Professional Documents
Culture Documents
النور
النور
حدٍ ّم ْن ُهمَا
ضنَاهَا وَأَنزَ ْلنَا فِيهَا آيَاتٍ َب ّينَاتٍ ّلعَّل ُكمْ َت َذ ّكرُونَ ( )1الزّا ِنيَةُ وَالزّانِي فَاجِْلدُوا كُلّ وَا ِ
سُورَةٌ أَنزَ ْلنَاهَا َو َفرَ ْ
عذَا َب ُهمَا طَائِ َفةٌ مّنَ
ش َهدْ َ
خرِ وَ ْل َي ْ
ن بِاللّهِ وَا ْل َي ْومِ الْآ ِ
ن اللّهِ إِن كُنتُمْ ُت ْؤ ِمنُو َ
خ ْذكُم ِب ِهمَا رَ ْأفَةٌ فِي دِي ِ
ِمئَةَ جَ ْل َدةٍ وَلَا َت ْأ ُ
ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ ()2
التعريف بالسورة هذه سورة النور . .يذكر فيها النور بلفظه متصل بذات ال( :ال نور السماوات
والرض)ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والرواح ; ممثلة هذه الثار في الداب والخلق التي
يقوم عليها بناء هذه السورة .وهي آداب وأخلق نفسية وعائلية وجماعية ,تنير القلب ,وتنير الحياة ,
ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الرواح ,وإشراق في القلوب ,وشفافية في الضمائر ,
مستمدة كلها من ذلك النور الكبير .
وهي تبدأ بإعلن قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف ,ومن
آدابوأخلق(:سورة أنزلناها وفرضناها ,وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) . .فيدل هذا البدء الفريد على
مدى اهتمام القرآن بالعنصر الخلقي في الحياة ; ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة السلمية ,
وفي فكرة السلم عن الحياة النسانية . .
والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود .وترق إلى
درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة ,التي تصل القلب بنور ال وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة
.والهدف واحد في الشدة واللين .هو تربية الضمائر ,واستجاشة المشاعر ; ورفع المقاييس الخلقية للحياة
,حتى تشف وترف ,وتتصل بنور ال . .وتتداخل الداب النفسية الفردية ,وآداب البيت والسرة ,وآداب
الجماعة والقيادة .بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في ال ,متصلة كلها بنور واحد هو نور ال
.وهي في صميمها نور وشفافية ,وإشراق وطهارة .تربية عناصرها من مصدر النور الول في السماوات
والرض .نور ال الذي أشرقت به الظلمات .في السماوات والرض ,والقلوب والضمائر ,والنفوس
والرواح .
الول يتضمن العلن الحاسم الذي تبدأ به ; ويليه بيان حد الزنا ,وتفظيع هذه الفعلة ,وتقطيع ما بين الزناة
والجماعة المسلمة ,فل هي منهم ول هم منها .ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه ; واستثناء الزواج من
هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملعنة .ثم حديث الفك وقصته . .وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة
الخبيثين للخبيثات ,ومشاكلة الطيبين للطيبات .وبالعلقة التي تربط بين هؤلء وهؤلء .
ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة ,وتجنيب النفوس أسباب الغراء والغواية .فيبدأ بآداب
البيوت والستئذان على أهلها ,والمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم .والحض على إنكاح
اليامي .والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء . .وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم
الضمير والشعور ,ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية ,وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين ,
وهم يقاومون عوامل الغراء والغواية .
والشوط الثالث يتوسط مجموعة الداب التي تتضمنها السورة ,فيربطها بنور ال .ويتحدث عن أطهر البيوت
التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت ال . .وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان
الكاذب ; أو كظلمات بعضها فوق بعض .ثم يكشف عن فيوض من نور ال في الفاق:في تسبيح الخلئق
كلها ل .وفي إزجاء السحاب .وفي تقليب الليل والنهار .وفي خلق كل دابة من ماء ,ثم اختلف أشكالها
ووظائفها وأنواعها وأجناسها ,مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والبصار . .
والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للدب الواجب مع رسول ال [ ص ] في الطاعة والتحاكم .
ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم .ويعدهم ,على هذا ,الستخلف في الرض والتمكين في الدين ,
والنصر على الكافرين .
ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الستئذان والضيافة في محيط البيوت بين القارب والصدقاء .وإلى آداب
الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة ,مع رئيسها ومربيها -رسول ال [ ص ] .وتتم السورة بإعلن ملكية ال
لما في السماوات والرض ,وعلمه بواقع الناس ,وما تنطوي عليه حناياهم ,ورجعتهم إليه ,وحسابهم على
ما يعلمه من أمرهم .وهو بكل شيء عليم .
(سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). .
مطلع فريد في القرآن كله .الجديد فيه كلمة(فرضناها)والمقصود بها -فيما نعلم -توكيد الخذ بكل ما في
السورة على درجة سواء .ففرضية الداب والخلق فيها كفرضية الحدود والعقوبات .هذه الداب والخلق
المركوزة في الفطرة ,والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والنحرافات ,فتذكرهم بها تلك اليات
البينات ,وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين .
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ; ول تأخذكم بهما رأفة في دين ال -إن كنتم تؤمنون بال
واليوم الخر -وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين .الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة ,والزانية ل ينكحها
إل زان أو مشرك ; وحرم ذلك على المؤمنين). .
كان حد الزانيين في أول السلم ما جاء في سورة النساء(:واللتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن
أربعة منكم .فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل ال لهن سبيل) . .فكان حد
المرأة الحبس في البيت والذى بالتعبير .وكان حد الرجل الذى بالتعبير .
ثم أنزل ال حد الزنا في سورة النور .فكان هذا هو(السبيل)الذي أشارت إليه من قبل آية النساء .
والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء .وهو الذي لم يحصن بالزواج .ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا
عاقل حرا .فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم .
وقد ثبت الرجم بالسنة .وثبت الجلد بالقرآن .ولما كان النص القرآني مجمل وعاما .وكان رسول ال
[ ص ] قد رجم الزانيين المحصنين ,فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن .
وهناك خلف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن .والجمهور على أنه ل يجمع بين الجلد والرجم .
كما أن هناك خلفا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده .وحول حد الزاني غير الحر . .وهو
خلف طويل ل ندخل في تفصيله هنا ,يطلب في موضعه من كتب الفقه . .إنما نمضي نحن مع حكمة هذا
التشريع .فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد ,وعقوبة المحصن هي الرجم .ذلك أن الذي سبق له الوطء في
نكاح صحيح -وهو مسلم حر بالغ -قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه ,فعدوله عنه إلى الزنا يشي
بفساد فطرته وانحرافها ,فهو جدير بتشديد العقوبة ,بخلف البكر الغفل الغر ,الذي قد يندفع تحت ضغط
الميل وهو غرير . .وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل .فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له
بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر .فهو حري بعقوبة كذلك أشد .
والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده -كما سلف -فيشدد في الخذ به ,دون تسامح ول هوادة:
فهي الصرامة في إقامة الحد ; وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما ,وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته
,تراخيا في دين ال وحقه .وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين ,فيكون أوجع وأوقع في
نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين .
ثم يزيد في تفظيع الفعلة وتبشيعها ,فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة:
(الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة ,والزانية ل ينكحها إل زان أو مشرك .وحرم ذلك على المؤمنين). .
وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة ل يرتكبونها وهم مؤمنون .إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن اليمان
وعن مشاعر اليمان .وبعد ارتكابها ل ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن
اليمان بتلك الفعلة البشعة ; لنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز .حتى لقد ذهب المام أحمد إلى تحريم مثل هذا
الرباط بين زان وعفيفة ,وبين عفيف وزانية ; إل أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر .وعلى أية
حال فالية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية ,ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني ; واستبعاد وقوع
هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الستبعاد( :وحرم ذلك على المؤمنين) . .وبذلك تقطع الوشائج التي
تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة .
ورد في سبب نزول هذه الية أن رجل يقال له:مرثد بن أبي مرثد كان يحمل السارى من مكة حتى يأتي بهم
المدينة .وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها:عناق .وكانت صديقة له .وأنه واعد رجل من أسارى مكة يحمله
.قال:فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة .قال:فجاءت عناق ,فأبصرت سواد
ظل تحت الحائط .فلما انتهت إلي عرفتني .فقالت:مرثد ? فقلت:مرثد ! فقالت:مرحبا وأهل .هلم فبت عندنا
الليلة:قال:فقلت:يا عناق حرم ال الزنا .فقالت:يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم .قال:فتبعني ثمانية ,
ودخلت الحديقة .فانتهيت إلى غار أو كهف ,فدخلت ,فجاءوا حتى قاموا على رأسي ,فبالوا ,فظل بولهم
على رأسي ,فأعماهم ال عني .قال:ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته ; وكان رجل ثقيل ; حتى انتهيت
إلى الذخر ; ففككت عنه أحبله ,فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة ; فأتيت رسول ال [ ص ]
فقلت:يا رسول ال أنكح عناقا ? -مرتين -فأمسك رسول ال [ ص ] فلم يرد علي شيئا حتى نزلت(الزاني
ل ينكح إل زانية أو مشركة ,والزانية ل ينكحها إل زان أو مشرك ,وحرم ذلك على المؤمنين)فقال رسول
ال [ ص ] ":يا مرثد .الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة .فل تنكحها " .
فهذه الرواية تفيد تحريم نكاح المؤمن للزانية ما لم تتب ,ونكاح المؤمنة للزاني كذلك .وهو ما أخذ به المام
أحمد .ورأى غيره غير رأيه .والمسألة خلفية تطلب في كتب الفقه .وعلى أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها
عن الجماعة المسلمة ; وتقطع ما بينه وبينها من روابط .وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو
أشد وقعا !
والسلم وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع
الفطرية أو يحاربها .فالسلم يقدر أنه ل حيلة للبشر في دفع هذه الميول ,ول خير لهم في كبتها أو قتلها .
ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها ال في كيانهم ,وجعلها جزءا من ناموس الحياة الكبر
,يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة ,وعمارة الرض ,التي استخلف فيها هذا النسان .
إنما أراد السلم محاربة الحيوانية التي ل تفرق بين جسد وجسد ,أو ل تهدف إلى إقامة بيت ,وبناء عش ,
وإنشاء حياة مشتركة ,ل تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة ! وأن يقيم العلقات الجنسية على أساس من
المشاعر النسانية الراقية ,التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين ,وبتعبير شامل التقاء إنسانين
,تربط بينهما حياة مشتركة ,وآمال مشتركة ,وآلم مشتركة ,ومستقبل مشترك ,يلتقي في الذرية المرتقبة ,
ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك ,الذي يقوم عليه الوالدان حارسين ل يفترقان .
من هنا شدد السلم في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية ,تذهب بكل هذه المعاني ,وتطيح بكل هذه
الهداف ; وترد الكائن النساني مسخا حيوانيا ,ل يفرق بين أنثى وأنثى ,ول بين ذكر وذكر .مسخا كل
همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة .فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة ,وليس
وراءها عمارة في الرض ,وليس وراءها نتاج ول إرادة نتاج ! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية ,لن
العاطفة تحمل طابع الستمرار .وهذا ما يفرقها من النفعال المنفرد المتقطع ,الذي يحسبه الكثيرون عاطفة
يتغنون بها ,وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة النسانية في بعض الحيان !
إن السلم ل يحارب دوافع الفطرة ول يستقذرها ; إنما ينظمها ويطهرها ,ويرفعها عن المستوى الحيواني ,
ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الداب النفسية والجتماعية .فأما الزنا -وبخاصة
البغاء -فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية ,والشواق العلوية ; ومن كل الداب التي
تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل ; ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان ,بل أشد غلظا
من الحيوان .ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلزمة ,في حياة زوجية منظمة ,بعيدة عن
الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا -وبخاصة البغاء -في بعض بيئات النسان !
دفع هذه النكسة عن النسان هو الذي جعل السلم يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا . .ذلك إلى الضرار
الجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلم عن هذه الجريمة ,من اختلط النساب ,وإثارة
الحقاد ,وتهديد البيوت المنة المطمئنة . . .وكل واحد من هذه السباب يكفي لتشديد العقوبة .ولكن السبب
الول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية ,ووقاية الداب النسانية التي تجمعت حول الجنس ,
والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والمتداد . .هذا
السبب هو الهم في اعتقادي .وهو الجامع لكل السباب الفرعية الخرى .
على أن السلم ل يشدد في العقوبة هذا التشديد إل بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل ,
ومن توقيع العقوبة إل في الحالت الثابتة التي ل شبهة فيها .فالسلم منهج حياة متكامل ,ل يقوم على
العقوبة ; إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة .ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الخذ بهذه السباب الميسرة
ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر .
وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق . .
فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله [ ص ] :ادرأوا الحدود عن
المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن المام أن يخطى ء في العفو خير من أن يخطى ء
في العقوبة لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل .أو اعترافا ل شبهة في صحته .
وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية ل تردع أحدا ,لنها غير قابلة للتطبيق .ولكن السلم -كما ذكرنا -ل
يقيم بناءه على العقوبة ,بل على الوقاية من السباب الدافعة إلى الجريمة ; وعلى تهذيب النفوس ,وتطهير
الضمائر ; وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب ,فتتحرج من القدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين
الجماعة المسلمة من وشيجة .ول يعاقب إل المتبجحين بالجريمة ,الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة
فيراها الشهود .أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية .وقد جاء
كل منهما يطلب من النبي [ ص ] أن يطهره بالحد ,ويلح في ذلك ,على الرغم من إعراض النبي مرارا ;
حتى بلغ القرار أربع مرات .ولم يعد بد من إقامة الحد ,لنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة ل شبهة فيها .
والرسول [ ص ] يقول ":تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب "
فإذا وقع اليقين ,وبلغ المر إلى الحاكم ,فقد وجب الحد ول هوادة ,ول رأفة في دين ال .فالرأفة بالزناة
الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة ,وعلى الداب النسانية ,وعلى الضمير البشري .وهي رأفة مصطنعة
.فال أرأف بعباده .وقد اختار لهم .وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن تكون لهم
الخيرة من أمرهم .وال أعلم بمصالح العباد ,وأعرف بطبائعهم ,فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة
الظاهرية ; فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا ,وتفسد فيها الفطرة ,وترتكس في الحمأة ,
وتنتكس إلى درك البهيمة الولى . .
والتشديد في عقوبة الزنا ل يغني وحده في صيانة حياة الجماعة ,وتطهير الجو الذي تعيش فيه .والسلم ل
يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة -كما قلنا -إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو
الحياة كلها من رائحة الجريمة .
لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم المة المسلمة .ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في
استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة ; فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد:
(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ,ول تقبلوا لهم شهادة أبدا .
وأولئك هم الفاسقون). .
إن ترك اللسنة تلقي التهم على المحصنات -وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا -بدون دليل قاطع ,
يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء ; ثم يمضي آمنا ! فتصبح
الجماعة وتمسي ,وإذا أعراضها مجرحة ,وسمعتها ملوثة ; وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالتهام ; وإذا
كل زوج فيها شاك في زوجه ,وكل رجل فيها شاك في أصله ,وكل بيت فيها مهدد بالنهيار . .وهي حالة
من الشك والقلق والريبة ل تطاق .
ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث ;
ومن ثم ل تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه ; والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث
الموحي بارتكاب الفحشاء .
لهذا ,وصيانة للعراض من التهجم ,وحماية لصحابها من اللم الفظيعة التي تصب عليهم . .شدد القرآن
الكريم في عقوبة القذف ,فجعلها قريبة من عقوبة الزنا . .ثمانين جلدة . .مع إسقاط الشهادة ,والوصم
بالفسق . .والعقوبة الولى جسدية .والثانية أدبية في وسط الجماعة ; ويكفي أن يهدر قول القاذف فل يؤخذ
له بشهادة ,وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما ل يوثق له بكلم ! والثالثة دينية فهو منحرف
عن اليمان خارج عن طريقه المستقيم . .ذلك إل أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل ,أو بثلثة
معه إن كان قد رآه .فيكون قوله إذن صحيحا .ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة .
والجماعة المسلمة ل تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع التهام والترخص فيه ,وعدم
التحرج من الذاعة به ,وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها ,
ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة .وذلك فوق اللم الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والحرار
الشرفاء ; وفوق الثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت .
وتظل العقوبات التي توقع على القاذف ,بعد الحد ,مصلتة فوق رأسه ,إل أن يتوب:
(إل الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن ال غفور رحيم). .
وقد اختلف الفقهاء في هذا الستثناء:هل يعود إلى العقوبة الخيرة وحدها ,فيرفع عنه وصف الفسق ,ويظل
مردود الشهادة ? أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة . .فذهب الئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب
قبلت شهادته ,وارتفع عنه حكم الفسق .وقال المام أبو حنيفة:إنما يعود الستثناء إلى الجملة الخيرة ,
فيرتفع الفسق بالتوبة ,ويبقى مردود الشهادة .وقال الشعبي والضحاك:ل تقبل شهادته ,وإن تاب ,إل أن
يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف ; فحينئذ تقبل شهادته .
وأنا أختار هذا الخير لنه يزيد على التوبة إعلن براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف .وبذلك يمحي
آخر أثر للقذف .ول يقال:إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الدلة ! ول يحيك في أي نفس ممن
سمعوا التهام أنه ربما كان صحيحا ; ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود . .بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما
,ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية ; فل يبقى هنالك داع لهدار اعتبار
القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان .
ذلك حكم القذف العام .ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته .فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه
إرهاق له وإعنات .والمفروض أل يقذف الرجل امرأته إل صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه
وكرامة أبنائه .لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص:
(والذين يرمون أزواجهم ,ولم يكن لهم شهداء إل أنفسهم .فشهادة أحدهم أربع شهادات بال إنه لمن الصادقين
,والخامسة أن لعنة ال عليه إن كان من الكاذبين .ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بال إنه لمن
الكاذبين ,والخامسة أن غضب ال عليها إن كان من الصادقين .ولول فضل ال عليكم ورحمته وأن ال تواب
حكيم). .
حكِيمٌ ()10
حمَتُهُ وََأنّ اللّ َه تَوّابٌ َ
وََلوْلَا َفضْلُ اللّهِ عََل ْي ُكمْ َو َر ْ
وفي هذه النصوص تيسير على الزواج ,يناسب دقة الحالة وحرج الموقف .ذلك حين يطلع الزوج على فعلة
زوجته ; وليس له من شاهد إل نفسه .فعندئذ يحلف أربع مرات بال إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا ,
ويحلف يمينا خامسة أن لعنة ال عليه إن كان من الكاذبين .وتمسى هذه شهادات لنه الشاهد الوحيد .فإذا
فعل أعطاها قدر مهرها ,وطلقت منه طلقة بائنة ,وحق عليها حد الزنا وهو الرجم . .ذلك إل أن ترغب في
درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بال أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ; وتحلف يمينا خامسة بأن
غضب ال عليها إن كان صادقا وهي كاذبة . .بذلك يدرأ عنها الحد ,وتبين من زوجها بالملعنة ; ول
ينسب ولدها -إن كانت حامل -إليه بل إليها .ول يقذف الولد ومن يقذفه يحد . .
وقد عقب على هذا التخفيف والتيسير ,ومراعاة الحوال والظروف بقوله:
ولم يبين ما الذي كان يكون لول فضل ال ورحمته بمثل هذه التيسيرات ,وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب . .لم
يبينه ليتركه مجمل مرهوبا ,يتقيه المتقون .والنص يوحي بأنه شر عظيم .
روى المام أحمد -يإسناده -عن ابن عباس قال:لما نزلت( :والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ,ول تقبلوا لهم شهادة أبدا)قال سعد بن عبادة وهو سيد النصار -رضي ال
عنه :-أهكذا أنزلت يا رسول ال ? فقال رسول ال [ ص ] ":يا معشر النصار أل تسمعون ما يقول سيدكم ?
" فقالوا:يا رسول ال ل تلمه ,فإنه رجل غيور .وال ما تزوج امرأة قط إل بكرا ,وما طلق امرأة قط فاجترأ
رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته . .فقال سعد:وال يا رسول ال إني لعلم أنها لحق ,وأنها من ال ;
ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ول أحركه حتى آتي بأربعة
شهداء .فوال إني ل آتي بهم حتى يقضي حاجته . .قال:فما لبثوا إل يسيرا حتى جاء هلل بن أمية ,فجاء
من أرضه عشاء ,فوجد عند أهله رجل ,فرأى بعينيه ,وسمع بأذنيه ,فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على
رسول ال [ ص ] فقال:يا رسول ال إني جئت على أهلي عشاء ,فوجدت عندها رجل ,فرأيت بعيني
وسمعت بأذني . .فكره رسول ال [ ص ] ما جاء به ; واشتد عليه ; واجتمعت عليه النصار وقالوا:قد ابتلينا
بما قال سعد بن عبادة ,إل أن يضرب رسول ال [ ص ] هلل بن أمية ,ويبطل شهادته في الناس .فقال
هلل:وال إني لرجو أن يجعل ال منها مخرجا .وقال هلل:يا رسول ال فإني قد أرى ما اشتد عليك مما
جئت به ,وال يعلم إني لصادق . .فوال إن رسول ال [ ص ] يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل ال على رسول
ال [ ص ] الوحي .وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه [ .يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ
من الوحي ] فنزلت :والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إل أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بال .
. .الية فسري عن رسول ال [ ص ] فقال ":أبشر يا هلل فقد جعل ال لك فرجا ومخرجا " . .فقال
هلل:قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل .فقال رسول ال [ ص ] ":أرسلوا إليها " فأرسلوا إليها فجاءت ;
فتلها رسول ال [ ص ] عليهما ,فذكرهما ,وأخبرهما أنعذاب الخرة أشد من عذاب الدنيا .فقال هلل:وال
يا رسول ال لقد صدقت عليها .فقالت:كذب .فقال رسول ال [ ص ] ":لعنوا بينهما " . .فقيل لهلل:اشهد
.فشهد أربع شهادات بال إنه لمن الصادقين .فلما كانت الخامسة قيل له:يا هلل اتق ال ,فإن عذاب الدنيا
أهون من عذاب الخرة ,وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب .فقال:وال ل يعذبني ال عليها كما لم
يجلدني عليها .فشهد الخامسة أن لعنة ال عليه إن كان من الكاذبين . .ثم قيل للمرأة .اشهدي أربع شهادات
بال إنه لمن الكاذبين .وقيل لها عند الخامسة:اتقي ال فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الخرة .وإن هذه
الموجبة التي توجب عليك العذاب .فتلكأت ساعة وهمت بالعتراف .ثم قالت:وال ل أفضح قومي .فشهدت
في الخامسة أن غضب ال عليها إن كان من الصادقين . .ففرق رسول ال [ ص ] بينهما ; وقضى أن ل
يدعى ولدها لب ; ول يرمي ولدها ; ومن رمى ولدها فعليه الحد ; وقضى أن ل بيت لها عليه ,ول قوت لها
,من أجل أنهما يفترقان من غير طلق ول متوفى عنها .وقال ":إن جاءت به ,أصهيب أريسح حمش
الساقين فهو لهلل . .وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الليتين فهو الذي رميت به " . .
فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الليتين .فقال رسول ال [ ص ] ":لول اليمان لكان لي
ولها شأن " . .
وهكذا جاء هذا التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل ,وعلج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين ,قد
اشتد على رسول ال [ ص ] ولم يجد منه مخرجا ,حتى طفق يقول لهلل بن أمية -كما ورد في رواية
البخاري " -البينة أو حد في ظهرك " وهلل يقول:يا رسول ال إذا رأى أحدنا على امرأته رجل ينطلق
يلتمس البينة ?
ولقد يقول قائل:أليس ال -سبحانه -يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف ; فلماذا لم ينزل ال
الستثناء إل بعد ذلك الموقف المحرج ?
والجواب:بلى إنه سبحانه ليعلم .ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه ,فتستقبله
نفوس الناس باللهفة إليه ,وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة .ومن ثم عقب عليه بقوله(:ولول فضل ال عليكم
ورحمته وأن ال تواب حكيم).
ونقف قليل أمام هذه الواقعة ,لنرى كيف صنع السلم ,وكيف صنعت تربية رسول ال [ ص ] للناس لهذا
القرآن . .كيف صنع هذا بالنفس العربية الغيور الشديدة النفعال ,المتحمسة التي ل تفكر
وما يلبث هذا التصور المرير الذي ل يطيقه سعد بن عبادة في خياله . .ما يلبث أن يتحقق . .فهذا رجل
يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ,ولكنه يجد نفسه محجوزا بحاجز القرآن ; فيغلب مشاعره ,ويغلب وراثاته ,
ويغلب منطق البيئة العربية العنيف العميق ; ويكبح غليان دمه ,وفوران شعوره ,واندفاع أعصابه . .ويربط
على هذا كله في انتظار حكم ال وحكم رسول ال [ ص ] وهو جهد شاق مرهق ; ولكن التربية السلمية
أعدت النفوس لحتماله كي ل يكون حكم إل ل ,في ذات النفس وفي شؤون الحياة .
كيف أمكن أن يحدث هذا ? لقد حدث لنهم كانوا يحسون أن ال معهم ,وأنهم في كنف ال ,وأن ال يرعاهم
,ول يكلفهم عنتا ول رهقا ,ول يتركهم عندما يتجاوز المر طاقتهم ,ول يظلمهم أبدا .كانوا يعيشون دائما
في ظل ال ,يتنفسون من روح ال ,ويتطلعون إليه دائما كما يتطلع الطفال إلى العائل الكافل الرحيم . .فها
هو ذا هلل بن أمية يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ,وهو وحده ; فيشكو إلى رسول ال [ ص ] فل يجد رسول ال
[ ص ] مناصا من تنفيذ حد ال ,وهو يقول له ":البينة .أو حد في ظهرك " ولكن هلل بن أمية ل يتصور
أن ال تاركه للحد ,وهو صادق في دعواه .فإذا ال ينزل ذلك الستثناء في حالة الزواج ; فيبشر رسول ال
[ ص ] هلل به ; فإذا هو يقول قولة الواثق المطمئن:قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . .فهو الطمئنان
إلى رحمة ال ورعايته وعدله .والطمئنان أكثر إلى أنه معهم ,وأنهم ليسوا متروكين لنفسهم ; إنما هم في
حضرته ,وفي كفالته . .وهذا هو اليمان الذي راضهم على الطاعة والتسليم والرضى بحكم ال .
وبعد النتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف ,يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ; وهو يتناول
بيت النبوة الطاهرة الكريم ,وعرض رسول ال [ ص ] أكرم إنسان على ال ,وعرض صديقه الصديق أبي
بكر -رضي ال عنه -أكرم إنسان على رسول ال [ ص ] وعرض رجل من الصحابة -صفوان بن
المعطل رضي ال عنه -يشهد رسول ال أنه لم يعرف عليه إل خيرا . .وهو يشغل المسلمين في المدينة
شهرا من الزمان . .
ذلك هو حديث الفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع:
إن الذين جاءوا بالفك عصبة منكم .ل تحسبوه شرا لكم ,بل هو خير لكم .لكل امرى ء منهم ما اكتسب من
الثم ,والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ,
وقالوا:هذا إفك مبين .لول جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند ال هم الكاذبون .
ولول فضل ال عليكم ورحمته في الدنيا والخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم .إذ تلقونه بألسنتكم ,
وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ; وتحسبونه هينا وهو عند ال عظيم .ولول إذ سمعتموه قلتم:ما يكونلنا
أن نتكلم بهذا .سبحانك ! هذا بهتان عظيم .يعظكم ال أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين .ويبين ال لكم
اليات وال عليم حكيم .إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والخرة ,
وال يعلم وأنتم ل تعلمون .ولول فضل ال عليكم ورحمته وأن ال رؤوف رحيم .يا أيها الذين آمنوا ل
تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ,ولول فضل ال عليكم
ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ; ولكن ال يزكي من يشاء وال سميع عليم .ول يأتل أولو الفضل منكم
والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل ال .وليعفوا وليصفحوا .أل تحبون أن يغفر
ال لكم .وال غفور رحيم .إن الذين يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات لعنوا في الدنيا والخرة ,ولهم
عذاب عظيم .يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .يومئذ يوفيهم ال دينهم الحق ,
ويعلمون أن ال هو الحق المبين .الخبيثات للخبيثين ,والخبيثون للخبيثات ,والطيبات للطيبين ,والطيبون
للطيبات ,أولئك مبرأون مما يقولون ,لهم مغفرة ورزق كريم). .
هذا الحادث .حادث الفك .قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلما ل تطاق ; وكلف المة
المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ; وعلق قلب رسول ال [ ص ] وقلب زوجة عائشة
التي يحبها ,وقلب أبي بكر الصديق وزوجه ,وقلب صفوان بن المعطل . .شهرا كامل .علقها بحبال الشك
والقلق واللم الذي ل يطاق .
فلندع عائشة -رضي ال عنها -تروي قصة هذا اللم ,وتكشف عن سر هذه اليات:
كان رسول ال [ ص ] إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ,فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ; وإنه أقرع بيننا
في غزاة فخرج سهمي ,فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب ,وأنا أحمل في هودج ,وأنزل فيه .فسرنا حتى
إذا فرغ رسول ال [ ص ] من غزوته تلك ,وقفل ,ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ; فقمت حين آذنوا
بالرحيل ,حتى جاوزت الجيش .فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل ,فلمست صدري ,فإذا عقد لي من
جزع أظفار قد انقطع ,فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ; وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني ,فاحتملوا
هودجي ,فرحلوه على بعيري ,وهم يحسبون أني فيه ; وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ; وإنما نأكل
العلقة من الطعام ; فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ,فحملوه ; وكنت جارية حديثة السن ; فبعثوا
الجمل وساروا ,فوجدت عقدي ,بعدما استمر الجيش ,فجئت منزلهم ,وليس فيه أحد منهم ,فتيممت منزلي
الذي كنت فيه ,وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ; فبينما أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت .وكان صفوان
بن المعطل السلمي .ثم الذكواني .قد عرس وراء الجيش ,فأدلج ,فأصبح عند منزلي ; فرأى سواد إنسان
نائم ,فأتاني فعرفني حين رآني .وكان يراني قبل الحجاب .فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ,فخمرت
وجهي بجلبابي ; وال ما يكلمني بكلمة ,ول سمعت منه كلمة غير استرجاعه ; وهوى حتى أناخ راحلته ,
فوطى ء على يديها ,فركبتها ,فانطلق يقود بي الراحلة ,حتى أتينا الجيش ,بعد ما نزلوا معرسين .
قالت:فهلك في شأني من هلك .وكان الذي تولى كبرالثم عبد ال بن أبي بن سلول ; فقدمنا المدينة ,فاشتكيت
بها شهرا ; والناس يفيضون في قول أصحاب الفك ول أشعر .وهو يريبني في وجعي أني ل أرى من النبي
[ ص ] اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ,إنما يدخل فيسلم ثم يقول:كيف تيكم ? ثم ينصرف .فذلك
الذي يريبني منه ,ول أشعر بالشر حتى نقهت ,فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا ل
نخرج إل ليل إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف ,وأمرنا أمر العرب الول في التبرز قبل الغائط .فأقبلت أنا
وأم مسطح -وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق
رضي ال عنه ,وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب -حين فرغنا من شأننا نمشي .فعثرت أم مسطح
في مرطها فقالت:تعس مسطح ! فقلت لها:بئسما قلت .أتسبين رجل شهد بدرا ? فقالت:يا هنتاه ألم تسمعي ما
قال ? فقلت:وما قال ? فأخبرتني بقول أهل الفك ,فازددت مرضا إلى مرضي .فلما رجعت إلى بيتي دخل
رسول ال [ ص ] فقال:كيف تيكم ? فقلت:ائذن لي أن آتي أبوي .وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما
.فأذن لي ,فأتيت أبوي ,فقلت لمي:يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ? فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن ,
فوال لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إل أكثرن عليها .فقلت:سبحان ال ! ولقد
تحدث الناس بهذا ? قالت:فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ل يرقأ لي دمع ول أكتحل بنوم .ثم أصبحت أبكي .
فدعا رسول ال [ ص ] علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد -رضي ال عنهما -حين استلبث الوحي
يستشيرهما في فراق أهله .قالت:فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله ,وبالذي يعلم في نفسه من
الود لهم .فقال أسامة:هم أهلك يا رسول ال ,ول نعلم وال إل خيرا .وأما علي بن أبي طالب فقال:يا رسول
ال لم يضيق ال عليك ,والنساء سواها كثير ,وسل الجارية تخبرك .قالت:فدعا رسول ال [ ص ] بريرة
فقال لها:أي بريرة .هل رأيت فيها شيئا يريبك ? فقالت:ل والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه
عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ,فتأتي الداجن فتأكله .قالت:فقام رسول ال [ ص
] من يومه ,واستعذر من عبد ال بن أبي بن سلول .فقال وهو على المنبر:من يعذرني من رجل بلغني أذاه
في أهلي ? فوال ما علمت على أهلي إل خيرا .ولقد ذكروا رجل ما علمت عليه إل خيرا ,وما كان يدخل
على أهلي إل معي .قالت:فقام سعد بن معاذ -رضي ال عنه -فقال:يا رسول ال أنا وال أعذرك منه .إن
كان من الوس ضربنا عنقه ,وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك .فقام سعد بن عبادة
-رضي ال عنه -وهو سيد الخزرج ,وكان رجل صالحا ولكن أخذته الحمية .فقال لسعد بن معاذ:كذبت
لعمر ال ,ل تقتله ول تقدر على ذلك .فقام أسيد بن حضير رضي ال عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال
لسعد بن عبادة:كذبت -لعمر ال -لنقتلنه ,فإنك منافق تجادل عن المنافقين .فثار الحيان -الوسوالخزرج
-حتى هموا أن يقتتلوا ,ورسول ال [ ص ] على المنبر ,فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل .
وبكيت يومي ذلك ل يرقأ لي دمع ,ول أكتحل بنوم .ثم بكيت ليلتي المقبلة ل يرقأ لي دمع ول أكتحل بنوم .
فأصبح أبواي عندي ,وقد بكيت ليلتين ويوما ,حتى أظن أن البكاء فالق كبدي .فبينما هما جالسان عندي وأنا
أبكي إذ استأذنت امرأة من النصار ,فأذنت لها ,فجلست تبكي معي .فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول
ال [ ص ] ,ثم جلس ,ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها ,وقد مكث شهرا ل يوحى إليه في
شأني بشيء ,فتشهد حين جلس ,ثم قال ":أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا .فإن كنت بريئة فسيبرئك ال
تعالى ,وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري ال تعالى وتوبي إليه ,فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب ال
تعالى عليه " .فلما قضى رسول ال [ ص ] مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة .فقلت لبي:أجب
عني رسول ال [ ص ] فيما قال .قال:وال ما أدري ما أقول لرسول ال [ ص ] فقلت لمي:أجيبي عني
رسول ال [ ص ] فيما قال .قالت:وال ما أدري ما أقول لرسول ال [ ص ] .قالت:وأنا جارية حديثة السن
ل أقرأ كثيرا من القرآن .فقلت:إني وال أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به ,واستقر في نفوسكم ,
وصدقتم به .فلئن قلت لكم:إني بريئة ل تصدقوني بذلك .ولئن اعترفت لكم بأمر وال يعلم أني منه بريئة ,
لتصدقنني .فوال مما أجد لي ولكم مثل إل أبا يوسف إذ قال":فصبر جميل وال المستعان على ما تصفون" .
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ,وأنا وال حينئذ أعلم أني بريئة ,وأن ال تعالى مبرئي ببراءتي .ولكن
وال ما كنت أظن أن ينزل ال تعالى في شأني وحيا يتلى ; ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم ال تعالى
في بأمر يتلى ; ولكن كنت أرجو أن يرى رسول ال [ ص ] في النوم رؤيا يبرئني ال تعالى بها .فوال ما
رام مجلسه ,ول خرج أحد من أهل البيت ,حتى أنزل ال تعالى على نبيه [ ص ] فأخذه ما كان يأخذه من
البرحاء ,فسري عنه ,وهو يضحك ,فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي:يا عائشة احمدي ال تعالى فإنه قد
برأك .فقالت لي أمي:قومي إلى رسول ال [ ص ] فقلت:وال ل أقوم إليه ,ول أحمد إل ال تعالى ,هو الذي
أنزل براءتي .فأنزل ال تعالى :إن الذين جاءوا بالفك عصبة منكم . . .العشر اليات فلما أنزل ال تعالى
هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق -رضي ال عنه -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه
وفقره:وال ل أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة -رضي ال عنها -فأنزل ال تعالى :ول يأتل
أولوا الفضل منكم والسعة . .إلى قوله (وال غفور رحيم)فقال أبو بكر -رضي ال عنه -بلى وال إني
لحب أن يغفر ال لي ,فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه ,وقال:وال ل أنزعها منه أبدا .قالت
عائشة رضي ال عنها:وكان رسول ال [ ص ] سأل زينب بنت جحش عن أمري ,فقال ":يا زينب .ما
علمت وما رأيت ? " فقالت:يا رسول ال أحمي سمعي وبصري ,وال ما علمت عليها إل خيرا .وهي التي
كانت تساميني من أزواج النبي [ ص ] فعصمها ال تعالى بالورع .قالت:فطفقت أختها حمنة تحارب لها ,
فهلكت فيمن هلك من أصحاب الفك .
وهكذا عاش رسول ال [ ص ] وأهل بيته .وعاش أبو بكر -رضي ال عنه -وأهل بيته .وعاش صفوان
بن المعطل .وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق ,وفي ظل تلك اللم الهائلة ,
بسبب حديث الفك الذي نزلت فيه تلك اليات .
وإن النسان ليقف متململ أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الليمة في حياة الرسول [ ص ] وأمام تلك
اللم العميقة اللذعة لعائشة زوجه المقربة .وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة .تلك السن المليئة
بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيقة .
فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة .ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها ,ونظافة تصوراتها ,ها هي
ذي ترمي في أعز ما تعتز به .ترمى في شرفها .وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع .
وترمى في أمانتها .وهي زوج محمد بن عبد ال من ذروة بني هاشم .وترمى في وفائها .وهي الحبيبة
المدللة القريبة من ذلك القرب الكبير . .ثم ترمى في إيمانها .وهي المسلمة الناشئة في حجر السلم ,من
أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة .وهي زوج رسول ال [ ص ] .
ها هي ذي ترمى ,وهي بريئة غارة غافلة ,ل تحتاط لشيء ,ول تتوقع شيئا ; فل تجد ما يبرئها إل أن
ترجو في جناب ال ,وتترقب أن يرى رسول ال رؤيا ,تبرئها مما رميت به .ولكن الوحي يتلبث ,لحكمة
يريدها ال ,شهرا كامل ; وهي في مثل هذا العذاب .
ويا ل لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح .وهي مهدودة من المرض .فتعاودها الحمى ; وهي تقول لمها في
أسى:سبحان ال ! وقد تحدث الناس بهذا ? وفي رواية أخرى تسأل:وقد علم به أبي ? فتجيب أمها:نعم !
فتقول:ورسول ال [ ص ] ? -فتجيبها أمها كذلك:نعم !
ويا ل لها ورسول ال [ ص ] نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه ,يقول لها ":أما بعد فإنه بلغني عنك كذا
وكذا ; فإن كنت بريئة فسيبرئك ال تعالى ,وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري ال تعالى وتوبي إليه ,فإن العبد
إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب ال عليه " . .فتعلم أنه شاك فيها ,ل يستيقن من طهارتها ,ول يقضي في
تهمتها .وربه لم يخبره بعد ,ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن ل تملك إثباتها ; فتمسي وتصبح
وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها ,وأحلها في سويدائه !
وها هو ذا أبو بكر الصديق -في وقاره وحساسيته وطيب نفسه -يلذعه اللم ,وهو يرمى في عرضه .في
ابنته زوج محمد -صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه ,ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل ,ل
يطلب دليل من خارجه . .وإذا اللم يفيض على لسانه ,وهو الصابر المحتسب القوي على اللم ,فيقول:وال
ما رمينا بهذا في جاهلية .أفنرضى به في السلم ? وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل .حتى إذا قالت
له ابنته المريضة المعذبة:أجب عني رسول ال [ ص ] قال في مرارة هامدة:وال ما أدري ما أقول لرسول ال
[ص]!
وأم رومان -زوج الصديق رضي ال عنهما -وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء .المريضة
التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها .فتقول لها:يا بنية هوني على نفسك الشأن ,فوال لقلما كانت امرأة
قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إل أكثرن عليها . .ولكن هذا التماسك بتزايل وعائشة تقول
لها:أجيبي عني رسول ال [ ص ] فتقول كما قال زوجها من قبل:وال ما أدري ما أقول لرسول ال [ ص ] !
والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل ال صفوان بن المعطل .وهو يرمي بخيانة نبيه في زوجه .
فيرمي بذلك في إسلمه ,وفي أمانته ,وفي شرفه ,وفي حميته .وفي كل ما يعتز به صحابي ,وهو من ذلك
كله برى ء .وهو يفاجأ بالتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره ,فيقول:سبحان ال ! وال ما كشفت كتف
أنثى قط .ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الفك عنه ,فل يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه
ضربة تكاد تودي به .ودافعه إلى رفع سيفه على امرى ء مسلم ,وهو منهى عنه ,أن اللم قد تجاوز طاقته
,فلم يملك زمام نفسه الجريح !
ثم ها هو ذا رسول ال [ ص ] وهو رسول ال ,وهو في الذروة من بني هاشم . .ها هو ذا يرمى في بيته .
وفي من ? في عائشة التي حلت من قلبه في مكان البنة والزوجه والحبيبة .وها هو ذا يرمى في طهارة
فراشه ,وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة .وها هو ذا يرمي في صيانة حرمته ,وهو القائم على
الحرمات في أمته .وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له ,وهو الرسول المعصوم من كل سوء .
ها هو ذا [ ص ] يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة -رضي ال عنها -يرمى في فراشه وعرضه ,
وقلبه ورسالته .يرمى في كل ما يعتز به عربي ,وكل ما يعتز به نبي . .ها هو ذا يرمى في هذا كله ;
ويتحدث الناس به في المدينة شهرا كامل ,فل يملك أن يضع لهذا كله حدا .وال يريد لحكمة يراها أن يدع
هذا المر شهرا كامل ل يبين فيه بيانا .ومحمد النسان يعاني ما يعانيه النسان في هذا الموقف الليم .
يعاني من العار ,ويعاني فجيعة القلب ; ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة .الوحشة من نور ال الذي اعتاد
أن ينير له الطريق . .والشك يعمل في قلبه -مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله ,ولكنه ل يطمئن
نهائيا إلى هذه القرائن -والفرية تفوح في المدينة ,وقلبه النساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك ; فل
يملك أن يطرد الشك .لنه في النهاية بشر ,ينفعل في هذا انفعالت البشر .وزوج ل يطيق أن يمس فراشه
.ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت ,ويصعب عليه اقتلعها دون دليل حاسم .
وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده ,فيبعث إلى أسامة بن زيد .حبه القريب إلى قلبه . .ويبعث إلى علي ابن
أبي طالب .ابن عمه وسنده .يستشيرهما في خاصة أمره .فأما علي فهو من عصب محمد ,وهو شديد
الحساسية بالموقف لهذا السبب .ثم هو شديد الحساسية باللم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد ,ابن عمه
وكافله .فهو يشير بأن ال لم يضيق عليه .ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول ال [ ص ]
ويستقر على قرار .وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول ال [ ص ] من الود لهله ,والتعب لخاطر الفراق ,
فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين ,وكذب المفترين الفاكين .
ورسول ال [ ص ] في لهفة النسان ,وفي قلق النسان ,يستمد من حديث أسامة ,ومن شهادة الجارية مددا
وقوة يواجه بهما القوم في المسجد ,فيستعذر ممن نالوا عرضه ,ورموا أهله ,ورموا رجل من فضلء
المسلمين ل يعلم أحد عليه من سوء . .فيقع بين الوس والخزرج ما يقع من تناور -وهم في مسجد رسول
ال [ ص ] وفي حضرة رسول ال [ ص ] ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه
الفترة الغريبة ,وقد خدشت قداسة القيادة ,ويحز هذا في نفس الرسول [ ص ] والنور الذي اعتاد أن يسعفه ل
ينير له الطريق ! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها يصارحها بما يقول الناس ; ويطلب منها هي البيان الشافي
المريح !
وعندما تصل اللم إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه ,فيتنزل القرآن ببراءة عائشة
الصديقةالطاهرة ; وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع ; ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الفك ,ويرسم
الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم .
ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل":وأنا وال أعلم حينئذ أني بريئة ,وأن ال تعالى مبرئي ببراءتي .
ولكني وال ما كنت أظن أن ينزل ال تعالى في شأني وحيا يتلى .ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم
ال في بأمر يتلى .ولكن كنت أرجو أن يرى رسول ال [ ص ] في النوم رؤيا يبرئني ال تعالى بها" . .
ولكن المر -كما يبدو من ذلك الستعراض -لم يكن أمر عائشة -رضي ال عنها -ول قاصرا على
شخصها .فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول [ ص ] ووظيفته في الجماعة يومها .بل تجاوزه إلى صلته بربه
ورسالته كلها .وما كان حديث الفك رمية لعائشة وحدها ,إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها . .
من أجل ذلك أنزل ال القرآن ليفصل في القضية المبتدعة ,ويرد المكيدة المدبرة ,ويتولى المعركة الدائرة
ضد السلم ورسول السلم ; ويكشف عن الحكمة العليا وراء ذلك كله ; وما يعلمها إل ال:
إن الذين جاءوا بالفك عصبة منكم .ل تحسبوه شرا لكم ,بل هو خير لكم .لكل امرئ منهم ما اكتسب من
الثم .والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .
فهم ليسوا فردا ول أفرادا ; إنما هم(عصبة)متجمعة ذات هدف واحد .ولم يكن عبد ال بن أبي بن سلول وحده
هو الذي أطلق ذلك الفك .إنما هو الذي تولى معظمه .وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين ,الذين عجزوا
عن حرب السلم جهرة ; فتواروا وراء ستار السلم ليكيدوا للسلم خفية .وكان حديث الفك إحدى
مكائدهم القاتلة .ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الفك كحمنة بنت جحش ; وحسان
بن ثابت ,ومسطح بن أثاثة .أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة ,وعلى رأسها ابن سلول ,الحذر الماكر
,الذي لم يظهر بشخصه في المعركة .ولم يقل علنية ما يؤخذ به ,فيقاد إلى الحد .إنما كان يهمس به بين
ملئه الذين يطمئن إليهم ,ول يشهدون عليه .وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به
المدينة شهرا كامل ,وأن تتداوله اللسنة في أطهر بيئة وأتقاها !
وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث ,وعمق جذوره ,وما وراءه من عصبة تكيد
للسلم والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم .
خير .فهو يكشف عن الكائدين للسلم في شخص رسول ال [ ص ] وأهل بيته .وهو يكشف للجماعة
المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه ال ; ويبين مدى الخطار التي تحيق
بالجماعة لو أطلقت فيها اللسنة تقذف المحصنات الغافلت المؤمنات .فهي عندئذ ل تقف عند حد .إنما
تمضي صعدا إلى أشرف المقامات ,وتتطاول إلى أعلى الهامات ,وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل
حياء .
وهو خير أن يكشف ال للجماعة المسلمة -بهذه المناسبة -عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا المر
العظيم .
أما اللم التي عاناها رسول ال [ ص ] وأهل بيته ,والجماعة المسلمة كلها ,فهي ثمنالتجربة ,وضريبة
البتلء ,الواجبة الداء !
أما الذين خاضوا في الفك ,فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة( :لكل امرئ منهم ما اكتسب من الثم).
.ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند ال .وبئس ما اكتسبوه ,فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا
وحياتهم الخرى( :والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم)يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم .
والذي تولى كبره ,وقاد حملته ,واضطلع منه بالنصيب الوفى ,كان هو عبد ال بن أبي بن سلول .رأس
النفاق ,وحامل لواء الكيد .ولقد عرف كيف يختار مقتل ,لول أن ال كان من ورائه محيطا ,وكان لدينه
حافظا ,ولرسوله عاصما ,وللجماعة المسلمة راعيا . .ولقد روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم
المؤمنين وابن سلول في مل من قومه قال:من هذه ? فقالوا:عائشة رضي ال عنها . .فقال:وال ما نجت منه
ول نجا منها .وقال:امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ; ثم جاء يقودها !
وهي قولة خبيثة راح يذيعها -عن طريق عصبة النفاق -بوسائل ملتوية .بلغ من خبثها أن تموج المدينة
بالفرية التي ل تصدق ,والتي تكذبها القرائن كلها .وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين .وأن تصبح
موضوع أحاديثهم شهرا كامل .وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الولى .
وإن النسان ليدهش -حتى اليوم -كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حينذاك .
وأن تحدث هذه الثار الضخمة في جسم الجماعة ,وتسبب هذه اللم القاسية لطهر النفوس وأكبرها على
الطلق .
لقد كانت معركة خاضها رسول ال [ ص ] وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك .وخاضها السلم .معركة
ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول ال [ ص ] وخرج منها منتصرا كاظما للمه الكبار ,
محتفظا بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره .فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف
احتماله .واللم التي تناوشه لعلها أعظم اللم التي مرت به في حياته .والخطر على السلم من تلك الفرية
من أشد الخطار التي تعرض لها في تاريخه .
ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لفتاه ; ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه .والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى
هذا المنهج في مواجهة المور ,بوصفه أول خطوة في الحكم عليها:
(لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ,وقالوا:هذا إفك مبين). .
نعم كان هذا هو الولى . .أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا .وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل
هذه الحمأة . .وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم .فظن الخير بهما أولى .فإن
ما ل يليق بهم ل يليق بزوج رسول ال [ ص ] ول يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إل خيرا . .كذلك فعل
أبو أيوب خالد بن زيد النصاري وامرأته -رضي ال عنهما -كما روى المام محمد ابن إسحاق:أن أبا
أيوب قالت له امرأته أم أيوب:يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة -رضي ال عنها ? -قال:نعم
.وذلك الكذب .أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ? قالت:ل وال ما كنت لفعله .قال:فعائشة وال خير منك . .
ونقل المام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره":الكشاف" أن أبا أيوب النصاري قال لم أيوب:أل ترين
ما يقال ? فقالت:لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول ال [ ص ] سوءا ? قال:ل .قالت:ولو كنت
أنا بدل عائشة -رضي ال عنها -
ش َهدَاء َفِإذْ َلمْ َي ْأتُوا بِالشّ َهدَاء َفأُوَْل ِئكَ عِندَ اللّ ِه ُهمُ ا ْلكَا ِذبُونَ ( )13وَلَوْلَا َفضْلُ اللّهِ عََل ْي ُكمْ
لَوْلَا جَاؤُوا عََل ْيهِ ِبَأ ْر َبعَةِ ُ
عظِيمٌ ()14
عذَابٌ َ
ض ُتمْ فِيهِ َ
سكُمْ فِي مَا َأفَ ْ
خرَ ِة َل َم ّ
ح َمتُهُ فِي ال ّد ْنيَا وَالْآ ِ
َو َر ْ
ما خنت رسول ال [ ص ] فعائشة خير مني ,وصفوان خير منك . .
وكلتا الروايتين تدلن على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه ,فاستبعد أن يقع ما نسب إلى
عائشة ,وما نسب إلى رجل من المسلمين:من معصية ل وخيانة لرسوله ,وارتكاس في حمأة الفاحشة ,
لمجرد شبهة ل تقف للمناقشة !
هذه هي الخطوة الولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة المور .خطوة الدليل الباطني الوجداني .
فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي:
لول جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند ال هم الكاذبون . .وهذه الفرية الضخمة
التي تتناول أعلى المقامات ,وأطهر العراض ,ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة ; وأن تشيع هكذا دون
تثبت ول بينة ; وأن تتقاذفها اللسنة وتلوكها الفواه دون شاهد ول دليل :لول جاؤوا عليه بأربعة شهداء !
وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن .كاذبون عند ال الذي ل يبدل القول لديه ,والذي ل يتغير حكمه ,ول يتبدل
قراره .فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي ل براءة لهم منها ,ول نجاة لهم من عقباها .
هاتان الخطوتان:خطوة عرض المر على القلب واستفتاء الضمير .وخطوة التثبت بالبينة والدليل . .غفل
عنهما المؤمنون في حادث الفك ; وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول ال [ ص ] وهو أمر عظيم
لول لطف ال لمس الجماعة كلها البلء العظيم .فال يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدا بعد هذا الدرس الليم:
(ولول فضل ال عليكم ورحمته في الدنيا والخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم). .
لقد احتسبها ال للجماعة المسلمة الناشئة درسا قاسيا .فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسسهم بعقابه وعذابه .
فهي فعلة تستحق العذاب العظيم .العذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول [ ص ] وزوجه
وصديقه وصاحبه الذي ل يعلم عليه إل خيرا .والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة
وشاع ; ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة .والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته
عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل
,حافل بالقلق والقلقة والحيرة بل يقين ! ولكن فضل ال تدارك الجماعة الناشئة ,ورحمته شملت المخطئين ,
بعد الدرس الليم .
والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام ; واختلت فيها المقاييس ,واضطربت فيها القيم ,
وضاعت فيها الصول:
(إذ تلقونه بألسنتكم ,وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ; وتحسبونه هينا وهو عند ال عظيم). .
وهي صورة فيها الخفة والستهتار وقلة التحرج ,وتناول أعظم المور وأخطرها بل مبالة ول اهتمام:
(إذ تلقونه بألسنتكم) . .لسان يتلقى عن لسان ,بل تدبر ول ترو ول فحص ول إنعام نظر .حتى لكأن القول
ل يمر على الذان ,ول تتمله الرؤوس ,ول تتدبره القلوب ! (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم). .
بأفواهكم ل بوعيكم ول بعقلكم ول بقلبكم .إنما هي كلمات تقذف بها الفواه ,قبل أن تستقر في المدارك ,
وقبل أن تتلقاها العقول ( . .وتحسبونه هينا)أن تقذفوا عرض رسول ال ,وأن تدعوا اللم
عظِيمٌ ( )15وََلوْلَا ِإذْ
سبُونَ ُه َهيّنا وَ ُهوَ عِندَ اللّهِ َ
حَن ِبَأفْوَا ِهكُم مّا َليْسَ َلكُم ِبهِ عِ ْلمٌ َو َت ْ
س َن ِتكُمْ َوتَقُولُو َ
ِإذْ تَلَقّ ْو َنهُ ِبأَ ْل ِ
ظ ُكمُ اللّ ُه أَن َتعُودُوا ِل ِمثْلِهِ َأبَدا إِن
عظِيمٌ (َ )16يعِ ُ
س ْبحَا َنكَ َهذَا ُب ْهتَانٌ َ
س ِمعْ ُتمُوهُ قُ ْلتُم مّا َيكُونُ َلنَا أَن ّن َتكَلّمَ ِب َهذَا ُ
َ
حشَةُ فِي اّلذِينَ
حبّونَ أَن َتشِيعَ الْفَا ِ
ن اّلذِينَ ُي ِ
حكِيمٌ ( )18إِ ّ
ن اللّ ُه َل ُكمُ الْآيَاتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
كُنتُم مّ ْؤ ِمنِينَ (َ )17و ُي َبيّ ُ
ب أَلِيمٌ فِي ال ّد ْنيَا وَالْآخِرَةِ وَاللّهُ َيعَْلمُ وَأَن ُتمْ لَا َتعَْلمُونَ ()19
عذَا ٌ
آ َمنُوا َل ُهمْ َ
يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله ; وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يرم في الجاهلية ; وأن تتهموا صحابيا
مجاهدا في سبيل ال .وأن تمسوا عصمة رسول ال [ ص ] وصلته بربه ,ورعاية ال له ( . .وتحسبونه
هينا)( . .وهو عند ال عظيم) . .وما يعظم عند ال إل الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي ,وتضج منه
الرض والسماء .
ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه ,وأن تتحرج من مجرد النطق به ,وأن تنكر أن يكون هذا
موضوعا للحديث ; وأن تتوجه إلى ال تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا ; وأن تقذف بهذا الفك بعيدا عن ذلك
الجو الطاهر الكريم:
(ولول إذ سمعتموه قلتم:ما يكون لنا أن نتكلم بهذا .سبحانك ! هذا بهتان عظيم). .
وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزا ; وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما
عملت . .عندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا المر العظيم:
(يعظكم) . .في أسلوب التربية المؤثر .في أنسب الظروف للسمع والطاعة والعتبار .مع تضمين اللفظ
معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان( :يعظكم ال أن تعودوا لمثله أبدا) . .ومع تعليق إيمانهم على
النتفاع بتلك العظة( :إن كنتم مؤمنين) . .فالمؤمنون ل يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف ,
وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير ,ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون:
(ويبين ال لكم اليات) . .على مثال ما بين في حديث الفك ,وكشف عما وراءه من كيد ; وما وقع فيه من
خطايا وأخطاء( :وال عليم حكيم)يعلم البواعث والنوايا والغايات والهداف ; ويعلم مداخل القلوب ,ومسارب
النفوس .وهو حكيم في علجها ,وتدبير أمرها ,ووضع النظم والحدود التي تصلح بها . .
ثم يمضي في التعقيب على حديث الفك ; وما تخلف عنه من آثار ; مكررا التحذير من مثله ,مذكرا بفضل
ال ورحمته ,متوعدا من يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات بعذاب ال في الخرة .ذلك مع تنقية النفوس
من آثار المعركة ; وإطلقها من ملبسات الرض ,وإعادة الصفاء إليها والشراق . .كما تتمثل في موقف
أبي بكر -رضي ال عنه -من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الفك مع من خاض:
(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والخرة ,وال يعلم وأنتم ل
تعلمون). .
والذين يرمون المحصنات -وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم -إنما يعملون على
زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة ; وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة ,وذلك عن
طريق اليحاء بأن الفاحشة شائعة فيها . .بذلك تشيع الفاحشة في النفوس ,لتشيع بعد ذلك في الواقع .
من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ,وتوعدهم
بالعذاب الليم في الدنيا والخرة .
وذلك جانب من منهج التربية ,وإجراء من إجراءات الوقاية .يقوم على خبرة بالنفس البشرية ,ومعرفة
بطريقة تكيف مشاعرها واتجاهاتها . .ومن ثم يعقب بقوله( :وال يعلم وأنتم ل تعلمون) . .ومن ذا الذي
شيْطَانِ
ت ال ّ
خطُوَا ِ
حمَتُهُ وََأنّ اللّه رَؤُوفٌ َرحِيمٌ ( )20يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا لَا َت ّت ِبعُوا ُ
وََلوْلَا َفضْلُ اللّهِ عََل ْي ُكمْ َو َر ْ
حدٍ
ح َمتُهُ مَا َزكَا مِنكُم مّنْ َأ َ
حشَاء وَا ْلمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللّهِ عََل ْي ُكمْ َو َر ْ
ش ْيطَانِ َفِإنّ ُه َي ْأمُرُ بِالْ َف ْ
خطُوَاتِ ال ّ
َومَن َي ّتبِعْ ُ
سمِيعٌ عَلِيمٌ ()21
ن اللّهَ ُي َزكّي مَن َيشَاءُ وَاللّهُ َ
َأبَدا وََلكِ ّ
يعلم أمر هذه النفس إل الذي خلقها ? ومن ذا الذي يدبر أمر هذه النسانية إل الذي برأها ? ومن ذا الذي يرى
الظاهر والباطن ,ول يخفى على علمه شيء إل العليم الخبير ?
إن الحدث لعظيم ,وإن الخطأ لجسيم ,وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء .
ولكن فضل ال ورحمته ,ورأفته ورعايته . .ذلك ما وقاهم السوء . .ومن ثم يذكرهم به المرة بعد المرة ;
وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين .
فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكا أن يصيبهم جميعا ,لول فضل ال ورحمته ,صور لهم عملهم بأنه
اتباع لخطوات الشيطان .وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم .وحذرهم ما يقودهم
الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير:
يا أيها الذين آمنوا ل تتبعوا خطوات الشيطان ; ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر .
ولول فضل ال عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ; ولكن ال يزكي من يشاء ,وال سميع عليم . .
وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه ,وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان وأن
يسلكوا طريقا غير طريقه المشؤوم ! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن ,ويرتجف لها وجدانه ,ويقشعر
لها خياله ! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية:
(ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) . .وحديث الفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه
المؤمنين الذين خاضوا فيه .وهو نموذج منفر شنيع .
وإن النسان لضعيف ,معرض للنزعات ,عرضة للتلوث .إل أن يدركه فضل ال ورحمته .حين يتجه إلى
ال ,ويسير على نهجه .
ولول فضل ال عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا .ولكن ال يزكي من يشاء . .
فنور ال الذي يشرق في القلب يطهره ويزكيه .ولول فضل ال ورحمته لم يزك من أحد ولم يتطهر .وال
يسمع ويعلم ,فيزكي من يستحق التزكية ,ويطهر من يعلم فيه الخير والستعداد (وال سميع عليم). .
وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض -كما يرجون
غفران ال لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب :-
ول يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل ال ; وليعفوا
وليصفحوا .أل تحبون أن يغفر ال لكم ? وال غفور رحيم . .
نزلت في أبي بكر -رضي ال عنه -بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة .وقد عرف أنه مسطح بن أثاثة كان
ممن خاضوا فيه .وهو قريبه .وهو من فقراء المهاجرين .وكان أبو بكر -رضي ال عنه -ينفق عليه .
فآلى على نفسه ل ينفع مسطحا بنافعة أبدا .
نزلت هذه الية تذكر أبا بكر ,وتذكر المؤمنين ,بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من ال أن يغفر لهم .فليأخذوا
أنفسهم -بعضهم مع بعض -بهذا الذي يحبونه ,ول يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه ,إن كانوا قد
أخطأوا وأساءوا . .
بذلك يمسح ال على آلم ذلك القلب الكبير ,ويغسله من أوضار المعركة ,ليبقى أبدا نظيفا طاهرا زكيا مشرقا
بالنور . .
ذلك الغفران الذي يذكر ال المؤمنين به .إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في
الذين آمنوا .فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار ,كأمثال ابن أبي فل سماحة ول عفو .
ولو أفلتوا من الحد في الدنيا ,لن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب ال ينتظرهم في الخرة .ويومذاك لن يحتاج
المر إلى شهود:
(إن الذين يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات لعنوا في الدنيا والخرة ,ولهم عذاب عظيم .يوم تشهد
عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .يومئذ يوفيهم ال دينهم الحق ,ويعلمون أن ال هو الحق
المبين). .
ويجسم التعبير جريمة هؤلء ويبشعها ; وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلت غارات ,غير
آخذات حذرهن من الرمية .وهن بريئات الطوايا مطمئنات ل يحذرن شيئا ,لنهن لم يأتين شيئا يحذرنه !
فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة .ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة .لعنة ال لهم .
وطردهم من رحمته في الدنيا والخرة .ثم يرسم ذلك المشهد الخاذ( :يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم
وأرجلهم) . .فإذا بعضهم يتهم بعضا بالحق ,إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلت المؤمنات بالفك ! وهي
مقابلة في المشهد مؤثرة ,على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني .
(يومئذ يوفيهم ال دينهم الحق) . .ويجزيهم جزاءهم العدل ,ويؤدي لهم حسابهم الدقيق .ويومئذ يستيقنون مما
كانوا يستريبون( :ويعلمون أن ال هو الحق المبين). .
الدرس السادس 26:الصالحات للصالحين وبراءة عائشة
ويختم الحديث عن حادث الفك ببيان عدل ال في اختياره الذي ركبه في الفطرة ,وحققه في واقع الناس .
وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة ,وأن تمتزج النفس الطيبة بالنفس الطيبة .وعلى هذا تقوم العلقات
بين الزواج .وما كان يمكن أن تكون عائشة -رضي ال عنها -كما رموها ,وهي مقسومة لطيب نفس
على ظهر هذه الرض:
الخبيثات للخبيثين ,والخبيثون للخبيثات .والطيبات للطيبين ,والطيبون للطيبات .أولئك مبرأون مما يقولون
,لهم مغفرة ورزق كريم . .
ولقد أحبت نفس رسول ال [ ص ] عائشة حبا عظيما .فما كان يمكن أن يحببها ال لنبيه
أولئك الطيبون والطيبات (مبرأون مما يقولون)بفطرتهم وطبيعتهم ,ل يلتبس بهم شيء مما قيل .
(لهم مغفرة ورزق كريم) . .مغفرة عما يقع منهم من أخطاء .ورزق كريم .دللة على كرامتهم عند ربهم
الكريم .
بذلك ينتهي حديث الفك .ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة لكبر محنة .إذ كانت محنة الثقة
في طهارة بيت الرسول ,وفي عصمة ال لنبيه أن يجعل في بيته إل العنصر الطاهر الكريم .وقد جعلها ال
معرضا لتربية الجماعة المسلمة ,حتى تشف وترف ; وترتفع إلى آفاق النور . .في سورة النور . .
إن السلم -كما أسلفنا -ل يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف ,إنما يعتمد قبل كل شيء على
الوقاية .وهو ل يحارب الدوافع الفطرية .ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات
المصطنعة .
والفكرة السائدة في منهج التربية السلمية في هذه الناحية ,هي تضييق فرص الغواية ,وإبعاد عوامل الفتنة ;
وأخذ الطريق على أسباب التهييج والثارة .مع إزالة العوائق دون الشباع الطبيعي بوسائله النظيفة
المشروعة . .
ومن هنا يجعل للبيوت حرمة ل يجوز المساس بها ; فل يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إل بعد
استئذانهم وسماحهم بالدخول ,خيفة أن تطلع العين على خفايا البيوت ,وعلى عورات أهلها وهم غافلون . .
ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء ,وعدم التبرج بالزينة لثارة الشهوات .
ومن هنا كذلك ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء .فالحصان هو الضمان الحقيقي للكتفاء . .وينهى
عن تعريض الرقيق للبغاء كي ل تكون الفعلة سهلة ميسرة ,فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء .
فلننظر نظرة تفصيلية في تلك الضمانات الواقية التي يأخذ بها السلم .
(يا أيها الذين آمنوا ل تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ,ذلكم خير لكم لعلكم
تذكرون .فإن لم تجدوا فيها أحدا فل تدخلوها حتى يؤذن لكم .وإن قيل لكم:ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ,
وال بما تعملون عليم .ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم .وال يعلم ما تبدون وما
تكتمون). .
لقد جعل ال البيوت سكنا ,يفيء إليها الناس ; فتسكن أرواحهم ; وتطمئن نفوسهم ; ويأمنون على عوراتهم
وحرماتهم ,ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للعصاب !
والبيوت ل تكون كذلك إل حين تكون حرما آمنا ل يستبيحه أحد إل بعلم أهله وإذنهم .وفي الوقت الذي
يريدون ,وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس .
ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان ,يجعل أعينهم تقع على عورات ; وتلتقي بمفاتن
تثير الشهوات ; وتهيى ء الفرصة للغواية ,الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة ,التي قد تتكرر
فتتحول إلى نظرات قاصدة ,تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الولى على غير قصد ول انتظار ;
وتحولها إلى علقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والنحرافات .
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوما ,فيدخل الزائر البيت ,ثم يقول:لقد دخلت ! وكان يقع أن يكون
صاحب الدار مع أهله في الحالة التي ل يجوز أن يراهما عليها أحد .وكان يقع أن تكون المرأة عاريةأو
مكشوفة العورة ,هي أو الرجل ,وكان ذلك يؤذي ويجرح ,ويحرم البيوت أمنها وسكينتها ; كما يعرض
النفوس من هنا ومن هناك للفتنة ,حين تقع العين على ما يثير .
من أجل هذا وذلك أدب ال المسلمين بهذا الدب العالي .أدب الستئذان على البيوت ,والسلم على أهلها
ليناسهم .وإزالة الوحشة من نفوسهم ,قبل الدخول:
(يا أيها الذين آمنوا ل تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها). .
ويعبر عن الستئذان بالستئناس -وهو تعبير يوحي بلطف الستئذان ,ولطف الطريقة التي يجيء بها
الطارق ,فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به ,واستعدادا لستقباله .وهي لفتة دقيقة لطيفة ,لرعاية أحوال
النفوس ,ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم ,وما يلبسها من ضرورات ل يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا
أمام الطارقين في ليل أو نهار .
وبعد الستئذان إما أن يكون في البيوت أحد من أهلها أو ل يكون .فإن لم يكن فيها أحد فل يجوز اقتحامها
بعد الستئذان ,لنه ل دخول بغير إذن:
وإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الستئذان ل يبيح الدخول ; فإنما هو طلب للذن .فإن لم يأذن أهل
البيت فل دخول كذلك .ويجب النصراف دون تلكؤ ول انتظار:
ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة ,ودون أن تستشعروا من أهل البيت الساءة إليكم ,أو النفرة
منكم .فللناس أسرارهم وأعذارهم .ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملبساتهم في كل حين .
(وال بما تعملون عليم) . .فهو المطلع على خفايا القلوب ,وعلى ما فيها من دوافع ومثيرات .
فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن ,فل حرج في الدخول إليها
بغير استئذان ,دفعا للمشقة ما دامت علة الستئذان منتفية:
(ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم). .
(وال يعلم ما تبدون وما تكتمون) . .فالمر معلق باطلع ال على ظاهركم وخافيكم ; ورقابته لكم في سركم
وعلنيتكم .وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب ,وامتثالها لذلك الدب العالي ,الذي يأخذها ال به في
كتابه ,الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه .
إن القرآن منهاج حياة .فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الجتماعية ,ويمنحها هذه العناية ,لنه يعالج
الحياة كليا وجزئيا ,لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا بهذا العلج .فالستئذان على البيوت يحقق
للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكنا .ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة ,والضيق بالمباغتة ,
والتأذي بانكشاف العورات . .وهي عورات كثيرة ,تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة . .
إنها ليست عورات البدن وحدها .إنما تضاف إليها عورات الطعام ,وعورات اللباس ,وعورات الثاث ,
التي قد ل يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد .وهي عورات المشاعر والحالت
النفسية ,فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لنفعال مؤثر ,أو يغضب لشأن مثير ,أو
يتوجع للم يخفيه عن الغرباء ?!
ولكن كل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الدب الرفيع ,أدب الستئذان ; ويرعى معها تقليل فرص
النظرات السانحة واللتقاءات العابرة ,التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات ; وطالما
نشأت عنها علقات ولقاءات ,يدبرها الشيطان ,ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية ,والقلوب الناصحة ,
هنا أو هناك !
ولقد وعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه اليات .وبدأ بها رسول ال -عليه الصلة
والسلم .
أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الوزاعي -بإسناده -عن قيس بن سعد هو ابن عبادة
قال:زارنا رسول ال [ ص ] في منزلنا فقال ":السلم عليكم ورحمة ال " فرد سعد ردا خفيا .قال
قيس:فقلت:أل تأذن لرسول ال [ ص ] ? فقال:دعه يكثر علينا من السلم .فقال رسول ال [ ص ] " السلم
عليكم ورحمة ال " .فرد سعد ردا خفيا .ثم قال رسول ال [ ص ] ":السلم عليكم ورحمة ال " .ثم رجع
رسول ال [ ص ] وأتبعه سعد فقال:يا رسول ال إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من
السلم -فقال:فانصرف معه رسول ال [ ص ] وأمر له سعد بغسل فاغتسل ; ثم ناوله خميصة مصبوغة
بزعفران أو ورس ,فاشتمل بها ,ثم رفع رسول ال [ ص ] يديه ,وهو يقول ":اللهم اجعل صلتك ورحمتك
على آل سعد بن عبادة " . . .الخ الحديث .
وأخرج أبو داود -بإسناده -عن عبد ال بن بشر قال:كان رسول ال [ ص ] إذا أتى باب قوم لم يستقبل
الباب من تلقاء وجهه ; ولكن من ركنه اليمن أو اليسر ,ويقول ":السلم عليكم .السلم عليكم " .ذلك أن
الدور لم يكن يومئذ عليها ستور .
وروى أبو داود كذلك -بإسناده -عن هذيل قال:جاء رجل -قال عثمان:سعد -فوقف على باب النبي [ ص
] يستأذن .فقام على الباب -قال عثمان:مستقبل الباب -فقال له النبي [ ص ] ":هكذا عنك -أو هكذا -
فإنما الستئذان من النظر " .
وفي الصحيحين عن رسول ال [ ص ] أنه قال ":لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن ,فحذفته بحصاة ففقأت
عينه ما كان عليك من جناح " .
وروى أبو داود -بإسناده -عن ربعي قال:أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول ال [ ص ] وهو في
بيته فقال:أألج ? فقال النبي [ ص ] لخادمه ":اخرج إلى هذا فعلمه الستئذان ,فقل له:قل:السلم عليكم .أأدخل
? " فسمعها الرجل فقال:السلم عليكم .أأدخل ? فأذن له النبي [ ص ] فدخل .
وقال هشيم:قال مغيرة:قال مجاهد:جاء ابن عمر من حاجة ,وقد آذاه الرمضاء ; فأتى فسطاط امرأةمن قريش
,فقال:السلم عليكم .أأدخل ? قالت:ادخل بسلم .فأعاد .فأعادت .وهو يراوح بين قدميه .قال:قولي:ادخل
.قالت:ادخل .فدخل !
"وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس -رضي ال عنهما ,قال:قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري
معي في بيت واحد ? قال:نعم .فرددت عليه ليرخص لي فأبى ,فقال:تحب أن تراها عريانة ? قلت:ل .
قال:فاستأذن .قال:فراجعته أيضا .فقال:أتحب أن تطيع ال ? قال:قلت:نعم .قال فاستأذن " .
وجاء في الصحيح عن رسول ال [ ص ] أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا . .وفي رواية:ليل يتخونهم
.
وفي حديث آخر أن رسول ال [ ص ] قدم المدينة نهارا ,فأناخ بظاهرها وقال ":انتظروا حتى ندخل عشاء -
يعني آخر النهار -حتى تمتشط الشعثة ,وتستحد المغيبة " .
إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حس رسول ال [ ص ] وصحابته ,بما علمهم ال من ذلك الدب الرفيع
الوضيء ,المشرق بنور ال .
ونحن اليوم مسلمون ,ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت .وإن الرجل ليهجم على أخيه في
بيته ,في أية لحظة من لحظات الليل والنهار ,يطرقه ويطرقه ويطرقه فل ينصرف أبدا حتى يزعج أهل
البيت فيفتحوا له .وقد يكون في البيت هاتف "تليفون" يملك أن يستأذن عن طريقه ,قبل أن يجيء ,ليؤذن له
أو يعلم أن الموعد ل يناسب ; ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان ,وعلى غير موعد .ثم ل يقبل
العرف أن يرد عن البيت -وقد جاء -مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بل إخطار ول انتظار !
ونحن اليوم مسلمون ,ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام .فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في
أنفسنا من ذلك شيئا ! ونطرقهم في الليل المتأخر ,فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم وجدنا في أنفسنا من ذلك
شيئا ! دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك !
ذلك أننا ل نتأدب بأدب السلم ; ول نجعل هوانا تبعا لما جاء به رسول ال [ ص ] إنما نحن عبيد لعرف
خاطى ء ,ما أنزل ال به من سلطان !
ونرى غيرنا ممن لم يعتنقوا السلم ,يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدبا لنا في
النفس ,وتقليدا من تقاليدنا في السلوك .فيعجبنا ما نراهم عليه أحيانا ; ونتندر به أحيانا .ول نحاول أن
نعرف ديننا الصيل ,فنفيء إليه مطمئنين .
الدرس الثاني 31 - 30:غض البصر بين المؤمنين والمؤمنات وحدود العورة عند النساء
وبعد النتهاء من أدب الستئذان على البيوت -وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر واتقاء أسباب
الفتنة العابرة -يأخذ على الفتنة الطريق كي ل تنطلق من عقالها ,بدافع النظر لمواضع الفتنة المثيرة ,وبدافع
الحركة المعبرة ,الداعية إلى الغواية:
(قل للمؤمنين:يغضوا من أبصارهم ,ويحفظوا فروجهم ,ذلك أزكى لهم .إن ال خبير بما يصنعون ().وقل
للمؤمنات:يغضضن من أبصارهن ,ويحفظن فروجهن ,ول يبدين زينتهن إل ما ظهر منها ; وليضربن
بخمرهن على جيوبهن ,ول يبدين زينتهن إل لبعولتهن ,أو آبائهن ,أو آباء بعولتهن ,أو أبنائهن ,أو أبناء
بعولتهن ,أو إخوانهن ,أو بني إخوانهن ,أو بني أخواتهن ,أو نسائهن ,أو ما ملكت أيمانهن ,أو التابعين
غير أولي الربة من الرجال ,أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء .ول يضربن بأرجلهن ليعلم ما
يخفين من زينتهن .وتوبوا إلى ال جميعا -أيها المؤمنون -لعلكم تفلحون). .
إن السلم يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف ,ل تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ,ول تستثار فيه دفعات اللحم
والدم في كل حين .فعمليات الستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني ل ينطفئ وليرتوي .والنظرة
الخائنة ,والحركة المثيرة ,والزينة المتبرجة ,والجسم العاري . . .كلها ل تصنع شيئا إل أن تهيج ذلك
السعار الحيواني المجنون ! وإل أن يفلت زمام العصاب والرادة .فإما الفضاء الفوضوي الذي ل يتقيد بقيد
وإما المراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الثارة ! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب !!!
وإحدى وسائل السلم إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الستثارة ,وإبقاء الدافع الفطري العميق
بين الجنسين ,سليما ,وبقوته الطبيعية ,دون استثارة مصطنعة ,وتصريفه في موضعه المأمون النظيف .
ولقد شاع في وقت من الوقات أن النظرة المباحة ,والحديث الطليق ,والختلط الميسور ,والدعابة المرحة
بين الجنسين ,والطلع على مواضع الفتنة المخبوءة . .شاع أن كل هذا تنفيس وترويح ,وإطلق للرغبات
الحبيسة ,ووقاية من الكبت ,ومن العقد النفسية ,وتخفيف من حدة الضغط الجنسي ,وما وراءه من اندفاع
غير مأمون . . .الخ .
شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد النسان من خصائصه التي تفرقه من
الحيوان ,والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين ! -وبخاصة نظرية فرويد -ولكن هذا لم يكن
سوى فروض نظرية ,رأيت بعيني في أشد البلد إباحية وتفلتا من جميع القيود الجتماعية والخلقية والدينية
والنسانية ,ما يكذبها وينقضها من الساس .
نعم .شاهدت في البلد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي ,والختلط الجنسي ,بكل صوره
وأشكاله ,أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها .إنما انتهى إلى سعار مجنون ل يرتوي ول
يهدأ إل ريثما يعود إلى الظمأ والندفاع ! وشاهدت المراض النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها ل تنشأ إل
من الحرمان ,وإل من التلهف على الجنس الخر المحجوب ,شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل
أنواعه . .ثمرة مباشرة للختلط الكامل الذي ل يقيده قيد ول يقف عند حد ; وللصداقات بين الجنسين تلك
التي يباح معها كل شيء ! وللجسام العارية في الطريق ,وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة ,واللفتات
الموقظة .وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد .مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة
النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود .
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي ; لن ال قد ناط به امتداد الحياة على
هذه الرض ; وتحقيق الخلفة لهذا النسان فيها .فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود .وإثارته في كل حين
تزيد من عرامته ; وتدفع به إلى الفضاء المادي للحصول على الراحة .فإذا لم يتم هذا تعبت العصاب
المستثارة .
وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة ! والنظرة تثير .والحركة تثير .والضحكة تثير .والنبرة المعبرة عن
هذا الميل تثير .والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية ,ثم يلبى
تلبية طبيعية . .وهذا هو المنهج الذي يختاره السلم .مع تهذيب الطبع ,وشغل الطاقة البشرية بهموم
أخرى في الحياة ,غير تلبية دافع اللحم والدم ,فل تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد !
وفي اليتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الستثارة والغواية والفتنة من الجانبين:
(قل للمؤمنين:يغضوا من أبصارهم ,ويحفظوا فروجهم .ذلك أزكى لهم .إن ال خبير بما يصنعون). .
وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي ,ومحاولة للستعلء على الرغبة في الطلع على المحاسن
والمفاتن في الوجوه والجسام .كما أن فيه إغلقا للنافذة الولى من نوافذ الفتنة والغواية .ومحاولة عملية
للحيلولة دون وصول السهم المسموم !
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر .أو هو الخطوة التالية لتحكيم الرادة ,ويقظة الرقابة ,
والستعلء على الرغبة في مراحلها الولى .ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة ; بوصفهما سببا ونتيجة ; أو
باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع .كلتاهما قريب من قريب .
(ذلك أزكى لهم) . .فهو أطهر لمشاعرهم ; وأضمن لعدم تلوثها بالنفعالت الشهوية في غير موضعها
المشروع النظيف ,وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط .وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها
وأعراضها ,وجوها الذي تتنفس فيه .
وال هو الذي يأخذهم بهذه الوقاية ; وهو العلم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري ,الخبير بحركات نفوسهم
وحركات جوارحهم( :إن ال خبير بما يصنعون). .
فل يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة ,أو الهاتفة المثيرة ,تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال .ول
يبحن فروجهن إل في حلل طيب ,يلبي داعي الفطرة في جو نظيف ,ل يخجل الطفال الذين يجيئون عن
طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة !
والزينة حلل للمرأة ,تلبية لفطرتها .فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة ,وأن تبدو جميلة .والزينة تختلف
من عصر إلى عصر ; ولكن أساسها في الفطرة واحد ,هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله ,وتجليته
للرجال .
والسلم ل يقاوم هذه الرغبة الفطرية ; ولكنه ينظمها ويضبطها ,ويجعلها تتبلور في التجاه بها إلى رجل
واحد -هو شريك الحياة -يطلع منها على ما ل يطلع أحد سواه .ويشترك معه في الطلع على بعضها ,
المحارم والمذكورون في الية بعد ,ممن ل يثير شهواتهم ذلك الطلع .
فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين ,فيجوز كشفه .لن كشف الوجه واليدين مباح لقوله [ ص ]
لسماء بنت أبي بكر ":يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض ,لم يصلح أن يرى منها إل هذا -
ض ِربْنَ
ن إِلّا مَا ظَ َهرَ ِم ْنهَا وَ ْليَ ْ
ن زِي َنتَهُ ّ
جهُنّ وَلَا ُي ْبدِي َ
ضضْنَ ِمنْ َأ ْبصَارِهِنّ َو َيحْ َفظْنَ ُفرُو َ
َوقُل لّ ْل ُم ْؤ ِمنَاتِ َيغْ ُ
ن أَوْ
ن أَ ْو آبَاء ُبعُوَل ِتهِنّ َأوْ َأ ْبنَا ِئهِنّ أَوْ َأ ْبنَاء ُبعُوَل ِتهِ ّ
جيُو ِبهِنّ وَلَا ُي ْبدِينَ زِي َن َتهُنّ إِلّا ِل ُبعُوَل ِتهِنّ َأوْ آبَا ِئهِ ّ
خمُرِهِنّ عَلَى ُ
ِب ُ
غ ْيرِ ُأوْلِي ا ْلِإ ْربَةِ مِنَ
ن أَوِ التّا ِبعِينَ َ
ت َأ ْيمَا ُنهُ ّ
ن أَ ْو مَا مََلكَ ْ
ن أَ ْو ِنسَا ِئهِ ّ
ن أَوْ َبنِي َأخَوَا ِتهِ ّ
ن أَ ْو َبنِي ِإخْوَا ِنهِ ّ
ِإخْوَا ِنهِ ّ
ن مِن زِي َن ِتهِنّ َوتُوبُوا
ت ال ّنسَاء وَلَا َيضْ ِربْنَ ِبأَ ْرجُِلهِنّ ِل ُيعَْلمَ مَا ُيخْفِي َ
ظهَرُوا عَلَى عَ ْورَا ِ
ل أَ ِو الطّفْلِ اّلذِينَ َلمْ َي ْ
ال ّرجَا ِ
ن َلعَّل ُكمْ تُفِْلحُونَ ()31
جمِيعا َأ ّيهَا ا ْلمُ ْؤ ِمنُو َ
إِلَى اللّهِ َ
وأشار إلى وجهه وكفيه " .
والجيب فتحة الصدر في الثوب .والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر .ليداري مفاتنهن ,فل يعرضها
للعيون الجائعة ; ول حتى لنظرة الفجاءة ,التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها ,ولكنها قد تترك كمينا
في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة !
والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي .وقلوبهن مشرقة بنور ال ,لم يتلكأن في الطاعة ,على الرغم من
رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال .وقد كانت المرأة في الجاهلية -كما هي اليوم في الجاهلية
الحديثة ! -تمر بين الرجال مسفحة بصدرها ل يواريه شيء .وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها ,
وأقرطة أذنيها .فلما أمر ال النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن ,ول يبدين زينتهن إل ما ظهر منها ,
كن كما قالت عائشة رضي ال عنها ":-يرحم ال نساء المهاجرات الول .لما أنزل ال( :وليضربن
بخمرهن على جيوبهن)شققن مروطهن فاختمرن بها . .وعن صفية -بنت شيبة قالت:بينما نحن عند عائشة .
قالت:فذكرن نساء قريش وفضلهن .فقالت عائشة -رضي ال عنها -إن لنساء قريش لفضل .وإني وال ما
رأيت أفضل من نساء النصار ,وأشد تصديقا لكتاب ال ,ول إيمانا بالتنزيل .لما نزلت في سورة النور:
(وليضربن بخمرهن على جيوبهن)انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل ال إليهم فيها ; ويتلو الرجل على
امرأته وابنته وأخته ,وعلى كل ذي قرابته .فما منهن امرأة إل قامت إلى مرطها المرحل ,فاعتجرت به
تصديقا وإيمانا بما أنزل ال من كتابه .فأصبحن وراء رسول ال [ ص ] معتجرات كأن على رؤوسهن
الغربان " .
لقد رفع السلم ذوق المجتمع السلمي ,وطهر إحساسه بالجمال ; فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو
المستحب ,بل الطابع النساني المهذب . .وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه النسان بحس
الحيوان ; مهما يكن من التناسق والكتمال .فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف ,الذي يرفع الذوق
الجمالي ,ويجعله لئقا بالنسان ,ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال .
وكذلك يصنع السلم اليوم في صفوف المؤمنات .على الرغم من هبوط الذوق العام ,وغلبة الطابع الحيواني
عليه ; والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة ! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات
,في مجتمع يتكشف ويتبرج ,وتهتف النثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان !
هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة . .ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة .
فيستثني المحارم الذين ل تتوجه ميولهم عادة ول تثور شهواتهم وهم:
الباء والبناء ,وآباء الزواج وأبناؤهم ,والخوة وأبناء الخوة ,وأبناء الخوات . .كما يستثني النساء
المؤمنات( :أو نسائهن)فأما غير المسلمات فل .لنهن قد يصفن لزواجهن وإخوتهن ,وأبناء ملتهن مفاتن
نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها .وفي الصحيحين ":ل تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه
يراها " . .أما المسلمات فهن أمينات ,يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها . .
ويستثنيكذلك (ما ملكت أيمانهن)قيل من الناث فقط ,وقيل:ومن الذكور كذلك .لن الرقيق ل تمتد شهوته إلى
سيدته .والول أولى ,لن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة النسان ,مهما يكن له من وضع خاص ; في فترة
من الزمان . .ويستثني (التابعين غير أولي الربة من الرجال) . .وهم الذين ل يشتهون النساء لسبب من
السباب كالجب والعنة والبلهة والجنون . .وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة .لنه ل فتنة هنا
ول إغراء . .ويستثني (الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) . .وهم الطفال الذين ل يثير جسم
المرأة فيهم الشعور بالجنس .فإذا ميزوا ,وثار فيهم هذا الشعور -ولو كانوا دون البلوغ -فهم غير داخلين
في هذا الستثناء .
وهؤلء كلهم -عدا الزواج -ليس عليهم ول على المرأة جناح أن يروا منها ,إل ما تحت السرة إلى تحت
الركبة .لنتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء .فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بل استثناء .
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الجراء ,فقد مضت الية تنهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن
الزينة المستورة ,وتهيج الشهوات الكامنة ,وتوقظ المشاعر النائمة .ولو لم يكشفن فعل عن الزينة:
وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالتها واستجاباتها .فإن الخيال ليكون أحيانا أقوى في إثارة
الشهوات من العيان .وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها ,أو حليها ,أكثر مما تثيرها رؤية
جسد المرأة ذاته .كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم ,أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين
أيديهم -وهي حالت معروفة عند علماء المراض النفسية اليوم -وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى
العطر من بعيد ,قد يثير حواس رجال كثيرين ,ويهيج أعصابهم ,ويفتنهم فتنة جارفة ل يملكون لها ردا .
والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله .لن منزله هو الذي خلق ,وهو الذي يعلم من خلق .وهو اللطيف
الخبير .
وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى ال ; ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن:
بذلك يثير الحساسية برقابة ال ,وعطفه ورعايته ,وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق ,
الذي ل يضبطه مثل الشعور بال ,وبتقواه . .
وإلى هنا كان علج المسألة علجا نفسيا وقائيا .ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة ,ل بد من مواجهتها بحلول
واقعية إيجابية . .هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج ,والمعاونة عليه ; مع تصعيب السبل الخرى
للمباشرة الجنسية أو إغلقها نهائيا:
وأنكحوا اليامى منكم ,والصالحين من عبادكم وإمائكم .إن يكونوا فقراء يغنهم ال من فضله .وال واسع
عليم .وليستعفف الذين ل يجدون نكاحا حتى يغنيهم ال من فضله .والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم
فكاتبوهم -إن علمتم فيهم خيرا -وآتوهم من مال ال الذي آتاكم ; ول تكرهوا فتيانكم على البغاء -إن أردن
تحصنا -لتبتغوا عرض الحياة الدنيا .ومن يكرههن فإن ال من بعد إكراههن غفور رحيم . .
إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية .وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة .
عبَا ِدكُمْ وَِإمَا ِئكُمْ إِن َيكُونُوا فُ َقرَاء ُي ْغ ِن ِهمُ اللّهُ مِن فَضْلِ ِه وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (
ن مِنْ ِ
وَأَن ِكحُوا ا ْلَأيَامَى مِن ُكمْ وَالصّاِلحِي َ
)32
فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج ,لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها .والعقبة المالية هي العقبة
الولى في طريق بناء البيوت ,وتحصين النفوس .والسلم نظام متكامل ,فهو ل يفرض العفة إل وقد هيأ
لها أسبابها ,وجعلها ميسورة للفراد السوياء .فل يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إل الذي يعدل عن الطريق
النظيف الميسور عامدا غير مضطر .
لذلك يأمر ال الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلل:
(وأنكحوا اليامى منكم ,والصالحين من عبادكم وإمائكم .إن يكونوا فقراء يغنهم ال من فضله). .
واليامى هم الذين ل أزواج لهم من الجنسين . .والمقصود هنا الحرار .وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك:
(والصالحين من عبادكم وإمائكم).
وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك( :إن يكونوا فقراء يغنهم ال من فضله). .
وهذا أمر للجماعة بتزويجهم .والجمهور على أن المر هنا للندب .ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد
رسول ال [ ص ] لم يزوجوا .ولو كان المر للوجوب لزوجهم .ونحن نرى أن المر للوجوب ,ل بمعنى
أن يجبر المام اليامى على الزواج ; ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج ,وتمكينهم من
الحصان ,بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية ,وتطهير المجتمع السلمي من الفاحشة .وهو واجب .
ووسيلة الواجب واجبة .
وينبغي أن نضع في حسابنا -مع هذا -أن السلم -بوصفه نظاما متكامل -يعالج الوضاع القتصادية
علجا أساسيا ; فيجعل الفراد السوياء قادرين على الكسب ,وتحصيل الرزق ,وعدم الحاجة إلى مساعدة
بيت المال .ولكنه في الحوال الستثنائية يلزم بيت المال ببعض العانات . .فالصل في النظام القتصادي
السلمي أن يستغني كل فرد بدخله .وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الجر حقا على الدولة واجبا للفراد .
أما العانة من بيت المال فهي حالة استثنائية ل يقوم عليها النظام القتصادي في السلم .
فإذا وجد في المجتمع السلمي -بعد ذلك -أيامى فقراء وفقيرات ,تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج ,
فعلى الجماعة أن تزوجهم .وكذلك العبيد والماء .غير أن هؤلء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين .
ول يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج -متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجال ونساء -فالرزق
بيد ال .وقد تكفل ال بإغنائهم ,إن هم اختاروا طريق العفة النظيف( :إن يكونوا فقراء يغنهم ال من فضله).
وقال رسول ال [ ص ] ":ثلثة حق على ال عونهم:المجاهد في سبيل ال ,والمكاتب الذي يريد الداء ,
والناكح الذي يريد العفاف " .
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج اليامى يأمرهم بالستعفاف حتى يغنيهم ال بالزواج( :وليستعفف الذين ل
يجدون نكاحا حتى يغنيهم ال من فضله)( . .وال واسع عليم) . .ل يضيق على من يبتغي العفة ,وهو يعلم
نيته وصلحه .
وهكذا يواجه السلم المشكلة مواجهة عملية ; فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج ; ولو كان عاجزا من
ناحية المال .والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الحصان .
ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي ,وأن يعين على
الترخص
حتّى ُي ْغ ِن َي ُهمْ اللّهُ مِن َفضْلِهِ وَاّلذِينَ َي ْب َتغُونَ ا ْل ِكتَابَ ِممّا مََلكَتْ َأ ْيمَا ُنكُمْ َفكَا ِتبُو ُهمْ
ن ِنكَاحا َ
جدُو َ
س َتعْ ِففِ اّلذِينَ لَا َي ِ
وَ ْل َي ْ
حصّنا ّل َت ْب َتغُوا
ن َأ َردْنَ َت َ
ل اللّهِ اّلذِي آتَا ُكمْ وَلَا ُتكْرِهُوا َف َتيَا ِت ُكمْ عَلَى ا ْل ِبغَاء إِ ْ
خيْرا وَآتُوهُم مّن مّا ِ
إِنْ عَِل ْم ُتمْ فِيهِمْ َ
حيَاةِ ال ّد ْنيَا َومَن ُي ْكرِههّنّ َفإِنّ اللّهَ مِن َب ْعدِ ِإ ْكرَا ِههِنّ غَفُورٌ ّرحِيمٌ ()33
ض ا ْل َ
عرَ َ
َ
والباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة النسانية .وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء
السلم بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين .لما كان المر كذلك عمل السلم على التخلص من الرقاء
كلما واتت الفرصة .حتى تتهيأ الحوال العالمية للغاء نظام الرق كله ,فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب
المكاتبة على حريته .وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته:
(والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم .إن علمتم فيهم خيرا). .
وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب .ونحن نراه الولى ; فهو يتمشى مع خط السلم الرئيسي في الحرية
وفي كرامة النسانية .ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له ,وأجر عمله له ,ليوفي منه ما كاتب عليه ;
ويجب له نصيب في الزكاة( :وآتوهم من مال ال الذي آتاكم) .ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق
خيرا .والخير هو السلم أول .ثم هو القدرة على الكسب .فل يتركه كل على الناس بعد تحرره .وقد يلجأ
إلى أحط الوسائل ليعيش ,ويكسب ما يقيم أوده .والسلم نظام تكافل .وهو كذلك نظام واقع .فليس المهم
أن يقال:إن الرقيق قد تحرر .وليست العنوانات هي التي تهمه .إنما تهمه الحقيقة الواقعة .ولن يتحرر
الرقيق حقا إل إذا قدر على الكسب بعد عتقه ; فلم يكن كل على الناس ; ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها
,ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى ,وهو أعتقه لتنظيف المجتمع ل لتلويثه من جديد ; بما هو
أشد وأنكى .
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة ,احتراف بعض الرقيق للبغاء .وكان أهل الجاهلية إذا كان لحدهم أمة
أرسلها تزني ; وجعل عليها ضريبة يأخذها منها -وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى
اليوم -فلما أراد السلم تطهير البيئة السلمية حرم الزنا بصفة عامة ; وخص هذه الحالة بنص خاص:
(ول تكرهوا فتياتكم على البغاء .إن أردن تحصنا .لتبتغوا عرض الحياة الدنيا .ومن يكرههن فإن ال من
بعد إكراههن غفور رحيم).
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر ,ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث .
ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة ,بعد الكراه الذي ل يد لهن فيه .
قال السدي:أنزلت هذه الية الكريمة في عبد ال بن أبي بن سلول ,رأس المنافقين ,وكانت له جارية تدعى
معاذة .وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ,إرادة الثواب منه ,والكرامة له .فأقبلت الجارية إلى
أبي بكر -رضي ال عنه -فشكت إليه ذلك ; فذكره أبو بكر للنبي [ ص ] فأمره بقبضها .فصاح عبد ال
بن أبي:من يعذرنا من محمد ? يغلبنا على مملوكتنا ! فأنزل ال فيهم هذا .
هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء -وهن يردن العفة -ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة
القرآن في تطهير البيئة السلمية ,وإغلق السبل القذرة للتصريف الجنسي .ذلك أن وجود البغاء يغري
الكثيرين لسهولته ; ولو لم يجدوه لنصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف .
ول عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن ,يحمي البيوت الشريفة ; لنه ل سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية
إل بهذا العلج القذر عند تعذر الزواج .أو تهجم الذئاب المسعورة على العراض المصونة ,إن لم تجد هذا
الكل المباح !
إن في التفكير على هذا النحو قلبا للسباب والنتائج .فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى
إمداد الحياة بالجيال الجديدة .وعلى الجماعات أن تصلح نظمها القتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في
مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج .فإن وجدت بعد ذلك حالت شاذة عولجت هذه الحالت علجا
خاصا . .وبذلك ل تحتاج إلى البغاء ,وإلى إقامة مقاذر إنسانية ,يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء
الجنس ,فيلقي فيها بالفضلت ,تحت سمع الجماعة وبصرها !
إن النظم القتصادية هي التي يجب أن تعالج ,بحيث ل تخرج مثل هذا النتن .ول يكون فسادها حجة على
ضرورة وجود المقاذر العامة ,في صور آدمية ذليلة .
وهذا ما يصنعه السلم بنظامه المتكامل النظيف العفيف ,الذي يصل الرض بالسماء ,ويرفع البشرية إلى
الفق المشرق الوضيء المستمد من نور ال .
ويعقب على هذا الشوط بصفة القرآن التي تناسب موضوعه وجوه:
(ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ,ومثل من الذين خلوا من قبلكم ,وموعظة للمتقين). .
فهو آيات مبينات ,ل تدع مجال للغموض والتأويل ,والنحراف عن النهج القويم .
وهو عرض لمصائر الغابرين الذين انحرفوا عن نهج ال فكان مصيرهم النكال .
وهو موعظة للمتقين الذين تستشعر قلوبهم رقابة ال فتخشى وتستقيم .
والحكام التي تضمنها هذا الشوط تتناسق مع هذا التعقيب ,الذي يربط القلوب بال ,الذي نزل هذا القرآن . .
في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري .ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى
آفاق النور .عالج عرامة اللحم والدم ,وشهوة العين والفرج ,ورغبة التجريح والتشهير ,ودفعة الغضب
والغيظ .وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة ,وأن تشيع في القول .عالجها بتشديد حد
الزنا وحد القذف .وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلت المؤمنات .وعالجها
بالوسائل الواقية:بالستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة ,والنهي عن مثيرات الفتنة ,وموقظات
الشهوة .ثم بالحصان ,ومنع البغاء ,وتحرير الرقيق . .كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم ,
ويهيئ للنفوس وسائل العفة والستعلء والشفافية والشراق .
وفي أعقاب حديث الفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ ,ومن اضطراب في المقاييس ,وقلق في
النفوس .فإذا نفس محمد -رسول ال [ ص ] -مطمئنة هادئة .وإذا نفس عائشة -رضي ال عنها -
قريرة راضية .وإذا نفس أبي بكر -رضي ال عنه -سمحة صافية .وإذا نفس صفوان بن المعطل -
رضي ال عنه -قانعة بشهادة ال وتبرئته .وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة .وقد تكشف لها ما كانت تخبط
فيه من التيه .فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته . .
بهذا التعليم .وهذا التهذيب .وهذا التوجيه .عالج الكيان البشري ,حتى أشرق بالنور ; وتطلع إلى الفق
الوضيء ; واستشرق النور الكبير في آفاق السماوات والرض ,وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل
الغامر في عالم كله إشراق ,وكله نور:
(ال نور السماوات والرض). .
وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء ,فيغمر الكون كله ,ويفيض على المشاعر
والجوارح ,وينسكب في الحنايا والجوانح ; وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر ; وحتى
تعانقهوترشفه العيون والبصائر ; وحتى تنزاح الحجب ,وتشف القلوب ,وترف الرواح .ويسبح كل شيء
في الفيض الغامر ,ويتطهر كل شيء في بحر النور ,ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله ,فإذا هو انطلق
ورفرفة ,ولقاء ومعرفة ,وامتزاج وألفة ,وفرح وحبور .وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من
القيود والحدود ,تتصل فيه السماوات بالرض ,والحياء بالجماد ,والبعيد بالقريب ; وتلتقي فيه الشعاب
والدروب ,والطوايا والظواهر ,والحواس والقلوب . .
النور الذي منه قوامها ومنه نظامها . .فهو الذي يهبها جوهر وجودها ,ويودعها ناموسها . .ولقد استطاع
البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى ,عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة
-بعد تحطيم الذرة -إلى إشعاعات منطلقة ل قوام لها إل النور ! ول "مادة " لها إل النور ! فذرة المادة
مؤلفة من كهارب وإليكترونيات ,تنطلق -عند تحطيمها -في هيئة إشعاع قوامه هو النور ! فأما القلب
البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون .كان يدركها كلما شف ورف ,وانطلق إلى آفاق
النور .ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول ال [ ص ] ففاض بها وهو عائد من الطائف ,نافض كفيه
من الناس ,عائذ بوجه ربه يقول ":أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ,وصلح عليه أمر الدنيا
والخرة " .وفاض بها في رحلة السراء والمعراج .فلما سألته عائشة:هل رأيت ربك ? قال " .نور .أنى
أراه " .
ولكن الكيان البشري ل يقوى طويل على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما ,ول يستشرف طويل ذلك الفق
البعيد .فبعد أن جل النص هذا الفق المترامي ,عاد يقارب مداه ,ويقربه إلى الدراك البشري المحدود ,في
مثل قريب محسوس:
مثل نوره كمشكاة فيها مصباح .المصباح في زجاجة .الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة
زيتونة ل شرقية ول غربية ,يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار .نور على نور . .
وهو مثل يقرب للدراك المحدود صورة غير المحدود ; ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس ,حين
يقصر عن تملي الصل .وهو مثل يقرب للدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية
وراء الدراك البشري الحسير .
ومن عرض السماوات والرض إلى المشكاة .وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة ,يوضع فيها
المصباح ,فتحصر نوره وتجمعه ,فيبدو قويا متألقا( :كمشكاة فيها مصباح)( . .المصباح في زجاجة) . .تقيه
الريح ,وتصفي نوره ,فيتألق ويزداد ( . .الزجاجة كأنها كوكب دري) . .فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة
. .هنا يصل بين المثل والحقيقة .بين النموذج والصل .حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب
الكبير ,كي ل ينحصر التأمل في النموذج الصغير ,الذي ما جعل إل لتقريب الصل الكبير . .وبعد هذه
اللفتة يعود إلى النموذج .إلى المصباح:
(يوقد من شجرة مباركة زيتونة)ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون .ولكن ليس لهذا وحده
كان اختيار هذا المثل .إنما هو كذلك الظلل المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة .ظلل الوادي المقدس في
الطور ,وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب .وفي القرآن إشارة لها وظلل حولها(:وشجرة تخرج من
طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للكلين) .وهي شجرة معمرة ,وكل ما فيها مما ينفع الناس .زيتها
وخشبهاوورقها وثمرها . .ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالصل الكبير .فهذه الشجرة
ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة .إنما هي مثل مجرد للتقريب( :ل شرقية ول غربية).
.وزيتها ليس زيتا من هذا المشهود المحدود ,إنما هو زيت آخر عجيب( :يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه
نار) . .فهو من الشفافية بذاته ,ومن الشراق بذاته ,حتى ليكاد يضيء بغير احتراق ; (ولو لم تمسسه نار).
( .نور على نور) . .وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف !
إنه نور ال الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والرض .النور الذي ل ندرك كنهه ول مداه .إنما هي
محاولة لوصل القلوب به ,والتطلع إلى رؤياه( :يهدي ال لنوره من يشاء) . .ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه
.فهو شائع في السماوات والرض ,فائض في السماوات والرض .دائم في السماوات والرض .ل ينقطع
,ول يحتبس ,ول يخبو .فحيثما توجه إليه القلب رآه .وحيثما تطلع إليه الحائر هداه .وحيثما اتصل به وجد
ال .
إنما المثل الذي ضربه ال لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك ,وهو العليم بطاقة البشر:
ذلك النور الطليق ,الشائع في السماوات والرض الفائض في السماوات والرض ,يتجلى ويتبلور في بيوت
ال التي تتصل فيها القلوب بال ,تتطلع إليه وتذكره وتخشاه ,وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة:
(في بيوت أذن ال أن ترفع ويذكر فيها اسمه ,يسبح له فيها بالغدو والصال رجال ل تلهيهم تجارة ول بيع
عن ذكر ال ,وإقام الصلة ,وإيتاء الزكاة .يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والبصار .ليجزيهم ال أحسن ما
عملوا ويزيدهم من فضله ,وال يرزق من يشاء بغير حساب). .
وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا ,على طريقة التناسق القرآنية في عرض
المشاهد ذات الشكل المتشابه أو المتقارب .وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة ,
والقلوب المشرقة بالنور في بيوت ال .
تلك البيوت (أذن ال أن ترفع) -وإذن ال هو أمر للنفاذ -فهي مرفوعة قائمة ,وهي مطهرة رفيعة .يتناسق
مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والرض .وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني
الوضيء .وتتهيأ بالرفعة والرتفاع لن يذكر فيها اسم ال( :ويذكر فيها اسمه) .وتتسق معها القلوب الوضيئة
الطاهرة ,المسبحة الواجفة ,المصلية الواهبة .قلوب الرجال الذين (ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر ال
وإقام الصلة وإيتاء الزكاة) . .والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء .ولكنهم مع شغلهم بهما ل يغفلون
عن أداء حق ال في الصلة ,وأداء حق العباد في الزكاة( :يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والبصار). .
تتقلب فل تثبت على شيء من الهول والكرب والضطراب .وهم يخافون ذلك اليوم فل تلهيهم تجارة ول بيع
عن ذكر ال .
ورجاؤهم لن يخيب في فضل ال( :وال يرزق من يشاء بغير حساب)من فضله الذي ل حدود له ول قيود .
في مقابل ذلك النور المتجلي في السماوات والرض ,المتبلور في بيوت ال ,المشرق في قلوب أهل اليمان
. .يعرض السياق مجال آخر .مجال مظلما ل نور فيه .مخيفا ل أمن فيه .ضائعا ل خير فيه .ذلك هو
مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار:
(والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ,يحسبه الظمآن ماء ,حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ,ووجد ال عنده فوفاه
حسابه .وال سريع الحساب .أو كظلمات في بحر لجي ,يغشاه موج من فوقه موج ,من فوقه سحاب .
ظلمات بعضها فوق بعض ,إذا أخرج يده لم يكد يراها .ومن لم يجعل ال له نورا فما له من نور). .
والتعبير يرسم لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين ,حافلين بالحركة والحياة .
في المشهد الول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة ,يلتمع التماعا كاذبا ,فيتبعه صاحبه
الظامى ء ,وهو يتوقع الري غافل عما ينتظره هناك . .وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة .فهذا السائر
وراء السراب ,الظامىء الذي يتوقع الشراب ,الغافل عما ينتظره هناك . .يصل .فل يجد ماء يرويه ,إنما
يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال ,المرعبة التي تقطع الوصال ,وتورث الخبال( :ووجد ال
عنده)! ال الذي كفر به وجحده ,وخاصمه وعاداه .وجده هنالك ينتظره ! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما
له من بني البشر لروعه ,وهو ذاهل غافل على غير استعداد .فكيف وهو يجد ال القوي المنتقم الجبار ?
(فوفاه حسابه) . .هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة ( ,وال سريع الحساب) . .تعقيب يتناسق
مع المشهد الخاطف المرتاع !
وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد اللتماع الكاذب ; ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي .موج من فوقه
موج .من فوقه سحاب .وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض ,حتى ليخرج يده أمام بصره فل يراها لشدة
الرعب والظلم !
إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور ال الفائض في الكون .وضلل ل يرى فيه القلب أقرب علمات الهدى .
ومخافة ل أمن فيها ول قرار ( . .ومن لم يجعل ال له نورا فما له من نور) . .ونور ال هدى في القلب ;
وتفتح في البصيرة ; واتصال في الفطرة بنواميس ال في السماوات والرض ; والتقاء بها على ال نور
السماوات والرض .فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة ل انكشاف لها ,وفي مخالفة ل أمن فيها ,وفي
ضلل ل رجعة منه .ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلك والعذاب ; لنه ل عمل بغير عقيدة ,ول
صلح بغير إيمان .إن هدى ال هو الهدى .وإن نور ال هو النور .
ذلك مشهد الكفر والضلل والظلم في عالم الناس ,يتبعه مشهد اليمان والهدى والنور في الكون الفسيح .
مشهد يتمثل فيه الوجود كله ,بمن فيه وما فيه ,شاخصا يسبح ل:إنسه وجنه ,أملكه وأفلكه ,أحياؤه
وجماده . .وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه ,في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتمله:
(ألم تر أن ال يسبح له من في السماوات والرض ,والطير صافات .كل قد علم صلته وتسبيحه وال عليم
بما يفعلون). .
إن النسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح ; فإن من حوله ,وعن يمينه وعن شماله ,ومن فوقه ومن تحته
; وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال . .إخوان له من خلق ال ,لهم طبائع شتى ,وصور شتى ,
سبِيحَهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ ِبمَا
ت كُلّ َقدْ عَِل َم صَلَاتَهُ َو َت ْ
طيْرُ صَافّا ٍ
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ وَال ّ
سبّحُ َلهُ مَن فِي ال ّ
ن اللّ َه ُي َ
أََلمْ َترَ أَ ّ
سحَابا ُثمّ يُؤَّلفُ َب ْينَهُ
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ وَإِلَى اللّ ِه ا ْل َمصِيرُ ( )42أََلمْ َترَ َأنّ اللّهَ ُي ْزجِي َ
يَ ْفعَلُونَ ( )41وَلِلّ ِه مُ ْلكُ ال ّ
جبَالٍ فِيهَا مِن بَ َردٍ َف ُيصِيبُ بِهِ مَن َيشَاءُ
سمَاءِ مِن ِ
ن ال ّ
خرُجُ ِمنْ خِلَالِهِ َو ُي َنزّلُ مِ َ
جعَلُهُ ُركَاما َفتَرَى ا ْل َودْقَ َي ْ
ُثمّ َي ْ
ن فِي ذَِلكَ َل ِعبْرَةً ّلأُوْلِي
ب اللّهُ الّليْلَ وَال ّنهَارَ إِ ّ
سنَا َبرْقِ ِه َيذْهَبُ بِا ْلَأ ْبصَارِ ( )43يُقَلّ ُ
صرِفُهُ عَن مّن َيشَاءُ َيكَادُ َ
َو َي ْ
ا ْلَأبْصَارِ ()44
وأشكال شتى .ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في ال ,ويتوجهون إليه ,ويسبحون بحمده( :وال عليم بما
يفعلون). .
والقرآن يوجه النسان إلى النظر فيما حوله من صنع ال ,وإلى من حوله من خلق ال في السماوات
والرض ,وهم يسبحون بحمده وتقواه ; ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه ,فل يثير
انتباهه ول يحرك قلبه لطول ما يراه .ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد
ال( :كل قد علم صلته وتسبيحه) . .والنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه ; وهو أجدر خلق ال
باليمان والتسبيح والصلة .
وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه ,مسبحا بحمده ,قائما بصلته ; وإنه لكذلك في
فطرته ,وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه .وإن النسان ليدرك -حين يشف -هذا المشهد ممثل
في حسه كأنه يراه ; وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح ل .وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود
صلته ونجواه . .كذلك كان محمد بن عبد ال -صلة ال وسلمه عليه -إذا مشى سمع تسبيح الحصى
تحت قدميه .وكذلك كان داود -عليه السلم -يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير .
فل اتجاه إل إليه ,ول ملجأ من دونه ,ول مفر من لقائه ,ول عاصم من عقابه ,وإلى ال المصير .
ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين ; وفيها متعة للنظر ,وعبرة للقلب ,ومجال
للتأمل في صنع ال وآياته ,وفي دلئل النور والهدى واليمان:
ألم تر أن ال يزجي سحابا ,ثم يؤلف بينه ,ثم يجعله ركاما ,فترى الودق يخرج من خلله .وينزل من
السماء من جبال فيها من برد ,فيصيب به من يشاء ,ويصرفه عمن يشاء ,يكاد سنا برقه يذهب بالبصار .
.
والمشهد يعرض على مهل وفي إطالة ,وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع .كل أولئك لتؤدي
الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه ,وبعثه إلى التأمل والعبرة ,وتدبر ما وراءها من صنع ال .
إن يد ال تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان .ثم تؤلف بينه وتجمعه ,فإذا هو ركام بعضه فوق
بعض .فإذا ثقل خرج منه الماء ,والوبل الهاطل ,وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة ,فيها قطع البرد
الثلجية الصغيرة . .ومشهد السحب كالجبال ل يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير
بينها ,فإذا المشهد مشهد الجبال حقا ,بضخامتها ,ومساقطها ,وارتفاعاتها وانخفاضاتها .وإنه لتعبير مصور
للحقيقة التي لم يرها الناس ,إل بعد ما ركبوا الطائرات .
وهذه الجبال مسخرة بأمر ال ,وفق ناموسه الذي يحكم الكون ; ووفق هذا الناموس يصيب ال بالمطر من
يشاء ,ويصرفه عمن يشاء . .وتكملة المشهد الضخم( :يكاد سنا برقه يذهب بالبصار)ذلك ليتم التناسق مع
جو النور الكبير في الكون العريض ,على طريقة التناسق في التصوير .
طنِهِ َو ِم ْنهُم مّن َي ْمشِي عَلَى ِرجَْليْنِ َو ِم ْنهُم مّن َيمْشِي عَلَى
ل دَابّةٍ مِن مّاء َفمِ ْنهُم مّن َي ْمشِي عَلَى َب ْ
وَاللّهُ خََلقَ كُ ّ
شيْءٍ َقدِيرٌ ()45
ل َ
ن اللّهَ عَلَى كُ ّ
َأ ْربَعٍ َيخْلُقُ اللّهُ مَا َيشَا ُء إِ ّ
والتأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي ل يختل ول يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر الناموس
الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع ال .والقرآن يوجه القلب إلى هذه المشاهد التي ذهبت اللفة بوقعها
المثير ; ليواجه القلب هذا الكون دائما بحس جديد ,وانفعال جديد .فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب
البشري ,وهو يتأملها أول مرة .وهي هي لم تتغير ; ولم تفقد جمالها وروعتها .إنما القلب البشري هو الذي
صدىء وهمد ,فلم يعد يخفق لها .وكم ذا نفقد من حياتنا ,وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود ,حين نمر
غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حسنا وهي جديدة .أو وحسنا هو الجديد !
والقرآن يجدد حسنا الخامد ,ويوقظ حواسنا الملول .ويلمس قلبنا البارد .ويثير وجداننا الكليل ; لنرتاد هذا
الكون دائما كما ارتدناه أول مرة .نقف أمام كل ظاهرة نتأملها ,ونسألها عما وراءها من سر دفين ,ومن
سحر مكنون .ونرقب يد ال تفعل فعلها في كل شيء من حولنا ,ونتدبر حكمته في صنعته ,ونعتبر بآياته
المبثوثة في تضاعيف الوجود .
إن ال -سبحانه -يريد أن يمن علينا ,بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره ; فاستعدنا نعمة
الحساس بها كأننا نراها أول مرة .فنظل نجد الكون مرات ل تحصى .وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد ;
ونستمتع به من جديد .
وإن هذا الوجود لجميل وباهر ورائع .وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته ,مستمدة من النبع الذي يستمد منه ,
قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه .فالتصال بضمير هذا الوجود يهبنا أنسا وطمأنينة ,وصلة ومعرفة
,وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب !
وإننا لنجد نور ال هناك .فال نور السماوات والرض . .نجده في الفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة التي
نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير ,والقلب المتفتح ,والتأمل الواصل إلى حقيقة التدبير .
لهذا يوقظنا القرآن المرة بعد المرة ,ويوجه حسنا وروحنا إلى شتى مشاهد الوجود الباهرة ,كي ل نمر عليها
غافلين مغمضي العين ,فنخرج من رحلة الحياة على ظهر هذه الرض بغير رصيد .أو برصيد قليل هزيل
..
ويمضي السياق في عرض مشاهد الكون ,واستثارة تطلعنا إليها ; فيعرض نشأة الحياة ,من أصل واحد ,
وطبيعة واحدة ,ثم تنوعها ,مع وحدة النشأة والطبيعة:
(وال خلق كل دابة من ماء .فمنهم من يمشي على بطنه ,ومنهم من يمشي على رجلين ,ومنهم من يمشي
على أربع .يخلق ال ما يشاء .إن ال على كل شيء قدير). .
وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة ,حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ,قد تعني وحدة
العنصر الساسي في تركيب الحياء جميعا ,وهو الماء ,وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن
الحياة خرجت من البحر ونشأت أصل في الماء .ثم تنوعت النواع ,وتفرعت الجناس . .
ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل .
.ل نزيد على هذه الشارة شيئا .مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية .وهي أن ال خلق الحياء كلها من الماء .
فهي ذات أصل واحد .ثم هي -كما ترى العين -متنوعة الشكال .منها الزواحف تمشي على بطنها ,
ومنها النسان والطير يمشي على قدمين .ومنها الحيوان يدب على أربع .كل أولئك وفق سنة ال ومشيئته ,
ل عن فلتة ول مصادفة :يخلق ال ما يشاء غير مقيد بشكل ول هيئة .فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون
ط ْعنَا ُثمّ
ستَقِيمٍ (َ )46ويَقُولُونَ آ َمنّا بِاللّهِ َوبِال ّرسُولِ وََأ َ
لَ َقدْ أَنزَ ْلنَا آيَاتٍ ّم َب ّينَاتٍ وَاللّ ُه َي ْهدِي مَن َيشَا ُء إِلَى صِرَاطٍ ّم ْ
َيتَوَلّى َفرِيقٌ ّم ْنهُم مّن َب ْعدِ ذَِلكَ َومَا أُوَْل ِئكَ بِا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ ()47
قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها( :إن ال على كل شيء قدير).
وإن تملي الحياء .وهي بهذا التنوع في الشكال والحجام ,والصول والنواع ,والشيات واللوان .وهي
خارجة من أصل واحد ,ليوحي بالتدبير المقصود ,والمشيئة العامدة .وينفي فكرة الفلتة والمصادفة .وإل
فأي فلتة تلك التي تتضمن كل هذا التدبير ; وأية مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير ? إنما هو صنع ال
العزيز الحكيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . .
الوحدة الرابعة 57 - 46:الموضوع:التقابل بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين والتمكين للمؤمنين
موضوع الوحدة
بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور ,في مشاهد الكون الكبير . .يعود سياق السورة إلى
موضوعهاالصيل .موضوع الداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة ,لتتطهر قلوبها وتشرق ,
وتتصل بنور ال في السماوات والرض .
ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر ال ,وإقام الصلة ,
وإيتاء الزكاة .وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم ,وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض .
فالن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين ,الذين ل ينتفعون بآيات ال المبينات ول يهتدون .فهم يظهرون
السلم ,ولكنهم ل يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول ال [ ص ] وفي الرضى بحكمه ,والطمأنينة إليه
.ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم .أولئك الذين وعدهم ال الستخلف في الرض ,
والتمكين في الدين ,والمن في المقام ,جزاء لهم على أدبهم مع ال ورسوله .وطاعتهم ل ورسوله .وذلك
على الرغم من عداء الكافرين .وما الذين كفروا بمعجزين في الرض ومأواهم النار وبئس المصير . .
(لقد أنزلنا آيات مبينات .وال يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). .
فآيات ال مبينة كاشفة ; تجلو نور ال ,وتكشف عن ينابيع هداه .وتحدد الخير والشر ,والطيب والخبيث .
وتبين منهج السلم في الحياة كامل دقيقا ل لبس فيه ول غموض ; وتحدد أحكام ال في الرض بل شبهة ول
إبهام .فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون إلى شريعة واضحة مضبوطة ,ل يخشى منها صاحب حق على
حقه ; ول يلتبس فيها حق بباطل ,ول حلل بحرام .
(وال يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) . .والمشيئة مطلقة ل يقيدها قيد .غير أن ال سبحانه قد جعل
للهدى طريقا ,ومن وجه نفسه إليه وجد فيه هدى ال ونوره ,فاتصل به ,وسار على الدرب ,حتى يصل -
بمشيئة ال -ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في طريق الضلل .حسب مشيئة ال في الهدى
والضلل .
ومع هذه اليات المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس .فريق المنافقين ,الذين كانوا يظهرون السلم ول
يتأدبون بأدب السلم:
(ويقولون:آمنا بال وبالرسول وأطعنا .ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك .وما أولئك بالمؤمنين .وإذا دعوا
إلى ال ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون .وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين .أفي قلوبهم
مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف ال عليهم ورسوله ? بل أولئك هم الظالمون). .
إن اليمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك .والسلم عقيدة متحركة ,ل تطيق
السلبية .فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج ; ولتترجم نفسها إلى حركة
وإلى عمل في عالم الواقع .ومنهج السلم الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن
بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية ; وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون .مع استحياء الدافع
الشعوري الول في كل حركة ,لتبقى حية متصلة بالينبوع الصيل .
وهؤلء كانوا يقولون( :آمنا بال وبالرسول وأطعنا) . .يقولونها بأفواههم ,ولكن مدلولها ل يتحقق في سلوكهم
.فيتولون ناكصين ; يكذبون بالعمال ما قالوه باللسان( :وما أولئك بالمؤمنين)فالمؤمنون تصدق أفعالهم
أقوالهم .واليمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها ; ثم يدعها ويمضي .إنما هو تكيف في النفس ,وانطباع في
القلب ,وعمل في الواقع ,ثم ل تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير . .
عنِينَ (
حقّ َي ْأتُوا إَِل ْيهِ ُمذْ ِ
ح ُكمَ َب ْي َنهُمْ ِإذَا فَرِيقٌ ّم ْنهُم ّم ْعرِضُونَ ( )48وَإِن َيكُن ّل ُهمُ ا ْل َ
وَِإذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ َو َرسُوِلهِ ِل َي ْ
)49
ولقد كان هؤلء الذين يدعون اليمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول ال [ ص ] على
شريعة ال التي جاء بها:
(وإذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون .وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين). .
فلقد كانوا يعلمون أن حكم ال ورسوله ل يحيد عن الحق ,ول ينحرف مع الهوى ,ول يتأثر بالمودة والشنآن
.وهذا الفريق من الناس ل يريد الحق ول يطيق العدل .ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول ال [
ص ] ويأبون أن يجيئوا إليه .فأما إذا كانوا أصحاب حق في قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول ال ,
راضين خاضعين ,لنهم واثقون أنهم سيقضي لهم بحقهم ,وفق شريعة ال ,التي ل تظلم ول تبخس الحقوق
.
هذا الفريق الذي كان يدعي اليمان ,ثم يسلك هذا السلوك الملتوي ,إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان
ومكان .المنافقين الذي ل يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر ,فيتظاهرون بالسلم .ولكنهم ل يرضون أن
تقضي بينهم شريعة ال ,ول أن يحكم فيهم قانونه ,فإذا دعوا إلى حكم ال ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا
المعاذير (وما أولئك بالمؤمنين)فما يستقيم اليمان وإباء حكم ال ورسوله .إل أن تكون لهم مصلحة في أن
يتحاكموا إلى شريعة ال أو يحكموا قانونه !
إن الرضى بحكم ال ورسوله هو دليل اليمان الحق .وهو المظهر الذي ينبى ء عن استقرار حقيقة اليمان
في القلب .وهو الدب الواجب مع ال ومع رسول ال .وما يرفض حكم ال وحكم رسوله إل سييء الدب
معتم ,لم يتأدب بأدب السلم ,ولم يشرق قلبه بنور اليمان .
ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم ,وتتعجب من ريبتهم ,وتستنكر تصرفهم الغريب:
(أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف ال عليهم ورسوله ?). .
والسؤال الول للثبات .فمرض القلب جدير بأن ينشى مثل هذا الثر .وما ينحرف النسان هذا النحراف
وهو سليم الفطرة .إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها ,فل تتذوق حقيقة اليمان ,ول تسير
على نهجه القويم .
والسؤال الثاني للتعجب .فهل هم يشكون في حكم ال وهم يزعمون اليمان ? هل هم يشكون في مجيئه من
عند ال ? أو هم يشكون في صلحيته لقامة العدل ? على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين !
والسؤال الثالث للستنكار والتعجب من أمرهم الغريب .فهل هم يخافون أن يحيف ال عليهم ورسوله ? وإنه
لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان .فال خالق الجميع ورب الجميع .فكيف يحيف في حكمه
على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه ?
إن حكم ال هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف .لن ال هو العادل الذي ل يظلم أحدا .وكل خلقه
أمامه سواء ,فل يظلم أحد منهم لمصلحة أحد .وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف .فالبشر ل يملكون
أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم .أفرادا كانوا أم طبقة أم دولة .
وحين يشرع فرد ويحكم فل بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه .وكذلك حين تشرع طبقة
لطبقة ,وحين تشرع دولة لدولة .أو كتلة من الدول لكتلة . .فأما حين يشرع ال فل حماية ول مصلحة .
ن أَن َيحِيفَ اللّهُ عََل ْيهِمْ َورَسُوُل ُه بَلْ ُأوَْل ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ (ِ )50إ ّنمَا كَانَ
َأفِي قُلُو ِبهِم ّمرَضٌ َأ ِم ا ْرتَابُوا َأمْ َيخَافُو َ
ط ْعنَا وَُأوَْل ِئكَ ُهمُ ا ْلمُفِْلحُونَ (َ )51ومَن
س ِم ْعنَا وََأ َ
ح ُكمَ َب ْي َنهُمْ أَن يَقُولُوا َ
قَوْلَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ِإذَا ُدعُوا إِلَى اللّهِ َو َرسُوِلهِ ِل َي ْ
ُيطِعِ اللّهَ َو َرسُوَلهُ َو َيخْشَ اللّهَ َو َيتّ ْقهِ َفأُوَْل ِئكَ ُهمُ الْفَا ِئزُونَ ()52
إنما هي العدالة المطلقة ,التي ل يطيقها تشريع غير تشريع ال ,ول يحققها حكم غير حكمه .
من أجل ذلك كان الذين ل يرتضون حكم ال ورسوله هم الظالمون ,الذين ل يريدون للعدالة أن تستقر ; ول
يحبون للحق أن يسود .فهم ل يخشون في حكم ال حيفا ,ول يرتابون في عدالته أصل (بل أولئك هم
الظالمون). .
فأما المؤمنون حقا فلهم أدب غير هذا مع ال ورسوله .ولهم قول آخر إذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم ;
هو القول الذي يليق بالمؤمنين ; وينبى ء عن إشراق قلوبهم بالنور:
(إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا:سمعنا وأطعنا .وأولئك هم
المفلحون). .
فهو السمع والطاعة بل تردد ول جدال ول انحراف .السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم
ال ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى ; النابعان من التسليم المطلق ل ,واهب الحياة ,المتصرف فيها كيف
يشاء ; ومن الطمئنان إلى أن ما يشاؤه ال للناس خير مما يشاءونه لنفسهم .فال الذي خلق أعلم بمن خلق .
.
(وأولئك هم المفلحون) . .المفلحون لن ال هو الذي يدبر أمورهم ,وينظم علقاتهم ,ويحكم بينهم بعلمه
وعدله ; فل بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم ,وينظم علقاتهم ,ويحكم بينهم بشر مثلهم ,قاصرون لم
يؤتوا من العلم إل قليل . .والمفلحون لنهم مستقيمون على منهج واحد ,ل عوج فيه ول التواء ,مطمئنون
إلى هذا المنهج ,ماضون فيه ل يتخبطون ,فل تتوزع طاقاتهم ,ول يمزقهم الهوى كل ممزق ,ول تقودهم
الشهوات والهواء .والنهج اللهي أمامهم واضح مستقيم .
وقد كان الحديث في الية السابقة عن الطاعة والتسليم في الحكام .فالن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر
أو نهي ,مصحوبة هذه الطاعة بخشية ال وتقواه .والتقوى أعم من الخشية ,فهي مراقبة ال والشعور به عند
الصغيرة والكبيرة ; والتحرج من إتيان ما يكره توقيرا لذاته سبحانه ,وإجلل له ,وحياء منه ,إلى جانب
الخوف والخشية .
ومن يطع ال ورسوله ويخش ال ويتقه فأولئك هم الفائزون ,الناجون في دنياهم وأخراهم .وعد ال ولن
يخلف ال وعده .وهم للفوز أهل ,ولديهم أسبابه من واقع حياتهم .فالطاعة ل ورسوله تقتضي السير على
النهج القويم الذي رسمه ال للبشرية عن علم وحكمة ,وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والخرة .
وخشية ال وتقواه هي الحارس الذي يكفل الستقامة على النهج ,وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه
,فل ينحرفون ول يلتفتون .
وأدب الطاعة ل ورسوله ,مع خشية ال وتقواه ,أدب رفيع ,ينبىء عن مدى إشراق القلب بنور ال ,
واتصاله به ,وشعوره بهيبته .كما ينبىء عن عزة القلب المؤمن واستعلئه .فكل طاعة ل ترتكن على طاعة
ال ورسوله ,ول تستمد منها ,هي ذلة يأباها الكريم ,وينفر منها طبع المؤمن ,ويستعلي عليها ضميره .
فالمؤمن الحق ل يحني رأسه إل ل الواحد القهار .
وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين ,وسوء أدب المنافقين الذين يدعون اليمان ,وما هم بمؤمنين ,بعد
هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلء المنافقين:
(وأقسموا بال جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن .قل:ل تقسموا .طاعة معروفة .إن ال خبير بما تعملون .
قل:أطيعوا ال وأطيعوا الرسول .فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم .وإن تطيعوه تهتدوا .وما
على الرسول إل البلغ المبين). .
ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول ال [ ص ] لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن وال يعلم إنهم لكاذبون
.فهو يرد عليهم متهكما ,ساخرا من أيمانهم ( .قل:ل تقسموا .طاعة معروفة) . .ل تحلفوا فإن طاعتكم
معروف أمرها ,مفروغ منها ,ل تحتاج إلى حلف أو توكيد ! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور
به:ل تحلف لي على صدقك .فهو مؤكد ثابت ل يحتاج إلى دليل .
ويعقب على التهكم الساخر بقوله( :إن ال خبير بما تعملون) . .فل يحتاج إلى قسم ول توكيد ,وقد علم أنكم
ل تطيعون ول تخرجون !
لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة .الطاعة الحقيقية .ل طاعتهم تلك المعروفة المفهومة !
وبعد استعراض أمر المنافقين ,والنتهاء منه على هذا النحو . .يدعهم السياق وشأنهم ,ويلتفت عنهم إلى
المؤمنين المطيعين ,يبين جزاء الطاعة المخلصة ,واليمان العامل ,في هذه الرض قبل يوم الحساب
الخير:
(وعد ال الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض كما استخلف الذين من قبلهم ; وليمكنن
لهم دينهم الذي ارتضى لهم ; وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا .يعبدونني ل يشركون بي شيئا .ومن كفر بعد
ذلك فأولئك هم الفاسقون). .
ذلك وعد ال للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد [ ص ] أن يستخلفهم في الرض .وأن يمكن لهم
دينهم الذي ارتضى لهم .وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . .ذلك وعد ال .ووعد ال حق .ووعد ال واقع .
ولن يخلف ال وعده . .فما حقيقة ذلك اليمان ? وما حقيقة هذا الستخلف ?
إن حقيقة اليمان التي يتحقق بها وعد ال حقيقة ضخمة تستغرق النشاط النساني كله ; وتوجه النشاط
النساني كله .فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله
إلى ال ; ل يبتغي به صاحبه إل وجه ال ; وهي طاعة ل واستسلم لمره في الصغيرة والكبيرة ,ل يبقى
معها هوى في النفس ,ول شهوة في القلب ,ول ميل في الفطرة إل وهو تبع لما جاء به رسول ال [ ص ]
من عند ال .
فهو اليمان الذي يستغرق النسان كله ,بخواطر نفسه ,وخلجات قلبه .وأشواق روحه ,وميول فطرته ,
وحركات جسمه ,ولفتات جوارحه ,وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . .يتوجه بهذا كله إلى ال .
.يتمثل هذا في قول ال سبحانه في الية نفسها تعليل للستخلف والتمكين والمن( :يعبدونني ل يشركون بي
شيئا)والشرك مداخل وألوان ,والتوجه إلى غير ال بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بال .
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . .إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الصلح
والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه ال للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى
الكمال المقدر لها في الرض ,اللئق بخليقة أكرمها ال .
إن الستخلف في الرض قدرة على العمارة والصلح ,ل على الهدم والفساد .وقدرة على تحقيق العدل
والطمأنينة ,ل على الظلم والقهر .وقدرة على الرتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري ,ل على النحدار
بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !
وهذا الستخلف هو الذي وعده ال الذين آمنوا وعملوا الصالحات . .وعدهم ال أن يستخلفهم في الرض -
كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم -ليحققوا النهج الذي أراده ال ; ويقرروا العدل الذي أراده ال ;
ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها ال . .فأما الذين يملكون فيفسدون في
الرض ,وينشرون فيها البغي والجور ,وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . .فهؤلء ليسوا مستخلفين في
الرض .إنما هم مبتلون بما هم فيه ,أو مبتلى بهم غيرهم ,ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها ال .
آية هذا الفهم لحقيقة الستخلف قوله تعالى بعده( :وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) . .وتمكين الدين يتم
بتمكينه في القلوب ,كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها .فقد وعدهم ال إذن أن يستخلفهم في
الرض ,وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الرض .ودينهم يأمر بالصلح ,ويأمر
بالعدل ,ويأمر بالستعلء على شهوات الرض .ويأمر بعمارة هذه الرض ,والنتفاع بكل ما أودعها ال
من ثروة ,ومن رصيد ,ومن طاقة ,مع التوجه بكل نشاط فيها إلى ال .
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) . .ولقد كانوا خائفين ,ل يأمنون ,ول يضعون سلحهم أبدا حتى بعد هجرة
الرسول [ ص ] إلى قاعدة السلم الولى بالمدينة .
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الية:كان النبي [ ص ] وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين
يدعون إلى ال وحده ,وإلى عبادته وحده بل شريك له ,سرا وهم خائفون ل يؤمرون بالقتال ; حتى أمروا
بعد الهجرة إلى المدينة ,فقدموها ,فأمرهم ال بالقتال ,فكانوا بها خائفين ,يمسون في السلح ويصبحون في
السلح ; فصبروا على ذلك ما شاء ال .ثم إن رجل من الصحابة قال:يا رسول ال أبد الدهر نحن خائفون
هكذا ? أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلح ? فقال رسول ال [ ص ] عليه وسلم " -لن تصبروا
إل يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في المل العظيم ليست فيه حديدة " .وأنزل ال هذه الية ,فأظهر ال نبيه
على جزيرة العرب ,فأمنوا ووضعوا السلح .ثم إن ال قبض نبيه [ ص ] فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي
بكر وعمر وعثمان .حتى وقعوا فيما وقعوا فيه ,فأدخل ال عليهم الخوف ; فاتخذوا الحجزة والشرط ,
وغيروا فغير بهم . .
(ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) . .الخارجون على شرط ال .ووعد ال .وعهد ال . .
لقد تحقق وعد ال مرة .وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط ال( :يعبدونني ل يشركون بي
شيئا) . .ل من اللهة ول من الشهوات .ويؤمنون -من اليمان -ويعملون صالحا .ووعد ال مذخور
جرِ
ث َمرّاتٍ مِن َقبْلِ صَلَاةِ الْ َف ْ
ن َلمْ َيبُْلغُوا ا ْلحُُلمَ مِنكُمْ ثَلَا َ
ن مََلكَتْ َأ ْيمَا ُن ُكمْ وَاّلذِي َ
س َت ْأذِن ُكمُ اّلذِي َ
يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا ِل َي ْ
جنَاحٌ َب ْعدَهُنّ
ع ْورَاتٍ ّل ُكمْ َليْسَ عََل ْي ُكمْ وَلَا عََل ْي ِهمْ ُ
ظهِيرَةِ َومِن َب ْعدِ صَلَاةِ ا ْل ِعشَاء ثَلَاثُ َ
ن ال ّ
ن ِثيَا َبكُم مّ َ
ضعُو َ
ن َت َ
َوحِي َ
حكِيمٌ ( )58وَِإذَا بَلَغَ ا ْلَأطْفَالُ مِن ُكمُ
ن اللّ ُه َل ُكمُ الْآيَاتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
ضكُمْ عَلَى َبعْضٍ َكذَِلكَ ُي َبيّ ُ
طَوّافُونَ عََل ْيكُم َب ْع ُ
حكِيمٌ ()59
ن اللّ ُه َل ُكمْ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
ن مِن قَبِْل ِهمْ َكذَِلكَ ُي َبيّ ُ
س َت ْأذَنَ اّلذِي َ
س َت ْأ ِذنُوا َكمَا ا ْ
ا ْلحُُلمَ فَ ْليَ ْ
لكل من يقوم على الشرط من هذه المة إلى يوم القيامة .إنما يبطى ء النصر والستخلف والتمكين والمن .
لتخلف شرط ال في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ; حتى إذا انتفعت المة
بالبلء ,وجازت البتلء ,وخافت فطلبت المن ,وذلت فطلبت العزة ,وتخلفت فطلبت الستخلف . .كل
ذلك بوسائله التي أرادها ال ,وبشروطه التي قررها ال . .تحقق وعد ال الذي ل يتخلف ,ول تقف في
طريقه قوة من قوى الرض جميعا .
لذلك يعقب على هذا الوعد بالمر بالصلة والزكاة والطاعة ,وبأل يحسب الرسول [ ص ] وأمته حسابا لقوة
الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم:
(وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة ,وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون .ل تحسبن الذين كفروا معجزين في الرض
.ومأواهم النار ولبئس المصير). .
فهذه هي العدة . .التصال بال ,وتقويم القلب بإقامة الصلة .والستعلء على الشح ,وتطهير النفس
والجماعة بإيتاء الزكاة .وطاعة الرسول والرضى بحكمه ,وتنفيذ شريعة ال في الصغيرة والكبيرة ,وتحقيق
النهج الذي أراده للحياة( :لعلكم ترحمون)في الرض من الفساد والنحدار والخوف والقلق والضلل ,وفي
الخرة من الغضب والعذاب والنكال .
فإذا استقمتم على النهج ,فل عليكم من قوة الكافرين .فما هم بمعجزين في الرض ,وقوتهم الظاهرة لن تقف
لكم في طريق .وأنتم أقوياء بإيمانكم ,أقوياء بنظامكم ,أقوياء بعدتكم التي تستطيعون .وقد ل تكونون في
مثل عدتهم من الناحية المادية .ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والعاجيب .
إن السلم حقيقة ضخمة ل بد أن يتملها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد ال في تلك اليات .ول بد أن
يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية ,وهو يدرك شروطها على حقيقتها ,قبل أن يتشكك فيها أو
يرتاب ,أو يستبطى ء وقوعها في حالة من الحالت .
إنه ما من مرة سارت هذه المة على نهج ال ,وحكمت هذا النهج في الحياة ,وارتضته في كل أمورها . .
إل تحقق وعد ال بالستخلف والتمكين والمن .وما من مرة خالفت عن هذا النهج إل تخلفت في ذيل القافلة
,وذلت ,وطرد دينها من الهيمنة على البشرية ; واستبد بها الخوف ; وتخطفها العداء .
أل وإن وعد ال قائم .أل وإن شرط ال معروف .فمن شاء الوعد فليقم بالشرط .ومن أوفى بعهده من ال ?
الوحدة الخامسة 64 - 58:الموضوع:آداب الستئذان وتكاتف المسلمين وملكية ال للكون موضوع الوحدة
إن السلم منهاج حياة كامل ; فهو ينظم حياة النسان في كل أطوارها ومراحلها ,وفي كل علقاتها
وارتباطاتها ,وفي كل حركاتها وسكناتها .ومن ثم يتولى بيان الداب اليومية الصغيرة ,كما يتولى بيان
التكاليف العامة الكبيرة ; وينسق بينها جميعا ,ويتجه بها إلى ال في النهاية .
وهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق .لقد تضمنت بعض الحدود إلى جانب الستئذان على البيوت .وإلى
جانبها جولة ضخمة في مجالي الوجود .ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى ال
ورسوله وسوء أدب المنافقين .إلى جانب وعد ال الحق للمؤمنين بالستخلف والمن والتمكين .وها هو ذا
في هذا الدرس يعود إلى آداب الستئذان في داخل البيوت ; إلى جانب الستئذان من مجلس رسول ال [-ص
] -وينظم علقة الزيارة والطعام بين القارب والصدقاء ; إلى جانب الدب الواجب في خطاب الرسول
ودعائه . . .فكلها آداب تأخذ بها الجماعة المسلمة وتنتظم بها علقاتها .والقرآن يربيها في مجالت الحياة
الكبيرة والصغيرة على السواء .
(يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ; ثلث مرات:من قبل صلة
الفجر ,وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ,ومن بعد صلة العشاء .ثلث عورات لكم .ليس عليكم ول
عليهم جناح بعدهن .طوافون عليكم بعضكم على بعض .كذلك يبين ال لكم اليات وال عليم حكيم). .
لقد سبقت في السورة أحكام الستئذان على البيوت .وهنا يبين أحكام الستئذان في داخل البيوت .
فالخدم من الرقيق ,والطفال المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بل استئذان .إل في ثلثة أوقات تنكشف
فيها العورات عادة ,فهم يستأذنون فيها .هذه الوقات هي:الوقت قبل صلة الفجر حيث يكون الناس في ثياب
النوم عادة أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج .ووقت الظهيرة عند القيلولة ,حيث يخلعون ملبسهم في
العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة .وبعد صلة العشاء حين يخلعون ملبسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل . .
وسماها(عورات)لنكشاف العورات فيها .وفي هذه الوقات الثلثة ل بد أن يستأذن الخدم ,وأن يستأذن
الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم ,كي ل تقع أنظارهم على عورات أهليهم .وهو أدب يغفله الكثيرون
في حياتهم المنزلية ,مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية ,ظانين أن الخدم ل تمتد أعينهم إلى عورات
السادة ! وأن الصغار قبل البلوغ ل ينتبهون لهذه المناظر .بينما يقرر النفسيون اليوم -بعد تقدم العلوم
النفسية -أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها ; وقد
تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها .
والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الداب ; وهو يريد أن يبني أمة سليمة العصاب ,سليمة الصدور ,مهذبة
المشاعر ,طاهرة القلوب ,نظيفة التصورات .
ويخصص هذه الوقات الثلثة دون غيرها لنها مظنة انكشاف العورات .ول يجعل استئذان الخدم و الصغار
في كل حين منعا للحرج .فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة:
(طوافون عليكم بعضكم على بعض) . .وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات ,وإزالة الحرج
والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار .
فأما حين يدرك الصغار سن البلوغ ,فإنهم يدخلون في حكم الجانب ,الذين يجب أن يستأذنوا في كل وقت ,
حسب النص العام ,الذي مضت به آية الستئذان .
ويعقب على الية بقوله( :وال عليم حكيم)لن المقام مقام علم ال بنفوس البشر ,وما يصلحها من الداب ;
ومقام حكمته كذلك في علج النفوس والقلوب .
ولقد سبق المر كذلك بإخفاء زينة النساء منعا لثارة الفتن والشهوات .فعاد هنا يستثني من النساء القواعد
ت ِبزِينَةٍ وَأَن
غ ْيرَ ُم َت َب ّرجَا ٍ
ن ِثيَا َبهُنّ َ
ضعْ َ
جنَاحٌ أَن َي َ
ن ِنكَاحا فَلَيْسَ عََل ْيهِنّ ُ
ن ال ّنسَاء اللّاتِي لَا َي ْرجُو َ
عدُ مِ َ
وَالْ َقوَا ِ
سمِيعٌ عَلِيمٌ ()60
ن وَاللّ ُه َ
خ ْيرٌ ّلهُ ّ
ستَعْفِ ْفنَ َ
َي ْ
اللواتي فرغت نفوسهن من الرغبة في معاشرة الرجال ; وفرغت أجسامهن من الفتنة المثيرة للشهوات:
(والقواعد من النساء اللتي ل يرجون نكاحا ; فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن -غير متبرجات بزينة -
وأن يستعففن خير لهن ; وال سميع عليم). .
فهؤلء القواعد ل حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية ,على أل تنكشف عوراتهن ول يكشفن عن زينة .
وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة .وسمي هذا استعفافا .أي طلبا للعفة وإيثارا لها ,
لما بين التبرج والفتنة من صلة ; وبين التحجب والعفة من صلة . .وذلك حسب نظرية السلم في أن خير
سبل العفة تقليل فرص الغواية ,والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس .
(وال سميع عليم) . .يسمع ويعلم ,ويطلع على ما يقوله اللسان ,وما يوسوس في الجنان .والمر هنا أمر
نية وحساسية في الضمير .
ليس على العمى حرج ,ول على العرج حرج ,ول على المريض حرج ,ول على أنفسكم أن تأكلوا من
بيوتكم ,أو بيوت آبائكم ,أو بيوت أمهاتكم ,أو بيوت أخوانكم ,أو بيوت أخواتكم ,أو بيوت أعمامكم ,أو
بيوت عماتكم ,أو بيوت أخوالكم ,أو بيوت خالتكم ; أو ما ملكتم مفاتحه ,أو صديقكم .ليس عليكم جناح أن
تأكلوا جميعا أو أشتاتا .فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ,تحية من عند ال مباركة طيبة .كذلك يبين ال
لكم اليات لعلكم تعقلون . .
روى أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة -دون استئذان -ويستصحبون معهم العمي والعرج
والمرضى ليطعموهم . .الفقراء منهم . .فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلء أن يصحبوهم دون دعوة من
أصحاب البيوت أو إذن .ذلك حين نزلت( :ول تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)فقد كانت حساسيتهم مرهفة .
فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى ال عنه ,ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد .فأنزل ال
هذه الية ,ترفع الحرج عن العمى والمريض والعرج ,وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه .وأن
يصحب معه أمثال هؤلء المحاويج .وذلك محمول على أن صاحب البيت ل يكره هذا ول يتضرر به .
استنادا إلى القواعد العامة في أنه " ل ضرر ول ضرار " وإلى أنه " ل يحل مال امرى ء مسلم إل بطيب
نفس " .
ولن الية آية تشريع ,فإننا نلحظ فيها دقة الداء اللفظي والترتيب الموضوعي ,والصياغة التي ل تدع مجال
للشك والغموض .كما نلمح فيها ترتيب القرابات .فهي تبدأ ببيوت البناء والزواج ول تذكرهم .بل تقول
(من بيوتكم)فيدخل فيها بيت البن وبيت الزوج ,فبيت البن بيت لبيه ,وبيت الزوج بيت لزوجته ,وتليها
بيوت الباء ,فبيوت المهات .فبيوت الخوة ,فبيوت الخوات .فبيوت العمام ,فبيوت العمات ,فبيوت
الخوال ,فبيوت الخالت . .ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك
مفاتحه بالمعروف ول يزيد على حاجة طعامه .ويلحق بها بيوت الصدقاء .ليلحق صلتهم بصلة القرابة .
عند عدم التأذي والضرر .فقد يسر الصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان .
فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الكل منها ,بين الحالة التي يجوز عليها الكل( :ليس عليكم جناح
فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها( :فإذا دخلتم بيوتا
فسلموا على أنفسكم تحية من عند ال مباركة طيبة) . .وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في
الية .فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه .والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند ال
.تحمل ذلك الروح ,وتفوح بذلك العطر .وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي ل انفصام لها . .
(كذلك يبين ال لكم اليات لعلكم تعقلون) . .وتدركون ما في المنهج اللهي من حكمة ومن تقدير . .
وينتقل من تنظيم العلقات بين القارب والصدقاء ,إلى تنظيمها بين السرة الكبيرة . .أسرة المسلمين . .
ورئيسها وقائدها محمد رسول ال [ ص ] وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول:
إنما المؤمنون الذين آمنوا بال ورسوله .وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ; إن الذين
يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بال ورسوله .فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ,واستغفر لهم
ال .إن ال غفور رحيم .ل تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا .قد يعلم ال الذين يتسللون
منكم لواذا .فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .أل إن ل ما في
السماوات والرض قد يعلم ما أنتم عليه ; ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا ,وال بكل شيء عليم . .
روى ابن اسحاق في سبب نزول هذه اليات أنه لما كان تجمع قريش والحزاب في غزوة الخندق .فلما سمع
بهم رسول ال [ ص ] وما أجمعوا له من المر ضرب الخندق على المدينة .فعمل فيه رسول ال [ ص ]
ترغيبا للمسلمين في الجر ,وعمل معه المسلمون فيه ,فدأب ودأبوا ,وأبطأ عن رسول ال [ ص ] وعن
المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين ,وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ,ويتسللون إلى أهليهم بغير
علم رسول ال [ ص ] ول إذنه ; وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي ل بد منها يذكر
ذلك لرسول ال [ ص ] ويستأذنه في اللحوق بحاجته ,فيأذن له .فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من
عمله ,رغبة في الخير واحتسابا له .فأنزل ال تعالى في أولئك المؤمنين :إنما المؤمنون . . .الية ثم قال
تعالى:يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ,ويذهبون بغير إذن من النبي [ ص ] :ل تجعلوا دعاء
الرسول بينكم . . .الية . .
وأيا ما كان سبب نزول هذه اليات فهي تتضمن الداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها .هذه الداب
التي ل يستقيم أمر الجماعة إل حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق ضميرها .ثم تستقر في حياتها
فتصبح تقليدا متبعا وقانونا نافذا .وإل فهي الفوضى التي ل حدود لها:
(إنما المؤمنون الذين آمنوا بال ورسوله) . .ل الذين يقولون بأفواههم ثم ل يحققون مدلول قولهم ; ول
يطيعون ال ورسوله .
وهؤلء الذين يؤمنون هذا اليمان ,ويلتزمون هذا الدب ,ل يستأذنون إل وهم مضطرون ; فلهم من إيمانهم
ومن أدبهم عاصم أل يتخلوا عن المر الجامع الذي يشغل بال الجماعة ,ويستدعي تجمعها له . .ومع هذا
فالقرآن يدع الرأي في الذن أو عدمه للرسول [ ص ] رئيس الجماعة .بعد أن يبيح له حرية الذن( :فإذا
استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم) [ . .وكان قد عاتبه على الذن للمنافقين من قبل فقال(:عفا ال
عنك ! لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)] . .يدع له الرأى فإن شاء أذن ,وإن شاء لم
يأذن ,فيرفع الحرج عن عدم الذن ,وقد تكون هناك ضرورة ملحة .ويستبقي حرية التقدير لقائد الجماعة
ليوازن بين المصلحة في البقاء والمصلحة في النصراف .ويترك له الكلمة الخيرة في هذه المسألة التنظيمية
يدبرها بما يراه .
ومع هذا يشير إلى أن مغالبة الضرورة ,وعدم النصراف هو الولى ; وأن الستئذان والذهاب فيهما تقصير
أو قصور يقتضي استغفار النبي [ ص ] للمعتذرين( :واستغفر لهم ال .إن ال غفور رحيم) . .وبذلك يقيد
ضمير المؤمن .فل يستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به إلى الستئذان .
ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول [ ص ] عند الستئذان ,وفي كل الحوال .فل يدعى باسمه:يا محمد .أو
كنيته:يا أبا القاسم .كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا .إنما يدعى بتشريف ال له وتكريمه:يا نبي ال .يا
رسول ال:
فل بد من امتلء القلوب بالتوقير لرسول ال [ ص ] حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه .وهي لفتة
ضرورية .فل بد للمربي من وقار ,ول بد للقائد من هيبة .وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا ; وأن
ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض . .يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع
بها عليهم في قرارة شعورهم ,ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير .
ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن ,يلوذ بعضهم ببعض ,ويتدارى بعضهم ببعض . .فعين
ال عليهم ,وإن كانت عين الرسول ل تراهم( :قد يعلم ال الذين يتسللون منكم لواذا) . .وهو تعبير يصور
حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس ; ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة ,وحقارة الحركة والشعور
المصاحب لها في النفوس .
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). .
وإنه لتحذير مرهوب ,وتهديد رعيب . .فليحذر الذين يخالفون عن أمره ,ويتبعون نهجا غير نهجه ,
ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة .ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس ,وتختل
فيها الموازين ,وينتكث فيها النظام ,فيختلط الحق بالباطل ,والطيب بالخبيث ,وتفسد أمور الجماعة وحياتها
; فل يأمن على نفسه أحد ,ول يقف عند حده أحد ,ول يتميز فيها خير من شر . .وهي فترة شقاء للجميع:
شيْءٍ
عمِلُوا وَاللّهُ ِبكُلّ َ
ن إَِليْ ِه َفيُ َن ّب ُئهُم ِبمَا َ
جعُو َ
ض قَدْ َيعَْلمُ مَا أَنتُمْ عََليْهِ َويَ ْومَ ُي ْر َ
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْ ِ
أَلَا ِإنّ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
عَلِيمٌ ()64
(أو يصيبهم عذاب أليم)في الدنيا أو في الخرة .جزاء المخالفة عن أمر ال ,ونهجه الذي ارتضاه للحياة .
ويختم هذا التحذير ,ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن ال مطلع عليها ,رقيب
على عملها ,عالم بما تنطوي عليه وتخفيه .
(أل إن ل ما في السماوات والرض .قد يعلم ما أنتم عليه ; ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا .وال بكل
شيء عليم). .
وهكذا تختم السورة بتعليق القلوب والبصار بال ; وتذكيرها بخشيته وتقواه .فهذا هو الضمان الخير .وهذا
هو الحارس لتلك الوامر والنواهي ,وهذه الخلق والداب ,التي فرضها ال في هذه السورة وجعلها كلها
سواء . .
أنتهى الجزء الثامن عشر ويليه الجزء التاسع عشر مبدوءا بسورة الفرقان