You are on page 1of 61

‫سورة النور‬

‫حدٍ ّم ْن ُهمَا‬
‫ضنَاهَا وَأَنزَ ْلنَا فِيهَا آيَاتٍ َب ّينَاتٍ ّلعَّل ُكمْ َت َذ ّكرُونَ (‪ )1‬الزّا ِنيَةُ وَالزّانِي فَاجِْلدُوا كُلّ وَا ِ‬
‫سُورَةٌ أَنزَ ْلنَاهَا َو َفرَ ْ‬
‫عذَا َب ُهمَا طَائِ َفةٌ مّنَ‬
‫ش َهدْ َ‬
‫خرِ وَ ْل َي ْ‬
‫ن بِاللّهِ وَا ْل َي ْومِ الْآ ِ‬
‫ن اللّهِ إِن كُنتُمْ ُت ْؤ ِمنُو َ‬
‫خ ْذكُم ِب ِهمَا رَ ْأفَةٌ فِي دِي ِ‬
‫ِمئَةَ جَ ْل َدةٍ وَلَا َت ْأ ُ‬
‫ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ (‪)2‬‬
‫التعريف بالسورة هذه سورة النور ‪ . .‬يذكر فيها النور بلفظه متصل بذات ال‪( :‬ال نور السماوات‬
‫والرض)ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والرواح ; ممثلة هذه الثار في الداب والخلق التي‬
‫يقوم عليها بناء هذه السورة ‪ .‬وهي آداب وأخلق نفسية وعائلية وجماعية ‪ ,‬تنير القلب ‪ ,‬وتنير الحياة ‪,‬‬
‫ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الرواح ‪ ,‬وإشراق في القلوب ‪ ,‬وشفافية في الضمائر ‪,‬‬
‫مستمدة كلها من ذلك النور الكبير ‪.‬‬

‫وهي تبدأ بإعلن قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف ‪ ,‬ومن‬
‫آدابوأخلق‪(:‬سورة أنزلناها وفرضناها ‪ ,‬وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون)‪ . .‬فيدل هذا البدء الفريد على‬
‫مدى اهتمام القرآن بالعنصر الخلقي في الحياة ; ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة السلمية ‪,‬‬
‫وفي فكرة السلم عن الحياة النسانية ‪. .‬‬

‫والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود ‪ .‬وترق إلى‬
‫درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة ‪ ,‬التي تصل القلب بنور ال وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة‬
‫‪ .‬والهدف واحد في الشدة واللين ‪ .‬هو تربية الضمائر ‪ ,‬واستجاشة المشاعر ; ورفع المقاييس الخلقية للحياة‬
‫‪ ,‬حتى تشف وترف ‪ ,‬وتتصل بنور ال ‪ . .‬وتتداخل الداب النفسية الفردية ‪ ,‬وآداب البيت والسرة ‪ ,‬وآداب‬
‫الجماعة والقيادة ‪ .‬بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في ال ‪ ,‬متصلة كلها بنور واحد هو نور ال‬
‫‪ .‬وهي في صميمها نور وشفافية ‪ ,‬وإشراق وطهارة ‪ .‬تربية عناصرها من مصدر النور الول في السماوات‬
‫والرض ‪ .‬نور ال الذي أشرقت به الظلمات ‪ .‬في السماوات والرض ‪ ,‬والقلوب والضمائر ‪ ,‬والنفوس‬
‫والرواح ‪.‬‬

‫ويجري سياق السورة حول محورها الصيل في خمسة أشواط‪:‬‬

‫الول يتضمن العلن الحاسم الذي تبدأ به ; ويليه بيان حد الزنا ‪ ,‬وتفظيع هذه الفعلة ‪ ,‬وتقطيع ما بين الزناة‬
‫والجماعة المسلمة ‪ ,‬فل هي منهم ول هم منها ‪ .‬ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه ; واستثناء الزواج من‬
‫هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملعنة ‪ .‬ثم حديث الفك وقصته ‪ . .‬وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة‬
‫الخبيثين للخبيثات ‪ ,‬ومشاكلة الطيبين للطيبات ‪ .‬وبالعلقة التي تربط بين هؤلء وهؤلء ‪.‬‬
‫ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة ‪ ,‬وتجنيب النفوس أسباب الغراء والغواية ‪ .‬فيبدأ بآداب‬
‫البيوت والستئذان على أهلها ‪ ,‬والمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم ‪ .‬والحض على إنكاح‬
‫اليامي ‪ .‬والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء ‪ . .‬وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم‬
‫الضمير والشعور ‪ ,‬ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية ‪ ,‬وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين ‪,‬‬
‫وهم يقاومون عوامل الغراء والغواية ‪.‬‬

‫والشوط الثالث يتوسط مجموعة الداب التي تتضمنها السورة ‪ ,‬فيربطها بنور ال ‪ .‬ويتحدث عن أطهر البيوت‬
‫التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت ال ‪ . .‬وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان‬
‫الكاذب ; أو كظلمات بعضها فوق بعض ‪ .‬ثم يكشف عن فيوض من نور ال في الفاق‪:‬في تسبيح الخلئق‬
‫كلها ل ‪ .‬وفي إزجاء السحاب ‪ .‬وفي تقليب الليل والنهار ‪ .‬وفي خلق كل دابة من ماء ‪ ,‬ثم اختلف أشكالها‬
‫ووظائفها وأنواعها وأجناسها ‪ ,‬مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والبصار ‪. .‬‬

‫والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للدب الواجب مع رسول ال [ ص ] في الطاعة والتحاكم ‪.‬‬
‫ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم ‪ .‬ويعدهم ‪ ,‬على هذا ‪ ,‬الستخلف في الرض والتمكين في الدين ‪,‬‬
‫والنصر على الكافرين ‪.‬‬

‫ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الستئذان والضيافة في محيط البيوت بين القارب والصدقاء ‪ .‬وإلى آداب‬
‫الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة ‪ ,‬مع رئيسها ومربيها ‪ -‬رسول ال [ ص ] ‪.‬وتتم السورة بإعلن ملكية ال‬
‫لما في السماوات والرض ‪ ,‬وعلمه بواقع الناس ‪ ,‬وما تنطوي عليه حناياهم ‪ ,‬ورجعتهم إليه ‪ ,‬وحسابهم على‬
‫ما يعلمه من أمرهم ‪ .‬وهو بكل شيء عليم ‪.‬‬

‫والن نأخذ في التفصيل ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 1:‬طبيعة السورة وأحكامها‬

‫(سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون)‪. .‬‬

‫مطلع فريد في القرآن كله ‪ .‬الجديد فيه كلمة(فرضناها)والمقصود بها ‪ -‬فيما نعلم ‪ -‬توكيد الخذ بكل ما في‬
‫السورة على درجة سواء ‪ .‬ففرضية الداب والخلق فيها كفرضية الحدود والعقوبات ‪ .‬هذه الداب والخلق‬
‫المركوزة في الفطرة ‪ ,‬والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والنحرافات ‪ ,‬فتذكرهم بها تلك اليات‬
‫البينات ‪ ,‬وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 10 - 2:‬حد الزنا والقذف والملعنة‬


‫ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا ; وتفظيع هذه الفعلة ‪ ,‬التي تقطع ما بين فاعليها وبين‬
‫المة المسلمة من وشائج وارتباطات‪:‬‬

‫(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ; ول تأخذكم بهما رأفة في دين ال ‪ -‬إن كنتم تؤمنون بال‬
‫واليوم الخر ‪ -‬وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ‪ .‬الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة ‪ ,‬والزانية ل ينكحها‬
‫إل زان أو مشرك ; وحرم ذلك على المؤمنين)‪. .‬‬

‫كان حد الزانيين في أول السلم ما جاء في سورة النساء‪(:‬واللتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن‬
‫أربعة منكم ‪ .‬فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل ال لهن سبيل)‪ . .‬فكان حد‬
‫المرأة الحبس في البيت والذى بالتعبير ‪ .‬وكان حد الرجل الذى بالتعبير ‪.‬‬

‫ثم أنزل ال حد الزنا في سورة النور ‪ .‬فكان هذا هو(السبيل)الذي أشارت إليه من قبل آية النساء ‪.‬‬

‫والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء ‪ .‬وهو الذي لم يحصن بالزواج ‪ .‬ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا‬
‫عاقل حرا ‪ .‬فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم ‪.‬‬

‫وقد ثبت الرجم بالسنة ‪ .‬وثبت الجلد بالقرآن ‪ .‬ولما كان النص القرآني مجمل وعاما ‪ .‬وكان رسول ال‬
‫[ ص ] قد رجم الزانيين المحصنين ‪ ,‬فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن ‪.‬‬

‫وهناك خلف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن ‪ .‬والجمهور على أنه ل يجمع بين الجلد والرجم ‪.‬‬
‫كما أن هناك خلفا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده ‪ .‬وحول حد الزاني غير الحر ‪ . .‬وهو‬
‫خلف طويل ل ندخل في تفصيله هنا ‪ ,‬يطلب في موضعه من كتب الفقه ‪ . .‬إنما نمضي نحن مع حكمة هذا‬
‫التشريع ‪ .‬فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد ‪ ,‬وعقوبة المحصن هي الرجم ‪ .‬ذلك أن الذي سبق له الوطء في‬
‫نكاح صحيح ‪ -‬وهو مسلم حر بالغ ‪ -‬قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه ‪ ,‬فعدوله عنه إلى الزنا يشي‬
‫بفساد فطرته وانحرافها ‪ ,‬فهو جدير بتشديد العقوبة ‪ ,‬بخلف البكر الغفل الغر ‪ ,‬الذي قد يندفع تحت ضغط‬
‫الميل وهو غرير ‪ . .‬وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل ‪ .‬فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له‬
‫بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر ‪ .‬فهو حري بعقوبة كذلك أشد ‪.‬‬

‫والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده ‪ -‬كما سلف ‪ -‬فيشدد في الخذ به ‪ ,‬دون تسامح ول هوادة‪:‬‬

‫حرّمَ ذَِلكَ عَلَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ (‪ )3‬وَاّلذِينَ‬


‫ن أَ ْو ُمشْ ِركٌ َو ُ‬
‫حهَا إِلّا زَا ٍ‬
‫شرِكَةً وَالزّا ِنيَ ُة لَا يَن ِك ُ‬
‫الزّانِي لَا يَنكِحُ إلّا زَا ِنيَ ًة أَ ْو ُم ْ‬
‫شهَادَةً َأبَدا وَأُوَْل ِئكَ ُهمُ‬
‫ش َهدَاء فَاجِْلدُو ُهمْ َثمَانِينَ جَ ْلدَ ًة وَلَا تَ ْقبَلُوا َل ُهمْ َ‬
‫صنَاتِ ُثمّ َلمْ َي ْأتُوا ِبَأ ْربَعَ ِة ُ‬
‫ح َ‬
‫َيرْمُونَ ا ْل ُم ْ‬
‫ن اللّهَ غَفُورٌ ّرحِيمٌ (‪)5‬‬
‫ن تَابُوا مِن َب ْعدِ ذَِلكَ وََأصَْلحُوا َفإِ ّ‬
‫الْفَاسِقُونَ (‪ )4‬إِلّا اّلذِي َ‬
‫(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ‪ ,‬ول تأخذكم بهما رأفة في دين ال ‪ .‬إن كنتم تؤمنون بال‬
‫واليوم الخر ‪ .‬وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)‪.‬‬

‫فهي الصرامة في إقامة الحد ; وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما ‪ ,‬وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته‬
‫‪ ,‬تراخيا في دين ال وحقه ‪ .‬وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين ‪ ,‬فيكون أوجع وأوقع في‬
‫نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين ‪.‬‬

‫ثم يزيد في تفظيع الفعلة وتبشيعها ‪ ,‬فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة‪:‬‬

‫(الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة ‪ ,‬والزانية ل ينكحها إل زان أو مشرك ‪ .‬وحرم ذلك على المؤمنين)‪. .‬‬

‫وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة ل يرتكبونها وهم مؤمنون ‪ .‬إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن اليمان‬
‫وعن مشاعر اليمان ‪ .‬وبعد ارتكابها ل ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن‬
‫اليمان بتلك الفعلة البشعة ; لنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز ‪ .‬حتى لقد ذهب المام أحمد إلى تحريم مثل هذا‬
‫الرباط بين زان وعفيفة ‪ ,‬وبين عفيف وزانية ; إل أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر ‪ .‬وعلى أية‬
‫حال فالية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية ‪ ,‬ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني ; واستبعاد وقوع‬
‫هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الستبعاد‪( :‬وحرم ذلك على المؤمنين)‪ . .‬وبذلك تقطع الوشائج التي‬
‫تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة ‪.‬‬

‫ورد في سبب نزول هذه الية أن رجل يقال له‪:‬مرثد بن أبي مرثد كان يحمل السارى من مكة حتى يأتي بهم‬
‫المدينة ‪ .‬وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها‪:‬عناق ‪ .‬وكانت صديقة له ‪ .‬وأنه واعد رجل من أسارى مكة يحمله‬
‫‪ .‬قال‪:‬فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ‪ .‬قال‪:‬فجاءت عناق ‪ ,‬فأبصرت سواد‬
‫ظل تحت الحائط ‪ .‬فلما انتهت إلي عرفتني ‪ .‬فقالت‪:‬مرثد ? فقلت‪:‬مرثد ! فقالت‪:‬مرحبا وأهل ‪ .‬هلم فبت عندنا‬
‫الليلة‪:‬قال‪:‬فقلت‪:‬يا عناق حرم ال الزنا ‪ .‬فقالت‪:‬يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم ‪ .‬قال‪:‬فتبعني ثمانية ‪,‬‬
‫ودخلت الحديقة ‪ .‬فانتهيت إلى غار أو كهف ‪ ,‬فدخلت ‪ ,‬فجاءوا حتى قاموا على رأسي ‪ ,‬فبالوا ‪ ,‬فظل بولهم‬
‫على رأسي ‪ ,‬فأعماهم ال عني ‪ .‬قال‪:‬ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته ; وكان رجل ثقيل ; حتى انتهيت‬
‫إلى الذخر ; ففككت عنه أحبله ‪ ,‬فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة ; فأتيت رسول ال [ ص ]‬
‫فقلت‪:‬يا رسول ال أنكح عناقا ? ‪ -‬مرتين ‪ -‬فأمسك رسول ال [ ص ] فلم يرد علي شيئا حتى نزلت(الزاني‬
‫ل ينكح إل زانية أو مشركة ‪ ,‬والزانية ل ينكحها إل زان أو مشرك ‪ ,‬وحرم ذلك على المؤمنين)فقال رسول‬
‫ال [ ص ]‪ ":‬يا مرثد ‪ .‬الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة ‪ .‬فل تنكحها " ‪.‬‬

‫فهذه الرواية تفيد تحريم نكاح المؤمن للزانية ما لم تتب ‪ ,‬ونكاح المؤمنة للزاني كذلك ‪ .‬وهو ما أخذ به المام‬
‫أحمد ‪ .‬ورأى غيره غير رأيه ‪ .‬والمسألة خلفية تطلب في كتب الفقه ‪ .‬وعلى أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها‬
‫عن الجماعة المسلمة ; وتقطع ما بينه وبينها من روابط ‪ .‬وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو‬
‫أشد وقعا !‬

‫والسلم وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع‬
‫الفطرية أو يحاربها ‪ .‬فالسلم يقدر أنه ل حيلة للبشر في دفع هذه الميول ‪ ,‬ول خير لهم في كبتها أو قتلها ‪.‬‬
‫ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها ال في كيانهم ‪ ,‬وجعلها جزءا من ناموس الحياة الكبر‬
‫‪ ,‬يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة ‪ ,‬وعمارة الرض ‪ ,‬التي استخلف فيها هذا النسان ‪.‬‬

‫إنما أراد السلم محاربة الحيوانية التي ل تفرق بين جسد وجسد ‪ ,‬أو ل تهدف إلى إقامة بيت ‪ ,‬وبناء عش ‪,‬‬
‫وإنشاء حياة مشتركة ‪ ,‬ل تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة ! وأن يقيم العلقات الجنسية على أساس من‬
‫المشاعر النسانية الراقية ‪ ,‬التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين ‪ ,‬وبتعبير شامل التقاء إنسانين‬
‫‪ ,‬تربط بينهما حياة مشتركة ‪ ,‬وآمال مشتركة ‪ ,‬وآلم مشتركة ‪ ,‬ومستقبل مشترك ‪ ,‬يلتقي في الذرية المرتقبة ‪,‬‬
‫ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك ‪ ,‬الذي يقوم عليه الوالدان حارسين ل يفترقان ‪.‬‬

‫من هنا شدد السلم في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية ‪ ,‬تذهب بكل هذه المعاني ‪ ,‬وتطيح بكل هذه‬
‫الهداف ; وترد الكائن النساني مسخا حيوانيا ‪ ,‬ل يفرق بين أنثى وأنثى ‪ ,‬ول بين ذكر وذكر ‪ .‬مسخا كل‬
‫همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة ‪ .‬فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة ‪ ,‬وليس‬
‫وراءها عمارة في الرض ‪ ,‬وليس وراءها نتاج ول إرادة نتاج ! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية ‪ ,‬لن‬
‫العاطفة تحمل طابع الستمرار ‪ .‬وهذا ما يفرقها من النفعال المنفرد المتقطع ‪ ,‬الذي يحسبه الكثيرون عاطفة‬
‫يتغنون بها ‪ ,‬وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة النسانية في بعض الحيان !‬

‫إن السلم ل يحارب دوافع الفطرة ول يستقذرها ; إنما ينظمها ويطهرها ‪ ,‬ويرفعها عن المستوى الحيواني ‪,‬‬
‫ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الداب النفسية والجتماعية ‪ .‬فأما الزنا ‪ -‬وبخاصة‬
‫البغاء ‪ -‬فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية ‪ ,‬والشواق العلوية ; ومن كل الداب التي‬
‫تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل ; ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان ‪ ,‬بل أشد غلظا‬
‫من الحيوان ‪ .‬ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلزمة ‪ ,‬في حياة زوجية منظمة ‪ ,‬بعيدة عن‬
‫الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا ‪ -‬وبخاصة البغاء ‪ -‬في بعض بيئات النسان !‬

‫دفع هذه النكسة عن النسان هو الذي جعل السلم يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا ‪ . .‬ذلك إلى الضرار‬
‫الجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلم عن هذه الجريمة ‪ ,‬من اختلط النساب ‪ ,‬وإثارة‬
‫الحقاد ‪ ,‬وتهديد البيوت المنة المطمئنة ‪ . . .‬وكل واحد من هذه السباب يكفي لتشديد العقوبة ‪ .‬ولكن السبب‬
‫الول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية ‪ ,‬ووقاية الداب النسانية التي تجمعت حول الجنس ‪,‬‬
‫والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والمتداد ‪ . .‬هذا‬
‫السبب هو الهم في اعتقادي ‪ .‬وهو الجامع لكل السباب الفرعية الخرى ‪.‬‬

‫على أن السلم ل يشدد في العقوبة هذا التشديد إل بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل ‪,‬‬
‫ومن توقيع العقوبة إل في الحالت الثابتة التي ل شبهة فيها ‪ .‬فالسلم منهج حياة متكامل ‪ ,‬ل يقوم على‬
‫العقوبة ; إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة ‪ .‬ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الخذ بهذه السباب الميسرة‬
‫ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر ‪.‬‬

‫وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق ‪. .‬‬

‫فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله [ ص ]‪ :‬ادرأوا الحدود عن‬
‫المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن المام أن يخطى ء في العفو خير من أن يخطى ء‬
‫في العقوبة لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل ‪ .‬أو اعترافا ل شبهة في صحته ‪.‬‬

‫وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية ل تردع أحدا ‪ ,‬لنها غير قابلة للتطبيق ‪ .‬ولكن السلم ‪ -‬كما ذكرنا ‪ -‬ل‬
‫يقيم بناءه على العقوبة ‪ ,‬بل على الوقاية من السباب الدافعة إلى الجريمة ; وعلى تهذيب النفوس ‪ ,‬وتطهير‬
‫الضمائر ; وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب ‪ ,‬فتتحرج من القدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين‬
‫الجماعة المسلمة من وشيجة ‪ .‬ول يعاقب إل المتبجحين بالجريمة ‪ ,‬الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة‬
‫فيراها الشهود ‪ .‬أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية ‪ .‬وقد جاء‬
‫كل منهما يطلب من النبي [ ص ] أن يطهره بالحد ‪ ,‬ويلح في ذلك ‪ ,‬على الرغم من إعراض النبي مرارا ;‬
‫حتى بلغ القرار أربع مرات ‪ .‬ولم يعد بد من إقامة الحد ‪ ,‬لنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة ل شبهة فيها ‪.‬‬
‫والرسول [ ص ] يقول‪ ":‬تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب "‬

‫فإذا وقع اليقين ‪ ,‬وبلغ المر إلى الحاكم ‪ ,‬فقد وجب الحد ول هوادة ‪ ,‬ول رأفة في دين ال ‪ .‬فالرأفة بالزناة‬
‫الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة ‪ ,‬وعلى الداب النسانية ‪ ,‬وعلى الضمير البشري ‪ .‬وهي رأفة مصطنعة‬
‫‪ .‬فال أرأف بعباده ‪ .‬وقد اختار لهم ‪ .‬وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن تكون لهم‬
‫الخيرة من أمرهم ‪ .‬وال أعلم بمصالح العباد ‪ ,‬وأعرف بطبائعهم ‪ ,‬فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة‬
‫الظاهرية ; فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا ‪ ,‬وتفسد فيها الفطرة ‪ ,‬وترتكس في الحمأة ‪,‬‬
‫وتنتكس إلى درك البهيمة الولى ‪. .‬‬

‫والتشديد في عقوبة الزنا ل يغني وحده في صيانة حياة الجماعة ‪ ,‬وتطهير الجو الذي تعيش فيه ‪ .‬والسلم ل‬
‫يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو‬
‫الحياة كلها من رائحة الجريمة ‪.‬‬
‫لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم المة المسلمة ‪ .‬ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في‬
‫استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة ; فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد‪:‬‬

‫(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ‪ ,‬ول تقبلوا لهم شهادة أبدا ‪.‬‬
‫وأولئك هم الفاسقون)‪. .‬‬

‫إن ترك اللسنة تلقي التهم على المحصنات ‪ -‬وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا ‪ -‬بدون دليل قاطع ‪,‬‬
‫يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء ; ثم يمضي آمنا ! فتصبح‬
‫الجماعة وتمسي ‪ ,‬وإذا أعراضها مجرحة ‪ ,‬وسمعتها ملوثة ; وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالتهام ; وإذا‬
‫كل زوج فيها شاك في زوجه ‪ ,‬وكل رجل فيها شاك في أصله ‪ ,‬وكل بيت فيها مهدد بالنهيار ‪ . .‬وهي حالة‬
‫من الشك والقلق والريبة ل تطاق ‪.‬‬

‫ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث ;‬

‫شهَادَاتٍ بِاللّ ِه ِإنّ ُه َلمِنَ الصّادِقِينَ (‪)6‬‬


‫حدِ ِهمْ َأ ْربَعُ َ‬
‫شهَادَةُ َأ َ‬
‫س ُهمْ فَ َ‬
‫ش َهدَاء إِلّا أَن ُف ُ‬
‫جهُمْ وََلمْ َيكُن ّل ُهمْ ُ‬
‫وَاّلذِينَ َيرْمُونَ َأ ْزوَا َ‬
‫شهَادَاتٍ بِاللّ ِه ِإنّ ُه َلمِنَ‬
‫ش َهدَ َأ ْربَعَ َ‬
‫ن َت ْ‬
‫ع ْنهَا ا ْل َعذَابَ أَ ْ‬
‫ن مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ َو َي ْدرَأُ (‪َ )7‬‬
‫ت اللّهِ عََل ْيهِ إِن كَا َ‬
‫وَا ْلخَا ِمسَةُ َأنّ َل ْعنَ َ‬
‫غضَبَ اللّهِ عََل ْيهَا إِن كَانَ ِمنَ الصّادِقِينَ (‪)9‬‬
‫ا ْلكَاذِبِينَ (‪ )8‬وَا ْلخَامِسَ َة أَنّ َ‬
‫وأن الفعلة فيها شائعة ; فيقدم عليها من كان يتحرج منها ‪ ,‬وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها ‪ ,‬وشعوره‬
‫بأن كثيرين غيره يأتونها !‬

‫ومن ثم ل تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه ; والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث‬
‫الموحي بارتكاب الفحشاء ‪.‬‬

‫لهذا ‪ ,‬وصيانة للعراض من التهجم ‪ ,‬وحماية لصحابها من اللم الفظيعة التي تصب عليهم ‪ . .‬شدد القرآن‬
‫الكريم في عقوبة القذف ‪ ,‬فجعلها قريبة من عقوبة الزنا ‪ . .‬ثمانين جلدة ‪ . .‬مع إسقاط الشهادة ‪ ,‬والوصم‬
‫بالفسق ‪ . .‬والعقوبة الولى جسدية ‪ .‬والثانية أدبية في وسط الجماعة ; ويكفي أن يهدر قول القاذف فل يؤخذ‬
‫له بشهادة ‪ ,‬وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما ل يوثق له بكلم ! والثالثة دينية فهو منحرف‬
‫عن اليمان خارج عن طريقه المستقيم ‪ . .‬ذلك إل أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل ‪ ,‬أو بثلثة‬
‫معه إن كان قد رآه ‪ .‬فيكون قوله إذن صحيحا ‪ .‬ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة ‪.‬‬

‫والجماعة المسلمة ل تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع التهام والترخص فيه ‪ ,‬وعدم‬
‫التحرج من الذاعة به ‪ ,‬وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها ‪,‬‬
‫ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة ‪ .‬وذلك فوق اللم الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والحرار‬
‫الشرفاء ; وفوق الثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت ‪.‬‬

‫وتظل العقوبات التي توقع على القاذف ‪ ,‬بعد الحد ‪ ,‬مصلتة فوق رأسه ‪ ,‬إل أن يتوب‪:‬‬

‫(إل الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن ال غفور رحيم)‪. .‬‬

‫وقد اختلف الفقهاء في هذا الستثناء‪:‬هل يعود إلى العقوبة الخيرة وحدها ‪ ,‬فيرفع عنه وصف الفسق ‪ ,‬ويظل‬
‫مردود الشهادة ? أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة ‪ . .‬فذهب الئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب‬
‫قبلت شهادته ‪ ,‬وارتفع عنه حكم الفسق ‪ .‬وقال المام أبو حنيفة‪:‬إنما يعود الستثناء إلى الجملة الخيرة ‪,‬‬
‫فيرتفع الفسق بالتوبة ‪ ,‬ويبقى مردود الشهادة ‪ .‬وقال الشعبي والضحاك‪:‬ل تقبل شهادته ‪ ,‬وإن تاب ‪ ,‬إل أن‬
‫يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف ; فحينئذ تقبل شهادته ‪.‬‬

‫وأنا أختار هذا الخير لنه يزيد على التوبة إعلن براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف ‪ .‬وبذلك يمحي‬
‫آخر أثر للقذف ‪ .‬ول يقال‪:‬إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الدلة ! ول يحيك في أي نفس ممن‬
‫سمعوا التهام أنه ربما كان صحيحا ; ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود ‪ . .‬بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما‬
‫‪ ,‬ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية ; فل يبقى هنالك داع لهدار اعتبار‬
‫القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان ‪.‬‬

‫ذلك حكم القذف العام ‪ .‬ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته ‪ .‬فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه‬
‫إرهاق له وإعنات ‪ .‬والمفروض أل يقذف الرجل امرأته إل صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه‬
‫وكرامة أبنائه ‪ .‬لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص‪:‬‬

‫(والذين يرمون أزواجهم ‪ ,‬ولم يكن لهم شهداء إل أنفسهم ‪ .‬فشهادة أحدهم أربع شهادات بال إنه لمن الصادقين‬
‫‪ ,‬والخامسة أن لعنة ال عليه إن كان من الكاذبين ‪ .‬ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بال إنه لمن‬
‫الكاذبين ‪ ,‬والخامسة أن غضب ال عليها إن كان من الصادقين ‪ .‬ولول فضل ال عليكم ورحمته وأن ال تواب‬
‫حكيم)‪. .‬‬

‫حكِيمٌ (‪)10‬‬
‫حمَتُهُ وََأنّ اللّ َه تَوّابٌ َ‬
‫وََلوْلَا َفضْلُ اللّهِ عََل ْي ُكمْ َو َر ْ‬

‫وفي هذه النصوص تيسير على الزواج ‪ ,‬يناسب دقة الحالة وحرج الموقف ‪ .‬ذلك حين يطلع الزوج على فعلة‬
‫زوجته ; وليس له من شاهد إل نفسه ‪ .‬فعندئذ يحلف أربع مرات بال إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا ‪,‬‬
‫ويحلف يمينا خامسة أن لعنة ال عليه إن كان من الكاذبين ‪ .‬وتمسى هذه شهادات لنه الشاهد الوحيد ‪ .‬فإذا‬
‫فعل أعطاها قدر مهرها ‪ ,‬وطلقت منه طلقة بائنة ‪ ,‬وحق عليها حد الزنا وهو الرجم ‪ . .‬ذلك إل أن ترغب في‬
‫درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بال أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ; وتحلف يمينا خامسة بأن‬
‫غضب ال عليها إن كان صادقا وهي كاذبة ‪ . .‬بذلك يدرأ عنها الحد ‪ ,‬وتبين من زوجها بالملعنة ; ول‬
‫ينسب ولدها ‪ -‬إن كانت حامل ‪ -‬إليه بل إليها ‪ .‬ول يقذف الولد ومن يقذفه يحد ‪. .‬‬

‫وقد عقب على هذا التخفيف والتيسير ‪ ,‬ومراعاة الحوال والظروف بقوله‪:‬‬

‫(ولول فضل ال عليكم ورحمته ‪ ,‬وأن ال تواب حكيم)‪. .‬‬

‫ولم يبين ما الذي كان يكون لول فضل ال ورحمته بمثل هذه التيسيرات ‪ ,‬وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب ‪ . .‬لم‬
‫يبينه ليتركه مجمل مرهوبا ‪ ,‬يتقيه المتقون ‪ .‬والنص يوحي بأنه شر عظيم ‪.‬‬

‫وقد وردت روايات صحيحة في سبب نزول هذا الحكم‪:‬‬

‫روى المام أحمد ‪ -‬يإسناده ‪ -‬عن ابن عباس قال‪:‬لما نزلت‪( :‬والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة‬
‫شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ‪ ,‬ول تقبلوا لهم شهادة أبدا)قال سعد بن عبادة وهو سيد النصار ‪ -‬رضي ال‬
‫عنه ‪:-‬أهكذا أنزلت يا رسول ال ? فقال رسول ال [ ص ]‪ ":‬يا معشر النصار أل تسمعون ما يقول سيدكم ?‬
‫" فقالوا‪:‬يا رسول ال ل تلمه ‪ ,‬فإنه رجل غيور ‪ .‬وال ما تزوج امرأة قط إل بكرا ‪ ,‬وما طلق امرأة قط فاجترأ‬
‫رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته ‪ . .‬فقال سعد‪:‬وال يا رسول ال إني لعلم أنها لحق ‪ ,‬وأنها من ال ;‬
‫ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ول أحركه حتى آتي بأربعة‬
‫شهداء ‪ .‬فوال إني ل آتي بهم حتى يقضي حاجته ‪ . .‬قال‪:‬فما لبثوا إل يسيرا حتى جاء هلل بن أمية ‪ ,‬فجاء‬
‫من أرضه عشاء ‪ ,‬فوجد عند أهله رجل ‪ ,‬فرأى بعينيه ‪ ,‬وسمع بأذنيه ‪ ,‬فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على‬
‫رسول ال [ ص ] فقال‪:‬يا رسول ال إني جئت على أهلي عشاء ‪ ,‬فوجدت عندها رجل ‪ ,‬فرأيت بعيني‬
‫وسمعت بأذني ‪ . .‬فكره رسول ال [ ص ] ما جاء به ; واشتد عليه ; واجتمعت عليه النصار وقالوا‪:‬قد ابتلينا‬
‫بما قال سعد بن عبادة ‪ ,‬إل أن يضرب رسول ال [ ص ] هلل بن أمية ‪ ,‬ويبطل شهادته في الناس ‪ .‬فقال‬
‫هلل‪:‬وال إني لرجو أن يجعل ال منها مخرجا ‪ .‬وقال هلل‪:‬يا رسول ال فإني قد أرى ما اشتد عليك مما‬
‫جئت به ‪ ,‬وال يعلم إني لصادق ‪ . .‬فوال إن رسول ال [ ص ] يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل ال على رسول‬
‫ال [ ص ] الوحي ‪ .‬وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه ‪ [ .‬يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ‬
‫من الوحي ] فنزلت‪ :‬والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إل أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بال ‪.‬‬
‫‪ . .‬الية فسري عن رسول ال [ ص ] فقال‪ ":‬أبشر يا هلل فقد جعل ال لك فرجا ومخرجا " ‪ . .‬فقال‬
‫هلل‪:‬قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل ‪ .‬فقال رسول ال [ ص ]‪ ":‬أرسلوا إليها " فأرسلوا إليها فجاءت ;‬
‫فتلها رسول ال [ ص ] عليهما ‪ ,‬فذكرهما ‪ ,‬وأخبرهما أنعذاب الخرة أشد من عذاب الدنيا ‪ .‬فقال هلل‪:‬وال‬
‫يا رسول ال لقد صدقت عليها ‪ .‬فقالت‪:‬كذب ‪ .‬فقال رسول ال [ ص ]‪ ":‬لعنوا بينهما " ‪ . .‬فقيل لهلل‪:‬اشهد‬
‫‪ .‬فشهد أربع شهادات بال إنه لمن الصادقين ‪ .‬فلما كانت الخامسة قيل له‪:‬يا هلل اتق ال ‪ ,‬فإن عذاب الدنيا‬
‫أهون من عذاب الخرة ‪ ,‬وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ‪ .‬فقال‪:‬وال ل يعذبني ال عليها كما لم‬
‫يجلدني عليها ‪ .‬فشهد الخامسة أن لعنة ال عليه إن كان من الكاذبين ‪ . .‬ثم قيل للمرأة ‪ .‬اشهدي أربع شهادات‬
‫بال إنه لمن الكاذبين ‪ .‬وقيل لها عند الخامسة‪:‬اتقي ال فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الخرة ‪ .‬وإن هذه‬
‫الموجبة التي توجب عليك العذاب ‪ .‬فتلكأت ساعة وهمت بالعتراف ‪ .‬ثم قالت‪:‬وال ل أفضح قومي ‪ .‬فشهدت‬
‫في الخامسة أن غضب ال عليها إن كان من الصادقين ‪ . .‬ففرق رسول ال [ ص ] بينهما ; وقضى أن ل‬
‫يدعى ولدها لب ; ول يرمي ولدها ; ومن رمى ولدها فعليه الحد ; وقضى أن ل بيت لها عليه ‪ ,‬ول قوت لها‬
‫‪ ,‬من أجل أنهما يفترقان من غير طلق ول متوفى عنها ‪ .‬وقال‪ ":‬إن جاءت به ‪ ,‬أصهيب أريسح حمش‬
‫الساقين فهو لهلل ‪ . .‬وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الليتين فهو الذي رميت به " ‪. .‬‬
‫فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الليتين ‪ .‬فقال رسول ال [ ص ]‪ ":‬لول اليمان لكان لي‬
‫ولها شأن " ‪. .‬‬

‫وهكذا جاء هذا التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل ‪ ,‬وعلج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين ‪ ,‬قد‬
‫اشتد على رسول ال [ ص ] ولم يجد منه مخرجا ‪ ,‬حتى طفق يقول لهلل بن أمية ‪ -‬كما ورد في رواية‬
‫البخاري ‪ " -‬البينة أو حد في ظهرك " وهلل يقول‪:‬يا رسول ال إذا رأى أحدنا على امرأته رجل ينطلق‬
‫يلتمس البينة ?‬

‫ولقد يقول قائل‪:‬أليس ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف ; فلماذا لم ينزل ال‬
‫الستثناء إل بعد ذلك الموقف المحرج ?‬

‫والجواب‪:‬بلى إنه سبحانه ليعلم ‪ .‬ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه ‪ ,‬فتستقبله‬
‫نفوس الناس باللهفة إليه ‪ ,‬وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة ‪ .‬ومن ثم عقب عليه بقوله‪(:‬ولول فضل ال عليكم‬
‫ورحمته وأن ال تواب حكيم)‪.‬‬

‫ونقف قليل أمام هذه الواقعة ‪ ,‬لنرى كيف صنع السلم ‪ ,‬وكيف صنعت تربية رسول ال [ ص ] للناس لهذا‬
‫القرآن ‪ . .‬كيف صنع هذا بالنفس العربية الغيور الشديدة النفعال ‪ ,‬المتحمسة التي ل تفكر‬

‫ل ا ْمرِئٍ ّم ْنهُم مّا ا ْك َتسَبَ ِمنَ ا ْلِإ ْثمِ‬


‫خ ْيرٌ ّل ُكمْ ِلكُ ّ‬
‫سبُو ُه شَرّا ّلكُم بَلْ ُهوَ َ‬
‫حَ‬‫صبَ ٌة مّنكُ ْم لَا َت ْ‬
‫ع ْ‬
‫إِنّ اّلذِينَ جَاؤُوا بِا ْلإِ ْفكِ ُ‬
‫خيْرا َوقَالُوا‬
‫س ِهمْ َ‬
‫ن ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ وَا ْلمُ ْؤ ِمنَاتُ ِبأَن ُف ِ‬
‫س ِمعْ ُتمُوهُ ظَ ّ‬
‫عظِيمٌ (‪َ )11‬لوْلَا ِإذْ َ‬
‫عذَابٌ َ‬
‫وَاّلذِي َتوَلّى ِك ْبرَهُ ِم ْن ُهمْ لَهُ َ‬
‫َهذَا ِإ ْفكٌ ّمبِينٌ (‪)12‬‬
‫‪ 13‬قصة الفك طويل قبل الندفاع ‪ .‬فهذا حكم ينزل بعقوبة القذف ‪ ,‬فيشق على هذه النفوس ‪ .‬يشق عليها‬
‫حتى ليسأل سعد ابن عبادة رسول ال [ ص ] أهكذا أنزلت يا رسول ال ? يسأل هذا السؤال وهو مستيقن أنها‬
‫هكذا أنزلت ‪ .‬ولكنه يعبر بهذا السؤال عن المشقة التي يجدها في نفسه من الخضوع لهذا الحكم في حالة معينة‬
‫في فراشه ‪ .‬وهو يعبر عن مرارة هذا التصور بقوله‪ ":‬وال يا رسول ال إني لعلم أنها لحق ‪ .‬وأنها من ال ;‬
‫ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ول أحركه حتى آتي بأربعة‬
‫شهداء ? فوال إني ل آتي بهم حتى يكون قد قضى حاجته" !‬

‫وما يلبث هذا التصور المرير الذي ل يطيقه سعد بن عبادة في خياله ‪ . .‬ما يلبث أن يتحقق ‪ . .‬فهذا رجل‬
‫يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ‪ ,‬ولكنه يجد نفسه محجوزا بحاجز القرآن ; فيغلب مشاعره ‪ ,‬ويغلب وراثاته ‪,‬‬
‫ويغلب منطق البيئة العربية العنيف العميق ; ويكبح غليان دمه ‪ ,‬وفوران شعوره ‪ ,‬واندفاع أعصابه ‪ . .‬ويربط‬
‫على هذا كله في انتظار حكم ال وحكم رسول ال [ ص ] وهو جهد شاق مرهق ; ولكن التربية السلمية‬
‫أعدت النفوس لحتماله كي ل يكون حكم إل ل ‪ ,‬في ذات النفس وفي شؤون الحياة ‪.‬‬

‫كيف أمكن أن يحدث هذا ? لقد حدث لنهم كانوا يحسون أن ال معهم ‪ ,‬وأنهم في كنف ال ‪ ,‬وأن ال يرعاهم‬
‫‪ ,‬ول يكلفهم عنتا ول رهقا ‪ ,‬ول يتركهم عندما يتجاوز المر طاقتهم ‪ ,‬ول يظلمهم أبدا ‪ .‬كانوا يعيشون دائما‬
‫في ظل ال ‪ ,‬يتنفسون من روح ال ‪ ,‬ويتطلعون إليه دائما كما يتطلع الطفال إلى العائل الكافل الرحيم ‪ . .‬فها‬
‫هو ذا هلل بن أمية يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ‪ ,‬وهو وحده ; فيشكو إلى رسول ال [ ص ] فل يجد رسول ال‬
‫[ ص ] مناصا من تنفيذ حد ال ‪ ,‬وهو يقول له‪ ":‬البينة ‪ .‬أو حد في ظهرك " ولكن هلل بن أمية ل يتصور‬
‫أن ال تاركه للحد ‪ ,‬وهو صادق في دعواه ‪ .‬فإذا ال ينزل ذلك الستثناء في حالة الزواج ; فيبشر رسول ال‬
‫[ ص ] هلل به ; فإذا هو يقول قولة الواثق المطمئن‪:‬قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل ‪ . .‬فهو الطمئنان‬
‫إلى رحمة ال ورعايته وعدله ‪ .‬والطمئنان أكثر إلى أنه معهم ‪ ,‬وأنهم ليسوا متروكين لنفسهم ; إنما هم في‬
‫حضرته ‪ ,‬وفي كفالته ‪ . .‬وهذا هو اليمان الذي راضهم على الطاعة والتسليم والرضى بحكم ال ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 18 - 11:‬استنكار موقف بعض المسلمين من الفك‬

‫وبعد النتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف ‪ ,‬يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ; وهو يتناول‬
‫بيت النبوة الطاهرة الكريم ‪ ,‬وعرض رسول ال [ ص ] أكرم إنسان على ال ‪ ,‬وعرض صديقه الصديق أبي‬
‫بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أكرم إنسان على رسول ال [ ص ] وعرض رجل من الصحابة ‪ -‬صفوان بن‬
‫المعطل رضي ال عنه ‪ -‬يشهد رسول ال أنه لم يعرف عليه إل خيرا ‪ . .‬وهو يشغل المسلمين في المدينة‬
‫شهرا من الزمان ‪. .‬‬

‫ذلك هو حديث الفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع‪:‬‬

‫إن الذين جاءوا بالفك عصبة منكم ‪ .‬ل تحسبوه شرا لكم ‪ ,‬بل هو خير لكم ‪ .‬لكل امرى ء منهم ما اكتسب من‬
‫الثم ‪ ,‬والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ‪ .‬لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ‪,‬‬
‫وقالوا‪:‬هذا إفك مبين ‪ .‬لول جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند ال هم الكاذبون ‪.‬‬
‫ولول فضل ال عليكم ورحمته في الدنيا والخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم ‪ .‬إذ تلقونه بألسنتكم ‪,‬‬
‫وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ; وتحسبونه هينا وهو عند ال عظيم ‪ .‬ولول إذ سمعتموه قلتم‪:‬ما يكونلنا‬
‫أن نتكلم بهذا ‪ .‬سبحانك ! هذا بهتان عظيم ‪ .‬يعظكم ال أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ‪ .‬ويبين ال لكم‬
‫اليات وال عليم حكيم ‪ .‬إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والخرة ‪,‬‬
‫وال يعلم وأنتم ل تعلمون ‪ .‬ولول فضل ال عليكم ورحمته وأن ال رؤوف رحيم ‪ .‬يا أيها الذين آمنوا ل‬
‫تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ‪ ,‬ولول فضل ال عليكم‬
‫ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ; ولكن ال يزكي من يشاء وال سميع عليم ‪ .‬ول يأتل أولو الفضل منكم‬
‫والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل ال ‪ .‬وليعفوا وليصفحوا ‪ .‬أل تحبون أن يغفر‬
‫ال لكم ‪ .‬وال غفور رحيم ‪ .‬إن الذين يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات لعنوا في الدنيا والخرة ‪ ,‬ولهم‬
‫عذاب عظيم ‪ .‬يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ‪ .‬يومئذ يوفيهم ال دينهم الحق ‪,‬‬
‫ويعلمون أن ال هو الحق المبين ‪ .‬الخبيثات للخبيثين ‪ ,‬والخبيثون للخبيثات ‪ ,‬والطيبات للطيبين ‪ ,‬والطيبون‬
‫للطيبات ‪ ,‬أولئك مبرأون مما يقولون ‪ ,‬لهم مغفرة ورزق كريم)‪. .‬‬

‫هذا الحادث ‪ .‬حادث الفك ‪ .‬قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلما ل تطاق ; وكلف المة‬
‫المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ; وعلق قلب رسول ال [ ص ] وقلب زوجة عائشة‬
‫التي يحبها ‪ ,‬وقلب أبي بكر الصديق وزوجه ‪ ,‬وقلب صفوان بن المعطل ‪ . .‬شهرا كامل ‪ .‬علقها بحبال الشك‬
‫والقلق واللم الذي ل يطاق ‪.‬‬

‫فلندع عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬تروي قصة هذا اللم ‪ ,‬وتكشف عن سر هذه اليات‪:‬‬

‫عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬قالت‪:‬‬

‫كان رسول ال [ ص ] إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ‪ ,‬فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ; وإنه أقرع بيننا‬
‫في غزاة فخرج سهمي ‪ ,‬فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب ‪ ,‬وأنا أحمل في هودج ‪ ,‬وأنزل فيه ‪ .‬فسرنا حتى‬
‫إذا فرغ رسول ال [ ص ] من غزوته تلك ‪ ,‬وقفل ‪ ,‬ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ; فقمت حين آذنوا‬
‫بالرحيل ‪ ,‬حتى جاوزت الجيش ‪ .‬فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل ‪ ,‬فلمست صدري ‪ ,‬فإذا عقد لي من‬
‫جزع أظفار قد انقطع ‪ ,‬فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ; وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني ‪ ,‬فاحتملوا‬
‫هودجي ‪ ,‬فرحلوه على بعيري ‪ ,‬وهم يحسبون أني فيه ; وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ; وإنما نأكل‬
‫العلقة من الطعام ; فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ‪ ,‬فحملوه ; وكنت جارية حديثة السن ; فبعثوا‬
‫الجمل وساروا ‪ ,‬فوجدت عقدي ‪ ,‬بعدما استمر الجيش ‪ ,‬فجئت منزلهم ‪ ,‬وليس فيه أحد منهم ‪ ,‬فتيممت منزلي‬
‫الذي كنت فيه ‪ ,‬وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ; فبينما أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت ‪ .‬وكان صفوان‬
‫بن المعطل السلمي ‪ .‬ثم الذكواني ‪ .‬قد عرس وراء الجيش ‪ ,‬فأدلج ‪ ,‬فأصبح عند منزلي ; فرأى سواد إنسان‬
‫نائم ‪ ,‬فأتاني فعرفني حين رآني ‪ .‬وكان يراني قبل الحجاب ‪ .‬فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ‪ ,‬فخمرت‬
‫وجهي بجلبابي ; وال ما يكلمني بكلمة ‪ ,‬ول سمعت منه كلمة غير استرجاعه ; وهوى حتى أناخ راحلته ‪,‬‬
‫فوطى ء على يديها ‪ ,‬فركبتها ‪ ,‬فانطلق يقود بي الراحلة ‪ ,‬حتى أتينا الجيش ‪ ,‬بعد ما نزلوا معرسين ‪.‬‬

‫قالت‪:‬فهلك في شأني من هلك ‪ .‬وكان الذي تولى كبرالثم عبد ال بن أبي بن سلول ; فقدمنا المدينة ‪ ,‬فاشتكيت‬
‫بها شهرا ; والناس يفيضون في قول أصحاب الفك ول أشعر ‪ .‬وهو يريبني في وجعي أني ل أرى من النبي‬
‫[ ص ] اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ‪ ,‬إنما يدخل فيسلم ثم يقول‪:‬كيف تيكم ? ثم ينصرف ‪ .‬فذلك‬
‫الذي يريبني منه ‪ ,‬ول أشعر بالشر حتى نقهت ‪ ,‬فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا ل‬
‫نخرج إل ليل إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف ‪ ,‬وأمرنا أمر العرب الول في التبرز قبل الغائط ‪ .‬فأقبلت أنا‬
‫وأم مسطح ‪ -‬وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق‬
‫رضي ال عنه ‪ ,‬وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ‪ -‬حين فرغنا من شأننا نمشي ‪ .‬فعثرت أم مسطح‬
‫في مرطها فقالت‪:‬تعس مسطح ! فقلت لها‪:‬بئسما قلت ‪ .‬أتسبين رجل شهد بدرا ? فقالت‪:‬يا هنتاه ألم تسمعي ما‬
‫قال ? فقلت‪:‬وما قال ? فأخبرتني بقول أهل الفك ‪ ,‬فازددت مرضا إلى مرضي ‪ .‬فلما رجعت إلى بيتي دخل‬
‫رسول ال [ ص ] فقال‪:‬كيف تيكم ? فقلت‪:‬ائذن لي أن آتي أبوي ‪ .‬وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما‬
‫‪ .‬فأذن لي ‪ ,‬فأتيت أبوي ‪ ,‬فقلت لمي‪:‬يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ? فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن ‪,‬‬
‫فوال لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إل أكثرن عليها ‪ .‬فقلت‪:‬سبحان ال ! ولقد‬
‫تحدث الناس بهذا ? قالت‪:‬فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ل يرقأ لي دمع ول أكتحل بنوم ‪ .‬ثم أصبحت أبكي ‪.‬‬
‫فدعا رسول ال [ ص ] علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬حين استلبث الوحي‬
‫يستشيرهما في فراق أهله ‪ .‬قالت‪:‬فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله ‪ ,‬وبالذي يعلم في نفسه من‬
‫الود لهم ‪ .‬فقال أسامة‪:‬هم أهلك يا رسول ال ‪ ,‬ول نعلم وال إل خيرا ‪ .‬وأما علي بن أبي طالب فقال‪:‬يا رسول‬
‫ال لم يضيق ال عليك ‪ ,‬والنساء سواها كثير ‪ ,‬وسل الجارية تخبرك ‪ .‬قالت‪:‬فدعا رسول ال [ ص ] بريرة‬
‫فقال لها‪:‬أي بريرة ‪ .‬هل رأيت فيها شيئا يريبك ? فقالت‪:‬ل والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه‬
‫عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ‪ ,‬فتأتي الداجن فتأكله ‪ .‬قالت‪:‬فقام رسول ال [ ص‬
‫] من يومه ‪ ,‬واستعذر من عبد ال بن أبي بن سلول ‪ .‬فقال وهو على المنبر‪:‬من يعذرني من رجل بلغني أذاه‬
‫في أهلي ? فوال ما علمت على أهلي إل خيرا ‪ .‬ولقد ذكروا رجل ما علمت عليه إل خيرا ‪ ,‬وما كان يدخل‬
‫على أهلي إل معي ‪ .‬قالت‪:‬فقام سعد بن معاذ ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬فقال‪:‬يا رسول ال أنا وال أعذرك منه ‪ .‬إن‬
‫كان من الوس ضربنا عنقه ‪ ,‬وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك ‪ .‬فقام سعد بن عبادة‬
‫‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬وهو سيد الخزرج ‪ ,‬وكان رجل صالحا ولكن أخذته الحمية ‪ .‬فقال لسعد بن معاذ‪:‬كذبت‬
‫لعمر ال ‪ ,‬ل تقتله ول تقدر على ذلك ‪ .‬فقام أسيد بن حضير رضي ال عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال‬
‫لسعد بن عبادة‪:‬كذبت ‪ -‬لعمر ال ‪ -‬لنقتلنه ‪ ,‬فإنك منافق تجادل عن المنافقين ‪ .‬فثار الحيان ‪ -‬الوسوالخزرج‬
‫‪ -‬حتى هموا أن يقتتلوا ‪ ,‬ورسول ال [ ص ] على المنبر ‪ ,‬فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل ‪.‬‬
‫وبكيت يومي ذلك ل يرقأ لي دمع ‪ ,‬ول أكتحل بنوم ‪ .‬ثم بكيت ليلتي المقبلة ل يرقأ لي دمع ول أكتحل بنوم ‪.‬‬
‫فأصبح أبواي عندي ‪ ,‬وقد بكيت ليلتين ويوما ‪ ,‬حتى أظن أن البكاء فالق كبدي ‪ .‬فبينما هما جالسان عندي وأنا‬
‫أبكي إذ استأذنت امرأة من النصار ‪ ,‬فأذنت لها ‪ ,‬فجلست تبكي معي ‪ .‬فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول‬
‫ال [ ص ] ‪ ,‬ثم جلس ‪ ,‬ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها ‪ ,‬وقد مكث شهرا ل يوحى إليه في‬
‫شأني بشيء ‪ ,‬فتشهد حين جلس ‪ ,‬ثم قال‪ ":‬أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا ‪ .‬فإن كنت بريئة فسيبرئك ال‬
‫تعالى ‪ ,‬وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري ال تعالى وتوبي إليه ‪ ,‬فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب ال‬
‫تعالى عليه " ‪ .‬فلما قضى رسول ال [ ص ] مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة ‪ .‬فقلت لبي‪:‬أجب‬
‫عني رسول ال [ ص ] فيما قال ‪ .‬قال‪:‬وال ما أدري ما أقول لرسول ال [ ص ] فقلت لمي‪:‬أجيبي عني‬
‫رسول ال [ ص ] فيما قال ‪ .‬قالت‪:‬وال ما أدري ما أقول لرسول ال [ ص ] ‪ .‬قالت‪:‬وأنا جارية حديثة السن‬
‫ل أقرأ كثيرا من القرآن ‪ .‬فقلت‪:‬إني وال أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به ‪ ,‬واستقر في نفوسكم ‪,‬‬
‫وصدقتم به ‪ .‬فلئن قلت لكم‪:‬إني بريئة ل تصدقوني بذلك ‪ .‬ولئن اعترفت لكم بأمر وال يعلم أني منه بريئة ‪,‬‬
‫لتصدقنني ‪ .‬فوال مما أجد لي ولكم مثل إل أبا يوسف إذ قال‪":‬فصبر جميل وال المستعان على ما تصفون" ‪.‬‬
‫ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ‪ ,‬وأنا وال حينئذ أعلم أني بريئة ‪ ,‬وأن ال تعالى مبرئي ببراءتي ‪ .‬ولكن‬
‫وال ما كنت أظن أن ينزل ال تعالى في شأني وحيا يتلى ; ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم ال تعالى‬
‫في بأمر يتلى ; ولكن كنت أرجو أن يرى رسول ال [ ص ] في النوم رؤيا يبرئني ال تعالى بها ‪ .‬فوال ما‬
‫رام مجلسه ‪ ,‬ول خرج أحد من أهل البيت ‪ ,‬حتى أنزل ال تعالى على نبيه [ ص ] فأخذه ما كان يأخذه من‬
‫البرحاء ‪ ,‬فسري عنه ‪ ,‬وهو يضحك ‪ ,‬فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي‪:‬يا عائشة احمدي ال تعالى فإنه قد‬
‫برأك ‪ .‬فقالت لي أمي‪:‬قومي إلى رسول ال [ ص ] فقلت‪:‬وال ل أقوم إليه ‪ ,‬ول أحمد إل ال تعالى ‪ ,‬هو الذي‬
‫أنزل براءتي ‪ .‬فأنزل ال تعالى‪ :‬إن الذين جاءوا بالفك عصبة منكم ‪ . . .‬العشر اليات فلما أنزل ال تعالى‬
‫هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه‬
‫وفقره‪:‬وال ل أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬فأنزل ال تعالى‪ :‬ول يأتل‬
‫أولوا الفضل منكم والسعة ‪ . .‬إلى قوله (وال غفور رحيم)فقال أبو بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬بلى وال إني‬
‫لحب أن يغفر ال لي ‪ ,‬فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه ‪ ,‬وقال‪:‬وال ل أنزعها منه أبدا ‪ .‬قالت‬
‫عائشة رضي ال عنها‪:‬وكان رسول ال [ ص ] سأل زينب بنت جحش عن أمري ‪ ,‬فقال‪ ":‬يا زينب ‪ .‬ما‬
‫علمت وما رأيت ? " فقالت‪:‬يا رسول ال أحمي سمعي وبصري ‪ ,‬وال ما علمت عليها إل خيرا ‪ .‬وهي التي‬
‫كانت تساميني من أزواج النبي [ ص ] فعصمها ال تعالى بالورع ‪ .‬قالت‪:‬فطفقت أختها حمنة تحارب لها ‪,‬‬
‫فهلكت فيمن هلك من أصحاب الفك ‪.‬‬

‫وهكذا عاش رسول ال [ ص ] وأهل بيته ‪ .‬وعاش أبو بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬وأهل بيته ‪ .‬وعاش صفوان‬
‫بن المعطل ‪ .‬وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق ‪ ,‬وفي ظل تلك اللم الهائلة ‪,‬‬
‫بسبب حديث الفك الذي نزلت فيه تلك اليات ‪.‬‬
‫وإن النسان ليقف متململ أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الليمة في حياة الرسول [ ص ] وأمام تلك‬
‫اللم العميقة اللذعة لعائشة زوجه المقربة ‪ .‬وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة ‪ .‬تلك السن المليئة‬
‫بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيقة ‪.‬‬

‫فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة ‪ .‬ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها ‪ ,‬ونظافة تصوراتها ‪ ,‬ها هي‬
‫ذي ترمي في أعز ما تعتز به ‪ .‬ترمى في شرفها ‪ .‬وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع ‪.‬‬
‫وترمى في أمانتها ‪ .‬وهي زوج محمد بن عبد ال من ذروة بني هاشم ‪ .‬وترمى في وفائها ‪ .‬وهي الحبيبة‬
‫المدللة القريبة من ذلك القرب الكبير ‪ . .‬ثم ترمى في إيمانها ‪ .‬وهي المسلمة الناشئة في حجر السلم ‪ ,‬من‬
‫أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة ‪ .‬وهي زوج رسول ال [ ص ] ‪.‬‬

‫ها هي ذي ترمى ‪ ,‬وهي بريئة غارة غافلة ‪ ,‬ل تحتاط لشيء ‪ ,‬ول تتوقع شيئا ; فل تجد ما يبرئها إل أن‬
‫ترجو في جناب ال ‪ ,‬وتترقب أن يرى رسول ال رؤيا ‪ ,‬تبرئها مما رميت به ‪ .‬ولكن الوحي يتلبث ‪ ,‬لحكمة‬
‫يريدها ال ‪ ,‬شهرا كامل ; وهي في مثل هذا العذاب ‪.‬‬

‫ويا ل لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح ‪ .‬وهي مهدودة من المرض ‪ .‬فتعاودها الحمى ; وهي تقول لمها في‬
‫أسى‪:‬سبحان ال ! وقد تحدث الناس بهذا ? وفي رواية أخرى تسأل‪:‬وقد علم به أبي ? فتجيب أمها‪:‬نعم !‬
‫فتقول‪:‬ورسول ال [ ص ] ? ‪ -‬فتجيبها أمها كذلك‪:‬نعم !‬

‫ويا ل لها ورسول ال [ ص ] نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه ‪ ,‬يقول لها‪ ":‬أما بعد فإنه بلغني عنك كذا‬
‫وكذا ; فإن كنت بريئة فسيبرئك ال تعالى ‪ ,‬وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري ال تعالى وتوبي إليه ‪ ,‬فإن العبد‬
‫إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب ال عليه " ‪ . .‬فتعلم أنه شاك فيها ‪ ,‬ل يستيقن من طهارتها ‪ ,‬ول يقضي في‬
‫تهمتها ‪ .‬وربه لم يخبره بعد ‪ ,‬ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن ل تملك إثباتها ; فتمسي وتصبح‬
‫وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها ‪ ,‬وأحلها في سويدائه !‬

‫وها هو ذا أبو بكر الصديق ‪ -‬في وقاره وحساسيته وطيب نفسه ‪ -‬يلذعه اللم ‪ ,‬وهو يرمى في عرضه ‪ .‬في‬
‫ابنته زوج محمد ‪ -‬صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه ‪ ,‬ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل ‪ ,‬ل‬
‫يطلب دليل من خارجه ‪ . .‬وإذا اللم يفيض على لسانه ‪ ,‬وهو الصابر المحتسب القوي على اللم ‪ ,‬فيقول‪:‬وال‬
‫ما رمينا بهذا في جاهلية ‪ .‬أفنرضى به في السلم ? وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل ‪ .‬حتى إذا قالت‬
‫له ابنته المريضة المعذبة‪:‬أجب عني رسول ال [ ص ] قال في مرارة هامدة‪:‬وال ما أدري ما أقول لرسول ال‬
‫[ص]!‬

‫وأم رومان ‪ -‬زوج الصديق رضي ال عنهما ‪ -‬وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء ‪ .‬المريضة‬
‫التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها ‪ .‬فتقول لها‪:‬يا بنية هوني على نفسك الشأن ‪ ,‬فوال لقلما كانت امرأة‬
‫قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إل أكثرن عليها ‪ . .‬ولكن هذا التماسك بتزايل وعائشة تقول‬
‫لها‪:‬أجيبي عني رسول ال [ ص ] فتقول كما قال زوجها من قبل‪:‬وال ما أدري ما أقول لرسول ال [ ص ] !‬

‫والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل ال صفوان بن المعطل ‪ .‬وهو يرمي بخيانة نبيه في زوجه ‪.‬‬
‫فيرمي بذلك في إسلمه ‪ ,‬وفي أمانته ‪ ,‬وفي شرفه ‪ ,‬وفي حميته ‪ .‬وفي كل ما يعتز به صحابي ‪ ,‬وهو من ذلك‬
‫كله برى ء ‪ .‬وهو يفاجأ بالتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره ‪ ,‬فيقول‪:‬سبحان ال ! وال ما كشفت كتف‬
‫أنثى قط ‪ .‬ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الفك عنه ‪ ,‬فل يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه‬
‫ضربة تكاد تودي به ‪ .‬ودافعه إلى رفع سيفه على امرى ء مسلم ‪ ,‬وهو منهى عنه ‪ ,‬أن اللم قد تجاوز طاقته‬
‫‪ ,‬فلم يملك زمام نفسه الجريح !‬

‫ثم ها هو ذا رسول ال [ ص ] وهو رسول ال ‪ ,‬وهو في الذروة من بني هاشم ‪ . .‬ها هو ذا يرمى في بيته ‪.‬‬
‫وفي من ? في عائشة التي حلت من قلبه في مكان البنة والزوجه والحبيبة ‪ .‬وها هو ذا يرمى في طهارة‬
‫فراشه ‪ ,‬وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة ‪ .‬وها هو ذا يرمي في صيانة حرمته ‪ ,‬وهو القائم على‬
‫الحرمات في أمته ‪ .‬وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له ‪ ,‬وهو الرسول المعصوم من كل سوء ‪.‬‬

‫ها هو ذا [ ص ] يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬يرمى في فراشه وعرضه ‪,‬‬
‫وقلبه ورسالته ‪ .‬يرمى في كل ما يعتز به عربي ‪ ,‬وكل ما يعتز به نبي ‪ . .‬ها هو ذا يرمى في هذا كله ;‬
‫ويتحدث الناس به في المدينة شهرا كامل ‪ ,‬فل يملك أن يضع لهذا كله حدا ‪ .‬وال يريد لحكمة يراها أن يدع‬
‫هذا المر شهرا كامل ل يبين فيه بيانا ‪ .‬ومحمد النسان يعاني ما يعانيه النسان في هذا الموقف الليم ‪.‬‬
‫يعاني من العار ‪ ,‬ويعاني فجيعة القلب ; ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة ‪ .‬الوحشة من نور ال الذي اعتاد‬
‫أن ينير له الطريق ‪ . .‬والشك يعمل في قلبه ‪ -‬مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله ‪ ,‬ولكنه ل يطمئن‬
‫نهائيا إلى هذه القرائن ‪ -‬والفرية تفوح في المدينة ‪ ,‬وقلبه النساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك ; فل‬
‫يملك أن يطرد الشك ‪ .‬لنه في النهاية بشر ‪ ,‬ينفعل في هذا انفعالت البشر ‪ .‬وزوج ل يطيق أن يمس فراشه‬
‫‪ .‬ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت ‪ ,‬ويصعب عليه اقتلعها دون دليل حاسم ‪.‬‬

‫وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده ‪ ,‬فيبعث إلى أسامة بن زيد ‪ .‬حبه القريب إلى قلبه ‪ . .‬ويبعث إلى علي ابن‬
‫أبي طالب ‪ .‬ابن عمه وسنده ‪ .‬يستشيرهما في خاصة أمره ‪ .‬فأما علي فهو من عصب محمد ‪ ,‬وهو شديد‬
‫الحساسية بالموقف لهذا السبب ‪ .‬ثم هو شديد الحساسية باللم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد ‪ ,‬ابن عمه‬
‫وكافله ‪ .‬فهو يشير بأن ال لم يضيق عليه ‪ .‬ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول ال [ ص ]‬
‫ويستقر على قرار ‪ .‬وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول ال [ ص ] من الود لهله ‪ ,‬والتعب لخاطر الفراق ‪,‬‬
‫فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين ‪ ,‬وكذب المفترين الفاكين ‪.‬‬
‫ورسول ال [ ص ] في لهفة النسان ‪ ,‬وفي قلق النسان ‪ ,‬يستمد من حديث أسامة ‪ ,‬ومن شهادة الجارية مددا‬
‫وقوة يواجه بهما القوم في المسجد ‪ ,‬فيستعذر ممن نالوا عرضه ‪ ,‬ورموا أهله ‪ ,‬ورموا رجل من فضلء‬
‫المسلمين ل يعلم أحد عليه من سوء ‪ . .‬فيقع بين الوس والخزرج ما يقع من تناور ‪ -‬وهم في مسجد رسول‬
‫ال [ ص ] وفي حضرة رسول ال [ ص ] ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه‬
‫الفترة الغريبة ‪ ,‬وقد خدشت قداسة القيادة ‪ ,‬ويحز هذا في نفس الرسول [ ص ] والنور الذي اعتاد أن يسعفه ل‬
‫ينير له الطريق ! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها يصارحها بما يقول الناس ; ويطلب منها هي البيان الشافي‬
‫المريح !‬

‫وعندما تصل اللم إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه ‪ ,‬فيتنزل القرآن ببراءة عائشة‬
‫الصديقةالطاهرة ; وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع ; ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الفك ‪ ,‬ويرسم‬
‫الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم ‪.‬‬

‫ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل‪":‬وأنا وال أعلم حينئذ أني بريئة ‪ ,‬وأن ال تعالى مبرئي ببراءتي ‪.‬‬
‫ولكني وال ما كنت أظن أن ينزل ال تعالى في شأني وحيا يتلى ‪ .‬ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم‬
‫ال في بأمر يتلى ‪ .‬ولكن كنت أرجو أن يرى رسول ال [ ص ] في النوم رؤيا يبرئني ال تعالى بها" ‪. .‬‬

‫ولكن المر ‪ -‬كما يبدو من ذلك الستعراض ‪ -‬لم يكن أمر عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬ول قاصرا على‬
‫شخصها ‪ .‬فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول [ ص ] ووظيفته في الجماعة يومها ‪ .‬بل تجاوزه إلى صلته بربه‬
‫ورسالته كلها ‪ .‬وما كان حديث الفك رمية لعائشة وحدها ‪ ,‬إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها ‪. .‬‬
‫من أجل ذلك أنزل ال القرآن ليفصل في القضية المبتدعة ‪ ,‬ويرد المكيدة المدبرة ‪ ,‬ويتولى المعركة الدائرة‬
‫ضد السلم ورسول السلم ; ويكشف عن الحكمة العليا وراء ذلك كله ; وما يعلمها إل ال‪:‬‬

‫إن الذين جاءوا بالفك عصبة منكم ‪ .‬ل تحسبوه شرا لكم ‪ ,‬بل هو خير لكم ‪ .‬لكل امرئ منهم ما اكتسب من‬
‫الثم ‪ .‬والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ‪.‬‬

‫فهم ليسوا فردا ول أفرادا ; إنما هم(عصبة)متجمعة ذات هدف واحد ‪ .‬ولم يكن عبد ال بن أبي بن سلول وحده‬
‫هو الذي أطلق ذلك الفك ‪ .‬إنما هو الذي تولى معظمه ‪ .‬وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين ‪ ,‬الذين عجزوا‬
‫عن حرب السلم جهرة ; فتواروا وراء ستار السلم ليكيدوا للسلم خفية ‪ .‬وكان حديث الفك إحدى‬
‫مكائدهم القاتلة ‪ .‬ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الفك كحمنة بنت جحش ; وحسان‬
‫بن ثابت ‪ ,‬ومسطح بن أثاثة ‪ .‬أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة ‪ ,‬وعلى رأسها ابن سلول ‪ ,‬الحذر الماكر‬
‫‪ ,‬الذي لم يظهر بشخصه في المعركة ‪ .‬ولم يقل علنية ما يؤخذ به ‪ ,‬فيقاد إلى الحد ‪ .‬إنما كان يهمس به بين‬
‫ملئه الذين يطمئن إليهم ‪ ,‬ول يشهدون عليه ‪ .‬وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به‬
‫المدينة شهرا كامل ‪ ,‬وأن تتداوله اللسنة في أطهر بيئة وأتقاها !‬
‫وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث ‪ ,‬وعمق جذوره ‪ ,‬وما وراءه من عصبة تكيد‬
‫للسلم والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم ‪.‬‬

‫ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد‪:‬‬

‫(ل تحسبوه شرا لكم ; بل هو خير لكم)‪. .‬‬

‫خير ‪ .‬فهو يكشف عن الكائدين للسلم في شخص رسول ال [ ص ] وأهل بيته ‪ .‬وهو يكشف للجماعة‬
‫المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه ال ; ويبين مدى الخطار التي تحيق‬
‫بالجماعة لو أطلقت فيها اللسنة تقذف المحصنات الغافلت المؤمنات ‪ .‬فهي عندئذ ل تقف عند حد ‪ .‬إنما‬
‫تمضي صعدا إلى أشرف المقامات ‪ ,‬وتتطاول إلى أعلى الهامات ‪ ,‬وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل‬
‫حياء ‪.‬‬

‫وهو خير أن يكشف ال للجماعة المسلمة ‪ -‬بهذه المناسبة ‪ -‬عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا المر‬
‫العظيم ‪.‬‬

‫أما اللم التي عاناها رسول ال [ ص ] وأهل بيته ‪ ,‬والجماعة المسلمة كلها ‪ ,‬فهي ثمنالتجربة ‪ ,‬وضريبة‬
‫البتلء ‪ ,‬الواجبة الداء !‬

‫أما الذين خاضوا في الفك ‪ ,‬فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة‪( :‬لكل امرئ منهم ما اكتسب من الثم)‪.‬‬
‫‪ .‬ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند ال ‪ .‬وبئس ما اكتسبوه ‪ ,‬فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا‬
‫وحياتهم الخرى‪( :‬والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم)يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم ‪.‬‬

‫والذي تولى كبره ‪ ,‬وقاد حملته ‪ ,‬واضطلع منه بالنصيب الوفى ‪ ,‬كان هو عبد ال بن أبي بن سلول ‪ .‬رأس‬
‫النفاق ‪ ,‬وحامل لواء الكيد ‪ .‬ولقد عرف كيف يختار مقتل ‪ ,‬لول أن ال كان من ورائه محيطا ‪ ,‬وكان لدينه‬
‫حافظا ‪ ,‬ولرسوله عاصما ‪ ,‬وللجماعة المسلمة راعيا ‪ . .‬ولقد روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم‬
‫المؤمنين وابن سلول في مل من قومه قال‪:‬من هذه ? فقالوا‪:‬عائشة رضي ال عنها ‪ . .‬فقال‪:‬وال ما نجت منه‬
‫ول نجا منها ‪ .‬وقال‪:‬امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ; ثم جاء يقودها !‬

‫وهي قولة خبيثة راح يذيعها ‪ -‬عن طريق عصبة النفاق ‪ -‬بوسائل ملتوية ‪ .‬بلغ من خبثها أن تموج المدينة‬
‫بالفرية التي ل تصدق ‪ ,‬والتي تكذبها القرائن كلها ‪ .‬وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين ‪ .‬وأن تصبح‬
‫موضوع أحاديثهم شهرا كامل ‪ .‬وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الولى ‪.‬‬
‫وإن النسان ليدهش ‪ -‬حتى اليوم ‪ -‬كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حينذاك ‪.‬‬
‫وأن تحدث هذه الثار الضخمة في جسم الجماعة ‪ ,‬وتسبب هذه اللم القاسية لطهر النفوس وأكبرها على‬
‫الطلق ‪.‬‬

‫لقد كانت معركة خاضها رسول ال [ ص ] وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك ‪ .‬وخاضها السلم ‪ .‬معركة‬
‫ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول ال [ ص ] وخرج منها منتصرا كاظما للمه الكبار ‪,‬‬
‫محتفظا بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره ‪ .‬فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف‬
‫احتماله ‪ .‬واللم التي تناوشه لعلها أعظم اللم التي مرت به في حياته ‪ .‬والخطر على السلم من تلك الفرية‬
‫من أشد الخطار التي تعرض لها في تاريخه ‪.‬‬

‫ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لفتاه ; ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه ‪ .‬والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى‬
‫هذا المنهج في مواجهة المور ‪ ,‬بوصفه أول خطوة في الحكم عليها‪:‬‬

‫(لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ‪ ,‬وقالوا‪:‬هذا إفك مبين)‪. .‬‬

‫نعم كان هذا هو الولى ‪ . .‬أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ‪ .‬وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل‬
‫هذه الحمأة ‪ . .‬وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم ‪ .‬فظن الخير بهما أولى ‪ .‬فإن‬
‫ما ل يليق بهم ل يليق بزوج رسول ال [ ص ] ول يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إل خيرا ‪ . .‬كذلك فعل‬
‫أبو أيوب خالد بن زيد النصاري وامرأته ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬كما روى المام محمد ابن إسحاق‪:‬أن أبا‬
‫أيوب قالت له امرأته أم أيوب‪:‬يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ? ‪ -‬قال‪:‬نعم‬
‫‪ .‬وذلك الكذب ‪ .‬أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ? قالت‪:‬ل وال ما كنت لفعله ‪ .‬قال‪:‬فعائشة وال خير منك ‪. .‬‬
‫ونقل المام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره‪":‬الكشاف" أن أبا أيوب النصاري قال لم أيوب‪:‬أل ترين‬
‫ما يقال ? فقالت‪:‬لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول ال [ ص ] سوءا ? قال‪:‬ل ‪ .‬قالت‪:‬ولو كنت‬
‫أنا بدل عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪-‬‬

‫ش َهدَاء َفِإذْ َلمْ َي ْأتُوا بِالشّ َهدَاء َفأُوَْل ِئكَ عِندَ اللّ ِه ُهمُ ا ْلكَا ِذبُونَ (‪ )13‬وَلَوْلَا َفضْلُ اللّهِ عََل ْي ُكمْ‬
‫لَوْلَا جَاؤُوا عََل ْيهِ ِبَأ ْر َبعَةِ ُ‬
‫عظِيمٌ (‪)14‬‬
‫عذَابٌ َ‬
‫ض ُتمْ فِيهِ َ‬
‫سكُمْ فِي مَا َأفَ ْ‬
‫خرَ ِة َل َم ّ‬
‫ح َمتُهُ فِي ال ّد ْنيَا وَالْآ ِ‬
‫َو َر ْ‬
‫ما خنت رسول ال [ ص ] فعائشة خير مني ‪ ,‬وصفوان خير منك ‪. .‬‬

‫وكلتا الروايتين تدلن على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه ‪ ,‬فاستبعد أن يقع ما نسب إلى‬
‫عائشة ‪ ,‬وما نسب إلى رجل من المسلمين‪:‬من معصية ل وخيانة لرسوله ‪ ,‬وارتكاس في حمأة الفاحشة ‪,‬‬
‫لمجرد شبهة ل تقف للمناقشة !‬
‫هذه هي الخطوة الولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة المور ‪ .‬خطوة الدليل الباطني الوجداني ‪.‬‬
‫فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي‪:‬‬

‫لول جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند ال هم الكاذبون ‪ . .‬وهذه الفرية الضخمة‬
‫التي تتناول أعلى المقامات ‪ ,‬وأطهر العراض ‪ ,‬ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة ; وأن تشيع هكذا دون‬
‫تثبت ول بينة ; وأن تتقاذفها اللسنة وتلوكها الفواه دون شاهد ول دليل‪ :‬لول جاؤوا عليه بأربعة شهداء !‬
‫وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن ‪ .‬كاذبون عند ال الذي ل يبدل القول لديه ‪ ,‬والذي ل يتغير حكمه ‪ ,‬ول يتبدل‬
‫قراره ‪ .‬فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي ل براءة لهم منها ‪ ,‬ول نجاة لهم من عقباها ‪.‬‬

‫هاتان الخطوتان‪:‬خطوة عرض المر على القلب واستفتاء الضمير ‪ .‬وخطوة التثبت بالبينة والدليل ‪ . .‬غفل‬
‫عنهما المؤمنون في حادث الفك ; وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول ال [ ص ] وهو أمر عظيم‬
‫لول لطف ال لمس الجماعة كلها البلء العظيم ‪ .‬فال يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدا بعد هذا الدرس الليم‪:‬‬

‫(ولول فضل ال عليكم ورحمته في الدنيا والخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم)‪. .‬‬

‫لقد احتسبها ال للجماعة المسلمة الناشئة درسا قاسيا ‪ .‬فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسسهم بعقابه وعذابه ‪.‬‬
‫فهي فعلة تستحق العذاب العظيم ‪ .‬العذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول [ ص ] وزوجه‬
‫وصديقه وصاحبه الذي ل يعلم عليه إل خيرا ‪ .‬والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة‬
‫وشاع ; ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة ‪ .‬والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته‬
‫عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل‬
‫‪ ,‬حافل بالقلق والقلقة والحيرة بل يقين ! ولكن فضل ال تدارك الجماعة الناشئة ‪ ,‬ورحمته شملت المخطئين ‪,‬‬
‫بعد الدرس الليم ‪.‬‬

‫والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام ; واختلت فيها المقاييس ‪ ,‬واضطربت فيها القيم ‪,‬‬
‫وضاعت فيها الصول‪:‬‬

‫(إذ تلقونه بألسنتكم ‪ ,‬وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ; وتحسبونه هينا وهو عند ال عظيم)‪. .‬‬

‫وهي صورة فيها الخفة والستهتار وقلة التحرج ‪ ,‬وتناول أعظم المور وأخطرها بل مبالة ول اهتمام‪:‬‬

‫(إذ تلقونه بألسنتكم)‪ . .‬لسان يتلقى عن لسان ‪ ,‬بل تدبر ول ترو ول فحص ول إنعام نظر ‪ .‬حتى لكأن القول‬
‫ل يمر على الذان ‪ ,‬ول تتمله الرؤوس ‪ ,‬ول تتدبره القلوب ! (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم)‪. .‬‬
‫بأفواهكم ل بوعيكم ول بعقلكم ول بقلبكم ‪ .‬إنما هي كلمات تقذف بها الفواه ‪ ,‬قبل أن تستقر في المدارك ‪,‬‬
‫وقبل أن تتلقاها العقول ‪( . .‬وتحسبونه هينا)أن تقذفوا عرض رسول ال ‪ ,‬وأن تدعوا اللم‬
‫عظِيمٌ (‪ )15‬وََلوْلَا ِإذْ‬
‫سبُونَ ُه َهيّنا وَ ُهوَ عِندَ اللّهِ َ‬
‫حَ‬‫ن ِبَأفْوَا ِهكُم مّا َليْسَ َلكُم ِبهِ عِ ْلمٌ َو َت ْ‬
‫س َن ِتكُمْ َوتَقُولُو َ‬
‫ِإذْ تَلَقّ ْو َنهُ ِبأَ ْل ِ‬
‫ظ ُكمُ اللّ ُه أَن َتعُودُوا ِل ِمثْلِهِ َأبَدا إِن‬
‫عظِيمٌ (‪َ )16‬يعِ ُ‬
‫س ْبحَا َنكَ َهذَا ُب ْهتَانٌ َ‬
‫س ِمعْ ُتمُوهُ قُ ْلتُم مّا َيكُونُ َلنَا أَن ّن َتكَلّمَ ِب َهذَا ُ‬
‫َ‬
‫حشَةُ فِي اّلذِينَ‬
‫حبّونَ أَن َتشِيعَ الْفَا ِ‬
‫ن اّلذِينَ ُي ِ‬
‫حكِيمٌ (‪ )18‬إِ ّ‬
‫ن اللّ ُه َل ُكمُ الْآيَاتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫كُنتُم مّ ْؤ ِمنِينَ (‪َ )17‬و ُي َبيّ ُ‬
‫ب أَلِيمٌ فِي ال ّد ْنيَا وَالْآخِرَةِ وَاللّهُ َيعَْلمُ وَأَن ُتمْ لَا َتعَْلمُونَ (‪)19‬‬
‫عذَا ٌ‬
‫آ َمنُوا َل ُهمْ َ‬
‫يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله ; وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يرم في الجاهلية ; وأن تتهموا صحابيا‬
‫مجاهدا في سبيل ال ‪ .‬وأن تمسوا عصمة رسول ال [ ص ] وصلته بربه ‪ ,‬ورعاية ال له ‪( . .‬وتحسبونه‬
‫هينا)‪( . .‬وهو عند ال عظيم)‪ . .‬وما يعظم عند ال إل الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي ‪ ,‬وتضج منه‬
‫الرض والسماء ‪.‬‬

‫ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه ‪ ,‬وأن تتحرج من مجرد النطق به ‪ ,‬وأن تنكر أن يكون هذا‬
‫موضوعا للحديث ; وأن تتوجه إلى ال تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا ; وأن تقذف بهذا الفك بعيدا عن ذلك‬
‫الجو الطاهر الكريم‪:‬‬

‫(ولول إذ سمعتموه قلتم‪:‬ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ‪ .‬سبحانك ! هذا بهتان عظيم)‪. .‬‬

‫وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزا ; وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما‬
‫عملت ‪ . .‬عندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا المر العظيم‪:‬‬

‫(يعظكم ال أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين)‪. .‬‬

‫(يعظكم)‪ . .‬في أسلوب التربية المؤثر ‪ .‬في أنسب الظروف للسمع والطاعة والعتبار ‪ .‬مع تضمين اللفظ‬
‫معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان‪( :‬يعظكم ال أن تعودوا لمثله أبدا)‪ . .‬ومع تعليق إيمانهم على‬
‫النتفاع بتلك العظة‪( :‬إن كنتم مؤمنين)‪ . .‬فالمؤمنون ل يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف ‪,‬‬
‫وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير ‪ ,‬ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون‪:‬‬

‫(ويبين ال لكم اليات)‪ . .‬على مثال ما بين في حديث الفك ‪ ,‬وكشف عما وراءه من كيد ; وما وقع فيه من‬
‫خطايا وأخطاء‪( :‬وال عليم حكيم)يعلم البواعث والنوايا والغايات والهداف ; ويعلم مداخل القلوب ‪ ,‬ومسارب‬
‫النفوس ‪ .‬وهو حكيم في علجها ‪ ,‬وتدبير أمرها ‪ ,‬ووضع النظم والحدود التي تصلح بها ‪. .‬‬

‫الدرس الرابع‪ 22 - 19:‬معالجة بعض آثار حادث الفك‬

‫ثم يمضي في التعقيب على حديث الفك ; وما تخلف عنه من آثار ; مكررا التحذير من مثله ‪ ,‬مذكرا بفضل‬
‫ال ورحمته ‪ ,‬متوعدا من يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات بعذاب ال في الخرة ‪ .‬ذلك مع تنقية النفوس‬
‫من آثار المعركة ; وإطلقها من ملبسات الرض ‪ ,‬وإعادة الصفاء إليها والشراق ‪ . .‬كما تتمثل في موقف‬
‫أبي بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الفك مع من خاض‪:‬‬

‫(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والخرة ‪ ,‬وال يعلم وأنتم ل‬
‫تعلمون)‪. .‬‬

‫والذين يرمون المحصنات ‪ -‬وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم ‪ -‬إنما يعملون على‬
‫زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة ; وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة ‪ ,‬وذلك عن‬
‫طريق اليحاء بأن الفاحشة شائعة فيها ‪ . .‬بذلك تشيع الفاحشة في النفوس ‪ ,‬لتشيع بعد ذلك في الواقع ‪.‬‬

‫من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ‪ ,‬وتوعدهم‬
‫بالعذاب الليم في الدنيا والخرة ‪.‬‬

‫وذلك جانب من منهج التربية ‪ ,‬وإجراء من إجراءات الوقاية ‪ .‬يقوم على خبرة بالنفس البشرية ‪ ,‬ومعرفة‬
‫بطريقة تكيف مشاعرها واتجاهاتها ‪ . .‬ومن ثم يعقب بقوله‪( :‬وال يعلم وأنتم ل تعلمون)‪ . .‬ومن ذا الذي‬

‫شيْطَانِ‬
‫ت ال ّ‬
‫خطُوَا ِ‬
‫حمَتُهُ وََأنّ اللّه رَؤُوفٌ َرحِيمٌ (‪ )20‬يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا لَا َت ّت ِبعُوا ُ‬
‫وََلوْلَا َفضْلُ اللّهِ عََل ْي ُكمْ َو َر ْ‬
‫حدٍ‬
‫ح َمتُهُ مَا َزكَا مِنكُم مّنْ َأ َ‬
‫حشَاء وَا ْلمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللّهِ عََل ْي ُكمْ َو َر ْ‬
‫ش ْيطَانِ َفِإنّ ُه َي ْأمُرُ بِالْ َف ْ‬
‫خطُوَاتِ ال ّ‬
‫َومَن َي ّتبِعْ ُ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)21‬‬
‫ن اللّهَ ُي َزكّي مَن َيشَاءُ وَاللّهُ َ‬
‫َأبَدا وََلكِ ّ‬
‫يعلم أمر هذه النفس إل الذي خلقها ? ومن ذا الذي يدبر أمر هذه النسانية إل الذي برأها ? ومن ذا الذي يرى‬
‫الظاهر والباطن ‪ ,‬ول يخفى على علمه شيء إل العليم الخبير ?‬

‫ومرة أخرى يذكر المؤمنين بفضل ال عليهم ورحمته‪:‬‬

‫(ولول فضل ال عليكم ورحمته وأن ال رؤوف رحيم)‪. .‬‬

‫إن الحدث لعظيم ‪ ,‬وإن الخطأ لجسيم ‪ ,‬وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء ‪.‬‬
‫ولكن فضل ال ورحمته ‪ ,‬ورأفته ورعايته ‪ . .‬ذلك ما وقاهم السوء ‪ . .‬ومن ثم يذكرهم به المرة بعد المرة ;‬
‫وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين ‪.‬‬

‫فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكا أن يصيبهم جميعا ‪ ,‬لول فضل ال ورحمته ‪ ,‬صور لهم عملهم بأنه‬
‫اتباع لخطوات الشيطان ‪ .‬وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم ‪ .‬وحذرهم ما يقودهم‬
‫الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير‪:‬‬
‫يا أيها الذين آمنوا ل تتبعوا خطوات الشيطان ; ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ‪.‬‬
‫ولول فضل ال عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ; ولكن ال يزكي من يشاء ‪ ,‬وال سميع عليم ‪. .‬‬

‫وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه ‪ ,‬وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان وأن‬
‫يسلكوا طريقا غير طريقه المشؤوم ! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن ‪ ,‬ويرتجف لها وجدانه ‪ ,‬ويقشعر‬
‫لها خياله ! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية‪:‬‬

‫(ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر)‪ . .‬وحديث الفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه‬
‫المؤمنين الذين خاضوا فيه ‪ .‬وهو نموذج منفر شنيع ‪.‬‬

‫وإن النسان لضعيف ‪ ,‬معرض للنزعات ‪ ,‬عرضة للتلوث ‪ .‬إل أن يدركه فضل ال ورحمته ‪ .‬حين يتجه إلى‬
‫ال ‪ ,‬ويسير على نهجه ‪.‬‬

‫ولول فضل ال عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ‪ .‬ولكن ال يزكي من يشاء ‪. .‬‬

‫فنور ال الذي يشرق في القلب يطهره ويزكيه ‪ .‬ولول فضل ال ورحمته لم يزك من أحد ولم يتطهر ‪ .‬وال‬
‫يسمع ويعلم ‪ ,‬فيزكي من يستحق التزكية ‪ ,‬ويطهر من يعلم فيه الخير والستعداد (وال سميع عليم)‪. .‬‬

‫وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض ‪ -‬كما يرجون‬
‫غفران ال لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب ‪:-‬‬

‫ول يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل ال ; وليعفوا‬
‫وليصفحوا ‪ .‬أل تحبون أن يغفر ال لكم ? وال غفور رحيم ‪. .‬‬

‫نزلت في أبي بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة ‪ .‬وقد عرف أنه مسطح بن أثاثة كان‬
‫ممن خاضوا فيه ‪ .‬وهو قريبه ‪ .‬وهو من فقراء المهاجرين ‪ .‬وكان أبو بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬ينفق عليه ‪.‬‬
‫فآلى على نفسه ل ينفع مسطحا بنافعة أبدا ‪.‬‬

‫نزلت هذه الية تذكر أبا بكر ‪ ,‬وتذكر المؤمنين ‪ ,‬بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من ال أن يغفر لهم ‪ .‬فليأخذوا‬
‫أنفسهم ‪ -‬بعضهم مع بعض ‪ -‬بهذا الذي يحبونه ‪ ,‬ول يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه ‪ ,‬إن كانوا قد‬
‫أخطأوا وأساءوا ‪. .‬‬

‫سبِيلِ اللّهِ وَ ْل َيعْفُوا‬


‫سعَ ِة أَن يُ ْؤتُوا أُوْلِي الْ ُق ْربَى وَا ْل َمسَاكِينَ وَا ْل ُمهَاجِرِينَ فِي َ‬
‫وَلَا َي ْأتَلِ أُوْلُوا ا ْل َفضْلِ مِن ُكمْ وَال ّ‬
‫صنَاتِ ا ْلغَافِلَاتِ ا ْلمُ ْؤ ِمنَاتِ‬
‫ن ا ْل ُمحْ َ‬
‫ن َي ْرمُو َ‬
‫غفُورٌ ّرحِيمٌ (‪ِ )22‬إنّ اّلذِي َ‬
‫حبّونَ أَن َيغْ ِفرَ اللّهُ َل ُكمْ وَاللّهُ َ‬
‫وَ ْل َيصْ َفحُوا أَلَا ُت ِ‬
‫س َنتُ ُهمْ وََأ ْيدِي ِهمْ وََأ ْرجُلُهُم ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‬
‫شهَدُ عََل ْي ِهمْ أَ ْل ِ‬
‫عظِيمٌ (‪َ )23‬ي ْومَ َت ْ‬
‫عذَابٌ َ‬
‫ُل ِعنُوا فِي ال ّد ْنيَا وَالْآخِرَةِ وََل ُهمْ َ‬
‫حقّ ا ْل ُمبِينُ (‪)25‬‬
‫ن اللّ َه هُ َو ا ْل َ‬
‫حقّ َو َيعَْلمُونَ أَ ّ‬
‫‪ )24‬يَ ْو َم ِئذٍ يُ َوفّي ِهمُ اللّ ُه دِي َنهُمُ ا ْل َ‬
‫وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية ‪ ,‬التي تطهرت بنور ال ‪ .‬أفق يشرق في نفس أبي بكر‬
‫الصديق ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أبي بكر الذي مسه حديث الفك في أعماق قلبه ‪ ,‬والذي احتمل مرارة التهام‬
‫لبيته وعرضه ‪ .‬فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو ; وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي‪( :‬أل تحبون‬
‫أن يغفر ال لكم ?)حتى يرتفع على اللم ‪ ,‬ويرتفع على مشاعر النسان ‪ ,‬ويرتفع على منطق البيئة ‪ .‬وحتى‬
‫تشف روحه وترف وتشرق بنور ال ‪ .‬فإذا هو يلبي داعي ال في طمأنينة وصدق يقول‪:‬بلى وال إني لحب‬
‫أن يغفر ال لي ‪ .‬ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ‪ ,‬ويحلف‪:‬وال ل أنزعها منه أبدا ‪ .‬ذلك في‬
‫مقابل ما حلف‪:‬وال ل أنفعه بنافعة أبدا ‪.‬‬

‫بذلك يمسح ال على آلم ذلك القلب الكبير ‪ ,‬ويغسله من أوضار المعركة ‪ ,‬ليبقى أبدا نظيفا طاهرا زكيا مشرقا‬
‫بالنور ‪. .‬‬

‫الدرس الخامس‪ 25 - 23:‬وعيد من يقذفون المؤمنات الغافلت‬

‫ذلك الغفران الذي يذكر ال المؤمنين به ‪ .‬إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في‬
‫الذين آمنوا ‪ .‬فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار ‪ ,‬كأمثال ابن أبي فل سماحة ول عفو ‪.‬‬
‫ولو أفلتوا من الحد في الدنيا ‪ ,‬لن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب ال ينتظرهم في الخرة ‪ .‬ويومذاك لن يحتاج‬
‫المر إلى شهود‪:‬‬

‫(إن الذين يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات لعنوا في الدنيا والخرة ‪ ,‬ولهم عذاب عظيم ‪ .‬يوم تشهد‬
‫عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ‪ .‬يومئذ يوفيهم ال دينهم الحق ‪ ,‬ويعلمون أن ال هو الحق‬
‫المبين)‪. .‬‬

‫ويجسم التعبير جريمة هؤلء ويبشعها ; وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلت غارات ‪ ,‬غير‬
‫آخذات حذرهن من الرمية ‪ .‬وهن بريئات الطوايا مطمئنات ل يحذرن شيئا ‪ ,‬لنهن لم يأتين شيئا يحذرنه !‬
‫فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة ‪ .‬ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة ‪ .‬لعنة ال لهم ‪.‬‬
‫وطردهم من رحمته في الدنيا والخرة ‪ .‬ثم يرسم ذلك المشهد الخاذ‪( :‬يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم‬
‫وأرجلهم)‪ . .‬فإذا بعضهم يتهم بعضا بالحق ‪ ,‬إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلت المؤمنات بالفك ! وهي‬
‫مقابلة في المشهد مؤثرة ‪ ,‬على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني ‪.‬‬

‫(يومئذ يوفيهم ال دينهم الحق)‪ . .‬ويجزيهم جزاءهم العدل ‪ ,‬ويؤدي لهم حسابهم الدقيق ‪ .‬ويومئذ يستيقنون مما‬
‫كانوا يستريبون‪( :‬ويعلمون أن ال هو الحق المبين)‪. .‬‬
‫الدرس السادس‪ 26:‬الصالحات للصالحين وبراءة عائشة‬

‫ويختم الحديث عن حادث الفك ببيان عدل ال في اختياره الذي ركبه في الفطرة ‪ ,‬وحققه في واقع الناس ‪.‬‬
‫وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة ‪ ,‬وأن تمتزج النفس الطيبة بالنفس الطيبة ‪ .‬وعلى هذا تقوم العلقات‬
‫بين الزواج ‪ .‬وما كان يمكن أن تكون عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬كما رموها ‪ ,‬وهي مقسومة لطيب نفس‬
‫على ظهر هذه الرض‪:‬‬

‫الخبيثات للخبيثين ‪ ,‬والخبيثون للخبيثات ‪ .‬والطيبات للطيبين ‪ ,‬والطيبون للطيبات ‪ .‬أولئك مبرأون مما يقولون‬
‫‪ ,‬لهم مغفرة ورزق كريم ‪. .‬‬

‫ولقد أحبت نفس رسول ال [ ص ] عائشة حبا عظيما ‪ .‬فما كان يمكن أن يحببها ال لنبيه‬

‫ط ّيبَاتِ ُأوَْل ِئكَ ُم َبرّؤُونَ ِممّا يَقُولُونَ َلهُم‬


‫طيّبُونَ لِل ّ‬
‫ط ّيبِينَ وَال ّ‬
‫طيّبَاتُ لِل ّ‬
‫خبِيثَاتِ وَال ّ‬
‫خبِيثُونَ لِ ْل َ‬
‫خبِيثِينَ وَا ْل َ‬
‫خبِيثَاتُ لِ ْل َ‬
‫ا ْل َ‬
‫ّمغْ ِفرَةٌ َورِ ْزقٌ َكرِيمٌ (‪)26‬‬
‫المعصوم ‪ ,‬إن لم تكن طاهرة تستحق هذا الحب العظيم ‪.‬‬

‫أولئك الطيبون والطيبات (مبرأون مما يقولون)بفطرتهم وطبيعتهم ‪ ,‬ل يلتبس بهم شيء مما قيل ‪.‬‬

‫(لهم مغفرة ورزق كريم)‪ . .‬مغفرة عما يقع منهم من أخطاء ‪ .‬ورزق كريم ‪ .‬دللة على كرامتهم عند ربهم‬
‫الكريم ‪.‬‬

‫بذلك ينتهي حديث الفك ‪ .‬ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة لكبر محنة ‪ .‬إذ كانت محنة الثقة‬
‫في طهارة بيت الرسول ‪ ,‬وفي عصمة ال لنبيه أن يجعل في بيته إل العنصر الطاهر الكريم ‪ .‬وقد جعلها ال‬
‫معرضا لتربية الجماعة المسلمة ‪ ,‬حتى تشف وترف ; وترتفع إلى آفاق النور ‪ . .‬في سورة النور ‪. .‬‬

‫الوحدة الثانية‪ 34 - 27:‬الموضوع‪:‬وسائل الوقاية من الزنا‪:‬الستئذان وغض البصر والتزويج‬

‫خ ْيرٌ ّل ُكمْ َلعَّل ُكمْ َت َذكّرُونَ (‬


‫ستَ ْأ ِنسُوا َو ُتسَّلمُوا عَلَى أَهِْلهَا ذَِل ُكمْ َ‬
‫حتّى َت ْ‬
‫غ ْيرَ ُبيُو ِت ُكمْ َ‬
‫يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا لَا َت ْدخُلُوا ُبيُوتا َ‬
‫جعُوا ُهوَ َأ ْزكَى َل ُكمْ وَاللّهُ ِبمَا‬
‫جعُوا فَا ْر ِ‬
‫حتّى يُ ْؤذَنَ َل ُكمْ وَإِن قِيلَ َل ُكمُ ا ْر ِ‬
‫جدُوا فِيهَا َأحَدا فَلَا َت ْدخُلُوهَا َ‬
‫‪َ )27‬فإِن ّلمْ َت ِ‬
‫سكُونَ ٍة فِيهَا َمتَاعٌ ّل ُكمْ وَاللّ ُه َيعَْلمُ مَا ُت ْبدُونَ َومَا‬
‫غ ْيرَ َم ْ‬
‫ح أَن َت ْدخُلُوا ُبيُوتا َ‬
‫جنَا ٌ‬
‫َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ (‪ّ )28‬ليْسَ عََل ْي ُكمْ ُ‬
‫خبِيرٌ ِبمَا َيصْ َنعُونَ (‬
‫ج ُهمْ ذَِلكَ َأ ْزكَى َل ُهمْ ِإنّ اللّهَ َ‬
‫ن َيغُضّوا مِنْ َأ ْبصَارِ ِهمْ َو َيحْ َفظُوا فُرُو َ‬
‫َت ْك ُتمُونَ (‪ )29‬قُل لّ ْلمُ ْؤ ِمنِي َ‬
‫‪)30‬‬
‫موضوع الوحدة‬

‫إن السلم ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬ل يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف ‪ ,‬إنما يعتمد قبل كل شيء على‬
‫الوقاية ‪ .‬وهو ل يحارب الدوافع الفطرية ‪ .‬ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات‬
‫المصطنعة ‪.‬‬

‫والفكرة السائدة في منهج التربية السلمية في هذه الناحية ‪ ,‬هي تضييق فرص الغواية ‪ ,‬وإبعاد عوامل الفتنة ;‬
‫وأخذ الطريق على أسباب التهييج والثارة ‪ .‬مع إزالة العوائق دون الشباع الطبيعي بوسائله النظيفة‬
‫المشروعة ‪. .‬‬

‫ومن هنا يجعل للبيوت حرمة ل يجوز المساس بها ; فل يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إل بعد‬
‫استئذانهم وسماحهم بالدخول ‪ ,‬خيفة أن تطلع العين على خفايا البيوت ‪ ,‬وعلى عورات أهلها وهم غافلون ‪. .‬‬
‫ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء ‪ ,‬وعدم التبرج بالزينة لثارة الشهوات ‪.‬‬

‫ومن هنا كذلك ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء ‪ .‬فالحصان هو الضمان الحقيقي للكتفاء ‪ . .‬وينهى‬
‫عن تعريض الرقيق للبغاء كي ل تكون الفعلة سهلة ميسرة ‪ ,‬فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء ‪.‬‬

‫فلننظر نظرة تفصيلية في تلك الضمانات الواقية التي يأخذ بها السلم ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 29 27:‬الستئذان للدخول في البيوت‬

‫(يا أيها الذين آمنوا ل تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ‪ ,‬ذلكم خير لكم لعلكم‬
‫تذكرون ‪ .‬فإن لم تجدوا فيها أحدا فل تدخلوها حتى يؤذن لكم ‪ .‬وإن قيل لكم‪:‬ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ‪,‬‬
‫وال بما تعملون عليم ‪ .‬ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ‪ .‬وال يعلم ما تبدون وما‬
‫تكتمون)‪. .‬‬

‫لقد جعل ال البيوت سكنا ‪ ,‬يفيء إليها الناس ; فتسكن أرواحهم ; وتطمئن نفوسهم ; ويأمنون على عوراتهم‬
‫وحرماتهم ‪ ,‬ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للعصاب !‬

‫والبيوت ل تكون كذلك إل حين تكون حرما آمنا ل يستبيحه أحد إل بعلم أهله وإذنهم ‪ .‬وفي الوقت الذي‬
‫يريدون ‪ ,‬وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس ‪.‬‬

‫ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان ‪ ,‬يجعل أعينهم تقع على عورات ; وتلتقي بمفاتن‬
‫تثير الشهوات ; وتهيى ء الفرصة للغواية ‪ ,‬الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة ‪ ,‬التي قد تتكرر‬
‫فتتحول إلى نظرات قاصدة ‪ ,‬تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الولى على غير قصد ول انتظار ;‬
‫وتحولها إلى علقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والنحرافات ‪.‬‬

‫ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوما ‪ ,‬فيدخل الزائر البيت ‪ ,‬ثم يقول‪:‬لقد دخلت ! وكان يقع أن يكون‬
‫صاحب الدار مع أهله في الحالة التي ل يجوز أن يراهما عليها أحد ‪ .‬وكان يقع أن تكون المرأة عاريةأو‬
‫مكشوفة العورة ‪ ,‬هي أو الرجل ‪ ,‬وكان ذلك يؤذي ويجرح ‪ ,‬ويحرم البيوت أمنها وسكينتها ; كما يعرض‬
‫النفوس من هنا ومن هناك للفتنة ‪ ,‬حين تقع العين على ما يثير ‪.‬‬

‫من أجل هذا وذلك أدب ال المسلمين بهذا الدب العالي ‪ .‬أدب الستئذان على البيوت ‪ ,‬والسلم على أهلها‬
‫ليناسهم ‪ .‬وإزالة الوحشة من نفوسهم ‪ ,‬قبل الدخول‪:‬‬

‫(يا أيها الذين آمنوا ل تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها)‪. .‬‬

‫ويعبر عن الستئذان بالستئناس ‪ -‬وهو تعبير يوحي بلطف الستئذان ‪ ,‬ولطف الطريقة التي يجيء بها‬
‫الطارق ‪ ,‬فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به ‪ ,‬واستعدادا لستقباله ‪ .‬وهي لفتة دقيقة لطيفة ‪ ,‬لرعاية أحوال‬
‫النفوس ‪ ,‬ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم ‪ ,‬وما يلبسها من ضرورات ل يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا‬
‫أمام الطارقين في ليل أو نهار ‪.‬‬

‫وبعد الستئذان إما أن يكون في البيوت أحد من أهلها أو ل يكون ‪ .‬فإن لم يكن فيها أحد فل يجوز اقتحامها‬
‫بعد الستئذان ‪ ,‬لنه ل دخول بغير إذن‪:‬‬

‫(فإن لم تجدوا فيها أحدا فل تدخلوها حتى يؤذن لكم)‪. .‬‬

‫وإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الستئذان ل يبيح الدخول ; فإنما هو طلب للذن ‪ .‬فإن لم يأذن أهل‬
‫البيت فل دخول كذلك ‪ .‬ويجب النصراف دون تلكؤ ول انتظار‪:‬‬

‫(وإن قيل لكم‪:‬ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم)‪. .‬‬

‫ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة ‪ ,‬ودون أن تستشعروا من أهل البيت الساءة إليكم ‪ ,‬أو النفرة‬
‫منكم ‪ .‬فللناس أسرارهم وأعذارهم ‪ .‬ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملبساتهم في كل حين ‪.‬‬

‫(وال بما تعملون عليم)‪ . .‬فهو المطلع على خفايا القلوب ‪ ,‬وعلى ما فيها من دوافع ومثيرات ‪.‬‬

‫فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن ‪ ,‬فل حرج في الدخول إليها‬
‫بغير استئذان ‪ ,‬دفعا للمشقة ما دامت علة الستئذان منتفية‪:‬‬
‫(ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم)‪. .‬‬

‫(وال يعلم ما تبدون وما تكتمون)‪ . .‬فالمر معلق باطلع ال على ظاهركم وخافيكم ; ورقابته لكم في سركم‬
‫وعلنيتكم ‪ .‬وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب ‪ ,‬وامتثالها لذلك الدب العالي ‪ ,‬الذي يأخذها ال به في‬
‫كتابه ‪ ,‬الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه ‪.‬‬

‫إن القرآن منهاج حياة ‪ .‬فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الجتماعية ‪ ,‬ويمنحها هذه العناية ‪ ,‬لنه يعالج‬
‫الحياة كليا وجزئيا ‪ ,‬لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا بهذا العلج ‪ .‬فالستئذان على البيوت يحقق‬
‫للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكنا ‪ .‬ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة ‪ ,‬والضيق بالمباغتة ‪,‬‬
‫والتأذي بانكشاف العورات ‪ . .‬وهي عورات كثيرة ‪ ,‬تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة ‪. .‬‬
‫إنها ليست عورات البدن وحدها ‪ .‬إنما تضاف إليها عورات الطعام ‪ ,‬وعورات اللباس ‪ ,‬وعورات الثاث ‪,‬‬
‫التي قد ل يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد ‪ .‬وهي عورات المشاعر والحالت‬
‫النفسية ‪,‬فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لنفعال مؤثر ‪ ,‬أو يغضب لشأن مثير ‪ ,‬أو‬
‫يتوجع للم يخفيه عن الغرباء ?!‬

‫ولكن كل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الدب الرفيع ‪ ,‬أدب الستئذان ; ويرعى معها تقليل فرص‬
‫النظرات السانحة واللتقاءات العابرة ‪ ,‬التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات ; وطالما‬
‫نشأت عنها علقات ولقاءات ‪ ,‬يدبرها الشيطان ‪ ,‬ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية ‪ ,‬والقلوب الناصحة ‪,‬‬
‫هنا أو هناك !‬

‫ولقد وعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه اليات ‪ .‬وبدأ بها رسول ال ‪ -‬عليه الصلة‬
‫والسلم ‪.‬‬

‫أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الوزاعي ‪ -‬بإسناده ‪ -‬عن قيس بن سعد هو ابن عبادة‬
‫قال‪:‬زارنا رسول ال [ ص ] في منزلنا فقال‪ ":‬السلم عليكم ورحمة ال " فرد سعد ردا خفيا ‪ .‬قال‬
‫قيس‪:‬فقلت‪:‬أل تأذن لرسول ال [ ص ] ? فقال‪:‬دعه يكثر علينا من السلم ‪ .‬فقال رسول ال [ ص ] " السلم‬
‫عليكم ورحمة ال " ‪ .‬فرد سعد ردا خفيا ‪ .‬ثم قال رسول ال [ ص ]‪ ":‬السلم عليكم ورحمة ال " ‪ .‬ثم رجع‬
‫رسول ال [ ص ] وأتبعه سعد فقال‪:‬يا رسول ال إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من‬
‫السلم ‪ -‬فقال‪:‬فانصرف معه رسول ال [ ص ] وأمر له سعد بغسل فاغتسل ; ثم ناوله خميصة مصبوغة‬
‫بزعفران أو ورس ‪ ,‬فاشتمل بها ‪ ,‬ثم رفع رسول ال [ ص ] يديه ‪ ,‬وهو يقول‪ ":‬اللهم اجعل صلتك ورحمتك‬
‫على آل سعد بن عبادة " ‪ . . .‬الخ الحديث ‪.‬‬
‫وأخرج أبو داود ‪ -‬بإسناده ‪ -‬عن عبد ال بن بشر قال‪:‬كان رسول ال [ ص ] إذا أتى باب قوم لم يستقبل‬
‫الباب من تلقاء وجهه ; ولكن من ركنه اليمن أو اليسر ‪ ,‬ويقول‪ ":‬السلم عليكم ‪ .‬السلم عليكم " ‪ .‬ذلك أن‬
‫الدور لم يكن يومئذ عليها ستور ‪.‬‬

‫وروى أبو داود كذلك ‪ -‬بإسناده ‪ -‬عن هذيل قال‪:‬جاء رجل ‪ -‬قال عثمان‪:‬سعد ‪ -‬فوقف على باب النبي [ ص‬
‫] يستأذن ‪ .‬فقام على الباب ‪ -‬قال عثمان‪:‬مستقبل الباب ‪ -‬فقال له النبي [ ص ]‪ ":‬هكذا عنك ‪ -‬أو هكذا ‪-‬‬
‫فإنما الستئذان من النظر ‪" .‬‬

‫وفي الصحيحين عن رسول ال [ ص ] أنه قال‪ ":‬لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن ‪ ,‬فحذفته بحصاة ففقأت‬
‫عينه ما كان عليك من جناح " ‪.‬‬

‫وروى أبو داود ‪ -‬بإسناده ‪ -‬عن ربعي قال‪:‬أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول ال [ ص ] وهو في‬
‫بيته فقال‪:‬أألج ? فقال النبي [ ص ] لخادمه‪ ":‬اخرج إلى هذا فعلمه الستئذان ‪ ,‬فقل له‪:‬قل‪:‬السلم عليكم ‪ .‬أأدخل‬
‫? " فسمعها الرجل فقال‪:‬السلم عليكم ‪ .‬أأدخل ? فأذن له النبي [ ص ] فدخل ‪.‬‬

‫وقال هشيم‪:‬قال مغيرة‪:‬قال مجاهد‪:‬جاء ابن عمر من حاجة ‪ ,‬وقد آذاه الرمضاء ; فأتى فسطاط امرأةمن قريش‬
‫‪ ,‬فقال‪:‬السلم عليكم ‪ .‬أأدخل ? قالت‪:‬ادخل بسلم ‪ .‬فأعاد ‪ .‬فأعادت ‪ .‬وهو يراوح بين قدميه ‪ .‬قال‪:‬قولي‪:‬ادخل‬
‫‪ .‬قالت‪:‬ادخل ‪ .‬فدخل !‬

‫"وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ ,‬قال‪:‬قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري‬
‫معي في بيت واحد ? قال‪:‬نعم ‪ .‬فرددت عليه ليرخص لي فأبى ‪ ,‬فقال‪:‬تحب أن تراها عريانة ? قلت‪:‬ل ‪.‬‬
‫قال‪:‬فاستأذن ‪ .‬قال‪:‬فراجعته أيضا ‪ .‬فقال‪:‬أتحب أن تطيع ال ? قال‪:‬قلت‪:‬نعم ‪ .‬قال فاستأذن " ‪.‬‬

‫وجاء في الصحيح عن رسول ال [ ص ] أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا ‪ . .‬وفي رواية‪:‬ليل يتخونهم‬
‫‪.‬‬

‫وفي حديث آخر أن رسول ال [ ص ] قدم المدينة نهارا ‪ ,‬فأناخ بظاهرها وقال‪ ":‬انتظروا حتى ندخل عشاء ‪-‬‬
‫يعني آخر النهار ‪ -‬حتى تمتشط الشعثة ‪ ,‬وتستحد المغيبة " ‪.‬‬

‫إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حس رسول ال [ ص ] وصحابته ‪ ,‬بما علمهم ال من ذلك الدب الرفيع‬
‫الوضيء ‪ ,‬المشرق بنور ال ‪.‬‬

‫ونحن اليوم مسلمون ‪ ,‬ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت ‪ .‬وإن الرجل ليهجم على أخيه في‬
‫بيته ‪ ,‬في أية لحظة من لحظات الليل والنهار ‪ ,‬يطرقه ويطرقه ويطرقه فل ينصرف أبدا حتى يزعج أهل‬
‫البيت فيفتحوا له ‪ .‬وقد يكون في البيت هاتف "تليفون" يملك أن يستأذن عن طريقه ‪ ,‬قبل أن يجيء ‪ ,‬ليؤذن له‬
‫أو يعلم أن الموعد ل يناسب ; ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان ‪ ,‬وعلى غير موعد ‪ .‬ثم ل يقبل‬
‫العرف أن يرد عن البيت ‪ -‬وقد جاء ‪ -‬مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بل إخطار ول انتظار !‬

‫ونحن اليوم مسلمون ‪ ,‬ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام ‪ .‬فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في‬
‫أنفسنا من ذلك شيئا ! ونطرقهم في الليل المتأخر ‪ ,‬فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم وجدنا في أنفسنا من ذلك‬
‫شيئا ! دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك !‬

‫ذلك أننا ل نتأدب بأدب السلم ; ول نجعل هوانا تبعا لما جاء به رسول ال [ ص ] إنما نحن عبيد لعرف‬
‫خاطى ء ‪ ,‬ما أنزل ال به من سلطان !‬

‫ونرى غيرنا ممن لم يعتنقوا السلم ‪ ,‬يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدبا لنا في‬
‫النفس ‪ ,‬وتقليدا من تقاليدنا في السلوك ‪ .‬فيعجبنا ما نراهم عليه أحيانا ; ونتندر به أحيانا ‪ .‬ول نحاول أن‬
‫نعرف ديننا الصيل ‪ ,‬فنفيء إليه مطمئنين ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 31 - 30:‬غض البصر بين المؤمنين والمؤمنات وحدود العورة عند النساء‬

‫وبعد النتهاء من أدب الستئذان على البيوت ‪ -‬وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر واتقاء أسباب‬
‫الفتنة العابرة ‪ -‬يأخذ على الفتنة الطريق كي ل تنطلق من عقالها ‪ ,‬بدافع النظر لمواضع الفتنة المثيرة ‪ ,‬وبدافع‬
‫الحركة المعبرة ‪ ,‬الداعية إلى الغواية‪:‬‬

‫(قل للمؤمنين‪:‬يغضوا من أبصارهم ‪ ,‬ويحفظوا فروجهم ‪ ,‬ذلك أزكى لهم ‪ .‬إن ال خبير بما يصنعون ‪().‬وقل‬
‫للمؤمنات‪:‬يغضضن من أبصارهن ‪ ,‬ويحفظن فروجهن ‪ ,‬ول يبدين زينتهن إل ما ظهر منها ; وليضربن‬
‫بخمرهن على جيوبهن ‪ ,‬ول يبدين زينتهن إل لبعولتهن ‪ ,‬أو آبائهن ‪ ,‬أو آباء بعولتهن ‪ ,‬أو أبنائهن ‪ ,‬أو أبناء‬
‫بعولتهن ‪ ,‬أو إخوانهن ‪ ,‬أو بني إخوانهن ‪ ,‬أو بني أخواتهن ‪ ,‬أو نسائهن ‪ ,‬أو ما ملكت أيمانهن ‪ ,‬أو التابعين‬
‫غير أولي الربة من الرجال ‪ ,‬أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ‪ .‬ول يضربن بأرجلهن ليعلم ما‬
‫يخفين من زينتهن ‪ .‬وتوبوا إلى ال جميعا ‪ -‬أيها المؤمنون ‪ -‬لعلكم تفلحون)‪. .‬‬

‫إن السلم يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف ‪ ,‬ل تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ‪ ,‬ول تستثار فيه دفعات اللحم‬
‫والدم في كل حين ‪ .‬فعمليات الستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني ل ينطفئ وليرتوي ‪ .‬والنظرة‬
‫الخائنة ‪ ,‬والحركة المثيرة ‪ ,‬والزينة المتبرجة ‪ ,‬والجسم العاري ‪ . . .‬كلها ل تصنع شيئا إل أن تهيج ذلك‬
‫السعار الحيواني المجنون ! وإل أن يفلت زمام العصاب والرادة ‪ .‬فإما الفضاء الفوضوي الذي ل يتقيد بقيد‬
‫وإما المراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الثارة ! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب !!!‬
‫وإحدى وسائل السلم إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الستثارة ‪ ,‬وإبقاء الدافع الفطري العميق‬
‫بين الجنسين ‪ ,‬سليما ‪ ,‬وبقوته الطبيعية ‪ ,‬دون استثارة مصطنعة ‪ ,‬وتصريفه في موضعه المأمون النظيف ‪.‬‬

‫ولقد شاع في وقت من الوقات أن النظرة المباحة ‪ ,‬والحديث الطليق ‪ ,‬والختلط الميسور ‪ ,‬والدعابة المرحة‬
‫بين الجنسين ‪ ,‬والطلع على مواضع الفتنة المخبوءة ‪ . .‬شاع أن كل هذا تنفيس وترويح ‪ ,‬وإطلق للرغبات‬
‫الحبيسة ‪ ,‬ووقاية من الكبت ‪ ,‬ومن العقد النفسية ‪ ,‬وتخفيف من حدة الضغط الجنسي ‪ ,‬وما وراءه من اندفاع‬
‫غير مأمون ‪ . . .‬الخ ‪.‬‬

‫شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد النسان من خصائصه التي تفرقه من‬
‫الحيوان ‪ ,‬والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين ! ‪ -‬وبخاصة نظرية فرويد ‪ -‬ولكن هذا لم يكن‬
‫سوى فروض نظرية ‪ ,‬رأيت بعيني في أشد البلد إباحية وتفلتا من جميع القيود الجتماعية والخلقية والدينية‬
‫والنسانية ‪ ,‬ما يكذبها وينقضها من الساس ‪.‬‬

‫نعم ‪ .‬شاهدت في البلد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي ‪ ,‬والختلط الجنسي ‪ ,‬بكل صوره‬
‫وأشكاله ‪ ,‬أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها ‪ .‬إنما انتهى إلى سعار مجنون ل يرتوي ول‬
‫يهدأ إل ريثما يعود إلى الظمأ والندفاع ! وشاهدت المراض النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها ل تنشأ إل‬
‫من الحرمان ‪ ,‬وإل من التلهف على الجنس الخر المحجوب ‪ ,‬شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل‬
‫أنواعه ‪ . .‬ثمرة مباشرة للختلط الكامل الذي ل يقيده قيد ول يقف عند حد ; وللصداقات بين الجنسين تلك‬
‫التي يباح معها كل شيء ! وللجسام العارية في الطريق ‪ ,‬وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة ‪ ,‬واللفتات‬
‫الموقظة ‪ .‬وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد ‪ .‬مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة‬
‫النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود ‪.‬‬

‫إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي ; لن ال قد ناط به امتداد الحياة على‬
‫هذه الرض ; وتحقيق الخلفة لهذا النسان فيها ‪ .‬فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود ‪ .‬وإثارته في كل حين‬
‫تزيد من عرامته ; وتدفع به إلى الفضاء المادي للحصول على الراحة ‪ .‬فإذا لم يتم هذا تعبت العصاب‬
‫المستثارة ‪.‬‬

‫وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة ! والنظرة تثير ‪ .‬والحركة تثير ‪ .‬والضحكة تثير ‪ .‬والنبرة المعبرة عن‬
‫هذا الميل تثير ‪ .‬والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية ‪ ,‬ثم يلبى‬
‫تلبية طبيعية ‪ . .‬وهذا هو المنهج الذي يختاره السلم ‪ .‬مع تهذيب الطبع ‪ ,‬وشغل الطاقة البشرية بهموم‬
‫أخرى في الحياة ‪ ,‬غير تلبية دافع اللحم والدم ‪ ,‬فل تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد !‬

‫وفي اليتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الستثارة والغواية والفتنة من الجانبين‪:‬‬
‫(قل للمؤمنين‪:‬يغضوا من أبصارهم ‪ ,‬ويحفظوا فروجهم ‪ .‬ذلك أزكى لهم ‪ .‬إن ال خبير بما يصنعون)‪. .‬‬

‫وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي ‪ ,‬ومحاولة للستعلء على الرغبة في الطلع على المحاسن‬
‫والمفاتن في الوجوه والجسام ‪ .‬كما أن فيه إغلقا للنافذة الولى من نوافذ الفتنة والغواية ‪ .‬ومحاولة عملية‬
‫للحيلولة دون وصول السهم المسموم !‬

‫وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر ‪ .‬أو هو الخطوة التالية لتحكيم الرادة ‪ ,‬ويقظة الرقابة ‪,‬‬
‫والستعلء على الرغبة في مراحلها الولى ‪ .‬ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة ; بوصفهما سببا ونتيجة ; أو‬
‫باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع ‪ .‬كلتاهما قريب من قريب ‪.‬‬

‫(ذلك أزكى لهم)‪ . .‬فهو أطهر لمشاعرهم ; وأضمن لعدم تلوثها بالنفعالت الشهوية في غير موضعها‬
‫المشروع النظيف ‪ ,‬وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط ‪ .‬وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها‬
‫وأعراضها ‪ ,‬وجوها الذي تتنفس فيه ‪.‬‬

‫وال هو الذي يأخذهم بهذه الوقاية ; وهو العلم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري ‪ ,‬الخبير بحركات نفوسهم‬
‫وحركات جوارحهم‪( :‬إن ال خبير بما يصنعون)‪. .‬‬

‫(وقل للمؤمنات‪:‬يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن)‪. .‬‬

‫فل يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة ‪ ,‬أو الهاتفة المثيرة ‪ ,‬تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال ‪ .‬ول‬
‫يبحن فروجهن إل في حلل طيب ‪ ,‬يلبي داعي الفطرة في جو نظيف ‪ ,‬ل يخجل الطفال الذين يجيئون عن‬
‫طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة !‬

‫(ول يبدين زينتهن إل ما ظهر منها)‪. .‬‬

‫والزينة حلل للمرأة ‪ ,‬تلبية لفطرتها ‪ .‬فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة ‪ ,‬وأن تبدو جميلة ‪ .‬والزينة تختلف‬
‫من عصر إلى عصر ; ولكن أساسها في الفطرة واحد ‪ ,‬هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله ‪ ,‬وتجليته‬
‫للرجال ‪.‬‬

‫والسلم ل يقاوم هذه الرغبة الفطرية ; ولكنه ينظمها ويضبطها ‪ ,‬ويجعلها تتبلور في التجاه بها إلى رجل‬
‫واحد ‪ -‬هو شريك الحياة ‪ -‬يطلع منها على ما ل يطلع أحد سواه ‪ .‬ويشترك معه في الطلع على بعضها ‪,‬‬
‫المحارم والمذكورون في الية بعد ‪ ,‬ممن ل يثير شهواتهم ذلك الطلع ‪.‬‬

‫فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين ‪ ,‬فيجوز كشفه ‪ .‬لن كشف الوجه واليدين مباح لقوله [ ص ]‬
‫لسماء بنت أبي بكر‪ ":‬يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض ‪ ,‬لم يصلح أن يرى منها إل هذا ‪-‬‬
‫ض ِربْنَ‬
‫ن إِلّا مَا ظَ َهرَ ِم ْنهَا وَ ْليَ ْ‬
‫ن زِي َنتَهُ ّ‬
‫جهُنّ وَلَا ُي ْبدِي َ‬
‫ضضْنَ ِمنْ َأ ْبصَارِهِنّ َو َيحْ َفظْنَ ُفرُو َ‬
‫َوقُل لّ ْل ُم ْؤ ِمنَاتِ َيغْ ُ‬
‫ن أَوْ‬
‫ن أَ ْو آبَاء ُبعُوَل ِتهِنّ َأوْ َأ ْبنَا ِئهِنّ أَوْ َأ ْبنَاء ُبعُوَل ِتهِ ّ‬
‫جيُو ِبهِنّ وَلَا ُي ْبدِينَ زِي َن َتهُنّ إِلّا ِل ُبعُوَل ِتهِنّ َأوْ آبَا ِئهِ ّ‬
‫خمُرِهِنّ عَلَى ُ‬
‫ِب ُ‬
‫غ ْيرِ ُأوْلِي ا ْلِإ ْربَةِ مِنَ‬
‫ن أَوِ التّا ِبعِينَ َ‬
‫ت َأ ْيمَا ُنهُ ّ‬
‫ن أَ ْو مَا مََلكَ ْ‬
‫ن أَ ْو ِنسَا ِئهِ ّ‬
‫ن أَوْ َبنِي َأخَوَا ِتهِ ّ‬
‫ن أَ ْو َبنِي ِإخْوَا ِنهِ ّ‬
‫ِإخْوَا ِنهِ ّ‬
‫ن مِن زِي َن ِتهِنّ َوتُوبُوا‬
‫ت ال ّنسَاء وَلَا َيضْ ِربْنَ ِبأَ ْرجُِلهِنّ ِل ُيعَْلمَ مَا ُيخْفِي َ‬
‫ظهَرُوا عَلَى عَ ْورَا ِ‬
‫ل أَ ِو الطّفْلِ اّلذِينَ َلمْ َي ْ‬
‫ال ّرجَا ِ‬
‫ن َلعَّل ُكمْ تُفِْلحُونَ (‪)31‬‬
‫جمِيعا َأ ّيهَا ا ْلمُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫إِلَى اللّهِ َ‬
‫وأشار إلى وجهه وكفيه " ‪.‬‬

‫(وليضربن بخمرهن على جيوبهن)‪. .‬‬

‫والجيب فتحة الصدر في الثوب ‪ .‬والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر ‪ .‬ليداري مفاتنهن ‪ ,‬فل يعرضها‬
‫للعيون الجائعة ; ول حتى لنظرة الفجاءة ‪ ,‬التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها ‪ ,‬ولكنها قد تترك كمينا‬
‫في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة !‬

‫إن ال ل يريد أن يعرض القلوب للتجربة والبتلء في هذا النوع من البلء !‬

‫والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي ‪ .‬وقلوبهن مشرقة بنور ال ‪ ,‬لم يتلكأن في الطاعة ‪ ,‬على الرغم من‬
‫رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال ‪ .‬وقد كانت المرأة في الجاهلية ‪ -‬كما هي اليوم في الجاهلية‬
‫الحديثة ! ‪ -‬تمر بين الرجال مسفحة بصدرها ل يواريه شيء ‪ .‬وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها ‪,‬‬
‫وأقرطة أذنيها ‪ .‬فلما أمر ال النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن ‪ ,‬ول يبدين زينتهن إل ما ظهر منها ‪,‬‬
‫كن كما قالت عائشة رضي ال عنها ‪ ":-‬يرحم ال نساء المهاجرات الول ‪ .‬لما أنزل ال‪( :‬وليضربن‬
‫بخمرهن على جيوبهن)شققن مروطهن فاختمرن بها ‪ . .‬وعن صفية ‪ -‬بنت شيبة قالت‪:‬بينما نحن عند عائشة ‪.‬‬
‫قالت‪:‬فذكرن نساء قريش وفضلهن ‪ .‬فقالت عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬إن لنساء قريش لفضل ‪ .‬وإني وال ما‬
‫رأيت أفضل من نساء النصار ‪ ,‬وأشد تصديقا لكتاب ال ‪ ,‬ول إيمانا بالتنزيل ‪ .‬لما نزلت في سورة النور‪:‬‬
‫(وليضربن بخمرهن على جيوبهن)انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل ال إليهم فيها ; ويتلو الرجل على‬
‫امرأته وابنته وأخته ‪ ,‬وعلى كل ذي قرابته ‪ .‬فما منهن امرأة إل قامت إلى مرطها المرحل ‪ ,‬فاعتجرت به‬
‫تصديقا وإيمانا بما أنزل ال من كتابه ‪ .‬فأصبحن وراء رسول ال [ ص ] معتجرات كأن على رؤوسهن‬
‫الغربان " ‪.‬‬

‫لقد رفع السلم ذوق المجتمع السلمي ‪ ,‬وطهر إحساسه بالجمال ; فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو‬
‫المستحب ‪ ,‬بل الطابع النساني المهذب ‪ . .‬وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه النسان بحس‬
‫الحيوان ; مهما يكن من التناسق والكتمال ‪ .‬فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف ‪ ,‬الذي يرفع الذوق‬
‫الجمالي ‪ ,‬ويجعله لئقا بالنسان ‪ ,‬ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال ‪.‬‬
‫وكذلك يصنع السلم اليوم في صفوف المؤمنات ‪ .‬على الرغم من هبوط الذوق العام ‪ ,‬وغلبة الطابع الحيواني‬
‫عليه ; والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة ! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات‬
‫‪ ,‬في مجتمع يتكشف ويتبرج ‪ ,‬وتهتف النثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان !‬

‫هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة ‪ . .‬ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة ‪.‬‬
‫فيستثني المحارم الذين ل تتوجه ميولهم عادة ول تثور شهواتهم وهم‪:‬‬

‫الباء والبناء ‪ ,‬وآباء الزواج وأبناؤهم ‪ ,‬والخوة وأبناء الخوة ‪ ,‬وأبناء الخوات ‪ . .‬كما يستثني النساء‬
‫المؤمنات‪( :‬أو نسائهن)فأما غير المسلمات فل ‪ .‬لنهن قد يصفن لزواجهن وإخوتهن ‪ ,‬وأبناء ملتهن مفاتن‬
‫نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها ‪ .‬وفي الصحيحين‪ ":‬ل تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه‬
‫يراها " ‪ . .‬أما المسلمات فهن أمينات ‪ ,‬يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها ‪. .‬‬
‫ويستثنيكذلك (ما ملكت أيمانهن)قيل من الناث فقط ‪ ,‬وقيل‪:‬ومن الذكور كذلك ‪ .‬لن الرقيق ل تمتد شهوته إلى‬
‫سيدته ‪ .‬والول أولى ‪ ,‬لن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة النسان ‪ ,‬مهما يكن له من وضع خاص ; في فترة‬
‫من الزمان ‪ . .‬ويستثني (التابعين غير أولي الربة من الرجال)‪ . .‬وهم الذين ل يشتهون النساء لسبب من‬
‫السباب كالجب والعنة والبلهة والجنون ‪ . .‬وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة ‪ .‬لنه ل فتنة هنا‬
‫ول إغراء ‪ . .‬ويستثني (الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء)‪ . .‬وهم الطفال الذين ل يثير جسم‬
‫المرأة فيهم الشعور بالجنس ‪ .‬فإذا ميزوا ‪ ,‬وثار فيهم هذا الشعور ‪ -‬ولو كانوا دون البلوغ ‪ -‬فهم غير داخلين‬
‫في هذا الستثناء ‪.‬‬

‫وهؤلء كلهم ‪ -‬عدا الزواج ‪ -‬ليس عليهم ول على المرأة جناح أن يروا منها ‪ ,‬إل ما تحت السرة إلى تحت‬
‫الركبة ‪ .‬لنتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء ‪ .‬فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بل استثناء ‪.‬‬

‫ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الجراء ‪ ,‬فقد مضت الية تنهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن‬
‫الزينة المستورة ‪ ,‬وتهيج الشهوات الكامنة ‪ ,‬وتوقظ المشاعر النائمة ‪ .‬ولو لم يكشفن فعل عن الزينة‪:‬‬

‫(ول يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)‪. .‬‬

‫وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالتها واستجاباتها ‪ .‬فإن الخيال ليكون أحيانا أقوى في إثارة‬
‫الشهوات من العيان ‪ .‬وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها ‪ ,‬أو حليها ‪ ,‬أكثر مما تثيرها رؤية‬
‫جسد المرأة ذاته ‪ .‬كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم ‪ ,‬أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين‬
‫أيديهم ‪ -‬وهي حالت معروفة عند علماء المراض النفسية اليوم ‪ -‬وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى‬
‫العطر من بعيد ‪ ,‬قد يثير حواس رجال كثيرين ‪ ,‬ويهيج أعصابهم ‪ ,‬ويفتنهم فتنة جارفة ل يملكون لها ردا ‪.‬‬
‫والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله ‪ .‬لن منزله هو الذي خلق ‪ ,‬وهو الذي يعلم من خلق ‪ .‬وهو اللطيف‬
‫الخبير ‪.‬‬

‫وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى ال ; ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن‪:‬‬

‫(وتوبوا إلى ال جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)‪.‬‬

‫بذلك يثير الحساسية برقابة ال ‪ ,‬وعطفه ورعايته ‪ ,‬وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق ‪,‬‬
‫الذي ل يضبطه مثل الشعور بال ‪ ,‬وبتقواه ‪. .‬‬

‫الدرس الثالث‪ 33 - 32:‬الحث على التزويج والمنع من البغاء‬

‫وإلى هنا كان علج المسألة علجا نفسيا وقائيا ‪ .‬ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة ‪ ,‬ل بد من مواجهتها بحلول‬
‫واقعية إيجابية ‪ . .‬هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج ‪ ,‬والمعاونة عليه ; مع تصعيب السبل الخرى‬
‫للمباشرة الجنسية أو إغلقها نهائيا‪:‬‬

‫وأنكحوا اليامى منكم ‪ ,‬والصالحين من عبادكم وإمائكم ‪ .‬إن يكونوا فقراء يغنهم ال من فضله ‪ .‬وال واسع‬
‫عليم ‪ .‬وليستعفف الذين ل يجدون نكاحا حتى يغنيهم ال من فضله ‪ .‬والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم‬
‫فكاتبوهم ‪ -‬إن علمتم فيهم خيرا ‪ -‬وآتوهم من مال ال الذي آتاكم ; ول تكرهوا فتيانكم على البغاء ‪ -‬إن أردن‬
‫تحصنا ‪ -‬لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ‪ .‬ومن يكرههن فإن ال من بعد إكراههن غفور رحيم ‪. .‬‬

‫إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية ‪ .‬وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة ‪.‬‬

‫عبَا ِدكُمْ وَِإمَا ِئكُمْ إِن َيكُونُوا فُ َقرَاء ُي ْغ ِن ِهمُ اللّهُ مِن فَضْلِ ِه وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (‬
‫ن مِنْ ِ‬
‫وَأَن ِكحُوا ا ْلَأيَامَى مِن ُكمْ وَالصّاِلحِي َ‬
‫‪)32‬‬

‫فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج ‪ ,‬لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها ‪ .‬والعقبة المالية هي العقبة‬
‫الولى في طريق بناء البيوت ‪ ,‬وتحصين النفوس ‪ .‬والسلم نظام متكامل ‪ ,‬فهو ل يفرض العفة إل وقد هيأ‬
‫لها أسبابها ‪ ,‬وجعلها ميسورة للفراد السوياء ‪ .‬فل يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إل الذي يعدل عن الطريق‬
‫النظيف الميسور عامدا غير مضطر ‪.‬‬

‫لذلك يأمر ال الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلل‪:‬‬

‫(وأنكحوا اليامى منكم ‪ ,‬والصالحين من عبادكم وإمائكم ‪ .‬إن يكونوا فقراء يغنهم ال من فضله)‪. .‬‬
‫واليامى هم الذين ل أزواج لهم من الجنسين ‪ . .‬والمقصود هنا الحرار ‪ .‬وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك‪:‬‬
‫(والصالحين من عبادكم وإمائكم)‪.‬‬

‫وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك‪( :‬إن يكونوا فقراء يغنهم ال من فضله)‪. .‬‬

‫وهذا أمر للجماعة بتزويجهم ‪ .‬والجمهور على أن المر هنا للندب ‪ .‬ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد‬
‫رسول ال [ ص ] لم يزوجوا ‪ .‬ولو كان المر للوجوب لزوجهم ‪ .‬ونحن نرى أن المر للوجوب ‪ ,‬ل بمعنى‬
‫أن يجبر المام اليامى على الزواج ; ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج ‪ ,‬وتمكينهم من‬
‫الحصان ‪ ,‬بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية ‪ ,‬وتطهير المجتمع السلمي من الفاحشة ‪ .‬وهو واجب ‪.‬‬
‫ووسيلة الواجب واجبة ‪.‬‬

‫وينبغي أن نضع في حسابنا ‪ -‬مع هذا ‪ -‬أن السلم ‪ -‬بوصفه نظاما متكامل ‪ -‬يعالج الوضاع القتصادية‬
‫علجا أساسيا ; فيجعل الفراد السوياء قادرين على الكسب ‪ ,‬وتحصيل الرزق ‪ ,‬وعدم الحاجة إلى مساعدة‬
‫بيت المال ‪ .‬ولكنه في الحوال الستثنائية يلزم بيت المال ببعض العانات ‪ . .‬فالصل في النظام القتصادي‬
‫السلمي أن يستغني كل فرد بدخله ‪ .‬وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الجر حقا على الدولة واجبا للفراد ‪.‬‬
‫أما العانة من بيت المال فهي حالة استثنائية ل يقوم عليها النظام القتصادي في السلم ‪.‬‬

‫فإذا وجد في المجتمع السلمي ‪ -‬بعد ذلك ‪ -‬أيامى فقراء وفقيرات ‪ ,‬تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج ‪,‬‬
‫فعلى الجماعة أن تزوجهم ‪ .‬وكذلك العبيد والماء ‪ .‬غير أن هؤلء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين ‪.‬‬

‫ول يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج ‪ -‬متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجال ونساء ‪ -‬فالرزق‬
‫بيد ال ‪ .‬وقد تكفل ال بإغنائهم ‪ ,‬إن هم اختاروا طريق العفة النظيف‪( :‬إن يكونوا فقراء يغنهم ال من فضله)‪.‬‬
‫وقال رسول ال [ ص ]‪ ":‬ثلثة حق على ال عونهم‪:‬المجاهد في سبيل ال ‪ ,‬والمكاتب الذي يريد الداء ‪,‬‬
‫والناكح الذي يريد العفاف " ‪.‬‬

‫وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج اليامى يأمرهم بالستعفاف حتى يغنيهم ال بالزواج‪( :‬وليستعفف الذين ل‬
‫يجدون نكاحا حتى يغنيهم ال من فضله)‪( . .‬وال واسع عليم)‪ . .‬ل يضيق على من يبتغي العفة ‪ ,‬وهو يعلم‬
‫نيته وصلحه ‪.‬‬

‫وهكذا يواجه السلم المشكلة مواجهة عملية ; فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج ; ولو كان عاجزا من‬
‫ناحية المال ‪ .‬والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الحصان ‪.‬‬

‫ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي ‪ ,‬وأن يعين على‬
‫الترخص‬
‫حتّى ُي ْغ ِن َي ُهمْ اللّهُ مِن َفضْلِهِ وَاّلذِينَ َي ْب َتغُونَ ا ْل ِكتَابَ ِممّا مََلكَتْ َأ ْيمَا ُنكُمْ َفكَا ِتبُو ُهمْ‬
‫ن ِنكَاحا َ‬
‫جدُو َ‬
‫س َتعْ ِففِ اّلذِينَ لَا َي ِ‬
‫وَ ْل َي ْ‬
‫حصّنا ّل َت ْب َتغُوا‬
‫ن َأ َردْنَ َت َ‬
‫ل اللّهِ اّلذِي آتَا ُكمْ وَلَا ُتكْرِهُوا َف َتيَا ِت ُكمْ عَلَى ا ْل ِبغَاء إِ ْ‬
‫خيْرا وَآتُوهُم مّن مّا ِ‬
‫إِنْ عَِل ْم ُتمْ فِيهِمْ َ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا َومَن ُي ْكرِههّنّ َفإِنّ اللّهَ مِن َب ْعدِ ِإ ْكرَا ِههِنّ غَفُورٌ ّرحِيمٌ (‪)33‬‬
‫ض ا ْل َ‬
‫عرَ َ‬
‫َ‬
‫والباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة النسانية ‪ .‬وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء‬
‫السلم بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين ‪ .‬لما كان المر كذلك عمل السلم على التخلص من الرقاء‬
‫كلما واتت الفرصة ‪ .‬حتى تتهيأ الحوال العالمية للغاء نظام الرق كله ‪ ,‬فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب‬
‫المكاتبة على حريته ‪ .‬وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته‪:‬‬

‫(والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ‪ .‬إن علمتم فيهم خيرا)‪. .‬‬

‫وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب ‪ .‬ونحن نراه الولى ; فهو يتمشى مع خط السلم الرئيسي في الحرية‬
‫وفي كرامة النسانية ‪ .‬ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له ‪ ,‬وأجر عمله له ‪ ,‬ليوفي منه ما كاتب عليه ;‬
‫ويجب له نصيب في الزكاة‪( :‬وآتوهم من مال ال الذي آتاكم)‪ .‬ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق‬
‫خيرا ‪ .‬والخير هو السلم أول ‪ .‬ثم هو القدرة على الكسب ‪ .‬فل يتركه كل على الناس بعد تحرره ‪ .‬وقد يلجأ‬
‫إلى أحط الوسائل ليعيش ‪ ,‬ويكسب ما يقيم أوده ‪ .‬والسلم نظام تكافل ‪ .‬وهو كذلك نظام واقع ‪ .‬فليس المهم‬
‫أن يقال‪:‬إن الرقيق قد تحرر ‪ .‬وليست العنوانات هي التي تهمه ‪ .‬إنما تهمه الحقيقة الواقعة ‪ .‬ولن يتحرر‬
‫الرقيق حقا إل إذا قدر على الكسب بعد عتقه ; فلم يكن كل على الناس ; ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها‬
‫‪ ,‬ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى ‪ ,‬وهو أعتقه لتنظيف المجتمع ل لتلويثه من جديد ; بما هو‬
‫أشد وأنكى ‪.‬‬

‫وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة ‪ ,‬احتراف بعض الرقيق للبغاء ‪ .‬وكان أهل الجاهلية إذا كان لحدهم أمة‬
‫أرسلها تزني ; وجعل عليها ضريبة يأخذها منها ‪ -‬وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى‬
‫اليوم ‪ -‬فلما أراد السلم تطهير البيئة السلمية حرم الزنا بصفة عامة ; وخص هذه الحالة بنص خاص‪:‬‬

‫(ول تكرهوا فتياتكم على البغاء ‪ .‬إن أردن تحصنا ‪ .‬لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ‪ .‬ومن يكرههن فإن ال من‬
‫بعد إكراههن غفور رحيم)‪.‬‬

‫فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر ‪ ,‬ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث ‪.‬‬
‫ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة ‪ ,‬بعد الكراه الذي ل يد لهن فيه ‪.‬‬

‫قال السدي‪:‬أنزلت هذه الية الكريمة في عبد ال بن أبي بن سلول ‪ ,‬رأس المنافقين ‪ ,‬وكانت له جارية تدعى‬
‫معاذة ‪ .‬وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ‪ ,‬إرادة الثواب منه ‪ ,‬والكرامة له ‪ .‬فأقبلت الجارية إلى‬
‫أبي بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬فشكت إليه ذلك ; فذكره أبو بكر للنبي [ ص ] فأمره بقبضها ‪ .‬فصاح عبد ال‬
‫بن أبي‪:‬من يعذرنا من محمد ? يغلبنا على مملوكتنا ! فأنزل ال فيهم هذا ‪.‬‬

‫هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء ‪ -‬وهن يردن العفة ‪ -‬ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة‬
‫القرآن في تطهير البيئة السلمية ‪ ,‬وإغلق السبل القذرة للتصريف الجنسي ‪ .‬ذلك أن وجود البغاء يغري‬
‫الكثيرين لسهولته ; ولو لم يجدوه لنصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف ‪.‬‬

‫ول عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن ‪ ,‬يحمي البيوت الشريفة ; لنه ل سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية‬
‫إل بهذا العلج القذر عند تعذر الزواج ‪ .‬أو تهجم الذئاب المسعورة على العراض المصونة ‪ ,‬إن لم تجد هذا‬
‫الكل المباح !‬

‫عظَ ًة لّ ْل ُمتّقِينَ (‪)34‬‬


‫ت ّم َب ّينَاتٍ َو َمثَلً مّنَ اّلذِينَ خَلَوْا مِن قَبِْل ُكمْ َو َموْ ِ‬
‫وَلَ َقدْ أَنزَلْنَا إَِل ْي ُكمْ آيَا ٍ‬

‫إن في التفكير على هذا النحو قلبا للسباب والنتائج ‪ .‬فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى‬
‫إمداد الحياة بالجيال الجديدة ‪ .‬وعلى الجماعات أن تصلح نظمها القتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في‬
‫مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج ‪ .‬فإن وجدت بعد ذلك حالت شاذة عولجت هذه الحالت علجا‬
‫خاصا ‪ . .‬وبذلك ل تحتاج إلى البغاء ‪ ,‬وإلى إقامة مقاذر إنسانية ‪ ,‬يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء‬
‫الجنس ‪ ,‬فيلقي فيها بالفضلت ‪ ,‬تحت سمع الجماعة وبصرها !‬

‫إن النظم القتصادية هي التي يجب أن تعالج ‪ ,‬بحيث ل تخرج مثل هذا النتن ‪ .‬ول يكون فسادها حجة على‬
‫ضرورة وجود المقاذر العامة ‪ ,‬في صور آدمية ذليلة ‪.‬‬

‫وهذا ما يصنعه السلم بنظامه المتكامل النظيف العفيف ‪ ,‬الذي يصل الرض بالسماء ‪ ,‬ويرفع البشرية إلى‬
‫الفق المشرق الوضيء المستمد من نور ال ‪.‬‬

‫الدرس الرابع‪ 34:‬طبيعة هذا القرآن‬

‫ويعقب على هذا الشوط بصفة القرآن التي تناسب موضوعه وجوه‪:‬‬

‫(ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ‪ ,‬ومثل من الذين خلوا من قبلكم ‪ ,‬وموعظة للمتقين)‪. .‬‬

‫فهو آيات مبينات ‪ ,‬ل تدع مجال للغموض والتأويل ‪ ,‬والنحراف عن النهج القويم ‪.‬‬

‫وهو عرض لمصائر الغابرين الذين انحرفوا عن نهج ال فكان مصيرهم النكال ‪.‬‬
‫وهو موعظة للمتقين الذين تستشعر قلوبهم رقابة ال فتخشى وتستقيم ‪.‬‬

‫والحكام التي تضمنها هذا الشوط تتناسق مع هذا التعقيب ‪ ,‬الذي يربط القلوب بال ‪ ,‬الذي نزل هذا القرآن ‪. .‬‬

‫الوحدة الثالثة‪ 45 - 35:‬الموضوع‪:‬نور ال وبيوت ال وتسبيح المخلوقات ل وخسارة أعمال الكفار‬

‫صبَاحٌ ا ْل ِمصْبَاحُ فِي ُزجَاجَةٍ ال ّزجَاجَ ُة َكَأنّهَا َك ْوكَبٌ ُد ّريّ‬


‫شكَا ٍة فِيهَا ِم ْ‬
‫ض َمثَلُ نُورِ ِه َك ِم ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْ ِ‬
‫اللّهُ نُورُ ال ّ‬
‫غ ْر ِبيّةٍ َيكَادُ َزيْ ُتهَا ُيضِيءُ وَلَ ْو َلمْ َت ْمسَسْ ُه نَارٌ نّورٌ عَلَى نُورٍ َي ْهدِي‬
‫شرْ ِقيّةٍ وَلَا َ‬
‫شجَرَ ٍة ّمبَا َركَ ٍة َزيْتُو ِنةٍ لّا َ‬
‫يُو َقدُ مِن َ‬
‫ن اللّ ُه أَن ُترْفَعَ َو ُي ْذكَرَ‬
‫ت َأذِ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ (‪ )35‬فِي ُبيُو ٍ‬
‫ضرِبُ اللّ ُه ا ْلَأ ْمثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ ِبكُلّ َ‬
‫اللّ ُه ِلنُورِ ِه مَن َيشَاءُ َو َي ْ‬
‫سبّحُ َلهُ فِيهَا بِا ْل ُغدُوّ وَالْآصَالِ (‪ِ )36‬رجَالٌ لّا تُ ْلهِي ِهمْ ِتجَارَةٌ وَلَا َبيْعٌ عَن ِذ ْكرِ اللّهِ وَِإقَامِ الصّلَاةِ وَإِيتَاء‬
‫سمُ ُه ُي َ‬
‫فِيهَا ا ْ‬
‫عمِلُوا َويَزِيدَهُم مّن َفضْلِهِ وَاللّهُ‬
‫حسَنَ مَا َ‬
‫ب فِيهِ الْقُلُوبُ وَا ْلَأ ْبصَارُ (‪ِ )37‬ل َيجْ ِز َي ُهمُ اللّ ُه َأ ْ‬
‫ن يَوْما َتتَقَلّ ُ‬
‫ال ّزكَا ِة َيخَافُو َ‬
‫حسَابٍ (‪)38‬‬
‫َيرْ ُزقُ مَن َيشَاءُ ِب َغيْ ِر ِ‬
‫الدرس الول‪ 38 - 35:‬نور ال وبيوت ال وصفات جنود ال‬

‫في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري ‪ .‬ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى‬
‫آفاق النور ‪ .‬عالج عرامة اللحم والدم ‪ ,‬وشهوة العين والفرج ‪ ,‬ورغبة التجريح والتشهير ‪ ,‬ودفعة الغضب‬
‫والغيظ ‪ .‬وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة ‪ ,‬وأن تشيع في القول ‪ .‬عالجها بتشديد حد‬
‫الزنا وحد القذف ‪ .‬وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلت المؤمنات ‪ .‬وعالجها‬
‫بالوسائل الواقية‪:‬بالستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة ‪ ,‬والنهي عن مثيرات الفتنة ‪ ,‬وموقظات‬
‫الشهوة ‪ .‬ثم بالحصان ‪ ,‬ومنع البغاء ‪ ,‬وتحرير الرقيق ‪ . .‬كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم ‪,‬‬
‫ويهيئ للنفوس وسائل العفة والستعلء والشفافية والشراق ‪.‬‬

‫وفي أعقاب حديث الفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ ‪ ,‬ومن اضطراب في المقاييس ‪ ,‬وقلق في‬
‫النفوس ‪ .‬فإذا نفس محمد ‪ -‬رسول ال [ ص ] ‪ -‬مطمئنة هادئة ‪ .‬وإذا نفس عائشة ‪ -‬رضي ال عنها ‪-‬‬
‫قريرة راضية ‪ .‬وإذا نفس أبي بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬سمحة صافية ‪ .‬وإذا نفس صفوان بن المعطل ‪-‬‬
‫رضي ال عنه ‪ -‬قانعة بشهادة ال وتبرئته ‪ .‬وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة ‪ .‬وقد تكشف لها ما كانت تخبط‬
‫فيه من التيه ‪ .‬فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته ‪. .‬‬

‫بهذا التعليم ‪ .‬وهذا التهذيب ‪ .‬وهذا التوجيه ‪ .‬عالج الكيان البشري ‪ ,‬حتى أشرق بالنور ; وتطلع إلى الفق‬
‫الوضيء ; واستشرق النور الكبير في آفاق السماوات والرض ‪ ,‬وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل‬
‫الغامر في عالم كله إشراق ‪ ,‬وكله نور‪:‬‬
‫(ال نور السماوات والرض)‪. .‬‬

‫وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء ‪ ,‬فيغمر الكون كله ‪ ,‬ويفيض على المشاعر‬
‫والجوارح ‪ ,‬وينسكب في الحنايا والجوانح ; وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر ; وحتى‬
‫تعانقهوترشفه العيون والبصائر ; وحتى تنزاح الحجب ‪ ,‬وتشف القلوب ‪ ,‬وترف الرواح ‪ .‬ويسبح كل شيء‬
‫في الفيض الغامر ‪ ,‬ويتطهر كل شيء في بحر النور ‪ ,‬ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله ‪ ,‬فإذا هو انطلق‬
‫ورفرفة ‪ ,‬ولقاء ومعرفة ‪ ,‬وامتزاج وألفة ‪ ,‬وفرح وحبور ‪ .‬وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من‬
‫القيود والحدود ‪ ,‬تتصل فيه السماوات بالرض ‪ ,‬والحياء بالجماد ‪ ,‬والبعيد بالقريب ; وتلتقي فيه الشعاب‬
‫والدروب ‪ ,‬والطوايا والظواهر ‪ ,‬والحواس والقلوب ‪. .‬‬

‫(ال نور السماوات والرض)‪. .‬‬

‫النور الذي منه قوامها ومنه نظامها ‪ . .‬فهو الذي يهبها جوهر وجودها ‪ ,‬ويودعها ناموسها ‪ . .‬ولقد استطاع‬
‫البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى ‪ ,‬عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة‬
‫‪ -‬بعد تحطيم الذرة ‪ -‬إلى إشعاعات منطلقة ل قوام لها إل النور ! ول "مادة " لها إل النور ! فذرة المادة‬
‫مؤلفة من كهارب وإليكترونيات ‪ ,‬تنطلق ‪ -‬عند تحطيمها ‪ -‬في هيئة إشعاع قوامه هو النور ! فأما القلب‬
‫البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون ‪ .‬كان يدركها كلما شف ورف ‪ ,‬وانطلق إلى آفاق‬
‫النور ‪ .‬ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول ال [ ص ] ففاض بها وهو عائد من الطائف ‪ ,‬نافض كفيه‬
‫من الناس ‪ ,‬عائذ بوجه ربه يقول‪ ":‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ‪ ,‬وصلح عليه أمر الدنيا‬
‫والخرة " ‪ .‬وفاض بها في رحلة السراء والمعراج ‪ .‬فلما سألته عائشة‪:‬هل رأيت ربك ? قال ‪ " .‬نور ‪ .‬أنى‬
‫أراه " ‪.‬‬

‫ولكن الكيان البشري ل يقوى طويل على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما ‪ ,‬ول يستشرف طويل ذلك الفق‬
‫البعيد ‪ .‬فبعد أن جل النص هذا الفق المترامي ‪ ,‬عاد يقارب مداه ‪ ,‬ويقربه إلى الدراك البشري المحدود ‪ ,‬في‬
‫مثل قريب محسوس‪:‬‬

‫مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ‪ .‬المصباح في زجاجة ‪ .‬الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة‬
‫زيتونة ل شرقية ول غربية ‪ ,‬يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار ‪ .‬نور على نور ‪. .‬‬

‫وهو مثل يقرب للدراك المحدود صورة غير المحدود ; ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس ‪ ,‬حين‬
‫يقصر عن تملي الصل ‪ .‬وهو مثل يقرب للدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية‬
‫وراء الدراك البشري الحسير ‪.‬‬
‫ومن عرض السماوات والرض إلى المشكاة ‪ .‬وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة ‪ ,‬يوضع فيها‬
‫المصباح ‪ ,‬فتحصر نوره وتجمعه ‪ ,‬فيبدو قويا متألقا‪( :‬كمشكاة فيها مصباح)‪( . .‬المصباح في زجاجة)‪ . .‬تقيه‬
‫الريح ‪ ,‬وتصفي نوره ‪ ,‬فيتألق ويزداد ‪( . .‬الزجاجة كأنها كوكب دري)‪ . .‬فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة‬
‫‪ . .‬هنا يصل بين المثل والحقيقة ‪ .‬بين النموذج والصل ‪ .‬حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب‬
‫الكبير ‪ ,‬كي ل ينحصر التأمل في النموذج الصغير ‪ ,‬الذي ما جعل إل لتقريب الصل الكبير ‪ . .‬وبعد هذه‬
‫اللفتة يعود إلى النموذج ‪ .‬إلى المصباح‪:‬‬

‫(يوقد من شجرة مباركة زيتونة)ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون ‪ .‬ولكن ليس لهذا وحده‬
‫كان اختيار هذا المثل ‪ .‬إنما هو كذلك الظلل المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة ‪ .‬ظلل الوادي المقدس في‬
‫الطور ‪ ,‬وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب ‪ .‬وفي القرآن إشارة لها وظلل حولها‪(:‬وشجرة تخرج من‬
‫طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للكلين)‪ .‬وهي شجرة معمرة ‪ ,‬وكل ما فيها مما ينفع الناس ‪ .‬زيتها‬
‫وخشبهاوورقها وثمرها ‪ . .‬ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالصل الكبير ‪ .‬فهذه الشجرة‬
‫ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة ‪ .‬إنما هي مثل مجرد للتقريب‪( :‬ل شرقية ول غربية)‪.‬‬
‫‪ .‬وزيتها ليس زيتا من هذا المشهود المحدود ‪ ,‬إنما هو زيت آخر عجيب‪( :‬يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه‬
‫نار)‪ . .‬فهو من الشفافية بذاته ‪ ,‬ومن الشراق بذاته ‪ ,‬حتى ليكاد يضيء بغير احتراق ; (ولو لم تمسسه نار)‪.‬‬
‫‪( .‬نور على نور)‪ . .‬وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف !‬

‫إنه نور ال الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والرض ‪ .‬النور الذي ل ندرك كنهه ول مداه ‪ .‬إنما هي‬
‫محاولة لوصل القلوب به ‪ ,‬والتطلع إلى رؤياه‪( :‬يهدي ال لنوره من يشاء)‪ . .‬ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه‬
‫‪ .‬فهو شائع في السماوات والرض ‪ ,‬فائض في السماوات والرض ‪ .‬دائم في السماوات والرض ‪ .‬ل ينقطع‬
‫‪ ,‬ول يحتبس ‪ ,‬ول يخبو ‪ .‬فحيثما توجه إليه القلب رآه ‪ .‬وحيثما تطلع إليه الحائر هداه ‪ .‬وحيثما اتصل به وجد‬
‫ال ‪.‬‬

‫إنما المثل الذي ضربه ال لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك ‪ ,‬وهو العليم بطاقة البشر‪:‬‬

‫(ويضرب ال المثال للناس ‪ ,‬وال بكل شيء عليم)‪. .‬‬

‫ذلك النور الطليق ‪ ,‬الشائع في السماوات والرض الفائض في السماوات والرض ‪ ,‬يتجلى ويتبلور في بيوت‬
‫ال التي تتصل فيها القلوب بال ‪ ,‬تتطلع إليه وتذكره وتخشاه ‪ ,‬وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة‪:‬‬

‫(في بيوت أذن ال أن ترفع ويذكر فيها اسمه ‪ ,‬يسبح له فيها بالغدو والصال رجال ل تلهيهم تجارة ول بيع‬
‫عن ذكر ال ‪ ,‬وإقام الصلة ‪ ,‬وإيتاء الزكاة ‪ .‬يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والبصار ‪ .‬ليجزيهم ال أحسن ما‬
‫عملوا ويزيدهم من فضله ‪ ,‬وال يرزق من يشاء بغير حساب)‪. .‬‬
‫وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا ‪ ,‬على طريقة التناسق القرآنية في عرض‬
‫المشاهد ذات الشكل المتشابه أو المتقارب ‪ .‬وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة ‪,‬‬
‫والقلوب المشرقة بالنور في بيوت ال ‪.‬‬

‫تلك البيوت (أذن ال أن ترفع)‪ -‬وإذن ال هو أمر للنفاذ ‪ -‬فهي مرفوعة قائمة ‪ ,‬وهي مطهرة رفيعة ‪ .‬يتناسق‬
‫مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والرض ‪ .‬وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني‬
‫الوضيء ‪ .‬وتتهيأ بالرفعة والرتفاع لن يذكر فيها اسم ال‪( :‬ويذكر فيها اسمه)‪ .‬وتتسق معها القلوب الوضيئة‬
‫الطاهرة ‪ ,‬المسبحة الواجفة ‪ ,‬المصلية الواهبة ‪ .‬قلوب الرجال الذين (ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر ال‬
‫وإقام الصلة وإيتاء الزكاة)‪ . .‬والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء ‪ .‬ولكنهم مع شغلهم بهما ل يغفلون‬
‫عن أداء حق ال في الصلة ‪ ,‬وأداء حق العباد في الزكاة‪( :‬يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والبصار)‪. .‬‬
‫تتقلب فل تثبت على شيء من الهول والكرب والضطراب ‪ .‬وهم يخافون ذلك اليوم فل تلهيهم تجارة ول بيع‬
‫عن ذكر ال ‪.‬‬

‫وهم مع هذا الخوف يعلقون رجاءهم بثواب ال‪:‬‬

‫(ليجزيهم ال أحسن ما عملوا ‪ ,‬ويزيدهم من فضله)‪. .‬‬

‫ورجاؤهم لن يخيب في فضل ال‪( :‬وال يرزق من يشاء بغير حساب)من فضله الذي ل حدود له ول قيود ‪.‬‬

‫جدَ اللّهَ عِندَهُ فَ َوفّاهُ‬


‫شيْئا َو َو َ‬
‫جدْهُ َ‬
‫حتّى ِإذَا جَاءهُ َل ْم َي ِ‬
‫سبُ ُه الظّمْآنُ مَاء َ‬
‫حَ‬‫عمَاُل ُهمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َي ْ‬
‫وَاّلذِينَ كَ َفرُوا َأ ْ‬
‫سحَابٌ ظُُلمَاتٌ‬
‫ج مّن فَ ْوقِ ِه َ‬
‫جيّ َي ْغشَا ُه مَ ْوجٌ مّن فَ ْوقِ ِه مَوْ ٌ‬
‫حرٍ ّل ّ‬
‫ت فِي َب ْ‬
‫حسَابِ (‪ )39‬أَ ْو َكظُلُمَا ٍ‬
‫حسَابَهُ وَاللّ ُه سَرِيعُ ا ْل ِ‬
‫ِ‬
‫جعَلِ اللّهُ َلهُ نُورا َفمَا لَ ُه مِن نّورٍ (‪)40‬‬
‫خرَجَ َيدَ ُه َلمْ َي َكدْ َيرَاهَا َومَن ّلمْ َي ْ‬
‫ض ِإذَا َأ ْ‬
‫ضهَا فَ ْوقَ َبعْ ٍ‬
‫َبعْ ُ‬
‫الدرس الثاني‪ 40 - 39:‬خسارة أعمال الكافر‬

‫في مقابل ذلك النور المتجلي في السماوات والرض ‪ ,‬المتبلور في بيوت ال ‪ ,‬المشرق في قلوب أهل اليمان‬
‫‪ . .‬يعرض السياق مجال آخر ‪ .‬مجال مظلما ل نور فيه ‪ .‬مخيفا ل أمن فيه ‪ .‬ضائعا ل خير فيه ‪ .‬ذلك هو‬
‫مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار‪:‬‬

‫(والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ‪ ,‬يحسبه الظمآن ماء ‪ ,‬حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ‪ ,‬ووجد ال عنده فوفاه‬
‫حسابه ‪ .‬وال سريع الحساب ‪ .‬أو كظلمات في بحر لجي ‪ ,‬يغشاه موج من فوقه موج ‪ ,‬من فوقه سحاب ‪.‬‬
‫ظلمات بعضها فوق بعض ‪ ,‬إذا أخرج يده لم يكد يراها ‪ .‬ومن لم يجعل ال له نورا فما له من نور)‪. .‬‬

‫والتعبير يرسم لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين ‪ ,‬حافلين بالحركة والحياة ‪.‬‬
‫في المشهد الول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة ‪ ,‬يلتمع التماعا كاذبا ‪ ,‬فيتبعه صاحبه‬
‫الظامى ء ‪ ,‬وهو يتوقع الري غافل عما ينتظره هناك ‪ . .‬وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة ‪ .‬فهذا السائر‬
‫وراء السراب ‪ ,‬الظامىء الذي يتوقع الشراب ‪ ,‬الغافل عما ينتظره هناك ‪ . .‬يصل ‪ .‬فل يجد ماء يرويه ‪ ,‬إنما‬
‫يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال ‪ ,‬المرعبة التي تقطع الوصال ‪ ,‬وتورث الخبال‪( :‬ووجد ال‬
‫عنده)! ال الذي كفر به وجحده ‪ ,‬وخاصمه وعاداه ‪ .‬وجده هنالك ينتظره ! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما‬
‫له من بني البشر لروعه ‪ ,‬وهو ذاهل غافل على غير استعداد ‪ .‬فكيف وهو يجد ال القوي المنتقم الجبار ?‬

‫(فوفاه حسابه)‪ . .‬هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة ‪( ,‬وال سريع الحساب)‪ . .‬تعقيب يتناسق‬
‫مع المشهد الخاطف المرتاع !‬

‫وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد اللتماع الكاذب ; ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي ‪ .‬موج من فوقه‬
‫موج ‪ .‬من فوقه سحاب ‪ .‬وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض ‪ ,‬حتى ليخرج يده أمام بصره فل يراها لشدة‬
‫الرعب والظلم !‬

‫إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور ال الفائض في الكون ‪ .‬وضلل ل يرى فيه القلب أقرب علمات الهدى ‪.‬‬
‫ومخافة ل أمن فيها ول قرار ‪( . .‬ومن لم يجعل ال له نورا فما له من نور)‪ . .‬ونور ال هدى في القلب ;‬
‫وتفتح في البصيرة ; واتصال في الفطرة بنواميس ال في السماوات والرض ; والتقاء بها على ال نور‬
‫السماوات والرض ‪ .‬فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة ل انكشاف لها ‪ ,‬وفي مخالفة ل أمن فيها ‪ ,‬وفي‬
‫ضلل ل رجعة منه ‪ .‬ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلك والعذاب ; لنه ل عمل بغير عقيدة ‪ ,‬ول‬
‫صلح بغير إيمان ‪ .‬إن هدى ال هو الهدى ‪ .‬وإن نور ال هو النور ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 42 - 41:‬تسبيح المخلوقات ل وملكية ال للوجود‬

‫ذلك مشهد الكفر والضلل والظلم في عالم الناس ‪ ,‬يتبعه مشهد اليمان والهدى والنور في الكون الفسيح ‪.‬‬
‫مشهد يتمثل فيه الوجود كله ‪ ,‬بمن فيه وما فيه ‪ ,‬شاخصا يسبح ل‪:‬إنسه وجنه ‪ ,‬أملكه وأفلكه ‪ ,‬أحياؤه‬
‫وجماده ‪ . .‬وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه ‪ ,‬في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتمله‪:‬‬

‫(ألم تر أن ال يسبح له من في السماوات والرض ‪ ,‬والطير صافات ‪ .‬كل قد علم صلته وتسبيحه وال عليم‬
‫بما يفعلون)‪. .‬‬

‫إن النسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح ; فإن من حوله ‪ ,‬وعن يمينه وعن شماله ‪ ,‬ومن فوقه ومن تحته‬
‫; وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال ‪ . .‬إخوان له من خلق ال ‪ ,‬لهم طبائع شتى ‪ ,‬وصور شتى ‪,‬‬
‫سبِيحَهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ ِبمَا‬
‫ت كُلّ َقدْ عَِل َم صَلَاتَهُ َو َت ْ‬
‫طيْرُ صَافّا ٍ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ وَال ّ‬
‫سبّحُ َلهُ مَن فِي ال ّ‬
‫ن اللّ َه ُي َ‬
‫أََلمْ َترَ أَ ّ‬
‫سحَابا ُثمّ يُؤَّلفُ َب ْينَهُ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ وَإِلَى اللّ ِه ا ْل َمصِيرُ (‪ )42‬أََلمْ َترَ َأنّ اللّهَ ُي ْزجِي َ‬
‫يَ ْفعَلُونَ (‪ )41‬وَلِلّ ِه مُ ْلكُ ال ّ‬
‫جبَالٍ فِيهَا مِن بَ َردٍ َف ُيصِيبُ بِهِ مَن َيشَاءُ‬
‫سمَاءِ مِن ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫خرُجُ ِمنْ خِلَالِهِ َو ُي َنزّلُ مِ َ‬
‫جعَلُهُ ُركَاما َفتَرَى ا ْل َودْقَ َي ْ‬
‫ُثمّ َي ْ‬
‫ن فِي ذَِلكَ َل ِعبْرَةً ّلأُوْلِي‬
‫ب اللّهُ الّليْلَ وَال ّنهَارَ إِ ّ‬
‫سنَا َبرْقِ ِه َيذْهَبُ بِا ْلَأ ْبصَارِ (‪ )43‬يُقَلّ ُ‬
‫صرِفُهُ عَن مّن َيشَاءُ َيكَادُ َ‬
‫َو َي ْ‬
‫ا ْلَأبْصَارِ (‪)44‬‬
‫وأشكال شتى ‪ .‬ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في ال ‪ ,‬ويتوجهون إليه ‪ ,‬ويسبحون بحمده‪( :‬وال عليم بما‬
‫يفعلون)‪. .‬‬

‫والقرآن يوجه النسان إلى النظر فيما حوله من صنع ال ‪ ,‬وإلى من حوله من خلق ال في السماوات‬
‫والرض ‪ ,‬وهم يسبحون بحمده وتقواه ; ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه ‪ ,‬فل يثير‬
‫انتباهه ول يحرك قلبه لطول ما يراه ‪ .‬ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد‬
‫ال‪( :‬كل قد علم صلته وتسبيحه)‪ . .‬والنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه ; وهو أجدر خلق ال‬
‫باليمان والتسبيح والصلة ‪.‬‬

‫وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه ‪ ,‬مسبحا بحمده ‪ ,‬قائما بصلته ; وإنه لكذلك في‬
‫فطرته ‪ ,‬وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه ‪ .‬وإن النسان ليدرك ‪ -‬حين يشف ‪ -‬هذا المشهد ممثل‬
‫في حسه كأنه يراه ; وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح ل ‪ .‬وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود‬
‫صلته ونجواه ‪ . .‬كذلك كان محمد بن عبد ال ‪ -‬صلة ال وسلمه عليه ‪ -‬إذا مشى سمع تسبيح الحصى‬
‫تحت قدميه ‪ .‬وكذلك كان داود ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير ‪.‬‬

‫(ول ملك السماوات والرض ‪ ,‬وإلى ال المصير)‪. .‬‬

‫فل اتجاه إل إليه ‪ ,‬ول ملجأ من دونه ‪ ,‬ول مفر من لقائه ‪ ,‬ول عاصم من عقابه ‪ ,‬وإلى ال المصير ‪.‬‬

‫الدرس الرابع‪ 43:‬مشهد المطر والسحاب‬

‫ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين ; وفيها متعة للنظر ‪ ,‬وعبرة للقلب ‪ ,‬ومجال‬
‫للتأمل في صنع ال وآياته ‪ ,‬وفي دلئل النور والهدى واليمان‪:‬‬

‫ألم تر أن ال يزجي سحابا ‪ ,‬ثم يؤلف بينه ‪ ,‬ثم يجعله ركاما ‪ ,‬فترى الودق يخرج من خلله ‪ .‬وينزل من‬
‫السماء من جبال فيها من برد ‪ ,‬فيصيب به من يشاء ‪ ,‬ويصرفه عمن يشاء ‪ ,‬يكاد سنا برقه يذهب بالبصار ‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫والمشهد يعرض على مهل وفي إطالة ‪ ,‬وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع ‪ .‬كل أولئك لتؤدي‬
‫الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه ‪ ,‬وبعثه إلى التأمل والعبرة ‪ ,‬وتدبر ما وراءها من صنع ال ‪.‬‬

‫إن يد ال تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان ‪ .‬ثم تؤلف بينه وتجمعه ‪ ,‬فإذا هو ركام بعضه فوق‬
‫بعض ‪ .‬فإذا ثقل خرج منه الماء ‪ ,‬والوبل الهاطل ‪ ,‬وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة ‪ ,‬فيها قطع البرد‬
‫الثلجية الصغيرة ‪ . .‬ومشهد السحب كالجبال ل يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير‬
‫بينها ‪ ,‬فإذا المشهد مشهد الجبال حقا ‪ ,‬بضخامتها ‪ ,‬ومساقطها ‪ ,‬وارتفاعاتها وانخفاضاتها ‪ .‬وإنه لتعبير مصور‬
‫للحقيقة التي لم يرها الناس ‪ ,‬إل بعد ما ركبوا الطائرات ‪.‬‬

‫وهذه الجبال مسخرة بأمر ال ‪ ,‬وفق ناموسه الذي يحكم الكون ; ووفق هذا الناموس يصيب ال بالمطر من‬
‫يشاء ‪ ,‬ويصرفه عمن يشاء ‪ . .‬وتكملة المشهد الضخم‪( :‬يكاد سنا برقه يذهب بالبصار)ذلك ليتم التناسق مع‬
‫جو النور الكبير في الكون العريض ‪ ,‬على طريقة التناسق في التصوير ‪.‬‬

‫الدرس الخامس‪ 44:‬تقليب الليل والنهار‬

‫ثم مشهد كوني ثالث‪:‬مشهد الليل والنهار‪:‬‬

‫(يقلب ال الليل والنهار ‪ .‬إن في ذلك لعبرة لولي البصار)‪. .‬‬

‫طنِهِ َو ِم ْنهُم مّن َي ْمشِي عَلَى ِرجَْليْنِ َو ِم ْنهُم مّن َيمْشِي عَلَى‬
‫ل دَابّةٍ مِن مّاء َفمِ ْنهُم مّن َي ْمشِي عَلَى َب ْ‬
‫وَاللّهُ خََلقَ كُ ّ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‪)45‬‬
‫ل َ‬
‫ن اللّهَ عَلَى كُ ّ‬
‫َأ ْربَعٍ َيخْلُقُ اللّهُ مَا َيشَا ُء إِ ّ‬
‫والتأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي ل يختل ول يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر الناموس‬
‫الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع ال ‪ .‬والقرآن يوجه القلب إلى هذه المشاهد التي ذهبت اللفة بوقعها‬
‫المثير ; ليواجه القلب هذا الكون دائما بحس جديد ‪ ,‬وانفعال جديد ‪ .‬فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب‬
‫البشري ‪ ,‬وهو يتأملها أول مرة ‪ .‬وهي هي لم تتغير ; ولم تفقد جمالها وروعتها ‪ .‬إنما القلب البشري هو الذي‬
‫صدىء وهمد ‪ ,‬فلم يعد يخفق لها ‪ .‬وكم ذا نفقد من حياتنا ‪ ,‬وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود ‪ ,‬حين نمر‬
‫غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حسنا وهي جديدة ‪ .‬أو وحسنا هو الجديد !‬

‫والقرآن يجدد حسنا الخامد ‪ ,‬ويوقظ حواسنا الملول ‪ .‬ويلمس قلبنا البارد ‪ .‬ويثير وجداننا الكليل ; لنرتاد هذا‬
‫الكون دائما كما ارتدناه أول مرة ‪ .‬نقف أمام كل ظاهرة نتأملها ‪ ,‬ونسألها عما وراءها من سر دفين ‪ ,‬ومن‬
‫سحر مكنون ‪ .‬ونرقب يد ال تفعل فعلها في كل شيء من حولنا ‪ ,‬ونتدبر حكمته في صنعته ‪ ,‬ونعتبر بآياته‬
‫المبثوثة في تضاعيف الوجود ‪.‬‬
‫إن ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يريد أن يمن علينا ‪ ,‬بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره ; فاستعدنا نعمة‬
‫الحساس بها كأننا نراها أول مرة ‪ .‬فنظل نجد الكون مرات ل تحصى ‪ .‬وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد ;‬
‫ونستمتع به من جديد ‪.‬‬

‫وإن هذا الوجود لجميل وباهر ورائع ‪ .‬وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته ‪ ,‬مستمدة من النبع الذي يستمد منه ‪,‬‬
‫قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه ‪ .‬فالتصال بضمير هذا الوجود يهبنا أنسا وطمأنينة ‪ ,‬وصلة ومعرفة‬
‫‪ ,‬وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب !‬

‫وإننا لنجد نور ال هناك ‪ .‬فال نور السماوات والرض ‪ . .‬نجده في الفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة التي‬
‫نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير ‪ ,‬والقلب المتفتح ‪ ,‬والتأمل الواصل إلى حقيقة التدبير ‪.‬‬

‫لهذا يوقظنا القرآن المرة بعد المرة ‪ ,‬ويوجه حسنا وروحنا إلى شتى مشاهد الوجود الباهرة ‪ ,‬كي ل نمر عليها‬
‫غافلين مغمضي العين ‪ ,‬فنخرج من رحلة الحياة على ظهر هذه الرض بغير رصيد ‪ .‬أو برصيد قليل هزيل‬
‫‪..‬‬

‫الدرس السادس‪ 45:‬إعجاز ال في الكون وفي مخلوقاته‬

‫ويمضي السياق في عرض مشاهد الكون ‪ ,‬واستثارة تطلعنا إليها ; فيعرض نشأة الحياة ‪ ,‬من أصل واحد ‪,‬‬
‫وطبيعة واحدة ‪ ,‬ثم تنوعها ‪ ,‬مع وحدة النشأة والطبيعة‪:‬‬

‫(وال خلق كل دابة من ماء ‪ .‬فمنهم من يمشي على بطنه ‪ ,‬ومنهم من يمشي على رجلين ‪ ,‬ومنهم من يمشي‬
‫على أربع ‪ .‬يخلق ال ما يشاء ‪ .‬إن ال على كل شيء قدير)‪. .‬‬

‫وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة ‪ ,‬حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ‪ ,‬قد تعني وحدة‬
‫العنصر الساسي في تركيب الحياء جميعا ‪ ,‬وهو الماء ‪ ,‬وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن‬
‫الحياة خرجت من البحر ونشأت أصل في الماء ‪ .‬ثم تنوعت النواع ‪ ,‬وتفرعت الجناس ‪. .‬‬

‫ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل ‪.‬‬
‫‪ .‬ل نزيد على هذه الشارة شيئا ‪ .‬مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية ‪ .‬وهي أن ال خلق الحياء كلها من الماء ‪.‬‬
‫فهي ذات أصل واحد ‪ .‬ثم هي ‪ -‬كما ترى العين ‪ -‬متنوعة الشكال ‪ .‬منها الزواحف تمشي على بطنها ‪,‬‬
‫ومنها النسان والطير يمشي على قدمين ‪ .‬ومنها الحيوان يدب على أربع ‪ .‬كل أولئك وفق سنة ال ومشيئته ‪,‬‬
‫ل عن فلتة ول مصادفة‪ :‬يخلق ال ما يشاء غير مقيد بشكل ول هيئة ‪ .‬فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون‬
‫ط ْعنَا ُثمّ‬
‫ستَقِيمٍ (‪َ )46‬ويَقُولُونَ آ َمنّا بِاللّهِ َوبِال ّرسُولِ وََأ َ‬
‫لَ َقدْ أَنزَ ْلنَا آيَاتٍ ّم َب ّينَاتٍ وَاللّ ُه َي ْهدِي مَن َيشَا ُء إِلَى صِرَاطٍ ّم ْ‬
‫َيتَوَلّى َفرِيقٌ ّم ْنهُم مّن َب ْعدِ ذَِلكَ َومَا أُوَْل ِئكَ بِا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ (‪)47‬‬
‫قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها‪( :‬إن ال على كل شيء قدير)‪.‬‬

‫وإن تملي الحياء ‪ .‬وهي بهذا التنوع في الشكال والحجام ‪ ,‬والصول والنواع ‪ ,‬والشيات واللوان ‪ .‬وهي‬
‫خارجة من أصل واحد ‪ ,‬ليوحي بالتدبير المقصود ‪ ,‬والمشيئة العامدة ‪ .‬وينفي فكرة الفلتة والمصادفة ‪ .‬وإل‬
‫فأي فلتة تلك التي تتضمن كل هذا التدبير ; وأية مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير ? إنما هو صنع ال‬
‫العزيز الحكيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ‪. .‬‬

‫الوحدة الرابعة‪ 57 - 46:‬الموضوع‪:‬التقابل بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين والتمكين للمؤمنين‬
‫موضوع الوحدة‬

‫بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور ‪ ,‬في مشاهد الكون الكبير ‪ . .‬يعود سياق السورة إلى‬
‫موضوعهاالصيل ‪ .‬موضوع الداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة ‪ ,‬لتتطهر قلوبها وتشرق ‪,‬‬
‫وتتصل بنور ال في السماوات والرض ‪.‬‬

‫ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر ال ‪ ,‬وإقام الصلة ‪,‬‬
‫وإيتاء الزكاة ‪ .‬وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم ‪ ,‬وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض ‪.‬‬

‫فالن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين ‪ ,‬الذين ل ينتفعون بآيات ال المبينات ول يهتدون ‪ .‬فهم يظهرون‬
‫السلم ‪ ,‬ولكنهم ل يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول ال [ ص ] وفي الرضى بحكمه ‪ ,‬والطمأنينة إليه‬
‫‪ .‬ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم ‪ .‬أولئك الذين وعدهم ال الستخلف في الرض ‪,‬‬
‫والتمكين في الدين ‪ ,‬والمن في المقام ‪ ,‬جزاء لهم على أدبهم مع ال ورسوله ‪ .‬وطاعتهم ل ورسوله ‪ .‬وذلك‬
‫على الرغم من عداء الكافرين ‪ .‬وما الذين كفروا بمعجزين في الرض ومأواهم النار وبئس المصير ‪. .‬‬

‫الدرس الول‪ 53 - 46:‬رفض المنافقين حكم ال وقبول المؤمنين ذلك‬

‫(لقد أنزلنا آيات مبينات ‪ .‬وال يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)‪. .‬‬

‫فآيات ال مبينة كاشفة ; تجلو نور ال ‪ ,‬وتكشف عن ينابيع هداه ‪ .‬وتحدد الخير والشر ‪ ,‬والطيب والخبيث ‪.‬‬
‫وتبين منهج السلم في الحياة كامل دقيقا ل لبس فيه ول غموض ; وتحدد أحكام ال في الرض بل شبهة ول‬
‫إبهام ‪ .‬فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون إلى شريعة واضحة مضبوطة ‪ ,‬ل يخشى منها صاحب حق على‬
‫حقه ; ول يلتبس فيها حق بباطل ‪ ,‬ول حلل بحرام ‪.‬‬
‫(وال يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)‪ . .‬والمشيئة مطلقة ل يقيدها قيد ‪ .‬غير أن ال سبحانه قد جعل‬
‫للهدى طريقا ‪ ,‬ومن وجه نفسه إليه وجد فيه هدى ال ونوره ‪ ,‬فاتصل به ‪ ,‬وسار على الدرب ‪ ,‬حتى يصل ‪-‬‬
‫بمشيئة ال ‪ -‬ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في طريق الضلل ‪ .‬حسب مشيئة ال في الهدى‬
‫والضلل ‪.‬‬

‫ومع هذه اليات المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس ‪ .‬فريق المنافقين ‪ ,‬الذين كانوا يظهرون السلم ول‬
‫يتأدبون بأدب السلم‪:‬‬

‫(ويقولون‪:‬آمنا بال وبالرسول وأطعنا ‪ .‬ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ‪ .‬وما أولئك بالمؤمنين ‪ .‬وإذا دعوا‬
‫إلى ال ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ‪ .‬وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ‪ .‬أفي قلوبهم‬
‫مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف ال عليهم ورسوله ? بل أولئك هم الظالمون)‪. .‬‬

‫إن اليمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك ‪ .‬والسلم عقيدة متحركة ‪ ,‬ل تطيق‬
‫السلبية ‪ .‬فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج ; ولتترجم نفسها إلى حركة‬
‫وإلى عمل في عالم الواقع ‪ .‬ومنهج السلم الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن‬
‫بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية ; وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون ‪ .‬مع استحياء الدافع‬
‫الشعوري الول في كل حركة ‪ ,‬لتبقى حية متصلة بالينبوع الصيل ‪.‬‬

‫وهؤلء كانوا يقولون‪( :‬آمنا بال وبالرسول وأطعنا)‪ . .‬يقولونها بأفواههم ‪ ,‬ولكن مدلولها ل يتحقق في سلوكهم‬
‫‪ .‬فيتولون ناكصين ; يكذبون بالعمال ما قالوه باللسان‪( :‬وما أولئك بالمؤمنين)فالمؤمنون تصدق أفعالهم‬
‫أقوالهم ‪ .‬واليمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها ; ثم يدعها ويمضي ‪ .‬إنما هو تكيف في النفس ‪ ,‬وانطباع في‬
‫القلب ‪ ,‬وعمل في الواقع ‪ ,‬ثم ل تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير ‪. .‬‬

‫عنِينَ (‬
‫حقّ َي ْأتُوا إَِل ْيهِ ُمذْ ِ‬
‫ح ُكمَ َب ْي َنهُمْ ِإذَا فَرِيقٌ ّم ْنهُم ّم ْعرِضُونَ (‪ )48‬وَإِن َيكُن ّل ُهمُ ا ْل َ‬
‫وَِإذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ َو َرسُوِلهِ ِل َي ْ‬
‫‪)49‬‬

‫ولقد كان هؤلء الذين يدعون اليمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول ال [ ص ] على‬
‫شريعة ال التي جاء بها‪:‬‬

‫(وإذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ‪ .‬وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين)‪. .‬‬

‫فلقد كانوا يعلمون أن حكم ال ورسوله ل يحيد عن الحق ‪ ,‬ول ينحرف مع الهوى ‪ ,‬ول يتأثر بالمودة والشنآن‬
‫‪ .‬وهذا الفريق من الناس ل يريد الحق ول يطيق العدل ‪ .‬ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول ال [‬
‫ص ] ويأبون أن يجيئوا إليه ‪ .‬فأما إذا كانوا أصحاب حق في قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول ال ‪,‬‬
‫راضين خاضعين ‪ ,‬لنهم واثقون أنهم سيقضي لهم بحقهم ‪ ,‬وفق شريعة ال ‪ ,‬التي ل تظلم ول تبخس الحقوق‬
‫‪.‬‬

‫هذا الفريق الذي كان يدعي اليمان ‪ ,‬ثم يسلك هذا السلوك الملتوي ‪ ,‬إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان‬
‫ومكان ‪ .‬المنافقين الذي ل يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر ‪ ,‬فيتظاهرون بالسلم ‪ .‬ولكنهم ل يرضون أن‬
‫تقضي بينهم شريعة ال ‪ ,‬ول أن يحكم فيهم قانونه ‪ ,‬فإذا دعوا إلى حكم ال ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا‬
‫المعاذير (وما أولئك بالمؤمنين)فما يستقيم اليمان وإباء حكم ال ورسوله ‪ .‬إل أن تكون لهم مصلحة في أن‬
‫يتحاكموا إلى شريعة ال أو يحكموا قانونه !‬

‫إن الرضى بحكم ال ورسوله هو دليل اليمان الحق ‪ .‬وهو المظهر الذي ينبى ء عن استقرار حقيقة اليمان‬
‫في القلب ‪ .‬وهو الدب الواجب مع ال ومع رسول ال ‪ .‬وما يرفض حكم ال وحكم رسوله إل سييء الدب‬
‫معتم ‪ ,‬لم يتأدب بأدب السلم ‪ ,‬ولم يشرق قلبه بنور اليمان ‪.‬‬

‫ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم ‪ ,‬وتتعجب من ريبتهم ‪ ,‬وتستنكر تصرفهم الغريب‪:‬‬

‫(أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف ال عليهم ورسوله ?)‪. .‬‬

‫والسؤال الول للثبات ‪ .‬فمرض القلب جدير بأن ينشى مثل هذا الثر ‪ .‬وما ينحرف النسان هذا النحراف‬
‫وهو سليم الفطرة ‪ .‬إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها ‪ ,‬فل تتذوق حقيقة اليمان ‪ ,‬ول تسير‬
‫على نهجه القويم ‪.‬‬

‫والسؤال الثاني للتعجب ‪ .‬فهل هم يشكون في حكم ال وهم يزعمون اليمان ? هل هم يشكون في مجيئه من‬
‫عند ال ? أو هم يشكون في صلحيته لقامة العدل ? على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين !‬

‫والسؤال الثالث للستنكار والتعجب من أمرهم الغريب ‪ .‬فهل هم يخافون أن يحيف ال عليهم ورسوله ? وإنه‬
‫لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان ‪ .‬فال خالق الجميع ورب الجميع ‪ .‬فكيف يحيف في حكمه‬
‫على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه ?‬

‫إن حكم ال هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف ‪ .‬لن ال هو العادل الذي ل يظلم أحدا ‪ .‬وكل خلقه‬
‫أمامه سواء ‪ ,‬فل يظلم أحد منهم لمصلحة أحد ‪ .‬وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف ‪ .‬فالبشر ل يملكون‬
‫أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم ‪ .‬أفرادا كانوا أم طبقة أم دولة ‪.‬‬

‫وحين يشرع فرد ويحكم فل بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه ‪ .‬وكذلك حين تشرع طبقة‬
‫لطبقة ‪ ,‬وحين تشرع دولة لدولة ‪ .‬أو كتلة من الدول لكتلة ‪ . .‬فأما حين يشرع ال فل حماية ول مصلحة ‪.‬‬
‫ن أَن َيحِيفَ اللّهُ عََل ْيهِمْ َورَسُوُل ُه بَلْ ُأوَْل ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ (‪ِ )50‬إ ّنمَا كَانَ‬
‫َأفِي قُلُو ِبهِم ّمرَضٌ َأ ِم ا ْرتَابُوا َأمْ َيخَافُو َ‬
‫ط ْعنَا وَُأوَْل ِئكَ ُهمُ ا ْلمُفِْلحُونَ (‪َ )51‬ومَن‬
‫س ِم ْعنَا وََأ َ‬
‫ح ُكمَ َب ْي َنهُمْ أَن يَقُولُوا َ‬
‫قَوْلَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ِإذَا ُدعُوا إِلَى اللّهِ َو َرسُوِلهِ ِل َي ْ‬
‫ُيطِعِ اللّهَ َو َرسُوَلهُ َو َيخْشَ اللّهَ َو َيتّ ْقهِ َفأُوَْل ِئكَ ُهمُ الْفَا ِئزُونَ (‪)52‬‬
‫إنما هي العدالة المطلقة ‪ ,‬التي ل يطيقها تشريع غير تشريع ال ‪ ,‬ول يحققها حكم غير حكمه ‪.‬‬

‫من أجل ذلك كان الذين ل يرتضون حكم ال ورسوله هم الظالمون ‪ ,‬الذين ل يريدون للعدالة أن تستقر ; ول‬
‫يحبون للحق أن يسود ‪ .‬فهم ل يخشون في حكم ال حيفا ‪ ,‬ول يرتابون في عدالته أصل (بل أولئك هم‬
‫الظالمون)‪. .‬‬

‫فأما المؤمنون حقا فلهم أدب غير هذا مع ال ورسوله ‪ .‬ولهم قول آخر إذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم ;‬
‫هو القول الذي يليق بالمؤمنين ; وينبى ء عن إشراق قلوبهم بالنور‪:‬‬

‫(إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا‪:‬سمعنا وأطعنا ‪ .‬وأولئك هم‬
‫المفلحون)‪. .‬‬

‫فهو السمع والطاعة بل تردد ول جدال ول انحراف ‪ .‬السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم‬
‫ال ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى ; النابعان من التسليم المطلق ل ‪ ,‬واهب الحياة ‪ ,‬المتصرف فيها كيف‬
‫يشاء ; ومن الطمئنان إلى أن ما يشاؤه ال للناس خير مما يشاءونه لنفسهم ‪ .‬فال الذي خلق أعلم بمن خلق ‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫(وأولئك هم المفلحون)‪ . .‬المفلحون لن ال هو الذي يدبر أمورهم ‪ ,‬وينظم علقاتهم ‪ ,‬ويحكم بينهم بعلمه‬
‫وعدله ; فل بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم ‪ ,‬وينظم علقاتهم ‪ ,‬ويحكم بينهم بشر مثلهم ‪ ,‬قاصرون لم‬
‫يؤتوا من العلم إل قليل ‪ . .‬والمفلحون لنهم مستقيمون على منهج واحد ‪ ,‬ل عوج فيه ول التواء ‪ ,‬مطمئنون‬
‫إلى هذا المنهج ‪ ,‬ماضون فيه ل يتخبطون ‪ ,‬فل تتوزع طاقاتهم ‪ ,‬ول يمزقهم الهوى كل ممزق ‪ ,‬ول تقودهم‬
‫الشهوات والهواء ‪ .‬والنهج اللهي أمامهم واضح مستقيم ‪.‬‬

‫(ومن يطع ال ورسوله ويخش ال ويتقه فأولئك هم الفائزون)‪. .‬‬

‫وقد كان الحديث في الية السابقة عن الطاعة والتسليم في الحكام ‪ .‬فالن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر‬
‫أو نهي ‪ ,‬مصحوبة هذه الطاعة بخشية ال وتقواه ‪ .‬والتقوى أعم من الخشية ‪ ,‬فهي مراقبة ال والشعور به عند‬
‫الصغيرة والكبيرة ; والتحرج من إتيان ما يكره توقيرا لذاته سبحانه ‪ ,‬وإجلل له ‪ ,‬وحياء منه ‪ ,‬إلى جانب‬
‫الخوف والخشية ‪.‬‬
‫ومن يطع ال ورسوله ويخش ال ويتقه فأولئك هم الفائزون ‪ ,‬الناجون في دنياهم وأخراهم ‪ .‬وعد ال ولن‬
‫يخلف ال وعده ‪ .‬وهم للفوز أهل ‪ ,‬ولديهم أسبابه من واقع حياتهم ‪ .‬فالطاعة ل ورسوله تقتضي السير على‬
‫النهج القويم الذي رسمه ال للبشرية عن علم وحكمة ‪ ,‬وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والخرة ‪.‬‬
‫وخشية ال وتقواه هي الحارس الذي يكفل الستقامة على النهج ‪ ,‬وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه‬
‫‪ ,‬فل ينحرفون ول يلتفتون ‪.‬‬

‫وأدب الطاعة ل ورسوله ‪ ,‬مع خشية ال وتقواه ‪ ,‬أدب رفيع ‪ ,‬ينبىء عن مدى إشراق القلب بنور ال ‪,‬‬
‫واتصاله به ‪ ,‬وشعوره بهيبته ‪ .‬كما ينبىء عن عزة القلب المؤمن واستعلئه ‪ .‬فكل طاعة ل ترتكن على طاعة‬
‫ال ورسوله ‪ ,‬ول تستمد منها ‪ ,‬هي ذلة يأباها الكريم ‪ ,‬وينفر منها طبع المؤمن ‪ ,‬ويستعلي عليها ضميره ‪.‬‬
‫فالمؤمن الحق ل يحني رأسه إل ل الواحد القهار ‪.‬‬

‫وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين ‪ ,‬وسوء أدب المنافقين الذين يدعون اليمان ‪ ,‬وما هم بمؤمنين ‪ ,‬بعد‬
‫هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلء المنافقين‪:‬‬

‫خبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ (‪ )53‬قُلْ‬


‫ن اللّهَ َ‬
‫سمُوا طَاعَ ٌة ّمعْرُوفَ ٌة إِ ّ‬
‫ج ْهدَ َأ ْيمَا ِنهِمْ َل ِئنْ َأ َم ْر َتهُ ْم َل َيخْ ُرجُنّ قُل لّا تُ ْق ِ‬
‫سمُوا بِاللّ ِه َ‬
‫وََأ ْق َ‬
‫حمّ ْل ُتمْ وَإِن ُتطِيعُو ُه َت ْه َتدُوا َومَا عَلَى‬
‫حمّلَ َوعََل ْيكُم مّا ُ‬
‫َأطِيعُوا اللّهَ وََأطِيعُوا ال ّرسُولَ َفإِن تَوَلّوا َفِإ ّنمَا عََليْهِ مَا ُ‬
‫الرّسُولِ إِلّا ا ْلبَلَاغُ ا ْل ُمبِينُ (‪)54‬‬

‫(وأقسموا بال جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن ‪ .‬قل‪:‬ل تقسموا ‪ .‬طاعة معروفة ‪ .‬إن ال خبير بما تعملون ‪.‬‬
‫قل‪:‬أطيعوا ال وأطيعوا الرسول ‪ .‬فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ‪ .‬وإن تطيعوه تهتدوا ‪ .‬وما‬
‫على الرسول إل البلغ المبين)‪. .‬‬

‫ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول ال [ ص ] لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن وال يعلم إنهم لكاذبون‬
‫‪ .‬فهو يرد عليهم متهكما ‪ ,‬ساخرا من أيمانهم ‪( .‬قل‪:‬ل تقسموا ‪ .‬طاعة معروفة)‪ . .‬ل تحلفوا فإن طاعتكم‬
‫معروف أمرها ‪ ,‬مفروغ منها ‪ ,‬ل تحتاج إلى حلف أو توكيد ! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور‬
‫به‪:‬ل تحلف لي على صدقك ‪ .‬فهو مؤكد ثابت ل يحتاج إلى دليل ‪.‬‬

‫ويعقب على التهكم الساخر بقوله‪( :‬إن ال خبير بما تعملون)‪ . .‬فل يحتاج إلى قسم ول توكيد ‪ ,‬وقد علم أنكم‬
‫ل تطيعون ول تخرجون !‬

‫لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة ‪ .‬الطاعة الحقيقية ‪ .‬ل طاعتهم تلك المعروفة المفهومة !‬

‫(قل‪:‬أطيعوا ال وأطيعوا الرسول)‪. .‬‬


‫(فإن تولوا)وتعرضوا ‪ ,‬أو تنافقوا ول تنفذوا (فإنما عليه ما حمل)من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه (وعليكم ما‬
‫حملتم)وهو أن تطيعوا وتخلصوا ‪ .‬وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه‪( :‬وإن تطيعوه تهتدوا)إلى المنهج القويم المؤدي‬
‫إلى الفوز والفلح ‪( .‬وما على الرسول إل البلغ المبين)فليس مسؤول عن إيمانكم ‪ ,‬وليس مقصرا إذا أنتم‬
‫توليتم ‪ .‬إنما أنتم المسؤولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر ال وأمر الرسول ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 57 - 55:‬وعد المؤمنين بالتمكين وانتصار الدين‬

‫وبعد استعراض أمر المنافقين ‪ ,‬والنتهاء منه على هذا النحو ‪ . .‬يدعهم السياق وشأنهم ‪ ,‬ويلتفت عنهم إلى‬
‫المؤمنين المطيعين ‪ ,‬يبين جزاء الطاعة المخلصة ‪ ,‬واليمان العامل ‪ ,‬في هذه الرض قبل يوم الحساب‬
‫الخير‪:‬‬

‫(وعد ال الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض كما استخلف الذين من قبلهم ; وليمكنن‬
‫لهم دينهم الذي ارتضى لهم ; وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ‪ .‬يعبدونني ل يشركون بي شيئا ‪ .‬ومن كفر بعد‬
‫ذلك فأولئك هم الفاسقون)‪. .‬‬

‫ذلك وعد ال للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد [ ص ] أن يستخلفهم في الرض ‪ .‬وأن يمكن لهم‬
‫دينهم الذي ارتضى لهم ‪ .‬وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا ‪ . .‬ذلك وعد ال ‪ .‬ووعد ال حق ‪ .‬ووعد ال واقع ‪.‬‬
‫ولن يخلف ال وعده ‪ . .‬فما حقيقة ذلك اليمان ? وما حقيقة هذا الستخلف ?‬

‫إن حقيقة اليمان التي يتحقق بها وعد ال حقيقة ضخمة تستغرق النشاط النساني كله ; وتوجه النشاط‬
‫النساني كله ‪ .‬فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله‬
‫إلى ال ; ل يبتغي به صاحبه إل وجه ال ; وهي طاعة ل واستسلم لمره في الصغيرة والكبيرة ‪ ,‬ل يبقى‬
‫معها هوى في النفس ‪ ,‬ول شهوة في القلب ‪ ,‬ول ميل في الفطرة إل وهو تبع لما جاء به رسول ال [ ص ]‬
‫من عند ال ‪.‬‬

‫فهو اليمان الذي يستغرق النسان كله ‪ ,‬بخواطر نفسه ‪ ,‬وخلجات قلبه ‪ .‬وأشواق روحه ‪ ,‬وميول فطرته ‪,‬‬
‫وحركات جسمه ‪ ,‬ولفتات جوارحه ‪ ,‬وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا ‪ . .‬يتوجه بهذا كله إلى ال ‪.‬‬
‫‪ .‬يتمثل هذا في قول ال سبحانه في الية نفسها تعليل للستخلف والتمكين والمن‪( :‬يعبدونني ل يشركون بي‬
‫شيئا)والشرك مداخل وألوان ‪ ,‬والتوجه إلى غير ال بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بال ‪.‬‬

‫ن مِن َقبْلِ ِهمْ وََل ُي َم ّكنَنّ َل ُهمْ‬


‫س َتخْلَفَ اّلذِي َ‬
‫ض َكمَا ا ْ‬
‫ستَخْلِ َف ّنهُم فِي ا ْلَأرْ ِ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َل َي ْ‬
‫عدَ اللّ ُه اّلذِينَ آ َمنُوا مِن ُكمْ وَ َ‬
‫َو َ‬
‫شيْئا َومَن كَ َفرَ َب ْعدَ ذَِلكَ َفأُوَْل ِئكَ‬
‫دِينَ ُهمُ اّلذِي ا ْر َتضَى َل ُهمْ وََل ُي َبدَّل ّنهُم مّن َب ْعدِ خَ ْو ِف ِهمْ َأمْنا َي ْعبُدُو َننِي لَا ُيشْ ِركُونَ بِي َ‬
‫حسَبَنّ اّلذِينَ كَ َفرُوا‬
‫حمُونَ (‪ )56‬لَا َت ْ‬
‫ل َلعَّل ُكمْ ُترْ َ‬
‫ُهمُ الْفَاسِقُونَ (‪ )55‬وََأقِيمُوا الصّلَاةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ وََأطِيعُوا ال ّرسُو َ‬
‫ن فِي ا ْلَأرْضِ َو َمأْوَا ُه ُم النّارُ وََل ِبئْسَ ا ْل َمصِيرُ (‪)57‬‬
‫ُم ْعجِزِي َ‬
‫ذلك اليمان منهج حياة كامل ‪ ,‬يتضمن كل ما أمر ال به ‪ ,‬ويدخل فيما أمر ال به توفير السباب ‪ ,‬وإعداد‬
‫العدة ‪ ,‬والخذ بالوسائل ‪ ,‬والتهيؤ لحمل المانة الكبرى في الرض ‪ . .‬أمانة الستخلف ‪. .‬‬

‫فما حقيقة الستخلف في الرض ?‬

‫إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم ‪ . .‬إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الصلح‬
‫والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه ال للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى‬
‫الكمال المقدر لها في الرض ‪ ,‬اللئق بخليقة أكرمها ال ‪.‬‬

‫إن الستخلف في الرض قدرة على العمارة والصلح ‪ ,‬ل على الهدم والفساد ‪ .‬وقدرة على تحقيق العدل‬
‫والطمأنينة ‪ ,‬ل على الظلم والقهر ‪ .‬وقدرة على الرتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري ‪ ,‬ل على النحدار‬
‫بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !‬

‫وهذا الستخلف هو الذي وعده ال الذين آمنوا وعملوا الصالحات ‪ . .‬وعدهم ال أن يستخلفهم في الرض ‪-‬‬
‫كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم ‪ -‬ليحققوا النهج الذي أراده ال ; ويقرروا العدل الذي أراده ال ;‬
‫ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها ال ‪ . .‬فأما الذين يملكون فيفسدون في‬
‫الرض ‪ ,‬وينشرون فيها البغي والجور ‪ ,‬وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان ‪ . .‬فهؤلء ليسوا مستخلفين في‬
‫الرض ‪ .‬إنما هم مبتلون بما هم فيه ‪ ,‬أو مبتلى بهم غيرهم ‪ ,‬ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها ال ‪.‬‬

‫آية هذا الفهم لحقيقة الستخلف قوله تعالى بعده‪( :‬وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم)‪ . .‬وتمكين الدين يتم‬
‫بتمكينه في القلوب ‪ ,‬كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها ‪ .‬فقد وعدهم ال إذن أن يستخلفهم في‬
‫الرض ‪ ,‬وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الرض ‪ .‬ودينهم يأمر بالصلح ‪ ,‬ويأمر‬
‫بالعدل ‪ ,‬ويأمر بالستعلء على شهوات الرض ‪ .‬ويأمر بعمارة هذه الرض ‪ ,‬والنتفاع بكل ما أودعها ال‬
‫من ثروة ‪ ,‬ومن رصيد ‪ ,‬ومن طاقة ‪ ,‬مع التوجه بكل نشاط فيها إلى ال ‪.‬‬

‫(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا)‪ . .‬ولقد كانوا خائفين ‪ ,‬ل يأمنون ‪ ,‬ول يضعون سلحهم أبدا حتى بعد هجرة‬
‫الرسول [ ص ] إلى قاعدة السلم الولى بالمدينة ‪.‬‬

‫قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الية‪:‬كان النبي [ ص ] وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين‬
‫يدعون إلى ال وحده ‪ ,‬وإلى عبادته وحده بل شريك له ‪ ,‬سرا وهم خائفون ل يؤمرون بالقتال ; حتى أمروا‬
‫بعد الهجرة إلى المدينة ‪ ,‬فقدموها ‪ ,‬فأمرهم ال بالقتال ‪ ,‬فكانوا بها خائفين ‪ ,‬يمسون في السلح ويصبحون في‬
‫السلح ; فصبروا على ذلك ما شاء ال ‪ .‬ثم إن رجل من الصحابة قال‪:‬يا رسول ال أبد الدهر نحن خائفون‬
‫هكذا ? أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلح ? فقال رسول ال [ ص ] عليه وسلم ‪ " -‬لن تصبروا‬
‫إل يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في المل العظيم ليست فيه حديدة " ‪ .‬وأنزل ال هذه الية ‪ ,‬فأظهر ال نبيه‬
‫على جزيرة العرب ‪ ,‬فأمنوا ووضعوا السلح ‪ .‬ثم إن ال قبض نبيه [ ص ] فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي‬
‫بكر وعمر وعثمان ‪ .‬حتى وقعوا فيما وقعوا فيه ‪ ,‬فأدخل ال عليهم الخوف ; فاتخذوا الحجزة والشرط ‪,‬‬
‫وغيروا فغير بهم ‪. .‬‬

‫(ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)‪ . .‬الخارجون على شرط ال ‪ .‬ووعد ال ‪ .‬وعهد ال ‪. .‬‬

‫لقد تحقق وعد ال مرة ‪ .‬وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط ال‪( :‬يعبدونني ل يشركون بي‬
‫شيئا)‪ . .‬ل من اللهة ول من الشهوات ‪ .‬ويؤمنون ‪ -‬من اليمان ‪ -‬ويعملون صالحا ‪ .‬ووعد ال مذخور‬

‫جرِ‬
‫ث َمرّاتٍ مِن َقبْلِ صَلَاةِ الْ َف ْ‬
‫ن َلمْ َيبُْلغُوا ا ْلحُُلمَ مِنكُمْ ثَلَا َ‬
‫ن مََلكَتْ َأ ْيمَا ُن ُكمْ وَاّلذِي َ‬
‫س َت ْأذِن ُكمُ اّلذِي َ‬
‫يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا ِل َي ْ‬
‫جنَاحٌ َب ْعدَهُنّ‬
‫ع ْورَاتٍ ّل ُكمْ َليْسَ عََل ْي ُكمْ وَلَا عََل ْي ِهمْ ُ‬
‫ظهِيرَةِ َومِن َب ْعدِ صَلَاةِ ا ْل ِعشَاء ثَلَاثُ َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن ِثيَا َبكُم مّ َ‬
‫ضعُو َ‬
‫ن َت َ‬
‫َوحِي َ‬
‫حكِيمٌ (‪ )58‬وَِإذَا بَلَغَ ا ْلَأطْفَالُ مِن ُكمُ‬
‫ن اللّ ُه َل ُكمُ الْآيَاتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫ضكُمْ عَلَى َبعْضٍ َكذَِلكَ ُي َبيّ ُ‬
‫طَوّافُونَ عََل ْيكُم َب ْع ُ‬
‫حكِيمٌ (‪)59‬‬
‫ن اللّ ُه َل ُكمْ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫ن مِن قَبِْل ِهمْ َكذَِلكَ ُي َبيّ ُ‬
‫س َت ْأذَنَ اّلذِي َ‬
‫س َت ْأ ِذنُوا َكمَا ا ْ‬
‫ا ْلحُُلمَ فَ ْليَ ْ‬
‫لكل من يقوم على الشرط من هذه المة إلى يوم القيامة ‪ .‬إنما يبطى ء النصر والستخلف والتمكين والمن ‪.‬‬
‫لتخلف شرط ال في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ; حتى إذا انتفعت المة‬
‫بالبلء ‪ ,‬وجازت البتلء ‪ ,‬وخافت فطلبت المن ‪ ,‬وذلت فطلبت العزة ‪ ,‬وتخلفت فطلبت الستخلف ‪ . .‬كل‬
‫ذلك بوسائله التي أرادها ال ‪ ,‬وبشروطه التي قررها ال ‪ . .‬تحقق وعد ال الذي ل يتخلف ‪ ,‬ول تقف في‬
‫طريقه قوة من قوى الرض جميعا ‪.‬‬

‫لذلك يعقب على هذا الوعد بالمر بالصلة والزكاة والطاعة ‪ ,‬وبأل يحسب الرسول [ ص ] وأمته حسابا لقوة‬
‫الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم‪:‬‬

‫(وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة ‪ ,‬وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ‪ .‬ل تحسبن الذين كفروا معجزين في الرض‬
‫‪ .‬ومأواهم النار ولبئس المصير)‪. .‬‬

‫فهذه هي العدة ‪ . .‬التصال بال ‪ ,‬وتقويم القلب بإقامة الصلة ‪ .‬والستعلء على الشح ‪ ,‬وتطهير النفس‬
‫والجماعة بإيتاء الزكاة ‪ .‬وطاعة الرسول والرضى بحكمه ‪ ,‬وتنفيذ شريعة ال في الصغيرة والكبيرة ‪ ,‬وتحقيق‬
‫النهج الذي أراده للحياة‪( :‬لعلكم ترحمون)في الرض من الفساد والنحدار والخوف والقلق والضلل ‪ ,‬وفي‬
‫الخرة من الغضب والعذاب والنكال ‪.‬‬
‫فإذا استقمتم على النهج ‪ ,‬فل عليكم من قوة الكافرين ‪ .‬فما هم بمعجزين في الرض ‪ ,‬وقوتهم الظاهرة لن تقف‬
‫لكم في طريق ‪ .‬وأنتم أقوياء بإيمانكم ‪ ,‬أقوياء بنظامكم ‪ ,‬أقوياء بعدتكم التي تستطيعون ‪ .‬وقد ل تكونون في‬
‫مثل عدتهم من الناحية المادية ‪ .‬ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والعاجيب ‪.‬‬

‫إن السلم حقيقة ضخمة ل بد أن يتملها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد ال في تلك اليات ‪ .‬ول بد أن‬
‫يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية ‪ ,‬وهو يدرك شروطها على حقيقتها ‪ ,‬قبل أن يتشكك فيها أو‬
‫يرتاب ‪ ,‬أو يستبطى ء وقوعها في حالة من الحالت ‪.‬‬

‫إنه ما من مرة سارت هذه المة على نهج ال ‪ ,‬وحكمت هذا النهج في الحياة ‪ ,‬وارتضته في كل أمورها ‪. .‬‬
‫إل تحقق وعد ال بالستخلف والتمكين والمن ‪ .‬وما من مرة خالفت عن هذا النهج إل تخلفت في ذيل القافلة‬
‫‪ ,‬وذلت ‪ ,‬وطرد دينها من الهيمنة على البشرية ; واستبد بها الخوف ; وتخطفها العداء ‪.‬‬

‫أل وإن وعد ال قائم ‪ .‬أل وإن شرط ال معروف ‪ .‬فمن شاء الوعد فليقم بالشرط ‪ .‬ومن أوفى بعهده من ال ?‬

‫الوحدة الخامسة‪ 64 - 58:‬الموضوع‪:‬آداب الستئذان وتكاتف المسلمين وملكية ال للكون موضوع الوحدة‬

‫إن السلم منهاج حياة كامل ; فهو ينظم حياة النسان في كل أطوارها ومراحلها ‪ ,‬وفي كل علقاتها‬
‫وارتباطاتها ‪ ,‬وفي كل حركاتها وسكناتها ‪ .‬ومن ثم يتولى بيان الداب اليومية الصغيرة ‪ ,‬كما يتولى بيان‬
‫التكاليف العامة الكبيرة ; وينسق بينها جميعا ‪ ,‬ويتجه بها إلى ال في النهاية ‪.‬‬

‫وهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق ‪ .‬لقد تضمنت بعض الحدود إلى جانب الستئذان على البيوت ‪ .‬وإلى‬
‫جانبها جولة ضخمة في مجالي الوجود ‪ .‬ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى ال‬
‫ورسوله وسوء أدب المنافقين ‪ .‬إلى جانب وعد ال الحق للمؤمنين بالستخلف والمن والتمكين ‪ .‬وها هو ذا‬
‫في هذا الدرس يعود إلى آداب الستئذان في داخل البيوت ; إلى جانب الستئذان من مجلس رسول ال ‪ [-‬ص‬
‫] ‪ -‬وينظم علقة الزيارة والطعام بين القارب والصدقاء ; إلى جانب الدب الواجب في خطاب الرسول‬
‫ودعائه ‪ . . .‬فكلها آداب تأخذ بها الجماعة المسلمة وتنتظم بها علقاتها ‪ .‬والقرآن يربيها في مجالت الحياة‬
‫الكبيرة والصغيرة على السواء ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 59 - 58:‬الستئذان داخل البيوت‬

‫(يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ; ثلث مرات‪:‬من قبل صلة‬
‫الفجر ‪ ,‬وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ‪ ,‬ومن بعد صلة العشاء ‪ .‬ثلث عورات لكم ‪ .‬ليس عليكم ول‬
‫عليهم جناح بعدهن ‪ .‬طوافون عليكم بعضكم على بعض ‪ .‬كذلك يبين ال لكم اليات وال عليم حكيم)‪. .‬‬

‫لقد سبقت في السورة أحكام الستئذان على البيوت ‪ .‬وهنا يبين أحكام الستئذان في داخل البيوت ‪.‬‬
‫فالخدم من الرقيق ‪ ,‬والطفال المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بل استئذان ‪ .‬إل في ثلثة أوقات تنكشف‬
‫فيها العورات عادة ‪ ,‬فهم يستأذنون فيها ‪ .‬هذه الوقات هي‪:‬الوقت قبل صلة الفجر حيث يكون الناس في ثياب‬
‫النوم عادة أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج ‪ .‬ووقت الظهيرة عند القيلولة ‪ ,‬حيث يخلعون ملبسهم في‬
‫العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة ‪ .‬وبعد صلة العشاء حين يخلعون ملبسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل ‪. .‬‬

‫وسماها(عورات)لنكشاف العورات فيها ‪ .‬وفي هذه الوقات الثلثة ل بد أن يستأذن الخدم ‪ ,‬وأن يستأذن‬
‫الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم ‪ ,‬كي ل تقع أنظارهم على عورات أهليهم ‪ .‬وهو أدب يغفله الكثيرون‬
‫في حياتهم المنزلية ‪ ,‬مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية ‪ ,‬ظانين أن الخدم ل تمتد أعينهم إلى عورات‬
‫السادة ! وأن الصغار قبل البلوغ ل ينتبهون لهذه المناظر ‪ .‬بينما يقرر النفسيون اليوم ‪ -‬بعد تقدم العلوم‬
‫النفسية ‪ -‬أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها ; وقد‬
‫تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها ‪.‬‬

‫والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الداب ; وهو يريد أن يبني أمة سليمة العصاب ‪ ,‬سليمة الصدور ‪ ,‬مهذبة‬
‫المشاعر ‪ ,‬طاهرة القلوب ‪ ,‬نظيفة التصورات ‪.‬‬

‫ويخصص هذه الوقات الثلثة دون غيرها لنها مظنة انكشاف العورات ‪ .‬ول يجعل استئذان الخدم و الصغار‬
‫في كل حين منعا للحرج ‪ .‬فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة‪:‬‬
‫(طوافون عليكم بعضكم على بعض)‪ . .‬وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات ‪ ,‬وإزالة الحرج‬
‫والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار ‪.‬‬

‫فأما حين يدرك الصغار سن البلوغ ‪ ,‬فإنهم يدخلون في حكم الجانب ‪ ,‬الذين يجب أن يستأذنوا في كل وقت ‪,‬‬
‫حسب النص العام ‪ ,‬الذي مضت به آية الستئذان ‪.‬‬

‫ويعقب على الية بقوله‪( :‬وال عليم حكيم)لن المقام مقام علم ال بنفوس البشر ‪ ,‬وما يصلحها من الداب ;‬
‫ومقام حكمته كذلك في علج النفوس والقلوب ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 60:‬الرخصة للقواعد من النساء‬

‫ولقد سبق المر كذلك بإخفاء زينة النساء منعا لثارة الفتن والشهوات ‪ .‬فعاد هنا يستثني من النساء القواعد‬

‫ت ِبزِينَةٍ وَأَن‬
‫غ ْيرَ ُم َت َب ّرجَا ٍ‬
‫ن ِثيَا َبهُنّ َ‬
‫ضعْ َ‬
‫جنَاحٌ أَن َي َ‬
‫ن ِنكَاحا فَلَيْسَ عََل ْيهِنّ ُ‬
‫ن ال ّنسَاء اللّاتِي لَا َي ْرجُو َ‬
‫عدُ مِ َ‬
‫وَالْ َقوَا ِ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)60‬‬
‫ن وَاللّ ُه َ‬
‫خ ْيرٌ ّلهُ ّ‬
‫ستَعْفِ ْفنَ َ‬
‫َي ْ‬
‫اللواتي فرغت نفوسهن من الرغبة في معاشرة الرجال ; وفرغت أجسامهن من الفتنة المثيرة للشهوات‪:‬‬
‫(والقواعد من النساء اللتي ل يرجون نكاحا ; فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ‪ -‬غير متبرجات بزينة ‪-‬‬
‫وأن يستعففن خير لهن ; وال سميع عليم)‪. .‬‬

‫فهؤلء القواعد ل حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية ‪ ,‬على أل تنكشف عوراتهن ول يكشفن عن زينة ‪.‬‬
‫وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة ‪ .‬وسمي هذا استعفافا ‪ .‬أي طلبا للعفة وإيثارا لها ‪,‬‬
‫لما بين التبرج والفتنة من صلة ; وبين التحجب والعفة من صلة ‪ . .‬وذلك حسب نظرية السلم في أن خير‬
‫سبل العفة تقليل فرص الغواية ‪ ,‬والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس ‪.‬‬

‫(وال سميع عليم)‪ . .‬يسمع ويعلم ‪ ,‬ويطلع على ما يقوله اللسان ‪ ,‬وما يوسوس في الجنان ‪ .‬والمر هنا أمر‬
‫نية وحساسية في الضمير ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 61:‬تنظيم العلقات بين القارب والصدقاء‬

‫ثم يمضي في تنظيم العلقات والرتباطات بين القارب والصدقاء‪:‬‬

‫ليس على العمى حرج ‪ ,‬ول على العرج حرج ‪ ,‬ول على المريض حرج ‪ ,‬ول على أنفسكم أن تأكلوا من‬
‫بيوتكم ‪ ,‬أو بيوت آبائكم ‪ ,‬أو بيوت أمهاتكم ‪ ,‬أو بيوت أخوانكم ‪ ,‬أو بيوت أخواتكم ‪ ,‬أو بيوت أعمامكم ‪ ,‬أو‬
‫بيوت عماتكم ‪ ,‬أو بيوت أخوالكم ‪ ,‬أو بيوت خالتكم ; أو ما ملكتم مفاتحه ‪ ,‬أو صديقكم ‪ .‬ليس عليكم جناح أن‬
‫تأكلوا جميعا أو أشتاتا ‪ .‬فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ‪ ,‬تحية من عند ال مباركة طيبة ‪ .‬كذلك يبين ال‬
‫لكم اليات لعلكم تعقلون ‪. .‬‬

‫روى أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة ‪ -‬دون استئذان ‪ -‬ويستصحبون معهم العمي والعرج‬
‫والمرضى ليطعموهم ‪ . .‬الفقراء منهم ‪ . .‬فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلء أن يصحبوهم دون دعوة من‬
‫أصحاب البيوت أو إذن ‪ .‬ذلك حين نزلت‪( :‬ول تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)فقد كانت حساسيتهم مرهفة ‪.‬‬
‫فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى ال عنه ‪ ,‬ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد ‪ .‬فأنزل ال‬
‫هذه الية ‪ ,‬ترفع الحرج عن العمى والمريض والعرج ‪ ,‬وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه ‪ .‬وأن‬
‫يصحب معه أمثال هؤلء المحاويج ‪ .‬وذلك محمول على أن صاحب البيت ل يكره هذا ول يتضرر به ‪.‬‬
‫استنادا إلى القواعد العامة في أنه " ل ضرر ول ضرار " وإلى أنه " ل يحل مال امرى ء مسلم إل بطيب‬
‫نفس " ‪.‬‬

‫ولن الية آية تشريع ‪ ,‬فإننا نلحظ فيها دقة الداء اللفظي والترتيب الموضوعي ‪ ,‬والصياغة التي ل تدع مجال‬
‫للشك والغموض ‪ .‬كما نلمح فيها ترتيب القرابات ‪ .‬فهي تبدأ ببيوت البناء والزواج ول تذكرهم ‪ .‬بل تقول‬
‫(من بيوتكم)فيدخل فيها بيت البن وبيت الزوج ‪ ,‬فبيت البن بيت لبيه ‪ ,‬وبيت الزوج بيت لزوجته ‪ ,‬وتليها‬
‫بيوت الباء ‪ ,‬فبيوت المهات ‪ .‬فبيوت الخوة ‪ ,‬فبيوت الخوات ‪ .‬فبيوت العمام ‪ ,‬فبيوت العمات ‪ ,‬فبيوت‬
‫الخوال ‪ ,‬فبيوت الخالت ‪ . .‬ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك‬
‫مفاتحه بالمعروف ول يزيد على حاجة طعامه ‪ .‬ويلحق بها بيوت الصدقاء ‪ .‬ليلحق صلتهم بصلة القرابة ‪.‬‬
‫عند عدم التأذي والضرر ‪ .‬فقد يسر الصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان ‪.‬‬

‫فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الكل منها ‪ ,‬بين الحالة التي يجوز عليها الكل‪( :‬ليس عليكم جناح‬

‫س ُكمْ أَن َت ْأكُلُوا مِن ُبيُو ِت ُكمْ‬


‫حرَجٌ وَلَا عَلَى أَن ُف ِ‬
‫ج حَرَجٌ وَلَا عَلَى ا ْل َمرِيضِ َ‬
‫عرَ ِ‬
‫حرَجٌ وَلَا عَلَى ا ْلأَ ْ‬
‫عمَى َ‬
‫َليْسَ عَلَى ا ْلأَ ْ‬
‫عمّا ِتكُمْ َأوْ‬
‫عمَا ِمكُمْ َأ ْو ُبيُوتِ َ‬
‫خوَا ِتكُمْ َأ ْو ُبيُوتِ َأ ْ‬
‫ت ِإخْوَا ِن ُكمْ َأوْ ُبيُوتِ َأ َ‬
‫أَوْ ُبيُوتِ آبَا ِئكُمْ َأ ْو ُبيُوتِ ُأ ّمهَا ِت ُكمْ أَ ْو ُبيُو ِ‬
‫شتَاتا َفِإذَا‬
‫جمِيعا أَوْ َأ ْ‬
‫ح أَن َت ْأكُلُوا َ‬
‫جنَا ٌ‬
‫صدِي ِق ُكمْ َليْسَ عََل ْي ُكمْ ُ‬
‫ُبيُوتِ َأخْوَاِل ُكمْ َأوْ ُبيُوتِ خَالَا ِتكُ ْم أَ ْو مَا مََل ْكتُم مّفَا ِتحَهُ َأوْ َ‬
‫ن اللّ ُه َل ُكمُ الْآيَاتِ َلعَّل ُكمْ َتعْقِلُون (‪)61‬‬
‫ط ّيبَةً َكذَِلكَ ُي َبيّ ُ‬
‫حيّةً مّنْ عِندِ اللّ ِه ُمبَا َركَ ًة َ‬
‫سكُمْ َت ِ‬
‫َدخَ ْلتُم ُبيُوتا فَسَّلمُوا عَلَى أَن ُف ِ‬
‫أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا)فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية أل يأكل طعاما على انفراد ‪ .‬فإن لم يجد من‬
‫يؤاكله عاف الطعام ! فرفع ال هذا الحرج المتكلف ‪ ,‬ورد المر إلى بساطته بل تعقيد ‪ ,‬وأباح أن يأكلوا أفرادا‬
‫أو جماعات ‪.‬‬

‫فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها‪( :‬فإذا دخلتم بيوتا‬
‫فسلموا على أنفسكم تحية من عند ال مباركة طيبة)‪ . .‬وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في‬
‫الية ‪ .‬فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه ‪ .‬والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند ال‬
‫‪ .‬تحمل ذلك الروح ‪ ,‬وتفوح بذلك العطر ‪ .‬وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي ل انفصام لها ‪. .‬‬

‫وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة‪:‬‬

‫(كذلك يبين ال لكم اليات لعلكم تعقلون)‪ . .‬وتدركون ما في المنهج اللهي من حكمة ومن تقدير ‪. .‬‬

‫الدرس الرابع‪ 64 - 62:‬تنظيم العلقات بين المسلمين والداب في مجلس الرسول‬

‫وينتقل من تنظيم العلقات بين القارب والصدقاء ‪ ,‬إلى تنظيمها بين السرة الكبيرة ‪ . .‬أسرة المسلمين ‪. .‬‬
‫ورئيسها وقائدها محمد رسول ال [ ص ] وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول‪:‬‬

‫إنما المؤمنون الذين آمنوا بال ورسوله ‪ .‬وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ; إن الذين‬
‫يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بال ورسوله ‪ .‬فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ‪ ,‬واستغفر لهم‬
‫ال ‪ .‬إن ال غفور رحيم ‪ .‬ل تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ‪ .‬قد يعلم ال الذين يتسللون‬
‫منكم لواذا ‪ .‬فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ‪ .‬أل إن ل ما في‬
‫السماوات والرض قد يعلم ما أنتم عليه ; ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا ‪ ,‬وال بكل شيء عليم ‪. .‬‬
‫روى ابن اسحاق في سبب نزول هذه اليات أنه لما كان تجمع قريش والحزاب في غزوة الخندق ‪ .‬فلما سمع‬
‫بهم رسول ال [ ص ] وما أجمعوا له من المر ضرب الخندق على المدينة ‪ .‬فعمل فيه رسول ال [ ص ]‬
‫ترغيبا للمسلمين في الجر ‪ ,‬وعمل معه المسلمون فيه ‪ ,‬فدأب ودأبوا ‪ ,‬وأبطأ عن رسول ال [ ص ] وعن‬
‫المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين ‪ ,‬وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ‪ ,‬ويتسللون إلى أهليهم بغير‬
‫علم رسول ال [ ص ] ول إذنه ; وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي ل بد منها يذكر‬
‫ذلك لرسول ال [ ص ] ويستأذنه في اللحوق بحاجته ‪ ,‬فيأذن له ‪ .‬فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من‬
‫عمله ‪ ,‬رغبة في الخير واحتسابا له ‪ .‬فأنزل ال تعالى في أولئك المؤمنين‪ :‬إنما المؤمنون ‪ . . .‬الية ثم قال‬
‫تعالى‪:‬يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ‪ ,‬ويذهبون بغير إذن من النبي [ ص ]‪ :‬ل تجعلوا دعاء‬
‫الرسول بينكم ‪ . . .‬الية ‪. .‬‬

‫وأيا ما كان سبب نزول هذه اليات فهي تتضمن الداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها ‪ .‬هذه الداب‬
‫التي ل يستقيم أمر الجماعة إل حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق ضميرها ‪ .‬ثم تستقر في حياتها‬
‫فتصبح تقليدا متبعا وقانونا نافذا ‪ .‬وإل فهي الفوضى التي ل حدود لها‪:‬‬

‫(إنما المؤمنون الذين آمنوا بال ورسوله)‪ . .‬ل الذين يقولون بأفواههم ثم ل يحققون مدلول قولهم ; ول‬
‫يطيعون ال ورسوله ‪.‬‬

‫س َت ْأذِنُوهُ ِإنّ اّلذِينَ‬


‫حتّى َي ْ‬
‫ن آ َمنُوا بِاللّهِ َو َرسُولِهِ وَِإذَا كَانُوا َمعَهُ عَلَى َأ ْمرٍ جَامِعٍ َل ْم َيذْ َهبُوا َ‬
‫ِإ ّنمَا ا ْلمُ ْؤ ِمنُونَ اّلذِي َ‬
‫س َتغْ ِفرْ َل ُهمُ‬
‫شئْتَ ِم ْن ُهمْ وَا ْ‬
‫ش ْأنِ ِهمْ َف ْأذَن ّلمَن ِ‬
‫ض َ‬
‫س َت ْأ َذنُوكَ ِل َبعْ ِ‬
‫ن بِاللّهِ َو َرسُولِهِ َفإِذَا ا ْ‬
‫ن يُ ْؤ ِمنُو َ‬
‫ستَ ْأ ِذنُو َنكَ ُأوَْل ِئكَ اّلذِي َ‬
‫َي ْ‬
‫ضكُم َبعْضا َقدْ َيعَْلمُ اللّهُ اّلذِينَ َي َتسَلّلُونَ‬
‫ل َب ْي َنكُ ْم َكدُعَاء َب ْع ِ‬
‫جعَلُوا دُعَاء الرّسُو ِ‬
‫غفُورٌ ّرحِيمٌ (‪ )62‬لَا َت ْ‬
‫ن اللّهَ َ‬
‫اللّ َه إِ ّ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ (‪)63‬‬
‫عنْ َأ ْمرِ ِه أَن تُصِي َب ُهمْ ِفتْنَ ٌة أَ ْو ُيصِيبَ ُهمْ َ‬
‫حذَرِ اّلذِينَ ُيخَالِفُونَ َ‬
‫مِنكُمْ ِلوَاذا فَ ْل َي ْ‬
‫(وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه)‪ . .‬والمر الجامع المر الهام الذي يقتضي اشتراك‬
‫الجماعة فيه ‪ ,‬لرأى أو حرب أو عمل من العمال العامة ‪ .‬فل يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم ‪ .‬كي ل‬
‫يصبح المر فوضى بل وقار ول نظام ‪.‬‬

‫وهؤلء الذين يؤمنون هذا اليمان ‪ ,‬ويلتزمون هذا الدب ‪ ,‬ل يستأذنون إل وهم مضطرون ; فلهم من إيمانهم‬
‫ومن أدبهم عاصم أل يتخلوا عن المر الجامع الذي يشغل بال الجماعة ‪ ,‬ويستدعي تجمعها له ‪ . .‬ومع هذا‬
‫فالقرآن يدع الرأي في الذن أو عدمه للرسول [ ص ] رئيس الجماعة ‪ .‬بعد أن يبيح له حرية الذن‪( :‬فإذا‬
‫استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم)‪ [ . .‬وكان قد عاتبه على الذن للمنافقين من قبل فقال‪(:‬عفا ال‬
‫عنك ! لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)] ‪ . .‬يدع له الرأى فإن شاء أذن ‪ ,‬وإن شاء لم‬
‫يأذن ‪ ,‬فيرفع الحرج عن عدم الذن ‪ ,‬وقد تكون هناك ضرورة ملحة ‪ .‬ويستبقي حرية التقدير لقائد الجماعة‬
‫ليوازن بين المصلحة في البقاء والمصلحة في النصراف ‪ .‬ويترك له الكلمة الخيرة في هذه المسألة التنظيمية‬
‫يدبرها بما يراه ‪.‬‬

‫ومع هذا يشير إلى أن مغالبة الضرورة ‪ ,‬وعدم النصراف هو الولى ; وأن الستئذان والذهاب فيهما تقصير‬
‫أو قصور يقتضي استغفار النبي [ ص ] للمعتذرين‪( :‬واستغفر لهم ال ‪ .‬إن ال غفور رحيم)‪ . .‬وبذلك يقيد‬
‫ضمير المؤمن ‪ .‬فل يستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به إلى الستئذان ‪.‬‬

‫ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول [ ص ] عند الستئذان ‪ ,‬وفي كل الحوال ‪ .‬فل يدعى باسمه‪:‬يا محمد ‪ .‬أو‬
‫كنيته‪:‬يا أبا القاسم ‪ .‬كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا ‪ .‬إنما يدعى بتشريف ال له وتكريمه‪:‬يا نبي ال ‪ .‬يا‬
‫رسول ال‪:‬‬

‫(ل تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا)‪. .‬‬

‫فل بد من امتلء القلوب بالتوقير لرسول ال [ ص ] حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه ‪ .‬وهي لفتة‬
‫ضرورية ‪ .‬فل بد للمربي من وقار ‪ ,‬ول بد للقائد من هيبة ‪ .‬وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا ; وأن‬
‫ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض ‪ . .‬يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع‬
‫بها عليهم في قرارة شعورهم ‪ ,‬ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير ‪.‬‬

‫ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن ‪ ,‬يلوذ بعضهم ببعض ‪ ,‬ويتدارى بعضهم ببعض ‪ . .‬فعين‬
‫ال عليهم ‪ ,‬وإن كانت عين الرسول ل تراهم‪( :‬قد يعلم ال الذين يتسللون منكم لواذا)‪ . .‬وهو تعبير يصور‬
‫حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس ; ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة ‪ ,‬وحقارة الحركة والشعور‬
‫المصاحب لها في النفوس ‪.‬‬

‫(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)‪. .‬‬

‫وإنه لتحذير مرهوب ‪ ,‬وتهديد رعيب ‪ . .‬فليحذر الذين يخالفون عن أمره ‪ ,‬ويتبعون نهجا غير نهجه ‪,‬‬
‫ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة ‪ .‬ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس ‪ ,‬وتختل‬
‫فيها الموازين ‪ ,‬وينتكث فيها النظام ‪ ,‬فيختلط الحق بالباطل ‪ ,‬والطيب بالخبيث ‪ ,‬وتفسد أمور الجماعة وحياتها‬
‫; فل يأمن على نفسه أحد ‪ ,‬ول يقف عند حده أحد ‪ ,‬ول يتميز فيها خير من شر ‪ . .‬وهي فترة شقاء للجميع‪:‬‬

‫شيْءٍ‬
‫عمِلُوا وَاللّهُ ِبكُلّ َ‬
‫ن إَِليْ ِه َفيُ َن ّب ُئهُم ِبمَا َ‬
‫جعُو َ‬
‫ض قَدْ َيعَْلمُ مَا أَنتُمْ عََليْهِ َويَ ْومَ ُي ْر َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْ ِ‬
‫أَلَا ِإنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫عَلِيمٌ (‪)64‬‬
‫(أو يصيبهم عذاب أليم)في الدنيا أو في الخرة ‪ .‬جزاء المخالفة عن أمر ال ‪ ,‬ونهجه الذي ارتضاه للحياة ‪.‬‬
‫ويختم هذا التحذير ‪ ,‬ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن ال مطلع عليها ‪ ,‬رقيب‬
‫على عملها ‪ ,‬عالم بما تنطوي عليه وتخفيه ‪.‬‬

‫(أل إن ل ما في السماوات والرض ‪ .‬قد يعلم ما أنتم عليه ; ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا ‪ .‬وال بكل‬
‫شيء عليم)‪. .‬‬

‫وهكذا تختم السورة بتعليق القلوب والبصار بال ; وتذكيرها بخشيته وتقواه ‪ .‬فهذا هو الضمان الخير ‪ .‬وهذا‬
‫هو الحارس لتلك الوامر والنواهي ‪ ,‬وهذه الخلق والداب ‪ ,‬التي فرضها ال في هذه السورة وجعلها كلها‬
‫سواء ‪. .‬‬

‫أنتهى الجزء الثامن عشر ويليه الجزء التاسع عشر مبدوءا بسورة الفرقان‬

You might also like