You are on page 1of 282

‫تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة‬

‫(اضغط هنا للنتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على النترنت)‬

‫الكتاب ‪ :‬الفِقْ ُه السلميّ وأدلّتُهُ‬


‫الشّامل للدلّة الشّرعيّة والراء المذهبيّة وأهمّ النّظريّات الفقهيّة وتحقيق الحاديث‬
‫النّبويّة وتخريجها‬
‫المؤلف ‪ :‬أ‪.‬د‪ .‬وَهْبَة الزّحَيِْليّ‬
‫ي وأصوله‬
‫أستاذ ورئيس قسم الفقه السلم ّ‬
‫بجامعة دمشق ‪ -‬كلّيّة الشّريعة‬
‫الناشر ‪ :‬دار الفكر ‪ -‬سوريّة ‪ -‬دمشق‬
‫الطبعة ‪ :‬الطّبعة الرّابعة المنقّحة المعدّلة بالنّسبة لما سبقها‪ ،‬وهي الطّبعة الثّانية‬
‫عشرة لما تقدّمها من طبعات مصوّرة؛ لنّ الدّار النّاشرة دار الفكر بدمشق لتعتبر‬
‫التّصوير وحده مسوّغا لتعدّد الطّبعات مالم يكن هناك إضافات ملموسة‪.‬‬
‫عدد الجزاء ‪10 :‬‬
‫ـ الكتاب مقابل على المطبوع ومرقّم آليّا ترقيما غير موافق للمطبوع‪.‬‬
‫ـ مذيّل بالحواشي دون نقصان‪.‬‬
‫نال شرف فهرسته وإعداده للشّاملة‪ :‬أبو أكرم الحلبيّ من أعضاء ملتقى أهل الحديث‬
‫ل تنسونا من دعوة في ظهر الغيب ‪...‬‬

‫‪ - 13‬بقاء الشهود على أهليتهم حتى يقام الحد‪ :‬فلو ماتوا‪ ،‬أو غابوا‪ ،‬أو عموا‪ ،‬أو ارتدوا‪ ،‬أو خرسوا‪،‬‬
‫أو ضربوا حد القذف قبل إقامة الحد‪ ،‬أو قبل أن يقضى بشهادتهم‪ ،‬سقط الحد؛ لن هذه العوارض لو‬
‫اقترنت بالشهادة منعت من قبولها‪ ،‬فكذلك إذا اعترضتها بعدئذ (‪ ، )1‬ويحد الباقي حد القذف؛ لن‬
‫الشهود حينئذ أقل من أربعة‪ ،‬ومتى كانوا أقل حدوا حد القذف‪ .‬وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬ل تؤثر هذه‬
‫العوارض بعد أداء الشهادة (‪. )2‬‬
‫ولو رجع الشهود عن شهادتهم على محض بالزنا‪ ،‬بعد أن حكم القاضي عليه بالرجم فرجم‪،‬ضمنوا‬
‫ديته‪ .‬ولو أنكر الشاهد شهادته بعد الحكم بالرجم‪ ،‬ل يضمن شيئا من الدية؛ لن إنكار الشهادة ليس‬
‫برجوع‪ ،‬بل الرجوع أن يقول‪ :‬كنت مبطلً في الشهادة (‪. )3‬‬
‫اختلف العلماء في بعض شروط الشهادة على الزنا ‪:‬‬
‫‪ - 1‬اتحاد المشهود به‪ :‬قال الئمة الربعة‪ :‬يشترط في شهادة الشهود الربعة اتحاد المشهود به‪ :‬وهو‬
‫أن يجمع الشهود الربعة على فعل واحد‪ ،‬في المكان والزمان‪ ،‬كما بان عند الحنفية‪ .‬فإن اختلفوا ل‬
‫تقبل شهادتهم‪ ،‬فلو شهد اثنان أنه زنى في مكان كذا‪ ،‬وشهد آخران أنه زنى في مكان آخر في بيت‬
‫صغير وزواياه متقاربة‪ ،‬أو شهد اثنان أنه زنى بها في يوم كذا‪ ،‬وشهد اثنان آخران أنه زنى بها في‬
‫يوم آخر‪ ،‬فإنه ل يحد المشهود عليه‪ ،‬ول حد على الشهود أيضا عند جمهور الحنفية؛ لن المشهود به‬
‫لم يختلف عند الشهود؛ لن عندهم أن هذا زنا واحد‪ .‬وعند زفر‪ :‬يحدون؛ لن عدد الشهود قد انتقص‪،‬‬
‫ونقصان عدد الشهود يوجب صيرورة الشهادة قذفا‪ ،‬كما لو شهد ثلثة بالزنا‪.‬‬
‫واختلفوا فيما لو شهد اثنان أنه زنى بها في هذه الزاوية من البيت‪ ،‬وشهد آخران أنه زنى بها في‬
‫زاوية أخرى‪ ،‬وكان المكان ضيقا‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط للسرخسي‪.50/9 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني لبن قدامة‪.207/8 :‬‬
‫(‪ )3‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪ 360‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/318‬‬

‫فقال أبو حنيفة وأحمد‪ :‬تقبل هذه الشهادة‪ ،‬لجواز ابتداء الفعل في زاوية‪ ،‬وانتهائه في زاوية أخرى‪ ،‬أما‬
‫لو كان البيت كبيرا فل تقبل؛ لنه يكون بمنزلة البيتين (‪. )1‬‬
‫وقال مالك والشافعي‪ :‬ل تقبل هذه الشهادة‪ ،‬ول يثبت بها الحد؛ لنهم لم يتفقوا على زنية واحدة (‪. )2‬‬
‫‪ - 2‬اتحاد مجلس الشهادة‪ :‬قال أبو حنيفة‪ :‬يشترط أن يكون الشهود مجتمعين‪ ،‬وأن يؤدوا الشهادة في‬
‫مجلس واحد‪ ،‬فإن جاؤوا متفرقين يشهدون واحدا بعد الخر‪ ،‬ل تقبل شهادتهم‪ ،‬كما بان سابقا‪.‬‬
‫وقال مالك وأحمد‪ :‬يشترط اتحاد مجلس القاضي فقط‪ ،‬فإن جاء الشهود متفرقين‪ ،‬والحاكم جالس في‬
‫مجلس حكمه لم يقم‪ ،‬تقبل شهادتهم‪ ،‬وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا َقذَفة وعليهم الحد (‪. )3‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬ليس ذلك بشرط‪ ،‬ل في مجيئهم‪ ،‬ول في اجتماعهم‪ ،‬بل متى شهدوا بالزنى متفرقين‪،‬‬
‫ولو واحدا بعد الخر‪ ،‬وجب الحد‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬لول جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور‪ ]13/24:‬ولم‬
‫يذكر المجلس‪ ،‬ولن المهم هو اتحاد شهادة الشهود‪ ،‬سواء في مجلس واحد أو في مجالس‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،49/7 :‬المغني‪ ،200/8 :‬فتح القدير‪.167/4 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،151/4 :‬بداية المجتهد‪ ،430/2 :‬الشرح الكبير‪.185/4 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪ ،200/8 :‬المنتقى على الموطأ‪ ،144/7 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.356‬‬

‫( ‪)7/319‬‬

‫كسائر الشهادات (‪. )1‬‬


‫تقادم الشهادة ‪:‬‬
‫قال الحنفية‪ :‬ل تقبل الشهادة بمضي الزمن‪ ،‬على الخلف السابق الذي ذكر‪.‬‬
‫وقال مالك والشافعي وأحمد‪ :‬إن الشهادة في الزنا والقذف وشرب الخمر تقبل بعد مضي زمان طويل‬
‫من الواقعة‪ ،‬لعموم آية الشهادة في الزنا‪ ،‬ولنه حق لم يثبت لنا ما يبطله‪ ،‬وقد يكون التأخير لعذر أو‬
‫غيبة‪ ،‬والحد ل يسقط بمطلق الحتمال (‪. )2‬‬
‫دور القاضي مع شهود الزنا ‪:‬‬
‫إذا اجتمعت الشروط السابقة في الشهود‪ ،‬وشهدوا عند القاضي‪ ،‬سألهم عن ماهية الزنا‪ ،‬وكيفية الزنا‪،‬‬
‫ومكان الزنا‪ ،‬وزمان الزنا‪ ،‬والمزني بها (‪. )3‬‬
‫أما سؤاله عن ماهية الزنا‪ :‬فلنه يحتمل أن يريد غير الزنا الموجب للحد‪ ،‬كالزنا بالعين‪،‬أو باليد‪.‬‬
‫وأما سؤاله عن كيفية الزنا‪ :‬فلنه يحتمل أن يريد الجماع فيما دون الفرج‪ ،‬كالمفاخذة‪.‬‬
‫وأما سؤاله عن مكان الزنا‪ :‬فلنه يحتمل أنه زنى في دار الحرب‪ ،‬أو في دار البغي في رأي الجمهور‬
‫غير الشافعية كما سيأتي في حد البغاة‪.‬‬
‫وأما سؤاله عن زمان الزنا‪ :‬فلنه يحتمل أن يشهد بزنا متقادم‪.‬‬
‫وأما سؤاله عن المزني بها‪ :‬فلنه يحتمل أن تكون الموطوءة ممن ل يجب الحد بوطئها‪ ،‬كالموطوءة‬
‫بشبهة‪.‬‬
‫القرار بالزنا ‪:‬‬
‫هو عند الحنفية أن يقر البالغ العاقل‪ ،‬أربع مرات بالزنا‪ ،‬عند القاضي‪ ،‬في أربعة مواطن‪.‬‬
‫شروط القرار ‪:‬‬
‫اشترط الحنفية شروطا في القرار‪ :‬منها ما يعم الحدود كلها‪ ،‬ومنها ما يخص بعضها‪.‬‬
‫أما الشرائط التي تعم الحدود كلها‪ ،‬فهي (‪: )4‬‬
‫‪ - 1‬البلوغ‪ :‬فل يصح إقرار الصبي في شيء من الحدود؛ لن فعل الصبي ل يوصف بكونه جناية‪.‬‬
‫‪ - 2‬النطق‪ :‬وهو أن يكون القرار بالخطاب والعبارة‪ ،‬دون الكتابة أو الشارة‪ ،‬فل يكفي القرار من‬
‫الخرس‪ ،‬ل بالكتابة ول بالشارة‪ ،‬لن الشرع علق وجوب الحد بالبيان المتناهي‪ ،‬والبيان ل يتناهى‬
‫إل بالصريح‪.‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬يكفي في ثبوت الحد إشارة الخرس بالقرار بالزنا‪.‬‬
‫‪ - 3‬الختيار أو الطواعية‪ :‬فل يقبل إقرار المكره في الحدود والموال‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ ،‬المرجع السابق‪،‬الميزان‪.156/2 :‬‬
‫(‪ )2‬الميزان‪ ،158/2 :‬المغني‪ ،207/8 :‬فتح القدير‪.161/4 :‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط‪ ،38/9 :‬البدائع‪ ،49/7 :‬فتح القدير‪ ،115/4 :‬المغني‪.200/8 :‬‬
‫(‪ )4‬انظر البدائع‪ ،51-49/7 :‬فتح القدير‪ ،117/4 :‬المبسوط‪.91/9 :‬‬

‫( ‪)7/320‬‬

‫وأما الشرائط التي تخص بعض الحدود فهي‪:‬‬


‫‪ - 1‬تعدد القرار‪ :‬أي كون القرار مكررا أربع مرات في حد الزنا خاصة‪ ،‬بأن يقر أربع مرات‬
‫على نفسه مع كونه بالغا عاقلً‪ ،‬طلبا للتثبت في إقامة الحد‪ ،‬ولن ماعزا أقر أمام الرسول صلّى ال‬
‫عليه وسلم أربع مرات (‪ . )1‬وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة (‪. )2‬‬
‫وقال المالكية والشافعية (‪ : )3‬يكفي في وجوب الحد إقرار واحد مرة واحدة (‪ )4‬؛ لن من المستبعد‬
‫كذب النسان على نفسه‪ ،‬واعترافه بما يوجب الحد‪ ،‬ولن القرار إخبار‪ ،‬والخبر ل يزيد رجحانا‬
‫بالتكرار‪ ،‬وقد قال الرسول صلّى ال عليه وسلم في قصة العسيف‪« :‬اغد يا أنيس ـ رجل من أسلم ـ‬
‫إلى امرأ ة هذا‪ ،‬فإن اعترفت‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة‪ ،‬ورواه مسلم وأحمد عن بريدة‪ ،‬وقد‬
‫سبق تخريجه (راجع جامع الصول‪ 283/4 :‬وما بعدها‪ ،‬نيل الوطار‪.)109/7 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ 191/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬حاشية الدسوقي‪ ،318/4 :‬المنتقى على الموطأ‪ ،135/7 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،356‬مغني‬
‫المحتاج‪.150/4 :‬‬
‫(‪ )4‬قال الزنجاني الشافعي في تخريج الفروع على الصول‪ :‬ص ‪ ،181‬مبينا وجه قصة ماعز‬
‫ومقررا قاعدة عامة وهي «ل يمكن دعوى العموم في واقعة لشخص معين‪ ،‬قضى فيها رسول ال‬
‫صلّى ال عليه وسلم بحكم‪ ،‬وذكر علته أيضا‪ ،‬إذا أمكن اختصاص العلة بصاحب الواقعة عند الشافعي‬
‫رضي ال عنه» ‪ .‬ويتفرع عنه‪ :‬سقوط اعتبار التكرار في القرار بالزنا عند الشافعي رضي ال عنه‬
‫سلوكا لجادة القياس‪ ،‬كما في سائر القارير‪.‬‬

‫( ‪)7/321‬‬

‫فارجمها» (‪ )1‬كما سبق ذكره‪ .‬واعترفت الغامدية بالزنا‪ ،‬فقال لها الرسول عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫«ويحك ارجعي فاستغفري ال وتوبي إليه‪ ،‬فقالت‪ :‬أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك‪،‬‬
‫قال‪ :‬وما ذاك؟ قالت‪ :‬إنها حبلى من الزنى‪ ،‬قال‪ :‬أنتِ؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فقال لها‪ :‬حتى تضعي ما في‬
‫بطنك» (‪ )2‬ونحوهما من الحاديث‪.‬‬
‫‪ - 2‬تعدد مجالس القرار بالزنا‪ :‬وهو أن يقر في أربعة مجالس متفرقة؛لن الرسول عليه الصلة‬
‫والسلم اعتبر اختلف مجالس ماعز‪ ،‬حيث كان يخرج من المسجد في كل مرة‪ ،‬ثم يعود‪ ،‬ومجلسه‬
‫عليه الصلة والسلم لم يختلف‪ ،‬وهذا هو مذهب الحنفية‪.‬‬
‫وقال جمهور العلماء‪ :‬يكفي أن يكون القرار في مجلس واحد (‪. )3‬‬
‫‪ - 3‬أن يكون القرار بين يدي المام أو القاضي‪ :‬وإل لم يعتبر؛ لن إقرار ماعز كان عند رسول ال‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فإن شهد شهود على إقرار شخص أربع مرات في مجالس مختلفة أمام من‬
‫ليس له إقامة الحد‪ ،‬فل يقبل القاضي هذه الشهادة؛ لن الزاني إن كان منكرا‪ ،‬فقد رجع عن القرار‪،‬‬
‫وإ ن كان مقرا‪ ،‬فل عبرة لشهادة مع القرار‪.‬‬
‫‪ - 4‬الصحو في القرار بالزنا والسرقة والشرب والسكر‪ :‬فإذا أقر شخص وهو سكران‪ ،‬لم يصح‬
‫إقراره‪.‬‬
‫‪ - 5‬أن يكون القرار بالزنا ممن يتصور منه الزنا‪ :‬فإن كان ل يتصور كالمجبوب لفقدان آلته‪ ،‬لم‬
‫يصح إقراره‪ ،‬أما لو كانت آلته موجودة كالعنّين والخصي‪ ،‬فيصح إقراره‪ ،‬لوجود اللة عنده‪.‬‬
‫‪ - 6‬أن يكون المزني به ممن يقدر على ادعاء الشبهة بأن كان ناطقا‪ :‬فإن لم يقدر كأن تكون المزني‬
‫بها خرساء‪ ،‬أو المزني به أخرس‪ ،‬لم يصح إقراره‪ ،‬لجواز ادعائه وجود عقد النكاح‪ ،‬أو إنكار الزنا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم وأحمد والموطأ وغيرهم عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني‪ ،‬وقد سبق‬
‫تخريجه‪ ،‬فقد رواه الجماعة والبيهقي‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم والدارقطني عن سليمان بن بريدة عن أبيه‪ ،‬وقال الدارقطني‪ :‬هذا حديث صحيح‬
‫(راجع جامع الصول‪ 279/4 :‬وما بعدها‪ ،‬نيل الوطار‪ ،111/7 :‬نصب الراية‪.)314/3 :‬‬
‫(‪ )3‬بداية المجتهد‪.430/2 :‬‬

‫( ‪)7/322‬‬

‫القرار حجة قاصرة‪ :‬إذا أقر أحد الشريكين في الوطء بالزنا وأنكر الخر‪ ،‬وجب على المقر الحد (‪)1‬‬
‫؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم قال في قصة العسيف‪« :‬على ابنك جلد وتغريب عام‪ ،‬واغد يا أنيس‬
‫على امرأة هذا‪ ،‬فإن اعترفت فارجمها» (‪ )2‬وروى سهل بن سعد الساعدي أن رجلً أقر أنه زنى‬
‫بامرأة‪ ،‬فبعث النبي صلّى ال عليه وسلم إليها‪ ،‬فجحدت‪ ،‬فحد الرجل (‪. )3‬‬
‫تقادم القرار‪ :‬اتفق العلماء على أن التقادم ل يؤثر في القرار بالزنا؛ لن النسان غير متهم على‬
‫نفسه‪ .‬وعلى هذا فيقبل القرار بالزنا بعد مدة (‪. )4‬‬
‫دور القاضي مع المقر بالزنا ‪:‬‬
‫إذا أقر إنسان بالزنا عند القاضي‪ ،‬ينبغي أن يظهر له الكراهية‪ ،‬أو يطرده‪ ،‬يفعل ذلك ثلث مرات‪،‬‬
‫كما فعل الرسول صلّى ال عليه وسلم مع ماعز‪.‬‬
‫فإذا أقر أربع مرات عند الحنفية نظر القاضي في حاله‪ :‬أهو صحيح العقل أم به آفة‪ ،‬كما فعل‬
‫الرسول عليه السلم مع ماعز‪ ،‬حيث قال له‪ :‬أبك خبَل أم بك جنون؟ وبعث به إلى قومه‪ ،‬فسألهم عن‬
‫حاله‪.‬فإذا عرف أنه صحيح العقل‪ ،‬سأله عن ماهية الزنا‪ ،‬وعن كيفيته‪ ،‬وعن مكانه‪ ،‬وعن المزني بها‪،‬‬
‫للسباب التي ذكرت في الشهادة على الزنا‪.‬‬
‫فإذا بين ذلك كله سأله القاضي عن حاله‪ :‬أهو محصن أم ل؟ لن حكم الزنا يختلف بالحصان‬
‫وعدمه‪ .‬فإذا قال‪ :‬أنا محصَن‪ ،‬سأله القاضي عن الحصان‪ :‬ماهو؟ لنه عبارة عن اجتماع شرائط‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،51/7 :‬المغني‪.207/8 :‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪.268/2 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه الجماعة والبيهقي عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه البيهقي بألفاظ متقاربة‪ ،‬وأحمد وأبو داود‪ ،‬وفيه عبد السلم بن حفص‪ ،‬متكلم فيه‪.‬‬

‫( ‪)7/323‬‬
‫ل يعرفها كل واحد‪ .‬فإذا فسره التفسير الشرعي المطلوب‪ ،‬حكم عليه بالرجم وأمر بإقامته عليه (‪. )1‬‬
‫الرجوع عن القرار ‪:‬‬
‫قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد‪ :‬إذا اعترف شخص عند القاضي بالزنا‪ ،‬ثم رجع عن إقراره بعد الحكم‬
‫بالحد‪ ،‬أوبعد إقامة بعض الحد‪ ،‬أو هرب‪ ،‬فإنه يسقط عنه الحد (‪ ، )2‬عملً بحديث «ادرؤا الحدود‬
‫بالشبهات» ‪ ،‬والرسول عليه السلم لقن ماعزا الرجوع بقوله‪« :‬لعلك مسستها أو لعلك قبلتها!» (‪)3‬‬
‫وقال لصحابه حينما هرب ماعز فاتبَعوه‪« :‬هل تركتموه‪ ،‬لعله أن يتوب‪ ،‬فيتوب ال عليه» (‪. )4‬‬
‫والمشهور عند المالكية‪ :‬أن الرجوع عن القرار لشبهة أو ل لشبهة‪ ،‬كقوله‪ :‬كذبت على نفسي‪ ،‬أو‬
‫وطئت زوجتي وهي محرمة‪ ،‬فظننت أنه زنا‪ ،‬يسقط الحد‪ ،‬وروي عن المام مالك أنه قال‪ :‬ل يعذر‬
‫إل إذا رجع لشبهة‪ ،‬عملً بحديث‪« :‬ل عذر لمن أقر» (‪. )1‬‬
‫والخلصة‪ :‬أن الرجوع عن القرار جائز بالتفاق‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،46/9 :‬البدائع‪ ،51/7 :‬فتح القدير‪ ،120/4 :‬تبيين الحقائق‪ )2( .166/3 :‬فتح القدير‪:‬‬
‫‪ ،120/4‬مغني المحتاج‪ ،150/4 :‬المهذب‪ ،271/2 :‬المغني‪.197/8 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه الحاكم في المستدرك بلفظ «لعلك مسستها أو قبلتها؟» من حديث ابن عباس‪ ،‬والحديث عند‬
‫البخاري بلفظ‪« :‬لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟» وعند أحمد في مسنده بلفظ‪« :‬لعلك قبلت أو لمست‬
‫أو نظرت؟» (راجع نصب الراية‪ ،316/4 :‬سبل السلم‪.)8/4 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود عن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه‪ .‬ورواه أحمد وابن ماجه والترمذي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«حسن» من حديث أبي هريرة بلفظ‪« :‬هل تركتموه» ‪( .‬راجع جامع الصول‪ ،287/4 :‬نيل الوطار‪:‬‬
‫‪.)102/7‬‬

‫( ‪)7/324‬‬

‫المبحث الخامس ـ إقامة الحد على الزاني ‪:‬‬


‫شروط إقامة الحد‪ :‬يشترط لقامة الحد ما يلي‪:‬‬
‫أولً ـ هناك شرائط لقامة الحد‪ :‬منها ما يعم الحدود كلها‪ ،‬ومنها ما يخص حد الرجم‪ .‬أما ما يعم‬
‫الحدود كلها فهو المامة كما سيأتي‪ ،‬وأما ما يخص حد الرجم‪ :‬فهو شرط البداية من الشهود في‬
‫الرجم‪ .‬وعلى هذا فالمام أو من ينوب عنه هو مقيم الحد‪ .‬فإذا كان الحد جلدا فهو الذي يقيمه أو ينيب‬
‫عنه أحدا‪ .‬وأما إذا كان الحد رجما‪ ،‬فيشترط البداية من الشهود في الرجم‪ ،‬إذا ثبت الحد بالشهادة‪ ،‬فإذا‬
‫ثبت بالقرار‪ ،‬فيبدأ المام بالرجم (‪. )2‬‬
‫اختلف العلماء في اشتراط بداءة الشهود بالرجم ‪:‬‬
‫قال الحنفية‪ :‬إن ثبت وجوب الرجم بالشهادة‪ ،‬فيشترط بدء الشهود بالرجم استحسانا‪ ،‬بدليل ما روي‬
‫عن علي رضي ال عنه أنه قال‪« :‬يرجم الشهود أولً ثم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بداية المجتهد‪ ،430/2 :‬حاشية الدسوقي‪.318/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ 57/7 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ ،124 ،122/4 :‬حاشية الدسوقي‪ ،320/4 :‬بداية المجتهد‪:‬‬
‫‪.428/2‬‬

‫( ‪)7/325‬‬

‫المام ثم الناس» (‪ )1‬وكلمة «ثم» للترتيب‪ ،‬وكان ذلك بمحضر من الصحابة‪ ،‬ولم ينكر أحد‪ ،‬فكان‬
‫إجماعا‪ ،‬ولن في اعتبار هذا الشرط احتياطا في درء الحد؛ لن الشهود إذا بدؤوا بالرجم ربما‬
‫استعظموا فعله‪ ،‬فيحملهم هذا على الرجوع عن الشهادة‪ ،‬فيسقط الحد عن المشهود عليه‪ ،‬فإن امتنع‬
‫بعض الشهود عن الرجم‪ ،‬سقط الرجم عند أبي حنيفة ومحمد‪ ،‬وفي رواية عن أبي يوسف؛ لن‬
‫امتناعهم عن الرجم أورث شبهة الكذب في شهادتهم‪.‬‬
‫هذا بخلف الجلد‪ ،‬فل يشترط ابتداء الشهود به؛ لنهم ل يعرفونه على وجهه الصحيح‪ ،‬ولن الثر‬
‫عن علي ورد في الرجم خاصة‪ ،‬فيبقى أمر الجلد على أصل القياس‪.‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬إذا حضر المام الرجم‪ ،‬جاز له أن يبدأ هو وأن يبدأ غيره‪ ،‬فلم يثبت عند المام مالك‬
‫في حديث صحيح ول سنة معمول بها بداءة البينة بالرجم‪ ،‬ثم من بعدهم المام‪ ،‬أي الحاكم‪ ،‬ثم الناس‬
‫عقبه (‪. )2‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬السنة إذا ثبت الحد بالبينة أن يبدأ الشهود بالرجم‪ ،‬ثم الحاكم‪ ،‬ثم الناس؛ لن‬
‫الشهود في غير أداء الشهادة هم وسائر الناس سواء‪ ،‬فل يلزم أحد بذاك‪ .‬والمام هو الذي يستوفي‬
‫الحدود‪ ،‬ولن الرجم أحد نوعي الحد‪ ،‬فيقاس على الجلد‪ ،‬الذي ل يشترط فيه البداية من الشهود (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البيهقي في سننه عن عامر الشعبي‪ ،‬ورواه أحمد في مسنده عن الشعبي أيضا‪ ،‬ورواه ابن‬
‫أبي شيبة عن يزيد بن أبي ليلى‪ ،‬وعن ابن مسعود عن علي بألفاظ مختلفة (راجع نصب الراية‪:‬‬
‫‪ 319/3‬وما بعدها‪ ،‬نيل الوطار‪.)108/7 :‬‬
‫(‪ )2‬القوانين الفقهية‪:‬ص ‪ ،356‬الشرح الكبير وحاشيته‪ ،320/4 :‬مواهب الجليل‪ ،320/6 :‬ط ثانية‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،‬فتح القدير‪ ،‬المرجعان السابقان‪ ،‬المنتقى على الموطأ‪ ،133/7 :‬بداية المجتهد‪،438/2 :‬‬
‫مغني المحتاج‪ ،152/4 :‬المهذب‪ 269/2 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪. .159/8 :‬‬

‫( ‪)7/326‬‬

‫وهذا الرأي هو مقتضى القياس عند الحنفية‪.‬‬


‫ثانيا ـ ل يقيم الحدود إل المام أو من فوض إليه المام‪ ،‬باتفاق الفقهاء؛ لنه لم يقم حد على عهد‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم إل بإذنه‪ ،‬ول في أيام الخلفاء إل بإذنهم‪ ،‬ولن الحد حق ل تعالى‬
‫يفتقر إلى الجتهاد‪ ،‬ول يؤمن فيه الحيف‪ ،‬فلم يجز بغير إذن المام (‪. )1‬‬
‫ثالثا ـ يشترط عند الحنفية وجود أهلية أداء الشهادة لدى الشهود عند إقامة الحد‪ ،‬فلو بطلت أهليتهم‬
‫بالفسق أو الردة أو الجنون أو العمى أو الخرس أو نحوها‪ ،‬سقط الحد (‪ )2‬كما سبق بيانه‪ .‬ولم يشترط‬
‫الجمهور هذا الشرط‪.‬‬
‫رابعا ـ يشترط بالتفاق‪ :‬أل يكون في إقامة حد الجلد خوف الهلك؛ لن هذا الحد شرع زاجرا ل‬
‫مهلكا‪ ،‬فل يجوز إقامة حد الجلد في الحر الشديد والبرد الشديد‪ ،‬والمرض والنفاس‪ ،‬والحمل؛ لن الحد‬
‫إذا أقيم في هذه الحوال أدى إلى القتل‪ ،‬ولنه يخشى هلك الحامل وهلك ولدها (‪)3‬‬
‫لكن الشافعية والحنابلة أجازوا إقامة الحد في المرض الذي ل يرجى برؤه (‪ ، )4‬وقالوا في هذه الحالة‬
‫أو إذا كان نضو الخلق ل يطيق الضرب‪ :‬يضرب بمئة شمراخ دفعة واحدة‪ ،‬لما روى سهل بن حنيف‬
‫أنه أمر في رجل مريض أضنى أن يأخذوا مئة شمراخ‪ ،‬فيضربوه بها ضربة واحدة (‪ ، )5‬ولنه ل‬
‫يمكن ضربه بالسوط؛ لنه يتلف به‪ ،‬ول يمكن تركه؛ لنه يؤدي إلى تعطيل الحد‪ .‬أما الضمان فقال‬
‫الشافعية‪:‬‬
‫إن أقيم الحد في الحال التي ل تجوز إقامته‪ ،‬فهلك منه‪ ،‬لم يضمن؛ لن الحق قتله‪ ،‬وإن أقيم في الحال‬
‫التي ل تجوز إقامته‪ ،‬فإن كانت حاملً‪ ،‬فتلف منه الجنين وجب الضمان؛ لنه مضمون‪ ،‬فل يسقط‬
‫ضمانه بجناية غيره‪ ،‬وإن تلف المحدود فإذا أقيم الحد في شدة حر أو برد‪ ،‬فهلك ل ضمان عليه‪ .‬وقال‬
‫الجمهور‪ :‬ل ضمان بهلك المحدود‪ .‬وسيأتي مزيد بيان له في بحث التعزير‪.‬‬
‫وأما الرجم فل يشترط لقامته عدم خوف الهلك؛ لنه حد مهلك‪ ،‬إل الحامل‪ ،‬فإنه ل يقام عليها الرجم‬
‫وقت حملها؛ لنه يؤدي إلى إهلك ولدها بدون حق‪ ،‬وهو ل يجوز‪ ،‬فيؤخر رجم الحامل حتى تضع‬
‫حملها؛ لن الرسول عليه الصلة والسلم رد المرأة الغامدية أو الجهنية حينما‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المهذب‪ ،269/2 :‬البدائع‪.57/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪.59/7 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬المبسوط‪ ،100/9 :‬المهذب‪ 270/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪ ،155/4 :‬المهذب‪ 270/2 :‬وما بعدها‪ ،‬حاشية الدسوقي‪ ،330/4 :‬القوانين الفقهية‪:‬‬
‫ص ‪ ،356‬ط‪ ،‬فاس‪ ،‬المغني‪.173 ،171/8 :‬‬
‫(‪ )5‬رواه أحمد وابن ماجه‪.‬‬

‫( ‪)7/327‬‬

‫قالت‪« :‬فوال إني لحبلى» ‪ .‬فقال ‪« :‬إما ل‪ ،‬فاذهبي حتى تلدي» ثم قال‪« :‬اذهبي فأرضعيه حتى‬
‫تفطميه» (‪. )1‬‬
‫حالة المحدود‪ :‬ذهب الجمهور إلى أن المحدود بالرجم إذا كان رجلً يقام عليه الحد قائما‪ ،‬ول يربط‬
‫بشيء‪ ،‬ول يمسك‪ ،‬ول يحفر له‪ ،‬سواء ثبت الرجم بالبينة أم بالقرار‪،‬كما فعل الرسول عليه السلم‬
‫بماعز‪ ،‬فلم يحفر له (‪ ، )2‬ولن الحفر له لم يرد به الشرع في حق المحدود فوجب أل يثبت‪،‬ولن‬
‫المرجوم قد يفر‪ ،‬فيكون فراره‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،‬الدسوقي‪ ،‬المغني‪ ،‬المراجع السابقة‪ ،‬وقد سبق تخريج حديث الغامدية‪،‬‬
‫وسيأتي قريبا تخريج حديث الجهنية‪ .‬ويظهر أن الجهنية هي الغامدية لن «غامدا» بطن من جهينة‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم وأحمد وأبو داود عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬قال‪« :‬لما أمرنا رسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع‪ ،‬فو ال ما حفرنا له‪ ،‬ول أوثقناه‪ ،‬ولكن قام لنا‪،‬‬
‫فرميناه بالعظام والخزف (وهي أكسار الواني المصنوعة من المدر)‪ ،‬فاشتكى فخرج يشتد حتى‬
‫انتصب لنا في عرض الحرة (وهي أرض ذات حجارة سود) فرميناه بجلميد (بصخور) الجندل (ما‬
‫يقله الرجل من الحجارة) حتى سكت» (راجع نصب الراية‪ ،325/3 :‬نيل الوطار‪.)109/7 :‬‬

‫( ‪)7/328‬‬

‫دللة على الرجوع عن قراره‪ ،‬وقد هرب ما عز من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة (‬
‫‪. )1‬‬
‫وإذا كان المحدود امرأة‪ ،‬فقال الحنفية‪ :‬يخير المام في الحفر لها‪ ،‬إن شاء حفر لها وإن شاء ترك‬
‫الحفر‪ ،‬أما الحفر فلنه أستر لها‪ ،‬وقد روي أن الرسول صلّى ال عليه وسلم حفر للمرأة الغامدية إلى‬
‫ثَنْدوتها (أي ثديها) (‪ . )2‬وأما ترك الحفر فلن الحفر للستر وهي مستورة بثيابها؛ لنها ل تجرد عند‬
‫إقامة الحد‪.‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬الصح استحباب الحفر للمرأة إن ثبت زناها بالبينة‪ ،‬لئل تنكشف‪ ،‬بخلف ما إذا ثبت‬
‫زناها بالقرار لتتمكن من الهرب إن رجعت عن إقرارها‪.‬‬
‫وقال المالكية والحنابلة‪ :‬ل يحفر للمرأة‪ ،‬لعدم ثبوته‪ .‬قال ابن رشد‪ :‬وبالجملة فإن الحاديث في ذلك‬
‫مختلفة‪ .‬والمشهور عند المالكية أنه ل يحفر للمرجوم حفرة‪ .‬وقال أحمد (‪ : )3‬أكثر الحاديث على أل‬
‫حفر‪ ،‬فإن النبي صلّى ال عليه وسلم لم يحفر للجهنية وللماعز ‪ ،‬ول لليهوديين (‪. )4‬‬
‫وأما حالة المحدود قياما أو قعودا في أثناء الجلد‪ ،‬فقال الحنفية‪ :‬يقام الرجل‪ ،‬وتضرب المرأة قاعدة‪،‬‬
‫وينزع عن الرجل ثيابه إل الزار‪ ،‬ويجرد عن ثيابه في كل الحدود والتعزير إل حد القذف‪ ،‬فيكتفى‬
‫بنزع الحشو والفرو‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،15/9 :‬بداية المجتهد‪ ،429/2 :‬المنتقى على الموطأ‪ ،142/7 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص‬
‫‪ ،356‬حاشية الدسوقي‪ ،320/4 :‬مغني المحتاج‪ ،153/4 :‬المغني‪ ،158/8 :‬البدائع‪ ،59/7 :‬فتح‬
‫القدير‪.128/4 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود في سننه عن أبي بكر أن النبي صلّى ال عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى‬
‫الثندرة‪ ،‬قال الزيلعي‪ :‬وفيه مجهول‪ .‬وروى مسلم وأحمد وأبو داود قصة الغامدية‪ ،‬وذكر فيها‪« :‬ثم‬
‫أمر بها‪ ،‬فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها» (راجع جامع الصول‪ ،294/4 :‬نصب الراية‪:‬‬
‫‪ ،325/3‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،353‬نيل الوطار‪.)109/7 :‬‬
‫(‪ )3‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )4‬كونه صلّى ال عليه وسلم لم يحفر لماعز‪ :‬ثابت في رواية أبي سعيد الخدري كما سبق بيانه‪،‬‬
‫وأما عدم الحفر للجهنية فهو استدلل بظاهر الحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إل ابن‬
‫ماجه عن عمران بن حصين‪ ،‬فإنه قال‪« :‬فأمر بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فشدت عليها‬
‫ثيابها‪ ،‬ثم أمر بها فرجمت‪ ،‬ثم صلى عليها» فلم يذكر الحفر‪ ،‬قال ابن حجر في التلخيص‪« :‬لكنه‬
‫استدلل بعدم الذكر‪ ،‬ول يلزم منه عدم الوقوع» وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن ابن‬
‫عمر في قصة رجم اليهوديين لم يذكر فيه الحفر (راجع التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،353‬نيل الوطار‪:‬‬
‫‪ ،111 ،92/7‬سبل السلم‪ ،11/4 :‬جامع الصول‪.)277/4 :‬‬
‫( ‪)7/329‬‬

‫وأشد الضرب‪ :‬هو التعزير إذا رأى المام ذلك للزجر والردع‪ ،‬ثم الجلد في الزنا‪ ،‬ثم حد الشرب‪ ،‬ثم‬
‫حد القذف؛ لن جناية الزنا أعظم من جناية الشرب والقذف؛ لن القذف نسبة إلى الزنا‪ ،‬فكان دون‬
‫حقيقة الزنا‪ ،‬ولن قبح الزنا ثبت شرعا وعقلً‪ .‬أما جريمة نفس الشرب فقد ثبتت شرعا ل عقلً‪،‬‬
‫ولهذا كان الزنا حراما في كل الديان بخلف الشرب‪ ،‬والخمر أيضا يباح عند المخمصة والكراه‪،‬‬
‫ول يباح الزنا عند الكراه وغلبة الشهوة‪ ،‬وكذا وجوب الجلد ثبت في الزنا بنص الكتاب العزيز‪ ،‬وأما‬
‫حد الشرب فثبت بالجتهاد‪.‬‬
‫وأما المرأة فل ينزع عنها ثيابها إل الفرو والحشو في كل الحدود؛ لن كشف عورتها حرام‪ ،‬والفرو‬
‫والحشو يمنعان وصول اللم إلى المضروب‪ ،‬والستر حاصل بدونهما‪ ،‬فينزعان ليتحقق الزجر‪،‬‬
‫والزجرواجب (‪. )1‬‬
‫وقال مالك‪ :‬يضرب الرجل قاعدا ل قائما‪ ،‬وكذا المرأة ويجرد الرجل في ضرب الحدود كلها ما عدا‬
‫ما بين السرة والركبة؛ لن المر بجلده يقتضي مباشرة جسمه (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،60/7 :‬تبيين الحقائق للزيلعي‪ ،171/3 :‬المبسوط‪ 71/9 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪:‬‬
‫‪.128/4‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،429/2 :‬حاشية الدسوقي‪.354/4 :‬‬

‫( ‪)7/330‬‬

‫وقال الشافعي وأحمد‪ :‬ل يجرد المحدود في الحدود كلها فيما عدا الفرو أو الجبة المحشوة‪ ،‬فإنها تنزع‬
‫عنه؛ لنه لو ترك عليه ذلك‪ ،‬لم يبال بالضرب‪ ،‬وما عدا المذكور ل يجرد‪ ،‬لما روي عن عبد ال بن‬
‫مسعود رضي ال عنه‪ ،‬أنه قال‪« :‬ليس في هذه المة مدّ‪ ،‬ول تجريد‪ ،‬ول غَل ول صفَد» (‪ )1‬وجلد‬
‫أصحاب رسول ال صلّى ال عليه وسلم‪ ،‬فلم ينقل عن أحد منهم مد ول تجريد‪ ،‬ول ينزع عنه ثيابه‪،‬‬
‫بل يكون عليه الثوب والثوبان (‪. )2‬‬
‫وأما الرجم فترجم المرأة بالتفاق قاعدة‪ ،‬والرجل يرجم عند الجمهور قائما‪ ،‬وقال مالك كما تقدم ‪:‬‬
‫يرجم قاعدا‪.‬‬
‫أداة الحد (كيفية الضرب والرجم ) ‪:‬‬
‫يقام حد الرجم بالضرب بالمدَر (الطين المتحجر) وبالحجارة المعتدلة (أي بملء الكف) ل بحصيات‬
‫خفيفة لئل يطول تعذيبه‪ ،‬ول بصخرات تقضي عليه بسرعة لئل يفوت التنكيل المقصود (‪. )3‬‬
‫وأما الجلد‪ :‬فيكون بسوط ل ثمرة له‪ ،‬ول يمدد المحدود على الرض‪ ،‬كما يفعل اليوم؛ لنه بدعة‪ ،‬ول‬
‫يرفع الجلد يده إلى ما فوق رأسه (‪ )4‬؛ لنه يخاف منه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الطبراني‪ ،‬قال الهيثمي‪ :‬وهو منقطع السناد‪ ،‬وفيه جويبر‪ ،‬وهو ضعيف ( مجمع الزوائد‪:‬‬
‫‪ )253/6‬الغل بالفتح‪ :‬شد العنق بحبل أو غيره‪ ،‬والصفد بالتحريك‪ :‬القيد وهو الغل في العنق أيضا‪.‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪ ،270/3 :‬مغني المحتاج‪ ،190/4 :‬المغني‪ 313/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع مغني المحتاج‪ ،153/4 :‬فتح القدير‪ ،126/4 :‬المنتقى على الموطأ‪ ،134/7 :‬القوانين‬
‫الفقهية‪ :‬ص ‪.356‬‬
‫(‪ )4‬بدليل فعل عمر وعلي وابن مسعود أنهم قالوا للجلد‪« :‬ل ترفع يدك حتى ترى بياض إبطك»‬
‫رواه البيهقي (راجع التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪.)361‬‬

‫( ‪)7/331‬‬

‫الهلك أو تمزيق الجلد‪ ،‬ويضرب ضربة متوسطة ليست بمبرحة‪ ،‬ول بالتي ل مسّ فيها‪ ،‬حتى ل‬
‫يؤدي إلى الهلك‪ ،‬ويتحقق معنى النزجار‪ .‬والدليل فعل عمر وعلي وابن مسعود حيث ضربوا حدا‬
‫بسوط بين سوطين (‪ . )1‬ويلحظ أنه ل خلف بين العلماء في أن ضرب المحدود في غير حد الخمر‬
‫يكون بالسوط‪ .‬أما حد الخمر‪ :‬فقال بعضهم‪ :‬يقام باليدي والنعال وأطراف الثياب‪ ،‬لما روى أبو‬
‫هريرة أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم أتي برجل قد شرب‪ ،‬فقال‪ :‬اضربوه‪ ،‬فقال أبو هريرة‪:‬‬
‫«فمنا الضارب بيده‪ ،‬والضارب بنعله‪ ،‬والضارب بثوبه» (‪. )2‬‬
‫مكان الضرب في حد الجلد ‪:‬‬
‫يجب عند الحنفية أل يجمع الضرب في عضو واحد؛ لنه يؤدي إلى إتلف العضو أو إلى تمزيق‬
‫جلده‪ ،‬وإنما يفرق الضرب على العضاء من الكتفين والذراعين والعضدين والساقين والقدمين‪ ،‬ويتقى‬
‫المواضع المخوفة التي يخشى من ضربها القتل‪ ،‬وهو الوجه والرأس والصدر والبطن والعضاء‬
‫التناسلية (‪ . )3‬قال علي للجلد‪« :‬اضربه وأعط كل عضو منه حقه‪ ،‬واتق وجهه ومذاكيره» (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البيهقي‪ ،‬ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن يحيى بن أبي كثير‪ ،‬ويؤيد فعلهم‪ :‬ما رواه‬
‫الموطأ عن زيد بن أسلم من فعل الرسول صلّى ال عليه وسلم أنه دعا بسوط بين سوطين لجلد رجل‬
‫اعترف بالزنا (راجع جامع الصول‪ ،340/4 :‬نصب الراية‪ ،323/3 :‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪،361‬‬
‫نيل الوطار‪.)114/7 :‬‬
‫(وراجع فقها البدائع‪ ،60/7 :‬فتح القدير‪ ،126/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،169/3 :‬حاشية ابن عابدين‪:‬‬
‫‪ ،161/3‬مغني المحتاج‪ ،190/4 :‬المهذب‪ ،287/2 :‬حاشية الدسوقي‪ ،354/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص‬
‫‪.)346‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة (راجع نيل الوطار‪.)138/7 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،60/7 :‬فتح القدير‪ ،126/4 :‬المهذب‪.270/2 :‬‬
‫(‪ )4‬قال الهيثمي‪ :‬غريب مرفوعا‪ ،‬وروي موقوفا على علي‪ ،‬رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد‬
‫بن منصور والبيهقي من طرق عن علي (راجع نصب الراية‪ ،324/3 :‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪،361‬‬
‫سبل السلم‪.)32/4 :‬‬

‫( ‪)7/332‬‬

‫وقال مالك‪ :‬يضرب في الحدود الظهر وما يقاربه (‪. )1‬‬


‫وقال الشافعي‪ :‬يفرق الضرب على العضاء ويتقى الوجه والفرج والخاصرة وسائر المواضع‬
‫المخوفة‪ .‬ودليلهم قول علي السابق‪ ،‬وما روي عن عمر أنه أتي بجارية قد فجرت‪ ،‬فقال‪« :‬اذهبا‪،‬‬
‫واضرباها‪ ،‬ول تخرقا لها جلدا» ولن القصد من الحد الردع دون القتل (‪. )2‬‬
‫وقال أحمد‪ :‬يضرب في العضاء كلها ما عدا ثلثة‪ :‬وهي الرأس والوجه والفرج من الرجل والمرأة‬
‫جميعا؛ لن ما عدا هذه العضاء ليس بمقتل‪ ،‬فأشبهت الظهر‪ ،‬ودليلهم قول علي السابق للجلد‪:‬‬
‫اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه (‪. )3‬‬
‫مكان إقامة الحد ‪:‬‬
‫قال الحنفية والحنابلة‪ :‬ينبغي أن تقام الحدود كلها في مل من الناس؛ لقوله تعالى‪{ :‬وليشهد عذابَهما‬
‫طائفة من المؤمنين} [النور‪ ،]2/24:‬ولن المقصود من الحد هو زجر الناس (‪. )4‬‬
‫وقال الشافعية والمالكية‪ :‬يستحب حضور جماعة‪ ،‬وأن يكونوا أربعة على القل (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بداية المجتهد‪ ،429/2 :‬حاشية الدسوقي‪.354/4 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،154/4 :‬المهذب‪ ،270/2 :‬الميزان‪.173/2 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني لبن قدامة‪ 313/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،60/7 :‬المغني‪.170/8 :‬‬
‫(‪ )5‬مغني المحتاج‪ ،152/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،356‬المهذب‪.270/2 :‬‬

‫( ‪)7/333‬‬

‫وقال الجمهور منهم الحنفية والشافعية والحنابلة (‪ : )1‬ل تقام الحدود في المساجد لقوله عليه الصلة‬
‫والسلم‪« :‬ل تقام الحدود في المساجد‪ ،‬ول يقتل بالولد الوالد» (‪ )2‬وقوله أيضا‪« :‬جنّبوا مساجدكم‬
‫صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم‪ ،‬وشراءكم وبيعكم‪ ،‬وإقامة حدودكم‪ ،‬وجمّروها في جُمعكم‪ ،‬وضعوا‬
‫على أبوابها المطاهر» (‪. )3‬‬
‫ولن تعظيم المساجد واجب‪ ،‬ولهذا نهينا عن سل السيوف في المساجد‪ ،‬ولنه ل يؤمن أن يخرج من‬
‫المحدود نجاسة تلوث المسجد‪ ،‬فيجب الحتياط في أمرها وتنزيه المسجد عنها (‪. )4‬‬
‫حكم الميت بالرجم‪ :‬قال الجمهور‪ :‬إذا مات المرجوم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن (‪ )5‬؛ لن‬
‫الرسول عليه الصلة والسلم قال في ماعز‪« :‬اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم» (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المهذب‪ ،287/2 :‬المبسوط‪ ،101/9 :‬المغني‪ ،‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس‪ .‬وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو‬
‫ضعيف من قبل حفظه‪ ،‬وأخرجه أبو داود والحاكم وابن السكن والدارقطني والبيهقي من حديث حكيم‬
‫بن حزام‪ ،‬ول بأس بإسناده‪ ،‬ورواه البزار من حديث جبير بن مطعم وفيه الواقدي‪ ،‬وهو ضعيف‬
‫لتدليسه‪ ،‬ورواه ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه ابن لهيعة (راجع جامع‬
‫الصول‪ ،346/4 :‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،361‬مجمع الزوائد‪ ،282/6 :‬سبل السلم‪.)32/4 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه البزار من حديث ابن مسعود‪ ،‬ثم قال‪ :‬يرويه موسى عن عمير‪ ،‬قال البزار‪ :‬ليس له أصل‬
‫من حديث ابن مسعود‪ ،‬ورواه ابن ماجه والطبراني في الكبير عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن‬
‫السقع‪ ،‬ورواه الطبراني في الكبير أيضا عن معاذ (راجع نصب الراية‪ ،492/2 :‬الترغيب‬
‫والترهيب‪.)199/1 :‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ ،63/7 :‬المغني لبن قدامة‪.166/8 :‬‬
‫(‪ )6‬رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن بريدة‪ .‬وروى حديث الصلة عليه جابر بن عبد ال عند‬
‫البخاري‪ ،‬وأبو أمامة بن سهل عند الزبيدي (راجع نصب الراية‪ ،320/3 :‬تحفة الفقهاء‪.)192/3 :‬‬

‫( ‪)7/334‬‬

‫ثلثة مباحث ختامية‬


‫‪ - 1‬حكم اللواط ‪:‬‬
‫قال مالك والشافعي وأحمد‪ :‬إن اللواط يوجب الحد؛ لن ال سبحانه غلظ عقوبة فاعله في كتابه‬
‫المجيد‪ ،‬فيجب فيه حد الزنا‪ ،‬لوجود معنى الزنا فيه‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة‪ :‬يعزر اللوطي فقط‪ ،‬إذ ليس في اللواط اختلط أنساب‪ ،‬ول يترتب عليه غالبا حدوث‬
‫منازعات تؤدي إلى قتل اللئط‪ ،‬وليس هو زنا (‪. )1‬‬
‫وحد اللئط في رأي المالكية والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد‪ :‬هو الرجم بكل حال‪ ،‬سواء أكان‬
‫ثيبا أم بكرا‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط‪ ،‬فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وفي‬
‫لفظ‪« :‬فارجموا العلى والسفل» (‪. )2‬‬
‫وحد اللئط عند الشافعية‪ :‬هو حد الزنا‪ ،‬فإن كان اللئط محصنا‪ ،‬وجب عليه الرجم‪ ،‬وإن كان غير‬
‫محصن‪ ،‬وجب عليه الجلد والتغريب‪ ،‬لما روى أبو موسى الشعري رضي ال عنه أن النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم قال‪« :‬إذا جاء الرجل الرجل فهما زانيان‪ ،‬وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» ولنه‬
‫حد يجب بالوطء‪ ،‬فاختلف فيه البكر والثيب‪ ،‬قياسا على حد الزنا بجامع أن كلً منهما إيلج محرم في‬
‫فرج محرم (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬العناية على هامش فتح القدير‪.150/4 :‬‬
‫(‪ )2‬حاشية الدسوقي‪ ،314/4 :‬المغني‪ ،187/8 :‬المنتقى على الموطأ‪ ،142/7 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص‬
‫‪.355‬‬
‫(‪ )3‬الميزان للشعراني‪ ،157/2 :‬المهذب‪ ،268/2 :‬مغني المحتاج‪ ،144/4 :‬تخريج الفروع على‬
‫الصول‪ :‬ص ‪.184‬‬

‫( ‪)7/335‬‬
‫‪ - 2‬حكم إتيان البهيمة ‪:‬‬
‫اتفق الئمة الربعة على أن واطئ البهيمة يعزره الحاكم بما يردعه؛ لن الطبع السليم يأبى هذا‬
‫الوطء‪ ،‬فلم يحتج إلى زاجر بحد‪ ،‬بل يعزر‪ ،‬وفي سنن النسائي عن ابن عباس رضي ال عنهما‪:‬‬
‫«ليس على الذي يأتي البهيمة حد» (‪ ، )1‬ومثل هذا ل يقوله صحابي إل عن توقيف‪ ،‬ونقل عن‬
‫الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫واختلفوا في حكم البهيمة الموطوءة‪ ،‬فقال المالكية‪ :‬حكمها كغيرها في الذبح والكل فل تحرم ول‬
‫تكره‪.‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬ل تذبح في الصح‪ ،‬وإن كانت مأكولة وذبحت‪ ،‬حل أكلها على الصح‪ ،‬ولكنه يكره‬
‫لشبهة التحريم‪ .‬وإن كانت البهيمة لغيره‪ ،‬وجب عليه ضمانها إن كانت مما ل تؤكل‪ ،‬وضمان ما نقص‬
‫بالذبح إذا كانت تؤكل؛ لنه هو السبب في إتلفها وذبحها‪.‬‬
‫وقيل عند الحنفية‪ :‬إنها تذبح ول تؤكل‪.‬‬
‫وقال الحنابلة‪ :‬يجب قتلها‪ ،‬سواء أكانت مأكولة أم غير مأكولة‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬من أتى بهيمة‬
‫فاقتلوه واقتلوا البهيمة» (‪ ، )2‬ولن في بقائها تذكيرا بالفاحشة‪ ،‬فيعيّر بها صاحبها (‪. )3‬‬
‫‪ - 3‬حد إتيان الميتة ‪:‬‬
‫قال المالكية‪ :‬يحد من أتى ميتة في قبلها أو دبرها؛ لنه وطء في فرج آدمية‪ ،‬فأشبه وطء الحية‪ ،‬ولنه‬
‫أعظم ذنبا وأكثر إثما؛ لنه انضم إلى الفاحشة هتك حرمة الميتة (‪. )4‬‬
‫وقال الحنفية والشافعية والحنابلة في الرجح عندهم‪ :‬ل يحد واطئ الميتة؛ لن هذا ينفر الطبع عنه‪،‬‬
‫فل يحتاج إلى الزجر عنه بحد كشرب البول‪ ،‬بل يعزر ويؤدب (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي وأبو داود‪ ،‬وفي لفظ «من أتى بهيمة فل حد عليه» (راجع جامع الصول‪:‬‬
‫‪ ،308/4‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،352‬نيل الوطار‪.)118/7 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة من طريق عمرو بن أبي عمر عن ابن عباس‪ ،‬قال الترمذي‬
‫عن هذا الحديث‪( :‬ل نعرفه إل من حديث عمرو بن أبي عمر) وضعفه أبو داود بحديث ابن عباس‬
‫السابق‪( :‬ليس على الذي يأتي البهيمة حد) قال الترمذي‪ :‬هذا أصح من الول (راجع المراجع السابقة‪،‬‬
‫ونصب الراية‪ ،342/3 :‬مجمع الزوائد‪.)273/6 :‬‬
‫(‪ )3‬انظر فتح القدير‪ ،152/4 :‬البدائع‪ ،34/7 :‬حاشية الدسوقي‪ ،316/4 :‬المغني‪ ،189/8 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،146/4 :‬المهذب‪.269/2 :‬‬
‫(‪ )4‬حاشية الدسوقي‪.314/4 :‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ ،34/7 :‬المغني‪ ،181/8 :‬مغني المحتاج‪ ،145/4 :‬المهذب‪.269/2 :‬‬

‫( ‪)7/336‬‬

‫صلُ الثّاني‪ :‬حَدّ القَذف‬


‫ال َف ْ‬
‫خطة الموضوع ‪:‬‬
‫توضيح حد القذف في المباحث الستة التية‪:‬‬
‫المبحث الول ‪ :‬مشروعية حد القذف وسبب وجوبه ومقداره‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬تعريف القذف لغة‪ ،‬وتفسيره شرعا‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬شرائط وجوب حد القذف‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬صفة حد القذف‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬إثبات القذف‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬صلحيات القاضي في إثبات القذف‪.‬‬
‫المبحث الول ـ مشروعية حد القذف وسبب وجوبه ومقداره ‪:‬‬
‫مشروعيته‪ :‬القذف محرم من الكبائر‪ ،‬لما روى أبو هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم قال‪« :‬اجتنبوا السبع الموبقات‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ما هن؟ قال‪ :‬الشرك بال عز وجل‪،‬‬
‫والسحر‪ ،‬وقتل النفس التي حرم ال إل بالحق‪ ،‬وأكل الربا‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬والتولي يوم الزحف‪،‬‬
‫وقذف المحصنات الغافلت المؤمنات» (‪. )1‬‬
‫وحد القذف مشروع بقوله تعالى‪{ :‬والذين يرمون المحصنات‪ ،‬ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‪ ،‬فاجلدوهم‬
‫ثمانين جلدة‪ ،‬ول تقبلوا لهم شهادة أبدا‪ ،‬وأولئك هم الفاسقون} [النور‪.]4/24:‬‬
‫سبب وجوبه‪ :‬يجب الحد بسبب القذف بالزنا؛ لنه نسبة إلى الزنا‪ ،‬تتضمن إلحاق العار بالمقذوف‪،‬‬
‫فيجب الحد دفعا للعار عنه‪ ،‬وصيانة لسمعته (‪. )2‬‬
‫مقداره‪ :‬حد القذف مقدر بثمانين جلدة بنص الية السابقة‪ ،‬ويضم إليه عقوبة أدبية أخرى هي رد‬
‫الشهادة والتفسيق‪ ،‬فل تقبل شهادته بعدئذ إل إذا تاب في رأي غير الحنفية‪.‬‬
‫المبحث الثاني ـ تعريف القذف لغة وتفسيره شرعاً ‪:‬‬
‫القذف لغة‪ :‬هو الرمي بالحجارة ونحوها‪ ،‬ثم استعمل في الرمي بالمكاره لعلقة المشابهة بين الحجارة‬
‫والمكاره في تأثير الرمي بكل منهما؛ لن في كل منهما أذى‪ ،‬فالقذف إذاية بالقول‪ .‬ويسمى فرية ـ‬
‫بكسر الفاء ـ كأنه من الفتراء والكذب (‪. )3‬‬
‫وأما في الصطلح الشرعي‪ :‬فهو نسبة آدمي غيره لزنا‪ ،‬أو قطع نسب‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي ال عنه (راجع التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪،355‬‬
‫اللمام لبن دقيق العيد‪ :‬ص ‪ ،518‬نيل الوطار‪.)252/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪.40/7 :‬‬
‫(‪ )3‬فتح القدير‪ ،190/4 :‬حاشية الدسوقي‪ ،324/4 :‬مغني المحتاج‪ ،155/4 :‬المغني‪.215/8 :‬‬

‫( ‪)7/337‬‬

‫مسلم‪ .‬وبعبارة أخرى تُخصص المراد هنا‪ :‬هو نسبة آدمي مكلف غيره‪ ،‬حرا‪ ،‬عفيفا‪ ،‬مسلما‪ ،‬بالغا‬
‫عاقلً أو مطيقا‪ ،‬للزنا‪ ،‬أو قطع نسب مسلم‪ .‬وهذا التعريف عند المالكية (‪. )1‬‬
‫وقد فسره الحنفية بقولهم‪ :‬القذف نوعان‪:‬‬
‫ـ أن يقذفه بصريح الزنا‪ ،‬وما يجري مجرى الصريح‪ ،‬وهو نفي النسب (‪. )2‬‬
‫فالول‪ :‬أن يقذفه بصريح الزنا الخالي عن الشبهة‪ ،‬الذي لو أقام القاذف عليه أربعة من الشهود‪ ،‬أو‬
‫أقر به المقذوف‪ ،‬لزمه حد الزنا‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن ينفي نسب إنسان من أبيه المعروف‪ ،‬فيقول‪( :‬لست بابن فلن) أو ( هو ليس بأبيك )‬
‫فيكون قاذفا‪ ،‬كأنه قال‪ ( :‬أمك زانية )‪.‬‬
‫وبيانه‪ :‬إذا قال رجل لخر‪ :‬يا زاني‪ ،‬أو زنيت‪ ،‬أو أنت زانٍ‪ ،‬يحد؛ لنه قذفه بصريح الزنا‪ ،‬وكذلك لو‬
‫قال له‪ ( :‬يا ابن الزاني ) أو ( يا ابن الزانية ) فهو قاذف لبيه أو أمه‪.‬‬
‫أما لو قال له‪ ( :‬لست لمك ) فل يكون قذفا‪ ،‬إذ أنه كذب محض؛ لنه نفي النسب من الم‪ ،‬ونفي‬
‫النسب من الم ل يتصور؛ لن أمه ولدته حقيقة‪ .‬وكذا لو قال له‪ ( :‬لست لبويك ) لنه نفي نسبه‬
‫عنهما‪ ،‬ول ينتفي عن الم؛ لنها ولدته‪ ،‬فيكون كذبا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر حاشية الدسوقي‪ 324/4 :‬وعرفه ابن جزي في القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ 342‬بتعريف‬
‫أوجز‪:‬وهو الرمي بوطء حرام من قبل أو دبر أو نفي من النسب للب (خلف النفي من الم) أو‬
‫تعريض بذلك‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر التفصيل في البدائع‪ 42/7 :‬وما بعدها‪ ،‬المبسوط‪ 119/9 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير والعناية‪:‬‬
‫‪ ،202 ،190/4‬تبيين الحقائق للزيلعي‪ 199/3 :‬وما بعدها‪ ،‬حاشية ابن عابدين‪ 185/3 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/338‬‬

‫هذا بخلف ما لو قال‪ ( :‬لست لبيك ) فهو قاذف لمه؛ لن ذلك ليس بنفي لولدة الم‪ ،‬بل هو نفي‬
‫النسب عن الب‪ ،‬ونفي النسب عن الب يكون قذفا للم‪.‬ولو قال‪ ( :‬أنت ابن فلن ) لعمه أو لخاله‪ ،‬أو‬
‫لزوج أمه‪ ،‬في غير حال الغضب‪ ،‬ل يكون قذفا عند الحنفية؛ لن العم يسمى أبا‪ ،‬وكذلك الخال‪،‬‬
‫وزوج الم‪ ،‬قال ال سبحانه‪{ :‬قالوا‪ :‬نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل} [البقرة‪]133/2:‬‬
‫وإسماعيل كان عم يعقوب عليه السلم‪ ،‬وقد سماه أبا‪.‬‬
‫وقال جل وعل عن يوسف عليه السلم‪{ :‬ورفع أبويه على العرش} [يوسف‪ ]100/12:‬قيل‪ :‬إنهما أبوه‬
‫وخالته‪ ،‬وإذا كانت الخالة أما كان الخال أبا‪ ،‬وقال ال تعالى‪{ :‬إن ابني من أهلي} [هود‪ ]45/11:‬قيل‬
‫في التفسير‪ :‬إنه كان ابن امرأته من غيره‪.‬‬
‫فإن كان ذلك في حال الغضب على سبيل الشتم يكون قذفا‪.‬‬
‫ولو قال‪ ( :‬لست بابن فلن ) لجده‪ ،‬لم يكن قاذفا؛ لنه صادق في كلمه حقيقة؛ لن الجد ل يسمى أبا‬
‫حقيقة بل مجازا‪.‬‬

‫( ‪)7/339‬‬

‫ولو قال لرجل‪ (:‬يا زانية ) ل يجب الحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪ ،‬خلفا لمحمد والشافعي‪ .‬دليل‬
‫محمد والشافعي‪ :‬أن الهاء قد تدخل صلة زائدة في الكلم مثل‪{ :‬ما أغنى عني ماليهْ‪ ،‬هلك عني‬
‫سلطانيهْ} [الحاقة‪ ]29-28/69:‬ومعناه مالي وسلطاني‪ ،‬والهاء زائدة‪ ،‬فيحذف الزائد فيبقى قوله‪ ( :‬يا‬
‫زاني ) وقد تدخل الهاء في الكلم للمبالغة في الصفة مثل‪ :‬علّمة ونسابة ونحوهما‪ ،‬فل يختل به‬
‫معنى القذف‪ ،‬كما لو قال لمرأة‪« :‬يا زاني» يجب الحد بالتفاق‪ .‬ودليل الشيخين‪ :‬أنه قذفه بما ل‬
‫يتصور‪ ،‬فيلغو‪ ،‬ودليل عدم التصور أنه قذفه بفعل المرأة وهو التمكين؛ لن الهاء في الزانية هاء‬
‫التأنيث كالضاربة والقاتلة والسارقة ونحوها‪ ،‬وهو ل يتصور من الرجل‪ ،‬بخلف ما إذا قال لمرأة‪( :‬‬
‫يا زاني )؛ لنه أتى بمعنى السم‪ ،‬وحذف الهاء في نعت المرأة ل يخل بمعنى القذف‪ ،‬وهاء التأنيث قد‬
‫تحذف في الجملة كالحائض والطالق والحامل ونحوها‪.‬‬
‫فيفهم منه حكم ما لو قال لمرأته‪ ( :‬يا زاني ) فإنه يحد بالتفاق بين الحنفية والشافعية‪ .‬ولو قال‪ ( :‬يا‬
‫زانئ ) بالهمزة وعنى به الصعود‪ ،‬يحد؛ لن العامة ل تفرق بين المهموز والملين‪ ،‬وبعض العرب‬
‫يهمز الملين‪ ،‬فيبقى مجرد النية‪ ،‬فل يعتبر‪.‬‬
‫ولو قال‪ ( :‬زنأت في الجبل ) وعنى به الصعود‪ ،‬فل يصدق‪ ،‬ويحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪ .‬وعند‬
‫محمد‪ :‬يصدق ول يحد‪.‬‬
‫دليل محمد‪ :‬أن الزنا الذي هو فاحشة ملين‪ ،‬والزنأ الذي هو صعود مهموز‪ .‬فإذا قال‪ :‬عنيت به‬
‫الصعود‪ ،‬فقد عنى به ماهو موجب اللفظ لغة‪ ،‬فلزم اعتباره‪.‬‬
‫ودليل الشيخين‪ :‬أن اسم الزنا يستعمل في الفجور عرفا وعادة‪ ،‬والعامة ل تفصل بين المهموز‬
‫والملين‪ ،‬فل يصدق في الصرف عن المتعارف‪.‬‬
‫وقال الشافعية (‪ : )1‬إن قال‪ :‬زنأت في الجبل‪ ،‬فليس بقذف من غير نية؛ لن الزنأ هو الصعود في‬
‫الجبل‪ ،‬بدليل قول الشاعر‪:‬‬
‫وارق إلى الخيرات زنأً في الجبل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المهذب‪.273/2 :‬‬

‫( ‪)7/340‬‬

‫وإذا قال‪ ( :‬زنأت على الجبل ) فيحد بالتفاق؛ لنه ل تستعمل كلمة (على) في الصعود‪ ،‬فل يقال‪:‬‬
‫صعد على الجبل‪ ،‬وإنما يقال‪ :‬صعد في الجبل‪.‬‬
‫ولو قال‪ ( :‬يا ابن القحبة ) لم يكن قاذفا؛ لن هذا السم كما يطلق على الزانية‪ ،‬يستعمل في المهيأة‬
‫المستعدة للزنا وإن لم تزن‪ ،‬فل يجعل قذفا مع الحتمال‪.‬‬
‫وكذلك لو قال‪ ( :‬يا ابن الدعية ) ل يحد؛ لن الدعية هي المرأة المنسوبة إلى قبيلة ل نسب لها منهم‪،‬‬
‫فل يدل على كونها زانية‪ ،‬لجواز ثبوت نسبها من غيرهم‪.‬‬
‫ولكن إذا تغير العرف‪ ،‬وأصبح استعمال اللفظين الخيرين مقصودا به القذف في عرف الناس‬
‫وعاداتهم‪ ،‬وجب الحد‪.‬‬
‫هذا كله في القذف بصريح الزنا‪ ،‬أو بما جرى مجرى الصريح‪ ،‬وفيما ليس قذفا بالزنا‪ ،‬فما حكم القذف‬
‫بطريق الكناية والتعريض؟ وجوابه فيما يأتي‪:‬‬
‫هل التعريض بالقذف يوجب الحد؟‬
‫اتفق الفقهاء على أن القذف إذا كان بلفظ صريح بالزنا‪ ،‬وجب الحد‪ .‬واختلفوا إذا كان بتعريض مثل‪:‬‬
‫أن يقول لمن يخاصمه‪ ( :‬ما أنت بزان )‪ ( ،‬ما يعرفك الناس بالزنا )‪ ( ،‬يا حلل ابن الحلل )‪ .‬أو‬
‫يقول‪ ( :‬ما أنا بزان‪ ،‬ول أمي بزانية‪ ،‬ول أبي بزان )‪.‬‬
‫فقال الحنفية‪ :‬إن التعريض ل يوجب الحد‪ ،‬وإن نوى به القذف؛ لن التعريض أمر خفيف في الذى‬
‫عادة‪ ،‬وهو بمنزلة الكناية المحتملة للقذف ونحوه‪ ،‬ول يحد الشخص بالحتمال‪ ،‬لقوله عليه الصلة‬
‫وسلم‪ ( :‬ادرؤوا الحدود بالشبهات )‪ .‬كذلك ل يحد باللفاظ المشتركة بين الزنا وغيره‪ ،‬أو بما يدل‬
‫صراحة على وطء غير الزنا‪.‬‬
‫مثال الول‪ :‬أن يقول لمرأة‪ ( :‬وطئك فلن وطأً حراما ) أو (فجر بك فلن) أو يقول لرجل‪ (:‬وطئت‬
‫فلنة حراما ) أو ( جامعتها حراما ) فل يحد‪ ،‬إذ قد يكون الوطء حراما ول يكون زنا‪ ،‬فكان قذفه‬
‫محتملً‪ ،‬ول يجب الحد مع الحتمال‪.‬‬

‫( ‪)7/341‬‬

‫ومثال الثاني‪ :‬أن يقول لرجل‪ ( :‬يا لوطي ) أو ( تعمل عمل قوم لوط ) فل يحد؛ لنه في الول نسبه‬
‫إلى قوم لوط فقط‪ ،‬وفي الثاني قذفه باللواط‪ ،‬وهو ليس زنا عند أبي حنيفة خلفا لصاحبيه‪ ،‬كما سبق‬
‫بيانه بالتفصيل (‪. )1‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬التعريض بالقذف يوجب الحد إن أفهم تعريضه القذف بالزنا بالقرائن‪ ،‬كالخصام‪ ،‬كأن‬
‫يقول‪ ( :‬أما أنا فلست بزان ) أو ( أنا معروف ) لنه ثقيل على غالب الناس‪ ،‬والكناية قد تقوم في‬
‫العادة والستعمال مقام الصريح‪ ،‬وإن كان اللفظ فيها مستعملً في غير موضعه أي مقولً بالستعارة‪،‬‬
‫وهذا معنى قول الدباء‪ :‬الكناية أبلغ من الصريح‪ .‬وقد وقعت هذه القضية في زمان عمر‪ ،‬فشاور فيها‬
‫الصحابة‪ ،‬فاختلفوا فيها عليه‪ ،‬فرأى عمر فيها الحد‪ ،‬فجلد القاذف (‪. )2‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬التعريض إن نوى به القذف‪ ،‬وفسره به وجب الحد‪ ،‬فهو بمنزلة الكناية‪ ،‬والكناية‬
‫توجب الحد؛ لن ما ل تعتبر فيه الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلق والعتاق‪.‬‬
‫وإن لم ينو به القذف لم يجب الحد‪ ،‬سواء أكان التعريض في حال الخصومة أم غيرها؛ لنه يحتمل‬
‫القذف وغيره‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر المبسوط‪ ،120/9 :‬فتح القدير‪ ،191/4 :‬البدائع‪ ،44-42/7 :‬تبيين الحقائق‪.200/3 :‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،432/2 :‬حاشية الدسوقي‪ ،327/4 :‬المنتقى على الموطأ‪ ،150/7 :‬القوانين‬
‫الفقهية‪ :‬ص ‪.357‬‬
‫( ‪)7/342‬‬

‫والحدود تدرأ بالشبهات (‪ . )1‬ومن الكناية عندهم أن يقول‪ :‬يا فاجر‪ ،‬يا خبيث‪ ،‬ياحلل ابن الحلل‪،‬‬
‫فإن نوى به القذف‪ ،‬وجب به الحد‪ ،‬وإن لم ينو به القذف‪ ،‬لم يجب به الحد‪ ،‬سواء أكان القول في حال‬
‫الخصومة أم في غيرها؛ لنه يحتمل القذف وغيره‪.‬‬
‫وقال الحنابلة‪ :‬اختلفت الرواية عن أحمد في التعريض بالقذف‪:‬في رواية ل حد عليه‪ ،‬وهو ظاهر كلم‬
‫الخرقي واختيار أبي بكر‪ .‬وفي رواية‪ :‬عليه الحد بدليل فعل عمر السابق ذكره (‪. )2‬‬
‫القذف باللواط‪ :‬قال الشافعية (‪ : )3‬إن قال شخص لغيره‪ :‬لطت أو لط بك فلن باختيارك‪ ،‬فهو قذف؛‬
‫لنه قذفه بوطء يوجب الحد‪ ،‬فأشبه القذف بالزنا‪ ،‬وإن قال‪ :‬يا لوطي‪ ،‬وأراد أنه على دين قوم لوط ل‬
‫يحد؛ لنه يحتمل ذلك‪ .‬وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد‪ .‬والقذف باللواط موجب للحد عند‬
‫الجمهور غير الحنفية‪.‬‬
‫قذف الجماعة‪ :‬قال الحنفية والمالكية‪ :‬إذا قذف الشخص جماعة يحد حدا واحدا‪ ،‬كأن يقول‪« :‬كلكم‬
‫زان» أو يقول لكل واحد منهم في مجلس‪ ،‬أو متفرقين‪« :‬يا زاني» أو «فلن زان‪ ،‬وفلن زان» ‪.‬‬
‫ودليلهم أن هلل بن أمية قذف أمرأته بشريك بن سحماء‪ ،‬فرفع المر إلى النبي عليه الصلة والسلم‬
‫فلعن بينهما‪ ،‬ولم يحد هللً لقذفه شريك بن سحماء (‪ )4‬؛ لن القذف جناية توجب‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المهذب‪.273/2 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪.222/8 :‬‬
‫(‪ )3‬المهذب‪.273/2 :‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات من حديث أنس بن مالك‪ ،‬قال‪« :‬أول لعان كان في السلم أن‬
‫شريك ابن سحماء قذفه هلل بن أمية بامرأته‪ ،‬فقال له النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ :‬البينة وإل فحد في‬
‫ظهرك‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن ال يعلم أني لصادق ولينزلن ال عليك ما يبرئ ظهري من الحد‪،‬‬
‫فأنزل ال عز وجل آية اللعان‪ ،‬ولعن النبي صلّى ال عليه وسلم وفرق بينهما» والحديث أخرجه‬
‫البخاري عن ابن عباس (راجع نصب الراية‪ ،306/3 :‬سبل السلم‪.)16/4 :‬‬

‫( ‪)7/343‬‬
‫حدا‪ ،‬فإذا تكرر كفى حد واحد‪ ،‬كما لو سرق من جماعة‪ ،‬أو زنى بنساء (‪. )1‬‬
‫وقال الشافعي‪ ،‬وزفر من الحنفية‪ :‬إذا قذف شخص جماعة‪ ،‬فيجب لكل واحد منهم حد‪ ،‬سواء أكان‬
‫القذف لكل واحد على انفراد أم بكلمة واحدة؛ لنه ألحق العار بقذف كل واحد منهم‪ ،‬فلزمه لكل واحد‬
‫منهم حد‪ ،‬كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف (‪. )2‬‬

‫وقال الحنابلة‪ :‬إن قذف الجماعة بكلمة واحد‪ ،‬فيحد حدا واحدا‪ ،‬إذا طالبوا جميعا‪ ،‬أو طالب واحد منهم؛‬
‫لن مطلق الية‪{ :‬والذين يرمون المحصنات} [النور‪ ]4/24:‬لم يفرق فيها بين قذف واحد أو جماعة‪،‬‬
‫ولنه قذف واحد‪ ،‬فلم يجب إل حد واحد‪ .‬فإن قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد؛ لن القذف حق‬
‫للدمي‪ ،‬وحقوق الدميين ل تتداخل كالديون والقصاص (‪ ، )3‬أي ل يجزئ بعضها عن بعض‪.‬‬
‫تكرار القذف‪ :‬قال الشافعية (‪ : )4‬إن كرر القاذف القذف بنفس الزنا السابق الذي حد عليه‪ ،‬يعزر‬
‫للذى‪ ،‬ولم يحد؛ كما فعل عمر مع أبي بكرة الذي كرر قذف المغيرة‪ .‬وإن قذفه بزنا آخر قبل أن يقام‬
‫عليه الحد‪ ،‬يلزمه في الصحيح حد واحد؛ لنهما حدان من جنس واحد‪ ،‬لمستحق واحد‪ ،‬فتداخل كما لو‬
‫زنى‪ ،‬ثم زنى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،111/9 :‬البدائع‪ ،56 ،42/7 :‬حاشية الدسوقي‪ ،327/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪،358‬‬
‫بداية المجتهد‪ ،433/2 :‬الشرح الكبير‪.327/4 :‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪ ،275/2 :‬الميزان‪.160/2 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪ 233/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬المهذب‪.275/2 :‬‬

‫( ‪)7/344‬‬

‫وقال المالكية (‪ : )1‬من قذف شخصا واحدا مرارا كثيرة‪ ،‬فعليه حد واحد إذا لم يحد لواحد منها‪،‬‬
‫اتفاقا‪ ،‬فإن قذفه فحد‪ ،‬ثم قذفه مرة أخرى‪ ،‬حد مرة أخرى اتفاقا‪.‬‬
‫وأيد الحنابلة (‪ )2‬ذلك فقالوا‪ :‬إن اجتمعت حدود ال في جنس‪ ،‬بأن زنى أو سرق أو شرب مرارا‪،‬‬
‫تداخلت‪ ،‬فل يحد سوى مرة‪ ،‬فإن كانت من أجناس وفيها قتل‪ ،‬استوفي وحده‪ ،‬وإل وجب أن يبدأ‬
‫بالخف فالخف‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ شرائط وجوب حد القذف ‪:‬‬
‫اشترط الحنفية لوجوب حد القذف ستة أنواع من الشرائط‪ ،‬يتعلق بعضها بالقاذف‪ ،‬وبعضها بالمقذوف‪،‬‬
‫وبعضها بهما جميعا‪ ،‬وبعضها بالمقذوف به‪ ،‬وبعضها بالمقذوف فيه‪ ،‬وبعضها بنفس القذف‪.‬‬
‫أولً ـ شروط القاذف ‪:‬‬
‫يشترط في القاذف ستة شروط متفق عليها‪:‬‬
‫‪ - 1‬العقل‪ :‬فل عبرة بكلم المجنون‪.‬‬
‫‪ - 2‬البلوغ‪ :‬فل يحد القاذف إذا كان صبيا كالمجنون‪ ،‬والسبب في عدم العقاب أن الحد عقوبة‪،‬‬
‫فتستدعي كون القذف جناية‪ ،‬وفعل الصبي والمجنون‪ ،‬ليوصف بكونه جناية‪ .‬ولفرق بين كون‬
‫القاذف مسلما أو كافرا التزم حقوق المسلمين من مرتد أو ذمي أو معاهد‪ .‬واشترط الشافعية كون‬
‫القاذف مختارا غير مكره‪.‬‬
‫‪ - 3‬عدم إثباته ما قذف به بأربعة شهود‪ ،‬فإن أتى بهم وشهدوا على المقذوف بالزنا‪ ،‬لم يحد حد‬
‫القذف‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة}‬
‫[النور‪ )3( ]4/24:‬واشترط أبو حنيفة أن يأتي الشهود جماعة؛ لن الشاهد الواحد إذا شهد بانفراده‬
‫صار قاذفا‪ ،‬فوجب عليه الحد‪ ،‬وخرج عن كونه شاهدا‪ ،‬فل خلص من هذا الشكال إل باشتراط‬
‫الجتماع‪ .‬ولم يشترط الجمهور هذا الشرط‪ ،‬إذ الية مطلقة‪ ،‬بل تفريقهم أولى؛ لنه أبعد عن التهمة‬
‫والتواطؤ‪ .‬وأجاز الحنفية كون الزوج أحد الشهود الربعة‪ .‬وقال الجمهور‪ :‬يلعن الزوج‪ ،‬ويحد‬
‫الشهود الثلثة؛ لن الشهادة بالزنى قذف‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن يكون القاذف ملتزما بأحكام الشريعة‪ ،‬ل الحربي‪ ،‬وعالما بالتحريم‪.‬‬
‫‪ - 5‬الختيار أو الطواعية‪ ،‬فل يحد المكره بالقذف‪.‬‬
‫‪ - 6‬أل يأذن المقذوف للقاذف بالقذف بالزنا‪ ،‬فإن أذن له بالقذف لم يحد للشبهة‪.‬‬
‫ثانيا ـ شروط المقذوف ‪:‬‬
‫يشترط في المقذوف بالتفاق شرطان (‪: )4‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون المقذوف محصنا‪ :‬رجلً كان أو امرأة‪ .‬وشرائط إحصان‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ 357‬وما بعدها‪ ،‬الشرح الكبير‪.327/4 :‬‬
‫(‪ )2‬غاية المنتهى‪.315/3 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪.40/7 :‬‬
‫(‪ )4‬انظر البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬فتح القدير‪ ،191/4 :‬المبسوط‪ ،116/9 :‬تبيين الحقائق للزيلعي‪:‬‬
‫‪ ،200/3‬حاشية ابن عابدين‪ ،184/3 :‬المهذب‪ ،276 ،272/2 :‬الدرديرمع الدسوقي‪ 325/4 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬المغني‪ 227 ،215/8 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/345‬‬

‫القذف خمسة‪ :‬العقل‪ ،‬والبلوغ‪ ،‬والحرية‪ ،‬والسلم‪ ،‬والعفة عن الزنا‪ .‬وبناء عليه ل يجب الحد بقذف‬
‫الصبي والمجنون والرقيق والكافر‪ ،‬ومن لعفة له من الزنا‪.‬‬
‫أما اشتراط العقل والبلوغ‪ :‬فلن الزنا ل يتصور من الصبي والمجنون‪ ،‬فكان قذفهما بالزنا كذبا‬
‫محضا‪ ،‬فيوجب التعزير‪ ،‬ل الحد‪.‬‬
‫وأما الحرية‪ :‬فلن ال سبحانه وتعالى شرط الحصان في آية القذف‪ ،‬وهي قوله تعالى‪{ :‬والذين‬
‫يرمون المحصنات} [النور‪ ]4/24:‬والمراد من المحصنات هنا‪ :‬الحرائر ل العفائف عن الزنا‪ .‬فلو‬
‫أريد من المحصنات‪ :‬العفائف‪ ،‬لكان تكرارا مع ما بعده من الوصاف التية‪.‬‬
‫وأما السلم والعفة عن الزنا‪ ،‬فلقوله تعالى‪ { :‬إن الذين يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات}‬
‫[النور‪ ]23/24:‬والغافلت‪ :‬العفائف عن الزنا‪.‬‬
‫وتفسير العفة عن الزنا‪ :‬هو أل يكون المقذوف قد وطئ في عمره وطأً حراما‪ ،‬في غير ملك‪ ،‬ول‬
‫نكاح أصلً‪ ،‬ول في نكاح فاسد فسادا مجمعا عليه في عهد السلف‪ ،‬مثل وطء المرأة بشبهة‪ :‬بأن زفت‬
‫إليه غير امرأته فوطئها‪.‬‬
‫ومن ل يجب عليه الحد‪ ،‬لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض بالقذف‪ ،‬على الخلف السابق فيه‪ ،‬عزر؛‬
‫لنه آذى من ل يجوز إيذاؤه‪.‬‬

‫( ‪)7/346‬‬

‫‪ - 2‬أن يكون المقذوف معلوما‪ :‬فإن كان مجهولً ل يجب الحد‪ ،‬كما إذا قذف جماعة على النحو الذي‬
‫سبق بيانه‪ ،‬أو قال لجماعة‪ ( :‬ليس فيكم زان إل واحد ) أو قال لرجلين‪ ( :‬أحدكما زان ) فإنه في هذه‬
‫الصور الثلث ل يجب الحد لكل واحد من الجماعة؛ لن المقذوف مجهول‪ .‬والمذهب لدى الشافعية (‬
‫‪ : )1‬أنه إذا قذف الوالد ولده‪ ،‬أو قذف الجد ولد ولده‪ ،‬لم يجب عليه الحد؛ لن الحد عقوبة تجب لحق‬
‫الدمي‪ ،‬فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص‪ .‬وإن قذف زوجته‪ ،‬فماتت‪ ،‬وله منها ولد‪ ،‬سقط الحد؛‬
‫لن المطالبة حق للولد‪ ،‬ولم يثبت له هذا الحق على والده‪ .‬وإن كان لها ابن آخر من غيره‪ ،‬وجب له‬
‫الحد‪ ،‬لثبوت حقه فيه‪.‬‬
‫ثالثا ـ ما يشترط في القاذف والمقذوف معا ‪:‬‬
‫يشترط بالتفاق أل يكون القاذف أبا للمقذوف‪ ،‬ول جده وإن عل‪ ،‬ول أمه ول جدته وإن علت‪ .‬فإن‬
‫كان كذلك‪ ،‬فل حد عليه‪ ،‬للوامر التي تطالب بالحسان إلى هؤلء‪ ،‬وفي إقامة الحد ترك للتعظيم‬
‫والحترام الواجب شرعا (‪. )2‬‬
‫رابعا ـ مايشترط في المقذوف به ‪:‬‬
‫يشترط أن يكون القذف بصريح الزنا‪ ،‬أو بما يجري مجرى الصريح‪ .‬وقد سبق تفصيله في مطلب‬
‫تفسير القذف شرعا‪.‬‬
‫خامسا ـ شرط المقذوف فيه أي المكان ‪:‬‬
‫يشترط أن يكون القذف حاصلً في دار العدل‪ ،‬فإن حصل في دار الحرب أو في دار البغي‪ ،‬فل يجب‬
‫الحد؛ لن المام هو الذي يقيم الحد‪ ،‬ول ولية له على دار الحرب‪ ،‬ول على دار البغي (‪ )3‬في رأي‬
‫الجمهور‪ ،‬وقال الشافعية‪ :‬يستحق الباغي الحد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المهذب‪.272/2 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،42/7 :‬المهذب‪ ،272/2 :‬الدردير مع الدسوقي‪ ،331 ،327/4 :‬المغني‪.219/6 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪.45/7 :‬‬

‫( ‪)7/347‬‬

‫سادسا ـ ما يشترط في القذف نفسه ‪:‬‬


‫يشترط أن يكون القذف مطلقا عن الشرط والضافة إلى وقت في المستقبل‪ .‬فإن كان معلقا بشرط أو‬
‫مضافا إلى وقت‪ ،‬ل يجب الحد؛ لن ذكر الشرط أو الوقت يمنع وقوعه قذفا للحال‪ ،‬وعند وجود‬
‫الشرط أو الوقت يجعل كأنه نجز القذف‪ ،‬فكان قاذفا تقديرا مع انعدام القذف حقيقة‪ ،‬فل يجب الحد‪.‬‬
‫فإذا قال رجل لخر‪ ( :‬إن دخلت هذه الدار فأنت زان ) فدخل‪ ،‬فل حد عليه‪ .‬وكذلك إذا قال لغيره‪:‬‬
‫( أنت زان غدا ) أو ( أنت زان رأس شهر كذا ) فجاء الغد والشهر‪ ،‬ل حد عليه (‪. )1‬‬
‫والخلصة‪ :‬قال القرطبي‪ :‬للقذف عند العلماء شروط تسعة‪ :‬شرطان في القاذف‪ ،‬وهما العقل والبلوغ؛‬
‫لنهما أصل التكليف؛ إذ التكليف ساقط دونهما‪ .‬وشرطان في المقذوف به‪ :‬وهو أن يقذف بوطء يلزمه‬
‫فيه الحد‪ ،‬وهو الزنا واللواطة‪ ،‬أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي‪ .‬وخمسة في المقذوف‪ :‬وهي‬
‫العقل والبلوغ والسلم والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها‪ ،‬كان عفيفا من غيرها‪ ،‬أم ل‪.‬‬
‫المبحث الرابع ـ صفة حد القذف ‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في تكييف حد القذف‪ ،‬هل هو حق ل تعالى أو حق للعباد (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ :‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬المراد بحق العبد‪ :‬هو أنه لو أسقطه لسقط كالديون والثمان‪ .‬والمراد بحق ال ‪ :‬هو أنه ليس‬
‫للعبد إسقاطه (الفروق‪.)141/1 :‬‬

‫( ‪)7/348‬‬

‫قال الحنفية‪ :‬إن حد القذف فيه حقان‪ :‬حق للعبد‪ ،‬وحق ل تعالى‪ ،‬إل أن حق ال تعالى فيه غالب؛ لن‬
‫القذف جريمة تمس العراض‪ ،‬وفي إقامة الحد على القاذف تتحقق مصلحة عامة‪ :‬وهي صيانة‬
‫مصالح العباد‪ ،‬وصيانة العراض‪ ،‬ودفع الفساد عن الناس (‪. )1‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬إن حد القذف حق خالص للدمي المقذوف؛ لن القذف جناية على عرض‬
‫المقذوف‪ ،‬وعرضه حقه‪ ،‬فكان البدل (وهو العقاب) حقه‪ ،‬كالقصاص (‪. )2‬‬
‫ويترتب على هذا الخلف‪ :‬أنه بناء على القول الول‪ ،‬وهو مذهب الحنفية‪ :‬ل يصح للمقذوف إسقاط‬
‫الحد ول البراء منه والعفو عنه‪،‬ول الصلح والعتياض عنه (أي بعد أن يرفع المر إلى الحاكم‪ ،‬أما‬
‫قبل ذلك فيسقط بالعفو) ول يجري فيه الرث‪ ،‬ولكن يسقط بموت المقذوف؛ لن الرث إنما يجري‬
‫في المتروك من ملك أو حق للمورث‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬من ترك مالً أو حقا فهو لورثته» (‪)3‬‬
‫وحد القذف ليس حقا للمورث عندهم‪ ،‬وإنما هو حق ل تعالى في غالبه‪ ،‬فل يرثه ورثته‪ ،‬ويجري فيه‬
‫التداخل كما في قذف الجماعة‪ ،‬فيجب حد واحد إذا تكرر القذف كما سبق بيانه‪.‬‬
‫وإذا طلب المقذوف من القاضي أن يستحلف القاذف‪ ،‬فل يحلفه كما في حد الزنا‪ .‬ومثل حد القذف‪ :‬حد‬
‫الزنا والشرب والسكر والسرقة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،194/4 :‬البدائع‪ ،56/7 :‬حاشية ابن عابدين‪ ،189/4 :‬المبسوط‪.113/9 :‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪ 274/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الميزان‪ 160/2 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪،233 ،230 ،219 ،217/8 :‬‬
‫‪.236‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه قال في خطبته‪« :‬من‬
‫خلّف مالً أو حقا فلورثته‪ ،‬ومن خلف كلً أو دينا‪ ،‬فكله إلي‪ ،‬ودينه علي» وفي لفظ‪« :‬من ترك مالً‬
‫فلورثته‪ ،‬ومن ترك كلّ فإلينا» وعن سلمان عند الطبراني بنحو حديث أبي هريرة وزاد‪« :‬وعلى‬
‫الولة من بعدي من بيت مال المسلمين» وفي إسناده عبد ال بن سعيد النصاري متروك‪ ،‬وعن أبي‬
‫أمامة عند ابن حبان في ثقاته‪ .‬وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من ترك كلً فإلي‪ ،‬ومن ترك مالً فلورثته‪ ،‬وأنا وارث من ل‬
‫وارث له‪ ،‬أعقل منه‪ ،‬وأرثه‪ ،‬والخال وارث من ل وارث له‪ ،‬يعقل عنه ويرثه» ‪( .‬راجع نصب‬
‫الراية‪ ،58/4 :‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،251‬نيل الوطار‪.)238/5 :‬‬

‫( ‪)7/349‬‬

‫وبناء على القول الثاني‪ ،‬وهو مذهب الشافعية والحنابلة‪ :‬يصح للمقذوف ولو بعد رفع المر للحاكم‬
‫إسقاط الحد والبراء منه‪ ،‬والعفو عنه‪ ،‬والصلح‪ ،‬والعتياض عنه‪ ،‬ويورث حق المطالبة بحد القذف؛‬
‫لنه من حقوق العباد‪ .‬أما حديث صفوان التي فهو في حد السرقة الذي هو حق ل تعالى‪ .‬ودليلهم ما‬
‫رواه ابن السني أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان يقول‪:‬‬
‫تصدقت بعرضي» أي بنفسي‪ ،‬والتصدق بالعرض ل يكون إل بالعفو عما يجب له‪.‬‬
‫وأما التداخل‪ :‬فل يجري فيه عندهم‪ ،‬حتى لو قذف جماعةً‪ ،‬كل واحد منهم على انفراد‪ ،‬وجب لكل‬
‫واحد منهم حد كما سبق بيانه وتفصيله‪.‬‬
‫وإذا ادعى شخص على رجل أنه قذفه فيستحلف؛ لنه حق لدمي كالدين‪.‬‬
‫وأما مذهب المالكية فمختلف فيه؛لن قول مالك اختلف‪ :‬فمرة قال بقول الشافعي‪ :‬وهو أن حد القذف‬
‫حق للدمي‪ ،‬فيجوز فيه العفو وهو الظهر عند ابن رشد‪ ،‬ومرة قال‪ :‬فيه حقان‪ :‬حق ل وحق للعبد‪،‬‬
‫إل أنه يغلب فيه حق المام إذا وصل إليه أمر الحد‪ ،‬فإذا رفع أمر الحد إلى المام ل يملك المقذوف‬
‫العفو عن الحد‪ ،‬إل إذا أراد المقذوف الستر على نفسه‪ ،‬تغليبا لحق ولي المر إذا وصل إليه الحد‪،‬‬
‫قياسا على الثر الوارد في السرقة (‪ ، )1‬وهو أن الرسول عليه الصلة والسلم قال في حادثة سارق‬
‫رداء صفوان‪« :‬فهل ـ أي عفوت عنه ـ قبل أن تأتيني به» فلم يعمل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر بداية المجتهد‪ 433/2 :‬وما بعدها‪ ،‬المنتقى على الموطأ‪ ،148/7 :‬حاشية الدسوقي‪،331/4 :‬‬
‫الفروق للقرافي‪ ،141/1 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،358‬تهذيب الفروق‪ ،157/1 :‬الفروق‪،141/1 :‬‬
‫‪.175/4‬‬

‫( ‪)7/350‬‬
‫الرسول بقول صفوان‪« :‬إني لم أرد هذا ـ أي قطع يده ـ هوـ أي الرداء ـ عليه صدقة» (‪. )1‬‬
‫والرأي الول هو المشهور عن مالك والراجح في مذهبه‪ ،‬فيجوز عنده للمقذوف العفو عن قاذفه قبل‬
‫بلوغ المام أو نائبه‪ ،‬أو بعد بلوغه إليه إن أراد المقذوف سترا على نفسه‪ ،‬كأن يخشى أنه إن ظهر‬
‫أمره قامت عليه بينة بما رماه به‪ .‬أما إن لم يرد المقذوف الستر‪ ،‬فل يجوز له العفو عن القاذف بعد‬
‫بلوغ المام أو نائبه‪ ،‬لصيرورته حقا ل تعالى‪.‬‬
‫المبحث الخامس ـ إثبات القذف ‪:‬‬
‫تثبت جرائم الحدود كلها عند القاضي بالبينة أو بالقرار‪ ،‬بشرط توافر شروط معينة‪ ،‬بعضها في‬
‫وسيلة الثبات نفسها‪ ،‬أي في البينة أو القرار‪ ،‬وبعضها يتوقف عليها النظر في إثبات الحد بالوسائل‬
‫المذكورة‪ ،‬وهو شرط الخصومة (‪ ، )2‬أي رفع الدعوى‪.‬‬
‫الخصومة‪ :‬الخصومة معناها‪ :‬رفع الدعوى‪ ،‬وهي ليست بشرط في حد الزنا والشرب‪ ،‬ولكنها شرط‬
‫في ثبوت حد السرقة كما سأبين‪ ،‬وشرط في ثبوت حد‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه الموطأ وأحمد وأصحاب السنن الربعة وصححه ابن الجارود والحاكم عن صفوان بن‬
‫أمية‪ .‬ورواية الموطأ‪ :‬أن صفوان بن أمية قيل له‪ :‬إنه إن لم يهاجر هلك‪ ،‬فقدم صفوان بن أمية‬
‫المدينة‪ ،‬فنام في المسجد وتوسد رداءه‪ ،‬فجاء سارق‪ ،‬فأخذ رداءه‪ .‬فأخذ صفوان السارق‪ ،‬فجاء به إلى‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأمر به رسول ال صلّى ال عليه وسلم أ ن تقطع يده‪ ،‬فقال له‬
‫صفوان‪ :‬إني لم أرد هذا يا رسول ال ‪ ،‬هو عليه صدقة‪ ،‬فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ :‬فهل‬
‫قبل أن تأتيني به‪( .‬راجع تنوير الحوالك شرح موطأ مالك‪ ،49/3 :‬جامع الصول‪ ،342/4 :‬مجمع‬
‫الزوائد‪ ،276/6 :‬نصب الراية‪ ،368/3 :‬سبل السلم‪.)26/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪.52 ،46/7 :‬‬

‫( ‪)7/351‬‬

‫القذف بالشهادة والقرار‪ .‬أما على أصل الشافعي فلن حد القذف حق خالص للعبد‪ ،‬فيشترط فيه‬
‫الدعوى‪ ،‬كما في سائر حقوق العباد‪ ،‬ويسقط إذا عفا عنه‪ ،‬بدليل ما روى ابن السني‪« :‬أن النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم قال‪ :‬أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ كان يقول‪ :‬تصدقت بعرضي» والتصدق‬
‫بالعرض ل يكون إل بالعفو عما يجب له‪.‬‬
‫وأما عند الحنفية‪ :‬فحد القذف وإن كان المغلب فيه حق ال عز وجل‪ ،‬ولكن للشخص فيه حق؛ لنه‬
‫ينتفع به بصيانة عرضه عن الهتك‪ ،‬فيشترط فيه رفع الدعوى عن جهة حق الشخص؛ لن حق‬
‫الشخص الخاص ل يثبت إل بمطالبته وخصومته (‪ . )1‬وسأتكلم عن الخصومة في موضعين‪ :‬حكم‬
‫الخصومة‪ ،‬ومن يملك الخصومة‪.‬‬
‫حكم الخصومة أو الدعوى‪ :‬الفضل للمقذوف أن يترك الخصومة؛ لن فيها إشاعة الفاحشة‪ ،‬وهو‬
‫مندوب إلى تركها‪ ،‬وكذا العفو عن الخصومة أفضل لقوله تعالى‪{ :‬وأن تعفوا أقرب للتقوى ول تنسوا‬
‫الفضل بينكم} [البقرة‪ ]237/2:‬ويستحسن للقاضي إذا رفع المر إليه أن يرغب المدعي بترك الدعوى‬
‫( ‪. )2‬‬
‫من يملك الخصومة ومن ل يملكها ‪:‬‬
‫المقذوف‪ :‬إما أن يكون حيا وقت القذف‪ ،‬وإما أن يكون ميتا‪ .‬فإن كان حيا فل خصومة لحد سواه‪،‬‬
‫ولو كان ولدا أو والدا له‪ ،‬سواء أكان حاضرا أم غائبا؛ لنه إذا كان حيا وقت القذف‪ ،‬كان هو‬
‫المقذوف صورة ومعنى بإلحاق العار به‪ ،‬فكان حق الخصومة له‪.‬‬
‫وتجوز النابة في هذه الخصومة وهو التوكيل بالثبات بالبينة عند أبي حنيفة ومحمد‪ .‬وعند أبي‬
‫يوسف‪ :‬ل تجوز‪ ،‬إذ ل تصح وكالة في حد ولقصاص عنده‪ .‬دليله‪ :‬أنه كما ل يجوز التوكيل في‬
‫استيفاء حد القذف‪ ،‬فل يجوز ذلك في إثباته؛ لن الثبات وسيلة إلى الستيفاء‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ :‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،52‬المهذب‪.274/2 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.52‬‬

‫( ‪)7/352‬‬

‫ودليل الطرفين‪ :‬أنه يفرق بين الثبات والستيفاء‪ ،‬وهو أن امتناع التوكيل في الستيفاء بسبب الشبهة‪،‬‬
‫وهي منعدمة في التوكيل بالثبات (‪. )1‬‬
‫وأما إذا كان المقذوف ميتا‪ :‬فإن حق الخصومة للوالد وإن عل‪ ،‬وللولد وإن سفل؛ لن معنى القذف‬
‫وهو إلحاق العار عائد إلى الصل والفرع‪ ،‬لوجود الجزئية بالنسبة للفرع والبعضية بالنسبة للصل‪،‬‬
‫وقذف النسان يكون قذفا لجزائه‪ ،‬فكان القذف لحقا بهم من حيث المعنى‪ ،‬أما الميت فل يرجع إليه‬
‫معنى القذف؛ لنه ليس بمحل للحاق العار به (‪ . )2‬فإذا كان المقذوف حيا ثم مات‪ ،‬فليس لحد من‬
‫هؤلء حق الخصومة؛ لنه حد ل يورث كما عرفنا‪.‬‬
‫ول حق في الخصومةأصلً للخوة والخوات والعمام والعمات والخوال والخالت؛ لنه وإن كان‬
‫يؤلمهم نسبة الزنا إلى قريبهم‪ ،‬ولكنهم ل يلحقهم القذف ل صورة ول معنى‪ ،‬لعدم انتسابهم إلى‬
‫المقذوف ل بجزئية ول بأصل‪.‬‬
‫وأما أولد البنات فمختلف فيهم‪ :‬فعند محمد‪ :‬ل يملكون الخصومة؛ لن ولد البنت ينسب إلى أبيه‪ ،‬ل‬
‫إلى جده‪ ،‬فلم يكن مقذوفا معنى بقذف جده‪.‬‬
‫وعند أبي حنيفة وأبي يوسف‪ :‬يملكون الخصومة؛ لن النسبة الحقيقية بين المقذوف وأولد بناته ثابتة‬
‫بوساطة أمهاتهم‪ ،‬فصاروا مقذوفين معنى (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،21/6 :‬فتح القدير‪ ،197/4 :‬المبسوط‪.113/9 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ :‬المرجع السابق‪ ،55/7 :‬حاشية ابن عابدين‪ ،187/4 :‬فتح القدير‪.195/4 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق نفسه‪ ،‬المبسوط‪.112/9 :‬‬

‫( ‪)7/353‬‬

‫ويلحظ أن حق الخصومة يثبت لقارب المقذوف هؤلء على السواء‪ ،‬دون مراعاة الترتيب في‬
‫القرابة‪ ،‬فالقرب والبعد في هذا الحق سواء؛ لنه ثابت لهم ابتداء‪ ،‬وليس من طريق الرث عن‬
‫الميت وانتقاله لهم‪.‬‬
‫وقال زفر‪ :‬يراعى الترتيب في القرابة؛ لن عار القرب يزيد على البعد (‪. )1‬‬
‫ونص المالكية والشافعية والحنابلة (‪ : )2‬على أن حق القذف يثبت للورثة‪ ،‬فإن كان هناك وارثان‪،‬‬
‫فعفا أحدهما ثبت للخر جميع الحد‪ ،‬تحقيقا للردع الذي شرع الحد من أجله‪ .‬فإن لم يكن وارث‪ ،‬ثبت‬
‫الحق فيه للمسلمين‪ ،‬ويستوفيه السلطان‪.‬‬
‫التوكيل في استيفاء الحد ‪:‬‬
‫عرفنا خلف الحنفية في التوكيل في إثبات الحد‪ ،‬فهل تصح الوكالة في استيفاء الحد؟‬
‫اتفق الحنفية على أنه ل تصح الوكالة في استيفاء الحدود والقصاص‪ ،‬فل بد من وجود المقذوف‪،‬‬
‫ووجود ولي القصاص حين الستيفاء؛ لن الستيفاء عند غيبة الموكل استيفاء مع الشبهة‪ ،‬فقد يجوز‬
‫فيما لو حضر المقذوف أن يصدّق القاذف‪ ،‬والحدود ل تستوفى مع الشبهات (‪. )3‬‬
‫وإذا حضر المقذوف يقوم ولي المر أو نائبه باستيفاء حد القذف‪ ،‬لتطلبه معرفة معينة‪ .‬وأما القصاص‬
‫فيستوفيه ولي الدم‪ ،‬أو من يوكله بسبب عجزه وضعف قلبه بإشراف الحاكم‪.‬‬
‫وإذا طلب المقذوف إقامة الحد على القاذف‪ ،‬وخاصم بين يدي القاضي‪ ،‬وحكم القاضي بالحد‪ ،‬ثم مات‬
‫المقذوف‪ ،‬أو مات قبل المطالبة‪ ،‬أو مات بعد ما ضرب بعض الحد‪ ،‬فيبطل الحد ويبطل ما بقي منه‪،‬‬
‫وإن كان سوطا واحدا‪ .‬وليس لحد الحق في متابعة الخصومة أو الستيفاء‪ ،‬وحينئذ فل تبطل شهادة‬
‫القاذف عند الحنفية؛ لن المغلب في حد القذف هو حق ال تعالى‪ ،‬فل يورث كما‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق نفسه‪.‬‬
‫(‪ )2‬تكملة المجموع‪ ،201/8 :‬المهذب‪ ،275/2 :‬الشرح الكبير‪.331/4 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪.55/7 :‬‬

‫( ‪)7/354‬‬

‫عرفنا (‪. )1‬وقال الشافعي وأحمد‪ :‬يقوم الوارث مقام المقذوف في إثبات الحد واستيفائه؛ لن حد‬
‫القذف حق خالص للنسان عنده‪ ،‬فيورث كل ما ترتب على القذف من حق الخصومة‪ ،‬ومتابعتها‪،‬‬
‫واستيفاء الحد‪ ،‬وما تبقى منه (‪. )2‬‬
‫شرائط البينة لثبات القذف ‪:‬‬
‫ل يشترط في بينة المقذوف لثبات القذف سوى الشروط التي تعم الحدود التي سبق ذكرها‪ ،‬وهي‬
‫الذكورة والصالة‪ ،‬فل تقبل شهادة النساء ول الشهادة على الشهادة ول كتاب القاضي (‪. )3‬‬
‫ول يشترط عدم التقادم في حد القذف‪ ،‬فلو تأخر الشهود زمنا طويلً عن أداء الشهادة‪ ،‬ثم شهدوا على‬
‫القذف‪ ،‬تقبل شهادتهم‪ ،‬بخلف بقية الحدود كما عرفنا‪ .‬والسبب في التفرقة بين حد القذف وغيره‪ :‬هو‬
‫أن التأخير فيه ل يدل على الضغينة والتهمة؛ لنه يشترط رفع الدعوى في القذف‪ ،‬فاحتمل أن يكون‬
‫التأخر في أداء الشهادة لتأخر المدعي في رفع الدعوى (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق نفسه‪ ،‬فتح القدير‪ ،197/4 :‬المبسوط‪ )2( .114/9 :‬المهذب‪.275/2 :‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط‪.111/9 :‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪.46/7 :‬‬

‫( ‪)7/355‬‬

‫شرائط القرار بالقذف ‪:‬‬


‫كذلك ل يشترط في القرار بالقذف سوى الشروط العامة في القرارات في كل الحدود ‪ :‬وهي البلوغ‬
‫والنطق‪ ،‬فل يصح إقرار الصبي في الحدود‪ ،‬ول إقرار الخرس‪ ،‬سواء بالكتابة أم بالشارة‪ ،‬كما ذكر‬
‫في حد الزنا‪.‬‬
‫ول يشترط تعدد القرار بالقذف بالتفاق‪ ،‬ول عدم التقادم أيضا (‪. )1‬‬
‫إثبات القذف بعلم القاضي ‪:‬‬
‫اتفق الحنفية على أن حد القذف يثبت بعلم القاضي في زمان القضاء ومكانه‪ .‬واختلفوا في إثباته في‬
‫غير زمان القضاء ومكانه (‪ . )2‬فقال متقدموهم‪ :‬له أن يقضي بعلمه في الواقعة‪ ،‬وقال متأخروهم‪ :‬ل‬
‫يجوز له أن يقضي بعلمه مطلقا في الحوادث المتنازع فيها بسبب غلبة الفساد والسوء في القضاة!‪.‬‬
‫تحليف القاذف ونكوله ‪:‬‬
‫إذا لم يكن للمدعي بينة على القذف‪ ،‬وطلب من القاضي أن يستحلف القاذف بال تعالى ما قذفه‪ ،‬فل‬
‫يحلف عند الحنفية؛ لن المقصود من الستحلف القضاء بالنكول عند عدم الحلف‪ ،‬والنكول يكون‬
‫قائما مقام القرار‪ ،‬ولكن الحد ل يقام بما هو قائم مقام غيره (‪. )3‬‬
‫وقال مالك والشافعي‪ :‬يحلف‪ ،‬وإذا نكل ل ترد اليمين على المدعي في الحدود‪ .‬وقال أحمد‪ :‬يحلف ول‬
‫ترد اليمين على المدعي‪ ،‬وإنما يقضي القاضي على المدعى عليه بالنكول عن اليمين‪ ،‬بإلزامه بادعاء‬
‫المدعي (‪. )4‬‬
‫ومنشأ الخلف بين الحنفية والجمهور‪ :‬هل حد القذف خالص للنسان‪ ،‬فيجري فيه الستحلف كما في‬
‫سائر حقوق العباد‪ ،‬أو أن فيه حقين‪ ،‬وحق ال غالب ‪ ،‬فل يحلف‪ ،‬وقد سبق بيانه في صفة حد القذف‪.‬‬
‫المبحث السادس ـ صلحيات القاضي في إثبات القذف ‪:‬‬
‫إذا رفعت دعوى القذف إلى القاضي‪ ،‬فإما أن ينكر القاذف‪ ،‬أو يقر‪ .‬فإن أنكر وطلب المقذوف من‬
‫القاضي التأجيل لقامة البينة‪ ،‬وادعى أن له بينة في المصر على قذفه‪ ،‬فإنه يؤجله إلى أن يقوم من‬
‫مجلسه‪ ،‬ويحبس (‪ )5‬المدعى عليه القذف في تلك الفترة‪ .‬فإن أحضر البينة قبل قيام الحاكم من‬
‫مجلسه‪ ،‬ت ّم المقصود‪ ،‬وإل خلّى سبيله‪.‬‬
‫ول يجوز عند أبي حنيفة في فترة النتظار إلى آخر مجلس الحاكم أن يأخذ كفيلً بنفس المدعى عليه؛‬
‫لن المقصود من الكفالة إقامة الكفيل مقام المكفول عنه في إيفاء الحد‪ ،‬وهذا ل يتحقق في الحدود‬
‫والقصاص‪ ،‬ولن الكفالة شرعت للستيثاق‪ ،‬والحدود مبناها على الدرء والسقاط‪ ،‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪« :‬ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» (‪ )6‬فل يناسبها الستيثاق بالكفالة‪ ،‬بخلف‬
‫الحبس‪ ،‬فإن الحبس للتهمة مشروع‪.‬‬
‫وقال الصاحبان والشافعية‪ :‬يأخذ القاضي من المدعى عليه كفيلً بنفسه إلى ثلثة أيام‪ ،‬ليأتي بالبينة‪،‬‬
‫ول يحبسه؛ لنه ل ضرر على المدعى عليه‪ ،‬فتؤخذ منه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.50-49/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،54/7 :‬المبسوط‪.108/9 :‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط للسرخسي‪ ،105/9 :‬البدائع‪.52/7 :‬‬
‫(‪ )4‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.358‬‬

‫(‪ )5‬المراد من الحبس‪ :‬الملزمة‪ ،‬أي يقال للمدعي‪ :‬لزمه إلى هذا الوقت‪ ،‬لن الحبس عقوبة‪،‬‬
‫وبمجرد الدعوى ل تقام العقوبة على أحد (المبسوط‪.)106/9 :‬‬
‫(‪ )6‬تقدم تخريجه عن عائشة‪ ،‬وأنه ضعيف السناد‪ ،‬والصح أنه موقوف على جماعة من الصحابة‬
‫مثل عمر وعلي وابن مسعود وعقبة بن عامر ومعاذ‪.‬‬

‫( ‪)7/356‬‬

‫الكفالة كما في الموال‪ ،‬ولنه إذا كان الحبس جائزا في الحدود‪ ،‬فالكفالة أولى؛ لن معنى الوثيقة في‬
‫الحبس أبلغ منه في الكفالة‪ ،‬فلما جاز الحبس‪ ،‬فالكفالة أحق بالجواز (‪ ، )1‬وأما مدة الثلثة اليام فهي‬
‫وقت قريب‪ ،‬لقوله عز وجل‪{ :‬ول تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} [هود‪ ]64/11:‬ثم قال‪{ :‬تمتعوا‬
‫في داركم ثلثة أيام } [هود‪.]65/11:‬‬
‫وإن قال المقذوف‪ ( :‬ل بينة لي ) أو ( بينتي غائبة‪ ،‬أو خارج المصر ) فإن القاضي يخلي سبيل‬
‫القاذف‪ ،‬ول يحبس بالتفاق لعدم التهمة (‪. )2‬‬
‫موقف القاضي من القاذف بعد ثبوت القذف ‪:‬‬
‫إن أقام المقذوف البينة على صحة القذف‪ ،‬أو أقر القاذف كما ذكر‪ ،‬فإن القاضي يقول للقاذف‪« :‬أقم‬
‫البينة على صحة قولك» ‪.‬‬
‫فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا‪ ،‬أو على إقرار المقذوف بالزنا‪ ،‬بين يدي المام أربع‬
‫مرات‪ ،‬سقط الحد عن القاذف‪ ،‬ويقام حد الزنا على المقذوف؛ لنه ظهر أن القاذف صادق في مقالته (‬
‫‪. )3‬‬
‫وإن عجز عن إقامة البينة‪ ،‬يقام عليه حد القذف‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬والذين يرمون المحصنات‪ ،‬ثم لم يأتوا‬
‫بأربعة شهداء‪ ،‬فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور‪.]4/24:‬‬
‫فإن طلب التأجيل من القاضي‪ ،‬وقال‪ ( :‬شهودي غيّب ) أو ( خارج المصر) لم يؤجله‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،106/9 :‬البدائع‪ ،53/7 :‬المهذب‪.273/2 :‬‬
‫(‪ )2‬المرجعان السابقان‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪.53/7 :‬‬

‫( ‪)7/357‬‬

‫وإن قال‪ ( :‬شهودي في المصر ) أجله إلى آخر المجلس‪ ،‬ولزمه المقذوف‪ ،‬ويقال له ‪« :‬ابعث أحدا‬
‫إلى شهودك فأحضرهم» ول يؤخذ منه كفيل بنفسه عند أبي حنيفة؛ لن في التأجيل إلى آخر المجلس‬
‫الثاني منعا من استيفاء الحد بعد ظهوره‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬يؤجل ( أي القاذف ) يومين أو ثلثة‪ ،‬ويؤخذ منه كفيل؛ لنه يحتمل أن يكون صادقا‬
‫في إخباره أن له بينة في المصر‪ ،‬وربما ل يمكنه الحضار في ذلك الوقت‪ ،‬فيحتاج إلى التأخير إلى‬
‫المجلس الثاني‪ ،‬وأخذ الكفيل لئل يفوت حقه‪.‬‬
‫وروي عن محمد رحمه ال أنه قال‪ :‬إذا ادعى أن له بينة حاضرة في المصر‪ ،‬ولم يجد أحدا يبعثه إلى‬
‫الشهود‪ ،‬فإن القاضي يبعث معه من الشّرَط (‪ )1‬من يحفظه ول يتركه حتى يفر‪ ،‬فإن عجز‪ ،‬أقيم عليه‬
‫الحد‪ .‬فإن ضرب القاذف بعض الحد‪ ،‬ثم حضر الشهود‪ ،‬وشهدوا على صدق مقالته‪ ،‬قبلت بينته‪ ،‬وبطل‬
‫الحد الباقي‪ ،‬ول تبطل شهادته‪ ،‬ويقام حد الزنا على المقذوف‪.‬‬
‫وإن ضرب القاذف الحد بتمامه‪ ،‬ثم شهد الشهود على صدق مقالته‪ ،‬تقبل شهادتهم‪ .‬ويظهر أثر القبول‬
‫في استرداد عدالة القاذف وقبول شهادته؛ لنه تبين أنه لم يكن محدودا في القذف حقيقة‪ ،‬حيث ظهر‬
‫أن المقذوف لم يكن محصنا؛ لن من شرائط الحصان‪ :‬العفة عن الزنا‪ ،‬وقد ظهر زناه بشهادة‬
‫الشهود‪ ،‬فلم يصر القاذف مردود الشهادة (‪. )2‬‬
‫اللعان بعد إثبات القذف‪ :‬قال الشافعية (‪ : )3‬إن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها وأنكر‪ ،‬فشهد‬
‫شاهدان أنه قذفها‪ ،‬جاز أن يلعن؛ لن إنكاره للقذف ليكذب ما يلعن عليه من الزنا؛ لنه يقول‪ :‬إنما‬
‫أنكرت القذف‪ ،‬وهو الرمي بالكذب‪ ،‬وما كذبت عليها؛ لني صادق أنها زنت‪ ،‬فجاز أن يلعن‪.‬‬
‫ما يسقط حد القذف‪ :‬يسقط حد القذف بأحد أمور ثلثة‪:‬‬
‫‪ - 1‬إثبات الزنى على المقذوف بالبينة أو بإقراره به‪.‬‬
‫‪ - 2‬عفو المقذوف عن القاذف في رأي الشافعية؛ لنه عندهم حق من حقوق العباد‪.‬‬
‫‪ - 3‬اللعان بين الزوجين‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬والذين يرمون أزواجهم} [النور‪.]6/24:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرط‪ :‬هم الطائفة من خيار أعوان الولة‪ ،‬وفي أيامنا هم رؤساء الضابطة‪ ،‬والواحد‪ :‬شرطي‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع البدائع‪ 53/7 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق للزيلعي‪.199/3 :‬‬
‫(‪ )3‬المهذب‪.276/2 :‬‬

‫( ‪)7/358‬‬

‫صلُ الثّالث‪ :‬حَدّ السّرقة‬


‫ال َف ْ‬
‫خطة الموضوع ‪:‬‬
‫بيان حد السرقة في المباحث الربعة التية‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬تعريف السرقة وحكمها وصفة حدها‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬شروط السرقة الموجبة للحد‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬إثبات السرقة‪ ،‬وإقامة الدعوى بها‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬ما يسقط الحد بعد وجوبه‪.‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف السرقة وحكمها وصفة حدها ‪:‬‬
‫تعريف السرقة‪ :‬السرقة‪ :‬هي أخذ مال الغير من حرز المثل على الخفية والستتار‪ .‬ومنه استراق‬
‫السمع ومسارقة النظر إذا كان يستخفي بذلك‪.‬‬
‫ووقت الخفية‪ :‬هو عند ابتداء وانتهاء أخذ المسروق إذا كانت السرقة نهارا‪ ،‬ويمتد النهار إلى وقت‬
‫العشاء‪ ،‬وعند ابتداء الخذ فقط إذا كانت السرقة ليلً‪ ،‬حتى لو دخل السارق البيت ليلً خفية‪ ،‬ثم أخذ‬
‫المال مجاهرة ولو بعد مقاتلة ممن في يده‪ ،‬قطع استحسانا‪ ،‬إذ لو اعتبروا الخفية في الليل في نهاية‬
‫الخذ أيضا لمتنع الحد في أكثر السرقات في الليالي؛ لن أكثرها يصير مغالبة عند انتهاء الخذ‪ ،‬لنه‬
‫وقت ليلحق فيه الغوث‪ .‬وهل العبرة في الخفية لزعم السارق أن رب الدار لم يعلم به أم لزعم‬
‫أحدهما وإن كان رب الدار؟ فيه خلف عند الحنفية‪ .‬ويظهر الخلف فيما لو ظن السارق أن رب‬
‫الدار علم به‪ ،‬مع أنه لم يعلم‪ ،‬فالخفية هنا في زعم رب الدار‪ ،‬ل في زعم السارق‪ ،‬فعند الزيلعي‪ :‬ل‬
‫يقطع؛ لن شرط السرقة أن تكون خفية على زعم السارق‪ .‬وفي الخلصة والمحيط والذخيرة‪ :‬يقطع‬
‫اكتفاء بكونها خفية في زعم أحدهما‪ .‬أما لو زعم اللص أن المالك لم يعلم به مع أنه عالم‪ ،‬يقطع‪،‬‬
‫اكتفاء بزعمه الخفية‪ .‬وكذا لو يعلما معا‪ ،‬وأما لو علما‬

‫( ‪)7/359‬‬
‫بالخذ معا فل قطع (‪. )1‬‬
‫واتفق العلماء على أنه ليس في الختطاف أو الخيانة فيما ائتمن عليه أو الختلس أو النهب أو‬
‫الغصب حد‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫« ليس على الخائن ول المختلس قطع» (‪ )2‬وقوله أيضا‪« :‬ليس على المنتهب قطع» (‪. )3‬‬
‫والختلس‪ :‬أن يستغل صاحب المال فيخطفه ويذهب بسرعة جهرا‪ ،‬فهو من يتعمد الهرب‪.‬‬
‫والخائن‪ :‬هو الذي يضمر ما ل يظهره في نفسه‪ .‬والمراد به‪ :‬هو الذي يأخذ المال خفية من مالكه‪ ،‬مع‬
‫إظهاره له النصيحة والحفظ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع الدر المختار ورد المحتار‪ ،212/3 :‬العناية وفتح القدير‪ ،219/4 :‬تبيين الحقائق‪.212/3 :‬‬
‫(‪ )2‬حديث قوي رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة وصححه الترمذي وابن حبان‪ ،‬وأخرجه أيضا‬
‫الحاكم والبيهقي عن جابر بن عبد ال بلفظ‪« :‬ليس على خائن‪ ،‬ول منتهب ‪ ،‬ولمختلس قطع» وفي‬
‫لفظ‪« :‬ليس على المختلس ول على الخائن قطع» وفي رواية أبي داود‪« :‬ليس على المنتهب قطع‪،‬‬
‫ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا» ورواه الطبراني في معجمه الوسط عن أنس بن مالك بلفظ‪:‬‬
‫«ليس على منتهب ‪ ،‬ول مختلس‪ ،‬ول خائن قطع» (راجع جامع الصول‪ ،321/4 :‬نصب الراية‪:‬‬
‫‪ ،363/3‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،356‬نيل الوطار‪ ،130/7 :‬سبل السلم‪.)33/4 :‬‬
‫(‪ )3‬هذه هي رواية أبي داود عن جابر‪ ،‬كما ذكر في الحديث السابق‪.‬‬

‫( ‪)7/360‬‬

‫والمنتهب‪ :‬هو المغير‪ ،‬مأخوذ من النهبة‪ :‬وهي الغارة والسلب‪ ،‬والمراد به‪ :‬الذي يأخذ المال على جهة‬
‫الغلبة والقهر (‪. )1‬‬
‫ورأى الحنابلة أن جاحد عارية قيمتها نصاب يقطع‪ ،‬ول يقطع جاحد وديعة‪ ،‬أي أن خائن الوديعة ل‬
‫يقطع عندهم‪ .‬وقال الجمهور‪ :‬ل يقطع جاحد المستعار‪ ،‬ول جاحد الوديعة‪.‬‬
‫والفرق بين السارق الذي تقطع يده‪ ،‬والمختلس والمنتهب والغاصب الذين ل تقطع أيديهم هو ما يأتي‬
‫( ‪: )2‬‬
‫إن السارق ل يمكن الحتراز منه‪ ،‬فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل‪ ،‬ول يمكن صاحب‬
‫المتاع الحتراز بأكثر مما قام به‪ ،‬فلو لم يشرع قطعه‪ ،‬لسرق الناس بعضهم بعضا‪ ،‬وعظم الضرر‪،‬‬
‫واشتدت المحنة بسبب السراق‪ ،‬بخلف المنتهب والمختلس‪.‬‬
‫فإن المنتهب‪ :‬هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس‪ ،‬فيمكنهم أن يأخذوا على يديه‪ ،‬ويخلصوا‬
‫حق المظلوم‪ ،‬أو يشهدوا له عند الحاكم‪.‬‬
‫وأما المختلس‪ :‬فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره‪ ،‬فل يخلو من نوع تفريط يمكن‬
‫به المختلس من اختلسه‪ ،‬وإل فمع كمال التحفظ والتيقظ‪ ،‬ل يمكنه الختلس‪ ،‬فليس كالسارق‪ ،‬بل هو‬
‫بالخائن أشبه‪ .‬وأيضا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبا‪ ،‬فإنه الذي يغافلك ويختلس‬
‫متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه‪ ،‬وهذا يمكن الحتراز منه غالبا‪ ،‬فهو كالمنتهب‪.‬‬
‫وأما الغاصب‪ ،‬فالمر فيه ظاهر‪ ،‬وهو أولى بعدم القطع من المنتهب‪ .‬وإذا لم تقطع يد هؤلء‪ ،‬يكف‬
‫عدوانهم بالضرب والنكال والسجن الطويل‪ ،‬والعقوبة بأخذ المال‪.‬‬
‫حكم السرقة‪ :‬الصل في مشروعية حد السرقة قوله تعالى‪{ :‬والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}‬
‫[المائدة‪ ]38/5:‬وقال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،133/9 :‬البدائع‪ ،65/7 :‬فتح القدير‪ ،233/4 :‬حاشية ابن عابدين‪ ،208/3 :‬حاشية‬
‫الدسوقي‪ ،355/4 :‬المهذب‪ ،289/2 :‬الميزان‪ ،172/2 :‬المغني‪ ،327/8 :‬مغني المحتاج‪،171/4 :‬‬
‫القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،360‬غاية المنتهى‪.336/3 :‬‬
‫(‪ )2‬أعلم الموقعين‪ 61/2 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/361‬‬

‫إذا سرق فيهم الشريف تركوه‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه» (‪ . )1‬وفي رواية ‪« :‬أقاموا عليه‬
‫الحد» وإذا ثبتت السرقة فالواجب فيها القطع من حيث هي جناية‪ ،‬والغرم إذا لم يجب القطع‪.‬‬
‫واختلفوا‪ :‬هل يجمع بين الضمان والقطع؟‬
‫ل خلف بين العلماء في أنه إذا قطع السارق‪ ،‬والعين قائمة‪ ،‬ردت على صاحبها‪ ،‬لبقائها على ملكه‪.‬‬
‫فإن كانت تالفة اختلفوا في ضمانها‪ ،‬فقال الحنفية‪ :‬إذا هلك المسروق‪ ،‬فل يجتمع على السارق وجوب‬
‫الغرم (أي الضمان) مع القطع‪ .‬فإن اختار المسروق منه الغرم لم يقطع السارق ‪ ،‬أي قبل وصول‬
‫المر إلى الحاكم‪ .‬وإن اختار القطع‪ ،‬واستوفي منه لم يغرم السارق؛ لن الشارع سكت عن الغرم‪ ،‬فل‬
‫يجب مع القطع شيء‪ .‬قال ال تعالى‪{ :‬والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‪ ،‬جزاء بما كسبا} [المائدة‪:‬‬
‫‪ ]38/5‬فال سبحانه جعل القطع كل الجزاء‪ ،‬فلو أوجبنا الضمان‪ ،‬لصار القطع بعض الجزاء‪ ،‬فيكون‬
‫نسخا لنص القرآن (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن عائشة‪ ،‬ورواه الطبراني في الوسط‬
‫ورجاله ثقات عن أم سلمة (راجع جامع الصول‪ ،314/4 :‬مجمع الزوائد‪ ،259/6 :‬نيل الوطار‪:‬‬
‫‪.)136 ،131/7‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،84/7 :‬فتح القدير‪ ،261/4 :‬المبسوط‪ ،156/9 :‬تبيين الحقائق‪ ،231/3 :‬مجمع‬
‫الضمانات‪ :‬ص ‪.203‬‬

‫( ‪)7/362‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪« :‬إذا قطع السارق فل غرم عليه» (‪. )1‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬إن كان السارق موسرا عند القطع‪ ،‬وجب عليه القطع والغرم‪ ،‬تغليظا عليه‪ ،‬وإن كان‬
‫معسرا لم يتبع بقيمته‪ ،‬ويجب القطع فقط‪ ،‬ويسقط الغرم تخفيفا عنه‪ ،‬بسبب عذره بالفاقة والحاجة (‪)2‬‬
‫‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬يجتمع قطع وضمان‪ ،‬فيرد ما سرق لمالكه‪ ،‬وإن تلف فيرد بدله‪ ،‬فإذا تلف‬
‫المسروق في يد السارق ضمن بدله‪ :‬برد مثله إن كان مثليا‪ ،‬وقيمته إن كان قيميا‪ ،‬سواء أكان موسرا‬
‫أم معسرا‪ ،‬قطع أم لم يقطع‪ ،‬فل يمنع القطع وجوب الضمان‪ ،‬لختلف سبب وجوب كل منهما‪،‬‬
‫فالضمان يجب لحق الدمي‪ ،‬والقطع يجب لحق ال تعالى‪ ،‬فل يمنع أحدهما الخر‪ ،‬كالدية والكفارة‪،‬‬
‫والجزاء والقيمة في قتل الصيد الحرمي المملوك (‪. )3‬‬
‫ويلحظ أن منشأ الخلف بين الحنفية وغيرهم‪ :‬هو قاعدة تملك المضمون عند الحنفية‪ ،‬وهي «أن‬
‫المضمونات تملك بالضمان‪ ،‬ويستند الملك فيها إلى وقت وجوب الضمان» فل يجتمع عندهم القطع‬
‫والضمان؛ لنه لو ضمن لملك المسروق‪ ،‬واستند ملكه إلى وقت الخذ‪ ،‬فيحصل القطع في ملك نفسه‪،‬‬
‫وهو ل يجوز‪.‬‬
‫وقال الشافعي وغيره‪ :‬ل تملك المضمونات بالضمان‪ ،‬فيجتمع القطع والضمان لتعدد السبب‪ ،‬وعدم‬
‫إسناد الضمان إلى وقت الخذ (‪. )4‬‬
‫والراجح الواضح هو قول الشافعية والحنابلة‪ ،‬لختلف سبب كل من الضمان والقطع‪ ،‬ولضعف‬
‫الحديث الذي استند إليه الحنفية‪.‬‬
‫حالة تكرار السرقة‪ :‬اتفق العلماء على أن السارق تقطع يده اليمنى في السرقة الولى‪ ،‬فإذا سرق ثانية‬
‫تقطع رجله اليسرى‪ .‬واختلفوا في قطع اليد اليسرى في السرقة الثالثة‪ ،‬والرجل اليمنى في السرقة‬
‫الرابعة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬قال الزيلعي عن حديث «ل غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه» ‪ :‬غريب بهذا اللفظ ومثله‬
‫اللفظ الوارد هنا‪ ،‬وبمعناه ما أخرجه النسائي في سننه عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول ال صلّى‬
‫ال عليه وسلم قال‪« :‬ل يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد» قال النسائي‪ :‬هذا مرسل وليس بثابت‪،‬‬
‫وأخرجه البيهقي أيضا‪ ،‬وذكر له علة أخرى‪ ،‬وأخرجه الدارقطني في سننه بلفظ‪« :‬ل غرم على‬
‫السارق بعد قطع يمينه» (راجع جامع الصول‪ ،327/4 :‬نصب الراية‪ ،375/3 :‬سبل السلم‪:‬‬
‫‪.)24/4‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،442/2 :‬حاشية الدسوقي‪ 346 :‬وما بعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.360‬‬
‫(‪ )3‬المهذب‪ ،284/2 :‬المغني‪ ،270/8 :‬غاية المنتهى‪.344/3 :‬‬
‫(‪ )4‬تخريج الفروع على الصول للزنجاني‪ :‬ص ‪.107‬‬

‫( ‪)7/363‬‬

‫قال الحنفية والحنابلة‪ :‬ل يقطع السارق أصلً بعد اليد اليمنى والرجل اليسرى‪ ،‬ولكنه يضمن‬
‫المسروق‪ ،‬ويعزر‪ ،‬ويحبس حتى يتوب‪ ،‬بدليل ما روي عن سيدنا علي رضي ال عنه أنه أتي‬
‫بسارق‪ ،‬فقطع يده‪ ،‬ثم أتي به ثانية وقد سرق‪ ،‬فقطع رجله‪ ،‬ثم أتي به ثالثة‪ ،‬فقال‪« :‬ل أقطعه‪ ،‬إن‬
‫قطعت يده فبأي شيء يأكل‪ ،‬بأي شيء يتمسح‪ ،‬وإن قطعت رجله فبأي شيء يمشي‪ ،‬إني لستحي من‬
‫ال » فضربه بخشبة وحبسه (‪ . )1‬وروي مثل ذلك عن سيدنا عمر رضي ال عنه (‪ . )2‬وهذا‬
‫استحسان‪.‬‬
‫وقال المالكية والشافعية‪ :‬إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى‪ ،‬ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى‪،‬‬
‫ثم يعزر (‪ )3‬؛ لن فعله معصية ليس فيها حد ول كفارة‪ ،‬فعزر فيها‪ ،‬والدليل لقطع اليد والرجل‬
‫الخرى‪ :‬ما روى أبو هريرة رضي ال عنه‪« :‬أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال في السارق‪:‬‬
‫إن سرق فاقطعوا يده‪ ،‬ثم إن سرق‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه محمد بن الحسن في كتاب الثار عن علي بن أبي طالب‪ ،‬ومن طريق محمد رواه‬
‫الدارقطني بسنده ومتنه‪ ،‬ورواه عبد الرزاق في مصنفه‪ ،‬واللفظ الوارد هنا أخرجه البيهقي عن علي‬
‫(راجع نصب الراية‪.)374/3 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،86/7 :‬فتح القدير‪ ،248/4 :‬المغني‪ ،264/8 :‬غاية المنتهى‪.343/3 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير‪ ،332/4 :‬بداية المجتهد‪ ،443/2 :‬مغني المحتاج‪ ،178/4 :‬المهذب‪،283/2 :‬‬
‫القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.360‬‬

‫( ‪)7/364‬‬

‫فاقطعوا رجله‪ ،‬ثم إن سرق فاقطعوا يده‪ ،‬ثم إن سرق فاقطعوا رجله» (‪ )1‬وهو فعل أبي بكر وعمر‬
‫رضي ال عنهما (‪. )2‬‬
‫وبما أنه لم يثبت حديث صحيح في هذا المر‪ ،‬فل بأس في عصرنا بالخذ برأي الحنفية والحنابلة‪.‬‬
‫والحكمة في قطع اليد والرجل‪ :‬أن اعتماد السارق في السرقة على البطش والمشي‪ ،‬فإنه يأخذ بيده‬
‫وينتقل برجله‪ ،‬فتعلق القطع بهما‪ ،‬وإنما قطع من خلف‪ ،‬لئل يفوت جنس المنفعة عليه فتضعف‬
‫حركته (‪. )3‬‬
‫الفرق بين اعتبار اليد في السرقة وبين اعتبارها في الدية ‪:‬‬
‫إن قطع اليد في ربع دينار‪ ،‬وجعل ديتها عند العتداء عليها بالبتر أو القطع خمسمئة دينار (أي نصف‬
‫دية في الشرع) هو من أعظم المصالح والحكمة البالغة‪ ،‬فإن الشرع احتاط في الموضعين للموال‬
‫والطراف‪ ،‬فقرر قطعها في سرقة ربع دينار فصاعدا‪ ،‬حفظا لموال الناس‪ ،‬وإهانة لها حال كونها‬
‫خسيسة‪ ،‬وجعل ديتها بالعدوان عليها خمسمئة دينار‪ ،‬حفظا لها وصيانة‪ ،‬وتقديرا لهميتها حال كونها‬
‫شريفة (‪ . )4‬وقد تساءل بعضهم‪ ،‬قيل‪ :‬إنه أبو العلء المعري (‪ ، )5‬فقال‪:‬‬
‫يد بخمس مئين عسجد وُدِيَت ‪ .....‬ما باله قطعت في ربع دينار‬
‫تناقض مالنا إل السكوت له ‪ .....‬ونستجير بمولنا من العار‬
‫فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة‪ ،‬فلما خانت هانت‪ ،‬وضمنه الناظم قوله‪:‬‬
‫يد بخمس مئين عسجد وديت ‪ .....‬لكنها قطعت في ربع دينار‬
‫خصَها ‪ .....‬ذل الخيانة ‪ ،‬فافهم حكمة الباري‬
‫عز المانة أغلها‪ ،‬وأر َ‬
‫وروي أن الشافعي رحمه ال أجاب بقوله‪:‬‬
‫هناك مظلومة غالت بقيمتها ‪ .....‬وههنا ظلمت ‪ ،‬هانت على الباري‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه الدارقطني في سننه عن أبي هريرة‪ ،‬وفي إسناده الواقدي‪ ،‬وفيه مقال‪ .‬ورواه الشافعي عن‬
‫بعض أصحابه عن أبي هريرة مرفوعا‪ .‬وفي موضوعه عن عصمة بن مالك رواه الطبراني‬
‫والدارقطني‪ ،‬وإسناد ضعيف (راجع نصب الراية‪ ،368/3 :‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪.)357‬‬
‫(‪ )2‬أخرج أحمد والترمذي عن حذيفة أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬اقتدوا باللذين من بعدي‪:‬‬
‫أبي بكر وعمر» ‪.‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )4‬أعلم الموقعين‪.63/2 :‬‬
‫(‪ )5‬يظهر أن التساؤل من بعض الزنادقة‪ ،‬بدليل رد الشافعي التي‪ ،‬إذ من المعلوم أن المعري متأخر‬
‫عن الشافعي‪،‬ويظهر أن العتراض تكرر من بعض الزنادقة‪ ،‬ومن المعري أيضا في عصرين‬
‫مختلفين بدليل رد شمس الدين الكردي على المعري في قوله‪:‬‬
‫قل للمعري عار أيما عار ‪ .....‬جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار‬
‫ل تقدحن زناد الفكر في حكم ‪ .....‬شعائر الشرع لم تقدح بأشعار‬
‫فقيمة اليد نصف اللف من ذهب ‪ .....‬فإن تعدت فل تسوى بدينار‬

‫( ‪)7/365‬‬

‫مكان القطع‪ :‬قال جمهور العلماء‪ :‬مكان القطع في اليد هو من الكوع أو مفصل الزند (الرسغ)‪ ،‬لما‬
‫روي أنه عليه السلم قطع يد السارق من مفصل الزند (‪ )1‬وقال قوم‪ :‬الصابع فقط‪.‬‬
‫ومكان القطع في الرجل عند الجمهور من َم ْفصِل القدم‪ ،‬بدليل ما روى ابن المنذر عن عمر رضي‬
‫ال عنه أنه قطع الرجل من المفصل‪ .‬وروى البيهقي عن علي‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فيه أحاديث‪ :‬منها ما أخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة سارق‬
‫رداء صفوان بن أمية وفيه «ثم أمر بقطعه من المفصل» ومنها ما روى ابن عدي عن عبد ال بن‬
‫عمرو قال‪ :‬قطع النبي صلّى ال عليه وسلم سارقا من المفصل‪ .‬ومنها ما روى ابن أبي شيبة عن‬
‫ل من المفصل وهو مرسل (راجع نصب‬
‫رجاء بن حيوة أن النبي صلّى ال عليه وسلم قطع رج ً‬
‫الراية‪ .)37/3 :‬والكوع‪ :‬طرف الزند الذي يلي البهام في اليد‪ .‬ويقابله الكرسوع في القدم‪ ،‬والذي‬
‫يقابل الخنصر‪ :‬هو البوع‪.‬‬

‫( ‪)7/366‬‬
‫رضي ال عنه أنه يقطع من خنصر القدم (‪ )1‬ويبقى له الكعب ليعتمد عليه‪ .‬وبه قال أبو ثور‪،‬‬
‫ل هو كون القطع من مفصل الزند ومن مفصل القدم‪.‬‬
‫والراجح المشهور عم ً‬
‫وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو في عنقه ساعة‪ ،‬لما روى فضالة بن عبيد‪ ،‬قال‪« :‬أتي النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم بسارق‪ ،‬فأمر به فقطعت يده‪ ،‬ثم أمر فعلقت في رقبته» ولن في ذلك ردعا للناس‪.‬‬
‫ويحسم موضع القطع‪ ،‬لما روى أبو هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم أتي‬
‫بسارق‪ ،‬فقال‪ :‬اذهبوا به فاقطعوه‪ ،‬ثم احسموه‪ ،‬ثم ائتوني به‪ ،‬فأتي به‪ ،‬فقال‪ :‬تب إلى ال تعالى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫تبت إلى ال تعالى‪ ،‬فقال‪ :‬تاب ال عليك‪ .‬والحسم ‪ :‬هو أن يغلى الزيت غليا جيدا‪ ،‬ثم يغمس فيه‬
‫موضع القطع لتنحسم العروق‪ ،‬وينقطع الدم (‪ )2‬وعلى المحدود أجرة قاطع‪ ،‬وثمن زيت حسم‪.‬‬
‫صفة حد السرقة‪ :‬حد السرقة بالتفاق حق خالص ل تعالى‪ ،‬فل يحتمل العفو والصلح والبراء بعد‬
‫ثبوته‪ ،‬فلو أمر الحاكم بقطع السارق‪ ،‬فعفا عنه المسروق منه‪ ،‬كان عفوه باطلً؛ لن صحة العفو تعتمد‬
‫كون العفو عنه حقا للعافي‪ ،‬والقطع حق خالص ل سبحانه وتعالى‪ .‬ومن هنا قرر الحنفية هذه القاعدة‬
‫‪« :‬الصلح عن الحدود باطل» (‪. )3‬‬
‫ويترتب عليه (‪ : )4‬أنه يجري التداخل في حد السرقة‪ ،‬فلو سرق شخص سرقات‪ ،‬فرفع المر فيها‬
‫كلها أو بعضها إلى الحاكم‪ ،‬فيقام حد واحد هو القطع‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،133/9 :‬البدائع‪ ،98/7 :‬بداية المجتهد‪ ،443/2 :‬حاشية الدسوقي‪ ،332/4 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،178/4 :‬المغني‪.259/8 :‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪ ،283/2 :‬غاية المنتهى‪.343/3 :‬‬
‫(‪ )3‬الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة‪ :‬ص ‪.147‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،86 ،55/7 :‬المبسوط‪ ،185/9 :‬المهذب‪.283 ،263/2 :‬‬

‫( ‪)7/367‬‬

‫لكل السرقات؛ لن الجرائم التي هي من جنس واحد يكتفى فيها بحد واحد‪ ،‬كما في الزنا‪ ،‬إذ المقصود‬
‫من إقامة الحد هو الزجر والردع‪ ،‬وهو يحصل بإقامة حد واحد‪.‬‬
‫وإذا ثبت الحد عندالسلطان‪ ،‬لم يجز العفو عنه‪ ،‬ول تجوز الشفاعة فيه؛ لن الحد ل ‪ ،‬فل يجوز فيه‬
‫العفو والشفاعة‪ ،‬ولما روت عائشة رضي ال عنها قالت‪« :‬أتي لرسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫بسارق قد سرق‪ ،‬فأمر به فقطع‪ ،‬فقيل‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬ما كنا نراك تبلغ به هذا‪ ،‬قال‪ :‬لو كانت فاطمة‬
‫بنت محمد ‪ ،‬لقمت عليها الحد» (‪ . )1‬وقال الزبير‪ « :‬إذا بلغ ـ أي الحد ـ السلطان فلعن ال‬
‫الشافع والمشفع» (‪. )2‬‬
‫المبحث الثاني ـ شروط السرقة الموجبة للحد ‪:‬‬
‫يشترط لقامة حد السرقة شروط‪ ،‬بعضها في السارق‪ ،‬وبعضها في المسروق‪ ،‬وبعضها في المسروق‬
‫منه‪ ،‬وبعضها في المسروق فيه‪ ،‬وهو المكان‪.‬‬
‫شروط السارق‪ :‬يشترط في السارق توافر أهلية وجوب القطع‪ :‬وهي العقل والبلوغ والختيار والعلم‬
‫بالتحريم‪ ،‬فل يقطع الصبي والمجنون‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬رفع القلم عن ثلث‪ :‬عن الصبي حتى‬
‫يحتلم‪ ،‬وعن المجنون حتى يفيق‪ ،‬وعن النائم حتى يستيقظ» ‪ .‬ولن القطع عقوبة‪ ،‬فيستدعي جناية‪،‬‬
‫وفعل الصبي والمجنون ل يوصف بأنه جناية‪ .‬ول يحد المكرَه لرفع القلم عنه‪ ،‬ول يحد من أخذ شيئا‬
‫جاهلً بتحريمه لقرب عهده بالسلم‪.‬‬
‫وإذا اشترك الصبي أو المجنون مع جماعة في سرقة‪ ،‬فل قطع على الجميع عند أبي حنيفة وزفر‬
‫رحمهما ال تعالى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الوطار‪ 135/7 :‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن (نيل الوطار‪ ،‬المرجع السابق)‪.‬‬

‫( ‪)7/368‬‬

‫وقال أبو يوسف رحمه ال ‪ :‬العبرة بمباشرة إخراج المتاع‪ ،‬فإن أخرجه الصبي أو المجنون‪ ،‬درئ‬
‫الحد عن الجميع‪ ،‬وإن باشر الخراج غيرهما قطع‪ ،‬ول يقطع الصبي أو المجنون؛ لن الخراج من‬
‫الحرز هو الصل في السرقة‪ ،‬والعانة كالتابع‪.‬‬
‫ودليل أبي حنيفة وزفر‪ :‬أن السرقة واحدة‪ ،‬وقد حصلت ممن يجب عليه القطع وممن ل يجب عليه‬
‫القطع‪ ،‬فل يجب القطع على أحد‪ ،‬كالعامد مع الخاطئ إذا اشتركا في جريمة‪ ،‬وإخراج السرقة حصل‬
‫من الكل من ناحية المعنى (‪. )1‬‬
‫واشتراط البلوغ والعقل في السارق لقامة الحد متفق عليه‪ ،‬وأضاف الشافعية والحنابلة شرط كونه‬
‫مختارا‪ ،‬التزم أحكام السلم‪ ،‬فل يجب الحد على مكره‪ ،‬لحديث‪« :‬رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما‬
‫استكرهوا عليه» ول تجب على الحربي؛ لنه لم يلتزم حكم السلم‪ .‬وفي وجوب الحد على المستأمن‬
‫والمهادن قولن عندهم‪ :‬أحدهما ـ أنه ل يجب عليه حد السرقة؛ لنه حق خالص ل تعالى‪ ،‬فلم يجب‬
‫عليه كحد الشرب والزنا‪ .‬والثاني ـ أنه يجب عليه؛ لنه حد يجب لصيانة حق الدمي‪ ،‬فوجب عليه‬
‫كحد القذف‪.‬‬
‫وأضاف المالكية أل يكون للسارق على المسروق منه ولدة‪ ،‬فل يقطع الب في سرقة مال ابنه لقوة‬
‫الشبهة التية من حديث جابر عند ابن ماجه‪« :‬أنت ومالك لبيك» ‪ .‬وزاد الشافعي وأحمد ومالك الجد‪،‬‬
‫فل يقطع في مال حفيده‪ ،‬وزاد أبو حنيفة كل ذي رحم محرم‪ ،‬واختلفوا في الزوج والزوجة إذا سرق‬
‫كل واحد منهما من مال صاحبه‪ ،‬كما سأوضح‪ .‬وأضاف المالكية أيضا أل يضطر السارق إلى السرقة‬
‫من جوع‪ .‬وأضاف الحنابلة شرط كون السارق عالما بمسروق وبتحريمه اعتبارا بما في ظن المكلف‬
‫(البالغ العاقل)‪ .‬أما إذا سرق الولد من مال أحد أبويه فيقطع عند المالكية‪ ،‬وليقطع عند بقية المذاهب‪،‬‬
‫لن الولد يتبسط في مال والديه عادة‪ ،‬فتكون هناك شبهة في إسقاط الحد‪.‬‬
‫شروط المسروق‪ :‬يشترط في المسروق عدة شروط‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون المسروق مالً متقوما (‪ : )2‬والمراد بالمال‪ :‬ما يتموله الناس ويعدونه مالً؛ لن ذلك‬
‫يشعر بعزته وخطره عندهم‪ ،‬وما ل يتمولونه فهو تافه حقير‪ ،‬ول تقطع اليد في الشيء التافه‪ ،‬كما كان‬
‫عليه عهد رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ .‬والمراد بالمتقوم‪ :‬ما كان له قيمة يضمنها متلفه عند‬
‫اعتدائه عليه‪.‬‬
‫وبناء على هذا‪ :‬لو سرق إنسان صبيا حرا‪ ،‬ل تقطع يده‪ ،‬لن الحر ليس بمال (‪ ، )3‬وإنما يعزر‪ .‬ولو‬
‫سرق شخص خمرا أو خنزيرا أو جلد ميتة ل تقطع يده أيضا؛ لنه ل قيمة للخمر والخنزير في حق‬
‫المسلم‪ ،‬ول مالية في جلد الميتة‪ ،‬وهذا شرط متفق عليه‪ .‬ول قطع بسرقة أدوات الملهي كالعدد‬
‫والمزمار‪ ،‬والصنام والصلبان؛ لنها غير متقومة فل يباح استعمالها ‪ ،‬وإزالة المعصية أمر مندوب‬
‫إليه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،67/7 :‬تبيين الحقائق للزيلعي‪ ،211/3 :‬فتح القدير‪ ،220/4 :‬المهذب‪ ،277/2 :‬القوانين‬
‫الفقهية‪ :‬ص ‪.359‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،67/7 :‬المهذب‪ 280/2 :‬وما بعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،359‬غاية المنتهى‪.336/3 :‬‬
‫(‪ )3‬فتح القدير‪.230/4 :‬‬

‫( ‪)7/369‬‬
‫‪ - 2‬أن يكون المال المسروق مقدراً‪ :‬أي له نصاب‪ ،‬فل يقطع السارق في الشيء التافه‪ .‬واختلف‬
‫الفقهاء في مقدار النصاب‪ :‬فقال الحنفية‪ :‬نصاب السرقة دينار أو عشرة دراهم‪ ،‬أو قيمة أحدهما (‪، )1‬‬
‫لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ل قطع فيما دون عشرة دراهم» (‪ )2‬وقوله أيضا‪« :‬ل تقطع اليد إل في‬
‫دينار‪ ،‬أو في عشرة دراهم» (‪ . )3‬وعنه عليه الصلة والسلم أنه قال‪« :‬ل يقطع السارق إل في ثمن‬
‫ال ِمجَنّ‪ ،‬وكان يقوّم يومئذ بعشرة دراهم» (‪. )4‬وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة‪ :‬نصا‬
‫ب السرقة ربع دينار شرعي من الذهب أو ثلثة دراهم شرعية خالصة من الفضة (‪ . )5‬أو قيمة ذلك‬
‫من العروض والتجارات والحيوان‪ ،‬إل أن التقويم عند المالكية والحنابلة في سائر الشياء المسروقة‬
‫عدا الذهب والفضة يكون بالدراهم‪ .‬وعند الشافعية بالربع دينار‪ .‬ودليلهم‪ :‬قوله عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫«تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا» (‪ )6‬وأنه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،137/9 :‬البدائع‪ ،77/7 :‬فتح القدير‪.220/4 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد عن عبد ال بن عمرو قال‪ :‬قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ل قطع فيما دون‬
‫عشرة دراهم» وفيه نصر بن باب‪ ،‬ضعفه الجمهور‪ .‬وقال أحمد‪ :‬ل بأس به‪ .‬ورواه الطبراني عن ابن‬
‫مسعود بلفظ‪« :‬ل قطع إل في عشرة دراهم» (راجع جمع الزوائد‪ ،273/6 :‬نصب الراية‪.)359/3 :‬‬
‫(‪ )3‬هذا من الثار عن ابن مسعود‪ :‬رواه عبد الرزاق في مصنفه‪ ،‬ومن طريقه رواه الطبراني في‬
‫معجمه‪ ،‬وهو موقوف كما قال الهيثمي‪ .‬وفيه القاسم أبو عبد الرحمن ضعيف‪ ،‬وقد وثق (راجع مجمع‬
‫الزوائد‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬نصب الراية‪ « )360/3 :‬وروى أبو داود في سننه عن ابن عباس أن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم قطع يد رجل في مجنّ قيمته دينار أو عشرة دراهم‪ ،‬وهو حديث مرفوع (راجع‬
‫نصب الراية‪.)358/3 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن أبي شيبة عن عبد ال بن عمرو بلفظ‪« :‬ل تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن‪ ،‬قال‬
‫عبد ال ‪ :‬وكان ثمن المجن عشرة دراهم» «وروى النسائي عن أيمن بن أم أيمن الحبشية رضي ال‬
‫عنهما قال‪ :‬ولم يقطع النبي صلّى ال عليه وسلم السارق إل في ثمن المجن‪ ،‬وثمن المجن يومئذ‬
‫دينار» وفي رواية «عشرة دراهم» قال النسائي‪ :‬وأيمن ما أحسب أن لحديثه صحة (راجع جامع‬
‫الصول‪ ،113/4 :‬نصب الراية‪.)359/3 :‬‬
‫(‪ )5‬من المعروف عند هؤلء أن الدينار اثنا عشر درهما‪ .‬والدرهم ‪ 975،2‬غم‪ .‬وعند الحنفية‪ :‬الدينار‬
‫عشرة دراهم‪ .‬وبما أن المثقال أو الدينار يساوي ‪ 1‬و ‪ 7/3‬درهم‪ ،‬فيساوي الدينار ‪ 45،4‬غم‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه أحمد والموطأ وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي ال عنها بألفاظ متعددة منها لفظ‬
‫البخاري‪« :‬تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» ومنها لفظ مسلم‪« :‬ل تقطع يد السارق إل في‬
‫ربع دينار فصاعدا» (راجع جامع الصول‪ ،310/4 :‬سبل السلم‪ ،18/4 :‬نيل الوطار‪،124/7 :‬‬
‫التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪.)355‬‬

‫( ‪)7/370‬‬

‫عليه الصلة والسلم‪« :‬قطع في مجن قيمته ثلثة دراهم» (‪ )1‬وهي قيمة ربع الدينار (‪. )2‬‬
‫وبه يظهر أن منشأ الخلف‪ :‬هو تقدير ثمن المجن الذي قطع السارق به في عهد الرسول صلّى ال‬
‫عليه وسلم ‪ .‬فالحنفية يقولون‪ :‬كان ثمنه دينارا‪ .‬والخرون يقولون‪ :‬كان ثمنه ربع دينار‪ .‬والحاديث‬
‫الصحيحة تؤيد وترجح رأي الجمهور‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد ال بن عمر أن رسول‬
‫ال صلّى ال عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلثة دراهم (المراجع السابقة‪ ،‬جامع الصول‪:‬‬
‫‪ ،311/4‬نصب الراية‪.)355/3 :‬‬
‫(‪ )2‬المنتقى على الموطأ‪ ،156/7 :‬بداية المجتهد‪ ،437/2 :‬حاشية الدسوقي‪ ،333/4 :‬المهذب‪:‬‬
‫‪ ،277/2‬مغني المحتاج‪ ،158/4 :‬المغني‪ ،240/8 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،359‬غاية المنتهى‪:‬‬
‫‪.337/3‬‬

‫( ‪)7/371‬‬

‫صفات النصاب ‪:‬‬


‫قال الحنفية‪ :‬يشترط أن تكون الدراهم جيادا‪ ،‬فلو سرق زيوفا‪ ،‬أو سرق غيرالدراهم‪ ،‬ل يقطع ما لم‬
‫تبلغ قيمة المسروق عشرة دراهم جياد‪.‬‬
‫وأن تكون الدراهم‪ ،‬وزن سبعة مثاقيل (‪ )1‬؛ لن اسم الدرهم عند الطلق يقع على ذلك‪ ،‬ولن هذا‬
‫أوسط المقادير بين الدراهم الكبار والصغار التي كانت على عهد الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وهل ينبغي أن تكون الدراهم مضروبة؟‬
‫قال أبو حنيفة‪ :‬إذا سرق عشرة دراهم ولو كانت تبرا مما يروج بين الناس في معاملتهم تقطع يده؛‬
‫لن المهم هو الرواج في التعامل بين الناس‪ ،‬ودليله‪ :‬إطلق حديث القطع في عشرة دراهم‪ ،‬ورد عليه‬
‫بأن المطلق يقيد بالعرف والعادة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المثقال‪ :‬درهم وثلثة أسباع الدرهم‪ ،‬قال في شرح الدميري‪ :‬إن كل درهم‪ :‬ستة دوانيق‪ ،‬وكل‬
‫عشرة دراهم سبعة مثاقيل‪ ،‬والمثقال لم يتغير في جاهلية ول في إسلم (راجع سبل السلم‪،128/2 :‬‬
‫الحكام السلطانية لبي يعلى ص ‪.)159‬‬

‫( ‪)7/372‬‬

‫وقال الصاحبان والكرخي‪ :‬ينبغي أن تكون الدراهم مضروبة؛ لن اسم الدراهم في الحديث يطلق على‬
‫المضروبة عرفا‪ ،‬وهو ظاهر الرواية‪ ،‬وهو الصح‪ ،‬وهو قول الجمهور‪ .‬فلو سرق تبرا (أي فضة‬
‫غير مضروبة صكا) أو ُنقْره (هي القطعة المذابة من الذهب والفضة أي السبيكة) قيمتها أقل من‬
‫عشرة دراهم مضروبة ل يقطع‪ ،‬فإذا ساوت قيمتها عشرة دراهم مسكوكة فأكثر‪ ،‬يقطع سارقها (‪. )1‬‬
‫وقت اعتبار قيمة المسروق ‪:‬‬
‫قال جمهور الحنفية‪ :‬يجب أن تكون قيمة المسروق عشرة دراهم‪ ،‬من وقت السرقة‪ ،‬إلى وقت القطع‪،‬‬
‫فإن نقص المسروق‪ :‬فإما أن يكون نقصان العين أو نقصان السعر‪.‬‬
‫فإذا نقصت قيمة المسروق بانتقاص عينه‪ :‬بأن دخله عيب أو ذهب بعضه‪ ،‬فيقام الحد؛ لن نقصان‬
‫العين هو هلك بعض المسروق‪ ،‬وهلك جميع المسروق ل يسقط الحد‪ ،‬فهلك بعضه ل يسقطه من‬
‫باب أولى‪.‬‬
‫وإن كان نقصان السعر‪ :‬بأن صار يساوي ثمانية دراهم مثلً‪ ،‬بعد أن كان يساوي عشرة‪ ،‬فهناك‬
‫روايتان‪:‬‬
‫ظاهر الرواية‪ :‬أنه ل يقطع؛ لن نقصان السعر يورث شبهة نقصان في المسروق وقت السرقة؛ لن‬
‫العين بحالها لم تتغير‪ ،‬فيحصل النقصان الطارئ كالموجود عند السرقة‪ ،‬بخلف نقصان العين؛ لنه‬
‫يوجب تغير العين‪ ،‬بهلك بعضها‪ ،‬والهلك مضمون على السارق‪ ،‬فل يمكن افتراض وجوده عند‬
‫السرقة‪.‬‬
‫وروي عن محمد وهو قول مالك والشافعي وأحمد رحمهم ال تعالى‪ :‬أنه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،222/4 :‬حاشية ابن عابدين‪ ،211/3 :‬البدائع‪ ،78/7 :‬المبسوط‪ ،138/9 :‬مغني‬
‫المحتاج‪.158/4 :‬‬

‫( ‪)7/373‬‬
‫تعتبر قيمة العين وقت الخراج من الحرز‪ ،‬ول يعتبر نقصان السعر بعد أخذ المسروق‪ ،‬قياسا على‬
‫نقصان العين (‪ ، )1‬وهذا في تقديري أولى‪ ،‬لكتمال الجريمة وقت السرقة‪.‬‬
‫ويجري هذا الخلف فيما لو سرق الشخص في بلد‪ ،‬وقبض عليه في بلد آخر‪ :‬ل يقطع في ظاهر‬
‫الرواية‪ ،‬ما لم تكن قيمة المسروق في البلدين عشرة دراهم‪.‬‬
‫كون النصاب من حرز واحد ‪:‬‬
‫النصاب الموجب لحد القطع يجب أن يكون مأخوذا من حرز واحد‪ ،‬سواء أكان المسروق لواحد أم‬
‫لجماعة؛ لنها سرقة واحدة‪ .‬وبناء على هذا ‪ ،‬لو سرق خمسة دراهم من دار لرجل‪ ،‬وخمسة من دار‬
‫أخرى‪ ،‬ل يجب القطع؛ لنهما سرقتان مختلفتان من حرزين مختلفين‪ ،‬فل محل للقطع فيهما‪ .‬وكذلك‬
‫لو سرق عشرة دراهم على مرتين‪ ،‬ل يقطع؛ لن المسروق في كل مرة أقل من نصاب (‪. )2‬‬
‫اشتراك جماعة في السرقة ‪:‬‬
‫اتفق العلماء على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة‪ ،‬فحصل لكل واحد منهم نصاب‪ ،‬فعلى كل واحد‬
‫منهم القطع‪.‬‬
‫أما إذا كان المسروق كله نصابا‪ ،‬واشترك جماعة في سرقته‪:‬‬
‫فقال أبو حنيفة والشافعي‪ :‬ل يقطع كل واحد منهم (‪ )3‬؛ لن كل واحد منهم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،79/7 :‬المنتقى على الموطأ‪.158/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،78‬حاشية ابن عابدين‪.212/3 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،78‬فتح القدير‪ ،225/4 :‬مغني المحتاج‪ ،160/4 :‬المهذب‪:‬‬
‫‪.277/2‬‬

‫( ‪)7/374‬‬

‫لم يسرق نصابا‪ ،‬فلم تستوجب جنايته عقوبة كاملة‪ ،‬كما لو انفرد بسرقة مادون النصاب‪ ،‬والرسول‬
‫صلّى ال عليه وسلم يقول‪« :‬ل تقطع يد السارق إل في ربع دينار فصاعدا» وهذا دليل الشافعي‪.‬‬
‫ولكن هذا الحكم يخالف حكم جريمة الشتراك في القتل؛ لنه لو لم يجب القصاص على كل واحد‬
‫منهم‪ ،‬لكان الشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص‪ ،‬بخلف المر في السرقة‪ ،‬فإنه إذا لم يجب القطع‬
‫على الشركاء في سرقة نصاب‪ ،‬لم يصر الشتراك طريقا إلى إسقاط القطع‪ ،‬لقلة ما يصيب كل واحد‬
‫منهم‪ ،‬فإذا سرقوا أكثر من نصاب بحيث يصيب كل واحد منهم مقدار نصاب‪ ،‬فإنه يجب القطع‪.‬‬
‫ويقدر المسروق في الحكم عند الحنفية يوم الحكم بالقطع‪.‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬إن اشترك السارقان أو أكثر في سرقة نصاب‪ :‬فإن كان لكل واحد قدرة على حمله‬
‫بانفراده‪ ،‬فل يقطع أحد‪ ،‬وإل بأن كانوا يحتاجون في إخراجه إلى تعاون بعضهم‪ ،‬فيقطعون جميعا‪،‬‬
‫ويصيرون كأنهم حملوه على دابة‪ ،‬فإنهم يقطعون إذا تعاونوا على رفعه عليها‪ ،‬ويقدر المسروق‬
‫عندهم وعند الشافعية والحنابلة بقيمته يوم السرقة (‪. )1‬‬
‫وقال الحنابلة‪ :‬إذا اشترك الجماعة في سرقة‪ ،‬قيمتها ثلثة دراهم قطعوا‪ ،‬لضرورة حفظ المال‪ ،‬فإن‬
‫الواحد والجماعة يستوون في هتك الحرز‪ ،‬وسرقة النصاب فعل يوجب القطع‪ ،‬فاستوى فيه الواحد‬
‫والجماعة كالقصاص‪.‬‬
‫قال ابن قدامة في المغني‪ :‬وقول أبي حنيفة والشافعي أحب إلي؛ لن القطع ههنا ل نص فيه‪ ،‬ول هو‬
‫في معنى المنصوص والمجمع عليه فل يجب‪ ،‬والحتياط بإسقاطه أولى من الحتياط بإيجابه؛ لنه مما‬
‫يدرأ بالشبهات (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حاشية الدسوقي‪ ،335/3 :‬بداية المجتهد‪ ،439/2 :‬المنتقى على الموطأ‪ ،178/7 :‬القوانين‬
‫الفقهية‪ :‬ص ‪.359‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ ،282/8 :‬غاية المنتهى‪ 337/3 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/375‬‬

‫‪ - 3‬أن يكون المسروق محرزا مطلقا‪ ،‬مقصودا بالحرز ‪:‬‬


‫الصل في اشتراط هذا الشرط المتفق عليه قوله عليه السلم‪« :‬ل قطع في َثمَر ول كَثر حتى يؤويه‬
‫الجرين‪ ،‬فإذا أواه الجرين‪ ،‬ففيه القطع» وفي رواية‪« :‬فإذا أواه المُراح أو الجرين» (‪. )1‬‬
‫والحرز لغة‪ :‬الموضع الذي يحرز فيه الشيء‪ .‬وشرعا‪ :‬هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس كالدار‬
‫والحانوت والخيمة والشخص (‪ . )2‬وهو نوعان‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراح‪ :‬حرز البل والبقر والغنم الذي تأوي إليه ليلً‪ .‬والجرين‪ :‬حرز التمر الذي يجفف فيه‪،‬‬
‫مثل البيدر للحنطة‪ .‬والكثر‪ :‬هو جمار النخل أي الجزء البيض الغصن من قلب النخل أو ما يحيط‬
‫بالبرعمة الرئيسية الكبيرة وهي حلوة المذاق تخلو من اللياف‪ ،‬وقد يبلغ بعضها وزن كيلو غرام أو‬
‫أكثر حسب حجم رأس النخلة‪ ،‬قال الزيلعي عن هذا الحديث‪ :‬غريب بهذا اللفظ‪ ،‬وبمعناه ما أخرجه أبو‬
‫داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد ال بن عمرو أن النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق (أي الذي بعد في شجره) فقال‪« :‬من أصاب بفيه من ذي حاجة‬
‫غير متخذ خبنة (هو ما تحمله في حضنك) فل شيء عليه‪ ،‬ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه‬
‫الجرين‪ ،‬فبلغ ثمن المجن‪ ،‬فعليه القطع» وروى مالك في الموطأ وابن أبي شيبة عن عبد ال بن عبد‬
‫الرحمن بن أبي حسين المكي أن رسول ا ل صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬ل قطع في ثمر معلق‪ ،‬ول‬
‫في حريسة جبل ( أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع) فإذا أواه المراح أو الجرين‪ ،‬فالقطع‬
‫فيما بلغ ثمن المجن » وهو معضل‪ ،‬وقد روى حديث «ل قطع في ثمر ول كثر» الترمذي عن الليث‬
‫بن سعد والنسائي‪ ،‬وابن ماجه عن سفيان بن عيينة من حديث رافع بن خديج‪ ،‬رواه ابن حبان في‬
‫صحيحه‪،‬وأخرجه الطبراني في معجمه‪ ،‬وأخرجه أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي (راجع جامع‬
‫الصول‪ 318/4 :‬وما بعدها‪ ،‬نصب الراية‪ ،362/3 :‬سبل السلم‪ ،23/4 :‬التلخيص الحبير‪ :‬ص‬
‫‪ ،356‬نيل الوطار‪.)127/7 :‬‬
‫(‪ )2‬هذا ويلحظ أن المذاهب الربعة متفقة على أن تحديد الحرز مرجعه إلى العرف والعادة (بداية‬
‫المجتهد‪ ،440/2 :‬الم‪ 135/6 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ ،249/8 :‬غاية المنتهى‪ ،339/3 :‬فتح القدير‪:‬‬
‫‪ ،238/4‬المهذب‪ ،280/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.)360‬‬

‫( ‪)7/376‬‬

‫‪ - 1‬حرز بنفسه‪ :‬وهو كل بقعة معدة للحراز‪ ،‬ممنوعة الدخول فيها‪ ،‬إل بالذن‪ ،‬كالدور والحوانيت‬
‫والخيام‪ ،‬والخزائن والصناديق‪.‬‬
‫‪ - 2‬حرز بغيره‪ :‬وهو كل مكان غير معد للحراز‪ ،‬يدخل إليه بل إذن‪ ،‬ول يمنع منه‪ ،‬كالمساجد‬
‫والطرق والمفاوز‪.‬‬
‫فالنوع الول‪ :‬يكون حرزا بنفسه‪ ،‬سواء وجد حافظ‪ ،‬أو ل‪ ،‬وسواء أكان الباب مغلقا‪ ،‬أم مفتوحا؛ لن‬
‫البناء يقصد به الحراز‪ ،‬وهو معتبر بنفسه بدون صاحبه؛ لنه عليه الصلة والسلم علق القطع بإيواء‬
‫الجرين والمراح من غير شرط وجود الحافظ‪ ،‬لصيرورته حرزا‪.‬‬
‫وأما النوع الثاني‪ :‬فحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ‪ ،‬فإن كان هناك حافظ قريب‬

‫( ‪)7/377‬‬
‫من المال يمكنه حفظه‪ ،‬فهو حرز‪ ،‬سواء أكان نائما‪ ،‬أم يقظان‪ ،‬لنه عليه الصلة والسلم قطع سارق‬
‫رداء صفوان‪ ،‬وصفوان كان نائما (‪. )1‬‬
‫والخذ من الحرز شرط متفق عليه‪ ،‬ول يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع الحرز‪.‬‬
‫وبناء عليه يعرف حكم الصور التية‪:‬‬
‫أ ـ لو سرق إنسان عِدلً موجودا على ظهر دابة تسير ضمن مجموعة من الدواب مقطورة ببعضها‪،‬‬
‫لم يقطع؛ لنه أخذ نفس الحرز‪ ،‬ونفس الحرز ليس في الحرز‪ ،‬وكون العدل على ظهر الدابة ل يكفي‬
‫اعتباره محرزا؛ لنه ليس بحرز مقصود؛ لن قصد قائد الدواب هو قطع المسافة دون الحفظ‪ ،‬وإنما‬
‫القائد حافظ للدابة التي زمامها بيده فقط‪ ،‬هذا مذهب الحنفية‪ .‬ويظهر أن هذا الرأي متأثر بالعرف‪،‬‬
‫وعرفنا اليوم أن قائد القافلة مطالب بحفظ المتاع المحمول‪.‬‬
‫وقال الئمة الثلثة‪ :‬القائد حافظ لكل الدواب التي يقودها إذا كان بحيث يراها إذا التفت إليها‪ ،‬وهو‬
‫وإن كان يقصد قطع المسافة يقصد أيضا الحفظ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ 150/9 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق للزيلعي‪ ،221/3 :‬فتح القدير‪ ،240/4 :‬البدائع‪:‬‬
‫‪ ،73/7‬وقد سبق تخريج هذا الحديث في حد القذف‪.‬‬

‫( ‪)7/378‬‬

‫فإن شق العدل الموجود على الدابة‪ ،‬وأخرج المتاع‪ :‬قطع؛ لن العدل حرز لما فيه (‪. )1‬‬
‫ب ـ إذا علم صاحب الشيء المسروق بالسرقة قبل إخراج المسروق من الحرز‪ ،‬فأخذه منه‪ ،‬ل‬
‫يقطع‪ ،‬لنه لم يوجد منه الخراج من الحرز‪ .‬أما إن علم به ولم يأخذه منه خوفا من الصطدام معه‪،‬‬
‫أو عجز عن أخذه بعد مقاتلته بسلح ونحوه‪ ،‬فإن كانت السرقة نهارا ل تقطع يد السارق؛ إذ ل بد من‬
‫الخفية عند ابتداء وانتهاء الخذ كما تقدم‪ ،‬أما إن كانت السرقة ليلً فتقطع يد السارق في هذه الحالة‬
‫استحسانا عند الحنفية؛ لنه يكفي في الليل توافر الخفية عند بدء الخذ ل نهايته؛ لن أغلب سرقات‬
‫الليل تصير مغالبة أو مع خوف المالك من المقاومة‪ ،‬لعدم تيسر النجدة والغوث أثناء الليل‪.‬‬
‫جـ ـ إذا رمى السارق المسروق إلى خارج‪ ،‬فوجده مالكه فأخذه‪ ،‬ل يقطع؛ لنه لم تثبت يده عليه‬
‫عند الخروج‪ ،‬لثبوت يد غيره‪ ،‬فإذا رماه من الحرز‪ ،‬ثم خرج وأخذه‪ ،‬يجب القطع‪ ،‬وهذا متفق عليه‪،‬‬
‫خلفا لزفر‪ ،‬لنه ثبتت عليه يده حكما‪ ،‬والرمي حيلة لتمام السرقة‪ .‬ودليل زفر‪ :‬أن اللقاء غير‬
‫موجب للقطع‪ ،‬كما لو خرج ولم يأخذه (‪. )2‬‬
‫د ـ المناولة من الحرز‪ :‬إذا اشترك اثنان في َنقْب جدار‪ ،‬فدخل أحدهما‪ ،‬وأخذ المتاع‪ ،‬وناوله الخر‪،‬‬
‫هو خارج الحرز‪ ،‬أو رمى به إليه‪ ،‬فقال أبو حنيفة‪ :‬ل قطع على كل واحد منهما؛ لن كل واحد منهما‬
‫لم يستقل بالنقب والخراج اللذين ل تكمل السرقة إل بهما جميعا بحسب العرف‪ ،‬فالداخل لم تثبت يده‬
‫على المسروق حين إخراجه‪ ،‬والخارج لم يوجد منه هتك الحرز‪ ،‬فلم تتم السرقة من كل واحد‪ ،‬وهذا‬
‫هو الراجح لدى الحنفية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،74/7 :‬فتح القدير‪ ،246/4 :‬تبيين الحقائق‪.224/3 :‬‬
‫(‪ )2‬فتح القدير‪ ،244/4 :‬مغني المحتاج‪.172/4 :‬‬

‫( ‪)7/379‬‬

‫وقال محمد‪ :‬إن أخرج الداخل يده من الحرز‪ ،‬وناول الخارج‪ ،‬يقطع الداخل دون الخارج‪ ،‬فإن أدخل‬
‫الخارج يده في الحرز‪ ،‬وأخذ المسروق فل قطع عليهما؛ لن الداخل لم يوجد منه الخراج‪ ،‬والخر لم‬
‫يوجد منه هتك الحرز‪ ،‬فلم تتم السرقة من كل واحد‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف‪ :‬إذا أخرج الداخل يده‪ ،‬فالقطع على الداخل‪ ،‬وأما الخارج إذا أدخل يده وأخذ منه‪،‬‬
‫فيجب القطع عليهما؛ لنه ل يشترط عنده دخول الحرز (‪. )1‬‬
‫وقال المالكية والشافعية والحنابلة‪ :‬يقطع الداخل وحده‪ ،‬دون الخارج؛ لنه هو الذي أخرج المتاع‪ ،‬مع‬
‫المشاركة في النقب (‪. )2‬‬
‫هـ ـ إخراج المسروق من الحرز (سرقة النقب)‪ :‬إذا نقب شخصان حرزا‪ ،‬ودخل أحدهما‪ ،‬وقرب‬
‫المتاع إلى النقب وتركه‪ ،‬فأدخل الخارج يده‪ ،‬فأخرجه من الحرز‪ ،‬فقال أبو حنيفة ومحمد‪ :‬ل قطع‬
‫عليهما؛ لن الداخل لم يوجد منه الخراج‪ ،‬والخارج لم يوجد منه هتك الحرز‪ ،‬فلم تتم السرقة من كل‬
‫واحد منهما‪ ،‬وفي هذه المسألة قال علي رضي ال عنه‪« :‬إذا كان اللص ظريفا ل يقطع» (‪. )3‬‬
‫وقال أبو يوسف‪ :‬يقطع الخارج؛ لن المقصود أخذ المال‪ ،‬ل دخول الحرز (‪. )4‬‬
‫وقال مالك‪ :‬يقطع المخرج خاصة‪ ،‬لنه السارق‪ .‬وقال الشافعية‪ :‬لو تعاونا في النقب وانفرد أحدهما‬
‫بالخراج‪ ،‬أو وضعه ناقب بقرب النقب‪ ،‬فأخرجه آخر‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،147/9 :‬فتح القدير‪ ،243/4 :‬الختيار‪.106/4 :‬‬
‫(‪ )2‬حاشية الدسوقي‪ ،343/4 :‬المهذب‪ ،279/2 :‬المغني‪ ،284/8 :‬غاية المنتهى‪.338/3 :‬‬
‫(‪ )3‬هذا ما نقله الحنفية في كتبهم‪ ،‬ويحتاج ذلك إلى مزيد من التثبت‪.‬‬
‫(‪ )4‬المبسوط‪ ،147/9 :‬فتح القدير‪ ،245/4 :‬تبيين الحقائق للزيلعي‪.223/3 :‬‬

‫( ‪)7/380‬‬

‫قطع المخرج‪ ،‬لكن لو وضعه بوسط نقبه فأخذه خارج وهو يساوي نصابين‪ ،‬لم يقطع الثنان في‬
‫الظهر‪ .‬ولو نقب شخص وأخرج غيره المسروق فل قطع على واحد (‪. )1‬‬
‫وقال أحمد‪ :‬يقطع كل واحد منهما؛ لنهما اشتركا في هتك الحرز‪ ،‬وإخراج المتاع‪ ،‬فلزمهما القطع‪،‬‬
‫كما لو حمله معا فأخرجاه (‪ . )2‬وهذا لدي أصح الراء للشتراك في السرقة‪ .‬ويجري هذا الخلف‬
‫أيضا فيمن دخل الحرز‪ ،‬وجمع المتاع عند النقب‪ ،‬ثم خرج‪ ،‬وأدخل يده‪ ،‬وأخرج المتاع‪.‬‬
‫و ـ الشتراك في السرقة أو تحميل المسروق على ظهر واحد من الجماعة‪ :‬إذا دخل جماعة الدار‪،‬‬
‫فأخذوا متاعا‪ ،‬وحملوه على ظهر رجل منهم أو رجلين‪ ،‬وخرج الباقون من غير حمل شيء‪ :‬فالقياس‬
‫عند الحنفية وهو قول زفر والمالكية والشافعية‪ :‬أل يقطع غير الحامل؛ لن فعل السرقة ل يتم إل‬
‫بالخراج بعد الخذ (‪. )3‬‬
‫وفي الستحسان عندالحنفية وهو قول الحنابلة‪ :‬يقطعون جميعا؛ لن إخراج المسروق تم بمعاونة‬
‫الجماعة‪ ،‬وهكذا تكون السرقة الجماعية عادة (‪. )4‬‬
‫ويجري هذا الخلف فيما لو حملوا المسروق على دابة‪ ،‬حتى خرجت من الحرز‪ ،‬فإنه يجب القطع‬
‫استحسانا‪.‬‬
‫ز ـ الطرار والنباش‪ :‬الطرار‪ :‬هو النشال وعرفه الحنابلة بقولهم بأنه من يبط (يشق) جيبا أو كما‬
‫ويأخذ منه أو بعد سقوطه نصابا‪ .‬وقد اتفق الفقهاء على أن‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حاشية الدسوقي‪ ،343/4 :‬بداية المجتهد‪ ،440/2 :‬المهذب‪ ،280/2 :‬مغني المحتاج‪ 171/4 :‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ 283/8 :‬وما بعدها‪ ،‬غاية المنتهى‪.338/3 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير‪ ،335/4 :‬الم‪ ،137/6 :‬مغني المحتاج‪.172/4 :‬‬
‫(‪ )4‬فتح القدير‪ ،244/4 :‬المغني‪.283/8 :‬‬

‫( ‪)7/381‬‬
‫الطرار تقطع يده (‪ . )1‬وهو الرأي المتفق مع المصلحة‪ .‬ومعنى الطرار‪ :‬هو الذي يسرق من جيب‬
‫صفْنة (وعاء من أدم يستقى به) سواء بالقطع أو بالشق أو بإدخال اليد في‬
‫الرجل‪ ،‬أو كمه (‪ )2‬أو ُ‬
‫الجيب‪.‬‬
‫غير أن الحنفية فصلوا في طريقة الطر‪ :‬فإن كان الطر بالقطع‪ ،‬والدراهم مصرورة على ظاهر الكم‬
‫لم يقطع؛ لن الحرز هو الكم‪ ،‬والدراهم بعد القطع تقع على ظاهر الكم‪ ،‬فلم يوجد الخذ من الحرز‪.‬‬
‫وإن كانت الدراهم مصرورة في داخل الكم‪ ،‬يقطع؛ لنها بعد القطع‪ ،‬تقع في داخل الكم‪ ،‬فكان الطر‬
‫أخذا من الحرز‪ ،‬وهو الكم‪ ،‬فيقطع‪.‬‬
‫وإن كان الطر بحل الرباط ينظر‪ :‬إن كان بحال لو حل الرباط تقع الدراهم على ظاهر الكم‪ ،‬بأن كانت‬
‫العقدة مشدودة من داخل الكم‪ ،‬ل يقطع؛ لنه أخذها من غير حرز‪.‬‬
‫وإن كان بحال إذا حل الرباط تقع الدراهم في داخل الكم‪ ،‬وهو يحتاج إلى إدخال يده في الكم للخذ‪،‬‬
‫يقطع‪ ،‬لوجود الخذ من الحرز‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬أن الحنفية يتطلبون وجود معنى الحرز حقيقة واقعة‪ ،‬والولى الخذ برأي الجمهور تفاديا‬
‫لخطر هؤلء اللصوص الخطرين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،245‬البدائع‪ ،76/7 :‬حاشية ابن عابدين‪ ،224/3 :‬مختصر‬
‫الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،271‬بداية المجتهد‪ ،440/2 :‬المهذب‪ ،279/2 :‬المغني‪ ،256/8 :‬غاية المنتهى‪:‬‬
‫‪.336/3‬‬
‫(‪ )2‬الكم ـ بضم الكاف والميم المشدددة‪ :‬مدخل اليد ومخرجها من الثوب‪ ،‬والمراد به هنا‪ :‬أنه ما‬
‫يتخد مكانا لتخبئة الشياء فيه‪ .‬والكم بكسر الكاف‪ :‬وعاء الطلع أو الزهر أو الثمر‪.‬‬

‫( ‪)7/382‬‬

‫النباش‪ :‬هو سارق أكفان الموتى‪ ،‬واختلف الفقهاء في حكمه‪ ،‬فقال أبو حنيفة ومحمد‪ :‬ل يقطع ولو كان‬
‫القبر في بيت مقفل في الصح؛ لن القبر ليس بحرز بنفسه أصلً‪ ،‬إذ ل تحفظ الموال فيه عادة (‪)1‬‬
‫‪.‬‬
‫وقال المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف‪ :‬تقطع يده؛ لنه سارق‪ ،‬أو ملحق بسارق مال الحي‪،‬‬
‫وال تعالى يقول‪{ :‬والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة‪ ،]38/5:‬وقالت عائشة رضي ال عنها‪:‬‬
‫«سارق أمواتنا كسارق أحيائنا» (‪ ، )2‬وروى البراء بن عازب رضي ال عنه أن النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم قال‪« :‬من حرّق حرقناه‪ ،‬ومن غرق غرقناه‪ ،‬ومن نبش قطعناه» (‪ ، )3‬ولن القبر حرز‬
‫للكفن‪ ،‬فإن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر‪ ،‬دون غيره‪ ،‬ويكتفى به في حرزه (‪. )4‬‬
‫إل أن الشافعية استثنوا القبر الموجود في برية‪ ،‬فل قطع في السرقة منه؛ لنه ليس بحرز للكفن‪ ،‬وإنما‬
‫يكون الدفن في البرية للضرورة بخلف المقبرة التي تلي العمران‪ ،‬والراجح رأي الجمهور‪ ،‬منعا من‬
‫هذه الدناءات‪.‬‬
‫ح ـ الدار المشتركة‪ :‬إذا كانت الدار مشتركة بين عدة سكان‪ ،‬كالغرف المؤجرة في المنازل لكثر‬
‫من واحد‪ ،‬فسرق المتاع من غرفة‪ ،‬يقطع عند الحنفية إذا كانت الدار عظيمة بحيث يستغني أهل كل‬
‫بيت ببيتهم عن صحن الدار‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،159/9 :‬حاشية ابن عابدين‪ ،219/3 :‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،273‬البدائع‪،69/7 :‬‬
‫القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،359‬غاية المنتهى‪.340/3 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الدارقطني من حديث عمرة عنها‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البيهقي في المعرفة وقال‪ :‬في هذا السناد بعض من يجهل حاله وروى الدارقطني عن‬
‫عائشة قالت‪« :‬سارق أمواتنا كسارق أحيائنا» (راجع نصب الراية‪ ،366/3 :‬التلخيص‪ :‬ص‪،356 :‬‬
‫‪.)358‬‬
‫(‪ )4‬حاشية الدسوقي‪ ،340/4 :‬بداية المجتهد‪ ،440/2 :‬مغني المحتاج‪ ،169/4 :‬المهذب‪،278/2 :‬‬
‫المغني‪.272/8 :‬‬

‫( ‪)7/383‬‬

‫وكذلك يقطع عند الحنابلة إذا كان الباب مغلقا‪ ،‬ويقطع عند مالك والشافعي بإخراج المتاع‪ ،‬ولو لم‬
‫يخرجه من جميع الدار (‪. )1‬‬
‫ط ـ المتعة في السواق‪ :‬يقطع سارقها عند الحنفية إذا سرق منها ليلً‪ ،‬ول يقطع إن سرق منها‬
‫نهارا‪ ،‬لختلل الحرز في النهار بسبب وجود الذن عادة بالدخول‪ .‬وقال المالكية والشافعية‪ :‬يقطع‬
‫سارق المتاع من حوانيت التجار أو السواق إذا كانت المتعة قد ضمها أصحابها إلى بعضها في‬
‫موضع البيت‪ ،‬أوأحرزت في أوعيتها التي تحرز بها عادة‪ ،‬عملً بالعرف الجاري في إحرازها‪ .‬وبناء‬
‫عليه‪ ،‬يقطع ‪ -‬في رأيي ‪ -‬سارق السيارات المتروكة في الشوارع اليوم؛ لن الشارع هو حرزها‪،‬‬
‫والحرز‪ :‬هو كل مكان تحفظ فيه الموال عادة‪.‬‬
‫وقال أحمد‪ :‬يقطع سارقها إذا كان في السوق حارس‪ ،‬أو كان مع المتعة حارس يشاهدها (‪. )2‬‬
‫‪ - 4‬أن يكون المسروق أعيانا‪ ،‬قابلة للدخار والمساك‪ ،‬ول يتسارع إليها الفساد ‪:‬‬
‫قال أبو حنيفة ومحمد‪ :‬ل قطع فيما يسرع إليه الفساد‪ ،‬إذا بلغ الحد الذي يقطع في مثله بالقيمة‪ ،‬كالعنب‬
‫والتين والسفرجل والرطب والبقول والخبز ونحوها من الطعمة الرطبة‪ ،‬والطبائخ‪ ،‬واللحم الطري أو‬
‫اليابس‪ ،‬والنبيذ الحلل‪ ،‬والعصير واللبان‪ ،‬سواء أخذت من حرز أم ل‪ ،‬لعدم قابلية الدخار‪ ،‬ودليلهما‬
‫قوله عليه الصلة والسلم‪« :‬ل قطع في ثمر ول كَثَر» (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،243/4 :‬الموطأ‪ ،50/3 :‬الم‪ ،139 ،136/6 :‬المغني‪ ،256/8 :‬المهذب‪.280/2 :‬‬
‫(‪ )2‬فتح القدير‪ ،242/4 :‬الموطأ‪ ،50/3 :‬الم‪،135/6 :‬المغني‪.250-249/8 :‬‬
‫(‪ )3‬الثمر‪ :‬هو ما كان معلقا في النخل قبل أن يجز ويحرز‪ :‬وهو اسم جامع للرطب واليابس من‬
‫الرطب والعنب وغيرهما‪ .‬والكثر‪ :‬هو جمار النخل‪ ،‬وهو شحم النخل الذي في وسط النخلة (راجع‬
‫سبل السلم‪ ،23/4 :‬المنتقى على الموطأ‪.)182/7 :‬‬

‫( ‪)7/384‬‬

‫ولن هذه الشياء ل تعد مالً عادة‪ ،‬فيقل خطرها عند الناس‪ ،‬فكانت تافهة‪ ،‬ونظرا لنها معرضة‬
‫للهلك أيضا تشبه ما لم يحرز‪ ،‬فإن كان المسروق مما يبقى من سنة إلى سنة‪ ،‬فيدخر‪ ،‬مثل الجوز‬
‫واللوز والتمر اليابس والفواكه اليابسة والخل والدبس‪ ،‬فيجب القطع (‪. )1‬‬
‫وقال أبو يوسف‪ :‬يجب القطع فيما ل يحتمل الدخار؛ لنها منتفع بها حقيقة‪ ،‬والنتفاع بها مباح شرعا‬
‫على الطلق‪ ،‬فكانت مالً‪ ،‬فيقطع فيها كسائر الموال (‪ . )2‬وهذا الرأي يتفق مع عرفنا اليوم‪ ،‬إذ أن‬
‫الفواكه أصبحت من الموال المهمة‪ ،‬وليست تافهة‪ ،‬كما كان عليه عرف الناس في الماضي‪.‬‬
‫وقال المالكية والشافعية والحنابلة‪ :‬يجب القطع في كل الموال المتمولة التي يجوز بيعها‪ ،‬وأخذ‬
‫العوض عنها‪ ،‬سواء أكانت طعاما أم ثيابا‪ ،‬أم حيوانا‪ ،‬أم أحجارا‪ ،‬أم قصبا‪ ،‬أم صيدا‪ ،‬أم زجاجا‪،‬‬
‫ونحوها‪ ،‬لعموم قوله تعالى‪{ :‬والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة‪ ]38/5:‬ولن هذا مال يتمول‬
‫عادة ويرغب فيه‪ ،‬فيقطع سارقه إذا اجتمعت فيه شروط السرقة (‪ ، )3‬كأن يؤخذ من حرز مثله‪.‬‬
‫سرقة الثمر المعلق‪ :‬اتفق العلماء على أنه ل يجب القطع في سرقة الثمر المعلق على الشجر أو‬
‫الحنطة في سنبلها‪ ،‬إذا لم يكن محرزا‪ ،‬فإن أحرز وجب فيه القطع‪ .‬ويرجع في تحديد الحرز إلى ما‬
‫يعرفه الناس حرزا‪ ،‬فما عرفوه حرزا قطع بالسرقة منه‪ ،‬وما ل يعرفونه حرزا لم يقطع بالسرقة منه؛‬
‫لن الشرع دل على اعتبار الحرز‪ ،‬وليس له حد مقرر في الشرع‪ ،‬فوجب الرجوع فيه إلى العرف‪.‬‬
‫قال الشافعي‪ :‬إن حديث رافع‪« :‬ل قطع في ثمر» خرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم‬
‫إحراز حوائطها (بساتينها) فذلك لعدم الحرز‪ .‬فإذا أحرزت الحوائط (أي البساتين) بالجدران أو‬
‫السلك الشائكة مثلً‪ ،‬كانت كغيرها‪ .‬لكن إذا أخذ الثمر من غير حرز‪ ،‬يجب فيه عند الجمهور دفع‬
‫قيمته‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،153/9 :‬فتح القدير‪ ،227/4 :‬البدائع‪.69/7 :‬‬
‫(‪ )2‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )3‬بداية المجتهد‪ ،441/2 :‬الميزان‪ ،162/2 :‬المهذب‪ 277/2 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ ،246/8 :‬نيل‬
‫الوطار‪ ،128/7 :‬غاية المنتهى‪.341 ،337/3 :‬‬

‫( ‪)7/385‬‬

‫وقال الحنابلة‪ :‬يجب دفع مثلي قيمته‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ‬
‫خُبْنة‪ ،‬أي (ل يخبئ شيئا في ثنيات ثيابه) فل شيء عليه‪ ،‬ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه‬
‫والعقوبة‪ ،‬ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين‪ ،‬فبلغ ثمن المجن‪ ،‬فعليه القطع» (‪ . )1‬فإن‬
‫استحكم جفاف الثمر أو الحنطة‪ ،‬وجذّ وآواه الجرين‪ ،‬ثم سرق‪ ،‬قطع السارق؛ لنه صار مالً مطلقا‪،‬‬
‫قابلً للدخار‪ ،‬وإليه أشار الرسول صلّى ال عليه وسلم حيث قال‪« :‬ل قطع في ثمر ول كثَر حتى‬
‫يؤويه الجرين» الحديث (‪. )2‬‬
‫‪ - 5‬أن يكون المسروق شيئا ليس أصله مباحا ‪:‬‬
‫إذا كان الشيء في أصله مباحا‪ ،‬كالطيور والتبن والخشب والحطب والقصب والصيود والحشيش‬
‫والسمك والزرنيخ والطين الحمر والنّورة (‪ )3‬واللّبِن والفحم والملح والخزف والزجاج لسرعة‬
‫كسره‪ ،‬فقد اختلف العلماء في حكم سرقته كما في الشرط السابق‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪ ،‬وأخرج‬
‫الترمذي عن ابن عمر مرفوعا‪« :‬إذا مر أحدكم بحائط (أي بستان من ا لنخل) فليأكل ول يتخذ خبنة»‬
‫قال الترمذي‪ :‬غريب‪ ،‬وقال البيهقي‪ :‬لم يصح‪ ،‬وجاء من أوجه أخرى غير قوية‪ .‬قال ابن حجر‪:‬‬
‫والحق أن مجموعها ل يقصر عن درجة الصحيح‪ ،‬وقد احتجوا في كثير من الحكام بما دونها (راجع‬
‫نصب الراية‪ ،363/3 :‬سبل السلم‪ ،97/3 :‬جامع الصول‪ ،296/11 ،318/4 :‬نيل الوطار‪:‬‬
‫‪.)127/7‬‬
‫(‪ )2‬راجع جامع الصول‪.318/4 :‬‬
‫(‪ )3‬النورة‪ :‬حجر الكلس ثم غلبت على أخلط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره‪ ،‬ويستعمل لزالة‬
‫الشعر (المصباح‪ ،‬والقاموس المحيط)‪.‬‬

‫( ‪)7/386‬‬

‫قال الحنفية‪ :‬ل قطع فيما كان أصله مباحا في دار السلم‪ ،‬كهذه الشياء‪ ،‬واستثنوا منها خشب الساج‬
‫والبنوس والصندل والقنا (هو عنقود النخل) والخشب المصنوع‪ .‬ودليله‪ :‬أن الناس ل يتمولون تلك‬
‫الشياء‪ ،‬وإنما توجد بكثرة‪ ،‬وهي مباحة‪ ،‬فيقل خطرها عندهم‪ ،‬فكانت تافهة كالتراب‪ ،‬إل ما كان غالي‬
‫القيمة؛ لنه يتمول عادة فل يكون تافها‪ ،‬وهو ما استثنوه‪ .‬ولنها أيضا من المور التي يشترك فيها‬
‫الناس جميعا‪ ،‬فبالنظر للشبهة التي فيها لكل مالك‪ ،‬ل يقطع سارقها‪ ،‬مراعاة لصلها (‪. )1‬‬
‫ويلحظ أن اعتماد أبي حنيفة في هذا الشرط على معنى التفاهة وعدم المالية‪ ،‬ل على إباحة الجنس؛‬
‫لن ذلك موجود في الذهب والفضة‪.‬‬
‫وعليه إذا أصبحت هذه الشياء من جملة الموال المعتبرة وجب الحد بسرقتها‪.‬‬
‫وقال المالكية والشافعية والحنابلة (‪ : )2‬يقطع سارق الموال‪ ،‬سواء أكانت مما أصله مباح ‪ ،‬كالصيد‬
‫والماء والحطب والحشيش والمعادن‪ ،‬أم غير مباح لعموم الية الموجبة للقطع‪ ،‬وعموم الثار الواردة‬
‫في اشتراط النصاب‪ ،‬ولنها مال محرز (‪ ، )3‬وهذا هوالرجح لدي‪ ،‬لتمول الناس هذه الشياء‪،‬‬
‫وإحرازهم لها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،153/9 :‬فتح القدير‪ ،226/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،219/3 :‬البدائع‪ ،68/7 :‬حاشية ابن‬
‫عابدين‪.217/3 :‬‬
‫(‪ )2‬حاشية الدسوقي‪ ،334/4 :‬الميزان‪ ،167/2 :‬بداية المجتهد‪ ،441/2 :‬المهذب‪ ،278/2 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ ،246/8‬المنتقى على الموطأ‪ ،156/7 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،359‬غاية المنتهى‪.337/3 :‬‬
‫(‪ )3‬قال الزنجاني الشافعي في تخريج الفروع على الصول‪ :‬ص ‪ :186‬استصحاب حكم العموم إذا‬
‫لم يقم دليل الخصوص متعين عند القائلين بالعموم‪ ،‬وعليه بنى الشافعي رضي ال عنه معظم مسائل‬
‫السرقة‪ .‬ويتفرع عليه أن حد القطع يتعلق بسرق ما أصله على الباحة عند الشافعي رضي ال عنه‪،‬‬
‫تمسكا بعموم قوله تعالى‪{ :‬والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة‪ ]38/5:‬وعموم الية يقتضي‬
‫إيجاب القطع في كل ما يسمى آخذه سارقا‪ ،‬فكل من يطلق عليه اسم السارق مقطوع بحكم العموم إل‬
‫ما استثناه الدليل‪.‬‬

‫( ‪)7/387‬‬

‫‪ -6‬أن يكون المال المسروق معصوما‪ ،‬ليس للسارق فيه حق الخذ ول تأويل الخذ‪ ،‬ول شبهة‬
‫التناول (انتفاء شبهة الخذ ) ‪:‬السبب في اشتراط هذا الشرط‪ :‬أن القطع عقوبة محضة‪ ،‬فيستدعي‬
‫جناية محضة‪ ،‬وأخذ ما لَه حق أخذه ل يكون جناية أصلً‪ ،‬فل يستدعي عقوبة‪ .‬وكذلك أخذ ما لخذه‬
‫فيه تأويل التناول أو شبهة التناول‪ ،‬ل يكون جناية محضة‪ ،‬فل تناسبه العقوبة المحضة (‪. )1‬‬
‫ويتفرع على هذا الشرط أنه ل يقام حد القطع فيما يلي‪:‬‬
‫أ ـ سائر الموال المباحة التي ل مالك لها‪.‬‬
‫ب ـ مال الحربي المستأمن في دار السلم‪ ،‬فإنه ل يقطع استحسانا؛ لنه مال فيه شبهة الباحة‪،‬‬
‫والقياس أن يقطع؛ لن هذا المال أصبح معصوما بسبب المان الذي منحه الحربي‪ ،‬ولهذا كان‬
‫مضمونا بالتلف كمال الذمي‪.‬‬
‫جـ ـ مال المسلم أو الذمي إذا سرقه الحربي المستأمن لعتقاده إباحته‪.‬‬
‫د ـ مال الباغي إذا سرقه العادل؛ لنه ليس بمعصوم في حقه‪ .‬وكذا مال العادل إذا سرقه الباغي‪،‬‬
‫لنه أخذه متأولً‪.‬‬
‫هـ ـ المال المسروق من الغريم‪ ،‬أي المدين‪ ،‬على التفصيل التي‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬العقوبات الشرعية وأسبابها للستاد علي قراعة‪ :‬ص ‪ 146‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ ،72-70/7 :‬فتح‬
‫القدير‪ 229/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المبسوط‪ ،178 ،152/9 :‬غاية المنتهى‪.341/3 :‬‬

‫( ‪)7/388‬‬

‫إن كان المسروق من جنس حقه‪ ،‬كأن كان له عشرة دراهم‪ ،‬فسرق عشرة دراهم‪ ،‬وكان الدين حالّ‬
‫الداء‪ ،‬لم يقطع السارق؛ لن الخذ مباح له‪ ،‬لنه ظفر بجنس حقه‪ ،‬فله أخذه كما هو مقرر‪ ،‬حتى ولو‬
‫أخذ أكثر من مقدار حقه‪ ،‬ل يقطع؛ لن بعض المأخوذ حقه على الشيوع‪ ،‬ول قطع في سرقة حق‬
‫شائع كما في المال المشترك‪ .‬فإن كان الدين مؤجلً ل يقطع استحسانا‪ ،‬ويقطع قياسا‪.‬‬
‫وجه القياس‪ :‬أن الدين إذا كان مؤجلً لم يكن لخذه حق الخذ قبل حلول الجل‪ ،‬فصار كما لو سرقه‬
‫أجنبي‪ ،‬فيقطع فيه‪.‬‬
‫ووجه الستحسان‪ :‬أن حق الخذ‪ ،‬وإن لم يثبت قبل حلول الجل‪ ،‬إل أن سبب ثبوت حق الخذ‪ :‬وهو‬
‫الدين‪ ،‬قائم‪ ،‬وأما الجل فتأثيره في تأخير المطالبة‪ ،‬ل في سقوط الدين‪ ،‬فقيام السسبب المذكور يورث‬
‫شبهة‪ ،‬والشبهة تمنع إقامة الحد‪.‬‬
‫فإن كان المسروق خلف جنس حقه‪ ،‬كأن يكون له عشرة دراهم‪ ،‬فسرق دينارا أو عُروضا‪ ،‬فيقام‬
‫عليه حد القطع‪ ،‬كما ذكر الكرخي؛ لنه أخذ مالً ليس له حق أخذه‪ .‬وذكر في كتاب السرقة أنه ل‬
‫يقطع‪ ،‬وهو قول أبي يوسف والشافعي (‪. )1‬‬
‫قال ابن عابدين‪ :‬إن عدم جواز أخذ الدائن شيئا للمدين من خلف جنسه حقه‪ ،‬كان في زمانهم ـ أي‬
‫زمان متقدمي الحنفية ـ لمطاوعتهم في الحقوق‪ ،‬والفتوى اليوم على جواز الخذ عند القدرة من أي‬
‫مال كان‪ ،‬ل سيما في ديارنا لمداومتهم للعقوق (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،236/4 :‬مغني المحتاج‪ ،162/4 :‬المهذب‪.282/2 :‬‬
‫(‪ )2‬رد المحتار‪.220/3 :‬‬

‫( ‪)7/389‬‬

‫و ـ سرقة المصحف الشريف‪ :‬ل يقطع سارقه؛ لن له تأويل الخذ‪ ،‬وهو أنه أخذه لقراءة القرآن‬
‫العظيم‪ ،‬وهو مذهب الحنابلة أيضا‪ .‬وقال مالك والشافعي وأبو يوسف‪ :‬يقطع بسرقة المصحف؛ لنه‬
‫مال متقوم‪ .‬واستثنى الشافعية في الصح سرقة المصحف الموقوف على القراءة‪ ،‬فإن سارقه ل يقطع‬
‫كالسرقة من بيت المال‪ ،‬لوجود الشبهة فيه (‪. )1‬‬
‫ز ـ الطبل والمزمار‪ ،‬والصليب‪ ،‬والنرد والشطرنج‪ ،‬وجميع آلت اللهو‪ ،‬ل يقطع بسرقتها؛ لنه‬
‫يتأول بأخذها منع المالك عن المعصية ونهيه عن المنكر‪.‬‬
‫‪ - 7‬أل يكون للسارق في المسروق ملك ول تأويل الملك‪ ،‬أو شبهته (انتفاء شبهة الملك ) ‪:‬‬
‫السبب في اشتراط هذا الشرط المتفق عليه‪ :‬هو ما ذكر في الشرط السابق‪ :‬وهو أن الجناية حينئذ ل‬
‫تكون متكاملة‪ ،‬فل تستدعي عقوبة متكاملة‪ ،‬ويتفرع عن هذا أن السارق ل يقطع بسرقة ما أعاره‪ ،‬أو‬
‫رهنه‪ ،‬أو آجره لغيره؛ لنه مملوك له‪ ،‬وليقطع بسرقة المال المشترك بينه وبين المسروق منه؛ لن‬
‫له حقا فيه‪ ،‬ول يقطع بسرقة مال الولد وإن سفل؛ لن له تأويل الملك‪ ،‬أو شبهة الملك‪ ،‬لقوله عليه‬
‫الصلة والسلم‪« :‬أنت ومالك لبيك» ‪ .‬وكذا ل يقطع بسرقة مال الصل كالب والجد وإن عل‪،‬‬
‫لوجود المباسطة في الدخول في الحرز (‪ ، )2‬أي أنه ل يقطع بسرقة من عمودي نسبه‪.‬‬
‫وكذلك ل يقطع السارق من بيت المال؛ لنه مال العامة‪ ،‬فيكون له فيه ملك‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ ،247/8 :‬غاية المنتهى‪ ،337/3 :‬المبسوط‪ ،152/9 :‬الدر المختار‪ ،218/3 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،163/4 :‬تكملة المجموع‪ ،337/18 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.359‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،70/7 :‬فتح القدير‪.238/4 :‬‬

‫( ‪)7/390‬‬

‫وحق‪ .‬والدليل هو أن عمر رضي ال عنه لم يقطع من سرق من بيت المال‪ ،‬فقد كتب عامل لعمر‬
‫يسأله عمن سرق من مال بيت المال‪ ،‬فقال‪« :‬ل تقطعه فما من أحد إل وله فيه حق» وروى الشعبي‬
‫أن رجلً سرق من بيت المال‪ ،‬فبلغ عليا كرم ال وجهه‪ ،‬فقال‪« :‬إن له فيه سهما» ولم يقطعه‪ .‬وإن‬
‫سرق ذمي من بيت المال‪ ،‬قطع؛ لنه ل حق له فيه‪ .‬وإن سرق فقير من غلة وقف على الفقراء‪ ،‬لم‬
‫يقطع؛ لن له فيه حقا‪ ،‬وإن سرق منها غني‪ ،‬قطع؛ لنه ل حق له فيها‪ .‬والخلصة‪ :‬ل يقطع فيما له‬
‫فيه شبهة‪ ،‬لحديث «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة‪.‬‬
‫وقال مالك‪ :‬يقطع لعموم الكتاب (‪ )1‬أي عموم الية القرآنية الدالة على وجوب قطع أي سارق‪.‬‬
‫‪ - 8‬أل يكون السارق مأذونا له بالدخول في الحرز‪ ،‬أو فيه شبهة الذن ‪:‬‬
‫إذا سرق إنسان من ذوي الرحم المحرم (‪ ، )2‬أو من زوجه‪ ،‬فل تقطع يده؛ لنه يدخل عادة بدون‬
‫إذن‪ ،‬وجرت العادة بالتبسط بين الزوجين في الموال‪ ،‬فكان له شبهة الذن‪ ،‬فيختل معنى توفر الحرز‪،‬‬
‫وهذا شرط متفق عليه في الجملة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،235/4 :‬المغني‪ ،277/8 :‬غاية المنتهى‪ ،341/3 :‬المهذب‪ ،281/2 :‬المبسوط‪:‬‬
‫‪ ،188/9‬حاشية ابن عابدين على الدر المختار‪ ،220/3 :‬مغني المحتاج‪ .163/4 :‬ويلحظ أن للشافعية‬
‫تفصيلً رجحه النووي في السرقة من بيت المال‪ ،‬فقال‪ :‬ومن سرق مال بيت المال‪:‬إن فرز لطائفة‬
‫كذوي القربى والمساكين‪ ،‬ليس هو منهم‪ ،‬قطع إذ ل شبهة له في ذلك‪ ،‬وإن لم يفرز لطائفة فالصح‬
‫أنه إن كان له حق في المسروق كمال المصالح العامة وكصدقة وهو فقير مثلً‪ ،‬فل يقطع‪ ،‬وإن لم‬
‫يكن له فيه حق‪ ،‬قطع لنتفاء الشبهة‪.‬‬
‫(‪ )2‬ذو الرحم المحرم من الشخص‪ :‬هو الذي لو كان أحدهما رجلً‪ ،‬والخر امرأة‪ ،‬لم يجز له أن‬
‫يتزوجها من أجل الرحم التي بينهما‪.‬‬

‫( ‪)7/391‬‬

‫وكذلك ل قطع على خادم قوم سرق متاعهم‪ ،‬ول على ضيف سرق متاع مضيفه‪ ،‬ول على أجير‬
‫سرق من موضع أذن له في دخوله؛ لن الذن في الدخول أخرج الموضع من أن يكون حرزا في‬
‫حقه (‪ . )1‬وهذا متفق عليه في المذاهب الربعة‪ ،‬إل أن المام مالك اشترط في الخادم حتى يدرأ عنه‬
‫الحد أن يلي الخدمة بنفسه‪.‬‬
‫ووافق المام أحمد أبا حنيفة في رواية عنه في أل قطع بالسرقة من أحد الزوجين‪.‬‬
‫وقال الشافعي في الظهر‪ :‬يجب القطع في السرقة من القارب وأحد الزوجين من الخر‪ ،‬ما عدا‬
‫قرابة الصل والفرع‪ ،‬إذا سرق المال المحرز عنه‪ ،‬لعموم آية السرقة والخبار الواردة فيها‪ ،‬وإلحاقا‬
‫للقرابة القريبة‪ ،‬كالخت والعمة بالقرابة البعيدة‪ ،‬ولن النكاح عقد على منفعة‪ ،‬فل يؤثر في درء الحد‪،‬‬
‫كالجارة ل يسقط بها الحد عن الجير أو المستأجر إذا سرق أحدهما من الخر المال المحرز عنه (‬
‫‪ . )2‬ووافق المام مالك الشافعي في القطع بالسرقة بين الزوجين‪ ،‬والمعقول هو الرأي الول‪ ،‬لوجود‬
‫التسامح في أخذ المال عادة بين القارب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،75 ،70/7 :‬المبسوط‪ ،151/9 :‬تبيين الحقائق للزيلعي‪ ،222 ،220/3 :‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ ،221/3‬المهذب‪ ،280/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.359‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ .162/4 :‬ويلحظ أن الشافعية نبهوا على أن وجوب قطع يد الزوجة بالسرقة من‬
‫مال زوجها‪ :‬هو فيما إذا لم تستحق على الزوج شيئا حين السرقة‪ ،‬أما إذا كانت تستحق النفقة والسكنى‬
‫في تلك الحالة‪ ،‬فالمتجه أنه ل قطع إذا أخذت بقصد الستيفاء كما في حق رب الدين الحال إذا سرق‬
‫نصابا من المديون‪ ،‬وربما كان المام الشافعي في الم (‪ )139/6‬أميل لعدم القطع مطلقا بسبب‬
‫الشبهة‪ .‬وقال المام مالك (الموطأ‪ :)52/3 :‬إذا سرق أحد الزوجين من حرز يختص به الخر كأن‬
‫كان في بيت ل يسكنان معا فيه‪ ،‬أو سرق شيئا أحرزه عنه‪ ،‬يقطع‪ .‬وعن المام أحمد روايتان في ذلك‬
‫(المغني‪ :)276/8 :‬إحداهما ـ ل قطع عليه كمذهب أبي حنيفة‪ ،‬والثانية ـ يقطع كمذهب مالك‪.‬‬

‫( ‪)7/392‬‬
‫‪ - 9‬أن يكون المسروق مقصودا بالسرقة ل تبعا لمقصود ‪:‬‬
‫فلو سرق إنسان كلبا أو هرا في عنقه طوق ذهب أو فضة‪ ،‬أو مصحفا مرصعا بالذهب والياقوت‪ ،‬أو‬
‫سرق صبيا حرا عليه حلي أو ثياب ديباج‪ ،‬أو إناء من ذهب أو فضة فيه شراب أو ماء أو طعام‪ :‬ل‬
‫يجب القطع عند أبي حنيفة ومحمد وأحمد وفي وجه للشافعية؛ لن المقصود بالسرقة هو الكلب أو‬
‫الصبي‪ ،‬والطعام وغيره تابع له‪ ،‬وإذا كان الصل المقصود ل يجب فيه القطع لقصور في ماليته‪ ،‬فل‬
‫يجب بالتابع‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف وفي وجه آخر للشافعية‪ :‬ليس هذا بشرط؛ لنه قصد سرقة ما عليه من مال‪ ،‬ولن‬
‫الطعام الذي في الناء‪ ،‬ونحوه‪ ،‬إذا كان مما ل يقطع فيه‪ ،‬التحق بالعدم‪ ،‬فيعتبر أخذ الناء على‬
‫النفراد‪ ،‬فيقطع فيه (‪ ، )1‬ويظهر لي أن هذا هو المعقول‪ ،‬لول وجود الشبهة في اشتمال السرقة على‬
‫ما يقطع من أجله وما ل يقطع‪.‬‬
‫شروط المسروق منه ‪:‬‬
‫يشترط في المسروق منه أن تكون له يد صحيحة‪ ،‬واليد الصحيحة ثلثة أنواع‪:‬‬
‫‪ - 1‬يد الملك‪.‬‬
‫‪ - 2‬يد المانة‪ ،‬كيد الوديع والمستعير ويد الشريك المضارب‪.‬‬
‫‪ - 3‬يد الضمان‪ ،‬كيد الغاصب ويد القابض على سوم الشراء‪ ،‬ويد المرتهن‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،79/7 :‬المهذب‪.281/2 :‬‬

‫( ‪)7/393‬‬

‫فيجب القطع على السارق من هؤلء‪ .‬ول يجب القطع على السارق من السارق؛ لن يد السارق ليست‬
‫بيد صحيحة‪ ،‬فكان الخذ منه كالخذ من الطريق (‪. )1‬‬
‫شروط المسروق فيه ‪:‬‬
‫المسروق فيه‪ :‬هو مكان السرقة‪ .‬يشترط أن تكون السرقة في دار العدل‪ ،‬فلو سرق في دار الحرب أو‬
‫في دار البغي‪ :‬ل يقطع؛ لنه ل ولية للمام على غير دار العدل‪ ،‬فلم تنعقد السرقة موجبة للقطع (‪)2‬‬
‫‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ إثبات السرقة ‪:‬‬
‫تثبت السرقة عند القاضي بأحد أمرين‪ :‬البينة أو القرار‪.‬‬
‫شروط البينة ‪:‬‬
‫يشترط لقبول البينة شروط عامة تعرف في باب الشهادات‪ ،‬وشروط خاصة في الحدود والقصاص‪،‬‬
‫وهي (‪: )3‬‬
‫‪ - 1‬الذكورة‪ :‬فل تقبل فيها شهادة النساء‪.‬‬
‫‪ - 2‬العدالة‪ :‬فل تقبل فيها شهادة الفساق‪.‬‬
‫‪ - 3‬الصالة‪ :‬فل تقبل فيها الشهادة على الشهادة‪ ،‬لوجود الشبهة‪.‬‬
‫‪ - 4‬عدم تقادم العهد‪ ،‬إل في حد القذف والقصاص‪ :‬فلو شهدوا بالسرقة بعد حين‪ ،‬لم تقبل شهادتهم‪،‬‬
‫للشبهة‪.‬‬
‫‪ - 5‬الخصومة أو الدعوى ممن له يد صحيحة‪ :‬بأن كان صاحب ملك أو صاحب يد أمانة‪ ،‬أو يد‬
‫ضمان‪ ،‬كما بان سابقا‪ .‬فلو شهدوا أنه سرق مال فلن الغائب من غير خصومة من المسروق منه‪ ،‬لم‬
‫تقبل شهادتهم‪ ،‬ولكن يحبس السارق؛ لن إخبارهم أورث تهمة‪ ،‬ويجوز الحبس بالتهمة‪.‬‬
‫ويلحظ أن حق الخصومة ثابت لمن له يد صحيحة في حق ثبوت ولية استرداد المسروق وإعادته‬
‫إلى أيديهم‪ ،‬وفي حق القطع عند جمهور الحنفية؛ لن يد المالك أو المين أو الضامن يد صحيحة‪،‬‬
‫والخصومة مظهرة للسرقة‪ ،‬وإذا ظهرت السرقة بخصومة هؤلء يقطع السارق‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬
‫{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة‪.]38/5:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.80‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط‪ ،169/9 :‬فتح القدير‪ ،252 ،223/4 :‬البدائع‪ ،81/7 :‬تبيين الحقائق‪ ،213/3 :‬حاشية‬
‫ابن عابدين‪ ،213/3 :‬غاية المنتهى‪ ،342/3 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ 360‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/394‬‬

‫وقال زفر‪ :‬ل تعتبر خصومة غير المالك في حق القطع‪ ،‬ول يقطع السارق بخصومة المين أو‬
‫الضامن؛ لن يد غير المالك ليست بيد صحيحة في الصل‪ ،‬وإنما تثبت لهم ولية الخصومة لمكان‬
‫الرد إلى المالك‪ ،‬فكان ثبوتها لهم بطريق الضرورة‪ ،‬والثابت بالضرورة يكون عدَما فيما وراء محل‬
‫الضرورة‪ ،‬لنعدام علة الثبوت‪ ،‬وهي الضرورة‪.‬‬
‫وأما السارق الول فل تعتبر خصومته باتفاق الحنفية في حق القطع بالنسبة للسارق الثاني بالتفاق؛‬
‫لن يده ليست يد ملك‪ ،‬ول يد ضمان‪ ،‬ول يد أمانة‪ ،‬فصار الخذ من يده كالخذ من الطريق‪ .‬وأما في‬
‫حق السترداد ففيه روايتان‪ :‬رواية تقرر أن للسارق الول السترداد‪ ،‬إذ من الجائز أن يختار المالك‬
‫الضمان‪ ،‬ويترك القطع‪ ،‬فيحتاج إلى أن يسترد المسروق من السارق الثاني‪ ،‬ليدفعه إلى المالك‪،‬‬
‫فيتخلص من الضمان‪ .‬ورواية‪ :‬ليس له السترداد‪ ،‬إذ ليس له يد صحيحة (‪. )1‬‬
‫ويلحظ أن مذهب الشافعية والحنابلة في أظهر الروايتين كالحنفية في افتقار حد القطع إلى مطالبة‬
‫المسروق منه؛ لن المغلب عندهم في القطع حق المخلوق (‪. )2‬‬
‫وقال مالك‪ :‬إنه ل يفتقر إلى مطالبة المسروق منه صيانة لحق المجتمع‪ ،‬ومحافظة على أموالهم (‪. )3‬‬
‫ول تثبت السرقة عند القاضي بالنكول عن الحلف من المدعى عليه‪ ،‬ول تثبت أيضا بعلم القاضي‪ ،‬في‬
‫زمان القضاء أو قبله‪.‬‬
‫شروط القرار ‪:‬‬
‫تظهر السرقة عند القاضي بالقرار؛ لن النسان غير متهم في القرار على نفسه بالضرار بها‪،‬‬
‫ويكفي لوجوب القطع القرار مرة واحدة عند أبي حنيفة ومحمد وجمهور العلماء‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف والحنابلة‪ :‬ل يقطع إل بالقرار مرتين‪ ،‬كما أن عدد الشهود اثنان‪.‬‬
‫ويشترط عند أبي حنيفة ومحمد إقامة دعوى من المسروق منه‪ ،‬فإذا أقر السارق أنه سرق مال فلن‬
‫الغائب لم يقطع‪ ،‬ما لم يحضر المسروق منه ويخاصمه‪ ،‬كما هو المقرر في البينة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر البدائع‪ ،84-83/7 :‬فتح القدير‪ 255/4 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق للزيلعي‪.228/3 :‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪ 282/2 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ ،273/8 :‬غاية المنتهى‪.342/3 :‬‬
‫(‪ )3‬بداية المجتهد‪.443/2 :‬‬

‫( ‪)7/395‬‬

‫وقال أبو يوسف‪ :‬الدعوى في القرار بالسرقة ليست بشرط لوجوب القطع؛ لن النسان غير متهم‬
‫على نفسه (‪. )1‬‬
‫المبحث الرابع ـ ما يسقط الحد بعد وجوبه ‪:‬‬
‫يسقط الحد بأنواع هي (‪: )2‬‬
‫‪ - 1‬تكذيب المسروق منه السارق في إقراره بالسرقة‪ ،‬بأن يقول له‪ :‬لم تسرق مني‪.‬‬
‫‪ - 2‬تكذيب المسروق منه بينته‪ ،‬بأن يقول‪ :‬شهد شهودي بزور‪.‬‬
‫‪ - 3‬رجوع السارق عن القرار بالسرقة‪ ،‬فل يقطع‪ ،‬ويضمن المال؛ لن الرجوع عن القرار يقبل‬
‫في الحدود‪ ،‬ول يقبل في المال؛ لنه يورث شبهة في القرار‪ ،‬والحد يسقط بالشبهة‪ ،‬ول يسقط المال‪.‬‬
‫‪ - 4‬رد السارق المسروق إلى مالكه قبل المرافعة في السرقة عند أبي حنيفة ومحمد‪ ،‬وإحدى‬
‫الروايتين عن أبي يوسف‪ .‬وفي رواية أخرى عنه‪ :‬إن الرد قبل المرافعة ل يسقط الحد؛ لن السرقة‬
‫انعقدت موجبة للقطع‪ ،‬فرد المسروق بعدئذ ل يخل بالسرقة الموجودة‪.‬‬
‫ودليل الطرفين‪ :‬أن الخصومة شرط لظهور السرقة عند القاضي‪ ،‬ولما رد المسروق على المالك‪ ،‬فقد‬
‫بطلت الخصومة‪ ،‬بخلف ما بعد المرافعة؛ لن المطلوب هو وجود الخصومة ل استمرارها‪ .‬وعلى‬
‫هذا‪ ،‬رد المسروق بعد المرافعة وسماع البينة‪ :‬ل يسقط القطع‪ ،‬سواء أكان الرد قبل القضاء أم بعده‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة عند الحنفية‪ ،‬المبسوط‪ ،182/9 :‬المهذب‪ ،282/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪،361‬‬
‫غاية المنتهى‪.342/3 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ 88/7 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ 255/4 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ 229/3 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/396‬‬

‫‪ - 5‬ملك السارق المال المسروق قبل رفع المر إلى القضاء بل خلف‪ ،‬فإن ملكه بعدئذ قبل إمضاء‬
‫الحكم‪ ،‬فاختلف فيه الفقهاء‪ :‬فقال أبو حنيفة ومحمد‪ :‬يسقط الحد‪ ،‬كما إذا وهب أو باع المسروق منه‬
‫المال المسروق للسارق قبل القضاء أو بعده قبل إصدار الحكم‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف والشافعي وأحمد ومالك‪ :‬إذا وهبه بعد القضاء ‪ ،‬أي بعد ما رفع إلى الحاكم‪ ،‬لم يسقط‬
‫القطع‪ ،‬لما روي أن النبي صلّى ال عليه وسلم أمر في سارق رداء صفوان أن تقطع يده‪ ،‬فقال‬
‫صفوان‪ :‬إني لم أرد هذا‪ ،‬هو عليه صدقة‪ ،‬فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم‪« :‬فهل قبل أن تأتيني‬
‫به؟» (‪. )1‬‬
‫ودليل الطرفين‪ :‬أن الملك في الهبة يثبت من وقت القبض‪ ،‬فيظهر الملك له من ذلك الوقت‪ ،‬أي أن له‬
‫أثرا رجعيا‪ .‬وكون المسروق ملكا للسارق على الحقيقة أو مع الشبهة‪ ،‬يمنع من القطع‪ ،‬ولهذا لم يقطع‬
‫قبل القضاء‪ ،‬فكذلك بعده؛ لن القضاء في باب الحدود إمضاؤها‪ ،‬فما لم يمض الحد (أي ينفّذ فعلً بأن‬
‫يقام على المحدود) فكأنه لم يقض‪ .‬ولو كان لم يقض ل يقطع‪ ،‬فكذلك إذا لم يمض‪ ،‬أي لم ينفّذ الحد‪،‬‬
‫والمعنى أنهم اعتبروا الحد قبل استيفائه‪ ،‬كما لو كان قبل القضاء به‪.‬‬
‫زراعة عضو استؤصل في حد‪ :‬تقدمت ببحث إلى مجمع الفقه السلمي بجدة عام ‪ 1410‬هـ‬
‫‪/1990‬م في دورته السادسة مفاده عدم جواز إعادة العضو المقطوع في حال القصاص‪ ،‬بعملية‬
‫جراحية‪ ،‬مراعاة لمصلحة المقتص له‪ ،‬وكذلك عدم جواز إعادة العضو المقطوع في حد من الحدود‬
‫الخالصة للعبد‪ ،‬ورأيت جواز إعادة العضو إذا ثبت الجرم بالقرار؛ لجواز الرجوع عنه‪ ،‬وكذلك إذا‬
‫ثبت الجرم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المهذب‪ ،282/2 :‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،89‬غاية المنتهى‪ ،337/3 :‬المنتقى على‬
‫الموطأ‪ ،162/7 :‬والحديث رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس‪.‬‬

‫( ‪)7/397‬‬

‫بالشهادة في حقوق ال تعالى كحد السرقة والحرابة والزنى والردة‪ ،‬إذا تاب المحدود‪ ،‬وكانت حالت‬
‫العادة قليلة أو نادرة‪ ،‬حتى ل يتجرأ الجناة على الجرائم والفواحش‪ ،‬ثم وافقت على قرار المجمع‬
‫المذكور بعدم الجواز‪ ،‬حتى ل يتخذ تطبيق الحد عبثا أو مجالً للتلعب والبعد عن الجدية‪ ،‬ولبقاء‬
‫آثار تطبيق الحد لزجر المحدود وبقية الناس‪ ،‬وأذكر هنا نص قرار المجمع رقم (‪:)6/9/60‬‬
‫ل للعقوبة‬
‫‪ - 1‬ل يجوز شرعا إعادة العضو المقطوع تنفيذا للحد؛ لن في بقاء أثر الحد تحقيقا كام ً‬
‫المقررة شرعا‪ ،‬ومنعا للتهاون في استيفائها‪ ،‬وتفاديا لمصادمة حكم الشرع في الظاهر‪.‬‬
‫‪ - 2‬بما أن القصاص قد شرع لقامة العدل وإنصاف المجني عليه‪ ،‬وصون حق الحياة للمجتمع‪،‬‬
‫وتوفير المن والستقرار‪ ،‬فإنه ل يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذا للقصاص إل في الحالت التالية‪:‬‬
‫أ ـ أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع‪.‬‬
‫ب ـ أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه‪.‬‬
‫‪ - 3‬يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو في التنفيذ‪.‬‬

‫( ‪)7/398‬‬

‫صلُ الرّابع‪ :‬حَدّ الحِرابة أو قَطع الطّريق وحكم البغاة‬


‫ال َف ْ‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫هذا هو الحد الرابع من أنواع الحدود‪ ،‬ونتكلم فيه عن حكم البغاة لوجود التشابه بين جريمتي قطع‬
‫الطريق والبغي‪ ،‬فقطاع الطرق‪ :‬هم محاربون على غير التأويل‪ ،‬والبغاة محاربون على التأويل‪.‬‬
‫وقد ألحق الحنفية حد الحرابة بحد السرقة؛ لن قطع الطريق يسمى سرقة كبرى‪ ،‬إل أنه ليس بسرقة‬
‫مطلقة‪ ،‬فإن السرقة هي الخذ خفية كما يتبادر إلى الذهن‪ ،‬وإنما يطلق عليه اسم السرقة مجازا بسبب‬
‫الخفاء عن المام أو عن حراسه لحفظ الطريق‪.‬‬
‫فيسمى سرقة بسبب أخذ المال سرا عن الحارس أو المام‪ ،‬وتسميتها «كبرى» ؛ لن فيه ضررا على‬
‫أصحاب الموال وعامة الناس‪ ،‬ولذا غلظ الحد فيه‪ ،‬وخفف في السرقة العادية المسماة بالسرقة‬
‫الصغرى؛ لن ضررها يخص الملك بأخذ مالهم وهتك حرزهم (‪. )1‬‬
‫والكلم على حد الحرابة يكون في المباحث الخمسة التية‪:‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف قطاع الطرق أو المحاربين‪ ،‬وركن قطع الطريق‪.‬‬
‫المبحث الثاني ـ شروط قطع الطريق‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ إثبات قطع الطريق‪.‬‬
‫المبحث الرابع ـ أحكام قطاع الطرق‪.‬‬
‫المبحث الخامس ـ ما يسقط حكم القطع‪ ،‬وما يترتب على عدم وجوب الحد‪ .‬ثم يكون الكلم عن‬
‫تعريف البغاة وأحكامهم‪.‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف قطاع الطرق وركن قطع الطريق ‪:‬‬
‫قاطع الطريق أو المحارب‪ :‬هو كل من كان دمه محقونا قبل الحرابة وهو المسلم أو الذمي‪ .‬والصل‬
‫في مشروعية حد قطع الطريق هو قوله تعالى‪{ :‬إنما جزاء الذين يحاربون ال ورسوله ويسعون في‬
‫الرض فسادا أن يُقتّلوا أو يُصلّبُوا‪ ،‬أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلف أو يُ ْنفَوا من الرض} [المائدة‪:‬‬
‫‪.]33/5‬‬
‫وقد اتفق العلماء على أن من قتل وأخذ المال‪ ،‬وجب إقامة الحد عليه‪ ،‬ول يسقط العقاب بعفو ولي‬
‫المقتول‪ ،‬والمأخوذ منه المال‪ ،‬خلفا للقتل العادي‪.‬‬
‫قال ابن المنذر‪ :‬أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم (‪. )2‬‬
‫فالحرابة إذن‪ :‬هي كل فعل يقصد به أخذ المال على وجه تتعذر معه الستعانة عادة (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير مع العناية بحاشيته‪.268/4 :‬‬

‫(‪ )2‬الميزان‪ ،168/2 :‬بداية المجتهد‪ ،445/2 :‬حاشية الدسوقي‪ ،350/4 :‬المهذب‪ ،284/2 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،183/4 :‬المغني‪.290/8 :‬‬
‫(‪ )3‬تبصرة الحكام في أصول القضية والحكام لبن فرحون‪.271/2 :‬‬

‫( ‪)7/399‬‬
‫ركن قطع الطريق ‪:‬‬
‫ركنه‪ :‬هو الخروج على المارة لخذ المال على سبيل المغالبة على وجه يمتنع المارة عن المرور‬
‫وينقطع الطريق‪ ،‬سواء أكان القطع من جماعة أم من واحد‪ ،‬بعد أن يكون له قوة القطع‪ ،‬وسواء أكان‬
‫القطع بسلح أم غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها‪ ،‬وسواء أكان بمباشرة الكل‪ ،‬أم التسبب من‬
‫البعض بالعانة والخذ؛ لن القطع يحصل بكل ماذكر كما في السرقة‪ ،‬ولن هذا من عادة قطاع‬
‫الطرق (‪ . )1‬وبه يظهر أن قطاع الطرق قوم لهم منعة وشوكة‪ ،‬بحيث ل تمكن للمارة مقاومتهم‪،‬‬
‫يقصدون قطع الطريق‪ ،‬بالسلح أو بغيره‪.‬‬
‫المبحث الثاني ـ شروط قطع الطريق ‪:‬‬
‫هناك شروط في القاطع‪ ،‬والمقطوع عليه‪ ،‬وفيهما معا‪ ،‬وفي المقطوع له‪ ،‬وفي المقطوع فيه‪.‬‬
‫شروط القاطع ‪:‬‬
‫يشترط في القاطع أن يكون عاقلً بالغا‪ ،‬فإن كان صبيا مجنونا ل حد عليهما؛ لن الحد عقوبة‬
‫تستدعي جناية‪ ،‬وفعل الصبي والمجنون ل يوصف بكونه جناية‪.‬‬
‫ويشترط أيضا أن يكون ذكرا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة‪ ،‬ولو كان بين القطاع امرأة ل يقام‬
‫الحد عليها في الرواية المشهورة؛ لن ركن القطع وهو (الخروج على المارة على وجه المحاربة‬
‫والمغالبة) ل يتحقق من النساء عادة‪ ،‬لرقة قلوبهن وضعف بنيتهن‪ ،‬فل يكنّ من أهل الحرب‪.‬‬
‫وقال الطحاوي‪ :‬النساء والرجال في قطع الطريق سواء؛ لن هذا حد يستوي في وجوبه الذكر والنثى‬
‫كسائر الحدود‪ .‬وسيأتي بيان المذاهب الخرى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 90/7 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ ،268/4 :‬المبسوط‪.195/9 :‬‬
‫والمحارب عند المالكية‪ :‬هو الذي شهر السلح وقطع الطريق وقصد سلب الناس‪ ،‬سواء أكان في‬
‫مصر أو قفر‪ .‬ومن دخل دارا بالليل وأخذ المال بالكره‪ ،‬ومنع من الستغاثة‪ ،‬فهو محارب‪ ،‬والقاتل‬
‫غيلة محارب‪ ،‬ومن كان معاونا للمحاربين كالكمين والطليعة فهو في حكم المحارب عندهم (القوانين‬
‫الفقهية‪ :‬ص ‪.)362‬‬

‫( ‪)7/400‬‬

‫وأما الرجال الذين مع المرأة‪ ،‬فل يقام عليهم الحد عند أبي حنيفة ومحمد‪ ،‬سواء باشروا معها أو لم‬
‫يباشروا؛ لن سبب وجوب الحد شيء واحد‪ ،‬وهو قطع الطريق‪ ،‬وقد حصل ممن يجب عليه‪ ،‬ومن ل‬
‫يجب عليه‪ ،‬فل يجب أصلً كما إذا كان فيهم صبي أو مجنون‪.‬‬
‫وفرق أبو يوسف بين الصبي وبين المرأة‪ ،‬فقال‪ :‬إذا باشر الصبي ل حد على من لم يباشر من‬
‫المكلفين‪.‬‬
‫وإذا باشرت المرأة يحد الرجال؛لن امتناع وجوب الحد على المرأة ليس لعدم الهلية؛ لنها من أهل‬
‫التكليف‪ ،‬بل لعدم المحاربة منها‪ ،‬أو نقصانها عادة‪ ،‬وهذا لم يوجد في الرجال‪ ،‬فل يمتنع وجوب الحد‬
‫عليهم (‪ . )1‬لكن نص ابن عابدين في حاشيته ( ‪ ) 232/3‬على أن المرأة كالرجل في الحرابة في‬
‫ظاهر الرواية‪ ،‬إل أنها لتصلب‪.‬‬
‫ولم يفرق الجمهور بين الرجل والنثى‪،‬فيقام حد الحرابة على جميع المكلفين الملتزمين ولو أنثى‪،‬‬
‫الذين يعرضون للناس بسلح أو غيره‪ ،‬فيغصبون مالً محترما مجاهرة (‪. )2‬‬
‫شروط المقطوع عليه ‪:‬‬
‫يشترط في المقطوع عليه أمران‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون مسلما أو ذميا‪ :‬فإن كان حربيا مستأمنا‪ ،‬ل حد على القاطع؛ لن عصمة مال المستأمن‬
‫ليست عصمة مطلقة‪ ،‬وإنما فيها شبهة الباحة‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن تكون يده صحيحة‪ :‬بأن كانت يد ملك أو يد أمانة أو يد ضمان‪ ،‬فإن لم تكن كذلك كيد‬
‫السارق‪ ،‬لم يجب الحد على القاطع (‪. )3‬‬
‫شروط القاطع والمقطوع عليه جميعاً ‪:‬‬
‫يشترط أل يكون في القطاع ذو رحم محرم من المقطوع عليهم‪ ،‬فإن كان أحدهم ذا رحم من المقطوع‬
‫عليهم ل يجب الحد على القطاع؛ لنه يوجد بينهم قريب للمقطوع عليهم‪ .‬والسبب في منع الحد‪ :‬هو‬
‫أنه يكون عادة بين هذا القريب وبين المقطوع عليه تبسط في المال والحرز‪ ،‬لوجود الذن بالتناول‬
‫عادة‪.‬‬
‫و اختلف الحنفية مع بقية المذاهب في هذا الشرط‪ ،‬وفي اشتراط الذكورة في القاطع‪ ،‬وفي اشتراك‬
‫الصبي أو المجنون مع القطاع‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪،91/7 :‬المبسوط‪ ،197/9 :‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪.277‬‬
‫(‪ )2‬غاية المنتهى‪ ،344/3 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،362‬المهذب‪.284/2 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪.‬‬

‫( ‪)7/401‬‬
‫فقال الحنفية كما تقدم‪ :‬يشترط كون القطاع كلهم أجانب مكلفين ذكورا‪ ،‬حتى إذا كان أحدهم ذا رحم‬
‫محرم أو صبيا أو مجنونا‪ ،‬ل يجب عليهم القطع عند‬
‫أبي حنيفة ومحمد؛ لن الحد عقوبة‪ ،‬فتستدعي جناية‪ ،‬وفعل الصبي والمجنون ل يوصف بكونه جناية‪،‬‬
‫كما سبق بيانه‪ ،‬وأما المرأة‪ :‬فل يتحقق منها قطع الطريق لضعفها‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف‪ :‬العبرة بمباشرة القطع‪ ،‬فإذا باشرت المرأة القطع حد الرجل كما تبين‪ ،‬ول تحد‬
‫المرأة‪ ،‬فإن قتلت أحدا تقتل قصاصا‪ ،‬ل حدا‪ ،‬فيجوز لولي القتيل العفو عن القصاص‪.‬‬
‫وإذا باشر الصبي أو المجنون القطع ل يحد أحد‪ ،‬وإن كانت المباشرة من غيرهما‪ ،‬فيحد العقلء‬
‫البالغون‪ ،‬ول يحد الصبي أو المجنون‪ .‬ودليله أن القطع هو الصل في قطع الطريق‪ ،‬والعانة‬
‫كالتابع‪ ،‬فإذا وليه الصبي‪ ،‬فقد أتى بالصل‪ ،‬فإذا لم يجب القطع بالصل‪ ،‬فكيف يجب بالتابع‪ ،‬فإذا وليه‬
‫البالغ فقد حصل الصل منه (‪. )1‬‬
‫وقال المالكية والشافعية والحنابلة‪ :‬ل يسقط حد القطع عن قطاع الطرق إذا كان فيهم صبي أو مجنون‬
‫أو ذو رحم من المقطوع عليه؛ لن وجود هؤلء شبهة اختص بها واحد‪ ،‬فلم يسقط الحد عن الباقين‪،‬‬
‫كما لو اشتركوا في وطء المرأة‪ .‬وعلى هذا فل حد على الصبي والمجنون وإن باشر القتل وأخذ‬
‫المال؛ لنهما ليسا من أهل الحدود‪ ،‬وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما‪ ،‬ودية قتيلهما على‬
‫عاقلتهما‪ ،‬أي أقاربهما من العصبات‪.‬‬
‫وأما المرأة إذا كانت مشتركة مع القطاع‪ ،‬فيثبت في حقها حكم المحاربة؛ لنها تحد في السرقة‪،‬‬
‫فيلزمها حكم المحاربة كالرجل‪ ،‬وتقتل حدا إن قتلت‪ ،‬وأخذت المال (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،91 ،67/7 :‬فتح القدير‪ ،273/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،239/3 :‬المبسوط‪.203/9 :‬‬
‫(‪ )2‬حاشية الدسوقي‪ ،348/4 :‬مغني المحتاج‪ ،180/4 :‬الميزان‪ ،169/2 :‬المغني‪.297/8 :‬‬

‫( ‪)7/402‬‬

‫حكم الردء ‪:‬‬


‫اختلف العلماء أيضا في الردء‪ ،‬أي العون‪:‬‬
‫فقال الحنفية والمالكية والحنابلة‪ :‬إذا اجتمع محاربون‪ ،‬فباشر بعضهم القتل والخذ‪ ،‬وكان بعضهم‬
‫ردءا‪ ،‬كان للردء حكم المحاربين في جميع الحوال‪ ،‬اكتفاء بوجود المحاربة‪ ،‬سواء باشر بعضهم القتل‬
‫أم لم يباشر (‪. )1‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬ل يجب على الردء بأن كثّر جمعهم فقط‪ ،‬ولم يزد على ذلك‪ ،‬غير التعزير بالحبس‬
‫والتغريب ونحوهما؛ لن المدار في المحاربة على المباشر‪ ،‬ل على من كان ردءا له (‪. )2‬‬
‫شروط المقطوع له ‪:‬‬
‫المقطوع له‪ :‬أي من أجله وهو المال‪ :‬يشترط فيه الشروط نفسها التي ذكرت في المسروق‪،‬‬
‫وموجزها‪ :‬أن يكون المأخوذ مالً‪ ،‬متقوما‪ ،‬معصوما‪ ،‬ليس لحد فيه حق الخذ ‪ ،‬ول تأويل التناول‪،‬‬
‫ول تهمة التناول‪ ،‬مملوكا ل ملك فيه للقاطع‪ ،‬ول تأويل الملك‪ ،‬ول شبهة الملك‪ ،‬محرزا مطلقا‪ ،‬ليس‬
‫فيه شبهة الباحة‪ ،‬نصابا كاملً‪ :‬عشرة دراهم‪ ،‬أو مقدرا بها‪ ،‬لكل من القاطعين (‪. )3‬‬
‫شروط المقطوع فيه ‪:‬‬
‫المقطوع فيه وهو المكان‪ ،‬يشترط فيه ثلثة شروط‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون قطع الطريق في دار السلم‪ ،‬فإن كان في دار الحرب ل يجب الحد‪ ،‬لعدم ولية المام‬
‫في دار الحرب‪ ،‬فل قدرة له على إقامة الحد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪ ،‬فتح القدير‪ ،271/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.362‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،182/4 :‬المهذب‪.285/2 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪.92/7 :‬‬

‫( ‪)7/403‬‬

‫‪ - 2‬أن يكون القطع عند متقدمي الحنفية خارج المصر‪ .‬واختلف العلماء في تحقق قطع الطريق في‬
‫داخل المصر‪ .‬فقال أبو حنيفة ومحمد وظاهر كلم أحمد‪ :‬ل يثبت حكم القطع إل أن يكون خارج‬
‫المصر؛ لن القطع ل يحصل بدون النقطاع‪ ،‬والطريق ل ينقطع في المصار وفيما بين القرى؛ لن‬
‫الناس يغيثون المقطوع عليه في كثير من الحيان‪ ،‬فكان القطع في المصر بالغصب أشبه‪ ،‬فعليه‬
‫التعزير ورد ما أخذ من مستحقه‪ ،‬وهذا أخذ بمقتضى الستحسان (‪ . )1‬وهوظاهر الرواية عند‬
‫الحنفية‪ ،‬لكن المفتى به خلفه كما سأبين‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف والمالكية والشافعية‪ ،‬والحنابلة في المعتمد عندهم‪ :‬يثبت حكم قطع الطريق داخل‬
‫المصر‪ ،‬وخارجه على حد سواء‪ .‬استدل أبو يوسف بمقتضى القياس‪ :‬وهو أن سبب جوب الحد قد‬
‫تحقق وهو قطع الطريق‪ ،‬فيجب الحد‪ ،‬كما لو كان في غير مصر‪.‬‬
‫ل أو‬
‫قال ابن عابدين‪ :‬أفتى المشايخ برواية أبي يوسف التي تقتضي بأن الحرابة تقع في المصر لي ً‬
‫نهارا بسلح أو بدونه دفعا لشر المتغلبة المفسدين (‪. )2‬‬
‫واستدل الجمهور بنحوه‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن محاربة شرع ال عز وجل وتعدي حدوده ل يختلف تحريمها‬
‫بكونها خارج المصر‪ ،‬أو داخله كغيرها من سائر المعاصي من زنا وشرب خمر وغيرهما (‪. )3‬‬
‫إل أن الشافعية قالوا‪ :‬يشترط في قاطع الطريق أن يكون له شوكة‪ ،‬أي قدرة وقوة مغالبة لغيره‪ ،‬ول‬
‫يشترط العدد‪ .‬والمغالبة‪ :‬إنما تتأتى بالبعد عن العمران‪ ،‬ل بالقرب منه‪ ،‬بحيث لو قال الشخص‪:‬‬
‫ياغوثاه‪ ،‬أغاثه الناس‪ ،‬وتوجد المغالبة في المصر حال ضعف السلطان‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪ ،‬المبسوط‪ ،201/9 :‬الهداية مع فتح القدير‪.274/4 :‬‬
‫(‪ )2‬رد المحتار‪ ،232/3 :‬وانظر أيضا‪.815/1 :‬‬
‫(‪ )3‬حاشية الدسوقي‪ ،348/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،362‬بداية المجتهد‪ ،445/2 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،181/4‬المغني‪ ،287/8 :‬المهذب‪.284/2 :‬‬

‫( ‪)7/404‬‬

‫‪ - 3‬أن يكون بينهم وبين المصر مسيرة سفر‪ ،‬فإن كان أقل منه لم يكونوا قطاع طرق‪ ،‬وهذا الشرط‬
‫عند أبي حنيفة ومحمد‪ ،‬وأما عند أبي يوسف فليس بشرط‪ .‬وقد بيّنت في الشرط السابق دليل كل منهم‬
‫(‪ )1‬وأن المفتى به هو رأي أبي يوسف‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ إثبات قطع الطريق ‪:‬‬
‫يثبت قطع الطريق عند القاضي‪ ،‬إما بالبينة‪ ،‬وإما بالقرار‪ ،‬بعد خصومة صحيحة أي (رفع الدعوى‬
‫ممن له يد صحيحة) ول يثبت بعلم القاضي‪ ،‬ول بالنكول (‪ ، )2‬على حسب ما ذكر في السرقة‪.‬‬
‫ويشترط عند الحنابلة وأبي يوسف تكرار القرا ر مرتين (‪. )3‬‬
‫المبحث الرابع ـ أحكام قطاع الطرق (عقوباتهم ) ‪:‬‬
‫اختلف العلماء في عقوبة قطع الطريق‪ ،‬هل العقوبات المذكورة في آية المحاربة على التخيير‪ ،‬أو‬
‫مرتبة على قدر جناية المحارب؟‪.‬‬
‫فقال الحنفية والشافعية والحنابلة‪ :‬إن حد قطاع الطريق على الترتيب المذكور في الية الكريمة السابق‬
‫ذكرها؛ لن الجزاء يجب أن يكون على قدر الجناية‪ ،‬ولكنهم اختلفوا في كيفية الترتيب‪:‬‬
‫فقال الحنفية‪ :‬إن أخذوا المال‪ ،‬تقطع أيديهم وأرجلهم من خلف؛ وإن قتَلوا فقط قُتلوا؛ وإن قتلوا‬
‫وأخذوا المال كان المام بالخيار‪ :‬إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلف‪ ،‬ثم قتلهم‪ ،‬أو صلبهم‪ ،‬وإن‬
‫شاء لم يقطع‪ ،‬وإنما يقتل أو يصلب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.92/7 :‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،93‬والنكول‪ :‬استنكاف الخصم عن حلف اليمين الموجهة إليه من القاضي‪.‬‬
‫(‪ )3‬غاية المنتهى‪.344/3 :‬‬

‫( ‪)7/405‬‬

‫وإن أخافوا الطريق فقط دون قتل‪ ،‬ول أخذ للمال‪ ،‬ينفوا من الرض‪ ،‬أي يحبسوا ويعزروا (‪. )1‬‬
‫وما ذكر في الصورة الثالثة وهو (القتل وأخذ المال) هو رأي أبي حنيفة وزفر‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬يقتل المام القاطع أو يصلبه‪ ،‬ولكن ل يقطعه؛ لن الجناية وهي قطع الطريق واحدة‪،‬‬
‫فل توجب حدين‪ ،‬ولن ما دون النفس في الحدود يدخل في النفس كحد السرقة والرجم إذا اجتمعا كما‬
‫سأبين‪ ،‬فيقام حد الرجم فقط‪.‬‬
‫ورد أبو حنيفة وزفر على ذلك بأن هذه الجناية وإن كانت واحدة‪ ،‬فإن القطع والقتل أيضا عقوبة‬
‫واحدة‪ ،‬ولكنها مغلظة لتغلظ سببها‪ ،‬حيث إن قطع الطريق يخل بالمن على النفس والمال معا‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬إن أخذوا المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلف‪ ،‬وإن قتلوا ولم يأخذوا‬
‫المال‪ ،‬قتلوا ولم يصلبوا‪ .‬وإن قتلوا وأخذوا المال‪ ،‬قتلوا وصلبوا‪.‬‬
‫وإن أخافوا‪ ،‬ينفوا من الرض (‪. )2‬‬
‫ودليلهم على هذا الترتيب‪ :‬ما روي عن ابن عباس من قصة أبي بُرْدة السلمي بهذه الكيفية (‪ . )3‬فهم‬
‫يخالفون الحنفية في الصورة الثالثة فقط‪.‬‬
‫وقال المام مالك (‪ : )4‬المر في عقوبة قطاع الطرق راجع إلى اجتهاد المام ونظره ومشورة‬
‫الفقهاء بما يراه أتم للمصلحة وأدفع للفساد‪ ،‬وليس ذلك على هوى المام‪.‬‬
‫‪ - 1‬فإن أخاف القاطع السبيل فقط كان المام مخيرا بين قتله أو صلبه أو قطعه من خلف أو نفيه‬
‫وضربه‪ ،‬على التفصيل التي‪:‬‬
‫فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير والقوة‪ ،‬فوجه الجتهاد قتله أو صلبه؛ لن القطع ل يدفع‬
‫ضرره‪ .‬وإن كان ل رأي له‪ ،‬وإنما هو ذو قوة وبأس‪ ،‬قطعه من خلف‪ .‬وإن كان ليس فيه شيء من‬
‫هاتين الصفتين أخذ بأيسر عقاب فيه وهو الضرب والنفي‪.‬‬
‫‪ - 2‬وأما إذا قتل‪ ،‬فل بد من قتله‪ ،‬وليس للمام تخيير في قطعه‪ ،‬ول في نفيه‪ ،‬وإنما التخيير في قتله‬
‫أو صلبه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،195/9 :‬البدائع‪ ،93/7 :‬فتح القدير‪ ،270/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،235/3 :‬مختصر‬
‫الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،276‬حاشية ابن عابدين‪ 233/3 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪ ،284/2 :‬مغني المحتاج‪ 81/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ ،288/8 :‬السياسة الشرعية لبن‬
‫تيمية‪ :‬ص ‪.78‬‬
‫(‪ )3‬هذا أثر عن ابن عباس رواه الشافعي في مسنده وفي إسناده إبراهيم بن محمد أبي يحيى‪ ،‬وهو‬
‫ضعيف‪ ،‬وأخرجه البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى‪{ :‬إنما جزاء الذين يحاربون ال ورسوله}‬
‫[المائدة‪ ]33/5:‬الية‪ ،‬ورواه أحمد بن حنبل في تفسيره عن أبي معاوية عن حجاج عن عطية به‬
‫نحوه‪ .‬قال الشافعي‪« :‬واختلف حدودهم باختلف أفعالهم على ما قال ابن عباس إن شاء ال » (راجع‬
‫التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ 358‬وما بعدها‪ ،‬نيل الوطار‪.)152/7 :‬‬
‫(‪ )4‬المنتقى على الموطأ‪ ،172/7 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.363‬‬

‫( ‪)7/406‬‬

‫‪ - 3‬وأما إن أخذ المال‪ ،‬فلم يقتل‪ ،‬فالمام مخير بين قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه‪ ،‬يفعل مما ذكر ما‬
‫يراه نظرا ومصلحة ول يحكم فيه بالهوى‪.‬‬
‫ودليله‪ :‬أن حرف «أو» المذكور في آية المحاربة يقتضي في اللغة التخيير‪ ،‬مثل قوله تعالى‪{ :‬فكفارته‬
‫إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم‪ ،‬أو كسوتهم‪ ،‬أو تحرير رقبة} [المائدة‪)1( ]89/5:‬‬
‫‪.‬‬
‫ويلحظ أن الجمهور قالوا‪ :‬إن «أو» للتنويع‪ ،‬فتكون العقوبة بحسب نوع الجناية كما تبين‪.‬‬
‫كيفية الصلب ووقته ومدته ‪:‬‬
‫قال أبو يوسف والكرخي وهو الصح في مذهب الحنفية‪ ،‬والراجح عند المالكية أيضا‪ :‬يصلب قاطع‬
‫الطريق حيا‪ ،‬على خشبة تغرز في الرض‪ ،‬بأن يربط جميعه بها بعد وضع قدميه على خشبة‬
‫عريضة من السفل‪ ،‬وربط يديه على خشبة عريضة من العلى‪ .‬ثم يقتل مصلوبا قبل نزوله بأن‬
‫يطعن بالحربة؛ لن الصلب عقوبة مشروعة تغليظا‪ ،‬وإنما يعاقب الحي‪ ،‬أما الميت فليس من أهل‬
‫العقوبة‪ .‬وليس صلبه من قبيل المثْلة المنهي عنها؛ لن المراد بها قطع بعض الجوارح (‪. )2‬‬
‫وقال أشهب من المالكية والشافعية والحنابلة والطحاوي من الحنفية‪ :‬الصلب يكون بعد القتل؛ لن ال‬
‫تعالى قدم القتل على الصلب لفظا‪ ،‬وفي صلبه حيا تعذيب له وتمثيل به (‪ ، )3‬وقد نهى النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم عن المثلة وعن تعذيب الحيوان‪ ،‬فقال‪« :‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع حاشية الدسوقي‪ ،349/4 :‬بداية المجتهد‪ 445/2 :‬وما بعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.363‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،196/9 :‬فتح القدير‪ ،271/4 :‬البدائع‪ ،95/7 :‬والمراجع السابقة في أحكام القطاع‪.‬‬
‫(‪ )3‬المراجع السابقة في بيان مذهب الشافعية والحنابلة‪ ،‬المنتقى على الموطأ‪.172/7 :‬‬

‫( ‪)7/407‬‬

‫إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبْحة» (‪ . )1‬والغرض من صلبه بعد قتله هو التنكيل‬
‫به‪ ،‬وزجر غيره ليشتهر أمره‪.‬‬
‫ومدة الصلب عند الجمهور‪ :‬ثلثة أيام‪ ،‬ول يبقى أكثر من ذلك‪.‬‬
‫وقال المام أحمد‪ :‬يصلب بقدر ما يقع عليه اسم الصلب‪ .‬قال ابن قدامة‪ :‬والصحيح توقيته بما ذكر‬
‫الخرقي‪ ،‬وهو بقدر ما يشتهر أمره‪.‬‬
‫النفي ‪:‬‬
‫النفي عند الحنفية‪ :‬معناه الحبس؛ لن فيه نفيا عن وجه الرض‪ ،‬وخروجا عن الدنيا مع قيام الحياة‪،‬‬
‫إل عن الموضع الذي حبس فيه‪ ،‬ومثل هذا في عرف الناس يسمى نفيا عن وجه الرض‪ ،‬وخروجا‬
‫عن الدنيا‪ ،‬كما قال بعض المحبوسين‪:‬‬
‫خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها (‪ ..... )2‬فلسنا من الحياء فيها ول الموتى‬
‫إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ‪ .....‬عجبنا ‪ ،‬وقلنا ‪ :‬جاء هذا من الدنيا‬
‫وأما التغريب ففيه إضرار ببلد آخر‪ ،‬وتمكين له من الهرب إلى دار الحرب‪ ،‬وتعريض للكفر (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الربعة عن شداد بن أوس بلفظ ‪« :‬إن ال تعالى كتب‬
‫الحسان على كل شيء‪ ،‬فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة‪ ،‬وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة‪ ،‬وليحد أحدكم شفرته‪،‬‬
‫وليرح ذبيحته» (راجع الجامع الصغير‪ ،71/1 :‬الربعين النووية‪ :‬ص ‪ ،41‬نيل الوطار‪.)141/8 :‬‬
‫(‪ )2‬بتخفيف همزة «أهلها» بحيث تقرأ همزة وصل‪ ،‬لضرورة الشعر‪.‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط‪ 135/9 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ ،236/3 :‬فتح القدير‪ ،270/4 :‬البدائع‪.95/7 :‬‬

‫( ‪)7/408‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬النفي أن يخرج من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر ويسجن فيه‪ ،‬إلى أن تظهر توبته‪.‬‬
‫والمسافة بين البلدين‪ :‬أقل ما تقصر فيه الصلة (‪ . )1‬والنفي هنا هو بمعنى التغريب في حد الزنا‪،‬‬
‫وهو الحبس في بلد آخر‪.‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬النفي معناه أن يحبسهم المام مدة حتى تظهر توبتهم‪ ،‬أو يعزرهم بما يراه رادعا لهم (‬
‫‪ . )2‬أما التغريب في حد الزنا فمعناه‪ :‬البعاد لبلد آخر كما تقدم‪.‬‬
‫وقال الحنابلة‪ :‬النفي أن يشردوا‪ ،‬فل يتركون يأوون إلى بلد‪ .‬ودليلهم ما روي عن الحسن والزهري‪:‬‬
‫أن النفي هو تشريدهم عن المصار والبلدان‪ ،‬فل يتركون يأوون بلدا (‪ . )3‬وأما التغريب في حد الزنا‬
‫فمعناه مثلما قال الشافعية‪.‬‬
‫صفة حكم قطع الطريق ‪:‬‬
‫حد الحرابة‪ :‬من حقوق ال الخالصة له‪ ،‬فيجري فيه التداخل ول يحتمل العفو والسقاط والبراء‬
‫والصلح عنه‪ ،‬على نحو ما بان في حد السرقة‪ .‬وأما اجتماع الغرم والقطع ففيه خلف بين العلماء‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه إذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود ال تعالى‪ ،‬فإن كانت الموال‬
‫موجودة ردت إلى مالكها‪ .‬وإن كانت تالفة أو معدومة‪ ،‬فقال الحنفية‪ :‬ل يجمع بين الحد والضمان؛‬
‫لقوله عليه السلم‪« :‬إذا أقيم الحد على‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حاشية الدسوقي‪ ،349/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،363‬بداية المجتهد‪ ،446/2 :‬المنتقى على‬
‫الموطأ‪.173/7 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،181/4 :‬المهذب‪.284/2 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪.294/8:‬‬

‫( ‪)7/409‬‬

‫السارق فل غرم عليه» (‪ )1‬ولن التضمين يقتضي التمليك‪ ،‬والملك يمنع الحد‪ ،‬فل يجمع بينهما (‪. )2‬‬
‫وقال المالكية والشافعية والحنابلة‪ :‬يجتمع الحد والضمان كما في السرقة؛ لن المال عين يجب‬
‫ضمانها بالرد‪ ،‬لو كانت باقية‪ ،‬فيجب ضمانها إذا كانت تالفة‪ ،‬كما لو لم يقم عليه الحد‪ ،‬ولن الحد‬
‫والغرم حقان يجبان لمستحقين‪ ،‬فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك (‪. )3‬‬
‫المبحث الخامس ـ ما يسقط حكم القطع‪ ،‬وما يترتب على عدم وجوب الحد أو سقوطه ‪:‬‬
‫يسقط حكم قطع الطريق وهو الحد بعد وجوبه بأمور‪:‬‬
‫‪ - 1‬تكذيب المقطوع عليه القاطع في إقراره بقطع الطريق‪.‬‬
‫‪ - 2‬رجوع القاطع عن إقراره بقطع الطريق‪.‬‬
‫‪ - 3‬تكذيب المقطوع عليه البينة‪.‬‬
‫‪ - 4‬ملك القاطع الشيء المقطوع له وهو المال قبل الترافع أو بعده عند جمهور الحنفية خلفا‬
‫لغيرهم‪ ،‬على نحو ما ذكر في السرقة‪.‬‬
‫‪ - 5‬توبة القاطع قبل قدرة السلطان عليه‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬إل الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‪،‬‬
‫فاعلموا أن ال غفور رحيم} [المائدة‪ ]34/5:‬وهذا باتفاق الئمة (‪. )4‬‬
‫ويترتب على سقوط الحد بالتوبة‪ ،‬أو على عدم وجوب الحد لمانع بأن فات شرط من شروط الحد‬
‫السابق ذكرها كنقصان النصاب‪ :‬أنه إذا كان المال موجودا يجب رده إلى صاحبه‪ ،‬وإن كان هالكا أو‬
‫مستهلكا يجب الضمان‪.‬‬
‫فإن قتلوا بسلح يجب القصاص عند الحنفية‪ ،‬وإن قتلوا بعصا أو حجر‪ ،‬فعلى عاقلة القاتل الدية لورثة‬
‫المقتول‪ ،‬ويجب القصاص عند الجمهور في القتل العمد‪ ،‬سواء أكان بسلح أم بغيره‪.‬‬
‫وإن جرحوا‪ ،‬فالجراحات فيها القصاص فيما يمكن فيه القصاص‪ ،‬والرش (أي الضمان) فيما ل يمكن‬
‫( ‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬اللفظ الصحيح لهذا الحديث المرسل هو‪« :‬ل يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد» وقد سبق تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،95/7 :‬فتح القدير‪.271/4 :‬‬
‫(‪ )3‬حاشية الدسوقي‪ ،350/4 :‬مغني المحتاج‪ ،182/4 :‬المغني‪.298 ،295/8 :‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،96/7 :‬المنتقى على الموطأ‪.174/7 :‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬فتح القدير‪ ،271/4 :‬المهذب‪ ،285/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.363‬‬

‫( ‪)7/410‬‬

‫‪.........................................‬البغاة‪..........................................‬‬
‫أولً ـ تعريف البغي‪ :‬البغي لغة‪ :‬إما الطلب كما في قوله تعالى‪{ :‬ماكنا نبغِ} [الكهف‪ ]64/18:‬أو‬
‫التعدي‪ .‬وهو في اصطلح الفقهاء كما عرفه ابن عرفة المالكي‪ :‬المتناع من طاعة من تثبت إمامته‬
‫في غير معصية بمغالبة‪ ،‬ولو تأولً (‪ . )1‬والبغي حرام لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من نزع‬
‫يده من طاعة إمامه‪ ،‬فإنه يأتي يوم القيامة‪ ،‬ول حجة له‪ ،‬ومن مات وهو مفارق للجماعة‪ ،‬فإنه يموت‬
‫ميتة جاهلية» (‪ ، )2‬وقال عليه الصلة والسلم أيضا‪« :‬من حمل علينا السلح فليس منا» (‪. )3‬‬
‫وعرف الحنفية البغاة‪ :‬بأنهم قوم لهم شوكة ومنعة‪ ،‬خالفوا المسلمين في بعض الحكام بالتأويل‪،‬‬
‫وظهروا على بلدة من البلد‪ ،‬وكانوا في عسكر‪ ،‬وأجروا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حاشية الدسوقي‪.298/4 :‬‬
‫(‪ )2‬الحاديث في هذا المعنى كثيرة‪ :‬منها‪ :‬ما أخرجه مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول‬
‫ال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من خرج من الطاعة‪ ،‬وفارق الجماعة فمات‪ ،‬مات ميتة جاهلية‪»..‬‬
‫الحديث‪ ،‬ومنها‪ :‬ما رواه الحاكم عن ابن عمر بلفظ‪« :‬من خرج من الجماعة فقد خلع ربقة السلم من‬
‫عنقه حتى يراجعه‪ ،‬ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية» ومنها‪ :‬ما رواه أحمد‬
‫والشيخان عن ابن عباس قال‪ :‬قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من رأى من أميره شيئا يكرهه‬
‫فليصبر‪ ،‬فإنه من فارق الجماعة شبرا‪ ،‬فمات‪ ،‬فميتته جاهلية» ‪ .‬وفي لفظ‪« :‬من كره من أميره شيئا‬
‫فليصبر عليه‪ ،‬فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا‪ ،‬فمات عليه إل مات ميتة جاهلية»‬
‫ومنها‪ :‬ما روي عن أبي ذر ومعاوية وأبي الدرداء وغيرهم كثير (راجع جامع الصول‪،256/4 :‬‬
‫مجمع الزوائد‪ ،224 ،220 ،219/5 :‬نيل الوطار‪.)173 ،171/7 :‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أحمد والشيخان من حديث ابن عمر‪ ،‬وأبي موسى الشعري‪ ،‬وأخرجه مسلم من حديث‬
‫أبي هريرة‪ ،‬وسلمة بن الكوع‪( .‬راجع نيل الوطار‪ ،173/7 :‬سبل السلم‪.)257/3 :‬‬

‫( ‪)7/411‬‬

‫أحكامهم ‪ ،‬كالخوارج وغيرهم‪ .‬أما الخوارج أو الحرورية‪ :‬فهم قوم خرجوا على علي واستحلوا دمه‬
‫ودماء المسلمين وأموالهم وسبي نسائهم‪ ،‬وكفروا أصحاب رسول ال صلّى ال عليه وسلم ورأوا أن‬
‫كل ذنب كفر (‪ ، )1‬وكانوا متشددين في الدين تشددا زائدا‪.‬‬
‫وأما غيرهم من البغاة فلم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم‪.‬‬
‫وعرف المالكية البغاة‪ :‬بأنهم الذين يقاتلون على التأويل‪ ،‬مثل الطوائف الضالة كالخوارج وغيرهم‪،‬‬
‫والذين يخرجون على المام‪ ،‬أو يمتنعون من الدخول في طاعته؛ أو يمنعون حقا وجب عليهم كالزكاة‬
‫وشبهها (‪ . )2‬وعرفهم الحنابلة بقولهم‪ :‬هم الخارجون على إمام ولو غير عدل‪ ،‬بتأويل سائغ ولهم‬
‫شوكة‪ ،‬ولو لم يكن فيهم مطاع‪ .‬ويحرم الخروج على ا لمام ولو غير عدل (‪. )3‬‬
‫والفرق بين الباغي والمحارب‪ :‬أن المحارب يخرج فسقا وعصيانا على غير تأويل‪ ،‬والباغي‪ :‬هو‬
‫الذي يحارب على تأويل‪ ،‬فيقتل ويأخذ المال‪ ،‬وإذا أخذ الباغي ولم يتب‪ ،‬فإنه ل يقام عليه حد الحرابة‪،‬‬
‫ول يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسرا ‪ ،‬إل أن يوجد بيده شيء بعينه‪ ،‬فيرد إلى صاحبه (‪)4‬‬
‫‪ .‬ويكون للبغاة قوة ومنعة في مكان يتحصنون فيه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ 408/4 :‬وما بعدها‪ ،‬تحفة الفقهاء‪ 251/3 :‬الطبعة الولى‪ ،‬حاشية ابن عابدين‪:‬‬
‫‪.338/3‬‬
‫(‪ )2‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.363‬‬
‫(‪ )3‬غاية المنتهى‪ 348/3 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬المقدمات الممهدات‪.236/3 :‬‬

‫( ‪)7/412‬‬

‫ثانيا ـ أحكام البغاة ‪:‬‬


‫‪ )1‬ـ قتالهم واستتابتهم ‪:‬‬
‫إذا لم يكن للبغاة منعة‪ ،‬فللمام أن يأخذهم ويحبسهم حتى يتوبوا‪.‬‬
‫وإن تأهبوا للقتال‪ ،‬وكان لهم منَعة (مكان محصن) وشوكة (سلح)‪ ،‬يدعوهم المام إلى التزام الطاعة‪،‬‬
‫ودار العدل‪ ،‬والرجوع إلى رأي الجماعة أولً‪ ،‬كما يفعل مع أهل الحرب‪ .‬فإن أبوا ذلك قاتلهم أهل‬
‫العدل حتى يهزموهم ويقتلوهم‪ ،‬ويجوز قتل مدبريهم وأسراهم‪ ،‬والجهاز على جريحهم عند الحنفية‬
‫خلفا لجمهور الفقهاء (‪ . )1‬ول يبدؤهم المام بالقتال حتى يبدؤوه؛ لن قتالهم لدفع شرهم‪ .‬ودليل هذه‬
‫الحكام‪ :‬هو قوله تعالى‪{ :‬وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‪ ،‬فأصلحوا بينهما‪ ،‬فإن بغت إحداهما على‬
‫الخرى‪ ،‬فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر ال ‪ ،‬فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا‪ ،‬إن‬
‫ال يحب المقسطين} [الحجرات‪ ]9/49:‬وقال صلّى ال عليه وسلم لعلي رضي ال عنه‪:‬‬
‫«إنك تقاتل على التأويل‪ ،‬كما تقاتل على التنزيل» (‪. )2‬‬
‫ول بأس أن يقاتل البغاة بسلحهم‪ ،‬ويرتفق بخيولهم إن احتاج المسلمون إليه؛ لن للمام أن يفعل ذلك‬
‫في مال العادل عند الحاجة‪ ،‬ففي مال الباغي أولى‪.‬‬
‫وأما أموالهم‪ :‬فيحبسها عنهم المام إلى أن يزول بغيهم‪ ،‬فإذا زال ردها إليهم؛ لن أموالهم ل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حاشية الدسوقي‪ ،300/4 :‬مغني المحتاج‪ ،127/4 :‬المغني‪ ،114/8 :‬الكتاب مع اللباب‪154/4 :‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد وإسناده حسن عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬كنا عند رسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫فقال‪« :‬فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» وفي رواية «إن منكم» ثم في بعض‬
‫الروايات عين رسول ال صلّى ال عليه وسلم المقصود بهذا الخطاب‪ ،‬وهو سيدنا علي (راجع مجمع‬
‫الزوائد‪.)133/9 ،244/6 :‬‬

‫( ‪)7/413‬‬

‫تحتمل التملك بالستيلء لكونهم مسلمين (‪. )1‬‬


‫‪ )2‬ـ ضمان ما أتلفوه من النفس والموال ‪:‬‬
‫قال الحنفية والمالكية والحنابلة‪ ،‬والشافعية في أظهر القولين عندهم‪ :‬ليضمن البغاة المتأولون ما أتلفوه‬
‫حال القتال من نفس ول مال‪ ،‬بدليل ماروى الزهري‪ ،‬فقال‪« :‬كانت الفتنة العظمى بين الناس‪ ،‬وفيهم‬
‫البدريون‪ ،‬فأجمعوا ـ أي في وقائعهم كوقعة الجمل وصفّين ـ على أل يقام حد على رجل استحل‬
‫فرجا حراما بتأويل القرآن‪ ،‬ول يقتل رجل سفك دما حراما بتأويل القرآن‪ ،‬ول يغرم مال أتلفه بتأويل‬
‫القرآن» (‪ )2‬؛ ولن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ‪ ،‬فلم تضمن ما أتلفت على الخرى‬
‫كأهل العدل‪ ،‬ولن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة‪ ،‬فل يشرع كتضمين أهل‬
‫الحرب‪.‬‬
‫واتفق العلماء أيضا على أنه ل إثم ول كفارة على أهل العدل بقتلهم أهل البغي‪ ،‬ول يضمنون ما أتلفوه‬
‫عليهم‪ ،‬لخبر الزهري السابق‪ ،‬ولن العادل قد فعل ما أمر به‪ ،‬وقتل من أحل ال قتله‪ ،‬وأمر بمقاتلته‪.‬‬
‫وكذلك الموال مهدرة كالنفس‪ ،‬لنهم إذا لم يضمنوا النفس‪ ،‬فالموال أولى (‪. )3‬‬
‫وإذا أتلف البغاة أو العادلون مال بعضهم بعضا‪ ،‬قبل تمكن المنعة للبغاة‪ ،‬أو بعد انهزامهم‪ ،‬فإنهم‬
‫يضمنون ما أتلفوه من النفس والموال‪ ،‬لنهم حينئذ من أهل دار السلم‪ ،‬فتكون النفس والموال‬
‫معصومة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪124/10 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 140/7 :‬ومابعدها‪ ،‬فتح القدير‪ 409/4 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين‬
‫الحقائق‪ ،295/3 :‬الكتاب مع اللباب‪.155/4 :‬‬
‫(‪ )2‬ذكره أحمد في رواية الثرم واحتج به (راجع نيل الوطار‪.)169/7 :‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط‪ ،128/10 :‬البدائع‪ ،141/7 :‬فتح القدير‪ ،414/4 :‬بداية المجتهد‪ ،448/2 :‬حاشية‬
‫الدسوقي‪ ،300/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،364‬المهذب‪ ،220/2 :‬مغني المحتاج‪ ،125/4 :‬المغني‪:‬‬
‫‪،113/8‬كشاف القناع‪ ،128/4:‬شرح مسلم للنووي‪ ،170/7 :‬غاية المنتهى‪.351/3 :‬‬

‫( ‪)7/414‬‬

‫وما جباه أهل البغي من البلد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر‪ ،‬لم يأخذه المام ثانيا؛ لن ولية‬
‫الخذ له باعتبار الحماية‪ ،‬ولم يحمهم‪ .‬فإن صرف البغاة هذا المال في حقه‪ ،‬أجزأ من أخذ منه لوصول‬
‫الحق إلى مستحقه‪ ،‬وإن لم يكونوا صرفوه في حقه‪ ،‬أفتي أهله فيما بينهم وبين ال تعالى أن يعيدوا‬
‫دفعه؛ لنه لم يصل إلى مستحقه (‪. )1‬‬
‫‪ )3‬ـ عقوبة جرائم البغاة ‪:‬‬
‫إذا قطع البغاة الطريق على أهل العدل من المسافرين‪ ،‬فل يجب عليهم الحد؛ لنه يدعون إباحة‬
‫أموالهم عن تأويل‪ ،‬ولهم منعة‪.‬‬
‫ولو سرق الباغي مال العادل ل يقطعه المام‪ ،‬لعدم وليته على دار البغي‪ ،‬ولخبر الزهري السابق‬
‫الذكر‪ .‬وفي الجملة‪ :‬ل تقام الحدود على البغاة عند الحنفية‪ ،‬لعدم ولية المام على دار البغي‪.‬‬
‫ويوافقهم المالكية والحنابلة في عدم ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال‪ ،‬ول تقام عليهم‬
‫الحدود (‪. )2‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬يقطع الباغي إذا أصاب شيئا من أموال المسلمين‪ ،‬ولو في داره؛ لنه جانٍ‪ ،‬فيستوي‬
‫في حقه وجود المنعة وعدمها؛ لن الجاني يستحق التغليظ دون الخفيف‪.‬‬
‫وإذا سرق الباغي مال العادل في دار السلم يقطع‪ ،‬وإن استحله؛ لنه ل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الكتاب مع اللباب‪.156/4 :‬‬
‫(‪ )2‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،364‬المغني‪.113/8 :‬‬

‫( ‪)7/415‬‬

‫منعة له (‪ . )1‬وفي الجملة‪ :‬حكم البغاة عند الشافعية في ضمان النفس والمال والحد في غير حال‬
‫الحرب حكم أهل العدل‪ .‬وإن ارتكب الباغي جريمة القتل‪ :‬الصحيح عندهم أنه ل يتحتم قتله‪ ،‬ويجوز‬
‫العفو عنه‪ ،‬لقول علي بعد أن جرحه ابن ملجم‪ :‬أطعموه واسقوه واحبسوه‪ ،‬فإن عشت فأنا ولي دمه‪،‬‬
‫أعفو إن شئت‪ ،‬وإن شئت استقدت (‪. )2‬‬
‫‪ )4‬ـ الفرق بين قتال البغاة وقتال المشركين ‪:‬‬
‫البغاة باتفاق أئمة المذاهب كما عرفنا‪ :‬هم الذين يخرجون على المام يبغون خلعه‪،‬أو منع الدخول في‬
‫طاعته‪ ،‬أو يبغون منع حق واجب بتأويل في ذلك كله‪ .‬وبهذا التأويل يمتازون عن المحاربين‪.‬‬
‫ويفترق حكم قتالهم عن قتال المشركين بأحد عشر وجها عند المالكية كما أبان القرافي المالكي (‪: )3‬‬
‫وهي أن يقصد بالقتال ردعهم ل قتلهم‪ ،‬ويكف عن مدبرهم‪ ،‬ول يجهز على جريحهم‪ ،‬ول يقتل‬
‫أسراهم‪ ،‬ول تغنم أموالهم‪ ،‬ول تسبى ذراريهم‪ ،‬ول يستعان على قتالهم بمشرك‪ ،‬ول نوادعهم على‬
‫مال‪ ،‬ول تنصب عليهم الرعّادات (المجانيق)‪ ،‬ول تحرق عليهم البساتين‪ ،‬ول يقطع شجرهم‪ .‬والمعتمد‬
‫في المذهب المالكي‪ :‬أن للمام أن يقاتل البغاة بالسيف والرمي بالنبل والمنجنيق والتغريق والتحريق‬
‫وقطع الميرة (التموين) والماء عنهم إل أن يكون فيهم نسوة أو ذراري‪ ،‬فل نرميهم بالنار‪ ،‬ول نسبي‬
‫ذراريهم وأموالهم؛ لنهم مسلمون‪.‬‬
‫وقتال الحربيين المشركين كقتال البغاة إل في خمسة أوجه‪:‬‬
‫يقاتلون أي الحربيون مدبرين‪ ،‬ويجوز تعمد قتلهم‪ ،‬ويطالبون بما استهلكوا من دم أو مال في الحرب‬
‫وغيرها‪ ،‬ويجوز حبس أسراهم لستبراء أحوالهم‪ ،‬وما أخذوه من الخراج والزكاة ل يسقط عمن كان‬
‫عليه كالغاصب إذا أخذ ذلك‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،141/7 :‬تحفة الفقهاء‪ ،252/3 :‬المهذب‪ )2( .221/2 :‬المهذب‪ ،221/2 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ 277/2 ،129/4‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬الفروق‪ ،171/4 :‬وانظر أيضا القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،364‬الشرح الكبير‪.299/4 :‬‬

‫( ‪)7/416‬‬

‫سكْر والشربة‬
‫صلُ الخامِس‪ :‬حدّ الشّرْب وحدّ ال ّ‬
‫ال َف ْ‬
‫خطة الموضوع ‪:‬‬
‫سكْر بحسب اصطلح الحنفية‪ ،‬ثم يأتي بيان رأي غيرهم‪ ،‬في المباحث‬
‫الكلم عن حد الشرب وحد ال ّ‬
‫التية‪:‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف حد الشرب وحد السكر‪ ،‬وضابط السكر وشروط الحد ومقدار الحد‪.‬‬
‫المبحث الثاني ـ أنواع الشربة المحرمة والمباحة‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ أحكام الخمر‪.‬‬
‫المبحث الرابع ـ أحكام الشربة المسكرة غير الخمر‪.‬‬
‫المبحث الخامس ـ إثبات الشرب‪.‬‬
‫المبحث السادس ـ مخاطر المخدرات وأحكامها في السلم‪.‬‬
‫سكْر وشروط الحد ومقدار الحد ‪:‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف حد الشرب وحد السكر‪ ،‬وضابط ال ّ‬
‫اعتبر الحنفية لشرب الشربة المحرمة نوعين من الحد‪ ،‬وهما حد الشرب وحد السكر‪ ،‬أما حد‬
‫الشرب‪ :‬فهو الذي يجب بشرب الخمر خاصة‪ ،‬حتى يجب الحد بشرب قليلها وكثيرها‪ ،‬ول يتوقف‬
‫الوجوب على حصول السكر منها‪ .‬قال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من شرب الخمر فاجلدوه‪)1( »..‬‬
‫والخمر كما سأبين‪ :‬ماء العنب النيء المتخمر‪ ،‬وسميت الخمر خمرا إما لنها تخمر العقل‪ ،‬أي تستره‪،‬‬
‫وإما لنها تخامر العقل‪ ،‬أي تخالطه‪ ،‬وإما لنها تخمر نفسها لئل يقع فيها شيء يفسدها‪.‬‬
‫وأما حد السكر‪ :‬فهو الذي يجب عند السكر الحاصل بشرب ما سوى الخمر من الشربة المعهودة‬
‫المسكرة (‪ ، )2‬التي سيأتي بيانها‪.‬‬
‫ولم يفرق جمهور الفقهاء بين شرب الخمر وغيرها‪ ،‬فقالوا‪ :‬كل شراب أسكر كثيره‪ ،‬فقليله حرام‪ ،‬وهو‬
‫خمر‪ ،‬حكمه حكم عصير العنب في تحريمه‪ ،‬ووجوب الحد على شاربه (‪ ، )3‬لقول النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم ‪« :‬كل مسكر خمر‪ ،‬وكل خمر حرام» (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬روي عن اثني عشر صحابيا ‪ :‬وهم أبو هريرة‪ ،‬ومعاوية‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وقبيصة بن ذؤيب‪،‬‬
‫وجابر‪ ،‬والشريد بن سويد‪ ،‬وأبو سعيد الخدري‪ ،‬وعبد ال بن عمرو‪ ،‬وجرير بن عبد ال البجلي‪ ،‬وابن‬
‫مسعود‪ ،‬وشرحبيل بن أوس‪ ،‬وغطيف بن الحارث‪ .‬فحديث أبي هريرة أخرجه أصحاب السنن إل‬
‫الترمذي‪ ،‬وحديث معاوية أخرجوه إل النسائي‪ ،‬وحديث ابن عمر وجابر أخرجهما النسائي‪ ،‬وحديث‬
‫قبيصة رواه أبو داود‪ ،‬وحديث الخدري رواه ابن حبان‪ ،‬وحديث غطيف رواه البزار‪ ،‬وأحاديث‬
‫الصحابة الخرين رواها الحاكم‪ ،‬فهو متواتر (راجع نصب الراية‪ 346/3 :‬وما بعدها‪ ،‬جامع‬
‫الصول‪ 333/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مجمع الزوائد‪ ،277/6 :‬نيل الوطار‪.)146/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،39/7 :‬تبيين الحقائق‪ ،195/3 :‬فتح القدير‪.178/4 :‬‬
‫(‪ )3‬بداية المجتهد‪ ،434/2 :‬مغني المحتاج‪ ،187/4 :‬المغني‪ ،304/8 :‬المهذب‪ ،286/2 :‬المنتقى‬
‫على الموطأ‪.147/3 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه بهذا اللفظ مسلم والدارقطني عن ابن عمر‪ ،‬ورواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إل ابن‬
‫ماجه بلفظ‪« :‬كل مسكر خمر‪ ،‬وكل مسكر حرام» وكذلك رواه ابن حبان وعبد الرزاق والدارقطني‪.‬‬
‫وروي عن صحابة آخرين مثل أنس بن مالك وعمر بن الخطاب‪ ،‬وقرة بن إياس‪ ،‬وقيس بن سعد بن‬
‫عبادة النصاري‪ ،‬وميمونة‪ ،‬وأبي موسى الشعري‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬حتى إنه بلغ رواة هذا الحديث ستة‬
‫وعشرين صحابيا أحصيناها في تخريج أحاديث تحفة الفقهاء‪ ،449/3 :‬فهو متواتر (وراجع أيضا‬
‫نصب الراية‪ ،295/4 :‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،359‬مجمع الزوائد‪ ،57/5 :‬نيل الوطار‪.)173/8 :‬‬

‫( ‪)7/417‬‬

‫سكْر ‪:‬‬
‫ضابط ال ُ‬
‫قال أبو حنيفة‪ :‬إن السكر الذي يتعلق به وجوب الحد‪ ،‬والحرمة‪ :‬هو الذي يزيل العقل‪ ،‬بحيث ل يفهم‬
‫السكران شيئا‪ ،‬ول يعقل منطقا‪ ،‬ول يفرق بين الرجل والمرأة‪ ،‬والرض من السماء؛ لن الحدود يؤخذ‬
‫في أسبابها بأقصاها درءا للحد‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬ادرؤوا الحدود بالشبهات» ‪ .‬وبناء عليه اعتبر‬
‫غاية السكر وأكمله هو الموجب للحد‪.‬‬
‫وقال الصاحبان وباقي الئمة‪ :‬السكران هو الذي يكون غالب كلمه الهذيان‪ ،‬واختلط الكلم؛ لنه هو‬
‫السكران في عرف الناس وعادتهم‪ ،‬فإن السكران في متعارف الناس اسم لمن هذى وخلط في كلمه‪،‬‬
‫ول يعرف ثوبه من ثوب غيره‪ ،‬ول نعله من نعل غيره‪.‬‬
‫وقول الصاحبين مال إليه أكثر المشايخ‪ ،‬وعليه الفتوى كما صرح صاحب تنوير البصار وغيره (‬
‫‪ ، )1‬وهو رأي غير الحنفية‪.‬‬
‫شروط الحد ‪:‬‬
‫يشترط لحد المسكرات شروط ثمانية (‪ )2‬وهي‪:‬‬
‫الول ـ أن يكون الشارب عاقلً‪ :‬فل يحد المجنون‪.‬‬
‫الثاني ـ أن يكون بالغا‪ :‬فل يحد الصغير‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،278‬فتح القدير‪ ،187/4 :‬البدائع‪ ،118/5 :‬حاشية ابن عابدين‪:‬‬
‫‪.181/3‬‬
‫(‪ )2‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،361‬اللباب مع الكتاب‪ ،193/3 :‬المهذب‪ ،286/2 :‬المغني‪ ،308/8 :‬غاية‬
‫المنتهى‪.330/3 :‬‬

‫( ‪)7/418‬‬
‫الثالث ـ أن يكون مسلما‪ :‬فل حد على الكافر في شرب الخمر‪ ،‬ول يمنع منه‪.‬‬
‫الرابع ـ أن يكون مختارا غير مكره‪.‬‬
‫الخامس ـ أل يضطر إلى شربه لغصة‪.‬‬
‫السادس ـ أن يعلم أنه خمر‪ :‬فإن شربه وهو يظنه شرابا آخر‪ ،‬فل حد عليه‪.‬‬
‫السابع ـ أن يعلم أن الخمر محرمة‪ ،‬فإن ادعى أنه ل يعلم ذلك‪ ،‬فاختلف المالكية‪ ،‬هل يقبل قوله أو‬
‫ل‪ .‬وقال غيرهم‪ :‬ل تقبل دعوى الجهل ممن نشأ بين المسلمين‪.‬‬
‫الثامن ـ أن يكون مذهبه تحريم ما شرب‪ :‬فإن شرب النبيذ من يرى أنه حلل‪ ،‬فاختلف العلماء‪ :‬هل‬
‫عليه حد أو ل‪ .‬وذكر الحنابلة أن الحد على المسكرات إنما يلزم من شربها إذا كان عالما أن كثيرها‬
‫يسكر‪ ،‬فأما غيره فل حد عليه؛ لنه غير عالم بتحريمها‪ ،‬ول قاصد إلى ارتكاب المعصية بها‪ ،‬فأشبه‬
‫من زفت إليه غير زوجته‪ .‬وهذا قول عامة أهل العلم‪.‬‬
‫مقدار الحد ‪:‬‬
‫قال جمهور الفقهاء‪ :‬حد الشرب والسكر ثمانون جلدة (‪ ، )1‬لقول علي رضي ال عنه‪« :‬إذا شرب‬
‫سكر‪ ،‬وإذا سكر هذى‪ ،‬وإذا هذى افترى‪ ،‬وحد‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،185/4 :‬البدائع‪ ،113/5 :‬تبيين الحقائق‪ ،198/3 :‬بداية المجتهد‪ ،435/2 :‬حاشية‬
‫الدسوقي‪ ،353/4 :‬المنتقى على الموطأ‪ ،143/3 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،361‬المغني‪ ،304/8 :‬نيل‬
‫الوطار‪.144/7 :‬‬

‫( ‪)7/419‬‬

‫المفتري ثمانون» (‪ )1‬ولم ينكر عليه أحد‪ ،‬فكان إجماعا (‪. )2‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬حد الخمر وسائر المسكرات أربعون جلدة؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم لم يعين في‬
‫ذلك حدا‪ ،‬وإنما كان يضرب السكران ضربا غير محدود‪ ،‬كما روى أبو هريرة (‪ ، )3‬فقدروه‬
‫بأربعين‪ .‬وروى أنس رضي ال عنه قال‪« :‬كان النبي صلّى ال عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد‬
‫والنعال أربعين» (‪ . )4‬وقال علي كرم ال وجهه‪« :‬جلد رسول ال صلّى ال عليه وسلم أربعين‪ ،‬وأبو‬
‫بكر أربعين‪ ،‬وعمر ثمانين‪ ،‬وكلٌ سنة‪ ،‬وهذا أحب إلي» (‪ . )5‬هذا وقد حرمت الخمر سنة ثمان من‬
‫الهجرة‪ ،‬كما استظهره الحافظ ابن حجر في فتح الباري‪ .‬ويضرب في حد الخمر باليدي والنعال‬
‫وأطراف الثياب‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الدارقطني ومالك بمعناه والشافعي عنه عن ثور بن زيد الديلي رحمه ال ‪ ،‬وهو منقطع؛‬
‫لن ثورا لم يلحق عمر بل خلف‪ .‬ولكن وصله النسائي والحاكم من وجه آخر عن ثور عن عكرمة‬
‫عن ابن عباس‪ ،‬ورواه عبد الرزاق عن عكرمة‪ ،‬ولم يذكر ابن عباس (راجع جامع الصول‪:‬‬
‫‪،331/4‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،360‬نيل الوطار‪ ،144/7 :‬وانظر في نصب الراية‪ 351/3 :‬حديث‬
‫السائب بن يزيد وغيره في موضوعه)‪.‬‬
‫(‪ )2‬إن دعوى الجماع غير مسلّمة‪ ،‬فقد اختلف الصحابة في حد الخمر قبل إمارة سيدنا عمر وبعدها‪،‬‬
‫ولم يثبت عن النبي عليه الصلة والسلم مقدار معين (نيل الوطار‪.)142/7 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬أتي النبي صلّى ال عليه وسلم برجل قد‬
‫شرب‪ ،‬فقال‪ :‬اضربوه‪ ،‬فقال أبو هريرة‪ :‬فمنا الضارب بيده‪ ،‬والضارب بنعله‪ ،‬والضارب بثوبه‪ ،‬فلما‬
‫انصرف‪ ،‬قال بعض القوم‪ :‬أخزاك ال ‪ .‬قال‪ :‬ل تقولوا هكذا‪ ،‬ل تعينوا عليه الشيطان (راجع نيل‬
‫الوطار‪ )138/7 :‬ويؤيده حديث سيأتي تخريجه عن علي في ضمان موت الذي يعزر‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أنس أن النبي صلّى ال عليه وسلم أتي برجل قد‬
‫شرب الخمر‪ ،‬فجلده بجريدة نحو أربعين‪ ...‬الحديث‪ .‬وفي رواية «فجلد بجريدتين نحو أربعين» قال‪:‬‬
‫وفعله أبو بكر‪ .‬والجريد‪ :‬سعف النخل (راجع جامع الصول‪ ،330/4 :‬نيل الوطار‪،138/7 :‬‬
‫التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪.)360‬‬
‫(‪ )5‬رواه مسلم من حديث حصين بن المنذر من قول علي (راجع نيل الوطار‪ 138/7 :‬ومابعدها‪،‬‬
‫التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ )360‬وراجع في الفقه‪ :‬مغني المحتاج‪ ،189/4 :‬المهذب‪ 286/2 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪.105‬‬
‫على ظاهر النص‪ ،‬لحديث أبي هريرة المتقدم‪ .‬والسوط الذي يضرب به‪ :‬سوط بين سوطين‪ ،‬ول يمد‬
‫ول يجرد‪ ،‬ول تشد يده؛ لما روي عن ابن مسعود رضي ال عنه أنه قال‪« :‬ليس في هذه المة مد ول‬
‫تجريد‪ ،‬ول غَل‪ ،‬ول صفد» وقد سبق تخريجه‪.‬‬

‫( ‪)7/420‬‬

‫المبحث الثاني ـ أنواع الشربة ‪:‬‬


‫أولً ـ الشربة المحرمة‪ :‬سبعة وهي (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬الخمر‪ :‬هو اسم للنيء (أي غير النضيج أو الذي لم تمسه النار) من ماء العنب بعد ما غلى‪،‬‬
‫واشتد وقذف بالزبد (أي الرغوة)‪ ،‬وسكن عن الغليان‪ ،‬وصار صافيا‪ .‬وهذا التعريف هو مذهب أبي‬
‫حنيفة؛ لن معنى السكار ل يتكامل إل بالقذف بالزبد‪ ،‬فل يصير خمرا بدونه‪.‬‬
‫وقال الصاحبان والئمة الثلثة‪ :‬إذا غلى واشتد فهو خمر‪ ،‬وإن لم يسكن عن الغليان؛ لن معنى‬
‫السكار يتحقق بدون القذف بالزبد‪ ،‬وهذا هو الظهر عند الحنفية‪ ،‬سدا لباب الفساد أمام العوام‪.‬‬
‫ويحرم وينجس عصير غلى‪ ،‬أو أتى عليه ثلثة أيام بلياليهن‪ .‬ودليل تحريم الخمر وحكمة التحريم‬
‫قوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والنصاب والزلم رجس من عمل الشيطان‬
‫فاجتنبوه لعلكم تفلحون‪ .‬إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر‪،‬‬
‫ويصدكم عن ذكر ال وعن الصلة فهل أنتم منتهون} [المائدة‪ ]91-90/5:‬وقد نزلت هذه الية في‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع نتائج الفكار تكملة فتح القدير‪ 152/8 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ ،112/5 :‬حاشية ابن عابدين‪:‬‬
‫‪ 318/5‬وما بعدها‪ ،‬المبسوط‪ 13/24 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/421‬‬

‫المرحلة الرابعة من مراحل التدرج في تشريع الخمر‪ ،‬التي كان أولها‪{ :‬ومن ثمرات النخيل والعناب‬
‫تتخذون منه سكَرا ورزقا حسنا} [النحل‪ ]16/67:‬وثانيها‪{ :‬يسألونك عن الخمر والميسر‪ ،‬قل‪ :‬فيهما إثم‬
‫كبير} [البقرة‪ ]219/2:‬وثالثها‪ { :‬لتقربوا الصلة وأنتم سكارى حتى تعلموا ماتقولون } [النساء‪]43/4:‬‬
‫والحكمة واضحة‪ :‬و هي دفع الضرر والفساد عن الناس‪ ،‬فالخمر أم الخبائث‪.‬‬
‫سكَر‪ :‬هونقيع التمر الطري الذي لم تمسه النار‪ ،‬أو هو النيء من ماء الرطب (‪ )1‬إذ غلى‬
‫‪ - 2‬ال ّ‬
‫واشتد وقذف بالزبد‪ ،‬وسكن غليانه عند أبي حنيفة‪.‬‬
‫وعند الصاحبين والئمة الخرين‪ :‬إذا غلى‪ ،‬ولم يسكن غليانه‪ ،‬على الخلف السابق‪ .‬ونبيذ التمر إذا لم‬
‫سكَر كما حقق قاضي زاده في نتائج الفكار‪.‬‬
‫يطبخ هو ال ّ‬
‫‪ - 3‬الفضيخ‪ :‬هو اسم للنيء من ماء البُسْر (‪ )2‬اليابس إذا غلى واشتد وقذف بالزبد‪ ،‬أو لم يقذف‪،‬‬
‫على الختلف السابق‪ .‬وسمي فضيخا؛ لنه يفضخ أي يكسر ويرض‪.‬‬
‫‪ - 4‬نقيع الزبيب‪ :‬هو اسم للنيء من ماء الزبيب المنقوع في الماء حتى خرجت حلوته‪ ،‬من غير‬
‫طبخ‪ ،‬واشتد وقذف بالزبد‪ ،‬أو لم يقذف‪ ،‬على الخلف السابق‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الرطب‪ :‬ثمر النخيل إذا أدرك ونضج قبل أن يتتمر (المصباح المنير) والبلح أول ما يرطب من‬
‫البسر‪ .‬وهكذا يكون أول ثمر النخيل‪ :‬طَلْع‪ ،‬ثم خَلَل‪ ،‬ثم بلَح‪ ،‬ثم بُسْر‪ ،‬ثم رُطَب‪ ،‬ثم َتمْر‪ .‬والزهو‪:‬‬
‫ال ُبسْر الملون‪ ،‬يقال‪ :‬إذا ظهرت الحمرة والصفرة في النخل‪ ،‬فقد ظهر فيه الزهو‪.‬‬
‫(‪ )2‬البسر‪ :‬ما قد أزهى من ثمر النخل‪ ،‬ولم يبد فيه إرطاب‪ ،‬والرطب ما قد جاوز حد البسر إلى‬
‫الرطاب‪ ،‬والتمر اسم جنس يتناول اليابس والرطب والبسر (المصباح المنير‪ ،‬المنتقى على الموطأ ‪:‬‬
‫‪.)149/3‬‬

‫( ‪)7/422‬‬

‫‪ - 5‬الطلء أو المثلّث‪ :‬هو اسم للمطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وصار مسكرا على‬
‫ما هو الصواب عند الحنفية‪ ،‬فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا قصد بشر به اللهو والطرب‪ ،‬كما‬
‫عليه حال الغلبية الساحقة من الشاربين‪ ،‬فإن قصد بشربه التقوية أو التداوي‪ ،‬وهذا نادر‪ ،‬فيباح شربه‬
‫عندهما‪ .‬ويحرم مطلقا عند الصاحبين وباقي الئمة‪.‬‬
‫‪ - 6‬الباذَق أو المنصّف‪ :‬هو المطبوخ أدنى طبخة من ماء العنب حتى ذهب أقل من الثلثين‪ ،‬سواء‬
‫أكان أقل من الثلث أم النصف‪ ،‬وصار مسكرا‪ .‬والدليل على أن الزائد على الثلث حرام‪ :‬هو ما ثبت‬
‫عن سيدنا عمر أنه أحل ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه‪ ،‬فما لم يذهب ثلثاه‪ ،‬فالقوة المسكرة فيه قائمة‪.‬‬
‫‪ - 7‬الجمهوري‪ :‬هو الطلء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق ويعود إلى المقدار الذي كان في الصل‪،‬‬
‫ثم طبخ أدنى طبخة‪ ،‬وصار مسكرا‪ ،‬فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا قصد بشر به اللهو‪،‬‬
‫ويحرم مطلقا عند الصاحبين وبقية الئمة‪.‬‬
‫ثانيا ـ الشربة الحلل في رأي ضعيف هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف‪ :‬أربعة إذا كان القصد من‬
‫شربها التقوي واستمراء الطعام والتداوي‪ ،‬وهي ما يأتي (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬نبيذ التمر والزبيب إن طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة‪ :‬وهو أن يطبخ إلى أن ينضج أي أن‬
‫يطبخ طبخا يسيرا‪ ،‬وحكمه أنه يحل شربه وإن اشتد إذا شرب منه بل لهو ول طرب‪ ،‬وما لم يسكر‪.‬‬
‫فلو شرب ما يغلب على ظنه أنه مسكر فيحرم القدح الخير الذي يسكر بشربه؛ لن السكر حرام من‬
‫كل شراب‪.‬‬
‫‪ - 2‬الخليطان من الزبيب والتمر إذا طبخ أدنى طبخة‪ ،‬وإن اشتد‪ :‬يحل شربه بل لهو‪ ،‬كأن يكون‬
‫بقصد التقوي أو استمراء الطعام‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حاشية ابن عابدين‪.322/3 :‬‬
‫( ‪)7/423‬‬

‫‪ - 3‬نبيذ العسل والتين والبُر والذرة‪ :‬يحل سواء طبخ أو ل‪ ،‬بل لهو وطرب‪ .‬ويسمى نبيذ العسل‬
‫جعَة ) إذا صار مسكرا‪ .‬ويسمى نبيد‬
‫( البِتْع ) إذا صار مسكرا‪ .‬ويسمى نبيذ الحنطة والشعير ( ال ِ‬
‫الذرة ( المِرز ) إذا صار مسكرا‪ ،‬وهي مع ذلك حلل عند أبي حنيفة فيما دون السكار (‪ ، )1‬كما‬
‫سيأتي بيانه‪.‬‬
‫‪ - 4‬الطلء أو المثلث العنبي وإن اشتد‪ :‬وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه‪ ،‬وبقي ثلثه‪ :‬يحل‬
‫شربه إذا قصد به استمراء الطعام والتداوي والتقوي على طاعة ال عند أبي حنيفة وأبي يوسف‬
‫رضي ال عنهما‪.‬‬
‫والرأي المختار عند الحنفية في حكم شرب هذه النواع الربعة‪ :‬هو الحرمة مطلقا‪ ،‬عملً برأي‬
‫محمد‪ ،‬كما سيبين‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ أحكام الخمر ‪:‬‬
‫يتعلق بالخمر الحكام التالية (‪: )2‬‬
‫‪ - 1‬يحرم شرب قليلها وكثيرها إل عند الضرورة؛ لنها محرمة العين‪ .‬قال ال تعالى‪{ :‬إنما الخمر‬
‫والميسر والنصاب والزلم رجسٌ من عمل الشيطان} [المائدة‪ ]90/5:‬فوصفها الحق تعالى بكونها‬
‫رجسا‪ ،‬فيدل على أنها محرمة في نفسها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.117/5 :‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ 2/24 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 112/5 :‬ومابعدها‪ ،‬نتائج الفكار‪ 155/8 :‬وما بعدها‪ ،‬حاشية‬
‫ابن عابدين‪ ،319/5 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،361‬المهذب‪ 286/2 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ 304/8 :‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/424‬‬

‫سكَر من كل شراب» (‪. )1‬‬


‫وقال عليه الصلة والسلم‪« :‬حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها‪ ،‬وال َ‬
‫إل أنه رخص في شربها عند ضرورة العطش أو الكراه قدر ما تندفع به الضرورة‪.‬‬
‫ول يجوز النتفاع بها للتداوي وغيره؛ لن ال تعالى لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا‪ ،‬قال صلّى ال‬
‫عليه وسلم ‪« :‬إن ال لم يجعل شفاءكم فيما حَرّم عليكم» (‪ )2‬فإنه دل على تحريم التداوي بما حرم ال‬
‫تعالى‪ ،‬وأنه لم يجعل الشفاء فيه‪ ،‬ولما كانت الخمر محرمة‪ ،‬دل على تحريم التداوي بها‪.‬‬
‫ويحرم على الرجل أن يسقي الصبيان الخمر‪ ،‬فإذا سقاهم‪ ،‬فالثم عليه في الشرب‪ ،‬دون الصغير؛ لن‬
‫خطاب التحريم موجه إليه‪ .‬قال عليه الصلة والسلم‪« :‬شارب الخمر كعابد الوثن» (‪ )3‬وقال صلّى‬
‫ال عليه وسلم أيضا‪« :‬الخمر أم الخبائث» (‪)4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه العقيلي من حديث علي بلفظ ‪« :‬حرمت الخمر بعينها‪ ،‬والسكر من كل شراب» ويروى‪:‬‬
‫«لعينها» وهو معلول بمحمد بن الفرات وأخرجه النسائي موقوفا على ابن عباس باللفظ المذكور في‬
‫الصلب هنا‪ .‬ورواه البزار موقوفا أيضا‪ ،‬وكذلك أخرجه الطبراني في معجمه موقوفا على ابن عباس‪،‬‬
‫وأخرجه عنه من طريق ابن المسيب مرفوعا نحوه‪ ،‬وأخرجه أبو نعيم في الحلية‪ .‬وأخرجه الدارقطني‬
‫في سننه عن ابن عباس موقوفا‪ ،‬وقال‪ :‬وهذا هو الصواب عن ابن عباس؛ لنه قد روي عن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم‪« :‬كل مسكر حرام» (راجع نصب الراية‪ 306/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مجمع الزوائد‪:‬‬
‫‪ )53/5‬والسكر‪ :‬كل ما يسكر‪ ،‬ويطلق على نبيذ الرطب‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البيهقي وصححه ابن حبان‪ ،‬وأخرجه أحمد عن أم سلمة‪ ،‬وأخرجه البخاري تعليقا عن ابن‬
‫مسعود‪ ،‬وصححه السيوطي‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البزار عن عبد ال بن عمرو بن العاص مرفوعا‪ ،‬ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ‪:‬‬
‫«مدمن خمر كعابد وثن» وفي صحيح ابن حبان عن ابن عباس نحوه‪ .‬ورواه أحمد والبزار والطبراني‬
‫ورجال أحمد رجال الصحيح عن ابن عباس بلفظ‪« :‬مدمن الخمر إن مات لقي ال كعابد الوثن»‬
‫(راجع نصب الراية‪ ،298/4 :‬مجمع الزوائد‪ ،74 ،70/5 :‬نيل الوطار‪.)169/8 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه النسائي عن عثمان بن عفان موقوفا‪ ،‬وكذا رواه ابن أبي الدنيا‪ ،‬والبيهقي في سننه موقوفا‬
‫على عثمان‪ ،‬وهو أصح‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول ال يقول‪« :‬اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث» الحديث‪،‬‬
‫وفيه قصة عن رجل قديم‪ .‬وروى الطبراني عن ابن عباس عن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫«الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر‪ ،‬من شربها وقع على أمته وخالته وعمته» وفيه ضعيف (راجع‬
‫نصب الراية‪ ،297/4 :‬مجمع الزوائد‪ ،67/5 :‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪.)360‬‬

‫( ‪)7/425‬‬

‫وقال صلّى ال عليه وسلم أيضا‪« :‬لعن ال الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها‬
‫ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها» (‪. )1‬‬
‫‪ - 2‬يكفر مستحلها؛ لن حرمتها ثبتت بدليل مقطوع به‪ ،‬وهو نص القرآن الكريم في الية السابقة‪:‬‬
‫{إنما الخمر والميسر والنصاب والزلم (‪ )2‬رجس من عمل الشيطان‪ ،‬فاجتنبوه‪ ،‬لعلكم تفلحون}‬
‫[المائدة‪.]90/5:‬‬
‫‪ - 3‬يحرم على المسلم تمليكها بسائر أسباب الملك من البيع والشراء والهبة وغيرها؛ لن كل ذلك‬
‫انتفاع بالخمر‪ ،‬وإنها محرمة النتفاع على المسلم‪ .‬قال النبي عليه الصلة والسلم‪« :‬يا أهل المدينة‪،‬‬
‫إن ال تبارك وتعالى قد أنزل تحريم الخمر‪ ،‬فمن كتب هذه الية‪ ،‬وعنده شيء منها‪ ،‬فل يشربها‪ ،‬ول‬
‫يبيعها‪ ،‬فسكبوها في‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود عن ابن عمر‪ ،‬وصححه ابن السكن‪ ،‬ورواه ابن ماجه وزاد‪« :‬وآكل ثمنها» وفي‬
‫موضوعه عن أنس بن مالك وزاد‪« :‬وعاصرها والمشتري لها والمشترى له» رواه الترمذي وابن‬
‫ماجه ورواته ثقات‪ .‬وعن ابن عباس رواه أحمد وابن حبان والحاكم‪ ،‬وعن ابن مسعود ذكره ابن أبي‬
‫حاتم في العلل‪ ،‬ورواه البزار والطبراني وفيه ضعيف‪ .‬وعن أبي هريرة مرفوعا‪« :‬إن ال حرم الخمر‬
‫وثمنها‪ ،‬وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه» رواه أبو داود‪ ،‬وعن عبد ال بن عمر (راجع‬
‫التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،359‬مجمع الزوائد‪ )73/5 :‬وفي بعض ألفاظه‪« :‬لعن رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم الخمر وشاربها‪...‬الحديث» ‪.‬‬
‫(‪ )2‬الميسر‪ :‬القمار‪ ،‬قال مجاهد‪ :‬كل شيء فيه قمار فهو ميسر‪ ،‬حتى لعب الصبيان بالجوز‪.‬‬
‫والنصاب جمع نصب بفتح النون وضمها‪ ،‬وهوحجر أو صنم منصوب يذبحون عنده‪ .‬والزلم‪:‬‬
‫القداح‪ ،‬واحدها زلم ـ بفتح الزاي وضمها ـ وهي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها على‬
‫الميسر‪ .‬والرجس‪ :‬العذاب أو القذر والنتن‪ ،‬وسميت الصنام رجسا لنها سبب الرجس وهو العذاب‪.‬‬

‫( ‪)7/426‬‬

‫طرق المدينة» (‪ )1‬وقال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إن الذي حرم شربها حرم بيعها» (‪ ، )2‬إل أنها‬
‫تورث؛ لن الملك في الموروث ثبت شرعا من غير صنع العبد‪ ،‬فل يكون ذلك من باب التمليك‬
‫والتملك‪ ،‬والخمر إن لم تكن متقومة‪ ،‬فهي مال قابل للملك في الجملة‪.‬‬
‫‪ - 4‬ل يضمن متلفها إذا كانت لمسلم؛ لنها ليست متقومة في حق المسلم‪ ،‬وإن كانت مالً في حقه‪.‬‬
‫‪ - 5‬إنها نجسة نجاسة مغلظة‪ ،‬حتى إذا أصاب الثوب ـ في رأي الحنفية ـ أكثر من قدر الدرهم‪،‬‬
‫يمنع جواز الصلة؛ لن ال تعالى سماها رجسا‪ ،‬فقال سبحانه‪{ :‬رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}‬
‫[المائدة‪ .]90/5:‬والظاهر أن المراد من كلمة ( رجس ) هو النجاسة المعنوية الشرعية (‪ ، )3‬إل أن‬
‫المر بالجتناب يقتضي البتعاد عن الخمر ابتعادا شديدا‪ ،‬وقد حكم الجمهور بنجاسة الخمر وسائر‬
‫المسكرات المائعة فوق تحريم شربها تنفيرا وتغليظا‪ ،‬وزجرا عن القتراب منها (‪ ، )4‬يدل لنجاستها‬
‫حديث أبي ثعلبة الخشني قال‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إنا بأرض أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال‪ (:‬إن وجدتم‬
‫غيرها فل تأكلوا فيها‪ ،‬وإن لم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحاديث في تحريم الخمر متواترة‪ ،‬منها‪ :‬ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري بلفظ‪« :‬إن ال‬
‫حرم الخمر‪ ،‬فمن أدركته هذه الية‪ ،‬وعنده منها شيء‪ ،‬فل يشرب ول يبيع‪ ،‬قال‪ :‬فاستقبل الناس بما‬
‫كان عندهم منها طرق المدينة‪ ،‬فسفكوها» ومنها ما أخرجه المام أحمد عن عائشة‪« :‬كل مسكر‬
‫حرام‪ ،‬وما أسكر منه الفرق‪ ،‬فملء الكف منه حرام» والفَرق بإسكان الراء‪ :‬مئة وعشرون رطلً‪،‬‬
‫وبفتحها ستة عشر رطلً‪ .‬ومنها ما أخرجه المام أحمد وأصحاب السنن الربعة وصححه ابن حبان‬
‫عن جابر‪« :‬ما أسكر كثيره‪ ،‬فقليله حرام» ‪( .‬راجع نيل الوطار‪ ،169/8 :‬نصب الراية‪ 296/4 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬مجمع الزوائد‪ ،51/5 :‬فيض القدير‪.)420/5 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عباس‪ ،‬ورواه الحميدي في مسنده عن أبي هريرة (راجع‬
‫نيل الوطار‪ ،‬المرجع السابق)‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير المنار‪.58/7 :‬‬
‫(‪ )4‬الفقه على المذاهب الربعة‪ ،18/1 :‬حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلي على المنهاج‪:‬‬
‫‪.68/1‬‬

‫( ‪)7/427‬‬

‫تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها )‪ .‬وفي رواية أبي داود‪« :‬إنا نجاور أهل الكتاب‪ ،‬وهم يطبخون في‬
‫قدورهم الخنزير‪ ،‬ويشربون في آنيتهم الخمر‪ ،‬فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ :‬إن وجدتم غيرها‬
‫فكلوا اشربوا‪ ،‬وإ ن لم تجدوا غيرها فارحضوها (اغسلوها) بالماء‪ ،‬وكلوا اشربوا» (‪ . )1‬قال‬
‫الشوكاني‪ :‬والمر بغسل النية في حديث أبي ثعلبة ليس لتلوثها برطوباتهم بل لطبخهم الخنزير‪،‬‬
‫وشربهم الخمر فيها‪.‬‬
‫ولو سقيت بهيمة خمرا ثم ذبحت‪ ،‬فإن ذبحت ساعة ما سقيت به تحل من غير كراهة؛ لنها في‬
‫أمعائها‪ ،‬فتطهر بالغسل‪ ،‬وإن مضى عليها يوم أو أكثر‪ ،‬تحل مع الكراهة عند الحنفية‪ ،‬لحتمال أنها‬
‫تفرقت في العروق والعصاب‪.‬‬
‫ولو نقعت فيها الحنطة‪ ،‬ثم غسلت‪ ،‬حتى زال طعمها ورائحتها‪ ،‬يحل أكلها‪ .‬وإن وجد فيها طعم الخمر‬
‫ورائحتها‪ ،‬ل يحل أكلها‪.‬‬
‫‪ - 6‬يحد شاربها قليلً أو كثيرا‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬ما أسكر كثيره فقليله حرام» (‪)2‬‬
‫ولجماع الصحابة رضي ال عنهم على ذلك (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه الدارقطني (نصب الراية‪ ،95/1 :‬نيل الوطار‪.)19/1 :‬‬
‫(‪ )2‬روي عن تسعة من الصحابة‪ :‬وهم عبد ال بن عمرو‪ ،‬وجابر‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وعلي‪،‬‬
‫وعائشة‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وخوات بن جبير‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وأنس بن مالك‪ ،‬فحديث ابن عمرو رواه‬
‫النسائي وابن ماجه وغيرهما‪ ،‬وحديث جابر أخرجه الدارقطني وأحمد وأصحاب السنن الربعة‬
‫وصححه ابن حبان‪ ،‬وحديث عائشة أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما‪ ،‬وحديث ابن عمر رواه‬
‫إسحاق بن راهويه في مسنده والطبراني في معجمه‪ ،‬وحديث خوات بن جبير أخرجه الحاكم وغيره‪،‬‬
‫وحديث سعد رواه النسائي والدارقطني‪ ،‬وحديث علي أخرجه الدارقطني‪ ،‬وحديث زيد رواه الطبراني‬
‫في معجمه‪ ،‬وحديث أنس رواه أحمد وأبو يعلى وغيرهما فهو متواتر‪( .‬راجع نصب الراية‪301/4 :‬‬
‫وما بعدها‪ ،‬مجمع الزوائد‪ 56/5 :‬وما بعدها‪ ،‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،359‬سبل السلم‪ ،35/4 :‬نيل‬
‫الوطار‪.)179/8 :‬‬
‫(‪ )3‬تفسير المنار‪.77/7 :‬‬

‫( ‪)7/428‬‬

‫ولو شرب خمرا ممزوجا بالماء‪ :‬إن كانت الغلبة للخمر‪ ،‬يجب الحد‪ ،‬وإن غلب الماء عليها حتى زال‬
‫طعمها وريحها ل يجب الحد‪ ،‬إل أنه يحرم شرب الماء الممزوج بالخمر‪ ،‬لما فيه من أجزاء الخمر‬
‫حقيقة‪.‬‬
‫‪ - 7‬إن حد شرب الخمر وحد السكر مقدر بثمانين جلدة في الحرار‪،‬لفعل الصحابة رضي ال عنهم‪،‬‬
‫وقياسهم على حد القذف كما عرفنا‪ ،‬وهذا رأي الجمهور‪ ،‬وقال الشافعية‪ :‬حد الخمر أو المسكر على‬
‫الحرار أربعون جلدة؛ لن عثمان رضي ال عنه جلد الوليد بن عقبة أربعين‪ ،‬وقال علي‪ :‬جلد رسول‬
‫ال صلّى ال عليه وسلم في الخمرأربعين‪ ،‬وأبو بكر أربعين‪ ،‬وعمر ثمانين‪ ،‬وكل سُنّة (‪. )1‬‬
‫‪ - 8‬إذا تخللت الخمر بنفسها يحل شرب الخل بل خلف‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬نعم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرج البيهقي قصة جلد الوليد‪ ،‬وأخرج مسلم عن حصين بن المنذر قول علي كرم ال وجهه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الربعة عن جابر بن عبد ال ‪ ،‬وأخرجه مسلم والترمذي عن‬
‫عائشة‪ ،‬وأخرجه الحاكم عن أم هانئ‪ ،‬ورواه البيهقي عن أم أيمن‪ .‬وفي لفظ‪« :‬نعم الدم الخل» (راجع‬
‫نصب الراية‪ ،310/4 :‬المقاصد الحسنة‪ :‬ص ‪ ،447‬الجامع الصغير‪.)188/2 :‬‬

‫( ‪)7/429‬‬

‫الدام الخل» (‪ . )2‬ويعرف التخلل بالتغير من المرارة إلى الحموضة بحيث ل يبقى فيها مرارة أصلً‬
‫عند أبي حنيفة‪ ،‬فلو بقي فيها بعض المرارة ل يحل؛ لن الخمر عنده ل يصير خلً إل بعد تكامل‬
‫معنى الخلّية فيه‪ ،‬كما ل يصير خمرا إل بعد تكامل معنى الخمرية‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬تصير الخمر خلً بظهور قليل الحموضة فيها‪ ،‬اكتفاء بظهور دليل الخلية فيه‪ ،‬كما‬
‫أن الخمر تصير خمرا بظهور دليل الخمرية عندها‪.‬‬
‫أما إذا خلل الخمر صاحبها بإلقاء علج فيها من خل أو ملح أو غيرهما‪ ،‬حتى صارت حامضا‪ ،‬فيحل‬
‫شربها‪ ،‬ويكون التخليل جائزا عند الجمهور‪ ،‬قياسا على دبغ الجلد‪ ،‬فإن الدباغ يطهره‪ ،‬ولقوله عليه‬
‫السلم‪« :‬خير خلكم خل خمركم» (‪ )1‬وقوله أيضا‪« :‬نعم الدام الخل» ولم يفصل بين تخلل الخمر‬
‫بنفسها والتخليل‪ ،‬ولن التخليل يزيل الوصف المفسد‪ ،‬ويجعل في الخمر صفة الصلح‪ ،‬والصلح‬
‫مباح‪.‬‬
‫وإذا صارت الخمر خلً يطهر ما يجاورها من الناء‪ ،‬ويطهر أعلى الناء إذا غسل بالخل‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫يطهر تبعا‪ ،‬وهو المفتى به (‪. )2‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬ل يحل التخليل بالعلج‪ ،‬ول تطهر الخمر حينئذ‪ ،‬لننا مأمورون باجتنابها‪ ،‬فيكون‬
‫التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول‪ ،‬وهو مخالف للمر بالجتناب‪ ،‬ولن الشيء المطروح في‬
‫الخمر يتنجس بملقاتها‪ ،‬فينجسها بعد انقلبها خلً (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البيهقي في المعرفة عن جابر وقال‪ :‬تفرد به المغيرة بن زياد‪ ،‬وليس بالقوي‪ .‬ويلحظ أن‬
‫أهل الحجاز يسمون خل العنب خل الخمر (راجع نصب الراية‪.)311/4 :‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،7/24 :‬البدائع‪ 113/5 :‬وما بعدها‪ ،‬نتائج الفكار‪ ،166/8 :‬حاشية ابن عابدين‪:‬‬
‫‪.320/5‬‬
‫(‪ )3‬حاشية قليوبي وعميرة على شرح الجلل المحلي على المنهاج للنووي‪.72/1 :‬‬

‫( ‪)7/430‬‬

‫وإذا نقلت الخمر من الظل إلى الشمس أو بالعكس‪ ،‬فتخللت‪ ،‬تحل عند الجمهور‪ ،‬وكذا عند الشافعية في‬
‫الصح‪.‬‬
‫المبحث الرابع ـ أحكام الشربة المسكرة غير الخمر ‪:‬‬
‫هذه الشربة ثلث فئات‪:‬‬
‫سكَر والفضيح النيء والباذق المطبوخ ونقيع الزبيب والتمر‬
‫الفئةالولى ـ غير المطبوخ غالبا‪ :‬وهو ال ّ‬
‫من غير طبخ ‪:‬‬
‫أي نقيع التمر إذا اشتد وقذف بالزبد أو الذي طبخ من ماء العنب‪ ،‬فذهب أقل من ثلثيه‪ ،‬ونقيع التمر‬
‫والزبيب إذا اشتد بغير طبخ‪ ،‬فهذه هي الفئة الولى التي يتعلق بها الحكام التالية (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬يحرم شرب قليلها وكثيرها باتفاق العلماء‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬الخمر من هاتين الشجرتين» (‪)2‬‬
‫‪ .‬وأشار إلى النخلة والعنبة‪ ،‬وهذه الفئة إما من التمر أو من العنب‪ ،‬ولنه إذا ذهب أقل من الثلثين‬
‫بالطبخ‪ ،‬فالحرام فيه باق‪ ،‬وهو مازاد على الثلث‪.‬‬
‫‪ - 2‬ل يكفر مستحلها‪ ،‬ولكن يضلل؛ لن حرمتها دون حرمة الخمر‪ ،‬لثبوتها بدليل غير مقطوع به‬
‫من أخبار الحاد‪ ،‬وآثار الصحابة رضي ال عنهم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 114/5 :‬وما بعدها‪ ،‬نتائج الفكار‪ 158/8 :‬وما بعدها‪ ،‬المبسوط‪.4/24 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الربعة أي الجماعة إل البخاري عن أبي هريرة عن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬الخمر من هاتين الشجرتين‪ :‬النخلة والعنبة» (راجع نصب الراية‪:‬‬
‫‪ ،295/4‬نيل الوطار‪.)172/8 :‬‬

‫( ‪)7/431‬‬

‫‪ - 3‬ل يحد عند الحنفية بشرب قليلها‪ ،‬وإنما يجب الحد بالسّكر منها؛ لن نص الحديث السابق‪:‬‬
‫سكَر من كل شراب» حرم السكر وجعله كحرمة الخمر‪،‬والمعاني التي حرم من أجلها الخمر في‬
‫«وال َ‬
‫قوله تعالى‪{ :‬إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر‪ ،‬ويصدكم عن‬
‫ذكر ال وعن الصلة‪ ،‬فهل أنتم منتهون} [المائدة‪ ]91/5:‬هذه المعاني تحصل بالسكر من كل شراب‪.‬‬
‫لهذا قال علي رضي ال عنه‪« :‬فيما أسكر من النبيذ ثمانون‪ ،‬وفي الخمر قليلها وكثيرها ثمانون » ‪.‬‬
‫‪ - 4‬مقدار الحد‪ :‬ثمانون جلدة عند الجمهور كما عرفنا‪ ،‬وأربعون جلدة عند الشافعية‪.‬‬
‫‪ - 5‬يحرم التداوي بها‪ ،‬سئل ابن مسعود رضي ال عنه عن التداوي بالمسكر‪،‬فقال‪« :‬إن ال تبارك‬
‫وتعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (‪. )1‬‬
‫‪ - 6‬يجوز بيعها عند أبي حنيفة مع الكراهة‪ ،‬ويضمن متلفها؛ لن البيع مبادلة شيء مرغوب فيه‬
‫بشيء مرغوب فيه‪ ،‬وهذه الشربة مرغوب فيها‪ ،‬إل أن الخمر مع كونها مرغوبا فيها ل يجوز بيعها‬
‫بنص الحديث السابق‪« :‬يا أهل المدينة‪ ،‬إن ال تبارك وتعالى قد أنزل تحريم الخمر‪ ،‬فمن كتب هذه‬
‫الية‪ ،‬وعنده شيء منها‪ ،‬فل يشربها ول يبيعها» والنص ورد في الخمر‪ ،‬فيقتصر على مورد النص‪.‬‬
‫وأيضا لن الخبار تعارضت في هذه الشربة في الحل والحرمة‪ ،‬قال أبو حنيفة بحرمة شربها‬
‫احتياطا‪ ،‬ولكن ل تبطل ماليتها احتياطا؛ لن الحتياط ليجري في إبطال حقوق الناس‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه عبد الرزاق والطبراني في معجمه وابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال‪« :‬إن ال لم يكن‬
‫ليجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» وذكره البخاري تعليقا عن ابن مسعود‪ ،‬وأخرجه البيهقي وابن حبان‬
‫وصححه‪ ،‬وأخرجه أيضا أحمد عن أم سلمة رضي ال عنها عن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬إن‬
‫ال لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم‪ ،‬وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال صلّى‬
‫ال عليه وسلم ‪« :‬إن ال أنزل الداء والدواء‪ ،‬وجعل لكل داء دواء‪ ،‬فتداووا‪ ،‬ول تتداووا بحرام»‬
‫وروى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان عن وائل بن حجر أن طارق‬
‫بن سويد سأل النبي صلّى ال عليه وسلم عن الخمر‪ ،‬فنهاه عنها‪ ،‬فقال‪ :‬إنما أصنعها للدواء‪ ،‬قال‪« :‬‬
‫إنه ليس بدواء‪ ،‬ولكنه داء» (راجع نصب الراية‪ ،299/4 :‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،359‬مجمع‬
‫الزوائد‪ ،72/5 :‬نيل الوطار‪ ،203/8 :‬سبل السلم‪.)36/4 :‬‬

‫( ‪)7/432‬‬

‫وقال الصاحبان‪ :‬ل يجوز بيعها أصلً‪ ،‬ول يضمن متلفها‪ ،‬لعدم كونها مالً متقوما؛ لن المال المتقوم‪:‬‬
‫هو ما يباح النتفاع به حقيقةً وشرعا‪ ،‬وهي ل يباح النتفاع بها‪.‬‬
‫‪ - 7‬في نجاستها روايتان عن أبي حنيفة‪ :‬رواية راجحة تعتبر نجاستها مغلظة كنجاسة الخمر؛ لنه‬
‫يحرم شرب قليلها وكثيرها‪ ،‬فل يعفى عنها أكثر من قدر‬
‫الدرهم‪ ،‬ورواية تعتبر نجاستها مخففة فيعفى عنها ما دون ربع الثوب عند الحنفية؛ لن نجاسة الخمر‬
‫إنما ثبتت بالشرع‪ ،‬بقوله تعالى‪{ :‬رجس} [المائدة‪ ]90/5:‬فتختص النجاسة باسم الخمر‪ .‬وعن أبي‬
‫يوسف‪ :‬أن الكثير الفاحش‪ :‬هو النجس؛ لن حرمتها دون حرمة الخمر‪ ،‬واختار السرخسي أن نجاسة‬
‫السكر ونقيع الزبيب مخففة‪ ،‬والمفتى به أن نجاستها كالخمر (‪. )1‬‬

‫( ‪)7/433‬‬

‫الفئة الثانية ـ المطبوخ وهو المثلث (أو الطلء) والجمهوري والمطبوخ من الزبيب والتمر أدنى طبخ‬
‫‪:‬‬
‫أي أن عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه‪ ،‬ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ‪ ،‬وإن لم يذهب ثلثاه‪ ،‬فهذه هي‬
‫الفئة الثانية‪.‬‬
‫المثلث‪ :‬وهو المطبوخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي معتقا‪ ،‬حكمه وحكم الجمهوري والمطبوخ‬
‫من الزبيب والتمر أدنى طبخ‪ ،‬أي وإن لم يذهب ثلثاه‪ :‬أنه يحل شرب القليل منه‪ ،‬ويحرم المسكر منه‬
‫وهو القدح الخير الذي يسكر‪ ،‬فإذا سكر يجب الحد‪ ،‬ويجوز بيعه وتمليكه ويضمن متلفه‪ ،‬وهذا عند‬
‫أبي حنيفة وأبي يوسف‪ ،‬ودليلهما حديث وآثار‪ :‬أما الحديث فهو ما روي عن ابن عمر أن النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم أتي بنبيذ فشمه‪ ،‬فقطب وجهه لشدته‪ ،‬ثم دعا بماء‪ ،‬فصبه عليه وشرب منه (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نتائج الفكار‪ ،160/8 :‬البدائع‪ ،115/5 :‬رد المحتار‪.321/5 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطبراني وفيه هود بن عطاب وهو ضعيف‪ ،‬ويؤيده ما رواه الطبراني عن المطلب بن أبي‬
‫وداعة وفيه رجل ضعيف‪ :‬أن النبي أتي بإناء فصب عليه الماء‪ ،‬حتى تدفق‪ ،‬ثم شرب منه‪ ،‬وروى‬
‫العقيلي عن علي‪ ،‬قال‪« :‬طاف النبي صلّى ال عليه وسلم بين الصفا والمروة أسبوعا‪ ،‬ثم استند إلى‬
‫حائط من حيطان مكة‪ ،‬فقال‪ :‬هل من شربة؟ فأتي بقعب من نبيذ‪ ،‬فقطب‪ ،‬ورده‪ ،‬فقام إليه رجل من آل‬
‫حاطب‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬هذا شراب أهل مكة‪ ،‬قال‪ :‬فصب عليه الماء‪ ،‬ثم شرب‪ ،‬ثم قال‪ :‬حرمت‬
‫سكَر من كل شيء» وأعله بمحمد بن الفرات وهو منكر الحديث (راجع نصب الراية‪:‬‬
‫الخمر بعينها وال ّ‬
‫‪ ،306/4‬مجمع الزوائد‪.)66/5 :‬‬

‫( ‪)7/434‬‬
‫وأما الثار‪ ،‬فمنها ماروي عن سيدنا عمر رضي ال عنه أنه كان يشرب النبيذ الشديد‪ ،‬ومنها‪ :‬ما‬
‫روي عن سيدنا علي رضي ال عنه أنه أضاف قوما فسقاهم‪ ،‬فسكر بعضهم‪ ،‬فحده‪ ،‬فقال الرجل‪:‬‬
‫سكْر (‪ . )1‬والحقيقة أن هذا الخبر غير صحيح؛ لن في‬
‫تسقيني ثم تحدني؟ فقال علي‪ :‬إنما أحدك لل ّ‬
‫سنده مدلسا وضعيفا‪.‬‬
‫وقد اعتبر أبو حنيفة حل المثلث من علمة مذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬فقال‪ :‬السنة أن تفضل‬
‫الشيخين‪ ،‬وتحب الخَتَنين (أي الصهرين) وتمسح على الخفين‪ ،‬ول تحرم نبيذ الجَرّ‪ ،‬أي المثلث أو‬
‫الطلء‪ .‬والحل محصور في القليل منه أو إذا قصد به التقوي على الطاعة‪ ،‬أو التداوي‪ ،‬أو استمراء‬
‫الطعام‪ ،‬أما إذا قصد به التلهي‪ ،‬فيحرم‪.‬‬
‫وقال محمد‪ :‬ل يحل شرب هذين الشرابين‪ ،‬ولكن ل يجب الحد ما لم يسكر‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬ما‬
‫أسكر كثيره فقليله حرام» وبرأيه يفتى عند الحنفية‪.‬‬
‫وقال الشافعية والمالكية والحنابلة‪ :‬كل شراب أسكر كثيره حرم قليله‪ ،‬وحد شاربه إذا كان مكلفا‬
‫مختارا‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬كل مسكر خمر‪ ،‬وكل خمر حرام» وقوله أيضا «أنهاكم عن قليل ما‬
‫أسكر كثيره» وصحح الترمذي‪« :‬ما أسكر كثيره فقليله حرام» (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،15/24 :‬البدائع‪ ،116/5 :‬نتائج الفكار‪ 162/8 :‬وهذا الحديث أخرجه الدارقطني في‬
‫سننه‪ ،‬ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الشعبي‪ .‬وروى الدارقطني مثل ذلك عن عمر رضي ال‬
‫عنه‪ ،‬ورواه العقيلي في كتابه عن عمر أيضا‪ ،‬وله طرق أخر عند ابن أبي شيبة‪ ،‬وفي الطراف‪،‬‬
‫وعند عبد الرزاق في مصنفه (راجع نصب الراية‪ )350/3 :‬ويلحظ أن هذه القصة غير ثابتة‪.‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،187/4 :‬المهذب‪ ،286/2 :‬بداية المجتهد‪ 434/2:‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪.304/8 :‬‬

‫( ‪)7/435‬‬

‫الفئة الثالثة ـ الشربة الحلل في رأي ضعيف‪ :‬وهي خليط الزبيب والتمر المطبوخ‪ ،‬والمتخذ من‬
‫غير العنب والتمر ‪:‬‬
‫الشربة الربعة الحلل التي ذكرت كالخليطين والمِزْر والجِعة والبِتْع والمثلث بقصد التداوي يحل‬
‫شربها بل لهو ول طرب‪ ،‬قليلً كان أو كثيرا إذا شرب مال يسكره‪ ،‬ول يحد شاربها‪ ،‬وإن سكر منها‪،‬‬
‫وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لنه ليس في هذه الشربة معنى الخمرية‪ ،‬إذ ل شدة فيها‪ ،‬ولنه‬
‫عليه السلم قال‪« :‬الخمر من هاتين الشجرتين‪ :‬يعني النخلة والكرمة» ذكر صلّى ال عليه وسلم‬
‫الخمر بلم الجنس‪ ،‬فاقتضى اقتصار الخمرية على ما يتخذ من هاتين الشجرتين‪ .‬وإنما ل يجب الحد‬
‫وإن سكر منه؛ لنه سكر حصل بتناول شيء مباح‪ ،‬فل يوجب الحد‪ ،‬كالسكر الحاصل من تناول‬
‫البنج‪ ،‬بخلف ما إذا سكر بشرب المثلث‪ ،‬فإنه يجب الحد؛ لن السكر فيه حصل بتناول المحظور وهو‬
‫القدح الخيرة‪.‬‬
‫وخلصة الفرق بين هذه الفئات الثلث‪ :‬أن الفئة الولى يحرم قليلها وكثيرها ويجب الحد بالسكر‬
‫منها‪ ،‬وأن الثانية يحرم المسكر منه فقط ويجب الحد بالسكر‪ ،‬وأما الثالثة فيحل شربها للتداوي‬
‫والتقوي‪ ،‬وإن سكر منها‪ ،‬ول حد فيها وإن سكر منها عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪.‬‬
‫وقد حرم محمد رحمه ال تعالى هذه الشربة الربعة التي هي حلل عند الشيخين‪ :‬وهي المتخذة من‬
‫العسل والتين ونحوهما قليلها وكثيرها‪ ،‬والصح أنه يحد شاربها بالسكر منها‪ ،‬وبه يفتى في المذهب‬
‫الحنفي (‪ ، )1‬وقال الئمة الثلثة‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬يظن بعض شاربي البيرة ونحوها أن قليلها حلل في مذهب الحنفية‪ .‬والواقع أن قليلها وكثيرها‬
‫حرام في كل المذاهب وبإجماع آراء الحنفية‪ ،‬لن الخلف فيما يسمى بالشربة الحلل محصور فيما‬
‫قصد بشربه تقوية البدن الضعيف‪ .‬أما إذا كان يؤخذ للهو والتسلية كما يفعل هؤلء الشاربون فهو‬
‫حرام كالكثير تماما‪ ،‬ولو قطرة واحدة (الفقه على المذاهب الربعة‪ 2 :‬حاشية ص ‪ 7‬بتصرف)‪.‬‬

‫( ‪)7/436‬‬

‫يحد بشرب القليل منها والكثير (‪ )1‬لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬كل مسكر خمر‪ ،‬وكل خمر حرام»‬
‫وقوله‪« :‬ما أسكر كثيره فقليله حرام» وقوله‪« :‬كل شراب أسكر فهو حرام» وقوله صلّى ال عليه‬
‫وسلم أيضا‪« :‬إن من العنب خمرا‪ ،‬وإن من العسل خمرا‪ ،‬ومن الزبيب خمرا‪ ،‬ومن الحنطة خمرا‪،‬‬
‫ومن التمر خمرا‪ ،‬وأنا أنهاكم عن كل مسكر» (‪. )2‬‬
‫الحشيش والفيون والبنج (‪: )3‬‬
‫يحرم كل ما يزيل العقل من غير الشربة المائعة كالبنج والحشيشة والفيون‪ ،‬لما فيها من ضرر‬
‫محقق‪ ،‬ول ضرر ول ضرار في السلم‪ ،‬ولكن ل حد فيها؛ لنها ليست فيها لذة ولطرب‪ ،‬ول يدعو‬
‫قليلها إلى كثيرها‪ ،‬وإنما فيها التعزير لضررها‪ ،‬ولما رواه أبو داود عن أم سلمة رضي ال عنها‬
‫قالت‪« :‬نهى رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر» ‪.‬‬
‫ويحل القليل النافع من البنج وسائر المخدرات للتداوي ونحوه؛ لن حرمته ليست لعينه‪ ،‬وإنما لضرره‬
‫( ‪. )4‬‬
‫القهوة والدخان‪ :‬سئل صاحب العباب الشافعي عن القهوة‪ ،‬فأجاب‪ :‬للوسائل حكم المقاصد‪ ،‬فإن قصدت‬
‫للعانة على قربة كانت قربة‪ ،‬أو مباح فمباحة‪ ،‬أو مكروه فمكروهة‪ ،‬أو حرام فمحرمة‪ .‬وأيده بعض‬
‫الحنابلة على هذا التفصيل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر نيل الوطار‪ ،140/7 :‬البدائع‪ ،117/5 :‬نتائج الفكار‪ 160/8 :‬وما بعدها‪ ،‬حاشية ابن‬
‫عابدين‪ 322/5 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد وأصحاب السنن إل النسائي عن النعمان بن بشير‪ ،‬زاد أحمد وأبو داود‪« :‬وأنا أنهى‬
‫عن كل مسكر» (راجع التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،359‬مجمع الزوائد‪ ،56/5 :‬نيل الوطار‪.)173/8 :‬‬
‫(‪ )3‬البَنج‪ :‬يسمى في العربية شيكران‪ :‬وهونبات يصدع ويسبت‪ ،‬ويخلط العقل‪ .‬والفيون‪ :‬عصارة‬
‫الخشخاش‪ .‬والحشيشة‪ :‬ورق القنب الهندي‪.‬‬
‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪ ،187/4 :‬حاشية ابن عابدين‪ ،325/5 :‬المبسوط‪ ،9/24 :‬فتح القدير‪.184/4 :‬‬

‫( ‪)7/437‬‬

‫وقال الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي صاحب غاية المنتهى‪ :‬ويتجه حل شرب الدخان والقهوة‪،‬‬
‫والولى لكل ذي مروءة تركهما (‪. )1‬‬
‫والواقع‪ ،‬ل تقل مرتبة التدخين عن الكراهة أو الكراهة التحريمية‪ ،‬وقد يصبح التدخين حراما إذا ثبت‬
‫ضرره بالنفس أو المال أو كان المدخن محتاجا إلى المال لنفاقه على قوته أو قوت أهله أو ملبسه أو‬
‫ملبس أهله وعياله‪.‬‬
‫وقد حرم الباضية التبغ؛ لنه من الخبائث‪ ،‬وأصدرت دولة إيران عام ‪1991‬م أمرا بمنعه وتحريمه‬
‫ومنع توظيف المدخنين‪ ،‬وقد ذكر الشيخ محمد بن جعفر الكتاني في كتابه‪ :‬حكم التدخين عند الئمة‬
‫الربعة وغيرهم (‪ )2‬سبعة عشر دليلً على تحريم الدخان‪ ،‬وأبان المفاسد الكثيرة المترتبة على‬
‫الدخان‪ ،‬وأورد فتاوى علماء المذاهب السلمية بالتحريم‪ ،‬وناقش أدلة المبيحين بالتحريم‪.‬‬
‫وتلك الدلة بإيجاز‪:‬‬
‫‪ - 1‬الدخان من الخبائث المحرمة بنص الكتاب‪ ،‬والخبائث‪ :‬كل ما تستكرهه النفوس وتنفر منه‪.‬‬
‫‪ - 2‬الدخان مضرّ بالبدان ضررا بيّنا ل شك فيه‪ ،‬ول شبهة الن عند الحكماء وهو من أهم أسباب‬
‫سرطان الرئة والقلب وغير ذلك من المراض الخطيرة أو المنتنة‪.‬‬
‫‪ - 3‬الدخان مؤذ بدخانه الخبيث ورائحته المنتنة لمن ل يتعاطاه من زوجة أو زوج وصاحب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬غاية المنتهى‪.331/3 :‬‬
‫(‪ )2‬توزيع مكتبة الغزالي بدمشق‪ ،‬طبع عام ‪1411‬هـ ـ ‪1990‬م وعنوان الكتاب «إعلن الحجة‬
‫وإقامة البرهان على منع ما عمّ وفشا من استعمال عُشبة الدخان» ‪.‬‬

‫( ‪)7/438‬‬

‫‪ - 4‬الدخان مؤذ برائحته ونتنه للحفظة الكرام الكاتبين وغيرهم من الملئكة المكرمين‪.‬‬
‫‪ - 5‬الدخان مضر بدِين صاحبه‪ ،‬شاغل له عن سلوك المسالك التي يرتقي بها‪.‬‬
‫‪ - 6‬الدخان فيه إفساد للجسم والبدن وتخدير له وتفتير بالتجربة والمشاهدة‪.‬‬
‫‪ - 7‬الدخان مع كونه مفترا ‪ ،‬أي مخدرا للجفون والطراف‪ ،‬قد يحصل السكار منه لبعض الناس في‬
‫ابتداء التعاطي‪ ،‬وقد نهى النبي صلّى ال عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر‪.‬‬
‫‪ - 8‬فيه إسراف وتبذير‪ ،‬وهو إضاعة المال من أي نوع كان بإتلفه وإنفاقه في غير فائدة دينية ول‬
‫مصلحة دنيوية‪.‬‬
‫‪ - 9‬إنه مصادم للفطرة النسانية‪ ،‬مؤد إلى تردد القلب وقلقه واضطرابه‪ ،‬فهو مشكوك ومشتبه فيه‪،‬‬
‫ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه‪ ،‬والبر‪ :‬ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب‪.‬‬
‫‪ - 10‬إنه يؤدي إلى أكل المحروق وتسرب أجزاء منه محروقة للحلق كلما تناول المدخن شيئا منه‪.‬‬
‫‪ - 11‬فيه أكل النار الممتزجة بالحطب الذي هو ورقه‪ ،‬أي من جذبه إلى جوفه‪.‬‬
‫‪ - 12‬فيه إفساد مزاج من طبعه السوداء أو الصفراء؛ لنه يجفف الرطوبات البدنية ويحرقها‪.‬‬
‫‪ - 13‬فيه عبث ولهو‪ ،‬وهو حرام عندالحنفية‪.‬‬
‫‪ - 14‬نهى عنه ملوك السلم وسلطينه في الترك والمغرب والسودان وغيرهم‪ ،‬بل وملوك أوروبا‪.‬‬
‫‪ - 15‬إنه من البدع ومحدثات المور بعد القرون الثلثة المشهود بخيريتها وفضلها‪ ،‬بل بعد القرون‬
‫العشرة‪ ،‬أخرج أبو داود من حديث العرباض بن سارية‪« :‬إياكم ومُحْدَثات المور‪ ،‬فإن كل محدثة‬
‫بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضللة‪ ،‬وكل ضللة في النار» ‪.‬‬

‫( ‪)7/439‬‬
‫‪ - 16‬فيه غول‪ ،‬وهو ما يعتري شاربه بتركه من القلق والفساد والذى في عقله ومزاجه وحواسه‪،‬‬
‫وبسببه يعود له ول يقدر على الترك‪ ،‬وكل ما فيه غول يغتال العقول ويضعف الرادة يمنع منه‪،‬‬
‫بدليل وصف الحق تعالى خمر الجنة بأنها {ل فيها غول} [الصافات‪.]47/37:‬‬
‫‪ - 17‬ما كان مشكوكا فيه أحرام هو أم حلل‪ ،‬ولم نجد فيه نصا عن النبي صلّى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫يعمل فيه بعمل أهل التقوى والورع واجتناب المشتبهات‪.‬‬
‫المبحث الخامس ـ إثبات شرب الخمر ونحوها ‪:‬‬
‫اتفق جمهور الفقهاء على أن شرب الخمر ونحوها يثبت بشهادة رجلين مسلمين عدلين يشهدان أنه‬
‫مسكر أو بالقرار مرة واحدة‪ ،‬ول تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال‪ .‬ويكفي في إقرار وشهادة أن‬
‫يقال‪ :‬شرب فلن خمرا‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف وزفر‪ :‬يشترط في القرار هنا كما في السرقة‪ :‬أن يكون مرتين بمجلسين‪ ،‬اعتبارا‬
‫لعدد القرار بعدد الشهود‪.‬‬
‫ول يعتبر القرار والشهادة بعد ذهاب الرائحة وتقادم العهد عند أبي حنيفة وأبي يوسف‪ .‬وقال محمد‪:‬‬
‫يحد بالقرار أو الشهادة بعد ذهاب الرائحة‪ ،‬ولكن دون شهر في الشهادة‪.‬‬
‫واختلفوا في إثبات الشرب بالرائحة ‪:‬‬
‫فقال المالكية‪ :‬يجب الحد بالرائحة إذا شمها شاهدان عدلن في فمه أو تقيأها‪ ،‬وشهدا بذلك عند الحاكم؛‬
‫ل وجد منه رائحة الخمر (‪ ، )1‬وتشبيها للشهادة على الرائحة بالشهادة على‬
‫لن ابن مسعود جلد رج ً‬
‫الصوت (‪. )2‬‬
‫وقال الحنفية والشافعية والحنابلة‪ :‬ل حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها؛ لن الرائحة يحتمل‬
‫أنه تمضمض بها أو حسبها ماء‪ ،‬فلما صارت في فمه مجها‪ ،‬أو ظنها ل تسكر‪ ،‬أو كان مكرها أو‬
‫مضطرا أو غالطا‪ ،‬أو شرب شراب التفاح‪ ،‬فإنه يكون منه كرائحة الخمر‪ ،‬وإذا احتمل ذلك لم يجب‬
‫الحد بالشك؛ لن الحد يدرأ بالشبهة‪ ،‬ول يستوفيه القاضي بعلمه أيضا (‪. )3‬‬
‫ويلحظ أنه ل يقام الحد على السكران حال سكره‪ ،‬وإنما يؤخره إلى الصحو باتفاق الئمة‪ ،‬ليتحقق‬
‫مقصود الحد من النزجار‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الطبراني وعبد الرزاق وإسحاق بن راهويه عن أبي ماجد الحنفي‪ ،‬قال‪ :‬جاء رجل بابن أخ‬
‫له سكران إلى عبد ال بن مسعود‪ ،‬فقال عبد ال ‪ :‬ترتروه ومزمزوه (أي حركوه تحريكا عنيفا لعله‬
‫يصحو) واستنكهوه‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬فرفعه إلى السجن‪ ،‬ثم عاد به من الغد‪ ،‬ودعا بسوط‪ ،‬ثم أمر بثمرته فدقت‬
‫بين حجرين‪ ،‬حتى صارت درة‪ ،‬ثم قال للجلد‪ :‬اجلد وأرجع تلك‪ ،‬وأعط كل عضو حقه (راجع نصب‬
‫الراية‪ ،349/3 :‬مجمع الزوائد‪.)279 ،275/6 :‬‬
‫(‪ )2‬حاشية الدسوقي‪ ،353/4 :‬بداية المجتهد‪ ،436/2 :‬المنتقى على الموطأ‪ ،142/3 :‬القوانين‬
‫الفقهية‪ :‬ص ‪.362‬‬
‫(‪ )3‬فتح القدير‪ ،186 ،180/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،196/3 :‬الكتاب مع اللباب‪ ،193/3 :‬مختصر‬
‫الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،280‬مغني المحتاج‪ ،190/4 :‬المغني‪ ،309/8 :‬حاشية الباجوري على متن أبي‬
‫شجاع‪ ،246/2 :‬غاية المنتهى‪.330/3 :‬‬

‫( ‪)7/440‬‬

‫المبحث السادس ـ مخاطر المخدرات وأحكامها في السلم ‪:‬‬


‫الشرائع اللهية وخاتمتها الشريعة السلمية تنشد في تشريعها لتنظيم حياة الناس وأحوالهم تحقيق‬
‫المصالح والمنافع البشرية الحقيقية‪ ،‬ودفع أنواع المضار والمفاسد وألوان الذى والشر‪ ،‬بدليل‬
‫الستقراء التام والتتبع الشامل لكل ما جاءت به شريعة القرآن الكريم من أحكام العبادات والمعاملت‬
‫والجنايات والعلقات الجتماعية الخاصة والعامة‪ ،‬فل نجد مطلوبا شرعا‪ :‬فرضا أو مندوبا إل وكان‬
‫فيه الخير للفرد والجماعة أو الشخص والمة‪ ،‬ول نرى ممنوعا‪ :‬حراما أو مكروها إل وفيه الشر أو‬
‫شبهة السوء للنسان والناس قاطبة‪.‬‬
‫والعقل المجرد غير المتأثر بالهوى أو النفعية الطائشة أو الوقتية غير المنضبطة يدرك تماما المصلحة‬
‫المجردة والمضرة الواضحة‪ ،‬ويؤيد ما جاءت به شريعة السماء‪ ،‬إذ ل يخفى على عاقل أن تحصيل‬
‫المصالح المحضة أو الدائمة الثر‪ ،‬ودرء المفاسد المحضة أو النية التأثير‪ ،‬عن نفس النسان وغيره‪،‬‬
‫محمود حسن‪ ،‬كما أنه ل يخفى أيضا أن درء المفاسد والمضار الراجحة مقدم على المصالح‬
‫المرجوحة‪ ،‬كما قال العز بن عبد السلم في مقدمة كتابه‪« :‬قواعد الحكام في مصالح النام» ‪.‬‬

‫( ‪)7/441‬‬

‫وهذا ما اتفق عليه الحكماء‪ ،‬وأجمعت عليه الشرائع‪ ،‬فحرّمت الدماء والبضاع والموال والعراض‪،‬‬
‫واتفقت الملل كلها على الحفاظ على المقاصد الخمسة الكلية الضرورية‪ ،‬وهي الدين والعقل والنفس‬
‫والنسب أو العرض والمال‪ ،‬ووجهت الديان ذات المصدر اللهي إلى تحصيل الفضل فالفضل من‬
‫القوال والعمال والداب والخلق‪ .‬وكذلك الطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق حاربت الشريعة السلمية وحرمت تناول المسكرات والمخدرات بأنواعها المختلفة‪،‬‬
‫لما فيها من ضرر واضح على النسان وصحته وعقله وكرامته وسمعته أو اعتباره الدبي‪ .‬روى ابن‬
‫ماجه والدارقطني مسندا‪ ،‬والمام مالك في الموطأ مرسلً عن أبي سعيد الخدري رضي ال عنه أن‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬ل ضرر ول ضرار» وهو حديث حسن‪ ،‬مفاده أن الضرر‬
‫ممنوع بالنفس أو بالغير‪ ،‬فل يجوز لحد أن يضر نفسه أو غيره بغير حق ول جناية سابقة‪ ،‬وليجوز‬
‫مقابلة الضرر بالضرر‪ ،‬فمن سبّك أو شتمك فل تسبّه‪ ،‬ومن ضرّ بك فل تضرّ به‪ ،‬بل اطلب حقك منه‬
‫عند الحاكم من غير مسابّة‪.‬‬
‫وجاء في النجيل المتداول الن من قول السيد المسيح عليه السلم‪« :‬السكّيرون والزناة ل يدخلون‬
‫ملكوت السموات» وإذا كان السكر والزنى ممنوعين لضررهما وقبحهما‪ ،‬فكذلك المخدرات التي تضر‬
‫العقل‪ ،‬وتفسد النفس والوجدان أو الضمير‪.‬‬

‫( ‪)7/442‬‬

‫ومن المعلوم أن الضرر الناجم عن تعاطي المسكرات والمخدرات متعدد الجوانب ففيها ضرر‬
‫بالشخص ذاته‪ ،‬وبأسرته وأولده‪ ،‬وبمجتمعه وأمته‪.‬‬
‫أما الضرر الشخصي‪ :‬فهو التأثير الفادح في الجسد والعقل معا‪ ،‬لما في المسكر والمخدر من تخريب‬
‫وتدمير الصحة والعصاب والعقل والفكر ومختلف أعضاء جهاز الهضم وغير ذلك من المضار‬
‫والمفاسد التي تفتك بالبدن كله‪ ،‬بل وبالعتبار الدبي والكرامة النسانية‪ ،‬حيث تهتز شخصية النسان‪،‬‬
‫ويصبح موضع الهزء والسخرية‪ ،‬وفريسة المراض المتعددة‪.‬‬
‫وأما الضرر العائلي‪ :‬فهو ما يلحق بالزوجة والولد من إساءات‪ ،‬فينقلب البيت جحيما ل يطاق من‬
‫جراء التوترات العصبية والهياج والسب والشتم وترداد عبارات الطلق والحرام‪ ،‬والتكسير والرباك‪،‬‬
‫وإهمال الزوجة والتقصير في النفاق على المنزل‪ ،‬وقد تؤدي المسكرات والمخدرات إلى إنجاب أولد‬
‫معاقين متخلفين عقليا‪ ،‬وقد شاهدت ذلك بنفسي في حالت كثيرة من أولد المدمنين‪.‬‬
‫وأما الضرر العام‪ :‬فهو واضح في إتلف أموال طائلة من غير مردود نفعي‪ ،‬وفي تعطيل المصالح‬
‫والعمال‪ ،‬والتقصير في أداء الواجبات‪ ،‬والخلل بالمانات العامة‪ ،‬سواء بمصالح الدولة أو‬
‫المؤسسات أو المعامل أو الفراد‪.‬‬
‫هذا فضلً عما يؤدي إليه السكر أو التخدير من ارتكاب الجرائم على الشخاص والموال‬
‫والعراض‪ ،‬بل إن ضررالمخدرات أشد من ضرر المسكرات؛ لن المخدرات تفسد القيم الخلقية‪.‬‬

‫( ‪)7/443‬‬
‫أنواع المخدرات وحكمها الشرعي ‪:‬‬
‫المخدرات والمسكرات أنواع متعددة‪ ،‬يتفنن الناس في تناولها بأسماء مختلفة‪ ،‬ويلجأ بعضهم إلى‬
‫تعاطي أشياء تحقق الهدف المقصود من تغطية العقل‪ ،‬وكلها تشترك في حكم واحد‪ ،‬وهو التحريم‬
‫بسبب ما فيها من الضرر المؤكد الحصول‪.‬‬
‫ومن أشهر أنواع المخدرات‪ :‬الحشيشة‪ ،‬والفيون‪ ،‬والكوكايين والمورفين والبنج (نبات سام يستعمل‬
‫في الطب للتخدير) وجوزة الطيب (ثمر شجرة) والبرش (مركب من الفيون والبنج) والقات (نبات‬
‫تمضغ أوراقه‪ ،‬قليله منبه منشط‪ ،‬وكثيره مخدر مثبّط‪ ،‬يورث الكسل والخمول‪ ،‬ويعطل العمال) وغير‬
‫حقَن أو المضغ أو التدخين أو غيرها‪ ،‬فيؤدي إلى تغييب العقل‪ ،‬وإضرار الصحة‪،‬‬
‫ذلك مما يؤخذ بال ُ‬
‫وإفساد الخلق‪ .‬والحكم الشرعي للمخدرات أنها حرام في غير حالة التداوي للضرورة أو الحاجة‪،‬‬
‫وفي غير حالة إصلح البهارات بإضافة بعضها إليها بالقدر القليل فقط مثل خلط شيء قليل من جوزة‬
‫الطيب مع البهارات أو المقبّلت‪ .‬وحرمتها كالمسكرات التي جاءت النصوص التشريعية في القرآن‬
‫والسنة النبوية بتحريمها تحريما قطعيا‪.‬‬
‫وأدلة تحريم تعاطي المخدرات كثيرة منها ما يلي‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬إن المخدرات تؤدي إلى أضرار جسيمة كثيرة كما تقدم‪ ،‬وقد يفوق ضررها ضرر المسكرات؛‬
‫لنها تفسد أخلق المجتمع وتضر المة في اقتصادها وأعمالها ضررا بليغا‪ ،‬وتفسد العقل‪ ،‬وتصد عن‬
‫ذكر ال وعن الصلة‪ ،‬ففيها ضرر عقلي وبدني وديني وأخلقي‪ ،‬وكل ما هو ضار في نتائجه أو ذاته‬
‫وعينه فهو حرام‪ ،‬والمضّرات من أشهر المحرمات‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬روى المام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أم سلمة رضي ال عنها قالت‪« :‬نهى‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر» ‪ .‬والمفتر‪ :‬كل ما يورث الفتور وارتخاء‬
‫العضاء وتخدير الطراف‪ .‬قال ابن حجر‪ :‬وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه‪،‬‬
‫فإنها تسكر وتخدّر وتفتر‪ .‬وفي حديث آخر عند أبي داود عن ابن عباس‪« :‬كل مخمّر وكل مسكر‬
‫حرام» والمخمّر‪ :‬ما يغطي العقل‪.‬‬

‫( ‪)7/444‬‬

‫ً‪ - 3‬حكى القرافي وابن تيمية الجماع على تحريم الحشيشة‪ ،‬قال ابن تيمية‪ :‬ومن استحلها فقد كفر‪،‬‬
‫وإنما لم تتكلم فيها الئمة الربعة رضي ال عنهم؛ لنها لم تكن في زمنهم‪ ،‬وإنما ظهرت في آخر‬
‫المئة السادسة‪ ،‬وأول المئة السابعة حين ظهرت دولة التتار‪.‬‬
‫ً‪ - 4‬قال ابن تيمية في فتاويه الكبرى‪ :‬كل ما يغيب العقل فإنه حرام‪ ،‬وإن لم تحصل به نشوة ول‬
‫طرب‪ ،‬فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين‪ ،‬أي إل لغرض معتبر شرعا‪.‬‬
‫وقال أيضا في كتابه السياسة الشرعية‪ :‬إن الحشيشة حرام‪ُ ،‬يحَ ّد متناولها كما يحد شارب الخمر‪ ،‬وهي‬
‫أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج‪ ،‬حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من الفساد‪ ،‬وأنها تصد عن ذكر ال وعن الصلة‪ ،‬وهي داخلة فيما حرّمه ال ورسوله من الخمر‬
‫والمسكر لفظا أو معنى‪.‬‬
‫وجاء أيضا في فتاوى ابن تيمية في مواضع متكررة‪« :‬هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها‪،‬‬
‫ومستحلوها‪ ،‬الموجبة لسخط ال تعالى‪ ،‬وسخط رسوله‪ ،‬وسخط عباده المؤمنين‪ ،‬المعرّضة صاحبها‬
‫لعقوبة ال ‪ ،‬تشتمل على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه‪ ،‬وتفسد المزجة حتى جعلت خلقا‬
‫كثيرا مجانين‪ ،‬وتورث من مهانة أكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما ل تورث الخمر‪ ،‬ففيها من المفاسد‬
‫ما ليس في الخمر‪ ،‬فهي بالتحريم أولى‪ .‬وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام‪.‬‬
‫ومن استحل ذلك وزعم أنه حلل‪ ،‬فإنه يُستتاب‪ ،‬فإن تاب وإل قتل مرتدا‪ ،‬ل يصلى عليه ول يدفن في‬
‫مقابر المسلمين‪.‬‬
‫وإن القليل منها حرام أيضا بالنصوص الدالة على تحريم الخمر وتحريم كل مسكر» ‪.‬‬

‫( ‪)7/445‬‬

‫وأيد ابن القيم أستاذه ابن تيمية في ذلك كله‪ ،‬وقال في زاد المعاد‪« :‬إن الخمر يدخل فيها كل مسكر‪:‬‬
‫مائعا كان أو جامدا‪ ،‬عصيرا أو مطبوخا‪ ،‬فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور ـ أي الحشيشة ـ لن هذا‬
‫كله خمر بنص رسول ال صلّى ال عليه وسلم الصحيح الصريح الذي ل مطعن في سنده ول إجمال‬
‫في متنه‪ ،‬إذ صح عنه قوله‪ :‬كل مسكر خمر» ‪ .‬وصح عن أصحابه رضي ال عنهم الذين هم أعلم‬
‫المة بخطابة ومراده‪ ،‬بأن الخمر ما خامر العقل‪.‬‬
‫على أنه لو لم يتناول لفظه صلّى ال عليه وسلم كل مسكر‪ ،‬لكان القياس الصحيح الصريح الذي‬
‫استوى فيه الصل والفرع من كل وجهة‪ ،‬حاكما بالتسوية بين أنواع المسكر‪ ،‬فالتفريق بين نوع ونوع‬
‫تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه» ‪.‬‬
‫وقال الصنعاني في سبل السلم‪« :‬إنه يحرم ما أسكر من أي شيء‪ ،‬وإن لم يكون مشروبا‪،‬‬
‫كالحشيشة» ‪ .‬وقال بعض علماء الحنفية‪« :‬إن من قال بحل الحشيشة زنديق مبتدع» ‪.‬‬
‫وقال الحافظ ابن حجر‪« :‬إن من قال‪ :‬إن الحشيشة ل تسكر‪ ،‬وإنما هي مخدر‪ :‬مكابرٌ‪ ،‬فإنها تحدث ما‬
‫تحدثه الخمر من الطرب والنشوة» ‪.‬‬
‫وذكر ابن البيطار أن قبائح خصالها كثيرة‪ ،‬وعدّ منها بعض العلماء مئة وعشرين مضرة دينية‬
‫ودنيوية‪ .‬وقال‪ :‬إن قبائح خصالها موجودة في الفيون‪ ،‬وفيه زيادة مضار‪.‬‬

‫( ‪)7/446‬‬

‫وأما القات فهو حرام‪ ،‬وإن زعم بعض أهل اليمن أنه ل يخدر وإنما هو منشط ومفتق للذاكرة‪ ،‬وهذا‬
‫مجرد وهم وهو غير صحيح؛ لن العبرة بالنتائج‪ ،‬ولقد أثبت الطباء ‪ ،‬وجاء في قرار اليونيسكو في‬
‫المم المتحدة أنه مخدر وضار‪ ،‬ومن أضراره الواضحة‪ :‬تخلّف اليمنيين‪ ،‬وتعطيل اقتصادهم‪،‬‬
‫وانشغالهم بشرائه‪ ،‬وتعاطيه من منتصف النهار إلى منتصف الليل‪ ،‬وإهدارهم المال الكثير في سبيل‬
‫الحصول عليه وبذل الجهود في زراعته على حساب المزروعات الخرى النافعة‪ .‬وذهب أبو بكر‬
‫المقري الشافعي إلى تحريم القات‪ ،‬وقال‪ :‬إني رأيت من أكلها الضرر في بدني وديني‪ ،‬فتركت أكلها‪،‬‬
‫فقد ذكر العلماء‪ :‬إن المضّرات من أشهر المحرمات‪ ،‬فمن ضررها أن آكلها يرتاح ويطرب وتطيب‬
‫نفسه ويذهب حزنه‪ ،‬ثم يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلق‪.‬‬
‫وكذلك حرمه الفقيه حمزة الناشري محتجا بحديث أم سلمة السابق‪ :‬أنه صلّى ال عليه وسلم «نهى عن‬
‫كل مسكر و ُمفْتِر» وهو الذي يجعل في الجسم فتورا‪ ،‬أي ضعفا وانكسارا‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن جميع المخدرات الحادثة من قرون بعد القرون الستة الولى حرام كالخمر‪ ،‬لمخامرتها‬
‫العقل وتغطيتها إياه‪ .‬وفيها مفاسد الخمر ومضاره‪ ،‬وتزيد عليها‪ ،‬فهي أكثر ضررا وأكبر فسادا من‬
‫الخمر؛ لنها تضر المة ضررا بليغا‪ ،‬أفرادا وجماعات‪ ،‬ماديا‪ ،‬وصحيا‪ ،‬وأدبيا‪ .‬ول شك بأن الشريعة‬
‫السلمية تحرّم المفاسد والمضار‪ ،‬وتجيز ما فيه مصالح حقيقية‪ ،‬خالصة أو راجحة‪ .‬وأما ما يزعمونه‬
‫من مصالح ومنافع فهي وهمية خادعة‪.‬‬
‫لذا اتفقت أنظمة العالم على منع المخدرات‪ ،‬ول نجد إجماعا دوليا على شيء‪ ،‬مثلما نجده في الجماع‬
‫على مقاومة كل وسائل تعاطي المخدرات وتهريبها‪ ،‬وإتلف الكميات المهربة‪ ،‬وعقاب المهربين‬
‫بالسجن وغيره‪.‬‬

‫( ‪)7/447‬‬

‫التجار بالمخدرات ‪:‬‬


‫إن التجار بالمخدرات بيعا وشراء وتهريبا وتسويقا أمر حرام كحرمة تناول المخدرات؛ لن الوسائل‬
‫في الشريعة تأخذ حكم المقاصد‪ ،‬ويجب سد الذرائع إلى المحرمات بمختلف المكانات والطاقات؛ لن‬
‫التاجر يسهّل رواج المخدرات وتعاطيها‪ ،‬فيكون الثمن حراما‪ ،‬والمال سُحْتا‪ ،‬والعمل ضللً‪ ،‬والتجار‬
‫بها إعانة على المعصية‪ ،‬والبيع باطل‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬وتعاونوا على البر والتقوى‪،‬ول تعاونوا على‬
‫الثم والعدوان} [المائدة‪.]2/5:‬‬
‫ويكون النهي عن بيع الخمر والحكم ببطلنه شاملً المخدرات؛ لما في ذلك من العانة على المعصية‪،‬‬
‫والتواطؤ على إفساد الناشئة والمة‪ ،‬وتدمير أخلقها وقيمها‪ ،‬وتخريب اقتصادها وإضعافها أمام‬
‫غيرها‪ .‬ويكون الربح التجاري المغري سببا واضحا في التآمر على وجود المة وضعضعة كيانها‬
‫وتحطيم جهود أبنائها‪ ،‬وخيانتها‪ ،‬والسهام في تخلفها وهزّ بنيتها‪.‬‬
‫زراعة الحشيش والخشخاش والقات وتصنيع الفيون والكوكايين والهروين ‪:‬‬
‫إن كل ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام‪ ،‬وكل ما يعين على المعصية ‪ ،‬فهو معصية‪ ،‬فتكون زراعة‬
‫الحشيش وغيرها واستخراج المواد المخدرة والعناية بها حفظا وتعليبا وتهريبا ونقلً من مكان إلى‬
‫آخر أمرا حراما في شرع ال ودينه‪ ،‬للسباب التالية‪:‬‬
‫‪ - 1‬إن زراعة ما يؤدي إلى الحرام يعد رضا صريحا من الزراع بتعاطي الناس له‪ ،‬واتجارهم فيه‪،‬‬
‫والرضا بالمنكر أو المعصية يعد منكرا وعصيانا‪.‬‬
‫‪ - 2‬تبين مما ذكر أن كل مافيه إعانة على المعصية يعد معصية ‪ ،‬كما أن الزراعة لوسائل المخدرات‬
‫معصية‪.‬‬

‫( ‪)7/448‬‬

‫‪ - 3‬روى أبو داود في سننه عن ابن عباس أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪ « :‬إن من حَبَس‬
‫العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا‪ ،‬فقد تقحم النار » ‪ .‬وهذا دليل صريح على حرمة‬
‫زراعة الحشيش والقات وكل ما يؤدي لستخراج عصارة الفيون والهروين والكوكايين وغير ذلك‪.‬‬
‫‪ - 4‬روى أصحاب السنن الربعة والمام أحمد عن ابن مسعود‪ :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم « لعَنَ‬
‫آكل الربا ومُؤكله وشاهديه وكاتبه » ‪ .‬ولفظ النسائي‪« :‬آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا‬
‫ذلك‪ ،‬ملعونون على لسان محمد صلّى ال عليه وسلم يوم القيامة» فهؤلء أربعة لعنوا في أكل الربا‪.‬‬
‫وروى أبو داود والحاكم عن ابن عمر‪ :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬لعن ال الخمر‪ ،‬وشاربها‪،‬‬
‫وساقيها‪ ،‬وبائعها‪ ،‬ومبتاعها‪ ،‬وعاصرها‪ ،‬ومعتصرها‪ ،‬وحاملها‪ ،‬والمحمولة إليه‪ ،‬وآكل ثمنها» فهؤلء‬
‫عشرة لعنوا في الخمر وتناولها‪.‬‬
‫والمتبادر إلى الذهن أل يكون ملعونا إل آكل الربا وشارب الخمر دون من ذكر معهما‪ ،‬ولكن الشرع‬
‫حرم فعل ثلثة آخرين في الربا‪ ،‬وتسعة آخرين في الخمر؛ لنهم كانوا سببا في المعصية‪ ،‬وعونا على‬
‫اقتراف الحرام‪ ،‬فيكون المتسبب والمعين أو المساعد‪ ،‬له حكم الفاعل تماما‪.‬‬
‫وبناء عليه يكون تاجر المخدرات والمهرب والناقل وكل من ساعد في تعاطيها آثما إثما عظيما‬
‫ومرتكبا حراما ومنكرا شديدا‪.‬‬

‫( ‪)7/449‬‬

‫ربح المخدرات ‪:‬‬


‫إن الرباح التي يستفيد منها التجار والمتعاملون في المخدرات كلها سحت وحرام‪ ،‬لما يأتي‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬قوله تعالى‪{ :‬ول تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة‪ ]188/2:‬وأكل المال بالباطل يتناول جرائم‬
‫السرقة والخيانة والظلم والغصب‪ ،‬والقمار‪ ،‬والعقود المحرمة من بيع وشراء ونحوهما من التجارات‪،‬‬
‫وكل الخدمات المبذولة في سبيل ارتكاب المعاصي والمنكرات وكل ما حرمه الشرع‪ ،‬وإن رضي به‬
‫المالك‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬الحديث النبوي وهو ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫قال‪« :‬إن ال إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» فكل ما حرم ال النتفاع به‪ ،‬حرم النتفاع بعوضه أو ثمنه‪،‬‬
‫بدليل ما رواه أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عباس‪ ،‬والحميدي عن أبي هريرة في بيع الخمر‪« :‬إن‬
‫الذي حرم شربها حرّم بيعها» ‪ .‬وروى مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري‪ :‬أن النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم قال‪« :‬إن ال حرم الخمر‪ ،‬فمن أدركته هذه الية ـ أي آية {إنما الخمر والميسر} [المائدة‪]90/5:‬‬
‫ـ وعنده منها شيء‪ ،‬فل يشرب ول يبيع‪ ،‬قال‪ :‬فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة‪،‬‬
‫فسفكوها» وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا‪« :‬إن ال حرّم الخمر وثمنها‪ ،‬وحرم الميتة وثمنها‪،‬‬
‫وحرم الخنزير وثمنه» ‪.‬‬
‫عقوبة متناول المخدرات ‪:‬‬
‫أوجب ابن تيمية ‪ -‬كما تقدم‪ -‬إقامة حد الخمر على من سكر من الحشيشة؛ لنها تشتهى وتطلب‪،‬‬
‫فالحكم عنده منوط باشتهاء النفس‪.‬‬
‫وذهب الشافعية إلى أن الفيون وغيره إذا أذيب واشتد وقذف بالزبد‪ ،‬فإنه يلحق بالخمر في النجاسة‬
‫وإقامة الحد‪ ،‬كالخبز إذا أذيب وصار كذلك‪ ،‬بل أولى‪.‬‬
‫واتفق الفقهاء على تعزير متناول المخدرات بدون عذر كما في حال التداوي والتعزير يكون بالتوبيخ‬
‫والضرب والحبس والتشهير والتغريم بالمال وغير ذلك مما يراه القاضي أو الحاكم زاجرا ورادعا‬
‫الناس عن اقتراف الجرائم والمنكرات‪.‬‬

‫( ‪)7/450‬‬

‫وأجاز فقهاء الحنفية والمالكية أن تكون عقوبة التعزير هي القتل‪ ،‬ويسمونه القتل سياسة‪ ،‬أي إذا رأى‬
‫الحاكم المصلحة في ذلك‪ ،‬وكان جنس الجريمة يوجب القتل‪ ،‬كما في حال التكرار أو إدمان المسكرات‬
‫والمخدرات‪ ،‬واعتياد الجرام أو اللواط أو القتل بالحجر أو العصا أو الخشب‪ .‬وهذا يصلح دليلً أو‬
‫مستندا لما أفتى به بعض المفتين المعاصرين من اقتراح مشروع قانون يقضي بعقوبة متعاطي‬
‫المخدرات بالعدام شنقا‪ .‬وفي ذلك توفير مؤيد أو رادع من قبل السلطة الحاكمة لكل من يتاجر‬
‫بالمخدرات أو يتعاطاها‪ ،‬أو يقوم بتهريبها‪.‬‬
‫وقد أصبحت عصابات التهريب وتجار المخدرات خطرا على الدول المختلفة‪ ،‬فل يجوز التهاون بشأن‬
‫إنزال أقسى العقوبات في حقهم‪ ،‬لحماية المجتمع من أضرار المخدرات ومفاسدها الجسيمة‪.‬‬
‫سكُ بها الدولة أمر واجب شرعا؛ لن الضار بذاته يجب‬
‫ول شك بأن إتلف المخدرات التي تُم ِ‬
‫التخلص منه بمختلف وسائل التلف‪ .‬والمصادرة‪ ،‬وعقاب المتعاملين فيها‪.‬‬
‫وإني أرى ضرورة وجود معاهدات دولية لمنع التجار بالمخدرات وتهريبها وعقاب تجارها‬
‫وسماسرتها ووسطائها‪ ،‬كما أرى ضرورة وجود قانون موحد في البلد العربية والسلمية ينص على‬
‫عقوبة شديدة لتجار المخدرات وكل من يتعاطاها أو يتناولها أو يقوم بنقلها بوسائط مختلفة في الحقائب‬
‫والطائرات والسيارات ووسائل النقل القديمة وغيرها‪.‬‬

‫( ‪)7/451‬‬

‫ملحق بالحدود ‪:‬‬


‫أولً ـ تداخل الحدود ‪:‬‬
‫إذا اجتمعت الحدود على شخص‪ ،‬فإما أن تكون حدودا خالصة ل تعالى‪ ،‬أو حدودا خالصة للدمي‪ ،‬أو‬
‫تجتمع حدود ال ‪ ،‬وحدود الدميين (‪. )1‬‬
‫فالقسم الول نوعان ‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون فيها قتل‪ :‬مثل أن يسرق ويزني وهو محصن‪ ،‬ويشرب الخمر‪ ،‬ويقتل في المحاربة‬
‫( قطع الطريق )‪ .‬اختلف العلماء فيها‪:‬‬
‫قال الحنفية والمالكية والحنابلة‪ :‬تتداخل الحدود فيقتل الشخص‪ ،‬ويسقط سائر الحدود‪ ،‬لقول ابن‬
‫مسعود‪« :‬إذا اجتمع حدان‪ :‬أحدهما القتل‪ ،‬أحاط القتل بذلك» ‪.‬‬
‫وقال إبراهيم النخعي‪ :‬يكفيه القتل‪ ،‬ولنها حدود خالصة ل تعالى‪ ،‬يراد بها الزجر‪ ،‬ومع القتل ل‬
‫حاجة إلى زجره‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬يستوفى جميعها؛ لن ما وجب مع غير القتل‪ ،‬وجب مع القتل‪ ،‬كقطع اليد قصاصا‪،‬‬
‫فهي حدود وجبت بأسباب‪ ،‬فلم تتداخل‪.‬‬
‫‪ - 2‬أل يكون فيها قتل‪ :‬كما لو سرق وزنى وشرب الخمر‪ ،‬فل تداخل‪ ،‬ويستوفى جميعها‪ ،‬من غير‬
‫خلف بين العلماء‪ .‬ويقدم عند الشافعية والحنابلة الخف فالخف‪ ،‬فيقدم حد الشرب أولً‪ ،‬ثم حد‬
‫الزنى‪ ،‬ثم قطع اليد للسرقة‪ ،‬ويتداخل القطع للسرقة مع القطع للمحاربة؛ لن محل القطعين واحد‪.‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬يقطع‪ ،‬ثم يجلد‪.‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬المام بالخيار في البداية‪ ،‬إن شاء بدأ بحد الزنى‪ ،‬وإن شاء بحد السرقة‪ ،‬ويؤخر حد‬
‫الشرب عنهما؛ لن حد الزنى وحد السرقة ثبتا بنص القرآن‪ ،‬وحد الشرب ثبت بالجتهاد‪ ،‬ول يجمع‬
‫ذلك كله في وقت واحد‪ ،‬بل يقام كل واحد منها بعد البرء من الول‪ ،‬لئل يؤدي الحد إلى الهلك‪.‬‬
‫وأما القسم الثاني‪ :‬وهو الحدود الخالصة للدمي‪ ،‬وهي القصاص وحد القذف (على رأي الجمهور)‪.‬‬
‫أما عند الحنفية‪ :‬فإن حد القذف يشتمل على حق ال وحق العبد‪ ،‬إل أن حق ال فيه غالب‪ ،‬كما عرفنا‪،‬‬
‫وحينئذ يكون عندهم من القسم الول‪ ،‬فيقدم في الستيفاء على غيره من الحدود؛ لن فيه حقا للعبد‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬كل حد يدخل في القتل كردة أو قصاص أو حرابة إل القذف‪ ،‬فل بد من استيفائه أولً‪،‬‬
‫ثم يقتل‪ .‬فلو اجتمع حد الزنى والشرب والسرقة‪ ،‬فإن هذه الحدود تسقط وتندرج في القتل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع التفصيل في البدائع‪ ،62/7 :‬فتح القدير‪ ،208/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،207/3 :‬حاشية الدسوقي‪:‬‬
‫‪ ،347/4‬المنتقى على الموطأ‪ ،145/3 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،362‬مغني المحتاج‪ ،184/4 :‬الميزان‬
‫للشعراني‪ ،169/2 :‬المهذب‪ ،288/2 :‬تكملة المجموع‪ ،351/18 :‬حاشية الشرقاوي‪،427/2 :‬‬
‫المغني‪.298/8 :‬‬

‫( ‪)7/452‬‬
‫وقال الحنابلة والشافعية‪ :‬يستوفى كل الحدود‪ ،‬ويبدأ بأخفها‪ ،‬فيحد للقذف‪ ،‬ثم يقطع‪ ،‬ثم يقتل؛ لنها‬
‫حقوق للدميين‪ ،‬أمكن استيفاؤها‪ ،‬فوجب كسائر حقوقهم‪ ،‬فإن ما دون القتل حق للدمي‪ ،‬فلم يسقط به‪.‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬يدخل ما دون القتل فيه‪ ،‬احتجاجا بقول ابن مسعود السابق ذكره‪ ،‬وقياسا على الحدود‬
‫الخالصة ل تعالى‪.‬‬
‫وأما القسم الثالث‪ :‬وهو أن يجتمع حدود ال ‪ ،‬وحدود الدميين‪ :‬وهذه ثلثة أنواع‪:‬‬
‫أحدها ـ أل يكون فيها قتل‪ :‬فقال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة‪ :‬تستوفى كلها إل أن المالكية‬
‫قالوا بتداخل حد الشرب وحد القذف؛ لن الغرض من العقوبتين واحد‪ ،‬وهو منع الفتراء‪.‬‬
‫ثانيها ـ أن يكون فيها قتل‪ :‬فقال الجمهور‪ :‬حدود ال تعالى تدخل في القتل‪ .‬وأما حقوق الدميين‪،‬‬
‫فتستوفى كلها‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬تستوفى الحدود جميعها؛ لنها حدود وجبت بأسباب‪ ،‬فلم تتداخل‪.‬‬
‫ثالثها ـ أن يتفق الحقان في محل واحد‪ ،‬فإن اجتمع حقان‪ :‬أحدهما ل ‪ ،‬والخر لدمي‪ ،‬كالقصاص‬
‫والرجم في الزنى‪ ،‬قدم القصاص عند العلماء‪ ،‬لتأكد حق الدمي‪ ،‬وبه يتحقق أيضا حق ال تعالى‪.‬‬
‫ثانيا ـ إسقاط الحدود بالتوبة ‪:‬‬
‫إذا تاب العصاة ما عدا المحاربين من شاربي الخمر والزناة والسراق‪ ،‬فل يسقط الحد عند الحنفية‬
‫والمالكية والشافعية في الظهر عندهم‪ ،‬وذلك سواء بعد رفع المر إلى الحاكم أو قبله؛ لن الرسول‬
‫صلّى ال عليه وسلم لم يسقط الحد عن ماعز‪ ،‬حينما جاءه‪ ،‬وأقر بالزنى‪ ،‬ول شك أنه لم يأت‪ ،‬إل وهو‬
‫تائب‪ ،‬ونحوه من الحدود‪ ،‬فإنه لم يرد نص في إسقاط الحد عن هؤلء‪.‬‬
‫واستثنى الكاساني في البدائع حد السرقة العادية‪ ،‬فإنه يسقط بتوبة السارق قبل أن يظفر الحاكم به‪،‬‬
‫وبشرط رد المال إلى صاحبه‪ .‬وقال ابن عابدين‪ :‬الظاهر أن التوبة ل تسقط الحد الثابت عند الحاكم‬
‫بعد الرفع إليه‪ .‬أما قبله فيسقط الحد بالتوبة حتى في قطاع الطرق‪ ،‬سواء أكان قبل جنايتهم أم بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/453‬‬

‫وقال أحمد في أظهر الروايتين عنه‪ :‬التوبة تسقط الحد عنهم من غير اشتراط مضي الزمان‪ ،‬لقوله‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬التائب من الذنب كمن ل ذنب له» (‪ )1‬وقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬التوبة‬
‫تجبّ ما قبلها» (‪ ، )2‬ولن في إسقاط الحد ترغيبا في التوبة‪ ،‬وذلك ما عدا حد القذف‪ ،‬فإنه ل يسقط‬
‫لنه حق آدمي‪ .‬وبه يظهر أنه ليس هناك إجماع ـ كما زعم بعضهم ـ على أن التوبة ل تسقط الحد‬
‫في الدنيا‪.‬‬
‫أما حد المحاربة‪ :‬فل خلف بين العلماء كما تقدم‪ :‬أن قطاع الطرق إن تابوا قبل القدرة عليهم‪ ،‬فتسقط‬
‫عنهم حدود ال تعالى‪ ،‬لقوله سبحانه في آية المحاربين‪{ :‬إل الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‪،‬‬
‫فاعلموا أن ال غفور رحيم} (‪[ )3:‬المائدة‪.]34/5:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه والطبراني في الكبير والبيهقي عن عبد ال بن مسعود‪ ،‬ورجال الطبراني رجال‬
‫الصحيح إل أن أبا عبيدة راوي الحديث عن أبيه عبد ال لم يسمع منه‪ ،‬ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي‬
‫مرفوعا أيضا من حديث ابن عباس‪ ،‬وزاد «والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه»‬
‫وقد روي بهذه الزيادة موقوفا ولعله أشبه‪ ،‬بل هو الراجح‪ ،‬كما قال المنذري‪ .‬وروى الطبراني عن‬
‫أبي سعيد الخدري أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬الندم توبة‪ ،‬والتائب من الذنب كمن ل‬
‫ذنب له» قال الهيثمي‪ :‬وفيه من لم أعرفهم (راجع الترغيب والترهيب‪،97/4 :‬المقاصد الحسنة‪ :‬ص‬
‫‪ ،152‬مجمع الزوائد‪.)200/10 :‬‬
‫(‪ )2‬المعروف أن التوبة تصح بالسلم‪ ،‬والسلم يجب ما قبله‪ ،‬وقد ذكر حديث «التوبة تجب ما‬
‫قبلها» في مغني المحتاج للخطيب‪ ،184/4 :‬وراجع مجمع الزوائد‪ 199/10 ،31/1 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫وذكره أيضا ابن قدامة في المغني‪ ،201/9 :‬كما ذكر حديثا آخر وهو «الندم توبة» رواه الطبراني في‬
‫الصغير عن أبي هريرة ورجاله وثقوا وفيهم خلف (مجمع الزوائد‪.)199/10 :‬‬
‫(‪ )3‬راجع البدائع‪ ،96/7 :‬فتح القدير‪ ،272/4 :‬رد المحتار‪ ،154/3 :‬الفروق للقرافي‪ ،181/4 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،184/4 :‬المهذب‪ ،285/2 :‬الميزان‪ ،169/2 :‬حاشية قليوبي وعميرة‪ ،201/4 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ 295/8‬وما بعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ 362 ،357‬وما بعدها‪ ،‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص‬
‫‪ ،67‬وانظر أعلم الموقعين‪ ،398/4 ،19/3 ،78/2 :‬وراجع إحياء علوم الدين للغزالي‪ 14/4 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬غاية المنتهى‪ 345/3 :‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/454‬‬

‫وقد رأى الشافعية أن الحدود إذا أقيمت في الدنيا‪ ،‬لم تقم في الخرة لحديث‪« :‬ال أعدل من أن يثني‬
‫على عبده العقوبة في الخرة» (‪ ، )1‬ولقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬الحدود كفارات لهلها» (‪. )2‬‬
‫ويسقط حد تارك الصلة وحد الردة بالتوبة الصادقة النصوح‪.‬‬
‫هل تقبل شهادة المحدود بالقذف إذا تاب؟‬
‫اختلف الحنفية والجمهور فيه‪ ،‬فقال الحنفية‪ :‬ل تقبل شهادة المحدود في القذف أبدا‪ ،‬وإن تاب وأصلح‪،‬‬
‫ومن هنا كانت التوبة عندهم بالنسبة إليه عملً قلبيا بين العبد وربه‪ ،‬ليس من الضروري اطلعنا‬
‫عليه؛ لنه ليس هناك حكم عملي يترتب على هذه التوبة‪.‬‬
‫وقال الجمهور‪ :‬إذا تاب المحدود في القذف قبلت شهادته‪ ،‬وتوبة القاذف‪ :‬إكذابه نفسه‪ .‬وفسره‬
‫الصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول‪ :‬كذبت فيما أقول‪ ،‬فل أعود إلى مثله‪ .‬وقال أبو إسحاق‬
‫المروزي من أصحاب الشافعي‪ :‬ل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي ال عنه عن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬من أصاب حدا فعجل عقوبته في الدنيا فال أعدل من أن يثني على عبده‬
‫العقوبة في الخرة‪ .‬ومن أصاب حدا فستره ال عليه وعفا عنه فال أكرم من أن يعود في شيء قد عفا‬
‫عنه» (راجع جامع الصول‪ ،349/4 :‬الجامع الصغير‪.)164/2 :‬‬
‫(‪ )2‬الحاديث في هذا المعنى كثيرة منها‪ :‬ما رواه الطبراني وأحمد بنحوه عن خزيمة بن ثابت أن‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬أيما عبد أصاب شيئا مما نهى عنه‪ ،‬ثم أقيم عليه حده‪ ،‬كفر عنه‬
‫ذلك الذنب» وفي رواية‪« :‬من أصاب ذنبا وأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته» وفيه راو لم يسم‪،‬‬
‫وبقية رجاله ثقات‪ .‬وروي بمعناه عن ابن عمر مرفوعا عند الطبراني‪ ،‬وفيه متروك‪ ،‬وقد جاء في‬
‫القسطلني شرح البخاري‪ :380/7 :‬إن الحدود كفارات‪ .‬وترجم المام النووي في شرحه لصحيح‬
‫مسلم بعنوان‪« :‬باب‪ :‬الحدود كفارات لهلها» ‪ ،224/12 :‬وذلك عند شرح حديث عبادة بن الصامت‬
‫التي ذكره في المبحث التالي (راجع مجمع الزوائد‪.)265/6 :‬‬

‫( ‪)7/455‬‬

‫يقول‪ :‬كذبت؛ لنه ربما يكون صادقا‪ ،‬فيكون قوله‪« :‬كذبت» كذبا‪ ،‬والكذب معصية‪ ،‬والتيان‬
‫بالمعصية ل يكون توبة عن معصية أخرى‪ ،‬بل يقول‪ :‬القذف باطل‪ ،‬وندمت على ما قلت ورجعت‬
‫عنه‪ ،‬ول أعود إليه‪.‬‬
‫والسبب في أن الشافعي شرط في توبة القاذف التلفظ باللسان‪ ،‬مع أن التوبة من عمل القلب‪ :‬أنه رتب‬
‫عليها حكما شرعيا‪ :‬وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب‪ ،‬فل بد من أن يعلم الحاكم بتوبته حتى يقبل‬
‫شهادته‪.‬‬
‫ومنشأ الخلف بين الحنفية والجمهور‪ :‬خلفهم في رجوع الستثناء الوارد في قوله تعالى‪{ :‬والذين‬
‫يرمون المحصنات‪ ،‬ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‪ ،‬فاجلدوهم ثمانين جلدة‪ ،‬ول تقبلوا لهم شهادة أبدا‪،‬‬
‫جمَل التي سبقت‪ ،‬فيرتفع‬
‫وأولئك هم الفاسقون‪ .‬إل الذين تابوا} [النور‪ ]5-4/24:‬هل يرجع إلى جميع ال ُ‬
‫رد الشهادة‪ ،‬كما ارتفع الفسق‪ ،‬أو يرجع إلى الجملة الخيرة وهي الفسق‪ .‬والخلف راجع إلى مسألة‬
‫أصولية مشهورة وهي‪ :‬هل الستثناء عقب الجمل المتعاطفة يعود للجميع أو يعود للجملة الخيرة؟‬

‫( ‪)7/456‬‬

‫قال الحنفية‪ :‬ل تقبل شهادة المحدود في القذف أبدا‪ ،‬لختصاص الستثناء بالجملة الخيرة؛ لنها جملة‬
‫مستأنفة بصيغة الخبار‪ ،‬منقطعة عما قبلها جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف ل‬
‫يصلح أن يكون سببا لهذه العقوبة‪.‬‬
‫ونوقش قولهم بأن العلة في هذه العقوبة هو فسقهم‪ ،‬والفسق علة في رد الشهادة‪ ،‬فإذا ارتفع الفسق‬
‫بالتوبة‪ ،‬فيلزم منه ارتفاع رد الشهادة الذي هو معلوله؛ لن الحكم يزول بزوال علته‪.‬‬
‫وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة‪ :‬تقبل شهادة المحدود في القذف بالتوبة؛ لن الستثناء‬
‫يرجع إلى الجمل الثلث المتعاطفة بالواو‪ ،‬فيرتفع رد الشهادة كما ارتفع الفسق بالتوبة‪ .‬لكن لم يسقط‬
‫الحد بالتوبة‪ ،‬للجماع على أنه ل يسقط بالتوبة‪ ،‬لما فيه من حق العبد أو الدمي‪ ،‬فل يسقط باستيفائه‪،‬‬
‫ل لخلل في اقتضاء صيغة الستثناء التي أعقبت الجمل السابقة أن تعم كل الجمل‪ ،‬فبقي الستثناء في‬
‫ظاهره عائدا إلى رد الشهادة والتفسيق‪ ،‬وهذا ما قرره الزمخشري‪ ،‬وهو رأي أكثر التابعين وفقهاء‬
‫المصار غير الحنفية (‪. )1‬‬
‫واختلف الفقهاء في وقت رد شهادة القاذف‪ ،‬فقال أبو حنيفة ومالك‪ :‬ل ترد شهادته إل بعد جلده‪ ،‬لن‬
‫الواو وإن لم تقتض الترتيب‪ ،‬لكن الظاهر من الترتيب في الذكر أنه على وفق الترتيب في الحكم‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬ل يتوقف رد الشهادة على حد القذف؛ لن ظاهر الية أنه متى قذف وعجز عن البينة‬
‫استحق العقوبات الثلث‪ :‬الحد‪ ،‬ورد الشهادة‪ ،‬والتفسيق‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تخريج الفروع على الصول‪ :‬ص ‪ 207‬وما بعدها‪ ،‬تفسير آيات الحكام بالزهر‪ 131/3 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬ط ‪ ،1953‬المحرر في الفقه الحنبلي‪ 251/2 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/457‬‬

‫هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟‬


‫إذا ثبت القتل وجب على القاتل إما القصاص‪ ،‬وإما الدية‪ .‬ول يسقط القصاص إل بعفو أولياء المقتول‬
‫على أن يأخذوا الدية أو بدون شيء‪ ،‬فل يسقط القصاص أو الدية إذن بالتوبة لتعلق الحق الشخصي به‬
‫لولياء الدم‪ .‬وبناء عليه ل تصح توبة القاتل حتى يسلّم نفسه للقود (القصاص) أو يؤدي الدية حين‬
‫العفو‪ ،‬أو حالة القتل الخطأ‪ .‬وتوبة القاتل ل تكون بالستغفار والندامة فقط‪ ،‬بل تتوقف على إرضاء‬
‫أولياء المقتول‪ ،‬فإن كان القتل عمدا ل بد من أن يمكنهم من القصاص منه‪ ،‬فإن شاؤوا قتلوه‪ ،‬وإن‬
‫شاؤوا عفوا عنه مجانا‪ ،‬فإن عفوا عنه كفته التوبة‪ .‬وبالعفو عنه يبرأ من العقوبة الدنيوية‪.‬‬
‫وهل يبرأ فيما بينه وبين ال تعالى؟‬
‫استظهر ابن عابدين أن الظلم المتقدم ل يسقط بالتوبة لتعلق حق المقتول به‪ ،‬فيخاصم القاتل يوم‬
‫القيامة‪ .‬وأما ظلم القاتل لنفسه بإقدامه على المعصية‪ ،‬فيسقط بالتوبة (‪. )1‬‬
‫وقال المام النووي وأكثر العلماء‪ :‬إن ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الخرة بالعقوبة عن‬
‫القاتل إذا تاب‪ .‬فقد دلت أحاديث نبوية على أنه ليطالب‪ ،‬من أشهرها الحديث المروي في الصحيحين‬
‫الذي ذكر فيه توبة القاتل مئة نفس في المم السابقة‪ ،‬وقبول ال توبته (‪. )2‬‬
‫إسقاط التعازير بالتوبة ‪:‬‬
‫بمناسبة بحث أثر التوبة في العقوبات المقدرة (الحدود والقصاص) يحسن الكلم عن أثر التوبة أيضا‬
‫على العقوبات غير المقدرة وهي التعازير‪.‬‬
‫يظهر مما ذكره الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة ضرورة التفرقة في التعزيرات بين حقوق ال‬
‫وحقوق الفراد (‪ )3‬؛ لن ضابط التعزير‪ :‬هو كل من ارتكب منكرا أو آذى غيره بغير حق بقول أو‬
‫فعل أو إشارة‪ .‬فقد يكون التعزير حقا ل ‪ ،‬أو حقا للنسان‪ ،‬أو يشترك فيه الحقان وأحدهما غالب على‬
‫الخر‪.‬‬
‫فإن كان التعزير حقا خالصا للنسان‪ ،‬أو الغالب فيه حقه كالشتم والسب‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رد المحتار‪.389/5 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو سعيد الخدري (راجع رياض الصالحين‪ :‬ص ‪ ،14‬كتاب التوابين لبن قدامة‪ :‬ص ‪،85‬‬
‫ط دمشق)‪.‬‬
‫(‪ )3‬رد المحتار‪ 204 ،198 ،190/3 :‬وما بعدها‪ ،‬و ‪ ،209‬نهاية المحتاج‪ ،175/7 :‬رسالة التعزير‬
‫للدكتور عبد العزيز عامر‪ :‬ص ‪.441-436 ،41‬‬

‫( ‪)7/458‬‬
‫والمواثبة والضرب بغير حق‪ ،‬والتزوير وشهادة الزور ونحوها مما يتوقف على الدعاء الشخصي‪،‬‬
‫فل يسقط بالتوبة‪ ،‬كما ل يسقط بعفو القاضي‪ ،‬إل أن يصفح المعتدى عليه‪.‬‬
‫وأما إن كان التعزير حقا ل تعالى كتعزير مفطر رمضان عمدا بدون عذر‪ ،‬وتارك الصلة‪ ،‬وآكل‬
‫الربا ظاهرا‪ ،‬ومن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق‪ ،‬أو كان حق ال فيه غالبا كمباشرة امرأة‬
‫أجنبية فيما دون الجماع‪ ،‬كتقبيل وعناق وخلوة بها ونحوها‪ ،‬فيسقط بالتوبة‪ ،‬كما يسقط بعفو القاضي‪.‬‬
‫وهذا التفصيل في الواقع هو رأي الحنفية والشافعية‪.‬‬
‫ولكن وردت عبارات لبعض الفقهاء يفهم منها بعمومها أن التعزير مطلقا يسقط بالتوبة باتفاق الفقهاء‪.‬‬
‫قال القرافي المالكي‪ :‬إن التعزير يسقط بالتوبة‪ ،‬ما علمت في ذلك خلفا (‪. )1‬‬
‫وقال صاحب البحر الزخار الزيدي‪ :‬يسقط التعزير بالتوبة‪ ،‬ويقرب أنه إجماع المسلمين الن‪ ،‬لكثرة‬
‫الساءات فيما بينهم‪ ،‬ولم يعلم أن أحدا طلب تعزير من اعتذر إليه واستغفر‪ ،‬ولمن أقر بأنه قارف‬
‫ذنبا خفيفا‪ ،‬ثم تاب منه‪ ،‬ولستلزامه تعزير أكثر الفضلء‪ ،‬إذ لم يخل أكثرهم عن مقارفة ذنب‪،‬‬
‫وظهوره في فعل أو قول (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الفروق‪.181/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البحر الزخار‪ ،‬ملخصا منه‪.211/5 :‬‬

‫( ‪)7/459‬‬

‫ولعل المراد من هذه العبارات‪ :‬التعزير الواجب حقا ل تعالى؛ لن الخلف بين التعزير والحد هو في‬
‫حقوق ال تعالى‪ .‬أما الحقوق الشخصية فل تسقط إل بمسامحة أو إسقاط أصحابها كما هو معروف‪،‬‬
‫فقد قرر الفقهاء أن حقوق الدميين ل تسقط بالتوبة ما لم ترد المظالم لصحابها‪ ،‬كما أنه ل يغفرها‬
‫الباري سبحانه إل بمغفرة صاحبها‪ ،‬ول يسقطها إل بإسقاطه (‪. )1‬‬
‫وسيأتي مزيد بيان لموضوع إسقاط العقوبات بالتوبة‪.‬‬
‫ثالثا ـ هل الحدود زواجر أو جوابر؟‬
‫إن المقصود من مشروعية الحدود والتعزيرات هو زجر الناس وردعهم عن ارتكاب المحظورات‬
‫وترك المأمورات‪ ،‬دفعا للفساد في الرض ومنعا من إلحاق الضرر بالفراد والمجتمعات (‪ . )2‬ولكن‬
‫الفقهاء اختلفوا في أمر آخر‪ :‬وهو أنه‪ ،‬هل تتكرر العقوبة على الجاني في الخرة ‪،‬مع أن العقوبة‬
‫استوفيت منه في الدنيا؟‬
‫قال الحنفية‪ :‬إن الحدود والتعزيرات شرعت فقط زجرا لرباب المعاصي من إفساد العلقات‬
‫الزوجية‪ ،‬وإضاعة النساب‪ ،‬وإتلف العراض والموال والعقول والنفوس‪ ،‬ول يحصل التطهر من‬
‫الذنب في الخرة إل بتوبة الجاني‪ .‬واستدلوا بعموم آيات العقاب التي تدل على أن المذنب يستحق‬
‫العقاب في النار‪ ،‬مثل قوله تعالى‪{ :‬ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} [النساء‪]93/4:‬‬
‫ومثل قوله سبحانه في قطاع الطرق بعد أن ذكر عقابهم المعروف‪{ :‬ذلك لهم خزيٌ في الدنيا‪ ،‬ولهم‬
‫في الخرة عذابٌ عظيمٌ } [المائدة‪ ]33/5:‬فقد أخبر‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أحكام القرآن لبن العربي‪ ،600/2 :‬تفسير القرطبي‪.200/18 :‬‬
‫(‪ )2‬راجع الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،213‬فتح القدير‪ ،112/4 :‬تبيين الحقائق للزيلعي‪:‬‬
‫‪.163/3‬‬

‫( ‪)7/460‬‬

‫ال تعالى أن لهم عقوبة دنيوية‪ ،‬وعقوبة أخروية إل من تاب‪ ،‬فإن التوبة تسقط عنه العقوبة الخروية‬
‫( ‪. )1‬‬
‫وقال أكثر العلماء‪ :‬إن العقوبات الشرعية فضلً عن أنها أصلً للزجر في الدنيا‪ ،‬تعتبر تبعا بالنسبة‬
‫للمسلم جوابر لسقوط عقوبتها في الخرة‪ ،‬إذا استوفيت في الدنيا‪ ،‬وفي الكافر زواجر‪ ،‬فإذا نفذت‬
‫العقوبة على المسلم في الدنيا‪ ،‬فذلك يقيه عذاب الخرة‪ ،‬فيكون الهدف منها مزدوجا‪ ،‬للحديث السابق‪:‬‬
‫«ال أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الخرة‪ »...‬وفي رواية له‪« :‬من أذنب فعوقب به في‬
‫الدنيا لم يعاقب به في الخرة‪ »...‬ولقوله عليه الصلة والسلم فيما رواه البخاري ومسلم في‬
‫صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي ال عنه قال‪« :‬كنا مع رسول ال صلّى ال عليه وسلم في‬
‫مجلس ‪ ،‬فقال‪ :‬تبايعوني على أل تشركوا بال شيئا‪ ،‬ول تزنوا‪ ،‬ول تسرقوا‪ ،‬ول تقتلوا النفس التي‬
‫حرم ال إل بالحق‪ ،‬فمن وفّى منكم فأجره على ال‪ ،‬ومن أصاب شيئآً من ذلك‪ ،‬فعوقب به فهو كفارة‬
‫له‪ ،‬ومن أصاب شيئا من ذلك‪ ،‬فستره ال عليه فأمره إلى ال ‪ :‬إن شاء عفا عنه‪ ،‬وإن شاء عذبه» (‪)2‬‬
‫‪.‬‬
‫قاعدة الزواجر والجوابر في الشريعة ‪:‬‬
‫قال العز بن عبد السلم والقرافي وصاحب تهذيب الفروق (‪ : )3‬الجوابر‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،‬والزيلعي‪ ،‬المرجعان السابقان‪ ،‬البحر الرائق‪ ،3/5 :‬الدر المختار وحاشية ابن عابدين‪:‬‬
‫‪ ،154/3‬أحكام القرآن للجصاص‪.412/2 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبادة بن الصامت (جامع الصول‪ ،161/1 :‬شرح‬
‫مسلم للنووي‪ 223/11 :‬وما بعدها‪ ،‬القسطلني شرح البخاري‪ ،380/7 :‬مغني المحتاج‪،359/3 :‬‬
‫‪ ،2/4‬حاشية البجيرمي على الخطيب الشربيني على المنهاج‪ ،‬باب الحدود‪ ،‬الم للشافعي‪ ،‬باب الحدود‪،‬‬
‫الشرح الكبير للدردير‪ ،136/4 :‬قواعد الحكام للعز بن عبد السلم‪ ،150/1 :‬غاية المنتهى‪:‬‬
‫‪.)315/3‬‬
‫(‪ )3‬قواعد الحكام‪ 150/1 :‬وما بعدها‪ ،‬الفروق‪ ،213/1 :‬تهذيب الفروق‪.211/1 :‬‬

‫( ‪)7/461‬‬

‫مشروعة لجلب مافات من المصالح‪ .‬والزواجر مشروعة لدرء المفاسد‪ .‬والغرض من الجوابر‪ :‬جبر‬
‫ما فات من مصالح حقوق ال ‪ ،‬وحقوق عباده‪ .‬ول يشترط أن يكون من وجب عليه الجبر آثما‪.‬‬
‫ويفرق بينهما من أربعة وجوه‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬إن الزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة‪ .‬والجوابر مشروعة لستدراك المصالح الفائتة‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬إن معظم الزواجر مقررة على العصاة‪ ،‬زجرا لهم عن المعصية‪ ،‬وزجرا لمن يقدم بعدهم على‬
‫المعصية‪ .‬وقد تكون مع عدم العصيان‪ ،‬كما في تأديب الصبيان والمجانين‪ ،‬فإنا نزجرهم ونؤدبهم‪ ،‬ل‬
‫لعصيانهم‪ ،‬بل لدرء مفاسدهم واستصلحهم‪ .‬وكقتال البغاة درءا لتفريق الكلمة‪ ،‬مع عدم التأثيم؛ لنهم‬
‫متأولون‪.‬‬
‫ومعظم الجوابر تقرر على من ل يكون آثما‪ ،‬بدليل أنه شرع الجبر في حالت الخطأ والعمد والجهل‬
‫والعلم والنسيان والتذكر‪ ،‬وعلى المجانين والصبيان‪ ،‬بخلف الزواجر‪ ،‬فإن معظمها ل يجب إل على‬
‫عاص زجرا له عن المعصية‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬إن معظم الزواجر إما حدود مقدرة‪ ،‬وإما تعزيرات غير مقدرة‪ ،‬فهي ليست فعلً للمزجورين‪،‬‬
‫بل يفعلها الئمة بهم‪ ،‬وإنما الجوابر فعل لمن خوطب بها‪.‬‬
‫وقد اختلف في بعض الكفارات‪ :‬هل هي زواجر‪ ،‬لما فيها من مشاق تحمل الموال وغيرها‪ ،‬أو هي‬
‫جوابر؛ لنها عبادات ل تصح إل بنيات‪ ،‬وليس التقرب إلى ال تعالى زجرا‪ ،‬بخلف الحدود‬
‫والتعزيرات‪ ،‬فإنها ليست قربات؛ لنها ليست فعلً للمزجورين كما علم‪ .‬والظاهر أنها جوابر؛ لنها‬
‫عبادات وقربات لتصح إل بالنية‪.‬‬
‫ً‪ - 4‬إن الجوابر تقع في النفوس والعضاء ومنافع العضاء والجراح والعبادات والموال والمنافع‪،‬‬
‫بخلف الزواجر‪ ،‬فإنها إنما تقع في الجنايات والمخالفات‪ ،‬ففي بداية المجتهد لبن رشد (‪ : )1‬الجنايات‬
‫التي لها حدود مشروعة خمس‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬جنايات على البدان أو النفوس والعضاء‪ ،‬وهو المسمى قتلً وجرحا‪.‬‬

‫( ‪)7/462‬‬

‫وثانيها‪ :‬جنايات على الفروج وهو المسمى زنا وسفاحا‪.‬‬


‫وثالثها‪ :‬جنايات على الموال‪ ،‬وهذه ما كان منها مأخوذا بحراب سمي حرابة إذا كان بغير تأويل‪،‬‬
‫وإن كان بتأويل سمي بغيا‪ .‬وما كان منها مأخوذا على وجه المغافصة (‪ )2‬من حرز يسمى سرقة‪.‬‬
‫وما كان منها مأخوذا بعلو مرتبة وقوة سلطان سمي غصبا‪.‬‬
‫ورابعها‪ :‬جناية على العراض‪ ،‬وهو المسمى قذفا‪.‬‬
‫وخامسها‪ :‬جنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول والمشروب‪ .‬وهذه إنما يوجد‬
‫فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط‪ ،‬وهو حد متفق عليه بعد صاحب الشرع صلوات ال وسلمه‬
‫عليه‪.‬‬
‫وأمثلة الجوابر فيما ذكر هي ما يأتي‪:‬‬
‫أما جوابر العبادات‪ :‬فمثل التيمم مع الوضوء‪ ،‬وسجود السهو للسنن‪ ،‬وجبر ما فات مصلي النوافل من‬
‫التجاه نحو القبلة بالتجاه جهة السفر أثناء الصلة‪ ،‬واتجاه الخائف في صلة الخوف جهة العدو إذا‬
‫ألجأته الضرورة إلى ذلك‪ ،‬وجبر الصوم بالفدية بمد من الطعام في حق الشيخ الكبير‪ ،‬وجبر ارتكاب‬
‫محظور من محظورات الحج والعمرة بالصيام‪ ،‬والطعام‪ ،‬وذبح شاة (وهو النسك)‪ .‬ويلحظ أن‬
‫الصلة ل تجبر إل بعمل بدني‪ .‬والموال ل تجبر إل بجابر مالي‪ ،‬والحج والعمرة يجبران تارة بعمل‬
‫بدني كالصيام‪ ،‬وتارة يجبران بجابر مالي كذبح النسك والطعام‪ ،‬والصوم تارة يجبر بمثله في حق من‬
‫مات وعليه صيام‪ ،‬وتارة يجبر بالمال كالفدية للشيخ الكبير‪.‬‬
‫وأما جوابر المال‪ :‬فالصل رد الحقوق بأعيانها عند المكان‪ ،‬فإذا ردها كاملة الوصاف برئ من‬
‫عهدتها‪ ،‬وإن ردها ناقصة الوصاف‪ ،‬جبر أوصافها بالقيمة؛ لن الوصاف ليست من الموال المثلية‪.‬‬
‫وأما المنافع فنوعان‪ :‬أحدهما ـ منفعة محرمة كمنافع الملهي والفروج المحرمة واللمس والمس‬
‫والتقبيل والضم المحرم‪ ،‬فل تجبر احتقارا لها‪ ،‬كما ل تجبر العيان النجسة لحقارتها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )2‬انظر حـ ‪.387/2‬‬
‫(‪ )2‬غافصه مغافصة‪ :‬فاجأه وأخذه على غرة منه‪.‬‬

‫( ‪)7/463‬‬

‫والثاني ـ أن تكون المنفعة مباحة متقومة‪ ،‬فتجبر في العقود الفاسدة والصحيحة وفي حالة التلف في‬
‫يد معتاد عليها كالغاصب؛ لن الشرع قد قومها ونزلها منزلة الموال‪ ،‬فل فرق بين جبرها بالعقود‬
‫كاليجارات‪ ،‬وجبرها بالتلف والتلف ومنع صاحبها عن النتفاع بها؛ لن المنافع هي الغرض‬
‫الظهر من جميع الموال‪ ،‬فمن غصب قرية أو دارا ضمن قيمة منفعتها طوال مدة الغصب‪ ،‬ول‬
‫تضمن منافع المغصوب عند الحنفية ‪ ،‬إل مال اليتيم ومال الوقف والموال المعدة للستغلل في رأي‬
‫المتأخرين من الحنفية‪.‬‬
‫وأما النفوس‪ ،‬والعضاء‪ ،‬ومنافع العضاء‪ ،‬والجراح‪ :‬فما رتبه الشارع عليها من ديات أو كفارات أو‬
‫حكومة عدل (تعويض الجروح بحسب تقدير القاضي) فجوابر‪ .‬وما رتبه الشارع عليها من قصاص‬
‫أو ضرب أو سجن أو تأديب فزواجر‪.‬‬
‫مبدأ الستر والشفاعة في الحدود‪ :‬يستحب الستر مطلقا على مرتكب المعصية الموجبة للحد قبل الرفع‬
‫إلى المام (‪ ، )1‬لحديث أبي هريرة عند الترمذي والحاكم‪« :‬ومن ستر على مسلم ستره ال في الدنيا‬
‫والخرة» وحديث ابن عباس مرفوعا عند ابن ماجه‪« :‬من ستر عورة أخيه المسلم‪ ،‬ستر ال عورته‬
‫يوم القيامة‪ ،‬ومن كشف عورة أخيه كشف ال عورته حتى يفضحه في بيته» وستأتي أدلة أخرى في‬
‫بحث الشهادة‪.‬‬
‫وتحرم الشفاعة وقبولها في حدود ال بعد أن تبلغ الحاكم (‪ ، )2‬أما قبل ذلك فإنه جائز؛ لقوله صلّى‬
‫ال عليه وسلم ‪« :‬من حالت شفاعته دون حد من حدود ال ‪ ،‬فهو مضادٌ ال في أمره» (‪ )3‬وقوله‬
‫صلّى ال عليه وسلم أيضا‪« :‬حد يعمل به في الرض خير لهل الرض من أن يُمطروا أربعين‬
‫صباحا» (‪ )4‬وقد أنكر النبي صلّى ال عليه وسلم على من شفع في حد ونهاه عن ذلك‪ ،‬قالت عائشة‪:‬‬
‫«كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده‪ ،‬فأمر النبي صلّى ال عليه وسلم بقطع يدها‪ ،‬فأتى‬
‫أهلها أسامة بن زيد‪ ،‬فكلّموه‪ ،‬فكلّم النبي صلّى ال عليه وسلم فيها‪ ،‬فقال له النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫‪ :‬يا أسامة ل أُراك تشفع في حد من حدود ال عز وجل‪ ،‬ثم قام النبي صلّى ال عليه وسلم خطيبا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه‪،‬‬
‫والذي نفسي بيده‪ ،‬لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها‪ ،‬فقطع يد المخزومية» (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نيل الوطار‪.136/7 :‬‬
‫(‪ )2‬غاية المنتهى‪.312/3 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر‪ ،‬وكذا أخرجه أيضا الحاكم وصححه‪ ،‬وأخرجه ابن أبي شيبة‬
‫عن ابن عمر من وجه آخر صحيح موقوفا عليه‪ ،‬وأخرج نحوه الطبراني في الوسط عن أبي هريرة‬
‫مرفوعا‪ ،‬وقال فيه‪« :‬فقد ضادّ ال في ملكه» (نيل الوطار‪.)107/7 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة (المرجع السابق)‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه أحمد ومسلم والنسائي عن عائشة (نيل الوطار‪.)131/7 :‬‬

‫( ‪)7/464‬‬

‫نظام التوبة وأثره في العقوبات‬


‫خطة البحث‬
‫المطلب الول ـ نظام التوبة ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬الباعث على التوبة‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تعريف التوبة‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬شروط التوبة‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬حكم التوبة شرعا‪.‬‬
‫أ ـ وجوب التوبة فورا‪.‬‬
‫ب ـ ما تجب التوبة عنه ووقت قبولها‪.‬‬
‫جـ ـ الوعد المضمون الحصول بقبول التوبة‪.‬‬
‫د ـ المشيئة اللهية وحرية الختيار في مغفرة الذنوب‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬التوبة والعقوبة‪.‬‬
‫أ ـ نوعا الجزاء أو العقوبة في السلم‪.‬‬
‫ب ـ الهدف من العقوبة‪.‬‬
‫جـ ـ الحاجة إلى العقوبة‪.‬‬
‫د ـ فلسفة التوبة أو هل تؤثر التوبة على المصلحة المقصودة من العقاب‪.‬‬
‫هـ ـ المعاصي التي يتاب منها‪ ،‬وكيفية التوبة عنها‪.‬‬
‫التقسيم الول ـ تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر‪.‬‬
‫التقسيم الثاني ـ تقسيم الذنب إلى ما يتعلق بحق ال أو بحق العباد ‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ أثر التوبة الصادقة في الجزاءات أو العقوبات الخروية ‪:‬‬
‫‪ - 1‬توبة الكافر‪.‬‬
‫‪ - 2‬توبة المنافق‪.‬‬
‫‪ - 3‬توبة الزنديق‪.‬‬
‫‪ -4‬توبة المبتدع‪.‬‬
‫المطلب الثالث ـ أثر التوبة في الجزاءات أو العقوبات الدنيوية ‪:‬‬
‫تمهيد في أنوع العقوبات‪.‬‬
‫أولً‪ :‬آراء الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة‪.‬‬
‫عقوبة الردة والبغي‬
‫عقوبة القذف‪.‬‬
‫الحقوق الشخصية للناس‪.‬‬
‫عقوبة الزنا والسرقة وشرب الخمر‪ .‬ثانيا‪ :‬هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬إسقاط التعازير بالتوبة‪.‬‬
‫خاتمة‪.‬‬

‫( ‪)7/465‬‬

‫المطلب الول ـ نظام التوبة ‪:‬‬


‫أولً‪ -‬الباعث على التوبة ‪:‬‬
‫النسان في أصل فطرته ـ وإن كان ميالً إلى الشر واقتراف الذنوب والمعاصي لكنه كثيرا ما يدرك‬
‫خطورة انحرافه وشذوذ سلوكه‪ ،‬فيبادر إلى تصحيح مسيرته إرضاء لشعوره الداخلي ‪،‬وإحساسا‬
‫بمرارة اللم والضيق الذي يعقب الفعل الجانح واستجابة لنداء الضمير وندما على التورط في‬
‫المعصية‪ ،‬وتأثرا بالوازع الديني الفطري المستقر في النفس النسانية‪ ،‬وطمعا في نيل العفو من ال‬
‫تعالى‪ ،‬وخوفا من عقاب السلطة الحاكمة في عالم الدنيا‪.‬‬
‫والتخلص من الخطيئة بالتوبة دليل على قوة الرادة وبعد النظر وسعة الفق العقلي‪ .‬وذلك بسبب قوة‬
‫تأثير المغريات والشهوات الباعثة على النحراف‪ ،‬لسيما إذا اعتادها النسان‪ ،‬والعادة طبيعة ثانية‪،‬‬
‫وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج عظيم‪ ،‬ولن النسان عادة يتعجل المور‪ ،‬وقلما ينتظر المؤجل‪،‬‬
‫إل بشيء من الناة والصبر والفهم والتخطيط‪ ،‬لذا لفت القرآن الكريم نظر الناس لطبائعهم‪ ،‬فقال‬
‫تعالى‪{ :‬كلّ بل تحبون العاجلة وتذرون الخرة} [القيامة‪{ ]21-20/75:‬بل تؤثرون الحياة الدنيا‬
‫والخرة خير وأبقى} [العلى‪.]17-87/16:‬‬

‫( ‪)7/466‬‬

‫ثانيا ‪ -‬تعريف التوبة ‪:‬‬


‫التوبة‪ :‬عبارة عن ندم يورث عزما وقصدا على عدم العود أو تكرار الخطيئة (‪ . )1‬وتتحقق بأن‬
‫يرجع الخاطئ عن الفعل القبيح شرعا وعقلً‪ ،‬أو عن الخلل بالواجب في الحال‪ ،‬ويندم على ما‬
‫مضى‪ ،‬ويعزم على تركه في المستقبل (‪ ، )2‬قال عليه الصلة والسلم‪« :‬الندم توبة» (‪. )3‬‬
‫والحقيقة أن التوبة لغة هي الرجوع‪ ،‬ول يلزم أن تكون عن ذنب‪ .‬وشرعا‪ :‬هي الرجوع عن التعويج‬
‫إلى سنن الطريق المستقيم (‪ . )4‬وأما الندم والعزم فهما من مقومات الرجوع الصحيح الذي يعد‬
‫إقلعا صادقا عن المعاصي‪ .‬ول بد من أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينيا أو‬
‫شخصيا أمرا ذاتيا بحتا مع القدرة والرادة‪ ،‬فلو رجع لسبب آخر من ضعف بدن أو غرامة مالية أو‬
‫تهديد بحبس أو إكراه من الدولة‪ ،‬لم تكن التوبة محققة نتائجها الدينية المرجوة‪ ،‬وأخصها تكفير الخطايا‬
‫في عالم الخرة‪ ،‬وإن حققت نتيجة مدنية تهتم السلطة بها أل وهو قمع الجرام وتوفير المن‬
‫والطمأنينة والستقرار‪.‬‬
‫ثالثا‪ -‬شروط التوبة ‪:‬‬
‫اشترط العلماء (‪ )5‬لصحة التوبة شروطا معينة تختلف بحسب كون المعصية بين النسان وبين ال‬
‫تعالى‪ ،‬أو تتعلق بحقوق الناس‪ .‬فإن كانت المعصية تمس أمرا بين النسان وربه‪ ،‬ول تتعلق بحق‬
‫شخصي لنسان آخر‪ ،‬أي في حقوق ال تعالى فلها ثلثة شروط‪:‬‬
‫أحدها ـ القلع عن المعصية في الحال‪.‬‬
‫ثانيها ـ الندم على المعصية والمخالفة‪.‬‬
‫ثالثها ـ العزم على أل يعود إلى مثل تلك المعصية أبدا في المستقبل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬إحياء علوم الدين للغزالي‪.30 ،3/4 :‬‬
‫(‪ )2‬روح المعاني لللوسي‪ 35/25 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود‪ .‬ورواه ابن حبان‬
‫والحاكم من حديث أنس وقال‪ :‬صحيح على شرط الشيخين‪.‬‬
‫(‪ )4‬القناع في حل ألفاظ أبي شجاع‪.131/2 :‬‬
‫(‪ )5‬الحياء للغزالي‪ 30/4 :‬وما بعدها‪ ،‬قواعد الحكام للعز بن عبد السلم‪ ،187/1 :‬رياض‬
‫الصالحين للنووي‪ :‬ص ‪ ،11‬تفسير القرطبي‪ ،91/5 :‬القناع في حل ألفاظ أبي شجاع‪.131/2 :‬‬

‫( ‪)7/467‬‬

‫فالتوبة ذات أركان ثلثة‪ :‬القلع‪ ،‬والندم‪ ،‬والعزم‪ ،‬فإن فقدت أحد هذه الركان الثلثة لم تصح التوبة‪.‬‬
‫إل أن من عجز عن العزم والقلع كتوبة العمى عن النظر إلى المحرم‪ ،‬وتوبة المجبوب عن الزنا‪،‬‬
‫فتوبته مجرد الندم‪ ،‬لن (الميسور ل يسقط بالمعسور)‪ :‬أي ل يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه‪ ،‬كما‬
‫ل يسقط ما قدر عليه من أركان الصلة مثلً بما عجز عنه‪ ،‬عملً بقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إذا‬
‫أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (‪ » )1‬أي إذا أمرتكم بمأمور تأتوا من ذلك المأمور ما استطعتموه‬
‫أو ما قدرتم عليه‪.‬‬
‫وإن كانت المعصية تتعلق بحق شخصي لنسان‪ ،‬فشروطها أربعة وهي الثلثة السابقة‪ ،‬ويضاف إليها‬
‫الخروج من المظالم بأن يبرأ العاصي من حق صاحبها‪ ،‬فإن كانت المعصية أخذ مال أو نحوه بدون‬
‫حق رده إليه‪ ،‬وإن كان الفعل قذفا ونحوه مكن المقذوف منه أو طلب عفوه‪ .‬وإن كان غيبة استحله‬
‫منها وطلب مسامحته عن طعنه فيه في غيبته‪.‬‬
‫وأكمل أنواع التوبة ما حدده علي بن أبي طالب رضي ال عنه‪ ،‬وذلك فيما روى جابر أن أعرابيا‬
‫دخل مسجد رسول ال صلّى ال عليه وسلم وقال‪ :‬اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك‪ ،‬وكبر‪ ،‬فلما فرغ‬
‫من صلته قال له علي كرم ال وجهه‪ :‬إن سرعة اللسان بالستغفار توبة الكذابين‪ ،‬وتوبتك تحتاج إلى‬
‫التوبة‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬ما التوبة؟ قال ‪ « :‬اسم يقع على ستة معان‪ :‬على الماضي من الذنوب‬
‫الندامة‪ ،‬ولتضيع الفرائض العادة‪ ،‬ورد المظالم‪ ،‬وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعاصي‪،‬‬
‫وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلوة المعصية‪ ،‬والبكاء‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نص الحديث‪« :‬ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري‬
‫ومسلم عن أبي هريرة‪.‬‬
‫( ‪)7/468‬‬

‫بدل كل ضحك ضحكته » (‪. )1‬‬


‫والتوبة المستوفية كامل شرائطها هي التوبة النصوح المشار إليها في قوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا‬
‫توبوا إلى ال توبة نصوحا} [التحريم‪{ . ]8/66:‬وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى}‬
‫[طه‪. ]82/20:‬‬
‫واختلف العلماء في تحديد هذه التوبة النصوح على ثلثة وعشرين قولً مجرد اختلف ظاهري في‬
‫العبارة‪ ،‬من هذه القوال ما قال القرطبي‪ :‬التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء‪ :‬الستغفار باللسان‪،‬‬
‫والقلع بالبدان‪ ،‬وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيء الخلّن (‪. )2‬‬
‫رابعا ‪ -‬حكم التوبة شرعا‪:‬‬
‫‪ )1‬ـ وجوب التوبة فوراً ‪:‬‬
‫اتفقت مصادر الشريعة في القرآن والسنة وإجماع المة على وجوب المبادرة إلى التوبة فور وقوع‬
‫الخطيئة ‪ ،‬فمن أخرها زمانا صار عاصيا بتأخيرها (‪ )3‬وذلك حتى يتحقق المقصود الكمل منها‬
‫بالتخلص من الوزار‪ ،‬والظفر بمغفرة ال تعالى في الخرة ‪ ،‬والرضا عن النسان في الدنيا‪،‬‬
‫ولتطهير المجتمع من الجرائم‪ ،‬ومنع السترسال في النحراف كيل تتجدد ظروف العود أو التكرار‬
‫مرة أخرى في المستقبل‪ ،‬وغير ذلك من وجوه المصلحة المترتبة على التوبة التي يمكن فهمها من‬
‫الحث المتكرر عليها في القرآن والحاديث النبوية‪:‬‬
‫فمن آيات القرآن الكريم قوله تعالى‪{ :‬وتوبوا إلى ال جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور‪:‬‬
‫‪{ ]31/24‬وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا} [هود‪{ ]3/11:‬يا أيها الذين آمنوا توبوا‬
‫إلى ال توبة نصوحا} [التحريم‪{ ]8/66:‬إنما التوبة على ال للذين يعملون السوء بجهالة‪ ،‬ثم يتوبون من‬
‫قريب } [النساء‪{ ]17/4:‬فإن يتوبوا يك خيرا لهم} [التوبة‪{ ]74/9:‬ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه‪ ،‬ثم‬
‫يستغفر ال ‪ ،‬يجد ال غفورا رحيما} [النساء‪.]110/4:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تفسير اللوسي‪.36/25 :‬‬
‫(‪ )2‬انظر تفسير القرطبي‪.198/18 :‬‬
‫(‪ )3‬قواعد الحكام‪ ،188/1 :‬رياض الصالحين‪ :‬ص ‪ ،12‬وتفسير القرطبي‪.197/18 :‬‬

‫( ‪)7/469‬‬
‫ومن الحاديث النبوية المؤكدة للقرآن أو المبينة الموضحة لبعض أحكامه قوله صلّى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫«وال إني لستغفر ال وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (‪« )1‬يا أيها الناس توبوا إلى ال ‪،‬‬
‫واستغفروه فإني أتوب في اليوم مئة مرة» (‪ )2‬وقد استنبط العلماء من هذين الحديثين أنه يستحب‬
‫للتائب إذا ذكر ذنبه الذي تاب منه أن يجدد الندم على فعله‪ ،‬والعزم على ترك العود إلى مثله‪ ،‬بل ول‬
‫يلزم أن تكون التوبة عن ذنب كما ذكرت سابقا‪ ،‬فل يعني الحديثان إذن أن النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫يذنب في كل يوم سبعين مرة أو مئة مرة‪ ،‬بل معناه تجديد التوبة وتكريرها عن ذنب واحد صغير (‪)3‬‬
‫القناع في حل ألفاظ أبي شجاع للخطيب الشربيني‪ .131/2 :‬واستعظام التقصير أو التفريط‪ ،‬أو‬
‫ارتكاب أي خطيئة مهما صغرت‪ ،‬تشريعا وتعليما للمة وإرشادا للناس وفتحا لباب التوبة للمة‪ ،‬كل‬
‫على قدر منزلته‪ ،‬وعلو رتبته‪ ،‬ومدى مسؤوليته العامة أو الخاصة‪ .‬أما النبي صلّى ال عليه وسلم فقد‬
‫تاب ال عليه من أي شيء‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم عن الغر بن يسار المزني‪.‬‬
‫(‪ )3‬قواعد الحكام‪ 287/1 :‬وما بعدها‪،‬‬

‫( ‪)7/470‬‬

‫ومن الحاديث المرغبة في التوبة أيضا‪« :‬ل أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره‪ ،‬وقد أضله‬
‫في أرض فلة» (‪. )1‬‬
‫‪ )2‬ـ ما تجب التوبة عنه ووقت قبولها ‪:‬‬
‫تجب التوبة من جميع الذنوب أو المعاصي‪ ،‬فإن تاب المرء من بعضها صحت توبته عند أهل السنة‬
‫من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي (‪. )2‬‬
‫والمقصود بالذنب‪ :‬كل ما هو مخالف لمر ال تعالى في ترك أو فعل (‪ . )3‬ومما يدل على جواز‬
‫التوبة عن أي مخالفة لحكام السلم قوله تعالى‪{ :‬إنما التوبة على ال للذين يعملون السوء بجهالة‪}...‬‬
‫[النساء‪ ]17/4:‬فإنه يعم الكفر وسائر المعاصي‪ ،‬فكل من عصى ربه‪ ،‬فهو جاهل حتى ينزع أو يقلع‬
‫عن معصيته‪ ،‬قال قتادة‪ :‬أجمع أصحاب النبي صلّى ال عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة‬
‫عمدا كانت أو جهلً (‪. )4‬‬
‫وإيجاب التوبة على الفور هو الصل المبدئي العام‪ ،‬ومع ذلك يمكن قبول التوبة طوال حياة النسان‬
‫تفضلً من ال ورحمة‪،‬وتيسيرا وسماحة‪ ،‬وفتحا لباب‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رياض الصالحين‪ :‬ص ‪ ،12‬تفسير القرطبي‪90/5 :‬‬
‫(‪ )3‬الحياء‪14/4 :‬‬
‫(‪ )4‬تفسير القرطبي‪.92/5 :‬‬

‫( ‪)7/471‬‬

‫المل‪ .‬وإبعادا لليأس والقنوط عن النفس‪ ،‬إذ « كل ابن آدم خطاء‪ ،‬وخير الخطائين التوابون» (‪. )1‬‬
‫ويرشد لذلك قول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إن ال يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (‪ )2‬أي ما لم‬
‫تبلغ روحه الحلقوم‪ .‬وفسر عكرمة قوله تعالى‪{ :‬ثم يتوبون من قريب} [النساء‪ ]17/4:‬بأن الدنيا كلها‬
‫قريب‪ .‬وقال الضحاك‪ :‬كل ما كان قبل الموت فهو قريب (‪ )3‬وفي حديث آخر‪« :‬ما من عبد مؤمن‬
‫يتوب قبل الموت بشهر إل قبل ال منه أدنى من ذلك‪ ،‬وقبل موته بيوم وساعة‪ ،‬ويعلم ال منه التوبة‬
‫والخلص إليه‪ ،‬إل قبل منه» (‪. )4‬‬
‫قال العلماء‪ :‬إنما صحت التوبة قبل الموت ولو بيوم‪ ،‬لن الرجاء بإصلح النسان باق‪ ،‬ويصح منه‬
‫الندم والعزم على ترك الفعل القبيح (‪ . )5‬أما من صار في حال اليأس من الحياة‪ ،‬كفرعون الذي آمن‬
‫حينما صار في غمرة الماء والغرق‪ ،‬فل تنفعه التوبة‪ ،‬أو إظهار اليمان في ذلك الوقت؛ لنها حال‬
‫زوال التكليف الشرعي‪ ،‬قال ال تعالى عن قصة فرعون‪{ :‬وجاوزنا ببني إسرائيل البحر‪ ،‬فأتبعهم‬
‫فرعون وجنوده بغيا وعدْوا‪ ،‬حتى إذا أدركه الغرق‪ ،‬قال‪ :‬آمنت أنه ل إله إل الذي آمنت به بنو‬
‫إسرائيل وأنا من المسلمين‪،‬آلن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس‪ .]91-90/10:‬ويؤكد‬
‫ذلك آية أخرى في موضوعها وهي‪{ :‬وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم‬
‫الموت‪ ،‬قال‪ :‬إني تبت الن‪ ،‬ول الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} [النساء‪.]18/4:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أنس بن مالك‪ ،‬وقال الحاكم‪ :‬صحيح السناد‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث عبد ال بن عمر رضي ال عنهما‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن كثير‪ ،463/1 :‬تفسير القرطبي‪ ،92/5 :‬تفسير الكشاف‪.386/1 :‬‬
‫(‪ )4‬ذكره الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد ال بن عمر‪.‬‬
‫(‪ )5‬تفسير القرطبي‪.92/5 :‬‬

‫( ‪)7/472‬‬

‫دلت اليتان على عدم قبول التوبة حال اليأس من الحياة‪ ،‬وهو رأي ابن عباس وابن زيد وجمهور‬
‫المفسرين (‪ ، )1‬لكن قال جماعة من الحنفية‪ :‬توبة اليأس مقبولة دون إيمان اليأس؛ لقوله تعالى‪:‬‬
‫{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [الشورى‪. )2( ]25/42:‬‬
‫وقال الشيخ محمد عبده‪ :‬المراد بالزمن القريب‪ :‬الوقت الذي تسكن فيه ثورة الشهوة النفسية‪ ،‬أو تنكسر‬
‫به سورة الغضب‪ ،‬ويثوب إلى فاعل السيئة حلمه‪ ،‬ويرجع إليه دينه وعقله‪ .‬فالظاهر من آية { من‬
‫قريب } [النساء‪ ]17/4:‬أنها بينت الوقت الذي تقبل فيه التوبة من كل مذنب حتما‪ .‬وأما الية التالية‬
‫لها‪{ :‬وليست التوبة} [النساء‪ ]18/4:‬فإنها بينت الوقت الذي ل تقبل فيه توبة مذنب قط‪ ،‬وما بين‬
‫الوقتين مسكوت عنه‪ ،‬وهو محل الرجاء والخوف‪ ،‬فكلما قرب وقت التوبة من وقت اقتراف الذنب‪،‬‬
‫كان الرجاء أقوى‪ ،‬وكلما بعد الوقت بالصرار وعدم المبالة والتسويف كان الخوف من عدم القبول‬
‫هو الرجح (‪. )3‬‬
‫‪ )3‬ـ الوعد المضمون الحصول بقبول التوبة ‪:‬‬
‫وعد ال سبحانه وتعالى المغفرة لمن اجتنب الذنوب الكبائر‪ ،‬فقال‪{ :‬إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه‬
‫نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء‪ ]31/4:‬أي إذا اجتنبتم كبائر الثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر‬
‫الذنوب‪ ،‬وأدخلناكم الجنة‪ ،‬جزاء على المتناع عن الكبائر‪ ،‬والصبر عنها‪ ،‬والحث على الدوام أوالبقاء‬
‫على طريق الستقامة‪ .‬فهذا إخبار من ال سبحانه‪ ،‬وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن‬
‫العاصين من عباده‪ .‬ومثله قوله تعالى‪{ :‬ألم يعلموا أن ال هو يقبل التوبة عن عباده } [التوبة‪]104/9:‬‬
‫وقوله {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } [طه‪.]82/20:‬‬
‫قال القرطبي‪ :‬فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الشياء‪.‬‬
‫والعقيدة‪ :‬أنه ل يجب عليه شيء عقلً‪ ،‬فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب‪ ،‬والخلصة‪ :‬إن اليات‬
‫تتضمن وعدا من ال ‪ ،‬ول خُلْف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها‪ ،‬وهي‬
‫الربعة السابق ذكرها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي‪.93/5 :‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار‪.317/3 :‬‬
‫(‪ )3‬تفسير المنار‪ 440/4 :‬وما بعدها‪448 ،‬‬

‫( ‪)7/473‬‬

‫وأما العقل فل يوجب قبول التوبة على ال خلفا للمعتزلة‪ ،‬لن من شرط الموجب أن يكون أعلى‬
‫رتبة من الموجب عليه‪ ،‬والحق سبحانه خالق الخلق‪ ،‬ومالكهم والمكلف لهم‪ ،‬فل يصح أن يوصف‬
‫بوجوب شيء عليه‪ ،‬تعالى عن ذلك (‪. )1‬‬
‫‪ )4‬ـ المشيئة اللهية وحرية الختيار في مغفرة الذنوب ‪:‬‬
‫قد يعفو ال عن السيئات صغيرها وكبيرها من غير اشتراط شيء كالتوبة من الكبائر واجتناب‬
‫الصغائر‪ .‬لقوله تعالى‪{ :‬وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون }‬
‫[الشورى‪.]25/42:‬‬
‫أي يقبل ال التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي مطلقا‪،‬سواء الصغائر والكبائر لمن‬
‫يشاء (‪ )2‬ومشيئة ال ‪ :‬موافقة لحكمته‪ ،‬وجارية على مقتضى سننه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي‪ 90/5 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير اللوسي‪ ،36/25 :‬تفسير القرطبي‪.90/5 :‬‬

‫( ‪)7/474‬‬

‫وجاءت آية أخرى تستثني الشرك بال مما يغفره ال تعالى ويراد بالشرك مطلق الكفر الشامل لكفر‬
‫اليهود وغيرهم‪ .‬وذلك لنه تتولد منه سائر الرذائل التي تهدم الفراد والجماعات ‪ ،‬قال عز وجل‪{ :‬إن‬
‫ال ل يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء‪ . ]48/4:‬أي إن مغفرة المعاصي ل‬
‫لكل الناس‪ ،‬ولكن لمن يشاء ال من عباده الموفقين لليمان والتوبة والعمل الصالح (‪ { . )1‬إن‬
‫الحسنات يذهبن السيئات } [هود‪{ . ]114/11:‬قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من‬
‫رحمة ال‪ ،‬إن ال يغفر الذنوب جميعا } [الزمر‪.]53/39:‬‬
‫أي إن رأي جماعة من العلماء تقييد المغفرة في هذه اليات بشرط التوبة‪ ،‬حتى ل يفهم من القرآن‬
‫الغراء بالمعصية والتجرئة عليها‪ .‬والحقيقة أن الية فوق ذلك‪ ،‬فهي تقارن بين الشرك وغيره‪،‬‬
‫فالشرك معاقب عليه حتما لفساده النفوس البشرية‪ ،‬وأما ما عداه فمغفرته ممكنة بحسب المشيئة‬
‫اللهية‪ ،‬لنه ل يصل إلى درجة الشرك في إفساد النفس (‪. )2‬‬
‫والكلمة الخيرة في قضية تكفير السيئات وعدم المؤاخذة عليها في الخرة هي أنها تتعلق بمقاصد‬
‫النفس وقوة اليمان وسلطانه في القلب‪ .‬وهذا رأي الغزالي (‪ )3‬وتبعه الستاذ المام محمد عبده (‪، )4‬‬
‫فمن صح إيمانه واتجه قصده وإرادته إلى كف النفس عن المعاصي استحق المغفرة والرضوان‪.‬‬
‫وأما الضرار بحقوق الناس المالية والدبية فهو يعتبر كالشرك بال ل يقبل المغفرة ما لم يسقط‬
‫صاحبه حقه الشخصي‪ ،‬قال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬الدواوين عند ال ثلثة‪ :‬ديوان ل يعبأ ال‬
‫به شيئا‪ ،‬وديوان ل يترك ال منه شيئا‪ ،‬وديوان ل يغفره ال‪ ،‬فأما الديوان الذي ل يغفره ال فالشرك‬
‫بال ‪ ،‬قال ال عز وجل‪{ :‬إن ال ل يغفر أن يشرك به} [النساء‪ ]48/4:‬وقال‪{ :‬إنه من يشرك بال فقد‬
‫حرم ال عليه الجنة} [المائدة‪ ]72/5:‬وأما الديوان الذي ل يعبأ ال به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه‬
‫وبين ال من صوم تركه‪ ،‬أوصلة‪ ،‬فإن ال ل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء‪ .‬وأما الديوان الذي ل يترك‬
‫ال منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا‪ ،‬القصاص ل محالة» (‪. )1‬‬

‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير‪ ،511-508/1 :‬تفسير الكشاف‪.424/1 :‬‬
‫(‪ )2‬تفسير المنار‪ ،150/5 :‬تفسير اللوسي‪.52/5 :‬‬
‫(‪ )3‬الحياء‪.20-14/4 :‬‬
‫(‪ )4‬تفسير المنار‪.51/5 :‬‬

‫( ‪)7/475‬‬

‫خامسا ً ‪ -‬التوبة والعقوبة ‪:‬‬


‫‪ )1‬ـ نوعا الجزاء أو العقوبة في السلم ‪:‬‬
‫من المعلوم أن الشريعة السلمية تقرر نوعين من العقاب على الجرائم‪ :‬وهما عقاب دنيوي وعقاب‬
‫أخروى‪ .‬فالعقاب الدنيوي‪ :‬هو الذي تطبقه السلطة الزمنية الحاكمة في الدنيا‪ .‬والعقاب الخروي‪ :‬هو‬
‫الذي يوقعه ال تعالى على العاصي في عالم الخرة كالتعذيب في النار ونحوه ‪.‬‬
‫والجنايات الموجبة للعقوبة الدنيوية المحددة هي ‪ -‬كما تقدم ‪ -‬ثلث عشرة‪ :‬وهي القتل‪ ،‬والجرح‪،‬‬
‫والزنى‪ ،‬والقذف‪ ،‬وشرب الخمر‪ ،‬والسرقة‪ ،‬والبغي‪ ،‬والحرابة (قطع الطريق)‪ ،‬والردة‪ ،‬والزندقة‪،‬‬
‫وسب ال وسب النبياء والملئكة‪ ،‬وعمل السحر‪ ،‬وترك الصلة والصيام (‪. )2‬‬
‫والسبب في تنوع العقاب في السلم هو الحماية الفعلية للنظمة والخلق والفضائل وقمع الرذائل‬
‫والقضاء عليها‪ .‬فمن أفلت من عقاب الحاكم الزمني غفلة منه‪ ،‬أو تحايلً عليه أو لعدم توافر وسائل‬
‫الثبات المطلوبة‪ ،‬أو لم يكن لجريمته عقاب مقرر في القوانين المطبقة كالكذب وخلف الوعد والحقد‬
‫والحسد والغيبة والنميمة ونحوها‪ ،‬عوقب على مخالفاته في عالم الخرة بين يدي أحكم الحاكمين الذي‬
‫ل تخفى عليه خافية في الرض ول في السماء‪.‬‬
‫كما أن الجزاء الخروي يمتاز بمكافأة الصالحين على فعل الخير تشجيعا للفضيلة وحثا على الستقامة‬
‫وصلح العمال في الدنيا‪ .‬والتوبة النصوح قد تساعد على تطبيق العقوبة في الدنيا بالقرار بالجريمة‬
‫أمام القاضي‪ ،‬وقد تسقط الجزاء الخروي فتساهم في إصلح المجرم‪ ،‬وإنقاذه من الزلت والخطاء‬
‫التي ارتكبها‪ ،‬وتجعله في عداد الصالحين‪ ،‬فيتحقق تلقائيا أو بصفة ذاتية الهدف الجوهري من تشريع‬
‫العقوبات الزاجرة‪.‬‬
‫‪ )2‬ـ الهدف من العقوبة ‪:‬‬
‫يلتقي الفقه السلمي كأساس عام مع أفضل المبادئ والنظم التي توصلت إليها المدرستان التقليدية‬
‫والوضعية لتحديد أساس حق العقاب ووظائف العقوبة قانونا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه المام أحمد والطبراني والحاكم وصححه من حديث عائشة‪.‬‬
‫(‪ )2‬القوانين الفقهية لبن جزي‪ :‬ص ‪.344‬‬

‫( ‪)7/476‬‬

‫ففي مواجهة المدرسة التقليدية التي تقيم حق العقاب على أساس منفعة الصالح الجتماعي عن طريق‬
‫المنع أو الوقاية في المستقبل‪ ،‬نرى فقهاءنا يقررون أن أساس أو مناط العقوبات المقررة شرعا هو‬
‫مصلحة الناس العامة وسعادتهم (‪، )1‬فكل ما يحقق مصالح البشرية فهو مشروع مطلوب؛ لن‬
‫المقصود الصلي من مشروعية الحدود والتعزيرات هوزجر الناس وردعهم عن ارتكاب المحظورات‬
‫وترك المأمورات دفعا للفساد في الرض‪ ،‬ومنعا من إلحاق الضرر بالفراد والمجتمعات (‪ . )2‬قال‬
‫ابن عابدين‪ :‬إن مدار الشريعة بعد قواعد اليمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم (‪. )3‬‬
‫ومن حرص الشريعة على تحقيق المصلحة في العقاب‪ :‬أنها تمنع كل الوسائل التي تؤدي إلى الجرام‬
‫كتناول المسكرات والمخدرات‪ ،‬بل واعتبرتها جرائم في ذاتها (‪ )4‬وتطبيقات مبدأ (سد الذرائع) تؤكد‬
‫ذلك‪ ،‬فالفاحشة مثلً حرام‪ ،‬والنظر إلى عورة الجنبية حرام‪ ،‬لنها تؤدي إلى الفاحشة‪.‬‬
‫ثم إنه في مواجهة المدرسة التقليدية الجديدة التي تقول‪ :‬إن أساس حق العقاب هو العدالة المطلقة‬
‫مجردة عن فكرة المنفعة‪ ،‬يقرر فقهائنا ضرورة وجود تناسب بين الجريمة وعقوبة التعزير‪ .‬ولكن‬
‫دون فصل لمبدأ العدالة عن مراعاة المصلحة‪ .‬وإنما يستهدف العقاب تحقيق العدالة وحماية المصالح‬
‫الجتماعية الثابتة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الجريمة والعقوبة في الفقه السلمي لستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة ص ‪ 32‬وما بعدها ‪،‬ط‬
‫النجلو المصرية‪ ،‬القصاص في الشريعة السلمية للمرحوم الشيخ أحمد إبراهيم‪ :‬ص ‪ 247‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،213‬فتح القدير‪ ،112/4 :‬تبيين الحقائق للزيلعي‬
‫‪ ،163/3‬البحر الرائق‪ ،3/5 :‬أحكام القرآن للجصاص‪.412/2 :‬‬
‫(‪ )3‬حاشية رد المحتار على الدر المختار‪.262/3 :‬‬
‫(‪ )4‬القصاص في الشريعة للستاذ الشيخ أحمد إبراهيم‪ :‬ص ‪.21‬‬

‫( ‪)7/477‬‬

‫وفي مواجهة المدرسة الوضعية التي تتفق مع المدرسة التقليدية من حيث ارتكازها على المبدأ النفعي‪،‬‬
‫وتطالب بالعناية بشخص المجرم لتقدير درجة خطورته ومدى قابليته للصلح‪ ،‬نرى فقهاءنا يقررون‬
‫ذلك صراحة عند تقدير القاضي العقوبات التعزيرية لكثر الجرائم الواقعة‪ ،‬وذلك على قدر الجناية‬
‫وعلى قدر مراتب الجاني‪ .‬كما أن فقهاءنا يتميزون أساسا سواء في الحدود والتعزيرات بفتح باب‬
‫التوبة عن المخالفات‪ ،‬ليبادر الجاني إلى إصلح نفسه إصلحا ذاتيا صادرا عن اقتناع واختيار وحرية‬
‫فكرية‪.‬‬
‫‪ )3‬ـ الحاجة إلى العقوبة ‪:‬‬
‫في كل إنسان نزعتا الخير والشر‪ ،‬وبما أن الخير سبيل الصلح والتقدم والسعادة وجب تقوية دوافع‬
‫الخير في النسان‪ ،‬وإضعاف عوامل الشر في نفسه‪ ،‬فكان ل بد من تشريع العقاب الزاجر‪ ،‬لنه‬
‫يساعد في مقاومة الميل إلى الشر‪ ،‬ويرغب في الخير‪.‬‬

‫( ‪)7/478‬‬
‫وحينئذ يعتبر تطبيق العقوبة على الجناة محققا لمبدأ الرحمة العامة‪ ،‬والرحمة العامة في الحقيقة‪ :‬هي‬
‫العدل‪ ،‬والعدالة الحقيقية هي الرحمة الحقيقية‪ ،‬ويعني ذلك أن الرحمة والعدالة في الشريعة متلزمتان‬
‫(‪ ، )1‬فليست الرحمة فوق العدل‪ ،‬ول العدل فوق الرحمة أو القانون‪ ،‬بدليل صريح القرآن الكر يم‪:‬‬
‫{وربك الغفور ذو الرحمة‪ ،‬لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب‪ ،‬بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه‬
‫موئلً } [الكهف‪ . ]58/18:‬فإذا كانت العدالة تقتضي تعجيل العقوبة في الدنيا‪ ،‬فإن الرحمة تستدعي‬
‫تأخيرها فتحا لباب المل والتوبة والعدول عن المخالفة أمام كل إنسان في الحياة‪ ،‬وبذلك تكون التوبة‬
‫أثرا من آثار الرحمة الواجب مراعاتها في تشريع العقاب مع مراعاة العدالة‪ ،‬وهذا هو جوهر رسالة‬
‫السلم‪ .‬قال ال تعالى‪{ :‬وما أرسلناك إل رحمة للعالمين } [النبياء‪ ]107/21:‬قال ابن القيم «إن‬
‫حكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد‪ ،‬وهي عدل كلها‪ ،‬ورحمة‬
‫الشريعة مبناها وأساسها على ال ِ‬
‫كلها‪ ،‬ومصالح كلها وحكمة كلها» (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الجريمة والعقوبة في الفقه‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.8-6‬‬
‫(‪ )2‬أعلم الموقعين‪.14/3 :‬‬

‫( ‪)7/479‬‬

‫وقال ابن تيمية‪« :‬من رحمة ال سبحانه وتعالى أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس‬
‫بعضهم على بعض في النفوس والبدان والعراض والموال والقتل والجراح والقذف والسرقة‪،‬‬
‫فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الحكام؛ وشرعها على أكمل‬
‫الوجوه‪ ،‬المتضمنة لمصلحة الردع والزجر‪ ،‬مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع » (‪. )1‬‬
‫واستعرض العز بن عبد السلم مفاسد الجرائم التي شرعت عنها الزواجر من الحدود والتعزيرات‬
‫بعبارة دقيقة البيان عميقة التحليل (‪. )2‬‬
‫وقال الشاطبي في الموافقات‪ « :‬إن أحكام الشريعة ماشرعت إل لمصلحة الناس‪ ،‬وحيثما وجدت‬
‫المصلحة فثم شرع ال » ‪......‬‬
‫‪ )4‬ـ فلسفة التوبة أو هل تؤثر التوبة على المصلحة المقصودة من العقاب؟‪.‬‬
‫إن الشريعة السلمية ـ كما هو معروف ـ تستهدف في أحكامها حماية مصالح الدنيا‪ ،‬وحفظ مقاصد‬
‫الخرة‪ ،‬بل إن الدنيا في الحقيقة مزرعة الخرة‪ ،‬كما ورد في الثر‪.‬‬
‫وبناء على هذا فل يتصور أن تكون التوبة سببا في ضياع مصلحة الجماعة في تطبيق العقوبة‪ ،‬ول‬
‫وسيلة تؤدي إلى الغراء بالمعاصي والتجرئة عليها أو تسهيل ارتكابها‪ ،‬وإنما على العكس تكون‬
‫التوبة الصادقة مساعدة على استئصال شأفة الجريمة‪ ،‬لنه إذا كانت الغاية الولى للعقاب هي إصلح‬
‫المجرم‪ ،‬فإن التوبة أقوى تأثيرا في تحقيق تلك الغاية لصدروها عن باعث ذاتي واقتناع داخلي‪ .‬فهي‬
‫إذن تفتح باب المل أمام المخطئين‪ ،‬وتدفعهم إلى معترك الحياة بروح إيجابية جديدة وحيوية وفعالية‬
‫منتجة‪.‬‬
‫ثم إن دور التوبة مقصور ـ باتفاق الفقهاء كما سأبين ـ على الحالة التي لم تعرض فيها قضية‬
‫الجريمة على محاكم القضاء‪ ،‬وفي حقوق المجتمع المحضة (أي حق ال بتعبير فقهائنا) فإن عرضت‬
‫القضية على الحاكم لم يكن للتوبة تأثير في إسقاط العقوبة‪ .‬وإن مست الجريمة حقا شخصيا للفرد لم‬
‫يَقبَل الحد (أي العقوبة المقدرة شرعا) السقاط أيضا بالتوبة ول بغيرها كالبراء والعفو والتنازل‬
‫والصلح والمعاوضة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر رسالته في القياس ص ‪ 85‬والسياسة الشرعية له‪ :‬ص ‪.98‬‬
‫(‪ )2‬قواعد الحكام‪.165-163/1 :‬‬

‫( ‪)7/480‬‬

‫‪ )5‬ـ المعاصي التي يتاب منها وكيفية التوبة عنها ‪:‬‬


‫يتناول هذا الموضوع أمرين‪ :‬تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر‪ ،‬وتقسيم الذنوب إلى ما يكون حقا ل‬
‫أو للدميين‪.‬‬
‫التقسيم الول ‪ -‬تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر‪:‬‬
‫كل معصية في السلم تصح التوبة عنها‪ ،‬سواء أكانت من الكبائر أم من الصغائر‪ ،‬ابتداء من جريمة‬
‫الكفر أو الشرك بال إلى أدنى المحظورات ‪ .‬والمراد من الصغائر‪ :‬هي التي تحصل لظرف طارئ‬
‫كثورة أو غضب‪ ،‬أو نزوة طائشة‪ ،‬ثم يعقبها تأنيب وندم يمحو صفة الصرار (‪ . )1‬كالنظر إلى ما ل‬
‫يحل النظر إليه من المرأة الجنبية (أي التي ل قرابة محرمية منها)‪ ،‬وضرب الخادم بدون ذنب‪،‬‬
‫وسماع الملهي والوتار‪ ،‬واللعب بالنرد‪ ،‬ومجالسة شاربي الخمر والفساق والخلوة بالمرأة الجنبية‪.‬‬
‫واختلفت عبارات العلماء في تحديد الكبائر‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬عن ابن عباس أن رجلً قال له‪ :‬الكبائر سبع؟ فقال‪ :‬هي إلى سبع مئة أقرب‪ ،‬لنه ل صغيرة مع‬
‫الصرار ‪ ،‬ول كبيرة مع الستغفار ( تفسير الكشاف‪ ،394/1 :‬تفسير المنار‪ ،50/5 :‬الحياء‪28/4 :‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/481‬‬

‫فقال ابن عمر‪ :‬كل ما نهي عنه فهو كبيرة‪.‬‬


‫وقال صحابي آخر‪ :‬كل ما وعد ال عليه بالنار فهو كبيرة‪.‬‬
‫وقال بعض السلف‪ :‬كل ما أوجب عليه الحد في الدنيا فهو كبيرة (‪. )1‬‬
‫وأما غير الصحابة فقال الذهبي‪ :‬الكبائر‪ :‬كل ما نهى ال ورسوله عنه في الكتاب والسنة والثر عن‬
‫السلف الصالحين (‪ . )2‬وذكر في كتابه (الكبائر) سبعين كبيرة‪ ،‬من أهمها‪ :‬الشرك بال وقتل النفس‬
‫التي حرم ال إل بالحق‪ ،‬والسحر‪ ،‬وأكل الربا‪ ،‬وأكل ما ل اليتيم‪ ،‬والتولي يوم الزحف‪ ،‬وقذف‬
‫المحصنات الغافلت المؤمنات (‪ ، )3‬وعقوق الوالدين‪ ،‬وشهادة الزور‪ ،‬والظلم‪ ،‬والغدر‪ ،‬وعدم الوفاء‬
‫بالعهد‪ ،‬واليمين الغموس (وهي الكاذبة قصدا وعمدا) والرشوة‪ ،‬والقمار‪ ،‬والزنا‪ ،‬والسرقة‪ ،‬وشرب‬
‫الخمر‪ ،‬والغصب‪ ،‬وإيذاء الناس وشتمهم‪.‬‬
‫وذكر المفسرون في تفسير المعصية الكبيرة آراء أهمها أربعة (‪: )4‬‬
‫أحدها‪ :‬إنها المعصية الموجبة للحد‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬إنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬قال إمام الحرمين وغيره‪ :‬كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي‬
‫مبطلة للعدالة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحياء‪ ،15/4 :‬ط العثمانية المصرية‪.‬‬
‫(‪ )2‬كتاب الكبائر للحافظ الذهبي ‪ :‬ص ‪.7‬‬
‫(‪ )3‬وهذه السبع هي السبع الموبقات في الحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن كثير‪ ،487/1 :‬ط البابي الحلبي‪.‬‬

‫( ‪)7/482‬‬
‫والرابع‪ :‬ذكر القاضي أبو سعيد الهروي‪ :‬إن الكبيرة‪ :‬كل فعل نص الكتاب على تحريمه‪ ،‬وكل معصية‬
‫توجب في جنسها حدا من قتل أو غيره‪ .‬وترك كل فريضة مأمور بها على الفور‪ ،‬والكذب في الشهادة‬
‫والرواية واليمين‪.‬‬
‫وإذا كان القول الثاني هو لكثر المفسرين‪ ،‬فإن الرأي الثالث هو أولى الراء بالقبول؛ لن الغزالي‬
‫اعتمده‪ ،‬واستحسنه الرازي (‪. )1‬‬
‫فالكبيرة إذن‪ :‬هي كل ما يشعر بالستهانة بالدين وعدم الكتراث به (‪. )2‬‬
‫التقسيم الثاني ‪ -‬تقسيم الذنوب إلى ما يتعلق بحق ال أو بحق العباد (‪: )3‬‬
‫تنقسم الذنوب إلى مايكون بين العبد وبين ال تعالى‪ ،‬وإلى ما يتعلق بحقوق الشخاص (‪. )4‬‬
‫فأما ما يتعلق بحق ال تعالى‪ :‬فهو كترك الصلة والصوم‪ .‬والتوبة ل تصح منه‪ ،‬حتى ينضم إلى الندم‬
‫قضاء ما فات منها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تفسير المنار‪.49/5 :‬‬
‫(‪ )2‬صنف أبو طالب المكي الكبائر بسبع عشرة‪ :‬أربعة في القلب‪ :‬وهي الشرك بال ‪ ،‬والصرار‬
‫على معصيته‪ ،‬والقنوط من رحمته‪ ،‬والمن من مكره‪ .‬وأربع في اللسان‪ :‬وهي شهادة الزور ‪ ،‬وقذف‬
‫المحصن‪ ،‬واليمين الغموس‪ ،‬والسحر‪ .‬وثلث في البطن‪ :‬وهي شرب الخمر والمسكر من كل شراب‬
‫وأكل مال اليتيم ظلما‪ ،‬وأكل الربا وهو يعلم‪ .‬واثنتان في الفرج‪ ،‬وهما الزنا واللواط‪ .‬واثنتان في اليد‪:‬‬
‫وهما القتل والسرقة‪ .‬وواحدة في الرجلين‪ :‬وهو الفرار من الزحف‪ .‬وواحدة في جميع الجسد‪ :‬وهو‬
‫عقوق الوالدين‪ .‬وتعقبه الغزالي بأنه تصنيف غير شامل ويمكن الزيادة عليه‪ .‬وقال‪ :‬إن الكبائر على‬
‫ثلث مراتب‪ :‬الولى ما يمنع من معرفة ال تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر‪ ،‬ويتلوه المن من مكر‬
‫ال والقنوط من رحمته ‪ ،‬ثم يتلوه البدع كلها المتعلقة بذات ال وصفاته وأفعاله‪ .‬المرتبة الثانية‪:‬‬
‫النفوس‪ .‬المرتبة الثالثة‪ :‬الموال‪ .‬ثم استعرض بقية الجرائم (راجع الحياء‪.)20-15/4 :‬‬
‫(‪ )3‬تفسيرالقرطبي ‪ 199/18‬وما بعدها‪ ،‬الحياء ‪.14/4‬‬
‫(‪ )4‬المقصود بحق ال تعالى‪ :‬ما يمس المجتمع وهو مايتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص‬
‫بأحد‪ .‬وينسب إلى ال تعالى لعظم خطره وشمول نفعه‪ .‬وأما حق العبد‪ :‬فهو الحق الشخصي‪ :‬وهو‬
‫مايتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير ودمه وعرضه‪.‬‬

‫( ‪)7/483‬‬
‫وأما ما يتعلق بحقوق العباد ‪ :‬فهو كترك الزكاة وقتل النفس وغصب الموال وشتم العراض‪،‬‬
‫والتوبة منه تكون برد الحق لصاحبه‪ .‬ففي حال التفريط بالزكاة يجب القضاء‪ .‬وفي القتل تكون التوبة‬
‫بالتمكين من القصاص إن كان عليه‪ ،‬وكان مطلوبا منه قضاء‪ .‬وفي القذف ببذل ظهره للجلد إن كان‬
‫مطالبا به‪ .‬فإن عفي عنه أو عن القتل مجانا كفاه الندم والعزم على ترك العود بالخلص ‪ .‬فإن عفي‬
‫عن القتل بمال فعليه أداؤه إن كان واجدا له‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع‬
‫بالمعروف وأداء إليه بإحسان } [البقرة‪ .]178/2:‬وكذلك شراب الخمر والسراق والزناة إذا أصلحوا‬
‫وتابوا سقط الحد عنهم في رأي بعض العلماء كما سيأتي تفصيل الكلم فيه‪.‬‬
‫وإن كان الذنب من مصالح العباد‪ ،‬فل تصح التوبة عنه إل برده إلى صاحبه والخروج عنه ـ عينا‬
‫كان أو غيره ـ إن كان قادرا عليه‪ .‬فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت‬
‫وأسرعه‪.‬‬
‫وإن كان العاصي أضر بآخر فإنه يزيل ذلك الضرر عنه‪ ،‬ثم يطلب منه العفو والستغفار له‪ ،‬فإذا عفا‬
‫عنه‪ ،‬سقط الذنب عنه‪.‬‬
‫وإن أساء رجل إلى آخر بأن فزّعه بغير حق‪ ،‬أو غمه‪ ،‬أو لطمه‪ ،‬أو صفعه بغير حق أو ضربه بسوط‬
‫فآلمه‪ ،‬أو شانه بشتم ل حد فيه ثم ندم واستعفى من المضرور‪ ،‬وعزم على أل يعود فعفا عنه صاحب‬
‫الحق‪ ،‬سقط عنه ذلك الذنب‪.‬‬

‫( ‪)7/484‬‬

‫المطلب الثاني ‪ -‬أثر التوبة الصادقة في الجزاءات أو العقوبات الخروية ‪:‬‬


‫يترتب على التوبة النصوح ـ كما ذكر ـ إسقاط عقوبة المعصية قطعا فيما بين التائب وبين ال‬
‫تعالى‪ ،‬لن التوبة تسقط أثر المعصية (‪ ، )1‬ولو كانت أعظم الجرائم التي هي الكفر أو الشرك بال ‪،‬‬
‫لنه يغفر كل ذنب للتائب إل إذا أصر عليه فل يغفر (‪ ، )2‬قال ال تعالى‪{ :‬غافر الذنب وقابل التوب}‬
‫[غافر‪ ]3/40:‬وقال سبحانه‪{ :‬قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف‪ ،‬وإن يعودوا‪ ،‬فقد مضت‬
‫سنة الولين} [النفال‪{ ]8/38:‬إن ال يغفر الذنوب جميعا} [الزمر‪ : ]53/39:‬أي بشرط التوبة في رأي‬
‫الزمخشري وغيره‪.‬‬
‫روى مسلم من حديث عمرو بن العاص‪ ،‬قال‪ :‬لما جعل ال السلم في قلبي أتيت النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬قلت‪ :‬ابسط يدك أبايعك فبسط يمينه‪ ،‬فقبضت يدي‪ ،‬فقال‪( :‬مالك؟) قلت‪ :‬أردت أن‬
‫اشترط‪ ،‬قال‪ « :‬تشترط بماذا؟ » قلت‪ :‬أن يغفر لي‪ ،‬قال‪ « :‬أما علمت يا عمرو أن السلم يهدم ما‬
‫كان قبله‪ ،‬وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها‪ ،‬وأن الحج يهدم ما كان قبله » ‪.‬‬
‫ويؤيد ذلك أحاديث نبوية كثيرة منها‪« :‬التائب من الذنب كمن ل ذنب له» (‪« )3‬لو أخطأتم حتى تبلغ‬
‫السماء‪ ،‬ثم تبتم لتاب ال عليكم» (‪« )4‬والذي نفسي بيده لو‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪.184/4 :‬‬
‫(‪ )2‬تفسير اللوسي‪ ،52/5 :‬تفسير الكشاف‪.36/3 ،401/1 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه والطبراني من حديث عبد ال بن مسعود ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي مرفوعا‬
‫أيضا من حديث ابن عباس وزاد (والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه)‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة‪.‬‬

‫( ‪)7/485‬‬

‫لم تذنبوا لذهب ال بكم‪ ،‬ولجاء بقوم يذنبون‪ ،‬فيستغفرون ال ‪ ،‬فيغفر لهم» (‪« )1‬التوبة تجب ما قبلها»‬
‫( ‪. )2‬‬
‫وسأذكر هنا نموذجا من توبة العصاة‪:‬‬
‫‪ - 1‬توبة الكافر‪ :‬الكفر أو الشرك إما في اللوهية أو في الربوبية‪ ،‬فالشرك في اللوهية‪ :‬هو الشعور‬
‫بسلطة وتأثير وراء السباب والسنن الكونية لغير ال تعالى‪ ،‬وكل قول وعمل ينشأ عن ذلك الشعور‪.‬‬
‫والشرك في الربوبية‪ :‬هو الخذ بشيء من أحكام الدين والحلل والحرام عن بعض البشر دون الوحي‬
‫( ‪. )3‬‬
‫وتوبة المشرك أو الكفر تكون بإعلن السلم والقرار بتوحيد الله (توحيد اللوهية وتوحيد الربوبية)‬
‫سواء أقدر عليه الحاكم أم لم يقدر عليه‪ ،‬لن عدم القدرة ليست مشترطة في توبة الكفار‪ .‬والتوحيد‬
‫الذي يناقض الشرك‪ :‬هو عبارة عن إعتاق النسان من رق العبودية لكل أحد من البشر وكل شيء من‬
‫الشياء السماوية والرضية‪ ،‬وجعله حرا كريما عزيزا ل يخضع خضوع عبودية مطلقة إل لمن‬
‫خضعت لسنته الكائنات‪ ،‬بما أقامه فيها من النظام في ربط السباب بالمسببات‪ ،‬فلسنته الحكيمة‬
‫يخضع‪ ،‬ولشريعته العادلة المنزلة يتبع‪ .‬وإنما خضوعه هذا لعقله ووجدانه‪ ،‬ل لمثاله في البشرية‬
‫وأقرانه (‪. )4‬‬
‫وتقبل توبة الكافر اتفاقا ترغيبا في السلم (‪ )5‬ولقوله تعالى‪{ :‬قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما‬
‫قد سلف} [النفال‪.]38/8:‬‬
‫‪ - 2‬توبة المنافق‪ :‬النفاق‪ :‬إظهار اليمان باللسان‪ ،‬وكتمان الكفر بالقلب (‪ )1‬والمنافق وهو الذي يبطن‬
‫الكفر ويظهر السلم أشد خطرا على المسلمين من الكفار‪ ،‬لنه يكتم الكفر والكيد للمسلمين ويتربص‬
‫الدوائر بهم‪ ،‬ويرتكب السيئات بباعث النفاق الظاهر والخبث الباطن‪ ،‬فاستحق العذاب مرتين‪،‬وكان في‬
‫الدرك السفل من النار‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬ذكره بعض الفقهاء ولم أقف على تخريجه وقد سبق بيان ذلك‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير المنار‪.148/5 :‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق‪.149/5 :‬‬
‫(‪ )5‬الفروق للقرافي‪.181/4 :‬‬

‫( ‪)7/486‬‬

‫وتوبة المنافق تكون بتزكية نفسه ومجاهدتها بقدر الستطاعة والطاقة‪ ،‬وطلب العفو عما ل طاقة له‬
‫به‪ ،‬وترك الكفر ظاهرا أو باطنا‪ ،‬وإعلنهم اليمان بال ورسوله‪ .‬ويمكن قبول توبة المنافق لقوله‬
‫تعالى {ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن ال كان غفورا رحيما} [الحزاب‪]24/33:‬‬
‫{وآخرون اعترفوا بذنوبهم} ‪{ ...‬عسى ال أن يتوب عليهم} [التوبة‪{ ]102/9:‬وآخرون مرجون لمر‬
‫ال إما يعذبهم‪ ،‬وإما يتوب عليهم} [التوبة‪.]106/9:‬‬
‫‪ - 3‬توبة الزنديق‪ :‬الزنادقة هم الدهريون الذين ينكرون وجود الله ويزعمون أن العالم وجد مصادفة‬
‫(‪ . )2‬وقال المالكية‪ :‬الزنديق هو الذي يظهر السلم ويس ّر الكفر (‪ . )3‬وقال الحنفية ‪ :‬الزنديق‪ :‬هو‬
‫من ل يتدين بدين (‪. )4‬‬
‫واختلف العلماء في توبة الزنديق‪ ،‬فقال العترة من الزيدية‪ ،‬وأبو حنيفة ومحمد والشافعي‪ :‬تقبل توبة‬
‫الزنادقة ول يقتلون؛ لعموم قوله تعالى‪{ :‬قل للذين كفروا‪ :‬إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [النفال‪:‬‬
‫‪.]38/8‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬التعريفات للجرجاني‪ :‬ص ‪ ،219‬الفرق بين الزنديق والمنافق والدهري والملحد مع الشتراك في‬
‫إبطان الكفر‪ :‬أن المنافق غير معترف بنبوة نبينا صلّى ال عليه وسلم ‪ .‬والدهري كذلك مع إنكاره‬
‫إسناد الحوادث إلى الصانع المختار سبحانه وتعالى‪ .‬والملحد‪ :‬وهو من مال عن الشرع القويم إلى‬
‫جهة من جهات الكفر سواء اعترف بالنبوة لمحمد أم ل‪ ،‬أظهر الكفر أو أبطنه‪ ،‬سبق إلى السلم أم‬
‫ل‪ .‬فهو أوسع فرق الكفر‪ .‬أما الزنديق في لسان العرب فهو من ينفي الباري تعالى‪ ،‬أو من يثبت‬
‫الشريك أو من ينكر حكمته‪ ،‬أو بعبارة أخرى كما في الفتح‪ :‬هو من ل يتدين بدين (رد المحتار‪:‬‬
‫‪.)324/3‬‬
‫(‪ )2‬المنقذ من الضلل للغزالي‪ :‬ص ‪.10‬‬
‫(‪ )3‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.365‬‬
‫(‪ )4‬رد المحتار‪.324 ،201/3 :‬‬

‫( ‪)7/487‬‬

‫وقال مالك وأبو يوسف والجصاص‪ :‬ل تقبل توبتهم‪ ،‬فإذا عثر على الزنديق قتل ول يستتاب ‪ ،‬ول‬
‫يقبل منه ادعاء التوبة إذ يعرف منه عادة التظاهر بالتوبة تقيه‪ ،‬بخلف ما يبطنه‪ ،‬واستثنى المام مالك‬
‫من جاء تائبا قبل ظهور زندقته فتقبل توبته (‪. )1‬‬
‫والمفتى به في مذهب الحنفية أن الزنديق إذا أخذ قبل توبته ثم تاب لم تقبل توبته ويقتل‪ ،‬ولو أخذ‬
‫بعدها قبلت (‪. )2‬‬
‫قال صاحب البحر الزخار الزيدي‪ :‬لكن القرب العمل بالظاهر‪ ،‬وإن التبس الباطن لقوله صلّى ال‬
‫عليه وسلم لمن استأذنه في قتل منافق‪« :‬أليس يشهد أن ل إله إل ال » (‪. )3‬‬
‫‪ - 4‬توبة المبتدع‪ :‬المبتدع‪ :‬هو الذي أحدث شيئا في السلم ليس منه‪ ،‬ولم يكن عليه الصحابة‬
‫والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي‪ .‬أو هو كل من قال قولً خالف فيه اعتقاد أهل السنة‬
‫والجماعة (‪. )4‬‬
‫فإذا كان ببدعته منكرا لما علم بالتواتر والضرورة (أي البداهة) من الشريعة‪ ،‬فهذا كافر ببدعته‪،‬‬
‫كالمجسمة أو المشبهة‪ ،‬الذين شبهوا معبودهم بإنسان له جسم محدود بسبعة أشبار بشبر نفسه‪ ،‬أو الذين‬
‫ألهوا أحدا من البشر‪.‬‬
‫وأما إن كان المبتدع ل يكفر ببدعته‪ ،‬فهو ضال فاسق كأهل البدع والهواء المخالفين لهل السنة أو‬
‫سيرة السلف الصلح في بعض المسائل العتقادية‪ ،‬مثل القدَرية القائلين بخلق النسان أفعال نفسه‪،‬‬
‫والخوارج الذين كفروا عليا ومعاوية وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة‪.‬‬
‫وتوبة المبتدع تكون بالتخلص من بدعته والتزام العقيدة الحقة‪ ،‬ول مانع من قبول توبته وإن كان‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البحر الزخار‪ ،207/5 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.365‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار ورد المحتار‪.324/3 :‬‬
‫(‪ )3‬روى الحديث مسلم عن المقداد بن السود‪.‬‬
‫(‪ )4‬التعريفات للجرجاني‪ :‬ص ‪ ،37‬رد المحتار‪.201/3 :‬‬

‫( ‪)7/488‬‬

‫كافرا‪ ،‬لن العقل يجوز ذلك‪ ،‬وظاهر الشرع وعموم اليات القرآنية يدل على إمكان قبول توبة الكفار‬
‫والمشركين (‪. )1‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن قبول التوبة في عالم الخرة مشروط بعدم الصرار على المعصية‪ ،‬وعدم التلعب‬
‫بالسلم‪ .‬وعدم البقاء على الكفر قبل الموت وذلك هو ما يشير إليه القرآن الكريم في اليات الثلث‬
‫التية‪:‬‬
‫‪{ - 1‬والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا ال فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إل ال‬
‫‪ ،‬ولم يصروا على ما فعلوا‪ ،‬وهم يعلمون } [آل عمران‪.]135/3:‬‬
‫‪{ - 2‬إن الذين آمنوا ثم كفروا‪ ،‬ثم آمنوا ثم كفروا‪ ،‬ثم ازدادوا كفرا لم يكن ال ليغفر لهم‪ ،‬ول ليهديهم‬
‫سبيلً} [النساء‪{ .]4/137:‬إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } [آل عمران‪:‬‬
‫‪.]90/3‬‬
‫‪{ - 3‬إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار‪ ،‬فلن يقبل من أحدهم ملء الرض ذهبا ولو افتدى به} [آل‬
‫عمران‪ ]91/3:‬و [البقرة‪.]161/2:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬العتصام للشاطبي‪.271/2 :‬‬

‫( ‪)7/489‬‬

‫المطلب الثالث ‪ -‬أثر التوبة في الجزاءات أو العقوبات الدنيوية ‪:‬‬


‫تمهيد في أنواع العقوبات‪:‬‬
‫العقوبات الدنيوية بحسب نوع المصلحة المقصودة منها ثلثة أنواع وهي (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬الحدود‪ :‬وهي العقوبات المقدرة شرعا الواجبة حقا ل تعالى في الشريعة‪ ،‬أي التي تستوجبها‬
‫المصلحة العامة‪ :‬وهي دفع الفساد عن الناس‪ ،‬وتحقيق الصيانة والسلمة لهم‪ .‬وتطبق على جرائم‬
‫سبعة‪ :‬الزنا‪ ،‬القذف‪ ،‬شرب المسكرات‪ ،‬السرقة‪ ،‬الحرابة‪ ،‬الردة‪ ،‬البغي‪.‬‬
‫‪ - 2‬القصاص والدية‪ :‬أما القصاص فهو معاقبة الجاني على جريمة القتل أو القطع أو الجراح عمدا‬
‫بمثلها‪ .‬وأما الدية فهي العوض المالي الواجب دفعه بدل النفس‪ .‬وقد شرع القصاص مراعاة للحقين‪:‬‬
‫حق الجماعة العام في أصل العقاب‪ ،‬وحق المجني عليه الخاص في نوع العقاب‪.‬‬
‫‪ - 3‬التعازير‪ :‬وهي العقوبة المشروعة على معصية أو جناية ل حد فيها ول كفارة‪ ،‬سواء أكانت‬
‫الجناية على حق ال تعالى‪ ،‬كالكل في نهار رمضان وترك الصلة‪ ،‬وطرح القذار في طريق الناس‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬أو على حق شخصي للعباد كأنواع السب والضرب واليذاء بأي وجه‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫مختلف أنواع جرائم العتداء على الموال والنفس التي ل حد فيها‪.‬‬
‫وتعدّ أغلب الجرائم التي نص عليها قانون العقوبات في مصر وسورية داخلة تحت عقوبات التعزير‬
‫الشرعية‪ ،‬سواء أكانت جنايات وجنحا مضرة بالمصلحة العامة‪ ،‬أو تحصل لحاد الناس‪ ،‬أو كانت‬
‫مخالفات عادية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع التشريع الجنائي السلمي للمرحوم الستاذ عبد القادر عودة‪ 78/1 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/490‬‬

‫وأبحث هنا أثر التوبات في هذه العقوبات‪.‬‬


‫أولً ‪ -‬آراء الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة ‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن الحدود إذا رفعت إلى ولي المر أو نائبه القاضي‪ ،‬ثم تاب المتهم عن جريمته‬
‫بعد ذلك‪ ،‬لم يسقط الحد عنه‪ ،‬بل تجب إقامة الحد وإن تاب المجرم حينئذ‪ ،‬سواء أكان قاطع طريق أم‬
‫لصا أم زانيا أم قاذفا وغيرهم‪ ،‬إذ ل يجوز تعطيل الحد‪ ،‬ل بعفو‪ ،‬ول بشفاعة‪ ،‬ول بهبة‪ ،‬ول غير ذلك‬
‫(‪ )1‬لن الجريمة تمس مصلحة الجماعة‪ ،‬والتصرف على الرعيةمنوط بالمصلحة العامة‪ .‬ويرشد لذلك‬
‫من السنة أن النبي صلّى ال عليه وسلم لم يقبل العفو عن سارق رداء صفوان بن أمية‪ ،‬وقال‬
‫لصفوان‪« :‬فهل قبل أن تأتيني به؟» ثم قطع يده (‪ )2‬يريد النبي صلّى ال عليه وسلم أنك لو عفوت‬
‫عنه قبل أن تأتيني به لكان العفو سائغا جائزا‪.‬‬
‫وذكر في الموطأ عن عثمان رضي ال عنه‪ .‬أنه قال‪« :‬إذا بلغت الحدود السلطان فلعن ال الشافع‬
‫والمشفع» ‪.‬‬
‫وفي سنن أبي داود والنسائي عن عبد ال بن عمرو أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬تعافوا‬
‫الحدود فيما بينكم‪ ،‬فما بلغني من حد فقد وجب» ‪.‬‬
‫واتفق الفقهاء أيضا على قبول توبة المحارب (قاطع الطريق) قبل قدرة السلطان عليه‪ :‬وهو أن يأتي‬
‫إلى الحاكم عن طوع واختيار ويظهر التوبة عنده‪ ،‬ويسقط عنه الحبس‪ ،‬لن الحبس للتوبة‪ ،‬وقد تاب‬
‫فل معنى للحبس (‪ . )3‬ودليلهم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪ ،66‬رد المحتار لبن عابدين‪ ،154/3 :‬البحر الزخار‪.158/5 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،96/7 :‬فتح القدير‪ ،272/4 :‬أحكام القرآن للجصاص‪ ،413/2 :‬المنتقى على الموطأ‪:‬‬
‫‪ ،174/7‬بداية المجتهد‪ ،447/2 :‬أحكام القرآن لبن العربي‪ ،600/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪،363‬‬
‫مغني المحتاج‪ ، 183/4 :‬تكملة المجموع‪ ،342/18 :‬المغني لبن قدامة‪ ،295/8 :‬أعلم الموقعين‪:‬‬
‫‪ ،78/2‬غاية المنتهى‪ ، 345/3 :‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،68‬كشاف القناع‪،124/6 :‬‬
‫الفصاح‪ ،424 :‬الخلف في الفقه للطوسي‪ ،482/2 :‬المختصر النافع في فقه المامية‪ :‬ص ‪،304‬‬
‫البحر الزخار‪ ،202/5 :‬شرح النيل‪.643/7 :‬‬

‫( ‪)7/491‬‬

‫صريح قوله تعالى في حق المحاربين‪{ :‬إل الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‪ ،‬فاعلموا أن ال غفور‬
‫رحيم } [المائدة‪.]34/5:‬‬
‫ومفهوم الية أل يسقط عنه شيء بالتوبة بعد الظفر عليه‪ ،‬لن الظاهر أن التوبة قبل ذلك توبة‬
‫إخلص‪ ،‬ولترغيبه في التوبة ‪ ،‬وبعده الظاهر أنها تقيه من إقامة الحد عليه‪ ،‬ول حاجة لترغيبه في‬
‫التوبة؛ لنه قد عجز عن الفساد والمحاربة‪.‬‬
‫أما ما يسقط عنه بالتوبة‪ :‬فاختلفوا فيه (‪ ، )1‬فقال فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والمامية‬
‫والزيدية في أرجح الراء لديهم‪ :‬تسقط بتوبة المحارب حقوق ال تعالى كحد الزنا واللواط والسرقة‬
‫وشرب الخمر؛ لنها حدود ال تعالى‪ ،‬فتسقط بالتوبة كحد المحاربة‪ ،‬ولن في إسقاطها ترغيبا في‬
‫التوبة‪.‬‬
‫ول تسقط عنه حقوق الناس الشخصية كحد القذف والقصاص وضمان الموال‪ ،‬إذ ل دليل على‬
‫إسقاطها‪.‬‬
‫وهناك آراء أخرى‪ ،‬قال الهادي من الزيدية‪ ،‬والباضية‪ :‬يسقط عنه ما قد أتلف ولو حقا لدمي في‬
‫نفس أو مال أو قتل‪ ،‬لعموم الية‪{ :‬إل الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة‪.]34/5:‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬ترفع التوبة جميع حقوق ال ‪ ،‬ولكن يؤاخذ بالدماء (أي جراح النفس من قتل وضرب‬
‫وجرح) والموال بما وجد بعينه في يده‪ ،‬ول تتبع ذمته‪ .‬وهو قول لمالك‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪.‬‬

‫( ‪)7/492‬‬

‫وبعضهم قال‪ :‬إن التوبة تسقط جميع حقوق ال ‪ ،‬وحقوق الدميين من مال ودم‪ ،‬إل ما كان من‬
‫الموال قائم العين بيده‪ ،‬وهو قول الليث بن سعد ورجحه ابن جرير الطبري (‪. )1‬‬
‫وشدد بعضهم وهو قول عند الشافعية وللمام مالك‪ .‬فقال‪ :‬ل تسقط التوبة عن المحارب إل حد‬
‫الحرابة فقط‪ ،‬ويؤاخذ بما سوى ذلك من حقوق ال وحقوق الدميين‪.‬‬
‫عقوبة الردة والبغي ‪:‬‬
‫الردة‪ :‬ترك الدين السلمي والخروج عليه بعد اعتناقه‪ .‬والبغي‪ :‬الخروج عن طاعة الحاكم بثورة‬
‫مسلحة‪ ،‬أو الخروج على المام مغالبة‪.‬‬
‫اتفق الفقهاء على إسقاط عقوبة الباغي (وهي القتل) بالتوبة؛ لن القصد من عقابه توفير الطاعة‬
‫والولء والعدول عن البغي (‪. )2‬‬
‫كما أن عقوبة المرتد (وهي القتل ومصادرة ماله) تسقط أيضا بالتوبة بأن يتبرأ عن الديان كلها سوى‬
‫السلم أو عما انتقل إليه من مذهب الكفر‪ ،‬لن الغاية هي رجوعه إلى السلم‪ ،‬لذا استحب الحنفية‬
‫استتابته وعرض السلم عليه قبل القتل‪ ،‬لحتمال أن يسلم ‪ ،‬وأوجب جمهور الفقهاء حصول الستتابة‬
‫قبل القتل ثلث مرات (‪ ، )3‬فإن تاب قبلت توبته‪ ،‬وإن لم يتب وجب عليه القتل‪.‬‬
‫وأضاف الزيدية وأئمة المذاهب أن من تكرر منه الردة والسلم حتى كثر فهو مقبول التوبة‪ ،‬لقوله‬
‫تعالى‪{ :‬يغفر لهم ما قد سلف} [النفال‪ ]38/8:‬ولم يفصل النص بين من تكرر منه ذلك أو لم يتكرر (‬
‫‪. )4‬‬
‫ذكر النسائي عن ابن عباس قال‪ :‬كان رجل من النصار أسلم‪ ،‬ثم ارتد ولحق بالمشركين ثم ندم‬
‫فأرسل إلى قومه‪ :‬سلوا لي رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ :‬هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم فقالوا‪ :‬هل من توبة؟ فنزلت آيات من سورة آل عمران آخرها (‪{ )5‬إل الذين‬
‫تابوا من بعد ذلك وأصلحوا‪ ،‬فإن ال غفور رحيم} قال ابن عباس‪ :‬فأرسل إلى الرجل فأسلم‪.‬‬
‫عقوبة القذف ‪:‬‬
‫اتفق العلماء على أن التوبة ل تسقط حد القذف‪ ،‬لنه حق آدمي (‪. )6‬‬
‫الحقوق الشخصية للناس ‪:‬‬
‫يظهر مما سبق أن حقوق الدميين ل تسقط بالتوبة ما لم ترد المظالم لصحابها‪ ،‬كما أنه ل يغفرها‬
‫الباري سبحانه إل بمغفرة صاحبها‪ ،‬ول يسقطها إل بإسقاطه (‪. )7‬‬
‫عقوبة السرقة والزنا وشرب الخمر ‪:‬‬

‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري‪ 287/1 :‬وما بعدها‪ ،‬شرح الزهار‪ ،378/4 :‬شرح النيل‪.643/7 :‬‬
‫(‪ )2‬فتح القدير‪ ،409/4 :‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،340/3 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،299/4 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،127/4 :‬المغني‪.114/8 :‬‬
‫(‪ )3‬المبسوط للسرخسي‪ ،98/10 :‬فتح القدير‪ ،385/4 :‬البدائع‪ ،134/7 :‬تبيين الحقائق‪،284/3 :‬‬
‫بداية المجتهد‪ ،448/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،304/4 :‬مغني المحتاج‪ ،139/4 :‬المغني‪،124/8 :‬‬
‫كشاف القناع‪ ،144/6 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،364‬شرح النيل‪.643/7 :‬‬
‫(‪ )4‬البحر الزخار‪.208/5 :‬‬
‫(‪ )5‬اليات‪.89 - 86 :‬‬
‫(‪ )6‬بداية المجتهد‪ ،434/2 :‬المغني‪.296/8 :‬‬
‫(‪ )7‬أحكام القرآن لبن العربي‪ ،600/2 :‬تفسير القرطبي‪.200/18 :‬‬

‫( ‪)7/493‬‬

‫اختلف الفقهاء في إسقاط عقوبات هذه الحدود بالتوبة على رأيين‪:‬‬


‫الرأي الول ‪ :‬قال الحنفية (‪ )1‬و المالكية والشافعية والظاهرية والزيدية والباضية في أرجح الراء‬
‫لديهم (‪ : )2‬إن التوبة ل تسقط سائر الحدود المختصة بال تعالى كالزنا والسرقة وشرب الخمر ‪،‬‬
‫سواء بعد رفع المر الى الحاكم أو قبله واستدلوا بالدلة الية‪:‬‬
‫‪ - 1‬عموم اليات القرآنية التي تقرر عقوبة هؤلء العصاة مثل قوله تعالى‪{ :‬الزانية والزاني فاجلدوا‬
‫كل واحد منهما مائة جلدة} [النور‪{ ]2/24:‬والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة‪ ]38/5:‬فكل‬
‫نص منهما عام في التائبين وغيرهم‪ ،‬ول يستثنى إل حد الحرابة كما أبنت‪ ،‬وحد تارك الصلة لو تاب‬
‫سقط القتل قطعا‪ ،‬ولو بعد رفعه إلى الحاكم؛ لن عقابه على الصرار على الترك ل على مجرد‬
‫الترك في الماضي‪ .‬وكذلك إذا زنى الكافر ثم أسلم يسقط عنه الحد‪.‬‬
‫‪ - 2‬أقام النبي صلّى ال عليه وسلم الحد على من جاءه تائبا‪ ،‬إذ رجم ماعزا والغامدية وقطع الذي‬
‫أقر بالسرقة‪ ،‬وقد جاؤوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد‪ ،‬بدليل أن الرسول صلّى ال عليه وسلم‬
‫سمى فعلهم توبة‪ ،‬فقال في حق المرأة‪« :‬لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم‬
‫(‪ . )3‬وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلّى ال عليه وسلم ‪،‬فقال‪ :‬يا رسول ال إني سرقت جملً‬
‫لبني فلن‪ ،‬فطهرني فأقام الرسول الحد عليه‪.‬‬
‫‪ - 3‬إن الحد كفارة‪ ،‬فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل‪ ،‬ولو جاز إسقاط الحد بالتوبة‪ ،‬لتمكّن كل‬
‫مجرم من إسقاط العقوبة عنه بادعاء التوبة‪ ،‬وفي ذلك تشجيع على الجرام والفساد‪.‬‬
‫‪ - 4‬ل تقاس الحدود على حد الحرابة لن مرتكبها مقدور عليه‪ ،‬فل تسقط التوبة عنه الحد المقرر‪،‬‬
‫كالمحارب بعد القدرة عليه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬استثنى الكاساني في البدائع حد السرقة العادية فقال‪ :‬أ نه يسقط إذا تاب السارق قبل أن يظفر به‪،‬‬
‫ورد المال إلى صاحبه‪ ،‬بخلف سائر الحدود لن الخصومة (أي الدعاء بالحق) شرط في السرقة‬
‫الصغرى والكبرى (أي الحرابة) والخصومة تنتهي بالتوبة‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،96/7 :‬فتح القدير‪ ،272/4 :‬الدر المختار‪ ،154/3 :‬الفروق للقرافي ‪ ،181/4 :‬تفسير‬
‫القرطبي‪ 174/6 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،184/4 :‬المهذب‪ ،285/2 :‬حاشية قليوبي وعميرة‪:‬‬
‫‪ ،201/4‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،362‬شرح النيل‪ ،650/7 :‬المحلى‪ ،159-156/11 :‬البحر الزخار‪:‬‬
‫‪.158/5‬‬
‫(‪ )3‬رواه الجماعة إل البخاري وابن ماجه من حديث عمران بن الحصين‪.‬‬

‫( ‪)7/494‬‬

‫الرأي الثاني‪ :‬قال الحنابلة في الرجح عندهم (‪ )1‬والشيعة المامية (‪ )2‬وبعض علماء الحنفية (‪)3‬‬
‫والمالكية (‪ )4‬والشافعية (‪ )5‬والزيدية (‪ : )6‬إن التوبة تسقط حد الزنا والسرقة وشرب الخمر عن‬
‫العصاة من غير اشتراط مضي زمان قبل رفع المر إلى الحاكم أو قبل القدرة عليهم أو قبل البينة‬
‫وثبوت الحد عليهم ‪ ،‬واستدلوا بما يأتي‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ ،296/8 :‬غاية المنتهى‪ ،345/3 :‬قال ابن تيمية في فتاويه‪ 253/4 :‬من وجب عليه حد‬
‫الزنا أو السرقة أو شرب الخمر فتاب قبل أن يرفع إلى المام‪ ،‬فالصحيح أن الحد يسقط عنه كما يسقط‬
‫عن المحاربين بالجماع إذا تابوا قبل القدرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال الطوسي‪ :‬كل من وجب عليه حد من حدود ال من شرب الخمر أو الزنا أو السرقة من غير‬
‫المحاربين ثم تاب من قبل قيام البينة عليه بذلك فإنها بالتوبة تسقط ( الخلف في الفقه ‪،482/2 :‬‬
‫المختصر النافع في فقه المامية‪ :‬ص ‪.) 303-297‬‬
‫(‪ )3‬قال ابن عابدين من الحنفية‪ :‬الظاهر أن التوبة ل تسقط الحد الثابت عند الحاكم بعد الرفع إليه‪ ،‬أما‬
‫قبله فيسقط الحد بالتوبة حتى في قطاع الطرق‪ ،‬سواء كان قبل جنايتهم على نفس أو عضو أو مال أو‬
‫كان بعد شيء من ذلك‪ .‬ونقل عن شرح الشباه‪ :‬إذا تاب شارب الخمر توبة نصوحا أرجو أل يحد في‬
‫الخرة ‪ ،‬فإنه ل يكون أكثر من الكفر والردة‪ ،‬وإنه يزول بالسلم والتوبة (رد المحتار‪.)154/3 :‬‬
‫(‪ )4‬الفروق للقرافي‪ ،181/4 :‬قال فيه‪( :‬إن الحدود ل تسقط بالتوبة على الصحيح إل الحرابة) مما‬
‫يدل على وجود قول آخر بالسقوط‪.‬‬
‫(‪ )5‬للشافعي قول بأن هذه الحدود تسقط بالتوبة قياسا على حد المحاربة‪ .‬لكن قال النووي ل تسقط‬
‫سائر الحدود عدا حد الحرابة بالتوبة في الظهر (مغني المحتاج‪ ،184/4 :‬تكملة المجموع‪،343/18 :‬‬
‫المهذب‪.)285/2 :‬‬
‫(‪ )6‬جاء في كتاب الوافي في الفقه عند الزيدية‪ :‬يسقط حد الزنا بالتوبة لخبر ماعز (البحر الزخار‪:‬‬
‫‪.)158/5‬‬

‫( ‪)7/495‬‬

‫‪ - 1‬ثبت في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أنس قال‪« :‬كنت مع النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫فجاء رجل فقال‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬إني أصبت حدا فأقمه علي‪ ،‬قال‪ :‬ولم يسأله عنه فحضرت الصلة‪،‬‬
‫فصلى مع النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فلما قضى النبي صلّى ال عليه وسلم الصلة‪ ،‬قام إليه الرجل‪،‬‬
‫فأعاد قوله‪ ،‬قال‪ :‬أليس قد صليت معنا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فإن ال عز وجل قد غفر لك ذنبك» ففي هذا‬
‫دليل على أن التائب غفر ال له‪ ،‬ولم يكن بحاجة لقامة الحد عليه مادام أنه اعترف به‪.‬‬
‫‪ - 2‬قال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬التائب من الذنب كمن ل ذنب له» ومن ل ذنب له ل حد‬
‫عليه‪ .‬وقال في ما عز لما أخبر بهربه‪« :‬هل تركتموه يتوب فيتوب ال عليه؟» وإقامة الحد عليه‬
‫بالرغم من توبته تجاوب مع ما اختاره بنفسه كما اختارته المرأة الغامدية‪ ،‬قال ابن تيمية‪ :‬إن الحد‬
‫مطهر‪ ،‬وإن التوبة مطهرة‪ ،‬وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إل أن يطهرا‬
‫بالحد‪ ،‬فأجابهما النبي صلّى ال عليه وسلم إلى ذلك (‪. )1‬‬
‫‪ - 3‬صرح القرآن الكريم بإسقاط حد الزنا بالتوبة في قوله تعالى‪{ :‬واللذان يأتيانها منكم فآذوهما‪ ،‬فإن‬
‫تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء‪ ]16/4:‬وبإسقاط حد السرقة أيضا في قوله سبحانه‪{ :‬فمن تاب‬
‫من بعد ظلمه وأصلح‪ ،‬فإن ال يتوب عليه} [المائدة‪.]39/5:‬‬
‫‪ - 4‬ل فرق بين حد الحرابة وبقية الحدود‪ ،‬فإذا أسقطت التوبة حد الحرابة مع شدة ضررها وتعدي‬
‫المحارب‪ ،‬فلن تدفع التوبة ما دون حد الحراب بطريق الولى والحرى‪ ،‬وقد قال ال تعالى‪{ :‬قل‬
‫للذين كفروا‪ :‬إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [النفال‪.]38/8:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أعلم الموقعين‪.79/2 :‬‬

‫( ‪)7/496‬‬

‫قال ابن القيم‪ :‬ال تعالى جعل الحدود عقوبة لرباب الجرائم‪ ،‬ورفع العقوبة عن التائب شرعا وقدرا‪،‬‬
‫فليس في شرع ال ول قدره عقوبة تائب البتة (‪. )1‬‬
‫والكلمة الخيرة‪ :‬إن ظواهر القرآن والسنة والعمل بمبدأ الستر في السلم تؤيد الرأي الثاني الذي‬
‫يسقط الحدود بالتوبة إذا كانت خالصة ل تعالى‪ ،‬أي لمصلحة الجماعة‪ ،‬ولم تكن متعلقة بالحقوق‬
‫الشخصية للناس‪ .‬وليس في هذا الرأي إخلل بمصالح المجتمع؛ لن التائب بتوبته يحقق المصلحة‬
‫المنشودة‪ ،‬ل سيما إذا ل حظنا اشتراط كون التوبة صادقة نصوحا‪.‬‬
‫قال الحنابلة‪ :‬إذا قلنا بسقوط الحد بالتوبة‪ ،‬فهل يسقط بمجرد التوبة أو بهما مع إصلح العمل؟ فيه‬
‫وجهان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬يسقط بمجردها‪ ،‬وهو ظاهر قول أصحابنا‪ ،‬لنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب‬
‫قبل القدرة عليه‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬يعتبر إصلح العمل‪ ،‬لقول ال تعالى‪{ :‬فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء‪]16/4:‬‬
‫وقال‪{ :‬فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن ال يتوب عليه} [المائدة‪ .]39/5:‬فعلى هذا القول‪ :‬يعتبر‬
‫مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلح نيته‪ ،‬وليست مقدرة بمدة معلومة (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أعلم الموقعين‪.398/4 ،19/3 ،78/2 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ 296/8 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/497‬‬

‫ثانيا‪ -‬هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟‬


‫إذا ثبت القتل وجب على القاتل‪ :‬إما القصاص‪ ،‬وإما الدية‪ ،‬ول يسقط القصاص إل بعفو أولياء المقتول‬
‫على أن يأخذوا الدية أو بدون شيء‪ ،‬فل يسقط القصاص أو الدية إذن بالتوبة لتعلق الحق الشخصي به‬
‫لولياء الدم‪ .‬وبناء عليه ل تصح توبة القاتل حتى يسلم نفسه للقود (القصاص)‪ ،‬أو يؤدي الدية حين‬
‫العفو أو حالة القتل الخطأ‪ .‬وتوبة القاتل ل تكون بالستغفار والندامة فقط‪ ،‬بل يتوقف على إرضاء‬
‫أولياء المقتول‪ ،‬فإن كان القتل عمدا ل بد من أن يمكنهم من القصاص منه‪ ،‬فإن شاؤوا قتلوه‪ ،‬وإن‬
‫شاؤوا عفوا عنه مجانا‪ ،‬فإن عفوا عنه كفته التوبة‪ .‬وبالعفو عنه يبرأ من العقوبة الدنيوية‪.‬‬
‫وهل يبرأ فيما بينه وبين ال تعالى؟‪.‬‬
‫استظهر ابن عابدين أن الظلم المتقدم ل يسقط بالتوبة لتعلق حق المقتول به‪ ،‬فيخاصم القاتل يوم‬
‫القيامة‪ .‬وأما ظلم القاتل لنفسه بإقدامه على المعصية فيسقط بالتوبة (‪. )1‬‬
‫وقال المام النووي وأكثر العلماء‪ :‬إن ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الخرة بالعقوبة عن‬
‫القاتل إذا تاب‪ ،‬فقد دلت أحاديث نبوية على أنه ل يطالب‪ ،‬من أشهرها الحديث المروي في الصحيحين‬
‫الذي ذكر فيه توبة القاتل مئة نفس في المم السابقة‪ ،‬وقبول ال توبته (‪. )2‬‬
‫ثالثا ـ إسقاط التعازير بالتوبة ‪:‬‬
‫يظهر مما ذكره الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة ضرورة التفرقة في التعزيرات بين حقوق ال‬
‫وحقوق الفراد (‪ ، )3‬لن ضابط التعزير هو‪ :‬كل من ارتكب منكرا أو آذى غيره بغير حق بقول أو‬
‫فعل أو إشارة‪ .‬فقد يكون التعزير حقا ل أو حقا للفرد‪ .‬ويشترك فيه الحقان وأحدهما غالب على‬
‫الخر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رد المحتار‪.389/5 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو سعيد الخدري (رياض الصالحين‪ :‬ص ‪ ،14‬كتاب التوابين لبن قدامة‪ :‬ص ‪ ،85‬ط‬
‫دمشق) وانظر فتاوى ابن تيمية‪ 184/4 :‬وما بعدها‪ ،‬ط ‪.1329‬‬
‫(‪ )3‬وانظر رسالة التعزير للدكتور عبد العزيز عامر‪ :‬ص ‪ ،441-436 ،41‬رد المحتار‪،190/3 :‬‬
‫‪ 204 ،198‬وما بعدها‪ ،209 ،‬نهاية المحتاج‪.175/7 :‬‬

‫( ‪)7/498‬‬

‫فإن كان التعزير حقا خالصا للفرد أو الغالب فيه حقه كالشتم والسب والمواثبة والضرب بغير حق‬
‫والتزوير وشهادة الزور ونحوها مما يتوقف على الدعاء الشخصي‪ ،‬فل يسقط بالتوبة كما ل يسقط‬
‫بعفو القاضي‪ ،‬إل أن يصفح المعتدى عليه‪.‬‬
‫وأما إن كان التعزير حقا ل تعالى كتعزير مفطر رمضان عمدا بدون عذر‪ ،‬وتارك الصلة وأكل الربا‬
‫ظاهرا‪ ،‬ومن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق أو كان حق ال فيه غالبا كمباشرة امرأة أجنبية فيما‬
‫دون الجماع كتقبيل وعناق وخلوة بها ونحو ذلك‪ ،‬فيسقط بالتوبة‪ ،‬كما يسقط بعفو القاضي‪ .‬وهذا‬
‫التفصيل في الواقع هو رأي الحنفية والشافعية‪.‬‬
‫ولكن وردت عبارات لبعض الفقهاء يفهم منها بعمومها أن التعزير مطلقا يسقط بالتوبة باتفاق الفقهاء‪.‬‬
‫قال القرافي‪ :‬إن التعزير يسقط بالتوبة‪ ،‬ما علمت في ذلك خلفا (‪. )1‬‬
‫وقال في البحر الزخار‪ :‬يسقط التعزير بالتوبة‪ ،‬ويقرب أنه إجماع المسلمين الن لكثرة الساءات فيما‬
‫بينهم‪ ،‬ولم يعلم أن أحدا طلب تعزير من اعتذر إليه واستغفر‪ ،‬ول من أقر بأنه قارف ذنبا خفيفا‪ ،‬ثم‬
‫تاب منه‪ ،‬ولستلزامه تعزير أكثر الفضلء‪ ،‬إذ لم يخل أكثرهم عن مقارفة ذنب وظهوره في فعل أو‬
‫قول (‪ . )2‬ولعل المراد من هذه العبارات التعزير الواجب حقا ل تعالى‪ ،‬لن الخلف بين التعزير‬
‫والحد هو في حقوق ال تعالى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الفروق‪.181/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البحر الزخار ملخصا‪.211/5 :‬‬

‫( ‪)7/499‬‬

‫‪.......................................‬خاتمة‪.........................................‬‬
‫يتبين من هذا البحث أن للتوبة نظاما دقيقا في الشريعة السلمية‪ ،‬إذ إنه قد يُكشَف عن الجريمة‪،‬‬
‫فيبادر الجاني إلى القرار بمعصيته أمام القاضي‪ ،‬وللقاضي حينئذ توقيع العقوبة عليه‪ ،‬كما فعل‬
‫الرسول صلّى ال عليه وسلم فيمن أقر بالزنا أمامه‪ ،‬وهو رأي ابن تيمية وابن القيم‪.‬‬
‫وقد تساعد التوبة على التقليل من الجرائم بإصلح الجاني من نفسه ورده الحقوق لصحابها بدافع‬
‫ذاتي واقتناع داخلي‪ ،‬إذا توافرت شرائط التوبة الشرعية‪ ،‬فكانت توبة صادقة نصوحا‪.‬‬
‫ثم إنه قد تكون التوبة دليلً على تحقيق الولء والطاعة السياسية فتحقن دماء كثيرة‪ ،‬ول تهدر الكرامة‬
‫النسانية في سبيل دعم الحكم‪ ،‬فتتخلص المة من شر كبير وفساد عظيم وقعت به في الماضي حين‬
‫قام بعض الحكام بالبطش بخصومهم المعارضين لسياستهم‪ ،‬كما يظهر في توبة البغاة والخوارج‬
‫وقطاع الطرق‪.‬‬
‫وقد تكون التوبة أيضا سبيلً سهلً لتوفير احترام العقيدة والنظام السلمي‪ ،‬كما في توبة المنافقين‬
‫والمرتدين والزنادقة‪.‬‬
‫لهذا كله أقِرّ الرأي القائل بإسقاط الحدود والتعزيرات بالتوبة إذا كانت الجريمة ماسة بمصلحة المجتمع‬
‫(حق ال ) ما لم يرفع في شأنها دعوى إلى القضاء‪ ،‬أما إذا كانت الجريمة متعلقة بحق شخصي (حق‬
‫الفرد) أو رفع في شأنها دعوى إلى القضاء‪ ،‬فمن العدل والمنطق أل تسقط التوبة العقوبة إطفاء لنار‬
‫الفتنة‪ .‬ودفعا للضرر عن المجني عليه‪ ،‬وشفاء للم المصاب‪ ،‬واستئصالً للجريمة‪ ،‬فل يتجرأ أحد على‬
‫العتداء على حقوق الخرين في نفس أو مال أو عرض‪ .‬وهذا هو رأي الحنابلة والشيعة المامية‬
‫وبعض فقهاء المذاهب الخرى في نطاق الحدود الثلثة‪ ( :‬حد الزنا والسرقة وشرب الخمر )‪ ،‬وهو‬
‫رأي الفقهاء عامة فيما يبدو بالنسبة للتعازير‪ ،‬وبقية الحدود الخرى‪.‬‬
‫وفي ذلك مصلحة للمؤمنين بشرائع السلم في وقت عطلت فيه الحدود الشرعية‪ ،‬ولم يبق أمام‬
‫المؤمن الصادق سوى التوبة لتكفير خطاياه‪.‬‬
‫وال الموفق والهادي إلى سواء الصراط‪ ،‬أخرج الترمذي عن أنس رضي ال عنه قال‪ :‬سمعت رسول‬
‫ال صلّى ال عليه وسلم يقول‪ :‬قال ال‪ « :‬يا ابن آدم‪ ،‬إنك مادعوتني ورجوتني غفرت لك على ماكان‬
‫منك ول أبالي‪ ،‬يا ابن آدم‪ ،‬لو بلغت ذنوبك عنان السماء‪ ،‬ثم استغفرتني غفرت لك ول أبالي‪ ،‬يا ابن‬
‫آدم‪ ،‬إنك لو لقيتني بقُراب الرض خطايا‪ ،‬ثم لقيتني لتشرك بي شيئا‪ ،‬لتيتك بقُرابها مغفرة » ‪.‬‬

‫( ‪)7/500‬‬

‫صلُ السّادس‪ :‬حدّ الرّدّة وأحكام المرتدّين‬


‫ال َف ْ‬
‫الكلم هنا عن معنى الردة وشرائطها وأحكام المرتدين‪ :‬حكم قتل المرتد‪ ،‬وحكم تملك أمواله‬
‫وتصرفاته‪ ،‬وحكم ميراثه‪.‬‬
‫معنى الردة‪ :‬الردة لغة‪ :‬الرجوع عن الشيء إلى غيره‪ ،‬وهي أفحش الكفر وأغلظه حكما‪ ،‬ومحبطة‬
‫للعمل إن اتصلت بالموت عند الشافعية‪ ،‬وبنفس الردة عند الحنفية‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬ومن يرتدد منكم‬
‫عن دينه فيمت وهو كافر‪ ،‬فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والخرة‪ ،‬وأولئك أصحاب النار هم فيها‬
‫خالدون} [البقرة‪.]217/2:‬‬
‫وهي شرعا‪ :‬الرجوع عن دين السلم إلى الكفر‪ ،‬سواء بالنية أو بالفعل المكفر أو بالقول‪ ،‬وسواء قاله‬
‫استهزاءً أو عنادا أواعتقادا‪.‬‬
‫وعلى هذا فالمرتد‪ :‬هو الراجع عن دين السلم إلى الكفر‪ ،‬مثل من أنكر وجود الصانع الخالق‪ ،‬أو‬
‫نفى الرسل‪ ،‬أو كذب رسولً‪ ،‬أو حلل حراما بالجماع كالزنا واللواط وشرب الخمر والظلم‪ ،‬أو حرم‬
‫حللً بالجماع كالبيع والنكاح‪ ،‬أو نفى وجوب مجمع عليه‪ ،‬كأنه نفى ركعة من الصلوات الخمس‬
‫المفروضة‪ ،‬أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالجماع‪ ،‬كزيادة ركعة من الصلوات المفروضة‪ ،‬أو‬
‫وجوب صوم شيء من شوال‪ ،‬أو عزم على الكفر غدا‪ ،‬أو تردد فيه‪ .‬ومثال الفعل المكفر‪ :‬إلقاء‬
‫مصحف أو كتاب حديث نبوي على قاذورة‪ ،‬وسجود لصنم أو شمس (‪. )1‬‬
‫والخلصة‪ :‬للردة أسباب ثلثة كبرى وهي‪:‬‬
‫‪ - 1‬إنكار حكم مجمع عليه في السلم‪ ،‬كإنكار وجوب الصلة والصوم والزكاة والحج‪ ،‬وإنكار‬
‫تحريم الخمر والربا وكون القرآن كلم ال ‪.‬‬
‫‪ - 2‬فعل بعض أفعال الكفار‪ :‬كإلقاء مصحف في قاذورة متعمدا‪ ،‬وكذلك إلقاء كتب التفسير والحديث‪،‬‬
‫وكالسجود لصنم وممارسة بعض عبادات الكفار أو خصائصهم في اللباس والشراب‪.‬‬
‫‪ - 3‬التحلل من السلم بسب الله أو سب نبي أو سب الدين‪ ،‬أو استباحة تعري المرأة ومنع‬
‫الحجاب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع مغني المحتاج‪ 133/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،288/2 :‬غاية المنتهى‪،332/3 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ ،131 ،123/8‬فتح القدير‪ ،385/4 :‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبير‪.301/4 :‬‬

‫( ‪)7/501‬‬

‫المرتد والزنديق والسابّ والساحر ‪:‬‬


‫المرتد‪ :‬هو المكلف الذي يرجع عن السلم طوعا إما بتصريح بالكفر‪ ،‬أو بلفظ يقتضيه‪ ،‬أو بفعل‬
‫يتضمنه‪.‬‬
‫وأما الزنديق‪ :‬فهو الذي يظهر السلم ويُسرّ الكفر‪ .‬فإذا عثر عليه قتل ول يستتاب‪ ،‬ول يقبل قوله في‬
‫ادعاء التوبة إل إذا جاء تائبا قبل ظهور زندقته‪.‬‬
‫وأما الساحر‪ :‬فيقتل إذا عثر عليه كالكافر‪ ،‬واختلف في قبول توبته أم ل‪.‬‬
‫وأما من سب ال تعالى أو النبي صلّى ال عليه وسلم أو أحدا من الملئكة أو النبياء‪ ،‬فإن كان‬
‫مسلما قتل اتفاقا‪ .‬واختلف هل يستتاب أو ل‪ ،‬المشهور عند المالكية عدم الستتابة وإن كان كافرا‪ ،‬فإن‬
‫سب بغير ما به كفر‪ ،‬فعليه القتل‪ ،‬وإل فل قتل عليه (‪. )1‬‬
‫شروط صحة الردة‪ :‬اتفق العلماء على اشتراط شرطين لصحة الردة‪:‬‬
‫الول ـ العقل‪ :‬فل تصح ردة المجنون والصبي الذي ل يعقل؛ لن العقل من شرائط الهلية في‬
‫العتقادات وغيرها‪.‬‬
‫وأما السكران الذاهب العقل‪ ،‬فل تصح ردته استحسانا عند الحنفية؛ لن المر يتعلق بالعتقاد‬
‫والقصد‪ ،‬والسكران ل يصح عقده ول قصده‪ ،‬فأشبه المعتوه‪ ،‬ولنه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم‪،‬‬
‫ولنه غير مكلف‪ ،‬فلم تصح ردته كالمجنون (‪. )2‬‬
‫وقال الشافعية على المذهب عندهم‪ ،‬والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد‪ :‬تصح ردة السكران‬
‫المتعدي بسكره‪ ،‬وإسلمه‪ ،‬كما يصح طلقه وسائر تصرفاته‪ ،‬ولن الصحابة أوجبوا عليه حد الفرية‬
‫التي يأتي بها في سكره‪ ،‬وأقاموا مظنة الفتراء مقامه (‪ ، )3‬ولكن ل يقتل وهو سكران إن ارتد حتى‬
‫يستتاب بعد بلوغ وصحو ثلثة أيام‪ .‬وأما البلوغ فليس بشرط عند أبي حنيفة ومحمد والمالكية‬
‫والحنابلة‪ ،‬فتصح ردة الصبي المميز‪ ،‬لكن عند أبي حنيفة ومحمد‪ :‬ل يقتل ول يضرب‪ ،‬وإنما يعرض‬
‫عليه السلم جبرا (‪ )4‬عند البلوغ ويحبس ويضرب‪ .‬وإذا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ 364‬وما بعدها‪ ،‬غاية المنتهى‪.362 ،359/3 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،134/7 :‬الدر المختار‪ 311/3 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،137/4 :‬المغني‪ 147/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬وهذا مثل الصبي الذي حكم بإسلمه تبعا لبويه‪ ،‬ثم بلغ كافرا‪ ،‬ولم يسمع منه القرار بالردة بعد‬
‫البلوغ‪ ،‬فإنه يجبر على السلم‪ ،‬وليقتل‪ .‬فإن أقر بالسلم بعد البلوغ ثم ارتد يقتل‪( .‬الدر المختار‬
‫ورد المحتار‪)335/3 :‬‬

‫( ‪)7/502‬‬
‫‪ .‬حكم بصحة ردته بانت منه امرأته‪ ،‬ول تطبق عليه العقوبات المقررة للمرتد؛ لنه ليس أهلً للتزام‬
‫العقوبات في الدنيا‪.‬‬
‫وقال الشافعي وأبو يوسف‪ :‬البلوغ شرط‪ ،‬فل تصح ردة الصبي المميز‪ ،‬ول المجنون لعدم تكليفهما‪،‬‬
‫فل اعتداد بقولهما واعتقادهما‪ ،‬أي ل يصح أيضا عندهما إسلم الصبي‪ ،‬لحديث «رفع القلم عن ثلثة‪:‬‬
‫عن الصبي حتى يبلغ‪ »...‬وقد رجع أبو حنيفة إلى رأي أبي يوسف كما في الفتح وغيره‪.‬‬
‫وقال الجمهور غير الشافعية‪ :‬يصح إسلم الصبي المميز لحديث‪« :‬كل مولود يولد على الفطرة‪( »..‬‬
‫‪. )1‬‬
‫ولقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬من قال‪ :‬ل إله إل ال دخل الجنة» (‪ . )2‬والخلصة‪ :‬أنه يصح إسلم‬
‫المميز وردته عند الجمهور‪ ،‬ول يصح إسلمه ول ردته عند الشافعية‪.‬‬
‫وأرجح رأي الجمهور في قبول إسلم المميز بدليل إسلم سيدنا علي رضي ال عنه وهو صغير‪،‬‬
‫والولى الخذ برأي الشافعي وأبي يوسف في عدم صحة ردة المميز؛ إذ ل تكليف قبل البلوغ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم وأحمد والموطأ والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ «ما من مولود إل‬
‫يولد‪ »...‬ورواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن السود بن سريع بلفظ «كل مولود يولد‪( »...‬جامع‬
‫الصول‪ ،178/1 :‬نيل الوطار‪ ،200/7 :‬الجامع الصغير‪ )94/2 :‬والفطرة‪ :‬أنه يكون متهيئا‬
‫للسلم‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،‬المرجعان السابقان‪ ،‬المغني‪ ،‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ 135 ،133‬وما بعدها‪،‬‬
‫وأما حديث «من قال‪ :‬ل إله إل ال » فرواه البزار عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬وهو حديث صحيح‬
‫متواتر روي عن ‪ 34‬صحابيا بلفظ «من شهد أن ل إله إل ال ‪ ،‬وجبت له الجنة» (النظم المتناثر من‬
‫الحديث المتواتر للكتاني‪ :‬ص ‪ ،28‬الجامع الصغير‪ ،177/2 :‬مجمع الزوائد‪ 81/10 :‬وما بعدها)‪.‬‬

‫( ‪)7/503‬‬

‫وأما الذكورة فليست بشرط اتفاقا‪ ،‬فتصح ردة المرأة‪.‬‬


‫الشرط الثاني‪ :‬الختيار أو الطواعية‪ :‬فل تصح ردة المكره اتفاقا إذا كان قلبه مطمئنا باليمان‪ ،‬كما‬
‫سبق ذكره في بحث الكراه (‪. )1‬‬
‫أحكام المرتد‪ :‬للمرتد أحكام منها‪:‬‬
‫‪ - 1‬قتل المرتد ‪:‬‬
‫ل يقتل المرتد إل إذا كان بالغا عاقلً‪ ،‬لم يتب من ردته‪ ،‬وثبتت ردته بإقرار أو شهادة ‪ .‬وقد اتفق‬
‫العلماء على وجوب قتل المرتد‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من بدل دينه فاقتلوه» (‪ )2‬وقوله عليه‬
‫السلم‪« :‬ل يحل دم امرئ مسلم إل بإحدى ثلث‪ :‬الثيب الزاني‪ ،‬والنفس بالنفس‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪ ،‬المغني‪ :‬ص ‪ ،145‬غاية المنتهى‪.358 ،353/3 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه الجماعة إل مسلما‪ ،‬ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عكرمة عن ابن عباس‪ .‬وقد‬
‫سبق تخريجه (راجع نيل الوطار‪.)190/7 :‬‬

‫( ‪)7/504‬‬

‫والتارك لدينه المفارق للجماعة» (‪ . )1‬وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد‪ ،‬وكذا تقتل المرأة‬
‫المرتدة عند جمهور العلماء غير الحنفية‪ ،‬بدليل أن امرأة يقال لها‪ « :‬أم مروان ارتدت عن السلم‪،‬‬
‫فبلغ أمرها إلى النبي صلّى ال عليه وسلم فأمر أن تستتاب‪ ،‬إن تابت وإل قتلت» (‪ )2‬وقد وقع في‬
‫حديث معاذ‪« :‬أن النبي صلّى ال عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن‪ ،‬قال له‪ :‬أيما رجل ارتد عن السلم‬
‫فادعه‪ ،‬فإن عاد‪ ،‬وإل فاضرب عنقه‪ ،‬وأيما امرأة ارتدت عن السلم ‪ ،‬فادعها‪ ،‬فإن عادت‪ ،‬وإل‬
‫فاضرب عنقها» (‪ . )3‬قال الحافظ ابن حجر‪« :‬وإسناده حسن‪ ،‬وهو نص في موضوع النزاع‪ ،‬فيجب‬
‫المصير إليه» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي ال عنه (سبل السلم‪ ،231/3 :‬اللمام‪ :‬ص ‪.)443‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الدارقطني والبيهقي عن جابر‪ ،‬وإسناده ضعيف‪ ،‬وأخرجه البيهقي من وجه آخر ضعيف‬
‫عن عائشة (نيل الوطار‪ ،192/7 :‬نصب الراية‪ ،458/3 :‬تلخيص الحبير‪ ،‬الطبعة المصرية‪.)49/4 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبراني في معجمه عن معاذ بن جبل‪ ،‬قال الحافظ ابن حجر‪ :‬وسنده حسن (نيل الوطار‪:‬‬
‫‪ ،193/7‬نصب الراية‪.)457/3 :‬‬

‫( ‪)7/505‬‬

‫وقال الحنفية‪ :‬ل تقتل المرأة المرتدة‪ ،‬ولكنها تجبر على السلم‪ ،‬وإجبارها يكون بالحبس إلى أن تسلم‬
‫أو تموت؛ لنها ارتكبت جرما عظيما‪ ،‬وتضرب في كل ثلثة أيام مبالغة في الحمل على السلم‪ ،‬ولو‬
‫قتلها قاتل ل يجب عليه شيء للشبهة‪ .‬ودليلهم على عدم جواز قتل المرأة المرتدة هو قوله صلّى ال‬
‫عليه وسلم ‪« :‬ل تقتلوا امرأة» وفي حديث صحيح آخر أن النبي عليه السلم نهى عن قتل النساء‪،‬‬
‫ولن القتل لدفع شر الحرابة ل بسبب الكفر‪ ،‬إذ جزاؤه أعظم من القتل عند ال تعالى‪ ،‬فيختص القتل‬
‫لمن يتأتى منه المحاربة‪ ،‬وهو الرجل دون المرأة لعدم صلحية بنيتها (‪. )1‬‬
‫أما الستتابة قبل القتل‪ :‬فيستحب عند الحنفية أن يستتاب المرتد ويعرض عليه السلم‪ ،‬لحتمال أن‬
‫يسلم‪ ،‬لكن ل يجب؛ لن دعوة السلم قد بلغته‪ ،‬فإن أسلم فمرحبا به‪ ،‬وإن أبى نظر المام في شأنه‪:‬‬
‫فإن تأمل توبته أو طلب هو التأجيل أجله ثلثة أيام‪ ،‬فإن لم يتأمل توبته‪ ،‬أو لم يطلب هو التأجيل‪ ،‬قتله‬
‫في الحال‪ ،‬بدليل ما روي عن سيدنا عمر رضي ال عنه‪« :‬أنه قدم على رجل من جيش المسلمين‪،‬‬
‫فقال‪ :‬هل عندكم من مُغربةِ خبر؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬رجل كفر بال تعالى بعد إسلمه‪ ،‬فقتلناه‪ ،‬فقال عمر‪ :‬هل‬
‫حبستموه في بيت ثلثة أيام‪ ،‬وأطعمتموه في كل يوم رغيفا لعله يتوب‪ ،‬ثم قال‪ :‬اللهم إني لم أحضر‬
‫ولم آمر‪ ،‬ولم أرض» (‪ ، )2‬إل أن الكمال بن الهمام قال‪ :‬لكن ظاهر تبري عمر يقتضي الوجوب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع المبسوط‪ 98/10 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ 385/4 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ ،134/7 :‬تبيين‬
‫الحقائق للزيلعي‪ 384/3 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار ورد المحتار‪.326 ،312/3 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه مالك في الموطأ‪ ،‬والشافعي والبيهقي من طريقه عن محمد بن عبد ال بن عبد القادر‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى‪ ..‬الحديث (نصب الراية‪ ،460/3 :‬نيل الوطار‪:‬‬
‫‪.)191/7‬‬

‫( ‪)7/506‬‬

‫وكيفية توبة المرتد‪ :‬أن يتبرأ عن الديان كلها سوى السلم‪ ،‬ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه‪ ،‬لحصول‬
‫المقصود به‪ ،‬وتكون توبة المرتد وكل كافر بإتيانه بالشهادتين (‪. )1‬‬
‫وقال جمهور العلماء‪ :‬تجب استتابة المرتد والمرتدة قبل قتلهما ثلث مرات‪ ،‬بدليل حديث أم مروان‬
‫السابق ذكره‪ ،‬وثبت عن عمر وجوب الستتابة‪ ،‬ول يعارض هذا‪ :‬النهي عن قتل النساء الذي استدل‬
‫به الحنفية‪ ،‬لن ذلك محمول على الحربيات‪ ،‬وهذا محمول على المرتدات (‪. )2‬‬
‫والخلصة‪ :‬أنه يعرض السلم استحبابا عند الحنفية (‪ ، )3‬ووجوبا عند غيرهم على المرتد‪ ،‬فإن‬
‫كانت له شبهة كشفت له‪ ،‬إذ الظاهر أنه ل يرتد إل من له شبهة‪ .‬ويحبس ثلثة أيام ندبا عند الحنفية‪،‬‬
‫ويعرض عليه السلم في كل يوم‪ ،‬فإن أسلم فبها‪ ،‬وإن لم يسلم قتل‪ ،‬لحديث‪« :‬من بدل دينه فاقتلوه» (‬
‫‪. )4‬‬
‫ول يقتل المرتد إل المام أو نائبه‪ ،‬فإن قتله أحد بل إذنهما‪ ،‬أساء وعزر‪ ،‬ولكن ل ضمان بقتله ولو‬
‫كان القتل قبل استتابته‪ ،‬أو كان مميزا‪ ،‬إل أن يلحق بدار الحرب فلكل أحد قتله وأخذ مامعه‪.‬‬
‫‪ - 2‬حكم مال المرتد وتصرفاته ‪:‬‬
‫ل خلف في أن المرتد إذا أسلم تكون أمواله على حكم ملكه السابق‪ ،‬ول خلف أيضا في أنه إذا‬
‫مات‪،‬أو قتل‪ ،‬أو لحق بدار الحرب‪ ،‬تزول أمواله عن ملكه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬اللباب شرح الكتاب‪ ،149/4 :‬غاية المنتهى‪.360/3 :‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،448/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،304/4 :‬مغني المحتاج‪ :‬ص ‪ 139‬وما بعدها‪،‬‬
‫المغني‪ 124/8 :‬وما بعدها‪ ،‬غاية المنتهى‪.358/3 :‬‬
‫(‪ )3‬الكتاب مع اللباب‪.148/4 :‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد عن عبد ال بن عباس رضي‬
‫ال عنهما‪ ،‬وقد سبق تخريجه‪.‬‬

‫( ‪)7/507‬‬

‫واختلف في أن زوال ملكه عن أمواله بالموت أو القتل أو اللحاق بدار الحرب‪ :‬هل من وقت الردة‪،‬‬
‫أي بأثررجعي‪ ،‬أو عند حدوث هذه السباب؟‬
‫قال أبو حنيفة (وقوله هو الصحيح في مذهبه)‪ ،‬والشافعي في أظهر أقواله الثلثة‪ ،‬ومالك على الراجح‬
‫في مذهبه‪ ،‬وظاهر كلم أحمد‪ :‬تصبح أموال المرتد بمجرد الردة موقوفة‪ ،‬أي يحجر عليه بالرتداد‬
‫إلى أن يتقرر مصيره‪ ،‬فإن أسلم تبينا بقاء ملكه‪ ،‬وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب‬
‫وحكم بلحاقه‪ ،‬تبينا زوال ملكيته عن أمواله بمجرد ردته‪ ،‬وعند أبي حنيفة‪ :‬ينتقل ماكان اكتسبه في‬
‫حال إسلمه إلى ورثته المسلمين؛ لن ردته بمنزلة موته‪ ،‬فيتحقق شرط توريث المسلم من المسلم‪،‬‬
‫ويصبح مااكتسبه في حال ردته فيئا للمسلمين‪ ،‬فيوضع في بيت المال؛ لن كسبه حال ردته كسب‬
‫مباح الدم ليس فيه حق لحد‪ ،‬فكان فيئا كمال الحربي‪.‬‬
‫وكذلك تكون تصرفات المرتد حال ردته بالبيع والشراء والهبة والوصية ونحوها موقوفة عند أبي‬
‫حنيفة‪ :‬إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحا‪ ،‬وإن قتل أو مات على ردته كان تصرفه باطلً‪ ،‬إل أن‬
‫الشافعية قالوا‪ :‬إذا كان التصرف يحتمل الوقف كالوصية فهو موقوف‪ ،‬وإن لم يحتمل الوقف كالبيع‬
‫والهبة والرهن‪ ،‬كان التصرف باطلً؛ لنهم يقولون ببطلن وقف العقود‪.‬‬
‫( ‪)7/508‬‬

‫ودليل الشافعية‪ :‬أن المرتد تزول عصمة نفسه بالردة‪ ،‬فيجب قتله‪ ،‬وكذا تزول عصمة ماله‪ ،‬لنها تبع‬
‫لعصمة النفس‪ ،‬فتزول ملكيته عن ماله‪ ،‬ولنه معرض للقتل‪ ،‬والقتل يؤدي به إلى الموت‪ ،‬والموت‬
‫تزول به الملكية‪ ،‬بأثر رجعي أي (مستند إلى الماضي) يمتد إلى السبب الذي أدى إلى الموت وهو‬
‫الردة‪ ،‬غير أنه يدعى إلى السلم‪ .‬ونظرا لحتمال عودته إلى السلم نحكم بتوقف زوال ملكه في‬
‫الحال‪ ،‬فإن أسلم تبين أن الردة لم تكن سببا لزوال الملك‪ ،‬وإن قتل أو مات أو لحق بدار الحرب‪ ،‬تبين‬
‫أنها وقعت سببا لزوال الملك من حين حدوثها‪ ،‬والحكم ل يتخلف عن سببه‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ ،‬والحنابلة في الراجح عندهم‪ :‬ل يزول ملك المرتد بمجرد ردته‪ ،‬وإنما يزول بالموت‬
‫أو القتل‪ ،‬لن تأثير الردة يظهر في إباحة دمه‪ ،‬ل في زوال ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص‪،‬‬
‫ولنه مكلف‪ ،‬فيكون كامل الهلية‪ ،‬فيحكم ببقاء ملكه‪ .‬وزوال العصمة عن النفس ل يلزم منه زوال‬
‫الملك بدليل المحكوم عليه بالرجم ونحوه‪.‬‬
‫إل أن الحنابلة قالوا‪ :‬لو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه‪ ،‬وإنما يباح قتله لكل واحد من غير‬
‫استتابة‪ ،‬ويباح أخذ ماله لمن قدر عليه‪ ،‬لنه صار حربيا‪ ،‬حكمه حكم الحربيين‪ .‬وتصبح تصرفات‬
‫المرتد حينئذ موقوفة‪ .‬قال ابن مفلح الحنبلي في المبدع‪ :‬تكون تصرفات المرتد من البيع والهبة‬
‫والوقف ونحوه موقوفة على المذهب؛ لنه مال تعلق به حق الغير‪ ،‬فكان التصرف فيه موقوفا كتبرع‬
‫المريض‪ ،‬والمذهب أنه يمنع من التصرف فيه‪ .‬فإن أسلم ثبت ملكه وتصرفاته‪ ،‬وكان ذلك صحيحا‬
‫وإل بطلت‪ ،‬أي إذا مات أو قتل في ردته‪ ،‬كان تصرفه باطلً‪ ،‬تغليظا عليه‪ ،‬بقطع ثوابه‪ ،‬بخلف‬
‫المريض‪.‬‬

‫( ‪)7/509‬‬

‫أما الصاحبان فقال‪ :‬تزول ملكية المرتد عن أمواله بمجرد اللحاق بدار الحرب مثل الموت أو القتل‪،‬‬
‫وتنتقل كل أمواله لورثته‪ .‬وتعتبر تصرفات المرتد نافذة في أمواله‪ ،‬إل أن أبا يوسف قال‪ :‬تنفذ‬
‫تصرفاته كتصرف النسان العادي الصحيح البدن؛ لنه يمكنه الرجوع إلى السلم‪ ،‬فيتخلص عن‬
‫القتل‪ .‬أما المريض‪ :‬فل يمكنه دفع المرض عن نفسه‪ ،‬فل تشابه بينهما‪ .‬وقال محمد‪ :‬تنفذ تصرفاته‬
‫كالمريض مرض الموت‪ ،‬أي ل تنفذ تبرعاته بالنسبة للورثة إل في حدود الثلث؛ لن المرتد معرض‬
‫للموت بتنفيذ العقاب عليه وهو القتل‪ ،‬فأشبه المريض مرض الموت‪.‬‬
‫ويلحظ أن خلف أبي حنيفة مع صاحبيه هو في المرتد‪ ،‬أما المرتدة فل يزول ملكها عن أموالها بل‬
‫خلف عندهم‪ ،‬وتنفذ تصرفاتها في مالها؛ لنها ل تقتل عندهم‪ ،‬فلم تكن ردتها سببا لزوال ملكها عن‬
‫أموالها‪ ،‬فتنفذ تصرفاتها (‪. )1‬‬
‫‪ - 3‬حكم ميراث المرتد ‪:‬‬
‫إذا مات المرتد أو قتل‪ ،‬فإنه يبدأ بقضاء دينه وضمان جنايته ونفقة زوجته وقريبه؛ لن هذه الحقوق ل‬
‫يجوز تعطيلها‪.‬‬
‫وما بقي من ماله يكون فيئا لجماعة المسلمين يجعل في بيت المال‪ ،‬وهو مذهب المالكية والشافعية‬
‫والحنابلة (‪ ، )2‬لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬ل يرث المسلم الكافر‪ ،‬ول يرث الكافر المسلم» (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع الموضوع في المبسوط‪ ،101/10 :‬الكتاب مع اللباب‪ 150/4 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪،136/7 :‬‬
‫فتح القدير‪ ،397-390/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،285/3 :‬الدر المختار‪ ،328/3 :‬الشرح الكبير للدردير‪:‬‬
‫‪ 305/4‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ 142/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ 128/8 :‬وما بعدها‪ ،‬غاية المنتهى‪:‬‬
‫‪ ،361/3‬المبدع شرح المقنع لبن مفلح المؤرخ الحنبلي‪ 984- 916( :‬هـ) طبع المكتب السلمي‬
‫بدمشق‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪ :‬ص ‪ ،304‬مغني المحتاج‪ ،‬المغني‪ ،‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد في مسنده وأصحاب الكتب الستة عن أسامة بن زيد‪ ،‬وهو حديث صحيح (تلخيص‬
‫الحبير‪ ،‬الطبعة المصرية‪ ،84/3 :‬سبل السلم‪ ،98/3 :‬اللمام‪ :‬ص ‪.)388‬‬

‫( ‪)7/510‬‬

‫وقال أبو حنيفة‪ :‬إذا مات المرتد أو قتل‪ ،‬أو لحق بدار الحرب‪ ،‬وترك ماله في دار السلم‪ ،‬انتقل ما‬
‫اكتسبه في السلم إلى ورثته‪ ،‬وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئا يوضع في بيت مال المسلمين؛ لن‬
‫الرث له أثر رجعي يمتد إلى الماضي‪ ،‬فما اكتسبه في حال إسلمه يورث لوجود الكسب قبل الردة‪،‬‬
‫فيكون للرث أثر رجعي بالنسبة إليه‪ ،‬فيتم شرط توريث المسلم من المسلم‪ ،‬وما اكتسبه حال ردته‬
‫يكون فيئا؛ لنه زال ملكه بالردة‪ ،‬فكان الكسب ل مالك له‪ ،‬فل يورث‪ ،‬إذ ل يمكن هنا أن يكون‬
‫للرث أثر رجعي بالنسبة لكسب الردة‪ ،‬لعدم الكسب قبل الردة‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬كل مال للمرتد يملكه ورثته‪ ،‬سواء أكان الكسب قبل الردة أم بعدها؛ لن القاعدة‬
‫عندهما أن المرتد ل تزول ملكيته عن أمواله‪ ،‬وإنما ملكه باق له؛ لنه كما عرفنا أهل للملك‪ ،‬وإذا‬
‫ثبت ملكه فتنتقل أمواله إلى ورثته بالموت أو ما في معناه‪ ،‬ويعتبر للتوريث أثر رجعي إلى ما قبيل‬
‫ردته‪ ،‬فيجعل كأنه اكتسبه في حال السلم‪ ،‬فورثه ورثته منه حال السلم‪ ،‬فينطبق شرط توريث‬
‫المسلم من المسلم‪.‬‬
‫ثم اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في أهلية الوراثة‪ :‬هل يعتبر حال الوارث إسلما وغيره وقت الردة‬
‫أو وقت الموت؟‬
‫قال الصاحبان‪ :‬تعتبر أهلية الوراثة وقت الموت أو القتل؛ لن ملك المرتد يزول عندهما بالموت أو ما‬
‫في معناه‪ ،‬فإن كان الوارث مسلما حرا يرث‪ ،‬وإل فل‪.‬‬
‫ل للرث ورث‪ ،‬وإن‬
‫وعن أبي حنيفة روايتان‪ :‬في رواية‪ :‬يعتبر حال الردة فقط‪ ،‬فلو كان حينئذ أه ً‬
‫زالت أهليته بعدئذ‪.‬‬

‫( ‪)7/511‬‬

‫وفي رواية‪ :‬يعتبر حال الردة مع الدوام على الهلية إلى وقت الموت أو القتل‪ ،‬فمن كان وارثا حال‬
‫الردة‪ ،‬بأن كان حرا مسلما‪ ،‬وبقي كذلك إلى وقت الموت أو اللحاق بدار الحرب‪ ،‬فإنه هو الذي يرث‪.‬‬
‫والصح كما قال في المبسوط هو اعتبار حال الوارث عند الموت أو القتل‪ ،‬أوالحكم باللحاق بدار‬
‫الحرب؛ لن الحادث بعد انعقاد سبب الملكية ولكن قبل تمام السبب كالحادث عند وجود أصل السبب‪،‬‬
‫فمثلً إن الزيادة المتولدة من المبيع كالولد‪ ،‬والثمرة قبل قبض المشتري للمبيع‪ ،‬تعتبر ملحقة بالمبيع‪،‬‬
‫فتصير معقودا عليها‪ ،‬وكأنها موجودة عند ابتداء العقد‪ ،‬ويعتبر الثمن موزعا على الصل وعلى‬
‫الزيادة معا (‪. )1‬‬
‫وإن لحق المرتد بدار الحرب‪ ،‬وحكم القاضي بلحاقه‪ ،‬حلت ديونه المؤجلة التي عليه‪ ،‬ونقل ما اكتسبه‬
‫في حال السلم عند الحنفية إلى ورثته المسلمين‪.‬‬
‫هل يشترط قضاء القاضي بلحاق المرتد بدار الحرب؟‬
‫فيه عند الحنفية روايتان‪ :‬في رواية‪ :‬أنه ل بد لستقرار لحاقه بدار الحرب من قضاء القاضي لحتمال‬
‫عودته إلى دار السلم‪ .‬وظاهر الرواية‪ :‬أنه ل يحتاج للقضاء‪.‬‬
‫إل أن الصاحبين ـ في حالة القضاء باللحاق ـ اختلفا في أهلية الوراثة باللحاق بدار الحرب‪ :‬هل‬
‫تعتبر الهلية وقت القضاء باللحاق أو وقت اللحاق؟‬
‫عند أبي يوسف‪ :‬يعتبر وقت القضاء؛ لن الملك ل يزول إل بالقضاء‪ ،‬ومجرد اللحاق يعتبر غيبة‪.‬‬
‫وهذا هو الرجح‪.‬‬
‫وعند محمد‪ :‬يعتبر وقت اللحاق؛ لن اللحاق هو سبب زوال الملك‪ ،‬فالملك يزول به‪ ،‬والقضاء إنما‬
‫يكون لتقرر اللحاق بإزالة احتمال عودة المرتد إلينا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ :‬ص ‪ ،102‬فتح القدير‪ :‬ص ‪ ،391‬تبيين الحقائق‪ :‬ص ‪ ،286‬البدائع‪ :‬ص ‪ ،138‬الدر‬
‫المختار‪ :‬ص ‪ 328‬وما بعدها‪ ،‬المراجع السابقة‪.‬‬

‫( ‪)7/512‬‬

‫وإذا افترضنا أن المرتد بعد لحاقه بدار الحرب‪ ،‬عاد مسلما إلى دار السلم‪ :‬فإن كان قبل قضاء‬
‫القاضي بلحاقه‪ ،‬فماله على حاله‪ ،‬وإن كان بعد القضاء‪ ،‬فما وجد من ماله في يد وارثه فهو أحق به‪،‬‬
‫ويأخذه منه بطريق القضاء؛ لن حكم القاضي باللحاق صير المال ملكا لورثة المرتد‪ ،‬فل يعود الملك‬
‫له إل بالقضاء أو بالتراضي‪.‬‬
‫وإذا كان المال قد خرج عن ملك الوارث بالتمليك‪ ،‬أو بالستهلك‪ ،‬فل يحق للمرتد الرجوع على‬
‫وارثه بذلك (‪. )1‬‬
‫أما ديون المرتد‪ :‬فتقضى الديون التي لزمته في حال السلم مما اكتسبه في حال السلم‪ ،‬وما لزمه‬
‫من الديون في حال ردته يقضى مما اكتسبه في حال ردته‪ .‬وهذه رواية عن أبي حنيفة‪ ،‬وقول زفر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪ ،‬الدر المختار‪ :‬ص ‪ ،331‬فتح القدير‪ :‬ص ‪ ،394‬تبيين الحقائق‪ ،288 :‬البدائع‪:‬‬
‫ص ‪ ،138‬المبسوط‪ :‬ص ‪.103‬‬

‫( ‪)7/513‬‬

‫البَابُ الثّاني‪ :‬التّعزِير‬


‫بعد انتهاء الكلم عن الحدود‪ :‬وهي العقوبات المقدرة في الشرع‪ ،‬أبيّن عقوبات الجرائم التي ليس لها‬
‫حد مقدر شرعا‪ :‬وهوما يعرف بالتعزير‪ ،‬وأتكلم عنه بإيجاز عن تعريفه‪ ،‬وشروط وجوبه‪ ،‬وقدره‬
‫وصفته‪ ،‬وطرق إثبات موجبه‪ ،‬وضمان موت المعزر (‪. )1‬‬
‫تعريف التعزير وموجبه ومنفّذه وكيفيته ‪:‬‬
‫الصل في التعزير لغة‪ :‬المنع‪ ،‬ومنه التعزير بمعنى النصرة؛ لنه منع لعدوه من أذاه‪ ،‬ثم اشتهر معنى‬
‫التعزير في التأديب والهانة دون الحد؛ لنه يمنع الجاني من معاودة الذنب‪ .‬وهوشرعا‪ :‬العقوبة‬
‫المشروعة على معصية أو جناية ل حد فيها‪ ،‬ول كفارة (‪ ، )2‬سواء أكانت الجناية على حق ال‬
‫تعالى‪ ،‬كالكل في نهار رمضان بغير عذر (‪ ، )3‬وترك الصلة في رأي الجمهور‪ ،‬والربا‪ ،‬وطرح‬
‫النجاسة ونحوها في طريق الناس ونحوها‪ ،‬أم على حق العباد كمباشرة الجنبية فيما دون الفرج‪،‬‬
‫وسرقة ما دون النصاب‪ ،‬أو السرقة من غير حرز‪ ،‬وخيانة المانة والرشوة‪ ،‬أو القذف بغير الزنى من‬
‫أنواع السب والضرب واليذاء بأي وجه‪ ،‬مثل أن يقول الرجل لخر‪ :‬يا فاسق‪ ،‬يا خبيث‪ ،‬يا سارق‪ ،‬يا‬
‫فاجر‪ ،‬يا كافر‪ ،‬يا آكل الربا‪ ،‬يا شارب الخمر‪ ،‬ونحوها‪ .‬سئل علي كرم ال وجهه عن قول الرجل‬
‫للرجل‪ :‬يا فاسق‪ ،‬يا خبيث‪ ،‬قال‪ :‬هن فواحش فيهن التعزير‪ ،‬وليس فيهن حد‪.‬‬
‫ومن موجبات التعزير‪ :‬الجناية التي ل قصاص فيها‪ ،‬أو وطء الزوجة في الدبر‪ ،‬أو أثناء الحيض‪ ،‬أو‬
‫النهب أو الغصب أو الختلس‪.‬‬
‫ولو قال شخص لخر‪ :‬يا كلب‪ ،‬يا خنزير‪ ،‬يا حمار‪ ،‬يا ثور‪ ،‬ل يعزر في أصل مذهب الحنفية؛ لنه‬
‫قذفه بما ل يتصور‪ ،‬فيرجع عار الكذب إليه‪ .‬وبعضهم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬من أراد التفصيل فليرجع إلى رسالة الدكتوراه للزميل عبد العزيز عامر وموضوعها‪« :‬التعزير‬
‫في الشريعة السلمية» طبعة البابي الحلبي‪.‬‬
‫(‪ )2‬إن المعاصي ثلثة أنواع‪ :‬نوع فيه الحد ول كفارة فيه‪ ،‬كالسرقة والشرب والزنا والقذف‪ ،‬فالحد‬
‫فيه مغن عن التعزير‪ .‬ونوع فيه الكفارة ول حد فيه‪ ،‬كالوطء في نهار رمضان عند الشافعية والحنابلة‬
‫بعكس الحنفية والمالكية‪ ،‬والوطء في الحرام‪ .‬ونوع ثالث ل حد فيه ول كفارة‪ :‬مثل قبلة الجنبية‬
‫والخلوة بها‪ ،‬ودخول الحمام بغير مئزر‪ ،‬وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬وهذا النوع فيه‬
‫التعزير‪ ،‬ول يجوز للمام تركه في قول الجمهور كما بينا‪ ،‬وقال الشافعي‪ :‬إنه راجع إلى اجتهاد المام‬
‫في إقامته وتركه‪ ،‬كما يرجع إلى اجتهاده في قدره (أعلم الموقعين‪.)99/2 :‬‬
‫(‪ )3‬ذكر الحنابلة أنه يعزر بعشرين سوطا لشرب مسكر نهار رمضان مع الحد (غاية المنتهى‪:‬‬
‫‪.)333/3‬‬

‫( ‪)7/514‬‬

‫قال‪ :‬يعزر في عرفنا‪ ،‬وهذا هو المناسب لعصرنا‪ ،‬إذا كان مثله يتأذى بذلك‪ ،‬ويعزره القاضي بناء‬
‫على طلب المشتوم‪ ،‬ويؤيد هذا التجاه (‪ )1‬أن الشافعية قالوا‪ :‬من اللفاظ الموجبة للتعزير قوله لغيره‪:‬‬
‫يا فاسق‪ ،‬يا كافر‪ ،‬يا فاجر‪ ،‬يا شقي‪ ،‬يا كلب‪ ،‬يا حمار‪ ،‬يا تيس‪ ،‬يا رافضي‪ ،‬يا خبيث‪ ،‬يا كذاب‪ ،‬يا‬
‫خائن‪ ،‬يا قواد‪ ،‬يا ديوث (‪. )2‬‬
‫ويقوم بالتعزير ولي المر أو نائبه‪ .‬ويكون التعزير إما بالضرب‪ ،‬أو بالحبس أو بالتوبيخ‪ ،‬ونحوها‬
‫بحسب ما يراه ولي المر رادعا للشخص‪ ،‬بحسب اختلف حالت الناس‪.‬‬
‫متى يشرع الحبس؟‬
‫قال جماعة من الفقهاء بمشروعية الحبس‪ ،‬بدليل أن النبي صلّى ال عليه وسلم حبس رجلً في تهمة‪،‬‬
‫ثم خلى عنه (‪ ، )3‬وهذا هو الحبس الحتياطي‪ .‬وقال عليه السلم‪« :‬لي الواجد يُحلّ عِرْضه‬
‫وعقوبته» (‪ . )4‬وثبت أن عمر بن الخطاب كان له سجن‪ ،‬وتبعه في ذلك عثمان‪ ،‬وعلي رضي ال‬
‫عنهم‪ .‬واستدل الحنفية على مشروعية الحبس بقوله تعالى‪{ :‬أو ينفوا من الرض} [المائدة‪]5/33:‬‬
‫قالوا‪ :‬والمقصود من النفي هو الحبس (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البحر الرائق‪.240/8 :‬‬
‫(‪ )2‬تكملة المجموع‪.361/18 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن بهز بن حكيم‪ .‬والتهمة‪ :‬الظن بما نسب إلى إنسان‬
‫(نيل الوطار‪.)150/7 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الشريد‪ .‬واللي‪ :‬المطل‪ ،‬والواجد‪ :‬الغني‪،‬‬
‫يحل‪ :‬يجوز وصفه بكونه ظالما‪ ،‬وعرضه‪ :‬شكايته‪ ،‬وعقوبته‪ :‬حبس‪ .‬وقد استدل بالحديث على جواز‬
‫حبس من عليه الدين حتى يقضيه إذا كان قادرا على القضاء تأديبا له وتشديدا عليه‪ ،‬ل إذا لم يكن‬
‫قادرا (نيل الوطار‪.)240/5 :‬‬
‫(‪ )5‬تبيين الحقائق‪ ،208/3 :‬أحكام القرآن للجصاص‪ ،412/2 :‬المغني‪.328/9 :‬‬

‫( ‪)7/515‬‬

‫ويشرع الحبس في ثمانية مواضع‪ ،‬كما أبان القرافي المالكي (‪: )1‬‬
‫الول ـ يحبس الجاني لغيبة المجني عليه‪ ،‬حفظاَ لمحل القصاص‪.‬‬
‫الثاني ـ حبس البق سنة‪ ،‬حفظا للمالية رجاء أن يعرف صاحبه‪.‬‬
‫الثالث ـ يحبس الممتنع عن دفع الحق إلجاء إليه‪.‬‬
‫الرابع ـ يحبس من أشكال أمره في العسر واليسر‪ ،‬اختبارا لحاله‪ ،‬فإذا ظهر حاله حكم بموجبه عسرا‬
‫أو يسرا‪.‬‬
‫الخامس ـ الحبس للجاني تعزيرا وردعا عن معاصي ال تعالى‪.‬‬
‫السادس ـ يحبس من امتنع من التصرف الواجب الذي ل تدخله النيابة‪ ،‬من حقوق العباد‪ ،‬كحبس من‬
‫أسلم متزوجا بأختين أو عشر نسوة‪ ،‬أو امرأة وابنتها‪ ،‬وامتنع من تعيين واحدة‪.‬‬
‫السابع ـ من أقر بمجهول‪ ،‬عينا أو في الذمة‪ ،‬وامتنع من تعيينه‪ ،‬فيحبس حتى يعينه‪ ،‬فيقول‪ :‬العين هو‬
‫هذا الثوب أو هذه الدابة ونحوها‪ ،‬أو الشيء الذي أقرت به هو دينار في ذمتي‪.‬‬
‫الثامن ـ يحبس الممتنع في حق ال تعالى الذي ل تدخله النيابة عند الشافعية كالصوم‪ .‬وعند المالكية‪:‬‬
‫يقتل كالصلة‪.‬‬
‫قال القرافي‪ :‬وما عدا هذه الثمانية ل يجوز الحبس فيه‪ ،‬ول يجوز الحبس ي الحق إذا تمكن الحاكم‬
‫من استيفائه‪ ،‬فإن امتنع المدين من دفع الدين‪ ،‬وعرف ماله‪ ،‬أخذنا منه مقدار الدين‪ ،‬ول يجوز لنا‬
‫حبسه‪ ،‬وكذلك إذا ظفرنا بماله‪ ،‬أو داره‪ ،‬أو شيء يباع له في الدين‪ ،‬رهنا كان أو غيره‪ ،‬فعلنا ذك ول‬
‫نحبسه؛ لن في حبسه استمرار ظلمه‪ ،‬ودوام المنكر في الظلم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الفروق‪ ،79/4 :‬العتصام‪ ،120/2 :‬وانظر الطرق الحكمية لبن القيم‪ :‬ص ‪ 101‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/516‬‬

‫التعزير بالقتل سياسة ‪:‬‬


‫أجاز الحنفية والمالكية (‪ : )1‬أن تكون عقوبة التعزير كما في حال التكرار (العود) أو اعتياد الجرام‪،‬‬
‫أو المواقعة في الدبر (اللواطة)‪ ،‬أو القتل بالمثقل عند الحنفية‪ :‬هي القتل‪ ،‬ويسمونه القتل سياسة‪ ،‬أي‬
‫إذا رأى الحاكم المصلحة فيه‪ ،‬وكان جنس الجريمة يوجب القتل‪.‬‬
‫وقد أفتى أكثر فقهاء الحنفية بناء عليه بقتل من أكثر من سب النبي صلّى ال عليه وسلم من أهل‬
‫الذمة‪ ،‬وإن أسلم بعد أخذه‪ ،‬وقالوا‪ :‬يقتل سياسة‪ .‬وأجمع العلماء كما قال القاضي عياض في الشفا على‬
‫وجوب قتل المسلم إذا سب النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬إن الذين يؤذون ال ورسوله‬
‫لعنهم ال في الدنيا والخرة وأعد لهم عذابا مهينا} [الحزاب‪.]57/33:‬‬
‫وقالوا أيضا‪ :‬إن للمام قتل السارق سياسة إذا تكررت منه جريمة السرقة‪ ،‬وله قتل من تكرر منه‬
‫الخنق في ضمن المصر‪ ،‬لسعيه بالفساد في الرض‪ ،‬ومثله كل من ل يدفع شره إل بالقتل يقتل‬
‫سياسة‪ .‬وذكلك يقتل الساحر عند أكثر العلماء‪ ،‬والزنديق الداعي إلى زندقته‪ ،‬إذا قبض عليه‪ ،‬ولو تاب‪.‬‬
‫وقد روى الترمذي عن جندب موقوفا ومرفوعا‪« :‬أن حد الساحر ضربه بالسيف» ‪.‬‬
‫وأجاز المالكية والحنابلة وغيرهم (‪ )2‬قتل الجاسوس المسلم‪ ،‬إذا تجسس للعدو على المسلمين‪ .‬ولم‬
‫يجز أبو حنيفة والشافعي هذا القتل‪ .‬وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما قتل الداعية‬
‫إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة‪.‬‬
‫واتفق الفقهاء على أنه يقتل الجاسوس الحربي الكافر‪ ،‬وأما المعاهد والذمي فقال مالك والوزاعي‪:‬‬
‫ينتقض عهده بذلك‪ ،‬وعند الشافعية خلف‪ ،‬وقد ورد في السنة ما يدل على جواز قتل الجاسوس إذا‬
‫كان مستأمنا أو ذميا‪ ،‬قال سلمة بن الكوع‪« :‬أتى النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رد المحتار لبن عابدين‪ ،196/3 :‬الشرح الكبير للدردير‪.355/4 :‬‬
‫(‪ )2‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،114‬الحسبة لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،48‬غاية المنتهى‪،334/3 :‬‬
‫المهذب‪.242/2 :‬‬

‫( ‪)7/517‬‬

‫عَيْن‪ ،‬وهو في سفر‪ ،‬فجلس عند بعض أصحابه يتحدث‪ ،‬ثم انسل‪ ،‬فقال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫اطلبوه فاقتلواه‪ ،‬فسبقتهم إليه‪ ،‬فقتلته‪ ،‬فنفلني سلبه» (‪. )1‬‬
‫ومن لم يندفع فساده في الرض إل بالقتل قُتل‪ ،‬مثل المفرق لجماعة المسلمين‪ ،‬والداعي إلى البدع في‬
‫الدين‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في‬
‫الرض‪ ،‬فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة‪ ]32/5:‬وفي الصحيح عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه‬
‫قال‪« :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما» ‪ ،‬وروى مسلم في صحيحه عن عرفجة الشجعي‬
‫رضي ال عنه‪« :‬من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد‪ ،‬يريد أن يشق عصاكم‪ ،‬أو يفرق جماعتكم‬
‫فاقتلوه» ‪ .‬وأمر النبي صلّى ال عليه وسلم بقتل رجل تعمد عليه الكذب‪ ،‬وسأله ديلم الحميري ـ فيما‬
‫يرويه أحمد في المسند ـ عمن لم ينته عن شرب الخمر في المرة الرابعة‪ ،‬فقال‪« :‬فإن لم يتركوه‬
‫فاقتلوهم» ‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬أنه يجوز القتل سياسة لمعتادي الجرام ومدمني الخمر ودعاة الفساد ومجرمي أمن‬
‫الدولة‪ ،‬ونحوهم‪.‬‬
‫التعزير بالمال‪ :‬ل يجوز التعزير بأخذ المال في الراجح عند الئمة (‪ )2‬لما فيه م تسليط الظلمة على‬
‫أخذ مال الناس‪ ،‬فيأكلونه‪ .‬وأثبت ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن التعزير بالعقوبات المالية مشروع في‬
‫مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه‪ ،‬ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي‪ ،‬كما دلت‬
‫عليه سنة رسول ال صلّى ال عليه وسلم مثل أمره بمضاعفة غرم ما ل قطع فيه من الثمر المعلّق‬
‫والكثَر (جمّار النخل)‪ ،‬وأخذه شطر مال مانع الزكاة‪ ،‬عزمة مات الرب تبارك وتعالى‪ ،‬ومثل تحريق‬
‫عمر وعلي رضي ال عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر‪ ،‬ونحوه كثير‪ .‬ومن قال كالنووي وغيره‪ :‬إن‬
‫العقوبات المالية منسوخة‪ ،‬وأطلق ذلك‪ ،‬فقد غلط في نقل مذاهب‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن سلمة (نيل الوطار‪.)7/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،63/7 :‬فتح القدير‪ ،212/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،207/3 :‬حاشية ابن عابدين‪195/3 :‬‬
‫ومابعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،191/4 :‬المهذب‪ :‬ص ‪ ،288‬حاشية الدسوقي‪ ،354/4 :‬المغني‪،324/8 :‬‬
‫أعلم الموقعين‪ ،99/2 :‬العتصام للشاطبي‪ 123/2 :‬ومابعدها‪ ،‬ط السعادة‪.‬‬

‫( ‪)7/518‬‬

‫الئمة والستدلل عليها (‪. )1‬‬


‫معنى التعزير بأخذ المال ‪:‬‬
‫روي عن أبي يوسف‪ :‬أنه يجوز للسلطان التعزير بأخذ المال‪ .‬ومعنى التعزير بأخذ المال على القول‬
‫عند من يجيزه‪ :‬هو إمساك شيء من مال الجاني عنه مدة‪ ،‬لينزجر عما اقترفه‪ ،‬ثم يعيده الحاكم إليه‪،‬‬
‫ل أن يأخذه الحاكم لنفسه‪ ،‬أو لبيت المال‪ ،‬كما يتوهم الظلمة؛ إذ ل يجوز لحد من المسلمين أخذ مال‬
‫أحد بغير سبب شرعي‪.‬‬
‫قال ابن عابدين‪ :‬وأرى أن يأخذ الحاكم مال الجاني‪ ،‬فيمسكه عنده‪ ،‬فإن أيس من توبته‪ ،‬يصرفه إلى ما‬
‫يرى من المصلحة‪.‬‬
‫وأما مصاردة السلطان لرباب الموال فل تجوز إل لعمال بيت المال‪ ،‬على أن يردها لبيت المال (‪)2‬‬
‫‪ .‬وصادر عمر طعاما من سائل وجده أكثر من كفايته‪ ،‬وتصادر الموال من كسب غير مشروع‪.‬‬
‫أقسام العقوبات المالية عند ابن تيمية ‪:‬‬
‫تقسم العقوبات المالية في رأي ابن تيمية إلى ثلثة أقسام‪ :‬التلف‪ ،‬والتغيير‪ ،‬والتمليك (‪. )3‬‬
‫‪ - ً 1‬التلف‪ :‬هو إتلف محل المنكرات من العيان والصفات تبعا لها‪ ،‬مثل إتلف مادة الصنام‪،‬‬
‫بتكسيرها وتحريقها‪ ،‬وتحطيم آلت الملهي عند أكثر الفقهاء‪ ،‬وتكسير وتخريق أوعية الخمر‪،‬‬
‫وتحريق الحانوت الذي يباع فيه الخمر‪ ،‬على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرها‪ ،‬عملً بما فعله‬
‫عمر من تحريق حانوت خمار‪ ،‬وبما فعله علي من تحريق قرية كما يباع فيها الخمر؛ لن مكان البيع‬
‫مثل الوعية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع شرح مسلم للنووي‪ ،218/12 :‬الحسبة في السلم لبن تيمية‪ :‬ص ‪ 49‬وما بعدها‪ ،‬أعلم‬
‫الموقعين‪ 98/2 :‬والطرق الحكمية لبن قيم‪ :‬ص ‪ 266‬ومابعدها‪ ،‬وانظر التعزير في الشريعة‬
‫السلمية للدكتور عبد العزيز عامر‪ :‬ص ‪ 32‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬حاشية ابن عابدين‪ 195/3 :‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬الحسبة لبن تيمية‪ :‬ص ‪ 52‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/519‬‬

‫ومثل إراقة عمر اللبن المخلوط بالماء للبيع‪ ،‬وبه أفتى طائفة من الفقهاء‪ .‬ومثله إتلف المغشوشات في‬
‫الصناعات كالثياب الرديئة النسج‪.‬‬
‫‪ - ً 2‬التغيير‪ :‬قد تقتصر العقوبة المالية على تغيير الشيء‪ ،‬مثل نهي النبي صلّى ال عليه وسلم عن‬
‫كسر العملة الجائزة بين المسلمين (‪ ، )1‬كالدراهم والدنانير‪ ،‬إل إذا كان بها بأس‪ ،‬فإذا كان بها بأس‬
‫كسرت‪.‬‬
‫ومثل فعل النبي عليه السلم في التمثال الذي كان في بيته‪ ،‬والستر الذي به تماثيل‪ ،‬إذ أمر بقطع رأس‬
‫التمثال فصار كهيئة الشجرة‪ ،‬وبقطع الستر‪ ،‬فصار وسادتين يوطآن‪.‬‬
‫وهكذا اتفق العلماء على إزالة وتغيير كل ما كان من العين أو التأليف المحرم‪ ،‬مثل تفكيك آلت‬
‫الملهي‪ ،‬وتغيير الصورة المصورة‪.‬‬
‫لكن العلماء اختلفوا في جواز إتلف محل هذه الشياء تبعا للشيء الحال فيها‪ ،‬قال ابن تيمية‪:‬‬
‫والصواب جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف‪ ،‬وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد‬
‫وغيرهما‪.‬‬
‫‪ - ً 3‬التمليك‪ :‬مثل ما روى أبو داود وغيره من أهل السنن عن النبي صلّى ال عليه وسلم فيمن سرق‬
‫من الثمر المعلق‪ ،‬قبل أن يؤويه إلى الجرين‪ ،‬أن عليه جلدات نكال‪ ،‬وغرمه مرتين‪ .‬وفيمن سرق من‬
‫الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح أن عليه جلدات نكال‪ ،‬وغرمه مرتين‪ ،‬وكذلك قضاء عمر بن‬
‫الخطاب في الضالة المكتومة‪ :‬أن يضعف غرمها على كاتمها‪.‬‬
‫وقال بهذا طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره‪.‬‬
‫وأضعف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع‪ ،‬أضعف الغرم على سيدهم ودرأ‬
‫عنه القطع‪.‬‬
‫وأضعف عثمان بن عفان في المسلم إذا قتل الذمي عمدا‪ ،‬أضعف عليه الدية‪ ،‬فتجب عليه الدية‬
‫الكاملة‪ ،‬إذ إن دية الذمي نصف دية المسلم‪ .‬وأخذ به أحمد بن حنبل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود عن عبد ال بن عمر‪.‬‬

‫( ‪)7/520‬‬

‫وأجاز المالكية (‪ )1‬العقوبة في المال إذا كانت جناية الجاني في نفس ذلك لمال أو‬
‫في عوضه‪ ،‬فيتصدق بالزعفران المغشوش على المساكين‪ ،‬وإذا اشترى مسلم من نصراني خمرا‪ ،‬فإنه‬
‫يكسر وعاؤه على المسلم‪ ،‬ويتصدق بالثمن‪ ،‬تأديبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه‪.‬‬
‫نوعا التغريم من حيث الضبط وعدمه ‪:‬‬
‫تغريم المال أو العقوبات المالية كما أبان ابن القيم (‪ )2‬نوعان‪ :‬نوع مضبوط‪ ،‬ونوع غير مضبوط‪.‬‬
‫فالمضبوط‪ :‬ما قابل الشيء المتلف‪ ،‬إما لحق ال تعالى كإتلف الصيد في الحرام‪ ،‬أو لحق الدمي‬
‫كإتلف ماله‪ .‬وقد نبه ال سبحانه وتعالى على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله‪{ :‬ليذوق وبال‬
‫أمره} [المائدة‪ .]95/5:‬ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان‪ ،‬كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان‬
‫ميراثه‪ ،‬وعقوبة الموصى له ببطلن وصيته‪ ،‬وعقوبة الزوجة الناشزة بسقوط نفقتها وكسوتها‪.‬‬
‫وغير المضبوط‪ :‬هو غير المقدر المتروك لجتهاد الئمة بحسب المصالح‪ .‬ولذلك لم تأت فيه الشريعة‬
‫بأمر عام‪ ،‬وقدر محدد كالحدود‪ .‬وقد اختلف فيه الفقهاء‪ :‬هل حكمه منسوخ أو ثابت؟ والصواب أنه‬
‫يختلف باختلف المصالح‪ ،‬ويرجع فيه إلى اجتهاد الئمة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة؛ إذ ل‬
‫دليل على النسخ‪ ،‬وقد فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الئمة‪.‬‬
‫شروط وجوب التعزير ‪:‬‬
‫يشترط العقل فقط لوجوب التعزير بارتكاب جناية ليس لها حد مقدر في الشرع‪ ،‬فيعزر كل عاقل‪،‬‬
‫ذكر أو أنثى‪ ،‬مسلما أو كافرا‪ ،‬بالغا أو صبيا عاقلً؛ لن هؤلء غير الصبي من أهل العقوبة‪ ،‬أما‬
‫الصبي فيعزر تأديبا ل عقوبة (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬العتصام للشاطبي‪.124/2 :‬‬
‫(‪ )2‬أعلم الموقعين‪.98/2 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪.63/7 :‬‬

‫( ‪)7/521‬‬

‫وضابط موجب التعزير‪ :‬هو كل من ارتكب منكرا أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة‪،‬‬
‫سواء أكان المعتدى عليه مسلما أم كافرا (‪. )1‬‬
‫قدر التعزير ‪:‬‬
‫يكون التعزيرعلى قدر الجناية‪ ،‬وعلى قدر مراتب الجاني بحسب اجتهاد الحاكم إما بالتغليظ في القول‬
‫أي الكهر‪ ،‬أو بالحبس‪ ،‬أو بالضرب‪ ،‬أو بالصفع‪ ،‬أو بالقتل‪ ،‬كما في الجماع في غير القبل عند المالكية‬
‫(‪ ، )2‬أو بالعزل من الولية‪ ،‬وبإقامته من المجلس‪ ،‬وبالنيل من عرضه مثل‪ :‬يا ظالم‪ ،‬يا معتدي‪ ،‬ول‬
‫بأس بتسويد وجهه‪ ،‬ونداء عليه بذنبه‪ ،‬ويطاف به مع ضربه‪ ،‬ويجوز صلبه‪ ،‬وليمنع من أكل‬
‫ووضوء‪ ،‬ويصلي باليماء ول يعيد‪ .‬وحرم تعزير بحلق لحية‪ ،‬وقطع طرف‪ ،‬وجرح‪ ،‬وكذا بأخذ مال‬
‫وإتلفه عند الحنابلة‪ .‬وتعزر تعزيرا بليغا القوادة التي تفسد النساء والرجال‪ ،‬وينبغي شهر ذلك بحيث‬
‫يستفيض في الناس‪.‬‬
‫وأقل التعزير في الضرب‪ :‬ثلثة أسواط فصاعدا‪ ،‬ويمكن أن يكون أقل من ثلثة بحسب الشخاص‪،‬‬
‫فليس لقل التعزير حد معين‪ .‬واختلف العلماء في أقصاه‪ :‬فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة‪:‬‬
‫ل يبلغ بالتعزير أدنى الحدود المشروعة‪ ،‬فينقص منه سوط‪ ،‬وأدنى الحدود عند الشافعية بالنسبة‬
‫للحرار هو أربعون جلدة وهو حد الخمر‪ ،‬وعند الخرين هو بالنسبة للماليك‪ :‬وهو أربعون جلدة‪،‬‬
‫وهو حد القذف للعبيد‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬من بلغ حدا في غير‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رد المحتار‪ .206 ،203 ،199/3 :‬تكملة المجموع‪.357/18 :‬‬
‫(‪ )2‬القوانين الفقهية لبن جزي‪ :‬ص ‪.358‬‬

‫( ‪)7/522‬‬

‫حد فهو من المعتدين» (‪ ، )1‬ولن العقوبة على قدر الجرام والمعصية‪ ،‬والمعاصي المنصوص على‬
‫حدودها أعظم من غيرها‪ ،‬فل يجوز أن يبلغ في أهون الموين عقوبة أعظمهما‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف‪ :‬ل يبلغ الحد ثمانين‪ ،‬وينقص منه خمسة أسواط؛ لنه حمل الحد المذكور في الحديث‬
‫السابق‪« :‬من بلغ حدا‪ »...‬على الحرار؛ لن الحرار هم المقصودون في الخطاب‪ ،‬وغيرهم ملحق‬
‫بهم (‪ . )2‬وقد أخذ برأي المام علي في أنه ينقص عن الثمانين جلدة خمسة أسواط‪.‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬يضرب المام في التعزير أي عدد أداه إليه اجتهاده‪ ،‬حتى ولو تجاوز أعلى الحدود‪،‬‬
‫فيجوز العزير بمثل الحدود وأقل وأكثر على حسب الجتهاد؛ لما روي أن معن بن أوس عمل خاتما‬
‫على نقش خاتم بيت المال‪ ،‬ثم جاء به صاحب بيت المال‪ ،‬فأخذ منه مالً‪ ،‬فبلغ عمر رضي ال عنه‪،‬‬
‫فضربه مائة وحبسه‪ ،‬فكلم فيه‪ ،‬فضربه مائة أخرى‪ ،‬فكلم فيه من بعد‪ ،‬فضربه ونفاه (‪ . )3‬وكان جلد‬
‫عمر لمعن على عدة جنايات‪ :‬وهي تزويره الخاتم‪ ،‬وأخذ المال من بيت المال‪ ،‬وفتحه باب الحتيال‬
‫لغيره من الناس‪ .‬ويؤيد رأي المالكية أيضا ما روي عن المام علي رضي ال عنه أنه جلد من وجد‬
‫مع امرأة من غير زنا مائة سوط إل سوطين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البيهقي عن النعمان بن بشير‪ ،‬وقال‪ :‬المحفوظ المرسل‪ ،‬ورواه ابن ناجيه في فوائده‪ ،‬ورواه‬
‫محمد بن الحسن مرسلً‪ ،‬ورواه الطبراني بلفظ‪« :‬من جلد حدا‪ »...‬قال الهيثمي‪ :‬وفيه محمد بن‬
‫الحسين القصاص والوليد بن عثمان خال مسعر‪ ،‬ولم أعرفهما‪ ،‬وبقية رجاله ثقات (راجع نصب‬
‫الراية‪ ،354/3 :‬مجمع الزوائد‪.)281/6 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،64‬فتح القدير‪ ،214/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،209/3 :‬حاشية ابن‬
‫عابدين‪ 198 ،190/3 :‬ومابعدها‪ 204 ،‬وما بعدها‪ ،‬تكملة المجموع‪ ،357/18 :‬المهذب‪،288/2 :‬‬
‫المغني‪ ،324/8 :‬غاية المنتهى‪ ،335 ،333/3 :‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،112‬الطرق‬
‫الحكمية‪ :‬ص ‪ ،265‬نهاية المحتاج‪ ،175/7 :‬مغني المحتاج‪.193/4 :‬‬
‫(‪ )3‬حاشية الدسوقي‪ ،355/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،358‬وقصة معن ذكرها ابن قدامة في المغني‪:‬‬
‫‪.325/8‬‬

‫( ‪)7/523‬‬

‫صفات التعزير ‪:‬‬


‫للتعزير صفات (‪ )1‬أولها ـ أنه عند المالكية والحنابلة‪ :‬حق واجب ل تعالى إذا رآه المام‪ ،‬فل يجوز‬
‫للحاكم في الجملة ترك التعزير؛ لنه زاجر مشروع لحق ال تعالى‪ ،‬فوجب كالحد‪.‬‬
‫وعند الشافعية‪ :‬ليس التعزير واجبا‪ ،‬فيجوز للسلطان تركه إذا لم يتعلق به حق لدمي‪ ،‬فهم كالحنفية‪،‬‬
‫لما روي أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إل في الحدود» (‪، )2‬‬
‫ولن رجلً جاء إلى النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ :‬فقال‪ :‬إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن‬
‫أطأها‪ ،‬فقال‪« :‬أصليت معنا؟!» قال‪ :‬نعم‪ ،‬فتل عليه‪{ :‬إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود‪( ]114/11:‬‬
‫‪ . )3‬وقال رجل للرسول صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه ال » (‪ ، )4‬فلم‬
‫يعزره‪ ،‬فلو لم يجز‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ ،326/8 :‬غاية المنتهى‪ ،333/3 :‬البدائع‪ ،64/7 :‬حاشية ابن عابدين‪ 204/3 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫مغني المحتاج‪ ،193/4 :‬قواعد الحكام‪ ،158/1 :‬المهذب‪.288/2 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي عن عائشة‪ ،‬وقال العقيلي‪ :‬له طرق وليس‬
‫فيها شيء يثبت‪ ،‬وذكره ابن طاهر عن أنس‪ ،‬وقال‪ :‬السناد باطل‪ ،‬ورواه الشافعي وابن حبان‬
‫وصححه وابن عدي والبيهقي من حديث عائشة بلفظ‪« :‬أقيلوا ذوي الهيئات زلتهم» وقال الشافعي‪:‬‬
‫«سمعت من أهل العلم من يعرف هذا الحديث‪ ،‬ويقول‪ :‬يتجافى للرجل ذي الهيئة عن عثرته‪ ،‬مالم يكن‬
‫حدا» وقال في تفسير الهيئة‪ :‬من لم تظهر منه ريبة‪ .‬ورواه الطبراني في الوسط‪ ،‬ورجاله ثقات بلفظ‪:‬‬
‫«أقيلوا الكرام عثراتهم» وروي في معناه عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس (راجع التلخيص‬
‫الحبير‪ :‬ص ‪ ،361‬جامع الصول‪ ،344/4 :‬مجمع الزوائد‪ ،282/6 :‬نيل الوطار‪.)135/7 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك‪ ،‬ولحمد ومسلم من حديث أبي أمامة نحوه‪ ،‬وفي‬
‫موضوعه عن ابن مسعود عند مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي (راجع نيل الوطار‪،100/7 :‬‬
‫أعلم الموقعين‪.)78/2 :‬‬
‫(‪ )4‬وذلك حينما آثر الرسول رجالً هم المؤلفة قلوبهم وهم ناس من قريش‪ ،‬أسلموا يوم الفتح إسلما‬
‫ضعيفا‪ ،‬فقال رجل اسمه‪« :‬معتّب بن قشير من بني عمرو بن عوف» وكان من المنافقين‪« :‬وال إن‬
‫هذه القسمة ما عدل فيها‪ ،‬وما أريد فيها وجه ال » ‪ .‬رواه أحمد والشيخان عن ابن مسعود (راجع نيل‬
‫الوطار‪ 290/7 :‬وما بعدها)‪.‬‬

‫( ‪)7/524‬‬

‫ترك التعزير‪ ،‬لعزره رسول ال صلّى ال عليه وسلم على ما قال‪ ،‬ويؤيده قصة أخرى رواها عبد ال‬
‫ابن الزبير‪ :‬أن رجلً خاصم الزبير عند رسول ال صلّى ال عليه وسلم في شراج الحرة (‪ )1‬الذي‬
‫يسقون به النخل‪ ،‬فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم للزبير‪ :‬اسق أرضك الماء‪ ،‬ثم أرسل الماء إلى‬
‫جارك‪ ،‬فغضب النصاري‪ ،‬فقال‪ :‬ىا رسول ال ‪ ،‬وأن كان ابن عمتك‪ ،‬فتلون وجه رسول ال صلّى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬يا زبير‪ ،‬اسق أرضك الماء‪ ،‬ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر‪ ،‬فقال الزبير‪:‬‬
‫فوال ‪ ،‬إني لحسب هذه الية نزلت في ذلك‪{ :‬فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}‬
‫[النساء‪ ]65/4:‬ولو لم يجز ترك التعزير لعزره رسول ال صلّى ال عليه وسلم على ما قال (‪. )2‬‬
‫والخلصة‪ :‬أنه إذا كان التعزير حقا ل كما في حالة انتهاك الحرمات الدينية فل يجب تنفيذه‪ ،‬أما إن‬
‫كان حقا للعبد ولم يعف عنه مستحقه‪ ،‬فهو واجب التنفيذ‪.‬‬
‫وأما الحنفية فقالوا‪ :‬إن التعزير إذا كان حقا شخصيا لنسان‪ ،‬فهو واجب ل عفو فيه؛ لن حقوق العباد‬
‫ليس للقاضي إسقاطها‪ ،‬وإن كان حقا ل تعالى فهو مفوض إلى رأي المام‪ :‬إن ظهر له المصلحة فيه‬
‫أقامه‪ ،‬وإن ظهر عدم المصلحة‪ ،‬أو علم انزجار الجاني بدونه‪ ،‬يتركه أي أن العفو فيه للمام‪ .‬وعبارة‬
‫الكمال بن الهمام فيه هي‪« :‬ما وجب من التعزير حقا ل تعالى يجب على المام‪ ،‬ول يحل له تركه إل‬
‫فيما علم أنه انزجر الفاعل قبل ذلك» (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬شراج الحرة‪ :‬هي مسايل الماء من بين الحجارة إلى السهل‪.‬‬
‫(‪ )2‬متفق عليه بين الشيخين وغيرهما‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع فتح القدير‪ ،213-212/4 :‬حاشية ابن عابدين‪.205/3 :‬‬

‫( ‪)7/525‬‬

‫ويترتب على أن التعزير حق العبد عند الشافعية‪ :‬أنه يحتمل العفو والصلح والبراء؛ وأنه يورث‬
‫كالقصاص وغيره من سائرحقوق العباد ؛وأنه ل يتداخل؛ لن حقوق العبد ل تحتمل التداخل‪.‬‬
‫ويؤخذ فيه الكفالة؛ لن التكفيل للتوثيق والتعزير حق العبد‪ ،‬فكان التوثيق ملئما له‪ ،‬بخلف الحدود‬
‫على أصل أبي حنيفة رحمه ال تعالى‪.‬‬
‫ثاني الصفات‪ :‬أن التعزير أشد الضرب؛ لنه جرى فيه التخفيف من حيث العدد‪ ،‬فل يخفف من حيث‬
‫الوصف‪ ،‬كيل يؤدي إلى فوات المقصود منه وهو الزجر‪ ،‬ثم يليه حد الزنى ثم حد الشرب‪ ،‬ثم حد‬
‫القذف (‪ )1‬كما سبق بيانه‪.‬‬
‫طرق إثبات جريمة التعزير ‪:‬‬
‫تثبت جريمة التعزير عند الحنفية بماتثبت به سائر حقوق العباد من القرار والبينة‪ ،‬والنكول‪ ،‬وعلم‬
‫القاضي‪ ،‬وتقبل فيه شهادة النساء مع الرجال‪ ،‬والشهادة على الشهادة‪ ،‬وكتاب القاضي إلى القاضي‪.‬‬
‫وسيأتي في بحث القضاء أن المفتى به عدم جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي في الحوادث مطلقا‬
‫في زماننا‪ ،‬منعا للتهمة‪ ،‬وسدا للباب بسبب فساد قضاة الزمان‪.‬‬
‫وروي عن أبي حنيفة أنه ل تقبل فيه شهادة النساء‪ .‬قال الكاساني‪ :‬والصحيح هو الول؛ لنه حق‬
‫العبد على الخلوص‪ ،‬فيظهر بما يظهر به حقوق العباد (‪. )2‬‬
‫ضمان موت المعزر أو المحدود ‪:‬‬
‫قال الحنفية والمالكية والحنابلة‪ :‬إذا عزر المام رجلً‪ ،‬أو حدّه فمات من التعزير أو الحد‪ ،‬فل ضمان‬
‫عليه؛ لن التعزير عقوبة مشروعة للردع والزجر‪ ،‬فلم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ 216/4 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ ،210/3 :‬حاشية ابن عابدين‪.199/3 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،65/7 :‬حاشية ابن عابدين‪.205/3 :‬‬

‫( ‪)7/526‬‬

‫يضمن من تلف بها كالحد‪ ،‬ولن المام مأمور بالحد والتعزير‪ ،‬وفعل المأمور ل يتقيد بشرط السلمة‬
‫( ‪. )1‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬ل يجب على المام ضمان موت المحدود؛ لن الحق قتله‪ ،‬سواء في ذلك الجلد‬
‫والقطع‪ ،‬وسواء جلده في حر وبرد مفرطين أم ل‪ ،‬وسواء أكان الجلد في مرض يرجى برؤه أم ل‪ ،‬إل‬
‫أن تكون المرأة حاملً‪ ،‬فيموت الجنين‪ ،‬فيجب الضمان؛ لنه مضمون فل يسقط ضمانه بجناية غيره‪.‬‬
‫ويجب ضمان موت المعزّر‪ ،‬لما روي عن علي كرم ال وجهه أنه قال‪« :‬ما من رجل أقمت عليه‬
‫حدا‪ ،‬فمات‪ ،‬فأجد في نفسي أنه ل دية عليه‪ ،‬إل شارب الخمر‪ ،‬فإنه لو مات وديته؛ لن النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم لم يسنّه» (‪ ، )2‬أي لم يسن مقدارا معينا في جلد شارب الخمر‪ ،‬وإنما فعل أفعالً‬
‫مختلفة يجوز جميعها‪ ،‬ومنها‪ :‬أنه عليه السلم حد في الخمر أربعين كما روى علي نفسه (‪ ، )3‬وهذا‬
‫أمر متفق عليه‪ ،‬والخلف بين الفقهاء إنما هو في الزيادة على الربعين‪ ،‬فليس المراد إذن من حديث‬
‫علي أن الشخص مات من الحد؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم حد في الخمر‪ ،‬كما ذكرت‪ ،‬فثبت أنه‬
‫أراد بقوله‪« :‬لو مات وديته» أي من‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير‪ ،217/4 :‬تبيين الحقائق‪ ،211/3 :‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪ ،201‬حاشية ابن عابدين‪:‬‬
‫‪ ،208/3‬حاشية الدسوقي‪ ،355/4 :‬المغني‪ 310/8 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجه وفي روايتهما قال‪« :‬ل أدي ـ أي ل أعطي‬
‫ديته ـ أو ما كنت أدي من أقمت عليه الحد إل شارب الخمر‪ ،‬فإن رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫لم يسن فيه شيئا‪ ،‬وإنما هو شيء قلناه نحن» ومعنى «لم يسنه» ‪ :‬لم يقدره ويوقته بلفظه ونطقه‪ ،‬ففيه‬
‫دليل على أن الخمر لم يكن فيه حد محدود من رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فهو من باب‬
‫التعزيرات‪ ،‬فإن مات ضمنه المام‪( .‬راجع جامع الصول‪ ،337/4 :‬نصب الراية ‪ ،352/3 :‬سبل‬
‫السلم‪ ،38/4 :‬نيل الوطار‪.)143/7 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم في قصة الوليد بن عقبة الذي شهد عليه رجل أنه رآه يتقيأ الخمر‪ ،‬فأمر الرسول‬
‫صلّى ال عليه وسلم بجلده‪ ،‬كما روى حصين بن المنذر‪ ،‬وعلي يعد حتى بلغ أربعين‪ ،‬ثم قال‪« :‬جلد‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم أربعين‪ ،‬وجلد أبو بكر أربعين‪ ،‬وجلد عمر ثمانين‪ ،‬وكل سنة‪ ،‬وهذا‬
‫أحب إلى» (راجع التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،360‬سبل السلم‪ ،30/4 :‬نيل الوطار‪.)138/7 :‬‬

‫( ‪)7/527‬‬

‫الزيادة على الربعين‪ ،‬وهذا تعزير‪ ،‬ولن التعزير ضرب جعل إلى اجتهاد المام‪ ،‬فإذا أدى إلى التلف‬
‫ضمن كضرب الزوج زوجته‪ ،‬إذ أن التعزير مشروط بسلمة العاقبة‪ ،‬باعتبار أن المقصود هو التأديب‬
‫ل الهلك‪ ،‬فإذا حصل به هلك تبين أنه جاوز الحد المشروع‪ .‬والهلك الحاصل إن كان بضرب يقتل‬
‫غالبا‪ ،‬فيجب فيه القصاص إذا لم يكن الضارب أصلً (أبا أو جدا) للمضروب‪ .‬وإن لم يكن الضرب‬
‫قاتلً في الغالب‪ ،‬فيجب دية شبه العمد على العاقلة (العصبات)‪.‬‬

‫( ‪)7/528‬‬

‫حق التأديب ‪:‬‬


‫وأما إذا ضرب الب ولده تأديبا‪ ،‬أو ضرب الزوج زوجته‪ ،‬أو المعلم إذا ضرب الصبي تأديبا‪ ،‬فتلف‬
‫من التأديب المشروع‪ ،‬فإن أبا حنيفة والشافعي قال في هذه الحالت‪ :‬إنه يجب الضمان‪ ،‬ودليلهما‬
‫عرفناه في الحالة السابقة‪ ،‬ولنه تأديب مباح‪،‬فيتقيد بشرط السلمة كالمرور في الطريق ونحوه‪ .‬وقال‬
‫مالك وأحمد والصاحبان‪ :‬ل ضمان عليه في هذه الحالت؛ لن التأديب فعل مشروع للزجر والردع‪،‬‬
‫فل يضمن التالف به كما في الحدود (‪. )1‬‬
‫التعزير للمام‪ :‬التعزير كالحدود منوط بالمام‪ ،‬وليس لحد حق التعزير إل لثلثة‪ :‬الب‪ ،‬والسيد‪،‬‬
‫والزوج‪.‬‬
‫أما الب‪ :‬فله تأديب ولده الصغير وتعزيره للتعلم والتخلق بالخلق الفاضلة وزجره عن سيئها‪،‬‬
‫وللمر بالصلة والضرب عليها عند القتضاء‪ .‬والم مثل الب في أثناء الحضانة والكفالة‪ ،‬وليس‬
‫للب تعزير البالغ وإن كان سفيها‪.‬‬
‫والسيد‪ :‬يعزر رقيقه في حق نفسه وفي حق ال تعالى‪.‬‬
‫والزوج‪ :‬له تعزير زوجته في أمر النشوز وأداء حق ال تعالى كإقامة الصلة وصيام رمضان بما‬
‫يراه مناسبا في إصلح زوجته من زجر؛ لن كل هذا من باب إنكار المنكر‪ ،‬والزوج من جملة‬
‫المكلفين بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع المهذب‪ ،289 ،271/2 :‬نيل الوطار‪ ،145-140/7 :‬الميزان‪ ،172/2 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ 199 ،191/4‬ومابعدها‪ ،‬المبسوط‪ ،13/16 :‬الدرا لمختار‪ ،401/5 :‬درر الحكام‪ ،77/2 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ ،327/8‬غاية المنتهى‪ ،285/3 :‬رحمة المة بهامش الميزان‪.160/2 :‬‬
‫(‪ )2‬سبل السلم‪ ،38/4 :‬المهذب‪. 275/2 :‬‬

‫( ‪)7/529‬‬

‫البَابُ الثّالث‪ :‬الجنايات وعقوباتها‪ :‬القصاص والدّيات‬


‫خطة البحث ‪:‬‬
‫الكلم عن الجنايات طويل ذو فروع متعددة وتفصيلت متشعبة‪ ،‬ويمكن ضبطه والحاطة به على‬
‫وفق الخطة التالية في فصول خمسة‪:‬‬
‫الفصل الول ـ الجناية على النفس (القتل بأنواعه وعقوبة القصاص والدية)‪.‬‬
‫الفصل الثاني ـ الجناية على ما دون النفس (الشجاج والجراح والدية والرش)‪.‬‬
‫الفصل الثالث ـ الجناية على نفس غير مكتملة (الجناية على الجنين أو الجهاض)‪.‬‬
‫الفصل الرابع ـ حالت طارئة من العتداء بطريق التسبب (جناية الحيوان‪ ،‬وجناية الحائط المائل)‪.‬‬
‫الفصل الخامس ـ طرق إثبات الجناية (الشهادة‪ ،‬القرار‪ ،‬القسامة‪...‬إلخ)‪.‬‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫تعريف الجناية‪ :‬الجناية أو الجريمة لغة‪ :‬هي الذنب أو المعصية‪ ،‬أو كل مايجنيه المرء من شر‬
‫اكتسبه‪ .‬ولها في الشرع معنى عام وخاص‪ .‬أما الول فالجناية‪ :‬هي كل فعل محرّم شرعا‪ ،‬سواء وقع‬
‫الفعل على نفس أو مال أو غيرهما (‪ . )1‬وعرفها الماوردي (‪ )2‬بقوله‪ :‬الجرائم‪ :‬محظورات شرعية‬
‫زجر ال تعالى عنها بحد أو تعزير‪ .‬والمحظور‪ :‬إما إتيان منهي عنه‪ ،‬أو ترك مأمور به‪.‬‬
‫وأما المعنى الثاني فهو اصطلح خاص للفقهاء‪ ،‬وهو إطلق الجناية على العتداء الواقع على نفس‬
‫النسان أو أعضائه‪ .‬وهو القتل والجرح والضرب (‪ . )3‬ويبحثه الفقهاء إما تحت عنوان «كتاب‬
‫الجنايات» كالحنفية‪ ،‬أو «كتاب الجراح» كالشافعية والحنابلة الذين اعتبروا الجراحة هي السبب الغالب‬
‫في العتداء‪ .‬وينتقدهم الشراح بقولهم (‪ : )4‬التبويب بالجنايات أولى لشمولها الجناية بالجرح وغيره‬
‫كالقتل بمثقل كالعصا والحجر‪ ،‬وبمسموم‪ ،‬وسحر‪.‬‬
‫أو بعنوان «باب الدماء» كالمالكية‪ ،‬ناظرين إلى نتيجة الجريمة غالبا‪.‬‬
‫أنواع الجناية‪ :‬الجناية بصفة عامة نوعان (‪ : )5‬جناية على البهائم والجمادات‪ ،‬وتبحث عادة في باب‬
‫الغصب والتلف‪ .‬وجناية على النسان الدمي‪ ،‬وهي محل البحث هنا‪.‬‬
‫والجناية على النسان بحسب خطورتها أنواع ثلثة‪ :‬جناية على النفس وهي القتل‪ ،‬وجناية على ما‬
‫دون النفس وهي الضرب والجرح‪ ،‬وجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه وهي الجناية على‬
‫الجنين‪ ،‬أو الجهاض في اصطلح القانونيين‪ .‬وسميت كذلك؛ لن الجنين يعد جزءا من أمه‪ ،‬غير‬
‫مستقل عنها في الواقع‪ ،‬ومن جهة أخرى يعد نفسا مستقلة عن أمه بالنظر للمستقبل؛ لن له حياة‬
‫خاصة‪ ،‬وهو يتهيأ لن ينفصل عنها بعد حين‪ ،‬ويصبح ذا وجود مستقل (‪. )6‬‬
‫والجنايات على النفوس بحسب القصد وعدمه ثلثة‪ :‬عمد‪ ،‬وشبه عمد‪ ،‬وخطأ‪ .‬فإذا قصد الجاني‬
‫الجريمة أو العتداء‪ ،‬وترتب على فعله حدوث الثر المقصود‪ ،‬كانت الجريمة عمدا‪ .‬أما إذا تعمد‬
‫العتداء ولم يقصد حدوث النتيجة‪ ،‬كانت الجريمة شبه عمد (أي ضربا مفضيا للموت)‪ .‬فإن لم يقصد‬
‫العتداء أصلً كانت الجريمة خطأ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬للقانونيين اصطلح آخر في معنى الجناية‪ :‬وهي الجريمة المعاقب عليها إما بالعدام‪ ،‬أو الشغال‬
‫الشاقة المؤبدة أو المؤقتة‪ ،‬أو السجن من ثلث سنوات إلى خمس عشرة سنة‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ 211‬ط صبيح‪.‬‬
‫(‪ )3‬تبيين الحقائق للزيلعي‪.97/6 :‬‬
‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪.2/4 :‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪.233/7 :‬‬
‫(‪ )6‬كشف السرار على أصول البزدوي‪ :‬ص ‪ 1359‬وما بعدها‪ ،‬ط حسين حلمي‪.‬‬

‫( ‪)7/530‬‬
‫صلُ الوّل‪ :‬الجِناية على النّفس النسانيّة (القتل وعقوبته )‬
‫ال َف ْ‬
‫فيه مباحث أربعة‪:‬‬
‫المبحث الول ـ معنى القتل وتحريمه وأنواعه‪.‬‬
‫المبحث الثاني ـ القتل العمد وعقابه‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ القتل شبه العمد وعقوبته‪.‬‬
‫المبحث الرابع ـ القتل الخطأ وعقوبته‪.‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف القتل وتحريمه وأنواعه ‪:‬‬
‫تعريف القتل‪ :‬القتل هو الفعل المزهق أي القاتل للنفس أو المميت (‪ ، )1‬أو هو فعل من العباد تزول‬
‫به الحياة (‪ ، )2‬أي أنه هدم للبنية النسانية‪.‬‬
‫تحريم القتل‪ :‬القتل إذا كان عمدا عدوانا جريمة كبرى‪ ،‬ومن السبع الموبقات التي يترتب عليها‬
‫استحقاق العقاب في الدنيا والخرة‪ ،‬وذلك بالقصاص‪ ،‬والخلود في نار جهنم؛ لنه اعتداء على صنع‬
‫ال في الرض‪ ،‬وتهديد لمن الجماعة وحياة المجتمع‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪.3/4 :‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير‪.244/8 :‬‬

‫( ‪)7/531‬‬

‫ففي القرآن الكريم آيات كثيرة في شأن تحريم القتل‪ ،‬منها قوله تعالى‪{ :‬ول تقتلوا النفس التي حرم ال‬
‫إل بالحق‪ ،‬ومن قتل مظلوما‪ ،‬فقد جعلنا لوليه سلطانا‪ ،‬فل يسرف في القتل‪ ،‬إنه كان منصورا}‬
‫[السراء‪ .]17/33:‬ودلت جريمة ابن آدم (قابيل) على أن القتل اعتداء على النسانية‪ ،‬فقال سبحانه‪:‬‬
‫{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس‪ ،‬أوفساد في الرض‪ ،‬فكأنما قتل‬
‫الناس جميعا} [المائدة‪.]5/32:‬‬
‫ودليل القصاص قوله جل ثناؤه‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى‪ :‬الحر بالحر‪،‬‬
‫والعبد بالعبد‪ ،‬والنثى بالنثى (‪ ، )1‬فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف‪ ،‬وأداء إليه‬
‫بإحسان‪ ،‬ذلك تخفيف من ربكم ورحمة‪ ،‬فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‪ .‬ولكم في القصاص حياة‬
‫يا أولي اللباب‪ ،‬لعلكم تتقون} [البقرة‪ .]2/178:‬وكان القصاص أيضا مقررا في الشرائع السماوية‬
‫السابقة كشريعة اليهود‪ .‬بدليل قوله تعالى‪{ :‬وكتبنا عليهم فيها (‪ )2‬أن النفس بالنفس‪ ،‬والعين بالعين‪،‬‬
‫والنف بالنف‪ ،‬والذن بالذن‪ ،‬والسن بالسن‪ ،‬والجروح قصاص‪ ،‬فمن تصدق به فهو كفارة له‪ ،‬ومن‬
‫لم يحكم بما أنزل ال ‪ ،‬فأولئك هم الظالمون}‬
‫[المائدة‪. ]5/45:‬ونص القرآن العظيم على العذاب الخروي للقاتل عمدا في قوله تعالى‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أوجبت الية مبدأ المماثلة في القصاص إذا أريد قتل القاتل‪ ،‬ومنع العدوان والظلم‪ ،‬فل يقتل غير‬
‫القاتل‪ ،‬منعا من عادة الخذ بالثأر التي كانت في الجاهلية‪ .‬ويرى الحنفية‪ :‬أن قوله {الحر بالحر‪..‬إلخ}‬
‫[البقرة‪ ]178/2:‬تأكيد لصدر الية‪ ،‬فل يقتل غير القاتل‪ ،‬وإنما يقتل القاتل دون غيره‪ .‬وبناء عليه فليس‬
‫في الية دللة على أنه ل يقتل الحر القاتل بقتله العبد‪ .‬أو ل يقتل الرجل بالمرأة وبالعكس‪ .‬وقال‬
‫المالكية والشافعية‪ :‬إن ال أوجب المساواة‪ .‬ثم بين المساواة المعتبرة‪ ،‬فالحر يساويه الحر‪ ،‬والعبد‬
‫يساويه العبد‪ ،‬والنثى تساويها النثى‪ ،‬لكن دل الجماع على أن الرجل يقتل المرأة‪.‬‬
‫(‪ )2‬أي في التوراة‪.‬‬

‫( ‪)7/532‬‬

‫{ومن يقتلْ مؤمنا متعمدا‪ ،‬فجزاؤه جهنم خالدا فيها‪ ،‬غضب ال عليه‪ ،‬ولعنه‪ ،‬وأعد له عذابا عظيما}‬
‫‪[.‬النساء‪]4/93:‬‬
‫وأوضحت السنة النبوية حالت القتل المأذون به شرعا أي المباح للحاكم‪ ،‬ل للفراد‪ ،‬فقال النبي عليه‬
‫السلم‪« :‬ل يحل دم امرئ مسلم إل بإحدى ثلث‪ :‬الثيب الزاني‪ ،‬والنفس بالنفس‪ ،‬والتارك لدينه‬
‫المفارق للجماعة» (‪ . )1‬وفي رواية‪« :‬ل يحل دم امرئ إل بإحدى ثلث‪ :‬كفر بعد إيمان‪ ،‬أو زنى‬
‫بعد إحصان‪ ،‬أو قتل نفس بغير حق» ‪ .‬ورويت أحاديث كثيرة في تحريم القتل والنتحار‪ ،‬وتحريم‬
‫الدماء والموال والعراض‪ ،‬منها‪« :‬قتل المؤمن أعظم عند ال من زوال الدنيا» (‪ )2‬ومنها‪« :‬إن‬
‫دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا‪ ،‬في شهركم هذا‪ ،‬في بلدكم هذا» (‪ )3‬ومنها‪« :‬اجتنبوا‬
‫السبع الموبقات‪ ،‬الشرك بال ‪ ،‬والسحر‪ ،‬وقتل النفس التي حرم ال إل بالحق» (‪ )4‬الحديث‪.‬‬
‫وحددت السنة عقوبة القتل العمد فقال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬العمد قوَد‪ ،‬إل أن يعفو ولي المقتول» (‬
‫‪ )5‬أي أن القتل العمد يوجب القود (أي القصاص) إل عند العفو‪.‬‬
‫وأجمع العلماء على تحريم القتل‪ ،‬فإن فعله إنسان متعمدا فسق‪ ،‬وأمره إلى ال‪ ،‬إن شاء عذبه‪ ،‬وإن‬
‫شاء غفر له‪ .‬وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم خلفا لبن عباس (‪ ، )6‬بدليل قوله تعالى‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن مسعود رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه النسائي والضياء عن بريدة‪.‬‬
‫(‪ )3‬متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما عن ابن عباس رضي ال عنهما‪.‬‬
‫(‪ )6‬المغني‪.636/7 :‬‬

‫( ‪)7/533‬‬

‫{إن ال ل يغفر أن يشرك به‪ ،‬ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء‪]4/116:‬فجعل التوبة عن القتل‬
‫وغيره داخلً في المشيئة‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬إن ال يغفر الذنوب جميعا} [الزمر‪]39/53:‬وحديث القاتل‬
‫مائة نفس التائب من جرائه معروف مشهور (‪ )1‬صريح في قبول توبة التائب‪.‬‬
‫وأما آية الخلود في جهنم للقال‪ ،‬فهي محمولة على من لم يتب‪ ،‬أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه ال ‪،‬‬
‫وله العفو إذا شاء‪.‬‬
‫ويلحظ أن تحريم القتل هو في حالة كون القتل ظلما‪ ،‬بخلف حالة غير الظلم وهي القتل بحق‪ ،‬كقتل‬
‫القاتل والمرتد‪ ،‬فالقتل عموما نوعان‪ :‬قتل محرم‪ :‬وهو كل قتل عدوان‪ ،‬وقتل بحق‪ .‬ويرى الشافعية أنه‬
‫يمكن انقسام القتل إلى الحكام الخمسة‪ :‬واجب وحرام ومكروه ومندوب ومباح (‪. )2‬‬
‫فالقتل الواجب‪ :‬هو قتل المرتد إذا لم يتب‪ ،‬والحربي إذا لم يسلم أو لم يعط الجزية‪.‬‬
‫والقتل الحرام‪ :‬هو قتل معصوم الدم بغير حق‪ ،‬أي بصفة العدوان‪ ،‬وكان المقتول مؤمنا أو أمنا؛ لن‬
‫العصمة بإيمان أو أمان‪ ،‬فهي عصمة مخصوصة‪.‬‬
‫والقتل المكروه‪ :‬هو قتل المجاهد قريبه الكافر إذا لم يسب ال أو رسوله‪.‬‬
‫والمندوب‪ :‬هو قتل المجاهد قريبه الكافر إذا سب ال أو رسوله‪.‬‬
‫والمباح‪ :‬هو قتل المقتص منه أو قتل المام السير؛ لنه مخير في قتله حسبما يرى من المصلحة‪.‬‬
‫ومنه القتل دفاعا عن النفس ضمن ضوابط الدفاع الشرعي‪ .‬وعدّ الحنفية (‪ )3‬ما يأتي من القتل‬
‫المباح‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو دخل رجل بيته فرأى رجلً مع‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري (راجع جامع الصول لبن الثير‪.)68/3 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪.3/4 :‬‬
‫(‪ )3‬الدر المختار ورد المحتار‪.397/5 ،197/3 :‬‬

‫( ‪)7/534‬‬

‫امرأته أو محرمه يزني بها فقتله‪ ،‬حل له ذلك‪ ،‬ول قصاص عليه‪ .‬وهو رأي الحنابلة والشافعية‬
‫والمالكية أيضا (‪ . )1‬وإذا كان الزنى طواعية باختيار منهما‪ ،‬كان له عند الحنفية والحنابلة قتلهما‬
‫جميعا‪ ،‬فلو أكرهها فله قتله‪ ،‬ودمه هدَر إذا لم يمكنها التخلص منه بصياح أو ضرب‪ .‬أما لو وجد‬
‫رجلً مع امرأة ل تحل له‪ ،‬فله قتله إن كان يعلم أنه ل ينزجر بصياح وضرب بما دون السلح‪ ،‬فإن‬
‫كان ينزجر بما ذكر ل يحل القتل‪.‬‬
‫أنواع القتل‪:‬‬
‫أولً ـ يقول الحنفية (‪ : )2‬القتل خمسة أنواع‪ :‬عمد‪ ،‬وشبه عمد‪ ،‬وخطأ‪ ،‬وما جرى مجرى الخطأ‪،‬‬
‫والقتل بالتسبب‪.‬‬
‫فالعمد‪ :‬ما تعمد فيه القاتل ضرب غيره بسلح‪ ،‬كالسيف والسكين والرمح والرصاص‪ ،‬أو ما أجري‬
‫مجرى السلح في تفريق أجزاء الجسد‪ ،‬كالمحدد من الخشب‪ ،‬والحجر‪ ،‬والنار‪ ،‬والبرة في مقتل‪.‬‬
‫وذلك لن العمد معناه القصد وهو أمر خفي ل يمكن الطلع عليه ول معرفته‪ ،‬إل بدليل يدل عليه‪،‬‬
‫وهو استعمال اللة القاتلة‪ ،‬فجعلت اللة دليلً على القصد‪ ،‬وأقيمت مقامه باعتبارها مظنة لوجوده‪ ،‬كما‬
‫أن السفر مظنة المشقة‪.‬‬
‫وشبه العمد عند أبي حنيفة‪ :‬أن يتعمد الضرب بما ليس بسلح ول ما أجري مجرى السلح‪ ،‬أي بما‬
‫ل يفرق الجزاء‪ ،‬كاستعمال العصا والحجر والخشب‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ ،332/8 :‬المهذب‪ ،225/2 :‬الشرح الكبير‪.357/4 :‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير‪ 244/8 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ ،233/7 :‬الدر المختار‪ ،375/5 :‬اللباب شرح‬
‫الكتاب‪.141/3 :‬‬

‫( ‪)7/535‬‬

‫الكبيرين‪ ،‬أي أن القتل بالمثقل يعتبر شبه عمد؛ لنه ل يقتل به غالبا‪ ،‬ويقصد به التأديب‪ ،‬والفتوى‬
‫بقول المام‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬القتل بالمثقل كالحجر العظيم أو الخشبة العظيمة عمد‪ .‬وشبه العمد‪ :‬أن يتعمد ضربه‬
‫بما ل يقتل غالبا كالحجروالخشب الصغيرين‪،‬أو كالعصا الصغيرة‪ ،‬أو اللطمة‪.‬‬
‫وبناء عليه يكون الضرب بما ل يغلب فيه الهلك كالعصا والحجر الصغيرين والسوط واللطمة متفقا‬
‫على كونه شبه عمد بين أئمة الحنفية الثلثة‪ .‬واختلفوا في الحجر الكبير والعصا الكبيرة ونحوهما‪،‬‬
‫كاللقاء من سطح أو جبل ول يرجى منه النجاة‪ ،‬فهو شبه عمد عند أبي حنيفة‪ ،‬عمد عند الصاحبين‪.‬‬
‫والقتل الخطأ‪ :‬هو الذي ل يقصد به القتل أو الضرب‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬
‫‪ - 1‬خطأ في القصد أو ظن الفاعل‪ :‬وهو أن يرمي شيئا‪ ،‬يظنه صيدا‪ ،‬فإذا هو إنسان‪ ،‬أو يظنه حربيا‬
‫فإذا هو مسلم‪ ،‬أي أن الخطأ راجع إلى فعل القلب وهو القصد‪.‬‬
‫‪ - 2‬خطأ في الفعل نفسه‪ :‬وهو أن يرمي غرضا (الغرض‪ :‬هو الهدف الذي يرمي إليه) أو صيدا‪،‬‬
‫فيصيب آدميا‪ ،‬أو يقصد رجلً‪ ،‬فيصيب غيره‪ ،‬أي أن الخطأ راجع إلى أداة الرمي‪.‬‬
‫وما أجري مُجرى الخطأ‪ :‬هو المشتمل على عذر شرعي مقبول‪ ،‬كانقلب نائم على آخر فيقتله‪.‬‬
‫والقتل بالتسبب‪ :‬هو الحاديث بواسطة غير مباشرة‪ ،‬كمن حفر حفرة أو بئرا في غير ملكه‪ ،‬في طريق‬
‫عام بغير إذن السلطات‪ ،‬فوقع فيها فيها إنسان ومات‪ ،‬أو وضع حجرا أو خشبة على قارعة الطريق‪،‬‬
‫فعثر به إنسان‪ ،‬فمات‪ ،‬ومثل شهود القصاص إذا رجعوا عن شهادتهم‪ ،‬بعد قتل المشهود عليه (‪. )1‬‬
‫ثانيا ـ يرى أكثر العلماء ومنهم الشافعية والحنابلة(‪ : )2‬أن القتل ثلثة أنواع‪ :‬قتل عمد‪ ،‬وشبه عمد (‬
‫‪ ، )3‬وخطأ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.139/7 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،3/4 :‬المغني‪ 636/7 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬سمي بذلك‪ ،‬لنه أشبه العمد في القصد‪ ،‬ويسمى أيضا خطأ عمد‪ ،‬وعمد خطأ‪ ،‬وخطأ شبه عمد‪.‬‬

‫( ‪)7/536‬‬

‫والقتل العمد‪ :‬هو قصد الفعل العدوان والشخص بما يقتل غالبا‪ ،‬جارحٍ‪ ،‬أو مثقل‪ ،‬مباشرة‪ ،‬أو تسببا‪،‬‬
‫كحديد وسلح وخشبة كبيرة‪ ،‬وإبرة في مقتل‪ ،‬أو غير مقتل كفخذ وألية إن حدث تورم وألم واستمر‬
‫حتى مات‪ ،‬أو كأن قطع إصبع إنسان‪ ،‬فسرت الجراحة إلى النفس ومات‪.‬‬
‫وشبه العمد‪ :‬هو قصد الفعل العدوان والشخص بما ل يقتل غالبا‪ ،‬كضرب بحجر خفيف أو لكمة باليد‪،‬‬
‫أو بسوط‪ ،‬أو عصا صغيرين أو خفيفين‪ ،‬ولم يوال بين الضربات‪ ،‬وأل يكون الضرب في مقتل‪ ،‬أو‬
‫كان المضروب صغيرا أو ضعيفا‪ ،‬وأل يكون حر أو برد مساعد على الهلك‪ ،‬وأل يشتد اللم ويبقى‬
‫إلى الموت‪ .‬فإن كان شيء من ذلك فهو عمد؛ لنه يقتل غالبا‪ .‬ول قصاص في شبه العمد‪ ،‬وإنما فيه‬
‫دية مغلظة أبيّنها في بحث الديات‪.‬‬
‫والخطأ‪ :‬هو القتل الحادث بغير قصد العتداء ل للفعل‪ ،‬ول للشخص‪ ،‬كأن وقع شخص على آخر‬
‫فمات‪ ،‬أو رمى شجرة أودابة‪ ،‬فأصابت الرمية إنسانا فمات‪ ،‬أو رمى آدميا فأصاب غيره فمات‪.‬‬
‫وبما أن هذا التقسيم أشهر التقاسيم فإني سأعتمده في بحث أنواع القتل وعقوباته‪.‬‬

‫( ‪)7/537‬‬

‫ثالثا ـ مشهور مذهب المالكية (‪ : )1‬أن القتل نوعان‪ :‬عمد‪ ،‬وخطأ‪ ،‬لنهما المذكوران فقط في القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬لبيان حكم نوعي القتل‪ ،‬فمن زاد قسما ثالثا أو رابعا زاد على النص‪ ،‬وأنكر مالك شبه العمد‪.‬‬
‫أما العمد‪ :‬فهو أن يقصد القاتل القتل مباشرة بضرب بمحدد أو مثقل‪ ،‬أو تسببا بإحراق أو تغريق أو‬
‫خنق‪ ،‬أو سُمّ أو غيرها‪ ،‬كمنع طعام أو شراب قاصدا به موته‪ ،‬فمات‪ ،‬أو قصد مجرد التعذيب‪ ،‬سواء‬
‫بما يقتل غالبا أو بما ل يقتل غالبا‪ ،‬إن فعل ذلك لعداوة أو غضب ل على وجه التأديب‪ .‬فإن كان القتل‬
‫بسبب الضرب على وجه اللعب أو التأديب فهو من الخطأ‪ ،‬إن كان الضرب بنحو قضيب‪ ،‬ل بنحو‬
‫سيف‪.‬‬
‫وأما الخطأ‪ :‬فهو أل يقصد الضرب ول القتل‪ ،‬كما لو سقط إنسان على غيره فقتله‪ ،‬أو رمى صيدا‬
‫فأصاب إنسانا‪.‬‬
‫وشبه العمد‪ :‬هو أن يقصد الضرب ول يقصد القتل‪ ،‬والمشهور عندهم أنه كالعمد (‪. )2‬‬
‫ويلحظ مما سبق أن الفقهاء اتفقوا على بعض حالت القتل العمد كالقتل بسلح‪ ،‬وعلى حالة القتل‬
‫الخطأ‪ ،‬واختلفوا في حالت ثلث‪ :‬هي القتل شبه العمد‪ ،‬وما أجري مجرى الخطأ‪ ،‬والقتل بسبب‪.‬‬
‫كما يلحظ أن الفقهاء اعتمدوا في إثبات العمد وشبه الخطأ‪ ،‬على اللة المستعملة في القتل باعتبارها‬
‫دليلً ماديا أو حسيا على توافر القصد أي (العمد) وعدم توفره‪ .‬وفي عصرنا الحاضر حيث تعددت‬
‫أساليب القتل‪ ،‬ينبغي البحث في ظروف القتل وملبساته‪ ،‬وفي قرائن الحوال‪ ،‬للحكم على نية القاتل‪،‬‬
‫أهو متعمد‪ ،‬أم مخطئ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي‪ ،242/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،344‬بداية المجتهد‪.390/2 :‬‬
‫(‪ )2‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.345‬‬
‫( ‪)7/538‬‬

‫المبحث الثاني ـ القتل العمد وعقابه‬


‫وفيه مطلبان ـ المطلب الول ـ أركان القتل العمد‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ عقوبات القتل العمد‪.‬‬
‫المطلب الول ـ أركان القتل العمد ‪:‬‬
‫للقتل العمد أركان ثلثة‪ :‬هي أن يكون القتيل آدميا حيا معصوم الدم‪ ،‬وأن يحدث القتل نتيجة لفعل‬
‫الجاني‪ ،‬وأن يقصد الجاني إحداث الوفاة (‪. )1‬‬
‫الركن الول ـ القتيل آدمي حي معصوم الدم ‪:‬‬
‫القتل العمد الموجب للقصاص‪ :‬هو الحادث اعتداء على آدمي حي معصوم الدم (‪ )2‬على التأبيد‪ ،‬فل‬
‫قصاص بالعتداء على غير النسان‪ ،‬أو على الميت الذي فارق الحياة‪ ،‬أو على غير معصوم الدم‬
‫عصمة مؤقتة غير دائمة‪ ،‬كالمرتد أو الحربي (‪ ، )3‬أو المستأمن (‪ )4‬في دار السلم؛ لن المستأمن‬
‫لم تثبت له عصمة مطلقة دائمة‪ ،‬وإنما عصمته مؤقتة أثناء إقامته في دار السلم‪ ،‬فهو في الصل‬
‫حربي‪ ،‬ودخل دار السلم لحاجة عارضة‪ ،‬ثم يعود إلى وطنه الصلي‪ ،‬فكان في عصمة دمه شبهة‬
‫الباحة بالعود إلى دار الحرب‪ ،‬فل يقتص من قاتله عمدا‪ ،‬وإنما يعزر‪ ،‬لفتئاته على مصلحة الحاكم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬التشريع الجنائي السلمي للمرحوم الستاذ عبد القادر عودة‪ 12/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،252 ،336/7 :‬الدر المختار‪ ،375/5 :‬اللباب شرح الكتاب‪ ،143/3 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪.8/4‬‬
‫(‪ )3‬الحربي‪ :‬عدو‪ ،‬وهو الذي ينتمي لدولة محاربة‪ ،‬أو هو الذي بيننا وبين بلده عداوة وحرابة‪،‬‬
‫والجماع على أنه مهدر الدم والمال‪ ،‬أي مباح الدم والمال‪.‬‬
‫(‪ )4‬المستأمن‪ :‬هو من دخل دار السلم بأمان مؤقت فيما دون السنة‪.‬‬

‫( ‪)7/539‬‬

‫كذلك ل قصاص عند الجمهور بقتل الباغي (‪ )1‬لعدم العصمة‪ ،‬واعتقاد أهل العدل (جماعة المسلمين‬
‫في دار السلم) إباحة دمه‪ .‬وتلك الباحة عند غير الحنفية (‪ )2‬مقصورة على حالة الحرب الدائرة‬
‫بين قومه البغاة وبين أهل العدل‪ .‬ويرى الحنفية أن عدم عصمة البغاة مطلقة في أي حال بمجرد البغي‬
‫( ‪. )3‬‬
‫وأساس العصمة عند الحنفية (‪ : )4‬هو الوجود في دار السلم‪ ،‬فيعد المسلم والذمي والمستأمن‬
‫معصوم الدم بسبب وجوده في دار السلم‪ .‬أما الحربي أو المسلم في دار الحرب‪ ،‬فليس معصوما‪،‬‬
‫ول عقاب على قاتله‪ ،‬لكونه في دار الحرب‪.‬‬
‫وأما عند الجمهور غير الحنفية (‪ : )5‬فأساس العصمة هو السلم أو المان‪ .‬فيعدّ المسلم والذمي‬
‫والمستأمن والمهادن معصوما‪ ،‬إما بسبب السلم بالنسبة للمسلم ولو كان في دار الحرب‪ ،‬أو بسبب‬
‫المان بالنسبة لغير المسلم المعاهد‪ ،‬فل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الباغي‪ :‬هو أحد البغاة الخارجين على المام يبغون خلعه‪ ،‬وكان له منعة وشوكة‪ ،‬معتمدين على‬
‫تأويل سائغ لنص شرعي‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪ ،300/4 :‬المهذب‪ ،220/2 :‬مغني المحتاج‪ ،125/4 :‬المغني‪ 113/8 :‬وما‬
‫بعدها‪ .‬قال ابن قدامة‪ :‬الصحيح أن الخوارج يباح قتلهم‪ ،‬فل قصاص على قاتل أحد منهم ول ضمان‬
‫عليه في ماله‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪.236/7 :‬‬
‫(‪ )4‬تكملة الفتح‪ ،255/8 :‬البدائع‪ ،252/7 :‬اللباب مع شرح الكتاب‪.144/3 :‬‬
‫(‪ )5‬الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي‪ ،239/4 :‬مغني المحتاج‪ ،14/4 :‬المغني‪.648/7 :‬‬

‫( ‪)7/540‬‬

‫تباح دماؤهم ول أموالهم‪ ،‬ويعاقب قاتلهم على القتل العمد‪ ،‬إل أنه ل يقتل المسلم بالكافر عندهم (‪)1‬‬
‫كما سيتضح فيما بعد‪ ،‬ويقتل قاتل المسلم ولو كان في دار الحرب‪ .‬ويظهر أثر الخلف بين الرأيين‬
‫في قتل المسلم في دار الحرب‪.‬‬
‫ووقت العصمة عند الحنفية‪ :‬مختلف فيه بين المام وصاحبيه (‪ . )2‬فأبو حنيفة‪ :‬يرى أن وقت‬
‫العصمة هو وقت الفعل أي فعل القاتل ل غير‪ ،‬فمن رمى إنسانا مسلما فجرحه‪ ،‬ثم ارتد المجروح بعد‬
‫ل إل بفوات حياة القتيل‪ ،‬وقد‬
‫الجرح‪ ،‬ومات وهو مرتد‪ ،‬ل يقتص منه؛ لن فعل الجاني ل يصير قت ً‬
‫فاتت حياة المقتول في وقت لم يكن فيه معصوما‪ ،‬فكان دمه هدرا‪ ،‬لكن على الجاني دية المقتول عند‬
‫أبي حنيفة؛ لنه يسأل عن الجرح الذي أحدثه في معصوم عند بدء فعله‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت جميعا؛ لن للفعل تعلقا بالقاتل والمقتول‪،‬‬
‫فهو فعل القاتل‪ ،‬وأثره يظهر في المقتول بفوات الحياة‪ ،‬فل بد من ملحظة العصمة في الوقتين‬
‫جميعا‪ ،‬فل قصاص على الجاني في المثال السابق ول دية عليه عندهما‪.‬فالمام وصاحباه اتفقوا على‬
‫عدم القصاص واختلفوا في إيجاب الدية‪.‬‬
‫وقال زفر‪ :‬إن وقت العصمة هو وقت الموت ل غير‪.‬‬
‫كذلك اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في تحديد وقت العصمة عند الرمي‪ .‬فقال أبو حنيفة‪ :‬العبرة بوقت‬
‫الرمي ل وقت الصابة‪ ،‬لن النسان يسأل عن فعله‪ ،‬ول فعل منه سوى الرمي‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬العبرة بوقت الصابة ل وقت الرمي؛ لن المعول عليه هو وقت التلف‪ ،‬ووقت التلف‬
‫هو وقت الصابة‪.‬‬
‫فمن رمى غيره برصاصة‪ ،‬فارتد المرمي بعد الرمي وقبل الصابة‪ ،‬يكون الجاني مطالبا بالدية عند‬
‫أبي حنيفة؛ لنه كان معصوما عند الرمي‪ ،‬وليس مطالبا عند الصاحبين؛ لن المجني عليه لم يكن‬
‫معصوما وقت الصابة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪.652/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،253/7 :‬التشريع الجنائي السلمي‪ 23/2 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/541‬‬

‫واتفق غير الحنفية (مالك والشافعي وأحمد) (‪ )1‬مع الصاحبين في رأيهما بتحديد وقت العصمة‪ ،‬وهو‬
‫وقت الفعل (ضربا أو جرحا) ووقت الموت معا‪ ،‬أي حال البدء وحال النتهاء‪ ،‬فيشترط كون المجني‬
‫عليه معصوما من حين الضرب أو الجراح إلى حين الموت‪ .‬فلو قطع شخص يد مسلم‪ ،‬فارتد‪ ،‬ثم‬
‫مات بسراية الجرح‪ ،‬فالنفس هَدَر‪،‬أي لم يجب في النفس قصاص ول دية ول كفارة؛ لنها نفس مرتد‬
‫غير معصوم ول مضمون‪.‬‬
‫لكن اختلف غير الحنفية في تحديد وقت العصمة حال الرمي‪ ،‬فقال المالكية والشافعية‪ :‬إنه وقت‬
‫الرمي‪ .‬وقال الحنابلة‪ :‬إنه حالة الصابة‪.‬‬
‫الركن الثاني ـ القتل نتيجة لفعل الجاني ‪:‬‬
‫ل تعد الجريمة قتلً إل إذا ارتكب الجاني فعلً من شأنه إحداث الموت‪ .‬فإن حدث الموت بفعل ل‬
‫يمكن نسبته إلى الجاني‪ ،‬أو لم يكن فعله مما يحدث الموت‪ ،‬فل يعد الجاني قاتلً‪.‬‬
‫والفعل القاتل يصح أن يكون ضربا أو جرحا‪ ،‬أو ذبحا أو حرقا أو خنقا أو تسميما أو غير ذلك (‪. )2‬‬
‫والبحث في هذا الركن في أمرين‪ :‬أداة القتل‪ ،‬والفعال المكونة للقتل العمد‪.‬‬
‫أداة القتل ‪:‬‬
‫تختلف أدوات القتل قوة وضعفا في مدى التأثير على الجسم والتأثر بها‪ ،‬لذا حدد الفقهاء لكل منها‬
‫حكما وأثرا معينا‪ ،‬واختلفوا فيما بينهم في ترتيبها كما ذكرت في بيان أنواع القتل إجمالً‪.‬‬
‫أولً ـ رأي الحنفية (‪: )3‬‬
‫اشترط أبو حنيفة في أداة القتل العمد‪ :‬أن تكون مما يقتل غالبا‪ ،‬ومما يعد للقتل‪ ،‬وهي كل آلة جارحة‬
‫أوطاعنة ذات حد لها َموْر في الجسم‪ ،‬أي تفرق أجزاء الجسم‪ ،‬سواء كانت من الحديد أو الرصاص أو‬
‫النحاس‪ ،‬أو الخشب المحدد أو الحجر المحدد‪ ،‬أو نحوها كالسيف والبندقية والسكين والرمح‪ ،‬والبرة‬
‫في مقتل‪ ،‬أو ما يعمل عمل هذه الشياء في الجرح والطعن‪ ،‬كالنار والزجاج وليطة القصب (‪)4‬‬
‫والمروة المحددة (‪ ، )5‬والرمح الذي لسنان له ونحوها‪.‬‬
‫وسواء أكان الحديد وشبهه من المعادن مما له حد يبضع (يقطع الجلد ويشق اللحم) بضعا‪ ،‬أم هو مثقل‬
‫ليس له حد يرض رضا‪ ،‬كالعمود وصنجة الميزان وظهر الفأس والمروة‪ ،‬ونحوها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير‪ 238/4 :‬وما بعدها‪ ،249 ،‬مغني المحتاج‪ ،23/4 :‬المغني‪.656-653/7 :‬‬
‫(‪ )2‬التشريع الجنائي‪ ،‬عودة‪.25/2 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ 233/7 :‬ومابعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ 97/6 :‬وما بعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪ ،244/8 :‬الدر‬
‫المختار ورد المحتار‪.375/5 :‬‬
‫(‪ )4‬الليطة‪ :‬قشر القصب اللزق به‪.‬‬
‫(‪ )5‬المروة‪ :‬حجر أبيض براق يقدح به النار‪.‬‬

‫( ‪)7/542‬‬

‫أما أداة القتل شبه العمد‪ :‬فهي كل آلة تقتل غالبا‪ ،‬ولكنها ليست جارحة ول طاعنة كالخشبة الكبيرة‪،‬‬
‫والحجر الثقيل‪ ،‬ويقصد به غير القتل كالتأديب ونحوه‪ ،‬فإن قصد به التلف فهو عمد‪.‬‬
‫ودليل المام قوله عليه الصلة والسلم‪« :‬أل إن قتيل الخطأ شبه العمد قتل ُ السوط أو العصا‪ ،‬فيه مئة‬
‫من البل‪ ،‬منها أربعون في بطونها أولدها» (‪. )1‬‬
‫واتفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أن القتل شبه عمد في حالتين وهما‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يقصد الجاني القتل بعصا صغيرة أو بحجر صغير أو بلطمة‪ ،‬أو بسوط ضرب به ضربة أو‬
‫ضربتين ولم يوال الضربات‪ ،‬ونحوها مما ل يقتل غالبا‪.‬‬
‫‪ - 2‬الضرب بالسوط الصغير الذي يوالي به الضربات حتى يموت المجني عليه‪ .‬وقيل في الحالة‬
‫الثانية عند الصاحبين‪ :‬إنها عمد محض‪.‬‬
‫واختلف المام مع صاحبيه في حالتين أخريين هما‪:‬‬
‫‪ - 1‬استعمال العصا الكبيرة والحجر الكبير والمدقة الكبيرة ونحوها‪.‬‬
‫‪ - 2‬اللقاء في بئر أو من سطح أو جبل‪ ،‬ول يرجى منه النجاة‪.‬‬
‫عند المام‪ :‬هما شبه عمد‪ .‬وعند الصاحبين‪ :‬هما عمد‪ .‬قال الحنفية (‪ : )2‬والصحيح قول المام‪ ،‬وبه‬
‫يفتى في شبه العمد‪.‬‬
‫أما التغريق في الماء القليل وموت الغريق‪ ،‬فليس عمدا ول شبه عمد‪ ،‬باتفاق الحنفية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد وأصحاب السنن إل الترمذي عن عبد ال بن عمرو‪.‬‬
‫(‪ )2‬رد المحتار‪ ،376/5 :‬اللباب شرح الكتاب‪ ،142/3 :‬تبيين الحقائق‪.101/6 :‬‬

‫( ‪)7/543‬‬

‫ثانيا ـ مذهب الشافعية والحنابلة‪ :‬اكتفى الشافعية والحنابلة (‪ )1‬في تحديد أداة القتل العمد‪ :‬بأن تكون‬
‫مما يقتل غالبا‪ ،‬سواء أكان القتل بمحدد أم بمثقّل‪.‬‬
‫والمحدد‪ :‬هو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين ونحوهما من أي معدن كحديد ورصاص‬
‫ونحاس وذهب وفضة‪ ،‬أوغير معدن كزجاج وحجر وقصب وخشب له حد قاطع‪ .‬والمحدد ل ينظر‬
‫فيه إلي غلبة الظن في حصول القتل‪ ،‬بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو أنملته فمات‪ ،‬كان عمدا‪.‬‬
‫والمثقل‪ :‬هو ما ليس له حد يجرح ول سن يطعن‪ ،‬كالعصا والحجر‪ ،‬فإن كان المثقل مما يقتل غالبا‪،‬‬
‫أي يغلب على الظن حصول الموت به عند استعماله‪ ،‬كان القتل عمدا موجبا للقصاص‪ .‬وإن كان‬
‫المثقل مما ل يقتل غالبا‪ ،‬كان القتل شبه عمد موجبا للدية‪.‬‬
‫وبناء عليه يكون القتل عمدا إذا استعمل الجاني سلحا ناريا أو سلحا أبيض كالسيف ونحوه‪ ،‬أو‬
‫معدنا أو غير معدن له حد جارح يقطع الجلد واللحم‪ ،‬أو له مور (‪ )2‬وغور في الجسم كالمسلّة‬
‫والنشاب‪ ،‬أو البرة المغروزة في مقتل‪ .‬أو استعمل ما يقتل غالبا كالعصا الغليظة والعمود والخشبة‬
‫الكبيرة والحجر‪ ،‬أو كانت الداة مما تقتل كثيرا كالعصا والسوط والحجر الصغير‪ ،‬واللكزة واللطمة‪،‬‬
‫إذا كرر الضرب بما ذكر حتى قتله‪ ،‬أو ضربه في مقتل أو كانت تقتل نادرا في بعض الظروف كما‬
‫في حال ضعف المضروب لمرض أو صغر‪ ،‬أو في زمن حر أو برد مفرط‪ ،‬أو اشتد اللم وبقي إلى‬
‫الموت‪.‬‬
‫فإن استعمل الجاني أداة ل تقتل غالبا كالضرب بالسوط أو العصا الخفيفين‪ ،‬ولم يوال الضربات‪ ،‬ولم‬
‫يكن الضرب في مقتل‪ ،‬أو المقتول صغيرا أو ضعيفا‪ ،‬ولم يكن حرأو برد معين على الهلك‪ ،‬ولم‬
‫يشتد اللم ويستمر إلى الموت‪ ،‬كان القتل شبه عمد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،4-3/4 :‬المهذب‪ ،175/2 :‬المغني‪ ،640-637/7 :‬كشاف القناع‪.587/5 :‬‬
‫(‪ )2‬أي يفرق أجزاء الجسد‪.‬‬

‫( ‪)7/544‬‬

‫ودليل الشافعية والحنابلة‪ :‬هو نفس الحديث الذي استدل به الحنفية وهو «أل إن في قتيل عمد الخطأ‪،‬‬
‫قتيل السوط والعصا والحجر مائة من البل» وقالوا‪ :‬إن الحديث محمول على المثقل الصغير؛ لنه‬
‫ذكر العصا والسوط‪ ،‬وقرن به الحجر‪ ،‬فدل على أنه أراد ما يشبههما‪ .‬واستدلوا أيضا بحديث آخر‪:‬‬
‫«إن جارية وُجدت‪ ،‬وقد ُرضّ رأسها بين حجرين‪ ،‬فقيل لها‪ :‬من فعل بك هذا‪ ،‬أفلن أو فلن‪ ،‬حتى‬
‫سمي يهودي‪ ،‬فأومأت برأسها‪ ،‬فأخذ اليهودي‪ ،‬فاعترف‪ ،‬فأمر رسول ال صلّى ال عليه وسلم برض‬
‫رأسه بالحجارة» (‪ )1‬قالوا‪ :‬فثبت القصاص في هذا أي في المثقل‪ ،‬بالنص‪ ،‬وقيس عليه الباقي‪ ،‬مما‬
‫يدل على شرعية القصاص في القتل بالمثقل‪.‬‬
‫ثالثا ـ مذهب المالكية‪ :‬إن أداة القتل العمد عند المالكية (‪ : )2‬هي كل آلة يقتل بها غالبا كالمحدد مثل‬
‫السلح‪ ،‬والمثقل مثل الحجر‪ ،‬أو ما ل يقتل بها غالبا كالعصا والسوط ونحوهما‪ ،‬سواء قصد الجاني‬
‫بالضرب قتل المجني عليه‪ ،‬أو لم يقصد قتلً‪ ،‬وإنما قصد مجرد الضرب‪ ،‬أو قصد قتل شخص معتقدا‬
‫أنه ( زيد ) فإذا هو (عمرو)‪ :‬إن حصل الضرب لعداوة أو غضب لغير تأديب‪ ،‬ففي كل ذلك ال َقوَد (‬
‫‪. )3‬‬
‫ويعتبر كالضرب‪ :‬الحراق أو التغريق أو الخنق أو التسميم‪ ،‬أو منع الطعام أو الشراب‪ ،‬سواء قصد‬
‫الموت أم مجرد التعذيب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أنس بن مالك رضي ال عنه‪ .‬وهو دليل أيضا‬
‫على أنه يقتل الرجل بالمرأة‪ ،‬وعليه إجماع العلماء‪ .‬ودليل أيضا على أنه يجوز القود بمثل ما قتل به‬
‫المقتول‪ ،‬وإليه ذهب الجمهور‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي‪ ،242/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.344‬‬
‫(‪ )3‬القود‪ :‬القصاص‪ ،‬وسمي بذلك؛ لن الجاني المقتص منه كانوا في الغالب يقودونه بشيء يربط به‬
‫أو بيده‪ ،‬كالحبل وغيره (المغني‪ ،683/7 :‬رد المحتار‪.)376/5 :‬‬

‫( ‪)7/545‬‬

‫فإن كان الضرب على وجه اللعب أو التأديب‪ ،‬فهو قتل خطأ‪ ،‬إن كان بنحو قضيب (أي عصا)‪ ،‬ل‬
‫بنحو سيف‪ ،‬وكما لو سقط على غيره فقتله‪ ،‬أو رمى صيدا فأصاب إنسانا‪.‬‬
‫وهذا في غير الب‪ ،‬وأما الب فل يقتل بولده‪ ،‬ما لم يقصد إزهاق روحه‪ ،‬كأن يضجعه ويذبحه‪.‬‬
‫وبه يتبين أن القتل عند مالك نوعان فقط كما بان سابقا‪ :‬عمد‪ ،‬وخطأ‪ ،‬وليس هناك ما يسمى ( شبه‬
‫العمد ) فقد أنكره مالك‪ ،‬وقال‪« :‬ليس في كتاب ال إل العمد والخطأ‪ ،‬فأما شبه العمد فل يعمل به‬
‫عندنا» وجعله من قسم العمد‪.‬‬
‫الفعال المكونة للقتل العمد ‪:‬‬
‫القتل العمد الموجب للقصاص في الجملة‪ ،‬مع اختلف الفقهاء في بعض أنواعه‪ :‬هو تسعة أقسام (‬
‫‪ ، )1‬أبحثها هنا‪ ،‬مع بيان الرأي الرجح في عصرنا الحاضر‪.‬‬
‫‪ - 1‬القتل بمحدد‪ :‬المحدد‪ :‬هو كل آلة جارحة أوطاعنة لها مور في البدن‪ ،‬أي تفرق أجزء الجسد‪،‬‬
‫مثل السلحة النارية الحديثة المختلفة‪ ،‬والسلح البيض‪ ،‬والخشاب والحجار المحددة والزجاج‬
‫والعظم ونحوها‪.‬‬
‫ويكاد يكون هناك اتفاق بين الفقهاء على أن القتل بالمحدد هو قتل عمد موجب للقصاص‪ ،‬مع ملحظة‬
‫ضوابط المذاهب في بيان ما يوجب القصاص‪ ،‬على ما بان في المبحث السابق‪.‬‬
‫‪ -‬الحنفية اشترطوا أن تكون قاتلة غالبا ومعدة للقتل‪.‬‬
‫‪ -‬واكتفى الشافعية والحنابلة بأن تكون اللة محددة‪ ،‬ولم يشترطوا غلبة الظن في حصول القتل بها‪.‬‬
‫ولم يشترط المالكية شيئا في آلة القتل‪ ،‬وإنما يكفي وجود العدوان‪.‬‬
‫وبناء عليه‪ :‬إذا أحدث الجاني جرحا كبيرا‪ ،‬فهوقتل عمد بالتفاق‪ ،‬وإن أحدث جرحا صغيرا في مقتل‬
‫كالعين والقلب والخاصرة‪ ،‬باستعمال إبرة أوشوكة‪ ،‬فهو قتل عمد اتفاقا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع كشاف القناع‪ 587/5 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪.646-637/7 :‬‬
‫( ‪)7/546‬‬

‫وإن استعمل البرة في غير مقتل كفخذ وألية فهو شبه عمد عند الحنفية؛ لن البرة معدة للخياطة‪،‬‬
‫ول تستعمل في القتل عادة (‪، )1‬وعمد عند الشافعية (‪ )2‬إن تورم محل الغرز وتألم‪ ،‬واستمر المران‬
‫حتى مات‪ .‬فإن لم يظهر للغرز أثر‪ ،‬بأن لم يشتد اللم‪ ،‬ومات في الحال‪ ،‬فهو قتل شبه عمد‪ ،‬وقيل‪ :‬هو‬
‫عمد‪ .‬ويعد الغرز عند الحنابلة (‪ )3‬في غير مقتل قتل عمد إن بالغ الجاني في إدخال البرة في البدن؛‬
‫لن هذا يشتد ألمه ويفضي إلى القتل‪ .‬وكذا إن كان الغور يسيرا‪ ،‬أو الجرح لطيفا‪ ،‬واستمر حتى مات‬
‫يكون عمدا فيه القود‪ .‬وإن مات في الحال ففيه وجهان‪ :‬أحدهما ‪ -‬ل قصاص فيه‪ ،‬والثاني ‪ -‬فيه‬
‫القصاص‪ ،‬وبه يظهر أن مذهبي الشافعية والحنابلة متفقان في حال استعمال البرة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رد المحتار‪.375/5 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪.5-4/4 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪.638-637/7 :‬‬

‫( ‪)7/547‬‬

‫وجعل مالك الجرح والغرز قتلً عمدا‪ ،‬في مقتل أو غير مقتل إذا لم يكن الفعل على وجه اللعب أوا‬
‫لتأديب (‪. )1‬‬
‫‪ - 2‬القتل بالمثقّل‪ ،‬أو بغير المحدد‪ :‬هو ما ليس له حد‪ ،‬كالعصا والحجر‪ .‬واختلف الفقهاء في شأنه‪،‬‬
‫هل يوجب القود ؛ لنه عمد‪ ،‬أو الدية؛ لنه شبه عمد؟‬
‫قال أبو حنيفة‪ :‬القتل بمثقل إل الحديد وما في معناه من نحاس وصنجة ميزان (‪ )2‬شبه عمد (‪. )3‬‬
‫واستثناء الحديد لنه يعمل عمل السلح‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد‪ ،‬ومنافع للناس}‬
‫[الحديد‪ .]25/57:‬ودليله حديث «أل إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مئة من‬
‫البل» فإذا أوجب الرسول عليه السلم فيه الدية‪ ،‬كان شبه عمد وليس عمدا‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬القتل بمثقل كحجر عظيم أوخشبة عظيمة إذا كان مما يقتل غالبا عمد؛ لنه لما كان‬
‫يقتل غالبا‪ ،‬صار بمنزلة اللة الموضوعة له‪ .‬فإذا لم يكن المثقل قاتلً غالبا‪ ،‬كان القتل شبه عمد‪ ،‬ولو‬
‫توالى الضرب‪.‬‬
‫ورأى الشافعية والحنابلة (‪ : )4‬أن القتل بالمثقل الذي يقتل غالبا‪ ،‬سواء كان كبيرا‪ ،‬أم صغيرا وكان‬
‫في مقتل أو في مرض أو حر أو برد شديدين‪ ،‬أم والى الضربات‪ :‬هو قتل عمد؛ لنه يقتل غالبا‪،‬‬
‫ولعموم اليات الدالة على وجوب القصاص في القتل‪ ،‬وليجاب النبي عليه الصلة والسلم القصاص‬
‫على يهودي قتل امرأة بحجر‪ ،‬وقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين‪ ،‬إما‬
‫أن يُوديَ‪ ،‬وإما أن يقاد» (‪ . )5‬وأما الحديث الذي استدل به أبو حنيفة السابق فهو محمول على المثقل‬
‫الصغير؛ لنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر‪ ،‬فدل على أنه أراد ما يشبههما‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )6‬القتل بمثقل قتل عمد‪ ،‬سواء أكان مما يقتل غالبا أم ل يقتل غالبا‪ ،‬ما دام الفعل‬
‫عدوانا‪ ،‬ل على وجه اللعب والتأديب‪.‬‬
‫والحقيقة أن الذي يلحظ حالت القتل العمد العدوان وظروفه من غيظ وحقد وعصبية جامحة يرجح‬
‫رأي المالكية في القتل بمحدد أو بمثقل‪.‬‬
‫‪ - 3‬القتل بالمباشرة ‪:‬‬
‫المباشرة‪ :‬ما أثر في التلف وحصله دون واسطة‪ ،‬وكان علة للموت‪ ،‬والقتل بالمباشرة‪ :‬أن يقصد‬
‫الجاني عين المجني عليه بالفعل المؤدي إلى الهلك بل واسطة (‪ ، )7‬كالجرح أو الذبح بالسكين‪،‬‬
‫والخنق‪ ،‬فإنه يؤدي بذاته إلى موت المجني عليه‪.‬‬
‫وقد اتفق الفقهاء على أن القتل بطريق المباشرة موجب للقصاص‪ ،‬واشترط الحنفية (‪ )8‬ليجاب‬
‫القصاص أن يكون القتل مباشرة ل تسببا‪.‬‬
‫والمباشرة إما أن تكون من قاتل واحد‪ ،‬أو من جماعة‪ .‬فإن حدث القتل من شخص واحد بانفراده‪،‬‬
‫وجب القصاص من القاتل‪ .‬وأما إن حدث القتل من جماعة اشتركوا في الجريمة‪ ،‬فإما أن يتم‬
‫الشتراك في حال التعاقب أو في وقت واحد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير‪.242/4 :‬‬
‫(‪ )2‬سنجة الميزان بالسين أفصح من الصاد‪.‬‬
‫(‪ )3‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،375/5 :‬اللباب شرح الكتاب‪ 141/3 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪ ،4/4 :‬المغني‪.638/7 :‬‬

‫(‪ )5‬متفق عليه بين البخاري ومسلم وأصحاب الكتب الستة من حديث أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )6‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبير‪.242/4 :‬‬
‫(‪ )7‬مغني المحتاج‪.6/4 :‬‬
‫(‪ )8‬البدائع‪.239/7 :‬‬
‫( ‪)7/548‬‬

‫قتل الجماعة بالواحد ‪:‬‬


‫يجب شرعا باتفاق الئمة الربعة قتل الجماعة بالواحد‪ ،‬سدا للذرائع‪ ،‬فلو لم يقتلوا لما أمكن تطبيق‬
‫القصاص أصلً‪ ،‬إذ يتخذ الشتراك في القتل سببا للتخلص من القصاص‪ .‬ثم إن أكثر حالت القتل تتم‬
‫على هذا النحو‪ ،‬فل يوجد القتل عادة إل على سبيل التعاون والجتماع‪.‬‬
‫وقد بادر الصحابة إلى تقدير هذا المر‪ ،‬فأفتوا بالقصاص الشامل‪ .‬وأول حادثة حدثت هي في عهد‬
‫عمر‪ ،‬وهي أن امرأة بمدينة صنعاء‪ ،‬غاب عنها زوجها‪ ،‬وترك عندها ابنا له من غيرها‪ ،‬فاتخذت‬
‫لنفسها خليلً‪ ،‬فقالت له‪ :‬إن هذا الغلم يفضحنا فاقتله‪ ،‬فأبى‪ ،‬فامتنعت منه فطاوعها‪ ،‬فاجتمع على قتل‬
‫الغلم خليل المرأة‪ ،‬ورجل آخر‪ ،‬والمرأة وخادمها‪ ،‬فقطعوه أعضاء‪ ،‬وألقوا به في بئر‪ .‬ثم ظهر‬
‫الحادث وفشا بين الناس‪ ،‬فأخذ أمير اليمن خليل المرأة فاعترف‪ ،‬ثم اعترف الباقون‪ ،‬فكتب إلى عمر‬
‫بن الخطاب‪ ،‬فكتب إليه عمر‪ :‬أن اقتلهم جميعا‪ ،‬وقال‪« :‬وال لو تمال عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا»‬
‫(‪ . )1‬وحكم حالتي الشتراك في القتل يظهر فيما يأتي (‪: )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه مالك في موطئه عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل نفرا‪ :‬خمسة‪ ،‬أو سبعة‬
‫برجل قتلوه غيلة‪ ،‬وقال‪« :‬لو تمال عليه أهل صنعاء لقتلتهم به» وعن مالك رواه محمد بن الحسن في‬
‫موطئه والشافعي في مسنده والبخاري في صحيحه وابن أبي شيبة في مصنفه والدارقطني في سننه‬
‫والطحاوي والبيهقي‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،238/7 :‬تكملة الفتح‪ ،278/8 :‬اللباب شرح الكتاب‪ ،150/3 :‬الدر المختار‪ 394/5 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ 114/6 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/549‬‬

‫أولً ـ القتل المباشر على التعاقب‪ :‬كأن يشق رجل بطن آخر‪ ،‬ثم يأتي غيره فيحز رقبته‪ ،‬فالقصاص‬
‫على الثاني إن كان عمدا‪ ،‬وإن كان خطأ فالدية على عاقلته؛ لنه هو القاتل‪ ،‬ل الول‪ ،‬فإن عليه‬
‫التعزير فقط‪.‬‬
‫وتتم هذه الحالة بانفراد كل من المشتركين عن الخر‪ ،‬ل مجتمعين‪ ،‬فل يكون بينهما توافق أو تمالؤ‬
‫سابق‪.‬‬
‫ثانيا ـ القتل المباشر حالة الجتماع‪ :‬كأن تحدث جراحات معا من عدة جناة‪ ،‬فيجرح كل منهم جرحا‬
‫مهلكا‪ ،‬أو يطلق كل منهم عيارا ناريا‪ ،‬فيصيب المجني عليه إصابة قاتلة‪ ،‬فيجب القصاص عند الحنفية‬
‫على كل المشتركين إذا باشروا القتل؛ لن كل واحد منهم يعد قاتلً عمدا‪ .‬يظهر من هذا أن الحنفية ل‬
‫يفرقون بين حالة التوافق (وهو قصد القتل دون اتفاق سابق) وبين التمالؤ (وهو في اصطلح المالكية‬
‫قصد القتل بعد اتفاق سابق على ارتكاب الجريمة)‪ ،‬وإنما المهم حدوث الصابة فعلً وأن يكون فعل‬
‫الجاني قاتلً‪ ،‬بدليل قولهم في القتل العمد‪« :‬وتشترط المباشرة من الكل‪ ،‬بأن جرح كل واحد جرحا‬
‫ساريا» وقال التمرتاشي‪« :‬ويقتل جمع بمفرد إن جرح كل واحد جرحا مهلكا‪ ،‬وإل ل» أي أن المهم‬
‫عندهم هو حدوث مباشرة القتل‪.‬‬
‫وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (‪ : )1‬تقتل الجماعة غير المتمالئين (أي غير المتفقين‬
‫سابقا) بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهم صالحا للقتل به‪ ،‬فيما لو انفرد بالجناية ومات المجني عليه‪،‬‬
‫وضربوه عمدا عدوانا‪ ،‬أي ل بد من كون فعل كل واحد من الجماعة قاتلً‪ .‬وفي هذه الحالة يتفق‬
‫الجمهور مع الحنفية‪ .‬وكذلك‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير‪ ،245/4 :‬القوانين الفقهية لبن جزي‪ :‬ص ‪ ،345‬المهذب‪ ،174/2 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،22 ،20 ،12/4 :‬المغني‪ 671/7 :‬وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪ ،598/5 :‬بداية المجتهد‪:‬‬
‫‪.392/2‬‬

‫( ‪)7/550‬‬

‫يقتل عند الجمهور الجماعة المتمالئون (المتواطئون) على القتل بالواحد إن قصد الجميع الضرب‪ ،‬وإن‬
‫لم يصلح فعل كل واحد من الجماعة للقتل‪ ،‬أي ولو لم يكن فعل كل واحد قاتلً‪ ،‬كأن ضربوه بسياط أو‬
‫بحجر صغير‪ ،‬فمات‪ ،‬لئل يتخذ التواطؤ (التفاق السابق)ذريعة إلى درء القصاص‪ .‬وهذا هو الصح‬
‫عند الشافعية والحنابلة‪ ،‬إل أنهم يخالفون المالكية في اشتراط كون كل مشترك في ارتكاب الفعل له‬
‫صفة الفاعل للجريمة‪ ،‬ويكفي عند المالكية حضور الجميع‪ ،‬وإن لم يتول القتل إل واحد‪ ،‬إذا كان غير‬
‫الضارب مستعدا للضرب‪ ،‬ولو لم يضرب غيره‪ ،‬وإنما كان ربيئة أي رقيبا‪.‬‬
‫وبه يظهر أن الجمهور يختلفون مع الحنفية في هذه الحالة (القتل بالتمالؤ) لكني أرجح مذهب‬
‫الجمهور‪ ،‬لفعل عمر رضي ال عنه في قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلً‪ ،‬وإجماع الصحابة على‬
‫فعله‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬أنه إذا باشر الجميع القتل يقتل الجميع باتفاق المذاهب‪.‬‬
‫وأما الشريك‪ :‬الذي لم يباشر فعلً من أفعال القتل‪ ،‬وإنما اقتصر على التفاق على القتل دون حضور‬
‫القتل‪،‬أو على التحريض أو العانة على القتل دون مباشرة القتل‪ ،‬فيعاقب بالتعزير‪ ،‬ومنه القتل إذا شاء‬
‫المام عند غير المالكية‪ .‬ويعاقب بالقصاص عند المالكية‪.‬‬
‫معنى التمالؤ‪ :‬هذا ويلحظ أن الفقهاء اختلفوا في تحديد معنى التمالؤ (‪. )1‬‬
‫قال الحنفية والشافعية والحنابلة في الرجح عندهم‪ :‬التمالؤ ـ في اصطلحهم هو توافق إرادات الجناة‬
‫على الفعل ولو دون أن يكون بينهم اتفاق سابق‪ ،‬بحيث‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي‪ ،245/4 :‬الشرح الصغير‪ ،344/4 :‬وراجع التشريع الجنائي‬
‫السلمي‪ 126 ،42-39/2 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/551‬‬

‫يباشرون الجناية‪ ،‬أي يجتمعون على ارتكاب الفعل في فور واحد ولو دون سابقة من تدبير أو‬
‫اتفاق‪.‬وقال المالكية‪ :‬التمالؤ‪ :‬التعاقد والتفاق‪ ،‬وهو أن يقصد شخصان فأكثر قتل شخص وضربه‪،‬‬
‫فالتمالؤ يتطلب اتفاقا سابقا على ارتكاب الفعل‪ ،‬وإن التوافق على العتداء ل يعتبر تمالؤا‪ ،‬لكن يقتل‬
‫الجميع إذا قصدوا الضرب‪ ،‬وحضروا الجناية‪ ،‬وإن لم يتول القتل إل واحد منهم‪ ،‬وكان الخر رقيبا‬
‫مثلً‪ ،‬بشرط أن يكونوا بحيث لو استعين بهم أعانوا‪.‬‬
‫ويقتل عند المالكية أيضا الجمع غير الممالئين بقتل شخص واحد إذا ضربوه عمدا عدوانا ومات‬
‫مكانه‪ ،‬ولم تتميز الضربات‪ ،‬أو تميزت ولكن لم تعرف الضربة القاتلة‪.‬‬
‫قتل الواحد بالجماعة ـ تعدد القتلى ‪:‬‬
‫يقتل أيضا الواحد بالجماعة قصاصا‪ ،‬ول يجب عند الحنفية (‪ )1‬والمالكية (‪ )2‬مع القود شيء من‬
‫المال‪ ،‬فليس للجماعة إل القصاص؛ لن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به‪ ،‬فكذلك إذا قتلهم واحد‪ ،‬قتل‬
‫بهم‪ ،‬كالواحد بالواحد‪ .‬وحق أولياء المقتول في القتل مقدور الستيفاء لهم‪ ،‬فلو أوجبنا معه المال‪ ،‬لكان‬
‫زيادة على القتل‪ ،‬وهذا ل يجوز‪ .‬وإني أميل لهذا الرأي‪.‬‬
‫وقال الشافعية (‪ : )3‬ل يقتل القاتل إل بواحد‪ ،‬سواء اتفق أولياء الدم على طلب القصاص‪ ،‬أو لم‬
‫يتفقوا؛ لن المماثلة مشروطة في القصاص‪ ،‬ول مماثلة بين‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،239/7 :‬الدر المختار‪ ،395/5 :‬تبيين الحقائق‪ ،115/6 :‬تكملة الفتح‪.278/8 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ ،699/7 :‬الميزان الكبرى للشعراني‪ ،143/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.345‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،22/4 :‬المهذب‪.183/2 :‬‬

‫( ‪)7/552‬‬

‫الواحد والجماعة‪ ،‬فل يجوز أن يقتل الواحد بالجماعة‪ ،‬وإنما يقتل الواحد بالواحد‪ ،‬وتجب الديات‬
‫للباقين‪ .‬واشتراك أولياء الدم في حق المطالبة بالقصاص ليوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق‪.‬‬
‫وبناء عليه‪ ،‬إن قتل الواحد جماعة على الترتيب‪ ،‬قتل بأولهم‪ ،‬إن لم يعف لسبق حقه‪ .‬وإن قتلهم معا‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬كأن جرحهم أو هدم عليهم جدارا‪ ،‬فماتوا في وقت واحد‪ ،‬أو أشكل أمر المعية والترتيب‪،‬‬
‫فيقتص من الجاني لواحد من القتلة بالقرعة وجوبا‪ ،‬وللباقين من المستحقين الديات‪ ،‬لتعذر القصاص‬
‫عليه‪ ،‬كما لو مات الجاني مثلً‪.‬‬
‫وقال الحنابلة (‪ : )1‬إن اتفق أولياء القصاص على القود أو قتل الجاني قتل بهم‪ ،‬وإن أراد أحدهم‬
‫القود‪ ،‬والخر الدية‪ ،‬قتل لمن أراد القود‪ ،‬وأعطي الباقون الدية من مال الجاني‪ ،‬سواء قتلهم دفعة‬
‫واحدة أو دفعتين‪ ،‬ودليلهم قول النبي صلّى ال عليه وسلم‪« :‬فمن قتل له قتيل‪ ،‬فأهله بين خِيرَتين‪ :‬إن‬
‫أحبوا قَتَلوا‪ ،‬وإن أحبوا أخذوا العقل» (‪ )2‬أي الدية‪ ،‬ولن الجنايات المتعددة ل تتداخل في حالة الخطأ‪،‬‬
‫فل تتداخل في حالة العمد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ 699/7 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬سبقت الشارة لتخريجه إجمالً وقد رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة‬
‫بلفظ‪« :‬من قتل له قتيل فهو بخير النظرين‪ :‬إما أن يفتدي‪ ،‬وإما أن يقتل» ولفظ الترمذي‪« :‬إما أن‬
‫يعفو‪ ،‬وإما أن يقتل» وفي رواية لحمد وأبي داود وابن ماجه عن أبي شريح الخزاعي‪« :‬فهو بالخيار‬
‫بين إحدى ثلث‪ :‬إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو» قال ابن عباس‪« :‬فالعفو أن يقبل في العمد‬
‫الدية والتباع بالمعروف» ‪.‬‬

‫( ‪)7/553‬‬

‫‪ - 4‬القتل بالتسبب ‪:‬‬


‫السبب‪ :‬ما يؤثر في الهلك ول يحصله‪ ،‬أي أنه المؤثر في الموت ل بذاته‪ ،‬ولكن بواسطة‪ ،‬كحفر بئر‬
‫في طريق عام دون إذن من السلطات وتغطيتها بحيث يسقط المار فيها ويموت‪ ،‬وشهادة زور على‬
‫بريء بالقتل‪ ،‬وإكراه رجل على قتل رجل آخر‪ ،‬وحكم جائر من حاكم على رجل بالقتل‪.‬‬
‫السبب أنواع ثلثة (‪: )1‬‬
‫الول ـ حسي‪:‬كالكراه على القتل‪.‬‬
‫الثاني ـ شرعي‪ :‬كشهادة الزور على القتل‪ ،‬وحكم الحاكم على رجل بالقتل كذبا أو مع العلم بالتهمة‬
‫متعمدا الذى‪.‬‬
‫الثالث ـ عرفي‪ :‬كتقديم الطعام المسموم لمن يأكله‪ ،‬وحفر بئر وتغطيتها في طريق القتيل‪.‬‬
‫وحكم القتل بالتسبب إجمالً‪ :‬أنه عند الحنفية (‪ )2‬ل يوجب القصاص؛ لن القتل تسبيبا ل يساوي القتل‬
‫مباشرة‪ ،‬والعقوبة قتل مباشر‪ .‬فمن حفر حفرة أو بئرا على قارعة الطريق‪ ،‬فوقع فيها إنسان‪ ،‬ومات‪،‬‬
‫ل قصاص على الحافر؛ لن الحفر قتل بالسبب ل بالمباشرة‪ .‬كما ل قصاص على شهود الزور إذا‬
‫رجعوا عن شهادتهم بعد قتل المشهود عليه‪ .‬أما الكراه على القتل فيوجب القصاص عند الحنفية على‬
‫المُكرِه؛ لنه قتل مباشرة‪ ،‬والكراه يجعل المستكره آلة بيد المكره‪ ،‬ول قصاص على اللة‪.‬‬
‫وقال الجمهور غير الحنفية (‪ : )3‬يجب القصاص بالسبب‪ ،‬إذا قصد المتسبب‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪.6/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،239/7 :‬تبيين الحقائق للزيلعي‪ 101/6 :‬وما بعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪.253/8 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير للدردير‪ ،246 ،243/4 :‬مغني المحتاج‪ ،6/4 :‬المهذب‪ 176/2 :‬ومابعدها‪ ،‬المغني‪:‬‬
‫‪ ،645/7‬كشاف القناع‪ 601 ،593-591/5 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/554‬‬

‫إحداث الضرر‪ ،‬وهلك المقصود المعين بالسبب المتخذ‪ ،‬كما في حالة الحفر ورجوع الشهود عن‬
‫شهادتهم‪ ،‬والتسميم‪ ،‬والكراه‪.‬‬
‫ول بد من توضيح الكلم في الكراه على القتل‪ ،‬والتسميم‪.‬‬
‫الكراه على القتل‪ :‬إذا أكره رجل غيره على قتل آخر بأن هدده بما يلحق ضررا بنفسه أو ماله‪ ،‬فقال‬
‫أبو حنيفة ومحمد‪ :‬يجب القصاص على المكرِه‪ ،‬دون المستكره المباشر‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫«عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (‪ )1‬ولن المستكره آلة للمكره‪ ،‬والقاتل معنى‬
‫هو المكرِه‪ ،‬والموجود من المستكره صورة القتل فقط‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف‪ :‬ل قصاص على أحد‪ ،‬سواء المكره والمستكره‪ ،‬للشبهة؛ لن المكره ليس بمباشر‬
‫للقتل‪ ،‬وإنما هو مسبب له‪ ،‬وإنما القاتل هو المستكره‪.‬‬
‫وقال زفر‪ :‬القصاص على المستكره؛ لن القتل وجد منه في الحقيقة والواقع‪ .‬وبه يتبين أن في‬
‫المذهب الحنفي (‪ )2‬آراء ثلثة أرجحها الول‪.‬‬
‫وقال الجمهور (المالكية والشافعية في الظهر عندهم‪ ،‬والحنابلة) (‪ : )3‬يجب القصاص على المكره‬
‫والمستكره جميعا؛ لن المكره متسبب في القتل بما يفضي إليه غالبا‪ ،‬والمستكره مباشر القتل عمدا‬
‫عدوانا‪ ،‬ومؤثرْ في فعله استبقاء نفسه‪ .‬وإني أرجح هذا الرأي‪.‬‬
‫لكن لو قال له‪ :‬اقتلني وإل قتلتك‪ ،‬فل قصاص عند الشافعية إذا قتله؛ لن الكراه شبهة يدرأ بها الحد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه عن أبي ذر‪ ،‬والطبراني والحاكم عن ابن عباس‪ ،‬والطبراني أيضا عن ثوبان‬
‫بلفظ‪« :‬إن ال تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،179/6 :‬تكملة فتح القدير‪ ،302/7 :‬اللباب شرح الكتاب‪.112/4 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير للدردير‪ ،244/4 :‬مغني المحتاج‪ ،9/4 :‬المهذب‪ ،177/2 :‬المغني‪ ،645/7 :‬كشاف‬
‫القناع‪ 601/5 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/555‬‬

‫أما لو أمره بقتل نفسه‪ ،‬بأن قال له‪ :‬اقتل نفسك وإل قتلتك‪ ،‬فقتل نفسه‪ ،‬لم يجب القصاص؛ لن هذا‬
‫ليس إكراها‪ ،‬فصار كأنه مختار له‪ ،‬في رأي الشافعية‪ .‬ويلحظ أن الكراه على القتل ل يبيحه‪ ،‬بل‬
‫يأثم بالتفاق وكذا ل يباح الزنى بالكراه‪.‬‬
‫المر بالقتل ‪:‬‬
‫فرَق الفقهاء بين الكراه على القتل وبين المر بالقتل‪ ،‬لختلف طبيعة الحالتين‪ ،‬ففي حالة الكراه‬
‫يكون المباشر مجبرا على تنفيذ الفعل‪ ،‬وفي حالة المر يكون المباشر مختارا ارتكاب الجريمة؛ لذا‬
‫كان في حكمه تفصيل‪:‬‬
‫‪ - 1‬إذا كان المأمور غير مميز كصبي أو مجنون‪ ،‬فل قصاص على المر عند الحنفية؛ لنه قتل‬
‫بالتسبب‪ ،‬والقتل بالتسبب ل قصاص فيه‪ ،‬وإنما فيه الدية‪ ،‬كما بينت سابقا‪.‬‬
‫وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (‪ : )1‬يقتص من المر؛ لنه متسبب في القتل‪ .‬وأما‬
‫المباشر فهو مجرد آلة يحركها المر كيف يشاء‪.‬‬
‫‪ - 2‬وإذا كان المأمور مميزا‪ ،‬أو كبيرا بالغا عاقلً‪ ،‬فإما أن يكون للمر سلطان عليه‪ ،‬أو ل سلطان له‬
‫عليه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بداية المجتهد‪ 388/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الشرح الكبير للدردير‪ ،244/4 :‬المهذب‪ ،177/2 :‬كشاف‬
‫القناع‪ 602/5 :‬ومابعدها‪ ،‬المغني‪ ،757/7 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.345‬‬

‫( ‪)7/556‬‬

‫فإن لم يكن سلطان للمر على المأمور‪ ،‬فقال مالك والشافعي وأحمد (‪ : )1‬يقتص من المباشر‬
‫المأمور‪ ،‬ويعزر المر‪.‬‬
‫وأما إذا كان للمر سلطان على المأمور أي المباشر‪ ،‬كسلطة الب على ولده الصغير‪ ،‬وسلطة الحاكم‬
‫على من هو تحت إمرته‪ ،‬بحيث يخاف المأمور أن يقتله المر لو لم يطع أمره‪ ،‬فيقتص عند مالك (‪)2‬‬
‫من المر والمأمور معا؛ لن المر في هذه الحالة يعتبر إكراها‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )3‬إن علم المأمور أن القتل بغير حق‪ ،‬فيقتص من المأمور المباشر؛ لنه‬
‫غير معذر في فعله‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (‪، )4‬‬
‫ويعزر المر بالقتل ظلما لرتكابه معصية‪ .‬وإن لم يعلم المأمور أن القتل بغير حق‪ ،‬فالقصاص على‬
‫المر؛ لن المأمور معذور لوجوب طاعة المام في غير معصية‪ ،‬والظاهر من حاله أنه ل يأمر إل‬
‫بالحق‪.‬‬
‫وعند أبي حنيفة (‪ : )5‬ل قصاص على المر إل إذا كان مُكرِها‪ ،‬كما ل قصاص على المأمور إذا‬
‫كان المر صادرا ممن يملكه؛ لن المر أو الذن شبهة تدرأ القصاص‪ ،‬فإن كان المر صادرا ممن‬
‫ل حق له فيه‪ ،‬فعلى المأمور القصاص‪.‬‬
‫التسميم ‪:‬‬
‫التسميم‪ :‬تسبب لقتل النفس‪ ،‬فل يوجب القصاص عند الحنفية (‪ . )6‬فإن دس شخص لخر السم في‬
‫طعام أو شراب‪ ،‬فأكله أو شربه ولم يعلم به‪ ،‬ومات منه‪ ،‬فل قصاص عليه‪ ،‬ول دية‪ ،‬لكن يلزمه‬
‫الستغفار والحبس والتعزير‪ ،‬لرتكابه معصية بتسببه لقتل النفس‪ ،‬وتغريره بالمجني عليه‪.‬‬
‫أما في حالة الكراه على تناول السم‪ ،‬كأن أوجر (صب في الحلق) شخص السم في حلق آخر على‬
‫كره منه‪ ،‬أو ناوله إياه وأكرهه على شربه حتى شرب‪ ،‬فالفعل قتل شبه عمد؛ لنه حصل بما ل‬
‫يجرح‪ ،‬فل قصاص فيه عند أبي حنيفة‪ ،‬وإنما تجب الدية على عاقلته (أهل ديوانه أو حرفته أو‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪.389/2 :‬‬
‫(‪ )3‬المهذب‪ ،‬كشاف القناع‪ ،‬المرجعان السابقان‪ ،‬والمكان السابق‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الحاكم وأحمد في مسنده عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري‪.‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪.236/7 :‬‬
‫(‪ )6‬الدر المختار‪ ،385/5 :‬تبيين الحقائق‪.101/6 :‬‬

‫( ‪)7/557‬‬

‫نقابته) (‪. )1‬‬


‫والتسميم أو تقديم مسموم عند المالكية (‪ )2‬موجب للقصاص‪ ،‬إن مات متناوله‪ ،‬وكان مقدمه عالما بأنه‬
‫مسموم‪ ،‬وإل فل شيء عليه لنه معذور‪ ،‬كما ل شيء على مقدّمه إن علم المتناول بسميته ؛ لنه‬
‫يكون حينئذ قاتلً لنفسه‪.‬‬
‫وكذلك يعتبر التسميم عند الحنابلة (‪ )3‬قتلً عمدا موجبا للقصاص إذا كان مثله يقتل غالبا‪ ،‬لن التسميم‬
‫يتخذ كثيرا طريقا إلى القتل‪ ،‬فيوجب القصاص‪ ،‬وبدليل أن يهودية أتت النبي صلّى ال عليه وسلم بشاة‬
‫مسمومة‪ ،‬فأكل منها النبي صلّى ال عليه وسلم وبشر بن البراء بن معرور‪ ،‬فلما مات بشر‪ ،‬أرسل‬
‫إليها النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فاعترفت‪ ،‬فأمر بقتلها (‪. )4‬‬
‫وعند الشافعية (‪ : )5‬يعد تسميم الصبي غير المميز (دون السابعة) والمجنون قتلً عمدا موجبا‬
‫ل مكرَها‪ ،‬فمات‪ ،‬لنه سبب يقتل غالبا‪.‬‬
‫للقصاص‪ ،‬وكذلك يجب القصاص إن سقى السم بالغا عاق ً‬
‫فإن سقاه مميزا أو بالغا عاقلً في غير حالة الكراه‪ ،‬ولم يعلم المتناول حال الطعام‪ ،‬فهو في الصح‬
‫قتل شبه عمد‪ ،‬يوجب الدية فقط ل القصاص؛ لن آخذه تناوله باختياره من غير إلجاء‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن التسميم قتل عمد عند المالكية والحنابلة‪ ،‬وعمد عند الشافعية في حالة الكراه‪ ،‬وإعطائه‬
‫غير المميزأو المجنون‪ ،‬وشبه عمد عند الحنفية في حالة الكراه‪ ،‬وكذا في غير حالة ا لكراه عند‬
‫الشافعية‪ ،‬ويوجب التعزير فقط عند الحنفية في غير حالة الكراه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬وأما على رأي الصاحبين‪ ،‬فمن الفقهاء من قال‪ :‬إنه قتل شبه عمد عندهما أيضا‪ ،‬ومنهم من قال‪:‬‬
‫عندهما تفصيل‪ :‬إن كان ما أوجر من السم مقدارا يقتل مثله غالبا فهو عمد‪ ،‬وإل فخطأ العمد‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير مع الدسوقي‪.244/4 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪ ،643/7 :‬كشاف القناع‪ 591/5 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود عن أبي هريرة‪ .‬وانظر سيرة ابن هشام‪.338/2 :‬‬
‫(‪ )5‬مغني المحتاج‪ ،6/4 :‬المهذب‪.176/2 :‬‬

‫( ‪)7/558‬‬

‫حالت اشتراك المتسبب مع المباشر في جناية القتل ‪:‬‬


‫بينت سابقا حالة الشتراك المباشر بين اثنين فأكثر في بحث قتل الجماعة بالواحد‪ ،‬وأبين هنا حالة‬
‫اشتراك المتسبب مع المباشر‪ ،‬كما سأبين في مبحث تالٍ حالة الشتراك بين من يجب عليه القصاص‬
‫وبين من ل يجب عليه‪.‬‬
‫أما حالة اشتراك المتسبب مع المباشر في جريمة القتل‪ ،‬فيخضع حكمها لما قرره الفقهاء من القواعد‬
‫الفقهية العامة في بحث الضمان (‪ . )1‬وأمثلتها‪ :‬اشتراك الممسك مع القاتل‪ ،‬والدال مع المدلول‪،‬‬
‫والحافر حفرة مع المردي‪ ،‬والملقي من شاهق مع القاد‪.‬‬
‫ل ـ ضمان المباشر وحده ‪:‬‬
‫أو ً‬
‫المباشر‪ :‬هو الذي حصل الضرر بفعله بل واسطة‪ ،‬أي تدخل فعل شخص آخر مختار‪ ،‬ويكون‬
‫مسؤولً عن فعله في ضوء قاعدتين عند الحنفية هما‪:‬‬
‫‪« - 1‬المباشر ضامن وإن لم يتعمد» ‪ :‬فمن باشر القتل بسلح وجب عليه القصاص إذا كان القتل‬
‫عمدا عدوانا‪ .‬ومن باشر القتل بغير سلح كحجر وخشب‪ ،‬أو أطلق عيارا ناريا إلى طائر فأصاب‬
‫إنسانا‪ ،‬أو انقلب نائم على إنسان فقتله أو سقط من حائط على إنسان في الطريق فقتله‪،‬كان القتل شبه‬
‫عمد في القتل بغير سلح‪ ،‬وخطأ في الطلق على طائر‪ ،‬ومما جرى مجرى الخطأ في الوقوع على‬
‫إنسان‪ ،‬ويجب عليه الدية (‪ )2‬والصح أن يقال في القاعدة‪ « :‬وإن لم يتعدّ » ‪.‬‬
‫‪« - 2‬إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر» ‪ :‬يلزم المباشر بالضمان أو المسؤولية‬
‫إذا كان هو المؤثر القوى في إحداث العدوان‪ ،‬وكان دور السبب ضعيفا ل يعمل بانفراده في الهلك‪.‬‬
‫كمن حفر حفرة أو بئرا في الطريق العام دون إذن السلطات‪ ،‬وجاء آخر وأردى غيره (دفعه أو ألقاه)‬
‫في البئر‪ ،‬أوألقى حيوانا فيها‪ ،‬ضمن المردي أو الدافع أو الملقي‪ ،‬ووجب عليه الدية أو التعويض‪ ،‬لنه‬
‫مباشر للتلف بالذات‪ ،‬وأما حافر البئر فهو متسبب فقط؛ لن حفره البئر‪ ،‬وإن أفضى إلى التلف‪ ،‬لكنه‬
‫ل ينفرد بالتلف ما لم يوجد الدفع الذي هو المباشر (‪ . )3‬ومثله من دل غيره على شخص فقتله‬
‫المدلول كان الثاني عند أبي حنيفة هو المسؤول‪ .‬ومثّل الشافعية والحنابلة (‪ )4‬لهذه القاعدة بمن أمسك‬
‫شخصا فقتله آخر أو‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر كتابنا نظرية الضمان‪ :‬ص ‪ 44‬ومابعدها‪ 188 ،‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪ ،165 ،161 ،154-146‬جامع الفصولين لبن قاضي سماوة‪،113/2 :‬‬
‫‪ 124‬ومابعدها‪ ،‬الشباه والنظائر لبن نجيم‪ ،99/2 :‬الدر المختار‪.377-375/5 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،275/7 :‬المبسوط‪ ،185/26 :‬الدر المختار‪ ،422/5 :‬جامع الفصولين‪ ،115/2 :‬مجمع‬
‫الضمانات‪ :‬ص ‪.153‬‬
‫(‪ )4‬المهذب‪ 192/2 :‬ومابعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ 8/4 :‬ومابعدها‪ ،‬المغني‪ ،684/7 :‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪.601/5‬‬

‫( ‪)7/559‬‬

‫حفر بئرا فرداه فيها آخر‪ ،‬أو ألقاه من شاهق‪ ،‬فتلقاه آخر فقدّه (قطعه نصفين مثلً قبل وصوله‬
‫الرض) فالقصاص على القاتل والمردي والقادّ فقط (‪. )1‬‬
‫وبناء عليه لو أمسك رجل شخصا ليقتله آخر‪ ،‬يضمن القاتل فقط عند الحنفية (‪ ، )2‬فيقتص منه إن‬
‫قتله بسلح؛ لنه باشر القتل‪ ،،‬ويجب التعزير على الممسك من غير حبس‪.‬‬
‫وقال الشافعية‪ ،‬والراجح عند أحمد (‪ : )3‬يقتل القاتل‪ ،‬ويعزر الممسك عند الشافعية بحسب ما يرى‬
‫الحاكم من المدة‪ .‬وقال الحنابلة‪ :‬يحبس الممسك حتى يموت‪ ،‬لقوله عليه السلم‪« :‬إذا أمسك الرجلُ‬
‫الرجلَ‪ ،‬حتى جاء آخر‪ ،‬فقتله‪ ،‬قتل القاتل وحبس الممسك» (‪ )4‬وقوله أيضا‪« :‬إن من أعتى الناس‬
‫على ال عز وجل‪ :‬من قتل غير قاتله‪ ،‬أو طلب بدم الجاهلية في السلم‪ ،‬أو بصّر عينيه في النوم ما‬
‫لم تبصره» (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬وهذا هو المعروف من الفعال المؤثرة في زهوق الروح بالشرط‪ ،‬لن الذي له دخل من الفعال‬
‫بالزهوق إما مباشرة‪ :‬وهي ما يؤثر في الهلك ويحصله بالذبح بسكين‪ ،‬وإما شرط‪ :‬وهو مال يؤثر‬
‫في الهلك ول يحصله‪ ،‬بل يحصل التلف عنده بغيره‪ ،‬ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه‪ ،‬كالحفر مع‬
‫التردي‪ ،‬فإنه ل يؤثر في التلف ول يحصله‪ ،‬وإنما التردي هو المحصل للتلف‪ ،‬لكن لول الحفر لما‬
‫حصل التلف‪ ،‬ولذا سمي شرطا‪ ،‬ومثله المساك للقاتل‪ .‬وإما سبب‪ :‬وهو ما يؤثر في الهلك ول‬
‫يحصله كشهادة الزور على بريء بالقتل‪ ،‬فإنها علة أو مؤثر في الحكم عليه بالعدام‪ ،‬ولكنها ل تجلب‬
‫بذاتها العدام‪ ،‬وإنما الذي يجلبه فعل الجلد (مغني المحتاج‪.)6/4 :‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،384/5 :‬البدائع‪.274/7 :‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،8/4 :‬المهذب‪ ،176/2 :‬المغني‪.755/7 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه الدارقطني عن ابن عمر‪ ،‬وهو حديث مرسل‪ ،‬ورواه الشافعي من فعل علي‪ .‬قال في بلوغ‬
‫المرام‪ :‬رجاله ثقات‪ ،‬وصححه ابن القطان‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه أحمد والدارقطني والطبراني والحاكم من حديث أبي شريح الخزاعي‪ .‬ورواه آخرون عن‬
‫عائشة‪ ،‬وابن عباس‪.‬‬

‫( ‪)7/560‬‬

‫لكن المالكية (‪ )1‬قالوا‪ :‬إذا اجتمعت المباشرة والسبب‪ ،‬فالقصاص عليهما معا‪ ،‬فيشارك القاتل‬
‫والممسك في الضمان أو القصاص‪ ،‬لتسبب الممسك ومباشرة القاتل‪ .‬ومثله الدال الذي لول دللته ما‬
‫قتل المدلول عليه‪ ،‬قياسا على الممسك‪ .‬كذلك يقتص عندهم من الحافر والمردي معا‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن المباشر ضامن إذا تغلبت المباشرة على السبب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير‪ 245/4 :‬وما بعدها‪ ،‬لكن في إتلف الموال يقدم المستكره على المكره‪،‬‬
‫والمردي على الحافر في تعلق الضمان به وحده (الشرح الكبير‪.)444/3 :‬‬

‫( ‪)7/561‬‬

‫ثانيا ـ ضمان المتسبب وحده ‪:‬‬


‫المتسبب‪ :‬هو الذي يحدث أمرا يؤدي إلى تلف شيء آخر بحسب العادة‪ ،‬إل أن التلف مباشرة ل يقع‬
‫منه‪ ،‬وإنما بواسطة أخرى هي فعل فاعل مختار‪ .‬ويضمن المتسبب وحده إذا كان متعديا‪ ،‬عملً بقاعدة‬
‫«المتسبب ليضمن إل بالتعدي » سواء أكان بقصد أم ل‪ ،‬أو بقاعدة « يضاف الفعل إلى المتسبب إن‬
‫لم يتخلل واسطة» ‪ ،‬وذلك إذا تعذر تضمين المباشر لكونه غير مسؤول أو غير موجود أو غير‬
‫معروف‪ ،‬أو كان فعل المتسبب أقوى من المباشر‪ .‬فمن دفع إلى صبي سكينا ليمسكه له‪ ،‬فوقع عليه‪،‬‬
‫فجرحته‪ ،‬كان الضمان (الدية) على الدافع؛ لن السبب هنا يشتمل على معنى التعدي‪ ،‬لكون الصبي لم‬
‫يباشر فعلً معينا‪ ،‬فهو غير مسؤول‪ ،‬والسكين بطبيعتها آلة جارحة‪.‬‬
‫ومن طرح على قارعة الطريق حية‪ ،‬فلدغت إنسانا بمجرد إلقائها‪ ،‬فمات‪ ،‬فهو ضامن ديته؛ لنه متعد‬
‫في هذا السبب‪ .‬ومثله لو ألقى عقربا أوزنبورا ونحوهما على حيوان أو إنسان‪ ،‬فأتلفه‪ ،‬كان على‬
‫الملقي الضمان‪ .‬وشهود الزور في قتل إنسان يضمنون الدية عند الحنفية‪ ،‬ويجب عليهم القصاص عند‬
‫غير الحنفية؛ لنهم تسببوا في موت المشهود عليه‪ ،‬ولو كان الحاكم هو المباشر‪.‬‬
‫ولو دفع إنسان رجلً على آخر‪ ،‬فعطب الخر‪ ،‬كان الضمان (الدية) على الدافع؛ لن المدفوع كاللة‪،‬‬
‫والقاعدة فيه هي «المدفوع كاللة في الضمان» ‪.‬‬
‫ولو عثر شخص بحجر لم يعرف واضعه‪ ،‬فوقع في بئر‪ ،‬يكون حافر البئر ضامنا الدية‪ ،‬لتعذر معرفة‬
‫المباشر‪ ،‬ولن صاحب البئر متسبب‪.‬‬
‫ومن حفر بئرا في داره‪ ،‬وغطاها‪ ،‬أوربط كلبا قرب باب الدار‪ ،‬ثم أذن لرجل بالدخول‪ ،‬فوقع في البئر‬
‫ومات‪ ،‬أو عقره الكلب‪ ،‬فمات وجب عليه الضمان (الدية عند الحنفية‪ ،‬وفي الصح عند الشافعية) (‪)1‬‬
‫‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬أن المتسبب هو الضامن إذا تغلب السبب على المباشر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ 14/16 :‬وما بعدها‪ ،185/26 ،‬البدائع‪ ،273/7 :‬الشباه والنظائر لبن نجيم‪،197/1 :‬‬
‫مجمع الضمانات للبغدادي‪ :‬ص ‪ ،168‬المهذب‪.193/2 :‬‬

‫( ‪)7/562‬‬

‫ثالثا ـ تضمين المتسبب والمباشر معا ‪:‬‬


‫يضمن المتسبب مع المباشر إذا كان للسبب تأثير يعمل بانفراده في التلف متى انفرد عن المباشرة‪،‬‬
‫أي إذا تعادلت قوة التسبب والمباشرة‪ ،‬أو اعتدل السبب والمباشر بأن تساوى أثرهما في الفعل‪ ،‬كان‬
‫المتسبب والمباشر مسؤولين معا عن القتل‪ ،‬كأن اجتمع على قيادة دابة سائق وراكب عليها‪ ،‬فما‬
‫أحدثته من تلف‪ ،‬كان الضمان عليهما؛ لن سوق الدابة وحده يؤدي إلى التلف‪ ،‬وإن لم يكن هناك‬
‫شخص راكب عليها‪ .‬وكذلك إذا نخس رجل الدابة بأمر راكبها‪ ،‬يكون الضمان على الثنين؛ لن‬
‫الناخس بمنزلة السائق‪.‬‬
‫وعند الجمهور غير الحنفية يقتص في حالة الكراه من المكره والمستكره معا؛ لن المكره متسبب‪،‬‬
‫والمستكره مباشر‪ ،‬كما بان سابقا‪.‬‬
‫وعند المالكية خلفا لبقية المذاهب‪ :‬يقتص من الممسك والقاتل؛ لن الممسك متسبب‪ ،‬والقاتل مباشر‪،‬‬
‫كما أوضحت سابقا‪.‬‬

‫( ‪)7/563‬‬

‫حالة اشتراك من يجب عليه القصاص ومن ل يجب عليه القصاص ‪:‬‬
‫القاعدة المقررة في هذه الحالة عند الحنفية هي أن «القصاص ل يتجزأ» (‪ )1‬فلو اشترك اثنان في قتل‬
‫رجل‪ :‬أحدهما ممن يجب عليه القصاص‪ ،‬لو انفرد بالجريمة وحده‪ ،‬والخر ل يجب عليه‪ ،‬لو انفرد‬
‫لعدم انطباق شروط القصاص عليه كما سيأتي‪ ،‬مثل اشتراك صبي مع بالغ‪ ،‬ومجنون مع عاقل‪،‬‬
‫ومخطئ وعامد في قتل شخص (‪ ، )2‬أو اشتراك الب مع شخص أجنبي في قتل البن‪ ،‬أو اشتراك‬
‫زوج مع أجنبي في قتل زوجته وله منها ولد‪ ،‬أو اشتراك رجل مع سبعٍ أو حية في إماتة إنسان‪ ،‬كأن‬
‫يجرحه سبع أو تلدغه حية‪ ،‬ويجرحه إنسان عمدا‪ ،‬فيموت بسببها‪ ،‬أو يجرح الشخص نفسه‪ ،‬ويجرحه‬
‫أجنبي أيضا‪ ،‬فمات‪ ،‬ففي كل هذه الحالت ل قصاص على أحد في مذهبي الحنفية والحنابلة (‪، )3‬‬
‫سواء من توافرت فيه شرائط القصاص أو لم تتوافر فيه لمانع شرعي‪ ،‬لوجود الشبهة في فعل كل‬
‫واحد منهما‪ ،‬ول يطبق القصاص مع الشبهة‪ ،‬لكن تجب الدية عليهما‪.‬‬
‫أما صاحب أهلية القصاص كالبالغ فتجب الدية في ماله‪ .‬والذي ل يجب عليه القصاص كالمخطئ‪،‬‬
‫تجب الدية على عاقلته‪.‬‬
‫وهذا عند الحنفية في حالة غير شريك الب‪ ،‬أما في حالة اشتراك الب والجنبي‪ ،‬فتجب الدية في‬
‫مالهما؛ لن الب لو انفرد بالقتل تجب الدية في ماله‪.‬‬
‫ورأى الحنابلة‪ :‬أن على عاقلة الصبي والمخطئ نصف الدية‪ ،‬وعلى البالغ‪ ،‬والمتعمد نصف الدية في‬
‫ماله‪ .‬وفي شريك السبع وشريك جارح نفسه وجهان في إيجاب القصاص عليه‪ :‬أحدهما وهو الصح‪:‬‬
‫ل قصاص عليه‪ ،‬والثاني‪ :‬عليه القصاص‪ .‬وأما شريك الب فعليه القصاص‪ ،‬كشريك الجنبي‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع الدر المختار‪ ،380/5 :‬وكتابنا نظرية الضمان‪ :‬ص ‪.304‬‬
‫(‪ )2‬أو أحدهما بالسيف والخر بالعصا عند أبي حنيفة‪ ،‬لن الشتراك بالعصا يجعل المشترك مرتكبا‬
‫قتل شبه العمد‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،235/7 :‬الفتاوى الهندية‪ ،4/6 :‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،397/5 :‬المغني‪،676/7 :‬‬
‫‪ ،681 ،677‬كشاف القناع‪.605/5 :‬‬
‫( ‪)7/564‬‬

‫وقال الشافعية (‪ )1‬بتفصيل آخر‪ :‬ل يقتل شريك المخطئ‪ ،‬وشبه العمد بسبب الشبهة في القصاص‪،‬‬
‫وإنما تجب الدية عليهما‪ ،‬أما المتعمد فعليه نصف الدية مغلظة في ماله‪ ،‬وغير المتعمد عليه نصف‬
‫الدية مخففة‪ .‬ويقتل شريك الب في قتل ولده (أي كما قال الحنابلة)‪ ،‬وشريك جارح نفسه‪ ،‬كأن جرح‬
‫الشخص نفسه وجرحه غيره فمات بهما‪ .‬وكذلك يقتل شريك دافع الصائل (‪ )2‬في الظهر‪ ،‬وشريك‬
‫صبي مميز أو مجنون‪ ،‬وشريك السبع والحية القاتلين غالبا‪ ،‬لصدور الجريمة منه‪ ،‬وهو القتل العمد‪،‬‬
‫وأما امتناع القصاص على الخر فهو لعذر أو مانع خاص به‪ ،‬فل يتعدى إلى الخر‪ ،‬ويجب عليه‬
‫القصاص جزاء لفعله‪ .‬والظهر عند الشافعية أن من ألقى غيره في ماء مُغرق كالبحر فالتقمه حوت‪،‬‬
‫وجب القصاص عليه؛ لنه بسببه‪ ،‬فإن كان الماء غير مغرق فل قصاص عليه‪.‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )3‬إن اشترك في القتل عامد ومخطئ‪ ،‬أو مكلف وغير مكلف مثل رجل عامد‬
‫وصبي‪ ،‬أو عامد ومجنون‪ ،‬إن تمال على قتله‪ ،‬فعلى العامد القصاص‪ ،‬وعلى عاقلة المخطئ والمجنون‬
‫والصبي نصف الدية؛ لن عمد الصبي كخطئه‪ ،‬رعاية للمصلحة وصيانة للدماء‪ ،‬فكأن كل واحد منهما‬
‫انفرد بالجريمة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،20/4 :‬المهذب‪.174/2 :‬‬
‫(‪ )2‬أي المدافع عن نفسه أو ماله أو عرضه ضد الباغي المعتدي‪.‬‬
‫(‪ )3‬بداية المجتهد‪ ،405 ،389/2 :‬الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي‪ 246/4 :‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/565‬‬

‫فإن لم يتمالا على قتله‪ ،‬وتعمد الثنان قتل المجني عليه أوتعمد الكبير‪ ،‬فعلى الكبير نصف الدية في‬
‫ماله‪ ،‬وعلى عاقلة الصبي نصفها أي كما قال الحنفية‪ .‬فإن قتله خطأ‪ ،‬أو أخطأ الكبير‪ ،‬فعلى عاقلة كل‬
‫منهما نصف الدية‪ .‬وفي حالة عدم التمالؤ هناك قولن عند المالكية في أربع مسائل‪ :‬هي شريك سبع‪،‬‬
‫وشريك جارح نفسه جرحا يعقبه الموت غالبا‪ ،‬ثم ضربه كبير قاصدا قتله‪ ،‬وشريك حربي‪ ،‬وشريك‬
‫مرض بعد الجرح‪ ،‬بأن جرح شخص غيره‪ ،‬ثم حصل للمجروح مرض ينشأ عنه الموت غالبا‪ .‬ثم‬
‫مات‪ ،‬ولم يدر‪ ،‬أمات من الجرح أو من المرض‪.‬‬
‫والقولن هما‪ :‬قول بعدم القصاص من الشريك‪ ،‬ولكن على الشريك نصف الدية في ماله‪ ،‬ويضرب‬
‫مئة‪ ،‬ويحبس عاما‪ ،‬وقول بالقصاص‪ .‬والراجح في شريك المرض القصاص في حالة القتل العمد‪،‬‬
‫والدية في الخطأ‪ .‬ولكن بعد حلف أيمان القسامة الخمسين‪ .‬وأما المسائل الثلث الباقية فالقولن فيها‬
‫على حد سواء‪ .‬ولعل رأي المالكية أرجح الراء صونا للدماء‪.‬‬
‫‪ - 5‬اللقاء في مهلكة ‪:‬‬
‫إذا جمع شخص بين إنسان وبين أسد أونمر في مكان ضيق كزُبية (‪ )1‬ونحوها‪ ،‬أوأمام كلب فينهشه‪،‬‬
‫أو يرمي عليه حية أوعقربا فتلدغه‪ ،‬فهل يعتبر فعله قتلً عمدا‪ ،‬فيسأل عنه‪ ،‬أو ل يسأل عنه؟ هناك‬
‫آراء ثلثة في المذاهب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬زبية السد‪ :‬حفرة تحفر له شبه البئر‪ ،‬أو حفرة في مكان عال يصاد فيها السد‪.‬‬

‫( ‪)7/566‬‬

‫قال الحنفية (‪ : )1‬ل قود فيه ول دية‪ ،‬وإنما يعزر ويضرب ويحبس إلى أن يموت‪ .‬ويروى عن أبي‬
‫حنيفة أن عليه الدية‪ .‬وإن فعل ذلك بصبي فعليه الدية‪.‬‬
‫وإن ربط صبيا وألقاه في الشمس أو البرد حتى مات‪ ،‬فعلى عاقلته الدية‪.‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )2‬الفعل العدوان في هذه الحالة قتل عمد فيه القود‪ ،‬سواء أكان فعل الحيوان‬
‫بالنسان مما يقتل غالبا كالنهش‪ ،‬أم مما ل يقتل غالبا ومات الدمي من الخوف‪ .‬ول يقبل الدعاء بأنه‬
‫قصد بفعله اللعب‪ .‬وكذلك قال الحنابلة (‪ : )3‬الفعل قتل عمد موجب للقصاص إن فعل الحيوان‬
‫المفترس أو المتوحش بالنسان ما يقتل به غالبا‪ ،‬أو فعل به فعلً يقتل مثله‪ .‬فإن فعل به فعلً لو فعله‬
‫الدمي لم يكن قتلً عمدا‪ ،‬لم يجب القصاص به؛ لن السبع صار آلة للدمي‪ ،‬فكان فعله كفعله‪.‬‬
‫وعلى هذا‪ ،‬إن ألقاه مكتوفا بين يدي أسد أو نمر‪ ،‬فقتله‪ ،‬فهو عمد‪ .‬وكذا إن جمع بينه وبين حية في‬
‫مكان ضيق‪ ،‬فنهشته‪ ،‬فقتلته‪ ،‬فهو عمد‪ .‬ولو لسعه عقرب من القواتل‪ ،‬فهو عمد‪ .‬ورأي المالكية‬
‫والحنابلة أولى في تقديري‪.‬‬
‫وقال الشافعية (‪ : )4‬إن جمع بين شخص وبين السبع في زُبية أو بيت صغير ضيق‪ ،‬أو أغراه به‪ ،‬أو‬
‫أمسكه وعرضه لمجنون فقتله‪ ،‬وجب عليه القود؛ لن السبع يقتل إذا اجتمع مع الدمي في موضع‬
‫ضيق‪ .‬أما إن كتّف رجلً وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدي سبع (أي في مكان واسع مثل البرية)‬
‫فقتله‪ ،‬لم يجب القود؛ لنه سبب غير ملجئ‪.‬‬
‫وإن كتّفه وتركه في موضع فيه حيات‪ ،‬فنهشته‪ ،‬فمات لم يجب القود‪ ،‬سواء أكان المكان ضيقا أم‬
‫واسعا؛ لن الحية تهرب عادة من الدمي‪ ،‬فلم يكن تركه معها ملجئا إلى قتله‪ ،‬بخلف السبع فإنه يثب‬
‫على النسان في المكان الضيق دون المتسع‪.‬‬
‫وإن أنهشه سبعا أو حية يقتل مثلها غالبا‪ ،‬فمات منه‪ ،‬وجب عليه القود؛ لنه ألجأه إلى قتله‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪.386/5 :‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪.244/4 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪ 641/7 :‬ومابعدها‪ ،‬كشاف القناع‪ 589/5 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬نهاية المحتاج للرملي‪ ،14/7 :‬المهذب‪ ،176/2 :‬مغني المحتاج‪.9/4 :‬‬

‫( ‪)7/567‬‬

‫‪ - 6‬التغريق والتحريق ‪:‬‬


‫يفرق الحنفية بين التحريق والتغريق‪ ،‬فالتحريق بالنار عندهم قتل عمد؛ لن النار كالسلح في تفريق‬
‫أجزاء الجسد‪ ،‬فتشق الجلد‪ ،‬وتعمل عمل الذبح‪ .‬وألحقوا بالنار‪ :‬الماء المغلي أو الحار‪ ،‬والمعدن‬
‫المصهور‪ ،‬والتنور أو الفرن المحمي وإن لم يكن فيه نار (‪. )1‬‬
‫وأما التغريق بالماء الكثير فهو عند أبي حنيفة قتل شبه عمد‪ ،‬لنه كالقتل بالمثقل‪ .‬وعند الصاحبين‪:‬‬
‫هو قتل عمد موجب للقود؛ لنه مما يقتل به غالبا‪ ،‬واستعماله دليل العمدية (‪ ، )2‬ويدل لهما قوله عليه‬
‫السلم‪« :‬من غرّق غرقناه» (‪ . )3‬وهذا إذا كان الماء عظيما بحيث ل تمكن النجاة منه‪ .‬فلو كان الماء‬
‫ل ل يقتل غالبا‪ ،‬أو عظيما تمكن النجاة منه بالسباحة‪ ،‬والملقى بالماء يحسن السباحة‪ ،‬فالقتل ليس‬
‫قلي ً‬
‫شبه عمد باتفاق الحنفية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،386 ،375/5 :‬نتائج الفكار ـ تكملة فتح القدير‪ 245/8 :‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬نتائج الفكار‪ ،267/8 :‬الدر المختار‪.385/5 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه البيهقي من حديث البراء بن عازب‪ ،‬لكن في إسناده من يجهل حاله‪.‬‬

‫( ‪)7/568‬‬
‫ويرى المالكية (‪ : )1‬أن التحريق والتغريق قتل عمد موجب للقصاص‪ ،‬إذا كان التغريق عدوانا أو‬
‫لعبا لغير المحسن للعوم‪ ،‬أوعداوة لمحسن العوم وكان الغالب عدم النجاة لشدة برد‪ ،‬أو طول مسافة‪،‬‬
‫فغرق‪ .‬فإن كان التغريق لمحسن العوم لعبا‪ ،‬فعليه دية مخففة (مخمسة) ل مغلظة‪.‬وقال الشافعية‬
‫والحنابلة (‪ : )2‬إذا ألقى أو طرح شخص غيره في نار أو ماء‪ ،‬ل يمكنه التخلص منه لكثرة الماء أو‬
‫النار أولعجزه عن التخلص لعدم إحسانه السباحة‪ ،‬أو مع إحسانها‪ ،‬وكان مكتوفا أو ضعيفا أو مريضا‬
‫أو صغيرا‪ ،‬فمات‪ ،‬كان القتل عمدا موجبا القصاص‪ .‬وإن ألقاه في ماء مغرق‪ ،‬فالتقمه حوت‪ ،‬وجب‬
‫القصاص في الظهر عند الشافعية؛ لنه ألقاه في مهلكه‪ ،‬وفيه وجهان عند الحنابلة‪ ،‬أصحهما وجوب‬
‫القود على الملقي‪ .‬فإن كان الماء يسيرا غير مغرق والتقمه الحوت فل قصاص‪ ،‬وعليه دية القتل شبه‬
‫العمد عند الشافعية والحنابلة؛ لنه هلك بفعله‪.‬‬
‫وإن أمكنه التخلص من الغرق بسباحة أو تعلق بزورق‪ ،‬فتركها‪ ،‬فل قود ول دية؛ أي أنه هدر عند‬
‫الحنابلة‪ ،‬وفي الظهر عند الشافعية؛ لنه مهلك لنفسه‪ .‬كذلك ل دية في الظهر عند الشافعية إذا ألقاه‬
‫في نار يمكنه الخلص منها‪ ،‬فمكث فيها حتى مات‪ .‬وفي إيجاب ضمان ديته وجهان عند الحنابلة‪،‬‬
‫والصواب إلزامه الدية؛ لنه جانٍ باللقاء المفضي إلى الهلك‪ .‬ورأي الشافعية والحنابلة أولى‬
‫بالتباع‪ ،‬ويقترب منه رأي المالكية؛ لن مثل هذا الفعل الذي يباشره المعتدي قاتل غالبا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير والدسوقي‪.243/4 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،8/4 :‬نهاية المحتاج‪ ،10/7 :‬المهذب‪ ،176/2،192 :‬المغني‪ ،641/7 :‬كشاف‬
‫القناع‪.590/5 :‬‬

‫( ‪)7/569‬‬

‫‪ - 7‬الخنِق (‪: )1‬‬


‫الخنق عند أبي حنيفة قتل شبه عمد موجب للدية؛ لنه ليس وسيلة معدة للقتل‪ .‬وشرط القتل العمد عنده‬
‫استعمال آلة قاتلة غالبا‪ ،‬ومعدة للقتل‪ .‬وهو قتل عمد موجب للقصاص عند الصاحبين؛ لنه في رأيهما‬
‫وسيلة معدة للقتل‪ ،‬وذلك عندهما بشرط أن يدوم الجاني على الخنق بمقدار ما يموت منه النسان‬
‫غالبا‪ .‬فإن لم يتحقق هذا الشرط فل قصاص باتفاق الحنفية (‪. )2‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )3‬الخنق عمد‪ ،‬سواء قصد به الجاني موت المجنى عليه‪ ،‬فمات‪ ،‬أو قصد مجرد‬
‫التعذيب‪ ،‬ما دام هناك عدوان‪ .‬فإن كان على وجه اللعب أو التأديب‪ ،‬فهو من القتل الخطأ‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )4‬الخنق عمد فيه القصاص‪ ،‬إن فعل به ذلك مدة يموت في مثلها غالبا‪،‬‬
‫فمات‪ ،‬أي كما قال الصاحبان‪ .‬وإن فعله في مدة ل يموت في مثلها غالبا‪ ،‬فمات‪ ،‬فهو عمد الخطأ أي‬
‫شبه العمد‪ ،‬إل أن يكون ذلك يسيرا في العادة بحيث ل يتوهم الموت منه‪ ،‬فل يوجب ضمانا؛ لنه‬
‫بمنزلة لمسه‪.‬‬
‫وإن خنقه وتركه متألما مثلً حتى مات‪ ،‬ففيه القود؛ لنه مات من سراية جنايته‪ .‬وإن تنفس وصح‬
‫بعدئذ‪ ،‬ثم مات‪ ،‬فل قود؛ لن الظاهر أنه لم يمت بالخنق‪ .‬ورأي غير أبي حنيفة أولى سدا للباب أمام‬
‫المعتدين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الخنِق ـ بكسر النون‪ ،‬ول يقال بالسكون‪ :‬مصدر خنق من باب نصر‪ :‬إذا عصر حلقه أي حبس‬
‫أنفاسه‪ ،‬ومنع خروج الهواء من رئتيه‪ ،‬سواء بالشنق‪ ،‬أو باليدين أو بالحبل أو بالوسادة‪ .‬والخناق بكسر‬
‫الخاء‪ :‬حبل يخنق به‪.‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار ورد المحتار‪ 385/5 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي‪.242/4 :‬‬
‫(‪ )4‬المغني‪ ،640/7 :‬مغني المحتاج‪.6/4 :‬‬

‫( ‪)7/570‬‬

‫‪ - 8‬القتل بالترك أو الحبس ومنع الطعام والشراب ‪:‬‬


‫إذا حبس شخص إنسانا في مكان‪ ،‬ومنع عنه الطعام أو الشراب‪ ،‬أو الدفء في الشتاء ولياليه الباردة‪،‬‬
‫حتى مات جوعا أو عطشا أوبردا في مدة يموت في مثلها غالبا‪ ،‬وتعذر عليه الطلب‪ ،‬ففيه آراء‪:‬‬
‫قال أبو حنيفة‪ :‬ل شيء على الحابس؛ لن الموت حدث بالجوع ونحوه‪ ،‬ل بالحبس‪.‬‬
‫وقال الصاحبان‪ :‬تجب عليه الدية؛ لنه قاتل شبه عمد؛ لن الطعام والشراب والدفء من لوازم‬
‫النسان‪ ،‬وتتوقف عليها حياته‪ ،‬فمن منعه إياها أهلكه بمنعه‪ .‬وكونهما لم يعتبرا الفعل قتل عمد‪ ،‬فلن‬
‫الحبس في تقديرهما ليس وسيلة معدة للموت‪ ،‬وإن كان في ذاته وسيلة قاتلة غالبا (‪. )1‬‬
‫واعتبر المالكية (‪ )2‬القتل في هذه الحالة كالخنق قتلً عمدا‪ ،‬ما دام قد صدر على وجه العدوان‪.‬‬
‫واعتبر الشافعية والحنابلة (‪ )3‬القتل حينئذ عمدا موجبا القصاص‪ ،‬إذا مضت مدة يموت مثله فيها غالبا‬
‫جوعا أو عطشا؛ لظهور قصد الهلك به؛ لن ال تعالى أجرى العادة بالموت عندئذ‪ ،‬فإذا تعمده‬
‫النسان‪ ،‬فقد تعمد القتل‪ ،‬وهذا الرأي وسط معتدل‪.‬‬
‫وتختلف المدة باختلف حال المحبوس قوة وضعفا‪ ،‬والزمان حرا وبردا؛ لن فقد الماء في الحر ليس‬
‫كفقده في البرد‪.‬‬
‫فإن كان ل يموت في مثلها غالبا‪ ،‬كان القتل شبه عمد عند الحنابلة‪ .‬وفصل النووي في المنهاج في‬
‫هذه الحالة‪ ،‬فقال‪ :‬إن لم يكن به جوع وعطش سابق فشبه عمد‪ .‬وإن كان به بعض جوع أو عطش‪،‬‬
‫وعلم الحابس الحال‪ ،‬كان القتل عمدا‪ ،‬لظهور قصد الهلك‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،386/5 :‬التشريع الجنائي لعودة‪.73/2 :‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير والدسوقي‪.242/4 :‬‬
‫(‪ )3‬نهاية المحتاج‪ 7/7 :‬ومابعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ 5/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،176/2 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ ،643/7‬كشاف القناع‪.591/5 :‬‬

‫( ‪)7/571‬‬

‫‪ 9‬ـ القتل تخويفا أو إرهابا ‪:‬‬


‫يحدث القتل أحيانا بفعل معنوي غير مادي‪ ،‬كالتخويف والرهاب‪ ،‬والصيحة الشديدة ونحوها من‬
‫المثلة التالية‪:‬‬
‫ـ من شهر سيفا في وجه إنسان‪ ،‬أو دلّه من مكان شاهق‪ ،‬فمات من روعته‪ ،‬أو ذهب عقله‪.‬‬
‫ـ لو صاح إنسان بصبي أو مجنون أو معتوه صيحة شديدة‪ ،‬وهو على سطح أو حائط ونحوهما‪،‬‬
‫فوقع فمات‪ ،‬أو ذهب عقله‪.‬‬
‫ـ لو تغفل أحد بالغا عاقلً‪ ،‬فصاح به‪ ،‬فأصابه ذلك‪.‬‬
‫ـ لو طلب الحاكم امرأة إلى مجلس القضاء‪ ،‬فأجهضت جنينها فزعا‪ ،‬أو زال عقلها‪.‬‬
‫ـ لو ألقى على إنسان حية‪ ،‬ولو كانت ميتة‪ ،‬فمات فزعا ورعبا‪.‬‬
‫ففي كل هذه الحوال‪ :‬ل ضمان لديته عند الحنفية لعدم تعدي السبب‪ ،‬أي لم يكن المذكور سببا كافيا‬
‫للضمان‪ ،‬إذ ليس السبب متصلً بالنتيجة قطعا‪ ،‬وذلك إذا لم يكن التخويف فجأة‪ .‬فإن كان الصياح‬
‫ونحوه على إنسان فجأة‪ ،‬فمات من صيحته أو قال له‪ :‬قع‪ ،‬فوقع‪ ،‬فهو قاتل له قتلً شبه عمد‪ ،‬فتجب‬
‫الدية (‪. )1‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )2‬يكون المتسبب فيما ذكر في غير حال الجهاض قاتلً عمدا يجب عليه القصاص‬
‫إن كان على وجه العداوة‪ .‬أما إن كان على وجه اللعب أو التأديب فعليه الدية‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )3‬إن فعل ما ذكر عمدا فهو شبه عمد موجب الدية‪ ،‬وإل فهو خطأ؛ لنه‬
‫سبب إتلفه‪ .‬ووافق الشافعية على هذا في الصبي‪ .‬ولهم في البالغ قولن‪ :‬تجب الدية؛ لن الفاعل‬
‫مسؤول عن فعله ما دام قد أدى للموت‪ ،‬والبالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي‪.‬‬
‫وقيل في وجه آخر‪ :‬ل تجب الدية؛ لن البالغ بما يتميز به عادة من ضبط العصاب ل يفزع مع‬
‫الغفلة‪ ،‬وإن فزع فنادرا‪ ،‬ول حكم للنادر‪.‬‬
‫إل أن هذين المذهبين اختلفا في حالة الجهاض من الفزع‪ ،‬فإن أجهضت المرأة‪ ،‬فاتفقا على ضمان‬
‫الجنين إذا ألقته أمه ميتا‪ ،‬لقصة عمر التية‪ .‬وأما إن فزعت المرأة فماتت‪ ،‬فقال الشافعية‪ :‬لم تضمن‬
‫ديتها؛ لن ما حدث ليس بسبب لهلكها في العادة‪.‬‬
‫وقال الحنابلة‪ :‬تجب ديتها أيضا؛ لن الحاكم أفزعها‪ ،‬فكان متسببا في موتها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدرالمختار‪ ،397/5 :‬مجمع الضمانات‪ ،172 :‬الللئ الدرية في الفوائد الخيرية بهامش جامع‬
‫الفصولين‪ ،112/2 :‬ط الولى بالزهرية‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪ 244/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬المهذب‪ ،192/2 :‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،230‬المغني‪ 832/7 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني‬
‫المحتاج‪.4/4 :‬‬

‫( ‪)7/572‬‬

‫وأما قصة عمر‪ :‬فهي أنه أرسل إلى امرأة ُمغِيبة (‪ ، )1‬كان يدخل عليها‪ ،‬فقالت‪ :‬يا ويلها‪ ،‬ما لها‬
‫ولعمر‪ ،‬فبينا هي في الطريق فزعت‪ ،‬فجاءها الطلق (‪ ، )2‬فألقت ولدا‪ ،‬فصاح الصبي صيحتين‪ ،‬ثم‬
‫مات‪ ،‬فاستشار عمر أصحاب النبي صلّى ال عليه وسلم‪ ،‬فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء‪ ،‬إنما أنت‬
‫وال ومؤدب‪ ،‬وصمت علي‪ .‬فأقبل عليه عمر‪ ،‬فقال‪ :‬ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال‪ :‬إن كانوا قالوا‬
‫برأيهم‪ ،‬فقد أخطأ رأيهم‪ ،‬وإن كانوا قالوا في هواك‪ ،‬فلم ينصحوا لك‪ ،‬إن ديته عليك؛ لنك أفزعتها‪،‬‬
‫فألقته‪ ،‬فقال عمر‪ :‬أقسمت عليك أل تبرح حتى تقسمها على قومك‪ ،‬أي قريش‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫شهِد‪ :‬وهي التي زوجها شاهد‬
‫(‪ )1‬المرأة ال ُمغِيبة‪ :‬هي التي غاب عنها زوجها‪ .‬يقابلها‪ :‬امرأة مُ ْ‬
‫حاضر‪.‬‬
‫(‪ )2‬الطلق‪ :‬وجع الولدة‪.‬‬
‫( ‪)7/573‬‬

‫الركن الثالث ـ القصد الجنائي ‪:‬‬


‫ل يكون القتل عمدا عند جمهور الفقهاء ( الحنفية (‪ )1‬والشافعية (‪ )2‬والحنابلة (‪ ) )3‬إل إذا قصد‬
‫الجاني قتل المجني عليه‪ ،‬أو ضربه بفعل مزهق (أي قصد الفعل العدوان بما يقتل غالبا)‪ .‬فإن لم‬
‫يتوافر القصد الجنائي‪ ،‬فل يعد الفعل قتلً عمدا‪ .‬ولو قصد الجاني مجرد العتداء على المجني عليه‪،‬‬
‫دون إزهاق روحه‪ ،‬بما ل يقتل غالبا‪ ،‬كان القتل شبه عمد‪.‬‬
‫وبما أن هذا القصد أو النية أمر باطني خفي ل يمكن الطلع عليه‪ ،‬أناط الفقهاء حكم القتل العمد‬
‫بوصف ظاهر يمكن معرفته‪ ،‬وهو استعمال أداة القتل المناسبة؛ لن الجاني غالبا يختار اللة المناسبة‬
‫لتنفيذه قصده الجرمي‪ .‬فاستعمال اللة القاتلة غالبا هو المظهر الخارجي لنية الجاني‪ ،‬وهو الدليل‬
‫المادي الذي ل يكذب في الغالب؛ لنه من صنع الجاني‪ ،‬ل من صنع غيره‪ .‬ومن ثم اشترط الفقهاء أن‬
‫تكون اللة قاتلة غالبا؛ لنها دليل على قصد القتل عند الجاني (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبيين الحقائق‪ ،100 ،97/6 :‬البدائع‪ 233/7 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار ورد المحتار‪.375/5 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،3/4 :‬المهذب‪ ،172/2 :‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪.222‬‬
‫(‪ )3‬كشاف القناع‪ ،587/5 :‬المغني‪.637/7 :‬‬
‫(‪ )4‬التشريع الجنائي السلمي للستاذ عودة‪ 79/2 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/574‬‬

‫وأما المالكية (‪ ، )1‬فاشترطوا للقصاص من الجناية وجود العدوان‪ ،‬ولم يشترطوا في القصاص قصد‬
‫القتل‪ ،‬فسواء قصد الجاني قتل المجني عليه‪ ،‬أو تعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل‪ ،‬فهو‬
‫قاتل عمدا (‪ ، )2‬إذا لم يرتكب الفعل على وجه اللعب أو التأديب‪ ،‬فيكون حينئذ خطأ‪.‬‬
‫القصد المحدود وغير المحدود‪ :‬ل فرق عند الحنفية والحنابلة (‪ )3‬بين القصد المحدود وغير المحدود‪،‬‬
‫فسواء قصد الجاني قتل شخص معين‪ ،‬أو ضرب جماعة ولو لم يقصد شخصا معينا من الجماعة‪ ،‬فهو‬
‫قاتل عمد‪.‬‬
‫وفرق الشافعية والمالكية (‪ )4‬بين نوعي القصد‪ ،‬فإن قصد معينا فهو قتل عمد‪ ،‬وإن قصد غير معين‬
‫فهو قتل شبه عمد عند الشافعية‪ ،‬وخطأ عند المالكية‪.‬‬
‫الرضا بالقتل أو الذن بالقتل ‪:‬‬
‫يرى بعض الفقهاء أن الرضا أو الذن بالقتل ل يبيح القتل؛ لن النسان غير مالك نفسه‪ ،‬وإنما هي‬
‫مملوكة ل عز وجل‪ ،‬فل تباح عصمة النفس إل بما نص عليه الشرع‪ .‬ورأي فقهاء آخرون أن الذن‬
‫يبيح القتل‪ .‬وبناء عليه اختلف الفقهاء في عقوبة القاتل المأذون له بالقتل‪ ،‬كما لو قال رجل لخر‪:‬‬
‫اقتلني‪ ،‬فقتله‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي‪.242 ،237/4 :‬‬
‫(‪ )2‬وبذلك يتسع مذهب المالكية لما يسمى عند القانونيين بالقصد الحتمالي في جريمة القتل العمد‪:‬‬
‫وهو كون الجاني مسؤولً عن كل ما يتوقع حدوثه‪ ،‬مما هو ممكن الوقوع‪ .‬بل إن هذا المذهب يتسع‬
‫لكثر من القصد الحتمالي‪ ،‬فيشمل كل ما يتصوره الفاعل ممكن الوقوع‪ ،‬أو ممتنع الوقوع؛ لن القتل‬
‫العمد عندهم‪ :‬هو كل فعل قصد به مجرد العدوان‪ ،‬ولو لم يقصد به القتل‪.‬‬
‫(‪ )3‬الدر المختار‪ ،375/5 :‬كشاف القناع‪.587/5 :‬‬
‫(‪ )4‬الشرح الكبير للدردير‪ 243/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،4/4 :‬نهاية المحتاج‪.4/7 :‬‬

‫( ‪)7/575‬‬

‫قال الحنفية ما عدا زفر (‪ : )1‬القتل شبه عمد‪ ،‬يوجب الدية؛ لن الذن بالقتل الموجود بالفعل أورث‬
‫شبهة‪ ،‬والحدود ومنها القصاص تدرأ بالشبهات‪ .‬وقال زفر‪ :‬ل يصلح الذن شبهة‪ ،‬فل يدرأ القصاص‪،‬‬
‫ويجب تطبيقه‪.‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )2‬الذن بالقتل ل يمنع وجوب القصاص‪ ،‬وإنما يلزم القود‪.‬‬
‫وقال الشافعية في الظهر عندهم والحنابلة (‪ : )3‬ل قصاص ول دية‪ ،‬ودم المقتول أو جرحه هدر؛‬
‫لن الحق له فيه‪ ،‬وقد أذنه في إتلفه‪ ،‬كما لو أذن له في إتلف ماله‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ عقوبات القتل العمد ‪:‬‬
‫عقوبة القتل العمد‪ :‬هي الجزاء المترتب على العتداء على النفس‪.‬‬
‫وللقتل العمد عقوبات‪ :‬أصلية‪ ،‬وبدلية (عن الصلية) ‪ ،‬وتبعية‪.‬‬
‫واتفق الفقهاء على أن قاتل النفس عمدا يجب عليه أمور ثلثة‪ :‬الول ـ الثم العظيم لورود القرآن‬
‫بتخليده في نار جهنم‪ ،‬والثاني ـ القود لية القصاص‪ ،‬والثالث ـ الحرمان من الميراث لحديث‪« :‬ل‬
‫يرث القاتل شيئا» ‪.‬‬
‫النوع الول ـ العقوبة الصلية ‪:‬‬
‫نص الشرع على عقوبة أصلية للقتل العمد وهي القصاص أو القود (‪ ، )4‬وهي‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،236/7 :‬الدر المختار‪.388/5 :‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪.240/4 :‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،11/4 :‬كشاف القناع‪ 602/5 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬سمي قودا؛ لنهم كانوا يقودون الجاني بحبل أو غيره إلى محل استيفاء القصاص‪.‬‬

‫( ‪)7/576‬‬

‫عقوبة متفق عليها بين الفقهاء‪ ،‬قال الحنفية (‪ : )1‬موجَب العمد‪ :‬القود عينا‪ ،‬أي فل ينتقل عنه إلى‬
‫المال إل بالتراضي‪.‬‬
‫وأضاف الشافعية دون غيرهم من الفقهاء عقوبة أخرى للقتل العمد وهي الكفارة‪ ،‬قياسا على عقوبة‬
‫القتل الخطأ التي نص عليها القرآن الكريم صراحة‪.‬‬
‫العقوبة الصلية الولى المتفق عليها ـ القصاص ‪:‬‬
‫الكلم عن القصاص يتناول بحث معناه ومشروعيته‪ ،‬والفرق بينه وبين الحدود الخرى‪ ،‬وشروطه‪،‬‬
‫وموانعه‪ ،‬وكيفية وجوبه‪ ،‬وصاحب الحق فيه‪ ،‬وولية الستيفاء‪ ،‬وكيفية الستيفاء‪ ،‬ومسقطاته‪.‬‬
‫ل ـ معنى القصاص‪ :‬القصاص والقصص لغة‪ :‬تتبع الثر‪ ،‬واستعمل في معنى العقوبة؛ لن‬
‫أو ً‬
‫المقتص يتبع أثر جناية الجاني‪ ،‬فيجرحه مثلها‪ .‬وهو أيضا المماثلة‪ ،‬ومن هذا المعنى أخذت عقوبة‬
‫«القصاص» شرعا‪ ،‬أي مجازاة الجاني بمثل فعله‪ ،‬وهو القتل‪.‬‬
‫ويلزم القصاص‪ ،‬سواء كان القتل مع سبق الصرار أو الترصد أم ل‪.‬‬
‫ثانيا ـ مشروعية القصاص‪ :‬ثبتت مشروعية القصاص بالقرآن والسنة والجماع والمعقول‪.‬‬
‫أما القرآن‪ ،‬ففيه ـ كما ذكر سابقا ـ آيات كثيرة‪ ،‬منها قوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم‬
‫القصاص في القتلى} [البقرة‪ ]178/2:‬ومنها أيضا‪{ :‬وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‪[ }...‬المائدة‪:‬‬
‫‪{ ]45/5‬ولكم في القصاص حياة يا أولي اللباب} [البقرة‪.]179/2:‬‬
‫وفي السنة أحاديث متعددة أيضا منها‪« :‬ل يحل دم امرئ مسلم يشهد أن ل إله إل ال وأني رسول ال‬
‫‪ ،‬إل بإحدى ثلث‪ :‬الثيب الزاني‪ ،‬والنفس بالنفس‪ ،‬والتارك لدينه المفارق للجماعة» (‪ )2‬ومنها حديث‬
‫ابن عباس مرفوعا‪ ...« :‬ومن قتل عمدا فهو قود‪ ،‬ومن حال دونه‪ ،‬فعليه لعنة ال وغضبه‪ ،‬ل يقبل‬
‫منه صرف ول عدل» (‪. )3‬‬
‫وأجمعت المة على وجوب القصاص‪.‬‬
‫والعقل يقضي بتشريع القصاص‪ ،‬إما عدالة بأن يفعل بالقاتل مثل جنايته‪ ،‬وإما مصلحة بتوفير المن‬
‫العام وصون الدماء‪ ،‬وحماية النفس‪ ،‬وزجر الجناة‪ ،‬ول يتحقق ذلك إل به‪ ،‬فل يلتفت إلى الدعاوى‬
‫والمزاعم القائلة بأن فيه تهديما جديدا للبنية النسانية؛ لن في تشريعه صون حق الحياة للمجتمع‪:‬‬
‫{ولكم في القصاص حياة يا أولي اللباب} [البقرة‪.]179/2:‬‬
‫هل القصاص يكفر إثم القتل؟ اختلف العلماء في أمره (‪ )4‬كما اختلفوا في الحدود‪ ،‬هل هي زواجر أو‬
‫جوابر؟‬
‫قال الجمهور‪ :‬القصاص من القاتل أو العفو عنه يكفر إثم القتل؛ لن «الحدود كفارات لهلها» (‪)5‬‬
‫وهذا عام لم يخصص قتلً من غيره‪ .‬قال النووي‪ :‬ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة بالعقوبة في‬
‫الخرة‪.‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬القصاص أو العفو ل يكفر إثم القتل؛ لن المقتول المظلوم ل منفعة له في القصاص‪،‬‬
‫وإنما القصاص منفعة للحياء ليتناهى الناس عن القتل‪{ :‬ولكم في القصاص حياة} [البقرة‪.]179/2:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪.376/5 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أحمد والئمة الستة من حديث عبد ال بن مسعود‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود والنسائي‪ .‬والصرف‪ :‬التوبة‪ ،‬والعدل‪ :‬الفدية‪.‬‬
‫(‪ )4‬انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير‪ 239/4 :‬وما بعدها‪ ،‬رد المحتار‪.389/5 :‬‬
‫(‪ )5‬يذكره الفقهاء حديثا‪ ،‬روى مسلم في صحيحه عن عبادة بما في معناه‪« :‬من أصاب شيئا من ذلك‬
‫ـ أي المعاصي كالزنا والسرقة والقتل ـ فعوقب به فهو كفارة له» ورويت أحاديث أخرى في هذا‬
‫المعنى‪ ،‬منها ما رواه الترمذي وصححه الحاكم عن علي بن أبي طالب وفيه‪« :‬من أصاب ذنبا فعوقب‬
‫به في الدنيا‪ ،‬فال أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الخرة» وهو عند الطبراني بإسناد حسن‬
‫ولفظه «من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب‪ ،‬فهو كفارة له» وللطبراني عن ابن عمر مرفوعا‪:‬‬
‫«ما عوقب رجل على ذنب إل جعله ال كفارة لما أصاب من ذلك الذنب » (راجع نيل الوطار‪:‬‬
‫‪.)53 ،50/7‬‬

‫( ‪)7/577‬‬
‫ثالثا ـ الفرق بين القصاص والحدود الخرى ‪:‬‬
‫الحدود كحد الزنا وحد المسكر حقوق خالصة ل تعالى‪ ،‬أي للمجتمع أو للجماعة‪ ،‬والقصاص حق‬
‫شخصي للعباد‪ ،‬وفيه عند الحنفية والمالكية حق ل تعالى‪ ،‬أي للجماعة‪ ،‬وحد القذف مشتمل على‬
‫الحقين‪ :‬حق ال وحق العبد (الدمي)‪ .‬وبناء على هذا ذكر الحنفية بين الحدود والقصاص فروقا سبعة‬
‫هي ما يأتي (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬القصاص يورث‪ ،‬والحد ل يورث‪.‬‬
‫‪ - 2‬القصاص يصح العفو عنه‪ ،‬والحد ل يعفى عنه‪.‬‬
‫‪ - 3‬التقادم ل يمنع قبول الشهادة بالقتل‪ ،‬بخلف الحد ما عدا القذف‪ ،‬فإن التقادم يمنع الشهادة‪ .‬والتقادم‬
‫في الشرب بذهاب الريح‪ ،‬وفي حد غيره بمضي شهر‪.‬‬
‫‪ - 4‬تجوز الشفاعة في القصاص‪ ،‬ول تجوز في الحد بعد الوصول للحاكم‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار ورد المحتار‪ ،390/5 :‬نقلً عن الشباه والنظائر لبن نجيم‪.‬‬

‫( ‪)7/578‬‬

‫أما قبل الوصول إليه والثبوت عنده‪ ،‬فتجوز الشفاعة فيه لطلق سراح المتهم (‪. )1‬‬
‫‪ - 5‬ل بد في القصاص من رفع الدعوى إلى القضاء من ولي الدم‪ ،‬أما الحد ما عدا القذف والسرقة‪،‬‬
‫فل يشترط فيه الدعاء الشخصي من صاحب المصلحة فيه‪ ،‬وإنما يصح الحسبة فيه‪.‬‬
‫‪ - 6‬يثبت القصاص بإشارة الخرس أو كتابته‪ ،‬أما الحد فل يثبت بهما‪ ،‬لشتمالهما على الشبهة‪.‬‬
‫‪ - 7‬يجوز للقاضي القضاء بعلمه الشخصي في القصاص دون الحدود‪ ،‬وهذا عند متقدمي الحنفية‪،‬‬
‫وأفتى المتأخرون بعدم القضاء بالعلم مطلقا سدا للذريعة أمام قضاة السوء‪ ،‬سواء في القصاص‬
‫والحدود أم في الموال وغيرها‪.‬‬
‫وأضاف بعض الحنفية فروقا ثلثة أخرى هي‪:‬‬
‫‪ - 8‬استيفاء الحدود يكون بواسطة المام الحاكم‪ ،‬وأما القصاص فيجوز لولي الدم استيفاؤه بشرط‬
‫وجود الحاكم‪.‬‬
‫‪ - 9‬يجوز العتياض في القصاص ‪ ،‬بخلف الحدود ومنها حد القذف‪ .‬وأجاز الشافعية المعاوضة‬
‫عنه‪.‬‬
‫‪ - 10‬يصح الرجوع عن القرار في الحد‪ ،‬دون القصاص‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تجوز الشفاعة لرباب الحوائج المباحة كدفع الظلم وتخليص من خطأ‪ ،‬أو العفو عن ذنب ليس فيه‬
‫حد إذا لم يكن المذنب مصرا‪ ،‬فإن كان مصرا فل يجوز حتى يرتدع عن الذنب والصرار‪ .‬ودليل‬
‫الشفاعة حديث‪« :‬اشفعوا تؤجروا» ول يتناول هذا الحديث الحدود‪ ،‬فإن هناك أحاديث أخرى تمنع من‬
‫الشفاعة فيها ‪ ،‬مثل حديث عائشة في المرأة المخزومية السارقة ورد شفاعة أسامة فيها‪« :‬أتشفع في‬
‫حد من حدود ال ؟» ‪.‬‬

‫( ‪)7/579‬‬

‫رابعا ـ شروط القصاص ‪:‬‬


‫يشترط لوجوب القصاص شروط في القاتل والمقتول ونفس القتل وولي القتيل‪.‬‬
‫شروط القاتل ‪:‬‬
‫يشترط في القاتل الذي يقتص منه شروط أربعة (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون مكلفا (أي بالغا عاقلً)‪ ،‬فل قصاص ول حد على الصبي أو المجنون؛ لن القصاص‬
‫عقوبة‪ ،‬وهما ليسا من أهل العقوبة؛ لنها ل تجب إل بالجناية‪ ،‬وفعلهما ل يوصف بالجناية‪ .‬ومثلهما‬
‫زائل العقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمغمى عليه ونحوهما؛ ولن هؤلء ليس لهم قصد صحيح‪ ،‬فهم‬
‫كالقاتل خطأ‪.‬‬
‫القصاص من السكران‪ :‬ويقتص من السكران بشراب محرم باتفاق المذاهب الربعة (‪ )2‬؛ لن السكر‬
‫ل ينافي الخطاب الشرعي أي التكليف‪ ،‬فتلزمه كل أحكام الشرع‪ ،‬وتصح عباراته كلها في العقود‬
‫كالبيع‪ ،‬وفي السقاطات كالطلق‪ ،‬وفي القرارات‪ ،‬وإنما ينعدم بالسكر القصد دون العبارة‪ ،‬فلو تكلم‬
‫بكلمة الكفر ل يرتد استحسانا عند الحنفية‪.‬‬
‫والقصاص من السكران واجب؛ لنه حق آدمي‪ ،‬وقياسا على إيجاب حد الشرب عليه‪ ،‬وسدا للذرائع‬
‫أمام المفسدين الجناة‪ ،‬فلو لم يقتص منه لشرب ما يسكره‪ ،‬ثم يقتل ويزني ويسرق‪ ،‬وهو بمأمن من‬
‫العقوبة والمأثم‪ ،‬ويصير عصيانه سببا لسقوط عقوبة الدنيا والخرة عنه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 234/7 :‬ومابعدها‪ ،‬الدر المختار‪ ،378/5 :‬حاشية الشلبي على تبيين الحقائق‪،98/6 :‬‬
‫الشرح الكبير للدردير‪ ،242/4 :‬بداية المجتهد‪ ،388/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،345‬المهذب‪:‬‬
‫‪ ،173/2‬مغني المحتاج‪ ،15/4 :‬المغني‪ 664/7 :‬وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪.606/5 :‬‬
‫(‪ )2‬التلويح على التوضيح‪ ،186/2 :‬كشف السرار على أصول البزدوي‪ ،1475-1472/2 :‬القوانين‬
‫الفقهية‪ :‬ص ‪ ،345‬المهذب‪ ،173/2 :‬مغني المحتاج‪ ،5/4 :‬المغني‪ ،665/7 :‬الدردير‪.237/4 :‬‬

‫( ‪)7/580‬‬

‫‪ - 2‬أن يكون متعمدا القتل‪ :‬أي قاصدا إزهاق روح المجني عليه‪ ،‬فإن كان مخطئا‪ ،‬فل قصاص عليه‪،‬‬
‫لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬العمد قود» (‪ )1‬أي القتل العمد يوجب القود‪ ،‬فالحديث شرط العمد‬
‫لوجوب القود‪ .‬ولم يشترط المالكية العمد بالذات‪ ،‬وإنما يكفي وجود العدوان‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن يكون تعمد القتل محضا‪ :‬أي ل شبهة في عدم إرادة القتل؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫شرط العمد مطلقا في قوله «العمد قود» ‪ .‬وهو يعني اكتمال وصف العمدية‪ ،‬ول كمال مع وجود‬
‫شبهة انتفاء قصد القتل‪ ،‬كما في حالة تكرار الضرب بما ل يقتل عادة‪ ،‬ل يراد به القتل‪ ،‬بل التأديب‬
‫والتهذيب‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن يكون القاتل عند الحنفية مختارا‪ :‬فل قصاص على المستكره على القتل عند الحنفية ما عدا‬
‫زفر‪ ،‬وقال الجمهور‪ :‬عليه مع المكره القصاص‪ ،‬كما بان سابقا‪.‬‬
‫شروط المقتول ‪:‬‬
‫يشترط ليجاب القصاص في المعتدى عليه المقتول شروط هي ما يأتي (‪: )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما من حديث ابن عباس بلفظ‪« :‬العمد قود إل‬
‫أن يعفو ولي المقتول» ‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ 235/7 :‬ومابعدها‪ ،‬الدر المختار‪ 378/5 :‬ومابعدها‪ ،‬تكملة فتح القدير‪ 254/8 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫الشرح الكبير للدردير‪ 242 ،237/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مواهب الجليل‪ ،232/6 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص‬
‫‪ ،345‬بداية المجتهد‪ ،391/3 :‬مغني المحتاج‪ 15/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،173/2 :‬الروضة للنووي‪:‬‬
‫‪ ،148/9‬المغني‪ ،657 ،652 ،648/7 :‬كشاف القناع‪.607 ،587 ،585/5 :‬‬

‫( ‪)7/581‬‬

‫‪ - 1‬أن يكون معصوم الدم أو محقون الدم (‪ )1‬أي يحرم العتداء على حياته‪ .‬فل يقتل مسلم ول ذمي‬
‫بالكافر الحربي‪ ،‬ول بالمرتد‪ ،‬ول بالزاني المحصن‪ ،‬ول بالزنديق‪ ،‬ول بالباغي؛ لن هؤلء مباحو‬
‫الدم إما بسبب الحرابة أو الردة أو الزنا أو البغي‪ ،‬فكل واحد منها سبب لهدار الدم‪ ،‬أي إباحته‪.‬‬
‫والعصمة عند الحنفية تكون ـ كما بان سابقا ـ بالسلم والقامة في دار السلم‪ ،‬فمن أسلم في دار‬
‫الحرب‪ ،‬وبقي مقيما فيها‪ ،‬ل يقتص من قاتله هناك؛ لن كمال حقن الدم بالعصمة المقومة والمؤثمة‪،‬‬
‫وبالسلم حصلت المؤثمة دون المقومة؛ لن هذه تحصل بالقامة في دار السلم (‪. )2‬‬
‫وأما العصمة عند الجمهور (غير الحنفية)‪ :‬فتكون باليمان (السلم) أو المان بعقد الذمة أو الهدنة‪،‬‬
‫فمن قتل مسلما في دار الحرب عامدا عالما بإسلمه‪ ،‬فعليه القود‪ ،‬سواء أكان قد هاجر أم لم يهاجر‬
‫إلى دار السلم‪.‬‬
‫وصرح الحنفية بأن العصمة لمحقون الدم يجب أن تكون «على التأبيد» لخراج المستأمن‪ ،‬فل يقتص‬
‫من قاتله؛ لن عصمته مؤقتة أثناء المان‪ ،‬ل مؤبدة‪ ،‬ففي دمه شبهة الباحة‪.‬‬
‫ويتفق الجمهور مع الحنفية على هذا القيد‪ ،‬لنهم يقولون‪ :‬ل يقتل مسلم بكافر‪ ،‬سواءأكان مستأمنا أم‬
‫ذميا أم معاهدا؛ لن الكافر ليس بمحقون الدم على التأبيد‪ ،‬فأشبه الحربي (‪. )3‬‬
‫قتل الوالد بالولد وبالعكس ‪:‬‬
‫‪ - 2‬أل يكون المجني عليه جزء القاتل‪ ،‬أي أل تكون هناك رابطة البوة والبنوة‪ ،‬فل قصاص على‬
‫أحد الوالدين (الب والجد‪ ،‬والم أو الجدة وإن علوا) بقتل الولد أو ولد الولد وإن سفلوا‪ ،‬لقوله صلّى‬
‫ال عليه وسلم ‪« :‬ل يقاد الوالد بالولد» (‪ . )4‬قال ابن عبد البر‪ :‬هو حديث مشهور عند أهل العلم‬
‫بالحجاز والعراق‪ ،‬مستفيض عندهم‪ ،‬يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن السناد فيه‪ ،‬حتى يكون‬
‫السناد في مثله مع شهرته تكلفا (‪. )5‬‬
‫ولن في القصاص من الب شبهة آتية من حديث‪« :‬أنت ومالك لبيك» (‪ )6‬والقصاص يدرأ‬
‫بالشبهات‪.‬‬
‫ولن الوامر المطالبة بالحسان إلى الباء تمنع القصاص منهم‪ ،‬فقد كان الب سببا في إيجاد ولده‪،‬‬
‫فل يكون البن سببا في إعدامه‪.‬‬
‫وإذا لم يقتل الب بابنه وجب عليه الدية‪.‬‬
‫وهذا الحكم متفق عليه بين أئمة المذاهب (‪ )7‬إل أن المالكية استثنوا حالة واحدة‪ :‬هي أن يتحقق أن‬
‫الب أراد قتل ابنه‪ ،‬وانتفت شبهة إرادة تأديبه وتهذيبه‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحقن هو المنع‪ ،‬وحقن دمه‪ :‬إذا منعه أن يسفك‪.‬‬
‫(‪ )2‬رد المحتار‪.378/5 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪ 652/7 :‬ومابعدها‪ ،‬المهذب‪.241/2 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب‪ ،‬وفي بعض أسانيده طعن‪ ،‬وصحح‬
‫البيهقي والحاكم بعض طرقه‪ .‬وروي عن آخرين وهم ابن عباس وسراقة بن مالك وعمرو بن شعيب‬
‫عن أبيه عند جده‪.‬‬
‫(‪ )5‬المغني‪.666/7 :‬‬
‫(‪ )6‬رواه ابن ماجه عن جابر‪ ،‬والطبراني عن سمرة وابن مسعود‪ ،‬وهو ضعيف‪.‬‬
‫(‪ )7‬البدائع‪ ،235/7 :‬تكملة الفتح‪ 258/8 :‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد‪ ،293/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪:‬‬
‫‪ ،242/4‬مغني المحتاج‪ ،18/4 :‬المهذب‪ ،174/3 :‬المغني‪ 666/7 :‬ومابعدها‪ ،‬الحكام السلطانية‬
‫للماوردي‪ :‬ص ‪.222‬‬

‫( ‪)7/582‬‬

‫كأن يضجعه فيذبحه‪ ،‬أو يبقر بطنه أو يقطع أعضاءه‪ ،‬فيقتل به لعموم القصاص بين المسلمين‪ .‬فلو‬
‫ضربه بقصد التأديب‪ ،‬أو في حالة غضب‪ ،‬أو رماه بسيف أو عصا‪ ،‬فقتله ل يقتل به‪.‬‬
‫واتفق الفقهاء على أنه يقتل الولد بقتل والده‪ ،‬لعموم القصاص وآياته الدالة على وجوبه على كل قاتل‪،‬‬
‫إل ما استثني بالحديث السابق (‪. )1‬‬
‫وعلة التفرقة بين الب والبن في هذا الحكم‪ :‬هو قوة المحبة التي بين الب والبن‪ ،‬إل أن محبة الب‬
‫غير مشوبة بشبهة مادية بقصد انتظار النفع منه‪ ،‬فتكون محبته له أصيلة ل لنفسه‪ ،‬فتقتضيه بالطبيعة‬
‫الحرص على حياته‪ .‬أما محبة الولد لبيه فهي مشوبة بشبهة انتظار المنفعة؛ لن ماله له بعد وفاة‬
‫أبيه‪ ،‬فل يحرص عادة على حياته‪ ،‬فتكون محبته لنفسه‪ ،‬فقد يقتله‪.‬‬
‫التكافؤ ‪:‬‬
‫‪ - 3‬اشتراط الجمهور (غير الحنفية) (‪ )2‬أن يكون المقتول مكافئا للقاتل في السلم والحرية‪ ،‬فل‬
‫يقتل قصاصا مسلم بكافر‪ ،‬ول حر بعبد‪ ،‬لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ل يقتل مسلم بكافر» (‪)3‬‬
‫وقوله‪« :‬المسلمون تتكافأ دماؤهم‪ ،‬ويسعى بذمتهم أدناهم‪ ،‬ول يقتل مؤمن بكافر» (‪ )4‬وقوله عليه‬
‫الصلة والسلم في العبد‪« :‬ل يقتل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪ ،241 ،238/4 :‬بداية المجتهد‪ ،391/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،345‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،16/4 :‬المهذب‪ ،173/2 :‬المغني‪ ،658 ،652/7 :‬كشاف القناع‪.609/5 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪ .‬ورواه‬
‫أحمد والبخاري وأصحاب السنن إل ابن ماجه من حديث أبي جحيفة‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أحمد والنسائي وأبو داود من حديث علي رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)7/583‬‬

‫حر بعبد» (‪ )1‬وقول علي رضي ال عنه ‪« :‬من السنة أل يقتل حر بعبد» (‪. )2‬ولم يشترط الحنفية (‬
‫‪ )3‬التكافؤ في الحرية والدين‪ ،‬وإنما يكفي التساوي في النسانية‪ ،‬لعموم آيات القصاص بدون تفرقة‬
‫بين نفس ونفس‪ ،‬مثل قوله تعالى‪{ :‬كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة‪ ]178/2:‬وقوله سبحانه‬
‫{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة‪ ]45/5:‬ولعموم حديث «العمد َقوَد» وصونا لحق الحياة‪،‬‬
‫وتحقيق ذلك في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم‪ ،‬لما بينهما من العداوة الدينية‪،‬‬
‫وروي أن النبي صلّى ال عليه وسلم أقاد مؤمنا بكافر‪ ،‬وقال‪« :‬أنا أحق من وفى بذمته» (‪ ، )4‬ولن‬
‫العبد آدمي معصوم الدم فأشبه الحر‪ ،‬والقصاص يتطلب فقط المساواة في العصمة‪.‬‬
‫وأما المراد من قوله تعالى‪{ :‬الحر بالحر والعبد بالعبد والنثى بالنثى} [البقرة‪ ]178/2:‬بعد قوله‬
‫تعالى‪{ :‬كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة‪ ]178/2:‬فاختلف فيه الفقهاء‪ ،‬فقال الحنفية‪ :‬المراد به‬
‫الرد علي ما كان يفعله بعض القبائل‪ ،‬من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إل حرا‪ ،‬وفي امرأتهم إل‬
‫رجلً‪ ،‬على ما جاء في حديث الشعبي‪ ،‬فأبطل ما كان من الظلم‪ ،‬وأكد فرض القصاص على القاتل‬
‫دون غيره‪ ،‬فليس في الية دللة على أنه ل يقتل الحر بالعبد أو أنه ل يقتل الرجل بالمرأة‪ .‬وقال‬
‫الجمهور‪ :‬إن ال قد أوجب المساواة في القصاص‪ ،‬ثم بيّن المساواة المعتبرة‪ ،‬فبين أن الحر يساويه‬
‫الحر‪ ،‬والعبد يساويه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الدارقطني والبيهقي عن ابن عباس مرفوعا‪ )2( .‬رواه المام أحمد بإسناده عن علي‪،‬‬
‫وأخرجه البيهقي‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،237/7 :‬تبيين الحقائق‪ 102/6 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الدارقطني في سننه عن ابن عمر من طريق عبد الرحمن بن البيلماني‪ ،‬وهو ضعيف‪.‬‬
‫وروي مرسلً عند محمد بن الحسن‪ ،‬والشافعي وعبد الرزاق وأبي داود من طريق البيلماني‪.‬‬

‫( ‪)7/584‬‬
‫العبد‪ ،‬والنثى تساويها النثى‪ ،‬لكن جاء الجماع على أن الرجل يقتل بالمرأة‪ .‬فمناط الستدلل عندهم‬
‫كلمة {القصاص} الموجبة للمساواة والمماثلة في القتل‪ ،‬ومناط الستدلل عندالحنفية كلمة {القتلى}‬
‫الموجبة حصر القصاص في القاتل‪ ،‬ل في غيره‪.‬‬
‫وأما حديث «ل يقتل مسلم بكافر‪ ،‬ول ذو عهد في عهده» فمعناه عند الحنفية أنه ل يقتل المسلم‬
‫والمعاهد بكافر حربي؛ لن المراد بالكافر هو الحربي بدليل جعل الحربي مقابلً للمعاهد؛ لن المعاهد‬
‫يقتل بمن كان معاهدا مثله من الذميين إجماعا‪ ،‬فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي‪ ،‬كما‬
‫قيد في المعطوف؛ لن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقا‪ ،‬ويكون التقدير‪ :‬ل يقتل مسلم بكافر‬
‫حربي ول ذو عهد بكافر حربي؛ لن الذمي أو المعاهد إذا قتل ذميا قتل به‪ ،‬فعلم أن المراد به‪:‬‬
‫الحربي‪ ،‬إذ هو الذي ل يقتل به مسلم ول ذمي‪ .‬ول يقال كما يرى الجمهور‪ ،‬معناه‪ :‬ل يقتل ذو عهد‬
‫مطلقا‪ ،‬أي ل يحل قتله‪ ،‬بمعنى أنه يصبح كلما مستأنفا مبتدأ به؛ لن المراد من الحديث نفي القتل‬
‫قصاصا‪ ،‬ل نفي مطلق القتل‪ ،‬فيكون المعطوف مثل المعطوف عليه‪.‬‬
‫وأيد الحنفية قولهم بالقياس أيضا وهو أن يد المسلم تقطع إذا سرق مال الذمي فإذا كانت حرمة ماله‬
‫كحرمة مال المسلم‪ ،‬فحرمة دمه كحرمة دمه‪.‬‬

‫( ‪)7/585‬‬

‫لكن رد الجمهور على أدلة الحنفية بأن حديث «أنا أحق من وفى بذمته» ضعيف‪ .‬وتوجد شبهة في‬
‫إباحة دم الذمي‪ ،‬بسبب الكفر المبيح للدم‪ ،‬ول قصاص مع الشبهة‪ .‬وحديث «ول ذو عهد في عهده»‬
‫كلم تام ل يحتاج إلى تقدير‪ ،‬وهي جملة مستأنفة‪ ،‬لبيان حرمة دماء أهل الذمة والعهد بغير نقض‪،‬‬
‫ولو سلمنا أنها للعطف‪ ،‬فالمشاركة في أصل النفي ل من كل وجه‪ ،‬فلو سلمنا تقدير الحربي في الجملة‬
‫الثانية‪ ،‬فل يسلم تخصيص الكافر بالحربي‪ .‬وأما القياس فهو في مقابلة النص‪« :‬ل يقتل مسلم بكافر»‬
‫‪ .‬ثم إن حد السرقة حق ال ‪ ،‬والقصاص يشعر بالمساواة‪ ،‬ول مساواة بين المسلم والكافر‪.‬‬
‫واتفق الفقهاء فيما عدا ذلك على أنه يقتل الرجل بالنثى‪ ،‬والكبير بالصغير‪ ،‬والعاقل بالمجنون‪ ،‬والعالم‬
‫بالجاهل‪ ،‬والشريف بالوضيع‪ ،‬وسليم الطراف بمقطوعها وبالشل‪ ،‬أي أنه ل يشترط التكافو في‬
‫الجنس والعقل والبلوغ والشرف والفضيلة وكمال الذات أو سلمة العضاء (‪. )1‬‬
‫وهل يقتل الباغي قصاصا بالعدل وبالعكس؟‪ :‬قال الحنفية (‪ )2‬والمالكية (‪ )3‬والحنابلة (‪ )4‬في وجه‬
‫هو الراجح‪ :‬ل يقتل الباغي بالعدل وبالعكس؛ لن كلً منهما غير معصوم الدم في زعم الخر‪،‬‬
‫لستحلله الدم بتأويل‪ .‬قال الزهري‪« :‬وقعت الفتنة والصحابة متوافرون‪ ،‬فاتفقوا على أن كل دم‬
‫استحل بتأويل القرآن العظيم فهو موضوع» ‪.‬‬
‫وقال الشافعية (‪ : )5‬يقتص من الباغي بقتل العادل وبالعكس في غير حال القتال؛ لن المقتول‬
‫معصوم الدم مطلقا؛ لن السلم حقن دماء البغاة في غير حال القتال‪ .‬وحكم البغاة في ضمان النفس‬
‫والمال والحد إن لم يكن في قتال حكم أهل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،‬بداية المجتهد‪ ،‬المهذب‪ ،‬كشاف القناع‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬المغني‪.648/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪.236/7 :‬‬
‫(‪ )3‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،364‬الشرح الكبير والدسوقي‪.300/4 :‬‬
‫(‪ )4‬المغني‪ ،115/8 :‬غاية المنتهى‪ ،350/3 :‬قال ابن قدامة‪ :‬في القصاص وجهان‪ :‬أحدهما‪ :‬يجب‬
‫لنه مكافئ معصوم‪ ،‬والثاني‪ :‬ل يجب لن في قتلهم اختلفا بين الئمة‪ ،‬فكان ذلك شبهة دارئة‬
‫للقصاص‪ ،‬لنه مما يندرئ بالشبهات‪.‬‬
‫(‪ )5‬المهذب‪ ،221/2 :‬مغني المحتاج‪ 128/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/586‬‬

‫العدل‪ ،‬فإذا أتلفوه في غير قتال ضمنوه‪ ،‬وإل فل‪ .‬لكن الصحيح عند الشافعية (‪ )1‬أنه ل يتحتم قتل‬
‫الباغي ويجوز العفو عنه‪ ،‬لقول علي رضي ال عنه بعد أن جرحه ابن ملجم قبل استشهاده‪« :‬أطعموه‬
‫واسقوه واحبسوه‪ ،‬فإن عشت فأنا ولي دمه‪ :‬أعفو إن شئت‪ ،‬وإن شئت استقدت‪ ،‬وإن مت فاقتلوه ول‬
‫تمثلوا به» وقال الشافعي رضي ال عنه والحنابلة‪ :‬يكره للعادل أن يتعمد قتل ذي رحمه من أهل‬
‫البغي‪ ،‬وأضاف الشافعي‪ :‬وحكم دار البغي دار السلم‪ ،‬فإذا جرى فيها ما يوجب إقامة حد‪ ،‬أقامه‬
‫المام إذا استولى عليها‪.‬‬
‫قتل الغيلة‪ :‬هو القتل لخذ المال‪ ،‬سواء أكان القتل خفية‪ ،‬كما لو خدعه‪ ،‬فذهب به لمحل‪ ،‬فقتله فيه‬
‫لخذ المال‪ ،‬أم كان القتل ظاهرا على وجه يتعذر معه الغوث‪ ،‬وقد يسمى الثاني (أي القتل ظاهرا)‬
‫حرابة (‪. )2‬‬
‫وحكم هذا القتل كبقية أنواع القتل الخرى عند الجمهور (‪( )3‬غير المالكية) في القصاص والعفو‬
‫عنه‪ ،‬واشتراط التكافؤ بين القاتل والمقتول‪.‬‬
‫وقال المالكية‪ :‬يقتل هذا القاتل بسبب الفساد والحرابة‪ ،‬ل قصاصا‪ ،‬وبما أن هذا القتل يعاقب عليه‬
‫فاعله بسبب الحرابة والفساد‪ ،‬ل للقصاص‪ ،‬رأى المالكية (‪ : )4‬أنه ل يشترط فيه شرط التكافؤ‪ ،‬فيقتل‬
‫الحر بالعبد‪ ،‬والمسلم بالكافر ول عفو فيه‪ ،‬ول صلح‪ ،‬وصلح ولي القتيل مردود‪ ،‬والحكم فيه إلى‬
‫المام‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬وقال في مغني المحتاج‪ :‬أرجح الوجهين كما قال البلقيني‪ :‬الوجوب أي وجوب القصاص على‬
‫البغاة‪.‬‬
‫(‪ )2‬وعرفه صاحب المغني ابن قدامة بقوله‪ :‬أن يخدع النسان فيدخل بيتا أو نحوه‪ ،‬فيقتل أو يؤخذ‬
‫ماله‪ .‬وذكر أن ذلك عند مالك‪.‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪.648/7 :‬‬
‫(‪ )4‬الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي‪.242 ،238/4 :‬‬

‫( ‪)7/587‬‬

‫شرط القتل ‪:‬‬


‫اشترط الحنفية (‪ )1‬في القتل نفسه الموجب للقصاص‪ :‬أن يكون مباشرة‪ ،‬لتسببا‪ ،‬فإن كان تسببا ففيه‬
‫الدية‪ ،‬كمن حفر بئرا على قارعة الطريق‪ ،‬فوقع فيه إنسان ومات‪ ،‬فعلى الحافر الدية‪ .‬وإذا رجع شهود‬
‫القصاص عن شهادتهم بعد قتل المشهود عليه‪ ،‬فتجب عليهم الدية؛ لنه لم يوجد منهم القتل مباشرة‪،‬‬
‫وإنما وجد منهم سبب القتل‪.‬‬
‫ولم يشترط غير الحنفية هذا الشرط‪ ،‬وإنما قالوا ـ في الجملة ـ ‪ :‬يجب القصاص بالسبب كالمباشرة؛‬
‫لنهما متماثلن‪ ،‬على النحو الذي بان سابقا‪ .‬وملخصه‪:‬‬
‫إنه يجب عند الجمهور القصاص بالسبب الحسي كالكراه على القتل‪ ،‬وبالسبب الشرعي كشهود‬
‫الزور‪ ،‬وفي بعض أحوال السبب العرفي كتقديم الطعام المسموم إلى الضيف الصبي غير المميز أو‬
‫المجنون‪ .‬واختلفوا في تسميم المميز أو البالغ العاقل‪ ،‬فقال المالكية والحنابلة‪ :‬على فاعله القصاص‪.‬‬
‫وقال الشافعية في أرجح القوال‪ :‬ل يقتص منه‪ ،‬وإنما عليه الدية (دية شبه العمد)‪ .‬كما اختلفوا في‬
‫حالة الشرط (وهو مال يؤثر في الهلك ول يحصله بل يحصل التلف عند ه بغيره‪ ،‬ويتوقف تأثير ذلك‬
‫الغير عليه) كالحفر مع التردي‪ ،‬والمساك مع القتل‪ ،‬والدللة على المجني عليه‪ .‬فقال غير المالكية‪:‬‬
‫يقتص من مباشر القتل‪ ،‬ويعزر المتسبب‪ .‬وقال المالكية‪ :‬يقتص من الثنين معا‪ .‬واختلفوا أيضا في‬
‫حالة اشتراك الفاعل والشريك‪ :‬فمن اتفق أو حرض أي اشترك في الجريمة ولم يباشر القتل فعليه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.239/7 :‬‬

‫( ‪)7/588‬‬

‫التعزير عند الئمة ما عدا مالكا‪ ،‬وكذلك من أعان على القتل ولم يباشر القتل‪ ،‬عليه القصاص عند‬
‫مالك‪ ،‬والتعزير عند باقي الئمة (‪. )1‬‬
‫شرط ولي القتيل ‪:‬‬
‫اشترط الحنفية (‪ )2‬في ولي القتيل صاحب الحق في القصاص‪ :‬أن يكون معلوما‪ ،‬فإن كان مجهولً ل‬
‫يجب القصاص؛ لن القصد من إيجاب القصاص هو التمكين من استيفاء الحق‪ ،‬والستيفاء من‬
‫المجهول متعذر‪ ،‬فتعذر اليجاب له‪ .‬وخالف فيه باقي الئمة‪.‬‬
‫خامسا ـ موانع القصاص ‪:‬‬
‫يفهم من المبحث السابق في شروط القصاص أن هناك حالت مانعة من القصاص‪ ،‬وهي ستة‪ ،‬يمكن‬
‫إدخالها تحت مفهوم الشبهة التي تدرأ الحدود ومنها القصاص‪.‬‬
‫‪ - 1‬حالة البوة عند فقهاء المذاهب ما عدا حالة إرادة القتل إذا ثبتت ثبوتا قاطعا عند المالكية‪.‬أما‬
‫رابطة الزوجية فل تمنع القصاص باتفاق المذاهب الربعة‪ ،‬خلفا للزهري والليث بن سعد (‪. )3‬‬
‫‪ - 2‬عدم التكافؤ بين الجاني والمجني عليه‪ :‬في السلم والحرية عند جمهور الفقهاء خلفا للحنفية‪.‬‬
‫أما الكفار فيقتلون‪ ،‬بعضهم ببعض دون تفريق‪ ،‬فيقتل الذمي بالذمي‪ ،‬أو المجوسي‪ ،‬أو الحربي‪ ،‬أو‬
‫المستأمن‪.‬‬
‫‪ - 3‬حالة الشتراك الجرمي أو التفاق الجنائي‪ :‬أي حالة التفاق على القتل دون حضور القتل‪ ،‬أو‬
‫التحريض أو العانة على القتل دون مباشرة القتل‪ ،‬فل قصاص على من لم يباشر القتل‪ ،‬وإنما يعزر‬
‫عند جمهور الفقهاء‪ ،‬خلفا للمالكية الذين قالوا‪ :‬يقتص ممن حضر أو أعان ولم يباشر كالربيئة أو‬
‫حارس البواب ومفارق الطرق‪.‬‬
‫أما في حالة اشتراك الجماعة بالقتل ومباشرتهم القتل فيقتص من الجميع باتفاق المذاهب‪.‬‬
‫‪ - 4‬القتل بالتسبب عند الحنفية دون غيرهم من الئمة‪.‬‬
‫‪ - 5‬أن يكون ولي القتيل مجهولً عند الحنفية دون غيرهم من الئمة‪.‬‬
‫‪ - 6‬أن يكون القتل في دار الحرب عند الحنفية دون غيرهم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬التشريع الجنائي السلمي‪.132/2 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪.240/7 :‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪.668/7 :‬‬

‫( ‪)7/589‬‬

‫فل قصاص عند الحنفية على من قتل مسلما في دار الحرب‪ ،‬لعدم ولية المام على دار الحرب‪،‬‬
‫سواء أكان القتيل ممن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا‪ ،‬أم كان مسلما من أهل دار السلم‪ ،‬لكنه‬
‫دخل دار الحرب بأمان‪ ،‬أو بإذن كالتاجر والسير‪ .‬وتجب الدية عند الصاحبين بقتل التاجر أو السير؛‬
‫لنهما من أهل دار السلم‪ ،‬والسر أمر طارئ‪ .‬وعند أبي حنيفة‪ :‬تجب دية التاجر‪ ،‬ل السير‪ :‬لن‬
‫السير مقهور في يد أهل الحرب‪ ،‬فصار تابعا لهم ‪ ،‬فلم يعد متقوما (‪ . )1‬وأوجب غير الحنفية‬
‫القصاص من القاتل في كل هذه الحوال‪ ،‬كما بان سابقا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.237 ،133/7 :‬‬

‫( ‪)7/590‬‬

‫سادسا ـ كيفية وجوب القصاص (أو مدى لزوم القصاص‪ ،‬أو موجب العمد ) ‪:‬‬
‫يجب القصاص من القاتل إل إذا عفا عنه ولي القتيل‪ .‬فإذا عفا‪ ،‬هل يلزم القاتل بالدية أو ل؟‬
‫قال الحنفية والمالكية‪ ،‬والشافعية في ظاهر مذهبهم الراجح عندهم وفي رواية عن أحمد (‪ : )1‬موجَب‬
‫(‪ )2‬القتل العمد هو القَود عينا أي متعينا‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة‪:‬‬
‫‪ ]178/2‬وهذا يفيد تعين القصاص واجبا متعينا للعمد‪ ،‬ولقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬من قتل عمدا‬
‫فهو قَود» (‪ ، )3‬ولن القصاص بدل شيء متلف‪ ،‬فتعين الجزاء من جنسه‪ ،‬كسائر المتلفات‪.‬‬
‫ويحسن إيراد عبارة الشافعية فيه وهي‪ :‬موجب العمد القود عينا‪ ،‬والدية بدل عند سقوطه‪ ،‬وفي قول‪:‬‬
‫موجب العمد‪ :‬أحدهما (القصاص والدية) مبهما‪ ،‬وعلى القولين‪ :‬للولي عفو على الدية بغير رضا‬
‫الجاني‪ ،‬وعلى الول‪ :‬لو أطلق العفو فالمذهب ل دية‪.‬‬
‫وبناء على هذا الرأي‪ :‬قال الحنفية والمالكية والشافعية على المذهب‪ :‬لو عفا ولي القتيل عن القصاص‬
‫مطلقا‪ ،‬أي دون مطالبة بالدية‪ ،‬ل يلزم الجاني بالدية جبرا عنه‪ ،‬وإنما له باختياره أن يدفعها في مقابل‬
‫العفو عنه‪ .‬وللولي أن يعفو مجانا أو يقتص‪ ،‬أي ليس له إن أراد أخذ جزاء الجناية إل القود‪ ،‬ل الدية‪.‬‬
‫ويجوز العفو على الدية أو أكثر أو أقل برضا الجاني‪ ،‬وتعد الدية حينئذ بدلً عن القصاص‪ .‬ولو تعدد‬
‫الولياء فبادر أحدهم‪ ،‬فقتل الجاني قبل إبداء الخرين رأيهم‪ ،‬سقط حق الباقين في القصاص ول دية‬
‫لهم‪ ،‬ويترتب على اعتبار الدية بدلً من القصاص أنه ل يجوز للقاضي أن يجمع بين عقوبة وبدلها‬
‫جزاء عن فعل واحد‪.‬‬
‫وقال الحنابلة عملً برواية أخرى عن أحمد هي الراجحة عندهم (‪ ، )4‬وفي قول عند الشافعية‪ :‬ليس‬
‫القصاص واجبا عينا‪ ،‬وإنما الواجب بقتل العمد أحد شيئين‪ :‬القصاص أو الدية‪ .‬وللولي خيار التعيين‪:‬‬
‫إن شاء استوفى القصاص‪ ،‬وإن شاء أخذ الدية من غير توقف على رضا القاتل‪ .‬ويعتبر التعزير بدلً‬
‫عن الدية‪ .‬ودليلهم قوله تعالى‪{ :‬فمن عفي له من أخيه شيء‪ ،‬فاتباع بالمعروف‪ ،‬وأداء إليه بإحسان}‬
‫[البقرة‪ ]178/2:‬ومعناه فليتتبع القاتل‪ ،‬وليؤد القاتل الدية‪ ،‬فال أوجب التباع بمجرد العفو‪ ،‬ولو أوجب‬
‫العمد القصاص عينا‪ ،‬لم تجب الدية عند العفو المطلق‪ .‬ثم إن الدية أحد بدلي النفس‪ ،‬فكانت بدلً عنها‪،‬‬
‫ل عن بدلها كالقصاص‪ .‬وأما حديث «من قتل عمدا فهو قود» فالمراد به وجوب القود‪ .‬ويخالف القتل‬
‫سائر المتلفات؛ لن بدلها ل يختلف بالقصد وعدمه‪ ،‬والقتل بخلفه‪.‬‬
‫وأضاف الحنابلة أدلة أخرى‪ ،‬منها قول ابن عباس‪ :‬كان في بني إسرائيل القصاص‪ ،‬ولم يكن فيهم‬
‫الدية‪ ،‬فأنزل ال تعالى هذه الية‪{ :‬كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة‪ )5( ]178/2:‬وعن أبي‬
‫هريرة مرفوعا‪« :‬من قتل له قتيل‪ ،‬فهو بخير النظرين‪ :‬إما أن يُودِي (‪ ، )6‬وإما أن يقاد» (‪. )7‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،241/7 :‬الدر المختار‪ ،376/5 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،239/4 :‬بداية المجتهد‪،394/2 :‬‬
‫مغني المحتاج‪ ،48/4 :‬المهذب‪ ،188/2 :‬المغني‪ ،752/7 :‬كشاف القناع‪.633/5 :‬‬
‫(‪ )2‬موجب العمد‪ ،‬أي مقتضاه في العتداء على نفس أو غيرها‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح‪.‬‬
‫(‪ )4‬كشاف القناع‪.633/5 :‬‬
‫(‪ )5‬رواه البخاري‪.‬‬
‫(‪ )6‬وديت القتيل‪ :‬إذا أعطيت ديته‪ .‬واتديته‪ :‬أخذت ديته‪.‬‬
‫(‪ )7‬رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة‪.‬‬

‫( ‪)7/591‬‬
‫ويترتب على هذا الرأي‪ :‬أن الولي لو عفا عن القصاص مطلقا‪ ،‬أو إلى الدية بدلً عنه‪ ،‬وجبت الدية؛‬
‫لن الواجب غير معين‪ ،‬فإذا ترك أحدهما وجب الخر‪ ،‬وإن اختار الدية سقط القصاص‪ ،‬وإن اختار‬
‫القصاص تعين‪ .‬وفي هذه الحالة الخيرة‪ :‬هل له بعدئذ العفو على الدية؟ قال القاضي أبو يعلى‬
‫الحنبلي‪ :‬له ذلك؛ لن القصاص أعلى‪ ،‬فكان له النتقال إلى الدنى‪ ،‬ويكون بدلً عن القصاص‪.‬‬
‫ويحتمل أنه ليس له ذلك؛ لنه أسقط الدية باختياره القود‪ ،‬فلم يعد إليها‪.‬‬
‫سابعا ـ صاحب الحق في القصاص ‪:‬‬
‫صاحب الحق في القصاص أو مستوفيه أو ولي الدم‪ :‬هو عند الحنفية والحنابلة‪ ،‬والصحيح عند‬
‫الشافعية (‪ : )1‬كل وارث يرث المال‪ ،‬سواء أكان من ذوي الفروض أم العصبة‪ ،‬أي جميع الورثة‬
‫نساءً ورجالً‪ ،‬أزواجا وزوجات‪.‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )2‬مستحق القصاص هو العاصب الذكر‪ ،‬أي جميع العصبة بالنفس‪ ،‬يقدم القرب‬
‫فالقرب من العصبة في إرثه إل الجد والخوة‪ ،‬فهم في درجة متساوية في القصاص والعفو‪ ،‬فل دخل‬
‫في القصاص للبنات والخوات والزوجات والزوج؛ لن القصاص لرفع العار‪ ،‬فاختص بالعصبات‬
‫كولية الزواج‪.‬‬
‫وقد تكون المرأة مستحقة القصاص عند المالكية بشروط ثلثة وهي‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن تكون وارثة المقتول كبنت أو أخت‪ ،‬فخرج العمة والخالة ونحوهما من ذوي الرحام‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 242/7 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ ،383/5 :‬حاشية الشلبي علي الزيلعي‪ ،114/6 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ 39/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ 183/2 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ ،743 ،739/7 :‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪ 621/5‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪ ،256/4 :‬بداية المجتهد‪ ،395/2 :‬الشرح الصغير‪.358/4 :‬‬

‫( ‪)7/592‬‬

‫‪ - 2‬أل يساويها عاصب في الدرجة وفي القوة معا‪ :‬بأن لم يوجد أصلً‪ ،‬أو وجد عاصب أنزل منها‬
‫درجة‪ ،‬كعم مع بنت أو أخت‪ .‬فتخرج البنت مع البن‪ ،‬والخت مع الخ‪ ،‬فل كلم لها معه في عفو‬
‫ول قود‪،‬أي ليس لها حينئذ طلب القصاص‪ ،‬لتساويهما في الدرجة والقوة معا‪ ،‬بخلف الخت الشقيقة‬
‫مع الخ لب‪ ،‬لها الكلم معه؛ لنه وإن ساواها في الدرجة هو أنزل منها في القوة‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن تكون عصبة فيما لو فرض كونها ذكرا‪ ،‬فل كلم للخت لم‪ ،‬والزوجة‪ ،‬والجدة لم (‪. )1‬‬
‫وللم المطالبة باستيفاء القصاص‪ ،‬لنها لو ذكّرت‪ ،‬كانت أبا؛ لنها والدة‪ ،‬لكن ل لكلم لها مع وجود‬
‫الب‪ ،‬لمساواة العاصب لها‪.‬‬
‫وإذا تعدد الورثة‪ ،‬هل يثبت حق القصاص لكل وارث على سبيل الستقلل‪ ،‬أو على سبيل الشركة؟‬
‫رأيان‪:‬‬
‫الرأي الول ـ لبي حنيفة ومالك (‪ : )2‬وهو أن القصاص يثبت لكل وارث على سبيل الستقلل‬
‫والكمال؛ لنه حق مبتدأ لهم بوفاة القتيل؛ لن المقصود من القصاص في القتلى هو التشفي‪ ،‬والميت ل‬
‫يتشفى‪ ،‬فيثبت للورثة ابتداء‪ .‬ثم إن حق القصاص ل يتجزأ‪ ،‬وما ل يتجزأ من الحقوق إذا ثبت‬
‫لجماعة‪ ،‬يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال‪ ،‬كأنه ليس معه غيره‪ ،‬كولية التزويج وولية المان‪.‬‬
‫الرأي الثاني ـ للشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب‪ ،‬والصاحبين (‪ : )3‬وهو أن حق القصاص يثبت‬
‫لكل وارث على سبيل الشركة؛ لن الحق في القصاص أصلً‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير‪ ،258/4 :‬الشرح الصغير‪ 360/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ :‬المرجع السابق والمكان السابق‪ ،‬الدردير‪ ،257/4 :‬الشرح الصغير للدردير‪.360/4 :‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،40/4 :‬المهذب‪ ،188/2 :‬المغني‪ ،739/7 :‬كشاف القناع‪ ،621/5 :‬البدائع‪:‬‬
‫‪.242/7‬‬

‫( ‪)7/593‬‬

‫هو للمقتول‪ ،‬وبما أنه عجز بالموت عن استيفاء حقه بنفسه‪ ،‬فيقوم الورثة مقامه بالرث عنه‪ ،‬ويكون‬
‫مشتركا بينهم‪ ،‬كما يشتركون في إرث المال‪.‬‬
‫ويتفرع عن هذا الختلف على رأيين‪ :‬أنه إذا تعدد الولياء‪ ،‬هل ينتظر لستيفاء القصاص بلوغ أحد‬
‫الولياء إذا كان صغيرا‪ ،‬أو عودته إذا كان غائبا‪ ،‬أو إفاقته من جنونه إذا كان مجنونا؟‬
‫فعلى الرأي الول‪ :‬ل ينتظر بلوغ الصغير‪ ،‬ول إفاقة المجنون‪ ،‬ويكون الحق في الستيفاء للكبير‪،‬‬
‫والعاقل‪ ،‬وأما الغائب فينتظر لحتمال عفوه‪.‬‬
‫وأما على الرأي الثاني‪ :‬فينتظر بلوغ الصبي‪ ،‬وكمال المجنون بإفاقته‪،‬وقدوم الغائب‪ ،‬ول يجوز حينئذ‬
‫للكبير أو للحاضر الستقلل باستيفاء القصاص‪ .‬وفي هذه الحالة يحبس القاتل حتى يحضر الغائب‪،‬‬
‫ويكمل الصبي والمجنون‪ ،‬ول يخلى بكفيل‪.‬‬
‫وإذا لم يكن للمقتول وارث غير جماعة المسلمين‪ ،‬كان المر باتفاق الفقهاء إلى السلطان‪ ،‬عملً‬
‫بالقاعدة الشرعية‪« :‬السلطان ولي من ل ولي له» (‪ )1‬فإن رأ ى السلطان القصاص اقتص‪ ،‬وإن رأى‬
‫العفو على مال عفا؛ لن الحق للمسلمين‪ ،‬فوجب على المام أن يفعل ما يراه من المصلحة؛ لن‬
‫«تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة» فإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز؛ لنه‬
‫تصرف ل مصلحة فيه للمسلمين‪ ،‬فلم يملكه (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬هذا نص حديث نبوي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي ال عنها‪ ،‬وحسنه‬
‫الترمذي‪ ،‬ورواه أحمد وصححه الحاكم وابن حبان‪.‬‬
‫(‪ )2‬المهذب‪ ،188/2 :‬البدائع‪ ،245/7 :‬المغني‪.754/7 :‬‬

‫( ‪)7/594‬‬

‫ثامنا ـ ولية استيفاء القصاص ‪:‬‬


‫الكلم فيمن يلي استيفاء القصاص يحتاج لتفصيل بحسب ما إذا كان المستحق منفردا أو متعددا‪.‬‬
‫‪ - 1‬إذا كان مستحق القصاص منفرداً فإما أن يكون كبيرا أو صغيرا‪:‬‬
‫أ ـ فإن كان كبيرا فله استيفاء القصاص؛ لقوله تعالى‪{ :‬ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا‪ ،‬فل‬
‫يسرف في القتل‪ ،‬إنه كان منصورا} [السراء‪.]33/17:‬‬
‫ب ـ وإن كان صغيرا أو مجنونا‪ ،‬ففي انتظار كماله عند مشايخ الحنفية رأيان (‪ : )1‬قال بعضهم‪:‬‬
‫ينتظر بلوغه أو كماله‪ .‬وقال آخرون‪ :‬يستوفيه القاضي نيابة عنه‪.‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )2‬ل ينتظر البلوغ أو الفاقة‪ ،‬ولولي الصغير أو المجنون أو وصيهما النظر‬
‫بالمصلحة في استيفاء القصاص‪ ،‬وفي أخذ الدية كاملة‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )3‬ينتظر بلوغ الصغير وإفاقة المجنون؛ لن القصاص للتشفي‪ ،‬فحقه‬
‫التفويض إلى اختيار المستحق‪ ،‬فل يحصل المقصود باستيفاء غيره من ولي أو حاكم أو بقية الورثة‪.‬‬
‫‪ - 2‬إذا تعدد مستحقو القصاص‪ :‬فإما أن يكون الكل كبارا أو فيهم صغير‪.‬‬
‫أ ـ فإن كان الجميع كبارا حاضرين‪ ،‬فلكل واحد منهم ولية استيفاء القصاص‪ ،‬حتى لو قتله أحدهم‬
‫صار القصاص مستوفى للجميع؛ لن القصاص إن كان حق الميت (كما يرى الصاحبان وموافقوهما)‬
‫فكل واحد من الورثة خصم في استيفاء حق الميت‪ ،‬كما هو الحال في استيفاء المال‪.‬‬
‫وإن كان القصاص حق الورثة ابتدا ًء واستقللً (كما يرى أبو حنيفة ومالك) فكل واحد من الورثة‬
‫يملك حق القصاص على سبيل الكمال‪.‬‬
‫لكن يشترط عند الحنفية حضور جميع المستحقين عند استيفاء القصاص‪ ،‬لحتمال العفو من الغائب‪.‬‬
‫فإن بادر أحد المستحقين بقتل الجاني‪ ،‬صار القصاص عند الحنفية مستوفى للجميع؛ لن القصاص‬
‫واجب عينا‪ ،‬وليس لباقي الورثة شيء من المال‪ ،‬وإنما يعزر المقتص لفتئاته على إمام المسلمين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.243/7 :‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪.258/4 :‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،40/4 :‬المغني‪.739/7 :‬‬

‫( ‪)7/595‬‬

‫وقال الحنابلة‪ ،‬والظهر عند الشافعية (‪ : )1‬إنه ل قصاص في هذه الحالة على من بادر فقتل الجاني‪،‬‬
‫ولكن للباقين من المستحقين نصيبهم من الدية من تركة الجاني‪ ،‬لسقوط حقهم بغير اختيارهم‪ ،‬وكون‬
‫ذلك من تركة الجاني ل من المبادر على الرجح؛ لن المبادر فيما وراء حقه كالشخص الجنبي‪ ،‬ولو‬
‫بادر أجنبي فقتل الجاني‪ ،‬أخذ الورثة الدية من تركة الجاني ل من الجنبي‪.‬‬
‫ب ـ وأما إذا كان مستحقو القصاص كبارا وصغارا‪ ،‬أو فيهم مجنون أو بعضهم غائب‪ .‬فللكبار‬
‫استيفاء القصاص عند أبي حنيفة ومالك (‪ ، )2‬ول ينتظر بلوغ الصغير‪ ،‬ول إفاقة المجنون (‪ )3‬؛‬
‫لثبوت حق القصاص للورثة ابتداء على سبيل الكمال والستقلل‪ ،‬ولن القصاص حق ل يتجزأ‪،‬‬
‫لثبوته بسبب ل يتجزأ‪ ،‬وهو القرابة‪ .‬ويؤيده اقتصاص الحسن لبيه علي من ابن ملجم‪ ،‬وكان في‬
‫ورثة علي كرم ال وجهه صغار‪.‬‬
‫وأما الغائب فينتظر عودته لحتمال عفوه حال غيبته‪ ،‬فتقع الشبهة‪ ،‬ول قصاص مع الشبهة‪ ،‬بعكس‬
‫الصغير؛ لن العفو من الصغير ميئوس منه حال استيفاء القصاص؛ لنه ليس من أهل العفو‪ .‬وانتظار‬
‫الغائب عند المالكية هو في حال الغيبة القريبة‪ ،‬بحيث تصل إلىه الخبار إن أراد الحاضر القصاص‪.‬‬
‫أما في حال الغيبة البعيدة بحيث يتعذر وصول الخبر إليه كأسير ومفقود فل ينتظر‪.‬‬
‫وللب والجد عند الحنفية والمالكية استيفاء القصاص عن الصغير‪ ،‬وأضاف المالكية دون الحنفية تلك‬
‫الولية للوصي أيضا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،41/4 :‬المغني‪.741/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ 243/7 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ ،383/5 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،257/4 :‬تكملة فتح‬
‫القدير‪.265/8 :‬‬
‫(‪ )3‬هذا عند المالكية إذاكان الجنون مطبقا مستمرا‪ ،‬أما من يفيق أحيانا فتنتظر إقامته‪ ،‬كما ينتظر‬
‫المغمى عليه‪.‬‬

‫( ‪)7/596‬‬

‫وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة (‪ : )1‬ليس لبعض أولياء القتيل استيفاء القصاص إل بإذن الباقين‪،‬‬
‫فإن كان فيهم صغير ينتظر بلوغه‪ ،‬أو مجنون تنتظر إفاقته‪ ،‬أو غائب ينتظر قدومه؛ لن القصاص‬
‫حق مشترك بينهم‪ ،‬ول يملك أحدهم إبطال حق غيره‪ ،‬فيؤخر إلى وقت كمال القاصر‪ ،‬كما يؤخذ لعودة‬
‫الغائب‪.‬‬
‫وليس للولي أبا أو جدا‪ ،‬ول للوصي ول للحاكم استيفاء القصاص للصغير أو المجنون؛ لن القصد من‬
‫القصاص هو التشفي‪ ،‬وترك الغيظ‪ ،‬وليحصل المقصود باستيفاء الب أو غيره‪ ،‬بخلف الدية‪ ،‬فإن‬
‫الغرض يحصل باستيفائه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تكملة فتح القدير‪ ،265/8 :‬مغني المحتاج‪ ،40/4 :‬المغني‪ 740/7 :‬وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪.621/5‬‬

‫( ‪)7/597‬‬

‫تاسعا ـ كيفية استيفاء القصاص (أداة القصاص ) ‪:‬‬


‫هناك رأيان في الفقه في كيفية القصاص‪.‬‬
‫‪ - 1‬قال الحنفية‪ ،‬والصح عن الحنابلة (‪ : )1‬ل يكون القصاص في النفس إل بالسيف (‪ ، )2‬سواء‬
‫أكان ارتكاب جريمة القتل بالسيف ونحوه‪ ،‬أم بمحرم لذاته كسحر وتجريع خمر ولواط‪ ،‬أم بمثقل‬
‫كحجر وعصا‪ ،‬أم بتغريق أم تحريق أم هدم حائط عليه‪ ،‬أم حبس أم خنق أم قطع عضو ثم ضرب‬
‫عنقه‪ ،‬أم جنى عليه جناية غير ما ذكر فمات‪ ،‬وتوافرت شروط القصاص بحسب كل مذهب‪ ،‬على ما‬
‫بان‪ ،‬فمن له قود قاد بالسيف‪ ،‬ول يفعل بالمقتص منه كما فعل إذا كان القتل بغير السيف لنه مُثْلة‪،‬‬
‫وقد نهي عن المثلة‪ ،‬ولن فيه زيادة تعذيب‪ ،‬لكن لو قام ولي الدم بإلقاء الجاني في بئر‪ ،‬أو قتله‬
‫بحجر‪ ،‬أو بنوع آخر عزر‪ ،‬وكان مستوفيا حقه في القصاص‪.‬‬
‫واستدلوا بقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ل قَود إل بالسيف» (‪. )3‬‬
‫‪ - 2‬وقال المالكية والشافعية (‪ : )4‬يقتل القاتل بالقِتْلة التي قتل بها ‪ ،‬أي بمثل الفعل الذي فعله بالقتيل‪،‬‬
‫من ضربه بمحدد كحديد أو سيف‪ ،‬أو بمثقل كحجر‪ ،‬أو رمي من شاهق‪ ،‬أو خنق أو تجويع أو تغريق‬
‫أو تحريق أو غيرها‪ .‬لكن إن عدل الولي عن هذه الوسائل إلى السيف‪ ،‬جاز بل هو أولى للخروج من‬
‫الخلف‪.‬‬
‫ويتعين السيف عند هؤلء إذا كان القتل بسحر أو خمر‪ ،‬أو لواط؛ لن هذا محرم لعينه‪ ،‬فوجب العدول‬
‫عنه إلى القتل بالسيف‪.‬‬
‫كما يتعين السيف أيضا عند المالكية إذا طال تعذيب الجاني بمثل فعله‪ ،‬أو ثبت القصاص بالقسامة‪،‬‬
‫واختلف المالكية على رأيين في القتل بالنار والسم إذا كان القاتل قتل بهما‪ ،‬فقيل‪ :‬يقتل بالسيف‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫يقتل بما قتل به‪ ،‬وهذا هو مشهور مذهب المالكية‪.‬‬
‫واستدلوا على مذهبهم بالقرآن والسنة والمعقول‪:‬‬
‫أما من القرآن فآيات مثل قوله تعالى‪{ :‬وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل‪ ]126/16:‬وقوله‬
‫سبحانه‪{ :‬فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة‪{ ]194/2:‬وجزاء سيئةٍ سيئةٌ‬
‫مثلها} [الشورى‪.]40/42:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،245/7 :‬الدر المختار‪ ،382/5 :‬حاشية الشلبي على تبيين الحقائق‪ ،98/6 :‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪ ،628/5‬المغني‪.688 ،685/7 :‬‬
‫(‪ )2‬قال الحنفية‪ :‬المراد بالسيف‪ :‬السلح‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه والبزار في مسنده‪ ،‬وقال‪ :‬ل نعلم أحدا أسنده بأحسن من هذا السناد‪ ،‬ورواه ابن‬
‫ماجه والبيهقي والدارقطني عن النعمان بن بشير من غير طريق ‪ ،‬وقال أحمد‪ :‬ليس إسناده بجيد‪.‬‬
‫(‪ )4‬بداية المجتهد‪ 396/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الشرح الكبير للدردير‪ ،265/4 :‬مغني المحتاج‪،44/4 :‬‬
‫المهذب‪ ،186/2 :‬القوانين الفقهية لبن جزي‪ :‬ص ‪ ،345‬الشرح الصغير‪ 369/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/598‬‬

‫ومن السنة‪ :‬قوله عليه الصلة والسلم‪« :‬من حرّق حرقناه‪ ،‬ومن غرّق غرّقناه» (‪ )1‬وثبت أن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪ « :‬رضّ رأس يهودي بين حجرين‪ ،‬كان قد قتل بهما جارية من النصار (‪» )2‬‬
‫‪.‬‬
‫ومن المعقول‪ :‬أن القصاص معناه المماثلة في الفعل‪ ،‬فوجب أن يستوفى من الجاني مثل ما فعل‪ ،‬ثم‬
‫إن المقصود من القصاص هو التشفي‪ ،‬ول يكمل المطلوب إل إذا قتل القاتل بمثل ما قتل‪ .‬وأما حديث‬
‫النهي عن المثلة فمحمول على من وجب قتله‪ ،‬ل على وجه المكافأة‪.‬‬
‫تنفيذ القصاص بواسطة ولي القتيل ‪:‬‬
‫استيفاء القصاص بالسيف ونحوه قد يكون بالجلد المتخصص إذا رغب عنه مستوفي القصاص‪ ،‬وقد‬
‫يكون بنفس مستحق القصاص‪ ،‬فيمكّن من السيف‪ ،‬ولكن بإشراف الحاكم؛ لن المبدأ الشرعي المتفق‬
‫عليه أن تنفيذ عقوبات الحدود والقصاص والتعزيرات يكون من اختصاص المام‪ ،‬فيشترط وجوده‬
‫عند استيفاء العقوبة (‪ . )3‬وتعتبر مشاركة ولي الدم في القصاص سبيلً لطفاء لوعته وإزالة حقده‪،‬‬
‫فتهدأ نفسه‪ ،‬ويوصد الباب أما م أسرته‪ ،‬كيل تبادر إلى القتتال مع أسرة القاتل‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬ومن‬
‫قُتِل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فل يسرف في القتل‪ ،‬إنه كان منصورا} [السراء‪.]33/17:‬‬
‫وإذا سلّم القاتل لولي الدم لجل استيفاء القصاص منه‪ ،‬وجب على الحاكم أن ينهاه عن العبث بالجاني‪،‬‬
‫فل يشدد عليه بحبس أو تخشيب أو تكتيف قبل القصاص ول يمثل به بعد القصاص (‪. )4‬‬
‫وعليه‪ ،‬يشترط لستيفاء ولي المقتول القصاص بنفسه شرطان‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يكون ذلك بإذن المام‪ ،‬وإل عزر‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن يكون القصاص في قتل النفس‪ ،‬ل في الطراف والعضاء‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البيهقي في السنن من حديث البراء بن عازب‪ .‬لكن في إسناده من يجهل حاله كبشر‬
‫وغيره‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع البدائع‪ ،96/7 :‬الدر المختار‪ 389/5 :‬وما بعدها‪ ،‬حجة ال البالغة‪ ،132/2 :‬الشرح الكبير‬
‫للدردير‪ ،354/4 :‬مغني المحتاج‪ ،31/4 ،277/2 :‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،14‬المهذب‪:‬‬
‫‪ ،184/2‬كشاف القناع‪ ،626/5 :‬المغني‪.690/7 :‬‬
‫(‪ )4‬الشرح الكبير للدردير‪.259/4 :‬‬

‫( ‪)7/599‬‬

‫استعمال وسيلة قصاص غير السيف ‪:‬‬


‫بما أن القصد من استعمال السيف كونه أسرع أداة في القتل‪ ،‬وأيسر وسيلة لتفادي اللم والعذاب‪ ،‬فل‬
‫مانع شرعا من استعمال أداة أخرى أسرع من السيف‪،‬‬
‫وأقل إيلما‪ ،‬وأبعد عن المُثْلة‪ ،‬مثل ال ِمقْصلة التي هي من قبيل السلح المحدد‪ ،‬والكرسي الكهربائي‬
‫التي تسرع في الصعق (‪ ، )1‬والشنق لعدم إسالة الدم فيه‪ ،‬والعتماد على إيقاف القلب به‪ ،‬والعدام‬
‫بغاز معين شبيه بالمخدر‪.‬‬
‫عاشرا ـ مسقطات القصاص ‪:‬‬
‫يسقط القصاص بأحد أربعة أسباب هي ما يأتي‪ :‬موت الجاني‪ ،‬العفو‪ ،‬الصلح‪ ،‬إرث القصاص (‪. )2‬‬
‫‪ - 1‬موت الجاني (فوات محل القصاص ) ‪ :‬إذا مات من عليه القصاص‪ ،‬أو قتل ظلما بغير حق‪ ،‬أو‬
‫بحق بالردة أو القصاص‪ ،‬سقط القصاص؛ لن محله هو نفس القاتل‪ ،‬ول يتصور بقاء الشيء في غير‬
‫محله‪.‬‬
‫وفي هذه الحالة‪ ،‬هل تجب الدية في مال الجاني أو ل؟‬
‫قال الحنفية والمالكية (‪ : )3‬إذا سقط القصاص بالموت ل تجب الدية في مال القاتل؛ لن القصاص‬
‫واجب عينا‪ ،‬فإذا مات سقط الواجب‪ .‬وليس للولي أخذ الدية إل برضا القاتل‪ .‬ول تجب الدية إل برضا‬
‫القاتل واختياره‪.‬‬
‫وقال الحنابلة (‪ : )4‬إذا سقط القصاص بالموت‪ ،‬بقي الخيار للولي في أخذ الدية؛ لن الواجب بقتل‬
‫العمد أحد شيئين‪ :‬القود أو الدية‪ ،‬فإن اختار أخذ الدية‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬التشريع الجنائي السلمي‪ 154/2 :‬نقلً عن لجنة الفتوى بالرهر‪ ،‬المدخل الفقهي للستاذ‬
‫الزرقا‪ :‬ف‪ )2( .328/‬البدائع‪ 246/7 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ ،394/5 :‬الشرح الكبير‪262/4 :‬‬
‫ومابعدها‪ ،‬الشرح الصغير‪ 366/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬الشرح الكبير للدردير‪.239/4 :‬‬
‫(‪ )4‬كشاف القناع‪.633/5 :‬‬

‫( ‪)7/600‬‬

‫وجبت ولو لم يرض الجاني‪ .‬وبالرغم من أن الراجح في المذهب الشافعي وهو أن القصاص واجب‬
‫عينا‪ ،‬إل أن الشافعية قالوا‪ :‬الدية بدل عن القصاص عند سقوطه بعفو أو غيره كموت الجاني‪ ،‬فيثبت‬
‫حق المجني عليه في الدية؛ لن ما ضمن بسببين على سبيل البدل‪ ،‬إذا تعذر أحدهما ثبت الخر‪،‬‬
‫كذوات المثال (‪ . )1‬وتلزم الدية حال العفو عن القصاص على الدية باختيار ولي المجني عليه‪ ،‬ل‬
‫برضا الجاني‪ .‬وبه يظهر أن الشافعية والحنابلة يقررون بقاء الدية في التركة بموت القاتل‪.‬‬
‫‪ - 2‬العفو‪ :‬الكلم فيه يتناول مشروعيته‪ ،‬وركنه‪ ،‬ومعناه وشروطه‪ ،‬وأحكامه‪.‬‬
‫مشروعيته‪ :‬يجوز العفو عن القصاص‪ ،‬وهو أفضل من استيفاء القصاص (‪ ، )2‬بدليل قوله تعالى‪{ :‬يا‬
‫أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ‪ :‬الحر بالحر‪ ،‬والعبد بالعبد‪ ،‬والنثى بالنثى‪ ،‬فمن‬
‫عُفي له من أخيه شيء‪ ،‬فاتّباع بالمعروف‪ ،‬وأداء إليه بإحسان‪ ،‬ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة‪:‬‬
‫‪ ]178/2‬وقال سبحانه‪{ :‬والجروحَ قصاص‪ ،‬فمن تصدّق به فهو كفارة له} [المائدة‪ ]45/5:‬وقال تعالى‬
‫في مناسبة إسقاط الحق في شيء من المهر قبل الدخول‪{ :‬وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة‪.]237/2:‬‬
‫ومن السنة قول أنس‪« :‬ما رفع إلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم أمر فيه القصاص إل أمر فيه‬
‫بالعفو» (‪ . )3‬وعن أبي الدرداء قال‪ :‬سمعت رسول ال صلّى ال عليه وسلم يقول‪« :‬ما من رجل‬
‫يصاب بشيء في جسده‪ ،‬فيتصدق به إل رفعه ال درجة‪ ،‬وحط به عنه خطيئة» (‪)4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،48/4 :‬نهاية المحتاج‪ ،48/7 :‬المهذب‪.188/2 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ ،742/7 :‬كشاف القناع‪.633/5 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد وأصحاب السنن إل الترمذي‪ ،‬وإسناده لبأس به‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه ابن ماجه والترمذي‪ ،‬وقال عنه‪ :‬هذا حديث غريب ل نعرفه إل من هذا الوجه‪.‬‬

‫( ‪)7/601‬‬

‫وعن أبي هريرة أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬ما عفا رجل عن مظلمة إل زاده ال بها عزا»‬
‫( ‪. )1‬‬
‫وجعل القصاص قابلً للسقوط بالعفو مزية فريدة للتشريع السلمي‪ ،‬إذ به يقلص من حالت تنفيذ هذه‬
‫العقوبة الخطيرة‪ ،‬ويتحقق الغرض منها بحفظ حق الحياة‪ ،‬ومنع الثأر‪ ،‬ورفع الحقاد والضغائن من‬
‫النفوس‪.‬‬
‫وركن العفو‪ :‬أن يقول العافي‪ :‬عفوت أو أسقطت أو أبرأت أو وهبت ونحوها (‪. )2‬‬
‫ومعنى العفو عند الحنفية والمالكية (‪ : )3‬هو إسقاط القصاص مجانا‪ .‬أما التنازل عن القصاص مقابل‬
‫الدية فهو صلح‪ ،‬ل عفو؛ لن تنازل الولي ل ينفذ إل إذا قبل الجاني دفع الدية‪ ،‬فل تثبت الدية عندهم‬
‫إل بتراضي الفريقين أي الولي والقاتل‪ .‬وليس للولي إل أن يقتص أو يعفو عن غير ديته‪ ،‬إل أن‬
‫يرضى القاتل بإعطاء الدية‪.‬‬
‫والعفو عند الشافعية والحنابلة (‪ : )4‬هو التنازل عن القصاص مجانا‪ ،‬أو إلى الدية‪ ،‬وولي الدم‬
‫بالخيار‪ :‬إن شاء اقتص‪ ،‬وإن شاء أخذ الدية‪ ،‬رضي القاتل أم لم يرض‪ ،‬عملً بحديث أبي هريرة‪:‬‬
‫«من قتل له قتيل فهو بخير النظرين‪ ،‬بين أن يأخذ الدية‪ ،‬وبين أن يعفو» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪.246/7 :‬‬
‫(‪ )3‬تبيين الحقائق‪ 107/6 :‬وما بعدها‪ ،113 ،‬البدائع‪ ،247/7 :‬بداية المجتهد‪ ،394/2 :‬الشرح‬
‫الصغير‪ ،368/4 :‬الشرح الكبير‪ 262/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪ ،49/4 :‬كشاف القناع‪.633/5 :‬‬

‫( ‪)7/602‬‬

‫شروط العفو‪ :‬يشترط شرطان في العفو (‪: )1‬‬


‫‪ - 1‬أن يكون العافي بالغا عاقلً‪ ،‬فل يصح عفو الصبي والمجنون؛ لنه تصرف ضار بهما ضررا‬
‫محضا‪ ،‬فل يملكانه‪ ،‬كالطلق‪ ،‬والهبة‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن يصدر العفو من صاحب الحق فيه؛ لن العفو إسقاط الحق‪ ،‬وإسقاط الحق ل يقبل ممن ل حق‬
‫له‪.‬‬
‫وصاحب الحق في العفو‪ :‬هو الورثة رجالً ونساء عند الجمهور‪ ،‬والعاصب الذكر عند المالكية‪.‬‬
‫ومن ل حق له في العفو‪ :‬هو الجنبي غير الوارث عند الجمهور‪ ،‬وغير العاصب عند المالكية‪ ،‬وكذا‬
‫الب والجد في قصاص وجب للصغير عند المالكية والحنفية؛ لن الصغير هو صاحب الحق‪ ،‬ولبيه‬
‫وجده ولية الستيفاء فقط‪ ،‬كما أن العفو ضرر محض‪ ،‬فل يملكه أحد سوى الصغير بعد البلوغ‪ ،‬حتى‬
‫الحاكم ل يملكه‪ ،‬والسبب فيه أن العفو معناه التنازل مجانا‪ .‬وأجاز الشافعية والحنابلة للب والجد‬
‫والحاكم العفو على مال‪.‬‬
‫أحكام العفو ‪:‬‬
‫للعفو أحكام‪ ،‬منها ما يأتي‪:‬‬
‫‪ )ً 1‬ـ أثر العفو في إسقاط القصاص والدية‪ :‬يترتب على العفو عن القاتل عند الحنفية والمالكية (‪)2‬‬
‫إسقاط القصاص مجانا‪ .‬وليس للعافي حينئذ الحق في أخذ الدية إل من طريق الصلح‪ ،‬أي التفاق مع‬
‫الجاني لدفع الدية برضاه؛ لن موجب العمد عندهم هو القود عينا‪ .‬ولكن وجوب القود ل ينافي أن‬
‫للولي العفو مجانا‪ ،‬أوأخذ الدية برضا الجاني‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،246/7 :‬بداية المجتهد‪ ،395/2 :‬الشرح الكبير‪ 258/4 :‬ومابعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،48/4‬كشاف القناع‪ ،634/5 :‬المغني‪.743/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،247/7 :‬الشرح الكبير للدردير‪ 239/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/603‬‬

‫وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )1‬للولي الحق المطلق في العفو‪ ،‬فإن عفا عن القصاص سقط‪ ،‬وإن عفا‬
‫على الدية‪ ،‬وجبت على الجاني ولو بغير رضاه‪ ،‬لما روى البيهقي عن مجاهد وغيره‪« :‬كان في شرع‬
‫موسى عليه السلم تحتم القصاص جزما‪ ،‬وفي شرع عيسى عليه السلم الدية فقط‪ ،‬فخفف ال تعالى‬
‫عن هذه المة وخيرها بين المرين» لما في اللزام بأحدهما من المشقة‪ ،‬ولن الجاني محكوم عليه‬
‫فل يعتبر رضاه‪.‬‬
‫وإذا أطلق الولي العفو أو بعبارة أخرى‪ ،‬إذا صدر العفو من الولي مطلقا عن القود‪ ،‬ولم يتعرض للدية‬
‫بنفي ول إثبات‪ ،‬فالمذهب عند الشافعية‪ :‬أنه ل دية؛ لن القتل يوجب القود عينا على الراجح عندهم‪،‬‬
‫ولم يوجب الدية‪ ،‬والعفو إسقاط شيء ثابت‪ ،‬ل إثبات أمر معدوم‪ .‬وكذلك قال المالكية‪ :‬ل دية لعاف‬
‫مطلق في عفوه إل أن تظهر بقرائن الحوال إرادتها‪ ،‬فيحلف على مراده (‪. )2‬‬
‫وتجب الدية عند الحنابلة في هذه الحالة‪ ،‬لنصراف العفو إلى القود؛ لنه في مقابلة النتقام‪ ،‬والنتقام‬
‫إنما يكون بالقتل‪ ،‬ولقوله تعالى‪{ :‬فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف‪ ،‬وأداء إليه بإحسان}‬
‫[البقرة‪ ]178/2:‬أي اتباع المال‪ ،‬وذلك يشعر بوجوبه بالعفو (‪. )3‬‬
‫‪ )ً 2‬ـ أثر العفو على حق الغير إذا تعدد الولياء أو كان الولي واحدا ‪:‬‬
‫إذا عفا ولي الدم‪ ،‬وكان واحدا‪ ،‬ترتب عليه أثره‪ :‬فإن كان العفو مطلقا ترتب عليه عصمة دم القاتل‪،‬‬
‫فلو رجع عن عفوه‪ ،‬وقتل القاتل‪ ،‬اعتبر الولي قاتلً عمدا‪ ،‬لعموم تشريع القصاص وآياته التي لم تفرق‬
‫بين شخص وشخص‪ ،‬وحال وحال‪ ،‬ولن الجاني بالعفو عنه صار معصوم الدم (‪. )1‬‬
‫وإن كان العفو مقيدا بدفع الدية‪ ،‬وجب على الجاني دفع الدية إن تم ذلك برضاه عند الحنفية والمالكية‪،‬‬
‫أو بغير رضاه عند الشافعية والحنابلة‪ ،‬على ما تقدم سابقا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،48/4 :‬كشاف القناع‪ 633/5 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،188/2 :‬المغني‪.743/7 :‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪.240/4 :‬‬
‫(‪ )3‬وهل بالعفو عن القاتل يبرأ القاتل في الدنيا فقط أو أنه يبرأ أيضا فيما بينه وبين ال تعالى؟ قال‬
‫الحنفية‪ :‬يبرأ القاتل بالعفو عن القصاص والدية‪ ،‬ولكن ل يبرأ عن ظلمه‪ ،‬ولو بالتوبة لتعلق حق‬
‫المقتول به‪ ،‬وأثر التوبة هو في إسقاط ظلم القاتل نفسه بإقدامه على المعصية‪ .‬لكن الجمهور قالوا‪:‬‬
‫يبرأ القاتل بالعفو في الدنيا والخرة (رد المحتار‪.)389/5 :‬‬

‫( ‪)7/604‬‬

‫وأما إذا تعدد الولياء‪ ،‬فعفا أحدهم‪ ،‬سقط القصاص عن القاتل؛ لن القصاص ل يتجزأ‪ ،‬وهو شيء‬
‫واحد‪ ،‬فل يتصور استيفاء بعضه دون بعض‪ ،‬ويبقى للخرين حصتهم من الدية‪ .‬بدليل ما روي عن‬
‫جماعة من الصحابة‪ ،‬وهم عمر وابن مسعود وابن عباس‪ :‬أنهم أوجبوا في عفو بعض الولياء الذين‬
‫لم يعفوا نصيبهم من الدية‪ .‬ويأخذ العافي نصيبه من الدية إذا عفا على الدية‪ ،‬ول يأخذ شيئا إذا عفا‬
‫مجانا‪.‬‬
‫لكن سقوط القصاص عند المالكية بعفو أحد المستحقين مقيد بما إذا كان العافي مساويا لدرجة الباقين‬
‫أو أعلى درجة‪ ،‬أوا ستحقاقا‪ .‬فإن كان أنزل درجة أو لم يساو الباقي في الستحقاق كإخوة لم مع‬
‫إخوة لب‪ ،‬لم يعتبر عفوه (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،247/7 :‬الدر المختار‪ ،394/5 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،240/4 :‬الشرح الصغير‪:‬‬
‫‪ 366/4‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،188/2 :‬كشاف القناع‪ ،634/5 :‬المغني‪.745/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬الشرح الكبير للدردير‪ 261/4 :‬وما بعدها‪ ،‬الشرح الصغير‪،364/4 :‬‬
‫المهذب‪ ،189/2 :‬المغني‪ ،744/7 :‬كشاف القناع‪ ،‬المكان السابق‪.‬‬

‫( ‪)7/605‬‬

‫وإذا عفا أحد الولياء‪ ،‬فقتله الخر‪ ،‬فل قصاص عند الحنفية (‪ ، )1‬للشبهة‪ ،‬إذا كان القاتل غير عالم‬
‫بالعفو‪ ،‬أو عالما بالعفو‪ ،‬غيرعالم بحرمة القتل‪ .‬وقال الشافعية والحنابلة وزفر (‪ : )2‬عليه القصاص‬
‫إذا كان عالما بالعفو؛ لنه قتل نفسا بغير حق؛ لن عصمته عادت إليه بالعفو‪.‬‬
‫‪ )3‬ـ هل يبقى حق للسلطان بعد عفو ولي الدم؟ ‪:‬‬
‫إذا عفا ولي القتيل مطلقا عن القاتل عمدا‪ ،‬صح العفو‪ ،‬وبقي عند الحنفية والمالكية حق السلطان في‬
‫عقوبته تعزيرا؛ لن القصاص فيه حقان‪ :‬حق ال (أو حق المجتمع أو الحق العام)‪ ،‬وحق المجني‬
‫عليه‪ .‬وحدد المالكية نوع التعزير فقالوا‪ :‬إذا عفا ولي الدم (‪ )3‬عن القاتل عمدا‪ ،‬يبقى للسلطان حق‬
‫فيه‪ ،‬فيجلده مئة‪ ،‬ويسجنه سنة (‪. )4‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬إذا عفي عن القاتل مطلقا‪ ،‬صح العفو‪ ،‬ولم تلزمه عقوبة أخرى (‪ . )5‬وقال‬
‫الماوردي (‪ : )6‬الظهر أن لولي المر أن يعزر مع العفو عن الحدود؛ لن التقويم من حقوق‬
‫المصلحة العامة‪ .‬وقال أبو يعلى الحنبلي (‪ )7‬في حق‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.248/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،41/4 :‬المهذب‪ ،184/2 :‬شرح المحلي على المنهاج‪:‬‬
‫‪ ،122/4‬المغني‪ ،744/7 :‬كشاف القناع‪.632/5 :‬‬
‫(‪ )3‬أولياء الدم كما عرفنا‪ :‬هم الورثة على ترتيب الرث والحجب حتى الزوجان‪ ،‬في رأي الحنفية‬
‫والشافعية والحنابلة‪ .‬وقال المالكية‪ :‬أولياء الدم‪ :‬هم الذكور العصبة دون البنات والخوات والزوجين‬
‫(انظر القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.)346‬‬
‫(‪ )4‬التلويح على التوضيح‪ ،155/2 :‬بداية المجتهد‪.396/2 :‬‬
‫(‪ )5‬المغني‪.745/7 :‬‬
‫(‪ )6‬الحكام السلطانية له‪ :‬ص ‪.229‬‬
‫(‪ )7‬الحكام السلطانية له‪ :‬ص ‪.266‬‬

‫( ‪)7/606‬‬

‫السلطنة المشروع للتقويم والتهذيب‪ :‬ظاهر كلم أحمد رحمه ال تعالى‪ :‬أنه يسقط؛ لنه لم يفرق‪،‬‬
‫ويحتمل أل يسقط للتهذيب والتقويم (‪. )1‬‬
‫‪ )4‬ـ عفو المقتول عمدا عن دمه قبل موته‪ :‬إذا عفا المقتول عن القاتل قبل موته‪ ،‬فقال الحنفية‬
‫والشافعية والحنابلة (‪ : )2‬يسقط القصاص عن القاتل‪ ،‬ول تجب الدية لورثة المقتول من بعده‪ ،‬أي ل‬
‫قصاص فيه ول دية‪ ،‬وإنما هو هدر‪ ،‬للذن فيه؛ لن المقتول أسقط حقه باختياره‪ ،‬وقال تعالى‪ { :‬فمن‬
‫تصدق به فهو كفارة له} [المائدة‪ ]45/5:‬أي المقتول يتصدق بدمه‪ ،‬في حال إصابته قبل موته‪.‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )3‬لو قال المقتول لقاتله‪ :‬إن قتلتني أبرأتك‪ ،‬أو قال له بعد جرحه قبل إنفاذ مقتله‪:‬‬
‫أبرأتك من دمي‪ ،‬فل يبرأ القاتل‪ ،‬بل للولي القود؛ لنه أسقط حقا قبل وجوبه‪ .‬أما لو أبرأه بعد إنفاذ‬
‫مقتله‪ ،‬أو قال له‪ :‬إن مت فقد أبرأتك‪ ،‬فإنه يبرأ؛ لنه أسقط شيئا بعد وجوبه‪ .‬ويشترط أن يكون هذا‬
‫القول بالبراء بعد إنفاذ مقتله‪.‬‬
‫أما عفو المقتول خطأ عن الدية‪ ،‬فينفذ في المذاهب من ثلث ماله (‪. )4‬‬
‫‪ - 3‬الصلح ‪:‬‬
‫يجوز الصلح على القصاص باتفاق الفقهاء‪ ،‬ويسقط به القصاص‪ ،‬سواء أكان الصلح بأكثر من الدية أم‬
‫بمثلها أم بأقل منها (‪ ، )5‬وسواء أكان حالً أم مؤجلً‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر كتابنا نظرية الضمان‪ :‬ص ‪ ، 311-309‬المسؤولية المدنية والجنائية للشيخ محمود شلتوت‪:‬‬
‫ص ‪ 51‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،249/7 :‬مغني المحتاج‪ ،50/4 :‬المغني‪.750/7 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير للدردير‪ ،240/4 :‬فتح العلي المالك‪.322/1 :‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪.249/7 :‬‬
‫(‪ )5‬يجوز لبي المعتوه الصلح على الدية بالكثر والمساوي‪ ،‬ول يجوز بالقل منها (الدر المختار‪:‬‬
‫‪.)382/5‬‬

‫( ‪)7/607‬‬

‫ومن جنس الدية‪ ،‬ومن خلف جنسها بشرط قبول الجاني؛ لن القصاص ليس مالً (‪ . )1‬أما الصلح‬
‫على الدية فل يجوز بأكثر من الدية‪ ،‬حتى ل يقع المتصالحان في الربا‪.‬‬
‫والصلح يختص بالسقاط بمقابل‪ .‬أما العفو فقد يقع مجانا أو في مقابل مال‪ ،‬لكن إن وقع العفو عن‬
‫القصاص على الدية‪ ،‬اعتبر عند الحنفية والمالكية صلحا ل عفوا‪ ،‬ويسمى أيضا عند الشافعية والحنابلة‬
‫عفوا بمقابل‪.‬‬
‫وقد رغب الشرع في الصلح عموما في قوله تعالى‪{ :‬والصلح خير} [النساء‪ ]128/4:‬وقول النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬الصلح جائز بين المسلمين إل صلحا أحل حراما أو حرم حللً» (‪ . )2‬ودلت‬
‫السنة على مشروعية الصلح في الدماء لسقاط القصاص‪ ،‬بدليل قوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من قَتَل‬
‫عمدا‪ ،‬دفع إلى أولياء المقتول‪ ،‬فإن شاؤوا قتلوا‪ ،‬وإن شاؤوا أخذوا الدية‪ :‬ثلثين حقة‪ ،‬وثلثين جذعة‪،‬‬
‫خلِفة (‪ ، )3‬وما صولحوا عليه فهو لهم» (‪ )4‬وذلك لتشديد حرمة القتل‪.‬‬
‫وأربعين َ‬
‫وحكم الصلح‪ :‬هو حكم العفو‪ ،‬فمن يملك العفو يملك الصلح‪ ،‬وأثر الصلح كأثر العفو في إسقاط‬
‫القصاص‪ ،‬وإذا تعدد الولياء‪ ،‬وصالح أحدهم الجاني على مال‪ ،‬سقط القصاص‪ ،‬وبقي حق الخرين‬
‫في المال‪ .‬وإذا بادر أحد الولياء بقتل الجاني بعد الصلح‪ ،‬فهو قاتل له عمدا‪ ،‬لكنه ل قصاص عليه‬
‫عند الحنفية ما عدا زفر‪ .‬وعليه القصاص عند الشافعية والحنابلة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،394/5 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،263/4 :‬الشرح الصغير للدردير‪ ،368/4 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،49/4 :‬كشاف القناع‪.634/5 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود والحاكم وابن حبان وصححه عن أبي هريرة‪ ،‬ورواه الترمذي وابن ماجه والحاكم‬
‫عن عمرو بن عوف‪.‬‬
‫(‪ )3‬الحقة‪ :‬هي الناقة التي طعنت في السنة الرابعة‪ ،‬والجذعة‪ :‬هي التي طعنت في الخامسة‪ ،‬والخلفة‪:‬‬
‫هي الحامل‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن غريب‪.‬‬

‫( ‪)7/608‬‬

‫واتفق الفقهاء على أن الصلح الصادر من ولي الصغير أو المجنون أو من الحاكم ل يجوز على غير‬
‫مال‪ ،‬ول على أقل من الدية؛ لنه ل يملك إسقاط حقه‪ ،‬ولنه تصرف ل مصلحة فيه للصغير‪ .‬فإن‬
‫وقع الصلح على أقل من الدية صح عند المالكية والحنفية‪ ،‬ووجب باقي الدية في ذمة الجاني‪ ،‬ويرجع‬
‫الصغير عند المالكية بعد رشده على القاتل في حال ملءته (‪، )1‬أي يسره وغناه‪.‬‬
‫‪ - 4‬إرث القصاص ‪:‬‬
‫يسقط القصاص إذا كان ولي الدم هو وارث الحق في القصاص‪ ،‬كما إذا وجب القصاص لنسان‪،‬‬
‫فمات من له القصاص‪ ،‬فورث القاتل القصاص كله‪ ،‬أو بعضه‪ ،‬أو ورثه من ليس له القصاص من‬
‫القاتل وهو البن (‪. )2‬‬
‫فتكون لدينا صورتان لرث القصاص‪:‬‬
‫‪ - 1‬مثال كون القاتل وارث القصاص‪ :‬أن يقتل ولد أباه‪ ،‬وللولد أخ‪ ،‬ثم يموت الخ صاحب الحق في‬
‫القصاص‪ ،‬ول وارث له إل أخوه القاتل‪ ،‬فيصبح القاتل وارث دم نفسه من أخيه‪ ،‬فيسقط القصاص؛‬
‫لن القصاص ل يتجزأ أو ل يتبعض‪ ،‬ول يصح استيفاء القصاص من شخص طالب ومطلوب في آن‬
‫واحد‪.‬‬
‫كذلك يسقط القصاص إذا ورث القاتل بعض الحق في القصاص‪ ،‬بأن ورث القاتل أحد ورثة القتيل‪،‬‬
‫ويكون لهؤلء الورثة نصيبهم من الدية‪.‬‬
‫‪ - 2‬ومثال كون وارث القصاص من ليس له القصاص من القاتل‪ :‬أن يقتل أحد الوالدين الوالد الخر‪،‬‬
‫وكان لهما ولد (ذكر أو أنثى) فيسقط القصاص؛ لن الولد هو صاحب الحق فيه‪ ،‬ول يجب للولد‬
‫قصاص على والده‪ ،‬بدليل أنه لو جنى الوالد على ولده‪ ،‬وقتله‪ ،‬ل يقتص منه؛ للحديث النبوي‪« :‬ل يقاد‬
‫الوالد بالولد» فمن باب أولى ل يقتص للولد من الوالد إذا جنى الوالد على غير ولده‪.‬‬
‫كذلك يسقط القصاص إذا كان للمقتول ولد آخر‪ ،‬أو وارث آخر؛ لنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء‬
‫منه‪ ،‬ول يمكن وجوبه‪ ،‬وإذا لم يثبت بعضه سقط كله‪ ،‬لنه ل يتبعض‪ ،‬وصار المر كما لو عفا بعض‬
‫مستحقي القصاص عن نصيبه منه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،382/5 :‬الشرح الكبير للدردير‪ 258/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،188/2 :‬كشاف‬
‫القناع‪ ،634/5 :‬المغني‪.753/7 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،251/7 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،262/4 :‬الشرح الصغير‪ ،368/4 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ 18/4‬وما بعدها ‪ ،‬المغني‪ 668/7 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪.174/2 :‬‬

‫( ‪)7/609‬‬

‫العقوبة الصلية الثانية للقتل العمد عند الشافعية ـ الكفارة ‪:‬‬


‫ورد تشريع الكفارة (‪ )1‬في القتل الخطأ (‪ )2‬في القرآن الكريم في آية‪{ :‬ومن قَتَل مؤمنا خطأ فتحرير‬
‫رقبة مؤمنة‪ ،‬ودية مسلّمة إلى أهله إل أن يصدّقوا‪[ }...‬النساء‪ ]92/4:‬إلى قوله تعالى‪{ :‬فمن لم يجدْ‬
‫فصيام شهرين متتابعين‪ ،‬توبةً من ال ‪ ،‬وكان ال عليما حكيما} [النساء‪ ]92/4:‬أي أن الواجب تحرير‬
‫رقبة مؤمنة إن وجدت‪ ،‬فإن لم توجد فصيام شهرين متتابعين‪.‬‬
‫فهل يقاس القتل العمد على القتل الخطأ في إيجاب الكفارة أو ل؟ هناك رأيان للفقهاء أو ثلثة‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )2‬الكفارة مأخوذة من الكَفر‪ ،‬وهو الستر؛ لنها تغطي الذنب وتستره‪.‬‬
‫(‪ )2‬ورد النص في الخطأ دون العمد‪ ،‬مع أن مقتضى الظاهر العكس‪ ،‬لخطر الدماء‪ ،‬ولن مع‬
‫المخطئ تفريطا‪ ،‬إذ لو تحرز واحتاط لترك الفعل المسبب للقتل‪ ،‬ولن العامد ل تكفيه الكفارة‪.‬‬

‫( ‪)7/610‬‬
‫‪ - 1‬قال جمهور الفقهاء (‪( )1‬غير الشافعية)‪ :‬ل تجب الكفارة في القتل العمد؛ لنه ل قياس في‬
‫الكفارات؛ لنها مقدرات شرعية للتعبد ‪ ،‬فيقتصر فيها على محل ورودها‪ ،‬وقد اقتصر النص القرآني‬
‫على الكفارة في القتل الخطأ جبرا للذنب غير المقصود‪ .‬أما القتل العمد فجزاؤه جهنم؛ لنه كبيرة‪ ،‬ولم‬
‫يوجب القرآن كفارة فيه‪ ،‬فدل النص بمفهومه على أنه ل كفارة فيه‪ ،‬ولو كانت واجبة لبينها القرآن؛‬
‫لن المقام يقتضي البيان‪.‬‬
‫والقتل العمد يوجب القصاص‪ ،‬فل يوجب كفارة كزنا المحصن‪.‬‬
‫ويرشد إليه‪« :‬أن سويد بن الصامت قتل رجلً‪ ،‬فأوجب النبي صلّى ال عليه وسلم عليه القود‪ ،‬ولم‬
‫يوجب كفارة » ‪ ،‬وعمرو بن أمية الضّمري قتل رجلين في عهد النبي صلّى ال عليه وسلم «فو داهما‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولم يوجب كفارة» (‪. )2‬‬
‫‪ - 2‬وقال الشافعية (‪ : )3‬تجب الكفارة في القتل العمد على كل قاتل بالغ وصبي ومجنون وعبد‬
‫وذمي وعامد ومخطئ‪ ،‬ومتسبب‪ ،‬وفي شبه العمد‪،‬أي أن الكفارة تجب سواء أكان القاتل كبيرا عاقلً أم‬
‫صغيرا أم مجنونا‪ ،‬مسلما أم ذميا‪ ،‬فاعلً أصليا أم شريكا‪ ،‬مباشرة أم تسببا‪ ،‬وكان المقتول مسلما ولو‬
‫بدار حرب‪ ،‬أ و ذميا أو أجنبيا حتى ولو بقتل نفسه‪ .‬ول تجب الكفارة بقتل مباح الدم كالحربي‬
‫والباغي والصائل والمقتص منه‪ ،‬والمرتد والزاني المحصن‪.‬‬
‫هذا‪ ..‬وقد حدد الشوكاني محل وجوب الكفارة في القتل العمد فيما إذا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،251/7 :‬بداية المجتهد‪ ،410/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،348‬المغني‪ ،96/8 :‬كشاف‬
‫القناع‪.65/6 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪.96/8 :‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،107/4 :‬المهذب‪.217/2 :‬‬

‫( ‪)7/611‬‬

‫عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية‪ ،‬وأما إذا اقتص منه‪ ،‬فل كفارة عليه‪ ،‬بل القتل كفارته‪،‬‬
‫لحديث عبادة بن الصامت في أن الحدود كفارات لهلها‪ ،‬ولما أخرجه أبو نعيم في المعرفة‪ :‬أن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬القتل كفارة» (‪. )1‬‬
‫والدليل على وجوب الكفارة في العمد‪ :‬أن المقصود من تشريع الكفارة هو رفع الذنب‪ ،‬ومحو الثم‪،‬‬
‫والذنب في القتل العمد أعظم من القتل الخطأ‪ ،‬فكانت الكفارة في العمد أحرى وأولى‪ ،‬والعامد أحوج‬
‫إليها لرفع الذنب وتكفير الخطيئة‪.‬‬
‫ويدل له خبر واثلة بن السقع‪ ،‬قال‪« :‬أتينا النبي صلّى ال عليه وسلم في صاحب لنا‪ ،‬قد استوجب‬
‫النار بالقتل‪ ،‬فقال‪ :‬أعتقوا عنه رقبة‪ ،‬يعتق ال بكل عضو منها عضوا منه من النار» (‪. )2‬‬
‫وكفارة القتل مثل كفارة الظهارفي الترتيب‪ :‬عتق رقبة أولً‪ ،‬فإن لم يجد (‪ )3‬فصيام شهرين متتابعين‬
‫(‪ ، )4‬كما نصت الية‪ ،‬لكن ل إطعام فيها في الظهر عند العجز عن الصوم‪ ،‬اقتصارا على الوارد‬
‫فيها‪ ،‬إذ المتبع في الكفارات النص‪ ،‬ل القياس‪ ،‬ولم يذكر ال تعالى في كفارة القتل غير العتق‬
‫والصيام‪ .‬وعلى هذا فمن لم يستطع الصوم ثبت دينا في ذمته‪ ،‬ول يجب شيء آخر‪ .‬والواجب في‬
‫عصرنا هو الصوم فقط‪.‬‬
‫‪ - 3‬وقال المالكية (‪ : )5‬تستحب الكفارة في قتل الجنين م وجوب دية الجنين‪ ،‬ول تجب‪ ،‬خلفا لبي‬
‫حنيفة؛ لن الكفارة لما كانت ل تجب عندهم في العمد‪ ،‬وتجب في الخطأ‪ ،‬وكان العتداء على الجنين‬
‫مترددا بين العمد والخطأ‪ ،‬استحسن المام الكفارة في الجنين‪ ،‬ولم يوجبها‪.‬‬
‫ول تجب الكفارة على قاتل الباغي والصائل والحربي والمرتد والزاني المحصن والذي يقتص منه؛‬
‫لن هؤلء مباحو الدم بالنسبة للقاتل ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نيل الوطار‪.57/7 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود وأحمد وصححه الحاكم وغيره‪ ،‬كما رواه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم‪.‬‬
‫(‪ )3‬قال ابن قدامة الحنبلي‪ :‬فإن لم يجد الرقبة في ملكه فاضلة عن حاجته أو لم يجد ثمنها فاضلً عن‬
‫كفايته‪ ،‬فصيام شهرين متتابعين‪ ،‬توبة من ال ‪ .‬وهذا ثابت بالنص أيضا (المغني‪.)97/8 :‬‬
‫(‪ )4‬تحتسب المدة بالهلّة إذا صام من أول الشهر وإل فيحسب كل شهر ثلثين يوما‪.‬‬
‫(‪ )5‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،348‬بداية المجتهد‪.408/2 :‬‬

‫( ‪)7/612‬‬

‫النوع الثاني ـ العقوبة البدلية في القتل العمد ‪:‬‬


‫إذا سقط القصاص بعفو ولي القتيل أو بموت الجاني أو بغيرهما‪ ،‬طبقت عقوبتان أخريان وهما‪:‬‬
‫‪ - 1‬الدية التي هي بدل حتمي عن القصاص عند الحنابلة‪ ،‬أو إذا عفي إليها عند الشافعية‪ ،‬وبرضا‬
‫الجاني عند الحنفية والمالكية‪.‬‬
‫‪ - 2‬التعزير الذي هو بدل حتمي أيضا عند المالكية‪ ،‬وباختيار الحاكم عند الجمهور‪.‬‬
‫ويلحظ أن صيام شهرين متتابعين عند الشافعية هو أحد خصال الكفارة على الترتيب الواجب بعد‬
‫عتق الرقبة‪ .‬ول يقال‪ :‬إن الصوم بدل مطلق عن الكفارة‪ ،‬وإنما هو بدل عن الخصلة الولى فيها‪ ،‬لذا‬
‫فإنه ل يعدّ عقوبة بدلية في القتل العمد‪ ،‬وإنما هو عقوبة أصلية كما تقدم‪ .‬وأبحث هنا فقط حكم الدية‬
‫والتعزير‪.‬‬
‫العقوبة البدلية الولى ـ الدية ‪:‬‬
‫الكلم فيها يتناول تعريف الدية‪ ،‬ومشروعيتها‪ ،‬وشروط إيجابها‪ ،‬ونوعها ومقدارها‪ ،‬تغليظها وتخفيفها‬
‫وقت أدائها‪ ،‬الملزم بها (أو من تجب عليه)‪ ،‬متى تجب كاملة‪ ،‬وهل يتساوى كل الناس في مقدارها؟‬
‫أولً ـ تعريف الدية‪ :‬هي في الشرع (‪ : )1‬المال الواجب بالجناية على النفس أو ما في حكمها‪.‬‬
‫والرش‪ :‬المال الواجب المقدر شرعا بالعتداء على ما دون النفس (‪ ، )2‬أي مما ليس فيه دية كاملة‬
‫من العضاء‪ .‬وبناء عليه تطلق الدية على بدل النفس أو ما في حكمها‪ ،‬والرش على دية العضو‪.‬‬
‫وحكومة العدل‪ :‬هو الرش غير المقدر في الشرع‪ ،‬بالعتداء على ما دون النفس من جرح أو تعطيل‬
‫وغيرهما‪ .‬ويترك أمر تقديره للحاكم بمعرفة أهل الخبرة العدول‪.‬‬
‫ثانيا ـ مشروعية الدية‪ :‬ثبتت مشروعية الدية في القرآن والسنة والجماع أما القرآن‪ :‬فقوله تعالى‪:‬‬
‫{ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‪ ،‬ودية مسلّمة إلى أهله‪ ،‬إل أن يصّدّقوا} [النساء‪]92/4:‬‬
‫وهذه الية وإن كانت في القتل الخطأ‪ ،‬إل أن العلماء أجمعوا على وجوب الدية في القتل العمد‪ ،‬في‬
‫حالت سقوط القصاص المار ذكرها‪.‬‬
‫وأما السنة فأحاديث كثيرة أشهرها حديث عمرو بن حزم في الديات‪ .‬وهو‪ :‬أن رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات‪ ،‬وكان في كتابه « أن من اعتبط (‬
‫‪ )3‬مؤمنا قتلً عن بينة‪ ،‬فإنه قود‪ ،‬إل أن يرضى أولياء‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬اللباب شرح الكتاب‪ ،152/3 :‬الدرالمختار‪ ،406/5 :‬مغني المحتاج‪ ،53/4 :‬تكملة فتح القدير‪:‬‬
‫‪.301/8‬‬
‫(‪ )2‬أطلق الحنفية الدية على بدل النفس‪ ،‬والرش على الواجب فيما دون النفس‪ ،‬والدق هو إطلق‬
‫الدية على المال الواجب بجناية على الحر في نفس أو فيما دونها كما فعل الشافعية (مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪)53/4‬؛ لن الدية كاملة تجب في أحيان كثيرة بالعتداء على ما دون النفس كتعطيل منفعة عضو أو‬
‫قطع عضوين أو أربعة أو عشرة‪ ،‬كما سأبين في حالت وجوب الدية كاملة‪.‬‬
‫(‪ )3‬من اعتبط‪ :‬هو القتل بغير سبب موجب‪ .‬وأصله من اعتبط الناقة‪ :‬إذا ذبحها من غير مرض ول‬
‫داء‪ .‬فمن قتل مؤمنا كذلك‪ ،‬وقامت عليه البينة بالقتل وجب عليه القود إل أن يرضى أولياء المقتول‬
‫بالدية أو يقع منهم العفو‪.‬‬

‫( ‪)7/613‬‬

‫المقتول‪ ،‬وإن في النفس‪ :‬الدية مئة من البل‪ . )1( »...‬وأول من سنّها مئة عبد المطلب جد الرسول‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وأما الجماع‪ :‬فقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة‪.‬‬
‫ثالثا ـ شروط وجوب الدية‪ :‬يشترط لوجوب الدية عند الحنفية (‪ )2‬شرطان‪:‬‬
‫‪ - 1‬العصمة‪ :‬وهو أن يكون المقتول معصوما‪ ،‬أي مصون الدم‪ ،‬فل دية بقتل الحربي والباغي لفقد‬
‫العصمة‪ .‬ورأي الجمهور متفق مع الحنفية في هذا الشرط‪ ،‬إل أن الباغي معصوم الدم في غير حال‬
‫الحرب عند الشافعية ومن وافقهم وهم الجمهور غيرا لحنفية‪.‬‬
‫‪ - 2‬التقوم‪ :‬وهو أن يكون المقتول متقوما‪ ،‬فل تجب الدية عند الحنفية بقتل الحربي إذا أسلم في دار‬
‫الحرب‪ ،‬ولم يهاجر إلينا‪ ،‬وكان قاتله مسلما أو ذميا خطأ‪ .‬وقال الجمهور‪ :‬تجب الدية؛ لن التقوم‬
‫عندهم بالسلم‪ ،‬وهذا مسلم قتل خطأ‪ ،‬وال تعالى يقول‪{ :‬ومن قتَل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‪،‬‬
‫ودية مسلّمة إلى أهله} [النساء‪.]92/4:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه النسائي ومالك‪ ،‬وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولً‪ ،‬قال ابن‬
‫عبد البر‪ :‬وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرته عن‬
‫السناد؛ لنه أشبه المتواتر‪ ،‬في مجيئه في أحاديث كثيرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ 252/7 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/614‬‬

‫والتقوم عند الحنفية بدار السلم‪ ،‬وهذا ليس من أهل دار السلم‪ ،‬وال تعالى يقول‪{ :‬فإن كان من قوم‬
‫عدو لكم‪ ،‬وهو مؤمن‪ ،‬فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء‪ ]92/4:‬فقد أوجب ال جزاء قتله‪ :‬الكفارة فقط‬
‫وهي عتق الرقبة‪ ،‬فل يكون داخلً تحت صدر الية‪ ،‬وهي التي احتج بها الجمهور؛ لنه مؤمن دينا‪،‬‬
‫ل‬
‫دارا‪ ،‬وهو في دار الحرب مكثر سواد الكفار‪ ،‬ومن كثّر سواد قوم فهو منهم‪ ،‬على لسان رسول ال‬
‫صلّى ال عليه وسلم (‪. )1‬‬
‫وأما التصاف بصفة «السلم» فليس من شرائط وجوب الدية‪ ،‬ل بالنسبة لقاتل‪ ،‬ول بالنسبة للمقتول‪،‬‬
‫فتجب الدية سواء أكان القاتل أو المقتول مسلما أم ذميا أم حربيا مستأمنا‪.‬‬
‫وكذلك العقل والبلوغ ليس شرطا ليجاب الدية‪ ،‬فتجب الدية في مال الصبي والمجنون‪ ،‬لعموم قوله‬
‫تعالى‪{ :‬ومن قتل مؤمنا خطأ‪ ،‬فتحرير رقبة مؤمنة‪ ،‬ودية مسلّمة إلى أهله‪ ،‬إل أن يصدقوا} [النساء‪:‬‬
‫‪ .]92/4‬كما تجب الدية بقتل الذمي والمستأمن‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‪،‬‬
‫فدية مسلّمة إلى أهله} [النساء‪.]92/4:‬‬
‫هل تضمن الدية بسبب ممارسة حق التأديب؟‬
‫إذا ضرب السلطان أو الوالي متهما‪ ،‬أو ضرب الب ابنه للتأديب المشروع‪ ،‬أو ضرب الولي أو‬
‫الوصي الصبي اليتيم‪ ،‬أو ضرب الزوج زوجته بسبب نشوزها‪ ،‬أو لتركها الصلة مثلً‪ ،‬أو أدّب المعلم‬
‫صبيا بغير إذن أبيه‪ ،‬فمات المؤدّب بسبب هذا التأديب المشروع المعهود في العرف بين الناس‪ ،‬فهل‬
‫يضمن هؤلء فعلهم؟ للفقهاء فيه آراء‪:‬‬
‫‪ - 1‬قال أبو حنيفة والشافعي (‪ : )2‬إنه يجب ضمان الدية في هذه الحالت؛‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬هذا حديث رواه أبو يعلى في مسنده من حديث عبد ال بن مسعود بلفظ‪« :‬من كثّر سواد قوم‪ ،‬فهو‬
‫منهم‪ ،‬ومن رضي عمل قوم‪ ،‬كان شريك من عمل به» (نصب الراية‪.)346/4 :‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،13/16 :‬الدر المختار‪ ،401/5 :‬درر الحكام‪ ،77/2 :‬جامع أحكام الصغار بهامش‬
‫الفصولين‪ ،10-8/2 :‬مجمع الضمانات‪ :‬ص ‪ ،166 ،157 ،54‬البدائع‪ ،305/7 :‬المهذب‪،289/2 :‬‬
‫مغني المحتاج‪ ،199/4 :‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪.230‬‬

‫( ‪)7/615‬‬

‫لن المقصود هو التأديب والزجر‪ ،‬ل الهلك‪ ،‬فإذا أفضى التأديب إلى التلف‪ ،‬تبين أنه تجاوز الحد‬
‫المشروع له‪ ،‬أو تخطى حدود السلطة المخولة إياه‪ ،‬ولن هذا الفعل وهو التأديب أمر مباح‪ ،‬فيتقيد‬
‫بشرط السلمة للغير كالمرور في الطريق العام ونحوه‪ ،‬فإن استيفاء النسان حقه مقيد بشرط السلمة‬
‫للخرين‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقال المالكية والحنابلة والصاحبان من الحنفية (‪ : )1‬ل ضمان في هذه الحالت‪ ،‬ما لم يكن‬
‫هناك إسراف أو زيادة على ما يحقق المقصود‪ ،‬أو يتجاوز المعتاد؛ لن التأديب فعل مشروع للزجر‬
‫والردع‪ ،‬فل يضمن التالف به‪ ،‬كما هو الشأن عند تطبيق الحدود الشرعية أو التعزيرات (‪، )2‬‬
‫والقاعدة الفقهية تقول‪« :‬الجواز الشرعي ينافي الضمان» ‪.‬‬
‫رابعا ـ نوع الدية ومقدارها ‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء على آراء ثلثة في تحديد نوع الدية‪ ،‬وهي ما يأتي‪:‬‬
‫‪ - 1‬رأي أبي حنيفة ومالك‪ ،‬والشافعي في مذهبه القديم (‪ : )3‬إن الدية تجب في واحد من ثلثة‬
‫أنواع‪ :‬البل‪ ،‬والذهب‪ ،‬والفضة‪ .‬ويجزئ دفعها من أي نوع‪ .‬ودليلهم ما ثبت في كتاب عمرو بن حزم‬
‫في الديات‪« :‬وإن في النفس الدية‪ ،‬مئة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ ،327/8 :‬غاية المنتهى‪ ،285/3 :‬الحكام السلطانية لبي يعلى‪ :‬ص ‪ ،266‬الميزان‬
‫للشعراني‪ ،172/3 :‬نيل الوطار‪ ،145-140/7 :‬البدائع‪ ،‬المكان السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬قارن ذلك بالفقه على المذاهب الربعة‪.292/5 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،253/7 :‬تكملة فح القدير‪ 302/8 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ 406/5 :‬ومابعدها‪ ،‬اللباب‪:‬‬
‫‪ ،153/3‬الشرح الكبير للدردير‪ 266/4 :‬ومابعدها‪ ،‬بداية المجتهد‪ 401/2 :‬ومابعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪:‬‬
‫ص ‪ ،347‬مغني المحتاج‪.56-53/4 :‬‬

‫( ‪)7/616‬‬

‫من البل» (‪ )1‬وأن عمر فرض على أهل الذهب في الدية ألف دينار ومن الورِق عشرة آلف درهم‬
‫(‪ . )2‬ورأي أبي حنيفة هو الصحيح في مذهبه‪.‬‬
‫‪ - 2‬رأي الصاحبين وأحمد (‪ : )3‬إن الدية تجب من ستة أجناس‪ ،‬وهي البل أصل الدية‪ ،‬والذهب‪،‬‬
‫والفضة‪ ،‬والبقر‪ ،‬والغنم‪ ،‬والحُلل‪ .‬والخمسة الولى هي أصول الدية عند الحنابلة‪ ،‬وأما الحلل فليست‬
‫أصلً عندهم؛ لنها تختلف ول تنضبط‪ .‬وروي عن أحمد‪ :‬أنها أصل‪ ،‬وقدرها مئتا حلة من حلل‬
‫اليمن‪ ،‬كل حلة بُرْدان‪ :‬إزار ورداء جديدان‪.‬‬
‫وأي شيء أحضره الملزم بالدية‪ ،‬لزم ولي القتيل قبوله‪ ،‬سواء أكان الجاني من أهل ذلك النوع‪ ،‬أم ل؛‬
‫لنها أصول في قضاء الواجب‪ ،‬يجزئ واحد منها‪ ،‬فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه كخصال‬
‫الكفارة‪.‬‬
‫ودليل هذا الرأي‪ :‬أن عمر قام خطيبا فقال‪« :‬أل إن البل قد غلت‪ ،‬قال الراوي‪ ،‬فقوّم على أهل الذهب‬
‫ألف دينار‪ ،‬وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا‪ ،‬وعلى أهل البقر مئتي بقرة‪ ،‬وعلى أهل الشاء ألفي شاة‪،‬‬
‫وعلى أهل الحلل مئتي حلة» (‪ . )4‬وأخرج أبو داود مثله عن جابر بن عبد ال أنه قال‪« :‬فرض‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم في الدية على أهل البل مئة من البل‪...‬الخ» (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬سبق تخريجه‪ :‬وفيه أيضا‪« :‬وعلى أهل الذهب ألف دينار‪ ،‬وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف‬
‫درهم» ‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البيهقي من طريق الشافعي‪ ،‬قال‪ :‬قال محمد بن الحسن‪ :‬بلغنا عن عمر‪...‬الخ (نصب الراية‪:‬‬
‫‪.)361/4‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،‬ومراجع الحنفية‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬المغني‪ ،761-759/7 :‬كشاف القناع‪ 16/6 :‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪ .‬وأخرجه البيقهي وابن أبي شيبة في‬
‫مصنفه عن عبيدة السلماني‪ ،‬لكن جاء في هذه الرواية «وعلى أهل الحلل مئة حلة» (نصب الراية‪:‬‬
‫‪.)362/4‬‬
‫(‪ )5‬راجع نصب الراية‪.363/4 :‬‬

‫( ‪)7/617‬‬

‫‪ - 3‬رأي الشافعي في مذهبه الجديد (‪ : )1‬إن الواجب الصلي في الدية هو مائة من البل إن‬
‫وجدت‪ ،‬وعلى القاتل تسليمها للولي سليمة من العيوب‪ ،‬فإن عدمت حسا بأن لم توجد في موضع يجب‬
‫تحصيله منه‪ ،‬أو عدمت شرعا بأن وجدت فيه بأكثر من ثمن مثلها‪ ،‬فالواجب قيمة البل‪ ،‬بنقد البلد‬
‫الغالب (‪ ، )2‬وقت وجوب تسليمها بالغة ما بلغت؛ لنها بدل متلف‪ ،‬فيرجع إلى قيمتها عند فقد‬
‫الصل‪ .‬ودليله الحديث السابق وهو ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‪ :‬كانت قيمة الدية‬
‫على عهد الرسول صلّى ال عليه وسلم ثمان مئة دينار‪ ،‬أو ثمانية آلف درهم‪ ،‬كان ذلك كذلك‪ ،‬حتى‬
‫استخلف عمر رضي ال عنه‪ ،‬فقام عمر خطيبا‪ ،‬فقال‪« :‬أل إن البل قد غلت‪ ،‬فقال‪ :‬فقوم على أهل‬
‫الذهب ألف دينار‪ ،‬وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم‪ ،‬وعلى أهل البقر مئتي بقرة‪ ،‬وعلى أهل‬
‫الشاء ألفي شاة‪ ،‬وعلى أهل الحلل مئتي حلة» (‪ )3‬ويؤكده من المعقول أن ما ضمن بنوع من المال‬
‫وتعذر‪ ،‬وجبت قيمته‪ ،‬كذوات المثال (‪. )4‬‬
‫وأما مقدار الدية فيتضح من الحاديث السابقة‪ ،‬ولم يختلف الفقهاء في المقادير إل في دراهم الفضة‬
‫(أي الوَرِق)‪.‬‬
‫وسبب الختلف فيها‪ :‬هو سعر صرف الدينار‪ ،‬فعند الحنفية‪ :‬الدينار يساوي عشرة دراهم بدليل‬
‫حديث عَبيدة السلماني المتقدم‪ .‬وعند الجمهور (‪: )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،56/4 :‬المهذب‪ 195/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المراد بالبلد‪ :‬هو المحل الذي يجب التحصيل منه لو كانت موجودة فيه‪.‬‬
‫(‪ )3‬وروي ما يقاربه في المعنى عن الزهري‪.‬‬
‫(‪ )4‬المثليات‪ :‬هي المكيلت (حنطة أو شعير) والموزونات (قطن أو حديد) والعدديات المتقاربة (جوز‬
‫أو بيض) والذرعيات (كالقماش)‪.‬‬
‫(‪ )5‬راجع بداية المجتهد‪ ،403/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،267/4 :‬المغني‪ ،760/7 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪.56/4‬‬

‫( ‪)7/618‬‬

‫الدينار يساوي اثني عشر درهما‪ ،‬بدليل حديث عمر السابق‪ ،‬وأن رجلً من بني عدي قتل‪ ،‬فجعل‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا (‪ . )1‬وعلى هذا‪:‬‬
‫الواجب من البل مئة‪ ،‬ومن الذهب ألف دينار (‪ ، )2‬ومن الفضة عشرة آلف درهم عند الحنفية‪،‬‬
‫واثنا عشر ألف درهم عند الجمهور‪ ،‬ومن البقر مئتا بقرة‪ ،‬ومن الغنم ألفان‪ ،‬ومن الحلل‪ ،‬أي الثياب‬
‫مئتا حلة‪ :‬إزار ورداء‪.‬‬
‫خامسا ـ تغليظ الدية وتخفيفها ‪:‬‬
‫الدية إما مغلظة أو مخففة‪ ،‬وتجب الدية عند الحنفية في شبه العمد وفي الخطأ وفي شبه الخطأ وفي‬
‫القتل بسبب‪ ،‬وفي العمد أيضا إذا اشتمل القتل على شبهة‪ :‬وهي الحالة التي يقتل فيها الب ابنه‪ .‬وقد‬
‫تجب الدية في العمد برضا القاتل وولي الدم‪ ،‬أي عند التراضي عليها فيما إذا حصل عفو من ولي‬
‫القتيل أو من بعض الولياء‪ ،‬فيكون للباقي نصيبه من دية العمد‪.‬‬
‫ول تتغلظ الدية إل في حالة الوفاء بها بالبل خاصة؛ لن الشرع ورد بها‪ ،‬والمقدرات الشرعية ل‬
‫تعرف إل سماعا ونقلً من طريق الشرع‪ ،‬إذ ل مدخل للرأي فيها؛ فل تتغلظ الدية في الدنانير‬
‫والدراهم‪ ،‬بأن يُزاد على ألف دينار‪ ،‬أو على عشرة آلف درهم (عند الحنفية)‪.‬‬
‫وتتغلظ الدية في القتل العمد وفي شبه العمد عند الجمهور (‪ . )3‬وقال‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أصحاب السنن الربعة‪ ،‬عن ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )2‬الدينار‪ :‬هو المثقال من الذهب‪ ،‬ويساوي ‪ 80،4‬غم وهو المثقال العجمي‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ 256/7 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ 126/6 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ 406/5 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫تكملة فتح القدير‪ ،304 ،302 ،251/8 :‬مغني المحتاج‪ ،55-53/4 :‬المهذب‪ 195/2 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫المغني‪ ،766-764/7 :‬كشاف القناع‪ 17/6 :‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/619‬‬

‫المالكية (‪ : )1‬تتغلظ الدية في القتل العمد إذا قبلها ولي الدم‪ ،‬وفي حالة قتل الوالد ولده‪.‬‬
‫وإذا غلظت الدية تجب مثلثة عند المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن (أي ثلثون حقه وثلثون‬
‫خلِفة أي حاملً‪ ،‬لخبرالترمذي بذلك)‪ .‬وهذا عند المالكية في حال قتل الصل ولده‪،‬‬
‫جَذَعة‪ ،‬وأربعون َ‬
‫أما في القتل العمد إذا عفا ولي الدم‪ ،‬فتجب الدية عندهم مربعة‪ ،‬بحذف ابن اللبون من النواع الخمسة‬
‫الواجبة في القتل الخطأ‪.‬‬
‫وتجب حينئذ مربعة‪ ،‬أي أرباعا عند الحنفية ما عدا محمدا‪ ،‬والحنابلة (‪( : )2‬خمس وعشرون بنت‬
‫مخاض‪ ،‬وخمس وعشرون بنت لبون‪ ،‬وخمس وعشرون حقة‪ ،‬وخمس وعشرون جذعة) (‪. )3‬‬
‫وأما الدية المخففة في القتل الخطأ ونحوه‪ ،‬فتجب مخمسة‪ ،‬أي أخماسا باتفاق المذاهب (وهي عشرون‬
‫بنت مخاض‪ ،‬وعشرون ابن مخاض‪ ،‬وعشرون بنت لبون‪ ،‬وعشرون حقة‪ ،‬وعشرون جذعة) وهذا‬
‫رأي الحنفية والحنابلة‪ ،‬بدليل ما روى ابن مسعود قال‪ :‬قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬في دية‬
‫الخطأ عشرون حقة‪ ،‬وعشرون جذعة‪ ،‬وعشرون بنت مخاض‪ ،‬وعشرون بنت لبون‪ ،‬وعشرون بني‬
‫مخاض» (‪ )4‬ولن ابن اللبون يجب على طريق البدل عن ابنة المخاض في الزكاة إذا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير‪ 266/4 :‬وما بعدها‪ ،282 ،‬بداية المجتهد‪ 401/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الشرح‬
‫الصغير‪.373/4 :‬‬
‫(‪ )2‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )3‬بنت المخاض‪ :‬هي التي طعنت في السنة الثانية‪ ،‬وبنت اللبون في الثالثة‪ ،‬والحقة في الرابعة‪،‬‬
‫والجذعة في الخامسة‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة والبزار والبيهقي إل أن الدارقطني قال‪« :‬عشرون بني‬
‫لبون» مكان قوله «عشرون ابن مخاض» ‪.‬‬

‫( ‪)7/620‬‬
‫لم يجدها‪ ،‬فل يجمع بين البدل والمبدل في واجب واحد (‪. )1‬‬
‫وجعل المالكية والشافعية (‪ )2‬مكان ( بني المخاض)‪ ( :‬بني اللبون ) بدليل ما روى الدارقطني وسعيد‬
‫بن منصور‪ ،‬في سننهما عن النّخعي عن ابن مسعود‪ ،‬وقال الخطابي‪ :‬روي أن النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم ودى الذي قتل بخيبر بمئة من إبل الصدقة‪ ،‬وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض‪.‬‬
‫وتغلظ عند الشافعية والحنابلة (‪ )3‬دية القتل الخطأ في النفس والجراح في حالت ثلث‪:‬‬
‫‪ - 1‬إذا حدث القتل في حرم مكة‪ ،‬تحقيقا للمن‪.‬‬
‫‪ - 2‬أو حدث في الشهر الحرم‪ :‬وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب‪.‬‬
‫‪ - 3‬أو قتل القاتل قريبا له ذا رحم محرم‪ ،‬كالم والخت‪.‬‬
‫وعلى هذا الرأي تغلظ الدية بأحد أسباب خمسة‪ :‬كون القتل عمدا‪ ،‬أو شبه عمد‪ ،‬أو في الحرم‪ ،‬أو‬
‫الشهر الحرم‪ ،‬أو لذي رحم محرم‪.‬‬
‫والدليل على تربيع (‪ )4‬الدية المغلظة عند الحنفية ما عدا محمدا‪ ،‬وعند الحنابلة‪ :‬هو ما رواه الزهري‬
‫عن السائب بن يزيد‪ ،‬قال‪ :‬كانت الدية على عهد رسول ال صلّى ال عليه وسلم أرباعا‪« :‬خمسا‬
‫وعشرين جذعة‪ ،‬وخمسا وعشرين حقة‪ ،‬وخمسا وعشرين بنت لبون‪ ،‬وخمسا وعشرين بنت مخاض»‬
‫وقضى بذلك ابن مسعود‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،254/7 :‬المغني‪.771 ،769/7 :‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،402/2 :‬مغني المحتاج‪.54/4 :‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،54/4 :‬المغني‪ ،772/7 :‬المهذب‪.196/2 :‬‬
‫(‪ )4‬أي كونها تؤخذ أرباعا‪.‬‬

‫( ‪)7/621‬‬

‫ولن الدية حق يتعلق بجنس الحيوان‪ ،‬فل يعتبر فيه الحمل في بعضها‪ ،‬كالزكاة والضحية (‪. )1‬‬
‫وأما دليل المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن في تثليث (‪ )2‬الدية المغلظة‪ ،‬فهو حديث عمرو بن‬
‫شعيب عن أبيه عن جده‪ ،‬أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬من قَتَل متعمدا‪ ،‬دفع إلى أولياء‬
‫المقتول‪ ،‬فإن شاؤوا قتلوه‪ ،‬وإن شاؤوا أخذوا الدية‪ ،‬وهي ثلثون حقة‪ ،‬وثلثون جذعة‪ ،‬وأربعون‬
‫خَلِفة‪ ،‬وما صولحوا عليه فهو لهم» (‪ )3‬وذلك لتشديد القتل‪.‬‬
‫وحديث آخر عن عبد ال بن عمرو‪ ،‬أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬أل إن في قتيل عمد‬
‫الخطأ‪ ،‬قتيل السوط والعصا مائة من البل‪ ،‬منها أربعون خلفة في بطونها أولدها» (‪. )4‬‬
‫والخلصة‪ :‬أن دية العمد تغلظ عند الجمهور بتخصيصها بالجاني‪ ،‬وتعجيلها عليه‪ ،‬أي كونها حالّة عند‬
‫غير الحنفية‪ ،‬وتربيعها في رأي الحنفية والحنابلة‪ ،‬وتثليثها في رأي عند المالكية والشافعية‪.‬‬
‫ودية شبه العمد‪ :‬تخفف من ناحيتين (وهما فرض الدية على العاقلة‪ ،‬والتأجيل بثلث سنين) وتغلظ من‬
‫ناحية واحدة‪ :‬وهي التربيع في رأي‪ ،‬والتثليث في رأي آخر‪.‬‬
‫ودية الخطأ‪ :‬تخفف من نواح ثلث‪ :‬إلزام العاقلة بها‪ ،‬والتأجيل ثلث سنين‪ ،‬وتخميسها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المغني‪ ،766/7 :‬البدائع‪.254/7 :‬‬
‫(‪ )2‬أي كونها أثلثا‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الترمذي وقال‪ :‬هو حديث حسن غريب‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه المام أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني (راجع نيل الوطار‪ .)21/7 :‬هذا ‪...‬وإن كان‬
‫البحث هنا في دية العمد‪ ،‬لكني استطردت فيه لبيان أحوال الديات الخرى تجميعا لشتات البحث‪.‬‬
‫سادسا ـ وقت أداء الدية ‪:‬‬
‫تجب دية العمد وشبه العمد والخطأ عند الحنفية (‪ )5‬مؤجلة في ثلث سنين‪ ،‬عملً بفعل عمر رضي‬
‫ال عنه‪ ،‬ويكفي العامد تغليظ الدية عليه‪ ،‬وإيجابها في ماله‪.‬‬
‫وقال جمهور الفقهاء (‪ : )6‬دية العمد تجب معجلة (حالّة) في ماله‪ ،‬غير مؤجلة؛ لن الدية فيه بدل‬
‫عن القصاص‪ ،‬وبما أن القصاص حالّ الداء‪ ،‬فبدله وهو الدية حال مثله‪ ،‬ولن في التأجيل تخفيفا‬
‫على القاتل‪ ،‬والعامد يستحق التغليظ ل التخفيف‪ ،‬بدليل وجوب الدية في ماله ل على العاقلة‪.‬‬
‫وأما دية الخطأ فتجب عند الجمهور كالحنفية مؤجلة في مدى ثلث سنوات‪ ،‬تخفيفا عن العاقلة‪ ،‬بدليل‬
‫ما روي عن عمر وعلي أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلث سنين‪ ،‬ول مخالف لهما في عصرنا‪،‬‬
‫فكان إجماعا (‪. )7‬‬
‫وكذلك دية شبه العمد عند الجمهور تجب مؤجلة لثلث سنين‪ ،‬في كل سنة ثلثها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ 256/7 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )6‬بداية المجتهد‪ ،402/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،347‬الشرح الكبير‪ ،285 ،281/4 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،55/4 :‬المهذب‪ ،212 ،196/2 :‬المغني‪ ،766-764/7 :‬كشاف القناع‪.17/6 :‬‬
‫(‪ )7‬المغني‪.766/7 :‬‬

‫( ‪)7/622‬‬
‫سابعا ـ الملزم بأداء الدية ‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن دية القتل العمد تجب على القاتل في ماله وحده‪ ،‬ولتحملها العاقلة؛ لن الصل‬
‫في كل إنسان أن يسأل عن أعماله الشخصية المدنية كالتلفات‪ ،‬والجنائية كالجرائم‪ ،‬ول يسأل عنها‬
‫غيره لقوله تعالى‪{ :‬كل امرئ بما كسب رهين} [الطور‪{ ]21/52:‬ول تزو وازرة وزر أخرى}‬
‫[النعام‪{ ]164/6:‬قل‪ :‬ل تسألون عما أجرمنا‪ ،‬ول نسأل عما تعملون} [سبأ‪.]25/34:‬‬
‫ويؤيده ما جاء في السنة من قول النبي صلّى ال عليه وسلم‪« :‬ل يجني جانٍ إل على نفسه» (‪، )1‬‬
‫وقال النبي صلّى ال عليه وسلم لبعض أصحابه حين رأى معه ولده‪« :‬ابنك هذا؟» قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫«أما إنه ل يجني عليك‪ ،‬ول تجني عليه» (‪. )2‬‬
‫وثبت في السنة بنحو خاص‪« :‬ل تعقل العاقلة عمدا‪ ،‬ول عبدا‪ ،‬ول صلحا‪ ،‬ول اعترافا» (‪. )3‬‬
‫ويرى الفقهاء ما عدا المالكية (‪ )4‬أن دية شبه العمد‪ ،‬والخطأ على العاقلة‪ ،‬كما سيأتي في عقوبة كل‬
‫منهما‪.‬‬
‫وأما دية القتل العمد الصادر من الصبي أو المجنون‪ ،‬فقال الحنفية والمالكية والحنابلة (الجمهور) (‪)5‬‬
‫‪ :‬إنها على عاقلته‪ ،‬وعبارتهم فيها‪ :‬عمد الصبي وخطؤه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمرو بن الحوص في حجة الوداع‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود والنسائي وأحمد عن أبي رمثة (جامع الصول‪ ،9/11 :‬نيل الوطار‪.)83/7 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه البيهقي عن الشعبي‪ ،‬وأبو عبيد القاسم بن سلم في الموال (نصب الراية‪.)379/4 :‬‬
‫(‪ )4‬راجع بحث الملزم بأداء الدية في البدائع‪ ،256/7 :‬الدر المختار‪ ،400/5 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص‬
‫‪ ،347‬الشرح الكبير للدردير‪ ،282/4 :‬مغني المحتاج‪ ،55/4 :‬المغني‪ ،770-764/7 :‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪.3/6‬‬
‫(‪ )5‬تبيين الحقائق‪ ،139/6 :‬الشباه والنظائر لبن نجيم‪ ،77/1 :‬الدر المختار‪ ،415 ،378/5 :‬بداية‬
‫المجتهد‪ 404/2 :‬ومابعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،345‬الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي‪،486/4 :‬‬
‫المغني‪ ،776/7 :‬جامع أحكام الصغار لبن قاضي سماوه‪ ،18/2 :‬بهامش جامع الفصولين‪.‬‬

‫( ‪)7/623‬‬

‫سواء‪ ،‬بدليل أن مجنونا صال على رجل بسيف‪ ،‬فضربه‪ ،‬فرفع ذلك إلى علي رضي ال عنه‪ ،‬فجعل‬
‫ديته على عاقلته‪ ،‬بمحضر من الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وقال‪ :‬عمده وخطؤه سواء‪.‬‬
‫وقال الشافعية (‪ : )1‬الظهر أن عمد الصبي عمد إذا كان مميزا‪ ،‬وإن لم يكن له تمييز فهو خطأ‬
‫قطعا‪ ،‬أي أنه سواء أكان مميزا أم غير مميز ل قصاص عليه لعدم تكليفه بالحلل والحرام شرعا‪،‬‬
‫لكن تجب الدية في ماله‪ ،‬ول تتحملها عنه عاقلته إذا كان مميزا‪ ،‬وكان القتل عمدا؛ لن العاقلة‬
‫(العصبة) ل تتحمل دية القتل العمد أو حالة الصلح أو العتراف‪ ،‬كما تقدم‪ .‬وبما أن فعله يعدّ عمدا إذا‬
‫كان مميزا في الراجح عند الشافعية‪ ،‬فل تتحمل العاقلة دية القتيل الذي جنى عليه‪ ،‬وتكون الدية عليه‬
‫مغلظة‪.‬‬
‫ثامنا ـ متى تجب الدية كاملة‪ ،‬وهل يتساوى كل الناس في دية العمد؟‬
‫قال الحنفية والمالكية (‪ : )2‬دية العمد عند العفو عن القصاص غير محدودة‪ ،‬والواجب هو ما يتم‬
‫التراضي أو التفاق عليه بين الجاني وولي الدم‪ ،‬سواء أكان المال قليلً أم كثيرا‪ ،‬فإن انبهمت أي لم‬
‫تحدد الدية كانت بحسب المقدار الشرعي (مئة من البل أو ما ينوب منابها من الدنانير والدراهم)‪.‬‬
‫وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )3‬دية العمد بحسب المقدار المحدد شرعا‪ :‬مئة بعير‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه‬
‫وسلم في حديث عمرو بن حزم في الديات‪« :‬في النفس مائة من البل» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،15 ،10/4 :‬المهذب‪.196 ،174 ،173/2 :‬‬
‫(‪ )2‬رد المحتار على الدر المختار‪ ،382/5 :‬بداية المجتهد‪ ،402/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪.347‬‬
‫(‪ )3‬مغني المحتاج‪ ،53/4 :‬كشاف القناع‪.3/6 :‬‬

‫( ‪)7/624‬‬

‫وأما تساوي الديات بين الناس‪ :‬ففيه خلف‪:‬‬


‫قال الشافعية (‪ : )1‬قد يعرض للدية ما ينقصها‪ ،‬وهو أحد أسباب أربعة‪ :‬النوثة‪ ،‬والرق‪ ،‬وقتل‬
‫الجنين‪ ،‬الكفر‪ ،‬فالول يردها إلى الشطر‪ ،‬والثاني إلى القيمة المختلفة بحسب كل شخص‪ ،‬والثالث إلى‬
‫الغرة‪ ،‬والرابع إلى الثلث أو أقل‪.‬‬
‫وأذكر هنا الخلف في أمرين‪ :‬النوثة‪ ،‬والكفر‪.‬‬
‫النوثة (دية المرأة ) ‪ :‬اتفق الفقهاء ما عدا النادر (‪ )2‬على أن دية المرأة نصف دية الرجل‪ ،‬عملً‬
‫بأحاديث وآثار وبالمعقول‪ .‬أما الحاديث‪ ،‬فمنها قوله عليه السلم مرفوعا عن معاذ‪« :‬دية المرأة‬
‫نصف دية الرجل» (‪ ، )3‬وروي موقوفا عن علي‪« :‬عقل المرأة على النصف من عقل الرجل في‬
‫النفس‪ ،‬وفيما دونها» (‪. )4‬‬
‫والثار فيها كثيرة مروية عن عمر وعلي وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضوان ال‬
‫عليهم‪ ،‬فكان هناك إجماع من الصحابة على تنصيف دية المرأة‪.‬‬
‫والمعقول‪ :‬أن المرأة في ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل‪ ،‬فكذلك ديتها‪.‬‬
‫وحكي عن ابن عُلَيّة وأبي بكر الصم من نفاة القياس‪ :‬أن دية المرأة كدية الرجل‪ ،‬لقوله عليه الصلة‬
‫والسلم في حديث عمرو بن حزم‪« :‬في النفس المؤمنة مائة من البل» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪.53/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،254/7 :‬الدر المختار‪ ،407/5 :‬بداية المجتهد‪ ،405/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪،347‬‬
‫مغني المحتاج‪ 56/4 :‬ومابعدها‪ ،‬المهذب‪ ،197/2 :‬المغني‪ ،97/7 :‬كشاف القناع‪.18/6 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه البيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعا‪ ،‬وقال البيهقي‪ :‬إسناده ل يثبت مثله (نصب الراية‪:‬‬
‫‪ ،363/4‬نيل الوطار‪.)67/7 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه البيهقي عن علي موقوفا‪ ،‬وفيه انقطاع‪ .‬وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه‬
‫(المرجعان السابقان) ولم أجد هذا الحديث في روايات حديث عمرو بن حزم‪ ،‬بالرغم من نسبته إليه‬
‫في كتب فقه الحنابلة (المغني وكشاف القناع)‪.‬‬

‫( ‪)7/625‬‬

‫الكفر (دية غيرالمسلم ) ‪ :‬اختلف الفقهاء في تقدير دية غير المسلم على آراء ثلثة‪:‬‬
‫‪ - 1‬قال الحنفية (‪ : )1‬إن دية الذمي والمستأمن كدية المسلم‪ ،‬فل يختلف قدر الدية بالسلم والكفر‪،‬‬
‫لتكافؤ الدماء‪ ،‬وعملً بعموم قوله تعالى‪{ :‬وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‪ ،‬فدية مسلّمة إلى أهله}‬
‫[النساء‪ ]92/4:‬ولنه عليه الصلة والسلم «جعل دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار» (‪. )2‬‬
‫‪ - 2‬وقال المالكية والحنابلة (‪ : )3‬دية الكتابي (اليهودي والنصراني) المعاهد أو المستأمن نصف دية‬
‫المسلم‪ ،‬ونساؤهم نصف ديات المسلمين ‪ ،‬أي كنساء المسلمات‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬دية‬
‫المعاهد نصف دية المسلم» (‪ )4‬أو «إن دية المعاهد نصف دية المسلم» (‪ )5‬أو «دية عقل الكافر‬
‫نصف عقل المسلم» (‪. )6‬‬
‫‪ - 3‬وقال الشافعية (‪ : )7‬دية اليهودي والنصراني والمعاهد والمستأمن ثلث دية‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،254/7 :‬الدر المختار‪.407/5 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود في المراسيل عن سعيد بن المسيب‪ ،‬وفيه أحاديث أخرى تؤيده (نصب الراية‪:‬‬
‫‪.)366/4‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير للدردير‪ 267/4 :‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد‪ ،‬والقوانين الفقهية‪ ،‬المكان السابق‪،‬‬
‫المغني‪.796 ،793/7 :‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه أصحاب السنن الربعة من حديث ابن عمرو‪ ،‬وهذا لفظ أبي داود‪.‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر‪.‬‬
‫(‪ )6‬أخرجه أصحاب السنن الربعة وأحمد‪ ،‬وهذا لفظ الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫(‪ )7‬مغني المحتاج‪ ،57/4 :‬المهذب‪.197/2 :‬‬

‫( ‪)7/626‬‬

‫المسلم‪ ،‬لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلّى ال عليه وسلم «فرض على كل مسلم‬
‫قتل رجلً من أهل الكتاب أربعة آلف درهم» (‪ . )1‬وقضى بذلك عمر وعثمان رضي ال عنهما (‪)2‬‬
‫‪ ،‬ولنه أقل ما أجمع عليه في المسألة‪.‬‬
‫واتفق غير الحنفية على أن دية المجوسي والوثني المستأمن كعابد الشمس والقمر والزنديق ثمان مئة‬
‫درهم‪ ،‬أي ثلثا عشر دية المسلم بتقدير الجمهور‪ ،‬وأن نساءهم نصف دياتهم‪ ،‬أي أربع مئة درهم‪ ،‬كما‬
‫قال بعض الصحابة مثل عمر وعثمان وابن مسعود رضي ال عنهم‪ ،‬ربعض التابعين كسعيد بن‬
‫المسيب وسليمان ابن يسار وعطاء وعكرمة والحسن وغيرهم (‪. )3‬‬
‫والمذهب المنصوص عند الشافعية‪ :‬أن من لم يبلغه السلم‪ :‬إن تمسك بدين لم يبدّل‪ ،‬فتجب له دية‬
‫أهل دينه‪ ،‬فإن كان كتابيا فدية كتابي‪ ،‬وإن كان مجوسيا فدية مجوسي‪ ،‬وإن تمسك بدين بدّل فديته كدية‬
‫المجوسي‪ .‬وقال الحنابلة والحنفية‪ :‬ل يجوز قتل هذا الشخص إن وجد‪ ،‬حتى يدعى إلى السلم‪ ،‬فإن‬
‫قتل قبل الدعوى من غير أن يعطى أمانا‪ ،‬فل ضمان فيه؛ لنه ل عهد له ول إيمان‪.‬‬
‫العقوبة البدلية الثانية للعمد ـ التعزير ‪:‬‬
‫إذا سقط القصاص في القتل العمد‪ ،‬كان التعزير عقوبة بدلية عنه؛ لكن هل التعزير أمر واجب أو‬
‫جائز؟ وقد أشرت له في حالة عفو ولي الدم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه عبد الرزاق في مصنفه‪ .‬وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬دية‬
‫اليهودي والنصراني أربعة آلف» ‪.‬‬
‫(‪ )2‬روي الشافعي والدارقطني عن سعيد بن المسيب‪ ،‬قال‪« :‬كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني‬
‫أربعة آلف‪ ،‬والمجوسي ثمان مئة» ‪.‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير للدردير‪ ،268/4 ::‬مغني المحتاج‪ ،57/4 :‬المغني‪.796/7 :‬‬

‫( ‪)7/627‬‬

‫‪ - 1‬قال المالكية (‪ : )1‬يجب تعزير القاتل العمد إذا لم يقتص منه‪ ،‬والعقوبة هي جلد مئة‪ ،‬وحبس‬
‫سنة‪ ،‬عملً بأثر ضعيف عن عمر‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقال الجمهور (‪ : )2‬ل يجب التعزير‪ ،‬وإنما يفوض المر للحاكم‪ ،‬يفعل ما يراه مناسبا‬
‫للمصلحة‪ ،‬فيؤدب الشرير بالحبس أو الضرب أوالتأنيب ونحوها‪ .‬ويمكن أن يكون التعزير عند الحنفية‬
‫والمالكية هو القتل أو الحبس مدى الحياة‪.‬‬
‫النوع الثالث ـ العقوبة التبعية للقتل العمد ـ الحرمان من الميراث والوصية ‪:‬‬
‫ثبت في السنة تشريع عقوبة أخرى للقتل العمد وهي الحرمان من الرث‪ ،‬والوصية‪ ،‬وذلك في قوله‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ليس لقاتل ميراث» (‪ )3‬وفي رواية‪« :‬ل يرث القاتل شيئا» (‪ . )4‬وفي قوله‬
‫عليه الصلة والسلم‪« :‬ليس لقاتل وصية» (‪ . )5‬فإذا قتل الوارث مورثه‪ ،‬أو الموصى له الموصي‪،‬‬
‫حرم من الميراث والوصية‪ ،‬عملً بمبدأ سد الذرائع‪ ،‬كيل يطمع أحد بمال مورثه‪ ،‬فيتعجل موته‬
‫بالقتل‪.‬‬
‫لكن اختلف الفقهاء في نوع القتل المانع من الميراث أو الوصية‪.‬‬
‫أولً ـ الحرمان من الميراث ‪:‬‬
‫القتل من حيث المبدأ مانع من الميراث بالتفاق‪ ،‬لكن الخلف في تحديد صفة القتل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بداية المجتهد‪.396/2 :‬‬
‫(‪ )2‬التلويح على التوضيح‪ ،155/2 :‬المغني‪ ،745/7 :‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،229‬ولبي‬
‫يعلى‪ :‬ص ‪ ،266‬رد المحتار‪ ،196/3 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،355/4 :‬التشريع الجنائي السلمي‪:‬‬
‫‪ 183/2‬ومابعدها‪ ،‬المدخل الفقهي للستاذ الزرقا‪ :‬ف ‪.333 ،331‬‬
‫(‪ )3‬رواه مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه عن عمر (نيل الوطار‪.)74/6 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (نيل الوطار‪ ،‬المكان السابق)‪.‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه الدارقطني والبيهقي عن علي بن أبي طالب‪ ،‬وفيه راو متروك يضع الحديث (نصب‬
‫الراية‪.)402/4 :‬‬

‫( ‪)7/628‬‬

‫فقال الحنفية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (‪ : )1‬إن القتل العدوان بغير حق‪ ،‬الصادر من البالغ‬
‫العاقل‪ ،‬عمدا أم خطأ‪ ،‬مانع من الميراث‪.‬‬
‫لكن يشترط عند الحنفية أن يكون القتل مباشرة ل تسببا‪ .‬ولم يميز الشافعية والحنابلة بينهما‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل‬
‫فرق بين المباشرة والتسبب‪ ،‬فكلهما مانع من الرث‪.‬‬
‫وإذا كان القتل بحق وهو القتل غير المضمون كالقتل قصاصا أو حدا أو دفاعا عن النفس أو قتل‬
‫العادل الباغي‪ ،‬أو كالقتل الحادث بسبب التأديب كضرب الب والزوج والمعلم‪ ،‬فل يمنع الميراث عند‬
‫الحنفية والحنابلة‪ ،‬ويمنع الميراث عند الشافعية‪ ،‬أي أن القتل غير المضمون يمنع الرث عند‬
‫الشافعية‪ ،‬وعند الحنابلة ليمنع‪ .‬والقتل بإكراه مضمون عند الشافعية والحنابلة‪ ،‬فيمنع الميراث‪.‬‬
‫والقتل الصادر من الصبي أو المجنون أو النائم ل يمنع الميراث عند الحنفية‪ ،‬ويمنع الميراث عند‬
‫الشافعية والحنابلة؛ لنه قتل بالتسبب‪.‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )2‬إن القتل العمد‪ ،‬ومثله شبه العمد المعروف عند غيرهم والمقرر استثناء لديهم هو‬
‫المانع من الميراث‪ ،‬سواء أكان مباشرة أم تسببا‪ ،‬وأما القتل الخطأ فل يحرم الرث‪.‬‬
‫وعلى هذا فأشد المذاهب في جعل القتل مانعا من الميراث هم الشافعية ثم الحنابلة‪ ،‬ثم الحنفية ثم‬
‫المالكية‪ .‬والسبب في التشدد إطلق حديث ‪« :‬ليس للقاتل شيء» ولن القاتل لو ورث لم يؤمن أن‬
‫يستعجل الرث بالقتل‪ ،‬فاقتضت المصلحة حرمانه‪« :‬من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،542/5 :‬التلويح على التوضيح‪ ،153/2 :‬الشباه والنظائر للسيوطي‪ :‬ص ‪،136‬‬
‫مغني المحتاج‪ ،25/3 :‬المغني‪ ،292/6 :‬المهذب‪ ،24/2 :‬مؤلفنا نظرية الضمان‪ :‬ص ‪ 329‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪.486/4 :‬‬

‫( ‪)7/629‬‬
‫ثانيا ـ الحرمان من الوصية ‪:‬‬
‫القتل المانع من الوصية عند الحنفية (‪ : )1‬هو القتل المانع من الرث وهو أن يكون صادرا من بالغ‬
‫عاقل‪ ،‬ومباشرة ل تسببا‪ ،‬وعدوانا أي بغير حق‪ ،‬سواء أكان عمدا أم خطأ‪.‬‬
‫وعند المالكية (‪ : )2‬ل يصلح القتل الخطأ مانعا من الوصية كالميراث‪ ،‬وأما القتل العمد ومثله شبه‬
‫العمد‪ ،‬فهو مانع من الوصية على الراجح إن لم يعلم الموصي بأن الموصى له ضربه‪ .‬فإن علم‬
‫الموصي بمن ضربه أو قتله‪ ،‬ولم يغير وصيته‪ ،‬أو أوصى له بعد الضرب صحت الوصية‪ ،‬سواء قتله‬
‫عمدا أم خطأ‪.‬‬
‫ومثلهما قال الحنابلة (‪ : )3‬الصح أن القتل بغير حق‪ ،‬سواءأكان عمدا أم خطأ يبطل الوصية؛ لنه‬
‫يمنع الميراث‪ ،‬وهو آكد منها‪ ،‬فهي أولى بحرمان القاتل منها‪.‬‬
‫وقال الشافعية (‪ : )4‬الظهر أن الموصى له لو قتل الموصي ولو تعديا‪ ،‬استحق الموصى به؛ لن‬
‫الوصية تمليك بعقد فأشبهت عقد الهبة‪ ،‬وخالفت الرث‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن القتل المانع من الميراث مانع عند الجمهور من الوصية‪ .‬وأما عند الشافعية‪ :‬فل يعتبر‬
‫القتل مانعا من الوصية‪ ،‬وإن منع الميراث‪.‬‬

‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،459/5 :‬البدائع‪.339/7 :‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الكبير للدردير‪.426/4 :‬‬
‫(‪ )3‬منار السبيل في شرح الدليل على مذهب أحمد للشيخ إبراهيم بن ضويان‪ ،39/2 :‬ط دمشق‪،‬‬
‫كشاف القناع‪.397/4 :‬‬
‫(‪ )4‬الشباه والنظائر للسيوطي‪ ،136/2 :‬مغني المحتاج‪.43/3 :‬‬

‫( ‪)7/630‬‬

‫المبحث الثالث ـ القتل شبه العمد وعقوبته ‪:‬‬


‫ليعرف المالكية القتل شبه العمد‪ ،‬فهو في حكم العمد إل في حالة قتل الب ابنه فهو شبه عمد عندهم‬
‫(‪ . )1‬وعرفه الجمهور‪ ،‬ولكنهم كما تبين اختلفوا في تحديد معناه‪ ،‬فهو عند أبي حنيفة‪ :‬أن يتعمد‬
‫الجاني الضرب بما ليس بسلح أو ما في حكمه‪ ،‬كالقتل بالمثقل من عصا أو حجر أو خشب‬
‫كبير‪.‬وعند الصاحبين والشافعية والحنابلة‪ :‬القتل بالمثقل عمد‪ .‬وشبه العمد‪ :‬أن يتعمد الجاني الضرب‬
‫بما ل يقتل غالبا كالحجر والخشب الصغير والعصا الصغيرة‪.‬‬
‫وعقوبات القتل شبه العمد أنواع ثلثة‪ :‬أصلية‪ ،‬وبدلية‪ ،‬وتبعية‪.‬‬
‫النوع الول ـ العقوبة الصلية ‪:‬‬
‫هناك عقوبتان أصليتان للقتل شبه العمد‪ :‬وهما الدية والكفارة‪.‬‬
‫المطلب الول ـ الدية المغلظة ‪:‬‬
‫ل قصاص في القتل شبه العمد‪ ،‬بل فيه الدية المغلظة على العاقلة وهي العقوبة الولى فيه (‪ ، )2‬لقوله‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬أل إن دية الخطأ شبه العمد‪ ،‬ما كان بالسوط والعصا‪ ،‬مئة من البل‪ :‬منها‬
‫أربعون في بطونها أولدها» (‪ )3‬وهو رأي المالكية والشافعية‪ ،‬وتجب هذه الدية مربعة عند الحنابلة‬
‫والحنفية‪.‬‬
‫ودية شبه العمد مثل دية العمد في نوعها ومقدارها‪ ،‬وتغليظها‪ ،‬لكنها تختلف عنها في الملزم بها‪ ،‬وفي‬
‫وقت أدائها‪ ،‬فدية العمد تجب على الجاني في ماله معجلة‪ ،‬ودية شبه العمد تجب على العاقلة مؤجلة‬
‫في مدى ثلث سنين‪.‬‬
‫لكن المام مالك يرى أن شبه العمد كالعمد‪ ،‬في وجوب الدية في مال الجاني‪ .‬إل في حالة قتل الب‬
‫ابنه فيما إذاحذفه بسيف أو عصا‪ ،‬فقتله‪ ،‬ففيه دية شبه عمد‪ :‬مغلظة مثلثة‪ ،‬مؤجلة كدية الخطأ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،345‬بداية المجتهد‪ 393 ،390/2 :‬وذلك كأن يحذف الب ابنه بسيف أو‬
‫عصا‪ ،‬فيقتله‪ ،‬كما فعل رجل من بني مدلج بابنه‪ ،‬ففرض عمر على الب دية مغلظة مثلثة‪ 30 :‬حقة و‬
‫‪ 30‬جذعة‪ ،‬و ‪ 40‬حوامل‪ )2( .‬البدائع‪.251/7 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد ال بن عمرو‪ ،‬وصححه ابن القطان (نصب‬
‫الراية‪.)356/4 :‬‬

‫( ‪)7/631‬‬

‫أولً ـ الملزم بأداء دية شبه العمد ‪:‬‬


‫قال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) (‪ : )1‬تجب دية شبه العمد بطريق التعاون والتخفيف‬
‫والمواساة للجاني على العاقلة‪ ،‬ل في مال الجاني‪.‬‬
‫وبما أن المالكية (‪ )2‬يقسمون القتل إلى نوعين فقط‪ :‬وهما العمد والخطأ‪ ،‬وليس عندهم شبه العمد‪،‬‬
‫وهو في حكم العمد‪ ،‬فإنهم يوجبون دية شبه العمد في مال القاتل‪ ،‬ل في مال العاقلة إل فيما استثناه‬
‫المام مالك‪ .‬وهذا موافق لرأي جماعة من فقهاء المذاهب غير المشهورة (وهم ابن سيرين والزهري‬
‫والحارث العُكلي وابن شُبرمة وقتادة وأبو ثور وأبو بكر الصم)؛ لن هذا القتل موجَب فعل قصده‬
‫الجاني‪ ،‬فل تتحمله العاقلة عنه كالعمد المحض‪ ،‬ولن دية هذا القتيل دية مغلظة‪ ،‬فأشبهت دية العمد‪.‬‬
‫ودليل الجمهور حديث أبي هريرة قال‪« :‬اقتتلت امرأتان من هذيل‪ ،‬فرمت إحداهما الخرى بحجر‪،‬‬
‫فقتلتها وما في بطنها‪ ،‬فاختصموا إلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،255/7 :‬تكملة فتح القدير‪ ،251/8 :‬مغني المحتاج‪ ،55/4 :‬المغني‪ 766/7 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،405 ،401/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،282/4 :‬المغني‪.767/7 :‬‬

‫( ‪)7/632‬‬

‫فقضى أن دية جنينها غرّه (‪ : )1‬عبد أو وليدة‪ ،‬وقضى بدية المرأة على عاقلتها» (‪ . )2‬قال ابن‬
‫تيمية‪ :‬وفيه دليل على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة‪.‬‬
‫ويؤكده أنه قتل ل يوجب قصاصا‪ ،‬فتجب ديته على العاقلة‪ ،‬كالخطأ‪ ،‬ويختلف عن العمد المحض؛ أن‬
‫العمد قصد فيه الجاني الفعل وإرادة القتل‪ ،‬فاستحق تغليظ الدية بكونها في ماله‪ ،‬وتدفع فورا‪ ،‬وشبه‬
‫العمد قصد فيه الجاني الفعل‪ ،‬ولم يرد القتل‪ ،‬فاستحق التخفيف من ناحيتين‪ :‬هما كون الدية على‬
‫العاقلة‪ ،‬وكونها مؤجلة كما في القتل الخطأ‪.‬‬
‫وهل تجب الدية ابتداء على العاقلة أو على القاتل؟‬
‫هناك رأيان للفقهاء‪ :‬قال الحنفية والمالكية والصح عند الشافعية (‪ : )3‬تجب ابتداء على القاتل؛ لن‬
‫سبب وجوبها وهو القتل‪ ،‬وجد منه‪ ،‬ل من العاقلة‪ ،‬فكان الوجوب عليه‪ ،‬ل على العاقلة‪ ،‬وإنما العاقلة‬
‫تتحمل دية واجبة عليه‪.‬‬
‫ويتحمل القاتل جزءا من الدية مع العاقلة؛ لنه هو المطالب أصالة بتحمل جريرة فعله‪ ،‬ودور العاقلة‬
‫تابع‪ ،‬فهو مطالب بحفظ نفسه من ارتكاب الجرائم‪ ،‬وعاقلته مطالبة أيضا بحفظه من الجريمة‪ ،‬فإذا لم‬
‫يحفظوا فرّطوا‪ ،‬والتفريط منهم ذنب‪ .‬والقاتل يعتمد على مناصرة عاقلته وحمايتها له‪ ،‬فتشاركه في‬
‫تحمل تبعة المسؤولية‪ ،‬ل أنها تستقل بتحملها عنه‪.‬‬
‫وبناء على هذا الرأي‪ :‬إذا لم يكن للجاني عاقلة يرجع بالدية كلها عليه‪ ،‬وهذا هو الظهر عند‬
‫الشافعية‪ .‬لكنهم قالوا في حال وجود العاقلة‪ :‬متى وزع الواجب في السنة الولى على العاقلة أو بيت‬
‫المال‪ ،‬وفضل شيء منه فهو على الجاني مؤجلً عليه كالعاقلة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أصل الغرة‪ :‬البياض في وجه الفرس‪ ،‬وعبر هنا بالغرة عن الجسم كله‪.‬‬
‫(‪ )2‬متفق عليه بين أحمد والشيخين (البخاري ومسلم) (نيل الوطار‪.)69/7 :‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،255/7 :‬مغني المحتاج‪ ،97 ،95/4 :‬الشرح الكبير للدردير‪ 281/4 :‬ومابعدها‪ ،‬الدر‬
‫المختار ورد المحتار‪.454 ،400/5 :‬‬

‫( ‪)7/633‬‬

‫وقال الحنابلة (‪ : )1‬تجب الدية على العاقلة ابتداء؛ لنه ل يطالب بها غيرهم‪ ،‬وليعتبر تحملهم ول‬
‫رضاهم بها‪ ،‬فل تجب على غير من وجبت عليه‪ ،‬كما لو عدم القاتل‪.‬‬
‫ول يتحمل القاتل عند الحنابلة جزءا من الدية؛ لن الدية تلزم العاقلة ابتداء‪ ،‬فإن لم توجد عاقلة أو‬
‫عجزت‪ ،‬وكان الجاني مسلما أخذت الدية أوباقيها من بيت المال حالّة دفعة واحدة؛ لن الدية إنما‬
‫أجلت على العاقلة تخفيفا ول حاجة للتأجيل في بيت المال‪.‬‬
‫ثانيا ـ وقت أداء دية شبه العمد‪ :‬تؤدى دية شبه العمد كما تقدم في دية العمد مؤجلة في مدى ثلث‬
‫سنين‪ ،‬في آخر كل سنة ثلثها‪ ،‬وهو مروي عن النبي صلّى ال عليه وسلم‪ ،‬ومحكي عن عمر وعلي‬
‫رضي ال عنهما‪ ،‬وكونها في آخر السنة لتتمكن العاقلة دفعها من إنتاج المواسم‪ .‬وكونها في كل سنة‬
‫الثلث‪ ،‬توزيعا لها على السنين الثلث‪.‬‬
‫ويعتبر بدء السنة عند الحنفية (‪ )2‬من يوم الحكم أو القضاء بها‪ ،‬وهو رأي المالكية (‪ )3‬في دية‬
‫الخطأ‪.‬‬
‫وعند الشافعية والحنابلة (‪ : )4‬تبدأ السنة من وقت وجوب الدية‪ ،‬فإن كانت دية نفس‪ ،‬فمن حين‬
‫الموت؛ لنه وقت استقرار الوجوب في الذمة‪ ،‬وإن كانت دية غير النفس‪ ،‬فمن حين الجناية؛ لنها تلك‬
‫حالة الوجوب‪.‬‬
‫ثالثا ـ مقدار ما تتحمله العاقلة من دية شبه العمد ‪:‬‬
‫يرى الحنفية (‪ : )5‬أن العاقلة لتتحمل ما دون نصف عشر الدية (وهو خمس من البل‪ :‬أرش‬
‫الموضِحة) إذا كانت الجناية فيما دون النفس‪.‬أما بدل النفس فتحمله العاقلة‪ ،‬وإن قل؛ لن بدل النفس‬
‫ثبت بالنص على العاقلة‪ .‬وأما ما دون النفس فعلى الجاني‪ ،‬لقول الشعبي‪« :‬ل تعقل العاقلة عمدا‪ ،‬ول‬
‫عبدا‪ ،‬ول صلحا‪ ،‬ول اعترافا‪ ،‬ول ما دون أرش الموضحة» (‪. )6‬‬
‫والصح عند الحنفية‪ :‬أنه ل يؤخذ في كل سنة من كل واحد من أفراد العاقلة إل درهم‪ ،‬أو درهم‬
‫وثلث‪ ،‬بحيث يؤخذ منه في مجموع الثلث السنوات ثلثة أو أربعة دراهم‪.‬‬
‫وقال المالكية‪ ،‬والحنابلة (‪ : )7‬ل تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية؛ لن عمر رضي ال عنه قضى في‬
‫الدية أل يحمل منها شيء‪ ،‬حتى تبلغ عقل المأمومة ‪ ،‬أي تعويضها‪ ،‬وهو ثلث الدية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬كشاف القناع‪ ،60/6 :‬المغني‪.771/7 :‬‬
‫(‪ )2‬اللباب شرح الكتاب‪ ،180 ،178/3 :‬الدر المختار‪.454/5 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير للدردير‪ ،285/4 :‬الشرح الصغير‪.403/4 :‬‬
‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪ ،98/4 :‬المغني‪ 767/7 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )5‬الدر المختار‪ 454/5 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 255/7 :‬وما بعدها‪ ،322 ،‬اللباب شرح الكتاب‪:‬‬
‫‪.179/3‬‬
‫(‪ )6‬رواه البيهقي موقوفا على الشعبي‪ .‬وتأويل العبد معناه‪ :‬أن يقتل العبد حرا‪ ،‬فليس على عاقلة موله‬
‫شيء من جنايته‪ ،‬وإنما هي في رقبته (نصب الراية‪.)379/4 :‬‬
‫(‪ )7‬الشرح الكبير للدردير‪ ،286 ،282/4 :‬الشرح الصغير للدردير‪ ،396/4 :‬المغني‪،775/7 :‬‬
‫‪ ،788 ،777‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ 347‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)7/634‬‬

‫ويتحمل عندهم كل فرد من أفراد العاقلة على قدر ما يطيق‪ ،‬بحسب اجتهاد الحاكم‪ ،‬وليس فيه تقدير‬
‫شرعي محدد‪ ،‬فل يكلف أحد ما يجحف به ويشق عليه؛ لن تكليف العاقلة مشروع على سبيل‬
‫المواساة للقاتل والتخفيف عنه‪.‬‬
‫وأقل عدد للعاقلة عند المالكية بحيث ل ينقص عنه‪ :‬هو سبع مئة‪ ،‬وقيل‪ :‬ألف‪ ،‬فإذا وجد من العصبة‬
‫هذا العدد‪ ،‬فل يضم إليهم أحد‪ ،‬وإن نقصوا عن هذا العدد‪ ،‬ولو كانوا أغنياء‪ ،‬ضم إليهم ما يكمّلهم من‬
‫الموالي‪ ،‬أي المعتِقون‪.‬‬
‫وقال الشافعية (‪ : )1‬تحمل العاقلة جميع الدية‪ ،‬قلّت أو كثرت؛ لنه إذا ألزمت بالكثير فالقليل من باب‬
‫أولى‪ .‬وتوزع على النحو التالي‪:‬‬
‫على الغني من العاقلة‪ :‬نصف دينار ذهب أو قدره‪ ،‬وعلى المتوسط (‪ )2‬ربع دينار أو ثلثة دراهم‪،‬‬
‫كل سنة من الثلث السنوات؛ لنها وجبت مواساة متعلقة بالحول‪ ،‬فتتكرر بتكرره كالزكاة‪ .‬فيصبح‬
‫جميع ما يلزم الغني في الثلث السنين دينارا ونصفا‪ ،‬والمتوسط يلزمه نصف دينار وربع‪.‬‬
‫رابعا ـ هل تحمل العاقلة خطأ الحاكم؟‬
‫تتحمل العاقلة الخطأ الشخصي للمام والحاكم‪ :‬وهو الذي ل صلة له بالحكم والجتهاد‪.‬‬
‫أما الخطأ الناجم عن الحكم والجتهاد ففيه رأيان (‪: )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المهذب‪ ،211/2 :‬مغني المحتاج‪.99 ،95/4 :‬‬
‫(‪ )2‬الغني‪ :‬هو من يملك فاضلً عن نصاب الزكاة وهو عشرون دينارا‪ ،‬والمتوسط‪ :‬من يملك عشرين‬
‫دينارا‪.‬‬
‫(‪ )3‬المغني‪ 780/7 :‬وما بعدها‪ ،833 ،‬المهذب‪ ،212 ،192/2 :‬مغني المحتاج‪ ،81/4 :‬حاشية‬
‫الدسوقي على الشرح الكبير‪.268 ،252/4 :‬‬

‫( ‪)7/635‬‬

‫قال الجمهور (الشافعية في قول راجح والمالكية والحنابلة)‪ :‬يجب على عاقلته أيضا‪ ،‬لما روي عن‬
‫عمر رضي ال عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء‪ ،‬فأجهضت جنينها‪ ،‬فقال عمر لعلي‪ :‬عزمت‬
‫عليك أل تبرح حتى تقسمها على قومك (‪ ، )1‬أي قريش‪ ،‬ولن الحاكم جانٍ‪ ،‬فكان خطؤه على عاقلته‬
‫كغيره‪.‬‬
‫وقال الحنفية (‪ : )2‬عقل (أي تعويض) خطأ الحاكم في بيت المال؛ لن الخطأ يكثر في أحكامه‬
‫واجتهاده‪ ،‬فإيجاب عقله على عاقلته مجحف بهم‪ ،‬ولن الحاكم نائب عن ال تعالى في أحكامه وأفعاله‪،‬‬
‫فكان أرش جنايته في مال ال سبحانه‪ .‬وهذا هو رأي العز بن عبد السلم من الشافعية (‪. )3‬‬
‫خامسا ـ من العاقلة‪ ،‬وهل تتحمل الدية في العصر الحاضر؟‬
‫العاقلة‪ :‬هي التي تتحمل العقل أي الدية‪ ،‬وسميت الدية عقلً؛ لنها تعقل الدماء من أن تسفك‪ ،‬أي‬
‫تمسكه‪ ،‬ومنه سمي العقل؛ لنه يمنع القبائح‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء في تحديد العاقلة على ثلثة مذاهب‪:‬‬
‫‪ - 1‬قال الحنفية (‪ : )4‬العاقلة‪ :‬هم أهل الديوان (‪ ، )5‬إن كان القاتل من أهل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه عبد الرزاق في مصنفه (نصب الراية‪.)398/4 :‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار‪ ،397/5 :‬مجمع الضمانات للبغدادي‪ :‬ص ‪ ،172‬نظرية الضمان للؤلف‪ :‬ص ‪32‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬قواعد الحكام‪ ،165/2 :‬نظرية الضمان للمؤلف‪ :‬ص ‪ 336‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬الدر المختار ‪ 453/5‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 255/7 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ 177/6 :‬ومابعدها‪،‬‬
‫الكتاب مع اللباب‪ 178/3 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )5‬الديوان‪ :‬اسم للدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند وعددهم وعطاؤهم ‪ .‬وكان عمر أول من دون‬
‫الدواوين في العرب‪ .‬وكانت الدواوين السلطانية في عهد عمر أربعة أقسام‪ :‬ديوان الجيش أو الجند‪،‬‬
‫وديوان الخراج والجزية‪ ،‬وديوان الولة‪ ،‬وديوان بيت المال (الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪،199‬‬
‫تحرير الحكام في تدبير أهل السلم لبن جماعة‪ :‬ص ‪.)138‬‬

‫( ‪)7/636‬‬

‫الديوان‪ ،‬وهم الجيش أو العسكر الذين كتبت أساميهم في الديوان‪ :‬وهو جريدة الحساب‪ .‬أو هم المقاتلة‬
‫من الرجال الحرار البالغين العاقلين‪ ،‬أي أهل الرايات واللوية‪ ،‬تؤخذ من عطاياهم أو من أرزاقهم (‬
‫‪ )1‬ل من أصول أموالهم‪ .‬بدليل فعل عمر رضي ال عنه‪ ،‬فإن الدية كانت على أهل النصرة‪ ،‬وكانت‬
‫بأنواع‪ :‬بالقرابة‪ ،‬والحلف‪ ،‬والولء‪ ،‬والعقد‪ ،‬فلما دوّن عمر الدواوين جعل العقل (الدية) على أهل‬
‫الديوان بمحضر من الصحابة رضي ال عنهم (‪. )2‬‬
‫وإن لم يكن القاتل من أهل الديوان‪ ،‬فعاقلته‪ :‬قبيلته وأقاربه‪ ،‬وكل من يتناصر هو بهم؛ لنه يستنصر‬
‫بهم‪ .‬فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسبا على ترتيب العصبات‪ :‬القرب فالقرب‪،‬‬
‫فيقدم الخوة ثم بنوهم‪ ،‬ثم العمام ثم بنوهم‪ ،‬وأما من لم يكن له عاقلة كاللقيط والحربي أو الذمي الذي‬
‫أسلم فعاقلته بيت المال في ظاهر ا لرواية‪ .‬والقاتل داخل مع العاقلة‪ ،‬فيكون ـ كما تقدم ـ فيما يؤدي‬
‫مثل أحدهم؛ لنه هو الجاني‪ ،‬فل معنى لخراجه‪ ،‬ومؤاخذة غيره‪ ،‬بل هو أولى بتحمل تبعة فعله‪.‬‬
‫ول يدخل في العاقلة آباء القاتل وأبناؤه (‪ )3‬ول الزواج؛ لنه ل يتحقق بهم الكثرة‪ ،‬ول النساء‬
‫والصبيان والمجانين؛ لن تحمل العاقلة تبرع بالعانة‪ ،‬وهؤلء ليسوا من أهل التبرع‪.‬‬
‫ول تتحمل العاقلة جناية العبد‪ ،‬ولالعمد‪ ،‬ول ما لزم صلحا ول اعترافا‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬العطاء‪ :‬ما يعطى للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين‪ ،‬ل بقدر الحاجة‪ ،‬بل بصبره‬
‫وعنائه في أمر الدين‪ .‬والرزق‪ :‬ما يفرض للجندي في بيت المال‪ ،‬بقدر الحاجة‪ ،‬في كل شهر‪ ،‬أو‬
‫مياومة كالرواتب اليوم‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع نصب الراية‪.398/4 :‬‬
‫(‪ )3‬رد المحتار‪ ،454/5 :‬وقيل‪ :‬يدخل الباء والبناء‪.‬‬

‫( ‪)7/637‬‬

‫لقول الشعبي السابق ذكره‪ ،‬ولنه ل يتناصر بالعبد‪ ،‬ولن القرار مقصور على نفس المقر‪ ،‬فل يتعدى‬
‫إلى العاقلة‪ ،‬إل أن يصدقوه في إقراره‪ ،‬ولن ما لزم بالصلح عن دم العمد‪ ،‬يجب في القصاص‪ ،‬فإذا‬
‫صالح عنه الجاني كان بدله في ماله‪.‬‬
‫كما ل تتحمل العاقلة أقل من نصف عشر الدية‪ ،‬وتتحمل نصف العشر فصاعدا كما تبين‪ ،‬وما نقص‬
‫عن هذا المقدار‪ ،‬فهو في مال الجاني‪.‬‬
‫‪ - 2‬ومذهب المالكية‪ :‬أن العاقلة هم أهل الديوان (وهو الدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند وعددهم‬
‫وعطاءاتهم وقدمهم) فإن لم يكن ديوان فالعصبة (ويبدأ بالخوة‪ ،‬ثم بالعمام‪ ،‬ثم من بعدهم من‬
‫القارب) ثم بيت المال إن كان الجاني مسلما؛ لن بيت المال ل يعقل عن كافر‪ ،‬فإن لم يكن بيت مال‪،‬‬
‫فتقسط الدية على الجاني (‪. )1‬‬
‫‪ - 3‬وقال الشافعية والحنابلة (‪ : )2‬العاقلة‪ :‬هم قرابة القاتل من قبل الب‪ ،‬وهم العصبة النسبية‬
‫كالخوة لغير أم والعمام‪ ،‬دون أهل الديوان‪ ،‬بدليل ما روى المغيرة بن شعبة رضي ال عنه أن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم قضى في المرأة بديتها على عصبة القاتل (‪. )3‬‬
‫ويدخل عند المالكية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد‪ :‬الباء والبناء خلفا لما قال الحنفية؛‬
‫لنهم أحق العصبات بميراث الجاني‪ ،‬فكانوا أولى بتحمل عقله‪ ،‬أي ديته‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير مع الدسوقي‪ ،282/4 :‬الشرح الصغير‪ 397/4 :‬وما بعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص‬
‫‪ ،347‬بداية المجتهد‪.405/2 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ 95/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،212/2 :‬المغني‪ ،791-783/7 :‬كشاف القناع‪58/6 :‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي (نيل الوطار‪.)69/7 :‬‬

‫( ‪)7/638‬‬
‫واستثنى الشافعية كالحنفية الصل من أب وإن عل‪ ،‬والفرع من ابن وإن سفل؛ لنهم أبعاض الجاني‪،‬‬
‫فكما ل يتحمل الجاني الدية ل يتحمل أبعاضه وهم الباء والبناء‪.‬‬
‫وروى النسائي‪« :‬ل يؤخذ الرجل بجريرة (أي جريمة) ابنه» وفي رواية لبي داود في خبر المرأتين‬
‫اللتين اقتتلتا‪ ،‬من هذيل‪ ،‬السابق (‪« : )1‬وبرأ الولد» أي من العقل ‪ ،‬وقيس به غيره من البعاض‪.‬‬
‫وفيها أيضا « وبرأ زوجها » ‪ .‬ويقدم القرب فالقرب من العصبة‪ :‬البنوة‪ ،‬ثم البوة عند من يدخلهم‬
‫في العاقلة‪ ،‬ثم الخوة‪ ،‬ثم العمومة‪ .‬وأعمام الب ثم بنوهم مقدمون على أعمام الجد ثم بنوهم‪.‬‬
‫ومن لم تكن له عاقلة أديت ديته من بيت المال‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬أنا وارث من ل وارث‬
‫له‪ ،‬أعقل عنه وأرثه» (‪ . )2‬فإن فقد بيت المال فالواجب عند المالكية والشافعية على الجاني‪ ،‬والجاني‬
‫أحد العاقلة؛ لن الدية عندهم تلزمه ابتداء‪ ،‬تتحملها العاقلة‪ .‬وليس عند الحنابلة على القاتل في هذه‬
‫الحالة شيء ‪ ،‬كما أنه ليس واحدا من العاقلة؛ لن الدية عندهم لزمت العاقلة ابتداء‪.‬‬
‫وتوزع الدية على أفراد العاقلة قريبهم وبعيدهم‪ ،‬حاضرهم وغائبهم‪ ،‬صحيحهم ومريضهم‪ ،‬ولو هرما‬
‫وزمِنا وأعمى؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم قضى في امرأة بني لَحْيان التي توفيت بسبب العتداء‬
‫عليها وعلى جنينها بأن العقل على عصبتها (‪ ، )3‬كما أن النبي صلّى ال عليه وسلم في حادثة أخرى‬
‫قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها (‪. )4‬‬
‫ول تؤخذ الدية من فقير من العاقلة ول امرأة ول صبي ول زائل العقل؛ لن تحمل الدية للتناصر‪،‬‬
‫والمواساة‪ ،‬والفقير ل يقدر على المواساة‪ ،‬وغيره ليس من أهل النصرة‪.‬‬
‫ومن مات من العاقلة أو افتقر أو جُنّ قبل آخر الحول لم يلزمه شيء؛ لنه مال يجب في آخر العام‬
‫على سبيل المواساة‪ ،‬فأشبه الزكاة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود عن جابر‪ ،‬ونصه «إن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الخرى‪ ،‬ولكل واحدة‬
‫منهما زوج وولد‪ ،‬فجعل رسول ال صلّى ال عليه وسلم دية المقتول على عاقلة القاتلة‪ ،‬وبرأ زوجها‬
‫وولدها» (نيل الوطار‪.)81/7 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان‪.‬‬
‫(‪ )3‬متفق عليه من حديث أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أحمد وأصحاب السنن إل الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪.‬‬

‫( ‪)7/639‬‬
‫مصير نظام العواقل في الوقت الحاضر في رأي متأخري الحنفية ‪:‬‬
‫إن نظام العواقل مستثنى من القاعدة العامة في تحمل كل مخطئ وزر نفسه‪ ،‬ولكن دون أن يلزم‬
‫العاقلة شيء من ذنب الجاني أخرويا‪ .‬والسبب في هذا الستثناء هو مواساة القاتل ومناصرته وإعانته‬
‫والتخفيف عنه‪ ،‬ودعم أواصر المحبة واللفة والصلح بين أفراد السرة ‪ ،‬والحفاظ على حقوق‬
‫المجني عليه حتى لتذهب الجناية عليه هدرا إذا كان القاتل فقيرا‪ ،‬وأغلب الناس فقراء‪ ،‬فكان في ذلك‬
‫النظام عدالة ومساواة في المجتمع‪ ،‬حتى ل يحرم أحد من التعويض بسبب فقر الجاني‪ .‬ثم إن هذا‬
‫النظام فيه تقدير للباعث الذي يشاهد عند القاتل‪ ،‬إذ لول استنصاره بأسرته واعتماده على قوتهم لتثبت‬
‫في المر مليا‪ ،‬وصدرت أفعاله عن روية كاملة ووعي تام‪ ،‬لذا اعتبر الفقه السلمي أن الجناية‬
‫الواقعة منسوبة ضمنا إلى كل فرد من أفراد العاقلة‪ ،‬فأوجبت الدية عليهم جميعا (‪ . )1‬وكان بذل‬
‫المال من العاقلة بديلً عن النصرة التي كانت في الجاهلية‪ ،‬حيث كانت القبيلة تمنع الجاني وتحميه‬
‫كيل يدنو منه أولياء القتل للخذ بالثأر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع الجريمة والعقوبة لستاذنا محمد أبي زهرة‪ :‬ص ‪ 423‬ومابعدها‪ ،‬المسؤولية الجنائية‬
‫لستاذنا الشيخ محمود شلتوت‪ :‬ص ‪ ،38‬التشريع الجنائي السلمي‪ 198/2 :‬ومابعدها‪ ،‬نظرية‬
‫الضمان للمؤلف‪ :‬ص ‪.298‬‬

‫( ‪)7/640‬‬

‫وبالرغم من كل هذه المزايا‪ ،‬فإن نظام العاقلة كان مناسبا للبيئة التي كانت فيه السرة الواحدة‬
‫متماسكة البنيان‪ ،‬متناصرة فيما بينها على السراء والضراء‪ .‬أما وإنه قد تفككت السر‪ ،‬وتحللت عرى‬
‫الروابط بين القارب‪ ،‬وزالت العصبية القبلية‪ ،‬ولم يعد الهتمام بالنسب أمرا ذا بال‪ ،‬فلم يبق بالتالي‬
‫محل لنظام العواقل‪ ،‬لفقدان معنى التناصر بين أفراد السرة‪.‬‬
‫يرشد إليه أن نظام العاقلة تطور ـ في رأي الحنفية ـ من السرة إلى العشيرة‪ ،‬فالقبيلة‪ ،‬ثم إلى‬
‫الديوان‪ ،‬ثم إلى الحرفة (‪( )1‬أو النقابة في عصرنا) ثم إلى بيت المال‪.‬‬
‫وبما أن نظام العشيرة قد زال‪ ،‬وبيت المال قد تغير نظامه‪ ،‬واختلف النظام الجتماعي عما كان عليه‬
‫في زمن العرب‪ ،‬وفقدت عصبية القبيلة بعضهم لبعض‪ ،‬وصار كل امرئ معتمدا على نفسه دون‬
‫قبيلته كما في النظام الحاضر‪ ،‬فإن دية القتل الخطأ أو شبه العمد‪ ،‬أصبحت في زماننا هذا واجبة في‬
‫مال الجاني وحده‪ ،‬وقد نص عليه الحنفية (‪ . )2‬وهذا موافق لرأي أبي بكر الصم والخوارج الذين‬
‫يجعلون الدية على القاتل ل على العاقلة‪ ،‬أخذا بعموم اليات والحاديث التي تقرر مبدأ المسؤولية‬
‫الفردية أو الشخصية عن الفعال (‪ . )3‬وهو أيضا منسجم مع رأي باقي المذاهب الذين قرروا وجوب‬
‫الدية على الجاني إذا لم توجد له عاقلة ولم يوجد بيت المال‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬قال الحنفية‪ :‬لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة (اللباب‪.)178/3 :‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار ورد المحتار‪.456/5 :‬‬
‫(‪ )3‬مذكرة تفسير آيات الحكام بالزهر‪.123/2 :‬‬

‫( ‪)7/641‬‬

‫المطلب الثاني ـ العقوبة الصلية الثانية‪ :‬الكفارة ‪:‬‬


‫القتل شبه العمد عند جمهور الفقهاء (‪ )1‬القائلين به وهم غير المالكية‪ :‬تجب فيه كفارة؛ لنه ملحق‬
‫بالخطأ المحض في عدم القصاص‪ ،‬وتحمل العاقلة ديته‪ ،‬وتأجيلها ثلث سنين‪ ،‬فجرى مجرى الخطأ‬
‫في وجوب الكفارة على الجاني‪.‬‬
‫والكفارة كما تقدم في القتل العمد‪ :‬هي عتق رقبة مؤمنة‪ ،‬فمن لم يجدها في ملكه‪ ،‬أو لم يجد ثمنها‬
‫فاضلً عن كفايته لشراء الرقبة وإعتاقها‪ ،‬أو لم يجد الرقبة فعلً‪ ،‬وجب عليه صيام شهرين متتابعين‪،‬‬
‫كما ورد في النص القرآني‪.‬‬
‫والمالكية (‪ )2‬يعتبرون شبه العمد مثل العمد ل يوجب كفارة‪.‬‬
‫ويلحظ أن حوادث الدهس بالسيارات اليوم توجب الدية وكفارة القتل بالتسبب‪.‬‬
‫النوع الثاني ـ العقوبة البدلية في القتل شبه العمد ‪:‬‬
‫إذا سقطت الدية لسبب ما‪ ،‬حل محلها التعزير‪ ،‬وعلى الحاكم عند المالكية تعزير القاتل بما يراه‬
‫مناسبا‪ .‬وجمهور الفقهاء يتركون الخيار في التعزير للحاكم‪ ،‬كما تقدم في تعزير القاتل عمدا‪ .‬وأما‬
‫الصوم فهو خصلة من خصال الكفارة التي هي عقوبة أصلية‪ ،‬ولكنها تأتي مُرتّبة بعد العجز عن عتق‬
‫الرقبة‪.‬‬
‫النوع الثالث ـ العقوبة التبعية في القتل شبه العمد ‪:‬‬
‫يعاقب القاتل شبه العمد بعقوبتين أخريين عدا الدية‪ ،‬وهما الحرمان من الميراث والحرمان من‬
‫الوصية‪ ،‬على النحو المبين في جزاء القتل العمد‪ ،‬عملً بعموم حديثين هما‪« :‬ليس للقاتل ميراث» و‬
‫«ليس لقاتل وصية» لكن الول صحيح والثاني في سنده متروك يضع الحديث‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تكملة فتح القدير‪ ،251/8 :‬البدائع‪ 249/7 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪ ،407/5 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،107/4‬المهذب‪ ،217/2 :‬المغني‪ ،97/8 :‬كشاف القناع‪.65/6 :‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الصغير للدردير‪ ،405/4 :‬بداية المجتهد‪ ،401/2 :‬الشرح الكبير‪.266/4 :‬‬

‫( ‪)7/642‬‬

‫المبحث الرابع ـ القتل الخطأ وعقوبته ‪:‬‬


‫القتل الخطأ كما عرفنا‪ :‬هو أل يقصد به الضرب ول القتل‪ ،‬مثل لو سقط شخص على غيره فقتله‪ ،‬أو‬
‫رمى صيدا فأصاب إنسانا‪ ،‬فهو نوع واحد عند الجمهور‪ .‬ونوعان عند الحنفية؛ لنهم يعتبرون حالة‬
‫سقوط النائم على غيره‪ ،‬مما جرى مجرى الخطأ‪.‬‬
‫ول قصاص في الخطأ وشبهه باتفاق الفقهاء‪ ،‬وإنما له عقوبتان فقط‪:‬‬
‫أصلية‪ :‬وهي الدية والكفارة ‪ ،‬وتبعية‪ :‬وهي الحرمان من الميراث والوصية‪.‬‬
‫وكذلك عقوبات القتل شبه الخطأ عند الحنفية هي مثل عقوبات الخطأ (الكفارة‪ ،‬والدية على العاقلة‪،‬‬
‫وحرمان القاتل من الميراث والوصية) وأما القتل بالتسبب عند الحنفية كحافر البئر فله عقوبة واحدة‬
‫هي الدية على العاقلة‪ ،‬وليس فيه كفارة ول حرمان من الميراث والوصية (‪ ، )1‬وهو عند الجمهور‬
‫كالقتل الخطأ‪.‬‬
‫أما الصيام فهو أحد خصلتي الكفارة المنصوص عليها في القرآن الكريم في آية عقوبة القتل الخطأ‪:‬‬
‫{ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‪ ،‬ودية مسلّمة إلى أهله} ‪{ ...‬فمن لم يجد فصيام شهرين‬
‫متتابعين} ‪[..‬النساء‪ ]4/92:‬وقد ذكر في الية ثلث كفارات‪ :‬الولى بقتل المسلم في دار السلم خطأ‪،‬‬
‫والثانية بقتله في دار الحرب وهو ل يعرف إيمانه‪ ،‬والثالثة بقتل المعاهد وهو الذمي‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تكملة فتح القدير‪ 252/8 :‬ومابعدها‪ .‬ول تعزير في الخطأ باتفاق الفقهاء‪.‬‬

‫( ‪)7/643‬‬

‫أما دية الخطأ فهي ـ كما تقدم في العمد ـ مخمسة‪ ،‬أي تؤخذ أخماسا‪ 20 :‬بنت مخاض‪ ،‬و ‪ 20‬ابن‬
‫مخاض‪ ،‬و ‪ 20‬بنت لبون‪ ،‬و ‪ 20‬حقة‪ ،‬و ‪ 20‬جذعة‪ ،‬وهو مذهب الحنفية والحنابلة‪ .‬وجعل المالكية‬
‫والشافعية عشرين بني لبون مكان «عشرين بني مخاض» ‪.‬‬
‫واستدل كل من الفريقين برواية عن ابن مسعود (‪. )1‬‬
‫واتفق الفقهاء (‪ )2‬على أن دية الخطأ على العاقلة مؤجلة في ثلث سنين‪ ،‬عملً بقضاء النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم بدية الخطأ على العاقلة (‪ ، )3‬وبفعل عمر وعلي رضي ال عنهما بجعل هذه الدية على‬
‫العاقلة في ثلث سنين (‪. )4‬‬
‫والتأجيل عند الحنفية يشمل ما تحمله العاقلة والجاني معا‪ ،‬وأما عند الجمهور فيجب حالً كل ما ل‬
‫تحمله العاقلة؛ لنه بدل متلف‪ ،‬فلزم حالً كقيم المتلفات‪ .‬أما الذي تحمله العاقلة فيجب مواساة‪ ،‬فلزم‬
‫التأجيل تخفيفا على متحمله غير الصلي‪.‬‬
‫والسبب في إلزام العاقلة الدية‪ :‬أن جنايات الخطأ تكثر‪ ،‬ودية الدمي كثيرة‪ ،‬فاقتضت الحكمة إيجابها‬
‫على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل‪ ،‬والعانة له تخفيفا عنه؛ إذ كان معذورا في فعله بسبب عدم‬
‫قصده‪ ،‬وينفرد هو بالكفارة‪.‬‬
‫ول تتغلظ دية الخطأ عند الحنفية والمالكية‪ .‬وتتغلظ عند الشافعية والحنابلة في حالت ثلث‪ ،‬كما تقدم‬
‫في دية العمد‪.‬‬
‫وأما كفارة القتل الخطأ‪ :‬فتجب في مال القاتل‪ ،‬ول يشاركه في تحمل شيء منها أحد (‪ )5‬؛ لنه هو‬
‫المتسبب بها‪ ،‬ولن الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني‪ ،‬ول يكفر عنه بفعل غيره؛ لنها عبادة (‪. )6‬‬
‫واتفق الفقهاء على وجوب كفارة القتل الخطأ إذا لم يكن المقتول ذميا ول عبدا‪ ،‬وأوجبها الجمهور‬
‫غيرالمالكية بقتل الذمي أيضا‪ .‬وقال المالكية‪ :‬ل تجب الكفارة في قتل الذمي؛ لنه مهدر الدم في‬
‫الجملة بسبب كفره‪.‬‬
‫وأما الحرمان من الميراث والوصية‪ :‬فقد سبق الكلم عنه في عقوبة القتل العمد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع نيل الوطار‪ 76/7 :‬وما بعدها‪ ،‬نصب الراية‪.360-356/4 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ 770/7 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬نيل الوطار‪ 80/7 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬نصب الراية‪.399 ،334/4 :‬‬
‫(‪ )5‬المغني‪ ،92/8 ،771/7 :‬مغني المحتاج‪ ،107/4 :‬البدائع‪ ،252/7 :‬الدر المختار‪،277/5 :‬‬
‫الشرح الصغير‪ 405/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )6‬هذا ولم يبق في عصرنا بسبب إلغاء الرق إل صيام شهرين متتابعين كفارة عن القتل الخطأ؛ لن‬
‫المقصود من الرقبة هو العتق‪ ،‬وال تعالى قال { فمن لم يجد } أي من لم يجد رقبة يحررها بأن لم‬
‫يملكها ول ما يتوصل به إليها من الثمن‪ ،‬فعليه صيام شهرين متتابعين‪.‬‬
‫( ‪)7/644‬‬

‫صلُ الثّاني‪ :‬الجِناية على ما دون النّفس‬


‫ال َف ْ‬
‫الجناية على ما دون النفس‪ :‬هي كل اعتداء على جسد إنسان من قطع عضو‪ ،‬أو جرح‪ ،‬أو ضرب‪،‬‬
‫مع بقاء النفس على قيد الحياة‪.‬‬
‫وهي عند الحنفية (والمالكية الذين ل يقولون بشبه العمد)‪ :‬إما عمد أو خطأ‪ .‬والعمد‪ :‬ما تعمد فيه‬
‫الجاني الفعل بقصد العدوان‪ ،‬كمن ضرب شخصا بحجر بقصد إصابته‪ .‬والخطأ‪ :‬هو ما تعمد فيه‬
‫الجاني الفعل دون قصد العدوان ‪،‬كمن يلقي حجرا من نافذة‪ ،‬فيصيب رأس إنسان فيوضحه (أي‬
‫يُوضح العظم)‪ ،‬أو يقع نتيجة تقصير كمن ينقلب على نائم فيكسر ضلعه (‪. )1‬‬
‫وليس فيما دون النفس عند الحنفية شبه عمد‪ ،‬وإنما هو عمد أو خطأ؛ لن شبه العمد‪ :‬هو الضرب بما‬
‫ليس بسلح أو ما في حكمه‪ ،‬كالضرب بالمثقل من حجر أو عصا كبيرة‪ .‬فوجوده يعتمد على آلة‬
‫الضرب‪ ،‬والقتل هو الذي يختلف حكمه باختلف اللة‪ ،‬أما إتلف ما دون النفس فليختلف حكمه‬
‫باختلف اللة‪ ،‬وإنما ينظر فيه إلى النتيجة الحاصلة‪ ،‬وهو حدوث التلف أو قصد العتداء‪ ،‬فاستوت‬
‫اللت كلها في دللتها على قصد الفعل‪ ،‬فكان الفعل إما عمدا أو خطأ فقط‪ .‬وعقوبة شبه العمد عندهم‬
‫هي عقوبة العمد‪ ،‬بدليل قولهم‪« :‬ما يكون شبه عمد في النفس فهو عمد فيما سواها» (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬التشريع الجنائي السلمي‪.204/2 :‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير‪ ،271/8 :‬البدائع‪ ،310 ،233/7 :‬اللباب مع الكتاب‪.147/3 :‬‬

‫( ‪)7/645‬‬

‫ويتصور الشافعية والحنابلة (‪ )1‬شبه العمد فيما دون النفس‪ ،‬كأن يضرب رأس إنسان بلطمة‪ ،‬أو‬
‫بحجر صغير ل يشج غالبا‪ ،‬فيتورم الموضع إلى أن يتضح العظم‪ .‬ويقولون‪« :‬ل قصاص إل في‬
‫العمد‪ ،‬ل في الخطأ وشبه العمد» ‪ .‬وعقوبة شبه العمد عندهم كعقوبة الخطأ‪.‬‬
‫والكلم في هذا الفصل على نوعي الجناية على ما دون النفس عمدا أو خطأ في مبحثين‪:‬‬
‫المبحث الول ـ عقوبة الجناية العمدية على ما دون النفس ‪:‬‬
‫الجناية العمدية على ما دون النفس‪ :‬إما أن تكون على الطراف بقطعها أو تعطيل منافعها‪ ،‬أوتكون‬
‫بإحداث جُرْح في غير الرأس وهي الجراح‪ ،‬أو في الرأس والوجه وهي الشجاج‪.‬‬
‫والقاعدة المقررة في عقوبة هذه الجناية‪ :‬هي (‪ )2‬أنه كلما أمكن تنفيذ القصاص فيه (وهو الفعل العمد‬
‫الخالي عن الشبهة) وجب القصاص‪ ،‬وكل ما ل يمكن فيه القصاص (وهو الفعل الخطأ‪ ،‬وما فيه‬
‫شبهة) وجب فيه الدية أو الرش‪.‬‬
‫وعلى هذا تكون ـ عقوبة إبانة الطراف (أو قطعها)‪ :‬هو القصاص أو الدية والتعزير‪ ،‬وعقوبة‬
‫تعطيل منافع العضاء (إذهاب معاني العضاء) في الواقع العملي‪ :‬هو الدية‪ ،‬أو الرش (‪. )3‬‬
‫وعقوبة الجراح والشجاج‪ :‬القصاص أو الرش أو حكومة العدل (‪. )4‬‬
‫ففي هذا المبحث أربعة مطالب‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،25/4 :‬كشاف القناع‪.638/5 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،234/7 :‬تكملة فتح القدير‪.270/8 :‬‬
‫(‪ )3‬الرش‪ :‬هو المال الواجب المقدر شرعا في الجناية على ما دون النفس من العضاء‪.‬‬
‫(‪ )4‬حكومة العدل‪ :‬هي المال الذي يقدره القاضي بمعرفة الخبراء فيما ليس فيه مقدار محدد شرعا‬
‫كاليد الشلء ونحوها مما ذهب نفعه‪ ،‬والجرح والتعطيل ونحوهما‪.‬‬

‫( ‪)7/646‬‬

‫المطلب الول ـ عقوبة إبانة الطراف (أو قطعها ) ‪:‬‬


‫الطراف عند الفقهاء‪ :‬هي اليدان والرجلن‪ ،‬ويلحق بها أو يجري مجراها الصبع‪ ،‬والنف والعين‬
‫والذن‪ ،‬والشفَة والسن‪ ،‬والشعر والجفن ونحوها‪.‬‬
‫وعقوبة إبانة الطراف‪ :‬إما القصاص‪ ،‬أو الدية والتعزير بدلً عنه‪ ،‬إذا امتنع القصاص لسبب من‬
‫السباب‪.‬‬
‫العقوبة الصلية الولى ـ القصاص ‪:‬‬
‫يشترط لتطبيق القصاص في الطرف والجُرْح (‪ )1‬ولغيرهما مما دون النفس‪ ،‬الشروط العامة‬
‫المشروطة للقصاص في النفس‪ ،‬ويضاف إليها شروط خاصة‪.‬‬
‫أما الشروط العامة‪ :‬فهي عند الحنفية (‪ )2‬أن يكون الجاني عاقلً بالغا‪ ،‬متعمدا مختارا‪ ،‬غير أصل‬
‫للمجني عليه‪ ،‬وكون المجني عليه معصوما ليس جزءا للجاني ول ملكه‪ ،‬وكون الجناية مباشرة ل‬
‫تسببا‪ ،‬وأن يكون القصاص ممكنا بإمكان المماثلة‪.‬‬
‫وأضاف الجمهور (‪ )3‬كما تقدم في القتل العمد‪ :‬أن يكون المجني عليه مكافئا للجاني‪ ،‬ول فرق عندهم‬
‫بين أن تكون الجناية مباشرة أو تسببا‪.‬‬
‫وبناء عليه تكون موانع القصاص العامة ما يأتي‪:‬‬
‫‪ - 1‬البوة‪ :‬يمتنع القصاص من الوالد لولده فيما دون النفس كالنفس لحديث «ل يقاد الوالد بولده »‬
‫باتفاق المذاهب الربعة‪ ،‬حتى عند المام مالك؛ لن الضرب عدوانا أي تعديا ل على وجه اللعب أو‬
‫التأديب الذي ينشأ عنه جرح‪ ،‬ل قصاص فيه عنده؛ لنه من الخطأ (‪. )1‬‬
‫‪ - 2‬انعدام التكافؤ‪ :‬ينعدم التكافؤ بين الجاني والمجني عليه فيما دون النفس في حالتين أو ثلث عند‬
‫الحنفية‪ ،‬وفي حالتين أخريين عند غير الحنفية (الجمهور)‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الطرف‪ :‬ماله حد ينتهي إليه كأذن ويد ورجل‪ .‬والجرح بضم الجيم‪ :‬هو أثر الجراحة‪ .‬وليس‬
‫المراد به نفس الجرح بفتح الجيم‪ ،‬لنه هو الفعل‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪.297/7 :‬‬
‫(‪ )3‬الشرح الكبير للدردير‪ ،250/4 :‬مغني المحتاج‪ ،25/4 :‬المغني‪ ،703/7 :‬كشاف القناع‪.638/5 :‬‬

‫( ‪)7/647‬‬

‫أما حالتا انعدام التكافؤ عند الحنفية‪ :‬فهما الختلف في الجنس‪ ،‬وعدم التماثل العددي‪ ،‬فل قصاص‬
‫فيما دون النفس بين الرجل والمرأة (‪ )2‬؛ لن الطراف عندهم كالموال‪ ،‬وإذا لم يتحقق التماثل بين‬
‫دية المرأة والرجل‪ ،‬إذ أن ديتها نصف دية الرجل‪ ،‬فل تماثل بينهما في دية الطراف‪ ،‬وإذا انعدم‬
‫التماثل والمساواة بين أرشي المرأة والرجل‪ ،‬امتنع القصاص بين طرفيها‪.‬‬
‫وإذا تعدد الجناة كأن قطعوا يد رجل أو أصبعه أوقلعوا سنه ل قصاص عليهم‪ ،‬لعدم المماثلة بين‬
‫اليدي واليد‪ ،‬والمماثلة فيما دون النفس شرط أساسي للقصاص‪ .‬وعليهم دية الطرف المقطوع (‪. )3‬‬
‫وعند الجمهور‪ :‬يقتص الرجل بالمرأة وبالعكس‪ ،‬وتقطع اليدي الكثيرة باليد الواحدة‪.‬‬
‫وأما حالتا انعدام التكافؤ عند الجمهور‪ :‬فهما الحرية والسلم كما في قصاص النفس‪.‬‬
‫فل قصاص بالقطع عندهم من الحر للعبد‪ ،‬ويقطع العبد بالحر‪ ،‬والعبد بالعبد‪ .‬ويقول الحنفية في هذا‬
‫خلفا لمبدئهم في القصاص بالنفس‪ :‬ل قصاص مطلقا بين الحر والعبد‪ ،‬وبالعكس‪ ،‬ول بين العبيد‬
‫أنفسهم‪ ،‬لعدم التماثل‪ ،‬أو للتفاوت في القيمة؛ إذ أن قيمة كل عبد تختلف عن قيمة غيره (‪ ، )4‬أي أن‬
‫الحرية وعكسها العبودية حالة ثالثة لمنع القصاص فيما دون النفس عند الحنفية‪.‬‬
‫ول قصاص عند الجمهور فيما دون النفس من المسلم للذمي الكافر‪ ،‬ولكن يقطع الذمي بالمسلم عند‬
‫الشافعية والحنابلة‪ ،‬لعدم التكافؤ في النفس‪ ،‬ول يقطع الذمي بالمسلم عند المالكية؛ لن القصاص فيما‬
‫دون النفس يقتضي المساواة بين الطرفين‪ ،‬ول مساواة بين المسلم والكافر مطلقا (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير والدسوقي‪.250 ،242/4 :‬‬
‫(‪ )2‬تكملة فتح القدير‪ ،271/8 :‬اللباب مع الكتاب‪.147/3 :‬‬
‫(‪ )3‬تكملة فتح القدير‪ ،280/8 :‬البدائع‪.299/7 :‬‬
‫(‪ )4‬تكملة فتح القدير‪ 271/8 :‬وما بعدها‪ ،‬اللباب مع الكتاب‪.147/3 :‬‬
‫(‪ )5‬الشرح الكبير للدردير‪ ،250/4 :‬مغني المحتاج‪.25/4 :‬‬

‫( ‪)7/648‬‬

‫‪ - 3‬كون العتداء على ما دون النفس شبه عمد عند الشافعية والحنابلة‪ :‬كأن يلطم شخص غيره فيفقأ‬
‫عينه‪ ،‬أو يرميه بحصاة فيشل يده‪ ،‬أو يحدث ورما ينتهي بموضحة‪ ،‬فل قصاص عندهم في هذه‬
‫الحالة‪ ،‬وإنما تجب الدية المقررة شرعا للعين أو اليد‪.‬‬
‫ويقتص من الجاني عند المالكية والحنفية في هذه الحالة؛ لن شبه العمد فيما دون النفس له حكم‬
‫العمد‪ ،‬لتوافر صفة العتداء‪ ،‬وما دون النفس يكفي فيه مجرد قصد العتداء‪ ،‬والعتداء بأي آلة أمر‬
‫متصور ممكن‪ ،‬بعكس القتل‪ ،‬فل يكون إل بآلة مخصوصة‪ ،‬كما بان سابقا‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن يكون الفعل تسببا عند الحنفية‪ :‬فهم يشترطون للقصاص بالجناية على النفس أو ما دون النفس‬
‫أن تكون الجناية مباشرة ل تسببا كما ذُكر‪ .‬ويخالفهم الجمهور فيه‪.‬‬
‫‪ - 5‬أن تكون الجناية واقعة في دار الحرب عند الحنفية‪ :‬فل قصاص عندهم في النفس أو ما دونها‬
‫على جناية وقعت في دار الحرب لعدم ولية المام عليها‪ ،‬خلفا لباقي الئمة‪.‬‬
‫‪ - 6‬تعذر استيفاء القصاص‪ :‬يمتنع القصاص في النفس أو ما دونها عند الفقهاء إذا لم يمكن‬
‫الستيفاء؛ لن القصاص يتطلب المماثلة‪ ،‬فإذا لم يتحقق التماثل فل قصاص‪ ،‬وينتقل إلى الدية (‪. )1‬‬
‫فل تقطع إبهام اليد اليمنى ذات المفصلين من الجاني‪ ،‬بقطعه إبهاما ذات مفصل واحد من المجني‬
‫عليه‪ ،‬لكونها كانت مقطوعة المفصل الول قبل الجناية‪ ،‬لعدم التماثل‪.‬‬
‫وأما الشروط الخاصة للقصاص في الجناية على ما دون النفس‪ :‬فهي التي ترجع إلى أساس واحد‪،‬‬
‫وهو تحقيق التماثل‪ .‬ومقتضاه تحقيق التماثل بين الجناية والعقوبة في أمور ثلثة‪ :‬التماثل في الفعل‪،‬‬
‫والتماثل في المحل (أو الموضع والسم) والتماثل في المنفعة (أو الصحة والكمال) (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ 297/7 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ ،703/7 :‬كشاف القناع‪ ،639/5 :‬المهذب‪ 178/2 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬الشرح الكبير للدردير‪.250/4 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ 297/7 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ :‬المغني‪ ،703/7 :‬كشاف القناع‪.651-639/5 :‬‬

‫( ‪)7/649‬‬

You might also like