You are on page 1of 52

‫إحياء فقه السلف " ‪" 2‬‬

‫مة والسلطة "‬


‫"ال ّ‬
‫باتجاه الوعي والتغيير‬

‫تأليف‬
‫إبراهيم العسعس‬

‫الهداء‬
‫إلى …‬

‫ل صلى الله عليه وسلم القائل لقومه ‪" :‬‬ ‫الخلي ِ‬


‫ن الله ‪ ،‬كفـْرنا بكم وََبـدا بينـنا وبيـنكم‬‫ن من دو ِ‬ ‫مـا تعبدو َ‬
‫م ّ‬ ‫من ُ‬
‫كم و ِ‬ ‫إّنـا ُبرءآُء ِ‬
‫دهُ‪ ) " ..‬الممتحنة‪( 4 :‬؛ الذي‬ ‫العـداوةُ والبـغضاُء أبـدا ً حتى ُتـؤمنوا بالله وح َ‬
‫طم الصنام ‪.‬‬ ‫حمل الفأس وح ّ‬
‫ب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو ُيقـّلب بصَرهُ في‬ ‫الحبي ِ‬
‫ن إلههم عندما يجوعون‪،‬‬ ‫السماء وسط ثلثمائة وستين صنمًا‪ ،‬وقوم ٍ يأكلو َ‬
‫صّرا ً على تحريرهم من الخضوع لغير الواحد الحد‪.‬‬ ‫م ِ‬‫ُ‬
‫أبي ذر – رضي الله عنه – الصادق اللهجة ‪ ،‬وقد أصّر أن ُيسمع‬
‫قريشـا ً ما يسوؤها ‪...‬‬
‫حجر بن عدي – رضي الله عنه – الثابت على العهد عند أول انقلب‬
‫‪...‬‬
‫ة في حلق الظالمين ‪...‬‬ ‫ص ً‬‫سعيد بن جبير الذي كان غُ ّ‬
‫أحمد بن نصر الخزاعي القائم على بالمر بالمعروف ‪ ،‬والنهي عن‬
‫المنكر ‪...‬‬
‫العز بن عبد السلم ‪ ،‬سلطان العلماء ‪ ،‬وبائع الملوك ‪...‬‬
‫ابن تيمية ‪ ،‬الذي زرع ألغاما ً تنتظر التفجير ‪...‬‬
‫محمد بن عبد الوهاب ‪ ،‬وقد فجر بعض هذه اللغام ‪...‬‬
‫حسن البنا ‪ ....‬المودودي ‪ ....‬النبهاني ‪ ،‬وغيرهم ‪ ...‬لقد كان هدفكم أكبر‬
‫من هذا الواقع السلمي المتخلف ‪...‬‬
‫سيد قطب ‪ ،‬وقد دبت الحياة في كلماتك فلم تعد عرائس من شموع ‪...‬‬
‫ل الحالمين بدولةٍ للسلم قائمة على الحقّ والميزان ‪...‬‬ ‫‪ ...‬إلى ك ّ‬
‫إلى سلسلة الموحدين ‪ ،‬الذين يحترقون من أجل صياغة ُرؤاهم لتحيق‬
‫م المخلصين أصدق الحلم ‪ ،‬وأقربها إلى التحقيق ‪...‬‬ ‫دولة السلم ؛ إذ أحل ُ‬

‫إلى كل هؤلء أهدي كتابي ‪...‬‬

‫" المـقدمة "‬

‫ن الحمد لله ‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره ‪ ،‬ونعوذُ‬ ‫إ ّ‬


‫ه فل‬ ‫بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ‪ ،‬من يهده الل ُ‬
‫مضل له ‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له ‪ ،‬وأشهد أل إله إل الله‬
‫ده ورسوله صلى الله‬ ‫ن محمدا ً عب ُ‬
‫وحده ل شريك له ‪ ،‬وأشهد أ ّ‬
‫عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ً ‪.‬‬

‫أما بعد‪...‬‬

‫فيدوُر في العالم السلمي اليوم جدا ٌ‬


‫ل حاٌر حول تكفير الحاكم إذا‬
‫منقسمون بين‬ ‫س في ذلك ُ‬ ‫لم يحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى ‪ .‬والنا ُ‬
‫ن الله أطلقَ الكفَر على من لم يحكم بما أنزل‪ ،‬وبين ممتنٍع عن‬ ‫فر‪ ،‬ل ّ‬
‫مك ّ‬
‫ُ‬
‫التكفير إل إن تحقق من جحود من لم يحكم بشرع الله عز وجل ‪ ،‬وكأّنهم‬
‫م بالجحود!‬‫ينتظرون أن ُيصّرح الحكا ُ‬

‫ذرّية‪ُ ،‬أحادية النظرة‪ ،‬إذا علقت بشيٍء فإّنها تبقى تـلف‬‫مة ٍ َ‬


‫ولما كّنا من أ ّ‬
‫م وألصق بالمقصد‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ة الجوانب الخرى‪ ،‬التي قد تكون أه ّ‬ ‫مهمل ً‬ ‫وتدور حوله ُ‬
‫فقد حصرنا البحث في هذه المسألة الخطيرة في شخص الحاكم‪ ،‬وأهملنا‬
‫دراستها من الناحية النسانية الحقوقية‪ ،‬ومن ناحية واجبات الحاكم‬
‫مناطة به‪ ،‬والتي يؤدي التقصير بأدائها إلى عزله‪ ،‬ومن ناحية عدالة‬ ‫ال ُ‬
‫ت‬
‫ض المسلمين إثبا َ‬‫ة بع ِ‬‫الحاكم وأهليته لتولي الحكم‪ ،‬حتى لقد أصبحت غاي ُ‬
‫ن القضايا السابقة التي‬‫م له ذلك ارتاح وتوقف‪ ،‬وكأ ّ‬‫عدم ِ الكفر ! فإن ت ّ‬
‫ن العلماء بحثوا كثيرا ً من هذه المسائل‬
‫ت إليها ليست ذات بال‪ ،‬مع أ ّ‬‫أشر ُ‬
‫ل‬‫مسقطات ولية الخليفة )الحاكم(‪ .‬وكانت هذه الملحظة أو َ‬ ‫تحت عنوان‪ُ :‬‬
‫دافع لكتابة هذا البحث‪.‬‬

‫ن البحث في موضوع الحاكم فقد غايته‪ ،‬فأصبح هو الغاية! مع‬ ‫تأ ّ‬ ‫م لحظ ُ‬ ‫ث ّ‬
‫ُ‬
‫ن أصل الموضوع والدافع إليه هو مدى شرعيةِ حكم ِ من هذا حاله! وكانت‬ ‫أ ّ‬
‫هذه الدافعَ الثاني‪.‬‬

‫ن الحوار تر ّ‬
‫كـز بين‬ ‫تأ ّ‬
‫مها ـ فقد لحظ ُ‬
‫أما الدافعُ الثالث ـ وهو أه ّ‬
‫المسلمين على مشروعية الخروج على الحكام‪ ،‬وما يتعلق بذلك من‬
‫ل تام ٍ لمسألةٍ ينبغي أن ُتعاَلج قبل ذلك وهي مشروعي ُ‬
‫ة‬ ‫مسائل‪ ،‬مع إغفا ٍ‬
‫الحكم‪ ،‬أو مشروعية السلطة التي ُيبحث في مشروعية تغييرها!‬

‫مة بها‪ ،‬وحق الخيرة بتولية‬‫ة ال ّ‬ ‫ن موضوع السلطة وعلق َ‬‫وفي الحقيقة أ ّ‬
‫الحاكم وعزله لم ينل ما يستحقه من اهتمام ٍ وبحث ونشر‪ .‬فقد انغلق‬
‫ث التي‬ ‫مم ّ‬
‫ل‪ .‬والبحا ُ‬ ‫العلماُء على بعض القضايا ُيخاطبون بها المة بتكرار ُ‬
‫ُ‬
‫دم أغلبها على شكل رسائل‬ ‫جزت في هذا الموضوع أبحاث أكاديمية‪ ،‬قُ ّ‬ ‫أن ِ‬
‫علمية‪ ،‬لذلك فهي بعيدة عن متناول مجموع الناس‪.‬‬

‫ف لذلك فإن الكثيرين قد‬ ‫مك ْل ِ ٌ‬


‫ن التحدث في هذا الموضوع ُ‬
‫والواضح أ ّ‬
‫اجتنبوه‪ ،‬وفي أحسن الحوال بحثوه بحثا ً بعيدا ً عن الواقع‪.‬‬

‫ت تكشف الواقع‪ ،‬وُتمهد ُ للتغيير‪ ،‬ولكن‬‫إّننا بحاجة في هذا الباب لدراسا ٍ‬


‫بتأصيل شرعي يدور مع الدليل حيث دار‪ .‬فالكتب التي تتحدث عن الواقع‬
‫ت هذه‬‫ي‪ ،‬وعلى هذا المنهج أقم ُ‬ ‫كثيرةٌ لكن ينقص أكثَرها التأصي ُ‬
‫ل الشرع ّ‬
‫الدراسة‪.‬‬

‫عد ّةُ مظاهر‪،‬‬


‫إننا نعيش في أزمة ‪ ....‬ل خلف على ذلك‪ .‬ولهذه الزمة ِ‬
‫م معالم هذه‬‫ن فساد الحكام ليس أه َ‬ ‫وخلفا ً لما يعتقد كثيٌر من الناس فإ ّ‬
‫مـل الحكومات ـ وحدها ـ‬ ‫الزمة! وإن كانوا من أبرز مظاهرها‪ ،‬فأنا ل أح ّ‬
‫مـل المة ِوزر هذا الوضع البائس‪ ،‬ل لسلمة النظمة‪،‬‬ ‫ت َب َِعة حالنا‪ ،‬ولكني أح ّ‬
‫ن المة هي التي أفرزت هذه النظمة‪ ،‬وهي التي رضيت باستعبادها‪،‬‬ ‫بل ل ّ‬
‫ة للستعباد فاستعبدتها ‪.‬‬ ‫ً‬
‫وكل الذي فعلته النظمة أنها وجدت شعوبا قابل ً‬
‫ل الزمة في يد المة‪ ،‬وعلى وجه الخصوص في يد‬ ‫ن مفاتيح ح ّ‬
‫وهذا يعني أ ّ‬
‫علماء المة‪.‬‬

‫مة ل تعرف أنها في أزمة‪ ،‬فهي‬ ‫ن ال ّ‬


‫والمة بوعيها ُتنهي أزمتها‪ ،‬لك ّ‬
‫ُ‬
‫م تجهل حقوقها‪ ،‬وتجهل بأنها بل حياة‪ ،‬إذ العبد‬ ‫تجهل حقيقة عقيدتها‪ ،‬ومن ث َ ّ‬
‫ن العبودية تسلب المواطن انتماءه‪ ،‬فهي‬‫ميت! وتجهل بأنها بل انتماء‪ ،‬ل ّ‬
‫ة ‪ ،‬مسلوبة الرادة!‬
‫لذلك بل وطن! وتجهل بأنها بل كرامة‪ ،‬لنها مقموع ٌ‬

‫ي‬
‫وإذن ل ُبـد ّ من التغيير‪ ،‬ول تغيير دون إصلح‪ ،‬ول إصلح بل وعي‪ .‬فالوع ُ‬
‫ث الوعي في المة‪ ،‬ومن أهم القضايا التي‬
‫هو المطلوب‪ ،‬وواجب العلماء ب ّ‬
‫يجب على المة أن تعيها‪:‬‬

‫الوعي بواقعها‪ ،‬الوعي بدينها‪ ،‬الوعي بضوابط علقتها بالسلطة‪ ،‬وهذا هو‬
‫هدف البحث ‪ .....‬وصف الواقع ـ كما هو ـ دون تجميل وتزوير‪ ،‬فإن تزوير‬
‫الحقائق‪ ،‬وتجميل القبائح ُيشوه نفسية النسان‪ .‬وأريد لفت النتباه إلى‬
‫بعض مبادئ السلم في الحكم‪ .‬والمقصود تعريف المسلم ـ بعد أن يعرف‬
‫حقه في الشريعة لتسهل المقارنة عليه ـ بأنه عبد لغير الله تعالى كي‬
‫يسعى إلى تحرير نفسه‪ .‬فإن كون النسان عبدا ً ـ دون أن يشعر بذلك ـ ل‬
‫يعني أن يطالب بتحرره! فل بد من إفهامه بأنه عبد‪ ،‬وأن عليه أن يسير‬
‫باتجاه الحرية الحقيقية‪.‬‬

‫ن بلل ً المسلم لم يختلف عن بلل المشرك إل بهذه؛ بإدراكه بأنه كان‬ ‫إ ّ‬


‫ً‬
‫ن هذا اغتصاب لحقه‪ ،‬وكونه صار مسلما يعني أنه صار‬ ‫ً‬
‫عبدا لغير الله‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن هبل ً خسر‬‫ذب! فالذين عذبوه لم يعذبوه ل ّ‬‫حّرا ً على الحقيقة‪ .‬ولهذا عُ ّ‬
‫ن‬‫ن سـّيده خسر عبدًا! وهما قضيتان تلتقيان في المآل‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ساجدًا‪ ،‬بل ل ّ‬
‫رفضك السجود َ للصنم‪ ،‬ل معنى له إل أنك أصبحت حـّرا ً من العبودية لغير‬
‫الله سبحانه‪.‬‬

‫إنني أطالب بالحياة الفضل‪ ،‬يعني بالحياة السلمية الحقيقية‪ ،‬وأنادي بأن‬
‫ل مخرج من هذا البلء الذي نحن فيه إل بإعادة الحكم بشرع الله‪:‬‬

‫مـي حول قلبي كالنطاق‬


‫ت *** وه ّ‬
‫وما ٍ‬
‫ح مسـ ّ‬
‫أنادي والجرا ُ‬

‫ن المعرفة التي ل تكشف الواقع‪،‬‬ ‫أحاول في هذا البحث كشف الواقع‪ ،‬فإ ّ‬
‫ب في مصلحة المة‪ .‬ومن أجل‬ ‫وإنما تكتفي بتبريره وتزييفه‪ ،‬معرفة ل تص ّ‬
‫كزت على الدراك أكثر من تركيزي على تكثيف المعلومات‪ ،‬لنني‬ ‫ذلك ر ّ‬
‫ي حرية المسلم من العبودية لغير الله تعالى‪ ،‬وهذه‬ ‫ب عين ّ‬
‫أكتب وُنص َ‬
‫الحرية ل ُتنال إل بتنمية الدراك‪.‬‬

‫ب للـتـغـيـيـر‪ ،‬ل لرفوف المكتبات‪ ،‬وشأن هذه الكتابة التركيز‬


‫م إّنني أكت ُ‬
‫ث ّ‬
‫على المفاهيم وتكرارها‪ ،‬ولذلك سيجد القارئ تكرارا ً لمجموعة من‬
‫المفاهيم‪ ،‬ولي في منهج القرآن العظيم القائم على تركيز أصول العقيدة‬
‫من خلل تكرارها السوة الحسنة‪ .‬وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم مع صحابته رضي الله عنهم‪ ،‬فقد كان عليه الصلة والسلم يؤكد‬
‫ب أصحابه رضوان الله عليهم حتى‬ ‫على الحقائق والمبادئ فُيشربها قلو َ‬
‫تجري في عروقهم‪.‬‬
‫ن الله ل يغير ما‬
‫ول حقيقي في الذات )إ ّ‬ ‫إن التغيير يقوم على إجراء تحـ ّ‬
‫م إل عن طريق‬ ‫بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( الرعد‪ .13 :‬وهذا ل يت ّ‬
‫التربية على المفاهيم التي ُتنشئ الوعي‪ ،‬وتؤدي إلى رفض الباطل‪،‬‬
‫ة إذا كانت المفاهيـم ـ كمفاهيم بحثنا ـ‬‫والتربية تقتضي تكرارًا‪ ،‬خاص ً‬
‫مجهولة أو منسية‪.‬‬

‫ن ما في هذا البحث من طرح مباشر‪ ،‬وصراحة في‬ ‫إّنني على يقين بأ ّ‬


‫من أعجبه دور طبيب‬ ‫ل سلبية من بعض َ‬ ‫السلوب‪ ،‬سينجم عنه ردود ُ أفعا ٍ‬
‫ن ما‬
‫ل شيء على ما يرام ‪ .‬إ ّ‬‫نك ّ‬
‫التخدير‪ ،‬والتربيت على الكتاف لُيوهم أ ّ‬
‫ل غير نسبة ضئيلة من النقد الذي نحتاج‬ ‫في هذا البحث من نقدٍ ل ُيشك ّ ُ‬
‫ن من النقد في مقابل هذا الشلل العام‪ ،‬ومن تزوير‬ ‫إليه‪ ،‬فنحن نفتقر لطنا ٍ‬
‫مـتـفشي‪.‬‬ ‫الحقائق ال ُ‬

‫وما أكتبه ل يزيد عما ُتظهره المرآةُ حين ينطبع عليها الواقعُ كما هو‪ ،‬فلن‬
‫أستطيع إذن إل أن أكتب الذي كتبت‪ ،‬لّنه مرآةُ هذا الواقع‪ ،‬فليتغير الواقع‬
‫ن الكتابة في هذا الموضوع‬ ‫كيما تعطي المرآةُ صورةً أخرى‪ .‬ول ش ّ‬
‫ك في أ ّ‬
‫مكِلفة‪ ،‬لكنه الميثاق الذي أخذه الله سبحانه على أهل العلم‬ ‫ة ُ‬
‫شائك ٌ‬
‫ه للناس ول تكتمونه " ) آل عمران‪.(187 :‬‬ ‫وطلبه‪ " ،‬لُتـبـّيـُنـن ّ ُ‬

‫ي‬
‫ـنام ُتـرعى وأمُرها مأت ّ‬ ‫ب أن ُتكّبـر والصـ‬
‫إّنـما الصع ُ‬

‫معول ً يهدم الصنام‪ ،‬وُيعلي‬‫ي القدير أن يكون ما نكتبه ِ‬


‫ه العل ّ‬
‫ونسأل الل َ‬
‫ُ‬
‫ل من يقرأه‪.‬‬ ‫ن التكبير‪ ،‬ونسأله سبحانه أن ينـتـفع به ك ّ‬ ‫شأ َ‬
‫" كلمة ل بد منها "‬

‫هذا هو الكتاب الثاني من سلسلة " إحياء فقه السلف " أقدمه في‬
‫إطار السلسلة تحقيقا لحياء المنهج ‪ ،‬وتصويب مسيرته ‪.‬‬

‫وقد يتساءل بعض القراء عن علقة هذا البحث بفقه السلف !‬

‫وقد أعذر كثيرا من المتسائلين ‪ ،‬بسبب ما يرونه من ممارسات حصرت‬


‫فقه السلف في قضايا محددة ‪ ،‬فصاروا ما أن يسمعوا بالسلف حتى‬
‫يسرح بهم الخيال إلى فقه دورات المياه ‪ ،‬وفقه الملبس وقياسها ‪،‬‬
‫وتحقيق المخطوطات ‪ ،‬التي كثير منها علمها ل ينفع ‪ ،‬وجهلها ل يضر ‪.‬‬

‫وكان من آثار هذا الفهم أن تركز في الذهان انعدام العلقة بين فقه‬
‫دميهم يصرحون – بافتخار – بهذا‬‫مق ّ‬
‫السلف وبين الواقع ‪ ،‬خاصة أن بعض ُ‬
‫الفهم ‪.‬‬

‫ولذلك فقد رأيت ‪ ،‬ورأى بعض من أطلعتهم على البحث ‪ ،‬أنه من‬
‫الضروري التنبيه على العلقة المتينة بين هذا البحث ‪ ،‬وبين فقه السلف ‪،‬‬
‫ة لهذا الشكال المتوقع ‪.‬‬
‫إزال ً‬

‫إن هذا البحث تحقيق لهدف من أهداف هذه " السلسلة " ‪ :‬وهو‬
‫إخراج منهج السلف من دائرة البحث في قضايا محددة ‪ ،‬ومن الصرار‬
‫على إعادة الكتب القديمة ‪ ،‬واجترار المعلومات دون وعي ‪ ،‬إلى البحث‬
‫في كل القضايا والمسائل ‪ .‬وقضية هذا البحث من أهم القضايا التي يجب‬
‫بحثها ‪ ،‬وبيان موقف منهج السلف منها ‪ ،‬خاصة وأن الجهود تنصب لتحميل‬
‫فقه السلف في هذه المسألة ما هو بريء منه ‪.‬‬

‫" حقائق "‬


‫الحقيقة الولى‪:‬‬

‫ج عن خلطهم بين‬‫ُيسيطر على المسلمين ورعٌ ليس في مكانه‪ ،‬نات ٌ‬


‫الدوائر؛ فهم يتورعون عن الكلم فيمن توّلى للمسلمين ِولية كورعهم عن‬
‫ن‬‫ن الحقيقة التي يجب أن تكون معلومة هي أ ّ‬ ‫الكلم في بقية الناس! ولك ّ‬
‫البحث في أفراد المسلمين وتصنيفهم غير البحث في هؤلء‪.‬‬

‫مـقّرب الورع‪ ،‬كما تسع‬ ‫ن ال ُ‬


‫سعُ المؤم َ‬‫ن دائرة السلم دائرةٌ واسعة‪ ،‬ت َ َ‬
‫إ ّ‬
‫صر العاصي‪ .‬وللتعامل مع هذه‬ ‫المسلم المقتصد‪ ،‬كما تسع المسلم المق ّ‬
‫دقة في تصنيفهم ُقربا ً أو بعدا ً من‬ ‫الصناف فقه يراعي جانب الستر وال ّ‬
‫مركز الدائرة‪ ،‬مع المحافظة على إبقائهم داخل الدائرة‪.‬‬

‫ي الحكم دائرة ضيقة ل تحتمل غير المسلم‬ ‫لكن منصب الولية وكرس ّ‬
‫دل الذي تتوفر فيه شروط أهلية تولي الحكم‪ ،‬فل ينبغي إذن الخلط بين‬
‫الع ْ‬
‫أفراد المسلمين‪ ،‬وبين من تولى للمسلمين ولية‪.‬‬

‫وثمرة هذا التفريق تظهر فيما يلي‪ :‬أن الورع الذي نمارسه مع أفراد‬
‫المسلمين في مسألة التكفير والتفسيق ل علقة له بالتعامل مع "الحاكم"‬
‫لن البحث هنا ل يتعلق بشخص الحاكم‪ ،‬كما هو الحال مع أفراد‬
‫المسلمين‪ ،‬وإنما يتعلق بصلحيته لتولي الحكم‪ ،‬وهذه الصلحية منضبطة‪،‬‬
‫فقد ربطها الشرع بصفات ظاهرة‪.‬‬

‫ثم إننا بهذه الحقيقة ُنخرج البحث من الدائرة الضيقة التي وضعه فيها‬
‫المسلمون‪ ،‬وهي تكفير الحاكم‪ ،‬إلى آفاق أرحب‪ ،‬وهي‪ :‬مدى تحقق‬
‫شروط الصلحية التي يجب توفرها في الحاكم‪ .‬لقد ضّيق الباحثون واسعا ً‬
‫بحصرهم القضية في تكفير الحاكم‪ ،‬فأضاعوا أوقاتهم فيما ل طائل تحته‪،‬‬
‫وكان بإمكانهم النطلق بالقضية من ضيق البحث في الشخص‪ ،‬إلى سعة‬
‫البحث في السلطة‪ ،‬والبحث في كفر الحاكم أو عدمه أحد أبحاثها وليس‬
‫كل أبحاثها‪ ،‬فهناك‪ :‬البحث في تحقق شروط أهلية الولية في الحاكم‪،‬‬
‫واستمرار هذه الشروط‪ ،‬وهناك تطبيق الحكام الشرعية‪ ،‬واللتزام‬
‫بالسلم عقيدة وشريعة ‪ ...‬إلى غير ذلك كما سيأتي لحقا‪.‬‬

‫الحقيقة الثانية‪:‬‬

‫ة السابقة إلى الحقيقة التالية وهي‪ :‬أن البحث في تصنيف‬ ‫تقودنا الحقيق ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫"الحاكم" ليس بحثا نظريا ينتهي عند إطلق الوصف المناسب في الحاكم‬
‫ويكتفي به‪ ،‬ولكنه يؤدي إلى نتيجة مهمة‪ ،‬وهي‪ :‬مشروعية عزل الحاكم‬
‫وتغييره‪ ،‬بمعنى أن البحث في موضوع السلطة عملي‪ ،‬وليس بحثا ً ترفيًا‪،‬‬
‫والذي أراه أنه أصبح عند كثير من الناس بحثا ً نظريا‪ ،‬وذلك لنه يبدأ‬
‫بالحاكم وينتهي عنده‪ ،‬ولهذا فإنه ل يشحن نفسًا‪ ،‬ول يوقد ذهنًا‪.‬‬
‫ن البحث في هذه القضية‪ ،‬أي السلطة ومشروعيتها والخروج عليها‬ ‫إ ّ‬
‫وعلقتها بالمة بحث في مصير المة‪ ،‬ومستقبل أجيالها‪ ،‬وعلى المة أن‬
‫تفقه أحكامها‪ ،‬وتربطها بالواقع‪ ،‬وتجاهد من أجل ممارسة حقوقها‪ .‬إن فقه‬
‫هذه المسألة من أوجب الواجبات التي يجب على المسلمين التعب وبذل‬
‫ن أي حصرٍ للقضية في الطار النظري تمييع‬‫الوسع في سبيل تحقيقها‪ ،‬وإ ّ‬
‫للحقائق‪ ،‬وتشويه للشريعة‪.‬‬

‫الحقيقة الثالثة‪:‬‬

‫ما الذي جاء السلم لتحقيقه؟‬

‫ه سبحانه وتعالى رسوَله من أجله هو‬ ‫ن الهدف السمى الذي أرسل الل ُ‬ ‫إ ّ‬
‫تعبيد ُ الناس لربهم سبحانه‪ ،‬قال الله عز وجل‪" :‬وما خلقت الجن والنس‬
‫إل ليعبدون" )الذاريات‪ .(56 :‬والعبادة في حقيقتها تجريد ُ خضوع النسان‬
‫لربه سبحانه‪ ،‬وتحرير له من الخضوع والخنوع لسيطرة كل ما عدا الله‬
‫ن بإيمانه بها من‬
‫ص النسا َ‬‫تعالى‪ ،‬وهذه حقيقة "ل إله إل الله"‪ ،‬فهي ُتخل ّ ُ‬
‫أسباب الذل والعبودية؛ عبودية النسان للنسان‪.‬‬

‫ن الصراع بين اليمان والكفر‪ ،‬بين النبياء وقوى الجاهلية‪ ،‬هو في‬
‫وإ ّ‬
‫حقيقته صراع على حقّ الله تعالى في أن يكون آمرا ً ناهيا ً في الرض‪،‬‬
‫ك في‬‫"وهو الذي في السماء إله وفي الرض إله" )الزخرف‪ ،(83 :‬ول ش ّ‬
‫ن حقيقة العبودية لله تعالى‪ ،‬وحقيقة دعوة النبياء لن تتحقق إل بسلب‬ ‫أ ّ‬
‫البشر المتسلطين سيادتهم على الناس‪ ،‬وتجّبرهم بهم‪ ،‬ورد ّ السيادة لله‬
‫وحده‪.‬‬

‫ن مثل‬
‫لذلك فقد أمر الشرع بإقامة دولةٍ لتحقيق هذه الغاية العظيمة‪ .‬ل ّ‬
‫هذه الغاية ل تتحقق في الحياة من خلل السلوك الفردي‪ ،‬بل تحتاج‬
‫لسلطة تحمي التوحيد وتـنشره‪ ،‬وُتطبق الحدود بقوة السلطان‪ .‬قال ابن‬
‫تيمية رحمه الله‪" :‬جميع الوليات في السلم مقصودها أن يكون الدين‬
‫كله لله‪ ،‬وأن تكون كلمة الله هي العليا‪ ،‬فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق‬
‫الخلق لذلك‪ ،‬وبه أنزل الكتب‪ ،‬وبه أرسل الرسل‪ ،‬وعليه جاهد الرسول‬
‫والمؤمنون" )الفتاوى‪.(61 / 28 :‬‬

‫ب التوحيد‪ ،‬وُتعطل تطبيق‬


‫ة على أحكام البشر‪ ،‬تحار ُ‬‫فإذا كانت الدولة قائم ً‬
‫ف ضمانه‪ ،‬ولم يـبق أيّ معنى لوامر‬‫الحكام انهدم البناء‪ ،‬وفقد الهد ُ‬
‫الشرع‪ ،‬وِلما جاء لتحقيقه‪.‬‬

‫ن أي نظام ل يقوم على أساس السلم‪ ،‬فل‬ ‫وفائدة هذه الحقيقة أن ُيعلم أ ّ‬
‫هـَرمه أتـقى‬
‫حرمة له في الشرع‪ ،‬حتى لو كان يقبع على قمة َ‬ ‫قيمة له‪ ،‬ول ُ‬
‫الخلق وأعلمهم وأعدلهم‪.‬‬

‫الحقيقة الرابعة‪:‬‬
‫رع‬‫ن هذا الواقع المتمثل بتحييد شرع الله تبارك وتعالى‪ ،‬واستبداله بش ٍ‬ ‫إ ّ‬
‫ة في العصور‬ ‫غيره‪ ،‬أمر لم تعهده المة من قبل‪ ،‬ولم يتصوره الئم ُ‬
‫السالفة‪ ،‬ولذلك لم يرد في كلمهم إل على سبيل التـنظير! لقد عرف‬
‫متسلطين‪َ ،‬فجرة‪َ ،‬فسقة‪ ،‬ظالمين‪ ،‬لكنه لم يعرف حكوم ً‬
‫ة‬ ‫تاريخنا حكاما ً ُ‬
‫حت الشريعة جانبًا‪ ،‬واستبدلتها بشريعة أخرى‪.‬‬ ‫ن ّ‬

‫ة زمن التـتار الذين فرضوا على المة‬ ‫ولعل الحالة التي مّرت بها الم ُ‬
‫شريعة " الياسق " هي أقرب ما يكون إلى حالتنا اليوم‪ ،‬لذلك فإن ابن‬
‫تيمية رحمه الله أول من تكلم في مثل هذا الواقع‪ .‬فقد سئل رحمه الله‬
‫عن مدينة اسمها "ماردين" أهلها مسلمون‪ ،‬والحكام التي تعلوها أحكام‬
‫كفر‪ ،‬فأفتى رحمه الله بأنها دار مركبة ؛ ليست دار حرب ول دار سلم‪،‬‬
‫وقرر حرمة إعانة من يقوم على مثل هذه الدار‪ ،‬قال‪" :‬وإعانة الخارجين‬
‫عن شريعة دين السلم محرمة" )الفتاوى‪،(24 /28 :‬فما هي ثمرة هذه‬
‫الحقيقة؟ هذا ما سُتـبـينه الحقيقـتان التاليتان‪ .‬ولكن قبل أن ننـتـقل إليهما‬
‫فلنؤكد القاعدة التالية‪ ،‬كي تكون على البال أثناء التقدم في البحث‪ .‬وهي‪:‬‬
‫إن الكلم في هذه الحقيقة وما يليها مبني على أصلين‪:‬‬

‫الول‪ :‬المعرفة بحال السلطة اليوم وواقعها‪ .‬الثاني‪ :‬معرفة حكم الله‬
‫تعالى في مثل هذا الحال‪.‬‬

‫الحقيقة الخامسة‪:‬‬

‫النصوص التي تأمر بالسمع والطاعة‪ ،‬وتدعو المة إلى الصبر على‬
‫الحكام إذا لحظت بعض المخالفات‪ ،‬وفيما أحبت أو كرهت‪ ،‬مثل قوله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪" :‬على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره‪ ،‬إل‬
‫أن يؤمر بمعصية" )رواه أحمد ‪ 2/142‬عن ابن عمر بسند صحيح(‪ .‬وقوله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪" :‬إنكم ستلقون بعدي أثرة‪ ،‬فاصبروا حتى تلقوني‬
‫على الحوض" ) متفق عليه‪ ،‬البخاري ح ‪.(757 ،433‬‬

‫ة بالصبر‪ ،‬وعدم المبادرة‬


‫ث الم َ‬
‫ففي مثل هذه الحالت فقط تأمر الحادي ُ‬
‫إلى خلع الحاكم دون ضوابط وقيود وإجراءات معينة‪.‬‬

‫الحقيقة السادسة‪:‬‬

‫ن واقعنا مختلف عن الواقع‬


‫وهذه حقيقة أخرى تتعلق بما سبق‪ ،‬وهي أ ّ‬
‫الذي وصفه علماؤنا السابقون‪ ،‬وأفتوا فيه‪ .‬ومشكلة بعض العلماء أنهم‬
‫ُيلحقون واقعنا بذلك الواقع‪ ،‬ويتعاملون مع حكام هذه اليام كما تعامل‬
‫المتقدمون مع حكامهم‪ ،‬وُيسقطون فتاواهم التي وصفت زمانهم على‬
‫زماننا!‬

‫ن علماء السلف عندما اختلفوا في مشروعية الخروج على حكام زمانهم‬ ‫إ ّ‬


‫ف أو ظلم أو فسق‪ ،‬لكنهم على‬‫متلبسين بانحرا ٍ‬
‫إنما اختلفوا في حكام ُ‬
‫ي‬
‫رأس حكومة تحكم بالسلم‪ ،‬وتخضع لحكام الشريعة‪ ،‬ول ترى أفضلية أ ّ‬
‫شريعة على شريعة القرآن‪ .‬وبهذا يظهر خطأ من ادعى الجماع على عدم‬
‫جواز الخروج! وهو ادعاء منقوض من وجهين‪:‬‬

‫الول‪ :‬دعوى الجماع باطلة‪ ،‬وقد رد ّ ابن حزم رحمه الله هذه الدعوى‬
‫بنقله قول الجمهور القائلين بخلفه! ول أطيل بنقل كلمه‪ ،‬فمن أحب‬
‫فليراجع كتاب الفصل في الملل والهواء والنحل ‪. ( 28 -19/ )5 .‬‬

‫ن الستدلل بالجماع ليس في‬ ‫الوجه الثاني‪ :‬ما سبق وقررناه‪ ،‬من أ ّ‬
‫م على واقع‬ ‫مدعى ـ ت ّ‬ ‫قق‪ ،‬فإجماعهم ـ ال ُ‬ ‫محّله‪ ،‬لن المناط غير متح ّ‬
‫مختلف عن واقعنا تمامًا! وإذن فهي مقارنة لم تراع اختلف الواقع! ولقد‬
‫ن لهم ولية صحيحة‪،‬‬ ‫أجرى العلماء تصرفات الحكام البغاة وأمثالهم‪ ،‬ل ل ّ‬
‫فـذ‬
‫ه عليه‪" :‬وقد َيـن ُ‬ ‫بل لعتبار آخر‪ ،‬قال العّز بن عبد السلم رحمة الل ُ‬
‫التصرف العام من غير ولية‪ ،‬كما في تصرف الئمة البغاة‪ ،‬فإنه ينفذ مع‬
‫القطع بأنه ل ولية لهم‪ ،‬وإنما نفذت تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة الرعايا"‬
‫)قواعد الحكام في مصالح النام ‪.(1/62‬‬

‫الحقيقة السابعة‪:‬‬

‫ن‬
‫وهي حقيقة تاريخية مهمة‪ ،‬في بيانها تجلية لهذا الموضوع الخطير‪ .‬إ ّ‬
‫فتاوى كثير من أهل العلم بالرضا بولية الحكام الظلمة أو الفسقة‪ ،‬أو‬
‫ولية المتغّلب أو ولية من تولى بعهد‪ ،‬لم يكن قبول ً منهم لولية هؤلء‪ ،‬ول‬
‫ف‬
‫ن الذي دفعهم لمثل هذه الفتوى خو ُ‬ ‫بيانا ً لحكم شرعي مضطرد ‪ .‬إ ّ‬
‫الفتنة‪ ،‬وانتشار القـتل في المة ‪ .‬فالمنع طارئ وليس بناء على دللة‬
‫النصوص المتعلقة بهذا الموضوع‪ .‬ول ُيستبعد أن يكون بعض العلماء قد آثر‬
‫ل رأيا ً لعالم‪ ،‬وليست نصًا‪،‬‬
‫ن الفتوى تظ ّ‬
‫السلمة فأفتى بما أفتى به! على أ ّ‬
‫جة فيها إل بمقدار قوة دليلها‪.‬‬
‫ح ّ‬
‫لذا فإّنه ل ُ‬

‫ض العلماء على عاتقهم مهمة التـنسيق بين الحياة السياسية‬‫لقد أخذ بع ُ‬


‫ضهم عن شرعية بعض‬ ‫السائدة في عصرهم وبين الشريعة‪ .‬والذي كتبه بع ُ‬
‫النحرافات‪ ،‬مثل ولية التغلب‪ ،‬وولية العهد‪ ،‬لم يكن إل وصفا للواقع‪،‬‬
‫ومجاراة له‪ .‬وماذا كانوا يملكون غير ذلك؟! وهم يعيشون في ظل حكام‬
‫تحكموا في المة؛ إما عن طريق الغلبة والقهر‪ ،‬وإما عن طريق الوراثة‪،‬‬
‫فاضطروا لتسويغ واقعهم السياسي السيئ هروبا ً من المواجهة مع‬
‫السلطة‪ ،‬وتجنبا ً للفتنة! إذن ما كان ينبغي أن تتحول الفتاوى المتعلقة‬
‫بظروف‪ ،‬والمقترنة بزمن معين إلى أصل شرعي يقاس عليه‪.‬‬

‫مـلزمة ُتستعمل‬‫وما كان ينبغي أن تتحول فتاوى الضرورة إلى نصوص ُ‬


‫لتسكين المسلمين عن المطالبة بالتغيير‪ ،‬وبحقهم في الحياة الكريمة‪.‬‬

‫سـني بطابع التسويغ‬ ‫ل ذلك إلى انطباع الفقه السياسي ال ّ‬ ‫لقد أدى ك ّ‬
‫للواقع والرضا به! من خلل تحميل النصوص ما ل تحتمل! وإل فما معنى‬
‫الكلم المنسوب إلى الحسن البصري رحمه الله‪ ،‬وحاشاه من قوله‪ ،‬ولكّنه‬
‫ك أنه ساهم في‬ ‫م موجود في الكتب‪ ،‬متداول على اللسنة‪ ،‬ل ش ّ‬ ‫كل ٌ‬
‫ب الله‪ ،‬فل تدافعوا عذاب الله‬ ‫ن الحجاج عذا ُ‬‫تشكيل العقل المسلم‪ " :‬إ ّ‬
‫ن الله يقول‪" :‬ولقد‬ ‫بأيديكم‪ ،‬ولكن عليكم بالستكانة والتضرع!!! فإ ّ‬
‫خ هذا الكلم‬ ‫س ُ‬
‫أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون"‪ ،‬أل ُير ّ‬
‫ل والظلم؟! إّنه الخوف من‬ ‫مق معاني القبول بالذ ّ‬ ‫الجبَر في المة؟ أل ُيع ّ‬
‫فكت‪ ،‬وكم من‬ ‫س ِ‬‫الفتنة وسفك الدماء‪ ،‬وهتك الحرمات ! فكم من الدماء ُ‬
‫هـِتكت‪ ،‬منذ أن تحول الحكم الشوري إلى الوراثة‪ ،‬ومنذ أن‬ ‫الحرمات ُ‬
‫رضي جمهوُر المسلمين بحكم الظالمين ؟!‬

‫نعم ‪ ...‬لقد كانت الدماء سُتسفك! ولكنها كانت ستسفك لمرة واحدة‬
‫وينتهي المر‪ .‬أما هذا النهر المتدفق منذ قرون فل ندري متى سيكف عن‬
‫الجريان! أما هذه الكرامة المسحوقة المهدورة‪ ،‬فدون إعادتها أهوا ٌ‬
‫ل وقد‬
‫ة الذل والهوان! فما هي ثمرة هذه الحقيقة؟ ثمرتها أن هذه‬ ‫استمرأت الم ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ملزمة لنا‪ ،‬لّنها ليست نصوصا ول تعبيرا عن النصوص‬ ‫الفتاوى غير ُ‬
‫بمجموعها‪ ،‬ول تحقيقا ً للحكام المتعلقة بشروط تولي الحكم‪ ،‬أو بأحكام‬
‫عزل الحكام‪ ،‬وغيرها ‪ ...‬فهي لذلك ليست مضطردة فل نتفق مع من‬
‫يسحبها على كل الوقات‪ ،‬وعلى كل الظروف‪ ،‬فهي من الفتاوى التي تدور‬
‫مع أسبابها وجودا ً وعدمًا‪.‬‬

‫ن السباب التي أّدت إلى هذه الفتاوى بحاجة إلى تحقيق‬‫على أننا نرى أ ّ‬
‫ة مطاطة يمكن أن ُتوظف في الحق‪ ،‬ويمكن‬ ‫وتحرير‪ ،‬فخوف الفتنة قضي ٌ‬
‫أن توظف في الباطل‪ ،‬كما يمكن أن تستخدم لتسويغ السلبية والجبن!‬
‫وتخدير المة من قبل علماء السلطة‪:‬‬

‫م *** وتلك خديعة الطبع اللئيم‬


‫حل ٌ‬
‫يرى الجبناء أن العجز ِ‬

‫ن تكرار فشل محاولت الخروج وما ترتب عليها من دماء ‪ ،‬دفع بعض‬ ‫إ ّ‬
‫العلماء إلى الفتاء بعدم مشروعية الخروج ‪ .‬قال ابن حجر رحمه الله في‬
‫ترجمة الحسن بن صالح ) ‪ 169 – 100‬هجرية ( ردا ّ على من ضعفه لنه‬
‫كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور ! ‪ " :‬وهذا مذهب للسلف قديم‬
‫‪ ،‬لكن استقر المر على تـرك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه ‪ ،‬ففي‬
‫ة لمن تدبر " ) تهذيب‬
‫عظ ٌ‬
‫حّرة ‪ ،‬ووقعـة ابن الشعث وغيرهما ِ‬
‫وقعـة ال َ‬
‫التهذيب ‪. ( 250 -2‬‬
‫ب القائلين بجواز الخروج بالخوارج! وهو قياس فاسد‬ ‫والعجب ممن ُيلق ُ‬
‫يدل إما على جهل‪ ،‬أو فساد طوّية‪ ،‬فليختر القائل بهذا أحلهما إليه!! أما‬
‫الخوارج فهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه‪ ،‬فأين هو علي؟! وهذا‬
‫يعني أنهم الذين يرون الخروج على المام الحق الذي اختارته الجماعة‪،‬‬
‫فأين هو هذا المام؟! وهم الذين ُيكفرون بالمعصية‪ ،‬وليس من يقول‬
‫بالجواز كذلك‪.‬‬

‫ونحن ل نعرف أحدا ً من العاملين في الدعوة من أهل العلم المقبولين‪،‬‬


‫ومن الدعاة المعروفين المتبوعين‪ ،‬باستثناء قـلة شاذة‪ُ ،‬يكفر بالكبيرة‬
‫كالخوارج! بل الذي نظنه فيهم أنهم ـ وعلى اختلف توجهاتهم ـ يريدون‬
‫الخير للمة‪ ،‬كذلك نحسبهم‪ ،‬والله حسيـبهم‪.‬‬

‫الحقيقة الثامنة‪:‬‬

‫ل الله‬‫دده رسو ُ‬ ‫علينا أن ُنفرق بين نظام الدولة في السلم كما ح ّ‬


‫مـل‬‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وبين الذي جرى في تاريخنا! فينبغي أل ُنح ّ‬
‫السلم ت َِبعة ما جرى‪ ،‬كما ينبغي أل تدفعنا رغبُتـنا في تخليص السلم من‬
‫ن التاريخ ليس‬ ‫كر‪ .‬إننا نؤكد على أ ّ‬‫اللوم إلى الدفاع عن تاريٍخ سياسي من َ‬
‫مخالفات الدستورية‪ ،‬والتجاوزات‬ ‫ظف ال ُ‬ ‫مصدرا ً للتشريع‪ ،‬لننا نرفض أن ُتو ّ‬
‫السياسية التي حصلت في التاريخ‪ ،‬لتسويغ النحراف‪ ،‬وتحويله إلى تنظير‬
‫فقهي قانوني‪ ،‬بحيث يتحول النحراف إلى تشريع!‬

‫ن المرجعية التي نخضع لها ونتبعها في هذا الباب‪ ،‬هي نفسها المرجعية‬
‫إ ّ‬
‫التي نخضع لها في أبواب الدين جميعها‪ ،‬لذلك فمن الخطأ أن يحتج أحد ٌ‬
‫ن العلماء‬
‫بصحة تولي الحكم عن طريق الوراثة لنه وقع في التاريخ‪ ،‬ول ّ‬
‫سكتوا عنه! فل في وقوعه في التاريخ‪ ،‬ول في سكوت العلماء عنه دليل‬
‫على شرعيته‪.‬‬

‫ض القراء من بعض الحقائق‪ ،‬وقد يعدها تعديا ً على بعض‬ ‫قد ُيفاجأ بع ُ‬
‫ن الحقيقة غير هذا‪ ،‬لننا نعتقد بأننا امتداد لما‬‫مسلمات التاريخية‪ .‬ولك ّ‬ ‫ال ُ‬
‫حصل في التاريخ وأثر من آثاره‪ ،‬وأننا إذا أردنا إصلح واقعنا فل بد ّ أن‬
‫ص‬
‫ندرك الحقائق كما هي دون تزوير وتزويق‪ ،‬وطريق العلج الناجح تشخي ٌ‬
‫صحيح‪ .‬إننا نؤمن بأنه ل خلص ول نهضة لنا إل بالسلم‪ ،‬لذا فالهدف‬
‫المراد من مثل هذه البحاث هو تخليص السلم مما علق به من‬
‫ممارسات خطيرة‪ ،‬وانحرافات شنيعة! وبهذه الحقيقة نفصل بين فقه‬
‫السلم السياسي الذي شرعه الله‪ ،‬وبين ما ُالبس للسلم من ممارسات‬
‫في التاريخ السياسي للمة‪.‬‬

‫ن ما نكتبه ليس ترفًا‪ ،‬بل هو نتيجة الحساس بالواقع‪ ،‬والتفاعل معه‪،‬‬


‫إ ّ‬
‫ً‬
‫وهو تصويب لمفهومات باتت تـنتـشر بين طلب العلم فضل عن العوام‪.‬‬
‫فكيف لنا أن نسكت عن بيان الحقائق‪ ،‬وقد قرأنا لبعض من ينتسب إلى‬
‫العلم في إحدى عواصم هذا العالم السلمي‪ُ ،‬يفضل بعض النظمة الحالية‬
‫على الدولة العباسية! يقول ذلك ليسلم الناس للواقع! وأقول‪ :‬فليكن؛‬
‫فليكن حال بعض النظمة أفضل من حال الدولة العباسية! فماذا إذن؟ وما‬
‫علقة ذلك بالسلم الذي ُيطالب به المسلمون؟ وإذا كانت الدولتان؛‬
‫ن الظلم مقبول؟! وهل يعني‬ ‫العباسية والموية ظالمتين‪ ،‬فهل يعني هذا أ ّ‬
‫ل الله صلى‬‫هذا أل يسعى المسلمون لعادة دولة السلم كما رسمها رسو ُ‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬وسار عليه الراشدون من بعده؟ ثم لماذا تكون المقارنة‬
‫على هذا النحو؟ لم ل تكون‪ :‬إن النحراف مرفوض أيا كان مصدره‬
‫وزمانه؟‬

‫إننا ل نتعصب إل للسلم كما جاء به محمد ٌ صلى الله عليه وسلم‪ ،‬أما‬
‫خ السلمي فهو سلوك البشر باتجاه السلم أو بعكس اتجاهه‪ .‬لهذا‬ ‫التاري ُ‬
‫ن التاريخ غير معصوم‬
‫فإننا نرفض أيّ محاولة لتزويره عن طريق التاريخ‪ ،‬ل ّ‬
‫ول مقدس‪.‬‬

‫إننا نطالب بالسلم‪ ،‬فإن وافق التاريخ السلم فبها ونعمت‪ ،‬لنه سُيشكل‬
‫عندها تجربة ثرّية‪ ،‬ومرجعا ً تطبيقيًا‪ .‬وإن خالفه رفضناه‪ ،‬ولم نبرره‪ ،‬وأقبلنا‬
‫على السلم نأخذ منه دون أدنى اعتبار للتاريخ‪.‬‬

‫الحقيقة التاسعة‪:‬‬

‫ن كلمنا في هذا البحث يتعلق بالمشروعية‪ ،‬والقواعد والحكام‪ ،‬ل عن‬‫إ ّ‬


‫ن الحكم بمشروعية عزل الحاكم مث ً‬
‫ل‪ ،‬ل يعني‬ ‫إمكانية الخروج‪ .‬ذلك أ ّ‬
‫الحكم بمباشرة الخروج‪ ،‬فهذا بحث آخر يتعلق بالمكانية‪ ،‬من حيث‬
‫الستطاعة والستعداد‪ ،‬ومراعاة التوقيت المناسب‪.‬‬
‫" المنهج الصحيح في تناول المسألة "‬

‫ة تناول ً خاطئًا‪،‬‬
‫ب الباحثين‪ ،‬والدعاةُ ـ ول زالوا ـ المسأل َ‬ ‫‪ 1‬ـ تناو َ‬
‫ل أغل ُ‬
‫ت خطيرة في وجدان المة‪ ،‬وإلى جهلها بحقوقها‪،‬‬ ‫أدى إلى ترسيخ مفهوما ٍ‬
‫وموقفها من السلطة‪ .‬ولقد تمّثل هذا التناول الخاطئ في جوانب متعددة‪.‬‬

‫ة على حساب قضايا‬ ‫ب أثناء دراستنا للمور قضي ً‬‫والسبب في ذلك أننا ُنغل ّ ُ‬
‫ة جميع أبعادها َلما‬
‫درست بشمول مراعي ً‬ ‫ن المسألة لو ُ‬ ‫أخرى‪ .‬وفي ظّني أ ّ‬
‫وقع اللبس في إدراكها‪ ،‬ولما كُثر النزاع حولها‪.‬‬

‫أما الجوانب التي تمّثل فيها التناول الخاطئ‪ ،‬فهي‪:‬‬

‫أول ً‪ :‬حصر المسألة في شخص الحاكم‪ ،‬والبحث في إسلمه وكفره‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬حصر المسألة في طبيعة النظمة‪ ،‬هل هي إسلمية أم كفرية‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬إغفال ثمرة البحث في التكفير‪ ،‬سواء تكفير النظمة أم تكفير‬


‫الحاكم‪.‬‬

‫ك ّ‬
‫ل هذا جعل البحث بل غاية‪ .‬وصار النقاش ينتهي عند اقتناع أحد الطرفين‬
‫برأي الخر‪ ،‬وإل فقاموس الشتائم‪ ،‬وجدول اللقاب جاهزان! فهذا خوارج‪،‬‬
‫وذاك مرجئة‪ .‬وبهذا تحولت المعركة إلى صراع بين المسلمين أنفسهم‪،‬‬
‫ونسوا الهدف الساس للبحث‪ ،‬وهو البحث في شرعية السلطة‪ ،‬وما‬
‫ف ليد الطاعة‪ ،‬وخروج على السلطة‪.‬‬ ‫يترتب عليه من ك ّ‬

‫وهذه بعض الجوانب‪ ،‬وسيتبعها التعليق بعد قليل‪ ،‬وهناك جوانب أخرى‬
‫سأشير إليها في ثنايا البحث‪.‬‬

‫أما الجانب الهم‪ ،‬والذي كان أحد أهم الدوافع لهذه الدراسة‪ ،‬وهو أحد‬
‫فكرتين رئيستين في الدراسة فهو‪:‬‬

‫ن بحث هـذه المسألة ما كان ينبغي أن يبدأ بمشروعية الخروج على‬


‫أ ّ‬
‫السلطة وعزلها‪ ،‬بل كان ينبغي أن يبدأ بمشروعية هذه السلطة أص ً‬
‫ل!‬
‫بمعنى‪ :‬هل وصلت هذه السلطة إلى الحكم بالطريق الصحيح؟‬
‫وليس هناك طريق صحيح إل الختيار والبيعة‪.‬‬

‫م هل كانت البيعة على تحكيم الشرع؟ ‪ ...‬فإن كان كذلك فالسلطة‬


‫ث ّ‬
‫شرعية‪ ،‬والبحث في علقة المة بها؛ من طاعة ونصرة‪ ،‬ومشروعية‬
‫الخروج وعدمه‪ ،‬بحث شرعي صحيح‪ .‬أما إن كان غير ذلك‪ ،‬كأن تأتي‬
‫السلطة بالقهر والغصب ـ أي عن طريق النقلبات ـ أو بالوراثة‪ ،‬فالنقاش‬
‫عندها في مشروعية الخروج‪ ،‬ونزع يد الطاعة‪ ،‬نقاش فارغ!‬

‫ن النقاش الحاد الذي يدور بين المسلمين حول شرعية الخروج‪ ،‬نقاش ل‬ ‫إ ّ‬
‫داعي له‪ ،‬ولو تم استحضار هذا المبدأ لرحنا أنفسنا‪ ،‬ولبدأنا من حيث يجب‬
‫أن نبدأ‪ ،‬ولتحولت دراساتنا من البحث في مشروعية الخروج‪ ،‬إلى البحث‬
‫في إمكانية الخروج وطرقها ووسائلها‪.‬‬

‫ن النظام الذي يستمر‬ ‫ن النظام الذي جاء على ظهر دبابة ل حرمة له‪ ،‬وإ ّ‬‫إ ّ‬
‫سخف أن نتـناقش ونغضب من‬ ‫من على ظهر دبابة ل شرعية له! ومن ال ّ‬ ‫ِ‬
‫أجل أنظمة هذا وضعها! ولو درسنا المسألة من هذه الزاوية لوفرنا على‬
‫أنفسنا كثيرا ً من الجهد والوقت‪ .‬ولفهمنا الماضي‪ ،‬ولدركنا الواقع‪،‬‬
‫ولخططنا للمستقبل الذي نريد‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ثم إن حصر المسألة في شخص الحاكم خطأ فاحش‪ ،‬أدى‬


‫إلى إهمال القضايا الكبرى! ولقد فهم الحكام اللعبة فصاروا‬
‫يظهرون التقوى‪ ،‬أو على الصح ل يجاهرون بما يضعف‬
‫موقفهم! فضحكوا على "ذقن" المة واستخفوا بها! ولقد‬
‫ن حكامها بها! فل زالت منذ قرون‬ ‫كانت المة عند حسن ظ ّ‬
‫ة واليوم الخر‪،‬‬‫مّلة والدين‪ ،‬والنبو ِ‬
‫تنتظر إعلن الحاكم رفضه لل ِ‬
‫معترفا ً بأن إعلنه هذا خارج من قلبه‪ ،‬مشهدا الله ـ الذي ل‬
‫ً‬
‫يؤمن به ـ على ذلك!‬

‫‪ 3‬ـ ومن الخطأ أيضا ً حصر المسألة في كفر القوانين وإن كان هذا‬
‫المعيار من المعايير القوية التي أقمنا هذه الدراسة عليها كما سيأتي‪.‬‬
‫ولكن ليس من العلمية تضييق البحث في معيار واحد وإهمال المعايير‬
‫ت من أشار‬ ‫الخرى ‪ .‬فمن المعايير التي ينبغي أن ُتبحث‪ ،‬والتي قلما رأي ُ‬
‫إليها‪ ،‬حقوقنا التي كفلتها لنا الشريعة"‬

‫م حياتنا‪.‬‬
‫ـ فمن حقنا أن َيحكم السل ُ‬

‫ـ ومن حقنا أن نحيى حياةً كريمة عزيزة‪.‬‬

‫ـ ومن حقنا أن نستبدلهم إذا َ‬


‫طغوا وظلموا‪.‬‬

‫صروا أو بدلوا‪.‬‬
‫ـ ومن حقنا أن ُنغيرهم إذا ق ّ‬

‫من حق المة أن تراقب الحاكم‪ ،‬ومن واجب الحاكم أن يقبل الرقابة‪ ،‬فل‬
‫ينبغي في شرع الله أن يكون الحاكم فوق المساءلة‪.‬‬
‫وحقوق المة يجب أن تكون في أيدي أمينة‪ ،‬ل تخضع لرغبة الحاكم‪ ،‬إن‬
‫شاء منحها‪ ،‬وإن شاء منعها‪ ،‬وإن شاء ق ّ‬
‫طرها! لقد آن لنا أن ننظر إلى‬
‫المسألة من خلل حقوقنا‪ ،‬وشعورنا بالدمية‪ ،‬فل أدري كيف ترضى المة‬
‫أن تعيش! مسلوبة الحقوق‪ ،‬بل قيمة ول كرامة! فالسلم كّرمنا‪ ،‬وحّررنا‬
‫بالتوحيد من ِربقة العبودية‪ ،‬فإنه‪" :‬ما انتشر التوحيد في أمة قط إل‬
‫تكسرت فيها قيود السر" )طبائع الستبداد‪ .(55 :‬ويجب على المة أن‬
‫ن المستكبرين في الرض يمنعون الناس من التعرف على الله‬ ‫تدرك ‪ ":‬أ ّ‬
‫تعالى‪ ،‬وعبادته لنهم بذلك ُيبصرون الحق والباطل‪ ،‬وتتفتح عقولهم على‬
‫ظلم الستكبار ومخازيه‪ ،‬ويتولد عندهم الوعي بالحقوق النسانية التي‬
‫وهبها الله تعالى لعباده‪ ،‬فيرفضون الظلم والطغيان والعدوان على حقوق‬
‫النسان" )قيم المجتمع السلمي من منظور تاريخي‪.(1/87 :‬‬

‫ن المنهج الصحيح في بحث المسألة يبدأ بعرض‬ ‫وخلصة البحث‪ :‬أ ّ‬


‫التساؤل التالي‪ :‬هل السلطة التي ُيبحث في شرعية الخروج عليها وعزلها‬
‫شرعية؟ هل اختارتها المة‪ ،‬وبايعتها على العمل بالكتاب والسنة‪ ،‬وعلى‬
‫القيام بالواجبات المنوطة بها على أكمل وجه؟ فإن لم تكن كذلك‪ ،‬فإنها‬
‫ليست قانونية‪ ،‬ول داعي للبحث في مشروعية الخروج عليها‪ ،‬لنها في‬
‫هذه الحالة كأنها غير موجودة!‬

‫ن الحاكم لو كان أبا بكر‬


‫وإنني أقرر هنا ـ قبل أن أنهي الفصل ـ بأ ّ‬
‫الصديق رضي الله عنه لكنه ل يحكم بالسلم‪ ،‬لوجب عزله‬
‫وتغييره!‬

‫وليس هذا فحسب‪ ،‬بل لو كان أبو بكر حاكمًا‪ ،‬وبالسلم‪ ،‬لكنه ظالم‬
‫ة حقوقها‪ ،‬لكان حكمه باط ً‬
‫ل‪ ،‬ولوجب عزله ! وأكثر من‬ ‫متجّبر‪ ،‬يسلب الم َ‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫ذلك‪ ،‬فلو كان أبو بكر رضي الله عنه حاكما‪ ،‬وبالسلم‪ ،‬وبالعدل والقسط‪،‬‬
‫والرفق بالرعية‪ ،‬لكنه مقصر بواجباته؛ من ُقدرة على حماية المة والدولة‪،‬‬
‫إلى غير ذلك من الواجبات ـ التي سنعرفها في فصل لحق ـ لوجب عزله !‬
‫مغّيب‪ ،‬وهذه هي شريعة السلم‪ ،‬فدع عنك ما‬ ‫هذا هو حكم الشريعة ال ُ‬
‫يقوله طابور التسويغ والترقيع ! والله المستعان‪ ،‬وهو حسبنا ونعم الوكيل‪.‬‬

‫" شرح حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه "‬

‫ل في هذا الباب‪ ،‬فهو‬‫ه عنه أص ٌ‬


‫ث عبادة بن الصامت رضي الل ُ‬ ‫حدي ُ‬
‫ت سابقا ً أ ّ‬
‫ن‬ ‫ة المة بالسلطة‪ .‬وقد ذكر ُ‬ ‫ضحت علق َ‬
‫م الحاديث التي و ّ‬ ‫من أه ّ‬
‫ة المة للحاكم على‬ ‫الخطأ الذي وقع فيه كثيٌر من الباحثين‪ ،‬تعليقهم طاع َ‬
‫ما اعتمدوا عليه في هذا القول هذا الحديث‪.‬‬ ‫كفره! وكان م ّ‬

‫ة‪ ،‬وأعني‬‫ة فقهي ً‬


‫ة حديثي ً‬
‫من هنا كان من اللزم دراسة الحديث دراس ً‬
‫ل الشاهد من روايات الحديث‪ ،‬فقد يكون‬ ‫بالحديثية جمعَ كل ما يتعلق بمح ّ‬
‫ة‪ ،‬وهذا هو المنهج السليم في‬
‫ت كثير ً‬‫ن زائد ُيزيل إشكاليا ٍ‬
‫في روايةٍ ما بيا ّ‬
‫ة ودقيقة‪.‬‬‫دراسة الحاديث حتى تكون الحكام شامل ً‬

‫أما الدراسة الفقهية‪ ،‬فأعني بها فهم الحديث فهما ً سليما ً من خلل ما‬
‫ص المدروس‪ ،‬ل من خلل المقررات السابقة! وسنبدأ بذكر‬ ‫ُيفيده الن ّ ّ‬
‫ة‬
‫روايات الحديث‪ ،‬ثم نتكلم على فقهه‪ .‬وسنعتمد على روايةٍ نجعلها الرواي َ‬
‫الم‪ ،‬ثم سنقـتصر على ِذكر الشاهد الزائد على الرواية الم من الروايات‬
‫الخرى‪.‬‬

‫جنادة بن أبي أمية قال‪" :‬دخلنا على عبادة بن الصامت‬ ‫عن ُ‬


‫دث بحديث ينفعك الله به‬ ‫وهو مريض‪ ،‬قلنا‪ :‬أصلحك الله‪ ،‬ح ّ‬
‫سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬دعانا النبي‬
‫ن بايعنا‬ ‫صلى الله عليه وسلم فبايعناه‪ ،‬فقال فيما أخذ علينا أ ْ‬
‫هنا‪ ،‬وعسرنا ويسرنا‬ ‫طنا ومكر ِ‬
‫على السمع والطاعة في منش ِ‬
‫وأ َث ََرة علينا‪ ،‬وأن ل ننازع المر أهله‪ ،‬إل أن تروا كفرا ً بواحا ً‬
‫عندكم من الله فيه برهان" )البخاري ح ‪ ،759‬مسلم ح ‪ .(42‬تشتر ُ‬
‫ك‬
‫ت الخرى مع هذه الرواية في أغلب ألفاظ الحديث‪ ،‬ول خلف ُيذكر‬ ‫الروايا ُ‬
‫بينها إل بألفاظ ل أثر لها في الحكم‪.‬‬

‫والمقطع الخير من الحديث هو الذي اشتمل على زيادات مهمة في‬


‫ل الشاهد‪ :‬فعند أحمد قال ‪":‬ما لم يأمروك بإثم‬‫الروايات الخرى‪ ،‬وفيه مح ّ‬
‫بواحا ً" ) ‪ .(5/321‬وعند ابن حبان‪" :‬إل أن يكون معصية" )ح ‪ 4562‬بإسناد‬
‫حسن(‪ .‬وعنده أيضًا‪" :‬إل أن تكون معصية لله بواحا ً" )ح ‪ 4566‬بإسناد‬
‫ت المهمة للروايات الخرى‪.‬‬ ‫حسن(‪ .‬هذه هي الزيادا ُ‬

‫فإذا أتينا إلى فقه الحديث‪ ،‬فالكلم عليه من وجهين‪ :‬الول‪ :‬معرفة‬
‫المقصود من الحديث‪ .‬الثاني‪ :‬مدى انطباق الحديث على واقعنا‪.‬‬

‫أو ً‬
‫ل‪ :‬معرفة المقصود بالحديث‪:‬‬

‫* موضوع الحديث‪:‬‬

‫ط طاعةِ المة للسلطة؛ متى تلتزم الطاعة؟ ومتى‬ ‫ث ضواب َ‬ ‫دد الحدي ُ‬‫ُيح ّ‬
‫ملَزمة‬
‫يحقّ لها‪ ،‬بل ويجب عليها منازعة السلطة‪ ،‬أي تغييرها؟ فالمة ُ‬
‫ل الحوال ـ ما دامت الطاعة بالمعروف ـ والطاعة هنا‬ ‫بالطاعة في ك ّ‬
‫تعبيـٌر عن التزام المة بقرارات السلطة‪ ،‬وتنظيماتها المختلفة لشؤون‬
‫الحياة جميعها‪ .‬وهذا اللتزام ليس متروكا ً لمزجة الناس؛ يطيعون في‬
‫السراء ويعصون في الضراء؛ ويلتزمون النظام إذا وافق مصالحهم‪ ،‬فإذا‬
‫خالفها حاصوا وخالفوا! وهذا هو معنى "وأثرة علينا"‪ ،‬إذ ليس المقصود‬
‫ب طاعتهم للسلطة حتى لو منعتهم حقهم ـ أي استأثرت عليهم‬ ‫وجو َ‬
‫ن المعنى الدق هنا ـ‬ ‫سب‪ ،‬بل أرى ـ والله أعلم ـ أ ّ‬‫بالحقوق ظلما ً لهم ـ وح ْ‬
‫والمنسجم مع أوامر السلم بعدم الرضا بالظلم ـ وهو وجوب الطاعة‬
‫ن هذه الطاعة ستكون على حساب‬ ‫واللتزام بالنظام حتى لو رأينا بأ ّ‬
‫ة‪ ،‬ولو ُترك المر للرعية "لحاك" ك ّ‬
‫ل‬ ‫در ذلك السلط ُ‬ ‫ن الذي ُيق ّ‬
‫حقوقنا‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل ما ُيخالف "قياسه" ظلما ً‬
‫م على "قياسه"‪ ،‬ولعد ّ ك ّ‬ ‫واحد من الرعية النظا َ‬
‫وتعديًا‪ ،‬وعندئذ ُيصبح المُر فوضى‪.‬‬

‫طنا ومكرهنا‬
‫وهذا الفهم متفق مع قوله صلى الله عليه وسلم "في منش ِ‬
‫دد حالت النسان عند‬ ‫وعسرنا ويسرنا"‪ ،‬فالنبي صلى الله عليه وسلم ُيع ّ‬
‫شطًا‪ ،‬كما يمكن أن يكون كسول! وقد يكون‬
‫ً‬ ‫استقباله الوامر‪ ،‬فقد يكون ن ِ‬
‫راضيًا‪ ،‬كما يمكن أن يكون كارها‪ ،‬وهو في كل هذه الحالت عليه أن يسمع‬
‫ً‬
‫م هناك حالة أخرى "وأثرة علينا"‪ ،‬أي فيما َيعتقد أنه على حساب‬‫ويطيع‪ .‬ث ّ‬
‫حقوقه من الوامر‪.‬‬

‫وخلصة هذه الحالة‪ :‬وجوب طاعة السلطة‪ ،‬حتى مع اختلفنا معها‬


‫في الجتهاد "وأثرة علينا"‪ ،‬أو في التوقيت‪" :‬منشطنا ومكرهنا"‪ .‬وهذا هو‬
‫الصل في علقة المة مع السلطة‪.‬‬

‫سر‬‫ـ الكلم على بعض ألفاظ الحديث‪" :‬أن ل ُننازع المر أهله"‪ ،‬ف ّ‬
‫حك ْ َ‬
‫م‪ .‬وهذا ـ‬ ‫م ال ُ‬
‫العلماء "المر" بالمارة‪ ،‬فيكون المعنى‪ :‬أن ل ننازع الحاك َ‬
‫ن " المر " هو‬ ‫في نظري ـ تفسير ضّيق " للمر"‪ .‬والصواب أن نقول إ ّ‬
‫السلطة بمفهومها الشامل‪ ،‬أي المؤسسة الحاكمة‪ ،‬والحاكم جزء من هذه‬
‫المؤسسة‪.‬‬

‫ـ "إل أن تروا كفرا ً بواحا ً"‪" ،‬ما لم يأمروك بإثم بواحا ً"‪" ،‬إل أن يكون‬
‫معصية"‪" ،‬إل أن تكون معصية لله بواحًا"‪.‬‬

‫تروا‪ ،‬وليس تسمعوا‪ ،‬أو تعلموا‪ ،‬أو تتيقنوا! وكيف ُيرى الكفر؟! إذا كان‬
‫ل الله صلى الله عليه‬‫الكفُر جحود القلب‪ ،‬فإنه ل ُيرى‪ ،‬فهل أمرنا رسـو ُ‬
‫ّ‬ ‫وسلم برؤية شـيء ل ُيـرى؟! فل ش ّ‬
‫ك ـ إذن ـ أّنه علق المَر على رؤية آثاِر‬
‫ل وأفعال‪.‬‬‫الكفرِ من أقوا ٍ‬
‫م الكفر‪ ،‬علمنا أنه‬ ‫عـلـ َ‬
‫طلب منا "رؤية" آثار الكفر‪ ،‬ولم يطلب منا ِ‬ ‫فإذا َ‬
‫ض النظر عن المقاصد‪ ،‬وما دام لم َيطلب منا أن نتيقن‬ ‫يقصد المعاصي بغ ّ‬
‫ة ُتوجب‬‫ن رؤية المعصية بواحًا‪ ،‬أي ظاهرةً بادي ً‬
‫بل طلب منا رؤية‪ ،‬علمنا أ ّ‬
‫صت‬ ‫ة المرِ أهَله‪ .‬وهذا الفهم تؤيده الروايات الخرى‪ ،‬فقد ن ّ‬ ‫علينا منازع َ‬
‫ن‬
‫على وجوب المنازعة عند المعصية‪ ،‬أو عند المر بالثم‪ ،‬مما يؤكد بأ ّ‬
‫المقصود بالكفر الوارد في الرواية الولى‪ :‬المعصية‪.‬‬

‫ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬وأن ل ننازع المَر أهَله‪ ،‬إل أن تروا‬
‫‪ ."...‬معناه‪ :‬في حالة عدم رؤيتكم للمعصية الظاهرة‪ ،‬تحُرم عليكم‬
‫رعت لكم المنازعة!‬ ‫المنازعة‪ ،‬فإذا رأيتموها وجبت عليكم المنازعة‪ ،‬أو ُ‬
‫ش ِ‬
‫ة‬
‫فهذا أمٌر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة عند رؤي ِ‬
‫المعصيةِ الظاهرة‪.‬‬
‫ـ قوُله صلى الله عليه وسلم‪" :‬عندكم من الله فيه برهان"‪ ،‬يعني‪ :‬أن‬
‫ر‬ ‫ص‪ ،‬وأن تكون مّتفقا ً عليها ليست مح ّ‬
‫ل نظ ٍ‬ ‫ة بالن ّ ّ‬
‫ة ثابت ً‬
‫تكون المعصي ُ‬
‫ل السلطة يحتمل‬ ‫ل أو فع ُ‬
‫ما إن كان قو ُ‬‫واختلف‪ ،‬ول تحتمل التأويل‪ .‬أ ّ‬
‫التأويل فل تجوز منازعتها‪ .‬وأنا أقرر هذه القاعدة بصورة عامة‪ ،‬وإن كانت‬
‫تحتاج لتفصيل ليس هنا محله‪.‬‬

‫* تحليل الحديث‪:‬‬

‫ن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في هذا الحديث عن‬ ‫أ ـ ل نش ّ‬


‫ك بأ ّ‬
‫ي‪ ،‬فالذي‬
‫كيفية علقة المة بالحاكم الذي وصل إلى الحكم بطريق شرع ّ‬
‫وصل بغير هذا الطريق ليس محل ً للبحث‪.‬‬

‫ونحن عندما نقول‪ :‬حاكم‪ ،‬فل نعني شخص الحاكم‪ ،‬بل نعني مؤسسة‬
‫من دونه من أركان النظام‪.‬‬‫الحكم‪ ،‬والتي تتكون من‪ :‬الحاكم نفسه‪ ،‬و َ‬
‫والنظمة‪ ،‬وهي مجموعة المبادئ والقوانين والقيم التي تحكم المة‪ .‬وهذا‬
‫ن الرسول صلى الله عليه وسلم عناه في هذا الحديث‪ .‬إذن‬ ‫ما نرى أ ّ‬
‫ل‪ ،‬ومؤسسة حاكمة ثانيًا‪.‬‬
‫المقصود من الحديث سلطة قانونية أو ً‬

‫ب ـ ومن حقّ هذه السلطة "القانونية" على المة الطاعة حتى لو‬
‫ة بالجتهادات‪ ،‬أو برغبتها وموافقتها‪ ،‬وحتى لو استأثر‬ ‫اختلفت معها الم ُ‬
‫ن معنى "وأثرة‬ ‫الحاكم على المة بشيء من حقوقها‪ ،‬عند من يقول بأ ّ‬
‫علينا" هنا امتناع الحاكم عن إيصال حقوقها إليها‪ ،‬وتقديمه نفسه عليها‪.‬‬
‫سه في بعض سلوكاته‬ ‫ن الثرة معناها‪ :‬تقديمه نف َ‬ ‫)ولكنني أعتقد أ ّ‬
‫ن كانت كذلك‬ ‫الشخصية‪ ،‬ل أن تكون هذه الثرة قاعدة ً عامة مستمرة‪ ،‬فإ ْ‬
‫م‪ ،‬بل ويأمر برفضها( ‪.‬‬ ‫ة بواحًا‪ ،‬ل يرضاها السل ُ‬
‫فإنها تصبح عندئذ معصي ً‬

‫ن الحاكم الشرعي ـ أي الذي وصل‬ ‫در الشريعة أ ّ‬ ‫ومن الطبيعي أن ُتق ّ‬


‫ً‬
‫دبا من المة ـ بشٌر وليس ملكا‪ ،‬قد يعتريه ما‬ ‫ً‬ ‫منت َ‬
‫إلى الحكم بعقدٍ صحيٍح ُ‬
‫ف أمام المنصب قد يؤدي‬ ‫يعتري البشر ممن هم في مثل موقعه؛ من ضع ٍ‬
‫إلى بعض التجاوزات في حقّ المة‪ ،‬أو تقصير في حقّ البيعة‪ ،‬ولذلك فإّنها‬
‫ل تطاَلب بالمبادرة إلى تـنحيته سراعًا‪ ،‬بل تطاَلب بنصحه وأمره ونهيه‪ ،‬مع‬
‫م من نصوص أخرى‪ ،‬ومن‬ ‫بقاء الطاعة على ما هي عليه‪ .‬وهذا أمر معلو ٌ‬
‫ص الذي بين أيدينا ‪.‬‬‫طبيعة الحياة‪ ،‬ومفهوم من الن ّ‬
‫ة الَبواح التي ل يختلف اثنان على أّنها‬
‫ة المعصي َ‬
‫م ُ‬ ‫ُ‬
‫ما إن رأت ال ّ‬ ‫أ ّ‬
‫مع ول طاعة‪ .‬وهذا هو المقطع الخير من الحديث الذي‬ ‫ة‪ ،‬فل س ْ‬ ‫معصي ٌ‬
‫َ‬
‫يتضمن أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في منازعة المرِ أهله عند‬
‫ة أنه قد ُفهم بشكل خاطئ‬ ‫ن يحتاج لبيان‪ ،‬خاص ً‬‫رؤية المعصية‪ ،‬وهو موط ٌ‬
‫اسُتخدم في تسكين المسلمين‪ ،‬وتشويه مفاهيمهم‪ .‬وهذا نتيجة إتباع‬
‫ي " في دراسة النصوص‪ ،‬وتناول المسائل‪.‬‬ ‫المنهج " الذر ّ‬
‫ُ‬
‫ت‬ ‫م التركيُز على رواية "إل أن تروا كفرا ً َبواحا ً"‪ ،‬وأه ِ‬
‫ملت الروايا ُ‬ ‫فقد ت ّ‬
‫ن الحكم‬
‫الخرى‪ ،‬إضافة إلى حصر مصدر "الكفر" في شخص الحاكم! وكأ ّ‬
‫في أذهاننا ل يعني غيَر الحاكم! وهذا هو واقعنا منذ قرون‪ ،‬فل مؤسسة‬
‫م بأمره‪ ،‬والمة تدور في فلكه‪،‬‬ ‫للحكم‪ ،‬ول دستورية حقيقية‪ ،‬وإّنما حاك ٌ‬
‫وتخضعُ ِلهواه!‬

‫ن‬
‫ي في دراسة الّنصوص‪ ،‬فسنجد ُ أ ّ‬ ‫ج ال ّ‬
‫شمول ّ‬ ‫ما إذا اعتمدنا المنه َ‬‫أ ّ‬
‫منازعة‪ ،‬وسنجد‬ ‫ب ال ُ‬
‫"الكفر" أحد ُ القيود التي يترتب على وجودها وجو ُ‬
‫ض بينها؟ كذا‬ ‫ة" قيدًا‪" ،‬والمر بالثم" قيدا ً ثالثًا‪ .‬فهل هناك تعار ٌ‬ ‫"المعصي َ‬
‫ض أهل العلم‪ ،‬فحاول الجمعَ بحمل رواية الكفر على ما إذا كانت‬ ‫ن بع ُ‬ ‫ظ ّ‬
‫ة في الولية‪ ،‬فل ُيناَزعُ بما يقدح في الولية إل إذا ارتكب الكفر‪،‬‬ ‫المنازع ُ‬
‫وبحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولية‪ ،‬فإذا لم‬
‫َيقدح في الولية نازعه ‪) .‬فتح الباري ‪.(13/11‬‬

‫ول أجد داعيا ً لهذا التفصيل الذي ل دليل عليه من الحديث‪ ،‬والذي ل يخلو‬
‫ل ما ظاهُره‬‫لك ّ‬
‫ن بعض أهل العلم اعتاد َ تحمي َ‬ ‫ف في الجمع‪ .‬ذلك أ ّ‬ ‫من تكل ّ ٍ‬
‫ل بالتعدد‪ ،‬فالواضح‬ ‫ف القو َ‬
‫سع ُ‬‫دد الروايات! وليس هنا ما ي ُ ْ‬ ‫التعارض على تع ّ‬
‫ث إل مرةً واحدة‪ .‬فلم يبقَ إل‬ ‫أّنه صّلى الله عليه وسلم لم يقل هذا الحدي َ‬
‫ف من الرواة في روايـة الحديث بالمعـنى‪ ،‬فالصحابي أو من بعده‬ ‫أّنه تصّر ٌ‬
‫ة الكفر‪ ،‬أو المَر بالثم‬‫ن رؤي َ‬ ‫روى الحديث كما فهمه‪ ،‬وهم قد فهموا أ ّ‬
‫ض‬
‫ة‪ ،‬دون تعار ٍ‬ ‫مـا يقـتضي المنازع َ‬ ‫ة البواح‪ ،‬ك ّ‬
‫ل ذلك م ّ‬ ‫البواح‪ ،‬أو المعصي َ‬
‫ل أحدها على الخر‪.‬‬ ‫بينها‪ ،‬ودون حاجةٍ لحم ِ‬
‫ن كل ً من الكفر والمعصية البواح والمر‬‫من بعده أ ّ‬‫لقد فهم الصحابي أو َ‬
‫ظ تد ّ‬
‫ل على‬ ‫وعوا في استخدام ألفا ٍ‬ ‫بالثم البواح لها نفس الحكم‪ ,‬ولذلك ن ّ‬
‫ن جمهور السلف فهموا من أحاديث رسول‬ ‫حكم واحد‪ .‬ومما ُيثبت هذا أ ّ‬
‫ب الخروج على غير‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم ـ ومنها هذا الحديث ـ وجو َ‬
‫العدل ‪ -‬فضل ً عن الكافر أو من صدر منه الكفر‪ ، -‬وغير العدل هو‬
‫المسئول عن انتشار المعصية البواح‪ ،‬والمر بالثم البواح!‪.‬‬

‫دل )ما يتعلق‬


‫وقد ذهب جمهوُر السلف إلى وجوب الخروج على غير العَ ْ‬
‫بالكفر مفروغ منها ل خلف عليها( إن كان أهل الحق في عصابة يمكنهم‬
‫الدفع‪ ،‬ولم ييأسوا من الظفر‪ ،‬أما إذا كانوا في عدد ل يرجون لقلتهم‬
‫وضعفهم بظفر‪ ،‬كانوا في سعة من ترك التغيير باليد‪) .‬وهذا يوافق ما‬
‫ذكرته في فصل الحقائق من أن البحث يتعلق بتقرير الحكام‪ ،‬ل بالمكانية‬
‫فهذه لها تقديٌر آخر(‪ .‬وهم كما ذكرهم ابن حزم رحمه الله‪ :‬علي بن أبي‬
‫م المؤمنين عائشة‪ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبير‪،‬‬ ‫من الصحابة‪ ،‬وأ ّ‬‫من معه ِ‬‫ل َ‬‫طالب وك ّ‬
‫من الصحابة‪ ،‬ومعاوية‪ ،‬وعمرو‪ ،‬والنعمان بن بشير‪،‬‬ ‫من كان معهم ِ‬ ‫ل َ‬ ‫وك ّ‬
‫وغيرهم ممن معهم من الصحابة‪ ،‬وعبد الله بن الزبير ومحمد والحسين‬
‫من قام على الفاسق‬ ‫ابنا علي‪ ،‬وبقية الصحابة من المهاجرين والنصار‪ ،‬و َ‬
‫جاج(‬‫من قام"‪ ،‬ل على الح ّ‬ ‫من واله من الصحابة )عائد على‪َ " :‬‬ ‫جاج‪ ،‬و َ‬
‫الح ّ‬
‫كأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين‪ .‬ومن التابعين‪ :‬عبد الرحمن بن‬
‫سلمي الزدي‪،‬‬ ‫جبير‪ ،‬وأبو البحتري الطائي‪ ،‬وعطاء ال ّ‬ ‫أبي ليلى‪ ،‬وسعيد بن ُ‬
‫والحسن البصري‪ ،‬ومالك بن دينار‪ ،‬ومسلم بن يسار‪ ،‬وأبو الجوزاء‪،‬‬
‫شعبي‪ ،‬وعبد الله بن غالب ‪ ...‬وغيرهم‪.‬‬ ‫وال ّ‬

‫ن‬
‫ل الفقهاء كأبي حنيفة‪ ،‬والحس ِ‬ ‫ل عليه أقوا ُ‬‫ن حزم‪" :‬وهو الذي تد ّ‬ ‫قال اب ُ‬
‫نك ّ‬
‫ل من ذكرنا‬ ‫ي‪ ،‬وشريك‪ ،‬ومالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وداود وأصحابه‪ .‬فإ ّ‬ ‫بن ح ّ‬
‫ل سيفه‬ ‫ل لذلك بس ّ‬
‫ما فاع ٌ‬
‫مـا ناطقٌ بذلك في فتاواه‪ ،‬وإ ّ‬ ‫من قديم وحديث إ ّ‬ ‫ِ‬
‫صل في الملل والهواء والنحل‪5/19 :‬ـ ‪.(28‬‬ ‫ف ْ‬ ‫ً‬
‫في إنكار ما رأوه منكرا" )ال َ‬

‫* وقفة مع الحديث ‪:‬‬

‫ن هذا الفهم من الحديث موافق لطبائع البشر‪ ،‬ولعلقاتهم بعضهم‬ ‫إ ّ‬


‫مع بعض‪ ،‬منسجم مع وقائع الحياة‪ ،‬لنه يربط الطاعة وعدمها بقرينة‬
‫ظاهرة منضبطة‪ ،‬ل يمكن الختلف عليها‪ ،‬بعكس الكفر الذي قد يحتاج‬
‫لحفريات للتنقيب عنه!!‬

‫ن النبي صلى الله عليه وسلم لمعرفته لساليب‬ ‫ولعلي ل أبالغ إذا قلت‪ :‬إ ّ‬
‫َ‬
‫مناط المنازعة‪ ،‬وليس الكفر‪ ،‬لنه‬
‫المنافقين‪ ،‬جعل المعصية والمر بالثم َ‬
‫صلى الله عليه وسلم يعرف أنه ليس من المعقول أن ُيصّرح حاكم ما في‬
‫ن قوما ً‬
‫بيئةٍ إسلمية بالكفر‪ ،‬وكأّنه صلى الله عليه وسلم يعرف أ ّ‬
‫سيشاغبون فيشترطون التصريح بالكفر من الحاكم!‬

‫وأما بالنسبة لمصدر المعصية‪ ،‬فهذا خطأ شنيع آخر وقع فيه بعض العلماء‪،‬‬
‫صروا مصدر المعصية بشخص الحاكم‪،‬‬ ‫وبعض الحركات السلمية‪ ،‬حيث قَ َ‬
‫ن تروا كفرا ً‬
‫ن الحديث ل دللة فيه على هذا التحديد‪ ،‬بل هو عام "إل أ ْ‬ ‫مع أ ّ‬
‫بواحا ً"‪" ،‬إل أن يكون معصية"‪" ،‬إل أن تكون معصية لله بواحًا"‪" ،‬ما لم‬
‫يأمروك بإثم بواحًا"‪ ،‬هكذا مطلقا ً‪ ،‬معصية َبواحًا‪ ،‬في الدستور‪ ،‬في‬
‫النظمة‪ ،‬في الممارسات‪ ،‬في السياسة الخارجية‪ ،‬في علقة السلطة مع‬
‫المة‪ ،‬في حال الحاكم‪ ،‬باختصار " معصية بواحاً" تعني أيّ مخالفةٍ لحكام‬
‫السلم‪.‬‬

‫ل خلف‪،‬‬ ‫منضبطًا‪ ،‬ل ينبغي أن يكون مح ّ‬


‫وبناًء عليه يكون الضابط واضحا ً ُ‬
‫ة المر‬
‫ة‪ ،‬وإذا أمروا بالثم وجب عليهم منازع ُ‬‫فإذا رأى المسلمون المعصي َ‬
‫أهَله‪.‬‬
‫وفي الحديث فائدة نفيسة‪ ،‬ل بأس من التـنبيه عليها زيادة في البيان‪:‬‬

‫ن المة ل تنزع يد َ الطاعةِ عند صدور أيّ معصية من الحاكم‪ ،‬أو وجودها‬
‫إ ّ‬
‫في النظمة‪ ،‬فهذا أمر متوقع من البشر‪ ،‬ولكن الشرط في المعصية‪:‬‬

‫هر بها‪ ،‬بمعنى أن تصبح ظاهرة‬ ‫ة وتنتشر‪ ،‬وُيجا َ‬ ‫أول ً‪ :‬أن تظهر المعصي ُ‬
‫اجتماعية ل أمرا ً استثنائيا ً متوقعا ً محتمل ً من البشر ‪ ...‬وهذا هو معنى‬
‫"المعصية البواح"‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬أن يكون النتشار والمجاهرة نتيجة سياسة مقصودة‪ ،‬تتبنى المنكر‬
‫ة من خلل‬ ‫وتسعى لنشره‪ ،‬وليس هذا فحسب‪ ،‬بل أن تسعى السلط ُ‬
‫س على المة‪،‬‬‫كس الموازين‪ ،‬فُتدل ّ َ‬
‫أجهزتها المختلفة إلى قلب المعايير‪ ،‬ون َ ْ‬
‫فتريها المعروف منكرًا‪ ،‬والمنكر معروفًا‪ .‬وهذا هو معنى "ُيعّرفونكم ما‬
‫رفون"‪.‬‬ ‫تنكرون‪ ،‬وُينكرون عليكم ما َتع ِ‬
‫وقد استنبط النوويّ رحمه الله من حديث قتال مانعي الزكاة فائدة مهمة‬
‫موافقة للفهم السابق‪ ،‬فترجم للحديث بقوله‪" :‬فيه وجوب قتال مانعي‬
‫الزكاة أو الصلة أو غيرها من واجبات السلم قليل كان أو كثيرا" )النووي‬
‫ن هؤلء‬
‫على مسلم ‪ .(1/212‬وهذا واضح في التدليل على ما ذهبنا إليه‪ ،‬ل ّ‬
‫الممتنعين مغيرون لحكم الله سبحانه‪ ،‬مظهرون للمعصية‪ ،‬فما بالك بمن‬
‫ل‪ ،‬وُيرّوج للمعاصي الصريحة؟!‬‫ة وتفصي ً‬
‫يمتـنع عن حكم الله جمل ً‬

‫ل ما مضى يتعلق بالوجه الول وهو‪ :‬معرفة المقصود من الحديث‪ .‬أما‬ ‫وك ّ‬
‫بالنسبة للوجه الثاني والمتعلق بمدى انطباق الحديث على واقعنا‪،‬‬
‫ن هذا الحديث‪ ،‬وغيره من الحاديث‪ ،‬تتكلم‬ ‫ت فإ ّ‬
‫فأقول‪ :‬كما سبق وذكر ُ‬
‫عن حاكم مسلم شرعي )قانوني( وصل إلى الحكم بطريق شرعي‬
‫)قانوني( صحيح‪ ،‬أي باختيارٍ وعقد صحيحين من المة‪ ،‬ثم وقع في الكفر أو‬
‫حكم بأنظمة الكفر‪ ،‬أو فسق وظلم ووقع في المعاصي‪ ،‬ول ش ّ‬
‫ك بأن‬
‫واقعنا ل علقة له بهذا‪ ،‬ومع ذلك وتنزل ً في الحوار مع ذوي الورع البارد‪،‬‬
‫ن شرط منازعة‬ ‫ل لخطاب هذا الحديث‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ن واقعنا مح ّ‬
‫فإننا لو افترضنا أ ّ‬
‫حمْلته‬‫ت "الكفر البواح"؛ سواء َ‬‫متحقق واقع على أيّ معنى حمل ْ َ‬ ‫المر أهله ُ‬
‫على ظهور الكفر أو على ظهور المعاصي‪.‬‬

‫ج بسياسة مرسومة مقصودة‪،‬‬ ‫هـٌر بها‪ ،‬وهي ُتروّ ُ‬


‫ن المعاصي منتشرة ومجا َ‬ ‫إ ّ‬
‫ول يعنينا بعد ذلك ذوات الحكام‪ .‬فليكن الحاكم أتقى عباد الله‪ ،‬وليكن‬
‫سكنه الفردوس العلى من الجنة‪ ،‬ولكن ذلك ل ُيؤهله لتبوء منصب الحكم‬
‫إن لم يحكم بالسلم‪ ،‬عدل ً عادل ً محافظا ً على المة ‪ ..‬الخ‪ .‬وبهذا تضبط‬
‫المسألة بعلمات منضبطة ظاهرة‪ ،‬ويسلم الناس من الكلم في خفايا‬
‫الصدور‪ ،‬وسويداء القلوب‪ ،‬ويأمنون من القدح في المقامات العليا التي‬
‫ة العيون الساهرة التي ل تغفل ول تنام في رصد ما يقوله‬ ‫تتبعها مساءل ُ‬
‫الشعب وما ل يقوله‪.‬‬
‫ن حقيقة الحاكم من الداخل‪ ،‬ل قيمة لها كثيرا ً في هذا المقام‪ ،‬فل‬
‫إ ّ‬
‫م مثل هذه القضية الخطيرة بحقيقة حال شخص‪ ،‬قد‬ ‫يعقل أن يربط السل ُ‬
‫يتلعب بالمة بتزويق حاله‪ ,‬وتسويق نفسه على الناس‪ ,‬وهذا ما حصل‬
‫ويحصل‪ .‬ومن هنا فقد ُربطت القضية بحاله الظاهر‪ ,‬وبواقع النظمة‬
‫والقوانين الحاكمة‪ ,‬وبوجود المعاصي‪ ,‬وهذه كلها ضوابط ظاهرة‪.‬‬

‫والحال هذه اليام في شرق العالم السلمي وغربه ظاهر لذي عينين‪ ,‬ل‬
‫ب‪ ,‬ولم يبق إل ّ أن ُنردد مع المتنبي‪:‬‬
‫ك مشاغ ٍ‬ ‫يجادل فيه إل ك ّ‬
‫ل مماح ٍ‬

‫م الماِء من‬
‫م طع َ‬
‫س من رمدٍ *** وُينكُر الف ُ‬
‫ضوَء الشم ِ‬
‫ن َ‬
‫قد ُتنكر العي ُ‬
‫سقم‬
‫" واقع ا ُ‬
‫لمة والحكم "‬

‫* من الوثنية إلى التوحيد‪:‬‬

‫ب‬
‫ن الله ابتعثـنا لُنخرج العباد َ من عبادة العباد‪ ،‬إلى عبادة ر ّ‬
‫"إ ّ‬
‫سَعة‬‫ور الديان إلى عدل السلم‪ ،‬ومن ضيق الدنيا ‪ ،‬إلى َ‬ ‫ج ْ‬
‫العباد‪ ،‬ومن َ‬
‫الدنيا والخرة "‪:‬‬

‫ن عامر رضي الله عنه عن التوحيد الذي جاءت به‬ ‫يب ُ‬


‫‪ 1‬ـ هكذا عّبر ِربع ّ‬
‫ج به المسلمون إلى الناس‬ ‫ن الذي خر َ‬
‫ت الله عليهم‪ .‬إّنه البيا ُ‬‫ل صلوا ُ‬‫الرس ُ‬
‫ه واجتنبوا‬‫مة رسول ً أن اعبدوا الل َ‬ ‫فهما ً لقوله تعالى‪" :‬ولقد بعثنا في ك ّ‬
‫لأ ّ‬
‫ك من‬‫الطاغوت" )النحل‪ .(36 :‬ولقوله تعالى‪ .." :‬وما أرسلنا من قبل َ‬
‫ل إل نوحي إليه أنه ل إله إل أنا فاعبدون" )النبياء‪.(25 :‬‬ ‫رسو ٍ‬
‫د‪ ،‬وأن‬‫دته تقـتضيان أل ُيعبد مع الله أح ٌ‬ ‫ن شهادةَ أن ل إله إل الله‪ ،‬وعبا َ‬
‫إ ّ‬
‫سَعة الدنيا كما‬
‫س في َ‬‫ُيحكم العباد ُ بعدل السلم‪ .‬وتقتضيان أن يعيش النا ُ‬
‫ه عليهم من الوثنية ودخلوا‬ ‫ة رضوان الل ُ‬
‫في الخرة‪ ،‬بهذا الفهم خرج الصحاب ُ‬
‫في التوحيد‪.‬‬

‫طموا‬‫ن ُيح ّ‬
‫ة في نفوسهم قبل أ ْ‬ ‫م الكامن َ‬ ‫لقد ح ّ‬
‫طموا بهذا الفهم ِ الصنا َ‬
‫ل من‬‫ن َنزعوا الذ ّ‬
‫مة الحضارة‪ ،‬بعد أ ْ‬‫م الحجارة‪ ،‬وارتقوا بهذا إلى ق ّ‬ ‫أصنا َ‬
‫قلوبهم‪.‬‬

‫ت‬‫ك من يلي أمَرها إل أن يقول‪" :‬إّني قد وُّلي ُ‬ ‫مة لم يكن يمل ِ ُ‬ ‫ولمثل هذه ال ّ‬
‫وموني ‪...‬‬‫ت فق ّ‬‫ن أسأ ُ‬
‫ت فأعينوني‪ ،‬وإ ْ‬ ‫ن أحسن ُ‬ ‫ت بخيركم‪ ،‬فإ ْ‬ ‫عليكم ولس ُ‬
‫ة لي‬ ‫ه ورسوَله فل طاع َ‬ ‫ت الل َ‬ ‫ه ورسوَله‪ ،‬فإذا عصي ُ‬ ‫ت الل َ‬
‫أطيعوني ما أطع ُ‬
‫ي الخلفة(‪ .‬ولم يكن يجرؤ‬ ‫ة أبي بكر رضي الله عنه عندما وَل ِ َ‬ ‫عليكم" )كلم ُ‬
‫ي أمَرها دون مشورةِ المسلمين‪ ،‬كيف وعمُر رضي الله عنه‬ ‫أحد ٌ أن يل َ‬
‫يقول‪" :‬من بايع رجل ً من غير مشورة المسلمين فل يبايع هو والذي بايعه‬
‫ن ذلك يكون تغريرا ً بأنفسهما‬ ‫َتغّرةَ أن ُيقتل" )البخاري ح ‪ ،683‬والمعنى أ ّ‬
‫ً‬
‫قد يفضي إلى قتلهما إذ أحدث في المة شقاقا وفتنة(‪ .‬وكيف! وقد كان‬
‫ل يوم‪ ،‬أن يقف أحد ُ الرعية‬ ‫لمور العاديةِ التي ُيمكن أن تحدث ك ّ‬ ‫من ا ُ‬
‫ن لم‬ ‫ل للخليفة‪" :‬ل سمع ول طاعة"‪ ،‬ويكون الجواب‪" :‬ل خيَر فيكم إ ْ‬ ‫ليقو َ‬
‫تقولوها‪ ،‬ول خيَر فينا إن لم نسمعها"‪ .‬وبقي المُر كذلك‪ ،‬حتى انتهى عهد ُ‬
‫الراشدين‪ ،‬وبدأ النحراف‪...‬‬
‫ث‬
‫ة‪ ،‬فكلما انتقضت عروةٌ تشّبـ َ‬
‫عرو ً‬‫عروةً ُ‬ ‫عرا السلم ُ‬ ‫ن ُ‬‫قض ّ‬ ‫‪ 2‬ـ " َلـُين َ‬
‫ن الصلة" )أحمد ‪5/251‬‬ ‫م وآخره ّ‬‫ن نقضا ً الحك ُ‬
‫س بالتي تليها‪ ،‬وأوُله ّ‬ ‫النا ُ‬
‫بسند صحيح(‪.‬‬

‫ف على مستوى الّنظام ِ والدولة‪ ،‬منذ‬


‫ل‪ ،‬فقد بدأ النحرا ُ‬ ‫وهذا ما حصل فع ً‬
‫ل من أصول الحكم في السلم‪ ،‬وهو‬ ‫م أص ٍ‬
‫قض أه ّ‬ ‫عام ‪ 60‬هجرية‪ ،‬عندما ن ُ ِ‬
‫م بالختيار والَبيعة‪ ،‬فأصبح التولي عن طريق الوراثة‪،‬‬ ‫تولي الخليفة الحك َ‬
‫خَلفه قيصر!‬ ‫ك قيصر َ‬‫كلما هل َ َ‬

‫ش بين أقدام الطواغيت‪ ،‬وتحت ِنعال الجنود‪.‬‬ ‫مة تعي ُ‬ ‫منذ ذلك الوقت وال ّ‬
‫ه!‬ ‫ّ‬ ‫م صار ظ ِ ّ‬
‫ل الله في الرض‪ ،‬وله الل ُ‬ ‫ة‪ ،‬فالحاك ُ‬
‫ت تسمعُ مبادئ جديد ً‬‫وصر َ‬
‫فهو لذلك يملك البلد َ والعباد‪ ،‬كما قال الفرزدق‪:‬‬

‫ب‬
‫ب اللهِ فيها غيُر مغلو ِ‬
‫وصاح ُ‬ ‫ض للهِ وّلها خلـيفت َ ُ‬
‫ه‬ ‫فالر ُ‬
‫ه سبحانه لمن َيحكم‪ ،‬فهذا هو الخط ُ‬
‫ل يقول‪:‬‬ ‫ه الل ُ‬
‫منح ُ‬
‫ن الحكم حقّ َ‬
‫كما أ ّ‬
‫إذا الملو ُ‬
‫ك على أمثاِله‬ ‫ه ما أنتم أحقّ به‬
‫م الل ُ‬
‫أعطاك ُ‬
‫عوا‬
‫اقتر ُ‬

‫مة‪ ،‬وانحرفوا هم‬ ‫م في ال ّ‬ ‫وبأمثال الفرزدق والخطل راجت هذه القي ُ‬


‫م؛ القيم التي‬ ‫وغيُرهم من مثقفي السلطة عن القيم التي قّررها السل ُ‬
‫ر‬
‫ة بها‪ ،‬لتبقى متحررةً من ن َي ْ ِ‬ ‫مة أن تبقى متمسك ً‬
‫كان ينبغي على ال ّ‬
‫ن للنسان‪.‬‬ ‫ش الضطهاد؛ اضطهادِ النسا ِ‬ ‫ة‪ ،‬وُفح ِ‬
‫العبودي ِ‬

‫ة‬
‫مة فيه‪ ،‬ولم تكن البيع ُ‬ ‫ض‪ ،‬ل رأيَ لل ّ‬‫ضو ٍ‬‫ملك عَ ُ‬‫ة إلى ُ‬‫وبذا تحولت الخلف ُ‬
‫مضمون! وكيف‬ ‫ً‬
‫مة إل جسدا بل روح‪ ،‬وشكل ً بل َ‬ ‫التي كانت ُتؤخذ من ال ّ‬
‫ل لها ول رأي‪ ،‬وأصبح حاُلها‬ ‫مة ل قو َ‬‫كرهًا؟ وال ّ‬
‫ة إذا كانت ُتؤخذ ُ‬‫ح البيع ُ‬
‫تص ّ‬
‫كحال الذين قيل فيهم‪:‬‬

‫م *** ول ُيستأمرون وهم شهود‬


‫ب تي ٌ‬
‫وُيقضى المُر حين تغي ُ‬

‫ن عد َ‬
‫ل‬ ‫مة‪ .‬إ ّ‬ ‫ف منه مدى سوِء الحال الذي انتهت إليه ال ّ‬ ‫ب مثل ً ُيعر ُ‬
‫وسأضرِ ُ‬
‫ت‬‫ة لف َ‬‫ة بتوّليه الخلف َ‬ ‫م َ‬‫م ال ّ‬‫عمَر بن عبد العزيز رحمه الله ‪ ،‬والخيَر الذي ع ّ‬
‫ن عبد الملك له‪ :‬فقد كتب‬ ‫نب ِ‬ ‫ة عهدِ سليما َ‬‫النتباهَ عن أمرٍ خطير‪ ،‬وهو كيفي ُ‬
‫س في‬ ‫َ‬
‫ف مختوم‪ ،‬وأمَر بجمع النا ِ‬ ‫ه في ظر ٍ‬ ‫ن العهد َ لعمَر ووضع ُ‬‫سليما ُ‬
‫ل‪ ،‬فأمَر‬ ‫ة مجهو ٍ‬ ‫س مبايع َ‬‫ل الظرف! فأبى النا ُ‬ ‫المسجد ومبايعةِ المذكورِ داخ َ‬
‫س وبايعوا! نعم ‪...‬‬ ‫خ النا ُ‬ ‫ض َ‬
‫ب الشرطةِ بضرب عُُنق من يرفض‪ ،‬فر َ‬ ‫صاح َ‬
‫ه سبحانه‪ ،‬وكان المجهول عمر بن عبد العزيز رحمه الله‪ ،‬فبّر‬ ‫سّلم الل ُ‬
‫ة من‬ ‫وعدل‪ .‬لكن هل هذا مسوغٌ لمثل هذه الطريقة‪ ،‬التي تستـثـني ال ّ‬
‫م َ‬
‫ل العصمة لرأي فرٍد؟!‬ ‫القرار‪ ،‬بل من الوجود‪ ،‬وتجع ُ‬
‫ل فسادٍ طرأ‬ ‫‪3‬ـ قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله‪" :‬وقد كان أو ُ‬
‫ة في أهل الغلب‬ ‫جعَْلها وراثي ً‬
‫على نظام الخلفة‪ ،‬وصدعَ في أركانها‪َ ،‬‬
‫والعصبية‪ ،‬وأول تقصير ُرزئ به المسلمون‪ ،‬عدم َوضع نظام ٍ ينضبط به‬
‫سنة‪،‬‬‫ب وال ّ‬ ‫هدى إليها الكتا ُ‬ ‫مة على القواعد التي َ‬ ‫مها بما يجب من أمر ال ّ‬ ‫قيا ُ‬
‫ل والَعقد‬‫ح ّ‬‫ت الخلفاِء من سيطرة أهل ال َ‬ ‫ّ‬
‫ل نشأ عن هذا وذاك تفل ُ‬ ‫خل ٍ‬‫وأول َ‬
‫م‬
‫مة‪ ،‬واعتمادهم على أهل عصبيةِ القوة التي كان من أه ّ‬ ‫الذين ُيمّثـلون ال ّ‬
‫دها تابعا ً بذلك‬‫مة وفسا ُ‬‫ح ال ّ‬
‫إصلح السلم لمور البشر إزالُتها‪ ،‬فصار صل ُ‬
‫لصلح الخليفة وأعوانه أهل عصبيته )يعني أن تبقى المة تحت رحمة مزاج‬
‫ل ثقتها من أهل العلم والرأي‬ ‫مة‪ ،‬ومح ّ‬ ‫ممثلي ال ّ‬‫الحاكم وأخلقياته(‪ ،‬ل ل ُ‬
‫دب عليها" )الخلفة‪.(15 :‬‬ ‫ح َ‬‫فيها‪ ،‬والَغيرة وال َ‬

‫ن الفرصة لم‬ ‫خ رضا رحمه الله هي أ ّ‬ ‫مة التي ُيشير إليها الشي ُ‬
‫مه ّ‬‫ة ال ُ‬‫القضي ُ‬
‫ت استلم السلطة‬ ‫ً‬
‫دستوريا تضِبط به عمليا ِ‬ ‫ً‬
‫مة كي تضعَ نظاما ُ‬ ‫َتسنح لل ّ‬
‫ول منذ ‪60‬هجرية إلى‬ ‫ن الحكم تح ّ‬ ‫وانتقاَلها‪ ،‬وأقول "لم تسنح الفرصة"‪ ،‬ل ّ‬
‫ي قهريّ ل يستطيع العلماُء في ظ ِّله أن ُيصنفوا نظاما ً دستوريا ً‬ ‫حكم ٍ وراث ّ‬‫ُ‬
‫ً‬
‫مسَتمد ّا من الكتاب والسنة‪ ،‬أو ُيلزموا الحكام بذلك‪.‬‬ ‫ُ‬

‫ومن حاول منهم ذلك كان جزاؤه القـتل أو السجن أو التـشريد‪ ،‬وكان أن‬
‫وغون‬‫ن بعض العلماء أخذوا ُيس ّ‬
‫ب المسلمين بالمر الواقع‪ ،‬بل إ ّ‬‫رضي أغل ُ‬
‫ّ‬
‫لذلك الحال بتسويغات شرعية؛ مثل القول بشرعية الوراثة‪ ،‬والتغلب‪،‬‬
‫ف من المفاسد‪ ،‬وسفك الدماء‪ ،‬وانتهاك الحرمات‬ ‫دفعهم إلى ذلك الخو ُ‬
‫ف له اعتباُره الفقهي‪ ،‬لكن أن يصبح هو‬‫المترتبة على المخالفة‪ ،‬وهو خو ٌ‬
‫ة المتغّلب الظالم إلى أصل شرعي فانحراف‬ ‫الصل بحيث تتحول سلط ُ‬
‫خطير!‬

‫إذن فالحقيقة التي ل بد ّ من العتراف بها‪ ،‬بعيدا ً عن النحياز العاطفي‪ ،‬أّنه‬


‫م‬
‫ك في نطاق المسألة السياسية ما تمنحه لنا القي ُ‬ ‫على الرغم من أّننا نمتل ُ‬
‫ة في الكتاب والسنة‪ ،‬من المنطلقات الساسية‪ ،‬والمقاصد‬ ‫المعصوم ُ‬
‫والهداف‪ ،‬وما ُتقدمه لنا فترة السيرة‪ ،‬والخلفة الراشدة من أدلة عمل‬
‫تطبيقيةٍ ووسائل معينة‪ ،‬إضافة إلى تنوع وغنى التجربة التاريخية السلمية‬
‫قُر إلى تأسيس وتأصيل فقه دستوري‪ ،‬وفقه دولي‪ ،‬وفقه‬ ‫إل أننا ما نزال نفت ِ‬
‫ي‪.‬‬
‫ي إسلم ّ‬‫إداري‪ ،‬وفقه َرقابي‪ ،‬أو بكلمة مختصرة‪ :‬فقه سياسي مؤسس ّ‬
‫سَير الكبير للفقيه محمد بن الحسن‬ ‫"وما عندنا في هذا المجال كال ّ‬
‫ما جاء في ثنايا كتب‬ ‫الشيباني‪ ،‬والحكام السلطانية للماوردي‪ ،‬وغير ذلك م ّ‬
‫التاريخ السياسي والثقافي أثناء سرد الحداث السياسية‪ ،‬وإن كان ذلك ل‬
‫ُيقاس بالمتداد والتبحر الفقهي في المجالت الخرى‪ ،‬إل أّنه يمكن أن‬
‫ل على كيفية توليد الفقه السياسي‪ ،‬وتنزيل‬ ‫ُيشكل ُأنموذجًا‪ ،‬ودلي َ‬
‫ل عم ٍ‬
‫القيم على الواقع‪ ،‬لكنه في نهاية المطاف ل َيخرج عن أن يكون اجتهادا ً‬
‫م بشري‬ ‫معين بظروفه‪ ،‬ومشكلته ‪ ...‬وهو فه ٌ‬ ‫زم‪ ،‬جاء وليد عصر ُ‬ ‫مل ِ‬
‫غيَر ُ‬
‫وء العصر وليس دينا ً ملزما"ً‬‫ض ْ‬
‫للقيم الواردة في الكتاب والسنة في َ‬
‫)مقدمة الستاذ عمر عبيد حسنة لكتاب قيم المجتمع السلمي من منظور‬
‫تاريخي‪.(2/15 :‬‬

‫مة عن التأثير في الحياة‬


‫لقد كان من نتائج هذا النحراف الخطير‪ ،‬تحييد ُ ال ّ‬
‫ل أشكالها في الحاكم الفرد‪ ،‬يقول الدكتور‬ ‫سلطة بك ّ‬ ‫ف ال ّ‬
‫السياسية‪ ،‬وتكثي ُ‬
‫ن قوة السلطة في التاريخ السلمي‬ ‫أكرم العمري‪" :‬ول بد ّ من العتراف بأ ّ‬
‫كانت تعتمد على قوة الفرد الحاكم دون أن ترتكز على قوة الرأي العام‬
‫هنت بعد ظهور السلم بحوالي‬ ‫ن قوة الرأي العام السلمي وَ َ‬ ‫السلمي‪ ،‬وأ ّ‬
‫ة في عصر‬ ‫القرنين )الذي أراه أنها وهنت قبل ذلك بكثير(‪ ،‬وكانت فاعل ً‬
‫ة في أوساط عديدة بعد عصر الراشدين" ) قيم‬ ‫الراشدين‪ ،‬كما كانت فاعل ً‬
‫المجتمع السلمي ‪.(1/74‬‬

‫ثم يقول بعد ذلك‪ " :‬لقد وّلد اختفاُء مؤسسات الشورى القوية في الدولة‬
‫ط الفردي‪،‬‬‫م الستبدادي‪ ،‬والتسل ّ َ‬
‫ن السياسي‪ ،‬والحك َ‬
‫السلمية الطغيا َ‬
‫ة لها في‬
‫ث بمصالح المة‪ ،‬وفقداَنها الحريات التي منحتها الشريع ُ‬‫والعب َ‬
‫معظم أحقاب تاريخها" )السابق ‪.(1/75‬‬
‫ن‪ ،‬وحكمتنا "‬
‫غلما ُ‬ ‫ح َ‬
‫كمنا ال ِ‬ ‫ع يزدادُ سوءًا‪َ ،‬‬
‫ف َ‬ ‫‪ 4‬ـ وبقي الوض ُ‬
‫د! ولقد صدق المتنبي بوصفه لواقع‬ ‫شجرةُ الدر"! وحكمنا الممالي ُ‬
‫ك والعبي ُ‬
‫المسلمين السياسي عندما قال‪:‬‬
‫سادات ك ّ ُ‬
‫م *** وسادة ُ المسلمين العب ُد ُ‬
‫سه ِ ُ‬
‫س من نفو ِ‬
‫ل أنا ٍ‬ ‫ُ‬
‫م‬
‫قُز ُ‬
‫ال ُ‬

‫ت آخر في تصوير موقف المسلمين من حكامهم‪:‬‬


‫وأجاد في بي ٍ‬

‫م‬
‫م *** ُترعى بعبدٍ كأنها غن ُ‬
‫ض وطئُتها أم ٌ‬ ‫بك ّ‬
‫ل أر ٍ‬
‫ة‬
‫وظهرت آثاُر النحراف السياسي‪ ،‬والستبداد والطغيان‪ ،‬فانحطت الم ُ‬
‫ن‬
‫ع‪ ،‬ل ّ‬‫مُر في المة البدا ُ‬‫في المجالت الخرى حضاريًا‪ ،‬واقتصاديًا‪ ،‬وبدأ يض ُ‬
‫ور‪ ،‬بل يكتفي بدور الحفظ وإعادة النتاج‪.‬‬ ‫المضطَهد ل ُيبدع ول ُيط ّ‬
‫ة‬
‫مة قابل ً‬‫ة ‪ ... .‬وجاء الستعماُر‪ ،‬فوجد أ ّ‬
‫ل ـ باقي ٌ‬‫ة ـ كشك ٍ‬ ‫ك ّ‬
‫ل ذلك والخلف ُ‬
‫للستعمار‪ ،‬وأصّر على إسقاط الخلفة‪ ،‬لّنه كان يدرك بأنها رمٌز لوحدة‬
‫ة‪ .‬يقول برنارد لويس‪" :‬في المبراطورية‬ ‫المسلمين وإن كانت ضعيف ً‬
‫جسد واقع‬ ‫العثمانية كان ولُء المسلمين الساسي للسلم‪ ،‬وللدولة التي ت ُ‬
‫ة بالمبايعة على‬ ‫ة الشرعي َ‬‫السلم السياسي‪ ،‬وللخلفة التي اكتسبت الصف َ‬
‫س أموَر الناس‪ ،‬وكان المعارضون‬ ‫مرور الزمن‪ ،‬والتي كانت تسو ُ‬
‫ون لتغيير الوزراء والحكام أو حتى الخلفة‬ ‫والمتمّردون والثائرون َيسع ْ‬
‫ً‬
‫الحاكمة كلها‪ ،‬ولكنهم لم يسعوا أبدا لتغيير أساس الولء لدولة السلم‬
‫ولوحدة هويته" )الغرب والشرق الوسط‪ ،‬عن حاشية كتاب لورنس‬
‫العرب‪.(64 :‬‬

‫ويقول أحد ُ أدرى الناس بهذا الهدف ـ أي إسقاط الخلفة ـ وأحد‬


‫المسئولين الرئيسيين والمباشرين عن إسقاطها لورنس "العرب"‪:‬‬
‫ت الوحدة السلمية‪ ،‬ودحُر المبراطورية العثمانية‬ ‫"أهدافنا الرئيسية‪ :‬تفتي ُ‬
‫ً‬
‫وتدميرها‪ ،‬وإذا عرفنا كيف ُنعامل العرب‪ ،‬وهم القل وعيا للستقرار من‬
‫التراك‪ ،‬فسيبقون في دوامةٍ من الفوضى السياسية داخل دويلت صغيرة‬
‫حاقدة ومتنافرة‪ ،‬غير قابلة للتماسك‪ ،‬إل أنها على استعداد دائم لتشكيل‬
‫حدة ضد أي ّةِ قوة خارجية" )لورنس العرب على خطى هرتزل‪،‬‬ ‫مو ّ‬
‫قوة ُ‬
‫خضت عنه هذه الحرب‪،‬‬ ‫ً‬
‫تقارير لورنس السرية(‪ .‬ويقول أيضا‪" :‬مهما تم ّ‬
‫فيجب أن تكون نتيجُتها القضاء نهائيًا‪ ،‬وإلى البد‪ ،‬على السيادة الدينية‬
‫للسلطان التركي" )السابق‪.(71 :‬‬

‫ة ـ الشكل ـ سنة ‪1924‬م‪ ،‬ولم يكن فع ُ‬


‫ل الستعمار‬ ‫وُأسقطت الخلف ُ‬
‫ب الحقيقي في إسقاطها‪ ،‬بل إنه كان أثرا ً لسقوطها عام ‪ 60‬هجرية‪،‬‬
‫السب َ‬
‫دنا على‬
‫ل أتاتورك المجرم‪ ،‬عليه من الله ما يستحق‪ ،‬إل كاتكاء أح ِ‬ ‫وما عم ُ‬
‫ل للسقوط ما إن يتكئ عليه حتى يسقط‪ ،‬وكذلك الخلفة عندما‬ ‫جدار آي ٍ‬
‫اتكأ عليها أتاتورك سقطت‪ ،‬لنها ساقطة أصل ؛ ساقطة لنها انحرفت عن‬
‫ن المة رضيت بهذا النحطاط عندما تنازلت عن‬ ‫مسارها الشرعي‪ ،‬ول ّ‬
‫صر وخان‬ ‫ُ‬
‫حقها في تولية من تتوفر فيه شروط الولية‪ ،‬وفي عزل من ق ّ‬
‫سخ الستعماُر ‪ ...‬ودخلنا‬ ‫المانة‪ .‬وهكذا ُألغيت الخلفة‪ ،‬وتفّتت الم ُ‬
‫ة‪ ،‬وتر ّ‬
‫عصرا ً جديدًا!‬

‫‪ 5‬ـ مـن الستعمـار إلى الستعباد "الوثنية"!‬

‫ن الحتلل العسكري يقف تأثيُره عند امتلك الرض‬ ‫أدرك الستعماُر‪ ،‬أ ّ‬
‫من‬
‫ن قوة هذه المة تك ُ‬
‫والجساد‪ ،‬ولكنه ل يمتلك الرواح والقلوب‪ ،‬وأدرك أ ّ‬
‫في نقاء الّنبع الذي تستمد ّ منه‪ ،‬وأنها ما دامت تتغذى من هذا المصدر‪،‬‬
‫صر‪.‬‬‫مرت ستـنـتـفض طال الزمان أم قَ ُ‬ ‫فإنها مهما اسُتع ِ‬

‫ن‬
‫مروه‪ ،‬ولك ّ‬‫لقد مّر التتاُر من هنا‪ ،‬واكتسحوا العالم السلمي ود ّ‬
‫الحضارة السلمية المهزومة عسكريا ً هضمت التتار فذابوا فيها‪ .‬ومّر‬
‫ذبحوا‪ ،‬لكنهم كانوا منهزمين أمام التفوق‬‫الصليبيون من هنا‪ ،‬وقتُلوا و َ‬
‫الحضاري للمة واعتداِدها بعقيدتها وثقافتها‪ ،‬فانقلبوا إلى بلدهم خاسرين‬
‫خاسئين‪ ،‬ولكنهم انقلبوا بأدوات الحضارة‪.‬‬

‫س‪ ،‬أّنه ل بد ّ من تعكير النبع الصافي‪،‬‬‫واستوعب الستعماُر الحديث الدر َ‬


‫ش‬
‫ة! وسبقت جيو َ‬ ‫فجاء نابليون إلى مصر مصطحبا ً معه جيشا ً ‪ ...‬ومطبع ً‬
‫الستعمار الحديث ِفرقٌ من المنصرين والمستشرقين والدارسين لفهم‬
‫النفسية المسلمة‪ ،‬وأرسلت تقاريرها غربًا‪ ) .‬لورنس الذي سبق ذكره‬
‫منحة بعد تخرجه من أكسفورد بواسطة أستاذه "هوغارت"‪،‬‬ ‫حصل على ِ‬
‫م‬
‫ك في رحلة علمية للتنقيب عن الثار! في آسيا الصغرى‪ ،‬ث ّ‬ ‫ولته الشترا َ‬
‫خ ّ‬
‫التحق بمدرسةٍ للرساليين المريكيين في جبل لبنان لتحسين لغته العربية‪،‬‬
‫ن العربية! ثم في كانون‬
‫ب ما يريدني "هوغارت" إتقا َ‬ ‫وكان يقول‪ :‬لسب ٍ‬
‫سلك الستخبارات البريطانية‬ ‫ً‬
‫الثاني ‪1914‬م‪ ،‬انخرط رسميا في ِ‬
‫العسكرية(‪.‬‬

‫ل الدور الذي‬‫ه والتعكيُر قبل دخول الجيوش ومعه وبعده‪ ،‬ولع ّ‬


‫وبدأ التشوي ُ‬
‫ة‬
‫لعبه "دنلوب" في مصر‪" ،‬ولورنس" في بلد الشام والجزيرة‪ ،‬والجامع ُ‬
‫المريكية في بيروت‪ ،‬يفوق دوَر جيش عرمرم‪.‬‬

‫ضل الستعماُر الخروج‪ ،‬انحناًء لثورة الجماهير‪ ،‬واختيارا ً لنوٍع‬ ‫وعندما ف ّ‬


‫ة منه بأّنه‬
‫ل التصالت الحديثة‪ ،‬وثق ً‬‫جديد من الستعمار أفرزته وسائ ُ‬
‫سيخرج وسيخُلفه من يقوم بوظيفته‪ ،‬منفذا لسياسته‪ ،‬ومحافظا على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ه المستعمر‪ ،‬وكانوا عند حسن ظّنه‪ ،‬فقاموا‬ ‫خل َ ُ‬
‫ف وج َ‬ ‫مصالحه‪ .‬ولقد بّيض ال َ‬
‫بالدور على أكمل وجه‪ .‬وكان أهم ما قاموا به‪ :‬إبقاء المة مشرذمة‪،‬‬
‫وإبقاؤها في حالة اللمنتمي‪ ،‬وحالةِ التشويش الثقافي‪ ،‬والفصام الفكري‪،‬‬
‫وأخيرا ً تقليم مشاعر العزة والكرامة من نفوس المة‪ ،‬بل وسحقها من‬
‫حت وبذلت‪,‬‬ ‫ة الستعمار‪ ،‬وض ّ‬
‫خلل الستبداد والطغيان ‪ .‬لقد قاومت الم ُ‬
‫ن مفهوم‬‫ن بديل الستعمار لم يكون واضحا ً عند المة‪ ،‬وقبل ذلك فإ ّ‬
‫ولك ّ‬
‫الستعمار لم يكن واضحًا!‬

‫ب‬
‫ة وجندي أشقر‪ ،‬إذا ذهبا ذه َ‬ ‫فلقد فُِهم الستعماُر على أّنه دباب ٌ‬
‫ض النظر عـن‬ ‫ط بغ ّ‬ ‫ة استعبادٍ وتسل ّ ٍ‬‫الستعمار‪ ،‬ولم ُيفهم على أّنه حال ُ‬
‫مر للستعمار‪.‬‬ ‫مستع َ‬ ‫ة ِذهنية نفسية "ُتؤهل" ال ُ‬ ‫مر‪ ،‬وأّنه حال ٌ‬
‫مستع ِ‬ ‫جنسّية ال ُ‬
‫مر‬ ‫ومن هنا فإّنه كان ينبغي قبل تدمير الدبابة‪ ،‬وطرد الجندي الشقر أن ُند ّ‬
‫شش في قلوينا‪ ،‬وأن نطرد الضبابية التي تحكم منظومتنا‬ ‫مع ّ‬ ‫العجَز ال ُ‬
‫ل الستعمار‪،‬‬ ‫ل مح ّ‬ ‫الفكرية‪ ،‬لنعرف تماما ً ما هو البديل الذي سيح ّ‬
‫ة مهما كانت‪ ،‬ما هي إل آلة اجتماعية تتغير تبعا ً للوسط الذي‬ ‫"فالحكوم ُ‬
‫ة‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ش فيه وتتنوع معه‪ ،‬فإذا كان الوسط نظيفا حّرا فما تستطيع الحكوم ُ‬ ‫تعي ُ‬
‫سما ً بالقابلية للستعمار فل بد ّ‬ ‫مت ِ‬
‫أن تواجهه بما ليس فيه‪ ،‬وإذا كان الوسط ُ‬
‫من أن تكون حكومته استعمارية" )شروط النهضة‪.(33 :‬‬

‫‪6‬ـ يعيش المسلمون منذ قرن أو أكثر‪ ،‬في فوضى فكرية وسلوكية‪،‬‬
‫دعي أّنه‬ ‫ورؤية ضبابية للمور‪ ،‬بسبب اختلل مرجعيتهم الثقافية‪ .‬فالمسلم ي ّ‬
‫ن بالله‪ ،‬ولكّنه ل يصلي! وهو يصلي لكّنه ل يجد بأسا ً من التعامل‬ ‫مؤم ٌ‬
‫ٌ‬
‫بالربا! وهو منضبط في سلوكه الفردي لكّنه ل يدرك معنى أن يحكم‬
‫حّيدةٌ عن‬ ‫ن شريعة الله سبحانه وتعالى م ُ‬ ‫بالقوانين الوضعية‪ ،‬ول يهتّز ل ّ‬
‫ن المة محكومة بالحديد والنار‪ ،‬تحيى بل كرامة وعّزة‪،‬‬ ‫الحياة‪ ،‬ول يتأثر ل ّ‬
‫كم بها أفراد يملكون البلد والعباد‪ ،‬فمن أفن َوْهُ فبعدلهم‪ ،‬ومن أحي َوْهُ‬ ‫يتح ّ‬
‫فبمّنهم وكرمهم!‬

‫ت في اليوم‬‫دة شخصيا ٍ‬ ‫م الشخصية‪ ،‬يحيى ِبع ّ‬ ‫ن المسلم منفص ُ‬ ‫إ ّ‬


‫ن‬
‫دل شخصيَته بين ساعةٍ وأخرى كما ُيبدل ثياَبه ! لذلك فإ ّ‬ ‫الواحد‪ُ ،‬يب ّ‬
‫دموا الشهداء لطرد المستعمر‪ ،‬ولم يكن في بالهم‬ ‫المسلمين الذين ق ّ‬
‫حقيقة البلء‪ ،‬ول البديل الصحيح‪ ،‬فإنهم لم يدركوا بأنهم يستبدلون عماد َ‬
‫سحنة والّلكنة‪.‬‬
‫الدين بأخيه‪ ،‬مع اختلف ال ّ‬

‫ن السياسة‬‫لقد خرج المستعمُر لّنه أيقن بأّنه ل بد ّ من خروجه‪ ،‬ل ّ‬


‫عنده علم‪ ،‬لذلك لم يقف كالحائط أمام ضربات حركات الستقلل‪ ،‬بل‬
‫انثنى لها‪ .‬وما الضير من خروجه ما دام سيحفظ مصالحه أينما كان؛ في‬
‫لندن‪ ،‬أو باريس‪ ،‬أو واشنطن‪ ،‬فلماذا التعب والدماء؟! نعم ‪ ..‬خرج‬
‫المستعمر ‪ ..‬ولكنه لم يخرج إل وهو ضامن لمرين‪:‬‬

‫من بذلك تبعيتها له‪.‬‬


‫‪1‬ـ إفساد ُ روح المة وثقافتها‪ ،‬فض ِ‬

‫مة‬‫من بذلك سيطرَته على ال ّ‬‫‪ 2‬ـ أّنه خّلف وراءه من ينوب عنه‪ ،‬فض ِ‬
‫وهو بعيـد ٌ عنها‪ ...‬وقد كان ‪ ..‬ذهـب الستعماُر فوقعنـا في الستحمار أو‬
‫في الستعباد‪ ،‬فما هي معالم هذه المرحلة ؟‬
‫ت على مهدي قيدا ً‬
‫ت ألفي ُ‬
‫‪ 7‬ـ "حين ُولد ُ‬

‫وشم ِ الحرية‬
‫ختموهُ ب َ‬
‫ت تفسيرية‬
‫وعبارا ٍ‬

‫عبدًا!"‬ ‫يا عبد العُّزى ‪ُ ...‬‬


‫كن َ‬

‫قدوة‪،‬‬‫ملهم‪ ،‬والزعيم ال ُ‬‫حين ُولدنا‪ ،‬فتحنا أعيننا على صورة الحاكم ال ُ‬


‫ل شيٍء‪ ،‬الذي ل ينام ول‬ ‫ل شيٍء‪ ،‬ويفهم في ك ّ‬ ‫والقائد الذكي الذي يعرف ك ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مة وعنها! وُيخطط من أجلها! الحاكم الذي لوله لما‬ ‫يرتاح وهو ُيفكر لل ّ‬
‫أكلنا ول شربنا‪ ،‬فما علينا إل أن نطمئن لتخطيطه وتنفيذه! وكان فرعون‬
‫ل الرشاد ‪) "..‬غافر‪:‬‬ ‫يقول‪ .." :‬ما أريكم إل ما أرى وما أهديكم إل سبي َ‬
‫‪.(29‬‬

‫ل ما في البلد من خير فهو بسبب الحاكم‪ ،‬من قطرة‬ ‫نك ّ‬‫وقد فهمنا أ ّ‬
‫الماء النازلةِ من السماء‪ ،‬إلى بذرة الزرع الطالعةِ من الرض‪ ،‬إلى الطرق‬
‫الواسعة‪ ،‬والميادين الفسيحة‪ ،‬إلى الشجر المثمر‪ ،‬وشجر الزينة كذلك‪ ،‬إلى‬
‫ل ذلك‪ ،‬وغيُره كثير‪،‬‬ ‫الّنسل الصحيح‪ ،‬إلى المدارس والمصانع والجامعات‪ ،‬ك ّ‬
‫ح مساء‪ ،‬وكما‬ ‫م صبا َ‬‫م ـ كما ُيكّرُر العل ُ‬
‫فبفضله ومنه وإليه! وهذا الحاك ُ‬
‫ت مرةً في الشهر تقريبا ً ـ جاء ِليـبقى‪ ،‬وإلى البد‪ ،‬وأّنه‬ ‫ُتؤكد المظاهرا ُ‬
‫عندما جاء‪ ،‬جاء برغبة الشعب‪ ،‬وبصناديق القتراع‪ ،‬وبنسبة أربع تسعات!‬

‫ت‪ ،‬وصرت أفّرقُ بين الحاكم‬ ‫والحقيقة أّنني ل أذكُر منذ أدرك ُ‬
‫متخلف المسحوق‪ ،‬جاء وذهب‬ ‫ّ‬ ‫ن حاكما ً في هذا العالم ال ُ‬‫والمحكوم‪ ،‬أ ّ‬
‫بنفسه‪ ،‬فهو إن التصقَ بالكرسي ل "َيخلُعه" عنه إل الموت‪ ،‬أو النقلب‪،‬‬
‫مخفورا ً بالقيد إلى السجن‪،‬‬
‫فينقلعُ محموًل على الكتاف إلى المقابر‪ ،‬أو َ‬
‫ليلتقي مع من أرسلهم إليه من قبل!‬

‫ن البلد بما فيها‬


‫منا‪ .‬ول ّ‬
‫ونحن في حقيقة أمرنا عبيد‪ ،‬هكذا ُيعاملنا حكا ُ‬
‫من جملة ما ورثوه عن آبائهم‪ ،‬فهم َيمّنون علينا بما يقدمونه لنا من ُفتات‪،‬‬
‫ض النجاسة"!‬‫ن "قد أغرقنا في ُ‬ ‫ويحذروننا دائمًا‪ ،‬أّننا وعند أول صرخة منا أ ْ‬
‫سخرة!!‬ ‫ش في بلدنا بال ّ‬‫فـتات الذي وهبوه لنا! إّننا نعي ُ‬
‫ِبسلبنا هذا ال ُ‬

‫منح "أي الحكام"‬


‫ن علينا أن نشكر الله على هذه ال ِ‬ ‫ومع ذلك كّله‪ ،‬فإ ّ‬
‫ش فيهما‪،‬‬
‫ض مع التعاسة والّنكد اللذين نعي ُ‬
‫مّنها علينا! وهذا ل يتعار ُ‬ ‫التي َ‬
‫مخلصين‪ ،‬فل بأس من الشكر! "الشكرِ الذي هو‬ ‫شيم ال ُ‬
‫ن الشكر من ِ‬ ‫ل ّ‬
‫ة العجز والفاقة" ‪ ...‬لماذا ؟!‬ ‫فلسف ُ‬

‫ن الوضع كان من الممكن أن يكون أكثَر سوًء‪ ،‬وأشد ّ هو ً‬


‫ل‪ ،‬وكان‬ ‫ل ّ‬
‫ُيمكن أن ُتقـتل ل أن ُتسجن‪ ،‬أو كان بالمكان تعذيُبك‪ ،‬أو إبقاؤك في‬
‫ن الطريقة‬‫السجن حتى تموت! وأكثر من ذلك عليك أن تشكر الله كثيرا ً ل ّ‬
‫ت بها‪ ،‬كان يمكن أن تكون بطريقة أخرى؛ مثل أن‬ ‫"اللطيفة" التي ُقتل َ‬
‫ور لو حدث هذا معك؟‬ ‫حـل في الشوارع‪ ،‬أو ُتسقط على خازوق! تص ّ‬ ‫ُتس َ‬
‫ن هذا‬
‫لكّننا لم نفعل‪ ،‬فاحمدِ الله واشكره! أل ترى ـ عزيزي القارئ ـ أ ّ‬
‫الشكر‪ ،‬كشكرِ من يقول‪ :‬الحمد لله الذي لم يجعلنا نمشي على رؤوسنا!!‬

‫ل العلم الحقائق‪ ،‬وساعدها على ذلك علماُء‬ ‫وهت وسائ ُ‬ ‫لقد ش ّ‬


‫ن ضد ّ الدين‪ ،‬والمثقفون المرتزقة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫السلطين الذين يستغلون الدي َ‬
‫ن‬
‫ن الفقر َنماء‪ ،‬وأ ّ‬‫ن القهر حرية‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ة بأ ّ‬
‫م َ‬
‫متلونون‪ ..‬أقنعوا ال ّ‬‫والصحفيون ال ُ‬
‫ن يضع قيدا ً حول رقبة الرجل وَيمتطي‬ ‫ما يحصل لنا قدر ‪" ...‬كان فرعو ُ‬
‫مكلفا ً‬
‫م بن باعوراء ُ‬ ‫م قارون بتفريغ جيوبه‪ ،‬وكان َبلع ُ‬ ‫كِتفيه‪ ،‬بينما يقو ُ‬
‫مل هذا الوضع‬ ‫بالهمس في أذنه ِبرّقة وحنان وعطف‪ ،‬وإقناعه بأن َيتح ّ‬
‫ة الله" )العودة إلى الذات للدكتور علي شريعتي‪.(353 :‬‬ ‫ويعتبَره مشيئ َ‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فلك أن تعجب ول ينتهي عجبك‪:‬‬

‫فنحن أمة ُتصفق لقاتليها‪ ،‬وتحمل على الكتاف خانقيها‪،‬‬


‫مجوعيها‪ ،‬وُتمجد سارقيها‪ ،‬وتشكر بائعيها‪،‬‬
‫وُتسبح بحمد ُ‬
‫ر من‬ ‫وتنتخب خائنيها! فأي حال هذا؟! بل لقد صار الحكام لكثي ٍ‬
‫الناس آلهة! ول عجب فإن الجهل يفعل أكثر من هذا‪ ،‬لنه "إذا‬
‫كانت الوثنية في نظر السلم جاهلية‪ ،‬فإن الجهل في حقيقته‬
‫وثنية‪ ،‬لنه ل يغرس أفكارا ً بل ينصب أصنامًا؛ وهذا هو شأن‬
‫الجاهلية" )شروط النهضة‪.(30 :‬‬

‫ة‬
‫مستبدٍ سياسي إل ويتخذ له صف ً‬ ‫وهذا الحال يناسب الحكام‪ ،‬فما "من ُ‬
‫ً‬
‫قدسية ُيشارك بها الله‪ ،‬أو تعطيه مقاما ذا علقة بالله‪ .‬ول أقل من أن‬
‫يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله"‬
‫)طبائع الستبداد‪.(37 :‬‬

‫ن له أفعاله‬
‫سه‪ ،‬ويصدق البطانة السيئة التي ُتزي ّ ُ‬
‫دق الحاكم نف َ‬
‫وقد ُيص ّ‬
‫وأقواله‪ ،‬فيقول مثل ما قال فرعون أو شيئا من هذا القبيل‪" ...‬وقال‬
‫فرعون‪ :‬يا أيها المل ما علمت لكم من إله غيري" )القصص‪.(38 :‬‬

‫لقد رضينا بهذا الحال السيئ‪ ،‬وتأقلمنا معه‪ ،‬وإذا كان هيجل قد قال عن‬
‫الشعب الصيني بأنه "لديه عن نفسه أسوأ الفكار‪ ،‬فهو يعتقد أنه لم ُيخلق‬
‫إل ليجّر عربة المبراطور"‪ ،‬فنحن كذلك لدينا عن أنفسنا أسوأ الفكار‪ ،‬لننا‬
‫نعتقد بأننا لم نخلق إل للتصفيق للحكام‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ تقسيم الحكومات في عالمنا‪:‬‬

‫متفاوتة‪ ،‬فهناك وضع‬


‫ن الوضاع في عالمنا ُ‬‫وأنا ل أشك بأ ّ‬
‫ث مقداُر النفس المسموح به للمة‪،‬‬
‫أسوأ! من وضع‪ ،‬من حي ُ‬
‫ضنا من خرم إبرة‪ ،‬يتنفس الخرون من‬ ‫ففي حين يتنفس بع ُ‬
‫منخر واحد‪ ،‬أما البقية فيكتفون بتنفس الحاكم عنهم‪ ،‬لّنه رئة‬
‫ِ‬
‫المة!‬

‫أقول‪ :‬هناك تفاوت يمكن أن أصنفه تحت نوعين‪:‬‬

‫الول‪ :‬يمثله قول كرومويل‪ " :‬تسعة مواطنين من أصل عشرة‬


‫يكرهونني؟ وما أهمية ذلك إن كان العاشُر وحده مسلحًا!" )كتاب الطاغية‪:‬‬
‫‪.(209‬‬

‫الثاني‪ :‬ويمثله قول فردريك الكبر‪" :‬لقد انتهيت أنا وشعبي إلى اتفاق‬
‫ُيرضينا جميعًا‪ ،‬يقولون ما يشتهون‪ ،‬وأفعل ما أشتهي" )السابق‪.(74 :‬‬

‫على أن النوع الول واضح المعالم‪ ،‬ل لبس فيه‪ ،‬فهو استبداد ل رحمة‬
‫فيه‪ ،‬وظلم ل عدل معه‪ ،‬لسان حال ممثليه‪ :‬أنا أو الطوفان‪ .‬أما النوع‬
‫الثاني فله أشكال متنوعة‪ ،‬وتطبيقات مختلفة‪ ،‬فممثلو هذا النوع‬
‫حريصون على المظاهر‪ ،‬لذلك تراهم يدعون الحرية و"الديمقراطية"‪.‬‬

‫ة على مقاسهم‪ ،‬ويذكرني‬


‫لكنهم ُيريدونها حرية ِوفق فهمهم‪ ،‬وديمقراطي ً‬
‫حال هؤلء بالمثل الشعبي‪" :‬صحيح ل تقسم‪ ،‬ومقسوم ل تأكل‪ ،‬وكل حتى‬
‫تشبع!"‬

‫وهذان النوعان يتداخلن‪ ،‬فهي نوعية نسبية‪ ،‬إذ قد يحاول ممثلو النوع‬
‫ممثلي النوع الثاني إذا‬
‫ن ُ‬
‫ممثـلي النوع الثاني‪ ،‬كما أ ّ‬
‫الول القيام بدور ُ‬
‫دى الخط الحمر )وهو خط وهمي متحرك‪ ،‬ل‬ ‫ن قول الشعب تع ّ‬‫وجدوا أ ّ‬
‫أحد يعرف مكانه إل الحاكم الذي يتحكم به بمزاجه(‪ ،‬فإنهم ينتقلون إلى‬
‫النوع الول‪ .‬وفي النهاية يبقى القرار بيد واحد ل شريك له‪ ،‬القول قوله‬
‫لنه أفضل القوال‪ ،‬والرأي رأيه فهو أنضج الراء!‬

‫‪ 9‬ـ فمن نلوم ‪...‬؟ أنلوم الحكام؟ ونحصر المشكلة في فرد بيده‬
‫فتح المغاليق‪ ،‬وتنوير الظلم‪ ،‬وتحقيق الفرج‪ .‬وهل نكتفي بانتظار المهدي‪،‬‬
‫وبالدعاء إلى الله سبحانه أن يهبنا رجل ً كصلح الدين؟ فنظل ننادي‪:‬‬

‫ح الدين ُقم‪ُ ،‬قم يا صلح الدين ُقم‬


‫ُقم يا صل َ‬

‫ده من تحته الُعفونة!‬


‫حتى اشتكى مرق ُ‬

‫ف‬
‫مة تأل ُ‬
‫ح الدين في أ ّ‬
‫ولست أدري ـ في الحقيقة ـ كيف سينجح صل ُ‬
‫الستعباد؟!‬

‫ن الحكام ملومون‪ ،‬ومسئولون‪ ،‬وعليهم جزء كبير من التِبعة ‪..‬‬‫نعم إ ّ‬


‫ن المة هي‬ ‫ولكن ما حجم مسئوليتهم بالمقارنة مع مسؤولية المة؟ إ ّ‬
‫ن صلح‬
‫مّر‪ ،‬وهي التي بيدها مفاتيح التغيير‪ .‬وإ ّ‬
‫المسئولة عن هذا الواقع ال ُ‬
‫مة هذا واقعها‪.‬‬‫الدين وألفا من أمثال صلح الدين لن ينجحوا في أ ّ‬

‫ن المة هي التي ُتفرز القيادة المخلصة‬


‫وإنه لقانون الحياة‪ :‬أ ّ‬
‫القادرة‪ .‬ويقينا‪ ،‬فإن فرعون ما كان ليجرؤ على قول ما قال‪ ،‬إل عندما‬
‫مه فأطاعوه" )الزخرف‪:‬‬ ‫ف قو َ‬
‫علم أن قومه قابلون للستعباد‪" :‬فاستخ ّ‬
‫‪.(54‬‬

‫ن ما يقوله الخرون عن استعداد الشرقيين لتأليه‬ ‫يبدو أ ّ‬


‫ب في أعماق‬ ‫ع ضار ٌ‬
‫الحكام ليس وليد اليوم‪ ،‬وإنما هو طب ٌ‬
‫الماضي انتقل إلينا في الجينات! وإننا بطبيعتـنا عبيد نعشق‬
‫الطغيان‪ ،‬ونبحث عن الطاغية إذا عـّز وجوده!‬

‫ل‬‫ويكاد حالنا يدفعني إلى تصديق مقولة أرسطو قبل الميلد‪" :‬يتمث ُ‬
‫ن بمعناه الدقيق في الطغيان الشرقي‪ ،‬حيث نجد لدى الشعوب‬ ‫الطغيا ُ‬
‫ة العبيد‪ ،‬وهي لهذا تـتحمل‬
‫السيوية ـ على خلف الشعوب الوروبية ـ طبيع َ‬
‫مر" )الطاغية‪.(127 :‬‬ ‫م الطغاة بغير شكوى أو تذ ّ‬
‫حك َ‬

‫أل يؤكد ُ الواقع هذه المقولة؟ أليست المة بجهلها وتخلفها وُبعدها عن‬
‫ن نظامنا الجتماعي قائم‬ ‫حقيقة التوحيد‪ ،‬محضن للطغاة؟ ول عجب فإ ّ‬
‫من هو‬‫على الطغيان والستبداد‪ ،‬وكل واحد منا ُيمارس الطغيان على َ‬
‫دونه‪ ،‬حتى يصل المر إلى السلطة‪.‬‬

‫ة من الطغاة الصغار‪ ،‬الذين‬


‫مستبـد في منطقـتـنا أم ٌ‬ ‫ن وراء ك ّ‬
‫ل طاغية ُ‬ ‫إ ّ‬
‫در ليّ صغير من هؤلء وصار حاكما ً‬ ‫ل يملكون أدوات الطغيان‪ ،‬لكن لو ُقـ ّ‬
‫لحرق شعبه حرقا!!‬
‫ة‬
‫ن الخضوع َ أو القابلي َ‬ ‫فك ّ‬
‫ل فردٍ مّنا أ ّ‬ ‫ص في أن يعر َ‬ ‫ن الخل ُ‬ ‫‪10‬ـ َيكم ُ‬
‫ة التوحيد‪،‬‬ ‫قم فيها حقيق ُ‬ ‫مشركةِ التي لم ت ُ‬‫س ال ُ‬
‫للستعباد أثٌر من آثار النف ِ‬
‫ي‬
‫ن التوحيد إفراد ُ اللهِ سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والتباع‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ل ّ‬
‫ض للتوحيد‪.‬‬‫ض لهذه أو لحدها نق ٌ‬ ‫قـ ٍ‬‫نـ ْ‬

‫مطلقةِ لله‬
‫ط الحياةَ على أساس العبوديةِ ال ُ‬ ‫م ليضب َ‬‫لقد جاء السل ُ‬
‫س بالطاغوت؛ أيّ طاغوت‪،‬‬ ‫ف ل يتحققُ إل إذا كفَر النا ُ‬‫سبحانه‪ ،‬وهذا الهد ُ‬
‫ن‪ ،‬سواء كان على شكل حجر‪ ،‬أو على شكل‬ ‫ل‪ ،‬وفي أيّ زمـ ٍ‬‫في أيّ شك ٍ‬
‫دساتير وأنظمة‪ ،‬وسواء كان زمن الجاهلية الولى‪ ،‬أو في القرن العشرين‪.‬‬

‫مة ـ على الغلب ـ لم تكن على مستوى‬ ‫ن ال ّ‬‫ةأ ّ‬


‫ة ناصع ٌ‬
‫وإّنها لحقيق ٌ‬
‫م من أجلها‪ ،‬إذ أراد َ رفعها‪ ،‬فآَثر ِ‬
‫ت الخلد َ إلى‬ ‫هذه الغاية التي جاء السل ُ‬
‫الرض‪ ،‬وقدمت على حياة العّز حياةَ القطيع!‬

‫ة‬
‫ن تـدرك حقيق َ‬ ‫مة إذا أرادت الّنهوض والخلص فعليها أ ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫وعليه‪ ،‬فإ ّ‬
‫ة الشرك الذي تعيش فيه‪ ،‬فإذا أدركت ذلك فإّنها ـ حتما ً ـ‬ ‫التوحيد‪ ،‬وحقيق َ‬
‫سُتدرك أشياء وحقائق كثيرة‪ ،‬منها هذه القضية التي نحن بصددها؛ قضية‬
‫المة والسلطة‪.‬‬

‫ة رّبها‪،‬‬
‫م ُ‬
‫ن الطواغيت ُيدركون خطورة أن تعرف ال ّ‬ ‫وللسف الشديد‪ ،‬فإ ّ‬
‫س مـن التعرف على الله‬ ‫مستكبرين في الرض َيمنعون النا َ‬ ‫ن ال ُ‬‫فنجد "أ ّ‬
‫ح عقوُلهم على‬ ‫تعالى وعبادته لّنهم بذلك ُيبصرون الحقّ والباطل‪ ،‬وَتـتـفت ّ ُ‬
‫ي بالحقوق النسانية التي‬ ‫ظلم الستكبار ومخازيه‪ ،‬ويتول ّد ُ عندهم الوع ُ‬
‫ن على حقوق‬ ‫ن والعدوا َ‬ ‫م والطغيا َ‬‫ه تعالى لعباده‪ ،‬فيرفضون الظل َ‬ ‫هبها الل ُ‬
‫وَ َ‬
‫النسان" )قيم المجتمع السلمي‪.(1/87 :‬‬

‫ة عن أداء الشعائر‪ ،‬أو عن اللتزام‬ ‫م َ‬


‫مستبد ّ سيمنعُ ال ّ‬ ‫ن ال ُ‬‫وهذا ل يعني أ ّ‬
‫مستبد ّ يـفـّرقُ بين إسلم الشعائر‪ ،‬الذي يقف أثُره‬ ‫الفردي بالسلم‪ .‬فال ُ‬
‫ب تجاه ربّـه‪ ،‬وبيـن إسلم ل يـرضـى‬ ‫دى الواج َ‬ ‫عند اقتناع المسلم بأّنه أ ّ‬
‫بالشرك والظلم‪ ،‬وَيسعى إلى التغيير على أساس التوحيد‪" .‬وُيقال‬
‫ع‬ ‫ف من العلوم كّلها‪ ،‬بل من التي ُتـو ّ‬
‫س ُ‬ ‫مستبد ّ ل يخا ُ‬ ‫ن ال ُ‬
‫بالجمال إ ّ‬
‫ن ما هو النسان‪ ،‬وما هي حقوُقه‪ ،‬وهل هو‬ ‫ف النسا َ‬ ‫العـقـول‪ ،‬وتـعـّر ُ‬
‫حـفـظ" )طبائع الستبداد‪:‬‬ ‫مغبون؟ وكيف الطلب؟ وكيف الّنـوال؟ وكيف ال ِ‬ ‫َ‬
‫‪.(51‬‬

‫ن‬
‫ب الطرق‪" :‬فإ ّ‬ ‫ف بالحقوق عن طريق التوحيد أصع ُ‬ ‫ن طريق التعري ِ‬ ‫إ ّ‬
‫ة‬
‫مة‪ :‬إنك مظلوم ٌ‬ ‫ن القائد الذي يقول لل ّ‬ ‫مه‪ ،‬ول َيخفى على غيرنا أ ّ‬ ‫مـا َنعل ُ‬
‫م ّ‬
‫من يقو ُ‬
‫ل لها‪:‬‬ ‫َ‬
‫في حقوقك‪ ،‬وإّنني أريد ُ إيصالك إليها‪ ،‬يجد ُ منها ما ل يجد ُ َ‬
‫ّ‬
‫ة عن أصول دينك‪ ،‬وإّنني أريد ُ هدايَتك‪ .‬فذلك تـلـّبيه كلـها‪ ،‬وهذا‬ ‫إّنك ضال ٌ‬
‫مها أو َ‬
‫شطُرها" )فاتـني توثيق هذا النص ويبدو لي أنه من‬ ‫مه مـعـظـ ُ‬
‫ُيقاو ُ‬
‫سوي"(‪.‬‬
‫كلم الشيخ البراهيمي رحمه الله في "الصراط ال ّ‬

‫ن ل استعباد َ ول اعتساف ما لم تكن‬ ‫مستبد ّ أ ْ‬‫م إّنه " ل َيخفى على ال ُ‬‫ث ّ‬
‫عماء" )طبائع الستبداد‪:‬‬
‫ل‪ ،‬وِتيهٍ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ة حمقاء‪ ،‬تـتـخب ّط في ظلمةِ جه ٍ‬ ‫الرعي ُ‬
‫‪.(50‬‬

‫ق‪ ،‬ل ُتخيف‬ ‫ع‪ ،‬ول تـجـّلـي الحقائ َ‬‫ف الواق َ‬ ‫ن المعرفة التي ل َتكش ُ‬ ‫إ ّ‬
‫ع‬ ‫س ُ‬
‫خ الواق َ‬ ‫مسـتـبد ّ‪ ،‬بل إّنه يـود ّ لو أّنها َتكـُثر وتنتشر‪ ،‬لّنها معرف ٌ‬
‫ة ُتـَر ّ‬ ‫ال ُ‬
‫ف والخطأ‪.‬‬ ‫لته‪ ،‬وُتسوّغُ النحرا َ‬ ‫ع ّ‬
‫على ِ‬

‫ظـمت جبابرةَ الدنيا‬ ‫عـ ّ‬


‫ة أّنها‪" :‬إذا َ‬ ‫م ُ‬‫م ال ّ‬
‫ن كي تعل َ‬ ‫‪11‬ـ لقد آن الوا ُ‬
‫مها‬
‫مـه‪ ،‬فحك ُ‬ ‫ه عز وجل‪ ،‬ولم ُتعظـ ْ‬ ‫كها وأغنياَءها وَنسيت الل َ‬ ‫وفراعيَنها وملو َ‬
‫مها" )الفتح الرباني للشيخ‬ ‫صن َ‬
‫مت َ‬ ‫ظـ َ‬ ‫صـي ُّر مـن عَ ّ‬
‫م‪ ،‬ت ُ َ‬
‫م من عبد َ الصنا َ‬‫حـك ْ ُ‬
‫ُ‬
‫عبد القادر الجيلني مع تصرف بسيط‪.(246 :‬‬

‫مكـّلـفة‪ ،‬وأّنها‬
‫ة‪ ،‬وأّنها ال ُ‬
‫ة أّنها المسؤول ُ‬
‫م ُ‬
‫م ال ّ‬‫ن لتعل َ‬
‫ولقد آن الوا ُ‬
‫ن الحاكم المسلم العادل لن يأتي بالدعاء‪ ،‬ول بالتمّني‪ ،‬وهو إن‬ ‫ة‪ ،‬وأ ّ‬
‫م ُ‬‫مل َ‬
‫ال ُ‬
‫جاَء فلن تكون معه عصا موسى عليه السلم‪ ،‬ولن يكون خارقًا‪ ،‬إذ ل ب ُد ّ‬
‫ل في الموات‪.‬‬ ‫ن عصا موسى عليه السلم ل تفع ُ‬ ‫مة ناهضةٍ واعية‪ ،‬فإ ّ‬ ‫من أ ّ‬

‫ة ما ُوجدت إل لحفظها‪،‬‬ ‫ة حقوَقها‪ ،‬وأ ّ‬


‫ن الدول َ‬ ‫م ُ‬
‫ف ال ّ‬‫ن لتعر َ‬ ‫ولقد آن الوا ُ‬
‫جب الشريعة‪.‬‬ ‫مو َ‬
‫ق العدل‪ ،‬وصيانةِ النفوس والعراض والموال على ُ‬ ‫وتحقي ِ‬
‫ي‬‫ن هذا العقد َ مبن ّ‬ ‫حكم بالشريعة‪ ،‬وأ ّ‬ ‫مة بعـقدٍ لل ُ‬ ‫ة من ال ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫مـوَكل ٌ‬ ‫ن السلطة ُ‬ ‫وأ ّ‬
‫ن حقوقها‬ ‫ن تعلم أ ّ‬‫متابعة من الرأي العام‪ .‬وعليها أ ْ‬ ‫على وجوب استمرار ال ُ‬
‫ب عليها انتزاعُ‬ ‫ق من ذهب‪ ،‬ولكن هي التي يج ُ‬ ‫لن تـمنح لها على طب ٍ‬
‫كها‪.‬‬
‫ة عليها بوعيها وإدرا ِ‬ ‫حقوِقها‪ ،‬والمحافظ ُ‬

‫مة هي‬ ‫ن موافقة ال ّ‬‫ة برضا الناس وأ ّ‬


‫ن بيعة الحاكم مرهون ٌ‬‫وأن تعلم أ ّ‬
‫عباءةَ الدين لتمرير‬‫مه‪ .‬وأن ترفض من يرتدي َ‬ ‫حكمه ودوا ِ‬
‫س لبقاء ُ‬ ‫السا ُ‬
‫ي بالمظاهر الستهلكية التي ُتسكُتها بها‬ ‫جـوِْره‪ .‬وأن ل تكتف َ‬
‫طغياِنه و َ‬‫ُ‬
‫ق العريضة‪ ،‬ومئات الميادين الفسيحة‪ ،‬والكل‬ ‫ن عشرات الطر ِ‬ ‫ة‪ ،‬فإ ّ‬‫سلط ُ‬‫ال ّ‬
‫سه‪.‬‬‫ن نف َ‬‫حتى الّتخمة‪ ،‬والشرب حتى الرتواء‪ ،‬ل تنفعُ إذا خسر النسا ُ‬

‫مة حقوَقها‬ ‫ض العلماُء‪ ،‬فُيعّرفوا ال ّ‬ ‫ن كي ينه َ‬ ‫‪12‬ـ ولقد آن الوا ُ‬


‫فتات‬ ‫مطالبة بحقوقها‪ ،‬ل أن يبيعوا ديَنهم بال ُ‬ ‫السياسية‪ ،‬وَيتقدموها في ال ُ‬
‫وغوا‬ ‫س ّ‬‫مة بضلل علماِئها الذين َ‬ ‫ن ضلل ال ّ‬‫مة الحق‪ .‬إ ّ‬ ‫ل ُِيـدّلسوا على ال ّ‬
‫ب الشرعية‪ ،‬بدًل من أن ُيوقظوا ضميَر المجتمع‪،‬‬ ‫الخطايا‪ ،‬وألبسوها ثو َ‬
‫فلها له السلم‪.‬‬ ‫ويشحنوه للتقدم باتجاه عـّزته وكرامته التي ك َ ِ‬

‫مخلصة القادرة‪ ،‬فعلى‬ ‫ة ال ُ‬


‫رز السلط َ‬
‫ة التي تف ِ‬
‫والعلماُء هم الّنخب ُ‬
‫ي لتنظيم الّنخبة‪ ،‬وأن ل ُيكرروا الخطأ القديم‪ ،‬عندما‬‫سع ُ‬‫العلماء ـ إذن ـ ال ّ‬
‫ن تنظيم الّنخبة‬
‫سهم‪" ،‬مع أ ّ‬ ‫ظموا أنف َ‬‫انعزل أكثُر العلماء عن الواقع‪ ،‬فلم ُيـن ّ‬
‫ة للشورى‬ ‫ل والَعقد"‪ ،‬وأن َتنبِثق عنه مؤسس ٌ‬ ‫ور "أهل الح ّ‬ ‫كان يمكن أن ُيط ّ‬
‫موازيا ً للنظام البرلماني‬
‫ون نظاما ً سياسيا ً ُ‬ ‫مستقرةٍ ودائمة‪ُ ،‬تك ّ‬ ‫ذات طبيعةٍ ُ‬
‫ط بضوابط العقيدة والشريعة وأخلقيات السلم‪،‬‬ ‫منضب ٌ‬‫الغربي‪ ،‬ولكّنه ُ‬
‫وموازين الشخصية السلمية‪.‬‬

‫واختفاُء هذه المؤسسة من تاريخنا رغم الـّنص القرآني )وأمُرهم شورى‬


‫بينهم( )وشاورهم في المر( وّلـد َ شـرخا ً كبيرا ً في تاريخنا السياسي‪ ،‬وفي‬
‫ي الذي ُنعاني منه" )قيم‬
‫ب الفراغ السياس ّ‬ ‫حياتنا المعاصرة‪ ،‬وهو سب ُ‬
‫المجتمع السلمي‪.(1/71 :‬‬

‫ن‬
‫ت‪ ،‬وإ ّ‬
‫ظلما ِ‬‫مة‪ ،‬فهم الّنور الذي َيكشف ال ّ‬ ‫ن ال ّ‬‫ن العلماء أما ُ‬ ‫إ ّ‬
‫ق‬
‫وامه(‪ ،‬والمسـتبد ّ سار ٌ‬ ‫عواذُله )أي ل ُ ّ‬
‫"المسـتـبـد ّ عاشقٌ للخيانة والعلماُء َ‬
‫حل‬ ‫ل وصوال ُ‬‫ذرون‪ ،‬وللمستـبد ّ أعما ٌ‬ ‫محـ ّ‬
‫ن ُ‬‫منـبّـهو َ‬‫ع‪ ،‬والعلماُء ُ‬
‫ومخاد ٌ‬
‫ُيفسدها عليه إل العلماُء" )طبائع الستبداد‪.(51 :‬‬

‫ث عن التغيير؛ التغييرِ نحو حياةٍ أفضل‪ ،‬يكون فيها‬ ‫‪ 13‬ـ إّننا نتحد ُ‬
‫ن الله ل‬
‫سها‪) :‬إ ّ‬ ‫المسلم عزيزا ً كريمًا‪ .‬وهذا لن يكون إل بتغيير ال ّ‬
‫مةِ نف ِ‬
‫ة‬
‫شرع ُ‬ ‫ُيغي ُّر ما بقوم حتى ُيغيروا ما بأنفسهم( )الرعد‪" ،(11 :‬وإّنها ل ِ‬
‫سك ُتـغـّير التاريخ" )شروط النهضة‪.(35 :‬‬ ‫السماء‪ :‬غَّير نف َ‬

‫مقابل‬
‫طغاة في ال ُ‬ ‫ة هذا التغيير‪ .‬وال ّ‬ ‫دم ُ‬‫مق ّ‬
‫ن وعي الواقِع ُ‬ ‫ول ش ّ‬
‫ك في أ ّ‬
‫ة فاقدةً‬
‫ث تصبح مشلول ً‬ ‫مة‪ ،‬بحي ُ‬ ‫سْلب الوعي والدراك من ال ّ‬ ‫كزون على َ‬ ‫ُيـر ّ‬
‫ث بظلم ول بعدل‪ ،‬وقد ل ُتفّرق‬ ‫للحساس بواقعها الجتماعي‪ ،‬ل َتكترِ ُ‬
‫مستـعـَبدة‪ ،‬تجري‬ ‫ة ل ُتدرك أّنها ُ‬‫م ُ‬
‫ة الكبيرة‪ ،‬فال ّ‬ ‫بينهما! وهذه هي المشكل ُ‬
‫ن المر ل َيعنيها‪.‬‬ ‫ث شاؤوا وهي تـتفرج ! وكأ ّ‬ ‫بها أهواُء الحكام حي ُ‬

‫ة‬
‫ن واجب العلماء إشعاُرها بأّنها كذلك‪ ،‬أي بأّنها مظلوم ٌ‬ ‫ومن هنا فإ ّ‬
‫ن الفقر أو الظلم‬‫ة الحقوق والرادة‪ .‬وذلك بأ ّ‬ ‫مستعَبدةٌ مسلوب َ ُ‬‫دة ُ‬
‫مضطه َ‬‫ُ‬
‫س التغيير‪.‬‬‫ُ‬ ‫أسا‬ ‫هو‬ ‫بهما‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫الحسا‬ ‫بل‬ ‫الثورة‪،‬‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫سب‬ ‫ليس‬ ‫وحده‬

‫قظ هو‬ ‫ن الوعي الجتماعي الي ِ‬


‫ة هذا الشعور‪ .‬إ ّ‬‫ومن هنا يجب تغذي ُ‬
‫ل حركةٍ عقيمة ومجردة‪ ،‬ومن مفردات هذا الوعي‪:‬‬ ‫س وبدونه تبقى ك ّ‬‫السا ُ‬

‫س أّنهم يستطيعون تحريَر أنفسهم‪.‬‬


‫ن يعرف النا ُ‬
‫ـأ ّ‬

‫ـ إيجاد ُ الحساس بالمسؤولية ‪.‬‬

‫ة القدرة على التفكير‪ .‬وهذا يكون بإدراك الذات‪ ،‬والتسلح‬‫ـ تنمي ُ‬


‫بالمعرفة النقدية‪.‬‬
‫ض الذين يقومون بدور‬ ‫مق الّرضو َ‬
‫خ للسيطرة‪ ،‬ورف ُ‬ ‫ـ نبذ التربية التي ُتع ّ‬
‫در‪ ،‬والتربية على مواجهة المشكلة كما هي من غير تجميل‪ ،‬أو إخفاء‬ ‫مـخـ ّ‬
‫ال ُ‬
‫للحقائق‪.‬‬

‫عّزها‪،‬‬
‫ن‪ " :‬الحرية أفضل من الحياة‪ ،‬وأن َيعرفوا النفس و ِ‬ ‫ـ تفهيم الناس أ ّ‬
‫فظ‪ ،‬والظلم وكيف ُيرفع‪ ،‬والنسانية‬ ‫ف وعظمته‪ ،‬والحقوق وكيف ُتح َ‬ ‫والشر َ‬
‫وما هي وظائفها‪ ،‬والرحـمـة ومـا هـي لـذ ُّتها " )طبائع الستبداد‪.(55 :‬‬

‫ص المسلمون من تأثير الراء‬ ‫‪ 14‬ـ وأخيرا ً " لقد آن الوان ليتخل َ‬


‫ة للشورى‪ ،‬وأن يقتربوا‬ ‫ف تاريخية‪ ،‬وأن ُيعيدوا الفاعلي َ‬
‫متها ظرو ٌ‬ ‫حك َ َ‬
‫التي َ‬
‫من روح المبادئ السياسية السلمية بالحفاظ على حقوق النسان في‬
‫ه‬ ‫المشاركة باتخاذ القرار السياسي‪ ،‬فضل ً عن حقوقه الخرى التي من َ‬
‫ح َ‬
‫إيّـاهـا الخـالـقُ عـّز وجــل" )قيم المجتمع السلمي‪ ... .(1/92 :‬وإل‬
‫ن بالكرة‪.‬‬ ‫ب الصبيا ُ‬
‫م‪ ،‬كما يلع ُ‬‫ب بها الحكا ُ‬
‫ة في الهوان‪ ،‬يلع ُ‬
‫م ُ‬
‫فستبقى ال ّ‬

‫ة‬
‫سـل ُ‬
‫والحّر ُيـنك ُِرهُ والّر ْ‬ ‫ن حمـاُر الهل يعرُفــ ُ‬
‫ه‬ ‫ن الهوا َ‬
‫إ ّ‬
‫ال ُ ُ‬
‫جـد ُ‬

‫ي‬
‫عـي ُْر الح ّ‬
‫ن ّ‬
‫إل الذل ِ‬ ‫ول ُيـقيم على خسف ُيراد ُ بــه‬
‫والـوتـد ُ‬

‫ه أحـد ُ‬
‫ج فل َيـبكي لـ ُ‬
‫وذا ُيـش ّ‬ ‫مـته‬ ‫ف معقو ٌ‬
‫ل ِبـُر ّ‬ ‫س ِ‬
‫خ ْ‬
‫هذا على ال َ‬

‫ن أذ ّ‬
‫ل من العَْير‬ ‫ف منا بالهوان؟! وهل نكو ُ‬
‫ل أعر َ‬‫فهل يكون حماُر اله ِ‬
‫م إّنا‬
‫ح مساء فل نتحرك ول ننهض؟! الله ّ‬ ‫ب على رؤوسنا صبا َ‬ ‫والوتد‪ُ ،‬نضَر ُ‬
‫نعوذ ُ بك من العجز والهوان‪.‬‬

‫جـد ُ ‪ :‬قويـة‪ ،‬الَعـْير‪:‬‬ ‫الرسـلة‪ :‬الناقة التي تمشي برفق وتؤدة‪ ،‬وناقـ ٌ ُ‬
‫ةأ ُ‬ ‫ّ ْ‬
‫الحمار‪.‬‬
‫ي السلمي "‬ ‫" مباد ُ‬
‫ئ الّنظام السياس ّ‬
‫م كما هو في الشريعة "‬
‫" الحك ُ‬

‫ب بها المسلمون؟ أو لقل‪ :‬ما الذي‬‫ة التي ُيطال ُ‬


‫‪ 1‬ـ ما هي الخلف ُ‬
‫َيعنيه المسلمون عندما ُيطالبون بإعادة تحكيم ِ الشريعة السلمية؟‬

‫ب بتحكيمها‪ ،‬ليست‬ ‫ة التي ُنطال ُ‬


‫ة التي َنسعى إليها‪ ،‬والشريع َ‬ ‫ن الخلف َ‬
‫إ ّ‬
‫صة بالحوال الشخصية‪ ،‬أو حتى بما هو‬ ‫مخت ّ‬‫ة الحكام ِ الشرعيةِ ال ُ‬
‫مجموع َ‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬كأحكام العقوبات‪ ،‬والحكام القتصادية ‪...‬الخ ليست هذه‬
‫مساومة المسلمين بعرض موافقتهم على تطبيق‬ ‫سب‪ .‬والذين ُيحاولون ُ‬ ‫وح ْ‬
‫الشريعة بهذا البعد‪ ،‬تطمينا ً للمسلمين على سلمة السلم في بلدهم‪،‬‬
‫وتمييعا ً وتنفيسا ً لضغط المطالبة بالسلم كّله‪ ،‬هؤلء مخادعون مراوغون‪.‬‬

‫ل من ل‬ ‫ن شيئا ً أفض ُ‬
‫والذين يقبلون بمثـل هذه العروض‪ ،‬ظّنـا ً منهم أ ّ‬
‫مخدوعون ساهون‪،‬‬ ‫سلم! هؤلء َ‬ ‫شيء‪ ،‬واجتهادا ً منهم أّنها أولى درجات ال ّ‬
‫ب فل َيعتبرون‪ ،‬ويستمر الواحد ُ منهم في ظّنه الحسن‬ ‫تمّر بهم التجار ُ‬
‫م ما بنى‪ ،‬وهكذا‪ ...‬كالتي نقضت غزَلها من بعد قوةٍ أنكاثًا‪.‬‬ ‫بالمخادعين ِليهد َ‬

‫ن تحكيم‬‫ل ‪ ...‬ليست هذه هي الخلفة‪ ،‬وليست هذه هي الشريعة‪ .‬إ ّ‬


‫م الذي يأخذ ُ بعين العتبار‬ ‫الشريعة التي ُيطالب بها المسلمون‪ ،‬هو التحكي ُ‬
‫مرتكزةُ على‬ ‫ة ال ُ‬‫معنّية هي الخلف ُ‬‫ن الخلفة ال َ‬
‫ن الحكام وغاياِتها‪ .‬وإ ّ‬ ‫مضامي َ‬
‫ة عنها‪ .‬وهي التي تتحققُ من خللها وحدةُ المة‪،‬‬ ‫منبثق ُ‬‫عقيدة التوحيد‪ ،‬وال ُ‬
‫مة على طريق‬ ‫ل قرارها عن التبعية للكافر‪ .‬وهي التي تنطلقُ بال ّ‬ ‫واستقل ُ‬
‫م بمقتضى الشرع في‬ ‫العّزة والكرامة والّنهضة والتحرر‪ .‬وهي التي َتحك ُ‬
‫السياسة والعلقات الخارجية‪ ،‬كما تحكم بمقتضى الشرع في النظم‬
‫الداخلية‪ .‬وهي التي ُتوّزع الثروةَ بالعدل‪ ،‬وتعدل في إتاحة الفرص‪ ،‬وتعدل‬
‫ة‬
‫م َ‬‫في تطبيق القانون‪ ،‬فل يبقى أحد ٌ فوقه‪ .‬وهي التي تحكم ال ّ‬
‫برضاها ‪.......‬‬

‫سقى الحجيج‪ ...‬ثم ُيع ّ‬


‫طـ َ‬
‫ل‬ ‫د‪ ،‬وي ُ ْ‬‫ن ُتبنى المساج ُ‬ ‫وإل ‪ ..‬فما هي جدوى أ ْ‬
‫جـّير المة وخيراِتها وأمواَلها لمصلحة‬ ‫ة تُ َ‬
‫الجهاد ؟! وما هي جدوى خلف ٌ‬
‫ل السلم من‬ ‫ت أن تعلم مح ّ‬ ‫ن عقيل رحمه الله‪" :‬إذا أرد َ‬ ‫العدو؟! قال اب ُ‬
‫أهل الزمان‪ ،‬فل تنظر إلى ِزحامهم في أبواب الجوامع‪ ،‬ول ضجيجهم بلبيك‪،‬‬
‫وإّنما أنظر إلى مواطأتهم أعداَء الشريعة"‪ .‬وما نفُعها‪ ،‬وما عدُلها إذا كانت‬
‫ول أمواَلها إلى‬ ‫مة‪ ،‬وُيح ّ‬
‫صُر ال ّ‬ ‫ل يد َ من َيع ِ‬‫تقطع يد َ من يسرق ليأكل‪ ،‬وُتقب ُ‬
‫حسابه في بنوك الغرب؟!‬
‫وماذا ينفع المسلمين أن يأكلوا من فوقهم‪ ،‬ومن تحت أرجلهم ـ مثل ً ـ‬
‫م‬‫ه سبحانه الكتاب والميزان ليقو َ‬ ‫وهم بل كرامة ول حرية ؟! لقد أنزل الل ُ‬
‫ل شيء‪ ،‬وغيُر ذلك فُهراء‪.‬‬ ‫ط في ك ّ‬‫س بالقسط؛ القس ِ‬‫النا ُ‬

‫ن‬
‫متفق عليه بين العلماء‪ ،‬أ ّ‬‫من المقّرر في الشريعة السلمية‪ ،‬وال ُ‬ ‫‪2‬ـ ِ‬
‫السيادة في السلم للشرع‪ .‬قال تعالى‪ " :‬فل وربك ل ُيؤمنون حتى‬
‫ت‬
‫ما قضي َ‬ ‫جَر بينهم‪ ،‬ثم ل يجدوا في أنفسهم حرجا ً ِ‬
‫م ّ‬ ‫ش َ‬‫كموك فيما َ‬ ‫ُيح ّ‬
‫ويسلموا تسليمًا" )النساء‪ .(66 :‬قال ابن تيمية رحمه الله‪" :‬جميعُ الوليات‬
‫ة الله هي‬‫ن كّله لله‪ ،‬وأن تكون كلم ُ‬‫دها أن يكون الدي ُ‬
‫صو ُ‬‫مق ُ‬
‫في السلم َ‬
‫ب‪،‬‬
‫ن الله سبحانه وتعالى إّنما خلقَ الخلقَ لذلك‪ ،‬وبه أنزل الكت َ‬ ‫العليا‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل وعليه جاهد َ الرسول والمؤمنون" )الفتاوى‪.(61 / 28 :‬‬ ‫وبه أرسل الرس َ‬

‫قضها‪.‬‬‫ة تتنافى مع عقيدة التوحيد وتن ُ‬ ‫ن أيّ خضوع لغير الشرع جاهلي ٌ‬ ‫وإ ّ‬
‫م الناس في أنظمتهم‬ ‫ن تحاك ُ َ‬‫ه سبحانه ذلك‪ ،‬وبّين لنا أ ّ‬ ‫وقد عّرفنا الل ُ‬
‫م الجاهلية‬
‫وعلقاتهم لغير الله جاهلية‪ ،‬فقال سبحانه وتعالى‪" :‬أفحك َ‬
‫يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما ً لقوم يوقنون؟" )المائدة‪ .(51 :‬قال‬
‫ن معنى الجاهلية يتحد ّد ُ بهذا النص‪ ،‬فالجاهلية ـ كما‬ ‫سيد رحمه الله‪" :‬إ ّ‬
‫ة البشر‬ ‫م البشر للبشر‪ ،‬لّنها هي عبودي ُ‬ ‫دها قرآُنه ـ هي حك ُ‬ ‫ه وُيحد ّ ُ‬ ‫فها الل ُ‬
‫َيص ُ‬
‫ف في‬ ‫ض ألوهية الله‪ ،‬والعترا ُ‬ ‫ج من عبودية الله‪ ،‬ورف ُ‬ ‫للبشر‪ ،‬والخرو ُ‬
‫مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر‪ ،‬وبالعبودية لهم من دون الله‪.‬‬ ‫ُ‬

‫ما أّنهم يحكمون بشريعة الله ـ‬


‫س ـ في أيّ زمان وفي أيّ مكان ـ إ ّ‬ ‫والنا ُ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ض منها ـ وَيقبلونها‪ ،‬وُيسلمون بها تسليما‪ ،‬فهم إذن في‬‫دون فتنةٍ عن بع ٍ‬
‫ما أّنهم يحكمون بشريعةٍ من صنع البشر ـ في أيّ صورة من‬ ‫دين الله‪ ،‬وإ ّ‬
‫من يحكمون‬‫الصور ـ ويقبلونها فهم إذن في جاهلية‪ ،‬وهم في دين َ‬
‫ل في دين الله‪.‬‬‫بشريعته‪ ،‬وليسوا بحا ٍ‬
‫م الجاهلية‪ ،‬والذي يرفض شريعة الله‬ ‫حك َ‬
‫م الله يبتغي ُ‬ ‫حك َ‬
‫والذي ل يبتغي ُ‬
‫س عليه ـ وهم‬ ‫ه النا َ‬
‫ف الل ُ‬ ‫ق ُ‬‫مفترقُ الطريق ـ َيـ ِ‬ ‫يقبل شريعة الجاهلية‪ ،‬وهذا ُ‬
‫دى عنده من الختيار‪،‬‬ ‫معْ َ‬‫رق الطريق الذي ل َ‬ ‫بعد ذلك بالخيار ‪ .....‬وإّنه مف ِ‬
‫ن‬
‫ما إيما ٌ‬
‫ة‪ ،‬إ ّ‬
‫ما جاهلي ٌ‬‫م وإ ّ‬‫ما إسل ٌ‬ ‫مماحكة عنده ول الجدال‪ ،‬إ ّ‬ ‫ول فائدة من ال ُ‬
‫م الجاهلية " ) في ظلل القرآن(‪.‬‬ ‫ما حك ُ‬
‫م الله وإ ّ‬‫ما حك ُ‬‫ما كفٌر‪ ،‬إ ّ‬
‫وإ ّ‬

‫ن‪" :‬السيادة‬ ‫س الذي يقوم عليه الدي ُ‬ ‫ة هي السا ُ‬ ‫ن هذه القضي َ‬‫إ ّ‬
‫ل صلوات الله عليهم‪ ،‬إل‬ ‫ل الرس َ‬ ‫للشرع"‪ .‬فالله سبحانه وتعالى لم ُيرس ِ‬
‫ه عّز وج ّ‬
‫ل‪ ،‬ل‬ ‫دهم بالمفهوم الذي ُيريده الل ُ‬ ‫س لرّبهم؛ تعبي ِ‬
‫ِلتعبيد النا ِ‬
‫ن العبادة في حقيقتها خضوعٌ لله‬ ‫ضه‪ .‬ذلك أ ّ‬‫ة فر َ‬
‫المفهوم الذي ُتريد الجاهلي ُ‬
‫سبحانه في الشعائر والشرائع‪ ،‬وتوحيد ٌ لله في الوامر والنواهي كما هي‬
‫ل ما ُيحبه‬‫م جامعٌ لك ّ‬‫توحيد ٌ له سبحانه في الوجود والخالقية‪ .‬فالعبادة‪" :‬اس ٌ‬
‫الله ويرضاه من القوال والعمال الباطنة والظاهرة" )العبودية‪.(31 :‬‬
‫مقـتضى الهوى إلى إتباع‬
‫والشرعُ لم يأت إل ِلحمل الناس من إتباع ُ‬
‫مقتضى الشرع‪.‬‬ ‫ُ‬

‫ن وجود هذا الدين هو وجود ُ حاكمية الله‪ ،‬فإذا‬ ‫قال سيد رحمه الله‪" :‬إ ّ‬
‫مشكلة هذا الدين في‬ ‫ن ُ‬‫ل انتفى وجود ُ هذا الدين ‪ ...‬وإ ّ‬ ‫انتفى هذا الص ُ‬
‫ب سلطاَنه‪،‬‬ ‫م الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله وتغتص ُ‬ ‫الرض ل َِهي قيا ُ‬
‫ل لنفسها حقّ التشريع بالباحة والمنع في النفس والموال‬ ‫وتجع ُ‬
‫حشد‬ ‫ن الكريم بهذا ال َ‬‫والولد ‪ ...‬وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآ ُ‬
‫من المؤامرات والمقررات والبيانات‪ ،‬ويربطها بقضية اللوهية والعبودية‪،‬‬
‫ويجعلها مناط اليمان أو الكفر‪ ،‬وميزان الجاهلية أو السلم" )ظلل‬
‫القرآن‪ 3/1216:‬ـ ‪ .(1217‬ولذلك كّله فإنه كان ل بد ّ ـ شرعا ً وعقل ً ـ من‬
‫ققُ هذا المبدأ المهم في الرض‪ ،‬وَيحمل "الكافة على‬ ‫صب حاكم ُيح ّ‬ ‫نَ ْ‬
‫مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الخروية والدنيوية الراجعة إليها"‬ ‫ُ‬
‫)مقدمة ابن خلدون‪ .(170 :‬فإذا لم ُتحقق السلطة هذا المبدأ‪ ،‬فما‬
‫فائدُتها؟ وما مدى شرعيُتها؟‬

‫ن المة‬ ‫مة‪ ،‬أيْ أ ّ‬


‫ن السلطة لل ّ‬ ‫مقّرر أيضا ً في الشريعة أ ّ‬‫‪3‬ـ ومن ال ُ‬
‫ب عنها‪ ،‬أجيٌر عندها‪ُ ،‬تكل ّ ُ‬
‫فه‬ ‫م وهي التي تعزُِله‪ .‬فهو نائ ٌ‬ ‫هي التي ُتوّلي الحاك َ‬
‫ل ذلك‬ ‫ه سبحانه وتعالى‪ .‬وتفصي ُ‬ ‫جب عقدٍ بينها وبينه بالحكم بما أنز َ‬
‫ل الل ُ‬ ‫بمو َ‬
‫ما يلي‪:‬‬

‫ي "القانوني" الوحيد ُ ِلتنصيب الحاكم ِ هو الختيار من ِقبل‬ ‫* الطريقُ الشرع ّ‬


‫مة‪ .‬وأيّ طريق آخر‪ ،‬مثل طريق الوراثة أو النقلب‪ ،‬فليس طريقا ً‬ ‫ال ّ‬
‫ٍ‬
‫ف القانوني لهذه النابة هي أّنها‬ ‫شرعيًا‪ .‬فالمة تختار الحاك َ‬
‫م وُتنيُبه‪ ،‬والتكيي ُ‬
‫م إماما ً‬ ‫ي رحمه الله‪" :‬إّنما يصيُر الما ُ‬‫عقد ٌ بين المة والحاكم‪ .‬قال الباقلن ّ‬
‫ل‬‫ل الح ّ‬
‫ة من أفاضل المسلمين الذين هم أه ُ‬ ‫قد ُ له المام َ‬
‫من َيع ِ‬‫بعقدِ َ‬
‫مؤَتمنين على هذا الشأن لّنه ليس لها طريقٌ إل النص أو‬ ‫والعقد‪ ،‬وال ُ‬
‫ل على ثبوت الختيار الذي نذهب إليه"‬ ‫ص دلي ٌ‬‫الختيار‪ ،‬وفي فساد الن ّ‬
‫)التمهيد‪.(178 :‬‬

‫ل الح ّ‬
‫ل‬ ‫جة في الختيار هم أه ُ‬ ‫ح ّ‬
‫م به ال ُ‬
‫من تقو ُ‬‫قال الدكتور الدريني‪َ " :‬‬
‫ممث ّل ً‬‫مة‪ ،‬و ُ‬‫س الشورى المنَتخب أيضًا‪ ،‬وكيل ً عن ال ّ‬ ‫والعقد‪ ،‬وهذا هو مجل ُ‬
‫ة‬
‫مة واختيارها‪ ،‬لنها هي صاحب ُ‬ ‫لها‪ ،‬ورضا هؤلء إّنما هو تعبيٌر عن رضا ال ّ‬
‫ة‬
‫الشأن والمصلحة الحقيقية ‪ ...‬ويترتب على كون المة هي صاحب َ‬
‫المصلحة الحقيقية‪ِ ،‬لتعّلق الحقّ بها‪ ،‬على النحو الذي بيَنا‪ ،‬ما يلي‪ :‬أ ّ‬
‫ن‬
‫صحة الولية العامة‪ ،‬فمصدر سلطة الحاكم العلى في‬ ‫س في ِ‬‫رضاها أسا ُ‬
‫مد ّةٌ من الشورى السياسية هذه‪ ،‬أو من النتخاب الحّر ‪،"...‬‬ ‫مست َ‬‫الدولة ُ‬
‫عقد ٌ سياسي عام‪ ،‬وهو منشأ اللتزامات‬ ‫س الدولة َ‬ ‫ب رئي ِ‬
‫وقال‪" :‬انتخا ُ‬
‫مة‪ ،‬عن مسؤوليته الدينية أمام الله تعالى" )خصائص‬ ‫دلة بينه وبين ال ّ‬
‫المتبا َ‬
‫التشريع السلمي في السياسة والحكم‪.(428 :‬‬
‫إذن ل ب ُد ّ لكي يكون وضعُ الحاكم شرعيا ً أن يتولى عن طريق عقدٍ بينه‬
‫وبين المة يتجسد ُ في هذا العقد رضا المة واختيارها‪.‬‬
‫م في الشريعة السلمية ليس معصوما ً ‪ ،‬ول هو فوق‬ ‫* الحاك ُ‬
‫فـذ ل‬ ‫من ّ‬ ‫ّ‬
‫متحكم ‪ُ ،‬‬
‫القانون ‪ ،‬يعني ليست له حصانة خاصة ‪ .‬فهو حاكم ل ُ‬
‫ح بيت المال ليست في‬ ‫فـذ ‪ .‬ليس له من المال إل ما قُّرر له ‪ ،‬فمفاتي ُ‬ ‫متـنـ ّ‬
‫ُ‬
‫جيبه ‪.‬‬
‫وهو أجير عند المسلمين ‪ ،‬أنابوه لفضل دينه وعلمه لتطبيق أحكام‬
‫الشريعة ‪.‬فإن فارق الشريعة ‪ ،‬وتسلط على الخلق وجب خلعه ‪.‬‬
‫قال ابن خلدون رحمه الله ‪ " :‬الخليفة ل يتميز عن سائر المسلمين‬
‫إل من حيث كونه منفذا ً للحكام ‪ ،‬وحارسا ً للدين " ‪.‬‬
‫إن الحكم يعني المسؤولية وثقلها ‪ ،‬وكثرة التبعات ‪ ،‬وليس التربع‬
‫على رؤوس العباد ‪ .‬ومن هنا تعلم عدم شرعية السلطة التي يكون فيها‬
‫الحاكم فوق المساءلة ‪ ،‬وأعلى من القانون ‪.‬‬
‫وتعلم عدم شرعية السلطة التي تأكل أموال الناس بالباطل تحت‬
‫أسماء مخترعة ‪ ،‬تبدأ بما يسمى" المخصصات " ‪ ،‬ول تنتهي بما يسمى "‬
‫المصاريف السرية " ‪.‬‬
‫قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ‪ " :‬إني لم أبعث إليكم الولة‬
‫ليضربوا أبشاركم ‪ ،‬ويأخذوا أموالكم ‪ ،‬ولكن ليعلموكم ويخدموكم " ‪.‬‬
‫ح هذه المة التي لها في دينها ‪ ،‬وفي كلم سلفها‬ ‫فماذا نقول ؟! وي َ‬
‫ل‬‫وتطبيقاتهم ما َيضمن لها الحقّ في الحياة الكريمة ثم ترضى بحياة الذ ُ ّ‬
‫والدون ! أل ليت قومي يعلمون‪.‬‬

‫م الذي تختاُره المة‪ ،‬وتتعاقد ُ معه‪ ،‬يجب أن يكون عد ْل ً في‬ ‫* الحاك ُ‬


‫ن من ل عدالة له‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫زما أهله بها‪ .‬وإل " فإ ّ‬ ‫مل ِ‬‫ملتزما ً بأحكام الشريعة‪ُ ،‬‬
‫نفسه‪ُ ،‬‬
‫من على عباد الله‪ ،‬وُيوثقَ به في تدبير‬ ‫من على نفسه‪ ،‬فضًل عن أن ُيؤ َ‬ ‫ل ُيؤ َ‬
‫دينهم ودنياهم" ) السيل الجرار‪.(4/58 :‬‬

‫فالعدالة من الشروط التي يجب أن تتوفر في الحاكم عند توليته‪ ،‬وهي‬


‫قـدا ً بين المة‬
‫س الحكم عـ ْ‬
‫جبات عزله إذا فقدها‪ .‬فإذا كان أسا ُ‬ ‫مو ِ‬
‫من ُ‬
‫ن الحاكم إذا لم تتوفر فيه الشروط‪ ،‬فالعقد‬ ‫وبين الحاكم‪ ،‬فهذا يعني أ ّ‬
‫ل المة من‬ ‫ّ‬
‫خ العقد‪ ،‬وتتحل ُ‬
‫س ُ‬
‫دها ينف ِ‬ ‫باطل‪ ،‬وإذا افتقد الشرو َ‬
‫ط أو أح َ‬
‫التزاماتها‪ ،‬وهي الطاعة والنصرة‪..‬‬

‫ددةً يجب توفرها في الحاكم حتى يكون‬ ‫وقد ذكر العلماُء شروطا ً ُ‬
‫متع ّ‬
‫ت معنيا ً بذكرها جميعها‪ ،‬إذ ليس هذا من أهداف البحث‪،‬‬ ‫ح الولية‪ .‬لس ُ‬
‫صحي َ‬
‫ن‬
‫خاصة وأن اشتراط بعضها من تحصيل الحاصل‪ ،‬ولو من ناحية نظرية‪ ،‬وإ ْ‬
‫ة‬ ‫شْر َ‬
‫طي العلم والعقل عند المسلمين! نتيج ً‬ ‫ك في مدى وضوح َ‬ ‫ت أش ّ‬‫صر ُ‬
‫لتعاقب بعض السفهاء والجهلة على حكم بعض بلد العالم السلمي!!!‬

‫والذي يعنيني في هذا المجال شرطا العدالة والعدل‪ .‬ومن تابعني من‬
‫ر‬
‫ضوا أوقاتهم في بحث كف ِ‬ ‫ن المسلمين قَ َ‬‫مأ ّ‬‫ة يعل ُ‬
‫ة ‪ ..‬مسأل ً‬‫البداية مسأل ً‬
‫ب النتباه عن موضوع العدل والعدالة‪،‬‬ ‫الحاكم والختلف فيه‪ ،‬مما جذ َ‬
‫م على هذه الصورة‪ :‬إذا لم نستطع إثبات تلـّبس الحاكم‬ ‫وصار البحث يت ّ‬
‫ن هذا الحاكم الذي ليس‬ ‫ً‬
‫ض بيعته! حسنا‪ :‬لك ّ‬ ‫ُ‬
‫بالكفر‪ ،‬فل يجوُز عزله أو نق ُ‬
‫ص‬
‫بكافر‪ ،‬هل هو عدل وعادل؟ فإن لم يكن كذلك‪ ،‬فما هو الحكم؟ لقد ن ّ‬
‫ل والعقد أن ُيـبايعوا من لم يكن عدل ً‬
‫ل العلم على أنه ليس " لهل الح ّ‬
‫أه ُ‬
‫إذا اشُتهر بذلك " )السيل الجرار ‪.(58 /4‬‬

‫كرة التركية عن "الخلفة وسيادة المة" )سيادة المة‬ ‫مذ ّ‬


‫جاء في ال ُ‬
‫مراد بها أن‬
‫ن السيادة للشرع(‪ " :‬أما العدالة فال ُ‬ ‫مصطلح غير مقبول‪ ،‬ل ّ‬
‫ل والحوا َ‬
‫ل‬ ‫متجنبا ً الفعا َ‬
‫ب استقامة في السيرة‪ ،‬وأن يكون ُ‬ ‫يكون صاح َ‬
‫ً‬
‫مستحقا للخلفة‪،‬‬ ‫م والغادُر ُ‬‫موجبة للفسق والفجور‪ ،‬فكما ل يكون الظال ُ‬ ‫ال ُ‬
‫ن إجلس‬ ‫متصف بالتآمر والتحايل أهل ً لها‪ ،‬لقد قال الئمة إ ّ‬ ‫ل يكون ال ُ‬
‫ي الخلفة وتسليم العباد له‪ ،‬كمثل‬ ‫كرس ّ‬ ‫المتصف بالظلم والعتساف على ُ‬
‫تسليم قطيع الغنم للذئب وجعله راعيا ً لها‪.‬‬

‫وأقوى برهان على ذلك‪ ،‬قوله تعالى لبراهيم عليه السلم عندما سأله‬
‫ل عهدي الظالمين " ‪ ،‬أي ل يستحقونها‬ ‫أن يجعل المامة في ذريته " ل ينا ُ‬
‫ي من تنصيب الخليفة هو دفعُ الظلم عن‬ ‫ن إليها‪ ،‬والقصد الساس ّ‬
‫صلو َ‬
‫ول ي َ ِ‬
‫ة‬
‫الناس ل تسليط الظالم عليهم! فلذا ل يجوز عند علماء السلم كاف ً‬
‫ن الخليفة الذي ارتكب‬ ‫ة‪ ،‬كما أ ّ‬
‫انتخاب من هو معروف بالظلم والبغي خليف ً‬
‫م والطغيان أثناء خلفته يستحقّ العزل‪ ،‬بل إنه عند قدماء الشافعية‬ ‫الظل َ‬
‫سه‪ ،‬ينعزل ولو لم تعزله المة‪.‬‬ ‫م الشافعي نف ُ‬‫وعلى رأسهم الما ُ‬

‫ن العدل ليس بشرط لصحة الخلفة عند الحنفية‪،‬‬ ‫ض الكتاب أ ّ‬‫ويرى بع ُ‬


‫ح في نظرهم اختيار الناس له مع الكراهية‪ ،‬كما يجوز تقليده الوظائف‬ ‫فيص ّ‬
‫ن ابن الُهـمام وهو من‬
‫ل غيُر صحيح‪ ،‬ل ّ‬‫ن هذا القو َ‬‫كالقضاء والولية‪ ،‬ولك ّ‬
‫مسايرة ـ كما صّرح بذلك صدُر الشريعة‬ ‫محققي الحنفية صـّرح في ال ُ‬ ‫كبار ُ‬
‫في كتابه "تعديل العلوم"‪ ،‬بأن العدالة شرط جوهري لصحة الخلفة عند‬
‫أئمة الحنفية أيضا ً " ‪) .‬عن فقه الخلفة وتطورها ‪ 124‬ـ ‪ ،125‬الحاشية(‪.‬‬

‫عُلك‬
‫ص رحمه الله في تفسير قوله تعالى‪ " :‬إّني جا ِ‬ ‫صا ُ‬‫قال الج ّ‬
‫ل عهدي الظالمين" )البقرة‪:‬‬ ‫للناس إمامًا‪ .‬قال ومن ذريتي‪ .‬قال‪ :‬ل ينا ُ‬
‫م‬‫من يلز ُ‬‫‪ " ،(124‬فل يجوز أن يكون الظالم نبيًا‪ ،‬ول خليفة‪ ،‬ول قاضيًا‪ ،‬ول َ‬
‫ت أو شاهد ‪ ...‬فثبت بدللة هذه‬ ‫ف ٍ‬‫م ْ‬‫ل قوله في أمور الدين من ُ‬‫س قبو ُ‬
‫النا َ‬
‫صب نفسه في‬ ‫من ن َ ّ‬
‫ن َ‬
‫ن إمامة الفاسق‪ ،‬وأنه ل يكون خليفة‪ ،‬وأ ّ‬ ‫الية بطل ُ‬
‫عه ول طاعُته‪ ،‬وكذلك قال‬ ‫س اتبا ُ‬‫هذا المنصب‪ ،‬وهو فاسق لم يلزم النا َ‬
‫ة لمخلوق في معصية الخالق"‪ ،‬ود ّ‬
‫ل‬ ‫النبي صلى الله عليه وسلم‪ " :‬ل طاع َ‬
‫ي الحكم "‬ ‫ن الفاسق ل يكون حاكمًا‪ ،‬وأن أحكامه ل تنفذ إذا وَل ِ َ‬ ‫أيضا ً على أ ّ‬
‫)بتصرف عن أحكام القرآن للجصاص ‪.(1/84‬‬

‫ن الفسق مانع من تولي الحكم‪ ،‬وهو مع الظلم ُينهي قانونية ولية‬ ‫إ ّ‬


‫الحاكم‪ .‬وهذا يقودنا إلى المور التي ُتنهي الولية‪ .‬وهي أمور متعددة‪،‬‬
‫الكفر أحدها‪ ،‬وليس الوحيد‪ .‬فمنها الظلم والفسق )أي من السباب‬
‫المتعلقة بشخص الحاكم(‪ " :‬والفسق نوعان‪ :‬الول‪ :‬هو الفسق الذي ينتج‬
‫عن ارتكاب المعاصي والتجرؤ على العمال المكروهة‪ ،‬مع اتباع الشهوات‬
‫والستسلم للهواء‪ ،‬وهو يظهر في السلوك الشخصي للحاكم سواء في‬
‫حياته الخاصة‪ ،‬أو في طريقته في ممارسة السلطة في الحياة العامة‪.‬‬
‫ود ارتكاب‬‫وُيعتبر الخليفة فاسقا ً بهذا المعنى إذا ارتكب إحدى الكبائر‪ ،‬أو تع ّ‬
‫منا‪ ،‬فيصبح الخليفة فاسقًا‪ :‬إذا خر َ‬
‫ج‬ ‫الصغائر‪ .‬أما في النوع الثاني الذي َيه ُ‬
‫في ممارسة وليته عن الصول الشرعية‪ ،‬أي إذا تجاوز سلطته أو أساء‬
‫استعمال وليته‪ .‬والمتفق عليه أن الفسق بنوعيه يمنع من تولي الخلفة‪.‬‬
‫ويترتب على ذلك أنه َيمنع من استمرار سلطة الخليفة إذا طرأ أثناء‬
‫الولية‪ ،‬ما دام أنه يمنع أهليته لتولي الخلفة" )فقه الخلفة وتطورها‪246 :‬‬
‫ـ ‪.(247‬‬

‫ن واقع الحكم الذي يشتمل على الفساد واقع مرفوض‪ ،‬وعلى المة‬ ‫إ ّ‬
‫أن تسعى لتغييره إن استطاعت‪ ،‬بشروط الستطاعة المعروفة‪ .‬قال‬
‫القاضي عياض رحمه الله‪ " :‬فلو طرأ عليه كفر‪ ،‬أو تغيير لشرع‪ ،‬أو بدعة‪،‬‬
‫م‬
‫خرج عن حكم الولية‪ ،‬وسقطت طاعته‪ ،‬ووجب على المسلمين القيا ُ‬
‫ب إمام ٍ عادل" )شرح النووي على مسلم‪.(12/229 :‬‬ ‫عليه وخلعه‪ ،‬ونص ُ‬
‫مه ولم‬ ‫ش ُ‬ ‫مه و َ‬
‫غـ َ‬ ‫جـاَر وظهر ظل ُ‬
‫مسقطات الولية‪ ،‬فمن " َ‬ ‫والظلم من ُ‬
‫دعـه‪ ،‬ولـو‬‫ل والعقـد الـتواطؤ على َر ْ‬ ‫ل الحـ ّ‬
‫عـوِ ِلزاجرٍ عـن صنيعه‪ ،‬فلهـ ِ‬
‫ي َْر َ‬
‫صب الحروب" )الخلفة للشيخ رضا‪.(25 :‬‬ ‫شهرِ السلح ون َ ْ‬‫بِ ْ‬

‫جبات نزِع الطاعة‪ ،‬والسعي إلى التغيير كثيرة‪ ،‬منها ما هو‬


‫مو ِ‬
‫ن ُ‬
‫إ ّ‬
‫موجود في كلم الله سبحانه‪ ،‬وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم‪،‬‬
‫ة لنصوص العلماء‬ ‫وكلم الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم‪ ،‬إضاف ً‬
‫رحمهم الله‪ .‬قال تعالى‪" :‬ول ُتطيعوا أمَر المسرفين‪ .‬الذين ُيفسدون في‬
‫ي ُيفيد تحريم طاعة‬
‫الرض ول ُيصلحون" )الشعراء‪ 152 :‬ـ ‪ (153‬وهذا نه ٌ‬
‫المسرفين المفسدين‪.‬‬

‫جُبه"‪،‬‬ ‫قال العضد ُ رحمه الله‪ " :‬وللمة خلعُ المام وعزُله بسب ٍ‬
‫ب ُيو ِ‬
‫مثـل أن ُيوجد‬ ‫جرجاني رحمه الله في بيان السبب‪ِ " :‬‬ ‫حه السيد ُ ال ُ‬‫وقال شار ُ‬
‫ل أحوال المسلمين‪ ،‬وانتكاس أمور الدين‪ ،‬كما كان لهم‬ ‫ب اختل َ‬ ‫ج ُ‬ ‫منه ما ُيو ِ‬
‫صـُبه وإقامته لنتظامها وإعلئها " )الخلفة‪.(22 :‬‬ ‫نَ ْ‬

‫ب عزُله‪ ،‬فعن جابر‬ ‫ه سقطت وليته‪ ،‬ووج َ‬ ‫ومن لم يحكم بما أنزل الل ُ‬
‫ل الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب‬ ‫رضي الله عنه قال‪ " :‬أمرنا رسو ُ‬
‫بهذا ـ يعني السيف ـ من خرج عن هذا ـ يعني المصحف ـ"‪ .‬عّلق اب ُ‬
‫ن تيمية‬
‫رحمه الله على هذا الحديث‪ " :‬قال تعالى " لقد أرسلنا رسلـنا بالبينات‪،‬‬
‫وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط‪ ،‬وأنزلنا الحديد فيه‬
‫بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله‬
‫ل الكتاب وأنزل‬ ‫ن سبحانه وتعالى أّنه أنز َ‬
‫قوي عزيز" )الحديد‪ ، (26 :‬فبي ّ َ‬
‫ل‪ ،‬ليقوم الناس بالقسط‪ ،‬وأنزل الحديد‪ ،‬فمن‬ ‫العدل‪ ،‬وما به ُيعرف العد ُ‬
‫خرج عن الكتاب والميزان ُقوتل بالحديد‪ .‬فالكتاب والعدل متلزمان‪،‬‬
‫ن للشرع‪ ،‬فالشرع هو العدل‪ ،‬والعدل هو الشرع‪ ،‬ومن‬
‫مبي ُ‬
‫والكتاب هو ال ُ‬
‫حكم بالعدل‪ ،‬فقد حكم بالشرع " )الفتاوى‪35/365 :‬ـ ‪.(366‬‬

‫ن قضية العدل ليست من سقط المسائل‪ ،‬فالكون قائم على العدل‪،‬‬ ‫إ ّ‬


‫وحياة الناس ينبغي أن تقوم على العدل‪ .‬ولقد بلغَ من وضوح مسألة العدل‬
‫ن عاقبة‬
‫ن الناس لم يـتـنازعوا في أ ّ‬ ‫ن قال‪ " :‬فإ ّ‬ ‫عند ابن تيمية رحمه الله‪ ،‬أ ْ‬
‫ة العادلة‬
‫ه ينصُر الدول َ‬
‫الظلم وخيمة‪ ،‬وعاقبة العدل كريمة‪ ،‬ولهذا ُيروى‪ :‬الل ُ‬
‫ة الظالمة وإن كانت مؤمنة" )الفتاوى‪:‬‬ ‫وإن كانت كافرة ‪ ،‬ول ينصر الدول َ‬
‫‪.(28/62‬‬

‫وقال رحمه الله‪ " :‬وأموُر الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي‬
‫قد يكون فيه الشتراك في بعض أنواع الثم‪ ،‬أكثر مما تستقيم مع الظلم‬
‫في الحقوق‪ ،‬وإن لم تشترك في إثم ‪ ...‬ويقال‪ :‬الدنيا تدوم مع العدل‬
‫والكفر‪ ،‬ول تدوم مع الظلم والسلم‪ .‬وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫ة من البغي‪ ،‬وقطيعة الرحم " فالباغي ُيصـرع‬ ‫ب أسرعُ عقوب ً‬ ‫‪ " :‬ليس ذن ٌ‬
‫ن العدل نظام كل شيء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫في الدنيا‪ ،‬وإن كان مغفورا له مرحوما‪ .‬وذلك أ ّ‬
‫خلق‪ ،‬ومتى‬ ‫فإذا أقيم أمُر الدنيا بالعدل قامت‪ ،‬وإن لم يكن لصاحبها من َ‬
‫لم تقم بالعدل لم تقم‪ ،‬وإن كان لصاحبها من اليمان ما ُيجزى به في‬
‫الخرة" )المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .(4 :‬قال صلى الله عليه‬
‫ش لهم إل‬‫ة من المسلمين فيموت وهو غا ّ‬ ‫ل َيـلي رعي ً‬ ‫من وا ٍ‬ ‫وسلم‪" :‬ما ِ‬
‫ه الجّنة‪،‬‬ ‫ت‪ :‬نسأ ُ‬
‫ل الل َ‬ ‫ه عليه الجّنة" )البخاري‪ :‬ح ‪ .(7151‬قـلـ ُ‬ ‫م الل ُ‬
‫حّر َ‬
‫ن سُيـريحنا منهم في الخرة‪ ،‬إذ ابتلنا بهم في الدنيا‪ ،‬فهو‬ ‫هأ ْ‬ ‫وأحمد ُ الل َ‬
‫م من أن يـبتـلينا بهم دنيـا وآخرة‪.‬‬ ‫سبحانه أرح ُ‬

‫)‪ (4‬ـ ومن المور التي ُتوجب خل ْعَ الحاكم‪ ،‬تقصيُره بالواجبات التي‬
‫ة على القيام بها ‪ .‬فما هي هذه الواجبات؟‬ ‫بايع الم َ‬

‫ه عشرةَ واجبات على الحاكم أن يضطلع بها‪،‬‬ ‫ذكر الماورديّ رحمه الل ُ‬
‫وذكَر غيُره غيَرها‪ ،‬وسأذكَر هذه الواجبات بغير عبارة الماورديّ رحمه الله‬
‫ف إليها غيَرها‪،‬‬
‫لُتناسب الواقع‪ ،‬وِليتسّنى للمطلعين إدراكها بسهولة‪ ،‬وسأضي ُ‬
‫ما أراهُ كذلك‪.‬‬
‫أو سأجمعُ معها غيرها مما كتبه غيُره‪ ،‬وم ّ‬

‫من الـ ّ‬
‫شـَبه والنحرافات‪ ،‬ويكون‬ ‫ة العقيدة‪ِ ،‬‬ ‫فـ ُ‬
‫ظ الدين‪ ،‬وحماي ُ‬ ‫ح ْ‬
‫‪1‬ـ ِ‬
‫ظ بأحد أمرين‪:‬‬‫الحف ُ‬

‫ة العلماء والدعاة المؤهلين لحمل السلم‪ ،‬وتعليمه‪،‬‬


‫أولً‪ :‬تهيئ ُ‬
‫وكشف الغموض واللتباس عن الشريعة السلمية‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬تطبيق العقوبات المتعّلقة بمن يؤدي عمُله أو قوُله إلى الم ّ‬
‫س‬
‫حرمة العقيدة‪ ،‬مثـل قتل المرتد‪ ،‬وعدم التسليم للذين يقبلون الكفر‬ ‫ب ُ‬
‫بدعوى الحرية الشخصية‪.‬‬

‫‪2‬ـ تحقيق العدل على مقتضى الشريعة‪ ،‬وذلك يكون‪:‬‬

‫أول ً ‪ :‬بالعدل في إتاحة الفرص بين الناس دون تمييز‪.‬‬

‫ثانيا ً‪ :‬تنفيذ الحكام بين المختـلفين والمتخاصمين‪ ،‬ورد ّ الحقوق إلى أهلها‬
‫ل لحدِ الرعية على أحد‪.‬‬‫بل تفضي ٍ‬
‫ث الموارد ُ والنفقات‪.‬‬
‫‪3‬ـ تنظيم الشؤون المالية‪ ،‬من حي ُ‬

‫م الموارد هي الزكاة‪ ،‬فعلى السلطة جمُعها من القادرين وتوزيعها‬ ‫وأه ّ‬


‫على مستحقيها المذكورين في الية‪ .‬وهناك موارد أخرى كالصدقات‬
‫ما تقـتضيه‬
‫ة جمعَ المال من المة لغاية ما م ّ‬
‫والغنائم‪ ،‬وكأن تقرر السلط ُ‬
‫ف‪ ،‬ول‬
‫س ٍ‬
‫المصلحة‪ ،‬شرط أن يكون الجمع بالعدل من غير خوف ول ع ْ‬
‫ل للمسلمين فوق ما يحتملون‪.‬‬ ‫تحمي ٍ‬
‫ف ‪ ،‬ودفع المال لمن‬
‫سَر ٍ‬
‫أما النفقات‪ ،‬فيجب أن تكون بالحق من غير َ‬
‫يستحقه في وقت الحاجة‪ ،‬ومراعاة الضروريات والحاجيات والتحسينيات‬
‫في النفقات‪.‬‬

‫ل‪ ،‬التركيز على بناء المرافق والمظاهر‬ ‫فمن غير المقبول شرعا ً وعق ً‬
‫الستهلكية التي يمكن الستغناُء عنها‪ ،‬في مجتمع ُيعاني أغلـُبه من الفقر‪،‬‬
‫ن الناس‬‫ت النفايات‪ .‬إ ّ‬
‫ويعيش كثيٌر من أفراده على ما َتحويه حاويا ُ‬
‫ش بل حدائق وميادين‪ ،‬ومدن ملهي‪ ،‬لكنهم ل يستطيعون‬ ‫يستطيعون العي َ‬
‫الحياة بل طعام وشراب ـ نظيف ـ وعافية‪.‬‬

‫ة في العالم العربي بازدياد عدد‬‫ومن أعجب العجب أن تفتخر السلط ُ‬


‫ن‬
‫ن الحاجة عبودية‪ ،‬ول ّ‬‫ي الناس ازدياد العبيد ! ل ّ‬ ‫الطرق المعبدة‪ ،‬لُتـنس َ‬
‫معّبدة!‬‫ورته السلطة ُينتج نفوسـا ً ُ‬ ‫الفقر الذي ط ّ‬
‫س على أنفسهم وأموالهم‪،‬‬ ‫‪4‬ـ تحقيق المن الداخلي‪ ،‬ليأمن النا ُ‬
‫ن‬
‫ي المجتمع‪ ،‬ذلك أ ّ‬
‫مـا ُيؤدي إلى ُرق ّ‬
‫وروها‪ ،‬م ّ‬
‫فيتصرفوا في معايشهم وُيط ّ‬
‫المن من الخوف ُركن النتاج‪ ،‬وأصل البداع‪.‬‬

‫سن التصرف في الدخل‬ ‫ح ْ‬


‫‪5‬ـ تحقيق المن الغذائي‪ ،‬من خلل ُ‬
‫ن‬
‫والنفاق‪ ،‬ومن خلل الحكمة في ترتيب حاجات الناس‪ ،‬الهم فالمهم ‪ ...‬إ ّ‬
‫ن السيطرة عليه‬ ‫ة له‪ ،‬ل ّ‬
‫الجائع ل حياةَ له‪ ،‬والقـل ِقُ على رزقه ل كرام َ‬
‫ة الخبز‪،‬‬‫ل‪ ،‬فيحرص على امتلك لقم َ‬ ‫ن الجوع ذ ّ‬
‫مستبـد ّ ُيـدرك أ ّ‬‫سهلة‪ .‬وال ُ‬
‫ث وراء‬‫ده إليه كلما دعت الحاجة‪ ،‬فل يزال الجائعُ يله ُ‬ ‫ط يش ّ‬ ‫ويربطها بخي ٍ‬
‫اللقمة‪ ،‬ول يزال المستبد ُيملي على الجائع ما يريد لينال الخيُر في النهاية‬
‫جوّعْ كلَبك‬ ‫ة ! وكذا السلطة في العالم الثالث تـّتبعُ المث َ‬
‫ل القائل‪َ " :‬‬ ‫لقم ً‬
‫ب منها أمَنها وُقـوَتها‪ ،‬لتضمن‬
‫ك" فُتجيع الشعوب‪ ،‬وُتخيفها‪ ،‬أي أنها تسل ُ‬ ‫َيتبعْ َ‬
‫طاعتها!‬

‫ن الله سبحانه على قريش بالمن من الخوف‪ ،‬والمن من‬ ‫وقد امت ّ‬
‫م في‬ ‫الجوع‪ ،‬وجعل ذلك سببا ً في حرية حركتهم في التجارة‪ ،‬و ِ‬
‫من ث َ ّ‬
‫رخائهم وتطورهم‪ " :‬ليلف قريش‪ .‬إيلفهم رحلة الشتاء والصيف‪.‬‬
‫ب هذا البيت‪ .‬الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"‪.‬‬ ‫فليعبدوا ر ّ‬

‫ددهما‪ ،‬فتهتز مشاعري في ك ّ‬


‫ل‬ ‫هما كلمتان أحفظهما‪ ،‬ول أزال أر ّ‬
‫ي رضي الله عنه‪" :‬لو‬ ‫ة‪ ،‬وكأّني أسمعهما للمرة الولى‪ .‬والقائل هو عل ّ‬ ‫مر ٍ‬
‫كان الفقُر رجل ً لقتلته"! هذا عن الفقر‪ ،‬فما بال الجائع؟‪" :‬عجبت لمن بات‬
‫ج على الناس بسيفه"‪ .‬إّنه‪ :‬الشبع أو الثورة‪،‬‬ ‫عياله‪ ،‬كيف ل يخر ُ‬
‫ت ِ‬ ‫ل يجد ُ قو َ‬
‫ي!‬
‫فلله د َّر عل ّ‬
‫ل أهَلها أن‬
‫ن في بلدٍ ما وسأ َ‬‫ن حزم رحمه الله أنه إذا جاع إنسا ٌ‬‫أفتى اب ُ‬
‫ن منعوه فقاتلهم حتى‬ ‫ً‬
‫ُيطعموه فرفضوا‪ ،‬فاقـتحم بيتـا َيستـوفي حاجَته‪ ،‬فإ ْ‬
‫ب الفقُر إلى بلد قال له‬ ‫قتلهم فل شيء عليه‪ .‬وقد قيل قديمًا‪ " :‬إذا ذه َ‬
‫الكفُر خذني معك"‪.‬‬

‫‪6‬ـ إعداد المة عسكريًا‪ ،‬وتقويتها عددا وعدة‪.‬‬

‫‪7‬ـ تحصين حدود الدولة‪ ،‬وحمايتها‪ ،‬ورد أي عدوان عليها‪.‬‬

‫مة‬
‫‪8‬ـ "جهاد ُ من عاند السلم بعد الدعوة حتى ُيسلم أو يدخل في الذ ّ‬
‫لـُيـقام بحقّ الله تعالى في إظهاره على الدين كـّله"‪.‬‬

‫ن المؤهلين في مناصب الدولة‪ ،‬ومقياس التأهيل‪ :‬المانة‬


‫‪9‬ـ تعيـي ُ‬
‫ل بالكفاءة مضبوطة‪ ،‬والموا ُ‬
‫ل‬ ‫والعلم بما يقـتضيه المنصب " لتكون العما ُ‬
‫بالمناء محفوظة "‪.‬‬

‫فح الحوال‪ ،‬لينهض‬ ‫مشارفة المور‪ ،‬وتص ّ‬‫‪10‬ـ " أن ُيباشـر بنفسه ُ‬
‫بسياسة المة‪ ،‬وحراسة الملة"‪ ،‬ول يتـشاغل عمن ينـتدبهم لتسيـير أعمال‬
‫ح "‪.‬‬
‫ش الناص ُ‬
‫ن‪ ،‬وَيغـ ّ‬
‫ة بهم " فقد يخون المي ُ‬
‫الدولة‪ ،‬حتى ولو بالعبادة‪ ،‬ثق ً‬

‫‪11‬ـ تنمية العّزة والكرامة في المة‪ ،‬وصيانتها من أيّ اعتداء‪ ،‬خاصة اعتداَء‬
‫الدولة‪ .‬فتكريم النسان أصل من أصول الشريعة‪ ،‬وكرامة المسلم يجب‬
‫ضه‬‫م المسلم وعر ُ‬‫مـُته أعظم عند الله من حرمة الكعبة‪ .‬ود ُ‬ ‫حْر َ‬
‫حفظها‪ ،‬إذ ُ‬
‫مغلقٌ أمام أي اختراق‪.‬‬‫ن من أي اعتداء‪ ،‬وبيُته ُ‬ ‫وماُله ُ‬
‫مصا ٌ‬
‫)إلى الذين ُيحبون كتابة مذكراتهم‪ :‬كيف يكتب النسان شرق المتوسط‬
‫ن المواطن في عالمنا يعيش‬ ‫مذكراته! وبيته بل باب‪ ،‬ودفتره بل غلف! إ ّ‬
‫ن تـفـّتـش كـُتبه‬
‫بل أسرار‪ ،‬فكيف يكتب خصوصياته؟! وهو ل يأمن من أ ْ‬
‫ودفاتره بحثا ً عن آية‪ :‬آه! فلتـبق ذكرياته في قلبه‪ ،‬فهو الدائرة الوحيدة‬
‫التي يملك مفتاحها وحده! على القل إلى الن!(‪.‬‬

‫‪12‬ـ وجماعُ ذلك كّله‪ ،‬وبجملةٍ واحدة‪ ،‬يجب على الحاكم أن ُيطّبق السلم‬
‫ل‪ ،‬لتحقيق مقاصد الشريعة من إقامة الدولة السلمية‪ ،‬والتي‬‫ة وتفصي ً‬‫جمل ً‬
‫شرع "لخلفة النبوة في حراسة الدين‪ ،‬وسياسة‬ ‫شرع الحكم‪ ،‬إذ ُ‬ ‫من أجلها ُ‬
‫الدنيا" )الحكام السلطانية‪.(5 :‬‬

‫ن الغاية ل تتحقق بوصول حاكم ٍ مسلم على رأس الدولة‪ ،‬بل الصل‬ ‫إ ّ‬
‫م ويحكم‪ .‬قال سيد رحمه الله‪" :‬وما لم َيحسم ضميُر‬ ‫أن يصل السل ُ‬
‫المسلم هذه القضية ـ الحكم بما أنزل الله ـ فلن يستقيم له ميزان‪ ،‬ولن‬
‫يتضح له منهج‪ ،‬ولن ُيفرق في ضميره بين الحق والباطل‪ ،‬ولن يخطو‬
‫ة‬
‫خطوة واحدة في الطريق الصحيح‪ ،‬وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامض ً‬
‫أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس؛ فما يجوز أن تبقى غامضة ول‬
‫مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا "المسلمين"‪ ،‬وأن ُيحققوا لنفسهم‬
‫هذا الوصف العظيم" )الظلل آية ‪ 5‬المائدة(‪.‬‬

‫ة لتحقيقها‪ ،‬فهي‬ ‫هذه هي أصول الواجبات التي يتعهد ُ من تختاره الم ُ‬


‫ل مسلم أن يعرفها ليعرف حقوقه‬ ‫واجبات إذن‪ ،‬وهو عهد‪ .‬ويجب على ك ّ‬
‫ق‪ ،‬عسى‬ ‫م‪ ،‬مسحو ٌ‬ ‫م الحق‪ ،‬مظلو ٌ‬‫التي له عند السلطة‪ ،‬وليدرك أنه مهضو ُ‬
‫ة للمطالبة بحقوقه‪ .‬قال المام الماوردي بعد أن ذكر‬ ‫أن تدفعه هذه المعرف ُ‬
‫دى حق‬ ‫م بما ذكرناه من حقوق المة‪ ،‬فقد أ ّ‬ ‫واجبات الحاكم‪" :‬وإذا قام الما ُ‬
‫الله تعالى فيما لهم وعليهم‪ ،‬ووجب له عليهم حقان‪ :‬الطاعة والنصرة ما‬
‫م‬
‫ت‪ :‬فإذا لم يقم الما ُ‬
‫لم يتغير حاله" )الحكام السلطانية‪ .(17 :‬قل ُ‬
‫مؤديا ً حق الله تعالى‪ ،‬ولم يجب ـ عندها ـ‬ ‫)الحاكم( بهذه الواجبات‪ ،‬لم يكن ُ‬
‫ق‪.‬‬
‫له عليهم أيّ ح ّ‬

‫وهنا تفصيل مهم‪ ،‬فهناك قبل السعي لخلع الحاكم‪ :‬النصح له‪ ،‬وهناك‬
‫النكار عليه‪ ،‬خصوصا ً وأ ّ‬
‫ن هذه الواجبات تـتفاوت في الخطر والهمية‪.‬‬

‫ل من‬ ‫ة بأيّ حا ٍ‬
‫ن السلطة ل تكون شرعي ً‬‫ت فيما سبق أ ّ‬ ‫)‪ (5‬ـ أكد ُ‬
‫الحوال‪ ،‬إل إذا جاءت عن طريق الختيار والبيعة‪ .‬وما عدا هذه الطريقة‬
‫ة والقهر )النقلبات(‪ ،‬والعهد‪ ،‬كأن َيعهد‬‫ي‪ .‬وهما طريقتان‪ :‬الغلب ُ‬‫فغيُر شرع ّ‬
‫م من بعده‪ ،‬أو أن يكون على شكل‬ ‫م إلى رجل يختاُره ليكون الحاك َ‬‫الحاك ُ‬
‫ولية العهد ضمن العائلة الواحدة‪.‬‬

‫م شرعية‬ ‫مستفاد من ك ُّليات الشريعة ومقاصدها عد ُ‬


‫ن ال ُ‬
‫والحقيقة أ ّ‬
‫ة رضوان الله عليهم‪ ،‬وإليه ذهب‬
‫هذين الطريقين‪ .‬وهو ما سار عليه الصحاب ُ‬
‫جمهوُر أهل العلم‪ .‬وسأنقل شيئا ً من كلم أهل العلم حول هذه النقطة‪،‬‬
‫وأشيُر قبل ذلك إلى ما ذكره الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في قوله‬
‫تعالى‪" :‬وأطيعوا الله‪ ،‬وأطيعوا الرسول‪ ،‬وأولي المر منكم"‪ ،‬فقد أشار‬
‫ن الله تعالى أمر بطاعة "أولي المر" ل ولي‬ ‫رحمه الله إلى أ ّ‬
‫ي المر واحد منهم‪ ،‬وإنما ُيطاع بتأييد جماعة‬
‫ن ول ّ‬
‫المر ‪"..‬وذلك أ ّ‬
‫المسلمين ـ الذين بايعوه ـ له وثقتهم به" )الخلفة‪.(21 :‬‬

‫وقد ذهب إلى عدم شرعية العهد كثيٌر من علماء الشعرية‬


‫والمعتزلة‪ ،‬وأبويعلى الحنبلي‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬وعبد القادر عودة‪ ،‬وتقي الدين‬
‫النبهاني‪ ،‬وسيد قطب رحمهم الله جميعا ً‪ .‬قال السعد ُ رحمه الله في شرح‬
‫ذكر في باب المامة على الختيار‬ ‫مبنى ما ُ‬‫المقاصد‪ ..." :‬وبالجملة َ‬
‫والقتدار ‪ ...‬وأما عند العجز والضطرار واستيلء الظلمة والكفار والفجار‪،‬‬
‫ة‪ ،‬وُبنيت عليها‬ ‫وتسّلط الجبابرة الشرار‪ ،‬فقد صارت الرئاسة الدنيوية َتغّلبي ّ ً‬
‫ة‪ ،‬ولم ُيعبأ بعدم العلم والعدالة‬ ‫منوطة بالمام ضرور ً‬ ‫م الدينية ال َ‬
‫الحكا ُ‬
‫مشتكى في‬ ‫ت ُتبيح المحظورات‪ ،‬وإلى الله ال ُ‬ ‫وسائر الشرائط‪ ،‬والضرورا ُ‬
‫مات" )عن كتاب الخلفة‪ ،5 :‬وقصد ُ‬ ‫مل ِ ّ‬
‫مرتجى لكشف ال ُ‬ ‫النائبات‪ ،‬وهو ال ُ‬
‫ن الحكام في مثل هذه الحالة تجري ضرورة‪ ،‬حتى يأذن الله‬ ‫السعد أ ّ‬
‫بالفرج(‪.‬‬

‫قال الشيخ رضا عن مثل هذه الحالة التي أشار إليها السعد‪" :‬وأما‬
‫دهم واستخلُفهم كإمامتهم‪ ،‬وليس حقا ً شرعيا ً‬ ‫متغّلبون بقوة العصبية فعه ُ‬ ‫ال ُ‬
‫ب إزالُتها‪ ،‬واستبدا ُ‬
‫ل إمامةٍ شرعيةٍ بها‬ ‫ذه كما تج ُ‬ ‫لزما ً لذاته‪ ،‬بل يج ُ‬
‫ب َنب ُ‬
‫عند المكان والمان من فتـنةٍ أشد ضررا ً على المة منها" )الخلفة‪.(42 :‬‬

‫سلطة التغّلب كأكل‬ ‫ثم قال تعليقا ً على كلم السعد‪" :‬ومعنى هذا أ ّ‬
‫ن ُ‬
‫الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة‪ ،‬تنفذ ُ بالقهر‪ ،‬وتكون أدنى من‬
‫ي دائما ً لزالتها عند المكان‪ ،‬ول يجوُز‬
‫الفوضى ‪ ...‬ومقـتضاه أنه يجب السع ُ‬
‫ّ‬
‫متغلبين‬
‫س على دوامها‪ ،‬ول أن ُتجعل كالكرة بين ال ُ‬ ‫طن النف ُ‬ ‫ن ُتو ّ‬
‫أ ْ‬
‫ة بالظلم‬
‫ة وراضي ً‬‫م التي كانت مظلوم ً‬ ‫يتقاذفونها وَيتلقوَْنها‪ ،‬كما فعلت الم ُ‬
‫وتها الكامنةِ فيها‪ ،‬وكون قوة ملوكها وأمرائها منها‪ ،‬ألم تر إلى من‬ ‫لجهلها ِبق ّ‬
‫هـبّـوا لسقاط حكوماتها الجائرة‪،‬‬ ‫استناروا بالعلم الجتماعي منها كيف َ‬
‫دين" )السابق‪.(45 :‬‬ ‫مستب ّ‬ ‫وملوكها ال ُ‬

‫م العز بن عبد السلم رحمه الله عن مثل هذا الظرف‪:‬‬ ‫وقال الما ُ‬
‫ف العام من غير ولية‪ ،‬كما في تصرف الئمة البغاة‪ ،‬فإنه‬ ‫"وقد ينفذ ُ التصّر ُ‬
‫ينفذ مع القطع بأنه ل ولية لهم‪ ،‬وإّنما َنف َ‬
‫ذت تصرفاُتهم لضرورة الرعايا ‪"..‬‬
‫)قواعد الحكام‪.(1/62 :‬‬

‫ة الرائعة من المام الباقلني رحمه الله‪،‬‬ ‫وأخيرا ً تدّبر معي هذه الكلم َ‬
‫م بالتغّلب أو العهد‪ ،‬أي دون‬
‫التي يضع فيها وصفا ً دقيقا ً للدار التي ُتحك ُ‬
‫موافقة المة واختيارها‪ ،‬فيقول‪" :‬فإن دفعونا عنه‪ ،‬وعقدوا لبعض موافقيهم‬
‫فليس له إمامة ثابتة‪ ،‬ول طاعة واجبة‪ ،‬وكنا نحن في دار قهر وغلبة"‬
‫)التمهيد للباقلني‪(181 :‬‬

‫ح‬
‫ل لي جمَعه‪ ،‬وفت َ‬ ‫ه عّز وج ّ‬‫سـَر الل ُ‬
‫)‪ (6‬ـ وبعد ‪.........‬فهذا ما َيـ ّ‬
‫ْ‬
‫ت التي لم أقـلها‬‫ن الكلما ِ‬‫ف بكتابته‪ ،‬مع " أ ّ‬ ‫ي‪ ،‬وما سمحت الظرو ُ‬ ‫به عل ّ‬
‫ت التي قلتها "‪.‬‬ ‫ل الكلما ِ‬‫أغلى على قلبي من ك ّ‬

‫ولئن كان ما كتبُته في هذا البحث يدخل في دائرة الحلم بالنظر إلى‬
‫ن‬
‫ح لنا هذا الحلم ‪ .‬على أ ّ‬ ‫ب بالعمل ُيبي ُ‬
‫ن حقنا في المل المصحو ِ‬ ‫الواقع‪ ،‬فإ ّ‬
‫دد‬
‫ن لم ُتـبـ ّ‬
‫مسافة اللف ميل تبدأ بخطوة‪ ،‬وهي الخطوةُ الشمعة‪ ،‬التي وإ ْ‬
‫ن‬
‫دى بها‪ ،‬إلى أ ْ‬‫ة صغيرةً تكون منارةً ُيهتـ َ‬‫ن ُتضئ نقط ً‬ ‫الظلم‪َ ،‬فح ْ‬
‫سـُبها أ ْ‬
‫شموعٌ غيُرها‪.‬‬ ‫ُتضاء ُ‬

‫ه أعلم ‪ ...........‬وصّلى الل ُ‬


‫ه على محمد وآله وصحبه أجمعين‪،‬‬ ‫والل ُ‬
‫سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلم على المرسلين والحمد لله رب‬
‫العالمين‪.‬‬

You might also like