Professional Documents
Culture Documents
الفقه الاسلامي وأدلته - أ.د. وهبه الزحيلي 15
الفقه الاسلامي وأدلته - أ.د. وهبه الزحيلي 15
- 13بقاء الشهود على أهليتهم حتى يقام الحد :فلو ماتوا ،أو غابوا ،أو عموا ،أو ارتدوا ،أو خرسوا،
أو ضربوا حد القذف قبل إقامة الحد ،أو قبل أن يقضى بشهادتهم ،سقط الحد؛ لن هذه العوارض لو
اقترنت بالشهادة منعت من قبولها ،فكذلك إذا اعترضتها بعدئذ ( ، )1ويحد الباقي حد القذف؛ لن
الشهود حينئذ أقل من أربعة ،ومتى كانوا أقل حدوا حد القذف .وقال الشافعية والحنابلة :ل تؤثر هذه
العوارض بعد أداء الشهادة (. )2
ولو رجع الشهود عن شهادتهم على محض بالزنا ،بعد أن حكم القاضي عليه بالرجم فرجم،ضمنوا
ديته .ولو أنكر الشاهد شهادته بعد الحكم بالرجم ،ل يضمن شيئا من الدية؛ لن إنكار الشهادة ليس
برجوع ،بل الرجوع أن يقول :كنت مبطلً في الشهادة (. )3
اختلف العلماء في بعض شروط الشهادة على الزنا :
- 1اتحاد المشهود به :قال الئمة الربعة :يشترط في شهادة الشهود الربعة اتحاد المشهود به :وهو
أن يجمع الشهود الربعة على فعل واحد ،في المكان والزمان ،كما بان عند الحنفية .فإن اختلفوا ل
تقبل شهادتهم ،فلو شهد اثنان أنه زنى في مكان كذا ،وشهد آخران أنه زنى في مكان آخر في بيت
صغير وزواياه متقاربة ،أو شهد اثنان أنه زنى بها في يوم كذا ،وشهد اثنان آخران أنه زنى بها في
يوم آخر ،فإنه ل يحد المشهود عليه ،ول حد على الشهود أيضا عند جمهور الحنفية؛ لن المشهود به
لم يختلف عند الشهود؛ لن عندهم أن هذا زنا واحد .وعند زفر :يحدون؛ لن عدد الشهود قد انتقص،
ونقصان عدد الشهود يوجب صيرورة الشهادة قذفا ،كما لو شهد ثلثة بالزنا.
واختلفوا فيما لو شهد اثنان أنه زنى بها في هذه الزاوية من البيت ،وشهد آخران أنه زنى بها في
زاوية أخرى ،وكان المكان ضيقا:
-------------------------------
( )1المبسوط للسرخسي.50/9 :
( )2المغني لبن قدامة.207/8 :
( )3مجمع الضمانات :ص 360وما بعدها.
( )7/318
فقال أبو حنيفة وأحمد :تقبل هذه الشهادة ،لجواز ابتداء الفعل في زاوية ،وانتهائه في زاوية أخرى ،أما
لو كان البيت كبيرا فل تقبل؛ لنه يكون بمنزلة البيتين (. )1
وقال مالك والشافعي :ل تقبل هذه الشهادة ،ول يثبت بها الحد؛ لنهم لم يتفقوا على زنية واحدة (. )2
- 2اتحاد مجلس الشهادة :قال أبو حنيفة :يشترط أن يكون الشهود مجتمعين ،وأن يؤدوا الشهادة في
مجلس واحد ،فإن جاؤوا متفرقين يشهدون واحدا بعد الخر ،ل تقبل شهادتهم ،كما بان سابقا.
وقال مالك وأحمد :يشترط اتحاد مجلس القاضي فقط ،فإن جاء الشهود متفرقين ،والحاكم جالس في
مجلس حكمه لم يقم ،تقبل شهادتهم ،وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا َقذَفة وعليهم الحد (. )3
وقال الشافعي :ليس ذلك بشرط ،ل في مجيئهم ،ول في اجتماعهم ،بل متى شهدوا بالزنى متفرقين،
ولو واحدا بعد الخر ،وجب الحد ،لقوله تعالى{ :لول جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور ]13/24:ولم
يذكر المجلس ،ولن المهم هو اتحاد شهادة الشهود ،سواء في مجلس واحد أو في مجالس،
-------------------------------
( )1البدائع ،49/7 :المغني ،200/8 :فتح القدير.167/4 :
( )2مغني المحتاج ،151/4 :بداية المجتهد ،430/2 :الشرح الكبير.185/4 :
( )3المغني ،200/8 :المنتقى على الموطأ ،144/7 :القوانين الفقهية :ص .356
( )7/319
( )7/320
( )7/321
فارجمها» ( )1كما سبق ذكره .واعترفت الغامدية بالزنا ،فقال لها الرسول عليه الصلة والسلم:
«ويحك ارجعي فاستغفري ال وتوبي إليه ،فقالت :أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك،
قال :وما ذاك؟ قالت :إنها حبلى من الزنى ،قال :أنتِ؟ قالت :نعم ،فقال لها :حتى تضعي ما في
بطنك» ( )2ونحوهما من الحاديث.
- 2تعدد مجالس القرار بالزنا :وهو أن يقر في أربعة مجالس متفرقة؛لن الرسول عليه الصلة
والسلم اعتبر اختلف مجالس ماعز ،حيث كان يخرج من المسجد في كل مرة ،ثم يعود ،ومجلسه
عليه الصلة والسلم لم يختلف ،وهذا هو مذهب الحنفية.
وقال جمهور العلماء :يكفي أن يكون القرار في مجلس واحد (. )3
- 3أن يكون القرار بين يدي المام أو القاضي :وإل لم يعتبر؛ لن إقرار ماعز كان عند رسول ال
صلّى ال عليه وسلم ،فإن شهد شهود على إقرار شخص أربع مرات في مجالس مختلفة أمام من
ليس له إقامة الحد ،فل يقبل القاضي هذه الشهادة؛ لن الزاني إن كان منكرا ،فقد رجع عن القرار،
وإ ن كان مقرا ،فل عبرة لشهادة مع القرار.
- 4الصحو في القرار بالزنا والسرقة والشرب والسكر :فإذا أقر شخص وهو سكران ،لم يصح
إقراره.
- 5أن يكون القرار بالزنا ممن يتصور منه الزنا :فإن كان ل يتصور كالمجبوب لفقدان آلته ،لم
يصح إقراره ،أما لو كانت آلته موجودة كالعنّين والخصي ،فيصح إقراره ،لوجود اللة عنده.
- 6أن يكون المزني به ممن يقدر على ادعاء الشبهة بأن كان ناطقا :فإن لم يقدر كأن تكون المزني
بها خرساء ،أو المزني به أخرس ،لم يصح إقراره ،لجواز ادعائه وجود عقد النكاح ،أو إنكار الزنا.
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومسلم وأحمد والموطأ وغيرهم عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ،وقد سبق
تخريجه ،فقد رواه الجماعة والبيهقي.
( )2رواه مسلم والدارقطني عن سليمان بن بريدة عن أبيه ،وقال الدارقطني :هذا حديث صحيح
(راجع جامع الصول 279/4 :وما بعدها ،نيل الوطار ،111/7 :نصب الراية.)314/3 :
( )3بداية المجتهد.430/2 :
( )7/322
القرار حجة قاصرة :إذا أقر أحد الشريكين في الوطء بالزنا وأنكر الخر ،وجب على المقر الحد ()1
؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم قال في قصة العسيف« :على ابنك جلد وتغريب عام ،واغد يا أنيس
على امرأة هذا ،فإن اعترفت فارجمها» ( )2وروى سهل بن سعد الساعدي أن رجلً أقر أنه زنى
بامرأة ،فبعث النبي صلّى ال عليه وسلم إليها ،فجحدت ،فحد الرجل (. )3
تقادم القرار :اتفق العلماء على أن التقادم ل يؤثر في القرار بالزنا؛ لن النسان غير متهم على
نفسه .وعلى هذا فيقبل القرار بالزنا بعد مدة (. )4
دور القاضي مع المقر بالزنا :
إذا أقر إنسان بالزنا عند القاضي ،ينبغي أن يظهر له الكراهية ،أو يطرده ،يفعل ذلك ثلث مرات،
كما فعل الرسول صلّى ال عليه وسلم مع ماعز.
فإذا أقر أربع مرات عند الحنفية نظر القاضي في حاله :أهو صحيح العقل أم به آفة ،كما فعل
الرسول عليه السلم مع ماعز ،حيث قال له :أبك خبَل أم بك جنون؟ وبعث به إلى قومه ،فسألهم عن
حاله.فإذا عرف أنه صحيح العقل ،سأله عن ماهية الزنا ،وعن كيفيته ،وعن مكانه ،وعن المزني بها،
للسباب التي ذكرت في الشهادة على الزنا.
فإذا بين ذلك كله سأله القاضي عن حاله :أهو محصن أم ل؟ لن حكم الزنا يختلف بالحصان
وعدمه .فإذا قال :أنا محصَن ،سأله القاضي عن الحصان :ماهو؟ لنه عبارة عن اجتماع شرائط
-------------------------------
( )1البدائع ،51/7 :المغني.207/8 :
( )2المهذب.268/2 :
( )3رواه الجماعة والبيهقي عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.
( )4رواه البيهقي بألفاظ متقاربة ،وأحمد وأبو داود ،وفيه عبد السلم بن حفص ،متكلم فيه.
( )7/323
ل يعرفها كل واحد .فإذا فسره التفسير الشرعي المطلوب ،حكم عليه بالرجم وأمر بإقامته عليه (. )1
الرجوع عن القرار :
قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد :إذا اعترف شخص عند القاضي بالزنا ،ثم رجع عن إقراره بعد الحكم
بالحد ،أوبعد إقامة بعض الحد ،أو هرب ،فإنه يسقط عنه الحد ( ، )2عملً بحديث «ادرؤا الحدود
بالشبهات» ،والرسول عليه السلم لقن ماعزا الرجوع بقوله« :لعلك مسستها أو لعلك قبلتها!» ()3
وقال لصحابه حينما هرب ماعز فاتبَعوه« :هل تركتموه ،لعله أن يتوب ،فيتوب ال عليه» (. )4
والمشهور عند المالكية :أن الرجوع عن القرار لشبهة أو ل لشبهة ،كقوله :كذبت على نفسي ،أو
وطئت زوجتي وهي محرمة ،فظننت أنه زنا ،يسقط الحد ،وروي عن المام مالك أنه قال :ل يعذر
إل إذا رجع لشبهة ،عملً بحديث« :ل عذر لمن أقر» (. )1
والخلصة :أن الرجوع عن القرار جائز بالتفاق.
-------------------------------
( )1المبسوط ،46/9 :البدائع ،51/7 :فتح القدير ،120/4 :تبيين الحقائق )2( .166/3 :فتح القدير:
،120/4مغني المحتاج ،150/4 :المهذب ،271/2 :المغني.197/8 :
( )3رواه الحاكم في المستدرك بلفظ «لعلك مسستها أو قبلتها؟» من حديث ابن عباس ،والحديث عند
البخاري بلفظ« :لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟» وعند أحمد في مسنده بلفظ« :لعلك قبلت أو لمست
أو نظرت؟» (راجع نصب الراية ،316/4 :سبل السلم.)8/4 :
( )4رواه أبو داود عن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه .ورواه أحمد وابن ماجه والترمذي ،وقال:
«حسن» من حديث أبي هريرة بلفظ« :هل تركتموه» ( .راجع جامع الصول ،287/4 :نيل الوطار:
.)102/7
( )7/324
( )7/325
المام ثم الناس» ( )1وكلمة «ثم» للترتيب ،وكان ذلك بمحضر من الصحابة ،ولم ينكر أحد ،فكان
إجماعا ،ولن في اعتبار هذا الشرط احتياطا في درء الحد؛ لن الشهود إذا بدؤوا بالرجم ربما
استعظموا فعله ،فيحملهم هذا على الرجوع عن الشهادة ،فيسقط الحد عن المشهود عليه ،فإن امتنع
بعض الشهود عن الرجم ،سقط الرجم عند أبي حنيفة ومحمد ،وفي رواية عن أبي يوسف؛ لن
امتناعهم عن الرجم أورث شبهة الكذب في شهادتهم.
هذا بخلف الجلد ،فل يشترط ابتداء الشهود به؛ لنهم ل يعرفونه على وجهه الصحيح ،ولن الثر
عن علي ورد في الرجم خاصة ،فيبقى أمر الجلد على أصل القياس.
وقال المالكية :إذا حضر المام الرجم ،جاز له أن يبدأ هو وأن يبدأ غيره ،فلم يثبت عند المام مالك
في حديث صحيح ول سنة معمول بها بداءة البينة بالرجم ،ثم من بعدهم المام ،أي الحاكم ،ثم الناس
عقبه (. )2
وقال الشافعية والحنابلة :السنة إذا ثبت الحد بالبينة أن يبدأ الشهود بالرجم ،ثم الحاكم ،ثم الناس؛ لن
الشهود في غير أداء الشهادة هم وسائر الناس سواء ،فل يلزم أحد بذاك .والمام هو الذي يستوفي
الحدود ،ولن الرجم أحد نوعي الحد ،فيقاس على الجلد ،الذي ل يشترط فيه البداية من الشهود (. )3
-------------------------------
( )1رواه البيهقي في سننه عن عامر الشعبي ،ورواه أحمد في مسنده عن الشعبي أيضا ،ورواه ابن
أبي شيبة عن يزيد بن أبي ليلى ،وعن ابن مسعود عن علي بألفاظ مختلفة (راجع نصب الراية:
319/3وما بعدها ،نيل الوطار.)108/7 :
( )2القوانين الفقهية:ص ،356الشرح الكبير وحاشيته ،320/4 :مواهب الجليل ،320/6 :ط ثانية.
( )3البدائع ،فتح القدير ،المرجعان السابقان ،المنتقى على الموطأ ،133/7 :بداية المجتهد،438/2 :
مغني المحتاج ،152/4 :المهذب 269/2 :وما بعدها ،المغني. .159/8 :
( )7/326
( )7/327
قالت« :فوال إني لحبلى» .فقال « :إما ل ،فاذهبي حتى تلدي» ثم قال« :اذهبي فأرضعيه حتى
تفطميه» (. )1
حالة المحدود :ذهب الجمهور إلى أن المحدود بالرجم إذا كان رجلً يقام عليه الحد قائما ،ول يربط
بشيء ،ول يمسك ،ول يحفر له ،سواء ثبت الرجم بالبينة أم بالقرار،كما فعل الرسول عليه السلم
بماعز ،فلم يحفر له ( ، )2ولن الحفر له لم يرد به الشرع في حق المحدود فوجب أل يثبت،ولن
المرجوم قد يفر ،فيكون فراره
-------------------------------
( )1البدائع ،مغني المحتاج ،الدسوقي ،المغني ،المراجع السابقة ،وقد سبق تخريج حديث الغامدية،
وسيأتي قريبا تخريج حديث الجهنية .ويظهر أن الجهنية هي الغامدية لن «غامدا» بطن من جهينة.
( )2رواه مسلم وأحمد وأبو داود عن أبي سعيد الخدري ،قال« :لما أمرنا رسول ال صلّى ال عليه
وسلم أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع ،فو ال ما حفرنا له ،ول أوثقناه ،ولكن قام لنا،
فرميناه بالعظام والخزف (وهي أكسار الواني المصنوعة من المدر) ،فاشتكى فخرج يشتد حتى
انتصب لنا في عرض الحرة (وهي أرض ذات حجارة سود) فرميناه بجلميد (بصخور) الجندل (ما
يقله الرجل من الحجارة) حتى سكت» (راجع نصب الراية ،325/3 :نيل الوطار.)109/7 :
( )7/328
دللة على الرجوع عن قراره ،وقد هرب ما عز من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة (
. )1
وإذا كان المحدود امرأة ،فقال الحنفية :يخير المام في الحفر لها ،إن شاء حفر لها وإن شاء ترك
الحفر ،أما الحفر فلنه أستر لها ،وقد روي أن الرسول صلّى ال عليه وسلم حفر للمرأة الغامدية إلى
ثَنْدوتها (أي ثديها) ( . )2وأما ترك الحفر فلن الحفر للستر وهي مستورة بثيابها؛ لنها ل تجرد عند
إقامة الحد.
وقال الشافعية :الصح استحباب الحفر للمرأة إن ثبت زناها بالبينة ،لئل تنكشف ،بخلف ما إذا ثبت
زناها بالقرار لتتمكن من الهرب إن رجعت عن إقرارها.
وقال المالكية والحنابلة :ل يحفر للمرأة ،لعدم ثبوته .قال ابن رشد :وبالجملة فإن الحاديث في ذلك
مختلفة .والمشهور عند المالكية أنه ل يحفر للمرجوم حفرة .وقال أحمد ( : )3أكثر الحاديث على أل
حفر ،فإن النبي صلّى ال عليه وسلم لم يحفر للجهنية وللماعز ،ول لليهوديين (. )4
وأما حالة المحدود قياما أو قعودا في أثناء الجلد ،فقال الحنفية :يقام الرجل ،وتضرب المرأة قاعدة،
وينزع عن الرجل ثيابه إل الزار ،ويجرد عن ثيابه في كل الحدود والتعزير إل حد القذف ،فيكتفى
بنزع الحشو والفرو.
-------------------------------
( )1المبسوط ،15/9 :بداية المجتهد ،429/2 :المنتقى على الموطأ ،142/7 :القوانين الفقهية :ص
،356حاشية الدسوقي ،320/4 :مغني المحتاج ،153/4 :المغني ،158/8 :البدائع ،59/7 :فتح
القدير.128/4 :
( )2رواه أبو داود في سننه عن أبي بكر أن النبي صلّى ال عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى
الثندرة ،قال الزيلعي :وفيه مجهول .وروى مسلم وأحمد وأبو داود قصة الغامدية ،وذكر فيها« :ثم
أمر بها ،فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها» (راجع جامع الصول ،294/4 :نصب الراية:
،325/3التلخيص الحبير :ص ،353نيل الوطار.)109/7 :
( )3المراجع السابقة.
( )4كونه صلّى ال عليه وسلم لم يحفر لماعز :ثابت في رواية أبي سعيد الخدري كما سبق بيانه،
وأما عدم الحفر للجهنية فهو استدلل بظاهر الحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إل ابن
ماجه عن عمران بن حصين ،فإنه قال« :فأمر بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،فشدت عليها
ثيابها ،ثم أمر بها فرجمت ،ثم صلى عليها» فلم يذكر الحفر ،قال ابن حجر في التلخيص« :لكنه
استدلل بعدم الذكر ،ول يلزم منه عدم الوقوع» وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن ابن
عمر في قصة رجم اليهوديين لم يذكر فيه الحفر (راجع التلخيص الحبير :ص ،353نيل الوطار:
،111 ،92/7سبل السلم ،11/4 :جامع الصول.)277/4 :
( )7/329
وأشد الضرب :هو التعزير إذا رأى المام ذلك للزجر والردع ،ثم الجلد في الزنا ،ثم حد الشرب ،ثم
حد القذف؛ لن جناية الزنا أعظم من جناية الشرب والقذف؛ لن القذف نسبة إلى الزنا ،فكان دون
حقيقة الزنا ،ولن قبح الزنا ثبت شرعا وعقلً .أما جريمة نفس الشرب فقد ثبتت شرعا ل عقلً،
ولهذا كان الزنا حراما في كل الديان بخلف الشرب ،والخمر أيضا يباح عند المخمصة والكراه،
ول يباح الزنا عند الكراه وغلبة الشهوة ،وكذا وجوب الجلد ثبت في الزنا بنص الكتاب العزيز ،وأما
حد الشرب فثبت بالجتهاد.
وأما المرأة فل ينزع عنها ثيابها إل الفرو والحشو في كل الحدود؛ لن كشف عورتها حرام ،والفرو
والحشو يمنعان وصول اللم إلى المضروب ،والستر حاصل بدونهما ،فينزعان ليتحقق الزجر،
والزجرواجب (. )1
وقال مالك :يضرب الرجل قاعدا ل قائما ،وكذا المرأة ويجرد الرجل في ضرب الحدود كلها ما عدا
ما بين السرة والركبة؛ لن المر بجلده يقتضي مباشرة جسمه (. )2
-------------------------------
( )1البدائع ،60/7 :تبيين الحقائق للزيلعي ،171/3 :المبسوط 71/9 :وما بعدها ،فتح القدير:
.128/4
( )2بداية المجتهد ،429/2 :حاشية الدسوقي.354/4 :
( )7/330
وقال الشافعي وأحمد :ل يجرد المحدود في الحدود كلها فيما عدا الفرو أو الجبة المحشوة ،فإنها تنزع
عنه؛ لنه لو ترك عليه ذلك ،لم يبال بالضرب ،وما عدا المذكور ل يجرد ،لما روي عن عبد ال بن
مسعود رضي ال عنه ،أنه قال« :ليس في هذه المة مدّ ،ول تجريد ،ول غَل ول صفَد» ( )1وجلد
أصحاب رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،فلم ينقل عن أحد منهم مد ول تجريد ،ول ينزع عنه ثيابه،
بل يكون عليه الثوب والثوبان (. )2
وأما الرجم فترجم المرأة بالتفاق قاعدة ،والرجل يرجم عند الجمهور قائما ،وقال مالك كما تقدم :
يرجم قاعدا.
أداة الحد (كيفية الضرب والرجم ) :
يقام حد الرجم بالضرب بالمدَر (الطين المتحجر) وبالحجارة المعتدلة (أي بملء الكف) ل بحصيات
خفيفة لئل يطول تعذيبه ،ول بصخرات تقضي عليه بسرعة لئل يفوت التنكيل المقصود (. )3
وأما الجلد :فيكون بسوط ل ثمرة له ،ول يمدد المحدود على الرض ،كما يفعل اليوم؛ لنه بدعة ،ول
يرفع الجلد يده إلى ما فوق رأسه ( )4؛ لنه يخاف منه
-------------------------------
( )1رواه الطبراني ،قال الهيثمي :وهو منقطع السناد ،وفيه جويبر ،وهو ضعيف ( مجمع الزوائد:
)253/6الغل بالفتح :شد العنق بحبل أو غيره ،والصفد بالتحريك :القيد وهو الغل في العنق أيضا.
( )2المهذب ،270/3 :مغني المحتاج ،190/4 :المغني 313/8 :وما بعدها.
( )3راجع مغني المحتاج ،153/4 :فتح القدير ،126/4 :المنتقى على الموطأ ،134/7 :القوانين
الفقهية :ص .356
( )4بدليل فعل عمر وعلي وابن مسعود أنهم قالوا للجلد« :ل ترفع يدك حتى ترى بياض إبطك»
رواه البيهقي (راجع التلخيص الحبير :ص .)361
( )7/331
الهلك أو تمزيق الجلد ،ويضرب ضربة متوسطة ليست بمبرحة ،ول بالتي ل مسّ فيها ،حتى ل
يؤدي إلى الهلك ،ويتحقق معنى النزجار .والدليل فعل عمر وعلي وابن مسعود حيث ضربوا حدا
بسوط بين سوطين ( . )1ويلحظ أنه ل خلف بين العلماء في أن ضرب المحدود في غير حد الخمر
يكون بالسوط .أما حد الخمر :فقال بعضهم :يقام باليدي والنعال وأطراف الثياب ،لما روى أبو
هريرة أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم أتي برجل قد شرب ،فقال :اضربوه ،فقال أبو هريرة:
«فمنا الضارب بيده ،والضارب بنعله ،والضارب بثوبه» (. )2
مكان الضرب في حد الجلد :
يجب عند الحنفية أل يجمع الضرب في عضو واحد؛ لنه يؤدي إلى إتلف العضو أو إلى تمزيق
جلده ،وإنما يفرق الضرب على العضاء من الكتفين والذراعين والعضدين والساقين والقدمين ،ويتقى
المواضع المخوفة التي يخشى من ضربها القتل ،وهو الوجه والرأس والصدر والبطن والعضاء
التناسلية ( . )3قال علي للجلد« :اضربه وأعط كل عضو منه حقه ،واتق وجهه ومذاكيره» (. )4
-------------------------------
( )1رواه البيهقي ،ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن يحيى بن أبي كثير ،ويؤيد فعلهم :ما رواه
الموطأ عن زيد بن أسلم من فعل الرسول صلّى ال عليه وسلم أنه دعا بسوط بين سوطين لجلد رجل
اعترف بالزنا (راجع جامع الصول ،340/4 :نصب الراية ،323/3 :التلخيص الحبير :ص ،361
نيل الوطار.)114/7 :
(وراجع فقها البدائع ،60/7 :فتح القدير ،126/4 :تبيين الحقائق ،169/3 :حاشية ابن عابدين:
،161/3مغني المحتاج ،190/4 :المهذب ،287/2 :حاشية الدسوقي ،354/4 :القوانين الفقهية :ص
.)346
( )2رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة (راجع نيل الوطار.)138/7 :
( )3البدائع ،60/7 :فتح القدير ،126/4 :المهذب.270/2 :
( )4قال الهيثمي :غريب مرفوعا ،وروي موقوفا على علي ،رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد
بن منصور والبيهقي من طرق عن علي (راجع نصب الراية ،324/3 :التلخيص الحبير :ص ،361
سبل السلم.)32/4 :
( )7/332
( )7/333
وقال الجمهور منهم الحنفية والشافعية والحنابلة ( : )1ل تقام الحدود في المساجد لقوله عليه الصلة
والسلم« :ل تقام الحدود في المساجد ،ول يقتل بالولد الوالد» ( )2وقوله أيضا« :جنّبوا مساجدكم
صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم ،وشراءكم وبيعكم ،وإقامة حدودكم ،وجمّروها في جُمعكم ،وضعوا
على أبوابها المطاهر» (. )3
ولن تعظيم المساجد واجب ،ولهذا نهينا عن سل السيوف في المساجد ،ولنه ل يؤمن أن يخرج من
المحدود نجاسة تلوث المسجد ،فيجب الحتياط في أمرها وتنزيه المسجد عنها (. )4
حكم الميت بالرجم :قال الجمهور :إذا مات المرجوم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن ( )5؛ لن
الرسول عليه الصلة والسلم قال في ماعز« :اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم» (. )6
-------------------------------
( )1المهذب ،287/2 :المبسوط ،101/9 :المغني ،المرجع السابق.
( )2رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس .وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو
ضعيف من قبل حفظه ،وأخرجه أبو داود والحاكم وابن السكن والدارقطني والبيهقي من حديث حكيم
بن حزام ،ول بأس بإسناده ،ورواه البزار من حديث جبير بن مطعم وفيه الواقدي ،وهو ضعيف
لتدليسه ،ورواه ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه ابن لهيعة (راجع جامع
الصول ،346/4 :التلخيص الحبير :ص ،361مجمع الزوائد ،282/6 :سبل السلم.)32/4 :
( )3رواه البزار من حديث ابن مسعود ،ثم قال :يرويه موسى عن عمير ،قال البزار :ليس له أصل
من حديث ابن مسعود ،ورواه ابن ماجه والطبراني في الكبير عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن
السقع ،ورواه الطبراني في الكبير أيضا عن معاذ (راجع نصب الراية ،492/2 :الترغيب
والترهيب.)199/1 :
( )4البدائع :المرجع السابق.
( )5البدائع ،63/7 :المغني لبن قدامة.166/8 :
( )6رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن بريدة .وروى حديث الصلة عليه جابر بن عبد ال عند
البخاري ،وأبو أمامة بن سهل عند الزبيدي (راجع نصب الراية ،320/3 :تحفة الفقهاء.)192/3 :
( )7/334
( )7/335
- 2حكم إتيان البهيمة :
اتفق الئمة الربعة على أن واطئ البهيمة يعزره الحاكم بما يردعه؛ لن الطبع السليم يأبى هذا
الوطء ،فلم يحتج إلى زاجر بحد ،بل يعزر ،وفي سنن النسائي عن ابن عباس رضي ال عنهما:
«ليس على الذي يأتي البهيمة حد» ( ، )1ومثل هذا ل يقوله صحابي إل عن توقيف ،ونقل عن
الرسول صلّى ال عليه وسلم .
واختلفوا في حكم البهيمة الموطوءة ،فقال المالكية :حكمها كغيرها في الذبح والكل فل تحرم ول
تكره.
وقال الشافعية :ل تذبح في الصح ،وإن كانت مأكولة وذبحت ،حل أكلها على الصح ،ولكنه يكره
لشبهة التحريم .وإن كانت البهيمة لغيره ،وجب عليه ضمانها إن كانت مما ل تؤكل ،وضمان ما نقص
بالذبح إذا كانت تؤكل؛ لنه هو السبب في إتلفها وذبحها.
وقيل عند الحنفية :إنها تذبح ول تؤكل.
وقال الحنابلة :يجب قتلها ،سواء أكانت مأكولة أم غير مأكولة ،لقوله عليه السلم« :من أتى بهيمة
فاقتلوه واقتلوا البهيمة» ( ، )2ولن في بقائها تذكيرا بالفاحشة ،فيعيّر بها صاحبها (. )3
- 3حد إتيان الميتة :
قال المالكية :يحد من أتى ميتة في قبلها أو دبرها؛ لنه وطء في فرج آدمية ،فأشبه وطء الحية ،ولنه
أعظم ذنبا وأكثر إثما؛ لنه انضم إلى الفاحشة هتك حرمة الميتة (. )4
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة في الرجح عندهم :ل يحد واطئ الميتة؛ لن هذا ينفر الطبع عنه،
فل يحتاج إلى الزجر عنه بحد كشرب البول ،بل يعزر ويؤدب (. )5
-------------------------------
( )1أخرجه الترمذي وأبو داود ،وفي لفظ «من أتى بهيمة فل حد عليه» (راجع جامع الصول:
،308/4التلخيص الحبير :ص ،352نيل الوطار.)118/7 :
( )2رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة من طريق عمرو بن أبي عمر عن ابن عباس ،قال الترمذي
عن هذا الحديث( :ل نعرفه إل من حديث عمرو بن أبي عمر) وضعفه أبو داود بحديث ابن عباس
السابق( :ليس على الذي يأتي البهيمة حد) قال الترمذي :هذا أصح من الول (راجع المراجع السابقة،
ونصب الراية ،342/3 :مجمع الزوائد.)273/6 :
( )3انظر فتح القدير ،152/4 :البدائع ،34/7 :حاشية الدسوقي ،316/4 :المغني ،189/8 :مغني
المحتاج ،146/4 :المهذب.269/2 :
( )4حاشية الدسوقي.314/4 :
( )5البدائع ،34/7 :المغني ،181/8 :مغني المحتاج ،145/4 :المهذب.269/2 :
( )7/336
( )7/337
مسلم .وبعبارة أخرى تُخصص المراد هنا :هو نسبة آدمي مكلف غيره ،حرا ،عفيفا ،مسلما ،بالغا
عاقلً أو مطيقا ،للزنا ،أو قطع نسب مسلم .وهذا التعريف عند المالكية (. )1
وقد فسره الحنفية بقولهم :القذف نوعان:
ـ أن يقذفه بصريح الزنا ،وما يجري مجرى الصريح ،وهو نفي النسب (. )2
فالول :أن يقذفه بصريح الزنا الخالي عن الشبهة ،الذي لو أقام القاذف عليه أربعة من الشهود ،أو
أقر به المقذوف ،لزمه حد الزنا.
والثاني :أن ينفي نسب إنسان من أبيه المعروف ،فيقول( :لست بابن فلن) أو ( هو ليس بأبيك )
فيكون قاذفا ،كأنه قال ( :أمك زانية ).
وبيانه :إذا قال رجل لخر :يا زاني ،أو زنيت ،أو أنت زانٍ ،يحد؛ لنه قذفه بصريح الزنا ،وكذلك لو
قال له ( :يا ابن الزاني ) أو ( يا ابن الزانية ) فهو قاذف لبيه أو أمه.
أما لو قال له ( :لست لمك ) فل يكون قذفا ،إذ أنه كذب محض؛ لنه نفي النسب من الم ،ونفي
النسب من الم ل يتصور؛ لن أمه ولدته حقيقة .وكذا لو قال له ( :لست لبويك ) لنه نفي نسبه
عنهما ،ول ينتفي عن الم؛ لنها ولدته ،فيكون كذبا.
-------------------------------
( )1انظر حاشية الدسوقي 324/4 :وعرفه ابن جزي في القوانين الفقهية :ص 342بتعريف
أوجز:وهو الرمي بوطء حرام من قبل أو دبر أو نفي من النسب للب (خلف النفي من الم) أو
تعريض بذلك.
( )2انظر التفصيل في البدائع 42/7 :وما بعدها ،المبسوط 119/9 :وما بعدها ،فتح القدير والعناية:
،202 ،190/4تبيين الحقائق للزيلعي 199/3 :وما بعدها ،حاشية ابن عابدين 185/3 :وما بعدها.
( )7/338
هذا بخلف ما لو قال ( :لست لبيك ) فهو قاذف لمه؛ لن ذلك ليس بنفي لولدة الم ،بل هو نفي
النسب عن الب ،ونفي النسب عن الب يكون قذفا للم.ولو قال ( :أنت ابن فلن ) لعمه أو لخاله ،أو
لزوج أمه ،في غير حال الغضب ،ل يكون قذفا عند الحنفية؛ لن العم يسمى أبا ،وكذلك الخال،
وزوج الم ،قال ال سبحانه{ :قالوا :نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل} [البقرة]133/2:
وإسماعيل كان عم يعقوب عليه السلم ،وقد سماه أبا.
وقال جل وعل عن يوسف عليه السلم{ :ورفع أبويه على العرش} [يوسف ]100/12:قيل :إنهما أبوه
وخالته ،وإذا كانت الخالة أما كان الخال أبا ،وقال ال تعالى{ :إن ابني من أهلي} [هود ]45/11:قيل
في التفسير :إنه كان ابن امرأته من غيره.
فإن كان ذلك في حال الغضب على سبيل الشتم يكون قذفا.
ولو قال ( :لست بابن فلن ) لجده ،لم يكن قاذفا؛ لنه صادق في كلمه حقيقة؛ لن الجد ل يسمى أبا
حقيقة بل مجازا.
( )7/339
ولو قال لرجل (:يا زانية ) ل يجب الحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف ،خلفا لمحمد والشافعي .دليل
محمد والشافعي :أن الهاء قد تدخل صلة زائدة في الكلم مثل{ :ما أغنى عني ماليهْ ،هلك عني
سلطانيهْ} [الحاقة ]29-28/69:ومعناه مالي وسلطاني ،والهاء زائدة ،فيحذف الزائد فيبقى قوله ( :يا
زاني ) وقد تدخل الهاء في الكلم للمبالغة في الصفة مثل :علّمة ونسابة ونحوهما ،فل يختل به
معنى القذف ،كما لو قال لمرأة« :يا زاني» يجب الحد بالتفاق .ودليل الشيخين :أنه قذفه بما ل
يتصور ،فيلغو ،ودليل عدم التصور أنه قذفه بفعل المرأة وهو التمكين؛ لن الهاء في الزانية هاء
التأنيث كالضاربة والقاتلة والسارقة ونحوها ،وهو ل يتصور من الرجل ،بخلف ما إذا قال لمرأة( :
يا زاني )؛ لنه أتى بمعنى السم ،وحذف الهاء في نعت المرأة ل يخل بمعنى القذف ،وهاء التأنيث قد
تحذف في الجملة كالحائض والطالق والحامل ونحوها.
فيفهم منه حكم ما لو قال لمرأته ( :يا زاني ) فإنه يحد بالتفاق بين الحنفية والشافعية .ولو قال ( :يا
زانئ ) بالهمزة وعنى به الصعود ،يحد؛ لن العامة ل تفرق بين المهموز والملين ،وبعض العرب
يهمز الملين ،فيبقى مجرد النية ،فل يعتبر.
ولو قال ( :زنأت في الجبل ) وعنى به الصعود ،فل يصدق ،ويحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف .وعند
محمد :يصدق ول يحد.
دليل محمد :أن الزنا الذي هو فاحشة ملين ،والزنأ الذي هو صعود مهموز .فإذا قال :عنيت به
الصعود ،فقد عنى به ماهو موجب اللفظ لغة ،فلزم اعتباره.
ودليل الشيخين :أن اسم الزنا يستعمل في الفجور عرفا وعادة ،والعامة ل تفصل بين المهموز
والملين ،فل يصدق في الصرف عن المتعارف.
وقال الشافعية ( : )1إن قال :زنأت في الجبل ،فليس بقذف من غير نية؛ لن الزنأ هو الصعود في
الجبل ،بدليل قول الشاعر:
وارق إلى الخيرات زنأً في الجبل
-------------------------------
( )1المهذب.273/2 :
( )7/340
وإذا قال ( :زنأت على الجبل ) فيحد بالتفاق؛ لنه ل تستعمل كلمة (على) في الصعود ،فل يقال:
صعد على الجبل ،وإنما يقال :صعد في الجبل.
ولو قال ( :يا ابن القحبة ) لم يكن قاذفا؛ لن هذا السم كما يطلق على الزانية ،يستعمل في المهيأة
المستعدة للزنا وإن لم تزن ،فل يجعل قذفا مع الحتمال.
وكذلك لو قال ( :يا ابن الدعية ) ل يحد؛ لن الدعية هي المرأة المنسوبة إلى قبيلة ل نسب لها منهم،
فل يدل على كونها زانية ،لجواز ثبوت نسبها من غيرهم.
ولكن إذا تغير العرف ،وأصبح استعمال اللفظين الخيرين مقصودا به القذف في عرف الناس
وعاداتهم ،وجب الحد.
هذا كله في القذف بصريح الزنا ،أو بما جرى مجرى الصريح ،وفيما ليس قذفا بالزنا ،فما حكم القذف
بطريق الكناية والتعريض؟ وجوابه فيما يأتي:
هل التعريض بالقذف يوجب الحد؟
اتفق الفقهاء على أن القذف إذا كان بلفظ صريح بالزنا ،وجب الحد .واختلفوا إذا كان بتعريض مثل:
أن يقول لمن يخاصمه ( :ما أنت بزان ) ( ،ما يعرفك الناس بالزنا ) ( ،يا حلل ابن الحلل ) .أو
يقول ( :ما أنا بزان ،ول أمي بزانية ،ول أبي بزان ).
فقال الحنفية :إن التعريض ل يوجب الحد ،وإن نوى به القذف؛ لن التعريض أمر خفيف في الذى
عادة ،وهو بمنزلة الكناية المحتملة للقذف ونحوه ،ول يحد الشخص بالحتمال ،لقوله عليه الصلة
وسلم ( :ادرؤوا الحدود بالشبهات ) .كذلك ل يحد باللفاظ المشتركة بين الزنا وغيره ،أو بما يدل
صراحة على وطء غير الزنا.
مثال الول :أن يقول لمرأة ( :وطئك فلن وطأً حراما ) أو (فجر بك فلن) أو يقول لرجل (:وطئت
فلنة حراما ) أو ( جامعتها حراما ) فل يحد ،إذ قد يكون الوطء حراما ول يكون زنا ،فكان قذفه
محتملً ،ول يجب الحد مع الحتمال.
( )7/341
ومثال الثاني :أن يقول لرجل ( :يا لوطي ) أو ( تعمل عمل قوم لوط ) فل يحد؛ لنه في الول نسبه
إلى قوم لوط فقط ،وفي الثاني قذفه باللواط ،وهو ليس زنا عند أبي حنيفة خلفا لصاحبيه ،كما سبق
بيانه بالتفصيل (. )1
وقال المالكية :التعريض بالقذف يوجب الحد إن أفهم تعريضه القذف بالزنا بالقرائن ،كالخصام ،كأن
يقول ( :أما أنا فلست بزان ) أو ( أنا معروف ) لنه ثقيل على غالب الناس ،والكناية قد تقوم في
العادة والستعمال مقام الصريح ،وإن كان اللفظ فيها مستعملً في غير موضعه أي مقولً بالستعارة،
وهذا معنى قول الدباء :الكناية أبلغ من الصريح .وقد وقعت هذه القضية في زمان عمر ،فشاور فيها
الصحابة ،فاختلفوا فيها عليه ،فرأى عمر فيها الحد ،فجلد القاذف (. )2
وقال الشافعية :التعريض إن نوى به القذف ،وفسره به وجب الحد ،فهو بمنزلة الكناية ،والكناية
توجب الحد؛ لن ما ل تعتبر فيه الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلق والعتاق.
وإن لم ينو به القذف لم يجب الحد ،سواء أكان التعريض في حال الخصومة أم غيرها؛ لنه يحتمل
القذف وغيره،
-------------------------------
( )1انظر المبسوط ،120/9 :فتح القدير ،191/4 :البدائع ،44-42/7 :تبيين الحقائق.200/3 :
( )2بداية المجتهد ،432/2 :حاشية الدسوقي ،327/4 :المنتقى على الموطأ ،150/7 :القوانين
الفقهية :ص .357
( )7/342
والحدود تدرأ بالشبهات ( . )1ومن الكناية عندهم أن يقول :يا فاجر ،يا خبيث ،ياحلل ابن الحلل،
فإن نوى به القذف ،وجب به الحد ،وإن لم ينو به القذف ،لم يجب به الحد ،سواء أكان القول في حال
الخصومة أم في غيرها؛ لنه يحتمل القذف وغيره.
وقال الحنابلة :اختلفت الرواية عن أحمد في التعريض بالقذف:في رواية ل حد عليه ،وهو ظاهر كلم
الخرقي واختيار أبي بكر .وفي رواية :عليه الحد بدليل فعل عمر السابق ذكره (. )2
القذف باللواط :قال الشافعية ( : )3إن قال شخص لغيره :لطت أو لط بك فلن باختيارك ،فهو قذف؛
لنه قذفه بوطء يوجب الحد ،فأشبه القذف بالزنا ،وإن قال :يا لوطي ،وأراد أنه على دين قوم لوط ل
يحد؛ لنه يحتمل ذلك .وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد .والقذف باللواط موجب للحد عند
الجمهور غير الحنفية.
قذف الجماعة :قال الحنفية والمالكية :إذا قذف الشخص جماعة يحد حدا واحدا ،كأن يقول« :كلكم
زان» أو يقول لكل واحد منهم في مجلس ،أو متفرقين« :يا زاني» أو «فلن زان ،وفلن زان» .
ودليلهم أن هلل بن أمية قذف أمرأته بشريك بن سحماء ،فرفع المر إلى النبي عليه الصلة والسلم
فلعن بينهما ،ولم يحد هللً لقذفه شريك بن سحماء ( )4؛ لن القذف جناية توجب
-------------------------------
( )1المهذب.273/2 :
( )2المغني.222/8 :
( )3المهذب.273/2 :
( )4أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات من حديث أنس بن مالك ،قال« :أول لعان كان في السلم أن
شريك ابن سحماء قذفه هلل بن أمية بامرأته ،فقال له النبي صلّى ال عليه وسلم :البينة وإل فحد في
ظهرك ،فقال :يا رسول ال ،إن ال يعلم أني لصادق ولينزلن ال عليك ما يبرئ ظهري من الحد،
فأنزل ال عز وجل آية اللعان ،ولعن النبي صلّى ال عليه وسلم وفرق بينهما» والحديث أخرجه
البخاري عن ابن عباس (راجع نصب الراية ،306/3 :سبل السلم.)16/4 :
( )7/343
حدا ،فإذا تكرر كفى حد واحد ،كما لو سرق من جماعة ،أو زنى بنساء (. )1
وقال الشافعي ،وزفر من الحنفية :إذا قذف شخص جماعة ،فيجب لكل واحد منهم حد ،سواء أكان
القذف لكل واحد على انفراد أم بكلمة واحدة؛ لنه ألحق العار بقذف كل واحد منهم ،فلزمه لكل واحد
منهم حد ،كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف (. )2
وقال الحنابلة :إن قذف الجماعة بكلمة واحد ،فيحد حدا واحدا ،إذا طالبوا جميعا ،أو طالب واحد منهم؛
لن مطلق الية{ :والذين يرمون المحصنات} [النور ]4/24:لم يفرق فيها بين قذف واحد أو جماعة،
ولنه قذف واحد ،فلم يجب إل حد واحد .فإن قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد؛ لن القذف حق
للدمي ،وحقوق الدميين ل تتداخل كالديون والقصاص ( ، )3أي ل يجزئ بعضها عن بعض.
تكرار القذف :قال الشافعية ( : )4إن كرر القاذف القذف بنفس الزنا السابق الذي حد عليه ،يعزر
للذى ،ولم يحد؛ كما فعل عمر مع أبي بكرة الذي كرر قذف المغيرة .وإن قذفه بزنا آخر قبل أن يقام
عليه الحد ،يلزمه في الصحيح حد واحد؛ لنهما حدان من جنس واحد ،لمستحق واحد ،فتداخل كما لو
زنى ،ثم زنى.
-------------------------------
( )1المبسوط ،111/9 :البدائع ،56 ،42/7 :حاشية الدسوقي ،327/4 :القوانين الفقهية :ص ،358
بداية المجتهد ،433/2 :الشرح الكبير.327/4 :
( )2المهذب ،275/2 :الميزان.160/2 :
( )3المغني 233/8 :وما بعدها.
( )4المهذب.275/2 :
( )7/344
وقال المالكية ( : )1من قذف شخصا واحدا مرارا كثيرة ،فعليه حد واحد إذا لم يحد لواحد منها،
اتفاقا ،فإن قذفه فحد ،ثم قذفه مرة أخرى ،حد مرة أخرى اتفاقا.
وأيد الحنابلة ( )2ذلك فقالوا :إن اجتمعت حدود ال في جنس ،بأن زنى أو سرق أو شرب مرارا،
تداخلت ،فل يحد سوى مرة ،فإن كانت من أجناس وفيها قتل ،استوفي وحده ،وإل وجب أن يبدأ
بالخف فالخف.
المبحث الثالث ـ شرائط وجوب حد القذف :
اشترط الحنفية لوجوب حد القذف ستة أنواع من الشرائط ،يتعلق بعضها بالقاذف ،وبعضها بالمقذوف،
وبعضها بهما جميعا ،وبعضها بالمقذوف به ،وبعضها بالمقذوف فيه ،وبعضها بنفس القذف.
أولً ـ شروط القاذف :
يشترط في القاذف ستة شروط متفق عليها:
- 1العقل :فل عبرة بكلم المجنون.
- 2البلوغ :فل يحد القاذف إذا كان صبيا كالمجنون ،والسبب في عدم العقاب أن الحد عقوبة،
فتستدعي كون القذف جناية ،وفعل الصبي والمجنون ،ليوصف بكونه جناية .ولفرق بين كون
القاذف مسلما أو كافرا التزم حقوق المسلمين من مرتد أو ذمي أو معاهد .واشترط الشافعية كون
القاذف مختارا غير مكره.
- 3عدم إثباته ما قذف به بأربعة شهود ،فإن أتى بهم وشهدوا على المقذوف بالزنا ،لم يحد حد
القذف ،لقوله تعالى{ :والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة}
[النور )3( ]4/24:واشترط أبو حنيفة أن يأتي الشهود جماعة؛ لن الشاهد الواحد إذا شهد بانفراده
صار قاذفا ،فوجب عليه الحد ،وخرج عن كونه شاهدا ،فل خلص من هذا الشكال إل باشتراط
الجتماع .ولم يشترط الجمهور هذا الشرط ،إذ الية مطلقة ،بل تفريقهم أولى؛ لنه أبعد عن التهمة
والتواطؤ .وأجاز الحنفية كون الزوج أحد الشهود الربعة .وقال الجمهور :يلعن الزوج ،ويحد
الشهود الثلثة؛ لن الشهادة بالزنى قذف.
- 4أن يكون القاذف ملتزما بأحكام الشريعة ،ل الحربي ،وعالما بالتحريم.
- 5الختيار أو الطواعية ،فل يحد المكره بالقذف.
- 6أل يأذن المقذوف للقاذف بالقذف بالزنا ،فإن أذن له بالقذف لم يحد للشبهة.
ثانيا ـ شروط المقذوف :
يشترط في المقذوف بالتفاق شرطان (: )4
- 1أن يكون المقذوف محصنا :رجلً كان أو امرأة .وشرائط إحصان
-------------------------------
( )1القوانين الفقهية :ص 357وما بعدها ،الشرح الكبير.327/4 :
( )2غاية المنتهى.315/3 :
( )3البدائع.40/7 :
( )4انظر البدائع ،المرجع السابق ،فتح القدير ،191/4 :المبسوط ،116/9 :تبيين الحقائق للزيلعي:
،200/3حاشية ابن عابدين ،184/3 :المهذب ،276 ،272/2 :الدرديرمع الدسوقي 325/4 :وما
بعدها ،المغني 227 ،215/8 :وما بعدها.
( )7/345
القذف خمسة :العقل ،والبلوغ ،والحرية ،والسلم ،والعفة عن الزنا .وبناء عليه ل يجب الحد بقذف
الصبي والمجنون والرقيق والكافر ،ومن لعفة له من الزنا.
أما اشتراط العقل والبلوغ :فلن الزنا ل يتصور من الصبي والمجنون ،فكان قذفهما بالزنا كذبا
محضا ،فيوجب التعزير ،ل الحد.
وأما الحرية :فلن ال سبحانه وتعالى شرط الحصان في آية القذف ،وهي قوله تعالى{ :والذين
يرمون المحصنات} [النور ]4/24:والمراد من المحصنات هنا :الحرائر ل العفائف عن الزنا .فلو
أريد من المحصنات :العفائف ،لكان تكرارا مع ما بعده من الوصاف التية.
وأما السلم والعفة عن الزنا ،فلقوله تعالى { :إن الذين يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات}
[النور ]23/24:والغافلت :العفائف عن الزنا.
وتفسير العفة عن الزنا :هو أل يكون المقذوف قد وطئ في عمره وطأً حراما ،في غير ملك ،ول
نكاح أصلً ،ول في نكاح فاسد فسادا مجمعا عليه في عهد السلف ،مثل وطء المرأة بشبهة :بأن زفت
إليه غير امرأته فوطئها.
ومن ل يجب عليه الحد ،لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض بالقذف ،على الخلف السابق فيه ،عزر؛
لنه آذى من ل يجوز إيذاؤه.
( )7/346
- 2أن يكون المقذوف معلوما :فإن كان مجهولً ل يجب الحد ،كما إذا قذف جماعة على النحو الذي
سبق بيانه ،أو قال لجماعة ( :ليس فيكم زان إل واحد ) أو قال لرجلين ( :أحدكما زان ) فإنه في هذه
الصور الثلث ل يجب الحد لكل واحد من الجماعة؛ لن المقذوف مجهول .والمذهب لدى الشافعية (
: )1أنه إذا قذف الوالد ولده ،أو قذف الجد ولد ولده ،لم يجب عليه الحد؛ لن الحد عقوبة تجب لحق
الدمي ،فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص .وإن قذف زوجته ،فماتت ،وله منها ولد ،سقط الحد؛
لن المطالبة حق للولد ،ولم يثبت له هذا الحق على والده .وإن كان لها ابن آخر من غيره ،وجب له
الحد ،لثبوت حقه فيه.
ثالثا ـ ما يشترط في القاذف والمقذوف معا :
يشترط بالتفاق أل يكون القاذف أبا للمقذوف ،ول جده وإن عل ،ول أمه ول جدته وإن علت .فإن
كان كذلك ،فل حد عليه ،للوامر التي تطالب بالحسان إلى هؤلء ،وفي إقامة الحد ترك للتعظيم
والحترام الواجب شرعا (. )2
رابعا ـ مايشترط في المقذوف به :
يشترط أن يكون القذف بصريح الزنا ،أو بما يجري مجرى الصريح .وقد سبق تفصيله في مطلب
تفسير القذف شرعا.
خامسا ـ شرط المقذوف فيه أي المكان :
يشترط أن يكون القذف حاصلً في دار العدل ،فإن حصل في دار الحرب أو في دار البغي ،فل يجب
الحد؛ لن المام هو الذي يقيم الحد ،ول ولية له على دار الحرب ،ول على دار البغي ( )3في رأي
الجمهور ،وقال الشافعية :يستحق الباغي الحد.
-------------------------------
( )1المهذب.272/2 :
( )2البدائع ،42/7 :المهذب ،272/2 :الدردير مع الدسوقي ،331 ،327/4 :المغني.219/6 :
( )3البدائع.45/7 :
( )7/347
( )7/348
قال الحنفية :إن حد القذف فيه حقان :حق للعبد ،وحق ل تعالى ،إل أن حق ال تعالى فيه غالب؛ لن
القذف جريمة تمس العراض ،وفي إقامة الحد على القاذف تتحقق مصلحة عامة :وهي صيانة
مصالح العباد ،وصيانة العراض ،ودفع الفساد عن الناس (. )1
وقال الشافعية والحنابلة :إن حد القذف حق خالص للدمي المقذوف؛ لن القذف جناية على عرض
المقذوف ،وعرضه حقه ،فكان البدل (وهو العقاب) حقه ،كالقصاص (. )2
ويترتب على هذا الخلف :أنه بناء على القول الول ،وهو مذهب الحنفية :ل يصح للمقذوف إسقاط
الحد ول البراء منه والعفو عنه،ول الصلح والعتياض عنه (أي بعد أن يرفع المر إلى الحاكم ،أما
قبل ذلك فيسقط بالعفو) ول يجري فيه الرث ،ولكن يسقط بموت المقذوف؛ لن الرث إنما يجري
في المتروك من ملك أو حق للمورث ،لقوله عليه السلم« :من ترك مالً أو حقا فهو لورثته» ()3
وحد القذف ليس حقا للمورث عندهم ،وإنما هو حق ل تعالى في غالبه ،فل يرثه ورثته ،ويجري فيه
التداخل كما في قذف الجماعة ،فيجب حد واحد إذا تكرر القذف كما سبق بيانه.
وإذا طلب المقذوف من القاضي أن يستحلف القاذف ،فل يحلفه كما في حد الزنا .ومثل حد القذف :حد
الزنا والشرب والسكر والسرقة.
-------------------------------
( )1فتح القدير ،194/4 :البدائع ،56/7 :حاشية ابن عابدين ،189/4 :المبسوط.113/9 :
( )2المهذب 274/2 :وما بعدها ،الميزان 160/2 :وما بعدها ،المغني،233 ،230 ،219 ،217/8 :
.236
( )3رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه قال في خطبته« :من
خلّف مالً أو حقا فلورثته ،ومن خلف كلً أو دينا ،فكله إلي ،ودينه علي» وفي لفظ« :من ترك مالً
فلورثته ،ومن ترك كلّ فإلينا» وعن سلمان عند الطبراني بنحو حديث أبي هريرة وزاد« :وعلى
الولة من بعدي من بيت مال المسلمين» وفي إسناده عبد ال بن سعيد النصاري متروك ،وعن أبي
أمامة عند ابن حبان في ثقاته .وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب ،قال:
قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :من ترك كلً فإلي ،ومن ترك مالً فلورثته ،وأنا وارث من ل
وارث له ،أعقل منه ،وأرثه ،والخال وارث من ل وارث له ،يعقل عنه ويرثه» ( .راجع نصب
الراية ،58/4 :التلخيص الحبير :ص ،251نيل الوطار.)238/5 :
( )7/349
وبناء على القول الثاني ،وهو مذهب الشافعية والحنابلة :يصح للمقذوف ولو بعد رفع المر للحاكم
إسقاط الحد والبراء منه ،والعفو عنه ،والصلح ،والعتياض عنه ،ويورث حق المطالبة بحد القذف؛
لنه من حقوق العباد .أما حديث صفوان التي فهو في حد السرقة الذي هو حق ل تعالى .ودليلهم ما
رواه ابن السني أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان يقول:
تصدقت بعرضي» أي بنفسي ،والتصدق بالعرض ل يكون إل بالعفو عما يجب له.
وأما التداخل :فل يجري فيه عندهم ،حتى لو قذف جماعةً ،كل واحد منهم على انفراد ،وجب لكل
واحد منهم حد كما سبق بيانه وتفصيله.
وإذا ادعى شخص على رجل أنه قذفه فيستحلف؛ لنه حق لدمي كالدين.
وأما مذهب المالكية فمختلف فيه؛لن قول مالك اختلف :فمرة قال بقول الشافعي :وهو أن حد القذف
حق للدمي ،فيجوز فيه العفو وهو الظهر عند ابن رشد ،ومرة قال :فيه حقان :حق ل وحق للعبد،
إل أنه يغلب فيه حق المام إذا وصل إليه أمر الحد ،فإذا رفع أمر الحد إلى المام ل يملك المقذوف
العفو عن الحد ،إل إذا أراد المقذوف الستر على نفسه ،تغليبا لحق ولي المر إذا وصل إليه الحد،
قياسا على الثر الوارد في السرقة ( ، )1وهو أن الرسول عليه الصلة والسلم قال في حادثة سارق
رداء صفوان« :فهل ـ أي عفوت عنه ـ قبل أن تأتيني به» فلم يعمل
-------------------------------
( )1انظر بداية المجتهد 433/2 :وما بعدها ،المنتقى على الموطأ ،148/7 :حاشية الدسوقي،331/4 :
الفروق للقرافي ،141/1 :القوانين الفقهية :ص ،358تهذيب الفروق ،157/1 :الفروق،141/1 :
.175/4
( )7/350
الرسول بقول صفوان« :إني لم أرد هذا ـ أي قطع يده ـ هوـ أي الرداء ـ عليه صدقة» (. )1
والرأي الول هو المشهور عن مالك والراجح في مذهبه ،فيجوز عنده للمقذوف العفو عن قاذفه قبل
بلوغ المام أو نائبه ،أو بعد بلوغه إليه إن أراد المقذوف سترا على نفسه ،كأن يخشى أنه إن ظهر
أمره قامت عليه بينة بما رماه به .أما إن لم يرد المقذوف الستر ،فل يجوز له العفو عن القاذف بعد
بلوغ المام أو نائبه ،لصيرورته حقا ل تعالى.
المبحث الخامس ـ إثبات القذف :
تثبت جرائم الحدود كلها عند القاضي بالبينة أو بالقرار ،بشرط توافر شروط معينة ،بعضها في
وسيلة الثبات نفسها ،أي في البينة أو القرار ،وبعضها يتوقف عليها النظر في إثبات الحد بالوسائل
المذكورة ،وهو شرط الخصومة ( ، )2أي رفع الدعوى.
الخصومة :الخصومة معناها :رفع الدعوى ،وهي ليست بشرط في حد الزنا والشرب ،ولكنها شرط
في ثبوت حد السرقة كما سأبين ،وشرط في ثبوت حد
-------------------------------
( )1أخرجه الموطأ وأحمد وأصحاب السنن الربعة وصححه ابن الجارود والحاكم عن صفوان بن
أمية .ورواية الموطأ :أن صفوان بن أمية قيل له :إنه إن لم يهاجر هلك ،فقدم صفوان بن أمية
المدينة ،فنام في المسجد وتوسد رداءه ،فجاء سارق ،فأخذ رداءه .فأخذ صفوان السارق ،فجاء به إلى
رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،فأمر به رسول ال صلّى ال عليه وسلم أ ن تقطع يده ،فقال له
صفوان :إني لم أرد هذا يا رسول ال ،هو عليه صدقة ،فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم :فهل
قبل أن تأتيني به( .راجع تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ،49/3 :جامع الصول ،342/4 :مجمع
الزوائد ،276/6 :نصب الراية ،368/3 :سبل السلم.)26/4 :
( )2البدائع.52 ،46/7 :
( )7/351
القذف بالشهادة والقرار .أما على أصل الشافعي فلن حد القذف حق خالص للعبد ،فيشترط فيه
الدعوى ،كما في سائر حقوق العباد ،ويسقط إذا عفا عنه ،بدليل ما روى ابن السني« :أن النبي صلّى
ال عليه وسلم قال :أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ كان يقول :تصدقت بعرضي» والتصدق
بالعرض ل يكون إل بالعفو عما يجب له.
وأما عند الحنفية :فحد القذف وإن كان المغلب فيه حق ال عز وجل ،ولكن للشخص فيه حق؛ لنه
ينتفع به بصيانة عرضه عن الهتك ،فيشترط فيه رفع الدعوى عن جهة حق الشخص؛ لن حق
الشخص الخاص ل يثبت إل بمطالبته وخصومته ( . )1وسأتكلم عن الخصومة في موضعين :حكم
الخصومة ،ومن يملك الخصومة.
حكم الخصومة أو الدعوى :الفضل للمقذوف أن يترك الخصومة؛ لن فيها إشاعة الفاحشة ،وهو
مندوب إلى تركها ،وكذا العفو عن الخصومة أفضل لقوله تعالى{ :وأن تعفوا أقرب للتقوى ول تنسوا
الفضل بينكم} [البقرة ]237/2:ويستحسن للقاضي إذا رفع المر إليه أن يرغب المدعي بترك الدعوى
( . )2
من يملك الخصومة ومن ل يملكها :
المقذوف :إما أن يكون حيا وقت القذف ،وإما أن يكون ميتا .فإن كان حيا فل خصومة لحد سواه،
ولو كان ولدا أو والدا له ،سواء أكان حاضرا أم غائبا؛ لنه إذا كان حيا وقت القذف ،كان هو
المقذوف صورة ومعنى بإلحاق العار به ،فكان حق الخصومة له.
وتجوز النابة في هذه الخصومة وهو التوكيل بالثبات بالبينة عند أبي حنيفة ومحمد .وعند أبي
يوسف :ل تجوز ،إذ ل تصح وكالة في حد ولقصاص عنده .دليله :أنه كما ل يجوز التوكيل في
استيفاء حد القذف ،فل يجوز ذلك في إثباته؛ لن الثبات وسيلة إلى الستيفاء.
-------------------------------
( )1البدائع :المرجع السابق :ص ،52المهذب.274/2 :
( )2البدائع ،المرجع السابق :ص .52
( )7/352
ودليل الطرفين :أنه يفرق بين الثبات والستيفاء ،وهو أن امتناع التوكيل في الستيفاء بسبب الشبهة،
وهي منعدمة في التوكيل بالثبات (. )1
وأما إذا كان المقذوف ميتا :فإن حق الخصومة للوالد وإن عل ،وللولد وإن سفل؛ لن معنى القذف
وهو إلحاق العار عائد إلى الصل والفرع ،لوجود الجزئية بالنسبة للفرع والبعضية بالنسبة للصل،
وقذف النسان يكون قذفا لجزائه ،فكان القذف لحقا بهم من حيث المعنى ،أما الميت فل يرجع إليه
معنى القذف؛ لنه ليس بمحل للحاق العار به ( . )2فإذا كان المقذوف حيا ثم مات ،فليس لحد من
هؤلء حق الخصومة؛ لنه حد ل يورث كما عرفنا.
ول حق في الخصومةأصلً للخوة والخوات والعمام والعمات والخوال والخالت؛ لنه وإن كان
يؤلمهم نسبة الزنا إلى قريبهم ،ولكنهم ل يلحقهم القذف ل صورة ول معنى ،لعدم انتسابهم إلى
المقذوف ل بجزئية ول بأصل.
وأما أولد البنات فمختلف فيهم :فعند محمد :ل يملكون الخصومة؛ لن ولد البنت ينسب إلى أبيه ،ل
إلى جده ،فلم يكن مقذوفا معنى بقذف جده.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف :يملكون الخصومة؛ لن النسبة الحقيقية بين المقذوف وأولد بناته ثابتة
بوساطة أمهاتهم ،فصاروا مقذوفين معنى (. )3
-------------------------------
( )1البدائع ،21/6 :فتح القدير ،197/4 :المبسوط.113/9 :
( )2البدائع :المرجع السابق ،55/7 :حاشية ابن عابدين ،187/4 :فتح القدير.195/4 :
( )3البدائع ،المرجع السابق نفسه ،المبسوط.112/9 :
( )7/353
ويلحظ أن حق الخصومة يثبت لقارب المقذوف هؤلء على السواء ،دون مراعاة الترتيب في
القرابة ،فالقرب والبعد في هذا الحق سواء؛ لنه ثابت لهم ابتداء ،وليس من طريق الرث عن
الميت وانتقاله لهم.
وقال زفر :يراعى الترتيب في القرابة؛ لن عار القرب يزيد على البعد (. )1
ونص المالكية والشافعية والحنابلة ( : )2على أن حق القذف يثبت للورثة ،فإن كان هناك وارثان،
فعفا أحدهما ثبت للخر جميع الحد ،تحقيقا للردع الذي شرع الحد من أجله .فإن لم يكن وارث ،ثبت
الحق فيه للمسلمين ،ويستوفيه السلطان.
التوكيل في استيفاء الحد :
عرفنا خلف الحنفية في التوكيل في إثبات الحد ،فهل تصح الوكالة في استيفاء الحد؟
اتفق الحنفية على أنه ل تصح الوكالة في استيفاء الحدود والقصاص ،فل بد من وجود المقذوف،
ووجود ولي القصاص حين الستيفاء؛ لن الستيفاء عند غيبة الموكل استيفاء مع الشبهة ،فقد يجوز
فيما لو حضر المقذوف أن يصدّق القاذف ،والحدود ل تستوفى مع الشبهات (. )3
وإذا حضر المقذوف يقوم ولي المر أو نائبه باستيفاء حد القذف ،لتطلبه معرفة معينة .وأما القصاص
فيستوفيه ولي الدم ،أو من يوكله بسبب عجزه وضعف قلبه بإشراف الحاكم.
وإذا طلب المقذوف إقامة الحد على القاذف ،وخاصم بين يدي القاضي ،وحكم القاضي بالحد ،ثم مات
المقذوف ،أو مات قبل المطالبة ،أو مات بعد ما ضرب بعض الحد ،فيبطل الحد ويبطل ما بقي منه،
وإن كان سوطا واحدا .وليس لحد الحق في متابعة الخصومة أو الستيفاء ،وحينئذ فل تبطل شهادة
القاذف عند الحنفية؛ لن المغلب في حد القذف هو حق ال تعالى ،فل يورث كما
-------------------------------
( )1البدائع ،المرجع السابق نفسه.
( )2تكملة المجموع ،201/8 :المهذب ،275/2 :الشرح الكبير.331/4 :
( )3البدائع.55/7 :
( )7/354
عرفنا (. )1وقال الشافعي وأحمد :يقوم الوارث مقام المقذوف في إثبات الحد واستيفائه؛ لن حد
القذف حق خالص للنسان عنده ،فيورث كل ما ترتب على القذف من حق الخصومة ،ومتابعتها،
واستيفاء الحد ،وما تبقى منه (. )2
شرائط البينة لثبات القذف :
ل يشترط في بينة المقذوف لثبات القذف سوى الشروط التي تعم الحدود التي سبق ذكرها ،وهي
الذكورة والصالة ،فل تقبل شهادة النساء ول الشهادة على الشهادة ول كتاب القاضي (. )3
ول يشترط عدم التقادم في حد القذف ،فلو تأخر الشهود زمنا طويلً عن أداء الشهادة ،ثم شهدوا على
القذف ،تقبل شهادتهم ،بخلف بقية الحدود كما عرفنا .والسبب في التفرقة بين حد القذف وغيره :هو
أن التأخير فيه ل يدل على الضغينة والتهمة؛ لنه يشترط رفع الدعوى في القذف ،فاحتمل أن يكون
التأخر في أداء الشهادة لتأخر المدعي في رفع الدعوى (. )4
-------------------------------
( )1البدائع ،المرجع السابق نفسه ،فتح القدير ،197/4 :المبسوط )2( .114/9 :المهذب.275/2 :
( )3المبسوط.111/9 :
( )4البدائع.46/7 :
( )7/355
( )5المراد من الحبس :الملزمة ،أي يقال للمدعي :لزمه إلى هذا الوقت ،لن الحبس عقوبة،
وبمجرد الدعوى ل تقام العقوبة على أحد (المبسوط.)106/9 :
( )6تقدم تخريجه عن عائشة ،وأنه ضعيف السناد ،والصح أنه موقوف على جماعة من الصحابة
مثل عمر وعلي وابن مسعود وعقبة بن عامر ومعاذ.
( )7/356
الكفالة كما في الموال ،ولنه إذا كان الحبس جائزا في الحدود ،فالكفالة أولى؛ لن معنى الوثيقة في
الحبس أبلغ منه في الكفالة ،فلما جاز الحبس ،فالكفالة أحق بالجواز ( ، )1وأما مدة الثلثة اليام فهي
وقت قريب ،لقوله عز وجل{ :ول تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} [هود ]64/11:ثم قال{ :تمتعوا
في داركم ثلثة أيام } [هود.]65/11:
وإن قال المقذوف ( :ل بينة لي ) أو ( بينتي غائبة ،أو خارج المصر ) فإن القاضي يخلي سبيل
القاذف ،ول يحبس بالتفاق لعدم التهمة (. )2
موقف القاضي من القاذف بعد ثبوت القذف :
إن أقام المقذوف البينة على صحة القذف ،أو أقر القاذف كما ذكر ،فإن القاضي يقول للقاذف« :أقم
البينة على صحة قولك» .
فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا ،أو على إقرار المقذوف بالزنا ،بين يدي المام أربع
مرات ،سقط الحد عن القاذف ،ويقام حد الزنا على المقذوف؛ لنه ظهر أن القاذف صادق في مقالته (
. )3
وإن عجز عن إقامة البينة ،يقام عليه حد القذف ،لقوله تعالى{ :والذين يرمون المحصنات ،ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء ،فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور.]4/24:
فإن طلب التأجيل من القاضي ،وقال ( :شهودي غيّب ) أو ( خارج المصر) لم يؤجله.
-------------------------------
( )1المبسوط ،106/9 :البدائع ،53/7 :المهذب.273/2 :
( )2المرجعان السابقان.
( )3البدائع.53/7 :
( )7/357
وإن قال ( :شهودي في المصر ) أجله إلى آخر المجلس ،ولزمه المقذوف ،ويقال له « :ابعث أحدا
إلى شهودك فأحضرهم» ول يؤخذ منه كفيل بنفسه عند أبي حنيفة؛ لن في التأجيل إلى آخر المجلس
الثاني منعا من استيفاء الحد بعد ظهوره.
وقال الصاحبان :يؤجل ( أي القاذف ) يومين أو ثلثة ،ويؤخذ منه كفيل؛ لنه يحتمل أن يكون صادقا
في إخباره أن له بينة في المصر ،وربما ل يمكنه الحضار في ذلك الوقت ،فيحتاج إلى التأخير إلى
المجلس الثاني ،وأخذ الكفيل لئل يفوت حقه.
وروي عن محمد رحمه ال أنه قال :إذا ادعى أن له بينة حاضرة في المصر ،ولم يجد أحدا يبعثه إلى
الشهود ،فإن القاضي يبعث معه من الشّرَط ( )1من يحفظه ول يتركه حتى يفر ،فإن عجز ،أقيم عليه
الحد .فإن ضرب القاذف بعض الحد ،ثم حضر الشهود ،وشهدوا على صدق مقالته ،قبلت بينته ،وبطل
الحد الباقي ،ول تبطل شهادته ،ويقام حد الزنا على المقذوف.
وإن ضرب القاذف الحد بتمامه ،ثم شهد الشهود على صدق مقالته ،تقبل شهادتهم .ويظهر أثر القبول
في استرداد عدالة القاذف وقبول شهادته؛ لنه تبين أنه لم يكن محدودا في القذف حقيقة ،حيث ظهر
أن المقذوف لم يكن محصنا؛ لن من شرائط الحصان :العفة عن الزنا ،وقد ظهر زناه بشهادة
الشهود ،فلم يصر القاذف مردود الشهادة (. )2
اللعان بعد إثبات القذف :قال الشافعية ( : )3إن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها وأنكر ،فشهد
شاهدان أنه قذفها ،جاز أن يلعن؛ لن إنكاره للقذف ليكذب ما يلعن عليه من الزنا؛ لنه يقول :إنما
أنكرت القذف ،وهو الرمي بالكذب ،وما كذبت عليها؛ لني صادق أنها زنت ،فجاز أن يلعن.
ما يسقط حد القذف :يسقط حد القذف بأحد أمور ثلثة:
- 1إثبات الزنى على المقذوف بالبينة أو بإقراره به.
- 2عفو المقذوف عن القاذف في رأي الشافعية؛ لنه عندهم حق من حقوق العباد.
- 3اللعان بين الزوجين ،لقوله تعالى{ :والذين يرمون أزواجهم} [النور.]6/24:
-------------------------------
( )1الشرط :هم الطائفة من خيار أعوان الولة ،وفي أيامنا هم رؤساء الضابطة ،والواحد :شرطي.
( )2راجع البدائع 53/7 :وما بعدها ،تبيين الحقائق للزيلعي.199/3 :
( )3المهذب.276/2 :
( )7/358
( )7/359
بالخذ معا فل قطع (. )1
واتفق العلماء على أنه ليس في الختطاف أو الخيانة فيما ائتمن عليه أو الختلس أو النهب أو
الغصب حد ،لقوله عليه الصلة والسلم:
« ليس على الخائن ول المختلس قطع» ( )2وقوله أيضا« :ليس على المنتهب قطع» (. )3
والختلس :أن يستغل صاحب المال فيخطفه ويذهب بسرعة جهرا ،فهو من يتعمد الهرب.
والخائن :هو الذي يضمر ما ل يظهره في نفسه .والمراد به :هو الذي يأخذ المال خفية من مالكه ،مع
إظهاره له النصيحة والحفظ.
-------------------------------
( )1راجع الدر المختار ورد المحتار ،212/3 :العناية وفتح القدير ،219/4 :تبيين الحقائق.212/3 :
( )2حديث قوي رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة وصححه الترمذي وابن حبان ،وأخرجه أيضا
الحاكم والبيهقي عن جابر بن عبد ال بلفظ« :ليس على خائن ،ول منتهب ،ولمختلس قطع» وفي
لفظ« :ليس على المختلس ول على الخائن قطع» وفي رواية أبي داود« :ليس على المنتهب قطع،
ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا» ورواه الطبراني في معجمه الوسط عن أنس بن مالك بلفظ:
«ليس على منتهب ،ول مختلس ،ول خائن قطع» (راجع جامع الصول ،321/4 :نصب الراية:
،363/3التلخيص الحبير :ص ،356نيل الوطار ،130/7 :سبل السلم.)33/4 :
( )3هذه هي رواية أبي داود عن جابر ،كما ذكر في الحديث السابق.
( )7/360
والمنتهب :هو المغير ،مأخوذ من النهبة :وهي الغارة والسلب ،والمراد به :الذي يأخذ المال على جهة
الغلبة والقهر (. )1
ورأى الحنابلة أن جاحد عارية قيمتها نصاب يقطع ،ول يقطع جاحد وديعة ،أي أن خائن الوديعة ل
يقطع عندهم .وقال الجمهور :ل يقطع جاحد المستعار ،ول جاحد الوديعة.
والفرق بين السارق الذي تقطع يده ،والمختلس والمنتهب والغاصب الذين ل تقطع أيديهم هو ما يأتي
( : )2
إن السارق ل يمكن الحتراز منه ،فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل ،ول يمكن صاحب
المتاع الحتراز بأكثر مما قام به ،فلو لم يشرع قطعه ،لسرق الناس بعضهم بعضا ،وعظم الضرر،
واشتدت المحنة بسبب السراق ،بخلف المنتهب والمختلس.
فإن المنتهب :هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس ،فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ،ويخلصوا
حق المظلوم ،أو يشهدوا له عند الحاكم.
وأما المختلس :فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره ،فل يخلو من نوع تفريط يمكن
به المختلس من اختلسه ،وإل فمع كمال التحفظ والتيقظ ،ل يمكنه الختلس ،فليس كالسارق ،بل هو
بالخائن أشبه .وأيضا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبا ،فإنه الذي يغافلك ويختلس
متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه ،وهذا يمكن الحتراز منه غالبا ،فهو كالمنتهب.
وأما الغاصب ،فالمر فيه ظاهر ،وهو أولى بعدم القطع من المنتهب .وإذا لم تقطع يد هؤلء ،يكف
عدوانهم بالضرب والنكال والسجن الطويل ،والعقوبة بأخذ المال.
حكم السرقة :الصل في مشروعية حد السرقة قوله تعالى{ :والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}
[المائدة ]38/5:وقال صلّى ال عليه وسلم « :إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا
-------------------------------
( )1المبسوط ،133/9 :البدائع ،65/7 :فتح القدير ،233/4 :حاشية ابن عابدين ،208/3 :حاشية
الدسوقي ،355/4 :المهذب ،289/2 :الميزان ،172/2 :المغني ،327/8 :مغني المحتاج،171/4 :
القوانين الفقهية :ص ،360غاية المنتهى.336/3 :
( )2أعلم الموقعين 61/2 :وما بعدها.
( )7/361
إذا سرق فيهم الشريف تركوه ،وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه» ( . )1وفي رواية « :أقاموا عليه
الحد» وإذا ثبتت السرقة فالواجب فيها القطع من حيث هي جناية ،والغرم إذا لم يجب القطع.
واختلفوا :هل يجمع بين الضمان والقطع؟
ل خلف بين العلماء في أنه إذا قطع السارق ،والعين قائمة ،ردت على صاحبها ،لبقائها على ملكه.
فإن كانت تالفة اختلفوا في ضمانها ،فقال الحنفية :إذا هلك المسروق ،فل يجتمع على السارق وجوب
الغرم (أي الضمان) مع القطع .فإن اختار المسروق منه الغرم لم يقطع السارق ،أي قبل وصول
المر إلى الحاكم .وإن اختار القطع ،واستوفي منه لم يغرم السارق؛ لن الشارع سكت عن الغرم ،فل
يجب مع القطع شيء .قال ال تعالى{ :والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ،جزاء بما كسبا} [المائدة:
]38/5فال سبحانه جعل القطع كل الجزاء ،فلو أوجبنا الضمان ،لصار القطع بعض الجزاء ،فيكون
نسخا لنص القرآن (. )2
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن عائشة ،ورواه الطبراني في الوسط
ورجاله ثقات عن أم سلمة (راجع جامع الصول ،314/4 :مجمع الزوائد ،259/6 :نيل الوطار:
.)136 ،131/7
( )2البدائع ،84/7 :فتح القدير ،261/4 :المبسوط ،156/9 :تبيين الحقائق ،231/3 :مجمع
الضمانات :ص .203
( )7/362
وقال عليه الصلة والسلم« :إذا قطع السارق فل غرم عليه» (. )1
وقال المالكية :إن كان السارق موسرا عند القطع ،وجب عليه القطع والغرم ،تغليظا عليه ،وإن كان
معسرا لم يتبع بقيمته ،ويجب القطع فقط ،ويسقط الغرم تخفيفا عنه ،بسبب عذره بالفاقة والحاجة ()2
.
وقال الشافعية والحنابلة :يجتمع قطع وضمان ،فيرد ما سرق لمالكه ،وإن تلف فيرد بدله ،فإذا تلف
المسروق في يد السارق ضمن بدله :برد مثله إن كان مثليا ،وقيمته إن كان قيميا ،سواء أكان موسرا
أم معسرا ،قطع أم لم يقطع ،فل يمنع القطع وجوب الضمان ،لختلف سبب وجوب كل منهما،
فالضمان يجب لحق الدمي ،والقطع يجب لحق ال تعالى ،فل يمنع أحدهما الخر ،كالدية والكفارة،
والجزاء والقيمة في قتل الصيد الحرمي المملوك (. )3
ويلحظ أن منشأ الخلف بين الحنفية وغيرهم :هو قاعدة تملك المضمون عند الحنفية ،وهي «أن
المضمونات تملك بالضمان ،ويستند الملك فيها إلى وقت وجوب الضمان» فل يجتمع عندهم القطع
والضمان؛ لنه لو ضمن لملك المسروق ،واستند ملكه إلى وقت الخذ ،فيحصل القطع في ملك نفسه،
وهو ل يجوز.
وقال الشافعي وغيره :ل تملك المضمونات بالضمان ،فيجتمع القطع والضمان لتعدد السبب ،وعدم
إسناد الضمان إلى وقت الخذ (. )4
والراجح الواضح هو قول الشافعية والحنابلة ،لختلف سبب كل من الضمان والقطع ،ولضعف
الحديث الذي استند إليه الحنفية.
حالة تكرار السرقة :اتفق العلماء على أن السارق تقطع يده اليمنى في السرقة الولى ،فإذا سرق ثانية
تقطع رجله اليسرى .واختلفوا في قطع اليد اليسرى في السرقة الثالثة ،والرجل اليمنى في السرقة
الرابعة.
-------------------------------
( )1قال الزيلعي عن حديث «ل غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه» :غريب بهذا اللفظ ومثله
اللفظ الوارد هنا ،وبمعناه ما أخرجه النسائي في سننه عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول ال صلّى
ال عليه وسلم قال« :ل يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد» قال النسائي :هذا مرسل وليس بثابت،
وأخرجه البيهقي أيضا ،وذكر له علة أخرى ،وأخرجه الدارقطني في سننه بلفظ« :ل غرم على
السارق بعد قطع يمينه» (راجع جامع الصول ،327/4 :نصب الراية ،375/3 :سبل السلم:
.)24/4
( )2بداية المجتهد ،442/2 :حاشية الدسوقي 346 :وما بعدها ،القوانين الفقهية :ص .360
( )3المهذب ،284/2 :المغني ،270/8 :غاية المنتهى.344/3 :
( )4تخريج الفروع على الصول للزنجاني :ص .107
( )7/363
قال الحنفية والحنابلة :ل يقطع السارق أصلً بعد اليد اليمنى والرجل اليسرى ،ولكنه يضمن
المسروق ،ويعزر ،ويحبس حتى يتوب ،بدليل ما روي عن سيدنا علي رضي ال عنه أنه أتي
بسارق ،فقطع يده ،ثم أتي به ثانية وقد سرق ،فقطع رجله ،ثم أتي به ثالثة ،فقال« :ل أقطعه ،إن
قطعت يده فبأي شيء يأكل ،بأي شيء يتمسح ،وإن قطعت رجله فبأي شيء يمشي ،إني لستحي من
ال » فضربه بخشبة وحبسه ( . )1وروي مثل ذلك عن سيدنا عمر رضي ال عنه ( . )2وهذا
استحسان.
وقال المالكية والشافعية :إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى ،ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى،
ثم يعزر ( )3؛ لن فعله معصية ليس فيها حد ول كفارة ،فعزر فيها ،والدليل لقطع اليد والرجل
الخرى :ما روى أبو هريرة رضي ال عنه« :أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال في السارق:
إن سرق فاقطعوا يده ،ثم إن سرق
-------------------------------
( )1رواه محمد بن الحسن في كتاب الثار عن علي بن أبي طالب ،ومن طريق محمد رواه
الدارقطني بسنده ومتنه ،ورواه عبد الرزاق في مصنفه ،واللفظ الوارد هنا أخرجه البيهقي عن علي
(راجع نصب الراية.)374/3 :
( )2البدائع ،86/7 :فتح القدير ،248/4 :المغني ،264/8 :غاية المنتهى.343/3 :
( )3الشرح الكبير ،332/4 :بداية المجتهد ،443/2 :مغني المحتاج ،178/4 :المهذب،283/2 :
القوانين الفقهية :ص .360
( )7/364
فاقطعوا رجله ،ثم إن سرق فاقطعوا يده ،ثم إن سرق فاقطعوا رجله» ( )1وهو فعل أبي بكر وعمر
رضي ال عنهما (. )2
وبما أنه لم يثبت حديث صحيح في هذا المر ،فل بأس في عصرنا بالخذ برأي الحنفية والحنابلة.
والحكمة في قطع اليد والرجل :أن اعتماد السارق في السرقة على البطش والمشي ،فإنه يأخذ بيده
وينتقل برجله ،فتعلق القطع بهما ،وإنما قطع من خلف ،لئل يفوت جنس المنفعة عليه فتضعف
حركته (. )3
الفرق بين اعتبار اليد في السرقة وبين اعتبارها في الدية :
إن قطع اليد في ربع دينار ،وجعل ديتها عند العتداء عليها بالبتر أو القطع خمسمئة دينار (أي نصف
دية في الشرع) هو من أعظم المصالح والحكمة البالغة ،فإن الشرع احتاط في الموضعين للموال
والطراف ،فقرر قطعها في سرقة ربع دينار فصاعدا ،حفظا لموال الناس ،وإهانة لها حال كونها
خسيسة ،وجعل ديتها بالعدوان عليها خمسمئة دينار ،حفظا لها وصيانة ،وتقديرا لهميتها حال كونها
شريفة ( . )4وقد تساءل بعضهم ،قيل :إنه أبو العلء المعري ( ، )5فقال:
يد بخمس مئين عسجد وُدِيَت .....ما باله قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إل السكوت له .....ونستجير بمولنا من العار
فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة ،فلما خانت هانت ،وضمنه الناظم قوله:
يد بخمس مئين عسجد وديت .....لكنها قطعت في ربع دينار
خصَها .....ذل الخيانة ،فافهم حكمة الباري
عز المانة أغلها ،وأر َ
وروي أن الشافعي رحمه ال أجاب بقوله:
هناك مظلومة غالت بقيمتها .....وههنا ظلمت ،هانت على الباري
-------------------------------
( )1أخرجه الدارقطني في سننه عن أبي هريرة ،وفي إسناده الواقدي ،وفيه مقال .ورواه الشافعي عن
بعض أصحابه عن أبي هريرة مرفوعا .وفي موضوعه عن عصمة بن مالك رواه الطبراني
والدارقطني ،وإسناد ضعيف (راجع نصب الراية ،368/3 :التلخيص الحبير :ص .)357
( )2أخرج أحمد والترمذي عن حذيفة أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :اقتدوا باللذين من بعدي:
أبي بكر وعمر» .
( )3مغني المحتاج ،المرجع السابق.
( )4أعلم الموقعين.63/2 :
( )5يظهر أن التساؤل من بعض الزنادقة ،بدليل رد الشافعي التي ،إذ من المعلوم أن المعري متأخر
عن الشافعي،ويظهر أن العتراض تكرر من بعض الزنادقة ،ومن المعري أيضا في عصرين
مختلفين بدليل رد شمس الدين الكردي على المعري في قوله:
قل للمعري عار أيما عار .....جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار
ل تقدحن زناد الفكر في حكم .....شعائر الشرع لم تقدح بأشعار
فقيمة اليد نصف اللف من ذهب .....فإن تعدت فل تسوى بدينار
( )7/365
مكان القطع :قال جمهور العلماء :مكان القطع في اليد هو من الكوع أو مفصل الزند (الرسغ) ،لما
روي أنه عليه السلم قطع يد السارق من مفصل الزند ( )1وقال قوم :الصابع فقط.
ومكان القطع في الرجل عند الجمهور من َم ْفصِل القدم ،بدليل ما روى ابن المنذر عن عمر رضي
ال عنه أنه قطع الرجل من المفصل .وروى البيهقي عن علي
-------------------------------
( )1فيه أحاديث :منها ما أخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة سارق
رداء صفوان بن أمية وفيه «ثم أمر بقطعه من المفصل» ومنها ما روى ابن عدي عن عبد ال بن
عمرو قال :قطع النبي صلّى ال عليه وسلم سارقا من المفصل .ومنها ما روى ابن أبي شيبة عن
ل من المفصل وهو مرسل (راجع نصب
رجاء بن حيوة أن النبي صلّى ال عليه وسلم قطع رج ً
الراية .)37/3 :والكوع :طرف الزند الذي يلي البهام في اليد .ويقابله الكرسوع في القدم ،والذي
يقابل الخنصر :هو البوع.
( )7/366
رضي ال عنه أنه يقطع من خنصر القدم ( )1ويبقى له الكعب ليعتمد عليه .وبه قال أبو ثور،
ل هو كون القطع من مفصل الزند ومن مفصل القدم.
والراجح المشهور عم ً
وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو في عنقه ساعة ،لما روى فضالة بن عبيد ،قال« :أتي النبي صلّى
ال عليه وسلم بسارق ،فأمر به فقطعت يده ،ثم أمر فعلقت في رقبته» ولن في ذلك ردعا للناس.
ويحسم موضع القطع ،لما روى أبو هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم أتي
بسارق ،فقال :اذهبوا به فاقطعوه ،ثم احسموه ،ثم ائتوني به ،فأتي به ،فقال :تب إلى ال تعالى ،فقال:
تبت إلى ال تعالى ،فقال :تاب ال عليك .والحسم :هو أن يغلى الزيت غليا جيدا ،ثم يغمس فيه
موضع القطع لتنحسم العروق ،وينقطع الدم ( )2وعلى المحدود أجرة قاطع ،وثمن زيت حسم.
صفة حد السرقة :حد السرقة بالتفاق حق خالص ل تعالى ،فل يحتمل العفو والصلح والبراء بعد
ثبوته ،فلو أمر الحاكم بقطع السارق ،فعفا عنه المسروق منه ،كان عفوه باطلً؛ لن صحة العفو تعتمد
كون العفو عنه حقا للعافي ،والقطع حق خالص ل سبحانه وتعالى .ومن هنا قرر الحنفية هذه القاعدة
« :الصلح عن الحدود باطل» (. )3
ويترتب عليه ( : )4أنه يجري التداخل في حد السرقة ،فلو سرق شخص سرقات ،فرفع المر فيها
كلها أو بعضها إلى الحاكم ،فيقام حد واحد هو القطع
-------------------------------
( )1المبسوط ،133/9 :البدائع ،98/7 :بداية المجتهد ،443/2 :حاشية الدسوقي ،332/4 :مغني
المحتاج ،178/4 :المغني.259/8 :
( )2المهذب ،283/2 :غاية المنتهى.343/3 :
( )3الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة :ص .147
( )4البدائع ،86 ،55/7 :المبسوط ،185/9 :المهذب.283 ،263/2 :
( )7/367
لكل السرقات؛ لن الجرائم التي هي من جنس واحد يكتفى فيها بحد واحد ،كما في الزنا ،إذ المقصود
من إقامة الحد هو الزجر والردع ،وهو يحصل بإقامة حد واحد.
وإذا ثبت الحد عندالسلطان ،لم يجز العفو عنه ،ول تجوز الشفاعة فيه؛ لن الحد ل ،فل يجوز فيه
العفو والشفاعة ،ولما روت عائشة رضي ال عنها قالت« :أتي لرسول ال صلّى ال عليه وسلم
بسارق قد سرق ،فأمر به فقطع ،فقيل :يا رسول ال ،ما كنا نراك تبلغ به هذا ،قال :لو كانت فاطمة
بنت محمد ،لقمت عليها الحد» ( . )1وقال الزبير « :إذا بلغ ـ أي الحد ـ السلطان فلعن ال
الشافع والمشفع» (. )2
المبحث الثاني ـ شروط السرقة الموجبة للحد :
يشترط لقامة حد السرقة شروط ،بعضها في السارق ،وبعضها في المسروق ،وبعضها في المسروق
منه ،وبعضها في المسروق فيه ،وهو المكان.
شروط السارق :يشترط في السارق توافر أهلية وجوب القطع :وهي العقل والبلوغ والختيار والعلم
بالتحريم ،فل يقطع الصبي والمجنون ،لقوله عليه السلم« :رفع القلم عن ثلث :عن الصبي حتى
يحتلم ،وعن المجنون حتى يفيق ،وعن النائم حتى يستيقظ» .ولن القطع عقوبة ،فيستدعي جناية،
وفعل الصبي والمجنون ل يوصف بأنه جناية .ول يحد المكرَه لرفع القلم عنه ،ول يحد من أخذ شيئا
جاهلً بتحريمه لقرب عهده بالسلم.
وإذا اشترك الصبي أو المجنون مع جماعة في سرقة ،فل قطع على الجميع عند أبي حنيفة وزفر
رحمهما ال تعالى.
-------------------------------
( )1متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الوطار 135/7 :وما بعدها).
( )2رواه مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن (نيل الوطار ،المرجع السابق).
( )7/368
وقال أبو يوسف رحمه ال :العبرة بمباشرة إخراج المتاع ،فإن أخرجه الصبي أو المجنون ،درئ
الحد عن الجميع ،وإن باشر الخراج غيرهما قطع ،ول يقطع الصبي أو المجنون؛ لن الخراج من
الحرز هو الصل في السرقة ،والعانة كالتابع.
ودليل أبي حنيفة وزفر :أن السرقة واحدة ،وقد حصلت ممن يجب عليه القطع وممن ل يجب عليه
القطع ،فل يجب القطع على أحد ،كالعامد مع الخاطئ إذا اشتركا في جريمة ،وإخراج السرقة حصل
من الكل من ناحية المعنى (. )1
واشتراط البلوغ والعقل في السارق لقامة الحد متفق عليه ،وأضاف الشافعية والحنابلة شرط كونه
مختارا ،التزم أحكام السلم ،فل يجب الحد على مكره ،لحديث« :رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه» ول تجب على الحربي؛ لنه لم يلتزم حكم السلم .وفي وجوب الحد على المستأمن
والمهادن قولن عندهم :أحدهما ـ أنه ل يجب عليه حد السرقة؛ لنه حق خالص ل تعالى ،فلم يجب
عليه كحد الشرب والزنا .والثاني ـ أنه يجب عليه؛ لنه حد يجب لصيانة حق الدمي ،فوجب عليه
كحد القذف.
وأضاف المالكية أل يكون للسارق على المسروق منه ولدة ،فل يقطع الب في سرقة مال ابنه لقوة
الشبهة التية من حديث جابر عند ابن ماجه« :أنت ومالك لبيك» .وزاد الشافعي وأحمد ومالك الجد،
فل يقطع في مال حفيده ،وزاد أبو حنيفة كل ذي رحم محرم ،واختلفوا في الزوج والزوجة إذا سرق
كل واحد منهما من مال صاحبه ،كما سأوضح .وأضاف المالكية أيضا أل يضطر السارق إلى السرقة
من جوع .وأضاف الحنابلة شرط كون السارق عالما بمسروق وبتحريمه اعتبارا بما في ظن المكلف
(البالغ العاقل) .أما إذا سرق الولد من مال أحد أبويه فيقطع عند المالكية ،وليقطع عند بقية المذاهب،
لن الولد يتبسط في مال والديه عادة ،فتكون هناك شبهة في إسقاط الحد.
شروط المسروق :يشترط في المسروق عدة شروط:
- 1أن يكون المسروق مالً متقوما ( : )2والمراد بالمال :ما يتموله الناس ويعدونه مالً؛ لن ذلك
يشعر بعزته وخطره عندهم ،وما ل يتمولونه فهو تافه حقير ،ول تقطع اليد في الشيء التافه ،كما كان
عليه عهد رسول ال صلّى ال عليه وسلم .والمراد بالمتقوم :ما كان له قيمة يضمنها متلفه عند
اعتدائه عليه.
وبناء على هذا :لو سرق إنسان صبيا حرا ،ل تقطع يده ،لن الحر ليس بمال ( ، )3وإنما يعزر .ولو
سرق شخص خمرا أو خنزيرا أو جلد ميتة ل تقطع يده أيضا؛ لنه ل قيمة للخمر والخنزير في حق
المسلم ،ول مالية في جلد الميتة ،وهذا شرط متفق عليه .ول قطع بسرقة أدوات الملهي كالعدد
والمزمار ،والصنام والصلبان؛ لنها غير متقومة فل يباح استعمالها ،وإزالة المعصية أمر مندوب
إليه.
-------------------------------
( )1البدائع ،67/7 :تبيين الحقائق للزيلعي ،211/3 :فتح القدير ،220/4 :المهذب ،277/2 :القوانين
الفقهية :ص .359
( )2البدائع ،67/7 :المهذب 280/2 :وما بعدها ،القوانين الفقهية :ص ،359غاية المنتهى.336/3 :
( )3فتح القدير.230/4 :
( )7/369
- 2أن يكون المال المسروق مقدراً :أي له نصاب ،فل يقطع السارق في الشيء التافه .واختلف
الفقهاء في مقدار النصاب :فقال الحنفية :نصاب السرقة دينار أو عشرة دراهم ،أو قيمة أحدهما (، )1
لقوله صلّى ال عليه وسلم « :ل قطع فيما دون عشرة دراهم» ( )2وقوله أيضا« :ل تقطع اليد إل في
دينار ،أو في عشرة دراهم» ( . )3وعنه عليه الصلة والسلم أنه قال« :ل يقطع السارق إل في ثمن
ال ِمجَنّ ،وكان يقوّم يومئذ بعشرة دراهم» (. )4وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة :نصا
ب السرقة ربع دينار شرعي من الذهب أو ثلثة دراهم شرعية خالصة من الفضة ( . )5أو قيمة ذلك
من العروض والتجارات والحيوان ،إل أن التقويم عند المالكية والحنابلة في سائر الشياء المسروقة
عدا الذهب والفضة يكون بالدراهم .وعند الشافعية بالربع دينار .ودليلهم :قوله عليه الصلة والسلم:
«تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا» ( )6وأنه
-------------------------------
( )1المبسوط ،137/9 :البدائع ،77/7 :فتح القدير.220/4 :
( )2رواه أحمد عن عبد ال بن عمرو قال :قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :ل قطع فيما دون
عشرة دراهم» وفيه نصر بن باب ،ضعفه الجمهور .وقال أحمد :ل بأس به .ورواه الطبراني عن ابن
مسعود بلفظ« :ل قطع إل في عشرة دراهم» (راجع جمع الزوائد ،273/6 :نصب الراية.)359/3 :
( )3هذا من الثار عن ابن مسعود :رواه عبد الرزاق في مصنفه ،ومن طريقه رواه الطبراني في
معجمه ،وهو موقوف كما قال الهيثمي .وفيه القاسم أبو عبد الرحمن ضعيف ،وقد وثق (راجع مجمع
الزوائد ،المرجع السابق ،نصب الراية « )360/3 :وروى أبو داود في سننه عن ابن عباس أن النبي
صلّى ال عليه وسلم قطع يد رجل في مجنّ قيمته دينار أو عشرة دراهم ،وهو حديث مرفوع (راجع
نصب الراية.)358/3 :
( )4رواه ابن أبي شيبة عن عبد ال بن عمرو بلفظ« :ل تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن ،قال
عبد ال :وكان ثمن المجن عشرة دراهم» «وروى النسائي عن أيمن بن أم أيمن الحبشية رضي ال
عنهما قال :ولم يقطع النبي صلّى ال عليه وسلم السارق إل في ثمن المجن ،وثمن المجن يومئذ
دينار» وفي رواية «عشرة دراهم» قال النسائي :وأيمن ما أحسب أن لحديثه صحة (راجع جامع
الصول ،113/4 :نصب الراية.)359/3 :
( )5من المعروف عند هؤلء أن الدينار اثنا عشر درهما .والدرهم 975،2غم .وعند الحنفية :الدينار
عشرة دراهم .وبما أن المثقال أو الدينار يساوي 1و 7/3درهم ،فيساوي الدينار 45،4غم.
( )6رواه أحمد والموطأ وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي ال عنها بألفاظ متعددة منها لفظ
البخاري« :تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» ومنها لفظ مسلم« :ل تقطع يد السارق إل في
ربع دينار فصاعدا» (راجع جامع الصول ،310/4 :سبل السلم ،18/4 :نيل الوطار،124/7 :
التلخيص الحبير :ص .)355
( )7/370
عليه الصلة والسلم« :قطع في مجن قيمته ثلثة دراهم» ( )1وهي قيمة ربع الدينار (. )2
وبه يظهر أن منشأ الخلف :هو تقدير ثمن المجن الذي قطع السارق به في عهد الرسول صلّى ال
عليه وسلم .فالحنفية يقولون :كان ثمنه دينارا .والخرون يقولون :كان ثمنه ربع دينار .والحاديث
الصحيحة تؤيد وترجح رأي الجمهور.
-------------------------------
( )1أخرجه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد ال بن عمر أن رسول
ال صلّى ال عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلثة دراهم (المراجع السابقة ،جامع الصول:
،311/4نصب الراية.)355/3 :
( )2المنتقى على الموطأ ،156/7 :بداية المجتهد ،437/2 :حاشية الدسوقي ،333/4 :المهذب:
،277/2مغني المحتاج ،158/4 :المغني ،240/8 :القوانين الفقهية :ص ،359غاية المنتهى:
.337/3
( )7/371
( )7/372
وقال الصاحبان والكرخي :ينبغي أن تكون الدراهم مضروبة؛ لن اسم الدراهم في الحديث يطلق على
المضروبة عرفا ،وهو ظاهر الرواية ،وهو الصح ،وهو قول الجمهور .فلو سرق تبرا (أي فضة
غير مضروبة صكا) أو ُنقْره (هي القطعة المذابة من الذهب والفضة أي السبيكة) قيمتها أقل من
عشرة دراهم مضروبة ل يقطع ،فإذا ساوت قيمتها عشرة دراهم مسكوكة فأكثر ،يقطع سارقها (. )1
وقت اعتبار قيمة المسروق :
قال جمهور الحنفية :يجب أن تكون قيمة المسروق عشرة دراهم ،من وقت السرقة ،إلى وقت القطع،
فإن نقص المسروق :فإما أن يكون نقصان العين أو نقصان السعر.
فإذا نقصت قيمة المسروق بانتقاص عينه :بأن دخله عيب أو ذهب بعضه ،فيقام الحد؛ لن نقصان
العين هو هلك بعض المسروق ،وهلك جميع المسروق ل يسقط الحد ،فهلك بعضه ل يسقطه من
باب أولى.
وإن كان نقصان السعر :بأن صار يساوي ثمانية دراهم مثلً ،بعد أن كان يساوي عشرة ،فهناك
روايتان:
ظاهر الرواية :أنه ل يقطع؛ لن نقصان السعر يورث شبهة نقصان في المسروق وقت السرقة؛ لن
العين بحالها لم تتغير ،فيحصل النقصان الطارئ كالموجود عند السرقة ،بخلف نقصان العين؛ لنه
يوجب تغير العين ،بهلك بعضها ،والهلك مضمون على السارق ،فل يمكن افتراض وجوده عند
السرقة.
وروي عن محمد وهو قول مالك والشافعي وأحمد رحمهم ال تعالى :أنه
-------------------------------
( )1فتح القدير ،222/4 :حاشية ابن عابدين ،211/3 :البدائع ،78/7 :المبسوط ،138/9 :مغني
المحتاج.158/4 :
( )7/373
تعتبر قيمة العين وقت الخراج من الحرز ،ول يعتبر نقصان السعر بعد أخذ المسروق ،قياسا على
نقصان العين ( ، )1وهذا في تقديري أولى ،لكتمال الجريمة وقت السرقة.
ويجري هذا الخلف فيما لو سرق الشخص في بلد ،وقبض عليه في بلد آخر :ل يقطع في ظاهر
الرواية ،ما لم تكن قيمة المسروق في البلدين عشرة دراهم.
كون النصاب من حرز واحد :
النصاب الموجب لحد القطع يجب أن يكون مأخوذا من حرز واحد ،سواء أكان المسروق لواحد أم
لجماعة؛ لنها سرقة واحدة .وبناء على هذا ،لو سرق خمسة دراهم من دار لرجل ،وخمسة من دار
أخرى ،ل يجب القطع؛ لنهما سرقتان مختلفتان من حرزين مختلفين ،فل محل للقطع فيهما .وكذلك
لو سرق عشرة دراهم على مرتين ،ل يقطع؛ لن المسروق في كل مرة أقل من نصاب (. )2
اشتراك جماعة في السرقة :
اتفق العلماء على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة ،فحصل لكل واحد منهم نصاب ،فعلى كل واحد
منهم القطع.
أما إذا كان المسروق كله نصابا ،واشترك جماعة في سرقته:
فقال أبو حنيفة والشافعي :ل يقطع كل واحد منهم ( )3؛ لن كل واحد منهم
-------------------------------
( )1البدائع ،79/7 :المنتقى على الموطأ.158/7 :
( )2البدائع ،المرجع السابق :ص ،78حاشية ابن عابدين.212/3 :
( )3البدائع ،المرجع السابق :ص ،78فتح القدير ،225/4 :مغني المحتاج ،160/4 :المهذب:
.277/2
( )7/374
لم يسرق نصابا ،فلم تستوجب جنايته عقوبة كاملة ،كما لو انفرد بسرقة مادون النصاب ،والرسول
صلّى ال عليه وسلم يقول« :ل تقطع يد السارق إل في ربع دينار فصاعدا» وهذا دليل الشافعي.
ولكن هذا الحكم يخالف حكم جريمة الشتراك في القتل؛ لنه لو لم يجب القصاص على كل واحد
منهم ،لكان الشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص ،بخلف المر في السرقة ،فإنه إذا لم يجب القطع
على الشركاء في سرقة نصاب ،لم يصر الشتراك طريقا إلى إسقاط القطع ،لقلة ما يصيب كل واحد
منهم ،فإذا سرقوا أكثر من نصاب بحيث يصيب كل واحد منهم مقدار نصاب ،فإنه يجب القطع.
ويقدر المسروق في الحكم عند الحنفية يوم الحكم بالقطع.
وقال المالكية :إن اشترك السارقان أو أكثر في سرقة نصاب :فإن كان لكل واحد قدرة على حمله
بانفراده ،فل يقطع أحد ،وإل بأن كانوا يحتاجون في إخراجه إلى تعاون بعضهم ،فيقطعون جميعا،
ويصيرون كأنهم حملوه على دابة ،فإنهم يقطعون إذا تعاونوا على رفعه عليها ،ويقدر المسروق
عندهم وعند الشافعية والحنابلة بقيمته يوم السرقة (. )1
وقال الحنابلة :إذا اشترك الجماعة في سرقة ،قيمتها ثلثة دراهم قطعوا ،لضرورة حفظ المال ،فإن
الواحد والجماعة يستوون في هتك الحرز ،وسرقة النصاب فعل يوجب القطع ،فاستوى فيه الواحد
والجماعة كالقصاص.
قال ابن قدامة في المغني :وقول أبي حنيفة والشافعي أحب إلي؛ لن القطع ههنا ل نص فيه ،ول هو
في معنى المنصوص والمجمع عليه فل يجب ،والحتياط بإسقاطه أولى من الحتياط بإيجابه؛ لنه مما
يدرأ بالشبهات (. )2
-------------------------------
( )1حاشية الدسوقي ،335/3 :بداية المجتهد ،439/2 :المنتقى على الموطأ ،178/7 :القوانين
الفقهية :ص .359
( )2المغني ،282/8 :غاية المنتهى 337/3 :وما بعدها.
( )7/375
( )7/376
- 1حرز بنفسه :وهو كل بقعة معدة للحراز ،ممنوعة الدخول فيها ،إل بالذن ،كالدور والحوانيت
والخيام ،والخزائن والصناديق.
- 2حرز بغيره :وهو كل مكان غير معد للحراز ،يدخل إليه بل إذن ،ول يمنع منه ،كالمساجد
والطرق والمفاوز.
فالنوع الول :يكون حرزا بنفسه ،سواء وجد حافظ ،أو ل ،وسواء أكان الباب مغلقا ،أم مفتوحا؛ لن
البناء يقصد به الحراز ،وهو معتبر بنفسه بدون صاحبه؛ لنه عليه الصلة والسلم علق القطع بإيواء
الجرين والمراح من غير شرط وجود الحافظ ،لصيرورته حرزا.
وأما النوع الثاني :فحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ ،فإن كان هناك حافظ قريب
( )7/377
من المال يمكنه حفظه ،فهو حرز ،سواء أكان نائما ،أم يقظان ،لنه عليه الصلة والسلم قطع سارق
رداء صفوان ،وصفوان كان نائما (. )1
والخذ من الحرز شرط متفق عليه ،ول يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع الحرز.
وبناء عليه يعرف حكم الصور التية:
أ ـ لو سرق إنسان عِدلً موجودا على ظهر دابة تسير ضمن مجموعة من الدواب مقطورة ببعضها،
لم يقطع؛ لنه أخذ نفس الحرز ،ونفس الحرز ليس في الحرز ،وكون العدل على ظهر الدابة ل يكفي
اعتباره محرزا؛ لنه ليس بحرز مقصود؛ لن قصد قائد الدواب هو قطع المسافة دون الحفظ ،وإنما
القائد حافظ للدابة التي زمامها بيده فقط ،هذا مذهب الحنفية .ويظهر أن هذا الرأي متأثر بالعرف،
وعرفنا اليوم أن قائد القافلة مطالب بحفظ المتاع المحمول.
وقال الئمة الثلثة :القائد حافظ لكل الدواب التي يقودها إذا كان بحيث يراها إذا التفت إليها ،وهو
وإن كان يقصد قطع المسافة يقصد أيضا الحفظ.
-------------------------------
( )1المبسوط 150/9 :وما بعدها ،تبيين الحقائق للزيلعي ،221/3 :فتح القدير ،240/4 :البدائع:
،73/7وقد سبق تخريج هذا الحديث في حد القذف.
( )7/378
فإن شق العدل الموجود على الدابة ،وأخرج المتاع :قطع؛ لن العدل حرز لما فيه (. )1
ب ـ إذا علم صاحب الشيء المسروق بالسرقة قبل إخراج المسروق من الحرز ،فأخذه منه ،ل
يقطع ،لنه لم يوجد منه الخراج من الحرز .أما إن علم به ولم يأخذه منه خوفا من الصطدام معه،
أو عجز عن أخذه بعد مقاتلته بسلح ونحوه ،فإن كانت السرقة نهارا ل تقطع يد السارق؛ إذ ل بد من
الخفية عند ابتداء وانتهاء الخذ كما تقدم ،أما إن كانت السرقة ليلً فتقطع يد السارق في هذه الحالة
استحسانا عند الحنفية؛ لنه يكفي في الليل توافر الخفية عند بدء الخذ ل نهايته؛ لن أغلب سرقات
الليل تصير مغالبة أو مع خوف المالك من المقاومة ،لعدم تيسر النجدة والغوث أثناء الليل.
جـ ـ إذا رمى السارق المسروق إلى خارج ،فوجده مالكه فأخذه ،ل يقطع؛ لنه لم تثبت يده عليه
عند الخروج ،لثبوت يد غيره ،فإذا رماه من الحرز ،ثم خرج وأخذه ،يجب القطع ،وهذا متفق عليه،
خلفا لزفر ،لنه ثبتت عليه يده حكما ،والرمي حيلة لتمام السرقة .ودليل زفر :أن اللقاء غير
موجب للقطع ،كما لو خرج ولم يأخذه (. )2
د ـ المناولة من الحرز :إذا اشترك اثنان في َنقْب جدار ،فدخل أحدهما ،وأخذ المتاع ،وناوله الخر،
هو خارج الحرز ،أو رمى به إليه ،فقال أبو حنيفة :ل قطع على كل واحد منهما؛ لن كل واحد منهما
لم يستقل بالنقب والخراج اللذين ل تكمل السرقة إل بهما جميعا بحسب العرف ،فالداخل لم تثبت يده
على المسروق حين إخراجه ،والخارج لم يوجد منه هتك الحرز ،فلم تتم السرقة من كل واحد ،وهذا
هو الراجح لدى الحنفية.
-------------------------------
( )1البدائع ،74/7 :فتح القدير ،246/4 :تبيين الحقائق.224/3 :
( )2فتح القدير ،244/4 :مغني المحتاج.172/4 :
( )7/379
وقال محمد :إن أخرج الداخل يده من الحرز ،وناول الخارج ،يقطع الداخل دون الخارج ،فإن أدخل
الخارج يده في الحرز ،وأخذ المسروق فل قطع عليهما؛ لن الداخل لم يوجد منه الخراج ،والخر لم
يوجد منه هتك الحرز ،فلم تتم السرقة من كل واحد.
وقال أبو يوسف :إذا أخرج الداخل يده ،فالقطع على الداخل ،وأما الخارج إذا أدخل يده وأخذ منه،
فيجب القطع عليهما؛ لنه ل يشترط عنده دخول الحرز (. )1
وقال المالكية والشافعية والحنابلة :يقطع الداخل وحده ،دون الخارج؛ لنه هو الذي أخرج المتاع ،مع
المشاركة في النقب (. )2
هـ ـ إخراج المسروق من الحرز (سرقة النقب) :إذا نقب شخصان حرزا ،ودخل أحدهما ،وقرب
المتاع إلى النقب وتركه ،فأدخل الخارج يده ،فأخرجه من الحرز ،فقال أبو حنيفة ومحمد :ل قطع
عليهما؛ لن الداخل لم يوجد منه الخراج ،والخارج لم يوجد منه هتك الحرز ،فلم تتم السرقة من كل
واحد منهما ،وفي هذه المسألة قال علي رضي ال عنه« :إذا كان اللص ظريفا ل يقطع» (. )3
وقال أبو يوسف :يقطع الخارج؛ لن المقصود أخذ المال ،ل دخول الحرز (. )4
وقال مالك :يقطع المخرج خاصة ،لنه السارق .وقال الشافعية :لو تعاونا في النقب وانفرد أحدهما
بالخراج ،أو وضعه ناقب بقرب النقب ،فأخرجه آخر،
-------------------------------
( )1المبسوط ،147/9 :فتح القدير ،243/4 :الختيار.106/4 :
( )2حاشية الدسوقي ،343/4 :المهذب ،279/2 :المغني ،284/8 :غاية المنتهى.338/3 :
( )3هذا ما نقله الحنفية في كتبهم ،ويحتاج ذلك إلى مزيد من التثبت.
( )4المبسوط ،147/9 :فتح القدير ،245/4 :تبيين الحقائق للزيلعي.223/3 :
( )7/380
قطع المخرج ،لكن لو وضعه بوسط نقبه فأخذه خارج وهو يساوي نصابين ،لم يقطع الثنان في
الظهر .ولو نقب شخص وأخرج غيره المسروق فل قطع على واحد (. )1
وقال أحمد :يقطع كل واحد منهما؛ لنهما اشتركا في هتك الحرز ،وإخراج المتاع ،فلزمهما القطع،
كما لو حمله معا فأخرجاه ( . )2وهذا لدي أصح الراء للشتراك في السرقة .ويجري هذا الخلف
أيضا فيمن دخل الحرز ،وجمع المتاع عند النقب ،ثم خرج ،وأدخل يده ،وأخرج المتاع.
و ـ الشتراك في السرقة أو تحميل المسروق على ظهر واحد من الجماعة :إذا دخل جماعة الدار،
فأخذوا متاعا ،وحملوه على ظهر رجل منهم أو رجلين ،وخرج الباقون من غير حمل شيء :فالقياس
عند الحنفية وهو قول زفر والمالكية والشافعية :أل يقطع غير الحامل؛ لن فعل السرقة ل يتم إل
بالخراج بعد الخذ (. )3
وفي الستحسان عندالحنفية وهو قول الحنابلة :يقطعون جميعا؛ لن إخراج المسروق تم بمعاونة
الجماعة ،وهكذا تكون السرقة الجماعية عادة (. )4
ويجري هذا الخلف فيما لو حملوا المسروق على دابة ،حتى خرجت من الحرز ،فإنه يجب القطع
استحسانا.
ز ـ الطرار والنباش :الطرار :هو النشال وعرفه الحنابلة بقولهم بأنه من يبط (يشق) جيبا أو كما
ويأخذ منه أو بعد سقوطه نصابا .وقد اتفق الفقهاء على أن
-------------------------------
( )1حاشية الدسوقي ،343/4 :بداية المجتهد ،440/2 :المهذب ،280/2 :مغني المحتاج 171/4 :وما
بعدها.
( )2المغني 283/8 :وما بعدها ،غاية المنتهى.338/3 :
( )3الشرح الكبير ،335/4 :الم ،137/6 :مغني المحتاج.172/4 :
( )4فتح القدير ،244/4 :المغني.283/8 :
( )7/381
الطرار تقطع يده ( . )1وهو الرأي المتفق مع المصلحة .ومعنى الطرار :هو الذي يسرق من جيب
صفْنة (وعاء من أدم يستقى به) سواء بالقطع أو بالشق أو بإدخال اليد في
الرجل ،أو كمه ( )2أو ُ
الجيب.
غير أن الحنفية فصلوا في طريقة الطر :فإن كان الطر بالقطع ،والدراهم مصرورة على ظاهر الكم
لم يقطع؛ لن الحرز هو الكم ،والدراهم بعد القطع تقع على ظاهر الكم ،فلم يوجد الخذ من الحرز.
وإن كانت الدراهم مصرورة في داخل الكم ،يقطع؛ لنها بعد القطع ،تقع في داخل الكم ،فكان الطر
أخذا من الحرز ،وهو الكم ،فيقطع.
وإن كان الطر بحل الرباط ينظر :إن كان بحال لو حل الرباط تقع الدراهم على ظاهر الكم ،بأن كانت
العقدة مشدودة من داخل الكم ،ل يقطع؛ لنه أخذها من غير حرز.
وإن كان بحال إذا حل الرباط تقع الدراهم في داخل الكم ،وهو يحتاج إلى إدخال يده في الكم للخذ،
يقطع ،لوجود الخذ من الحرز.
والخلصة :أن الحنفية يتطلبون وجود معنى الحرز حقيقة واقعة ،والولى الخذ برأي الجمهور تفاديا
لخطر هؤلء اللصوص الخطرين.
-------------------------------
( )1فتح القدير ،المرجع السابق :ص ،245البدائع ،76/7 :حاشية ابن عابدين ،224/3 :مختصر
الطحاوي :ص ،271بداية المجتهد ،440/2 :المهذب ،279/2 :المغني ،256/8 :غاية المنتهى:
.336/3
( )2الكم ـ بضم الكاف والميم المشدددة :مدخل اليد ومخرجها من الثوب ،والمراد به هنا :أنه ما
يتخد مكانا لتخبئة الشياء فيه .والكم بكسر الكاف :وعاء الطلع أو الزهر أو الثمر.
( )7/382
النباش :هو سارق أكفان الموتى ،واختلف الفقهاء في حكمه ،فقال أبو حنيفة ومحمد :ل يقطع ولو كان
القبر في بيت مقفل في الصح؛ لن القبر ليس بحرز بنفسه أصلً ،إذ ل تحفظ الموال فيه عادة ()1
.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف :تقطع يده؛ لنه سارق ،أو ملحق بسارق مال الحي،
وال تعالى يقول{ :والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة ،]38/5:وقالت عائشة رضي ال عنها:
«سارق أمواتنا كسارق أحيائنا» ( ، )2وروى البراء بن عازب رضي ال عنه أن النبي صلّى ال
عليه وسلم قال« :من حرّق حرقناه ،ومن غرق غرقناه ،ومن نبش قطعناه» ( ، )3ولن القبر حرز
للكفن ،فإن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر ،دون غيره ،ويكتفى به في حرزه (. )4
إل أن الشافعية استثنوا القبر الموجود في برية ،فل قطع في السرقة منه؛ لنه ليس بحرز للكفن ،وإنما
يكون الدفن في البرية للضرورة بخلف المقبرة التي تلي العمران ،والراجح رأي الجمهور ،منعا من
هذه الدناءات.
ح ـ الدار المشتركة :إذا كانت الدار مشتركة بين عدة سكان ،كالغرف المؤجرة في المنازل لكثر
من واحد ،فسرق المتاع من غرفة ،يقطع عند الحنفية إذا كانت الدار عظيمة بحيث يستغني أهل كل
بيت ببيتهم عن صحن الدار.
-------------------------------
( )1المبسوط ،159/9 :حاشية ابن عابدين ،219/3 :مختصر الطحاوي :ص ،273البدائع،69/7 :
القوانين الفقهية :ص ،359غاية المنتهى.340/3 :
( )2أخرجه الدارقطني من حديث عمرة عنها.
( )3رواه البيهقي في المعرفة وقال :في هذا السناد بعض من يجهل حاله وروى الدارقطني عن
عائشة قالت« :سارق أمواتنا كسارق أحيائنا» (راجع نصب الراية ،366/3 :التلخيص :ص،356 :
.)358
( )4حاشية الدسوقي ،340/4 :بداية المجتهد ،440/2 :مغني المحتاج ،169/4 :المهذب،278/2 :
المغني.272/8 :
( )7/383
وكذلك يقطع عند الحنابلة إذا كان الباب مغلقا ،ويقطع عند مالك والشافعي بإخراج المتاع ،ولو لم
يخرجه من جميع الدار (. )1
ط ـ المتعة في السواق :يقطع سارقها عند الحنفية إذا سرق منها ليلً ،ول يقطع إن سرق منها
نهارا ،لختلل الحرز في النهار بسبب وجود الذن عادة بالدخول .وقال المالكية والشافعية :يقطع
سارق المتاع من حوانيت التجار أو السواق إذا كانت المتعة قد ضمها أصحابها إلى بعضها في
موضع البيت ،أوأحرزت في أوعيتها التي تحرز بها عادة ،عملً بالعرف الجاري في إحرازها .وبناء
عليه ،يقطع -في رأيي -سارق السيارات المتروكة في الشوارع اليوم؛ لن الشارع هو حرزها،
والحرز :هو كل مكان تحفظ فيه الموال عادة.
وقال أحمد :يقطع سارقها إذا كان في السوق حارس ،أو كان مع المتعة حارس يشاهدها (. )2
- 4أن يكون المسروق أعيانا ،قابلة للدخار والمساك ،ول يتسارع إليها الفساد :
قال أبو حنيفة ومحمد :ل قطع فيما يسرع إليه الفساد ،إذا بلغ الحد الذي يقطع في مثله بالقيمة ،كالعنب
والتين والسفرجل والرطب والبقول والخبز ونحوها من الطعمة الرطبة ،والطبائخ ،واللحم الطري أو
اليابس ،والنبيذ الحلل ،والعصير واللبان ،سواء أخذت من حرز أم ل ،لعدم قابلية الدخار ،ودليلهما
قوله عليه الصلة والسلم« :ل قطع في ثمر ول كَثَر» (. )3
-------------------------------
( )1فتح القدير ،243/4 :الموطأ ،50/3 :الم ،139 ،136/6 :المغني ،256/8 :المهذب.280/2 :
( )2فتح القدير ،242/4 :الموطأ ،50/3 :الم،135/6 :المغني.250-249/8 :
( )3الثمر :هو ما كان معلقا في النخل قبل أن يجز ويحرز :وهو اسم جامع للرطب واليابس من
الرطب والعنب وغيرهما .والكثر :هو جمار النخل ،وهو شحم النخل الذي في وسط النخلة (راجع
سبل السلم ،23/4 :المنتقى على الموطأ.)182/7 :
( )7/384
ولن هذه الشياء ل تعد مالً عادة ،فيقل خطرها عند الناس ،فكانت تافهة ،ونظرا لنها معرضة
للهلك أيضا تشبه ما لم يحرز ،فإن كان المسروق مما يبقى من سنة إلى سنة ،فيدخر ،مثل الجوز
واللوز والتمر اليابس والفواكه اليابسة والخل والدبس ،فيجب القطع (. )1
وقال أبو يوسف :يجب القطع فيما ل يحتمل الدخار؛ لنها منتفع بها حقيقة ،والنتفاع بها مباح شرعا
على الطلق ،فكانت مالً ،فيقطع فيها كسائر الموال ( . )2وهذا الرأي يتفق مع عرفنا اليوم ،إذ أن
الفواكه أصبحت من الموال المهمة ،وليست تافهة ،كما كان عليه عرف الناس في الماضي.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة :يجب القطع في كل الموال المتمولة التي يجوز بيعها ،وأخذ
العوض عنها ،سواء أكانت طعاما أم ثيابا ،أم حيوانا ،أم أحجارا ،أم قصبا ،أم صيدا ،أم زجاجا،
ونحوها ،لعموم قوله تعالى{ :والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة ]38/5:ولن هذا مال يتمول
عادة ويرغب فيه ،فيقطع سارقه إذا اجتمعت فيه شروط السرقة ( ، )3كأن يؤخذ من حرز مثله.
سرقة الثمر المعلق :اتفق العلماء على أنه ل يجب القطع في سرقة الثمر المعلق على الشجر أو
الحنطة في سنبلها ،إذا لم يكن محرزا ،فإن أحرز وجب فيه القطع .ويرجع في تحديد الحرز إلى ما
يعرفه الناس حرزا ،فما عرفوه حرزا قطع بالسرقة منه ،وما ل يعرفونه حرزا لم يقطع بالسرقة منه؛
لن الشرع دل على اعتبار الحرز ،وليس له حد مقرر في الشرع ،فوجب الرجوع فيه إلى العرف.
قال الشافعي :إن حديث رافع« :ل قطع في ثمر» خرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم
إحراز حوائطها (بساتينها) فذلك لعدم الحرز .فإذا أحرزت الحوائط (أي البساتين) بالجدران أو
السلك الشائكة مثلً ،كانت كغيرها .لكن إذا أخذ الثمر من غير حرز ،يجب فيه عند الجمهور دفع
قيمته.
-------------------------------
( )1المبسوط ،153/9 :فتح القدير ،227/4 :البدائع.69/7 :
( )2المراجع السابقة.
( )3بداية المجتهد ،441/2 :الميزان ،162/2 :المهذب 277/2 :وما بعدها ،المغني ،246/8 :نيل
الوطار ،128/7 :غاية المنتهى.341 ،337/3 :
( )7/385
وقال الحنابلة :يجب دفع مثلي قيمته ،لقوله عليه السلم« :من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ
خُبْنة ،أي (ل يخبئ شيئا في ثنيات ثيابه) فل شيء عليه ،ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه
والعقوبة ،ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين ،فبلغ ثمن المجن ،فعليه القطع» ( . )1فإن
استحكم جفاف الثمر أو الحنطة ،وجذّ وآواه الجرين ،ثم سرق ،قطع السارق؛ لنه صار مالً مطلقا،
قابلً للدخار ،وإليه أشار الرسول صلّى ال عليه وسلم حيث قال« :ل قطع في ثمر ول كثَر حتى
يؤويه الجرين» الحديث (. )2
- 5أن يكون المسروق شيئا ليس أصله مباحا :
إذا كان الشيء في أصله مباحا ،كالطيور والتبن والخشب والحطب والقصب والصيود والحشيش
والسمك والزرنيخ والطين الحمر والنّورة ( )3واللّبِن والفحم والملح والخزف والزجاج لسرعة
كسره ،فقد اختلف العلماء في حكم سرقته كما في الشرط السابق.
-------------------------------
( )1رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ،وأخرج
الترمذي عن ابن عمر مرفوعا« :إذا مر أحدكم بحائط (أي بستان من ا لنخل) فليأكل ول يتخذ خبنة»
قال الترمذي :غريب ،وقال البيهقي :لم يصح ،وجاء من أوجه أخرى غير قوية .قال ابن حجر:
والحق أن مجموعها ل يقصر عن درجة الصحيح ،وقد احتجوا في كثير من الحكام بما دونها (راجع
نصب الراية ،363/3 :سبل السلم ،97/3 :جامع الصول ،296/11 ،318/4 :نيل الوطار:
.)127/7
( )2راجع جامع الصول.318/4 :
( )3النورة :حجر الكلس ثم غلبت على أخلط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره ،ويستعمل لزالة
الشعر (المصباح ،والقاموس المحيط).
( )7/386
قال الحنفية :ل قطع فيما كان أصله مباحا في دار السلم ،كهذه الشياء ،واستثنوا منها خشب الساج
والبنوس والصندل والقنا (هو عنقود النخل) والخشب المصنوع .ودليله :أن الناس ل يتمولون تلك
الشياء ،وإنما توجد بكثرة ،وهي مباحة ،فيقل خطرها عندهم ،فكانت تافهة كالتراب ،إل ما كان غالي
القيمة؛ لنه يتمول عادة فل يكون تافها ،وهو ما استثنوه .ولنها أيضا من المور التي يشترك فيها
الناس جميعا ،فبالنظر للشبهة التي فيها لكل مالك ،ل يقطع سارقها ،مراعاة لصلها (. )1
ويلحظ أن اعتماد أبي حنيفة في هذا الشرط على معنى التفاهة وعدم المالية ،ل على إباحة الجنس؛
لن ذلك موجود في الذهب والفضة.
وعليه إذا أصبحت هذه الشياء من جملة الموال المعتبرة وجب الحد بسرقتها.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة ( : )2يقطع سارق الموال ،سواء أكانت مما أصله مباح ،كالصيد
والماء والحطب والحشيش والمعادن ،أم غير مباح لعموم الية الموجبة للقطع ،وعموم الثار الواردة
في اشتراط النصاب ،ولنها مال محرز ( ، )3وهذا هوالرجح لدي ،لتمول الناس هذه الشياء،
وإحرازهم لها.
-------------------------------
( )1المبسوط ،153/9 :فتح القدير ،226/4 :تبيين الحقائق ،219/3 :البدائع ،68/7 :حاشية ابن
عابدين.217/3 :
( )2حاشية الدسوقي ،334/4 :الميزان ،167/2 :بداية المجتهد ،441/2 :المهذب ،278/2 :المغني:
،246/8المنتقى على الموطأ ،156/7 :القوانين الفقهية :ص ،359غاية المنتهى.337/3 :
( )3قال الزنجاني الشافعي في تخريج الفروع على الصول :ص :186استصحاب حكم العموم إذا
لم يقم دليل الخصوص متعين عند القائلين بالعموم ،وعليه بنى الشافعي رضي ال عنه معظم مسائل
السرقة .ويتفرع عليه أن حد القطع يتعلق بسرق ما أصله على الباحة عند الشافعي رضي ال عنه،
تمسكا بعموم قوله تعالى{ :والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة ]38/5:وعموم الية يقتضي
إيجاب القطع في كل ما يسمى آخذه سارقا ،فكل من يطلق عليه اسم السارق مقطوع بحكم العموم إل
ما استثناه الدليل.
( )7/387
-6أن يكون المال المسروق معصوما ،ليس للسارق فيه حق الخذ ول تأويل الخذ ،ول شبهة
التناول (انتفاء شبهة الخذ ) :السبب في اشتراط هذا الشرط :أن القطع عقوبة محضة ،فيستدعي
جناية محضة ،وأخذ ما لَه حق أخذه ل يكون جناية أصلً ،فل يستدعي عقوبة .وكذلك أخذ ما لخذه
فيه تأويل التناول أو شبهة التناول ،ل يكون جناية محضة ،فل تناسبه العقوبة المحضة (. )1
ويتفرع على هذا الشرط أنه ل يقام حد القطع فيما يلي:
أ ـ سائر الموال المباحة التي ل مالك لها.
ب ـ مال الحربي المستأمن في دار السلم ،فإنه ل يقطع استحسانا؛ لنه مال فيه شبهة الباحة،
والقياس أن يقطع؛ لن هذا المال أصبح معصوما بسبب المان الذي منحه الحربي ،ولهذا كان
مضمونا بالتلف كمال الذمي.
جـ ـ مال المسلم أو الذمي إذا سرقه الحربي المستأمن لعتقاده إباحته.
د ـ مال الباغي إذا سرقه العادل؛ لنه ليس بمعصوم في حقه .وكذا مال العادل إذا سرقه الباغي،
لنه أخذه متأولً.
هـ ـ المال المسروق من الغريم ،أي المدين ،على التفصيل التي:
-------------------------------
( )1العقوبات الشرعية وأسبابها للستاد علي قراعة :ص 146وما بعدها ،البدائع ،72-70/7 :فتح
القدير 229/4 :وما بعدها ،المبسوط ،178 ،152/9 :غاية المنتهى.341/3 :
( )7/388
إن كان المسروق من جنس حقه ،كأن كان له عشرة دراهم ،فسرق عشرة دراهم ،وكان الدين حالّ
الداء ،لم يقطع السارق؛ لن الخذ مباح له ،لنه ظفر بجنس حقه ،فله أخذه كما هو مقرر ،حتى ولو
أخذ أكثر من مقدار حقه ،ل يقطع؛ لن بعض المأخوذ حقه على الشيوع ،ول قطع في سرقة حق
شائع كما في المال المشترك .فإن كان الدين مؤجلً ل يقطع استحسانا ،ويقطع قياسا.
وجه القياس :أن الدين إذا كان مؤجلً لم يكن لخذه حق الخذ قبل حلول الجل ،فصار كما لو سرقه
أجنبي ،فيقطع فيه.
ووجه الستحسان :أن حق الخذ ،وإن لم يثبت قبل حلول الجل ،إل أن سبب ثبوت حق الخذ :وهو
الدين ،قائم ،وأما الجل فتأثيره في تأخير المطالبة ،ل في سقوط الدين ،فقيام السسبب المذكور يورث
شبهة ،والشبهة تمنع إقامة الحد.
فإن كان المسروق خلف جنس حقه ،كأن يكون له عشرة دراهم ،فسرق دينارا أو عُروضا ،فيقام
عليه حد القطع ،كما ذكر الكرخي؛ لنه أخذ مالً ليس له حق أخذه .وذكر في كتاب السرقة أنه ل
يقطع ،وهو قول أبي يوسف والشافعي (. )1
قال ابن عابدين :إن عدم جواز أخذ الدائن شيئا للمدين من خلف جنسه حقه ،كان في زمانهم ـ أي
زمان متقدمي الحنفية ـ لمطاوعتهم في الحقوق ،والفتوى اليوم على جواز الخذ عند القدرة من أي
مال كان ،ل سيما في ديارنا لمداومتهم للعقوق (. )2
-------------------------------
( )1فتح القدير ،236/4 :مغني المحتاج ،162/4 :المهذب.282/2 :
( )2رد المحتار.220/3 :
( )7/389
و ـ سرقة المصحف الشريف :ل يقطع سارقه؛ لن له تأويل الخذ ،وهو أنه أخذه لقراءة القرآن
العظيم ،وهو مذهب الحنابلة أيضا .وقال مالك والشافعي وأبو يوسف :يقطع بسرقة المصحف؛ لنه
مال متقوم .واستثنى الشافعية في الصح سرقة المصحف الموقوف على القراءة ،فإن سارقه ل يقطع
كالسرقة من بيت المال ،لوجود الشبهة فيه (. )1
ز ـ الطبل والمزمار ،والصليب ،والنرد والشطرنج ،وجميع آلت اللهو ،ل يقطع بسرقتها؛ لنه
يتأول بأخذها منع المالك عن المعصية ونهيه عن المنكر.
- 7أل يكون للسارق في المسروق ملك ول تأويل الملك ،أو شبهته (انتفاء شبهة الملك ) :
السبب في اشتراط هذا الشرط المتفق عليه :هو ما ذكر في الشرط السابق :وهو أن الجناية حينئذ ل
تكون متكاملة ،فل تستدعي عقوبة متكاملة ،ويتفرع عن هذا أن السارق ل يقطع بسرقة ما أعاره ،أو
رهنه ،أو آجره لغيره؛ لنه مملوك له ،وليقطع بسرقة المال المشترك بينه وبين المسروق منه؛ لن
له حقا فيه ،ول يقطع بسرقة مال الولد وإن سفل؛ لن له تأويل الملك ،أو شبهة الملك ،لقوله عليه
الصلة والسلم« :أنت ومالك لبيك» .وكذا ل يقطع بسرقة مال الصل كالب والجد وإن عل،
لوجود المباسطة في الدخول في الحرز ( ، )2أي أنه ل يقطع بسرقة من عمودي نسبه.
وكذلك ل يقطع السارق من بيت المال؛ لنه مال العامة ،فيكون له فيه ملك
-------------------------------
( )1المغني ،247/8 :غاية المنتهى ،337/3 :المبسوط ،152/9 :الدر المختار ،218/3 :مغني
المحتاج ،163/4 :تكملة المجموع ،337/18 :القوانين الفقهية :ص .359
( )2البدائع ،70/7 :فتح القدير.238/4 :
( )7/390
وحق .والدليل هو أن عمر رضي ال عنه لم يقطع من سرق من بيت المال ،فقد كتب عامل لعمر
يسأله عمن سرق من مال بيت المال ،فقال« :ل تقطعه فما من أحد إل وله فيه حق» وروى الشعبي
أن رجلً سرق من بيت المال ،فبلغ عليا كرم ال وجهه ،فقال« :إن له فيه سهما» ولم يقطعه .وإن
سرق ذمي من بيت المال ،قطع؛ لنه ل حق له فيه .وإن سرق فقير من غلة وقف على الفقراء ،لم
يقطع؛ لن له فيه حقا ،وإن سرق منها غني ،قطع؛ لنه ل حق له فيها .والخلصة :ل يقطع فيما له
فيه شبهة ،لحديث «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
وقال مالك :يقطع لعموم الكتاب ( )1أي عموم الية القرآنية الدالة على وجوب قطع أي سارق.
- 8أل يكون السارق مأذونا له بالدخول في الحرز ،أو فيه شبهة الذن :
إذا سرق إنسان من ذوي الرحم المحرم ( ، )2أو من زوجه ،فل تقطع يده؛ لنه يدخل عادة بدون
إذن ،وجرت العادة بالتبسط بين الزوجين في الموال ،فكان له شبهة الذن ،فيختل معنى توفر الحرز،
وهذا شرط متفق عليه في الجملة.
-------------------------------
( )1فتح القدير ،235/4 :المغني ،277/8 :غاية المنتهى ،341/3 :المهذب ،281/2 :المبسوط:
،188/9حاشية ابن عابدين على الدر المختار ،220/3 :مغني المحتاج .163/4 :ويلحظ أن للشافعية
تفصيلً رجحه النووي في السرقة من بيت المال ،فقال :ومن سرق مال بيت المال:إن فرز لطائفة
كذوي القربى والمساكين ،ليس هو منهم ،قطع إذ ل شبهة له في ذلك ،وإن لم يفرز لطائفة فالصح
أنه إن كان له حق في المسروق كمال المصالح العامة وكصدقة وهو فقير مثلً ،فل يقطع ،وإن لم
يكن له فيه حق ،قطع لنتفاء الشبهة.
( )2ذو الرحم المحرم من الشخص :هو الذي لو كان أحدهما رجلً ،والخر امرأة ،لم يجز له أن
يتزوجها من أجل الرحم التي بينهما.
( )7/391
وكذلك ل قطع على خادم قوم سرق متاعهم ،ول على ضيف سرق متاع مضيفه ،ول على أجير
سرق من موضع أذن له في دخوله؛ لن الذن في الدخول أخرج الموضع من أن يكون حرزا في
حقه ( . )1وهذا متفق عليه في المذاهب الربعة ،إل أن المام مالك اشترط في الخادم حتى يدرأ عنه
الحد أن يلي الخدمة بنفسه.
ووافق المام أحمد أبا حنيفة في رواية عنه في أل قطع بالسرقة من أحد الزوجين.
وقال الشافعي في الظهر :يجب القطع في السرقة من القارب وأحد الزوجين من الخر ،ما عدا
قرابة الصل والفرع ،إذا سرق المال المحرز عنه ،لعموم آية السرقة والخبار الواردة فيها ،وإلحاقا
للقرابة القريبة ،كالخت والعمة بالقرابة البعيدة ،ولن النكاح عقد على منفعة ،فل يؤثر في درء الحد،
كالجارة ل يسقط بها الحد عن الجير أو المستأجر إذا سرق أحدهما من الخر المال المحرز عنه (
. )2ووافق المام مالك الشافعي في القطع بالسرقة بين الزوجين ،والمعقول هو الرأي الول ،لوجود
التسامح في أخذ المال عادة بين القارب.
-------------------------------
( )1البدائع ،75 ،70/7 :المبسوط ،151/9 :تبيين الحقائق للزيلعي ،222 ،220/3 :الدر المختار:
،221/3المهذب ،280/2 :القوانين الفقهية :ص .359
( )2مغني المحتاج .162/4 :ويلحظ أن الشافعية نبهوا على أن وجوب قطع يد الزوجة بالسرقة من
مال زوجها :هو فيما إذا لم تستحق على الزوج شيئا حين السرقة ،أما إذا كانت تستحق النفقة والسكنى
في تلك الحالة ،فالمتجه أنه ل قطع إذا أخذت بقصد الستيفاء كما في حق رب الدين الحال إذا سرق
نصابا من المديون ،وربما كان المام الشافعي في الم ( )139/6أميل لعدم القطع مطلقا بسبب
الشبهة .وقال المام مالك (الموطأ :)52/3 :إذا سرق أحد الزوجين من حرز يختص به الخر كأن
كان في بيت ل يسكنان معا فيه ،أو سرق شيئا أحرزه عنه ،يقطع .وعن المام أحمد روايتان في ذلك
(المغني :)276/8 :إحداهما ـ ل قطع عليه كمذهب أبي حنيفة ،والثانية ـ يقطع كمذهب مالك.
( )7/392
- 9أن يكون المسروق مقصودا بالسرقة ل تبعا لمقصود :
فلو سرق إنسان كلبا أو هرا في عنقه طوق ذهب أو فضة ،أو مصحفا مرصعا بالذهب والياقوت ،أو
سرق صبيا حرا عليه حلي أو ثياب ديباج ،أو إناء من ذهب أو فضة فيه شراب أو ماء أو طعام :ل
يجب القطع عند أبي حنيفة ومحمد وأحمد وفي وجه للشافعية؛ لن المقصود بالسرقة هو الكلب أو
الصبي ،والطعام وغيره تابع له ،وإذا كان الصل المقصود ل يجب فيه القطع لقصور في ماليته ،فل
يجب بالتابع.
وقال أبو يوسف وفي وجه آخر للشافعية :ليس هذا بشرط؛ لنه قصد سرقة ما عليه من مال ،ولن
الطعام الذي في الناء ،ونحوه ،إذا كان مما ل يقطع فيه ،التحق بالعدم ،فيعتبر أخذ الناء على
النفراد ،فيقطع فيه ( ، )1ويظهر لي أن هذا هو المعقول ،لول وجود الشبهة في اشتمال السرقة على
ما يقطع من أجله وما ل يقطع.
شروط المسروق منه :
يشترط في المسروق منه أن تكون له يد صحيحة ،واليد الصحيحة ثلثة أنواع:
- 1يد الملك.
- 2يد المانة ،كيد الوديع والمستعير ويد الشريك المضارب.
- 3يد الضمان ،كيد الغاصب ويد القابض على سوم الشراء ،ويد المرتهن.
-------------------------------
( )1البدائع ،79/7 :المهذب.281/2 :
( )7/393
فيجب القطع على السارق من هؤلء .ول يجب القطع على السارق من السارق؛ لن يد السارق ليست
بيد صحيحة ،فكان الخذ منه كالخذ من الطريق (. )1
شروط المسروق فيه :
المسروق فيه :هو مكان السرقة .يشترط أن تكون السرقة في دار العدل ،فلو سرق في دار الحرب أو
في دار البغي :ل يقطع؛ لنه ل ولية للمام على غير دار العدل ،فلم تنعقد السرقة موجبة للقطع ()2
.
المبحث الثالث ـ إثبات السرقة :
تثبت السرقة عند القاضي بأحد أمرين :البينة أو القرار.
شروط البينة :
يشترط لقبول البينة شروط عامة تعرف في باب الشهادات ،وشروط خاصة في الحدود والقصاص،
وهي (: )3
- 1الذكورة :فل تقبل فيها شهادة النساء.
- 2العدالة :فل تقبل فيها شهادة الفساق.
- 3الصالة :فل تقبل فيها الشهادة على الشهادة ،لوجود الشبهة.
- 4عدم تقادم العهد ،إل في حد القذف والقصاص :فلو شهدوا بالسرقة بعد حين ،لم تقبل شهادتهم،
للشبهة.
- 5الخصومة أو الدعوى ممن له يد صحيحة :بأن كان صاحب ملك أو صاحب يد أمانة ،أو يد
ضمان ،كما بان سابقا .فلو شهدوا أنه سرق مال فلن الغائب من غير خصومة من المسروق منه ،لم
تقبل شهادتهم ،ولكن يحبس السارق؛ لن إخبارهم أورث تهمة ،ويجوز الحبس بالتهمة.
ويلحظ أن حق الخصومة ثابت لمن له يد صحيحة في حق ثبوت ولية استرداد المسروق وإعادته
إلى أيديهم ،وفي حق القطع عند جمهور الحنفية؛ لن يد المالك أو المين أو الضامن يد صحيحة،
والخصومة مظهرة للسرقة ،وإذا ظهرت السرقة بخصومة هؤلء يقطع السارق ،لقوله تعالى:
{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة.]38/5:
-------------------------------
( )1البدائع ،المرجع السابق :ص .80
( )2المرجع السابق.
( )3المبسوط ،169/9 :فتح القدير ،252 ،223/4 :البدائع ،81/7 :تبيين الحقائق ،213/3 :حاشية
ابن عابدين ،213/3 :غاية المنتهى ،342/3 :القوانين الفقهية :ص 360وما بعدها.
( )7/394
وقال زفر :ل تعتبر خصومة غير المالك في حق القطع ،ول يقطع السارق بخصومة المين أو
الضامن؛ لن يد غير المالك ليست بيد صحيحة في الصل ،وإنما تثبت لهم ولية الخصومة لمكان
الرد إلى المالك ،فكان ثبوتها لهم بطريق الضرورة ،والثابت بالضرورة يكون عدَما فيما وراء محل
الضرورة ،لنعدام علة الثبوت ،وهي الضرورة.
وأما السارق الول فل تعتبر خصومته باتفاق الحنفية في حق القطع بالنسبة للسارق الثاني بالتفاق؛
لن يده ليست يد ملك ،ول يد ضمان ،ول يد أمانة ،فصار الخذ من يده كالخذ من الطريق .وأما في
حق السترداد ففيه روايتان :رواية تقرر أن للسارق الول السترداد ،إذ من الجائز أن يختار المالك
الضمان ،ويترك القطع ،فيحتاج إلى أن يسترد المسروق من السارق الثاني ،ليدفعه إلى المالك،
فيتخلص من الضمان .ورواية :ليس له السترداد ،إذ ليس له يد صحيحة (. )1
ويلحظ أن مذهب الشافعية والحنابلة في أظهر الروايتين كالحنفية في افتقار حد القطع إلى مطالبة
المسروق منه؛ لن المغلب عندهم في القطع حق المخلوق (. )2
وقال مالك :إنه ل يفتقر إلى مطالبة المسروق منه صيانة لحق المجتمع ،ومحافظة على أموالهم (. )3
ول تثبت السرقة عند القاضي بالنكول عن الحلف من المدعى عليه ،ول تثبت أيضا بعلم القاضي ،في
زمان القضاء أو قبله.
شروط القرار :
تظهر السرقة عند القاضي بالقرار؛ لن النسان غير متهم في القرار على نفسه بالضرار بها،
ويكفي لوجوب القطع القرار مرة واحدة عند أبي حنيفة ومحمد وجمهور العلماء.
وقال أبو يوسف والحنابلة :ل يقطع إل بالقرار مرتين ،كما أن عدد الشهود اثنان.
ويشترط عند أبي حنيفة ومحمد إقامة دعوى من المسروق منه ،فإذا أقر السارق أنه سرق مال فلن
الغائب لم يقطع ،ما لم يحضر المسروق منه ويخاصمه ،كما هو المقرر في البينة.
-------------------------------
( )1انظر البدائع ،84-83/7 :فتح القدير 255/4 :وما بعدها ،تبيين الحقائق للزيلعي.228/3 :
( )2المهذب 282/2 :وما بعدها ،المغني ،273/8 :غاية المنتهى.342/3 :
( )3بداية المجتهد.443/2 :
( )7/395
وقال أبو يوسف :الدعوى في القرار بالسرقة ليست بشرط لوجوب القطع؛ لن النسان غير متهم
على نفسه (. )1
المبحث الرابع ـ ما يسقط الحد بعد وجوبه :
يسقط الحد بأنواع هي (: )2
- 1تكذيب المسروق منه السارق في إقراره بالسرقة ،بأن يقول له :لم تسرق مني.
- 2تكذيب المسروق منه بينته ،بأن يقول :شهد شهودي بزور.
- 3رجوع السارق عن القرار بالسرقة ،فل يقطع ،ويضمن المال؛ لن الرجوع عن القرار يقبل
في الحدود ،ول يقبل في المال؛ لنه يورث شبهة في القرار ،والحد يسقط بالشبهة ،ول يسقط المال.
- 4رد السارق المسروق إلى مالكه قبل المرافعة في السرقة عند أبي حنيفة ومحمد ،وإحدى
الروايتين عن أبي يوسف .وفي رواية أخرى عنه :إن الرد قبل المرافعة ل يسقط الحد؛ لن السرقة
انعقدت موجبة للقطع ،فرد المسروق بعدئذ ل يخل بالسرقة الموجودة.
ودليل الطرفين :أن الخصومة شرط لظهور السرقة عند القاضي ،ولما رد المسروق على المالك ،فقد
بطلت الخصومة ،بخلف ما بعد المرافعة؛ لن المطلوب هو وجود الخصومة ل استمرارها .وعلى
هذا ،رد المسروق بعد المرافعة وسماع البينة :ل يسقط القطع ،سواء أكان الرد قبل القضاء أم بعده.
-------------------------------
( )1المراجع السابقة عند الحنفية ،المبسوط ،182/9 :المهذب ،282/2 :القوانين الفقهية :ص ،361
غاية المنتهى.342/3 :
( )2البدائع 88/7 :وما بعدها ،فتح القدير 255/4 :وما بعدها ،تبيين الحقائق 229/3 :وما بعدها.
( )7/396
- 5ملك السارق المال المسروق قبل رفع المر إلى القضاء بل خلف ،فإن ملكه بعدئذ قبل إمضاء
الحكم ،فاختلف فيه الفقهاء :فقال أبو حنيفة ومحمد :يسقط الحد ،كما إذا وهب أو باع المسروق منه
المال المسروق للسارق قبل القضاء أو بعده قبل إصدار الحكم.
وقال أبو يوسف والشافعي وأحمد ومالك :إذا وهبه بعد القضاء ،أي بعد ما رفع إلى الحاكم ،لم يسقط
القطع ،لما روي أن النبي صلّى ال عليه وسلم أمر في سارق رداء صفوان أن تقطع يده ،فقال
صفوان :إني لم أرد هذا ،هو عليه صدقة ،فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم« :فهل قبل أن تأتيني
به؟» (. )1
ودليل الطرفين :أن الملك في الهبة يثبت من وقت القبض ،فيظهر الملك له من ذلك الوقت ،أي أن له
أثرا رجعيا .وكون المسروق ملكا للسارق على الحقيقة أو مع الشبهة ،يمنع من القطع ،ولهذا لم يقطع
قبل القضاء ،فكذلك بعده؛ لن القضاء في باب الحدود إمضاؤها ،فما لم يمض الحد (أي ينفّذ فعلً بأن
يقام على المحدود) فكأنه لم يقض .ولو كان لم يقض ل يقطع ،فكذلك إذا لم يمض ،أي لم ينفّذ الحد،
والمعنى أنهم اعتبروا الحد قبل استيفائه ،كما لو كان قبل القضاء به.
زراعة عضو استؤصل في حد :تقدمت ببحث إلى مجمع الفقه السلمي بجدة عام 1410هـ
/1990م في دورته السادسة مفاده عدم جواز إعادة العضو المقطوع في حال القصاص ،بعملية
جراحية ،مراعاة لمصلحة المقتص له ،وكذلك عدم جواز إعادة العضو المقطوع في حد من الحدود
الخالصة للعبد ،ورأيت جواز إعادة العضو إذا ثبت الجرم بالقرار؛ لجواز الرجوع عنه ،وكذلك إذا
ثبت الجرم
-------------------------------
( )1المهذب ،282/2 :البدائع ،المرجع السابق :ص ،89غاية المنتهى ،337/3 :المنتقى على
الموطأ ،162/7 :والحديث رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس.
( )7/397
بالشهادة في حقوق ال تعالى كحد السرقة والحرابة والزنى والردة ،إذا تاب المحدود ،وكانت حالت
العادة قليلة أو نادرة ،حتى ل يتجرأ الجناة على الجرائم والفواحش ،ثم وافقت على قرار المجمع
المذكور بعدم الجواز ،حتى ل يتخذ تطبيق الحد عبثا أو مجالً للتلعب والبعد عن الجدية ،ولبقاء
آثار تطبيق الحد لزجر المحدود وبقية الناس ،وأذكر هنا نص قرار المجمع رقم (:)6/9/60
ل للعقوبة
- 1ل يجوز شرعا إعادة العضو المقطوع تنفيذا للحد؛ لن في بقاء أثر الحد تحقيقا كام ً
المقررة شرعا ،ومنعا للتهاون في استيفائها ،وتفاديا لمصادمة حكم الشرع في الظاهر.
- 2بما أن القصاص قد شرع لقامة العدل وإنصاف المجني عليه ،وصون حق الحياة للمجتمع،
وتوفير المن والستقرار ،فإنه ل يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذا للقصاص إل في الحالت التالية:
أ ـ أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع.
ب ـ أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه.
- 3يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو في التنفيذ.
( )7/398
( )2الميزان ،168/2 :بداية المجتهد ،445/2 :حاشية الدسوقي ،350/4 :المهذب ،284/2 :مغني
المحتاج ،183/4 :المغني.290/8 :
( )3تبصرة الحكام في أصول القضية والحكام لبن فرحون.271/2 :
( )7/399
ركن قطع الطريق :
ركنه :هو الخروج على المارة لخذ المال على سبيل المغالبة على وجه يمتنع المارة عن المرور
وينقطع الطريق ،سواء أكان القطع من جماعة أم من واحد ،بعد أن يكون له قوة القطع ،وسواء أكان
القطع بسلح أم غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها ،وسواء أكان بمباشرة الكل ،أم التسبب من
البعض بالعانة والخذ؛ لن القطع يحصل بكل ماذكر كما في السرقة ،ولن هذا من عادة قطاع
الطرق ( . )1وبه يظهر أن قطاع الطرق قوم لهم منعة وشوكة ،بحيث ل تمكن للمارة مقاومتهم،
يقصدون قطع الطريق ،بالسلح أو بغيره.
المبحث الثاني ـ شروط قطع الطريق :
هناك شروط في القاطع ،والمقطوع عليه ،وفيهما معا ،وفي المقطوع له ،وفي المقطوع فيه.
شروط القاطع :
يشترط في القاطع أن يكون عاقلً بالغا ،فإن كان صبيا مجنونا ل حد عليهما؛ لن الحد عقوبة
تستدعي جناية ،وفعل الصبي والمجنون ل يوصف بكونه جناية.
ويشترط أيضا أن يكون ذكرا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة ،ولو كان بين القطاع امرأة ل يقام
الحد عليها في الرواية المشهورة؛ لن ركن القطع وهو (الخروج على المارة على وجه المحاربة
والمغالبة) ل يتحقق من النساء عادة ،لرقة قلوبهن وضعف بنيتهن ،فل يكنّ من أهل الحرب.
وقال الطحاوي :النساء والرجال في قطع الطريق سواء؛ لن هذا حد يستوي في وجوبه الذكر والنثى
كسائر الحدود .وسيأتي بيان المذاهب الخرى.
-------------------------------
( )1البدائع 90/7 :وما بعدها ،فتح القدير ،268/4 :المبسوط.195/9 :
والمحارب عند المالكية :هو الذي شهر السلح وقطع الطريق وقصد سلب الناس ،سواء أكان في
مصر أو قفر .ومن دخل دارا بالليل وأخذ المال بالكره ،ومنع من الستغاثة ،فهو محارب ،والقاتل
غيلة محارب ،ومن كان معاونا للمحاربين كالكمين والطليعة فهو في حكم المحارب عندهم (القوانين
الفقهية :ص .)362
( )7/400
وأما الرجال الذين مع المرأة ،فل يقام عليهم الحد عند أبي حنيفة ومحمد ،سواء باشروا معها أو لم
يباشروا؛ لن سبب وجوب الحد شيء واحد ،وهو قطع الطريق ،وقد حصل ممن يجب عليه ،ومن ل
يجب عليه ،فل يجب أصلً كما إذا كان فيهم صبي أو مجنون.
وفرق أبو يوسف بين الصبي وبين المرأة ،فقال :إذا باشر الصبي ل حد على من لم يباشر من
المكلفين.
وإذا باشرت المرأة يحد الرجال؛لن امتناع وجوب الحد على المرأة ليس لعدم الهلية؛ لنها من أهل
التكليف ،بل لعدم المحاربة منها ،أو نقصانها عادة ،وهذا لم يوجد في الرجال ،فل يمتنع وجوب الحد
عليهم ( . )1لكن نص ابن عابدين في حاشيته ( ) 232/3على أن المرأة كالرجل في الحرابة في
ظاهر الرواية ،إل أنها لتصلب.
ولم يفرق الجمهور بين الرجل والنثى،فيقام حد الحرابة على جميع المكلفين الملتزمين ولو أنثى،
الذين يعرضون للناس بسلح أو غيره ،فيغصبون مالً محترما مجاهرة (. )2
شروط المقطوع عليه :
يشترط في المقطوع عليه أمران:
- 1أن يكون مسلما أو ذميا :فإن كان حربيا مستأمنا ،ل حد على القاطع؛ لن عصمة مال المستأمن
ليست عصمة مطلقة ،وإنما فيها شبهة الباحة.
- 2أن تكون يده صحيحة :بأن كانت يد ملك أو يد أمانة أو يد ضمان ،فإن لم تكن كذلك كيد
السارق ،لم يجب الحد على القاطع (. )3
شروط القاطع والمقطوع عليه جميعاً :
يشترط أل يكون في القطاع ذو رحم محرم من المقطوع عليهم ،فإن كان أحدهم ذا رحم من المقطوع
عليهم ل يجب الحد على القطاع؛ لنه يوجد بينهم قريب للمقطوع عليهم .والسبب في منع الحد :هو
أنه يكون عادة بين هذا القريب وبين المقطوع عليه تبسط في المال والحرز ،لوجود الذن بالتناول
عادة.
و اختلف الحنفية مع بقية المذاهب في هذا الشرط ،وفي اشتراط الذكورة في القاطع ،وفي اشتراك
الصبي أو المجنون مع القطاع.
-------------------------------
( )1البدائع،91/7 :المبسوط ،197/9 :مختصر الطحاوي :ص .277
( )2غاية المنتهى ،344/3 :القوانين الفقهية :ص ،362المهذب.284/2 :
( )3البدائع ،المرجع السابق.
( )7/401
فقال الحنفية كما تقدم :يشترط كون القطاع كلهم أجانب مكلفين ذكورا ،حتى إذا كان أحدهم ذا رحم
محرم أو صبيا أو مجنونا ،ل يجب عليهم القطع عند
أبي حنيفة ومحمد؛ لن الحد عقوبة ،فتستدعي جناية ،وفعل الصبي والمجنون ل يوصف بكونه جناية،
كما سبق بيانه ،وأما المرأة :فل يتحقق منها قطع الطريق لضعفها.
وقال أبو يوسف :العبرة بمباشرة القطع ،فإذا باشرت المرأة القطع حد الرجل كما تبين ،ول تحد
المرأة ،فإن قتلت أحدا تقتل قصاصا ،ل حدا ،فيجوز لولي القتيل العفو عن القصاص.
وإذا باشر الصبي أو المجنون القطع ل يحد أحد ،وإن كانت المباشرة من غيرهما ،فيحد العقلء
البالغون ،ول يحد الصبي أو المجنون .ودليله أن القطع هو الصل في قطع الطريق ،والعانة
كالتابع ،فإذا وليه الصبي ،فقد أتى بالصل ،فإذا لم يجب القطع بالصل ،فكيف يجب بالتابع ،فإذا وليه
البالغ فقد حصل الصل منه (. )1
وقال المالكية والشافعية والحنابلة :ل يسقط حد القطع عن قطاع الطرق إذا كان فيهم صبي أو مجنون
أو ذو رحم من المقطوع عليه؛ لن وجود هؤلء شبهة اختص بها واحد ،فلم يسقط الحد عن الباقين،
كما لو اشتركوا في وطء المرأة .وعلى هذا فل حد على الصبي والمجنون وإن باشر القتل وأخذ
المال؛ لنهما ليسا من أهل الحدود ،وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما ،ودية قتيلهما على
عاقلتهما ،أي أقاربهما من العصبات.
وأما المرأة إذا كانت مشتركة مع القطاع ،فيثبت في حقها حكم المحاربة؛ لنها تحد في السرقة،
فيلزمها حكم المحاربة كالرجل ،وتقتل حدا إن قتلت ،وأخذت المال (. )2
-------------------------------
( )1البدائع ،91 ،67/7 :فتح القدير ،273/4 :تبيين الحقائق ،239/3 :المبسوط.203/9 :
( )2حاشية الدسوقي ،348/4 :مغني المحتاج ،180/4 :الميزان ،169/2 :المغني.297/8 :
( )7/402
( )7/403
- 2أن يكون القطع عند متقدمي الحنفية خارج المصر .واختلف العلماء في تحقق قطع الطريق في
داخل المصر .فقال أبو حنيفة ومحمد وظاهر كلم أحمد :ل يثبت حكم القطع إل أن يكون خارج
المصر؛ لن القطع ل يحصل بدون النقطاع ،والطريق ل ينقطع في المصار وفيما بين القرى؛ لن
الناس يغيثون المقطوع عليه في كثير من الحيان ،فكان القطع في المصر بالغصب أشبه ،فعليه
التعزير ورد ما أخذ من مستحقه ،وهذا أخذ بمقتضى الستحسان ( . )1وهوظاهر الرواية عند
الحنفية ،لكن المفتى به خلفه كما سأبين.
وقال أبو يوسف والمالكية والشافعية ،والحنابلة في المعتمد عندهم :يثبت حكم قطع الطريق داخل
المصر ،وخارجه على حد سواء .استدل أبو يوسف بمقتضى القياس :وهو أن سبب جوب الحد قد
تحقق وهو قطع الطريق ،فيجب الحد ،كما لو كان في غير مصر.
ل أو
قال ابن عابدين :أفتى المشايخ برواية أبي يوسف التي تقتضي بأن الحرابة تقع في المصر لي ً
نهارا بسلح أو بدونه دفعا لشر المتغلبة المفسدين (. )2
واستدل الجمهور بنحوه ،فقالوا :إن محاربة شرع ال عز وجل وتعدي حدوده ل يختلف تحريمها
بكونها خارج المصر ،أو داخله كغيرها من سائر المعاصي من زنا وشرب خمر وغيرهما (. )3
إل أن الشافعية قالوا :يشترط في قاطع الطريق أن يكون له شوكة ،أي قدرة وقوة مغالبة لغيره ،ول
يشترط العدد .والمغالبة :إنما تتأتى بالبعد عن العمران ،ل بالقرب منه ،بحيث لو قال الشخص:
ياغوثاه ،أغاثه الناس ،وتوجد المغالبة في المصر حال ضعف السلطان.
-------------------------------
( )1المرجع السابق ،المبسوط ،201/9 :الهداية مع فتح القدير.274/4 :
( )2رد المحتار ،232/3 :وانظر أيضا.815/1 :
( )3حاشية الدسوقي ،348/4 :القوانين الفقهية :ص ،362بداية المجتهد ،445/2 :مغني المحتاج:
،181/4المغني ،287/8 :المهذب.284/2 :
( )7/404
- 3أن يكون بينهم وبين المصر مسيرة سفر ،فإن كان أقل منه لم يكونوا قطاع طرق ،وهذا الشرط
عند أبي حنيفة ومحمد ،وأما عند أبي يوسف فليس بشرط .وقد بيّنت في الشرط السابق دليل كل منهم
( )1وأن المفتى به هو رأي أبي يوسف.
المبحث الثالث ـ إثبات قطع الطريق :
يثبت قطع الطريق عند القاضي ،إما بالبينة ،وإما بالقرار ،بعد خصومة صحيحة أي (رفع الدعوى
ممن له يد صحيحة) ول يثبت بعلم القاضي ،ول بالنكول ( ، )2على حسب ما ذكر في السرقة.
ويشترط عند الحنابلة وأبي يوسف تكرار القرا ر مرتين (. )3
المبحث الرابع ـ أحكام قطاع الطرق (عقوباتهم ) :
اختلف العلماء في عقوبة قطع الطريق ،هل العقوبات المذكورة في آية المحاربة على التخيير ،أو
مرتبة على قدر جناية المحارب؟.
فقال الحنفية والشافعية والحنابلة :إن حد قطاع الطريق على الترتيب المذكور في الية الكريمة السابق
ذكرها؛ لن الجزاء يجب أن يكون على قدر الجناية ،ولكنهم اختلفوا في كيفية الترتيب:
فقال الحنفية :إن أخذوا المال ،تقطع أيديهم وأرجلهم من خلف؛ وإن قتَلوا فقط قُتلوا؛ وإن قتلوا
وأخذوا المال كان المام بالخيار :إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلف ،ثم قتلهم ،أو صلبهم ،وإن
شاء لم يقطع ،وإنما يقتل أو يصلب.
-------------------------------
( )1البدائع.92/7 :
( )2المرجع السابق :ص ،93والنكول :استنكاف الخصم عن حلف اليمين الموجهة إليه من القاضي.
( )3غاية المنتهى.344/3 :
( )7/405
وإن أخافوا الطريق فقط دون قتل ،ول أخذ للمال ،ينفوا من الرض ،أي يحبسوا ويعزروا (. )1
وما ذكر في الصورة الثالثة وهو (القتل وأخذ المال) هو رأي أبي حنيفة وزفر.
وقال الصاحبان :يقتل المام القاطع أو يصلبه ،ولكن ل يقطعه؛ لن الجناية وهي قطع الطريق واحدة،
فل توجب حدين ،ولن ما دون النفس في الحدود يدخل في النفس كحد السرقة والرجم إذا اجتمعا كما
سأبين ،فيقام حد الرجم فقط.
ورد أبو حنيفة وزفر على ذلك بأن هذه الجناية وإن كانت واحدة ،فإن القطع والقتل أيضا عقوبة
واحدة ،ولكنها مغلظة لتغلظ سببها ،حيث إن قطع الطريق يخل بالمن على النفس والمال معا.
وقال الشافعية والحنابلة :إن أخذوا المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلف ،وإن قتلوا ولم يأخذوا
المال ،قتلوا ولم يصلبوا .وإن قتلوا وأخذوا المال ،قتلوا وصلبوا.
وإن أخافوا ،ينفوا من الرض (. )2
ودليلهم على هذا الترتيب :ما روي عن ابن عباس من قصة أبي بُرْدة السلمي بهذه الكيفية ( . )3فهم
يخالفون الحنفية في الصورة الثالثة فقط.
وقال المام مالك ( : )4المر في عقوبة قطاع الطرق راجع إلى اجتهاد المام ونظره ومشورة
الفقهاء بما يراه أتم للمصلحة وأدفع للفساد ،وليس ذلك على هوى المام.
- 1فإن أخاف القاطع السبيل فقط كان المام مخيرا بين قتله أو صلبه أو قطعه من خلف أو نفيه
وضربه ،على التفصيل التي:
فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير والقوة ،فوجه الجتهاد قتله أو صلبه؛ لن القطع ل يدفع
ضرره .وإن كان ل رأي له ،وإنما هو ذو قوة وبأس ،قطعه من خلف .وإن كان ليس فيه شيء من
هاتين الصفتين أخذ بأيسر عقاب فيه وهو الضرب والنفي.
- 2وأما إذا قتل ،فل بد من قتله ،وليس للمام تخيير في قطعه ،ول في نفيه ،وإنما التخيير في قتله
أو صلبه.
-------------------------------
( )1المبسوط ،195/9 :البدائع ،93/7 :فتح القدير ،270/4 :تبيين الحقائق ،235/3 :مختصر
الطحاوي :ص ،276حاشية ابن عابدين 233/3 :وما بعدها.
( )2المهذب ،284/2 :مغني المحتاج 81/4 :وما بعدها ،المغني ،288/8 :السياسة الشرعية لبن
تيمية :ص .78
( )3هذا أثر عن ابن عباس رواه الشافعي في مسنده وفي إسناده إبراهيم بن محمد أبي يحيى ،وهو
ضعيف ،وأخرجه البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى{ :إنما جزاء الذين يحاربون ال ورسوله}
[المائدة ]33/5:الية ،ورواه أحمد بن حنبل في تفسيره عن أبي معاوية عن حجاج عن عطية به
نحوه .قال الشافعي« :واختلف حدودهم باختلف أفعالهم على ما قال ابن عباس إن شاء ال » (راجع
التلخيص الحبير :ص 358وما بعدها ،نيل الوطار.)152/7 :
( )4المنتقى على الموطأ ،172/7 :القوانين الفقهية :ص .363
( )7/406
- 3وأما إن أخذ المال ،فلم يقتل ،فالمام مخير بين قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه ،يفعل مما ذكر ما
يراه نظرا ومصلحة ول يحكم فيه بالهوى.
ودليله :أن حرف «أو» المذكور في آية المحاربة يقتضي في اللغة التخيير ،مثل قوله تعالى{ :فكفارته
إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ،أو كسوتهم ،أو تحرير رقبة} [المائدة)1( ]89/5:
.
ويلحظ أن الجمهور قالوا :إن «أو» للتنويع ،فتكون العقوبة بحسب نوع الجناية كما تبين.
كيفية الصلب ووقته ومدته :
قال أبو يوسف والكرخي وهو الصح في مذهب الحنفية ،والراجح عند المالكية أيضا :يصلب قاطع
الطريق حيا ،على خشبة تغرز في الرض ،بأن يربط جميعه بها بعد وضع قدميه على خشبة
عريضة من السفل ،وربط يديه على خشبة عريضة من العلى .ثم يقتل مصلوبا قبل نزوله بأن
يطعن بالحربة؛ لن الصلب عقوبة مشروعة تغليظا ،وإنما يعاقب الحي ،أما الميت فليس من أهل
العقوبة .وليس صلبه من قبيل المثْلة المنهي عنها؛ لن المراد بها قطع بعض الجوارح (. )2
وقال أشهب من المالكية والشافعية والحنابلة والطحاوي من الحنفية :الصلب يكون بعد القتل؛ لن ال
تعالى قدم القتل على الصلب لفظا ،وفي صلبه حيا تعذيب له وتمثيل به ( ، )3وقد نهى النبي صلّى
ال عليه وسلم عن المثلة وعن تعذيب الحيوان ،فقال« :
-------------------------------
( )1راجع حاشية الدسوقي ،349/4 :بداية المجتهد 445/2 :وما بعدها ،القوانين الفقهية :ص .363
( )2المبسوط ،196/9 :فتح القدير ،271/4 :البدائع ،95/7 :والمراجع السابقة في أحكام القطاع.
( )3المراجع السابقة في بيان مذهب الشافعية والحنابلة ،المنتقى على الموطأ.172/7 :
( )7/407
إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ،وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبْحة» ( . )1والغرض من صلبه بعد قتله هو التنكيل
به ،وزجر غيره ليشتهر أمره.
ومدة الصلب عند الجمهور :ثلثة أيام ،ول يبقى أكثر من ذلك.
وقال المام أحمد :يصلب بقدر ما يقع عليه اسم الصلب .قال ابن قدامة :والصحيح توقيته بما ذكر
الخرقي ،وهو بقدر ما يشتهر أمره.
النفي :
النفي عند الحنفية :معناه الحبس؛ لن فيه نفيا عن وجه الرض ،وخروجا عن الدنيا مع قيام الحياة،
إل عن الموضع الذي حبس فيه ،ومثل هذا في عرف الناس يسمى نفيا عن وجه الرض ،وخروجا
عن الدنيا ،كما قال بعض المحبوسين:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ( ..... )2فلسنا من الحياء فيها ول الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة .....عجبنا ،وقلنا :جاء هذا من الدنيا
وأما التغريب ففيه إضرار ببلد آخر ،وتمكين له من الهرب إلى دار الحرب ،وتعريض للكفر (. )3
-------------------------------
( )1أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الربعة عن شداد بن أوس بلفظ « :إن ال تعالى كتب
الحسان على كل شيء ،فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ،وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ،وليحد أحدكم شفرته،
وليرح ذبيحته» (راجع الجامع الصغير ،71/1 :الربعين النووية :ص ،41نيل الوطار.)141/8 :
( )2بتخفيف همزة «أهلها» بحيث تقرأ همزة وصل ،لضرورة الشعر.
( )3المبسوط 135/9 :وما بعدها ،تبيين الحقائق ،236/3 :فتح القدير ،270/4 :البدائع.95/7 :
( )7/408
وقال المالكية :النفي أن يخرج من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر ويسجن فيه ،إلى أن تظهر توبته.
والمسافة بين البلدين :أقل ما تقصر فيه الصلة ( . )1والنفي هنا هو بمعنى التغريب في حد الزنا،
وهو الحبس في بلد آخر.
وقال الشافعية :النفي معناه أن يحبسهم المام مدة حتى تظهر توبتهم ،أو يعزرهم بما يراه رادعا لهم (
. )2أما التغريب في حد الزنا فمعناه :البعاد لبلد آخر كما تقدم.
وقال الحنابلة :النفي أن يشردوا ،فل يتركون يأوون إلى بلد .ودليلهم ما روي عن الحسن والزهري:
أن النفي هو تشريدهم عن المصار والبلدان ،فل يتركون يأوون بلدا ( . )3وأما التغريب في حد الزنا
فمعناه مثلما قال الشافعية.
صفة حكم قطع الطريق :
حد الحرابة :من حقوق ال الخالصة له ،فيجري فيه التداخل ول يحتمل العفو والسقاط والبراء
والصلح عنه ،على نحو ما بان في حد السرقة .وأما اجتماع الغرم والقطع ففيه خلف بين العلماء:
اتفق الفقهاء على أنه إذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود ال تعالى ،فإن كانت الموال
موجودة ردت إلى مالكها .وإن كانت تالفة أو معدومة ،فقال الحنفية :ل يجمع بين الحد والضمان؛
لقوله عليه السلم« :إذا أقيم الحد على
-------------------------------
( )1حاشية الدسوقي ،349/4 :القوانين الفقهية :ص ،363بداية المجتهد ،446/2 :المنتقى على
الموطأ.173/7 :
( )2مغني المحتاج ،181/4 :المهذب.284/2 :
( )3المغني.294/8:
( )7/409
السارق فل غرم عليه» ( )1ولن التضمين يقتضي التمليك ،والملك يمنع الحد ،فل يجمع بينهما (. )2
وقال المالكية والشافعية والحنابلة :يجتمع الحد والضمان كما في السرقة؛ لن المال عين يجب
ضمانها بالرد ،لو كانت باقية ،فيجب ضمانها إذا كانت تالفة ،كما لو لم يقم عليه الحد ،ولن الحد
والغرم حقان يجبان لمستحقين ،فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك (. )3
المبحث الخامس ـ ما يسقط حكم القطع ،وما يترتب على عدم وجوب الحد أو سقوطه :
يسقط حكم قطع الطريق وهو الحد بعد وجوبه بأمور:
- 1تكذيب المقطوع عليه القاطع في إقراره بقطع الطريق.
- 2رجوع القاطع عن إقراره بقطع الطريق.
- 3تكذيب المقطوع عليه البينة.
- 4ملك القاطع الشيء المقطوع له وهو المال قبل الترافع أو بعده عند جمهور الحنفية خلفا
لغيرهم ،على نحو ما ذكر في السرقة.
- 5توبة القاطع قبل قدرة السلطان عليه ،لقوله تعالى{ :إل الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم،
فاعلموا أن ال غفور رحيم} [المائدة ]34/5:وهذا باتفاق الئمة (. )4
ويترتب على سقوط الحد بالتوبة ،أو على عدم وجوب الحد لمانع بأن فات شرط من شروط الحد
السابق ذكرها كنقصان النصاب :أنه إذا كان المال موجودا يجب رده إلى صاحبه ،وإن كان هالكا أو
مستهلكا يجب الضمان.
فإن قتلوا بسلح يجب القصاص عند الحنفية ،وإن قتلوا بعصا أو حجر ،فعلى عاقلة القاتل الدية لورثة
المقتول ،ويجب القصاص عند الجمهور في القتل العمد ،سواء أكان بسلح أم بغيره.
وإن جرحوا ،فالجراحات فيها القصاص فيما يمكن فيه القصاص ،والرش (أي الضمان) فيما ل يمكن
( . )5
-------------------------------
( )1اللفظ الصحيح لهذا الحديث المرسل هو« :ل يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد» وقد سبق تخريجه.
( )2البدائع ،95/7 :فتح القدير.271/4 :
( )3حاشية الدسوقي ،350/4 :مغني المحتاج ،182/4 :المغني.298 ،295/8 :
( )4البدائع ،96/7 :المنتقى على الموطأ.174/7 :
( )5البدائع ،المرجع السابق ،فتح القدير ،271/4 :المهذب ،285/2 :القوانين الفقهية :ص .363
( )7/410
.........................................البغاة..........................................
أولً ـ تعريف البغي :البغي لغة :إما الطلب كما في قوله تعالى{ :ماكنا نبغِ} [الكهف ]64/18:أو
التعدي .وهو في اصطلح الفقهاء كما عرفه ابن عرفة المالكي :المتناع من طاعة من تثبت إمامته
في غير معصية بمغالبة ،ولو تأولً ( . )1والبغي حرام لقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :من نزع
يده من طاعة إمامه ،فإنه يأتي يوم القيامة ،ول حجة له ،ومن مات وهو مفارق للجماعة ،فإنه يموت
ميتة جاهلية» ( ، )2وقال عليه الصلة والسلم أيضا« :من حمل علينا السلح فليس منا» (. )3
وعرف الحنفية البغاة :بأنهم قوم لهم شوكة ومنعة ،خالفوا المسلمين في بعض الحكام بالتأويل،
وظهروا على بلدة من البلد ،وكانوا في عسكر ،وأجروا
-------------------------------
( )1حاشية الدسوقي.298/4 :
( )2الحاديث في هذا المعنى كثيرة :منها :ما أخرجه مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال :قال رسول
ال صلّى ال عليه وسلم « :من خرج من الطاعة ،وفارق الجماعة فمات ،مات ميتة جاهلية»..
الحديث ،ومنها :ما رواه الحاكم عن ابن عمر بلفظ« :من خرج من الجماعة فقد خلع ربقة السلم من
عنقه حتى يراجعه ،ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية» ومنها :ما رواه أحمد
والشيخان عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :من رأى من أميره شيئا يكرهه
فليصبر ،فإنه من فارق الجماعة شبرا ،فمات ،فميتته جاهلية» .وفي لفظ« :من كره من أميره شيئا
فليصبر عليه ،فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا ،فمات عليه إل مات ميتة جاهلية»
ومنها :ما روي عن أبي ذر ومعاوية وأبي الدرداء وغيرهم كثير (راجع جامع الصول،256/4 :
مجمع الزوائد ،224 ،220 ،219/5 :نيل الوطار.)173 ،171/7 :
( )3أخرجه أحمد والشيخان من حديث ابن عمر ،وأبي موسى الشعري ،وأخرجه مسلم من حديث
أبي هريرة ،وسلمة بن الكوع( .راجع نيل الوطار ،173/7 :سبل السلم.)257/3 :
( )7/411
أحكامهم ،كالخوارج وغيرهم .أما الخوارج أو الحرورية :فهم قوم خرجوا على علي واستحلوا دمه
ودماء المسلمين وأموالهم وسبي نسائهم ،وكفروا أصحاب رسول ال صلّى ال عليه وسلم ورأوا أن
كل ذنب كفر ( ، )1وكانوا متشددين في الدين تشددا زائدا.
وأما غيرهم من البغاة فلم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم.
وعرف المالكية البغاة :بأنهم الذين يقاتلون على التأويل ،مثل الطوائف الضالة كالخوارج وغيرهم،
والذين يخرجون على المام ،أو يمتنعون من الدخول في طاعته؛ أو يمنعون حقا وجب عليهم كالزكاة
وشبهها ( . )2وعرفهم الحنابلة بقولهم :هم الخارجون على إمام ولو غير عدل ،بتأويل سائغ ولهم
شوكة ،ولو لم يكن فيهم مطاع .ويحرم الخروج على ا لمام ولو غير عدل (. )3
والفرق بين الباغي والمحارب :أن المحارب يخرج فسقا وعصيانا على غير تأويل ،والباغي :هو
الذي يحارب على تأويل ،فيقتل ويأخذ المال ،وإذا أخذ الباغي ولم يتب ،فإنه ل يقام عليه حد الحرابة،
ول يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسرا ،إل أن يوجد بيده شيء بعينه ،فيرد إلى صاحبه ()4
.ويكون للبغاة قوة ومنعة في مكان يتحصنون فيه.
-------------------------------
( )1فتح القدير 408/4 :وما بعدها ،تحفة الفقهاء 251/3 :الطبعة الولى ،حاشية ابن عابدين:
.338/3
( )2القوانين الفقهية :ص .363
( )3غاية المنتهى 348/3 :وما بعدها.
( )4المقدمات الممهدات.236/3 :
( )7/412
( )7/413
( )7/414
وما جباه أهل البغي من البلد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر ،لم يأخذه المام ثانيا؛ لن ولية
الخذ له باعتبار الحماية ،ولم يحمهم .فإن صرف البغاة هذا المال في حقه ،أجزأ من أخذ منه لوصول
الحق إلى مستحقه ،وإن لم يكونوا صرفوه في حقه ،أفتي أهله فيما بينهم وبين ال تعالى أن يعيدوا
دفعه؛ لنه لم يصل إلى مستحقه (. )1
)3ـ عقوبة جرائم البغاة :
إذا قطع البغاة الطريق على أهل العدل من المسافرين ،فل يجب عليهم الحد؛ لنه يدعون إباحة
أموالهم عن تأويل ،ولهم منعة.
ولو سرق الباغي مال العادل ل يقطعه المام ،لعدم وليته على دار البغي ،ولخبر الزهري السابق
الذكر .وفي الجملة :ل تقام الحدود على البغاة عند الحنفية ،لعدم ولية المام على دار البغي.
ويوافقهم المالكية والحنابلة في عدم ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال ،ول تقام عليهم
الحدود (. )2
وقال الشافعي :يقطع الباغي إذا أصاب شيئا من أموال المسلمين ،ولو في داره؛ لنه جانٍ ،فيستوي
في حقه وجود المنعة وعدمها؛ لن الجاني يستحق التغليظ دون الخفيف.
وإذا سرق الباغي مال العادل في دار السلم يقطع ،وإن استحله؛ لنه ل
-------------------------------
( )1الكتاب مع اللباب.156/4 :
( )2القوانين الفقهية :ص ،364المغني.113/8 :
( )7/415
منعة له ( . )1وفي الجملة :حكم البغاة عند الشافعية في ضمان النفس والمال والحد في غير حال
الحرب حكم أهل العدل .وإن ارتكب الباغي جريمة القتل :الصحيح عندهم أنه ل يتحتم قتله ،ويجوز
العفو عنه ،لقول علي بعد أن جرحه ابن ملجم :أطعموه واسقوه واحبسوه ،فإن عشت فأنا ولي دمه،
أعفو إن شئت ،وإن شئت استقدت (. )2
)4ـ الفرق بين قتال البغاة وقتال المشركين :
البغاة باتفاق أئمة المذاهب كما عرفنا :هم الذين يخرجون على المام يبغون خلعه،أو منع الدخول في
طاعته ،أو يبغون منع حق واجب بتأويل في ذلك كله .وبهذا التأويل يمتازون عن المحاربين.
ويفترق حكم قتالهم عن قتال المشركين بأحد عشر وجها عند المالكية كما أبان القرافي المالكي (: )3
وهي أن يقصد بالقتال ردعهم ل قتلهم ،ويكف عن مدبرهم ،ول يجهز على جريحهم ،ول يقتل
أسراهم ،ول تغنم أموالهم ،ول تسبى ذراريهم ،ول يستعان على قتالهم بمشرك ،ول نوادعهم على
مال ،ول تنصب عليهم الرعّادات (المجانيق) ،ول تحرق عليهم البساتين ،ول يقطع شجرهم .والمعتمد
في المذهب المالكي :أن للمام أن يقاتل البغاة بالسيف والرمي بالنبل والمنجنيق والتغريق والتحريق
وقطع الميرة (التموين) والماء عنهم إل أن يكون فيهم نسوة أو ذراري ،فل نرميهم بالنار ،ول نسبي
ذراريهم وأموالهم؛ لنهم مسلمون.
وقتال الحربيين المشركين كقتال البغاة إل في خمسة أوجه:
يقاتلون أي الحربيون مدبرين ،ويجوز تعمد قتلهم ،ويطالبون بما استهلكوا من دم أو مال في الحرب
وغيرها ،ويجوز حبس أسراهم لستبراء أحوالهم ،وما أخذوه من الخراج والزكاة ل يسقط عمن كان
عليه كالغاصب إذا أخذ ذلك.
-------------------------------
( )1البدائع ،141/7 :تحفة الفقهاء ،252/3 :المهذب )2( .221/2 :المهذب ،221/2 :مغني المحتاج:
277/2 ،129/4وما بعدها.
( )3الفروق ،171/4 :وانظر أيضا القوانين الفقهية :ص ،364الشرح الكبير.299/4 :
( )7/416
سكْر والشربة
صلُ الخامِس :حدّ الشّرْب وحدّ ال ّ
ال َف ْ
خطة الموضوع :
سكْر بحسب اصطلح الحنفية ،ثم يأتي بيان رأي غيرهم ،في المباحث
الكلم عن حد الشرب وحد ال ّ
التية:
المبحث الول ـ تعريف حد الشرب وحد السكر ،وضابط السكر وشروط الحد ومقدار الحد.
المبحث الثاني ـ أنواع الشربة المحرمة والمباحة.
المبحث الثالث ـ أحكام الخمر.
المبحث الرابع ـ أحكام الشربة المسكرة غير الخمر.
المبحث الخامس ـ إثبات الشرب.
المبحث السادس ـ مخاطر المخدرات وأحكامها في السلم.
سكْر وشروط الحد ومقدار الحد :
المبحث الول ـ تعريف حد الشرب وحد السكر ،وضابط ال ّ
اعتبر الحنفية لشرب الشربة المحرمة نوعين من الحد ،وهما حد الشرب وحد السكر ،أما حد
الشرب :فهو الذي يجب بشرب الخمر خاصة ،حتى يجب الحد بشرب قليلها وكثيرها ،ول يتوقف
الوجوب على حصول السكر منها .قال صلّى ال عليه وسلم « :من شرب الخمر فاجلدوه)1( »..
والخمر كما سأبين :ماء العنب النيء المتخمر ،وسميت الخمر خمرا إما لنها تخمر العقل ،أي تستره،
وإما لنها تخامر العقل ،أي تخالطه ،وإما لنها تخمر نفسها لئل يقع فيها شيء يفسدها.
وأما حد السكر :فهو الذي يجب عند السكر الحاصل بشرب ما سوى الخمر من الشربة المعهودة
المسكرة ( ، )2التي سيأتي بيانها.
ولم يفرق جمهور الفقهاء بين شرب الخمر وغيرها ،فقالوا :كل شراب أسكر كثيره ،فقليله حرام ،وهو
خمر ،حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ،ووجوب الحد على شاربه ( ، )3لقول النبي صلّى ال
عليه وسلم « :كل مسكر خمر ،وكل خمر حرام» (. )4
-------------------------------
( )1روي عن اثني عشر صحابيا :وهم أبو هريرة ،ومعاوية ،وابن عمر ،وقبيصة بن ذؤيب،
وجابر ،والشريد بن سويد ،وأبو سعيد الخدري ،وعبد ال بن عمرو ،وجرير بن عبد ال البجلي ،وابن
مسعود ،وشرحبيل بن أوس ،وغطيف بن الحارث .فحديث أبي هريرة أخرجه أصحاب السنن إل
الترمذي ،وحديث معاوية أخرجوه إل النسائي ،وحديث ابن عمر وجابر أخرجهما النسائي ،وحديث
قبيصة رواه أبو داود ،وحديث الخدري رواه ابن حبان ،وحديث غطيف رواه البزار ،وأحاديث
الصحابة الخرين رواها الحاكم ،فهو متواتر (راجع نصب الراية 346/3 :وما بعدها ،جامع
الصول 333/4 :وما بعدها ،مجمع الزوائد ،277/6 :نيل الوطار.)146/7 :
( )2البدائع ،39/7 :تبيين الحقائق ،195/3 :فتح القدير.178/4 :
( )3بداية المجتهد ،434/2 :مغني المحتاج ،187/4 :المغني ،304/8 :المهذب ،286/2 :المنتقى
على الموطأ.147/3 :
( )4رواه بهذا اللفظ مسلم والدارقطني عن ابن عمر ،ورواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إل ابن
ماجه بلفظ« :كل مسكر خمر ،وكل مسكر حرام» وكذلك رواه ابن حبان وعبد الرزاق والدارقطني.
وروي عن صحابة آخرين مثل أنس بن مالك وعمر بن الخطاب ،وقرة بن إياس ،وقيس بن سعد بن
عبادة النصاري ،وميمونة ،وأبي موسى الشعري ،وغيرهم ،حتى إنه بلغ رواة هذا الحديث ستة
وعشرين صحابيا أحصيناها في تخريج أحاديث تحفة الفقهاء ،449/3 :فهو متواتر (وراجع أيضا
نصب الراية ،295/4 :التلخيص الحبير :ص ،359مجمع الزوائد ،57/5 :نيل الوطار.)173/8 :
( )7/417
سكْر :
ضابط ال ُ
قال أبو حنيفة :إن السكر الذي يتعلق به وجوب الحد ،والحرمة :هو الذي يزيل العقل ،بحيث ل يفهم
السكران شيئا ،ول يعقل منطقا ،ول يفرق بين الرجل والمرأة ،والرض من السماء؛ لن الحدود يؤخذ
في أسبابها بأقصاها درءا للحد ،لقوله عليه السلم« :ادرؤوا الحدود بالشبهات» .وبناء عليه اعتبر
غاية السكر وأكمله هو الموجب للحد.
وقال الصاحبان وباقي الئمة :السكران هو الذي يكون غالب كلمه الهذيان ،واختلط الكلم؛ لنه هو
السكران في عرف الناس وعادتهم ،فإن السكران في متعارف الناس اسم لمن هذى وخلط في كلمه،
ول يعرف ثوبه من ثوب غيره ،ول نعله من نعل غيره.
وقول الصاحبين مال إليه أكثر المشايخ ،وعليه الفتوى كما صرح صاحب تنوير البصار وغيره (
، )1وهو رأي غير الحنفية.
شروط الحد :
يشترط لحد المسكرات شروط ثمانية ( )2وهي:
الول ـ أن يكون الشارب عاقلً :فل يحد المجنون.
الثاني ـ أن يكون بالغا :فل يحد الصغير.
-------------------------------
( )1مختصر الطحاوي :ص ،278فتح القدير ،187/4 :البدائع ،118/5 :حاشية ابن عابدين:
.181/3
( )2القوانين الفقهية :ص ،361اللباب مع الكتاب ،193/3 :المهذب ،286/2 :المغني ،308/8 :غاية
المنتهى.330/3 :
( )7/418
الثالث ـ أن يكون مسلما :فل حد على الكافر في شرب الخمر ،ول يمنع منه.
الرابع ـ أن يكون مختارا غير مكره.
الخامس ـ أل يضطر إلى شربه لغصة.
السادس ـ أن يعلم أنه خمر :فإن شربه وهو يظنه شرابا آخر ،فل حد عليه.
السابع ـ أن يعلم أن الخمر محرمة ،فإن ادعى أنه ل يعلم ذلك ،فاختلف المالكية ،هل يقبل قوله أو
ل .وقال غيرهم :ل تقبل دعوى الجهل ممن نشأ بين المسلمين.
الثامن ـ أن يكون مذهبه تحريم ما شرب :فإن شرب النبيذ من يرى أنه حلل ،فاختلف العلماء :هل
عليه حد أو ل .وذكر الحنابلة أن الحد على المسكرات إنما يلزم من شربها إذا كان عالما أن كثيرها
يسكر ،فأما غيره فل حد عليه؛ لنه غير عالم بتحريمها ،ول قاصد إلى ارتكاب المعصية بها ،فأشبه
من زفت إليه غير زوجته .وهذا قول عامة أهل العلم.
مقدار الحد :
قال جمهور الفقهاء :حد الشرب والسكر ثمانون جلدة ( ، )1لقول علي رضي ال عنه« :إذا شرب
سكر ،وإذا سكر هذى ،وإذا هذى افترى ،وحد
-------------------------------
( )1فتح القدير ،185/4 :البدائع ،113/5 :تبيين الحقائق ،198/3 :بداية المجتهد ،435/2 :حاشية
الدسوقي ،353/4 :المنتقى على الموطأ ،143/3 :القوانين الفقهية :ص ،361المغني ،304/8 :نيل
الوطار.144/7 :
( )7/419
المفتري ثمانون» ( )1ولم ينكر عليه أحد ،فكان إجماعا (. )2
وقال الشافعية :حد الخمر وسائر المسكرات أربعون جلدة؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم لم يعين في
ذلك حدا ،وإنما كان يضرب السكران ضربا غير محدود ،كما روى أبو هريرة ( ، )3فقدروه
بأربعين .وروى أنس رضي ال عنه قال« :كان النبي صلّى ال عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد
والنعال أربعين» ( . )4وقال علي كرم ال وجهه« :جلد رسول ال صلّى ال عليه وسلم أربعين ،وأبو
بكر أربعين ،وعمر ثمانين ،وكلٌ سنة ،وهذا أحب إلي» ( . )5هذا وقد حرمت الخمر سنة ثمان من
الهجرة ،كما استظهره الحافظ ابن حجر في فتح الباري .ويضرب في حد الخمر باليدي والنعال
وأطراف الثياب،
-------------------------------
( )1رواه الدارقطني ومالك بمعناه والشافعي عنه عن ثور بن زيد الديلي رحمه ال ،وهو منقطع؛
لن ثورا لم يلحق عمر بل خلف .ولكن وصله النسائي والحاكم من وجه آخر عن ثور عن عكرمة
عن ابن عباس ،ورواه عبد الرزاق عن عكرمة ،ولم يذكر ابن عباس (راجع جامع الصول:
،331/4التلخيص الحبير :ص ،360نيل الوطار ،144/7 :وانظر في نصب الراية 351/3 :حديث
السائب بن يزيد وغيره في موضوعه).
( )2إن دعوى الجماع غير مسلّمة ،فقد اختلف الصحابة في حد الخمر قبل إمارة سيدنا عمر وبعدها،
ولم يثبت عن النبي عليه الصلة والسلم مقدار معين (نيل الوطار.)142/7 :
( )3رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة ،قال :أتي النبي صلّى ال عليه وسلم برجل قد
شرب ،فقال :اضربوه ،فقال أبو هريرة :فمنا الضارب بيده ،والضارب بنعله ،والضارب بثوبه ،فلما
انصرف ،قال بعض القوم :أخزاك ال .قال :ل تقولوا هكذا ،ل تعينوا عليه الشيطان (راجع نيل
الوطار )138/7 :ويؤيده حديث سيأتي تخريجه عن علي في ضمان موت الذي يعزر.
( )4رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أنس أن النبي صلّى ال عليه وسلم أتي برجل قد
شرب الخمر ،فجلده بجريدة نحو أربعين ...الحديث .وفي رواية «فجلد بجريدتين نحو أربعين» قال:
وفعله أبو بكر .والجريد :سعف النخل (راجع جامع الصول ،330/4 :نيل الوطار،138/7 :
التلخيص الحبير :ص .)360
( )5رواه مسلم من حديث حصين بن المنذر من قول علي (راجع نيل الوطار 138/7 :ومابعدها،
التلخيص الحبير :ص )360وراجع في الفقه :مغني المحتاج ،189/4 :المهذب 286/2 :وما بعدها،
السياسة الشرعية لبن تيمية :ص .105
على ظاهر النص ،لحديث أبي هريرة المتقدم .والسوط الذي يضرب به :سوط بين سوطين ،ول يمد
ول يجرد ،ول تشد يده؛ لما روي عن ابن مسعود رضي ال عنه أنه قال« :ليس في هذه المة مد ول
تجريد ،ول غَل ،ول صفد» وقد سبق تخريجه.
( )7/420
( )7/421
المرحلة الرابعة من مراحل التدرج في تشريع الخمر ،التي كان أولها{ :ومن ثمرات النخيل والعناب
تتخذون منه سكَرا ورزقا حسنا} [النحل ]16/67:وثانيها{ :يسألونك عن الخمر والميسر ،قل :فيهما إثم
كبير} [البقرة ]219/2:وثالثها { :لتقربوا الصلة وأنتم سكارى حتى تعلموا ماتقولون } [النساء]43/4:
والحكمة واضحة :و هي دفع الضرر والفساد عن الناس ،فالخمر أم الخبائث.
سكَر :هونقيع التمر الطري الذي لم تمسه النار ،أو هو النيء من ماء الرطب ( )1إذ غلى
- 2ال ّ
واشتد وقذف بالزبد ،وسكن غليانه عند أبي حنيفة.
وعند الصاحبين والئمة الخرين :إذا غلى ،ولم يسكن غليانه ،على الخلف السابق .ونبيذ التمر إذا لم
سكَر كما حقق قاضي زاده في نتائج الفكار.
يطبخ هو ال ّ
- 3الفضيخ :هو اسم للنيء من ماء البُسْر ( )2اليابس إذا غلى واشتد وقذف بالزبد ،أو لم يقذف،
على الختلف السابق .وسمي فضيخا؛ لنه يفضخ أي يكسر ويرض.
- 4نقيع الزبيب :هو اسم للنيء من ماء الزبيب المنقوع في الماء حتى خرجت حلوته ،من غير
طبخ ،واشتد وقذف بالزبد ،أو لم يقذف ،على الخلف السابق.
-------------------------------
( )1الرطب :ثمر النخيل إذا أدرك ونضج قبل أن يتتمر (المصباح المنير) والبلح أول ما يرطب من
البسر .وهكذا يكون أول ثمر النخيل :طَلْع ،ثم خَلَل ،ثم بلَح ،ثم بُسْر ،ثم رُطَب ،ثم َتمْر .والزهو:
ال ُبسْر الملون ،يقال :إذا ظهرت الحمرة والصفرة في النخل ،فقد ظهر فيه الزهو.
( )2البسر :ما قد أزهى من ثمر النخل ،ولم يبد فيه إرطاب ،والرطب ما قد جاوز حد البسر إلى
الرطاب ،والتمر اسم جنس يتناول اليابس والرطب والبسر (المصباح المنير ،المنتقى على الموطأ :
.)149/3
( )7/422
- 5الطلء أو المثلّث :هو اسم للمطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وصار مسكرا على
ما هو الصواب عند الحنفية ،فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا قصد بشر به اللهو والطرب ،كما
عليه حال الغلبية الساحقة من الشاربين ،فإن قصد بشربه التقوية أو التداوي ،وهذا نادر ،فيباح شربه
عندهما .ويحرم مطلقا عند الصاحبين وباقي الئمة.
- 6الباذَق أو المنصّف :هو المطبوخ أدنى طبخة من ماء العنب حتى ذهب أقل من الثلثين ،سواء
أكان أقل من الثلث أم النصف ،وصار مسكرا .والدليل على أن الزائد على الثلث حرام :هو ما ثبت
عن سيدنا عمر أنه أحل ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ،فما لم يذهب ثلثاه ،فالقوة المسكرة فيه قائمة.
- 7الجمهوري :هو الطلء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق ويعود إلى المقدار الذي كان في الصل،
ثم طبخ أدنى طبخة ،وصار مسكرا ،فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا قصد بشر به اللهو،
ويحرم مطلقا عند الصاحبين وبقية الئمة.
ثانيا ـ الشربة الحلل في رأي ضعيف هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف :أربعة إذا كان القصد من
شربها التقوي واستمراء الطعام والتداوي ،وهي ما يأتي (: )1
- 1نبيذ التمر والزبيب إن طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة :وهو أن يطبخ إلى أن ينضج أي أن
يطبخ طبخا يسيرا ،وحكمه أنه يحل شربه وإن اشتد إذا شرب منه بل لهو ول طرب ،وما لم يسكر.
فلو شرب ما يغلب على ظنه أنه مسكر فيحرم القدح الخير الذي يسكر بشربه؛ لن السكر حرام من
كل شراب.
- 2الخليطان من الزبيب والتمر إذا طبخ أدنى طبخة ،وإن اشتد :يحل شربه بل لهو ،كأن يكون
بقصد التقوي أو استمراء الطعام.
-------------------------------
( )1حاشية ابن عابدين.322/3 :
( )7/423
- 3نبيذ العسل والتين والبُر والذرة :يحل سواء طبخ أو ل ،بل لهو وطرب .ويسمى نبيذ العسل
جعَة ) إذا صار مسكرا .ويسمى نبيد
( البِتْع ) إذا صار مسكرا .ويسمى نبيذ الحنطة والشعير ( ال ِ
الذرة ( المِرز ) إذا صار مسكرا ،وهي مع ذلك حلل عند أبي حنيفة فيما دون السكار ( ، )1كما
سيأتي بيانه.
- 4الطلء أو المثلث العنبي وإن اشتد :وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه ،وبقي ثلثه :يحل
شربه إذا قصد به استمراء الطعام والتداوي والتقوي على طاعة ال عند أبي حنيفة وأبي يوسف
رضي ال عنهما.
والرأي المختار عند الحنفية في حكم شرب هذه النواع الربعة :هو الحرمة مطلقا ،عملً برأي
محمد ،كما سيبين.
المبحث الثالث ـ أحكام الخمر :
يتعلق بالخمر الحكام التالية (: )2
- 1يحرم شرب قليلها وكثيرها إل عند الضرورة؛ لنها محرمة العين .قال ال تعالى{ :إنما الخمر
والميسر والنصاب والزلم رجسٌ من عمل الشيطان} [المائدة ]90/5:فوصفها الحق تعالى بكونها
رجسا ،فيدل على أنها محرمة في نفسها.
-------------------------------
( )1البدائع.117/5 :
( )2المبسوط 2/24 :وما بعدها ،البدائع 112/5 :ومابعدها ،نتائج الفكار 155/8 :وما بعدها ،حاشية
ابن عابدين ،319/5 :القوانين الفقهية :ص ،361المهذب 286/2 :وما بعدها ،المغني 304/8 :وما
بعدها.
( )7/424
( )7/425
وقال صلّى ال عليه وسلم أيضا« :لعن ال الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها
ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها» (. )1
- 2يكفر مستحلها؛ لن حرمتها ثبتت بدليل مقطوع به ،وهو نص القرآن الكريم في الية السابقة:
{إنما الخمر والميسر والنصاب والزلم ( )2رجس من عمل الشيطان ،فاجتنبوه ،لعلكم تفلحون}
[المائدة.]90/5:
- 3يحرم على المسلم تمليكها بسائر أسباب الملك من البيع والشراء والهبة وغيرها؛ لن كل ذلك
انتفاع بالخمر ،وإنها محرمة النتفاع على المسلم .قال النبي عليه الصلة والسلم« :يا أهل المدينة،
إن ال تبارك وتعالى قد أنزل تحريم الخمر ،فمن كتب هذه الية ،وعنده شيء منها ،فل يشربها ،ول
يبيعها ،فسكبوها في
-------------------------------
( )1رواه أبو داود عن ابن عمر ،وصححه ابن السكن ،ورواه ابن ماجه وزاد« :وآكل ثمنها» وفي
موضوعه عن أنس بن مالك وزاد« :وعاصرها والمشتري لها والمشترى له» رواه الترمذي وابن
ماجه ورواته ثقات .وعن ابن عباس رواه أحمد وابن حبان والحاكم ،وعن ابن مسعود ذكره ابن أبي
حاتم في العلل ،ورواه البزار والطبراني وفيه ضعيف .وعن أبي هريرة مرفوعا« :إن ال حرم الخمر
وثمنها ،وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه» رواه أبو داود ،وعن عبد ال بن عمر (راجع
التلخيص الحبير :ص ،359مجمع الزوائد )73/5 :وفي بعض ألفاظه« :لعن رسول ال صلّى ال
عليه وسلم الخمر وشاربها...الحديث» .
( )2الميسر :القمار ،قال مجاهد :كل شيء فيه قمار فهو ميسر ،حتى لعب الصبيان بالجوز.
والنصاب جمع نصب بفتح النون وضمها ،وهوحجر أو صنم منصوب يذبحون عنده .والزلم:
القداح ،واحدها زلم ـ بفتح الزاي وضمها ـ وهي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها على
الميسر .والرجس :العذاب أو القذر والنتن ،وسميت الصنام رجسا لنها سبب الرجس وهو العذاب.
( )7/426
طرق المدينة» ( )1وقال صلّى ال عليه وسلم « :إن الذي حرم شربها حرم بيعها» ( ، )2إل أنها
تورث؛ لن الملك في الموروث ثبت شرعا من غير صنع العبد ،فل يكون ذلك من باب التمليك
والتملك ،والخمر إن لم تكن متقومة ،فهي مال قابل للملك في الجملة.
- 4ل يضمن متلفها إذا كانت لمسلم؛ لنها ليست متقومة في حق المسلم ،وإن كانت مالً في حقه.
- 5إنها نجسة نجاسة مغلظة ،حتى إذا أصاب الثوب ـ في رأي الحنفية ـ أكثر من قدر الدرهم،
يمنع جواز الصلة؛ لن ال تعالى سماها رجسا ،فقال سبحانه{ :رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}
[المائدة .]90/5:والظاهر أن المراد من كلمة ( رجس ) هو النجاسة المعنوية الشرعية ( ، )3إل أن
المر بالجتناب يقتضي البتعاد عن الخمر ابتعادا شديدا ،وقد حكم الجمهور بنجاسة الخمر وسائر
المسكرات المائعة فوق تحريم شربها تنفيرا وتغليظا ،وزجرا عن القتراب منها ( ، )4يدل لنجاستها
حديث أبي ثعلبة الخشني قال :يا رسول ال ،إنا بأرض أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال (:إن وجدتم
غيرها فل تأكلوا فيها ،وإن لم
-------------------------------
( )1الحاديث في تحريم الخمر متواترة ،منها :ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري بلفظ« :إن ال
حرم الخمر ،فمن أدركته هذه الية ،وعنده منها شيء ،فل يشرب ول يبيع ،قال :فاستقبل الناس بما
كان عندهم منها طرق المدينة ،فسفكوها» ومنها ما أخرجه المام أحمد عن عائشة« :كل مسكر
حرام ،وما أسكر منه الفرق ،فملء الكف منه حرام» والفَرق بإسكان الراء :مئة وعشرون رطلً،
وبفتحها ستة عشر رطلً .ومنها ما أخرجه المام أحمد وأصحاب السنن الربعة وصححه ابن حبان
عن جابر« :ما أسكر كثيره ،فقليله حرام» ( .راجع نيل الوطار ،169/8 :نصب الراية 296/4 :وما
بعدها ،مجمع الزوائد ،51/5 :فيض القدير.)420/5 :
( )2أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عباس ،ورواه الحميدي في مسنده عن أبي هريرة (راجع
نيل الوطار ،المرجع السابق).
( )3تفسير المنار.58/7 :
( )4الفقه على المذاهب الربعة ،18/1 :حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلي على المنهاج:
.68/1
( )7/427
تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها ) .وفي رواية أبي داود« :إنا نجاور أهل الكتاب ،وهم يطبخون في
قدورهم الخنزير ،ويشربون في آنيتهم الخمر ،فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم :إن وجدتم غيرها
فكلوا اشربوا ،وإ ن لم تجدوا غيرها فارحضوها (اغسلوها) بالماء ،وكلوا اشربوا» ( . )1قال
الشوكاني :والمر بغسل النية في حديث أبي ثعلبة ليس لتلوثها برطوباتهم بل لطبخهم الخنزير،
وشربهم الخمر فيها.
ولو سقيت بهيمة خمرا ثم ذبحت ،فإن ذبحت ساعة ما سقيت به تحل من غير كراهة؛ لنها في
أمعائها ،فتطهر بالغسل ،وإن مضى عليها يوم أو أكثر ،تحل مع الكراهة عند الحنفية ،لحتمال أنها
تفرقت في العروق والعصاب.
ولو نقعت فيها الحنطة ،ثم غسلت ،حتى زال طعمها ورائحتها ،يحل أكلها .وإن وجد فيها طعم الخمر
ورائحتها ،ل يحل أكلها.
- 6يحد شاربها قليلً أو كثيرا ،لقوله عليه الصلة والسلم« :ما أسكر كثيره فقليله حرام» ()2
ولجماع الصحابة رضي ال عنهم على ذلك (. )3
-------------------------------
( )1أخرجه الدارقطني (نصب الراية ،95/1 :نيل الوطار.)19/1 :
( )2روي عن تسعة من الصحابة :وهم عبد ال بن عمرو ،وجابر ،وسعد بن أبي وقاص ،وعلي،
وعائشة ،وابن عمر ،وخوات بن جبير ،وزيد بن ثابت ،وأنس بن مالك ،فحديث ابن عمرو رواه
النسائي وابن ماجه وغيرهما ،وحديث جابر أخرجه الدارقطني وأحمد وأصحاب السنن الربعة
وصححه ابن حبان ،وحديث عائشة أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما ،وحديث ابن عمر رواه
إسحاق بن راهويه في مسنده والطبراني في معجمه ،وحديث خوات بن جبير أخرجه الحاكم وغيره،
وحديث سعد رواه النسائي والدارقطني ،وحديث علي أخرجه الدارقطني ،وحديث زيد رواه الطبراني
في معجمه ،وحديث أنس رواه أحمد وأبو يعلى وغيرهما فهو متواتر( .راجع نصب الراية301/4 :
وما بعدها ،مجمع الزوائد 56/5 :وما بعدها ،التلخيص الحبير :ص ،359سبل السلم ،35/4 :نيل
الوطار.)179/8 :
( )3تفسير المنار.77/7 :
( )7/428
ولو شرب خمرا ممزوجا بالماء :إن كانت الغلبة للخمر ،يجب الحد ،وإن غلب الماء عليها حتى زال
طعمها وريحها ل يجب الحد ،إل أنه يحرم شرب الماء الممزوج بالخمر ،لما فيه من أجزاء الخمر
حقيقة.
- 7إن حد شرب الخمر وحد السكر مقدر بثمانين جلدة في الحرار،لفعل الصحابة رضي ال عنهم،
وقياسهم على حد القذف كما عرفنا ،وهذا رأي الجمهور ،وقال الشافعية :حد الخمر أو المسكر على
الحرار أربعون جلدة؛ لن عثمان رضي ال عنه جلد الوليد بن عقبة أربعين ،وقال علي :جلد رسول
ال صلّى ال عليه وسلم في الخمرأربعين ،وأبو بكر أربعين ،وعمر ثمانين ،وكل سُنّة (. )1
- 8إذا تخللت الخمر بنفسها يحل شرب الخل بل خلف ،لقوله عليه الصلة والسلم« :نعم
-------------------------------
( )1أخرج البيهقي قصة جلد الوليد ،وأخرج مسلم عن حصين بن المنذر قول علي كرم ال وجهه.
( )2رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الربعة عن جابر بن عبد ال ،وأخرجه مسلم والترمذي عن
عائشة ،وأخرجه الحاكم عن أم هانئ ،ورواه البيهقي عن أم أيمن .وفي لفظ« :نعم الدم الخل» (راجع
نصب الراية ،310/4 :المقاصد الحسنة :ص ،447الجامع الصغير.)188/2 :
( )7/429
الدام الخل» ( . )2ويعرف التخلل بالتغير من المرارة إلى الحموضة بحيث ل يبقى فيها مرارة أصلً
عند أبي حنيفة ،فلو بقي فيها بعض المرارة ل يحل؛ لن الخمر عنده ل يصير خلً إل بعد تكامل
معنى الخلّية فيه ،كما ل يصير خمرا إل بعد تكامل معنى الخمرية.
وقال الصاحبان :تصير الخمر خلً بظهور قليل الحموضة فيها ،اكتفاء بظهور دليل الخلية فيه ،كما
أن الخمر تصير خمرا بظهور دليل الخمرية عندها.
أما إذا خلل الخمر صاحبها بإلقاء علج فيها من خل أو ملح أو غيرهما ،حتى صارت حامضا ،فيحل
شربها ،ويكون التخليل جائزا عند الجمهور ،قياسا على دبغ الجلد ،فإن الدباغ يطهره ،ولقوله عليه
السلم« :خير خلكم خل خمركم» ( )1وقوله أيضا« :نعم الدام الخل» ولم يفصل بين تخلل الخمر
بنفسها والتخليل ،ولن التخليل يزيل الوصف المفسد ،ويجعل في الخمر صفة الصلح ،والصلح
مباح.
وإذا صارت الخمر خلً يطهر ما يجاورها من الناء ،ويطهر أعلى الناء إذا غسل بالخل .وقيل:
يطهر تبعا ،وهو المفتى به (. )2
وقال الشافعي :ل يحل التخليل بالعلج ،ول تطهر الخمر حينئذ ،لننا مأمورون باجتنابها ،فيكون
التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول ،وهو مخالف للمر بالجتناب ،ولن الشيء المطروح في
الخمر يتنجس بملقاتها ،فينجسها بعد انقلبها خلً (. )3
-------------------------------
( )1رواه البيهقي في المعرفة عن جابر وقال :تفرد به المغيرة بن زياد ،وليس بالقوي .ويلحظ أن
أهل الحجاز يسمون خل العنب خل الخمر (راجع نصب الراية.)311/4 :
( )2المبسوط ،7/24 :البدائع 113/5 :وما بعدها ،نتائج الفكار ،166/8 :حاشية ابن عابدين:
.320/5
( )3حاشية قليوبي وعميرة على شرح الجلل المحلي على المنهاج للنووي.72/1 :
( )7/430
وإذا نقلت الخمر من الظل إلى الشمس أو بالعكس ،فتخللت ،تحل عند الجمهور ،وكذا عند الشافعية في
الصح.
المبحث الرابع ـ أحكام الشربة المسكرة غير الخمر :
هذه الشربة ثلث فئات:
سكَر والفضيح النيء والباذق المطبوخ ونقيع الزبيب والتمر
الفئةالولى ـ غير المطبوخ غالبا :وهو ال ّ
من غير طبخ :
أي نقيع التمر إذا اشتد وقذف بالزبد أو الذي طبخ من ماء العنب ،فذهب أقل من ثلثيه ،ونقيع التمر
والزبيب إذا اشتد بغير طبخ ،فهذه هي الفئة الولى التي يتعلق بها الحكام التالية (: )1
- 1يحرم شرب قليلها وكثيرها باتفاق العلماء ،لقوله عليه السلم« :الخمر من هاتين الشجرتين» ()2
.وأشار إلى النخلة والعنبة ،وهذه الفئة إما من التمر أو من العنب ،ولنه إذا ذهب أقل من الثلثين
بالطبخ ،فالحرام فيه باق ،وهو مازاد على الثلث.
- 2ل يكفر مستحلها ،ولكن يضلل؛ لن حرمتها دون حرمة الخمر ،لثبوتها بدليل غير مقطوع به
من أخبار الحاد ،وآثار الصحابة رضي ال عنهم.
-------------------------------
( )1البدائع 114/5 :وما بعدها ،نتائج الفكار 158/8 :وما بعدها ،المبسوط.4/24 :
( )2أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الربعة أي الجماعة إل البخاري عن أبي هريرة عن النبي
صلّى ال عليه وسلم قال« :الخمر من هاتين الشجرتين :النخلة والعنبة» (راجع نصب الراية:
،295/4نيل الوطار.)172/8 :
( )7/431
- 3ل يحد عند الحنفية بشرب قليلها ،وإنما يجب الحد بالسّكر منها؛ لن نص الحديث السابق:
سكَر من كل شراب» حرم السكر وجعله كحرمة الخمر،والمعاني التي حرم من أجلها الخمر في
«وال َ
قوله تعالى{ :إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ،ويصدكم عن
ذكر ال وعن الصلة ،فهل أنتم منتهون} [المائدة ]91/5:هذه المعاني تحصل بالسكر من كل شراب.
لهذا قال علي رضي ال عنه« :فيما أسكر من النبيذ ثمانون ،وفي الخمر قليلها وكثيرها ثمانون » .
- 4مقدار الحد :ثمانون جلدة عند الجمهور كما عرفنا ،وأربعون جلدة عند الشافعية.
- 5يحرم التداوي بها ،سئل ابن مسعود رضي ال عنه عن التداوي بالمسكر،فقال« :إن ال تبارك
وتعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (. )1
- 6يجوز بيعها عند أبي حنيفة مع الكراهة ،ويضمن متلفها؛ لن البيع مبادلة شيء مرغوب فيه
بشيء مرغوب فيه ،وهذه الشربة مرغوب فيها ،إل أن الخمر مع كونها مرغوبا فيها ل يجوز بيعها
بنص الحديث السابق« :يا أهل المدينة ،إن ال تبارك وتعالى قد أنزل تحريم الخمر ،فمن كتب هذه
الية ،وعنده شيء منها ،فل يشربها ول يبيعها» والنص ورد في الخمر ،فيقتصر على مورد النص.
وأيضا لن الخبار تعارضت في هذه الشربة في الحل والحرمة ،قال أبو حنيفة بحرمة شربها
احتياطا ،ولكن ل تبطل ماليتها احتياطا؛ لن الحتياط ليجري في إبطال حقوق الناس.
-------------------------------
( )1رواه عبد الرزاق والطبراني في معجمه وابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال« :إن ال لم يكن
ليجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» وذكره البخاري تعليقا عن ابن مسعود ،وأخرجه البيهقي وابن حبان
وصححه ،وأخرجه أيضا أحمد عن أم سلمة رضي ال عنها عن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :إن
ال لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ،وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء ،قال :قال رسول ال صلّى
ال عليه وسلم « :إن ال أنزل الداء والدواء ،وجعل لكل داء دواء ،فتداووا ،ول تتداووا بحرام»
وروى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان عن وائل بن حجر أن طارق
بن سويد سأل النبي صلّى ال عليه وسلم عن الخمر ،فنهاه عنها ،فقال :إنما أصنعها للدواء ،قال« :
إنه ليس بدواء ،ولكنه داء» (راجع نصب الراية ،299/4 :التلخيص الحبير :ص ،359مجمع
الزوائد ،72/5 :نيل الوطار ،203/8 :سبل السلم.)36/4 :
( )7/432
وقال الصاحبان :ل يجوز بيعها أصلً ،ول يضمن متلفها ،لعدم كونها مالً متقوما؛ لن المال المتقوم:
هو ما يباح النتفاع به حقيقةً وشرعا ،وهي ل يباح النتفاع بها.
- 7في نجاستها روايتان عن أبي حنيفة :رواية راجحة تعتبر نجاستها مغلظة كنجاسة الخمر؛ لنه
يحرم شرب قليلها وكثيرها ،فل يعفى عنها أكثر من قدر
الدرهم ،ورواية تعتبر نجاستها مخففة فيعفى عنها ما دون ربع الثوب عند الحنفية؛ لن نجاسة الخمر
إنما ثبتت بالشرع ،بقوله تعالى{ :رجس} [المائدة ]90/5:فتختص النجاسة باسم الخمر .وعن أبي
يوسف :أن الكثير الفاحش :هو النجس؛ لن حرمتها دون حرمة الخمر ،واختار السرخسي أن نجاسة
السكر ونقيع الزبيب مخففة ،والمفتى به أن نجاستها كالخمر (. )1
( )7/433
الفئة الثانية ـ المطبوخ وهو المثلث (أو الطلء) والجمهوري والمطبوخ من الزبيب والتمر أدنى طبخ
:
أي أن عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه ،ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ ،وإن لم يذهب ثلثاه ،فهذه هي
الفئة الثانية.
المثلث :وهو المطبوخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي معتقا ،حكمه وحكم الجمهوري والمطبوخ
من الزبيب والتمر أدنى طبخ ،أي وإن لم يذهب ثلثاه :أنه يحل شرب القليل منه ،ويحرم المسكر منه
وهو القدح الخير الذي يسكر ،فإذا سكر يجب الحد ،ويجوز بيعه وتمليكه ويضمن متلفه ،وهذا عند
أبي حنيفة وأبي يوسف ،ودليلهما حديث وآثار :أما الحديث فهو ما روي عن ابن عمر أن النبي صلّى
ال عليه وسلم أتي بنبيذ فشمه ،فقطب وجهه لشدته ،ثم دعا بماء ،فصبه عليه وشرب منه (. )2
-------------------------------
( )1نتائج الفكار ،160/8 :البدائع ،115/5 :رد المحتار.321/5 :
( )2رواه الطبراني وفيه هود بن عطاب وهو ضعيف ،ويؤيده ما رواه الطبراني عن المطلب بن أبي
وداعة وفيه رجل ضعيف :أن النبي أتي بإناء فصب عليه الماء ،حتى تدفق ،ثم شرب منه ،وروى
العقيلي عن علي ،قال« :طاف النبي صلّى ال عليه وسلم بين الصفا والمروة أسبوعا ،ثم استند إلى
حائط من حيطان مكة ،فقال :هل من شربة؟ فأتي بقعب من نبيذ ،فقطب ،ورده ،فقام إليه رجل من آل
حاطب ،فقال :يا رسول ال ،هذا شراب أهل مكة ،قال :فصب عليه الماء ،ثم شرب ،ثم قال :حرمت
سكَر من كل شيء» وأعله بمحمد بن الفرات وهو منكر الحديث (راجع نصب الراية:
الخمر بعينها وال ّ
،306/4مجمع الزوائد.)66/5 :
( )7/434
وأما الثار ،فمنها ماروي عن سيدنا عمر رضي ال عنه أنه كان يشرب النبيذ الشديد ،ومنها :ما
روي عن سيدنا علي رضي ال عنه أنه أضاف قوما فسقاهم ،فسكر بعضهم ،فحده ،فقال الرجل:
سكْر ( . )1والحقيقة أن هذا الخبر غير صحيح؛ لن في
تسقيني ثم تحدني؟ فقال علي :إنما أحدك لل ّ
سنده مدلسا وضعيفا.
وقد اعتبر أبو حنيفة حل المثلث من علمة مذهب أهل السنة والجماعة ،فقال :السنة أن تفضل
الشيخين ،وتحب الخَتَنين (أي الصهرين) وتمسح على الخفين ،ول تحرم نبيذ الجَرّ ،أي المثلث أو
الطلء .والحل محصور في القليل منه أو إذا قصد به التقوي على الطاعة ،أو التداوي ،أو استمراء
الطعام ،أما إذا قصد به التلهي ،فيحرم.
وقال محمد :ل يحل شرب هذين الشرابين ،ولكن ل يجب الحد ما لم يسكر ،لقوله عليه السلم« :ما
أسكر كثيره فقليله حرام» وبرأيه يفتى عند الحنفية.
وقال الشافعية والمالكية والحنابلة :كل شراب أسكر كثيره حرم قليله ،وحد شاربه إذا كان مكلفا
مختارا ،لقوله عليه السلم« :كل مسكر خمر ،وكل خمر حرام» وقوله أيضا «أنهاكم عن قليل ما
أسكر كثيره» وصحح الترمذي« :ما أسكر كثيره فقليله حرام» (. )2
-------------------------------
( )1المبسوط ،15/24 :البدائع ،116/5 :نتائج الفكار 162/8 :وهذا الحديث أخرجه الدارقطني في
سننه ،ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الشعبي .وروى الدارقطني مثل ذلك عن عمر رضي ال
عنه ،ورواه العقيلي في كتابه عن عمر أيضا ،وله طرق أخر عند ابن أبي شيبة ،وفي الطراف،
وعند عبد الرزاق في مصنفه (راجع نصب الراية )350/3 :ويلحظ أن هذه القصة غير ثابتة.
( )2مغني المحتاج ،187/4 :المهذب ،286/2 :بداية المجتهد 434/2:وما بعدها ،المغني.304/8 :
( )7/435
الفئة الثالثة ـ الشربة الحلل في رأي ضعيف :وهي خليط الزبيب والتمر المطبوخ ،والمتخذ من
غير العنب والتمر :
الشربة الربعة الحلل التي ذكرت كالخليطين والمِزْر والجِعة والبِتْع والمثلث بقصد التداوي يحل
شربها بل لهو ول طرب ،قليلً كان أو كثيرا إذا شرب مال يسكره ،ول يحد شاربها ،وإن سكر منها،
وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لنه ليس في هذه الشربة معنى الخمرية ،إذ ل شدة فيها ،ولنه
عليه السلم قال« :الخمر من هاتين الشجرتين :يعني النخلة والكرمة» ذكر صلّى ال عليه وسلم
الخمر بلم الجنس ،فاقتضى اقتصار الخمرية على ما يتخذ من هاتين الشجرتين .وإنما ل يجب الحد
وإن سكر منه؛ لنه سكر حصل بتناول شيء مباح ،فل يوجب الحد ،كالسكر الحاصل من تناول
البنج ،بخلف ما إذا سكر بشرب المثلث ،فإنه يجب الحد؛ لن السكر فيه حصل بتناول المحظور وهو
القدح الخيرة.
وخلصة الفرق بين هذه الفئات الثلث :أن الفئة الولى يحرم قليلها وكثيرها ويجب الحد بالسكر
منها ،وأن الثانية يحرم المسكر منه فقط ويجب الحد بالسكر ،وأما الثالثة فيحل شربها للتداوي
والتقوي ،وإن سكر منها ،ول حد فيها وإن سكر منها عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقد حرم محمد رحمه ال تعالى هذه الشربة الربعة التي هي حلل عند الشيخين :وهي المتخذة من
العسل والتين ونحوهما قليلها وكثيرها ،والصح أنه يحد شاربها بالسكر منها ،وبه يفتى في المذهب
الحنفي ( ، )1وقال الئمة الثلثة:
-------------------------------
( )1يظن بعض شاربي البيرة ونحوها أن قليلها حلل في مذهب الحنفية .والواقع أن قليلها وكثيرها
حرام في كل المذاهب وبإجماع آراء الحنفية ،لن الخلف فيما يسمى بالشربة الحلل محصور فيما
قصد بشربه تقوية البدن الضعيف .أما إذا كان يؤخذ للهو والتسلية كما يفعل هؤلء الشاربون فهو
حرام كالكثير تماما ،ولو قطرة واحدة (الفقه على المذاهب الربعة 2 :حاشية ص 7بتصرف).
( )7/436
يحد بشرب القليل منها والكثير ( )1لقوله عليه الصلة والسلم« :كل مسكر خمر ،وكل خمر حرام»
وقوله« :ما أسكر كثيره فقليله حرام» وقوله« :كل شراب أسكر فهو حرام» وقوله صلّى ال عليه
وسلم أيضا« :إن من العنب خمرا ،وإن من العسل خمرا ،ومن الزبيب خمرا ،ومن الحنطة خمرا،
ومن التمر خمرا ،وأنا أنهاكم عن كل مسكر» (. )2
الحشيش والفيون والبنج (: )3
يحرم كل ما يزيل العقل من غير الشربة المائعة كالبنج والحشيشة والفيون ،لما فيها من ضرر
محقق ،ول ضرر ول ضرار في السلم ،ولكن ل حد فيها؛ لنها ليست فيها لذة ولطرب ،ول يدعو
قليلها إلى كثيرها ،وإنما فيها التعزير لضررها ،ولما رواه أبو داود عن أم سلمة رضي ال عنها
قالت« :نهى رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر» .
ويحل القليل النافع من البنج وسائر المخدرات للتداوي ونحوه؛ لن حرمته ليست لعينه ،وإنما لضرره
( . )4
القهوة والدخان :سئل صاحب العباب الشافعي عن القهوة ،فأجاب :للوسائل حكم المقاصد ،فإن قصدت
للعانة على قربة كانت قربة ،أو مباح فمباحة ،أو مكروه فمكروهة ،أو حرام فمحرمة .وأيده بعض
الحنابلة على هذا التفصيل.
-------------------------------
( )1انظر نيل الوطار ،140/7 :البدائع ،117/5 :نتائج الفكار 160/8 :وما بعدها ،حاشية ابن
عابدين 322/5 :وما بعدها.
( )2رواه أحمد وأصحاب السنن إل النسائي عن النعمان بن بشير ،زاد أحمد وأبو داود« :وأنا أنهى
عن كل مسكر» (راجع التلخيص الحبير :ص ،359مجمع الزوائد ،56/5 :نيل الوطار.)173/8 :
( )3البَنج :يسمى في العربية شيكران :وهونبات يصدع ويسبت ،ويخلط العقل .والفيون :عصارة
الخشخاش .والحشيشة :ورق القنب الهندي.
( )4مغني المحتاج ،187/4 :حاشية ابن عابدين ،325/5 :المبسوط ،9/24 :فتح القدير.184/4 :
( )7/437
وقال الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي صاحب غاية المنتهى :ويتجه حل شرب الدخان والقهوة،
والولى لكل ذي مروءة تركهما (. )1
والواقع ،ل تقل مرتبة التدخين عن الكراهة أو الكراهة التحريمية ،وقد يصبح التدخين حراما إذا ثبت
ضرره بالنفس أو المال أو كان المدخن محتاجا إلى المال لنفاقه على قوته أو قوت أهله أو ملبسه أو
ملبس أهله وعياله.
وقد حرم الباضية التبغ؛ لنه من الخبائث ،وأصدرت دولة إيران عام 1991م أمرا بمنعه وتحريمه
ومنع توظيف المدخنين ،وقد ذكر الشيخ محمد بن جعفر الكتاني في كتابه :حكم التدخين عند الئمة
الربعة وغيرهم ( )2سبعة عشر دليلً على تحريم الدخان ،وأبان المفاسد الكثيرة المترتبة على
الدخان ،وأورد فتاوى علماء المذاهب السلمية بالتحريم ،وناقش أدلة المبيحين بالتحريم.
وتلك الدلة بإيجاز:
- 1الدخان من الخبائث المحرمة بنص الكتاب ،والخبائث :كل ما تستكرهه النفوس وتنفر منه.
- 2الدخان مضرّ بالبدان ضررا بيّنا ل شك فيه ،ول شبهة الن عند الحكماء وهو من أهم أسباب
سرطان الرئة والقلب وغير ذلك من المراض الخطيرة أو المنتنة.
- 3الدخان مؤذ بدخانه الخبيث ورائحته المنتنة لمن ل يتعاطاه من زوجة أو زوج وصاحب.
-------------------------------
( )1غاية المنتهى.331/3 :
( )2توزيع مكتبة الغزالي بدمشق ،طبع عام 1411هـ ـ 1990م وعنوان الكتاب «إعلن الحجة
وإقامة البرهان على منع ما عمّ وفشا من استعمال عُشبة الدخان» .
( )7/438
- 4الدخان مؤذ برائحته ونتنه للحفظة الكرام الكاتبين وغيرهم من الملئكة المكرمين.
- 5الدخان مضر بدِين صاحبه ،شاغل له عن سلوك المسالك التي يرتقي بها.
- 6الدخان فيه إفساد للجسم والبدن وتخدير له وتفتير بالتجربة والمشاهدة.
- 7الدخان مع كونه مفترا ،أي مخدرا للجفون والطراف ،قد يحصل السكار منه لبعض الناس في
ابتداء التعاطي ،وقد نهى النبي صلّى ال عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر.
- 8فيه إسراف وتبذير ،وهو إضاعة المال من أي نوع كان بإتلفه وإنفاقه في غير فائدة دينية ول
مصلحة دنيوية.
- 9إنه مصادم للفطرة النسانية ،مؤد إلى تردد القلب وقلقه واضطرابه ،فهو مشكوك ومشتبه فيه،
ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ،والبر :ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب.
- 10إنه يؤدي إلى أكل المحروق وتسرب أجزاء منه محروقة للحلق كلما تناول المدخن شيئا منه.
- 11فيه أكل النار الممتزجة بالحطب الذي هو ورقه ،أي من جذبه إلى جوفه.
- 12فيه إفساد مزاج من طبعه السوداء أو الصفراء؛ لنه يجفف الرطوبات البدنية ويحرقها.
- 13فيه عبث ولهو ،وهو حرام عندالحنفية.
- 14نهى عنه ملوك السلم وسلطينه في الترك والمغرب والسودان وغيرهم ،بل وملوك أوروبا.
- 15إنه من البدع ومحدثات المور بعد القرون الثلثة المشهود بخيريتها وفضلها ،بل بعد القرون
العشرة ،أخرج أبو داود من حديث العرباض بن سارية« :إياكم ومُحْدَثات المور ،فإن كل محدثة
بدعة ،وكل بدعة ضللة ،وكل ضللة في النار» .
( )7/439
- 16فيه غول ،وهو ما يعتري شاربه بتركه من القلق والفساد والذى في عقله ومزاجه وحواسه،
وبسببه يعود له ول يقدر على الترك ،وكل ما فيه غول يغتال العقول ويضعف الرادة يمنع منه،
بدليل وصف الحق تعالى خمر الجنة بأنها {ل فيها غول} [الصافات.]47/37:
- 17ما كان مشكوكا فيه أحرام هو أم حلل ،ولم نجد فيه نصا عن النبي صلّى ال عليه وسلم،
يعمل فيه بعمل أهل التقوى والورع واجتناب المشتبهات.
المبحث الخامس ـ إثبات شرب الخمر ونحوها :
اتفق جمهور الفقهاء على أن شرب الخمر ونحوها يثبت بشهادة رجلين مسلمين عدلين يشهدان أنه
مسكر أو بالقرار مرة واحدة ،ول تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال .ويكفي في إقرار وشهادة أن
يقال :شرب فلن خمرا.
وقال أبو يوسف وزفر :يشترط في القرار هنا كما في السرقة :أن يكون مرتين بمجلسين ،اعتبارا
لعدد القرار بعدد الشهود.
ول يعتبر القرار والشهادة بعد ذهاب الرائحة وتقادم العهد عند أبي حنيفة وأبي يوسف .وقال محمد:
يحد بالقرار أو الشهادة بعد ذهاب الرائحة ،ولكن دون شهر في الشهادة.
واختلفوا في إثبات الشرب بالرائحة :
فقال المالكية :يجب الحد بالرائحة إذا شمها شاهدان عدلن في فمه أو تقيأها ،وشهدا بذلك عند الحاكم؛
ل وجد منه رائحة الخمر ( ، )1وتشبيها للشهادة على الرائحة بالشهادة على
لن ابن مسعود جلد رج ً
الصوت (. )2
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة :ل حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها؛ لن الرائحة يحتمل
أنه تمضمض بها أو حسبها ماء ،فلما صارت في فمه مجها ،أو ظنها ل تسكر ،أو كان مكرها أو
مضطرا أو غالطا ،أو شرب شراب التفاح ،فإنه يكون منه كرائحة الخمر ،وإذا احتمل ذلك لم يجب
الحد بالشك؛ لن الحد يدرأ بالشبهة ،ول يستوفيه القاضي بعلمه أيضا (. )3
ويلحظ أنه ل يقام الحد على السكران حال سكره ،وإنما يؤخره إلى الصحو باتفاق الئمة ،ليتحقق
مقصود الحد من النزجار.
-------------------------------
( )1رواه الطبراني وعبد الرزاق وإسحاق بن راهويه عن أبي ماجد الحنفي ،قال :جاء رجل بابن أخ
له سكران إلى عبد ال بن مسعود ،فقال عبد ال :ترتروه ومزمزوه (أي حركوه تحريكا عنيفا لعله
يصحو) واستنكهوه ،ففعلوا ،فرفعه إلى السجن ،ثم عاد به من الغد ،ودعا بسوط ،ثم أمر بثمرته فدقت
بين حجرين ،حتى صارت درة ،ثم قال للجلد :اجلد وأرجع تلك ،وأعط كل عضو حقه (راجع نصب
الراية ،349/3 :مجمع الزوائد.)279 ،275/6 :
( )2حاشية الدسوقي ،353/4 :بداية المجتهد ،436/2 :المنتقى على الموطأ ،142/3 :القوانين
الفقهية :ص .362
( )3فتح القدير ،186 ،180/4 :تبيين الحقائق ،196/3 :الكتاب مع اللباب ،193/3 :مختصر
الطحاوي :ص ،280مغني المحتاج ،190/4 :المغني ،309/8 :حاشية الباجوري على متن أبي
شجاع ،246/2 :غاية المنتهى.330/3 :
( )7/440
( )7/441
وهذا ما اتفق عليه الحكماء ،وأجمعت عليه الشرائع ،فحرّمت الدماء والبضاع والموال والعراض،
واتفقت الملل كلها على الحفاظ على المقاصد الخمسة الكلية الضرورية ،وهي الدين والعقل والنفس
والنسب أو العرض والمال ،ووجهت الديان ذات المصدر اللهي إلى تحصيل الفضل فالفضل من
القوال والعمال والداب والخلق .وكذلك الطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما.
ومن هذا المنطلق حاربت الشريعة السلمية وحرمت تناول المسكرات والمخدرات بأنواعها المختلفة،
لما فيها من ضرر واضح على النسان وصحته وعقله وكرامته وسمعته أو اعتباره الدبي .روى ابن
ماجه والدارقطني مسندا ،والمام مالك في الموطأ مرسلً عن أبي سعيد الخدري رضي ال عنه أن
رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال« :ل ضرر ول ضرار» وهو حديث حسن ،مفاده أن الضرر
ممنوع بالنفس أو بالغير ،فل يجوز لحد أن يضر نفسه أو غيره بغير حق ول جناية سابقة ،وليجوز
مقابلة الضرر بالضرر ،فمن سبّك أو شتمك فل تسبّه ،ومن ضرّ بك فل تضرّ به ،بل اطلب حقك منه
عند الحاكم من غير مسابّة.
وجاء في النجيل المتداول الن من قول السيد المسيح عليه السلم« :السكّيرون والزناة ل يدخلون
ملكوت السموات» وإذا كان السكر والزنى ممنوعين لضررهما وقبحهما ،فكذلك المخدرات التي تضر
العقل ،وتفسد النفس والوجدان أو الضمير.
( )7/442
ومن المعلوم أن الضرر الناجم عن تعاطي المسكرات والمخدرات متعدد الجوانب ففيها ضرر
بالشخص ذاته ،وبأسرته وأولده ،وبمجتمعه وأمته.
أما الضرر الشخصي :فهو التأثير الفادح في الجسد والعقل معا ،لما في المسكر والمخدر من تخريب
وتدمير الصحة والعصاب والعقل والفكر ومختلف أعضاء جهاز الهضم وغير ذلك من المضار
والمفاسد التي تفتك بالبدن كله ،بل وبالعتبار الدبي والكرامة النسانية ،حيث تهتز شخصية النسان،
ويصبح موضع الهزء والسخرية ،وفريسة المراض المتعددة.
وأما الضرر العائلي :فهو ما يلحق بالزوجة والولد من إساءات ،فينقلب البيت جحيما ل يطاق من
جراء التوترات العصبية والهياج والسب والشتم وترداد عبارات الطلق والحرام ،والتكسير والرباك،
وإهمال الزوجة والتقصير في النفاق على المنزل ،وقد تؤدي المسكرات والمخدرات إلى إنجاب أولد
معاقين متخلفين عقليا ،وقد شاهدت ذلك بنفسي في حالت كثيرة من أولد المدمنين.
وأما الضرر العام :فهو واضح في إتلف أموال طائلة من غير مردود نفعي ،وفي تعطيل المصالح
والعمال ،والتقصير في أداء الواجبات ،والخلل بالمانات العامة ،سواء بمصالح الدولة أو
المؤسسات أو المعامل أو الفراد.
هذا فضلً عما يؤدي إليه السكر أو التخدير من ارتكاب الجرائم على الشخاص والموال
والعراض ،بل إن ضررالمخدرات أشد من ضرر المسكرات؛ لن المخدرات تفسد القيم الخلقية.
( )7/443
أنواع المخدرات وحكمها الشرعي :
المخدرات والمسكرات أنواع متعددة ،يتفنن الناس في تناولها بأسماء مختلفة ،ويلجأ بعضهم إلى
تعاطي أشياء تحقق الهدف المقصود من تغطية العقل ،وكلها تشترك في حكم واحد ،وهو التحريم
بسبب ما فيها من الضرر المؤكد الحصول.
ومن أشهر أنواع المخدرات :الحشيشة ،والفيون ،والكوكايين والمورفين والبنج (نبات سام يستعمل
في الطب للتخدير) وجوزة الطيب (ثمر شجرة) والبرش (مركب من الفيون والبنج) والقات (نبات
تمضغ أوراقه ،قليله منبه منشط ،وكثيره مخدر مثبّط ،يورث الكسل والخمول ،ويعطل العمال) وغير
حقَن أو المضغ أو التدخين أو غيرها ،فيؤدي إلى تغييب العقل ،وإضرار الصحة،
ذلك مما يؤخذ بال ُ
وإفساد الخلق .والحكم الشرعي للمخدرات أنها حرام في غير حالة التداوي للضرورة أو الحاجة،
وفي غير حالة إصلح البهارات بإضافة بعضها إليها بالقدر القليل فقط مثل خلط شيء قليل من جوزة
الطيب مع البهارات أو المقبّلت .وحرمتها كالمسكرات التي جاءت النصوص التشريعية في القرآن
والسنة النبوية بتحريمها تحريما قطعيا.
وأدلة تحريم تعاطي المخدرات كثيرة منها ما يلي:
ً - 1إن المخدرات تؤدي إلى أضرار جسيمة كثيرة كما تقدم ،وقد يفوق ضررها ضرر المسكرات؛
لنها تفسد أخلق المجتمع وتضر المة في اقتصادها وأعمالها ضررا بليغا ،وتفسد العقل ،وتصد عن
ذكر ال وعن الصلة ،ففيها ضرر عقلي وبدني وديني وأخلقي ،وكل ما هو ضار في نتائجه أو ذاته
وعينه فهو حرام ،والمضّرات من أشهر المحرمات.
ً - 2روى المام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أم سلمة رضي ال عنها قالت« :نهى
رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر» .والمفتر :كل ما يورث الفتور وارتخاء
العضاء وتخدير الطراف .قال ابن حجر :وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه،
فإنها تسكر وتخدّر وتفتر .وفي حديث آخر عند أبي داود عن ابن عباس« :كل مخمّر وكل مسكر
حرام» والمخمّر :ما يغطي العقل.
( )7/444
ً - 3حكى القرافي وابن تيمية الجماع على تحريم الحشيشة ،قال ابن تيمية :ومن استحلها فقد كفر،
وإنما لم تتكلم فيها الئمة الربعة رضي ال عنهم؛ لنها لم تكن في زمنهم ،وإنما ظهرت في آخر
المئة السادسة ،وأول المئة السابعة حين ظهرت دولة التتار.
ً - 4قال ابن تيمية في فتاويه الكبرى :كل ما يغيب العقل فإنه حرام ،وإن لم تحصل به نشوة ول
طرب ،فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين ،أي إل لغرض معتبر شرعا.
وقال أيضا في كتابه السياسة الشرعية :إن الحشيشة حرامُ ،يحَ ّد متناولها كما يحد شارب الخمر ،وهي
أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج ،حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة ،وغير ذلك
من الفساد ،وأنها تصد عن ذكر ال وعن الصلة ،وهي داخلة فيما حرّمه ال ورسوله من الخمر
والمسكر لفظا أو معنى.
وجاء أيضا في فتاوى ابن تيمية في مواضع متكررة« :هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها،
ومستحلوها ،الموجبة لسخط ال تعالى ،وسخط رسوله ،وسخط عباده المؤمنين ،المعرّضة صاحبها
لعقوبة ال ،تشتمل على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه ،وتفسد المزجة حتى جعلت خلقا
كثيرا مجانين ،وتورث من مهانة أكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما ل تورث الخمر ،ففيها من المفاسد
ما ليس في الخمر ،فهي بالتحريم أولى .وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام.
ومن استحل ذلك وزعم أنه حلل ،فإنه يُستتاب ،فإن تاب وإل قتل مرتدا ،ل يصلى عليه ول يدفن في
مقابر المسلمين.
وإن القليل منها حرام أيضا بالنصوص الدالة على تحريم الخمر وتحريم كل مسكر» .
( )7/445
وأيد ابن القيم أستاذه ابن تيمية في ذلك كله ،وقال في زاد المعاد« :إن الخمر يدخل فيها كل مسكر:
مائعا كان أو جامدا ،عصيرا أو مطبوخا ،فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور ـ أي الحشيشة ـ لن هذا
كله خمر بنص رسول ال صلّى ال عليه وسلم الصحيح الصريح الذي ل مطعن في سنده ول إجمال
في متنه ،إذ صح عنه قوله :كل مسكر خمر» .وصح عن أصحابه رضي ال عنهم الذين هم أعلم
المة بخطابة ومراده ،بأن الخمر ما خامر العقل.
على أنه لو لم يتناول لفظه صلّى ال عليه وسلم كل مسكر ،لكان القياس الصحيح الصريح الذي
استوى فيه الصل والفرع من كل وجهة ،حاكما بالتسوية بين أنواع المسكر ،فالتفريق بين نوع ونوع
تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه» .
وقال الصنعاني في سبل السلم« :إنه يحرم ما أسكر من أي شيء ،وإن لم يكون مشروبا،
كالحشيشة» .وقال بعض علماء الحنفية« :إن من قال بحل الحشيشة زنديق مبتدع» .
وقال الحافظ ابن حجر« :إن من قال :إن الحشيشة ل تسكر ،وإنما هي مخدر :مكابرٌ ،فإنها تحدث ما
تحدثه الخمر من الطرب والنشوة» .
وذكر ابن البيطار أن قبائح خصالها كثيرة ،وعدّ منها بعض العلماء مئة وعشرين مضرة دينية
ودنيوية .وقال :إن قبائح خصالها موجودة في الفيون ،وفيه زيادة مضار.
( )7/446
وأما القات فهو حرام ،وإن زعم بعض أهل اليمن أنه ل يخدر وإنما هو منشط ومفتق للذاكرة ،وهذا
مجرد وهم وهو غير صحيح؛ لن العبرة بالنتائج ،ولقد أثبت الطباء ،وجاء في قرار اليونيسكو في
المم المتحدة أنه مخدر وضار ،ومن أضراره الواضحة :تخلّف اليمنيين ،وتعطيل اقتصادهم،
وانشغالهم بشرائه ،وتعاطيه من منتصف النهار إلى منتصف الليل ،وإهدارهم المال الكثير في سبيل
الحصول عليه وبذل الجهود في زراعته على حساب المزروعات الخرى النافعة .وذهب أبو بكر
المقري الشافعي إلى تحريم القات ،وقال :إني رأيت من أكلها الضرر في بدني وديني ،فتركت أكلها،
فقد ذكر العلماء :إن المضّرات من أشهر المحرمات ،فمن ضررها أن آكلها يرتاح ويطرب وتطيب
نفسه ويذهب حزنه ،ثم يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلق.
وكذلك حرمه الفقيه حمزة الناشري محتجا بحديث أم سلمة السابق :أنه صلّى ال عليه وسلم «نهى عن
كل مسكر و ُمفْتِر» وهو الذي يجعل في الجسم فتورا ،أي ضعفا وانكسارا.
والخلصة :إن جميع المخدرات الحادثة من قرون بعد القرون الستة الولى حرام كالخمر ،لمخامرتها
العقل وتغطيتها إياه .وفيها مفاسد الخمر ومضاره ،وتزيد عليها ،فهي أكثر ضررا وأكبر فسادا من
الخمر؛ لنها تضر المة ضررا بليغا ،أفرادا وجماعات ،ماديا ،وصحيا ،وأدبيا .ول شك بأن الشريعة
السلمية تحرّم المفاسد والمضار ،وتجيز ما فيه مصالح حقيقية ،خالصة أو راجحة .وأما ما يزعمونه
من مصالح ومنافع فهي وهمية خادعة.
لذا اتفقت أنظمة العالم على منع المخدرات ،ول نجد إجماعا دوليا على شيء ،مثلما نجده في الجماع
على مقاومة كل وسائل تعاطي المخدرات وتهريبها ،وإتلف الكميات المهربة ،وعقاب المهربين
بالسجن وغيره.
( )7/447
( )7/448
- 3روى أبو داود في سننه عن ابن عباس أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال « :إن من حَبَس
العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا ،فقد تقحم النار » .وهذا دليل صريح على حرمة
زراعة الحشيش والقات وكل ما يؤدي لستخراج عصارة الفيون والهروين والكوكايين وغير ذلك.
- 4روى أصحاب السنن الربعة والمام أحمد عن ابن مسعود :أن النبي صلّى ال عليه وسلم « لعَنَ
آكل الربا ومُؤكله وشاهديه وكاتبه » .ولفظ النسائي« :آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا
ذلك ،ملعونون على لسان محمد صلّى ال عليه وسلم يوم القيامة» فهؤلء أربعة لعنوا في أكل الربا.
وروى أبو داود والحاكم عن ابن عمر :أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :لعن ال الخمر ،وشاربها،
وساقيها ،وبائعها ،ومبتاعها ،وعاصرها ،ومعتصرها ،وحاملها ،والمحمولة إليه ،وآكل ثمنها» فهؤلء
عشرة لعنوا في الخمر وتناولها.
والمتبادر إلى الذهن أل يكون ملعونا إل آكل الربا وشارب الخمر دون من ذكر معهما ،ولكن الشرع
حرم فعل ثلثة آخرين في الربا ،وتسعة آخرين في الخمر؛ لنهم كانوا سببا في المعصية ،وعونا على
اقتراف الحرام ،فيكون المتسبب والمعين أو المساعد ،له حكم الفاعل تماما.
وبناء عليه يكون تاجر المخدرات والمهرب والناقل وكل من ساعد في تعاطيها آثما إثما عظيما
ومرتكبا حراما ومنكرا شديدا.
( )7/449
( )7/450
وأجاز فقهاء الحنفية والمالكية أن تكون عقوبة التعزير هي القتل ،ويسمونه القتل سياسة ،أي إذا رأى
الحاكم المصلحة في ذلك ،وكان جنس الجريمة يوجب القتل ،كما في حال التكرار أو إدمان المسكرات
والمخدرات ،واعتياد الجرام أو اللواط أو القتل بالحجر أو العصا أو الخشب .وهذا يصلح دليلً أو
مستندا لما أفتى به بعض المفتين المعاصرين من اقتراح مشروع قانون يقضي بعقوبة متعاطي
المخدرات بالعدام شنقا .وفي ذلك توفير مؤيد أو رادع من قبل السلطة الحاكمة لكل من يتاجر
بالمخدرات أو يتعاطاها ،أو يقوم بتهريبها.
وقد أصبحت عصابات التهريب وتجار المخدرات خطرا على الدول المختلفة ،فل يجوز التهاون بشأن
إنزال أقسى العقوبات في حقهم ،لحماية المجتمع من أضرار المخدرات ومفاسدها الجسيمة.
سكُ بها الدولة أمر واجب شرعا؛ لن الضار بذاته يجب
ول شك بأن إتلف المخدرات التي تُم ِ
التخلص منه بمختلف وسائل التلف .والمصادرة ،وعقاب المتعاملين فيها.
وإني أرى ضرورة وجود معاهدات دولية لمنع التجار بالمخدرات وتهريبها وعقاب تجارها
وسماسرتها ووسطائها ،كما أرى ضرورة وجود قانون موحد في البلد العربية والسلمية ينص على
عقوبة شديدة لتجار المخدرات وكل من يتعاطاها أو يتناولها أو يقوم بنقلها بوسائط مختلفة في الحقائب
والطائرات والسيارات ووسائل النقل القديمة وغيرها.
( )7/451
( )7/452
وقال الحنابلة والشافعية :يستوفى كل الحدود ،ويبدأ بأخفها ،فيحد للقذف ،ثم يقطع ،ثم يقتل؛ لنها
حقوق للدميين ،أمكن استيفاؤها ،فوجب كسائر حقوقهم ،فإن ما دون القتل حق للدمي ،فلم يسقط به.
وقال الحنفية :يدخل ما دون القتل فيه ،احتجاجا بقول ابن مسعود السابق ذكره ،وقياسا على الحدود
الخالصة ل تعالى.
وأما القسم الثالث :وهو أن يجتمع حدود ال ،وحدود الدميين :وهذه ثلثة أنواع:
أحدها ـ أل يكون فيها قتل :فقال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة :تستوفى كلها إل أن المالكية
قالوا بتداخل حد الشرب وحد القذف؛ لن الغرض من العقوبتين واحد ،وهو منع الفتراء.
ثانيها ـ أن يكون فيها قتل :فقال الجمهور :حدود ال تعالى تدخل في القتل .وأما حقوق الدميين،
فتستوفى كلها.
وقال الشافعي :تستوفى الحدود جميعها؛ لنها حدود وجبت بأسباب ،فلم تتداخل.
ثالثها ـ أن يتفق الحقان في محل واحد ،فإن اجتمع حقان :أحدهما ل ،والخر لدمي ،كالقصاص
والرجم في الزنى ،قدم القصاص عند العلماء ،لتأكد حق الدمي ،وبه يتحقق أيضا حق ال تعالى.
ثانيا ـ إسقاط الحدود بالتوبة :
إذا تاب العصاة ما عدا المحاربين من شاربي الخمر والزناة والسراق ،فل يسقط الحد عند الحنفية
والمالكية والشافعية في الظهر عندهم ،وذلك سواء بعد رفع المر إلى الحاكم أو قبله؛ لن الرسول
صلّى ال عليه وسلم لم يسقط الحد عن ماعز ،حينما جاءه ،وأقر بالزنى ،ول شك أنه لم يأت ،إل وهو
تائب ،ونحوه من الحدود ،فإنه لم يرد نص في إسقاط الحد عن هؤلء.
واستثنى الكاساني في البدائع حد السرقة العادية ،فإنه يسقط بتوبة السارق قبل أن يظفر الحاكم به،
وبشرط رد المال إلى صاحبه .وقال ابن عابدين :الظاهر أن التوبة ل تسقط الحد الثابت عند الحاكم
بعد الرفع إليه .أما قبله فيسقط الحد بالتوبة حتى في قطاع الطرق ،سواء أكان قبل جنايتهم أم بعدها.
( )7/453
وقال أحمد في أظهر الروايتين عنه :التوبة تسقط الحد عنهم من غير اشتراط مضي الزمان ،لقوله
صلّى ال عليه وسلم « :التائب من الذنب كمن ل ذنب له» ( )1وقوله عليه الصلة والسلم« :التوبة
تجبّ ما قبلها» ( ، )2ولن في إسقاط الحد ترغيبا في التوبة ،وذلك ما عدا حد القذف ،فإنه ل يسقط
لنه حق آدمي .وبه يظهر أنه ليس هناك إجماع ـ كما زعم بعضهم ـ على أن التوبة ل تسقط الحد
في الدنيا.
أما حد المحاربة :فل خلف بين العلماء كما تقدم :أن قطاع الطرق إن تابوا قبل القدرة عليهم ،فتسقط
عنهم حدود ال تعالى ،لقوله سبحانه في آية المحاربين{ :إل الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم،
فاعلموا أن ال غفور رحيم} ([ )3:المائدة.]34/5:
-------------------------------
( )1رواه ابن ماجه والطبراني في الكبير والبيهقي عن عبد ال بن مسعود ،ورجال الطبراني رجال
الصحيح إل أن أبا عبيدة راوي الحديث عن أبيه عبد ال لم يسمع منه ،ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي
مرفوعا أيضا من حديث ابن عباس ،وزاد «والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه»
وقد روي بهذه الزيادة موقوفا ولعله أشبه ،بل هو الراجح ،كما قال المنذري .وروى الطبراني عن
أبي سعيد الخدري أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال« :الندم توبة ،والتائب من الذنب كمن ل
ذنب له» قال الهيثمي :وفيه من لم أعرفهم (راجع الترغيب والترهيب،97/4 :المقاصد الحسنة :ص
،152مجمع الزوائد.)200/10 :
( )2المعروف أن التوبة تصح بالسلم ،والسلم يجب ما قبله ،وقد ذكر حديث «التوبة تجب ما
قبلها» في مغني المحتاج للخطيب ،184/4 :وراجع مجمع الزوائد 199/10 ،31/1 :وما بعدها،
وذكره أيضا ابن قدامة في المغني ،201/9 :كما ذكر حديثا آخر وهو «الندم توبة» رواه الطبراني في
الصغير عن أبي هريرة ورجاله وثقوا وفيهم خلف (مجمع الزوائد.)199/10 :
( )3راجع البدائع ،96/7 :فتح القدير ،272/4 :رد المحتار ،154/3 :الفروق للقرافي ،181/4 :مغني
المحتاج ،184/4 :المهذب ،285/2 :الميزان ،169/2 :حاشية قليوبي وعميرة ،201/4 :المغني:
295/8وما بعدها ،القوانين الفقهية :ص 362 ،357وما بعدها ،السياسة الشرعية لبن تيمية :ص
،67وانظر أعلم الموقعين ،398/4 ،19/3 ،78/2 :وراجع إحياء علوم الدين للغزالي 14/4 :وما
بعدها ،غاية المنتهى 345/3 :ومابعدها.
( )7/454
وقد رأى الشافعية أن الحدود إذا أقيمت في الدنيا ،لم تقم في الخرة لحديث« :ال أعدل من أن يثني
على عبده العقوبة في الخرة» ( ، )1ولقوله عليه الصلة والسلم« :الحدود كفارات لهلها» (. )2
ويسقط حد تارك الصلة وحد الردة بالتوبة الصادقة النصوح.
هل تقبل شهادة المحدود بالقذف إذا تاب؟
اختلف الحنفية والجمهور فيه ،فقال الحنفية :ل تقبل شهادة المحدود في القذف أبدا ،وإن تاب وأصلح،
ومن هنا كانت التوبة عندهم بالنسبة إليه عملً قلبيا بين العبد وربه ،ليس من الضروري اطلعنا
عليه؛ لنه ليس هناك حكم عملي يترتب على هذه التوبة.
وقال الجمهور :إذا تاب المحدود في القذف قبلت شهادته ،وتوبة القاذف :إكذابه نفسه .وفسره
الصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول :كذبت فيما أقول ،فل أعود إلى مثله .وقال أبو إسحاق
المروزي من أصحاب الشافعي :ل
-------------------------------
( )1أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي ال عنه عن النبي
صلّى ال عليه وسلم قال« :من أصاب حدا فعجل عقوبته في الدنيا فال أعدل من أن يثني على عبده
العقوبة في الخرة .ومن أصاب حدا فستره ال عليه وعفا عنه فال أكرم من أن يعود في شيء قد عفا
عنه» (راجع جامع الصول ،349/4 :الجامع الصغير.)164/2 :
( )2الحاديث في هذا المعنى كثيرة منها :ما رواه الطبراني وأحمد بنحوه عن خزيمة بن ثابت أن
رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال« :أيما عبد أصاب شيئا مما نهى عنه ،ثم أقيم عليه حده ،كفر عنه
ذلك الذنب» وفي رواية« :من أصاب ذنبا وأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته» وفيه راو لم يسم،
وبقية رجاله ثقات .وروي بمعناه عن ابن عمر مرفوعا عند الطبراني ،وفيه متروك ،وقد جاء في
القسطلني شرح البخاري :380/7 :إن الحدود كفارات .وترجم المام النووي في شرحه لصحيح
مسلم بعنوان« :باب :الحدود كفارات لهلها» ،224/12 :وذلك عند شرح حديث عبادة بن الصامت
التي ذكره في المبحث التالي (راجع مجمع الزوائد.)265/6 :
( )7/455
يقول :كذبت؛ لنه ربما يكون صادقا ،فيكون قوله« :كذبت» كذبا ،والكذب معصية ،والتيان
بالمعصية ل يكون توبة عن معصية أخرى ،بل يقول :القذف باطل ،وندمت على ما قلت ورجعت
عنه ،ول أعود إليه.
والسبب في أن الشافعي شرط في توبة القاذف التلفظ باللسان ،مع أن التوبة من عمل القلب :أنه رتب
عليها حكما شرعيا :وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب ،فل بد من أن يعلم الحاكم بتوبته حتى يقبل
شهادته.
ومنشأ الخلف بين الحنفية والجمهور :خلفهم في رجوع الستثناء الوارد في قوله تعالى{ :والذين
يرمون المحصنات ،ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ،فاجلدوهم ثمانين جلدة ،ول تقبلوا لهم شهادة أبدا،
جمَل التي سبقت ،فيرتفع
وأولئك هم الفاسقون .إل الذين تابوا} [النور ]5-4/24:هل يرجع إلى جميع ال ُ
رد الشهادة ،كما ارتفع الفسق ،أو يرجع إلى الجملة الخيرة وهي الفسق .والخلف راجع إلى مسألة
أصولية مشهورة وهي :هل الستثناء عقب الجمل المتعاطفة يعود للجميع أو يعود للجملة الخيرة؟
( )7/456
قال الحنفية :ل تقبل شهادة المحدود في القذف أبدا ،لختصاص الستثناء بالجملة الخيرة؛ لنها جملة
مستأنفة بصيغة الخبار ،منقطعة عما قبلها جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف ل
يصلح أن يكون سببا لهذه العقوبة.
ونوقش قولهم بأن العلة في هذه العقوبة هو فسقهم ،والفسق علة في رد الشهادة ،فإذا ارتفع الفسق
بالتوبة ،فيلزم منه ارتفاع رد الشهادة الذي هو معلوله؛ لن الحكم يزول بزوال علته.
وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة :تقبل شهادة المحدود في القذف بالتوبة؛ لن الستثناء
يرجع إلى الجمل الثلث المتعاطفة بالواو ،فيرتفع رد الشهادة كما ارتفع الفسق بالتوبة .لكن لم يسقط
الحد بالتوبة ،للجماع على أنه ل يسقط بالتوبة ،لما فيه من حق العبد أو الدمي ،فل يسقط باستيفائه،
ل لخلل في اقتضاء صيغة الستثناء التي أعقبت الجمل السابقة أن تعم كل الجمل ،فبقي الستثناء في
ظاهره عائدا إلى رد الشهادة والتفسيق ،وهذا ما قرره الزمخشري ،وهو رأي أكثر التابعين وفقهاء
المصار غير الحنفية (. )1
واختلف الفقهاء في وقت رد شهادة القاذف ،فقال أبو حنيفة ومالك :ل ترد شهادته إل بعد جلده ،لن
الواو وإن لم تقتض الترتيب ،لكن الظاهر من الترتيب في الذكر أنه على وفق الترتيب في الحكم.
وقال الشافعي :ل يتوقف رد الشهادة على حد القذف؛ لن ظاهر الية أنه متى قذف وعجز عن البينة
استحق العقوبات الثلث :الحد ،ورد الشهادة ،والتفسيق.
-------------------------------
( )1تخريج الفروع على الصول :ص 207وما بعدها ،تفسير آيات الحكام بالزهر 131/3 :وما
بعدها ،ط ،1953المحرر في الفقه الحنبلي 251/2 :وما بعدها.
( )7/457
( )7/458
والمواثبة والضرب بغير حق ،والتزوير وشهادة الزور ونحوها مما يتوقف على الدعاء الشخصي،
فل يسقط بالتوبة ،كما ل يسقط بعفو القاضي ،إل أن يصفح المعتدى عليه.
وأما إن كان التعزير حقا ل تعالى كتعزير مفطر رمضان عمدا بدون عذر ،وتارك الصلة ،وآكل
الربا ظاهرا ،ومن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق ،أو كان حق ال فيه غالبا كمباشرة امرأة
أجنبية فيما دون الجماع ،كتقبيل وعناق وخلوة بها ونحوها ،فيسقط بالتوبة ،كما يسقط بعفو القاضي.
وهذا التفصيل في الواقع هو رأي الحنفية والشافعية.
ولكن وردت عبارات لبعض الفقهاء يفهم منها بعمومها أن التعزير مطلقا يسقط بالتوبة باتفاق الفقهاء.
قال القرافي المالكي :إن التعزير يسقط بالتوبة ،ما علمت في ذلك خلفا (. )1
وقال صاحب البحر الزخار الزيدي :يسقط التعزير بالتوبة ،ويقرب أنه إجماع المسلمين الن ،لكثرة
الساءات فيما بينهم ،ولم يعلم أن أحدا طلب تعزير من اعتذر إليه واستغفر ،ولمن أقر بأنه قارف
ذنبا خفيفا ،ثم تاب منه ،ولستلزامه تعزير أكثر الفضلء ،إذ لم يخل أكثرهم عن مقارفة ذنب،
وظهوره في فعل أو قول (. )2
-------------------------------
( )1الفروق.181/4 :
( )2البحر الزخار ،ملخصا منه.211/5 :
( )7/459
ولعل المراد من هذه العبارات :التعزير الواجب حقا ل تعالى؛ لن الخلف بين التعزير والحد هو في
حقوق ال تعالى .أما الحقوق الشخصية فل تسقط إل بمسامحة أو إسقاط أصحابها كما هو معروف،
فقد قرر الفقهاء أن حقوق الدميين ل تسقط بالتوبة ما لم ترد المظالم لصحابها ،كما أنه ل يغفرها
الباري سبحانه إل بمغفرة صاحبها ،ول يسقطها إل بإسقاطه (. )1
وسيأتي مزيد بيان لموضوع إسقاط العقوبات بالتوبة.
ثالثا ـ هل الحدود زواجر أو جوابر؟
إن المقصود من مشروعية الحدود والتعزيرات هو زجر الناس وردعهم عن ارتكاب المحظورات
وترك المأمورات ،دفعا للفساد في الرض ومنعا من إلحاق الضرر بالفراد والمجتمعات ( . )2ولكن
الفقهاء اختلفوا في أمر آخر :وهو أنه ،هل تتكرر العقوبة على الجاني في الخرة ،مع أن العقوبة
استوفيت منه في الدنيا؟
قال الحنفية :إن الحدود والتعزيرات شرعت فقط زجرا لرباب المعاصي من إفساد العلقات
الزوجية ،وإضاعة النساب ،وإتلف العراض والموال والعقول والنفوس ،ول يحصل التطهر من
الذنب في الخرة إل بتوبة الجاني .واستدلوا بعموم آيات العقاب التي تدل على أن المذنب يستحق
العقاب في النار ،مثل قوله تعالى{ :ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} [النساء]93/4:
ومثل قوله سبحانه في قطاع الطرق بعد أن ذكر عقابهم المعروف{ :ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ،ولهم
في الخرة عذابٌ عظيمٌ } [المائدة ]33/5:فقد أخبر
-------------------------------
( )1أحكام القرآن لبن العربي ،600/2 :تفسير القرطبي.200/18 :
( )2راجع الحكام السلطانية للماوردي :ص ،213فتح القدير ،112/4 :تبيين الحقائق للزيلعي:
.163/3
( )7/460
ال تعالى أن لهم عقوبة دنيوية ،وعقوبة أخروية إل من تاب ،فإن التوبة تسقط عنه العقوبة الخروية
( . )1
وقال أكثر العلماء :إن العقوبات الشرعية فضلً عن أنها أصلً للزجر في الدنيا ،تعتبر تبعا بالنسبة
للمسلم جوابر لسقوط عقوبتها في الخرة ،إذا استوفيت في الدنيا ،وفي الكافر زواجر ،فإذا نفذت
العقوبة على المسلم في الدنيا ،فذلك يقيه عذاب الخرة ،فيكون الهدف منها مزدوجا ،للحديث السابق:
«ال أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الخرة »...وفي رواية له« :من أذنب فعوقب به في
الدنيا لم يعاقب به في الخرة »...ولقوله عليه الصلة والسلم فيما رواه البخاري ومسلم في
صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي ال عنه قال« :كنا مع رسول ال صلّى ال عليه وسلم في
مجلس ،فقال :تبايعوني على أل تشركوا بال شيئا ،ول تزنوا ،ول تسرقوا ،ول تقتلوا النفس التي
حرم ال إل بالحق ،فمن وفّى منكم فأجره على ال ،ومن أصاب شيئآً من ذلك ،فعوقب به فهو كفارة
له ،ومن أصاب شيئا من ذلك ،فستره ال عليه فأمره إلى ال :إن شاء عفا عنه ،وإن شاء عذبه» ()2
.
قاعدة الزواجر والجوابر في الشريعة :
قال العز بن عبد السلم والقرافي وصاحب تهذيب الفروق ( : )3الجوابر:
-------------------------------
( )1فتح القدير ،والزيلعي ،المرجعان السابقان ،البحر الرائق ،3/5 :الدر المختار وحاشية ابن عابدين:
،154/3أحكام القرآن للجصاص.412/2 :
( )2رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبادة بن الصامت (جامع الصول ،161/1 :شرح
مسلم للنووي 223/11 :وما بعدها ،القسطلني شرح البخاري ،380/7 :مغني المحتاج،359/3 :
،2/4حاشية البجيرمي على الخطيب الشربيني على المنهاج ،باب الحدود ،الم للشافعي ،باب الحدود،
الشرح الكبير للدردير ،136/4 :قواعد الحكام للعز بن عبد السلم ،150/1 :غاية المنتهى:
.)315/3
( )3قواعد الحكام 150/1 :وما بعدها ،الفروق ،213/1 :تهذيب الفروق.211/1 :
( )7/461
مشروعة لجلب مافات من المصالح .والزواجر مشروعة لدرء المفاسد .والغرض من الجوابر :جبر
ما فات من مصالح حقوق ال ،وحقوق عباده .ول يشترط أن يكون من وجب عليه الجبر آثما.
ويفرق بينهما من أربعة وجوه:
ً - 1إن الزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة .والجوابر مشروعة لستدراك المصالح الفائتة.
ً - 2إن معظم الزواجر مقررة على العصاة ،زجرا لهم عن المعصية ،وزجرا لمن يقدم بعدهم على
المعصية .وقد تكون مع عدم العصيان ،كما في تأديب الصبيان والمجانين ،فإنا نزجرهم ونؤدبهم ،ل
لعصيانهم ،بل لدرء مفاسدهم واستصلحهم .وكقتال البغاة درءا لتفريق الكلمة ،مع عدم التأثيم؛ لنهم
متأولون.
ومعظم الجوابر تقرر على من ل يكون آثما ،بدليل أنه شرع الجبر في حالت الخطأ والعمد والجهل
والعلم والنسيان والتذكر ،وعلى المجانين والصبيان ،بخلف الزواجر ،فإن معظمها ل يجب إل على
عاص زجرا له عن المعصية.
ً - 3إن معظم الزواجر إما حدود مقدرة ،وإما تعزيرات غير مقدرة ،فهي ليست فعلً للمزجورين،
بل يفعلها الئمة بهم ،وإنما الجوابر فعل لمن خوطب بها.
وقد اختلف في بعض الكفارات :هل هي زواجر ،لما فيها من مشاق تحمل الموال وغيرها ،أو هي
جوابر؛ لنها عبادات ل تصح إل بنيات ،وليس التقرب إلى ال تعالى زجرا ،بخلف الحدود
والتعزيرات ،فإنها ليست قربات؛ لنها ليست فعلً للمزجورين كما علم .والظاهر أنها جوابر؛ لنها
عبادات وقربات لتصح إل بالنية.
ً - 4إن الجوابر تقع في النفوس والعضاء ومنافع العضاء والجراح والعبادات والموال والمنافع،
بخلف الزواجر ،فإنها إنما تقع في الجنايات والمخالفات ،ففي بداية المجتهد لبن رشد ( : )1الجنايات
التي لها حدود مشروعة خمس:
أحدها :جنايات على البدان أو النفوس والعضاء ،وهو المسمى قتلً وجرحا.
( )7/462
( )7/463
والثاني ـ أن تكون المنفعة مباحة متقومة ،فتجبر في العقود الفاسدة والصحيحة وفي حالة التلف في
يد معتاد عليها كالغاصب؛ لن الشرع قد قومها ونزلها منزلة الموال ،فل فرق بين جبرها بالعقود
كاليجارات ،وجبرها بالتلف والتلف ومنع صاحبها عن النتفاع بها؛ لن المنافع هي الغرض
الظهر من جميع الموال ،فمن غصب قرية أو دارا ضمن قيمة منفعتها طوال مدة الغصب ،ول
تضمن منافع المغصوب عند الحنفية ،إل مال اليتيم ومال الوقف والموال المعدة للستغلل في رأي
المتأخرين من الحنفية.
وأما النفوس ،والعضاء ،ومنافع العضاء ،والجراح :فما رتبه الشارع عليها من ديات أو كفارات أو
حكومة عدل (تعويض الجروح بحسب تقدير القاضي) فجوابر .وما رتبه الشارع عليها من قصاص
أو ضرب أو سجن أو تأديب فزواجر.
مبدأ الستر والشفاعة في الحدود :يستحب الستر مطلقا على مرتكب المعصية الموجبة للحد قبل الرفع
إلى المام ( ، )1لحديث أبي هريرة عند الترمذي والحاكم« :ومن ستر على مسلم ستره ال في الدنيا
والخرة» وحديث ابن عباس مرفوعا عند ابن ماجه« :من ستر عورة أخيه المسلم ،ستر ال عورته
يوم القيامة ،ومن كشف عورة أخيه كشف ال عورته حتى يفضحه في بيته» وستأتي أدلة أخرى في
بحث الشهادة.
وتحرم الشفاعة وقبولها في حدود ال بعد أن تبلغ الحاكم ( ، )2أما قبل ذلك فإنه جائز؛ لقوله صلّى
ال عليه وسلم « :من حالت شفاعته دون حد من حدود ال ،فهو مضادٌ ال في أمره» ( )3وقوله
صلّى ال عليه وسلم أيضا« :حد يعمل به في الرض خير لهل الرض من أن يُمطروا أربعين
صباحا» ( )4وقد أنكر النبي صلّى ال عليه وسلم على من شفع في حد ونهاه عن ذلك ،قالت عائشة:
«كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده ،فأمر النبي صلّى ال عليه وسلم بقطع يدها ،فأتى
أهلها أسامة بن زيد ،فكلّموه ،فكلّم النبي صلّى ال عليه وسلم فيها ،فقال له النبي صلّى ال عليه وسلم
:يا أسامة ل أُراك تشفع في حد من حدود ال عز وجل ،ثم قام النبي صلّى ال عليه وسلم خطيبا،
فقال :إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه ،وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه،
والذي نفسي بيده ،لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ،فقطع يد المخزومية» (. )5
-------------------------------
( )1نيل الوطار.136/7 :
( )2غاية المنتهى.312/3 :
( )3رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر ،وكذا أخرجه أيضا الحاكم وصححه ،وأخرجه ابن أبي شيبة
عن ابن عمر من وجه آخر صحيح موقوفا عليه ،وأخرج نحوه الطبراني في الوسط عن أبي هريرة
مرفوعا ،وقال فيه« :فقد ضادّ ال في ملكه» (نيل الوطار.)107/7 :
( )4رواه ابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة (المرجع السابق).
( )5رواه أحمد ومسلم والنسائي عن عائشة (نيل الوطار.)131/7 :
( )7/464
( )7/465
( )7/466
( )7/467
فالتوبة ذات أركان ثلثة :القلع ،والندم ،والعزم ،فإن فقدت أحد هذه الركان الثلثة لم تصح التوبة.
إل أن من عجز عن العزم والقلع كتوبة العمى عن النظر إلى المحرم ،وتوبة المجبوب عن الزنا،
فتوبته مجرد الندم ،لن (الميسور ل يسقط بالمعسور) :أي ل يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه ،كما
ل يسقط ما قدر عليه من أركان الصلة مثلً بما عجز عنه ،عملً بقوله صلّى ال عليه وسلم « :إذا
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ( » )1أي إذا أمرتكم بمأمور تأتوا من ذلك المأمور ما استطعتموه
أو ما قدرتم عليه.
وإن كانت المعصية تتعلق بحق شخصي لنسان ،فشروطها أربعة وهي الثلثة السابقة ،ويضاف إليها
الخروج من المظالم بأن يبرأ العاصي من حق صاحبها ،فإن كانت المعصية أخذ مال أو نحوه بدون
حق رده إليه ،وإن كان الفعل قذفا ونحوه مكن المقذوف منه أو طلب عفوه .وإن كان غيبة استحله
منها وطلب مسامحته عن طعنه فيه في غيبته.
وأكمل أنواع التوبة ما حدده علي بن أبي طالب رضي ال عنه ،وذلك فيما روى جابر أن أعرابيا
دخل مسجد رسول ال صلّى ال عليه وسلم وقال :اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ،وكبر ،فلما فرغ
من صلته قال له علي كرم ال وجهه :إن سرعة اللسان بالستغفار توبة الكذابين ،وتوبتك تحتاج إلى
التوبة ،فقال :يا أمير المؤمنين ،ما التوبة؟ قال « :اسم يقع على ستة معان :على الماضي من الذنوب
الندامة ،ولتضيع الفرائض العادة ،ورد المظالم ،وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعاصي،
وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلوة المعصية ،والبكاء
-------------------------------
( )1نص الحديث« :ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري
ومسلم عن أبي هريرة.
( )7/468
( )7/469
ومن الحاديث النبوية المؤكدة للقرآن أو المبينة الموضحة لبعض أحكامه قوله صلّى ال عليه وسلم :
«وال إني لستغفر ال وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (« )1يا أيها الناس توبوا إلى ال ،
واستغفروه فإني أتوب في اليوم مئة مرة» ( )2وقد استنبط العلماء من هذين الحديثين أنه يستحب
للتائب إذا ذكر ذنبه الذي تاب منه أن يجدد الندم على فعله ،والعزم على ترك العود إلى مثله ،بل ول
يلزم أن تكون التوبة عن ذنب كما ذكرت سابقا ،فل يعني الحديثان إذن أن النبي صلّى ال عليه وسلم
يذنب في كل يوم سبعين مرة أو مئة مرة ،بل معناه تجديد التوبة وتكريرها عن ذنب واحد صغير ()3
القناع في حل ألفاظ أبي شجاع للخطيب الشربيني .131/2 :واستعظام التقصير أو التفريط ،أو
ارتكاب أي خطيئة مهما صغرت ،تشريعا وتعليما للمة وإرشادا للناس وفتحا لباب التوبة للمة ،كل
على قدر منزلته ،وعلو رتبته ،ومدى مسؤوليته العامة أو الخاصة .أما النبي صلّى ال عليه وسلم فقد
تاب ال عليه من أي شيء.
-------------------------------
( )1رواه البخاري عن أبي هريرة رضي ال عنه.
( )2رواه مسلم عن الغر بن يسار المزني.
( )3قواعد الحكام 287/1 :وما بعدها،
( )7/470
ومن الحاديث المرغبة في التوبة أيضا« :ل أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره ،وقد أضله
في أرض فلة» (. )1
)2ـ ما تجب التوبة عنه ووقت قبولها :
تجب التوبة من جميع الذنوب أو المعاصي ،فإن تاب المرء من بعضها صحت توبته عند أهل السنة
من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي (. )2
والمقصود بالذنب :كل ما هو مخالف لمر ال تعالى في ترك أو فعل ( . )3ومما يدل على جواز
التوبة عن أي مخالفة لحكام السلم قوله تعالى{ :إنما التوبة على ال للذين يعملون السوء بجهالة}...
[النساء ]17/4:فإنه يعم الكفر وسائر المعاصي ،فكل من عصى ربه ،فهو جاهل حتى ينزع أو يقلع
عن معصيته ،قال قتادة :أجمع أصحاب النبي صلّى ال عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة
عمدا كانت أو جهلً (. )4
وإيجاب التوبة على الفور هو الصل المبدئي العام ،ومع ذلك يمكن قبول التوبة طوال حياة النسان
تفضلً من ال ورحمة،وتيسيرا وسماحة ،وفتحا لباب
-------------------------------
( )1متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي ال عنه.
( )2رياض الصالحين :ص ،12تفسير القرطبي90/5 :
( )3الحياء14/4 :
( )4تفسير القرطبي.92/5 :
( )7/471
المل .وإبعادا لليأس والقنوط عن النفس ،إذ « كل ابن آدم خطاء ،وخير الخطائين التوابون» (. )1
ويرشد لذلك قول النبي صلّى ال عليه وسلم « :إن ال يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» ( )2أي ما لم
تبلغ روحه الحلقوم .وفسر عكرمة قوله تعالى{ :ثم يتوبون من قريب} [النساء ]17/4:بأن الدنيا كلها
قريب .وقال الضحاك :كل ما كان قبل الموت فهو قريب ( )3وفي حديث آخر« :ما من عبد مؤمن
يتوب قبل الموت بشهر إل قبل ال منه أدنى من ذلك ،وقبل موته بيوم وساعة ،ويعلم ال منه التوبة
والخلص إليه ،إل قبل منه» (. )4
قال العلماء :إنما صحت التوبة قبل الموت ولو بيوم ،لن الرجاء بإصلح النسان باق ،ويصح منه
الندم والعزم على ترك الفعل القبيح ( . )5أما من صار في حال اليأس من الحياة ،كفرعون الذي آمن
حينما صار في غمرة الماء والغرق ،فل تنفعه التوبة ،أو إظهار اليمان في ذلك الوقت؛ لنها حال
زوال التكليف الشرعي ،قال ال تعالى عن قصة فرعون{ :وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ،فأتبعهم
فرعون وجنوده بغيا وعدْوا ،حتى إذا أدركه الغرق ،قال :آمنت أنه ل إله إل الذي آمنت به بنو
إسرائيل وأنا من المسلمين،آلن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس .]91-90/10:ويؤكد
ذلك آية أخرى في موضوعها وهي{ :وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم
الموت ،قال :إني تبت الن ،ول الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} [النساء.]18/4:
-------------------------------
( )1رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أنس بن مالك ،وقال الحاكم :صحيح السناد.
( )2أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث عبد ال بن عمر رضي ال عنهما.
( )3تفسير ابن كثير ،463/1 :تفسير القرطبي ،92/5 :تفسير الكشاف.386/1 :
( )4ذكره الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد ال بن عمر.
( )5تفسير القرطبي.92/5 :
( )7/472
دلت اليتان على عدم قبول التوبة حال اليأس من الحياة ،وهو رأي ابن عباس وابن زيد وجمهور
المفسرين ( ، )1لكن قال جماعة من الحنفية :توبة اليأس مقبولة دون إيمان اليأس؛ لقوله تعالى:
{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [الشورى. )2( ]25/42:
وقال الشيخ محمد عبده :المراد بالزمن القريب :الوقت الذي تسكن فيه ثورة الشهوة النفسية ،أو تنكسر
به سورة الغضب ،ويثوب إلى فاعل السيئة حلمه ،ويرجع إليه دينه وعقله .فالظاهر من آية { من
قريب } [النساء ]17/4:أنها بينت الوقت الذي تقبل فيه التوبة من كل مذنب حتما .وأما الية التالية
لها{ :وليست التوبة} [النساء ]18/4:فإنها بينت الوقت الذي ل تقبل فيه توبة مذنب قط ،وما بين
الوقتين مسكوت عنه ،وهو محل الرجاء والخوف ،فكلما قرب وقت التوبة من وقت اقتراف الذنب،
كان الرجاء أقوى ،وكلما بعد الوقت بالصرار وعدم المبالة والتسويف كان الخوف من عدم القبول
هو الرجح (. )3
)3ـ الوعد المضمون الحصول بقبول التوبة :
وعد ال سبحانه وتعالى المغفرة لمن اجتنب الذنوب الكبائر ،فقال{ :إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء ]31/4:أي إذا اجتنبتم كبائر الثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر
الذنوب ،وأدخلناكم الجنة ،جزاء على المتناع عن الكبائر ،والصبر عنها ،والحث على الدوام أوالبقاء
على طريق الستقامة .فهذا إخبار من ال سبحانه ،وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن
العاصين من عباده .ومثله قوله تعالى{ :ألم يعلموا أن ال هو يقبل التوبة عن عباده } [التوبة]104/9:
وقوله {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } [طه.]82/20:
قال القرطبي :فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الشياء.
والعقيدة :أنه ل يجب عليه شيء عقلً ،فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب ،والخلصة :إن اليات
تتضمن وعدا من ال ،ول خُلْف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها ،وهي
الربعة السابق ذكرها.
-------------------------------
( )1تفسير القرطبي.93/5 :
( )2الدر المختار.317/3 :
( )3تفسير المنار 440/4 :وما بعدها448 ،
( )7/473
وأما العقل فل يوجب قبول التوبة على ال خلفا للمعتزلة ،لن من شرط الموجب أن يكون أعلى
رتبة من الموجب عليه ،والحق سبحانه خالق الخلق ،ومالكهم والمكلف لهم ،فل يصح أن يوصف
بوجوب شيء عليه ،تعالى عن ذلك (. )1
)4ـ المشيئة اللهية وحرية الختيار في مغفرة الذنوب :
قد يعفو ال عن السيئات صغيرها وكبيرها من غير اشتراط شيء كالتوبة من الكبائر واجتناب
الصغائر .لقوله تعالى{ :وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون }
[الشورى.]25/42:
أي يقبل ال التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي مطلقا،سواء الصغائر والكبائر لمن
يشاء ( )2ومشيئة ال :موافقة لحكمته ،وجارية على مقتضى سننه.
-------------------------------
( )1تفسير القرطبي 90/5 :وما بعدها.
( )2تفسير اللوسي ،36/25 :تفسير القرطبي.90/5 :
( )7/474
وجاءت آية أخرى تستثني الشرك بال مما يغفره ال تعالى ويراد بالشرك مطلق الكفر الشامل لكفر
اليهود وغيرهم .وذلك لنه تتولد منه سائر الرذائل التي تهدم الفراد والجماعات ،قال عز وجل{ :إن
ال ل يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء . ]48/4:أي إن مغفرة المعاصي ل
لكل الناس ،ولكن لمن يشاء ال من عباده الموفقين لليمان والتوبة والعمل الصالح ( { . )1إن
الحسنات يذهبن السيئات } [هود{ . ]114/11:قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من
رحمة ال ،إن ال يغفر الذنوب جميعا } [الزمر.]53/39:
أي إن رأي جماعة من العلماء تقييد المغفرة في هذه اليات بشرط التوبة ،حتى ل يفهم من القرآن
الغراء بالمعصية والتجرئة عليها .والحقيقة أن الية فوق ذلك ،فهي تقارن بين الشرك وغيره،
فالشرك معاقب عليه حتما لفساده النفوس البشرية ،وأما ما عداه فمغفرته ممكنة بحسب المشيئة
اللهية ،لنه ل يصل إلى درجة الشرك في إفساد النفس (. )2
والكلمة الخيرة في قضية تكفير السيئات وعدم المؤاخذة عليها في الخرة هي أنها تتعلق بمقاصد
النفس وقوة اليمان وسلطانه في القلب .وهذا رأي الغزالي ( )3وتبعه الستاذ المام محمد عبده (، )4
فمن صح إيمانه واتجه قصده وإرادته إلى كف النفس عن المعاصي استحق المغفرة والرضوان.
وأما الضرار بحقوق الناس المالية والدبية فهو يعتبر كالشرك بال ل يقبل المغفرة ما لم يسقط
صاحبه حقه الشخصي ،قال النبي صلّى ال عليه وسلم « :الدواوين عند ال ثلثة :ديوان ل يعبأ ال
به شيئا ،وديوان ل يترك ال منه شيئا ،وديوان ل يغفره ال ،فأما الديوان الذي ل يغفره ال فالشرك
بال ،قال ال عز وجل{ :إن ال ل يغفر أن يشرك به} [النساء ]48/4:وقال{ :إنه من يشرك بال فقد
حرم ال عليه الجنة} [المائدة ]72/5:وأما الديوان الذي ل يعبأ ال به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه
وبين ال من صوم تركه ،أوصلة ،فإن ال ل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء .وأما الديوان الذي ل يترك
ال منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا ،القصاص ل محالة» (. )1
-------------------------------
( )1تفسير ابن كثير ،511-508/1 :تفسير الكشاف.424/1 :
( )2تفسير المنار ،150/5 :تفسير اللوسي.52/5 :
( )3الحياء.20-14/4 :
( )4تفسير المنار.51/5 :
( )7/475
( )7/476
ففي مواجهة المدرسة التقليدية التي تقيم حق العقاب على أساس منفعة الصالح الجتماعي عن طريق
المنع أو الوقاية في المستقبل ،نرى فقهاءنا يقررون أن أساس أو مناط العقوبات المقررة شرعا هو
مصلحة الناس العامة وسعادتهم (، )1فكل ما يحقق مصالح البشرية فهو مشروع مطلوب؛ لن
المقصود الصلي من مشروعية الحدود والتعزيرات هوزجر الناس وردعهم عن ارتكاب المحظورات
وترك المأمورات دفعا للفساد في الرض ،ومنعا من إلحاق الضرر بالفراد والمجتمعات ( . )2قال
ابن عابدين :إن مدار الشريعة بعد قواعد اليمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم (. )3
ومن حرص الشريعة على تحقيق المصلحة في العقاب :أنها تمنع كل الوسائل التي تؤدي إلى الجرام
كتناول المسكرات والمخدرات ،بل واعتبرتها جرائم في ذاتها ( )4وتطبيقات مبدأ (سد الذرائع) تؤكد
ذلك ،فالفاحشة مثلً حرام ،والنظر إلى عورة الجنبية حرام ،لنها تؤدي إلى الفاحشة.
ثم إنه في مواجهة المدرسة التقليدية الجديدة التي تقول :إن أساس حق العقاب هو العدالة المطلقة
مجردة عن فكرة المنفعة ،يقرر فقهائنا ضرورة وجود تناسب بين الجريمة وعقوبة التعزير .ولكن
دون فصل لمبدأ العدالة عن مراعاة المصلحة .وإنما يستهدف العقاب تحقيق العدالة وحماية المصالح
الجتماعية الثابتة.
-------------------------------
( )1الجريمة والعقوبة في الفقه السلمي لستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة ص 32وما بعدها ،ط
النجلو المصرية ،القصاص في الشريعة السلمية للمرحوم الشيخ أحمد إبراهيم :ص 247وما
بعدها.
( )2راجع الحكام السلطانية للماوردي :ص ،213فتح القدير ،112/4 :تبيين الحقائق للزيلعي
،163/3البحر الرائق ،3/5 :أحكام القرآن للجصاص.412/2 :
( )3حاشية رد المحتار على الدر المختار.262/3 :
( )4القصاص في الشريعة للستاذ الشيخ أحمد إبراهيم :ص .21
( )7/477
وفي مواجهة المدرسة الوضعية التي تتفق مع المدرسة التقليدية من حيث ارتكازها على المبدأ النفعي،
وتطالب بالعناية بشخص المجرم لتقدير درجة خطورته ومدى قابليته للصلح ،نرى فقهاءنا يقررون
ذلك صراحة عند تقدير القاضي العقوبات التعزيرية لكثر الجرائم الواقعة ،وذلك على قدر الجناية
وعلى قدر مراتب الجاني .كما أن فقهاءنا يتميزون أساسا سواء في الحدود والتعزيرات بفتح باب
التوبة عن المخالفات ،ليبادر الجاني إلى إصلح نفسه إصلحا ذاتيا صادرا عن اقتناع واختيار وحرية
فكرية.
)3ـ الحاجة إلى العقوبة :
في كل إنسان نزعتا الخير والشر ،وبما أن الخير سبيل الصلح والتقدم والسعادة وجب تقوية دوافع
الخير في النسان ،وإضعاف عوامل الشر في نفسه ،فكان ل بد من تشريع العقاب الزاجر ،لنه
يساعد في مقاومة الميل إلى الشر ،ويرغب في الخير.
( )7/478
وحينئذ يعتبر تطبيق العقوبة على الجناة محققا لمبدأ الرحمة العامة ،والرحمة العامة في الحقيقة :هي
العدل ،والعدالة الحقيقية هي الرحمة الحقيقية ،ويعني ذلك أن الرحمة والعدالة في الشريعة متلزمتان
( ، )1فليست الرحمة فوق العدل ،ول العدل فوق الرحمة أو القانون ،بدليل صريح القرآن الكر يم:
{وربك الغفور ذو الرحمة ،لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب ،بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه
موئلً } [الكهف . ]58/18:فإذا كانت العدالة تقتضي تعجيل العقوبة في الدنيا ،فإن الرحمة تستدعي
تأخيرها فتحا لباب المل والتوبة والعدول عن المخالفة أمام كل إنسان في الحياة ،وبذلك تكون التوبة
أثرا من آثار الرحمة الواجب مراعاتها في تشريع العقاب مع مراعاة العدالة ،وهذا هو جوهر رسالة
السلم .قال ال تعالى{ :وما أرسلناك إل رحمة للعالمين } [النبياء ]107/21:قال ابن القيم «إن
حكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ،وهي عدل كلها ،ورحمة
الشريعة مبناها وأساسها على ال ِ
كلها ،ومصالح كلها وحكمة كلها» (. )2
-------------------------------
( )1الجريمة والعقوبة في الفقه ،المرجع السابق :ص .8-6
( )2أعلم الموقعين.14/3 :
( )7/479
وقال ابن تيمية« :من رحمة ال سبحانه وتعالى أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس
بعضهم على بعض في النفوس والبدان والعراض والموال والقتل والجراح والقذف والسرقة،
فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الحكام؛ وشرعها على أكمل
الوجوه ،المتضمنة لمصلحة الردع والزجر ،مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع » (. )1
واستعرض العز بن عبد السلم مفاسد الجرائم التي شرعت عنها الزواجر من الحدود والتعزيرات
بعبارة دقيقة البيان عميقة التحليل (. )2
وقال الشاطبي في الموافقات « :إن أحكام الشريعة ماشرعت إل لمصلحة الناس ،وحيثما وجدت
المصلحة فثم شرع ال » ......
)4ـ فلسفة التوبة أو هل تؤثر التوبة على المصلحة المقصودة من العقاب؟.
إن الشريعة السلمية ـ كما هو معروف ـ تستهدف في أحكامها حماية مصالح الدنيا ،وحفظ مقاصد
الخرة ،بل إن الدنيا في الحقيقة مزرعة الخرة ،كما ورد في الثر.
وبناء على هذا فل يتصور أن تكون التوبة سببا في ضياع مصلحة الجماعة في تطبيق العقوبة ،ول
وسيلة تؤدي إلى الغراء بالمعاصي والتجرئة عليها أو تسهيل ارتكابها ،وإنما على العكس تكون
التوبة الصادقة مساعدة على استئصال شأفة الجريمة ،لنه إذا كانت الغاية الولى للعقاب هي إصلح
المجرم ،فإن التوبة أقوى تأثيرا في تحقيق تلك الغاية لصدروها عن باعث ذاتي واقتناع داخلي .فهي
إذن تفتح باب المل أمام المخطئين ،وتدفعهم إلى معترك الحياة بروح إيجابية جديدة وحيوية وفعالية
منتجة.
ثم إن دور التوبة مقصور ـ باتفاق الفقهاء كما سأبين ـ على الحالة التي لم تعرض فيها قضية
الجريمة على محاكم القضاء ،وفي حقوق المجتمع المحضة (أي حق ال بتعبير فقهائنا) فإن عرضت
القضية على الحاكم لم يكن للتوبة تأثير في إسقاط العقوبة .وإن مست الجريمة حقا شخصيا للفرد لم
يَقبَل الحد (أي العقوبة المقدرة شرعا) السقاط أيضا بالتوبة ول بغيرها كالبراء والعفو والتنازل
والصلح والمعاوضة.
-------------------------------
( )1انظر رسالته في القياس ص 85والسياسة الشرعية له :ص .98
( )2قواعد الحكام.165-163/1 :
( )7/480
( )7/481
( )7/482
والرابع :ذكر القاضي أبو سعيد الهروي :إن الكبيرة :كل فعل نص الكتاب على تحريمه ،وكل معصية
توجب في جنسها حدا من قتل أو غيره .وترك كل فريضة مأمور بها على الفور ،والكذب في الشهادة
والرواية واليمين.
وإذا كان القول الثاني هو لكثر المفسرين ،فإن الرأي الثالث هو أولى الراء بالقبول؛ لن الغزالي
اعتمده ،واستحسنه الرازي (. )1
فالكبيرة إذن :هي كل ما يشعر بالستهانة بالدين وعدم الكتراث به (. )2
التقسيم الثاني -تقسيم الذنوب إلى ما يتعلق بحق ال أو بحق العباد (: )3
تنقسم الذنوب إلى مايكون بين العبد وبين ال تعالى ،وإلى ما يتعلق بحقوق الشخاص (. )4
فأما ما يتعلق بحق ال تعالى :فهو كترك الصلة والصوم .والتوبة ل تصح منه ،حتى ينضم إلى الندم
قضاء ما فات منها.
-------------------------------
( )1تفسير المنار.49/5 :
( )2صنف أبو طالب المكي الكبائر بسبع عشرة :أربعة في القلب :وهي الشرك بال ،والصرار
على معصيته ،والقنوط من رحمته ،والمن من مكره .وأربع في اللسان :وهي شهادة الزور ،وقذف
المحصن ،واليمين الغموس ،والسحر .وثلث في البطن :وهي شرب الخمر والمسكر من كل شراب
وأكل مال اليتيم ظلما ،وأكل الربا وهو يعلم .واثنتان في الفرج ،وهما الزنا واللواط .واثنتان في اليد:
وهما القتل والسرقة .وواحدة في الرجلين :وهو الفرار من الزحف .وواحدة في جميع الجسد :وهو
عقوق الوالدين .وتعقبه الغزالي بأنه تصنيف غير شامل ويمكن الزيادة عليه .وقال :إن الكبائر على
ثلث مراتب :الولى ما يمنع من معرفة ال تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر ،ويتلوه المن من مكر
ال والقنوط من رحمته ،ثم يتلوه البدع كلها المتعلقة بذات ال وصفاته وأفعاله .المرتبة الثانية:
النفوس .المرتبة الثالثة :الموال .ثم استعرض بقية الجرائم (راجع الحياء.)20-15/4 :
( )3تفسيرالقرطبي 199/18وما بعدها ،الحياء .14/4
( )4المقصود بحق ال تعالى :ما يمس المجتمع وهو مايتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص
بأحد .وينسب إلى ال تعالى لعظم خطره وشمول نفعه .وأما حق العبد :فهو الحق الشخصي :وهو
مايتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير ودمه وعرضه.
( )7/483
وأما ما يتعلق بحقوق العباد :فهو كترك الزكاة وقتل النفس وغصب الموال وشتم العراض،
والتوبة منه تكون برد الحق لصاحبه .ففي حال التفريط بالزكاة يجب القضاء .وفي القتل تكون التوبة
بالتمكين من القصاص إن كان عليه ،وكان مطلوبا منه قضاء .وفي القذف ببذل ظهره للجلد إن كان
مطالبا به .فإن عفي عنه أو عن القتل مجانا كفاه الندم والعزم على ترك العود بالخلص .فإن عفي
عن القتل بمال فعليه أداؤه إن كان واجدا له ،قال ال تعالى{ :فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع
بالمعروف وأداء إليه بإحسان } [البقرة .]178/2:وكذلك شراب الخمر والسراق والزناة إذا أصلحوا
وتابوا سقط الحد عنهم في رأي بعض العلماء كما سيأتي تفصيل الكلم فيه.
وإن كان الذنب من مصالح العباد ،فل تصح التوبة عنه إل برده إلى صاحبه والخروج عنه ـ عينا
كان أو غيره ـ إن كان قادرا عليه .فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت
وأسرعه.
وإن كان العاصي أضر بآخر فإنه يزيل ذلك الضرر عنه ،ثم يطلب منه العفو والستغفار له ،فإذا عفا
عنه ،سقط الذنب عنه.
وإن أساء رجل إلى آخر بأن فزّعه بغير حق ،أو غمه ،أو لطمه ،أو صفعه بغير حق أو ضربه بسوط
فآلمه ،أو شانه بشتم ل حد فيه ثم ندم واستعفى من المضرور ،وعزم على أل يعود فعفا عنه صاحب
الحق ،سقط عنه ذلك الذنب.
( )7/484
( )7/485
لم تذنبوا لذهب ال بكم ،ولجاء بقوم يذنبون ،فيستغفرون ال ،فيغفر لهم» (« )1التوبة تجب ما قبلها»
( . )2
وسأذكر هنا نموذجا من توبة العصاة:
- 1توبة الكافر :الكفر أو الشرك إما في اللوهية أو في الربوبية ،فالشرك في اللوهية :هو الشعور
بسلطة وتأثير وراء السباب والسنن الكونية لغير ال تعالى ،وكل قول وعمل ينشأ عن ذلك الشعور.
والشرك في الربوبية :هو الخذ بشيء من أحكام الدين والحلل والحرام عن بعض البشر دون الوحي
( . )3
وتوبة المشرك أو الكفر تكون بإعلن السلم والقرار بتوحيد الله (توحيد اللوهية وتوحيد الربوبية)
سواء أقدر عليه الحاكم أم لم يقدر عليه ،لن عدم القدرة ليست مشترطة في توبة الكفار .والتوحيد
الذي يناقض الشرك :هو عبارة عن إعتاق النسان من رق العبودية لكل أحد من البشر وكل شيء من
الشياء السماوية والرضية ،وجعله حرا كريما عزيزا ل يخضع خضوع عبودية مطلقة إل لمن
خضعت لسنته الكائنات ،بما أقامه فيها من النظام في ربط السباب بالمسببات ،فلسنته الحكيمة
يخضع ،ولشريعته العادلة المنزلة يتبع .وإنما خضوعه هذا لعقله ووجدانه ،ل لمثاله في البشرية
وأقرانه (. )4
وتقبل توبة الكافر اتفاقا ترغيبا في السلم ( )5ولقوله تعالى{ :قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما
قد سلف} [النفال.]38/8:
- 2توبة المنافق :النفاق :إظهار اليمان باللسان ،وكتمان الكفر بالقلب ( )1والمنافق وهو الذي يبطن
الكفر ويظهر السلم أشد خطرا على المسلمين من الكفار ،لنه يكتم الكفر والكيد للمسلمين ويتربص
الدوائر بهم ،ويرتكب السيئات بباعث النفاق الظاهر والخبث الباطن ،فاستحق العذاب مرتين،وكان في
الدرك السفل من النار.
-------------------------------
( )1رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة.
( )2ذكره بعض الفقهاء ولم أقف على تخريجه وقد سبق بيان ذلك.
( )3تفسير المنار.148/5 :
( )4المرجع السابق.149/5 :
( )5الفروق للقرافي.181/4 :
( )7/486
وتوبة المنافق تكون بتزكية نفسه ومجاهدتها بقدر الستطاعة والطاقة ،وطلب العفو عما ل طاقة له
به ،وترك الكفر ظاهرا أو باطنا ،وإعلنهم اليمان بال ورسوله .ويمكن قبول توبة المنافق لقوله
تعالى {ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن ال كان غفورا رحيما} [الحزاب]24/33:
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم} { ...عسى ال أن يتوب عليهم} [التوبة{ ]102/9:وآخرون مرجون لمر
ال إما يعذبهم ،وإما يتوب عليهم} [التوبة.]106/9:
- 3توبة الزنديق :الزنادقة هم الدهريون الذين ينكرون وجود الله ويزعمون أن العالم وجد مصادفة
( . )2وقال المالكية :الزنديق هو الذي يظهر السلم ويس ّر الكفر ( . )3وقال الحنفية :الزنديق :هو
من ل يتدين بدين (. )4
واختلف العلماء في توبة الزنديق ،فقال العترة من الزيدية ،وأبو حنيفة ومحمد والشافعي :تقبل توبة
الزنادقة ول يقتلون؛ لعموم قوله تعالى{ :قل للذين كفروا :إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [النفال:
.]38/8
-------------------------------
( )1التعريفات للجرجاني :ص ،219الفرق بين الزنديق والمنافق والدهري والملحد مع الشتراك في
إبطان الكفر :أن المنافق غير معترف بنبوة نبينا صلّى ال عليه وسلم .والدهري كذلك مع إنكاره
إسناد الحوادث إلى الصانع المختار سبحانه وتعالى .والملحد :وهو من مال عن الشرع القويم إلى
جهة من جهات الكفر سواء اعترف بالنبوة لمحمد أم ل ،أظهر الكفر أو أبطنه ،سبق إلى السلم أم
ل .فهو أوسع فرق الكفر .أما الزنديق في لسان العرب فهو من ينفي الباري تعالى ،أو من يثبت
الشريك أو من ينكر حكمته ،أو بعبارة أخرى كما في الفتح :هو من ل يتدين بدين (رد المحتار:
.)324/3
( )2المنقذ من الضلل للغزالي :ص .10
( )3القوانين الفقهية :ص .365
( )4رد المحتار.324 ،201/3 :
( )7/487
وقال مالك وأبو يوسف والجصاص :ل تقبل توبتهم ،فإذا عثر على الزنديق قتل ول يستتاب ،ول
يقبل منه ادعاء التوبة إذ يعرف منه عادة التظاهر بالتوبة تقيه ،بخلف ما يبطنه ،واستثنى المام مالك
من جاء تائبا قبل ظهور زندقته فتقبل توبته (. )1
والمفتى به في مذهب الحنفية أن الزنديق إذا أخذ قبل توبته ثم تاب لم تقبل توبته ويقتل ،ولو أخذ
بعدها قبلت (. )2
قال صاحب البحر الزخار الزيدي :لكن القرب العمل بالظاهر ،وإن التبس الباطن لقوله صلّى ال
عليه وسلم لمن استأذنه في قتل منافق« :أليس يشهد أن ل إله إل ال » (. )3
- 4توبة المبتدع :المبتدع :هو الذي أحدث شيئا في السلم ليس منه ،ولم يكن عليه الصحابة
والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي .أو هو كل من قال قولً خالف فيه اعتقاد أهل السنة
والجماعة (. )4
فإذا كان ببدعته منكرا لما علم بالتواتر والضرورة (أي البداهة) من الشريعة ،فهذا كافر ببدعته،
كالمجسمة أو المشبهة ،الذين شبهوا معبودهم بإنسان له جسم محدود بسبعة أشبار بشبر نفسه ،أو الذين
ألهوا أحدا من البشر.
وأما إن كان المبتدع ل يكفر ببدعته ،فهو ضال فاسق كأهل البدع والهواء المخالفين لهل السنة أو
سيرة السلف الصلح في بعض المسائل العتقادية ،مثل القدَرية القائلين بخلق النسان أفعال نفسه،
والخوارج الذين كفروا عليا ومعاوية وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة.
وتوبة المبتدع تكون بالتخلص من بدعته والتزام العقيدة الحقة ،ول مانع من قبول توبته وإن كان
-------------------------------
( )1البحر الزخار ،207/5 :القوانين الفقهية :ص .365
( )2الدر المختار ورد المحتار.324/3 :
( )3روى الحديث مسلم عن المقداد بن السود.
( )4التعريفات للجرجاني :ص ،37رد المحتار.201/3 :
( )7/488
كافرا ،لن العقل يجوز ذلك ،وظاهر الشرع وعموم اليات القرآنية يدل على إمكان قبول توبة الكفار
والمشركين (. )1
والخلصة :إن قبول التوبة في عالم الخرة مشروط بعدم الصرار على المعصية ،وعدم التلعب
بالسلم .وعدم البقاء على الكفر قبل الموت وذلك هو ما يشير إليه القرآن الكريم في اليات الثلث
التية:
{ - 1والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا ال فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إل ال
،ولم يصروا على ما فعلوا ،وهم يعلمون } [آل عمران.]135/3:
{ - 2إن الذين آمنوا ثم كفروا ،ثم آمنوا ثم كفروا ،ثم ازدادوا كفرا لم يكن ال ليغفر لهم ،ول ليهديهم
سبيلً} [النساء{ .]4/137:إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } [آل عمران:
.]90/3
{ - 3إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ،فلن يقبل من أحدهم ملء الرض ذهبا ولو افتدى به} [آل
عمران ]91/3:و [البقرة.]161/2:
-------------------------------
( )1العتصام للشاطبي.271/2 :
( )7/489
( )7/490
( )7/491
صريح قوله تعالى في حق المحاربين{ :إل الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ،فاعلموا أن ال غفور
رحيم } [المائدة.]34/5:
ومفهوم الية أل يسقط عنه شيء بالتوبة بعد الظفر عليه ،لن الظاهر أن التوبة قبل ذلك توبة
إخلص ،ولترغيبه في التوبة ،وبعده الظاهر أنها تقيه من إقامة الحد عليه ،ول حاجة لترغيبه في
التوبة؛ لنه قد عجز عن الفساد والمحاربة.
أما ما يسقط عنه بالتوبة :فاختلفوا فيه ( ، )1فقال فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والمامية
والزيدية في أرجح الراء لديهم :تسقط بتوبة المحارب حقوق ال تعالى كحد الزنا واللواط والسرقة
وشرب الخمر؛ لنها حدود ال تعالى ،فتسقط بالتوبة كحد المحاربة ،ولن في إسقاطها ترغيبا في
التوبة.
ول تسقط عنه حقوق الناس الشخصية كحد القذف والقصاص وضمان الموال ،إذ ل دليل على
إسقاطها.
وهناك آراء أخرى ،قال الهادي من الزيدية ،والباضية :يسقط عنه ما قد أتلف ولو حقا لدمي في
نفس أو مال أو قتل ،لعموم الية{ :إل الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة.]34/5:
وقال بعضهم :ترفع التوبة جميع حقوق ال ،ولكن يؤاخذ بالدماء (أي جراح النفس من قتل وضرب
وجرح) والموال بما وجد بعينه في يده ،ول تتبع ذمته .وهو قول لمالك.
-------------------------------
( )1المراجع السابقة.
( )7/492
وبعضهم قال :إن التوبة تسقط جميع حقوق ال ،وحقوق الدميين من مال ودم ،إل ما كان من
الموال قائم العين بيده ،وهو قول الليث بن سعد ورجحه ابن جرير الطبري (. )1
وشدد بعضهم وهو قول عند الشافعية وللمام مالك .فقال :ل تسقط التوبة عن المحارب إل حد
الحرابة فقط ،ويؤاخذ بما سوى ذلك من حقوق ال وحقوق الدميين.
عقوبة الردة والبغي :
الردة :ترك الدين السلمي والخروج عليه بعد اعتناقه .والبغي :الخروج عن طاعة الحاكم بثورة
مسلحة ،أو الخروج على المام مغالبة.
اتفق الفقهاء على إسقاط عقوبة الباغي (وهي القتل) بالتوبة؛ لن القصد من عقابه توفير الطاعة
والولء والعدول عن البغي (. )2
كما أن عقوبة المرتد (وهي القتل ومصادرة ماله) تسقط أيضا بالتوبة بأن يتبرأ عن الديان كلها سوى
السلم أو عما انتقل إليه من مذهب الكفر ،لن الغاية هي رجوعه إلى السلم ،لذا استحب الحنفية
استتابته وعرض السلم عليه قبل القتل ،لحتمال أن يسلم ،وأوجب جمهور الفقهاء حصول الستتابة
قبل القتل ثلث مرات ( ، )3فإن تاب قبلت توبته ،وإن لم يتب وجب عليه القتل.
وأضاف الزيدية وأئمة المذاهب أن من تكرر منه الردة والسلم حتى كثر فهو مقبول التوبة ،لقوله
تعالى{ :يغفر لهم ما قد سلف} [النفال ]38/8:ولم يفصل النص بين من تكرر منه ذلك أو لم يتكرر (
. )4
ذكر النسائي عن ابن عباس قال :كان رجل من النصار أسلم ،ثم ارتد ولحق بالمشركين ثم ندم
فأرسل إلى قومه :سلوا لي رسول ال صلّى ال عليه وسلم :هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى النبي
صلّى ال عليه وسلم فقالوا :هل من توبة؟ فنزلت آيات من سورة آل عمران آخرها ({ )5إل الذين
تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ،فإن ال غفور رحيم} قال ابن عباس :فأرسل إلى الرجل فأسلم.
عقوبة القذف :
اتفق العلماء على أن التوبة ل تسقط حد القذف ،لنه حق آدمي (. )6
الحقوق الشخصية للناس :
يظهر مما سبق أن حقوق الدميين ل تسقط بالتوبة ما لم ترد المظالم لصحابها ،كما أنه ل يغفرها
الباري سبحانه إل بمغفرة صاحبها ،ول يسقطها إل بإسقاطه (. )7
عقوبة السرقة والزنا وشرب الخمر :
-------------------------------
( )1تفسير الطبري 287/1 :وما بعدها ،شرح الزهار ،378/4 :شرح النيل.643/7 :
( )2فتح القدير ،409/4 :الدر المختار ورد المحتار ،340/3 :الشرح الكبير للدردير ،299/4 :مغني
المحتاج ،127/4 :المغني.114/8 :
( )3المبسوط للسرخسي ،98/10 :فتح القدير ،385/4 :البدائع ،134/7 :تبيين الحقائق،284/3 :
بداية المجتهد ،448/2 :الشرح الكبير للدردير ،304/4 :مغني المحتاج ،139/4 :المغني،124/8 :
كشاف القناع ،144/6 :القوانين الفقهية :ص ،364شرح النيل.643/7 :
( )4البحر الزخار.208/5 :
( )5اليات.89 - 86 :
( )6بداية المجتهد ،434/2 :المغني.296/8 :
( )7أحكام القرآن لبن العربي ،600/2 :تفسير القرطبي.200/18 :
( )7/493
( )7/494
الرأي الثاني :قال الحنابلة في الرجح عندهم ( )1والشيعة المامية ( )2وبعض علماء الحنفية ()3
والمالكية ( )4والشافعية ( )5والزيدية ( : )6إن التوبة تسقط حد الزنا والسرقة وشرب الخمر عن
العصاة من غير اشتراط مضي زمان قبل رفع المر إلى الحاكم أو قبل القدرة عليهم أو قبل البينة
وثبوت الحد عليهم ،واستدلوا بما يأتي:
-------------------------------
( )1المغني ،296/8 :غاية المنتهى ،345/3 :قال ابن تيمية في فتاويه 253/4 :من وجب عليه حد
الزنا أو السرقة أو شرب الخمر فتاب قبل أن يرفع إلى المام ،فالصحيح أن الحد يسقط عنه كما يسقط
عن المحاربين بالجماع إذا تابوا قبل القدرة.
( )2قال الطوسي :كل من وجب عليه حد من حدود ال من شرب الخمر أو الزنا أو السرقة من غير
المحاربين ثم تاب من قبل قيام البينة عليه بذلك فإنها بالتوبة تسقط ( الخلف في الفقه ،482/2 :
المختصر النافع في فقه المامية :ص .) 303-297
( )3قال ابن عابدين من الحنفية :الظاهر أن التوبة ل تسقط الحد الثابت عند الحاكم بعد الرفع إليه ،أما
قبله فيسقط الحد بالتوبة حتى في قطاع الطرق ،سواء كان قبل جنايتهم على نفس أو عضو أو مال أو
كان بعد شيء من ذلك .ونقل عن شرح الشباه :إذا تاب شارب الخمر توبة نصوحا أرجو أل يحد في
الخرة ،فإنه ل يكون أكثر من الكفر والردة ،وإنه يزول بالسلم والتوبة (رد المحتار.)154/3 :
( )4الفروق للقرافي ،181/4 :قال فيه( :إن الحدود ل تسقط بالتوبة على الصحيح إل الحرابة) مما
يدل على وجود قول آخر بالسقوط.
( )5للشافعي قول بأن هذه الحدود تسقط بالتوبة قياسا على حد المحاربة .لكن قال النووي ل تسقط
سائر الحدود عدا حد الحرابة بالتوبة في الظهر (مغني المحتاج ،184/4 :تكملة المجموع،343/18 :
المهذب.)285/2 :
( )6جاء في كتاب الوافي في الفقه عند الزيدية :يسقط حد الزنا بالتوبة لخبر ماعز (البحر الزخار:
.)158/5
( )7/495
- 1ثبت في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أنس قال« :كنت مع النبي صلّى ال عليه وسلم
فجاء رجل فقال :يا رسول ال ،إني أصبت حدا فأقمه علي ،قال :ولم يسأله عنه فحضرت الصلة،
فصلى مع النبي صلّى ال عليه وسلم ،فلما قضى النبي صلّى ال عليه وسلم الصلة ،قام إليه الرجل،
فأعاد قوله ،قال :أليس قد صليت معنا؟ قال :نعم ،قال :فإن ال عز وجل قد غفر لك ذنبك» ففي هذا
دليل على أن التائب غفر ال له ،ولم يكن بحاجة لقامة الحد عليه مادام أنه اعترف به.
- 2قال النبي صلّى ال عليه وسلم « :التائب من الذنب كمن ل ذنب له» ومن ل ذنب له ل حد
عليه .وقال في ما عز لما أخبر بهربه« :هل تركتموه يتوب فيتوب ال عليه؟» وإقامة الحد عليه
بالرغم من توبته تجاوب مع ما اختاره بنفسه كما اختارته المرأة الغامدية ،قال ابن تيمية :إن الحد
مطهر ،وإن التوبة مطهرة ،وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إل أن يطهرا
بالحد ،فأجابهما النبي صلّى ال عليه وسلم إلى ذلك (. )1
- 3صرح القرآن الكريم بإسقاط حد الزنا بالتوبة في قوله تعالى{ :واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ،فإن
تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء ]16/4:وبإسقاط حد السرقة أيضا في قوله سبحانه{ :فمن تاب
من بعد ظلمه وأصلح ،فإن ال يتوب عليه} [المائدة.]39/5:
- 4ل فرق بين حد الحرابة وبقية الحدود ،فإذا أسقطت التوبة حد الحرابة مع شدة ضررها وتعدي
المحارب ،فلن تدفع التوبة ما دون حد الحراب بطريق الولى والحرى ،وقد قال ال تعالى{ :قل
للذين كفروا :إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [النفال.]38/8:
-------------------------------
( )1أعلم الموقعين.79/2 :
( )7/496
قال ابن القيم :ال تعالى جعل الحدود عقوبة لرباب الجرائم ،ورفع العقوبة عن التائب شرعا وقدرا،
فليس في شرع ال ول قدره عقوبة تائب البتة (. )1
والكلمة الخيرة :إن ظواهر القرآن والسنة والعمل بمبدأ الستر في السلم تؤيد الرأي الثاني الذي
يسقط الحدود بالتوبة إذا كانت خالصة ل تعالى ،أي لمصلحة الجماعة ،ولم تكن متعلقة بالحقوق
الشخصية للناس .وليس في هذا الرأي إخلل بمصالح المجتمع؛ لن التائب بتوبته يحقق المصلحة
المنشودة ،ل سيما إذا ل حظنا اشتراط كون التوبة صادقة نصوحا.
قال الحنابلة :إذا قلنا بسقوط الحد بالتوبة ،فهل يسقط بمجرد التوبة أو بهما مع إصلح العمل؟ فيه
وجهان:
أحدهما :يسقط بمجردها ،وهو ظاهر قول أصحابنا ،لنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب
قبل القدرة عليه.
والثاني :يعتبر إصلح العمل ،لقول ال تعالى{ :فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء]16/4:
وقال{ :فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن ال يتوب عليه} [المائدة .]39/5:فعلى هذا القول :يعتبر
مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلح نيته ،وليست مقدرة بمدة معلومة (. )2
-------------------------------
( )1أعلم الموقعين.398/4 ،19/3 ،78/2 :
( )2المغني 296/8 :وما بعدها.
( )7/497
( )7/498
فإن كان التعزير حقا خالصا للفرد أو الغالب فيه حقه كالشتم والسب والمواثبة والضرب بغير حق
والتزوير وشهادة الزور ونحوها مما يتوقف على الدعاء الشخصي ،فل يسقط بالتوبة كما ل يسقط
بعفو القاضي ،إل أن يصفح المعتدى عليه.
وأما إن كان التعزير حقا ل تعالى كتعزير مفطر رمضان عمدا بدون عذر ،وتارك الصلة وأكل الربا
ظاهرا ،ومن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق أو كان حق ال فيه غالبا كمباشرة امرأة أجنبية فيما
دون الجماع كتقبيل وعناق وخلوة بها ونحو ذلك ،فيسقط بالتوبة ،كما يسقط بعفو القاضي .وهذا
التفصيل في الواقع هو رأي الحنفية والشافعية.
ولكن وردت عبارات لبعض الفقهاء يفهم منها بعمومها أن التعزير مطلقا يسقط بالتوبة باتفاق الفقهاء.
قال القرافي :إن التعزير يسقط بالتوبة ،ما علمت في ذلك خلفا (. )1
وقال في البحر الزخار :يسقط التعزير بالتوبة ،ويقرب أنه إجماع المسلمين الن لكثرة الساءات فيما
بينهم ،ولم يعلم أن أحدا طلب تعزير من اعتذر إليه واستغفر ،ول من أقر بأنه قارف ذنبا خفيفا ،ثم
تاب منه ،ولستلزامه تعزير أكثر الفضلء ،إذ لم يخل أكثرهم عن مقارفة ذنب وظهوره في فعل أو
قول ( . )2ولعل المراد من هذه العبارات التعزير الواجب حقا ل تعالى ،لن الخلف بين التعزير
والحد هو في حقوق ال تعالى.
-------------------------------
( )1الفروق.181/4 :
( )2البحر الزخار ملخصا.211/5 :
( )7/499
.......................................خاتمة.........................................
يتبين من هذا البحث أن للتوبة نظاما دقيقا في الشريعة السلمية ،إذ إنه قد يُكشَف عن الجريمة،
فيبادر الجاني إلى القرار بمعصيته أمام القاضي ،وللقاضي حينئذ توقيع العقوبة عليه ،كما فعل
الرسول صلّى ال عليه وسلم فيمن أقر بالزنا أمامه ،وهو رأي ابن تيمية وابن القيم.
وقد تساعد التوبة على التقليل من الجرائم بإصلح الجاني من نفسه ورده الحقوق لصحابها بدافع
ذاتي واقتناع داخلي ،إذا توافرت شرائط التوبة الشرعية ،فكانت توبة صادقة نصوحا.
ثم إنه قد تكون التوبة دليلً على تحقيق الولء والطاعة السياسية فتحقن دماء كثيرة ،ول تهدر الكرامة
النسانية في سبيل دعم الحكم ،فتتخلص المة من شر كبير وفساد عظيم وقعت به في الماضي حين
قام بعض الحكام بالبطش بخصومهم المعارضين لسياستهم ،كما يظهر في توبة البغاة والخوارج
وقطاع الطرق.
وقد تكون التوبة أيضا سبيلً سهلً لتوفير احترام العقيدة والنظام السلمي ،كما في توبة المنافقين
والمرتدين والزنادقة.
لهذا كله أقِرّ الرأي القائل بإسقاط الحدود والتعزيرات بالتوبة إذا كانت الجريمة ماسة بمصلحة المجتمع
(حق ال ) ما لم يرفع في شأنها دعوى إلى القضاء ،أما إذا كانت الجريمة متعلقة بحق شخصي (حق
الفرد) أو رفع في شأنها دعوى إلى القضاء ،فمن العدل والمنطق أل تسقط التوبة العقوبة إطفاء لنار
الفتنة .ودفعا للضرر عن المجني عليه ،وشفاء للم المصاب ،واستئصالً للجريمة ،فل يتجرأ أحد على
العتداء على حقوق الخرين في نفس أو مال أو عرض .وهذا هو رأي الحنابلة والشيعة المامية
وبعض فقهاء المذاهب الخرى في نطاق الحدود الثلثة ( :حد الزنا والسرقة وشرب الخمر ) ،وهو
رأي الفقهاء عامة فيما يبدو بالنسبة للتعازير ،وبقية الحدود الخرى.
وفي ذلك مصلحة للمؤمنين بشرائع السلم في وقت عطلت فيه الحدود الشرعية ،ولم يبق أمام
المؤمن الصادق سوى التوبة لتكفير خطاياه.
وال الموفق والهادي إلى سواء الصراط ،أخرج الترمذي عن أنس رضي ال عنه قال :سمعت رسول
ال صلّى ال عليه وسلم يقول :قال ال « :يا ابن آدم ،إنك مادعوتني ورجوتني غفرت لك على ماكان
منك ول أبالي ،يا ابن آدم ،لو بلغت ذنوبك عنان السماء ،ثم استغفرتني غفرت لك ول أبالي ،يا ابن
آدم ،إنك لو لقيتني بقُراب الرض خطايا ،ثم لقيتني لتشرك بي شيئا ،لتيتك بقُرابها مغفرة » .
( )7/500
( )7/501
( )7/502
.حكم بصحة ردته بانت منه امرأته ،ول تطبق عليه العقوبات المقررة للمرتد؛ لنه ليس أهلً للتزام
العقوبات في الدنيا.
وقال الشافعي وأبو يوسف :البلوغ شرط ،فل تصح ردة الصبي المميز ،ول المجنون لعدم تكليفهما،
فل اعتداد بقولهما واعتقادهما ،أي ل يصح أيضا عندهما إسلم الصبي ،لحديث «رفع القلم عن ثلثة:
عن الصبي حتى يبلغ »...وقد رجع أبو حنيفة إلى رأي أبي يوسف كما في الفتح وغيره.
وقال الجمهور غير الشافعية :يصح إسلم الصبي المميز لحديث« :كل مولود يولد على الفطرة( »..
. )1
ولقوله عليه الصلة والسلم« :من قال :ل إله إل ال دخل الجنة» ( . )2والخلصة :أنه يصح إسلم
المميز وردته عند الجمهور ،ول يصح إسلمه ول ردته عند الشافعية.
وأرجح رأي الجمهور في قبول إسلم المميز بدليل إسلم سيدنا علي رضي ال عنه وهو صغير،
والولى الخذ برأي الشافعي وأبي يوسف في عدم صحة ردة المميز؛ إذ ل تكليف قبل البلوغ.
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومسلم وأحمد والموطأ والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ «ما من مولود إل
يولد »...ورواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن السود بن سريع بلفظ «كل مولود يولد( »...جامع
الصول ،178/1 :نيل الوطار ،200/7 :الجامع الصغير )94/2 :والفطرة :أنه يكون متهيئا
للسلم.
( )2البدائع ،مغني المحتاج ،المرجعان السابقان ،المغني ،المرجع نفسه :ص 135 ،133وما بعدها،
وأما حديث «من قال :ل إله إل ال » فرواه البزار عن أبي سعيد الخدري ،وهو حديث صحيح
متواتر روي عن 34صحابيا بلفظ «من شهد أن ل إله إل ال ،وجبت له الجنة» (النظم المتناثر من
الحديث المتواتر للكتاني :ص ،28الجامع الصغير ،177/2 :مجمع الزوائد 81/10 :وما بعدها).
( )7/503
( )7/504
والتارك لدينه المفارق للجماعة» ( . )1وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد ،وكذا تقتل المرأة
المرتدة عند جمهور العلماء غير الحنفية ،بدليل أن امرأة يقال لها « :أم مروان ارتدت عن السلم،
فبلغ أمرها إلى النبي صلّى ال عليه وسلم فأمر أن تستتاب ،إن تابت وإل قتلت» ( )2وقد وقع في
حديث معاذ« :أن النبي صلّى ال عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن ،قال له :أيما رجل ارتد عن السلم
فادعه ،فإن عاد ،وإل فاضرب عنقه ،وأيما امرأة ارتدت عن السلم ،فادعها ،فإن عادت ،وإل
فاضرب عنقها» ( . )3قال الحافظ ابن حجر« :وإسناده حسن ،وهو نص في موضوع النزاع ،فيجب
المصير إليه» .
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي ال عنه (سبل السلم ،231/3 :اللمام :ص .)443
( )2أخرجه الدارقطني والبيهقي عن جابر ،وإسناده ضعيف ،وأخرجه البيهقي من وجه آخر ضعيف
عن عائشة (نيل الوطار ،192/7 :نصب الراية ،458/3 :تلخيص الحبير ،الطبعة المصرية.)49/4 :
( )3رواه الطبراني في معجمه عن معاذ بن جبل ،قال الحافظ ابن حجر :وسنده حسن (نيل الوطار:
،193/7نصب الراية.)457/3 :
( )7/505
وقال الحنفية :ل تقتل المرأة المرتدة ،ولكنها تجبر على السلم ،وإجبارها يكون بالحبس إلى أن تسلم
أو تموت؛ لنها ارتكبت جرما عظيما ،وتضرب في كل ثلثة أيام مبالغة في الحمل على السلم ،ولو
قتلها قاتل ل يجب عليه شيء للشبهة .ودليلهم على عدم جواز قتل المرأة المرتدة هو قوله صلّى ال
عليه وسلم « :ل تقتلوا امرأة» وفي حديث صحيح آخر أن النبي عليه السلم نهى عن قتل النساء،
ولن القتل لدفع شر الحرابة ل بسبب الكفر ،إذ جزاؤه أعظم من القتل عند ال تعالى ،فيختص القتل
لمن يتأتى منه المحاربة ،وهو الرجل دون المرأة لعدم صلحية بنيتها (. )1
أما الستتابة قبل القتل :فيستحب عند الحنفية أن يستتاب المرتد ويعرض عليه السلم ،لحتمال أن
يسلم ،لكن ل يجب؛ لن دعوة السلم قد بلغته ،فإن أسلم فمرحبا به ،وإن أبى نظر المام في شأنه:
فإن تأمل توبته أو طلب هو التأجيل أجله ثلثة أيام ،فإن لم يتأمل توبته ،أو لم يطلب هو التأجيل ،قتله
في الحال ،بدليل ما روي عن سيدنا عمر رضي ال عنه« :أنه قدم على رجل من جيش المسلمين،
فقال :هل عندكم من مُغربةِ خبر؟ قال :نعم ،رجل كفر بال تعالى بعد إسلمه ،فقتلناه ،فقال عمر :هل
حبستموه في بيت ثلثة أيام ،وأطعمتموه في كل يوم رغيفا لعله يتوب ،ثم قال :اللهم إني لم أحضر
ولم آمر ،ولم أرض» ( ، )2إل أن الكمال بن الهمام قال :لكن ظاهر تبري عمر يقتضي الوجوب.
-------------------------------
( )1راجع المبسوط 98/10 :وما بعدها ،فتح القدير 385/4 :وما بعدها ،البدائع ،134/7 :تبيين
الحقائق للزيلعي 384/3 :وما بعدها ،الدر المختار ورد المحتار.326 ،312/3 :
( )2رواه مالك في الموطأ ،والشافعي والبيهقي من طريقه عن محمد بن عبد ال بن عبد القادر ،قال:
قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى ..الحديث (نصب الراية ،460/3 :نيل الوطار:
.)191/7
( )7/506
وكيفية توبة المرتد :أن يتبرأ عن الديان كلها سوى السلم ،ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه ،لحصول
المقصود به ،وتكون توبة المرتد وكل كافر بإتيانه بالشهادتين (. )1
وقال جمهور العلماء :تجب استتابة المرتد والمرتدة قبل قتلهما ثلث مرات ،بدليل حديث أم مروان
السابق ذكره ،وثبت عن عمر وجوب الستتابة ،ول يعارض هذا :النهي عن قتل النساء الذي استدل
به الحنفية ،لن ذلك محمول على الحربيات ،وهذا محمول على المرتدات (. )2
والخلصة :أنه يعرض السلم استحبابا عند الحنفية ( ، )3ووجوبا عند غيرهم على المرتد ،فإن
كانت له شبهة كشفت له ،إذ الظاهر أنه ل يرتد إل من له شبهة .ويحبس ثلثة أيام ندبا عند الحنفية،
ويعرض عليه السلم في كل يوم ،فإن أسلم فبها ،وإن لم يسلم قتل ،لحديث« :من بدل دينه فاقتلوه» (
. )4
ول يقتل المرتد إل المام أو نائبه ،فإن قتله أحد بل إذنهما ،أساء وعزر ،ولكن ل ضمان بقتله ولو
كان القتل قبل استتابته ،أو كان مميزا ،إل أن يلحق بدار الحرب فلكل أحد قتله وأخذ مامعه.
- 2حكم مال المرتد وتصرفاته :
ل خلف في أن المرتد إذا أسلم تكون أمواله على حكم ملكه السابق ،ول خلف أيضا في أنه إذا
مات،أو قتل ،أو لحق بدار الحرب ،تزول أمواله عن ملكه.
-------------------------------
( )1اللباب شرح الكتاب ،149/4 :غاية المنتهى.360/3 :
( )2بداية المجتهد ،448/2 :الشرح الكبير للدردير ،304/4 :مغني المحتاج :ص 139وما بعدها،
المغني 124/8 :وما بعدها ،غاية المنتهى.358/3 :
( )3الكتاب مع اللباب.148/4 :
( )4أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد عن عبد ال بن عباس رضي
ال عنهما ،وقد سبق تخريجه.
( )7/507
واختلف في أن زوال ملكه عن أمواله بالموت أو القتل أو اللحاق بدار الحرب :هل من وقت الردة،
أي بأثررجعي ،أو عند حدوث هذه السباب؟
قال أبو حنيفة (وقوله هو الصحيح في مذهبه) ،والشافعي في أظهر أقواله الثلثة ،ومالك على الراجح
في مذهبه ،وظاهر كلم أحمد :تصبح أموال المرتد بمجرد الردة موقوفة ،أي يحجر عليه بالرتداد
إلى أن يتقرر مصيره ،فإن أسلم تبينا بقاء ملكه ،وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب
وحكم بلحاقه ،تبينا زوال ملكيته عن أمواله بمجرد ردته ،وعند أبي حنيفة :ينتقل ماكان اكتسبه في
حال إسلمه إلى ورثته المسلمين؛ لن ردته بمنزلة موته ،فيتحقق شرط توريث المسلم من المسلم،
ويصبح مااكتسبه في حال ردته فيئا للمسلمين ،فيوضع في بيت المال؛ لن كسبه حال ردته كسب
مباح الدم ليس فيه حق لحد ،فكان فيئا كمال الحربي.
وكذلك تكون تصرفات المرتد حال ردته بالبيع والشراء والهبة والوصية ونحوها موقوفة عند أبي
حنيفة :إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحا ،وإن قتل أو مات على ردته كان تصرفه باطلً ،إل أن
الشافعية قالوا :إذا كان التصرف يحتمل الوقف كالوصية فهو موقوف ،وإن لم يحتمل الوقف كالبيع
والهبة والرهن ،كان التصرف باطلً؛ لنهم يقولون ببطلن وقف العقود.
( )7/508
ودليل الشافعية :أن المرتد تزول عصمة نفسه بالردة ،فيجب قتله ،وكذا تزول عصمة ماله ،لنها تبع
لعصمة النفس ،فتزول ملكيته عن ماله ،ولنه معرض للقتل ،والقتل يؤدي به إلى الموت ،والموت
تزول به الملكية ،بأثر رجعي أي (مستند إلى الماضي) يمتد إلى السبب الذي أدى إلى الموت وهو
الردة ،غير أنه يدعى إلى السلم .ونظرا لحتمال عودته إلى السلم نحكم بتوقف زوال ملكه في
الحال ،فإن أسلم تبين أن الردة لم تكن سببا لزوال الملك ،وإن قتل أو مات أو لحق بدار الحرب ،تبين
أنها وقعت سببا لزوال الملك من حين حدوثها ،والحكم ل يتخلف عن سببه.
وقال الصاحبان ،والحنابلة في الراجح عندهم :ل يزول ملك المرتد بمجرد ردته ،وإنما يزول بالموت
أو القتل ،لن تأثير الردة يظهر في إباحة دمه ،ل في زوال ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص،
ولنه مكلف ،فيكون كامل الهلية ،فيحكم ببقاء ملكه .وزوال العصمة عن النفس ل يلزم منه زوال
الملك بدليل المحكوم عليه بالرجم ونحوه.
إل أن الحنابلة قالوا :لو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه ،وإنما يباح قتله لكل واحد من غير
استتابة ،ويباح أخذ ماله لمن قدر عليه ،لنه صار حربيا ،حكمه حكم الحربيين .وتصبح تصرفات
المرتد حينئذ موقوفة .قال ابن مفلح الحنبلي في المبدع :تكون تصرفات المرتد من البيع والهبة
والوقف ونحوه موقوفة على المذهب؛ لنه مال تعلق به حق الغير ،فكان التصرف فيه موقوفا كتبرع
المريض ،والمذهب أنه يمنع من التصرف فيه .فإن أسلم ثبت ملكه وتصرفاته ،وكان ذلك صحيحا
وإل بطلت ،أي إذا مات أو قتل في ردته ،كان تصرفه باطلً ،تغليظا عليه ،بقطع ثوابه ،بخلف
المريض.
( )7/509
أما الصاحبان فقال :تزول ملكية المرتد عن أمواله بمجرد اللحاق بدار الحرب مثل الموت أو القتل،
وتنتقل كل أمواله لورثته .وتعتبر تصرفات المرتد نافذة في أمواله ،إل أن أبا يوسف قال :تنفذ
تصرفاته كتصرف النسان العادي الصحيح البدن؛ لنه يمكنه الرجوع إلى السلم ،فيتخلص عن
القتل .أما المريض :فل يمكنه دفع المرض عن نفسه ،فل تشابه بينهما .وقال محمد :تنفذ تصرفاته
كالمريض مرض الموت ،أي ل تنفذ تبرعاته بالنسبة للورثة إل في حدود الثلث؛ لن المرتد معرض
للموت بتنفيذ العقاب عليه وهو القتل ،فأشبه المريض مرض الموت.
ويلحظ أن خلف أبي حنيفة مع صاحبيه هو في المرتد ،أما المرتدة فل يزول ملكها عن أموالها بل
خلف عندهم ،وتنفذ تصرفاتها في مالها؛ لنها ل تقتل عندهم ،فلم تكن ردتها سببا لزوال ملكها عن
أموالها ،فتنفذ تصرفاتها (. )1
- 3حكم ميراث المرتد :
إذا مات المرتد أو قتل ،فإنه يبدأ بقضاء دينه وضمان جنايته ونفقة زوجته وقريبه؛ لن هذه الحقوق ل
يجوز تعطيلها.
وما بقي من ماله يكون فيئا لجماعة المسلمين يجعل في بيت المال ،وهو مذهب المالكية والشافعية
والحنابلة ( ، )2لقوله عليه الصلة والسلم« :ل يرث المسلم الكافر ،ول يرث الكافر المسلم» (. )3
-------------------------------
( )1راجع الموضوع في المبسوط ،101/10 :الكتاب مع اللباب 150/4 :وما بعدها ،البدائع،136/7 :
فتح القدير ،397-390/4 :تبيين الحقائق ،285/3 :الدر المختار ،328/3 :الشرح الكبير للدردير:
305/4وما بعدها ،مغني المحتاج 142/4 :وما بعدها ،المغني 128/8 :وما بعدها ،غاية المنتهى:
،361/3المبدع شرح المقنع لبن مفلح المؤرخ الحنبلي 984- 916( :هـ) طبع المكتب السلمي
بدمشق.
( )2الشرح الكبير للدردير :ص ،304مغني المحتاج ،المغني ،المراجع السابقة.
( )3رواه أحمد في مسنده وأصحاب الكتب الستة عن أسامة بن زيد ،وهو حديث صحيح (تلخيص
الحبير ،الطبعة المصرية ،84/3 :سبل السلم ،98/3 :اللمام :ص .)388
( )7/510
وقال أبو حنيفة :إذا مات المرتد أو قتل ،أو لحق بدار الحرب ،وترك ماله في دار السلم ،انتقل ما
اكتسبه في السلم إلى ورثته ،وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئا يوضع في بيت مال المسلمين؛ لن
الرث له أثر رجعي يمتد إلى الماضي ،فما اكتسبه في حال إسلمه يورث لوجود الكسب قبل الردة،
فيكون للرث أثر رجعي بالنسبة إليه ،فيتم شرط توريث المسلم من المسلم ،وما اكتسبه حال ردته
يكون فيئا؛ لنه زال ملكه بالردة ،فكان الكسب ل مالك له ،فل يورث ،إذ ل يمكن هنا أن يكون
للرث أثر رجعي بالنسبة لكسب الردة ،لعدم الكسب قبل الردة.
وقال الصاحبان :كل مال للمرتد يملكه ورثته ،سواء أكان الكسب قبل الردة أم بعدها؛ لن القاعدة
عندهما أن المرتد ل تزول ملكيته عن أمواله ،وإنما ملكه باق له؛ لنه كما عرفنا أهل للملك ،وإذا
ثبت ملكه فتنتقل أمواله إلى ورثته بالموت أو ما في معناه ،ويعتبر للتوريث أثر رجعي إلى ما قبيل
ردته ،فيجعل كأنه اكتسبه في حال السلم ،فورثه ورثته منه حال السلم ،فينطبق شرط توريث
المسلم من المسلم.
ثم اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في أهلية الوراثة :هل يعتبر حال الوارث إسلما وغيره وقت الردة
أو وقت الموت؟
قال الصاحبان :تعتبر أهلية الوراثة وقت الموت أو القتل؛ لن ملك المرتد يزول عندهما بالموت أو ما
في معناه ،فإن كان الوارث مسلما حرا يرث ،وإل فل.
ل للرث ورث ،وإن
وعن أبي حنيفة روايتان :في رواية :يعتبر حال الردة فقط ،فلو كان حينئذ أه ً
زالت أهليته بعدئذ.
( )7/511
وفي رواية :يعتبر حال الردة مع الدوام على الهلية إلى وقت الموت أو القتل ،فمن كان وارثا حال
الردة ،بأن كان حرا مسلما ،وبقي كذلك إلى وقت الموت أو اللحاق بدار الحرب ،فإنه هو الذي يرث.
والصح كما قال في المبسوط هو اعتبار حال الوارث عند الموت أو القتل ،أوالحكم باللحاق بدار
الحرب؛ لن الحادث بعد انعقاد سبب الملكية ولكن قبل تمام السبب كالحادث عند وجود أصل السبب،
فمثلً إن الزيادة المتولدة من المبيع كالولد ،والثمرة قبل قبض المشتري للمبيع ،تعتبر ملحقة بالمبيع،
فتصير معقودا عليها ،وكأنها موجودة عند ابتداء العقد ،ويعتبر الثمن موزعا على الصل وعلى
الزيادة معا (. )1
وإن لحق المرتد بدار الحرب ،وحكم القاضي بلحاقه ،حلت ديونه المؤجلة التي عليه ،ونقل ما اكتسبه
في حال السلم عند الحنفية إلى ورثته المسلمين.
هل يشترط قضاء القاضي بلحاق المرتد بدار الحرب؟
فيه عند الحنفية روايتان :في رواية :أنه ل بد لستقرار لحاقه بدار الحرب من قضاء القاضي لحتمال
عودته إلى دار السلم .وظاهر الرواية :أنه ل يحتاج للقضاء.
إل أن الصاحبين ـ في حالة القضاء باللحاق ـ اختلفا في أهلية الوراثة باللحاق بدار الحرب :هل
تعتبر الهلية وقت القضاء باللحاق أو وقت اللحاق؟
عند أبي يوسف :يعتبر وقت القضاء؛ لن الملك ل يزول إل بالقضاء ،ومجرد اللحاق يعتبر غيبة.
وهذا هو الرجح.
وعند محمد :يعتبر وقت اللحاق؛ لن اللحاق هو سبب زوال الملك ،فالملك يزول به ،والقضاء إنما
يكون لتقرر اللحاق بإزالة احتمال عودة المرتد إلينا.
-------------------------------
( )1المبسوط :ص ،102فتح القدير :ص ،391تبيين الحقائق :ص ،286البدائع :ص ،138الدر
المختار :ص 328وما بعدها ،المراجع السابقة.
( )7/512
وإذا افترضنا أن المرتد بعد لحاقه بدار الحرب ،عاد مسلما إلى دار السلم :فإن كان قبل قضاء
القاضي بلحاقه ،فماله على حاله ،وإن كان بعد القضاء ،فما وجد من ماله في يد وارثه فهو أحق به،
ويأخذه منه بطريق القضاء؛ لن حكم القاضي باللحاق صير المال ملكا لورثة المرتد ،فل يعود الملك
له إل بالقضاء أو بالتراضي.
وإذا كان المال قد خرج عن ملك الوارث بالتمليك ،أو بالستهلك ،فل يحق للمرتد الرجوع على
وارثه بذلك (. )1
أما ديون المرتد :فتقضى الديون التي لزمته في حال السلم مما اكتسبه في حال السلم ،وما لزمه
من الديون في حال ردته يقضى مما اكتسبه في حال ردته .وهذه رواية عن أبي حنيفة ،وقول زفر.
-------------------------------
( )1المراجع السابقة ،الدر المختار :ص ،331فتح القدير :ص ،394تبيين الحقائق ،288 :البدائع:
ص ،138المبسوط :ص .103
( )7/513
( )7/514
قال :يعزر في عرفنا ،وهذا هو المناسب لعصرنا ،إذا كان مثله يتأذى بذلك ،ويعزره القاضي بناء
على طلب المشتوم ،ويؤيد هذا التجاه ( )1أن الشافعية قالوا :من اللفاظ الموجبة للتعزير قوله لغيره:
يا فاسق ،يا كافر ،يا فاجر ،يا شقي ،يا كلب ،يا حمار ،يا تيس ،يا رافضي ،يا خبيث ،يا كذاب ،يا
خائن ،يا قواد ،يا ديوث (. )2
ويقوم بالتعزير ولي المر أو نائبه .ويكون التعزير إما بالضرب ،أو بالحبس أو بالتوبيخ ،ونحوها
بحسب ما يراه ولي المر رادعا للشخص ،بحسب اختلف حالت الناس.
متى يشرع الحبس؟
قال جماعة من الفقهاء بمشروعية الحبس ،بدليل أن النبي صلّى ال عليه وسلم حبس رجلً في تهمة،
ثم خلى عنه ( ، )3وهذا هو الحبس الحتياطي .وقال عليه السلم« :لي الواجد يُحلّ عِرْضه
وعقوبته» ( . )4وثبت أن عمر بن الخطاب كان له سجن ،وتبعه في ذلك عثمان ،وعلي رضي ال
عنهم .واستدل الحنفية على مشروعية الحبس بقوله تعالى{ :أو ينفوا من الرض} [المائدة]5/33:
قالوا :والمقصود من النفي هو الحبس (. )5
-------------------------------
( )1البحر الرائق.240/8 :
( )2تكملة المجموع.361/18 :
( )3رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن بهز بن حكيم .والتهمة :الظن بما نسب إلى إنسان
(نيل الوطار.)150/7 :
( )4رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الشريد .واللي :المطل ،والواجد :الغني،
يحل :يجوز وصفه بكونه ظالما ،وعرضه :شكايته ،وعقوبته :حبس .وقد استدل بالحديث على جواز
حبس من عليه الدين حتى يقضيه إذا كان قادرا على القضاء تأديبا له وتشديدا عليه ،ل إذا لم يكن
قادرا (نيل الوطار.)240/5 :
( )5تبيين الحقائق ،208/3 :أحكام القرآن للجصاص ،412/2 :المغني.328/9 :
( )7/515
ويشرع الحبس في ثمانية مواضع ،كما أبان القرافي المالكي (: )1
الول ـ يحبس الجاني لغيبة المجني عليه ،حفظاَ لمحل القصاص.
الثاني ـ حبس البق سنة ،حفظا للمالية رجاء أن يعرف صاحبه.
الثالث ـ يحبس الممتنع عن دفع الحق إلجاء إليه.
الرابع ـ يحبس من أشكال أمره في العسر واليسر ،اختبارا لحاله ،فإذا ظهر حاله حكم بموجبه عسرا
أو يسرا.
الخامس ـ الحبس للجاني تعزيرا وردعا عن معاصي ال تعالى.
السادس ـ يحبس من امتنع من التصرف الواجب الذي ل تدخله النيابة ،من حقوق العباد ،كحبس من
أسلم متزوجا بأختين أو عشر نسوة ،أو امرأة وابنتها ،وامتنع من تعيين واحدة.
السابع ـ من أقر بمجهول ،عينا أو في الذمة ،وامتنع من تعيينه ،فيحبس حتى يعينه ،فيقول :العين هو
هذا الثوب أو هذه الدابة ونحوها ،أو الشيء الذي أقرت به هو دينار في ذمتي.
الثامن ـ يحبس الممتنع في حق ال تعالى الذي ل تدخله النيابة عند الشافعية كالصوم .وعند المالكية:
يقتل كالصلة.
قال القرافي :وما عدا هذه الثمانية ل يجوز الحبس فيه ،ول يجوز الحبس ي الحق إذا تمكن الحاكم
من استيفائه ،فإن امتنع المدين من دفع الدين ،وعرف ماله ،أخذنا منه مقدار الدين ،ول يجوز لنا
حبسه ،وكذلك إذا ظفرنا بماله ،أو داره ،أو شيء يباع له في الدين ،رهنا كان أو غيره ،فعلنا ذك ول
نحبسه؛ لن في حبسه استمرار ظلمه ،ودوام المنكر في الظلم.
-------------------------------
( )1الفروق ،79/4 :العتصام ،120/2 :وانظر الطرق الحكمية لبن القيم :ص 101ومابعدها.
( )7/516
( )7/517
عَيْن ،وهو في سفر ،فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ،ثم انسل ،فقال النبي صلّى ال عليه وسلم :
اطلبوه فاقتلواه ،فسبقتهم إليه ،فقتلته ،فنفلني سلبه» (. )1
ومن لم يندفع فساده في الرض إل بالقتل قُتل ،مثل المفرق لجماعة المسلمين ،والداعي إلى البدع في
الدين ،قال تعالى{ :من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في
الرض ،فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة ]32/5:وفي الصحيح عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه
قال« :إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما» ،وروى مسلم في صحيحه عن عرفجة الشجعي
رضي ال عنه« :من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ،يريد أن يشق عصاكم ،أو يفرق جماعتكم
فاقتلوه» .وأمر النبي صلّى ال عليه وسلم بقتل رجل تعمد عليه الكذب ،وسأله ديلم الحميري ـ فيما
يرويه أحمد في المسند ـ عمن لم ينته عن شرب الخمر في المرة الرابعة ،فقال« :فإن لم يتركوه
فاقتلوهم» .
والخلصة :أنه يجوز القتل سياسة لمعتادي الجرام ومدمني الخمر ودعاة الفساد ومجرمي أمن
الدولة ،ونحوهم.
التعزير بالمال :ل يجوز التعزير بأخذ المال في الراجح عند الئمة ( )2لما فيه م تسليط الظلمة على
أخذ مال الناس ،فيأكلونه .وأثبت ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن التعزير بالعقوبات المالية مشروع في
مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه ،ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي ،كما دلت
عليه سنة رسول ال صلّى ال عليه وسلم مثل أمره بمضاعفة غرم ما ل قطع فيه من الثمر المعلّق
والكثَر (جمّار النخل) ،وأخذه شطر مال مانع الزكاة ،عزمة مات الرب تبارك وتعالى ،ومثل تحريق
عمر وعلي رضي ال عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر ،ونحوه كثير .ومن قال كالنووي وغيره :إن
العقوبات المالية منسوخة ،وأطلق ذلك ،فقد غلط في نقل مذاهب
-------------------------------
( )1رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن سلمة (نيل الوطار.)7/7 :
( )2البدائع ،63/7 :فتح القدير ،212/4 :تبيين الحقائق ،207/3 :حاشية ابن عابدين195/3 :
ومابعدها ،مغني المحتاج ،191/4 :المهذب :ص ،288حاشية الدسوقي ،354/4 :المغني،324/8 :
أعلم الموقعين ،99/2 :العتصام للشاطبي 123/2 :ومابعدها ،ط السعادة.
( )7/518
( )7/519
ومثل إراقة عمر اللبن المخلوط بالماء للبيع ،وبه أفتى طائفة من الفقهاء .ومثله إتلف المغشوشات في
الصناعات كالثياب الرديئة النسج.
- ً 2التغيير :قد تقتصر العقوبة المالية على تغيير الشيء ،مثل نهي النبي صلّى ال عليه وسلم عن
كسر العملة الجائزة بين المسلمين ( ، )1كالدراهم والدنانير ،إل إذا كان بها بأس ،فإذا كان بها بأس
كسرت.
ومثل فعل النبي عليه السلم في التمثال الذي كان في بيته ،والستر الذي به تماثيل ،إذ أمر بقطع رأس
التمثال فصار كهيئة الشجرة ،وبقطع الستر ،فصار وسادتين يوطآن.
وهكذا اتفق العلماء على إزالة وتغيير كل ما كان من العين أو التأليف المحرم ،مثل تفكيك آلت
الملهي ،وتغيير الصورة المصورة.
لكن العلماء اختلفوا في جواز إتلف محل هذه الشياء تبعا للشيء الحال فيها ،قال ابن تيمية:
والصواب جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف ،وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد
وغيرهما.
- ً 3التمليك :مثل ما روى أبو داود وغيره من أهل السنن عن النبي صلّى ال عليه وسلم فيمن سرق
من الثمر المعلق ،قبل أن يؤويه إلى الجرين ،أن عليه جلدات نكال ،وغرمه مرتين .وفيمن سرق من
الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح أن عليه جلدات نكال ،وغرمه مرتين ،وكذلك قضاء عمر بن
الخطاب في الضالة المكتومة :أن يضعف غرمها على كاتمها.
وقال بهذا طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره.
وأضعف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع ،أضعف الغرم على سيدهم ودرأ
عنه القطع.
وأضعف عثمان بن عفان في المسلم إذا قتل الذمي عمدا ،أضعف عليه الدية ،فتجب عليه الدية
الكاملة ،إذ إن دية الذمي نصف دية المسلم .وأخذ به أحمد بن حنبل.
-------------------------------
( )1رواه أبو داود عن عبد ال بن عمر.
( )7/520
وأجاز المالكية ( )1العقوبة في المال إذا كانت جناية الجاني في نفس ذلك لمال أو
في عوضه ،فيتصدق بالزعفران المغشوش على المساكين ،وإذا اشترى مسلم من نصراني خمرا ،فإنه
يكسر وعاؤه على المسلم ،ويتصدق بالثمن ،تأديبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه.
نوعا التغريم من حيث الضبط وعدمه :
تغريم المال أو العقوبات المالية كما أبان ابن القيم ( )2نوعان :نوع مضبوط ،ونوع غير مضبوط.
فالمضبوط :ما قابل الشيء المتلف ،إما لحق ال تعالى كإتلف الصيد في الحرام ،أو لحق الدمي
كإتلف ماله .وقد نبه ال سبحانه وتعالى على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله{ :ليذوق وبال
أمره} [المائدة .]95/5:ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان ،كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان
ميراثه ،وعقوبة الموصى له ببطلن وصيته ،وعقوبة الزوجة الناشزة بسقوط نفقتها وكسوتها.
وغير المضبوط :هو غير المقدر المتروك لجتهاد الئمة بحسب المصالح .ولذلك لم تأت فيه الشريعة
بأمر عام ،وقدر محدد كالحدود .وقد اختلف فيه الفقهاء :هل حكمه منسوخ أو ثابت؟ والصواب أنه
يختلف باختلف المصالح ،ويرجع فيه إلى اجتهاد الئمة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة؛ إذ ل
دليل على النسخ ،وقد فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الئمة.
شروط وجوب التعزير :
يشترط العقل فقط لوجوب التعزير بارتكاب جناية ليس لها حد مقدر في الشرع ،فيعزر كل عاقل،
ذكر أو أنثى ،مسلما أو كافرا ،بالغا أو صبيا عاقلً؛ لن هؤلء غير الصبي من أهل العقوبة ،أما
الصبي فيعزر تأديبا ل عقوبة (. )3
-------------------------------
( )1العتصام للشاطبي.124/2 :
( )2أعلم الموقعين.98/2 :
( )3البدائع.63/7 :
( )7/521
وضابط موجب التعزير :هو كل من ارتكب منكرا أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة،
سواء أكان المعتدى عليه مسلما أم كافرا (. )1
قدر التعزير :
يكون التعزيرعلى قدر الجناية ،وعلى قدر مراتب الجاني بحسب اجتهاد الحاكم إما بالتغليظ في القول
أي الكهر ،أو بالحبس ،أو بالضرب ،أو بالصفع ،أو بالقتل ،كما في الجماع في غير القبل عند المالكية
( ، )2أو بالعزل من الولية ،وبإقامته من المجلس ،وبالنيل من عرضه مثل :يا ظالم ،يا معتدي ،ول
بأس بتسويد وجهه ،ونداء عليه بذنبه ،ويطاف به مع ضربه ،ويجوز صلبه ،وليمنع من أكل
ووضوء ،ويصلي باليماء ول يعيد .وحرم تعزير بحلق لحية ،وقطع طرف ،وجرح ،وكذا بأخذ مال
وإتلفه عند الحنابلة .وتعزر تعزيرا بليغا القوادة التي تفسد النساء والرجال ،وينبغي شهر ذلك بحيث
يستفيض في الناس.
وأقل التعزير في الضرب :ثلثة أسواط فصاعدا ،ويمكن أن يكون أقل من ثلثة بحسب الشخاص،
فليس لقل التعزير حد معين .واختلف العلماء في أقصاه :فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة:
ل يبلغ بالتعزير أدنى الحدود المشروعة ،فينقص منه سوط ،وأدنى الحدود عند الشافعية بالنسبة
للحرار هو أربعون جلدة وهو حد الخمر ،وعند الخرين هو بالنسبة للماليك :وهو أربعون جلدة،
وهو حد القذف للعبيد ،لقوله عليه السلم« :من بلغ حدا في غير
-------------------------------
( )1رد المحتار .206 ،203 ،199/3 :تكملة المجموع.357/18 :
( )2القوانين الفقهية لبن جزي :ص .358
( )7/522
حد فهو من المعتدين» ( ، )1ولن العقوبة على قدر الجرام والمعصية ،والمعاصي المنصوص على
حدودها أعظم من غيرها ،فل يجوز أن يبلغ في أهون الموين عقوبة أعظمهما.
وقال أبو يوسف :ل يبلغ الحد ثمانين ،وينقص منه خمسة أسواط؛ لنه حمل الحد المذكور في الحديث
السابق« :من بلغ حدا »...على الحرار؛ لن الحرار هم المقصودون في الخطاب ،وغيرهم ملحق
بهم ( . )2وقد أخذ برأي المام علي في أنه ينقص عن الثمانين جلدة خمسة أسواط.
وقال المالكية :يضرب المام في التعزير أي عدد أداه إليه اجتهاده ،حتى ولو تجاوز أعلى الحدود،
فيجوز العزير بمثل الحدود وأقل وأكثر على حسب الجتهاد؛ لما روي أن معن بن أوس عمل خاتما
على نقش خاتم بيت المال ،ثم جاء به صاحب بيت المال ،فأخذ منه مالً ،فبلغ عمر رضي ال عنه،
فضربه مائة وحبسه ،فكلم فيه ،فضربه مائة أخرى ،فكلم فيه من بعد ،فضربه ونفاه ( . )3وكان جلد
عمر لمعن على عدة جنايات :وهي تزويره الخاتم ،وأخذ المال من بيت المال ،وفتحه باب الحتيال
لغيره من الناس .ويؤيد رأي المالكية أيضا ما روي عن المام علي رضي ال عنه أنه جلد من وجد
مع امرأة من غير زنا مائة سوط إل سوطين.
-------------------------------
( )1رواه البيهقي عن النعمان بن بشير ،وقال :المحفوظ المرسل ،ورواه ابن ناجيه في فوائده ،ورواه
محمد بن الحسن مرسلً ،ورواه الطبراني بلفظ« :من جلد حدا »...قال الهيثمي :وفيه محمد بن
الحسين القصاص والوليد بن عثمان خال مسعر ،ولم أعرفهما ،وبقية رجاله ثقات (راجع نصب
الراية ،354/3 :مجمع الزوائد.)281/6 :
( )2البدائع ،المرجع السابق :ص ،64فتح القدير ،214/4 :تبيين الحقائق ،209/3 :حاشية ابن
عابدين 198 ،190/3 :ومابعدها 204 ،وما بعدها ،تكملة المجموع ،357/18 :المهذب،288/2 :
المغني ،324/8 :غاية المنتهى ،335 ،333/3 :السياسة الشرعية لبن تيمية :ص ،112الطرق
الحكمية :ص ،265نهاية المحتاج ،175/7 :مغني المحتاج.193/4 :
( )3حاشية الدسوقي ،355/4 :القوانين الفقهية :ص ،358وقصة معن ذكرها ابن قدامة في المغني:
.325/8
( )7/523
( )7/524
ترك التعزير ،لعزره رسول ال صلّى ال عليه وسلم على ما قال ،ويؤيده قصة أخرى رواها عبد ال
ابن الزبير :أن رجلً خاصم الزبير عند رسول ال صلّى ال عليه وسلم في شراج الحرة ( )1الذي
يسقون به النخل ،فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم للزبير :اسق أرضك الماء ،ثم أرسل الماء إلى
جارك ،فغضب النصاري ،فقال :ىا رسول ال ،وأن كان ابن عمتك ،فتلون وجه رسول ال صلّى
ال عليه وسلم ،فقال :يا زبير ،اسق أرضك الماء ،ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ،فقال الزبير:
فوال ،إني لحسب هذه الية نزلت في ذلك{ :فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}
[النساء ]65/4:ولو لم يجز ترك التعزير لعزره رسول ال صلّى ال عليه وسلم على ما قال (. )2
والخلصة :أنه إذا كان التعزير حقا ل كما في حالة انتهاك الحرمات الدينية فل يجب تنفيذه ،أما إن
كان حقا للعبد ولم يعف عنه مستحقه ،فهو واجب التنفيذ.
وأما الحنفية فقالوا :إن التعزير إذا كان حقا شخصيا لنسان ،فهو واجب ل عفو فيه؛ لن حقوق العباد
ليس للقاضي إسقاطها ،وإن كان حقا ل تعالى فهو مفوض إلى رأي المام :إن ظهر له المصلحة فيه
أقامه ،وإن ظهر عدم المصلحة ،أو علم انزجار الجاني بدونه ،يتركه أي أن العفو فيه للمام .وعبارة
الكمال بن الهمام فيه هي« :ما وجب من التعزير حقا ل تعالى يجب على المام ،ول يحل له تركه إل
فيما علم أنه انزجر الفاعل قبل ذلك» (. )3
-------------------------------
( )1شراج الحرة :هي مسايل الماء من بين الحجارة إلى السهل.
( )2متفق عليه بين الشيخين وغيرهما.
( )3راجع فتح القدير ،213-212/4 :حاشية ابن عابدين.205/3 :
( )7/525
ويترتب على أن التعزير حق العبد عند الشافعية :أنه يحتمل العفو والصلح والبراء؛ وأنه يورث
كالقصاص وغيره من سائرحقوق العباد ؛وأنه ل يتداخل؛ لن حقوق العبد ل تحتمل التداخل.
ويؤخذ فيه الكفالة؛ لن التكفيل للتوثيق والتعزير حق العبد ،فكان التوثيق ملئما له ،بخلف الحدود
على أصل أبي حنيفة رحمه ال تعالى.
ثاني الصفات :أن التعزير أشد الضرب؛ لنه جرى فيه التخفيف من حيث العدد ،فل يخفف من حيث
الوصف ،كيل يؤدي إلى فوات المقصود منه وهو الزجر ،ثم يليه حد الزنى ثم حد الشرب ،ثم حد
القذف ( )1كما سبق بيانه.
طرق إثبات جريمة التعزير :
تثبت جريمة التعزير عند الحنفية بماتثبت به سائر حقوق العباد من القرار والبينة ،والنكول ،وعلم
القاضي ،وتقبل فيه شهادة النساء مع الرجال ،والشهادة على الشهادة ،وكتاب القاضي إلى القاضي.
وسيأتي في بحث القضاء أن المفتى به عدم جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي في الحوادث مطلقا
في زماننا ،منعا للتهمة ،وسدا للباب بسبب فساد قضاة الزمان.
وروي عن أبي حنيفة أنه ل تقبل فيه شهادة النساء .قال الكاساني :والصحيح هو الول؛ لنه حق
العبد على الخلوص ،فيظهر بما يظهر به حقوق العباد (. )2
ضمان موت المعزر أو المحدود :
قال الحنفية والمالكية والحنابلة :إذا عزر المام رجلً ،أو حدّه فمات من التعزير أو الحد ،فل ضمان
عليه؛ لن التعزير عقوبة مشروعة للردع والزجر ،فلم
-------------------------------
( )1فتح القدير 216/4 :وما بعدها ،تبيين الحقائق ،210/3 :حاشية ابن عابدين.199/3 :
( )2البدائع ،65/7 :حاشية ابن عابدين.205/3 :
( )7/526
يضمن من تلف بها كالحد ،ولن المام مأمور بالحد والتعزير ،وفعل المأمور ل يتقيد بشرط السلمة
( . )1
وقال الشافعي :ل يجب على المام ضمان موت المحدود؛ لن الحق قتله ،سواء في ذلك الجلد
والقطع ،وسواء جلده في حر وبرد مفرطين أم ل ،وسواء أكان الجلد في مرض يرجى برؤه أم ل ،إل
أن تكون المرأة حاملً ،فيموت الجنين ،فيجب الضمان؛ لنه مضمون فل يسقط ضمانه بجناية غيره.
ويجب ضمان موت المعزّر ،لما روي عن علي كرم ال وجهه أنه قال« :ما من رجل أقمت عليه
حدا ،فمات ،فأجد في نفسي أنه ل دية عليه ،إل شارب الخمر ،فإنه لو مات وديته؛ لن النبي صلّى
ال عليه وسلم لم يسنّه» ( ، )2أي لم يسن مقدارا معينا في جلد شارب الخمر ،وإنما فعل أفعالً
مختلفة يجوز جميعها ،ومنها :أنه عليه السلم حد في الخمر أربعين كما روى علي نفسه ( ، )3وهذا
أمر متفق عليه ،والخلف بين الفقهاء إنما هو في الزيادة على الربعين ،فليس المراد إذن من حديث
علي أن الشخص مات من الحد؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم حد في الخمر ،كما ذكرت ،فثبت أنه
أراد بقوله« :لو مات وديته» أي من
-------------------------------
( )1فتح القدير ،217/4 :تبيين الحقائق ،211/3 :مجمع الضمانات :ص ،201حاشية ابن عابدين:
،208/3حاشية الدسوقي ،355/4 :المغني 310/8 :وما بعدها.
( )2أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجه وفي روايتهما قال« :ل أدي ـ أي ل أعطي
ديته ـ أو ما كنت أدي من أقمت عليه الحد إل شارب الخمر ،فإن رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،
لم يسن فيه شيئا ،وإنما هو شيء قلناه نحن» ومعنى «لم يسنه» :لم يقدره ويوقته بلفظه ونطقه ،ففيه
دليل على أن الخمر لم يكن فيه حد محدود من رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،فهو من باب
التعزيرات ،فإن مات ضمنه المام( .راجع جامع الصول ،337/4 :نصب الراية ،352/3 :سبل
السلم ،38/4 :نيل الوطار.)143/7 :
( )3رواه مسلم في قصة الوليد بن عقبة الذي شهد عليه رجل أنه رآه يتقيأ الخمر ،فأمر الرسول
صلّى ال عليه وسلم بجلده ،كما روى حصين بن المنذر ،وعلي يعد حتى بلغ أربعين ،ثم قال« :جلد
رسول ال صلّى ال عليه وسلم أربعين ،وجلد أبو بكر أربعين ،وجلد عمر ثمانين ،وكل سنة ،وهذا
أحب إلى» (راجع التلخيص الحبير :ص ،360سبل السلم ،30/4 :نيل الوطار.)138/7 :
( )7/527
الزيادة على الربعين ،وهذا تعزير ،ولن التعزير ضرب جعل إلى اجتهاد المام ،فإذا أدى إلى التلف
ضمن كضرب الزوج زوجته ،إذ أن التعزير مشروط بسلمة العاقبة ،باعتبار أن المقصود هو التأديب
ل الهلك ،فإذا حصل به هلك تبين أنه جاوز الحد المشروع .والهلك الحاصل إن كان بضرب يقتل
غالبا ،فيجب فيه القصاص إذا لم يكن الضارب أصلً (أبا أو جدا) للمضروب .وإن لم يكن الضرب
قاتلً في الغالب ،فيجب دية شبه العمد على العاقلة (العصبات).
( )7/528
( )7/529
( )7/530
صلُ الوّل :الجِناية على النّفس النسانيّة (القتل وعقوبته )
ال َف ْ
فيه مباحث أربعة:
المبحث الول ـ معنى القتل وتحريمه وأنواعه.
المبحث الثاني ـ القتل العمد وعقابه.
المبحث الثالث ـ القتل شبه العمد وعقوبته.
المبحث الرابع ـ القتل الخطأ وعقوبته.
المبحث الول ـ تعريف القتل وتحريمه وأنواعه :
تعريف القتل :القتل هو الفعل المزهق أي القاتل للنفس أو المميت ( ، )1أو هو فعل من العباد تزول
به الحياة ( ، )2أي أنه هدم للبنية النسانية.
تحريم القتل :القتل إذا كان عمدا عدوانا جريمة كبرى ،ومن السبع الموبقات التي يترتب عليها
استحقاق العقاب في الدنيا والخرة ،وذلك بالقصاص ،والخلود في نار جهنم؛ لنه اعتداء على صنع
ال في الرض ،وتهديد لمن الجماعة وحياة المجتمع.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج.3/4 :
( )2تكملة فتح القدير.244/8 :
( )7/531
ففي القرآن الكريم آيات كثيرة في شأن تحريم القتل ،منها قوله تعالى{ :ول تقتلوا النفس التي حرم ال
إل بالحق ،ومن قتل مظلوما ،فقد جعلنا لوليه سلطانا ،فل يسرف في القتل ،إنه كان منصورا}
[السراء .]17/33:ودلت جريمة ابن آدم (قابيل) على أن القتل اعتداء على النسانية ،فقال سبحانه:
{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس ،أوفساد في الرض ،فكأنما قتل
الناس جميعا} [المائدة.]5/32:
ودليل القصاص قوله جل ثناؤه{ :يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى :الحر بالحر،
والعبد بالعبد ،والنثى بالنثى ( ، )1فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ،وأداء إليه
بإحسان ،ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ،فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم .ولكم في القصاص حياة
يا أولي اللباب ،لعلكم تتقون} [البقرة .]2/178:وكان القصاص أيضا مقررا في الشرائع السماوية
السابقة كشريعة اليهود .بدليل قوله تعالى{ :وكتبنا عليهم فيها ( )2أن النفس بالنفس ،والعين بالعين،
والنف بالنف ،والذن بالذن ،والسن بالسن ،والجروح قصاص ،فمن تصدق به فهو كفارة له ،ومن
لم يحكم بما أنزل ال ،فأولئك هم الظالمون}
[المائدة. ]5/45:ونص القرآن العظيم على العذاب الخروي للقاتل عمدا في قوله تعالى:
-------------------------------
( )1أوجبت الية مبدأ المماثلة في القصاص إذا أريد قتل القاتل ،ومنع العدوان والظلم ،فل يقتل غير
القاتل ،منعا من عادة الخذ بالثأر التي كانت في الجاهلية .ويرى الحنفية :أن قوله {الحر بالحر..إلخ}
[البقرة ]178/2:تأكيد لصدر الية ،فل يقتل غير القاتل ،وإنما يقتل القاتل دون غيره .وبناء عليه فليس
في الية دللة على أنه ل يقتل الحر القاتل بقتله العبد .أو ل يقتل الرجل بالمرأة وبالعكس .وقال
المالكية والشافعية :إن ال أوجب المساواة .ثم بين المساواة المعتبرة ،فالحر يساويه الحر ،والعبد
يساويه العبد ،والنثى تساويها النثى ،لكن دل الجماع على أن الرجل يقتل المرأة.
( )2أي في التوراة.
( )7/532
{ومن يقتلْ مؤمنا متعمدا ،فجزاؤه جهنم خالدا فيها ،غضب ال عليه ،ولعنه ،وأعد له عذابا عظيما}
[.النساء]4/93:
وأوضحت السنة النبوية حالت القتل المأذون به شرعا أي المباح للحاكم ،ل للفراد ،فقال النبي عليه
السلم« :ل يحل دم امرئ مسلم إل بإحدى ثلث :الثيب الزاني ،والنفس بالنفس ،والتارك لدينه
المفارق للجماعة» ( . )1وفي رواية« :ل يحل دم امرئ إل بإحدى ثلث :كفر بعد إيمان ،أو زنى
بعد إحصان ،أو قتل نفس بغير حق» .ورويت أحاديث كثيرة في تحريم القتل والنتحار ،وتحريم
الدماء والموال والعراض ،منها« :قتل المؤمن أعظم عند ال من زوال الدنيا» ( )2ومنها« :إن
دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ،في شهركم هذا ،في بلدكم هذا» ( )3ومنها« :اجتنبوا
السبع الموبقات ،الشرك بال ،والسحر ،وقتل النفس التي حرم ال إل بالحق» ( )4الحديث.
وحددت السنة عقوبة القتل العمد فقال صلّى ال عليه وسلم « :العمد قوَد ،إل أن يعفو ولي المقتول» (
)5أي أن القتل العمد يوجب القود (أي القصاص) إل عند العفو.
وأجمع العلماء على تحريم القتل ،فإن فعله إنسان متعمدا فسق ،وأمره إلى ال ،إن شاء عذبه ،وإن
شاء غفر له .وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم خلفا لبن عباس ( ، )6بدليل قوله تعالى:
-------------------------------
( )1رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن مسعود رضي ال عنه.
( )2رواه النسائي والضياء عن بريدة.
( )3متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي ال عنه.
( )4رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي ال عنه.
( )5رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما عن ابن عباس رضي ال عنهما.
( )6المغني.636/7 :
( )7/533
{إن ال ل يغفر أن يشرك به ،ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء]4/116:فجعل التوبة عن القتل
وغيره داخلً في المشيئة ،وقال تعالى{ :إن ال يغفر الذنوب جميعا} [الزمر]39/53:وحديث القاتل
مائة نفس التائب من جرائه معروف مشهور ( )1صريح في قبول توبة التائب.
وأما آية الخلود في جهنم للقال ،فهي محمولة على من لم يتب ،أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه ال ،
وله العفو إذا شاء.
ويلحظ أن تحريم القتل هو في حالة كون القتل ظلما ،بخلف حالة غير الظلم وهي القتل بحق ،كقتل
القاتل والمرتد ،فالقتل عموما نوعان :قتل محرم :وهو كل قتل عدوان ،وقتل بحق .ويرى الشافعية أنه
يمكن انقسام القتل إلى الحكام الخمسة :واجب وحرام ومكروه ومندوب ومباح (. )2
فالقتل الواجب :هو قتل المرتد إذا لم يتب ،والحربي إذا لم يسلم أو لم يعط الجزية.
والقتل الحرام :هو قتل معصوم الدم بغير حق ،أي بصفة العدوان ،وكان المقتول مؤمنا أو أمنا؛ لن
العصمة بإيمان أو أمان ،فهي عصمة مخصوصة.
والقتل المكروه :هو قتل المجاهد قريبه الكافر إذا لم يسب ال أو رسوله.
والمندوب :هو قتل المجاهد قريبه الكافر إذا سب ال أو رسوله.
والمباح :هو قتل المقتص منه أو قتل المام السير؛ لنه مخير في قتله حسبما يرى من المصلحة.
ومنه القتل دفاعا عن النفس ضمن ضوابط الدفاع الشرعي .وعدّ الحنفية ( )3ما يأتي من القتل
المباح ،فقالوا :لو دخل رجل بيته فرأى رجلً مع
-------------------------------
( )1رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري (راجع جامع الصول لبن الثير.)68/3 :
( )2مغني المحتاج.3/4 :
( )3الدر المختار ورد المحتار.397/5 ،197/3 :
( )7/534
امرأته أو محرمه يزني بها فقتله ،حل له ذلك ،ول قصاص عليه .وهو رأي الحنابلة والشافعية
والمالكية أيضا ( . )1وإذا كان الزنى طواعية باختيار منهما ،كان له عند الحنفية والحنابلة قتلهما
جميعا ،فلو أكرهها فله قتله ،ودمه هدَر إذا لم يمكنها التخلص منه بصياح أو ضرب .أما لو وجد
رجلً مع امرأة ل تحل له ،فله قتله إن كان يعلم أنه ل ينزجر بصياح وضرب بما دون السلح ،فإن
كان ينزجر بما ذكر ل يحل القتل.
أنواع القتل:
أولً ـ يقول الحنفية ( : )2القتل خمسة أنواع :عمد ،وشبه عمد ،وخطأ ،وما جرى مجرى الخطأ،
والقتل بالتسبب.
فالعمد :ما تعمد فيه القاتل ضرب غيره بسلح ،كالسيف والسكين والرمح والرصاص ،أو ما أجري
مجرى السلح في تفريق أجزاء الجسد ،كالمحدد من الخشب ،والحجر ،والنار ،والبرة في مقتل.
وذلك لن العمد معناه القصد وهو أمر خفي ل يمكن الطلع عليه ول معرفته ،إل بدليل يدل عليه،
وهو استعمال اللة القاتلة ،فجعلت اللة دليلً على القصد ،وأقيمت مقامه باعتبارها مظنة لوجوده ،كما
أن السفر مظنة المشقة.
وشبه العمد عند أبي حنيفة :أن يتعمد الضرب بما ليس بسلح ول ما أجري مجرى السلح ،أي بما
ل يفرق الجزاء ،كاستعمال العصا والحجر والخشب
-------------------------------
( )1المغني ،332/8 :المهذب ،225/2 :الشرح الكبير.357/4 :
( )2تكملة فتح القدير 244/8 :وما بعدها ،البدائع ،233/7 :الدر المختار ،375/5 :اللباب شرح
الكتاب.141/3 :
( )7/535
الكبيرين ،أي أن القتل بالمثقل يعتبر شبه عمد؛ لنه ل يقتل به غالبا ،ويقصد به التأديب ،والفتوى
بقول المام.
وقال الصاحبان :القتل بالمثقل كالحجر العظيم أو الخشبة العظيمة عمد .وشبه العمد :أن يتعمد ضربه
بما ل يقتل غالبا كالحجروالخشب الصغيرين،أو كالعصا الصغيرة ،أو اللطمة.
وبناء عليه يكون الضرب بما ل يغلب فيه الهلك كالعصا والحجر الصغيرين والسوط واللطمة متفقا
على كونه شبه عمد بين أئمة الحنفية الثلثة .واختلفوا في الحجر الكبير والعصا الكبيرة ونحوهما،
كاللقاء من سطح أو جبل ول يرجى منه النجاة ،فهو شبه عمد عند أبي حنيفة ،عمد عند الصاحبين.
والقتل الخطأ :هو الذي ل يقصد به القتل أو الضرب ،وهو نوعان:
- 1خطأ في القصد أو ظن الفاعل :وهو أن يرمي شيئا ،يظنه صيدا ،فإذا هو إنسان ،أو يظنه حربيا
فإذا هو مسلم ،أي أن الخطأ راجع إلى فعل القلب وهو القصد.
- 2خطأ في الفعل نفسه :وهو أن يرمي غرضا (الغرض :هو الهدف الذي يرمي إليه) أو صيدا،
فيصيب آدميا ،أو يقصد رجلً ،فيصيب غيره ،أي أن الخطأ راجع إلى أداة الرمي.
وما أجري مُجرى الخطأ :هو المشتمل على عذر شرعي مقبول ،كانقلب نائم على آخر فيقتله.
والقتل بالتسبب :هو الحاديث بواسطة غير مباشرة ،كمن حفر حفرة أو بئرا في غير ملكه ،في طريق
عام بغير إذن السلطات ،فوقع فيها فيها إنسان ومات ،أو وضع حجرا أو خشبة على قارعة الطريق،
فعثر به إنسان ،فمات ،ومثل شهود القصاص إذا رجعوا عن شهادتهم ،بعد قتل المشهود عليه (. )1
ثانيا ـ يرى أكثر العلماء ومنهم الشافعية والحنابلة( : )2أن القتل ثلثة أنواع :قتل عمد ،وشبه عمد (
، )3وخطأ.
-------------------------------
( )1البدائع.139/7 :
( )2مغني المحتاج ،3/4 :المغني 636/7 :وما بعدها.
( )3سمي بذلك ،لنه أشبه العمد في القصد ،ويسمى أيضا خطأ عمد ،وعمد خطأ ،وخطأ شبه عمد.
( )7/536
والقتل العمد :هو قصد الفعل العدوان والشخص بما يقتل غالبا ،جارحٍ ،أو مثقل ،مباشرة ،أو تسببا،
كحديد وسلح وخشبة كبيرة ،وإبرة في مقتل ،أو غير مقتل كفخذ وألية إن حدث تورم وألم واستمر
حتى مات ،أو كأن قطع إصبع إنسان ،فسرت الجراحة إلى النفس ومات.
وشبه العمد :هو قصد الفعل العدوان والشخص بما ل يقتل غالبا ،كضرب بحجر خفيف أو لكمة باليد،
أو بسوط ،أو عصا صغيرين أو خفيفين ،ولم يوال بين الضربات ،وأل يكون الضرب في مقتل ،أو
كان المضروب صغيرا أو ضعيفا ،وأل يكون حر أو برد مساعد على الهلك ،وأل يشتد اللم ويبقى
إلى الموت .فإن كان شيء من ذلك فهو عمد؛ لنه يقتل غالبا .ول قصاص في شبه العمد ،وإنما فيه
دية مغلظة أبيّنها في بحث الديات.
والخطأ :هو القتل الحادث بغير قصد العتداء ل للفعل ،ول للشخص ،كأن وقع شخص على آخر
فمات ،أو رمى شجرة أودابة ،فأصابت الرمية إنسانا فمات ،أو رمى آدميا فأصاب غيره فمات.
وبما أن هذا التقسيم أشهر التقاسيم فإني سأعتمده في بحث أنواع القتل وعقوباته.
( )7/537
ثالثا ـ مشهور مذهب المالكية ( : )1أن القتل نوعان :عمد ،وخطأ ،لنهما المذكوران فقط في القرآن
الكريم ،لبيان حكم نوعي القتل ،فمن زاد قسما ثالثا أو رابعا زاد على النص ،وأنكر مالك شبه العمد.
أما العمد :فهو أن يقصد القاتل القتل مباشرة بضرب بمحدد أو مثقل ،أو تسببا بإحراق أو تغريق أو
خنق ،أو سُمّ أو غيرها ،كمنع طعام أو شراب قاصدا به موته ،فمات ،أو قصد مجرد التعذيب ،سواء
بما يقتل غالبا أو بما ل يقتل غالبا ،إن فعل ذلك لعداوة أو غضب ل على وجه التأديب .فإن كان القتل
بسبب الضرب على وجه اللعب أو التأديب فهو من الخطأ ،إن كان الضرب بنحو قضيب ،ل بنحو
سيف.
وأما الخطأ :فهو أل يقصد الضرب ول القتل ،كما لو سقط إنسان على غيره فقتله ،أو رمى صيدا
فأصاب إنسانا.
وشبه العمد :هو أن يقصد الضرب ول يقصد القتل ،والمشهور عندهم أنه كالعمد (. )2
ويلحظ مما سبق أن الفقهاء اتفقوا على بعض حالت القتل العمد كالقتل بسلح ،وعلى حالة القتل
الخطأ ،واختلفوا في حالت ثلث :هي القتل شبه العمد ،وما أجري مجرى الخطأ ،والقتل بسبب.
كما يلحظ أن الفقهاء اعتمدوا في إثبات العمد وشبه الخطأ ،على اللة المستعملة في القتل باعتبارها
دليلً ماديا أو حسيا على توافر القصد أي (العمد) وعدم توفره .وفي عصرنا الحاضر حيث تعددت
أساليب القتل ،ينبغي البحث في ظروف القتل وملبساته ،وفي قرائن الحوال ،للحكم على نية القاتل،
أهو متعمد ،أم مخطئ.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي ،242/4 :القوانين الفقهية :ص ،344بداية المجتهد.390/2 :
( )2القوانين الفقهية :ص .345
( )7/538
( )7/539
كذلك ل قصاص عند الجمهور بقتل الباغي ( )1لعدم العصمة ،واعتقاد أهل العدل (جماعة المسلمين
في دار السلم) إباحة دمه .وتلك الباحة عند غير الحنفية ( )2مقصورة على حالة الحرب الدائرة
بين قومه البغاة وبين أهل العدل .ويرى الحنفية أن عدم عصمة البغاة مطلقة في أي حال بمجرد البغي
( . )3
وأساس العصمة عند الحنفية ( : )4هو الوجود في دار السلم ،فيعد المسلم والذمي والمستأمن
معصوم الدم بسبب وجوده في دار السلم .أما الحربي أو المسلم في دار الحرب ،فليس معصوما،
ول عقاب على قاتله ،لكونه في دار الحرب.
وأما عند الجمهور غير الحنفية ( : )5فأساس العصمة هو السلم أو المان .فيعدّ المسلم والذمي
والمستأمن والمهادن معصوما ،إما بسبب السلم بالنسبة للمسلم ولو كان في دار الحرب ،أو بسبب
المان بالنسبة لغير المسلم المعاهد ،فل
-------------------------------
( )1الباغي :هو أحد البغاة الخارجين على المام يبغون خلعه ،وكان له منعة وشوكة ،معتمدين على
تأويل سائغ لنص شرعي.
( )2الشرح الكبير للدردير ،300/4 :المهذب ،220/2 :مغني المحتاج ،125/4 :المغني 113/8 :وما
بعدها .قال ابن قدامة :الصحيح أن الخوارج يباح قتلهم ،فل قصاص على قاتل أحد منهم ول ضمان
عليه في ماله.
( )3البدائع.236/7 :
( )4تكملة الفتح ،255/8 :البدائع ،252/7 :اللباب مع شرح الكتاب.144/3 :
( )5الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي ،239/4 :مغني المحتاج ،14/4 :المغني.648/7 :
( )7/540
تباح دماؤهم ول أموالهم ،ويعاقب قاتلهم على القتل العمد ،إل أنه ل يقتل المسلم بالكافر عندهم ()1
كما سيتضح فيما بعد ،ويقتل قاتل المسلم ولو كان في دار الحرب .ويظهر أثر الخلف بين الرأيين
في قتل المسلم في دار الحرب.
ووقت العصمة عند الحنفية :مختلف فيه بين المام وصاحبيه ( . )2فأبو حنيفة :يرى أن وقت
العصمة هو وقت الفعل أي فعل القاتل ل غير ،فمن رمى إنسانا مسلما فجرحه ،ثم ارتد المجروح بعد
ل إل بفوات حياة القتيل ،وقد
الجرح ،ومات وهو مرتد ،ل يقتص منه؛ لن فعل الجاني ل يصير قت ً
فاتت حياة المقتول في وقت لم يكن فيه معصوما ،فكان دمه هدرا ،لكن على الجاني دية المقتول عند
أبي حنيفة؛ لنه يسأل عن الجرح الذي أحدثه في معصوم عند بدء فعله.
وقال الصاحبان :وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت جميعا؛ لن للفعل تعلقا بالقاتل والمقتول،
فهو فعل القاتل ،وأثره يظهر في المقتول بفوات الحياة ،فل بد من ملحظة العصمة في الوقتين
جميعا ،فل قصاص على الجاني في المثال السابق ول دية عليه عندهما.فالمام وصاحباه اتفقوا على
عدم القصاص واختلفوا في إيجاب الدية.
وقال زفر :إن وقت العصمة هو وقت الموت ل غير.
كذلك اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في تحديد وقت العصمة عند الرمي .فقال أبو حنيفة :العبرة بوقت
الرمي ل وقت الصابة ،لن النسان يسأل عن فعله ،ول فعل منه سوى الرمي.
وقال الصاحبان :العبرة بوقت الصابة ل وقت الرمي؛ لن المعول عليه هو وقت التلف ،ووقت التلف
هو وقت الصابة.
فمن رمى غيره برصاصة ،فارتد المرمي بعد الرمي وقبل الصابة ،يكون الجاني مطالبا بالدية عند
أبي حنيفة؛ لنه كان معصوما عند الرمي ،وليس مطالبا عند الصاحبين؛ لن المجني عليه لم يكن
معصوما وقت الصابة.
-------------------------------
( )1المغني.652/7 :
( )2البدائع ،253/7 :التشريع الجنائي السلمي 23/2 :وما بعدها.
( )7/541
واتفق غير الحنفية (مالك والشافعي وأحمد) ( )1مع الصاحبين في رأيهما بتحديد وقت العصمة ،وهو
وقت الفعل (ضربا أو جرحا) ووقت الموت معا ،أي حال البدء وحال النتهاء ،فيشترط كون المجني
عليه معصوما من حين الضرب أو الجراح إلى حين الموت .فلو قطع شخص يد مسلم ،فارتد ،ثم
مات بسراية الجرح ،فالنفس هَدَر،أي لم يجب في النفس قصاص ول دية ول كفارة؛ لنها نفس مرتد
غير معصوم ول مضمون.
لكن اختلف غير الحنفية في تحديد وقت العصمة حال الرمي ،فقال المالكية والشافعية :إنه وقت
الرمي .وقال الحنابلة :إنه حالة الصابة.
الركن الثاني ـ القتل نتيجة لفعل الجاني :
ل تعد الجريمة قتلً إل إذا ارتكب الجاني فعلً من شأنه إحداث الموت .فإن حدث الموت بفعل ل
يمكن نسبته إلى الجاني ،أو لم يكن فعله مما يحدث الموت ،فل يعد الجاني قاتلً.
والفعل القاتل يصح أن يكون ضربا أو جرحا ،أو ذبحا أو حرقا أو خنقا أو تسميما أو غير ذلك (. )2
والبحث في هذا الركن في أمرين :أداة القتل ،والفعال المكونة للقتل العمد.
أداة القتل :
تختلف أدوات القتل قوة وضعفا في مدى التأثير على الجسم والتأثر بها ،لذا حدد الفقهاء لكل منها
حكما وأثرا معينا ،واختلفوا فيما بينهم في ترتيبها كما ذكرت في بيان أنواع القتل إجمالً.
أولً ـ رأي الحنفية (: )3
اشترط أبو حنيفة في أداة القتل العمد :أن تكون مما يقتل غالبا ،ومما يعد للقتل ،وهي كل آلة جارحة
أوطاعنة ذات حد لها َموْر في الجسم ،أي تفرق أجزاء الجسم ،سواء كانت من الحديد أو الرصاص أو
النحاس ،أو الخشب المحدد أو الحجر المحدد ،أو نحوها كالسيف والبندقية والسكين والرمح ،والبرة
في مقتل ،أو ما يعمل عمل هذه الشياء في الجرح والطعن ،كالنار والزجاج وليطة القصب ()4
والمروة المحددة ( ، )5والرمح الذي لسنان له ونحوها.
وسواء أكان الحديد وشبهه من المعادن مما له حد يبضع (يقطع الجلد ويشق اللحم) بضعا ،أم هو مثقل
ليس له حد يرض رضا ،كالعمود وصنجة الميزان وظهر الفأس والمروة ،ونحوها.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير 238/4 :وما بعدها ،249 ،مغني المحتاج ،23/4 :المغني.656-653/7 :
( )2التشريع الجنائي ،عودة.25/2 :
( )3البدائع 233/7 :ومابعدها ،تبيين الحقائق 97/6 :وما بعدها ،تكملة فتح القدير ،244/8 :الدر
المختار ورد المحتار.375/5 :
( )4الليطة :قشر القصب اللزق به.
( )5المروة :حجر أبيض براق يقدح به النار.
( )7/542
أما أداة القتل شبه العمد :فهي كل آلة تقتل غالبا ،ولكنها ليست جارحة ول طاعنة كالخشبة الكبيرة،
والحجر الثقيل ،ويقصد به غير القتل كالتأديب ونحوه ،فإن قصد به التلف فهو عمد.
ودليل المام قوله عليه الصلة والسلم« :أل إن قتيل الخطأ شبه العمد قتل ُ السوط أو العصا ،فيه مئة
من البل ،منها أربعون في بطونها أولدها» (. )1
واتفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أن القتل شبه عمد في حالتين وهما:
- 1أن يقصد الجاني القتل بعصا صغيرة أو بحجر صغير أو بلطمة ،أو بسوط ضرب به ضربة أو
ضربتين ولم يوال الضربات ،ونحوها مما ل يقتل غالبا.
- 2الضرب بالسوط الصغير الذي يوالي به الضربات حتى يموت المجني عليه .وقيل في الحالة
الثانية عند الصاحبين :إنها عمد محض.
واختلف المام مع صاحبيه في حالتين أخريين هما:
- 1استعمال العصا الكبيرة والحجر الكبير والمدقة الكبيرة ونحوها.
- 2اللقاء في بئر أو من سطح أو جبل ،ول يرجى منه النجاة.
عند المام :هما شبه عمد .وعند الصاحبين :هما عمد .قال الحنفية ( : )2والصحيح قول المام ،وبه
يفتى في شبه العمد.
أما التغريق في الماء القليل وموت الغريق ،فليس عمدا ول شبه عمد ،باتفاق الحنفية.
-------------------------------
( )1رواه أحمد وأصحاب السنن إل الترمذي عن عبد ال بن عمرو.
( )2رد المحتار ،376/5 :اللباب شرح الكتاب ،142/3 :تبيين الحقائق.101/6 :
( )7/543
ثانيا ـ مذهب الشافعية والحنابلة :اكتفى الشافعية والحنابلة ( )1في تحديد أداة القتل العمد :بأن تكون
مما يقتل غالبا ،سواء أكان القتل بمحدد أم بمثقّل.
والمحدد :هو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين ونحوهما من أي معدن كحديد ورصاص
ونحاس وذهب وفضة ،أوغير معدن كزجاج وحجر وقصب وخشب له حد قاطع .والمحدد ل ينظر
فيه إلي غلبة الظن في حصول القتل ،بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو أنملته فمات ،كان عمدا.
والمثقل :هو ما ليس له حد يجرح ول سن يطعن ،كالعصا والحجر ،فإن كان المثقل مما يقتل غالبا،
أي يغلب على الظن حصول الموت به عند استعماله ،كان القتل عمدا موجبا للقصاص .وإن كان
المثقل مما ل يقتل غالبا ،كان القتل شبه عمد موجبا للدية.
وبناء عليه يكون القتل عمدا إذا استعمل الجاني سلحا ناريا أو سلحا أبيض كالسيف ونحوه ،أو
معدنا أو غير معدن له حد جارح يقطع الجلد واللحم ،أو له مور ( )2وغور في الجسم كالمسلّة
والنشاب ،أو البرة المغروزة في مقتل .أو استعمل ما يقتل غالبا كالعصا الغليظة والعمود والخشبة
الكبيرة والحجر ،أو كانت الداة مما تقتل كثيرا كالعصا والسوط والحجر الصغير ،واللكزة واللطمة،
إذا كرر الضرب بما ذكر حتى قتله ،أو ضربه في مقتل أو كانت تقتل نادرا في بعض الظروف كما
في حال ضعف المضروب لمرض أو صغر ،أو في زمن حر أو برد مفرط ،أو اشتد اللم وبقي إلى
الموت.
فإن استعمل الجاني أداة ل تقتل غالبا كالضرب بالسوط أو العصا الخفيفين ،ولم يوال الضربات ،ولم
يكن الضرب في مقتل ،أو المقتول صغيرا أو ضعيفا ،ولم يكن حرأو برد معين على الهلك ،ولم
يشتد اللم ويستمر إلى الموت ،كان القتل شبه عمد.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،4-3/4 :المهذب ،175/2 :المغني ،640-637/7 :كشاف القناع.587/5 :
( )2أي يفرق أجزاء الجسد.
( )7/544
ودليل الشافعية والحنابلة :هو نفس الحديث الذي استدل به الحنفية وهو «أل إن في قتيل عمد الخطأ،
قتيل السوط والعصا والحجر مائة من البل» وقالوا :إن الحديث محمول على المثقل الصغير؛ لنه
ذكر العصا والسوط ،وقرن به الحجر ،فدل على أنه أراد ما يشبههما .واستدلوا أيضا بحديث آخر:
«إن جارية وُجدت ،وقد ُرضّ رأسها بين حجرين ،فقيل لها :من فعل بك هذا ،أفلن أو فلن ،حتى
سمي يهودي ،فأومأت برأسها ،فأخذ اليهودي ،فاعترف ،فأمر رسول ال صلّى ال عليه وسلم برض
رأسه بالحجارة» ( )1قالوا :فثبت القصاص في هذا أي في المثقل ،بالنص ،وقيس عليه الباقي ،مما
يدل على شرعية القصاص في القتل بالمثقل.
ثالثا ـ مذهب المالكية :إن أداة القتل العمد عند المالكية ( : )2هي كل آلة يقتل بها غالبا كالمحدد مثل
السلح ،والمثقل مثل الحجر ،أو ما ل يقتل بها غالبا كالعصا والسوط ونحوهما ،سواء قصد الجاني
بالضرب قتل المجني عليه ،أو لم يقصد قتلً ،وإنما قصد مجرد الضرب ،أو قصد قتل شخص معتقدا
أنه ( زيد ) فإذا هو (عمرو) :إن حصل الضرب لعداوة أو غضب لغير تأديب ،ففي كل ذلك ال َقوَد (
. )3
ويعتبر كالضرب :الحراق أو التغريق أو الخنق أو التسميم ،أو منع الطعام أو الشراب ،سواء قصد
الموت أم مجرد التعذيب.
-------------------------------
( )1رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أنس بن مالك رضي ال عنه .وهو دليل أيضا
على أنه يقتل الرجل بالمرأة ،وعليه إجماع العلماء .ودليل أيضا على أنه يجوز القود بمثل ما قتل به
المقتول ،وإليه ذهب الجمهور.
( )2الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي ،242/4 :القوانين الفقهية :ص .344
( )3القود :القصاص ،وسمي بذلك؛ لن الجاني المقتص منه كانوا في الغالب يقودونه بشيء يربط به
أو بيده ،كالحبل وغيره (المغني ،683/7 :رد المحتار.)376/5 :
( )7/545
فإن كان الضرب على وجه اللعب أو التأديب ،فهو قتل خطأ ،إن كان بنحو قضيب (أي عصا) ،ل
بنحو سيف ،وكما لو سقط على غيره فقتله ،أو رمى صيدا فأصاب إنسانا.
وهذا في غير الب ،وأما الب فل يقتل بولده ،ما لم يقصد إزهاق روحه ،كأن يضجعه ويذبحه.
وبه يتبين أن القتل عند مالك نوعان فقط كما بان سابقا :عمد ،وخطأ ،وليس هناك ما يسمى ( شبه
العمد ) فقد أنكره مالك ،وقال« :ليس في كتاب ال إل العمد والخطأ ،فأما شبه العمد فل يعمل به
عندنا» وجعله من قسم العمد.
الفعال المكونة للقتل العمد :
القتل العمد الموجب للقصاص في الجملة ،مع اختلف الفقهاء في بعض أنواعه :هو تسعة أقسام (
، )1أبحثها هنا ،مع بيان الرأي الرجح في عصرنا الحاضر.
- 1القتل بمحدد :المحدد :هو كل آلة جارحة أوطاعنة لها مور في البدن ،أي تفرق أجزء الجسد،
مثل السلحة النارية الحديثة المختلفة ،والسلح البيض ،والخشاب والحجار المحددة والزجاج
والعظم ونحوها.
ويكاد يكون هناك اتفاق بين الفقهاء على أن القتل بالمحدد هو قتل عمد موجب للقصاص ،مع ملحظة
ضوابط المذاهب في بيان ما يوجب القصاص ،على ما بان في المبحث السابق.
-الحنفية اشترطوا أن تكون قاتلة غالبا ومعدة للقتل.
-واكتفى الشافعية والحنابلة بأن تكون اللة محددة ،ولم يشترطوا غلبة الظن في حصول القتل بها.
ولم يشترط المالكية شيئا في آلة القتل ،وإنما يكفي وجود العدوان.
وبناء عليه :إذا أحدث الجاني جرحا كبيرا ،فهوقتل عمد بالتفاق ،وإن أحدث جرحا صغيرا في مقتل
كالعين والقلب والخاصرة ،باستعمال إبرة أوشوكة ،فهو قتل عمد اتفاقا.
-------------------------------
( )1راجع كشاف القناع 587/5 :وما بعدها ،المغني.646-637/7 :
( )7/546
وإن استعمل البرة في غير مقتل كفخذ وألية فهو شبه عمد عند الحنفية؛ لن البرة معدة للخياطة،
ول تستعمل في القتل عادة (، )1وعمد عند الشافعية ( )2إن تورم محل الغرز وتألم ،واستمر المران
حتى مات .فإن لم يظهر للغرز أثر ،بأن لم يشتد اللم ،ومات في الحال ،فهو قتل شبه عمد ،وقيل :هو
عمد .ويعد الغرز عند الحنابلة ( )3في غير مقتل قتل عمد إن بالغ الجاني في إدخال البرة في البدن؛
لن هذا يشتد ألمه ويفضي إلى القتل .وكذا إن كان الغور يسيرا ،أو الجرح لطيفا ،واستمر حتى مات
يكون عمدا فيه القود .وإن مات في الحال ففيه وجهان :أحدهما -ل قصاص فيه ،والثاني -فيه
القصاص ،وبه يظهر أن مذهبي الشافعية والحنابلة متفقان في حال استعمال البرة.
-------------------------------
( )1رد المحتار.375/5 :
( )2مغني المحتاج.5-4/4 :
( )3المغني.638-637/7 :
( )7/547
وجعل مالك الجرح والغرز قتلً عمدا ،في مقتل أو غير مقتل إذا لم يكن الفعل على وجه اللعب أوا
لتأديب (. )1
- 2القتل بالمثقّل ،أو بغير المحدد :هو ما ليس له حد ،كالعصا والحجر .واختلف الفقهاء في شأنه،
هل يوجب القود ؛ لنه عمد ،أو الدية؛ لنه شبه عمد؟
قال أبو حنيفة :القتل بمثقل إل الحديد وما في معناه من نحاس وصنجة ميزان ( )2شبه عمد (. )3
واستثناء الحديد لنه يعمل عمل السلح ،لقوله تعالى{ :وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ،ومنافع للناس}
[الحديد .]25/57:ودليله حديث «أل إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مئة من
البل» فإذا أوجب الرسول عليه السلم فيه الدية ،كان شبه عمد وليس عمدا.
وقال الصاحبان :القتل بمثقل كحجر عظيم أوخشبة عظيمة إذا كان مما يقتل غالبا عمد؛ لنه لما كان
يقتل غالبا ،صار بمنزلة اللة الموضوعة له .فإذا لم يكن المثقل قاتلً غالبا ،كان القتل شبه عمد ،ولو
توالى الضرب.
ورأى الشافعية والحنابلة ( : )4أن القتل بالمثقل الذي يقتل غالبا ،سواء كان كبيرا ،أم صغيرا وكان
في مقتل أو في مرض أو حر أو برد شديدين ،أم والى الضربات :هو قتل عمد؛ لنه يقتل غالبا،
ولعموم اليات الدالة على وجوب القصاص في القتل ،وليجاب النبي عليه الصلة والسلم القصاص
على يهودي قتل امرأة بحجر ،وقوله عليه الصلة والسلم« :ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ،إما
أن يُوديَ ،وإما أن يقاد» ( . )5وأما الحديث الذي استدل به أبو حنيفة السابق فهو محمول على المثقل
الصغير؛ لنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر ،فدل على أنه أراد ما يشبههما ،كما تقدم.
وقال المالكية ( : )6القتل بمثقل قتل عمد ،سواء أكان مما يقتل غالبا أم ل يقتل غالبا ،ما دام الفعل
عدوانا ،ل على وجه اللعب والتأديب.
والحقيقة أن الذي يلحظ حالت القتل العمد العدوان وظروفه من غيظ وحقد وعصبية جامحة يرجح
رأي المالكية في القتل بمحدد أو بمثقل.
- 3القتل بالمباشرة :
المباشرة :ما أثر في التلف وحصله دون واسطة ،وكان علة للموت ،والقتل بالمباشرة :أن يقصد
الجاني عين المجني عليه بالفعل المؤدي إلى الهلك بل واسطة ( ، )7كالجرح أو الذبح بالسكين،
والخنق ،فإنه يؤدي بذاته إلى موت المجني عليه.
وقد اتفق الفقهاء على أن القتل بطريق المباشرة موجب للقصاص ،واشترط الحنفية ( )8ليجاب
القصاص أن يكون القتل مباشرة ل تسببا.
والمباشرة إما أن تكون من قاتل واحد ،أو من جماعة .فإن حدث القتل من شخص واحد بانفراده،
وجب القصاص من القاتل .وأما إن حدث القتل من جماعة اشتركوا في الجريمة ،فإما أن يتم
الشتراك في حال التعاقب أو في وقت واحد.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير.242/4 :
( )2سنجة الميزان بالسين أفصح من الصاد.
( )3الدر المختار ورد المحتار ،375/5 :اللباب شرح الكتاب 141/3 :وما بعدها.
( )4مغني المحتاج ،4/4 :المغني.638/7 :
( )5متفق عليه بين البخاري ومسلم وأصحاب الكتب الستة من حديث أبي هريرة.
( )6حاشية الدسوقي على الشرح الكبير.242/4 :
( )7مغني المحتاج.6/4 :
( )8البدائع.239/7 :
( )7/548
( )7/549
أولً ـ القتل المباشر على التعاقب :كأن يشق رجل بطن آخر ،ثم يأتي غيره فيحز رقبته ،فالقصاص
على الثاني إن كان عمدا ،وإن كان خطأ فالدية على عاقلته؛ لنه هو القاتل ،ل الول ،فإن عليه
التعزير فقط.
وتتم هذه الحالة بانفراد كل من المشتركين عن الخر ،ل مجتمعين ،فل يكون بينهما توافق أو تمالؤ
سابق.
ثانيا ـ القتل المباشر حالة الجتماع :كأن تحدث جراحات معا من عدة جناة ،فيجرح كل منهم جرحا
مهلكا ،أو يطلق كل منهم عيارا ناريا ،فيصيب المجني عليه إصابة قاتلة ،فيجب القصاص عند الحنفية
على كل المشتركين إذا باشروا القتل؛ لن كل واحد منهم يعد قاتلً عمدا .يظهر من هذا أن الحنفية ل
يفرقون بين حالة التوافق (وهو قصد القتل دون اتفاق سابق) وبين التمالؤ (وهو في اصطلح المالكية
قصد القتل بعد اتفاق سابق على ارتكاب الجريمة) ،وإنما المهم حدوث الصابة فعلً وأن يكون فعل
الجاني قاتلً ،بدليل قولهم في القتل العمد« :وتشترط المباشرة من الكل ،بأن جرح كل واحد جرحا
ساريا» وقال التمرتاشي« :ويقتل جمع بمفرد إن جرح كل واحد جرحا مهلكا ،وإل ل» أي أن المهم
عندهم هو حدوث مباشرة القتل.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) ( : )1تقتل الجماعة غير المتمالئين (أي غير المتفقين
سابقا) بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهم صالحا للقتل به ،فيما لو انفرد بالجناية ومات المجني عليه،
وضربوه عمدا عدوانا ،أي ل بد من كون فعل كل واحد من الجماعة قاتلً .وفي هذه الحالة يتفق
الجمهور مع الحنفية .وكذلك
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير ،245/4 :القوانين الفقهية لبن جزي :ص ،345المهذب ،174/2 :مغني
المحتاج ،22 ،20 ،12/4 :المغني 671/7 :وما بعدها ،كشاف القناع ،598/5 :بداية المجتهد:
.392/2
( )7/550
يقتل عند الجمهور الجماعة المتمالئون (المتواطئون) على القتل بالواحد إن قصد الجميع الضرب ،وإن
لم يصلح فعل كل واحد من الجماعة للقتل ،أي ولو لم يكن فعل كل واحد قاتلً ،كأن ضربوه بسياط أو
بحجر صغير ،فمات ،لئل يتخذ التواطؤ (التفاق السابق)ذريعة إلى درء القصاص .وهذا هو الصح
عند الشافعية والحنابلة ،إل أنهم يخالفون المالكية في اشتراط كون كل مشترك في ارتكاب الفعل له
صفة الفاعل للجريمة ،ويكفي عند المالكية حضور الجميع ،وإن لم يتول القتل إل واحد ،إذا كان غير
الضارب مستعدا للضرب ،ولو لم يضرب غيره ،وإنما كان ربيئة أي رقيبا.
وبه يظهر أن الجمهور يختلفون مع الحنفية في هذه الحالة (القتل بالتمالؤ) لكني أرجح مذهب
الجمهور ،لفعل عمر رضي ال عنه في قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلً ،وإجماع الصحابة على
فعله.
والخلصة :أنه إذا باشر الجميع القتل يقتل الجميع باتفاق المذاهب.
وأما الشريك :الذي لم يباشر فعلً من أفعال القتل ،وإنما اقتصر على التفاق على القتل دون حضور
القتل،أو على التحريض أو العانة على القتل دون مباشرة القتل ،فيعاقب بالتعزير ،ومنه القتل إذا شاء
المام عند غير المالكية .ويعاقب بالقصاص عند المالكية.
معنى التمالؤ :هذا ويلحظ أن الفقهاء اختلفوا في تحديد معنى التمالؤ (. )1
قال الحنفية والشافعية والحنابلة في الرجح عندهم :التمالؤ ـ في اصطلحهم هو توافق إرادات الجناة
على الفعل ولو دون أن يكون بينهم اتفاق سابق ،بحيث
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي ،245/4 :الشرح الصغير ،344/4 :وراجع التشريع الجنائي
السلمي 126 ،42-39/2 :وما بعدها.
( )7/551
يباشرون الجناية ،أي يجتمعون على ارتكاب الفعل في فور واحد ولو دون سابقة من تدبير أو
اتفاق.وقال المالكية :التمالؤ :التعاقد والتفاق ،وهو أن يقصد شخصان فأكثر قتل شخص وضربه،
فالتمالؤ يتطلب اتفاقا سابقا على ارتكاب الفعل ،وإن التوافق على العتداء ل يعتبر تمالؤا ،لكن يقتل
الجميع إذا قصدوا الضرب ،وحضروا الجناية ،وإن لم يتول القتل إل واحد منهم ،وكان الخر رقيبا
مثلً ،بشرط أن يكونوا بحيث لو استعين بهم أعانوا.
ويقتل عند المالكية أيضا الجمع غير الممالئين بقتل شخص واحد إذا ضربوه عمدا عدوانا ومات
مكانه ،ولم تتميز الضربات ،أو تميزت ولكن لم تعرف الضربة القاتلة.
قتل الواحد بالجماعة ـ تعدد القتلى :
يقتل أيضا الواحد بالجماعة قصاصا ،ول يجب عند الحنفية ( )1والمالكية ( )2مع القود شيء من
المال ،فليس للجماعة إل القصاص؛ لن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به ،فكذلك إذا قتلهم واحد ،قتل
بهم ،كالواحد بالواحد .وحق أولياء المقتول في القتل مقدور الستيفاء لهم ،فلو أوجبنا معه المال ،لكان
زيادة على القتل ،وهذا ل يجوز .وإني أميل لهذا الرأي.
وقال الشافعية ( : )3ل يقتل القاتل إل بواحد ،سواء اتفق أولياء الدم على طلب القصاص ،أو لم
يتفقوا؛ لن المماثلة مشروطة في القصاص ،ول مماثلة بين
-------------------------------
( )1البدائع ،239/7 :الدر المختار ،395/5 :تبيين الحقائق ،115/6 :تكملة الفتح.278/8 :
( )2المغني ،699/7 :الميزان الكبرى للشعراني ،143/2 :القوانين الفقهية :ص .345
( )3مغني المحتاج ،22/4 :المهذب.183/2 :
( )7/552
الواحد والجماعة ،فل يجوز أن يقتل الواحد بالجماعة ،وإنما يقتل الواحد بالواحد ،وتجب الديات
للباقين .واشتراك أولياء الدم في حق المطالبة بالقصاص ليوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق.
وبناء عليه ،إن قتل الواحد جماعة على الترتيب ،قتل بأولهم ،إن لم يعف لسبق حقه .وإن قتلهم معا
دفعة واحدة ،كأن جرحهم أو هدم عليهم جدارا ،فماتوا في وقت واحد ،أو أشكل أمر المعية والترتيب،
فيقتص من الجاني لواحد من القتلة بالقرعة وجوبا ،وللباقين من المستحقين الديات ،لتعذر القصاص
عليه ،كما لو مات الجاني مثلً.
وقال الحنابلة ( : )1إن اتفق أولياء القصاص على القود أو قتل الجاني قتل بهم ،وإن أراد أحدهم
القود ،والخر الدية ،قتل لمن أراد القود ،وأعطي الباقون الدية من مال الجاني ،سواء قتلهم دفعة
واحدة أو دفعتين ،ودليلهم قول النبي صلّى ال عليه وسلم« :فمن قتل له قتيل ،فأهله بين خِيرَتين :إن
أحبوا قَتَلوا ،وإن أحبوا أخذوا العقل» ( )2أي الدية ،ولن الجنايات المتعددة ل تتداخل في حالة الخطأ،
فل تتداخل في حالة العمد.
-------------------------------
( )1المغني 699/7 :وما بعدها.
( )2سبقت الشارة لتخريجه إجمالً وقد رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة
بلفظ« :من قتل له قتيل فهو بخير النظرين :إما أن يفتدي ،وإما أن يقتل» ولفظ الترمذي« :إما أن
يعفو ،وإما أن يقتل» وفي رواية لحمد وأبي داود وابن ماجه عن أبي شريح الخزاعي« :فهو بالخيار
بين إحدى ثلث :إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو» قال ابن عباس« :فالعفو أن يقبل في العمد
الدية والتباع بالمعروف» .
( )7/553
( )7/554
إحداث الضرر ،وهلك المقصود المعين بالسبب المتخذ ،كما في حالة الحفر ورجوع الشهود عن
شهادتهم ،والتسميم ،والكراه.
ول بد من توضيح الكلم في الكراه على القتل ،والتسميم.
الكراه على القتل :إذا أكره رجل غيره على قتل آخر بأن هدده بما يلحق ضررا بنفسه أو ماله ،فقال
أبو حنيفة ومحمد :يجب القصاص على المكرِه ،دون المستكره المباشر ،لقوله صلّى ال عليه وسلم :
«عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ( )1ولن المستكره آلة للمكره ،والقاتل معنى
هو المكرِه ،والموجود من المستكره صورة القتل فقط.
وقال أبو يوسف :ل قصاص على أحد ،سواء المكره والمستكره ،للشبهة؛ لن المكره ليس بمباشر
للقتل ،وإنما هو مسبب له ،وإنما القاتل هو المستكره.
وقال زفر :القصاص على المستكره؛ لن القتل وجد منه في الحقيقة والواقع .وبه يتبين أن في
المذهب الحنفي ( )2آراء ثلثة أرجحها الول.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية في الظهر عندهم ،والحنابلة) ( : )3يجب القصاص على المكره
والمستكره جميعا؛ لن المكره متسبب في القتل بما يفضي إليه غالبا ،والمستكره مباشر القتل عمدا
عدوانا ،ومؤثرْ في فعله استبقاء نفسه .وإني أرجح هذا الرأي.
لكن لو قال له :اقتلني وإل قتلتك ،فل قصاص عند الشافعية إذا قتله؛ لن الكراه شبهة يدرأ بها الحد.
-------------------------------
( )1رواه ابن ماجه عن أبي ذر ،والطبراني والحاكم عن ابن عباس ،والطبراني أيضا عن ثوبان
بلفظ« :إن ال تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
( )2البدائع ،179/6 :تكملة فتح القدير ،302/7 :اللباب شرح الكتاب.112/4 :
( )3الشرح الكبير للدردير ،244/4 :مغني المحتاج ،9/4 :المهذب ،177/2 :المغني ،645/7 :كشاف
القناع 601/5 :وما بعدها.
( )7/555
أما لو أمره بقتل نفسه ،بأن قال له :اقتل نفسك وإل قتلتك ،فقتل نفسه ،لم يجب القصاص؛ لن هذا
ليس إكراها ،فصار كأنه مختار له ،في رأي الشافعية .ويلحظ أن الكراه على القتل ل يبيحه ،بل
يأثم بالتفاق وكذا ل يباح الزنى بالكراه.
المر بالقتل :
فرَق الفقهاء بين الكراه على القتل وبين المر بالقتل ،لختلف طبيعة الحالتين ،ففي حالة الكراه
يكون المباشر مجبرا على تنفيذ الفعل ،وفي حالة المر يكون المباشر مختارا ارتكاب الجريمة؛ لذا
كان في حكمه تفصيل:
- 1إذا كان المأمور غير مميز كصبي أو مجنون ،فل قصاص على المر عند الحنفية؛ لنه قتل
بالتسبب ،والقتل بالتسبب ل قصاص فيه ،وإنما فيه الدية ،كما بينت سابقا.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) ( : )1يقتص من المر؛ لنه متسبب في القتل .وأما
المباشر فهو مجرد آلة يحركها المر كيف يشاء.
- 2وإذا كان المأمور مميزا ،أو كبيرا بالغا عاقلً ،فإما أن يكون للمر سلطان عليه ،أو ل سلطان له
عليه.
-------------------------------
( )1بداية المجتهد 388/2 :وما بعدها ،الشرح الكبير للدردير ،244/4 :المهذب ،177/2 :كشاف
القناع 602/5 :ومابعدها ،المغني ،757/7 :القوانين الفقهية :ص .345
( )7/556
فإن لم يكن سلطان للمر على المأمور ،فقال مالك والشافعي وأحمد ( : )1يقتص من المباشر
المأمور ،ويعزر المر.
وأما إذا كان للمر سلطان على المأمور أي المباشر ،كسلطة الب على ولده الصغير ،وسلطة الحاكم
على من هو تحت إمرته ،بحيث يخاف المأمور أن يقتله المر لو لم يطع أمره ،فيقتص عند مالك ()2
من المر والمأمور معا؛ لن المر في هذه الحالة يعتبر إكراها.
وقال الشافعية والحنابلة ( : )3إن علم المأمور أن القتل بغير حق ،فيقتص من المأمور المباشر؛ لنه
غير معذر في فعله ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (، )4
ويعزر المر بالقتل ظلما لرتكابه معصية .وإن لم يعلم المأمور أن القتل بغير حق ،فالقصاص على
المر؛ لن المأمور معذور لوجوب طاعة المام في غير معصية ،والظاهر من حاله أنه ل يأمر إل
بالحق.
وعند أبي حنيفة ( : )5ل قصاص على المر إل إذا كان مُكرِها ،كما ل قصاص على المأمور إذا
كان المر صادرا ممن يملكه؛ لن المر أو الذن شبهة تدرأ القصاص ،فإن كان المر صادرا ممن
ل حق له فيه ،فعلى المأمور القصاص.
التسميم :
التسميم :تسبب لقتل النفس ،فل يوجب القصاص عند الحنفية ( . )6فإن دس شخص لخر السم في
طعام أو شراب ،فأكله أو شربه ولم يعلم به ،ومات منه ،فل قصاص عليه ،ول دية ،لكن يلزمه
الستغفار والحبس والتعزير ،لرتكابه معصية بتسببه لقتل النفس ،وتغريره بالمجني عليه.
أما في حالة الكراه على تناول السم ،كأن أوجر (صب في الحلق) شخص السم في حلق آخر على
كره منه ،أو ناوله إياه وأكرهه على شربه حتى شرب ،فالفعل قتل شبه عمد؛ لنه حصل بما ل
يجرح ،فل قصاص فيه عند أبي حنيفة ،وإنما تجب الدية على عاقلته (أهل ديوانه أو حرفته أو
-------------------------------
( )1المراجع السابقة.
( )2بداية المجتهد.389/2 :
( )3المهذب ،كشاف القناع ،المرجعان السابقان ،والمكان السابق.
( )4رواه الحاكم وأحمد في مسنده عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري.
( )5البدائع.236/7 :
( )6الدر المختار ،385/5 :تبيين الحقائق.101/6 :
( )7/557
( )7/558
( )7/559
حفر بئرا فرداه فيها آخر ،أو ألقاه من شاهق ،فتلقاه آخر فقدّه (قطعه نصفين مثلً قبل وصوله
الرض) فالقصاص على القاتل والمردي والقادّ فقط (. )1
وبناء عليه لو أمسك رجل شخصا ليقتله آخر ،يضمن القاتل فقط عند الحنفية ( ، )2فيقتص منه إن
قتله بسلح؛ لنه باشر القتل ،،ويجب التعزير على الممسك من غير حبس.
وقال الشافعية ،والراجح عند أحمد ( : )3يقتل القاتل ،ويعزر الممسك عند الشافعية بحسب ما يرى
الحاكم من المدة .وقال الحنابلة :يحبس الممسك حتى يموت ،لقوله عليه السلم« :إذا أمسك الرجلُ
الرجلَ ،حتى جاء آخر ،فقتله ،قتل القاتل وحبس الممسك» ( )4وقوله أيضا« :إن من أعتى الناس
على ال عز وجل :من قتل غير قاتله ،أو طلب بدم الجاهلية في السلم ،أو بصّر عينيه في النوم ما
لم تبصره» (. )5
-------------------------------
( )1وهذا هو المعروف من الفعال المؤثرة في زهوق الروح بالشرط ،لن الذي له دخل من الفعال
بالزهوق إما مباشرة :وهي ما يؤثر في الهلك ويحصله بالذبح بسكين ،وإما شرط :وهو مال يؤثر
في الهلك ول يحصله ،بل يحصل التلف عنده بغيره ،ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه ،كالحفر مع
التردي ،فإنه ل يؤثر في التلف ول يحصله ،وإنما التردي هو المحصل للتلف ،لكن لول الحفر لما
حصل التلف ،ولذا سمي شرطا ،ومثله المساك للقاتل .وإما سبب :وهو ما يؤثر في الهلك ول
يحصله كشهادة الزور على بريء بالقتل ،فإنها علة أو مؤثر في الحكم عليه بالعدام ،ولكنها ل تجلب
بذاتها العدام ،وإنما الذي يجلبه فعل الجلد (مغني المحتاج.)6/4 :
( )2الدر المختار ورد المحتار ،384/5 :البدائع.274/7 :
( )3مغني المحتاج ،8/4 :المهذب ،176/2 :المغني.755/7 :
( )4رواه الدارقطني عن ابن عمر ،وهو حديث مرسل ،ورواه الشافعي من فعل علي .قال في بلوغ
المرام :رجاله ثقات ،وصححه ابن القطان.
( )5رواه أحمد والدارقطني والطبراني والحاكم من حديث أبي شريح الخزاعي .ورواه آخرون عن
عائشة ،وابن عباس.
( )7/560
لكن المالكية ( )1قالوا :إذا اجتمعت المباشرة والسبب ،فالقصاص عليهما معا ،فيشارك القاتل
والممسك في الضمان أو القصاص ،لتسبب الممسك ومباشرة القاتل .ومثله الدال الذي لول دللته ما
قتل المدلول عليه ،قياسا على الممسك .كذلك يقتص عندهم من الحافر والمردي معا.
والخلصة :إن المباشر ضامن إذا تغلبت المباشرة على السبب.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير 245/4 :وما بعدها ،لكن في إتلف الموال يقدم المستكره على المكره،
والمردي على الحافر في تعلق الضمان به وحده (الشرح الكبير.)444/3 :
( )7/561
( )7/562
( )7/563
حالة اشتراك من يجب عليه القصاص ومن ل يجب عليه القصاص :
القاعدة المقررة في هذه الحالة عند الحنفية هي أن «القصاص ل يتجزأ» ( )1فلو اشترك اثنان في قتل
رجل :أحدهما ممن يجب عليه القصاص ،لو انفرد بالجريمة وحده ،والخر ل يجب عليه ،لو انفرد
لعدم انطباق شروط القصاص عليه كما سيأتي ،مثل اشتراك صبي مع بالغ ،ومجنون مع عاقل،
ومخطئ وعامد في قتل شخص ( ، )2أو اشتراك الب مع شخص أجنبي في قتل البن ،أو اشتراك
زوج مع أجنبي في قتل زوجته وله منها ولد ،أو اشتراك رجل مع سبعٍ أو حية في إماتة إنسان ،كأن
يجرحه سبع أو تلدغه حية ،ويجرحه إنسان عمدا ،فيموت بسببها ،أو يجرح الشخص نفسه ،ويجرحه
أجنبي أيضا ،فمات ،ففي كل هذه الحالت ل قصاص على أحد في مذهبي الحنفية والحنابلة (، )3
سواء من توافرت فيه شرائط القصاص أو لم تتوافر فيه لمانع شرعي ،لوجود الشبهة في فعل كل
واحد منهما ،ول يطبق القصاص مع الشبهة ،لكن تجب الدية عليهما.
أما صاحب أهلية القصاص كالبالغ فتجب الدية في ماله .والذي ل يجب عليه القصاص كالمخطئ،
تجب الدية على عاقلته.
وهذا عند الحنفية في حالة غير شريك الب ،أما في حالة اشتراك الب والجنبي ،فتجب الدية في
مالهما؛ لن الب لو انفرد بالقتل تجب الدية في ماله.
ورأى الحنابلة :أن على عاقلة الصبي والمخطئ نصف الدية ،وعلى البالغ ،والمتعمد نصف الدية في
ماله .وفي شريك السبع وشريك جارح نفسه وجهان في إيجاب القصاص عليه :أحدهما وهو الصح:
ل قصاص عليه ،والثاني :عليه القصاص .وأما شريك الب فعليه القصاص ،كشريك الجنبي.
-------------------------------
( )1راجع الدر المختار ،380/5 :وكتابنا نظرية الضمان :ص .304
( )2أو أحدهما بالسيف والخر بالعصا عند أبي حنيفة ،لن الشتراك بالعصا يجعل المشترك مرتكبا
قتل شبه العمد.
( )3البدائع ،235/7 :الفتاوى الهندية ،4/6 :الدر المختار ورد المحتار ،397/5 :المغني،676/7 :
،681 ،677كشاف القناع.605/5 :
( )7/564
وقال الشافعية ( )1بتفصيل آخر :ل يقتل شريك المخطئ ،وشبه العمد بسبب الشبهة في القصاص،
وإنما تجب الدية عليهما ،أما المتعمد فعليه نصف الدية مغلظة في ماله ،وغير المتعمد عليه نصف
الدية مخففة .ويقتل شريك الب في قتل ولده (أي كما قال الحنابلة) ،وشريك جارح نفسه ،كأن جرح
الشخص نفسه وجرحه غيره فمات بهما .وكذلك يقتل شريك دافع الصائل ( )2في الظهر ،وشريك
صبي مميز أو مجنون ،وشريك السبع والحية القاتلين غالبا ،لصدور الجريمة منه ،وهو القتل العمد،
وأما امتناع القصاص على الخر فهو لعذر أو مانع خاص به ،فل يتعدى إلى الخر ،ويجب عليه
القصاص جزاء لفعله .والظهر عند الشافعية أن من ألقى غيره في ماء مُغرق كالبحر فالتقمه حوت،
وجب القصاص عليه؛ لنه بسببه ،فإن كان الماء غير مغرق فل قصاص عليه.
وقال المالكية ( : )3إن اشترك في القتل عامد ومخطئ ،أو مكلف وغير مكلف مثل رجل عامد
وصبي ،أو عامد ومجنون ،إن تمال على قتله ،فعلى العامد القصاص ،وعلى عاقلة المخطئ والمجنون
والصبي نصف الدية؛ لن عمد الصبي كخطئه ،رعاية للمصلحة وصيانة للدماء ،فكأن كل واحد منهما
انفرد بالجريمة.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،20/4 :المهذب.174/2 :
( )2أي المدافع عن نفسه أو ماله أو عرضه ضد الباغي المعتدي.
( )3بداية المجتهد ،405 ،389/2 :الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 246/4 :ومابعدها.
( )7/565
فإن لم يتمالا على قتله ،وتعمد الثنان قتل المجني عليه أوتعمد الكبير ،فعلى الكبير نصف الدية في
ماله ،وعلى عاقلة الصبي نصفها أي كما قال الحنفية .فإن قتله خطأ ،أو أخطأ الكبير ،فعلى عاقلة كل
منهما نصف الدية .وفي حالة عدم التمالؤ هناك قولن عند المالكية في أربع مسائل :هي شريك سبع،
وشريك جارح نفسه جرحا يعقبه الموت غالبا ،ثم ضربه كبير قاصدا قتله ،وشريك حربي ،وشريك
مرض بعد الجرح ،بأن جرح شخص غيره ،ثم حصل للمجروح مرض ينشأ عنه الموت غالبا .ثم
مات ،ولم يدر ،أمات من الجرح أو من المرض.
والقولن هما :قول بعدم القصاص من الشريك ،ولكن على الشريك نصف الدية في ماله ،ويضرب
مئة ،ويحبس عاما ،وقول بالقصاص .والراجح في شريك المرض القصاص في حالة القتل العمد،
والدية في الخطأ .ولكن بعد حلف أيمان القسامة الخمسين .وأما المسائل الثلث الباقية فالقولن فيها
على حد سواء .ولعل رأي المالكية أرجح الراء صونا للدماء.
- 5اللقاء في مهلكة :
إذا جمع شخص بين إنسان وبين أسد أونمر في مكان ضيق كزُبية ( )1ونحوها ،أوأمام كلب فينهشه،
أو يرمي عليه حية أوعقربا فتلدغه ،فهل يعتبر فعله قتلً عمدا ،فيسأل عنه ،أو ل يسأل عنه؟ هناك
آراء ثلثة في المذاهب.
-------------------------------
( )1زبية السد :حفرة تحفر له شبه البئر ،أو حفرة في مكان عال يصاد فيها السد.
( )7/566
قال الحنفية ( : )1ل قود فيه ول دية ،وإنما يعزر ويضرب ويحبس إلى أن يموت .ويروى عن أبي
حنيفة أن عليه الدية .وإن فعل ذلك بصبي فعليه الدية.
وإن ربط صبيا وألقاه في الشمس أو البرد حتى مات ،فعلى عاقلته الدية.
وقال المالكية ( : )2الفعل العدوان في هذه الحالة قتل عمد فيه القود ،سواء أكان فعل الحيوان
بالنسان مما يقتل غالبا كالنهش ،أم مما ل يقتل غالبا ومات الدمي من الخوف .ول يقبل الدعاء بأنه
قصد بفعله اللعب .وكذلك قال الحنابلة ( : )3الفعل قتل عمد موجب للقصاص إن فعل الحيوان
المفترس أو المتوحش بالنسان ما يقتل به غالبا ،أو فعل به فعلً يقتل مثله .فإن فعل به فعلً لو فعله
الدمي لم يكن قتلً عمدا ،لم يجب القصاص به؛ لن السبع صار آلة للدمي ،فكان فعله كفعله.
وعلى هذا ،إن ألقاه مكتوفا بين يدي أسد أو نمر ،فقتله ،فهو عمد .وكذا إن جمع بينه وبين حية في
مكان ضيق ،فنهشته ،فقتلته ،فهو عمد .ولو لسعه عقرب من القواتل ،فهو عمد .ورأي المالكية
والحنابلة أولى في تقديري.
وقال الشافعية ( : )4إن جمع بين شخص وبين السبع في زُبية أو بيت صغير ضيق ،أو أغراه به ،أو
أمسكه وعرضه لمجنون فقتله ،وجب عليه القود؛ لن السبع يقتل إذا اجتمع مع الدمي في موضع
ضيق .أما إن كتّف رجلً وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدي سبع (أي في مكان واسع مثل البرية)
فقتله ،لم يجب القود؛ لنه سبب غير ملجئ.
وإن كتّفه وتركه في موضع فيه حيات ،فنهشته ،فمات لم يجب القود ،سواء أكان المكان ضيقا أم
واسعا؛ لن الحية تهرب عادة من الدمي ،فلم يكن تركه معها ملجئا إلى قتله ،بخلف السبع فإنه يثب
على النسان في المكان الضيق دون المتسع.
وإن أنهشه سبعا أو حية يقتل مثلها غالبا ،فمات منه ،وجب عليه القود؛ لنه ألجأه إلى قتله.
-------------------------------
( )1الدر المختار.386/5 :
( )2الشرح الكبير للدردير.244/4 :
( )3المغني 641/7 :ومابعدها ،كشاف القناع 589/5 :وما بعدها.
( )4نهاية المحتاج للرملي ،14/7 :المهذب ،176/2 :مغني المحتاج.9/4 :
( )7/567
( )7/568
ويرى المالكية ( : )1أن التحريق والتغريق قتل عمد موجب للقصاص ،إذا كان التغريق عدوانا أو
لعبا لغير المحسن للعوم ،أوعداوة لمحسن العوم وكان الغالب عدم النجاة لشدة برد ،أو طول مسافة،
فغرق .فإن كان التغريق لمحسن العوم لعبا ،فعليه دية مخففة (مخمسة) ل مغلظة.وقال الشافعية
والحنابلة ( : )2إذا ألقى أو طرح شخص غيره في نار أو ماء ،ل يمكنه التخلص منه لكثرة الماء أو
النار أولعجزه عن التخلص لعدم إحسانه السباحة ،أو مع إحسانها ،وكان مكتوفا أو ضعيفا أو مريضا
أو صغيرا ،فمات ،كان القتل عمدا موجبا القصاص .وإن ألقاه في ماء مغرق ،فالتقمه حوت ،وجب
القصاص في الظهر عند الشافعية؛ لنه ألقاه في مهلكه ،وفيه وجهان عند الحنابلة ،أصحهما وجوب
القود على الملقي .فإن كان الماء يسيرا غير مغرق والتقمه الحوت فل قصاص ،وعليه دية القتل شبه
العمد عند الشافعية والحنابلة؛ لنه هلك بفعله.
وإن أمكنه التخلص من الغرق بسباحة أو تعلق بزورق ،فتركها ،فل قود ول دية؛ أي أنه هدر عند
الحنابلة ،وفي الظهر عند الشافعية؛ لنه مهلك لنفسه .كذلك ل دية في الظهر عند الشافعية إذا ألقاه
في نار يمكنه الخلص منها ،فمكث فيها حتى مات .وفي إيجاب ضمان ديته وجهان عند الحنابلة،
والصواب إلزامه الدية؛ لنه جانٍ باللقاء المفضي إلى الهلك .ورأي الشافعية والحنابلة أولى
بالتباع ،ويقترب منه رأي المالكية؛ لن مثل هذا الفعل الذي يباشره المعتدي قاتل غالبا.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير والدسوقي.243/4 :
( )2مغني المحتاج ،8/4 :نهاية المحتاج ،10/7 :المهذب ،176/2،192 :المغني ،641/7 :كشاف
القناع.590/5 :
( )7/569
( )7/570
( )7/571
( )7/572
وأما قصة عمر :فهي أنه أرسل إلى امرأة ُمغِيبة ( ، )1كان يدخل عليها ،فقالت :يا ويلها ،ما لها
ولعمر ،فبينا هي في الطريق فزعت ،فجاءها الطلق ( ، )2فألقت ولدا ،فصاح الصبي صيحتين ،ثم
مات ،فاستشار عمر أصحاب النبي صلّى ال عليه وسلم ،فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء ،إنما أنت
وال ومؤدب ،وصمت علي .فأقبل عليه عمر ،فقال :ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال :إن كانوا قالوا
برأيهم ،فقد أخطأ رأيهم ،وإن كانوا قالوا في هواك ،فلم ينصحوا لك ،إن ديته عليك؛ لنك أفزعتها،
فألقته ،فقال عمر :أقسمت عليك أل تبرح حتى تقسمها على قومك ،أي قريش.
-------------------------------
شهِد :وهي التي زوجها شاهد
( )1المرأة ال ُمغِيبة :هي التي غاب عنها زوجها .يقابلها :امرأة مُ ْ
حاضر.
( )2الطلق :وجع الولدة.
( )7/573
( )7/574
وأما المالكية ( ، )1فاشترطوا للقصاص من الجناية وجود العدوان ،ولم يشترطوا في القصاص قصد
القتل ،فسواء قصد الجاني قتل المجني عليه ،أو تعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل ،فهو
قاتل عمدا ( ، )2إذا لم يرتكب الفعل على وجه اللعب أو التأديب ،فيكون حينئذ خطأ.
القصد المحدود وغير المحدود :ل فرق عند الحنفية والحنابلة ( )3بين القصد المحدود وغير المحدود،
فسواء قصد الجاني قتل شخص معين ،أو ضرب جماعة ولو لم يقصد شخصا معينا من الجماعة ،فهو
قاتل عمد.
وفرق الشافعية والمالكية ( )4بين نوعي القصد ،فإن قصد معينا فهو قتل عمد ،وإن قصد غير معين
فهو قتل شبه عمد عند الشافعية ،وخطأ عند المالكية.
الرضا بالقتل أو الذن بالقتل :
يرى بعض الفقهاء أن الرضا أو الذن بالقتل ل يبيح القتل؛ لن النسان غير مالك نفسه ،وإنما هي
مملوكة ل عز وجل ،فل تباح عصمة النفس إل بما نص عليه الشرع .ورأي فقهاء آخرون أن الذن
يبيح القتل .وبناء عليه اختلف الفقهاء في عقوبة القاتل المأذون له بالقتل ،كما لو قال رجل لخر:
اقتلني ،فقتله.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي.242 ،237/4 :
( )2وبذلك يتسع مذهب المالكية لما يسمى عند القانونيين بالقصد الحتمالي في جريمة القتل العمد:
وهو كون الجاني مسؤولً عن كل ما يتوقع حدوثه ،مما هو ممكن الوقوع .بل إن هذا المذهب يتسع
لكثر من القصد الحتمالي ،فيشمل كل ما يتصوره الفاعل ممكن الوقوع ،أو ممتنع الوقوع؛ لن القتل
العمد عندهم :هو كل فعل قصد به مجرد العدوان ،ولو لم يقصد به القتل.
( )3الدر المختار ،375/5 :كشاف القناع.587/5 :
( )4الشرح الكبير للدردير 243/4 :وما بعدها ،مغني المحتاج ،4/4 :نهاية المحتاج.4/7 :
( )7/575
قال الحنفية ما عدا زفر ( : )1القتل شبه عمد ،يوجب الدية؛ لن الذن بالقتل الموجود بالفعل أورث
شبهة ،والحدود ومنها القصاص تدرأ بالشبهات .وقال زفر :ل يصلح الذن شبهة ،فل يدرأ القصاص،
ويجب تطبيقه.
وقال المالكية ( : )2الذن بالقتل ل يمنع وجوب القصاص ،وإنما يلزم القود.
وقال الشافعية في الظهر عندهم والحنابلة ( : )3ل قصاص ول دية ،ودم المقتول أو جرحه هدر؛
لن الحق له فيه ،وقد أذنه في إتلفه ،كما لو أذن له في إتلف ماله.
المطلب الثاني ـ عقوبات القتل العمد :
عقوبة القتل العمد :هي الجزاء المترتب على العتداء على النفس.
وللقتل العمد عقوبات :أصلية ،وبدلية (عن الصلية) ،وتبعية.
واتفق الفقهاء على أن قاتل النفس عمدا يجب عليه أمور ثلثة :الول ـ الثم العظيم لورود القرآن
بتخليده في نار جهنم ،والثاني ـ القود لية القصاص ،والثالث ـ الحرمان من الميراث لحديث« :ل
يرث القاتل شيئا» .
النوع الول ـ العقوبة الصلية :
نص الشرع على عقوبة أصلية للقتل العمد وهي القصاص أو القود ( ، )4وهي
-------------------------------
( )1البدائع ،236/7 :الدر المختار.388/5 :
( )2الشرح الكبير للدردير.240/4 :
( )3مغني المحتاج ،11/4 :كشاف القناع 602/5 :وما بعدها.
( )4سمي قودا؛ لنهم كانوا يقودون الجاني بحبل أو غيره إلى محل استيفاء القصاص.
( )7/576
عقوبة متفق عليها بين الفقهاء ،قال الحنفية ( : )1موجَب العمد :القود عينا ،أي فل ينتقل عنه إلى
المال إل بالتراضي.
وأضاف الشافعية دون غيرهم من الفقهاء عقوبة أخرى للقتل العمد وهي الكفارة ،قياسا على عقوبة
القتل الخطأ التي نص عليها القرآن الكريم صراحة.
العقوبة الصلية الولى المتفق عليها ـ القصاص :
الكلم عن القصاص يتناول بحث معناه ومشروعيته ،والفرق بينه وبين الحدود الخرى ،وشروطه،
وموانعه ،وكيفية وجوبه ،وصاحب الحق فيه ،وولية الستيفاء ،وكيفية الستيفاء ،ومسقطاته.
ل ـ معنى القصاص :القصاص والقصص لغة :تتبع الثر ،واستعمل في معنى العقوبة؛ لن
أو ً
المقتص يتبع أثر جناية الجاني ،فيجرحه مثلها .وهو أيضا المماثلة ،ومن هذا المعنى أخذت عقوبة
«القصاص» شرعا ،أي مجازاة الجاني بمثل فعله ،وهو القتل.
ويلزم القصاص ،سواء كان القتل مع سبق الصرار أو الترصد أم ل.
ثانيا ـ مشروعية القصاص :ثبتت مشروعية القصاص بالقرآن والسنة والجماع والمعقول.
أما القرآن ،ففيه ـ كما ذكر سابقا ـ آيات كثيرة ،منها قوله تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم
القصاص في القتلى} [البقرة ]178/2:ومنها أيضا{ :وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس[ }...المائدة:
{ ]45/5ولكم في القصاص حياة يا أولي اللباب} [البقرة.]179/2:
وفي السنة أحاديث متعددة أيضا منها« :ل يحل دم امرئ مسلم يشهد أن ل إله إل ال وأني رسول ال
،إل بإحدى ثلث :الثيب الزاني ،والنفس بالنفس ،والتارك لدينه المفارق للجماعة» ( )2ومنها حديث
ابن عباس مرفوعا ...« :ومن قتل عمدا فهو قود ،ومن حال دونه ،فعليه لعنة ال وغضبه ،ل يقبل
منه صرف ول عدل» (. )3
وأجمعت المة على وجوب القصاص.
والعقل يقضي بتشريع القصاص ،إما عدالة بأن يفعل بالقاتل مثل جنايته ،وإما مصلحة بتوفير المن
العام وصون الدماء ،وحماية النفس ،وزجر الجناة ،ول يتحقق ذلك إل به ،فل يلتفت إلى الدعاوى
والمزاعم القائلة بأن فيه تهديما جديدا للبنية النسانية؛ لن في تشريعه صون حق الحياة للمجتمع:
{ولكم في القصاص حياة يا أولي اللباب} [البقرة.]179/2:
هل القصاص يكفر إثم القتل؟ اختلف العلماء في أمره ( )4كما اختلفوا في الحدود ،هل هي زواجر أو
جوابر؟
قال الجمهور :القصاص من القاتل أو العفو عنه يكفر إثم القتل؛ لن «الحدود كفارات لهلها» ()5
وهذا عام لم يخصص قتلً من غيره .قال النووي :ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة بالعقوبة في
الخرة.
وقال الحنفية :القصاص أو العفو ل يكفر إثم القتل؛ لن المقتول المظلوم ل منفعة له في القصاص،
وإنما القصاص منفعة للحياء ليتناهى الناس عن القتل{ :ولكم في القصاص حياة} [البقرة.]179/2:
-------------------------------
( )1الدر المختار.376/5 :
( )2أخرجه أحمد والئمة الستة من حديث عبد ال بن مسعود.
( )3رواه أبو داود والنسائي .والصرف :التوبة ،والعدل :الفدية.
( )4انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 239/4 :وما بعدها ،رد المحتار.389/5 :
( )5يذكره الفقهاء حديثا ،روى مسلم في صحيحه عن عبادة بما في معناه« :من أصاب شيئا من ذلك
ـ أي المعاصي كالزنا والسرقة والقتل ـ فعوقب به فهو كفارة له» ورويت أحاديث أخرى في هذا
المعنى ،منها ما رواه الترمذي وصححه الحاكم عن علي بن أبي طالب وفيه« :من أصاب ذنبا فعوقب
به في الدنيا ،فال أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الخرة» وهو عند الطبراني بإسناد حسن
ولفظه «من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب ،فهو كفارة له» وللطبراني عن ابن عمر مرفوعا:
«ما عوقب رجل على ذنب إل جعله ال كفارة لما أصاب من ذلك الذنب » (راجع نيل الوطار:
.)53 ،50/7
( )7/577
ثالثا ـ الفرق بين القصاص والحدود الخرى :
الحدود كحد الزنا وحد المسكر حقوق خالصة ل تعالى ،أي للمجتمع أو للجماعة ،والقصاص حق
شخصي للعباد ،وفيه عند الحنفية والمالكية حق ل تعالى ،أي للجماعة ،وحد القذف مشتمل على
الحقين :حق ال وحق العبد (الدمي) .وبناء على هذا ذكر الحنفية بين الحدود والقصاص فروقا سبعة
هي ما يأتي (: )1
- 1القصاص يورث ،والحد ل يورث.
- 2القصاص يصح العفو عنه ،والحد ل يعفى عنه.
- 3التقادم ل يمنع قبول الشهادة بالقتل ،بخلف الحد ما عدا القذف ،فإن التقادم يمنع الشهادة .والتقادم
في الشرب بذهاب الريح ،وفي حد غيره بمضي شهر.
- 4تجوز الشفاعة في القصاص ،ول تجوز في الحد بعد الوصول للحاكم،
-------------------------------
( )1الدر المختار ورد المحتار ،390/5 :نقلً عن الشباه والنظائر لبن نجيم.
( )7/578
أما قبل الوصول إليه والثبوت عنده ،فتجوز الشفاعة فيه لطلق سراح المتهم (. )1
- 5ل بد في القصاص من رفع الدعوى إلى القضاء من ولي الدم ،أما الحد ما عدا القذف والسرقة،
فل يشترط فيه الدعاء الشخصي من صاحب المصلحة فيه ،وإنما يصح الحسبة فيه.
- 6يثبت القصاص بإشارة الخرس أو كتابته ،أما الحد فل يثبت بهما ،لشتمالهما على الشبهة.
- 7يجوز للقاضي القضاء بعلمه الشخصي في القصاص دون الحدود ،وهذا عند متقدمي الحنفية،
وأفتى المتأخرون بعدم القضاء بالعلم مطلقا سدا للذريعة أمام قضاة السوء ،سواء في القصاص
والحدود أم في الموال وغيرها.
وأضاف بعض الحنفية فروقا ثلثة أخرى هي:
- 8استيفاء الحدود يكون بواسطة المام الحاكم ،وأما القصاص فيجوز لولي الدم استيفاؤه بشرط
وجود الحاكم.
- 9يجوز العتياض في القصاص ،بخلف الحدود ومنها حد القذف .وأجاز الشافعية المعاوضة
عنه.
- 10يصح الرجوع عن القرار في الحد ،دون القصاص.
-------------------------------
( )1تجوز الشفاعة لرباب الحوائج المباحة كدفع الظلم وتخليص من خطأ ،أو العفو عن ذنب ليس فيه
حد إذا لم يكن المذنب مصرا ،فإن كان مصرا فل يجوز حتى يرتدع عن الذنب والصرار .ودليل
الشفاعة حديث« :اشفعوا تؤجروا» ول يتناول هذا الحديث الحدود ،فإن هناك أحاديث أخرى تمنع من
الشفاعة فيها ،مثل حديث عائشة في المرأة المخزومية السارقة ورد شفاعة أسامة فيها« :أتشفع في
حد من حدود ال ؟» .
( )7/579
( )7/580
- 2أن يكون متعمدا القتل :أي قاصدا إزهاق روح المجني عليه ،فإن كان مخطئا ،فل قصاص عليه،
لقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :العمد قود» ( )1أي القتل العمد يوجب القود ،فالحديث شرط العمد
لوجوب القود .ولم يشترط المالكية العمد بالذات ،وإنما يكفي وجود العدوان.
- 3أن يكون تعمد القتل محضا :أي ل شبهة في عدم إرادة القتل؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم
شرط العمد مطلقا في قوله «العمد قود» .وهو يعني اكتمال وصف العمدية ،ول كمال مع وجود
شبهة انتفاء قصد القتل ،كما في حالة تكرار الضرب بما ل يقتل عادة ،ل يراد به القتل ،بل التأديب
والتهذيب.
- 4أن يكون القاتل عند الحنفية مختارا :فل قصاص على المستكره على القتل عند الحنفية ما عدا
زفر ،وقال الجمهور :عليه مع المكره القصاص ،كما بان سابقا.
شروط المقتول :
يشترط ليجاب القصاص في المعتدى عليه المقتول شروط هي ما يأتي (: )2
-------------------------------
( )1رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما من حديث ابن عباس بلفظ« :العمد قود إل
أن يعفو ولي المقتول» .
( )2البدائع 235/7 :ومابعدها ،الدر المختار 378/5 :ومابعدها ،تكملة فتح القدير 254/8 :وما بعدها،
الشرح الكبير للدردير 242 ،237/4 :وما بعدها ،مواهب الجليل ،232/6 :القوانين الفقهية :ص
،345بداية المجتهد ،391/3 :مغني المحتاج 15/4 :وما بعدها ،المهذب ،173/2 :الروضة للنووي:
،148/9المغني ،657 ،652 ،648/7 :كشاف القناع.607 ،587 ،585/5 :
( )7/581
- 1أن يكون معصوم الدم أو محقون الدم ( )1أي يحرم العتداء على حياته .فل يقتل مسلم ول ذمي
بالكافر الحربي ،ول بالمرتد ،ول بالزاني المحصن ،ول بالزنديق ،ول بالباغي؛ لن هؤلء مباحو
الدم إما بسبب الحرابة أو الردة أو الزنا أو البغي ،فكل واحد منها سبب لهدار الدم ،أي إباحته.
والعصمة عند الحنفية تكون ـ كما بان سابقا ـ بالسلم والقامة في دار السلم ،فمن أسلم في دار
الحرب ،وبقي مقيما فيها ،ل يقتص من قاتله هناك؛ لن كمال حقن الدم بالعصمة المقومة والمؤثمة،
وبالسلم حصلت المؤثمة دون المقومة؛ لن هذه تحصل بالقامة في دار السلم (. )2
وأما العصمة عند الجمهور (غير الحنفية) :فتكون باليمان (السلم) أو المان بعقد الذمة أو الهدنة،
فمن قتل مسلما في دار الحرب عامدا عالما بإسلمه ،فعليه القود ،سواء أكان قد هاجر أم لم يهاجر
إلى دار السلم.
وصرح الحنفية بأن العصمة لمحقون الدم يجب أن تكون «على التأبيد» لخراج المستأمن ،فل يقتص
من قاتله؛ لن عصمته مؤقتة أثناء المان ،ل مؤبدة ،ففي دمه شبهة الباحة.
ويتفق الجمهور مع الحنفية على هذا القيد ،لنهم يقولون :ل يقتل مسلم بكافر ،سواءأكان مستأمنا أم
ذميا أم معاهدا؛ لن الكافر ليس بمحقون الدم على التأبيد ،فأشبه الحربي (. )3
قتل الوالد بالولد وبالعكس :
- 2أل يكون المجني عليه جزء القاتل ،أي أل تكون هناك رابطة البوة والبنوة ،فل قصاص على
أحد الوالدين (الب والجد ،والم أو الجدة وإن علوا) بقتل الولد أو ولد الولد وإن سفلوا ،لقوله صلّى
ال عليه وسلم « :ل يقاد الوالد بالولد» ( . )4قال ابن عبد البر :هو حديث مشهور عند أهل العلم
بالحجاز والعراق ،مستفيض عندهم ،يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن السناد فيه ،حتى يكون
السناد في مثله مع شهرته تكلفا (. )5
ولن في القصاص من الب شبهة آتية من حديث« :أنت ومالك لبيك» ( )6والقصاص يدرأ
بالشبهات.
ولن الوامر المطالبة بالحسان إلى الباء تمنع القصاص منهم ،فقد كان الب سببا في إيجاد ولده،
فل يكون البن سببا في إعدامه.
وإذا لم يقتل الب بابنه وجب عليه الدية.
وهذا الحكم متفق عليه بين أئمة المذاهب ( )7إل أن المالكية استثنوا حالة واحدة :هي أن يتحقق أن
الب أراد قتل ابنه ،وانتفت شبهة إرادة تأديبه وتهذيبه،
-------------------------------
( )1الحقن هو المنع ،وحقن دمه :إذا منعه أن يسفك.
( )2رد المحتار.378/5 :
( )3المغني 652/7 :ومابعدها ،المهذب.241/2 :
( )4رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب ،وفي بعض أسانيده طعن ،وصحح
البيهقي والحاكم بعض طرقه .وروي عن آخرين وهم ابن عباس وسراقة بن مالك وعمرو بن شعيب
عن أبيه عند جده.
( )5المغني.666/7 :
( )6رواه ابن ماجه عن جابر ،والطبراني عن سمرة وابن مسعود ،وهو ضعيف.
( )7البدائع ،235/7 :تكملة الفتح 258/8 :وما بعدها ،بداية المجتهد ،293/2 :الشرح الكبير للدردير:
،242/4مغني المحتاج ،18/4 :المهذب ،174/3 :المغني 666/7 :ومابعدها ،الحكام السلطانية
للماوردي :ص .222
( )7/582
كأن يضجعه فيذبحه ،أو يبقر بطنه أو يقطع أعضاءه ،فيقتل به لعموم القصاص بين المسلمين .فلو
ضربه بقصد التأديب ،أو في حالة غضب ،أو رماه بسيف أو عصا ،فقتله ل يقتل به.
واتفق الفقهاء على أنه يقتل الولد بقتل والده ،لعموم القصاص وآياته الدالة على وجوبه على كل قاتل،
إل ما استثني بالحديث السابق (. )1
وعلة التفرقة بين الب والبن في هذا الحكم :هو قوة المحبة التي بين الب والبن ،إل أن محبة الب
غير مشوبة بشبهة مادية بقصد انتظار النفع منه ،فتكون محبته له أصيلة ل لنفسه ،فتقتضيه بالطبيعة
الحرص على حياته .أما محبة الولد لبيه فهي مشوبة بشبهة انتظار المنفعة؛ لن ماله له بعد وفاة
أبيه ،فل يحرص عادة على حياته ،فتكون محبته لنفسه ،فقد يقتله.
التكافؤ :
- 3اشتراط الجمهور (غير الحنفية) ( )2أن يكون المقتول مكافئا للقاتل في السلم والحرية ،فل
يقتل قصاصا مسلم بكافر ،ول حر بعبد ،لقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :ل يقتل مسلم بكافر» ()3
وقوله« :المسلمون تتكافأ دماؤهم ،ويسعى بذمتهم أدناهم ،ول يقتل مؤمن بكافر» ( )4وقوله عليه
الصلة والسلم في العبد« :ل يقتل
-------------------------------
( )1المراجع السابقة.
( )2الشرح الكبير للدردير ،241 ،238/4 :بداية المجتهد ،391/2 :القوانين الفقهية :ص ،345مغني
المحتاج ،16/4 :المهذب ،173/2 :المغني ،658 ،652/7 :كشاف القناع.609/5 :
( )3رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .ورواه
أحمد والبخاري وأصحاب السنن إل ابن ماجه من حديث أبي جحيفة.
( )4رواه أحمد والنسائي وأبو داود من حديث علي رضي ال عنه.
( )7/583
حر بعبد» ( )1وقول علي رضي ال عنه « :من السنة أل يقتل حر بعبد» (. )2ولم يشترط الحنفية (
)3التكافؤ في الحرية والدين ،وإنما يكفي التساوي في النسانية ،لعموم آيات القصاص بدون تفرقة
بين نفس ونفس ،مثل قوله تعالى{ :كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة ]178/2:وقوله سبحانه
{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة ]45/5:ولعموم حديث «العمد َقوَد» وصونا لحق الحياة،
وتحقيق ذلك في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم ،لما بينهما من العداوة الدينية،
وروي أن النبي صلّى ال عليه وسلم أقاد مؤمنا بكافر ،وقال« :أنا أحق من وفى بذمته» ( ، )4ولن
العبد آدمي معصوم الدم فأشبه الحر ،والقصاص يتطلب فقط المساواة في العصمة.
وأما المراد من قوله تعالى{ :الحر بالحر والعبد بالعبد والنثى بالنثى} [البقرة ]178/2:بعد قوله
تعالى{ :كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة ]178/2:فاختلف فيه الفقهاء ،فقال الحنفية :المراد به
الرد علي ما كان يفعله بعض القبائل ،من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إل حرا ،وفي امرأتهم إل
رجلً ،على ما جاء في حديث الشعبي ،فأبطل ما كان من الظلم ،وأكد فرض القصاص على القاتل
دون غيره ،فليس في الية دللة على أنه ل يقتل الحر بالعبد أو أنه ل يقتل الرجل بالمرأة .وقال
الجمهور :إن ال قد أوجب المساواة في القصاص ،ثم بيّن المساواة المعتبرة ،فبين أن الحر يساويه
الحر ،والعبد يساويه
-------------------------------
( )1رواه الدارقطني والبيهقي عن ابن عباس مرفوعا )2( .رواه المام أحمد بإسناده عن علي،
وأخرجه البيهقي.
( )3البدائع ،237/7 :تبيين الحقائق 102/6 :وما بعدها.
( )4رواه الدارقطني في سننه عن ابن عمر من طريق عبد الرحمن بن البيلماني ،وهو ضعيف.
وروي مرسلً عند محمد بن الحسن ،والشافعي وعبد الرزاق وأبي داود من طريق البيلماني.
( )7/584
العبد ،والنثى تساويها النثى ،لكن جاء الجماع على أن الرجل يقتل بالمرأة .فمناط الستدلل عندهم
كلمة {القصاص} الموجبة للمساواة والمماثلة في القتل ،ومناط الستدلل عندالحنفية كلمة {القتلى}
الموجبة حصر القصاص في القاتل ،ل في غيره.
وأما حديث «ل يقتل مسلم بكافر ،ول ذو عهد في عهده» فمعناه عند الحنفية أنه ل يقتل المسلم
والمعاهد بكافر حربي؛ لن المراد بالكافر هو الحربي بدليل جعل الحربي مقابلً للمعاهد؛ لن المعاهد
يقتل بمن كان معاهدا مثله من الذميين إجماعا ،فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي ،كما
قيد في المعطوف؛ لن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقا ،ويكون التقدير :ل يقتل مسلم بكافر
حربي ول ذو عهد بكافر حربي؛ لن الذمي أو المعاهد إذا قتل ذميا قتل به ،فعلم أن المراد به:
الحربي ،إذ هو الذي ل يقتل به مسلم ول ذمي .ول يقال كما يرى الجمهور ،معناه :ل يقتل ذو عهد
مطلقا ،أي ل يحل قتله ،بمعنى أنه يصبح كلما مستأنفا مبتدأ به؛ لن المراد من الحديث نفي القتل
قصاصا ،ل نفي مطلق القتل ،فيكون المعطوف مثل المعطوف عليه.
وأيد الحنفية قولهم بالقياس أيضا وهو أن يد المسلم تقطع إذا سرق مال الذمي فإذا كانت حرمة ماله
كحرمة مال المسلم ،فحرمة دمه كحرمة دمه.
( )7/585
لكن رد الجمهور على أدلة الحنفية بأن حديث «أنا أحق من وفى بذمته» ضعيف .وتوجد شبهة في
إباحة دم الذمي ،بسبب الكفر المبيح للدم ،ول قصاص مع الشبهة .وحديث «ول ذو عهد في عهده»
كلم تام ل يحتاج إلى تقدير ،وهي جملة مستأنفة ،لبيان حرمة دماء أهل الذمة والعهد بغير نقض،
ولو سلمنا أنها للعطف ،فالمشاركة في أصل النفي ل من كل وجه ،فلو سلمنا تقدير الحربي في الجملة
الثانية ،فل يسلم تخصيص الكافر بالحربي .وأما القياس فهو في مقابلة النص« :ل يقتل مسلم بكافر»
.ثم إن حد السرقة حق ال ،والقصاص يشعر بالمساواة ،ول مساواة بين المسلم والكافر.
واتفق الفقهاء فيما عدا ذلك على أنه يقتل الرجل بالنثى ،والكبير بالصغير ،والعاقل بالمجنون ،والعالم
بالجاهل ،والشريف بالوضيع ،وسليم الطراف بمقطوعها وبالشل ،أي أنه ل يشترط التكافو في
الجنس والعقل والبلوغ والشرف والفضيلة وكمال الذات أو سلمة العضاء (. )1
وهل يقتل الباغي قصاصا بالعدل وبالعكس؟ :قال الحنفية ( )2والمالكية ( )3والحنابلة ( )4في وجه
هو الراجح :ل يقتل الباغي بالعدل وبالعكس؛ لن كلً منهما غير معصوم الدم في زعم الخر،
لستحلله الدم بتأويل .قال الزهري« :وقعت الفتنة والصحابة متوافرون ،فاتفقوا على أن كل دم
استحل بتأويل القرآن العظيم فهو موضوع» .
وقال الشافعية ( : )5يقتص من الباغي بقتل العادل وبالعكس في غير حال القتال؛ لن المقتول
معصوم الدم مطلقا؛ لن السلم حقن دماء البغاة في غير حال القتال .وحكم البغاة في ضمان النفس
والمال والحد إن لم يكن في قتال حكم أهل
-------------------------------
( )1البدائع ،بداية المجتهد ،المهذب ،كشاف القناع ،المكان السابق ،المغني.648/7 :
( )2البدائع.236/7 :
( )3القوانين الفقهية :ص ،364الشرح الكبير والدسوقي.300/4 :
( )4المغني ،115/8 :غاية المنتهى ،350/3 :قال ابن قدامة :في القصاص وجهان :أحدهما :يجب
لنه مكافئ معصوم ،والثاني :ل يجب لن في قتلهم اختلفا بين الئمة ،فكان ذلك شبهة دارئة
للقصاص ،لنه مما يندرئ بالشبهات.
( )5المهذب ،221/2 :مغني المحتاج 128/4 :وما بعدها.
( )7/586
العدل ،فإذا أتلفوه في غير قتال ضمنوه ،وإل فل .لكن الصحيح عند الشافعية ( )1أنه ل يتحتم قتل
الباغي ويجوز العفو عنه ،لقول علي رضي ال عنه بعد أن جرحه ابن ملجم قبل استشهاده« :أطعموه
واسقوه واحبسوه ،فإن عشت فأنا ولي دمه :أعفو إن شئت ،وإن شئت استقدت ،وإن مت فاقتلوه ول
تمثلوا به» وقال الشافعي رضي ال عنه والحنابلة :يكره للعادل أن يتعمد قتل ذي رحمه من أهل
البغي ،وأضاف الشافعي :وحكم دار البغي دار السلم ،فإذا جرى فيها ما يوجب إقامة حد ،أقامه
المام إذا استولى عليها.
قتل الغيلة :هو القتل لخذ المال ،سواء أكان القتل خفية ،كما لو خدعه ،فذهب به لمحل ،فقتله فيه
لخذ المال ،أم كان القتل ظاهرا على وجه يتعذر معه الغوث ،وقد يسمى الثاني (أي القتل ظاهرا)
حرابة (. )2
وحكم هذا القتل كبقية أنواع القتل الخرى عند الجمهور (( )3غير المالكية) في القصاص والعفو
عنه ،واشتراط التكافؤ بين القاتل والمقتول.
وقال المالكية :يقتل هذا القاتل بسبب الفساد والحرابة ،ل قصاصا ،وبما أن هذا القتل يعاقب عليه
فاعله بسبب الحرابة والفساد ،ل للقصاص ،رأى المالكية ( : )4أنه ل يشترط فيه شرط التكافؤ ،فيقتل
الحر بالعبد ،والمسلم بالكافر ول عفو فيه ،ول صلح ،وصلح ولي القتيل مردود ،والحكم فيه إلى
المام.
-------------------------------
( )1وقال في مغني المحتاج :أرجح الوجهين كما قال البلقيني :الوجوب أي وجوب القصاص على
البغاة.
( )2وعرفه صاحب المغني ابن قدامة بقوله :أن يخدع النسان فيدخل بيتا أو نحوه ،فيقتل أو يؤخذ
ماله .وذكر أن ذلك عند مالك.
( )3المغني.648/7 :
( )4الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي.242 ،238/4 :
( )7/587
( )7/588
التعزير عند الئمة ما عدا مالكا ،وكذلك من أعان على القتل ولم يباشر القتل ،عليه القصاص عند
مالك ،والتعزير عند باقي الئمة (. )1
شرط ولي القتيل :
اشترط الحنفية ( )2في ولي القتيل صاحب الحق في القصاص :أن يكون معلوما ،فإن كان مجهولً ل
يجب القصاص؛ لن القصد من إيجاب القصاص هو التمكين من استيفاء الحق ،والستيفاء من
المجهول متعذر ،فتعذر اليجاب له .وخالف فيه باقي الئمة.
خامسا ـ موانع القصاص :
يفهم من المبحث السابق في شروط القصاص أن هناك حالت مانعة من القصاص ،وهي ستة ،يمكن
إدخالها تحت مفهوم الشبهة التي تدرأ الحدود ومنها القصاص.
- 1حالة البوة عند فقهاء المذاهب ما عدا حالة إرادة القتل إذا ثبتت ثبوتا قاطعا عند المالكية.أما
رابطة الزوجية فل تمنع القصاص باتفاق المذاهب الربعة ،خلفا للزهري والليث بن سعد (. )3
- 2عدم التكافؤ بين الجاني والمجني عليه :في السلم والحرية عند جمهور الفقهاء خلفا للحنفية.
أما الكفار فيقتلون ،بعضهم ببعض دون تفريق ،فيقتل الذمي بالذمي ،أو المجوسي ،أو الحربي ،أو
المستأمن.
- 3حالة الشتراك الجرمي أو التفاق الجنائي :أي حالة التفاق على القتل دون حضور القتل ،أو
التحريض أو العانة على القتل دون مباشرة القتل ،فل قصاص على من لم يباشر القتل ،وإنما يعزر
عند جمهور الفقهاء ،خلفا للمالكية الذين قالوا :يقتص ممن حضر أو أعان ولم يباشر كالربيئة أو
حارس البواب ومفارق الطرق.
أما في حالة اشتراك الجماعة بالقتل ومباشرتهم القتل فيقتص من الجميع باتفاق المذاهب.
- 4القتل بالتسبب عند الحنفية دون غيرهم من الئمة.
- 5أن يكون ولي القتيل مجهولً عند الحنفية دون غيرهم من الئمة.
- 6أن يكون القتل في دار الحرب عند الحنفية دون غيرهم.
-------------------------------
( )1التشريع الجنائي السلمي.132/2 :
( )2البدائع.240/7 :
( )3المغني.668/7 :
( )7/589
فل قصاص عند الحنفية على من قتل مسلما في دار الحرب ،لعدم ولية المام على دار الحرب،
سواء أكان القتيل ممن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا ،أم كان مسلما من أهل دار السلم ،لكنه
دخل دار الحرب بأمان ،أو بإذن كالتاجر والسير .وتجب الدية عند الصاحبين بقتل التاجر أو السير؛
لنهما من أهل دار السلم ،والسر أمر طارئ .وعند أبي حنيفة :تجب دية التاجر ،ل السير :لن
السير مقهور في يد أهل الحرب ،فصار تابعا لهم ،فلم يعد متقوما ( . )1وأوجب غير الحنفية
القصاص من القاتل في كل هذه الحوال ،كما بان سابقا.
-------------------------------
( )1البدائع.237 ،133/7 :
( )7/590
سادسا ـ كيفية وجوب القصاص (أو مدى لزوم القصاص ،أو موجب العمد ) :
يجب القصاص من القاتل إل إذا عفا عنه ولي القتيل .فإذا عفا ،هل يلزم القاتل بالدية أو ل؟
قال الحنفية والمالكية ،والشافعية في ظاهر مذهبهم الراجح عندهم وفي رواية عن أحمد ( : )1موجَب
( )2القتل العمد هو القَود عينا أي متعينا ،لقوله تعالى{ :كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:
]178/2وهذا يفيد تعين القصاص واجبا متعينا للعمد ،ولقوله عليه الصلة والسلم« :من قتل عمدا
فهو قَود» ( ، )3ولن القصاص بدل شيء متلف ،فتعين الجزاء من جنسه ،كسائر المتلفات.
ويحسن إيراد عبارة الشافعية فيه وهي :موجب العمد القود عينا ،والدية بدل عند سقوطه ،وفي قول:
موجب العمد :أحدهما (القصاص والدية) مبهما ،وعلى القولين :للولي عفو على الدية بغير رضا
الجاني ،وعلى الول :لو أطلق العفو فالمذهب ل دية.
وبناء على هذا الرأي :قال الحنفية والمالكية والشافعية على المذهب :لو عفا ولي القتيل عن القصاص
مطلقا ،أي دون مطالبة بالدية ،ل يلزم الجاني بالدية جبرا عنه ،وإنما له باختياره أن يدفعها في مقابل
العفو عنه .وللولي أن يعفو مجانا أو يقتص ،أي ليس له إن أراد أخذ جزاء الجناية إل القود ،ل الدية.
ويجوز العفو على الدية أو أكثر أو أقل برضا الجاني ،وتعد الدية حينئذ بدلً عن القصاص .ولو تعدد
الولياء فبادر أحدهم ،فقتل الجاني قبل إبداء الخرين رأيهم ،سقط حق الباقين في القصاص ول دية
لهم ،ويترتب على اعتبار الدية بدلً من القصاص أنه ل يجوز للقاضي أن يجمع بين عقوبة وبدلها
جزاء عن فعل واحد.
وقال الحنابلة عملً برواية أخرى عن أحمد هي الراجحة عندهم ( ، )4وفي قول عند الشافعية :ليس
القصاص واجبا عينا ،وإنما الواجب بقتل العمد أحد شيئين :القصاص أو الدية .وللولي خيار التعيين:
إن شاء استوفى القصاص ،وإن شاء أخذ الدية من غير توقف على رضا القاتل .ويعتبر التعزير بدلً
عن الدية .ودليلهم قوله تعالى{ :فمن عفي له من أخيه شيء ،فاتباع بالمعروف ،وأداء إليه بإحسان}
[البقرة ]178/2:ومعناه فليتتبع القاتل ،وليؤد القاتل الدية ،فال أوجب التباع بمجرد العفو ،ولو أوجب
العمد القصاص عينا ،لم تجب الدية عند العفو المطلق .ثم إن الدية أحد بدلي النفس ،فكانت بدلً عنها،
ل عن بدلها كالقصاص .وأما حديث «من قتل عمدا فهو قود» فالمراد به وجوب القود .ويخالف القتل
سائر المتلفات؛ لن بدلها ل يختلف بالقصد وعدمه ،والقتل بخلفه.
وأضاف الحنابلة أدلة أخرى ،منها قول ابن عباس :كان في بني إسرائيل القصاص ،ولم يكن فيهم
الدية ،فأنزل ال تعالى هذه الية{ :كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة )5( ]178/2:وعن أبي
هريرة مرفوعا« :من قتل له قتيل ،فهو بخير النظرين :إما أن يُودِي ( ، )6وإما أن يقاد» (. )7
-------------------------------
( )1البدائع ،241/7 :الدر المختار ،376/5 :الشرح الكبير للدردير ،239/4 :بداية المجتهد،394/2 :
مغني المحتاج ،48/4 :المهذب ،188/2 :المغني ،752/7 :كشاف القناع.633/5 :
( )2موجب العمد ،أي مقتضاه في العتداء على نفس أو غيرها.
( )3رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح.
( )4كشاف القناع.633/5 :
( )5رواه البخاري.
( )6وديت القتيل :إذا أعطيت ديته .واتديته :أخذت ديته.
( )7رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
( )7/591
ويترتب على هذا الرأي :أن الولي لو عفا عن القصاص مطلقا ،أو إلى الدية بدلً عنه ،وجبت الدية؛
لن الواجب غير معين ،فإذا ترك أحدهما وجب الخر ،وإن اختار الدية سقط القصاص ،وإن اختار
القصاص تعين .وفي هذه الحالة الخيرة :هل له بعدئذ العفو على الدية؟ قال القاضي أبو يعلى
الحنبلي :له ذلك؛ لن القصاص أعلى ،فكان له النتقال إلى الدنى ،ويكون بدلً عن القصاص.
ويحتمل أنه ليس له ذلك؛ لنه أسقط الدية باختياره القود ،فلم يعد إليها.
سابعا ـ صاحب الحق في القصاص :
صاحب الحق في القصاص أو مستوفيه أو ولي الدم :هو عند الحنفية والحنابلة ،والصحيح عند
الشافعية ( : )1كل وارث يرث المال ،سواء أكان من ذوي الفروض أم العصبة ،أي جميع الورثة
نساءً ورجالً ،أزواجا وزوجات.
وقال المالكية ( : )2مستحق القصاص هو العاصب الذكر ،أي جميع العصبة بالنفس ،يقدم القرب
فالقرب من العصبة في إرثه إل الجد والخوة ،فهم في درجة متساوية في القصاص والعفو ،فل دخل
في القصاص للبنات والخوات والزوجات والزوج؛ لن القصاص لرفع العار ،فاختص بالعصبات
كولية الزواج.
وقد تكون المرأة مستحقة القصاص عند المالكية بشروط ثلثة وهي:
- 1أن تكون وارثة المقتول كبنت أو أخت ،فخرج العمة والخالة ونحوهما من ذوي الرحام.
-------------------------------
( )1البدائع 242/7 :وما بعدها ،الدر المختار ،383/5 :حاشية الشلبي علي الزيلعي ،114/6 :مغني
المحتاج 39/4 :وما بعدها ،المهذب 183/2 :وما بعدها ،المغني ،743 ،739/7 :كشاف القناع:
621/5وما بعدها.
( )2الشرح الكبير للدردير ،256/4 :بداية المجتهد ،395/2 :الشرح الصغير.358/4 :
( )7/592
- 2أل يساويها عاصب في الدرجة وفي القوة معا :بأن لم يوجد أصلً ،أو وجد عاصب أنزل منها
درجة ،كعم مع بنت أو أخت .فتخرج البنت مع البن ،والخت مع الخ ،فل كلم لها معه في عفو
ول قود،أي ليس لها حينئذ طلب القصاص ،لتساويهما في الدرجة والقوة معا ،بخلف الخت الشقيقة
مع الخ لب ،لها الكلم معه؛ لنه وإن ساواها في الدرجة هو أنزل منها في القوة.
- 3أن تكون عصبة فيما لو فرض كونها ذكرا ،فل كلم للخت لم ،والزوجة ،والجدة لم (. )1
وللم المطالبة باستيفاء القصاص ،لنها لو ذكّرت ،كانت أبا؛ لنها والدة ،لكن ل لكلم لها مع وجود
الب ،لمساواة العاصب لها.
وإذا تعدد الورثة ،هل يثبت حق القصاص لكل وارث على سبيل الستقلل ،أو على سبيل الشركة؟
رأيان:
الرأي الول ـ لبي حنيفة ومالك ( : )2وهو أن القصاص يثبت لكل وارث على سبيل الستقلل
والكمال؛ لنه حق مبتدأ لهم بوفاة القتيل؛ لن المقصود من القصاص في القتلى هو التشفي ،والميت ل
يتشفى ،فيثبت للورثة ابتداء .ثم إن حق القصاص ل يتجزأ ،وما ل يتجزأ من الحقوق إذا ثبت
لجماعة ،يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال ،كأنه ليس معه غيره ،كولية التزويج وولية المان.
الرأي الثاني ـ للشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب ،والصاحبين ( : )3وهو أن حق القصاص يثبت
لكل وارث على سبيل الشركة؛ لن الحق في القصاص أصلً
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير ،258/4 :الشرح الصغير 360/4 :وما بعدها.
( )2البدائع :المرجع السابق والمكان السابق ،الدردير ،257/4 :الشرح الصغير للدردير.360/4 :
( )3مغني المحتاج ،40/4 :المهذب ،188/2 :المغني ،739/7 :كشاف القناع ،621/5 :البدائع:
.242/7
( )7/593
هو للمقتول ،وبما أنه عجز بالموت عن استيفاء حقه بنفسه ،فيقوم الورثة مقامه بالرث عنه ،ويكون
مشتركا بينهم ،كما يشتركون في إرث المال.
ويتفرع عن هذا الختلف على رأيين :أنه إذا تعدد الولياء ،هل ينتظر لستيفاء القصاص بلوغ أحد
الولياء إذا كان صغيرا ،أو عودته إذا كان غائبا ،أو إفاقته من جنونه إذا كان مجنونا؟
فعلى الرأي الول :ل ينتظر بلوغ الصغير ،ول إفاقة المجنون ،ويكون الحق في الستيفاء للكبير،
والعاقل ،وأما الغائب فينتظر لحتمال عفوه.
وأما على الرأي الثاني :فينتظر بلوغ الصبي ،وكمال المجنون بإفاقته،وقدوم الغائب ،ول يجوز حينئذ
للكبير أو للحاضر الستقلل باستيفاء القصاص .وفي هذه الحالة يحبس القاتل حتى يحضر الغائب،
ويكمل الصبي والمجنون ،ول يخلى بكفيل.
وإذا لم يكن للمقتول وارث غير جماعة المسلمين ،كان المر باتفاق الفقهاء إلى السلطان ،عملً
بالقاعدة الشرعية« :السلطان ولي من ل ولي له» ( )1فإن رأ ى السلطان القصاص اقتص ،وإن رأى
العفو على مال عفا؛ لن الحق للمسلمين ،فوجب على المام أن يفعل ما يراه من المصلحة؛ لن
«تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة» فإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز؛ لنه
تصرف ل مصلحة فيه للمسلمين ،فلم يملكه (. )2
-------------------------------
( )1هذا نص حديث نبوي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي ال عنها ،وحسنه
الترمذي ،ورواه أحمد وصححه الحاكم وابن حبان.
( )2المهذب ،188/2 :البدائع ،245/7 :المغني.754/7 :
( )7/594
( )7/595
وقال الحنابلة ،والظهر عند الشافعية ( : )1إنه ل قصاص في هذه الحالة على من بادر فقتل الجاني،
ولكن للباقين من المستحقين نصيبهم من الدية من تركة الجاني ،لسقوط حقهم بغير اختيارهم ،وكون
ذلك من تركة الجاني ل من المبادر على الرجح؛ لن المبادر فيما وراء حقه كالشخص الجنبي ،ولو
بادر أجنبي فقتل الجاني ،أخذ الورثة الدية من تركة الجاني ل من الجنبي.
ب ـ وأما إذا كان مستحقو القصاص كبارا وصغارا ،أو فيهم مجنون أو بعضهم غائب .فللكبار
استيفاء القصاص عند أبي حنيفة ومالك ( ، )2ول ينتظر بلوغ الصغير ،ول إفاقة المجنون ( )3؛
لثبوت حق القصاص للورثة ابتداء على سبيل الكمال والستقلل ،ولن القصاص حق ل يتجزأ،
لثبوته بسبب ل يتجزأ ،وهو القرابة .ويؤيده اقتصاص الحسن لبيه علي من ابن ملجم ،وكان في
ورثة علي كرم ال وجهه صغار.
وأما الغائب فينتظر عودته لحتمال عفوه حال غيبته ،فتقع الشبهة ،ول قصاص مع الشبهة ،بعكس
الصغير؛ لن العفو من الصغير ميئوس منه حال استيفاء القصاص؛ لنه ليس من أهل العفو .وانتظار
الغائب عند المالكية هو في حال الغيبة القريبة ،بحيث تصل إلىه الخبار إن أراد الحاضر القصاص.
أما في حال الغيبة البعيدة بحيث يتعذر وصول الخبر إليه كأسير ومفقود فل ينتظر.
وللب والجد عند الحنفية والمالكية استيفاء القصاص عن الصغير ،وأضاف المالكية دون الحنفية تلك
الولية للوصي أيضا.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،41/4 :المغني.741/7 :
( )2البدائع 243/7 :وما بعدها ،الدر المختار ،383/5 :الشرح الكبير للدردير ،257/4 :تكملة فتح
القدير.265/8 :
( )3هذا عند المالكية إذاكان الجنون مطبقا مستمرا ،أما من يفيق أحيانا فتنتظر إقامته ،كما ينتظر
المغمى عليه.
( )7/596
وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة ( : )1ليس لبعض أولياء القتيل استيفاء القصاص إل بإذن الباقين،
فإن كان فيهم صغير ينتظر بلوغه ،أو مجنون تنتظر إفاقته ،أو غائب ينتظر قدومه؛ لن القصاص
حق مشترك بينهم ،ول يملك أحدهم إبطال حق غيره ،فيؤخر إلى وقت كمال القاصر ،كما يؤخذ لعودة
الغائب.
وليس للولي أبا أو جدا ،ول للوصي ول للحاكم استيفاء القصاص للصغير أو المجنون؛ لن القصد من
القصاص هو التشفي ،وترك الغيظ ،وليحصل المقصود باستيفاء الب أو غيره ،بخلف الدية ،فإن
الغرض يحصل باستيفائه.
-------------------------------
( )1تكملة فتح القدير ،265/8 :مغني المحتاج ،40/4 :المغني 740/7 :وما بعدها ،كشاف القناع:
.621/5
( )7/597
( )7/598
ومن السنة :قوله عليه الصلة والسلم« :من حرّق حرقناه ،ومن غرّق غرّقناه» ( )1وثبت أن النبي
صلّى ال عليه وسلم « :رضّ رأس يهودي بين حجرين ،كان قد قتل بهما جارية من النصار (» )2
.
ومن المعقول :أن القصاص معناه المماثلة في الفعل ،فوجب أن يستوفى من الجاني مثل ما فعل ،ثم
إن المقصود من القصاص هو التشفي ،ول يكمل المطلوب إل إذا قتل القاتل بمثل ما قتل .وأما حديث
النهي عن المثلة فمحمول على من وجب قتله ،ل على وجه المكافأة.
تنفيذ القصاص بواسطة ولي القتيل :
استيفاء القصاص بالسيف ونحوه قد يكون بالجلد المتخصص إذا رغب عنه مستوفي القصاص ،وقد
يكون بنفس مستحق القصاص ،فيمكّن من السيف ،ولكن بإشراف الحاكم؛ لن المبدأ الشرعي المتفق
عليه أن تنفيذ عقوبات الحدود والقصاص والتعزيرات يكون من اختصاص المام ،فيشترط وجوده
عند استيفاء العقوبة ( . )3وتعتبر مشاركة ولي الدم في القصاص سبيلً لطفاء لوعته وإزالة حقده،
فتهدأ نفسه ،ويوصد الباب أما م أسرته ،كيل تبادر إلى القتتال مع أسرة القاتل ،قال ال تعالى{ :ومن
قُتِل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فل يسرف في القتل ،إنه كان منصورا} [السراء.]33/17:
وإذا سلّم القاتل لولي الدم لجل استيفاء القصاص منه ،وجب على الحاكم أن ينهاه عن العبث بالجاني،
فل يشدد عليه بحبس أو تخشيب أو تكتيف قبل القصاص ول يمثل به بعد القصاص (. )4
وعليه ،يشترط لستيفاء ولي المقتول القصاص بنفسه شرطان:
- 1أن يكون ذلك بإذن المام ،وإل عزر.
- 2أن يكون القصاص في قتل النفس ،ل في الطراف والعضاء.
-------------------------------
( )1أخرجه البيهقي في السنن من حديث البراء بن عازب .لكن في إسناده من يجهل حاله كبشر
وغيره.
( )2أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك.
( )3راجع البدائع ،96/7 :الدر المختار 389/5 :وما بعدها ،حجة ال البالغة ،132/2 :الشرح الكبير
للدردير ،354/4 :مغني المحتاج ،31/4 ،277/2 :الحكام السلطانية للماوردي :ص ،14المهذب:
،184/2كشاف القناع ،626/5 :المغني.690/7 :
( )4الشرح الكبير للدردير.259/4 :
( )7/599
( )7/600
وجبت ولو لم يرض الجاني .وبالرغم من أن الراجح في المذهب الشافعي وهو أن القصاص واجب
عينا ،إل أن الشافعية قالوا :الدية بدل عن القصاص عند سقوطه بعفو أو غيره كموت الجاني ،فيثبت
حق المجني عليه في الدية؛ لن ما ضمن بسببين على سبيل البدل ،إذا تعذر أحدهما ثبت الخر،
كذوات المثال ( . )1وتلزم الدية حال العفو عن القصاص على الدية باختيار ولي المجني عليه ،ل
برضا الجاني .وبه يظهر أن الشافعية والحنابلة يقررون بقاء الدية في التركة بموت القاتل.
- 2العفو :الكلم فيه يتناول مشروعيته ،وركنه ،ومعناه وشروطه ،وأحكامه.
مشروعيته :يجوز العفو عن القصاص ،وهو أفضل من استيفاء القصاص ( ، )2بدليل قوله تعالى{ :يا
أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى :الحر بالحر ،والعبد بالعبد ،والنثى بالنثى ،فمن
عُفي له من أخيه شيء ،فاتّباع بالمعروف ،وأداء إليه بإحسان ،ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:
]178/2وقال سبحانه{ :والجروحَ قصاص ،فمن تصدّق به فهو كفارة له} [المائدة ]45/5:وقال تعالى
في مناسبة إسقاط الحق في شيء من المهر قبل الدخول{ :وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة.]237/2:
ومن السنة قول أنس« :ما رفع إلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم أمر فيه القصاص إل أمر فيه
بالعفو» ( . )3وعن أبي الدرداء قال :سمعت رسول ال صلّى ال عليه وسلم يقول« :ما من رجل
يصاب بشيء في جسده ،فيتصدق به إل رفعه ال درجة ،وحط به عنه خطيئة» ()4
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،48/4 :نهاية المحتاج ،48/7 :المهذب.188/2 :
( )2المغني ،742/7 :كشاف القناع.633/5 :
( )3رواه أحمد وأصحاب السنن إل الترمذي ،وإسناده لبأس به.
( )4رواه ابن ماجه والترمذي ،وقال عنه :هذا حديث غريب ل نعرفه إل من هذا الوجه.
( )7/601
وعن أبي هريرة أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :ما عفا رجل عن مظلمة إل زاده ال بها عزا»
( . )1
وجعل القصاص قابلً للسقوط بالعفو مزية فريدة للتشريع السلمي ،إذ به يقلص من حالت تنفيذ هذه
العقوبة الخطيرة ،ويتحقق الغرض منها بحفظ حق الحياة ،ومنع الثأر ،ورفع الحقاد والضغائن من
النفوس.
وركن العفو :أن يقول العافي :عفوت أو أسقطت أو أبرأت أو وهبت ونحوها (. )2
ومعنى العفو عند الحنفية والمالكية ( : )3هو إسقاط القصاص مجانا .أما التنازل عن القصاص مقابل
الدية فهو صلح ،ل عفو؛ لن تنازل الولي ل ينفذ إل إذا قبل الجاني دفع الدية ،فل تثبت الدية عندهم
إل بتراضي الفريقين أي الولي والقاتل .وليس للولي إل أن يقتص أو يعفو عن غير ديته ،إل أن
يرضى القاتل بإعطاء الدية.
والعفو عند الشافعية والحنابلة ( : )4هو التنازل عن القصاص مجانا ،أو إلى الدية ،وولي الدم
بالخيار :إن شاء اقتص ،وإن شاء أخذ الدية ،رضي القاتل أم لم يرض ،عملً بحديث أبي هريرة:
«من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ،بين أن يأخذ الدية ،وبين أن يعفو» .
-------------------------------
( )1رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه.
( )2البدائع.246/7 :
( )3تبيين الحقائق 107/6 :وما بعدها ،113 ،البدائع ،247/7 :بداية المجتهد ،394/2 :الشرح
الصغير ،368/4 :الشرح الكبير 262/4 :وما بعدها.
( )4مغني المحتاج ،49/4 :كشاف القناع.633/5 :
( )7/602
( )7/603
وقال الشافعية والحنابلة ( : )1للولي الحق المطلق في العفو ،فإن عفا عن القصاص سقط ،وإن عفا
على الدية ،وجبت على الجاني ولو بغير رضاه ،لما روى البيهقي عن مجاهد وغيره« :كان في شرع
موسى عليه السلم تحتم القصاص جزما ،وفي شرع عيسى عليه السلم الدية فقط ،فخفف ال تعالى
عن هذه المة وخيرها بين المرين» لما في اللزام بأحدهما من المشقة ،ولن الجاني محكوم عليه
فل يعتبر رضاه.
وإذا أطلق الولي العفو أو بعبارة أخرى ،إذا صدر العفو من الولي مطلقا عن القود ،ولم يتعرض للدية
بنفي ول إثبات ،فالمذهب عند الشافعية :أنه ل دية؛ لن القتل يوجب القود عينا على الراجح عندهم،
ولم يوجب الدية ،والعفو إسقاط شيء ثابت ،ل إثبات أمر معدوم .وكذلك قال المالكية :ل دية لعاف
مطلق في عفوه إل أن تظهر بقرائن الحوال إرادتها ،فيحلف على مراده (. )2
وتجب الدية عند الحنابلة في هذه الحالة ،لنصراف العفو إلى القود؛ لنه في مقابلة النتقام ،والنتقام
إنما يكون بالقتل ،ولقوله تعالى{ :فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ،وأداء إليه بإحسان}
[البقرة ]178/2:أي اتباع المال ،وذلك يشعر بوجوبه بالعفو (. )3
)ً 2ـ أثر العفو على حق الغير إذا تعدد الولياء أو كان الولي واحدا :
إذا عفا ولي الدم ،وكان واحدا ،ترتب عليه أثره :فإن كان العفو مطلقا ترتب عليه عصمة دم القاتل،
فلو رجع عن عفوه ،وقتل القاتل ،اعتبر الولي قاتلً عمدا ،لعموم تشريع القصاص وآياته التي لم تفرق
بين شخص وشخص ،وحال وحال ،ولن الجاني بالعفو عنه صار معصوم الدم (. )1
وإن كان العفو مقيدا بدفع الدية ،وجب على الجاني دفع الدية إن تم ذلك برضاه عند الحنفية والمالكية،
أو بغير رضاه عند الشافعية والحنابلة ،على ما تقدم سابقا.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،48/4 :كشاف القناع 633/5 :وما بعدها ،المهذب ،188/2 :المغني.743/7 :
( )2الشرح الكبير للدردير.240/4 :
( )3وهل بالعفو عن القاتل يبرأ القاتل في الدنيا فقط أو أنه يبرأ أيضا فيما بينه وبين ال تعالى؟ قال
الحنفية :يبرأ القاتل بالعفو عن القصاص والدية ،ولكن ل يبرأ عن ظلمه ،ولو بالتوبة لتعلق حق
المقتول به ،وأثر التوبة هو في إسقاط ظلم القاتل نفسه بإقدامه على المعصية .لكن الجمهور قالوا:
يبرأ القاتل بالعفو في الدنيا والخرة (رد المحتار.)389/5 :
( )7/604
وأما إذا تعدد الولياء ،فعفا أحدهم ،سقط القصاص عن القاتل؛ لن القصاص ل يتجزأ ،وهو شيء
واحد ،فل يتصور استيفاء بعضه دون بعض ،ويبقى للخرين حصتهم من الدية .بدليل ما روي عن
جماعة من الصحابة ،وهم عمر وابن مسعود وابن عباس :أنهم أوجبوا في عفو بعض الولياء الذين
لم يعفوا نصيبهم من الدية .ويأخذ العافي نصيبه من الدية إذا عفا على الدية ،ول يأخذ شيئا إذا عفا
مجانا.
لكن سقوط القصاص عند المالكية بعفو أحد المستحقين مقيد بما إذا كان العافي مساويا لدرجة الباقين
أو أعلى درجة ،أوا ستحقاقا .فإن كان أنزل درجة أو لم يساو الباقي في الستحقاق كإخوة لم مع
إخوة لب ،لم يعتبر عفوه (. )2
-------------------------------
( )1البدائع ،247/7 :الدر المختار ،394/5 :الشرح الكبير للدردير ،240/4 :الشرح الصغير:
366/4وما بعدها ،المهذب ،188/2 :كشاف القناع ،634/5 :المغني.745/7 :
( )2البدائع ،المكان السابق ،الشرح الكبير للدردير 261/4 :وما بعدها ،الشرح الصغير،364/4 :
المهذب ،189/2 :المغني ،744/7 :كشاف القناع ،المكان السابق.
( )7/605
وإذا عفا أحد الولياء ،فقتله الخر ،فل قصاص عند الحنفية ( ، )1للشبهة ،إذا كان القاتل غير عالم
بالعفو ،أو عالما بالعفو ،غيرعالم بحرمة القتل .وقال الشافعية والحنابلة وزفر ( : )2عليه القصاص
إذا كان عالما بالعفو؛ لنه قتل نفسا بغير حق؛ لن عصمته عادت إليه بالعفو.
)3ـ هل يبقى حق للسلطان بعد عفو ولي الدم؟ :
إذا عفا ولي القتيل مطلقا عن القاتل عمدا ،صح العفو ،وبقي عند الحنفية والمالكية حق السلطان في
عقوبته تعزيرا؛ لن القصاص فيه حقان :حق ال (أو حق المجتمع أو الحق العام) ،وحق المجني
عليه .وحدد المالكية نوع التعزير فقالوا :إذا عفا ولي الدم ( )3عن القاتل عمدا ،يبقى للسلطان حق
فيه ،فيجلده مئة ،ويسجنه سنة (. )4
وقال الشافعية والحنابلة :إذا عفي عن القاتل مطلقا ،صح العفو ،ولم تلزمه عقوبة أخرى ( . )5وقال
الماوردي ( : )6الظهر أن لولي المر أن يعزر مع العفو عن الحدود؛ لن التقويم من حقوق
المصلحة العامة .وقال أبو يعلى الحنبلي ( )7في حق
-------------------------------
( )1البدائع.248/7 :
( )2البدائع ،المكان السابق ،مغني المحتاج ،41/4 :المهذب ،184/2 :شرح المحلي على المنهاج:
،122/4المغني ،744/7 :كشاف القناع.632/5 :
( )3أولياء الدم كما عرفنا :هم الورثة على ترتيب الرث والحجب حتى الزوجان ،في رأي الحنفية
والشافعية والحنابلة .وقال المالكية :أولياء الدم :هم الذكور العصبة دون البنات والخوات والزوجين
(انظر القوانين الفقهية :ص .)346
( )4التلويح على التوضيح ،155/2 :بداية المجتهد.396/2 :
( )5المغني.745/7 :
( )6الحكام السلطانية له :ص .229
( )7الحكام السلطانية له :ص .266
( )7/606
السلطنة المشروع للتقويم والتهذيب :ظاهر كلم أحمد رحمه ال تعالى :أنه يسقط؛ لنه لم يفرق،
ويحتمل أل يسقط للتهذيب والتقويم (. )1
)4ـ عفو المقتول عمدا عن دمه قبل موته :إذا عفا المقتول عن القاتل قبل موته ،فقال الحنفية
والشافعية والحنابلة ( : )2يسقط القصاص عن القاتل ،ول تجب الدية لورثة المقتول من بعده ،أي ل
قصاص فيه ول دية ،وإنما هو هدر ،للذن فيه؛ لن المقتول أسقط حقه باختياره ،وقال تعالى { :فمن
تصدق به فهو كفارة له} [المائدة ]45/5:أي المقتول يتصدق بدمه ،في حال إصابته قبل موته.
وقال المالكية ( : )3لو قال المقتول لقاتله :إن قتلتني أبرأتك ،أو قال له بعد جرحه قبل إنفاذ مقتله:
أبرأتك من دمي ،فل يبرأ القاتل ،بل للولي القود؛ لنه أسقط حقا قبل وجوبه .أما لو أبرأه بعد إنفاذ
مقتله ،أو قال له :إن مت فقد أبرأتك ،فإنه يبرأ؛ لنه أسقط شيئا بعد وجوبه .ويشترط أن يكون هذا
القول بالبراء بعد إنفاذ مقتله.
أما عفو المقتول خطأ عن الدية ،فينفذ في المذاهب من ثلث ماله (. )4
- 3الصلح :
يجوز الصلح على القصاص باتفاق الفقهاء ،ويسقط به القصاص ،سواء أكان الصلح بأكثر من الدية أم
بمثلها أم بأقل منها ( ، )5وسواء أكان حالً أم مؤجلً،
-------------------------------
( )1انظر كتابنا نظرية الضمان :ص ، 311-309المسؤولية المدنية والجنائية للشيخ محمود شلتوت:
ص 51وما بعدها.
( )2البدائع ،249/7 :مغني المحتاج ،50/4 :المغني.750/7 :
( )3الشرح الكبير للدردير ،240/4 :فتح العلي المالك.322/1 :
( )4البدائع.249/7 :
( )5يجوز لبي المعتوه الصلح على الدية بالكثر والمساوي ،ول يجوز بالقل منها (الدر المختار:
.)382/5
( )7/607
ومن جنس الدية ،ومن خلف جنسها بشرط قبول الجاني؛ لن القصاص ليس مالً ( . )1أما الصلح
على الدية فل يجوز بأكثر من الدية ،حتى ل يقع المتصالحان في الربا.
والصلح يختص بالسقاط بمقابل .أما العفو فقد يقع مجانا أو في مقابل مال ،لكن إن وقع العفو عن
القصاص على الدية ،اعتبر عند الحنفية والمالكية صلحا ل عفوا ،ويسمى أيضا عند الشافعية والحنابلة
عفوا بمقابل.
وقد رغب الشرع في الصلح عموما في قوله تعالى{ :والصلح خير} [النساء ]128/4:وقول النبي
صلّى ال عليه وسلم « :الصلح جائز بين المسلمين إل صلحا أحل حراما أو حرم حللً» ( . )2ودلت
السنة على مشروعية الصلح في الدماء لسقاط القصاص ،بدليل قوله صلّى ال عليه وسلم « :من قَتَل
عمدا ،دفع إلى أولياء المقتول ،فإن شاؤوا قتلوا ،وإن شاؤوا أخذوا الدية :ثلثين حقة ،وثلثين جذعة،
خلِفة ( ، )3وما صولحوا عليه فهو لهم» ( )4وذلك لتشديد حرمة القتل.
وأربعين َ
وحكم الصلح :هو حكم العفو ،فمن يملك العفو يملك الصلح ،وأثر الصلح كأثر العفو في إسقاط
القصاص ،وإذا تعدد الولياء ،وصالح أحدهم الجاني على مال ،سقط القصاص ،وبقي حق الخرين
في المال .وإذا بادر أحد الولياء بقتل الجاني بعد الصلح ،فهو قاتل له عمدا ،لكنه ل قصاص عليه
عند الحنفية ما عدا زفر .وعليه القصاص عند الشافعية والحنابلة.
-------------------------------
( )1الدر المختار ،394/5 :الشرح الكبير للدردير ،263/4 :الشرح الصغير للدردير ،368/4 :مغني
المحتاج ،49/4 :كشاف القناع.634/5 :
( )2رواه أبو داود والحاكم وابن حبان وصححه عن أبي هريرة ،ورواه الترمذي وابن ماجه والحاكم
عن عمرو بن عوف.
( )3الحقة :هي الناقة التي طعنت في السنة الرابعة ،والجذعة :هي التي طعنت في الخامسة ،والخلفة:
هي الحامل.
( )4رواه الترمذي ،وقال :حديث حسن غريب.
( )7/608
واتفق الفقهاء على أن الصلح الصادر من ولي الصغير أو المجنون أو من الحاكم ل يجوز على غير
مال ،ول على أقل من الدية؛ لنه ل يملك إسقاط حقه ،ولنه تصرف ل مصلحة فيه للصغير .فإن
وقع الصلح على أقل من الدية صح عند المالكية والحنفية ،ووجب باقي الدية في ذمة الجاني ،ويرجع
الصغير عند المالكية بعد رشده على القاتل في حال ملءته (، )1أي يسره وغناه.
- 4إرث القصاص :
يسقط القصاص إذا كان ولي الدم هو وارث الحق في القصاص ،كما إذا وجب القصاص لنسان،
فمات من له القصاص ،فورث القاتل القصاص كله ،أو بعضه ،أو ورثه من ليس له القصاص من
القاتل وهو البن (. )2
فتكون لدينا صورتان لرث القصاص:
- 1مثال كون القاتل وارث القصاص :أن يقتل ولد أباه ،وللولد أخ ،ثم يموت الخ صاحب الحق في
القصاص ،ول وارث له إل أخوه القاتل ،فيصبح القاتل وارث دم نفسه من أخيه ،فيسقط القصاص؛
لن القصاص ل يتجزأ أو ل يتبعض ،ول يصح استيفاء القصاص من شخص طالب ومطلوب في آن
واحد.
كذلك يسقط القصاص إذا ورث القاتل بعض الحق في القصاص ،بأن ورث القاتل أحد ورثة القتيل،
ويكون لهؤلء الورثة نصيبهم من الدية.
- 2ومثال كون وارث القصاص من ليس له القصاص من القاتل :أن يقتل أحد الوالدين الوالد الخر،
وكان لهما ولد (ذكر أو أنثى) فيسقط القصاص؛ لن الولد هو صاحب الحق فيه ،ول يجب للولد
قصاص على والده ،بدليل أنه لو جنى الوالد على ولده ،وقتله ،ل يقتص منه؛ للحديث النبوي« :ل يقاد
الوالد بالولد» فمن باب أولى ل يقتص للولد من الوالد إذا جنى الوالد على غير ولده.
كذلك يسقط القصاص إذا كان للمقتول ولد آخر ،أو وارث آخر؛ لنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء
منه ،ول يمكن وجوبه ،وإذا لم يثبت بعضه سقط كله ،لنه ل يتبعض ،وصار المر كما لو عفا بعض
مستحقي القصاص عن نصيبه منه.
-------------------------------
( )1الدر المختار ،382/5 :الشرح الكبير للدردير 258/4 :وما بعدها ،المهذب ،188/2 :كشاف
القناع ،634/5 :المغني.753/7 :
( )2البدائع ،251/7 :الشرح الكبير للدردير ،262/4 :الشرح الصغير ،368/4 :مغني المحتاج:
18/4وما بعدها ،المغني 668/7 :وما بعدها ،المهذب.174/2 :
( )7/609
( )7/610
- 1قال جمهور الفقهاء (( )1غير الشافعية) :ل تجب الكفارة في القتل العمد؛ لنه ل قياس في
الكفارات؛ لنها مقدرات شرعية للتعبد ،فيقتصر فيها على محل ورودها ،وقد اقتصر النص القرآني
على الكفارة في القتل الخطأ جبرا للذنب غير المقصود .أما القتل العمد فجزاؤه جهنم؛ لنه كبيرة ،ولم
يوجب القرآن كفارة فيه ،فدل النص بمفهومه على أنه ل كفارة فيه ،ولو كانت واجبة لبينها القرآن؛
لن المقام يقتضي البيان.
والقتل العمد يوجب القصاص ،فل يوجب كفارة كزنا المحصن.
ويرشد إليه« :أن سويد بن الصامت قتل رجلً ،فأوجب النبي صلّى ال عليه وسلم عليه القود ،ولم
يوجب كفارة » ،وعمرو بن أمية الضّمري قتل رجلين في عهد النبي صلّى ال عليه وسلم «فو داهما
النبي صلّى ال عليه وسلم ،ولم يوجب كفارة» (. )2
- 2وقال الشافعية ( : )3تجب الكفارة في القتل العمد على كل قاتل بالغ وصبي ومجنون وعبد
وذمي وعامد ومخطئ ،ومتسبب ،وفي شبه العمد،أي أن الكفارة تجب سواء أكان القاتل كبيرا عاقلً أم
صغيرا أم مجنونا ،مسلما أم ذميا ،فاعلً أصليا أم شريكا ،مباشرة أم تسببا ،وكان المقتول مسلما ولو
بدار حرب ،أ و ذميا أو أجنبيا حتى ولو بقتل نفسه .ول تجب الكفارة بقتل مباح الدم كالحربي
والباغي والصائل والمقتص منه ،والمرتد والزاني المحصن.
هذا ..وقد حدد الشوكاني محل وجوب الكفارة في القتل العمد فيما إذا
-------------------------------
( )1البدائع ،251/7 :بداية المجتهد ،410/2 :القوانين الفقهية :ص ،348المغني ،96/8 :كشاف
القناع.65/6 :
( )2المغني.96/8 :
( )3مغني المحتاج ،107/4 :المهذب.217/2 :
( )7/611
عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية ،وأما إذا اقتص منه ،فل كفارة عليه ،بل القتل كفارته،
لحديث عبادة بن الصامت في أن الحدود كفارات لهلها ،ولما أخرجه أبو نعيم في المعرفة :أن النبي
صلّى ال عليه وسلم قال« :القتل كفارة» (. )1
والدليل على وجوب الكفارة في العمد :أن المقصود من تشريع الكفارة هو رفع الذنب ،ومحو الثم،
والذنب في القتل العمد أعظم من القتل الخطأ ،فكانت الكفارة في العمد أحرى وأولى ،والعامد أحوج
إليها لرفع الذنب وتكفير الخطيئة.
ويدل له خبر واثلة بن السقع ،قال« :أتينا النبي صلّى ال عليه وسلم في صاحب لنا ،قد استوجب
النار بالقتل ،فقال :أعتقوا عنه رقبة ،يعتق ال بكل عضو منها عضوا منه من النار» (. )2
وكفارة القتل مثل كفارة الظهارفي الترتيب :عتق رقبة أولً ،فإن لم يجد ( )3فصيام شهرين متتابعين
( ، )4كما نصت الية ،لكن ل إطعام فيها في الظهر عند العجز عن الصوم ،اقتصارا على الوارد
فيها ،إذ المتبع في الكفارات النص ،ل القياس ،ولم يذكر ال تعالى في كفارة القتل غير العتق
والصيام .وعلى هذا فمن لم يستطع الصوم ثبت دينا في ذمته ،ول يجب شيء آخر .والواجب في
عصرنا هو الصوم فقط.
- 3وقال المالكية ( : )5تستحب الكفارة في قتل الجنين م وجوب دية الجنين ،ول تجب ،خلفا لبي
حنيفة؛ لن الكفارة لما كانت ل تجب عندهم في العمد ،وتجب في الخطأ ،وكان العتداء على الجنين
مترددا بين العمد والخطأ ،استحسن المام الكفارة في الجنين ،ولم يوجبها.
ول تجب الكفارة على قاتل الباغي والصائل والحربي والمرتد والزاني المحصن والذي يقتص منه؛
لن هؤلء مباحو الدم بالنسبة للقاتل .
-------------------------------
( )1نيل الوطار.57/7 :
( )2رواه أبو داود وأحمد وصححه الحاكم وغيره ،كما رواه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم.
( )3قال ابن قدامة الحنبلي :فإن لم يجد الرقبة في ملكه فاضلة عن حاجته أو لم يجد ثمنها فاضلً عن
كفايته ،فصيام شهرين متتابعين ،توبة من ال .وهذا ثابت بالنص أيضا (المغني.)97/8 :
( )4تحتسب المدة بالهلّة إذا صام من أول الشهر وإل فيحسب كل شهر ثلثين يوما.
( )5القوانين الفقهية :ص ،348بداية المجتهد.408/2 :
( )7/612
( )7/613
المقتول ،وإن في النفس :الدية مئة من البل . )1( »...وأول من سنّها مئة عبد المطلب جد الرسول
صلّى ال عليه وسلم .
وأما الجماع :فقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة.
ثالثا ـ شروط وجوب الدية :يشترط لوجوب الدية عند الحنفية ( )2شرطان:
- 1العصمة :وهو أن يكون المقتول معصوما ،أي مصون الدم ،فل دية بقتل الحربي والباغي لفقد
العصمة .ورأي الجمهور متفق مع الحنفية في هذا الشرط ،إل أن الباغي معصوم الدم في غير حال
الحرب عند الشافعية ومن وافقهم وهم الجمهور غيرا لحنفية.
- 2التقوم :وهو أن يكون المقتول متقوما ،فل تجب الدية عند الحنفية بقتل الحربي إذا أسلم في دار
الحرب ،ولم يهاجر إلينا ،وكان قاتله مسلما أو ذميا خطأ .وقال الجمهور :تجب الدية؛ لن التقوم
عندهم بالسلم ،وهذا مسلم قتل خطأ ،وال تعالى يقول{ :ومن قتَل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة،
ودية مسلّمة إلى أهله} [النساء.]92/4:
-------------------------------
( )1رواه النسائي ومالك ،وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولً ،قال ابن
عبد البر :وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرته عن
السناد؛ لنه أشبه المتواتر ،في مجيئه في أحاديث كثيرة.
( )2البدائع 252/7 :وما بعدها.
( )7/614
والتقوم عند الحنفية بدار السلم ،وهذا ليس من أهل دار السلم ،وال تعالى يقول{ :فإن كان من قوم
عدو لكم ،وهو مؤمن ،فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء ]92/4:فقد أوجب ال جزاء قتله :الكفارة فقط
وهي عتق الرقبة ،فل يكون داخلً تحت صدر الية ،وهي التي احتج بها الجمهور؛ لنه مؤمن دينا،
ل
دارا ،وهو في دار الحرب مكثر سواد الكفار ،ومن كثّر سواد قوم فهو منهم ،على لسان رسول ال
صلّى ال عليه وسلم (. )1
وأما التصاف بصفة «السلم» فليس من شرائط وجوب الدية ،ل بالنسبة لقاتل ،ول بالنسبة للمقتول،
فتجب الدية سواء أكان القاتل أو المقتول مسلما أم ذميا أم حربيا مستأمنا.
وكذلك العقل والبلوغ ليس شرطا ليجاب الدية ،فتجب الدية في مال الصبي والمجنون ،لعموم قوله
تعالى{ :ومن قتل مؤمنا خطأ ،فتحرير رقبة مؤمنة ،ودية مسلّمة إلى أهله ،إل أن يصدقوا} [النساء:
.]92/4كما تجب الدية بقتل الذمي والمستأمن ،لقوله تعالى{ :وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق،
فدية مسلّمة إلى أهله} [النساء.]92/4:
هل تضمن الدية بسبب ممارسة حق التأديب؟
إذا ضرب السلطان أو الوالي متهما ،أو ضرب الب ابنه للتأديب المشروع ،أو ضرب الولي أو
الوصي الصبي اليتيم ،أو ضرب الزوج زوجته بسبب نشوزها ،أو لتركها الصلة مثلً ،أو أدّب المعلم
صبيا بغير إذن أبيه ،فمات المؤدّب بسبب هذا التأديب المشروع المعهود في العرف بين الناس ،فهل
يضمن هؤلء فعلهم؟ للفقهاء فيه آراء:
- 1قال أبو حنيفة والشافعي ( : )2إنه يجب ضمان الدية في هذه الحالت؛
-------------------------------
( )1هذا حديث رواه أبو يعلى في مسنده من حديث عبد ال بن مسعود بلفظ« :من كثّر سواد قوم ،فهو
منهم ،ومن رضي عمل قوم ،كان شريك من عمل به» (نصب الراية.)346/4 :
( )2المبسوط ،13/16 :الدر المختار ،401/5 :درر الحكام ،77/2 :جامع أحكام الصغار بهامش
الفصولين ،10-8/2 :مجمع الضمانات :ص ،166 ،157 ،54البدائع ،305/7 :المهذب،289/2 :
مغني المحتاج ،199/4 :الحكام السلطانية للماوردي :ص .230
( )7/615
لن المقصود هو التأديب والزجر ،ل الهلك ،فإذا أفضى التأديب إلى التلف ،تبين أنه تجاوز الحد
المشروع له ،أو تخطى حدود السلطة المخولة إياه ،ولن هذا الفعل وهو التأديب أمر مباح ،فيتقيد
بشرط السلمة للغير كالمرور في الطريق العام ونحوه ،فإن استيفاء النسان حقه مقيد بشرط السلمة
للخرين.
- 2وقال المالكية والحنابلة والصاحبان من الحنفية ( : )1ل ضمان في هذه الحالت ،ما لم يكن
هناك إسراف أو زيادة على ما يحقق المقصود ،أو يتجاوز المعتاد؛ لن التأديب فعل مشروع للزجر
والردع ،فل يضمن التالف به ،كما هو الشأن عند تطبيق الحدود الشرعية أو التعزيرات (، )2
والقاعدة الفقهية تقول« :الجواز الشرعي ينافي الضمان» .
رابعا ـ نوع الدية ومقدارها :
اختلف الفقهاء على آراء ثلثة في تحديد نوع الدية ،وهي ما يأتي:
- 1رأي أبي حنيفة ومالك ،والشافعي في مذهبه القديم ( : )3إن الدية تجب في واحد من ثلثة
أنواع :البل ،والذهب ،والفضة .ويجزئ دفعها من أي نوع .ودليلهم ما ثبت في كتاب عمرو بن حزم
في الديات« :وإن في النفس الدية ،مئة
-------------------------------
( )1المغني ،327/8 :غاية المنتهى ،285/3 :الحكام السلطانية لبي يعلى :ص ،266الميزان
للشعراني ،172/3 :نيل الوطار ،145-140/7 :البدائع ،المكان السابق.
( )2قارن ذلك بالفقه على المذاهب الربعة.292/5 :
( )3البدائع ،253/7 :تكملة فح القدير 302/8 :وما بعدها ،الدر المختار 406/5 :ومابعدها ،اللباب:
،153/3الشرح الكبير للدردير 266/4 :ومابعدها ،بداية المجتهد 401/2 :ومابعدها ،القوانين الفقهية:
ص ،347مغني المحتاج.56-53/4 :
( )7/616
من البل» ( )1وأن عمر فرض على أهل الذهب في الدية ألف دينار ومن الورِق عشرة آلف درهم
( . )2ورأي أبي حنيفة هو الصحيح في مذهبه.
- 2رأي الصاحبين وأحمد ( : )3إن الدية تجب من ستة أجناس ،وهي البل أصل الدية ،والذهب،
والفضة ،والبقر ،والغنم ،والحُلل .والخمسة الولى هي أصول الدية عند الحنابلة ،وأما الحلل فليست
أصلً عندهم؛ لنها تختلف ول تنضبط .وروي عن أحمد :أنها أصل ،وقدرها مئتا حلة من حلل
اليمن ،كل حلة بُرْدان :إزار ورداء جديدان.
وأي شيء أحضره الملزم بالدية ،لزم ولي القتيل قبوله ،سواء أكان الجاني من أهل ذلك النوع ،أم ل؛
لنها أصول في قضاء الواجب ،يجزئ واحد منها ،فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه كخصال
الكفارة.
ودليل هذا الرأي :أن عمر قام خطيبا فقال« :أل إن البل قد غلت ،قال الراوي ،فقوّم على أهل الذهب
ألف دينار ،وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا ،وعلى أهل البقر مئتي بقرة ،وعلى أهل الشاء ألفي شاة،
وعلى أهل الحلل مئتي حلة» ( . )4وأخرج أبو داود مثله عن جابر بن عبد ال أنه قال« :فرض
رسول ال صلّى ال عليه وسلم في الدية على أهل البل مئة من البل...الخ» (. )5
-------------------------------
( )1سبق تخريجه :وفيه أيضا« :وعلى أهل الذهب ألف دينار ،وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف
درهم» .
( )2رواه البيهقي من طريق الشافعي ،قال :قال محمد بن الحسن :بلغنا عن عمر...الخ (نصب الراية:
.)361/4
( )3البدائع ،ومراجع الحنفية ،المكان السابق ،المغني ،761-759/7 :كشاف القناع 16/6 :وما
بعدها.
( )4رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .وأخرجه البيقهي وابن أبي شيبة في
مصنفه عن عبيدة السلماني ،لكن جاء في هذه الرواية «وعلى أهل الحلل مئة حلة» (نصب الراية:
.)362/4
( )5راجع نصب الراية.363/4 :
( )7/617
- 3رأي الشافعي في مذهبه الجديد ( : )1إن الواجب الصلي في الدية هو مائة من البل إن
وجدت ،وعلى القاتل تسليمها للولي سليمة من العيوب ،فإن عدمت حسا بأن لم توجد في موضع يجب
تحصيله منه ،أو عدمت شرعا بأن وجدت فيه بأكثر من ثمن مثلها ،فالواجب قيمة البل ،بنقد البلد
الغالب ( ، )2وقت وجوب تسليمها بالغة ما بلغت؛ لنها بدل متلف ،فيرجع إلى قيمتها عند فقد
الصل .ودليله الحديث السابق وهو ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :كانت قيمة الدية
على عهد الرسول صلّى ال عليه وسلم ثمان مئة دينار ،أو ثمانية آلف درهم ،كان ذلك كذلك ،حتى
استخلف عمر رضي ال عنه ،فقام عمر خطيبا ،فقال« :أل إن البل قد غلت ،فقال :فقوم على أهل
الذهب ألف دينار ،وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ،وعلى أهل البقر مئتي بقرة ،وعلى أهل
الشاء ألفي شاة ،وعلى أهل الحلل مئتي حلة» ( )3ويؤكده من المعقول أن ما ضمن بنوع من المال
وتعذر ،وجبت قيمته ،كذوات المثال (. )4
وأما مقدار الدية فيتضح من الحاديث السابقة ،ولم يختلف الفقهاء في المقادير إل في دراهم الفضة
(أي الوَرِق).
وسبب الختلف فيها :هو سعر صرف الدينار ،فعند الحنفية :الدينار يساوي عشرة دراهم بدليل
حديث عَبيدة السلماني المتقدم .وعند الجمهور (: )5
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،56/4 :المهذب 195/2 :وما بعدها.
( )2المراد بالبلد :هو المحل الذي يجب التحصيل منه لو كانت موجودة فيه.
( )3وروي ما يقاربه في المعنى عن الزهري.
( )4المثليات :هي المكيلت (حنطة أو شعير) والموزونات (قطن أو حديد) والعدديات المتقاربة (جوز
أو بيض) والذرعيات (كالقماش).
( )5راجع بداية المجتهد ،403/2 :الشرح الكبير للدردير ،267/4 :المغني ،760/7 :مغني المحتاج:
.56/4
( )7/618
الدينار يساوي اثني عشر درهما ،بدليل حديث عمر السابق ،وأن رجلً من بني عدي قتل ،فجعل
النبي صلّى ال عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا ( . )1وعلى هذا:
الواجب من البل مئة ،ومن الذهب ألف دينار ( ، )2ومن الفضة عشرة آلف درهم عند الحنفية،
واثنا عشر ألف درهم عند الجمهور ،ومن البقر مئتا بقرة ،ومن الغنم ألفان ،ومن الحلل ،أي الثياب
مئتا حلة :إزار ورداء.
خامسا ـ تغليظ الدية وتخفيفها :
الدية إما مغلظة أو مخففة ،وتجب الدية عند الحنفية في شبه العمد وفي الخطأ وفي شبه الخطأ وفي
القتل بسبب ،وفي العمد أيضا إذا اشتمل القتل على شبهة :وهي الحالة التي يقتل فيها الب ابنه .وقد
تجب الدية في العمد برضا القاتل وولي الدم ،أي عند التراضي عليها فيما إذا حصل عفو من ولي
القتيل أو من بعض الولياء ،فيكون للباقي نصيبه من دية العمد.
ول تتغلظ الدية إل في حالة الوفاء بها بالبل خاصة؛ لن الشرع ورد بها ،والمقدرات الشرعية ل
تعرف إل سماعا ونقلً من طريق الشرع ،إذ ل مدخل للرأي فيها؛ فل تتغلظ الدية في الدنانير
والدراهم ،بأن يُزاد على ألف دينار ،أو على عشرة آلف درهم (عند الحنفية).
وتتغلظ الدية في القتل العمد وفي شبه العمد عند الجمهور ( . )3وقال
-------------------------------
( )1رواه أصحاب السنن الربعة ،عن ابن عباس.
( )2الدينار :هو المثقال من الذهب ،ويساوي 80،4غم وهو المثقال العجمي.
( )3البدائع 256/7 :وما بعدها ،تبيين الحقائق 126/6 :وما بعدها ،الدر المختار 406/5 :وما بعدها،
تكملة فتح القدير ،304 ،302 ،251/8 :مغني المحتاج ،55-53/4 :المهذب 195/2 :وما بعدها،
المغني ،766-764/7 :كشاف القناع 17/6 :ومابعدها.
( )7/619
المالكية ( : )1تتغلظ الدية في القتل العمد إذا قبلها ولي الدم ،وفي حالة قتل الوالد ولده.
وإذا غلظت الدية تجب مثلثة عند المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن (أي ثلثون حقه وثلثون
خلِفة أي حاملً ،لخبرالترمذي بذلك) .وهذا عند المالكية في حال قتل الصل ولده،
جَذَعة ،وأربعون َ
أما في القتل العمد إذا عفا ولي الدم ،فتجب الدية عندهم مربعة ،بحذف ابن اللبون من النواع الخمسة
الواجبة في القتل الخطأ.
وتجب حينئذ مربعة ،أي أرباعا عند الحنفية ما عدا محمدا ،والحنابلة (( : )2خمس وعشرون بنت
مخاض ،وخمس وعشرون بنت لبون ،وخمس وعشرون حقة ،وخمس وعشرون جذعة) (. )3
وأما الدية المخففة في القتل الخطأ ونحوه ،فتجب مخمسة ،أي أخماسا باتفاق المذاهب (وهي عشرون
بنت مخاض ،وعشرون ابن مخاض ،وعشرون بنت لبون ،وعشرون حقة ،وعشرون جذعة) وهذا
رأي الحنفية والحنابلة ،بدليل ما روى ابن مسعود قال :قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :في دية
الخطأ عشرون حقة ،وعشرون جذعة ،وعشرون بنت مخاض ،وعشرون بنت لبون ،وعشرون بني
مخاض» ( )4ولن ابن اللبون يجب على طريق البدل عن ابنة المخاض في الزكاة إذا
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير 266/4 :وما بعدها ،282 ،بداية المجتهد 401/2 :وما بعدها ،الشرح
الصغير.373/4 :
( )2المراجع السابقة.
( )3بنت المخاض :هي التي طعنت في السنة الثانية ،وبنت اللبون في الثالثة ،والحقة في الرابعة،
والجذعة في الخامسة.
( )4رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة والبزار والبيهقي إل أن الدارقطني قال« :عشرون بني
لبون» مكان قوله «عشرون ابن مخاض» .
( )7/620
لم يجدها ،فل يجمع بين البدل والمبدل في واجب واحد (. )1
وجعل المالكية والشافعية ( )2مكان ( بني المخاض) ( :بني اللبون ) بدليل ما روى الدارقطني وسعيد
بن منصور ،في سننهما عن النّخعي عن ابن مسعود ،وقال الخطابي :روي أن النبي صلّى ال عليه
وسلم ودى الذي قتل بخيبر بمئة من إبل الصدقة ،وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض.
وتغلظ عند الشافعية والحنابلة ( )3دية القتل الخطأ في النفس والجراح في حالت ثلث:
- 1إذا حدث القتل في حرم مكة ،تحقيقا للمن.
- 2أو حدث في الشهر الحرم :وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.
- 3أو قتل القاتل قريبا له ذا رحم محرم ،كالم والخت.
وعلى هذا الرأي تغلظ الدية بأحد أسباب خمسة :كون القتل عمدا ،أو شبه عمد ،أو في الحرم ،أو
الشهر الحرم ،أو لذي رحم محرم.
والدليل على تربيع ( )4الدية المغلظة عند الحنفية ما عدا محمدا ،وعند الحنابلة :هو ما رواه الزهري
عن السائب بن يزيد ،قال :كانت الدية على عهد رسول ال صلّى ال عليه وسلم أرباعا« :خمسا
وعشرين جذعة ،وخمسا وعشرين حقة ،وخمسا وعشرين بنت لبون ،وخمسا وعشرين بنت مخاض»
وقضى بذلك ابن مسعود،
-------------------------------
( )1البدائع ،254/7 :المغني.771 ،769/7 :
( )2بداية المجتهد ،402/2 :مغني المحتاج.54/4 :
( )3مغني المحتاج ،54/4 :المغني ،772/7 :المهذب.196/2 :
( )4أي كونها تؤخذ أرباعا.
( )7/621
ولن الدية حق يتعلق بجنس الحيوان ،فل يعتبر فيه الحمل في بعضها ،كالزكاة والضحية (. )1
وأما دليل المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن في تثليث ( )2الدية المغلظة ،فهو حديث عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده ،أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال« :من قَتَل متعمدا ،دفع إلى أولياء
المقتول ،فإن شاؤوا قتلوه ،وإن شاؤوا أخذوا الدية ،وهي ثلثون حقة ،وثلثون جذعة ،وأربعون
خَلِفة ،وما صولحوا عليه فهو لهم» ( )3وذلك لتشديد القتل.
وحديث آخر عن عبد ال بن عمرو ،أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال« :أل إن في قتيل عمد
الخطأ ،قتيل السوط والعصا مائة من البل ،منها أربعون خلفة في بطونها أولدها» (. )4
والخلصة :أن دية العمد تغلظ عند الجمهور بتخصيصها بالجاني ،وتعجيلها عليه ،أي كونها حالّة عند
غير الحنفية ،وتربيعها في رأي الحنفية والحنابلة ،وتثليثها في رأي عند المالكية والشافعية.
ودية شبه العمد :تخفف من ناحيتين (وهما فرض الدية على العاقلة ،والتأجيل بثلث سنين) وتغلظ من
ناحية واحدة :وهي التربيع في رأي ،والتثليث في رأي آخر.
ودية الخطأ :تخفف من نواح ثلث :إلزام العاقلة بها ،والتأجيل ثلث سنين ،وتخميسها.
-------------------------------
( )1المغني ،766/7 :البدائع.254/7 :
( )2أي كونها أثلثا.
( )3رواه الترمذي وقال :هو حديث حسن غريب.
( )4رواه المام أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني (راجع نيل الوطار .)21/7 :هذا ...وإن كان
البحث هنا في دية العمد ،لكني استطردت فيه لبيان أحوال الديات الخرى تجميعا لشتات البحث.
سادسا ـ وقت أداء الدية :
تجب دية العمد وشبه العمد والخطأ عند الحنفية ( )5مؤجلة في ثلث سنين ،عملً بفعل عمر رضي
ال عنه ،ويكفي العامد تغليظ الدية عليه ،وإيجابها في ماله.
وقال جمهور الفقهاء ( : )6دية العمد تجب معجلة (حالّة) في ماله ،غير مؤجلة؛ لن الدية فيه بدل
عن القصاص ،وبما أن القصاص حالّ الداء ،فبدله وهو الدية حال مثله ،ولن في التأجيل تخفيفا
على القاتل ،والعامد يستحق التغليظ ل التخفيف ،بدليل وجوب الدية في ماله ل على العاقلة.
وأما دية الخطأ فتجب عند الجمهور كالحنفية مؤجلة في مدى ثلث سنوات ،تخفيفا عن العاقلة ،بدليل
ما روي عن عمر وعلي أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلث سنين ،ول مخالف لهما في عصرنا،
فكان إجماعا (. )7
وكذلك دية شبه العمد عند الجمهور تجب مؤجلة لثلث سنين ،في كل سنة ثلثها.
-------------------------------
( )5البدائع 256/7 :وما بعدها.
( )6بداية المجتهد ،402/2 :القوانين الفقهية :ص ،347الشرح الكبير ،285 ،281/4 :مغني
المحتاج ،55/4 :المهذب ،212 ،196/2 :المغني ،766-764/7 :كشاف القناع.17/6 :
( )7المغني.766/7 :
( )7/622
سابعا ـ الملزم بأداء الدية :
اتفق الفقهاء على أن دية القتل العمد تجب على القاتل في ماله وحده ،ولتحملها العاقلة؛ لن الصل
في كل إنسان أن يسأل عن أعماله الشخصية المدنية كالتلفات ،والجنائية كالجرائم ،ول يسأل عنها
غيره لقوله تعالى{ :كل امرئ بما كسب رهين} [الطور{ ]21/52:ول تزو وازرة وزر أخرى}
[النعام{ ]164/6:قل :ل تسألون عما أجرمنا ،ول نسأل عما تعملون} [سبأ.]25/34:
ويؤيده ما جاء في السنة من قول النبي صلّى ال عليه وسلم« :ل يجني جانٍ إل على نفسه» (، )1
وقال النبي صلّى ال عليه وسلم لبعض أصحابه حين رأى معه ولده« :ابنك هذا؟» قال :نعم ،قال:
«أما إنه ل يجني عليك ،ول تجني عليه» (. )2
وثبت في السنة بنحو خاص« :ل تعقل العاقلة عمدا ،ول عبدا ،ول صلحا ،ول اعترافا» (. )3
ويرى الفقهاء ما عدا المالكية ( )4أن دية شبه العمد ،والخطأ على العاقلة ،كما سيأتي في عقوبة كل
منهما.
وأما دية القتل العمد الصادر من الصبي أو المجنون ،فقال الحنفية والمالكية والحنابلة (الجمهور) ()5
:إنها على عاقلته ،وعبارتهم فيها :عمد الصبي وخطؤه
-------------------------------
( )1رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمرو بن الحوص في حجة الوداع.
( )2رواه أبو داود والنسائي وأحمد عن أبي رمثة (جامع الصول ،9/11 :نيل الوطار.)83/7 :
( )3رواه البيهقي عن الشعبي ،وأبو عبيد القاسم بن سلم في الموال (نصب الراية.)379/4 :
( )4راجع بحث الملزم بأداء الدية في البدائع ،256/7 :الدر المختار ،400/5 :القوانين الفقهية :ص
،347الشرح الكبير للدردير ،282/4 :مغني المحتاج ،55/4 :المغني ،770-764/7 :كشاف القناع:
.3/6
( )5تبيين الحقائق ،139/6 :الشباه والنظائر لبن نجيم ،77/1 :الدر المختار ،415 ،378/5 :بداية
المجتهد 404/2 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص ،345الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي،486/4 :
المغني ،776/7 :جامع أحكام الصغار لبن قاضي سماوه ،18/2 :بهامش جامع الفصولين.
( )7/623
سواء ،بدليل أن مجنونا صال على رجل بسيف ،فضربه ،فرفع ذلك إلى علي رضي ال عنه ،فجعل
ديته على عاقلته ،بمحضر من الصحابة رضي ال عنهم ،وقال :عمده وخطؤه سواء.
وقال الشافعية ( : )1الظهر أن عمد الصبي عمد إذا كان مميزا ،وإن لم يكن له تمييز فهو خطأ
قطعا ،أي أنه سواء أكان مميزا أم غير مميز ل قصاص عليه لعدم تكليفه بالحلل والحرام شرعا،
لكن تجب الدية في ماله ،ول تتحملها عنه عاقلته إذا كان مميزا ،وكان القتل عمدا؛ لن العاقلة
(العصبة) ل تتحمل دية القتل العمد أو حالة الصلح أو العتراف ،كما تقدم .وبما أن فعله يعدّ عمدا إذا
كان مميزا في الراجح عند الشافعية ،فل تتحمل العاقلة دية القتيل الذي جنى عليه ،وتكون الدية عليه
مغلظة.
ثامنا ـ متى تجب الدية كاملة ،وهل يتساوى كل الناس في دية العمد؟
قال الحنفية والمالكية ( : )2دية العمد عند العفو عن القصاص غير محدودة ،والواجب هو ما يتم
التراضي أو التفاق عليه بين الجاني وولي الدم ،سواء أكان المال قليلً أم كثيرا ،فإن انبهمت أي لم
تحدد الدية كانت بحسب المقدار الشرعي (مئة من البل أو ما ينوب منابها من الدنانير والدراهم).
وقال الشافعية والحنابلة ( : )3دية العمد بحسب المقدار المحدد شرعا :مئة بعير ،لقوله صلّى ال عليه
وسلم في حديث عمرو بن حزم في الديات« :في النفس مائة من البل» .
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،15 ،10/4 :المهذب.196 ،174 ،173/2 :
( )2رد المحتار على الدر المختار ،382/5 :بداية المجتهد ،402/2 :القوانين الفقهية :ص .347
( )3مغني المحتاج ،53/4 :كشاف القناع.3/6 :
( )7/624
( )7/625
الكفر (دية غيرالمسلم ) :اختلف الفقهاء في تقدير دية غير المسلم على آراء ثلثة:
- 1قال الحنفية ( : )1إن دية الذمي والمستأمن كدية المسلم ،فل يختلف قدر الدية بالسلم والكفر،
لتكافؤ الدماء ،وعملً بعموم قوله تعالى{ :وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ،فدية مسلّمة إلى أهله}
[النساء ]92/4:ولنه عليه الصلة والسلم «جعل دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار» (. )2
- 2وقال المالكية والحنابلة ( : )3دية الكتابي (اليهودي والنصراني) المعاهد أو المستأمن نصف دية
المسلم ،ونساؤهم نصف ديات المسلمين ،أي كنساء المسلمات ،لقوله عليه الصلة والسلم« :دية
المعاهد نصف دية المسلم» ( )4أو «إن دية المعاهد نصف دية المسلم» ( )5أو «دية عقل الكافر
نصف عقل المسلم» (. )6
- 3وقال الشافعية ( : )7دية اليهودي والنصراني والمعاهد والمستأمن ثلث دية
-------------------------------
( )1البدائع ،254/7 :الدر المختار.407/5 :
( )2أخرجه أبو داود في المراسيل عن سعيد بن المسيب ،وفيه أحاديث أخرى تؤيده (نصب الراية:
.)366/4
( )3الشرح الكبير للدردير 267/4 :وما بعدها ،بداية المجتهد ،والقوانين الفقهية ،المكان السابق،
المغني.796 ،793/7 :
( )4أخرجه أصحاب السنن الربعة من حديث ابن عمرو ،وهذا لفظ أبي داود.
( )5أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر.
( )6أخرجه أصحاب السنن الربعة وأحمد ،وهذا لفظ الترمذي ،وقال :حديث حسن.
( )7مغني المحتاج ،57/4 :المهذب.197/2 :
( )7/626
المسلم ،لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلّى ال عليه وسلم «فرض على كل مسلم
قتل رجلً من أهل الكتاب أربعة آلف درهم» ( . )1وقضى بذلك عمر وعثمان رضي ال عنهما ()2
،ولنه أقل ما أجمع عليه في المسألة.
واتفق غير الحنفية على أن دية المجوسي والوثني المستأمن كعابد الشمس والقمر والزنديق ثمان مئة
درهم ،أي ثلثا عشر دية المسلم بتقدير الجمهور ،وأن نساءهم نصف دياتهم ،أي أربع مئة درهم ،كما
قال بعض الصحابة مثل عمر وعثمان وابن مسعود رضي ال عنهم ،ربعض التابعين كسعيد بن
المسيب وسليمان ابن يسار وعطاء وعكرمة والحسن وغيرهم (. )3
والمذهب المنصوص عند الشافعية :أن من لم يبلغه السلم :إن تمسك بدين لم يبدّل ،فتجب له دية
أهل دينه ،فإن كان كتابيا فدية كتابي ،وإن كان مجوسيا فدية مجوسي ،وإن تمسك بدين بدّل فديته كدية
المجوسي .وقال الحنابلة والحنفية :ل يجوز قتل هذا الشخص إن وجد ،حتى يدعى إلى السلم ،فإن
قتل قبل الدعوى من غير أن يعطى أمانا ،فل ضمان فيه؛ لنه ل عهد له ول إيمان.
العقوبة البدلية الثانية للعمد ـ التعزير :
إذا سقط القصاص في القتل العمد ،كان التعزير عقوبة بدلية عنه؛ لكن هل التعزير أمر واجب أو
جائز؟ وقد أشرت له في حالة عفو ولي الدم.
-------------------------------
( )1رواه عبد الرزاق في مصنفه .وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :دية
اليهودي والنصراني أربعة آلف» .
( )2روي الشافعي والدارقطني عن سعيد بن المسيب ،قال« :كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني
أربعة آلف ،والمجوسي ثمان مئة» .
( )3الشرح الكبير للدردير ،268/4 ::مغني المحتاج ،57/4 :المغني.796/7 :
( )7/627
- 1قال المالكية ( : )1يجب تعزير القاتل العمد إذا لم يقتص منه ،والعقوبة هي جلد مئة ،وحبس
سنة ،عملً بأثر ضعيف عن عمر.
- 2وقال الجمهور ( : )2ل يجب التعزير ،وإنما يفوض المر للحاكم ،يفعل ما يراه مناسبا
للمصلحة ،فيؤدب الشرير بالحبس أو الضرب أوالتأنيب ونحوها .ويمكن أن يكون التعزير عند الحنفية
والمالكية هو القتل أو الحبس مدى الحياة.
النوع الثالث ـ العقوبة التبعية للقتل العمد ـ الحرمان من الميراث والوصية :
ثبت في السنة تشريع عقوبة أخرى للقتل العمد وهي الحرمان من الرث ،والوصية ،وذلك في قوله
صلّى ال عليه وسلم « :ليس لقاتل ميراث» ( )3وفي رواية« :ل يرث القاتل شيئا» ( . )4وفي قوله
عليه الصلة والسلم« :ليس لقاتل وصية» ( . )5فإذا قتل الوارث مورثه ،أو الموصى له الموصي،
حرم من الميراث والوصية ،عملً بمبدأ سد الذرائع ،كيل يطمع أحد بمال مورثه ،فيتعجل موته
بالقتل.
لكن اختلف الفقهاء في نوع القتل المانع من الميراث أو الوصية.
أولً ـ الحرمان من الميراث :
القتل من حيث المبدأ مانع من الميراث بالتفاق ،لكن الخلف في تحديد صفة القتل.
-------------------------------
( )1بداية المجتهد.396/2 :
( )2التلويح على التوضيح ،155/2 :المغني ،745/7 :الحكام السلطانية للماوردي :ص ،229ولبي
يعلى :ص ،266رد المحتار ،196/3 :الشرح الكبير للدردير ،355/4 :التشريع الجنائي السلمي:
183/2ومابعدها ،المدخل الفقهي للستاذ الزرقا :ف .333 ،331
( )3رواه مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه عن عمر (نيل الوطار.)74/6 :
( )4رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (نيل الوطار ،المكان السابق).
( )5أخرجه الدارقطني والبيهقي عن علي بن أبي طالب ،وفيه راو متروك يضع الحديث (نصب
الراية.)402/4 :
( )7/628
فقال الحنفية والشافعية والحنابلة (الجمهور) ( : )1إن القتل العدوان بغير حق ،الصادر من البالغ
العاقل ،عمدا أم خطأ ،مانع من الميراث.
لكن يشترط عند الحنفية أن يكون القتل مباشرة ل تسببا .ولم يميز الشافعية والحنابلة بينهما ،فقالوا :ل
فرق بين المباشرة والتسبب ،فكلهما مانع من الرث.
وإذا كان القتل بحق وهو القتل غير المضمون كالقتل قصاصا أو حدا أو دفاعا عن النفس أو قتل
العادل الباغي ،أو كالقتل الحادث بسبب التأديب كضرب الب والزوج والمعلم ،فل يمنع الميراث عند
الحنفية والحنابلة ،ويمنع الميراث عند الشافعية ،أي أن القتل غير المضمون يمنع الرث عند
الشافعية ،وعند الحنابلة ليمنع .والقتل بإكراه مضمون عند الشافعية والحنابلة ،فيمنع الميراث.
والقتل الصادر من الصبي أو المجنون أو النائم ل يمنع الميراث عند الحنفية ،ويمنع الميراث عند
الشافعية والحنابلة؛ لنه قتل بالتسبب.
وقال المالكية ( : )2إن القتل العمد ،ومثله شبه العمد المعروف عند غيرهم والمقرر استثناء لديهم هو
المانع من الميراث ،سواء أكان مباشرة أم تسببا ،وأما القتل الخطأ فل يحرم الرث.
وعلى هذا فأشد المذاهب في جعل القتل مانعا من الميراث هم الشافعية ثم الحنابلة ،ثم الحنفية ثم
المالكية .والسبب في التشدد إطلق حديث « :ليس للقاتل شيء» ولن القاتل لو ورث لم يؤمن أن
يستعجل الرث بالقتل ،فاقتضت المصلحة حرمانه« :من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه» .
-------------------------------
( )1الدر المختار ،542/5 :التلويح على التوضيح ،153/2 :الشباه والنظائر للسيوطي :ص ،136
مغني المحتاج ،25/3 :المغني ،292/6 :المهذب ،24/2 :مؤلفنا نظرية الضمان :ص 329وما
بعدها.
( )2الشرح الكبير للدردير.486/4 :
( )7/629
ثانيا ـ الحرمان من الوصية :
القتل المانع من الوصية عند الحنفية ( : )1هو القتل المانع من الرث وهو أن يكون صادرا من بالغ
عاقل ،ومباشرة ل تسببا ،وعدوانا أي بغير حق ،سواء أكان عمدا أم خطأ.
وعند المالكية ( : )2ل يصلح القتل الخطأ مانعا من الوصية كالميراث ،وأما القتل العمد ومثله شبه
العمد ،فهو مانع من الوصية على الراجح إن لم يعلم الموصي بأن الموصى له ضربه .فإن علم
الموصي بمن ضربه أو قتله ،ولم يغير وصيته ،أو أوصى له بعد الضرب صحت الوصية ،سواء قتله
عمدا أم خطأ.
ومثلهما قال الحنابلة ( : )3الصح أن القتل بغير حق ،سواءأكان عمدا أم خطأ يبطل الوصية؛ لنه
يمنع الميراث ،وهو آكد منها ،فهي أولى بحرمان القاتل منها.
وقال الشافعية ( : )4الظهر أن الموصى له لو قتل الموصي ولو تعديا ،استحق الموصى به؛ لن
الوصية تمليك بعقد فأشبهت عقد الهبة ،وخالفت الرث.
والخلصة :إن القتل المانع من الميراث مانع عند الجمهور من الوصية .وأما عند الشافعية :فل يعتبر
القتل مانعا من الوصية ،وإن منع الميراث.
-------------------------------
( )1الدر المختار ،459/5 :البدائع.339/7 :
( )2الشرح الكبير للدردير.426/4 :
( )3منار السبيل في شرح الدليل على مذهب أحمد للشيخ إبراهيم بن ضويان ،39/2 :ط دمشق،
كشاف القناع.397/4 :
( )4الشباه والنظائر للسيوطي ،136/2 :مغني المحتاج.43/3 :
( )7/630
( )7/631
( )7/632
فقضى أن دية جنينها غرّه ( : )1عبد أو وليدة ،وقضى بدية المرأة على عاقلتها» ( . )2قال ابن
تيمية :وفيه دليل على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة.
ويؤكده أنه قتل ل يوجب قصاصا ،فتجب ديته على العاقلة ،كالخطأ ،ويختلف عن العمد المحض؛ أن
العمد قصد فيه الجاني الفعل وإرادة القتل ،فاستحق تغليظ الدية بكونها في ماله ،وتدفع فورا ،وشبه
العمد قصد فيه الجاني الفعل ،ولم يرد القتل ،فاستحق التخفيف من ناحيتين :هما كون الدية على
العاقلة ،وكونها مؤجلة كما في القتل الخطأ.
وهل تجب الدية ابتداء على العاقلة أو على القاتل؟
هناك رأيان للفقهاء :قال الحنفية والمالكية والصح عند الشافعية ( : )3تجب ابتداء على القاتل؛ لن
سبب وجوبها وهو القتل ،وجد منه ،ل من العاقلة ،فكان الوجوب عليه ،ل على العاقلة ،وإنما العاقلة
تتحمل دية واجبة عليه.
ويتحمل القاتل جزءا من الدية مع العاقلة؛ لنه هو المطالب أصالة بتحمل جريرة فعله ،ودور العاقلة
تابع ،فهو مطالب بحفظ نفسه من ارتكاب الجرائم ،وعاقلته مطالبة أيضا بحفظه من الجريمة ،فإذا لم
يحفظوا فرّطوا ،والتفريط منهم ذنب .والقاتل يعتمد على مناصرة عاقلته وحمايتها له ،فتشاركه في
تحمل تبعة المسؤولية ،ل أنها تستقل بتحملها عنه.
وبناء على هذا الرأي :إذا لم يكن للجاني عاقلة يرجع بالدية كلها عليه ،وهذا هو الظهر عند
الشافعية .لكنهم قالوا في حال وجود العاقلة :متى وزع الواجب في السنة الولى على العاقلة أو بيت
المال ،وفضل شيء منه فهو على الجاني مؤجلً عليه كالعاقلة.
-------------------------------
( )1أصل الغرة :البياض في وجه الفرس ،وعبر هنا بالغرة عن الجسم كله.
( )2متفق عليه بين أحمد والشيخين (البخاري ومسلم) (نيل الوطار.)69/7 :
( )3البدائع ،255/7 :مغني المحتاج ،97 ،95/4 :الشرح الكبير للدردير 281/4 :ومابعدها ،الدر
المختار ورد المحتار.454 ،400/5 :
( )7/633
وقال الحنابلة ( : )1تجب الدية على العاقلة ابتداء؛ لنه ل يطالب بها غيرهم ،وليعتبر تحملهم ول
رضاهم بها ،فل تجب على غير من وجبت عليه ،كما لو عدم القاتل.
ول يتحمل القاتل عند الحنابلة جزءا من الدية؛ لن الدية تلزم العاقلة ابتداء ،فإن لم توجد عاقلة أو
عجزت ،وكان الجاني مسلما أخذت الدية أوباقيها من بيت المال حالّة دفعة واحدة؛ لن الدية إنما
أجلت على العاقلة تخفيفا ول حاجة للتأجيل في بيت المال.
ثانيا ـ وقت أداء دية شبه العمد :تؤدى دية شبه العمد كما تقدم في دية العمد مؤجلة في مدى ثلث
سنين ،في آخر كل سنة ثلثها ،وهو مروي عن النبي صلّى ال عليه وسلم ،ومحكي عن عمر وعلي
رضي ال عنهما ،وكونها في آخر السنة لتتمكن العاقلة دفعها من إنتاج المواسم .وكونها في كل سنة
الثلث ،توزيعا لها على السنين الثلث.
ويعتبر بدء السنة عند الحنفية ( )2من يوم الحكم أو القضاء بها ،وهو رأي المالكية ( )3في دية
الخطأ.
وعند الشافعية والحنابلة ( : )4تبدأ السنة من وقت وجوب الدية ،فإن كانت دية نفس ،فمن حين
الموت؛ لنه وقت استقرار الوجوب في الذمة ،وإن كانت دية غير النفس ،فمن حين الجناية؛ لنها تلك
حالة الوجوب.
ثالثا ـ مقدار ما تتحمله العاقلة من دية شبه العمد :
يرى الحنفية ( : )5أن العاقلة لتتحمل ما دون نصف عشر الدية (وهو خمس من البل :أرش
الموضِحة) إذا كانت الجناية فيما دون النفس.أما بدل النفس فتحمله العاقلة ،وإن قل؛ لن بدل النفس
ثبت بالنص على العاقلة .وأما ما دون النفس فعلى الجاني ،لقول الشعبي« :ل تعقل العاقلة عمدا ،ول
عبدا ،ول صلحا ،ول اعترافا ،ول ما دون أرش الموضحة» (. )6
والصح عند الحنفية :أنه ل يؤخذ في كل سنة من كل واحد من أفراد العاقلة إل درهم ،أو درهم
وثلث ،بحيث يؤخذ منه في مجموع الثلث السنوات ثلثة أو أربعة دراهم.
وقال المالكية ،والحنابلة ( : )7ل تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية؛ لن عمر رضي ال عنه قضى في
الدية أل يحمل منها شيء ،حتى تبلغ عقل المأمومة ،أي تعويضها ،وهو ثلث الدية.
-------------------------------
( )1كشاف القناع ،60/6 :المغني.771/7 :
( )2اللباب شرح الكتاب ،180 ،178/3 :الدر المختار.454/5 :
( )3الشرح الكبير للدردير ،285/4 :الشرح الصغير.403/4 :
( )4مغني المحتاج ،98/4 :المغني 767/7 :وما بعدها.
( )5الدر المختار 454/5 :وما بعدها ،البدائع 255/7 :وما بعدها ،322 ،اللباب شرح الكتاب:
.179/3
( )6رواه البيهقي موقوفا على الشعبي .وتأويل العبد معناه :أن يقتل العبد حرا ،فليس على عاقلة موله
شيء من جنايته ،وإنما هي في رقبته (نصب الراية.)379/4 :
( )7الشرح الكبير للدردير ،286 ،282/4 :الشرح الصغير للدردير ،396/4 :المغني،775/7 :
،788 ،777القوانين الفقهية :ص 347ومابعدها.
( )7/634
ويتحمل عندهم كل فرد من أفراد العاقلة على قدر ما يطيق ،بحسب اجتهاد الحاكم ،وليس فيه تقدير
شرعي محدد ،فل يكلف أحد ما يجحف به ويشق عليه؛ لن تكليف العاقلة مشروع على سبيل
المواساة للقاتل والتخفيف عنه.
وأقل عدد للعاقلة عند المالكية بحيث ل ينقص عنه :هو سبع مئة ،وقيل :ألف ،فإذا وجد من العصبة
هذا العدد ،فل يضم إليهم أحد ،وإن نقصوا عن هذا العدد ،ولو كانوا أغنياء ،ضم إليهم ما يكمّلهم من
الموالي ،أي المعتِقون.
وقال الشافعية ( : )1تحمل العاقلة جميع الدية ،قلّت أو كثرت؛ لنه إذا ألزمت بالكثير فالقليل من باب
أولى .وتوزع على النحو التالي:
على الغني من العاقلة :نصف دينار ذهب أو قدره ،وعلى المتوسط ( )2ربع دينار أو ثلثة دراهم،
كل سنة من الثلث السنوات؛ لنها وجبت مواساة متعلقة بالحول ،فتتكرر بتكرره كالزكاة .فيصبح
جميع ما يلزم الغني في الثلث السنين دينارا ونصفا ،والمتوسط يلزمه نصف دينار وربع.
رابعا ـ هل تحمل العاقلة خطأ الحاكم؟
تتحمل العاقلة الخطأ الشخصي للمام والحاكم :وهو الذي ل صلة له بالحكم والجتهاد.
أما الخطأ الناجم عن الحكم والجتهاد ففيه رأيان (: )3
-------------------------------
( )1المهذب ،211/2 :مغني المحتاج.99 ،95/4 :
( )2الغني :هو من يملك فاضلً عن نصاب الزكاة وهو عشرون دينارا ،والمتوسط :من يملك عشرين
دينارا.
( )3المغني 780/7 :وما بعدها ،833 ،المهذب ،212 ،192/2 :مغني المحتاج ،81/4 :حاشية
الدسوقي على الشرح الكبير.268 ،252/4 :
( )7/635
قال الجمهور (الشافعية في قول راجح والمالكية والحنابلة) :يجب على عاقلته أيضا ،لما روي عن
عمر رضي ال عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء ،فأجهضت جنينها ،فقال عمر لعلي :عزمت
عليك أل تبرح حتى تقسمها على قومك ( ، )1أي قريش ،ولن الحاكم جانٍ ،فكان خطؤه على عاقلته
كغيره.
وقال الحنفية ( : )2عقل (أي تعويض) خطأ الحاكم في بيت المال؛ لن الخطأ يكثر في أحكامه
واجتهاده ،فإيجاب عقله على عاقلته مجحف بهم ،ولن الحاكم نائب عن ال تعالى في أحكامه وأفعاله،
فكان أرش جنايته في مال ال سبحانه .وهذا هو رأي العز بن عبد السلم من الشافعية (. )3
خامسا ـ من العاقلة ،وهل تتحمل الدية في العصر الحاضر؟
العاقلة :هي التي تتحمل العقل أي الدية ،وسميت الدية عقلً؛ لنها تعقل الدماء من أن تسفك ،أي
تمسكه ،ومنه سمي العقل؛ لنه يمنع القبائح.
واختلف الفقهاء في تحديد العاقلة على ثلثة مذاهب:
- 1قال الحنفية ( : )4العاقلة :هم أهل الديوان ( ، )5إن كان القاتل من أهل
-------------------------------
( )1رواه عبد الرزاق في مصنفه (نصب الراية.)398/4 :
( )2الدر المختار ،397/5 :مجمع الضمانات للبغدادي :ص ،172نظرية الضمان للؤلف :ص 32
وما بعدها.
( )3قواعد الحكام ،165/2 :نظرية الضمان للمؤلف :ص 336وما بعدها.
( )4الدر المختار 453/5وما بعدها ،البدائع 255/7 :وما بعدها ،تبيين الحقائق 177/6 :ومابعدها،
الكتاب مع اللباب 178/3 :وما بعدها.
( )5الديوان :اسم للدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند وعددهم وعطاؤهم .وكان عمر أول من دون
الدواوين في العرب .وكانت الدواوين السلطانية في عهد عمر أربعة أقسام :ديوان الجيش أو الجند،
وديوان الخراج والجزية ،وديوان الولة ،وديوان بيت المال (الحكام السلطانية للماوردي :ص ،199
تحرير الحكام في تدبير أهل السلم لبن جماعة :ص .)138
( )7/636
الديوان ،وهم الجيش أو العسكر الذين كتبت أساميهم في الديوان :وهو جريدة الحساب .أو هم المقاتلة
من الرجال الحرار البالغين العاقلين ،أي أهل الرايات واللوية ،تؤخذ من عطاياهم أو من أرزاقهم (
)1ل من أصول أموالهم .بدليل فعل عمر رضي ال عنه ،فإن الدية كانت على أهل النصرة ،وكانت
بأنواع :بالقرابة ،والحلف ،والولء ،والعقد ،فلما دوّن عمر الدواوين جعل العقل (الدية) على أهل
الديوان بمحضر من الصحابة رضي ال عنهم (. )2
وإن لم يكن القاتل من أهل الديوان ،فعاقلته :قبيلته وأقاربه ،وكل من يتناصر هو بهم؛ لنه يستنصر
بهم .فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسبا على ترتيب العصبات :القرب فالقرب،
فيقدم الخوة ثم بنوهم ،ثم العمام ثم بنوهم ،وأما من لم يكن له عاقلة كاللقيط والحربي أو الذمي الذي
أسلم فعاقلته بيت المال في ظاهر ا لرواية .والقاتل داخل مع العاقلة ،فيكون ـ كما تقدم ـ فيما يؤدي
مثل أحدهم؛ لنه هو الجاني ،فل معنى لخراجه ،ومؤاخذة غيره ،بل هو أولى بتحمل تبعة فعله.
ول يدخل في العاقلة آباء القاتل وأبناؤه ( )3ول الزواج؛ لنه ل يتحقق بهم الكثرة ،ول النساء
والصبيان والمجانين؛ لن تحمل العاقلة تبرع بالعانة ،وهؤلء ليسوا من أهل التبرع.
ول تتحمل العاقلة جناية العبد ،ولالعمد ،ول ما لزم صلحا ول اعترافا،
-------------------------------
( )1العطاء :ما يعطى للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين ،ل بقدر الحاجة ،بل بصبره
وعنائه في أمر الدين .والرزق :ما يفرض للجندي في بيت المال ،بقدر الحاجة ،في كل شهر ،أو
مياومة كالرواتب اليوم.
( )2راجع نصب الراية.398/4 :
( )3رد المحتار ،454/5 :وقيل :يدخل الباء والبناء.
( )7/637
لقول الشعبي السابق ذكره ،ولنه ل يتناصر بالعبد ،ولن القرار مقصور على نفس المقر ،فل يتعدى
إلى العاقلة ،إل أن يصدقوه في إقراره ،ولن ما لزم بالصلح عن دم العمد ،يجب في القصاص ،فإذا
صالح عنه الجاني كان بدله في ماله.
كما ل تتحمل العاقلة أقل من نصف عشر الدية ،وتتحمل نصف العشر فصاعدا كما تبين ،وما نقص
عن هذا المقدار ،فهو في مال الجاني.
- 2ومذهب المالكية :أن العاقلة هم أهل الديوان (وهو الدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند وعددهم
وعطاءاتهم وقدمهم) فإن لم يكن ديوان فالعصبة (ويبدأ بالخوة ،ثم بالعمام ،ثم من بعدهم من
القارب) ثم بيت المال إن كان الجاني مسلما؛ لن بيت المال ل يعقل عن كافر ،فإن لم يكن بيت مال،
فتقسط الدية على الجاني (. )1
- 3وقال الشافعية والحنابلة ( : )2العاقلة :هم قرابة القاتل من قبل الب ،وهم العصبة النسبية
كالخوة لغير أم والعمام ،دون أهل الديوان ،بدليل ما روى المغيرة بن شعبة رضي ال عنه أن النبي
صلّى ال عليه وسلم قضى في المرأة بديتها على عصبة القاتل (. )3
ويدخل عند المالكية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد :الباء والبناء خلفا لما قال الحنفية؛
لنهم أحق العصبات بميراث الجاني ،فكانوا أولى بتحمل عقله ،أي ديته.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير مع الدسوقي ،282/4 :الشرح الصغير 397/4 :وما بعدها ،القوانين الفقهية :ص
،347بداية المجتهد.405/2 :
( )2مغني المحتاج 95/4 :وما بعدها ،المهذب ،212/2 :المغني ،791-783/7 :كشاف القناع58/6 :
وما بعدها.
( )3رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي (نيل الوطار.)69/7 :
( )7/638
واستثنى الشافعية كالحنفية الصل من أب وإن عل ،والفرع من ابن وإن سفل؛ لنهم أبعاض الجاني،
فكما ل يتحمل الجاني الدية ل يتحمل أبعاضه وهم الباء والبناء.
وروى النسائي« :ل يؤخذ الرجل بجريرة (أي جريمة) ابنه» وفي رواية لبي داود في خبر المرأتين
اللتين اقتتلتا ،من هذيل ،السابق (« : )1وبرأ الولد» أي من العقل ،وقيس به غيره من البعاض.
وفيها أيضا « وبرأ زوجها » .ويقدم القرب فالقرب من العصبة :البنوة ،ثم البوة عند من يدخلهم
في العاقلة ،ثم الخوة ،ثم العمومة .وأعمام الب ثم بنوهم مقدمون على أعمام الجد ثم بنوهم.
ومن لم تكن له عاقلة أديت ديته من بيت المال ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :أنا وارث من ل وارث
له ،أعقل عنه وأرثه» ( . )2فإن فقد بيت المال فالواجب عند المالكية والشافعية على الجاني ،والجاني
أحد العاقلة؛ لن الدية عندهم تلزمه ابتداء ،تتحملها العاقلة .وليس عند الحنابلة على القاتل في هذه
الحالة شيء ،كما أنه ليس واحدا من العاقلة؛ لن الدية عندهم لزمت العاقلة ابتداء.
وتوزع الدية على أفراد العاقلة قريبهم وبعيدهم ،حاضرهم وغائبهم ،صحيحهم ومريضهم ،ولو هرما
وزمِنا وأعمى؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم قضى في امرأة بني لَحْيان التي توفيت بسبب العتداء
عليها وعلى جنينها بأن العقل على عصبتها ( ، )3كما أن النبي صلّى ال عليه وسلم في حادثة أخرى
قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها (. )4
ول تؤخذ الدية من فقير من العاقلة ول امرأة ول صبي ول زائل العقل؛ لن تحمل الدية للتناصر،
والمواساة ،والفقير ل يقدر على المواساة ،وغيره ليس من أهل النصرة.
ومن مات من العاقلة أو افتقر أو جُنّ قبل آخر الحول لم يلزمه شيء؛ لنه مال يجب في آخر العام
على سبيل المواساة ،فأشبه الزكاة.
-------------------------------
( )1رواه أبو داود عن جابر ،ونصه «إن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الخرى ،ولكل واحدة
منهما زوج وولد ،فجعل رسول ال صلّى ال عليه وسلم دية المقتول على عاقلة القاتلة ،وبرأ زوجها
وولدها» (نيل الوطار.)81/7 :
( )2أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان.
( )3متفق عليه من حديث أبي هريرة.
( )4رواه أحمد وأصحاب السنن إل الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
( )7/639
مصير نظام العواقل في الوقت الحاضر في رأي متأخري الحنفية :
إن نظام العواقل مستثنى من القاعدة العامة في تحمل كل مخطئ وزر نفسه ،ولكن دون أن يلزم
العاقلة شيء من ذنب الجاني أخرويا .والسبب في هذا الستثناء هو مواساة القاتل ومناصرته وإعانته
والتخفيف عنه ،ودعم أواصر المحبة واللفة والصلح بين أفراد السرة ،والحفاظ على حقوق
المجني عليه حتى لتذهب الجناية عليه هدرا إذا كان القاتل فقيرا ،وأغلب الناس فقراء ،فكان في ذلك
النظام عدالة ومساواة في المجتمع ،حتى ل يحرم أحد من التعويض بسبب فقر الجاني .ثم إن هذا
النظام فيه تقدير للباعث الذي يشاهد عند القاتل ،إذ لول استنصاره بأسرته واعتماده على قوتهم لتثبت
في المر مليا ،وصدرت أفعاله عن روية كاملة ووعي تام ،لذا اعتبر الفقه السلمي أن الجناية
الواقعة منسوبة ضمنا إلى كل فرد من أفراد العاقلة ،فأوجبت الدية عليهم جميعا ( . )1وكان بذل
المال من العاقلة بديلً عن النصرة التي كانت في الجاهلية ،حيث كانت القبيلة تمنع الجاني وتحميه
كيل يدنو منه أولياء القتل للخذ بالثأر.
-------------------------------
( )1راجع الجريمة والعقوبة لستاذنا محمد أبي زهرة :ص 423ومابعدها ،المسؤولية الجنائية
لستاذنا الشيخ محمود شلتوت :ص ،38التشريع الجنائي السلمي 198/2 :ومابعدها ،نظرية
الضمان للمؤلف :ص .298
( )7/640
وبالرغم من كل هذه المزايا ،فإن نظام العاقلة كان مناسبا للبيئة التي كانت فيه السرة الواحدة
متماسكة البنيان ،متناصرة فيما بينها على السراء والضراء .أما وإنه قد تفككت السر ،وتحللت عرى
الروابط بين القارب ،وزالت العصبية القبلية ،ولم يعد الهتمام بالنسب أمرا ذا بال ،فلم يبق بالتالي
محل لنظام العواقل ،لفقدان معنى التناصر بين أفراد السرة.
يرشد إليه أن نظام العاقلة تطور ـ في رأي الحنفية ـ من السرة إلى العشيرة ،فالقبيلة ،ثم إلى
الديوان ،ثم إلى الحرفة (( )1أو النقابة في عصرنا) ثم إلى بيت المال.
وبما أن نظام العشيرة قد زال ،وبيت المال قد تغير نظامه ،واختلف النظام الجتماعي عما كان عليه
في زمن العرب ،وفقدت عصبية القبيلة بعضهم لبعض ،وصار كل امرئ معتمدا على نفسه دون
قبيلته كما في النظام الحاضر ،فإن دية القتل الخطأ أو شبه العمد ،أصبحت في زماننا هذا واجبة في
مال الجاني وحده ،وقد نص عليه الحنفية ( . )2وهذا موافق لرأي أبي بكر الصم والخوارج الذين
يجعلون الدية على القاتل ل على العاقلة ،أخذا بعموم اليات والحاديث التي تقرر مبدأ المسؤولية
الفردية أو الشخصية عن الفعال ( . )3وهو أيضا منسجم مع رأي باقي المذاهب الذين قرروا وجوب
الدية على الجاني إذا لم توجد له عاقلة ولم يوجد بيت المال.
-------------------------------
( )1قال الحنفية :لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة (اللباب.)178/3 :
( )2الدر المختار ورد المحتار.456/5 :
( )3مذكرة تفسير آيات الحكام بالزهر.123/2 :
( )7/641
( )7/642
( )7/643
أما دية الخطأ فهي ـ كما تقدم في العمد ـ مخمسة ،أي تؤخذ أخماسا 20 :بنت مخاض ،و 20ابن
مخاض ،و 20بنت لبون ،و 20حقة ،و 20جذعة ،وهو مذهب الحنفية والحنابلة .وجعل المالكية
والشافعية عشرين بني لبون مكان «عشرين بني مخاض» .
واستدل كل من الفريقين برواية عن ابن مسعود (. )1
واتفق الفقهاء ( )2على أن دية الخطأ على العاقلة مؤجلة في ثلث سنين ،عملً بقضاء النبي صلّى ال
عليه وسلم بدية الخطأ على العاقلة ( ، )3وبفعل عمر وعلي رضي ال عنهما بجعل هذه الدية على
العاقلة في ثلث سنين (. )4
والتأجيل عند الحنفية يشمل ما تحمله العاقلة والجاني معا ،وأما عند الجمهور فيجب حالً كل ما ل
تحمله العاقلة؛ لنه بدل متلف ،فلزم حالً كقيم المتلفات .أما الذي تحمله العاقلة فيجب مواساة ،فلزم
التأجيل تخفيفا على متحمله غير الصلي.
والسبب في إلزام العاقلة الدية :أن جنايات الخطأ تكثر ،ودية الدمي كثيرة ،فاقتضت الحكمة إيجابها
على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل ،والعانة له تخفيفا عنه؛ إذ كان معذورا في فعله بسبب عدم
قصده ،وينفرد هو بالكفارة.
ول تتغلظ دية الخطأ عند الحنفية والمالكية .وتتغلظ عند الشافعية والحنابلة في حالت ثلث ،كما تقدم
في دية العمد.
وأما كفارة القتل الخطأ :فتجب في مال القاتل ،ول يشاركه في تحمل شيء منها أحد ( )5؛ لنه هو
المتسبب بها ،ولن الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني ،ول يكفر عنه بفعل غيره؛ لنها عبادة (. )6
واتفق الفقهاء على وجوب كفارة القتل الخطأ إذا لم يكن المقتول ذميا ول عبدا ،وأوجبها الجمهور
غيرالمالكية بقتل الذمي أيضا .وقال المالكية :ل تجب الكفارة في قتل الذمي؛ لنه مهدر الدم في
الجملة بسبب كفره.
وأما الحرمان من الميراث والوصية :فقد سبق الكلم عنه في عقوبة القتل العمد.
-------------------------------
( )1راجع نيل الوطار 76/7 :وما بعدها ،نصب الراية.360-356/4 :
( )2المغني 770/7 :وما بعدها.
( )3نيل الوطار 80/7 :وما بعدها.
( )4نصب الراية.399 ،334/4 :
( )5المغني ،92/8 ،771/7 :مغني المحتاج ،107/4 :البدائع ،252/7 :الدر المختار،277/5 :
الشرح الصغير 405/4 :وما بعدها.
( )6هذا ولم يبق في عصرنا بسبب إلغاء الرق إل صيام شهرين متتابعين كفارة عن القتل الخطأ؛ لن
المقصود من الرقبة هو العتق ،وال تعالى قال { فمن لم يجد } أي من لم يجد رقبة يحررها بأن لم
يملكها ول ما يتوصل به إليها من الثمن ،فعليه صيام شهرين متتابعين.
( )7/644
( )7/645
ويتصور الشافعية والحنابلة ( )1شبه العمد فيما دون النفس ،كأن يضرب رأس إنسان بلطمة ،أو
بحجر صغير ل يشج غالبا ،فيتورم الموضع إلى أن يتضح العظم .ويقولون« :ل قصاص إل في
العمد ،ل في الخطأ وشبه العمد» .وعقوبة شبه العمد عندهم كعقوبة الخطأ.
والكلم في هذا الفصل على نوعي الجناية على ما دون النفس عمدا أو خطأ في مبحثين:
المبحث الول ـ عقوبة الجناية العمدية على ما دون النفس :
الجناية العمدية على ما دون النفس :إما أن تكون على الطراف بقطعها أو تعطيل منافعها ،أوتكون
بإحداث جُرْح في غير الرأس وهي الجراح ،أو في الرأس والوجه وهي الشجاج.
والقاعدة المقررة في عقوبة هذه الجناية :هي ( )2أنه كلما أمكن تنفيذ القصاص فيه (وهو الفعل العمد
الخالي عن الشبهة) وجب القصاص ،وكل ما ل يمكن فيه القصاص (وهو الفعل الخطأ ،وما فيه
شبهة) وجب فيه الدية أو الرش.
وعلى هذا تكون ـ عقوبة إبانة الطراف (أو قطعها) :هو القصاص أو الدية والتعزير ،وعقوبة
تعطيل منافع العضاء (إذهاب معاني العضاء) في الواقع العملي :هو الدية ،أو الرش (. )3
وعقوبة الجراح والشجاج :القصاص أو الرش أو حكومة العدل (. )4
ففي هذا المبحث أربعة مطالب:
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،25/4 :كشاف القناع.638/5 :
( )2البدائع ،234/7 :تكملة فتح القدير.270/8 :
( )3الرش :هو المال الواجب المقدر شرعا في الجناية على ما دون النفس من العضاء.
( )4حكومة العدل :هي المال الذي يقدره القاضي بمعرفة الخبراء فيما ليس فيه مقدار محدد شرعا
كاليد الشلء ونحوها مما ذهب نفعه ،والجرح والتعطيل ونحوهما.
( )7/646
( )7/647
أما حالتا انعدام التكافؤ عند الحنفية :فهما الختلف في الجنس ،وعدم التماثل العددي ،فل قصاص
فيما دون النفس بين الرجل والمرأة ( )2؛ لن الطراف عندهم كالموال ،وإذا لم يتحقق التماثل بين
دية المرأة والرجل ،إذ أن ديتها نصف دية الرجل ،فل تماثل بينهما في دية الطراف ،وإذا انعدم
التماثل والمساواة بين أرشي المرأة والرجل ،امتنع القصاص بين طرفيها.
وإذا تعدد الجناة كأن قطعوا يد رجل أو أصبعه أوقلعوا سنه ل قصاص عليهم ،لعدم المماثلة بين
اليدي واليد ،والمماثلة فيما دون النفس شرط أساسي للقصاص .وعليهم دية الطرف المقطوع (. )3
وعند الجمهور :يقتص الرجل بالمرأة وبالعكس ،وتقطع اليدي الكثيرة باليد الواحدة.
وأما حالتا انعدام التكافؤ عند الجمهور :فهما الحرية والسلم كما في قصاص النفس.
فل قصاص بالقطع عندهم من الحر للعبد ،ويقطع العبد بالحر ،والعبد بالعبد .ويقول الحنفية في هذا
خلفا لمبدئهم في القصاص بالنفس :ل قصاص مطلقا بين الحر والعبد ،وبالعكس ،ول بين العبيد
أنفسهم ،لعدم التماثل ،أو للتفاوت في القيمة؛ إذ أن قيمة كل عبد تختلف عن قيمة غيره ( ، )4أي أن
الحرية وعكسها العبودية حالة ثالثة لمنع القصاص فيما دون النفس عند الحنفية.
ول قصاص عند الجمهور فيما دون النفس من المسلم للذمي الكافر ،ولكن يقطع الذمي بالمسلم عند
الشافعية والحنابلة ،لعدم التكافؤ في النفس ،ول يقطع الذمي بالمسلم عند المالكية؛ لن القصاص فيما
دون النفس يقتضي المساواة بين الطرفين ،ول مساواة بين المسلم والكافر مطلقا (. )5
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير والدسوقي.250 ،242/4 :
( )2تكملة فتح القدير ،271/8 :اللباب مع الكتاب.147/3 :
( )3تكملة فتح القدير ،280/8 :البدائع.299/7 :
( )4تكملة فتح القدير 271/8 :وما بعدها ،اللباب مع الكتاب.147/3 :
( )5الشرح الكبير للدردير ،250/4 :مغني المحتاج.25/4 :
( )7/648
- 3كون العتداء على ما دون النفس شبه عمد عند الشافعية والحنابلة :كأن يلطم شخص غيره فيفقأ
عينه ،أو يرميه بحصاة فيشل يده ،أو يحدث ورما ينتهي بموضحة ،فل قصاص عندهم في هذه
الحالة ،وإنما تجب الدية المقررة شرعا للعين أو اليد.
ويقتص من الجاني عند المالكية والحنفية في هذه الحالة؛ لن شبه العمد فيما دون النفس له حكم
العمد ،لتوافر صفة العتداء ،وما دون النفس يكفي فيه مجرد قصد العتداء ،والعتداء بأي آلة أمر
متصور ممكن ،بعكس القتل ،فل يكون إل بآلة مخصوصة ،كما بان سابقا.
- 4أن يكون الفعل تسببا عند الحنفية :فهم يشترطون للقصاص بالجناية على النفس أو ما دون النفس
أن تكون الجناية مباشرة ل تسببا كما ذُكر .ويخالفهم الجمهور فيه.
- 5أن تكون الجناية واقعة في دار الحرب عند الحنفية :فل قصاص عندهم في النفس أو ما دونها
على جناية وقعت في دار الحرب لعدم ولية المام عليها ،خلفا لباقي الئمة.
- 6تعذر استيفاء القصاص :يمتنع القصاص في النفس أو ما دونها عند الفقهاء إذا لم يمكن
الستيفاء؛ لن القصاص يتطلب المماثلة ،فإذا لم يتحقق التماثل فل قصاص ،وينتقل إلى الدية (. )1
فل تقطع إبهام اليد اليمنى ذات المفصلين من الجاني ،بقطعه إبهاما ذات مفصل واحد من المجني
عليه ،لكونها كانت مقطوعة المفصل الول قبل الجناية ،لعدم التماثل.
وأما الشروط الخاصة للقصاص في الجناية على ما دون النفس :فهي التي ترجع إلى أساس واحد،
وهو تحقيق التماثل .ومقتضاه تحقيق التماثل بين الجناية والعقوبة في أمور ثلثة :التماثل في الفعل،
والتماثل في المحل (أو الموضع والسم) والتماثل في المنفعة (أو الصحة والكمال) (. )2
-------------------------------
( )1البدائع 297/7 :وما بعدها ،المغني ،703/7 :كشاف القناع ،639/5 :المهذب 178/2 :وما
بعدها ،الشرح الكبير للدردير.250/4 :
( )2البدائع 297/7 :وما بعدها ،المغني :المغني ،703/7 :كشاف القناع.651-639/5 :
( )7/649