Professional Documents
Culture Documents
حكِيمِ ()1
تَنزِيلُ ا ْل ِكتَابِ ِمنَ اللّهِ ا ْل َعزِيزِ ا ْل َ
الوحدة الولى 7 - 1:الموضوع إثبات الوحي والرسالة وأدلة على الوحدانية مقدمة سورة الزمر
هذه السورة تكاد تكون مقصورة على علج قضية التوحيد .وهي تطوف بالقلب البشري في جولت متعاقبة ;
وتوقع على أوتاره إيقاعات متلحقة ; وتهزه هزا عميقا متواصلً لتطبع فيه حقيقة التوحيد وتمكنها ,وتنفي
عنه كل شبهة وكل ظل يشوب هذه الحقيقة .ومن ثم فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها ;
يعرض في صور شتى .
ومنذ افتتاح السورة تبرز هذه القضية الواحدة التي تكاد السورة تقتصر على علجها :تنزيل الكتاب من ال
العزيز الحكيم .إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد ال مخلصا له الدين .أل ل الدين الخالص . . .الخ. . .
وتتردد في مقاطعها على فترات متقاربة فيها إما نصا .وإما مفهوما . .
نصا كقوله :قل:إني أمرت أن أعبد ال مخلصا له الدين .وأمرت لن أكون أول المسلمين .قل:إني أخاف إن
عصيت ربي عذاب يوم عظيم .قل:ال أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه . . .الخ . .أو
قوله(:قل أفغير ال تأمروني أعبد أيها الجاهلون ? ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين بل ال فاعبد وكن من الشاكرين).
ومفهوما كقوله(:ضرب ال مثل رجل فيه شركاء متشاكسون ,ورجل سلما لرجل .هل يستويان مثلً:الحمد
ل بل أكثرهم ل يعلمون) . .أو قوله(:أليس ال بكاف عبده ? ويخوفونك بالذين من دونه ,ومن يضلل ال فما
له من هاد ,ومن يهد ال فما له من مضل .أليس ال بعزيز ذي انتقام ?). .
وإلى جانب حقيقة التوحيد التي تعالج السورة أن تطبعها في القلب وتمكنها نجد في السورة توجيهات وإيحاءات
ليقاظ هذا القلب واستجاشته وإثارة حساسيته ,وإرهافه للتلقي والتأثر والستجابة .ذلك كقوله :والذين اجتنبوا
الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ال لهم البشرى .فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ,أولئك
الذين هداهم ال ,وأولئك هم أولوا اللباب (. .ال نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود
الذين يخشون ربهم ,ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر ال:ذلك هدى ال يهدي به من يشاء .ومن يضلل ال
فما له من هاد)(. .وإذا مس النسان ضر دعا ربه منيبا إليه ,ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه
من قبل .وجعل ل أندادا ليضل عن سبيله .قل:تمتع بكفرك قليلً إنك من أصحاب النار). .
وهناك ظاهرة ملحوظة في جو السورة . .إن ظل الخرة يجللها من أولها إلى آخرها .وسياقها يطوّف
بالقلب البشري هناك في كل شوط من أشواطها القصيرة ; ويعيش به في ظلل العالم الخر معظم الوقت !
وهذا هو مجال العرض الول فيها والمؤثر البارز المتكرر في ثناياها .ومن ثم تتلحق فيها مشاهد القيامة أو
الشارة إليها في كل مقطع من مقاطعها الكثيرة .مثل هذه الشارات( :أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما
يحذر الخرة ويرجو رحمة ربه ?)(. .قل:إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)(. .أفمن حق عليه
كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ?)( . .أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ?)( . .ولعذاب الخرة
أكبر لو كانوا يعلمون)( . .أليس في جهنم مثوى للكافرين ?)( . .ولو أن للذين ظلموا ما في الرض جميعا
ومثله معه لفتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ; وبدا لهم من ال ما لم يكونوا يحتسبون)( . .وأنيبوا إلى
ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم ل تنصرون .واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن
يأتيكم العذاب بغته وأنتم ل تشعرون .أن تقول نفس:يا حسرتا على ما فرطت في جنب ال وإن كنت لمن
الساخرين .أو تقول لو أن ال هداني لكنت من المتقين .أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من
المحسنين . .). .وهذا غير المشاهد الكاملة التي تشغل حيزا من السورة كبيرا ,وتظلل جوها بظلل الخرة
.
أما المشاهد الكونية التي لحظنا كثرتها وتنوعها في السور المكية في ثنايا عرضها لحقائق العقيدة فهي قليلة
في هذه السورة . .
هنالك مشهد كوني يرد في مطلعها(:خلق السماوات والرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على
الليل ,وسخر الشمس والقمر كل يجري لجل مسمى .أل هو العزيز الغفار). .
ومشهد آخر في وسطها( :ألم تر أن ال أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الرض ; ثم يخرج به زرعا
مختلفا ألوانه ; ثم يهيج فتراه مصفرا ; ثم يجعله حطاما ? إن في ذلك لذكرى لولي اللباب). .
وهناك إشارات سريعة إلى خلق السماوات والرض غير هذين المشهدين البارزين .
كذلك تتضمن السورة لمسات من واقع حياة البشر ,وفي أغوار نفوسهم ,تتوزع في ثناياها .
يرد في مطالعها عن نشأة البشرية( :خلقكم من نفس واحدة ; ثم جعل منها زوجها .وأنزل لكم من النعام
ثمانية أزواج .يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلث .ذلكم ال ربكم له الملك .ل إله
إل هو ,فأنى تصرفون ?).
ويرد عن طبيعة النفس البشرية في الضراء والسراء :وإذا مس النسان ضر دعا ربه منيبا إليه ; ثم إذا خوله
نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل . . .الخ( . .فإذا مس النسان ضر دعانا ; ثم إذا خولناه نعمة منا
قال:إنما اوتيته على علم بل هي فتنة . .). .
ويرد في تصوير أنفس البشر في قبضة ال في كل حالة( :ال يتوفى النفس حين موتها والتي لم تمت في
منامها ; فيمسك التي قضى عليها الموت ,ويرسل الخرى إلى أجل مسمى .إن في ذلك ليات لقوم
يتفكرون). .
ولكن ظل الخرة وجوها يظل مسيطرا على السورة كلها كما أسلفنا .حتى تختم بمشهد خاشع يرسم ظل ذلك
اليوم وجوه(:وترى الملئكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ,وقضي بينهم بالحق ,وقيل:الحمد
ل رب العالمين).
هذا الظل يتناسق مع جو السورة ,ولون اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها .فهي أقرب إلى جو الخشية
والخوف والفزع والرتعاش .ومن ثم نجد الحالت التي ترسمها للقلب البشري هي حالت ارتعاشه وانتفاضه
وخشيته .نجد هذا في صورة القانت(آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الخرة ويرجو رحمة ربه) .وفي صورة
الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم لهذا القرآن ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر ال .كما نجده في التوجيه
إلى التقوى والخوف من العذاب ,والتخويف منه( :قل:يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم)(.قل:إني أخاف إن
عصيت ربي عذاب يوم عظيم)(. .لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل .ذلك يخوف ال به عباده .
يا عباد فاتقون) . .ثم نجده في مشاهد القيامة وما فيها من فزع ومن خشية ,وما فيها كذلك من إنابة وخشوع
.
الدرس الول 5 - 1:إثبات الرسالة والمر بالعبادة والتوحيد وأدلة على الوحدانية
والسورة تعالج الموضوع الواحد الرئيسي فيها في جولت قصيرة متتابعة ; تكاد كل جولة منها تختم بمشهد
من مشاهد القيامة ,أو ظل من ظللها .وسنحاول أن نستعرض هذه الجولت المتتابعة كما وردت في السياق
.إذ أنه يصعب تقسيم السورة إلى دروس كبيرة .وكل مجموعة قليلة من آياتها تصلح حلقة تعرض في
موضعها .ومجموع هذه الحلقات يتناول حقيقة واحدة .حقيقة التوحيد الكبيرة . .
(تنزيل الكتاب من ال العزيز الحكيم .إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ,فاعبد ال مخلصا له الدين .أل ل الدين
الخالص ,والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إل ليقربونا إلى ال زلفى .إن ال يحكم بينهم فيما هم فيه
يختلفون .إن ال ل يهدي من هو كاذب كفار).
الحكيم الذي يعلم فيم أنزله ولماذا أنزله ; ويفعل ذلك بحكمة وتقدير وتدبير .
ل ; فهي مقدمة للقضية الصيلة التي تكاد السورة تكون وقفا عليها ;
ول يتلبث السياق عند هذه الحقيقة طوي ً
والتي نزل الكتاب لتقريرها وتوكيدها .قضية توحيد ال ,وإفراده بالعبادة ,وإخلص الدين له ,وتنزيهه عن
الشرك في كل صورة من صوره ; والتجاه إليه مباشرة بل وسيط ول شفيع:
وأساس الحق الذي أنزل به الكتاب ,هو الوحدانية المطلقة التي يقوم عليها الوجود .وفي الية الخامسة من
السورة يجيء( :خلق السماوات والرض بالحق) .فهو الحق الواحد الذي قامت به السماوات والرض ,
وأنزل به هذا الكتاب .الحق الواحد الذي تشهد به وحدة النظام الذي يصرف السماوات والرض ; والذي
ينطق به هذا الكتاب .الحق الذي يتسم به كل ما خرج من يد الصانع المبدع في هذا الوجود . .
والخطاب لرسول ال [ ص ] الذي أنزل إليه الكتاب بالحق .وهو منهجه الذي يدعو إليه الناس كافة . .عبادة
ال وحده ,وإخلص الدين له ,وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد .
وتوحيد ال وإخلص الدين له ,ليس كلمة تقال باللسان ; إنما هو منهاج حياة كامل .يبدأ من تصور واعتقاد
في الضمير ; وينتهي إلى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة .
والقلب الذي يوحد ال ,يدين ل وحده ,ول يحني هامته لحد سواه ,ول يطلب شيئا من غيره ول يعتمد على
أحد من خلقه .فال وحده هو القوي عنده ,وهو القاهر فوق عباده .والعباد كلهم ضعاف مهازيل ,ل يملكون
له نفعا ول ضرا ; فل حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم .وهم مثله ل يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا
.وال وحده هو المانح المانع ,فل حاجة به إلى أن يتوجه لحد غيره وهو الغني والخلق كلهم فقراء .
والقلب الذي يوحد ال ,يؤمن بوحدة الناموس اللهي الذي يصرف الوجود كله ; ويؤمن إذن بأن النظام الذي
اختاره ال للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد ,ل تصلح حياة البشر ول تستقيم مع الكون الذي يعيشون
فيه إل باتباعه .ومن ثم ل يختار غير ما اختاره ال من النظم ,ول يتبع إل شريعة ال المتسقة مع نظام
الوجود كله ونظام الحياة .
والقلب الذي يوحد ال يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد ال في هذا الكون من أشياء وأحياء ; ويحيا في
كون صديق يعاطفه ويتجاوب معه ; ويحس يد ال في كل ما حوله ,فيعيش في أنس بال وبدائعه التي تلمسها
يداه وتقع عليها عيناه .ويشعر كذلك بالتحرج من إيذاء أحد ,أو إتلف شيء أو التصرف في أحد أو في
شيء إل بما أمره ال .خالق كل شيء ,ومحيي كل حي .ربه ورب كل شيء وكل حي . .
وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر ,كما تبدو في السلوك والتصرفات .وترسم للحياة كلها
منهاجا كاملً واضحا متميزا .ول يعود التوحيد كلمة تقال باللسان .ومن ثم تلك العناية بتقرير عقيدة التوحيد
وتوضيحها وتكرار الحديث عنها في الكتاب الذي أنزله ال:وهو حديث يحتاج إلى تدبره كل أحد ,في كل
عصر ,وفي كل بيئة .فالتوحيد بمعناه ذلك معنى ضخم شامل يحتاج إلى فهم وإدراك .
يعلنها هكذا مدوية عالية في ذلك التعبير المجلجل .بأداة الفتتاح(أل)وفي أسلوب القصر (ل الدين الخالص).
فيؤكد معناها بالبناء اللفظي للعبارة . .فهي القاعدة التي تقوم عليها الحياة كلها .بل التي يقوم عليها الوجود
كله .ومن ثم ينبغي أن ترسخ وتتضح وتعلن في هذا السلوب الجازم الحاسم( :أل ل الدين الخالص). .
ثم يعالج السطورة المعقدة التي كان المشركون يواجهون بها دعوة التوحيد .
والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إل ليقربونا إلى ال زلفى .إن ال يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون
.إن ال ل يهدي من هو كاذب كفار . .
فلقد كانوا يعلنون أن ال خالقهم وخالق السماوات والرض . .ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في
إفراد الخالق إذن بالعبادة ,وفي إخلص الدين ل بل شريك .إنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملئكة ل
سبحانه .ثم يصوغون للملئكة تماثيل يعبدونها فيها .ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملئكة -وهي التي
دعوها آلهة أمثال اللت والعزى ومناة -ليست عبادة لها في ذاتها ; إنما هي زلفى وقربى ل .كي تشفع لهم
عنده ,وتقربهم منه !
وهو انحراف عن بساطة الفطرة واستقامتها ,إلى هذا التعقيد والتخريف .فل الملئكة بنات ال .ول الصنام
تماثيل للملئكة .ول ال -سبحانه -يرضى بهذا النحراف .ول هو يقبل فيهم شفاعة .ول هو يقربهم إليه
عن هذا الطريق !
وإن البشرية لتنحرف عن منطق الفطرة كلما انحرفت عن التوحيد الخالص البسيط الذي جاء به السلم
وجاءت به العقيدة اللهية الواحدة مع كل رسول .وإنا لنرى اليوم في كل مكان عبادة للقديسين والولياء تشبه
عبادة العرب الولين للملئكة -أو تماثيل الملئكة -تقربا إلى ال -بزعمهم -وطلبا لشفاعتهم عنده .وهو
سبحانه يحدد الطريق إليه .طريق التوحيد الخالص الذي ل يتلبس بوساطة أو شفاعة على هذا النحو
السطوري العجيب !
فهم يكذبون على ال .يكذبون عليه بنسبة بنوة الملئكة إليه ; ويكذبون عليه بأن هذه العبادة تشفع لهم عنده !
وهم يكفرون بهذه العبادة ; ويخالفون فيها عن أمر ال الواضح الصريح .
وال ل يهدي من يكذب عليه ,ويكفر به .فالهداية جزاء على التوجه والخلص والتحرج ,والرغبة في
الهدى ,وتحري الطريق .فأما الذين يكذبون ويكفرون فهم ل يستحقون هداية ال ورعايته .وهم يختارون
لنفسهم البعد عن طريقه .
(لو أراد ال أن يتخذ ولدا لصطفى مما يخلق ما يشاء .سبحانه ! هو ال الواحد القهار).
وهو فرض جدلي لتصحيح التصور .فال لو أراد أن يتخذ ولدا لختار ما يشاء من بين خلقه ; فإرادته مطلقة
غير مقيده .ولكنه -سبحانه -نزه نفسه عن اتخاذ الولد .فليس لحد أن ينسب إليه ولدا ,وهذه إرادته ,
وهذه مشيئته ,وهذا تقديره ; وهذا تنزيهه لذاته عن الولد والشريك:
وما اتخاذه الولد ? وهو مبدع كل شيء ; وخالق كل شيء ,ومدبر كل شيء ? وكل شيء وكل أحد ملكه
يفعل به ما يشاء:
(خلق السماوات والرض بالحق ,يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ; وسخر الشمس والقمر كل
يجري لجل مسمى .أل هو العزيز الغفار). .
وهذه اللفتة إلى ملكوت السماوات والرض ,وإلى ظاهرة الليل والنهار ,وإلى تسخير الشمس والقمر توحي
إلى الفطرة بحقيقة اللوهية التي ل يليق معها أن يكون هناك ولد ول شريك .فالذي يخلق هذا الخلق وينشئه
إنشاء ,ل يحتاج إلى الولد ول يكون معه شريك .
وآية الوحدانية ظاهرة في طريقة خلق السماوات والرض ,وفي الناموس الذي يحكم الكون .والنظر المجرد
إلى السماوات والرض يوحي بوحدة الرادة الخالقة المدبرة .وما كشفه النسان -حتى اليوم -من دلئل
الوحدة فيه الكفاية .فقد اتضح أن الكون المعروف للبشر مؤلف كله من ذرات متحدة في ماهيتها ,وأنها
بدورها تتألف من إشعاعات ذات طبيعة واحدة .وقد اتضح كذلك أن جميع الذرات وجميع الجرام التي تتألف
منها سواء في ذلك الرض التي نسكنها أم الكواكب والنجوم الخرى في حركة دائمة ,وأن هذه الحركة قانون
ثابت ل يتخلف ل في الذرة الصغيرة ول في النجم الهائل .واتضح أن لهذه الحركة نظاما ثابتا هو الخر
يوحي بوحدة الخلق ووحدة التدبير . .وفي كل يوم يكشف النسان عن جديد من دلئل الوحدة في تصميم هذا
الوجود .ويكشف عن حق ثابت في هذا التصميم ل يتقلب مع هوى ,ول ينحرف مع ميل ,ول يتخلف لحظة
ول يحيد .
وأنزل الكتاب بالحق . .فهو الحق الواحد في ذلك الكون وفي هذا الكتاب . .وكلهما صادر من مصدر
واحد .وكلهما آية على وحدة المبدع العزيز الحكيم .
وهو تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسرا على اللتفات إلى ما كشف حديثا عن كروية الرض ومع أنني في
هذه الظلل حريص على أل أحمل القرآن على النظريات التي يكشفها النسان ,لنها نظريات تخطى ء
وتصيب ,وتثبت اليوم وتبطل غدا .والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته ,ول يستمدها من موافقة أو
مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل !
مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسرا على النظر في موضوع كروية الرض .فهو يصور حقيقة
مادية ملحوظة على وجه الرض .فالرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ; فالجزء الذي
يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا .ولكن هذا الجزء ل يثبت لن الرض تدور .
وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار .وهذا السطح مكور فالنهار كان عليه مكورا
والليل يتبعه مكورا كذلك .وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الخرى يتكور على الليل .وهكذا في حركة
دائبة( :يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) . .واللفظ يرسم الشكل ,ويحدد الوضع ,ويعين نوع
طبيعة الرض وحركتها .وكروية الرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أي تفسير آخر ل
يستصحب هذه النظرية .
والشمس تجري في مدارها .والقمر يجري في مداره .وهما مسخران بأمر ال .فما يزعم أحد أنه يجريهما
.وما يقبل منطق الفطرة أن يجريا بل محرك ,يدبرهما بمثل هذا النظام الدقيق الذي ل يختل شعرة في
مليين السنين .وستجري الشمس وسيجري القمر (لجل مسمى) . .ل يعلمه إل ال سبحانه .
فمع القوة والقدرة والعزة ,هو غفار لمن يتوب إليه وينيب ,ممن يكذبون عليه ويكفرون به ,ويتخذون معه
آلهة ,ويزعمون له ولدا -وقد سبق حديثهم -والطريق امامهم مفتوح ليرجعوا إلى العزيز الغفار . .
ومن تلك اللفتة إلى آفاق الكون الكبير ,ينتقل إلى لمسة في أنفس العباد ; ويشير إلى آية الحياة القريبة منهم
في أنفسهم وفي النعام المسخرة لهم:
(خلقكم من نفس واحدة .ثم جعل منها زوجها .وأنزل لكم من النعام ثمانية أزواج .يخلقكم في بطون
أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلث .ذلكم ال ربكم له الملك .ل إله إل هو فأنى تصرفون ?).
وحين يتأمل النسان في نفسه .نفسه هذه التي لم يخلقها .والتي ل يعلم عن خلقها إل ما يقصه ال عليه .
وهي نفس واحدة .ذات طبيعة واحدة .وذات خصائص واحدة .خصائص تميزها عن بقية الخلئق ,كما
أنها تجمع كل أفرادها في إطار تلك الخصائص .فالنفس النسانية واحدة في جميع المليين المنبثين في
الرض في جميع الجيال وفي جميع البقاع .وزوجها كذلك منها .فالمرأة تلتقي مع الرجل في عموم
الخصائص البشرية -رغم كل اختلف في تفصيلت هذه الخصائص -مما يشي بوحدة التصميم الساسي
لهذا الكائن البشري .الذكر والنثى .ووحدة الرادة المبدعة لهذه النفس الواحدة بشقيها .
وعند الشارة إلى خاصية الزوجية في النفس البشرية ترد الشارة إلى هذه الخاصية في النعام كذلك .مما
يشي بوحدة القاعدة في الحياء جميعا:
ثم يعود -بعد هذه الشارة إلى وحدة خاصية الزوجية في الناس والنعام -إلى تتبع مراحل الخلق للجنة في
بطون أمهاتها:
من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام .إلى الخلق الواضح فيه عنصر البشرية .
ظلمة الكيس الذي يغلف الجنين .وظلمة الرحم الذي يستقر فيه هذا الكيس .وظلمة البطن الذي تستقر فيه
الرحم .ويد ال تخلق هذه الخلية الصغيرة خلقا من بعد خلق .وعين ال ترعى هذه الخليقة وتودعها القدرة
على النمو .والقدرة على التطور .والقدرة على الرتقاء .والقدرة على السير في تمثيل خطوات النفس
البشرية كما قدر لها بارئها .
وتتبع هذه الرحلة القصيرة الزمن ,البعيدة الماد ; وتأمل هذه التغيرات والطوار ; وتدبر تلك الخصائص
هذا كله من شأنه أن يقود القلب البشري إلى رؤية يد الخالق المبدع .رؤيتها بآثارها الحية الواضحة
الشاخصة واليمان بالوحدانية الظاهرة الثر في طريقة الخلق والنشأة .فكيف يصرف قلب عن رؤية هذه
الحقيقة ?:
وأمام هذه الرؤية الواضحة لية الوحدانية المطلقة ,وآية القدرة الكاملة ,يقفهم أمام أنفسهم .في مفرق
الطريق بين الكفر والشكر .وأمام التبعة الفردية المباشرة في اختيار الطريق .ويلوح لهم بنهاية الرحلة ,وما
ينتظرهم هناك من حساب ,يتوله الذي يخلقهم في ظلمات ثلث .والذي يعلم ما تكن صدورهم من خفايا
الصدور:
(إن تكفروا فإن ال غني عنكم .ول يرضى لعباده الكفر .وإن تشكروا يرضه لكم .ول تزر وازرة وزر
أخرى .ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون .إنه عليم بذات الصدور). .
إن هذه الرحلة في بطون المهات هي مرحلة في الطريق الطويل .تليها مرحلة الحياة خارج البطون .ثم
تعقبها المرحلة الخيرة مرحلة الحساب والجزاء .بتدبير المبدع العليم الخبير .
وال -سبحانه -غني عن العباد الضعاف المهازيل .إنما هي رحمته وفضله أن يشملهم بعنايته ورعايته .
وهم من هم من الضعف والهزال !
فإيمانكم ل يزيد في ملكه شيئا .وكفركم ل ينقص منه فتيلً .ولكنه ل يرضى عن كفر الكافرين ول يحبه:
وكل فرد مأخوذ بعمله ,محاسب على كسبه ; ول يحمل أحد عبء أحد .فلكل حمله وعبؤه:
والمرجع في النهاية إلى ال دون سواه ; ول مهرب منه ول ملجأ عند غيره:
في الجولة الولى لمس قلوبهم بعرض قصة وجودهم وخلقهم من نفس واحدة وتزويجها من جنسها ; وخلق
النعام أزواجا كذلك ; وخلقهم في بطون أمهاتهم في ظلمات ثلث .وأشعرهم يد ال تمنحهم خصائص جنسهم
البشري أول مرة ; ثم تمنحهم خصائص البقاء والرتقاء .
وهنا يلمس قلوبهم لمسة أخرى وهو يعرض عليهم صورتهم في الضراء وصورتهم في السراء ; ويريهم
تقلبهم وضعفهم وادعاءهم وقلة ثباتهم على نهج ; إل حين يتصلون بربهم ,ويتطلعون إليه ,ويقنتون له ,
فيعرفون الطريق ,ويعلمون الحقيقة ; وينتفعون بما وهبهم ال من خصائص النسان .
(وإذا مس النسان ضر دعا ربه منيبا إليه .ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل ,وجعل ل
أندادا ,ليضل عن سبيله .قل:تمتع بكفرك قليلً ,إنك من أصحاب النار). .
إن فطرة النسان تبرز عارية حين يمسه الضر ; ويسقط عنها الركام ; وتزول عنها الحجب ,وتتكشف عنها
الوهام ; فتتجه إلى ربها ,وتنيب إليه وحده ; وهي تدرك أنه ل يكشف الضر غيره .وتعلم كذب ما تدعي
من شركاء أو شفعاء .
فأما حين يذهب الضر ويأتي الرخاء ,ويخوله ال نعمة منه ,ويرفع عنه البلء .فإن هذا النسان الذي تعرت
فطرته عند مس الضر يعود فيضع عليها الركام ,وينسى تضرعه وإنابته وتوحيده لربه .وتطلعه إليه في
المحنة وحده ,حين لم يكن غيره يملك أن يدفع عنه محنته . .ينسى هذا كله ويذهب يجعل ل أندادا .إما آلهة
يعبدها كما كان في جاهليته الولى ; وإما قيما وأشخاصا وأوضاعا يجعل لها في نفسه شركة مع ال ,كما
يفعل في جاهلياته الكثيرة ! فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله وأولده وحكامه وكبراءه
كما يعبد ال أو أخلص عبادة ; ويحبها كما يحب ال أو أشد حبا ! والشرك ألوان .فيها الخفي الذي ل يحسبه
الناس شركا ,لنه ل يأخذ شكل الشرك المعروف وإنما هو من الشرك في الصميم .
وتكون العاقبة هي الضلل عن سبيل ال .فسبيل ال واحد ل يتعدد .وإفراده بالعبادة والتوجه والحب هو
وحده الطريق إليه .والعقيدة في ال ل تحتمل شركة في القلب .ل تحتمل شركة من مال ول ولد ول وطن
ولأرض ول صديق ول قريب ,فأيما شركة قامت في القلب من هذا وأمثاله فهي اتخاذ أنداد ل ,وضلل
عن سبيل ال ,منته إلى النار بعد قليل من المتاع في هذه الرض:
وكل متاع في هذه الرض قليل مهما طال .وأيام الفرد على هذه الرض معدودة مهما عمر .بل إن حياة
الجنس البشري كله على الرض لمتاع قليل ,حين يقاس إلى أيام ال !
وإلى جانب هذه الصورة النكدة من النسان ,يعرض صورة اخرى . .صورة القلب الخائف الوجل ,الذي
يذكر ال ول ينساه في سراء ول ضراء ; والذي يعيش حياته على الرض في حذر من الخرة ; وفي تطلع
إلى رحمة ربه وفضله ; وفي اتصال بال ينشأ عنه العلم الصحيح المدرك لحقائق الوجود:
أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ,يحذر الخرة ويرجو رحمة ربه ? قل:هل يستوي الذين يعلمون
والذين ل يعلمون ? إنما يتذكر أولو اللباب .
وهي صورة مشرقة مرهفة .فالقنوت والطاعة والتوجه -وهو ساجد وقائم -وهذه الحساسية المرهفة -
وهو يحذر الخرة ويرجو رحمة ربه -وهذا الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة .وتمنح القلب نعمة
الرؤية واللتقاط والتلقي . .هذه كلها ترسم صورة مشرقة وضيئة من البشر تقابل تلك الصورة النكدة
المطموسة التي رسمتها الية السابقة .فل جرم يعقد هذه الموازنة:
فالعلم الحق هو المعرفة .هو إدراك الحق .هو تفتح البصيرة .هو التصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود .
وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن ,ول تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى ,ول تمتد
وراء الظاهر المحسوس .
وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة . .هذا هو . .القنوت ل .وحساسية القلب ,
واستشعار الحذر من الخرة ,والتطلع إلى رحمة ال وفضله ; ومراقبة ال هذه المراقبة الواجفة الخاشعة . .
هذا هو الطريق ,ومن ثم يدرك اللب ويعرف ,وينتفع بما يرى وما يسمع وما يجرب ; وينتهي إلى الحقائق
الكبرى الثابتة من وراء المشاهدات والتجارب الصغيرة .فأما الذين يقفون عند حدود التجارب المفردة ,
والمشاهدات الظاهرة ,فهم جامعو معلومات وليسوا بالعلماء . .
إنما يتذكر أولو اللباب . .
وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المتفتحة المدركة لما وراء الظواهر من حقائق .المنتفعة بما ترى وتعلم
,التي تذكر ال في كل شيء تراه وتلمسه ول تنساه ,ول تنسى يوم لقاه . .
وبعد عرض هاتين الصورتين يتجه إلى الذين آمنوا يناديهم ليتقوا ويحسنوا ; ويتخذوا من حياتهم القصيرة على
هذه الرض وسيلة للكسب الطويل في الحياة الخرة:
(قل:يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم .للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة .وأرض ال واسعة .إنما يوفى
الصابرون أجرهم بغير حساب). .
وفي التعبير( :قل:يا عباد الذين آمنوا)التفاتة خاصة .فهو في الصل:قل لعبادي الذين آمنوا . .قل لهم:اتقوا
ربكم .ولكنه جعله يناديهم ,لن في النداء إعلنا وتنبيها .والرسول [ ص ] ل يقول لهم( :يا عبادي)فهم عباد
ال .فهناك هذه اللتفاتة في أثناء تكليفه بتبليغهم أن يناديهم باسم ال .فالنداء في حقيقته من ال .وما محمد [
ص ] إل مبلغ عنه للنداء .
والتقوى هي تلك الحساسية في القلب ,والتطلع إلى ال في حذر وخشية ,وفي رجاء وطمع ,ومراقبة غضبه
ورضاه في توفز وإرهاف . .إنها تلك الصورة الوضيئة المشرقة ,التي رسمتها الية السابقة لذلك الصنف
الخاشع القانت من عباد ال .
وما أجزل الجزاء ! حسنة في الدنيا القصيرة اليام الهزيلة المقام .تقابلها حسنة في الخرة دار البقاء والدوام
.ولكنه فضل ال على هذا النسان .الذي يعرف منه ضعفه وعجزه وضآلة جهده .فيكرمه ويرعاه !
(وأرض ال واسعة).
فل يقعد بكم حب الرض ,وإلف المكان ,وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها ,إذا
ضاقت بكم في دينكم ,وأعجزكم فيها الحسان .فإن اللتصاق بالرض في هذه الحالة مدخل من مداخل
الشيطان ; ولون من اتخاذ النداد ل في قلب النسان .
وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري ,في معرض الحديث عن توحيد ال وتقواه
,تنبىء عن مصدر هذا القرآن .فما يعالج القلب البشري هذا العلج إل خالقه البصير به ,العليم بخفاياه .
وال خالق الناس يعلم أن الهجرة من الرض عسيرة على النفس ,وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق ,
وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني النسان:ومن
ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند ال بل حساب:
فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب ,ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلج الشافي ,
وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة .ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والرض والهل
واللف عطاء من عنده بغير حساب . .فسبحان العليم بهذه القلوب ,الخبير بمداخلها ومساربها ,المطلع فيها
على خفي الدبيب .
هذا المقطع كله يظلله جو الخرة ,وظل الخوف من عذابها ,والرجاء في ثوابها .ويبدأ بتوجيه الرسول
[ ص ] إلى إعلن كلمة التوحيد الخالصة ; وإعلن خوفه -وهو النبي المرسل -من عاقبة النحراف عنها ,
وإعلن تصميمه على منهجه وطريقه ,وتركهم هم إلى منهجهم وطريقهم .وبيان عاقبة هذا الطريق وذاك ,
يوم يكون الحساب .
(قل:إني أمرت أن أعبد ال مخلصا له الدين ; وأمرت لن أكون أول المسلمين .قل:إني أخاف إن عصيت
ربي عذاب يوم عظيم). .
وهذا العلن من النبي [ ص ] بأنه مأمور أن يعبد ال وحده ,ويخلص له الدين وحده ; وأن يكون بهذا أول
المسلمين ; وأنه يخاف عذاب يوم عظيم إن هو عصى ربه . .هذا العلن ذو قيمة كبرى في تجريد عقيدة
التوحيد كما جاء بها السلم .فالنبي [ ص ] في هذا المقام هو عبد ل .هذا مقامه ل يتعداه .وفي مقام
العبادة يقف العبيد كلهم صفا ,وترتفع ذات ال سبحانه متفردة فوق جميع العباد . .وهذا هو المراد .
وعند ذلك يقر معنى اللوهية ,ومعنى العبودية ,ويتميزان ,فل يختلطان ول يشتبهان ,وتتجرد صفة
الوحدانية ل سبحانه بل شريك ول شبيه .وحين يقف محمد رسول ال [ ص ] في مقام العبودية ل وحده
يعلن هذا العلن ,ويخاف هذا الخوف من العصيان ,فليس هنالك مجال لدعوى شفاعة الصنام أو الملئكة
بعبادتهم من دون ال أو مع ال بحال من الحوال .
ومرة أخرى يكرر العلن مع الصرار على الطريق ,وترك المشركين لطريقهم ونهايته الليمة:
(قل:ال أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه .قل:إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم
القيامة .أل ذلك هو الخسران المبين). .
مرة أخرى يعلن:إنني ماض في طريقي .أخص ال بالعبادة ,وأخلص له الدينونة .فأما أنتم فامضوا في
الطريق التى تريدون ; واعبدوا ما شئتم من دونه .ولكن هنالك الخسران الذي ما بعده خسران .خسران
النفس التي تنتهي إلى جهنم .وخسران الهل سواء كانوا مؤمنين أم كافرين .فإن كانوا مؤمنين فقد خسرهم
المشركون لن هؤلء إلى طريق وهؤلء إلى طريق .وإن كانوا مشركين مثلهم فكلهم خسر نفسه بالجحيم . .
(أل ذلك هو الخسران المبين). .
ج َت َنبُوا
عبَادِ فَاتّقُونِ ( )16وَاّلذِينَ ا ْ
عبَادَهُ يَا ِ
ح ِت ِهمْ ظُلَلٌ ذَِلكَ ُيخَ ّوفُ اللّهُ ِبهِ ِ
َلهُم مّن فَ ْوقِ ِهمْ ظُلَلٌ مّنَ النّارِ َومِن َت ْ
سنَهُ ُأوَْل ِئكَ
حَستَ ِمعُونَ الْ َقوْلَ َفيَ ّت ِبعُونَ َأ ْ
ن َي ْ
عبَادِ ( )17اّلذِي َ
شرَى َف َبشّرْ ِ
ت أَن َي ْع ُبدُوهَا وََأنَابُوا إِلَى اللّهِ َل ُهمُ ا ْل ُب ْ
الطّاغُو َ
حقّ عََليْ ِه كَِلمَ ُة ا ْل َعذَابِ َأ َفأَنتَ تُن ِقذُ مَن فِي النّارِ ()19
اّلذِينَ َهدَا ُهمُ اللّهُ وَأُوَْل ِئكَ ُهمْ أُوْلُوا ا ْلأَ ْلبَابِ (َ )18أ َفمَنْ َ
(لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل .ذلك يخوف ال به عباده .يا عباد فاتقون). .
وهو مشهد رعيب حقا .مشهد النار في هيئة ظلل من فوقهم وظلل من تحتهم ,وهم في طيات هذه الظلل
المعتمة تلفهم وتحتوي عليهم .وهي من النار !
إنه مشهد رعيب .يعرضه ال لعباده وهم بعد في الرض يملكون أن ينأوا بأنفسهم عن طريقه .ويخوفهم
مغبته لعلهم يجتنبونه:
وعلى الضفة الخرى يقف الناجون ,الذين خافوا هذا المصير المشؤوم:
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ال لهم البشرى .فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون
أحسنه ,أولئك الذين هداهم ال .وأولئك هم أولو اللباب . .
والطاغوت صياغة من الطغيان ; نحو ملكوت وعظموت ورحموت .تفيد المبالغة والضخامة .والطاغوت
كل ما طغا وتجاوز الحد .والذين اجتنبوا عبادتها هم الذين اجتنبوا عبادة غير المعبود في أية صورة من
صور العبادة .وهم الذين أنابوا إلى ربهم .وعادوا إليه ,ووقفوا في مقام العبودية له وحده .
هؤلء (لهم البشرى)صادرة إليهم من المل العلى .والرسول [ ص ] يبلغها لهم بأمر ال( :فبشر عباد). .
إنها البشرى العلوية يحملها إليهم رسول كريم .وهذا وحده نعيم !
هؤلء من صفاتهم أنهم يستمعون ما يستمعون من القول ,فتلتقط قلوبهم أحسنه وتطرد ما عداه ,فل يلحق بها
ول يلصق إل الكلم الطيب ,الذي تزكو به النفوس والقلوب . .والنفس الطيبة تتفتح للقول الطيب فتتلقاه
وتستجيب له .والنفس الخبيثة ل تتفتح إل للخبيث من القول ول تستجيب إل له .
فقد علم ال في نفوسهم خيرا فهداهم إلى استماع أحسن القول والستجابة له .والهدى هدى ال .
فالعقل السليم هو الذي يقود صاحبه إلى الزكاة ,وإلى النجاة .ومن ل يتبع طريق الزكاة والنجاة فكأنه مسلوب
العقل محروم من هذه النعمة التي أعطاها له ال .
وقبل أن يعرض مشهد هؤلء في نعيمهم في الخرة يقرر أن عبدة الطاغوت قد وصلوا فعلً إلى النار .وأن
أحدا ل يملك أن ينقذهم من هذه النار:
(أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ?). .
والخطاب لرسول ال [ ص ] وإذا كان هو ل يملك إنقاذهم من النار التي هم فيها فمن يملكها إذن سواه ?
وأمام مشهد هؤلء في النار -وكأنهم فيها فعل الن .ما دام قد حق عليهم العذاب -يعرض مشهد الذين
اتقوا
(لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية ,تجري من تحتها النهار .وعد ال .ل يخلف ال
الميعاد). .
ومشهد الغرف المبنية ,من فوقها غرف ,تجري النهار من تحتها . .هذا المشهد يتقابل مع مشهد ظلل النار
هناك من فوقهم ومن تحتهم .هذا التقابل الذي ينسقه التعبير القرآني وهو يرسم المشاهد للنظار .
ولقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة .عاشوا هذه المشاهد فعلً وواقعا .فلم تكن في نفوسهم
وعدا أو وعيدا يتلقونهما من مستقبل بعيد .إنما كان هذا وذلك واقعا تشهده قلوبهم وتحسه وتراه .وتتأثر
وترتعش وتستجيب لمرآه .ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول ; وتكيفت حياتهم على هذه الرض بذلك
الواقع الخروي ,الذي كانوا يعيشونه ويحيون به وهم بعد في الحياة ! وهكذا ينبغي أن يتلقى المسلم وعد ال
.
الوحدة الرابعة 29 - 21:الموضوع شرح الصدر للسلم والقرآن ومشهد لعذاب الكفار يوم القيامة
(ألم تر أن ال أنزل من السماء ماء ,فسلكه ينابيع في الرض ,ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ,ثم يهيج
فتراه مصفرا ,ثم يجعله حطاما ? إن في ذلك لذكرى لولي اللباب).
إن هذه الظاهرة التي يوجه القرآن إليها النظار للتأمل والتدبر ,ظاهرة تتكرر في أنحاء الرض ,حتى
لتذهب اللفة بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها .والقرآن يوجه النظر إلى رؤية يد ال
وتتبع آثارها في كل خطوة من خطوات الحياة .
فهذا الماء النازل من السماء . .ما هو وكيف نزل ? إننا نمر بهذه الخارقة سراعا لطول اللفة وطول التكرار
.إن خلق الماء في ذاته خارقة .ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتي أيدروجين بذرة أكسوجين تحت
ظروف معينة ,فإن هذه المعرفة خليقة بأن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد ال التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد
اليدروجين ويوجد الكسوجين وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما ,وبوجود الماء من هذا التحاد .ومن
ثم وجود الحياة في هذه الرض .ولول الماء ما وجدت حياة .إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود
الماء ووجود الحياة .وال من وراء هذا التدبير ,وكله مما صنعت يداه . .ثم نزول هذا الماء بعد وجوده
وهو الخر خارقة جديدة ,ناشئة من قيام الرض والكون على هذا النظام الذي يسمح بتكون الماء ونزوله
وفق تدبير ال .
سواء في ذلك النهار الجارية على سطح الرض ; أو النهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه
السطحية ,ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيونا ,أو يتكشف آبارا .ويد ال تمسكه فل يذهب في الغوار البعيدة
التي ل يظهر منها أبدا !
(ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه). .
والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه ; خارقة يقف أمامها جهد النسان حسيرا .ورؤية النبتة
الصغيرة وهي تشق حجاب الرض عنها ; وتزيح أثقال الركام من فوقها ; وتتطلع إلى الفضاء والنور
والحرية ; وهي تصعد إلى الفضاء رويدا رويدا . .هذه الرؤية كفيلة بأن تمل القلب المفتوح ذكرى ; وأن
تثير فيه الحساس بال الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .والزرع المختلف اللوان في
البقعة الواحدة .بل في النبتة الواحدة .بل في الزهرة الواحدة إن هو إل معرض لبداع القدرة ; يُشعر
النسان بالعجز المطلق عن التيان بشيء منه أصلً !
هذا الزرع النامي اللدن الرخص الطري بالحياة ,يبلغ تمامه ,ويستوفي أيامه:
وقد بلغ غايته المقدرة له في ناموس الوجود ,وفي نظام الكون ,وفي مراحل الحياة ,فينضج للحصاد:
وقد استوفى أجله ,وأدى دوره ,وأنهى دورته كما قدر له واهب الحياة . .
(أفمن شرح ال صدره للسلم فهو على نور من ربه ? فويل للقاسية قلوبهم من ذكر ال .أولئك في ضلل
مبين .ال نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ; ثم تلين جلودهم
وقلوبهم إلى ذكر ال .ذلك هدى ال يهدي به من يشاء ; ومن يضلل ال فما له من هاد). .
وكما ينزل الماء من السماء فينبت لهم به زرعا مختلفا ألوانه كذلك ينزل من السماء ذكرا تتلقاه القلوب الحية ;
فتتفتح وتنشرح وتتحرك حركة الحياة ,وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقاه الصخرة القاسية التي ل حياة فيها ول
نداوة !
وال يشرح للسلم قلوبا يعلم منها الخير ,ويصلها بنوره فتشرق به وتستضيء .والفرق بين هذه القلوب
وقلوب آخرى قاسية فرق بعيد ( .فويل للقاسية قلوبهم من ذكر ال). .
(أولئك في ضلل مبين). .
وهذه الية تصور حقيقة القلوب التي تتلقى السلم فتنشرح له وتندى به .وتصور حالها مع ال .حال
النشراح والتفتح والنداوة والبشاشة ,والشراق والستنارة .كما تصور حقيقة القلوب الخرى في قساوتها
وغلظتها وموتها وجفافها ,وعتمتها وظلمها .ومن يشرح ال صدره للسلم ويمد له من نوره ,ليس قطعا
كالقاسية قلوبهم من ذكر ال .وشتان شتان بين هؤلء وهؤلء .
كذلك تصور الية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن .هذا الكتاب المتناسق الذي ل اختلف في طبيعته
ول في اتجاهاته ,ول في روحه ,ول في خصائصه .فهو(متشابه)وهو(مثاني)تكرر مقاطعه وقصصه
وتوجيهاته ومشاهده .ولكنها ل تختلف ول تتعارض ,إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في
العادة والتكرار .في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة .ل تعارض فيها ول اصطدام .
والذين يخشون ربهم ويتقونه ,ويعيشون في حذر وخشية ,وفي تطلع ورجاء ,يتلقون هذا الذكر في وجل
وارتعاش ,وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود ; ثم تهدأ نفوسهم ,وتأنس قلوبهم بهذا الذكر فتلين جلودهم
وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر ال . .
وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات ,فتكاد تشخص فيها الحركات .
فما ترتعش القلوب هكذا إل حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والستجابة والشراق .وال يعلم من
حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلل:
فهو يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلل ,التي ل تقبل الهدى ول تجنح إليه بحال .
ثم يعرض ما ينتظر أهل الضلل يوم القيامة في مشهد بائس في موعد حصاد العمال !
(أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ? وقيل للظالمين:ذوقوا ما كنتم تكسبون). .
والنسان يقي وجهه عادة بيديه وجسمه .فأما هنا فهو ل يملك أن يدفع عن نفسه النار بيديه ول برجليه ,
فيدفعها بوجهه ,ويتقي به سوء العذاب .مما يدل على الهول والشدة والضطراب .وفي زحمة هذا العذاب
يتلقى التأنيب ,وتدفع إليه حصيلة حياته ويا لها من حصيلة( :وقيل للظالمين:ذوقوا ما كنتم تكسبون)!
ويلتفت من هذا المشهد إلى الحديث عن المكذبين الذين يواجهون محمدا [ ص ] ليعرض عليهم ما جرى
للمكذبين قبلهم لعلهم يتداركون أنفسهم:
(كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث ل يشعرون .فأذاقهم ال الخزي في الحياة الدنيا ,ولعذاب
الخرة أكبر لو كانوا يعلمون). .
فهذه حال المكذبين في الدنيا والخرة .في الدنيا أذاقهم ال الخزي .وفي الخرة ينتظرهم العذاب الكبر .
وسنة ال ماضية ل تتخلف .ومصارع القرون من قبلهم شاهدة .ووعيد ال لهم في الخرة قائم .والفرصة
أمامهم سانحة .وهذا الذكر لمن يتعظ ويذكر (لو كانوا يعلمون)!
(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ,قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون .
ل سلما لرجل ,هل يستويان مثلً ? الحمد ل بل أكثرهم ل
ضرب ال مثلً رجلً فيه شركاء متشاكسون ورج ً
يعلمون). .
يضرب ال المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضا فيه ,وهو بينهم موزع
; ولكل منهم فيه توجيه ,ولكل منهم عليه تكليف ; وهو بينهم حائر ل يستقر على نهج ول يستقيم على طريق
; ول يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه ! وعبد يملكه سيد
واحد ,وهو يعلم ما يطلبه منه ,ويكلفه به ,فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح . .
إنهما ل يستويان .فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الستقامة والمعرفة واليقين .وتجمع الطاقة ووحدة
التجاه ,ووضوح الطريق .والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل ل يستقر على حال ول يرضي
واحدا منهم فضلً على أن يرضي الجميع !
وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الحوال .فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب
الذي يقطع الرحلة على هذه الرض على هدى ,لن بصره أبدا معلق بنجم واحد على الفق فل يلتوي به
الطريق .ولنه يعرف مصدرا واحدا للحياة والقوة والرزق ,ومصدرا واحدا للنفع والضر ,ومصدرا واحدا
للمنح والمنع ,فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد ,يستمد منه وحده ,ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته
.ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد ل يزوغ عنه بصره .ويخدم سيدا واحدا يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا
يغضبه فيتقيه . .وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد ,فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الرض
متطلع إلى إله واحد في السماء . .
ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي ,بالحمد ل الذي اختار لعباده الراحة والمن والطمأنينة والستقامة
وهذا مثل من المثلة التي يضربها القرآن للناس لعلهم يتذكرون .وهو قرآن عربي ,مستقيم ,واضح ,ل
لبس فيه ول عوج ول انحراف .يخاطب الفطرة بمنطقها القريب المفهوم .
هذا المقطع تعقيب على ما قبله فبعد أن عرض آية الماء النازل من السماء ,وآية الزرع الذي يخرج بهذا
الماء ,وآية الكتاب النازل من عند ال ; وأشار إلى ما يضربه في القرآن من المثال (ولكن أكثرهم ل
يعلمون)عقب على هذا بأن أمر النبي [ ص ] وأمرهم موكول إلى ال ; وأنه هو الذي يحكم بينهم بعد الموت ,
فيجازي الكاذبين المكذبين بما يستحقون ; ويجازي الصادقين المصدقين جزاء المحسنين .
(إنك ميت وإنهم ميتون ,ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون). .
إنه الموت نهاية كل حي ; ول يتفرد بالبقاء إل ال وفي الموت يستوي كل البشر بما فيهم محمد رسول ال
[ ص ] وذكر هذه الحقيقة هنا حلقة من حلقات التوحيد الذي تقرره السورة كلها وتؤكده .ثم يلي ذلك تقرير ما
بعد الموت .فالموت ليس نهاية المطاف .إنما هو حلقة لها ما بعدها من حلقات النشأة المقدرة المدبرة ,التي
ليس شيء منها عبثا ول سدى .فيوم القيامة يختصم العباد فيما كان بينهم من خلف .ويجيء رسول ال
[ ص ] أمام ربه ويوقف القوم للخصومة فيما كانوا يقولونه ويأتونه ,ويواجهون به ما أنزل ال إليهم من
الهدى .
(فمن أظلم ممن كذب على ال وكذب بالصدق إذ جاءه ? أليس في جهنم مثوى للكافرين ?)
سؤال للتقرير .فليس هنالك من هو أظلم ممن كذب على ال فزعم أن له بنات وأنه له شركاء ; وكذب
بالصدق الذي جاء به رسوله ; فلم يصدق بكلمة التوحيد .إنه الكفر .وفي جهنم مثوى للكافرين .على سبيل
التقرير الذي يرد في صورة سؤال لزيادة اليضاح والتوكيد .
هذا طرف من الخصومة فأما الطرف الخر فهو الذي جاء بالصدق من عند ال .وصدق به فبلغه عن عقيدة
واقتناع .ويشترك مع رسول ال [ ص ] في هذه الصفة كل الرسل قبله .كما يشاركه فيها كل
سنِينَ ()34
حِجزَاء ا ْل ُم ْ
ص ّدقَ بِ ِه أُوَْل ِئكَ ُه ُم ا ْل ُمتّقُونَ (َ )33لهُم مّا َيشَاءُونَ عِندَ َر ّب ِهمْ ذَِلكَ َ
ص ْدقِ َو َ
وَاّلذِي جَاء بِال ّ
حسَنِ اّلذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()35
جرَهُم ِبَأ ْ
عمِلُوا َو َيجْ ِز َي ُهمْ َأ ْ
ع ْن ُهمْ َأسْوََأ اّلذِي َ
ِل ُيكَ ّفرَ اللّهُ َ
من دعا إلى هذا الصدق وهو مقتنع به مؤمن بأنه الحق ,يشارك قلبه لسانه فيما يدعو إليه ( . .أولئك هم
المتقون). .
وهو تعبير جامع ,يشمل كل ما يخطر للنفس المؤمنة من رغائب ,ويقرر أن هذا(لهم)عند ربهم ,فهو حقهم
الذي ل يخيب ول يضيع ( . .ذلك جزاء المحسنين). .
ذلك ليحقق ال ما أراده لهم من خير ومن كرامة ,ومن فضل يزيد على العدل يعاملهم به ,متفضلً محسنا:
(ليكفر ال عنهم أسوأ الذي عملوا ; ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون). .
والفضل هو هذا الذي يتجلى به ال على عباده المتقين هؤلء أن يكفر عنهم أسوأ أعمالهم فل يبقى لها حساب
في ميزانهم .وأن يجزيهم أجرهم بحساب الحسن فيما كانوا يعملون ,فتزيد حسناتهم وتعلو وترجح في
الميزان .
إنه فضل ال يؤتيه من يشاء .كتبه ال على نفسه بوعده .فهو واقع يطمئن إليه المتقون المحسنون . .
هذه الجولة أوسع مقاطع السورة .وهي تتناول حقيقة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة .تبدأ
بتصوير حقيقة القلب المؤمن وموقفه بإزاء قوى الرض واعتداده بالقوة الوحيدة ; واعتماده عليها دون مبالة
بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة .ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية ويكل أمره وأمر المجادلين له
إلى ال يوم القيامة ويمضي في طريقه ثابتا واثقا مستيقنا بالمصير .
يتلو هذا بيان وظيفة الرسول [ ص ] وأنه ليس وكيلً على العباد في هداهم وضللهم .إنما ال هو المسيطر
عليهم ; الخذ بناصيتهم في كل حالة من حالتهم .وليس لهم من دونه شفيع فإن ل الشفاعة جميعا .وإليه
ملك السماوات والرض .وإليه المرجع والمصير .
ثم يصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد وانبساطها عند ذكر كلمة الشرك .ويعقب على
هذا بدعوة الرسول [ ص ] إلى إعلن كلمة التوحيد خالصة ,وترك أمر المشركين ل .ويصورهم يوم القيامة
وهم يودون لو يفتدون بملء الرض ومثله معه .وقد تكشف لهم من ال ما يذهل ويخيف !
ذلك .وهم يدعون ال وحده إذا أصابهم الضر .فإذا وهبهم منه نعمة ادعوا دعاوى عريضة وقال قائلهم:إنما
أوتيته على علم عندي ! الكلمة التي قالها الذين من قبلهم فأخذهم ال القادر على أن يأخذ هؤلء .وما هم
بمعجزين .وما كان بسط الرزق وقبضه إل سنة من سنن ال ,تجري وفق حكمته وتقديره وهو وحده الباسط
القابض :إن في ذلك ليات لقوم يؤمنون . .
(أليس ال بكاف عبده ? ويخوفونك بالذين من دونه .ومن يضلل ال فما له من هاد .ومن يهد ال فما له من
مضل .أليس ال بعزيز ذي انتقام ? ولئن سألتهم من خلق السماوات والرض ليقولن ال .قل:أفرأيتم ما
تدعون من دون ال ,إن أرادني ال بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات
رحمته ? قل:حسبي ال ,عليه يتوكل المتوكلون .قل:يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون
من يأتيه عذابيخزيه ويحل عليه عذاب مقيم). .
هذه اليات الربع تصور منطق اليمان الصحيح ,في بساطته وقوته ,ووضوحه ,وعمقه .كما هو في قلب
رسول ال [ ص ] وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالة ,وكل قائم بدعوة .وهي وحدها دستوره
الذي يغنيه ويكفيه ,ويكشف له الطريق الواصل الثابت المستقيم .
وقد ورد في سبب نزولها أن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول ال [ ص ] من آلهتهم ,ويحذرونه من
غضبها ,وهو يصفها بتلك الوصاف المزرية بها ,ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالذى . . .
ولكن مدلول هذه اليات أوسع وأشمل .فهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل ما في الرض
من قوى مضادة .كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن ,بعد وزن هذه القوى بميزانها
الصحيح .
بلى ! فمن ذا يخيفه ,وماذا يخيفه ? إذا كان ال معه ? وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا
المقام ? ومن ذا يشك في كفاية ال لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده ?
فكيف يخاف ? والذين من دون ال ل يخيفون من يحرسه ال .وهل في الرض كلها إل من هم دون ال ?
إنها قضية بسيطة واضحة ,ل تحتاج إلى جدل ول كد ذهن . .إنه ال .ومَن هم دون ال .وحين يكون هذا
هو الموقف ل يبقى هنالك شك ول يكون هناك اشتباه .
وإرادة ال هي النافذة ومشيئته هي الغالبة .وهو الذي يقضي في العباد قضاءه .في ذوات أنفسهم ,وفي
حركات قلوبهم ومشاعرهم:
وهو يعلم من يستحق الضللة فيضله ,ومن يستحق الهدى فيهديه .فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فل مبدل
لما يشاء .
ل بما يستحق .وإنه لينتقم ممن يستحق النتقام .فكيف يخشى أحدا
بلى .وإنه لعزيز قوي .وإنه ليجازي ك ً
أو شيئا من يقوم بحق العبودية له ,وهو كافله وكافيه ?
ثم يقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى منتزعة من منطقهم هم أنفسهم ,ومن واقع ما يقررونه من حقيقة ال
في فطرتهم:
(ولئن سألتهم من خلق السماوات والرض ? ليقولن ال .قل .أفرأيتم ما تدعون من دون ال إن أرادني ال
بضر هل هن كاشفات ضره ? أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ? قل:حسبي ال عليه يتوكل
المتوكلون). .
لقد كانوا يقررون -حين يسألون -أن ال هو خالق السماوات والرض .وما تملك فطرة أن تقول غير هذا
,وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السماوات والرض إل بوجود إرادة عليا .فهو يأخذهم ويأخذ العقلء جميعا
بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة . .إذا كان ال هو خالق السماوات والرض .فهل يملك أحد أو شيء في هذه
ضرّ
ن َأرَا َد ِنيَ اللّهُ ِب ُ
ن اللّ ِه إِ ْ
ن اللّهُ قُلْ َأفَرََأ ْيتُم مّا َتدْعُونَ مِن دُو ِ
سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضَ َليَقُولُ ّ
ن خََلقَ ال ّ
سأَ ْلتَهُم مّ ْ
وََلئِن َ
حسْ ِبيَ اللّهُ عََليْ ِه َيتَ َوكّلُ ا ْل ُمتَ َوكّلُونَ ()38
ل َ
ح َمتِهِ قُ ْ
ل هُنّ ُم ْمسِكَاتُ َر ْ
حمَةٍ هَ ْ
ت ضُرّ ِه أَ ْو َأرَادَنِي ِب َر ْ
هَلْ ُهنّ كَاشِفَا ُ
عذَابٌ مّقِيمٌ
خزِيهِ َو َيحِلّ عََليْهِ َ
عذَابٌ ُي ْ
عمَلُوا عَلَى َمكَا َن ِت ُكمْ ِإنّي عَامِلٌ َفسَ ْوفَ َتعَْلمُونَ ( )39مَن َي ْأتِيهِ َ
قُلْ يَا قَ ْومِ ا ْ
حقّ َفمَنِ ا ْه َتدَى فَِلنَ ْفسِهِ َومَن ضَلّ َفإِ ّنمَا َيضِلّ عََل ْيهَا َومَا أَنتَ عََل ْيهِم
ك ا ْل ِكتَابَ لِلنّاسِ بِا ْل َ
(ِ )40إنّا أَنزَ ْلنَا عََل ْي َ
سكُ اّلتِي َقضَى عََل ْيهَا ا ْلمَوْتَ َو ُي ْرسِلُ
بِ َوكِيلٍ ( )41اللّ ُه َيتَ َوفّى ا ْلأَنفُسَ حِينَ مَ ْو ِتهَا وَاّلتِي َلمْ َتمُتْ فِي َمنَا ِمهَا َفيُ ْم ِ
ن فِي ذَِلكَ لَآيَاتٍ لّ َق ْومٍ َيتَ َف ّكرُونَ ()42
سمّى إِ ّ
ل ُم َ
ا ْلُأخْرَى إِلَى َأجَ ٍ
السماوات والرض أن يكشف ضرا أراد ال أن يصيب به عبدا من عباده ? أم يملك أحد أو شيء في هذه
السماوات والرض أن يحبس رحمة أراد ال أن تنال عبدا من عباده ?
والجواب القاطع:أن ل . .فإذا تقرر هذا فما الذي يخشاه داعية إلى ال ? ما الذي يخشاه وما الذي يرجوه ?
وليس أحد بكاشف الضر عنه ? وليس أحد بمانع الرحمة عنه ? وما الذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن
طريقه ?
إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى المر بالنسبة إليه .وقد انقطع الجدل .وانقطع الخوف
وانقطع المل .إل في جناب ال سبحانه .فهو كاف عبده وعليه يتوكل وحده:
ثم إنها الطمأنينة بعد هذا والثقة واليقين .الطمأنينة التي ل تخاف .والثقة التي ل تقلق .واليقين الذي ل
يتزعزع .والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق:
قل:يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل .فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم . .
يا قوم اعملوا على طريقكم وعلى حالكم .إني ماض في طريقي ل أميل ول أخاف ول أقلق .وسوف تعلمون
من يأتيه عذاب يخزيه في الدينا ,ويحل عليه عذاب مقيم في الخرة . .
لقد قضي المر بعد عرض الحقيقة البسيطة التي تنطق بها الفطرة ويشهد بها الوجود . .إن ال هو خالق
السماوات والرض .القاهر فوق السماوات والرض .وهو صاحب هذه الدعوة التي يحملها الرسل ويتولها
الدعاة .فمن ذا في السماوات والرض يملك لرسله شيئا أو لدعاته ? ومن ذا يملك أن يدفع عنهم ضرا أو
يمسك عنهم رحمة ? وإذا لم يكن .فماذا يخشون وماذا يرجون عند غير ال ?
أل لقد وضح المر ولقد تعين الطريق ; ولم يعد هناك مجال لجدال أو محال !
تلك حقيقة الوضع بين رسل ال وسائر قوى الرض التي تقف لهم في الطريق .فما حقيقة وظيفتهم وما
شأنهم مع المكذبين ?
إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق .فمن اهتدى فلنفسه ,ومن ضل فإنما يضل عليها .وما أنت عليهم بوكيل
.ال يتوفى النفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ,فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الخرى
إلى أجل مسمى .إن في ذلك ليات لقوم يتفكرون .أم اتخذوا من دون ال شفعاء ? قل:أو لو كانوا ل يملكون
شيئا ول يعقلون ? قل:ل الشفاعة جميعا .له ملك السماوات والرض ,ثم إليه ترجعون . .
(إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق) . .الحق في طبيعته .والحق في منهجه .والحق في شريعته .الحق
الذي تقوم عليه السماوات والرض ; ويلتقي عليه نظام البشرية في هذا الكتاب ونظام الكون كله في تناسق .
هذا الحق نزل(للناس)ليهتدوا به ويعيشوا معه ويقوموا عليه .وأنت مبلغ .وهم بعد ذلك وما يشاءون لنفسهم
من هدى أو ضلل ,ومن نعيم أو عذاب .فكل مورد نفسه ما يشاء ; وما أنت بمسيطر عليهم ول بمسؤول
عنهم:
(فمن اهتدى فلنفسه ,ومن ضل فإنما يضل عليها ,وما أنت عليهم بوكيل). .
إنما الوكيل عليهم هو ال .وهم في قبضته في صحوهم ونومهم وفي كل حالة من حالتهم ,وهو يتصرف
بهم كما يشاء:
فال يستوفي الجال للنفس التي تموت .وهو يتوفاها كذلك في منامها -وإن لم تمت بعد -ولكنها في النوم
متوفاة إلى حين .فالتي حان أجلها يمسكها فل تستيقظ .والتي لم يحن أجلها بعد يرسلها فتصحو .إلى أن
يحل أجلها المسمى .فالنفس في قبضته دائما في صحوها ونومها .
إنهم هكذا في قبضة ال دائما .وهو الوكيل عليهم .ولست عليهم بوكيل .وإنهم إن يهتدوا فلنفسهم وإن
يضلوا فعليها .وإنهم محاسبون إذن وليسوا بمتروكين . .فماذا يرجون إذن للفكاك والخلص ?
أم اتخذوا من دون ال شفعاء ? قل:أو لو كانوا ل يملكون شيئا ول يعقلون ? قل:ل الشفاعة جميعا .له ملك
السماوات والرض ,ثم إليه ترجعون . .
وهو سؤال للتهكم والسخرية من زعمهم أنهم يعبدون تماثيل الملئكة ليقربوهم إلى ال زلفى ! (أو لو كانوا ل
يملكون شيئا ول يعقلون ?) . .يعقبه تقرير جازم بأن ل الشفاعة جميعا .فهو الذي يأذن بها لمن يشاء على يد
من شاء .فهل مما يؤهلهم للشفاعة أن يتخذوا من دون ال شركاء ?!
(له ملك السماوات والرض) . .فليس هنالك خارج على إرادته في هذا الملك ( . .ثم إليه ترجعون) . .فل
مهرب ول مفر من الرجوع إليه وحده في نهاية المطاف . .
وفي هذا الموقف الذي يتفرد فيه ال سبحانه بالملك والقهر يعرض كيف هم ينفرون من كلمة التوحيد ويهشون
لكلمة الشرك ,الذي ينكره كل ما حولهم في الوجود:
(وإذا ذكر ال وحده اشمأزت قلوب الذين ل يؤمنون بالخرة ,وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون).
والية تصف واقعة حال على عهد النبي [ ص ] حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم ;
وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد .ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والزمان .
فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى ال وحده إلها ,وإلى شريعة ال وحدها قانونا ,
وإلى منهج ال وحده نظاما .حتى إذا ذكرت المناهج الرضية والنظم الرضية والشرائع الرضية هشوا
وبشوا ورحبوا بالحديث ,وفتحوا صدورهم للخذ والرد .هؤلء هم بعينهم الذين يصور ال نموذجا منهم في
هذه الية ,وهم بذاتهم في كل زمان ومكان .هم الممسوخو الفطرة ,المنحرفو الطبيعة ,الضالون المضلون ,
مهما تنوعت البيئات والزمنة ,ومهما تنوعت الجناس والقوام .
والجواب على هذا المسخ والنحراف والضلل هو ما لقنه ال لرسوله [ ص ] في مواجهة مثل هذه الحال:
(قل:اللهم فاطر السماوات والرض ,عالم الغيب والشهادة ,أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون). .
إنه دعاء الفطرة التي ترى السماء والرض ; ويتعذر عليها أن تجد لها خالقا إل ال فاطر السماوات والرض
,فتتجه إليه بالعتراف والقرار .وتعرفه بصفته اللئقة بفاطر السماوات والرض ( .عالم الغيب
والشهادة)المطلع
جمِيعا َو ِمثْلَ ُه َمعَهُ لَا ْف َتدَوْا ِبهِ مِن سُو ِء ا ْل َعذَابِ َي ْومَ الْ ِقيَامَةِ َو َبدَا َلهُم مّنَ اللّهِ مَا
ض َ
ن ظََلمُوا مَا فِي ا ْلَأرْ ِ
وََلوْ َأنّ لِّلذِي َ
ستَ ْه ِزئُون (َ )48فِإذَا مَسّ ا ْلإِنسَانَ
سبُوا َوحَاقَ ِبهِم مّا كَانُوا بِ ِه َي ْ
س ّيئَاتُ مَا َك َ
سبُونَ (َ )47و َبدَا َل ُهمْ َ
ح َت ِ
َلمْ َيكُونُوا َي ْ
ل ِهيَ ِف ْتنَةٌ وََلكِنّ َأ ْك َثرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ ()49
ضُرّ َدعَانَا ُثمّ ِإذَا خَوّ ْلنَاهُ ِن ْعمَ ًة ّمنّا قَالَ ِإ ّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِ ْلمٍ بَ ْ
على الغائب والحاضر ,والباطن والظاهر ( .أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون) . .فهو وحده
الحكم يوم يرجعون إليه .وهم ل بد راجعون .
وبعد هذا التلقين يعرض حالهم المفزعة يوم يرجعون للحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون:
ولو أن للذين ظلموا ما في الرض جميعا ومثله معه لفتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ,وبدا لهم من ال
ما لم يكونوا يحتسبون .وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . .
إنه الهول الملفوف في ثنايا التعبير الرهيب .فلو أن لهؤلء الظالمين -الظالمين بشركهم وهو الظلم العظيم -
لو أن لهؤلء (ما في الرض جميعا) . .مما يحرصون عليه وينأون عن السلم اعتزازا به ( .ومثله معه). .
لقدموه فدية مما يرون من سوء العذاب يوم القيامة . .
وهول آخر يتضمنه التعبير الملفوف( :وبدا لهم من ال ما لم يكونوا يحتسبون). .
ول يفصح عما بدا لهم من ال ولم يكونوا يتوقعونه .ل يفصح عنه ولكنه هكذا هائل مذهل مخيف . .فهو ال
.ال الذي يبدو منه لهؤلء الضعاف ما ل يتوقعون ! هكذا بل تعريف ول تحديد ! .
وبدا لهم سيئات ما كسبوا ,وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . .
وهذه كذلك تزيد الموقف سوءا .حين يتكشف لهم قبح ما فعلوا وحين يحيط بهم ما كانوا به يستهزئون من
الوعيد والنذير .وهم في ذلك الموقف الليم الرعيب . .
وبعد هذا المشهد المعترض لبيان حالهم يوم يرجعون إلى ال الذي به يشركون ,والذي تشمئز قلوبهم حين
يذكر وحده ,وتستبشر حينما تذكر آلهتهم المدعاة .بعد هذا يعود إلى تصوير حالهم العجيب .فهم ينكرون
وحدانية ال .فأما حين يصيبهم الضر فهم ل يتوجهون إل له وحده ضارعين منيبين .حتى إذا تفضل عليهم
وأنعم راحوا يتبجحون وينكرون:
(فإذا مس النسان ضر دعانا .ثم إذا خولناه نعمة منا ,قال:إنما أوتيته على علم .بل هي فتنة ولكن أكثرهم
ل يعلمون). .
والية تصور نموذجا مكررا للنسان ,ما لم تهتد فطرته إلى الحق ,وترجع إلى ربها الواحد ,وتعرف
الطريق إليه ,فل تضل عنه في السراء والضراء .
إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الهواء والشهوات ,ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق
الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود .فعندئذ ترى ال وتعرفه وتتجه إليه وحده .حتى إذا مرت الشدة وجاء
الرخاء ,نسي هذا النسان ما قاله في الضراء ,وانحرفت فطرته بتأثير الهواء .وقال عن النعمة والرزق
والفضل( :إنما أوتيته على علم) . .قالها قارون ,وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق
له من مال أو سلطان .غافلً عن مصدر النعمة ,وواهب العلم والقدرة ,ومسبب السباب ,ومقدر الرزاق .
هي فتنة للختبار والمتحان .ليتبين إن كان سيشكر أو سيكفر ; وإن كان سيصلح بها أم سيفسد ; وإن كان
سيعرف الطريق أم يجنح إلى الضلل .
ن ظََلمُوا ِمنْ
سبُوا وَاّلذِي َ
س ّيئَاتُ مَا َك َ
ع ْنهُم مّا كَانُوا َي ْكسِبُونَ (َ )50فأَصَا َبهُمْ َ
غنَى َ
قَدْ قَاَلهَا اّلذِينَ مِن َقبِْل ِهمْ فَمَا َأ ْ
سطُ ال ّرزْقَ ِلمَن َيشَاءُ َويَ ْق ِدرُ إِنّ
س ّيئَاتُ مَا َكسَبُوا َومَا هُم ِب ُم ْعجِزِينَ (َ )51أوََلمْ َيعَْلمُوا َأنّ اللّهَ َي ْب ُ
سيُصِي ُبهُمْ َ
هَؤُلَاء َ
ك لَآيَاتٍ لّ َق ْومٍ يُ ْؤ ِمنُونَ ()52
فِي ذَِل َ
والقرآن -رحمة بالعباد -يكشف لهم عن السر ,وينبههم إلى الخطر ,ويحذرهم الفتنة .فل حجة لهم ول
عذر بعد هذا البيان .
وهو يلمس قلوبهم بعرض مصارع الغابرين قبلهم .مصارعهم بمثل هذه الكلمة الضالة التي يقولها قائلهم:
(إنما أوتيته على علم). .
(قد قالها الذين من قبلهم ,فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون .فأصابهم سيئات ما كسبوا .والذين ظلموا من
هؤلء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين). .
هي ذاتها هذه الكلمة الضالة قالها الذين من قبلهم ,فانتهت بهم إلى السوء والوبال .ولم يغن عنهم علمهم ول
مالهم ول قوتهم شيئا .وهؤلء سيصيبهم ما أصاب الغابرين .فسنة ال ل تتبدل (وما هم بمعجزين) . .فال
ل يعجزه خلقه الضعاف المهازيل !
فأما ما أعطاهم ال من نعمة ,وما وهبهم من رزق ,فإنه يتبع إرادة ال وفق حكمته وتقديره في بسط الرزق
وقبضه ,ليبتلي عباده ,ولينفذ مشيئته كما يريد:
أو لم يعلموا أن ال يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ? إن في ذلك ليات لقوم يؤمنون . .فل يجعلوا آيات ال
سببا في الكفر والضلل .وهي جاءت للهدى واليمان . .
ولما صور ال الحال المفزعة التي يكون عليها الظالمون يوم القيامة في قوله :ولو أن للذين ظلموا ما في
الرض جميعا ومثله معه لفتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ,وبدا لهم من ال ما لم يكونوا يحتسبون ,
وبدا لهم سيئات
الدرس الول 59 - 53:دعوة إلى التوبة والستقامة قبل الندم يوم القيامة
(قل:يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من رحمة ال .إن ال يغفر الذنوب جميعا .إنه هو الغفور
الرحيم). .
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية .كائنة ما كانت وإنها الدعوة للوبة .دعوة العصاة المسرفين
الشاردين المبعدين في تيه الضلل .دعوتهم إلى المل والرجاء والثقة بعفو ال .إن ال رحيم بعباده .وهو
يعلم ضعفهم وعجزهم .ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه .ويعلم أن الشيطان يقعد
لهم كل مرصد .ويأخذ عليهم كل طريق .ويجلب عليهم بخيله ورجله .وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث !
ويعلم أن بناء هذا المخلوق النساني بناء واه .وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي
يربطه والعروة التي تشده .وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف
عن التوازن فيشط به هنا أو هناك ; ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الحتفاظ بالتوازن السليم . .
يعلم ال -سبحانه -عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون ; ويوسع له في الرحمة ; ول يأخذه
بمعصيته حتى يهيىء له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط .وبعد أن يلج في المعصية ,
ويسرف في الذنب ,ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ,ولم يعد يقبل ول يستقبل .في هذه اللحظة لحظة
اليأس والقنوط ,يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف:
قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من رحمة ال .إن ال يغفر الذنوب جميعا .إنه هو الغفور
الرحيم . .
وليس بينه -وقد أسرف في المعصية ,ولج في الذنب ,وأبق عن الحمى ,وشرد عن الطريق -ليس بينه
وبين الرحمة الندية الرخية ,وظللها السمحة المحيية .ليس بينه وبين هذا كله إل التوبة .التوبة وحدها .
الوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع ,والذي ل يحتاج من يلج فيه إلى استئذان:
(وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم ل تنصرون .واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم
من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم ل تشعرون). .
النابة .والسلم .والعودة إلى أفياء الطاعة وظلل الستسلم . .هذا هو كل شيء .بل طقوس ول مراسم
ول حواجز ول وسطاء ول شفعاء !
إنه حساب مباشر بين العبد والرب .وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق .من أراد الوبة من الشاردين
فليؤب .ومن أراد النابة من الضالين ,فلينب .ومن أراد الستسلم من العصاة فليستسلم .وليأت . .ليأت
وليدخل فالباب مفتوح .والفيء والظل والندى والرخاء:كله وراء الباب ل حاجب دونه ول حسيب !
وهيا .هيا قبل فوات الوان .هيا (من قبل أن يأتيكم العذاب ثم ل تنصرون) . .فما هنالك من نصير .هيا
فالوقت غير مضمون .وقد يفصل في المر وتغلق البواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار .هيا .
(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) . .وهو هذا القرآن بين أيديكم ( . .من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة
وأنتم ل تشعرون). .
هيا قبل أن تتحسروا على فوات الفرصة ,وعلى التفريط في حق ال ,وعلى السخرية بوعد ال:
أن تقول نفس:يا حسرتا على ما فرطت في جنب ال .وإن كنت لمن الساخرين . .
أو تقول إن ال كتب عليّ الضلل ولو كتب عليّ الهدى لهتديت واتقيت(:أو تقول لو أن ال هداني لكنت من
المتقين). .
وهي عللة ل أصل لها .فالفرصة ها هي ذي سانحة ,ووسائل الهدى ما تزال حاضرة .وباب التوبة ها هو
ذا مفتوح !
وهي أمنية ل تنال .فإذا انتهت هذه الحياة فل كرة ول رجوع .وها أنتم أولء في دار العمل .وهي فرصة
واحدة إذا انقضت ل تعود .وستسألون عنها مع التبكيت والترذيل:
ثم يمضي السياق وقد وصل بالقلوب والمشاعر إلى ساحة الخرة . .يمضي في عرض مشهد المكذبين
والمتقين ,في ذلك الموقف العظيم:
(ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على ال وجوههم مسودة .أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ? وينجي ال الذين
اتقوا بمفازتهم ,ل يمسهم السوء ول هم يحزنون). .
وهذا هو المصير الخير .فريق مسود الوجوه من الخزي ,ومن الكمد ,ومن لفح الجحيم .هو فريق
المتكبرين في هذه الرض ,الذين دعوا إلى ال ,وظلت الدعوة قائمة حتى بعد السراف في المعصية ,فلم
يلبوا هاتف النجاة .فهم اليوم في خزي تسود له الوجوه .وفريق ناج فائز ل يمسه السوء ول يخالطه الحزن
.هو فريق المتقين ,الذين عاشوا في حذر من الخرة ,وفي طمع في رحمة ال .فهم اليوم يجدون النجاة
والفوز والمن والسلمة :ل يمسهم السوء ول هم يحزنون . .
ومن شاء بعد هذا فليلب النداء إلى الرحمة الندية الظليلة وراء الباب المفتوح .ومن شاء فليبق في إسرافه
وفي شروره حتى يأخذهم العذاب وهم ل يشعرون !
الوحدة الثامنة 75 - 62:الموضوع:ال الخالق المالك ومشهد حشر الزمر يوم القيامة مقدمة الوحدة
هذا القطاع الخير في السورة ,يعرض حقيقة التوحيد من جانب وحدانية الخالق الذي خلق كل شيء ,المالك
المتصرف في كل شيء .فتبدو دعوة المشركين للنبي [ ص ] إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن
يشاركوه عبادة إلهه ! تبدو هذه الدعوة مستغربة ,وال هو خالق كل شيء ,وهو المتصرف في ملكوت
السماوات والرض بل شريك .فأنى يعبد معه غيره ,وله وحده مقاليد السماوات والرض ?!
(وما قدروا ال حق قدره)وهم يشركون به وهو وحده المعبود القادر القاهر (والرض جميعا قبضته يوم
القيامة والسماوات مطويات بيمينه) . .وبمناسبة تصوير هذه الحقيقة على هذا النحو يوم القيامة يعرض مشهدا
فريدا من مشاهد القيامة ,ينتهي بموقف الملئكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ,وينطق الوجود
كله بحمده( :وقيل الحمد ل رب العالمين) . .فتكون هذه هي كلمة الفصل في حقيقة التوحيد .
إنها الحقيقة التي ينطق بها كل شيء .فما يملك أحد أن يدعي أنه خلق شيئا .وما يملك عقل أن يزعم أن هذا
الوجود وجد من غير مبدع .وكل ما فيه ينطق بالقصد والتدبير ; وليس أمر من أموره متروكا لقى أو
للمصادفة من الصغير إلى الكبير( :وهو على كل شيء وكيل) . .وإلى ال قياد السماوات والرض .فهو
يصرفها وفق ما يريد ; وهي تسير وفق نظامه الذي قدره ; وما تتدخل إرادة غير إرادته في تصريفها ,على
ما تشهد الفطرة ,وينطق الواقع ,ويقر العقل والضمير .
خسروا الدراك الذي يجعل حياتهم في الرض متسقة مع حياة الكون كله ; وخسروا راحة الهدى وجمال
اليمان وطمأنينة العتقاد وحلوة اليقين .وخسروا في الخرة أنفسهم وأهليهم .فهم الخاسرون الذين ينطبق
عليهم لفظ(الخاسرون)!
وعلى ضوء هذه الحقيقة التي تنطق بها السماوات والرض ,ويشهد بها كل شيء في الوجود ,يلقن الرسول
[ ص ] استنكار ما يعرضونه عليه من مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يعبدوا معه إلهه .كأن المر أمر
صفقة يساوم عليها في السوق !
وهو الستنكار الذي تصرخ به الفطرة في وجه هذا العرض السخيف الذي ينبىء عن الجهل المطلق المطبق
المطموس .
ويعقب عليه بتحذير من الشرك .يبدأ أول ما يبدأ بالنبياء والمرسلين .وهم -صلوات ال عليهم -ل
يتطرق إلى قلوبهم طائف الشرك أبدا .ولكن التحذير هنا ينبه سواهم من أقوامهم إلى تفرد ذات ال سبحانه في
مقام العبادة ,وتوحد البشر في مقام العبودية ,بما فيهم النبياء والمرسلون:
(ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك:لئن أشركت ليحبطن عملك ,ولتكونن من الخاسرين). .
ويختم هذا التحذير من الشرك بالمر بالتوحيد .توحيد العبادة والشكر على الهدى واليقين ,وعلى آلء ال
التي تغمر عباده ,ويعجزون عن إحصائها ,وهم فيها مغمورون:
(بل ال فاعبد وكن من الشاكرين). .
نعم .ما قدروا ال حق قدره ,وهم يشركون به بعض خلقه .وهم ل يعبدونه حق عبادته .وهم ل يدركون
وحدانيته وعظمته .وهم ل يستشعرون جلله وقوته .
ثم يكشف لهم عن جانب من عظمة ال وقوته .على طريقة التصوير القرآنية ,التي تقرب للبشر الحقائق
الكلية في صورة جزئية ,يتصورها إدراكهم المحدود:
(والرض جميعا قبضته يوم القيامة .والسماوات مطويات بيمينه .سبحانه وتعالى عما يشركون). .
وكل ما يرد في القرآن وفي الحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي ل يملك البشر
إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه ,وفي صورة يتصورونها .ومنه هذا التصوير لجانب من
حقيقة القدرة المطلقة ,التي ل تتقيد بشكل ,ول تتحيز في حيز ,ول تتحدد بحدود .
ثم يأخذ في مشهد من مشاهد القيامة يبدأ بالنفخة الولى ,وينتهي بانتهاء الموقف ,وسوق أهل النار إلى النار
.وأهل الجنة إلى الجنة .وتفرد ال ذي الجلل .وتوجه الوجود لذاته بالتسبيح والتحميد .
وهو مشهد رائع حافل ,يبدأ متحركا ,ثم يسير وئيدا ,حتى تهدأ كل حركة ,وتسكن كل نأمة ,ويخيم على
ساحة العرض جلل الصمت ,ورهبة الخشوع ,بين يدي ال الواحد القهار !
ها هي ذي الصيحة الولى تنبعث ,فيصعق من يكون باقيا على ظهر الرض من الحياء ,ومن في
السماوات كذلك -إل من شاء ال -ول نعلم كم يمضي من الوقت حتى تنبعث الصيحة الثانية:
(ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الرض إل من شاء ال .ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام
ينظرون). .
ول تذكر الصيحة الثالثة هنا .صيحة الحشر والتجميع .ول تصور ضجة الحشر وعجيج الزحام .لن هذا
المشهد يرسم هنا في هدوء ,ويتحرك في سكون .
أرض الساحة التي يتم فيها الستعراض .ونور ربها الذي ل نور غيره في هذا المقام . .
(وجيء بالنبيين والشهداء) . .ليقولوا كلمة الحق التي يعلمون . .وطوي كل خصام وجدال -في هذ المشهد
-تنسيقا لجوه مع الجلل والخشوع الذي يسود الموقف العام:
(وقضي بينهم بالحق وهم ل يظلمون .ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون). .
فل حاجة إلى كلمة تقال ,ول إلى صوت واحد يرتفع .ومن ثم تجمل وتطوى عملية الحساب والسؤال
والجواب التي تعرض في مشاهد أخرى .لن المقام هنا مقام روعة وجلل .
(وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا)( .حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها). .
(وقال لهم خزنتها:ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا)?
فالموقف موقف إذعان وتسليم .ل موقف مخاصمة ول مجادلة .وهم مقرون مستسلمون !
ذلك ركب جهنم ركب المتكبرين .فكيف ركب الجنة ? ركب المتقين ?
جرُ ا ْلعَامِلِينَ (َ )74و َترَى
ث َنشَاء َف ِنعْمَ َأ ْ
حيْ ُ
جنّةِ َ
ن ا ْل َ
عدَهُ وََأ ْورَ َثنَا ا ْلَأرْضَ َن َتبَوّأُ مِ َ
صدَ َقنَا َو ْ
ح ْمدُ لِلّ ِه اّلذِي َ
َوقَالُوا ا ْل َ
ح ْمدُ لِلّهِ رَبّ ا ْلعَاَلمِينَ ()75
حقّ َوقِيلَ ا ْل َ
حمْدِ َر ّب ِهمْ َو ُقضِيَ َب ْي َنهُم بِا ْل َ
ن ِب َ
س ّبحُو َ
ل ا ْل َعرْشِ ُي َ
ن حَوْ ِ
ا ْلمَلَا ِئكَةَ حَافّينَ مِ ْ
(وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا .حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها .وقال لهم خزنتها:سلم عليكم .
طبتم .فادخلوها خالدين). .
فهو الستقبال الطيب .والثناء المستحب .وبيان السبب (.طبتم)وتطهرتم .كنتم طيبين .وجئتم طيبين .فما
يكون فيها إل الطيب .وما يدخلها إل الطيبون .وهو الخلود في ذلك النعيم . .
(وقالوا:الحمد ل .الذي صدقنا وعده ,وأورثنا الرض ,نتبوأ من الجنة حيث نشاء) .فهذه هي الرض التي
تستحق أن تورث .وهم يسكنون فيها حيث شاءوا وينالون منها الذي يريدون .
ثم يختم المشهد بما يغمر النفس بالروعة والرهبة والجلل ,وما يتسق مع جو المشهد كله وظله ,وما يختم
سورة التوحيد أنسب ختام ; والوجود كله يتجه إلى ربه بالحمد ; في خشوع واستسلم .وكلمة الحمد ينطق بها
كل حي وكل موجود في استسلم:
(وترى الملئكة حافين من حول العرش ,يسبحون بحمد ربهم ,وقضي بينهم بالحق ,وقيل:الحمد ل رب
العالمين). .