعثه ال في امة قبلي إل كان له من أمته حواريون وأصحاب ‪ ،‬يأخذون‬

‫بسنته ويقتدون بأمره ‪ .‬ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ‪ ،‬يقولون ما ل يفعلون ‪ ،‬ويفعلون ما‬

‫يؤمرون ‪ .‬فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ‪ ،‬ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ‪ ،‬ومن جاهدهم بقلبه‬
‫(‪)3‬‬
‫فهو مؤمن ‪ .‬وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل "‬

‫ويقول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪: -‬‬

‫" إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ‪ .‬فمن كره فقد برىء ‪ ،‬ومن أنكر فقـد‬

‫سلم ‪ ،‬ولكن من رضى وتابع " (‪. )4‬‬

‫فالحديث الول يثبت اليمان ‪ -‬بدرجات مختلفة ‪ -‬لكل من جاهد حكم الجاهلية بيده ‪ ،‬أو‬

‫سورة الشعراء [ ‪. ] 89 - 88‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫ناقشت هذه القضية في كتاب " واقعنا المعاصر " بمثل ما ناقشتها به هنا ‪ .‬وكان الصل أن يصدر كتاب‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫المفاهيم أول ‪ .‬فلما تأخر ‪ -‬بقدر من ال ‪ -‬وسبقه كتاب " واقعنا المعاصر " احتجت فيه إلى بيان بعض‬
‫القضايا الواردة أصل في كتاب المفاهيم ‪.‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫بلسانه ‪ ،‬أو بقلبه ‪ ،‬وينفيه نفيا حاسما عما وراء ذلك ‪ .‬والحديث الثاني ينفي اليمان كذلك عن‬

‫كل من رضي عن حكم الجاهلية وتابعه ‪.‬‬

‫ومن المعلوم جيدا عند كل من يتدبر كتاب ال وسنة رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬

‫أنه إذا ذكر لفظ اليمان والسلم معا في نص واحد فالمقصود باليمان عمل القلب وبالسلم‬

‫عمل الجوارح ‪ .‬أما إذا ذكر أحدهما فهو شامل لكليهما سواء في الثبات أو النفي ‪ .‬أي أن‬

‫النفي الحاسم المذكور في الحديث ينفي السلم واليمان معا في ذات الوقت ‪ ،‬ل كما يقول‬

‫المتمحكون إنه ينفي اليمان ولكنه ل ينفي السلم ‪ ،‬مخالفين بذلك ما أجمع عليه علماء هذا‬

‫الدين !‬

‫أما مظهرية السلم في الحياة الدنيا فشرطها ‪ -‬إلى جانب قول ل إله إل ال محمد‬

‫رسول ال ‪ -‬عدم التحاكم إلى الطاغوت عن رضى ومتابعة ‪ ،‬لن ذلك التحاكم ينقض ل إله‬

‫إل ال نقضا ‪ ،‬ول يبقي لها واقعا يعتد به حتى في إثبات مظهرية السلم ‪.‬‬

‫ولسنا نقول هذا لنصدر به حكما على أحد من الناس ‪ ،‬فليس في وسعنا ‪ -‬ول هو من‬

‫شأننا ‪ -‬أن نشق صدور الناس لنعلم هل هم يتابعون حكم الطاغوت عن رضى وإرادة ‪،‬‬

‫وتسليم بأحقيته في الحكم بدل من شريعة ال ‪ ،‬أم هم مكرهون كارهون ‪ ،‬يرغبون في تحكيم‬

‫شريعة ال ولكنهم ل يستطيعون ‪ .‬إل من أظهر بلسانه أو بواقعه انتماءه إلى فكر جاهلي يدعو‬

‫إلى تحكيم شريعة غير شريعة ال أو ظهر من حاله أن أمر الدين ل يهمه ‪ ،‬وأنه يستوي عنده‬

‫أن تحكم شريعة ال أو شريعة الطاغوت ‪.‬‬

‫إنما نقول ذلك ليعرف الناس أين هم في ميزان ال ‪..‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سطِ )‬
‫ب وَا ْلمِيزَانَ ِليَقُومَ النّاسُ بِالْ ِق ْ‬
‫( لَ َق ْد َأرْسَ ْلنَا ُرسَُلنَا بِا ْل َبيّنَاتِ وََأ ْنزَ ْلنَا َم َعهُمُ ا ْل ِكتَا َ‬

‫سورة الحديد [ ‪. ] 25‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫وميزان ال ‪ ،‬المبينة قواعده في كتاب ال المنزل ‪ ،‬يقول ‪ :‬إن الحكم نوعان ل ثالث‬

‫لهما ‪ ،‬إما حكم ال وإما حكم الجاهلية ‪:‬‬

‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫حكْما لِ َق ْومٍ يُو ِقنُو َ‬
‫ن اللّ ِه ُ‬
‫ن مِ َ‬
‫حسَ ُ‬
‫حكْ َم ا ْلجَاهِِليّةِ َي ْبغُونَ َومَنْ َأ ْ‬
‫( َأ َف ُ‬

‫فهناك إذن مظلة جاهلية تظلل الناس في واقعهم المعاصر ‪ ..‬هي الحكم بغير ما أنزل‬

‫ال ‪ .‬والناس جميعا واقفون تحت هذه المظلة ‪ ،‬تشملهم بظلها الكئيب الناشز عن أمر ال ‪،‬‬

‫ولكنهم في ميزان ال فريقان مختلفان ‪ :‬فمن رضي بالمظلة الجاهلية فهو منها ‪ ،‬ومن أنكرها‬

‫وكرهها وجاهدها فهو المقبول عند ال ‪ ،‬بحسب درجته من المجاهدة ‪ ،‬ودرجته من النكار ‪.‬‬

‫هذا هو الميزان الرباني الذي ل يملك أحد تغييره بحسب هواه ‪.‬‬

‫خيَرَ ُة مِنْ‬
‫ن َل ُهمُ ا ْل ِ‬
‫ن ِلمُ ْؤمِـنٍ وَل ُم ْؤ ِمنَةٍ ِإذَا قَضَى اللّ ُه َورَسُوُلهُ َأمْرا َأنْ َيكُو َ‬
‫( َومَا كَا َ‬
‫(‪)2‬‬
‫َأ ْمرِهِمْ )‬

‫ولكن هذا القدر من المعرفة بميزان ال ل يكفي حتى نعرف معنى المجاهدة بالقلب ‪،‬‬

‫وهي الحد الدنى من العمل الذي يحفظ الناس في إطار اليمان حين تكون شريعة ال غير‬

‫قائمة في الرض ‪ ،‬والذي ليس وراءه من اليمان حبة خردل ‪ ،‬فإن كثيرا من الناس ‪ -‬بتأثير‬

‫الفكر الرجائي ‪ -‬صارت تحسب أنه يكفي في المجاهدة بالقلب ‪ -‬أو النكار بالقلب ‪ -‬أن‬

‫يقول النسان بلسانه ‪ :‬اللهم إن هذا منكرا ل يرضيك ! أو أن يعتقد في قرارة قلبه أن هذا‬

‫منكر ل يرضي ال ‪ ،‬ثم يكون سلوكه مع هذا المنكر بعد ذلك هو نفس سلوك الراضي به ‪،‬‬

‫المقبل عليه !‬

‫ذلك أن الفكر الرجائي كما فعل باليمان ‪ ،‬فجعله مجرد التصديق والقرار ‪ ،‬وجرّده‬

‫من العمل ‪ ،‬فكذلك فعل بالنكار بالقلب فجعله أمرا مستسرا في داخل القلب ليس له واقع‬

‫سورة المائدة [ ‪. ] 50‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الحزاب [ ‪. ] 36‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سلوكي يعرف به ‪.‬‬

‫يقول المام الغزالي ‪ -‬مع أنه رجل صوفي ‪ -‬في بيان حقيقة النكار بالقلب ‪:‬‬

‫" وعن عكرمة عن ابن عباس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسول ال ‪ -‬صلى ال‬

‫عليه وسلم ‪ " : -‬ل تقفن عند رجل يقتل مظلوما فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع‬

‫عنه ‪ .‬قال ‪ :‬وقال رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ " : -‬ل ينبغي لمرئ شهد مقاما فيه‬

‫حق إل تكلم به ‪ ،‬فإنه لن يقدم أجله ولن يحرمه رزقا هو له "‬

‫وهذ الحديث يدل على أنه ل يجوز دخول دور الظلمة والفسقة ‪ ،‬ول حضور المواضع‬

‫التي يشاهد المنكر فيها ول يقدر على تغييره ‪ ،‬فإنه قال اللعنة تنزل على من حضر ‪ .‬ول‬
‫(‪)1‬‬
‫يجوز له مشاهدة المنكر من غير حاجة اعتذارا بأنه عاجز "‬

‫ومن أجل هذا المعنى استحقت المجاهدة بالقلب أن تسمى " مجاهدة " ‪ -‬أي أن تدخل في‬

‫باب الجهاد ‪ -‬واستحقت أن تكون " إيمانا " ولو في الحد الدنى منه ‪ ،‬واستحقت أن تكون‬

‫حاجزا بين النسان وبين غضب ال ‪ .‬أما النكار بالقلب على طريقة المرجئة ‪ ،‬فهو كاليمان‬

‫على طريقة المرجئة ‪ ،‬ل يستحق أن يلتفت إليه ‪ ،‬ول يسمن ول يغني من جوع !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫والن نأتي إلى النقطة الخيرة في هذا الفصل ‪ ،‬وهي طريق الخلص ‪..‬‬

‫حين نقول للناس إن طريق الخلص هو تصحيح المفاهيم السلمية ‪ -‬وبصفة خاصة‬

‫مفهوم ل إله إل ال ‪ -‬يفتح كثير من الناس أفواههم من العجب ‪ ..‬وينكر كثيرون !‬

‫فعند بعض القوم أن طريق الخلص هو محاربة الفقر والجهل والمرض ‪ .‬هو البناء‬

‫القتصادي المتين ‪ .‬هو إيجاد الطعام لكل جائع ‪ ،‬والعمل لكل عامل ‪ .‬والتعليم لكل متعلم ‪..‬‬

‫إحياء علوم الدين المجلد الثالث الجزء السابع ص ‪ ، 9‬دار الفكر العربي ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫وعند بعضهم هو إزالة التخلف الحضاري والمادي والعلمي والتكنولوجي ‪..‬‬

‫وعند بعضهم هو إصلح الخلق المنهارة ‪ :‬الرشوة المتفشية ‪ .‬والكذب والنفاق ‪.‬‬

‫والغش والهمال ‪ .‬والجبن والتقاعس ‪ ،‬وموت الضمير وعدم المبالة ‪..‬‬

‫وعند بعضهم هو جمع الكلمة وإزالة الفرقة وتوحيد الصف وإزالة البغضاء وتغليب‬

‫المصلحة العامة ‪..‬‬

‫وعند بعضهم ‪ ..‬وعند بعضهم ‪ ..‬وعند بعضهم ‪..‬‬

‫ونحن نقول ‪ :‬نعم لهذا كله ! كله إصلح ! وكله مطلوب ! ولكن كيف السبيل ؟!‬

‫لقد جربنا خلل قرن كامل من الزمان أن نصلح هذا كله ‪ .‬وفتحنا مدارس وفتحنا معاهد‬

‫وفتحنا جامعات ‪ .‬وأنشأنا طرقا وأنشأنا مصانع ‪ .‬وملنا الطرق بالسيارات ‪ ،‬وملنا البيوت‬

‫بالثلجات والسخانات والتليفزيونات ‪..‬‬

‫وصنعنا من ذلك كله قدرا غير قليل ‪..‬‬

‫ثم ‪ ..‬؟!‬

‫زادت مشاكلنا كلها حـدة ‪ .‬وزادت أزماتنا كلها تعقيدا ‪ .‬وزدنا ضعفا وهوانا على‬

‫الناس ‪ .‬ولم تعد " المم " وحدها هي التي تتداعى علينا كما يتداعى الكلة إلى قصعتهم ‪..‬‬

‫وإنما صار شذاذ الفاق ‪ ،‬الذين كتب ال عليهم الذلة والمسكنة أول المتداعين إلى القصعة ‪،‬‬

‫وأول الناهشين في الموال والعراض والدماء ‪..‬‬

‫ونحن نقول ‪ :‬إن طريق الخلص هو تصحيح المفاهيم السلمية بدءا بمفهوم ل إله إل‬

‫ال ‪ ،‬وإن فغر الناس أفواههم من العجب ‪ ..‬وإن أنكر المنكرون ‪..‬‬

‫إن الذين يظنون أن ل إله إل ال هي الكلمة المنطوقة باللسان ‪ ،‬سيفتحون أفواههم عجبا‬
‫وإنكارا ول شك ‪ ..‬لنهم يرون الكلمة منطوقة كل يوم بمئات المليين ‪ ،‬ويرون السوء مع‬

‫ذلك ل يتزحزح من مكانه ‪ ،‬بل يرونه يمتد ويتسع ويشتد ‪ ،‬ويتضاعف حجمه بمرور اليام ‪..‬‬

‫والذين يظنون أن المطلوب من ل إله إل ال هو التصديق والقرار ‪ ،‬سيفتحون أفواههم‬

‫عجبا وإنكارا دون شك ‪ ..‬لنهم يرون التصديق قائما ‪ -‬حسب رؤيتهم ‪ -‬ويرون القرار ‪ ،‬ثم‬

‫ل يجدون مشكل واحدا قد انحل ‪ ،‬ول أزمة واحدة قد آذنت بالنفراج ‪.‬‬

‫والذين يرون عموما أن " العقيدة " من " المسلمات " ‪ ،‬وأن التسليم حاصل بالفعل ‪،‬‬

‫يسعون جاهدين إلى شيء آخر غير العقيدة ‪ ،‬لنهم يرونها ‪ -‬حسب رؤيتهم ‪ -‬قائمة ‪ ،‬ومع‬

‫ذلك ل تغيّر شيئا من الواقع ‪ ،‬ول يبدو أنها قادرة على تغيير شيء في المستقبل القريب أو‬

‫المستقبل البعيد ‪..‬‬

‫وهؤلء وهؤلء وهؤلء هم ضحايا الفكر الرجائي الذي أفرغ ل إله إل ال من‬

‫مضموننها الحيّ ‪ ،‬وحولها كلمة تنطق باللسان ‪ ،‬ل مدلول لها ‪ ،‬ول وزن لها في واقع الحياة ‪.‬‬

‫ونحن حين ننكر ذلك الفكر الرجائي ‪ ،‬وندعو إلى تصحيحه وتقويمه ‪ ،‬ل نصنع ذلك‬

‫لمجرد الجدل الذهني ‪ ،‬ولكن لننا نرى آثاره السامة في حياة المة ‪ ،‬ومقدار بعده ‪ -‬في‬

‫الوقت ذاته ‪ -‬عن روح السلم ‪.‬‬

‫ونحب أن نسأل ‪ ،‬لنتعرف على الطريق ‪ :‬هل المراض التي يعانيها المسلمون اليوم ‪:‬‬

‫التخلف العلمي والحضاري والفكري والخلقي والقتصادي والسياسـي والمادي ‪ ..‬الخ ‪..‬‬

‫الخ ‪ ..‬هل هي أمراض " إسلمية " ؟ بمعنى أنها نشأت من اعتناق السلم ‪ ،‬وممارسة‬

‫السلم ‪ ،‬والمحافظة على السلم ؟!‬

‫ولكي نجيب إجابة علمية واقعية ل تصدر عن الهوى ول تحركها العصبية ‪ ،‬نسأل ‪:‬‬

‫هل المجتمع الول الذي اعتنق السلم ومارسه وحافظ عليه كان متصفا بشيء من هذا كله ؟‬
‫أم كان النقيض الكامل لهذا الصورة التي نراها في واقعنا المعاصر ؟!‬

‫ثم نسأل لنصل إلى النتيجة ‪ :‬أي الجيلين كان يحقق ل إله إل ال بكل مقتضياتها ؟‬

‫وأيهما أخرج ل إله إل ال من محتواها ‪ ،‬وحوّلها إلى كلمة تنطق باللسان ؟‬

‫فإذا عرفنا الجابة عرفنا السر في كل المراض التي أصابت العالم السلمي في‬

‫تاريخه الحديث ‪..‬‬

‫حقيقة إنه ليست ل إله إل ال وحدها هي التي فسد مفهومها في حس الجيال المتأخرة ‪،‬‬

‫إنما هي المفاهيم السلمية كلها بل استثناء ‪ .‬وحقيقة إن الواقع المعاصر هو حصيلة الفساد‬

‫في المفاهيم كلها في وقت واحد ‪ ،‬كما سيتبين من قراءة " مفهوم العبادة " و " مفهوم القضاء‬

‫والقدر " و " مفهوم الدنيا والخرة " و " مفهوم الحضارة وعمارة الرض " ‪..‬‬

‫ولكن ل إله إل ال هي ركن السلم الول والكبر كما أسلفنا القول ‪ ،‬ولذلك كان‬

‫تأثيرها هو الكبر والخطر ‪ ،‬سواء في حالة تطبيقها الصحيح أو في حالة النحراف عن‬

‫حقيقتها ‪ .‬ومن أجل ذلك كانت العناية الشديدة التي أولها السلم لهذه القضية خلل ثلثة‬

‫عشر عاما في مكة ‪ ،‬ثم في العهد المدني كله ‪..‬‬

‫ول بد أن نستعيد في ذاكرتنا مقتضيات ل إله إل ال كما وعاها الجيل الول ‪ ،‬من تعليم‬

‫ال ورسوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫مقتضاها الول هو توحيد الربوبية واللوهية ‪ ،‬وتوحيد السماء والصفات ( أي توحيد‬

‫العتقاد ) ‪.‬‬

‫ومقتضاها الثاني هو توجيه العبادة ل وحده بل شريك ( أي توحيد العبادة ) ‪.‬‬

‫ومقتضاها الثالث هو تحكيم شريعة ال وحدها دون غيرها من الشرائع ( أي توحيد‬


‫(‪)1‬‬
‫الحاكمية )‬

‫ومقتضاها الرابع هو القيام بالتكاليف التي فرضها ال على المؤمنين ‪ -‬غير ما سبق ‪-‬‬

‫ومن بينها طلب العلم ‪ ،‬وعمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني ‪ ،‬وإعداد العدة لعداء ال ‪،‬‬

‫ونشر الدعوة في الرض ‪ ،‬وعلى رأسها جميعا الجهاد في سبيل ال ‪.‬‬

‫ومقتضاها الخامس هو التخلق بأخلقيات ل إله إل ال ‪ ،‬الواردة تفصيل في الكتا ب‬


‫(‪)2‬‬
‫والسنة ‪.‬‬

‫هل هذا تفسير مفتعل لمقتضيات ل إله إل ال أقحمناه من عندنا إقحاما بغير دليل ؟!‬

‫قال لي أحد العاملين في حقل الدعوة ذات مرة ‪ -‬وكنت ألمح الخلص في تساؤله ‪-‬‬

‫لقد أخبرنا رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أن السلم بني على خمس ‪ :‬شهادة أل إله إل‬

‫ال وأن محمدا رسول ال ‪ ،‬وإقام الصلة وإيتاء الزكاة ‪ ،‬وصوم رمضان ‪ ،‬وحج البيت من‬

‫استطاع إليه سبيل ‪ ،‬فمن أين جئت أنت باشتراط التحاكم إلى شريعة ال ‪ ،‬وعلى أي شيء‬

‫بنيت كونها من مقتضيات ل إله إل ال ‪ ،‬والرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬لم يطلب إل‬

‫النطق بها فحسب ؟! وقلت له على الفور ‪ :‬أما اشتراط التحاكم إلى شريعة ال فمنصوص عليه‬

‫س ِهمْ‬
‫جدُوا فِي َأنْ ُف ِ‬
‫شجَ َر َب ْينَ ُهمْ ُثمّ ل َي ِ‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا َ‬
‫حتّى ُي َ‬
‫في كتاب ال ‪ ( :‬فَل َو َر ّبكَ ل يُ ْؤ ِمنُونَ َ‬

‫ضيْتَ َو ُيسَلّمُوا َتسْلِيما ) (‪ )3‬وأما إدخال هذا المر في مقتضيات ل إله إل ال فهو‬
‫حرَجا ِممّا َق َ‬
‫َ‬

‫أمر بديهي في هذا الدين ‪ .‬فما دمنا أقررنا أن اليمان ل يتحقق إل بالتحاكم إلى شريعة ال‬

‫فأين يدخل التحاكم في أركان السلم ‪ :‬هل يدخل في الصلة ؟ هل يدخل في الزكاة ؟ هل‬

‫يدخل في الصوم ؟ هل يدخل في الحج ؟‬

‫قولنا الول والثاني والثالث ليس ترتيب أهمية ‪ ،‬إنما هو من ضرورة الكلم ‪ .‬وإل فهي كلها على مستوى‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫واحد من حيث كونها متعلقة بالعقيدة ‪ -‬أي بأصل اليمان ‪ -‬وكون الخروج عليها شركا مخرجا من السلم ‪.‬‬
‫‪ )(2‬كذلك قولنا الرابع والخامس ليس ترتيب أهمية فكلهما لزم لتحقيق " اليمان الحق " ‪ " :‬أولئك هم‬
‫المؤمنون حقا " ‪.‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 65‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫فإذا لم يدخل في واحد من هذه الركان كلها ‪ ،‬فهل بقي إل أن يدخل في الركن الول ‪،‬‬

‫ركن ل إله إل ال ‪ ،‬الذي يعني اللتزام بكل ما جاء من عند ال ‪ ،‬فيدخل فيه شرط التحاكم‬

‫إلى شريعة ال ‪ ،‬كما تدخل فيه كل التكاليف التي فرضها ال ؟‬

‫إن السلم كله في الحقيقة هو مقتضى ل إله إل ال ‪ .‬لن مقتضى القرار بأن ال‬

‫واحد ل شريك له في ملكه ‪ ،‬ول في خلقه ول في تدبيره ‪ ،‬ول في هيمنته ‪ ،‬ول في رزقه ‪،‬‬

‫ول في قدرته سبحانه ‪ ،‬هو عبادته وحده بل شريك ‪ ،‬أي طاعته فيما أمر به ‪ ،‬ومجموع ما‬

‫أمر به هو " السلم " !‬

‫وإذا كان ال سبحانه وتعالى قد أبرز عبادات معينة فجعلها أركانا قائمة بذاتها ‪ ،‬فإن ما‬

‫بقي من التكاليف التي أمر بها ال ل بد بداهة أن يدخل في الركن الول الشامل ‪ ،‬الذي يشمل‬

‫السلم كله ‪ ،‬وكل ما يحتويه السلم !‬

‫فإذا لم يكن المر كذلك ‪ ،‬فليقل لنا المرجئة ‪ -‬القدامى أو المحدثون ‪ -‬في أي أركان‬

‫السلم تدخل تلك التكاليف ؟! وإن لم تكن تدخل في أي ركن من أركانه فأين موقعها من‬

‫السـلم ‪ ،‬وهي تكاليف مفروضة ‪ ،‬وبعضها ‪ -‬كتحكيم شريعـة ال ‪ -‬داخل في أصل‬

‫العتقاد ؟!‬

‫إن معنى القرار بالشهادة ‪ -‬كما أسلفنا مرارا ‪ -‬هو اللتزام بما جاء من عند ال ‪ .‬ومن‬

‫ثم يدخل فيها كل التكاليف الربانية بل استثناء ‪.‬‬

‫ولسنا هنا في مجال تصنيف المخالفات التي تقع من البشر في نحقيق مقتضيات ل إله‬

‫إل ال ‪ ،‬وأيها يقع في دائرة اللمم وأيها يقع في دائرة الكبائر ‪ ،‬وأيها يقع في دائرة الشرك ‪،‬‬

‫لننا في مجال بيان الثر الذي يحدثه في حياة البشر قيامهم بمقتضيات ل إله إل ال ‪ -‬كلها ‪-‬‬

‫على وجهها الصحيح ‪ ،‬والثر العكسي الذي يحدث من إفراغ ل إله إل ال من مضمونها ‪،‬‬

‫وجعلها كلمة تنطق باللسان بغير مقتضى واقعي ‪ ،‬سواء كان ذلك شركا أو معصية فحسب ‪.‬‬
‫ولكن هذا ل يمنعنا من إشارة عابرة إلى أن أي انحراف في توحيد العتقاد ( أي توحيد‬

‫اللوهية والربوبية والسماء والصفات ) هو شرك ‪ ،‬وأي انحراف في توحيد العبادة ( أي‬

‫توجيـه كل ألوان العبادة ل وحده بل شريك ) هو شرك ‪ ،‬وأي انحراف في توحيد الحاكميـة‬

‫( أي التحاكم إلى شريعة ال وحدها دون غيرها من الشرائع ) هو كذلك شرك ‪ .‬وكلها ‪-‬‬

‫الثلثة ‪ -‬على ذات المستوى من الدخول في أصل العقيدة ‪ ،‬والشرك في أيها هو الشرك‬

‫الكبر المخرج من الملة ‪:‬‬

‫شيْءٍ َنحْنُ وَل آبَا ُؤنَا وَل‬


‫ن َ‬
‫ش َركُوا َلوْ شَا َء اللّ ُه مَا عَبَدْنَا ِمنْ دُو ِنهِ مِ ْ‬
‫ل اّلذِينَ َأ ْ‬
‫( َوقَا َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ن شَيْ ٍء )‬
‫حَ ّرمْنَا مِنْ دُو ِن ِه مِ ْ‬

‫فهذه تشمل شرك العبادة وشرك الحاكمية ‪.‬‬

‫ن َم ْريَمَ َومَا ُأ ِمرُوا إِلّا ِل َي ْع ُبدُوا‬


‫ن دُونِ اللّهِ وَا ْل َمسِيحَ ابْ َ‬
‫حبَارَ ُهمْ َورُ ْهبَا َن ُهمْ َأ ْربَابا مِ ْ‬
‫خذُوا َأ ْ‬
‫( ا ّت َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ن)‬
‫ش ِركُو َ‬
‫عمّا ُي ْ‬
‫سبْحَانَهُ َ‬
‫إِلَها وَاحِدا ل إَِلهَ إِلّا هُ َو ُ‬

‫وهذه تشمل شرك الحاكمية وشرك العتقاد ‪ ..‬وكلها سواء ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫حين كانت الجيال الولى من المسلمين تدرك مفهوم ل إله إل ال على حقيقته ‪ ،‬وتحققه‬

‫في واقع حياتها ‪ ،‬كانت " خير أمة أخرجت للناس " وكانت هي المة الممكنة في الرض ‪،‬‬

‫وكانت هي أمة العلم والحضارة ‪ ،‬وأمة القيم والخلق ‪ ،‬وحدثت على يديها تلك المعجزات‬

‫التي يعرفها التاريخ في شتى المجالت ‪..‬‬

‫وحين انحسر مفهوم ل إله إل ال في نفوس الجيال المتأخرة من هذه المة ‪ -‬مع غيره‬

‫سورة النحل [ ‪. ] 35‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬سورة التوبة [ ‪. ] 31‬‬ ‫()‬
‫من المفاهيم ‪ -‬وحين لم يعد له واقع في حياتها ‪ ،‬تحقق فيها نذير رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪: -‬‬

‫" يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلى إلى قصعتها ‪ .‬قالوا ‪ :‬أمن قلة نحن‬
‫(‪)1‬‬
‫يومئذ يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬إنكم يومئذ كثير ‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء السيل "‬

‫وصارت هذه المة ألعوبة في يد أعدائها ‪ ،‬يجرونها إلى الهلك بكل مهلكة من القول‬

‫ويزيدونها غيا كلما اتبعتهم على‬ ‫(‪)2‬‬


‫والعمل ‪ ،‬ويفتنونها عن دينها ‪ ( ،‬وَالْ ِف ْتنَ ُة َأ ْكبَ ُر مِنَ ا ْل َقتْلِ )‬

‫طريق الغيّ !‬

‫واليوم تبحث المة عن طريق الخلص ‪..‬‬

‫وحين نقول للناس ‪ :‬إن طريق الخلص يبدأ بتصحيح مفاهيم السلم كلها بدءا بمفهوم‬

‫ل إله إل ال ‪ ،‬يظن بعض الناس ‪ -‬بسذاجة حقيقية أو سذاجة مفتعلة ‪ -‬أننا نضع تصحيح‬

‫المفاهيم بديل من توفير الخبز للجائعين ‪ ،‬أو توفير العلم للمتعلمين ‪ ،‬أو إقامة المصانع أو‬

‫تسليح الجيوش !‬

‫وهذا أمر ل يتصوره عاقل !‬

‫ولم يكن الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وهو يصحح اعتقاد الناس في مكة ‪ ،‬ويدل‬

‫المؤمنين على المفهوم الحقيقي لل إله إل ال ‪ ،‬لم يكن يقول لهم ‪ :‬ل تأكلوا حتى تصححوا‬

‫اعتقادكم ‪ ،‬ول تبيعوا ول تشتروا ‪ ،‬ول تبحثوا لنفسكم عن مصدر رزق حتى تفهموا جيدا‬

‫معنى ل إله إل ال !‬

‫هذا أمر ل يتصوره عاقل !‬

‫أخرجه أحمد وأبو داود ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 217‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫ولكنه كان يربيهم ‪ -‬وهم يأكلون ويشربون ‪ ،‬ويبيعون ويشترون ‪ ،‬ويمشون في مناكب‬

‫الرض ‪ -‬كان يربيهم على المقتضيات الحقيقية لل إله إل ال ‪ ،‬بحسب تنزلها من عند ال ‪،‬‬

‫حتى يستقيم سعيهم كله ‪ ،‬ويصبحوا في النهاية " خير أمة أخرجت للناس "‬

‫وحين نقول اليوم ‪ :‬إنه ل بد من تصحيح مفاهيم السلم بدءا بمفهوم ل إله إل ال نقصد‬

‫هذا الذي صنعه رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أول مرة ‪ .‬ول نقصد تعطيل البحث عن‬

‫الخبز ‪ ،‬أو تسليح الجيوش ‪ ،‬أو إنشاء المصانع ‪ ،‬أو فتح المدارس حتى يتم تصحيح مفهوم ل‬

‫إله إل ال !‬

‫نشكو اليوم ‪ -‬ونحن نحاول " الصلح " ‪ -‬من فقدان روح " الحساس بالواجب " عند‬

‫الناس ‪ .‬فل أحد يتحرك أو يعمل انطلقا من إحساسه بأن عليه واجبا يجب أن يؤديه ‪ .‬إنما‬

‫يعمل ‪ -‬إذا عمل ‪ -‬لتحقيق مصلحة شخصية ‪ ،‬ل يبالي أن تجيء من طريق حلل أو حرام ‪.‬‬

‫فل يعمل الموظف الصغير إل أن يرتشي ‪ ،‬ول يعمل الموظف " الكبير ! " إل أن ينهب من‬

‫المال الحرام ‪ ..‬فكيف الطريق إلى إصلح ذلك ؟‬

‫ونشكو من الرتجالية والفوضى في أعمالنا كلها مما يضيع علينا أموال كثيرة وأوقاتا‬

‫عزيـزة وفرصا نادرة ‪ ،‬ويؤدي إلى بوار كثير من مشروعاتنا ‪ ..‬فكيف الطريق إلى‬

‫الصلح ؟‬

‫ونشكو من النفاق والكذب والغش والخديعة وقلة المانة عند الناس ‪ ..‬فكيف الطريق إلى‬

‫الصلح ؟‬

‫ونشكو من الكسل والتواكل وانعدام الجدية في أخذ المور ‪ ..‬فكيف الطريق إلى‬

‫الصلح ؟‬

‫ونشكو من فقدان الروح العلمية في تناول مشكلتنا ‪ ،‬لننا نفتقد النظرة الموضوعية ‪-‬‬
‫التي ل تتدخل فيها الهواء ‪ -‬ونكره التخطيط والتنظيم ‪ ..‬فكيف الطريق إلى الصلح ؟‬

‫ونشكو من فقدان " الروح الجماعية " ‪ ،‬وغلبة الروح الفردية النانية الضيقة البغيضة ‪..‬‬

‫فكيف الطريق إلى الصلح ؟‬

‫ونشكو من خيانة " زعمائنا " ‪ ،‬وعمالتهم لعدائنا ‪ ،‬وتسخيرهم أوطانهم لمصلحة‬

‫أعدائهم لقاء شهوة الحكم والسلطان ‪ ..‬فكيف الطريق إلى الصلح ؟‬

‫ونشكو ‪ ..‬ونشكو ‪ ..‬ونشكو ‪ ..‬ومر ما يزيد على قرن من الزمان ونحن نوهم أنفسنا ‪-‬‬

‫خادعين أو مخدوعين ‪ -‬أننا نسعى إلى الصلح ‪ ،‬ونبحث عن طريق الخلص ‪..‬‬

‫والحصاد المر هو نهاية الطريق !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫يحسب الذين يفكرون في فتح المدارس ‪ ،‬وإقامة المصانع ‪ ،‬وتقوية الجيوش ‪ ،‬وتوفير‬

‫الخبز بل قاعدة من عقيدة ‪ ،‬أنهم هم القوم " العمليون " " الواقعيون " " العلميون " الخذون‬

‫بالوسائل الصحيحة ‪ ،‬المتنزهون عن " الغيبيات " ‪ ،‬البعيدون عن الخيالت ‪ ،‬الواصلون ‪ -‬ل‬

‫محالة ‪ -‬إلى " الحلول العملية " التي تنقذ الناس من مشكلتهم ‪..‬‬

‫ونحن ل نقول لحد ل تفتحوا المدارس ‪ ،‬ول تقيموا المصانع ‪ ،‬ول توفروا الخبز ‪ ،‬ول‬

‫تقووا الجيوش ‪ ..‬ولكنا نقول لهم بملء أفواهنا ‪ :‬إن صنعتم هذا كله بغير عقيدة صحيحة ‪،‬‬

‫فالنتيجة هي ما ترونه بأنفسكم من أحوال أمتكم بعد جهد ما يزيد على قرن كامل من الزمان !‬

‫نفتح المدارس ‪ ..‬فماذا ندرس فيها لبنائنا ؟!‬

‫ننشئ وسائل العلم " الحديثة " فماذا نبث فيها لشعوبنا ؟!‬

‫ننشئ المصانع فكيف يعمل مديروها وموظفوها وعمالها ؟! وأين يذهب إنتاجها ؟!‬
‫ونسلح الجيوش ‪ ..‬فكيف يصنع قادتها وزعماؤها ؟!‬

‫حدثني اللواء عبد المنعم حسني ‪ ،‬حاكم غزة في زمن النكسة ‪ ،‬وقد جمعني به معتقل‬

‫واحد لعدة شهور (‪ ، )1‬عن استجواب اليهود له يوم وقع أسيرا في أيديهم بسبب دخول سيارته‬

‫إلى الرض اليهودية ‪ -‬خطأ ‪ -‬صبيحة النكسة ‪.‬‬

‫قال إن أول سؤال وجهوه إليه ‪ -‬بعد أن أعلموه بخبر الحرب والهزيمة ولم يكن يعلم‬

‫بأيهما ! ‪ -‬كان هو السؤال التي ‪ :‬أما زال يوجد إخوان مسلمون في الجيش المصري ؟!‬

‫قال لهم ‪ :‬بكل تأكيد ل ! ولكن لماذا تسألون ؟!‬

‫قالوا ‪ :‬إننا ل نستطيع أن ننسى ما حدث في عام ‪ ، 1956‬حين قام اثنان من ضباط‬

‫الخوان المسلمين بتعطيل الزحف اليهودي ست ساعات كاملة عند ممر " ِمتْلَ " حتى قتل‬

‫على مدفعيهما !‬

‫وهكذا ل يفزع اليهود من المدفع في ذاته ‪ ،‬فعندهم ‪ -‬دائما ‪ -‬ما هو أفتك منه !‬

‫ولكنهم يفزعون من عقيدة الرجل الذي يقاتـل وراء المدفع ‪ ..‬يفزعـون من ل إله إل‬

‫ال ‪ ..‬لنها أفتك من كل ما يملكون من سلح فتاك !‬

‫والروس في أفغانستان ل يفزعون من السلح ‪ ..‬فليس لدى المجاهدين الفغان سلح‬

‫يذكر أمام الطائرات الفتاكة والدبابات المدمرة والقنابل الحارقة والغازات السامة وكل وسائل‬

‫البادة الوحشية التي يستخدمها الروس ‪ .‬ولكنهم يفزعون من ل إله إل ال ‪ ،‬لنها هي التي‬

‫حفظت عزيمة المجاهد الفغاني سبع سنوات متوالية أمام هجومهم الوحشي ‪ ،‬بصرف النظر‬

‫عن النتيجة النهائية التي يمكن أن تسفر عنها المعركة في هذا الجانب أو ذاك ‪.‬‬

‫‪ )(1‬كان اليهود قد اعتقلوه صبيحة النكسة ثم أفرجـوا عنه ‪ ،‬ثم اعتقله جمال عبد الناصر لسباب ل يعرفها‬
‫هو ! وظل في معتقل " القناطر " عدة أشهر حتى مات جمال عبد الناصر فأفرجوا عنه !‬
‫ومرة أخرى ل نقول أعطوا الجندي ل إله إل ال ول تعطوه المدفع ‪ ،‬كما قد يفسر‬

‫كلمنا صاحب سذاجة حقيقية أو سذاجة مصطنعة ! إنما نقول ‪ :‬إن المدفع وحده ل يكسب‬

‫المعركة ‪ ،‬ما لم يكن الرجل الذي يقاتل وراءه صاحب عقيدة ‪ ..‬فلنشتر المدفع نعم ‪ ،‬ولكن‬

‫فَ ْلنُقِ ْم إلى جواره رجل يؤمن حقا بل إله إل ال ‪ ..‬عندئذ ل تستطيع الذئاب أن تنهش الوطن‬

‫السلمي وهي آمنة كما تصنع اليوم ! ولهذا السبب ذاته يحرص العداء ‪ -‬وعملؤهم في‬

‫الداخل ‪ -‬أن يخرجوا من الجيوش كل من يؤمن إيمانا حقيقيا بل إله إل ال ‪ ،‬لنهم يعرفون‬

‫جيدا حقيقة هذا الدين ‪ ،‬ويعرفون ماذا يمكن أن تصنع ل إله إل ال حين يعود لها في القلوب‬

‫مقتضاها الحقيقي الذي كان لها يوم أنزلت من عند ال !‬

‫(‪)1‬‬
‫ب َيعْ ِرفُونَ ُه َكمَا َي ْعرِفُونَ َأ ْبنَاءَ ُهمْ ‪) ..‬‬
‫ن آ َت ْينَاهُمُ ا ْل ِكتَا َ‬
‫( اّلذِي َ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ونعود إلى " مشاكلنا " ‪! ..‬‬

‫يقول " الواقعيون " " العمليون " العلميون " ‪ :‬دعونا بال من حديث العقيدة ! تعالوا ننظر‬

‫إلى الواقع ! تعالوا إلى مليين الفواه المفتوحة والمعدات الجائعة ‪ ..‬ابحثوا معنا عن " حلول‬

‫عملية " للمشاكل القتصادية التي يعانيها العالم السلمي في تخلفه المزري وفقره المدقع‬

‫وكثرة سكانه وقلة موارده ‪..‬‬

‫ونقول ‪ :‬نعم ! ابحثوا ! ما زلتم تبحثون منذ قرن كامل أو يزيد ‪ ..‬فبأي شيء خرجتم ؟!‬

‫‪ -‬نقول ‪ :‬إن الرض‬ ‫(‪)2‬‬


‫إننا نحن ‪ -‬الخياليين ‪ ،‬الغيبيين ‪ ،‬الحالمين ‪ ،‬المثاليين‬

‫السلمية ‪ -‬ببترولها ‪ ،‬بمعادنها ‪ ،‬بحاصلتها الزراعية ‪ ،‬بمواردها المائية ‪ ،‬بمساحتها‬


‫سورة البقرة [ ‪. ] 146‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫كلمة المثالية في مصطلحهم كلمة ذم ل مدح ! بل هي في عرفهم أشد ما يذم به إنسان ! لنها تعني ‪-‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫عندهم ‪ -‬الشخص الذي يشغل نفسه بالحلم غير القابلة للتحقيق ‪ ،‬ويترك مشاكل " الجماهير " دون حل‬
‫حقيقي !‬
‫الشاسعة المتصلة ‪ ،‬بقوتها البشرية ‪ -‬هي ‪ -‬بفضل ال ‪ -‬أغنى بقعة في الرض ! ولكن أهلها‬

‫هم أفقر أهل الرض اليوم وأكثرهم مشاكل ‪..‬‬

‫لماذا ؟!‬

‫هل كان المسلمون فقراء يوم كانوا مسلمين حقا ‪ ،‬يحققون في واقع حياتهم مقتضيات ل‬

‫إله إل ال كلها ‪ ،‬ومن بينها عمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني ‪ ،‬وطلب العلم ‪ ،‬وإعداد‬

‫القوة للعداء ؟!‬

‫أم كان المسلمـون هم أكثر أهل الرض ثراء وأكثرهـم تقدما وأكثرهم تمكنا في‬

‫الرض ؟‬

‫ثم لما تخلفوا عقيديا (‪ ، )1‬فتخلفـوا علميـا واقتصاديـا وحربيا وسياسيا وفكريا‬

‫غلبت عليهم أوربا الصليبية فعدت على أرضهم ‪ ،‬وسرقت خيراتهم ‪ ،‬وأذلتهم‬ ‫(‪)2‬‬
‫وأخلقيا ‪..‬‬

‫واستعبدتهم ‪ ،‬وامتصت دماءهم ‪ ،‬فتضخمت أوربا على حسابهم ‪ ،‬وزادوا هم هزال حتى‬

‫صاروا إلى حالتهم التي صاروا إليها اليوم ‪.‬‬

‫واليوم يسعون إلى تخليص أنفسهم مما حل بهم ‪ ،‬رافضين الرجوع إلى المنهج الرباني ‪،‬‬

‫باحثين عن الشتراكية مرة ‪ ،‬وعن التصنيـع مرة ‪ ،‬وعن القتراض من الدول " الكبرى "‬

‫مرة ‪ ..‬ثم تزداد المشاكل تعقدا في كل مرة ‪ .‬وتهبط عملت البلد إلى الحضيض ‪ ،‬وتثقل‬

‫الديون الميزانيـات ‪ ،‬وينحط النتاج ‪ ،‬ويزداد الجوع ‪ ..‬وتفسد معه الخلق ‪ ،‬أو تزداد فسادا‬

‫إلى فساد !‬

‫ولن نقول للناس ‪ :‬هلموا استردوا سيادتكم على أرضكم ومواردكم ‪ ،‬واطردوا الغاصبين‬

‫راجع الحديث عن " التخلف العقيدي " في فصل " آثار النحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫‪ 2‬وراجع كذلك بيان الصلة بين التخلف العقيدي والتخلف العلمي والحضاري والقتصادي والحربي‬ ‫()‬

‫والسياسي ‪ ..‬الخ ‪ .‬في نفس الفصل ‪.‬‬


‫الذين استعبدوكم وسرقوكم وامتصوا دماءكم ‪ ،‬فهذا هو السبيل لستعادة ما كان لكم ذات يوم‬

‫من قوة وتمكن ‪..‬‬

‫فمع أن هذا صحيح في ذاته ‪ ..‬ولن يعود المسلمون إلى ما كانوا عليه من قوة وثراء‬

‫وتمكن إل حين يستردون سيادتهم على أرضهم ومواردهم ‪ ،‬ويمنعون عمليات السطو الضخمة‬

‫التي مارسها العدو على كيانهم القتصادي كله وما زال يمارسها حتى اللحظة ‪..‬‬

‫مع أن هذا صحيح في ذاته ‪ ،‬إل أن بيننا وبين تحقيق ذلك جهادا طويل قد يمتد إلى‬

‫أجيال ‪ ..‬والفواه الجائعة لن تصبر أياما معدودة فضل عن أن تصبر مدى أجيال !‬

‫ولسنا نقول للقوم " العمليين " " الواقعيين " العلميين " ‪ :‬كفوا عن التصنيع ‪ ،‬أو كفوا عن‬

‫البحث عن موارد لميزانياتكم المرهقة المدينة المفلسة ‪..‬‬

‫ولكنا نقول لهم ‪ :‬إن أي جهد يبذل في هذا السبيل دون رد الناس إلى المفهوم الصحيح‬

‫للعقيدة ‪ ،‬وتربيتهم على المفهوم الصحيح ‪ ،‬سيظل كالناء المملوء بالثقوب ‪ ،‬كلما حاولنا ملئه‬

‫عاد إلى الفراغ !‬

‫إن التصنيع ‪ -‬كما يقولون في لغتهم ‪ -‬جهد " حضاري " وليس مجرد جهد آلي تقوم به‬

‫اللة ‪..‬‬

‫أما نحن فنقول ‪ :‬إن عمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني هي أحد مقتضيات ل إله‬

‫إل ال الكثيرة المتنوعة الشاملة ‪ .‬وحين يقوم التصنيع على منهج ل إله إل ال فلن يسرق‬

‫العمال الوقت كما يسرقونه اليوم في ظل " الشتراكية ! " معتمدين على التقرب إلى ذوي‬

‫السلطان بالملق والنفاق والتجسس على إخوانهم ! ولن يسرق كبار الموظفين إنتاج المصنع‬

‫ويبيعوه في السوق السوداء ليحصلوا على الثروة الحرام من أيسر سبيل ! ولن يغمض الحكام‬

‫عيونهم عن كبار اللصوص لنهم شركاؤهم في الغنائم كلها في نهاية المطاف !‬


‫وعندئذ فقط يؤدي التصنيع دوره الحقيقي في دفع الفقر وزيادة الدخل ورفع قيمة العملة‬

‫المحلية وتوفير وسائل القوة للبلد فضل عن " البركة " التي تصيب حياة الناس حين يرفعون‬

‫من حياتهم لعنة الربا ‪ ،‬فيرفع ال عنهم المحن ‪ ،‬ويفتح عليهم بركات من السماء والرض ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫يشكو " المصلحون " كما قلنا من روح الفوضى والرتجال وفقدان الروح العلمية‬

‫والعملية في تناول المشكلت ‪..‬‬

‫وهذا كله صحيح ‪ ..‬ولكن ما سببه ؟‬

‫ألم يحاول أولئك " المصلحـون " خلل قرن كامل من الزمان أن يصلحوا كل هذه‬

‫العيوب ؟‬

‫فلماذا خابوا ؟!‬

‫إن المنطقة التي انتشر فيها السلم بقدر من ال ‪ ،‬يقع معظمها ‪ -‬كما أوضحنا في كتاب‬

‫" واقعنا المعاصر " ‪ -‬في المنطقة الحارة والمنطقة المعتدلة الحارة ( إل ما ندر منها ) ‪ ،‬وهذه‬

‫البيئة ‪ -‬بطبيعتها ‪ -‬بيئة فوضوية تكره النظام ‪ ،‬عفوية تكره التخطيط ‪ ،‬قصيرة النفس تشتعل‬

‫حماسة ثم تنطفئ حماستها بعد قليل قبل أن تكمل إنجاز ما تحمست له !‬

‫ومن هناك التقطها السلم ‪ ،‬فأنشأ منها " خير أمة أخرجت للناس " ‪.‬‬

‫وما أحب أن أكرر هنا ما قلته هناك ‪..‬‬

‫ولكن هذه المة تعلمت من دينها النضباط والنظام وطول النفس والروح العملية‬

‫والنظرة الموضوعية في خط مضاد تماما لثر البيئة الفوضوية الرتجالية المبعثرة ‪ ..‬وكان‬

‫ذلك أثرا من آثار العمل بمقتضيات ل إله إل ال الكثيرة المتنوعة الشاملة ‪ .‬فلما انحسر تأثير‬
‫السلم ‪ ،‬حين أفرغت ل إله إل ال من مضمونها الحقيقي ‪ ،‬وأصبح كل المطلوب منها هو‬

‫التصديق والقرار ‪ ،‬عاد أثر البيئة هو المسيطر على الناس ‪ ،‬وعاد الناس إلى فوضويتهم ‪،‬‬

‫وعفويتهم ‪ ،‬وتبعثرهم ‪ ،‬وقصر نفسهم ‪..‬‬

‫ويشكو " المصلحون " من ذلك ‪ ،‬ولهم الحق ‪..‬‬

‫ولكن كيف السبيل إلى إصلح هذا الثر الطاغي للبيئة في نفوس الناس ‪ ،‬في غيبة‬

‫العنصر الواحد الذي يمكن أن يتغلب على أثر البيئة ‪ ،‬وهو العقيدة بمفهومها الحقيقي ‪ ،‬كما‬

‫أنزلها ال أول مرة ‪ ،‬وكما أدت أول مرة مهمتها كاملة في حياة المة (‪ )1‬؟!‬

‫هل من سبيل ؟!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫حين نقول للناس ‪ :‬إن طريق الخلص يبدأ بتصحيح مفاهيم السلم كلها بدءا بمفهوم ل‬

‫إله إل ال ‪ ..‬فنحن نعني ما نقول على وجه التحديد ‪..‬‬

‫إننا ندرك جيدا أن لنا مشكلت سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وأخلقية ضخمةً‬

‫إلى حد يدعو كثيرا من الناس إلى اليأس من الصلح ‪.‬‬

‫ولكنا ندرك كذلك أن أي محاولة للصلح ل تضع في حسابها عودة الناس إلى حقيقة‬

‫السلم ‪ ،‬هي محاولة فاشلة من أول الطريق ‪..‬‬

‫وتجربة قرن كامل كافية للثبات ‪..‬‬

‫إن الذين يطمعون في الصلح على الطريقة الغربية ‪ -‬الرأسمالية أو الشيوعية ‪-‬‬

‫بدعوى أن أوربا ‪ -‬بقسميها ‪ -‬تملك كل أسباب القوة والتمكين التي نحن محرومون منها ‪،‬‬

‫راجع إن شئت فصل " الصحوة السلمية " في كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫فعلينا أن نتبع طريقهم لنصل إلى ذات النتائج التي وصلوا إليها من القوة والتمكين ‪ ..‬هؤلء‬

‫يغفلون عن مجرى السنن الربانية في حياة البشر ‪ ،‬لنهم محجوبون عن نور ال ‪ ،‬فيفكرون‬

‫وهم محجوبون ‪.‬‬

‫إن الذي يجري في أوربا الكافرة الجاحدة هو تحقيق لسنتين اثنتين على القل من سنن‬

‫ال ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫شيْءٍ ‪) ..‬‬
‫ب كُلّ َ‬
‫( فََلمّا َنسُوا مَا ُذكّرُوا بِ ِه َف َتحْنَا عََل ْي ِهمْ َأبْوَا َ‬

‫عمَاَلهُـمْ فِيهَا وَ ُهمْ فِيهَا ل‬


‫حيَاةَ ال ّد ْنيَا َوزِينَتَهـا نُ َوفّ إَِل ْي ِهمْ َأ ْ‬
‫ن ُيرِيـدُ ا ْل َ‬
‫ن كَا َ‬
‫( مَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ن)‬
‫ُي ْبخَسُـو َ‬

‫فقد كفرت أوربا ‪ ،‬وفي الوقت ذاته رغبت في الحياة الدنيا وزينتها ‪ ،‬وبذلت في سبيل‬

‫ذلك جهدها ‪ ،‬فمكن ال لها في الرض حسب هاتين السنتين مجتمعتين ‪.‬‬

‫ولكن يغفل " المصلحون " ذوو العقول المترجمة ‪ ،‬عن أمرين معا هما كذلك من سنن‬

‫ال ‪.‬‬

‫المر الول ان ال ل يمكّن للمسلمين بالطريقة ذاتها التي يمكّن بها للكفار ! إنما يمكّن‬

‫لهم فقط حين يستقيمون على طريقه ‪..‬‬

‫س َتخَْلفَ‬
‫ستَخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْضِ َكمَا ا ْ‬
‫عمِلُوا الصّا ِلحَاتِ َل َي ْ‬
‫ن آمَنُوا مِ ْن ُكمْ وَ َ‬
‫عدَ اللّهُ الّذِي َ‬
‫( وَ َ‬

‫ن َب ْعدِ خَ ْو ِف ِهمْ َأمْنا َي ْع ُبدُو َننِي ل‬


‫اّلذِينَ ِمنْ َقبِْلهِمْ وََل ُي َم ّكنَنّ َل ُهمْ دِي َن ُهمُ اّلذِي ا ْرتَضَى َل ُهمْ وََل ُي َبدّلَ ّن ُهمْ مِ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫شيْئا )‬
‫ُيشْ ِركُونَ بِي َ‬

‫سورة النعام [ ‪. ] 44‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬سورة هود [ ‪. ] 15‬‬ ‫()‬

‫سورة النور [ ‪. ] 55‬‬ ‫()‬


‫‪3‬‬
‫أما حين يبعدون عن طريقه فل يمكّن لهم حتى يعودوا مرة أخرى إلى الطريق ‪.‬‬

‫والمر الثاني أن هذا التمكين ‪ -‬على الكفر ‪ -‬ل يستمر إلى البد ‪ ..‬إنما هو مرحلة‬

‫زمنية محدودة يقدرها ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ثم تكتمل السنة بالتدمير على الكافرين ‪:‬‬

‫خ ْذنَا ُهمْ‬
‫حتّى ِإذَا َف ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا َأ َ‬
‫شيْءٍ َ‬
‫ل َ‬
‫حنَا عََل ْي ِهمْ َأ ْبوَابَ كُ ّ‬
‫( فََلمّا َنسُوا مَا ُذ ّكرُوا بِهِ َف َت ْ‬

‫ب ا ْلعَاَلمِينَ ) (‪. )1‬‬


‫ح ْمدُ لِلّهِ رَ ّ‬
‫ن فَ ُقطِعَ دَا ِبرُ الْقَ ْو ِم اّلذِينَ ظََلمُوا وَا ْل َ‬
‫َب ْغتَةً َفِإذَا ُهمْ ُمبِْلسُو َ‬

‫وقد بدأ اليوم يظهر للغرب ذاته أن حضارته آخذة في النهيار ‪ ،‬مهما بدا أن ذلك بعيد‬

‫الحدوث !‬

‫سنّتِ اللّهِ‬
‫جدَ ِل ُ‬
‫ن َت ِ‬
‫سنّتِ اللّهِ َت ْبدِيلً وَلَ ْ‬
‫جدَ ِل ُ‬
‫ن فَلَنْ َت ِ‬
‫سنّتَ ا ْلأَوّلِيـ َ‬
‫( َفهَـلْ َي ْنظُرُونَ إِلّا ُ‬

‫َتحْوِيلً ) (‪. )2‬‬

‫وذلك كله فضل عن حقيقة ضخمة تغفل عنها أوربا الكافرة ‪ -‬لنها كافرة ‪ -‬أما الذين‬

‫يقولون إنهم مسلمون فل ينبغي لهم أن يغفلوا عنها ‪ ،‬وإل أصبحوا ‪ -‬مثل " إخوانهم " ‪-‬‬

‫كافرين !‬

‫ل من البركة التي يخص بها‬


‫إن الذي تستمتع به أوربا ‪ -‬على أنه محدود المد ‪ ،‬وخا ٍ‬

‫ال المؤمنين وحدهم ‪ -‬هو متاع الحياة الدنيا وحدها ‪ ،‬وليس لهم في الخرة إل النار ‪:‬‬

‫ن أُوَل ِئكَ‬
‫خسُو َ‬
‫عمَاَل ُهمْ فِيهَا وَ ُهمْ فِيهَا ل ُي ْب َ‬
‫حيَا َة ال ّد ْنيَا َوزِي َن َتهَا ُن َوفّ إَِل ْي ِهمْ أَ ْ‬
‫ن ُيرِيدُ ا ْل َ‬
‫ن كَا َ‬
‫( مَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫صنَعُوا فِيهَا َوبَاطِلٌ مَا كَانُوا َي ْعمَلُو َ‬
‫حبِطَ مَا َ‬
‫س َل ُهمْ فِي الْآخِرَ ِة إِلّا النّارُ َو َ‬
‫اّلذِينَ َليْ َ‬

‫(‪)4‬‬
‫ن َكمَا َت ْأكُلُ ا ْلَأ ْنعَامُ وَالنّارُ َمثْوىً َل ُهمْ ) ‪.‬‬
‫ن كَ َفرُوا َي َتمَ ّتعُونَ َو َي ْأكُلُو َ‬
‫( وَاّلذِي َ‬

‫سورة النعام [ ‪. ] 45 - 44‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة فاطر [ ‪. ] 43‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة هود [ ‪. ] 16 - 15‬‬ ‫()‬

‫سورة القتال [ ‪. ] 12‬‬ ‫()‬


‫‪4‬‬
‫أما المسلمون فإنهم ل يسعون لهذا ! إنما وعدهم ال الستخلف والتمكين والتأمين في‬

‫الرض ‪ -‬وهو أقصى ما يطمع فيه الذين يريدون الحياة الدنيا ‪ -‬ووعدهم كذلك أن يفتح عليهم‬

‫في الحياة الدنيـا بركات من السماء والرض ‪ ،‬محجوبة عن الكفار مهما كثرت عندهم‬

‫الخيرات ‪ ،‬مع طمأنينة القلب التي يفتقدها الكفار لن طريقها هو ذكر ال وهم ل يذكرونه ‪..‬‬

‫ووعدهم فوق ذلك كله جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها ‪ ،‬ورضوان من ال أكبر ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ )‬
‫ن ال ّ‬
‫ت مِ َ‬
‫حنَا عََل ْيهِ ْم بَ َركَا ٍ‬
‫ن أَهْلَ ا ْل ُقرَى آ َمنُوا وَاتّقَوْا لَ َف َت ْ‬
‫( وَلَ ْو أَ ّ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ )‬
‫ط َمئِنّ قُلُو ُب ُهمْ ِب ِذ ْكرِ اللّ ِه أَل بِ ِذكْرِ الّل ِه َت ْ‬
‫ن آ َمنُوا َو َت ْ‬
‫( اّلذِي َ‬

‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َو َمسَاكِنَ‬


‫ن َت ْ‬
‫ت َتجْرِي مِ ْ‬
‫جنّا ٍ‬
‫عدَ اللّهُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ َ‬
‫( وَ َ‬

‫ع ْدنٍ َورِضْوَانٌ ِمنَ اللّهِ َأ ْك َبرُ ذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَ ْوزُ ا ْل َعظِيمُ ) (‪. )3‬‬
‫جنّاتِ َ‬
‫طيّبَ ًة فِي َ‬
‫َ‬

‫فمن ذا الذي يستبدل النار بالجنة ‪ ،‬ويزعم بعد ذلك أنه من المسلمين ؟!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫طريق الخلص هو تصحيح المفاهيم السلمية كلها بدءا بمفهوم ل إله إل ال ‪..‬‬

‫ولسنا نزعم للناس أن هناك عصا سحرية ستمتد إليهم فتحل لهم مشكلتهم بمجرد أن‬

‫يصححوا في نفوسهم مفاهيم السلم ‪ ،‬ويعودوا إلى ممارسته في عالم الواقع ‪..‬‬

‫بل نحن ننذرهم حربا ضروسا يشنها العالم كله عليهم ‪ ،‬كما يشن الكفر حربه على‬

‫المسلمين اليوم في أفغانستان ‪ ..‬فضل عن الجهد " الموضوعي " الذي يجب أن يبذلوه ليجاد‬

‫الحلول العملية لمشكلتهم ‪ ،‬مستمدة من شريعة ال ‪ ،‬ومنهجه الذي ينبغي أن يحكم الحياة ‪،‬‬

‫سورة العراف [ ‪. ] 96‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الرعد [ ‪. ] 28‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة التوبة [ ‪. ] 72‬‬ ‫()‬
‫سواء في إزالة التخلف القتصادي أو العلمي أو الحضاري أو التكنولوجي أو الحربي أو‬

‫الفكري أو السياسي ‪ ..‬الخ ‪ ..‬الخ ‪ ..‬الخ ‪..‬‬

‫وهنا قد يقول قائل ‪ :‬إذا كنا سنبذل الجهد في الحالتين ‪ ،‬فلماذا نتعب أنفسنا فوق الحد ‪..‬‬

‫ل منا ‪ -‬ونوفر على‬


‫لماذا ل نأخذ الحلول الجاهزة من أوربا ‪ -‬غربها أو شرقها على مزاج ك ّ‬

‫أنفسنا عداء العالم كله لنا ‪ ،‬والجهد الذي سنبذله في مواجهة ذلك العداء ؟!‬

‫والجواب على هذا التساؤل هو تجربة قرن كامل !‬

‫قرن كامل لم تحل فيه المشاكل الساسية بل زادت تعقدا وحدّة ‪ ،‬فضل عن المزيد من‬

‫الهوان والذل والضياع والتيه ‪..‬‬

‫وإنها لحماقة مرة أن يستزيد النسان من السم ‪ ،‬ويتوهم في كل مرة أنه مقبل على‬

‫الشفاء !‬

‫أما طريق السلم فهو طريق شاق نعم ‪ ..‬مجهد نعم ‪ ..‬محفوف بالمخاطر نعم ‪ ..‬ولكنه‬

‫طريق الحرار ‪..‬‬

‫أما طريق العبيد ‪ ..‬فهو طريق العبيد !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ول إله إل ال التي ندعو إليها ليست هي التي دعا إليها المرجئة القدامى أو المحدثون !‬

‫إن التي دعا إليها المرجئة ‪ -‬القدامى والمحدثون ‪ -‬وهي " التصديق والقرار " ‪ ،‬ل‬

‫تغير شيئا من الواقع المر الذي يعيشه الناس اليوم ‪ ،‬فضـل عن كونها هي التي تصد الشباب‬

‫" المثقف " عن السلم ‪ ،‬وتبعده عن الطريق الوحد الذي يتحقق فيه الخير الحقيقي ‪ ..‬خير‬

‫الدنيا والخرة على السواء ‪ ،‬لننا حين نقول لذلك الشباب المفتون بالغرب إن المجتمعات‬
‫القائمة اليوم إسلمية ‪ ،‬وإن هذا الغثاء الذي يعيش اليوم هو " المسلمون " ‪ ..‬فكيف نتوقع منه‬

‫أن يتجه إلى السلم لحل مشكلة واحدة من مشكلته ؟! وكيف نطمع في أن يقيم وجهه (‪، )1‬‬

‫ويقيم رقبته الملوية نحو الغرب ؟!‬

‫إنما ل إله إل ال التي ندعو إليها هي التي أنزلها ال في كتابه المنزل ‪ ،‬وعلمها رسول‬

‫ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬لصحابه ‪ ،‬ومارسها السلف الصالح رضوان ال عليهم ‪.‬‬

‫إنها ل إله إل ال ذات المقتضيات ‪..‬‬

‫توحيد العتقاد ‪ .‬توحيد العبادة ‪ .‬توحيد الحاكمية ‪ .‬التخلق بأخلق ل إله إل ال ‪ .‬القيام‬

‫بالتكاليف الربانية التي تشمل طلب العلم ‪ ،‬وعمارة الرض بمفتضى المنهج الرباني ‪ ،‬وإعداد‬

‫العدة لعداء ال ‪ ،‬ونشر الدعوة في الرض ‪ ،‬والجهاد في سبيل ال ‪.‬‬

‫وحين تبرأ ل إله إل ال في قلوب الناس مما أصابها من الفكر الرجائي ‪ ،‬خاصة فكر‬

‫المرجئة المحدثين الذي أفرغها من كل مقتضياتها على الطلق ‪..‬‬

‫حين يصبح مقتضاها في حياة الناطقين بها أن يعبدوا ال وحده بل شريك ‪ ،‬وأن يقيموا‬

‫حياتهم على شريعة ال ومنهجه ‪ ،‬وأن يجاهدوا في ال حق جهاده ‪..‬‬

‫يومئذ ستتغير حياتهم كلها ‪ ..‬وينفضون عنهم الهوان والذل ‪ ،‬والضياع والتيه ‪ ،‬والفقر‬

‫والجهل والمرض ‪ ،‬ويمكّن ال لهم مرة أخرى في الرض كما وعد ال سبحانه ‪ ..‬ل بعصا‬

‫سحرية ‪ ،‬ولكن بالجهد والعرق والدماء والدموع ‪ ..‬ولكنه لن يكون كالجهد الذي يبذلونه اليوم‬

‫في التيه ‪ ،‬والعرق الذي يبذلونه في الذل ‪ ،‬والدماء التي يبذلونها ضريبة لذلك الذل ‪ ،‬والدموع‬

‫التي يسكبونها حسرة على الضياع ‪..‬‬

‫إنما ستكون كلها في سبيل ال ‪ ..‬فيبارك ال بها في الحياة الدنيا ‪ ..‬ويجزي عليها في‬

‫حنِيفا ) [ سورة الروم ‪. ] 30 :‬‬


‫ج َهكَ لِلدّينِ َ‬
‫يقول تعالى ‪َ ( :‬فَأقِمْ َو ْ‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫الخرة بالجنة والرضوان ‪.‬‬
‫مَفهُوم العبَـادة‬

‫من أخطر النحرافات التي وقعت فيها الجيال المتأخرة من المسلمين ‪ -‬بعد انحرافهم‬

‫في فهم ل إله إل ال ‪ -‬انحرافهم في تصور مفهوم العبادة ‪.‬‬

‫وحين يعقد النسان مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق الذي كانت الجيال‬

‫الولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة ‪ ،‬والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الجيال‬

‫المعاصرة ‪ ،‬ل يستغرب كيف هوت هذه المة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي‬

‫تعيشه اليوم ‪ ،‬وكيف هبطت من مقام القيادة والريادة للبشرية كلها ‪ ،‬لتصبح ذلك الغثاء الذي‬

‫تتداعى عليه المم تنهشه من كل جانب ‪ ،‬كما تنهش الفريسةَ الذئابُ ‪ .‬ويعلم النسان في الوقت‬

‫ذاته الطريق الذي ينبغي أن تسلكه الصحوة السلمية وهي تجاهد لرفع هذا الغثاء من‬

‫خ ِرجَتْ لِلنّاسِ ) (‪. )1‬‬


‫خ ْيرَ ُأمّ ٍة ُأ ْ‬
‫حضيضه الذي يعيش فيه ‪ ،‬ليعود كما أراده ال أن يكون ‪َ ( :‬‬

‫كان المفهوم الصحيح للعبادة في حسن الجيال الولى أن عبادة ال هي غاية الوجود‬

‫ن ) (‪. )2‬‬
‫ن وَا ْلِأنْسَ إِلّا ِل َي ْع ُبدُو ِ‬
‫النساني كله ‪ ،‬كما فهموا من قوله تعالى ‪َ ( :‬ومَا خَلَ ْقتُ ا ْلجِ ّ‬

‫إن هذه الية الكريمة كانت تمثل في حسهم معنى هائل جدا ‪ ،‬وعميقا جدا ‪ ،‬وشامل لكل‬

‫حياة النسان ‪ .‬فالقرآن نازل بلغتهم ‪ ،‬وهم يفهمون إيحاءات تلك اللغة ‪ ،‬ويدركون أسرار‬

‫بلغتها ‪ .‬فيدركون من معنى الية أن غاية الوجود النساني كله محصورة في العبادة ل‬

‫تتعداها إلى شيء غيرها على الطلق ‪ .‬فالنفي والستثناء هما أقوى صور الحصر والقصر‬

‫في اللسان العربي ‪ .‬ومعناهما النفي البات من جهة والحصر الكامل من الجهة الخرى ‪ :‬نفي‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 110‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الذاريات [ ‪. ] 56‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫(‪)3‬‬
‫أي غاية للوجود البشري غير عبادة ال ‪ ،‬وحصر غاية هذا الوجود كله في عبادة ال !‬

‫وكانوا إلى جانب ذلك يحسون إحساسا صادقا بعظمة ال ‪ -‬جل جلله ‪ -‬فيحسون تبعا‬

‫لذلك بما ينبغي للعبد ‪ -‬في مقام عبوديته ‪ -‬تجاه ال ‪ -‬في مقام ألوهيته ‪ -‬من إخلص‬

‫العبودية له ‪ ،‬وإخلص العبادة ‪ ..‬سواء ‪.‬‬

‫ومن ثم لم ينحصر مفهوم العبادة في حسهم في نطاق الشعائر التعبدية وحدها ‪ ،‬كما‬

‫انحصر في حس الجيال المتأخرة التي جاءت بفهم للسلم غريب عن السلم ‪.‬‬

‫إن شعائر التعبد ل يمكن بداهة أن تكون هي كل " العبادة " المطلوبة من النسان ‪ .‬فما‬

‫دامت غاية الوجود النساني كما تنص الية الكريمة محصورة في عباة ال ‪ ،‬فأنّى يستطيع‬

‫النسان أن يوفي العبادة المطلوبة بالشعائر التعبدية فحسب ؟!‬

‫كم تستغرق الشعائر من اليوم والليلة ؟ وكم تستغرق من عمر النسان ؟‬

‫وبقية العمر ؟ وبقية الطاقة ؟ وبقية الوقت ؟ أين تنفق وأين تذهب ؟ تنفق في العبادة أم‬

‫في غير العبادة ؟ وإن كانت في غير العبادة فكيف تتحقق غاية الوجود النساني التي حصرتها‬

‫اليـة حصرا كامل في عبادة ال ؟ وكيف يجوز للنسان ‪ -‬من عند نفسه ‪ -‬أن يجعل‬

‫لوجوده ‪ -‬أو لجزء من وجوده ‪ -‬غاية لم يأذن بها ال ؟‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪ )(3‬يثير بعض الناس جدل ذهنيا ل طائل وراءه ‪ ،‬مفاده أن النسان خلق للبتلء ل للعبادة ‪ ،‬استنادا إلى قوله‬
‫حيَاةَ‬
‫ج َن ْبتَلِيهِ) [ سورة النسان ‪ ] 2 :‬وقوله تعالى ‪ ( :‬خَلَقَ ا ْلمَ ْوتَ وَالْ َ‬
‫ن نُطْفَةٍ َأمْشَا ٍ‬
‫ن مِ ْ‬
‫تعالى ‪ِ ( :‬إنّا خََل ْقنَا ا ْلِأنْسَا َ‬
‫ض زِينَةً َلهَا ِل َنبْلُوَهُمْ‬
‫علَى ا ْلأَرْ ِ‬
‫جعَ ْلنَا مَا َ‬
‫ل ) [ سورة الملك ‪ ] 2 :‬وقوله تعالى ‪ِ ( :‬إنّا َ‬
‫عمَ ً‬
‫ن َ‬
‫ِل َيبْلُ َوكُمْ َأّيكُمْ أَحْسَ ُ‬
‫ل ) [ سورة الكهف ‪ ] 7 :‬والقرآن ل يناقض بعضه بعضا إنما يفسر بعضه بعضا ويفصله ‪.‬‬
‫عمَ ً‬
‫حسَنُ َ‬
‫َأّيهُمْ أَ ْ‬
‫فل تناقض بين هذه اليات جميعا ‪ ،‬إذ أن البتلء الذي يتعرض له النسان في حياته الدنيا هو جعل ما على‬
‫الرض زينة لها ثم اختبار النسان في موقفه من هذه الزينة ‪ :‬هل يلتزم فيها بعبادة ال ‪ ،‬أي يقف في‬
‫استمتاعه بها عند ما أحل ال ‪ ،‬أم يعبد الشيطان فيتجاوز حدود ال ؟ ومن ثم تصبح عبادة ال هي المطلب ‪،‬‬
‫وهي غاية الوجود النساني ول شيء سواها ‪.‬‬
‫إن النسان ل يستطيع ‪ -‬مهما حاول ‪ -‬أن يقضي واجب العبادة المفروض عليه نحو‬

‫ال من خلل الشعائر التعبدية وحدها ‪ ،‬من صلة وصيام وزكاة وحج ‪..‬‬

‫ليس النسان مَلَكا ‪ ..‬ولن يكون ‪.‬‬

‫والملئكة ‪ -‬وحدهم فيما نعلم ‪ -‬هم ذلك الخلق النوراني الشفيف الذي يسبح الليل‬

‫ن الّليْلَ وَال ّنهَارَ‬


‫س ّبحُو َ‬
‫حسِرُونَ ُي َ‬
‫س َت ْ‬
‫عبَا َدتِهِ وَل َي ْ‬
‫س َت ْكبِرُونَ عَنْ ِ‬
‫ع ْندَ ُه ل َي ْ‬
‫والنهار ل يفتر ‪َ ( :‬ومَنْ ِ‬

‫وهم ‪ -‬وحدهم ‪ -‬الذين ل يعصون ال في أمر من المور ‪ ( :‬ل َيعْصُونَ اللّهَ‬ ‫(‪)1‬‬
‫ل يَ ْف ُترُونَ )‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ن)‬
‫ن مَا يُ ْؤ َمرُو َ‬
‫مَا َأ َمرَ ُهمْ َويَ ْفعَلُو َ‬

‫أما النسان ‪ ،‬ذلك الكائن المخلوق من قبضة من طين الرض ونفخة من روح ال ‪،‬‬

‫المشتمل ‪ -‬إلى جانب روحه الشفيفة ‪ -‬على جسد يكدح وينزع ‪ ،‬ويأكل ويشرب ‪ ،‬ويتعب‬

‫وينام ‪ ،‬وعقل يفكر في تدبير مطالب الحياة الحسية والمعنوية ‪ ،‬ويسرح بخواطره في شتى‬

‫المجالت ‪ ،‬فإنه ل يستطيع أن يعبد ال على طريقة الملئكة التي تسبح الليل والنهار ل تفتر ‪،‬‬

‫ول تنشغل عن التسبيح ‪..‬‬

‫ولو شاء ال أن يكلف النسان العبادة على طريقة الملئكة لمنحه طاقة الملئكة في‬

‫التسبيح الدائم بغير فتور ‪ ،‬ولركبه منذ البدء تركيبا آخر ‪ ،‬ل يفتر ول يكل ول يمل ‪ ،‬لن ال‬

‫من رحمته ل يكلف نفسا إل وسعها ‪ ،‬ويجعل العبادة المفروضة على كل كائن من خلقه‬

‫متناسبة مع طبيعة ذلك الكائن ‪ ،‬ومع حدود طاقاته ‪..‬‬

‫ل على طريقته‬
‫‪ ..‬وك ّ‬ ‫(‪)3‬‬
‫والكون كله ‪ -‬بما فيه من كائنات ‪ -‬عابد لربه بأمر ربه‬

‫الخاصة كما هيأه ال ‪:‬‬

‫‪ )(1‬سورة النبياء [ ‪. ] 20 - 19‬‬


‫سورة التحريم [ ‪. ] 6‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬فيما عدا العصاة من الجن والنس ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سبِيحَ ُهمْ )‬
‫ن ل َتفْ َقهُونَ َت ْ‬
‫ح ْمدِهِ وََلكِ ْ‬
‫سبّحُ ِب َ‬
‫شيْ ٍء إِلّا ُي َ‬
‫ن مِنْ َ‬
‫( وَإِ ْ‬

‫شمْسُ وَالْ َق َمرُ وَال ّنجُومُ‬


‫ن فِي ا ْلَأرْضِ وَال ّ‬
‫سمَاوَاتِ َومَ ْ‬
‫ن فِي ال ّ‬
‫جدُ َلهُ مَ ْ‬
‫سُ‬‫( أََلمْ َترَ َأنّ اللّهَ َي ْ‬
‫(‪)2‬‬
‫ن النّاسِ ‪) ..‬‬
‫ب َو َكثِيرٌ مِ َ‬
‫شجَرُ وَالدّوُا ّ‬
‫جبَالُ وَال ّ‬
‫وَا ْل ِ‬

‫ي ُدخَانٌ فَقَالَ َلهَا وَلِ ْلَأرْضِ ا ْئ ِتيَا طَوْعا َأوْ َكرْها قَاَلتَا َأ َت ْينَا‬
‫سمَاءِ وَ ِه َ‬
‫ستَوَى إِلَى ال ّ‬
‫( ُثمّ ا ْ‬

‫ن ) (‪. )3‬‬
‫طَا ِئعِي َ‬

‫ولكن ال ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬قد شاء أن يخلق النسان على نمط متفرد بين جميع‬

‫الكائنات ‪..‬‬

‫شيْءٍ خَلَ َقهُ َو َبدَأَ خَ ْلقَ ا ْلِأ ْنسَانِ‬


‫ل َ‬
‫حسَنَ كُ ّ‬
‫شهَادَ ِة ا ْل َعزِيزُ ال ّرحِيمُ اّلذِي َأ ْ‬
‫( ذَِلكَ عَاِلمُ ا ْل َغيْبِ وَال ّ‬

‫سمْعَ‬
‫جعَلَ َل ُكمُ ال ّ‬
‫سوّاهُ َونَ َفخَ فِي ِه مِنْ رُوحِهِ َو َ‬
‫ن سُللَةٍ ِمنْ مَا ٍء َمهِينٍ ُثمّ َ‬
‫جعَلَ َنسْلَ ُه مِ ْ‬
‫ن ُثمّ َ‬
‫ن طِي ٍ‬
‫مِ ْ‬

‫شكُرُونَ ) (‪. )4‬‬


‫وَا ْلَأ ْبصَارَ وَا ْلَأ ْفئِدَ َة قَلِيلً مَا َت ْ‬

‫فعدّد مواهبه ‪ ،‬وعلمه من العلم ما يناسب المهمة التي خلقه من أجلها ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫علٌ فِي ا ْلَأرْضِ خَلِي َفةً )‬
‫( وَِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ ِإنّي جَا ِ‬

‫سمَاءَ كُّلهَا ) (‪. )6‬‬


‫( وَعَّلمَ آ َدمَ ا ْلَأ ْ‬

‫وسخر له من الدوات ما يعينه على هذا المر ‪:‬‬

‫سورة السراء [ ‪. ] 44‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الحج [ ‪. ] 18‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة فصلت [ ‪. ] 11‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة السجدة [ ‪. ] 9 - 6‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 30‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 31‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫(‪)7‬‬
‫جمِيعا ِم ْنهُ )‬
‫ض َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫سخّرَ َل ُكمْ مَا فِي ال ّ‬
‫( َو َ‬

‫وهيأه من خلل ذلك كله لحمل المانة التي أشفقت من حملها السماوات والرض ‪:‬‬

‫حمِ ْل َنهَا وََأشْفَ ْقنَ ِم ْنهَا‬


‫جبَالِ َفَأ َبيْنَ َأنْ َي ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ وَا ْل ِ‬
‫ضنَا ا ْلَأمَانَةَ عَلَى ال ّ‬
‫عرَ ْ‬
‫( ِإنّا َ‬
‫(‪)2‬‬
‫حمََلهَا ا ْلِأ ْنسَانُ ‪) ..‬‬
‫َو َ‬

‫وهو في ذلك كله ‪ -‬ومن ذلك كله ‪ -‬في كبد دائم وفي كدح ‪:‬‬

‫(‪)3‬‬
‫( لَ َق ْد خَلَ ْقنَا ا ْلِأ ْنسَانَ فِي َك َبدٍ )‬

‫(‪)4‬‬
‫ن ِإ ّنكَ كَادِحٌ إِلَى َر ّبكَ َكدْحا َفمُلقِي ِه )‬
‫( يَا َأ ّيهَا ا ْلِأ ْنسَا ُ‬

‫ثم إن ال فرض عليه عبادة تناسب تكوينه وتناسب مهمته ‪ :‬تناسب طاقاته المتنوعة ‪،‬‬

‫والكبد الذي يعانيه ‪ ،‬والكدح الذي يلزمه ‪ ،‬وتناسب في الوقت ذاته مواهبه التي اختص بها‬

‫بين الكائنات ‪ ،‬ومجالت نشاطه الواسعة ‪ ،‬والمانة التي يحملها ‪ ..‬عبادة ل تعنته في شيء ‪،‬‬

‫ول تكلفه ما ل يطيق ‪ ،‬وتتسع في الوقت ذاته حتى تشمل وجوده كله وعمره كله من لحظة‬

‫التكليف إلى لحظة الموت ‪ ،‬ل تند عنها لحظة واحدة من لحظات الوعي ‪ ،‬ول لمحة ول خاطر‬

‫ول لون من ألوان النشاط ‪:‬‬

‫(‪)5‬‬
‫شرِيكَ لَ ُه ‪) ..‬‬
‫ب ا ْلعَاَلمِينَ ل َ‬
‫سكِي َو َمحْيَايَ َو َممَاتِي لِلّهِ رَ ّ‬
‫( قُلْ ِإنّ صَلتِي َو ُن ُ‬

‫تلك هي العبادة التي كلف بها النسان ‪ ،‬تشمل الصلة والنسك ‪ -‬أي الشعائر التعبدية ‪-‬‬

‫وتشمل معها كل الحياة ‪ ..‬وكذلك فهم الجيل الول ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪ -‬معنى العبادة ‪..‬‬

‫سورة الجاثية [ ‪. ] 13‬‬ ‫()‬


‫‪7‬‬
‫سورة الحزاب [ ‪. ] 72‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة البلد [ ‪. ] 4‬‬ ‫()‬

‫سورة النشقاق [ ‪. ] 6‬‬ ‫()‬


‫‪4‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 163 - 162‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫لم يحصروها قط في داخل الشعائر التعبدية ‪ ،‬بحيث تصبح اللحظات التي يقومون فيها‬

‫بأداء الشعائر التعبدية هي وحدها لحظات العبادة ‪ ،‬وتكون بقية حياتهم " خارج العبادة " !‬

‫إنما كان في حسهم أن حياتهم كلها عبادة ‪ ،‬وأن الشعائر إنما هي لحظات مركزة ‪،‬‬

‫يتزود النسان فيها بالطاقة الروحية التي تعينه على أداء بقية العبادة المطلوبة منه ‪ ،‬ولذلك‬

‫كانوا يحتفلون بها احتفال خاصا ‪ ،‬كما يحتفل المسافر بالزاد الذي يعينه على الطريق ‪،‬‬

‫وباللحظة التي يحصل فيها على الزاد ‪.‬‬

‫(‪)1‬‬
‫جنُو ِبهِمْ )‬
‫ن اللّهَ ِقيَاما َو ُقعُودا وَعَلَى ُ‬
‫كانوا كما وصفهم ربهم ‪َ ( :‬يذْ ُكرُو َ‬

‫أي في جميع أحوالهم ‪..‬‬

‫وكما في قلنا في أكثر من موضع في أكثر من كتاب ‪ ،‬لم يكن ذكرهم مجرد الذكر‬

‫باللسـان ‪ ،‬ول مجرد الذكر بالقلب ‪ ،‬إنما كان إلى جانب هذا وذاك عمل يؤدى بروح العبادة‬

‫ل‪.‬‬

‫فأما الذكر على طريقة الطقطقة بالمسابح فلم يؤثر عنهم ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪. -‬‬

‫وأما الذكر على طريقة الخلوة التعبدية التي يغيب فيها النسان عن الواقع المحسوس ‪،‬‬

‫وينقطع عن الدنيا من أجل أن يخلو إلى ربه ‪ ،‬فينقطع بذلك عن العمل في واقع الرض ‪..‬‬

‫فهذا أيضا لم يؤثر عن ذلك الجيل الفريد ‪..‬‬

‫ولما همّ بذلك قوم من المسلمين نهاهم رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فيما رواه‬

‫الشيخان ‪:‬‬

‫" ذهب ثلثة رهط إلى بيت من بيوت رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فسألوا عن‬

‫عبادته ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فلما أخبروا كأنهم تقالّوها ‪ .‬فقالوا ‪ :‬أين نحن من رسول ال‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 191‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم ‪ :‬أما أنا فأصوم‬

‫الدهر ول أفطر ‪ ،‬وقال الخر ‪ :‬أما أنا فأقوم الليل ول أنام ‪ .‬وقال الثالث ‪ :‬أما أنا فل أتزوج‬

‫النساء ‪ .‬فلما سمع رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قال ‪ :‬أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما‬

‫وال إني لخشاكم ل وأعبدكم له ولكني أصوم وأفطر ‪ ،‬وأقوم وأنام ‪ ،‬وأتزوج النساء ‪ ،‬فمن‬

‫رغب عن سنتي فليس مني " ‪.‬‬

‫إنما كانوا يقومون بالعبادة وهم يمارسون الحياة في شتى مجالتها ‪ ،‬وكانت عبادتهم‬

‫الكبرى هي العمل في شتى مجالت الحياة ‪ .‬كانوا يذكرون ال فيسألون أنفسهم ‪ :‬هل هم في‬

‫الموضع الذي يرضى ال عنه أم فيما يسخط ال ؟ فإن كانوا في موضع الرضى حمدوا ال ‪،‬‬

‫وإن كانوا على غير ذلك استغفروا ال وتابوا إليه ‪:‬‬

‫سهُمْ َذكَرُوا الّلهَ فَاسْ َت ْغفَرُوا لِذُنُو ِب ِهمْ َو َمنْ َيغْ ِفرُ‬
‫( وَاّلذِينَ ِإذَا فَعَلُوا فَاحِشَ ًة أَ ْو ظََلمُوا َأ ْن ُف َ‬

‫جنّاتٌ‬
‫جزَاؤُ ُهمْ َمغْ ِفرَةٌ ِمنْ َر ّب ِهمْ َو َ‬
‫ك َ‬
‫ن أُوَل ِئ َ‬
‫ب إِلّا اللّ ُه وََلمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُو َ‬
‫ال ّذنُو َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫ن فِيهَا َو ِنعْ َم َأجْ ُر ا ْلعَامِلِي َ‬
‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِي َ‬
‫ن َت ْ‬
‫َتجْرِي مِ ْ‬

‫وكانوا يذكرون ال فيسألون أنفسهم ‪ :‬ماذا يريد ال منا في هذه اللحظة ؟ أي ‪ :‬ما‬

‫سبِيلِ اللّهِ اّلذِينَ‬


‫التكليف المفروض علينا في هذه اللحظة ؟ فإذا كان التكليف ‪ ( :‬فَ ْليُقَاتِلْ فِي َ‬

‫حيَا َة ال ّد ْنيَا بِالْآخِرَ ِة ) (‪ )2‬كان ذكر ال مؤديا إلى القيام بالجهاد في سبيل ال ‪.‬‬
‫َيشْرُونَ ا ْل َ‬

‫كان ذكر ال مؤديا إلى القيام بهذا‬ ‫(‪)3‬‬


‫ن بِا ْل َمعْرُوفِ )‬
‫شرُوهُ ّ‬
‫وإذا كان التكليف ‪ ( :‬وَعَا ِ‬

‫الواجب الذي أمر به ال تجاه الزوجات ‪.‬‬

‫كان ذكر ال مؤديا إلى القيام بتربية‬ ‫(‪)4‬‬


‫س ُكمْ وَأَهْلِي ُكمْ نَارا )‬
‫وإذا كان التكليف ‪ ( :‬قُوا َأنْ ُف َ‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 136 - 135‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 74‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 19‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة التحريم [ ‪. ] 6‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫الهل والولد على النهج الرباني الذي يضبط سلوكهم بالضوابط الربانية ‪ ،‬ويوجه مشاعرهم‬

‫وأفكارهم وأعمالهم إلى ما يرضى ال ‪.‬‬

‫ن رِ ْزقِهِ وَإَِليْ ِه الّنشُورُ ) (‪ )1‬كان مقتضى‬


‫وإذا كان التكليف ‪ ( :‬فَا ْمشُوا فِي َمنَا ِكبِهَا َوكُلُوا مِ ْ‬

‫ذكر ال هو المشي في مناكب الرض وابتغاء رزق ال في حدود الحلل الذي أحله ال ‪ ،‬لنه‬

‫إليه النشور ‪ ،‬فيحاسب الناس على ما اجترحوا في الحياة الدنيا ‪.‬‬

‫كان مقتضى ذكر ال هو السعي إلى طلب‬ ‫(‪)2‬‬


‫وإذا كان التكليف " طلب العلم فريضة "‬

‫العلم من أجل عمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني ‪ ،‬سواء كان العلم هو العلم الشرعي‬

‫الذي يعرف به النسان الحلل والحرام ‪ ،‬والمباح والمندوب المكروه ‪ ،‬أو العلم بما في الكون‬

‫من طاقات ‪ ،‬لتحقيق التسخير الربانـي الذي سخر ال به ما في السماوات والرض للنسان ‪:‬‬

‫وهو تسخير ل يتم إل بجهد‬ ‫(‪)3‬‬


‫جمِيعا ِمنْ ُه )‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي ا ْلَأرْضِ َ‬
‫خرَ َل ُكمْ مَا فِي ال ّ‬
‫سّ‬‫( َو َ‬

‫علمي يبذله النسان في التعرف على خواص المادة ومدخرات الطاقة في الكون ‪ ،‬وجهد بدني‬

‫يبذله في تحويل الخامات والطاقات إلى عمران يحقق حاجات الناس في الرض ‪ ،‬كما يحقق‬

‫لهم فوق ذلك الجمال والزينة التي أباحها ال ‪.‬‬

‫وقد مرت بنا في الفصل السابق تلك اليات التي وصفهم فيها ربهم ‪ ،‬والدللة الواضحة‬

‫لتلك اليات ‪:‬‬

‫ختِلفِ الّليْلِ وَال ّنهَارِ لَآياتٍ ِلأُولِي ا ْلأَ ْلبَابِ اّلذِينَ‬


‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ وَا ْ‬
‫( ِإنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬

‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ َر ّبنَا مَا خَلَقْتَ‬


‫ن فِي خَ ْلقِ ال ّ‬
‫جنُو ِب ِهمْ َو َيتَ َف ّكرُو َ‬
‫َي ْذكُرُونَ اللّهَ ِقيَاما َو ُقعُودا وَعَلَى ُ‬

‫ن مِنْ‬
‫خزَ ْيتَهُ َومَا لِلظّالِمِي َ‬
‫ن ُت ْدخِلِ النّارَ فَ َقدْ َأ ْ‬
‫عذَابَ النّارِ َر ّبنَا ِإ ّنكَ مَ ْ‬
‫س ْبحَا َنكَ فَ ِقنَا َ‬
‫َهذَا بَاطِلً ُ‬

‫ن آ ِمنُوا ِبرَ ّب ُكمْ فَآمَنّا َر ّبنَا فَاغْ ِفرْ َلنَا ُذنُو َبنَا َوكَ ّفرْ‬
‫ن أَ ْ‬
‫س ِمعْنَا ُمنَادِيا ُينَادِي لِ ْلإِيمَا ِ‬
‫َأ ْنصَارٍ َر ّبنَا ِإ ّننَا َ‬

‫سورة الملك [ ‪. ] 15‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أخرجه ابن ماجه ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة الجاثية [ ‪. ] 13‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫ع ْد َتنَا عَلَى ُرسُِلكَ وَل ُتخْ ِزنَا َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة ِإ ّنكَ ل‬
‫س ّيئَا ِتنَا َوتَ َو ّفنَا مَ َع ا ْلَأبْرَارِ َر ّبنَا وَآ ِتنَا مَا َو َ‬
‫عنّا َ‬
‫َ‬

‫ض ُكمْ مِنْ‬
‫ن َذكَرٍ َأ ْو ُأ ْنثَى َب ْع ُ‬
‫عمَلَ عَامِلٍ ِم ْن ُكمْ مِ ْ‬
‫ستَجَابَ َل ُه ْم رَ ّب ُهمْ َأنّي ل ُأضِيعُ َ‬
‫ف ا ْلمِيعَادَ فَا ْ‬
‫ُتخْلِ ُ‬

‫ع ْن ُهمْ‬
‫سبِيلِي َوقَاتَلُوا َو ُقتِلُوا َلُأكَ ّفرَنّ َ‬
‫خ ِرجُوا ِمنْ ِديَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي َ‬
‫جرُوا وَُأ ْ‬
‫َبعْضٍ فَاّلذِينَ هَا َ‬

‫حسْنُ‬
‫ع ْندَ ُه ُ‬
‫ع ْندِ اللّهِ وَاللّهُ ِ‬
‫حتِهَا ا ْلَأ ْنهَارُ ثَوَابا ِمنْ ِ‬
‫ن َت ْ‬
‫جرِي مِ ْ‬
‫جنّاتٍ َت ْ‬
‫س ّيئَاتِهـمْ وََلُأ ْدخَِل ّنهُـمْ َ‬
‫َ‬

‫ب ) (‪. )1‬‬
‫الثّوَا ِ‬

‫ودللتها ‪ -‬كما أشرنا من قبل ‪ -‬أن ال سبحانه قد استجاب للتفكر والتدبر والدعاء‬

‫والضراعة حين تحول هذا كله إلى عمل في واقع الحياة ‪.‬‬

‫ومن مثل هذه التوجيهات المبثوثة في كتاب ال ‪ ،‬ومن تعليم الرسول ‪ -‬صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ -‬فهم المؤمنون من الجيل الول والجيال التالية له ‪ ،‬أن العبادة المطلوبة ل تنحصر في‬

‫الشعائر التعبدية ‪ ،‬وأنها أوسع من ذلك وأشمل ‪..‬‬

‫وفهموا أن الصلة والنسك ‪ -‬أي الشعائر ‪ -‬إنما هي المنطلق الذي ينطلق منه النسان‬

‫ليقوم ببقية العبادة ‪ ،‬التي تشمل الحياة كلها ‪ ،‬بل الموت كذلك !‬

‫والموت في حد ذاته ل يمكن أن يكون عبادة بطبيعة الحال لنه ل خيار للنسان فيه ‪،‬‬

‫ولكن المقصود في قوله تعالى ‪ " :‬ومحياي ومماتي ل رب العالمين ‪ ،‬ل شريك له " هو أن‬

‫يموت النسان غير مشرك بال ‪ ،‬وذلك هو الحد الدنى الذي يكون به النسان ‪ -‬في موته ‪-‬‬

‫عابدا ل ‪ .‬أما الحد العلى فهو أن يكون موته استشهادا في سبيل ال ‪ ..‬وتلك قمة العبادة ‪..‬‬

‫وبهذا النهج وحده ‪ ..‬أي بأداء تلك العبادة الشاملة المتكاملة ‪ ،‬التي تشمـل الحياة‬

‫والموت ‪ ،‬تتحقق غاية الوجود النساني ‪ ،‬ويكون النسان قد قام ‪ -‬قدر جهده ‪ -‬بالعبادة‬

‫المطلوبة تجاه ال ‪..‬‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 195 - 190‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫ولقد يبدو هذا المعنى غريبا في حس " المسلم المعاصر " ‪ ،‬أو معتسفا ‪ ،‬بعد إذا تعودنا‬

‫منذ أجيال أن ننظر إلى الشعائر التعبدية على أنها هي كل العبادة المطلوبة من المسلم ‪ ،‬وأنه‬

‫إذا أداها فقد أدى كل ما عليه من العبادة ‪ ،‬ولم يعد لحد أن يطالبه بالمزيد !‬

‫ولكن مرجعنا في تحديد المفاهيم السلمية ينبغي أن يكون هو الكتاب والسنة ‪،‬‬

‫والصورة التطبيقية الصحيحة للكتاب والسنة كما مارسها الجيل الول ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪-‬‬

‫الذين شهد لهم رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬بأنهم خير القرون قاطبة ‪:‬‬

‫(‪)1‬‬
‫" خيركم قرني ‪ ،‬ثم الذي يليه "‬

‫هذا هو المرجع ‪ ..‬وليس ما طرأ على المسلمين خلل مسيرتهم التاريخية الطويلة من‬

‫قصور أو انحراف ‪..‬‬

‫ووقوع القصور أو النحراف خلل تلك المسيرة الطويلة أمر قد ل يستغرب من البشر‬

‫من أبناء آدم ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫عزْما )‬
‫جدْ لَهُ َ‬
‫سيَ وََل ْم َن ِ‬
‫ن َقبْلُ َفنَ ِ‬
‫ع ِه ْدنَا إِلَى آ َدمَ مِ ْ‬
‫( وَلَ َقدْ َ‬

‫ولكن العجب ‪ -‬في الغربة التي يعيشها السلم اليوم ‪ -‬أن تتبدل بالصورة الصحيحة‬

‫صورة خاطئة ‪ ،‬ثم نصر على أنها هي الصورة الصحيحة ! ‪ ..‬فإذا جاء أحد يعرض علينا‬

‫الصورة الصحيحة كما هي في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح ‪ ،‬اتهمناه بالغلو ‪ ،‬وامتنعنا‬

‫عن التصحيح !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫جاء في الكتاب المنزل ‪ -‬كما بينا من قبل ‪ -‬أن ال قد خلق الجن والنس لغير شيء إل‬

‫أخرجه الشيخان ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة طه [ ‪. ] 115‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫ليعبدوه ‪:‬‬

‫(‪)1‬‬
‫ت ا ْلجِنّ وَا ْلِأنْسَ إِلّا ِل َي ْعبُدُونِ )‬
‫( َومَا خَلَقْ ُ‬

‫ثم إن ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فرض على الناس تكاليف ‪:‬‬

‫حسَانا َو ِبذِي الْ ُق ْربَى وَا ْل َيتَامَى وَا ْل َمسَاكِينِ‬


‫ن ِإ ْ‬
‫شيْئا َوبِالْوَاِل َديْ ِ‬
‫ع ُبدُوا اللّهَ وَل ُتشْ ِركُوا بِ ِه َ‬
‫( وَا ْ‬
‫(‪)2‬‬
‫ت َأ ْيمَانُ ُكمْ )‬
‫سبِيلِ َومَا مََلكَ ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫جنْبِ وَابْ ِ‬
‫جنُبِ وَالصّاحِبِ بِا ْل َ‬
‫وَا ْلجَارِ ذِي الْ ُق ْربَى وَا ْلجَارِ ا ْل ُ‬

‫ح ُكمُوا‬
‫ن النّاسِ َأنْ َت ْ‬
‫ح َكمْ ُتمْ َبيْ َ‬
‫وَِإذَا َ‬ ‫(‪)3‬‬
‫( ِإنّ اللّهَ َي ْأ ُم ُركُمْ َأنْ ُت َؤدّوا ا ْلَأمَانَاتِ إِلَى أَهِْلهَا‬

‫سمِيعا َبصِيرا يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا َأطِيعُوا اللّهَ‬


‫ن َ‬
‫ن اللّ َه كَا َ‬
‫ظ ُكمْ بِ ِه إِ ّ‬
‫ن اللّ َه ِن ِعمّا َيعِ ُ‬
‫ل إِ ّ‬
‫بِا ْلعَدْ ِ‬

‫شيْ ٍء فَ ُردّو ُه إِلَى اللّهِ وَال ّرسُولِ ِإنْ ُك ْن ُتمْ‬


‫ع ُتمْ فِي َ‬
‫وََأطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي ا ْلَأ ْمرِ ِم ْن ُكمْ َفإِنْ َتنَازَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫ن َتأْوِيلً )‬
‫حسَ ُ‬
‫خ ْيرٌ وََأ ْ‬
‫خرِ ذَِلكَ َ‬
‫تُ ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَا ْل َي ْومِ الْآ ِ‬

‫سبِيلِ اللّ ِه َفيُ ْقتَلْ‬


‫ن يُقَاتِلْ فِي َ‬
‫خرَةِ َومَ ْ‬
‫حيَا َة ال ّد ْنيَا بِالْآ ِ‬
‫ن ا ْل َ‬
‫شرُو َ‬
‫سبِيلِ اللّ ِه اّلذِينَ َي ْ‬
‫( فَ ْليُقَاتِلْ فِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫عظِيما )‬
‫أَ ْو َيغْلِبْ َفسَ ْوفَ نُ ْؤتِيهِ َأجْرا َ‬

‫عدُ ّو ُكمْ‬
‫ع ُدوّ اللّهِ وَ َ‬
‫ن بِهِ َ‬
‫خيْلِ ُترْ ِهبُو َ‬
‫ن قُوّةٍ َومِنْ ِربَاطِ ا ْل َ‬
‫طعْ ُتمْ مِ ْ‬
‫س َت َ‬
‫عدّوا َل ُهمْ مَا ا ْ‬
‫( وَأَ ِ‬

‫سبِيلِ اللّهِ ُي َوفّ إَِل ْي ُكمْ وََأ ْن ُتمْ‬


‫شيْ ٍء فِي َ‬
‫ن مِنْ دُو ِن ِهمْ ل َتعَْلمُو َن ُهمُ اللّ ُه َيعَْل ُم ُهمْ َومَا ُتنْ ِفقُوا مِنْ َ‬
‫خرِي َ‬
‫وَآ َ‬
‫(‪)6‬‬
‫ن)‬
‫ل ُتظَْلمُو َ‬

‫خيْرا‬
‫جعَلَ اللّهُ فِي ِه َ‬
‫شيْئا َو َي ْ‬
‫ن كَرِ ْه ُتمُو ُهنّ َف َعسَى َأنْ َت ْكرَهُوا َ‬
‫ن بِا ْلمَ ْعرُوفِ َفإِ ْ‬
‫شرُوهُ ّ‬
‫( وَعَا ِ‬

‫سورة الذاريات [ ‪. ] 56‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 36‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫وفي مقدمة المانات كلها القرار بالعبودية ل الواحد ‪ ،‬ويشمل هذا القرار العتقاد الجازم بوحدانية ال ‪،‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫وأداء الشعائر التعبدية له وحده بل شريك ‪ ،‬وتحكيم شريعته في كل أمر من المور ‪.‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 59 - 58‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 74‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫‪ 6‬سورة النفال [ ‪. ] 60‬‬ ‫()‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫َكثِيرا )‬

‫(‪)2‬‬
‫ن ِرزْقِهِ ‪) ..‬‬
‫ل فَا ْمشُوا فِي َمنَا ِك ِبهَا َوكُلُوا مِ ْ‬
‫ل َل ُكمُ ا ْلَأرْضَ ذَلُو ً‬
‫جعَ َ‬
‫( ُهوَ اّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫سرُوا ا ْلمِيزَا َ‬
‫سطِ وَل ُتخْ ِ‬
‫ن بِالْ ِق ْ‬
‫( وََأقِيمُوا الْ َوزْ َ‬

‫وعشرات غيرها من التكاليف السياسية والجتماعية والقتصادية والفكرية والروحية‬

‫والعتقادية والخلقية ‪..‬‬

‫كما فرض رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬تكاليف ‪:‬‬

‫(‪)4‬‬
‫" طلب العلم فريضة ‪" ..‬‬

‫" إن ال كتب الحسان على كل شيء ‪ .‬فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا‬
‫(‪)5‬‬
‫الذبحة ‪ ،‬وليحد أحدكم شفرته ‪ ،‬وليرح ذبيحته "‬

‫" اجتنبوا السبع الموبقات ‪ .‬قيل ‪ :‬يا رسول ال وما هن ؟ قال ‪ :‬الشرك بال ‪ ،‬والسحر ‪،‬‬

‫وقتل النفس التي حرم ال إل بالحق ‪ ،‬وأكل الربا ‪ ،‬وأكل مال اليتيم ‪ ،‬والتولي يوم الزحف ‪،‬‬
‫(‪)6‬‬
‫وقذف المحصنات الغافلت المؤمنات "‬

‫" إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ‪ ،‬وإذا شرب فليشرب بيمينه ‪ ،‬فإن الشيطان يأكل بشماله‬
‫(‪)7‬‬
‫ويشرب بشماله "‬

‫سورة النساء [ ‪. ] 19‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الملك [ ‪. ] 15‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة الرحمن [ ‪. ] 9‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫أخرجه ابن ماجه ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪7‬‬
‫(‪)1‬‬
‫سمّ ال ‪ ،‬وكل بيمينك ‪ ،‬وكل مما يليك "‬
‫" يا غلم ‪َ :‬‬

‫" أمرنا رسول ال بسبع ونهانا عن سبع ‪ .‬أمرنا بعيادة المريض ‪ ،‬واتباع الجنائز ‪،‬‬

‫وتشميت العاطس ‪ ،‬وإبرار القسم أو المقسم ‪ ،‬ونصر المظلوم ‪ ،‬وإجابة الداعـي ‪ ،‬وإفشاء‬

‫السلم ‪ ،‬ونهانا عن خواتيم أو تختم بالذهب ‪ ،‬وعن شرب بالفضة وعن المياثـر ‪ ،‬وعن‬
‫(‪)2‬‬
‫القسى ‪ ،‬وعن لبس الحرير والستبرق والديباج "‬

‫" ما من نبي بعثه ال في أمة قبلي إل كان له من أمته حواريون وأصحاب ‪ ،‬يأخذون‬

‫بسنته ويقتدون بأمره ‪ ،‬ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما ل يفعلون ‪ ،‬ويفعلون ما ل‬

‫يؤمرون ‪ .‬فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ‪ .‬ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ‪ .‬ومن جاهدهم بقلبه‬

‫فهو مؤمن ‪ .‬وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل " (‪. )3‬‬

‫وعشرات غيرها من التكاليف السياسية والجتماعية والقتصادية والفكرية والروحية‬

‫والعتقادية والخلقية ‪..‬‬

‫فما موضع ذلك كله من العبادة التي بيّن ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أنها هي وحدها الغاية‬

‫من خلق الجن والنس ؟‬

‫هل تقع تلك التكاليف كلها في داخل العبادة أم في خارجها ؟‬

‫وإذا كانت في خارجها فكيف يستقيم المعنى في الية الكريمة التي تحصر التكليف كله‬

‫في العبادة وحدها ‪ ،‬ول شيء سواها ؟‬

‫ل بد إذن ‪ -‬بداهة ‪ -‬أل تنحصر العبادة في الشعائر التعبدية وحدها كما ظنت الجيال‬

‫المتأخرة من المسلمين ‪ ،‬وأن يكون معنى العبادة هو المعنى الشامل الواسع الذي تحمله اليتان‬

‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الكريمتان ‪:‬‬

‫شرِيكَ لَهُ َو ِبذَِلكَ ُأ ِمرْتُ‬


‫نل َ‬
‫حيَايَ َو َممَاتِي لِلّهِ رَبّ ا ْلعَاَلمِي َ‬
‫سكِي َو َم ْ‬
‫( قُلْ ِإنّ صَلتِي َو ُن ُ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫ل ا ْل ُمسْلِمِي َ‬
‫وََأنَا َأوّ ُ‬

‫وواضح أن الخطاب في اليتين موجه لرسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬ولكنه‬

‫موجه للمة كلها من ورائه ‪ ،‬وأن الخصوصية لرسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬هي في‬

‫كونه أول المسلمين ‪ ،‬وليست في التكليف ذاته ‪ ،‬الذي هو تكليف لكل مسلم يشهد أنه ل إله إل‬

‫ال ‪ ،‬وأن محمدا رسول ال ‪.‬‬

‫وكذلك فهمت الجيال الولى معنى العبادة كما فرضها ال ‪..‬‬

‫كان إحساس المسلم في تلك الجيال بواجبه في الجهاد في سبيل ال كإحساسه بواجبه‬

‫في الصلة ‪ .‬هنا يعبد ال وهناك يعبد ال ‪ .‬ول تغني إحدى العبادتين عن الخرى ‪ ،‬لن كل‬

‫منهما ‪ -‬بمفردها ‪ -‬ل تحقق المعنى الكامل للعبادة التي يريدها ال ‪.‬‬

‫وكان إحساسه بضرورة الزواج لكي يحصن نفسه من الفاحشة ‪ ،‬ولكي يتخذ السبيل إلى‬

‫تكثير المة المسلمة التي تجاهد لقتلع الشرك من الرض ‪ ،‬ونشر التوحيد وإقامة شريعة ال‬

‫في ربوعها ‪ ،‬هو إحساس العبادة ‪ .‬ول يتناقض في حسه معنى العبادة مع الحساس بمتعة‬

‫الجسد ما دامت في حلل أباحـه ال ‪ .‬ولما قال لهـم رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪: -‬‬

‫" وفي بضع أحدكم صدقة " دهشوا بادئ المر ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬يا رسول ال إن أحدنا ليأتي زوجه‬

‫شهوة منه ثم يكون له عليها أجر ؟! فبين لهم الرسول المعلم ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ : -‬قال ‪:‬‬

‫" أرأيت لو وضعهـا في حرام أكان عليـه فيها وزر ؟ فإذ وضعهـا في حلل فله عليهـا‬

‫ومن ثم لم يعودوا بعد ذلك يدهشون ‪ .‬وعلموا أن نشاط الجسد الطبيعي هو في‬ ‫(‪)2‬‬
‫أجر "‬

‫سورة النعام [ ‪. ] 163 - 162‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫السلم عبادة ما دام يبتغي فيه وجه ال ‪ ،‬ويلتزم فيه بأوامر ال ‪.‬‬

‫كذلك كان إحساس المسلم بسعيه في طلب الرزق ‪ ،‬وطلبه للعلم ‪ ،‬وعمارته للرض ‪،‬‬

‫وكل نشاط جسده وعقله وروحه ‪ ..‬كلها عبادة ‪ .‬عبادة على الحقيقة ل على المجاز ‪ .‬عبادة‬

‫يقوم بها بذات الخلص الذي يؤدي به الصلة ‪.‬‬

‫ومن ثم حققت تلك المة ما حققته من منجـزات في كل اتجاه ‪ ،‬وما حققته من‬

‫معجزات ‪..‬‬

‫وما كانت تلك المة لتقدر على دك حصون الشرك واقتلعها بمثل هذه السهولة ‪،‬‬

‫وبمثل هذه السرعة التي ل مثيل لها في التاريخ ‪.‬‬

‫وما كانت لتقدر على إبراز تلك المثل الرفيعة التي أبرزتها في عالم الواقع ‪ ،‬من إقامة‬

‫العدل الرباني في الرض ‪ ،‬ونظافة التعامل ‪ ،‬والوفاء بالمواثيق ‪ ،‬وشجاعة النفس ‪ ،‬والبطولة‬

‫الفذة في ميدان القتال وميدان السلم سواء ‪..‬‬

‫وما كانت لتقدر على إنشاء حركتها العلمية الضخمة ‪ ،‬ول حركتها الحضارية الفائقة ‪..‬‬

‫ما كانت لتقدر على ذلك كله ‪ ،‬ول على شيء منه ‪ ،‬لول هذا الحساس العميق لديها‬

‫بأنها في ذلك كله تقوم بالعبادة التي خلق ال النسان من أجلها ‪ ،‬وتقوم به بذات الحس التي‬

‫تؤدي به الصلة ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫على أي صورة إذن ينبغي أن يعبد المسلم ربه ليحقق غاية وجوده التي خلقه ال من‬

‫أجلها ‪ ،‬وحصر فيها غاية وجوده ؟‬

‫يعبده بادئ ذي بدء بتوحيده جل وعل ‪..‬‬


‫أي بالقرار بأنه ل إله إل هو ‪ -‬سبحانه ‪ -‬المتفرد بالربوبية واللوهية ‪ ،‬المتفرد في‬

‫أسمائه وصفاته وأفعاله ‪:‬‬

‫( فَاعَْلمْ َأنّ ُه ل إَِل َه إِلّا اللّ ُه ) (‪. )1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫شيْئا )‬
‫ع ُبدُوا اللّهَ وَل ُتشْ ِركُوا بِ ِه َ‬
‫( وَا ْ‬

‫وهذه العبادة الولى ‪ -‬كما أسلفنا في الفصـل السابق ‪ -‬لها مقتضياتها التي ل تتم إل‬

‫بها ‪ ،‬وليست مجرد كلمة تنطق باللسان وينتهي المر و " تسدد الخانة " ‪ ،‬كما زعم الفكر‬

‫الرجائي للناس بغير سند من كتاب ال ول سنة رسوله صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫ومقتضياتها ‪ -‬كما مر بنا من قبـل ‪ -‬هي السلم كله ! مع اختلف في درجة "‬

‫اللزام " ‪ ..‬فمن مقتضياتها ما يتعلق بأصل اليمان ‪ -‬كالعتقاد بوحدانية ال بل شريك ‪،‬‬

‫والتوجه بالشعائر التعبدية إليه وحده بل شريك ‪ ،‬وتحكيم شريعته وحدها بل شريك ‪ -‬فهذا ل‬

‫يكون العبد مؤمنا إل به ‪ ،‬ومنها ما يتعلق بكمال اليمان ‪ -‬وهو أخلقيات ل إله إل ال ‪،‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫وبقية التكاليف التي فرضها ال ‪ -‬فل يكون العبد كامل اليمان إل به‬

‫ثم تأتي الشعائر التعبدية في موضعها بعد القرار بل إله إل ال ‪ ،‬الذي يعني ‪ -‬كما‬

‫أسلفنا القول ‪ -‬القرار بكل ما جاء من عند ال واللتزام به ‪..‬‬

‫وقد احتفى السلم حفاوة ظاهرة بالشعائر التعبدية لحكمة ظاهرة ‪ ،‬فهي التي تربط‬

‫القلب ربطا دائما ومتجددا بال ‪ ،‬وهي ‪ -‬كما بينا ‪ -‬محطات التزود التي يتزود فيها النسان‬

‫بالزاد الذي يعينه على بقية الطريق ‪.‬‬

‫وقد أحس المسلمون ‪ -‬دائما ‪ -‬بالهمية الخاصة التي أولها السلم لهذه الشعائر ‪،‬‬

‫سورة محمد [ ‪. ] 19‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 36‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫راجع الفصل السابق ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫فاحتفلوا بها وركزوا عليها ‪ .‬ولكن الجيال المتأخرة وقعت بشأن هذا التركيز في مجموعة من‬

‫أخطاء التصور وأخطاء السلوك ‪.‬‬

‫وكان الخطأ الول ‪ -‬والخطر ‪ -‬هو حصر العبادة المطلوبة كلها في الشعائر التعبدية ‪.‬‬

‫وقد ترتب على هذا التصور الخاطئ إخراج ل إله إل ال بكل مقتضياتها العتقادية‬

‫والسلوكية من دائرة العبادة ‪ ،‬فأصبحت العبادة تبدأ في ‪ -‬حس الناس ‪ -‬بالصلة ‪ ،‬ول تبدأ بل‬

‫إله إل ال !‬

‫ولقد كان مبدأ التفرقة في أول المر قضية " اصطلح " ‪ .‬فل إله إل ال " عقيدة " ‪،‬‬

‫والشعائر " عبادات " ومع خطورة هذه التفرقة الصطلحية في ذاتها ‪ -‬كخطورة التفرقة‬

‫الصطلحية بين " العبادات " و " المعاملت " ‪ )1( -‬فإن الخطر كان محدود الثر في بادئ‬

‫المر حين كانت " العقيدة " تؤخذ بمعناها الحقيقي الذي نزلت به من عند ال ‪ ،‬وفهمه السلف‬

‫الصالح ‪ ،‬وهو توحيد الربوبية وتوحيد اللوهية وتوحيد السماء والصفات ‪ ،‬وما يقتضيه ذلك‬

‫في حياة النسان اعتقادا وفكرا وسلوكا ‪ ..‬فأما حين عمل الفكر الرجائي على اختزال عقيدة‬

‫التوحيد ‪ ،‬وإفراغها من مضمونها الحيّ كلـه ‪ ،‬وحصرها في مجرد التصديق للنجاة في‬

‫الخرة ‪ ،‬والقرار اللفظي للنجاة في الدنيا ‪ ..‬فقد تقلص جانب ضخم من " العبادة " الحقيقية‬

‫التي افترضها ال على العباد ‪ ،‬وأصبح الباقي منها ‪ -‬حتى لو ُأ ّديَ على أكمل صورة ‪-‬‬

‫قاصرا على أن يوفي المعنى الحقيقي للعبادة التي خلق ال الخلق من أجلها ‪ ،‬وقال عنها‬

‫سبحانه ‪:‬‬

‫‪ )(1‬فرق علماء السلم تفريقا اصطلحيا بين " العقيدة " و " العبادات " و " المعاملت " لمقتضيات " علمية "‬
‫ي منها ‪ ،‬وأن أي واحدة منها‬
‫تخصصية ‪ ،‬ولكن كان في حسهم أن " الدين " يشملها كلها ‪ ،‬ول يقتصر على أ ّ‬
‫‪ -‬بمفردها ‪ -‬ل تمثل الدين سواء في شموله وتكامله ‪ ،‬أو في كونه مفروضا على الناس لللتزام والتنفيذ ‪..‬‬
‫ولكن حيـن حدث التخلخل خلل المسيرة التاريخية أثرت هذه التفرقة الصطلحية تأثيرا سيئا في مفاهيم‬
‫الناس ‪ ،‬حين اقتصر مفهوم " العبادة " على أداء الشعائر التعبدية فحسب ‪ ،‬وخرجت منها العقيدة والمعاملت ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ت ا ْلجِنّ وَا ْلِأنْسَ إِلّا ِل َي ْعبُدُونِ )‬
‫( َومَا خَلَقْ ُ‬

‫وقد يبدو لول وهلة أن المر ليس بهذه الخطورة ! وأن المسلمين ‪ -‬وإن اصطلحوا‬

‫على أن مفهوم العبادة هو أداء الشعائر ‪ -‬ل يمكن أن يكونوا في دخيلة أنفسهم قد أغفلوا ركن‬

‫السلم الول وهو القرار بالشهادتين !‬

‫ولكن الحقيقة الواقعة في حياة " المسلم المعاصر " تؤكد خطورة المر ‪..‬‬

‫فحين يوجد إدراك صحيح للعبادة ‪ ،‬وأنها تبدأ بالقرار بالعبودية ل وحده دون شريك ‪،‬‬

‫قبـل الصلة والصيـام والزكاة والحـج ‪ ،‬ل يمكـن أن توجد الظاهرة القائمة اليوم في حياة‬

‫" المسلم المعاصر " وهي وجود مليين من البشر يعتقدون أن النسان إذا أدى الشعائر التعبدية‬

‫فهو مؤمن كامل اليمان ‪ ،‬ولو تحاكم راضيا إلى شريعة غير شريعة ال ‪ ،‬وأن قضية التحاكم‬

‫منفصلة تماما عن العبادة كما هي منفصلة تماما عن اليمان ‪ ..‬لن رسول ال ‪ -‬صلى ال‬

‫عليه وسلم ‪ -‬قال " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له باليمان (‪ ! )2‬فذكر في الحديث‬

‫اعتياد المساجد ولم يذكر التحاكم إلى شريعة ال !!‬

‫وأقوال رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬الثابتة حق كلها ‪ ..‬ولكن الجتزاء بحديث‬

‫معيـن من أحاديث اليمان منقطعا عن بقية الحاديث التي تحدد حقيقة اليمان أو تحدد‬

‫نواقضه ‪ ،‬ل يمكن أن يؤدي إلى إدراك صحيح ‪ ..‬وإل فهل يعقل بداهة أن يطلب رسول ال‬

‫‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬الشهادة لرجل باليمان ( إن صح الحديث ) لمجرد أنه يعتاد‬

‫المساجد ‪ ،‬إذا كان الرجل واقعا في شرك صريح ينقض ل إله إل ال من أساسها ‪ ،‬وينقض‬

‫أصل اليمان ؟! أليس القرار بل إله إل ال ‪ -‬ومن مقتضياتها التحاكم إلى شريعة ال ‪-‬‬

‫شرطا لزما لليمان قبل اعتياد المساجد وإقامة الصلة وإن لم يذكر ذلك في الحديث النف‬

‫سورة الذاريات [ ‪. ] 56‬‬ ‫()‬


‫‪2‬‬
‫أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والدارمي ‪ .‬قال اللباني ‪ :‬إن سنده ضعيف وكل طرقه كذلك ‪ .‬انظر‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫كتابه " ضعيف الجامع الصغير " ‪. 184 / 1‬‬
‫الذكر ‪ ،‬لنه من المعلوم من الدين بالضرورة ‪ ،‬الذي بينته أحاديث أخرى للرسول ‪ -‬صلى ال‬

‫عليه وسلم ‪ -‬كما بينته اليات المحكمات من كتاب ال ؟‬

‫ولقد كان المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬يقيمون الصلة ويعتادون‬

‫المساجد ‪ ،‬ومع ذلك لم يشهد لهم أحد باليمان ! بل قوتلوا وحوربوا لنهم أعرضوا عن حكم‬

‫واحد من أحكام ال ‪ ،‬مع إقرارهم ‪ -‬وتنفيذهم ‪ -‬لبقية الحكام ‪ ..‬فكيف بمن يعرضون عن‬

‫حكم ال كله ‪ ،‬ويُ ْقبِلُون راضين على حكم غير حكم ال ؟!‬

‫والناس اليوم قد يجهلون أن التحاكم إلى غير شريعة ال عن رضا وإرادة هو ارتداد عن‬

‫السلم ينقض أصل اليمان ‪ .‬وما نريد أن ندخل في قضية الحكم على هذا الجيل من الناس ‪،‬‬

‫وهل هم معذورون بجهلهم أم غير معذورين ‪ ،‬فتلك قضية ل نخوض فيها أصل للسباب التي‬

‫بيناها في غير هذا الكتاب (‪. )1‬‬

‫ولكنا الن في معرض البيان ‪..‬‬

‫إن إخراج ل إله إل ال ‪ -‬ومقتضياتها ‪ -‬من دائرة العبادة ‪ ،‬وتوهم أن العبادة تبدأ‬

‫بالشعائر ‪ ،‬وتنحصر في الشعائر ‪ ،‬قد أحدث اختللت ضخمة في حياة المسلم المعاصر ل‬

‫يستقيم معها إسلم ‪ .‬ول بد من تصحيحها في التصور وفي السلوك معا لتصحيح حياة‬

‫المسلمين ‪ ،‬وإخراج الناس من الوهدة التي سقطوا فيها ‪ ،‬وأصبحوا ‪ -‬بسبب سقوطهم هذا ‪-‬‬

‫غثاء كغثاء السيل ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وكان من بين ما خرج من مفهوم العبادة حين انحصرت في الشعائر التعبدية " العمل "‬

‫بجميع أنواعه ‪ ،‬بدءا بالعمل السياسي المتمثل في رقابة المة على الحاكم ‪ ،‬وتقديم النصح له ‪،‬‬

‫اقرأ إن شئت " قضية الحكم على الناس " ص ‪ 454 - 439‬من كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ليستقيم على أمر ال وشريعته ‪ ،‬ويطبق العدل الرباني كما‬

‫ن ال بها على عباده ‪:‬‬


‫أمره ال ‪ ،‬فيتمتع المجتمع بنعمة السلم التي م ّ‬

‫(‪)1‬‬
‫ت َل ُكمُ ا ْلِأسْلمَ دِينا )‬
‫( ا ْليَ ْو َم َأ ْكمَلْتُ َل ُكمْ دِي َن ُكمْ وََأ ْت َممْتُ عََل ْي ُكمْ ِن ْع َمتِي َورَضِي ُ‬

‫يقول تعالى جل شأنه ‪:‬‬

‫ع ُتمْ فِي‬
‫ن َتنَازَ ْ‬
‫ن آ َمنُوا َأطِيعُوا اللّهَ وََأطِيعُوا ال ّرسُولَ وَأُولِي ا ْلَأ ْمرِ ِم ْنكُمْ َفإِ ْ‬
‫( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬

‫حسَنُ‬
‫خيْـرٌ وََأ ْ‬
‫ن بِالّل ِه وَالْ َيوْ ِم الْآخِرِ ذَِلكَ َ‬
‫ل إِنْ كُنْتُـمْ ُت ْؤمِنُـو َ‬
‫شيْءٍ فَ ُردّوهُ إِلَى اللّهِ وَال ّرسُو ِ‬
‫َ‬
‫(‪)2‬‬
‫َتأْوِيلً )‬

‫ويقول صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫" ما من نبي بعثه ال في أمة قبلي إل كان له من أمته حواريون وأصحاب ‪ ،‬يأخذون‬

‫بسنته ويقتدون بأمره ‪ .‬ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما ل يفعلون ‪ ،‬ويفعلون ما ل‬

‫يؤمرون ‪ .‬فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ‪ ،‬ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ‪ ،‬ومن جاهدهم بقلبه‬
‫(‪)3‬‬
‫فهو مؤمن ‪ .‬وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل "‬

‫فتحدد الية الكريمة مصدر السلطة في المجتمع المسلم ‪ :‬ال ورسوله ‪ .‬وتأمر بطاعة‬

‫ال وطاعة الرسول طاعة مطلقة في كل أمر أو نهي جاء في كتاب ال أو في سنة رسوله ‪-‬‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ . -‬ثم تأمر الية بطاعة أولي المر ل قائمة بذاتها ‪ ،‬ول مطلقة كطاعة‬

‫ال ورسوله ‪ ،‬ولكن معطوفة على طاعة ال والرسول ‪ ،‬أي فيما أمروا به غير مخالف لما‬

‫جاء من عند ال والرسول ‪ ،‬إذ أنه ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق ‪ " :‬إنما الطاعة في‬
‫(‪)4‬‬
‫المعروف "‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 3‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 59‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫أخرجه الشيخان ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫ثم تبين الية المرجع الذي يرجـع إليه المسلمون في أي نزاع يعرض لهم ‪ :‬ال‬

‫والرسول ‪ .‬ول أحد غير هذا المرجع ‪ .‬كما تربط الية هذا المر ‪ ،‬وهو الرجوع إلى ال‬

‫والرسول في أي نزاع يعرض ‪ ،‬باليمان بال واليوم الخر ‪ ،‬أي بالعقيدة مباشرة ‪ .‬وهكذا‬

‫تصبح القضية السياسية الكبرى وهي تحديد مصدر السلطة ‪ ،‬والمرجع الذي يرجع إليه في‬

‫حالة النزاع ‪ ،‬قضية عقيدية مرتبطة بالصل الذي تقوم عليه العقيدة كلها ‪ ،‬وهو ‪ :‬ل إله إل‬

‫ال ‪ ،‬محمد رسول ال ‪.‬‬

‫أما الحديث الذي أوردناه فيحدد سلوك المة حين تقع مخالفة لحكم ال ‪ ،‬فيقرر أن تلك‬

‫المخالفة تستوجب المجاهدة باليد أو باللسان أو بالقلب لرد المور إلى الصل الذي تردّ إليه‬

‫المور كلها ‪ ،‬وهو ما جاء من عند ال ومن عند رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ . -‬ويربط‬

‫هذا السلوك ربطا مباشرا بقضية اليمان ‪ ،‬وذلك بنفي اليمان نفيا باتا عمن يرى المخالفة ول‬

‫يقوم بمجاهدتها بدرجة من الدرجات الثلث وأدناها الكراهية بالقلب ‪ ،‬إذ يقول ‪ -‬عليه الصلة‬

‫والسلم ‪ " : -‬وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل " ‪.‬‬

‫وهكذا يصبح " العمل السياسي " جزءا من العقيدة وجزءا من العبادة ‪ ،‬ل خارج هذه‬

‫الدائرة ول تلك ‪ .‬وهكذا فهمت المة وهي تراجع عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬فيقول له واحد من‬

‫رعيتـه ‪ :‬ل سمع لك اليوم علينا ول طاعة حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت‬

‫به ! وتقول له امرأة من رعيته حين أمر بعدم المغالة في المهور ‪ :‬لقد حجرت واسعا ! ال‬

‫يقول ‪ " :‬وآتيتم إحداهن قنطارا " وأنت تضيق على الناس ؟! فيقول ‪ :‬أخطأ عمر وأصابت‬

‫امرأة !‬

‫ولكن الستبداد السياسي الذي بدأه المويون في حياة المة السلمية منذ وقت مبكر ‪،‬‬

‫مضافا إليه التفلت التدريجي من التكاليف ‪ ،‬والصوفية التي أنشأتها ظروف معينة في حياة‬

‫المة ‪ ،‬والفكر الرجائي الذي حصر اليمان ‪ -‬الذي يدخل به الناس الجنة ‪ -‬في التصديق‬

‫والقرار ‪ ..‬كل هذه العوامل مجتمعة حصرت العبادة في حس الناس في الشعائر التعبدية‬
‫فحسب ‪ ،‬وأصبح السلم في حس الناس أقرب إلى أن يكون ممارسة فردية يقوم بها كل‬

‫إنسان بمفرده ‪ ،‬حين بعد الناس عن ممارسة " العمل السياسي " السلمي ‪ ،‬وهو أبرز ما تقوم‬

‫به الجماعة المسلمة من المور ‪ ،‬وهو الذي استحقت من أجله وصف ال لها بأنها خير أمة‬

‫أخرجت للناس ‪.‬‬

‫خ ِرجَـتْ لِلنّاسِ تَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ َوُت ْؤ ِمنُونَ‬
‫خيْرَ ُأمّةٍ ُأ ْ‬
‫( ُكنْتـ ْم َ‬
‫(‪)1‬‬
‫بِاللّهِ )‬

‫وحين خرج العمل السياسي من دائرة العبادة تخلخلت أول عروة من عرى السلم ‪-‬‬

‫عروة الحكم ‪ -‬وإن كانت لم تنقض تماما في مبدأ المر ‪ ،‬فقد بقي الناس في المجتمع‬

‫السلمي يتحاكمون إلى شريعة ال ‪ ،‬ل يرون غيرها شريعـة واجبة الطاعة ول واجبة‬

‫التنفيذ ‪ .‬ولكن صحب تحكيم شريعة ال جور من الحكام ومظالم تجعل التطبيق غير كامل كما‬

‫أوجبه ال ونفذه السلف الصالح ‪ ..‬ومرت قرون من هذا التحكيم المصحوب بالجور والظلم‬

‫حتى نقضت تلك العروة تماما في العصر الحديث حين نحيت شريعة ال عن الحكم أصل‬

‫واستبدلت بها شرائع البشر ‪ ،‬فكانت أول عرى السلم نقضا كما قال الصادق الصدوق ‪-‬‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ " : -‬لتنقضن عرى هذا الدين عروة عروة ‪ ،‬فأولها نقضا الحكم ‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وآخرها نقضا الصلة "‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ومع وجود العوامل التي أشرنا إليها ‪ ،‬والتي أخرجت العمل السياسي من دائرة العبادة ‪،‬‬

‫لم يكن من المتوقع أن يقف النحسار في مفهوم العقيدة ومفهوم العبادة عند هذا الحد ‪ .‬إنما‬

‫كان المتوقع أن يسري النحسار تدريجيا إلى بقية أنواع العمل ‪ ،‬فأُخرجت تدريجيا من دائرة‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 110‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أخرجه أحمد ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫اليمان ودائرة العبادة ‪ ،‬ل بمعنى أن الناس لم يعودوا يعملون ‪ ،‬فالنسان ل يمكن أن يكف عن‬

‫العمل في الحياة الدنيا ‪ ،‬وقد خلقه ال للكدح الدائم فيها ‪:‬‬

‫(‪)1‬‬
‫ن ِإ ّنكَ كَادِحٌ إِلَى َر ّبكَ َكدْحا َفمُلقِي ِه )‬
‫( يَا َأ ّيهَا ا ْلِأ ْنسَا ُ‬

‫إنما بمعنى أن العمل في الحياة الدنيا انفصل في حس الناس عن دائرة اليمان حين‬

‫انحصرت هذه في التصديق والقرار ‪ ،‬وعن دائرة العبادة حين انحصرت هذه في الشعائر ‪..‬‬

‫فصار للعمل ركيزة أخرى غير العبادة ‪ ،‬لتكن هي الكسب ‪ ،‬أو هي القتناء والملك ‪ ،‬أو هي‬

‫الغلبـة والسيطرة ‪ ،‬أو هي المتـاع الحسي أو المتـاع المعنوي ‪ ..‬أو أي دافع من الدوافـع‬

‫" الذاتية " التي تدفع النسان للنتاج والعمل غير مرتبطة باليمان بال أو التعبد إليه ‪ ..‬وصار‬

‫في حس النسان أنه حين " يعبد " ينقطع عن العمل ‪ ،‬وحين " يعمل " ينقطع عن العبادة ‪،‬‬

‫وصارت له ساعتان منفصلتان تماما ل يربط بينهما رابط ‪ :‬ساعة العمل وساعة العبادة ‪،‬‬

‫فضل عن ساعة ثالثة خارج العمل والعبادة جميعا ‪ ،‬هي ساعة اللهو أو الترويح ‪ -‬بريئا أو‬

‫غير بريء ! ‪ -‬فصارت كل واحدة من هذه الدوائر الثلث منفصلة عن الخرى ‪ " ،‬مقفلة "‬

‫على ما فيهـا ‪ ،‬ولم يعد النسان يصل إلى أي واحدة منها إل بالخروج من الدائرتين‬

‫الخريين !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫لم يكن الجيل الول الذي رباه رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬يفهم المر على هذا‬

‫النحو الشائه الذي انحرفت إليه الجيال المتأخرة ‪ .‬إنما كان ‪ -‬كما قدمنا ‪ -‬يفهم الحياة كلها‬

‫على أنها عبادة ‪ ،‬تشمل الصلة والنسك وتشمل العمل كله ‪ ،‬وتشمل لحظة الترويح كذلك ‪ .‬فل‬

‫شيء في حياة النسان كلها خارج من دائرة العبادة التي تنحصر فيها غاية الوجود النساني‬

‫سورة النشقاق [ ‪. ] 6‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫على هذه الرض ‪ .‬وإنما هي ساعة بعد ساعة في أنواع مختلفة من العبادة ‪ ،‬كلها عبادة وإن‬

‫اختلفت أنواعها ومجالتها ونطاقاتها ‪.‬‬

‫الصلة والنسك عبادة ‪.‬‬

‫والكدح عبادة ‪ ،‬سواء كان كدحا سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو فكريا أو علميا ‪..‬‬

‫الخ ‪.‬‬

‫والترويح عن القلوب لكي ل تكل ول تمل عبادة ‪.‬‬

‫فأما الصلة والنسك فأمر العبادة فيها واضح ل يحتاج إلى بيان ‪.‬‬

‫وأما الكدح فقد كان المر فيه واضحا تماما للجيل الذي رباه رسول ال ‪ -‬صلى ال‬

‫عليه وسلم ‪ -‬على عينه ‪ .‬الذين كانوا يذكرون ال قياما وقعودا وعلى جنوبهم ‪ ،‬على النحو‬

‫الذي أشرنا إليه من قبل ‪.‬‬

‫كان الكدح ‪ -‬وهو العمل في واقع الحياة ‪ -‬هو العبادة الدائمة التي يقوم بها المسلم ‪،‬‬

‫والتي يتزود ‪ -‬من أجل القيام بها ‪ -‬بذلك الزاد الروحي العميق الذي تمنحه إياه الشعائر‬

‫التعبدية ‪ ،‬حين يقوم بها على صورتها الحقة ‪ ،‬من الخلوص إلى ال ‪ ،‬والتجرد إليه ‪،‬‬

‫والخشوع والخشية والخبات ‪.‬‬

‫وكانت العبادة في ذلك الكدح تتمثل في أمرين رئيسيين ‪:‬‬

‫التوجه به إلى ال ‪ ،‬واللتزام فيه بما أنزل ال ‪ ،‬ومن ثم يتحول لتوه إلى عبادة يتقرب‬

‫بها إلى ال ‪ ،‬ويستحق عليها الثواب من عند ال ‪.‬‬


‫وأما الترويح فقد كانوا يرون أن رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬يداعب أزواجه‬

‫ويدخل السرور على أهله ‪ ،‬ويتبسط مع أصحابه ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪ -‬ويصحبهم إلى جلسة‬

‫في بستان أو رياضة إلى خارج المدينة ‪ ،‬وتقام بين يديه مباريات في الفروسية ‪ ..‬وكان‬

‫يدعوهم ويوجههم إلى ما يجلو الكلل والملل عن قلوبهم في غير مأثم ول استغراق يطغى على‬

‫الواجبات ‪ ،‬فكانوا يستشعرون أن الترويح على هذه الصورة ‪ -‬حين تسمح به ظروفهم‬

‫المكتظة بالعباء ‪ -‬منشّط للعبادة ومعين عليها ‪ ،‬ومن ثم فهو داخل في إطارها ‪..‬‬

‫وهكذا يقضون الحياة كلها في عبادة ‪ ..‬عبادة تشمل نشاط الروح كله ‪ ،‬ونشاط العقـل‬

‫كله ‪ ،‬ونشاط الجسد كله ‪ ،‬ما دام هذا كله ُمتَوجّها به إلى ال ‪ ،‬ومل َتزَما فيه بما أنزل ال ‪..‬‬

‫وهي في الوقت ذاته عبادة ل تعنت النسان ول تكلفه ما ل طاقة له به ‪ ،‬لنها تأخذ نشاطه‬

‫الطبيعي ‪ ،‬الذي يمكن أن يصدر عنه بحكم تكوينه ذاته ‪ ،‬فتحوله إلى عبادة بتلك اللمسة‬

‫البسيطة العميقة في ذات الوقت ‪ ،‬التي توجهه إلى ال ‪ ،‬وتبتغي به مرضاة ال ‪.‬‬

‫وهذا هو المفهوم الصحيح للعبادة كما أنزله ال ‪ ..‬المفهوم الشامل الواسع العميق ‪:‬‬

‫(‪)1‬‬
‫شرِيكَ لَهُ ‪) ..‬‬
‫نل َ‬
‫حيَايَ َو َممَاتِي لِلّهِ رَبّ ا ْلعَاَلمِي َ‬
‫سكِي َو َم ْ‬
‫( قُلْ ِإنّ صَلتِي َو ُن ُ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وحين كان المر على هذا الفهم الذي فهمه الجيل الول من كتاب ال ومن تعليم رسوله‬

‫‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬لم تكن هناك دوائر مغلقة في حياة المسلم ينتقل من واحدة إلى‬

‫الخرى ساعة بعد ساعة ‪ ..‬ولم تكن " العبادة " مجرد ساعة من الساعات ‪ ،‬يخرج المسلم منها‬

‫إلى غيرها ‪ ..‬إنما كانت هناك دائرة واسعة شاملة ‪ ،‬ينتقل النسان في مختلف جوانبها من‬

‫نشاط إلى نشاط ‪ ،‬وهو في جميع الحوال قائم أو متحرك في داخلها يعبد ال ‪:‬‬

‫سورة النعام [ ‪. ] 163 - 162‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫(‪)2‬‬
‫جنُو ِب ِهمْ ‪) ..‬‬
‫ن اللّ َه ِقيَاما َوقُعُودا َوعَلَى ُ‬
‫( َي ْذ ُكرُو َ‬

‫ولم يكن ذلك تطوعا منهم يتفردون به ‪ ،‬ويعفى غيرهم منه ‪ ..‬إنما كان هو الفهم‬

‫الصحيح للعبادة ‪ ،‬والممارسة الصحيحة لها ‪ ،‬ثم يتفاضلون فيما بينهم ل في هذا الجوهر‬

‫المشترك ‪ ،‬وهو شمول العبادة لكل ألوان نشاطهم ‪ ،‬إنما يتفاضلون في القدر الذي يجتهد كل‬

‫منهم في تحقيقه في شتى مجلت العبادة ‪ ،‬بمقدار ما يوفقهم ال ‪.‬‬

‫وكانت الشعائر تلقى منهم حفاوة بالغة كما قلنا ‪ ،‬ل باعتبارها هي مجال العبادة الوحد‬

‫فيصبّوا فيها كل وجداناتهم ‪ ،‬وكل مشاعرهم ‪ ،‬وكل حضورهم الروحي ‪ ،‬وكل خشوعهم‬

‫وإخباتهم ل ‪ ..‬إنما لنها في حسهم ‪ -‬كما هي في الحقيقة ‪ -‬محطات التزود ‪ ،‬التي يتزود فيها‬

‫النسان بالزاد لبقية الطريق ‪ ..‬أو النبع الذي يجدد الطاقة للقيام ببقية العبادة المفروضة على‬

‫النسان ‪ ..‬وكلما نفد الزاد أو كاد يكون المسافر قد أتى إلى المحطة التالية يتزود فيها للمشوار‬

‫الجديد ‪..‬‬

‫الصلة زاد يومي يتكرر خمس مرات في اليوم والليلة ‪ .‬والصيام زاد سنوي مركّز‬

‫مجمّع يستغرق شهرا كامل يتقلب فيه النسان من عبادة إلى عبادة إلى عبادة ‪ .‬والزكاة موسم‬

‫أو مواسم سنوية يتطهر فيها النسان من الشح ‪ ،‬ويمارس العطاء الروحي والمادي ‪ .‬والحج‬

‫موسم في العمر يتجرد فيه النسان من متاع الرض الزائل كله ‪ ،‬ويقبـل على ال ‪ ..‬وكلها‬

‫زاد ‪ ..‬لبقية الطريق ‪ ..‬والعبادة تشمل كل الطريق ‪..‬‬

‫ولننظر في بعض النماذج من سلوك الصحابة ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪ -‬لندرك هذه‬

‫الحقيقة العميقة الدقيقة ‪ ،‬وهي شمول العبادة في حسهم لكل عمل وكل فكر وكل شعور ‪ ،‬وكل‬

‫لحظة من لحظات العمر ‪ ،‬وعدم اقتصارها على لحظات معينة هي التي تؤدى فيها الشعائر‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 191‬‬ ‫()‬


‫‪2‬‬
‫التعبدية ‪..‬‬

‫خذ هذا العرابي الذي أعطاه رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬قسمه من الغنائم‬

‫فقال ‪ :‬ما على هذا اتبعتك ! ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا ‪ -‬وأشار إلى حلقه ‪-‬‬

‫بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال ‪ :‬إن تصدق ال يصدقك (‪. )1‬‬

‫ألم يكـن في قمة العبادة وهو يفعل ذلك ؟! وما كان في لحظتها يؤدي شعيرة من‬

‫الشعائر ! إنما كان يؤدي عبادة اللحظة القائمة ‪ ،‬في المناسبة القائمة ‪ ،‬ويؤديها على مستوى‬

‫القمة في الداء !‬

‫وخذ هذه المرأة التي كانت تصرع فتتكشف ‪ ،‬فسألت رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم‬

‫‪ -‬أن يدعو لها بالشفاء ‪ .‬فقال لها ‪ :‬إن شئت صبرت ولك الجنة ‪ ،‬وإن شئت دعوت ال ‪ -‬عز‬

‫وجل ‪ -‬أن يعافيك ‪ .‬قال ‪ :‬أصبر ! قالت ‪ :‬فإني أتكشف ‪ ،‬فادع ال أل أتكشف ‪ ،‬فدعا لها ‪..‬‬

‫ألم تكن في قمة العبادة وهي تقول كذلك ؟! وما كانت في لحظتها تؤدي شعيرة من‬

‫الشعائر ! إنما كانت تؤدي عبادة اللحظة القائمة ‪ ،‬في المناسبة القائمة ‪ ،‬وتؤديها على مستوى‬

‫القمة في الداء !‬

‫وخذ سلمان الفارسي حين قام عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬على المنبر يقول ‪ :‬أيها الناس ‪،‬‬

‫اسمعوا وأطيعوا ‪ ،‬فقال له سلمان ‪ :‬ل سمع لك اليوم علينا ول طاعة ! فقال عمر ‪ -‬ولم‬

‫يغضب ‪ -‬ولمه ؟ قال ‪ :‬حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به ! فلم يغضب‬

‫عمر ‪ ،‬ونادى ابنه عبد ال بن عمر فقال له ‪ :‬نشدتك ال ! هذا البرد الذي ائتزرت به أهو‬

‫بردك ؟ قال ‪ :‬نعم ! ‪ ..‬قال سلمان ‪ :‬الن مر ! نسمع ونطع !‬

‫أخرجه النسائي ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫هل كان أيهما يؤدي شعيرة من الشعائر ؟ إنما كان يؤدي كل منهما عبادة ! سلمان يتعبد‬

‫ال بالرقابة على أعمال الحاكم للتأكد من جريان العدل الرباني مجراه ‪ ،‬وعمر ‪ -‬بروح العبادة‬

‫في قمتها ‪ -‬ل يغضب من مساءلة الرعية له على متر زائد من القماش !‬

‫وخذ هذا الرجل الفقير وامرأته ‪ ،‬إذ همّ الرجل أن يشكو فقره إلى رسول ال ‪ -‬صلى‬

‫ال عليه وسلم ‪ -‬ليعطيه ما يذهب عنه فاقته ‪ ،‬فتقول له امرأته ‪ :‬أتشكو ال إلى رسوله صلى‬

‫ال عليه وسلم ؟! فيحجم الرجل ويصبر !‬

‫ألم تكن هذه لحظة عبادة ؟ وفي القمة من العبادة ؟!‬

‫وخذ هذا الرجل الذي خرج للقتال وفي يده تمرات ‪ ،‬فأعجلته ريح الجنة فلم يصبر ‪،‬‬

‫فرمى التمرات من يده وهو يقول ‪ :‬لئن بقيت حتى أنتهي من هذه إنه لمر يطول !!‬

‫سمّـى هذه اللحظات الفائقة ‪ ..‬إن لم تكن لحظات عبادة في أعلى القمة من‬
‫كيف ُت َ‬

‫العبادة ؟!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫كذلك كان الصحابة ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪ -‬يعبدون ربهم ‪..‬‬

‫يعبدونه بالصلة والنسك ‪..‬‬

‫ويعبدونه بالعمل ‪..‬‬

‫ويعبدونه بالترويح النظيف الطاهر الذي يمنع العمى عن القلوب ‪..‬‬

‫وفرق كبير بين أن تقتصر العبادة على الصلة والنسك والشعائر ‪ ،‬ويخرج منها العمل‬
‫والترويح ‪ ،‬وبين أن تكون كلها عبادة ‪ ،‬يتنقل النسان فيما بينها ساعة بعد ساعة ‪ ،‬ولكنه ل‬

‫يخرج في أي ساعة من دائرة العبادة التي يتوجه فيها القلب إلى ال ‪ ،‬ويلتزم فيهـا بأوامـر‬

‫ال ‪..‬‬

‫فارق في النظافة النفسية والسلوكية ‪..‬‬

‫وفارق في نوع " النجاز " الذي يقوم به النسان في الرض ‪ ،‬فردا كان أو جماعة ‪..‬‬

‫أما فارق النظافة فواضح ‪.‬‬

‫فحين يكون العمل عبادة فلن يدخله الغش ‪ ،‬ول الخيانة ‪ ،‬ول الكذب ‪ ،‬ول الخديعة ‪ ،‬ول‬

‫الفتئات على حقوق الناس بالجور والظلم ‪ ،‬ول ارتكاب المحرمات من أجل الكسب أو التسلط‬

‫أو المتاع ‪..‬‬

‫وحين يكون الترويح عبادة فل يمكن أن يسفل ‪ ،‬وأن يتفه ‪ ،‬وأن يسفّ ‪ ،‬ول أن يهبط‬

‫بإنسانية النسان كما هو حادث في الجاهلية المعاصرة في ألوان " اللهو " المبذول في كل‬

‫مكان ‪ ،‬والذي يزين كل فاحشة سوية أو شاذة للناس ‪.‬‬

‫وأما النجاز فقد يخيل لبعض الناس اليوم أن أضخم إنجاز في التاريخ هو النجاز الذي‬

‫قامت به أوربا في عصرها الحاضر ‪ ..‬وقد قامت به وهي بعيدة تماما عن " الدين " وعن‬

‫عبادة ال ‪..‬‬

‫وهنا ل بد من التنبه إلى مجموعة من الحقائق ‪..‬‬

‫فقد أنجزت الحضارة المادية المعاصرة إنجازا ضخما ل شك فيه في بعض جوانب‬

‫الحياة ‪ ،‬أبرزها التقدم العلمي الهائل ‪ ،‬والتقدم التكنولوجي الذي استخدم ثمار العلم في تيسير‬
‫الحياة وتخفيف الجهد عن النسان ‪ ،‬وعبقرية التنظيم التي تسهم بدورها في تيسير الحياة‬

‫وتخفيف الجهد وتوفير كثيـر من الوقت ‪ ،‬وبعض الجوانب " النسانيـة " الخرى المتمثلة‬

‫في " الحقوق " و " الضمانات " التي يتمتع بها الناس هناك ‪.‬‬

‫ولكن الحصيلة النهائية لهذه الحضارة المادية بعيدة كل البعد عن أن تكون صورة‬

‫مشرقة " للنسان " أو صورة مشرّفة له ‪ ،‬رغم كل الجوانب المضيئة فيها ‪ ،‬بسبب ما تحمله‬

‫من جور سياسي واقتصادي واجتماعي ‪ ،‬واستعمار ‪ ،‬وانتهاك للحرمات ‪ ،‬وقذارة حسية‬

‫ومعنوية ‪ ،‬وتحلل أخلقي ‪ ،‬وانطماس روحي ‪ ،‬وانتكاس نفسي ‪ ،‬وهبوط بالنسان من مكانه‬

‫اللئـق الذي خلقه ال له ‪ ،‬وكرمه به ‪ ،‬لكي يصبـح في النهاية عبدا ذليل لكل شيء ‪ ..‬إل‬
‫(‪)1‬‬
‫ال !‬

‫وهذا هو مفرق الطريق بين النجاز الوربي المعاصر وإنجاز المة السلمية حين‬

‫كانت حياتها قائمة على التطبيق الصحيح للسلم ‪..‬‬

‫إن ما تقوم به أوربا اليوم ليس هو الذي قامـت به المة السلمية الولى ‪ ،‬ول قريبا‬

‫منه ‪ ،‬وإن اختلطت بعض أجزاء الصورة في بعض الذهان ‪.‬‬

‫إن الذي قامت به المة السلمية الولى لم يكن مجرد التوسع والفتح ‪ ،‬والغلبة‬

‫والسلطان ‪ ،‬ول مجرد إقامة حركة علمية أو حركة حضارية أو عمارة مادية للرض ‪ ..‬فهذا‬

‫كله من العطاء الرباني الذي يمنحه ال للكفار وللمؤمنين سواء ‪:‬‬

‫(‪)2‬‬
‫حظُورا )‬
‫عطَا ُء َربّكَ َم ْ‬
‫عطَا ِء َربّكَ َومَا كَانَ َ‬
‫( كُلّا ُن ِمدّ َهؤُلءِ وَ َهؤُلءِ مِنْ َ‬

‫وقد كان لكثير من الجاهليات التاريخية نصيب منه ‪:‬‬

‫اقرأ إن شئت فصل " الديمقراطية " من كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫سورة السراء [ ‪. ] 20‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫ن َقبِْلهِمْ كَانُوا َأشَدّ مِ ْن ُهمْ ُقوّةً‬
‫ن مِ ْ‬
‫ظرُوا َك ْيفَ كَانَ عَا ِقبَةُ اّلذِي َ‬
‫( َأوََلمْ َيسِيرُوا فِي ا ْلَأرْضِ َف َينْ ُ‬

‫ن اللّ ُه ِل َيظْلِ َم ُهمْ‬


‫عمَرُوهَا َوجَا َء ْت ُهمْ ُرسُُلهُمْ بِا ْل َب ّينَاتِ َفمَا كَا َ‬
‫ع َمرُوهَا َأكْثَ َر ِممّا َ‬
‫َوأَثَارُوا الْأَ ْرضَ وَ َ‬

‫ن َك ّذبُوا بِآياتِ اللّهِ َوكَانُوا ِبهَا‬


‫سهُمْ َيظِْلمُونَ ُثمّ كَانَ عَا ِقبَ َة اّلذِينَ َأسَاءُوا السّوأَى أَ ْ‬
‫ن كَانُوا َأنْ ُف َ‬
‫وََلكِ ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫ستَ ْه ِزئُو َ‬
‫َي ْ‬

‫( فََلمّا جَا َء ْت ُهمْ رُسُُل ُهمْ بِا ْل َب ّينَاتِ فَ ِرحُوا ِبمَا عِنْ َد ُهمْ مِنَ ا ْلعِ ْلمِ َوحَاقَ ِبهِ ْم مَا كَانُوا ِبهِ‬
‫(‪)2‬‬
‫ن)‬
‫ستَ ْه ِزئُو َ‬
‫َي ْ‬

‫إنما الذي صنعته المة السلمية هو إقامة هذه العمارة وهذه الحضارة وهذه القوة‬

‫الغالبة الساحقة على أساس من القيم والمثل لم تتحقق في صورة واقع عملي سلوكي إل في‬

‫تاريخ هذه المة الفريدة في التاريخ ‪.‬‬

‫ومن شاء فليعقد مقارنة بين حركة الفتح السلمي وبين الغزو الستعماري ‪ ،‬وبين‬

‫العدل الرباني كما طبقه المسلمون في الرض و " عدالة " الجاهلية المعاصرة بين البيض‬

‫والسود في أمريكا وفي جنوب أفريقيا ‪ ،‬وبين الصليبية الصهيونية وبين المسلمين في فلسطين‬

‫أو الحبشة أو أرتيريا أو تشاد أو الفلبين أو العالم الشيوعي ‪ ،‬أو أي صقع من الرض كان فيه‬

‫مسلمون تحت سيطرة غير المسلمين ! وليعقد المقارنة بين وفاء المسلمين بمواثيقهم وبين‬

‫مواثيق الدول التي تبرمها وهي تتحين الفرصة المناسبة لنقضها ! وبين تمحض الحركة‬

‫العلمية السلمية للخير ‪ ،‬وبين استخدام العلم في الجاهلية المعاصرة لفتنة الناس عن عقيدتهم‬

‫في ال ‪ ،‬واستخدامه في التدمير الوحشي ‪ ،‬واستخدامه في إفساد الخلق (‪ ، )3‬وبين شمول‬

‫الحضارة السلمية " للنسان " من كل جوانبه ‪ ،‬الروحي منها والمادي ‪ ،‬وتركيز هذه‬

‫سورة الروم [ ‪. ] 10 - 9‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة غافر [ ‪. ] 83‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫كما تستخدم حبوب منع الحمل لشاعة الفاحشة في الرض ويستخدم التلقيح الصناعي في حل روابط‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫السرة وإفساد النساب ‪.‬‬
‫الحضارة على جوانب الحياة الحسية وإهمال جانب الروح ‪.‬‬

‫إن هذا بالضبط هو الفارق بين ممارسة الحياة بحس العبادة ‪ ،‬أي عبادة ال ‪ ،‬وممارستها‬

‫‪ -‬بوعي أو بغير وعي ‪ -‬عباد ًة للشيطان ‪ ،‬على تعدد الصـور التي تمارس بها عبادة‬

‫الشيطان !‬

‫ولقد كانت المة السلمية في ذروتها حين كانت تمارس " العمل " بحس العبادة ‪ ،‬فأما‬

‫حين خرج العمل تدريجيا من مفهوم العبادة فقد بدأت تهبط من ذروتها درجات مختلفة من‬

‫الهبوط ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ولم يكن العمل وحده ‪ -‬بجميع مجالته ‪ -‬هو الذي خرج من مفهوم العبادة حين‬

‫انحصرت في الشعائر التعبدية ‪ ..‬إنما كانت الطامة في خروج " الخلق " من دائرة العبادة ‪..‬‬

‫إن من المزايا الكبرى لهذا الدين قاعدته الخلقية العريضة الشاملة ‪ ،‬التي تشمل كل‬

‫أعمال النسان ‪.‬‬

‫ل شيء في حياة النسان يخرج من دائرة الخلق ‪ .‬ل سلوكه ول فكره ول مشاعره‬

‫ول أي لون من ألوان نشاطه ‪ ،‬سياسيا كان أم اجتماعيا أم اقتصاديا أم فنيا ‪ ..‬الخ ‪ .‬بل كل‬

‫نشاطه مرتبط بالخلق وقائم على قاعدة أخلقية نابعة من الميثاق الذي يقر فيه النسان‬

‫بعبوديته ل ‪:‬‬

‫عمَى ِإ ّنمَا َي َت َذكّرُ أُولُو ا ْلأَ ْلبَابِ اّلذِينَ‬


‫حقّ َك َمنْ ُهوَ َأ ْ‬
‫ن َربّكَ ا ْل َ‬
‫ل إَِل ْيكَ مِ ْ‬
‫( َأ َفمَنْ َيعَْلمُ َأ ّنمَا ُأ ْنزِ َ‬

‫خشَ ْونَ َر ّب ُهمْ‬


‫ن ا ْلمِيثَاقَ وَاّلذِينَ َيصِلُونَ مَا َأ َمرَ اللّ ُه بِهِ َأنْ يُوصَلَ َو َي ْ‬
‫ن ِب َع ْهدِ اللّهِ وَل َينْ ُقضُو َ‬
‫يُوفُو َ‬

‫صبَرُوا ا ْب ِتغَاءَ َوجْهِ َر ّب ِهمْ وََأقَامُوا الصّلةَ وََأنْفَقُوا ِممّا َرزَ ْقنَا ُهمْ‬
‫ن َ‬
‫حسَابِ وَاّلذِي َ‬
‫ن سُو َء ا ْل ِ‬
‫َو َيخَافُو َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ك َل ُهمْ عُ ْقبَى الدّارِ )‬
‫س ّيئَ َة أُوَل ِئ َ‬
‫سنَةِ ال ّ‬
‫حَ‬‫سِرّا وَعَل ِن َيةً َو َيدْرَأُونَ بِا ْل َ‬

‫والميثاق قد يكون هو ميثاق الفطرة الذي أخذ عليها في عالم الذر ‪ ،‬أو يكون هو العهد‬

‫الذي يأخذه كل رسول على الناس أن يعبدوا ال وحده بل شريك ‪:‬‬

‫س ِهمْ أََلسْتُ ِب َر ّب ُكمْ‬


‫ش َهدَهُمْ عَلَى َأنْ ُف ِ‬
‫ظهُورِهِمْ ُذ ّر ّي َتهُمْ وََأ ْ‬
‫ن ُ‬
‫ن َبنِي آ َدمَ مِ ْ‬
‫خذَ َر ّبكَ مِ ْ‬
‫( وَِإذْ َأ َ‬
‫(‪)2‬‬
‫ش ِه ْدنَا )‬
‫قَالُوا بَلَى َ‬

‫(‪)3‬‬
‫ج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ )‬
‫ع ُبدُوا اللّهَ وَا ْ‬
‫( وَلَ َقدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ َرسُولً َأنِ ا ْ‬

‫ولكـن المهم في السيـاق أن " الميثـاق " تفصل بعض مقتضياتـه فإذا هي مقتضيات‬

‫" أخلقية " في أساسها ‪ ،‬وإن كانت تشمل أمورا اعتقادية ‪ ،‬وأمورا سلوكية ‪ ،‬وأمورا نفسية ‪:‬‬

‫حسَابِ وَاّلذِينَ‬
‫ن سُو َء ا ْل ِ‬
‫خشَ ْونَ َر ّب ُهمْ َو َيخَافُو َ‬
‫ن مَا َأ َمرَ اللّهُ ِبهِ َأنْ يُوصَلَ َو َي ْ‬
‫( َاّلذِينَ َيصِلُو َ‬

‫سرّا َوعَل ِنيَةً َو َي ْدرَأُونَ‬


‫صبَرُوا ا ْب ِتغَـاءَ َوجْ ِه َر ّبهِمْ وََأقَامُوا الصّلةَ وََأنْ َفقُـوا ِممّا َر َزقْنَا ُهمْ ِ‬
‫َ‬

‫س ّيئَةَ ‪) ..‬‬
‫سنَ ِة ال ّ‬
‫بِا ْلحَ َ‬

‫فيتبين لنا من ذلك منشأ اللتزام الخلقي في السلم ‪ .‬إنه عبادة ال ‪ ،‬بعد اليقين‬

‫بألوهيته ‪ ،‬وبأن ما أنزله على رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬هو الحق ‪ .‬أي أنه مقتضى ‪:‬‬

‫ل إله إل ال ‪ ،‬محمد رسول ال ‪.‬‬

‫ثم يتبين لنا من هذه اليات ومن آيات أخرى في كتاب ال أن الميثاق مع ال ‪ ،‬الذي‬

‫تنشأ منه القاعدة الخلقية في السلم ‪ ،‬يتسع حتى يشمل العمال كلها ‪:‬‬

‫سورة الرعد [ ‪. ] 22 - 19‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 172‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النحل [ ‪. ] 36‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫ن قَالُوا سَلما‬
‫ط َبهُمُ ا ْلجَاهِلُو َ‬
‫ض هَوْنا وَِإذَا خَا َ‬
‫ن َي ْمشُونَ عَلَى ا ْلَأرْ ِ‬
‫حمَنِ اّلذِي َ‬
‫عبَادُ ال ّر ْ‬
‫( وَ ِ‬

‫عذَا َبهَا كَانَ‬


‫ج َهنّمَ ِإنّ َ‬
‫ب َ‬
‫عذَا َ‬
‫عنّا َ‬
‫ن َر ّبنَا اصْ ِرفْ َ‬
‫ن يَقُولُو َ‬
‫سجّدا َو ِقيَاما وَاّلذِي َ‬
‫ن ِل َربّ ِهمْ ُ‬
‫ن َيبِيتُو َ‬
‫وَاّلذِي َ‬

‫ن ذَِلكَ قَوَاما‬
‫سرِفُوا وََلمْ َي ْقتُرُوا َوكَانَ َبيْ َ‬
‫ن ِإذَا َأنْ َفقُوا َلمْ ُي ْ‬
‫ت ُمسْتَ َقرّا َومُقَاما وَاّلذِي َ‬
‫غرَاما ِإ ّنهَا سَاءَ ْ‬
‫َ‬

‫حرّمَ اللّهُ إِلّا بِا ْلحَقّ وَل َي ْزنُونَ َومَنْ‬


‫س اّلتِي َ‬
‫ن النّفْ َ‬
‫خرَ وَل يَ ْقتُلُو َ‬
‫ن مَعَ اللّهِ إِلَها آ َ‬
‫ن ل َيدْعُو َ‬
‫وَاّلذِي َ‬

‫عمِلَ‬
‫ن تَابَ وَآمَنَ َو َ‬
‫ب يَ ْومَ الْ ِقيَامَةِ َو َيخُْلدْ فِي ِه ُمهَانا إِلّا مَ ْ‬
‫عفْ َلهُ ا ْل َعذَا ُ‬
‫يَ ْفعَلْ ذَِلكَ يَ ْلقَ َأثَاما ُيضَا َ‬

‫ل صَالِحا‬
‫عمِ َ‬
‫ن تَابَ وَ َ‬
‫سنَاتٍ َوكَانَ اللّهُ غَفُورا َرحِيما َومَ ْ‬
‫حَ‬‫س ّيئَا ِتهِمْ َ‬
‫عمَلً صَالِحا َفأُوَل ِئكَ ُي َبدّلُ اللّهُ َ‬
‫َ‬

‫ن الزّورَ وَِإذَا َمرّوا بِالّلغْوِ َمرّوا ِكرَاما وَاّلذِينَ ِإذَا‬


‫ش َهدُو َ‬
‫ن ل َي ْ‬
‫ب إِلَى اللّهِ َمتَابا وَاّلذِي َ‬
‫َفإِنّ ُه َيتُو ُ‬

‫جنَا‬
‫ن َأزْوَا ِ‬
‫ب َلنَا مِ ْ‬
‫ع ْميَانا وَاّلذِينَ يَقُولُونَ َر ّبنَا هَ ْ‬
‫خرّوا عََل ْيهَا صُمّا وَ ُ‬
‫ُذكّرُوا بِآياتِ َر ّبهِ ْم َلمْ َي ِ‬

‫حيّةً‬
‫ص َبرُوا َويُلَقّ ْونَ فِيهَا َت ِ‬
‫ك ُيجْزَ ْونَ ا ْل ُغ ْرفَةَ ِبمَا َ‬
‫ن ِإمَاما أُوَل ِئ َ‬
‫جعَ ْلنَا لِ ْل ُمتّقِي َ‬
‫عيُنٍ وَا ْ‬
‫َو ُذ ّريّاتِنَا ُقرّةَ َأ ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫ستَ َقرّا َومُقَاما )‬
‫سنَتْ ُم ْ‬
‫حُ‬‫َوسَلما خَاِلدِينَ فِيهَا َ‬

‫عنِ الّل ْغوِ ُم ْعرِضُونَ‬


‫ن ُهمْ َ‬
‫شعُونَ وَاّلذِي َ‬
‫ن ُهمْ فِي صَل ِت ِهمْ خَا ِ‬
‫ن اّلذِي َ‬
‫( َقدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤ ِمنُو َ‬

‫جهِ ْم أَ ْو مَا مََلكَتْ َأ ْيمَا ُن ُهمْ‬


‫ج ِهمْ حَافِظُونَ إِلّا عَلَى َأزْوَا ِ‬
‫ن ُهمْ لِ ُفرُو ِ‬
‫ن ُهمْ لِل ّزكَاةِ فَاعِلُونَ وَاّلذِي َ‬
‫وَاّلذِي َ‬

‫ع ْهدِ ِهمْ‬
‫ن ُهمْ ِلَأمَانَاتِ ِهمْ وَ َ‬
‫ك ُهمُ ا ْلعَادُونَ وَاّلذِي َ‬
‫ك فَأُوَل ِئ َ‬
‫ن ا ْب َتغَى َورَاءَ ذَِل َ‬
‫غ ْيرُ مَلُومِينَ َفمَ ِ‬
‫َفإِ ّن ُهمْ َ‬

‫س ُهمْ فِيهَا‬
‫ن الْ ِف ْردَوْ َ‬
‫ن اّلذِينَ َي ِرثُو َ‬
‫رَاعُونَ وَاّلذِينَ ُهمْ عَلَى صَلَوَا ِت ِهمْ ُيحَافِظُونَ أُوَل ِئكَ ُهمُ ا ْلوَا ِرثُو َ‬

‫خَاِلدُونَ ‪. )2( ..‬‬

‫وتجيء أحاديث الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬تربط الخلق ربطا وثيقا باليمان ‪،‬‬

‫وجودا وعدما ‪:‬‬

‫" من كان يؤمن بال واليوم الخر فليحسن إلى جاره ‪ ،‬ومن كان يؤمن بال واليوم‬
‫(‪)3‬‬
‫الخر فليكرم ضيفه ‪ ،‬ومن كان يؤمن بال واليوم الخر فليقل خيرا أو ليسكت "‬

‫سورة الفرقان [ ‪. ] 76 - 63‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬سورة المؤمنون [ ‪. ] 11 - 1‬‬ ‫()‬

‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪3‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫" ما آمن بي من بات شبعان وجاره جوعان وهو يعلم ‪" ..‬‬

‫" والذي نفسي بيده ‪ ،‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه " (‪. )2‬‬

‫" اليمان بضع وسبعون ( أو بضع وستون ) شعبة فأفضلها قول ل إله إل ال ‪ ،‬وأدناها‬
‫(‪)3‬‬
‫إماطة الذى عن الطريق ‪ .‬والحياء شعبة من اليمان "‬

‫" أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ‪ ،‬ومن كان فيه خلة منهن كان فيه خلة من النفاق‬
‫(‪)4‬‬
‫حتى يدعها ‪ :‬إذا حدّث كذب ‪ ،‬وإذا عاهد غدر ‪ ،‬وإذا وعد أخلف ‪ ،‬وإذا خاصم فجر "‬

‫سئلت عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬عن خلق رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬
‫(‪)5‬‬
‫فقالـت ‪ :‬كان خلقه القرآن ‪.‬‬

‫عن سفيان بن عبد ال الثقفي قال ‪ :‬قلت يا رسول ال قل لي في السلم قول ل أسأل‬

‫عنه أحدا بعدك ؟ ( أو قال غيـرك ) قال ‪ " :‬قل آمنت بال ثم استقـم " (‪ .. )6‬الخ ‪ ..‬الخ ‪..‬‬

‫الخ ‪.‬‬

‫ويتبين من هذا كله أن الخلق جزء أصيل من هذا الدين ‪ ،‬ينبع نبعا مباشرا من اليمان‬

‫بال ‪ ،‬ويمارسها المؤمن عبادة ل ‪ ،‬فل هي أمور هامشية في حياة المؤمن ‪ ،‬ول هي ‪ -‬في‬

‫حسه ‪ -‬خارجة عن نطاق العبادة التي يتقدم بها إلى ال ‪.‬‬

‫أخرجه الطبراني ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬متفق عليه ‪.‬‬‫()‬

‫‪ )(3‬متفق عليه ‪.‬‬


‫‪ )(4‬متفق عليه ‪.‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫ولكن انحسار مفهوم العبادة ‪ ،‬وانحصارها في الشعائر ‪ ،‬أخرج الخلق من العبادة‬

‫تدريجيا ‪ ..‬فماذا كانت النتيجة ؟‬

‫كانت النتيجة أنه أصبح أمرا مألوفا في العالم السلمي أن تجد الرجل يصلي في‬

‫المسجد ‪ -‬ويعتاد المساجد ‪ -‬ثم يكذب ! بينما سئل رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪: -‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أيكون المؤمن جبانا قال ‪ :‬نعم ‪ .‬ثم سئل ‪ :‬أيكون المؤمن كذابا قال ‪ :‬ل !‬

‫وأصبح أمرا مألوفا أن يخرج الرجل من الصلة بالمسجد ثم يغش المسلمين ‪ .‬بينما‬
‫(‪)2‬‬
‫يقول رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ " : -‬من غشنا فليس منا "‬

‫وأصبح مألوفا أن يخرج الرجل من الصلة وقد خان المانة التي اؤتمن عليها ‪ ،‬أو‬

‫أخلف الوعد الذي أعطاه ‪ ،‬بينما جعل رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬ذلك من علمات‬

‫النفاق !‬

‫وليس الغريب أن يتفلت الناس من قيود الخلق ‪ .‬فهي قيود ثقيلة إل على الذين هدى‬

‫ال !‬

‫ولكن الغريب أن هذا التفلت ‪ -‬بكل آثاره المدمرة في حياة المة‪ -‬غير موصول في‬

‫حس الناس بأمر العبادة ! فالعبادة هي الشعائر ‪ ..‬ومن أدى الشعائر فقـد أدى العبادة‬

‫المطلوبـة ‪ ..‬وأما هذه السقطات الخلقية فهي معيبة نعم ‪ ،‬والوعاظ يتكلمون عنها في كل‬

‫خطبة ‪ ،‬نعم ‪ ،‬ولكنها في دائرة أخرى غير دائرة العبادة ‪ ..‬فهـذه " مقفلة " على الشعائر‬

‫فحسب !‬

‫وأصبح من الخزي لهذه المة أن الجاهلية المعاصرة تصدق في الوعد في معاملتها‬

‫أخرجه مالك في الموطأ ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫اليومية ( وتحتجز الكذب للمور السياسية ! ) وتؤدي المانة ‪ ،‬ول تغش ‪ ،‬ول تخون ‪ ..‬بينما‬

‫المة " السلمية ! " غارقة إلى قمة رأسها في الكذب والغش والخيانة وخلف الوعد ‪ ..‬إل من‬

‫رحم ال !‬

‫إن أوربا ‪ -‬في اعتقادنا ‪ -‬ليست أمة ذات أخلق حقيقية أصيلة ‪..‬‬

‫وما يوجد من أخلقيات في معاملتها اليومية فهو أخلق نفعية هدفها تحقيق المنفعة في‬

‫الحياة الدنيا فحسب ‪ .‬ولقد تعلمت أوربا من التاجر اليهودي الذكي ‪ ،‬الذي سيطر على مقدرات‬

‫أوربا في القرنين الخيرين ‪ ،‬والخير بصفة خاصة ‪ ،‬أن التودد اللطيف إلى " الزبون "‬

‫والصدق معه ‪ ،‬والتعامل المين ‪ ،‬أدوم لكسبه ‪ ،‬وأدوم للنتفاع منه ‪ ،‬من الغش والكذب وخلف‬

‫الوعد ‪ ..‬فراضوا أنفسهم على تلك الخلقيات النافعة ‪ ،‬وربوا عليها أولدهم تربية جادة ‪،‬‬

‫ُي ْبذَل فيها جهد حقيقي مدروس منظم ‪ ،‬وتؤدي يالفعل إلى صورة طيبة المظهر في واقع حياة‬

‫الناس ‪.‬‬

‫وهم يقولون ‪ -‬ويعتقدون ‪ -‬أنها " قيم حضارية " ‪..‬‬

‫ونحن نشك في ذلك كثيرا لن الرأسمالية كلها تحكم الغرب وتدير شئون قائمة على‬

‫ألوان كثيرة من الغش والكذب والخداع من أجل الحصول على أكبر قسط من الربح ‪ .‬فالربح‬

‫‪ -‬من أي سبيل ‪ -‬هو هدفها الول ‪ ،‬وليس الصدق ول المانة ول غيرهما من الفضائل ‪ ،‬إنما‬

‫تجيء هذه ‪ -‬في الطريق ‪ -‬بوصفها وسائل نافعة للحصول على أكبر قدر من الربح ‪ ،‬كما‬

‫قدمنا من خصال التاجر اليهودي الذكي ‪ ،‬الذي هو عماد تلك الرأسمالية ‪ .‬وفي الوقت الذي ل‬

‫تؤدي فيه هذه الفضائل إلى الربح ‪ ،‬أو يتحقق النفع بأضدادها يتخلى الوربي بسهولة عن كثير‬

‫من " أخلقياته " كما يحدث دائما في عالمهم السياسي المخادع ‪ ،‬وكما يحدث في الستعمار ‪،‬‬

‫وفي العلقات الدولية ‪ ،‬وفي تعامل البيض مع الملونين ‪ ..‬الخ ‪ ..‬الخ ‪.‬‬
‫أما في السلم ‪ -‬في صورته الصحيحة ‪ -‬فقد كانت الخلق قيما حقيقية أصيلة لن‬

‫هدفها لم يكن الربح المادي ‪ ،‬ول كانت قائمة عليه ‪ ،‬إنما هدفها الوفاء " بالميثاق " المعقود مع‬

‫ال ‪ ،‬وقائمة على قاعدة " العبادة " ل ‪ .‬كما كانت كذلك قيما حضارية أصيلة لنها ذات صبغة‬

‫" إنسانية " غير محصورة في جنس ول لون ‪ ،‬إنما هي صادرة من " النسان " بوصفه إنسانا‬

‫‪ -‬مؤمنا ‪ -‬وموجهة إلى " النسان " حتى ولو لم يكن مؤمنا بما يؤمن به المسلمون ‪.‬‬

‫وحين كانت المة تمارس إيمانها الحق ‪ ،‬وعبادتها الحقة ‪ ،‬وكانت " الخلق " في حسها‬

‫جزءا من العبادة المفروضة على المسلم المؤمن حدثت معجزات كثيرة لم تتكرر في التاريخ ‪.‬‬

‫ففي أقل من نصف قرن امتد الفتح السلمي من الهند شرقا إلى المحيط غربا ‪ ،‬وهي‬

‫سرعة مذهلة ل مثيل لها في التاريخ كله ‪ .‬ولم يكن الكسب هو " الرض " التي فتحت ‪ ،‬فما‬

‫خرج المسلمون من الجزيرة يريدون التوسع في الرض ! إنما كان هدفهم ‪ ،‬كما قال ربعي بن‬

‫عامر لرستم قائد الفرس ‪ " :‬ال ابتثعنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة ال ‪ ،‬ومن‬

‫جور الدنيا إلى سعة الدنيا والخرة " ‪.‬‬

‫كان الكسب العظم هو " القلوب " التي اهتدت بنور ال فدخلت في دين ال ‪.‬‬

‫ولم يكن ذلك عن رهبة من سطوة الفاتحين ‪ ،‬ول قهرا قهرهم عليه الفاتحون ! فقد‬

‫أمنوهم على أنفسهم وعلى عقائدهم ‪ ،‬وشهد الناس بأعينهم حقيقة المان الذي منحه المسلمون‬

‫لمن بقي على دينه ولم يشأ أن يدخل في السلم ‪.‬‬

‫إنما كانت " أخلق " الفاتحين من أكبر السباب التي فتحت قلوب الناس لهذا الدين ‪ .‬ول‬

‫عجب فقد كانت أخلق رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬من قبل من أكبر السباب في‬

‫هداية من اهتدى من الناس كما شهد له ربه ‪:‬‬


‫(‪)1‬‬
‫عظِيمٍ )‬
‫( وَِإ ّنكَ َلعَلَى خُُلقٍ َ‬

‫(‪)2‬‬
‫ك)‬
‫ن حَوِْل َ‬
‫ب لَانْفَضّوا مِ ْ‬
‫ظ الْقَلْ ِ‬
‫ت فَظّا غَلِي َ‬
‫ت َل ُهمْ وََلوْ ُكنْ َ‬
‫ن اللّ ِه ِلنْ َ‬
‫( َف ِبمَا َرحْمَ ٍة مِ َ‬

‫ولم تقف المعجزة عند السرعة المذهلة التي تم بها الفتح ‪ ،‬ول عند دخول مليين من‬

‫البشر طواعية وحبا في الدين الذي أتى به الفاتحون ‪ ،‬ول في تحول المهتدين إلى جنود‬

‫مخلصين للعقيدة التي اعتنقوها يجاهدون لنشرها في الرض مختارين متطوعين ل يدفعهم أحد‬

‫ول يضغط عليهم أحد ‪ ..‬إنما امتدت المعجزة إلى ظاهرة لم تتكرر قبل ول بعد ‪ ،‬هي دخول‬

‫هذه المليين في اللسان العربي ‪ ،‬حتى من بقي منهم على دينه ولم يعتنق السلم ‪ ،‬ونسي‬

‫النصارى في مصر والشام وغيرها من البلد المفتوحة لغاتهم التي كانوا يتكلمون بها ‪،‬‬

‫ويؤدون عباداتهم ‪ -‬على دينهم ‪ -‬بالعربية !‬

‫بل امتد السلم إلى رقاع واسعة من آسيا وأفريقيا ‪ -‬سلما ‪ -‬على يد تجار جاءوا‬

‫للتجارة ل للدعوة ! ولكن أخلقهم السلمية حببت الناس فيهم ‪ ،‬وفي دينهم الذي رباهم على‬

‫أخلقياته ‪ ،‬فدخلوا في هذا الدين !‬

‫ضَعْ في مقابل ذلك ما يحدث اليوم من صدّ عن سبيل ال يقوم به " المسلمون " بسبب‬

‫سوء أخلقهم !‬

‫إن أوربا ‪ ،‬بامتدادها الغربي كله حتى أمريكا ‪ ،‬قد وقعت اليوم في الضنك الذي أنذر به‬

‫حشُرُ ُه يَ ْومَ‬
‫ضنْكا َو َن ْ‬
‫ن لَ ُه َمعِيشَ ًة َ‬
‫ن ِذكْرِي َفإِ ّ‬
‫عرَضَ عَ ْ‬
‫ن أَ ْ‬
‫ال من أعرض عن ذكره ‪َ ( :‬ومَ ْ‬
‫(‪)3‬‬
‫عمَى )‬
‫الْ ِقيَامَ ِة أَ ْ‬

‫سورة القلم [ ‪. ] 4‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 159‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة طه [ ‪. ] 124‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫وهو ضنك نفسي ل يخفف من آثاره كل التقدم المادي والعلمي والتكنولوجي‬

‫والقتصادي والعمراني الذي يعيشون فيه ‪ ،‬بل إن " مجتمع الوفرة " الذي وصلت إليه بعض‬

‫قد وصل فيه الضنك النفسي إلى الذروة ‪ ،‬متمثل‬ ‫(‪)1‬‬


‫الشعوب متجاوزة به " مجتمع الرفاهية "‬

‫في القلق والجنون والنتحار والمراض النفسية والعصبية وإدمان الخمر وإدمان المخدرات‬

‫والجنوح والجريمة والشذوذ وفساد الفطرة ‪...‬‬

‫والناس هناك يبحثون عن طريق الخلص ‪ ..‬ومنهم من يعتنق البوذية ‪ ،‬ومنهم من‬

‫يدخل في عبادة كرشنا ‪ ،‬ومنهم من يتخبط هنا وهناك ‪..‬‬

‫والسلم هو طريق الخلص ‪ ..‬أنزله ال ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ‪..‬‬

‫ومئات من الناس في الغرب يدخلون في السلم كل عام ‪..‬‬

‫ولكن هذه المئات كان يمكن أن تكون ألوفا ومليين لول عوامل كثيرة تصد الوربيين‬

‫عن السلم ‪ ،‬منها الحاجز الصليبي ول شك ‪ ،‬ومنها النفور من " الدين " عامة بسبب ما فعلته‬

‫الكنيسة الوربية في تشويه صورة الدين وتنفير الناس منه بفظاظتها وطغيانها ‪ ..‬ومنها كذلك‬

‫واقع المسلمين !‬

‫إن كثيرا من الناس في الغرب يستمعون إلى الدعاة المسلمين يحدثونهم عن السلم ‪ ،‬ثم‬

‫يقولون لهم بلسان الحال أو بلسان المقال ‪ :‬إذا كان السلم بهذه الصورة الجميلة التي‬

‫تعرضونها ‪ ،‬فلماذا أنتم هكذا ؟! لماذا أنتم كذابون غشاشون مخادعون مخلفون للوعد غير‬

‫مستقيمين في تعاملكم ‪ ..‬فضل عن كونكم ‪ -‬فيما بينكم وبين أنفسكم ‪ -‬متعادين متباغضين ل‬
‫(‪)2‬‬
‫تجتمعون على شيء ؟!‬

‫كانت الشعوب " المتقدمة " تبحث أول عن رفع مستوى المعيشة ‪ ،‬فلما رفعته سعت إلى الرفاهية ‪ ،‬فلما‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫بلغتها صارت تبحث عن الوفرة ‪ ،‬وهي مرحلة اقتصادية أبعد ‪..‬‬
‫ينفر الغرب كذلك من التخلف الحضاري والمادي والعلمي عند المسلمين ‪ ،‬ولكن الذي ينفره أكثر هو‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫وهكذا يقف واقع المسلمين في وجه الدعوة إلى السلم ‪ ،‬يصد المليين الحائرة عن‬

‫طريق الخلص !‬

‫ومع ذلك يمر كثير من الناس على هذا المر الخطير مرورا عابرا ‪ ،‬ل يثير عندهم‬

‫أكثر من أسفٍ عابر ‪ ،‬ثم يهزون أكتافهم ويمضون ‪ ..‬ول شك أن من أكبر أسباب ذلك خروج‬

‫الخلق ‪ -‬في حسهم ‪ -‬دائرتان مغلقتان ‪ ،‬ل توابع لهما ول مقتضيات !‬

‫وما زلت أذكر داعية مرموقا له في الدعوة جهود مشكورة يجزيه ال عنها خيرا إن‬

‫شاء ال ‪ ،‬قال محتدا على أحد الطلب في مناقشة لرسالة جامعية ‪ :‬ما علقة الخلق بل إله‬

‫إل ال ؟! العقيدة ‪ -‬كما تعلمناها ‪ -‬إلهيات ونبوات وسمعيات ‪ ،‬ول شيء وراء ذلك ! فمن أين‬

‫جئت بهذه العلقة التي تريد أن تقيمها بين ل إله إل ال وبين الخلق ؟!‬

‫وهكذا ُي ْنظَرُ إلى الخلق ‪ -‬بعد إخراجها من دائرة العقيدة ودائرة العبادة ‪ -‬على أنها‬

‫أمر " إضافي " إن وجد فنعمّا هو ! وإن لم يوجـد فل بأس ! فاليمان مستقر بقول ل إله إل‬

‫ال ‪ ،‬والعبادة مؤداة بالشعائر ‪ .‬أما هذه " النافلة " الخلقيـة فل علينا إن أسقطناها من‬

‫الحساب ! ونحن طبعا ل نسقطها من الحساب ! فنحن " نتحدث " عنها دائما في خطب الوعظ‬

‫السبوعية ‪ ،‬والدورية ‪ ،‬والموسمية ‪ .‬وقد نعلم قبل أن نتحدث ‪ ،‬وبعد أن نتحدث ‪ ،‬أنه كلم‬
‫(‪)1‬‬
‫ذاهب في الهواء ‪ .‬ومع ذلك ل نكف عن الوعظ الدائم طمعا في هداية الناس !‬

‫ترى كم شعبة من شعب اليمان المنصوص عليها في حديث الرسول ‪ -‬صلى ال عليه‬
‫(‪)2‬‬
‫وسلم ‪ -‬قد هدمت حين هدمت الخلق ؟!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫السوء الخلقي الذي يرونه في حياة المسلمين من الكذب والغش وخلف الوعد والطرق الملتوية في التعامل ‪.‬‬
‫في النية إصدار كتيب بعنوان " كيف ندعو الناس ‪ ،‬نتعرض فيه لقضية الوعظ ومدى جدواه ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫" اليمان بضع وسبعون شعبة ‪" ..‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫وحين ضاق مفهوم العبادة في الجيال المتأخرة فانحصر في الشعائر ‪ ،‬وخرج من دائرة‬

‫العبادة النشاط اليومي العملي ‪ ،‬سواء منه النشاط السياسي أو الجتماعي أو القتصادي ‪..‬‬

‫وخرجت منها أخلقيات ل إله إل ال كذلك ‪ ،‬كثرت المعاصي بالطبع وكثر العصاة ‪،‬‬

‫واضطرب سير المجتمع ‪ ،‬وكثرت فيه النحرافات والمظالم ‪ ،‬وسقط أكثر من مرة في‬

‫اضطرابات عنيفة ونكبات ‪..‬‬

‫ومع ذلك فلم يكن هذا القدر هو كل السوء الذي حل بمفهوم العبادة ‪ ..‬إنما كان مرحلة‬

‫في طريق الهبوط !‬

‫لقد كان الذي مر بنا حتى الن هو انحسار مفهوم العبادة حتى ينحصر في الشعائر‬

‫التعبدية وحدها دون سائر العمال ‪ .‬ولكن هذا المر ذاته قد أدى ‪ -‬بالطبيعة ‪ -‬إلى مزيد من‬

‫النحسار ‪ ..‬على درجات !‬

‫فأما الدرجة الولى فهي انحسار الشعائر ذاتها إلى أعمال مقصودة لذاتها ‪ ،‬بغير‬

‫مقتضيات لها ! بحيث يصبح أداؤها في ذاتها هو كل " العبادة " المطلوبة من النسان !‬

‫ول شك أن الجيل الول ‪ -‬الذي تلقى علمه من الكتاب والسنة ‪ -‬لم يكن يفهم المر‬

‫على هذه الصورة !‬

‫فالكتاب والسنة قد أعطيا لكل شعيرة من الشعائر التعبدية بعدا نفسيا وسلوكيا ل يقتصر‬

‫على أدائها ‪ ..‬بل الصح أن تقول إنه يبدأ بأدائها ‪ ..‬ثم يمتد ليشمل مساحة واسعة من حياة‬

‫النسان !‬

‫حشَاءِ‬
‫ن ا ْلفَ ْ‬
‫ن الصّلةَ تَ ْنهَى عَ ِ‬
‫يقول ال تعالى في محكم التنزيـل ‪ ( :‬وََأقِ ِم الصّل َة إِ ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫وَا ْلمُنْكَرِ )‬

‫ن َقبِْلكُمْ‬
‫ن مِ ْ‬
‫صيَامُ َكمَا ُكتِبَ عَلَى اّلذِي َ‬
‫وقال تعالى ‪ ( :‬يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا ُكتِبَ عََل ْي ُكمُ ال ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫ن)‬
‫َلعَّل ُكمْ َتتّقُو َ‬

‫ويقول عليه الصلة والسلم ‪ " :‬من لم يدع قول الزور والعمل به فل حاجة ل بتركه‬

‫ويقول ‪ " :‬رب صائم ليس له من صيامه إل الجوع والعطش " (‪. )4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫طعامه وشرابه "‬

‫(‪)5‬‬
‫طهّرُ ُهمْ َو ُت َزكّي ِهمْ ِبهَا )‬
‫خذْ ِمنْ َأ ْموَاِل ِهمْ صَ َدقَ ًة ُت َ‬
‫وقال تعالى ‪ُ ( :‬‬

‫وقال ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ " : -‬أيها الناس إن ال طيب ل يقبل إل طيبا ‪ ،‬وإن ال‬

‫أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ‪ ،‬فقال ‪ " :‬يا أيها الرسل كلوا من الطيبـات واعملوا‬

‫صالحا ‪ ،‬إني بما تعملون عليم " وقال ‪ " :‬يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " ثم‬

‫ذكر الرجل يطيـل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ‪ :‬يا رب ! يا رب ! ومطعمه‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫حرام ‪ ،‬ومشربه حرام ‪ ،‬وملبسه حرام ‪ ،‬وغذي بالحرام ‪ .‬فأنّى يستجاب لذلك ؟! "‬

‫ج فَل رَفَثَ وَل ُفسُوقَ وَل‬


‫ن ا ْلحَ ّ‬
‫ض فِيهِ ّ‬
‫ن فَرَ َ‬
‫ش ُهرٌ َمعْلُومَاتٌ َفمَ ْ‬
‫حجّ َأ ْ‬
‫وقال تعالى ‪ ( :‬ا ْل َ‬

‫ن يَا أُولِي‬
‫خ ْيرٍ َيعَْلمْ ُه اللّ ُه وَتَ َزوّدُوا فَِإنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَى وَاتّقُو ِ‬
‫جدَالَ فِي ا ْلحَجّ َومَا تَ ْفعَلُوا ِمنْ َ‬
‫ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬
‫ا ْلأَ ْلبَابِ )‬

‫‪ )(1‬سورة العنكبوت [ ‪. ] 45‬‬


‫سورة البقرة [ ‪. ] 183‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫أخرجه البخاري ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫أخرجه أحمد وابن ماجه ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫‪ 5‬سورة التوبة [ ‪. ] 103‬‬ ‫()‬

‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪6‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 197‬‬ ‫()‬
‫‪7‬‬
‫عمِيقٍ‬
‫ن كُلّ فَجّ َ‬
‫ن مِ ْ‬
‫ك ِرجَالً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ َي ْأتِي َ‬
‫ن فِي النّاسِ بِا ْلحَجّ َي ْأتُو َ‬
‫وقال ‪ ( :‬وََأذّ ْ‬

‫ن َبهِيمَ ِة ا ْلَأ ْنعَامِ فَكُلُوا‬


‫سمَ اللّ ِه فِي َأيّا ٍم َمعْلُومَاتٍ عَلَى مَا َرزَ َق ُهمْ مِ ْ‬
‫شهَدُوا مَنَافِ َع َل ُهمْ َو َي ْذكُرُوا ا ْ‬
‫لِ َي ْ‬

‫ط ِعمُوا الْبَائِسَ ا ْل َفقِيرَ ُثمّ ْليَ ْقضُوا تَ َف َث ُهمْ وَ ْليُوفُوا ُنذُورَهُمْ وَ ْل َيطّ ّوفُوا بِا ْل َبيْتِ ا ْل َعتِيقِ ذَِلكَ‬
‫ِم ْنهَا َوأَ ْ‬

‫ت َل ُكمُ ا ْلَأ ْنعَامُ إِلّا مَا ُيتْلَى عََل ْي ُكمْ فَاجْتَنِبُوا‬


‫ت الّلهِ َف ُهوَ خَيْ ٌر َلهُ عِنْدَ رَ ّب ِه وَُأحِلّ ْ‬
‫ظمْ حُ ُرمَا ِ‬
‫َومَنْ ُي َع ّ‬

‫ك بِاللّهِ َف َكَأ ّنمَا‬


‫شرِ ْ‬
‫ن ُي ْ‬
‫ش ِركِينَ ِب ِه َومَ ْ‬
‫ن وَاجْتَنِبُوا َق ْولَ الزّو ِر حُ َنفَاءَ لِّلهِ غَ ْيرَ ُم ْ‬
‫ال ّرجْسَ ِمنَ الْ َأوْثَا ِ‬

‫شعَائِرَ الّلهِ‬
‫ظمْ َ‬
‫ك َومَنْ ُي َع ّ‬
‫سحِيقٍ ذَلِ َ‬
‫طيْرُ َأوْ َت ْهوِي بِ ِه الرّيحُ فِي َمكَانٍ َ‬
‫خطَفُ ُه ال ّ‬
‫سمَا ِء َفتَ ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫خرّ مِ َ‬
‫َ‬

‫ت ا ْل َعتِيقِ وَِلكُلّ ُأمّةٍ‬


‫س ّمىً ُثمّ َمحِّلهَا إِلَى ا ْل َبيْ ِ‬
‫ن َتقْوَى ا ْلقُلُوبِ َل ُكمْ فِيهَا َمنَافِ ُع إِلَى َأجَلٍ ُم َ‬
‫فَإِ ّنهَا مِ ْ‬

‫حدٌ فَ َل ُه َأسْ ِلمُوا‬


‫ن َبهِيمَةِ ا ْلَأ ْنعَامِ َفإِلَ ُه ُكمْ إَِلهٌ وَا ِ‬
‫سمَ اللّهِ عَلَى مَا َرزَ َق ُهمْ مِ ْ‬
‫جعَ ْلنَا َمنْسَكا ِل َي ْذ ُكرُوا ا ْ‬
‫َ‬

‫علَى مَا أَصَا َبهُ ْم وَا ْلمُقِيمِي‬


‫ن الّذِينَ إِذَا ُذكِ َر الّلهُ َوجِلَتْ قُلُو ُب ُهمْ وَالصّابِرِينَ َ‬
‫وَ َبشّرِ ا ْل ُمخْبِتِي َ‬

‫خ ْيرٌ فَاذْ ُكرُوا اسْمَ‬


‫شعَائِرِ اللّهِ َل ُك ْم فِيهَا َ‬
‫ن َ‬
‫جعَ ْلنَاهَا َل ُكمْ مِ ْ‬
‫الصّلةِ َو ِممّا َرزَقْنَا ُه ْم يُ ْنفِقُونَ وَا ْل ُبدْنَ َ‬

‫خ ْرنَاهَا َل ُكمْ‬
‫سّ‬‫ط ِعمُوا الْقَانِ َع وَا ْل ُمعْتَرّ َكذَِلكَ َ‬
‫جنُو ُبهَا َفكُلُوا ِم ْنهَا َوأَ ْ‬
‫جبَتْ ُ‬
‫اللّهِ عََل ْيهَا صَوَافّ َفِإذَا َو َ‬

‫سخّرَهَا َل ُكمْ‬
‫ك َ‬
‫ن َينَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا وَل ِدمَاؤُهَا وَ َلكِنْ يَنَاُل ُه ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ كَذَلِ َ‬
‫ن لَ ْ‬
‫َلعَّل ُكمْ َتشْ ُكرُو َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫سنِي َ‬
‫حِ‬‫شرِ ا ْل ُم ْ‬
‫لِ ُتكَبّرُوا الّلهَ عَلَى مَا هَدَا ُكمْ َو َب ّ‬

‫ليس له جزاء إل الجنـة‬ ‫(‪)2‬‬


‫ويقـول ‪ -‬صلى ال عليـه وسلم ‪ .. " : -‬والحج المبرور‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫"‬

‫(‪)4‬‬
‫ويقول ‪ " :‬من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ‪ ،‬رجع كما ولدته أمه "‬

‫وخلصة هذه اليات والحاديث أن الشعائر التعبدية ذات مقتضيات ‪ ،‬وأنها ل تنتهي‬

‫بذات نفسها ‪ ،‬أي بمجرد أدائها ‪ ،‬إنما تصحبها وتتبعها مقتضيات ‪ ،‬هي التي تعطيها معناها‬

‫سورة الحج [ ‪. ] 37 - 27‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬أي الذي ل إثم فيه ‪.‬‬ ‫()‬

‫‪ )(3‬متفق عليه ‪.‬‬


‫‪ )(4‬متفق عليه ‪.‬‬
‫الحقيقي ‪ ،‬ومهمتها الحقيقية في حياة المة المسلمة ‪.‬‬

‫صحيح أن ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬تعبد هذه المة بهذه العبادات بالذات ‪ .‬وال يقضي‬

‫عمّا يَ ْفعَلُ وَ ُهمْ‬


‫سأَلُ َ‬
‫بما يشاء ل معقب لحكمه ‪ ،‬وهو سبحانه يتعبد من يشاء بما يشاء ( ل ُي ْ‬

‫سأَلُونَ ) (‪ )1‬وليس لحد أن يتعبد إل بما فرضه ال عليه من ألوان العبادة أو بما استحبه منه‬
‫ُي ْ‬

‫سبحانه ‪ .‬ومن هذه الوجهة نقول ‪ :‬إن هذه العبادات مقصودة بذاتها ل يغني شيء عنها ‪ ،‬مهما‬

‫اجتهد العبد من عند نفسه ‪ ،‬ومهما زعم أنه يترضى ال بما ابتدعه من عند نفسه من ألوان‬

‫العبادة ‪ ..‬ولكن الواضح من اليات والحاديث أن هذه العبادات لها غاية أبعد منها ‪،‬‬

‫منصوص عليها نصا صريحا بحيث ل تحتاج إلى استنباط أو اجتهاد (‪ ، )2‬مما يقطع بأنها‬

‫ليست غاية في حد ذاتها ‪ ،‬وأن القيام بها دون أداء مقتضياتها يضيّع الحكمة منها ‪ ،‬والغاية من‬

‫افتراضها ‪..‬‬

‫والقول بأن ال افترضها ليتعبد بها عباده فحسب ‪ ،‬ولينظر من يطيعه بالغيب ومن‬

‫يعصيه ‪ ،‬وأنه ليس من الضروري أن تكون هناك حكمة معلومة للبشر من وراء افتراضها ‪،‬‬

‫لن حكمتها عند ال ‪..‬‬

‫هذا القول ل يوفي العبادات قدرها ‪ ،‬ول يغطي كل مجالها ‪ ،‬مع أنه صحيح في ذاته ‪..‬‬

‫فما دام ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬قد بين الحكمة ‪ -‬أو بعض الحكمة ‪ -‬من افتراض هذه‬

‫العبادات ‪ ،‬فليس لنا نحن أن نلغي ما نص ال ورسوله عليه من الحكمة ‪ ،‬ونقول ‪ :‬إن‬

‫العبادات مفروضة لذاتها ‪ ،‬ول شيء مطلوب وراءها !‬

‫مقصودة بذاتها نعم ‪ ،‬ولكن ل لذاتها فحسب ‪ ،‬وإنما لذاتها ولما وراءها من‬

‫‪ )(1‬سورة النبياء [ ‪. ] 23‬‬


‫‪ )(2‬قد يحتاج النسان إلى الستنباط والجتهاد للتعرف على الحكم غير المنصوص عليها بشأن العبادات ‪ ،‬أما‬
‫المنصوص عليها فل تحتاج إلى استنباط ول اجتهاد ‪..‬‬
‫المقتضيـات ‪ ..‬فإذا قمنا بها لذاتها فحسب وأغفلنا مقتضياتها المنصوص عليها فهل نكون قد‬

‫أدينا العبادة التي فرضها ال ؟!‬

‫تلك هي القضية التي غفلت عنها الجيال المتأخرة حين حصرت العبادة في الشعائر ‪،‬‬

‫ثم حصرت الشعائر في مجرد الداء ‪..‬‬

‫وصحيح أن الناس استنكروا ما حدث من تنائج هذا النحسار ‪ ،‬حين رأوا قوما يؤدون‬

‫الشعائر ثم ل يعملون بمقتضاها بل يعملون بعكس مقتضاها ‪ ،‬فيصلون ول تنهاهم صلتهم عن‬

‫الفحشاء والمنكر ‪ ،‬ويصومون ول يؤدي بهم الصوم إلى التقوى ‪ ،‬ويزكون وأموالهم حرام أو‬

‫مختلطة بالحرام ‪ ،‬ويحجون فل يزودهم الحج بالتقوى والخبات إلى ال ‪ ،‬ول يمنعهم عن‬

‫شهادة الزور !‬

‫استنكروا لن النفس تستنكر ذلك بفطرتها ‪..‬‬

‫ولكنه استنكار قاصر ل يصل إلى تغيير ذلك المنكر الضخم ‪ ،‬لنه قد وقر حتى في‬

‫حس المنكرين أنفسهم أن أولئك قد أدوا العبادة على أي حال !!‬

‫ن فرق شاسع بين أداء الشعيرة‬


‫كل ! لم يؤدوا العبادة ! لقد قاموا بالشعيرة نعم ! ولك ْ‬

‫وأداء العبادة !‬

‫إنه ل توجد عبادة واحدة في السلم يقتصـر المطلوب فيها على أدائهـا ‪ -‬مجرد‬

‫الداء ‪ -‬فحسب ‪..‬‬

‫إنما الصح ‪ -‬كما بينا من قبل ‪ -‬أن نقول ‪ :‬إن العبادة تبدأ بالداء ‪ ،‬ول تتم إل بوقوع‬

‫المقتضى المطلوب من أدائها ‪.‬‬


‫أو نقول بعبارة أخرى ‪ :‬إن أداء الشعيـرة ‪ -‬أو العبادة ‪ -‬قائما بمفرده يمكن أن يعطي‬

‫" مظهرية السلم " في الحياة الدنيا ‪ ،‬فتجري الحكـام على صاحبهـا أنـه مسلم ‪ ..‬ولكنه‬

‫‪ -‬وحده ‪ -‬غير مقبول عند ال ‪.‬‬

‫ل إله إل ال تبدأ بنطقها ‪ ..‬ولكن نطقها وحده ل يحقـق التوحيد ‪ ،‬الذي هو حقيقة‬

‫السلم ‪ ،‬إل أن يلتزم النسان التزاما سلوكيا واقعيا بما ل بد من اللتزام به ‪ ،‬وهو عدم‬

‫الشرك في العتقاد ‪ ،‬وتقديم الشعائر التعبدية ل وحده بل شريك ‪ ،‬وتحكيم شريعة ال في كل‬

‫أمر من المور ‪.‬‬

‫والصلة تبدأ بأدائها ‪ -‬على الصورة التي بينها ال ورسوله ‪ -‬وتعطي مظهرية السلم‬

‫بالداء ‪ ،‬ولكنها ل تقبل عند ال حتى تؤدي مقتضاها من النتهاء عن الفحشاء والمنكر ‪ .‬ومن‬

‫ن ُهمْ ُيرَاؤُونَ‬
‫ن صَل ِتهِمْ سَاهُونَ اّلذِي َ‬
‫هنا يقول سبحانه وتعالى ‪َ ( :‬فوَ ْيلٌ لِ ْلمُصَلّينَ اّلذِينَ ُهمْ عَ ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫ن ا ْلمَاعُو َ‬
‫َو َي ْم َنعُو َ‬

‫وكذلك بقية العبادات ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وحين وصل الفساد في مفهوم العبادة إلى الحد الذي بيناه ‪ ،‬من حصرها في الشعائر ‪،‬‬

‫ثم حصر الشعائر في مجرد الداء دون تحقيق ما يتعلق بها من المقتضيات ‪ ..‬فقد كان هذا‬

‫فسادا ضخما ول شك ‪ .‬ومع ذلك فلم يكن المر ليتوقف عند هذا الحد ‪ ،‬فمن طبيعة النحسار‬

‫أن يزداد ما دام الناس ل يحسون أنه انحسار ‪ ،‬وأنهم مقصرون في أداء الواجب ‪ ،‬ومنحرفون‬

‫عن الطريق الصحيح ‪..‬‬

‫سورة الماعون [ ‪. ] 7 - 4‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫لقد كانت الجيال الولى تحتفل احتفال ضخما بالشعائر التعبدية ‪ -‬وإن كانت ل تحصر‬

‫العبادة فيها ‪ -‬لنها تحس ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬أنها محطات التزود بالزاد ‪ ،‬وتحس بحاجة المسافر‬
‫(‪)2‬‬
‫إلى ذلك الزاد ‪.‬‬

‫لقد كانت الصلة في حسهم ‪ -‬كما ينبغي أن تكون ‪ -‬وقوفا بين يدي ال ‪ ،‬وخشوعا‬

‫وإخباتا يناسب ذلك الموقف بين يدي ال ‪ .‬كان ال حاضرا في قلوبهم ‪ -‬وكان هذا الحضور‬

‫يحكم الموقف كله ‪ .‬فال قريب منهم مطّلع عليهم ‪ .‬يراهم وهم يتهيأون للصلة ‪ ،‬ويراهم وهم‬

‫يؤدونها ‪ ،‬وهم يتلون القرآن ‪ ،‬وهم يركعون ويسجدون ويقومون ‪ .‬ويحسون في كل لحظة أنه‬

‫قريب منهم ‪ ،‬يرقب حركاتهم وسكناتهم ‪ ،‬ويطلع على خفقات قلوبهم ‪ ،‬ويتقبل إخباتهم ‪،‬‬

‫ويستجيب دعاءهم ‪ ..‬فيكون لهذا كله أثره في نفوسهم ‪ ،‬فتؤدي الصلة ‪ -‬من ثم ‪ -‬وظيفتها‬

‫في حياتهم ‪ .‬تزيدهم قربا من ال ‪ .‬وتنهاهم عن الفحشاء والمنكر ‪ .‬وتزيدهم رغبة في طاعة‬

‫ال ورسوله ‪ ،‬لنهم بهذه الطاعة ينالـون رضوان ال في الحياة الدنيا وفي يوم الموقف‬

‫العظيم ‪..‬‬

‫وكان الصيام في حسهم ‪ -‬كما ينبغي أن يكون ‪ -‬مهرجانا هائل للعبادة ‪ ،‬والتقرب إلى‬

‫ال بالطاعات ‪..‬‬

‫لم يكن مجرد جوع في النهار وشبع في الليل !‬

‫كان موسما يستعدون له نفسيا وروحيا كمن يتهيأ لدخول حرم قدسي ‪ ،‬يهيئ نفسه إليه‬

‫بالخشوع والخبات قبل أن تخطو إليه قدماه ‪ ،‬ومن ثم تتأثر نفسه بكل خطوة يخطوها في‬

‫محيطة ‪ ،‬كأنما يتلقى منه إشعاعات تنفذ منه إلى العماق ‪..‬‬

‫ن يَا‬
‫خيْرَ الزّا ِد التّقْوَى وَاتّقُو ِ‬
‫ن َ‬
‫‪ )(2‬ورد ذكر " الزاد " صريحا في شأن الحج في قوله تعالى ‪َ ( :‬وتَزَ ّودُوا فَإِ ّ‬
‫أُولِي الَْأ ْلبَابِ ) [ سورة البقرة ‪. ]197 :‬‬
‫كان عبادة شاملة تطهر النفس من أدران كثيرة تترسب في النفس في معتاد حياة‬

‫النسـان ‪ ،‬فيخرج عنها حين يغير نظام حياته ‪ ،‬ويدخل في نظام جديد للحياة ‪..‬‬

‫فكما أن تغيير نظام الطعام يعيد النشاط إلى خليا الجسم فيجدد حيويتها ‪ ،‬فكذلك التغيير‬

‫النفسي الذي يحدث في الصوم ‪ ،‬يجدد حياة الروح ‪ ،‬فتنطلق شفيفة رفافة إلى آفاق لم تكن‬

‫ترتادها من قبل ‪ ،‬أو كانت ترتادها فهجرتها تحت وطأة المشاغل اليومية التي تتعامل مع عالم‬

‫الحس أكثر مما تتعامل مع عالم الروح ‪ ،‬فيعيد ذلك الشهر المبارك إلى النفس طاقتها الروحية‬

‫الشفيفة ‪ ،‬فيتجدد بناء النسان ‪ ،‬وتتوازن في نفسه المشاعر ‪ ،‬وتتوازن الرغبات ‪..‬‬

‫ثم إن الصيام تجنيد للنفس وتدريب على الستعلء على الشهوات ‪ ،‬ينمي في القلوب‬

‫تقواها وإخباتها إلى ال ‪.‬‬

‫إن التقوى ل تكون مع غلبة الشهوات ‪ ..‬إنما تكون مع النضباط الذي يلزم النفس‬

‫حدُودُ اللّهِ‬
‫حدُودُ اللّهِ فَل َت ْقرَبُوهَا ) (‪ )1‬أو ( تِ ْلكَ ُ‬
‫بالحدود التي حددها ال ‪ ،‬وقال عنها ‪ ( :‬تِ ْلكَ ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫فَل َت ْعتَدُوهَا )‬

‫والنضباط يحتاج إلى تدريب لكي يصبح عادة ‪ ،‬حتى تستسلم شهوات النفس والجسد‬

‫لرادة النسان ‪ ،‬ويصبح قيادها في ديه ‪ ،‬يطلقها ‪ -‬بقدر ‪ -‬حين يشاء ‪ ،‬ويحبسها ‪ -‬بقدر ‪-‬‬

‫حين يشاء ‪.‬‬

‫والصيام هو ذلك التدريب ! وهو يتناول من الجسد والنفس أقوى دفعاتها ‪ :‬الطعام‬

‫والشراب والجنس ‪ .‬ومن ثم فهو تدريب معين على التقوى ‪:‬‬

‫ن َقبِْلكُمْ َلعَّلكُـمْ‬
‫صيَامُ َكمَا ُكتِـبَ عَلَى اّلذِينَ مِ ْ‬
‫ن آ َمنُـوا ُكتِبَ عََل ْي ُكمُ ال ّ‬
‫( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 187‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 229‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫َتتّقـو َ‬

‫وكانت الزكاة في حسهم ‪ -‬كما ينبغي أن تكون ‪ -‬زكاة للنفس والمال معا ‪ ،‬وطهرا‬

‫س ّيهَا ومعن ِويّها سواء ‪.‬‬


‫حّ‬‫للحياة كلها ِ‬

‫لم تكن " ضريبة " تؤدى للدولة ‪ ..‬ولكنها قربة تقدم إلى ال ‪.‬‬

‫وفرق كبير بين أن تكون ضريبة مالية أو عينية ‪ ،‬تمتزج في حس دافعيها بسطوة الدولة‬

‫وقهرها ‪ ،‬وبين أن يشعر من يؤديها بأنه يتطهر بأدائها ‪ ..‬يغسل أدرانه ‪ ،‬ثم يبدأ صفحة جديدة‬

‫من الكدح خالية مما يشوب بياضها ‪ .‬فيمشي في مناكب الرض ليأكل من رزق ال ‪ ،‬متطلعا‬

‫لرضوان ال يوم يلقاه ‪:‬‬

‫ن رِ ْزقِـهِ وَإَِل ْيهِ‬


‫ل فَا ْمشُوا فِي َمنَا ِك ِبهَا َوكُلُـوا مِ ْ‬
‫ل َل ُكمُ ا ْلَأرْضَ ذَلُو ً‬
‫جعَ َ‬
‫( ُهوَ اّلذِي َ‬
‫(‪)2‬‬
‫الّنشُـورُ )‬

‫ط ّهرُ ُهمْ‬
‫خذْ ِمنْ َأ ْموَاِل ِهمْ صَ َدقَ ًة تُ َ‬
‫والتطهـر الذي تشير إليه اليـة الكريمـة ‪ُ ( :‬‬

‫ليس هو التطهر من الشح وحده ‪ ،‬وهو المعنى القريب الذي يتبادر إلى‬ ‫(‪)3‬‬
‫َو ُت َزكّيهِمْ ِبهَا )‬

‫الذهن حين تذكر زكاة المال ‪ .‬ولكنه تطهير السعي كله في مناكب الرض من أن يدخله‬

‫الحرام أو ُي َت َوجّه فيه بالحرام ‪.‬‬

‫والنسان الصالح الذي يهدف السلم إلى تنشئته ليقوم بدور الخلفة في الرض ‪ ،‬ل بد‬

‫أن يستعلي على شهوة المال من ناحية ‪ ،‬ول بد أن يشعر برابطة الخوة بينه وبين المؤمنين‬

‫من ناحية أخرى ‪ .‬أخوة توجب عليه كفالة العاجزين منهم وإعانتهم على توفير الحياة الكريمة‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 183‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الملك [ ‪. ] 15‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة التوبة [ ‪. ] 103‬‬ ‫()‬
‫التي يكفلها السلم لجميع الناس ‪.‬‬

‫وحين يتحرى النسان الطيب الحلل وهو يسعى إلى الرزق ‪ ،‬ويتحرى هذه الخوة بينه‬
‫(‪)1‬‬
‫وبين المؤمنين فل شك تسمو نفسه وترتفع فتزكو كما يريدها ال ‪َ ( :‬قدْ َأفْلَحَ َمنْ َزكّاهَا )‬

‫والسعي وراء الرزق من أكبر المزالق التي يتعرض لها النسان ‪ ،‬لن هناك شهوات‬

‫محببة إلى النفوس ‪:‬‬

‫طرَةِ ِمنَ الذّهَبِ وَالْ ِفضّةِ‬


‫ن ال ّنسَاءِ وَا ْل َبنِينَ وَالْ َقنَاطِيرِ ا ْلمُ َق ْن َ‬
‫شهَوَاتِ مِ َ‬
‫ن لِلنّاسِ حُبّ ال ّ‬
‫( ُزيّ َ‬
‫(‪)2‬‬
‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا ‪) ..‬‬
‫حرْثِ ذَِلكَ َمتَاعُ ا ْل َ‬
‫ل ا ْل ُمسَ ّومَةِ وَا ْلَأ ْنعَامِ وَا ْل َ‬
‫خيْ ِ‬
‫وَا ْل َ‬

‫والنفوس عرضة للستغراق في تلك الشهوات ما لم تلتزم بالطيب الحلل من ناحية ‪،‬‬

‫وما لم تنشغل من ناحية أخرى بالقيم العليا التي تستوعب مشاعر النفس وترتفع بها عن المتاع‬

‫الحسّي الغليظ ‪:‬‬

‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِينَ‬


‫جرِي ِمنْ َت ْ‬
‫جنّاتٌ َت ْ‬
‫ع ْندَ َر ّبهِ ْم َ‬
‫ن ذَِل ُكمْ لِّلذِينَ اتّ َقوْا ِ‬
‫خ ْيرٍ مِ ْ‬
‫( قُلْ َأ ُؤ َن ّب ُئكُمْ ِب َ‬

‫غ ِفرْ‬
‫ن َربّنَا ِإ ّننَا آ َمنّا فَا ْ‬
‫ن يَقُولُو َ‬
‫ن مِنَ اللّهِ وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْل ِعبَادِ اّلذِي َ‬
‫ج ُمطَ ّهرَةٌ َو ِرضْوَا ٌ‬
‫فِيهَا وََأزْوَا ٌ‬

‫ن وَا ْلمُنْ ِفقِينَ وَا ْل ُمسْ َتغْفِرِينَ‬


‫ب النّـارِ الصّا ِبرِينَ وَالصّا ِدقِينَ وَا ْلقَانِتِي َ‬
‫عذَا َ‬
‫َلنَا ُذنُوبَنـا َو ِقنَـا َ‬
‫(‪)3‬‬
‫سحَا ِر )‬
‫بِالْ َأ ْ‬

‫والحرص على التطهر في السعي وراء الرزق ‪ ،‬مع النفاق من حصيلة ذلك السعي في‬

‫سبيل ال ‪ -‬وهما حقيقة الزكاة ‪ -‬من أكبر المعينات للنفس البشرية لكي تستقيم على الفق‬

‫العلى ‪ ،‬ول تسقط في حمأة الشهوات ‪:‬‬

‫سورة الشمس [ ‪. ] 9‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 14‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 17 - 15‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫ومن ثم كان اشتراط الطهارة في المال الذي تؤدى زكاته ‪:‬‬

‫(‪)1‬‬
‫" إن ال طيب ل يقبل إل طيبا "‬

‫ن ا ْلَأرْضِ وَل َت َي ّممُوا‬


‫جنَا َل ُكمْ مِ َ‬
‫خ َر ْ‬
‫س ْب ُتمْ َو ِممّا َأ ْ‬
‫ط ّيبَاتِ مَا َك َ‬
‫ن آ َمنُوا َأنْفِقُوا ِمنْ َ‬
‫( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬
‫(‪)2‬‬
‫خبِيثَ ِمنْ ُه ُتنْفِقُونَ )‬
‫ا ْل َ‬

‫ومن ثم كذلك كانت الزكاة تؤدي مقتضاها في حياة المسلم على اتساعها ‪ ،‬ل في جانب‬

‫المال فحسب ‪:‬‬

‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫جعُو َ‬
‫ن يُ ْؤتُونَ مَا آتَوْا َوقُلُو ُب ُهمْ َوجِلَ ٌة َأ ّنهُمْ إِلَى َربّ ِهمْ رَا ِ‬
‫( َاّلذِي َ‬

‫أما الحج ‪ -‬على كونه مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيل ‪ ،‬وعلى كونه " أياما‬

‫معدودات " ‪ -‬فهو عبادة عميقة الثر في حياة المسلم حين يعيشه كما كانت تعيشه الجيال‬

‫الولى ‪ ،‬التي مارست العبادة بمعناها الشامل العميق ‪.‬‬

‫إنه عبادة تشمل في طياتها كل العبادات ‪ ..‬بتركيز واضح على عبادة التوحيد بالذات ‪..‬‬

‫إنه خلوص وتجرد إلى ال ‪ ..‬تجرد من كل ما تتعلق به النفس في الحياة الدنيا من أهل‬

‫ومسكن وموطن ومتاع ‪ ..‬حتى الملبس الذي تعود النسان أن " يتزين " به ويتأنق بخياطته‬

‫على قده ‪..‬‬

‫تجرد من ذلك كله إلى ال ‪ ..‬وحده ‪ ..‬تلبية وذكرا وتوجها وصلة ونسكا وعبادة ‪..‬‬

‫سبق ذكره ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 267‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة المؤمنون [ ‪. ] 60‬‬ ‫()‬
‫وفي حشر يذكّر بيوم الحشر ‪..‬‬

‫وفي شيء من الجهد والمشقة ‪ ،‬ولكن في غير المعتاد من " الكدح " الذي ينفق فيه معتاد‬

‫حياته ‪ ..‬في كدح من نوع آخر ‪ ،‬يشد النفس إلى اليوم الخر بقدر ما ينتزعها من متاع‬

‫الرض ‪..‬‬

‫" أياما معدودات " ‪ ..‬ولكنها في حساب النفس حدث هائل عميق ‪ ..‬تغيير كامل شامل‬

‫يتوغل في النفس حتى أعماقها ويلقي عنها خبثها كله ‪ ..‬لتعود كأنما هي خلق آخر ‪ ..‬ولد‬

‫اللحظة ‪ ،‬ليبدأ رحلة حياة جديدة غير التي كانت من قبل ‪..‬‬

‫ومن هنا كان الحج يؤدي مقتضاه في حياة المسلم ‪ ،‬مصداقا لقول الرسول ‪ -‬صلى ال‬
‫(‪)1‬‬
‫عليه وسلم ‪ " : -‬من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ‪ ،‬رجع كما ولدته أمه "‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫كل هذا تغيّر تغيرا عنيفا حين تغيّر مفهوم العبادة ‪..‬‬

‫فحين غفل الناس عن " مقتضيات " العبادة ‪ ،‬من التوجه المخلص ل ‪ ،‬والخبات له‬

‫والخشوع في حضرته سبحانه ‪ ،‬وحين انقطعت العبادة عن لوازمها المتعلقة بها ‪ ،‬ونتائجها‬

‫التي ينبغي أن تترتب عليها ‪..‬‬

‫حين انحسرت مساحتها في نفوس الذين يؤدونها ‪..‬‬

‫حين صار المطلوب كله هو أداء الشعيرة ‪ ،‬وانحصرت " العبادة " كلها في هذا المر ‪،‬‬

‫كان حريا بهذا اللون من العبادة أن ينحسر أكثر فأكثر ‪ ،‬حتى يصبح المطلوب هو أداء‬

‫سبق ذكره ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫الشعيرة بأي صورة كانت ‪ ..‬ولو كان أداء آليا بغير روح ‪ ،‬أو أداء تقليديا يحركه الحرص‬

‫على التقاليد أكثر مما يحركه الدافع إلى عبادة ال ‪..‬‬

‫وتلك هي الصورة التي انتهت إليها العبادة في الجيل الذي شهد النهيار ‪..‬‬

‫وصلت الصلة أن تكون مجرد حركات تؤدى بل خشوع ول إخبات ‪ ،‬ول التفات إلى‬

‫معنى ما يتلى فيها من اليات والذكر ‪ ،‬وينصرف منها المصلي ل تكاد تحس أنها قد تركت‬

‫أثرا في نفسه ‪ ،‬أو انعكست على تصرف من تصرفاته ‪ ،‬هذا إن لم يكن قد انشغل عنها تماما‬

‫‪ -‬وهو فيها ‪ -‬بحساب خسائره وأرباحه ‪ ،‬أو شيء من سائر مشاغله اليومية !‬

‫وأصبح الصيام مجرد امتناع عن الطعام والشراب ساعات النهار ‪ ،‬مع نهم ضخم إلى‬

‫الطعام بعد الفطار يصل إلى حد السراف ‪ ،‬كأنما هو شهر الطعام ل شهر الصوم ! فضل‬

‫عن البحث عن " المسليات " في ليل الصوم ‪ ،‬من عكوف علىالمذياع أو التلفاز ‪ ،‬أو ما هو‬

‫أعجب من ذلك وأسوأ ‪ ،‬مما تنشره صحف " محترمة " في البلد " السلمية " " المتقدمة " من‬

‫إعلنات تقول ‪ :‬إن الراقصة الفلنية " تحيي ليالي رمضان !! " في المسرح الفلني إلى ما‬

‫بعد منتصف الليل ‪ ،‬ويعج المسرح " بالصائمين " الذين صاموا من قبل الرقص ومن بعده ‪،‬‬

‫بل حرج في صدورهم ول تأثم ‪ ،‬ول إحساس بالتناقض بين ما يجري في الليل وما يجري في‬

‫النهار ‪ ،‬فإنما هي ‪ -‬حفظك ال ‪ -‬ساعة بعد ساعة ! ‪ " ..‬ساعة لربك وساعة لقلبك " كما‬

‫يقول التعبير الجاهلي المعاصر !‬

‫والزكاة ‪ -‬إن أداها صاحب المال ‪ -‬ل تمنعه من أكل الربا ول تحرج صدره منه !‬

‫فهذه عبادة وهذا عمل ! ول علقة ول تداخل بين العبادة وبين العمل ! فضل عن اللعيب‬

‫والحيل التي يسترد بها " المزكي " جزءا من المال الذي تصدق به بالتحايل على من أداه إليهم‬

‫من الفقراء والمساكين !‬


‫والحج فرصة هائلة للحصول على لقب " الحاج " ‪ ..‬ول حرج على " الحاج " بعد ذلك‬

‫أن يحلـف اليمين المغموس إذا اقتضت ذلك " مصلحة " التجارة أو أي نوع من التعامل يقوم‬

‫به ! فضل عما يقع في الحج ذاته من أمور يذهل لها العاقل ‪ ،‬فضل عن المسلم المؤمن ‪ ،‬من‬

‫تدافع ‪ -‬مقصود ‪ -‬بالمناكب ‪ ،‬ومن " حجاج " يدوسون فوق إخوان لهم في السلم وإخوان‬

‫لهم في الحج حتى يزهقوا أرواحهم غير مبالين ‪ ،‬من أجل النتهاء من الرجم بأية صورة‬

‫أوالنتهاء من الطواف ! وفضل عن جهالة الجاهلين الذين يتركون أركانا ل يصح الحج إل‬

‫بها ‪ ،‬أو يرتكبون مخالفات صريحة دون فدية ول نسك ‪ ..‬لنهم ل يعلمون !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫يقول علماؤنا ‪ :‬سقط الواجب بالداء ‪ ،‬أيّا كانت صورة الداء ‪ ..‬حتى وإن لم يكن له‬

‫ثواب !‬

‫أو ‪ -‬بلغة أخرى ‪ -‬سددت الخانة وانتهى المر !‬

‫ويقول علماؤنا ‪ :‬ما دام قد قام بالواجب على أي نحو فهو مؤمن ل يخلد في النار ‪ ..‬بل‬

‫قال المرجئة ‪ :‬يدخل الجنة ولو لم يعمل عمل واحدا من أعمال السلم !‬

‫ونسلم بما يقوله علماؤنا توفيرا للجدل ! بصرف النظر عن كون اليات والحاديث التي‬

‫يستدلون بها تنطبق على واقعنا المعاصر أم ل تنطبق عليه !‬

‫ثم ‪ ..‬إذا بنا أمام أمة ل تبالي ‪ -‬إل من رحم ربك ‪ -‬أن تدخل النار ما دامت ل تخلّد‬

‫فيها ‪ ..‬وحسبها النجاة من الخلود في النار !‬

‫وما يقول أحد إن البقاء في النار خمسين ألف سنة ثم الخروج منها برحمة من ال ‪ ،‬مثل‬

‫الخلود فيها بل انقطاع ‪..‬‬


‫ولكن المة التي ل تبالي أن تدخل النار ما دامت ل تخلّد فيها ‪ ..‬ل تبالي أن ترسب في‬

‫المتحان على أمل أن تلتقطها " لجان الرأفة " ‪ ..‬ل جرم تكون كما أسلفنا غثاء كغثاء السيل ‪،‬‬

‫تتداعى عليها المم كما تداعى الكله إلى قصعتها ‪ ،‬ل يقام لها وزن ول اعتبار ‪ ،‬كتلك القبيلة‬

‫التي هجاها الشاعر العربي القديم ‪:‬‬

‫ول يستأذنون وهم شهود !‬ ‫ويقضى المر حين تغيب َت ْيمٌ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫فرق شاسع بين مفهوم العبادة كما نزل من عند ال ‪ ،‬وعلمه رسول ال ‪ -‬صلى ال‬

‫عليه وسلم ‪ -‬ووعاه الجيل الول ومارسه ‪ ،‬وبين المفهوم الشائه الهزيل الضامر الذي فهمته‬

‫الجيال المتأخرة ‪ ..‬مارسته أم لم تمارسه !‬

‫المفهوم الول هو الذي أخرج " خير أمة أخرجت للناس " ‪..‬‬

‫والمفهوم الخير هو الذي أخرج " غثاء السيل " ‪..‬‬

‫ول بد من تصحيح المفاهيم ‪..‬‬

‫(‪)1‬‬
‫حتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبَأنْ ُفسِ ِهمْ )‬
‫( ِإنّ اللّهَ ل ُي َغيّرُ مَا بِقَ ْومٍ َ‬

‫خبِيثِ ) (‪. )2‬‬


‫ج َبكَ َك ْثرَةُ ا ْل َ‬
‫عَ‬‫خبِيثُ وَالطّيّبُ وََلوْ َأ ْ‬
‫ستَوِي ا ْل َ‬
‫( قُلْ ل َي ْ‬

‫إن المسألة ليست هامشية ول ثانوية ‪ ..‬ول هي مسألة هينة يكفي لحلها شيء من الوعظ‬

‫والرشاد ‪ ..‬أو حتى سيل من الوعظ والرشاد ‪..‬‬

‫سورة الرعد [ ‪. ] 11‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 100‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫إنها مسألة تحتاج إلى بناء من جديد ‪..‬‬

‫إن العبادة على هذا النحو الشائه الهزيل الضامر ‪ ،‬ولو قام بها اللف مليون كلهم الذين‬

‫يعيشون اليوم من المحيط إلى المحيط ‪ ،‬لن تنقذهم مما هم فيه ‪ ،‬ولن ترفعهم من وهدة الهوان‬

‫والذل التي تحيطهم من كل مكان ‪.‬‬

‫لمر بسيط ‪ ...‬لنها ليست هي العبادة التي كتبها ال ‪ ،‬وكتب معها العزة لمن يقومون‬

‫بها في صورتها الصحيحة ‪ ..‬وكتب لهم التمكين والستخلف في الرض ‪..‬‬

‫س َتخْلَفَ‬
‫ض َكمَا ا ْ‬
‫س َتخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ‬
‫ن آ َمنُوا ِم ْن ُكمْ َو َ‬
‫عدَ اللّهُ اّلذِي َ‬
‫( وَ َ‬

‫ن َب ْعدِ خَ ْو ِف ِهمْ َأمْنا َيعْبُدُونَنِي ل‬


‫اّلذِينَ ِمنْ َقبِْلهِمْ وََل ُي َم ّكنَنّ َل ُهمْ دِي َن ُهمُ اّلذِي ا ْرتَضَى َل ُهمْ وََل ُي َبدّلَ ّن ُهمْ مِ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫شيْئا )‬
‫ُيشْ ِركُونَ بِي َ‬

‫والمَعول كله كما هو واضح من الية هو على تلك " العبادة " حين تؤدى على النحو‬

‫الذي كتبه ال ‪..‬‬

‫أما العبادة التي يقوم بها الغثاء الموجود اليوم من المحيط إلى المحيط ‪ -‬إل من رحم‬

‫ربك ‪ -‬العبادة التي تفرغ ل إله إل ال من مقتضياتها ‪ ،‬وتجعلها مجرد كلمة تنطق باللسان ‪،‬‬

‫وتخرج التكاليف كلها من دائرة العبادة ‪ ،‬وتفرغ الشعائر من شحنتها الحية الدافعة ‪ ،‬وتتركها‬

‫أداء شائها هزيل ل روح فيه ‪ ،‬فإنها ل تحقق إل هذا الخسران الذي يمارسه ذلك الغثاء في‬

‫واقع الرض ‪..‬‬

‫والغثاء ‪ -‬بهذه العبادة الهزيلة الشائهة الضامرة ‪ -‬ل يعجز عن إنقاذ نفسه فحسب ‪ ،‬بل‬

‫هو كذلك يصد عن السبيل !‬

‫سورة النور [ ‪. ] 55‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫والذين يدافعون عنه ويقولون ‪ :‬مؤمن وسيدخل الجنة ‪ ،‬ولو لم يعمل عمل واحدا من‬

‫أعمال السلم ‪ ،‬يغفلون في حرارة دفاعهم ‪ -‬ونعتقد فيهم الخلص ‪ -‬يغفلون عن الثر‬

‫السيئ الذي يتركه ذلك الدفاع !‬

‫الثر السيئ في الغثاء نفسه ‪ ،‬إذ يملي له في الخدر الذي يعيش فيه ‪ ،‬ول يجعله يغير ما‬

‫بنفسه فيغيّر ال له ‪ ،‬والثر السيئ في الشباب " المثقف " الذي ندعوه إلى السلم !‬

‫فحين نقول لذلك الشبـاب " المثقف " ‪ :‬إن السلم هو الحل ‪ ،‬وإن ل إله إل ال هي‬

‫الحل ‪ ،‬وإن العبادة الصحيحة ل هي الحل ‪ ..‬يهز كتفيه ساخرا ويقول ‪ :‬ها هو ذا السلم‬

‫موجودا ‪ ،‬وها هي ذي ل إله إل ال موجودة ‪ ،‬وها هي ذي العبادة قائمة ‪ ،‬ومع ذلك فأكثر‬

‫الناس تأخرا هم المسلمون ‪ ،‬وأكثر الناس مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية هم المسلمون ‪،‬‬

‫وأسوأ الناس خلقا هم المسلمون ! فلنبحث عن الحل إذن خارج السلم ‪ ،‬لنه ‪ -‬وهو قائم ‪-‬‬

‫عديم الثر في حياة الناس ! غير قادر على حل مشاكل الناس !‬

‫ول بد لنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا ومع الناس ‪ ،‬ونقول لهم ‪ -‬بعيدا عن قضية‬

‫‪ : -‬إن الموجود اليوم في حياة الناس ليس هو‬ ‫(‪)1‬‬


‫إصدار الحكم على هذا الجيل من الناس‬

‫الدين الذي أنزله ال ‪ ،‬ول العبادة التي أمر بها ال ‪ .‬وإنه ل بد لنا من تصحيح المفاهيم أول ‪،‬‬

‫ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة للسلم ‪.‬‬

‫ثم نقول لهم ‪ :‬إن ما حل بالمسلمين من تأخر حضاري وعلمي وعسكري وسياسي‬

‫ومادي واقتصادي واجتماعي وفكري وروحي ‪ ..‬الخ لم يكن سببه أنهم مسلمون (‪ ! )2‬ولم يكن‬

‫سببه حتميات تاريخية ول أطوارا اقتصادية ! (‪ )3‬إنما سببه الصيل هو فساد سلوك المسلمين‬
‫سبق أن أشرنا إلى هذه القضية في الفصل الول ‪ " :‬مفهوم ل إله إل ال " وفي كتاب " واقعنا المعاصر "‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫فصل ‪ " :‬الصحوة السلمية " ‪.‬‬
‫تلك قولة الغرب التي استخدمها في الغزو الفكري لسلخ المسلمين مما بقي لهم من إسلم !‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫تلك قولة الشيوعيين التي يستخدمونها في الغزو الفكري لقناع الناس أنه ل حل لهم إل الشيوعية !‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫أول ‪ ،‬ثم فساد تصورهم ثانيا ‪ ،‬وإفراغ السلم أخيرا من كل محتواه ‪.‬‬

‫فيوم كانت " وأعدوا لهم ما استطعتم من " عبادة لم يجرؤ أحد على احتلل أرض‬

‫المسلمين واستلب خيراتهم !‬

‫ويوم كان " طلب العلم فريضة " لم يكن هناك تخلف علمي ‪ ،‬بل كانت المة المسلمة‬

‫هي أمة العلم ‪ ،‬التي تعلمت أوربا في مدارسها وجامعاتها !‬

‫ويوم كانت " فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه " عبادة ‪ ،‬كانت المجتمعات السلمية‬

‫أغنى مجتمعات الرض !‬

‫ويوم كانت " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " عبادة ‪ ،‬وكان ولي المر يستشعر أنه‬

‫راع ومسئول عن رعيته ‪ ،‬لم يكن للفقراء في المجتمع السلمي قضية ‪ ،‬لن العلج الرباني‬

‫لمشكلة الفقر كان يطبق في المجتمع السلمي عبادة ل ! (‪. )1‬‬

‫ويوم كانت " وعاشروهن بالمعروف " عبادة ‪ ،‬لم تكن للمرأة المسلمة قضية ! لن كل‬

‫الحقوق والضمانات التي أمر ال لها بها كانت تؤدى إليها ‪ ،‬طاعة ل ‪ ،‬وعبادة ل !‬

‫ولن يصلح آخر هذه المة إل بما صلح به أولها ‪..‬‬

‫يقول يحيى بن سعيد ‪ :‬بعثني عمر على صدقات إفريقية فاقتضيتها ‪ ،‬فبحثت عن فقراء أعطيها لهم فلم‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫أجد ‪ ،‬فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ‪ ،‬فاشتريت بها عبيدا فأعتقتهم ‪ .‬وجاء في كتاب " الموال " للمام‬
‫الحافظ أبي عبيد القاسم بن سلم المتوفـى عام ‪ 224‬هـ ( ص ‪ : ) 358 - 357‬وحدثني سعيد بن أبي مريم‬
‫‪ ..‬قال ‪ :‬كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق ‪ " :‬أن أخرج للناس‬
‫أعطياتهم " فكتب إليه عبد الحميد ‪ :‬إنني أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت مال المسلمين مال " فكتب‬
‫إليه ‪ " :‬أن انظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه " فكتب إليه " إني قد زوجت كل‬
‫من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال " فكتب إليه بعد مخرج هذا ‪ " :‬أن انظر من كانت عليه جزية‬
‫فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على أرضه ‪ ،‬فإنا ل نريدهم لعام أو لعامين " !‬
‫(‪)1‬‬
‫تصحيح المفاهيم أول ‪ ،‬ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة للسلم ‪..‬‬

‫ولن يكون هناك سحر يمحو الضعف والتخلف في لحظات ويبدلهما تقدما وقوة ‪..‬‬

‫إنما هناك سنن ربانية تقوم عليها حياة الناس في الرض ‪..‬‬

‫وحين نعمل حسب السنن الصحيحة يأتينا الحل الصحيح ‪..‬‬

‫وليس من السنن الصحيحة أن نفسد ديننا ثم نقول ‪ :‬يا رب ! يا رب !‬

‫عمِلُوا الصّا ِلحَاتِ‬


‫ن آمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَ َ‬
‫إنما قال تعالى عن الحياة الدنيا ‪ ( :‬وَعَدَ الّل ُه الّذِي َ‬

‫ن َقبِْلهِمْ وََل ُي َم ّكنَنّ َل ُهمْ دِي َن ُهمُ اّلذِي ا ْرتَضَى َل ُهمْ‬


‫س َتخَْلفَ اّلذِينَ مِ ْ‬
‫ستَخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْضِ َكمَا ا ْ‬
‫َل َي ْ‬

‫شيْئا ) (‪. )2‬‬


‫ن بِي َ‬
‫ش ِركُو َ‬
‫خ ْو ِفهِمْ َأمْنا َي ْع ُبدُو َننِي ل ُي ْ‬
‫وََل ُي َبدَّل ّنهُ ْم مِنْ َب ْعدِ َ‬

‫جزَ بِهِ‬
‫ن َي ْعمَلْ سُوءا ُي ْ‬
‫س بِ َأمَانِ ّيكُ ْم وَل َأمَانِيّ أَ ْه ِل ا ْلكِتَابِ مَ ْ‬
‫وقال عن الحياة الخرة ‪ ( :‬لَيْ َ‬

‫ت مِنْ َذكَ ٍر َأوْ أُنْثَى وَ ُهوَ‬


‫ن الصّا ِلحَا ِ‬
‫ن اللّهِ وَِليّا وَل نَصِيرا َومَنْ َي ْع َملْ مِ َ‬
‫ن دُو ِ‬
‫جدْ لَ ُه مِ ْ‬
‫وَل َي ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن نَقِيرا )‬
‫جنّةَ وَل ُيظَْلمُو َ‬
‫ُم ْؤمِنٌ َفأُوَل ِئكَ َي ْدخُلُونَ ا ْل َ‬

‫يقول الشيوعيون عنا إننا نختـزل القضايا اختزال مخلّ ‪ ،‬ونجرد العامل الخلقـي ( ويقصدون به‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫العقيدة ! ) ‪ ،‬ونرد إليه المور كلها ‪ ،‬مجردا عن الطار المادي والقتصادي والطبقي والتاريخي ‪ ،‬سذاجـة‬
‫منا ‪ ،‬وجهل بالمادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ ! وقد ناقشت الفكر المادي وسائر مقولت الشيوعيين‬
‫مناقشة مستفيضة في كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " ( ص ‪ - 258‬ص ‪ 444‬من الطبعة الولى ‪ 1403‬هـ‬
‫‪ 1983 -‬م ) ول مجال هنا للعادة ‪ .‬ولكنا نقول فقط ‪ :‬إن الذي ندعو إليه ليس عامل أخلقيا مجردا كما‬
‫يتوهمون من كلمنا بسبب جهلهم بحقيقة السلم ‪ .‬فالسلم عقيدة ينبثق منها نظام سياسي اجتماعي اقتصادي‬
‫فكري حضاري مادي ‪ ،‬ثابت السس متغير الصورة بما يناسب أوضاع البشرية خلل مسيرتها التاريخية ‪،‬‬
‫وهو في تغيره الدائم محكوم أبدا بالسس الثابتة التي ل يجوز أن تتغير ‪ ،‬لن تغيرها يفسد الحياة البشرية ‪،‬‬
‫وإذا كنا " نبرز " العامل الخلقي ‪ -‬دون أن نجرده ‪ -‬فإننا نفعل ذلك لن الشيوعيين يغفلونه إغفال متعمدا ‪،‬‬
‫متأثرين بالفكر اليهودي الذي صاغ لهم الشيوعية ‪.‬‬
‫سورة النور [ ‪. ] 55‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 124 - 123‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫وواضح من اليات أن طريق الفوز في الدنيا هو ذاته طريق الفوز في الخرة بل‬

‫افتراق ‪.‬‬

‫فالمستخلفون الممكّنون في الدنيا هم ‪ " :‬الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات "‬

‫" ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " فأولئك هم الفائزون في‬

‫الخرة ‪.‬‬

‫ول غرابة في ذلك في الدين الذي يجعل الدنيا مزرعة الخرة ‪ ،‬ويجعل إقامة حكم ال‬

‫في الرض ‪ ،‬وتحقيق العدل الرباني ‪ ،‬وطلب العلم ‪ ،‬والمشي في مناكب الرض سعيا وراء‬

‫الرزق ‪ ،‬ومعاشرة الهل بالمعروف ‪ ،‬وإعداد العدة لعداء ال ‪ ،‬والتخلق بالخلق الفاضلة ‪..‬‬
‫(‪)1‬‬
‫جزءا من العبادة ‪ ،‬مطلوبا كالصلة والزكاة والصيام والحج‬

‫أما طريـق المرجئة ‪ ،‬الذي يخرج العمل من مسمى اليمان ‪ ،‬ويخرجه من مفهوم‬

‫العبادة ‪ ،‬فهو الطريق الخاسر في الدنيا والخرة على السواء ‪:‬‬

‫(‪)2‬‬
‫ل َي ْعمَلُ عَلَى شَاكَِلتِ ِه )‬
‫( قُلْ كُ ّ‬

‫(‪)3‬‬
‫عمِلُوا )‬
‫( وَِلكُلّ َد َرجَاتٌ ِممّا َ‬

‫‪ )(1‬سنعود إلى تفصيل هذا المعنى في فصل تال بعنوان " مفهوم الدنيا والخرة " ‪.‬‬
‫سورة السراء [ ‪. ] 84‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 132‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مَفهُوم القضَاءِ وَالقَدَر‬

‫اليمان بالقضاء والقدر جزء رئيسي من عقيدة المسلم ‪ ،‬كما بينها حديث جبريل عليه‬

‫السـلم ‪ " :‬اليمان أن تؤمـن بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخـر والقـدر خيره‬

‫وشره " (‪. )1‬‬

‫وهو من مميزات هذه المة في تاريخها الطويل ‪.‬‬

‫ولكنه كان في حس الجيال الولى من هذه المة قوة دافعة بناءة محركة ‪ ،‬بقدر ما‬

‫صار في حس الجيال المتأخرة منها قوة سلبية هدامة مخذّلة ‪ ،‬حين انحرف مفهوم القضاء‬

‫والقدر في حسها عن صورته الصحيحة التي عاشت بها الجيال الولى وبنت وعمرت‬

‫وتحركت ‪.‬‬

‫والصورة الظاهرة واحدة في الحالين ‪ ،‬ولكن شتان ما بين هذه وتلك في حقيقة المر ‪..‬‬

‫كما حدث في كل شيء في حياة هذه المة !‬

‫إن ألفاظ الشهادة التي كانت تنطقها الجيال الولى من المسلمين هي ذات اللفاظ التي‬

‫جرت على لسان الجيال المتأخرة " أشهد أل إله إل ال ‪ ،‬وأشهد أن محمدا رسول ال " ولكن‬

‫الولى كانت تهز الرض كلها وتحركها لنها كانت تعمل في واقع الرض برصيدها الكامل‬

‫وشحنتها الكاملة ‪ ،‬والخيرة لم تعد تصنع شيئا في الرض ‪ ،‬بل لم تعد تستطيع حتى أن تحافظ‬

‫أخرجه الشيخان ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫على الوجود السلمي أمام الغزو العسكري والسياسي والقتصادي ‪ ،‬وأمام الغزو الفكري‬

‫الذي هو أخطر من هؤلء جميعا ‪ ،‬لنها صارت كلمة بغير شحنة ول رصيد !‬

‫وحركات الصلة من قيام وقعود وركوع وسجود ‪ ،‬وقرآن يتلى ‪ ،‬وألفاظ تردد ‪ ،‬هي‬

‫هي منذ كانت إلى اليوم لم يتغير فيها شيء ‪ .‬ولكنها كانت تقام فتعلن عن وجود أمة حية قوية‬

‫مهيبة ‪ ،‬لنها كانت تؤدّى على حقيقتها ‪ ،‬وتؤدّي مقتضاها ‪ ،‬فتعلن عن وجود المة التي حققت‬

‫في عالم الواقع غاية الوجود النساني ‪ ،‬فكان لها من ثم الغلبة على أية أمة أخرى ل تحقق هذا‬

‫الوجود على صورته الصحيحة ‪ ،‬تحقيقا لسنة ال في الرض ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫عبَا ِديَ الصّاِلحُو َ‬
‫ض َيرِ ُثهَا ِ‬
‫ن َب ْعدِ ال ّذكْرِ َأنّ ا ْلَأرْ َ‬
‫( وَلَ َقدْ َك َت ْبنَا فِي ال ّزبُورِ مِ ْ‬

‫وتحقيقا لوعد ال لهذه المة خاصة ‪:‬‬

‫س َتخْلَفَ‬
‫ض َكمَا ا ْ‬
‫س َتخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ‬
‫ن آ َمنُوا ِم ْن ُكمْ َو َ‬
‫عدَ اللّهُ اّلذِي َ‬
‫( وَ َ‬

‫ن َب ْعدِ خَ ْو ِف ِهمْ َأمْنا َي ْع ُبدُو َننِي ل‬


‫اّلذِينَ ِمنْ َقبِْلهِمْ وََل ُي َم ّكنَنّ َل ُهمْ دِي َن ُهمُ اّلذِي ا ْرتَضَى َل ُهمْ وََل ُي َبدّلَ ّن ُهمْ مِ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫شيْئا )‬
‫ُيشْ ِركُونَ بِي َ‬

‫وكذلك عقيدة القضاء والقدر ‪ ..‬صورتها الظاهرة هي اليمان بأن كل ما يحدث في هذا‬

‫الكون وفي حياة النسان يتم بقضاء من ال وقدر ‪ ،‬وأنه ل يحدث في هذا الكون العريض كله‬

‫ول في حياة النسان إل ما قدره ال ‪.‬‬

‫شيْءٍ خَلَ ْقنَا ُه بِ َق َدرٍ ) (‪. )3‬‬


‫ل َ‬
‫( ِإنّا كُ ّ‬

‫‪ )(1‬سورة النبياء [ ‪. ] 105‬‬


‫سورة النور [ ‪. ] 55‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة القمر [ ‪. ] 49‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫س ُكمْ إِلّا فِي ِكتَابٍ ِمنْ َقبْلِ َأنْ َن ْبرَأَهَا إِنّ‬
‫( مَا َأصَابَ ِمنْ ُمصِيبَةٍ فِي ا ْلَأرْضِ وَل فِي َأنْ ُف ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ذَِلكَ عَلَى اللّ ِه َيسِيرٌ )‬

‫شيْءٍ‬
‫ن اللّهِ َو َمنْ ُي ْؤمِـنْ بِاللّ ِه َي ْهدِ قَ ْلبَـهُ وَاللّ ُه ِبكُلّ َ‬
‫( مَا َأصَابَ ِمنْ ُمصِيبَـ ٍة إِلّا ِبِإذْ ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫عَلِيـمٌ )‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ل ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ )‬
‫ب اللّ ُه َلنَا هُ َو مَوْلنَا وَعَلَى اللّ ِه فَ ْليَتَ َوكّ ِ‬
‫( قُلْ َلنْ ُيصِي َبنَا إِلّا مَا َكتَ َ‬

‫ولكن الفارق الضخم في حقيقة هذه العقيدة بين الجيال الولى والجيال المتأخرة هو‬

‫الفارق بين التوكل على ال كما مارسته الجيال الولى والتواكل الذي حدث في عصر‬

‫النحسار ‪ ،‬ثم عصر النحدار ‪ ،‬وهو فارق ل يقل ضخامة عن فارق ل إله إل ال ‪ ،‬وفارق‬

‫الصلة وسائر العبادات ما بين هذه الجيال وتلك الجيال !‬

‫كان المسلم الول يؤمن بأن كل ما يحدث له أو يحدث في الكون هو بقضاء ال وقدره ‪،‬‬

‫وأن شيئا لن يغيّر ما قدره ال منذ الزل في اللوح المحفوظ ‪.‬‬

‫ثم كانت نتيجة إيمانـه بـذلك أن يقول لنفسه ‪ ،‬أإذا ذهبت إلى ميدان القتال ُأقْـتَلُ‬

‫بسـبب ذهـابي إلى هناك ؟ أم إنه يجري عليّ ما قـدره ال لي ‪ ،‬فإن كان كـتب لي‬

‫الشهادة هناك فسـأقتل ‪ -‬بقضاء من ال وقدر ‪ -‬وإن كان كتب لي العودة فسأعود ؟ ثم إنني‬

‫ي المـوت فسأموت ولو كنت في مكاني هذا ولم أذهب إلى القتال ‪..‬‬
‫إن كان ال قد كتب عل ّ‬

‫إذن فما الذي يقعدني عن القتال ؟ خـوف المـوت وهـو مقدر على أي حال ؟ أم خوف‬

‫الذى ولـن ينـالني منه إل ما قدره ال في كل حال ؟ كـل فـلنذهب إلى أداء فريضـة‬

‫ربنـا ‪ ،‬ولن يصيـبنا إل ما كـتب ال لنـا ‪ ،‬هو مـولنا وعـلى ال فـليتوكل‬

‫سورة الحديد [ ‪. ] 22‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة التغابن [ ‪. ] 11‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة التوبة [ ‪. ] 51‬‬ ‫()‬
‫المـؤمنـون ‪ .‬ثم يذهب إلى القتال بنفس شجاعة فيستبسل ‪ ،‬فيُمضي ال به قدره في‬

‫الرض ‪ ،‬وينصر به هذا الدين ويمكن له ‪ ،‬ثم يكـون من أمره ما قدره ال له ‪ ،‬إما الشهادة‬

‫وإما النصر ‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫حسْ َن َييْنِ )‬
‫حدَى ا ْل ُ‬
‫ل َت َربّصُونَ ِبنَا إِلّا ِإ ْ‬
‫( قُلْ هَ ْ‬

‫ولما اضطربت نفوس المنافقين وضعاف الميان بعد هزيمة أحد نزلت آيات بينات تقرر‬

‫هذه الحقيقة وتؤكدها وترسخها في نفوس المؤمنين ‪.‬‬

‫سهُمْ‬
‫( ُثمّ َأ ْنزَلَ عََل ْي ُكمْ مِنْ َب ْعدِ ا ْل َغ ّم َأ َمنَةً ُنعَاسا َي ْغشَى طَائِفَ ًة ِم ْن ُكمْ َوطَائِفَ ٌة َقدْ أَ َه ّم ْتهُمْ َأ ْن ُف ُ‬

‫ن ا ْلَأمْرَ كُلّهُ لِلّهِ‬


‫ل إِ ّ‬
‫شيْءٍ قُ ْ‬
‫ن ا ْلَأمْرِ ِمنْ َ‬
‫ل َلنَا مِ َ‬
‫ن هَ ْ‬
‫حقّ ظَنّ ا ْلجَاهِِليّ ِة يَقُولُو َ‬
‫غ ْيرَ ا ْل َ‬
‫َيظُنّونَ بِاللّهِ َ‬

‫شيْ ٌء مَا ُقتِ ْلنَا هَا ُهنَا قُلْ لَ ْو ُك ْنتُمْ‬


‫ن ا ْلَأمْرِ َ‬
‫ن َلنَا مِ َ‬
‫ن لَ ْو كَا َ‬
‫ك يَقُولُو َ‬
‫س ِهمْ مَا ل ُي ْبدُونَ َل َ‬
‫ُيخْفُونَ فِي َأنْ ُف ِ‬

‫ج ِعهِمْ وَِل َي ْبتَِليَ اللّ ُه مَا فِي صُدُو ِر ُكمْ وَِل ُي َمحّصَ‬
‫ن ُكتِبَ عََل ْيهِمُ ا ْل َقتْلُ إِلَى َمضَا ِ‬
‫فِي ُبيُو ِتكُ ْم َلبَ َرزَ اّلذِي َ‬

‫صدُورِ ) (‪.. )2‬‬


‫مَا فِي قُلُو ِب ُكمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ ال ّ‬

‫ض أَوْ‬
‫خوَا ِنهِمْ ِإذَا ضَ َربُوا فِي ا ْلأَرْ ِ‬
‫لْ‬‫ن كَ َفرُوا َوقَالُوا ِ‬
‫ن آ َمنُوا ل َتكُونُوا كَاّلذِي َ‬
‫( يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬

‫حيِي‬
‫حسْرَ ًة فِي قُلُو ِب ِهمْ وَاللّهُ ُي ْ‬
‫ل اللّ ُه ذَِلكَ َ‬
‫جعَ َ‬
‫ع ْن َدنَا مَا مَاتُوا َومَا ُقتِلُوا ِل َي ْ‬
‫ى لَ ْو كَانُوا ِ‬
‫غزّ ً‬
‫كَانُوا ُ‬

‫خ ْيرٌ‬
‫حمَةٌ َ‬
‫سبِيلِ اللّ ِه َأوْ ُمّتمْ َل َمغْ ِفرَ ٌة مِنَ اللّهِ َو َر ْ‬
‫ن ُقتِلْ ُتمْ فِي َ‬
‫َو ُيمِيتُ وَاللّ ُه ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ وََلئِ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫شرُو َ‬
‫ن ُمّتمْ أَ ْو ُقتِ ْلتُمْ لِلَى اللّ ِه ُتحْ َ‬
‫ج َمعُونَ وََلئِ ْ‬
‫ِممّا َي ْ‬

‫كذلك كان المسلم الول يفعـل وهو يكشف مجاهيل الرض لنشر الدعوة ‪ ،‬ولطلب‬

‫العلم ‪ ،‬وللسعي وراء الرزق ‪ ،‬ويمشي في مناكب الرض ويتعرض للخطار والمشقات ‪.‬‬

‫‪ )(1‬سورة التوبة [ ‪. ] 52‬‬


‫سورة آل عمران [ ‪. ] 154‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 158 - 156‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫كانت القاعدة في حسه أن أقدم ‪ ..‬وتوكل على ال ‪.‬‬

‫كيف تحول هذا القدام إلى تقاعس وقعود في انتظار ما قدره ال ؟!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫كذلك كان في حس المسلم الول أن إيمانه بالقضاء والقدر ل ينفي مسئوليته عن عمله‬

‫حين يرتكب خطأ يعرّضه للجزاء ‪.‬‬

‫وفي وقعة أحد كان الدرس هائل وعميقا في نفوس المؤمنين ‪.‬‬

‫لقد خالف الرماة أمر قائدهم ورسولهم ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬إذ أمرهم أل يبرحوا‬

‫أماكنهم ولو رأوا المسلمين تتخطفهم الطير ‪ .‬ولكنهم حين رأوا النصر ‪ ،‬وظنوا أن المعركة قد‬

‫انتهت إلى غايتها ‪ ،‬شغلتهم الغنائم عن أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فغادروا أماكنهم‬

‫ونزلوا مخافة أل يحسب لهم نصيب من الغنائم ! ومن هنا كرّ المشركون بخيلهم على جيش‬

‫المسلمين مطمئنين إلى انصراف القوة الضاربة من فوق جبل الرماة ‪ .‬وكانت الهزيمة‬

‫والضطراب العنيف في صفوف الجيش ‪ ،‬وإصابة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وما‬

‫أشاع الكفار من قتله عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وأثر ذلك في تفريق وحدة الجيش ‪..‬‬

‫ونزل القرآن بعتاب شديد للمؤمنين على ما فعلوا ‪ .‬ونزل كذلك بالشرح والبيان ‪ .‬وكان‬

‫من هذا الشرح تلك اليات ‪:‬‬

‫سكُمْ ِإنّ اللّهَ‬


‫ن عِنْ ِد أَنْ ُف ِ‬
‫ص ْبتُمْ ِمثَْل ْيهَا قُ ْل ُتمْ َأنّى َهذَا قُلْ ُهوَ مِ ْ‬
‫( َأوََلمّا َأصَابَ ْت ُكمْ ُمصِيبَ ٌة َقدْ َأ َ‬

‫ن الّلهِ وَِل َيعَْلمَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ وَِل َيعْلَمَ اّلذِينَ‬


‫ج ْمعَانِ فَبِإِذْ ِ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ َومَا أَصَا َبكُمْ َي ْومَ الْ َتقَى ا ْل َ‬
‫ل َ‬
‫عَلَى كُ ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫نَافَقُوا ‪) ..‬‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 167 - 165‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫إنه من عند أنفسكم ‪ ..‬وفي ذات الوقت هو بإذن ال ‪.‬‬

‫المسئولية عن الخطأ قائمة ‪ ،‬واليمان بأنه من قضاء ال وقدره قائم ‪ ..‬ل يتعارضان ‪.‬‬

‫ولقد كان هذا من أعظم ما تعلمته هذه المة ومن أعظم ما تميزت به ‪ :‬إزالة التعارض‬

‫بين إيمان النسان بمسئوليته عن عمله ‪ ،‬وإيمانه بقضاء ال وقدره ‪ ،‬وإقرار المرين معا في‬

‫القلب البشري ليتوازن بينهما ‪ ،‬ويتوازن بهما في مسيرته في هذه الرض ‪ ،‬فل يزايله‬

‫الحساس الدائم بقدر ال والتطلع إليه في الكبيرة والصغيرة ‪ ،‬ول يزايله كذلك مراقبته لعمال‬

‫نفسه ووزنها بميزان الخطأ والصواب ‪.‬‬

‫كبف تحول هذا التوازن البديع إلى تنصل من كل مسئولية بدعوى اليمان بقضاء ال‬

‫وقدره ؟‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫كذلك كان في حس المة الولى أن إيمانها بالقضاء والقدر ل يتعارض مع اتخاذ‬

‫السباب ‪.‬‬

‫لقـد كانوا يدركون من جانب أن ل سننا في هذا الكون وفي حياة البشر غير قابلة‬

‫للتغيير ‪ .‬ومع أن ل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬سنة خارقة تملك أن تصنع كل شيء ‪ ،‬وليعجزها‬

‫ول يقيدها شيء ‪ ،‬لن مشيئة ال طليقة من كل قيد ‪ ،‬إل أن ال جلت قدرته قد قضى بأن تكون‬

‫سنته الجارية ثابتة في الحياة الدنيا ‪ ،‬وأن تكون سنته الخارقة استثناء لها ‪ ،‬وكلتاهما معلقة‬

‫بمشيئة ال ‪.‬‬

‫لذلك كان في حسهم أنه ل بد لهم من مجاراة السنن الجارية إذا رغبوا في الوصول إلى‬

‫نتيجة معينة في واقع حياتهم ‪ ،‬أي أنه ل بد من اتخاذ السباب المؤدية إلى النتائج بحسب تلك‬
‫السنن الجارية ‪.‬‬

‫وبيّن ال لهم ذلك بيانا صريحا في كتابه المنزل ‪.‬‬

‫فلقد قدر ال لدينه أن ينتصر ويمكّن في الرض ‪ ،‬وقدر لكيد الكفار أن يحبط ‪:‬‬

‫ظ ِهرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَ ْو َكرِهَ‬


‫حقّ ِل ُي ْ‬
‫( ُهوَ اّلذِي َأ ْرسَـلَ َرسُولَ ُه بِا ْلهُدَى َودِينِ ا ْل َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ا ْل ُمشْ ِركُونَ )‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫سبَقُوا ِإ ّن ُهمْ ل ُي ْعجِزُونَ )‬
‫ن كَ َفرُوا َ‬
‫سبَنّ اّلذِي َ‬
‫حَ‬‫( وَل َي ْ‬

‫ل يعجزون ال الذي كتب لدينه النصر ‪ ،‬ول يسبقون قدره ‪ .‬فقدره هو السابق وإرادته‬

‫هي النافذة ‪.‬‬

‫ومع ذلك فهل قال لهم ‪ :‬ما دمت قدرت لديني النصر والتمكين فاقعدوا وانتظروا نفاذ‬

‫قدري ‪ ،‬وهو ل بد نافذ ؟ كل ! إنما قال لهم ‪ -‬في نفس الوقت الذي عرفهم فيه بقدره المكتوب‬

‫لهذا الدين ‪ ،‬وبأنه نافذ ل محالة ‪ -‬إنه ل بد لهم أن يجاهدوا ويعدوا ‪:‬‬

‫ط ْعتُمْ ِمنْ قُوّةٍ َومِنْ‬


‫س َت َ‬
‫عدّوا َل ُهمْ مَا ا ْ‬
‫سبَقُوا ِإ ّن ُهمْ ل ُي ْعجِزُونَ وَأَ ِ‬
‫ن كَ َفرُوا َ‬
‫سبَنّ اّلذِي َ‬
‫حَ‬‫( وَل َي ْ‬

‫ن مِنْ دُو ِن ِهمْ ل َتعَْلمُو َن ُهمُ اللّ ُه َيعَْل ُم ُهمْ َومَا‬


‫خرِي َ‬
‫ع ُد ّو ُكمْ وَآ َ‬
‫عدُوّ اللّهِ وَ َ‬
‫خيْلِ ُترْ ِهبُونَ ِبهِ َ‬
‫ِربَاطِ ا ْل َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫سبِيلِ اللّ ِه يُ َوفّ إَِل ْي ُكمْ وََأ ْن ُتمْ ل ُتظَْلمُو َ‬
‫شيْءٍ فِي َ‬
‫ن َ‬
‫ُتنْفِقُوا مِ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫ص ْر ُكمْ َو ُي َثبّتْ َأ ْقدَا َمكُمْ )‬
‫ن تَنْصُرُوا الّلهَ َينْ ُ‬
‫( إِ ْ‬

‫سورة الصف [ ‪. ] 9‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬سورة النفال [ ‪. ] 59‬‬ ‫()‬

‫‪ )(3‬سورة النفال [ ‪. ] 60 - 59‬‬


‫سورة محمد [ ‪. ] 7‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫فل بد من اتخاذ السباب للنصر ‪ ،‬وإن كان النصر قدرا مقدورا من عند ال ‪.‬‬

‫وهكذا تجاور في حس المسلم إيمانه بقدر ال ‪ ،‬وإيمانه بأنه ل بد أن يتخذ السباب‬

‫المؤدية إلى النتائج بحسب السنة الجارية ‪ ،‬وإن كانت هذه المة لم تترك لتفتن بالسباب ‪،‬‬

‫تظنها مؤدية ‪ -‬بذاتها ‪ -‬إلى النتائج بمعزل عن قدر ال كما تصنع الجاهلية المعاصرة ‪ ،‬فقد‬

‫كان درس حنين لتثبيت هذا المعنى في نفوس المؤمنين ‪.‬‬

‫عجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُت ُكمْ َفَلمْ ُتغْنِ عَ ْن ُكمْ شَيْئا َوضَاقَتْ عََل ْي ُكمُ ا ْلَأرْضُ ِبمَا‬
‫ن إِذْ أَ ْ‬
‫ح َنيْ ٍ‬
‫( ‪َ ..‬ويَ ْومَ ُ‬

‫جنُودا َلمْ‬
‫سكِي َنتَهُ عَلَى َرسُولِهِ َوعَلَى ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ وََأ ْنزَلَ ُ‬
‫ت ُثمّ وَّل ْي ُتمْ ُم ْد ِبرِينَ ُثمّ َأ ْنزَلَ اللّهُ َ‬
‫َرحُبَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫جزَا ُء ا ْلكَا ِفرِينَ )‬
‫ن كَ َفرُوا َوذَِلكَ َ‬
‫عذّبَ اّلذِي َ‬
‫َترَوْهَا وَ َ‬

‫وكان هذا كذلك من أبدع ما تعلمته هذه المة وتربّتْ عليه ‪ ،‬لتتوازن في مسيرتها‬

‫الرضية بين التواكل بغير اتخاذ السباب ‪ ،‬وبين التكال على السباب ‪.‬‬

‫كيف تحول هذا التوازن الرائع إلى سلبية كاملة ‪ ،‬وقعود عن اتخاذ السباب بدعوى‬

‫التكال على ال ؟‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ثم إنه لم يكن في حس المة الولى تعارض بين التسليم لقدر ال ‪ ،‬والعمل على تغيير‬

‫الواقع السيئ حين يكون ‪.‬‬

‫إن كل شيء في هذا الوجود وفي حياة البشر واقع بقضاء ال وقدره ‪ .‬ل جدال في ذلك‬

‫ول شك فيه في نفوس المؤمنين ‪.‬‬

‫‪ )(1‬سورة التوبة [ ‪. ] 26 - 25‬‬


‫وحين يوجد واقع سيئ في حياة الناس فهو واقع بقضاء ال وقدره ‪ ،‬سواء بسبب من‬

‫عند الناس كما حدث للمؤمنين يوم أحد بسبب مخالفتهم لمر رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم‬

‫‪ -‬أو لمر ل مسئولية لهم فيه كما كان الحال في طاعون عمواس أيام الخليفة عمر ابن‬

‫الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ ( -‬ولم تكن أسباب الطاعون معروفة يومئذ ول وسائل علجه ‪،‬‬

‫فل مسئولية على أحد في ذلك الحين ) أو ابتلء من عند ال للمؤمنين ليمحصهم كما يحدث في‬

‫فترات البتلء التي تجري بسنة من سنن ال ‪:‬‬

‫ن يَقُولُوا آ َمنّا وَ ُهمْ ل يُ ْف َتنُونَ وَلَ َقدْ َف َتنّا اّلذِينَ ِمنْ َقبِْل ِهمْ فَلَ َيعَْلمَنّ‬
‫ن ُيتْ َركُوا أَ ْ‬
‫س أَ ْ‬
‫حسِبَ النّا ُ‬
‫( َأ َ‬

‫ص َدقُوا وََل َيعَْلمَنّ ا ْلكَا ِذبِينَ ) (‪. )1‬‬


‫اللّ ُه اّلذِينَ َ‬

‫هذا وغيره مما يصيب الناس في الرض يحدث كله بقضاء ال وقدره ‪..‬‬

‫ولكن ال لم يأمر الناس أن يستسلموا لقدر ال بمعنى عدم العمل على تغيير الواقع‬

‫السيئ الذي هم فيه ‪ .‬إنما أمرهم بالتسليم ( أو الستسلم ) لقدر ال بمعنى الرضى بما وقع‬

‫بالفعل على أنه قدر محتوم لم يكن يمكن تلفيه ‪ .‬أما القعود عنده ‪ ،‬وعدم تغييره أو محاولة‬

‫تغييره فأمر آخر لم يأمر ال به ول حث عليه ‪ ،‬ول علقة له بالرضى بما وقع على أنه قدر‬

‫محتوم من عند ال ‪.‬‬

‫ولنأخذ النماذج الثلثة التي أشرنا إليها على سبيل المثال ‪.‬‬

‫فحين وقعت هزيمة أحد ‪ ،‬بسبب من عند المؤمنين وبقدر من عند ال في الوقت ذاته ‪:‬‬

‫ج ْمعَانِ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ َومَا َأصَا َبكُمْ َي ْومَ ا ْلتَقَى ا ْل َ‬
‫ل َ‬
‫ن اللّهَ عَلَى كُ ّ‬
‫س ُكمْ إِ ّ‬
‫ع ْندِ َأنْ ُف ِ‬
‫( قُلْ ُهوَ ِمنْ ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ن اللّ ِه )‬
‫َفبِِإذْ ِ‬

‫‪ )(1‬سورة العنكبوت [ ‪. ] 3 - 2‬‬


‫سورة آل عمران [ ‪. ] 166 - 165‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫طلب ال من المؤمنين أن يسلموا لهذا القدر المقدور ‪:‬‬

‫خبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ ُثمّ‬


‫غمّا ِب َغمّ ِلكَيْل َتحْزَنُوا عَلَى مَا فَا َتكُمْ وَل مَا أَصَا َب ُكمْ وَاللّهُ َ‬
‫( َفَأثَا َب ُكمْ َ‬

‫ن َب ْعدِ ا ْل َغمّ َأ َمنَ ًة ُنعَاسا َي ْغشَى طَائِفَ ًة ِم ْنكُمْ ‪. )1( ) ..‬‬


‫َأ ْنزَلَ عََل ْي ُكمْ مِ ْ‬

‫ولكن هل طلب منهم أن يستسلموا للهزيمة ويقعدوا ‪ ،‬ول يحاولوا تغيير الموقف السيئ‬

‫الذي وجدوا أنفسهم فيه ‪ ،‬بحجة أنه قدر مقدور لم يكونوا ليفلتوا منه مهما حاولوا ؟! ‪.‬‬

‫كل ! إن الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬القائد والصاحب والمربي ‪ ،‬تصرف في ذلك‬

‫الموقف تصرفا يدل على اتجاه مغاير تماما لهذا الظن ‪ .‬فقد جمع المسلمين ‪ -‬بجراحاتهم ‪-‬‬

‫للقاء العدو مرة أخرى ‪ ،‬والهزيمة لما تنته آثارها من الجساد ول من النفوس ! وامتدح ال‬

‫موقف المؤمنين " الذين استجابوا ل والرسول من بعد ما أصابهم القرح " ‪:‬‬

‫جرٌ‬
‫سنُوا ِم ْنهُمْ وَاتّ َقوْا َأ ْ‬
‫حَ‬‫ح لِّلذِينَ َأ ْ‬
‫ن َب ْعدِ مَا َأصَابَ ُهمُ الْ َقرْ ُ‬
‫ل مِ ْ‬
‫س َتجَابُوا لِلّهِ وَال ّرسُو ِ‬
‫ناْ‬
‫( اّلذِي َ‬

‫حسْبُنَا الّلهُ‬
‫خشَوْ ُهمْ َفزَادَ ُهمْ إِيمَانا َوقَالُوا َ‬
‫ج َمعُوا َل ُكمْ فَا ْ‬
‫ن النّاسَ َقدْ َ‬
‫س إِ ّ‬
‫عظِيمٌ اّلذِينَ قَالَ َل ُهمُ النّا ُ‬
‫َ‬

‫ن اللّهِ وَاللّهُ ذُو‬


‫س ُهمْ سُوءٌ وَا ّت َبعُوا ِرضْوَا َ‬
‫ل َلمْ َي ْمسَ ْ‬
‫وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ فَانْقََلبُوا ِب ِن ْعمَ ٍة مِنَ اللّهِ َوفَضْ ٍ‬

‫عظِيمٍ ) (‪. )2‬‬


‫فَضْلٍ َ‬

‫فهـؤلء هم الذين هزموا بقدر من ال ( وإن كان بسبب من عند أنفسهـم في الوقت‬

‫ذاته ) يقولون ‪ " :‬حسبنا ال ونعم الوكيل " ‪ .‬فهم يتوكلون على ال ليخرجوا من الواقع السيئ‬

‫إلى واقع جديد ! ول يمنعهم قدر ال السابق من التطلع إلى قدر جديد ! وإذا كان قدر ال‬

‫الول قد أصابهم بخطأ ارتكبوه ‪ ،‬فهم يتطلعون إلى قدر ال الخر بعمل يقدمونه بين يدي ذلك‬

‫التطلع ‪ ،‬وهو الستجابة ل والرسول ‪ ،‬أي بسلوك صحيح بعد السلوك الذي وقعت فيه‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 154 - 153‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 174 - 172‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الخطاء ‪ .‬وهو اتخاذ السباب مع التوكل على ال ‪ .‬وهكذا لم يتعارض في حسهم التسليم بقدر‬

‫ال الواقع مع العمل على التغيير ‪.‬‬

‫وفي طاعون عمواس ‪ ،‬علم الخليفة رضي ال عنه بخبر الطاعون فأمر الجند‬

‫بالنصراف ‪ ،‬فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي ال عنه ‪ " :‬أتفر من قدر ال ؟! " قال ‪" :‬‬

‫أفر من قدر ال إلى قدر ال ! " وهي عبارة بليغة تدل على عمق فهم الخليفة ‪ -‬رضي ال‬

‫عنه ‪ -‬لقضية القضاء والقدر ‪ .‬إن الطاعون قدر واقع على الناس بالفعل ‪ ،‬ولكن لم يقع بعد‬

‫على عمر وجيشه ‪ .‬فالعمل على تحاشيه أمر واجب ‪ .‬وهو يتم ‪ -‬حين يتم ‪ -‬بقدر من ال‬

‫كذلك ‪ .‬فقدر ال بالطاعون ل يمنع قدر ال بالنجاة من الطاعون ! ولقد اتخذ عمر السباب‬

‫التي ظنها مؤدية إلى النجاة ‪ ،‬فتمت النجاة بقدر من ال ‪.‬‬

‫وفي البتلء الذي أصاب المؤمنين على يد قريش ‪ -‬وهو سنة من سنن ال لم تتخلف‬

‫مع أي جماعة من المؤمنين تواجه الجاهلية في بدء الدعوة قبل التمكين ‪ -‬كان البتلء واقعا‬

‫بقدر من ال ‪ ،‬ولحكمة كذلك يعلمها ال ويريدها ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫ن ا ْلكَاذِبِي َ‬
‫صدَقُوا وََل َيعَْلمَ ّ‬
‫ن َ‬
‫( فََل َيعَْلمَنّ اللّهُ اّلذِي َ‬

‫فهل منع ذلك رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬والمؤمنين من محاولة التغيير ؟‬

‫بطلب الجوار من بعض المشركين حينا ‪ ،‬وبالهجرة إلى الحبشة حينا ‪ ،‬حتى جاء الذن‬

‫بالهجرة إلى المدينة آخر المر ؟‬

‫كل ! إن وقوع البتلء بقدر من ال ‪ ،‬وبمقتضى سنة من سنن ال الحتمية ‪ ،‬ل يمنع‬

‫الجتهاد في تحاشي البتلء أو التخلص منه ‪ ،‬وحين يتم شيء من ذلك فإنه يتم بقدر من ال ‪،‬‬

‫وحين يخفق الجهد فسيكون ذلك أيضا بقدر من ال !‬

‫‪ )(1‬سورة العنكبوت [ ‪. ] 3‬‬


‫لذلك لم يتعارض في حس المة الولى واجب التسليم لقدر ال مع محاولة التغيير تطلعا‬

‫إلى قدر جديد من عند ال ‪ .‬وكان هذا من روائع ما تربّتْ عليه المة لتتوازن به بين سلبية‬

‫الستسلم التي تحطم الرادة وبين الرغبة الجامحة التي ل تعرف التسليم ‪.‬‬

‫كيف تحول هذا التوازن إلى قعود عن التغيير بدعوى الستسلم لقدر ال ؟‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫إن عقيدة القضاء والقدر في صورتها الصحيحة تمثل نقط توازن هائلة ورائعة في حس‬

‫النسان المسلم الذي يسيّر حياته بمقتضى هذه العقيدة ‪.‬‬

‫ففضل عن كونها حقيقة متعلقـة بذات ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬وبأسمائه وصفاته‬

‫وأفعاله ‪ ،‬فهي على ذلك من أصل العقيدة ‪ ،‬ومن جوهر ل إله إل ال ‪ ،‬لن أي تصور بأنه‬

‫يمكن أن يقع في ملك ال شيء لم يقدره ال هو شرك ل شك فيه ‪..‬‬

‫فضل عن ذلك فإنها عقيدة ذات مقتضى ضخم جدا في حياة النسان المؤمن ‪..‬‬

‫إنها نقطة توازن بين اتجاهات شتى يتعرض لها النسان حين ل ينضبط سلوكه وفكره‬

‫وتصوره بالمنهج الرباني الصحيح ‪..‬‬

‫فشعور النسان بعظمة ال التي ل تحدها حدود ‪ ،‬وهيمنته سبحانه على كل شيء ‪،‬‬

‫وجريان المر كله بمشيئته ‪ ،‬عرضة أن ينتهي بالنسان إلى سلبية منحسرة ل تعمل شيئا ول‬

‫تتطلع إلى إنجاز أي شيء !‬

‫وشعور النسان بذاتيته ‪ ،‬ومقدرته على العمل والتصرف ‪ ،‬ورؤيته لنتاجه الذي ينتجه‬

‫بفكره وجسمه ‪ ،‬عرضة أن ينتهي بالنسان إلى التأله والجحود والطغيان ‪ ،‬إعجابا منه‬
‫بإيجابيته وفاعليته !‬

‫ومن ناحية أخرى فإن شعور النسان بعظمة ال وهيمنته ‪ ،‬وجريان المر كله بمشيئته ‪،‬‬

‫عرضة أن ينتهي بالنسان إلى نسيان السباب جملة ‪ ،‬ونسيان السنن الربانية الجارية التي‬

‫أودعها ال في بنية الكون وفي حياة النسان ‪ ،‬تطلعا إلى تلك المشيئة التي ل يحدها حد ول‬

‫يقيدها قيد !‬

‫كما أن شعور النسان بانتظام السنن التي يجري بها الكون وتجري بها حياة الناس ‪،‬‬

‫عرضة أن ينتهي بالنسان إلى نسيان قدر ال جملة أو إغفاله ‪ ،‬والتعلق بالسباب على أنها‬

‫قوانين حتمية ل بد أن يؤدي السبب فيها حتما إلى النتيجة ‪.‬‬

‫ومن ناحية ثالثة فإن شعور النسان بجريان المـر كله بمشيئة ال ‪ ،‬عمل هو أو لم‬

‫يعمل ‪ ،‬وأراد أم لم يرد ‪ ،‬عرضة أن ينتهي بالنسان إلى ترك العمل جملة ‪ ،‬يأسا من أن يؤثر‬

‫عمله في مجرى الحداث ‪ ،‬أو ضنا بجهد ل يوصل ‪ -‬بذاته ‪ -‬إلى نتيجة !‬

‫كما أن شعور النسان بتأثير عمله في مجرى الحداث ‪ ،‬وبأن الحداث مترتبة على‬

‫مقدار ما يعمل ونوع ما يعمل ‪ ،‬عرضة أن ينتهي بالنسان إلى الفتنة بعمله ‪ ،‬والظن بأنه هو‬

‫الذي يصنع قدره بنفسه ‪ ،‬ويتحكم فيه كما يشاء !‬

‫وإذا كانت الهندوكية والرهبانية نموذجا للنوع الول من النحراف ‪ :‬السلبية ‪ ،‬ونسيان‬

‫السباب جملة ‪ ،‬والزهد في العمل والنتاج ‪ ،‬فإن الجاهلية المعاصرة عنوان حاد على النوع‬

‫الثاني من النحراف ‪ :‬شعور النسان المضخم بذاتيته ‪ ،‬وفتنته بالسباب ‪ .‬وفتنته بعمله ‪،‬‬

‫وتوهمه أنه يصنع قدره بنفسه ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫لقد بدأت أوربا " نهضتها " على عداء مع الكنيسة والدين ‪ .‬أي أنها في الحقيقة خرجت‬

‫من جاهلية المسيحية الكنسية المحرفة إلى الجاهلية المعاصرة التي وصلت ذروتها في القرن‬

‫الخير ‪.‬‬

‫كان " النسان " مسحوقا في جاهلية القرون الوسطى ‪ ،‬المظلمة عندهم ‪ ،‬تحت ضغوط‬

‫‪ ،‬ومنها‬ ‫(‪)1‬‬
‫كثيرة متنوعة ‪ ،‬منها ضغط الكنيسة بطغيانها الروحي والفكري والمالي والسياسي‬

‫ضغط القطاع بطغيانه السياسي والقتصادي والجتماعي ‪ ،‬ومنها الجهالة المتفشية ‪ ،‬وضحالة‬

‫التصورات ‪ ،‬وضيق الفاق ‪ ،‬وتفاهة الهتمامات ‪..‬‬

‫ثم انفتحت أوربا على علوم المسلمين من ناحية ‪ ،‬واحتكت بهم في حروبها الصليبية‬

‫معهم من جهة أخرى ‪ ،‬فتغير الحال ‪ ،‬وبدأ " النسان " هناك يحس بوجوده ‪ ،‬ولكن على غير‬

‫استقامة السلم وانضباطه ‪ ،‬فقد أخذوا من المسلمين علومهم وأسس حضارتهم المادية ‪،‬‬

‫ولكنهم رفضوا أن يأخذوا السلم ‪.‬‬

‫ومن ثم انقلبوا من النقيض إلى النقيض دون التوقف عند نقطة الوسط الموزون ‪.‬‬

‫فعلى قدر انسحاق الوجود النساني في جاهلية العصور الوسطى كان شعور النسان‬

‫بذاتيته في الجاهلية المعاصرة ‪ .‬وعلى قدر الجهل بالسباب عامة ‪ ،‬وجدت فتنة بالسباب ‪.‬‬

‫وعلى قدر تفاهة العمل ‪ ،‬وتفاهة آثاره في الحياة الواقعة ‪ ،‬وجدت فتنة بالعمل ‪ ،‬وفتنة‬

‫بآثاره في حياة الناس ‪.‬‬

‫وجاء التقدم العلمي والمادي الذي ولد مع " النهضة " ‪ ،‬والذي استمدت أوربا أصوله من‬

‫خيّلَ للناس في جاهليتهم المعاصـرة أن العلم هو‬


‫المسلمين ‪ ،‬فنفخ في هذه الفتنة الطامة ‪َ ،‬و َ‬

‫راجع إن شئت فصل " الدين والكنيسة " في كتاب " مذاهب فكرية معاصرة " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫الله ‪ ،‬وهو القدر ‪ ،‬وهوالذي ينشئ كل شيء ويحكم كل شيء ‪.‬‬

‫والوربي الجاهلي المعاصر قد نبذ الدين بكل مضمونه وإيحاءاته ‪ ،‬ولم يعد ل صلة في‬

‫حسه بحياته الواقعة على الرض ‪ .‬إنما صار في حسه أنه هو ‪ -‬النسان ‪ -‬هو الذي يصوغ‬

‫حياتـه كما يحلو له ‪ ،‬وهو الذي يكتب قدره بنفسه ‪ ،‬وهو الذي يصنع التاريخ ويصنع‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الحداث‬

‫وإلى جانب فتنته بنفسه إلى هذا الحد كانت فتنته في الوقت ذاته بالسباب الظاهرة ‪ .‬فلقد‬

‫قال له " العلم " إن هناك قوانين حتمية سموها في أوربا " قوانين الطبيعة " ‪ ،‬لنهم ‪ -‬وقد‬

‫نبذوا إله الكنيسة ‪ -‬رفضوا أن ينسبوا السنن الكونية إلى ال ‪ ،‬ونسبوها إلى إله جديد ل كنيسة‬

‫له ول تكاليف ‪ ،‬سموه " الطبيعة " ونسبوا إليه الخلق والتدبير ‪.‬‬

‫وما دامت القوانين في حسهم حتمية فل مجال للقدر إذن في تصورهم ! فماذا يصنع‬

‫القدر إذا كان ل يملك أن يغير ما هو حتمي الوقوع ؟! ونسوا ‪ -‬في غفلتهم ‪ -‬أن ثبات السنن‬

‫الجارية في الكون هو ذاته قدر مقـدر من عند ال الخالق يوم خلق سبحانه السماوات‬

‫والرض ! ونفوا من حسهم ‪ -‬في غفلتهم كذلك ‪ -‬إمكان تغيير هذه السنن بإرادة من ال حين‬

‫يشاء ‪ ،‬فنفوا المعجزات والخوارق من جهة ‪ ،‬ونفوا إمكـان تغير نظام الكون كله حين يشاء‬

‫ال !‬

‫ثم بدا لهم حين اتسع " علمهم " ‪ -‬أو اتسعت غفلتهم ‪ -‬أن الحياة البشرية ‪ -‬بل النفس‬

‫البشرية ‪ -‬تحكمها قوانين حتمية كتلك التي تحكم الكون المادي ‪ .‬وسرت هذه الحتمية في‬

‫‪ ،‬والتفسير الجنسي للسلوك‬ ‫(‪)3‬‬


‫التفسير المادي للتاريخ (‪ ، )2‬والتفسير الجثماني للمشاعر‬
‫صدر ذات يوم كتاب أوربي ‪ -‬باللغة النجليزية ‪ -‬عنوانه " النسان يصنع نفسه ‪Man makes‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫‪ " Himself‬وكتاب آخر عنوانه النسان يقوم وحده ‪ Man Stands Alone‬أي بدون إله ! ‪.‬‬
‫‪ )(2‬عند الماركسيين ‪.‬‬
‫‪ )(3‬عند التجريبيين ‪.‬‬
‫‪ ،‬وفي كثير من النظريات الجتماعية والقتصادية ‪ ،‬وكلها تضع النسان تحت‬ ‫(‪)4‬‬
‫البشـري‬

‫رحمة هذه الحتميات ‪ ....‬بل تحت طغيانها الجائر ‪.‬‬

‫ثم أغفلوا ‪ -‬في عناد جاهلي ‪ -‬كل فترات الهدى في حياة البشرية ‪ ،‬التي كانت كلها‬

‫بقدر من ال ‪ ،‬ولم تكن " حتمية " بأي تفسير من تلك التفسيرات الجاهلية التي تحاول أن تفسر‬

‫الحياة والتاريخ بمعزل عن قدر ال ‪ ،‬كما أغفلوا ‪ -‬عن عمد ‪ -‬كل أثر لفترات الهداية تلك في‬

‫حياة البشرية ‪ ،‬وخاصة فترة الهداية الكبرى على يد السلم !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ومن الجانب الخر وجدت ‪ -‬كما أشرنا من قبل ‪ -‬جاهليات كثيرة في التاريخ تمثل‬

‫النحراف الخر ‪ :‬انحراف السلبية والنكماش والتقوقع ‪ ،‬انتظارا لما تصنعه " اللهة " ‪ ،‬وما‬

‫تحدثه في حياة الفراد والجماعات من أقدار ‪..‬‬

‫في البوذية والهندوكية والرهبانية ألوان من تلك السلبية والقعود وعدم إيمان النسان‬

‫بنفسه على أنه قوة فاعلة في الرض ‪ ،‬أو أن لعمله أثرا في الحياة ‪..‬‬

‫كلها تطلعت إلى " فناء " النسان ‪ ..‬سواء كان الفناء في " الكائن العظم " الذي يمثل‬

‫الله في حسهم ‪ ،‬أو في تناسخ الرواح المؤدي في النهاية إلى الفناء الكبر في ذلك الكائن‬

‫العظـم ‪ ،‬أو فناء الجسد بكبته وقمعه لتنطلق الروح من إساره ‪ ،‬أو فناء السلبية في داخل‬

‫الدير ‪ ..‬أو أي نوع من أنواع الفناء ! ( وليس بعيدا عن ذلك مسعى الصوفية إلى " الفناء " في‬

‫الذات اللهية ليحدث من ذلك " الوجود " ! ) ‪.‬‬

‫والطابع الغالب على هذه النحرافات كلها هو السى والكآبة والنحسـار إلى داخل‬

‫‪ )(4‬عند فرويد ‪.‬‬


‫النفس ‪ ،‬بقدر ما كان الطابع الغالب على النحراف الخر هو المرح المجنون ‪ ،‬والبحث عن‬

‫لذائذ الحس ‪ ،‬والبعد عن إصلح النفس من الداخل ‪ ،‬والنطلق إلى خارج اللذات ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫بين هذين الطرفين المتناقضين تجيء عقيدة القضاء والقدر في صورتها الصحيحة في‬

‫السلم ‪ ،‬تقرر هيمنة ال الشاملة على كل ما يجري في الكون وفي حياة النسان ‪ ،‬ول تلغي‬

‫في الوقت ذاته فاعلية النسان ‪ ،‬ول تلغي العمل ‪ ،‬ول تلغي اتخاذ السباب ‪.‬‬

‫في توازن كامل يؤمن المسلم بأن كل ما يحدث في الكون وفي حياته هو قدر مقدور من‬

‫عند ال من قبل أن يحدث ذلك بالفعل في الواقع البشري ‪:‬‬

‫س ُكمْ إِلّا فِي ِكتَابٍ مِنْ قَ ْب ِل أَنْ نَ ْب َرأَهَا ِإنّ‬


‫( مَا َأصَابَ ِمنْ ُمصِيبَةٍ فِي ا ْلَأرْضِ وَل فِي َأنْ ُف ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫ذَِلكَ عَلَى اللّ ِه َيسِيرٌ )‬

‫وفي الوقت ذاته يؤمن بأن عليه أن يعمل ‪ ،‬وأن يتخذ السباب ‪ ،‬وبأن ما يجري من‬

‫المقادير في الرض مرتبط بالسباب التي يتخذها ( أو يدع الخذ بها ) ‪ ،‬وبنوع العمل الذي‬

‫يقوم به ‪:‬‬

‫(‪)2‬‬
‫حرِ ِبمَا َكسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ )‬
‫ظ َهرَ الْ َفسَادُ فِي ا ْلبَرّ وَا ْل َب ْ‬
‫( َ‬

‫(‪)3‬‬
‫سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ )‬
‫ت مِنَ ال ّ‬
‫حنَا عََل ْي ِهمْ َب َركَا ٍ‬
‫( وَ َل ْو أَنّ أَ ْه َل الْقُرَى آمَنُوا وَا ّتقَوْا َل َف َت ْ‬

‫ق عَلَ ْيهَا ا ْل َق ْولُ فَ َدمّرْنَاهَا‬


‫سقُوا فِيهَا َفحَ ّ‬
‫ن ُنهِْلكَ قَ ْريَ ًة َأ َمرْنَـا ُم ْترَفِيهَا َف َف َ‬
‫(وَِإذَا َأ َر ْدنَـا أَ ْ‬

‫سورة الحديد [ ‪. ] 22‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الروم [ ‪. ] 41‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 96‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫تَ ْدمِيرا ) (‪. )4‬‬

‫ومن ثم يحس بوجوده الذاتي ‪ ،‬ويعمل ‪ ،‬ويتخذ السباب ‪ ،‬دون أن يفتن بنفسه ول بعمله‬

‫ودون أن يفتن بالسباب ‪.‬‬

‫وفي الوقت ذاته يؤمن بأن كل ما يحدث له مقدر من عند ال دون أن يقعده ذلك عن‬

‫اليجابية والعمل واتخاذ السباب ‪.‬‬

‫وحين يبدو هذا في حس بعض الناس تناقضا ‪ ،‬فإنه يُحدث في حس المؤمن توازنا‬

‫جميل رائعا يعينه على القيام بدور الخلفة الراشدة في الرض ‪ ،‬ويجعله يعمل في الرض‬

‫وقلبه متطلع إلى ال في السماء ‪.‬‬

‫إنه يتخذ السباب عبادة ل ‪ ،‬وانطلقا مع سنة ال الجارية ‪ ،‬ويحس في الوقت ذاته أن‬

‫النتيجة التي وصل إليها هي قدر قدره ال ‪ ،‬وليست حصيلة أسبابه التي اتخذها ‪ ،‬وأن السباب‬

‫ل تؤدي بذاتها أداء حتميا إلى النتيجة ‪ .‬إنما تؤدي إلى النتيجة بقدر من ال ‪ ،‬ولو شاء ال أل‬

‫يوصل السبب إلى النتيجة فإن الذي ينفذ بالفعل هو إرادة ال وليس حتمية السباب !‬

‫وهذا هو الفارق الصيل بين المسلم وبين نظيريه من الجاهليين من هنا ومن هناك ‪.‬‬

‫أحدهما يقعد عن العمل ‪ ،‬ول يحس بقيمة وجوده النساني ‪ ،‬والثاني يعمل مفتونا بالسباب ‪،‬‬

‫كأنها في حسه أرباب !‬

‫إن المسلم الحق ل يقل إيمانا بقدر ال عن أي مؤمن به في هذا الوجود ‪ ،‬ولكنه ل يغفل‬

‫عن عظم دوره في الرض ‪ ،‬لن قدر ال قد شاء أن يجعل النسان خليفة في الرض ‪ ،‬وأن‬

‫يسخر له ما في السماوات وما في الرض جميعا منه ‪ ،‬وأن يكرمه ويفضله على كثير ممن‬

‫سورة السراء [ ‪. ] 16‬‬ ‫()‬


‫‪4‬‬
‫خلق ‪ ،‬وأن يجعله ستارا لقدره في الرض ‪.‬‬

‫وهو من جانب آخر ل يقل اتخاذا للسباب ‪ ،‬ول إدراكا لقانون السبب والنتيجة عن أشد‬

‫البشر اتخاذا للسباب ‪ .‬ولكنها في حسه ليست حتمية ‪ ،‬وليست نهائية ما لم يقررها قدر من‬

‫عند ال ‪.‬‬

‫والجاهلي الوربي المعاصر ينظر بسذاجة إلى العقلية السلمية فيقول إنها عقلية غيبية‬

‫ل تؤمن بقانون السببية ‪ .‬وهو في قولته هذه يكشف عن جهله بأمر ل يستطيع حسه الضيق أن‬

‫يلم به ‪ .‬فالعقلية السلمية ‪ -‬الصحيحة ‪ -‬غيبية نعم ‪ ،‬لنها تؤمن بالغيب ‪ ،‬وتؤمن بقدر ال ‪.‬‬

‫ولكنها في الوقت ذاته عقلية علمية أصيلة ‪ ،‬بدليل أنها هي التي اهتدت إلى المنهج التجريبي‬

‫في البحث العلمي ‪ ،‬وأهدته إلى أوربا ‪ ،‬وهو منهج قائم كله على الملحظة والتجربة وعلقة‬

‫السبب بالنتيجة ! ولكنها ‪ -‬وهي تتعامل مع سنة ال الجارية ‪ -‬ل تغلق قلبها عن مشيئة ال‬

‫الطليقة التي ل يحدّها قيد على الطلق (‪. )1‬‬

‫ومزية هذه العقلية العلمية الغيبية في آن واحد ‪ ،‬أنها ل تفاجأ حين تجد نتيجة ل تفسرها‬

‫السباب الظاهرة ‪ ،‬لنها تعلم أنها تمت بقدر من ال ‪ .‬ول يصيبها ما أصاب هتلر ‪ ،‬حين اتخذ‬

‫كل السباب التي كان في طوق بشر أن يتخذها ‪ ،‬فلما خاب مسعاه انتحر‪ ،‬ولم يطق النتيجة‬

‫التي قدرها ال من وراء كل السباب !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫من عجائب الجاهلية المعاصرة التي تعجز أو تزعم أنها تعجز عن فهم العقيدة القضاء والقدر في وضعها‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫الصحيح عند المسلمين ‪ ،‬أنها في ذاتها واقعة في تناقض بين إيمانها بفاعلية النسان وإيجابيته ‪ ،‬وإيمانها‬
‫بالحتميات التي ل تجعل للنسان وجودا حقيقيا ول إراداة ‪ ،‬وهي إما أن تكون غير فاطنة إلى وجود هذا‬
‫التناقض وإما أنها ل ترى مانعا من وجوده ! بينما تشير هذه الجاهلية إلى وجود التناقض في عقيدة المسلم !‬
‫والمر في حقيقته في حس المسلم توازن مريح ‪ ،‬يجعله يبدع ما يبدع في الرض وهومطمئن إلى قدر ال ‪.‬‬
‫هذه العقيدة الرائعة التي أنشأت في حياة الجيال الولى من هذه المة ما أنشأت من‬

‫منجزات تشبه المعجزات ‪ ..‬ماذا أصابها خلل القرون ‪ ،‬فانحدرت إلى مثل ما انحدرت إليه‬

‫البوذية والهندوكية والرهبانية ؟‬

‫كيف صارت إلى تقاعس وقعود وتنصل من المسئولية وانصراف عن التغيير ‪ ،‬أدى كله‬

‫في النهاية إلى هذا الضعف الفكري والعلمي والمادي ‪ ،‬وهذا التخلف الحضاري ‪ ،‬الذي اجتذب‬

‫قوى الشر من كل صوب تحاول اقتلع جذور السلم من الرض ‪ ،‬وتندد بواقع المسلمين‬

‫السيئ لتنفر من السلم ذاته ‪ ،‬بزعم أن هذا الواقع هو السلم !‬

‫إن شكل العقيدة كما قلنا لم يتغير ‪ ..‬ولكن جوهرها تغير تغيرا هائل بكل تأكيد ‪.‬‬

‫لقد أصابه ما أصاب ل إله إل ال وبقية العبادات ‪ ..‬أفرغ من محتواه الحقيقي ‪ ،‬وأصبح‬

‫صورة بل رصيد ‪.‬‬

‫وفي أثناء ذلك كانت عقيدة القضاء والقدر قد تحولت إلى مباحث كلمية تختلف الفرق‬

‫من حولها ‪ ،‬ولم تعد منهجا للتربية السلمية ! قضايا فلسفية يجهد الذهن في إيجاد حلول لها ‪،‬‬

‫والمة ل ُت َربّى ‪ ،‬ول يلتفت أحد إلى القيمة التربوية الهائلة لعقيدة القضاء والقدر في صورتها‬

‫السلمية الصحيحة ! على نفس النحو الذي تحولت به عقيدة التوحيد إلى مباحث كلمية ذهنية‬

‫تجريدية باردة ‪ ،‬ل تحرك الوجدان الديني ‪ ،‬ول تؤدي إلى سلوك عملي ‪ ،‬وتزرع في القلب‬

‫الشبهات أكثر مما ترسخ اليمان ! ويتناولها الدارسون على أنها " العقيدة " ‪ ،‬فينعزل‬

‫الدارسون عن واقع الناس الحيّ ‪ ،‬وعن مقتضيات الدعوة ومقتضيات التربية ‪ ،‬ويدورون مع "‬

‫الكلم " حيث دار !‬

‫ثم يجيء طور على " المسلمين المعاصرين " ينسلخون فيه من عقيدة القضاء والقدر كما‬

‫انسلخ سادتهم الوربيون من قبل ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬نريد أن نترك العقلية الغيبية التي كانت سبب‬
‫تأخرنا ‪ ،‬وتكون لنا عقلية علمية تقدمية ! إن القضاء والقدر ل وجود له إل حيث توجد‬

‫الفوضى والجهل والنحطاط والتأخر ‪ .‬أما حيث يوجد النظام والعلم والتقدم والتخطيط العلمي‬

‫والعقول اللكترونية فأنّى للقدر أن يتدخل ‪ ،‬وكل شيء محسوب له ألف حساب ؟!‬

‫ب كُلّ‬
‫حنَا عََل ْي ِهمْ َأبْوَا َ‬
‫و َيغْفُلُ هؤلء عن معنى قوله تعالى ‪ ( :‬فََلمّا َنسُوا مَا ُذ ّكرُوا بِ ِه َف َت ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫شيْءٍ حَتّى إِذَا َف ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا َأخَذْنَا ُهمْ َبغْ َتةً فَإِذَا ُهمْ مُبْ ِلسُونَ )‬
‫َ‬

‫بل َيغْفُلُون عما هو أقرب إلى المشاهدة الحسية من ذلك الغيب الذي يوشك أن يتحقق ‪.‬‬

‫يغفلون عن المراض التي تفاجئ أولئك الحاسبين المخططين الذين يحسبون أنهم أغلقوا‬

‫بحساباتهم كل فرصة لقدر ال أن ينفذ إلى واقع المور ! أمراض من كل نوع ‪ :‬نفسية‬

‫وعصبية وعقلية وجثمانية وأخلقية واجتماعية وفكرية وسياسية واقتصادية ‪ ..‬كلها لم تكن في‬

‫الحسبان !‬

‫وهل كانت أمراض الحساسية في الحسبان ؟‬

‫وهل كان مرض انعدام المناعة ( اليدز ) في الحسبان ؟‬

‫وهل كان جنوح الحداث الجرامي في الحسبان ؟‬

‫وهل كان انتشار الشذوذ والمخدرات في غرب أوربا وأمريكا في الحسبان ؟‬

‫حتّى ِإذَا َفرِحُوا‬


‫وكل هذه ‪ -‬وغيرها ‪ -‬بوادر لغيب يوشك أن يتحقق بقدر من ال ‪َ ( :‬‬

‫ح ْمدُ لِلّ ِه رَبّ‬


‫ن ظََلمُوا وَا ْل َ‬
‫ن فَ ُقطِعَ دَابِرُ ا ْلقَ ْومِ اّلذِي َ‬
‫خ ْذنَاهُمْ َب ْغتَ ًة َفِإذَا ُهمْ ُمبِْلسُو َ‬
‫ِبمَا أُوتُـوا َأ َ‬
‫(‪)2‬‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ )‬

‫سورة النعام [ ‪. ] 44‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 45 - 44‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫والمسلمون اليوم في حاجة إلى تصحيح مفهوم القضاء والقدر الذي اختل في حسهم‬

‫خلل القرون ‪ .‬فل هو بالسلبية التي غشت القرون الخيرة ‪ ،‬ول هو الفتنة بالسباب التي‬

‫توشك أن تعم العالم السلمي اليوم مع الغزو الفكري القادم من جاهلية الغرب ‪..‬‬

‫يحتاج المسلمون إلى إعادة ذلك التوازن البديع الذي تمثله تلك العقيدة في صورتها‬

‫الصحيحة في حياة النسان ‪ .‬ويحتاجون أن يكفوا عن دراستها في صورة مذاهب كلمية‬

‫يحشون بها رءوس طلب الشريعة والدراسات السلمية ‪ ،‬لتصبح ‪ -‬ككل شيء غيرها في‬

‫هذا الدين ‪ -‬جزءا من منهج التربية السلمية ‪ ،‬الذي يهدف إلى إخراج " النسان الصالح "‬

‫الذي يحقق المنهج الرباني في واقع الرض ‪ ،‬والذي ُينْ ِفذُ ال به قدره ‪:‬‬

‫ن كُّلهِ َوكَفَى بِاللّهِ‬


‫ظهِرَهُ عَلَى الدّي ِ‬
‫( ُهوَ اّلذِي َأ ْرسَـلَ َرسُولَ ُه بِا ْلهُدَى َودِينِ ا ْلحَـقّ لِ ُي ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫شهِيدا )‬
‫َ‬

‫سورة الفتح [ ‪. ] 28‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫مَفهُوم الدّنيَـا والخرة‬

‫لم يكن في حس الجيال الولى من المسلمين ذلك الفاصل الحاد بين الدنيا والخرة الذي‬

‫أحسته الجيال المتأخرة ‪.‬‬

‫لم يكن في حسهم أن هناك أعمال معينة هي للدنيا وحدها منقطعة عن الخرة ‪ ،‬وأعمال‬

‫أخرى هي للخرة وحدها منقطعة عن الدنيا ‪.‬‬

‫صحيح أن هناك أعمال ‪ -‬بطبيعتها ‪ -‬يغلب عليها الطابع الروحي ‪ ،‬كالصلة والدعاء‬

‫والذكر ‪ ،‬والشعائر التعبدية عامة ‪ ،‬وأعمال أخرى يغلب عليها الطابع الفكري ‪ ،‬كطلب العلم‬

‫والتبحر فيه ‪ ،‬وتدبير شئون الحياة من سياسة واقتصاد وحرب وسلم ‪ ..‬الخ ‪ ،‬وأعمال يغلب‬

‫عليها الطابع الحسي ‪ ،‬كالطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ‪ ..‬الخ ‪ ..‬ولكن ذلك ل‬

‫يفصل بين بعضها وبعض من جهة ‪ ،‬لنها صادرة عن الكيان النساني الموحد المترابط ‪،‬‬

‫ومن جهة أخرى ل يجعل بعضها للخرة خالصة من دون الدنيا ‪ ،‬وبعضها للدنيا خالصة من‬

‫دون الخرة ‪.‬‬

‫كان المفهوم الصحيح للعبادة هو الذي يحكم حياتهم ‪ ،‬ويحكم تصورهم ‪:‬‬

‫(‪)1‬‬
‫شرِيكَ لَهُ ‪) ..‬‬
‫نل َ‬
‫حيَايَ َو َممَاتِي لِلّهِ رَبّ ا ْلعَاَلمِي َ‬
‫سكِي َو َم ْ‬
‫( قُلْ ِإنّ صَلتِي َو ُن ُ‬

‫سورة النعام [ ‪. ] 163 - 162‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ت ا ْلجِنّ وَا ْلِأنْسَ إِلّا ِل َي ْعبُدُونِ )‬
‫( َومَا خَلَقْ ُ‬

‫وفي هذا المفهوم ل يمكن أن تنفصل الشعائر التعبدية عن العمل ‪ ،‬ول الدنيا عن‬

‫الخـرة ‪ .‬لذلك كانت الحياة في حسهم حلقة متصلة ل انفصام فيها بين جزء وجزء ‪ .‬الصلة‬

‫فيها والنسك ‪ ،‬والطعام والشراب والجنس ‪ ،‬والقتال في سبيل ال ‪ ،‬والسعي وراء الرزق ‪،‬‬

‫وطلب العلم ‪ ،‬وعمارة الرض ‪ ..‬كلها عبادة ‪ ،‬وكلها للدنيا والخرة في آن ‪ .‬وكل لحظة‬

‫واعية تمر بالنسان في نهاره أو ليله ‪ ،‬وكل عمل يقوم به ‪ -‬متوجها فيه إلى ال ‪ ،‬وملتزما‬

‫فيه بما أنزل ال ‪ -‬فهو لون من ألوان العبادة ‪ ،‬متصل بعضها ببعض ‪ ،‬وهو على الدوام يتنقل‬

‫من عبادة إلى عبادة ‪ ،‬تحقيقا لغاية الوجود النساني ‪ ،‬التي تشمل وجوده كله ‪ ،‬وتوجهه إلى ال‬

‫‪.‬‬

‫وإذا كانت الشعائر التعبدية من صلة وزكاة وصيام وحج ذات صبغة روحية غالبة ‪،‬‬

‫فليس معنى ذلك أنها هي وحدها العبادة ‪ ،‬ول أنها للخرة منقطعة عن الدنيا ‪ ،‬فلكل منها‬

‫مقتضىً ل بد أن تحققه في الحياة الدنيا ‪ .‬الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر ‪ ،‬والزكاة تطهر‬

‫النفس والمال ‪ ،‬والصيام يدرب على التقوى ‪ ،‬والحج يدعو إلى البر ‪ ..‬وهكذا تصبح كلها للدنيا‬

‫والخرة في آن ‪.‬‬

‫وإذا كانت العمال الخرى التي يقوم بها النسان في حياته ذات صبغة عقلية أو حسية‬

‫غالبة ‪ ،‬فليس معنى ذلك أنها خارجة من نطاق العبادة بمعناها الواسع الشامل ‪ ،‬ما دام يتوجه‬

‫فيها إلى ال ‪ ،‬ويلتزم فيها بأوامر ال ‪ .‬ومن ثم فهي ليست للدنيا وحدها منقطعة عن الخرة ‪.‬‬

‫ومن مجموع حياة النسان ‪ ،‬ومن مجموع نشاطه على الرض ‪ ،‬تتكامل العبادة التي‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫يحقق بها غاية وجوده ‪ ،‬وتتصل في حسه الدنيا والخرة بل افتراق‬

‫سورة الذاريات [ ‪. ] 56‬‬ ‫()‬


‫‪2‬‬
‫راجع فصل " مفهوم العبادة " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫هكذا كانت المور في حس الجيال الولى من المسلمين ‪.‬‬

‫كان الذي يجمّع حياتهم كلهم ‪ ،‬ويؤلف بينها ‪ ،‬ويوحد وجهتها ‪ ،‬هو ل إله إل ال ‪،‬‬

‫بمفهومها الهائل العميق ‪.‬‬

‫فحين تكون ل إله إل ال هي العتقاد اليقيني الجازم بوحدانية ال جل جلله ‪ ،‬وتكون‬

‫من ثم هي اللتزام الجاد بمنهج الحياة الشامل المنزل من عند ال ليصحح مسيرة النسان في‬

‫الحياة الدنيا ليصل به إلى مستقره المن في الخرة ‪ ..‬فعندئذ ل يمكن الفصل بين أمر في هذا‬

‫!‬ ‫(‪)1‬‬
‫الدين وأمر ‪ ،‬ول يمكن الفصل بين جزء من هذا المنهج وجزء‬

‫وحين كانت الجاهليـة تعبد آلهة شتى ‪ -‬حتى مع قولهم بألسنتهم إن ال هو رب‬

‫الرباب ‪ ،‬وإنهم ل يعبدون اللهة الخرى إل لتقربهم إلى ال زلفى ! ‪ -‬كانت حياتهم شتاتا ل‬

‫يتجمع ‪.‬‬

‫كانوا ل يؤمنون بالخرة ‪ ،‬ومن ثم فل صلة في حسهم بين الدنيا والخرة ‪.‬‬

‫وكانت الرباب المعبودة شتى ‪ ،‬ومن ثم كانت العبادة مفرقة موزعة ‪.‬‬

‫فالصنام تعبد ساعة ‪ .‬والقبيلة تعبد ساعة ‪ .‬وعرف الباء والجداد يعبد ساعة ‪.‬‬

‫والهوى والشهوات تعبد ساعة ‪ .‬أو هي تعبد كلها جميعا ولكن بغير اتصال في الحس ول‬

‫ترابط ‪ .‬فالحياة تعاش ساعة بساعة بغير هدف حقيقي ول غاية ‪:‬‬

‫راجع فصل " مفهوم ل إله إل ال " ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫حيَا َومَا ُيهِْل ُكنَا إِلّا الدّهْرُ ) (‪. )2‬‬
‫حيَا ُتنَا ال ّدنْيَا َنمُوتُ َو َن ْ‬
‫ي إِلّا َ‬
‫( َوقَالُوا مَا ِه َ‬

‫وما دامت على هذا النحو فهي تعاش بمقتضى هوى اللحظة القائمة بغير حساب لما‬

‫عداها ‪ " :‬اليوم خمر وغدا أمر " !!‬

‫ومن ثم كان الشتات هو الطابع المميز لتلك الجاهلية ككل جاهلية في التاريخ ‪ ،‬وإن‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫اختلفت درجات التشتت ومظاهره بين جاهلية وجاهلية على مدار التاريخ !‬

‫ثم آمنت تلك الجاهلية بل إله إل ال فأصبحت خلقا آخر ‪..‬‬

‫تجمع الشتات المتناثر ليلتقي في وحدة شاملة ‪.‬‬

‫تجمعت القبائل المتناحرة لتكوّن " أمة " لول مرة في تاريخها ‪ ،‬وكان قد مضى عليها‬

‫من الزمن ما ل يحصيه إل ال ‪ ،‬ول تقدر على هذه الوحدة لنها تفتقد عنصر التجميع ! ‪.‬‬

‫وتجمعت أجناس وألوان ولغات وثقافات متباينة ‪ ،‬فانصهرت كلها في بوتقة تلك المة‬

‫الواحدة ‪ ،‬على نمط غير مسبوق ول ملحوق في التاريخ !‬

‫وتجمعت " النفس " في وحدة موحدة التجاه ‪.‬‬

‫لم تعد لحظة الجسد تسير في اتجاه ‪ ،‬ولحظة العقل في اتجاه ‪ ،‬ولحظة الـروح في‬

‫اتجاه ‪.‬‬

‫فالنسان كما فطره ال وحدة مترابطة متكاملة ‪ ،‬ل ينفصل فيها جانب عن حانب ‪ ،‬ول‬

‫سورة الجاثية [ ‪. ] 24‬‬ ‫()‬


‫‪2‬‬
‫الجاهلية المعاصرة هي أشد الجاهليات تمزيقا لوحدة النسان وتشتيتا لتجاهات حياته ‪ .‬ومن ثم يكثر فيها‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫النتحار والجنون والقلق والمراض النفسية والعصبية ‪ .‬ويشتد فيها الشعور بالضياع ‪.‬‬
‫يمارس الحياة تفاريق ! وإنما فقد ترابطه الفطري حين تفرقت آلهته وتفرقت عبادته ‪ .‬فلما‬

‫توحد معبوده ‪ ،‬وتوحدت عبادته ‪ ،‬تجمع الشتات المتناثر ‪ ،‬وعاد كما خلقه ال ‪ ،‬تلك الوحدة‬

‫الشاملة التي يتألف منها " النسان " ‪.‬‬

‫وتوحد سلوك النسان على منهج موحد ‪..‬‬

‫لم يعد إنسان يقول ‪ :‬اليوم خمر وغدا أمر ‪ .‬فما الفرق بين اليوم والغد ؟ هل اليوم لله‬

‫والغد لله ؟ أم هو إله واحد له اليوم والغد وجميع الحياة ؟! ‪.‬‬

‫ومن ثم تجمعت ألوان النشـاط المختلفة لينتظمها منهج واحد ‪ ،‬مستمد من عند ال‬

‫الواحد ‪ ،‬وموجه إليه ‪.‬‬

‫صارت حياة المسلم كلها ‪ :‬طعامه وشرابه ‪ ،‬وكيله وميزانه ‪ ،‬وبيعه وشراؤه ‪ ،‬وصلته‬

‫وعمله ‪ ،‬وحربه وسلمه ‪ ..‬محكومة كلها بدستور واحد هو شريعة ال ‪ .‬حرامه ما حرّم ال ‪،‬‬

‫وحلله ما أحله ال ‪ ،‬ومباحه ما أباحه ال ‪ .‬والمستحب عنده ما أحبه ال ‪ .‬والمكروه عنده ما‬

‫كرهه ال ‪ .‬ومن ثم صار المتجه واحدا مهما اختلفت المور ‪ .‬واصطبغ السلوك كله بصبغة‬

‫واحدة على اختلف مفرداته ‪ :‬صبغة اللتزام بما جاء من عند ال ‪ .‬وصار هذا هو السمت‬

‫العام لذلك " النسان " ‪.‬‬

‫وتوحد ‪ -‬تبعا لذلك كله ‪ -‬طريق الدنيا وطريق الخرة ‪..‬‬

‫كيف يكونان طريقين منفصلين ؟‬

‫هل هذه لله وتلك لله آخر ؟‬

‫هل الله الذي يحكم الحياة الدنيا بشريعته ‪ ،‬غير الله الذي يحاسب الناس يوم القيامة‬
‫ويجازيهم ؟‬

‫وعلى أي أساس يحاسبهم ويجازيهم ؟‬

‫حسَنا في ميزان‬
‫هل ميزان الحياة الخرة غير ميزان الحياة الدنيا ؟ هل يكون العمل َ‬

‫الدنيا وقبيحا في ميزان الخرة ؟ أو قبيحا في ميزان الدنيا وحسنا في ميزان الخرة ؟‬

‫أليس هو ذات الميزان وذات المعيار ‪ :‬ما كان حسنا في الدنيا فجزاؤه الحسنى في‬

‫الخرة ‪ ،‬وما كان شرا في الدنيا فجزاؤه العذاب في الخرة ؟‬

‫جنّةِ ُهمْ‬
‫ب ا ْل َ‬
‫صحَا ُ‬
‫ك َأ ْ‬
‫سنَى َو ِزيَادَةٌ وَل َيرْ َهقُ ُوجُو َه ُهمْ َقتَرٌ وَل ذِلّ ٌة أُوَل ِئ َ‬
‫حْ‬‫سنُوا ا ْل ُ‬
‫حَ‬‫ن َأ ْ‬
‫( لِّلذِي َ‬

‫صمٍ‬
‫س ّيئَةٍ ِب ِمثِْلهَا َوتَرْهَ ُق ُهمْ ذِلّةٌ مَا َل ُهمْ ِمنَ اللّهِ ِمنْ عَا ِ‬
‫جزَاءُ َ‬
‫ت َ‬
‫س ّيئَا ِ‬
‫سبُوا ال ّ‬
‫فِيهَا خَاِلدُونَ وَاّلذِينَ َك َ‬

‫ن ) (‪. )1‬‬
‫صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُو َ‬
‫ل ُمظْلِما أُوَل ِئكَ َأ ْ‬
‫شيَتْ ُوجُو ُه ُهمْ ِقطَعا ِمنَ الّليْ ِ‬
‫غِ‬‫َكَأ ّنمَا ُأ ْ‬

‫شرّا َيرَهُ ) (‪. )2‬‬


‫ل َذرّةٍ َ‬
‫خيْرا َيرَهُ َو َمنْ َي ْعمَلْ ِمثْقَا َ‬
‫ل ِمثْقَالَ َذرّةٍ َ‬
‫( َفمَنْ َي ْعمَ ْ‬

‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِينَ‬


‫ن َت ْ‬
‫جرِي مِ ْ‬
‫جنّاتٍ َت ْ‬
‫حدُو ُد اللّهِ َو َمنْ ُيطِعِ اللّهَ َو َرسُولَ ُه ُي ْدخِلْهُ َ‬
‫( تِ ْلكَ ُ‬

‫عذَابٌ‬
‫حدُودَ ُه ُي ْدخِلْهُ نَارا خَالِدا فِيهَا وََلهُ َ‬
‫ن َيعْصِ اللّهَ َو َرسُولَهُ َو َي َت َعدّ ُ‬
‫فِيهَا َوذَِلكَ الْ َف ْوزُ ا ْل َعظِيمُ َومَ ْ‬

‫ُمهِينٌ ) (‪. )3‬‬

‫عمَى ِإ ّنمَا َي َت َذكّرُ أُولُو ا ْلأَ ْلبَابِ اّلذِينَ‬


‫حقّ َك َمنْ ُهوَ َأ ْ‬
‫ن َربّكَ ا ْل َ‬
‫ل إَِل ْيكَ مِ ْ‬
‫( َأ َفمَنْ َيعَْلمُ َأ ّنمَا ُأ ْنزِ َ‬

‫خشَ ْونَ َر ّب ُهمْ‬


‫ن ا ْلمِيثَاقَ وَاّلذِينَ َيصِلُونَ مَا َأ َمرَ اللّ ُه بِهِ َأنْ يُوصَلَ َو َي ْ‬
‫ن ِب َع ْهدِ اللّهِ وَل َينْ ُقضُو َ‬
‫يُوفُو َ‬

‫صبَرُوا ا ْب ِتغَاءَ َوجْهِ َر ّب ِهمْ وََأقَامُوا الصّلةَ وََأنْفَقُوا ِممّا َرزَ ْقنَا ُهمْ‬
‫ن َ‬
‫حسَابِ وَاّلذِي َ‬
‫ن سُو َء ا ْل ِ‬
‫َو َيخَافُو َ‬

‫سورة يونس [ ‪. ] 27 - 26‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الزلزلة [ ‪. ] 8 - 7‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة النساء [ ‪. ] 14 - 13‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫ن صَلَحَ‬
‫ن َي ْدخُلُو َنهَا َومَ ْ‬
‫عدْ ٍ‬
‫جنّاتُ َ‬
‫ك َل ُهمْ عُ ْقبَى الدّارِ َ‬
‫س ّيئَ َة أُوَل ِئ َ‬
‫سنَةِ ال ّ‬
‫حَ‬‫سِرّا وَعَل ِن َيةً َو َيدْرَأُونَ بِا ْل َ‬

‫ص َب ْرتُمْ‬
‫ل بَابٍ سَلمٌ عََل ْي ُكمْ ِبمَا َ‬
‫ج ِهمْ َو ُذ ّريّاتِ ِهمْ وَا ْلمَل ِئكَةُ َي ْدخُلُونَ عََل ْيهِمْ ِمنْ كُ ّ‬
‫ن آبَا ِئهِمْ وََأزْوَا ِ‬
‫مِ ْ‬

‫ن يُوصَلَ‬
‫ن مَا َأ َمرَ اللّ ُه بِ ِه أَ ْ‬
‫طعُو َ‬
‫ع ْهدَ اللّهِ ِمنْ َب ْعدِ مِيثَاقِهِ َويَ ْق َ‬
‫ن َينْ ُقضُونَ َ‬
‫َفنِ ْعمَ عُ ْقبَى الدّارِ وَاّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سدُونَ فِي ا ْلَأرْضِ أُوَل ِئكَ َل ُهمُ الّل ْعنَةُ وََل ُهمْ سُوءُ الدّارِ )‬
‫َويُ ْف ِ‬

‫بلى ! فكيف إذن تنفصل الدنيا عن الخرة ‪ ،‬ويصبحان طريقين منفصلين ؟!‬

‫كل ! إنه طريق واحد ‪ ،‬أوله في الدنيا وآخره في الخرة ‪ ..‬وهو طريق ذو جانبين‬

‫ولكنه موحد التجاه نحو الخرة ‪ ..‬جانب منه يسلكه أصحاب العمل الصالح فيصل بهم إلى‬

‫الجنة ‪ ،‬والجانب الخر يسلكه أهل السوء فيفضي بهم إلى العذاب ‪ .‬ولكنه موحد غير منقطع‬

‫ما بين الدنيا والخرة ‪.‬‬

‫ن أَوِْليَاءَ‬
‫شيَاطِي َ‬
‫خذُوا ال ّ‬
‫حقّ عََل ْي ِهمُ الضّللَ ُة ِإ ّن ُهمُ ا ّت َ‬
‫( َكمَا َبدََأ ُكمْ َتعُودُونَ َفرِيقا َهدَى َو َفرِيقا َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ن اللّ ِه )‬
‫ن دُو ِ‬
‫مِ ْ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫بل وصل من اتصال الدنيا بالخرة في حس المسلمين الوائل أنهم كانوا يعيشون‬

‫بواقعهم في الحياة الدنيا ‪ ،‬ولكن مشاعرهم وأفكارهم متعلقة بالخرة ‪ ،‬يعيشونها كأنها حاضر‬

‫أمامهم مشهود ‪.‬‬

‫لقد كان من شدة التركيز في القرآن على البعث والحساب والجزاء ‪ ،‬ومن الحيوية‬

‫الفياضة في عرض مشاهد القيامة في القرآن ‪ ،‬أن عاش المسلمون بحسهم وخيالهم في اليوم‬

‫الخر كأنما يرونـه أمامهم اللحظة ويعيشون أحداثه ‪ ،‬بل كأنما الدنيا بكل واقعها ماضٍ قد‬

‫سورة الرعد [ ‪. ] 25 - 19‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 30 - 29‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫كان ‪ ،‬والخرة بأحداثها هي الحاضر الن !‬

‫ن َفمَنّ اللّهُ عََل ْينَا‬


‫ن قَالُوا ِإنّا ُكنّا قَ ْبلُ فِي أَهِْلنَا ُمشْفِقِي َ‬
‫ض ُهمْ عَلَى َبعْضٍ َي َتسَاءَلُو َ‬
‫ل َبعْ ُ‬
‫( وََأقْبَ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سمُومِ ِإنّا ُكنّا مِنْ قَ ْبلُ َندْعُو ُه ِإنّ ُه هُ َو ا ْل َبرّ ال ّرحِيمُ )‬
‫عذَابَ ال ّ‬
‫َو َوقَانَا َ‬

‫وبهذا اليمان الراسخ باليوم الخر إلى درجة اليقين ‪ ،‬وبهذه الحيوية في العرض ‪ ،‬التي‬

‫تهز الوجدان من أعماقه ‪ ،‬كان الواحد منهم يعيش لحظته الحاضرة ‪ ،‬ثم يعيش ‪ -‬في التوّ ‪-‬‬

‫جزاءها في الخرة ! ها هو ذا يعمل العمل في هذه اللحظة في الحياة الدنيا ‪ ،‬ثم يتصور‬

‫موقعه من الجنة حين يكون عمله في طاعة ال ‪ .‬ثم ها هو ذا يعمل العمل في هذه اللحظة في‬

‫الحياة الدنيا ‪ -‬أو يهم به ‪ -‬ثم ينظر ‪ -‬في خوف وإشفاق ‪ -‬ليرى موقعه من النار إذا كان‬

‫العمل في معصية ال ‪.‬‬

‫ومن ثم صلحت أعمالهم في الحياة الدنيا ‪ -‬في غالبيتها العظمى ‪ -‬بل ارتفعت إلى تلك‬

‫الفاق العالية التي تشبه المعجزات ‪..‬‬

‫لم يكونوا ملئكة ‪ ،‬ول كان مطلوبا منهم أن يخرجوا عن بشريتهم ‪ ..‬والبشر كلهم‬

‫عرضة للخطأ إل المعصومين عليهم صلوات ال وسلمه ‪ .‬ولكنهم ‪ -‬إذا أخطأوا ‪ -‬سرعان‬

‫ما يتوبون ‪.‬‬

‫ن َيغْ ِفرُ‬
‫س َتغْ َفرُوا ِل ُذنُو ِب ِهمْ َومَ ْ‬
‫سهُمْ َذ َكرُوا اللّ َه فَا ْ‬
‫( وَاّلذِينَ ِإذَا فَعَلُوا فَاحِشَ ًة أَ ْو ظََلمُوا َأ ْن ُف َ‬

‫جنّاتٌ‬
‫جزَاؤُ ُهمْ َمغْ ِفرَةٌ ِمنْ َر ّب ِهمْ َو َ‬
‫ك َ‬
‫ن أُوَل ِئ َ‬
‫ب إِلّا اللّ ُه وََلمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُو َ‬
‫ال ّذنُو َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ن)‬
‫ن فِيهَا َو ِنعْ َم َأجْ ُر ا ْلعَامِلِي َ‬
‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِي َ‬
‫ن َت ْ‬
‫َتجْرِي مِ ْ‬

‫سورة الطور [ ‪. ] 28 - 25‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 126 - 125‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫" كل بني آدم خطاء ‪ ،‬وخير الخطائين التوابون "‬

‫ومن ثم كذلك كانت الدنيا والخرة في حسهم حسبة واحدة متصلة ‪ ،‬ل حسبتين‬

‫منفصلتين !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫حقا إن الدنيا ذمت في القرآن ‪ ،‬ولعنت على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬

‫ونصح الناس بالتخلي عن حبها والتعلق بها ‪ ..‬ولكن في أي مجال جاءت هذه التوجيهات في‬

‫القرآن والحديث ؟‬

‫لقد جاءت في مجالين اثنين ‪ :‬حين تكون الدنيا ‪ -‬أي حبها والتعلق بها ‪ -‬حاجزا بين‬

‫الناس وبين اليمان بال واليوم الخر ‪ ،‬أو حاجزا بينهم وبين الجهاد في سبيل ال ‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫حيَا ُة ال ّد ْنيَا فِي الْآخِرَ ِة إِلّا َمتَاعٌ )‬
‫( َوفَ ِرحُوا بِا ْلحَيَا ِة ال ّد ْنيَا َومَا ا ْل َ‬

‫ن آيَا ِتنَا‬
‫ن ُهمْ عَ ْ‬
‫طمََأنّوا ِبهَا وَاّلذِي َ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا وَا ْ‬
‫ن لِقَا َءنَا َو َرضُوا بِا ْل َ‬
‫ن ل َي ْرجُو َ‬
‫( ِإنّ اّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫سبُونَ )‬
‫ك َمأْوَا ُهمُ النّارُ ِبمَا كَانُوا َيكْ ِ‬
‫ن أُوَل ِئ َ‬
‫غَافِلُو َ‬

‫صدّونَ عَنْ‬
‫حيَاةَ ال ّد ْنيَا عَلَى الْآخِرَ ِة َويَ ُ‬
‫ن ا ْل َ‬
‫حبّو َ‬
‫س َت ِ‬
‫شدِي ٍد اّلذِينَ َي ْ‬
‫ب َ‬
‫عذَا ٍ‬
‫ل لِ ْلكَا ِفرِينَ مِنْ َ‬
‫( وَ َويْ ٌ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫سبِيلِ اللّهِ َو َي ْبغُو َنهَا عِوَجا أُوَل ِئكَ فِي ضَللٍ َبعِيدٍ )‬
‫َ‬

‫عظِيمٌ ذَِلكَ ِبَأ ّن ُهمُ‬


‫عذَابٌ َ‬
‫ب مِنَ اللّهِ وََل ُهمْ َ‬
‫غضَ ٌ‬
‫صدْرا فَعََل ْي ِهمْ َ‬
‫شرَحَ بِا ْلكُ ْفرِ َ‬
‫( وََلكِنْ َمنْ َ‬

‫سبق ذكره ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الرعد [ ‪. ] 26‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة يونس [ ‪. ] 8 - 7‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة إبراهيم [ ‪. ] 3 - 2‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫ن اللّ َه ل َي ْهدِي الْ َق ْومَ ا ْلكَافِرِي َ‬
‫خرَةِ وَأَ ّ‬
‫حيَا َة ال ّدنْيَا عَلَى الْآ ِ‬
‫س َتحَبّوا ا ْل َ‬
‫اْ‬

‫وهذه وأمثالها واردة في حب الدنيا الذي يصرف الناس عن اليمان بال واليوم الخر ‪.‬‬

‫أما حب الدنيا الذي يصرف عن الجهاد في سبيل ال بالنفس والموال فقد جاء فيه‬

‫أمثال هذه اليات ‪:‬‬

‫ل اقْ َت َرفْ ُتمُوهَا َو ِتجَارَةٌ‬


‫عشِي َرتُ ُكمْ وََأمْوَا ٌ‬
‫ج ُكمْ وَ َ‬
‫خوَا ُن ُكمْ وََأزْوَا ُ‬
‫ن آبَا ُؤ ُكمْ وََأ ْبنَا ُؤ ُكمْ وَِإ ْ‬
‫( قُلْ ِإنْ كَا َ‬

‫حتّى‬
‫سبِيلِهِ َف َت َربّصُوا َ‬
‫جهَادٍ فِي َ‬
‫ن اللّهِ َو َرسُولِهِ َو ِ‬
‫ب إَِل ْي ُكمْ مِ َ‬
‫ن َترْضَ ْو َنهَا َأحَ ّ‬
‫ن َكسَادَهَا َو َمسَاكِ ُ‬
‫خشَوْ َ‬
‫َت ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫َي ْأتِيَ اللّ ُه ِبَأمْرِهِ وَاللّهُ ل َي ْهدِي ا ْلقَ ْومَ ا ْلفَاسِقِينَ )‬

‫ل ِم ْنهُمْ َوقَالُوا‬
‫س َتأْ َذ َنكَ أُولُوا الطّوْ ِ‬
‫ن آ ِمنُوا بِاللّهِ َوجَا ِهدُوا مَعَ َرسُولِ ِه ا ْ‬
‫( وَِإذَا ُأ ْنزِلَتْ سُورَ ٌة أَ ْ‬

‫طبِـعَ عَلَى قُلُو ِب ِهمْ َف ُهمْ ل‬


‫ن َيكُونُـوا مَ َع ا ْلخَوَاِلفِ َو ُ‬
‫عدِينَ َرضُـوا ِبأَ ْ‬
‫ن مَعَ الْقَا ِ‬
‫َذرْنَـا َنكُ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫يَفْ َقهُونَ )‬

‫سهِمْ فِي‬
‫ن ُيجَاهِدُوا ِبَأمْوَاِل ِهمْ وََأ ْن ُف ِ‬
‫( َفرِحَ ا ْل ُمخَلّفُونَ ِبمَ ْق َعدِ ِهمْ خِلفَ َرسُولِ اللّهِ َو َكرِهُوا أَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫حرّا َلوْ كَانُوا يَفْ َقهُونَ )‬
‫شدّ َ‬
‫ج َه ّنمَ َأ َ‬
‫ل نَارُ َ‬
‫حرّ قُ ْ‬
‫سبِيلِ اللّهِ َوقَالُوا ل َتنْ ِفرُوا فِي ا ْل َ‬
‫َ‬

‫والمتحدث عنهم في تلك اليات جميعا هم إما من الكفار الخلص ‪ ،‬وإما من المنافقين ‪،‬‬

‫الذين يتظاهرون بالسلم نفاقا ورياء ولكنهم في دخيلة أنفسهم غير مؤمنين ‪ ،‬وهم في الدرك‬

‫السفل من النار ‪ ،‬وهم في حكم ال كافرون ‪:‬‬

‫سورة النحل [ ‪. ] 107 - 106‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬سورة التوبة [ ‪. ] 24‬‬ ‫()‬

‫‪ )(3‬سورة التوبة [ ‪. ] 87 - 86‬‬


‫‪ )(4‬سورة التوبة [ ‪. ] 81‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫جدَ َل ُهمْ َنصِيرا )‬
‫ن النّارِ وََلنْ َت ِ‬
‫( ِإنّ ا ْل ُمنَافِقِينَ فِي ال ّد ْركِ ا ْلَأسْفَلِ مِ َ‬

‫ن الصّلةَ إِلّا‬
‫( َومَا َم َن َعهُمْ َأنْ ُت ْقبَلَ ِم ْن ُهمْ نَفَقَا ُت ُهمْ إِلّا َأ ّن ُهمْ كَ َفرُوا بِاللّهِ َو ِب َرسُولِهِ وَل َي ْأتُو َ‬

‫ن فَل ُت ْعجِ ْبكَ َأ ْموَاُل ُهمْ وَل أَوْلدُ ُهمْ ِإ ّنمَا ُيرِيدُ اللّ ُه ِل ُي َعذّ َب ُهمْ‬
‫ن إِلّا وَ ُهمْ كَارِهُو َ‬
‫وَ ُهمْ ُكسَالَى وَل ُينْفِقُو َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ن)‬
‫س ُهمْ وَ ُه ْم كَا ِفرُو َ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا َو َتزْ َهقَ َأنْ ُف ُ‬
‫ِبهَا فِي ا ْل َ‬

‫وفي هذين المجالين تذم الدنيا للسباب الواضحة المبينة في اليات ‪..‬‬

‫ولكن ما حقيقة الموقف في هذين المجالين ؟‬

‫حقيقة الموقف أن الدنيا هنا منفصلة في حس صاحبها عن الخرة ‪ ،‬إما لنه ل يؤمن بها‬

‫أصل ‪ ،‬وإما لن اعتقاده بها ضعيف مبهم متداخل ‪ ،‬ل يكوّن في حسه صورة واضحة ‪ ،‬ول‬

‫يؤثر ‪ -‬من ثم ‪ -‬في فكره ول مشاعره ول سلوكه الواقعي ‪.‬‬

‫والقضية في حسه على هذا النحو ‪ :‬جنة يوعد بها ‪ -‬على غير إيمان منه ‪ ،‬أو إيمان‬

‫يستوي وجوده وعدمه ‪ -‬ذات تكاليف في النفس والمال ‪ ،‬وقعها في حسه أنها حرمان من‬

‫المتاع ‪ ،‬لنه ل يريد أن يكتفي بالقدر الذي أباحه ال ‪ ،‬إنما يريد أن يسترسل مع شهواته ‪ ،‬ول‬

‫يستخدم جهاز " الضبط " الذي وهبه ال إياه ليتحكم في هذه الشهوات ‪ .‬وفي مقابل ذلك متاع‬

‫قائم بالفعل ‪ ،‬هو مسترسل فيه إلى أقصى المدى ‪ ،‬ويقال له إن استمتاعه به على النحو الذي‬

‫يزاوله سيحرمه من الجنة ‪.‬‬

‫وحين صارت القضية على هذا النحو ‪ ،‬وصار الخيار بين الجنة الموعودة مع الحرمان‬

‫من المتاع الزائد عن الحد ‪ ،‬وبين المتاع الطاغي مع الحرمان من الجنـة في الخرة‬

‫الموعودة ‪ ،‬فقد آثر الحياة الدنيا ‪.‬‬

‫سورة النساء [ ‪. ] 145‬‬ ‫()‬


‫‪5‬‬
‫‪ 2‬سورة التوبة [ ‪. ] 55 - 54‬‬ ‫()‬
‫ي ا ْل َمأْوَى ) (‪. )1‬‬
‫جحِيمَ ِه َ‬
‫ن ا ْل َ‬
‫حيَاةَ ال ّد ْنيَا َفإِ ّ‬
‫ن طَغَى وَآ َثرَ ا ْل َ‬
‫( َفَأمّا مَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫خ ْيرٌ وََأ ْبقَى )‬
‫خرَةُ َ‬
‫حيَاةَ ال ّد ْنيَا وَالْآ ِ‬
‫ن ا ْل َ‬
‫ل تُ ْؤ ِثرُو َ‬
‫( بَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ى َل ُهمْ )‬
‫( وَاّلذِينَ كَ َفرُوا َي َت َم ّتعُونَ َو َي ْأكُلُونَ َكمَا َت ْأكُلُ ا ْلَأ ْنعَامُ وَالنّارُ َمثْو ً‬

‫وقد آثر أن يستمتع بما بين يديه من المتاع الزائد عن الحد ‪ ،‬لن الحرمان منه أشد لذعا‬

‫في حسه من العذاب الذي توعده ال به ‪ ،‬إما لنه ل يؤمن بالخرة أصل ‪ ،‬فالعذاب المتوعد‬

‫به في حسه وهم ل حقيقة له ‪ ،‬وإما لنه ضعيف اليمان بالخـرة ‪ ،‬ومن ثم فإن ذلك‬

‫العذاب ‪ ،‬المنبهم في خياله ‪ ،‬أخـف وزنا في حسه من العذاب القريب الـذي يحدثه حرمانه‬

‫من المتاع ‪.‬‬

‫وفي الحالين هي حالة غير سوية ‪ ،‬تختل الموازين فيها في حس صاحبها ‪ ،‬لنه ل‬

‫ويغفل عن الدللة المعنوية لما تدركه حواسه ‪:‬‬ ‫(‪)4‬‬


‫يؤمن إل بما تدركه حواسه !‬

‫ن ِبهَا وََل ُهمْ آذَانٌ ل َيسْ َمعُونَ ِبهَا أُوَل ِئكَ‬


‫صرُو َ‬
‫ن ل ُي ْب ِ‬
‫عيُ ٌ‬
‫ن ِبهَا وََل ُهمْ أَ ْ‬
‫ب ل يَ ْف َقهُو َ‬
‫( َل ُهمْ قُلُو ٌ‬

‫ك ُهمُ ا ْلغَافِلُونَ ) (‪. )5‬‬


‫كَا ْلَأنْعَامِ بَلْ ُه ْم َأضَلّ أُوَل ِئ َ‬

‫أو هو كالعشى الذي ل تتضح في نظره إل المشاهد القريبة ‪ ،‬فتكون وحدها هي ذات‬

‫الوقع الواضح على جهاز التلقي عنده ‪ ،‬أما المشاهد البعيدة فهي مختلطة مبهمة متداخلة غير‬

‫ذات وقع واضح على ذلك الجهاز ‪:‬‬

‫سورة النازعات [ ‪. ] 39 - 37‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة العلى [ ‪. ] 17 - 16‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة محمد [ ‪. ] 12‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫هذه هي السمة البارزة للجاهليـة المعاصرة بصفة خاصة ‪ ،‬وإن كانت تنسب هذا الخلل في الفطـرة إلى‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫" العلم " ومقتضياته ! كأنما كتب على العلم أن يمسخ كيان النسان !‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 179‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫صدّو َنهُمْ عَنِ‬
‫ش ْيطَانا َفهُ َو لَ ُه قَرِينٌ وَِإ ّن ُهمْ َل َي ُ‬
‫ض لَ ُه َ‬
‫حمَنِ نُ َقيّ ْ‬
‫عنْ ِذ ْكرِ ال ّر ْ‬
‫( َومَنْ َيعْشُ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن َأ ّن ُهمْ ُم ْه َتدُونَ )‬
‫سبُو َ‬
‫حَ‬‫سبِيلِ َو َي ْ‬
‫ال ّ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫أما في حس النسان السوي فالقضية مختلفة تماما ‪..‬‬

‫إن النسان السوي ‪ -‬بادئ ذي بدء ‪ -‬ل يغلق روحه دون عالم الغيب ‪ ،‬ول يحصر‬

‫نفسه في محيط ما تدركه حواسه فحسب ‪ ،‬فقد زوده خالقه سبحانه ‪ -‬لكي يعينه على القيام‬

‫بمهمة الخلفة التي خلقه من أجلها ‪ -‬بقدرتين متقابلتين ‪ ،‬يؤدي بكل منهما جانبا من مهمة‬

‫الخلفة ‪ ،‬ويتوازن بهما معا فل يفقد توازنه من هنا ول من هناك ‪ .‬إحداهما هي اليمان بما‬

‫تدركه الحواس والثانية هي اليمان بالغيب ‪ .‬وبالقدرة الولى يتعامل مع واقع الحس القريب ‪،‬‬

‫ومع الكون المادي من حوله ‪ ،‬فيتعرف على خواص المادة ‪ ،‬ويستثمر علمه في تحقيق ما‬

‫سخر ال له من طاقات السماوات والرض من أجل تحسين أحواله على الرض ‪ .‬وبالقدرة‬

‫الثانية يتعامل مع الحقائق التي ل يدركها حسه ‪ -‬وإن كان يدرك آثار وجودها ‪ -‬والتي هي‬

‫مفطور على اليمان بها ‪ ،‬والتعامل معها ‪ ،‬والرتباط بها ‪ ،‬كحقيقة اللوهية ‪ ،‬وحقيقة النبوة‬

‫والوحي اللهي ‪ ،‬وحقيقة البعث والجزاء ‪ ،‬ليقوم بالجانب الخر ‪ -‬الهم في الحقيقة ‪ -‬وهو‬

‫إقامة العمارة المادية للرض على مقتضى المنهج الرباني ‪ ،‬فل تكون مجرد عمارة مادية ‪،‬‬

‫ول تكون محصورة في مطالب الجسد وملذاته ‪ ،‬إنما ترتفع لتكون " حضارة " بالمعنى الحقيقي‬

‫للحضارة ‪ .‬أي عمارة تحيط بها قيم عليا ‪ ،‬توجهها الوجهة اللئقة " بالنسان " ‪ ،‬الذي خلقه ال‬

‫من قبضة من طين الرض ونفخة من روح ال ‪ ،‬ول يتحقق مقتضى النفخة الروحية فيه إل‬

‫بهذه القيم المستمدة من الوحي الرباني ‪ ،‬والتي يبقى النسان بدونها غارقا في الطين ‪ ،‬ل يقدر‬

‫على الرتفاع عنه ‪ ،‬لنه يعطل في نفسه جهاز الرتفاع والتحليق ‪..‬‬

‫سورة الزخرف [ ‪. ] 37 - 36‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫وهذا النسان السوي ‪ -‬المتوازن في تركيبه بين قبضة الطين ونفخة الروح ‪ ،‬المستمد‬

‫نظام حياته من المنهج الرباني ‪ -‬ترتسم القضية في حسه بصورة مختلفة ‪..‬‬

‫ففي الحياة الدنيا قدر من المتاع أباحه ال ‪ ..‬أباحه منذ هبط آدم وزوجه إلى الرض ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ستَ َقرّ َو َمتَاعٌ إِلَى حِينٍ )‬
‫عدُوّ وََل ُكمْ فِي ا ْلَأرْضِ ُم ْ‬
‫( َوقُلْنَا ا ْه ِبطُوا َب ْعضُ ُكمْ ِل َبعْضٍ َ‬

‫هذا القدر الذي حدده ال بعلمه وحكمته ‪ ،‬يعلم سبحانه أنه هو القدر المناسب للكيان‬

‫البشـري ‪ ،‬الذي يعينه على القيام بدور الخلفة في الرض دون أن يدمر هذا الكيان أو‬

‫يعطبه ‪ .‬وفي الوقت ذاته يتمثل فيه البتلء الذي خلق النسان له ‪ .‬فقد خلق ال الكيان البشري‬

‫محببة إليه الشهوات ‪:‬‬

‫طرَةِ ِمنَ الذّهَبِ وَالْ ِفضّةِ‬


‫ن ال ّنسَاءِ وَا ْل َبنِينَ وَالْ َقنَاطِيرِ ا ْلمُ َق ْن َ‬
‫شهَوَاتِ مِ َ‬
‫ن لِلنّاسِ حُبّ ال ّ‬
‫( ُزيّ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا ‪) ..‬‬
‫حرْثِ ذَِلكَ َمتَاعُ ا ْل َ‬
‫ل ا ْل ُمسَ ّومَةِ وَا ْلَأ ْنعَامِ وَا ْل َ‬
‫خيْ ِ‬
‫وَا ْل َ‬

‫وفي الوقت ذاته حدد ال الحدود ‪:‬‬

‫حدُو ُد اللّ ِه فَل تَ ْق َربُوهَا ) (‪. )3‬‬


‫( تِ ْلكَ ُ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫حدُو ُد اللّ ِه فَل َت ْع َتدُوهَا )‬
‫( تِ ْلكَ ُ‬

‫ومن رحمته حدد له تلك الحدود التي علم سبحانه أنها تحقق القدر المعقول من المتاع‬

‫دون أن تعطب كيان النسان ‪ ،‬ولكن نقطة البتلء هي تزيين الشهوات له بحيث يرغب في‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 36‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 14‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 187‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 229‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫الستزادة منها ‪ ،‬وتقييده ‪ -‬في الوقت ذاته ‪ -‬بهذا القدر المباح له ‪ ،‬وعدم السماح له بتجاوزه‬

‫ولو هفت نفسه إلى المزيد ‪..‬‬

‫ولكن ال وقد حدد للنسان هذا القدر من المتاع لمصلحـة النسان ذاته ‪ -‬وال هو‬

‫الغني ‪ -‬لم يترك النسان ليتعذب بالحرمان ‪ ،‬بين حب الشهوات المزين له ‪ ،‬وبين القيود‬

‫المفوضة عليه ‪ -‬ولو أنها لمصلحته ‪ -‬وإنما وهب له أداة عظيمة النفع ‪ ،‬عظيمة التأثير ‪،‬‬

‫يستطيع بها أن " يضبط " منطلق شهواته دون أن يحس بلذع الحرمان ‪ ،‬بل يحس ‪ -‬عن‬

‫طريقها ‪ -‬بالرفعة والقتدار ‪ ..‬الرفعة عن مباذل الشهوة ‪ ،‬والقتدار على الضبط ‪ ،‬فيعوضه‬

‫هذا الحساس العظيم عما قد يحسه في مبدإ المر من الحرمان ‪ ،‬حتى يتعـود فل يعود يحس‬

‫به ‪..‬‬

‫‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫تلك الداة العظيمة هي " القلب " أو " العقل " أو " الفؤاد "‬

‫سمْعَ وَا ْلَأ ْبصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ‬


‫جعَلَ َل ُكمُ ال ّ‬
‫شيْئا َو َ‬
‫ن َ‬
‫ن ُأ ّمهَاتِ ُكمْ ل َتعَْلمُو َ‬
‫ن ُبطُو ِ‬
‫ج ُكمْ مِ ْ‬
‫خرَ َ‬
‫( وَاللّ ُه َأ ْ‬

‫ن ) (‪. )2‬‬
‫َلعَّل ُكمْ َتشْ ُكرُو َ‬

‫ن ِبهَا فَِإ ّنهَا ل‬


‫س َمعُو َ‬
‫ن َي ْ‬
‫ب َيعْقِلُونَ ِبهَا أَ ْو آذَا ٌ‬
‫ن َل ُهمْ قُلُو ٌ‬
‫( َأفََلمْ َيسِيرُوا فِي ا ْلَأرْضِ َف َتكُو َ‬

‫صدُورِ ) (‪. )3‬‬


‫ن َت ْعمَى الْقُلُوبُ اّلتِي فِي ال ّ‬
‫َت ْعمَى ا ْلَأ ْبصَارُ وََلكِ ْ‬

‫ونقطة البتلء في المر كله هي ‪ :‬هل يستخدم النسان هذه الداة العظيمة التي وهبها‬

‫ال له ‪ ،‬فيضبط منطلق شهواتـه ‪ ،‬ويرتفـع بذلك الضبط إلى المستوى اللئـق له ‪ ،‬وينشئ‬

‫" الحضارة " بمعناها الحقيقي ‪ ،‬ويحقق دور الخلفة الراشدة ‪ ..‬وينال فوق ذلك كله الجزاء‬

‫الوفى في الخرة ‪ ،‬في الجنة التي " فيها ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب‬

‫‪ )(1‬ترد هذه اللفاظ مترادفة في اللغة العربية وكذلك يرد اسم القلب أو الفؤاد في القرآن بمعنى العقل ‪.‬‬
‫سورة النحل [ ‪. ] 78‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة الحج [ ‪. ] 46‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫بشر " (‪ )1‬أم يلقي هذه الداة العظيمة جانبا ‪ ،‬وينساق مع شهواته ‪ ،‬فيهبط وينتكس ‪ ،‬ويدمر‬

‫نفسه فردا وجماعة على المدى القريب أو المدى البعيد ‪ ،‬ول ينشئ " الحضارة " الحقيقية‬

‫اللئقة به ‪ ،‬ول يحقق الخلفة الراشدة في الرض ‪ ،‬وفضل عن ذلك كله يتعرض للعقاب‬

‫الرهيب الذي ل تطيقه النفوس ول تطيقه البدان ‪:‬‬

‫غ ْيرَهَا‬
‫ضجَتْ جُلُودُ ُهمْ َبدّ ْلنَا ُهمْ جُلُودا َ‬
‫ن كَ َفرُوا بِآيَا ِتنَا سَ ْوفَ ُنصْلِيهِمْ نَارا كُّلمَا َن ِ‬
‫( ِإنّ اّلذِي َ‬

‫جنّاتٍ‬
‫س ُندْخُِل ُهمْ َ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َ‬
‫حكِيما وَاّلذِينَ آ َمنُوا وَ َ‬
‫عزِيزا َ‬
‫ن اللّ َه كَانَ َ‬
‫ب إِ ّ‬
‫ِل َيذُوقُوا ا ْل َعذَا َ‬

‫طهّرَةٌ َو ُن ْدخُِل ُهمْ ظِلّ ظَلِيلً ) (‪. )2‬‬


‫ج ُم َ‬
‫ن فِيهَا َأبَدا َل ُهمْ فِيهَا َأزْوَا ٌ‬
‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِي َ‬
‫ن َت ْ‬
‫َتجْرِي مِ ْ‬

‫وإذا كانت هذه هي القضية في حس النسان السوي فالموقف الذي تمليه الحكمة ‪،‬‬

‫ويتناسب مع " الفؤاد " الذي وهبه ال له ‪ ،‬أن يكتفي بالقدر المباح من المتاع ل يتجاوزه إلى‬

‫ما حرم ال ‪ ،‬فتستقيم حياته في الدنيا ‪ ،‬وينجو من عذاب ال الرهيب ‪ ،‬ويستمتع في الخرة‬

‫بالجنة والرضوان ‪.‬‬

‫وهكذا كان المر في حس الجيال الولى التي تربت على المنابع الصافية لهذا الدين ‪،‬‬

‫كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وكانت الدنيا والخرة في حسهم ‪ -‬تبعا لذلك ‪-‬‬

‫طريقا واحدا وحسبة واحدة ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ك اللّ ُه الدّارَ الْآخِرَ َة وَل َتنْسَ َنصِي َبكَ مِنَ ال ّد ْنيَا )‬
‫( وَا ْبتَغِ فِيمَا آتَا َ‬

‫ل فَا ْمشُـوا فِي َمنَا ِكبِهَا َوكُلُـوا ِمنْ ِرزْقِهِ وَإَِل ْيهِ‬
‫ل َل ُكمُ ا ْلَأرْضَ ذَلُو ً‬
‫جعَ َ‬
‫( ُهوَ اّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫الّنشُـورُ )‬

‫‪ )(1‬متفق عليه ‪.‬‬


‫سورة النساء [ ‪. ] 57 - 56‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة القصص [ ‪. ] 77‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة الملك [ ‪. ] 15‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ولكن هذا التوازن الجميل الذي أنشأه السلم في النفس البشرية ‪ ،‬وحققته الجيال‬

‫الولى من المسلمين ذلك التحقيق الرائع ‪ .‬الذي وعاه التاريخ ‪ ،‬والذي أثر في الواقع البشري‬

‫بصورة ل يوازيها تأثير آخر في التاريخ ‪..‬‬

‫هذا التوازن الجميل بدأ يختل بعد تلك الجيال الولى ‪ ،‬وإن كان الخلل في هذه المرة قد‬

‫وقع في التجاه المقابل تماما لما كان عليه في الجاهلية العربية ‪..‬‬

‫كان الخلل في الجاهلية العربية هو انفصال الدنيا في حس الناس عن الخرة ‪ ،‬لعدم‬

‫إيمانهم بالخرة والبعث والجزاء ‪ ،‬ومن ثم إيثار الحياة الدنيا ؛ وهو الن انفصال الدنيا في‬

‫حس الناس عن الخرة لستصغارهم شأن الحياة الدنيا واحتقارها ‪ ،‬ومن ثم إيثار الخرة !‬

‫ولول وهلة يبدو هذا المر هو عين اليمان ! وهو الواجب الذي ينبغي للمرء المؤمن‬

‫أن يسعى إليه ‪ ،‬وحين يصل إليه يدون قد بلغ الذروة التي ما بعدها ذروة ‪ ،‬وحقق أروع ما في‬

‫هذا الدين ‪..‬‬

‫وهذا ول شك هو الذي خطر في بال أولئك الذين آثروا الخرة على الدنيا على الصورة‬

‫التي قدمتها الصوفية ‪ ،‬التي انتشرت قرونا طويلة على امتداد الرض السلمية ‪ ،‬وما تزال‬

‫آثارها قابعة هنا وهناك ‪..‬‬

‫أليس ال هو الذي يقول ‪:‬‬

‫جنّـ َة فَ َقدْ فَا َز َومَا ا ْلحَيَا ُة الدّنْيَا إِلّا مَتَـاعُ‬


‫ل ا ْل َ‬
‫عنِ النّـارِ وَُأ ْدخِ َ‬
‫( َفمَنْ ُزحْـزِحَ َ‬

‫؟‬ ‫(‪)1‬‬
‫ا ْلغُـرُو ِر )‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 185‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أو ليس الذي يبتعد عن متاع الغرور ‪ ،‬ويتعلق بالدار الخرة وهي " الحيوان لو كانوا‬

‫هو الفائز حقا ‪ ،‬والمحقق لجوهر الدين حقا ‪ ،‬والضارب لروع المثلة حقا ؟!‬ ‫(‪)1‬‬
‫يعلمون "‬

‫ولكن عند التحقيق تتبين جوانب من المر قد تكون خافية لول وهلة ‪..‬‬

‫أما أنهم ابتغوا بذلك وجه ال ‪ ..‬فنعم !‬

‫وأما أنهم سلكوا الطريق الذي فرضه ال ‪ ..‬فل !‬

‫ول نتكلم الن عن شطحات الصوفية ‪ ،‬ول عن وحدة الوجود ‪ ،‬ول عن الحلول ‪ ،‬ول‬

‫أمثال ذلك من انحرافات العقيدة ‪..‬‬

‫ول نتكلم الن كذلك عن عبادة الضرحة والولياء ‪ ،‬وما انتشر حولها من بدع‬

‫وخرافات وأساطير ‪ ،‬وعن اتخاذ وسطاء بين العباد وبين ال ‪ ،‬وقد جاء هذا الدين لينفي‬

‫الوساطة كلها ‪ ،‬ويحرر القلب البشري منها ‪ ،‬ويعقد صلته بال مباشـرة بل وسطاء ول‬

‫شركاء ‪:‬‬

‫عوَ َة الدّاعِ ِإذَا دَعَانِ ) (‪. )2‬‬


‫ب ُأجِيبُ دَ ْ‬
‫عنّي َفِإنّي قَرِي ٌ‬
‫عبَادِي َ‬
‫سأََلكَ ِ‬
‫( وَِإذَا َ‬

‫لنتحدث الن عن هذه النحرافات كلها ‪ ،‬وعن الشرك الواقع فيها ‪ ،‬لن مجال حديثنا‬

‫الحاضر هو " مفهوم الدنيا والخرة " ‪ ،‬لذلك نتحدث هنا عما أفسدته الصوفية في هذا المجال‬

‫بالذات ‪.‬‬

‫لقد اتكأ الصوفية كثيرا على اليات التي وردت في ذم الدنيا ‪ ،‬والحاديث التي وردت‬

‫خرَةَ َلهِيَ‬
‫ن الدّا َر الْآ ِ‬
‫حيَا ُة ال ّد ْنيَا إِلّا َلهْوٌ وََلعِبٌ وَإِ ّ‬
‫جاء في سورة العنكبوت ( آية ‪َ " : ) 64‬ومَا َهذِهِ ا ْل َ‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫حيَوَانُ َل ْو كَانُوا َيعَْلمُونَ " ‪.‬‬
‫الْ َ‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 186‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫في لعنها‬

‫واتكأوا كذلك كثيرا على حال الزهاد من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬

‫الذين هجروا متاع الحياة الدنيا ولم يتعلقوا بشيء منه ‪.‬‬

‫واتكأوا كذلك كثيرا على أن التعلق بالدنيا يؤدي في حياة المؤمن إلى المعصية التي‬

‫تجلب عليه غضب الرب ‪ ،‬وتعرضه للعذاب في الخرة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنه ل سبيل إلى درء‬

‫المعاصي إل باحتقار الدنيا وازدرائها ‪ ،‬والخروج من زخرفها وزينتها ‪ ،‬والبعد عنها قدر‬

‫المستطاع ‪..‬‬

‫فأما اليات فقد وردت ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬في حق الكفار والمنافقين ‪..‬‬

‫وصحيح أن المؤمن يناله نصيب منها إن وقـع في بعض ما يقع فيه الكفار ‪ -‬وإن كان‬

‫ل يكفر بذلك ما دام محافظا على أصل اليمان ‪ -‬كما ورد في هذه الية التي تخاطب‬

‫المؤمنين ‪:‬‬

‫سبِيلِ اللّ ِه اثّاقَ ْل ُتمْ إِلَى ا ْلَأرْضِ َأ َرضِيتُمْ‬


‫ن آمَنُوا مَا َل ُك ْم ِإذَا قِيلَ َل ُكمُ انْ ِفرُوا فِي َ‬
‫( يَا أَ ّيهَا الّذِي َ‬

‫ل ِإلّ تَ ْنفِرُوا ُيعَذّ ْبكُمْ عَذَابا أَلِيما‬


‫خرَةِ إِلّا قَلِي ٌ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا فِي الْآ ِ‬
‫ن الْآخِرَ ِة َفمَا َمتَاعُ ا ْل َ‬
‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا مِ َ‬
‫بِا ْل َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ )‬
‫شيْئا وَاللّهُ عَلَى كُلّ َ‬
‫ضرّو ُه َ‬
‫وَ َيسْتَبْ ِدلْ َقوْما غَيْ َر ُكمْ وَل َت ُ‬

‫وكما كان سيدنا عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬في خوف دائـم من أن يناله قول ال تعالى ‪:‬‬

‫مع‬ ‫(‪)4‬‬
‫ن ال ّنعِيمِ )‬
‫ن يَ ْو َم ِئذٍ عَ ِ‬
‫وقوله تعالى ‪ُ ( :‬ث ّم َل ُتسْأَلُ ّ‬ ‫(‪)3‬‬
‫حيَا ِتكُمُ ال ّد ْنيَا )‬
‫ط ّيبَا ِتكُمْ فِي َ‬
‫( َأذْ َه ْبتُمْ َ‬

‫كقوله صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬الدنيا ملعونة ‪ ،‬ملعون ما فيها ‪ ،‬إل ذكر ال أو عالم أو متعلم " رواه ابن‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫ماجه والترمذي ‪.‬‬
‫‪ )(2‬سورة التوبة [ ‪. ] 39 - 38‬‬
‫سورة الحقاف [ ‪. ] 20‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة التكاثر [ ‪. ] 8‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫علمه بأنهما نزلتا في حق الكفار ‪..‬‬

‫ذلك صحيح ‪..‬‬

‫والتعلق بالدنيا ‪ ،‬الذي يؤدي إلى الغفلة عن الخرة ‪ ،‬أمر ل يقبله ال من مؤمن ول‬

‫كافر ‪ ،‬وإن اختلف الجزاء بين هذا وذاك ‪..‬‬

‫ولكن هذا كله شيء ‪ ،‬واعتبار الدنيا والخرة معسكرين متقابلين إن اتجه النسان‬

‫لحدهما انفصل ‪ -‬بالضرورة ‪ -‬عن الخر ‪ ،‬ومن ثم ينبغي الختيار بينهما لختيار أحدهما‬

‫ونبذ الخر ‪ ..‬هذه قضية مختلفة ل سند لها من دين ال !‬

‫‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ولنستمع لقول رب العالمين‬

‫ن ال ّد ْنيَا ) (‪. )2‬‬


‫خرَةَ وَل َتنْسَ َنصِي َبكَ مِ َ‬
‫( ‪ ..‬وَا ْبتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّ ُه الدّارَ الْآ ِ‬

‫وقوله تعالى ‪:‬‬

‫ل فَا ْمشُوا فِي َمنَا ِكبِـهَا َوكُلُـوا ِمنْ ِرزْقِهِ وَإَِل ْيهِ‬
‫ل َل ُكمُ ا ْلَأرْضَ ذَلُو ً‬
‫جعَ َ‬
‫( ُهوَ اّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫الّنشُـورُ )‬

‫وقوله تعالى ‪:‬‬

‫ي لِّلذِينَ آ َمنُوا فِي‬


‫ن ال ّرزْقِ قُلْ ِه َ‬
‫ط ّيبَاتِ مِ َ‬
‫خرَجَ ِل ِعبَادِهِ وَال ّ‬
‫ح ّرمَ زِينَةَ اللّهِ اّلتِي َأ ْ‬
‫( قُلْ َمنْ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا خَاِلصَةً َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة )‬
‫ا ْل َ‬
‫هو قول محكي عن قوم قارون ‪ ،‬ولكن السياق يدل على أنه قول مرضي عند ال ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫سورة القصص [ ‪. ] 77‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة الملك [ ‪. ] 15‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫سورة العراف [ ‪. ] 32‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫وقول رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ .. " :‬أل إني أعبدكم ل وأخشاكم له ‪ ،‬ولكني‬

‫أصوم وأفطر ‪ ،‬وأقوم وأنام وأتزوج النساء ‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فليس مني " (‪. )1‬‬

‫وتقف وقفة خاصة عند قوله تعالى ‪ " :‬قل من حرم زينة ال التي أخرج لعباده ‪" ..‬‬

‫فذكر الزينة في هذا المجال له دللته الخاصة ‪ .‬إذ الزينة جمال ‪ .‬والجمال شيء زائد‬

‫على الضرورة ‪ .‬أي أن الذي يبيحه ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬لعباده ليس هو مجرد الضرورة‬

‫التي تحفظ الحياة على أي صورة كانت ‪ ،‬إنما هو شيء زائد على الضرورة ‪ ،‬يصل إلى‬

‫درجة الجمال ‪.‬‬

‫وفي القرآن إشارات جمة إلى " الجمال " تحمل هذه الدللة ‪:‬‬

‫جةٍ‬
‫ت َب ْه َ‬
‫سمَاءِ مَاءً َفَأ ْن َب ْتنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَا َ‬
‫ن ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ وََأ ْنزَلَ َل ُكمْ مِ َ‬
‫ن خََلقَ ال ّ‬
‫( َأمّ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫جرَهَا )‬
‫شَ‬‫ن ُت ْن ِبتُوا َ‬
‫ن َل ُكمْ أَ ْ‬
‫مَا كَا َ‬

‫خرِجُ‬
‫جنَا ِمنْ ُه خَضِرا ُن ْ‬
‫شيْءٍ َفَأخْ َر ْ‬
‫ل َ‬
‫جنَا بِ ِه َنبَاتَ كُ ّ‬
‫خرَ ْ‬
‫سمَا ِء مَاءً َفَأ ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫( وَهُ َو اّلذِي َأ ْنزَلَ مِ َ‬

‫ن وَالرّمّانَ‬
‫عنَابٍ وَال ّز ْيتُو َ‬
‫ن أَ ْ‬
‫جنّاتٍ مِ ْ‬
‫ن دَا ِنيَةٌ َو َ‬
‫ل مِنْ طَ ْل ِعهَا ِقنْوَا ٌ‬
‫حبّا ُمتَرَاكِبا َو ِمنَ ال ّنخْ ِ‬
‫ِمنْهُ َ‬

‫ن فِي ذَِلكُـمْ لَآياتٍ ِلقَ ْومٍ‬


‫إِ ّ‬ ‫(‪)3‬‬
‫غ ْيرَ ُم َتشَابِـهٍ ا ْنظُرُوا إِلَى َث َمرِهِ إِذَا أَ ْثمَ َر وَيَ ْن ِعهِ‬
‫شتَبِـها َو َ‬
‫ُم ْ‬

‫ن ) (‪. )4‬‬
‫يُ ْؤ ِمنُـو َ‬

‫ن ُترِيحُونَ‬
‫جمَالٌ حِي َ‬
‫( وَا ْلَأ ْنعَامَ خَلَ َقهَا َل ُكمْ فِيهَا ِدفْءٌ َو َمنَافِعُ َو ِم ْنهَا َت ْأكُلُونَ وََل ُكمْ فِيهَا َ‬

‫‪ )(1‬متفق عليه ‪.‬‬


‫سورة النمل [ ‪. ] 60‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫لم يقل هنا " كلوا من ثمره " كما جاء في نفس السورة [ آية ‪ ] 141‬لن المطلوب هنا ‪ -‬إلى جانب‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫التذكير بنعم ال ذات النفع للنسان ‪ -‬توجيه الوجدان إلى الجمال الرائع في خلق ال المبدع ‪ ،‬وأن هذا الجمال‬
‫ذاته آية من آيات ال تؤدي بالفطرة السليمة إلى اليمان ‪.‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 99‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫ن َتسْ َرحُونَ ) (‪. )5‬‬
‫َوحِي َ‬

‫أما الحديث النبوي فيقرر أن العبادة التي يرضاها ال لعباده ل يدخل فيها المتناع البات‬

‫عن متاع الرض والنصراف الكامل عنه ‪ .‬وأن هذا المتناع ليس هو التعبير الصحيح عن‬

‫صدق العبادة والخشية ل ‪ .‬لن أعبد الخلق جميعا ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬وأخشاهم ل ل‬

‫يفعل ذلك ‪ ،‬ول يأمر به ‪ ،‬بل يعتبر من يقوم به راغبا عن سنته صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وينذره‬

‫بأنه حائد عن الطريق ‪ " :‬فمن رغب عن سنتي فليس مني " ‪.‬‬

‫أما الزهاد الذين احتج بهم الصوفية فهم على طريق آخر غير طريق الصوفية !‬

‫ولقد يشتبه المظهر لول وهلة بين الزاهد والصوفي من بعض الجوانب ‪.‬‬

‫كلهما مترفع عن المتاع ‪ ،‬منصرف عنه أكثر وقته ‪ .‬وكلهما صارف همه إلى أنواع‬

‫من العبادة ل تدع فرصة للستمتاع بالمتاع المباح ‪..‬‬

‫نعم ‪ ..‬ولكنهما يفترقان بعد ذلك ! ويكاد يصل الفتراق بينهما إلى طرفي نقيض !‬

‫يفترقان في نوع العبادة التي يتجه كل منهما إليها ‪ ..‬أي أنهما في الحقيقـة يفترقان في‬

‫" مفهوم العبادة " ‪ ،‬ومن ثم يفترقان في منهج الحياة ‪ ،‬وفي منهج السلوك ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫إن المتناع عن بعض الشهوات يحتاج بادئ ذي بدء إلى عزيمة قوية ‪ ،‬لبناء " السد "‬

‫الذي يقف في وجه هذه الشهوات ‪ .‬ثم إن هذا المتناع ذاته ‪ ،‬حين يقف في وجه التيار المتدفق‬

‫للشهوات ‪ ،‬يجمّع في النفس طاقة هائلة ‪ ،‬رفيعة في ذاتها ‪ ،‬تتجه إلى مستويات أعلى ‪ ،‬وتنطلق‬

‫سورة النحل [ ‪. ] 6 - 5‬‬ ‫()‬


‫‪5‬‬
‫في تلك المستويات العالية ‪ ،‬كما يقف السد في وجه تيار الماء فيحجز جانبا منه ‪ ،‬فيرتفع‬

‫مستواه ‪ ،‬فيصل إلى مستويات لم يكن يصل التيار إليها في مجراه الصلي ‪..‬‬

‫وإلى هنا تتشابه " العملية النفسية " التي تنشأ عن الزهد ‪ ،‬والتي تنشأ عن التصوف ‪..‬‬

‫وتتجمع في نفس الزاهد وفي نفس الصوفي طاقة نفسية هائلة ‪ ،‬رفيعة المستوى ‪ ،‬قابلة للتوجه‬

‫إلى آفاق ل يصل إليها قط صاحب النفس المنساقة مع الشهوات ‪..‬‬

‫ثم تختلف الفاق ‪..‬‬

‫فأما زهاد الجيل الول ‪ ،‬وعلى رأسهم سيد الزهاد ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬فقد علمنا‬

‫طبيعة الفاق التي رفعهم إليها زهدهم في متاع الرض ‪..‬‬

‫الجهاد في سبيل ال ‪ .‬الجهاد لتكون كلمة ال هي العليا ‪ .‬الجهاد ليكون الدين كله ل ‪.‬‬

‫الجهاد لقامة العدل الرباني في واقع الرض ‪ .‬الجهاد لقامة المجتمع المثالي الذي يحقق في‬

‫عالم الواقع ما يتخيله الناس في عالم المثال ‪ .‬اليجابية الهائلة التي تغير الواقع المنحرف ‪،‬‬

‫وتنشئ بدل منه الواقع السوي ‪ .‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬اللذان هما رسالة المة‬

‫التي أخرجها ال لتكون خير أمة ‪:‬‬

‫عنِ ا ْل ُم ْن َكرِ َوُت ْؤ ِمنُونَ‬


‫ن بِا ْل َمعْرُوفِ َو َت ْنهَوْنَ َ‬
‫خ ِرجَـتْ لِلنّاسِ َت ْأ ُمرُو َ‬
‫خيْرَ ُأمّةٍ ُأ ْ‬
‫( ُك ْنتُـ ْم َ‬

‫بِاللّهِ ) (‪. )1‬‬

‫آفاق عالية ‪ ،‬تنطلق فيها الطاقة المخزونة التي رفعها الزهد ‪ ،‬فتنشئ في عالم الواقع‬

‫بناء شامخا يبهر النظار ‪ ،‬فيسري نوره في الرض ‪ ،‬فيضيء من ظلمات البشرية ما قدر ال‬

‫أن يستضيء ‪ ..‬ويسري النور في نصف قرن فيضيء ما بين المحيط في الغرب إلى ما وراء‬

‫سورة آل عمران [ ‪. ] 110‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫الهند في الشرق ‪ ،‬ل تقف في وجهه الحواجز ‪ ،‬ول تثبت في وجهه الظلمات ‪.‬‬

‫هذا ‪ ،‬والزهاد ‪ -‬وعلى رأسهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬ل يحرّمون المتاع ‪،‬‬

‫إنما يرتفعون فوقه ‪ ،‬فل يعود يشغلهم عن الجهاد في تلك الفاق العالية التي يجاهدون فيها ‪،‬‬

‫ول عن الهداف العالية التي يعملون بطاقتهم اليجابية كلها لتحقيقها في عالم الواقع ‪.‬‬

‫وحين تجد الزوج الودود عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم‬

‫‪ -‬ينام على عباءته فوق الرض اليابسة فتشفق عليه ‪ ،‬فتطبق له العباءة طبقتين لتكون ألين‬

‫لجسده الشريف ‪ ،‬يغضب ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬ويأمرها أن تعيدها كما كانت ‪ ،‬ليظل‬

‫على درجته الرفيعة من التبتل إلى ال ‪ ،‬ل يشغله هذا " اللين " النسبي عن توفير طاقته كلها‬

‫للجهاد في سبيل ال ‪ .‬ومع ذلك فهو ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬الذي قال ‪ " :‬ولكني أصوم‬

‫وأفطر ‪ ،‬وأقوم وأنام ‪ ،‬وأتزوج النساء ‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فليس مني ! " ‪.‬‬

‫أما الصوفية فماذا صنعـوا بتلك الطاقة الهائلة التي وفرها في نفوسهم ترفعهم عن‬

‫المتاع ؟!‬

‫لقد صرفوها إلى نوع آخر من الجهاد ‪ ..‬جهاد الشيطان في داخل النفوس ‪ .‬وأوّلوا في‬

‫سبيل ذلك كل آيات الجهاد الواردة في كتاب ال ‪ ،‬حتى تلك التي تشمل ألفاظا صريحة تنص‬

‫على قتال الكفار والمنافقين والغلظة عليهم !‬

‫وجهاد الشيطان مأمور به ول شك ‪ ..‬ومن تحصيل الحاصل أن نقول ‪ :‬إن ذلك الجيل‬

‫الفريد الذي حقق في عالم الواقع ما حقق من ال ُمثُل الرفيعة ‪ ،‬قد جاهد الشيطان وظفر في‬

‫جهاده له بأكبر نصر عرفه التاريخ ‪ .‬ولكنهم ما جعلوا معركتهم مع الشيطان هي نهاية‬

‫المطاف ‪ ..‬حتى بعد أن انتهى سلطانه من نفوسهم بشهادة العليم الخبير ‪:‬‬
‫ن ِإ ّنمَا سُ ْلطَانُهُ عَلَى اّلذِينَ‬
‫ن آ َمنُوا َوعَلَى َر ّبهِمْ َي َت َوكّلُو َ‬
‫( ِإنّ ُه َليْسَ َل ُه سُلْطَانٌ عَلَى اّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫َيتَوَلّ ْو َنهُ وَاّلذِينَ ُه ْم بِ ِه ُمشْ ِركُو َ‬

‫وهو وصف يصدق على المؤمنين جميعا ‪ ،‬ولكنه يصدق بصفة خاصة على الذين شهد‬

‫ال لهم باليمان ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ل ِبمَا ُأ ْنزِلَ إَِليْ ِه مِنْ َربّهِ وَا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ ‪) ..‬‬
‫( آ َمنَ ال ّرسُو ُ‬

‫حتِهَا‬
‫ن َت ْ‬
‫جرِي مِ ْ‬
‫جنّاتٍ َت ْ‬
‫( أُوَل ِئكَ َكتَبَ فِي قُلُو ِب ِهمُ ا ْلأِيمَانَ وََأ ّيدَ ُهمْ ِبرُوحٍ ِمنْ ُه َو ُيدْخُِل ُهمْ َ‬

‫حزْبَ اللّهِ ُهمُ‬


‫ب اللّ ِه أَل ِإنّ ِ‬
‫ك حِزْ ُ‬
‫عنْ ُه أُوَل ِئ َ‬
‫ع ْن ُهمْ َو َرضُوا َ‬
‫ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َرضِيَ اللّهُ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ا ْلمُفِْلحُونَ )‬

‫إنما كانت معركتهم مع الشيطان وظفرهم عليه هي نقطة النطلق التي ينطلقون منها‬

‫إلى البناء ‪ ..‬إلى الجهاد ‪ ..‬إلى المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ..‬إلى إقامة العدل الرباني‬

‫في الرض ‪ ..‬إلى دك حصون الشرك وإقامة حصون اليمان ‪ ..‬إلى إزالة الطواغيت وإقامة‬

‫حكم ال ‪ ..‬إلى إنشاء القوة التي يرهبها أعداء ال ‪..‬‬

‫وما كانوا يستطيعون أن يقوموا بشيء من هذا كله لو لم يبدأوا بجهاد الشيطان داخل‬

‫نفوسهم ‪ ،‬أو لو بقيت معركتهم مع الشيطان معلقة بغير نصر حاسم عليه ‪ ..‬ولكنهم لم يتوقفوا‬

‫قط عند معركتهم تلك مع الشيطان ليقولوا ‪ :‬هنا غاية الغاية ونهاية المطاف !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫سورة النحل [ ‪. ] 100 - 99‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 285‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة المجادلة [ ‪. ] 22‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫وأمر آخر في تلك المعركة مع الشيطان يلفت النتباه ‪.‬‬

‫لقد كانت سبيل الصوفية في معركتهم مع الشيطان هي قتل " النفس " التي يأوي إليها‬

‫الشيطان حتى ل يجد له مأوى فينصرف ! فإنما مأواه هو الشهوات المزينة للنسان ‪ ،‬يظل‬

‫ينفث فيها وينفخ فيها حتى تشتعل ‪ ،‬فيعجز صاحبها عن إطفائها فتزداد اشتعال ! أما إذا ماتت‬

‫الشهوات فما عاد للشيطان مأوى في النفس يأوي إليه ‪ ،‬وما عاد يستطيع أن يقوم بدوره الذي‬

‫يضطلع به ‪:‬‬

‫( ‪ ..‬وََلُأضِّلنّ ُهمْ وََلُأ َمنّ َي ّن ُهمْ وَلَآ ُم َر ّنهُمْ ‪. )1( ) ..‬‬

‫خيِْلكَ َو َرجِِلكَ َوشَا ِر ْك ُهمْ فِي‬


‫ت ِم ْنهُمْ ِبصَ ْو ِتكَ وََأجْلِبْ عََل ْي ِهمْ ِب َ‬
‫س َتطَعْ َ‬
‫ناْ‬
‫ستَفْ ِززْ مَ ِ‬
‫( وَا ْ‬

‫غرُورا ) (‪. )2‬‬


‫ن إِلّا ُ‬
‫شيْطَا ُ‬
‫عدْ ُهمْ َومَا َي ِعدُ ُهمُ ال ّ‬
‫ا ْلَأمْوَالِ وَا ْلأَوْلدِ وَ ِ‬

‫لذلك يظل الصوفي " يجاهد " ‪ ،‬ويتحمل في سبيل ذلك الجهد ‪ ،‬حتى يظفر أخيرا بقتل‬

‫شهواته ‪ ،‬لينصرف عنه الشيطان !‬

‫أما الزاهد فليست سبيله في معركته مع الشيطان هي " قتل النفس " بقتل الشهوات ‪.‬‬

‫إنما سبيله التي يستمدها من المنهج الرباني ‪ ،‬هي " تحصين النفس " من غواية الشيطان‬

‫جهد الطاقة ‪ ،‬مع البقاء على حيويتها من أجل عمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني ‪ ،‬ومن‬

‫أجل الجهاد في سبيل ال ‪.‬‬

‫إن هذه الدوافع التي أوجدها ال في النفس النسانية لم يوجدها عبثا ‪ ،‬إنما أوجدها‬

‫سبحانه لغاية ‪..‬‬

‫سورة النساء [ ‪. ] 119‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة السراء [ ‪. ] 64‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫فلقد خلق ال النسان ليكون خليفة في الرض ‪ ،‬وكلفه بعمارتها ‪.‬‬

‫علٌ فِي ا ْلَأرْضِ خَلِي َفةً ) (‪. )1‬‬


‫( وَِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ ِإنّي جَا ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫س َت ْعمَ َر ُكمْ فِيهَا )‬
‫شَأ ُكمْ مِنَ ا ْلَأرْضِ وَا ْ‬
‫( ُهوَ َأ ْن َ‬

‫ولحكمة ما خلقه من قبضة من طين الرض ‪ ،‬ثم نفخ فيه من روحه ‪ ،‬ولم يخلقه ‪ -‬كما‬

‫خلق الملئكة ‪ -‬من نور خالص !‬

‫ن رُوحِي فَ َقعُوا‬
‫ن فَِإذَا سَ ّو ْيُتهُ َونَ َفخْتُ فِي ِه مِ ْ‬
‫( ِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَ ِة ِإنّي خَاِلقٌ َبشَرا ِمنْ طِي ٍ‬

‫ن ) (‪. )3‬‬
‫لَ ُه سَاجِدِي َ‬

‫ومع قبضة الطين وجدت في النفس البشرية تلك الشهوات المزينة للنسان ‪:‬‬

‫طرَةِ ِمنَ الذّهَبِ وَالْ ِفضّةِ‬


‫ن ال ّنسَاءِ وَا ْل َبنِينَ وَالْ َقنَاطِيرِ ا ْلمُ َق ْن َ‬
‫شهَوَاتِ مِ َ‬
‫ن لِلنّاسِ حُبّ ال ّ‬
‫( ُزيّ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫حيَا ِة ال ّد ْنيَا ‪) ..‬‬
‫حرْثِ ذَِلكَ َمتَاعُ ا ْل َ‬
‫ل ا ْل ُمسَ ّومَةِ وَا ْلَأ ْنعَامِ وَا ْل َ‬
‫خيْ ِ‬
‫وَا ْل َ‬

‫ولكنها بالنفخة العلوية لم تعد طينا معتما ‪ ،‬ومتعة حسية غليظة كمتعة الحيوان ‪ ،‬إنما‬

‫صار لها ‪ -‬وهي طين بعد ‪ -‬شفافية روحية تقيها من عتامة الطين ‪ ،‬وتشع فيها قيما ومبادئ‬

‫وأهدافا وآفاقا جديرة " بالنسان " الذي كرمه ال وفضّله ‪:‬‬

‫ط ّيبَاتِ َو َفضّ ْلنَا ُهمْ عَلَى‬


‫ن ال ّ‬
‫حرِ َو َر َزقْنَا ُهمْ مِ َ‬
‫حمَ ْلنَا ُهمْ فِي ا ْل َبرّ وَا ْل َب ْ‬
‫( وَلَ َقدْ َك ّر ْمنَا َبنِي آ َدمَ َو َ‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 30‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬سورة هود [ ‪. ] 61‬‬ ‫()‬

‫سورة ص [ ‪. ] 72 - 71‬‬ ‫()‬


‫‪3‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 14‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫ن خَلَ ْقنَا تَ ْفضِيلً ) (‪. )1‬‬
‫َكثِيرٍ ِممّ ْ‬

‫ويعلم الخالق اللطيف الخبير أن هذه " الشهوات " أو قل " الدوافع " لزمة للوجود‬

‫البشري ‪ ،‬لتدفعه إلى العمل والنتاج والنجاز والنشاط والحركة والبناء والتعمير ‪ -‬التي هي‬

‫مقتضى الخلفة في الرض ‪ -‬حتى ل تقف الحواجز والموانع ‪ -‬وهي كثيرة ‪ -‬دون تحقيق‬

‫الدور المطلوب من النسان ‪.‬‬

‫كما يعلم سبحانه أنه ل بد لها من الضبط لكي ل تتحول عن وظيفتها السوية وتصبح‬

‫دمارا للنسان ‪.‬‬

‫والمنهج الرباني هو الذي يحدث التوازن المطلوب ‪ ،‬الذي يضبط هذه الشهوات دون أن‬

‫يقتلها ‪ ،‬ودون أن يطلقها في الوقت ذاته عارمة تحطم السدود ‪.‬‬

‫وصحيح أن هذه " الدوافع " أو قل " الشهوات " هي نقطة البتلء في حياة النسان ‪:‬‬

‫ل ) (‪. )2‬‬
‫عمَ ً‬
‫حسَنُ َ‬
‫جعَ ْلنَا مَا عَلَى ا ْلَأرْضِ زِينَ ًة َلهَا ِل َنبْلُوَ ُهمْ َأ ّي ُهمْ َأ ْ‬
‫( ِإنّا َ‬

‫وهذا هو الجانب الذي لمحته الصوفية فركزت عليه ‪ ..‬إذ رأت أن النسان يسقط في‬

‫البتلء من جانب شهواته ‪ ،‬وأنه إذا استطاع أن يقضي عليها ويقتلها فقد نجح في البتلء ‪..‬‬

‫ولكنهم أغفلوا الحكمة من إيجادها ‪ ،‬ومن ضرورة البقاء عليها حية في نفس النسان ‪،‬‬

‫مع ضرورة ضبطها ما وسع النسان الجهد ‪ ..‬كما يقضي بذلك المنهج الرباني كما أنزله ال‬

‫وكما بينه رسول ال ‪:‬‬

‫سورة السراء [ ‪. ] 70‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الكهف [ ‪. ] 7‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫" أل إني أعبدكم ل وأخشاكم له ‪ ،‬ولكنـي أصوم وأفطر ‪ ،‬وأقوم وأنام ‪ ،‬وأتزوج‬
‫(‪)1‬‬
‫النسـاء ‪) ..‬‬

‫وحين أغفلوا هذه الحكمة فماذا كانت النتيجة ؟!‬

‫إن النسان ل يستطيع أن يكون نورا خالصا كما تشتهي الصوفية من جهادها الضخم‬

‫مع الشهوات !‬

‫وفي الوقت ذاتـه هل يكون النسان قد قام بالعبادة المطلوبة منه ‪ -‬المفصلة على قده‬

‫‪ -‬لو نجـح في الوصول إلـى الشفافية النورانية الروحية بقتـل الجسد وإماتة‬ ‫(‪)2‬‬
‫هو‬

‫الشهوات ؟!‬

‫يصل بالرياضة الروحية إلى آفاق شفيفة تحلق فيها‬ ‫(‪)3‬‬


‫ل أحد ينكر أن الصوفي الحقيقي‬

‫روحه خفيفة من ثقلة الجسد ‪ ،‬طليقة من جذب الشهوات ‪ ،‬فترتاد عوالم ل يقدر عليها اللصق‬

‫بالطين ‪ ،‬المستغرق في الشهوات ‪..‬‬

‫لكن يقع الصوفي من جانب آخر في خدر لذيذ يخيّل إليه أنه " واصل " ‪ ..‬ومن هنا ل‬

‫يعمل ! لنه إذا كان العمل هو وسيلة الوصول للنسان " العادي " ‪ ،‬وهو قد وصل بالفعل ‪،‬‬

‫فما حاجته بعد إلى الوسيلة ! إنما يسعى إلى الوسيلة من لم يتمكن من " الوصول " ‪ ..‬أما‬

‫الواصلون ‪ ..‬فحسبهم أنهم واصلون !‬

‫وهكذا تلتقي في نفس الصوفي عوامل كثيرة تصرفه عن العمل في واقع الحيـاة ‪ ..‬عن‬

‫" الجهاد " الذي يخوضه الزاهد لقامة منهج ال في الرض ‪ ..‬لتكون كلمة ال هي العليا ‪..‬‬

‫سبق ذكره ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫راجع فصل " مفهوم العبادة " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬أي الصادق المتبتل ‪ ،‬ل المشعوذ المحترف ‪.‬‬ ‫()‬
‫ليكون الدين كله ل ‪ ..‬لتحطيم الباطل وإزهاقه ‪ ،‬وإقامة الحق وإعلئه ‪ ..‬للبناء والتعمير ‪..‬‬

‫للزيادة والنماء ‪ ..‬لعداد القوة لرهاب عدو ال ‪..‬‬

‫العامل الول هو نظرته للدنيا ‪ -‬وهي في حسه منفصلة عن الخرة ‪ -‬على أنها السجن‬

‫الذي يسعى إلى الخلص منه ‪ ،‬بانطلقة الروح التي تخلصت من ثقلة الجسد ‪ ،‬فاتصلت بالنور‬

‫اللهي واتصلت بالخرة ‪ -‬المنقطعة في حسه عن الدنيا ‪..‬‬

‫وحين تكون الدنيا هي السجن ‪ ..‬فهل يسعى السجين قط إلى عمارة السجن ‪ ،‬وهو يعاني‬

‫منه ما يعانيه ؟!‬

‫إنما ينصرف بفكره عنه ‪ ..‬ول يعنيه ما تلف منه أو تهدم ‪ ..‬ول يسعى إلى إصلح‬

‫شيء فيه ‪ ..‬بينما هو يتطلع إلى يوم الخلص منه !‬

‫والعامل الثاني هو انعدام " الرغبة " ‪ ..‬بسبب انعدام " الدوافع " التي تحرك الرغبات ‪..‬‬

‫إنما " يرغب " النسان في الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ‪ ..‬أو " يرغب "‬

‫في القوة ‪ ..‬أو " يرغب " في التملك ‪ ..‬أو " يرغب " في العلم ‪ ..‬أو " يرغب " في الغلبة ‪ ..‬أو‬

‫" يرغب " في المكانة ‪ ..‬أو " يرغب " في السبـق ‪ ..‬أو " يرغب " في البناء الحسّي أو‬

‫المعنوي ‪ ..‬فيتحرك ‪ ..‬يتحرك لتحقيق ما يعتمل في نفسه من رغبات ‪ ،‬بصرف النظر عن‬

‫كونها رفيعة أو هابطة ‪ ،‬سوية أو منحرفة ‪ ،‬ملتزمة أو طاغية ‪..‬‬

‫فأما حين يكون َهمّ الرياضة الروحية هو قتل تلك الرغبات " لتخليص " النفس منها ‪..‬‬

‫فلي شيء يتحرك ؟ لي شيء يسعى ؟ وهو ل يطلب شيئا من هذه الدنيا كلها ‪ ..‬وإن طلب‬

‫فمجرد القوت الذي يحفظ الحياة ‪ ..‬وبأقل قدر من المئونة التي تحفظ الحياة ؟!‬

‫وأما العامل الثالث فهو تلك الشراقات الروحية ‪ ،‬أو إن شئت قل ذلك الخدر الذي يخيّل‬
‫لصاحبه أنه " واصل " ‪ ..‬أو قل لذة الفناء التي تحدث الوجود !‬

‫وأيّا سميتها ‪ ..‬فهي شعور يوحي للنفس بالرضى والكتفاء ‪ ..‬الكتفاء بما هو حاصل ‪..‬‬

‫وعدم الرغبة في شيء بعد ! أو إن رغب فإنما يرغب في " مقامات " أعلى ‪ ..‬فيبذل مزيدا‬

‫من الرياضة الروحيـة ‪ ..‬مزيدا من قتل النفس لكي تحيا ‪ ..‬مزيدا من الفناء الذي يحدث‬

‫الوجود !‬

‫وحين تجتمع تلك العوامل الثلثة ‪ ،‬مضافا إليها المفهوم السلبي لعقيدة القضاء والقدر ‪،‬‬

‫الذي ل يسعى إلى تغيير شيء مما وجد بالفعل ‪ -‬أيا كان سوؤه ‪ -‬لنه وجد بقدر من ال !‬

‫ولن محاولة تغييره تعتبر في نظره تمردا على قدر ال ‪..‬‬

‫حين تجتمع تلك العوامل كلها في نفس الصوفي فأي شيء يدفعه للحركة في خضم‬

‫الحياة الموّار ؟! إنما قصاراه ‪ -‬إن تحرك ‪ -‬أن يتحرك ليتجنب اللجة ‪ ،‬لكي ينعم في الرض‬

‫بالسلم !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وأخيرا تتكئ الصوفية ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬على فتنة الدنيا التي تؤدي إلى الوقوع في‬

‫المعاصي ‪ ،‬والتي ل تتقى إل بقتل شهوات النفس ‪ ،‬لكي تبتعد عن مزالق الشيطان ‪..‬‬

‫ويجدون في هذا المجال وفرة من توجيهات القرآن ‪ ،‬ووفرة من توجيهات الرسول صلى‬

‫ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫حيَاةُ ال ّد ْنيَـا وَل َيغُ ّر ّن ُكمْ بِاللّهِ‬


‫حقّ فَل َت ُغ ّر ّنكُ ُم ا ْل َ‬
‫( يَا َأ ّيهَا النّـاسُ ِإنّ وَعْـدَ اللّهِ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ا ْلغَـرُورُ )‬

‫سورة فاطر [ ‪. ] 5‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫عنْ وََلدِهِ وَل َموْلُو ٌد هُ َو جَازٍ عَنْ‬
‫جزِي وَاِلدٌ َ‬
‫خشَوْا َيوْما ل َي ْ‬
‫س اتّقُوا َر ّبكُمْ وَا ْ‬
‫( يَا َأ ّيهَا النّا ُ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫حيَا ُة ال ّد ْنيَا وَل َيغُ ّر ّن ُكمْ بِاللّ ِه ا ْلغَرُو ُر )‬
‫حقّ فَل َت ُغ ّر ّنكُمُ ا ْل َ‬
‫عدَ اللّهِ َ‬
‫شيْئا إِنّ َو ْ‬
‫وَاِلدِ ِه َ‬

‫صبَحَ‬
‫ختََلطَ بِ ِه َنبَاتُ ا ْلَأرْضِ َفَأ ْ‬
‫سمَا ِء فَا ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا َكمَا ٍء َأ ْنزَلْنَا ُه مِ َ‬
‫( وَاضْرِبْ َل ُه ْم َمثَلَ ا ْل َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ل شَيْ ٍء مُ ْق َتدِرا )‬
‫َهشِيما َت ْذرُوهُ ال ّريَاحُ َوكَانَ اللّهُ عَلَى كُ ّ‬

‫خرٌ َب ْي َن ُكمْ َو َتكَا ُثرٌ فِي ا ْلَأمْوَالِ وَا ْلأَوْلدِ‬


‫حيَاةُ ال ّد ْنيَا َلعِبٌ وََلهْوٌ َوزِينَةٌ َوتَفَا ُ‬
‫( اعَْلمُوا َأ ّنمَا ا ْل َ‬

‫شدِيدٌ‬
‫ب َ‬
‫عذَا ٌ‬
‫حطَاما َوفِي الْآخِرَةِ َ‬
‫ن ُ‬
‫ج َفتَرَا ُه ُمصْ َفرّا ُثمّ َيكُو ُ‬
‫ب ا ْلكُفّارَ َنبَاتُهُ ُثمّ َيهِي ُ‬
‫عجَ َ‬
‫ث أَ ْ‬
‫غيْ ٍ‬
‫َك َمثَلِ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫حيَاةُ ال ّد ْنيَا إِلّا َمتَاعُ ا ْل ُغرُورِ )‬
‫ن اللّهِ َو ِرضْوَانٌ َومَا ا ْل َ‬
‫َو َمغْ ِفرَ ٌة مِ َ‬

‫" ‪ ...‬فو ال ما الفقر أخشى عليكم ‪ ،‬ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما‬

‫بسطت على من كان قبلكم ‪ ،‬فتنافسوها كما تنافسوها ‪ ،‬وتلهيكم كما ألهتهم " (‪. )4‬‬

‫وعن أبي ذر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال ‪ " :‬كنت أمشي مع النبي ‪ -‬صلى ال عليه وسلم‬

‫‪ -‬في حرة المدينة فاستقبلنا أحد ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أبا ذر ! قلت ‪ :‬لبيك يا رسول ال ‪ .‬قال ‪ :‬ما‬

‫يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي عليّ ثالثة وعندي منه دينار ‪ ،‬إل شيئا أرصده‬

‫لدين ‪ ،‬إل أن أقول به في عباد ال هكذا وهكذا وهكذا ‪ -‬عن يمينه وعن شماله ومن خلفه ‪ .‬ثم‬

‫مشى ثم قال ‪ :‬إن الكثرين هم المقلون يوم القيامة إل من قال هكذا وهكذا وهكذا ‪ ،‬عن يمينه‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫وعن شماله ومن خلفه ‪ .‬وقليل ما هم "‬

‫ولقد سمع الصحابة ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪ -‬هذه التحذيرات في كتاب ال المنزل ‪ ،‬وفي‬

‫سورة لقمان [ ‪. ] 33‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الكهف [ ‪. ] 45‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة الحديد [ ‪. ] 20‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫أخرجه البخاري ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫أخرجه البخاري ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫حديث الرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وامتلت بها قلوبهم ‪ ،‬وعلموا يقينا أن متاع الدنيا‬

‫زائل ‪ ،‬وأن الخرة هي النعيم الحقيقي الذي يستحق أن يحرص عليه ‪ ،‬فزهدوا في كثير من‬

‫متاع الرض ‪..‬‬

‫ولكنه ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬ذلك الزهد اليجابي المقدام البنّاء ‪ ،‬الذي يدفع أصحابه إلى الجهاد‬

‫والمجالدة والمواجهة ‪ ،‬ل إلى النحسار في داخل النفس ‪ .‬وهو ‪ -‬كما أسلفنا كذلك ‪ -‬الزهد‬

‫ن النفس ضد الفتنة ل الذي يقتل النفس للوقاية من الفتنة !‬


‫الذي يحصّ ُ‬

‫إن هذه التحذيرات جاءت للتذكير ‪ ،‬حتى ل يفتن الناس بالدنيا وينسوا الخرة ‪ ،‬ولم‬

‫تجيء لمنع ممارسة الحياة في الدنيا ‪ ،‬أو منع الحركة والنشاط والعمل فيها ‪..‬‬

‫إنها أشبه بلفتات تنبه الناس إلى الخطر عند منزلقات الطريق ‪ ..‬ل لكي يمتنعوا عن‬

‫السير ! وإنما ليحذروا النزلق ! فإذا جاء قوم فقالوا ‪ :‬ل نسير في هذا الطريق لن هناك‬

‫لفتات تحذّر من النزلق ‪ ،‬فقد بالغوا ول شك في الحذر حتى وصل بهم الحذر إلى القعود !‬

‫ل على السير ويحاول أن يتقي المزالق ‪ .‬أما الخائف فإنه يكف عن‬
‫والواثق من نفسه يُ ْقبِ ُ‬

‫المسير !‬

‫وانظر إلى هذا الحديث من أحاديث الرسول صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫" والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا فتستغفروا لذهب ال بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فيغفر ال لهم "‬

‫هل هو حض على ارتكاب الذنوب ؟!‬

‫كل بالقطع !‬

‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫فما يكون من شأن رسول مرسل من عند ال ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليهم جميعا ‪ -‬أن‬

‫يحض الناس على إتيان الذنوب ‪ ،‬وهو الذي يدعو الناس إلى طاعة ال والبتعاد ‪ -‬قدر الطاقة‬

‫‪ -‬عن الذنوب !‬

‫إنما هو حض على العمل !‬

‫فحين يمارس النسان العمـل في واقع الحياة فإنه يتعرض لوقوع الذنـوب منه ل‬

‫محالة !‬

‫(‪)1‬‬
‫" كل بني آدم خطاء ‪" ..‬‬

‫وعندئذ يكون سبيل المؤمن الذي يعمل في واقع الحياة ثم يقع منه الذنب أن يستغفر ‪:‬‬

‫ن َيغْ ِفرُ‬
‫س َتغْ َفرُوا ِل ُذنُو ِب ِهمْ َومَ ْ‬
‫سهُمْ َذ َكرُوا اللّ َه فَا ْ‬
‫( وَاّلذِينَ ِإذَا فَعَلُوا فَاحِشَ ًة أَ ْو ظََلمُوا َأ ْن ُف َ‬

‫جنّاتٌ‬
‫جزَاؤُ ُهمْ َمغْ ِفرَةٌ ِمنْ َر ّب ِهمْ َو َ‬
‫ك َ‬
‫ن أُوَل ِئ َ‬
‫ب إِلّا اللّ ُه وََلمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُو َ‬
‫ال ّذنُو َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ن فِيهَا وَ ِن ْعمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ )‬
‫ح ِتهَا ا ْلَأ ْنهَارُ خَاِلدِي َ‬
‫ن َت ْ‬
‫َتجْرِي مِ ْ‬

‫أما الذي ل يذنب أبدا ‪ -‬إن وجد هذا النسان قط ‪ -‬فهو الذي ل يعمل أبدا ! وتكون‬

‫خطيئته الكبرى ‪ -‬التي ل يتنبه لها ‪ -‬هي أنه ل يعمل !! وهي خطيئة ثقيلة في الميزان ‪،‬‬

‫لنها تقصير في أداء واجبات مفروضة على النسان !‬

‫ليست البراعة أن يحمل النسان فوق رأسه سلة مملوءة بالشياء ‪ ،‬ثم يجلس ساكنا ل‬

‫يتحرك أي حركة لكي ل يقع من السلة شيء ! لنه مهما بذل من الجهد وتحمل من المشقة في‬

‫هذه الجلسة الساكنة فقد تعطل عن الحركة المطلوبة منه !‬

‫سبق ذكره ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 136 - 135‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ض مَا َأ َمرَهُ )‬
‫( كَلّا َلمّا يَقْ ِ‬

‫إنما البراعة أن يتحرك الحركة المطلوبة والسلة فوق رأسه ل تقع على الرض ‪ ،‬ول‬

‫يتبعثر ما فيها من الشياء ! فإذا وقع منه شيء ‪ -‬رغم الجهد والمحاولة ‪ ،‬والنية السليمة ‪-‬‬

‫فهنا يتفضل ال سبحانه بالعفو والمغفرة لمن لم يتهاون في المر ‪ ،‬ولم يستصغر وقوع ما وقع‬

‫منه ‪ ،‬ولم يصرّ على ما فعل ‪ ،‬بل سارع بالتذكر وسارع بالستغفار ‪.‬‬

‫وهنا تتبدى رحمة ال بالنسان حتى وهو مذنب ‪ ،‬ما دام قائما بالعمل المطلوب منه ‪،‬‬

‫وما دام الخطـأ يقع منه في أثناء أدائه للواجبات ‪ ،‬ل في أثناء قعوده أو إعراضه عن‬

‫الواجبات !‬

‫وتتبدى كذلك عظمة المنهج الرباني في التعامل مع " النسان " ‪..‬‬

‫ليس المطلوب من النسان ‪ -‬في المنهج الرباني ‪ -‬أن يقتل رغباته لكي يسلم من‬

‫ارتكاب الذنوب ‪ -‬وهو ل يسلم أبدا في الحقيقة ! ‪ -‬لن ذلك يعطل جوانب كثيرة من مهمة‬

‫الخلفة التي خلق ال لها النسان ‪.‬‬

‫إنما المطلوب منه أن يعمل ويتحرك ‪ -‬في جميع المجالت المتاحة المباحة ‪ -‬ليعمر‬

‫الرض بمقتضى المنهج الرباني ‪ ،‬وهو متقٍ ل جهد الطاقة ‪:‬‬

‫س َمعُوا وََأطِيعُوا ) (‪. )2‬‬


‫طعْتُمْ وَا ْ‬
‫( فَا ّتقُوا الّل َه مَا اسْتَ َ‬

‫فتمتلئ الرض بالنشاط والحركة ‪ ،‬والنماء والقوة ‪ ،‬مع النظافة بقدر ما يطيق البشر ‪..‬‬

‫وهذا هو " إصلح الرض " كما ورد في التعبير القرآني ‪:‬‬

‫سورة عبس [ ‪. ] 23‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة التغابن [ ‪. ] 16‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫حهَا )‬
‫ض َبعْدَ إِصْل ِ‬
‫سدُوا فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫( وَل تُ ْف ِ‬

‫ثم يحدث الصراع والدفع في واقع الرض ‪ ،‬لرد الرض إلى الصلح إذا أفسد فيها‬

‫المفسدون ‪:‬‬

‫ت ا ْلَأرْضُ وََل ِكنّ اللّهَ ذُو َفضْـلٍ عَلَى‬


‫ض ُهمْ ِب َبعْضٍ َل َفسَدَ ِ‬
‫س َبعْ َ‬
‫( وَلَوْل دَفْعُ اللّهِ النّا َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ )‬

‫جدُ ُي ْذكَرُ‬
‫ض ُهمْ ِب َبعْضٍ َل ُه ّدمَتْ صَوَامِعُ َو ِبيَعٌ َوصَلَوَاتٌ َو َمسَا ِ‬
‫س َبعْ َ‬
‫( وَلَوْل دَفْعُ اللّهِ النّا َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫عزِيزٌ )‬
‫ن اللّ َه لَ َق ِويّ َ‬
‫صرَنّ اللّهُ َمنْ َي ْنصُرُ ُه إِ ّ‬
‫سمُ اللّهِ َكثِيرا وََل َي ْن ُ‬
‫فِيهَا ا ْ‬

‫وهكذا يقوم الفرد المسلم والمة المسلمة بمهمتهما في الرض ‪ ..‬ول تنتهي هذه المهمة‬

‫ما دام الناس على الرض ‪.‬‬

‫وهكذا يكون الفرد المسلم والمة المسلمة قد قاما " بالعبادة " المطلوبة ‪ -‬في نطاقها‬

‫الواسع الشامل ‪ -‬وحققا غاية الوجود النساني كما أرادها ال ‪..‬‬

‫فأما " الزهاد " فقد قاموا بالمر على مستوى الحسان ‪:‬‬

‫" قال ‪ :‬وما الحسان ؟ قال ‪ :‬الحسان أن تعبد ال كأنك تراه ‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه‬

‫يراك " (‪. )4‬‬

‫وأما الصوفية فقد انصرفوا إلى الصلة والصيام و " الذكر " ‪ ..‬وقالوا ‪ :‬هذه هي‬

‫سورة العراف [ ‪. ] 56‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 251‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سورة الحج [ ‪. ] 40‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫‪ 4‬من حديث هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ‪ .‬رواه الشيخان ‪.‬‬ ‫()‬
‫العمال المطلوبة للخرة ‪ ..‬أما أمور " الدنيا " فل حاجة لنا إلى الخوض فيها ‪ ،‬لنها الفتنة‬

‫التي توقع في حبائل الشيطان !‬

‫ثم ‪! ..‬‬

‫انصرفوا عن المشي في مناكب الرض والسعي وراء الرزق ‪ ،‬واكتفوا من ذلك‬

‫بالكفاف ‪.‬‬

‫وانصرفوا عن العلم الدنيوي من طب وفلك ورياضيات وهندسة وفيزياء وكيمياء ‪..‬‬

‫لنه متعلق بالدنيا الفانية !‬

‫وانصرفوا عن التقدم المادي لنه زخرف الحياة الدنيا المؤدي إلى التهلكة !‬

‫وانصرفوا عن مصارعة الباطل ومحاولة إزهاقه ‪ ،‬لن ال قد أقام العباد فيما أراد ‪،‬‬

‫ولو أراد غير ذلك لكان ‪ ،‬وحين يريد فإنه سيغير من عنده ويخلق السباب ‪..‬‬

‫وكانت النتيجة هي ما أصاب العالم السلمي من الفقر والجهل والمرض ‪ ،‬والضعف‬

‫والتخلف في جميع الميادين !‬

‫ول يستقيم أمر الدين على هـذا النحو ‪ ،‬ول يستقيم حال المة كـذلك ‪ ،‬ول تستطيع أن‬

‫تؤدي رسـالتها الكبرى التي ناطـها ال بها ‪ ،‬وهي أن تكون هـادية ورائـدة لكـل‬

‫البشـرية ‪:‬‬

‫ش َهدَاءَ عَلَى النّاسِ َو َيكُـونَ ال ّرسُولُ عََل ْيكُـمْ‬


‫جعَ ْلنَا ُكمْ ُأمّةً َوسَطـا ِل َتكُونُوا ُ‬
‫( َو َكذَِلكَ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫شهِيدا )‬
‫َ‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 143‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫وكيف يكون حال أمة كلها قاعد ‪ ،‬وكلها فقير ‪ ،‬وكلها جاهل وكلها مريض ؟!‬

‫وحين يسعى كل إنسان إلى الرزق بالقدر الذي يكفيه لعيشة الكفاف ‪ ،‬فمن أين تجد‬

‫الدولة " الفائض " الذي تنفقه في سبيل ال ‪ ،‬والذي تنفذ به هذا المر الرباني ‪:‬‬

‫ع ُدوّ اللّـهِ‬
‫ن بِهِ َ‬
‫ل تُرْ ِهبُـو َ‬
‫خيْـ ِ‬
‫ط ا ْل َ‬
‫ن قُوّةٍ َو ِمنْ ِربَا ِ‬
‫طعْتُـمْ مِ ْ‬
‫س َت َ‬
‫عدّوا َل ُهمْ مَا ا ْ‬
‫( وَأَ ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫عدُ ّو ُكمْ ‪) ..‬‬
‫َو َ‬

‫وحيـن ل يكون هناك علم أرضي ‪ ،‬ول تقدم مادي ‪ ،‬فكيف تعد القوة التي ترهب‬

‫العداء ؟‬

‫وحين ينتشر المرض فل ُيدَاوَى ‪ ،‬جهلً بالطب من ناحية ‪ ،‬وقعودا عن التداوي من‬

‫ناحية أخرى بدعوى التسليم بقدر ال والرضا به ‪ ،‬فكيف توجد الجسام القوية التي تحمل‬

‫السلح في وجه العداء ؟‬

‫كل ! إن هذا المر الرباني ‪ -‬وحده ‪ -‬فضل عن أوامر ربانية كثيرة أخرى يستلزم‬

‫منهجا للحياة مختلفا أشد الختلف ‪.‬‬

‫يستلزم أن يقبل الناس على العلم الدنيوي فيتمكنوا فيه ‪ ،‬ويتفوقوا فيه على العداء ‪ .‬وأن‬

‫يسعوا إلى التقدم المادي ويتفوقوا فيه على العداء ‪ .‬وأن يكون في أيديهم مال وفير ‪ ،‬ينشئون‬

‫به القوة اللزمة للتغلب على العداء ‪..‬‬

‫وأن يكون عندهم " إنتاج " وفير في كل مجال وفي كل ميدان ‪.‬‬

‫حقا إن الزهد في متاع الحياة الدنيا هو القمة في السلوك اليماني ‪ ،‬وهو أرفع ما يصل‬

‫‪ )(1‬سورة النفال [ ‪. ] 60‬‬


‫إليه المؤمن من المقامات ‪..‬‬

‫ولكن الزهد في المتاع ل يعطل النتاج !‬

‫فالمؤمن الحق ينتج بأقصى طاقته في المجال الذي يعمل فيه ‪ ،‬ثم يستهلك لنفسه أقل قدر‬

‫من الطيبات ‪ ،‬والباقي ينفقه في سبيل ال ‪ .‬وبذلك يتكافل المجتمع ويترابط ‪ ،‬فيحمل القادرون‬

‫منه غير القادرين ‪ ،‬وتتقارب معيشة الناس فل يوجد الغنى الطاغي ول الفقر المدمر ‪ ..‬ثم تجد‬

‫الدولة الفائض الذي يعينها على أداء رسالة السلم ‪ .‬ولن تؤدي رسالتها حتى تكون قوية‬

‫مهيبة الجانب ‪ ،‬يخشى بأسها العداء ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وما نريد أن نظلم الصوفية فنحملها وحدها وزر الضعف والتخلف الذي أغرى العداء‬

‫بالهجوم من كل صوب ‪ ،‬حتى تحقق النذير الذي أنذر به رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬

‫هذه المة ‪:‬‬

‫" يوشك أن تداعى عليكم المم كما تداعى الكلة إلى قصعتها ‪ .‬قالوا ‪ :‬أمن قلة نحن‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫يومئذ يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬إنكم يومئذ كثير ‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء السيل "‬

‫فقد كان مع الصوفية الفكر الرجائي ‪ ،‬والستبداد السياسي ‪ ،‬والتفلت من التكاليف ‪،‬‬

‫‪ .‬كما كان من بين الصوفية من جاهد بسيفه‬ ‫(‪)2‬‬


‫وغيرها من البدع والمعاصي والنحرافات‬

‫لنشر الدعوة ‪ ،‬ومن قاد الجيوش لقتال العداء ‪ ،‬ومن وقف للسلطان الجائر يرده عن ظلم‬

‫الناس ‪ ..‬وهؤلء زهاد في الحقيقة وإن ألحقوا بالصوفية ‪..‬‬

‫سبق ذكره ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫انظر إن شئت فصل " خط النحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫كما أن رجال الصوفية وفرقها هم الذين أبقوا العامة مرتبطين بدين ال ‪ -‬رغم البدع‬

‫والنحرافات ‪ -‬حين عـزّ العلماء ‪ ،‬ولم يعد للعامة باب يلجون منه إلى الدين إل باب‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الصوفية‬

‫كما أنهم هم الذين حفظوا شيئا من ترابط المة المسلمة حين فرقتها السياسة والحرب ‪،‬‬

‫وجزأتها في دول متناحرة على الغلبة والسلطان ‪..‬‬

‫ولكن هذا الجهد الذي بذلوه كله ل ينفي عنهم خطأ المنهج الذي أدى إلى فساد المفاهيم ‪:‬‬

‫فصل الدنيا عن الخرة ‪ ،‬ووضعهما في موضع التضاد والتقابل ‪ ،‬بحيث يصبح التعامل‬

‫مع إحداهما بمثابة المتناع عن التعامل مع الخرى ‪..‬‬

‫وحصر العبادة في الشعائر التعبدية ‪ ،‬والتركيز عليها ‪ ،‬وإهمال المفهوم الشامل للعبادة ‪،‬‬

‫الذي يشمل كل نشاط النسان ‪..‬‬

‫ول هذا من السلم ‪ ..‬ول هذا من السلم !‬

‫حين دخل رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬المدينة أمر ببناء المسجد ‪ ..‬ثم وجه‬

‫الصحابة ‪ -‬رضوان ال عليهم ‪ -‬إلى السوق ‪ ..‬وقد كانت السوق يومئذ في يد اليهود ‪ ،‬ولهم‬

‫هناك صولة القتصاد قائم ًة على الربا وأكل أموال الناس بالباطل ‪ .‬فهل أمر الزاهد العظيم ‪-‬‬

‫صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أصحابه الزاهدين أن يزهدوا في أمور القتصاد ‪ -‬وهي في حس‬

‫المتأخرين من أمور الدنيا ‪ -‬ليفوزوا بالخرة ‪ ،‬ويدعوا السيطرة القتصادية لليهود ‪ ،‬تزيد من‬

‫قدرتهم على الفساد في الرض ؟!‬

‫الحقيقة أن هناك تناسبا عكسيا بين وجود الصوفيـة ووجود العلماء ‪ .‬فكلما كثر العلماء انحسرت‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫الصوفية ‪ ،‬وكلما ع ّز العلماء انتشرت الصوفية !‬
‫إن توجيه رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬للصحابة أن يجاهدوا لنزع السيطرة‬

‫القتصادية من اليهود أمر له دللته ‪..‬‬

‫فالمسجد ‪ ،‬الذي بدأ ببنائه ‪ ،‬هو الذي تقام فيه الصلة المعلِنة عن قيام أمة ل إله إل ال‬

‫ممكنـة في الرض ‪ ..‬وهو الذي تتربى فيه المة على هدي رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه‬

‫وسلم ‪ -‬ويقضى فيه بين المسلمين ‪ ،‬وتقرر فيه سياستهم ‪ ،‬وسلمهم وحربهم ‪ ..‬والسوق هي‬

‫التي تقام فيها الحياة القتصادية التي تقوم عليها حياة المة المسلمة ‪:‬‬

‫(‪)1‬‬
‫جعَلَ اللّ ُه َل ُكمْ قِيَاما )‬
‫( َأمْوَاَل ُك ُم اّلتِي َ‬

‫ول بد من هذه وتلك ‪ ،‬ليتكامل كيان المة التي تدعو إلى الخير ‪ ،‬وتأمر بالمعروف ‪،‬‬

‫وتنهى عن المنكر ‪ ،‬وتحصل على الفلح ‪:‬‬

‫عنِ ا ْل ُم ْن َكرِ وَأُوَل ِئكَ ُهمُ‬


‫ن بِا ْلمَ ْعرُوفِ َو َي ْنهَوْنَ َ‬
‫خيْرِ َو َي ْأ ُمرُو َ‬
‫( وَ ْل َتكُنْ ِم ْن ُكمْ ُأمّ ٌة َيدْعُونَ إِلَى ا ْل َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ا ْلمُفِْلحُونَ )‬

‫أما استخلص جانب من العبادة التي فرضها ال على النسان ‪ -‬وهو الشعائر التعبدية‬

‫‪ -‬والزعم بأنها وحدها هي المؤدية إلى الفوز في الخرة ‪ ،‬وإهمال الجانب الخر من العبادة‬

‫على زعم أنه جانب أرضي متعلق بالحياة الدنيا ‪ ،‬وأن في إهماله قربى إلى ال ‪ ..‬فقد كان أهم‬

‫ما تركوه ‪ ،‬وأخطره أثرا في حياة المة ‪ ،‬هو المقتضى الواقعي لل إله إل ال ! أو قل بعبارة‬

‫أخرى ‪ :‬المقتضى السياسي والقتصادي والجتماعي لل إله إل ال !‬

‫سورة النساء [ ‪. ] 5‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة آل عمران [ ‪. ] 104‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫مفهُوم الحَضار ِة وَعمارةِ الرض‬

‫حين وقعت المة في هذه المجموعة من النحرافات ‪ :‬تفريغ ل إله إل ال من مقتضاها‬

‫الحقيقي ‪ ،‬وتحولها إلى كلمة تقال باللسان ‪ ،‬بغير دللة ول رصيد واقعي ‪ .‬وحصر مفهوم‬

‫العبادة في شعائر التعبد ‪ .‬وتحوّل عقيدة القضاء والقدر إلى سلبية وقعود عن الخذ بالسباب ‪،‬‬

‫وتخل عن دور النسان اليجابي في الرض ‪ .‬ووضع الدنيا والخرة موضـع التقابل‬

‫والتخيير ‪ ،‬ثم اختيار الخرة وإهمال الدنيا ‪..‬‬

‫حين وقعت كل هذه النحرافات في حياة المة لم يكن غريبا إذن أن يختل مفهومها عن‬

‫الحضارة وأن تهمل عمارة الرض ‪.‬‬

‫لقد كان فهم الجيال الولى من المسلمين للحضارة مستمدا من روح السلم ‪ ،‬ومتفردا‬

‫ككل شيء في هذا الدين ‪.‬‬

‫فإذا كانت جاهليات معاصرة لمولد السلم وسابقة له ولحقة قد ركزت على المعنى‬

‫الروحي للحضارة ‪ ،‬وأهملت الحياة الدنيا ‪ ،‬وأهملت العمارة المادية للرض ‪ ،‬بوصفها أمورا‬

‫ألصق بالحس ‪ ،‬وأقرب إلى متاع الجسد ‪ ،‬والجسد ملعون ومحتقر ومستقذر ‪..‬‬

‫وإذا كانت جاهليات أخرى معاصرة لمولد السلم وسابقة له ولحقة قد ركزت على‬

‫الجانب المادي للحضارة ‪ ،‬وأهملت الخرة ‪ ،‬وأهملت عالم الروح ‪ ،‬بوصفهما أمورا شخصية‬

‫ل علقة لها بالواقع العملي ‪ ،‬بل بوصفهما ‪ -‬في كثير من الحيان ‪ -‬معوقات لنطلق‬
‫الحضارة ( ! ) وأكبّت على عالم الحس وعالم المادة ‪ ،‬تبدع فيهما كل عبقريتها ‪ ،‬وتصب‬

‫فيهما كل طاقتها ‪ ،‬بصرف النظر عن القيم والمثل والمبادئ ‪..‬‬

‫فإن السلم ‪ -‬المنزل من عند ال اللطيف الخبير ‪ ،‬خالق النسان والعليم بأحواله‬

‫وحاجاته ‪ ،‬وما يصلحه وما يصلح له ‪ -‬هو المنهج الشامل الكامل ‪ ،‬الذي ل يهمل جانبا من‬

‫جوانب النسان ‪ ،‬ول يلبي جانبا منه على حساب جانب آخر ‪ ،‬والذي يستجيب للفطرة السوية‬

‫كما خلقها ال ‪:‬‬

‫ن رُوحِي فَ َقعُوا‬
‫ن فَِإذَا سَ ّو ْيُتهُ َونَ َفخْتُ فِي ِه مِ ْ‬
‫( ِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَ ِة ِإنّي خَاِلقٌ َبشَرا ِمنْ طِي ٍ‬

‫ن ) (‪. )1‬‬
‫لَ ُه سَاجِدِي َ‬

‫هذا التكوين النساني المترابط ‪ ،‬الذي ل تنفصل فيه قبضة الطين عن نفخة الروح ‪ ،‬ول‬

‫نفخة الروح عن قبضة الطين ‪ ،‬له مفهوم حيوي شامل لعالم الجسد وعالم الروح ‪ ،‬وينبغي أن‬

‫يكون له واقع حيوي يتسم بذات الشمول والترابط المتمثل في تكوين " النسان " ‪.‬‬

‫والمنهج الرباني هو الذي يرسم خطوط هذا الواقع الحيوي ويرسم تفصيلته ‪.‬‬

‫والشمول والترابط والتوازن هي أبرز سمات المنهج الرباني ‪.‬‬

‫شمول لكل جوانب النسان والحياة البشرية ‪ ،‬وربط وثيق بينها ‪ ،‬وموازنة بين شتى‬

‫جوانبها ‪.‬‬

‫وتلك عظمة السلم ‪ ،‬وتلك مزيته على المناهج الجاهلية التي تحكم حياة الناس في‬

‫معزل عن العقيدة الصحيحة ‪ ،‬أي في معزل عن ل إله إل ال ‪ ،‬والتي يشملها قوله تعالى ‪:‬‬

‫سورة ص [ ‪. ] 72 - 71‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫حكْما لِ َق ْومٍ يُو ِقنُو َ‬
‫ن اللّ ِه ُ‬
‫ن مِ َ‬
‫حسَ ُ‬
‫حكْ َم ا ْلجَاهِِليّةِ َي ْبغُونَ َومَنْ َأ ْ‬
‫( َأ َف ُ‬

‫وحكم ال ليس مقصورا على إقامة الحدود ‪ ،‬كما أن حكم الجاهلية ليس مقصورا على‬

‫القوانين التي يتحاكم الناس إليها في المحاكم ‪ ..‬إنما حكم ال شامل لكل صغيرة وكبيرة في‬

‫حياة النسان ‪ ،‬سواء كان مما يصل إلى القضاء أو ل يصل إليه ‪ ،‬بل سواء كان عمل ظاهرا‬

‫أو نية مضمرة في الضمير ‪ .‬وكذلك حكم الجاهلية ليس محصورا في تلك القوانين التي تحكم‬

‫المخالفات والجنح والجنايات ‪ ،‬أو المعاملت المدنية أو المعاملت التجارية ‪ ..‬الخ ‪ ..‬إنما هو‬

‫كذلك نظم ومؤسسات وأفكار وسلوك ومشاعر ‪ ،‬قائمة كلها بمعزل عن ل إله إل ال ‪ ،‬وعن‬

‫الستمداد من منهج ال ‪.‬‬

‫ومن ثم فإن الحضارة وعمارة الرض ذات صلة وثيقة بل إله إل ال ‪ ،‬والمنهج المنزل‬

‫من عند ال ليحكم الحياة ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫إن المفهوم السلمي للحضارة هو مفهوم العبادة ‪..‬‬

‫ت ا ْلجِنّ وَا ْلِأنْسَ إِلّا‬


‫هو تحقيق غاية الوجود النساني التي حددها قوله تعالى ‪َ ( :‬ومَا خَلَقْ ُ‬

‫ِل َي ْعبُدُونِ ) (‪. )2‬‬

‫هذه هي الغاية ‪ ..‬وذلك هو المعيار ‪..‬‬

‫تحقيق غاية الوجود النساني هو الذي تنشأ عنه الحضارة في الواقع البشري ‪ .‬وهو‬

‫المعيار الذي تقوّم به صعودا أو هبوطا ‪ ،‬واستقامة أو انحرافا ‪.‬‬

‫سورة المائدة [ ‪. ] 50‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الذاريات [ ‪. ] 56‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫وحين تختلف النظرة إلى غاية الوجود النساني تختلف النظرة إلى الحضارة ‪ ،‬وتختلف‬

‫النظرة كذلك إلى التاريخ ‪.‬‬

‫فحين تكون غاية الوجود النساني هي الفناء في الكائن العظم كما تقول " النرفانا " ‪،‬‬

‫أو الخلص من ربقة الجسد وإطلق الروح لتتحد مع الخالق ‪ ..‬تصبح الحضارة هي تحقيق‬

‫عالم الروح على حساب الجسد ‪ ،‬وعلى حساب الجانب المادي من عمارة الرض ‪.‬‬

‫وحين تكون غاية الوجود النساني هي الستمتاع بما في الرض من متاع ‪ ،‬بصرف‬

‫النظر عن القيم المصاحبة لهذا المتاع من حلل وحرام ‪ ،‬وخير وشر ‪ ،‬وفضيلة ورذيلة ‪،‬‬

‫ورفعة وانتكاس ‪ ..‬تكون الحضارة هي العمارة المادية للرض ‪ ،‬وهي تيسير الحياة الرضية‬

‫وتزيينها ‪ ،‬والنكباب على متعها ولذائذها ‪ ،‬وتكون في الوقت ذاته هي محاولة التغلب على‬

‫الخرين للستئثار بأكبر قدر من المتاع ‪ ،‬ومحاولة إخضاعهم بالقوة والقهر ‪ ،‬سواء بالقوة‬

‫المادية أو القوة العسكرية أو القوة السياسية أو القوة القتصادية أو القوة العلمية ‪ ..‬أو كلها‬

‫جميعا ‪..‬‬

‫وحين تكون الغاية هي عبادة ال ‪ -‬على المعنى الواسع الشامل للعبادة الذي بيناه من‬

‫قبل (‪ - )1‬يكون مفهوم الحضارة مختلفا عن هذا المفهوم وذاك ‪ ،‬وكذلك يكون تفسير التاريخ ‪،‬‬

‫لن المعيار الذي يقوم على أساسه التفسير ‪ ،‬هو مدى تحقيق النسان لغاية وجوده ‪ ،‬ومدى‬

‫تفوقه أو تخلفه في تحقيق هذا الوجود ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫سبق أن بينا في فصل مفهوم العبادة أن ال ‪ -‬من رحمته ‪ -‬جعل النشاط الطبيعي‬

‫للنسان في جميـع مجالته ‪ :‬الجسدية والعقلية والروحية عبادة ما دام يتوجه به النسان إلى‬

‫راجع فصل " مفهوم العبادة " ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫ال ‪ ،‬ويستمد فيه من منهج ال ‪ .‬بل إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬قد جعل ذلك النشاط هو هو العبادة‬

‫المطلوبة من النسان ‪ ،‬والتي انحصرت غاية وجوده في أدائها ‪.‬‬

‫وهذا النشاط ذاته هو الذي ينشئ الحضارة ‪ ..‬وما الحضارة إل منجزات ذلك النشاط‬

‫البشري في مختلف المجالت ‪.‬‬

‫وحين ندقق في المر فليس كل نشاط للجسد أو العقل أو الروح يشكّل حضارة ‪ ،‬أو‬

‫يكون جزءا من الحضارة ‪ -‬وهذا أمر واضح بالبداهة ‪ -‬إنما هو النشاط الهادف ‪ ،‬الذي يهدف‬

‫إلى تحقيق غاية الوجود النساني ‪.‬‬

‫فالمشي في الرض أو الحفر فيها ل يشكل في ذاته نشاطا حضاريا ‪ .‬ولكن المشي‬

‫الهادف ‪ ،‬الذي يهدف مثل إلى كشف مجاهل الرض لسكناها وعمارتها ‪ ،‬والحفر الهادف‬

‫لخراج كنوز الرض وتصنيعها من أجل تلك العمارة ‪ ،‬هذا هو الذي يمكـن أن يشكل‬

‫حضارة ‪ ،‬أو يكون جزءا من حضارة ‪.‬‬

‫وكذلك نشاط العقل ونشاط الروح ‪ ،‬يشترط فيهما لكي يشكل حضارة أن يكونا هادفين ‪،‬‬

‫وأن يكون هدفهما في الوقت ذاته متجها إلى تحقيق غاية الوجود النساني ‪ ،‬وليس معاكسا‬

‫لهذا التجاه ‪.‬‬

‫ومن هنا نستطيع أن نقول ‪ -‬واثقين ‪ -‬أن ما تنتجه الجاهليات من منجزات مادية أو‬

‫عقلية ( أو روحية أحيانا ) ليس حضارة حقيقية ‪ ،‬وإن بدا رائعا وضخما أحيانا ‪ ،‬وإن بهر‬

‫أعيننا لول وهلة ‪ ،‬لنه يفقد هذا الشرط الساسي الذي يجعل من النشاط البشري والمنجزات‬

‫البشرية حضارة ‪ ،‬وهو أن يكون هدفها متجها إلى تحقيق غاية الوجود النساني ‪ ،‬وليس‬

‫معاكسا لهذا التجاه ‪.‬‬


‫إن تحقيق الجانب الروحي للنسان وحده ‪ ،‬على حساب الجانب الحسي والمادي ‪ ،‬وفي‬

‫عزلة عنه ‪ ،‬ل يحقق غاية الوجود النساني كاملة كما بينها المنهج الرباني ‪ .‬وإن تحقيق‬

‫الجانب الحسي والمادي من النسان والحياة البشرية على حساب الجانب الروحي وفي عزلة‬

‫عنه ‪ ،‬ل يحقق كذلك غاية الوجود النساني ‪ ،‬بل يتجه به إلى الدمار والبوار ‪ ..‬ومن ثم‬

‫فكلهما ل يشكل حضارة بالمفهوم الصحيح للحضارة ‪ .‬أو إنه يشكل " حضارة جاهلية " إن‬

‫صح هذا التعبير ‪.‬‬

‫كما أن اجتماع الجانبين معا ولكن على غير قاعدة صحيحة ‪ -‬كما حدث في الجاهلية‬

‫الفرعونية التي شملت عالم المادة وعالم الروح ‪ ،‬ولكن على قاعدة تأليه الفرعون والعبودية له‬

‫من دون ال ‪ -‬ل يشكل كذلك حضارة بالمفهوم الصحيح ‪ .‬أو إنه ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬يشكل‬

‫حضارة جاهلية إذا قبلنا هذا الصطلح ‪.‬‬

‫إنما الحضارة الصحيحة هي التحقيق السوي لغاية الوجود النساني في الرض ‪ ،‬التي‬

‫ت ا ْلجِنّ وَا ْلِأنْسَ إِلّا ِل َي ْعبُدُونِ ) (‪ )1‬وفسرها قوله تعالى ( قُلْ إِنّ‬
‫حددها قوله تعالى ‪َ ( :‬ومَا خَلَقْ ُ‬

‫‪ .‬وهي في المفهوم‬ ‫(‪)2‬‬


‫حيَايَ َو َممَاتِي لِلّ ِه رَبّ ا ْلعَاَلمِينَ ل شَرِيكَ َلهُ )‬
‫سكِي َو َم ْ‬
‫صَلتِي َو ُن ُ‬

‫السلمي شيء شامل لكل النشاط الهادف للنسان ‪.‬‬

‫إن الصلة والنسك جزء من المفهوم السلمي للحضارة ‪ ،‬بمدلولهما الحقيقي ‪،‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ومقتضاهما الحقيقي‬

‫وإن إقامة شريعة ال في الرض ‪ ،‬والحكم بما أنزل ال ‪ ،‬وهو المقتضى المباشر لل إله‬

‫إل ال ‪ ،‬جزء من المفهوم السلمي للحضارة ‪.‬‬

‫سورة الذاريات [ ‪. ] 56‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 163 - 162‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫راجع فصل " مفهوم العبادة " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫وإن إقامة العدل الرباني في الرض كما أراده ال أن يكون ‪ ،‬وأخرج هذه المة‬

‫لتقيمه ‪ ،‬وقال لها سبحانه في توجيهاته لها وإعداده إياها لحمل هذه المانة الكبرى ‪ ( :‬يَا َأ ّيهَا‬

‫س ُكمْ َأوِ ا ْلوَاِل َديْنِ وَا ْلَأقْ َربِينَ ِإنْ َيكُنْ‬


‫ش َهدَاءَ لِلّ ِه وَلَوْ عَلَى َأنْ ُف ِ‬
‫سطِ ُ‬
‫اّلذِينَ آ َمنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْ ِق ْ‬

‫ن اللّ َه كَانَ‬
‫غ ِنيّا َأوْ فَقِيرا فَاللّهُ َأوْلَى ِب ِهمَا فَل َت ّت ِبعُوا ا ْلهَوَى َأنْ َت ْعدِلُوا وَِإنْ تَلْوُوا أَ ْو ُتعْ ِرضُوا َفإِ ّ‬
‫َ‬

‫سطِ وَل‬
‫ش َهدَاءَ بِالْ ِق ْ‬
‫ن لِلّ ِه ُ‬
‫ن آ َمنُوا كُونُوا قَوّامِي َ‬
‫وقال ‪ ( :‬يَا َأ ّيهَا اّلذِي َ‬ ‫(‪)1‬‬
‫خبِيرا )‬
‫ن َ‬
‫ِبمَا َت ْعمَلُو َ‬

‫‪ ..‬إن إقامة العدل الرباني‬ ‫(‪)2‬‬


‫عدِلُوا ُهوَ َأ ْقرَبُ لِلتّ ْقوَى )‬
‫شنَآنُ قَ ْومٍ عَلَى أَلّا َت ْعدِلُوا ا ْ‬
‫َيجْ ِر َم ّن ُكمْ َ‬

‫على هذه الصورة جزء من المفهوم السلمي للحضارة ‪.‬‬

‫وإن إقامة الحياة كلها ‪ -‬بكل ألوان النشاط فيها ‪ -‬على قاعدة أخلقية مدارها تقوى ال‬

‫وخشيته ‪ ..‬فتكون السياسة ذات أخلق قائمة على حكم ولي المر بشريعة ال ‪ ،‬والسمع‬

‫والطاعة من المة لولي المر فيما يأمر به موافقا لشريعة ال ‪ ،‬والنصح ل ورسوله ‪ ،‬والمر‬

‫بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬والتعاون على البر والتقوى ‪ ،‬وعدم التعاون على الثم‬

‫والعدوان ‪ ،‬وإقامة المر على الشورى التي أمر بها ال ‪ ..‬ويكون القتصاد له أخلق ‪ ،‬قائمة‬

‫على اللتزام بما أحله ال ‪ ،‬وتحريم ما حرم ال من ربا واحتكار وغش وسلب ونهب ‪ ،‬وسرقة‬

‫وغصب ‪ ،‬وأكل مال الجير ‪ ،‬وأكل أموال الناس بالباطل ‪ ،‬وقائمة على تطهير المال بأداء‬

‫الزكاة ‪ ،‬والنفاق في سبيل ال ‪ ،‬وعدم النفاق في ترف أو سرف أو معصية أو مخيلة ‪..‬‬

‫وتكون علقات المجتمع ذات أخلق قائمة على التواد والتحاب والتكافل ‪ ،‬والتعاون على البر‬

‫والتقوى ‪ ،‬وحرمة الدم والعرض والمال ‪ ،‬وكظم الغيب والعفو عن الناس ‪ ،‬والكف عن الغمز‬

‫واللمز والغيبة والنميمة والتجسس والطلع على العورات ‪ ..‬وتكون علقات السرة ذات‬

‫أخلق ‪ ..‬وعلقات الجنسين ذات أخلق ‪ ..‬إن إقامة الحياة كلها على هذه القاعدة الخلقية‬

‫جزء من المفهوم السلمي للحضارة ‪.‬‬

‫سورة النساء [ ‪. ] 135‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة المائدة [ ‪. ] 8‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫وإن الوفاء بالمواثيق ‪ ،‬يستوي في ذلك العقود الفردية أو المعاهدات والمواثيق الدولية ‪،‬‬

‫جزء من المفهوم السلمي للحضارة ‪.‬‬

‫وإن طلب العلم ‪ ،‬سواء العلم بدين ال وأحكامه ‪ ،‬أو العلم بسنن ال في الكون وخواص‬

‫المادة ‪ ،‬الذي يعين على استخلص ما سخر ال للنسان من طاقات السماوات والرض ‪،‬‬

‫واستخدامها في عمارة الرض ‪ ،‬أو العلم بسنن ال في الحياة البشرية ‪ ،‬التي يقوم على أساسها‬

‫مجتمع صالح ‪ ،‬أو العلم بالتاريخ البشري وما فيه من فترات الهدى والضلل ‪ ،‬والنتائج‬

‫المترتبة على كل منهما في واقع الحياة البشرية ‪ ..‬إن هذا العلم بمختلف فروعه واتجاهاته ‪،‬‬

‫جزء من المفهوم السلمي للحضارة ‪.‬‬

‫وإن إقامة فنون نظيفة ‪ ،‬تلتفت إلى الجمال في الكون وفي الحياة البشرية وتعبر عنه في‬

‫أداء جميل ‪ ..‬فنون ل تزين الفاحشة لن الفاحشة ليست جمال ولكنها هبوط ‪ .‬ول تزين لحظة‬

‫الضعف لنها ليست جمال إنما هي لحظة غفلة عن إدراك غاية الوجود النساني ‪ ،‬أو لحظة‬

‫تقصير في تحقيق ذلك الوجود ‪ .‬ول تزين النحراف والشذوذ لنه ليس جمال ‪ ،‬وإنما هو‬

‫نشاز نافر عن الجمال ‪ ،‬ول تزين عبادة الشيطان وعبادة الهوى والشهوات ‪ ،‬لنها ليست‬

‫جمال ‪ ،‬وإنما هي حطة للنسان الذي كرمه ال وفضله ‪ ،‬وأراد له أن يتحرر من كل عبودية‬

‫زائفـة تزري بكيانه وتستذله ‪ ..‬إن إقامة مثل هذه الفنون جزء من المفهوم السلمي‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫للحضارة‬

‫وهذا كله ‪ ،‬وما كان في مثل اتجاهه ‪ ،‬هو الجانب المعنوي من الحضارة في المفهوم‬

‫السلمي ‪.‬‬

‫ثم إن هناك جانبا ماديا للحضارة النسانية يشمله المفهوم السلمي ‪ ،‬وهو جانب ضخم‬

‫راجع إن شئت كتاب " منهج الفن السلمي " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫كذلك ‪.‬‬

‫فلئن كان النسان مخلوقا لعبادة ال ‪ ،‬فإن عمارة الرض هي جانب من مفهوم العبادة‬

‫الواسع الشامل ‪ ،‬الذي يحقق خلفة النسان في الرض ‪.‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫علٌ فِي ا ْلَأرْضِ خَلِي َفةً )‬
‫( وَِإذْ قَالَ َر ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ ِإنّي جَا ِ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫س َت ْعمَ َر ُكمْ فِيهَا )‬
‫شَأ ُكمْ مِنَ ا ْلَأرْضِ وَا ْ‬
‫( ُهوَ َأ ْن َ‬

‫وإذا اعتبرنا إقامة ل إله إل ال في الرض ‪ ،‬أي إزالة الشرك ‪ ،‬وإقامة التوحيد ‪،‬‬

‫وإقامة العدل الرباني والخلق اليمانية جانبا من " العمارة " ‪ ،‬لن الرض ل تعمر حقا إل‬

‫تحت المظلة اليمانية التي تقيها من النحراف والفساد والشر ‪ ..‬فإن الجانب الخر هو العمارة‬

‫المادية ‪ ،‬باستخلص طاقات السماوات والرض وتسخيرها لخير النسان ‪.‬‬

‫وهذا الجانب من العمارة يحتاج إلى كدح ذهني وعضلي لتحقيقه ‪ .‬يحتاج إلى معرفة‬

‫خواص المادة والسنن الربانية التي ُيجْري ال بها هذا الكون ( والتي يسمونها في الجاهلية‬

‫) ثم استخدام هذه المعرفة في المجال التطبيقي في الفيزياء‬ ‫(‪)3‬‬


‫المعاصرة " قوانين الطبيعة "‬

‫والكيمياء والطب والهندسة وسائر العلوم ‪..‬‬

‫وحين تعتبـر الجاهلية المعاصرة هذا الجانب هو الحضارة ‪ ،‬أو هو أهم ما في‬

‫الحضارة ‪ ،‬وأبرز منتجات النسان ‪ ،‬فإن السلم يشترط شرطا واحدا لدخال هذه النجازات‬

‫في مدلول الحضارة ‪ ،‬هو أن تكون كلها قائمة وفق المنهج الرباني ‪ ،‬غير حائدة عن‬

‫مقتضياتـه ‪..‬‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 30‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫‪ 2‬سورة هود [ ‪. ] 61‬‬ ‫()‬

‫‪ )(3‬ذلك حين كفرت الجاهلية المعاصرة بال ‪ ،‬وعبدت الطبيعة بدل منه !‬
‫إن استخلص الطاقات الكونية ‪ -‬على ضرورته ‪ -‬ليس هو أهم ما يقوم به النسان‬

‫على الرض ‪ ،‬ولو وصل به إلى القمر أو إلى المريخ ‪ .‬إنما الهم من ذلك هو الغاية الكامنة‬

‫وراءه ‪ ،‬والسلوب الذي يتم به ‪ ،‬والمنهج الذي يحكمه ‪.‬‬

‫وحين نقول ‪ " :‬الهم " يفهم بعض الناس أننا نقول " البديل " ! يعني أننا نضع القيم‬

‫المعنوية بديل من القيم المادية ! و ل يقول بهذا عاقل ! فالقيم المعنوية وحدها ل تمل المعدات‬

‫الخاوية إن لم يكن هناك خبز ‪ ،‬ول تسيّر السيارات والقطارات والطائرات إن لم يكن هناك‬

‫وقود ‪ ،‬ول تصنع المدفع والدبابة والصاروخ إن لم تكن هناك مصانع وآلت ‪.‬‬

‫تلك بديهيـة ل يحتاج النسان لذكرها ‪ ..‬ولكن هناك بديهية مقابلة لها ل تقل عنها‬

‫بداهة ‪ ،‬ول تقل عنها أهمية ‪ ،‬وإن جادلت فيها الجاهليات كثيرا ‪ ،‬والجاهلية المعاصرة بصفة‬

‫خاصة ‪ ،‬هي أن الخبز والوقود والمصانع واللت والسيارات والقطارات والصواريخ‬

‫والدبابات والمدافع وحدها ل تصنع حضارة ‪ ،‬ول إنسانا متحضرا ‪ ،‬ول عمارة حقيقية‬

‫للرض ‪ ،‬لنها ‪ -‬وحدها ‪ -‬بدون " القيم " ‪ -‬تؤدي إلى الخراب !‬

‫وهذا الذي ل تصدقه الجاهلية المعاصرة أو ل تريد أن تصدقه رغم كل دللة التاريخ ‪،‬‬

‫بل رغم النذر التي تحيط بها هي ذاتها وتكتنفها من كل جانب ‪ ،‬وتشيع في صفوفها الخبال !‬

‫إن النسان ‪ -‬بكل النتاج المادي الذي ينتجه ‪ -‬يمكن أن يهبط أسفل سافلين إذا تخلّى‬

‫عن القيم التي تجعل النسان إنسانا وترفعه عن مستوى الحيوان ‪..‬‬

‫والجاهلية المعاصرة هي عنوان ذلك ومصداقه ‪..‬‬

‫إن بين يديها أكبر قدر من " العلم " شهدته البشرية ‪ ،‬وأكبر قدر من النتاج المادي في‬

‫التاريخ ‪ .‬كما أن بين يديها من المخترعات والتيسيرات المادية ما لم يتجمع قط لي جيل من‬
‫أجيال البشرية ‪..‬‬

‫ضغطة زر واحدة صارت تصنع أشياء كثيرة ورائعة ‪ ..‬تدير آلة ضخمة ‪ .‬أو تنقل إليك‬

‫أخبار العالم في الذاعة المسموعة أو المرئيـة ‪ ..‬أو تنطلق بك في الفضاء إلى القمر أو‬

‫المريخ ‪.‬‬

‫نعم ‪ ..‬ولكن أين " النسان " ؟!‬

‫ابحث عنه شاردا في المراقص والحانات ‪ ،‬أو غارقا في شهوة جنس هابطة ‪ ،‬أو مجرما‬

‫يعتدي على المنين ‪ ،‬أو نزيل في أحد المصحات العقلية ‪ ،‬أو مترددا على إحدى العيادات‬

‫النفسية ‪ ،‬أو مصابا بالحيرة والقلق والضياع تفسد أعصابه وتدمر سعادته ‪..‬‬

‫وليس القضية هي وجود " حالت " من ذلك كله ‪ .‬فإنه ل يوجد مجتمع في الرض أيّا‬

‫كانت القيم التي يعيش عليها يخلو من حالت من تلك النواع ‪ .‬ولكن القضية هي النسب‬

‫المخيفة التي ترتفع إليها تلك الحالت حتى تصبح ظواهر اجتماعية ‪ ،‬ثم تصبح هي السمة‬

‫البارزة في جاهلية القرن العشرين !‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ذلك إذن هو المفهوم السلمي للحضارة ‪ ..‬حضارة " النسان " الخليفة في الرض ‪،‬‬

‫المخلوق من قبضة من طين الرض ونفخة من روح ال ‪ .‬إنه ليس ذلك الحيوان الدارويني‬

‫الذي يلفظ ‪ -‬بحكم تكوينه ‪ -‬كل القيم والخلق والمبادئ ‪ ،‬ول ذلك الله الزائف الذي يتبع‬

‫هواه ‪ ،‬ويتجبر به في الرض مستكبرا عن عبادة ال ‪.‬‬

‫وعلى أساس هذا المفهوم قامت حضارة إسلمية متفردة في التاريخ ‪.‬‬
‫قامت ‪ -‬عند مولدها ‪ -‬بأعظم قدر من القيم في تاريخ البشرية ‪ ،‬وبأقل قدر من المظاهر‬

‫المادية قامت عليه حضارة في التاريخ ‪ :‬مجموعـة من الخيام ‪ ،‬وبيوت الطين ‪ ،‬وبساتين‬

‫النخل ‪ ،‬والخيل والبل والغنام ‪ ،‬والسهام والسيوف !‬

‫وكانت ‪ -‬بصورتها تلك ‪ -‬إحدى معجزات التاريخ !‬

‫فهذا القدر من العمارة المادية للرض ل يتصور إنسان أنه ينشئ حضارة ‪ ،‬فضل عن‬

‫تلك الحضارة السامقة الفريدة ‪ .‬ولكن الفيض الهائل من القيم ‪ ،‬الذي ل مثيل له في التاريخ ‪،‬‬

‫مطبقا في صورة واقع ‪ ،‬ل في صورة شعارات أو ُمثُلٍ معلقة في الفضاء ‪ ،‬هو الذي عوض‬

‫هذا النقص في العمارة المادية وغطاه ‪ ،‬وأخرج " خير أمة أخرجت للناس " ‪.‬‬

‫ومع أن هذه لم تكن الصورة النهائية لتلك الحضارة ‪ ،‬إنما كانت هي " المولد " فحسب ‪،‬‬

‫إل أن لنا وقفة عند هذه الصورة الفريدة التي شهدتها البشرية ‪ .‬وقفة تجيب على هذا التساؤل ‪:‬‬

‫أي جانبي الحضارة يمكن أن يغطي النقص في الجانب الخر ويعوضه ( حين يوجد نقص‬

‫لسبب من السباب ) ‪ :‬أهو الجانب المعنوي ‪ -‬جانب القيم ‪ -‬أم الجانب الحسيّ المادي ؟!‬

‫إن التجربة السلمية الرائعة ‪ -‬في مقابل الجاهلية المعاصرة ‪ -‬تجيب إجابة حاسمة‬

‫على هذا التساؤل ‪ .‬فقد استطاع الفيض الهائل من القيم أن يعوض التخلف المادي ‪ ،‬ويخرج‬

‫خير جيل شهدته البشرية ‪ ،‬بشهادة ال وشهادة رسوله ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬بينما لم‬

‫يستطع الفيض الهائل من النتاج المادي والعلمي والتكنولوجي أن يعوض التخلف الروحي‬

‫والمعنوي والخلقي ‪ ،‬فأخرج شر جاهلية في التاريخ ‪.‬‬

‫ولكن صورة " المولد " لم تكن هي الصورة النهائية ‪ ،‬وما كان ينبغي لهاأن تكون ‪.‬‬

‫لقد كان كامنا في هذا المولد كل عناصر النماء والقوة التي برزت فيما بعد ‪.‬‬
‫فهذا المولد الفذ هو الذي دفع هذه المة تبحث عن " العلم " في كل مصادره ‪ ،‬وتتعلم‬

‫اللغة اليونانية واللتينية ‪ ،‬وكل لغة للعلم في ذلك العصر ‪ ،‬لتترجم عنها ‪ ،‬ثم تنشئ حركتها‬

‫العلمية الذاتية فيما بعد ‪ ،‬التي كان أروع ما ابتكرته المنهج التجريبي في البحث العلمي ‪ ،‬الذي‬

‫قامت عليه ‪ -‬فيما بعد ‪ -‬حركة أوربا العلمية المعاصرة ‪ ،‬بما تعلمته في مدارس المسلمين ‪.‬‬

‫وهو الذي دفع هذه المة إلى التعمير المادي والتنظيمي في الرض ‪ ،‬بما تشهد به المدن‬

‫السلمية وما حفلت به من صناعة وتجارة وحركة موارة ‪ .‬وما تشهد به نظم الدارة‬

‫والقضاء والحسبة ونظم التعليم ونظام الوقف والتنظيمات الحربية وديوان المظالم وديوان‬

‫النشاء ‪ ..‬الخ ‪ ..‬الخ ‪..‬‬

‫وهو الذي دفع هذه المة أن تكشف مجاهل الرض ‪ ،‬وترسم الخرائط وتحدد المواقع ‪،‬‬

‫في حركة من أكبر حركات الكشف الجغرافي في التاريخ ‪ ،‬والتي على أساسها قامت حركات‬

‫الكشف الوربي فيما بعد ‪ ،‬بما فيها حركات فاسكوداجاما ‪ ،‬وكولومبوس ‪ ،‬وماجلن ‪.‬‬

‫وهو الذي أنشأ التراث الفكري الهائل الذي تعجب له الجيال المعاصرة ‪ :‬كيف تم بهذه‬

‫الصالة وهذه الغزارة وهذا العمق ‪.‬‬

‫وهو الذي أنشأ فنونا في الدب وفي العمارة وغيرها من ألوان الفنون ‪..‬‬

‫ولكن أهم ما تميزت به تلك الحضارة أنها قامت بكل ما قامت به من عمارة الرض‬

‫وهي تستظل بظل العقيدة الصحيحة ‪ ،‬بل تنطلق من مطلقاتها ‪ ،‬فتعمر ما تعمر في الرض‬

‫وهي تؤمن بال واليوم الخر ‪ ،‬وتحقق مقتضيات اليمان بال واليوم الخر من قيم وأخلق‬

‫ومبادئ ‪ ،‬دون تناقض في حسها بين هذا المر وذاك ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫ولئن كانت هذه الحضارة قد أصيبت بالترف بعد ذلك فقد كان هذا بدء الختلل في‬

‫تاريخ هذه المة وبدء النحسار ‪..‬‬

‫وتلك مشكلة من مشاكل الكيان البشري والحياة البشرية ليس هنا مجال الحديث عنها ‪،‬‬

‫وإن كنا نلم بها إلمامة سريعة في مجال الحديث عن " مفهوم " الحضارة وعمارة الرض ‪..‬‬

‫إن المم تبدأ نشأتها متجمعة العزيمة مشحوذة الهمة متوفرة الجهد ‪ ،‬لنها تواجه تحديات‬

‫جمة ‪ .‬ومن شأن التحديات أن تشحذ الهمة وتستنفر الجهد وتجمّع العزيمة ‪ .‬وتمضي بضعة‬

‫أجيال حتى يتم " النجاز " بالصورة التي تحقق الوجود وتؤمّنه وتمكّن له ‪ ،‬وتتغلب على‬

‫التحديات ‪ ..‬وعندئذ يحدث نوع من الطمئنان إلى ما تم إنجازه بالفعل ‪ ،‬فيحدث معه نوع من‬

‫التراخي ‪ ،‬وفتور الهمة ‪ ،‬والنصراف إلى الدعة والترف ‪ ،‬وخاصة مع كثرة الموارد المالية‬

‫التي تصاحب النجاح المادي في أغلب الحيان ‪..‬‬

‫وحين يبدأ الترف يبدأ النهيار ‪..‬‬

‫وتجيء الخطار والمة لهية في ترفها ‪ ،‬مشغولة بمتاع الرض القريب ‪ ،‬غير مقدّرة‬

‫للخطر الذي يقترب منها ‪ ،‬مخدوعة بقوتها ‪ ،‬أو مستنيمة لهواتف الراحة والسلمة والخلد‬

‫إلى الرض ‪ ،‬مبعدة عنها صوت النذير !‬

‫وتمضي السنة الربانية بتدمير المترفين ‪:‬‬

‫ل َفدَ ّم ْرنَاهَا‬
‫حقّ عََل ْيهَا ا ْلقَوْ ُ‬
‫ن ُنهِْلكَ قَ ْريَ ًة َأ َمرْنَا ُم ْت َرفِيهَا فَ َفسَقُوا فِيهَا َف َ‬
‫( وَِإذَا َأ َر ْدنَا أَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫َت ْدمِيـرا )‬

‫والسنن الربانية ل تحابي أحدا من الخلق ‪ ،‬مهما زعموا لنفسهم من مسوغات تسوغ‬

‫سورة السراء [ ‪. ] 16‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫المحاباة !‬

‫ل َأ ْن ُتمْ َبشَرٌ‬
‫ل فَلِمَ ُي َع ّذ ُب ُكمْ ِب ُذنُو ِبكُمْ بَ ْ‬
‫حبّا ُؤهُ قُ ْ‬
‫ت ا ْل َيهُودُ وَالّنصَارَى َنحْنُ َأ ْبنَا ُء اللّهِ وََأ ِ‬
‫( َوقَالَ ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫ِممّنْ خََلقَ ‪) ..‬‬

‫ولقد جرت السنة الربانية على المة السلمية حين جنحت إلى الترف وأخلدت إلى‬

‫الرض ‪ ،‬لن سنن ال ل تتبدل ول تتحول ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ت اللّ ِه َتحْوِيلً )‬
‫سنّ ِ‬
‫جدَ ِل ُ‬
‫سنّتِ اللّهِ َت ْبدِيلً وََلنْ َت ِ‬
‫جدَ ِل ُ‬
‫ن َت ِ‬
‫( ‪ ..‬فَلَ ْ‬

‫وكان الترف القتّال من جانب ‪ ،‬مصحوبا ‪ -‬أو متبوعا ‪ -‬برد فعل خطر على الجانب‬

‫الخر ‪ ،‬هو النزواء والنصراف عن العمارة المادية للرض ‪ ،‬وعن اتخاذ أسباب القوة‬

‫المادية ‪ ،‬بحجة أن الدنيا ملعونة لنها تصرف الناس عن الخرة ‪.‬‬

‫وبذلك كانت الحضارة تنهار من جانبيها في وقت واحد ‪ :‬الجانب الروحي والمعنوي ‪-‬‬

‫جانب القيم والخلق والمبادئ ‪ -‬يفسده الترف المنحلّ ‪ ،‬والجانب المادي والحسيّ تفسده‬

‫الصوفية المنصرفة عن تعمير الرض ‪..‬‬

‫ول الترف مقبول من المة المسلمة ‪ ،‬ول الطريق الصحيح لتقويمه هو النزواء‬

‫والنصراف عن عمارة الرض ‪ ،‬فقد كان كلهما من أسباب الضعف الذي أغرى أعداء‬

‫المة السلمية ‪ ،‬فجاءوا من الشرق والغرب يحاولون القضاء على دين ال ‪.‬‬

‫لقد حدثت موجة من النحسار الشامل في كل ميدان ‪.‬‬

‫سورة المائدة [ ‪. ] 18‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة فاطر [ ‪. ] 43‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫ميدان الفكر والعلم ‪ .‬ميدان الدب والفن ‪ .‬ميدان السياسة والقتصاد والحرب ‪ .‬ميدان‬

‫النتاج المادي الصناعي والزراعي ‪ .‬ميدان السلوك الخلقي ‪ ..‬وكذلك ‪ -‬وقبل كل شيء ‪ -‬في‬

‫مجال العقيدة الصحيحة ‪ .‬في مفهوم العبادة ومفهوم ل إله إل ال (‪. )1‬‬

‫واستمر هذا الواقع عدة قرون ‪ ،‬والعالم السلمي ينحدر كل يوم ‪ ،‬وأعداؤه يتقوون على‬

‫حسابه ‪ ،‬ويتحولون من الدفاع إلى الهجوم ‪ ،‬ويقتطعون كل يوم قطعة من العالم السلمي ‪،‬‬

‫يستذلونها ويستعبدونها ‪ ،‬ويحاولون القضاء على السلم فيها ‪..‬‬

‫ثم استيقظ العالم السلمي على الصدمة ‪ ،‬حين وجد كل شيء في داخله ينهار ويقع في‬

‫قبضة العداء ‪.‬‬

‫لقد كان النهيار نتيجة طبيعية لكل ما حدث من انحراف خلل القرون ‪.‬‬

‫الخواء الذي أصاب مفهوم ل إله إل ال ‪ .‬الخواء الذي أصاب مفهوم العبادة ‪ .‬السلبية‬

‫المتواكلة المريضة ‪ .‬النصراف عن وسائل القوة التي أمر ال بإعدادها لعداء ال ‪.‬‬

‫ولكن الصدمة العنيفة ‪ -‬الموازية في شدتها لشدة الخواء ‪ -‬أحدثت هزيمة داخلية عنيفة‬

‫لم يفق منها " المسلمون المعاصرون " بعد ‪ ،‬إل الذين رجعوا إلى حقيقة هذا الدين ‪ ،‬ومارسوا‬

‫تلك الحقيقة في عالم الواقع ‪ ..‬تلك الهزيمة الروحية هي التي مهدت في نفوسهم لتقبل الغزو‬

‫الفكري بل مناقشة ول تدبر ول تفكير ‪..‬‬

‫ومن بين المفاهيم الضالة التي أدخلها الغزو الفكري في قلوبهم ورءوسهم مفهوم‬

‫الحضارة وعمارة الرض ‪.‬‬

‫لقد توهموا ‪ -‬بتأثير الغزو الفكري ‪ -‬أنهم تأخروا لنهم كانوا مسلمين !‬

‫راجع إن شئت فصل " خط النحراف " من كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫وما أبعد هذا الوهم عن الحقيقة ! فيوم تأخروا ما كان أبعدهم يومئذ عن السلم ! وإن‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫بعدهم عن حقيقة السلم لهو الذي أدى بهم إلى ذلك التخلف المعيب‬

‫ولكن هذا الوهم جعلهم يبحثون عن الحلول ل في إسلمهم ‪ -‬الذي انسلخوا منه ‪ -‬وإنما‬

‫في الحضارة الغربية ‪ ..‬أي في الجاهلية المعاصرة !‬

‫وقالت لهم الجاهلية المعاصرة ‪ :‬إن الحضارة هي التقدم المادي والعلمي والتكنولوجي ‪،‬‬

‫والتيسيرات المادية التي تأخذ عن عاتق النسان ما كان يحمله من جهد فتحمّله لللة ‪ ،‬وما‬

‫كان يحمله من ألم فتغيبه بالعقاقير !‬

‫وقالت لهم تلك الجاهلية ‪ -‬بلسان حالها وإن أنكرت في مقالها ‪ -‬إن القيم والخلق‬

‫والمبادئ لغو ساقط من الحساب !‬

‫وقام " المسلمون المعاصرون " يتحضرون ! قاموا ينفضون عن أنفسهم غبار التخلف ‪،‬‬

‫ويحاولون أن يعوضوا في سنوات ما تخلفوه خلل عدة قرون !‬

‫" يتحضرون " على النهج الغربي ‪ ،‬منسلخين أو نافرين من منهج ال ‪.‬‬

‫قاموا يأخذون ببعض أسباب القوة المادية ‪ -‬على فتور ظاهر وتقاعس ‪ -‬بينما يغرقون‬

‫في الترف الغربي إلى أذقانهم ‪ ،‬في صورة بيوت حديثة ‪ ،‬وفراش وثير ‪ ،‬وسيارات‬

‫وطائـرات ‪ ،‬وأفران وثلجـات ‪ ،‬وملبس مزوقة ‪ ..‬وخمر وميسر ‪ ،‬وفوضى جنسيـة‬

‫تسمى " النطلق " !‬

‫ودع عنك المفاسد الخلقية التي يقر الجميع بأنها مفاسد ‪ ،‬وإن كانوا في دخيلة أنفسهم‬

‫مسرورين بها ‪ ،‬راغبين في المزيد منها ‪ ،‬متطلعين إلى اليوم الذي تصبح فيه هي " العملة‬

‫وراجع إن شئت فصل " آثار النحراف " من نفس الكتاب ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫السارية " ‪ ،‬فيمارسوا ‪ -‬باسم التحضر والتقدم ‪ -‬كل ما تصبو إليه نفوسهم من أرجاس ‪..‬‬

‫وخذ الجانب الحقيقي من التقدم المادي الذي يصبون إليه ‪ :‬عملية التصنيع ‪ ،‬وزيادة‬

‫النتاج ‪ ،‬ورفع مستوى المعيشة ‪ ،‬وزيادة الستهلك في الكهرباء ( ! )‬

‫ما قيمة ذلك كله بغير قيم ول مبادئ ول أخلق ؟! ما قيمته بغير " السلم " الذي‬

‫انسلخوا منه ونبذوه ؟!‬

‫هل يحسبون أنهم سيخرجون بذلك من ذلتهم وهوانهم على الناس ؟!‬

‫فليسمعوا مقالة المؤرخ المعاصر " توينبي " عن تركيا أتاتورك ‪:‬‬

‫" ولم يكتف التراك بتغيير دستورهم ( وهو شيء سهل نسبيا في مجال الصلح‬

‫الدستوري ) ‪ ،‬بل قامت الجمهورية التركية الوليدة بخلع المدافع عن الدين السلمي ‪ -‬الخليفة‬

‫‪ -‬وألغت منصبه ‪ -‬أي الخلفة ‪ -‬وجردت رجال الدين المسلمين وحلت منظماتهم ‪ ،‬وأزالت‬

‫الحجاب عن رأس المرأة ‪ ،‬واستنكرت كل ما يرمز إليه الحجاب ‪ ،‬وأجبرت الرجال على‬

‫ارتداء القبعات التي تمنع لبسيها من أداء شعائر الصلة السلمية التقليدية ‪ ،‬بخاصة في‬

‫السجود ‪ ،‬وكنست (‪ )1‬الشريعة السلمية بأكملها ‪ ،‬وتبنت القانون المدني السويسري بعد أن‬

‫ترجمته إلى التركية ‪ ،‬وطبقت قانون الجرائم اليطالي ‪ ،‬وذلك بفرض هذين القانونين بعد‬

‫التصويت عليهما في المجلس الوطني ‪ ،‬وغيرت الحرف العربية بأحرف لتينية ‪ ،‬وهذا أمر‬

‫لم يتم إل بطرح القسم الكبر من التراث الدبي العثماني القديم ‪..‬‬

‫" ‪ ..‬ويجب على المراقب الغربي أن يراعي حدود اللياقة فل يغالط ول يسخر ‪ ،‬لن ما‬

‫يحاول " المقلدون " التراك القيام به هو تغيير وطنهم ومواطنيهم مما هم فيه ‪ ،‬إلى حالة كنا‬

‫علق المترجم " الدكتور نبيل صبحي " على هذه الكلمة بقوله ‪ -‬في الهامش ‪ " : -‬هذا هو تعبير المؤلف‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫‪ ..‬الديب !! " ‪.‬‬
‫نحن ‪ -‬منذ التقاء الغرب بالسلم ‪ -‬ننتقدهم لعدم وجودها طبيعة فيهم ‪ .‬وها هم حاولوا ‪ -‬ولو‬

‫متأخرين ‪ -‬إقامة صورة طبق الصل لدولة غربية وشعب غربي ‪.‬‬

‫" وعندما ندرك تماما هدفهم الذي رموا إليه ‪ ،‬ل نستطيع إل التساؤل بحيرة ‪ :‬هل يبرر‬

‫هذا الهدف حقا الجهد الذي بذلوه في صراعهم لبلوغه ؟؟؟‬

‫" من المؤكد أننا لم نكن نحب التركي التقليدي المسلم " المتحمس " الذي كان يثير حنقنا‬

‫عندما ينظر إلينا من علٍ على أننا فريسيون زناديق ! ويحمد ‪ -‬أي التركي ‪ -‬يحمد ال على‬

‫أنه لم يجعله مثلنا ‪ .‬وبما أن التركي التقليدي القديم كان يعتبر نفسه من طينة خاصة ‪ ،‬حاولنا‬

‫أن نحـط من كبريائه ‪ ،‬بتصوير هذه " الطينة الخاصة " شيئا ممقوتا ‪ ،‬وسميناه " التركي‬

‫النكرة " ‪ ..‬إلى أن استطعنا أخيرا أن نحطم سلحه النفسي ‪ ،‬وحرضناه على القيام بهذه الثورة‬

‫( المقلدة ) التي استهلكها الن أمام أعيننا ‪.‬‬

‫" والن وبعد أن تغير التركي بتحريضنا ورقابتنا ‪ ،‬وبعد أن أصبح يفتش عن كل وسيلة‬

‫لجعل نفسه مماثل لنا وللشعوب الغربية من حوله ‪ ..‬الن نحس نحن بالضيق والحرج ‪ ،‬بل‬

‫ونميل إلى الشعور بالسخط والحنق ‪ ...‬وبإمكان التركي أن يجيبنا أنه مهما فعل فهو مخطئ‬

‫في نظرنا ‪ ،‬وهو ‪ -‬أي التركي ‪ -‬قادر على ترديد مقطع من كتابنا المقدس على مسامعنا ‪،‬‬

‫يقول ‪:‬‬

‫" لقد نفخنا معكم في القرب فلم ترقصوا ‪ ،‬وحزنا معكم فلم ترقصوا ‪ ،‬وحزنا معكم فلم‬

‫تبكوا " !‬

‫" على كل حال قد يكون انتقادنا للتراك فظا وغير لئق ‪ ..‬ولكن ليس فيه أي تحامل ‪،‬‬

‫ول هو خارج عن الموضوع ‪ .‬إذ ما الذي سيكسبه التراث الحضاري في حالة عدم ذهاب‬

‫جهود التراك سدى ؟ أي في حالة نجاحهم ‪ -‬فرضا ‪ -‬النجاح المرجو ؟؟ وهذه النقطة تكشف‬
‫حركة " المقلدين " عن نقطتي ضعفها الصيلتين فيها ‪:‬‬

‫" أولهما ‪ :‬أن الحركة المقلدة متبعة وليست مخترعة مبتدعة ‪ ،‬لذا ففي حالة نجاحها ‪-‬‬

‫جدل ‪ -‬لن تزيد إل في كمية المصنوعات التي تنتجها اللة في المجتمعات المقلّدة ‪ ،‬بدل أن‬

‫تطلق شيئا من الطاقة المبدعة في النفس البشرية ‪.‬‬

‫" ثانيهما ‪ :‬أنه في حالـة النجاح الباهت ‪ -‬المفترض ‪ -‬هذا ‪ ،‬وهو أقصـى ما يمكـن‬

‫" للمقلدين " الوصول إليه ‪ ،‬سيكون هناك خلص ‪ -‬مجرد خلص ‪ -‬لقلية ضئيلة في أي‬

‫مجتمع تبنـى طريق " التقليد " ‪ ..‬ومآل الغالبيـة ‪ :‬هو تضخيم عدد بروليتاريا الحضارة‬

‫المقلّدة " (‪ ( )1‬يقصد بذلك المستعبدين للحضارة الغربية ) !‬

‫إنها الزراية الصريحة ‪ ،‬والشماتة الصليبية الواضحة ‪ .‬الشماتة بالذين فقدوا ذاتيتهم ‪،‬‬

‫وعجزوا في الوقت ذاته عن تقديم شيء أصيل للبشرية ‪.‬‬

‫والمسلمون الحقيقيون عندهم الكثير الكثير يعطونه للبشرية الضالة في جاهلية القرن‬

‫العشرين ‪..‬‬

‫فليأخذوا العمارة المادية للرض من أي مكان يريدون ‪ .‬ولكن فليقيموها على المنهج‬

‫الرباني ‪ ،‬لينشئوا الحضارة الحقيقية الصيلة التي تستحق هذا السم ‪.‬‬

‫فليأخذوا العلم والتقدم المادي والتكنولوجي ‪ ،‬ولكن فليحددوا لي شيء يستخدمون هذا‬

‫كله ‪..‬‬

‫من كتاب مترجم بعنوان " السلم ‪ ..‬والغرب ‪ ..‬والمستقبل " هو ترجمة محاضرتين ألقاهما توينبي في‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫عامي ‪ 1952 ، 1947‬ترجمة الدكتور نبيل صبحي ‪ ،‬دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط‬
‫‪ 1389‬هـ ‪ 1969 -‬م ص ‪ ( 53 - 50‬مقتطفات ) ‪.‬‬
‫في العبودية الذليلة للشهوات ؟ في الستغراق في الحياة الدنيا إلى حد نسيان الخرة ؟‬

‫في عبادة الشيطان بدل من عبادة ال ؟‬

‫عندئذ ل هم سيخلصون أنفسهم من الهوان والذل ‪ .‬ول هم يملكون أن يخلصوا البشرية‬

‫من الضياع والتيه ‪..‬‬

‫لكن يستخدمونه في إقامة المنهج الرباني ؟ ‪ ..‬في إعادة شريعة ال لتحكم الرض ؟ ‪..‬‬

‫في إقامة العدل الرباني كما يريده ال ؟ في إقامة الحياة على قاعدة أخلقية في السياسة‬

‫والقتصاد وعلقات المجتمع وعلقات السرة وعلقات الجنسين والفكر والدب والفن ‪ ..‬؟‬

‫بعبارة أخرى ‪ :‬يحققون غاية الوجود النساني ؟ يحققون ل إله إل ال في عالم الواقع ؟‬

‫يحققون المفهوم الصحيح للعبادة ؟‬

‫عندئذ سيخلصون أنفسهم مما حل بهم ‪ ،‬ويمدون يد الخلص إلى البشرية الضالة‬

‫الضائعة التي تبحث عن طريق الخلص ‪.‬‬

‫وليس ذلك على ال بعزيز ‪:‬‬

‫س َتخْلَفَ‬
‫ض َكمَا ا ْ‬
‫س َتخْلِ َف ّن ُهمْ فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ‬
‫ن آ َمنُوا ِم ْن ُكمْ َو َ‬
‫عدَ اللّهُ اّلذِي َ‬
‫( وَ َ‬

‫ن َب ْعدِ خَ ْو ِف ِهمْ َأمْنا َي ْع ُبدُو َننِي ل‬


‫اّلذِينَ ِمنْ َقبِْلهِمْ وََل ُي َم ّكنَنّ َل ُهمْ دِي َن ُهمُ اّلذِي ا ْرتَضَى َل ُهمْ وََل ُي َبدّلَ ّن ُهمْ مِ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫شيْئا )‬
‫ُيشْ ِركُونَ بِي َ‬

‫ن ال ّرسُولُ عََل ْي ُكمْ‬


‫شهَدَاءَ عَلَى النّاسِ َو َيكُـو َ‬
‫جعَ ْلنَاكُـمْ ُأمّةً َوسَطا ِل َتكُونُـوا ُ‬
‫( َو َكذَِلكَ َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫شهِيدا )‬
‫َ‬

‫سورة النور [ ‪. ] 55‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 143‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫عنِ‬
‫ن َم ّكنّاهُمْ فِي ا ْلَأرْضِ َأقَامُوا الصّل َة وَآتَوُا ال ّزكَاةَ وََأ َمرُوا بِا ْل َمعْرُوفِ َو َنهَوْا َ‬
‫ن إِ ْ‬
‫( اّلذِي َ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ا ْل ُم ْنكَرِ وَلِلّهِ عَا ِقبَ ُة ا ْلُأمُورِ )‬

‫سورة الحج [ ‪. ] 41‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أضواءٌ علَى المُستقبَل‬

‫عرضنا فيما مضى من الكتاب بعض المفاهيم الرئيسية للسلم ‪ ،‬وبيّنا كيف كانت في‬

‫حس الجيل الول الذي تلقى الدين تلقيا مباشرا من رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬

‫وتربى على عينه ‪ ،‬والجيال التالية التي كانت على مقربة من منابع النور ‪ ..‬وكيف تحوّلت‬

‫في حس الجيال المتأخرة تحول خطيرا عن صورتها الصحيحة ‪ ..‬وكيف أثر ذلك التحول في‬

‫حياة المسلمين ‪ ،‬فهبط بهم من الذروة التي كانوا عليها إلى الحضيض الذي يعيشونه اليوم ‪،‬‬

‫غثاء كغثاء السيل ‪.‬‬

‫ويأتي السؤال طبيعيا بعد هذا العرض ‪ ..‬وماذا بعد ؟!‬

‫ماذا بعد أن وصلت المور إلى هذه الصورة ‪ ،‬وبعدت المة كل هذا البعد عن حقيقة‬

‫السلم ؟!‬

‫فأما الجابة على هذا السؤال فقد تكفل بها قدر ال الذي أخرج " الصحوة السلمية "‬

‫إلى الوجود ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن)‬
‫( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى َأ ْمرِهِ وََل ِكنّ َأ ْك َثرَ النّاسِ ل َيعَْلمُو َ‬

‫والصحوة السلمية هي قدر ال الغالب ‪ ،‬الذي قدره ال ليخرج به هذه المة من حالة‬

‫الضياع التي تكتنفها ‪ ،‬وتجعلها غثاء كغثاء السيل ‪ ،‬إلى الستقامة على الطريق ‪ ،‬ومد الجذور‬

‫سورة يوسف [ ‪. ] 22‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫مرة أخرى ‪ ،‬والقيام بدور جديد في حياتها ‪ ،‬تنقذ به نفسها مما وقعت فيه من الهوان والذل ‪،‬‬

‫والشتات والتيه ‪ ،‬وتطلق في الوقت ذاته بصيصا من النور للبشرية الحائرة ‪ ،‬لعلها تهتدي إلى‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الطريق‬

‫ولكن الطريق أمام الصحوة ذاتها مملوء بالعقبات ‪ .‬مملوء بالشواك ‪ .‬مملوء بالعثرات ‪.‬‬

‫مملوء بالوحوش الضارية تتلقف السائرين فيه لتفتك بهم أول بأول ‪ ،‬لنها تعلم جيدا أنها إن لم‬

‫تفتك بهم اليوم فغدا يسدون عليها الطريق !‬

‫ولكن المبشرات ‪ -‬كما أشرت في كتاب " واقعنا المعاصر " أكبر من المعوّقات ‪ .‬وقدر‬

‫ض إلى غايته ل يقف في طريقه شيء !‬


‫ال ما ٍ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫سبَقُوا ِإ ّن ُهمْ ل ُي ْعجِزُونَ )‬
‫ن كَ َفرُوا َ‬
‫سبَنّ اّلذِي َ‬
‫حَ‬‫( وَل َي ْ‬

‫ولكن الصحوة في حاجة لن تتعرف على عثرات الطريق لكيل تتعثر ‪ ،‬وعلى عقباته‬

‫لكي تعد لها العدة اللزمة ‪ ،‬كما ل بد لها أن تعرف طبيعة الوحوش الضارية ‪ ،‬لتعرف طبيعة‬

‫المعركة معهم ‪ ،‬وتعرف مجالتهـا وميادينهـا ‪ ،‬ولكيل تتوهـم في الوقت ذاته أن بعضها‬

‫يمكن أن يكون أرأف بالمسلمين من بعض ‪ ،‬أو أن بعضها يمكن أن يهادن السائرين في‬

‫الطريق !‬

‫وعليها أن تعرف قبل كل شيء عدة النصر في المعركة الضارية التي تقوم بينها وبين‬

‫أعداء ال ‪ ،‬والتي عليها أن تخوضها ل محالة رضيت أو كرهت ‪ ،‬لن أولئك العداء ل يمكن‬

‫أن يرضوا عن الصحوة السلمية ‪ ،‬ول أن يكفوا عن قتالها ‪:‬‬

‫راجع إن شئت فصل " الصحوة السلميـة " وفصل " نظرة إلى المستقبـل " من كتاب " واقعنا‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫المعاصر " ‪.‬‬
‫‪ )(2‬سورة النفال [ ‪. ] 59‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫حتّى َت ّتبِعَ مِّل َت ُهمْ )‬
‫ع ْنكَ ا ْل َيهُودُ وَل الّنصَارَى َ‬
‫ن َترْضَى َ‬
‫( وَلَ ْ‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫س َتطَاعُوا )‬
‫ن دِي ِنكُمْ ِإنِ ا ْ‬
‫حتّى َيرُدّو ُكمْ عَ ْ‬
‫ن يُقَاتِلُو َن ُكمْ َ‬
‫( وَل َيزَالُو َ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ينبغي أول أن تدرك الصحوة جيدا أن المعركة ليست معركة هذه الجماعة ول تلك ‪،‬‬

‫ول معركة هذا العدو أو ذاك ‪ ..‬إنما هي معركة المة السلمية جميعا مع أعدائها جميعا ‪..‬‬

‫فالخصـومة قائمة أصل بين أعداء ال وبين السلم ‪ ،‬حيثما كان العداء ‪ ،‬وحيثما كان‬

‫السلم ‪..‬‬

‫ومقتضى ذلك أن تعلم أن النصر ل يتم والمعركة قائمة بين العداء وبين جماعات‬

‫منعزلة هنا وهناك ‪ ،‬تستفرد بها الوحوش الضارية وتغتالها على تمكن ‪ ..‬ولكنه يتم ‪ -‬بتوفيق‬

‫ال ‪ -‬حين تصبع المعركة هي معركة " المة السلمية " على اتساعها ‪ ،‬إزاء العداء‬

‫المتكتلين في حرب السلم كتلة واحدة ‪ ،‬وإن تفرقوا في كل شيء عدا ذاك !‬

‫وحين نقول المة على اتساعها يظن بعض الناس أننا نقصد كل فرد من أفرادها ‪ ،‬وهذا‬

‫مستحيل ! فل يوجد مجتمع واحد في التاريخ ‪ -‬فضل عن أمة يبلغ تعدادها اليوم ألف مليون‬

‫من البشر ‪ -‬يكون كله على قلب رجل واحد ‪ ،‬وعلى مستوى واحد من الرفعة ‪ ،‬أو الصلبة ‪،‬‬

‫أو التوجه إلى الخير ‪..‬‬

‫ومجتمع الرسول ذاته لم يكن كذلك ‪ ،‬كما أوضحنا في أكثر من موضع وفي أكثر من‬

‫كتاب ‪..‬‬

‫سورة البقرة [ ‪. ] 120‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 217‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫ولكنا نقصد أن توجد في هذه المة قاعدة صلبة ‪ -‬كالقاعدة التي قامت في مجتمع‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ -‬يبلغ من قوتها وصلبتها أن تحمل ضعاف اليمان ‪،‬‬

‫والمعوّقين ‪ ،‬والمبطئين ‪ ،‬والمتثاقلين ‪ ،‬والمنافقين ‪ ،‬وتسير بهم جميعا إلى هدفها ‪ ،‬كما سارت‬

‫القاعدة الصلبة التي رباها رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬على عينه ‪ ،‬ولم يعوّقها وجود‬

‫هذه الفئات كلها عن النصر الحاسم على أعداء ال ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وينبغي أن تدرك الصحوة جيدا كذلك أن المعركة ليست مجرد معركة بين فريق من‬

‫البشر وفريق ‪ ،‬أو بين شعب من الشعوب وشعب ‪ ،‬أو بين نوع من السلح ونوع ‪ ..‬إنما هي‬

‫قبل ذلك كله ‪ -‬وأهم من ذلك كله ‪ -‬معركة بين عقيدة وعقيدة ‪ ،‬ومنهج للحياة ومنهج ‪.‬‬

‫عقيدة تؤمن بال واليوم الخر ‪ ،‬وعقيدة تشرك في إيمانها بال آلهة أخرى أو تنكر‬

‫وجوده أصل ‪ ..‬ومنهج للحياة قائم على عقيدة التوحيد ومتناسق معه ‪ ،‬مستمد من المصدر‬

‫الرباني المنزل على رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬ومنهج مبني على الشرك أو الكفر‬

‫ومتناسق معه ‪ ،‬مستمد من أي مصدر إل الوحي الرباني ‪..‬‬

‫ومقتضى ذلك أن النصر ل يتم حتى تتمحض تلك العقيدة في نفوس أصحابها وتصفو ‪،‬‬

‫وتتخلص من كل ما شابها من عناصر دخيلة عليها ‪ ،‬أيّا كان المدى الذي توغلته تلك العناصر‬

‫الدخيلة ‪ ،‬وأيّا كان الزمن الذي استغرقته وهي متلبسة بعقائد الناس ‪.‬‬

‫إن الجاهلية لم تقف برمتها أمام عقيدة التوحيد وجها لوجه كما تقف اليوم ‪ ،‬إل مرة‬

‫واحدة من قبل ‪ ،‬أيام بعثة محمد ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬والصدر الول من السلم ‪ ..‬مع‬

‫الفارق الذي أحدثه التقدم العلمي ‪ ،‬والتقدم التكنولوجي ‪ ،‬ووسائل النقل ‪ ،‬ووسائل العلم ‪،‬‬

‫الذي جعل الكتلة المتكتلة ضد السلم أكثر ترابطا ‪ ،‬وأكثر توحدا ‪ ،‬وأكثر ضراوة ‪..‬‬
‫ولكن المعركة في جوهرها لم تتغير ‪..‬‬

‫معركة التوحيد والشرك ‪ ..‬معركة السلم والجاهلية ‪..‬‬

‫ولقد واجه السلم ‪ -‬بعد تمكنه في الرض ‪ -‬كثيرا من عداوات الجاهلية ‪ ،‬مع‬

‫الصليبيين مرة ‪ ،‬ومع التتار مرة ‪ ،‬ومع اليهود من قبل مرة ‪ ..‬ولكنه لم يقف في وجه جاهلية‬

‫الرض كلها مجتمعة إل مرتين اثنتين ‪ :‬الولى وقت البعثة المحمدية وصدر السلم ‪ ،‬والثانية‬

‫في الوقت الحاضر ‪.‬‬

‫وهذا يستلزم كما ألمحنا أن تكون العقيدة من النقاء في نفوس أصحابها ‪ ،‬ومن رسوخ‬

‫اليمان بها ‪ ،‬والتجرد ل بها ‪ ،‬كما كانت في المواجهة الولى ‪ ،‬لتكون كفؤا للجاهلية الواقفة‬

‫أمامها ‪ ،‬فضل عن التغلب عليها في نهاية المطاف ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫أمر ثالث ينبغي أن تدركه الصحوة جيدا ‪ ..‬أن الجاهلية تواجه السلم اليوم وهي في‬

‫قمة حضارتها المادية ‪ ،‬وقمة افتتانها بتلك الحضارة ‪ ،‬والمسلمون في درجة شديدة من التخلف‬

‫في هذا المجال ‪..‬‬

‫ومقتضى ذلك أن يواجه المسلمون تلك الحضارة بمثل ما واجه المسلمون الوائل‬

‫الحضارة الفارسية والبيزنطية وهما في أوج تمكنهما المادي ‪ ..‬أي بالقيم الحضارية المواجهة‬

‫تماما للحضارة الجاهلية ‪.‬‬

‫لقد تمت المواجهة الولى بين السلم والجاهلية والمسلمون يكادون يكونون مجردين‬

‫من أدوات الحضـارة المادية وتنظيماتها ‪ ،‬بينما الدولتان " العظميان " يومئذ ‪ -‬فارس‬

‫وبيزنطة ‪ -‬في قمة من قمم الحضارة المادية والتنظيمية لم يكن قد بلغها أحد قبلهم في ذلك‬
‫التاريخ ‪..‬‬

‫وانتصر السلم ‪..‬‬

‫انتصر بحسب السنن الجارية ‪ ،‬ل بسنة خارقة ‪ ..‬وإن كانت هذه وتلك جميعا تتم بقدر‬

‫من ال ‪.‬‬

‫فمن سنن ال الجارية أن ينتفش الباطل في غيبة الحق ‪ .‬فإذا جاء الحق زهق الباطل ‪..‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن زَهُوقا )‬
‫ق ا ْلبَاطِلُ ِإنّ ا ْلبَاطِلَ كَا َ‬
‫حقّ َوزَهَ َ‬
‫( َوقُلْ جَاءَ ا ْل َ‬

‫ومن سنن ال الجارية أن يتدافع الحق والباطل ليتم إنقاذ الرض من الفساد ‪:‬‬

‫ن اللّ َه ذُو فَضْلٍ عَلَى‬


‫سدَتِ ا ْلَأرْضُ وََلكِ ّ‬
‫ض ُهمْ ِب َبعْضٍ لَ َف َ‬
‫( وَلَوْل دَفْـعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬

‫ا ْلعَاَلمِينَ ) (‪. )2‬‬

‫ومن سنته أن يكون للحق جنود يؤمنون به ‪ ،‬لن الحق المجرد من الجنود ل ينتصر ‪،‬‬

‫وأن يكون هؤلء الجنود مخلصين ل ‪ ،‬مترابطين على العقيدة ‪ ،‬مؤتلفة قلوبهم عليها ‪:‬‬

‫جمِيعا‬
‫ت مَا فِي ا ْلَأرْضِ َ‬
‫ك بِنَصْرِ ِه وَبِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َوأَلّفَ بَ ْينَ قُلُو ِب ِهمْ لَ ْو َأنْفَقْ َ‬
‫( ُهوَ الّذِي أَيّدَ َ‬

‫حكِيمٌ ) (‪. )3‬‬


‫عزِيزٌ َ‬
‫ن اللّ َه أَّلفَ َب ْي َن ُهمْ ِإنّهُ َ‬
‫ن قُلُو ِبهِمْ وََلكِ ّ‬
‫ت َبيْ َ‬
‫مَا أَلّفْ َ‬

‫وأن يكون هؤلء الجنود صادقي التوكل على ال ‪:‬‬

‫سورة السراء [ ‪. ] 81‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة البقرة [ ‪. ] 251‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة النفال [ ‪. ] 63 - 62‬‬ ‫()‬
‫(‪)2‬‬
‫)‬ ‫(‪)1‬‬
‫ن ا ّت َبعَكَ ِمنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ‬
‫س ُبكَ اللّهُ َومَ ِ‬
‫حْ‬‫( يَا َأ ّيهَا ال ّن ِبيّ َ‬

‫وأن يكونـوا مجاهدين في سبيل ال ‪ ،‬إذا دعت دواعي الجهاد يقاتلون صابرين‬

‫محتسبين ‪:‬‬

‫ن َيغِْلبُوا‬
‫عشْرُونَ صَا ِبرُو َ‬
‫ن َيكُنْ ِم ْن ُكمْ ِ‬
‫ل إِ ْ‬
‫ض ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ عَلَى الْ ِقتَا ِ‬
‫حرّ ِ‬
‫( يَا َأ ّيهَا ال ّن ِبيّ َ‬

‫ع ْن ُكمْ‬
‫ن خَ ّففَ اللّهُ َ‬
‫ن الْآ َ‬
‫ن كَ َفرُوا ِبَأ ّنهُمْ قَ ْو ٌم ل يَفْ َقهُو َ‬
‫ن ِم ْن ُكمْ مِائَةٌ َيغِْلبُوا أَلْفا مِنَ اّلذِي َ‬
‫مِا َئتَيْنِ وَِإنْ َيكُ ْ‬

‫ن َيكُنْ ِم ْن ُكمْ أَ ْلفٌ َيغِْلبُوا أَلْ َفيْنِ‬


‫ن َيكُنْ ِم ْن ُكمْ مِائَ ٌة صَا ِبرَةٌ َيغِْلبُوا مِا َئ َتيْنِ وَإِ ْ‬
‫ضعْفا َفإِ ْ‬
‫ن فِيكُمْ َ‬
‫َوعَِلمَ أَ ّ‬
‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫ِبِإذْنِ اللّهِ وَاللّ ُه مَعَ الصّابِرِي َ‬

‫ثم إن من سنته الجارية كذلك أن الباطل المنتفش بقوته المادية ‪ -‬في غيبة الحق ‪ -‬ل‬

‫أصالة له لنه باطل ‪ ،‬ومع ذلك يمكّن في الرض فترة من الوقت لحكمة يريدها ال ‪ ،‬وبسنة‬

‫يجريها ال ‪:‬‬

‫خ ْذنَا ُهمْ‬
‫حتّى ِإذَا فَ ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا َأ َ‬
‫شيْءٍ َ‬
‫ب كُلّ َ‬
‫( فََلمّا َنسُوا مَا ُذكّرُوا بِ ِه َف َتحْنَا عََل ْي ِهمْ َأبْوَا َ‬
‫(‪)4‬‬
‫ب ا ْلعَاَلمِينَ )‬
‫ح ْمدُ لِلّهِ رَ ّ‬
‫ن فَ ُقطِعَ دَا ِبرُ الْقَ ْو ِم اّلذِينَ ظََلمُوا وَا ْل َ‬
‫َب ْغتَةً َفِإذَا ُهمْ ُمبِْلسُو َ‬

‫فإذا جاء الحق ‪ -‬وهو وحده صاحب الصالة ‪ -‬وتمت له مقوماته ‪ ،‬أي الجنود‬

‫المؤمنون به ‪ ،‬المخلصون في إيمانهم ‪ ،‬المجاهدون الصابرون المحتسبون ‪ ،‬فإنه ينتصر بما‬

‫فيه أصالة ‪ ،‬ولو كان أقل جنودا وأقل عدة ‪ ،‬لنه يحمل القيم الصيلة التي كتب ال لها البقاء‬

‫والصلحية ‪:‬‬

‫‪ )(1‬أي من اتبعك من المؤمنين حسبهم ال ‪.‬‬


‫‪ )(2‬سورة النفال [ ‪. ] 64‬‬
‫‪ )(3‬سورة النفال [ ‪. ] 66 - 65‬‬
‫سورة النعام [ ‪. ] 45 - 44‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ث فِي ا ْلَأرْضِ )‬
‫( َفَأمّا ال ّزبَدُ َف َيذْهَبُ جُفَا ًء وََأمّا مَا َينْفَ ُع النّاسَ َفيَ ْمكُ ُ‬

‫(‪)2‬‬
‫عزِيزٌ )‬
‫ن اللّ َه قَ ِويّ َ‬
‫ن َأنَا َو ُرسُلِي إِ ّ‬
‫ب اللّ ُه َلأَغِْلبَ ّ‬
‫( َكتَ َ‬

‫(‪)3‬‬
‫ن)‬
‫عبَا ِديَ الصّاِلحُو َ‬
‫ض َيرِ ُثهَا ِ‬
‫ن َب ْعدِ ال ّذكْرِ َأنّ ا ْلَأرْ َ‬
‫( وَلَ َقدْ َك َت ْبنَا فِي ال ّزبُورِ مِ ْ‬

‫ج ْن َدنَا َل ُهمُ‬
‫ن ُ‬
‫ت كَِل َم ُتنَـا ِل ِعبَا ِدنَـا ا ْل ُم ْرسَلِينَ ِإ ّنهُـمْ َلهُـ ُم ا ْل َمنْصُورُونَ وَإِ ّ‬
‫سبَقَ ْ‬
‫( وَلَ َقدْ َ‬

‫ن ) (‪. )4‬‬
‫ا ْلغَاِلبُو َ‬

‫تلك ‪ -‬وأمثالها من السنن الجارية ‪ -‬هي التي قررت في علم ال انتصار السلم في‬

‫مواجهته الولى مع الدولتين " العظميين " يومئذ ‪ ،‬فضل عن سائر الجاهليات القائمة في ذلك‬

‫الحين ‪ ..‬ولم يكن للقوة المادية الساحقة ‪ ،‬الخاوية من " القيم " ‪ ،‬الخاوية من " الحق " أصالة‬

‫تحميها من غلبة السلم عليها ‪ ،‬وتمت كلمة ربك صدقا وعدل ل مبدل لكلماته ‪ ،‬فانتصر‬

‫الحق وزهق الباطل وذهب طيّ النسيان ‪..‬‬

‫واليوم تقف الجاهلية ‪ -‬بدولتيها " العظميين " ‪ -‬ذات الموقف مرة أخرى ‪..‬‬

‫قمة في القوة المادية والتقدم العلمي والمادي والتكنولوجي لم يبلغها أحد من قبل ‪..‬‬

‫ول أصالة ‪..‬‬

‫فالصالة هي الحق ‪..‬‬

‫وحين يكون النسان في عرف الجاهلية المعاصرة حيوانا كما أراده دارون ‪ ،‬وحين‬
‫سورة الرعد [ ‪. ] 17‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫سورة المجادلة [ ‪. ] 21‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة النبياء [ ‪. ] 105‬‬ ‫()‬

‫سورة الصافات [ ‪. ] 173 - 171‬‬ ‫()‬


‫‪4‬‬
‫يكون في وهم نفسه ‪ -‬في الوقت ذاته ‪ -‬إلها متجبرا طاغيا مستكبرا عن عبادة ال ‪ ..‬فكلهما‬

‫وهم ل ظل فيه للحق ‪ ..‬ومن ثم فل أصالة فيه ‪..‬‬

‫وحين تكون الحضارة هي حضارة " قبضة الطين " منقطعة الصلة " بنفخة الروح " ‪،‬‬

‫فهي حضارة غير أصيلة ‪ ،‬لن قبضة الطين المنفصلة عن نفخة الروح ل وجود لها في‬

‫الحقيقة ‪ ،‬وكل بناء يبنى على أساس وجودها فهو مجافٍ للحق ‪ ،‬ومن ثم ل أصالة فيه ‪..‬‬

‫ول ينفي هذا أن يكون لهذه الحضارة المجافية للحق منجزات ضخمة نافعة ‪ ،‬كمنجزاتها‬

‫العلمية والتنظيمية ‪ ،‬فهذا من العطاء الرباني المتاح للبشر جميعا مؤمنهم وكافرهم ‪ ،‬وكان‬

‫للجاهليات التاريخية كلها نصيب منه ‪:‬‬

‫(‪)1‬‬
‫حظُورا )‬
‫عطَا ُء َربّكَ َم ْ‬
‫عطَا ِء َربّكَ َومَا كَانَ َ‬
‫( كُلّا ُن ِمدّ َهؤُلءِ وَ َهؤُلءِ مِنْ َ‬

‫ول ينفي كذلك أن تكون بعض الفكار والقيم ذات قيمة ونفع ‪ ،‬فإن النفس البشرية ل‬

‫تتمحض للشر الخالص مهما بعدت عن الحق ‪ ،‬ول يتمحض مجموع الناس في الجاهليات‬

‫للشر بشهادة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫" خياركم في الجاهلية خياركم في السلم إذا فقهوا "‬

‫ولكن العبرة في النهاية ‪ -‬في صراع الحق والباطل ‪ -‬ليست بالمنجزات المادية مهما‬

‫يكن من ضخامتها ونفعها ‪ ،‬وليست بالفكار والقيم الجزئية التي يمكن أن تكون في‬

‫الجاهليـات ‪ ..‬إنما هي بالقاعدة التي يقوم عليها البنيان كله ‪..‬‬

‫فل شك أن كل من الجاهلية الفارسية والجاهلية الرومانية كان لها منجزات مادية‬

‫سورة السراء [ ‪. ] 20‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫أخرجه مسلم ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫وتنظيمية ضخمة ونافعة ‪ ،‬ول شك أن بعض القيم وبعض الفكار النافعة كان موجودا في كل‬

‫من الجاهليتين ‪..‬‬

‫ولكن ذلك كله لم يحمِ هاتين الجاهليتين من النهيار أمام السلم ‪ ،‬الذي يقوم كله على‬

‫القاعدة الصحيحة السليمة ‪ ،‬التي تحقق الغاية الحقيقية للوجود النساني ‪ ،‬وهي عبادة ال ‪،‬‬

‫‪ ،‬رغم قلة العدد والعدة في جانب المسلمين‬ ‫(‪)1‬‬


‫بالمعنىالواسع الشامل للعبادة الذي بيناه من قبل‬

‫يومئذ ‪ ،‬ورغم الفراغ من المنجزات المادية والتنظيمية إل القليل الذي ل يكاد يذكر ‪.‬‬

‫وتلك ‪ -‬كما بينا ‪ -‬سنة جارية ‪ .‬ومعنى كونها جارية أنها يمكن أن تتحقق ‪ -‬بقدر من‬

‫ال ‪ -‬في كل مرة تتحقق مقوماتها وعناصرها ‪ ،‬وتتم المواجهة بمقتضاها ‪..‬‬

‫ومن جانب الجاهلية فكل المقومات والعناصر قائمة ‪ ..‬قوة مادية هائلة ‪ ،‬وفراغ هائل‬

‫في عالم القيم والمبادئ والخلق ‪..‬‬

‫ويسلتزم سريان السنة الجارية ‪ -‬وهي تجري في كل مرة بقدر من ال ‪ -‬أن يكون‬

‫المسلمون في المواجهة قائمين على الشرط ‪ ،‬كما كان المسلمون في المواجهة الولى ‪ ،‬فيتم‬

‫النصر ‪ -‬بقدر من ال ‪ -‬كما تم أول مرة ‪ ،‬ويتغير وجه الرض كما تغيّر من قبل ‪..‬‬

‫ول شك عندي ‪ -‬من وعد ال ورسوله صلى ال عليه وسلم ‪ ...‬أن ذلك سيحدث ‪..‬‬

‫ولكن الصحوة ينبغي أن تدرك شرط النصر في تلك المواجهة ‪..‬‬

‫إن المسلمين لن يسبقوا الجاهلية المعاصرة في التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي‬

‫والتنظيمي في الوقت الحاضر ‪.‬‬

‫راجع فصل " مفهوم العبادة " ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫ولكنهم ‪ -‬مع ذلك ‪ -‬يملكون ما ل تملك الجاهلية اليوم ول غدا ول في أي وقت ‪..‬‬

‫يملكون العقيدة الصحيحة والمنهج الصحيح ‪ ..‬المنهج الشامل الكامل المتوازن المترابط ‪ ،‬الذي‬

‫أنزله ال العليم الخبير ليصلح به الرض ‪ ،‬ويصلح حياة الناس ‪.‬‬

‫وحين يحققون العقيدة الصحيحة في ذوات أنفسهم ‪ ،‬ويحققون المنهج الصحيح في واقع‬

‫حياتهم ‪ ،‬تجري السنة بقدر من ال ‪ ،‬وينتصر السلم في المواجهة الحاضرة بينه وبين‬

‫الجاهلية ‪ ..‬ويتغير وجه الرض ‪.‬‬

‫ولكن العقيدة ينبغي أن تكون في صفائها كله ‪ ،‬وفي بهائها كله ‪ ،‬وفي أَلَ ِقهَا كله ‪ ،‬لتحدث‬

‫في واقـع الرض الفارق الحقيقي الذي يلمسه الناس في صورته الخّاذة ‪ -‬كما حدث أول‬

‫مرة ‪ -‬فيهرعون إليه ‪ ،‬ويدخلون في ظله ‪ ..‬والمنهج ‪ -‬بما يشتمل عليه من قيم فذة ‪،‬‬

‫وأخلقيات عالية ‪ ،‬وصدق وعمق ‪ ،‬ورسوخ وتمكن ‪ ،‬وشمول وتوازن ‪ -‬ينبغي أن يكون‬

‫محققا في نماذج بشرية فذة ‪ُ ،‬ت ْب ِرزُ للناس في عالم الواقع الفارق الهائل بين السلم‬

‫والجاهليـة ‪ ،‬كما حدث أول مرة ‪ ،‬فيحب الناس المنهج ويدخلون فيه ‪..‬‬

‫عندئذ ينتصر الحق بجدارة ‪ -‬حسبب السنن الجارية ‪ -‬لنه يثبت جدارته بالفعل ‪.‬‬

‫ويكون له دور حقيقي يؤديه في حياة الناس لنه يعطي الناس بالفعل ما هم في حاجة حقيقية‬

‫إليه ‪ ،‬ولو لم يشعروا بتلك الحاجة وهم سادرون في غيهم ‪ ،‬بل ولو كانوا رافضين للخير‬

‫والهدى في مبدإ المر كما يكون الناس في كل جاهلية ‪ ..‬ولكن الفطرة البشرية تقدره ‪ ،‬حين‬

‫تراه مطبقا في عالم الواقع ‪ -‬في الصورة الباهرة التي يلتقي فيها الواقع بالمثال ‪ -‬وعندئذ‬

‫يشعر الناس بما يشتملون عليه من نقص ‪ ،‬ويهرعون إلى الكمال ‪..‬‬

‫وسيزيدهم طمأنينة إلى المنهج الرباني وإقبال عليه ‪ ،‬أن يروا ‪ -‬من خلل التجربة‬

‫الواقعية ‪ -‬أن السلم لن يهدم تقدمهم العلمي والتكنولوجي والتنظيمي ‪ ،‬إنما سيقيمه فقط على‬
‫القاعدة اليمانية الصحيحة ‪ ،‬ويمنحه " الخلق " التي تسلبه إياها الجاهلية ‪ ،‬ويمنحه " الروح "‬

‫التي تجعل منه إنجازا لئقا " بالنسان " ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫من أجل ذلك كله ينبغي للصحوة أن تقدر المر حق قدره ‪ ،‬وتمنحه الطاقة اللزمة‬

‫لنجازه ‪..‬‬

‫إنه أمر جاد ‪ ..‬وهو كذلك أمر خطير ‪..‬‬

‫إنه ليس نزهة قريبة ‪ ..‬ول هو أمر يخصهم وحدهم في ذوات أنفسهم ‪..‬‬

‫إنه أمر المة السلمية بأكملها ‪ ..‬وأمر البشرية كذلك ‪ ،‬من شاء منهم أن يستقيم ‪..‬‬

‫أمر خلص " النسان " من حمأة الطين التي يتمرغ فيها اليوم ‪ ،‬والتي انساق "‬

‫المسلمون " إليها ‪ -‬أو ساقهم أعداؤهم إليها ‪ -‬حين تخلفوا عن عقيدتهم ‪ ،‬فتخلوا عن ذاتيتهم ‪،‬‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فصبحوا كغثاء السيل‬

‫أمر جاد ‪ ..‬ل تكفي فيه جهود هامشية مبعثرة ‪ ،‬ول يكفي فيه جهد يبذل لمجرد ممارسة‬

‫السلم على أي مستوى من المستويات ‪.‬‬

‫أمر يحتاج إلى كل الطاقة مجمعة ‪ ..‬ويحتاج إلى محاولة الصعود إلى القمة التي صعد‬

‫إليها المسلمون أول مرة ‪ ،‬حين عوضت القيم الفذة ‪ ،‬والممارسة الفذة لهاتيك القيم ‪ ،‬كل‬

‫الفروق المادية بين المسلمين وأعدائهم ‪ ،‬وكتبت النصر لصحاب القيم الفذة الصيلة على‬

‫أصحاب الباطل المنتفش بالقوة المادية وعبقرية التنظيم ‪.‬‬

‫انظر ‪ -‬إن شئت ‪ -‬فصل " خط النحراف " وفصل " آثار النحراف " في كتاب " واقعنا المعاصر " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫إن على " الصحوة " في كل بلد إسلمي أن تربي القاعدة الصلبة على المستوى الفائق ‪،‬‬

‫ثم تدعو إليها الجماهير ‪..‬‬

‫وليس هنا بيان منهج التربية اللزم لبناء القاعدة الصلبة على ذلك المستوى الفائق ‪ ،‬ول‬

‫‪..‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫منهج الدعوة التي توجه إلى الجماهير‬

‫ولكنا نشير هنا إلى أمر أساسي ‪ ،‬سواء في بناء القاعدة أو في دعوة الجماهير ‪ ..‬إنه ل‬

‫بد أول من تصحيح المفاهيم ‪ ..‬إذ كيف تبنى القاعدة على المفاهيم الخاطئة للسلم ؟!‬

‫كيف تبنى قاعدة صلبة على الفكرالرجائي الذي يقول ‪ :‬إن اليمان هو التصديق‬

‫والقرار ؟! وإن العمل ليس داخل في سممى اليمان ؟ وإنه من قال ل إله إل ال فهو مؤمن‬

‫ولو لم يعمل عمل واحدا من أعمال السلم ؟!‬

‫كيف تبنى قاعدة صلبة على مفهوم قاصر للعبادة يحصرها في الشعائر التعبدية ‪،‬‬

‫ويخرج العمل كله من دائرة العبادة ‪ ،‬ويخرج الخلق ‪ ،‬ويقسم الحياة إلى " ساعة لقلبك‬

‫وساعة لربك " فتنقلب ساعة القلب إلى لهو عابث ‪ ،‬وساعة الرب إلى مجرد أداء للشعائر‬

‫بغير مقتضى واقعي في سلوك الناس ؟!‬

‫وكيف تبنى على عقيدة للقضاء والقدر سلبية مخذّلة متواكلة ل تأخذ بالسباب ؟‬

‫وكيف تبنى على تصور خاطئ يفصل ما بين الدنيا والخرة ‪ ،‬ويجنح بالسلوك سواء‬

‫لحساب هذه أو حساب تلك ؟‬

‫في النية ‪ -‬بإذن ال ‪ -‬إصدار كتيب في هذا الموضوع بعنوان " كيف ندعو الناس " ‪.‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫وكيف تبنى على إهمالٍ لعمارة الرض بمقتضى المنهج الرباني الشامل المتكامل الذي‬

‫ينشئ الحضارة الخليقة بالنسان ؟‬

‫وماذا تستطيع مثل هذه القاعدة في الصراع الهائل مع الجاهلية ؟ وماذا تمنح الناس‬

‫لتحبب إليهم اعتناق الحق والدخول فيه ؟!‬

‫وكذلك الدعوة الموجهة إلى الجماهير ‪ ،‬لتكون سندا للقاعدة الصلبة بدل من أن تكون‬

‫حمل عليها ‪..‬‬

‫لماذا نقوم بالدعوة أصل إن لم نغير عند الناس مفاهيمهم الخاطئة عن السلم ؟!‬

‫لي هدف ندعوهم إذا قلنا لهم إن اليمان هو التصديق والقرار ‪ ،‬وإن العمل ليس‬

‫داخل في مسمى اليمان ‪ ،‬وإنه من قال ل إله إل ال فهو مؤمن ‪ ،‬ولو لم يعمل عمل واحدا‬

‫من أعمال السلم ؟!‬

‫هل ندعوهم لنثبت فيهم السباب التي أدت بهم إلى الضياع والتيه ‪ ،‬وجعلتهم غثاء كغثاء‬

‫السيل ؟ سواء ما وقعوا فيه من شرك العتقـاد عن طريق عبادة الولياء والضرحة‬

‫والمشايخ ‪ ،‬أو شرك التباع ‪ ،‬باتباع غير ما أنزل ال ‪ ،‬واتخاذ البشر ‪ -‬المشرعين من عند‬

‫أنفسهم ‪ -‬أربابا من دون ال ؟‬

‫أم ندعوهم ليغيروا ما بأنفسهم فيغير ال لهم ؟!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ل بد في جميع الحوال من تصحيح المفاهيم ‪.‬‬


‫وحين تصحح المفاهيم بالفعل ‪ ،‬وتتربى على المفاهيم الصحيحة قاعدة صلبة ‪ ،‬تساندها‬

‫الجماهير المؤمنة الواعية التي تمارس السلم في عالم الواقع ‪ ..‬عندئذ يتحقق الوعد الذي‬

‫وعده رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫" تكون النبوة فيكم ما شاء ال أن تكون ‪ ،‬ثم يرفعها ال إذا شاء أن يرفعها ‪ .‬ثم تكون‬

‫خلفة على منهاج النبوة ‪ ،‬فتكون ما شاء ال أن تكون ‪ ،‬ثم يرفعها ال إن شاء أن يرفعها ‪ ،‬ثم‬

‫تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء ال أن تكون ‪ ،‬ثم يرفعها إذا شاء ال أن يرفعها ‪ ،‬ثم تكون‬

‫ملكا جبريا فتكون ما شاء ال أن تكون ‪ ،‬ثم يرفعها ال إذا شاء أن يرفعها ‪ ،‬ثم تكون خلفة‬

‫‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫على منهاج النبوة "‬

‫وعندئذ يتغير وجه الرض ‪..‬‬

‫وتتحقق للسلم جولة جديدة ‪ ،‬يخرج فيها الناس من الظلمات إلى النور ‪ ،‬ومن عبادة‬

‫العباد إلى عبادة ال ‪ ,‬ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والخرة ‪..‬‬

‫(‪)2‬‬
‫صرُ مَنْ َيشَاءُ وَ ُهوَ ا ْل َعزِيزُ ال ّرحِيمُ )‬
‫ن ِب َنصْرِ اللّهِ َي ْن ُ‬
‫( َويَ ْو َم ِئذٍ يَ ْفرَحُ ا ْل ُم ْؤ ِمنُو َ‬

‫رواه المام أحمد عن حذيفة بن اليمان ‪.‬‬ ‫()‬


‫‪1‬‬
‫سورة الروم [ ‪. ] 5 - 4‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫موقعنا على النترنت‬
‫منب التوحيد والهاد‬
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com
http://www.alsunnah.info
‫الدّال على الي كفاعله‬
‫الفهْرسْ‬

‫‪3‬‬ ‫مقدمة‬

‫‪10‬‬ ‫مَفهُومُ ل إله إلّ ال‬

‫‪121‬‬ ‫مَفهُوم العبَادة‬

‫‪180‬‬ ‫مَفهُوم القضَاءِ وَالقَدَر‬

‫‪201‬‬ ‫مَفهُوم الدّنيَا والخرة‬

‫‪241‬‬ ‫مفهُوم الحَضارةِ وَعمارةِ الرض‬

‫‪262‬‬ ‫أضواءٌ علَى المُستقبَل‬

‫موقعنا على النترنت‬


‫منب التوحيد والهاد‬
‫‪http://www.tawhed.ws‬‬
‫‪http://www.almaqdese.com‬‬
‫‪http://www.alsunnah.info‬‬
‫الدّال على الي كفاعله‬

You might also like