You are on page 1of 122

‫ممممم‬

‫ممممممم ممممممم‪ /‬مممم‬


‫مممم‬

‫هذا المؤلف الهام والصغير‪ ،‬الذى‬


‫حرره الب المبارك الراهب كاراس‬
‫المحرقى عن الذات‪ُ ،‬يعد إضافة هامة‬
‫فى مجال التربية الروحية والخلقية‪ ،‬فهو‬
‫يعرض لمفهوم الذات‪ ،‬وهذا المفهوم من‬
‫المفاهيم الصعبة لمن يعملون فى‬
‫مجال التربية وعلم النفس‪ ،‬ولم يتعرض‬
‫له معظم الكّتاب بالشرح والتحليل‪.‬‬
‫سم المؤلف الكتيب إلى مجموعة‬ ‫وقد ق ّ‬
‫من الفصول تبدأ بالفصل الول بعنوان‬
‫" ذاتى هى قدس أقداسى" وفيه‬
‫يوضح المؤلف أن النسان هو الكائن‬
‫الوحيد‪ ،‬الذى يملك قدس أقداس ولبد أن‬
‫يحيا فيه‪ ،‬فمهما خرج النسان إلى دوامة‬
‫العالم الواسعة‪ ،‬فإنه يحن فى الواقع إلى‬
‫‪5‬‬
‫وم طريقه‪،‬‬ ‫حضن الداخل‪ ،‬يفكر ويعقل ويق ّ‬
‫إذ يجلس مع ذاته فى خلوة هادئة‪ ،‬قبل أن‬
‫يخرج بأفكاره وأعماله للخارج‪.‬‬
‫وفى الفصل الثانى يبدأ المؤلف‬
‫بعرض " ماهية الذات وطبيعتها "‪،‬‬
‫وهو يستعرض آراء علماء النفس‪ ،‬وينتهى‬
‫بتأكيد أن الذات هى أنت‪ ،‬وهو ما يذ ّ‬
‫كرنا‬
‫بما قاله فلسفة اليونان " إفهم نفسك‬
‫ففيها مفتاح فهم الكون بأكمله "‪.‬‬
‫وفى الفصل الثالث يستعرض الب‬
‫الراهب كاراس " تكوين الذات "‬
‫ويجتهد بأن يوضح لنا أن كل إنسان يحمل‬
‫فى داخله صورا ً كثيرة‪ ،‬موّقع عليها من‬
‫جميع من تفاعل معهم‪ ،‬كما يعرض‬
‫لسمات الذات السوية وهى‪ :‬المرونة‪،‬‬
‫اليجابية‪ ،‬عدم المبالغة‪ ،‬الشعور بالسلم‪،‬‬
‫الستفادة من الخطاء‪ ،‬كما ينتهى بفكرة‬
‫تنمية الذات‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫ويوضح فى الفصل الرابع أن النسان‬
‫" ليس ذاتا ً مكشوفة "‪ ،‬وينبه للعمليات‬
‫النفسية ومنها‪ :‬التوحد‪ ،‬الكبت‪ ،‬الشعور‬
‫بالنقص‪.‬‬
‫ويناقش فى الفصل الخامس "‬
‫الذات بين الحب والنانية "‪ ،‬عبادة‬
‫الذات‪ ،‬والتمركز حول الذات‪ ،‬ثم احترام‬
‫الذات وفهمها فى صورتها الحقيقية‪ ،‬دون‬
‫مبالغة أو شعور بالنقص‪.‬‬
‫كما كرس الفصل السادس لقضية "‬
‫انقسام الذات والتناقض الوجدانى"‬
‫‪ ،‬حيث أوضح دور الفضيلة فى تماسك‬
‫الذات‪ ،‬ودور الشر‪ -‬فى المقابل‪ -‬فى هدم‬
‫هذا المحراب وفى تشويه الذات‪.‬‬
‫وكما يفعل الجراح الماهر‪ ،‬حاول الب‬
‫كاراس أن يتبع " الذات عندما تتألم "‪،‬‬
‫ويوضح أنه ما لم يتألم النسان‪ ،‬فإنه لن‬
‫يتمكن من الغوص فى أعماقه وذلك فى‬
‫الفصل السابع‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫وقد خصص الكاتب الفصل الثامن‬
‫لعرض " الحيل الدفاعية للذات "‬
‫ومن بينها‪ :‬البدال‪ ،‬السقاط‪ ،‬التقمص‪،‬‬
‫أحلم اليقظة‪ ،‬وأوضح الدور الذى تلعبه‬
‫الحيل النفسية فى تهميش دور الذات‪.‬‬
‫أما الفصل التاسع فقد تتبع فيه‬
‫المؤلف " انطلق الذات "‪ ،‬حين تتحرر‬
‫من العبودية بصورها المختلفة‪ ،‬ويجتهد‬
‫فى مجال الفضيلة‪ ،‬وتبحث فى مجال‬
‫الفضيلة وتبحث عن الله مصدر كل خير‪،‬‬
‫الذى يعكس نوره على ظلمتها فتسطع‬
‫دون أن تنتفخ على الخرين‪ ،‬وكما ذكر‬
‫سيدنا فى الموعظة على الجبل " فليضئ‬
‫نوركم هكذا قدام الناس لكى يروا‬
‫أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذى فى‬
‫السموات " )مت ‪.(16:5‬‬
‫وفى الفصل العاشر والخير يعرض‬
‫المؤلف لقضية " تحقيق الذات "‪ ،‬حيث‬
‫أوضح دور الخر وأهمية العمل فى تحقيق‬

‫‪8‬‬
‫الذات‪ ،‬فالعمل ضرورى والهتمام بالخر‬
‫فى غاية الهمية‪.‬‬
‫أشكر الب الفاضل الراهب كاراس‬
‫المحرقى على الكتابة فى هذا‬
‫الموضوع الفلسفى‪ ،‬التربوى الهام‬
‫وأدعوا جمهور القراء لكى ينهلوا من هذه‬
‫الذخيرة الطيبة‪.‬‬
‫وللهنا المجد الدائم إلى البد‪،‬‬
‫آمين‪.‬‬

‫م‪.‬م‪ /‬مممم مممم‬

‫‪9‬‬
‫ممممم‬
‫إن الذات مفهوما ً واصطلحًا‪ ،‬كانت‬
‫ولتزال موضع اهتمام كبير‪ ،‬فحول‬
‫موضوع الذات اجتمع فلسفة وعلماء‪،‬‬
‫وإن كانوا قد تباحثوا‪ ،‬إل أن آرائهم لم‬
‫تتوحد بعد!‬
‫نعترف بأن أسئلة كثيرة تدور حول هذا‬
‫اللغز البشرى‪ ،‬لنستطيع أن ُنجيب عليها‬
‫إجابة حاسمة‪ ،‬أو كاملة‪،‬خاصة وأن الذات‬
‫ليست بهذا الشئ الملموس أو ذاك‪..‬‬
‫ومما يزيد من صعوبة البحث‪ ،‬أن الكتاب‬
‫المقدس لم يتحدث إل عن مكونات‬
‫النسان الثلثة أل وهى‪ :‬الروح والنفس‬
‫والجسد‪ ..‬إل أن هذا ليمنعنا من الغوص‬
‫فى هذا البحر الواسع‪ ،‬فهذا أفضل من‬
‫الوقوف على شاطئه ساكنين بل حراك‪.‬‬
‫ولكن بصرف النظر عن الخلف حول‬
‫مفهوم الذات أو طبيعتها‪ ...‬فإن ما يعنينا‬
‫فى بحثنا المتواضع هذا‪ ،‬هو عبارة اعتدنا‬
‫‪10‬‬
‫أن نسمعها ونرددها‪ ،‬أل وهى‪ " :‬ذاتى‬
‫هى أنا " أو " ذاتك هى أنت "‪..‬‬
‫وبهذه المناسبة ُأقدم شكرى‬
‫وتقديرى للعالم الجليل‪ ،‬والخادم‬
‫الروحانى المين‪ ..‬الستاذ الدكتور‪/‬‬
‫ثروت إسحق ‪ -‬أستاذ علم الجتماع بكلية‬
‫التربية جامعة عين شمس ومعهد‬
‫الدراسات القبطية ‪ -‬الذى شملنى‬
‫بمحبته وتشجيعه‪ ...‬وعلى الرغم من‬
‫مسئولياته الكبيرة ومشغولياته الكثيرة‪..‬‬
‫إل أنه تفضل مشكورا ً بمراجعة الكتاب‬
‫وض كل من‬ ‫والتقديم له‪ ،‬الرب يباركه ويع ّ‬
‫انتفعت بأقوالهم وكتاباتهم‪ ..‬فى ملكوته‬
‫البدى‪ ،‬بصلوات والدة الله القديسة‬
‫الطاهرة مريم‪ ،‬وجميع مصاف الشهداء‬
‫والقديسين‪ ..‬وللهنا المجد الدائم إلى‬
‫البد‪ ،‬آمين‪.‬‬
‫مممممم‬
‫ممممم ممممممم‬
‫‪11‬‬
12
‫الفصل الول‬
‫ذاتى هى قدس‬
‫أقداسى‬
‫لكل شجرة جذور خفية تستمد منها‬
‫الغذاء‪ ،‬وهكذا النسان له ذاتا ً باطنية‪،‬‬
‫تستمد منها حياته ما تحتاجه من غذاء‪ ،‬ولو‬
‫ُ‬
‫ما قامت‬ ‫أننا فصلنا الواحدة عن الخرى ل َ َ‬
‫للحياة البشرية أية قائمة‪ ،‬لنها حتما ً‬
‫ستجف وتذبل ثم تتلف وتفنى‪.‬‬
‫إن النسان هو الكائن الوحيد‪ ،‬الذى‬
‫يملك هيكل ً أو قدس أقداس لبد أن يحيا‬
‫فيه‪ ،‬حقا ً إنه يحيا فى العالم‪ ،‬ولكن العالم‬
‫يثير الصخب ويولد الملل‪ ،‬ولهذا سرعان‬
‫ما يرتد إلى ذاته‪ ،‬ليحيا فى عالمه الخاص‬
‫الصغير‪ ،‬الذى فيه يشعر بالمان‬
‫والسلم‪ ..‬وما هى الوحدة‪ ،‬التأمل‪،‬‬
‫التفكير‪ ..‬سوى كلمات نعبر بها عن‬
‫أهمية الحياة الباطنية ومناجاة الذات!‬
‫‪13‬‬
‫والحق إن كل من اختبر عمق الحياة‬
‫الباطنية‪ ،‬ل يهبط إلى مستوى مبهم فى‬
‫علقات غير مجدية‪ ،‬ربما تسبب له‬
‫خلقية‪ ،‬وهكذا تكتسب‬ ‫تشوهات نفسية و ُ‬
‫علقته بالخرين طابع التحفظ واحترام‬
‫الذات‪ ،‬فل يكون ثمة ثرثرة‪ ،‬أو فضول‪ ،‬أو‬
‫تدخل بل سبب فى شئون الخرين ‪.‬‬
‫كم من مرة يترك النسان نفسه نهبا ً‬
‫للشهوات‪ ،‬أو عبدا ً لعادة‪ ،‬أو وظيفة‪ ..‬وفى‬
‫هذه كلها يشعر بقلق شديد يقض‬
‫مضجعه‪ ،‬وفراغ طاٍغ يهدد سكينته فيتولد‬
‫ٍ‬
‫لديه إحساسا ً مريرا ً بالغربة‪ ،‬ليس عن‬
‫غيره فقط‪ ،‬بل وعن نفسه أيضًا! وهذه‬
‫الغربة تولد لديه اشتياقا ً أو رغبة‪ ،‬للجلوس‬
‫مع نفسه ومحاورة ذاته‪ ،‬ليجمع شمل‬
‫أفكاره المبعثرة‪ ،‬ويتخذ قرارته فى‬
‫مشاكله الملتهبة‪..‬‬
‫قد تقول إن الوحدة تناسب‬
‫الفيلسوف الذى يبحث عن الحقيقة‪،‬‬
‫والشاعر الذى يداعب ملك أشعاره‪،‬‬
‫‪14‬‬

‫‪-8 -‬‬
‫والفنان الذى يهرب إلى عالم الخيال‬
‫ليجسد فى عالم الواقع إبداعاته‪ ،‬والعابد‬
‫الذى يشبه شجرة وحيدة منطوية على‬
‫ذاتها متجة إلى أعلى‪ ،‬إلى الله‪ ..‬أما أنا‬
‫فإنسان عادى‪ ،‬عقلى فارغ‪ ،‬ل أملك أية‬
‫حياة باطنية‪ ،‬ول أستطيع أن أختلى ولو‬
‫لحظة بذاتى‪ ،‬ومن الفضل لى أن أظل‬
‫فى العالم الخارجى‪ ،‬حيث الناس والعمل‬
‫والكلم الذى هو أفضل من شيطان‬
‫الصمت المميت!‬
‫وليكن ما تقول! ولكن ل تنسى وأنت‬
‫فى غمرة نشوتك المتواضعة‪ ،‬أنك كائن‬
‫خلق مثل غيره على صورة الله‪،‬‬ ‫سام ٍٍ قد ُ‬
‫ٍ‬
‫وهل تنكر أن لك عقل ً كالفيلسوف‪ ،‬وحسا ً‬
‫كالشاعر‪ ..‬وقد يكون شعورك أرهف حسا ً‬
‫من شعراء كثيرين‪ ،‬ولكنك ل تعرف‬
‫قدراتك‪ ،‬والسبب‪ :‬إنك ل تجلس مع ذاتك‪،‬‬
‫ولو أنك صادقتها لعرفت كم تحمل من‬
‫أنوار يمكن أن تضئ مدى الحياة!‬

‫‪15‬‬
‫ل ننكر أننا مشغولين عن أنفسنا‬
‫بالناس والعالم‪ ،‬مأخوذين بسحر‬
‫الملموس والمسموع‪ ،‬متأثرين بكل ما هو‬
‫منظور‪ ..‬وهكذا نظل نهرب ونهرب من‬
‫ذواتنا‪ ،‬فالتركيز الذهنى يتعبنا‪ ،‬والتأمل‬
‫الباطنى يزعجنا‪ ،‬ورقابة الضمير تقلقنا‪..‬‬
‫ويبقى السؤال‪ :‬كيف نحصن أنفسنا‬
‫ونحمى ذواتنا من سهام العالم‬
‫الخارجى؟‬
‫أعتقد أن الحياة الفردية‪ ،‬هى أعظم‬
‫وى جهاز المناعة النفسى‪ ،‬فنقاوم‬ ‫دواء يق ّ‬
‫الجراثيم وكل الوبئة النفسية! وهل ننكر‬
‫أننا نحيا فى العالم ولكننا نخشاه! أليس‬
‫العالم يمثل لنا الصديق والعدو فى وقت‬
‫واحد!‬
‫حبس فى‬ ‫ُ‬ ‫مهما‬ ‫النسان‬ ‫بأن‬ ‫نعترف‬
‫زنزانة العالم الواسعة‪ ،‬فإنه بين الحين‬
‫والخر يحن إلى دفء الداخل‪،‬‬
‫فالداخل فى نظرنا يعنى‪ :‬السلم والمان‬
‫والعطف والحنان‪ ...‬ومن هنا فإننا فى‬
‫‪16‬‬
‫سعينا نحو الوحدة‪ ،‬فنحن إنما‪ :‬نشتاق‬
‫إلى صدر الم الحنون!‬
‫نستطيع أن نقول‪ :‬إن النسان مهما‬
‫عاش للعالم‪ ،‬ليحقق رغباته‪ ،‬فلبد بين‬
‫الحين والخر أن يستشعر الحاجة إلى‬
‫إرخاء الستار‪ ،‬والنكماش خلف النافذة‪،‬‬
‫وذلك ليستمتع بدفء الموقد الباطنى!‬
‫نعترف بأن العالم الخارجى يعنى‬
‫المخاطرة‪ ،‬إنه ساحة حرب‪ ،‬إذن إمكانية‬
‫الصابة والتشوه واردة‪ ،‬وهل يوجد إنسان‬
‫لم يجرحه العالم بسهامه المسمومة؟‬
‫أعتقد أننا جميعا ً اختبرنا جروح الغيرة‬
‫والحسد والكراهية‪ ،‬أو غير ذلك من أوبئة‬
‫بشرية‪ ...‬ولهذا فضّلنا الحتماء وتحصين‬
‫أنفسنا‪ ،‬وذلك بعدم الخروج من حصننا‪،‬‬
‫من قوقعة النفس الذاتية‪ ،‬إلى أن تتوقف‬
‫أعاصير العالم المدمرة!‬
‫وهكذا يتعلق النسان أكثر فأكثر‬
‫بالداخل‪ ،‬وذلك للحصول على وسائل‬
‫الوقاية اللزمة‪ ،‬وهذا ليس إنسلخا ً أو‬
‫‪17‬‬

‫‪01‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫تهربا ً أو انعزال ً عن كره‪ ،‬لن كل إنسان‬
‫يعلم إنه لن يحيا إل مع الخرين‬
‫وبالخرين‪ ،‬وسواء أراد أو لم ُيرد‪ ،‬فإن‬
‫دائرته الخاصة التى يحيا فيها‪ ،‬حتما ً‬
‫ستدخل ضمن دوائر كثيرة ل حصر لها‪.‬‬
‫هنا أتذكر قصة طريفة‪ ،‬تحكى عن‬
‫مجموعة من القنافد‪ ،‬أرادت أن‬
‫تستدفئ فى ليلة باردة فماذا فعلت؟‬
‫اقتربت بعضها من البعض الخر‪ ،‬فلما‬
‫تلمسوا انجرحوا من الشواك الحادة التى‬
‫طى أجسادهم‪ ،‬فتباعدوا‪ ،‬فلما ابتعدوا‬ ‫ُتغ ّ‬
‫شعروا بآلم البرد القاسية‪ ،‬فأصبحت‬
‫حياتهم تتذبذب بين القتراب والبتعاد!‬
‫نعترف بأن الصلة بين الداخل والخارج‬
‫وثيقة‪ ،‬ولن تنقطع‪ ،‬فالنسان ليخرج من‬
‫ذاته إل ليعود إليها وهو ل يحقق أعماله‬
‫فى الخارج إل ليزيد من خصب حياته‬
‫الباطنية‪ ،‬ويضاعف من ثراء عالمه‬
‫الداخلى‪ ..‬ولكننا نؤكد أن الجلوس مع‬
‫الذات ليس بالمر السهل‪ ،‬فمن المعروف‬
‫‪18‬‬
‫أن النسان قد يحاور فلسفة وعلماء‪،‬‬
‫ويقف ضد ملوك وأباطرة‪ ..‬لكنه أضعف‬
‫ما يكون أمام ذاته ! فهل لنا أن نقول‪ :‬إن‬
‫أقوى ما يخشاه النسان هو ذاته!‬
‫ولهذا فإن الخروج من الذات‪ ،‬أصعب‬
‫بكثير من العودة إليها‪ ،‬والنغماس فى دنيا‬
‫الناس أسهل من الهبوط إلى أعماق‬
‫النفس!‬
‫والحق إن جلوس النسان مع ذاته‬
‫يحتاج لقدرة كبيرة‪ ،‬ومن هنا كان‬
‫القديسون والمفكرون‪ ...‬أقدر من غيرهم‬
‫على حياة الوحدة‪ ،‬بينما بقيت الوحدة فى‬
‫نظر الغلبية شبحا ً مخيفا ً‪ ،‬ينفرون منه‬
‫ويتحايلون على طرده أو هى مظهر من‬
‫مظاهر الحرمان المرفوضة!‬
‫يرى البعض فى الوحدة هوة عميقة‪،‬‬
‫ل يملها سوى الفراغ واللم‪ ،‬إنها دليل‬
‫على النانية أو سوء الظن بالناس‪،‬‬
‫والتعالى عليهم أو النفور منهم‪ ..‬وفى هذه‬
‫الحالة نكون بصدد رجل أنانى‪ ،‬يجد لذته‬
‫‪19‬‬
‫فى الختلء بنفسه‪ ،‬مستغرقا ً فى تأملته‬
‫النرجسية‪ ،‬مستسلما ً لذكرياته وأحلمه‪..‬‬
‫بينما ينظر البعض الخر إلى الوحدة على‬
‫أنها مـلذا ً أمينا ً‪ ،‬يصقلهم وينمى‬
‫مواهبهم ويعمق علقتهم بالله‪ ،‬ويخّلصهم‬
‫من شوائب المجتمع‪..‬‬
‫ً‬
‫لقد أثبتت لنا التجـربة‪ ،‬أنه ل بد أول أن‬
‫نلم أفكارنا المبعثرة ونحاورها وننسقها‪،‬‬
‫قبل أن ُنظهرها للعالم الخارجى‪ ،‬وهذا ل‬
‫يتم إل من خلل جلسة مع الذات فى‬
‫خلوة هادئة‪ ،‬وهكذا تبدو الوحدة حالة‬
‫عميقة سعيدة جدًا‪ ،‬ل يتمكنون دائما من‬
‫الوصول إليها‪ ،‬بينما تبدو للبعض الخر‪،‬‬
‫حالة قاسية أليمة ل يتوصلون مطلقا ً إلى‬
‫التخلص منها!‬
‫ولكن مهما اختلف البشر فى شأن‬
‫الوحدة الفردية أو التعددية الجماعية‪،‬‬
‫فالواقع يؤكد إننا ل ندرك أنفسنا ونعرف‬
‫حقيقة ذواتنا‪ ،‬إل عندما ننفصل أونبتعد ولو‬
‫لفترة قليلة‪ ،‬عن الموجودات أو الشياء أو‬
‫‪20‬‬
‫ما يشغلنا‪ ،‬ونحن ل ننكر أننا نحيا فى‬
‫مجتمع! فلبد إذن من التواصل‪ ،‬ولكن لو‬
‫نظرنا إلى معظم علقتنا‪ ،‬لتأكدنا أنها ل‬
‫تتعدى سوى طائفة من العلقات الخارجية‬
‫الظاهرية‪ ،‬والمجاملت اللفظية‬
‫السطحية‪ ..‬وهذه كلها وسائل لشغل‬
‫الفراغ‪..‬أما الذين يشددون على أهمية‬
‫اندماج النسان فى المجتمع بصورة‬
‫مطلقة‪ ،‬فهذا ضربا ً من الوهم أو الخيال‪،‬‬
‫لن كل إنسان هو نسيج حده‪ ،‬وكل ذات‬
‫هى هيكل وحده‪ ،‬ل تقوى أى ذات ًأخرى‬
‫أن تتسلل إليه أو تقترب منه ‍!‬

‫‪21‬‬

‫‪21‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الفصل الثانى‬
‫ما هى الذات ؟ طبيعتها‬
‫هل الذات كيان ذا وجود‪ ..‬أم ميول‬
‫واتجاهات ‪ ..‬أم أنشطة موضوعة فى‬
‫نظام‪ ..‬؟ وإذا كانت الذات كيان حى‪ ،‬وكل‬
‫حى هو طاقة‪ ،‬فهل نقول‪ :‬إن الذات‬
‫طاقة فى تنظيم ؟ أم نقول مستسلمين‪:‬‬
‫إنها كيان فوقى ل يمكن تحديده على‬
‫وجه الدقة ؟‬
‫وهل الذات هى النفس البشرية ؟‬
‫أم هى شئ آخر أقرب إلى مفهوم النفس‬
‫؟ أم هى النفس‪ +‬العقل ؟ وإذا نظرنا‬
‫إلى طبيعة الذات‪ ،‬هل لنا أن نقول‪ :‬إنها‬
‫وحدة أولية بسيطة أم هى تركيب‬
‫تكوينى ؟ وبالنسبة إلى عملها‪ ،‬هل تعد‬
‫الذات بمثابة جهاز مركزى‪ ،‬يقوم‬
‫بالتنسيق والتوجيه لسائر أعضاء الجسم ؟‬
‫‪22‬‬
‫أسئلة كثيرة تدورحول هذا اللغز‬
‫البشرى! وأعتقد أن كل من يغوص فى‬
‫هذا البحر الواسع‪ ،‬يدرك جيدا ً أن لججا ً‬
‫عميقة من عدة طبقات سميكة‪ ،‬تلف هذا‬
‫الموضوع الغامض! لن معرفة الذات على‬
‫حقيقتها أمر بالغ الصعوبة بل التعقيد !‬
‫وهكذا يبقى سر السرار كما هو مغّلفا‪ً،‬‬
‫كما لو كان ُأغلق عليه باب الفهم أو‬
‫التفسير!‬
‫مم مم ممممم م‬
‫فما هى الذات التى كانت ول تزال‬
‫موضع اهتمام وتساؤل ؟ إنها كل ما‬
‫يشمل النسان‪ ،‬بما فى ذلك مشاعره‪،‬‬
‫أفكاره‪ ،‬مواهبه‪ ،‬رغباته‪ ...‬وكما هو شائع‪،‬‬
‫تأتى كلمة ذات بمعنى نفـس‪ ،‬وهى بذلك‬
‫تعبر عن خصوصية الفرد أو داخله‪..‬‬
‫ومن الملحظ أن كلمة ذات ل ترد‬
‫عندما نتحدث عن الجماد والحيوان !‬
‫فل ُيقال " رجعنا إلى ذات المكان " ‪ ،‬بل‬
‫‪23‬‬
‫" رجعنا إلى نفس المكان " أو " نفس‬
‫الحديقة " أو " رأينا نفس العصفور"‪..‬‬
‫وقد عّرف " وليم جيمس " الذات‪،‬‬
‫بأنها كل ما ُيطلق على النسان‪ ،‬بما فى‬
‫ذلك جسمه وقواه النفسية وملبسه وبيئته‬
‫وأعماله وممتلكاته ومنجزاته‪..‬‬
‫أمـا " نيوكومب " فيرى أن الذات‬
‫هى الطريقة التى ُيدرك بها الفرد نفسه‪..‬‬
‫كما أفاد " مورفى " بأن الذات هى‬
‫إدراكات الفرد وتصوراته لوجوده الكلى‬
‫كما يعرفه‪.‬‬
‫ويرى " ألبورت" أن الذات عبارة عن‬
‫كل جوانب الفرد‪ ،‬التى يعتبرها خاصة به‪،‬‬
‫وجوهرية لمعنى وجوده بما ُيعطى‬
‫شخصيته الوحدة والتمييز والمتداد‬
‫ويقول عالم النفس الشهير "يونج " ‪:‬‬
‫إن الذات بالنسبة للشخصية‪ ،‬ليست هى‬
‫مركز الدائرة فحسب‪ ،‬وإنما هى أيضا ً‬
‫محيطها‪ ،‬فالذات مركز هذا الكل‪ ،‬وهى‬
‫الصيغة الجمالية للشخصية‪ ،‬كما يرى أن‬
‫‪24‬‬

‫‪41‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الذات تحوى الشعور واللشعور‪ ،‬أى‬
‫العقل الباطن‪.‬‬
‫هذا وقد نظر بعض الفلسفة وعلماء‬
‫النفس إلى الذات‪ ،‬على إنها النفس‪،‬‬
‫أو أقرب لمفهوم النفس البشرية‪،‬‬
‫وبهـذا يكون للذات كيان وجودى‬
‫كالنفس وإن كان ل ُير‍ى!‬
‫وهناك من يرى أن الذات‪ ،‬هى الكل‬
‫الذى يحوى الجزء‪ ،‬وبهذا تكون النفس‬
‫هى جزء من الذات‪ ،‬لكنه الجزء المسيطر‬
‫على كل الجزاء والمتحكم فيها‪ ،‬إنه أشبه‬
‫بالحاكم فى مملكته‪ ،‬وقد نشأ أعضاء هذه‬
‫المملكة على طاعته والخضوع لوامره‪.‬‬
‫وبصرف النظر عن الخلف حول‬
‫مفهوم الذات‪ ،‬فإن ما يعنينا فى هذه‬
‫الجزئية هو عبارة بليغة اعتدنا أن نسمعها‬
‫ونرددها أل وهى " ذاتك هى أنت " بكل‬
‫ما تحمل من إيجابيات وسلبيات‪ ،‬ما تقبله‬
‫حبه وما تكرهه‪ ..‬هى أنت‬ ‫وما ترفضه‪ ،‬ما ت ُ ِ‬
‫بكل خصائصك النفسية والبدنية والذهنية‪..‬‬
‫‪25‬‬
‫نستطيع أن نقول‪ :‬إن الذات تشمل كل‬
‫ما يخص الفرد‪ ،‬سواء فى أبعاده الجسمية‬
‫والنفسية والجتماعية‪ ..‬وهى بذلك تتضمن‬
‫كل ما يدخل فى مجال حياته المادية‬
‫والمعنوية‪ ..‬إنها تشمل الجسم والنفس‬
‫كلهما معا ً وكل ما يرتبط بهما‪ ،‬كما‬
‫تشمل علقات الفرد بالخرين والوسط‬
‫المحيط به‪..‬‬
‫ولكننا ونحن بصدد الحديث عن الذات‪،‬‬
‫نود أن نفرق بين الذات والشخص‪،‬‬
‫فالذات أعم وأشمل‪ ،‬لنها ُتطلق على‬
‫الجسم وغيره‪ ،‬أما الشخص فل ُتطلق إل‬
‫على الجسم فقط‪ ..‬كما أن الذات غير‬
‫الشخصية‪ ،‬التى هى سمات الفرد‬
‫النفسية ودوافعه‪ ..‬وهى غير الذاتية‪،‬‬
‫التى تشير إلى الخصائص المميزة‬
‫للموجود‪ ،‬مثلما ُيقال‪ :‬الذات الفرعونية‪ ،‬أو‬
‫اليونانية‪..‬‬
‫ممممم ممممم‬
‫‪26‬‬
‫ليس أصعب على الباحث من أن‬
‫يصف أو يتحدث عن شئ ل يراه‪،‬‬
‫فالذات ليست بهذا العضو أو ذاك‪ ،‬إنها ل‬
‫ُترى ول ُتلمس‪ ،‬إذن نحن نفتقر إلى‬
‫البرهان الحسى لتحديد طبيعة الذات‪،‬‬
‫ول يبقى أمامنا سوى البرهان العقلى‪،‬‬
‫م‬
‫فهل من جرأة لنناقش بعض الراء ؟ ول ِ َ‬
‫ل إن كنا نبحث عن الحقيقة‪ ،‬حتى وإن لم‬
‫نصل إلى شئ‪ ،‬نكون قد فتحنا بعض‬
‫البواب‪ ،‬فهذا أفضل من أن تبقى مغلقة!‬
‫يرى البعض أن الذات كيان ل ُيدرك إل‬
‫من خلل مظاهره وأفعاله‪ ..‬هكذا الهواء‬
‫والكهرباء‪ ،‬نستدل على وجودهما من‬
‫خلل آثارهما!‬
‫وهناك من يرفض أن ننظر إلى‬
‫الذات على أنها النفس البشرية‬
‫فقط‪ ،‬وكل ما فى المر اختلف فى‬
‫اللفظ‪ ،‬ويرجح هذا الرأى القول بأن الذات‬
‫هى النسان كله‪ ،‬فكيف تكون النفس‬

‫‪27‬‬
‫التى هى جزء من النسان ؟! والدليل‬
‫على ذلك‪:‬‬
‫إننا نقول " فلن ذاته " ول نقول "‬
‫فلن نفسه " إذن فالذات أعم‬
‫وأشمل‪ ،‬والقرب إلى الصواب هو أن‬
‫النفس جزء من الذات!‬
‫ونحن نرفض أن تكون الذات مجرد‬
‫تكوين رمزى مثل الصفر فى الرياضة‬
‫أو الحساب‪ ،‬لن هذا يفقدها قيمتها‪،‬‬
‫فالصفر ل شئ‪ ،‬أما الذات فهى كل شئ‪..‬‬
‫كما نرفض كونها مصطلحا ً اصطناعيا ً‬
‫من صنع التصور وربما تقترب من الخيال‬
‫‍‍!‬
‫أما إذا افترضنا أنها كيان‪ ،‬ل نملك‬
‫البرهنة على وجوده موضوعيا ً‬
‫فيكون وضعها بذلك‪ -‬إلى حد ما‪ -‬مقبو ً‬
‫ل‪،‬‬
‫لن الذات شئ ل يمكن تحديده على وجه‬
‫الدقة‪ ،‬ومع ذلك ل نيأس‪ ،‬ونحاول جاهدين‬
‫القتراب من طبيعتها بكافة الوسائل‬
‫وشتى الطرق ‍!‬
‫‪28‬‬

‫‪61‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫أما القول بأن الذات هى مجموعة من‬
‫الميول والتجاهات‪ ،‬فإنه يؤدى إلى‬
‫تجاهل بقية وظائفها الكثيرة‪..‬‬
‫ونحن ل ننكر أن الميول والتجاهات‬
‫ُتنسب إلى الذات‪ ،‬ولكن ل ننسى أن‬
‫التخطيط والقرار وبرامج النسان‬
‫اليومية‪ُ ..‬تنسب أيضا ً إلى الذات‪ ،‬وهى‬
‫ليست ميول فقط ولكنها أيضا ً أفعال‪ ،‬أو‬
‫هى ميول تحققت وصارت شيئا ً فى واقع‬
‫الحياة‪.‬‬
‫ولهذا نحن نميل إلى القول بأن الذات‬
‫كيان ضرورى‪ ،‬نستطيع من خلله أن‬
‫نفهم النسان ككل‪ ،‬ولن ما هو‬
‫ضرورى لوجود الموجود يكون هو‬
‫نفسه موجودا ً‪.‬‬
‫فالذات إذن موجودة‪ ،‬ولكن وجودها‬
‫يختلف عن وجود الجسم والشياء‬
‫المحسوسة‪ ،‬وحيث أنه ل يمكن إثبات‬
‫وجودها موضوعيا ً إثباتا ً حاسمًا‪ ،‬فإنها تكون‬
‫كيانا ً موجودا ً بالفتراض الضرورى ولهذا‬
‫‪29‬‬
‫ُنعطى لها تشبيهات فنقول‪ :‬إنها المركز‪،‬‬
‫أو الهيكل‪ ،‬أو الجهاز‪ ،‬أو الرئيس وسط‬
‫الجماعة‪..‬‬
‫ول يوجد ما يمنعنا من النظر إلى‬
‫الذات من زاوية الطاقة‪ ،‬فالذات كيان‬
‫حى وكل حي هو طاقة‪ ،‬ومن المقبول أن‬
‫نقول إن الذات طاقة منظمة أو طاقة فى‬
‫تنظيم‪ ..‬وهذا ل يتعارض مع القول بأن‬
‫الذات شفافة كالنفس أو الروح‪،‬‬
‫ومنعكسة تدرك الخرين وتدرك نفسها‪،‬‬
‫وهى عكس العين‪ ،‬التى ترى الخرين‬
‫ولكنها ل ترى نفسها‪..‬‬
‫حتى وإن سلمنا بأن الذات هى‬
‫النفس‪ ،‬أوهى النفس والذهن معًا‪،‬‬
‫فالنفس كيان ل ُينكر أحد حقيقة وجـوده‪..‬‬
‫وإن قلنا إنها اتجاهات‪ ،‬فمصدر هذه‬
‫التجاهات‪ :‬إما العقل‪ ،‬أو النفس‪ ،‬أو‬
‫الروح‪ ،‬وهؤلء الثلثة لهم كيانات‪ ،‬أى لهم‬
‫وجود‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫وليس هناك ما يمنع الفتراض القائل‪:‬‬
‫بأن إلى جوار الذات أو إلى ما ورائها‪،‬‬
‫قوى غريزية ل شعورية‪ ،‬تعارض بعض‬
‫توجهاتها‪ ،‬وهى تظهر فى بعض النفعالت‬
‫المظلمة‪ ،‬أعتقد أننا سمعنا عن العقل‬
‫الباطن‪ ،‬ونعرف دوره فى حياة النسان‪،‬‬
‫وإلى أى مدى يقوده إلى أفعال قسرية قد‬
‫يصُعب التحكم فيه‍ا!‬
‫ومن الكيد أن لكل إنسان ذاتا ً واحدة‪،‬‬
‫ومتفردة تفرد البصمة للصبع‪ ،‬وما‬
‫دامت الذات ل مثيل لها‪ ،‬فإنها ل تقع‬
‫داخل المعرفة العملية الموضوعية‪ ،‬التى‬
‫ُتبنى على الشياء المشتركة والمتشابهة‪.‬‬
‫وهناك ما ُيعرف ‪ -‬مجازيا ً ‪ -‬بذوبان‬
‫الذات فى الخر‪ ،‬سواء كان إلها أم‬
‫بشرًا‪..‬‬
‫أما محاولت الهروب من الذات أو‬
‫الثورة عليها‪ ،‬فهى من الظواهر الشائعة‬
‫التى اختبرناها جميعًا‪.‬‬

‫‪31‬‬
32
‫الفصل الثالث‬
‫تكــوين الـــذات‬
‫كيف تتشكل الذات التى تستقر عند‬
‫النضوج ؟ أو بمعنى آخر‪ :‬كيف تصبح‬
‫الذات ذاتا ً بالمعنى التام‪ ،‬بحيث تصبح‬
‫قادرة على القيام بكافة وظائفها على‬
‫أكمل وجه ؟ لنرجع إلى البداية فنقول‪:‬‬
‫عندما يولد النسان‪ ،‬نجد أنه ل يعرف‬
‫ذاته بينما يعرفه الخرين‪ ،‬ثم مع النمو‬
‫يبدأ فى معرفته لذاته‪ ،‬والفرق بينها وبين‬
‫ذوات الخرين‪ ..‬ومن خلل اندماجه فى‬
‫الوسط الجتماعى يتعلم الكبت‪ ،‬الذى‬
‫يؤثر بطريقة سلبية على ذاته‪..‬‬
‫وهكذا تتشكل الذات عبر الزمن متأثرة‬
‫بأشياء كثيرة منها‪ :‬البيئة‪ ،‬التربية‪ ،‬التدين‪..‬‬
‫إلى أن تصل إلى النضوج‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫ويحاول البعض إسدال الستار على‬
‫الماضى‪ ،‬والتقليل من أهميته‪ ،‬وهم ل‬
‫يدرون أن النسان فى حاضره‪ ،‬ليس‬
‫سوى ثمرات لخبرات الماضى‪ ،‬بكل ما‬
‫يحمل من مواقف وثقافات‪ ..‬فهل لنا أن‬
‫نقول‪ :‬إن النسان هو حصيلة لسائر‬
‫الميول والمواقف والذكريات‪ ،‬التى يجرها‬
‫جرًا‪ ،‬وراء ظهره أو يحملها خلفه‪ ،‬سواء‬
‫بعلمه أم بغير علمه‪ ،‬بإرادته أم رغما ً‬
‫عنه !‬
‫نعترف بأن الذات هى حصيلة تراث‬
‫تعاقبت الجيال فى تكوينه‪ ،‬وها نحن‬
‫نتساءل‪ :‬ما عسى أن تكون الذات لو‬
‫جردناها من كل ما وضعه الخرين فيها ؟!‬
‫إذن عندما يتأمل النسان ذاته‪ ،‬فهو يتأمل‬
‫فى كل ما هو حوله‪ ،‬حتى عندما يعتزل‬
‫الناس وينفرد بذاته‪ ،‬فهو يظل محتفظا ً‬
‫بكل أصداء القرون الماضية فى أعماقه !‬
‫يقول الطبيب النفسى " هوارد روم‬
‫" ‪ :‬إنه عندما يجلس مع المريض فى‬
‫‪34‬‬
‫الحجرة‪ ،‬فإنه ل يعتبر نفسه بمفرده مع‬
‫المريض‪ ،‬ولكن من حول المريض يوجد‬
‫خورس‪ ،‬يتكون من جميع الناس الذين‬
‫عاش بينهم‪ ،‬إنهم موجودون فى الحجرة‬
‫معه‪ ،‬لنهم يتركون بصماتهم‪ ،‬التى ل‬
‫يمكن أن تمحى على شخصية المريض‪،‬‬
‫سواء كانت خيرا ً أم شرًا‪.‬‬
‫نحن الن لسنا سوى تلك الحصيلة التى‬
‫تجمعت منذ ولدتنا‪ ،‬حتى وقتنا هذا إن لم‬
‫نقل قبل ولدتنا! ما دمنا نحمل ميول ً‬
‫وصفات وراثية سابقة على الولدة‪،‬‬
‫فالنسان بحسب قانون الوراثة‪ ،‬يرث من‬
‫أبويه الشكل الخارجى‪.‬‬
‫كما يرث كثيرا ً من الصفات النفسية‬
‫والميول الذهنية‪ ..‬التى تنحدر إليه من‬
‫أجداده السابقين على والديه‪ ،‬ألم يقل‬
‫الكتاب المقدس‪ " :‬وعاش آدم مئة‬
‫وثلثين سنة وولد ولدا ً على شبهه كصورته‬
‫ودعا اسمه شيث " )تك ‪.(3 :5‬‬

‫‪35‬‬
‫إذن كل ما عناه النسان من خوف‬
‫وفشل‪ ..‬وما اختزنه فى ذاكرته من صور‬
‫سمعية وبصرية‪ ..‬وما ورثه عن آبائه‬
‫وأجداده من عادات‪ ..‬ل يمكن أن ُتمحى‬
‫إل بعد جهاد إن أراد أن يمحوها‪ ،‬وإن لم‬
‫يرد فإنها تطبع بصمتها على ذاته‪ ،‬وتوجه‬
‫شخصيته‪ ،‬وتتحكم فى سلوكه ودوافعه‪..‬‬
‫ومعنى هذا‪:‬‬
‫إن النسان مهما تنكر لماضيه‪ ،‬محاول ً‬
‫اقتلع بعض الحداث الدامية أو المخزية‬
‫من حياته‪ ،‬فإن أصداء الجيال العابرة‪ ،‬لبد‬
‫من أن تتردد فى عمق أعماقه‪ ،‬وهل‬
‫يستطيع النسان أن يفكر يوما ً أو يتخذ‬
‫قرارا ً‪ ،‬إل إذا استند إلى أفكار وآراء‪...‬‬
‫السابقين‪ ،‬وحدد موقفه بالنسبة لمواقف‬
‫المتقدمين !‬
‫يقول أينشتين‬
‫كر نفسى كل يوم مئات‬ ‫" إننى ُأذ ّ‬
‫المرات‪ ،‬بأن حياتى الداخلية والخارجية‪،‬‬
‫تعتمد على جهود آخرين أحياء وأموات "‪.‬‬
‫‪36‬‬

‫‪02‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ل تتعجبوا إن قلت لكم‪ :‬إن كل‬
‫إنسان يحمل فى داخله صورا ً‬
‫قع عليها من جميع‬ ‫كثيرة‪ ،‬مو ّ‬
‫الشخاص الذين أّثروا فى حياته‪،‬‬
‫وكان لهم علقة خاصة به ودور هام فى‬
‫شخصيته‪ ،‬فقد أضاف كل منهم بعدا ً جديدا ً‬
‫ولونا ً فريدا ً للوحة حياته !‬
‫ولو تأملنا فى لوحة حياة كل إنسان‪،‬‬
‫لوجدنا أنها تحمل خطوطا ً كثيرة‪ ،‬لمن‬
‫عاش بينهم‪ ،‬وتعلم منهم وصادقهم‪..‬‬
‫عندما افُتتحت دورة اللعاب‬
‫الوليمبية فى طوكيو عام )‪1964‬م(‬
‫حملت طائرة خاصة الشعلة‪ ،‬من أثينا‬
‫حيث ُأقيم أول مهرجان عام )‪776‬ق‪ .‬م(‪.‬‬
‫وعندما هبطت الطائرة فى مطار‬
‫طوكيو حمل العدائون الشعلة‪ ،‬وأخذوا‬
‫يسلمونها الواحد للخر‪ ،‬فأصبح بذلك هناك‬
‫صلة بين المهرجان الول الذى ُأقيم فى‬
‫أثينا‪ ،‬والمهرجان المقام فى طوكيو !‬
‫‪37‬‬
‫وما الحياة سوى فريق عدائين‪ ،‬وفى‬
‫سباق الحياة ل يبدأ أحد من ل شئ‪ ،‬إذ أن‬
‫آخرين سبقونا‪ ،‬وليزال آخرون فى‬
‫انتظارنا‪ ،‬لكى يكملوا السباق من بعدنا‪،‬‬
‫فإذا فشلنا فى تسليم الشعلة المضيئة‬
‫التى تسلمناها‪ ،‬فإننا ل نجعلهم يخفقون‬
‫فقط‪ ،‬بل ونحرم أيضا ً أعداد كبيرة ل‬
‫ُتحصى من نور المسيح! ألم يقل رب‬
‫المجد يسوع‪ " :‬أنتم نور العالم "‪.‬‬
‫مممم ممممم مممممم‬
‫نستطيع أن نقول‪ :‬إن الذات هى‬
‫حصيلة عدة عوامل كثيرة‪ ،‬داخلية‬
‫وخارجية‪ ،‬وهذه العوامل تتحكم وتؤثر فيها‬
‫إما باليجاب أو السلب‪ ،‬وهكذا تكون‬
‫الذات سوية أو غير سوية‪ ،‬أما سمات‬
‫الذات السوية فهى التى‪:‬‬
‫‪ -‬المرونة‬
‫‪38‬‬
‫ليست الحياة سوى تذبذبا ً بين النجاح‬
‫والفشل‪ ،‬وهل يوجد إنسان لم يختبر فى‬
‫حياته مرارة السقوط أو آلم الفشل ؟!‬
‫هنا تظهر الذات السوية فى إيجاد الحلول‪،‬‬
‫والبحث عن البدائل ‪...‬‬
‫فقد يفشل إنسان فيعترف بأن الهدف‬
‫كان أعلى من قدراته فيغير إتجاهه‪ ،‬أو‬
‫ينتظر إلى أن ينمى قدراته‪..‬‬
‫فى حين أن الشخص الغير سوى‬
‫يستمر فى التكرار‪ ،‬وُيسمى هذا بالسلوك‬
‫الجامد‪ ،‬الذى ل يصدر إل عن شخصية قد‬
‫أصابها الخلل ‍!‬
‫‪ -‬الواقعية‬
‫ما هو الواقع سوى تحديد أهداف‬
‫تتناسب مع إمكانات الشخص وقدراته!‬
‫إذن فالشخص السوى ل يضع لنفسه‬
‫أهداف مستحيلة التحقيق‪ ،‬لن الواقعية‬
‫تتطلب أل يجلس الفرد فى أبراج من‬
‫الوهم أو الخيال‪.‬‬
‫‪39‬‬

‫‪22‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫إنه يريد ما يستطيع ويستطيع ما‬
‫يريد! وهو بذلك يشعر بلذة النجاح‬
‫وتحقيق الذات‪ ،‬فالواقعية هنا تعنى عدم‬
‫المبالغة فى تقدير الذات!‬
‫‪ -‬التفكير اليجابى‬
‫ويعد التفكير اليجابى أهم سمات‬
‫الذات السوية‪ ،‬وليست إيجابية التفكير‪،‬‬
‫سوى القدرة على حل مشاكل الفرد‪،‬‬
‫ومعالجة ما فى شخصيته من أخطاء‪،‬‬
‫وضعفات وسلبيات‪..‬‬
‫فمن المعروف أن الشخص السوى إذا‬
‫فشل‪ ،‬فسرعان ما ُيعلن فشله دون أى‬
‫تردد‪ ،‬ثم يبدأ فى تحديد أسباب الفشل‬
‫ويعمل على حلها‪ ..‬أما الغير سوى فل‬
‫يتجه إلى المشكلة مباشرة‪ ،‬بل يدور‬
‫حولها متهربا ً من اقتحامه‍ا!‬
‫‪ -‬عدم المبالغة‬

‫‪40‬‬
‫النسان السوى يشعر بالسرور‬
‫والحزن شأنه شأن أى إنسان‪ ،‬ولكنه يعبر‬
‫عن مشاعره أو مشاكله بقدر مناسب‬
‫دون تهويل‪ ،‬أما الغير سوى فيبالغ فى‬
‫كل شئ‪ ،‬محاول ً استعطاف الخرين‬
‫وجذب انتباههم‪ ،‬وفى نفس الوقت إقناع‬
‫ذاته بما هو عليه‪ ،‬ولو أنه أعطى المشكلة‬
‫حجمها الطبيعى لستطاع حلها ‍!‬
‫‪ -‬الستفادة من‬
‫الخطاء‬
‫قال أحد الباء " ل أظن أن الشيطان‬
‫أسقطنى فى خطية واحدة مرتين"‪ ،‬وهذه‬
‫عبارة حكيمة إن دلت فإنما تدل‪ :‬على أن‬
‫الشخص السوى يستفيد من‬
‫مواقفه وتجاربه‪ ،‬ويتعلم من‬
‫سقطاته‪ ،‬لنه ينظر إلى الحياة على أنها‬
‫ثوبا ً‪ُ ،‬نسجت خيوطه من اللم‪ ،‬ولكن‬
‫يتخللها خيط من نورهو اليمان‪ ،‬والنسان‬
‫هو ذلك المخلوق المتناقض‪ ،‬الذى يحمل‬
‫‪41‬‬
‫فى أعماقه الثنائية‪ :‬الخير والشر‪ ،‬النور‬
‫والظلمة‪ ..‬فى لحظة يتحرك كبندول‬
‫الساعة‪ ،‬من أقصى اليمين إلى أقصى‬
‫اليسار‪ ،‬من أقصى الخير إلى أقصى‬
‫الشر!‬
‫فى حين أن الغير سوى‪ ،‬يكرر نفس‬
‫أخطاءه ويزيد من ضعفاته‪ ..‬إلى أن يجد‬
‫نفسه فى النهاية‪ ،‬مجرد هشيم يشهد‬
‫بضعفه وعدم حكمته !‬
‫‪ -‬الشعور بالسلم‬
‫وهو شعور يرافق كل البرار الذين‬
‫دربوا أنفسهم على حياة الفضيلة‪ ،‬وهل‬
‫يمكن أن يحيا النسان بارا ً إل إذا كان‬
‫سويا ً ! أما الغير سوى فيستهين بالوصايا‬
‫وينغمس فى الخطايا‪..‬‬
‫إنه يحيا فى وهم كاذب أو سراب‬
‫خادع‪ ،‬وليست الحياة فى نظره سوى‬
‫إجترار مجموعة من اللذات والشهوات‪..‬‬

‫‪42‬‬
‫ولهذا يفقد سلمه‪ ،‬لنه كما قال إشعياء‬
‫النبى‪ " :‬ل سلم قال إلهى للشرار"‪.‬‬
‫ممممم ممممممم ممممم‬
‫إن النسان‪ ،‬كل إنسان‪ ،‬غالبا ً ما ينظر‬
‫إلى علقته بالخرين‪ ،‬فيهتم بها ويعمل‬
‫على نموها واستقرارها‪ ،‬لكى يسود‬
‫الدفء علقاته‪ ،‬ولكن هل فكرنا مرة كيف‬
‫يكون للنسان علقة صحيحة بذاته ؟ إن‬
‫الجابة تتمثل فى ثلثة أبعاد‪:‬‬
‫‪ -1‬معرفة الذات‬
‫" إن معرفة الذات هى أم كل معرفة‬
‫"! تلك عبارة قالها القدماء‪ ،‬وبعدها كانت‬
‫إنطلقة الفكر الفلسفى اليونانى‪،‬‬
‫أتذكرون عبارة سقراط الشهيرة‪ ،‬التى‬
‫كتبت على جدران المعبد اليونانى فى‬ ‫ُ‬
‫ديلفوس!‬

‫‪43‬‬

‫‪42‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫لقد نُقشت بحروف لن ُتمحى‬
‫أشهرعبارة فلسفية " أعرف نفسك‬
‫"‪ ،‬ولكننا نتساءل‪ :‬هل يمكن لنسان ل‬
‫ميها‪!..‬‬
‫يعرف نفسه أن يوجهها وين ّ‬
‫والحق إن معرفة الذات‪ُ ،‬تعد الدليل‬
‫على اكتمال وعى النسان‪ ،‬أو وصوله إلى‬
‫عرش النضوج النسانى‪ ،‬يلى ذلك معرفة‬
‫أخرى أرقى حكمة وتطورا ً‪ ،‬وهى تطبيق‬
‫هذه المعرفة عمليًا!‬
‫ويعد مفهوم النسان لذاته عنصرا ً‬
‫أساسيا ً فى تكوين الشخصية‪ ،‬وهو‬
‫الساس الذى يبنى عليه برنامج نموه‬
‫وتطوره‪ ،‬ويبقى السؤال‪ :‬كيف يعرف‬
‫النسان ذاته ؟‬
‫هناك عدة عناصر ضرورية لدراك‬
‫الذات النسانية أهمها التى‪ :‬صراحة‬
‫النسان مع نفسه‪ ،‬التعمق‪ ،‬الرغبة‬
‫فى التغيير‪..‬‬

‫‪44‬‬
‫لكننا نعترف بأن معرفة الذات تتطلب‬
‫قدرا ً كبيرا ً من الجهد‪ ،‬كما أنها تهدد سلم‬
‫النسان‪ ،‬لنها تعد بمثابة تعرية للذات‪،‬‬
‫ومن المعروف أن النسان ضعيف جدا ً‬
‫أمام ذاته‪ ،‬ول يحتمل بسهولة أن تطفو‬
‫ضعفاته على السطح!‬
‫‪ -2‬تقّبل الذات‬
‫إن سلوك النسان ينبع دوما ً من‬
‫نظرته لذاته‪ ،‬فإذا ظن أنه فاشل‬
‫فسوف ينكمش‪ ،‬ويقلل من علقاته‪،‬‬
‫ويحجم عن أية مخاطرة‪ ،‬وُيعد النتقاد‬
‫اللذع من السباب التى تجعل النسان‬
‫يرفض ذاته‪ ،‬لن النسان يقّيم ذاته من‬
‫خلل آراء الخرين‪ ،‬فإن امتدحوها يقبلها‬
‫وإن أدانوها‪..‬‬
‫أما إذا تقّبل النسان ذاته فسوف يتقبل‬
‫الخرين‪ ،‬والحق إننا نخطئ كثيرا ً عندما‬
‫نسعى إلى حب غيرنا‪ ،‬فى الوقت الذى‬
‫نكره فيه أنفسنا!‬
‫‪45‬‬
‫لكننا نوضح أن تقبّل النسان لذاته‬
‫ل يعنى الرضى السلبى عن الذات‪،‬‬
‫بل إن تقّبل الذات الصحيح‪ ،‬يجعل النسان‬
‫يحاسب نفسه ويقّيم سلوكه باستمرار‪،‬‬
‫ويبذل كل طاقته من أجل الوصول بالذات‬
‫إلى أرقى مستوى‪ ،‬هكذا يحب الب ابنه‪،‬‬
‫ولكن هذا الحب ل يمنعه من معاقبته إذا‬
‫أخطأ!‬
‫‪ -3‬تنمية الذات‬
‫وهى محاولة يقوم بها الفرد لكى‬
‫يرتقى بذاته‪ ،‬وذلك عن طريق التغلب‬
‫على نقائصه‪ ،‬ومقاومة ضعفاته‪ ،‬والتخلص‬
‫من عيوبه أو التقليل من أثرها‪ ،‬ولكن كل‬
‫هذا ل يتم إل إذا تقّبل النسان ذاته‪ ،‬لن‬
‫من يرفض ذاته ل يسعى إلى تطويرها‪.‬‬
‫ولو تأملنا غالبية البشر‪ ،‬لوجدنا أنهم‬
‫يعيشون رافضين لذواتهم‪ ،‬أو غير راضيين‬
‫عن أنفسهم !! والسبب يرجع إلى جهلهم‬

‫‪46‬‬
‫الشديد بذواتهم‪ ،‬وكيف يعرفون ذواتهم‬
‫وهم دائما ً فى الخارج ؟!‬
‫لقد تحولت الحياة فى نظرهم إلى‬
‫سلسلة طويلة من العمال الباطلة‪،‬‬
‫والكلم غير المجدى‪ ،‬والجلسات الغير‬
‫مثمرة‪...‬‬
‫ولو أنهم التقوا مرة بذواتهم‪ ،‬لعرفوا‬
‫أن كل ذات تحمل كم هائل من النوار‪،‬‬
‫قد حجب العالم بضبابه الكثيف أشعتها!‬
‫فل هم استطاعوا أن يروا‪ ،‬ول الخرين‬
‫استضاءوا بها!!‬

‫‪47‬‬

‫‪62‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫النسان ليس ذاتا ً‬
‫مكشوفة‬
‫إن غالبية البشر يعيشون خارج‬
‫أنفسهم‪ ،‬ومع ذلك ل يقرأ الخرون كتاب‬
‫حياتهم بسهولة! أليس لكل منا حياته‬
‫الباطنية‪ ،‬التى هيهات أن ينفذ إليها الغير!‬
‫أعتقد أن البشرل يذيعون سرهم إل بقدر‪،‬‬
‫ول يفتحون كتاب حياتهم بسهولة‪ ،‬إل لمن‬
‫له قدرة أن يقرأ ويفهم!‬
‫ممممم ممم ممم ممممم‬
‫نعترف بأن كل إنسان يحمل فى‬
‫أعماقه جمهرة‪ ،‬من المواقف والحداث‬
‫والذكريات السلبية‪ ..‬التى يتمنى أن‬
‫يقتطفها من جذور حياته! فهل لنا أن‬
‫نقول‪ :‬إن أعماق النسان هى‬
‫سرداب طويل! وقد غطته الشواك‬
‫‪48‬‬
‫وأحاط به الظلم‪ ..‬وكم يكون أفضل لو‬
‫ظل هكذا مخفيًا‪ ،‬ولعل هذا سبب من‬
‫السباب التى تدفع بالنسان إلى ارتداء‬
‫القنعة!‬
‫ل ننكر أن كثيرين تمنوا أن يحيوا‬
‫كأطفال فى برائتهم‪ ،‬ولكننا كبشرأصبح‬
‫الخوف فى صميم تكويننا ألف خوف‬
‫وخوف‪ ،‬يجعلنا نحيا فى غربة سجننا‬
‫المنفرد‪ ،‬لدى البعض خوف من النهيار أو‬
‫البكاء‪ ..‬إذا ما تحدثوا عن مشاكلهم‪ ،‬ولدى‬
‫در الخر‬ ‫البعض الخر تردد وخشية أل يق ّ‬
‫كلمهم‪ ،‬فإذا قوبل سر بحنا به باللمبالة‬
‫أو بعدم التفهم أو الغضب أو الستهزاء‪..‬‬
‫فما أسهل أن ُيكشف السر‪ ،‬لنه ُيعد‬
‫فى نظر سامعه بل قيمة‪ ،‬وربما ُيستغل‬
‫كأداة تأديب ضددنا ! فما أكثر القصص‬
‫الدامية‪ ،‬التى ُتحكى عن وحوش بشرية‪،‬‬
‫استغلوا أسرار ُأناس بسطاء لمتصاص‬
‫دمائهم! فكيف تحول الحمل الوديع‬
‫؟! أعتقد أنه‬ ‫إلى ذئب وبدأ يعض الخراف ‍‬
‫‪49‬‬
‫لم يكن حمل ً فى يوم ما‪ ،‬بل ذئبا ً يرتدى‬
‫زى الحملن !‬
‫ً‬
‫أعترف بأن جبال من الثلوج‪ ،‬قد‬
‫تجمدت حول قلبى وفكرى وحواسى‪..‬‬
‫وكم تمنيت أن تذوب لتصير ماًء فى ينابيع‬
‫ة! ولكن إذا كشفت لك ذاتى ربما‬ ‫الحيا ‍‬
‫ُتسيئ فهمى أو تحتقرنى‪ ،‬وتعاملنى‬
‫كعقارب الكهوف أو حشرات‬
‫المستنقعات‪ ،‬وربما تتقمص شخصية‬
‫المحلل النفسانى‪ ،‬ويتحول اللقاء بيننا إلى‬
‫سؤال وجواب عن مدى صدقى والكثر‬
‫من هذا لو هجرتنى وتركتنى أعانى من‬
‫الحزن والكآبة فى عزلتى‪ ،‬وماذا أقول لو‬
‫كنت بل تحفظ وأخذت تناقش مشكلتى‬
‫مع آخرين‪ ،‬ممن ل يكفون عن استعراض‬
‫أنفسهم!‬
‫ل ننكر أن فى داخل كل منا أمور كثيرة‬
‫نود أن نشرك الخرين فيها‪ ،‬ولكل منا‬
‫ض عشناه‪ ،‬وهذا الماضى كتاب‬ ‫أسرار ما ٍٍٍ‬
‫يطوى بين صفحاته أمور تافهة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫طويل‪،‬‬
‫‪50‬‬

‫‪82‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وأحلم اندثرت‪ ،‬وآمال خابت‪ ..‬ولكن ماذا‬
‫نقول عندما ل يفهمنا من نحن بحاجة‬
‫إلى حبهم وعطفهم ومشورتهم ؟! أعتقد‬
‫أن الفشل هو نهاية كل علقة ل ُتنعشنا‪،‬‬
‫ول تقذف بنا إلى الحياة الحقيقية! حتى‬
‫وإن شعرنا بغربة نفسية أو مكثنا نصارع‬
‫أمواج أفكارنا‪ ..‬فهذا أفضل لنا!‬
‫إن عوامل كثيرة تدفع النسان إلى‬
‫الكبت‪ ،‬وقد تكون طريقة التربية‬
‫والوسط الجتماعى من بين هذه‬
‫العوامل‪ ،‬فالذى تربى فى بيئة صارمة‬
‫يكون عرضة لكبت مشاعره العاطفية‪ ،‬فل‬
‫يبوح بحياته أو أفكاره الجنسية بسهولة‪،‬‬
‫والذى نشأ فى بيئة مشاغبة‪ ،‬يكثر الصراع‬
‫والشجار بين أفرادها‪ ،‬ل يعتذر بسهولة‬
‫لغيره حتى لو كان مخطئًا‪..‬‬
‫وهل ننكر أن تقاليد المجتمع‪ ،‬تجعل‬
‫كثيرين يتعاملون من وراء القنعة‪،‬‬
‫ويستبيحون أفعالهم الرديئة ؟! أل ينظر‬
‫كثيرون إلى السرقة على أنها شطارة‬
‫‪51‬‬
‫والكذب خفـة دم! وهناك الخجل‬
‫وضعف الشخصية‪ ..‬عوامل تجعل‬
‫النسان يكبت مشاعره ول يبوح بأسراره‪،‬‬
‫والحق إن الحياء ليس سوى إعلن أن‬
‫النسان ليس كتابا ً مفتوحا ً أو ذاتا ً‬
‫مكشوفة‪ ..‬ليس الخجل من التعرية‬
‫النفسية سوى دليل على احترام النسان‬
‫لقدسية ذاته‪ ،‬إنه رسالة مضمونها‪ :‬إن‬
‫حياتى الباطنية سر ل أريد أن يعرفه أحد‬
‫حبه وأثق فيه ويشاركنى حياتى‬ ‫إل من أ ُ ِ‬
‫وأفكارى وسائر ميولى‪..‬‬
‫وُيعد الشعور بالنقص‪ ،‬آفة تجعل‬
‫النسان ُيخفى ذاته الحقيقية‪ ،‬ويتقمص‬
‫أدوارا ً اعتاد أن يمثلها‪ ،‬والعجيب أن‬
‫المصاب بهذا المرض‪ ،‬يظن أنه بدافع‬
‫الحب ُيمارس هذه الدوار‪ ،‬فإن كان هذا‬
‫هو الحب فما هو الوهم إذن ؟!‬
‫لكننا نخطئ عندما نحكم على‬
‫إنسان حكما ً مطلقا ً مدى الحياة‪،‬‬
‫فنحن ننمو ونتجدد كل يوم‪ ،‬صديقى وأنا‬
‫‪52‬‬
‫نكبر فتظهر الفوارق بيننا! إذن ل تتعجب‬
‫إن قلت لك إن الشياء التى شدتنى إليك‬
‫فى بداية علقتنا‪ ،‬هى نفسها التى تعمل‬
‫اليوم على تعكير التواصل بيننا! فى‬
‫البداية ظهرت نزعتك العاطفية وكأنها‬
‫تخلق إتزانا ً فى توجهاتى العقلنية‪،‬‬
‫وض سلوكى‬ ‫وسلوكك المتفتح كان يع ّ‬
‫ى ميول‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫وض‬ ‫المنكمش‪ ،‬وواقعيتك تر ّ‬
‫الخيال‪ ..‬وهكذا بدأت صداقتنا مثالية‪،‬‬
‫ولكنى الن عندما أريد أن تشاركنى‬
‫تطلعاتى الفكرية‪ ،‬يزعجنى كونك ل تعير‬
‫حججى الموضوعية أهمية‍!‬ ‫ُ‬
‫إل أن اختلفى معك ليس معناه انتهاء‬
‫اللقاء بيننا‪ ،‬فالخيوط المعدنية التى ربطتنا‬
‫معًا‪ ،‬يمكن أن تتحول إلى سبائك من‬
‫ذهب‪ ،‬لو أدركنا أن كل منا فى نمو دائم‬
‫وتطور مستمر‪ ،‬وشاركه الخر فى هذا‬
‫النمو!‬
‫وهذا التغير يدفعنى أن أطلب منك‬
‫ومن غيرك العفو المستمر‪ ،‬لن ما‬
‫‪53‬‬
‫أخطأت فيه بالمس ربما تخليت عنه‬
‫ى من خلل ذكريات‬ ‫اليوم‪ ،‬فل تحكم عل ّ‬
‫ى ثابتة‪ ،‬لنى‬
‫باهتة‪ ،‬ول تدع أحكامك عل ّ‬
‫أتعلم من أخطائى‪ ،‬وإذا قابلتنى اليوم‬
‫سترانى أفضل من أمس‪ ،‬وغدا ً سأكون‬
‫أفضل من كليهم‍ا!‬
‫ممممم ممم ممممم‬
‫إن غالبيته البشر ل ُيظهرون من‬
‫جبل حياتهم سوى رأسه‪ ،‬أما باقى‬
‫الجبل فيظل دفينا ً فى عمق البحر‪ ،‬وهكذا‬
‫يتكون الكبت‪ ،‬الذى يحمل فى طياته‬
‫خرابا ً للشخصية‪ ،‬لننا نشعر بألم دون أن‬
‫نلغى سبب اللم‪ ،‬إننا حبسنا اللـم فى‬
‫زنزانة اللوعى المظلمة‪ ،‬ولن‬
‫العواطف المكبوتة ل تموت ول تصمت‪،‬‬
‫فهى لذلك تظل تؤثر فى سلوك الشخص‬
‫بمجمله‪.‬‬
‫نعترف بأن كبت العواطف لهو‬
‫كبت جهنمى‪ ،‬لنه سرعان ما يجعل‬
‫‪54‬‬

‫‪03‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫النسان كثير النفجار‪ ،‬إذن فلنحترس لن‬
‫غليان الماء إذا زاد عن حده جعل الغطاء‬
‫يتطاير! هذا بالضافة إلى المراض‬
‫الكثيرة التى يسببها الكبت‪ ،‬ألم تشعر‬
‫مرة بأرق شديد‪ ،‬أو ألم فى الرأس أو‬
‫المعدة أو التهاب فى المفاصل‪ ..‬ألم‬
‫تعانى من صراع داخل النفس‪ ،‬يدفعك‬
‫إلى النطواء‪ ،‬أو الستغراق سواء فى‬
‫الخيال أو العدوانية‪..‬‬
‫لقد أصبح واضحا ً لدى علماء النفس‪،‬‬
‫أن كثير من المراض النفسية‪ ،‬تؤثر‬
‫بصورة واضحة على أعضاء الجسم‪ ،‬وقد‬
‫أصبح هناك ما ُيعـرف فى الطب‬
‫ة! فقد قام أحد‬
‫بالمراض النفسجسمي ‍‬
‫الطباء بفحص مريض استولى عليه القلق‬
‫والفزع‪ ،‬عقب وفاة أحد زملئه‪ ،‬واستقر‬
‫في ذهنه أن مصيره سيكون مثله‪ ،‬وهو‬
‫الموت بالسكتة القلبية‪ ،‬ويوم بعد يوم‬
‫سيطرت عليه الفكار العنكبوتية‬

‫‪55‬‬
‫وعشعشت فى رأسه! فكانت النتيجة‪:‬‬
‫إصابته بقرحة في المعدة‪.‬‬
‫وكان أحد الطباء يعالج مريضا ً‬
‫شفي‪ ،‬تقرر خروجه من‬ ‫بالربو‪ ،‬وبعد أن ُ‬
‫المستشفى صباح يوم الثنين ولكنه‬
‫فوجئ في صباح اليوم المحدد لخروجه‬
‫بعودة أعراض المرض إليه‪ ،‬وترتب على‬
‫ذلك بقاؤه في المستشفى مدة ُأخرى‪...‬‬
‫ولكن حدث بعد علجه الذي استغرق عدة‬
‫أسابيع أن حالته تحسنت فتقرر خروجه‪،‬‬
‫إل أن أعراض المرض عادت إليه مرة‬
‫ثانية‪ ،‬في صباح اليوم المحدد لخروجه‪،‬‬
‫مما لفت نظر الطباء لبحث هذه الظاهرة‬
‫الغريبة!‬
‫فتبين لهم بعد إجراء عدة تجارب إن‬
‫هذا المريض يعمل مدرسًا‪ ،‬وقد اشتبك‬
‫في مشاجرة عنيفة‪ ،‬هددته بالطرد من‬
‫المدرسة‪ ،‬فكانت النتيجة‪ ،‬أن استبد به‬
‫القلق الذي سيطر عليه للدرجة التي‬

‫‪56‬‬
‫كانت سببا ً في معاودة المرض إليه‪ ،‬وذلك‬
‫في صباح اليوم المحدد لخروجه‪..‬‬
‫نستطيع أن نقول‪ :‬إن العواطف‬
‫المكبوتة أشبه بالشخص المرفوض‪،‬‬
‫فهو يفرض علينا ثمنا ً باهظا ً‬
‫ًلرفضه‪ ،‬ويحاول جاهدا ً أن ينتقم‬
‫لنفسه!‬
‫وتعد فلتات اللسان والحلم‪ ...‬وسائل‬
‫تحاول العاطفة المكبوتة‪ ،‬أن تعّبر عن‬
‫نفسها من خللها‪ ،‬ويجب أن نشير إلى أن‬
‫الرغبات المكبوتة‪ ،‬هى التى يتكون منها‬
‫العقد النفسية‪ ،‬هنـا تظهر حكمة‬
‫النسان فى تحليل أقواله‪ ،‬حركاته‪،‬‬
‫سلوكياته‪ ..‬لكى يحدد أول ً العواطف التى‬
‫دفنت فى العقل الباطن‪ ،‬ليعالجها‬
‫ُ‬
‫ويسّيرها فى طريقها الصحيح‪ ،‬فالعلج ل‬
‫غنى عنه للنمو‪ ..‬فى حين أن الكبت‬
‫يفقدنا التصال الحقيقى‪ ،‬ل‬
‫بالخرين فقط بل وبذواتنا أيضا‪ً،‬‬
‫ويجعلنا مدى الحياة نتستر وراء أقنعة‬
‫‪57‬‬
‫مزيفة‪ ،‬نخفى بها حقيقتنا‪ ،‬ونحتمى وراء‬
‫حواجز وهمية نحمى بها ذواتن‍ا! والفضل‬
‫لنا أن نراقب أنفسنا ونحاور أنفسنا‪ ،‬لكى‬
‫نعرف ضعفاتنا التى يجب أن نعالجها أما‬
‫الهروب فلن يفيدنا شيئ!‬
‫والسؤال الن‪ :‬هل لديك استعداد أن‬
‫تعرف عمق مشاعرك لتوجهها؟ هل تملك‬
‫الشجاعة لتقر بأن بعض سلوكك مزيفا ً بل‬
‫ملفقًا؟ إلى أى مدى تبحث عن الحقيقة‬
‫بصدق وتريد أن تعرف نفسك على‬
‫حقيقتها ؟‬
‫جوابى‪ :‬هو أننى أريد الحقيقة‪ ،‬ولكنى‬
‫ل أريدها دفعة واحدة‪ ،‬أريد أن أعرف‬
‫قصة حياتى كاملة‪ ،‬ولكن فصل ً فصل ً !‬
‫فمن المعروف أن مواجهة النفس من‬
‫أصعب وأشق المواجهات فى حياة‬
‫البشـر! كما أن أسلوب معرفة الخطاء‬
‫والضعفات البشرية‪ ،‬يجب أن يكون بالحب‬
‫ى‬
‫وليس بالقسوة‪ ،‬فإن أردت أن ُتظهر ل ّ‬
‫ضعفة من ضعفاتى‪ ،‬أو إحدى سلبياتى‪،‬‬
‫‪58‬‬
‫فيجب أن ُتمهد أول ً وتجس نبضى لكى‬
‫تعرف‪ :‬هل لدى رغبة أن أعرف منك ما‬
‫ى أم ل ؟!‬
‫تريد أن تقوله ل ّ‬
‫لكننا نعترف بأن الحرص على معرفة‬
‫الذات‪ ،‬هو نقطة النطلق لتكوين شخصية‬
‫سوية والقبول الكامل للحقيقة الكاملة‬
‫يمكنه أن يقودنا إلى الحياة المثلى!‬

‫‪59‬‬
‫الفصل الحامس‬
‫الذات بين الحب والنانية‬
‫إن الحياة فى حاجة إلى التفتح فى جو‬
‫دافئ يسوده الحب‪ ،‬أما إذا أغلق النسان‬
‫على ذاته وجعلها محور كل شئ‪ ،‬وأخذ‬
‫يدور كالدراجة حول نفسه‪ ،‬مستعمل ً‬
‫الخرين كأدوات أو آلت منتجة‪ ،‬دون أن‬
‫يقيم وزنا ً للمشاعر البشرية أو القيم‬
‫النسانية‪ ،‬فإن هوة نفسية عميقة ستفصل‬
‫بينه وبينهم‪.‬‬
‫كما أن علقته بغيره سوف يخّيم عليها‬
‫الحذر‪ ،‬ويسودها التوتر والقلق والتكلف‬
‫والصطناع ‪ ..‬وهذه كلها عوامل تقضى‬
‫على جنين الحب قبل أن يكتمل نموه!‬
‫أما إذا فكر النسان فى العطاء ل السلب‪،‬‬
‫ففى النهاية سيجد نفسه متمتعا ً بحب‬
‫الخرين وعطفهم ورعايتهم!‬

‫‪60‬‬

‫‪23‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫نعترف بأن حب الذات بدايته هى‬
‫نهايته‪ ،‬وليس سوى الفشل نهاية لهذه‬
‫الدراما النفسية المأسوية! أما الحب‬
‫الحقيقى فله مستقبل‪ ،‬لنه يحرر النسان‬
‫من أخطر مرض أل وهو " عبادة الذات‬
‫" ويوجهه نحو الهتمام بالخر‪ ،‬دون‬
‫التفكير فى العودة إلى الذات مرة أُخرى!‬
‫نستطيع أن نقول‪ :‬إن مسكن الذات‬
‫فى حاجة إلى تهوية دائمة‪ ،‬وإل نسج‬
‫العنكبوت خيوطه فى سقفه‪ ،‬ودبت‬
‫الحشرات فى جوانبه‪ ،‬وهل يمكن لنسان‬
‫أن يحيا فى جزيرة عدد سكانها شخص‬
‫واحد! إن كانت هذه هى الحياة فما عسى‬
‫أن يكون الموت إذن ؟!‬
‫على قدر ما يبتعد النسان عن‬
‫ذاته‪ ،‬على قدر ما يقترب من‬
‫الخرين‪ ،‬أما إذا عاش ل يعرف من‬
‫الحياة سوى نفسه المريضة وتحقيق‬
‫رغباتها السقيمة‪ ،‬فلن يحصل فى النهاية‬
‫إل على الفوضى والضطراب فى أعماقه‪،‬‬
‫‪61‬‬
‫فما من إنسان سعى إلى تحقيق كل شئ‬
‫والستمتاع بكل شئ‪ ،‬إل ووجد نفسه فى‬
‫النهاية فاقدا ً لكل شئ !‬
‫والحق إن النانية تفكك تام للذات‬
‫حب ذاته بل‬ ‫والرجل النانى لي ُ ِ‬
‫يكرهها ويضرها! ليست النانية سوى‬
‫سلوك مريض يقوم على النشغال‬
‫المرضى بالذات‪ ،‬دون أن يكون وراء هذا‬
‫السلوك أى حب حقيقى للذات‪ ،‬فى حين‬
‫أن الحب السوى يجعل النسان يتعاطف‬
‫مع غيره‪ ،‬ول ينطوى على أية صورة من‬
‫صور النانية القاتلة‪ ،‬أو الهتمام المفرط‬
‫ة‪ ..‬ويبقى السؤال‪:‬‬ ‫بالمصالح الشخصي ‍‬
‫مم مم ممممم مم ممممم م‬
‫هو عدم الستجابة لرغباتها الشريرة‪،‬‬
‫وبالمقابل تحقيق رغباتها الحسنة‪ ،‬وتقوية‬
‫ضعفاتها‪ ،‬والعمل من أجل نموها وثباتها‬
‫فى حياة الفضيلة‪.‬‬

‫‪62‬‬

‫‪43‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫أما إذا عجز النسان عن حب ذاته‪،‬‬
‫فبكل تأكيد سوف يعجز أيضا ً عن حب‬
‫غيره‪ ،‬وأعتقد أن من يسمو بذاته نحو‬
‫الفضل‪ ،‬سوف ينفتح على الخرين بحب‪..‬‬
‫لن القوقعة الذاتية الصلبة التى يقبع فيها‪،‬‬
‫تقف حائل ً بينه وبين الخرين‪ ،‬وتمزق‬
‫روابط المحبة بينه وبينهم‪ ،‬ومن المعروف‬
‫أن الحياة تتحول إلى موت إن خلت من‬
‫أنفاس الحب ‍!‬
‫أتذكرون قول السيد المسيح‪ " :‬من‬
‫حب نفسه يهلكها " )يو ‪ (25 :12‬هل‬ ‫يُ ِ‬
‫تأملتم مرة المقصود بهلك النفس! أعتقد‬
‫أن الله ليطلب منا أن نكون قتلة لنفسنا‪،‬‬
‫إنما الله يريد أل ّ نستجيب لرغباتها‬
‫الشريرة‪ ،‬التى تفصلنا عن خالقنا! هذا هو‬
‫النتحار النفسانى‪ :‬الستجابة‬
‫ة!‬‫لرغبات النفس الشرير ‍‬
‫إذن هناك حب حقيقى وآخر مزور‪،‬‬
‫حب يقود إلى الحياة وآخر إلى الموت ‍!‬
‫حب لغرض ما فأنت فى‬ ‫فإن كنت ت ُ ِ‬
‫‪63‬‬
‫حب إل ذاتك‪،‬‬ ‫الحقيقة إنسان نفعى‪ ،‬ل ت ُ ِ‬
‫ومعروف أن النسان النفعى هو إنسان‬
‫شهوانى‪ ،‬لن النفعية والشهوانية هما‬
‫وجهان لعملة واحدة أل وهى‪ " :‬حب‬
‫الذات "‪.‬‬
‫أما التمركز حول الذات فهو مصدر‬
‫الشقاء‪ِ ،‬لذا أصبح كل يوم يزداد‪ ،‬عدد‬
‫الذين ينادون بأهمية تكوين علقات‬
‫حميمة‪ ،‬مركزها الحب ل النفعية‪ ،‬لكى ل‬
‫ة!‬
‫نسقط فى بئر المراض النفسي ‍‬
‫إن النشغال المرضي بالذات‪ ،‬يجعل‬
‫النسان في نهاية المطاف أعزل‪ ،‬وغالبا ً‬
‫ما يسقط في شكوك وفخاخ‪ ،‬ففي يوم ما‬
‫انشغلت " أم ‪ " 44‬بنفسها‪ ،‬وبدأت تفكر‬
‫بأية قدمين تسير‪ ،‬وبينما هي في قمة‬
‫انشغالها إذا بحفرة كبيرة‪ ،‬لم تلتفت إليها‬
‫فسقطت فيها‪.‬‬
‫وهكذا النسان أيضا ً إن لم يلتفت إلى‬
‫هذا المرض فسوف يسقط في خطايا‬
‫وشرور ما أكثرها‪ ،‬وسيكون الفشل هو‬
‫سمة حياته‪ ،‬وهذا الفشل يجعله يلجأ إلى‬
‫‪64‬‬
‫أحد الملجئ لكي يحتمي فيه من بعض‬
‫اللم الذي يمزق باطنه‪ ،‬أما تلك الملجئ‬
‫فهي‪ :‬الكتئاب‪ ،‬الغضب‪ ،‬الجنون‪ ،‬المرض‬
‫الجسدي‪!..‬‬
‫ولكن من المؤكد أن النسان‪ ،‬ل يمكن‬
‫أن ينفتح على الخرين‪ ،‬طالما هو متقوقع‬
‫حول ذاته‪ ،‬محاول ً إشباعها بكافة الطرق‪،‬‬
‫حتى وإن كانت خاطئة ! أو يتخفى وراء‬
‫القنعة والحواجز‪ ،‬إنها كالمرض الذي‬
‫يبقينا منغلقين على أنفسنا!‬
‫فمن المعروف أن النانية أوالنشغال‬
‫الدائم بالذات هو الذى يقود النسان إلى‬
‫المرض النفسي‪ ،‬وهذا ما أكده العالم‬
‫الجليل الستاذ الدكتور أحمد عكاشة ‪-‬‬
‫رئيس الجمعية العالمية للطب النفسي‪-‬‬
‫عندما قال‪:‬‬
‫" إن بداية المرض النفسي تنشأ‬
‫من التمركز حول الذات‪ ،‬وبداية‬
‫السعادة الحقيقية‪ ،‬تنشأ من خلل‬
‫البذل والعطاء "‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫والحق إن نتائج حياة خلت من الحب‪،‬‬
‫وتأسست على حب النفس‪ ،‬نجدها‬
‫واضحة فى عيادات الطباء النفسيين‪،‬‬
‫ومستشفيات المراض العصبية‪ ..‬ولهذا‬
‫أصبح الطباء يشددون‪ ،‬على أهمية تكوين‬
‫علقات صحيحة مركزها الحب ل النانية‪،‬‬
‫لننا أصبحنا نحيا فى أزمة‪ ،‬وهذه الزمة‬
‫ليست مالية كما يظن البعض‪ ،‬بل‬
‫عاطفية‪ ،‬هنا تكمن خطورتها! لن‬
‫سليمان الحكيم يقول‪ " :‬روح النسان‬
‫تحتمل مرضه أما الروح المكسورة فمن‬
‫يحملها " )أم ‪.(14 :18‬‬
‫ولكن إن كان علماء النفس‪ ،‬يشددون‬
‫على أهمية وضرورة الحب‪ ،‬كهواء نقى ل‬
‫يستطيع النسان أن يحيا إل إذا تنفس‬
‫فيه‪ ،‬إل أن السيد المسيح قد سبقهم‪ ،‬فى‬
‫طهر والشافى‬‫وصف هذا الدواء الم ّ‬
‫لمراضنا الروحية والنفسية‪ ،‬وذلك عندما‬
‫حبوا‬‫قال‪ " :‬وصية جديدة أنا أعطيكم أن ت ُ ِ‬

‫‪66‬‬
‫حبون أنتم‬ ‫بعضكم بعضًا‪ ،‬كما أحببتكم أنا ت ُ ِ‬
‫بعضكم بعضا ً " )يو ‪.(34،35 :3‬‬
‫ليس الحب سوى تعبير عن رغبة الذات‬
‫فى التسامى‪ ،‬أو الصعود نحو كل ما هو‬
‫طاهر وجليل‪ ،‬بينما النانية حركة هابطة‪،‬‬
‫يراد من ورائها السلب أو النهب أو‬
‫البتزاز‪.‬‬
‫قد نكون على صواب إن قلنا‪ :‬إن الحب‬
‫فيه قوة إلهية هابطة من السماء‪ ،‬ترسم‬
‫طريق الحياة أمام النسان‪ ،‬فتدعوه ل‬
‫إلى محبة القريب فقط بل والعداء أيضًا!‬
‫وتطلب منه أن يتخلى عن أنانيته‬
‫الجامحة‪ ،‬التى تجعل منه صخرة بشرية‪،‬‬
‫لكى يحيا مع الله والناس فى سلم!‬
‫والحق إن النسان عندما يمتلئ قلبه‬
‫من تلك العاطفة السامية‪ ،‬يكون قد حقق‬
‫أعظم احتياجاته النسانية‪ ،‬فيحيا وكأن‬
‫مسحة إلهية روحانية ارتسمت على وجهه‪،‬‬
‫وهى تشع نورا ً يضيء ظلم الحياة! ألم‬
‫يقل شاعر فرنسا فيكتور هوجو‪:‬‬
‫‪67‬‬
‫" التقيت فى الطريق بشاب فقير جدا ً‬
‫حب‪ ،‬كانت قبعته رثة‪ ،‬ومعطفه ممزقًا‪،‬‬ ‫يُ ِ‬
‫والماء يتسلل من حذائه‪ ،‬ولكن النجوم‬
‫كانت تطل من خلل روحه‪ ،‬والنور ُيشرق‬
‫من سماء وجهه " ‍!‬
‫قد نكون على صواب إن قلنا‪ :‬إن‬
‫النانية تجعل من الذات قطعة‬
‫صلبة‪ ،‬بل أشد صلبة من الحجر الجاف‪،‬‬
‫وهكذا يحيا النسان فى جفاف عاطفى‪،‬‬
‫يجعله فى حالة عجز تام‪ ،‬عن معرفة‬
‫مشاعر قريبه حامل القيم السامية‪،‬‬
‫وبالتالى فإنه يظل دائما ً غريبا ً عنه‪.‬‬
‫ولما كان من شأن النانية أن تدفع‬
‫بصاحبها‪ ،‬إلى البحث عن لذاته ومصالحه‬
‫على حساب الخرين‪ ،‬فمن الطبيعى إذن‬
‫أن يعمل النانى على استمرار نموه‪،‬‬
‫ومضاعفة لذاته‪ ،‬ولو كان ذلك على‬
‫حساب غيره من الناس ! أليست النانية‬
‫نـوع من التصلب والتحجر والنفعية‪...‬‬
‫فكيف لها أن ُتحب الخرين وتهتم بهم‪،‬‬
‫‪68‬‬
‫وهى الغارقة فى سبات العشق الذاتى‪،‬‬
‫الذى ليس لمحيطه قرار ؟!‬
‫وهكذا يحيا النانى متنقل ً من شخص‬
‫إلى آخر‪ ...‬حسبما تقتضى المصلحة‪ ،‬لن‬
‫العلقة التى تقوم على السلب والنهب أو‬
‫النفعية‪ ...‬ل يمكن لها أن تدوم‪ ،‬لنها علقة‬
‫هوائية‪ ،‬سطحية‪ ،‬سريعة التحول‪ ،‬سهلة‬
‫النقلب‪ ،‬ويبقى السؤال الحائر‪ :‬ماذا‬
‫يجنى النانى من علقاته ؟‬
‫مممم مممم مم ممم‬
‫ممم ممممم م‬
‫مممم مممم مممم ممممممم‬
‫مم‬
‫مممممم ممممم ممم مممم !‬
‫والحق إن النانى هو إنسان يحيا على‬
‫حساب نفسه‪ ،‬قبل أن يحيا على‬
‫حساب الخرين! ولهذا ل يمكن أن‬
‫يستقر‪ ،‬بل يستمر فى حالة من القلق‬
‫خوفا ً من أن ُيحرم من شئ أو يفوته شئ‪،‬‬
‫ولنه منشغل دائما ً بنفسه ول يعرف سوى‬
‫‪69‬‬

‫‪63‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ذاته‪ ،‬فهو لذلك يعانى شعورا ً حاسدا ً‬
‫يحرق أعماقه‪ ،‬إذا رأى إنسانا ً يتمتع بشئ‬
‫ل يملكه أو يتميز بصفة لم ينلها‪!.‍.‬‬
‫حقا ً إن النانى يعتقد فى صميم ذاته‬
‫حب إل‬ ‫حب‪ ،‬لكنه فى الحقيقة ل ي ُ ِ‬
‫أنه ي ُ ِ‬
‫ذاته فى الخرين‪ ،‬وها نحن نتساءل‪ :‬أى‬
‫حب هذا الذى يحطم القواقع‬
‫البشرية ليحصل على شهوة‪..‬‬
‫ة!‬
‫ومتى نالها يتركها أشلء ممزق ‍‬
‫والحق إن النانى ل يعرف معنى الحياة‬
‫ول كيفية عيشها‪ ،‬ومثل هذا إن تزوج فلن‬
‫ينجح‪ ،‬لن حبه شهوانى مرتبط بمصلحة‪،‬‬
‫وحب مثل هذا يخنق النفس‪.‬‬
‫ممم مم مممم مممم!‬
‫ألم تسمع مرة سيدة وهى تصرخ‬
‫قائلة‪ " :‬زوجى أنانى" أتعرف مغزى هذه‬
‫العبارة! إنها رسالة طويلة من كلمتين‬
‫بينهما معانى كثيرة‪ ،‬تعلن أن هوة نفسية‬

‫‪70‬‬
‫عميقة تفصل بينهما! وما سبب هذه الهوة‬
‫؟ أعتقد أنانية الزوج‪.‬‬
‫قد نكون على صواب إن قلنا‪ :‬إن‬
‫أتعس الناس وأكثرهم عذابا ً هو الشخص‬
‫النانى‪ ،‬الذاتى‪ ،‬لنه يحيا فى عزلة نفسية‪،‬‬
‫وبطريقة مرضية يراقب دوافعه ويدرس‬
‫غيره بطريقة تشريحية‪ ،‬بحثا ً عن لذة أو‬
‫ة!‬
‫منفعة ُيشبع بها نفسه الحائر ‍‬
‫إنه يحيا فى قلق دائم وتوتر مستمر‪،‬‬
‫ولهذا ل ينعم بالحياة الطبيعية التلقائية‪،‬‬
‫لنه يفكر فيها بطريقة خاطئة بدل ً من أن‬
‫يعيشها ببساطتها‪ ،‬ومن ثم فإن حياته لبد‬
‫من أن تكون حافلة بشتى مظاهر التكلف‬
‫والتصنع‪ ،‬وارتداء القنعة النفسية‬
‫المزيفة‪ ..‬إنه إنسان يعيش وهم الحياة ل‬
‫حقيقتها ! حتى وإن حصل على ما يريده‪،‬‬
‫هل يمكن لنفسه المعذبة أن تشبع ؟!‬
‫نعترف بإن العالم واسع‪ ،‬لكن رغم‬
‫اتساع العالم وكثرة خيراته‪ ،‬إل أنه ل‬

‫‪71‬‬
‫يمكن أن ُيشبع جوع النسان أو يروى‬
‫عطشه! هل فكرت لماذا ؟ لنرجع إلى‬
‫قصة الخلق ونتساءل‪ :‬لماذا خلق الله‬
‫النسان ؟ أليس لكي يحيا معه ويتلذذ‬
‫بحبه‪ ،‬نعم‪ ،‬لننا خرجنا من عند الله ولن‬
‫نجد راحتنا إل فيه‪.‬‬
‫خلق لله ولن ُيشبعه إل‬ ‫إذن فالنسان ُ‬
‫خالقه‪ ،‬ولو امتلك العالم بكل مافيه فلن‬
‫يشبع ! لن العالم محدود‪ ،‬وهكذا ما أن‬
‫يحصل على شئ فسرعان ما يبحث عن‬
‫غيره‪ ،‬لنه فى الحقيقة يبحث عن غير‬
‫المحدود وإن كان ل يدركه! وكأن النسان‬
‫قد اختار لنفسه‪ ،‬أن يعيش أسيرا ً فى‬
‫حكم عليه فيها بالجوع‬‫حلقة مفرغة‪ُ ،‬‬
‫والعطش إلى البد!‬
‫فى حين أن الرجل البسيط‪ ،‬كثيرا ً ما‬
‫ينجح فى تكوين علقات طيبة‪ ،‬هادئة‪ ..‬مع‬
‫غيره‪ ،‬لنه يتعامل بصفاء طبيعى‪ ،‬ويتذوق‬
‫حياة التعاطف والصداقة على نحو تلقائى‪،‬‬
‫بينما يبقى الشخص الذاتى عاجزا ً عن‬
‫‪72‬‬
‫تحقيق أى تواصل حقيقى بينه وبين غيره‪،‬‬
‫وذلك لنه ل يكف بحثا ً عن شهواته‪ ،‬دون‬
‫أن يعمل حسابا ً للمحبة أو يقيم وزنا ً‬
‫ة! حتى داخل أسرته‪ ،‬ومع جيرانه‪،‬‬ ‫للصداق ‍‬
‫وبين أصحابه‪ ..‬ليقيم أى وزن للمشاعر‬
‫النسانية‪ !...‬نستطيع أن نقول‪:‬‬
‫مم ممممممممم مممممم مممممممم‬
‫مم مممممم ممم مممممم !!‬
‫نعترف بأن النانية مرض خبيث‪ ،‬من‬
‫أشر المراض النفسية‪ ،‬إذا أصاب النفس‬
‫البشرية أذلها واستعبدها‪ ..‬ولكن ماذا‬
‫نقول بعد أن تفشى هذا المرض اللعين‬
‫بين البشر‪ ،‬أليست الغالبية تحيا فى قانون‬
‫دائم ل يتغير أل وهو‪ :‬الهتمام ثم‬
‫الهتمـام بأنفسهم‪ ،‬والتركيز ثم‬
‫التركيز على ذواتهم‪.‬‬
‫إنها لدوامة فاسدة تلك التى‬
‫تلفنا‪ ،‬ول سبيل للخروج من هذه الدائرة‬
‫المظلمة‪ ،‬التى حبستنا فيها أنانيتنا‪ ،‬سوى‬
‫‪73‬‬
‫التوقف عن سلب الخرين والبدء فى‬
‫عطائهم‪ ،‬ألم يفضل إلهنا العطاء عن الخذ‬
‫" مغبوط هو العطاء أكثر من الخذ " )أع‬
‫‪.(35:20‬‬
‫ألم تسألوا أنفسكم مرة لماذا عندما‬
‫ُيعطى النسان يرتاح ؟! إل أن هذا ليس‬
‫بالمر السهل كما يظن البعض‪ ،‬لن‬
‫تحول نقطة الرتكاز من النا نحو‬
‫الخر‪ ،‬أمر بالغ الصعوبة‪ ،‬إذ كيف‬
‫نضع الخرين فى المقدمة‪ ،‬حيث‬
‫تعودنا أن نكون دائما ً ؟!‬
‫إن قلت كالمعمدان " ينبغى أن ذلك‬
‫يزيد وأنى أنا أنقص" )يو ‪ (30 :3‬ونظرت‬
‫نظرة سامية للبشر كأخوة للسيد‬
‫المسيح‪ ،‬يجب عليك أن تعطى ولو قليل ً‬
‫من مالك أو وقتك‪ ..‬من أجل نموهم‬
‫وراحتهم وسعادتهم‪ ،‬تكون بالفعل قد‬
‫بدأت حياة الحب الذى هو سر سعادة‬
‫النسان‪ ،‬وأرفع ما يمكن أن يصل إليه فى‬
‫هذه الحياة‪.‬‬
‫‪74‬‬

‫‪83‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولكن إن كان الحب مصدر راحة‬
‫د عظيم للذات لكى‬ ‫للنسان‪ ،‬إل أنه تح ٍٍٍ‬
‫تخرج من قوقعتها‪ ،‬وتنتقل إلى الخر‬
‫لترعاه وتعضده من أجل نموه وراحته‪،‬‬
‫ومن المعروف أن تحدى الذات‪ ،‬أصعب‬
‫تحدى يواجه النسان فى الحياة‪ ،‬إل أنه‬
‫الدليل على أن النسان‪ ،‬قد بدأ يسير فى‬
‫طريق الحب الحقيقى ‍!‬
‫لكننا نعترف بأن الحب ليس بالمر‬
‫السهل كما يتخيل البعض‪ ،‬بل يبدو فى‬
‫بعض الوقات مستحيل ً ومكلفا ً جدًا‪،‬‬
‫فمشاكلنا الداخلية التى تؤلمنا والسياجات‬
‫التى نضعها حولنا‪ ،‬وآثار الجروح التى‬
‫ورثناها ولم تبرأ‪ ،‬والصراعات المريرة‬
‫التى نعانيها بسبب حقد البشر‪ ..‬عوامل‬
‫من شأنها أن تزيد من صعوبة التضحية‪،‬‬
‫التى يفرضها علينا الحب‪ ،‬ولكن خارج هذه‬
‫التضحية ل يوجد حب ‍! ألم نقل إن‬
‫حياة الحب شاقة! ولكنها ليست‬

‫‪75‬‬
‫عقيمة‪ ،‬لنها الطريق الوحيد‬
‫الحقيقى إلى السعادة الحقيقة !‬

‫‪76‬‬
‫الفصل السادس‬
‫الشر وانقسام الذات‬
‫" ويحى أنا النسان الشقى من ينقذنى‬
‫من جسد هذا الموت " )رو ‪ (24:7‬هكذا‬
‫صرخ القديس بولس الرسول حينما أدرك‬
‫طبيعة الذات المنقسمة‪ ،‬فالنسان‬
‫كائن متناقض! يمزقه الصراع القائم بين‬
‫الروح والجسد‪ ..‬إنهما أشبه بزوجين كل‬
‫منهما يريد أن يجعل الخر يخضع له‪،‬‬
‫ويسيرعلى هواه‪ ،‬فهما ل يستطيعان أن‬
‫يعيشا سويا ً فى إنسجام‪ ،‬ومع هذا ل‬
‫يملكان النفصال !‬
‫أليس من الواضح أننا نحيا فى تناقض‬
‫وجدانى حاد‪ ،‬مادمنا عاجزين عن‬
‫الستغناء عما نكرهه ‍!! ولكن سواء أردنا‬
‫أو لم نرد‪ ،‬فإن وجودنا فى صميمه ما هو‬
‫إل توترا ً‪ ،‬بين حياتنا على الرض والحياة‬
‫البدية‪ ،‬الوحدة الفردية والتعددية‬
‫‪77‬‬
‫الجماعية‪ ،‬الجسد بكل ما يحمل من‬
‫سلبيات‪ ،‬والروح بكل ما تحمل من‬
‫إيجابيات! ويسعى النسان جاهدا ً لفك‬
‫النزاع بين ميوله المتعارضة ولكنه سرعان‬
‫ما يشعر بأن الثنائية ضريبة باهظة‪ ،‬قد‬
‫خلق من نور‬ ‫ُفرضت عليه بوصفه كائن‪ُ ،‬‬
‫وطين‪ ،‬وقد نتمرد على قيودنا وننزع إلى‬
‫تخطى حدودنا‪ ،‬ولكن هيهات للنسان‬
‫المثقل بقيود الجسد أن يحلق طويل ً فى‬
‫السماء‪‍ ،‬فالجاذبية الرضية باستمرار‬
‫تجذبه! ربما يستطيع أن يسمو بفكره‬
‫فوق الطبيعة‪ ،‬ويسبح بخياله فوق‬
‫الموجودات‪ ،‬ولكن هذا ل يدوم سوى‬
‫لحظات!‬
‫ونحن ل ننكر أن الجهاد الروحى‪ ،‬يسمو‬
‫بالنسان ويقوى ما به من ضعفات‪ ،‬إل أن‬
‫إمكانات النسان ل تسمح له أن يصل‬
‫يوما ً إلى الطهارة الكاملة‪ ،‬لنه فى أعماقه‬
‫يحمل بذورالنقسام‪ ..‬وهكذا يجد‬
‫باستمرار ما يدفعه إلى الستهانة‬
‫‪78‬‬

‫‪04‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫بالفضائل الروحية أوالخروج عن القواعد‬
‫الخلقية !‬
‫ألم يقل معلمنا بولس الرسول‪" :‬‬
‫ى أى فى‬ ‫فإنى أعلم أنه ليس ساكن ف ّ‬
‫جسدى شئ صالح لن الرادة حاضرة‬
‫عندى وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد‪،‬‬
‫فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل‬
‫فلسـت بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة‬
‫ى " )رو ‪ !(25-18 :7‬أليس فى هذا‬ ‫ف ّ‬
‫إشارة واضحة عن حالة النقسام‬
‫أو التمزق‪ ،‬الذى أصاب الطبيعة‬
‫البشرية بعد السقوط !‬
‫والحق إن شقاء النسان‪ ،‬ل ينحصر فى‬
‫شعوره بالنقص أو المرض أو الحرمان‬
‫فقط‪ ...‬بل يرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بشعورنا‬
‫الخلقى فما أن تتسرب خطية واحدة إلى‬
‫داخل القلب‪ ،‬فسرعان ما يبدأ النقسام‪..‬‬
‫فيبدأ الفكر يجول بغير ضابط هنا وهناك‪،‬‬
‫والجسد هو الخر ليجد راحته فى أى‬
‫مكان‪..‬‬
‫‪79‬‬
‫إن قلنا إن الفضيلة هى التى تجمع‬
‫شمل الذات‪ ،‬فإن الشر هو الذى‬
‫يمزقها‪ ،‬لنه يبعدنا عن القيم الروحية‬
‫والمبادئ الخلقية‪ ،‬التى من شأنها أن‬
‫تحقق تكامل الشخصية‪ ..‬وعندما يقول‬
‫فلسفة الخلق‪ :‬إن الشر يمثل نوعا ً‬
‫من الخيانة‪ ،‬فإنهم يعنون بذلك‪ :‬إن‬
‫الشر فى جوهره إنكار للقيم وهذا فى حد‬
‫ذاته خيانة!‬
‫نعترف بأن الشر هو أكبر حاجز‪ ،‬يقف‬
‫حائل ً بين النسان والله‪ ،‬وها نحن نتساءل‪:‬‬
‫هل يمكن للنسان أن يحيا وهو بعيدا ً عن‬
‫خالقه ؟! إن كانت هذه هى الحياة فما‬
‫عسى أن يكون الموت ؟!‬
‫وليس من شأن الشر أن ُيحدث‬
‫إنقساما ً داخل الذات الواحدة فقط‪ ،‬بل‬
‫من شأنه أيضا ً أن ُيحدث إنقساما ً بين‬
‫البشر‪ ،‬وهذا النقسام يجعل العلقات‬
‫بين البشر تتحول إلى صراعات حادة‪،‬‬
‫فيوجه كل إنسان إلى رفيقه سهام‬
‫‪80‬‬
‫مسمومة وطعنات دامية! كما أن نيران‬
‫الغيرة والحسد‪ ..‬تكون فى اشتعال على‬
‫الدوام! دعنا نتساءل‪ :‬ما سر الدعاوى‬
‫المتراكمة فى المحاكم؟ ما سبب التفكك‬
‫خلقى؟ ألسنا حقا ً‬ ‫لسرى والنحلل ال ُ‬ ‫ا ُ‬
‫نحيا فى أزمة! وما هو سبب الزمة ؟!‬
‫طلب منى أن أرسم صورة تمثل‬ ‫لو ُ‬
‫الشرار‪ ،‬لرسمت إثنين ووضعت بينهم‬
‫سيفًا‪ ،‬فالسيف يرمز إلى اللم كما أنه‬
‫يرمز إلى الفصل أو القطع‪ ،‬فهما يظهران‬
‫أمام الناس كأنهما واحدا ً فى الفكر‬
‫والمشاعر ولكنهما فى الحقيقة إثنان ولن‬
‫يكونا واحدًا‪ ،‬فنحن بإزاء شخصيتين‬
‫معذبتين قد ابتليتا بنكبة الشر المميتة‬
‫م‪،‬‬
‫الذى ل يوجه النسان نحو موضوع سا ٍ‬
‫وإنما يقتاده من حيث ل يدرى نحو‬
‫الهلك‪.‬‬
‫نعترف بأن النسان بعد السقوط‪ ،‬قد‬
‫صار جهازا ً مفككا ً اختلت موجاته‪،‬‬
‫وأصبح الضطراب يدب فيه لتفه‬
‫‪81‬‬

‫‪24‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫السباب‪ ،‬يسعى للخير ولكنه يجد قدميه‬
‫تتجه نحو الشر دون أن يرغب! وإذا حقق‬
‫رغباته فسرعان ما يمله‍ا! فهل لنا أن‬
‫نقول‪ :‬إن الملل إحدى سمات‬
‫الذات ! ويسعى النسان جاهدا ً للقضاء‬
‫على الملل‪ ،‬ولكنه سرعان ما يكتشف أن‬
‫الصراع ضد الملل هو صراع ضد ذاته‬
‫المنقسمة‪ ،‬وهل ننكر أن الملل كثيرا ً ما‬
‫يأتى كالضيف الثقيل بل سبب!‬
‫والحق إن الذات لبد وأن يكون لها‬
‫هدف‪ ،‬وقد كان هدفها قبل السقوط هو‬
‫الله‪ ،‬ولكنها فقدت هذا الهدف! فماذا‬
‫تفعل ؟ تبحث عن هدف آخر يشغل‬
‫فراغها ويعطيها استقرارا ً‪ ،‬النسان‬
‫السوى يرجـع إلى الله‪ ،‬أما الغير سوى‬
‫فيخلق لنفسه آلهة‪ ،‬إباحية‪ ،‬مشوهة‪،‬‬
‫فاسدة‪ ،‬مخلوقة من أعماق كيان محطم‪،‬‬
‫" ساروا وراء الباطل وصاروا باطل ً " )إر‬
‫‪!‍(25 :12‬‬

‫‪82‬‬
‫مممم ممممم مممم ممممم ممممم !‬

‫‪83‬‬
‫الفصل السابع‬
‫عندما تتـألم الـذات ‍‬
‫يقول سليمان الحكيم‪ " :‬للبكاء وقت‬
‫وللضحك وقت " )جامعة ‪ ،(3:3‬إذن‬
‫ُيخطئ المتفائلون حينما يتناسون ما فى‬
‫الحياة من حزن أو دموع أو تعب‪...‬‬
‫وقد يسعى النسان جاهدا ً ليقضى على‬
‫اللم ولكنه سرعان ما يتحقق‪ ،‬من أن‬
‫الضيف الثقيل الذى حاول طرده من‬
‫الباب‪ ،‬قد عاد إليه بأكثر ثقل من الشباك!‬
‫نعترف بأن النسان غير كامل‪ ،‬ويحيا‬
‫فى عالم يسوده التناقض‪ ،‬إذن إلى البد‬
‫ستظل الحياة مسرحا ً لهذا التعارض الليم‬
‫بين‪ :‬الخير والشر‪ ،‬النجاح والفشل‪،‬‬
‫الصواب والخطأ‪..‬‬
‫أما إذا حاول البشر أن يسيروا على‬
‫وتيرة واحدة أو نظام ثابت‪ ،‬لموضع فيه‬

‫‪84‬‬
‫للتناقض أو الثنائية‪ ،‬لو حدث هذا لتحولت‬
‫سيمفونية الحياة إلى نشاز مكروه‪،‬‬
‫وهل يمكن للسيمفونية أن تتألف من‬
‫نغمة واحدة‪ ،‬وهى التى تعتمد فى إتساقها‬
‫على تنوع النغمات! إذن لبد للذات من‬
‫أن تتألم‪ ،‬سواء من ذاتها أو من الخرين‪،‬‬
‫فالنسان يولد ويموت بمفرده‪ ،‬ولكنه عبر‬
‫رحلة الحياة ل يحيا إل مع الخرين‪ ،‬لنه ل‬
‫يستطيع أن يكفى ذاته بذاته! وهو عندما‬
‫يحتك بغيره يتحدد سلوكه‪ ،‬وتتكشف‬
‫نفسه‪ ،‬وتتحقق رغباته‪ ،‬ويتقبل اللم وذلك‬
‫عندما تصطدم ذاته بذوات الخرين‬
‫ويبقى السؤال‪:‬‬
‫مممم مممم ممممم ممممم ممممم‬
‫م‬
‫أعتقد أنها تنسحب من المجتمع ولو‬
‫قليل ً‪ ،‬وذلك لكى تحيا فى عزلة مؤقتة‪،‬‬
‫وهذا هو الفرق بين اللذة واللم !‬

‫‪85‬‬

‫‪44‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫فالنسان غالبا ً ما يقابل اللذة بـ " نعم"‬
‫واللم بـ " ل "‪.‬‬
‫وهو حينما يستشعر اللذة يستسلم لهذا‬
‫الشعور‪ ،‬حتى إنه يكاد أن ينسى نفسه‪،‬‬
‫وتسود علقاته المحبة وهكذا يخرج من‬
‫قوقعة الذات الصلبة‪ ،‬لكى يشارك‬
‫الخرين أفراحهم وأحزانهم‪ ...‬فى حين أنه‬
‫عندما يتألم‪ ،‬فسرعان ما ينطوى على‬
‫ذاته‪ ،‬ويفقد شهيته للكلم‪ ،‬وتقل قابليته‬
‫للتعامل مع الناس‪ ،‬ومن هنا ذهب البعض‬
‫إلى القول‪ :‬بأن اللم وحده هو الذى يتيح‬
‫لنا الفرصة‪ ،‬لن نعانى تجربة الوحدة !!‬
‫والحق إن من سمات الرجل النفسية‪،‬‬
‫النسحاب إلى كهف ذهنه‪ ،‬عندما‬
‫تقسو عليه الحياة بتجاربها‪ ،‬ففى هذا‬
‫الكهف الصغير‪ ،‬يركز كل اهتمامه عسى‬
‫ل‪ ،‬ويتجه بكل أفكاره نحو‬ ‫أن يجد ح ً‬
‫النيران التى تشتعل فى أعماقه‪ ،‬وهكذا‬
‫نرى أن اللم وإن كان يكوى النسان‪ ،‬إل‬
‫أنه ُيعطيه الفرصة‪ ،‬ليجلس مع ذاته‬
‫‪86‬‬
‫ويحاسبها‪ ،‬فهل لنا أن نقول‪ :‬إن اللم‬
‫أداة تطهير‪.‬‬
‫ُترى ماذا يفعل الله عندما يريد أن‬
‫يوثق علقته بإنسان ؟ يستدعى الهم‪ ،‬أو‬
‫بلغة الرهبان " الضجر" ليلحقه‪ ،‬كالظل‬
‫ل يفارقه! وهكذا ينمو النسان روحيا ً‬
‫ة! وليس بغريب أن‬ ‫وتنتعش حياته الباطني ‍‬
‫يشعر النسان بالوحدة‪ ،‬وأنه منفصل عن‬
‫الكون فى الوقت الذى يكون فيه حيا ً‬
‫وسط الخرين‪ ،‬والسبب‪ :‬هو اللم الذى‬
‫من شأنه أن يرد الذات إلى نفسها‪،‬‬
‫وأن يدفع بها إلى مراقبة نفسها!‬
‫ل ننكر أن النسان‪ ،‬كل إنسان‪ ،‬يتمنى‬
‫أن تربطه بالناس علقات حميمة‪ ،‬يسودها‬
‫الود والمحبة والفرح والسلم‪ ،‬ولكنه على‬
‫غيرالمتوقع يتلقى ضربات عنيفة فما هى‬
‫إل طرفة عين حتى تراه انسحب من‬
‫العالم‪ ،‬إلى كهفه لن من شأن اللم أن‬
‫ُيشعر النسان بحدوده ويحصره داخل هذا‬
‫الحدود ! ومن الملحظ أيضا ً إن النسان‬
‫‪87‬‬
‫عندما يتألم‪ ،‬ل يرى من الحياة سـوى‬
‫آلمه وكيفية علجها‪ ،‬والتخفيف من‬
‫حدتها‪..‬‬
‫ِ‬
‫كما يشعر بأن ألمه فريد فى نوعه‪،‬‬
‫وكثير ما يردد المتألم عبارات مشهورة‬
‫مثل‪ُ :‬أتركونى وحدى‪ ،‬دعونى وشأنى‪..‬‬
‫وهى بمثابة صرخات تنبعث من نفس‬
‫حزينة وحيدة‪ ،‬تشعر بأنها فى جانب‬
‫والعالم كله فى جانب آخر!‬
‫وليس النسان وحده هو الذى ينزع إلى‬
‫الوحدة عندما يتألم‪ ،‬فالحيوان هو أيضا‬
‫يقترب من كل شئ‪ ،‬يجلب له اللذة ويبتعد‬
‫عن كل ما يسبب له اللم! ولكن العزلة‬
‫بالنسبة للنسان تقوده إلى حياة باطنية‬
‫خصبة‪ ،‬إذ تجعله ُيعيد حساباته من جديد‪،‬‬
‫وُيقّيم سلوكياته‪ ،‬ويعرف أصدقائه من‬
‫أعدائه‪ ،‬والذين يحبونه من الذين‬
‫يكرهونه‪..‬‬
‫إذن لول اللم ما غاص النسان فى‬
‫أعماقه‪ ،‬ولمس قاع بؤسه‪ ،‬وفتح باستمرار‬
‫‪88‬‬
‫حساب جديد فى سجل الحياة ! والواقع‬
‫أن النسان عندما يكون وسط الجماعة‪،‬‬
‫فإنه يتوهم أنه هو كل شئ والعالم ل‬
‫يسير من غيره ‍! بينما فى أوقات كثيرة‬
‫يكون قد اكتفى بالستسلم للمجتمع‪،‬‬
‫فحمله تيار الحياة الجماعية فوق أمواجه‬
‫الصاخبة العاتية‪.‬‬
‫أما فى لحظات الوحدة‪ ،‬فإن مجرد‬
‫التحرر من عادات المجتمع ونداءاته‪..‬‬
‫سرعان ما يجعل النسان يرتد إلى ذاته‪،‬‬
‫ليرى مواهبه ويتعرف على قدراته‪ ،‬ويحل‬
‫مشاكله ويسعى لتحقيق آماله‪ ..‬فهل لنا‬
‫أن نقول‪ :‬إن قيمة كل فرد إنما ُتقاس‬
‫بمدى قدرته على الختلء بنفسه‪ ،‬ولهذا‬
‫يقول أحد الفلسفة‪ :‬إن قوتنا‬
‫وسعادتنا وثروتنا تنبعث جميعا ً من‬
‫الوحدة !‬
‫ولكننا نعترف بأن هناك حالت‬
‫مرضية‪ ،‬تدفع بالنسان إلى كهفه‪ ،‬ل‬
‫مى ذاته بل ليزيدها قفرا ً وقلقا ً‬‫لين ّ‬
‫‪89‬‬

‫‪64‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وشكوكًا‪ ..‬مثل هذا ل يتأثر بأحد‪ ،‬ول يرى‬
‫حب سوى نفسه‬ ‫منظر غير منظره‪ ،‬ول ي ُ ِ‬
‫ويناجيها بطريقة خاطئة‪ ،‬وإذا نزل إلى‬
‫أعماقه السحيقة‪ ،‬يعانق موضوعا ً ل سبيل‬
‫له إلى امتلكـه‪ ،‬ويعشـق شبحا ً هيهات أن‬
‫يقبـض عليه بيده ‍!‬
‫ولعل هذا هو السبب‪ ،‬الذى جعل‬
‫كثيرون يعتزون بآلمهم‪ ،‬لنهم يشعرون‬
‫فى قرارة نفوسهم‪ ،‬بأن اللم التى عانوها‬
‫ونت شخصيتهم‪،‬‬ ‫هى التى أثقلتهم وك ّ‬
‫ً‬
‫وأعطتهم خبرات ما كان ممكنا أن‬
‫يتعلموها إل فى مدرسة اللم ‍! فهل لنا‬
‫أن نقول‪ :‬إن اللم ثروة باطنية‍! نعم‪،‬‬
‫ويستطيع كل إنسان أن يدخرها‬
‫للمستقبل‪ ،‬ويتسلح بها ضد هجمات الحياة‬
‫!‬
‫إن اللم مثل اللذة أداة فعالة من‬
‫أدوات المحافظة على بقاء‬
‫النسان! صحيح أن اللم من طبيعته أن‬
‫يكون جارحًا‪ ،‬ولكن الجراح التى يسببها‬
‫‪90‬‬
‫هى فى حد ذاتها علمات على طريق‬
‫الشفا‍ء! ُترى ماذا يحدث لو لم يتألم طفل‬
‫عندما يضع يده فى النار؟ هل يمكن أن‬
‫نعيش لو لم نشعر بألم الجوع ؟‬
‫إذن فاللم أداة تطهير ُتطيل‬
‫عمرالنسان نسبيًا‪ ،‬وعصا تأديب تجعله‬
‫يعرف إمكاناته ول يتعدى حدوده وربما‬
‫يكون أصعب مرض‪ُ ،‬تصاب به النفس‬
‫المؤمنة هو أن تصبح غير قادرة على‬
‫احتمال اللم! وهكذا يبقى اللم بمثابة‬
‫الجاذبية‪ ،‬التى تجذب الطائر البشرى إلى‬
‫حظيرته الرضية لئل يتكبر!!‬
‫والحق إن اللم يسير جنبا ً إلى جنب مع‬
‫التقدم والرقى‪ ،‬فما من شئ عظيم تحقق‬
‫فى هذه الحياة بدون ألم‪ ،‬وقد نكون على‬
‫صواب إن قلنا‪ :‬إن البشرية ل تصل إلى‬
‫الرقى‪ ،‬إل إذا اجتازت أقسى التجارب‬
‫وأشد المحن ! وهل ننكر أن مجد قيامة‬
‫المسيح انبثق من ظلمة القبر! ومن‬
‫الملحظ أن اللم ل يسمو بالذات‪ ،‬بل‬
‫‪91‬‬

‫‪84‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫ويزيد من إحساس النسان بالسعادة‬
‫أيضًا‪ ،‬لن المواقف المؤلمة ُتكسب‬
‫النسان إرهافا ً وحسًا‪ ،‬يجعلن النسان‬
‫كائنا ً حساسا ً‪ ،‬يتمتع بقدرة أعظم على‬
‫تذوق السعادة ! فالذات التى انصهرت‬
‫فى بوتقة اللم ل تعود تجزع لتفه‬
‫السباب‪ ،‬أو تقلق لصغر الحداث‪...‬‬

‫‪92‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫حيل الـذات الدفاعية‬
‫فى مواقف كثيرة‪ ،‬يعجز النسان عن‬
‫حل مشاكله فى صراحة واقتدار‪ ،‬فماذا‬
‫يفعل ليتجنب القلق ويحفظ للذات‬
‫كرامتها ؟ يرتدى القنعة ويبنى‬
‫السياجات‪ ،‬لتكون بمثابة وسائل دفاع‬
‫يخفى بها حقيقة مؤلمة‪ ،‬أو يغطى أمرا ً ما‬
‫يحسبه نقصا ً أو ضعفا ً فيه! ولكن كما قال‬
‫أحد الفلسـفة‪ " :‬حذار أن تبنى حائطا ً من‬
‫حولك قبل أن تعرف ما ستبقيه داخل‬
‫الحائط وما ستطرحه إلى الخارج " ‪.‬‬
‫نعترف بأن كل المناورات التى نلجأ‬
‫إليها لكى نخفى بها ذواتنا هى أشبه‬
‫بالدرع الواقى‪ ،‬ويبقى السؤال‪ :‬لماذا‬
‫ممت‬ ‫ص ّ‬‫الدروع النفسية ؟ أعتقد أنها ُ‬
‫لكى تحمينا من الجراح البشرية‪،‬‬
‫وتساعد الذات على إحراز بعض‬
‫‪93‬‬
‫النتصارات‪ ،‬إل ّ أنها صغيرة ومؤقتة‪،‬‬
‫وتقف حجر عثرة فى طريق نمونا‬
‫النفسى‪ ،‬وتجعلنا ل نعرف ذواتنا على‬
‫حقيقتها‪ ،‬وتعوق علقتنا بالخرين‪ ..‬إذن‬
‫فالنتصار سرعان ما يتحول إلى هزيمة‪،‬‬
‫وذلك عندما ُينزع القناع المزيف الذى‬
‫نرتديه من على وجوهنا‪ ،‬ويتأكد الجميع أن‬
‫هذا الوجه القبيح هو وجهنا!‬
‫قد تبدو الحياة وراء القنعة أقل خطرًا‪،‬‬
‫ولكنها تبقى فى نفس الوقت مليئة‬
‫بالوحدة واللم‪ ،‬وهل ننكر أن القنعة‬
‫تقطعنا عن كل ما هو صـادق وحقيقى فى‬
‫العالم من حولنا! ويبقى السؤال‪ :‬كيف‬
‫ننمو ونحن بعيدين عن ذواتنا‬
‫ونكذب على أنفسنا بأنفسنا؟! إنها‬
‫أشبه بحالة ممثل يمثل دورا ً على خشبة‬
‫المسرح‪ ،‬فما أن ُيسدل الستار‪ ،‬حتى يجد‬
‫نفسه كما كان قبل أن ُيرفع الستار!‬
‫ويسعى النسان جاهدا ً لينزع القنعة‬
‫من على وجوه البشر‪ ،‬ولكنه ل يدرى أن‬
‫‪94‬‬
‫هؤلء الضعفاء ارتدوا القنعة لحماية‬
‫أنفسهم‪ ،‬ولهذا فإن القنعة ستظل طالما‬
‫النسان فى حاجة إليها‪ ،‬فالقناع أشبه‬
‫بحائط يواجه حائطا ً آخر‪ ،‬وإن كنا‬
‫نكره قناع الدجال ونرفض قناع المتكبر‪..‬‬
‫إل ّ أننا يجب أن نعرف أن فى الجذور‬
‫الخفية لهذه القنعة‪ ،‬صرخات ألم تقلق‬
‫صاحبها‪.‬‬
‫والن نستعرض بعض الحيل‬
‫الدفاعية‪:‬‬
‫مممممممم‬
‫قد يشعر طفل بميول عدوانية تجاه‬
‫أسرته أو أقاربه‪ !..‬ولكن قدراته ل تسمح‬
‫له بالتعبير عن هذه الميول فماذا يفعل ؟‬
‫يحطم كل ما يقع فى متناول يده‪ ،‬وهو‬
‫بذلك يستبدل هدف العدائية‬
‫الحقيقى وهو معاقبة أهله‪ ،‬بهدف‬
‫آخر وهو تحطيم الشياء ! وهكذا‬
‫الزوج الذى يغضب من زوجته فيتحول‬
‫‪95‬‬
‫غضبه إلى ضرب أولده‪ ،‬أو معاقبة‬
‫مرؤوسيه‪ ،‬أو المشاجرة مع الجيران ‪..‬‬
‫إن البدال فى أبسط معانيه‪ :‬هو‬
‫محاولة نفسية‪ ،‬يسعى النسان من خللها‪،‬‬
‫إلى تغطية واقع غير مريح فى‬
‫حياته‪ ،‬ولنه ل يستطيع القرار به‪ ،‬فهو‬
‫لذلك يكبته ويشدد على شئ آخر غير‬
‫مربك له‪..‬‬
‫يقر بالخوف من أمر تافه أو بسيط ‪،‬‬
‫لكى يغطى خوفا ً أكبر ليمكنه القرار به!‬
‫فقد يتفوق إنسان فى دراسته فى الوقت‬
‫الذى أتعثر فيه بسبب كسلى‪ ،‬الوضع‬
‫السوى العمل بالية الذهبية " جدوا‬
‫للمواهب الحسنى " )‪1‬كو‪،(31 : 12‬‬
‫لكنى تركت سلبياتى‪ ،‬وأخذت ُأنمى‬
‫الحسد أو الغيرة فى قلبى‪ ،‬ولنى ل‬
‫أستطيع القرار بهذا الشعور السلبى‪ ،‬لهذا‬
‫دعى أن صوت المتفوق يزعجنى‬ ‫السبب أ ّ‬
‫وُأركز على ذلك‪ ،‬والحقيقة المـرة هى‪:‬‬

‫‪96‬‬

‫‪05‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫إننى ل أريد أن أراك‪ ،‬لن وجودك يعلن‬
‫فشلى‪ ،‬وُيظهر ضعفى‪ ،‬ولهذا أسعى‬
‫جاهدا ً لكى ُأبعـدك عنى‪ ،‬مختلقا ً حجة‬
‫بعيدة كل البعد عن الحقيقة !‬
‫هناك خرافة طريفة تقول‪ :‬إن ثعلبا ً‬
‫عجز عن الوصول إلى العنب فرماه بأنه‬
‫عنب حامض! فالثعلب هنا ل يرضيه أن‬
‫يعترف بعجزه‪ ،‬عن الوصول إلى العنب‪،‬‬
‫فيخدع نفسه بأنه حامض ل ينبغى أن‬
‫يتعب فى سبيل الحصول عليه‪ ،‬وهو بذلك‬
‫يستبقى ثقته بنفسه واحترامه لذاته!‬
‫ممممممم‬
‫هناك قصة رهبانية تحكى عن ثلثة‬
‫رهبان خرجوا عند الغروب معًا‪ ،‬وبينما هم‬
‫يتحدثون إذا براهب خارجا ً من الدير‬
‫وحده‪ ،‬فاتهمه الول بأنه ذاهب إلى‬
‫ل! والثانى قال‪ :‬إنه‬ ‫المدينة ليجمع ما ً‬
‫ذاهب ليسقط فى الزنى! أما الثالث‬
‫ل‪ :‬طوباك يا أخى لنك خرجت‬ ‫فامتدحه قائ ً‬
‫‪97‬‬
‫فى هذه الساعة لتناجى الله وتتأمل‬
‫غروب الحياة الفانية‪ ..‬فالول كان محبا ً‬
‫للمال‪ ،‬والثانى معذبا ً من شهوته‪ ،‬أما‬
‫الثالث فكان نقى القلب ولهذا امتدحه !‬
‫هذا هو السقاط فى أبسط معانيه‪:‬‬
‫ضعفات داخل النسان ل يريد أن‬
‫يعترف بها فهو يخفيها‪ ،‬ولنها‬
‫تقلقه فهو يسقطها على غيره‪.‬‬
‫ومن أمثلة الحيل السقاطية‪ :‬اللص‬
‫الذى يتهم الجميع بالسرقة‪ ،‬ولو سألته هل‬
‫ط جوابا ً !‬‫والدك يسرق لرتبك ولم يُع ِ‬
‫والشخص الذى يكره الخرين يشكو من‬
‫عدم محبة الناس له ! وقد تسمع إنسانا ً‬
‫ينتقد البخل بشدة ويشكو من انتشاره بين‬
‫الناس‪ ،‬ولو تأملت سلوكه فى التعاملت‪،‬‬
‫لوجدت أنه يعانى من هذا المرض‬
‫الخبيث!‬
‫والحق إن السقاط وباء نفسى‪ ،‬وما‬
‫أكثر نتائجه الجتماعية السيئة‪ ،‬فالسقاط‬
‫يجعلنا نتهم الخرين بما فينا من نقائص‬
‫‪98‬‬
‫وعيوب‪ ،‬ونحن بهذا نشوه سمعتهم‬
‫وندمر بيوتهم‪ ..‬أتعرفون ما هو الموت‬
‫الدبى!‬
‫كما أن السقاط يجعلنا نعاقب غيرنا‬
‫بشدة على أتفه السباب! فالمدرس‬
‫الكسول ل يغفر لتلميذه كسلهم‪،‬‬
‫والقاضى الذى يحمل فى أعماقه ميول‬
‫إجرامية‪ ،‬يسرف فى قسوته على‬
‫المجرمين‪ ،‬والمغرور أو النانى أو‬
‫الغيور‪ ...‬يستنكر هذه الصفات فى‬
‫الخرين‪ ،‬لنها لصقة به وهو ل يريد أن‬
‫يعترف بها لنفسه!‬
‫مممممم‬
‫ويعد التقمص من أبرز الحيل الدفاعية‬
‫التى تلجأ إليها الذات‪ ،‬عندما تريد أن‬
‫حدة التوتر النفسى وإشباع جوانب‬ ‫تخفف ِ‬
‫النقص فيها‪ ،‬وذلك بإندماج الفرد فى‬
‫شخص آخر يكون قد نجح فى تحقيق‬
‫الهداف التى فشل هو فى تحقيقها‪..‬‬
‫‪99‬‬

‫‪25‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫إذن فى التقمص يتخد الفرد لنفسه بعض‬
‫الصفات الحسنة الموجودة فى غيره‪ ،‬وهو‬
‫بذلك يكون عكس السقاط‪ ،‬الذى فيه‬
‫ينسب الشخص صفاته القبيحة إلى غيره‪.‬‬
‫والقرب إلى التقمص هو التقليد‪،‬‬
‫الذى يتخذ من سلوك الخرين نموذجا ً‬
‫ُيحتذى به‪ ،‬وغالبا ً ما يكون الحب أقوى‬
‫الدوافع التى تؤدى إلى التقمص‪ ،‬فأنت ل‬
‫حبه !‬
‫تتقمص إل شخصية من ت ُ ِ‬
‫ً‬
‫وقد يكون التقمص مفيدا حينما يؤدى‬
‫إلى نمو الفرد وتكامل شخصيته‪ ،‬ولكنه‬
‫فى بعض الحالت يكون ضارا ً‪ ،‬وقد‬
‫يتسبب فى هلك النسان وضياعه‪،‬‬
‫وذلك عندما يترتب عليه توقف نمو‬
‫الشخصية‪ ،‬كالطفل الذى مات أبوه‪،‬‬
‫فاهتمت أمه بتربيته فأحبها وارتبط بها‪،‬‬
‫وتقمص شخصيتها‪ ،‬فكانت النتيجة‬
‫المفزعة‪ :‬إنه اكتسب صفاتها‬
‫النثوية !‬

‫‪100‬‬
‫والتقمص ل يقتصر علــى النــدماج فــى‬
‫شخصـــــــيات البطـــــــال والزعمـــــــاء‬
‫والمشــهورين‪ ..‬كتقمــص الطفــل شخصــية‬
‫والــده إشــباعا ً لــدوافع الســيطرة عنــده‪،‬‬
‫وتقمص التلميــذ شخصـية أسـتاذه إشـباعا ً‬
‫لدوافع الشهرة‪ ،‬أو تقمــص فتــاة محرومــة‬
‫شخصية ممثلة مشهورة‪..‬‬
‫ً‬
‫بل يمتد التقمــص‪ -‬أحيانـا‪ -‬إلــى تقمــص‬
‫شخصــيات ضــعيفة‪ ،‬وذلــك إذا كــان الفــرد‬
‫يريــد معاقبــة ذاتــه نتيجــة لشــعور دفيــن‬
‫بالــذنب فــى أعمــاقه! هنــا يظهــر الجــانب‬
‫الســلبى فــى التقمــص! وإن كــان هــذا‬
‫يحدث نادرًا!‬
‫ممممم مممممم‬
‫وهى حيلة من حيل الذات الدفاعية‪،‬‬
‫نلجأ إليها عندما نعجز عن تحقيق رغباتنا‬
‫فى عالم الواقع‪ ،‬وهذا العجز يدفعنا‬
‫للتخيل الوهمى لتحقيق هذه الرغبات‪،‬‬
‫وبهذا نهرب من واقع الحياة بكل مشاكله‪.‬‬
‫‪101‬‬
‫وتحدث أحلم اليقظة فى كافة مراحل‬
‫العمر‪ ،‬ولكنها تزداد خلل الطفولة‬
‫والمراهقة‪ ،‬لتقوم بدور كبير فى إشباع‬
‫الرغبات المكبوتة‪ ،‬حيث يبنى الفرد‬
‫قصورفى الهواء‪ ،‬ويضع خططا ً للمستقبل‬
‫الذى ينشده ويعجزعن بلوغه فنرى‬
‫الضعيف يحلم بالقوة‪ ،‬والفقير بالغنى‪..‬‬
‫وقد يرى الحالم نفسه بطل ً لقصة ألفها‬
‫ووضع حوارها وأحداثها‪!..‬‬
‫يرى البعــض أن أحلم اليقظــة ل ضــرر‬
‫منها طالمــا كـانت بمقــدار‪ ،‬وهـل ننكــر أن‬
‫اختراعات كثيرة كانت تبدو مستحيلة خلل‬
‫أحلم اليقظـــة! ولكـــن الحلـــم قـــد صــار‬
‫حقيقــة‪ ،‬إذ دفعــت أحلم اليقظــة أصــحابها‬
‫إلى البحث والكفاح!‬

‫‪102‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫إنطــلق الـــذات‬
‫لكى تنطلق الذات لبد أن تتحرر من‬
‫كل عبودية‪ ،‬سواء كانت هذه العبودية‬
‫مصدرها الطبيعة‪ ،‬أم تقاليد المجتمع‪ ،‬أم‬
‫استبداد البشر‪ ..‬لنها بذلك تستطيع أن‬
‫تسمو وتعلو على ضعفاتها‪ ،‬فالعصفور وإن‬
‫عاش فى قفص ذهبى فهو محبوس‪.‬‬
‫قديما ً كان لدى الفلسفة ما ُيعرف‬
‫بالتصوف الخلقى‪ ،‬إذ كانوا يعتقدون‬
‫أن كمال النسان ل يتحقق‪ ،‬إل ّ عندما‬
‫يصل إلى الحرية الباطنية‪ ،‬التى تقوم على‬
‫اللمباله إزاء أى متعة ‪ -‬فردية كانت أم‬
‫جماعية‪ -‬لن هذا يتيح للنسان أل يتأثر‬
‫بظروف العالم الخارجى المتقلبة‪ ،‬ول‬
‫يجعله عبدا ً لغيره‪ ،‬أو لعادة ذميمة تتسلط‬
‫عليه‪.‬‬

‫‪103‬‬

‫‪45‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وقد مارس الفلسفة القدامى‪ ،‬هذا‬
‫النوع من التقشف الخلقى‪ ،‬ومعلموا‬
‫الداب جعلوه محور تعليمهم ! وقد كان‬
‫مجمل تعاليمهم فيما دعوه بالختام الثلثة‬
‫وهى‪ :‬ختم الفم ضد الطعام والشراب‪،‬‬
‫وختم الجسد ضد الرفاهية‪ ،‬وختم‬
‫الحشا ضد العلقات الجنسية‪.‬‬
‫هناك ثلثة أشياء تجذب إليها الذات‬
‫وتأسرها أل وهى‪ :‬حب المال‪ ،‬الشهرة‪،‬‬
‫المرأة‪ ،‬وكلها تعوق إنطلقها‪ ،‬والواقع أن‬
‫النسان كثيرا ً ما يتحرر من سائر القيود‬
‫المنظورة‪ ،‬لكى يعود فيجد نفسه أسيرا ً‬
‫ل‪ ،‬أل وهى‪:‬‬ ‫يرزح تحت نير عبودية أشد هو ً‬
‫مممممم ممممممم مممممممم‬
‫ممممممم‪.‬‬
‫والحق إن عدونا الشد والقوى هو‬
‫الشهوة‪ ،‬لن أى عدو مهما كانت قوته‬
‫يمكنك أن تصالحه فى يوم ما‪ ،‬وقد تصيرا‬

‫‪104‬‬
‫أصدقاء مع اليام‪ ،‬وهكذا تتحول العداوة‬
‫التى بينكما إلى محبة‪..‬‬
‫أما الشهوة فإن بدت بمظهر الصديق‬
‫فهذا إنما هو ثوب الرياء! فإن وضعت‬
‫العسل على فمك‪ ،‬فثق أنه ممزوج‬
‫بالسموم ! ولهذا كثيرا ً ما نشبه الشهوة‬
‫س ل يشفق ول يرحم‪ ،‬إذا انتصر‬ ‫بعدو قا ٍ‬
‫ووقعت تحت أسره فسرعان ما يقيدك‪،‬‬
‫وإذا أردت أن تهرب منه سيلحقك‬
‫بسلطانه وإغراءاته‪ ،‬ألم يقل الحكيم "‬
‫الشرير تأخذه آثامه وبحبال خطيته " )أم‬
‫‪!(2 :5‬‬
‫إذا رب ُــط العصــفور ســيظل فــى القــاع‬
‫مقيدًا‪ ،‬ل يقوى على الطيران‪ ،‬ولكى يطير‬
‫عليه أول ً أن يحل قيوده‪ ،‬وهكــذا النســان‪،‬‬
‫لكى يحلــق فــى الســمائيات ويقــترب مــن‬
‫عرش الله‪ ،‬لبــد أول ً أن يتحــرر مــن قيــود‬
‫الخطية‪ ،‬ول ينجذب بسحر الشهوة وبريــق‬
‫ولمعان اللذة‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫أما المرحلة الثانية من مراحل تحرر‬
‫الذات‪ ،‬فهى البحث عن الفضائل‬
‫والسعى إلى تحقيقها‪ ،‬وهكذا‬
‫تستخرج الذات من ماضيها‪ ،‬ما ينطوى‬
‫عليه من جمال لكى تحقق فى مستقبلها‬
‫ما تنزع إليه من غايات‪ ،‬ولكن لكى يصل‬
‫النسان إلى حياة الفضيلة والتقوى‪ ..‬لبد‬
‫أن يحيا ويعمل بوصايا الله ؟!‬
‫أما الوصايا وكل التعاليم اللهية‪ ،‬فلم‬
‫يعطها الله إل لراحتنا‪ ،‬ولم يطلب منا أن‬
‫نسلك بالبر والتعقل‪ ،‬إل لكى تهدأ نفوسنا‬
‫وتستقر أرواحنا‪ ،‬ماذا يجنى النسان بعيدا ً‬
‫عن الله ؟ أعتقد أن الخوف والحزن‬
‫واللم هى ثمار تلك الحياة المبتذلة التى‬
‫يحياها النسان خارج دائرة الله ‪ ،‬فما من‬
‫إنسان عاش كحيوان جائع إل وصار إنسانا ً‬
‫متوجع !‬
‫والواقع أن كل المحاولت‪ ،‬التي يبذلها‬
‫النسان من أجل الوصول إلى تحقيق‬
‫شهواته‪ ،‬ما هى إل محاولت فاشلة تباعد‬

‫‪106‬‬
‫بينه وبين حالة الكتفاء الذاتي‪ ،‬فلبد‬
‫للنسان من الله‪ ،‬فهو الوحيد الذي‬
‫يستطيع أن يمل قلبه ويشبع جوعه‪ ،‬ومهما‬
‫حاول النسان أن يشبع من العالم‪ ،‬فإنه‬
‫لن يقدر أن يشبع‪ ،‬ذلك لن رغباته ل ُتحد‬
‫ول ُتسد‪ ،‬ولعل هذا هو السبب في أن‬
‫الملل كثيرا ً ما يستبد بنا‪ ،‬حينما نتبين أننا‬
‫ل يمكن أن نشبع رغباتنا التي ل حصر‬
‫لها !‬
‫يجب أن نعترف بأن النسان مهما‬
‫تمرغ في حياة المتعة‪ ،‬متأثرا ً بروح الغواية‬
‫الشريرة ‪ ،‬فإنه سرعان ما يتحقق من أنه‬
‫لن يستطع أن يظفر بما يرغبه ‪ ،‬مادام‬
‫الذي يشتهيه غير دائم ولن يستمر سوى‬
‫تلك اللحظة العابرة‪ ،‬التي أستمتع فيها‬
‫بالنشوة‪ ،‬فمن طبيعة الشهوات أو عالم‬
‫الماديات عامة أنه ل ُيشبع جوع النسان‪،‬‬
‫ول يحقق له ما ينشده‪ ،‬خاصة وإن كان‬
‫ينشد السعادة‪ ،‬وهذا ما كان يقصده أحد‬
‫الفلسفة حينما كتب يقول‪ " :‬إن ما‬
‫تنشده النفس ل يمكن أن يكون مجرد‬
‫‪107‬‬

‫‪43‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫شئ‪ ،‬لن الشياء ل تهمها ول تقوى على‬
‫إشباعها "‪.‬‬
‫فالنسان ل يريد إل ذاتا ً أخرى يتلقى‬
‫معها ويرتبط بها‪ ،‬وهل هناك أعظم من‬
‫الذات اللهية‪ ،‬تفّرح قلب النسان وتهبه‬
‫سلما ً وعزاء عندما يتقابل معها‪ ،‬سواء‬
‫في صلة أو تأمل أو‪ !..‬فإذا ظل النسان‬
‫يتعلق بطائفة من الشياء أو الشهوات أو‬
‫الموضوعات العالمية فإنه لن يستطيع أن‬
‫يتخطى مرحلة " التمركز الذاتي" وكل‬
‫من يتمركز حول ذاته‪ ،‬ل يمكن له أن‬
‫يلتقي مع الله أو الناس!‬
‫إن النسان كالسابح‪ ،‬الذي ل يستطيع‬
‫أن يظل مكانه‪ ،‬وإل سقط في أعماق‬
‫البحر‪ ،‬أو كراكب الدراجة الذي لبد من‬
‫أن يسقط‪ ،‬لو أنه لم يتحرك إلى المام!‬
‫فلبد أن يعلو النسان ويقترب من الله‪،‬‬
‫فالوجود البشرى ليس هو انتقال ً من‬
‫الحيوانية إلى النسانية‪ ،‬بل هو‬
‫أيضا ً انتقال من النسانية إلى الله‪،‬‬

‫‪108‬‬
‫فلبد أن يقترب النسان من الله وإل‬
‫لحقت به لعنة الله !‬
‫لقد خلق الله النسان وكونه‪ ،‬بحيث أنه‬
‫ل يقدرأن يعيش بدونه‪ ،‬ول يمكن أن‬
‫تكفيه الممتلكات المادية وحدها‪،‬‬
‫فالسباحة في الفضاء‪ ،‬والهبوط على‬
‫سطح القمر‪ ،‬والوصول إلى أعماق‬
‫المحيط مهما كان فيها من نشوة وإثارة‪،‬‬
‫إل أنها ل يمكن إن ُتشبع جوع النسان‬
‫الداخلي‪ ..‬والحصول على مركز مرموق‪،‬‬
‫والسكن في فيل فاخرة‪ ،‬ومشاهدة‬
‫البرامج المسلية‪ ،‬ليست هي الحل‬
‫لمشاكلنا‪ ،‬فلبد للنسان من الله‪.‬‬
‫ضع فى اعتبارك أن الذات‪ ،‬لبد لها من‬
‫أن تتجه نحو هدف ما‪ ،‬فلو أدركت أن‬
‫كمالك البشرى ل يتحقق إل إذا اقتربت‬
‫من الله‪ ،‬فأنت بذلك تكون قد عدت‬
‫بالذات إلى أصلها ! لكن الذات ترتكز‬
‫على الخوف والقلق والشك‪ ..‬وتميل إلى‬
‫الراحة واللذة‪ ..‬وهى بهذا تكون سيدا ً سيئا ً‬

‫‪109‬‬
‫وقائدا ً مدمرًا‪ ،‬والفضل أن تتحول إلى‬
‫خادما ً مطيعًا‪ ،‬وهذا لن يتحقق إل إذا‬
‫ارتبطت بالله‪ ،‬لكى يرشدها إلى طريق‬
‫الحياة‪.‬‬
‫نعــترف بــأن القلــب ل يمكــن أن يظــل‬
‫فارغًا‪ ،‬فإن تضــخمت الــذات تربعــت علــى‬
‫عــرش القلــب‪ ،‬أمــا إذا ملت قلبــك بحــب‬
‫حــدة‬‫اللــه ففــى الحــال ســوف تضــعف ِ‬
‫قوتهــا ! ويبقــى السـؤال‪ :‬لمــاذا ل ُنحــب‬
‫اللــه ونرتــاح مــن عنــاء الــذات ؟ الجابة‬
‫ترجــع إلــى الــذات‪ ،‬فهــى تســعى جاهــدة‬
‫لتعترض طريقك لكــى تكــون هــى الســيد!‬
‫إذن يجب أن تترك الذات قائمة العــرش ‪،‬‬
‫وتنزل إلى جناح الخدم فهذا أنسب مكــان‬
‫لها !‬
‫أمــا المرحلــة الثالثــة فهــى مرحلــة‬
‫الستمتاع والفــرح‪ ،‬لن تحررالنســان مــن‬
‫كــل مــا يســتعبده‪ ،‬والســير فــى طريــق‬
‫الفضيلة والعمل بوصايا اللـه‪ ،‬عوامــل مــن‬
‫شــأنها أن تقــود الــذات المنتصــرة إلــى‬
‫‪110‬‬
‫مرحلـــة الخصـــب والمتلء‪ ،‬فتصـــل إلـــى‬
‫السعادة التى تنشــدها ! والحــق إن جــوهر‬
‫مشكلة الذات تكمن فــى تعامــل النســان‬
‫معها على أنها غاية‪ ،‬ولــو نظــر إليهــا علــى‬
‫أنها وســيلة تــؤدى إلــى غايــة لســتطاع أن‬
‫يحررها! ُترى ما هى تلك الغاية ؟‬
‫أعتقد أن رب المجــد يســوع‪ ،‬قــد وضــع‬
‫النســـان علـــى ســـلم الكمـــال والفـــرح‬
‫حب الــرب‬ ‫والسلم‪ ،‬وذلك عندما قال‪ " :‬ت ُ ِ‬
‫إلهك من كل قلبك ومن كل نفســك ومــن‬
‫كل فكرك ومن كل قدرتك " ) مر ‪3 : 12‬‬
‫( لن هذا ل يجعل النســان يتمركــز حــول‬
‫ذاتــه‪ ،‬الــذى يــؤدى إلــى الســتعباد ويــدعم‬
‫النانية‪.‬‬
‫أعطى الله إبراهيم ابن فــى شــيخوخته‬
‫محرقــة‬ ‫دمه ُ‬ ‫ثم طلب منه بعد ذلــك أن ُيق ـ ّ‬
‫)تك ‪ (2 : 22‬فما هذا التناقض ؟! لقد رأى‬
‫الله أن إبراهيم يركز علــى إســحق كغايــة‪،‬‬
‫ولهــذا أراد أن ُيعلــن لــه أن إســحق ليــس‬
‫سوى وسيلة‪ ،‬إنه البذرة الــتى مــن خللهــا‬
‫‪111‬‬
‫سوف يأتى المســيح فلمــا أطــاع إبراهيــم‬
‫وتحرر من مشاعره الذاتية‪ ..‬استرجع اللــه‬
‫إسحق من الموات‪ ،‬وتمتع به إبراهيم إلى‬
‫يوم مماته! ألم يقل السيد المسيح‪ " :‬مــن‬
‫أراد أن ُيخل ّــص نفســه ُيهلكهــا ومــن ُيهلــك‬
‫نفسه مــن أجلــى يجــدها" )مــت ‪،24 :16‬‬
‫‪.(25‬‬
‫ً‬
‫هذا هو هدف اللــه فينــا جميعـا‪ :‬التحـرر‬
‫مــن حــب الــذات كهــدف أو كغايــة‪ ،‬حــتى‬
‫نستطيع أن نحبهــا بحريــة‪ ،‬كوســيلة يمكــن‬
‫أن يتحقــق مــن خللهــا أعظــم غايــة فــى‬
‫الوجود‪ ،‬أل وهى حب الله‪.‬‬
‫ممممم مم ممممم مممم مممم مممم‬
‫ممممم‬
‫مممم مممم مممم ممممم ممممممم‬
‫ممم مممم !‬

‫‪112‬‬
‫الفصل العاشر‬
‫تحقيــق الــذات‬
‫إن فى أعماق كل منا " كائنا ً جديدا ً "‬
‫يبذل جهدا ً شاقا ً فى سبيل الخروج إلى‬
‫عالم النور والحرية‪ ،‬وكأنه وردة جميلة‬
‫تريد أن تخرج من كمها حتى تتفتح وينتشر‬
‫فى الفضاء أريجها‪ ،‬وليس تحقيق الذات‬
‫سوى تلك الولدة‪ ،‬التى تسمح للكائن‬
‫الجديد بتحطيم شرنقته‪ ،‬من أجل‬
‫النطلق‪ ،‬كالفراشة التى تخرج من‬
‫شرنقتها لتطير فيرى الناس جمال‬
‫ألوانها !‬
‫ممم ممممممم مم ممممم‬
‫ممممم‬
‫ولكننا ل نحقق ذواتنا بذواتنا ولذواتنا‬
‫فقط‪ ،‬بل بغيرنا ولغيرنا أيضًا! إذن ل يمكن‬
‫للذات أن تتحقق‪ ،‬إل إذا سلمت بدور‬
‫‪113‬‬

‫‪85‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الخرين الذين سيتجدد وجودها بهم‪،‬‬
‫ولعل هذا هو ما عبر عنه أحد الفلسفة‬
‫حينما كتب يقول‪ " :‬إن الغاية الوحيدة‬
‫للذات هى تحقيق الذات‪ ،‬ولكن الطريق‬
‫المؤدى لهذا لبد أن يدور حول العالم‬
‫وبالتالى فهو لبد أن يمر بالخرين "‪.‬‬
‫إن كلمة إنسان مشتقة من " يأنس "‬
‫وهى تعنى الستئناس أو التآلف‪ ،‬فالنسان‬
‫كائن اجتماعى‪ ،‬من طبيعته أن يأنس إلى‬
‫غيره‪ ،‬أما العزلة فهى من سمات‬
‫الوحوش وهى تعنى للنسان الموت ل‬
‫الحياة‪ ،‬لنها تجعله عاجزا ً عن تحقيق‬
‫ميوله ‪ ..‬فل عجب إن قلنا‪ :‬إن الوحدة ل‬
‫تصلح إل لكائن متوحش‪.‬‬
‫إذن فالذات فى حاجة دائمة أن تجد‬
‫نفسها بين الناس‪ ،‬لن حريتها تريد‬
‫دائما ً أن تعبر عن نفسها فى‬
‫الخارج‪ ،‬لكى تسجل نفسها‪ ،‬ميولها‬
‫ورغباتها وأفكارها‪ ..‬فى عالم الخرين‪..‬‬
‫والقول بأن الذات حرة يعنى أنها ل تكف‬
‫‪114‬‬
‫عن تجديد نفسها لذاتها وللخرين أيضًا‪،‬‬
‫وحينما تتجلى الذات فى الخارج فإنها‬
‫تتصل إتصال ً مباشرا ً بالواقع‪ ،‬وتقبل منه‬
‫التحديات والمواقف التى تثقلها ‪.‬‬
‫والحق إن النسان ل يحيــا فــى جزيــرة‬
‫منفردا ً بــذاته‪ ،‬وإل أصــابه الملــل والــذبول‬
‫وصار نسيا ً منسيًا‪ ،‬بل يحيا فى عالم ملــئ‬
‫ل فى حاجـة إلـى الخـر‪ ،‬وهكـذا‬ ‫بالبشر‪ ،‬ك ٍٍ‬
‫تظل حياة البشــر علقــة مزدوجــة قوامهــا‬
‫الخذ والعطاء‪ ،‬والتأثير والتأثر‪ ،‬وهــل ننكــر‬
‫أن الحديث العذب المشجع‪ ،‬واللقاء الحــى‬
‫المثمر‪ ..‬وسائل من شأنها تنشيط فاعليتنا‬
‫وإيقــاظ همتنــا‪ ..‬فتتفتــح أمامنــا البــواب‬
‫المغلقة وننــدفع بقــوة إلــى تحقيــق ذواتنــا‬
‫وتأدية رسالتنا !‬
‫إذن ليس الخرون مجرد صور‬
‫نتأملها‪ ،‬بل هم وسائل فعالة لتحقيق‬
‫رغباتنا‪ ،‬ولو تطلعنا إلى العظماء لوجدنا أن‬
‫هناك شخصيات خفية لعبت الدورالعظم‬
‫فى حياتهم‪ ،‬أتعرفون معجزة الرادة "‬
‫‪115‬‬
‫هيلين كيلر" ! إن كل من يقرأ سيرتها‪،‬‬
‫يدرك أنها ما كان ممكنا ً أن تصل إلى هذا‬
‫النبوغ بدون معلمتها " آن " !‬
‫هنا يتخذ تحقيق الذات طابعا ً روحيا ً‬
‫ساميًا‪ ،‬فتعمل كل ذات على رعاية الذات‬
‫لخرى‪ ،‬وتأخذ على عاتقها مسئولية‬ ‫ا ُ‬
‫وجودها‪ ،‬ولكن هذه المسئولية ل تتوقف‬
‫عند الهتمام الجسدى بالخر فقط‪ ،‬بل‬
‫هى تمتد إلى نموه الروحى‬
‫والنفسى‪ ...‬إنه إهتمام بسائر قواه‬
‫النسانية‪.‬‬
‫لكننا نعترف بأن حياة البشر ليست‬
‫فردوسا ً جميل ً‪ ،‬خاليا ً من كل شر‪ ،‬بل هى‬
‫صراعا ً قد يصل إلى الحرب‪ ،‬فهل لنا أن‬
‫نقول إن تحقيق الذات دراما أليمة ل‬
‫تخلو من قلق وجهاد‪ ..‬وهذا إنما يرجع‬
‫إلى أهمية تحقيق الذات وأثرها على‬
‫النسان‪.‬‬
‫إذن لبد أن يصطدم إتجاهك الخاص‬
‫فى الحياة‪ ،‬وسعيك من أجل تحقيق ذاتك‪،‬‬
‫‪116‬‬

‫‪06‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫باتجاهات غيرك من البشر‪ ،‬وبالتالى يجب‬
‫عليك أن تتحمل آلم الخرين التى تأتى‬
‫عليك ! نستطيع أن نقول‪ :‬إن تحقيق‬
‫الذات وإن كان ُيسعد النسان‪ ،‬إل أنه يعد‬
‫دراما إجتماعية‪ ،‬يعبر عنها التحدى‬
‫المستمر بين البشر‪.‬‬
‫ولكن هذه الدراما هى التى تثقل‬
‫النسان وتزيده خبرة ومن خللها نسعى‬
‫إلى التغيير‪ ،‬وهل ننكر أن الصراع حليف‬
‫النمو والبتكار! إذن فالصراع من أجل‬
‫تحقيق الذات هو صراع بطولى ُيراد من‬
‫وراءه الفوز بشئ ما !‬
‫ممممم مممممم ممممم‬
‫لو تساءلنا عن السبب الذى من أجله‬
‫يتمسك كل منا بالحياة‪ ،‬لوجدنا أن السر‬
‫فى ذلك يرجع إلى وجود رغبات كثيرة لم‬
‫يتم تحقيقها بعد‪ ،‬وهل ننكر أن لكل إنسان‬
‫" مثل أعلى" يمثل له حلم المستقبل‬
‫الذى يتمنى أن يتحقق ! ولكن كيف يحقق‬
‫‪117‬‬
‫النسان ذاته ؟ لبد أول ً أن يعرف قدراته‪،‬‬
‫ثم يسعى إلى التحقيق بما يتناسب مع‬
‫ظروف الواقع‪ ،‬وهكذا يظل النسان فى‬
‫تجديد دائم لذاته‪ ،‬لنه ما أن يحقق شيئا ً‪،‬‬
‫فسرعان ما يتولد شيئا ً آخر يرغب فى‬
‫تحقيقه !‬
‫والحق إن العمل هو تعبير عن ارتباط‬
‫الذات بالكون‪ ،‬إنه الداة التى تقذف بنا‬
‫إلى العالم الخارجى‪ ،‬أو الجسرالذى تعبره‬
‫الذات لتصل إلى دنيا الناس‪ ،‬وكأن من‬
‫شأن العمل أن ُيخرج النسان من ذاته‬
‫إلى عالم الخرين‪.‬‬
‫لكننا نخطى عندما نظن أن العمل‬
‫الذى يقوم به الفرد هو خاص به‪ ،‬يهمه‬
‫وحده دون سواه‪ ،‬فهل لنا أن نقـول‪ :‬إن‬
‫كل عمل يجمع فى طياته الفردية‬
‫والعمومية معا ً ! لنه يخرج من الشخص‬
‫إلى الوسط المحيط به‪ ،‬فُيحدث تأثيره‬
‫فى الخرين‪ ..‬إذن ل يستطيع أحد أن‬
‫يغسل يديه تماما ً من كل العمال التى‬
‫‪118‬‬
‫يقوم بها‪ ،‬أو يمنع الخرين من التأثر‬
‫بأعماله لننا ما أن نعمل‪ ،‬فسرعان ما‬
‫يتحول عملنا إلى رسالة‪ ،‬لبد أن تجد من‬
‫يقرأها ويتأثر بها !‬
‫قد نكون على صواب إن قلنا‪ :‬إن‬
‫النسان ل يوجد إل ّ بقدر ما يعمل‪،‬‬
‫فمن خلل أعماله يؤكد أنه جزء ل يتجزء‬
‫من الوجود ‪ ،‬كما أنه بالعمل يحقق ذاته‬
‫ويربطها بذوات الخرين‪ ،‬وهل ننكر أن‬
‫العمل يدعم القيم النسانية ويوقظها من‬
‫سباتها‪ ،‬عندما يجسم المثل العليا فى‬
‫الوسط الجتماعى‪ ،‬أليس العمل قانون‬
‫إلهى‪ ،‬ألم يقل معلمنا بولس الرسـول‬
‫"من ل يعمل ل يأكل أيضا ً " ! لكن العمل‬
‫لكى يتحقق لبد للنسان من قوة‬
‫جسمانية ‪ ،‬ويبقى السؤال الحائر‪ :‬ماذا‬
‫نفعل عندما نمرض أو نشيخ ؟ لهذا نرى‬
‫أن القوة الجسدية ليست كافية‬
‫وحدها لتعزية النسان وهكذا العمل‬
‫الجسدانى‪ ،‬إذن تحتاج القوة الجسدية‬
‫‪119‬‬
‫إلى قوة روحية تساندها‪ ،‬ألم يقع جليات‬
‫الجبار صريعا ً أمام ذكاء الفتى داود ! كما‬
‫أن شمشون الجبار ضعف أمام فتنة دليلة‬
‫وحيلتها !‬
‫ممممم مممم ممم ممممم‬
‫ممممم‬
‫والحق إننا إذا كنا نخشى الموت‪ ،‬فلنــه‬
‫هـــو الـــذى يضـــع حـــدا ً لتحقيـــق الـــذات‪،‬‬
‫فالنسان طالما كان على قيد الحياة ففى‬
‫وسعه كل يــوم أن يبــدأ حيــاة مــن جديــد‪..‬‬
‫وذلك بتعديل ماضــيه وتشــكيل مســتقبله‪..‬‬
‫وهكــذا تســتخرج الــذات مــن ماضــيها مــا‬
‫ينطوى عليه من إمكانات‪ ،‬لكى تحقق فــى‬
‫مسـتقبلها مـاتنزع إليـه مـن غايـات‪ ،‬وبيـن‬
‫تراث الماضى وأمل المستقبل تتحــدد نيــة‬
‫الــذات‪ ..‬ومــن الملحــظ أن النســان قبــل‬
‫المــوت يصــدر حكمـا ً علــى حيــاته‪ ،‬وهكــذا‬
‫يمــوت النســان راضــيا ً علــى نفســه أو‬
‫مباركا ً لحياته أو لعنا ً لها‪.‬‬
‫ساخطا ً عليها‪ُ ،‬‬
‫‪120‬‬

‫‪26‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫إن المــوت طبــع بصــمته فــى الوجــود‪،‬‬
‫أعلن لنا أن حياتنــا مصــيرها الفنــاء‪ ،‬إل ّ أن‬
‫بصــمته هــذه إعلن أننــا قــد بــدأنا الحيــاة‪،‬‬
‫واســترحنا مــن عنــاء وحــروب الشــهوات‬
‫فالنســان بمــوته ُيعلــن أنــه قــد تــم وقــف‬
‫إطلق النار‪ ،‬وتم النتصار على مــا يحــارب‬
‫الذات من لذات !‬

‫‪121‬‬
‫ممممممم‬
‫‪ -‬تقديم للستاذ الدكتور‪ /‬ثروت‬
‫إسحق ‪5-‬‬
‫‪ -‬المقدمة‪8---------------------‬‬
‫) الفصل الول (‪12----------------‬‬
‫ذاتى هى قدس أقداسى‬
‫) الفصل الثانى (‪19----------------‬‬
‫ما هى الذات ؟ طبيعتها‬
‫) الفصل الثالث ( ‪27---------------‬‬
‫تكوين الذات‬
‫) الفصل الرابع ( ‪38---------------‬‬
‫النسان ليس ذاتا ً مكشوفة‬
‫) الفصل الخامس ( ‪47--------------‬‬
‫الذات بين الحب والنانية‬
‫) الفصل السادس ( ‪60--------------‬‬
‫الشر وانقسام الذات‬
‫) الفصل السابع ( ‪65---------------‬‬
‫عندما تتألم الذات !‬
‫) الفصل الثامن ( ‪72---------------‬‬
‫حيل الذات الدفاعية‬
‫) الفصل التاسع ( ‪80---------------‬‬
‫انطلق الذات‬
‫) الفصل العاشر ( ‪88 --------------‬‬
‫تحقيق الذات‬

‫‪122‬‬
‫كتب صدرت‬
‫للمؤلف‬
‫‪2-‬‬ ‫‪ 1-‬شوكة الخطية )طبعة رابعة(‬
‫الخر فى حياتى‬
‫‪4-‬‬ ‫‪ 3-‬رسالة تعزية )طبعة ثانية(‬
‫عيد الميلد‬
‫‪ 5-‬عصر القلق )طبعة ثانية( ‪ 6-‬أسياد‬
‫وعبيد‬
‫‪ 8-‬عيد‬ ‫‪ 7-‬ذخائر الظلم‬
‫القيامة)طبعة ثانية(‬
‫‪01-‬‬ ‫‪ 9-‬اللذة الحقيقية)طبعة ثانية(‬
‫الشهوة )طبعة رابعة(‬
‫عادات شعبية‬
‫‪11-‬‬
‫أكل البيض والبصل والفسيخ فى شم‬
‫يطلب من ‪ :‬المكتبات المسيحية‬
‫النسيم ومن الستاذ ‪ /‬نصر أنور ت‪:‬‬
‫‪421386420‬‬
‫النسان‬‫العاطفة)طبعة ثانية( ‪31-‬‬‫‪21-‬‬
‫المجروح‬
‫أزمة حب)طبعة‬
‫‪51-‬‬ ‫هكذا أحبنا‬
‫‪41-‬‬
‫ثانية(‬
‫‪71-‬‬ ‫‪-‬المدخل إلى الحياة الروحية‬
‫‪61‬‬
‫متألمون ولكن‪..‬‬
‫‪91‬يمكنك أن‬
‫‪-‬‬ ‫الشهوة والحب‬
‫‪81-‬‬
‫تقمع الشهوة‬
‫جذور‬
‫‪12-‬‬ ‫سلطان وسحر الشهوة‬
‫‪02-‬‬
‫الشهوة‬
‫‪32-‬‬ ‫طبعة ثانية(‬
‫‪22-‬رحلة اللم) ‪123‬‬
‫الثعالب الصغيرة‬
‫مظاهر‬
‫‪52-‬‬ ‫مشكلة الشر‬
‫‪42-‬‬
‫الشهوة فى حياتنا‬
‫ماضي الشهوة‬
‫‪72-‬‬ ‫الحب اللهى‬
‫‪62-‬‬
‫‪92-‬‬ ‫اللذة الوهمية ) طبعة ثانية(‬
‫‪82-‬‬
‫حوار عن الله‬
‫‪13‬عيد‬
‫–‬ ‫أين هو الطريق ؟‬
‫‪03-‬‬
‫مممممم‬
‫م‬
‫مممممم مممممم‬
‫ممممممم ممم مممم‪/‬‬
‫مممم مممم‬
‫أستاذ علم الجتماع بكلية‬
‫الداب جامعة عين شمس‬
‫ومعهد الدراسات القبطية‬

‫‪124‬‬
‫بببببب‬
‫ببببب ببببببب‬

‫‪125‬‬
‫اسم الكتاب‪ :‬الذات‬
‫تأليف‪ :‬الراهب كاراس المحرقى‬
‫مراجعة وتقديم‪ :‬أ‪.‬د‪ /‬ثروت إسحق‬
‫الجمع‪ :‬أشرف فوزى‬
‫تصميم الغلف‪ :‬الستاذ عادل لبيب‬
‫المطبعة‪ :‬شركة الطباعة المصرية‬
‫‪6102095 - 6100589‬‬
‫رقم اليداع ‪:‬‬

‫‪126‬‬

You might also like