Professional Documents
Culture Documents
انطلق
انطلق
7
من الفرد نفسه ،ومنها ما هو نابع ميين خييارج
الذات.
وإياه نسأل أن يستخدم هذا الكتاب لمجييد
اسمه القييدوس بشييفاعة كلييية الطهيير والييدة
الله القديسة مريم العييذراء ،وجميييع مصيياف
السمائيين والقديسين ،وصلوات قداسة البابيا
المعظم النبييا شيينودة الثييالث ،وشييريكه فييي
الخدمييية الرسيييولية أبينيييا السيييقف النبيييا
سيياويرس ،وللهنييا المجييد الييدائم إلييى البييد
آمين.
د /نور هنري دوس
القاهرة في:
2007 /7 /16
8
مقدمة
عنيدما ُيرييد إنسيان أن ييدخل فيي علقية
حميمة ،أو عندما يحاول أن يتحرر من قيوده،
فسرعان ما يخرج الخوف من شقوق النفس
ليعيييوق انطلقيييه! فميييا أكيييثر اليييذين ظليييوا
يتحسسييون حييرارة الميياء قبييل أن يسييبحوا،
فميياتوا دون أن ينعمييوا بالسييباحة فييي مييياه
العلقيات اليتي تكيون أكثرهيا صيافية! أليييس
أفضل لك أن تنزل بالتدريج فتتعلييم السييباحة
ببطء ميين أن تعييتزل؟! ثييق أن ّييك فييي البداييية
سوف تواجه بعييض الصييعوبات ..ولكن ّييك فييي
النهاييية سييتجني ثمييار شييجاعتك ،فالحييياة ل
يمكيين أن تنمييو فييي محيييط قفيير ،وأنييت ل
تستطيع أن تعيش في جزيرة وحدك.
ن قيودا ً كييثيرة ُتقي ّييدنا وتحييد ميين
نعترف بأ ّ
حركتنا ،ففي الداخل نجد الغييرائز بسييلطانها،
ن الخييارج هييو أيض يا ً والفكيير بتمييرده ..كمييا أ ّ
ُيقّيدنا ،فالمجتمع بقييوانينه الصييارمة ،والنيياس
بكييثرة واختلف آرائهييم ،والشيييطان بحروبييه،
عوامل كثيرة ُتقّيد النسان ..ومييع ذلييك ل بييد
9
من النطلق والتقدم إليى الميام! دون أدنيى
ن " ل َي ْ َ
س تفكييير فييي العييودة إلييى الخلييف ل ّ
ُ َ
وي َن ْظ تُرث َ ح تَرا ِ
م ْعل َتتى ال ْ ِ ع ي َتدَهُ َ ضت ُحد ٌ ي َ َ
أ َ
ه " )لييو ت الل ت ِ مل َك ُتتو ِ
ح لِ َص تل ُ ُ
ء يَ ْ وَرا ِإ َِلى ال ْت َ
. (62:9
ن كييل ميين يرتضييي بوضييعه ،هييو ّ إ يق والحي
أشبه براكب الدراجة ،الذي إذا حاول الوقوف
بدراجته فسرعان ما يسقط!
نسأل الله أن ُيبارك هذا العمييل المتواضييع
وض كييل ميين لمجييد اسييمه القييدوس ،ويعيي ّ
ت بمؤلفاتهم والذين تعبوا معي ،وأخييص انتفع ُ
بالسم الَعاِلم الجليييل الييدكتور /نور هنتتري
ضييل مشييكورا ً بمراجعيية دوس الييذي قييد تف ّ
الكتاب بدقة والتقديم له ،الرب يبييارك حييياته
وُيكليل خيدماته ...وللهنيا المجيد اليدائم إليى
البد آمين.
ي
محرق ّ
كاراس ال ُ
10
11
الفصل الول
صيحييييراء الخيييوف
12
يديه عقب كييل مقابليية ُيصييافح فيهييا آخيير ،أو
أثناء أداء أيّ عمل ..فهذا مرض!
وليس من الغرابيية أن يييتردد المييرء ،قبييل
سياس، القدام على عمل كيبير أو مشيروع ح ّ
ن يستمر التردد فيشل إرادتييه، ن الغرابة أ ْ ولك ّ
ذر إلى خوف دائم من المسييئولية ح َ
َ ال ول ويتح ّ
كرون قول يعقييوب وعجز تام عن العمل ،أتتذ ّ
قتت ٌ
ل ِ ْ ل َ
ق ذو َرأ ْي َي ْ ِ ُ َ ُ َ
ت م و هتت ن ل ُ ج ٌالرسولَ " :ر ُ
ه " )يع.(8:1 ع طُُر ِ
ق ِ مي ِج ِفي َ ِ
ن النسان يحيا في عالم مليء ّ إ
بالتهديدات ،فيه الوعد والوعيد ،وهو يشعر
ن ضربات بأّنه مهما تكن قوته وقدراته ،فإ ّ
الحياة وأخطار المجتمع قد تأتي عليه فتفسد
كل مشروعاته ..ومادام النسان عاجزا ً عن
التوفيق بين كل ما بداخله من آمال ،وما يأتي
عليه من الخارج من قيود ،فلبد إذن أن
يستسلم لقوى العالم المظلمة ،أو الطبيعة
ن النجاح ل يمكن أن الغاشمة ..وبالتالي فإ ّ
يكون أمرا ً أكيدا ً يستطيع أن ُيسيطر عليه
بإرادته.
ت الحياة علينا والواقع أّنه مهما قس ْ
13
ن
بضرباتها ،أو زادت إعاقات البشر لنا ..فإ ّ
النسان ل يمكن أن يكون ُألعوبة في يد
الخوف! فالنسان الذي يخاف هو الذي يملك
ل ،له القدرة على تحويل العوائق إلى عق ً
وسائط.
ن الخوف من الفشل قد يكون سببا ً على ّ
أ
من أسباب عدم المبادأة والخنوع ،وليس من
ن هذا الشعور يختلف باختلف شك في أ ّ
ن كثيرين ن المشكلة أ ّ مراحل الحياة ،ولك ّ
يظلون أو يريدون أن يظلوا أطفال ً في
سلوكهم ،إزاء موجات الخطر التي تتهددهم،
فيستجيبون لحالت الخطر القديمة كما لو
مطلقا ً كانت قائمة بالفعل ،دون أن ينجحوا ُ
في التغّلب على العوامل القديمة للخوف،
وهؤلء هم المرضى النفسانيون!
سم قاتييل ُ هو يمَرض ّن الخوف ال َ والحق إ ّ
مميّزق للييروح ،وهييو وق للتقييدمُ ،معي ّ للحييياةُ ،
يقود إلى الكذب وخطايا ُأخرى كثيرة ،ويجعل
النسيييان ل ُيطليييق ميييا فيييي وجيييدانه مييين
ما العقل الخيائف الميتردد فحتميا ً أحاسيس ،أ ّ
14
سيصيبه الشييلل وينطفيييء فيييه نييور الحكمييةُ
والمعرفة..
والن كيف نتحرر من قيود الخوف؟ أعتقد
ن جوهر مشكلة الخوف يكمن في ضعف أ ّ
وي اليمان ،فإن أردت أن تتحرر يجب أن ُتق ّ
ي عندما إيمانك ،فاليمان حفظ دانيال النب ّ
لسود! والثلثة فتية جب ا ُ ُ
ألقي في ُ
ُ
حفظهم اليمان من لهيب النار عندما ألقوا
في التون! ويوسف الصديق بسبب إيمانه
حفظه الله في السجن وخرج منه لكي يصير
ثاني رجل في مملكة مصر بعد فرعون!
ثق أّنك بحصاة داود الفتى ،تستطيع أن
تنتصر على كل الجبابرة وتتغلب على
الشرار ،كما انتصر هو على جليات الجّبار،
حتى وإن دخلت في حرب معهم فاعلم أنّ "
الحرب للرب " )1صم .(47 :17
فل تهييتز أمييام التجييارب ،ول تخيير أمييام
ي على الضيقات ،إّنما كن كالبيت المتين المبن ّ
الصخر ،حيث ل تقوى عليه المطار ول تهدمه
الرياح )مت.(25:7
15
ي عَلتتى ك َ ّّ و َ
فتت ّ ذا َ هتت َ ألييم يقييل اللييهُ " :
ك " )إش ،(16:49إّنهييا آييية تفتييح لنييا شت ُ ِ ق ْ نَ َ
كل أبييواب الرجيياء الييتي أغلقهييا الخييوف فييي
كرنا بعادة شييرقية قديميية أل وجوهنا ،وهى ُتذ ّ
وهى :نقش الرجل اسم محبوبه على كفييه أو
ن كييل كتفه كعلمة أّنه لن ينساه إلى البد ،وأ ّ
ما يعمله بيده سيكون له! وهكييذا رب المجييد
قد نقش اسم كنيسته بل نقش اسم كل فرد
عليييى كفيييه بالمسيييامير ،لكيييي تبقيييى آثيييار
حب أبديّ على محبيية اللييه الجراحات علمة ُ
وعنايته!
ن كلمة " ل تخف " ميين أكييثر الكلمييات إ ّ
الييتي تكييررت فييي الكتيياب المقييدس ،ولهييذا
وي اليمييان ننصح بحفظ بعض آيات ُتعّزى وُتق ّ
ت لَ م يو ْ ِ ْ
ل ال َ ت فِييي َواِدي ظ ِي ّ سيْر ُ مثييل " :إَذا ِ
َ َ أَ َ
ك ك وَعُك ّيياُز َ صييا َ َ َ ع يي ي ع م
ْ َ َ ِ ت ن أ ك َ شّرًاّ ،
ن ل ف َ خا ُ
مييا ي ُعَّزي َييان ِِني" )مييز،(4:23ي " إن يحيياربني هُ َ
ي قتييال فَفِييي َ
َ َ ّل ع م ْ َ
قا ن
ْ إ بي ِ ْ لَ ق ف َ َ ُ خا ي َ ل شجي ْ ٌ َ
ن م فوا ُ خا
َ ت َ ل " (، 3 : 27 )مز " ن ِ ئ م ْ ط م نا َ أ َ
ك ِ ل ذَ
َ ِ َ ّ َ ُ َ
ن
َ ُِ َرو د ي ْ ق ي َ ل س
َ ْ ف ن ال ن
َ َ َ َ ِ ّ ّ كَ لو د س ج ْ ل ا ن ُ
ا ِ َ َ ُ َ
لو ت ْ ق ي ن ذي ّ ل
ها " )مت.(28 :10 قت ُُلو َ ن يَ ْ َ
أ ْ
16
05
- -
ن مجرد نظرة بالضافة إلى ما سبق ،فإ ّ
سريعة إلى ُأسلوب السيد المسيح وتعاملته
مع القادة ،نجد ما ُيشجعنا وُيقوينا ،عندما
مىت هيرودس الملك بالثعلب ،وس ّ نع َ
الفريسيين بالحيات أولد الفاعي ،وشحذ
حّراس شريعة فكر رؤساء الكهنة والكتبة ُ
موسي ،وأمسك سوطا ً وهو إنسان فقير يحيا
فى ُأسرة فقيرة ل يحمل سلطة ول يؤيده
قانون وضرب باعة الحمام وقلب موائد
الصيارفة..
وهكذا زلزل المسيح في ثورته العارمة
لمةضد الظلم والفساد ،كل أركان ا ُ
اليهودية ،فتلعثمت قلوبهم ،واضطربت
سيوفهم ،وخجل قوادهم وعلماؤهم ،وهرب
التجار والعبيد والحراس ..ولم يجسر أحد أن
دى له أو يرد عليه أو يدنو منه ،لّنه قد يتص ّ
جاء لكي ُيحرر النسان من خوف السماء
واستبداد البشر.
17
61
- -
الفصل الثاني
سيييجين الييييييييذات
مقّيدا ًما من إنسان يولد إل ّ ويجد نفسه ُ
حب الذات هو أول بذاته ،مشدودا ً إليها ،ف ُ
حب التي يعرفها النسان، صورة من صور ال ُ
ول إلى صورة من صور ولكّنه إذا تضخم وتح ّ
السلب والبتزاز ،دون أدنى رغبة في العطاء،
ن الذات فسرعان ما يتحقق النسان من أ ّ
قوقعة صلبة ،لبد من تحطيمها لكي يرى
الحياة ويتمتع بجمالها.
حب هو أنفاس الحياة، ن ال ُ
والحق إ ّ
ولوله لختنق البشر بدخان الغيرة
والكراهية ..وهو أرقى ما يمكن أن يصل إليه
النسان في هذه الحياة ،إّنه دعوة إلهية أو
س َ
ك ف ِ ك ك َن َ ْريب َ َ ب َ
ق ِ ح ّقل :وصية سمائية " أ َ ِ
" )مت ،(19:19فإن كنت ُتريد أن تحيا على
الرض كملك يرتدى زي بشر ،يجب عليك أن
18
تمل قلبك بتلك العاطفة السامية ،لّنك بها
تتشّبه بالله المحبة.
ّ
حب هو الذي ُيحطم ن ال ُوهل ُننكر أ ّ
القوقعة الذاتية ،لكي تخرج الذات من سجنها
المظلم ،إلى عالم النور والحرية ،وتنفتح
على الخرين من أجل رعايتهم والهتمام بهم
ما النانية فتقود النسان وليس ابتزازهم ..أ ّ
أيضا ً إلى حياة ولكن داخل دائرة الذات،
من أجل تلبية رغباتها والستجابة لنداء
شهواتها ،بأي صورة حتى وإن كانت خاطئة!
ي!
وهى بهذا الشكل ُتعد مصدر كل شر أخلق ّ
وتقود إلى الشقاء والسقوط في بئر
المراض النفسية ،وتجعل النسان كفراشة
حائرة تطير هنا وهناك ،بحثا ً عن ماٍء يرويها
إلى أن تسقط من شدة التعب!
حب الذات؟ أليس إلى إلى أيّ شيء يقود ُ
ن من ل الحسد والنغلق والتعصب..؟! ل ّ
مه سوى مصالحه يعرف سوى ذاته ،ل ته ّ
ما مفهوم النتماء فليس له الشخصية ،أ ّ
معنى في قاموس حياته ،وقد نكون على
19
ن النانية تجعل من الذات صواب إذا قلنا :إ ّ
قطعة صلبة.
ي بل مشاعر إيجابية تجاه وهكذا يحيا النان ّ
الخرين ،ولّنه يبحث عن ذاته بطريقة
خاطئة ،فهو لذلك يعجز عن معرفة أعماق
ن علقته بغيره قريبه فيظل غريبا ً عنه! كما أ ّ
ول ،سهلة النقلب، سطحية ،سريعة التح ّ
تقوم على السلب ..وهى لذلك ل تدوم.
ن البداييية ما هو سر شقاء البشتتر؟! إ ّ
ترجيع إلى الشيطان ،الذي تكّبر وأحب ذاتييه
ي هييو مَرض ي ّ حييب ال َ بطريقيية خيياطئة ،وهييذا ال ُ
للوهة ليصير مثييل اللييه " الذي جعله يشتهى ا ُ
صيُر ه ..أ َ ِ ب الل ّ ِ واك ِ ِ وقَ ك َ َ ف ْسّيي َ ع ك ُْر ِ ف ُأ َْر َ
حدَْر عِليّ" ! فكانت النتيجيية أّنييه " ان ْ َ ل ال ْ َ مث ْ َ ِ
ب " )إش ْ َ َ ْ َ
جت ّ ل ال ُ ِ فِ تات س
َ أ تى ت لِ إ ة
ِ َ يو ِ هاَ لا لى إِ
.(15-13:14
حب الذات هييو الييذي جعييل آدم يشييتهي و ُ
أن يأكل من الشجرة المحّرمة التي نهاه اللييه
هتتا
ر َ م ِ ن ثَ َ مت ْ ت ِ خذ َ ْ فأ َ َ عيين أن يأكييل منهييا " َ
ً َ َ ع َ وأ َ ْ َ
هتتا ع
َ َ َ م ا يضتت ْ أ هتتات َر ُ َ
ل ج طتتت ْ ت َ وأك ََلتت ْ َ
طرد ل " )تك ،(6:3فتعّرى من مجيده ،و ُ فأ َك َ َ َ
20
من حضييرة اللييه ،وصييار يأكييل عشييب الرض
الذي كان قبل ً طعاما ً للحيوان ،كما فقد حاليية
البساطة والبراءة والنقاوة ..التي كييان عليهييا
وقد مل الخوف قلبه..
ن النانية
ليست مبالغة مّنا إذا قلنا :إ ّ
سجن للنفس ،فيه ُيقاسي النسان كل
أنواع الذل والعبودية ..وها نحن نتساءل :ماذا
لو عاش النسان في جو خانق من القلق،
خوفا ً أن ُيحرم من شيء أو يفوته شيئًا؟! أو
ظل يعاني شعورا ً حاسدا ً يحرق أعماقه،
لرؤية غيره يتمتع بشيء ل يملكه أو يتميز
ن الحياة تفقد قيمتها بشيء لم ينله؟! أعتقد أ ّ
ول إلى حصان سباق في ن النسان تح ّ لو أ ّ
دنيا اللذات أو عالم المقتنيات!!
ن كل من يعيش لذاته فقط ،لن نعترف بأ ّ
ن
ّ أ كما أعماقه، في الفوضى على يحصل إل ّ
قيود الرغبات وسلسل الشهوات سُتكّبل
حياته! وتجعله غير قادر على تخطي مرحلة
ي ،الذي يؤدي في النهاية إلى التمّركز الذات ّ
" عبادة الذات "! هنا تكون الذات قد
وصلت إلى مرحلة العمى ،فنراها تعجز عن
21
ي
حب ،ول يكون لديها أ ّ إرسال إشعاعات ال ُ
ميل للتضحية لّنها لم تعد ترى إل ّ نفسها!
ن معي سني َ عاش يهوذا السخريوط ّ
سيده ،لم ينظر فيها إلى السماء ،بل إلى
ممالك الرض الواسعة ومدن سليمان الرائعة
حب المال ن نفسه المريضة ب ُ كان يتطلع ل ّ
والسلطة ..اشتاقت إلى مملكة عظيمة يكون
ما يسوع فأراد مملكة يكون فيها فيها أميرًا! أ ّ
ُ
جميع الناس أمراء!
ن وراء ّ أ باله، على يخطر ن يهوذا لم ولك ّ
ما ينظر ملكوت أسمى يحكمه من خانه
ن من يحوط الرض بجناحيه ل وغدر به! ل ّ
يمكن أن ينشد ملجأ في عش مهجور! كما
ي ل يرتفع ويتشرف بواسطة لبسي ن الح ّ أ ّ
الكفان! وها نحن نتساءل :هل يمكن أن ُتبنى
مملكة المسيح على جماجم الموتى
والزناة والمجرمين..؟! وهكذا يستهلك
ي نفسه بسرعة زائدة ،لّنه يحيا على النان ّ
حساب نفسه قبل أن يحيا على
حساب الخرين دون أن يدري! فهل لنا
ن النانية انحلل وتفكك تام أن نقول :إ ّ
22
ي هو إنسان للذات؟! نعم! والشخص الذات ّ
حب ذاته بالمعنى الصحيح ،بل هو مريض ل ي ُ ِ
يكرهها ويضرها بسمومه!
حب الذات فبدايته هى نهايته ما ُ
أ ّ
مغلقة! ومستقبله مثل ماضيه! إّنه دائرة ُ
ن
ّ أ والعجيب ول يقود إلى إثراء أو إبداع..
ي
سبات العشق الذات ّ النسان وهو في غمرة ُ
طمحب هذا الذي ُيح ّ حب! فأي ُ يتوهم أّنه ي ُ ِ
البشر من أجل الحصول على منفعة أو
ممزقة ؟! إن حطاما ً ُ لذة ..ومتى نالها يتركه ِ
حب فما عسى أن يكون كان هذا هو ال ُ
المرض؟!
ملزم بتنمية ن كل إنسان ُ ونحن ل ُننكر أ ّ
شخصيته ،والبحث عن سعادته ،وهذه
اللتزامات هى التي تدفعه إلى الخروج من
عزلته ،وتحطيم قيود سجنه ،والتخلي عن
أنانيته ..من أجل الندماج في العالم
ي ،لكي يحقق ميوله ويحصل على الخارج ّ
ً
رغباته ولهذا يجد نفسه مدفوعا باستمرار،
إلى البحث عن شيء آخر غير الذات ،ليتعلق
به ويحن إليه ويتجاوب معه ..ويبقى السؤال:
23
ي لو عاش في عزلة ماذا ينتفع الشخص الذات ّ
بسبب هجر الناس له؟ من الذي سوف ُيعّلمه
ويسانده ويقف إلى جواره؟
ن الصلة بين ّ أ يدرك ن الشخص الحكيم ُ إ ّ
الداخل والخارج وثيقة ،ولهذا يبذل كل
ن
طاقته لكي ل تنقطع علقاته بالخرين ،ل ّ
النسان ل يخرج من ذاته إل ّ لكي يعود إليها،
ي ،إل ّوهو ل ُيحقق أعماله في العالم الخارج ّ
لكي يزيد من خصب حياته الباطنية ،و
ي ،إّنها علقة ُيضاعف من ثراء عالمه الداخل ّ
تبادلية ل غنى عنها ،قوامها الخذ والعطاء
وليس السلب.
ن النسان ضعيف أمام ولكننا نؤكد أ ّ
ن الخروج من الذات أصعب ذاته ،ولهذا فإ ّ
ن كثيرين قد من المكوث بها! وهل ُننكر أ ّ
وقفوا أمام ملوك ورؤساء ،وحاوروا فلسفة
وعلماء ..ولكّنهم كانوا يخشون مواجهة
أنفسهم؟!
ويبقى السؤال :كيف ينطلق النسان
ن
من سجن الذات ،بعد أن عاش سني َ
كثيرة داخله ،يعد قفص كبير فما أن انتهى
24
من تطريق قضبانه حتى وجد نفسه محبوسا ً
داخله! والن بعد أن سئم الحياة في الداخل،
حيث الهواء الملوث والعفن يدب في جوانبه،
مخيف ُترهبه ..يريد أن يخرج والعزلة كشبح ُ
ليحيا في عالم النور والحرية..؟!
ن بداية النطلق هى :التخّلص نعترف بأ ّ
من كل ما يستعبد الذات ويقّيدها ،هنا
يأتي دور جلسات محاسبة النفس ،فمن خلل
حوار صادق مع الذات يستطيع النسان أن
يحدد سلبياته وأيضا ً إيجابياته ل تتعجب! فهذا
ن اليجابيات هى أيضا ً تحتاج ليس كبرياًء! ل ّ
ن النسان من خلل ّ أ كما أكثر، أن تنمو وُتثمر
إيجابياته ،يمكن أن يتغلب على سلبيات
كثيرة.
ّ
هناك ثلثة أشياء تستعبد الذات إذا تملكت
عليها ،أل وهى :المال والجنس والجستتد!
ن
دُرو َ ولهذا شّبه المسيح المال بإله " ل َ ت َ ْ
قتت ِ
َ
ل " )لييو ،(13:16 متتا َوال ْ َ
ه َموا الل ت َ د ُ
خ ِ
ن تَ ْ
أ ْ
وأمرنا ل أن نبتعد عن الزنى فقط ،بييل وعيين
لالنظرة الشهوانية التي تقود إلى الزنى " ك ُ ّ
25
د
قت ْ ف َ ها َهي َ َش تت َ ِة ل ِي َ ْم تَرأ َ ٍن ي َن ْظُتُر إ ِل َتتى ا ْ م ْ َ
ه " )مت .(28:5 ِ ِ ب ْ ل َ
ق في ها
ِ َ ِ ب نى َ َ ز
ما الجسد فقد أعطانا بحياته البسيطة أ ّ
مثال ُيحتذى به للحد من جماح الجسد ،فقد
عاش الحياة بعد أن حررها من قيودها ولهذا
تمتع بكل ما فيها ،فكان يجلس على
شواطيء بحر طبرية يتأمل في ذاته ماء
ي كان يقضي الحياة ،وفي بستان جسثيمان ّ
مصليا ً ومتأم ً
ل. خلواته ُ
ت قيييوده، ُ ْ حل لو العصفور ينتفع ماذا ولكن
ولم يطر لكي ُيحلق فييي السييماء؟! إذن لبييد
للنسييان أن يسييمو بييذاته ،ميين خلل علقيية
طاهرة مع الله ،وهل يمكن أن تحيا ميييع اللييه
بدون وصاياه؟! وماذا تقول لك الوصتتية؟
ريب َ َ ل قَل ْب ِ َن كُ ّ ب إ ِل َهَ َ
ك ب قَ ِ
ح ّ ك ..ت ُ ِ م ْ ك ِ ب الّر ّ ح ّ َ"ت ُ ِ
ك" )مر .(30:12،31 س َ ف ِ ك َن َ ْ
ن التخلص من قيود الذات، ّ والحق إ ّ
والحياة مع الله ،والعمل بوصاياه ..يقود
الذات المنتصرة إلى المتلء والستمتاع،
فتصل إلى السعادة التي تنشدها! وهذه
السعادة تجعلها ترفض كل ما ُيقّيدها ،ولكننا
26
81
- -
ن تحويل نقطة الرتكاز من النا إلى نعترف بأ ّ
الخر أمر بالغ الصعوبة ،إل ّ إذا كان همزة
الوصل بينهما هو الله ،إذ كيف نضع الخرين
ودنا أن نكون! ولهذا في المقدمة حيث تع ّ
حب ُ
يقول القديس أغسطينوس " :ل يوجد ُ
حب حب الخرين ما لم ن ُ ِ ي به ن ُ ِ حقيق ّ
الله " .
ويسييعى أطّبيياء وعلميياء النفييس لتحرييير
النسان من ذاته ولكن دون جدوى! فالنسان
خرج من الله ولن يحيا سعيدا ً بعيدا ً عنه ،ومن
ينفصل عن الله هو في الحقيقة ينفصييل عيين
ن السيد المسيح قييال لمرثييا " :أ ََنا الحياة! ل ّ
و
ولتت َْ ن ِبتتي َ م َ
نآ َ م ْةَ ،
حَيا ُ ْ
وال َ ة َم ُ قَيا َو ال ْ ِ
ه َ
ُ
حَيا " )يو .(25:11 ي
َ َ ْ س فَ ت ما
َ َ
ن مشاكلنا الداخلية التي تؤلمنا وهل ُننكر أ ّ
والسياجات الواقية التي نضعها حولنا ،وآثار
الجروح التي ورثناها ولم تبرأ ،والصراعات
المريرة بين البشر ..عوامل ُتزيد من صعوبة
حب ،لو عشنا التضحية التي يفرضها علينا ال ُ
مستقلين عن الله؟!
27
الفصل الثالث
شييييقياء اليييييذهييين
28
مفك ّتتتر ولهتتتذا إذن فالنسيييان كتتتائن ُ
السبب قتتد يستتعد أو يتتتألم! لن ّييه يملييك
وعيييا ً يجعلييه يييدرك مشيياكله ويعييرف سيير
شقائه! أليس الفكر هييو الييذي يضييع النسييان
وجهييا ً لييوجه أمييام العييدم؟ أل يقييترن الفكيير
البشريّ بمشاعر الضيق والخوف والقلق..؟
ن عقل النسييان نستطيع أن نقول :إ ّ
هو أرض معركة استراتيجية فييي الكييون،
وهذه المعركة لن تنتهييي إل ّ بمييوت النسييان،
ن الفكر ل يتوقف حييتى أثنيياء النييوم! ولهييذا ل ّ
ن النضال من أجل السيطرة على الفكييار، فإ ّ
هييو نضييال دائم وكفيياح مسييتمر ،ميين أجييل
السيطرة على النسييان ،فعقييل النسييان هييو
ي بييين سائرالعضيياء مركييز التصييال الرئيس ي ّ
والجهزة المختلفة ،وكل مييا يييدور فييي ذهننييا
ُيحدد نوعية شخصيييتنا ،ولهيذا يقييول سييليمان
َ
ه
ست ِ فتتي ن َ ْ
ف ِ عَر ِ متتا َ
شت َ ه كَ َ
الحكيييم " :لن ّ ت ُ
و " )أم ،(7:23فما نفكيير فيييه ُيحييدد ه َ هك َ َ
ذا ُ َ
ميا نفعليه ،وميا نفعلييه ُيحيدد مسييتقبلنا أو ميا
سنكون عليه.
29
ولو نظرنا إلى طبيعة الحياة ،لوجدنا أّنها
تتذبذب بين قطبي اللذة واللم ،هنا تظهر
إيجابية التفكير ،عندما يقود النسان إلى
حدة الفرح! وما هو الفرح؟ أليس تخفيف ِ
ما إذا استغرق النسان في تأملته اللم! أ ّ
النرجسية ،مستسلما ً لفكاره العنكبوتية ،فإّنه
لن يرى في النهاية سوى صورة شبحه.
يقول أحد الباء " :أنت ل تستطيع أن
غرابا ً يحوم حولك ،ولكّنك تستطيع أن تمنع ُ
تمنعه من أن ُيعشعش داخل رأسك! " ،وهذا
مطلق ن النسان ليس له سلطان ُ يؤكد لنا أ ّ
على أفكاره ،ولكّنه يملك القدرة على إنهاء
كر فيه ،وهل ُننكر أننا فجأة وعلى غير ما ُيف ّ
كر مواقف حدثت في طفولتنا المتوقع ،نتذ ّ
واعتقدنا أّنها قد ماتت؟! وما أكثر الشخصيات
همنا أننا نسيناها وإذا بصورهم تتراءى التي تو ّ
على شاشة الذهن!!
ن النسان ليس جهاز تسجيل أو والحق إ ّ
ور دون إرادته! إّنماآلة تصويرُ ،يسجل أو يص ّ
النسان إدراك يلتقط ويميز ما يلتقطه،
وذاكرة تتخير وتستبقي ما ُتريده ،ومعنى هذا:
30
02
- - 81
- -
ن النسان له قدرة أل ّ يتفاعل مع كل ما إ ّ
تقع عليه عيناه ،أو ما يطرق بياب ُأذنيه ،بل
ما يريده فقط! والحكيم هو من ل يفتح أبوابه
ور،
ن الفكر يتط ّإل ّ للفكر البّناء لّنه يعرف أ ّ
فعن طريق الحواس ينتقل ما يراه أو
يسمعه ..إلى الذهن ،فيتناوله الخيال فتصير
الفكرة أفكار ،تتملك على القلب ،وُتسيطر
على المشاعر..
وينظر كثيرون للفكر على أّنه سبب
شقاء النسان ،لّنه ُيزيد من إحساسه
بحقيقته الضعيفة والعاجزة! ولكن أل تدلنا
ن البحث والستكشاف بكل ما التجربة على أ ّ
ً
يشمل من جهد وأخطاء ..كثيرا ما يكون
سبب لذة كبرى لعلماء ومفكرين؟! المهم هو
كر؟ وعندما ُنفكر ي شيء نحن ُنف ّ في أ ّ
هل يكون لله دور أم نعتمد على أنفسنا؟
قد نكون على صواب إذا قلنا مع أحد
ن متعة النسان ل تنحصر في المفكرين :إ ّ
امتلكه الحقيقة فقط ،بل في الجهد الذي
يبذله من أجل الوصول إليها!
31
ن كل ما يحصل عليه النسان والحق إ ّ
بسهولة يقوده إلى التكاسل والغرور ..وكما
ي " :كل فضيلة قال مار إسحق السريان ّ
تحصل عليها بغير تعب هى من نصيب
الشيطان ".
ن الفكر هو سر عظمة ّ بأ نعترف
النسان ،وبدونه ل تكتمل إنسانية النسان،
ولهذا يقول " باسكال " الفيلسوف
ً
ور إنسانا بل ي :إنني أستطيع أن أتص ّ الفرنس ّ
ورّ أتص أن أستطيع ل ولكنني رجلين، يدين أو
إنسانا ً بل فكر ،لّنه سيكون مجرد صخرة أو
جماد!
هناك قصة طريفة تقول :في يوم ما
حدثت مشاحنة بين الورق والقلم والحبر،
حول من هو العظم في الرواية! واستمع
المؤلف وابتسم ،لّنه يعرف جيدا ً أّنهم جميعا ً
ل يستطيعون أن يعملوا شيئا ً بدونه ،إذ هو
الذي يضع البطال في أماكنهم ،ويربط بينهم،
وُيحدد دور كل بطل ،وجمال الرواية ل يقف
عند ورق الكتاب الذي يكتب عليه ،أو نوع
كتب به، القلم الذي يكتب به ،أو الحبر الذي ُ
32
بل يرجع أول ً وأخيرا ً إلى المادة التي أفرغها
ذهن المؤلف ،أو صنعها بعبقريته وفهمه!
؟؟؟؟ ؟؟ ؟؟؟ ؟؟؟؟ ؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟
ن " أفكار البشر ذات أحجام " الواقع أ ّ
)حكمة ،(14:9فإذا حاول النسان أن يتخطى
السياج الذي وضعه الله فيه ،فإّنه سيجد
ي
نفسه بإزاء ألغاز أبدية ،يستحيل على أ ّ
فكر محدود أن يعرف أسرارها ،ولهذا فإّنه
سيعود من جولته الفكرية خائبًا! وها نحن
كر بعقل نتساءل :كيف لنسان محدود أن ُيف ّ
محدود في الله غير المحدود؟! هل يمكن
لكائن ماديّ أن يرى الروح؟! نعترف بأن
التفكير الخاطيء في نشأة وتكوين
الحياة هو انصراف عن المعنى
خلق ل لكي ي للحياة ،فالنسان ُ الحقيق ّ
مطلقة بل ليعيشها! ُ بصورة الحياة يفهم
ن كثيرين من الذين يتميزون ببساطة ولهذا فإ ّ
الفكر ينعمون بحياة هادئة ،بينما يبقى
فلسفة وعلماء ومفكرون ..عاجزون عن
ي مع غيرهم ،ولهذا تحقيق تواصل حقيق ّ
33
22
- -
اقترنت حياة كثيرين من أصحاب الفكر
بمعاني التوتر واللم!..
وقيييد يطييييع النسيييان العتتالم فيخضيييع
لمعتقداته ،وتتقّيد أفكيياره بالعييادات والتقاليييد
ن سييعادته ليين السائدة ،ويتوّلد لديه اعتقاد بييأ ّ
تتحقييق إل ّ إذا حصييل علييى رغبيياته العالمييية!
وهنا نتساءل :أين الله؟ أليس له مكان فييي
مطابقيا ً لفكييار ن فكره قد صييار ُ ة؟! ول ّ الخط
فتتي ع ِضت َو ِق تد ْ ُ ن العالم " َ
العالم في حين أ ّ
ن النسيان ّ أ نجد لذلك (،19:5 شّرير" )1يو ال ّ
يجلب لنفسه الشقاء ،بسييبب عييدم اسييتخدام
العقل -عطية الله الصالحة -بصورة إيجابية.
ن العالم كثيرا ً ما يجرفنا لنسير ل ُننكر أ ّ
ن الله يمل ّ أ ننسى ل ولكن مع أمواجه،
الكون ،وهو موجود بجوار المياه الجارفة
حتى متى جرفتنا أمواج العالم ،واستحوذت
دوامة المور الزمنية على أفكارنا ومشاعرنا
ُنسرع إليه ونمسك به طالبين المعونة
والنجاة.
وبنفس الطريقة يستطيع الجسد أن
يأسر العقل ،عندما يخضع النسان لسلطان
34
42
- -
غرائزه ويستجيب لنداء شهواته ..فيصير
العقل مهتما ً بالجسد وشهواته ،ويبتعد تلقائيا ً
وةٌ دا َ ع َو َ ه َ
د ُس ِ ج َم ال ْ َ
ما َهت ِ َنا ْ عن الله " ل َ ّ
د لَ
س ِج َ في ال ْ َ م ِ ه ْن ُ ذي َوال ّ ِ
هَ .. ل ِل ّ ِ
ه" )رو.(7 :8 َ
ضوا الل َ ن ي ُْر ُ نأ ْ عو َ طي ُست َ ِ يَ ْ
ما الشيطان فيستطيع أن يصل بسهولة ّ أ
إلى أذهاننا ،ليغرس فينا أفكار شك وتجديف
ونجاسة ..وكثير من أبناء الله ينزعجون من
هذه الفكار ،وأكثرهم يتساءلون :كيف نكون
أولد الله ،ومثل تلك الفكار تتسرب إلى
عقولنا؟!
ن الفكر ل يولد من رحم ّ أ نؤكد هنا
ي ثم يأتي للنسان ،فمعظم أفكارنا خارج ّ
ما
ّ أ ،واهتماماتنا وغرائزنا حواسنا عن ناتجة
كل ما يأتينا من الخارج فهو مجرد معلومات"
"Informationل تدخل الذاكرة" " Memoryإل ّ
إذا اندمجت مع الفكار السابقة.
ن هناك صورا ً كثيرة من ومن الملحظ أ ّ
ي ،ومنها استرجاع صور التفكير السلب ّ
الذكريات القديمة رغم ما فيها من جروح
ن مثل هذه الذكريات وعثرات! وننسى أ ّ
35
الباهتة ذخيرة حّية تقتلنا ،أو هى قيد
يحد من حركتنا في كل من الحاضر
ن النفخ في الرماد والمستقبل ،وهل ُننكر أ ّ
قد يؤذي العيون؟ أليس أفضل لنا أن نجعله
يذهب مع الريح؟
أمام هذه التحديات التي تواجه الفكر ،ل
يوجد سوى سلح التوبة نستطيع به أن
ض ّ
ُنحارب أعداءنا ،ونتخلص من شوائب ما ٍٍ
عشناه في حياة لوثتها الخطية ،وفكر أسره
العالم ،وسباه الشيطان ،فالتوبه ُتنير القلب
حب الله ،وتجعل الضمير يتعامل مع وتمله ب ُ
د! فإذا اعترفنا بخطايا العقل بُأسلوب جدي
الفكر ،ورأى الله رغبتنا الصادقة في حياة
التوبة ،ففي الحال يتدخل بنعمته اللهية وذلك
لكي يساعد النسان على التخّلص من هيمنة
وسلطان أفكاره الخاطئة ،ولكن ليس بصورة
مطلقة ،فالمغفرة ل تعني العصمة من ُ
الخطية.
فالمسيح قد أقام لعازر من الموت! ولكّنه
خرج من القبر مربوطا ً بأربطة الكفن،
ن الجسد بغرائزه والشيطان كما أ ّ
36
بحسده ،يكافحان باستمرار لسترجاع ما قد
ن باب العقل قد ُفتح ضاع منهما! حقا ً إ ّ
ً
لستقبال كلمة الله ،لكّنه ل يزال منفتحا على
أشياء ُأخرى ،فأشباح الفكر القديم تريد
بمداومة أن تهزمنا ،وُتدخل اليأس إلى
ي القبيح باستمرار ُيلحقنا. عقولنا ،والماض ّ
ن منياطق كيثيرة فيي العقيل ،ظليت كما أ ّ
ن كييثيرة تحييت حكييم السييادة القييدامى سييني َ
الييذين يبثييون سييمومهم ،ولكيين هييذا ليييس
ح
ضدّ التتّرو ِ هي ِ سدَ ي َ ْ
شت َ ِ ج َ ن " ال ْ َبغريب ،ل ّ
مو ُقتتا ِ ن يُ َ هتت َ
ذا ِ و َدَ ، ستت ِج َ ْ
ضتتدّ ال َ ح ِ والتتّرو ُ َ
ختتتتَر " )غييييل ،(17:5وأرض ما ال َ َ
ه َحتتتتدُ ُأ َ
المعركة هى العقل ،ومن ي ُييدرك هييذا يكسييب
ما لصالح الجسد أو لصالح الروح ! المعركة ،إ ّ
هنا تأتي المرحلة الثانية ،من مراحل
تحرير الفكر أل وهى :رفض بل نبذ كل
سلطان منحناه في عقولنا ،سواء للعالم أو
للشيطان أو للجسد أو للناس ..عن طريق
إرادتنا ،التي يجب أن تشترك مع الله وإل ّ
مصّيرة! فالله منحك أصبحنا كائنات سلبيةُ ،
حّرة لكي تستخدمها ،ولهذا قال إرادة ُ
37
ن الله الذي خلقك ُ
القديس أغسطينوس :إ ّ
بدونك لن ُيخّلصك بدونك.
ن التوقف عند مرحلة التوبة فقط ل لك ّ
م" ُ ك ن هذ ح
ِ ُ ِ ِ ْ ِ ْ رو ب دوا د ج
َ َ َ ّ ُت ت " أن فلبد يكفي،
)أف ،(22 :4بأن يكون لنا فكر المسيح )
1كو ،(16:2فالعقل أشبه بماء راكض ،وهو
ي ،لكي يدفعه إلى في حاجة إلى ماء ح ّ
المام ،وتتنقى الترعة من عفونته ،وهكذا
تتقيد الفكار القديمة التي كانت تقهرنا
ي ،لكي تسيطر وُتطالب بأحقية الحكم الذات ّ
طمت العبودية كم فينا ،لقد تح ّ علينا وتتح ّ
ن أفكارنا أصبحت ّ ل ً احر أصبح والذهن
خاضعة لفكر المسيح.
دث مرة ُ يح ل الذهن ن تجديد إل ّ أ ّ
ن الصراع لن فحسب ،بل هو تجديد دائم ،ل ّ
ينتهي ،والحروب لن تهدأ ،والسقوط ل
ن حياتنا الروحية أشبه يتوقف ،وهل ُننكر أ ّ
بترمومتر ،حرارته في صعود وهبوط على
الدوام؟! هنا يأتي دور التوبة المستمرة،
والرغبة الصادقة في الحياة مع الله ،وشغل
الفكر باليجابيات والروحيات...
38
ن الله
كما أنّ التجديد ل يمنع التجربة ،ل ّ
قد يقطع خط السلطان ،ولكّنه ل يقطع خط
التصال ،وهو ل يسلب حريتنا ،ولكن ما الذي
يمكن أن يعمله خيط مقطوع أو فخ
مكسور؟!
ن التجربة ليست هى المشكلة ّ بأ نعترف
الحقيقية وإّنما الخطورة هى السلطان الذي
تحتله التجربة في عقولنا ،إذن ليس النسان
حبيس أفكاره فكل شيء قابل للصلح وكل
ن الله أعطانا هذا
فكر قابل للتغيير ،ل ّ
السلطان.
39
62
- -
الفصل الرابع
سيلطيان الغيييرائيز
40
-6 -
ن الله يريد أن نحيا فقط ل )تك ،(16 :2لك ّ
أن نكون عبيدا ً لبطوننا!
قل بالطعام، ن البطن عندما ُتث ّ نعترف بأ ّ
ن الذهن ل يقوى على ضبط أفكاره فُيصيبه فإ ّ
التشتت ،هذا وقد أوضح لنا الكتاب المقدس،
ن السبب الرئيسي لشهوة الجسد في مدينة أ ّ
سدوم ،ليس هو السكر بالخمر فقط ،وإّنما
الكبرياء مع الشبع الزائد بالطعام ،ولهذا
عندما أراد الله أن يوبخ أورشليم قال " :ه َ
ذا
ع وال ّ
شب َ ُ رَياءُ َم ال ْك ِب ْ ِ
دو َس ُ
ك َ خت ِ ِ م أُ ْ ن إ ِث ْ َ
كا َ َ
ز" )حز .(49 :16 خب ْ ِ ْ
ن ال ُ م َ ِ
ن السحابة تحجب ضوء ّ إ قلنا إذا
ن بخار البطن الناتج عن كثرة الشمس ،فإ ّ
الطعمة يحجب عنا حكمة الله.
ن النار تتأجج بالحطب اليابس، وكما أ ّ
هكذا أيضا ً الجسد يشتعل عندما تتخم البطن
بالطعمة الدسمة.
أليست إضافة الحطب إلى الحطب ُيزيد
لهيب النار اشتعال ً ؟ وهكذا أيضا ً تنوع
الطعمة والتلذذ بهاُ ،يزيد شهوات الجسد
ويشعل نيرانها في أعضائه.
41
ن شهوة الطعام كما يرى القديس والحق إ ّ
يوحنا كاسيان ،تكشف عيين حاليية الفتتراغ
ي الذي يعيييش فيييه النسييان! فييالن ََهم الداخل ّ
هو ترمومتر ،غالبيا ً مييا ُيشييير إلييى مييرض قييد
أصييياب النفيييس فأفقيييدها فرحهيييا وسيييلمها
ن النفييس ي ،فميين المعييروف أ ّ وشبعها الروح ّ
البشييرية عنييدما ُتعليين إفلسييها ،فإّنهييا تفسييح
المجييال للجسييد ل َعَّلييه بكييثرة الكييل وتنييوع
الطعام بغير ضابط ،يمكن أن يتلّهى النسييان
ويجد سعادته!
هم ليييس هييو مجييرد ن علج الن َ َ ولهذا فييإ ّ
المتناع عن بعض الطعمة ،أو الصوم فييترات
طويليية ..وإّنمييا إشباع العمتتاق الداخليتتة
ي النازل من الستتماء! ولهييذا بالخبز الح ّ
حيد َهُ خب ْزِ وَ ْ ْ
س ِبيال ُ َ
يقول رب المجد يسوع " :لي ْ َ
ن فَم ِ الل ِّ
ه خ ُ ُ ِ ْ
م ج ر ل ك َل ِ َ
مة ٍ ت َ ْ ل ب ِك ُ ّ
ن ،ب َ ْ سا ُ
حَيا ال ِن ْ َ
يَ ْ
" )مت .(4:4
ي،
ّ الروحان مفهومه في الصوم نوالحق إ ّ
ليس حرمان الجسد وإذلله كما يظن البعض،
فهذا ليس في حد ذاته فضيلة ،فالصوم
وسيلة تقيود إلى انطلق الروح ،وهو ليس
42
مجرد علقة ثنائية بين النسان والطعام ،إّنما
الصوم كما يقول قداسة البابا شنوده" :
علقة ُثلثية مركزها الله الذي يربط بين
النسان والطعام ،وليس علقة بين اثنين هما
النسان والطعام " .
ن الريشة إذا كانت غير ملتصقة بشيء إ ّ
ما إذا كانت ترفعها أخف ريح عن الرض ،أ ّ
مبتلة فإّنها تصبح ثقيلة ،هكذا أيضا ً النسان
المنهمك باللذات فلثقله ل يرتفع إلى العلء،
والعود المتشبع بالرطوبة إذا وضع في النار،
ل تؤثر فيه إلى أن ُتنزع منه الرطوبة،
والجسد الشبعان ل تؤثر فيه نار محبة الله
حتى يجف بالصوم.
وأيضا ً الزرع النابت في مستنقع الماء ،ل
يعيش لمتناع حرارة الشمس عنه بسبب
كثرة الرطوبة ،فإن أردت أن ينمو فاقطع
الماء عنه واسقه عند اللزوم ،وهكذا الجسد
المنغمس في مياه الشراهة قّلما يعيش.
ن الصوم هو أكبر معين على والحق إ ّ
تهذيب الحواس وتسكين شهوات الجسد،
وكل جهاد ضد الشهوة يجب أن يبدأ أول ً
43
بالصوم ،الذي وصفه القديس باسيليوس
الكبير بأّنه " :سجن الرذائل ".
ن المبالغة في الصوم لها سلبياتها غير أ ّ
ورّبما ُتضعف الجسد وبالتالي تعوق انطلق
الروح! من هنا كانت أهمية العتدال الذي
يصفيه مار ُأغريس بأّنه " زينة الفضائل".
ن العازف الماهر ل يشد أوتار الجيتار إ ّ
بقوة لكي ل تنقطع ،وعليه أيضا ً أل ّ يرخيها
كثيرًا ،حتى ل تفقد نغمتها وتتوقف الموسيقى
العذبة عن النسياب منها.
ِقلة المياه ُتجفف المحصول ،ولكن كثرة
المياه أيضا ً ُتفسده ،المر نفسه بالنسبة
للصوم ،فالمتناع عن الطعام الزائد عن طاقة
النسان ُيضعفه وُيمرضه وُيعيق تركيزه
ي.
الداخل ّ
من َ تعزياته، يختبر أن يمكن فل الله ماأ ّ
من ينام ً
من ل يأكل أبدا ،ول َ ً
يأكل كثيرا أو َ
من هيو مستيقظ دائمًا ،فالتقدم في كثيرا ً أو َ
الحياة الروحية يكون بالعتدال في الكل
ن الله ل ُيدرك عبر والنوم والقراءة ...ل ّ
المجهودات العنيفة التي تفوق طاقتنا ،بل
44
01
- -
كيرل
شيريس إبرام
دينا
ندرك الله عبر الحكمة والوعي نستطيع أنمينا
والنتباه ..وفى التوازن بين العمل واللعمل.. عادل
والتجرد ..والخدمة والوحدة ..تكمن أمجد هالة
والمتلك
ي.أسرار النجاح الروح ّ
ما الجنتتس فهييو هذا عن غريزة الطعام ،أ ّ
ن اللييه خلييق كييل شييئ طياهرا ً فيي دس ل ّ مق ّ ُ
النسان! وقد أشار اللييه منييذ بداييية الخليقيية،
ك إلييى اتحيياد الرجييل بييامرأته إذ قييال " :ل ِذَل ِ َ
مَرأ َت ِ ِ ل أ َباه ُ
ه ق ِبا ْ
ص ُوي َل ْت َ ِه َم ُ
وأ ّ ج ُ َ ُ َ ك الّر ُ ي َت ُْر ُ
حدا ً " )تك .(24:2 َ ِوا ً اسدوي َ ُ َ ِ َ َ
ج ن نا كو َ
ن الجنس وإن كييان وسيييلة ونحن ل ُننكر أ ّ
ن هناك أهييداف ُأخييرى وراء لحفظ النوع ،إل ّ أ ّ
العلقة الجنسية في إطار الزواج ،وهييل خلييق
الله حواء من أجل النجيياب فقييط؟ ألييم يقييل
َ َ
ع
صين َ َ حيد َهُ فَأ ْم وَ ْن آد َ ُ كو َن يَ ُجّيدا ً أ ْ س َ الله " :ل َي ْ َ
ظيَرهُ " )تك.(18:2 عينا ً ًن َ ِم ِه ُلَ ُ
ن التحيياد الجسييديّ بييين الرجييل والحييق إ ّ
والمرأة ،ل يمكن أن ُيحقق هييدفه إذا اسييتقل
عن الله! الذي له الدور العظييم فييي توطيييد
حييب بييين الزوجييين ،أل تييرى كييثيرين دعائم ال ُ
تزوجوا ولم ُيحققييوا الوحييدة المطلوبيية الييتي
45
ن هييذا تمنوها؟ فلماذا هييذا الخفيياق؟ أعتقيد أ ّ
يرجع إلى نقص عنصتتر هتتام ،يسييتطيع أن
يجمعهمييا فييي جسييد واحييد ،فمييا هييو هييذا
ن هنيياك غييير رب المجد العنصر؟ ل أظن أ ّ
يسوع يستطيع أن يؤدي هذه المهمة بنجيياح،
مهميية توحيييد البشييرية كلهييا -ل المييتزوجين
فقط -في جسد واحد.
ن للجنس أهدافا ً كثيرة سامية نعترف بأ ّ
ن النسان المّيال للشر ،انحرف به عن ولك ّ
ي ،فأصبحنا نسمع عن ّ الطبيع مساره
انحرافات ل حصر لها ،وأصبح الجنس مصدر
عذاب للنسان وصاحب سيادة ،وهيهات
للنسان الذي يعانق الشهوة أن يكون بعيدا ً
عن نيران اللم.
ن الجنس غريزة ،إذن فجذوره نعترف بأ ّ
متأصلة في صميم التربة البشرية ولهذا ليس
ِبدعا ً أن يكون له سلطان علينا ،وما على
ن يحترسوا ،فالشبل قد يصير البشر إل ّ أ ّ
أسدًا ،والبذرة شجرة ،والدودة ثعبانا..
ً
ن رفض الله للعلقات الجنسية والحق إ ّ
خارج نطاق الزيجة ،صادر عن معرفة عميقة
46
حب الذي يرتقي بالنسان خص في تغذية ال ُ تتل ّ
إلى قمة النسانية ،ل أن يهبط به إلى
ما العلقة القائمة على الشهوانية، الحيوانية ،أ ّ
حب ما أن ينمو حتى يذبل فهى تجعل ُ
ال
سريعًا!!
ي ُيكلف قليل ً هذه حقيقة، ن الحب الجنس ّ إ ّ
ً
ولكّنه ل يساوي إل ّ القليل أيضا! وإن قال
حب زهرة سريعة العطب والجنس البعض :ال ُ
ن الزهرة يمكن أن تنمو سماد لها ،نسوا أ ّ
سب الطبيعة ُ ِ يك فل السماد ما
بدون سماد ،أ ّ
جمال ً بدون الزهرة ,وفى عصرنا الحال ّ
ي
ُيطلق اسم الزهرة على السماد ،ولهذا ل
نستغرب من النفصال السريع.
ويتساءل البعض كيف نسيطر على
ن هناك ثلثة أشياء غرائزنا؟! فُنجيب بأ ّ
ُتحررنا من سلطان الغرائز وهى:
03
- -
ع
طي ُبقوتي وتقواي ضعيف ولكني " َأست َ ِ
ويِني" ق ّ ح ال ّ ِ
ذي ي ُ َ سي ِ في ال ْ َ
م ِ ء ِي ٍ
ش ْ كُ ّ
ل َ
)فى .(13:4
إذن لكي نتغلب على هذا المارد ،لبد أن
نتيقظ لحروبه ونضع الرادة البشرية بجانب
ن أقل حركة تنتفض بها النعمة اللهية ،ل ّ
الرادة تكون كافية لتحطيم شهوات كثيرة،
ولهذا يقول أنبا أنطونيوس " :إن أردت
تستطيع أن تكون عبدا ً للشهوات ،وإن أردت
ن اللهتقدر أن تتحرر منها ول تخضع لنيرها ،ل ّ
أعطاك هذا السلطان ".
48
85
- -
ل ُننكر أننا جميعا ً نولد وفى داخلنا نحمل
صلت جرثومة الشهوة ،تلك البذرة التي قد تأ ّ ُ
في أعماق التربة البشرية ول يمكن أن ُتنزع
ن المرء ل يصبح شهوانيا ً إل ّ منها ،ولك ّ
حينما تتعطل قواه الروحية ،ويبتعد
عن الله كلية ،فمع الله أستطيع أن أضبط
غرائزي ،وبعيدا ً عن الله ل حياة ول أمل في
حياة...
49
الفصل الخامس
غيييييييدر الطييبيعيييية
50
صَر
قي ْ َصَر ل ِ َ
قي ْ َ ما ل ِ َ
المجتمع ،أو ُيعطي " َ
ه " )مت ! (21:22 ه ل ِل ّ ِما ل ِل ّ ِ و َ َ
ما الطبيعة فهى رحم خصب يفيض أ ّ
ن الطبيعة هى التي بالحياة ،وهل ُننكر أ ّ
جعلت النسان يسبح في الفضاء ،ويغوص
في أعماق البحار ،ويتذوق كافة المتع
والمسرات؟! أليست المعرفة البشرية نوعا ً
من الندماج فى الطبيعة أو المشاركة في
الكون؟ أل تبدو الطبيعة كأّنها إشعاعات إلهية
ي: توحي بالعظمة والجلل ،ألم يقل داود النب ّ
ه
د الل ِ ج ِ م ْ ث بِ َ حدّ ُت تُ َوا ُ ما َ س َ " ال ّ
ه؟ " )مز :19 ي د ي ل م ع ب
ُ ِ ُ ِ َ َ ِ َ َ ْ ِ ر ب خ
ْ ي ُ
ك َ ل وال ْ َ
ف َ
.(1
ن الطبيعة مع كل هذا هى عدو ولك ّ
النسان اللدود ،لكثرة ما فيها من مخاوف
وقيود ،فالبحار ،الزلزل ،السيول ..كلها
أشباح تنبثق في قلب الطبيعة لُتخيف
النسان وُتعلن حدوده! وهكذا يحيا النسان
مع الطبيعة حياة مزدوجة ،فهو يعيش معها
ولكّنه يتحرق شوقا ً إلى النفصال عنها ،وهو
حين يبتعد عنها يحن مرة ثانية إلى الرتماء
51
في أحضانها!
ن الصلة بين النسان والطبيعة، نعترف بأ ّ
ل يمكن أن ُتصبح في يوم ما ،صلة توافق
مطلق أو انسجام تام ،فالمادة متمّردة ل ُ
مهاجمة ل ساكنة! سلبيةُ ،
لسطورة وإذا كان البعض قد استسلم ُ
التقدم الذي زاد من كبرياء النسان ،فأعلن
ن النسان سُيخضع الطبيعة، في جرأة وتهور أ ّ
ن
ويستكشف أسرارها ،ويحل ألغازها ...فإ ّ
ن الصراع ضد الطبيعة من واجبنا أن نقول :إ ّ
ً
والتحرر من قيودها ،هو مهمة شاقة جدا قد
ل تنتهي مدى الحياة!
ن حياة النسان ليست رحلة والحق إ ّ
هادئة ،يقضيها في التمتع بالطبيعة ،والتنعم
بمباهجها وكل ما فيها من جمال! وإّنما هى
فجر معركة تتجدد ،وهى مليئة بالخوف
والقلق وشّتى مظاهر الفناء ،وليس على
النسان سوى الجهاد بل الصراع.
جره من ونحن ل ُننكر دور العلم وما قد ف ّ
ن موقف أبحاث وما اخترعه من آلت ...إل ّ أ ّ
مقِلقًا ،وهو مليء النسان من الطبيعة لزال ُ
52
23
- -
بالعوائق ،ولكن هذا ل يجعلنا نتشاءم من
ن الحجر في مستقبل النسان ،صحيح أ ّ
الطريق ُيعيق التقدم ،إل ّ أّنه قد يكون عتبة
للتقدم في رحلتك ،ووسيلة تعبر عليها
مستنقعات ،وهذا يعتمد على طريقة سيرك،
فهل عيناك مغمضتان أم مفتوحتان؟!
ن الطبيعة هى التي ترعى النسان، إ ّ
ولكن كم من مّرة صرخ النسان فظلت
صامتة كما لو كانت خرساء؟! وقد يتغنى
حّبها..النسان بعطف الطبيعة وجمالها و ُ
ً
ولكّنه سرعان ما يجد نفسه مدفوعا إلى
ن الطبيعة هى القوة الساحقة ،التي القول بأ ّ
لبد من أن يعمل النسان على مواجهتها
والصراع ضدها!
ُ
وهكذا تستحيل أسطورة " الطبيعة الم
" ،إلى مرثى " الطبيعة الخصم " ،وهذا
ن الطبيعة التي تفيض بالحياة، ليس بغريب ،ل ّ
هى التي ينبعث منها الموت! إّنها تحمل
الطعام والوباء كلهما معًا!
وقد تصل قيود الطبيعة إلى الذلل
وذلك عندما يضل النسان ويسقط
53
ن عصور قديمة في عبادتها! وهل ُننكر أ ّ
مضت كان فيها يعبد النسان وثن اسمه
الجمال! وما هو ذلك الجمال سوى الشمس
والقمر والنجوم والشجار والبحار ..الموجودة
في الطبيعة!
ألم يكن القديس " موسى السود "
يعبد الشمس قبل توبته؟! وماذا أعطته
الشمس؟ لقد كّلمها كثيرا ً ولكّنها لم ترد،
وكم من فنان قضى حياته عبدا ً لهذا الله
الساحرِِ ،لما فيه من ثراء أثرى فكره ،وأشبع
رغبة الفن العارمة فيه ولكن دون جدوى.
ن النسان على الرغم من ارتباطه لك ّ
ملحة الوثيق بالطبيعة ،إل ّ أّنه يشعر بضرورة ُ
كم فيها والسيطرة تدفعه إلى مواجهتها ،والتح ّ
ي
ن النسان لم يقنع في أ ّ عليها ،وآية ذلك أ ّ
عصر من العصور بالستسلم للطبيعة،
والخضوع لسلطانها والتعّبد لصنامها ،بل
حاول فى كل زمان ومكان أن يفرض نفسه
عليها ،وان يحد من شوكة قوتها.
ن النسان ل يقدر أن يقف والواقع أ ّ
نمن الكون موقف الناظر المتأمل ،كأ ّ
54
ن الكون منذ البداية يبدو له ل علقة بينهما ل ّ
بمثابة مجموعة من اللغاز ،التي تتطلب
ن العلقة بين النسان الحل ،ولهذا فإ ّ
والكون ،قد اتخذت منذ اللحظة الولى طابع
الحوار أو الجدل أو سؤال يبحث عن جواب.
ن النسان لم يقنع في أية لحظة والحق إ ّ
من لحظات حياته ،بالستسلم لظواهر
الطبيعة ،أو الكتفاء بالخضوع لها في
استصغار ،ولو رجعنا إلى الوراء ،إلى عصور
ن النسان قد اشتغل ما قبل التاريخ ،لوجدنا أ ّ
ّ
بالسحر والتنجيم والشعوذة ..وكلها محاولت
كان يسعى من خللها أن ُيخضع القوى
الغاشمة المحيطة به ،وذلك عن طريق الحيل
والتعاويذ الشيطانية ،حقا ً إّنها طرق فاسدة
ول جدوى منها ،ولكّنها في الحقيقة تكشف
لنا عن رغبة النسان ،في السيطرة على
قوى الطبيعة ،التي في أوقات كثيرة تقهره!
ن النسان يعرف أّنه جزء ونحن ل ُننكر أ ّ
محدود من الطبيعة بوصفه جسمًا ،ولكننا
نراه يحاول أن يستوعب العالم كله بوصفه
ل ،بحيث قد يكون في وسعنا أن روحا ً وعق ً
55
43
- -
ن كل دراما النسان تنشأ عن تلك نقول :إ ّ
العلقة المزدوجة بين هذا الجسم الذي
يحتويه العالم ،وذلك العقل الذي يحوي العالم
نفسه!
ملَزما ً بالخضوع وبينما نجد الحيوان ُ
ً
للطبيعة ،نرى النسان يتمرد دائما على كل
قيود الطبيعة ،فالنسان يسعى بمداومة إلى
تغيير بيئته ،وجعلها ملئمة باستمرار لحاجاته
المتزايدة المتجددة ،ففي وسع كل مّنا أن
ي ،لننا نملك قدرات دل من تراثه البشر ّ ُيع ّ
تجعلنا نتخطى وضعنا باستمرار.
وإن كان النبات والحيوان تلميذين وفيين
ن النسان يرفض من تلميذ الطبيعة ،فإ ّ
بمداومة أن يقف من الطبيعة موقف
التلميذ الذي يقول " :حاضر " و " نعم "
معّلمه ،ولهذا يسعى باستمرار لكي يعلو ل ُ
كم ولو في على الطبيعة ،ويكون هو المتح ّ
بعض عناصرها.
كلن النسان سيظل دوما ً ُيش ّ نعترف بأ ّ
العالم ،وُيغّير من صورة الطبيعة ،فهو يريد
أن يعلو على عالم الواقع ،ويتحرر من قيوده
56
مل عن طريق الختراعات ،ولكّنه لو تأ ّ
سلوكياته وحّلل بدقة أفكاره ،لوجد أّنه في
الحقيقة يبحث عن عالم آخر أكثر مثالية
ل! أتعرفون ما هو هذا العالم؟! وكما ً
ن النسان قد اخترع وتتعالى الصيحات بأ ّ
اللة لكي ُيسيطر على الطبيعة ،ولكّنه قّيد
ن مياذاته وفقد بساطة الحياة! وهل ُننكر أ ّ
ميه بالحضارات ،إّنما هو أثر من آثار ُنس ّ
الوسائل التي ابتدعها النسان لتنظيم عالمه
ي ،ونعني بها :اللغة ،اللة ..فالنسان البشر ّ
ذو عقل ،ولذلك هو يرفض أن يقف عند حد
تلك الحاجات الحيوانية التي قد تشبعها
الطبيعة ،وما هى البيئة الثقافية سوى
مجموعة عوامل تاريخية واقتصادية
واجتماعية ،يجهلها الحيوان جهل ً تاما؟ً
إذن على أيّ نحو ينبغي أن نفهم
العلقة بين النسان والطبيعة؟ هل
ن هناك قوى طبيعية وهى نكتفي بأن نقول :إ ّ
تعارض الذات النسانية التي تبحث عن
التغيير والتجديد..؟
ن النسان يضغط على الواقع أ ّ
57
63
- -
الطبيعة لكي يقهرها ،كما يضغط الطير
على الجاذبية لكي يقهر الجاذبية ،ومعنى هذا
ن النسان سيظل ُيصارع إلى أن يضع أ ّ
خلق من ُ آدم ن
ّ إ ً احق الكون، في بصمته
ن الرض نفسها لم تلبث تراب الرض ،ولك ّ
خلت فيها يد ّ تد حين أن أصبحت آدمية
النسان ،إذن محاولة إخضاع الطبيعة
حلما ً
لسلطان النسان سيظل إلى البد ُ
ُيراوده باعتباره سيد الطبيعة!
مطلقة لن يجدوا ن أنصار المادية ال ُ ولك ّ
أدنى صعوبة ،في أن ُيقدموا لنا صورة للعلقة
بين النسان والطبيعة ،يظهر فيها النسان
بمظهر ذرة ناقصة ،حقيرة ،قد ضل الطريق
وسط خصم هائل ،جّبار ،أو هو نقطة صغيرة،
ضئيلة الشأن فوق محيط دائرة الكون ..وهم
يقولون :أل يكفي لتلشي الوعي وانعدام
لكسيجين عن خليا المخ الشعور أن ينقطع ا ُ
دقائق!!
ن النسان هو حامل ولكّنهم يتناسون أ ّ
مباديء القيم في الطبيعة بأسرها،
وهو يستخدم فكره لكشف أسرار الطبيعة
58
وتحقيق مقاصده ،ويهدف من وراء سلوكه
بلوغ بعض الغايات الخلقية ..حقا ً إّنه ينظر
حوله فيجد نفسه بإزاء قوة هائلة ،ولكّنه ل
يجد صعوبة في أن يتحقق من أّنه سيد
مرها في لحظات! الطبيعة ويستطيع أن ُيد ّ
والن ،كيف يتحرر النسان وينطلق
ن النظرة من قيود الطبيعة؟ أعتقد أ ّ
اليجابية للكون ،ترفع النسان من الرض
إلى السماء ،وهكذا نستطيع أن ننظر إلى
الطبيعة من ثلث جهات:
ن الطبيعة مسكن كبير الولى :هى أ ّ
للنسان ،والحكيم هو من يحيا فيه كما يحيا
المسافر في فندق ،أيّ أّنه سوف يتركه ،دون
أن يأخذ معه شيئا ً مما كان يستخدمه ،هذا ما
يقوله القديس ُأغسطينوس.
سوف تخرج من العالم شئت أم أبيت
لّنك ضيف ،وكل ما تملك سيكون لولدك،
إذا ً ل أحد يعمل لنفسه ،ولهذا تقتضي الحكمة
أن تجعل ثرواتك عونا ً لك في سفرك القادم،
ن النسان الحكيم هو من يحيا في والحق إ ّ
العالم دون أن يحيا العالم فيه ،فيكون
59
كالسفينة التي تحيا في الماء دون أن يتسرب
ن دخول الماء إلى السفينة الماء إليها ،ل ّ
يعنى غرقها أيّ هلكها!
والثانية :اّتخيياذ الطبيعيية وسيييلة لتمجيييد
الله ،فمن خلل الطبيعة نستطيع أن نقيول" :
ة
مت ٍحك ْ َهتتا ب ِ ِ ب ك ُل ّ َ ك ي َتتا َر ّ مال َت َ ع َم أَ ْعظَ َ ما أ َ ْ َ
ن مجييرد ت " )مز ،(24:104نعييترف بييأ ّ ع َ صن َ َْ
ن" فَلك تجعلنييا نمجييد اللييه ل ّ نظرة سريعة لل َ
ك َ
فل ت ُ ْ
وال َ ه َد اللت ِ جتت ِم ْ
ث بِ َ ح تد ّ ُ ت تُ َوا ُ ما َس َ ال ّ
ه " )مييز ، (1:19ففييي خب ِ ُ ِ َ َ ِ َ َ ْ ِ
ت يتد ي ل ت م ع ب ر ت يُ ْ
ُ
الفضاء مليين من الكوان الخرى ،وكل كون
يحوي مليين الكييواكب ..يفصييلها بعضييها عيين
بعض مسافات شاسعة ،ومع هيذا ل تتصيييادم
رغييم أّنهييا تسييير بسييرعة هائليية ،بييل علييى
العكس من ذلك تتحيرك وفيق أنظمية دقيقية
رائعة!!
ن الرض تدور حول ومن المعروف أ ّ
نفسها بسرعة ) (1600كيلو متر في
الساعة ،فلو دارت بسرعة ) (160كيلو متر،
لكان النهار والليل أكثر طول ً عشرات
المرات ،ولحرقت الشمس الحارة
60
النباتات!..
ن الشمس التي هى ينبوع حياتنا كما أ ّ
وتبلغ حراراتها ) (6000درجة مئوية ،لو
متنا جميعا ً من شدة أرسلت نصف إشعاعها ل ُ
البرد!
ل ،لغطى مّنا قلي ً
ِ اقترب لو ً اأيض والقمر
لكسيجين نا ُالمد والجزر الرض كلها ! ولو أ ّ
خيّزن فى الصخور ،ل نتهت حياة الكائنات ُ
الحية على الرض!
فهل ما يحدث في الكون من قبيل
صدفة ل تقود إل ّ ن ال ُ المصادفة ؟! أعتقد أ ّ
صدفة عصفورين ُ ال تجمع إلى الفوضى! قد
من الذي خلقهما؟ معا ً ولكن َ
ما الثالثة :فهى أن تكون الطبيعة أداة أ ّ
ُتحقق احتياجات البشر ،وليس وسيلة
ما
ن الصراع مع الطبيعة مصيره :إ ّ للصراع ل ّ
ما الفناء! وها نحن نتساءل :مع من اللم ،وإ ّ
تتصارع؟! مع جماد!
من يرجع إلى قصة الخلييق ،يعييرف ن كل َ إ ّ
ن الله قد خلق النسان بعد أن أعييد لييه كييل أ ّ
ن النسييان قييد أسيياء اسييتعمال شيييء ،ولك ي ّ
61
الشياء ،ودخل في صراع ميع اللييه ،ألييم يقييل
س تَناف ِ ن ل َن ْ ُ هل ُ ّ
م ن َب ْت ِ أصييحاب بييرج بابييلَ " :
ْ
ع
ص تن َ ُون َ ْ ء َ ما ِ
ست َ ه ِبال ّ ست ُ وب ُْرج تا ً َرأ ُة َ دين َت ً م ِ َ
لكتت ّ ه ُ ج
َ ْ ِ و لى َ ع د د ب ت
َ َ َ ّ َ َ ن ئل َ ِ ل ً اسم ا نا
ِ َ س فُ ْ نَ ل
ْ
ض! " )تك ،(4 :11وماذا كانت النتيجة؟ رال َ
ْ ِ
أضاعوا أنفسهم وبلبل الله ألسنتهم،
وبدّدهم على وجه كل الرض ،فل هم بنوا
المدينة ول البرج! ولو كانوا حكماء لمجدوا
الله واستمتعوا بالطبيعة.
62
الفصل السادس
ضييغيييييوط العيمييييل
63
ن الصابة بأمراض هذا وقد ثبت عِلميا ً أ ّ
القلب ،ذات ارتباط وثيق بضغوط العمل،
خاصة إذا ارتبطت الضغوط بالتدخين.
في بعض القييواميس نجييد تعريييف للعمييل
بأّنه :التعب في أداء مهمتتة ،فالعمييل إذن
مرتبط بالصحة ،صحة العضاء التي لم ُتخلييق
في النسان ،إل ّ لكي يؤدي كل عضو وظيفته،
والحياة حركة والسييكون مييوت ،وهييل يمكيين
لنسان أن يحيا بل عمييل؟ كيييف والعمييل هييو
لكتت ُك ت َأ ْ ُ
هت َج ِ
و ْ
ق َ
ع تَر ِ
" بِ َ ي
قييانون إلهيي ّ
خْبزا ً ؟ " )تييك ،(19:3وهييذا ُيسييبب ضييغطا ً ُ
على النسان فيدفعه إلى القلق على صحته.
ن الصحة ل ُتباع ول ُتشترى ولو والحق إ ّ
بأثمن الكنوز ،وهي من أهم وسائل الستقرار
ي للنجاح في العمل، ي ،وسبب رئيس ّ النفس ّ
يكفي لثبات أهمية الصحة للنسان ،ما قاله
ل :أناأحد الطباء عندما وقف أمام الملك قائ ً
ل أرضى برجلي جللة الملك رجلين
لجسمي ،ولو أنك أعطيتني معهما
ممالكك الثلث!
64
ن العمل ُيرهق النسان، ونحن ل ُننكر أ ّ
ن حياتهم قد خلت ّ أ لو يتمنون وما أكثر الذين
من كل جهد شاق ،وما يزال حتى يومنا هذا
يجد البعض في العمل عبء ثقيل ،يودون لو
استطاعوا التحرر منه! إّنهم يكرهون العمل
لّنهم يبذلون في أدائه جهدًا! وكم من ُأناس
يسخطون على الحياة لّنها مرتبطة بالعمل،
متوقفة على ما يبذلوه فيها من جهد!!
والحق إّنه لو كان يكفي لنا أن نتمنى هذا
الشيء أو ذاك ،حتى نراه موجودا ً أمامنا دون
ي
ما كان هناك أ ّ القيام بأدنى عمل ُيذكر ،ل َ َ
معنى لحياتنا على الطلق ،وأصبحنا مجرد
كائنات ضعيفة إلى أبعد الحدود ،فما معنى
حياة تدور في عجلة الخلء ،وبل هدف يمكن
أن يتحقق من خلل العمل؟!
أليس في ملقاة العوائق ومواجهة
المصاعب والضيقات ..ثم محاولة التغّلب
متعة كبرى؟! إّنها متعة الراحة بعد عليها ُ
التعب ،أو متعة النصرة بعد الجهاد ،وها نحن
نتساءل:
65
كيف لنا أن نشعر بلذة الراحة لو خلت
حياتنا تماما ً من كل عمل؟ بل كيف نشعر
بأننا موجودين أصل ً لو لم يكن في حياتنا أ ّ
ي
ن عدم العمل عمل أو نشاط؟ هل ُننكر أ ّ
أشبه بالعار عند الرجل؟! أليس الرجل يقيس
حياته بما أنجزه من أعمال؟!
مبيد للكسل ول ََعل أهم ما في العمل أّنه ُ
ويقضي على الفراغ ،الذي هو مصدر
الخطايا والشرور ،فقد قال أحد الباء :ما من
ن حياة خطية إل ّ وسببها الفراغ! ولهذا فإ ّ
ي كسول ل يعمل، فقير يعمل ألذ من حياة غن ّ
ن العامل الذي يأكل خبزه بعرق جبينه ل ّ
ي الذي يشعر بسعادة غامرة ،ل يعرفها الغن ّ
ورث مال ً كثيرًا ،ل يعرف قيمته لّنه لم يتعب
فيه.
ن في العمل إشباع للنفس ّ أ كما
وتحقيق للذات التي ل تكف عن التجديد،
وها نحن نتساءل :هل يمكن أن يكون للفكر
قيمة إن لم يتحقق ويصير شيئا ً في واقعنا
الماديّ ؟! وما هو الذي ُيحقق الفكر وُيخرجه
إلى عالم الواقع؟ أليس العمل.
66
وفى العمل أيضا ً نسيان ولو مؤقت
لللم ،فقد كان الفنان الفرنسيّ " أوجست
رنوار" ،يزداد إقبال ً على الرسم كّلما زادت
آلمه ...فقد كانت لديه قدرة عجيبة على
مل اللم والعمل المتواصل ،وكان الرسم تح ّ
ُينسيه آلمه وأحزانه..
ن صديقا ً له قد زاره مّرة عندما وُيقال أ ّ
ُأصيب بالشلل ،وجلس معه لكي ُيخفف عنه
آثار المرض ،فسأله :لماذا تصر على
الستمرار في الرسم على حساب صحتك،
إنني أراك تتألم مع كل حركة يأتي بها
إصبعك؟ فأجاب رنوار بفلسفة العباقرة قائ ً
ل:
حقيقة إنني أتألم ولكن اللم ل يلبث أن
يزول ،بينما يبقى الجمال حيا ً ل يموت،
عزائي الوحيد أنني ُأشارك في صنع
هذا الجمال.
ما العمال التي نقوم بها فلبد أن تطبع أ ّ
صورتها في الوسط الذي نعيش فيه،
ن الذات ل تتحقق في العالم ومعنى هذا :إ ّ
ي ،إل ّ من خلل العمال التي ُننجزها الخارج ّ
والفعال التي نؤّديها.
67
ن كل فعل عندما قال أحد الفلسفة " :إ ّ
ول في مسار التاريخ هو نقطة تح ّ
ن أصداء ى " ،فقد كان قصده :إ ّ البشر ّ
أفعالنا تتسع حتى تشمل مجرى الحداث
الكونية والبشرية في كل مكان ..أقول هذا
ونحن نحيا في عصر المعلومات ،فبمجرد
كلمة ُتقال يمكن بعد لحظات أن نسمع
صداها في كل أنحاء العالم.
ورّبما تكون لفعالنا صدى لدى الخرين،
فيتقّبلونها حتى لو كانت صغيرة ،ويكتشفون
ن كامنة أو قيم دفينة ،ولكن ما فيها من معا ٍٍٍ
ي لهذا
ّ الحقيق المضمون قد يحدث أحيانا ً ٍِ ّ
ن أ
العمل ل ُيفهم ،ولكن مهما كان رد الفعل
فيجب علينا أل ّ نتوقف عن العمل.
ن كل فعل يقوم به النسان، والواقع أ ّ
ي ،إل ّ أّنه ما أنّ فرد عمل نه
ّ أ من على الرغم
يتم فسرعان ما يلتحم بنسيج الحداث ،لكي
ُيصبح جزءا ً ل يتجزأ من صميم الوجود ،وهو
حين يلتحم بنسيج الحياة فأّنه يحيا في باطنه
دون أن يطرأ عليه الفناء ،حتى ولو ضُعفت
ضربات الذبذبات التي تنبعث منه!
68
ن العمل ما هو إل ّ دعوة للخروج من إ ّ
عالم النانية ،من أجل الندماج في عالم
الخرين والعمل من أجلهم ،ول يجب أن
ن إتمام الواجبات الضرورية نحو الله ننسى أ ّ
والناس ،هى في الحقيقة مجرد أعمال منها
أعمال روحية وُأخرى جسدية ،وإن كان
البعض يقولون إننا أحرار نفعل كل ما نرغب
ن الحرية أو ما ُنريد ،إل ّ أننا يجب أن نعرف أ ّ
نوعان:
حريتتة باطلتتة :وهتتي أن نفعتتل متتا
نشاء ،كميا ليو كنيا نحييا فيي جزييرة وحيدنا،
وحريتتة حقيقيتتة :وهتتي أن نفعتتل متتا
يجتتب بحيييث ل نكييون مخييالفين للقييوانين
والتقاليد أو معييثرين لغيرنييا ،كمييا ل يجييب أن
نقتصر في أعمالنا ،على كل ما يعيييود بييالخير
ن الخر هو أخييي ،ولهييذا على أنفسنا فقط ،ل ّ
ب ُ ْ
يقييول معلمنييا بييولس الرسييول " :ل َ ي َطل ْ
و ل كُ ّ
ه بَ ْ و ل ِن َ ْ َ
هت َ متتا ُ
د َح ٍ
وا ِ
ل َ س ِ
ف ِ ه َ
ما ُحد ٌ َأ َ
ر" )1كو.(24:10 خ ِِلل َ
وقد يتساءل البعض عن كيفية التخّلص
أو الحد من ضغوط العمل؟ فنقول:
69
ن العمال كثيرة ومتنوعة ،ولهذا ل شك أ ّ
يجب على النسان أن يختار ما يمكنه عمله،
من ُيريد أن يفعل كل ن َ فمن المعروف أ ّ
شيء ،في النهاية سوف يجد نفسه لن يفعل
أيّ شيء!
هنا يجب على كل إنسان أن يعرف
ن العمل يجب أن يكون في قدراته ،كما أ ّ
حدود كما يقول أندريه موروا ،لهذا أفضل
ن الكاتب ل كرا ً أ ّ
لك أن تختار ما ُيناسبك ،متذ ّ
حالةّ والر المجالت، يستطيع أن يكتب في كل
ل يزور كل البلد..
ن النجاح غير مستحيل، ّ بأ يجب أن تؤمن
إذا أحسنت اختيار الهدف ،لّنه من العبث
أن تسعى لتحقيق غايات من المستحيل
تحقيقها! والفضل أن تضع قائمة بكل ما
ُتريد إنجازه ،ثم تختار ما يوافقك أو ً
ل ،إّنه
لحق واجب علينا أن نأكل من عنقود العنب
ل ،والمؤّلف الموهوب هو من خير حباته أو ً
يبدأ كتابه الضخم بتسجيل أبوابه وفصوله
أو ً
ل.
70
هناك خطأ كبير يقع فيه كثيرون ،أل وهو:
محاولة إنجاز العمل في مرحلة
واحدة! وقد كان يجب أن يفعلوا مثل
متسلق الجليد ،الذي يقتطع من الثلوج ليشق
لخرى ،دون أن يرفع خطوة بعد ا ُ طريقه ُ
بصره إلى القمم ،بل يخفضه إلى العماق،
لّنه إن فعل هذا فلبد أن يستولى الرعب
على قلبه.
ويجب أن يكون العمل بأمانة ،فالله يرى
ما يحدث في الخفاء وبانتظام ،كما يحتاج
ي والهدوء، النسان إلى الستقرار النفس ّ
ذر من العواطف الجوفاء التى أدت إلى وُنح ّ
ضياع كثيرين ،فكم من شباب فقدوا درجاتهم
العلمية بسبب نزوة لم يضبطها العقل!
وإن كان العمل يحتاج إلى صحة جيدة،
فيجييب أن تهتييم بجسييدك فقييد قييال معلمنييا
َ
ه
س تد َ ُ ج َح تد ٌ َ
ضأ َ غت ْ م ي ُب ْ ِبولس الرسول " :ل َ ْ
َ
ب أْيضتا ً متتا ال تّر ّه كَ َوي َُرّبي ِ ه َ ل يَ ُ
قوت ُ ُ قط ب َ ْ
ة" )أف .(29 :5 س ِل ِل ْك َِني َ
ي، كز الباء على هذا التجيياه النجيل ي ّ وقد ر ّ
حتى ل ننحرف وننظر إلى الجسد كما لو كان
71
عنصر ظلمة في النسان يجب إهلكه! ولهييذا
يقول القديس ُأغسطينوس :لنهتم بالجسد
وإّنما في حدود الصحة.
ن العقل السليم في الجسم وقد ثبت أ ّ
السليم ،والصحة تاج على رؤوس الصحاء ل
يراه إل ّ المريض ،ودرهم صحة خير من قنطار
ذهب ..فهذه أمثال شعبية أصيلة ،لم ينطق
بها أصحابها من فراغ!!
وقبل كل هذا يجب أن نبدأ العمل
بالصلة ،لكي نشرك الله معنا ،فهو على
أتم الستعداد أن يساعدك لو طلبته ،وجعلت
اتكالك عليه.
72
الفصل السابع
حيييييييل الشييييطييان
64
- -
ن دونالشيطان قد يقرع باب قلبك سني َ
ملل ،ولكنه ل يقوى من تلقاء نفسه على فتح
الباب ،إّنه يحمل كل الصفات المتدّنية ،ولكّنه
حرمة مسكنك ،إل ّ إذا لن يرتكب جريمة هتك ُ
فتحت وأذنت له بالدخول ،إذن فالستسلم
للشيطان هو في الحقيقة استسلم النسان
لشهواته ،ومن ث َ ّ
م ل عذر له لكي ُيبرر
سقوطه في الخطية! فالنسان هو سيد
كم فى كل أقواله وقراراته.. أعماله والمتح ّ
ويبقى السؤال:
؟؟؟ ؟؟؟؟؟ ؟؟؟ ؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟
لكي تنتصر على عدوك يجب عليك أن
تعرفه أول ً ،فالشيطان وإن كان قويا ً وعدوا ً
لله والناس ،وله سلطان ،إل ّ أّنه كائن
محدود ،وهو يعمل داخل الحدود التي وضعه
ن جهوده على الرض فيها الله ،وهذا يعني أ ّ
مقّيدة.ُ
ولقييد اعتتترف الشتتيطان بمحتتدوديته
فيي حيديثه ميع الليه بخصيوص أييوب البيار "
ك عَل َييى
ت قَل ْب َي َ
جعَل ْ َ ن :هَ ْ
ل َ شي ْ َ
طا ِ ب ِلل ّ فَ َ
قا َ
ل الّر ّ
77
84
- -
َ َ عَبي ِ َ
ض.. يي الْر ِ ه فِيمث ْل ُي ُ س ِ ه ل َي ْي َ ب؟ لن ّي ُ دي أي ّييو َ ْ
َ ً َ َ
ه؟ َ الل بّ ُ يو أ قي ت
َّ ِ ي ا جان َ ّ م لْ ه
ُ َ ن: طا ْ يشّ ال بفَأ َ َ
جا
ك ط ي َيد َ َ سي ْ ن اب ْ ِ ه ..وَل َك ِي ِ حوْل َ ُ ت َ ج َ سي ّ ْ ك َ س أ َن ّ َ أل َي ْ َ
َ
ف ج يد ّ ُ ك يُ َ جهِي َ ه ِفيي وَ ْ ه فَإ ِن ّ ُ ما ل َ ُ ل َ س كُ ّ م ّ ن وَ َ ال َ
متتا ل َ ذا ك ُت ّ و َه َ نُ : َ
شي ْطا ِ ب ِلل ّ ل الّر ّ قا َ ك ،فَ َ عَل َي ْ َ
ك " )أى مدّ ي َدَ َ ه ل َ تَ ُ ما إ َِلي ِ وإ ِن ّ َ ك َ د َ في ي َ ِ ه ِ لَ ُ
.( 12 -8 :1
ن الشيطان كان في رتبيية سييامية حقيقة إ ّ
خلق ،ولكّنه ل ُيعادل الله ،فهو ليييس عندما ُ
ن قدراته محدودة. ّ فإ وبالتالي إلها ً
ن الشيطان محدود فهو لذلك ل يعلتتم ول ّ
كل شيء ،وهييذا واضييح ميين تخّبطييه الييذي
ظهر في محيياولته الفاشييلة فييي قتييل يسييوع
وهو طفل ،كما أّنه ل يوجد في كل مكتتان
ولكّنه يجعل تأثيره ملموس يا ً بواسييطة أعييوانه
الكثيرين
ومسموح للشيطان أن ُيضييايق أولد اللييه،
ولكّنييه ل يمكتتن أن ينتصتتر عليهتتم )يييو
،(30:14لّنه ل سلطان له عليهم ،بل أحيانييا ً
يسيييتخدم الليييه الشييييطان كيييأداة تقيييويم
المخطئين من أولده )لو.(31 :22
78
ويؤكد الرب للمؤمنين أّنه أعظيم مين كيل
قييوات الشيير الشيييطانية ،الييتي ليين تسييتطيع
التغل ّييب علييى اللييه ،أو تفصييل المييؤمنين عين
محبة خالقهم )يو.(28 : 10
ما مصيره فهييو النييار البدييية كمييا أوضييح أ ّ
عن ّتتي َ توات ب
َ ُه ْ ذ ا " يوله ي ق في يسوع المجد رب
ةع تد ّ ِ
م َ ْ َ َ مل َ ِ
ة ال ُ دي ّت ِ
ر الب َ ِ ن إ ِلتتى الن ّتتا ِ عي ت ُ ي َتتا َ
ه " )مت .(41 :25 َ ك ئَ
ل ِب ِْلي َ َ َ ِ ِ ِ
ت ل مو س
ويجب على المؤمنين لكييي ينتصييروا علييى
الشيطان ُنصرة كاملة ،أن يدركوا أّنه الن قد
أصبح عدوا ً مهزوميًا ،بنيياء علييى عمييل السيييد
دمه للبشييرية بييدمه المسيح الكفاريّ اليذي قي ّ
الطاهر المسفوك على الصليب.
ومييين العبيييث محاولييية الهيييروب مييين
الشيييطان ،ولكيين بالتمسييك بنصييرة المسيييح
يمكن للمييؤمنين أن يجعلييوا الشيييطان يهييرب
م كتت ْمن ْ ُب ِ هُر َ في َ ْمنهم " قاوموا إبليس َ
" )يع ،(7:4ولهزيمة الشيطان يجب أل ّ يجهلوا
أفكاره )2كو ،(11 :2ولّنه عدو ماكر يجب أل ّ
يعطييوه فرصيية ليتسييلط عليهييم ،بسييماحهم
للخطييية بالييدخول إلييى حييياتهم )أف-25: 4
79
،(27بل يجب عليهم أن يصحوا وينتبهيوا إليى
فتتي ن ِ خي َ ست ِخطر الشيطان ويقيياوموه " َرا ِ
ن " )1بط ،(8 : 5فاليمان بالله ُيبطل ما ِ لي َ
ا ِ
ن" ّ فييإ حييرب فييى معييه دخلنييا وإن قييوته،
ب " )1صم.(47: 17 ب ِللّر ّ حْر َال ْ َ
والنصييرة علييى كييل هجمييات الشيييطان
ممكنة ،لمن يلبسون ستتلح اللتته الكامييل ُ
حة من الروح س
َِ ْ َم لهم الذين (،17 -13:6 )أف
القدس يميزون بها بين الصواب والخطأ )1يو
.(20 : 2
وفيييى حيييرب أنبتتتا أنطونيتتتوس ميييع
الشياطين ،ظهر أهمية التضاع ،فكان يقول
" أيهتتا لهم عندما كييانوا يتكيياثرون عليييه:
القويتتتاء متتتاذا تريتتتدون منتتتي أنتتتا
الضعيف ؟! " وقييد تتسيياءل :لميياذا يحييرق
ن خطيييية التضييياع الشيييياطين؟! فنجييييب :ل ّ
الشيطان الولى كانت هى الكبرياء وإلى الن
ل يزال متكبرًا! وهييل ننسييى دور المشتتورة
والعتتتراف فييي حربنييا مييع إبليييس؟ فييأب
العتراف ُيصلي إلييى اللييه ليكشييف لييه حيييل
طيُعواإبليس ،ولهذا يقول بولس الرسول " :أ َ ِ
80
ل
جي ِ ن لَ ْسييهَُرو َ م يَ ْ
َ
ض يُعوا لن ُّهيي ْ خ َ م َوا ْ ديك ُ ْ شي ِ مْر ِ ُ
سابا ً " )عييب ح ن طوُ عي ف و س م ه ن فوسك ُم ك َأ َ ُ
َ ِ َ ُّ ْ َ ْ َ ُْ ِ ْ نُ
.(17 :13
كما أننا عن طريييق الوسائط الروحيتتة
نتغذى روحيًا ،فنتقوى وننال قوة ،نستطيع بها
أن ُنحارب إبليس وكل قواته ،هكييذا اسييتطاع
السيد المسيح بكلمة الله أن يخزى الشيطان
عنييدما طلييب منييه أن يسييجد لييه إذ قييال" :
بب ِلل تّر ّ مك ْت ُتتو ٌ َ ش تي ْ َب َيا َ اذْ َ
ه َ ن! لن ّت ُ طا ُ ه ْ
د" )مييت ت ب ع ت ه د ت ح و
َ ْ ُ ُ َ ِّ ُ َ ْ َ ُ َ ْ ُ ُه تات يإ و د ج ت س ت َ
ك ت إ ِل َ ِ
ه
،(10:4أليم يقيل معلمنيا بيولس الرسيول" :
ت حتت َن تَ ْ طا َشتتي ْ َ ق ال ّ ح ُ س َسي َ ْ سل َم ِ َ ه ال ّ وإ ِل َ ُ َ
ريعاً؟ " )رو.(20:16 س م ُ ك ل ج ر َ
ِ َ ْ ِ ُ أ ْ
81
الفصل الثامن
قييييييييود المجيتميييع
83
- -
الجماعة إل ّ إذا كانت على هواه ،وتتفق مع
ميوله ورغباته ..وهكذا نجد في كل عصر من
العصور أصحاب النزعات الفردية يهاجمون
الروح الجماعية ،لّنها كما يرون تشيع في
النسان روح الضعف والنحلل ...التي ل
يستطيع أن يصمد أمامها سوى الرجل
ي ،أو المبتدع الذي لديه منالمتدين القو ّ
المؤهلت ما يدفعه إلى النسلخ من
ن النسان المجتمع! ولكن هل نسي هؤلء أ ّ
ي ،ينفر من حياة بطبعه كائن اجتماع ّ
مع بفطرته؟ العزلة ،ويميل إلى التج ّ
ن الذات ليست سوى تراث نعترف بأ ّ
ي تعاقبت الجيال في تكوينه اجتماع ّ
وتشكيله ،وهل يمكن أن تكون الذات ذات
قيمة لو جردناها من كل ما وضعه فيها
الخرون؟! إذن عندما يتأمل النسان ذاته،
فهو في الحقيقة يتأمل في كل ما هو حوله،
حتى عندما يعتزل الناس ويختلي بذاته ،فهو
يظل محتفظا ً بكل أصداء القرون الماضية
في أعماقه! ولهذا يقول أحد الطباء :عندما
يجلس مع المريض في الحجرة فإّنه ل يعتبر
85
نفسه بمفرده مع المريض ،ولكن من حول
ون من جميع المريض يوجد خورس ،يتك ّ
الناس الذين عاش بينهم ،إّنهم موجودون معه
في الحجرة ،لّنهم يتركون بصماتهم التي ل
يمكن محوها من على شخصية المريض
سواء كانت خيرا ً أم شرًا!
ن كل قد نكون على صواب لو قلنا :إ ّ
إنسان يحمل في داخله صورا ً كثيرة،
قع عليها من الشخاص الذين أّثروا و ّ
م ّ
في حياته ،فقد أضاف كل منهم بعدا ً جديدا ً
ولونا ً فريدا ً للوحة حياته! التي تحمل خطوطا ً
كثيرة لكل من عاش بينهم وتعّلم منهم
وصادقهم.
عاِلم بعدما يحقق وهذا ما يؤكده كل َ
ُ
دما ً إذ يقول :إنني أذكر نفسي كل
ّ نجاحا ً أو تق ّ
ن نجاحي يعتمد على جهود آخرين يوم بأ ّ
أحياء وأموات ،فأنا ل أعمل بمفردي.
إذن ليس من المعقول أن يتنكر النسان
للمجتمع بأسره ،وكأّنما هو ُيعيد بناء التاريخ
لحسابه الخاص.
86
إّنه قمة الجهل أن يتنكر شخص لكل
شيء في الوجود ما عدا فكره ومعتقده،
وكأّنما هو يخلق كل شيء من جديد ابتداء
من ذاته التي رّبما قد أصابها الخلل!
ن كلمة إنسان مشتقة من يأنس ،وهى إ ّ
تعني التآلف أو الستئناس ،فمن طبيعة
النسان أن يأنس لغيره ،بعكس الحيوان
المتوحش الذي يجنح إلى العزلة.
ن النسان عن طريق غيره من كما أ ّ
مي أفكاره ويعالج ين
ُ ّ أن يستطيع البشر،
وي ضعفاته ..وإل ّ ما هو مفهوم مشاكله وُيق ّ
العانة ؟ ألم يخلق الله لدم حواء ؟ ولماذا
خلقها ؟ أليس لتكون معينا ً له؟!
ويسعى المجتمع بكل قوانينه أن يجعل
نالنسان خاضعا ً لتقاليده ،ولكن ل ننسى أ ّ
كلهوره وُيش ّور مجتمعه وُيط ّ النسان أيضا ً ُيح ّ
دله ..إذن فالعلقة بين الفرد والمجتمع وُيع ّ
هى علقة تبادلية ،قوامها الخذ والعطاء ،أو
ن القول بوجود التأثير والتأثر ،وبالتالي فإ ّ
ي أو أنماط ثقافية ل يعني سلوك اجتماع ّ
ي ،فالمجتمع ل يلغي إنكار كل استقلل فرد ّ
87
ما بين الفراد من فوارق مزاجية
خُلقية وعقلية ونفسية.. و ُ
ولكننا ونحن بصدد الحديث عن المجتمع
ن المجتمع وإن كان ُيمّثل السلطة نقول :إ ّ
التي تحمي النسان وتنظم العلقات بين
أفراده ..إل ّ أّنه ليس هو القوة اللهية
المقدسة ،التي ل يأتيها الباطل من بين
يديها.
ن كل ماوليس هناك مايجعلنا نقرر بأ ّ
يتطلبه المجتمع من الفرد لبد أن يكون حسنا ً
على الدوام ،هكذا أيضا ً الرأي الذائع بين
الناس ،ل ُيشترط أن يكون دائما ً هو الحقيقة
بعينها ،ألم ُتبح مجتمعات كثيرة الشذوذ
ي بين الرجال؟! ألم ُتحلل شعوب الجنس ّ
شرب الخمور وتعاطي المخدرات؟! وهل
ن شعوبا ً كثيرة انقادت وراء زعماء ُننكر أ ّ
ي العقل ،فجعلت من أطماعهم مختل ّ
السياسية أو الحربية هدفا ً قوميا ً لها ،وفى
النهاية هلكت!
أتتذكرون هتلر! أتعرفون ماذا فعل
بألمانيا بل العالم؟ لقد راح ضحية حروبه
88
04
- -
مليين من البشر في كل أنحاء العالم!!
وأخيرا ً مات الدكتاتور منتحرا ً بعد أن أطلق
النار على نفسه!!
ن كثيرين ُيحاولون وضييع ُنظييم اجتماعييية إ ّ
سفية ,وفرضها على الناس بييالقوة ،ولكننييا تع ّ
ن الدخول إلى أعماق النستتان ّ بأ نعترف
ل يجتب أن يتتتم بتالعنف حييتى لييو كييانت
القيوانين فيي صيالحه ،لبيد مين طرييق آخير
ن الحييوار للدخول إلى قلب النسان ،وأعتقد أ ّ
واحييترام العقييل وتقييدير قيميية الحرييية هييى
أفضييل الوسييائل لقنيياع البشيير ،وهييا نحيين
نتساءل:
ألم يييدخل اللييه فييي حييوار مييع إبراهيييم؟!
وعلييى الرغييم ميين قييول إبراهيييم لسيييده" :
شييا ل َي َ َ َ أ َفَت ُهْل ِ ُ
لفعَ ي َن تَ ْكأ ْ حا َ
مَ .. معَ الِثي ي ِ ك ال َْباّر َ
َ َ َ
نكو ُمعَ الِثيم ِ فَي َ ُ ت ال َْباّر َ مي َ ن تُ ِ مر ِ أ ْذا ال ْ ل هَ َ مث ْ َ ِ
َ ُ َ َ َ ْ
ع ض ل َ يَ ْ
صيين َ ُ ْ ِ ر ل ا ّ
ل كيي ن
ُ يييياّ َ د أ م..
ِ ثي
ِ ل كييا ر
ّ بيياَ ل ا
ن اللييه لييم ّ أ ّ ل إ (، 25 - 23:18 يك ي )ت " ؟ ً ل د
َ ْ ي ع
يغضب منه ولم ُيعاقبه ،بييل ظييل فييي حييواره
معه من أجل سدوم وعمييورة ،إلييى أن اقتنييع
إبراهيم في النهاية!
89
ما إذا ُأشيع في النسان روح الضعف أ ّ
والنحلل ،أو سعوا إلى كسر شوكة
الشخصية الفردية ،فإننا نكون قد قضينا في
نفس الوقت ،ليس على المتمّيزين أصحاب
المواهب فقط بل على المجتمع ذاته.
ن التاريخ حافل بشخصيات قوية، والحق إ ّ
قد استطاع أصحابها أن يفرضوا إرادتهم
وفكرهم وآراءهم ..على المجتمع ،وأن
يصبغوا تاريخ ُأمتهم بطابعهم ،حقا ً إّنهم
يدينون للمجتمع الذي نشأوا بين أحضانه
وترعرعوا في ك ََنفه ،ولكن عبقرياتهم لم تكن
ي أو الذات مجرد أصداء للعقل الجمع ّ
الجماعية ،فكانت النتيجة أّنهم صاروا أصحاب
فكر وقادة وزعماء!..
ي نقرأ عن البابا وفى التاريخ الكنس ّ
ي ،أّنه وقف ضد أثناسيوس الرسول ّ
الريوسيين حتى قيل له مّرة :العالم ضدك يا
أثناسيوس! فقال :وأنا ضد العالم!
وُيعد الشعور بالرفض وعدم
التلقي ،من أسوأ آفات المجتمع ،فماذا لو
كنت تعمل مع إنسان يكرهك أو تسكن بجوار
90
24
- -
عدو لك..؟! هنا نؤكد أننا نحيا في مجتمع
فلبد من التواصل ،وهذا يتم عن طريق اللغة
والتعاطف والعمل ..ولكن مهما عملنا فلبد
ن
ذر علقاتنا بكثيرين ،كما أ ّ ح َ
أن يشوب ال َ
علقات كثيرة ل تتسم بالعمق ،وهى ل تتعدى
سوى طائفة من العلقات الظاهرية
والمجاملت اللفظية السطحية..
ن غالبية الناس قد أصبحوا اليوم والحق إ ّ
مشغولين عن أنفسهم وعن غيرهم ،فهم
مأخوذون بسحر الملموس والمسموع،
هاربون باستمرار من ذواتهم ،فالتركيز
ي ُيزعجهم ي يتعبهم والتأمل الباطن ّالذهن ّ
ورقابة الضمير ُتقلقهم ..ويبقى السؤال:
صن أنفسنا فى علقاتنا كيف نح ّ
الجتماعية؟ وكيف نتحرر من قيود
المجتمع؟
عش في المجتمع كما تحيا القنافد معاً،
هذه عبارة قد تبدو غريبة! ولكّنها خلصة
قصة طريفة تحكي عن مجموعة من القنافد،
ما
أرادت أن تستدفيء في ليلة باردة ،فل ّ
اقتربوا جرحهم الشوك الذي يمل ظهورهم
91
فابتعدوا ،ولكّنهم عندما ابتعدوا شعروا ببرودة
شديدة ،فما كان عليهم سوى القتراب
والبتعاد.
ن النسان يعرف أّنه لبد أن يحيا في إ ّ
ن أصداء الجماعة لبد أن تتردد في مجتمع ،وأ ّ
ن
ّ بأ الوقت نفس في يشعر نهّ ولك أعماقه،
ما الذينلوجوده الفرديّ واقعيته وقيمته ،أ ّ
ُيشددون على أهمية اندماج النسان في
مطلقة لتذوب الذوات معًا! المجتمع بصورة ُ
ن كل ّ ل الوهم! من ً ا ضرب فهذا في الحقيقة
ذات هى هيكل وحده ،فل يمكن أن تقوم
العلقة بين الفرد والمجتمع على التجانس
التام ،بل لبد من أن تظل العلقة بينهما
مليئة بالختلفات.
وهل ُننكر أننا نحيا فى العالم ولكننا
نخشاه؟! أليس العالم ُيمّثل لنا الصديق
والعدو في وقت واحد؟! إذن مهما عاش
النسان في العالم وحبس نفسه في زنزانة
الخرين ،فإّنه بين الحين والخر يحن إلى
دفء الداخل ،فيرخي الستار وينكمش خلف
ي.
النافذة لكي يستمتع بدفء الموقد الداخل ّ
92
هناك حكمة تقول :ل تقترب لئل ُتبعتتد،
ما سييليمان الحكيييم ول تبتعد لئل ُتنسى! أ ّ
ت فتتي ب َي ْت ِ زي تَزةً ِ ع ِ ك َ جل َ َ
ر ْ ل ِ ع ْ ج َ فيقول " :ا ْ
ك " )أم ضت َ غب
ُ ْ ِ َ ي َ
ف َ
ك ت ن
ِ ْم لّ ت م ي ّ
ك ل ِئ َ َ َ
ل ريب ِ ت َ َ
ق ِ
.(17:25
ن
ّ أ ياي كم ية، يدائم ية
ي علق ياك ي هن ن
ّ أ ينيتظ فل
مطلق ما أشد ضييرره علييى النسييان، البعد ال ُ
ومهما اختلف البشر في شأن الوحدة الفردية
أو التعددييية الجماعييية ،فييالواقع يؤكييد إننييا ل
ُندرك أنفسنا ونعرف حقيقة ذواتنييا ،إل ّ عنييدما
ننفصل عيين الموجييودات أو الشييياء ،ومعنييى
هذا :إننا ل نستطيع أن ُنفكر في ذواتنييا إل ّ إذا
كّنا فرادى.
ن
ّ أ أمامك ضع الجتماعية حياتك وفي
المجتمع يجمع بين دفتيه البار والشرير
لم الواحدة قد كليهما معًا ،بل من بطن ا ُ
يخرج البار والشرير ،كما خرج من بطن رفقة
يعقوب وعيسو ،ولهذا يجب أن تتسم علقاتك
بالحرص الشديد ،لئل يتسرب الماء إلى
سفينة حياتك فتغرق! إذن تجنب الشرار،
وإن لم تقدر أن تبتعد عنهم ،فعلى القل
93
ابتعد عن عاداتهم الشريرة ،واضعا ً أمامك
ل
ج ِ طوَبى ِللّر ُ قول معلمنا داود النبيُّ " :
شَرارِ وَِفي شوَرةِ ال َ ْ
م ُ ك ِفي َ سل ُ ْم يَ ْ ذي ل َ ْ ال ّ ِ
س
جل ِ ِ
م ْ ف وَِفي َ ق ْم يَ ِ طاةِ ل َ ْخ َ ق ال ْ ُ ري ِ طَ ِ
س " )مز ،(1:1وكما جل ِ ْ م يَ ْ َ
نل ْ ست َهْزِِئي َ م ْ ال ْ ُ
يقول المثل الشعبيّ :اختر الرفيق قبل
الطريق.
ما الرؤساء فيجب علينا أن ُنطيعهم ولكن أ ّ
ول َدُ في حدود الوصية التي تقول " :أ َي ّهتا ال َ
ْ َ
ذا هت َ ن َ ب لَ ّ فتتي ال تّر ّ م ِ ديك ُ ْ وال ِ ت ِ عتتوا َ طي ُ أَ ِ
ي واجييب ق" )أف ،(1:6إذن أمييام الييوثن ّ حتت ّ َ
ي أن ُأعليين مسيييحيتي ،وإل ّ أكييون منكييرا ً علي ّ
للمسيح!
ن الحياة مع الله وهل نُنكر أ ّ
والسلوك بالروح يرفع الجسد ،ويقي
النسان من مشاكل اجتماعية كثيرة ،مثل
الغيرة والحسد والكراهية ..وُيعطي النسان
قوة على احتمال التجارب والضيقات..
ن السيد المسيح قد عاش ضع أمامك أ ّ
وسط اللم ،وتصادم مع ملوك ورؤساء..
ولكّنه لم يكره الحياة أو يحقد على الناس ،أو
94
44
- -
يهاجم المجتمع ..لّنه قَِبل الحياة بكل ما فيها
من خير وشر ،فضيلة ورذيلة ..ولهذا نراه
وهو ينزف الحياة على الصليب ،يلتمس
المغفرة لعدائه الذين قد أهانوه وصلبوه
حسدًا! ويمنح اللص اليمين الغفران! ويطلب
من يوحنا الحبيب أن يرعى ُأمه!وهكذا كت ب
الدم المت ساق ط على ج سده الممزق
بال سيا ط كلمات الح ب والغفران!
ن السيد المسيح قد أضاء نعترف بأ ّ
ون علينا احتماله، ّ وه ، اللم بآلمه ظلم
دس َ
حَرقة التي ُتق ّم ْ
حب هو ال ُ ن ال ُ
وأعلن لنا أ ّ
ول اللم من أجله اللم ،فإن أحببت غيرك تح ّ
إلى طاقة بذل وعطاء ...وإن أحببت الله
تلذذت بالهانات والتعييرات من أجله..
95
الفصل التاسع
شييييييير الشيييييرار
ن
ن مجرد نظرة بسيطة للكون ،تؤكد لنا أ ّ إ ّ
الشر قد خّيم بضبابه الكثيف على المسكونة
كلها ،فالنسان يئن ،والحيوان يتألم ،والجماد
ن النسان دم ،والشجار تتهّتك ..إل ّ أ ّيته ّ
وحده هو الذي يستشعر الشر ،بوصفه
الكائن العاقل الوحيد بين المخلوقات
لخرى. ا ُ
فما هو الشر الذي يمتص دماءنا
ويستنزف دموعنا؟! إّنه ليس مادة أو شيئا ً
ملموسا ًً ،بل هو :انحراف النسان عن
فعل الخير أو ممارسة الفضيلة ،فإن
ن الفضيلة تقود النسان إلى النمو قلنا أ ّ
96
ن الشر هو ي ،فإ ّ
ي والستقرار النفس ّ الروح ّ
القطب المضاد الذي ُيحدث في الذات
نوعا ً من النقسام أو التمزق ،لّنه يفصل
النسان عن مصدر سعادته أعني الله،
وبالتالي يعوق ممارسة الفضائل التي تحقق
التكامل والستقرار في النسان.
ن الشر وعندما يقول بعض الفلسفة " :إ ّ
يمثل نوعا ً من الخيانة " ،فإّنهم يعنون
ن الشر في جوهره هو عملية إنكار بذلك :إ ّ
للقيم ،وهذا في حد ذاته خيانة.
ن الشر ليس كد مار أوغريس أ ّ ويؤ ّ
ن كل ّ ل ي،
ّ وجود كيان له ليس ّ يأ ا،جوهر ً
ما خلقه الله هو حسن ،ولكّنه غياب الخير،
شأنه شأن الظلم الذي هو غياب النور ،فهو
لذلك ليس طبيعة " " physisبل حالة "
،" exisأيّ استعدادا ً رديئا ً لعمل الخطية.
ن الشر ليس عضوا ً من أعضاء والحق إ ّ
الجسم ،وإل ّ قطعناه وارتحنا من عنائه ،فهو
ليس فما ً ،أو أنفا ً ،أو يدا ً ،أو قلبا ً ،ولك ّ
ن
الشر مرتبط بكل الحواس والعضاء ،وهكذا
يخرج الشر كالكلم من الفم ،والشم من
97
النف ،والضرب من اليد ،والحسد من
القلب..
نستطيع أن نقول:
ن الشر ليس له وجود إل ّ إذا أراده إ ّ
النسان وسعى إليه ،ولهذا يقول القديس
ي " :ل توجد الخطية غريغوريوس النيص ّ
في الطبيعة بمعزل عن الرادة الحرة ،إّنها
ما مكسيموس ليست جوهرا ً قائما ً بذاته " ،أ ّ
المعترف فيقول " :حتى الشياطين أنفسهم
ليسوا أشرارا ً بطبيعتهم ،ولكّنهم أصبحوا
هكذا عندما أساءوا استخدام قدراتهم
الطبيعية ".
إذن فالشر ل يوجد إل ّ لمن يراه ويريده،
فهو كامن في نياتنا ومقاصدنا ونظرتنا
السلبية للشياء ،إّنه التواء وسوء استعمال
كل ما هو حسن في ذاته.
ما أصل الشر وسبب وجوده في أ ّ
حيَرة وارتباك الكون ،كان ول يزال مصدر ِ
لعقول كثيرين ،من البسطاء وأيضا ً
المفكرين ..وأكثرهم يتساءلون:
98
ي القدرة والحكمة والمحبة إن كان الله كل ّ
...فلماذا يسمح بالشر ؟! لماذا يقبل إله
الرحمة أن تصير الرض مسرحا ً لللم ؟!
أسئلة كثيرة تدفعنا إلى سؤال آخر أل وهو:
من هو أصل الشر؟ وكيف دخل
الوجود؟
ن الله قد أحب النسان محبة نعترف بأ ّ
وإل ما كان على ّ فريدة قبل أن يخلقه،
حب صورته قد خلقه )تك ،(27 :1فإن كان ُ
الله ل بداية له فهو إذن لن ينتهي ،ولهذا
ة ة أ َب َ ِ
دي ّ ً حب ّ ً م َيَ " : يقول الله بفم إرميا النب ّ
ة م ح ر ال ك َ ل ت َ ل ذَل ِ َ َ َ
ّ ْ َ َ ِ ك َ ْ ُ
م د أ ج ِ نأ ْ م ْ
ك ِحب َب ْت ُ ِ
أ ْ
" )إر .(3 :31
لكنّ النسان ليس بداية خليقية الله بل
هو آخرها ،إذ سبق الله فخلق الملئكة أرواحا ً
ن رئيس ملئكة حبه ..إل ّ أ ّ لتسّبحه وتتلذذ ب ُ
كان في أسمى مراكز السلطة والمجد بين
ساكني السماء تكّبر! كيف؟! لّنه يملك
حب الله أم ل ؟! إرادة حرة بها ُيحدد :ي ُ ِ
يحيا معه أم ينفصل عنه؟!
99
01
- -
وهكييذا اختييار الشيييطان بكامييل إرادتييه
وبملء حريته ..حييياة التم يّرد والنفصييال عيين
الله ،وذلك عندما تكّبر على اللييه إذ قييال فييي
ع ت ،أ َْر َ
فتت ُ وا ِ ما َ ستت َعدُ إ َِلتتى ال ّ صتت َ
َ
قلبييه " :أ ْ
عل َتتى ه َ
س َ جل ِ ُ وأ ْ ب الل ّ ِ َ واك ِ ِ وقَ ك َ َ ف ْي َ س ّ ك ُْر ِ
ل، ما ت شّ ال تي ت ص قاَ َ أ تي ت ف ع تا ت م ت ج ل ا ل
َ ِ ِ ِ ْ ِ َ ِ ِ جب َ ِ
َ
صتتيُر َ مْرت َ َ َ أَ
ب ،أ ِ حا ِ ست َ ت ال ّ عتتا ِ ف َ وقَ ُ ْ ف ُ د ع
َ ص
ْ
ي" )إش ،(13،14 :14فسييقط عل ِ ت ّ ل ال ْ َ مث ْ ت َ ِ
وأسقط معييه ملئكيية كييثيرين ل نعييرف علييى
عرفت بعد السقوط وجه التحديد كم عددهمُ ،
باسم الشياطين أيّ المقاومين ،وهى التتتي
أعطت للشر ميلدا ً!!
ً
إذن فالله لم يخلق الشيطان شريرا بل
حرًا ،وفي أسمى صورة ،ولكّنه بسبب
الكبرياء ورغبته الشريرة في أن يصير مثل
خالقه قد سقط! ولهذا لم يحتمل أن يرى
النسان ممجدا ً فغار منه وحسده )حكمة :2
(23،24وأخذ في محاربته لكي يُسقطه،
وقد كان!
خل الله ليمنع ّ يتد لم ولماذا تقول: قد
خل الله عندما سقوط النسان ؟! وهل تد ّ
100
عصته الملئكة قبل النسان؟! لقد تركها
علمه السابق بكل ما سوف تسقط رغم ِ
ن المنع مناقض للحرية ،وانتقاص دث! ل ّ يح ُ
من احترام الله للنسان والملئكة.
وقد تعترض مع أّنك ُتنجب أولدا ً معّرضين
للسقوط واللم! والسؤال الحائر هنا :ما
الذي دفعك للنجاب ،وأنت تعرف جيدا ً
؟! أل يستحق ن أولدك سوف يعانون أ ّ
هذا أن نتعجب! طالبين منك أن ُتعطي جوابا ً
سلمنا بأّنهن العجب يزول ،لو ّ أو تفسيرًا؟! لك ّ
ي فريد ،أعظم تفسير له حب أبو ّ يوجد ُ
أّنه ل ُيفسر!! وهو الذي دفعك لنجابه،
وجعلك ُتضحي من أجله! وها نحن نتساءل:
هل يمكن أن تتحمل مسئولية أخطاء ابنك لو
قمت بواجبك نحوه من أجل راحته وسعادته؟
إذن مسئوليتك تجاه ابنك ،تتوقف على
مدى عنايتيك به ،وليس على إنجابك إياه،
فإن أطاع تعاليمك وعمل بها نما ،وإن لم
مل هو نتيجة عصيانه.يطع فسوف يتح ّ
ما الشرير فليس هو من هذا عن الشرّ ،
أ
يفعل الشر فقط ،بل من يتلذذ بإيلم
101
41
- -
الخرين وإيقاع الضرر بهم ،وإل ّ فلماذا
ُيقال هذا خاطيء وذاك شرير ؟! فالشرير
كالجلد الذي ينتشي عندما يجد ضحيته تتألم!
إّنه إنسان يحقد على الناس والمجتمع ،ول
هدف له سوى تحقيق غاياته الشريرة
دامة..
ونزعاته اله ّ
وتُعد الكراهية هى أبرز سمات الشرار،
فما هى الكراهية؟ إّنها القطب المضاد
للمحبة ،وهى تهدف إلى إشباع الميول
العدوانية داخل النسان ،إّنها علقة مع الخر
ولكنها تهدف إلى تدميره.
ما الكراهية فغالبا ً ما تكون مصحوبة أ ّ
بالقسوة ،ولهذا ُيعامل الشرير بقسوة متناهية
من يقعون تحت سلطانه ،ويتحين الفرصة
لهانتهم والتقليل من شأنهم !..وتتش ّ
كل
قسوة الشرير وعنفه وعدوانه ..حسب درجة
ن الشرير وإن تعّلمه وثقافته ونشأته ..ولك ّ
كان ملكا ً إل ّ أّنه عبد بالمعنى الصحيح ،بل قد
ن دوافعه بلغ أقصى درجات العبودية! طالما أ ّ
الحيوانية وميوله العدوانية ..هى التي تسيطر
عليه وتدفعه إلى ارتكاب الشرور ،وهكذا
102
25
- -
يصير الشرير أكثر الناس بؤسًا ،وباستمراره
في الحياة يصير أشهر الناس حسدا ً وغدرا ً
وفجورا ً وظلمًا!..
وليس أسهل على النسان من الستسلم
لدوافعه الهدامة وميوله العدوانية ،ولكن من
ن كل اعتداء يقوم به الشرير سواء المؤكد أ ّ
في شخصه أم في أشخاص الخرين ،إّنما هو
ي سوف يقضي على في الحقيقة انتحار نفس ّ
صاحبه بالشقاء..
وىَ الق على نمارسه ُ اعتداء كل ن
والحق إ ّ
ي يمس البّناءة لدى الخرين ،هو عدوان ذات ّ
صميم حياتنا ،والسبب أننا نحيا في مجتمع
كل واحد يساعد غيره بما يملك من مواهب
وقدرات ..وهل يستطيع فرد أن يحيا إل ّ إذا
ت دائرته ضمن دوائر الخرين. دخل ْ
ويتساءل البعض عن موقفنا إزاء الشر
والشرار؟ فنقول :ما هو الشر؟ أليس
غياب الخير؟! وما هى الفضيلة؟ أليست
عمل الخير؟! فلو أشعلنا أنوار الفضيلة
لتبددت ظلمات الشر من ِتلقاء نفسها.
ما الفضيييلة فيجييب أن تكييون بعيييدة عيين أ ّ
103
محبة المديح أو نوال المكافأة ..بل ميين
ء
متتا ٍ قاك ُم َ ْ ستت َ
س َ كتتأ َ ْ ن َ متت ْأجيييل الليييه " َ
َ ْ ْ َ
لقتتو ُقأ ُ ح ّفتتال َ ح َ
ستتي ِ م ِ م ل ِل َ مي لن ّك ُت ْ س ِ ِبا ْ
َ
ه" )مر ،(41 :9وهي ر ج
ُ ِ ُ ْ َ ُأ ع ضي ي َ ل ل َك ُ ْ ِ ّ ُ
ه ن إ م
بذلك تكون ثمرة من ثمار المحبة.
من ل غنى له، ن الفضيلة هي غنى َ إ ّ
ي ،هي ملجأ من أراد الغنى الحقيق ّ وثروة ل َ
للهارب من الشر ،ورجاء للمريض في
فراشه ،ومعزٍ للحزين ،وهي أيضا ً قوة وسلح
للضعيف..
وي النفس وتساعدها على الفضيلة ُتق ّ
مل الضيقات ،فالنسان ّ وتح المتاعب، اجتياز
ُ
في ساحة حرب ُيحاربه ألوف العداء،
وتتنازعه مئات الشهوات ،وُتصادفه تجارب
يجب أن يتغلب عليها ،وإل ّ سادت عليه
وسحقته تحت عجلتها القاسية ،ول سبيل
وقات إل ّ بالفضيلة. للتغلب على هذه المع ّ
ولعل أعظم ما في الفضيلة أّنها تحفظ
سمعة النسان ،فليس أقسى على
ي ،عندما يفقد النسان من الموت الدب ّ
كرامته وسمعته بين الناس ،ولهذا قيل:
104
يستحيل على من ُيسّلم جسده في يد زانية،
أن يحترم نفسه من أجل هذا العمل الرديء،
فإن كانت الخطية تجعل النسان يحتقر
نفسه ،فكم يكون احتقار الناس له؟!
ن الفضيلة هي الساس الذي يجب أن إ ّ
ن أيّ نظام لكي ّ ل نظام، ّ ي أ عليه ُيبنى
يستقر ويسوده العدل ..يجب أن يكون
الفراد الخاضعون له متمتعين بالخلق
ن قادتهم الحسنة ،وليس الفراد وحدهم بل إ ّ
خُلقا ً أيضا ً يجب أن يكونوا أفضل منهم ُ
وعلمًا...
ة
غاي َ ُن" َ مييا الشييرير فيجييب أن ُنحبييه ل ّ أ ّ
ره ٍ َ
ب طتتا ِ ْ
قل ت ٍ ن َ مت ْة ِحب ّ ُم َ ْ
ي ال َ ه َ ة َ ال ْ َ
ف ِ صي ّ ِ
و ِ
ء " )1تييى ن ب ِل َ ِ
ري َتتا ٍ متتا ٍوِإي َ ح َصتتال ِ ٍ ر َ مي ٍ ض ِ و َ َ
.(5:1
ن المحبيية الحقيقييية ل تخشييى والحيييق إ ّ
التنازل عن كرامتهييا ،والهبييوط إلييى مسييتوى
الشييرار! فميين خلل تعيياملت المسيييح مييع
حب الشرير في الخطاة ،تعّلمنا أّنه يجب أن ن ُ ِ
الوقت الذي نكره فيه شر الشرير.
105
أتتذكرون لقاء المسيح مع السامرية؟
لم يوبخها ولم يجرح شعورها بل أجاب على
القسوة بالوداعة ،والغرور بالتواضع،
ما أجابها باللطف وهى حب ،فل ّ والكراهية بال ُ
تنتظر التوبيخ ارتخت خيوط قلبها ،وإذا
بالحجاب الكثيف يسقط عن عينيها ،فرأت
حب كطفل رضيع يتكئ في عينيه، ال ُ
فاستسلمت لكلمه!
وهكذا خرجت من أحبت الظلمة إلى
النور ،سجينة الهوى انطلقت من حبسها
لتقّبل اليد التي حّلت قيودها ،وفى انكسار
أمام عظم بهائه ،تطلب أن ُيعطيها ماء
الحياة ،لتروي به شجرة حياتها التي جفت،
ويستحوذ يسوع على قلب السامرية،
وبحكمة سماوية يطلب منها أن تذهب وتأتي
بزوجها ،أيّ خطيتها لُيلقيها في البئر ،وتعترف
ي ،فشعاع الحب قد المرأة بخطيتها وأّنه نب ّ
ي
ّ الماض عن تحدثت ما
اخترق قلبها ،فل ّ
ي إلى ول ماضيها الخريف ّ بصدق ،تح ّ
ربيع دائم ،تفّتحت زهوره وفاحت
رائحة عبيره..
106
فتركت المرأة جرتها عند البئر ،وهى في
الحقيقة قد تركت خطيتها لكي ُتبشر
ي.
بعريسها السماو ّ
؟؟ ؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟
؟؟؟ ؟؟ ؟؟؟؟ ؟؟ ؟
؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟ ؟؟ ؟؟ ؟؟ ؟؟؟؟؟؟ .
؟
107
الفصل العاشر
الله وقييوده الحريرية
108
مىيطلب من الله ما هو بحاجة إليه ،وُيس ّ
هذا " واجب الصلة ".
وأخيرًا ،إن النسان كثيرا ما ُيخطيء إلى
ً
الله ،ول يجوز أن يدع الله النسان حرا ً في
أن ُيخطيء إليه من غير عقاب ،ويترتب على
ذلك أن يستعطف النسان عدالة الله ،وأن
مى هذا " واجب يلتمس رحمته ،وُيس ّ
الستغفار ".
ن النسان منذ آدم حتى ونحن ل ُننكر أ ّ
ن كثيرين قد ّ أ من الرغم الن يتعّبد ،وعلى
ضلوا ،وعبدوا المخلوقات تاركين الخالق! إل ّ
ن كلمة عبادة لم تندثر من قاموس أ ّ
ن في أعماق البشر وهذا يدل على أ ّ
النسان ،رغبة تدفعه إلى الرتباط بكائن آخر،
نأقوى وأسمى منه ،فهل لنا أن نقول إ ّ
النسان كائن ضعيف ،وهو في حاجة إلى قوة
ُأخرى لتسد ما في عالمه من قصور وما فيه
من عجز؟!
ً ً
ن الديانة لعبت دورا هاما في نعترف بأ ّ
ور الشعوب لله ّ تص كان وإذا تاريخ البشر،
اختلف باختلف الحضارات وتنوع العقليات
109
ن فكرة الله نفسها تكاد والثقافات ..إل ّ أ ّ
تكون عامل ً مشتركا ً بين شّتى أنواع
ن النسان البشر ،حتى إننا إلى الن نقول :إ ّ
" كائن متدين ".
ويرجع ارتباط النسان بالله إلى قصة
الخلق ،فالله قد خلق النسان بحيث
إّنه ل يقدر أن يعيش بدونه! ول يمكن
أن تكفيه الممتلكات المادية ،والمراكز
ن بعض والسلطات الرضية وحدها ،حقا ً إ ّ
ملحدين قد جعلوا من الروح الدينية، ال ُ
عرضا من أعراض طفولة الشعوب ،أو ً
قصور العقل ..وهكذا سعوا لفصل
النسان عن خالقه ،أو وضع حواجز بينهما!
ولكن مهما حاولنا أن نطرد فكرة الله من
ن هذه الفكرة ل بد من أن تعود عقولنا ،فإ ّ
إلينا بصورة من الصور ،مادام العالم الذي
نعيش فيه ناقصًا ،والنسان ل يستطيع أن
يكفي نفسه بنفسه! ألم يقل باسكال
ن نقطة واحدة ي " :إ ّ
الفيلسوف الفرنس ّ
من الماء تكفي لن ُتميت النسان "،
110
أل يدل هذا على ضعف النسان؟! والضعيف
أل يحتاج إلى قوة أعظم منه لكي تسنده؟!
ويسعى المُلحد جاهدا ً في إقناع ذاته بل
ن العالم حقيقة مكتملة ،مكتفية غيره ،بأ ّ
ن أوهامه مغلقة على نفسها ..ولك ّ بذاتهاُ ،
سرعان ما تتبدد عندما يشعر بثغرات كثيرة
في حياته ،تدفعه إلى التمسك بقوة ُأخرى
يسد بها ما في عالمه من نقص.
ن قوة وظهرت فلسفات كثيرة ُتنادي بأ ّ
هائلة داخل النسان اسمها الرادة يستطيع
بها أن ُيغّير عالمه ،وقد نادى الفلسفة
كم في كل ن النسان هو المتح ّ الوجوديون بأ ّ
مطلق الحرية في كل ما ن له ُ شيء ،وأ ّ
حلما ً وُتحددُ تحلم أن هو عليك ما وكل يفعله،
بضعة أهداف ،ثم تسعى بعد ذلك إلى
تحقيقها! ولكن أمام هذا السخف نتساءل:
؟! هل كيف نقنع مريضا ً بالسرطان بهذا المر
تستطيع الرادة أن تمنع عنا الموت؟!
ملحدون على مر العصور؟ ماذا فعل ال ُ
حالوا أن ُيلغوا فكرة الله من الوجود ،لّنهم
ظنوا أّنه يقف ضد حريتهم!! كما ألغوا العبادة
111
65
- -
الدينية ،التي اعتقدوا أّنها ل تتعدى سوى
مجموعة من القيود!! ولكّنهم سرعان ما
وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الستعاضة عن
الدياناتان القائمتان بديانات ُأخرى جديدة من
صنع البشر ،وقد وصلت بهم الحماقة أن
ن الذبائح الدموية عبدوا الشيطان!! ول ّ
هى التي ُترضيه! لجأ عُّباد الشيطان إلى ذبح
الطفال! وهذه الذبائح الجرامية دفعتهم إلى
الزنى لكي يحصلوا على أطفال يقدمونهم
قرابين! أين المحبة في قاموس حياتهم؟ لم
يعد لها وجود!
ن النسانّ إ قلنا: إذا صواب على قد نكون
هو الموجود الوحيد ،الذي ل يستطيع أن يمحو
ي كلمات: ي والروح ّ من قاموسه الفكر ّ
مطلق واللمتناهي ..ولهذا لم تعدم البشرية ال ُ
تماما ً في أيّ عصر من العصور ،إيمانها بوجود
قوة عليا أو موجود أسمى يعلو على
النسانية ،وله الدور العظم في صميم
حياتنا.
وقد أظهر لنا عالم الديان " Mircea
ن الوثنين عندما كانوا يتعبدون " Eliadeأ ّ
112
لعناصر الطبيعة كالشمس والقمر والنجوم ..
لم يكونوا في كثير من الحيان يتعبدون لقوى
مادية ،بل كانوا يعتبرونها ظهورات لقوة
سرية تتجلى من خللها ،ولهذه القوة كانوا
ن صفحات التاريخ مليئة يتعبدون!! حقا ً إ ّ
بكثير من الجهالت الصارخة ،وضروب النكار
الصريحة الواضحة ،ولكن لو تأملنا بهدوء
ن وراء تلك المزاعم سبب النكار ،لوجدنا أ ّ
ن
ي بأ ّ ً
العقلية الباطلة ،يكمن دائما شعور خف ّ
ثمة شيئا ً فيما وراء الطبيعة ،وأن هناك حقيقة
ي.
تعلو على الوجود البشر ّ
ويسعى كثيرون ل َعَّلهم ينفذون إلى أعماق
ي عنهم! وُيجاهدون من أجل السر الخف ّ
الوصول إلى دقة عملية الخلق ،سواء في
؟! ولكن رغم الكون أو النسان أو الحيوان ..
محاولتهم المضنية لم يستطعوا أن يصلوا
إلى شيء وقد كان أفضل لهم أن يقولوا مع
ه
جدِ الل ِ
م ْ
ث بِ َحد ّ ُ
ت تُ َماَوا ُس َي " َال ّ داود النب ّ
ل ي َد َي ْهِ ؟ " )مز ،(1:19إذن م ِ خب ُِر ب ِعَ َ فل َ ُ
ك يُ ْ َوال ْ َ
مهما بحثنا بعقولنا المحدودة فلن نعرف عن
الله أكثر من معرفة الضرير باللوان!
113
والفضل لنا أن نظل قابعين داخل السياج،
التي قد أحاطنا بها الله لّنها تحمينا.
ي ملحد هو مخلوق شق ّ ن ال ُ
والحق إ ّ
يتلوى تحت قدمي ذلك الجبار الذي له
قدرة أن يسحقه ،وكل صرخاته تنبعث من
طاه اللم ..فإن قلب جريح كساه الحزن وغ ّ
كان الله غير موجود فلماذا يهاجمه؟! هل
يوجد غير المجنون يصارع كائنات
ن التجديف ل معنى له إل ّ وهمية! نعترف بأ ّ
ملحد عندما يشتبك ُ فال ا!إذا كان الله موجود ً
ن اشتباكه هذا يفترض مسبقا ً مع الله ،فإ ّ
ملحد على ُ ال ن
ّ أ ولو ينكره الذي وجود ذلك
ن الله غير موجود على الطلق، ثقة تامة بأ ّ
ما أجهد نفسه في التمّرد عليه ،والصراع لَ َ
ضده ،والتجديف عليه!
ن مجرد نظرة بسيطة لسلوكيات البشر، إ ّ
تؤكد لنا حقيقة وجود الله ،دعنا نتساءل :ماذا
يفعل النسان عندما يبتعد عن الله؟ تتعدد
وتتشعب أمامه الطرق ،فثمة طريق الشهرة،
واللذة ،والسلطة ،والثروة !..إل ّ أ ّ
ن هذه
الطرق أشبه بالصحاري الرملية! إّنها غير
114
85
- -
دائمة وليس لها قدرة على إسعاد النسان،
لّنه ما أن ُيحقق رغباته وُيشبع حاجاته
فسرعان ما يشعر بجوع! وهذا إّنما يدل
د ،ل ن ميول النسان التي ل ُتح ّ على أ ّ
يمكن أن ُيشبعها سوى كائن غير
محدود.
والن نقترب من الفكار السلبية التي
تربط الحياة الروحية بالعذاب
ي ،كأّنما هو المناخ الوحيد الذي ل النفس ّ
يستطيع المؤمن أن يتنفس إل ّ في كنفه! ألم
" كيركجارد " الفيلسوف يقل
حّبه ن
ّ ُ أ ّ ل إ محبة الله ن
ّ إ ي:
ّ الدانمارك
قاتل!! ويستمر في نزعته التشاؤمية
دنا أن نلمس قاع ن الله ُيري ُ فيقول :إ ّ
الهاوية حتى يمد يده وينتشلنا ! فما
معنى علقة أو عبادة تتحدد من خلل اللم أو
؟!
العذاب أو المعاناة أو القلق أو الصراع ..
ن الخوف والوساوس ونحن ل ننكر أ ّ
والملل ..قد تتخلل علقة النسان بخالقه،
مطلقا ً أن تجيء لحظة ولكن أل يمكن ُ
تتجاوز فيها النفس هذه المرحلة
115
المؤقتة؟! أل يقودنا العتراف إلى
ي ؟ والعطاء إلى تحطيم الستقرار النفس ّ
القوقعة الذاتية؟ والعبادة إلى طهارة القلب
ن السلم ل يوجد وصفاء النفس؟ نعترف بأ ّ
صحبة في قصر بديع أو كوخ حقير ،بل فى ُ
الله.
ُ
وعلى مستوى البشر ،ل توجد أم لم
تضرب أولدها! ليس لّنها تكرههم بل لّنها
ن
ذبهم! إذن لو قلنا أ ُّتحبهم فهى لذلك ُته ّ
الحياة مع الله فيها قيود ،إل ّ أّنها أشبه بخيوط
ن اللم وإن كان تجربة ،إل ّ حريرية! والحق إ ّ
أّنه يزيد من عمق حياتنا الباطنية ،فلول اللم
ما دخلنا مدرسة الصلة ،وزالت الشوائب من
ن كثيرين نفوسنا ولعل هذا هو السبب في أ ّ
ينظرون إلى اللم على أّنه قيمة من
القيم الخلقية الساسية ،فهل نقول:
ن اللم أداة تطهير؟! إ ّ
" أن تستريح = أن ُتهَزم " هذه عبارة
بليغة نطق بها القديس ُأغسطينوس ،لكي
ما
يؤكد أهمية الجهاد في الحياة الروحية ،أ ّ
ن النسان ل معلمنا بولس الرسول فيؤكد أ ّ
116
06
- -
ُيكلل إن لم " ُيجاهد قانونيا ً " )2تى ،(5:2
ن مشكلة العبادة جوهرها وهو بهذا ُيعلن أ ّ
نيرجع إلى النسان وليس الله ،وهل ُننكر أ ّ
كثيرين يتعبدون ولكّنهم كمن يزرعون بين
ولت الحجار والشواك؟! وما أكثر الذين تح ّ
الصلة بالنسبة لهم إلى أسواط من نار!
الحياة الروحية صارت بالنسبة لكثيرين رحلة
من العذاب! والسبب يرجع إلى جهل النسان
وميوله الذاتية وشهواته المشتعلة..
كيف لبنياء اليروح أن يقيوم إن كيان حجير
الساس لييم يوضييع؟ بييدون توبة ل حييياة ول
أمل في حياة ،فالتوبة هى سييفينة ميين ذهييب
بمقاديف من فضة وأشرعة من حريير ،تنقلنييا
من موت الخطييية إليى الحيياة ميع الليه ،ألييم
ه
طى الل ت ُ ع َيقل معلمنا بطرس الرسول " :أ َ ْ
َ ُ
ة! " )أع ،(18:11 ة ل ِل ْ َ
حَيا ِ م أْيضا ً الت ّ ْ
وب َ َ م َ
ال َ
أعرفتم الن لماذا نتألم فييي عباداتنييا؟! لننا
نريد للنور والظلمة أن يلتقيان معًا!!
ي،
ول العبادة إلى كبت نفس ّ وقد تتح ّ
ي ،عندما يلهب النسان جسده ّ جسد وإذلل
ً
بالنسك دون أن ينتفع شيئا ،لّنه ل يميز
117
ي والنسك بين النسك الله ّ
ي ،أو ربما يكون نسكه كنوع من الشيطان ّ
التكفير لعقدة ذنب دفينة في أعماقه ،وهو ل
يدري أّنه بذبائح مثل هذه ل ُيسر الله.
ن النسك الذي ل ُيقّرب النسان نعترف بأ ّ
إلى الله هو وثنية ل مسيحية ،ألم يقل أنبا
قت ََلةبيمن لنبا إسحق " :تعّلمنا أل ّ نكون َ
قت ََلة للشهوات ".
للجسد بل َ
ولماذا يقتصر نسكنا على إذلل الجسد،
تاركين شهوات النفس تفعل بنا ما تشاء؟!
هل ينتفع المتكّبر من صومه؟! حتى وإن نام
الغضوب على الرض فلن تهدأ نفسه! وماذا
نقول عن الذين تحولت الصلة بالنسبة لهم
إلى مجرد شعارات وترديد ألفاظ؟ وهل
يمكن لمن يقضي يومه فى الحاديث الباطلة
أن يلتقي مع الله في صلة أو تأمل؟! أعتقد
ن كل من يقضي يومه في إدانة غيره، أ ّ
سيشقى لسانه ساهرا ً الليل كله دون أن
ينتفع شيئا ً كما قال مار إسحق السريان ّ
ي،
ن معرفة وهكذا من يفرط في الكل ،ل ّ
أسرار الله ل ُتدرك عندما يكون النسان
118
متخمًا ،ولهذا قال أحد الباء " :ل ُتثقل بطنك
لئل يتشوش ذهنك فيفسد طعم الصلة ".
119
الفهيييرس
120
ضغوط العمل
58 )الفصل السابع(
حيل الشيطان
65 )الفصل الثامن(
قيود المجتمع
76 )الفصل التاسع(
شر الشرار
85 )الفصل العاشر(
الله وقيوده الحريرية
121
123
الراهب
ي
محرق ّ
كاراس ال ُ
125