Professional Documents
Culture Documents
المؤمنون
المؤمنون
تعريف بالسورة هذه سورة "المؤمنون" . .اسمها يدل عليها .ويحدد موضوعها . .فهي تبدأ بصفة المؤمنين
,ثم يستطرد السياق فيها إلى دلئل اليمان في النفس والفاق .ثم إلى حقيقة اليمان كما عرضها رسل ال
-صلوات ال عليهم -من لدن نوح -عليه السلم -إلى محمد خاتم الرسل والنبيين ; وشبهات المكذبين
حول هذه الحقيقة واعتراضاتهم عليها ,ووقوفهم في وجهها ,حتى يستنصر الرسل بربهم ,فيهلك المكذبين ,
وينجي المؤمنين . .ثم يستطرد إلى اختلف الناس -بعد الرسل -في تلك الحقيقة الواحدة التي ل تتعدد . .
ومن هنا يتحدث عن موقف المشركين من الرسول [ ص ] ويستنكر هذا الموقف الذي ليس له مبرر . .
وتنتهي السورة بمشهد من مشاهد القيامة يلقون فيه عاقبة التكذيب ,ويؤنبون على ذلك الموقف المريب ,يختم
بتعقيب يقرر التوحيد المطلق والتوجه إلى ال بطلب الرحمة والغفران . .
فهي سورة "المؤمنون" أو هي سورة اليمان ,بكل قضاياه ودلئله وصفاته .وهو موضوع السورة ومحورها
الصيل .
يبدأ الشوط الول بتقرير الفلح للمؤمنين(:قد أفلح المؤمنون) . .ويبين صفات المؤمنين هؤلء الذين كتب لهم
الفلح . .ويثني بدلئل اليمان في النفس والفاق ,فيعرض أطوار الحياة النسانية منذ نشأتها الولى إلى
نهايتها في الحياة الدنيا متوسعا في عرض أطوار الجنين ,مجمل في عرض المراحل الخرى . .ثم يتابع
خط الحياة البشرية إلى البعث يوم القيامة . .وبعد ذلك ينتقل من الحياة النسانية إلى الدلئل الكونية:في خلق
السماء ,وفي إنزال الماء ,وفي إنبات الزرع والثمار .ثم إلى النعام المسخرة للنسان ; والفلك التي يحمل
عليها وعلى الحيوان .
فأما الشوط الثاني فينتقل من دلئل اليمان في النفس والفاق إلى حقيقة اليمان .حقيقته الواحدة التي توافق
عليها الرسل دون استثناء( :يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره) . .قالها نوح -عليه السلم -وقالها كل
من جاء بعده من الرسل ,حتى انتهت إلى محمد [ ص ] وكان اعتراض المكذبين دائما( :ما هذا إل بشر
مثلكم !)( . .ولو شاء ال لنزل ملئكة) . .وكان اعتراضهم كذلك(:أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما
أنكم مخرجون ?) . .وكانت العاقبة دائما أن يلجأ الرسل إلى ربهم يطلبون نصره ,وأن يستجيب ال لرسله ,
فيهلك المكذبين . .وينتهي الشوط بنداء للرسل جميعا(:يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ,إني
بما تعملون عليم ,وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
والشوط الثالث يتحدث عن تفرق الناس -بعد الرسل -وتنازعهم حول تلك الحقيقة الواحدة .التي جاءوا
بها(:فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا ,كل حزب بما لديهم فرحون) .وعن غفلتهم عن ابتلء ال لهم بالنعمة ,
واغترارهم بما هم فيه من متاع .بينما المؤمنون مشفقون من خشية ربهم ,يعبدونه ول يشركون به ,وهم مع
ذلك دائمو الخوف والحذر (وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) . .وهنا يرسم مشهدا لولئك الغافلين
المغرورين يوم يأخذهم العذاب فإذا هم يجأرون ; فيأخذهم التوبيخ والتأنيب(:قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم
على أعقابكم تنكصون ,مستكبرين به سامرا تهجرون) . .ويستنكر السياق موقفهم العجيب من رسولهم المين
,وهم يعرفونه ول ينكرونه ; وقد جاءهم بالحق ل يسألهم عليه أجرا .فماذا ينكرون منه ومنالحق الذي
جاءهم به ? وهم يسلمون بملكية ال لمن في السماوات والرض ,وربوبيته للسماوات والرض ,وسيطرته
على كل شيء في السماوات والرض .وبعد هذا التسليم هم ينكرون البعث ,ويزعمون ل ولدا سبحانه !
ويشركون به آلهة أخرى (فتعالى عما يشركون).
والشوط الخير يدعهم وشركهم وزعمهم ; ويتوجه بالخطاب إلى رسول ال [ ص ] أن يدفع السيئة بالتي هي
أحسن ,وأن يستعيذ بال من الشياطين ,فل يغضب ول يضيق صدره بما يقولون . .وإلى جوار هذا مشهد
من مشاهد القيامة يصور ما ينتظرهم هناك من عذاب ومهانة وتأنيب . .وتختم السورة بتنزيه ال
سبحانه(:فتعالى ال الملك الحق ل إله إل هو رب العرش الكريم) .وبنفي الفلح عن الكافرين في مقابل تقرير
الفلح في أول السورة للمؤمنين(:ومن يدع مع ال إلها آخر ل برهان له به فإنما حسابه عند ربه ,إنه ل يفلح
الكافرون) .وبالتوجه إلى ال طلبا للرحمة والغفران(:وقل:رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين).
جو السورة كلها هو جو البيان والتقرير ,وجو الجدل الهادى ء ,والمنطق الوجداني ,واللمسات الموحية
للفكر والضمير .والظل الذي يغلب عليها هو الظل الذي يلقيه موضوعها . .اليمان . .ففي مطلعها مشهد
الخشوع في الصلة(:الذين هم في صلتهم خاشعون) .وفي صفات المؤمنين في وسطها(:والذين يؤتون ما آتوا
وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) . .وفي اللمسات الوجدانية(:وهو الذي أنشأ لكم السمع والبصار
والفئدة قليل ما تشكرون).
(قد أفلح المؤمنون ,الذين هم في صلتهم خاشعون ,والذين هم عن اللغو معرضون ,والذين هم للزكاة
فاعلون ,والذين هم لفروجهم حافظون .إل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ,فمن ابتغى
وراء ذلك فأولئك هم العادون .والذين هم لماناتهم وعهدهم راعون ,والذين هم على صلواتهم يحافظون . .
أولئك هم الوارثون .الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون).
إنه الوعد الصادق ,بل القرار الكيد بفلح المؤمنين .وعد ال ل يخلف ال وعده ; وقرار ال ل يملك أحد
رده .الفلح في الدنيا والفلح في الخرة .فلح الفرد المؤمن وفلح الجماعة المؤمنة .الفلح الذي يحسه
المؤمن بقلبه ويجد مصداقه في واقع حياته ; والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلح ,وما ل يعرفونه
مما يدخره ال لعباده المؤمنين .
فمن هم المؤمنون الذين كتب ال لهم هذه الوثيقة ,ووعدهم هذا الوعد ,وأعلن عن فلحهم هذا العلن ?
من هم المؤمنون المكتوب لهم الخير والنصر والسعادة والتوفيق والمتاع الطيب في الرض ? والمكتوب لهم
الفوز والنجاة ,والثواب والرضوان في الخرة ? ثم ما شاء ال غير هذا وذلك في الدارين مما ل يعلمه إل
ال ?
قيمتها أنها ترسم شخصية المسلم في أفقها العلى .أفق محمد [ ص ] رسول ال ,وخير خلق ال ,الذي أدبه
ربه فأحسن تأديبه ,والذي شهد له في كتابه بعظمة خلقه(:وإنك لعلى خلق عظيم) . .فلقد سئلت عائشة رضي
ال عنها عن خلق رسول ال [ ص ] فقالت:كان خلقه القرآن .ثم قرأت (.قد أفلح المؤمنون)حتى(والذين هم
على صلواتهم يحافظون) .وقالت .هكذا كان رسول ال [ ص ] .
ومرة أخرى . .ما قيمة هذه الصفات في ذاتها ? ما قيمتها في حياة الفرد ,وفي حياة الجماعة ,وفي حياة
النوع النساني ?
(الذين هم في صلتهم خاشعون) . .تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلة بين يدي ال ,فتسكن وتخشع ,
فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملمح والحركات .ويغشى أرواحهم جلل ال في حضرته ,فتختفي
من أذهانهم جميع الشواغل ,ول تشتغل بسواه وهم مستغرقون في الشعور به مشغولون بنجواه .ويتوارى
عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كل ما حولهم وكل ما بهم ,فل يشهدون إل ال ,ول يحسون إل إياه ,
ول يتذوقون إل معناه .ويتطهر وجدانهم من كل دنس ,وينفضون عنهم كل شائبة ; فما يضمون جوانحهم
على شيء من هذا مع جلل ال . .عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها ,وتجد الروح الحائرة طريقها ,
ويعرف القلب الموحش مثواه .وعندئذ تتضاءل القيم والشياء والشخاص إل ما يتصل منها بال .
(والذين هم عن اللغو معرضون) . .لغو القول ,ولغو الفعل ,ولغو الهتمام والشعور .إن للقلب المؤمن ما
يشغله عن اللغو واللهو والهذر . .له ما يشغله من ذكر ال ,وتصور جلله وتدبر آياته في النفس والفاق .
وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب ,ويشغل الفكر ,ويحرك الوجدان . .وله ما يشغله من تكاليف
العقيدة:تكاليفها في تطهير القلب ,وتزكية النفس وتنقية الضمير .وتكاليفها في السلوك ,ومحاولة الثبات على
المرتقى العالي الذي يتطلبه اليمان .وتكاليفها في المر بالمعروف والنهي عن المنكر ,وصيانة حياة
الجماعة من الفساد والنحراف .وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها ,والسهر عليها من كيد
العداء . .وهي تكاليف ل تنتهي ,ول يغفل عنها المؤمن ,ول يعفي نفسه منها ,وهي مفروضة عليه فرض
عين أو
ول ينفي هذا أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين .ولكن هذا شيء آخر غير الهذر واللغو
والفراغ . . .
(والذين هم للزكاة فاعلون) . .بعد إقبالهم على ال ,وانصرافهم عن اللغو في الحياة . .والزكاة طهارة للقلب
والمال:طهارة للقلب من الشح ,واستعلء على حب الذات ,وانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر ,وثقة بما
عند ال من العوض والجزاء .وطهارة للمال تجعل ما بقي منه بعدها طيبا حلل ,ل يتعلق به حق -إل في
حالت الضرورة -ول تحوم حوله شبهة .وهي صيانة للجماعة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب
والترف في جانب ,فهي تأمين اجتماعي للفراد جميعا ,وهي ضمان اجتماعي للعاجزين ,وهي وقاية
للجماعة كلها من التفكك والنحلل .
(والذين هم لفروجهم حافظون) .وهذه طهارة الروح والبيت والجماعة .ووقاية النفس والسرة والمجتمع .
بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلل ,وحفظ القلوب من التطلع إلى غير حلل ; وحفظ الجماعة
من انطلق الشهوات فيها بغير حساب ,ومن فساد البيوت فيها والنساب .
والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد .لنه ل أمن فيها للبيت ,ول
حرمة فيها للسرة .والبيت هو الوحدة الولى في بناء الجماعة ,إذ هو المحضن الذي تنشأ فيه الطفولة
وتدرج ; ول بد له من المن والستقرار والطهارة ,ليصلح محضنا ومدرجا ,وليعيش فيه الوالدان مطمئنا
كلهما للخر ,وهما يرعيان ذلك المحضن .ومن فيه من فراخ !
والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية ,فالمقياس الذي ل
يخطى ء للرتقاء البشري هو تحكم الرادة النسانية وغلبتها .وتنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة
نظيفة ,ل يخجل الطفال معها من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم ,لنها طريقة نظيفة معروفة ,
يعرف فيها كل طفل أباه .ل كالحيوان الهابط الذي تلقى النثى فيه الذكر للقاح ,وبدافع اللقاح ,ثم ل يعرف
الفصيل كيف جاء ول من أين جاء !
والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل أن يودعها بذور الحياة(:إل على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم فإنهم غير ملومين) . .ومسألة الزواج ل تثير شبهة ول تستدعي جدل .فهي النظام المشروع
المعروف .أما مسألة ملك اليمين فقد تستدعي شيئا من البيان .
ولقد فصلت القول في مسألة الرق في الجزء الثاني من الظلل ,وبينت هناك أن السلم قد جاء والرق نظام
عالمي .واسترقاق أسرى الحرب نظام دولي .فما كان يمكن والسلم مشتبك في حروب مع أعدائه الواقفين
بالقوة المادية في طريقه أن يلغي هذا النظام من جانب واحد ,فيصبح أسارى المسلمين رقيقا عند أعدائه ,
بينما هو يحرر أسارى العداء . .فجفف السلم كل منابع الرق -عدا أسرى الحرب -إلى أن يتاح
للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل في مسألة السرى .
ن ُهمْ عَلَى
ع ْهدِ ِهمْ رَاعُونَ ( )8وَاّلذِي َ
ك ُهمُ ا ْلعَادُونَ ( )7وَاّلذِينَ ُهمْ ِلَأمَانَا ِتهِمْ وَ َ
ك فَأُوَْل ِئ َ
َفمَنِ ا ْب َتغَى َورَاء ذَِل َ
ن َيرِثُونَ الْ ِف ْردَوْسَ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ ()11
صَلَوَا ِت ِهمْ ُيحَا ِفظُونَ (ُ )9أوَْل ِئكَ ُهمُ ا ْلوَا ِرثُونَ ( )10اّلذِي َ
ومن هنا كان يجيء إلى المعسكر السلمي أسيرات ,تقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن ومن مقضيات
هذا السترقاق أل يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح .فأباح السلم حينئذ الستمتاع بهن بالتسري لمن
يملكهن خاصة إل أن يتحررن لسبب من السباب الكثيرة التي جعلها السلم سبل لتحرير الرقيق .
ولعل هذا الستمتاع ملحوظ فيه تلبية الحاجة الفطرية للسيرات أنفسهن ,كي ل يشبعنها عن طريق الفوضى
القذرة في المخالطة الجنسية كما يقع في زماننا هذا مع أسيرات الحرب بعد معاهدات تحريم الرقيق -هذه
الفوضى التي ل يحبها السلم ! وذلك حتى يأذن ال فيرتفعن إلى مرتبة الحرية .والمة تصل إلى مرتبة
الحرية بوسائل كثيرة . .إذا ولدت لسيدها ثم مات عنها .وإذا أعتقها هو تطوعا أو في كفارة .وإذا طلبت أن
تكاتبه على مبلغ من المال فافتدت به رقبتها .وإذا ضربها على وجهها فكفارتها عتقها . .الخ .
وعلى أية حال فقد كان السترقاق في الحرب ضرورة وقتية ,هي ضرورة المعاملة بالمثل في عالم كله
يسترق السرى ,ولم يكن جزءا من النظام الجتماعي في السلم .
(فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) . .وراء الزوجات وملك اليمين ,ول زيادة بطريقة من الطرق .
فمن ابتغى وراء ذلك فقد عدا الدائرة المباحة ,ووقع في الحرمات ,واعتدى على العراض التي لم يستحلها
بنكاح ول بجهاد .وهنا تفسد النفس لشعورها بأنها ترعى في كل غير مباح ,ويفسد البيت لنه ل ضمان له
ول اطمئنان ; وتفسد الجماعة لن ذئابها تنطلق فتنهش من هنا ومن هناك:وهذا كله هو الذي يتوقاه السلم .
(والذين هم لماناتهم وعهدهم راعون)راعون لماناتهم وعهدهم أفرادا ; وراعون لماناتهم وعهدهم جماعة .
.
والمانات كثيرة في عنق الفرد وفي عنق الجماعة ; وفي أولها أمانة الفطرة ; وقد فطرها ال مستقيمة متناسقة
مع ناموس الوجود الذي هي منه وإليه شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته ,بحكم إحساسها الداخلي بوحدة
الناموس الذي يحكمها ويحكم الوجود ,ووحدة الرادة المختارة لهذا الناموس المدبرة لهذا الوجود . .
والمؤمنون يرعون تلك المانة الكبرى فل يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها ,فتظل قائمة بأمانتها شاهدة
بوجود الخالق ووحدانيته .ثم تأتي سائر المانات تبعا لتلك المانة الكبرى .
والعهد الول هو عهد الفطرة كذلك .هو العهد الذي قطعه ال على فطرة البشر باليمان بوجوده وبتوحيده .
وعلى هذا العهد الول تقوم جميع العهود والمواثيق .فكل عهد يقطعه المؤمن يجعل ال شهيدا عليه فيه ,
ويرجع في الوفاء به إلى تقوى ال وخشيته .
والجماعة المسلمة مسؤولة عن أماناتها العامة ,مسؤولة عن عهدها مع ال تعالى ,وما يترتب على هذا العهد
من تبعات .والنص يجمل التعبير ويدعه يشمل كل أمانة وكل عهد .ويصف المؤمنين بأنهم لماناتهم
وعهدهم راعون .فهي صفة دائمة لهم في كل حين .وما تستقيم حياة الجماعة إل أن تؤدى فيها المانات ;
وترعى فيها العهود ; ويطمئن كل من فيها إلى هذه القاعدة الساسية للحياة المشتركة ,الضرورية لتوفير الثقة
والمن والطمئنان .
(والذين هم على صلواتهم يحافظون) . .فل يفوتونها كسل ,ول يضيعونها إهمال ; ول يقصرون في
تلك الخصائص تحدد شخصية المؤمنين المكتوب لهم الفلح .وهي خصائص ذات أثر حاسم في تحديد
خصائص الجماعة المؤمنة ونوع الحياة التي تحياها .الحياة الفاضلة اللئقة بالنسان الذي كرمه ال ; وأراد
له التدرج في مدارج الكمال .ولم يرد له أن يحيا حياة الحيوان ,يستمتع فيها ويأكل كما تأكل النعام .
ولما كانت الحياة في هذه الرض ل تحقق الكمال المقدر لبني النسان ,فقد شاء ال أن يصل المؤمنون الذين
ساروا في الطريق ,إلى الغاية المقدرة لهم ,هنالك في الفردوس ,دار الخلود بل فناء ,والمن بل خوف ,
والستقرار بل زوال:
الدرس الثاني 16 - 12:رحلة النسان ما بين الميلد والبعث ودللتها على اليمان
ومن صفات المؤمنين ينتقل إلى دلئل اليمان في حياة النسان ذاته ,وفي أطوار وجوده ونموه ,مبتدئا بأصل
النشأة النسانية ,منتهيا إلى البعث في الخرة مع الربط بين الحياتين في السياق:
(ولقد خلقنا النسان من سللة من طين .ثم جعلناه نطفة في قرار مكين .ثم خلقنا النطفة علقة ,فخلقنا العلقة
مضغة ,فخلقنا المضغة عظاما ,فكسونا العظام لحما .ثم أنشأناه خلقا آخر .فتبارك ال أحسن الخالقين .ثم
إنكم بعد ذلك لميتون .ثم إنكم يوم القيامة تبعثون). .
وفي أطوار هذه النشأة ,وتتابعها بهذا النظام ,وبهذا الطراد ,ما يشهد بوجود المنشى ء أول ,وما يشهد
بالقصد والتدبير في تلك النشأة وفي اتجاهها أخيرا .فما يمكن أن يكون المر مصادفة عابرة ,ول خبط
عشواء بدون قصد ول تدبير ; ثم تسير هذه السيرة التي ل تنحرف ,ول تخطيء ,ول تتخلف ; ول تسير في
طريق آخر من شتى الطرق التي يمكن عقل وتصورا أن تسير فيها .إنما تسير النشأة النسانية في هذا
الطريق دون سواه من شتى الطرق الممكنة بناء على قصد وتدبير من الرادة الخالقة المدبرة في هذا الوجود
.
كما أن في عرض تلك الطوار بهذا التتابع الدقيق المطرد ,ما يشير إلى أن اليمان بالخالق المدبر ,والسير
على نهج المؤمنين الذي بينه في المقطع السابق . .هو وحده الطريق إلى بلوغ الكمال المقدر لتلك النشأة ;
في الحياتين:الدنيا والخرة .وهذا هو المحور الذي يجمع بين المقطعين في سياق السورة .
(ولقد خلقنا النسان من سللة من طين) . .وهذا النص يشير إلى أطوار النشأة النسانية ول يحددها .فيفيد أن
النسان مر بأطوار مسلسلة ,من الطين إلى النسان .فالطين هو المصدر الول ,أو الطور الول .
والنسان هو الطور الخير . .وهي حقيقة نعرفها من القرآن ,ول نطلب لها مصداقا من النظريات العلمية
التي تبحث عن نشأة النسان ,أو نشأة الحياء .
إن القرآن يقرر هذه الحقيقة ليتخذها مجال للتدبر في صنع ال ,ولتأمل النقلة البعيدة بين الطين وهذا النسان
خرَ
شأْنَاهُ خَلْقا آ َ
عظَاما فَ َكسَ ْونَا ا ْل ِعظَامَ َلحْما ُثمّ أَن َ
ضغَةَ ِ
ضغَةً َفخَلَ ْقنَا ا ْل ُم ْ
ُثمّ خَلَ ْقنَا الّنطْفَةَ عَلَ َق ًة فَخَلَ ْقنَا ا ْلعَلَ َق َة مُ ْ
حسَنُ ا ْلخَالِقِينَ ()14
َفتَبَا َركَ اللّ ُه َأ ْ
وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير . .حتى تجيء
مرحلة العظام ( . .فخلقنا المضغة عظاما)فمرحلة كسوة العظام باللحم( :فكسونا العظام لحما) . .وهنا يقف
النسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إل أخيرا بعد
تقدم علم الجنة التشريحي .ذلك أن خليا العظام غير خليا اللحم .وقد ثبت أن خليا العظام هي التي تتكون
أول في الجنين .ول تشاهد خلية واحدة من خليا اللحم إل بعد ظهور خليا العظام ,وتمام الهيكل العظمي
للجنين .وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني( :فخلقنا المضغة عظاما ,فكسونا العظام لحما) . .فسبحان
العليم الخبير !
(ثم أنشأناه خلقا آخر) . .هذا هو النسان ذو الخصائص المتميزة .فجنين النسان يشبه جنين الحيوان في
أطواره الجسدية .ولكن جنين النسان ينشأ خلقا آخر ,ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة ,المستعدة للرتقاء .
ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان ,مجردا من خصائص الرتقاء والكمال ,التي يمتاز بها جنين النسان
.
إن الجنين النساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه النساني فيما بعد .وهو ينشأ (خلقا
آخر)في آخر أطواره الجنينية ; بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لنه غير مزود بتلك
الخصائص .ومن ثم فإنه ل يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية ,فيتطور إلى مرتبة النسان تطورا
آليا -كما تقول النظريات المادية -فهما نوعان مختلفان .اختلفا بتلك النفخة اللهية التي بها صارت سللة
الطين إنسانا .واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين النساني
(خلقا آخر) .إنما النسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ; ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه ل يتعداه
.ويتحول النسان خلقا آخر قابل لما هو مهيأ له من الكمال .بواسطة خصائص مميزة ,وهبها له ال عن
تدبير مقصود ل عن طريق تطور آلى من نوع الحيوان إلى نوع النسان .
(فتبارك ال أحسن الخالقين) . .وليس هناك من يخلق سوى ال .فأحسن هنا ليست للتفضيل ,إنما هي للحسن
المطلق في خلق ال .
(فتبارك ال أحسن الخالقين) . .الذي أودع فطرة النسان تلك القدرة على السير في هذه الطوار ,وفق السنة
التي ل تتبدل ول تنحرف ول تتخلف ,حتى تبلغ بالنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال النساني ,على
أدق ما يكون النظام !
وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه "معجزات العلم" حين يصنع النسان جهازا يتبع طريقا خاصا في
تحركه ,دون تدخل مباشر من النسان . .فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولته ,
ُثمّ ِإ ّن ُكمْ َب ْعدَ ذَِلكَ َل َم ّيتُونَ (ُ )15ثمّ ِإ ّن ُكمْ يَ ْومَ الْ ِقيَامَةِ ُت ْب َعثُونَ ()16
وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها ,وتحولت كاملة في ماهيتها ? غير أن البشر يمرون على
هذه الخوارق مغمضي العيون ,مغلقي القلوب ,لن طول اللفة أنساهم أمرها الخارق العجيب . .وإن مجرد
التفكر في أن النسان -هذا الكائن المعقد -كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك
النقطة الصغيرة التي ل تراها العين المجردة ; وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح
وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقا آخر .فإذا هي ناطقة بارزة في
الطفل مرة أخرى .وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة .هذه الوراثات وتلك
التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة . .إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف
وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب . . .
ثم يتابع السياق خطاه لستكمال مراحل الرحلة ,وأطوار النشأة .فالحياة النسانية التي نشأت من الرض ل
تنتهي في الرض ,لن عنصرا غير أرضي قد امتزج بها ,وتدخل في خط سيرها ; ولن تلك النفخة العلوية
قد جعلت لها غاية غير غاية الجسد الحيواني ,ونهاية غير نهاية اللحم والدم القريبة ; وجعلت كمالها الحقيقي
ل يتم في هذه الرض ,ول في هذه الحياة الدنيا ; إنما يتم هنالك في مرحلة جديدة وفي الحياة الخرى:
(ثم إنكم بعد ذلك لميتون .ثم إنكم يوم القيامة تبعثون). .
فهو الموت نهاية الحياة الرضية ,وبرزخ ما بين الدنيا والخرة .وهو إذن طور من أطوار النشأة النسانية
وليس نهاية الطوار .
ثم هو البعث المؤذن بالطور الخير من أطوار تلك النشأة .وبعده تبدأ الحياة الكاملة ,المبرأة من النقائص
الرضية ,ومن ضرورات اللحم والدم ,ومن الخوف والقلق ,ومن التحول والتطور لنها نهاية الكمال المقدر
لهذا النسان .ذلك لمن يسلك طريق الكمال .الطريق الذي رسمه المقطع الول في السورة .طريق المؤمنين
فأما من ارتكس في مرحلة الحياة الدنيا إلى درك الحيوان ,فهو صائر في الحياة الخرى إلى غاية الرتكاس
.حيث تهدر آدميته ,ويستحيل حصبا من حصب جهنم ,وقودا للنار ,التي وقودها الناس والحجارة .والناس
من هذا الصنف هو والحجارة سواء !
ومن دلئل اليمان في النفس ينتقل إلى دلئل اليمان في الفاق .مما يشهده الناس ويعرفونه ,ثم يمرون
عليه غافلين:
(ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ,وما كنا عن الخلق غافلين .وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الرض ;
وإنا على ذهاب به لقادرون .فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب ,لكم فيها فواكه كثيرة ,ومنها تأكلون .
وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للكلين .وإن لكم في النعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها
,ولكم فيها منافع كثيرة ,ومنها تأكلون .وعليها وعلى الفلك تحملون). .
إن السياق يمضي في استعراض هذه الدلئل ,وهو يربط بينها جميعا .يربط بينها بوصفها من دلئل القدرة ;
ويربط بينها كذلك بوصفها من دلئل التدبير ; فهي متناسقة في تكوينها ,متناسقة في وظائفها ,متناسقة في
اتجاهها .كلها محكومة بناموس واحد ; وكلها تتعاون في وظائفها ; وكلها محسوب فيها لهذا النسان الذي
كرمه ال حساب .
ومن ثم يربط بين هذه المشاهد الكونية وبين أطوار النشأة النسانية في سياق السورة .
(ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين). .
والطرائق هي الطبقات بعضها فوق بعض .أو وراء بعض .وقد يكون المقصود هنا سبع مدارات فلكية .أو
سبع مجموعات نجمية كالمجموعة الشمسية .أو سبع كتل سديمية .والسدم -كما يقول الفلكيون -هي التي
تكون منها المجموعات النجمية . .وعلى أية حال فهي سبع خلئق فلكية فوق البشر -أي إن مستواها أعلى
من مستوى الرض في هذا الفضاء -خلقها ال بتدبير وحكمة ,وحفظها بناموس ملحوظ( :وما كنا عن الخلق
غافلين). .
(وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الرض ; وإنا على ذهاب به لقادرون). .
وهنا تتصل تلك الطرائق السبع بالرض .فالماء نازل من السماء ; وله علقة بتلك الفلك .فتكوين الكون
على نظامه هذا ,هو الذي يسمح بنزول الماء من السماء ,ويسمح كذلك بإسكانه في الرض .
ونظرية أن المياه الجوفية ناشئة من المياه السطحية التية من المطر ; وأنها تتسرب إلى باطن الرض فتحفظ
هناك . .نظرية حديثة .فقد كان المظنون إلى وقت قريب أنه ل علقة بين المياه الجوفية والمياه السطحية .
ولكن ها هو ذا القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قبل ألف وثلث مائة عام .
(وأنزلنا من السماء ماء بقدر) . .بحكمة وتدبير ,ل أكثر فيغرق ويفسد ; ول أقل فيكون الجدب والمحل ; ول
في غير أوانه فيذهب بددا بل فائدة . .
(فأسكناه في الرض) . .وما أشبهه وهو مستكن في الرض بماء النطفة وهو مستقر في الرحم .
(في قرار مكين) . .كلهما مستقر هنالك بتدبير ال لتنشأ عنه الحياة . .وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة
القرآن في التصوير . .
(وإنا على ذهاب به لقادرون) . .فيغور في طبقات الرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي
استقر عليها فحفظته .أو بغير هذا من السباب .فالذي أمسكه بقدرته قادر على تبديده وإضاعته .إنما هو
فضل ال على الناس ونعمته .
(فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب ,لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون). .
والنخيل والعناب نموذجان من الحياة التي تنشأ بالماء في عالم النبات -كما ينشأ الناس من ماء النطفة في
عالم النسان -نموذجان قريبان لتصور المخاطبين إذ ذاك بالقرآن ,يشيران إلى نظائرهما الكثيرة التي تحيا
بالماء .
وهي من أكثر الشجر فائدة بزيتها وطعامها وخشبها .وأقرب منابتها من بلد العرب طور سيناء .عند
الوادي المقدس المذكور في القرآن .لهذا ذكر هذا المنبت على وجه خاص .وهي تنبت هناك من الماء الذي
(وإن لكم في النعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ,ولكم فيها منافع كثيرة ,ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك
تحملون). .
فهذه المخلوقات المسخرة للنسان بقدرة ال وتدبيره ,وتوزيعه للوظائف والخصائص في هذا الكون الكبير . .
فيها عبرة لمن ينظر إليها بالقلب المفتوح والحس البصير ; ويتدبر ما وراءها من حكمة ومن تقدير ; ويرى
أن اللبن السائغ اللطيف الذي يشربه الناس منها خارج من بطونها ; فهو مستخلص من الغذاء الذي تهضمه
وتمثله ; فتحوله غدد اللبن إلى هذا السائل السائغ اللطيف .
(ولكم فيها منافع كثيرة) . .يجملها أول ,ثم يخصص منها منفعتين( :ومنها تأكلون .وعليها وعلى الفلك
تحملون) . .وقد أحل للنسان أكل النعام ,وهي البل والبقر والضأن والمعز ولم يحل له تعذيبها ول التمثيل
بها ,لن الكل يحقق فائدة ضرورية في نظام الحياة .فأما التعذيب والتمثيل فهما من قسوة القلب ,وفساد
الفطرة .وليس وراءهما فائدة للحياء .
ويربط السياق بين حمل النسان على النعام وحمله على الفلك .بوصفهما مسخرين بنظام ال الكوني ,الذي
ينظم وظائف الخلئق جميعا ,كما ينسق بين وجودها جميعا .فهذا التكوين الخاص للماء ,والتكوين الخاص
للسفن ,والتكوين الخاص لطبيعة الهواء فوق الماء والسفن . .هو الذي يسمح للفلك أن تطفو فوق سطح الماء
.ولو اختل تركيب واحد من الثلثة أو اختلف أدنى اختلف ما أمكن أن تتم الملحة التي عرفتها البشرية
قديما ,وما تزال تعتمد عليها جل العتماد .
وكل هذا من دلئل اليمان الكونية ,لمن يتدبرها تدبر الفهم والدراك .وكلها ذات صلة بالمقطع الول في
السورة والمقطع الثاني ,متناسقة معهما في السياق . .
ينتقل في هذا الدرس من دلئل اليمان في النفس والفاق ,إلى حقيقة اليمان التي جاء بها الرسل جميعا ;
ويبين كيف كان استقبال الناس لهذه الحقيقة الواحدة التي ل تتبدل على مدار الزمان ,وتعدد الرسالت ,وتتابع
الرسل ,من لدن نوح -عليه السلم -فإذا نحن نشهد موكب الرسل ,أو أمة الرسل ,وهم يلقون إلى البشرية
بالكلمة الواحدة ,ذات المدلول الواحد ,والتجاه الواحد ,حتى ليوحد ترجمتها في العربية -وقد قيلت بشتى
اللغات التي أرسل بها الرسل إلى أقوامهم -فإذا الكلمة التي قالها نوح -عليه السلم -هي ذاتها بنصها
يقولها كل من جاء بعده من المرسلين ,فتجيب البشرية جوابا واحدا ,تكاد ألفاظه تتحد على مر القرون !
(ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ,فقال:يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره .أفل تتقون ? فقال المل الذين
كفروا من قومه:ما هذا إل بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ,ولو شاء ال لنزل ملئكة ,ما سمعنا بهذا في
آبائنا الولين .إن هو إل رجل به جنة ,فتربصوا به حتى حين). .
(يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره) . .كلمة الحق التي ل تتبدل ,يقوم عليها الوجود ,ويشهد بها كل ما
في الوجود (أفل تتقون ?)وتخافون عاقبة النكار للحقيقة الولى التي تقوم عليها الحقائق جميعا ? وتستشعرون
ما في إنكارها من تجن على الحق الباهر ,وما يعقب التجني من استحقاق للعذاب الليم ?
ولكن كبراء قومه من الكفار ل يناقشون هذه الكلمة ; ول يتدبرون شواهدها ,ول يستطيعون التخلص من
النظرة الضيقة المتعلقة بأشخاصهم وبشخص الرجل الذي يدعوهم ,ول يرتفعون إلى الفق الطليق الذي
ينظرون منه إلى تلك الحقيقة الضخمة مجردة عن الشخاص والذوات . .فإذا هم يتركون الحقيقة الكبرى
التي يقوم عليها الوجود ,ويشهد بها كل ما في الوجود ,ليتحدثوا عن شخص نوح:
(فقال المل الذين كفروا من قومه:ما هذا إل بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم)!
من هذه الزاوية الضيقة الصغيرة نظر القوم إلى تلك الدعوة الكبيرة ,فما كانوا إذن ليدركوا طبيعتها ول ليروا
حقيقتها ; وذواتهم الصغيرة الضئيلة تحجب عنهم جوهرها ,وتعمي عليهم عنصرها ,وتقف حائل بين قلوبهم
وبينها ; فإذا القضية كلها في نظرهم قضية رجل منهم ل يفترق في شيء عنهم ,يريد أن يتفضل عليهم ,وأن
يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم !
وهم في اندفاعهم الصغير لرد نوح عن المنزلة التي يتوهمون أنه يعمل لها ,ويتوسل إليها بدعوى الرسالة . .
في اندفاعهم هذا الصغير ل يردون فضل نوح وحده ,بل يردون فضل النسانية التي هم منها ; ويرفضون
تكريم ال لهذا الجنس ; ويستكثرون أن يرسل ال رسول من البشر ,إن يكن ل بد مرسل:
ذلك أنهم ليجدون في أرواحهم تلك النفخة العلوية التي تصل البشر بالمل العلى ; وتجعل المختارين من
البشرية يتلقون ذلك الفيض العلوي ويطيقونه ,ويحملونه إلى إخوانهم من البشر ,فيهدونهم إلى مصدره
الوضيء .
ومثل هذا يقع دائما عندما يطمس التقليد على حركة الفكر وحرية القلب .فل يتدبر الناس ما هو بين أيديهم
من القضايا ,ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها .إنما هم يبحثون في ركام الماضي عن "سابقة "
يستندون إليها ; فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية وطرحوها !
شرٌ ّمثُْلكُمْ ُيرِيدُ أَن َيتَ َفضّلَ عََل ْي ُكمْ وَلَ ْو شَاء اللّهُ َلأَنزَلَ مَلَا ِئكَةً مّا
ن كَ َفرُوا مِن قَ ْومِ ِه مَا َهذَا إِلّا َب َ
فَقَالَ ا ْلمََلأُ اّلذِي َ
ل رَبّ انصُ ْرنِي ِبمَا
حتّى حِينٍ ( )25قَا َ
جنّةٌ َف َت َربّصُوا بِ ِه َ
س ِمعْنَا ِب َهذَا فِي آبَا ِئنَا ا ْلأَوّلِينَ (ِ )24إنْ ُهوَ إِلّا َرجُلٌ بِ ِه ِ
َ
َك ّذبُونِ ()26
وعند هذه الجماعات الجاحدة الخامدة أن ما كان مرة يمكن أن يكون ثانية .فأما الذي لم يكن فإنه ل يمكن أن
يكون ! وهكذا تجمد الحياة ,وتقف حركتها ,وتتسمر خطاها ,عند جيل معين من (آبائنا الولين)!
ويا ليتهم يدركون أنهم جامدون متحجرون ,إنما هم يتهمون دعاة التحرر والنطلق بالجنون .وهم يدعونهم
إلى التدبر والتفكر ,والتخلية بين قلوبهم ودلئل اليمان الناطقة في الوجود .فإذا هم يتلقون هذه الدعوة
بالتبجح والتهام:
أي إلى أن يأخذه الموت ,ويريحكم منه ,ومن دعوته ,ومن إلحاحه عليكم بالقول الجديد !
عندئذ لم يجد نوح -عليه السلم -منفذا إلى تلك القلوب الجامدة المتحجرة ; ولم يجد له موئل من السخرية
والذى ,إل أن يتوجه إلى ربه وحده ,يشكو إليه ما لقيه من تكذيب ويطلب منه النصر بسبب هذا التكذيب:
وعندما يتجمد الحياء على هذا النحو ,وتهم الحياة بالحركة إلى المام ,في طريق الكمال المرسوم ,فتجدهم
عقبة في الطريق . .عندئذ إما أن تتحطم هذه المتحجرات ; وإما أن تدعها الحياة في مكانها وتمضي . .
والمر الول هو الذي حدث لقوم نوح .ذلك أنهم كانوا في فجر البشرية وفي أول الطريق ; فشاءت إرادة ال
أن تطيح بهم من الطريق:
(فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ,فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ,
وأهلك -إل من سبق عليه القول منهم -ول تخاطبني في الذين ظلموا .إنهم مغرقون). .
وهكذا مضت سنة ال في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم .ولما
كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح ,وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي
رقيقة العود . .كان العلج هو الطوفان ,الذي يجتب كل شيء ,ويجرف كل شيء .ويغسل التربة ,لتعاد
بذرة الحياة السليمة من جديد ,فتنشأ على نظافة ,فتمد وتكبر حتى حين:
(فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا) . .والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان ,ولحفظ بذور الحياة السليمة
كيما يعاد بذرها من جديد .وقد شاء ال أن يصنع نوح الفلك بيده ,لنه ل بد للنسان من الخذ بالسباب
والوسائل ,وبذل آخر ما في طوقه ,ليستحق المدد من ربه .فالمدد ل يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين
,الذين ينتظرون ول يزيدون شيئا على النتظار ! ونوح قدر ال له أن يكون أبا البشر الثاني ; فدفع به إلى
الخذ بالسباب ; مع رعاية ال له ,وتعليمه صناعة الفلك ,ليتم أمر ال ,وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق .
وجعل ال له علمة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الرض المؤوف( :فإذا جاء أمرنا وفار التنور) ,
وانبجس منه الماء ,فتلك هي العلمة ليسارع نوح ,فيحمل في السفينة بذور الحياة( :فاسلك فيها من كل
زوجين اثنين) . .من أنواع الحيوان و الطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان ,الميسرة كذلك لبني
وصدر المر الخير لنوح أل يجادل في أمر أحد ,ول يحاول إنقاذ أحد -ولو كان أقرب القربين إليه -
ممن سبق عليهم القول .
فسنة ال ل تحابي ,ول تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم ,من أجل خاطر ولي ول قريب !
ول يفصل هنا ما حدث للقوم بعد هذا المر .فقد قضي المر ,وتقرر( :إنهم مغرقون)ولكنه يمضي في تعليم
نوح -عليه السلم -كيف يشكر نعمة ربه ,وكيف يحمد فضله ,وكيف يستهديه طريقه:
(فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ,فقل:الحمد ل الذي نجانا من القوم الظالمين .وقل:رب أنزلني منزل
مباركا ,وأنت خير المنزلين). .
فهكذا يحمد ال ,وهكذا يتوجه إليه ,وهكذا يوصف -سبحانه -بصفاته ,ويعترف له بآياته .وهكذا يتأدب
في حقه العباد ,وفي طليعتهم النبيون ,ليكونوا أسوة للخرين .
ثم يعقب على القصة كلها ,وما تتضمنه خطواتها من دلئل القدرة والحكمة:
(إن في ذلك ليات ,وإن كنا لمبتلين). .
والبتلء ألوان .ابتلء للصبر .وابتلء للشكر .وابتلء للجر .وابتلء للتوجيه .وابتلء للتأديب .وابتلء
للتمحيص .وابتلء للتقويم . .وفي قصة نوح ألوان من البتلء له ولقومه ولبنائه القادمين . .
ويمضي السياق يعرض مشهدا آخر من مشاهد الرسالة الواحدة والتكذيب المكرور:
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين .فأرسلنا فيهم رسول منهم أن اعبدوا ال ما لكم من إله غيره .أفل تتقون ?
وقال المل من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الخرة ,وأترفناهم في الحياة الدنيا:ما هذا إل بشر مثلكم ,يأكل
مما تأكلون منه ,ويشرب مما تشربون .ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذن لخاسرون .أيعدكم أنكم إذا متم
وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ? هيهات هيهات لما توعدون ! إن هي إل حياتنا الدنيا نموت و نحيا ,وما
نحن بمبعوثين .إن هو إل رجل افترى على ال كذبا ,وما نحن له بمؤمنين .قال:رب انصرني بما كذبون .
قال:عما قليل ليصبحن نادمين .فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء .فبعدا للقوم الظالمين . .
إن استعراض قصص الرسل في هذه السورة ليس للتقصي والتفصيل ; إنما هو لتقرير الكلمة الواحدة التي جاء
بها الجميع ,والستقبال الواحد الذي لقوه من الجميع .ومن ثم بدأ بذكر نوح -عليه السلم -ليحدد نقطة
البدء ; وانتهى بموسى وعيسى ليحدد النقطة الخيرة قبل الرسالة الخيرة .ولم يذكر السماء في وسط
السلسلة الطويلة ,كي يدل على تشابه حلقاتها بين البدء والنهاية .إنما ذكر الكلمة الواحدة في كل حلقة
والستقبال الواحد ,لن هذا هو المقصود .
(ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) . .لم يحدد من هم .وهم على الرجح عاد قوم هود . .
(فأرسلنا فيهم رسول منهم أن اعبدوا ال ما لكم من إله غيره .أفل تتقون ?) . .ذات الكلمة الواحدة
حيَا ِة ال ّد ْنيَا مَا َهذَا إِلّا َبشَرٌ ّمثُْل ُكمْ َي ْأكُلُ ِممّا
خرَةِ وََأ ْترَ ْفنَاهُ ْم فِي ا ْل َ
ن كَ َفرُوا َو َك ّذبُوا بِلِقَاء الْآ ِ
َوقَالَ ا ْلمََلأُ مِن قَ ْو ِمهِ اّلذِي َ
سرُونَ (َ )34أ َي ِعدُ ُكمْ َأ ّن ُكمْ ِإذَا ِمّتمْ
ط ْعتُم َبشَرا ِمثَْل ُكمْ ِإ ّن ُكمْ إِذا ّلخَا ِ
ن َأ َ
شرَبُ ِممّا َتشْ َربُونَ ( )33وََلئِ ْ
ن ِمنْهُ َو َي ْ
َت ْأكُلُو َ
حيَا
حيَاتُنَا ال ّد ْنيَا َنمُوتُ َو َن ْ
عدُونَ (ِ )36إنْ ِهيَ إِلّا َ
ت ِلمَا تُو َ
خ َرجُونَ (َ )35ه ْيهَاتَ َه ْيهَا َ
عظَاما َأ ّنكُم ّم ْ
َوكُن ُتمْ ُترَابا َو ِ
ص ْرنِي
ب ان ُ
حنُ ِب َم ْبعُوثِينَ ( )37إِنْ هُوَ إِلّا َرجُلٌ ا ْف َترَى عَلَى اللّهِ َكذِبا َومَا َنحْنُ َلهُ ِبمُ ْؤ ِمنِينَ ( )38قَالَ رَ ّ
َومَا َن ْ
ِبمَا َك ّذبُونِ ()39
التي قالها من قبله نوح .يحكيها باللفاظ ذاتها ,مع اختلف اللغات التي كانت تتخاطب بها القرون !
فماذا كان الجواب ?
وقال المل من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الخرة ,وأترفناهم في الحياة الدنيا:ما هذا إل بشر مثلكم يأكل
مما تأكلون منه ,ويشرب مما تشربون .ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذن لخاسرون . .
فالعتراض المكرور هو العتراض على بشرية الرسول .وهو العتراض الناشى ء من انقطاع الصلة بين
قلوب هؤلء الكبراء المترفين ,وبين النفخة العلوية التي تصل النسان بخالقه الكريم .
والترف يفسد الفطرة ,ويغلظ المشاعر ,ويسد المنافذ ,ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر
وتستجيب .ومن هنا يحارب السلم الترف ; ويقيم نظمه الجتماعية على أساس ل يسمح للمترفين بالوجود
في الجماعة المسلمة ,لنهم كالعفن يفسد ما حوله ,حتى لينخر فيه السوس ,ويسبح فيه الدود !
ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى ; ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا المر
الغريب .
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ? هيهات هيهات لما توعدون:إن هي إل حياتنا الدنيا ,
نموت و نحيا ,وما نحن بمبعوثين . .
ومثل هؤلء ليمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى ; ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها
البعيدة .هذه الغاية التي ل تتحقق بكمالها في هذه الرض .فالخير ل يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا .
والشر كذلك .إنما يستكملن هذا الجزء هنالك ,حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى ,التي
ل خوف فيها ول نصب ,ول تحول فيها ول زوال -إل أن يشاء ال -ويصل المرتكسون المنتكسون إلى
درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم ,ويرتدون فيها أحجارا ,أو كالحجار !
مثل هؤلء ل يدركون هذه المعاني ; ول يستدلون من أطوار الحياة الولى -التي سبقت في السورة -على
أطوارها الخيرة ; ول ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الطوار ل تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى
كما يظنون . .لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون ; ويستبعدون في جهالة أن
ذلك يكون ; ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إل حياة واحدة وموت واحد .يموت جيل ويحيا بعده جيل .
فأما الذين ماتوا ,وصاروا ترابا وعظاما ,فهيهات هيهات الحياة لهم ,كما يقول ذلك الرجل الغريب !
عندئذ لم يجد الرسول إل أن يستنصر ربه كما استنصره من قبله نوح .وبالعبارة ذاتها التي توجه بها إلى ربه
نوح:
وعندئذ وقعت الستجابة ,بعد أن استوفى القوم أجلهم ; ولم يعد فيهم خير يرجى بعد العناد والغفلة والتكذيب:
والغثاء ما يجرفه السيل من حشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة ,ل خير فيها ,ول قيمة لها ,ول رابط بينها . .
وهؤلء لما تخلوا عن الخصائص التي كرمهم ال بها ,وغفلوا عن حكمة وجودهم في الحياة الدنيا ,وقطعوا
ما بينهم وبين المل العلى . .لم يبق فيهم ما يستحق التكريم ; فإذا هم غثاء كغثاء السيل ,ملقى بل احتفال
ول اهتمام وذلك من فرائد التعبير القرآني الدقيق .
ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين .ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون .ثم أرسلنا رسلنا تترى .كلما جاء
أمة رسولها كذبوه .فاتبعنا بعضهم بعضا ,وجعلناهم أحاديث .فبعدا لقوم ل يؤمنون . .
هكذا في إجمال ,يلخص تاريخ الدعوة ,ويقرر سنة ال الجارية ,في المد الطويل بين نوح وهود في أول
السلسلة ,وموسى وعيسى في أواخرها . .كل قرن يستوفي أجله ويمضي(:ما تسبق من أمة أجلها وما
يستأخرون) .وكلهم يكذبون( :كلما جاء أمة رسولها كذبوه) .وكلما كذب المكذبون أخذتهم سنة ال( :فأتبعنا
بعضهم بعضا) .وبقيت العبرة ماثلة في مصارعهم لمن يعتبرون( :وجعلناهم أحاديث)تتناقلها القرون .
ويختم هذا الستعراض الخاطف المجمل باللعنة والطرد والستبعاد من العيون والقلوب( :فبعدا لقوم ل
يؤمنون).
ثم يجمل قصة موسى في الرسالة والتكذيب لتتمشى مع نسق العرض وهدفه المقصود:
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وبسلطان مبين ,إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين .
فقالوا:أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ? فكذبوهما فكانوا من المهلكين .
ويبرز في هذا الستعراض العتراض ذاته على بشرية الرسل( :فقالوا:أنؤمن لبشرين مثلنا) .ويزيد عليه تلك
الملبسة الخاصة بوضع بني إسرائيل في مصر( :وقومهما لنا عابدون)مسخرون خاضعون .وهي أدعى -
في اعتبار فرعون وملئه -إلى الستهانة بموسى وهارون !
فأما آيات ال التي معهما ,وسلطانه الذي بأيديهما ,فكل هذا ل إيقاع له في مثل تلك القلوب المطموسة ,
جعَ ْلنَا ابْنَ َمرْ َيمَ وَُأمّ ُه آيَةً وَآ َو ْينَا ُهمَا إِلَى َربْوَ ٍة ذَاتِ َقرَارٍ َو َمعِينٍ (
وَلَ َقدْ آ َت ْينَا مُوسَى ا ْل ِكتَابَ َلعَّل ُهمْ َي ْه َتدُونَ (َ )49و َ
حدَةً وََأنَا
عمَلُوا صَالِحا ِإنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ ( )51وَِإنّ َهذِ ِه ُأ ّم ُت ُكمْ ُأمّةً وَا ِ
طيّبَاتِ وَا ْ
ن ال ّ
)50يَا َأ ّيهَا ال ّرسُلُ كُلُوا مِ َ
َربّ ُكمْ فَاتّقُونِ ()52
المستغرقة في ملبسات هذه الرض ,وأوضاعها الباطلة ,وقيمها الرخيصة .
الدرس الخامس 50 - 49:إشارة لموسى وعيسى عليهما السلم
وإشارة مجملة إلى عيسى ابن مريم وأمه .والية البارزة في خلقه .وهي كآيات موسى كذب بها المكذبون .
(ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون .وجعلنا ابن مريم وأمه آية ,وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين).
.
وتختلف الروايات في تحديد الربوة المشار إليها في هذا النص . .أين هي ? أكانت في مصر ,أم في دمشق
,أم في بيت المقدس . .وهي الماكن التي ذهبت إليها مريم بابنها في طفولته وصباه -كما تذكر كتبهم -
وليس المهم تحديد موضعها ,إنما المقصود هو الشارة إلى إيواء ال لهما في مكان طيب ,ينضر فيه النبت ,
ويسيل فيه الماء ,ويجدان فيه الرعاية واليواء .
وعندما يصل إلى هذه الحلقة من سلسلة الرسالت ,يتوجه بالخطاب إلى أمة الرسل ; وكأنما هم متجمعون في
صعيد واحد ,في وقت واحد ,فهذه الفوارق الزمانية والمكانية ل اعتبار لها أمام وحدة الحقيقة التي تربط
بينهم جميعا:
(يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا .إني بما تعملون عليم .وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم
فاتقون). .
إنه نداء للرسل ليمارسوا طبيعتهم البشرية التي ينكرها عليهم الغافلون( :كلوا من الطيبات) . .فالكل من
مقتضيات البشرية عامة ,أما الكل من الطيبات خاصة فهو الذي يرفع هذه البشرية ويزكيها ويصلها بالمل
العلى .
ونداء لهم ليصلحوا في هذه الرض( :واعملوا صالحا) . .فالعمل هو من مقتضيات البشرية كذلك .أما العمل
الصالح فهو الذي يميز الصالحين المختارين ; فيجعل لعملهم ضابطا وهدفا ,وغاية موصولة بالمل العلى .
وليس المطلوب من الرسول أن يتجرد من بشريته .إنما المطلوب أن يرتقي بهذه البشرية فيه إلى أفقها الكريم
الوضيء .الذي أراده ال لها ,وجعل النبياء روادا لهذا الفق ومثل أعلى .وال هو الذي يقدر عملهم بعد
ذلك بميزانه الدقيق( :إني بما تعملون عليم).
وتتلشى آماد الزمان ,وأبعاد المكان ,أمام وحدة الحقيقة التي جاء بها الرسل .ووحدة الطبيعة التي تميزهم .
ووحدة الخالق الذي أرسلهم .ووحدة التجاه الذي يتجهونه أجمعين:
(وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون). .
الوحدة الثالثة 58 - 53:الموضوع:اختلف الناس في الحق وعرض حقائق حول العقيدة والدعوة
ويصور غفلتهم عن الحق الذي جاءهم به خاتم المرسلين [ ص ] والغمرة التي تذهلهم عن عاقبة ما هم فيه .
بينما المؤمنون يعبدون ال ,ويعملون الصالحات ,وهم مع هذا خائفون من العاقبة ,وقلوبهم وجلة أنهم إلى
ربهم راجعون . .فتتقابل صورة اليقظة والحذر في النفس المؤمنة ,وصورة الغمرة والغفلة في النفس الكافرة
.
ثم يجول معهم جولت شتى:يستنكر موقفهم مرة ,ويستعرض شبهاتهم مرة ,ويلمس وجدانهم بدلئل اليمان
في أنفسهم وفي الفاق مرة ,ويأخذهم بمسلماتهم فيجعلها حجة عليهم مرة .
وينتهي بعد هذه الجولت بتركهم إلى مصيرهم المحتوم .ويتوجه بالخطاب إلى رسول ال [ ص ] أن يمضي
في طريقه ,ل يغضب لعنادهم ,وأن يدفع السيئة بالحسنى ,وأن يستعيذ بال من الشياطين التي تقودهم إلى
الضلل المبين .
(فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا ,كل حزب بما لديهم فرحون .فذرهم في غمرتهم حتى حين .أيحسبون أنما
نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات ? بل ل يشعرون)!
لقد مضى الرسل -صلوات ال عليهم -أمة واحدة ,ذات كلمة واحدة ,وعبادة واحدة ,ووجهة واحدة ; فإذا
الناس من بعدهم أحزاب متنازعة ل تلتقي على منهج ول طريق .
ويخرج التعبير القرآني المبدع هذا التنازع في صورة حسية عنيفة .لقد تنازعوا المر حتى مزقوه بينهم مزقا
,
خ ْيرَاتِ بَل لّا
ن َأ ّنمَا ُن ِمدّهُم ِبهِ مِن مّالٍ َو َبنِينَ (ُ )55نسَا ِرعُ َل ُهمْ فِي ا ْل َ
سبُو َ
حَحتّى حِينٍ (َ )54أ َي ْ
غ ْم َرتِ ِهمْ َ
فَ َذرْ ُهمْ فِي َ
ن هُم
ت رَ ّب ِهمْ يُ ْؤ ِمنُونَ ( )58وَاّلذِي َ
شيَ ِة َر ّبهِم ّمشْفِقُونَ ( )57وَاّلذِينَ هُم بِآيَا ِ
خْن اّلذِينَ هُم مّنْ َ
شعُرُونَ ( )56إِ ّ
َي ْ
ن فِي
جعُونَ (ُ )60أوَْل ِئكَ ُيسَارِعُو َ
ن يُ ْؤتُونَ مَا آتَوا ّوقُلُو ُب ُهمْ َوجِلَةٌ َأ ّن ُهمْ إِلَى َر ّب ِهمْ رَا ِ
ش ِركُونَ ( )59وَاّلذِي َ
ِبرَ ّب ِهمْ لَا ُي ْ
خيْرَاتِ وَ ُهمْ َلهَا سَابِقُونَ ()61
ا ْل َ
وقطعوه في أيديهم قطعا .ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده .مضى فرحا ل يفكر في شيء ,
ول يلتفت إلى شيء ! مضى وأغلق على حسه جميع المنافذ التي تأتيه منها أية نسمة طليقة ,أو يدخل إليه
منها أي شعاع مضيء ! وعاش الجميع في هذه الغمرة مذهولين مشغولين بما هم فيه ,مغمورين ل تنفذ إليهم
نسمة محيية ول شعاع منير .
وحين يرسم لهم هذه الصورة يتوجه بالخطاب إلى الرسول [ ص ]:
ذرهم في هذه الغمرة غافلين مشغولين بما هم فيه ,حتى يفجأهم المصير حين يجيء موعده المحتوم .
ويأخذ في التهكم عليهم والسخرية من غفلتهم ,إذ يحسبون أن الملء لهم بعض الوقت ,وإمدادهم بالموال
والبنين في فترة الختبار ,مقصود به المسارعة لهم في الخيرات وإيثارهم بالنعمة والعطاء:
وإلى جانب صورة الغفلة والغمرة في القلوب الضالة يبرز صورة اليقظة والحذر في القلوب المؤمنة:
(إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون .والذين هم بآيات ربهم يؤمنون .والذين هم بربهم ل يشركون .
والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون .أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).
ومن هنا يبدو أثر اليمان في القلب ,من الحساسية والرهاف والتحرج ,والتطلع إلى الكمال .وحساب
العواقب .مهما ينهض بالواجبات والتكاليف .
فهؤلء المؤمنون يشفقون من ربهم خشية وتقوى ; وهم يؤمنون بآياته ,ول يشركون به .وهم ينهضون
بتكاليفهم وواجباتهم .وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا . .ولكنهم بعد هذا كله( :يؤتون ما آتوا وقلوبهم
وجلة أنهم إلى ربهم راجعون)لحساسهم بالتقصير في جانب ال ,بعد أن بذلوا ما في طوقهم ,وهو في
نظرهم قليل .
عن عائشة -رضي ال عنها -أنها قالت:يا رسول ال (الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)هو الذي يسرق
ويزني ويشرب الخمر ,وهو يخاف ال عز وجل ? قال ":ل يا بنت الصديق ! ولكنه الذي يصلي ويصوم
ويتصدق ,وهو يخاف ال عز وجل "
إن قلب المؤمن يستشعر يد ال عليه .ويحس آلءه في كل نفس وكل نبضة . .ومن ثم يستصغر كل عباداته
,ويستقل كل طاعاته ,إلى جانب آلء ال ونعمائه .كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه جلل ال وعظمته ;
ويرقب بكل مشاعره يد ال في كل شيء من حوله . .ومن ثم يشعر بالهيبة ,ويشعر بالوجل ,ويشفق أن
يلقى ال وهو مقصر في حقه ,لم يوفه حقه عبادة وطاعة ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرا .
وهؤلء هم الذين يسارعون في الخيرات ,وهم الذين يسبقون لها فينالونها في الطليعة ,بهذه اليقظة ,وبهذا
التطلع ,وبهذا العمل ,وبهذه الطاعة .ل أولئك الذين يعيشون في غمرة ويحسبون لغفلتهم أنهم مقصودون
بالنعمة ,مرادون بالخير ,كالصيد الغافل يستدرج إلى مصرعه بالطعم المغري .ومثل هذا الطير في الناس
كثير ,يغمرهم الرخاء ,وتشغلهم النعمة ,ويطغيهم الغنى ,ويلهيهم الغرور ,حتى يلقوا المصير !
تلك اليقظة التي يفرضها السلم على قلب المسلم .والتي يستجيشها اليمان بمجرد استقراره في القلوب . .
ليست أمرا فوق الطاقة ,وليست تكليفا فوق الستطاعة .إنما هي الحساسية الناشئة من الشعور بال والتصال
به ; ومراقبته في السر والعلن ; وهي في حدود الطاقة النسانية ,حين يشرق فيها ذلك النور الوضيء:
(ول نكلف نفسا إل وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم ل يظلمون). .
ولقد شرع ال التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس ; وهو محاسبهم وفق ما يعملونه في حدود الطاقة ,ل
يظلمون بتحميلهم ما ل يطيقون ; ول ببخسهم شيئا مما يعملون ,وكل ما يعملونه محسوب في سجل (ينطق
بالحق)ويبرزه ظاهرا غير منقوص .وال خير الحاسبين .
إنما يغفل الغافلون لن قلوبهم في غمرة عن الحق ,لم يمسسها نوره المحيي ,لنشغالها عنه ,واندفاعها في
التيه ; حتى تفيق على الهول ,لتلقي العذاب الليم ,وتلقى معه التوبيخ والتحقير:
(بل قلوبهم في غمرة من هذا ,ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون .حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا
هم يجأرون .ل تجأروا اليوم إنكم منا ل تنصرون .قد كانت آياتي تتلى عليكم ,فكنتم على أعقابكم تنكصون
,مستكبرين به سامرا تهجرون). .
فعلة اندفاعهم فيما هم فيه ليست هي تكليفهم بما هو فوق الطاقة ; إنما العلة أن قلوبهم في غمرة ,ل ترى
الحق الذي جاء به القرآن ,وأنهم مندفعون في طريق آخر غير النهج الذي جاء به( :ولهم أعمال من دون
ذلك هم لها عاملون). .
ثم يرسم مشهد انتباههم على الكارثة الباغتة المفاجئة(:حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون). .
والمترفون أشد الناس استغراقا في المتاع والنحراف والذهول عن المصير .وها هم أولء يفاجأون بالعذاب
الذي يأخذهم أخذا ,فإذا هم يرفعون أصواتهم بالجؤار ,مستغيثين مسترحمين [ وذلك في مقابل الترف والغفلة
والستكبار والغرور ] ثم ها هم أولء يتلقون الزجر والتأنيب(:ل تجأروا اليوم إنكم منا ل تنصرون) . .وإذا
المشهد حاضر ,وهم يتلقون الزجر والتأنيب ,والتيئيس من كل نجدة ومن كل نصير ,والتذكير بما كان منهم
وهم في غمرتهم مستغرقون(:قد كانت آياتي تتلى عليكم ,فكنتم على أعقابكم تنكصون)فتتراجعون على أعقابكم
كأن ما يتلى عليكم خطر تحاذرونه ,أو مكروه تجانبونه ,مستكبرين عن الذعان للحق .ثم تزيدون على هذا
السوء القول وهجره في سمركم ,حيث تتناولون الرسول [ ص ] وما جاء به بكلمات السوء .
ولقد كانوا يطلقون ألسنتهم بهجر القول وفحشه في مجالسهم ; وهم يتحلقون حول الصنام في سامرهم بالكعبة
.فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهد حسابهم على ما هم فيه ; وهم يجأرون طالبين الغوث ,فيذكرهم بسمرهم
الفاحش ,وهجرهم القبيح .وكأنما هو واقع اللحظة ,وهم يشهدونه ويعيشون فيه ! وذلك على
ل َأمْ جَاءهُم مّا َل ْم َيأْتِ آبَاء ُهمُ ا ْلَأوّلِينَ (َ )68أمْ َلمْ َي ْعرِفُوا َرسُوَل ُهمْ َفهُمْ َل ُه مُنكِرُونَ (َ )69أمْ
َأفَلَمْ َي ّدّبرُوا ا ْلقَوْ َ
حقّ كَارِهُونَ ()70
حقّ وََأ ْك َثرُ ُهمْ لِ ْل َ
ل جَاءهُم بِا ْل َ
جنّةٌ بَ ْ
ن بِ ِه ِ
يَقُولُو َ
طريقة القرآن الكريم في رسم مشاهد القيامة كانها واقع مشهود .
والمشركون في تهجمهم على رسول ال [ ص ] وعلى القرآن في نواديهم وفي سمرهم يمثلون الكبرياء
الجاهلة ,التي ل تدرك قيمة الحق لنها مطموسة البصيرة عمياء ,فتتخذ منه مادة للسخرية والهزء والتهام .
ومثل هؤلء في كل زمان .وليست جاهلية العرب إل نموذجا لجاهليات كثيرة خلت في الزمان ; وما تزال
تظهر الن بعد الن !
وينتقل بهم من مشهد التأنيب في الخرة ,فيعود بهم إلى الدنيا من جديد ! يعود بهم ليسأل ويعجب من موقفهم
ذاك الغريب . .ما الذي يصدهم عن اليمان بما جاءهم به رسولهم المين ? ما الشبهات التي تحيك في
صدورهم فتصدهم عن الهدى ? ما حجتهم في العراض عنه ,والسمر في مجالسهم بقالة السوء فيه ? وهو
الحق الخالص والطريق المستقيم:
(أفلم يدبروا القول ? أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الولين ? أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ? أم يقولون
به جنة ? بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ! ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والرض ومن
فيهن .بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون .أم تسألهم خرجا ? فخراج ربك خير وهو خير
الرازقين .وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم .وإن الذين ل يؤمنون بالخرة عن الصراط لناكبون). .
إن مثل ما جاء به محمد رسول ال [ ص ] ل يملك من يتدبره أن يظل معرضا عنه ,ففيه من الجمال ,وفيه
من الكمال ,وفيه من التناسق ,وفيه من الجاذبية ,وفيه من موافقة الفطرة ,وفيه من اليحاءات الوجدانية ,
وفيه من غذاء القلب ,وفيه من زاد الفكر ,وفيه من عظمة التجاهات ,وفيه من قويم المناهج ,وفيه من
محكم التشريع . .وفيه من كل شيء ما يستجيش كل عناصر الفطرة ويغذيها ويلبيها (أفلم يدبروا القول)إذن ?
فهذا سر إعراضهم عنه لنهم لم يتدبروه . .
(أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الولين ?) . .فكان بدعا في مألوفهم ومألوف آبائهم أن يجيئهم رسول ! أو أن
يجيئهم بكلمة التوحيد ! وذلك تاريخ الرسالت كلها يثبت أن الرسل جاءوا قومهم تترى ,وكلهم جاء بالكلمة
الواحدة التي يدعوهم إليها هذا الرسول !
(أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ?) . .ويكون هذا هو سر العراض والتكذيب ! ولكنهم يعرفون
رسولهم حق المعرفة .يعرفون شخصه ويعرفون نسبه ,ويعرفون أكثر من أي أحد صفاته:يعرفون صدقه
وأمانته حتى لقد لقبوه قبل الرسالة بالمين !
(أم يقولون به جنة ?)كما كان بعض سفهائهم يقولون ; وهم على ثقة أنه العاقل الكامل ,الذي ل يعرفون عنه
زلة في تاريخه الطويل ?
إنه ما من شبهة من هذه الشبهات يمكن أن يكون لها أصل .إنما هي كراهية أكثرهم للحق ,لنه يسلبهم القيم
الباطلة التي بها يعيشون ,ويصدم أهواءهم المتأصلة التي بها يعتزون:
والحق ل يمكن أن يدور مع الهوى ; وبالحق تقوم السماوات والرض ,وبالحق يستقيم الناموس ,وتجري
السنن في هذا الكون وما فيه ومن فيه:
(ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والرض ومن فيهن). .
فالحق واحد ثابت ,والهواء كثيرة متقلبة .وبالحق الواحد يدبر الكون كله ,فل ينحرف ناموسه لهوى
عارض ,ول تتخلف سنته لرغبة طارئة .ولو خضع الكون للهواء العارضة ,والرغبات الطارئة لفسد كله
,ولفسد الناس معه ,ولفسدت القيم والوضاع ,واختلت الموازين والمقاييس ; وتأرجحت كلها بين الغضب
والرضى ,والكره والبغض ,والرغبة والرهبة ,والنشاط والخمول . .وسائر ما يعرض من الهواء
والمواجد والنفعالت والتأثرات . .وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلهما في حاجة إلى الثبات
والستقرار والطراد ,على قاعدة ثابتة ,ونهج مرسوم ,ل يتخلف ول يتأرجح ول يحيد .
ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره ,جعل السلم التشريع للحياة البشرية جزءا من الناموس
الكوني ,تتوله اليد التي تدبر الكون كله وتنسق أجزاءه جميعا .والبشر جزء من هذا الكون خاضع لناموسه
الكبير ; فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله ,ويدبره في تناسق عجيب .بذلك ل يخضع نظام
البشر للهواء فيفسد ويختل( :ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والرض ومن فيهن)إنما يخضع للحق
الكلي ,ولتدبير صاحب التدبير .
وهذه المة التي جاء لها السلم كانت أولى المم باتباع الحق الذي يتمثل فيه .ففوق أنه الحق هو كذلك مجد
لها وذكر .وما كان لها من ذكر لوله في العالمين:
وبعد هذا الستطراد بمناسبة دعواهم على الحق الذي جاءهم فأعرضوا عنه واتهموه . .يعود السياق إلى
استنكار موقفهم ,وإلى مناقشة الشبهات التي يمكن أن تصدهم عما جاءهم به الرسول المين:
(أم تسألهم خرجا ?)فهم يفرون مما تسألهم من أجر على الهداية والتعليم ?! فإنك ل تطلب إليهم شيئا ,فما
عند ربك خير مما عندهم( :فخراج ربك خير وهو خير الرازقين) . .وماذا يطمع نبي أن ينال من البشر
الضعاف الفقراء المحاويج وهو متصل بالفيض اللدني الذي ل ينضب ول يغيض ; بل ماذا يطمع أتباع نبي أن
ينالوا من عرض هذه الرض وهم معلقو النظار والقلوب بما عند ال الذي يرزق بالكثير وبالقليل ? أل إنه
يوم يتصل القلب بال يتضاءل هذا الكون كله ,بما فيه وكل من فيه !
أل إنما تطلب هدايتهم إلى المنهج القويم(:وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم)يصلهم بالناموس الذي يحكم
فطرتهم ,ويصلهم بالوجود كله ,ويقودهم في قافلة الوجود ,إلى خالق الوجود ,في استقامة ل تحيد .
أل وإنهم -ككل من ل يؤمنون بالخرة -حائدون عن النهج ضالون عن الطريق(:وإن الذين ل يؤمنون
بالخرة عن الصراط لناكبون) . .فلو كانوا مهتدين لتابعوا بقلوبهم وعقولهم أطوار النشأة التي تحتم
اليمانبالخرة ,وبالعالم الذي يسمح ببلوغ الكمال الممكن ,وتحقيق العدل المرسوم .فليست الخرة إل حلقة
من حلقات الناموس الشامل الذي ارتضاه ال لتدبير هذا الوجود .
هؤلء الذين ليؤمنون بالخرة ,والذين تنكبوا الطريق ,ل يفيدهم البتلء بالنعمة ,ول البتلء بالنقمة .فإن
أصابتهم النعمة حسبوا( :أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات)وإن أصابتهم النقمة لم تلن
قلوبهم ,ولم تستيقظ ضمائرهم ,ولم يرجعوا إلى ال يتضرعون له ليكشف عنهم الضر ,ويظلون كذلك حتى
يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون .
(ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون .ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم
وما يتضرعون .حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون). .
وهذه صفة عامة لذلك الصنف من الناس ,القاسية قلوبهم ,الغافلين عن ال ,المكذبين بالخرة ,ومنهم
المشركون الذين كانوا يواجهون رسول ال [ ص ] .
والستكانة والتضرع عند مس الضر دليل على الرجوع إلى ال ,والشعور بأنه الملجأ والملذ .والقلب متى
اتصل بال على هذا النحو رق ولن ,واستيقظ وتذكر ,وكانت هذه الحساسية هي الحارس الواقي من الغفلة
والزلل ,وأفاد من المحنة و انتفع بالبلء .فأما حين يسدر في غيه ,ويعمه في ضلله ,فهو ميؤوس منه ل
يرجى له صلح ,وهو متروك لعذاب الخرة ,الذي يفاجئه ,فيسقط في يده ,ويبلس ويحتار ,وييأس من
الخلص .
الدرس السادس 80 - 78:لفت أنظار الكفار إلى اليات فيهم وفيما حولهم
ثم يجول معهم جولة أخرى علها توقظ وجدانهم إلى دلئل اليمان في أنفسهم وفي الفاق من حولهم:
(وهو الذي أنشأ لكم السمع والبصار والفئدة .قليل ما تشكرون .وهو الذي ذرأكم في الرض وإليه
تحشرون .وهو الذي يحيي ويميت وله اختلف الليل والنهار .أفل تعقلون ?). .
ولو تدبر النسان خلقه وهيئته ,وما زود به من الحواس والجوارح ,وما وهبه من الطاقات والمدارك لوجد
ال ,ولهتدى إليه بهذه الخوارق الدالة على أنه الخالق الواحد .فما أحد غير ال بقادر على إبداع هذه الخلقة
المعجزة في الصغير منها وفي الكبير .
هذا السمع وحده وكيف يعمل ? كيف يلتقط الصوات ويكيفها ? وهذا البصر وحده وكيف يبصر ? وكيف
يلتقط الضواء والشكال ? وهذا الفؤاد ما هو ? وكيف يدرك ? وكيف يقدر الشياء والشكال والمعاني والقيم
والمشاعر والمدركات ?
إن مجرد معرفة طبيعة هذه الحواس والقوى وطريقة عملها ,يعد كشفا معجزا في عالم البشر .فكيف بخلقها
وتركيبها على هذا النحو المتناسق مع طبيعة الكون الذي يعيش فيه النسان ; ذلك التناسق الملحوظ الذي لو
اختلت نسبة واحدة من نسبه في طبيعة الكون أو طبيعة النسان لفقد التصال ,فما استطاعت أذن أن تلتقط
صوتا ,ول استطاعت عين أن تلتقط ضوءا .ولكن القدرة المدبرة نسقت بين طبيعة النسان وطبيعة الكون
الذي يعيش فيه ,فتم هذا التصال .غير أن النسان ل يشكر على النعمة( :قليل ما تشكرون) . .والشكر يبدأ
بمعرفة واهب النعمة ,وتمجيده بصفاته ,ثم عبادته وحده ; وهو الواحد الذي تشهد بوحدانيته آثاره
(وهو الذي ذرأكم في الرض) . .فاستخلفكم فيها ,بعد ما زودكم بالسمع والبصار والفئدة ; وأمدكم
بالستعدادات والطاقات الضرورية لهذه الخلفة ( . .وإليه تحشرون) . .فيحاسبكم على ما أحدثتم في هذه
الخلفة من خير وشر ,ومن صلح وفساد ,ومن هدى وضلل ,فلستم بمخلوقين عبثا ,ول متروكين سدى ;
إنما هي الحكمة والتدبير والتقدير .
(وهو الذي يحيي ويميت) . .والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة ,وليس إل ال يملك الموت والحياة
.فالبشر -أرقى الخلئق -أعجز من بث الحياة في خلية واحدة ,وأعجز كذلك من سلب الحياة سلبا حقيقيا
عن حي من الحياء .فالذي يهب الحياة هو الذي يعرف سرها ,ويملك أن يهبها ويستردها .والبشر قد
يكونون سببا وأداة لزهاق الحياة ,ولكنهم هم ليسوا الذين يجردون الحي من حياته على وجه الحقيقة .إنما
ال هو الذي يحيي ويميت ,وحده دون سواه .
(وله اختلف الليل والنهار) . .فهو الذي يملكه ويصرفه -كاختلف الموت والحياة -وهو سنة كونية كسنة
الموت والحياة .هذه في النفوس والجساد ,وهذه في الكون والفلك .وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم
جسده ويهمد ,كذلك هو يسلب الضوء من الرض فتعتم وتسكن .ثم تكون حياة ويكون ضياء ,يختلف هذا
على ذاك ,بل فتور ول انقطاع إل أن يشاء ال ( . .أفل تعقلون ?)وتدركون ما في هذا كله من دلئل على
الخالق المدبر ,المالك وحده لتصريف الكون والحياة ?
وهنا يعدل عن خطابهم وجدالهم ,ليحكي مقولتهم عن البعث والحساب ,بعد كل هذه الدلئل واليات:
بل قالوا مثلما قال الولون .قالوا:أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعثون ? لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من
قبل .إن هذا إل أساطير الولين . .
وتبدو هذه القولة مستنكرة غريبة بعد تلك اليات والدلئل الناطقة بتدبير ال ,وحكمته في الخلق ,فقد وهب
النسان السمع والبصر والفؤاد ليكون مسؤول عن نشاطه وعمله ,مجزيا على صلحه وفساده ; والحساب
والجزاء يكونان على حقيقتهما في الخرة ,فالمشهود في هذه الرض أن الجزاء قد ل يقع ,لنه متروك إلى
موعده هناك .
وال يحيي ويميت ; فليس شيء من أمر البعث بعسير ,والحياة تدب في كل لحظة ,وتنشأ من حيث ل يدري
إل ال .
ولم يكف هؤلء أن تقصر مداركهم عن إدراك حكمة ال ,وقدرته على البعث ,فإذا هم يسخرون مما يوعدون
من البعث والجزاء .أن كان هذا الوعد قد قيل لهم ولبائهم من قبل ,ولم يقع بعد !
(لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل .إن هذا إل أساطير الولين). .
والبعث متروك لموعده الذي ضربه ال له ,وفق تدبيره وحكمته ,ل يستقدم ول يستأخر ,تلبية لطلب جيل
من أجيال الناس ,أو استهزاء جماعة من الغافلين المحجوبين !
سمَاوَاتِ
سيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ َأفَلَا َت َذكّرُونَ ( )85قُلْ مَن رّبّ ال ّ
ن ا ْلأَرْضُ َومَن فِيهَا إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ (َ )84
قُل ّلمَ ِ
ل شَيْءٍ وَ ُهوَ ُيجِيرُ وَلَا
ن لِلّ ِه قُلْ َأفَلَا َتتّقُونَ ( )87قُلْ مَن ِب َيدِهِ مََلكُوتُ كُ ّ
سيَقُولُو َ
سبْعِ َورَبّ ا ْل َعرْشِ ا ْل َعظِيمِ (َ )86
ال ّ
حقّ وَِإ ّن ُهمْ َلكَا ِذبُونَ ()90
ل َأ َت ْينَاهُم بِا ْل َ
حرُونَ ( )89بَ ْ
سَن لِلّ ِه قُلْ َفَأنّى ُت ْ
سيَقُولُو َ
ُيجَارُ عََليْهِ إِن كُن ُتمْ َتعَْلمُونَ (َ )88
الدرس الثامن 89 - 84:النطلق من مسلماتهم لثبات ما ينكرونه
ولقد كان مشركو العرب مضطربي العقيدة ,ل ينكرون ال ,ول ينكرون أنه مالك السماوات والرض ,مدبر
السماوات والرض ,المسيطر على السماوات والرض . .ولكنهم مع ذلك يشركون معه آلهة مدعاة ,
يقولون:إنهم يعبدونها لتقربهم من ال ,وينسبون له البنات .سبحانه وتعالى عما يصفون:
فهو هنا يأخذهم بمسلماتهم التي يقرون بها ,ليصحح ذلك الضطراب في العقيدة ,ويردهم إلى التوحيد
الخالص الذي تقود إليه مسلماتهم ,لو كانوا يستقيمون على الفطرة ول ينحرفون:
(قل:لمن الرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ? سيقولون:ل .قل:أفل تذكرون ? قل:من رب السماوات السبع
ورب العرش العظيم ? سيقولون:ل .قل:أفل تتقون ? قل:من بيده ملكوت كل شيء ,وهو يجير ول يجار
عليه ,إن كنتم تعلمون ? سيقولون:ل .قل:فأنى تسحرون ?). .
وهذا الجدال يكشف عن مدى الضطراب الذي ل يفيء إلى منطق ,ول يرتكن إلى عقل ; ويكشف عن مدى
الفساد الذي كانت عقائد المشركين قد وصلت إليه في الجزيرة عند مولد السلم .
(قل:لمن الرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ?) . .فهو سؤال عن ملكية الرض ومن فيها( :سيقولون:ل). .
ولكنهم مع ذلك ل يذكرون هذه الحقيقة وهم يتوجهون بالعبادة لغير ال( :قل:أفل تذكرون ?).
(قل:من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم) . .فهو سؤال عن الربوبية المدبرة ,المصرفة للسماوات
السبع والعرش العظيم .والسماوات السبع قد تكون أفلكا سبعة ,أو مجموعات نجمية سبعة ,أو سدما سبعة ,
أو عوالم سبعة ,أو أية خلئق فلكية سبعة .والعرش رمز للستعلء والهيمنة على الوجود . .فمن هو رب
السماوات السبع ورب العرش العظيم ? (سيقولون:ل)ولكنهم مع ذلك ل يخافون صاحب العرش ,ول يتقون
رب السماوات السبع ,وهم يشركون معه أصناما مهينة ,ملقاة على الرض ل تريم ( . .قل:أفل تتقون). .
(قل:من بيده ملكوت كل شيء ? وهو يجير ول يجار عليه إن كنتم تعلمون ?) . .فهو سؤال عن السيطرة
والسطوة والسلطان .سؤال عمن بيده ملكية كل شيء ملكية استعلء وسيطرة .ومن هو الذي يجير بقوته من
يشاء فل يناله أحد ; ول يملك أحد أن يجير عليه ,وأن ينقذ من يريده بسوء من عباده . .من ?
(سيقولون:ل)فما لهم يصرفون عن عبادة ال ? وما لعقولهم تنحرف وتتخبط كالذي مسه السحر( :قل:فأنى
تسحرون ?).
وفي اللحظة المناسبة لتقرير حقيقة ما جاءهم به الرسول [ ص ] من التوحيد ,وبطلن ما يدعونه من الولد
والشريك . .في اللحظة المناسبة بعد ذلك الجدل يجيء هذا التقرير:
بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون .ما اتخذ ال من ولد ,وما كان معه من إله .إذن لذهب كل إله بما خلق ,
ولعل بعضهم على بعض .سبحان ال عما يصفون .عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون .
يجيء هذا التقرير في أساليب شتى . .بالضراب عن الجدل معهم ,وتقرير كذبهم الكيد(:بل أتيناهم بالحق
وإنهم لكاذبون) .ثم يفصل فيما هم كاذبون( :ما اتخذ ال من ولد ,وما كان معه من إله) . .ثم يأتي بالدليل
الذي ينفي دعواهم ,ويصور ما في عقيدة الشرك من سخف واستحالة :إذا لذهب كل إله بما خلق مستقل بما
خلقه ,يصرفه حسب ناموس خاص ; فيصبح لكل جزء من الكون ,أو لكل فريق
عمّا
س ْبحَانَ اللّهِ َ
ض ُهمْ عَلَى َبعْضٍ ُ
ن َمعَ ُه مِنْ إَِل ٍه إِذا ّلذَهَبَ كُلّ إِلَ ٍه ِبمَا خََلقَ وََلعَلَا َبعْ ُ
خذَ اللّ ُه مِن وََلدٍ َومَا كَا َ
مَا ا ّت َ
عدُونَ ( )93رَبّ فَلَا
عمّا ُيشْ ِركُونَ ( )92قُل رّبّ ِإمّا ُت ِر َينّي مَا يُو َ
شهَادَ ِة َفتَعَالَى َ
َيصِفُونَ ( )91عَاِلمِ ا ْل َغيْبِ وَال ّ
س ّيئَةَ َنحْنُ
ن ال ّ
حسَ ُ
جعَ ْلنِي فِي الْ َق ْومِ الظّاِلمِينَ ( )94وَِإنّا عَلَى أَن نّ ِر َيكَ مَا َن ِعدُ ُهمْ لَقَا ِدرُونَ ( )95ادْفَعْ بِاّلتِي ِهيَ َأ ْ
َت ْ
ضرُونِ ()98
ب أَن َيحْ ُ
شيَاطِينِ ( )97وَأَعُوذُ ِبكَ رَ ّ
ن َه َمزَاتِ ال ّ
ب أَعُوذُ ِبكَ مِ ْ
أَعَْلمُ ِبمَا َيصِفُونَ (َ )96وقُل رّ ّ
من المخلوقات ناموس خاص ل يلتقي فيه بناموس عام يصرف الجميع ( .ولعل بعضهم على بعض)بغلبة
سيطرته وتصريفه على الكون الذي ل يبقى ول ينتظم إل بناموس واحد ,وتصريف واحد ,وتدبير واحد .
وكل هذه الصور ل وجود لها في الكون ,الذي تشهد وحدة تكوينه بوحدة خالقه ,وتشهد وحدة ناموسه بوحدة
مدبره .وكل جزء فيه وكل شيء يبدو متناسقا مع الجزاء الخرى بل تصادم ول تنازع ول اضطراب . .
(سبحان ال عما يصفون). .
(عالم الغيب والشهادة)فليس لغيره من خلق يستقل به ,ويعلم من دون ال أمره ( .فتعالى عما يشركون).
وعند هذا الحد يلتفت عن خطابهم وجدلهم وحكاية حالهم ,إلى الرسول [ ص ] يأمره أن يتوجه إلى ربه
مستعيذا به أن يجعله مع هؤلء القوم -إن كان قد قدر له أن يرى تحقيق ما وعدهم به من العذاب .وأن
يستعيذ به كذلك من الشياطين ,فل تثور نفسه ,ول يضيق صدره بما يقولون:
(قل:رب إما تريني ما يوعدون .رب فل تجعلني في القوم الظالمين .وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون .
ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون .وقل:رب أعوذ بك من همزات الشياطين .وأعوذ بك
رب أن يحضرون). .
ورسول ال [ ص ] في منجاة من أن يجعله ال مع القوم الظالمين حين يحل بهم العذاب الليم ,ويتحقق ما
يوعدون ,ولكن هذا الدعاء زيادة في التوقي ; وتعليم لمن بعده أل يأمنوا مكر ال ,وأن يظلوا أبدا أيقاظا ,
وأن يلوذوا دائما بحماه .
ولقد أراه بعض ما وعدهم في غزوة بدر .ثم في الفتح العظيم .
فأما حين نزول هذه السورة -وهي مكية -فكان منهج الدعوة دفع السيئة بالتي هي أحسن ; والصبر حتى
يأتي أمر ال ; وتفويض المر ل:
واستعاذة الرسول [ ص ] من همزات الشياطين ودفعاتهم -وهو معصوم منها -زيادة كذلك في التوقي ,
وزيادة في اللتجاء إلى ال ,وتعليم لمته وهو قدوتها وأسوتها ,أن يتحصنوا بال من همزات الشياطين في
كل حين .بل إن الرسول ليوجه إلى الستعاذة بال من مجرد قرب الشياطين ,ل من همزاتهم ودفعاتهم:
الوحدة الرابعة 188 - 99:الموضوع:من مشاهد الحتضار والبعث والحشر ومصير المؤمنين والكافرين
جعُونِ ()99
ب ا ْر ِ
حدَهُمُ ا ْل َموْتُ قَالَ رَ ّ
حتّى ِإذَا جَاء َأ َ
َ
موضوع الوحدة
في هذا الدرس الخير في السورة يستطرد في الحديث عن نهاية المشركين ; فيبرزها في مشهد من مشاهد
القيامة .يبدأ بمشهد الحتضار في الدنيا ,وينتهي هنالك بعد النفخ في الصور .ثم تنتهي السورة بتقرير
اللوهية الواحدة ,وتحذير من يدعون مع ال إلها آخر وتخويفهم من مثل تلك النهاية .
وتختم السورة بتوجيه الرسول [ ص ] إلى ربه ليطلب غفرانه ورحمته ; وال خير الراحمين .
(حتى إذا جاء أحدهم الموت قال:رب ارجعون ,لعلي أعمل صالحا فيما تركت). .
إنه مشهد الحتضار ,وإعلن التوبة عند مواجهة الموت ,وطلب الرجعة إلى الحياة ,لتدارك ما فات ,
والصلح فيما ترك وراءه من أهل ومال . .وكأنما المشهد معروض اللحظة للنظار ,مشهود كالعيان ! فإذا
الرد على هذا الرجاء المتأخر ل يوجه إلى صاحب الرجاء ,إنما يعلن على رؤوس الشهاد:
كلمة ل معنى لها ,ول مدلول وراءها ,ول تنبغي العناية بها أو بقائلها .إنها كلمة الموقف الرهيب ,ل كلمة
الخلص المنيب .كلمة تقال في لحظة الضيق ,ليس لها في القلب من رصيد !
ل صَالِحا فِيمَا َت َركْتُ كَلّا ِإ ّنهَا كَِلمَ ٌة هُوَ قَائُِلهَا َومِن َورَا ِئهِم بَ ْرزَخٌ إِلَى يَ ْومِ ُي ْب َعثُونَ (َ )100فِإذَا نُفِخَ فِي
عمَ ُ
َلعَلّي أَ ْ
الصّورِ فَلَا أَنسَابَ َب ْي َنهُمْ َي ْو َم ِئذٍ وَلَا َي َتسَاءلُونَ (َ )101فمَن ثَقُلَتْ َموَازِينُ ُه َفأُوَْل ِئكَ ُهمُ ا ْلمُفِْلحُونَ (َ )102ومَنْ خَفّتْ
ج َهنّمَ خَاِلدُونَ ( )103تَلْفَحُ ُوجُو َه ُهمُ النّارُ وَ ُهمْ فِيهَا كَاِلحُونَ ( )104أََلمْ
س ُهمْ فِي َ
سرُوا أَن ُف َ
خِن َ
مَوَازِينُهُ َفأُوَْل ِئكَ اّلذِي َ
َتكُنْ آيَاتِي ُتتْلَى عََل ْيكُ ْم فَكُنتُم ِبهَا ُت َك ّذبُونَ ( )105قَالُوا َر ّبنَا غََلبَتْ عََل ْينَا شِ ْق َو ُتنَا َو ُكنّا قَوْما ضَالّينَ (َ )106ر ّبنَا
عبَادِي
خسَؤُوا فِيهَا وَلَا ُتكَّلمُونِ (ِ )108إنّ ُه كَانَ َفرِيقٌ مّنْ ِ
ع ْدنَا َفِإنّا ظَاِلمُونَ ( )107قَالَ ا ْ
جنَا ِم ْنهَا َفإِنْ ُ
خرِ ْ
َأ ْ
حتّى أَنسَ ْو ُكمْ ِذكْرِي َوكُنتُم
خ ِريّا َ
سْخ ْيرُ الرّاحِمِينَ ( )109فَا ّتخَ ْذ ُتمُو ُهمْ ِ
ح ْمنَا وَأَنتَ َ
غ ِفرْ َلنَا وَارْ َ
يَقُولُونَ َربّنَا آ َمنّا فَا ْ
حكُونَ ()110
ضَّم ْنهُمْ َت ْ
وبها ينتهي مشهد الحتضار .وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعا .فلقد قضي المر ,
وانقطعت الصلت ,وأغلقت البواب ,وأسدلت الستار:
فل هم من أهل الدنيا ,ول هم من أهل الخرة .إنما هم في ذلك البرزخ بين بين ,إلى يوم يبعثون .
ثم يستطرد السياق إلى ذلك اليوم ,يصوره ويعرضه للنظار .
إنما تقطعت الروابط ,وسقطت القيم التي كانوا يتعارفون عليها في الدنيا (فل أنساب بينهم يومئذ) .وشملهم
الهول بالصمت ,فهم ساكنون ل يتحدثون (ول يتساءلون).
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون .ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون .
تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون . .
وعملية الوزن بالميزان تجري على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير ,وتجسيم المعاني في صور حسية ,
ومشاهد ذات حركة .
ومشهد لفح النار للوجوه حتى تكلح ,وتشوه هيئتها ,ويكدر لونها . .مشهد مؤذ أليم .
وهؤلء الذين خفت موازينهم خسروا كل شيء .فقد خسروا أنفسهم .وحين يخسر النسان نفسه فماذا يملك
إذن ? وما الذي يتبقى له .وقد خسر نفسه التي بين جنبيه ,وخسر ذاته التي تميزه ,فكأنما لم يكن له وجود .
وهنا يعدل عن أسلوب الحكاية إلى أسلوب الخطاب والمواجهة ,فإذا العذاب الحسي -على فظاعته -أهون
من التأنيب والخزي الذي يصاحبه .وكأنما نحن نراه اللحظة ونشهده في حوار ممض كطويل:
(ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون !). .
وكأنما يخيل إليهم -وقد سمعوا هذا السؤال -أنهم مأذونون في الكلم ,مسموح لهم بالرجاء .وأن
العتراف بالذنب قد يجدي في قبول الرجاء:
(قالوا:ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين .ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون). .
وهو اعتراف تتجلى فيه المرارة والشقوة . .ولكن كأنما هم قد تجاوزوا حدهم وأساءوا أدبهم ,فلم يكن مأذونا
لهم في غير الجابة على قدر السؤال .بل لعله كان سؤال للتبكيت ل يطلب عليه منهم جواب .فهم يزجرون
زجرا عنيفا قاسيا:
اخرسوا واسكتوا سكوت الذلء المهنين ,فإنكم لتستحقون ما أنتم فيه من العذاب الليم والشقاء المهين:
(إنه كان فريق من عبادي يقولون:ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين .فاتخذتموهم سخريا حتى
أنسوكم ذكري ,وكنتم منهم تضحكون). .
وكذلك لم يكن جرمكم أنكم كفرتم فحسب ,واقتصرتم على أنفسكم بالكفر وهو جرم عظيم ; إنما بلغ بكم السفه
والتوقح أن تسخروا ممن آمنوا ,وراحوا يرجون غفران ربهم ورحمته ; وأن تضحكوا منهم حتى ليشغلكم هذا
الهذر عن ذكر ال ,ويباعد بينكم وبين التدبر والتفكر في دلئل اليمان المبثوثة في صفحات الوجود . .
فانظروا اليوم أين مكانكم ومكان أولئك الذين كنتم تسخرون منهم وتضحكون:
وبعد هذا الرد القاسي المهين ,وبيان أسبابه ,وما في هذا البيان من ترذيل وتبكيت . .يبدأ استجواب جديد:
وإن ال -سبحانه -ليعلم .ولكنه سؤال لستصغار أمر الرض ,واستقصار أيامهم فيها ,وقد باعوا بها
حياة الخلود . .وإنهم ليحسون اليوم بقصر تلك الحياة وضآلتها .وإنهم ليائسون ضيقو الصدر ,ل يعنيهم
حسابها وعدتها:
والرد:إنكم لم تلبثوا إل قليل بالقياس إلى ما أنتم عليه مقبلون لو كنتم تحسنون التقدير:
ثم عودة إلى الترذيل والتعنيف على تكذيبهم بالخرة ,مع التبصير بحكمة البعث المكنونة منذ أول الخلق:
فحكمة البعث من حكمة الخلق .محسوب حسابها ,ومقدر وقوعها ,ومدبر غايتها .وما البعث إل حلقة في
سلسلة النشأة ,تبلغ بها كمالها ,ويتم فيها تمامها ,ول يغفل عن ذلك إل المحجوبون المطموسون ,الذين ل
يتدبرون حكمة ال الكبرى ; وهي متجلية في صفحات الكون ,مبثوثة في أطواء الوجود . .
وتنتهي سورة اليمان بتقرير القاعدة الولى لليمان . .التوحيد . .وإعلن الخسارة الكبرى لمن يشركون
بال ,في مقابل الفلح في أول السورة للمؤمنين .وبالتوجه إلى ال في طلب الرحمة والغفران وهو أرحم
الراحمين:
فتعالى ال الملك الحق ,ل إله إل هو رب العرش الكريم .ومن يدع مع ال إلها آخر ل برهان له به فإنما
حسابه عند ربه ,إنه ل يفلح الكافرون .وقل:رب اغفر وارحم أنت خير الراحمين . .
هذا التعقيب يجيء بعد مشهد القيامة السابق ; وبعد ما حوته السورة قبل هذا المشهد من جدل وحجج ودلئل
وبينات . .يجيء نتيجة طبيعية منطقية لكل محتويات السورة .وهو يشهد بتنزيه ال -سبحانه -عما يقولون
ويصفون .ويشهد بأنه الملك الحق ,والمسيطر الحق ,الذي ل إله إل هو .صاحب السسلطان والسيطرة
والستعلء( :رب العرش الكريم).
وكل دعوى بألوهية أحد مع ال ,فهي دعوى ليس معها برهان .ل من الدلئل الكونية ,ول من منطق
حسَابُهُ عِندَ َربّ ِه ِإنّ ُه لَا يُفِْلحُ ا ْلكَافِرُونَ (َ )117وقُل رّبّ اغْ ِفرْ
خ َر لَا ُبرْهَانَ َلهُ ِبهِ َفِإ ّنمَا ِ
َومَن َي ْدعُ مَعَ اللّهِ إِلَها آ َ
حمِينَ ()118
خ ْيرُ الرّا ِ
ت َ
حمْ وَأَن َ
وَا ْر َ
الفطرة ,ول من حجة العقل .وحساب مدعيها عند ربه ,والعاقبة معروفة( :إنه ل يفلح الكافرون) . .سنة
نافذة ل تتخلف ,كما أن الفلح للمؤمنين طرف من الناموس الكبير .
وكل ما يراه الناس على الكافرين من نعمة ومتاع ,وقوة وسلطان ,في بعض الحيان ,فليس فلحا في
ميزان القيم الحقيقية .إنما هو فتنة واستدراج ,ينتهي بالوبال في الدنيا .فإن ذهب بعضهم ناجين في الدنيا ,
فهناك في الخرة يتم الحساب .والخرة هي الشوط الخير في مراحل النشأة ,وليست شيئا منفصل في تقدير
ال وتدبيره .ومن ثم هي ضرورة ل بد منها في النظرة البعيدة .
وهنا يلتقي مطلع السورة وختامها في تقرير الفلح للمؤمنين والخسران للكافرين .وفي تقرير صفة الخشوع
في الصلة في مطلعها والتوجه إلى ال بالخشوع في ختامها . .فيتناسق المطلع والختام في ظلل اليمان . .
.