Professional Documents
Culture Documents
الإسلام في رسالتيه
الإسلام في رسالتيه
الإسلام في رسالتيه
انطون سعادة
الضالل البعيد
قلنا في البحث السابق (عودة إلى جنون الخلود فصل من 1وحتى )12إنن ا ال نص دق أن مس لماً محم دياً واح داً
وباطن ه ه دم
ُ ُمدركاً لحقيقة رسالة الن بي الع ربي يقب ل كالم رش يد الخ وري ال ذي ظ اهره تأيي د اإلس الم المحم دي،
للعقائ د اإلس المية الص حيحة .ووع دنا الق راء بتبي ان ذل ك في م ا يجيء من ه ذا البحث.
قلنا أيضاً أن رشيد سليم الخوري ليس من أهل العلم وال من أهل الفلس فة والتفك ير وال من أه ل األدب الص حيح
إذا اتخ ذنا مقياس اً لألدب غ ير األلف اظ واألوزان .وإ ن تناول ه ال دين اإلس المي في م ذهبين جليلين كالمس يحية
وه ْج ُو
دح اإلس الم المحم دي َ والمحمدية ليس سوى وغول على العلم والفلسفة ،في حين َّ
أن قصده الحقيقي ه و م ُ
يحية. المس
يتظاهر رشيد الخوري في بدء حارضته التي أسماها ،جهالً منه ،محاضرة ،بأنه قد آمن باإلس الم المحم دي .ثم
يأخذ في الخلط بين كالم رجل متديِّن ورج ل يبحث في طب ائع األدي ان ب دون تح ُّيز أو انح راف ،اجته اداً من ه في
اس البحث.
َ وه لب ه وهج اس مدح إلب
أو ُل م ا نط ق ب ه الخ وري المتظ اهر باإلس الم المحم دي في م دح ه ذا ال دين ك ان كف راً ب ه وبآيات ه .ق ال في ب دء
حارضته" :لم ا فض لت اإلس الم على المس يحية في خط ابي الع ام الماض ي الخ" فأخ ذ نقط ة االبت داء تفض يل ال دين
اإلسالمي المحمدي على الدين اإلسالمي المسيحي ،وجع ل ه ذه النقط ة م دار كالم ه فنط ق بكلم ة الكف ر من حين
1
جر قلمه على القرطاس فحق علي ه ق و ُل اآلي اتَّ :
{إن الّ ذين يكف رون باهلل ورس له ويري دون أن يفرق وا فتح فاه أو َّ
بين اهلل ورس له ويقول ون ن ؤمن ببعض ونكف ر ببعض ويري دون أن يتّخ ذوا بين ذل ك س بيالً .أولئ ك هم الك افرون
فرق وا بين أح د منهم أولئ ك س وف ُي ْؤتيهم حق اً وأعت دنا للك افرين ع ذاباً مهين اً .وال ذين آمن وا باهلل ورس له ولم ُي ّ
{لي َس البِ ُّر أن تُولُّوا
أُج ورهم وك ان اهلل غف وراً رحيم اً} من س ورة النس اء ( 150ـ .)152ومن س ورة البق رة َ
البر من آمن باهلل واليوم اآلخر والمالئكة والكت اب والنب يين الخ} (.)177 ولكن َّ
ّ وجوهكم ِقَب َل المشرق والمغرب
َ
ومن سورة النساء {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمن ون بم ا أُن زل إلي ك وم ا أُن زل من قبل ك الخ} (
.)162
فمحاولة مدح اإلسالم المحمدي بالمفاضلة بين ه وبين المس يحية ،وب التفريق بين محم د والمس يح هي محاول ة كف ر
بكالم اهلل الم نزل ب الوحي على محم د رس وله .وال ذين يش ايعون رش يد الخ وري في قول ه ويؤيدون ه من المس لمين
المحم ديين ليس وا بالحقيق ة س وى زنادق ة في أث واب مؤم نين ،يتظ اهرون أم ام المؤم نين البس طاء الودع اء القل وب
ها. دنيا وأعراض ة ال يرتهم إالّ على زين اغ دين ،وم ارون على ال أنهم يغ
وفيم ا الخ وري يخلُ ط ويخب ط وين افق في اإليم ان إذا ب ه يح او ُل الظه ور بمظه ر الع الم ال ذي يقلِّب األدي ان على
ويدرس طبائعه ا ،والفيلس وف ال ذي ُيعطي القيم الفكري ة مواض عها ،وه و يفع ل ذل ك من غ ير أن يحت اج ُ وجوهها
تقراء ب ل باالس تبداد ب المنطق وبتس خير القيم والمواض يع ألغ راض هج وه ومديح ه. ٍ إلى ٍ
بحث واس
ولما لم يكن من أهل العلم والفلسفة وال من أهل األدب الصحيح ،كما ّبينا آنف اً ،فق د وق ف في تفك يره ونظ ره في
ط الخ الي من ك ل ثقاف ة ودراس ة ص حيحة. امي المنح ّ
المس يحية والمحمدي ة عن د ح دود التفك ير الع ِّ
وليس أد ّل على خلطه وخبطه ،في ما ال يعلم ،من قوله" :لو كنت في هذا البحث ال ديني اس ماً واالجتم اعي فعالً
ق لك ِّل أديب أن يلح اني ،ولك ني تن اولت في اإلس الم ناحيت ه الديني ة
أع رض لمس ائل اآلخ رة والجن ة والن ار لح َّ
البحت ة ،وأش رت إلى عالقت ه بالحي اة ال دنيا وتحدي ده س لوك الف رد تحدي داً مرجع ه العق ل الس ليم ".فقول ه "ناحيت ه
مجرداً هذه الناحية من مسائل اآلخرة والجنة والنار ليس سوى جه ل بم ا ه و ال دين وم ا ه و العلم
الدينية البحتة" ِّ
2
وم ا هي الفلس فة ،إذ ل و جردن ا ال دين من مس ائل اآلخ رة والعق اب والث واب لم ا بقي ل ه ش يء من "ناحيت ه الديني ة
البحت ة" ..ولكن من أين لرج ل واغ ل على ه ذه المواض يع الس امية أن يعلم م ا ه و من طبيع ة ال دين وم ا ه و من
فة؟ ة الفلس و من طبيع اه ة العلم وم طبيع
ال يعرف رشيد الخوري غير المثل الدنيا ،وال قدرة له على تناول غير الفكر العاميَّة ،السطحية .والعام ة تخب ط
في الش ؤون الفلس فية األساس ية خبط ا ،ول ذلك نش أت عن د عام ة المس يحيين الس وريين الفاق دة الثقاف ة الص حيحة
والعلم اعتق ادات وت أويالت في الم ذهبين المس يحي والمحم دي ،أق ُّل م ا يق ال فيه ا أنه ا جزئي ة وس طحية .هك ذا
أُخذت أول تعاليم المسيح بأنها تعاليم توحي الذل إلساءتهم فهم أقوال المسيح التي منه ا الق ول :من ض ربك على
خ دك فح ِّول ل ه اآلخ ر .وأيس ُر أن ي دخل حب ٌل في ثقب إب ر ٍة من أن ي دخل غ ٌّ
ني ملك وت الس موات.
وك ذلك نش أت عن د عام ة المحم ديين الس وريين الفاق دة الثقاف ة الص حيحة والعلم اعتق ادات وت أويالت في الم ذهبين
تؤول آيات القرآن تأويالً يوافق هواها، ُّ
المحمدي والمسيحي أقل ما يقال فيها أنها جزئية وسطحية .هكذا أخذت ّ
ر. ات وأهملت البعض اآلخ ذت ببعض اآلي فأخ
ؤول تع اليم المس يحية من غ ير وه ذه العام ة نفس ها ،نظ راً لجهله ا وم ا ورثت ه من عص ور االنحط اط ،أخ ذت ت ّ
درس له ا ،وت دين المس يح والمس يحيين ببعض آي ٍ
ات التقطته ا اتفاق اً ولم تحس ن تأويله ا كاآلي ات المتعلق ة بملك وت
السموات وكيف ي دخلها اإلنس ان ،ناس ية ق ول الق رآن{ :آمن الرس ول بم ا أُن زل إلي ه من رب ه والمؤمن ون ك ٌّل آمن
باهلل ومالئكته وكتبه ورسله ال نفرق بين ٍ
أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربَّن ا وإ لي ك المص ير} .من ّ
رة .136 ورة البق س
وقسم كبير من عامة السوريين المسيحيين والمحمديين لم يع د مؤمن اً اإليم ان ال ديني ،ولكن ه يتش بث بعنعن ٍ
ات من ّ ٌ
يرس خانه في المعرف ة ويهبان ه نظ رة
ديني ،ولم يحص ل على ثقاف ة وعلم ّ التحزب ات الديني ة ،فه و ق د فق د إيمان ه ال َّ
ّ
ش املة في الحي اة ،ويس اعدانه على فهم ال دين وتأويل ه على الوج ه األص ّح ،ونتج عن ذل ك كلِّه انحط اط كب ير في
وتخب ط في الم ذاهب.
ّ اإلدراك والتأوي ل وفس اد في االس تنتاج وتص ادم في النفس يات وفوض ى في المن ازع
3
ال بغيرها صار الدين ديناً .ولوال مسائل اآلخرة وخلود النفس والثواب والعقاب لما امتاز الدين بشيء ولم ا زاد
شيئاً على التعاليم الفلسفية السامية التي قال بها فالسفة عظام ،والتي لم تأخذ في قلوب عامة البشر المكان ال ذي
أخذه الدين بسبب عدم نسبتها إلى قوة إلهية خفي ة ،وع دم إس نادها إلى االعتق اد بحي اة أخ رى بع د الم وت تحاس ب
فيه ا األنفس على م ا تقي دت ب ه من التع اليم الم ذكورة وم ا لم تتقي د ب ه .فالوجه ة الديني ة البحت هي العكس تمام اً
مم ا ذك ره رش يد الخ وري في حارض ته الهجائي ة ،أي ّإن ه بال اآلخ رة والجن ة والن ار ال تبقى لل دين وجه ة ديني ة
بحت.
ومن ب دائع بي ان ه ذا الن اثر ،اله اجي أن ه ي دخل المواض يع بعض ها في بعض فيش ِّوش ذهن الق ارئ ال ذي ال يك اد
يشعر بأنه يتتبَّع فكرة حتى ي رى الك اتب ق د أزاحه ا من أم ام عيني ه ،كم ا ي زيح ص احب ص ندوق الفرج ة ص ورة
"ص احب الخض راء" من أم ام عي ني الطف ل قب ل أن يس توعب جم ال ش كلها ،ليض ع في محله ا ص ورة ص احب
"األبجر" .فبينما الخوري يحاول التنص ل من تبع ة إث ارة التعص بات الديني ة المريع ة ،إذا ب ه يقط ع حب ل الفك ر في
ه ذه الناحي ة بغت ة وي دخل موض وع ال دين اإلس المي المحم دي في موض وع "الناحي ة" ال تي يعالجه ا على ه ذا
كل: الش
وأشرت إلى عالقته بالحي اة ال دنيا وتحدي ده س لوك الف رد تحدي داً
ُ "ولكني تناولت في اإلسالم ناحيته الدينية البحتة،
مرجعه العقل السليم فهو (اإلسالم) لم يفصل اإلنس ان عن نفس ه ح تى تتقط ع بينهم ا األس باب الخ" .إن الق ارئ ذا
ومبرراته ويق ول
المنطق السليم يتوقع من "المحاضر" أن يعود بعد تمام جملة "العقل السليم" ،فيعطف على نفسه ِّ
مثالً" :وإ ني أج د تبي ان ذل ك من األم ور الض رورية الخ" ويختم ه ذا الموض وع ُمع َّداً فك َر الق ارئ لالنتق ال إلى
ولكن أص حاب الخل ود ال دنكيخوطي ال يفت أون ي أتون ب المعجزات ال تي لم تخط ر على قلب بش ر، َّ موضوع آخر،
والمحي ر العق ول!.
ّ فليس للق ارئ حيل ة غ ير التس ليم لس حر بي انهم الخ اطف األبص ار
المهووس بالخلود مس تعجل فأفس حوا ل ه المج ال .ال تظن وا َّ
أن لجمي ع ح دود المنط ق ق درة على كبح جماح ه .إن ه
أرعن ،ملحٌٌّّ ،
الج ،يقتحم س ياجات العق ل ،ويقف ز من النواف ذ إلى المج امع ،وي دخل بال اس تئذان ،إن ه ه اج س فيه،
بابه؟ تمه وس ام ش ف أم در أن يق من يق
ذهب الحديث عن نوع الموضوع وتحديده ،وجاء الموض وع نفس ه .وال تس ل كي ف ح دثت ه ذه العجيب ة ألم يأتِ ك
أن من البي ان لس حراً؟ هك ذا يك ون الس حر .ف إذا ب رق البص ر وخس ف القم ر وجم ع الش مس والقم ر فق ل أيه ا
ّ
ر؟ ان أين المف اإلنس
ق ال ص احب الحارض ة الهجائي ة من فيض "علم ه"" :فه و (اإلس الم) لم يفص ل اإلنس ان عن نفس ه ح تى تتقط ع
بينهما األسباب ،ولم يباعد بين الجسد والروح في هذه الحياة ،وهما وحدة ال تتج زأ إالّ ب الموت ،ولم ينس العق ل
4
بي على ش ريعته نفس ها بقول ه :الش رع عق ٌل من خ ارج،
ويكمل بن اء البش ر الس وي ،ب ل لق د قدم ه الن ُّ
ِّ يجمل
ال ذي ِّ
يتم
يتم دين الم رء ح تى ّ
والعق ل ش رعٌ من داخ ل ،وقول ه ،دين الم رء عقل ه ،فمن ال عق ل ل ه ال دين ل ه ،وقول ه ال ّ
ريف... ات أعظم تش ات البيِّن ذه اآلي ري به دماغ البش َّرف ال ه ،فش عقل
"ولقد أش اد ب ذكر العلم وفض ل العلم اء ،وق ال في ه ذا المع نى من الحكم م ا يك اد يجم ع كتاب اً ،ونحن ل و بحثن ا في
ّر". ير أو بش ذكر العلم بخ دة ت ة واح دنا آي ا وج ل لم اإلنجي
ه ذا ه و الموض وع ،وهن ا ب دء تفض يل المحمدي ة على المس يحية ال ذي قلن ا إن ه كف ٌر باإلس الم ال ذي يتظ اهر رش يد
آمن ب ه .وبم ا أن الخ وري ق د خل ط بين ال دين والطريق ة العلماني ة في الكالم ال ذي ش اء أن يس ِّميه
الخ وري بأن ه َ
بحث اً فال ب د من اقتف اء أث ره في اعوجاج ه والتوائ ه .إن ه جع ل ه ذا الكالم "بحث اً اجتماعي اً فعالً" فلنوافق ه من أج ل
البحث.
5
كان الصحيح .من حيث البحث ،أن يقابل القرآن على اإلنجيل مقابلة كالم إلهي لكالم إلهي ،فال ي زين للمؤم نين
أن يتبعوا غ روره ونفاق ه .به ذا يقض ي منط ق العق ل .ولكن ال ذي اخت َّل منطق ه واض طرب ش عوره أيع رف ال دين
ق؟ أو المنط
بقي أن نعلق على قول الخوري المتقدم تعليقاً أوسع في ما يختص بما جعله أساس المفاض لة .إن وص ف محم د
عري ال ذي ال
الش رع بأن ه عق ٌل من خ ارج ،ووص فه العق ل بأن ه ش رعٌ من داخ ل ،إنم ا ه و ش يء من التعلي ل الش ّ
يتم عقل ه ،ومن ال عق ل ل ه،
يعين تعييناً جازماً مرك ز العق ل البش ري من الش رع .وقول ه :ال يتم دين الم رء ح تى ّ
ّ
حث على ع دم الجه ل بال دين ،وال يش تمل على ّأي ة نظ رة فلس فية ش املة في العق ل .ول و اش تمل
ال دين ل ه ،فه و ّ
على ه ذه النظ رة الش املة وجعله ا محم د قاع دة دعوت ه لك ان اكتفى ب أن يك ون فيلس وفاً ي ذهب م ذهب الفالس فة
المحكمين العق ل في ك ل الظ واهر ،الجاعلين ه ج وهر الطبيع ة وم يزة اإلنس ان ،فيك ون ،في ه ذا الب اب ،تلمي ذاً من
ّ
وري العظيم زين ون ،وه و قب ل تالم ذة المدرس ة الس ورية الفلس فية ال تي وض ع قواع دها الفلس فية الفيلس وف الس ّ
ذرة على م ذهب
محمد وقبل المس يح بزم ان .ومن ه ذا الوج ه م ا ك ان يك ون لمحم د فض ل .إذ ه و لم ي زد مق دار ّ
بي ال في أن ه فيلس وف .وم يزة المحمدي ة هي في الق رآن
الرواق يين في الفك ر .إن م يزة محم د هي في أن ه ن ّ
والشريعة الواردة فيه ،ال في الحديث الذي هو من مجمالت النبي وحسن نظره وسالمة فطرته.
الجهل المُطبق
قال الخوري ،بعد عبارته المتقدمة" :فاإلنجيل كتاب روحاني ُيع نى ب اآلخرة فحس ب وال يعلِّم في ه ذه ال دنيا غ ير
الدروش ة والزه د وقه ر الجس د وحبس العق ل في قفص من غب اوة االستس الم لم ا وراء المنظ ور وه و يقت ل
المواهب ويهيض األجنحة ويعصب على العيون ويربط الفطرة بالسالسل الثقيلة ويخنق الطم وح فال مج د عن ده
إالّ مج د الخض وع األعمى للتع اليم الس ماوية كم ا بش ر به ا ه و .ال ب أس في ش ريعته أن تعيش عب داً رقيق اً م دى
الحي اة تُس ام الخس ف واله وان والجل د بالس ياط م ا دمت تعتق د أن بع د الم وت حي اة ثاني ة تُث اب فيه ا على خنوع ك
واستسالمك وصبرك على الظلم .ولقد فسح اإلسالم لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجاالً ال حد ل ه بقول ه "اعم ل
ل دنياك كأن ك تعيش أب داً" في حين جعلت المس يحية الفق ر ش رطاً أساس ياً ل دخول الس ماء عمالً بقوله ا للغ ني ال ذي
طلب أن ي رث الحي اة األبدي ة" ب ع ك ل أمالك ك ووزع ثمنه ا على الفق راء واتبع ني " ولعم ري ل و عم ل ك ل غ ني
به ذه الش ريعة ألص بح الن اس جميع اً م دقعين ولم يب ق في األرض من يس تطيع أن يج ود على فق ير بفلس".
ال ننتظ ُر أن يكون لرشيد سليم الخوري ضابط من جهله ،ألن الض ابط يك ون من العلم ،وال يمكن مطلق ا ً أن يك ون
6
ي هو من الجهل .فهو في الفق رة المتقدم ة ،يت ابع المقابل ة بين المس يحية والمحمدي ة على قاع دة أن الح ديث النب و َّ
اإلسالم وشريعته .فقوله" :لق د فس ح اإلس الم لمح بي الكس ب وط البي ال ثروة مج االً ال ح د ل ه بقول ه( ،أي بق ول
َّ
(ألن القول لإلمام علي) في مق ام اإلسالم) "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً الخ" يجعل الحديث النبو ّ
ي وأقوال األئمة
الشريعة اإلسالمية .وهو جهل ما بعده جهل .فاإلسالم ال يقول هذا الق ول ،وإنم ا ال ذي يقول ه ه و عل ّي ال اإلس الم.
وهنالك فرق أساسي جوهري بين الرسالة اإلسالمية والحديث النبوي ال يغفله غير الجه ال ال ذين يطلب ون الكس ب
دين والعلم. دجيل على ال تى بالت ثروة ح وال
لما كان الخوري قد اتخذ في هذا الكالم صفة باحث متجرد عن االعتقادات الدينية ،وكنا قد آلين ا على أنفس نا تتبع ه
في جمي ع التواءات ه واعوجاجات ه فإنن ا س نعالج ه ذه النقط ة من وجه ة الدراس ة العلمي ة:
إن الكالم الذي ورد على لسان محمد ،أو قيل إنه ورد على لسانه ،يُقسم إلى قسمين :قسم عزاه محمد إلى هللا ُمعلن ا ً
أنه نزل عليه وحيا ً إلهياً ،وقسم لم يعزه إلى هللا فهو حديث منه ح َّدث به في أوقات متفاوت ة .فالقس م األول فق ط ه و
ق على المس لم إالّ م ا ورد في ه .والمش كوكاإلسالم والشريعة اإلسالمية ،وفيه أوامر هللا ونواهيه وحدوده ،فال يح ُّ
ٌ
آيات قليلة .أما القس م الث اني فليس اإلس الم وال الش ريعة اإلس المية ،وإنم ا ه و أق وال حكمي ة فيه من القسم األ َّول
ي منها في كيفية فهم نبيّه وفهم نظرته في بعض أحوال الدين والدنيا .وهذا القسم الث اني مش كوك في يستفيد المحمد ّ
َّ ً
الكثير منه .ومع أن المتقدمين عزلوا المشكوك الذي س َّموه "مجروحا" عن "الص حيح" ف إن األبح اث المستفيض ة
المتأخرة دلّت على أن الكثير من الح ديث النب وي المحس وب ص حيحا ً مج روحٌ ،أو غ ير ص حيح ،فلم يع د يص ّح
اعتماده حتى وال في صفته المحدودة كح ديث ف اه ب ه محم د من غ ير أن يعيّن ش ريعة أو نص ا ً يجب التمس ك ب ه.
يعين للمحم ديين طري ق الحي اة ،غ ير جاه ل جهالً مطبق اً
النبوي هو اإلسالم الذي ّ
ّ بناء عليه ،ال يقول إن الحديث
كرش يد الخ وري ال ذي ظن أن اس تعارة بعض العب ارات العلمي ة الص بغة وإ طالقه ا في مع رض الت دجيل لكفيالن
ل والعلم!. ّويا بين الجه أن يس ب
إن المقابل ة بين اإلنجي ل والح ديث النب وي هي جريم ة ض د الم ذهبين المس يحي والمحم دي
قلنا في المقالة الس ابقة ّ
لل ّذين يعتبرون نصوصهما أو نصوص أحدهما ،فضالً عن أنها دليل قاطع على جهل صاحب الحارضة أوليات
"البحث" ال ذي تص َّدى ل ه تزلّف اً إلى اتّب اع أح د الم ذهبين الم ذكورين ،غ ير ع ابئ ب العواقب الوخيم ة ال تي يجره ا
أي زمن آخ ر إلى قت ل روح التعص ب ال ديني ال ذي مطلبه النفعي على أبناء أمة واحدة هي اآلن أح وج منه ا في ّ
ل. ير الوي هغ لم تجن من
ونق ول هن ا إن الجريم ة ق د ك برت بإقام ة المث ل ال دنيا المادي ة ،ال تي رأين ا ،في م ا تق ّدم من ه ذه المق االت
الدراسية(عودة إلى جنون الخلود فصل من 1وحتى )12أن رشيد الخوري ال يع رف مثالً غيره ا ،مق ام المث ل
طل ة للمزاي ا اإلنس انية الس امية .فالواض ح
العليا التي تتجه إليها جمي ع النف وس الطالب ة االنتص ار على المادي ة المع ّ
أن المقي اس ال ذي يس تعمله لتفض يل المحمدي ة على المس يحية ه و المقي اسمن كالم ص احب الحارض ة المتق دم ّ
اب روح اني" يقيم مادي ة المحمدي ة في مقابله ا ويجع ل المادي ة أس اس
الم ادي ،فبينم ا ه و يص ف اإلنجي ل بأن ه "كت ٌ
فض ائل المحمدي ة كلّه ا ألن ه لم يتخ ذ غ ير الج زء الم ادي البحت من ح ديث مش هور ،وه ذا الج زء ه و" :اعم ل
داً". ك تعيش أب دنياك كأن ل
7
رأى رشيد الخوري في هذا الجزء من أح د األح اديث أعظم حكم ة في اإلس الم المحم دي .فق د انطب ق ه ذا المث ل
"لمحبي
ّ على عقليت ه الرازح ة بالمادي ة ،أيم ا انطب اق فق ال عن ه :إن ه ج وهر الرس الة المحمدي ة ال تي فس حت ب ه
الكسب وطالبي الثروة مجاالً ال ح د ل ه" .وبن اء على ه ذه القاع دة ال تي وج د فيه ا الخ وري ك ل اإلس الم المحم دي
وج وهر م ا يفض ل ب ه على اإلس الم المس يحي لم يج د حرج اً في أن يطلب ه و الكس ب وال ثروة ح تى باس تباحة
وريين. ديين من الس يحيين والمحم دماء بين المس ة ال ديني وإ راق ب ال ارة التعص إث
إن أعظم فضيلة يراها رشيد س ليم الخ وري في المحمدي ة هي :اتب اع الش هوات المادي ة وفس ح المج ال الالمح دود
له ا ،ب دالً من كبحه ا وإ حالل الفض ائل النفس ية المفض لة اإلنس ان على الحي وان محله ا.
وه و ،لعج زه عن طلب المث ل الروحي ة العلي ا ال تي يراه ا في اإلنجي ل وال ي رى خرق اً فيه ا يم ر من ه إلى ماديت ه
المخرب ة ،يق ول إن اإلنجي ل كت اب ُ"يع نى ب اآلخرة فحس ب" ،أي إن ه يجب ت رك تعاليم ه جانب اً ،في ك ل م ا
ّ الحقيرة
الميالين إلى الشر واإلجرام يبغضون يتعلق بالحياة البشرية .واالنتهاء إلى هذه النتيجة هو شيء طبيعي ،فجميع ّ
الق وانين المس نونة لمحارب ة اإلج رام ويس بون القض اة النزه اء ال ذين حكم وا عليهم أحكام اً عادل ة قاس ية .وجمي ع
األوالد الس يئي التربي ة في بي وتهم المعت ادين على إطالق العن ان لش هواتهم ورغب اتهم الجامح ة يكره ون المعلم
ا. تهزئون به ه ويس خرون من تعاليم ائل ويس ق الفض د في تعليمهم طري ذي يجته ال
لنأخ ذ ه ذا ال درس ب الترتيب لئال يفوتن ا ش يء من فوائ ده .لنع د إلى م ا نقلن اه في المقال ة الس ابقة من كالم رش يد
الخوري وهو مع ما نقلناه هنا أساس النظريات التي يبني عليها الخوري تفضيله المحمدية على المسيحية .فبعد
أهم م ا يمت از ب ه اإلس الم المحم دي على
أن ذك ر أق وال الن بي في ض رورة ص حة العق ل للم ؤمن ق ال إن من ّ
المس يحية أن محم داً "أش اد ب ذكر العلم وفض ل العلم اء" ،وإ ن ه ليس في اإلنجي ل "آي ة واح دة ت ذكر العلم بخ ير أو
ر". بش
ه ذه المفاض لة الس قيمة تُظه ر كم يجه ل رش يد الخ وري الت اريخ االجتم اعي والت اريخ السياس ي للبش رية ومق دار
جهله عوامل نشأة المسيحية في بيئتها وعوامل نشأة المحمدية في بيئتها .ومع أن المقابل ة بين اإلنجي ل والح ديث
تصح من أساسها كما بين ا آنف اً فال ب د لن ا من تن اول ه ذه القاع دة المتهدم ة للمفاض لة ألنه ا تش تمل على
ّ النبوي ال
سفس طة س هلة الش يوع عن د العام ة والخاص ة الناقص ة الثقاف ة لكم ال س طحيتها وإلغفاله ا الحق ائق االجتماعي ة
والتاريخي ة .فهي ،من ه ذه الجه ة ،تك ِّون خط راً على ص حة االتج اه الفك ري وعلى االرتق اء النفس ي نح و أجم ل
ا. ل العلي المث
نش أت المس يحية في س ورية بع د أن ك ان ق د مض ى عه د طوي ل على ارتق اء الس وريين عن مرتب ة البربري ة ال تي
8
بقي عليه ا الع رب بعام ل ب يئتهم الطبيعي ة غ ير القابل ة العم ران والتم دن وبع د أن ك ان مض ى زمن طوي ل على
إنش اء الس وريين أعظم مدني ة عرفه ا الع الم في الت اريخ الق ديم وهي المدني ة ال تي ق امت على قواع دها المدني ة
رية. العص
نشأت المسيحية في بالد كانت قد بلغت أوج العلم والتم دن وش بعت من الفتوح ات في أفريقي ة وأوروب ة ـ بالد لم
يحبب إلى ش عبها العلم ،ألنه ا ك انت أس بق األمم إلي ه ،ومنه ا تعلم اإلقري ك والروم ان.تكن في حاج ة إلى من ّ
فالتبش ير بمحاس ن العلم في أم ة العلم م ا ك ان يك ون ل ه وق ع غ ير وق ع قول ك للن اس :الم اء ض روري ألن ه ُي ذهب
وع. د الج بز يس العطش ،والخ
لم يكن المس يح يهودي اً ،ولم يكن ل ه "آب اء يه ود" كم ا يق ول ص احب الحارض ة هاجي اً إي اه ،ب ل ك ان س ورياً يتكلم
ويخ اطب الجم اهير بالس ريانية .وه و نفس ه رفض أن ي دعى "ابن داود" كم ا أراد اليه ود ،فق ال في ذل ك" :كي ف
يقول ون إن المس يح ابن داود ،وداود نفس ه يق ول في كت اب المزام ير :ق ال ال رب ل ربي اجلس عن يمي ني ح تى
أض ع أع داءك موطئ اً لق دميك .ف إذا ك ان داود ي دعوه رب اً فكي ف يك ون ابن ه" (لوق ا )41 :20 :به ذا الق ول قط ع
المسيح ك ل س بيل لقيام ه على أس اس التقالي د اليهودي ة القائل ة إن ه يك ون يهودي اً من نس ل داود .فال يص ح أن يق ال
ورية. ة الس و ابن البيئ اً .فه ان يهودي يح ك إن المس
أم ا المحمدي ة فق د نش أت في العرب ة ال تي ال عم ران فيه ا وال تم دن ،والع رب لم يرتق وا عن مرتب ة بدائي ة ولم
يعرفوا العلم .وفنونهم مقصورة على الغزو والسلب ونظم الشعر ،فحدثهم محم د بم ا يحت اجون إلي ه ،ول ذلك ك ان
حديثه في محله وفي م ا يحت اج إلي ه؛ فحثهم على طلب العلم ،ألن ه لم يكن لهم .وه و ال ذي ك اد يض يق ذرع اً بهم
أشد كفراً ونفاقاً وأج در أالّ يعلم وا ح دود م ا أن زل اهلل على رس وله واهلل عليم حكيم...
فنزلت اآليتان{ :األعراب ّ
النف اق ال تعلمهم نحن نعلمهم س نع ّذبهم م رتين
وممن حولكم من األعراب منافقون ومن أهل المدين ة م ردوا على ّ ّ
ة 97 :و.)101 ذاب عظيم} (التوب ردون إلى ع
ّ ثم ي
وفي النص وص المحمدي ة اع تراف ص ريح ب أن الرس ل يرس لون لهداي ة أق وامهم ،وأن محم داً رس ول إلى الع رب
رب ه إنم ا أنت من ذر ولك ّل ق وم ه اد} (من
خاصة بدليل قول القرآن{ :ويقول الذين كفروا لوال أنزل عليه آية من ّ
أم ة إالّ خال فيه ا ن ذير} (من س ورة ف اطر)24 : الحق بش يراً ون ذيراً وإ ّن من ّ
{إن ا أرس لناك ب ّ
س ورة الرع دّ )7 :
زكيهم ويعلِّمهم الكت اب والحكم ة
{لق د م َّن اهلل على المؤم نين إذ بعث فيهم رس والً من أنفس هم يتل و عليهم آيات ه وي ِّ
َ
ران.)164 : ورة آل عم بين} (من س الل م ل لفي ض انوا من قب وإ ن ك
9
الدرج ة ال تي عليه ا الق وم ال من درج ة فوقه ا .وه ذه هي الهداي ة الص حيحة .ف إن معلم المدرس ة الف اهم الخب ير ال
يبت دئ تعليم األح داث علم الج بر والهندس ة والمنط ق قب ل أن يكون وا ق د أكمل وا دروس الحس اب والجغرافي ة
واألش ياء .ول و أن المس يح ومحم داً تب ادال الرس الة فظه ر المس يح في العرب ة وظه ر محم د في س ورية لم ا ك انت
رس الة المس يح ابت دأت على الدرج ة العالي ة ال تي ابت دأت به ا في س ورية ،ولم ا ك انت رس الة محم د ابت دأت على
الدرج ة األولي ة ال تي ابت دأت به ا في العرب ة .ل و ك ان محم د في س ورية لم ا وج د حاج ة ب ه للك رازة بأهمي ة العلم
ألن الس وريين ك انوا الس باقين في ه ،وإ ليهم يع ود فض ل تعليم الع رب العلم والفلس فة كم ا تش هد ب ذلك الت واريخ
العربية عينها.
ليس ت الرس الة المحمدي ة ه ذه الرس الة المادي ة ال تي يص ورها رش يد س ليم الخ وري ويق ول
إنه ا أطلقت الش هوات والم آرب المادي ة من ك ل قي د وأزالت من أمامه ا ك ل ح د ،ب ل هي
رسالة روحانية قبل كل شيء ،ومتجهة في االتجاه عينه ال ذي تتج ه في ه المس يحية ،ولكنه ا
طرت ،بحكم البيئ ة ،ألخ ذ ت أخر أو جم ود الثقاف ة المادي ة في العرب ة بعين االعتب ار.
اض ّ
ولما كانت الثقافة النفسية العالية ال يمكن أن تقوم ب دون قاع دة ثابت ة من الثقاف ة المادي ة فق د
رأت الرس الة المحمدي ة أن تهتم بش ؤون الثقاف ة المادي ة كي ته يئ االنتص ار على الم ادة
والتسامي في ع الم ال روح .ولم تكن الرس الة المس يحية في حاج ة لالهتم ام بش ؤون الثقاف ة
المادي ة ،ألن البيئ ة الس ورية ك انت ق د بلغت به ا أبع د ش أو.
لم يكن الحديث" ،اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً" فقط .وهو لو اقتصر على ه ذا الق ول لك ان
مذهبه الفكري هو اإلغراق في المادية الالمحدودة ،كما يقول الخوري .ولكن الح ديث ك ان:
"اعمل لدنياك كأن ك تعيش أب داً واعم ل آلخرت ك كأن ك تم وت غ داً" ،فأخض ع به ذا الق ول
المادية إخضاعا ً كليا ً للروحية .فغرض السعي والكسب لم يعد للبقاء في المادية الالمح دودة،
بل صار للوصول إلى المستوى الروح اني ال ذي ذهب المس يح إلي ه رأس ا ً لع دم حاجت ه إلى
إعداد األساس الما ّدي ألن هذا كان موجوداً بكثرة .وكل من قرأ كتاب الزعيم "نش وء األمم"
يعلم أن المستوى العمراني السوري كان أعلى مس ت ًوى في الت اريخ االجتم اعي قب ل عص ر
اآللة الحديث ،وبه ذا يش هد جمه ور علم اء األق وام البش رية والجغرافي ة االقتص ادية أمث ال
ويدال لبالش .وال نترك هنا التحف ظ الس ابق من جع ل الح ديث في مق ام اإلس الم المحم دي.
إن المادي ة هي إح دى القض ايا ال تي ك ان ال ب د للمحمدي ة من مواجهته ا لتتمكن من تق ريب
10
النفس العربية التي جففتها الصحراء إلى الحال ة الروحاني ة ال تي ال يمكن أن تنش أ في حال ة
مادية ومقي دة للنفس .الج ائع يجب أن يأك ل ليص بح ق ادراً على التفك ير في ش ؤون أخ رى،
وال ذي لم يتمكن من س د جوع ه الم ادي ـ الفيزي ائي ال يش عر ب الجوع ال روحي ،والنفس ية
المثالية ترتقي بنسبة تأمين مقومات الحياة ،إذا ك انت النفس مؤهل ة لالرتق اء .أم ا المس يحية
فلم تكن في حاجة إلى النظر في الحاجات المادية ،ألن سورية كانت بالداً يفيض الغنى فيه ا
فيضاً .انظر ما جاء في نبوءة زكريا من التوراة" :وق د بنت ص ور حص نا ً لنفس ها وك َّومت
الفضة ك التراب وال ذهب كطين األس واق" .ف البالد ال تي ك ان ال ذهب والفض ة فيه ا بك ثرة
ب. ديها إلى الكس ة لمن يه تراب لم تكن في حاج ال
وال ش ك في أن الرس الة المس يحية والمحمدي ة واح دة .وق د ج اء محم د مص دقا ً للرس الة
المسيحية بكالم إلهي مثبت في القرآن ،وليس بمجرد حديث نبوي .ول و أن محم داً ج اء قب ل
المسيح لكان المسيح صدق الرسالة المحمدي ة وع د رس الته مكمل ة له ا من عن د الح د ال ذي
وقفت عنده ،كما عدها مكملة للرسالة الموسوية من عن د الح د ال ذي وقفت عن ده وه و الح د
ال ذي يلتقي مع ه ح د المحمدي ة في التش ريع والقض اء والعناي ة بالعالق ات االجتماعي ة من
الدرج ة الثقافي ة ال تي عليه ا الجماع ة ال تي ظه رت فيه ا ك ل من الرس التين الم ذكورتين.
ولقد كان التبشير واإلنذار بعبادة هللا وترك عبادة األصنام ج وهر الروحاني ة المحمدي ة كم ا
كانا جوهر الروحانية الموسوية ،فصفة محمد في القرآن هي صفة "البشير الن ذير"؛ وتلتقي
الرسالتان الموس وية والمحمدي ة في البش ارة واإلن ذار والتش ريع .واآلي ات المتش ابهة مبنًى
ومعنًى من التوراة والقرآن كثيرة نقتصر على أمثل ة قليل ة منه ا" :فه وذا ي أتي الي وم المتق د
كالتنور وكل المستكبرين وك ل ف اعلي الش ر يكون ون قش ا ً ويح رقهم الي وم اآلتي ،ق ال رب
ّ
ولكن الجنود فال يبقي لهم أصالً وال فرع اً" (مالخي4:ـّ )1
{إن ّ
الس اعة آلتي ة ال ريب فيه ا
إن ال ذين يس تكبرون عن عب ادتي أكثر الناس ال يؤمن ون .وق ال ربّكم ادع وني أس تجب لكم ّ
سيدخلون جهنّم داخرين} (غافر 59 :ـ " )60اذكروا شريعة موسى عب دي ال تي أمرت ه به ا
في حوريب على كل إس رائيل الف رائض واألحك ام" (مالخي 4 :ـ { )4تل ك ح دود هللا ومن
يطع هللا ورسوله يدخله جنات تجري من تحته ا األنه ار خال دين فيه ا وذل ك الف وز العظيم}
(النساء" )13 :وأقترب إليكم للحكم وأكون شاهداً سريعا ً على السحرة وعلى الفاسقين وعلى
الحالفين زوراً وعلى السالبين أجرة األجير واألرملة واليتيم ومن يص ّد الغريب وال يخش اني
{إن الذين ي أكلون أم وال اليت امى ظلم ا ً إنّم ا ي أكلون في
قال رب الجنود" (مالخي 3 :ـ ّ )5
بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} (النساء" )10:هكذا ق ال رب الجن ود اقض وا قض اء الح ق
واعملوا إحسانا ً ورحمة كل إنسان مع أخيه .وال تظلموا األرمل ة وال الي تيم وال الغ ريب وال
الفق ير وال يفك ر أح د منكم ش راً على أخي ه في قلبكم" (زكري ا7:ـ9و{ )10يس ألونك م اذا
ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين واألقربين واليتامى والمساكين وابن السّبيل وما تفعلوا
ّ
والس عة أن يؤت وا من خير ّ
فإن هللا ب ه عليم} (البق رة{ )215 :وال يأت ل أول وا الفض ل منكم
أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل هللا وليعفوا وليصفحوا أال تحبّون أن يغف ر هللا
ور.)22 : ور رحيم} (الن لكم وهللا غف
ومن يقرأ سفر تثنية االشتراع في التوراة ،وفيه حدود هللا في المعامالت والعقود ،وس ورتي
البقرة والنس اء وال يج د بينه ا عالق ة وثيق ة في التش ريع والقض اء واألحك ام؟ الحقيق ة أنه ا
متشابهة إلى ح د بعي د ج داً .وإلي ك ش يئا ً من ه ذه الم وازاة الش رعية بين الت وراة والق رآن:
"ملعون من يضطجع مع امرأة أبيه ،ألنه يكشف ذيل أبي ه" (تثني ة 27 :ـ { )20وال تنكح وا
11
ما نكح آباؤكم من النّساء إالّ ما قد سلف إنه كان فاحش ة ومقت ا ً وس اء س بيال} (النس اء)22 :
"وإذا اضطجع رج ل م ع ام رأة أبي ه فق د كش ف ع ورة أبي ه .إنهم ا يُقتالن كالهم ا .دمهم ا
عليهما .وإذا اضطجع رجل مع كنته فإنهما يُقتالن كالهما .ق د فعال فاحش ة .دمهم ا عليهم ا.
وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة .بالنار يحرقونه وإياها لكيال يكون رذيلة بينكم .وإذا
أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه ورأى عورته ا ورأت هي عورت ه ف ذلك ع ار يقطع ان
أمام أعين بني شعبهما .قد كشف ع ورة أخت ه .يحم ل ذنب ه .وإذا اض طجع رج ل م ع ام رأة
طامث وكشف عورتها عرى ينبوعها وكشفت هي ينبوع دمها يقطعان كالهم ا من ش عبهما.
عورة أخت أمك أو أخت أبيك ال تكشف .إنه قد عرى قريبته .يحمالن ذنبهما .وإذا اض طجع
رجل مع امرأة عمه فقد كشف عورة عمه .يحمالن ذنبهما .يموتان عقيمين .وإذا أخ ذ رج ل
امرأة أخيه فذلك نجاس ة .ق د كش ف ع ورة أخي ه .يكون ان عقيمين" (الويين{ )20 :ح رّمت
عليكم أمه اتكم وبن اتكم وأخ واتكم وع ّم اتكم وخ االتكم وبن ات األخ وبن ات األخت وأ ّمه اتكم
الالّتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة وأ ّمهات نسائكم ورب ائبكم الالّتي في حج وركم من
بهن فال جناح عليكم وحالئل أبنائكم ال ذين من بهن فإن لم تكونوا دخلتم ّنسائكم الالّتي دخلتم ّ
أصالبكم وأن تجمعوا بين األختين إالّ ما قد سلف إن هللا كان غفوراً رحيم اً} (النس اء)23 :
"ال يقترب إنسان إلى قريب جسده ليكشف الع ورة .أن ا ال رب .ع ورة أبي ك وع ورة أم ك ال
تكشف .إنها أمك ال تكشف عورتها ،عورة امرأة أبي ك ال تكش ف .إنه ا ع ورة أبي ك .ع ورة
أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجا ً ال تكشف عورتها .عورة
ابنة ابنك أو ابنة ابنتك ال تكشف عورتها .إنها عورتك .عورة بنت ام رأة أبي ك المول ودة من
أبيك ال تكشف عورتها .إنها أختك .عورة أخت أبيك ال تكشف .إنها قريبة أبيك .ع ورة أخت
أمك ال تكش ف .إنه ا قريب ة أم ك .ع ورة أخي أبي ك ال تكش ف .إلى امرأت ه ال تق ترب .إنه ا
عمتك .عورة كنتك ال تكشف .إنه ا ام رأة ابن ك .ال تكش ف عورته ا .ع ورة ام رأة أخي ك ال
تكشف .إنها عورة أخيك .عورة ام رأة وبنته ا ال تكش ف .وال تأخ ذ ابن ة ابنه ا أو ابن ة بنته ا
لتكش ف عورته ا .إنهم ا قريبتاه ا .إن ه رذيل ة .وال تأخ ذ ام رأة على أخته ا الض ر لتكش ف
عورتها معها في حياتها .وال تقترب من امرأة في نجاسة طمثها لتكشف عورتها .وال تجع ل
مع امرأة صاحبك مضجعك لزرع فتتنجس بها"( .الويين )18 :ومن مقابلة ه ذه اآلي ات في
الت وراة والق رآن نج د موض وع التش ريع واح داً والح دود واح دة .فل نر أمثل ة أخ رى:
12
"إذا أخ ذ رج ل ام رأة وت زوج به ا ف إن لم تج د نعم ة في عيني ه ألن ه وج د فيه ا عيب ش يء
وكتب له ا كت اب طالق ودفع ه إلى ي دها وأطلقه ا من بيت ه وم تى خ رجت من بيت ه ذهبت
وصارت لرج ل آخ ر ف إن أبغض ها الرج ل األخ ير وكتب له ا كت اب طالق ودفع ه إلى ي دها
وأطلقها من بيته أو إذا م ات الرج ل األخ ير ال ذي اتخ ذها ل ه زوج ة ال يق در زوجه ا األول
الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست ،ألن ذلك رجس لدى ال رب"
(تثنية 24 :ـ 1ـ { )4فإن طلّقها فال تح ّل له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره فإن طلّقه ا فال
يبينه ا لق وم يعلم ون}
ظن ا أن يقيم ا ح دود اهلل وتل ك ح دود اهلل ّ
جن اح عليهم ا أن يتراجع ا إن ّ
(البقرة .)230 :والحكم في القرآن هو العكس تماماً لما في الت وراة ،ولكن مقص د الش ارع
واح د وه و تقيي د الطالق .وهك ذا فس ر مفس رو المحمدي ة حكم ه ذه اآلي ة.
وورد في الق رآن في م ا يختص ب الطمث ال وارد عن ه في الت وراة ،وه و مثبت ف وق ،ه ذه
وهن
اآلي ة{ :ويس ألونك عن المحيض ق ل ه و أذى ف اعتزلوا النس اء في المحيض وال تقرب ّ
ويحب
ّ يحب التّ ّوابين
إن اهلل ّ
أتوهن من حيث أم ركم اهلل ّ
ّ ح تى يطه رن ف إذا تطهّ رن ف
رة.)222 : رين} (البق المتطهّ
ووردت أيض اً مش ابهات أحك ام ال زنى والرب ا والس رقة وم ا ش اكل من ق وانين الج زاء.
وال نطي ل الش رح في أن ه ذه اآلي ات التش ريعية متس اوية في األس اس ،متش ابهة في الش كل
في م ا يختص بالحال ة الش رعية لألزواج واإلم اء وفي م ا يختص ب المحلالت والمحرم ات
في المأكل .ونضيف إلى هذا االتفاق في المذهبين في األحوال المدنية والشخص ية االتف اق
ة: ة الديني ؤون الدول في ش
"ومن وس ط أخوت ك تجع ل ملك اً علي ك .ال يح ّل ل ك أن تجع ل علي ك رجالً أجنبي اً ليس ه و
أخ اك (أي أخ اك في ملت ك)" .وه ذه الوص ية من س فر التثني ة األص حاح ( 17ـ .)15
ويقابله ا في الق رآن{ :ال ذين يتّخ ذون الك افرين أولي اء من دون المؤم نين أيبتغ ون عن دهم
إن الع ّزة للّ ه جميع اً} (النس اء{ ...)139 :ي ا ّأيه ا الّ ذين آمن وا ال تتّخ ذوا الك افرين
الع ّزة ف ّ
أولي اء من دون المؤم نين أتري دون أن تجعل وا للّ ه عليكم س لطاناً مبين اً} (النس اء.)144 :
في ه ذا الق در كفاي ة إلثب ات اتف اق المل تين الموس وية والمحمدي ة في أس اس تش ريعي واح د.
13
وسيأتي تبيان أسباب هذه االتفاقات والمشابهات في ما يلي من هذا البحث.
وج دنا ،من مقابل ة أحك ام الق رآن وح دوده على أحك ام الت وراة وح دودها ،أن نص وص الش ريعتين الموس وية
والمحمدية واحدة مع فوارق شكلية قليلة ال تغير شيئاً من وحدة األس اس .فاهلل ق د أوحى ،إلى محم د في الق رآن،
الشريعة عينه ا ال تي أوحاه ا إلى موس ى وجمي ع النب يين ال ذين تق دموا محم داً ،كم ا ه و مثبت في الق رآن .واهلل ق د
ات مس يحية أيض اً ،ولكن الش عب ال ذي أرس ل إلي ه محم د لم يكن من اإلدراك والثقاف ة بحيث أوحى إلى محم د آي ٍ
ماس ة إلى األس اس الق انوني ال ذي يجم ع بين قبائل ه المتش ّعثة،
يمي ل إلى األخ ذ بالتع اليم العلي ا ،وك انت حاجت ه ّ
ويض من العالق ات ويح دد ط رق المعامل ة ،فال تك ون معلق ة على تع اليم الفلس فة المناقبي ة ال تي علمه ا المس يح
وجعلها تاجاً للشريعة وحكماً عليها .وك ان االنتص ار األول للثقاف ة النفس ية على ح دود الش رع الجام دة .فانتص ار
العقل على الشرع حدث أوالّ بظهور التعاليم المسيحية؛ وأعظم أسباب نقمة اليهود على المسيح ه و كون ه خ رج
ويحس نها ،ب دالً من التقي د بالنص وص ،كم ا ه و الح ال
ّ على نص وص الش رع وق ال بتأوي ل الش رع لم ا يفي د الحي اة
في الق رآن والت وراة .المس يح ه و ال ذي ق ال" :ال تحكم وا بحس ب الظ اهر ،لكن احكم وا حكم اً ع ادالً"(يوحن ا 7ـ
)24وهو قال هذا القول ألن اليهود نقموا عليه إلبرائ ه إنس اناً ي وم الس بت المح رم العم ل في ه عن د اليه ود حس ب
ش ريعة موس ى ،وك ان ق د ق ال قب ل ه ذه اآلي ة" :إن موس ى أعط اكم الخت ان ،ال ان ه من موس ى ب ل من اآلب اء
علي ألني
فتختنون اإلنسان في السبت .فإن كان اإلنسان يختن في السبت لئال تنقض شريعة موسى أفتس خطون َّ
أبرأت اإلنسان كلّه في السبت؟" (يوحنا 7 :ـ 22و )23وكان اليهود يعترضون ،ليس فقط على إبراء الرج ل في
السبت ،بل أيضاً على حمل الرجل سريره بعد شفائه ،ألنه لم يكن يجوز في شريعة موسى أن يعم ل ش يء ي وم
بت. الس
وكان الكتبة والفريسيون يجادلون المسيح دائما ً ويحاولون أن يأخذوه بجريرة مخالفة الش ريعة .واإلنجي ل مش حون
بهذه المحاوالت .وأه ّم محاولة كانت هذه" :ومضى يسوع إلى جبل الزيتون .ثم رجع باركا ً إلى الهيكل ،فأقبل إلي ه
الشعب كلهم فجلس يعلّمهم .وقدم الكتبة والفريسيون إلى يسوع امرأة أخذت في زنى وأقاموها في الوسط .وقالوا يا
إن هذه المرأة قد أخذت في الزنى .وقد أوصى موسى في الناموس (الشريعة) أن ترجم مثل هذه ،فماذا تقول معلمّ ،
ّ ً
أنت؟ وإنما قالوا هذا تجريبيا له ليجدوا ما يشكونه به .أما يسوع فأكبَّ يخط بإص بعه على األرض .ولم ا اس تمروا
يسألونه انتصب وقال لهم" :من كان منكم بال خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر" .ثم أكبّ أيض ا ً يخ طّ على األرض .أم ا
أولئك فلما سمعوا طفقوا يخرجون واحداً فواحداً ،وكان الشيوخ أوّل الخارجين .وبقي يس وع وح ده والم رأة قائم ة
في الوسط .فانتصب يسوع وقال لها" :يا امرأة أين الذين يشكونك ،أما حكم عليك أحد؟" .قالت" :ال ي ا رب" فق ال
14
ا 8 :ـ 2ـ .)11 ئين"( ".يوحن ودي تخط بي وال تع ك ،اذه ا أحكم علي وع" :وال أن يس
ك في ه :الزاني ة ت رجم في في هذا المثل يظهر الصراع بين العق ل والش رع ب أجلى مظ اهره .الش رع واض ح ال ش ّ
التوراة وفي القرآن تجلد كما جاء في اآلية{ :ال ّزانية وال ّزاني فاجلدوا ك ّل واحد منهما مائ ة جل دة وال تأخ ذكم بهم ا
رأفة في دين هللا إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر وليشهد عذابهما طائف ة من المؤم نين} (الن ور )2 :فلم يقتص ر
المسيح على قوله المطلق" :ال تحكم وا بحس ب الظ اهر ،لكن احكم وا حكم ا ً ع ادالً" ،ب ل وق ف وحم ل مس ؤولية
كالمه .ولم يضع شريعة جديدة تح ّل مح ّل الشريعة السابقة في أمر الزنى ،بل علّم بتحكيم العقل ليكون الحكم عادالً
وإن خالف نص الشريعة .وهو ما لم يجر مثله في القرآن أو الحديث وذلك لم ا بين اه آنف ا ً من أن محم داً أرس ل إلى
قوم كانوا مضطرّين إلى ما كان مضط ّراً إليه العبرانيون :شريعة توجد لهم نظاما ً يوضح لهم المع امالت والح دود
ي ال تي ال تقيم نظام اً ،ول ذلك نش أ ه ذا التواف ق الكل ّي بين
والجزاء ،بدالً من ع ادات الث أر والغ زو واس تبداد الق و ّ
الشريعة المحمدية والشريعة الموسوية في الشرع حتى في الجزاء ونوعه ،كما في اآلية{ :يا أيّها الذين آمن وا كتب
عليكم القصاص في القتلى الح ّر بالح ّر والعب د بالعب د واألن ثى ب األنثى الخ} (البق رة )178 :وفيه ا ج وهر الج زاء
ى. ريعة موس ذكور في ش الم
وهذا يؤيّد كون محمد أرسل ليهدي بيئة لم تكن لها شريعة من قبل ،وإالّ لما وجد الوحي حاجة لتك رار م ا ورد في
التوراة وجاء محمد مصدقا ً له .وإذا كان قد بقي في ذهن أحد شيء من الشك في ما نقوله ،حتى بع دما أوردن اه من
اآليات القرآنية فإننا نؤيده بآيات أخرى كهذه اآليات{ :وكذلك أوحينا إليك قرآنا ً عربيّا ً لتنذر أم الق رى ومن حوله ا
وتنذر يوم الجمع ال ريب فيه فريق في الجنّة وفريق في السّعير} (الشورى )7 :وهذه اآلية هامة جداً ،ألنها مكي ة،
أي من اآليات التي لم يكن قد دخل فيها العامل السياسي الذي نلحظه في اآلي ات المدني ة{ .فكي ف إذا جئن ا من ك ّل
أ ّم ة بش هيد وجئن ا ب ك على ه ؤالء ش هيداً} (النس اء{ )41 :ولق د بعثن ا في ك ّل أ ّم ة رس والً الخ} (النح ل.)36 :
وقد أثبتنا في حلقة سابقة من هذه السلسلة(14حلقة) ش يئا ً من وص ف الق رآن لبيئ ة محم د .ولع ل ه ذه اآلي ة تعطي
وصفا ً أد ّ
ق لتلك البيئة{ :قالت األعراب آمنّا قل لم تؤمن وا ولكن قول وا أس لمنا ول ّم ا ي دخل اإليم ان في قل وبكم وإن
رات.)14 : ور رحيم} (الحج يئا ً ّ
إن هللا غف الكم ش وله ال يلتكم من أعم وا هللا ورس تطيع
مؤهل ة إلدراك اإليم ان ال روحي وفهم تع اليم الفلس فة المناقبي ة .إنه ا بيئ ة ال
هذه البيئ ة العريق ة في الب داوة لم تكن ّ
الس ور المدني ة وجه ة أق رب إلى البيئ ة وعقليته ا من وجه ة تزال دون مرتبة ه ذه الفلس فة بم راتب .ول ذلك أخ ذت ّ
الس ور المكي ة .ول ذلك ك ان ظه ور روحاني ة الرس الة المحمدي ة خ ارج العرب ة في س ورية وف ارس واألن دلس .أم ا ّ
الحقيقي لم ا ي دخل
ّ أه ل العرب ة فظل وا تحت حكم اآلي ة الم ذكورة أخ يراً إلى الي وم ،أي انهم أس لموا ولكن اإليم ان
قلوبهم .وهذه الحالة التي يشجبها القرآن هي التي يم دحها ص احب الحارض ة الهجائي ة ال ذي لم يفهم من اإلس الم
إالّ بق در م ا فهمت ه األع راب ،ولم يع رف ش يئاً ص حيحاً عن المس يحية أو عن المحمدي ة ،وك ان أح وج الن اس إلى
المحمدي الذي وضع
ّ سماع محاضرات في هذين المذهبين ونشأتهما وطبيعة ك ّل منهما ،ولذلك قال عن اإلسالم
ش رعاً يس مونه في علم الحق وق والسياس ة "جام داً "Rigidoإن ه وض ع القواع د الروحي ة ـ الفكري ة للتغلب على
الشرع ،وقال عن المسيحية التي علّمت تعاليم فلسفية مناقبية لتأويل الشرع على ما يوافق األفضل للحياة الجيدة
حس ب حكم العق ل إنه ا دين "يقت ل الم واهب ويهيض األجنح ة ويعص ب على العي ون الخ".
بعد الذي بيّناه في ما تقدم من هذه الحلقة نعود إلى نقطة هامة جداً وعدنا ،في الحلق ة الس ابقة ،أن نعالجه ا في ه ذه
الحلقة ،وهي :أسباب االتفاقات والمشابهات بين الرسالتين الموسوية والمحمدية اللتين لهما أساس واحد هو الش رع
رآن. وراة والق دة في الت ه واح ا أن أحكام ذي رأين ال
15
ألمعنا في ما تقدم من هذا البحث ،خصوصا ً في الحلق تين األخ يرتين ،إلى أن الرس الة المحمدي ة هي أيض ا ً رس الة
روحية تتجه في اتجاه الرسالة المسيحية عينه ،ولكنّها اضطرّت ألخذ األس اس الم ادي بعين االعتب ار وتقديم ه في
روحي. اء ال ة على البن المعالج
والحقيقة أن الرسالة القرآنية تقسم إلى قسمين :القسم األول وهو المك ّي السابق للهجرة وفيه اآليات المكي ة المتجه ة
اتجاها ً روحيا ً على قدر ما تسمح به عقلية البيئة المحدودة العلوم والمعارف واالختب ارات واألفك ار والتص ورات،
والقسم الثاني هو المدن ّي المشتمل على اآليات المدنية والمتّجه نح و ش ؤون أولي ات االجتم اع وض روريات ب داءة
إنشاء نظام اجتماعي عام يشمل جميع العرب ويحل محل العادات والع رف المقتص رة على القبائ ل وعلى ح االت
قليلة تقوم عليها الصّالت بين القبائل التي كانت قبيلة منها كأنها أمة ودولة قائمة بنفسها ال يجمع بينها غير عادة أو
فريض ة الحج إلى الكعب ة واالص طالح على ت رك الغ زو والث أر في ش هر معيّن من الس نة.
وفي هذا القسم يظهر عامالن رئيسيان هما :التشريع والسياسة .أما التشريع فإلقامة نظ ام ع ام يلغي خصوص يات
القبائل ويو ّحد العرب .وأما السياسة فلجع ل نج اح الرس الة ونظامه ا ممكن اً .وه ذا العام ل األخ ير يظه ر في أم ر
الجهاد الذي يُغري العرب بالغزو والسلب ،وقد ظهر تأثير هذه الناحية في يوم بدر ويوم أحد ،وفي تشويق الع رب
بصور الجنة المادية وفي التس اهل في ش ؤون حي اتهم ،خصوص ا ً في النس اء وتع ّدد الزوج ات ،مراع اة لش هوات
الصحراء الحادة والقتصار شؤون حياة العرب على الغزو والسبي والسلب ووقوف حياتهم الفني ة والروحي ة على
الفرس والرمح والمرأة .والمرأة أو أنوثتها كانت أقوى عامل في نفسية العربي ،ولذلك اعت بر الق رآن ه ذه الناحي ة
مع ناحية الصور المادية للجنة حتى في اآليات المكية كما في قوله{ :الّ ذين آمن وا بآياتن ا وك انوا مس لمين .ادخل وا
الجنّة أنتم وأزواجكم تحبرون .يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه األنفس وتل ّذ األعين وأنتم
فيها خالدون .وتلك الجنّة التي أورثتموها بما كنتم تعملون .لكم فيها فاكهة كث يرة منه ا ت أكلون} (آي ات متتالي ة من
{إن المتّقين في مق ام أمين .في جنّ ات وعي ون .يلبس ون من س ندس س ورة الزخ رف المكي ة 69 :ـ )73وقول هّ :
ّ
وإستبرق متقابلين .كذلك وز ّوجناهم بحور عين .يدعون فيها بك ّل فاكهة آم نين .ال ي ذوقون فيه ا الم وت إال الموت ة
ة 51 :ـ .)56 دخان مكي ورة ال ذاب الجحيم} (س اهم ع األولى ووق
التشريع في السّور المدنية مع العامل النفسي ـ السياسي الذي ازداد قوة في هذه السور هما اللذان أعطي ا المحمدي ة
أعظم فاعليتها .يضاف إلى ذلك كون النبي عربيا ً يخاطب جماعت ه رأس اً{ :لق د ج اءكم رس ول من أنفس كم عزي ز
فص لت آيات ه قرآن ا ً عربيّ ا ً
عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوب ة )128 :وبلغتهم {كت اب ّ
لق وم يعلم ون} (فص لت )3 :وك ون الرس الة إلهي ة أق وى في النف وس على األص نام.
ولما كان هذان العامالن :التشريع والسياسة النفسية والعملية هما األش د ت أثيراً واألعظم ش أنا ً في النفس ية العربي ة
العامة فقد ق ّدمت اآليات المدنية ،حين جمع القرآن ،على اآليات المكية إال سورة الفاتحة ،وهي آيات قليلة .والسبب
هو أن السّور المدنية تشتمل على أصول المعامالت وقوانين العقود .وهي الممتازة بالحث والتحريض على الجهاد
ة. ة الجن ار وزين ة الكف ومحارب
وقد أثبتت التواريخ العربية لسير الحركة العربية وفتوحاتها شدة تأثير هذين العاملين في النفوس العربية وعظم
فاعليتهما .من ذلك ما ورد في "فتوح الشام" للواقدي .وروايته أنه لما عزم الخليفة أبو بكر على فتح سورية بدأ
يوج ه إلي ه الجي وش ،وك ان أول من عق د ل ه يزي د بن أبي س فيان على أل ف ف ارس ،وربيع ة بن ع امر على أل ف
مقدماً على ربيعة ،يج د في الس ير وال ي رحم الجيش فخاطب ه ربيع ة في ذل ك فق ال" :إن فارس .فأخذ يزيد ،وكان ّ
أب ا بك ر ،رض ي اهلل عن ه ،س يعقد العق ود ويرس ل الجي وش ف أردت أن أس بق الن اس إلى الش ام فلعلن ا أن نفتح فتح اً
قبل تالحق الناس بنا فيجتمع ب ذلك ثالث خص ال :رض اء اهلل ع ز وج ل ورض اء خليفتن ا وغنيم ة نأخ ذها" (انظ ر
16
الواق دي .طبع ة مص ر .ص فر 1354هـ .ص )4وفي خ بر ن زال خال د بن الولي د لكل وس في ح رب دمش ق أن
خالداً أجاب ُمنازله" :وأما ما ذك رت من بالدن ا وأنه ا بالد قح ٍط وج وع ف األمر ك ذلك ،إالّ أن اهلل تع الى أب دلنا م ا
هو خير من ه فأب دلنا ب دل ال ذرة الحنط ة والفواك ه والس من والعس ل" وه و م ا وج دوه في الش ام (الواق دي ص .)19
وفي جواب خال د بن الولي د ل وردان في واقع ة دمش ق" :إن اهلل ،ع ز وج ل أغنان ا عن ص دقاتكم وأم والكم ،وجع ل
أم والكم نتقاس مها بينن ا وأح ل لن ا نس اءكم وأوالدكم" (الواق دي ص )37ولم ا بلغت أخب ار انتص ارات المحم ديين
األولى في س ورية إلى مك ة تح رك أكابره ا وأقبل وا على أبي بك ر ،وفي طليعتهم أب و س فيان والغي داق بن وائ ل،
يس تأذنونه في الخ روج إلى س ورية .روى الواق دي (ص" )39فك ره عم ر بن الخط اب خ روجهم إلى الش ام وق ال
ألبي بكر" :ال تأذن للق وم ف إن في قل وبهم حقائ د وض غائن ،والحم د للّ ه ال ذي ك انت كلمت ه هي العلي ا وكلمتهم هي
الس فلى وهم على كف رهم وأرادوا أن يطفئ وا ن ور اهلل ب أفواههم ،وي أبى اهلل إالّ أن يتم ن وره ،ونحن م ع ذل ك،
نقول :ليس مع اهلل غالب .فلما سمعوا أن اهلل أعز ديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوف اً من الس يف فلم ا س معوا أن
جند اهلل قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم األعداء ليقاسموا الس ابقين األولين" فس مع أب و بك ر كالم عم ر بن
الخطّ اب وأدرك أه ل مك ة الس بب ف اجتمعوا إلى أبي بك ر وتظ اهروا أمام ه بص دق إس المهم فرض ي عليهم أب و
ائم. ه من الغن ا يجلب اد وم أثير الجه رت ة من أم ذه أمثل ر .ه بك
ال بأس من إيراد بضعة شواهد أخرى تعزيزاً لصدق التعليل الذي نعلل ه ،وتأيي داً لص حة النت ائج ال تي نس تنتجها،
في ص دد العام ل السياس ي النفس ي لل دعوة المحمدي ة والحرك ة اإلس المية ،أي عام ل الجه اد ومغانم ه في ه ذه
ّذاتها. ة ول واب الجن دنيا ،وث ال
نورد هنا كت اب خال د بن الولي د ال ذي كتب ه إلى الخليف ة أبي بك ر ،ال ذي ك ان ق د ت وفّي ولم يبل غ خال داً خ بر وفات ه،
17
يخ بره بدخول ه دمش ق فاتح اً .وه ذا نص الكت اب كم ا ورد في ت اريخ الواق دي ص :53
"بس م اهلل ال رحمن ال رحيم لعب د اهلل خليف ة رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم ،من عامل ه على الش ام خال د بن الولي د
(وكان أبو عبيدة ما يزال كاتماً عنه أمر الخليفة عمر بن الخطاب بعزله وتولية أبي عبيدة مكانه) أما بع ُد س الم
عليك فإني أحمد اهلل الذي ال إله إال هو وأصلي على نبيه محمد ،صلى اهلل عليه وسلم ،ثم ّإنا لم نزل في مكايدة
العدو على حرب دمش ق ح تى أن زل اهلل علين ا نص ره وقه ر ع دوه وفتحت دمش ق عن وة (والواق ع بخيان ة القس يس
ي ونس كم ا ه و مثبت في الت اريخ الم ذكور عين ه) بالس يف من ب اب ش رقي وك ان أب و عبي دة على ب اب الجابي ة
فخدعت ه ال روم وص الحوه على الب اب اآلخ ر ومنع ني أن أس بي وأقت ل .ولقين اه على كنيس ة يق ال له ا كنيس ة م ريم
وأمامه القسوس والرهبان ومعهم كتاب الصلح .وإ ن صهر الملك توما وآخر يقال له هربيس خرج ا من المدين ة
بم ال عظيم وأحم ال جس يمة فس رت خلفهم ا في عس اكر الزح ف وان تزعت الغنيم ة من أي ديهما وقتلت الملع ونين
الخ".
وكان أن الخليفة عمر غضب لعدم تبليغ المسلمين خ بر وف اة أبي بك ر وقيام ه خليف ة من بع ده وأم ره بع زل خال د
بن الوليد من إمارة المسلمين في سورية وبإقامة أبي عبيدة بن الجراح أميراً بدالً من ه .وفي الي وم الت الي ل ورود
كتاب خالد بن الوليد المذكور آنفاً صلى صالة الفجر .روى الواقدي" :وقام فرقي المنبر خطيب اً فحم د اهلل وأث نى
عليه وذكر الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم ،فص لى علي ه وت رحم على أبي بك ر الص ديق ،رض ي اهلل تع الى عن ه،
ثم ق ال :أيه ا الن اس ،إني حملت أمان ة عظيم ة .إني راع ،وك ّل راع مس ؤول عن رعيت ه ،وق د جئت إلص الحكم
والنظ ر في معايش كم وم ا يق ربكم إلى ربكم أنتم ومن حض ر في ه ذا البل د ،ف إني س معت رس ول اهلل ,ص لى اهلل
علي ه وس لم ،يق ول" :من ص بر على أذاه ا وش رها كنت ل ه ش فيعاً ي وم القيام ة" وبالدكم بالد ال زرع فيه ا وال
ض رع وال م اء أو قرب ه اإلب ل إال من مس يرة ش هر .وق د وع دنا اهلل مغ انم كث يرة وإ ني أري دها للخاص ة والعام ة
دي ص .)55 الخ" (الواق
الش اهدان الم ذكوران ف وق ليس ا ق ول من ال ش أن ل ه من عام ة الن اس وجهلتهم ،ب ل هم ا ق ول خليف ة وق ول أم ير
جي وش اش تهر بلقب "س يف اإلس الم" .ويحس ن أن نض يف ش اهدين آخ رين لي تيقن الق ارئ من مق دار ت أثير زين ة
دين: وس المجاه بي ،على نف ائم والس الً عن الغن ة ،فض الجن
سار عبد اهلل بن جعفر ليلحق بالمجاهدين ،وكان أبوه قد قتل في تب وك .فلم ا بلغه ا طلب أن ي دلّوه على ق بر أبي ه
ف نزل علي ه وأق ام عن ده ومع ه عب د اهلل بن أنيس الجه ني وص حبه إلى الص بح .فلم ا رحل وا في الص باح نظ ر ابن
أنيس وإ ذا عب د اهلل بن جعف ر يبكي ووجه ه مث ل الزعف ران ،فس أله ابن أنيس عن ذل ك فق ال" :رأيت أبي البارح ة
ني قات ل
إلي وقال :ي ا ب ّ
في النوم وعليه حلتان خضراوان وتاج ،وله جناحان وبيده سيف مسلول أخضر ،فسلمه ّ
به أعداءك فما وصلت إلى ما ترى إالّ بالجهاد" (الواقدي ص )60وفي وقعة اليرموك أخذ أبو هريرة يح ِّرض
18
رب الع المين" (الواق دي ص
قوم ه على القت ال ويق ول" :أيه ا الن اس ،س ارعوا إلى معانق ة الح ور العين في ج وار ّ
.)127
أثبتن ا الش واهد والتفاص يل المتقدم ة .هن ا وفي م ا س بق ،لكيال يظن أح د أنن ا نرس ل الكالم اعتباط اً ونب ني تآويلن ا
واس تنتاجاتنا على الظن وال وهم كم ا فع ل رش يد س ليم الخ وري حين أخ ذ يه رف عن اإلس الم المحم دي بم ا ال
راء من ه في حارض ته ال تي س ماها "محاض رة".
ٌ يع رف ،وي رمي المس يحية بم ا هي ب
واآلن نعود إلى التشريع ،بعد أن أظهرنا أهميته للعرب الذين لم يكن لهم م ا ك ان للس وريين من الش رع الم دني.
ونريد أن نبين في ما يلي أسباب وحدة الشرع في الدينين الموسوي والمحم دي ،وأس باب أهمي ة الش رع وتقديم ه
الس ور التش ريعية في ص در الق رآن م ع أن حقَّه ا ،من
عن د الع رب على غ يره من الرس الة اإلس المية بإثب ات ّ
زه. ون في عج ة ،أن تك ة والروحي ة التاريخي الوجه
قلن ا قبالً "إن محم داً أرس ل إلى ق وم ك انوا مض طرين إلى م ا ك ان مض طراً إلي ه الع برانيون :ش ريعة توج د لهم
نظام اً يوض ح لهم المع امالت والح دود والج زاء ،ب دالً من ع ادات الث أر والغ زو واس تبداد الق وي ال تي ال تقيم
نظاماً .ولذلك نشأ هذا التوافق الكلي بين الشريعة المحمدي ة والش ريعة الموس وية ح تى في الج زاء ونوع ه" الخ..
ام. وع اله ذا الموض داء في ه ة االبت ول نقط ذا الق له ا نجع وإ نن
مبني على االف تراض نع رض لش أن العبران يين أوالً. ولكيال يبقى مج ال لحس بان الق ول المتق دم مج رد اس تبداد ّ
ني على رواي ات كتَّابهم في الت وراة ،أنه ا في األص ل عائل ة يعق وب انتقلت،
عن ه ذه الجماع ة ،وكل ه أو جلّ ه مب ٌّ
بس بب قح ط أص اب األرض ،إلى مص ر حيث ك ان يوس ف أح د أبن اء يعق وب ق د حص ل على مرك ز وزي ر عن د
فرع ون ،وأنه ا تك اثرت في مص ر وص ارت ش عباً كث يراً اس تعبده المص ريون ح تى ج اء موس ى مرس الً من اهلل
وأنق ذه من العبودي ة تحت حماي ة يه وه ال ذي أغ رق فرع ون ومركبات ه في البح ر .ثم أن موس ى أبقى ه ذا الش عب
في صحراء س ينا أربعين س نة ع اش فيه ا على المن والس لوى ،وبع دها أخ ذ يت أهب القتح ام "أرض الميع اد" وفي
أثن اء وج ود ه ذه الجماع ة في الص حراء الس ينائية تق دم موس ى إليه ا ب المواد الش رعية األولى :الوص ايا العش ر؛
وتبعته ا األحك ام التفص يلية المش تملة على الج زاء (العقوب ات) وعلى ق وانين المع امالت والعق ود.
ام ج داً وه و :ألم يكن عن د المص ريين ،ال ذين ك انوا ق د أسس وا دول ة ،ش رائع
هن ا يخط ر للب احث الم دقق س ؤا ٌل ه ٌّ
اقتبسها أو اقتبس بعضها عنهم اإلسرائيليون ،ح تى وجب أن يعلمهم اهلل أولي ات النظ ام االجتم اعي الم دني ،ك أن
يك رم الواح د أب اه وأم ه ،وأن ال يس رق ،وال يك ذب ،وال يش هد ب الزور ،وأن ال ي زني الخ؟ ألم يكن الع برانيون
رية؟ ة مص وانين مدني ادات وق متبعين ع
19
ال تشير التوراة إلى شيء واضح عن النظام الذي كان يعمل به اإلسرائيليون قبل هبوط الوحي على موسى في
ط ور س يناء ،وهب وط ال وحي بالوص ايا العش ر ي دل على أن اليه ود لم يكون وا يعرف ون أو يعمل ون به ذه األولي ات
أن اليه ود ك انوا أو عرف وا مص ر قب ل دخ ولهم أط راف القس م كقاع دة عام ة في حي اتهم .وهن ا يب دأ الش ك في ّ
الجنوبي من سورية .ويأخذ ه ذا الش ك يتأي د في ع دم وج ود ذك ر أو دلي ل لمأس اة البح ر األحم ر ال تي تُش ير إليه ا
ّ
التوراة ويؤيدها القرآن .فال يوجد فرعون واحد هلك في البح ر في تتبع ه ش عباً غريب اً هارب اً من مص ر .والم رة
الوحي دة ال تي تتب ع فيه ا المص ريون قوم اً غرب اء ك انت حين انتقض المص ريون على دول ة الهكس وس الس ورية
التي اجتاحت مصر وأخضعت المصريين إلى أن ثار عليها هؤالء وتغلبوا عليها ،فرجع الهكس وس إلى س ورية
وتبعهم المص ريون وح اربوهم في وادي مج ّدو ،وتبع وهم إلى الش مال .وق د ح اول بعض م ؤرخي العبران يين أن
يوج دوا ص لة بين ت اريخهم وت اريخ الهكس وس ،ولكن األدل ة التاريخي ة ج اءت ض د ه ذه المحاول ة ال تي لم تكن
اورة. وام المج واريخ األق يين ت ال العبران ا النتح األولى من نوعه
األرجح ،في هذا الصدد ،هو ما ذهب إليه المستشرق المحقق الكبير غيتاني ( )Gaetaniفي كتاب ه (Studi du
)storia orientaleالذي يجزم بأن اليهود أو العبرانيين لم يكونوا قط في مصر ،مستنداً إلى تحقيقات تاريخية
وجيولوجي ة وجغرافي ة .فه و يثبت أن العبران يين لم يكون وا س وى قبائ ل بدوي ة موقعه ا ش مال ش رق س ورية في
بقع ة ك انت ت دعى ق ديماً "مص رو" ( ،)Misruوأن اليه ود تعم دوا الخل ط بين ه ذه البقع ة ومص ر المعروف ة الي وم
ليوسعوا تاريخهم وليتمكنوا من انتحال حكاي ة يوس ف ال تي نقلوه ا مم ا بين النه رين وجعل وا حوادثه ا تج ري بين
س ورية ومص ر .ويؤي د ه ذه النظري ة م ا ورد في المراس الت المكتش فة في ت ل العمارن ة في مص ر ال تي تب ودلت
بين أم راء فينيق يين والفرع ون ،وفيه ا أخب ار غ زو قبائ ل "الحب يرو" أي الب دو لبعض الق رى والم دن الجنوبي ة.
فاليهود لم يكونوا ،قبل مجيئهم إلى سورية ،يعرف ون نظام اً اجتماعي اً م دنياً ،ألنهم ك انوا في حال ة ب داوة بربري ة،
ولم يكونوا قد تمدنوا ال في مصر وال في مكان آخر؛ فهم ،والحالة هذه ،كانوا يشبهون العرب من كل وجه في
م ا يختص بم رتبتهم االجتماعي ة وحاجاته ا؛ فلم يكن لهم ق وانين وأنظم ة عام ة تض بط مع امالتهم وتع اقب
مج رميهم ب دالً من ت رك أم رهم لع ادة الث أر .فلم ا أص بحوا على ح دود المدني ة الس ورية وص َّح ع زمهم على
دخولها والتحض ر في س ورية وج دوا أن ح اجتهم األولى هي إلى نظ ام ي ؤهلهم ل ذلك .وك ان للكنع انيين (س وريِّي
زائي ينص على المع امالت والعق ود والعقوب ات ،كم ا أثبت ذل ك انون م دني وج ٌّ
اعي راق وق ٌ ام اجتم ٌّ الجنوب) نظ ٌ
األستاذ ألمستد أستاذ التاريخ القديم في جامعة كولومبي ا ،الوالي ات المتح دة ،وه و أح د مع اوني المحق ق الت اريخي
الش هير برس تد .وق د أثبت األس تاذ ألمس تد ه ذه الحقيق ة في كتاب ه باإلنقليزي ة "ت اريخ فلس طين وس ورية ح تى الفتح
المك دوني" ومن مقابل ة الش رع الموس وي على الش رع الكنع اني نج د أن ذاك اس َّ
تمد نظريات ه وأحكام ه من ه ذا.
ولم ا لم يكن اليه ود أه ل تم ُّدن من قب ل ،لم يكن من الس هل أخ ذهم بالنظ ام الم ِّ
دني والعم ل ب ه .فك ان ال ب د من
20
إخض اعهم للش ريعة إخض اعاً .وه ذا اإلخض اع ال يمكن أن يك ون بواس طة ش رطة وقض اء وس لطة ألنهم ك انوا
قبائ ل ال تع رف نظام اً م دنياً ،وك ل م ا تعرف ه ع ادات بس يطة وع رف ال تض بط التص رفات واألعم ال وال تعين
اعهم؟ بواس طة س لطة خفي ة رهيب ة وغ ير منظ ورة :اهلل ،يه وه الحق وق الفردي ة .فبأي ة واس طة ،إذاً ،يمكن إخض ُ
ال ذي ينتقم من المخ الفين للش رائع واألحك ام ،المفتق د ذن وب اآلب اء في األبن اء في الجي ل الث الث والراب ع .وهك ذا
تحولت الشريعة الكنعانية المدنية القابلة للتطور والتغير حسب تطور االجتماع والعمران ،ألنها صنع بش ر ،إلى
شريعة دينية جامدة ( )Rigidaال تقبل التطور والتغير ،ألنه ا ص ارت أحك ام اهلل الكلي المعرف ة الق ادر على ك ل
ش يء ،المعص وم عن الغل ط .وم ع أن ه ذا التحوي ل ك ان يقض ي بجم ود الش رع فلم يكن هن اك طريق ة أخ رى
رهم. د أم وتوح
ّ باطهم ع أس ريعة تجم ود ش اء اليه إلعط
ه ذه هي الطريق ة الوحي دة لجمي ع الش عوب والقبائ ل ال تي م ا ت زال في حال ة ب داوة أو بربري ة .وق د ع رض ابن
خل دون ،في مقدمت ه الش هيرة ،له ذه الحال ة فكتب الفص ل الس ابع والعش رين من الفص ل الث اني من الكت اب األول
لمقدمته وجعل عنوانه "في أن العرب ال يحصل لهم الملك إالّ بصبغة ديني ة من ّنب وة أو والي ة أو أث ر عظيم من
الدين على الجملة" وذكر ابن خلدون سبب ذلك بقوله" :الس بب في ذل ك أنهم ،لخل ق الت وحش ال ذي فيهم ،أص عب
األمم انقياداً بعضهم لبعض الخ" وفات ابن خلدون أن يذكر في األسباب سبب فقدان النظام االجتم اعي التم دني،
دد. ذا الص ة في ه مح باإلطال ال يس ا في مج نا هن ولس
يضعنا كالم ابن خلدون المذكور آنفاً في موضع النظر في العرب وشؤونهم .وهو نفسه يقودنا في ه ذا الطري ق
توحش هم وغلظتهم وص عوبة مراس هم .ولكنن ا نحن ال نري د التوغ ل في مس ائل الطب اع، فيصف الع رب من حيث ّ
النمو االجتم اعي واالختب ارات
رقي حي اتهم ب ّ
أن ح التهم البدوي ة ال تس مح بتولّ د ش ريعة بينهم ت ّ
ب ل نكتفي ب القول ّ
االجتماعي ة المقتص رة على ح االت أولي ة مع دودة ومح دودة .وف رض ش ريعة عليهم تمنعهم من وأد بن اتهم ،ومن
ينص على المع امالت والعق ود
أخ ذ األخ تين زوجين ،ومن الث أر بال حس اب ،وتخض عهم لق انون واض ح ّ
والعقوبات ،لم يكن ممكن اً إالّ عن طري ق ال دين .وال دين م ا ك ان يمكن أن يك ون مفهوم اً عن دهم عن غ ير طري ق
المادي الحسن ،كأكل الفاكهة في الجنة ولبس الس ندس ،ك ل ذل ك في جن ات
ّ المعامالت والعقود والوعود بالجزاء
ور عين. ا بح تزوجون فيه ون ي وعي
ولوال الشرع الذي تكرر إيحاؤه لمحمد بعد موسى لما كان حصل اجتماع أمر العرب في اإلسالم .ولوال النظام
ال ذي دع ا إلي ه محم د لم ا ك ان ممكن اً أن تنجح الفتوح ات المحمدي ة ويثبت أم ر المحم ديين فيه ا ،ب ل لكن ا رأين ا
العرب يتزاحمون على األسالب والغنائم ال ي ردعهم رادع وال ي زعهم وازع فيتفكك ون بأس رع من لمح البص ر.
ولم ا ك انت حال ة الع رب تقتض ي م ا اقتض ته حال ة العبران يين فق د تك رر لهم الش رع عين ه ال ذي أوحي للعبران يين
21
تنص ان على حال ة واح دة أحكام اً واح دة .وه ذه
بواس طة موس ى .ول ذلك ن رى الش ريعتين الموس وية والمحمدي ة ّ
ام. ذه األحك له اس لمث ا الن اج فيه ة يحت ة أولي ة هي حال الحال
وري المتم دن لم اذا وجب أن تنص الش ريعتان الموس وية والمحمدي ة على ع دم ج واز الجم ع بين
وق د يعجب الس ّ
إن ذل ك ك ان ض رورياً .ومث ل الح االت ال تي نص عليه ا الق رآن ك ان م ا
األختين ،مثالً .ولكي يزول عجبه نقول ّ
ي زال واقع اً ح تى في أي ام الخليف ة عم ر بن الخط اب وبع دها ،وإ ثبات اً له ذه الحقيق ة نثبت م ا أورده الواق دي في
الص فحة 149من تاريخ ه الم ذكور" :ق ال عم رو بن مال ك العبس ي :كنت م ع عم ر بن الخط اب حين س ار إلى
الشام فم َّر على م اء لج ذام علي ه طائف ة منهم ن زول .والم اء ي دعى ذات المن ازل .ف نزل (عم ر) بالمس لمين علي ه،
فبينم ا ه و ك ذلك وأص حاب رس ول اهلل ,ص لى اهلل علي ه وس لم ،حول ه إذ أقب ل إلي ه ق وم من ج ذام فق الوا :ي ا أم ير
علي ب ه ،ف أتي ق ال :فه ل بينهم ا
وأم .فغضب عم ر وق الَّ : المؤمنين إن عندنا رجالً له امرأتان وهما أختان ٍ
ألب ٍّ
رام
قرابة؟ قال :نعم ،هما أختان قال عمر :فما دينك ،ألس ت مس لماً؟ ق ال :بلى .ق ال عم ر :وم ا علمت أن ه ذا ح ٌ
علي ك ،واهلل يق ول في كتاب ه" :أن تجمع وا بين األخ تين إالّ م ا ق د س لف"؟ فق ال الرج ل م ا علمت وم ا هم ا علي
َّ
ولتخلين س بيل إح داهما وإ الّ ض ربت عنق ك .ق ال رام علي ك
بح رام .فغض ب عم ر وق ال :ك ذبت ،واهلل إن ه لح ٌ
دين ما أص بنا في ه خ يراً ،ولق د كنت
الرجل :أفتحكم علي؟ قال أي واهلل الذي ال إله إالّ هو .فقال الرجل :إن هذا ٌ
ادن مني .فدنا منه ،فخفق رأسه بالدرة خفقتين .وق ال ل ه :تتش اءم باإلس الم ي ا
غنياً عن أن أدخل فيه .قال عمرُ :
عدو اهلل وعدو نفسه وهو الدين الذي ارتضاه اهلل لمالئكت ه ورس له وخيرت ه من خلق ه؟ (ش عب اهلل الخ اص) خ ّل،
َّ
ي ا ويل ك ،س بيل إح داهما وإ الّ جل دتك جل دة المف تري! فق ال الرج ل :كي ف أص نع بهم ا وإ ني أحبهم ا ،ولكن أق ترع
بينهم ا ،فمن خ رجت القرع ة عليه ا كنت له ا وهي لي ،وإ ن كنت لهم ا جميع اً محب اً .ف أمر عم ر ف اقترع ف وقعت
القرع ة على إح داهما فأمس كها وأطل ق س بيل الثاني ة .ثم أقب ل علي ه عم ر وق ال :اس مع ي ا ذا الرج ل َوع م ا أق ول
ل ك ،إن ه من دخ ل في دينن ا ثم رج ع عن ه قتلن اه ،فإي اك أن تف ارق اإلس الم ،وإ ي اك يبلغ ني أن ك ق د أص بت أخت
ك". ك رجمت ك إن فعلت ذل ا ،فإن تي فارقته ك ال امرأت
صديق ي ُّ
وده ،فق ال ص ديقه :ه ل ل ك أن ٌ أن شيخاً على الماء وله "وسار عمر حتى إذا كان بوادي القرى أخبروه ّ
وم
وم وليل ة ،ول ك فيه ا ي ٌ
تجع ل لي في زوجت ك نص يباً وأكفي ك رعي ك إبل ك والقي ام عليه ا ولي فيه ا (الزوج ة) ي ٌ
وليلة؟ قال الشيخ :قد فعلت ذلك ورضي ،فلما أخبر عم ر ب ذلك أم ر بهم ا فأحض را فق ال :ي ا ويلكم ا ،م ا دينكم ا؟
ق اال :اإلس الم .ق ال عم ر :فم ا ال ذي بلغ ني عنكم ا؟ ق اال :وم ا ه و؟ فأخبرهم ا عم ر بم ا س معه من الع رب .فق ال
رام في دين اإلس الم؟ ق اال :ال واهلل ،م ا
الشيخ :قد كان ذلك يا أمير المؤم نين .فق ال عم ر :أم ا علمتم ا أن ذل ك ح ٌ
علمن ا ذل ك .فق ال عم ر للش يخ :وم ا دع اك أن ص نعت ه ذا الق بيح؟ ق ال :أن ا ش يخ كب ير ولم يكن لي أح د أث ق ب ه
وأتك ل علي ه فقلت :ي ا ه ذا ،أتكفي ني ال رعي ،والس قي وتعين ني على دوابِّي وأن ا أجع ل ل ك نص يباً في ام رأتي؟
22
رام فال أفعل ه .فق ال عم ر :خ ذ بي د امرأت ك فال س بيل لي عليه ا (أي إنه ا غ ير زاني ة) ثم ق ال
واآلن علمت أن ه ح ٌ
للش اب :إي اك أن تق رب منه ا ،فإن ه إن بلغ ني ذل ك ض ربت عنق ك ثم ارتح ل عم ر".
شرعت لها
شرع لها اإلسالم في العربة .وهي الحالة عينها التي َّ
وفي هذين المثلين صورة واضحة للحالة التي َّ
الموسوية.
وج دنا ،من مقابل ة أحك ام الق رآن وح دوده على أحك ام الت وراة وح دودها ،أن نص وص الش ريعتين الموس وية
والمحمدية واحدة مع فوارق شكلية قليلة ال تغير شيئاً من وحدة األس اس .فاهلل ق د أوحى ،إلى محم د في الق رآن،
الشريعة عينه ا ال تي أوحاه ا إلى موس ى وجمي ع النب يين ال ذين تق دموا محم داً ،كم ا ه و مثبت في الق رآن .واهلل ق د
ات مس يحية أيض اً ،ولكن الش عب ال ذي أرس ل إلي ه محم د لم يكن من اإلدراك والثقاف ة بحيث أوحى إلى محم د آي ٍ
ماس ة إلى األس اس الق انوني ال ذي يجم ع بين قبائل ه المتش ّعثة،
يمي ل إلى األخ ذ بالتع اليم العلي ا ،وك انت حاجت ه ّ
ويض من العالق ات ويح دد ط رق المعامل ة ،فال تك ون معلق ة على تع اليم الفلس فة المناقبي ة ال تي علمه ا المس يح
وجعلها تاجاً للشريعة وحكماً عليها .وك ان االنتص ار األول للثقاف ة النفس ية على ح دود الش رع الجام دة .فانتص ار
العقل على الشرع حدث أوالّ بظهور التعاليم المسيحية؛ وأعظم أسباب نقمة اليهود على المسيح ه و كون ه خ رج
ويحس نها ،ب دالً من التقي د بالنص وص ،كم ا ه و الح ال
ّ على نص وص الش رع وق ال بتأوي ل الش رع لم ا يفي د الحي اة
في الق رآن والت وراة .المس يح ه و ال ذي ق ال" :ال تحكم وا بحس ب الظ اهر ،لكن احكم وا حكم اً ع ادالً"(يوحن ا 7ـ
)24وهو قال هذا القول ألن اليهود نقموا عليه إلبرائ ه إنس اناً ي وم الس بت المح رم العم ل في ه عن د اليه ود حس ب
ش ريعة موس ى ،وك ان ق د ق ال قب ل ه ذه اآلي ة" :إن موس ى أعط اكم الخت ان ،ال ان ه من موس ى ب ل من اآلب اء
علي ألني
فتختنون اإلنسان في السبت .فإن كان اإلنسان يختن في السبت لئال تنقض شريعة موسى أفتس خطون َّ
أبرأت اإلنسان كلّه في السبت؟" (يوحنا 7 :ـ 22و )23وكان اليهود يعترضون ،ليس فقط على إبراء الرج ل في
السبت ،بل أيضاً على حمل الرجل سريره بعد شفائه ،ألنه لم يكن يجوز في شريعة موسى أن يعم ل ش يء ي وم
بت. الس
وكان الكتبة والفريسيون يجادلون المسيح دائما ً ويحاولون أن يأخذوه بجريرة مخالفة الش ريعة .واإلنجي ل مش حون
بهذه المحاوالت .وأه ّم محاولة كانت هذه" :ومضى يسوع إلى جبل الزيتون .ثم رجع باركا ً إلى الهيكل ،فأقبل إلي ه
الشعب كلهم فجلس يعلّمهم .وقدم الكتبة والفريسيون إلى يسوع امرأة أخذت في زنى وأقاموها في الوسط .وقالوا يا
إن هذه المرأة قد أخذت في الزنى .وقد أوصى موسى في الناموس (الشريعة) أن ترجم مثل هذه ،فماذا تقول معلمّ ،
23
أنت؟ وإنما قالوا هذا تجريبيا ً له ليجدوا ما يشكونه به .أما يسوع فأكبَّ يخطّ بإص بعه على األرض .ولم ا اس تمروا
يسألونه انتصب وقال لهم" :من كان منكم بال خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر" .ثم أكبّ أيض ا ً يخ طّ على األرض .أم ا
أولئك فلما سمعوا طفقوا يخرجون واحداً فواحداً ،وكان الشيوخ أوّل الخارجين .وبقي يس وع وح ده والم رأة قائم ة
في الوسط .فانتصب يسوع وقال لها" :يا امرأة أين الذين يشكونك ،أما حكم عليك أحد؟" .قالت" :ال ي ا رب" فق ال
يس وع" :وال أن ا أحكم علي ك ،اذه بي وال تع ودي تخط ئين"( ".يوحن ا 8 :ـ 2ـ .)11
ك في ه :الزاني ة ت رجم في في هذا المثل يظهر الصراع بين العق ل والش رع ب أجلى مظ اهره .الش رع واض ح ال ش ّ
التوراة وفي القرآن تجلد كما جاء في اآلية{ :ال ّزانية وال ّزاني فاجلدوا ك ّل واحد منهما مائ ة جل دة وال تأخ ذكم بهم ا
رأفة في دين هللا إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر وليشهد عذابهما طائف ة من المؤم نين} (الن ور )2 :فلم يقتص ر
المسيح على قوله المطلق" :ال تحكم وا بحس ب الظ اهر ،لكن احكم وا حكم ا ً ع ادالً" ،ب ل وق ف وحم ل مس ؤولية
كالمه .ولم يضع شريعة جديدة تح ّل مح ّل الشريعة السابقة في أمر الزنى ،بل علّم بتحكيم العقل ليكون الحكم عادالً
وإن خالف نص الشريعة .وهو ما لم يجر مثله في القرآن أو الحديث وذلك لم ا بين اه آنف ا ً من أن محم داً أرس ل إلى
قوم كانوا مضطرّين إلى ما كان مضط ّراً إليه العبرانيون :شريعة توجد لهم نظاما ً يوضح لهم المع امالت والح دود
ي ال تي ال تقيم نظام اً ،ول ذلك نش أ ه ذا التواف ق الكل ّي بين
والجزاء ،بدالً من ع ادات الث أر والغ زو واس تبداد الق و ّ
الشريعة المحمدية والشريعة الموسوية في الشرع حتى في الجزاء ونوعه ،كما في اآلية{ :يا أيّها الذين آمن وا كتب
عليكم القصاص في القتلى الح ّر بالح ّر والعب د بالعب د واألن ثى ب األنثى الخ} (البق رة )178 :وفيه ا ج وهر الج زاء
ى. ريعة موس ذكور في ش الم
وهذا يؤيّد كون محمد أرسل ليهدي بيئة لم تكن لها شريعة من قبل ،وإالّ لما وجد الوحي حاجة لتك رار م ا ورد في
التوراة وجاء محمد مصدقا ً له .وإذا كان قد بقي في ذهن أحد شيء من الشك في ما نقوله ،حتى بع دما أوردن اه من
اآليات القرآنية فإننا نؤيده بآيات أخرى كهذه اآليات{ :وكذلك أوحينا إليك قرآنا ً عربيّا ً لتنذر أم الق رى ومن حوله ا
وتنذر يوم الجمع ال ريب فيه فريق في الجنّة وفريق في السّعير} (الشورى )7 :وهذه اآلية هامة جداً ،ألنها مكي ة،
أي من اآليات التي لم يكن قد دخل فيها العامل السياسي الذي نلحظه في اآلي ات المدني ة{ .فكي ف إذا جئن ا من ك ّل
أ ّم ة بش هيد وجئن ا ب ك على ه ؤالء ش هيداً} (النس اء{ )41 :ولق د بعثن ا في ك ّل أ ّم ة رس والً الخ} (النح ل.)36 :
وقد أثبتنا في حلقة سابقة من هذه السلسلة(14حلقة) ش يئا ً من وص ف الق رآن لبيئ ة محم د .ولع ل ه ذه اآلي ة تعطي
وصفا ً أد ّ
ق لتلك البيئة{ :قالت األعراب آمنّا قل لم تؤمن وا ولكن قول وا أس لمنا ول ّم ا ي دخل اإليم ان في قل وبكم وإن
رات.)14 : ور رحيم} (الحج يئا ً ّ
إن هللا غف الكم ش وله ال يلتكم من أعم وا هللا ورس تطيع
مؤهل ة إلدراك اإليم ان ال روحي وفهم تع اليم الفلس فة المناقبي ة .إنه ا بيئ ة ال
هذه البيئ ة العريق ة في الب داوة لم تكن ّ
الس ور المدني ة وجه ة أق رب إلى البيئ ة وعقليته ا من وجه ة تزال دون مرتبة ه ذه الفلس فة بم راتب .ول ذلك أخ ذت ّ
الس ور المكي ة .ول ذلك ك ان ظه ور روحاني ة الرس الة المحمدي ة خ ارج العرب ة في س ورية وف ارس واألن دلس .أم ا ّ
الحقيقي لم ا ي دخل
ّ أه ل العرب ة فظل وا تحت حكم اآلي ة الم ذكورة أخ يراً إلى الي وم ،أي انهم أس لموا ولكن اإليم ان
قلوبهم .وهذه الحالة التي يشجبها القرآن هي التي يم دحها ص احب الحارض ة الهجائي ة ال ذي لم يفهم من اإلس الم
إالّ بق در م ا فهمت ه األع راب ،ولم يع رف ش يئاً ص حيحاً عن المس يحية أو عن المحمدي ة ،وك ان أح وج الن اس إلى
المحمدي الذي وضع
ّ سماع محاضرات في هذين المذهبين ونشأتهما وطبيعة ك ّل منهما ،ولذلك قال عن اإلسالم
ش رعاً يس مونه في علم الحق وق والسياس ة "جام داً "Rigidoإن ه وض ع القواع د الروحي ة ـ الفكري ة للتغلب على
الشرع ،وقال عن المسيحية التي علّمت تعاليم فلسفية مناقبية لتأويل الشرع على ما يوافق األفضل للحياة الجيدة
24
حس ب حكم العق ل إنه ا دين "يقت ل الم واهب ويهيض األجنح ة ويعص ب على العي ون الخ".
بعد الذي بيّناه في ما تقدم من هذه الحلقة نعود إلى نقطة هامة جداً وعدنا ،في الحلق ة الس ابقة ،أن نعالجه ا في ه ذه
الحلقة ،وهي :أسباب االتفاقات والمشابهات بين الرسالتين الموسوية والمحمدية اللتين لهما أساس واحد هو الش رع
رآن. وراة والق دة في الت ه واح ا أن أحكام ذي رأين ال
ألمعنا في ما تقدم من هذا البحث ،خصوصا ً في الحلق تين األخ يرتين ،إلى أن الرس الة المحمدي ة هي أيض ا ً رس الة
روحية تتجه في اتجاه الرسالة المسيحية عينه ،ولكنّها اضطرّت ألخذ األس اس الم ادي بعين االعتب ار وتقديم ه في
روحي. اء ال ة على البن المعالج
والحقيقة أن الرسالة القرآنية تقسم إلى قسمين :القسم األول وهو المك ّي السابق للهجرة وفيه اآليات المكي ة المتجه ة
اتجاها ً روحيا ً على قدر ما تسمح به عقلية البيئة المحدودة العلوم والمعارف واالختب ارات واألفك ار والتص ورات،
والقسم الثاني هو المدن ّي المشتمل على اآليات المدنية والمتّجه نح و ش ؤون أولي ات االجتم اع وض روريات ب داءة
إنشاء نظام اجتماعي عام يشمل جميع العرب ويحل محل العادات والع رف المقتص رة على القبائ ل وعلى ح االت
قليلة تقوم عليها الصّالت بين القبائل التي كانت قبيلة منها كأنها أمة ودولة قائمة بنفسها ال يجمع بينها غير عادة أو
فريض ة الحج إلى الكعب ة واالص طالح على ت رك الغ زو والث أر في ش هر معيّن من الس نة.
وفي هذا القسم يظهر عامالن رئيسيان هما :التشريع والسياسة .أما التشريع فإلقامة نظ ام ع ام يلغي خصوص يات
القبائل ويو ّحد العرب .وأما السياسة فلجع ل نج اح الرس الة ونظامه ا ممكن اً .وه ذا العام ل األخ ير يظه ر في أم ر
الجهاد الذي يُغري العرب بالغزو والسلب ،وقد ظهر تأثير هذه الناحية في يوم بدر ويوم أحد ،وفي تشويق الع رب
بصور الجنة المادية وفي التس اهل في ش ؤون حي اتهم ،خصوص ا ً في النس اء وتع ّدد الزوج ات ،مراع اة لش هوات
الصحراء الحادة والقتصار شؤون حياة العرب على الغزو والسبي والسلب ووقوف حياتهم الفني ة والروحي ة على
الفرس والرمح والمرأة .والمرأة أو أنوثتها كانت أقوى عامل في نفسية العربي ،ولذلك اعت بر الق رآن ه ذه الناحي ة
مع ناحية الصور المادية للجنة حتى في اآليات المكية كما في قوله{ :الّ ذين آمن وا بآياتن ا وك انوا مس لمين .ادخل وا
الجنّة أنتم وأزواجكم تحبرون .يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه األنفس وتل ّذ األعين وأنتم
فيها خالدون .وتلك الجنّة التي أورثتموها بما كنتم تعملون .لكم فيها فاكهة كث يرة منه ا ت أكلون} (آي ات متتالي ة من
{إن المتّقين في مق ام أمين .في جنّ ات وعي ون .يلبس ون من س ندس س ورة الزخ رف المكي ة 69 :ـ )73وقول هّ :
وإستبرق متقابلين .كذلك وز ّوجناهم بحور عين .يدعون فيها بك ّل فاكهة آم نين .ال ي ذوقون فيه ا الم وت إالّ الموت ة
ة 51 :ـ .)56 دخان مكي ورة ال ذاب الجحيم} (س اهم ع األولى ووق
التشريع في السّور المدنية مع العامل النفسي ـ السياسي الذي ازداد قوة في هذه السور هما اللذان أعطي ا المحمدي ة
أعظم فاعليتها .يضاف إلى ذلك كون النبي عربيا ً يخاطب جماعت ه رأس اً{ :لق د ج اءكم رس ول من أنفس كم عزي ز
فص لت آيات ه قرآن ا ً عربيّ ا ً
عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوب ة )128 :وبلغتهم {كت اب ّ
لق وم يعلم ون} (فص لت )3 :وك ون الرس الة إلهي ة أق وى في النف وس على األص نام.
ولما كان هذان العامالن :التشريع والسياسة النفسية والعملية هما األش د ت أثيراً واألعظم ش أنا ً في النفس ية العربي ة
العامة فقد ق ّدمت اآليات المدنية ،حين جمع القرآن ،على اآليات المكية إال سورة الفاتحة ،وهي آيات قليلة .والسبب
هو أن السّور المدنية تشتمل على أصول المعامالت وقوانين العقود .وهي الممتازة بالحث والتحريض على الجهاد
ة. ة الجن ار وزين ة الكف ومحارب
وقد أثبتت التواريخ العربية لسير الحركة العربية وفتوحاتها شدة تأثير هذين العاملين في النفوس العربية وعظم
فاعليتهما .من ذلك ما ورد في "فتوح الشام" للواقدي .وروايته أنه لما عزم الخليفة أبو بكر على فتح سورية بدأ
25
يوج ه إلي ه الجي وش ،وك ان أول من عق د ل ه يزي د بن أبي س فيان على أل ف ف ارس ،وربيع ة بن ع امر على أل ف
مقدماً على ربيعة ،يج د في الس ير وال ي رحم الجيش فخاطب ه ربيع ة في ذل ك فق ال" :إن فارس .فأخذ يزيد ،وكان ّ
أب ا بك ر ،رض ي اهلل عن ه ،س يعقد العق ود ويرس ل الجي وش ف أردت أن أس بق الن اس إلى الش ام فلعلن ا أن نفتح فتح اً
قبل تالحق الناس بنا فيجتمع ب ذلك ثالث خص ال :رض اء اهلل ع ز وج ل ورض اء خليفتن ا وغنيم ة نأخ ذها" (انظ ر
الواق دي .طبع ة مص ر .ص فر 1354هـ .ص )4وفي خ بر ن زال خال د بن الولي د لكل وس في ح رب دمش ق أن
خالداً أجاب ُمنازله" :وأما ما ذك رت من بالدن ا وأنه ا بالد قح ٍط وج وع ف األمر ك ذلك ،إالّ أن اهلل تع الى أب دلنا م ا
هو خير من ه فأب دلنا ب دل ال ذرة الحنط ة والفواك ه والس من والعس ل" وه و م ا وج دوه في الش ام (الواق دي ص .)19
وفي جواب خال د بن الولي د ل وردان في واقع ة دمش ق" :إن اهلل ،ع ز وج ل أغنان ا عن ص دقاتكم وأم والكم ،وجع ل
أم والكم نتقاس مها بينن ا وأح ل لن ا نس اءكم وأوالدكم" (الواق دي ص )37ولم ا بلغت أخب ار انتص ارات المحم ديين
األولى في س ورية إلى مك ة تح رك أكابره ا وأقبل وا على أبي بك ر ،وفي طليعتهم أب و س فيان والغي داق بن وائ ل،
يس تأذنونه في الخ روج إلى س ورية .روى الواق دي (ص" )39فك ره عم ر بن الخط اب خ روجهم إلى الش ام وق ال
ألبي بكر" :ال تأذن للق وم ف إن في قل وبهم حقائ د وض غائن ،والحم د للّ ه ال ذي ك انت كلمت ه هي العلي ا وكلمتهم هي
الس فلى وهم على كف رهم وأرادوا أن يطفئ وا ن ور اهلل ب أفواههم ،وي أبى اهلل إالّ أن يتم ن وره ،ونحن م ع ذل ك،
نقول :ليس مع اهلل غالب .فلما سمعوا أن اهلل أعز ديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوف اً من الس يف فلم ا س معوا أن
جند اهلل قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم األعداء ليقاسموا الس ابقين األولين" فس مع أب و بك ر كالم عم ر بن
الخطّ اب وأدرك أه ل مك ة الس بب ف اجتمعوا إلى أبي بك ر وتظ اهروا أمام ه بص دق إس المهم فرض ي عليهم أب و
ائم. ه من الغن ا يجلب اد وم أثير الجه رت ة من أم ذه أمثل ر .ه بك
تأويل الجاهلين
26
الحاض على ترك األنانية
ّ رأينا ،في ما سبق ،مقدار فساد كالم رشيد الخوري في تأويله الجاهل لكالم المسيح
القاتلة لروح المحبة ،المانعة التعاون في المجتمع؛ وسنرى هنا تأويله الجاهل لكالم المسيح في ترك المخاصمة
ووجوب التساهل والمغفرة .وهذا التأويل الجاهل هو قوله" :ال بأس في شريعته (اإلنجيل) أن تعيش عبداً رقيقاً
مدى الحياة تسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تثاب فيها على
خنوعك واستسالمك وصبرك على الظلم".
إذا كان رشيد الخوري قد حاول أن يدعم تأويله السابق في "الدروشة والزهد" بالتعلق بعبارة واحدة من
عبارات المسيح فهو لم يجد حاجة لتأييد تأويله هذا األخير بآية أو بجملة من اإلنجيل .ومما ال شك فيه أنه
يستخرج هذا التأويل الفاسد من آيات إنجيلية شائعة عند العامة شيوعاً غير مضبوط ،وهي من موعظة المسيح
على جبل الزيتون وهذه هي:
فحول له اآلخر ،ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخل له رداءك أيضاً ،ومن "من لطمك على خدك األيمن ِّ
َّ
سخرك ميالً فامش معه اثنين ،ومن سألك فاعطه ،ومن أراد أن يقترض منك فال تمنعه .أحبُّوا أعداءكم
وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلُّوا ألجل من ّ
يعنتكم ويضطهدكم".
رشيد الخوري وأمثاله من قليلي العلم وفقراء األدب يأخذون هذه اآليات ويؤولونها على قدر عقليتهم ،ويقولون
أن تأويلهم هذا تعليم المسيح .وتأويلهم هو ،كما رأينا من كالم الخوري ،أن القصد في هذا التعليم هو جعل
فلنر هل يصح هذا التأويل؟
اإلنسان مستسلماً للخنوع والعبودية والخسف والهوان والجلد بالسياط؛ َ
قلنا في ما تقدم أن المسيح لم يضع شريعة كما يتوهم رشيد الخوري الذي ال يعرف الفرق بين تعليم العقيدة
واشتراع القوانين ،ولذلك ال يجوز قط أن تحمل اآليات المذكورة على محمل الحكم القانوني ،فهي تعليم فيه
تشديد في معالجة حالة اجتماعية ولدها جمود الشرع ونقص التعاليم المناقبية في الدين .وهذا التعليم ال يقصد
قسمة الناس إلى ظالمين ومظلومين كما يتوهم أمثال رشيد الخوري فتكون هنالك جماعة بحق ألفرادها أن
يحولوا خدودهم
يصفعوا كل من ليس من فئتهم على وجهه ،وتكون هنالك جماعة يتوجب على أفرادها أن ِّ
األخرى لضاربيهم ،بل هو يقصد نفي الخصومة والضرب والظلم من المجتمع .واآليات المذكورة ال يمكن
أخذها وحدها ألنها لم تقل في معرض اإلطالق ،بل في معرض موضوع متعلقة به ومرتبطة فيه بآيات أخرى
جاءت معها في وقت واحد.
بعد أن حث المسيح تالميذه على ابتغاء البر وسالمة القلب مهما تعرضوا للمالم واالضطهاد انتقل إلى تعليم
سلبية أكثر مما هي إيجابية.
فلسفته االجتماعية التي ال تقف عند حدود الشرع .فالشرع الجزائي وظيفته ّ
فالقانون يعاقب على الجرم ،ولكنه ال يعين الفضائل ،وهو يضع الحد ولكنه ال يشق طريق االرتقاء .إنه يحفظ
27
نظام المجتمع ،ولكن ترقية نفسيته تبقى في مهام التعاليم المناقبية والنظرات الفلسفية في قواعد الحياة
االجتماعية ومثلها العليا .فهذه التعاليم والنظرات الفلسفية ال تكتفي بحالة اإلنصاف األولى التي أوجدتها
الشرائع والقوانين سواء أكانت هذه دينية أم مدنية ،وهي حالة تأمين حصول الطريقة العملية Modus
Vivendiلتسيير شؤون المجتمع وحفظ نظامه ،بل ترمي إلى تعديل شؤون المجتمع وتغيير نظامه على ما
ينطبق على مثلها العليا وما تراه أفضل لترقية الحياة اإلنسانية االجتماعية .وتظهر الحاجة إلى هذه التعاليم
والنظرات الفلسفية في المجتمعات التي اجتازت طور التشريع االبتدائي وحازت الطريقة العملية الصالحة
لتسيير شؤونها الحيوية .وهذه هي المجتمعات الصالحة لنشوء التعاليم الفلسفية .وسورية كانت بالد ُّ
تمدن باذخ
عرفت التشريع المدني ،ثم جاءها اليهود الذي اقتبسوا من السوريين المذهب الديني الذي هو مذهب اإلله الذي
يرى وال ُيرى ،خالق السموات واألرض وعالم الغيب وجعلوه مصدر الشرع( )4فصار الشرع جامداً غير
قابل التغيير ،مهما تغير الزمان وقلبت الظروف واألحوال ،وصارت النظرة إلى الحياة مؤسسة ،مناقبياً
المناقبي المستمد من الشرع.
ّ وفلسفياً ،على الشرع؛ واكتفى الناس ،الذين آمنوا بالدين الجديد ،باألساس
بجمود الشرع ،عن طريق الدين ،جمدت الفلسفة المناقبية أيضاً ،وبطل مبدأ الفيلسوف السوري الكبير زينون
القائل بأن الفكر أو العقل هو جوهر الحياة اإلنسانية .فحدث في المجتمع السوري تصادم عنيف بين النفسية
السورية والشرع الموسوي الذي أخذ يقوى على عامل العقل بسبب قوة فكرة اهلل التي استند إليها والتي أخذت
تغلب على فكرة آلهة األساطير القديمة واألصنام .ولم يعد في اإلمكان التأثير على المجتمع إال عن طريق
فكرة اهللَّ ،
ألن هذه الفكرة أضعفت منزلة الحكمة البشرية وقوة العقل اإلنساني تجاه حكمة اهلل وتدبيره .وهذا
هو السبب في اتخاذ التعاليم المناقبية المسيحية الفكرة الدينية أسساً لها .فظهر المسيح بمظهر الموعود به من
اهلل ليكون به الخالص ،وعلى هذا االعتقاد الديني استند المسيح ليؤدي رسالته المناقبية التي أهم ما فيها،
بصرف النظر عن أهمية تعاليمها ،أنها أعادت النظرة السورية إلى الحياة القائلة بتسليط العقل على مجرى
التاريخ ،وأن ميزة اإلنسان األساسي هي الفكر ،وأنها كانت انتصار النفسية السورية الفاصل على النفسية
الموسوي.
ّ اليهودية القائلة بتحديد الحياة اإلنسانية وفاقاً للشرع
28
الجديدة .ويثبت أنه تعليم ليس فقط في أنه لم يعين العقوبات ،بل في اآليات التابعة وهي" :فإذا َّ
قدمت قربانك
إلى المذبح وذكرت هناك أن ألخيك عليك شيئاً فدع قربانك هناك أمام المذبح وامض َّأوال فصالح أخاك،
وحينئذ ِ
ائت ِّ
وقدم قربانك" ثم اآلية" :قد سمعتم أنه قيل لألولين :ال تزن ،أما أنا فأقول لكم :إن كل من نظر إلى
امرأة لكي يشتهيها فقد زنى بها في قلبه" ،ثم اآليات" :قد قيل من طلّق امرأته فليدفع إليها كتاب طالق ،أما أنا
فأقول لكم :من طلّق امرأته إال لعلة زنى فقد جعلها زانية ،ومن تزوج مطلقة فقد زنى" .وفي تعليم اآليات
التمدني نحو الحب وتفاهم
ِّ األخيرة قواعد مناقبية للترفَّع عن الشهوات الحيوانية ،واالتجاه نحو المثال األعلى
الحبيبين لالشتراك في حياة نفسية راقية يكون الحب فيها حافزاً على األعمال الكبيرة واإلنتاج العمراني
والثقافي بدالً من التالشي في المغامرات الشهوانية .واإلسالم المحمدي ،الذي نشأ في إقليم َّ
حدد الحياة البشرية ِّ
فضل أن يتزوج الرجل تحديداً شديداً وأحرجها حتى أصبحت الشهوات الحادة المنصرف الوحيد ِلقوى الناسَّ ،
امرأة واحدة في حين أباح َّ
تعدد الزوجات نظراً لمقتضيات البيئة ،يقول القرآن{ :فإن خفتم أالّ تعدلوا فواحدة أو
ما ملكت أيمانكم} (النساء .)3 :وقد تابع المسيح إعطاء القواعد المناقبية فقال" :قد سمعتم أيضاً أنه قيل
للرب بأقسامك ،أما أنا فأقول لكم :ال تحلفوا البتة ال بالسماء فإنها عرش اهلل وال
ّ لألولين :ال تحنث ،بل أوف
سوداء ،ولكن ليكن
َ باألرض فإنها موطئُ قدميه ,وال تحلف برأسك ألنك ال تقدر أن تجعل شعرةً منه بيضاء أو
كالمكم نعم نعم وال ال ،وما زاد على ذلك فهو من الشرير" .وهذا التعليم سام جداً يرفع احترام الناس أنفسهم
وأقوالهم حتى يصيروا يعنون ما يقولون دائماً فيكون كالمهم موثوقاً به من غير حاجة إلى حلف خاص يدل
بحد القانون ِّ
الشك بصدق رواياتهم وأقوالهم األخرى .وتابع تعليمه بعدم تجميد الفضائل النفسية باالكتفاء ِّ على
فقال" :قد سمعتم أنه قيل :العين بالعين والسن بالسن؛ أما أنا فأقول لكم :ال تقاوموا الشرير ،بل من لطمك على
فحول له اآلخر ،ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك ِّ
فخل له رداءك أيضاً ،ومن سخرك ميالً خدك األيمن ِّ
ِ
فامش معه اثنين .من سألك فأعطه ،ومن أراد أن يقترض منك فال تمنعه".
هذه القاعدة المناقبية السامية ليس تأويلها الحسن ما َّأوله رشيد الخوري من غير استناد إلى كالم المسيح؛ بل
تأويلها الوحيد الصحيح الذي ال يقبل الجدل هو َّ
أن المسيح قال بوجوب التساهل في الحقوق الفردية من أجل
خير المجتمع؛ فقوله" :ال تقاوموا الشرير" ال يعني عدم مقاومة الذين يفسدون المجتمع ،بل يعني عدم االستسالم
لعوامل الفساد التي منها تفضيل حق الفرد وخيره على حق المجتمع وخيره ،فالشرير هو الذي يريد أن يقودك
الشر في المجتمع ،بل يزيده،
إلى الشر بدفعك إلى مقاومته بسالحه وهو الشر ،واستعمال هذا السالح ال يخفف َّ
وبالغبن ازدياد األحقاد والضغائن والعداوة وتفكك
ُ ألن االنتقام يكون بحدة وبال قياس .فالغبن ال َّ
بد واقع،
المجتمع وفساده .فمقاومة الشر الحادث بين إنسان وابن مجتمعه تكون ،حسب قاعدة المسيح المناقبية ،بالتساهل
في الحقوق الفردية الذي ينتهي ،في األخير ،إلى نفي الشر ،ألنه متى تعلَّم كل إنسان أن يتساهل من أجل
الخير العام لم يعد هناك من يريد الظلم ،فينتفي الظلم بالمرة ،أو يق ّل كثيراً حتى ال يشعر به .وإ ذا انتفى الظلم
29
فكيف يكون بانتفائه حصول الخنوع والخسف والهوان؟
المسيحي،
ّ والمحمدي يظن أن المحمدية تخالف هذا التعليم
ّ المسيحي
ّ إن رشيد الخوري الجاهل تعاليم المذهبين
ولكن الحقيقة هي َّ
أن َّ يصرح باختالف المحمدية والمسيحية في هذا الصدد.
وبناء على هذا الظن اآلثم أخذ ِّ
{والَ تستوي الحسنة وال ِّ
الرسالة المحمدية تعل م هذا التعليم عينه في القرآن والحديث ،فانظر ما يقول القرآنَ :
{ثم كان من الّذين
ولي حميم} (فصلتَّ )34 :السيِّئة ،ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ّ
ّ
فإن اهلل
بالصبر وتواصوا بالمرحمة} (البلد{ )17 :إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء ّ
ّ آمنوا وتواصوا
األول من سورة
عفواً قديراً} (النساء ،)149 :وأقوى هذه اآليات في هذا االتجاه هي المذكورة في َّ
كان ّ
السجدة .وقد اكتفت الرسالة المحمدية بهذا المقدار من موافقة التعليم المسيحي مراعاة لحالة البيئة ،ولذلك كانت
هذه اآليات مطلقة من غير تعيين لكيفية التطبيق باألمثال ،كما في الرسالة المسيحية .فالبيئة العربية كانت ،كما
أشد حاجة إلى وضع ٍّ
حد للفوضى وإ قامة حدود الشرع التي تمنع االنتقام ّبينا في ما تقدم من هذا البحثَّ ،
النبي نفسه ،منها إلى الحياة الثقافية العليا .فقد روي عن محمد أنه "لما رأى حمزة
الجامح الذي كاد يقع فيه ُّ
لن بسبعين مكانك" (ذكره اإلمام البيضاوي في شرحه سورة وقد مثِّل به" قال" :واهلل لئن أظفرني اهلل بهم ألمثّ َّ
خير
النحل) ثم إن النبي كفر عن يمينه بنزول اآلية{ :وإ ن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ،ولئن صبرتم لهو ٌ
مشربة روحاً مسيحية في القسم األخير منها وهو قوله "ولئن
للصابرين} (النحل )126 :ومع أن هذه اآلية َّ
ّ
الموسوي الذي هو بداءة تنظيم المجتمع .وقد
ّ صبرتم لهو خير للصابرين" فإن القسم األول مجانس للشرع
كانت موجبات البيئة لتساهل الرسالة قوية أحياناً ،خصوصاً بعد االتجاه نحو جمع كلمة المحمديين على قتال
َّ
لحملهن على إطاعة رجالهن. الذين ال يؤمنون إيمانهم ،ونصرة الدين بالقوة ،كالتساهل بتجويز ضرب النساء
فضل اهلل بعضهم على بعض وبما أنفقوا من النساء بما ّقوامون على ّ{الرجال ّ
فقد وردت في سورة النساء اآلية ّ
فعظوهن
ّ نشوزهن
ّ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ اهلل والالّتي تخافون
ّ أموالهم (في زواجهن)
علياً كبيراً} (النساء:
إن اهلل كان ّ
عليهن سبيالً ّ
ّ واضربوهن فإن أطعنكم فال تبغوا
ّ واهجروهن في المضاجع
ّ
.) 34فلهذه اآلية عالقة بحكاية حال وهي أن سعد بن الربيع ،أحد نقباء األنصار ،نشزت (عصت) عليه
امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها .فانطلق بها أبوها إلى النبي فشكا ،فقال محمد" :لتقتص منه"." .
ثم كان أن اآلية نزلت فقال النبي "أردنا أمراً وأراد اهلل أمراً والذي أراد اهلل خير" .وفي هذا القول تدبير حكيم
لمعالجة الحالة معالجة ما كان يجب أن تولد صدعاً في صفوف المسلمين.
مع كل هذا التساهل الشرعي الذي أبدته الرسالة المحمدية تجاه مقتضيات حالة البيئة َّ
فإن النبي كان في بعض
مرمى ،مستفيداً من أن كالمه ليس كالمه الذي َّ
حدث به حديثاً ال إلزام فيه ،أعلى مطلباً للناس عامة وأبعد ً
يحث المؤمن على التمسك به من غير عنت وال إكراه؛ فهو في الحديث الذي يخرج شرعاً حتمياً ،بل إرشاداً ُّ
30
به من خصوصيات البيئة وضروراتها إلى عالم اإلنسانية الواسع الذي يتناول بيئات التمدن أيضاً ،يجاري
المسيح في تعاليمه المناقبية مجاراة ال تترك زيادة لمستزيد.
في الحديث الذي يتناول تعاليم عمومية ،كما في اآليات التي يالحظ َّ
أن عوامل البيئة قيدتها بعض التقييد،
ٍ
أرومة تظهر لطافة نفس النبي العربي السورية األصل ،فإذا جوهرها وجوهر نفس المسيح واحد ألنهما من
واحدة في األصل ،قبل أن صارت القبائل الكنعانية مستعربة ،وهي القبائل العدنانية الكنعانية األصل التي منها
النبي محمد.
لينظر القارئ كيف يتحد التعليم المحمدي بالتعليم اليسوعي فإذا هما تعليم واحد وليس تعليمين .وإ ذا كانت البيئة
المناقبي للرسالة
َّ العربية الصحراوية وأساليب معيشتها قد اقتضت نظراً خاصاً بها َّ
فإن المرمى األخير
يقصر قيد شعرة عن مرمى الرسالة المسيحية .قال محمد في حديث له" :أوصاني ربي بتسع
المحمدية لم ِّ
السر والعالنية ،والعدل في الرضى والغضب ،والقصد في الغنى والفقر،
أوصيكم بها :أوصاني باإلخالص في ِّ
وأن أعفو عمن ظلمني ،وأعطي من حرمني ،وأصل من قطعني ،وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً
ووصل من
َ يحرم، ونظري عبراً" .فإن العفو عن الظلم هو ُم َو ٍاز لتحويل ِّ
الخد اآلخر لمن ضربك ،وإ عطاء من ُ
يقطع موازيان لقول المسيح :من سخرك ميالً فامش معه اثنين ،ومن طلب مالك فال تمنعه.
إذاً ال خالف في جوهر اإلسالم في الرسالتين المحمدية والمسيحية ،وال مغايرة إالّ في ما اقتضاه اختالف
أن قصدهما واحد. البيئة ،ال ما اقتضاه قصد ٍّ
كل من الرسالتين ،ألنه ال اختالف في َّ
رأين ا ،في م ا تق دم ،أن م رمى التع اليم المناقبي ة المس يحية أبع ُد كث يراً من الح ِّد ال ذي يبلغ ه التفك ير والتعليم
االنحطاطيان العاجزان عن إدراك قنن الفضائل ،ولذلك كان من الصعب ،على النف وس القانع ة ب التفكير والتعليم
اليم المس يح فق ط ،ب ل
الم ذكورين ،أن تح اول إدراك ه؛ وه ذه الص عوبة لم يج دها ص احب الحارض ة في تتبع ه تع َ
31
اليم محم د أيض اً .ول ذلك أغف ل إغف االً كلي اً ذك ر التع اليم المحمدي ة ال تي تش ترك م ع التع اليم
وج دها في تتبع ه تع َ
واألرجح
ُ فشواهده من األحاديث النبوية وغيرها كانت قليل ة وض عيفة. ُ وتكو ُن قنة الروحية اإلسالمية.
المسيحية ِّ
أن ه ليس ل ه اطالع في ه ذا الب اب الواس ع .أم ا الق رآن فق د أغفل ه ب المرة ،واألرجح أن ه في ه ذا الب اب أح د ال ذين
ا}. وب أقفاله رآن أم على قل دبرون الق رآن فيهم {أفال يت ال الق ق
عب على ال ذين نش أت نفس يتهم على الفس اد ،كم ااء في التعليم التثقيفي المن اقبي ،وه و ص ٌ
إن ه ذا التعليم ه و ارتق ٌ
َّ
ولكن وس الض عيفة ترت ُّد عن األم ور العالي ة الص عبة؛
عب القت ا ُل على ال ذين في قل وبهم م رض .والنف ُهو ص ٌ
النف وس الص حيحة تطلب دائم اً األس مى مهم ا َي ُك ْن من أم ر الص عوبات الحائل ة دون بلوغ ه .وإ ذا ك انت األمم
الراقي ة ال تفت أ تك ثر بعثاته ا على قن ة جب ل أورس ت في جب ال حمالي ا وهي أعلى قم ة في الع الم م ع َّ
أن عل َّو ه ذه
كل مرة بعدد من أفراد الحملة ،ومع أن قنة الجب ل ليس ت س وى قن ٍة مادي ة كقنن الجب ال األخ رى ،فكم القنة يفتك َّ
طلب أعلى القنن الروحية والمناقبية؟ فق ول رش يد الخ وري أن ه ذا التعليم المس يحي
هو أرفعُ قدراً وأسمى فخراً ُ
ني على نظ رة انحطاطي ة في ش ؤون الحي اة .فه ذا التعليم ال "يرب ط"
"يرب ط الفط رة بالسالس ل الثقيل ة" ه و ق ول مب ٌّ
لح للح رب من ال رمح قوته ا نح و األس مى .وال رمح المثق ف ه و األص ُ ِّ
ويوجه َّ الفط رةَّ ،
ولكنه يه ذبها ويثقفه ا
ويم االعوج اج وتوجي ه ق وى الحي اة نح و األفض ل .هك ذا يش ِّذ ُ
ب األع وج .وقص د الثقاف ة أو التربي ة ه و ،دائم اً ،تق ُ
بعض الف روع األخ رى ،فيك ون ،من وراء ه ذا التش ذيب َ الكرم ة فيقط عُ بعض فروعه ا ويطم ُر َ وري
الك َّر َام الس ُّ
والتثقي ف ،أن مق داراً غ ير يس ير من حيوي ة الكرم ة يتح َّو ُل من تغذي ة ف روع مسترس لة إلى فطرته ا العديم ة
المثم رة ف تزداد غل ة الكرم ة أض عافاً .والرج ل ال ذي يتح ّول مق دار غ ير يس ير من
الج دوى إلى تغذي ة الف روع ُ
32
حيويته عن تغذية الشهوات الفطرية إلى األعمال المفيدة من ميكانيكية وصناعية وزراعية وعلمية وأديب ة وفني ة
ننس أن المس يح
قوت ه ،ب ل تك ون ق د تح ولت إلى األنف ع للمجتم ع .وال َ
واجتماعي ة واقتص ادية ال يك ون ق د خس ر َّ
ائلي الس وري ه و
اس المجتم ع .وه ذا األس اس الع ُّ
أن كي ان العائل ة المع روف في س ورية ه و أس ُ تكلم بن اء على َّ
عم المجتم ع المتم دن .ففك رة العائل ة هي في أس اس فك رة المس يح في ال زواج والطالق وال زنى.
ال ذي َّ
وإ ذا رجعنا إلى ما سبق من هذا الدرس الذي يوض ح لن ا نفس ية رش يد س ليم الخ وري وج دنا أن مث ل ه ذا التعليم،
س واء أك ان يس وعياً أو محم دياً ،ال يواف ق نفس يته ونفس ّيات من هم على ش اكلته .فرش يد الخ وري بل غ من
أي ف تى أو فت اة نش أ
ف من س مك" ،مبلغ اً يس تهجنه ُّ الحيوانية ،في قصيدته ال تي يق ول فيه ا "من ذاق ش هدك لم َيخ ْ
ة. ة راقي رأة من بيئ ل أو ام أي رج
الً عن ِّ ة فض ة متمدن في بيئ
اني مح َّل اإلحس اس الحي واني ال تتمال ك أن تُق َّز من وص ف رش يد َّ
ك ل نفس ته ذبت وح ل فيه ا الش عور اإلنس ُ
الخ وري لكيفي ة إك راه فت اة على "تجدي د عه د ص باه" واحتق اره ش عور تل ك الفت اة واس تهزائه به ا .وس واء أك انت
مثالب نفسية بالغة في االنحطاط ،فإن الحيوانات ،على
َ الحادثة التي يصورها واقعية أو تصورية فهي تدل على
ورها لن ا أبي ات الخ وري بقول ه:
وره ا إناثه ا ،وال تعامله ا على الكيفي ة ال تي تص ِّ
أنواعه ا ،ال تحتق ر ذ ُك ُ
أن التع اليم المس يحية تعلِّم الخن وع واله وان وال ذل .ونض يف إلى
وقد رأينا ،في ما س بق ،بطالن ادع اء الخ وري َّ
ذهب: ذا الم دد ،ه ذا الص دم ،في ه ا تق م
إن ال ذي يتس اهل في حقوق ه ،طوع اً ال كره اً ،ال يك ون ذليالً وال يتع َّود اله وان ،ب ل يك ون عزي زاً كب ير النفس.
أن المتس امح اختي اراً وطوع اً من
وج ْبن .وليس ه ذا ش َ الم ْك َر ِه عليهما عن عج ز ُفالهوان يكون بالتسليم واإلذعان ُ
أج ل غاي ٍة نبيل ة فه ذا يش عر بأن ه عف ا عن مق درة ،ألن ه ك ان في وس عه أن ينتقم أو أن يحاس ب الظ الم على ظلم ه
33
الجاهل .وإ ن في التسامح في الحق وق الفردي ة ،من أج ل مب ٍ
دأ اجتم اعي ع ام ،من البطول ة م ا يف وق كث يراً م ا في ّ
ة. بة جاهل ام لغض اق الحس امتش
ولكن المفكرين السطحيين ال يرون قوة هذا المبدأ وفالح المجتمع العامل به؛ ولذلك يعزو رش يد الخ وري التق دم
الس َّنة الطبيعي ة ال تي أم ر
اليم اإلنجي ل وج ريهَم على ُّ
العمراني عند الش عوب المس يحية إلى "مخالف ة المس يحيين تع َ
أخر المس لمين (المحم ديين) الي وم بن ٍ
اجم الشارع اإلس المي المحم دي العظيم باتباعه ا" وه و يق ول أيض اً" :وليس ت ُ
َ
وي وتخلُّقهم بم ا ك ان ينبغي أن يتخل ق ب ه نهج ه الس َّ ٍ
عن فس اد في دينهم يع وقهم عن التق دم ،ب ل عن ت ركهم َ
وتأخ ُر المسلمين (المحمديين) هو نتيجة تبادلُهما العقيدة وعم ُل ك ٍّل من المل تين المسيحيونُّ .
فتقد ُم المسيحية اليوم ُ
بدين األخرى إلى حد بعيد .المسيحي الغربي يجرد سيف الرسول ،والمسلم الشرقي يرفع راية المس يح البيض اء
ط ُم على خ ده األيس رأعداءه ،محسناً إلى الذين يسيئون إليهُ ،يْل َ
َ ويحمل صليبه إلى الجلجلة ،مباركاً العنيه ،محباً
وي َس َّخ ُر للمش ي ميالً واح داً فيمش ي عش رة على رج ٍل واح دة تمادي اً في
فيح ِّول األيمن ،وجبين ه وقذال ه أيض اًُ ،
حق النفس". ة وس الطاع
ه ذه هي الزب دة المناقبي ة "للبحث ال ديني اس ماً واالجتم اعي فعالً" ال تي اس تخرجها رش يد الخ وري في حارض ته
ليتخ ذها مس تنداً إلث ارة الفتن ة الديني ة وتح ريض المتعص بين ،ولمحاول ة قت ل العص بية القومي ة االجتماعي ة اآلخ ذة
في ت أليف قل وب أبن اء س ورية ليكون وا مث االً لغ يرهم من األمم ال تي أقع دها التعص ب ال ديني المش ؤوم عن طلب
ول األثيم: ذا الق اً إلى ه ا رأس ومي ،فيتخلص منه د الق المج
وهتكت أع راض ب نيهم ارمهم ُ
"أما ترون جمود المسلمين وقد قتّل إخوانهم تقتيالً ون ّك ل بهم تنكيالً واس تُبيحت مح ُ
لش َّذاذ اآلف اق من اليه ود ال ذين هم أو ُل وآخ ُر َمن ع ادى وبن اتهم وأخرج وا من دي ارهم ووهبت َّ
مقدس اتهم ملك اً ّ ُ
وذريتَ ه؟ أفم ا أخل د المس لمون إلى أك ثر من س كون المس يح ون اموا على أش َّد من ض يمه وف اقوه في
ن بيَّهم وآل ه ِ
محب ة أع دائهم فوال وهم على أهلهم وإ خ وانهم فتخ اذلوا ففش لوا وذهبت ريحهم وأطمع وا بهم ص ليبيِّي ه ذا الزم ان
حتى ل و خرق وا لهم حرم ة الكعب ة وحطَّم وا الحج ر وطم روا الب ئر ونس فوا عرف ات وتص رفوا ب أوراق المص حف
وسطوا على قبر النبي (صلى اهلل عليه وسلم) فبعثروا عظام ه ،لم ا ص عد ال دم إلى رؤوس هم وال حميت أن وفهم،
ر"؟. يء من األم
ٌ اكتين كمن لم يعنهم ش اس راء ورعاي اً وأم وا ملوك وقبع
34
خاصتهم لما وجدنا حاجة
َّ لوال انحطاطُ المستوى العلمي والثقافي العام عند عامة السوريين والسواد األعظم من
اء للع ِالِم أن ُيض َّ
طر إلى مناقش ة جديًّا؛ فإن من ِّ
أشد األم ور عن ً بنا للنظر في هذا القول الهراء ،والبحث فيه بحثاً ِّ
اضر والمحاضرة ،يك اد ال جاهل .فتجاه هذا الكالم البعيد كل البعد عن كل شرط من شروط العلم وشروط المح ِ
َُ َ
كالم غرض ه الفتن ة المقص ودة ،ال العلم .وق د ق الوا" :إذا أردت
يقف منطق وال تثبت حكمة وال يصمد علم ،ألنه ٌ
الم أ ُِم َر من جاهل ه" .ول و ك ان لرش يد الخ وري
أن تفحم عالم اً فأحض ره ج اهالً" .وفي ذل ك ق ال محم د" :وي ل ِلع ِ
يء من قيم الع ِالِم لك ان كفان ا مؤون ة ه ذا العن اء. يء من العلم الص حيح بح ديث الن بي الع ربي وش ٌ ش ٌ
ال ُيوج ُد في ه ذا الزم ان ص ليبيُّون وهاللي ون يقتتل ون من أج ل حي ازة ق بر المس يح ومك ان والدت ه ،أو من أج ل
"خ رق حرم ة الكعب ة وتحطيم الحج ر وطم ر الب ئر ونس ف عرف ات والتص ُّرف ب أوراق المص حف والس طو على
أمم ناهض ة َوثَّقت أواص َر وح دتها القومي ة بالتع اليم المس يحية
ق بر الن بي" ،كم ا يق ول الخ وري ال دجَّال ،ب ل يوج د ٌ
التي تشترك فيها المحمدية ،وبحثت عن أسباب ترقية عمرانها ،ال عن أسباب نصرة دينها بالس يف ،وه ذه األمم
راني .وإ ن من درس الح روب األخ يرة وج َد أنه ا تفرق في سعيها ِّ
دي ونص ّ بين محم ِّ لعزها ومجدها َ الناهضة ال ِّ
ك انت في م ا بين أمم مس يحية أك ثر كث يراً مم ا ك انت بين أمم مس يحية وغ ير مس يحية .فمن ذ عه د الفتوح ات
ومي يس يطر روي داً روي ًد على مج رى حي اة َّ
اإلس المية المحمدي ة ال تي ولدت الفتوح ات الص ليبية أخ ذ التفك ير الق ّ
ان على الن اس ب القو ِة ال ب د أن يج د ح داً يق ف عن ده .ولق دوأخ َذ الن اس ي دركون أن ف رض أح ِد األدي ِ
الش عوبَ ،
ولكنه ا انكس رت هن اك وان دحرت امت دت الفتوح ات المحمدي ة إلى إس بانية وح دود فرنس ة بق وة االس تمرارَّ ،
وت راجعت إلى أفريقي ة .وق د ج رى ذل ك للمحم ديين وهم في إبَّان اع تزازهم "بس يف الرس ول" وعملهم "ب النهج
الس وي ل دينهم" ،فكي ف ح دث ذل ك للمس لمين المحم ديين وهم آخ ذون بنهج الس يف ال ذي يع ُّده الخ وري "نهج
وي"؟
ّ الم الس اإلس
حدث اندحار المسلمين المحمديين للسبب عينه الذي حدث به ان دحار أمم ودول مس يحية أم ام جي وش المحم ديين
دي ال ذي يق وم ه و أيض اً به ا؛
األولى ،وهذا السبب هو ترك التعاليم المسيحية المصادق عليها من اإلسالم المحم ّ
ففي س ورية ،مثالً ،ك ان الفس اد المن اقبي ال ذي ج َّره تس لّط ال روم على البالد من أهم العوام ل ال تي جعلت البالد
تس قط في ي د الجي وش العربي ة .والدول ة الرومي ة نفس ها ك ان يض ُّج فيه ا الفس اد المن اقبي ض جيجاً ف انتفى التس اه ُل
من بين الن اس وكثُ رت األحق اد والض غائن ح تى بين ق َّواد الجيش والرهب ان والقس س ،وانتش ر ال زنى ال ذي ولّ د
الحفائ ظ ،فاش تدت المنافس ات وطلبت األحق اد االنتق ام بجمي ع الوس ائل ،ح تى إن ه ن در أن ج رت معرك ة من
المع ارك الك برى في س ورية إال وك انت الخيان ات االنتقامي ة وعوام ل الحق د والمزاحم ة من األس باب الرئيس ية
الن دحار الجي وش الس ورية والرومي ة أو الجي وش المس يحية أم ام الجي وش العربي ة أو الجي وش المحمدي ة.
35
الواق دي ،باالس تناد إلى ال ذين حض روا الوق ائع من أبط ال المس لمين المحم ديينَّ ،
أن فتح بص رى ك ان بخيان ة
البطريق روماس ذي األمر عليها ،فإنه خرج يطلب البراز م ع أم ير الع رب فخ رج إلي ه خال د بن الولي د فخاطب ه
روم اس وأظه ر ميل ه إلى خيان ة جماعت ه ،فع رض علي ه خال د اإلس الم فأس لم .وبع د ذل ك تظ اهر خال د وروم اس
أحد في أمر روماس .وبعد معركة النهار بين الجيشين خ رج السوري ـ الرومي فال يشك ٌ
َّ بالقتال ليخدعا الجيش
روم اس متخفّي اً وج اء جيش المس لمين المحم ديين وطلب مقابل ة خال د بن الولي د فأخ ذ إلي ه فق ال ل ه" :أيه ا األم ير
بعد أن فارقتك طردني قومي وقالوا ال زم قص رك وإ ال قتلن اك ،فل زمت قص ري وه و مالص ق للس ور .ولم ا وق ع
فلما ُج ّن اللّي ل أم رت غلم اني بحف ر الس ور وفتح وا في ه باب اً فأتيت ك فأرس ل معي
تحص نواَّ ،
َّ لهم ما وقع وانهزم وا
من تعتم د علي ه من أص حابك تس تلمون المدين ة"! فلم ا س مع خال د ه ذا الكالم أم ر عب د ال رحمن بن أبي بك ر أن
يأخذ مئ ة من المس لمين ويس ير م ع روم اس .ق ال ض رار بن األزور" ،وكنت ممن دخ ل المدين ة ،فلم ا ص رنا في
قص ر روم اس فتح لن ا خزان ة الس الح فلبس نا من س الحهم وقس منا أربع ة أقس ام الخ" (الواق دي ص .)170
وكان فتح خالد بن الوليد لدمشق شبيهاً بفتحه بصرى .وقد ذكرنا في ما س بق أن ذل ك ك ان بخيان ة قس يس ي دعى
ي ونس .ذك ر الواق دي أن ه "لم ا ك انت تل ك الليل ة (ليل ة ص لح دمش ق م ع أبي عبي دة) نقب ي ونس من داره وحف ر
موضعاً وخرج على حين غفلة من أهله وأوالده ،وقصد خالداً وحدثه أنه خ رج من داره وحف ر موض عاً" وق ال:
"واآلن أري د أمان اً لي وألهلي وألوالدي" فأخ ذ خال د عه ده على ذل ك وأنف ذ مع ه مئ ة رج ل من المس لمين أك ثرهم
ير" (ص .)460 من حم
وإ ن أسوأ ما حدث ،بسبب الفساد المناقبي ،ه و م ا ك ان في معرك ة ال يرموك في ي وم التع وير وإ لي ك حكايت ه نقالً
عن الواق دي (ص " :)138ق ال الواق دي رحم ه اهلل تع الى :ح دثني أب و عبي دة عن ص فوان ابن عم رو عن عب د
ال رحمن بن جب ير أن أب ا الجعي د ك ان رئيس اً من رؤس اء أه ل حمص ،فلم ا اجتمعت ال روم على المس لمين في
ال يرموك دخل وا على حمص ونزل وا في بل دة تس مى الزراع ة ،وك ان أب و الجعي د ه ذا ق د جعله ا مس كنه لطيب
هوائه ا ومائه ا؛ وانتق ل من حمص إليه ا .ف نزل عس كر ال روم على زراع ة عن ده ،وك ان ع رس ألبي الجعي د
وزوجته تزف إليه في تلك الليلة .قال :فتكلف أبو الجعيد بضيافة الروم وأكرمهم وأطعمهم وسقاهم الخمر؛ فلم ا
فرغ وا من أم ورهم ق الوا :ه ات امرأت ك إلين ا ،ف أبى ذل ك وس بَّهم ،ف أبوا إال أخ ذ الع روس .فلم ا ش َّنع عليهم ب ذلك
ة ليلتهم ا بقي وا به ه وعبث اً من ذوها كره روس وأخ دوا إلى الع عم
فبكى أبو الجعيد من حزنه ودعا عليهم ،فقتلوا أوالده ،وكان له ولد من زوجة غيرها (!) .قال :فأقبلت أم الف تى
فأخذت رأس ولدها في خمارها ،وأقبلت إلى مقدم ذلك الجيش ورمت الرأس إليه وشكت حالها وقالت له :انظر
م ا ص نع أص حابك بول دي فخ ذ بحقي .فلم يعب أ بكالمه ا ،فق الت ل ه أم الف تى "واهلل لننص رن الع رب عليكم"،
ورجعت وهي تدعو عليه ،فما كان إالّ يسيراً حتى هلكوا في أيدي المسلمين .قال :فلما كان يوم اليرموك بع دما
36
جيش
قت ل النس طور أتى أب و الجعي د إلى عس اكر المس لمين وق ال لخال د :اعلم أن ه ذا الجيش الن ازل ب إزائكم ٌ
عظيم ،ول و س لَّموا أنفس هم إليكم للقت ل لم ا ف رغتم من قتلهم إالّ في الم دة الطويل ة ،ف إن ك دتهم لكم في ه ذه الليل ة
بمكي دة تظف رون به ا عليهم م اذا تعط وني؟ ق الوا :نعطي ك ك ذا وك ذا وال ت ؤدي جزي ة أنت وول دك وأه ل بيت ك،
ونكتب لك بذلك عهداً إلى آخر عقبك .فلما استوثق منهم لنفسه مضى إلى ال روم وهم ال يعلم ون ،وأتى إلى ٍ
واد
عظيم ممل وء م اء ،ف أنزل ال روم إلى جانب ه وق ال لهم :إن ه ذا الم نزل ب ه الع رب ،وأن ا س أكيد لكم الع رب بمكي دة
يهلكون بها .قال رج ل :الناقوص ة في م ا بين ال روم والع رب ،ولم يعلم أح د من ال روم م ا عمقه ا .فلم ا ك ان ي وم
التع وير وعلم أب و الجعي د أن النص ر للع رب وأن الع رب هم المنص ورون (؟!) ج اء أب و الجعي د إلى أبي عبي دة
فوجده يطوف تلك الليلة هو وجماع ة من المس لمين المه اجرين فق ال لهم :وم ا قع ودكم؟ ق الوا :وم ا نص نع؟ ق ال:
إذا ك ان ليل ة غ د ف أكثروا من الن يران .ثم رج ع إلى ال روم لينص ب عليهم حيل ة .فلم ا ك انت الليل ة الثاني ة أوق د
المس لمون أك ثر من عش رة آالف ن ار ،فلم ا اش تعلت الن يران أقب ل إليهم أب و الجعي د فق الوا :أش علنا الن يران كم ا
أردت ،فم ا بع د ذل ك؟ ق ال :أري د منكم خمس مئة رج ل من أبط الكم ح تى أش ير عليهم بم ا يص نعون فاخت اروا من
المس لمين خمس مئة رج ل ،من جملتهم ض رار بن األزور وعي اض وراف ع وعب د اهلل بن ياس ر وعب د اهلل بن أوس
وعب د اهلل بن عم ر وعب د ال رحمن بن أبي بك ر وغ انم بن عب د اهلل ومث ل ه ؤالء الس ادات .فلم ا اجتمع وا س ار بهم
أب و الجعي د على غ ير المخاض ة وقص د بهم عس كر ال روم ،فلم ا ك ادوا يخ الطونهم أخ ذ أب و الجعي د منهم رج االً
ودلَّهم على المخاض ة ،ولم يكن يعلم به ا أح د س واه ممن س كن ال يرموك ،وق ال لهم :ناوش وهم الح رب ،ثم
انهزموا ودعوني وإ ياهم ،ففعلوا ذلك وصاحوا فيهم وحملوا ثم انهزم وا ق دامهم نح و المخاض ة .فعن د ذل ك ص اح
أبو الجعيد برفيع صوته :يا معاشر الروم ،دونكم ومن انهزم! فهؤالء المسلمون قد أوقدوا ن يرانهم وعول وا على
الح رب ،ق ال :ف أقبلت ال روم على ح ال عجل ة ُّ
يظنون أن ذل ك ح ق ،فبعض هم ركب ج واده عريان اً ،وبعض هم
راجل ،وساروا في طلب المنهزمين وأب و الجعي د يع دو بين أي ديهم إلى أن أوقفهم على الناقوص ة وق ال لهم :ه ذه
المخاض ة دونكم وإ ي اهم ف أقبلوا يتس اقطون في الم اء كتس اقط الج راد ح تى هل ك في الم اء م ا ال يح ّد وال يحص ى
ع دداً وال يدرك ه جن ان .فس متها الع رب الناقوص ة لنقص ال روم" (الجي وش الس ورية ـ الرومي ة).
ه ذه الرواي ة الم أخوذة عن مص در من أهم المص ادر اإلس المية المحمدي ة تظه ر بجالء أن ه لم يكن ينقص
المس يحيين نهج الس يف ،وأن فش لهم لم يكن بس بب تع اليم دينهم ،ب ل على العكس :بس بب ت ركهم تل ك التع اليم
المناقبي ة الس امية ال تي اش تركت فيه ا المحمدي ة م ع المس يحية .فق د اس تظهرت الجي وش الس ورية ـ الرومي ة على
جي وش الع رب في ي وم ال يرموك ع دة م رات ح تى ولَّت ه ذه األدب ار ولم ترج ع إلى الح رب إالّ تحت عام ل
اس تغاثة نس اء الع رب ،ولكن الفس اد المن اقبي ال داخلي ك ان أفع ل من جمي ع س يوف الع رب في تقري ر مص ير
يرموك. ة ال معرك
37
إن أس باب س قوط س ورية هي عينه ا أس باب س قوط إس بانية .وأس باب انتص ار ش ارل مارت ل على الجي وش
اإلس المية المحمدي ة هي أن تع اليم المحب ة والتس اهل في الحق وق الفردي ة جعلت الجيش الفرنس ي ل ذلك العه د ي داً
واح دة على الجيش اإلس المي المحم دي .وأس باب ان دحار المحم ديين في م ا بع د ك انت عمالً باالعتم اد على
السيف فقط وترك التع اليم المحمدي ة ال تي هي من ن وع روح التع اليم المس يحية .فلم ا ت رك المس لمون المحم ديون
التّراحم بينهم وح ّكموا السيف في ك ل أم ر من أم ورهم انش قّوا وتخ اذلوا .ولم يكن تخ اذلهم وح ده س بب س قوطهم
مبدئي آخر وهو أن فرض العقائد بالقوة له ح د يق ف عن ده ،وأن أفض ل الط رق لنش ر العقائ د بين
ٌّ إذ هنالك سبب
ا. راه عليه حتها وليس اإلك اع بص ة هي اإلقن عوب المتمدن الش
وإ ن أس باب جم ود أمم الع الم الع ربي ح تى األمس لم تكن عائ دة إلى ت رك الس يف ،ب ل إلى ت رك تع اليم المحب ة
والتس اهل وال دفع ب التي هي أحس ن وعم ل المس لمين المحم ديين ببعض اآلي ات من كت ابهم وت رك العم ل باآلي ات
يحرض ون الغوغ اء بمث ل ه ذه
األخرى؛ ف إن بعض ال ذين ال يت دبرون الق رآن من المس لمين المحم ديين ال يفت أون ّ
أن اهلل م ع
اآلي ات القرآني ة{ :ي ا ّأيه ا الّ ذين آمن وا ق اتلوا الّ ذين يل ونكم من الكفّ ار وليج دوا فيكم غلظ ة واعلم وا ّ
ق
يحرمون ما ح ّرم اهلل ورس وله وال ي دينون دين الح ّ
المتّقين ..قاتلوا الّذين ال يؤمنون باهلل وال باليوم اآلخر وال ّ
إن اهلل
من الّ ذين أوت وا الكت اب حتّى يعط وا الجزي ة عن ي د وهم ص اغرون} (التوب ة{ )29 :لق د كف ر الّ ذين ق الوا ّ
ليمس ّن الّ ذين كف روا منهم ع ذاب أليم} (المائ دة:
عم ا يقول ون ّ
ث الث ثالث ة وم ا من إل ه إالّ إل ه واح د وإ ن لم ينته وا ّ
بي أن يك ون ل ه أس رى حتّىبي ح ّرض المؤم نين على القت ال ..إلى آخ ر اآلي ة{ }...م ا ك ان لن ّ
الن ّ
{ )73ي ا ّأيه ا ّ
يثخن في األرض ..إلى آخر اآلية} (األنفال 65 :و )67فنسي المسلمون المحمديون اآليات األخرى المتفق ة م ع
التع اليم المس يحية كه ذه اآلي ات{ :ولك ل أم ة رس ول ف إذا ج اء رس ولهم قض ي بينهم بالقس ط وهم ال يظلم ون
الن اس حتّى يكون وا مؤم نين} رب ك آلمن من في األرض كلهم جميع اً أف أنت تك ره ّ (ي ونس ... )47 :ول و ش اء ّ
آمن ا بالّ ذي أن زل إلين ا
(يونس{ )99 :وال تجادلوا أهل الكت اب إالّ ب الّتي هي أحس ن إالّ الّ ذين ظلم وا منهم وقول وا ّ
وت.)46 : لمون} (العنكب ه مس د ونحن ل ا وإ لهكم واح زل إليكم وإ لهن وأن
فلو عمل المسلمون المحمديون بروح هذه اآليات المكية التي نزلت في جو جه اد روحي غ ير مض طرب بجه اد
السيف والغزو يتفّق م ع س ير العم ل الفك ري ال روحي بين األمم المتمدن ة لوج دت األمم العربي ة الي وم متح دة ك ّل
منها في داخلها اتحاداً قومياً متيناً ال مجال فيه لألحقاد والض غائن والمفاس د ال تي تجره ا وال ويالت ال تي تجلبه ا.
وإ ذا ك ان اإلس الم المحم دي ق د اتخ ذ الس يف وس يلة لنش ر الرس الة في العرب ة حيث مج ال الفك ر أض يق من س م
الخي اط فهي لم تجع ل الس يف غرض ه .وأعظم نج اح أص اب المس لمين المحم ديين ،حين ك انت الجامع ة الديني ة
أقوى جامعة ،كان حين نفى المحمديون السيف من بينهم وعمل وا بالتع اليم المس يحية ال تي ج اء الن بي مص ّدقاً له ا
{محم د رس ول اهلل وال ذين مع ه أش ّداء على الكفّ ار رحم اء بينهم ت راهم ر ّكع اً س ّجداً يبتغ ون
ّ بآي ات كه ذه اآلي ة:
38
الس جود ذل ك مثلهم في الت وراة ومثلهم في اإلنجي ل الخ}
فض الً من اهلل ورض واناً س يماهم في وج وههم من أث ر ّ
الداخلي هو أساس كل مجتمع يريد أال يخرب،وهذا ه و التعليم المس يحي الكلي .فالمس يح
ّ فالتراحم
(الفتحّ .)29 :
علّم المحبة لمنع االنقسام ،ألن "ك ل مملك ة تنقس م على ذاته ا تخ رب ،وك ل بيت ينقس م على ذات ه يس قط" .والتعليم
المحمدي لم يحد قيد شعرة عن التعليم اليسوعي ،فسيف محمد كان لتعزيز العقيدة ،وهذه هي الطريق ة المس يحية
عينها ،فالمسيح قال" :إني جئت أللقي ناراً على األرض وما أريد إال اضطرامها ،ولي ص بغة أص طبغ به ا وم ا
أشد تضايقي حتى تتم .أتظنون أني جئت أللقي على األرض سالماً ،أق ول لكم :كال ،ب ل ش قاقاً (س يفا)" فالمس يح ّ
قال بوجوب الجهاد في سبيل العقيدة ولكن ه خ اطب أبن اء بيئت ه بلغتهم فالس يف ال ذي ج اء ليلقي ه ه و س يف العقي دة
اق ثالث ة منهم اث نين،
ال روحي .وه ذا واض ح من قول ه مردف اً" :فإن ه من اآلن س يكون خمس ة في بيت واح د يش ّ
واثن ان ثالث ة ،يش اق األب االبن ،واالبن األب ،واألم البنت ،والبنت األم ،والحم اة كنتّه ا ،والكن ة حماته ا" (لوق ا
49ـ )35وهذا الشقاق هو عراك فكري في سبيل اإلقناع وليس قتاالً بالسيف والرمح ،ذلك أن العراك الفك ري
ه و األك ثر انطباق اً على األمم المتمدن ة كس ورية .أم ا في بالد الع رب ف العراك الفك ري في األم ور العقائدي ة ال
سبيل إليه ولذلك لم يكن بد من االلتجاء إلى القتال بالسيف والرمح .واآليات القرآنية توافق هذا الم ذهب .ومنه ا
ما سبق إثباته في هذا البحث ،ومنها في القرآن كثير كهذه اآلي ة{ :وم ا أرس لنا من رس ول إال بلس ان قوم ه لي ّبين
لهم فيض ّل اهلل من يشاء ويه دي من يش اء وه و العزي ز الحكيم} (إب راهيم .)4 :وإ ذا رجعن ا إلى س ورة الفتح ال تي
أخ ذنا منه ا اآلي ة القائل ة{ :محم د وال ذين مع ه أش داء على الكفّ ار رحم اء بينهم} (الفتح )29 :وج دنا أن اآلي ات
األخرى تثبت أن طبيعة البيئة هي التي أوجبت هذه الحزبية الدينية الشديدة ،فهنالك اآلية{ :إذ جعل الذين كفروا
في قل وبهم الحمي ة حمي ة الجاهلي ة ف أنزل اهلل س كينته على رس وله وعلى المؤم نين وأل زمهم التق وى وك انوا أح ق
بها وأهلها وكان اهلل بكل شيء عليماً} فميز القرآن حالة الحمية والشراسة وجعل الس كينة للمؤم نين في م ا بينهم
مقاب ل الحمي ة عن د الج اهليين ،ولكن ه ع اد فق ال بالش دة على الكف ار ،أي بمق ابلتهم بمث ل ش دتهم ،ولكن يجب ت رك
نين. ا بين المؤم ة به دال الرحم ّدة وإ ب الش
اء علي ه يص ُّح الق ول إن جم ود الش عوب اإلس المية المحمدي ة أو ال تي س وادها محم ديون ليس عائ داً إلى ع دم بن ً
األخذ بالس يف ،ب ل إلى س بب ت رك تع اليم التس اهل وال تراحم وإ لى تش بث س واد المتعص بين فيه ا بالحزبي ة الديني ة
على طراز حزبية العربة ،حزبية القتال والتباغض ،وإ لى عدم فهم تعاليم الرس الة المحمدي ة الروحي ة ال تي تتف ق
ك َّل االتف اق م ع تع اليم المس يحية ،وإ لى ع دم إدراك ع دد كب ير من متعه دي المحم ديين في الش عوب المتمدن ة َّ
أن
تقدم المحمدية في البيئات المتمدنة يكون ب القوة الفكري ة والناحي ة الروحي ة أك ثر مم ا يك ون بق وة الس يف والناحي ة
ة. المادي
إن الخب ير المتبص ر في أس باب نه وض أمم وس قوط أمم ي درك أن فالح األمم المس يحية األوروبي ة ه و نتيج ة
39
وأي دها اإلس الم المحم دي في الق رآن والح ديث ،وليس ب ترك
العمل بتعاليم التساهل والمحبة التي قال بها المسيح ّ
المختص بالبيئة العربية من التعاليم المحمدية ،الذي إذا درسناه درساً وافياً اتض ح لن ا
ّ هذه التعاليم والعمل بالقسم
مختص بم ا يجب على المحم ديين من الع رب تج اه بقي ة الع رب غ ير المحم ديين ال ذين ين اوئون المحم ديينٌّ أن ه
ة. ة لجماع اوأة جماع من
ويجب أن يكون واض حاً ك َّل الوض وح أن قص د التع اليم المس يحية ه و رف ع المن اقب الفردي ة والعائلي ة .فالتس اهل
أي مجتم ع ،عن الذي علَّمه المسيح قصد به األفراد لسالمة المجتمع وفالحه ،ولم يقصد به أن يتنازل المجتم عُّ ،
حقوقه السياس ية واالقتص ادية والروحي ةَّ ،
ألن ه ذا التن ازل يك ون معن اه س قوط المجتم ع ،ال قيام ه ،والمس يح أراد
قوطه. ع ،ال س ام المجتم قي
ل ذلك ال يص ُّح مطلق اً نس بة االس تكانة القومي ة إلى المس يحيين وتع اليم المس يح ،كم ا يري د رش يد الخ وري أن ُيفهم
اس. الن
دس وإ ث ارة الفتن ،فليس ت مقدس اتتخصيص ه المس لمين المحم ديين في أم ر اليه ود فمن أش ّد اللّ ؤم في ال ّ
ُ أم ا
المس لمين المحم ديين وح دها هي ال تي وهبت لش ذاذ اآلف اق من اليه ود ،ب ل مقدس ات المس لمين المس يحيين أيض اً.
بي المس لمين المحم ديين أول من ع اداه اليه ود وال آخ ر من ع ادوه ،فهم ق د ع ادوا قبل ه المس يح ولم يكن ن ّ
واضطهدوه وص لبوه وح اربوا أتباع ه .والمس ألة الفلس طينية ليس ت مس ألة محم ديين ويه ود ،ب ل مس ألة قومي ة من
الطراز األول يشترك فيها السوريون المحمديون والمسيحيون.
قلنا ،في ختام البحث الس ابق ،إن تع اليم المس يح المناقبي ة القائل ة بالتس اهل في الحق وق الفردي ة ال تع ني مطلق اً م ا
يفهم ه المص ابون ب العجز الفك ري كرش يد الخ وري الواغ ل بسفس طته على العلم والفلس فة ،وه و الخم ول
واالستكانة وقبول الذل والتسليم للظلم ،بل ،على العكس ،إنه ا تع ني س المة المجتم ع وفالح ه ،وه و نفي الخم ول
وال ذل والظلم بوض ع قاع دة البطول ة االجتماعي ة المتالئم ة م ع حال ة التم دن الس وري ال ذي ص ار أس اس التم دن
والمتبدي ة وال تي ال
ّ الع المي الح ديث في مك ان البطول ة الفردي ة أو القبيلي ة ال تي هي خص ائص الش عوب األولي ة
تصلح أساساً إلنشاء مجتم ع ،متَّح د ،راق .ه ذه البطول ة االجتماعي ة هي بطول ة التض حية الفردي ة في س بيل خ ير
المجتم ع ،وهي البطول ة ال تي يكتش فها ال دارس الخب ير في ص ميم النفس ية الس ورية من ذ ب دء الت اريخ .وإ ن ج ذور
مب دأ التض حية الفردي ة في س بيل الخ ير الع ام موج ودة في تض حيات الكنع انيين (ومنهم الفي نيقيون) لمول وخ
وداج ون ال تي اس تفظعها بعض الدارس ين لقس اوتها المتفق ة م ع درج ة التم دن األولي ة ،ولكنه ا ،في الحقيق ة ،تمثّ ل
40
مب دأ فدي ة المجم وع بتق ديم الف رد ذبيح ة تض حية من أج ل استرض اء اإلل ه واس تعطافه ُليس بغ النعم ة على ال وطن
واألم ة .إن ه ذا المب دأ أساس ي لك ل مجتم ع ج دير بالبق اء واالرتق اء ،ال ذي ظه ر بمظه ر وحش ي في عه د مول وخ
ه و ه و عين ه ال ذي ع اد فظه ر في تع اليم المس يح بمظه ره اإلنس اني ال راقي الخ الص من أوه ام العص ور القديم ة
اريخ. ر الت انت في فج تي ك ال
وق د الزم مب دأ التض حية الفردي ة الحض ارة الس ورية في جمي ع أدواره ا فك ان من أفع ل العوام ل في ازدهاره ا
وامت داد نفوذه ا وبس ط س لطان ال دول الس ورية الهكسوس ية ثم الفينيقي ة على ش اطئ أفريقي ة الش رقي والش مالي
وعلى ج زر البح ر المتوس ط وعلى إس بانية وش اطئ فرنس ة نح و المتوس ط .ومن الرواي ات المدون ة عن ه ذه
أن ُرّب ان أح د الم راكب ،ال تي تك ّون األس طول الفي نيقي التج اري،
البطول ة االجتماعي ة في ت اريخ ال دول الفينيقي ة ّ
تصور وخامة العاقبة على التجارة الفينيقية من جلب مزاحمين إغري ق عندما رأى المراكب اإلغريقية الحقة به ّ
ففض ل التض حية بنفس ه فخ رق مركب ه وأغرق ه فارت َّدت الم راكب
إلى بعض األس واق أو مص ادر المع ادن َّ
رة. ة خاس اإلغريقي
فمب دأ التض حية الفردي ة في س بيل خ ير المجتم ع ه و أهم مب دأ من اقبي ق ام علي ه فالح أي مجتم ع متم دن أو
مت وحش .ول وال ه ذا المب دأ الس امي لم ا س قط جن دي واح د ش هيداً في س احة الح رب دفاع اً عن ش رف أمت ه أو
بيب خب ير لخط ر
طموح اً إلى مج د ق ومي أو إلى م وارد جدي دة للحض ارة .ول وال ه ذا المب دأ لم ا ع َّرض نفس ه ط ٌ
اص
طي ار بحيات ه بامتح ان طي ارة ،وال غ ّو ٌ
الموت في تجربة بعض السموم أو الج راثيم في جس ده ،ولم ا ج ازف ّ
غواص ة .ول وال ه ذه التض حيات الفردي ة لم ا ح دث ه ذا التق دم الب اهر في الحض ارة.
بامتح ان ّ
والتض حية ليس له ا ش كل واح د ألنه ا ليس ت حال ة ش كلية ،ب ل مب دأ عام اً .فال ذي ال تك ون التض حية قاع دة عام ة
عن ده ال يع رف البطول ة االجتماعي ة وال يق دم عليه ا ،ففائدت ه للمجتم ع قليل ة أو س لبية .ومن أش كال التض حية
ادة وتض حية األناني ة العمي اء ال تي يس ميها سفس طائي الخل ود رش يد الخ وري "تقيي داً للفط رة
تضحية الش هوات الح ّ
يروضوا أنفسهم على الفض ائل وان دفعوا وراء المث ل بالسالسل الثقيلة" .وهذه التضحية صعبة جداً على الذين لم ّ
السفلى .ولذلك يصف رشيد الخوري المسيحية بأنها "عدوة نفس ها" ألنه ا ،في تس ميته له ا" ،ديان ة التض حية" ومن
أج ل ذل ك يراه ا عديم ة الفائ دة .وه و يفض ل المحمدي ة عليه ا ،ألن المحمدي ة ،في عرف ه ،كم ا ج اء في حارض ته
"دين الفطرة" فيقول فيه" :فهو في اعتقادي موجود قبل وجوده أي قبل ظهور الدعوة ،وما محم د بن عب د اهلل إال
منب ه ل ه ودا ّل علي ه ،فه و مكتش فه ال مخترع ه" وه و يري د ب ذلك أن المحمدي ة رس الة إبق اء اإلنس ان على فطرت ه
األولى بك ل م ا فيه ا من ش هوات وأناني ات ومحب ة للكس ب بال ح دود؛ وه و يع ني ،أيض اً ،أن المحمدي ة ليس ت
رسالة الحكمة اإللهية ،بل "دين اكتشاف الفطرة"؛ وهو ،بعد بلوغه هذا األوج من السفسطة السفلية ،يعود فيق ول
إن "ش ريعة محم د وإ ن س ايرت الطبيع ة فهي كاس رة من ح دتها مقلّم ة أظفاره ا" ،فال ت دري تمام اً م ا يري د أن
41
يق ول ه ذا الجاه ل المخلّ ط وال تع رف لإلس الم المحم دي ص فة ثابت ة ،فه و م رة "دين الفط رة الموج ود فيه ا قب ل
وج وده" وم رة أخ رى ه و دين "مس اير للفط رة ولكن ه كاس ر من ح دتها ،مقلم أظفاره ا" ،وبع د ك ل ه ذا وذاك ال
تع رف ،مم ا يقول ه ،نتيج ة فكري ة ثابت ة ،س وى أن ه يه رف عن اإلس الم المحم دي بم ا ال يع رف ويق ول كالم اً ال
ُمحصَّل ل ه كمن يتكلم عن أم ور مغيَّب ة .وإ ن ك ل و قتلت نفس ك جه داً لم ا اس تنتجت من ك ل ه ذا التخلي ط أي ة فك رة
ثابتة عن الحالة االجتماعية المثلى أو المستوى االجتماعي ـ النفس ي ال تي ي رمي اإلس الم المحم دي إلى إيجاده ا.
إن رش يد الخ وري يفض ل اإلس الم المحم دي على المس يحية ألن ه ذه تطلب مق داراً أك بر من الرياض ة النفس ية
والجس دية لتحوي ل معظم ق وة اإلنس ان نح و األرقى واألنف ع للمجتم ع كمج د البطول ة والتض حية والمن اقب العالي ة
ال تي تبل غ ذروة الش هامة والعف و وب ذل المق درة في س بيل خ ير المجتم ع ،وألن اإلس الم المحم دي ،في عرف ه،
المروض ة وتقليم أظفاره ا .فم اذا يع ني ذل ك غ ير االكتف اء بح ّد من االرتق اء
َّ يكتفي بالكس ر من ح دة الفط رة غ ير
تجمد اإلنسانية عنده جموداً يش به جم ود الحيوان ات ال تي يمكن الم رء أن يكس ر من ح دة فطرته ا ويقلم أظفاره ا،
أي ارتق اء اجتم اعي ـ نفس اني عن د تل ك الحيوان ات،
كم ا يفع ل مروض و الوح وش ،دون أن يك ون من وراء ذل ك ُّ
يغي ران النظ رة إلى الحي اة تغي يراً نفس ياً جوهري اً بمع نى االرتق اء.
ذل ك ألن كس َر الح دة وتقليم األظ افر ال ّ
إذا ك انت ه ذه هي النظ رة اإلنس انية المثلى في م ا يجب أن يك ون غ رض الفلس فات الديني ة ،ف أكثر قبائ ل أفريقي ة
وأسترالية وأميركة المتوحشة قد بلغت "قمة الجودي التي يس تقر عليه ا فل ك اإلنس انية الغارق ة في طوف ان العقائ د
والنظري ات والفلس فات المتباين ة" ألن لجمي ع ه ذه القبائ ل أديان اً تكس ر من ح دة الفط رة وتقلِّم أظفاره ا!
ك ل قبيل ة من قبائ ل الش عوب األولي ة أو الفطري ة له ا ع ادات من خراف ات أو دين تكس ر من ح دة الفط رة وتقلِّم
أظفاره ا .ففي الجاهلي ة ك ان للع رب أيض اً ع ادات من خراف ات أو س حر أو دين تكس ر من ح دة الفط رة أو تقلم
أظفاره ا ،فك ان لهم ش هر ح رام ي ترك في ه حم ل الس الح ويرف ع الث أر واالنتق ام ،وع ادات في ال زواج والمعيش ة
واالجتماع ،وشورى في القبائل .فإذا كانت ه ذه هي قم ة الج ودي فلم اذا ج اء اإلس الم المحم دي إليهم إذا لم يكن
درج ة ف وق تل ك الدرج ة األولي ة لقبائ ل العرب ة ،واتجاه اً نح و درج ة أعلى في اإلنس انية عام ة يش ترك فيه ا م ع
يحية؟ ة المس درج
ليس هذا البحث م دار الكالم في ه ذا الموض وع ،فس نعود إلي ه في بحث ت ٍ
ال .فلنع د اآلن إلى إش باع م ا ب دأناه في
ير. البحث األخ
رأينا في البحث المذكور أن المقصود من تعاليم المسيح هو شيء غير "تقييد الفط رة بالسالس ل الثقيل ة" وأن ه ذا
الشيء الذي ال تقدر العقول الناقصة أو العاجزة على إدراك ه ه و س يطرة ال وعي النفس ي على األفع ال الحيواني ة
وم ا ه و بمع نى الغري زة ،وتحوي ل مق دار غ ير يس ير من حيوي ة اإلنس ان ال تي ك انت تنف ق في المت ع الجس دية إلى
42
األعم ال المفي دة من ميكانيكي ة وص ناعية وزراعي ة وعلمي ة وأدبي ة وفني ة واجتماعي ة واقتص ادية .وق د ذهب
المسيح إلى هذه النظرة المناقبية رأساً ألن البيئة السورية كانت ق د ارتقت عن درج ات كس ر ح دة الفط رة وتقليم
ي. اء النفس توى أعلى من االرتق بحت تتطلب مس ا ،وأص أظفاره
ببل وغ ه ذه ال ذروة المناقبي ة ابت دأ نج اح األمم المس يحية ،وليس ب التخلي عنه ا ،كم ا ي دعي ه ذا الواغ ل على
المواض يع االجتماعي ة ،الملقَّب "ب القروي" أم ا أس باب ت ّ
أخر الش عوب اإلس المية المحمدي ة وجم ود المحم ديين
فبعض ه ال دخ ل لل دين في ه حيث البيئ ة الطبيعي ة قاس ية ال زرع فيه ا وال مع ادن ،وض رعها قلي ل .ولكن حيث
ُ
أهم أس باب الجم ود هي ت رك العم ل بالتع اليم المحمدي ة العالي ة المش تركة م ع روحي ة
أس باب العم ران مت وفرة ف ّ
التع اليم المس يحية واكتف اء بعض الش عوب المحمدي ة من ال دين "بكس ر ح دة الفط رة وتقليم أظفاره ا" وت رك ذروة
المث ل العلي ا النفس ية ،فبع دت عق ولهم عن طلب التف ّوق العلمي والتك ني والف ني ،فق د قي ل" :من طلب العلى س هر
اللي الي" ،ولكن ال ذي يقض ي ليالي ه مرتمي اً م ع فت اة ف وق أغص ان ال ربى "لي ذوق ش هدها غص باً عنه ا" وي زدري
ش عورها ويحتق ر كرامته ا ،كي ف الس بيل لخروج ه من جم ود الس فولية ومث الب المث ل ال دنيا؟
أكثر عددها من المسلمين المحمديين نجد سورية أرقاها وأشدها نشاطاً وأسبقها في العلم والفنون بين األمم التي ُ
لمؤهالت جنسها وعملها بموجب النظرة المناقبية السورية المتجلّية في تع اليم المس يح
ّ والصناعات ،وما ذلك إالّ
وأرقى تع اليم محم د؛ ف أكثر الس وريين المحم ديين ال يميل ون إلى تع ُّدد الزوج ات واالنغم اس في الش هوات
المكسورة الحدة ،ويفضلون توجيه قواهم إلى األفي د للمجتم ع .وق د جم د العلم عن دهم في الق رون األخ يرة بت والي
زيج الش عوب
الفتوح ات البربري ة .ولكن ك ال ت رى ه ذه النظ رة أو الحال ة عينه ا عن د محم ديي أفريقي ة حيث م ُ
ة. ال الغريزي و واألفع ثر ميالً إلى الله ع أك ل المجتم ة األرض تجع وطبيع
وق د أثّ رت ت أثيراً كب يراً في حال ة جم ود الش عوب المحمدي ة تع اليم الجه اد ال ديني الح زبي السياس ي ال تي هي من
الخص ائص العربي ة في ال دين ،وليس ت من المب ادئ اإلنس انية العام ة ،أي إنه ا تع اليم ال تواف ق البيئ ات المتمدن ة.
فل و ك ان المحم ديون الس وريون ،وال نتكلم عن غ يرهم" ،يرفع ون راي ة المس يح البيض اء" وراي ة محم د البيض اء
فيتس اهلون في حق وقهم الفردي ة ويحس نون إلى ال ذين يس يئون إليهم ويعف ون عمن ظلمهم ويص لون من قطعهم
لك انوا أزال وا أعظم عقب ة من عقب ات االتح اد الق ومي بفض ل النظ رة المناقبي ة ال تي يش ترك فيه ا محم د والمس يح.
دي في الحق وق الفردي ة أو الحزبي ة ،الديني ة ،الداخلي ة،
يحي والمحم ّ
وم تى حص ل التس اهل من الج انبين المس ّ
وتم من وراء ذلك االتحاد القومي المس الم ك ل المس المة في ال داخل ،أمكن
بفضل هذا الفهم العميق لغاية دينهماّ ،
حينئ ذ أن تنهض األم ة الس ورية كرج ل واح د ،وتس ير إلى فالحه ا ،فال تك ون في وح دتها ه ذه محمدي ة وال
مسيحية ،بل قومية اجتماعية ،ينظر أفرادها إلى الحياة نظرة واحدة ،ويفهم ك ل منهم رس الة ال دين به ذه النظ رة.
43
بهذا التعليم السوري القومي االجتماعي تنهض األمة السورية وكل أمة عربية تتخبط في محاولة عقيمة للتوفيق
بين حزبي ة ال دين والواق ع االجتم اعي وليس "بس يف الرس ول" ،كم ا ين ادي رش يد الخ وري الم أجور ليق ول ه ذا
ول. الق
إن س يف الرس ول ال يفي د في النهض ات القومي ة ،ففائدت ه الوحي دة ك انت لنص رة ال دين في بيئ ة يتع ّذر فيه ا
االنتص ار ب الفكر والفهم في العرب ة .وم ا نس بة الس يف إلى محم د في القض ايا القومي ة إالّ من ب اب ال تزلّف إلى
متهوس ي المحم ديين .فالس يف انتض ته ال دول واألمم في حروبه ا وفتوحاته ا قب ل المحمدي ة وقب ل المس يحية .ولق د
ِّ
ش ق س يف ه اني بع ل إيطالي ة من ش مالها إلى جنوبه ا في فتح لم يش هد الت اريخ ل ه م ثيالً قب ل محم د بنح و ثماني ة
قرون .وكان السيف يشهر في العرب ة قب ل محم د .ومزي ة محم د الوحي دة في اس تعمال الس يف هي أن ه أدخل ه في
ه. ل في أي فض
د ّ ة فلم يكن لمحم ائل القومي ا في المس اً .أم ة أيض ائل الديني المس
وهذه الحقيقة ،التي ال غبار عليها ،تم ّكننا من إدراك مبلغ سخافة البيت الذي نظمه رشيد الخوري تزلفاً وتمهيداً
لوغول ه على العلم ،وص فّق ل ه الس يد حس ن كام ل الص يرفي الك اتب في بعض المجالت المص رية وه و:
وعا ر يس د واهج يف محم رب بس يم فاض ع الض اولت رف إذا ح
ً فنس بة رف ع الض يم إلى س يف محم د ال ديني ليس س وى إقح ام يخ الف جمي ع الحق ائق التاريخي ة ،ف األمم ،من قب ل
محمد بعشرات القرون ،تعمد إلى السيف أو الرمح أو النبلة لرف ع الض يم .أم ا تهكم ه بع د ه ذا ال بيت على تع اليم
المسيح بقوله:
نجت قطيعا
بها ذئباً فما ّ "أحبوا بعضكم بعضاً" وعظنا
فمن أغ رب م ا ُع رف في ب اب التخلي ط والخب ل" ،ف أحبوا بعض كم بعض اً" هي لوع ظ الرع اة وجم ع الخ راف
وليس ت "لوع ظ ال ذئاب" .ول ذلك أوص ى المس يح تالمي ذه ،حين أرس لهم ليك رزوا ،ق ائالً" :ه ا أن ا مرس لكم مث ل
خرفان بين ذئاب ،فكون وا حكم اء كالحي ات وودع اء كالحم ام" (م تى 10 :ـ )16وه ذا يع ني أالّ يبق وا م ع ال ذئاب
كالخرفان ،بل أن يصيروا كالحيات في دهائها وإ دراكها مع محافظتهم على الوداع ة وس المة الني ة ،ألن مهمتهم
ة. ت حربي ة وليس تعليمي
أما هذر رشيد الخوري القائ ل" :ليس اإلنجي ل في نظ ر النص ارى إالّ ملحق اً أو ذيالً لت وراة اليه ود يكم ل م ا ابت دأ
من ش رها الفظي ع ويتمم نبوءاته ا القاض ية بتجدي د عه د الع داء والتع دي على أه ل فلس طين" فمن أح ط النف اق
والزندقة والتدجي ،وكذلك قوله "فماذا استفاد المسيحيون من إنجيلهم وقد علقوه في قفا التوراة للفرجة" ف إذا ك ان
رشيد الخوري يتظاهر بالنقمة على المسيحية لمجرد أن المسيحيين جمعوا الكتابين ،التوراة واإلنجيل ،في مجل د
واح د أحيان اً ،فم ا قول ه بوج ود قس م كب ير من س يرة اليه ود وف رائض دينهم في الق رآن كم ا ّبين ا آنف اً؟
44
المس يح ه و ال ذي ح َّرر اإلنس انية من الش رائع ال تي جعله ا اليه ود أحكام اً أبدي ة :أم ا أن المس يحيين أرادوا جم ع
ليؤي دوا ألوهي ة المس يح وص حة مجيئ ه موع وداً ب ه في النب وءات فال ُيفي د ذل ك م ا يفي ده وج ود
التوراة إلى كت ابهم ّ
رآن. لب الق صة في ُ ص يهودي يرة وقص وية كث رائع موس ش
المتفوقة لم تبلغ ما بلغته من التقدم بتجري دها "س يف الرس ول" ب ل بتجري دها س يف الوطني ة أو
ّ إن األمم المسيحية
القومية أو الفتح المعروف من قبل زمن محمد .هذا من الناحية الخارجية ،أم ا من الناحي ة الداخلي ة فك ان تق ُّدمها
ألي مجتم ع ب دونها ،ول ذلك ن زلت اآلي ة القرآني ة بجع ل
ب ترك الس يف واتّب اع تع اليم الع دل والرحم ة ال تي ال قي ام ّ
الرحمة قاعدة الترابط بين المحمديين ،واعتماد السيف في المسائل الخارجية فقط .ولما كان الدين اإلسالمي في
غرض ها جم عُ مص الح المنض مينُ المحمدي ة ق د تح ول من مج َّرد تعليم روحي إلى دول ة قائم ة على قاع دة ال دين
تحت لوائه ا وبس ط نفوذه ا إلى ال دنيا بأس رها ،عمالً بم ا ج اء في الق رآن{ :وع د اهلل ال ذين آمن وا منكم وعمل وا
الص الحات ليس تخلفنهم في األرض كم ا اس تخلف ال ذين من قبلهم} وقول ه {إن األرض يرثه ا عب ادي الص الحون}
ك ان ال ُب َّد ل ه من األخ ذ بأس باب قي ام ال دول من تجني د الرج ال ومباش رة الح رب .ولكن ه ذه الغاي ة ليس ت غايته ا
القصوى ،بل هي وس يلة إلى الغاي ة القص وى ال تي هي :الرحم ة في المجتم ع والع دل في الحكم .وه ذه هي زب دة
التعاليم المسيحية .فإذا افترضنا أن اهلل جعل األرض كلها ميراث المسلمين وورثوها فعالً فم اذا بع د ذل ك؟ أليس
القص د من ه ذا الوع د تعميم الص الح من الرحم ة والع دل؟ أال يق ول الق رآن{ :محم د وال ذين مع ه رحم اء بينهم}؟
وق ال أيض اً {من ال ذين آمن وا وتواص وا بالص بر وتواص وا بالرحم ة} {ولئن ص برتم له و خ ير للص ابرين}.
منزه اً عن خط طأم ا المس يحية فلم تنش أ نش أة دول ة ،ولم تس ر على خط ة دول ة ،ب ل ك انت تعليم اً فلس فياً مناقبي اً ّ
الدولة ،غرضه خير المجتمع الداخلي؛ وما نريد بالمجتمع هن ا ه و م ا أوض حته في كت ابي "نش وء األمم" وس ميته
"الواقع االجتماعي" .وهو يعني ك ّل مجتمع أو كيان اجتماعي .ف التعليم المس يحي ليس غرض ه إنش اء دول ة تجم ع
أتباعه وتحارب الدول األخرى ،وليس قصده جمع أشتات شعب وتنظيمهم في دولة كم ا ج رى لليه ود والع رب،
وجندت الجن ود وأنش أت األس اطيلألن البيئة السورية عرفت الدولة من زمان فقامت فيها دول فتحت الفتوحات ّ
البحرية وس نت الق وانين ،وإ نم ا ك ان غرض ه إيج اد القواع د المناقبي ة ال تي تثبت المجتم ع وتزي د فاعليت ه الروحي ة
تج اه زع ازع السياس ة والح روب .واألمم تتع رض ،في تاريخه ا ،لالنكس ار ،كم ا تتع رض لالنتص ار ،ف إذا
انكسرت فال إقالة لعثارها إال بمبادئ مناقبية متينة .أما إذا فقدت هذه المبادئ واعتمدت السيف فق ط ف إن الس يف
ة. ا قائم وم له ود يق ذها وال يع يأخ
في الحرب الحاضرة( )5تسقط أمام أعيننا دول ضخمة حاربت حروباً كثيرة وفتحت الفتوحات العدي دة ولم تح د
السوي ،فما ه و الس ر في س قوطها؟ الس ّر في فق دها الق وة الروحي ة والمب ادئ المناقبي ة.
ّ وال مرة عن نهج السيف
45
إن س بب س قوط فرنس ة ،مثالً ،ه و في ت رك الثقاف ة المناقبي ة وتقطي ع "السالس ل الثقيل ة ال تي قي دت الفط رة" (على
تعبير رشيد الخوري) ،وإ طالق أبنائها العن ان لش هواتهم المقلّم ة األظف ار الناعم ة الملمس .وإ ن س بب انتص ارات
ألماني ة األخ يرة ه و في كبح جم اح الش هوات وس لك س بيل "الش دة المتناهي ة" في ت رويض النف وس واألب دان.
وإ ن من أس باب جم ود المج اميع اإلس المية المحمدي ة غ ير م ا ذكرن ا ،بعض أحك ام الش رع ال تي ال تتف ق م ع
عوام ل التق دم الم دني كمعامل ة الم رأة وتحجيبه ا .فتص َّور أن مدين ة لن دن أو ب رلين أو نيوي ورك بماليينه ا
تحجب النس اء ح تى ال تس فر
وصناعاتها ومكاتبه ا ودوائره ا آهل ة بمجم وع إس المي محم دي محاف ظ على قاع دة ّ
الم رأة إال لزوجه ا وأخيه ا وأخته ا وابنه ا وأق رب األق ربين إليه ا ،فه ل يمكن ه ذا المجم وع أن يق وم بمتطلب ات
حاج ات عم ران مدين ة من ه ذه الم دن على مس تواها التم دني الحاض ر ،ال ذي لم يبل غ ه ذه الدرج ة إالّ باش تراك
دبرة بيت ومربي ة أوالد ومعلم ة مدرس ة وممرض ة وكاتب ة على اآلل ة الكاتب ةالم رأة كزوج ة وأم وأخت وم ّ
ومشتركة في المعاهد الثقافية وال دور العلمي ة وفي ك ل ش أن من ش ؤون الحرك ة االجتماعي ة وفي األدب والفن ون
ة؟ ة والقومي اة االجتماعي كال الحي ع أش وفي جمي
تمس كها بفهم اإلس الم الق ديم ال ب ّد أن يقض ي عليه ا فق امت بحرك ة تجديدي ة من ف وق إلى تحت
ألم تجد تركي ة أن ّ
وص ارت من األمم العص رية ال تي له ا منزل ة خط يرة في مجم ع األمم الحي ة ،فك ان الفض ل في نهض تها لل وعي
القومي الذي قاد كمال أتاتورك األمة التركية إليه ،على ال رغم من ص ياح ش يوخ ال دين الغي ورين على نص وص
ه؟ يوخ إلى تهييج د الش ذي عم اء ال خب الغوغ رع ومن ص الش
رئيسها
ُ ألم يكن الفضل في نهضة األمم المسيحية من قبل أنها نهضت في وجه تحويل المسيحية إلى دولة دينية
ا؟ الباب
يني ،وأن أس باب تق ّدم األمم وتأخره ا ليس م انقول كل ذل ك لن بين أن الموض وع الق ومي ه و غ ير الموض وع ال ّد ّ
ذك ره رش يد الخ وري في حارض ته وأثبتن اه في البحث الس ابق ،ولنوض ح أن المب ادئ الديني ة الوحي دة ال تي تفي د
ويعي ر المس يحية به ا ويم دح
األمم في نهضاتها القومية هي المبادئ المناقبية التي يقول رش يد الخ وري برفض ها ّ
ا. الف له ه مخ اده أن دي العتق الم المحم اإلس
ألم َنر أنه في "األعاصير" الذي جمع فيه أخالطاً من النظم سماه "شعره الوطني" يقول أيضاً:
صم
ومن أجلها أفطر ومن أجلها ُ قدمها على كل م ــلة
بالدك ّ
وقد حطمتنا بين ناب ومنس ــم مزقت هذي المذاهب شملنا فقد ّ
وأهالً وسهالً بعده بجهن ـ ــم يوح ــد بيننا
سالم على كفر ّ
46
اً: ول أيض ويق
ئر؟ نى والب ات وم ة على عرف ة الجاهلي ذه الحمي ه اآلن ه فمن أين جاءت
مستعار إم ا من بعض
ٌ أثبتنا ،في ما سبق ،أنه ليس لرشيد الخوري تفكير خاص ،وأن معظم ما في نظمه ونثره
أقوال كبار المفكرين والكتاب أو من عاميين ّنيري ال ذهن .وأك ثر م ا اقتبس ه من غ ير ذك ر أو ش كر ه و س طحي
ويواف ق مق دار عقل ه .وق د قلن ا في البحث الس ابق أن ه ل وال االنحط اط العلمي والثق افي الع ام عن د عام ة الس وريين
والس واد األعظم من خاص تهم لم ا وج دنا حاج ة بن ا للنظ ر في قول ه اله راء ال رامي إلى إيق اد ن ار الفتن ة الديني ة
العمي اء .ونزي د اآلن أن من ال دوافع ال تي دفعتن ا إلى مناقش ة كالم ه ذا الجاه ل األحم ق ك ون بعض ه مقتبس اً من
كالم بعض مشاهير كتاب العصر الماضي الرجعيين ال ذين انتش رت كتاب اتهم في أوس اط محمدي ة واس عة وع دها
س وادهم الن ور ال ذي يجب أن ُيسترش د ب ه ،أمث ال الك اتب المش هور جم ال ال دين األفغ اني والش يخ محم د عب ده.
فإن كالم رشيد الخوري ،الذي أثبتناه في األبح اث الس ابقة األخ يرة وفن دناه وأظهرن ا بطالن ه وفس اد تأويل ه ،يك اد
في بعض ه يك ون منق والً ب الحرف عم ا ج اء في مق التين وردت ا في "الع روة ال وثقى" ال تي أص درها الكاتب ان
الم ذكوران في ب اريس س نة 1884؛ وهات ان المقالت ان هم ا "النص رانية واإلس الم وأهلهم ا"؛ والثاني ة "انحط اط
المسلمين وسكونهم" وفي بعض مقاالت أخ رى كمقال ة "القض اء والق در" .فمن المقال ة األولى أخ ذ رش يد الخ وري
ل: ف قلي ه ،بتحري ول كل ذا الق ه
والذي يقابل كالم "العروة الوثقى" الملقى على عواهنه على ما أثبتناه في هذا الصدد في ما سبق من ه ذا البحث
يج د أن أق ل م ا يق ال في ه إن ه اجته اد مش ّوه مش ّوش ال ت ّدّبر في ه لإلنجي ل والق رآن.
فالقول إن المسيحية جاءت برفع القص اص باط ل ،وإ نه ا ج اءت ب إطراح المل ك والس لطة باط ل ،وإ نه ا ق الت بنب ذ
ال دنيا وبهرجته ا باط ل ،إالّ في وج وه مخالف ة للفض ائل االجتماعي ة ّأي دها فيه ا الق رآن ،وق د ّبين اه.
ظ اهر ،ولكن احكم وا حكم اً ع ادالً" ،وه ذا ال يرف ع القص اص؛ وال يوج د في
المس يح ق ال" :ال تحكم وا بحس ب ال ّ
اإلنجيل قول باطراح الملك والسلطة .وأما أن المسيحية "وعظت بوجوب الخض وع لك ل س لطان يحكم المت دينين
حوره الخوري وجعله هكذا "ال بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً بها وترك أموال السالطين للسالطين" فقد ّ
مدى الحياة تُس ام الخس ف واله وان الخ" وق د ّبين ا فس اده في م ا س بق وأثبتن ا أن ه تأوي ل س طحي مغ رض .على أن
في ه ذا الكالم اجته اداً في فهم ق ول المس يح لل ذين ك انوا يبحث ون عن جري رة يأخذون ه به ا ليهلك وه "أوف وا م ا
لقيصر لقيصر وما للّه للّ ه" .ولكن م ا أبع د ه ذا االتج اه عن حقيق ة م ا عن اه المس يح .ف إن ه ذه اآلي ة ليس ت مطلق ة
ومس تقلة ،ب ل هي متعلق ة بح ادث وعب ارات س ابقة؛ وذل ك أن رؤس اء ال دين اليه ود ،لم ا عج زوا عن أخ ذ المس يح
يهيج ون الش عب ب ه علي ه ،ص اروا يطلب ون أن يج دوا في ه مخالف ة لس لطان الدول ة األجنبي ة
بج رم من تعاليم ه ّ
الحاكم ة ليس لموه إليه ا .وعلى ه ذه القاع دة ج رى الرجعي ون في س ورية ليس لموا زعيم النهض ة الس ورية القومي ة
االجتماعي ة إلى س لطان الدول ة األجنبي ة الحاكم ة بع د أن عج زوا عن أن يج دوا نقص اً في تعاليم ه يث ير الش عب
"فهم رؤساء الكهن ة والكتب ة أن ُيلق وا علي ه األي دي في تل ك
عليه .والواقع الذي اقتضى قول المسيح هو كما يليّ :
الس اعة ،ولكنهم خ افوا من الش عب ألنهم علم وا أن ه ق ال ه ذا المث ل عليهم ،فرص دوه وأرس لوا إلي ه جواس يس
صديقون لكي يأخذوه بكلمة فيسلموه إلى رئاسة الوالي وسلطانه؛ فسألوه قائلين :ي ا معلم ،ق د علمن ا
يراؤون أنهم ّ
أنك بالصواب تتكلم وتعلّم وال تأخذ بالوجوه ،بل تعلّم طريق اهلل بالحق .أيجوز أن نعطي الخراج لقيص ر أم ال؟
ففطن لمك رهم فق ال لهم :لم اذا تجبرون ني؟ أروني دين اراً .لمن الص ورة والكتاب ة؟ فأج ابوا وق الوا :لقيص ر .فق ال
ا :20 :من 19إلى .)25 ه" (لوق ه للّ ا للّ ر وم ر لقيص ا لقيص وا م لهم :أوف
دبر له ذه اآلي ات يج د ّأنه ا أبع د م ا يك ون عن االجته اد القائ ل ب أن المس يحية تق ول بوج وب "الخض وع لك ل
ك ّل مت ّ
سلطان يحكم المتدينين بها" .ولو كان هذا قصد تعليم المسيح لك ان قال ه في مواعظ ه ولك ان أج اب الس ائلين على
الف ور" :يج وز أن تعط وا الخ راج" ،ولكن ه لم يق ل ذل ك ،ب ل ق ال إن ه يج وز رد دن انير قيص ر المطبوع ة ص ورته
وكتابته عليها إليه .ولذلك لم يقدر اليهود أن يأخذوه بج رم ض د الدول ة ،ولم يق دروا أن ي ّدعوا أو يقول وا إن ه يعلم
ويهيج وا الش عب علي ه؛ وهم إنم ا س ألوه ليوقع وه في إح دى الجريم تين السياس ية أو الخض وع لس لطان أجن بي ّ
48
المناقبي ة ،فتغلّب على مك رهم ب رفض الموافق ة على دف ع الجزي ة ،ولكن من غ ير الوق وع في مكي دة أع ّدت ل ه
اكرين}. ير الم ول{ :واهلل خ رآن يق ة .والق ة األجنبي لموه إلى المحكم ليس
أم ا اإلش ارة إلى "المنازع ات الشخص ية والجنس ية ،ب ل والديني ة" ففيه ا تش ويه كب ير .وق د رأين ا أن المس يح ألقى
ن زاع العقائ د بين الن اس ،ولكن ه علّم باالبتع اد عن المنازع ات الشخص ية حرص اً على وح دة المجتم ع وس المته.
ولم يقل بترك الدفاع عن حقوق المجتمع تجاه المجتمعات األخرى ،وهو ما يرمي االجتهاد المذكور إلى إيهامن ا
ا رأيت. ل كم و باط ه وه ه أو علم ب ه قال بأن
ومن اس تعارات رش يد الخ وري قول ه في الرس الة المحمدي ة "ال دين اإلس المي" إنه ا "مدرحي ة" أي "م ادي روحي
يظن الق ارئ غ ير المطل ع أن ه ذا الق ول ه و فك رة جدي دة فلس فية الخ وري ،والحقيق ة أن ه م أخوذ من
مع اً" .فق د ّ
كتابي "نشوء األمم" ومن شرحي لمبادئ الحزب السوري القومي االجتماعي .فهو فكرة فلسفية اجتماعية أبديتها
في مناسبات عديدة .وآخر ما أعلنته من أم ر نظ رتي الفلس فية ك ان في خط ابي في أول آذار س نة ،1940ال ذي
نشر في "سورية الجديدة" في العدد الصادر في 27نيسان من السنة المذكورة .قلت:
إن المبدأ ال ذي ج اء ب ه س عادة ه و نظري ة فلس فية ش املة تتن اول قض ايا الع الم االجتماعي ة واالقتص ادية وش رحها،
ويقتض ي كتاب اً على ح دة يبحث في المب ادئ الماركس ية المادي ة لتنظيم المجتم ع والمب ادئ الفاش ية المازيني ة
الروحي ة لتنظيم المجتم ع والص راع بين ه اتين الفئ تين من المب ادئ ،ثم مب دأ س عادة ال ذي يخ رج من القاع دتين
المتصادمتين بقاعدة واحدة عامة يمكن أن تجمع عليها اإلنسانية .وهو بحث واسع بل فلسفة كاملة في االجتم اع
اريخ. والت
أخ ذ رش يد الخ وري ه ذه الفك رة الفلس فية العظيم ة ال تي ال يطي ق عقل ه إدراك عمقه ا وأهمي ة القض ايا االجتماعي ة
ال تي تش تمل عليه ا ،فمس خها وجعله ا مج رد كالم س طحي بس يط يقص د ب ه إيج اد مقابل ة اس تبدادية بين "األدي ان"
الثالث ة المس يحي والمحم دي واليه ودي؛ فق ال "فال دين المس يحي دين تص ّوري ال ينف ع ال دنيا النفص اله عنه ا ،وال
مادي صرف .أم ا ال دين اإلس المي "فم درحي" إذا ّ اآلخرة لعدم حاجتها إليه .وهو نقيض الدين اليهودي الذي هو
اً". ادي وروحي مع تركيب ،أي م ح النحت وال ص
49
محص ل ه ذا الكالم االعتب اطي .ف إذا
ّ وليس غ ير الجه ال أعطيت لهم حكم ة أخفيت عن الحكم اء يفهم ون م ا ه و
ك ان الم ذهب المحم دي مادي اً وروحي اً مع اً ،فالم ذهب الموس وي أيض اً ك ذلك ،وك ذلك الم ذهب المس يحي .فك ّل
مذهب ديني من هذه المذاهب ،بل ك ل دين على اإلطالق ي زعم أن ه جم ع ش ؤون ال روح والجس د ،وه ذا ال يع ني
ش يئاً جدي داً في ال دين واالجتم اع ،إال أن رش يد الخ وري خص اإلس الم المحم دي ب ه من دون المس يحية
والموس وية لي وهم الغوغ اء وناقص ي العلم بأن ه ع الم به ذه "األدي ان" وب أن ل ه نظ رة فيه ا له ا ط ابع فلس في .وه ذا
التقلي د أقبح من تقلي د الس عدان للنج ار ال ذي أدخ ل إس فينا في خش بة فش قّها وت رك اإلس فين فيه ا ،فج اء الق رد يقلّ ده
فركب على الخشبة فتدلّى ذنبه في شق الخشبة فرفع اإلسفين ليقلّد النجار فأطبقت الخشبة على ذنبه!.
رأينا مما أثبتناه في ما سبق أن القول في خالف المسيحية والمحمدية وتفضيل ه ذه الرس الة على تل ك ليس مج رد
قول يقوله أحمق ،بل اعتقادات شاعت في أوس اط واس عة بين المحمدي ة ألن في ه ذه األوس اط تنتش ر حرك ة ه ذا
التفكير الرجعي الذي يغذيه عدد من المفكرين المحمديين الذين خلطوا الوطنية والقومية بالدين .وسنأتي ،في سياق
البحث ،على ما وقفنا عليه من الشائعات في األوس اط المس يحية .وك ون ه ذه المعتق دات الخاطئ ة ذات ج ذور في
أوساط واسعة ولها شبه مدرسة فكرية كان في طليع ة أس اتذتها الس يد جم ال ال دين األفغ اني والش يخ محم د عب ده
والسيد رشيد رض ا والس يد محم د ك رد علي ،ومن تالم ذتها المجلين الس يد ش كيب إرس الن وغ يره ال ذين ي رون
الرجوع إلى الدولة الدينية ويرون أن الوطنية هي النعرة الدينية عينها ،يبرر ك ل الت برير األهمي ة ال تي أعطيناه ا
لحارضة رشيد سليم الخوري التي ليست في الحقيقة سوى فسيفساء أفكار التقطها ،على عادته ،من بعض الجرائ د
والمجالت أو الكتب ووجد لها مجرى في بعض األوس اط .وه ذه الحقيق ة تكفي إلفه ام ال ذين أظه روا إش فاقا ً على
"الق روي" أنن ا لم نهتم ه ذا االهتم ام إالّ لم ا ه و أهم بكث ير من كبح جم اح مه ووس ب الخلود والم ال.
إذا دققنا أكثر فأكثر في كالم "العروة الوثقى" المتعلق بغاية المذهب المس يحي وغاي ة الم ذهب المحم دي ،ووقفن ا
على بعد تأويله عن االتجاه الصحيح المؤيّد بالشواهد ،وعن الطريقة االستقرائية التاريخي ة ،على م ا أوض حناه في
األبحاث األخيرة المتقدمة ،تبين أنه كالم ب ني على روح الحزبي ة الديني ة أك ثر كث يراً مم ا ب ني على ت دبّر الق رآن
ل. واإلنجي
إن القرآن نفسه يع ّد اإلنجيل كالما ً منزالً .ومحصل كالم "العروة الوثقى" أنه كتاب يعلم الخن وع واالستس الم على
50
ما قال الخوري باالستناد إلى كالمها ،فهل يتفق هذا الكالم م ع م ا فرض ه الق رآن على المحم ديين من اإليم ان ب ه
بقوله{ :وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} .وهل يجوز تصّور أن هللا أرسل روح ه إلى م ريم لتل د المس يح
ليعلّم الناس الذل والخنوع؟ وهل يتفق مع انطباق التعاليم المحمدية الروحي ة على التع اليم المس يحية ك ل االنطب اق
كما بيّنا؟ هذا من جه ة ت دبّر الق رآن .أم ا من جه ة ت دبر اإلنجي ل فه ل ينطب ق الكالم الم ذكور على نص اإلنجي ل
الصريح؟ وقد رأينا أنه ال ينطب ق على نص اإلنجي ل وغ رض التعليم المس يحي ،كم ا أوض حنا بالش واهد الكث يرة
ورأينا أيضا ً أنه ال ينطبق على الشواهد القرآنية العديدة ال تي أثبتناه ا في ه ذا البحث .ولكن تقري ر ه ذه الحقيق ة ال
يعني أنه كالم غير مستند إلى بعض اآليات القرآنية وبعض تقاليد "ص در اإلس الم" من غ ير ت دبّر لك ل ذل ك كم ا
يجب ،ومن غير فهم للقواعد االجتماعية ـ االقتصادية التي هي أهم من العقائد الدينية في تع يين اتج اه المجتمع ات
اإلنسانية وتقرير مصيرها ،والتي هي سبب نشوء األمم والقوميات ،ومن غير فهم لمجرى الت اريخ ومن غ ير فهم
اني. ور اإلنس ه من التط ة بمحل ير معرف دين على اإلطالق ،وغ ة ال لحقيق
الرجعية هي مذهب الرجوع إلى حال سابقة .وعن دما أطلقن ا على الك اتبين الكب يرين الس يد جم ال ال دين األفغ اني
والشيخ محمد عبده نعت الرجعة لم نكن ملقين الكالم اعتباطاً ،بل عنينا أنهما رجعيان بك ل م ا في ه ذه الكلم ة من
المعنى ،ألنهما قصدا ونادي ا ب الرجوع إلى عه د الدول ة الديني ة وتأس يس الدول ة على ال دين .فلم يعت برا باألح داث
التاريخية العظمى التي كانت دروسا ً خطيرة تنقضُ الشيء الكثير من االعتقادات القديمة في ما ه و غ رض ال دين
وغرض الدولة وطبيعة ك ّل منهما ،وظال يعتق دان أن ذه اب دول ة ال دين لم يكن إالّ ألس باب عارض ة أو نس بية أو
لضعف األديان غير اإلسالمية ،فعلّال تقهقر الدولة الدينية المحمدية بض عف اإليم ان أو نس يان الوع د أو بتقص ير
المحمديين عن األخ ذ بإنم اء العل وم أو بش غل أفك ار ع امتهم بالمغالب ات الداخلي ة بين أم رائهم ،أو غ ير ذل ك من
األسباب الواهية المقصرة عن إدراك العوامل االجتماعية واالقتصادية والجغرافية والنفسية في التط ور اإلنس اني.
وهذه العوامل هي التي لها الغلبة في األخير .والظاهر أنهما لم يكونا على اطالع في ذلك ،وله ذا الس بب أو لس بب
غيره كغلبة التربية الدينية المذهبية عليهما قاال" :إن ال جنسية للمسلمين إالّ في دينهم" (الع روة ال وثقى ،مجموع ة
طبع بيروت سنة 1933ص ،)150والصحيح هو غير ذلك .وقد ظن المسيحيون أيضاً ،من قبل ،أن جنسيتهم في
ولكن الواقع نقض هذا الظن ،ليس فقط في المسيحية ،بل في المحمدي ة أيض ا ً وفي ك ل دين آخ ر .ومن أراد
ّ دينهم،
درس هذا الموضوع فعليه بكتاب "نشوء األمم" تأليف سعاده ،وهو كتاب في علم االجتم اع جم ع أح دث الحق ائق
العلمية في تطور اإلنسانية وأقوامها ،وق ّدم نظريات جديدة غاية في األهمي ة .ولل زعيم أيض ا ً محاض رة في مب ادئ
التربي ة القومي ة األساس ية ع رض فيه ا ألس باب س قوط الجامع ة الديني ة في المس يحية والمحمدي ة.
والغفلة عن التضارب األساس ي ،الج وهري بين مب ادئ "الجنس ية الديني ة" ومب ادئ "الجنس ية االجتماعي ة" ال تي
51
ظهرت بالمظهر الذي أطلق عليه اسم "القومي ة" هي م ا جع ل ك اتبي "الع روة ال وثقى" "يعجب ان ك ل العجب من
أط وار اآلخ ذين به ذا ال دين الس لمي (المس يحية)" (انظ ر مقال ة النص رانية واإلس الم وأهلهم ا في المجموع ة
المذكورة) ،فعجبهما الذي أعلناه ال يد ّل إالّ على عدم تدبّرهما أمر اإلسالم المسيحي ،كما بيّنا ،وعدم ت دبّرهما أم ر
الدين على اإلطالق من وجهة التاريخ االجتماعي ،ال من وجهة تقاليد أحد األديان ،وعلى عدم إدراكهما الفرق بين
"الجنسية الدينية" و "الجنسية االجتماعية" .ولو أنهما أدركا الف رق بين ه اتين الجنس يتين ل زال عجبهم ا من تق دم
األمم المسيحية ومظاهر الروحي ة الحزبي ة فيه ا ال تي ال تتض ارب مطلق ا ً م ع تع اليم ال دين في المس يحية .ف األمم
المسيحية ما نهضت إالّ بترك مبدأ "الجنسية الدينية" ومبدأ "الدولة الدينية" (التيوكراتية) ،وباألخذ بمبدأ "الجنس ية
االجتماعية" ومبدأ "الدولة القومية" من غير أن يع ني ذل ك الت ّخلي عن تع اليم دينه ا المناقبي ة ال تي توثّ ق أواص ر
وحدتها الداخلية وتجعل كل أمة منها يداً واحدة في طلب الفالح .واألمم المحمدية ما تزال متأخرة ،ألنها ل ّم ا تج تز
طور العمل بمبدأ "الجنسية الدينية" ،وهي ما دامت متمسكة بهذا المبدأ الذي ال يتفق مع الواقع االجتماعي فال أم ل
لها بمجاراة األمم المسيحية التي تقدمت باسم الجامعة القومي ة المنفص لة عن ال دين ،من غ ير أن يتخلى أ ّ
ي م ؤمن
ه. ه وتعاليم عن دين
إن خروج المجاميع المحمدية إلى العمل بمبدأ "الجنسية االجتماعية" بدالً عن مبدأ "الجنسية الدينية" قد يب دو أم راً
ق فقد كان صعبا ً وشاقا ً للمج اميع المس يحية أيض اً، صعبا ً جداً دونه ما هو أش ّ
ق من خرط القتاد .أما أنه صعب وشا ّ
بل إنه كان أصعب وأش ّ
ق ألنه لم يكن له ذه المج اميع مث ل تقت دي ب ه .والمج اميع المحمدي ة ت رى اآلن مث ل األمم
الناهضة ،وتجد أمامها العلوم الراقية واالختراعات والفنون التي تسهل لها ما لم يكن سهالً للمجاميع التي تق دمتها.
ومع ذلك فللمجاميع المحمدية صعوبة من نوع آخر داخل ّي ـ من قواعد الدين .فال يكاد مفكر محم دي يجه ر بفك رة
جديدة تنطبق على أصول التطور االجتماعي حتّى يهبّ زعماء الدين ينعتونه بالكفر والزندقة .وقد جرى مثل ذل ك
عند المسيحيين من قبل .فرؤساء الدين والمتمسكون بمبدأ "الجنسية الدينية" من المحمديين يقولون ّ
إن العم ل بمب دأ
"الجنسية االجتماعية" يهدد أركان الدين ،وهم يحتجون بأن غرض المحمدي ة ه و أن ي رث المحم ديون ،ال ذي هم
(العباد الصالحون) الذين يعنيهم القرآن ،األرض كله ا من غ ير المحم دين ،وان من األوام ر الش رعية أن ال ي دع
المحمديون تنمية ملّتهم بالميل إلى التغلّب على سواهم (حتى ال تكون فتنة ويكون ال دين كل ه هلل) .ويحتج ون أيض ا ً
بأن معظم أحكام دينهم موقوف إجراؤه على قوة الوالية الش رعية ال تي ت وازي الس لطة الزمني ة عن د المس يحيين.
ة. يرة المحمدي ة وإلى الس ت قرآني
ا ٍ ندة إلى آي ذه الحجج مس عه وجمي
بناء على هذه الحجج يحارب الرجعيون المحمديون النهضة السورية القومية االجتماعية القائلة أن ال نهضة لألم ة
السورية إالّ باألخذ بمبدأ (الجنسية االجتماعي ة) ب دالً من (الجنس ية الديني ة) .وبن ا ًء على مث ل ه ذه الحجج يح ارب
52
الرجعي ون المس يحيون ه ذه النهض ة القومي ة االجتماعي ة (راج ع خط اب البطري رك الم اروني س نة 1937ور ّد
ه). زعيم علي ال
ي ال يت ّم إالّ بإعالئ ه
هنا ال بد من إلقاء سؤال يفتح أمامنا باب القضية في صلبها وهو :أصحي ٌح أن اإلس الم المحم د ّ
على (األديان) األخ رى وبي ع المس لمين المحم ديين أنفس هم ح تى يتم انتص ار اإلس الم ويع ّم الع الم؟ وأن ه ذا ه و
ي؟ ه األساس غرض
هذا ما يظهر أن الذين فهموا الدين فه ًما أوّليا ً في حاالت نشأته يعتقدون أنه الصحيح الذي ال جدال فيه .وهذا أيض ا ً
ما ذهب إليه إمامان كبيران كالسيد األفغاني والشيخ محمد عبده ،مع العلم أنهما كان ا يحس بان من طالب اإلص الح
في الدين ،وأنه كان لهما مناوئون في مقصدهما اإلصالحي الذي لم يبلغ إلى ما بلغه كاتب آخر كبير هو الكواك بي
الذي كان من المؤسف أن صيته لم ي ذهب ذه اب ص يتهما .وال نري د أن نتوس ع كث يراً في ه ذه الش روح اآلن وال
نعرض لتفاصيل مذاهب السنّة وال ّشيعة والمتصوّفة وغيرها في ذل ك ،ب ل ن ذهب رأس ا ً إلى اعتم اد األس اس وه و
القرآن ،كما اعتمدنا اإلنجيل أساسا ً في كالمنا على المسيحية ،وإلى فهم عوامل نش أة الرس الة المحمدي ة وتطوّره ا
في بيئتها التي هي العربة ،من غير الدخول في التفاصيل الثنوية وشروحها في المدارس األربع :أبي حنيفة ،مال ك
ل. د بن حنب افعي ،أحم د بن إدريس الش بن أنس ،محم
وقبل أن نبدأ بدرس صحة االعتقاد الم ذكور آنف ا ً وفس اده نري د أن نظه ر مبل غ خط ر النتيج ة الحاص لة من ه على
النهضة القومية االجتماعية في سورية والنهضات القومية في األقطار العربي ة فنلقي ه ذا الس ؤال :إلى أين يقودن ا
االعتقاد ّ
بأن صحة الرسالة المحمدية هي في محاربة أهل الرساالت األخرى حتى يدينوا بها أو يخضعوا للمسلمين
المحم ديين ،وب أن الم ذهب المس يح ّي يعلّم أتباع ه الخض وع لك ل س لطان أجن ب ّي يحكمهم؟
أإلى ش ي ٍء آخ ر غ ير االنش قاق ال داخلي وإفن اء التع اليم الديني ة الس امية في قت ال ال نهاي ة ل ه؟
إن هذا االعتقاد الذي سنبيّن فساد القسم األول منه في ما يلي ،كما بينا فساد القسم الثاني منه في ما تقدم ،واالعتق اد
الذي يقابله عند مسيحيّي سورية ،هما وحدهما العقبة الكؤود في طريق نهضة األمة السورية القومية .وال ش ّ
ك في
أن نهضة األقطار العربية جملة أو بقاءها في خمولها تتوقف على نتيجة الصراع حول هذا االعتقاد .ولما كنا بدأنا
بتفنيد االعتقادات الرجعية في األوساط المحمدية فسنتابع ذلك قبل االنتقال إلى االعتقادات المسيحية في هذا الب اب.
وال بد لنا من العطف على ما بينّاه من فساد االجتهاد القائل ب أن الرس الة المس يحية تق ول بوج وب الخض وع لك ل
53
س لطان يحكم المت دينين به ا بإظه ار مض ارها االجتماعي ة والقومي ة فه و تعليم مغ رض وخيم الع واقب.
في الدرجة األولى تأتي النتائج االجتماعية الوبيلة التي يمكن أن تجمع في كلمتي :البغض والع داوة بين المحم ديين
والمسيحيين في األمة الواحدة .فالمسيحيون يبغضون المحمديين ،اجتماعياً ،ألنهم يشعرون بمحاولة تحقيرهم به ذا
االعتق اد الفاس د؛ والمحم ديون يبغض ون المس يحيين ،اجتماعي اً ،ألن ه ذا االجته اد الباط ل يجعلهم يعتق دون أن
المسيحي ال يمكنه أن يكون قوميا ً صحيحا ً ووطنيا ً ص ادقا ً ألن تع اليم دين ه ،حس بما ش رحها لهم االجته اد الفاس د،
تمنعه من ذلك وتوجب علي ه إباح ة عرض ه؛ فتس تحكم الع داوة باس تحكام االعتق ادات الباطل ة .والع داوة يس تغلها
األجنبي المتيقظ لقوميته ومصالحها ،والنتيجة األكيدة هي العبودية الحتمي ة ل تي يش ترك المحم ديون والمس يحيون
بب؟ و الس اه ا .وم ا ً إليه هم بعض ع بعض ة دف في جريم
واالجتهادات المغرضة من الفريقين ،المبنيّة بدورها على اعتقادات دينية واجتهادات فقهي ة أو الهوتي ة هي أيض ا ً
فاسدة أو ال موجب حتمي لها من الوجهة االجتماعية ـ الدينية ،كما سنبينه .وهذه الوجهة القومية ـ االجتماعي ة هي
أعظم الدوافع التي دفعت كاتب هذا البحث إلى تناول الموضوع ومعالجته بهذه الص راحة الكلي ة .ولق د ق ال محم د
قوالً نطلب من جمي ع متتبعي ه ذا الموض وع الخط ير أن يجعل وه نص ب أعينهم ألن في ه حكم ة اجتماعي ة تس هّل
الشيء الكث ير من الص عوبات ،وقول ه ه و" :ل و تكاش فتم لم ا ت راقبتم" .وإنن ا نق ول لجمي ع الس وريين ،محم ديين
ومسيحيين :يجب عليكم أن تتكاشفوا فتعلم كل فئة ما تُضمر لها الفئة األخ رى بك ل م ا في ه من جمي ل وق بيح .ف إذا
تكاشفتم فهو أول الطريق إلى إصالح حالكم وإقالة عثاركم .وح ّل ك ل قض ية يتطلب معرف ة جمي ع أض العها وإالّ
داً ال يثبت. ان حالً فاس ك
واآلن نعود إلى حجج الجانب المحمدي الرجعية ال تي أث ارت ك ل ه ذا البحث المس هب .ولكي يك ون البحث مفي داً
يجب أن يكون مصنّفا ً وواضحا ً في ترتيب متناسق ،ولذلك نبدأ بالتصنيف األساسي فنق ول إن المحمدي ة ،من حيث
هي عقيدة وملّ ة ،تقس م إلى قس مين :األول ه و المحمدي ة ك دين ،والث اني ه و المحمدي ة كنظ ام اجتم اعي ودول ة،
فاإلسالم المحمدي من حيث هو دين يرمي إلى ثالثة أغراض أخيرة:
54
على هذه األغراض األخيرة قام اإلسالم المحمدي كدين ،فهي أساس دعوة محمد وص لبها ،وم ا تبقّى فه و األم ور
ّ
ولكن أهميته ا نس بية من الوجه ة الديني ة الشكلية التي تتّخذ وسائل لبل وغ ه ذه األغ راض ،وهي أيض ا ً جوهري ة،
البحث .ولكي نقتن ع ب أن ه ذه األغ راض ال تتم إالّ بواس طة الرس الة المحمدي ة وح دها يجب علين ا أن نقتن ع ب أن
المحمدي ة هي ال تي ج اءت به ا وأنه ا هي أساس ها ،فه ل نتحق ق ذل ك من الوجه ة التاريخي ة؟
إننا نتحقق العكس تماما ً بشهادة الكالم القرآن ّي نفسه الذي عزاه محمد إلى هللا .فيكون هللا واحداً ،غير منظور ،يرى
كل شيء ،قادراً على كل شيء ،هي فكرة سورية قديمة جداً حمله ا اليه ود واتخ ذوها عقي دة .وك ذلك فك رة البعث
ّ
ولكن اليه ود ال ذين ك انوا في حال ة أولي ة وظ روف والثواب والعقاب .وف رض عم ل الخ ير واالبتع اد عن الش ر.
خصوصية فهموا هللا ووحدانيته بطريقة أولية فجعلوه أشبه شيء "بطوطم" Totemأو ص نم ح ّي ،غ ير منظ ور،
خاص بالقبيلة اإلسرائيلية التي يظهر أنه لم يكن لها ط وطم أو إل ه خ اصّ يرم ز إلى شخص يتها ،ف رأوا أن تك ون
فكرة هللا طوطمهم الخاص بهم الرامز إلى شخصيتهم أسوة بالقبائل أو الشعوب األخرى التي احتك وا به ا ووج دوا
أن الطوطمية قد تحولت عندها إلى تقديس أصنام بشرية إلهية أو ممتزجة .وهو خط وة ف وق طوطمي ة الحيوان ات
والنباتات والمادة( .الطوطمية ميل نشأ عند الشعوب الفطرية العتبار حي وان م ا ـ كلب أو بق رة أو ذئب ،مثالً ،أو
نبات ما سنديانة أو أرزة ،مثالً ،أو مادة ما ـ صخر أو جبل ،ممثالً شخصية القبيلة ورامزاً لنفس يتها فيك ون مق ّدس ا ً
وء األمم"). اب "نش ر كت دها)(انظ عن
رأى اليهود أن فكرة إله ح ّي يرى ويفكر ويخلق تقوّي معنوياتهم وترهب أعداءهم لما فيه ا من هيب ة الخف اء وق وة
الحياة تجاه جم ود األص نام( ،ال تي اتخ ذها من ح ولهم آله ة يعب دونها في زمن االنحط اط ،بع د أن ك انت رم وزاً
لش ؤون حيوي ة في المجتم ع) ،فض الً عن الض رورة الداخلي ة لاللتج اء إلى س لطان يؤي د التش ريع والحكم.
ولكن هللا لم يكن عندهم أرقى كثيراً من األصنام ،فكانت عبادتهم له واتصالهم به أش به بعب ادة األص نام واالتص ال
بها ،فكانوا يشاورونه في حروبهم كما كان الوثنيون يشاورون آلهتهم في حروبهم ،وكان هللا خاص ا ً بهم .كم ا ك ان
لكل شعب أو أمة أو قبيلة إله خاص به؛ فهو لهم "إله إس رائيل" أو "إل ه يعق وب ونس له" وهم ا واح د .وكم ا ك ان
الصنم يحارب عن عب اده أو يش ير عليهم ب الحرب أو الس لم ك ذلك ك ان يه وه يح ارب عن اليه ود أو يش ير عليهم
بالحرب أو السلم ،حسبما يرى أنه موافق مصلحة اليهود ألنه إلههم وح دهم من دون الن اس .وعلى ه ذه الكيفي ة لم
تكن مرتبته أعلى كثيراً عن مرتبة صنم ،ووظيفته لم تكن أرقى كثيراً من وظيفة صنم ،هو الذي "س اق مث ل الغنم
ور .)78 دامهم" (مزم رد األمم من ق عبه وط ش
55
ولم ترتق فكرة هللا عن فكرة األصنام إالّ بتعليم المسيح .فقد نسخ المسيح فكرة كون هللا مختصا ً بش عب دون ش عب
يحارب حروبه ضد الشعوب األخرى .فصار هللا في المسيحية إله جميع البشر على الس واء ،ال يف ّرق بين س وري
وهندي واقريكي .ورفض المسيح أن يكون من نسل "الشعب المختار" من صلب داود ،ولم يب ق في المس يحية من
دل في الحكم. ع والع ة في المجتم ل بالرحم ان إالّ بالعم ان على إنس ل إلنس فض
ّ
ولكن المس يحية وفي المسيحية واليهودية ،على السواء ،فرض عمل الخ ير وتجنّب الش ر وخل ود النفس والعق اب.
واليهودية اختلفتا في الخير العام ،فجعله اليهود مقتصراً على بني إسرائيل ،وأطلقته المسيحية ليش مل جمي ع األمم.
وبناء عليه خرجت اليهودية من االعتبار كدين إنس اني ع ام ،وبقي اليه ود في الع الم الحلق ة الموج ودة بين اآلله ة
الشعوبية واإلله اإلنساني العام .ولكنها لم تخرج من غرض فكرة وحدانية هللا وغ رض فع ل الخ ير وتجنبّ الش ر.
وإذا أخرجنا اليهودية من غرض الخير اإلنساني العام فال يمكننا إخراج المسيحية منه ،فإنها أساسه ،وفك رة خل ود
النفس والثواب والعقاب فيها هي فكرة واضحة مالزمة لجميع تعاليهما .فتحقيق أغراض اإلسالم المحمدي النهائية
المذكورة آنفا ً ال يكون ،في الحقيقة ،سوى تحقيق أغراض اإلسالم المسيحي عينها التي تقدمته .فاألغراض الديني ة
األخيرة ،إذاً ،ليست أغراض اإلسالم المحمدي وحدها ،فلماذا ال يمكن أن تتم إال به؟ ولماذا ال يمكن اعتبارها ،كما
هي بالفعل ،مشتركة بين المسيحية والمحمدية ،تامة بوجود المذهبين وبانتش ارهما ك ّل في البيئ ات األك ثر موافق ة
ا؟ والً له ه وقب لتعاليم
هذا السؤال يفتح مسألة النص وص القرآني ة ال تي قلن ا إن أك ثر المهيم نين على الجماع ات اإلس المية المحمدي ة ال
يتدبرونها أو ال يريدون أن يت دبروها إالّ وفاق ا ً لفك رة جام دة أوج دتها تقالي د ص در اإلس الم المحم دي وفتوحات ه،
وأكثرها مستم ّدة من نصوص القسم الثاني من الرسالة المحمدية ،أي من نصوص اإلسالم المحم دي كدول ة .وإلى
هذه النصوص يلجأ جميع الذين يري دون إقام ة القومي ة على ال دين كمدرس ة التفك ير ال تي أسس ها الس يد األفغ اني
ده. د عب يخ محم والش
ه!!!!!!!!!!!!!!!!ل يع!!!!!!!!!!!!!!!!ني ذل!!!!!!!!!!!!!!!!!ك أنّ نص الرس!!!!!!!!!!!!!!!!!الة القرآني!!!!!!!!!!!!!!!!!ة على ن!!!!!!!!!!!!!!!!وعين؟
الجواب العلمي (وليس الديني) على هذا السؤال هو :نعم ،إن النصوص القرآنية على نوعين ،ويجب أن تُ!!درس
من وجهتي الدين والدولة .وبهذه الطريقة فقط يمكن فهم اإلسالم المحمدي فهما ً صحيحا ً من الوجهة التاريخي!!ة.
وتحجره!!ا كم!!ا تحج!!رت اليهودي!!ة.
ّ وبه!!ذه الطريق!!ة فق!!ط يمكن االس!!تفادة من مرون!!ة المحمدي!!ة لمن!!ع جموده!!ا
وبهذه الطريقة يوضع ح ّد لمش عوذي ال دين فال يستش هدون بآي ات القس م ال ديني في غ رض الدول ة وبآي ات القس م
ال دولي في غ رض ال دين ،فتتض ارب أغ راض اإلس الم المحم دي من دين ودول ة كم ا ه و ح ادث إلى الي وم،
وتضطرب سكينة المؤمنين المحمديين ،الذين يجدون أنفسهم مسوقين أحيانا ً لتض حية بعض آي ات ال دين في س بيل
56
إقامة بعض آيات الدولة ،وهو األكثر ضرراً ،وأحيانا ً لتضحية بعض آيات الدولة في س بيل بعض آي ات ال دين من
دين. ة ال ب حقيق واجب حس و ال اه حيحة لم ةص ير معرف غ
هذا التحليل ال يوافق هوى الذين يريدون أن تظ ّل عامة المحمديين جاهلة هذه الحقائق ليتمكن وا من تس ييرها وفاق ا ً
لرغائبهم الخصوصية ،كما لم يوافق تحليل مس ائل الرس الة المس يحية ه وى ال ذين أرادوا إبق اء عام ة المس يحيين
جاهلة حقائق تفسد أغراضهم ،فترى الرجعيين وتسمعهم يص يحون :إن ه ذا إالّ كالم يقص د ب ه "نقض بن اء المل ة
اإلسالمية وتمزيقها شيعا ً وأحزاباً" ،كما قال صاحبا "العروة الوثقى" ،ولكننا نقول إن معرف ة الحق ائق هي طري ق
ارتقاء األمم الوحيدة من جميع األديان.
إن نصوص اإلسالم المحمدي كدين تقول أن الدين لم يبتدئ بمحم د ،ب ل ب إبراهيم ،جري ا ً على تقالي د اليه ود ،وأن
الوحي نزل على محمد لتأييد الكتب السابقة (التوراة واإلنجيل) ،ولتذكير الناس الذين جاءتهم الكتب ،وإلنذار الذين
لم يأتهم قبل محمد من نذير .فكشف الدين للمرة األولى مقصود به اآلخرون ،أي الذين لم يأتهم نذير قبل محمد .أما
أهل الكتاب فقد نزل القرآن مص ّدقا ً لم ا معهم فال خالف في أن ه ال دين أو أن ه والق رآن دين واح د ورس الة واح دة.
ليس ما قررناه في الفقرة المتقدمة مج رّد تأوي ل لبعض آي ات قرآني ة التقطت التقاط اً ،كم ا ج رى ويج ري لكتّ اب
كثيرين محمديين ومسيحيين يكتفون بسماع قول أو آية واحدة أو بضع آيات من الق رآن أو اإلنجي ل ليؤوّل وا ال دين
المحمدي أو المسيحي كله على ما يستنتجون منها من غير معرفة بحقيقتها ،ب ل ه و نتيج ة درس علمي اس تقرائي
لنشأة الرسالة المحمدية وتطوّرها وت ّدبر لما ورد من اآلي في هذا الباب في جميع سور الق رآن من أوّل س ورة إلى
ورة. رس آخ
وال ب د من اإلش ارة ،في ه ذا الص دد ،إلى أن درس الق رآن ليس بالش يء الهيّن .وكث ير من المقبلين على قراءت ه
يضلّون فيه لسبب عدم وجود أ ّ
ي تنظيم موضوعي أو حادثي في ترتيب سوره وآياته ،فقد ذكرن ا ،في بحث س ابق،
أن الذين جمعوا القرآن رتّبوا السور المدنية أ ّوالً نظراً ألهميتها الشرعية ،على أن ذلك ليس كامالً في الصحة ،أي
إنه إذا كانت العناية وجّهت إلى أحكام الشرع ،قبل كل شيء ،فإنه لم تجر أية محافظ ة على ه ذه القاع دة ،فالس ور
التشريعية ال تأتي متعاقبة .هذا والسور عينها ال محافظة في كل منه ا على موض وع واح د ،ب ل ت أتي في الس ورة
57
الواحدة عدة مواضيع ،فمنها الذكر ،ومنها القصص ،ومنه ا التش ريع المقتض ب .وينقط ع التش ريع في الموض وع
ّ
فيظن القارئ أن الموضوع ق د كم ل ،وأن الغاي ة ق د تمت ،ف إذا في س ورة أخ رى الواحد أو يت ّم في إحدى السور،
ل. ا ورد قب ادة لم ديل أو زي ك تع ه ،وإذا هنال وع عين ة الموض ودة إلى معالج ع
قد رأينا كيف أسيء فهم بعض اآليات اإلنجيلية فلنر كيف أس يء ويمكن إس اءة فهم بعض اآلي ات القرآني ة ،فنأخ ذ
مثالً هذه اآلية{ :وإذ تقول للّذي أنعم هللا عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتّ ق هللا وتخفي في نفس ك م ا هللا
ق أن تخشاه ،فل ّما قضى زيد منها وطراً ز ّوجناكها لكي ال يكون على المؤم نين ح رج
مبديه وتخشى النّاس وهللا أح ّ
منهن وطراً وكان أمر هللا مفعوالً} (األح زاب )37:ف إن من يقرأه ا ألول م رة ومن
ّ في أزواج أدعيائهم إذا قضوا
صالً ثابتا ً بنفسه ،والقسم األخير الشرعي منها إذا قُصد منه جواز
غير علم بما دار عليه كالمها يكاد ال يفهم لها مح َّ
االقتران بمطَّلقة مسلمة فالحكم وارد بصورة واضحة في سورة البق رة وغيره ا من الس ور ،ولكن المس ألة تص بح
واضحة تماما ً بعد معرفة الحادث المختصَّة به اآلية ،وهو أن محمداً ك ان ق د عت ق زي داً بن حارث ة وك ان زي د ق د
ت زوج ام رأة اس مها زينب" ،فأبص رها ،محم د ،بع د م ا أنكحه ا إي اه ف وقعت في نفس ه فق ال" :س بحان هللا مقلب
القلوب" .وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ،ففطن لذلك ووقع في نفس ه كراه ة ص حبتها" (عن البيض اوي)،
فطلَّقها لكيال ال يكون حاجزاً بينها وبين ول ّي نعمته ،فاتخ ذها محم د زوج ة من غ ير واس طة عق د بس بب أن اآلي ة
نزلت فيها .فكان ذلك حادثا ً يقتضي نظرة خاصة نظراً للعالقة وصلة المنزلة بين الس يد والم ولى أو ال دعي وك ان
منهن وط راً" .ه ذا مث ل في
ّ حدوثه وسيلة ل نزول اآلي ة ال تي أب احت للمؤم نين اتخ اذ نس اء أدعي ائهم "إذا قض وا
التشريع ،واألمثل ة في اإلرش اد والوع ظ والوع د والوعي د كث يرة ،وكله ا تؤي د أن االس تدالل على مع نى اآلي ات،
إنجيلية كانت أم قرآنية ،بصورة استبدادية ومن غير رجوع إلى موضع اآلية وموضوعها والحالة أو الحادث الذي
نزلت فيه هو أمر كثيراً ما يفضي إلى غير أو عكس المقصود من اآليات الدينية التي منها ما هو مطلق ،ومنها م ا
ه و مقيَّد ،فيجب فهم ك ل ذل ك بدق ة ِإلص ابة المع نى الحقيقي والغ رض المقص ود من اآلي ات.
ول ذلك نع ود فنق ول إن فهم ك ون النص الق رآني على ن وعين :في ال دين وفي الدول ة ،يقتض ي ت دبّراً ال يمكن أن
يحصل من االبتداء بدرس القرآن حسب ترتيبه ،أي باالبتداء بالفاتحة ،ثم بالبقرة ،فبآل عمران ،فبالنساء ،فبالمائ دة
الخ .فإن هذا الترتيب بعيد عن إعطاء القارئ صورة صحيحة للرسالة المحمدية والمواضيع المحلية والعام ة ال تي
عالجتها .والصواب أن يبتدأ بسورة العلق ،فبالقلم ،فبالمزمل ،فبالمدثر ،الخ ،حسب تعاقب السور كما أعلنها النبي،
وليس حسب ترتيب السور االستبدادي في الق رآن .ف َّ
إن أول س ورة ن زلت هي "العل ق" وليس ت "الفاتح ة" وث اني
والي. ذا على الت رة" وهك ت "البق زلت هي "القلم" وليس ورة ن س
58
واآلن نع ود إلى متابع ة م ا ب دأناه في ه ذا البحث في م ا يثبت ه النص الق رآني لم ا ه و ال دين ،ف إن ب داءة الرس الة
المحمدية لم ترم ،في األصل ،إلى غير األغ راض الديني ة الثالث ة ال تي ع ددناها في البحث الس ابق ،ولم يكن فيه ا
شيء يشت ُّم منه رائحة التفريق أو التمييز بين رسالة محمد ورساالت األنبياء السابقين من عهد نوح وإبراهيم ،الذي
ق ليظه ره على ال ّدين كلّ ه ول و ك ره
ظهر في أواخر الرسالة بقوله{ :ه و الّ ذي أرس ل رس وله باله دى ودين الح ّ
المشركون} (الصف )9 :وهو من شؤون اإلسالم المحمدي كدولة أكثر كثيراً مما هو من شؤونه كدين ،أو هو من
الشؤون الدينية المقصود بها معالج ة الحال ة السياس ية الداخلي ة في العرب ة ،وليس مقص وداً به ا إقام ة األغ راض
الدينية الص افية أو األغ راض الديني ة ـ االجتماعي ة الص حيحة ال تي ع ددناها في البحث الس ابق ،ألن األغ راض
الدينية الصحيحة هي عينها في المحمدية وفي المسيحية وفي اليهودية ،إال أن هذه األخيرة خرجت من مب دأ الخ ير
ط. ام فق الع
قلنا آنفا ً إن نصوص الرسالة المحمدية كدين تقول إن الدين (أي الدين الصحيح) لم يبتدئ بمحمد ،بل بإبراهيم ،وقد
ذهبت هذه النصوص إلى أكثر من ذلك فقالت إن اإلسالم نفسه لم يبتدئ بمحمد ،بل بإبراهيم {قل إنّني ه داني ربي
إلى صراط مستقيم دينا ً قيما ً ملّة إبراهيم حنيفا ً وما كان من المشركين} (األنعام )161 :وهذا الكالم هو نهج السّور
المكية التي فيها أساس الدين وجوهر أغراضه وإن تكن األخيرة مدنية .ومن نهج السور المكية قول ه {إنّم ا أم رت
أن أعبد ربّ هذه البلدة (البلد الحرام) الذي حرّمها وله ك ّل ش يء وأم رت أن أك ون من المس لمين} (النّم ل.)91 :
مما ال شك فيه أنه يهم كل دارس عالم محقق معرفة أول كالم فاه به محمد في تأدية رس الته ،ألن الكالم األول ه و
إعالن الرسالة وعنوانها ومبدأها ،وما يأتي بعد يكون تابعا ً له ومؤيداً إياه ومكمالً لغرضه ،فهو األساس ،وما يأتي
بعد هو البناء الذي ال يحيد وال ينحرف لئال يسقط ،فماذا كان أول ش يء أعلن ه محم د لل ذين اق تربوا من ه؟ م ا ه و
يء هي؟ دعوة وإلى أي ش ا هي ال ره؟ م ذي أبص ور ال ه والن ّل علي ذي ح ام ال اإلله
هذه األسئلة وغيرها تدغ دغ مخيل ة ك ل مفك ر عمي ق يري د أن يع رف ب داءة الفك رة ومنتهاه ا ويحي ط بتطوراته ا
وتفاصيلها ليحصل له الفهم الكامل لها .وبدون ه ذه المعرف ة وه ذه اإلحاط ة يك ون فهم الرس الة جزئي ا ً مبع ثراً أو
متضارباً ،وهو ما يوقع في الهوس المنحرف الذي ما يفتأ يصطدم بما حول ه .فم اذا ك ان أول م ا أعلن ه محم د من
وحي؟ ال
كان سورة "العلق" وهي تسع عشرة آية قصيرة وهذا نصها{ :بسم هللا الرّحمن الرحيم .اقرأ باسم ربّك الذي خلق.
خلق اإلنسان من علق .اقرأ وربّك األكرم .الذي علّم بالقلم .علّم اإلنسان ما لم يعلم .كالّ ّ
إن اإلنس ان ليطغى .أن رآه
59
إن إلى ربّك ال ّرجعى .أرأيت الّ ذي ينهى .عب داً إذا ص لّى .أرأيت إن ك ان على اله دى .أو أم ر ب التّقوى.
استغنىّ .
كذب وتولّى .ألم يعلم ّ
بأن هللا يرى .كالّ لئن لم ينته لنسفعا بالنّاصية .ناص ية كاذب ة خاطئ ة .فلي دع نادي ه. أرأيت إن ّ
ق 1 :ـ .)19 ترب} (العل جد واق ه واس ة .كالّ ال تطع ندع ال ّزباني س
ومن درسنا هذه السّورة نرى أنها اشتملت على األمور التالية:
ويجد الدارس في هذه السورة طابع القرآن الذي الزمه حتى آخر سورة .ومن مقابلته على التوراة واإلنجيل يتّضح
أنه أشبه شيء بالمزامير في التوراة منه ب أي قس م آخ ر ،فه و ش عري ت رتيلي أك ثر مم ا ه و تعليمي أو إخب اري.
والقصص فيه ،كما في المزامير ،أخبار قليل ة مقتص رة على م ا يفي د ع برة أو مغ ًزى ،وال تتن اول فلس فة الخليق ة
وتعليلها ،ذلك أن القرآن يع ّد هذه الفلسفة موجودة في الكتب السابقة ال تي ج اء مص ّدقا ً له ا .ول ذلك اتص ف الق رآن
بالحض والتهويل .وإذا ذكر كيفية الخلق ذكرها بصور شعرية مقصود منه ا الت أثير على الس امع أك ثر من تع يين
كيفية الخلق أو كيفية حدوثه بصورة ثابتة من باب سرد الواقع .وه ذا األس لوب واض ح في الس ورة األولى بقول ه:
{اقرأ باسم ربّك الّذي خلق .خلق اإلنسان من علق .اقرأ وربّك األك رم .الّ ذي علّم ب القلم .علّم اإلنس ان م ا لم يعلم}
فقوله {خلق اإلنسان من علق وعلّم بالقلم} مقصود منه تصوير عظم ة الخ الق وقدرت ه تص ويراً ش عريا ً ي ؤثر في
الشعور أكثر مما هو مقصود منه إعطاء تعليل فلسفي لكيفية الخلق أو كيفية التعليم .فاهّلل ،من الوجه ة الديني ة ،علّم
بالقلم وبغير القلم ،وخلق من علق ومن غير علق ،كما يعود القرآن فيذكر في السورة التالية .ولكن قوله{ :من علق
وبالقلم} هو من لوازم السجع والتصور الشعري أك ثر مم ا ه و من ب اب التبي ان الفلس في المنطقي .وك ذلك قول ه:
{لنسفعا بالناصية .ناصية كاذبة خاطئة} فهو من باب التصور الشعري لحالة المذنب وذله إذ يج ّر من ناص يته إلى
العذاب ،وليس تقريراً لكيفية سوق المذنب إلى جهنم على وجه التحقيق أيكون ذلك بالقبض على الناص ية أو برب ط
رى. ة أخ دين أو بطريق الي
والسورة الثانية "القلم" ال تشتمل على سوى تحذير من المكذبين ووعيد العذاب ووع د األج ر .والثالث ة "المزم ل"
فيها أول تعظيم هّلل وقدرته بص ورة ب ارزة ،وأول إن ذار "للمك ّذبين أولي النّعم ة" بالع ذاب ،وأول ذك ر "للجحيم".
وفيها تعيين صفة القرآن بقوله في اآلية الرابعة {ورتل القرآن ترتيال} .وفي هذه السورة تع يين أن محم داً مرس ل
60
إلى "المكذبين أولي النعم ة" وهم ص ناديد ق ريش المهيمن ون على القبائ ل العربي ة ،كم ا ك ان موس ى مرس الً إلى
فرعون .واآلي ة تق ول {إنّ ا أرس لنا إليكم رس والً ش اهداً عليكم ،كم ا أرس لنا إلى فرع ون رس وال} .وذك ر موس ى
وفرعون في هذه السورة ،قبل ذكر األخبار التاريخية المتعلقة بالحادث الذي تروي ه الت وراة ،يف ترض أن األخب ار
معروفة مما جاء في التوراة .وفي هذه السورة أول ذكر الحتمال وج ود "آخ رين يق اتلون في س بيل هللا" من غ ير
دعوة إلى القتال أو تحريض عليه .فيختفي ذكر القتال من الس ور في الم دة المكي ة .وهي ثالث عش رة س نة .وق ال
البعض أن المدة المكية عشر سنوات فقط .والمرجّح األول .وتأتي بعد "المزمل" سور كثيرة كله ا ترتي ل وتس بيح
(كالفاتحة) ،أو (المدثر) التي تأتي قبلها وفيها {يا أيّها الم ّدثر .قم فأنذر .وربّك فكبّ ر ..ف إذا نق ر في النّ اقور .ف ذلك
دثّر 1 :و 2و 3و 8و.)9 ير الخ} (الم وم عس ذي يومئ
وقد رأينا في السورة الثانية ذكر موسى وفرعون .وإننا نرى في السورة الثامنة "األعلى" ذكر "الص حف" األولى
"صحف إبراهيم وموسى" .وهو يد ّل على االتصال بالتوارة أ ّوالً قبل االتص ال باإلنجي ل .ف ذكر المس يح ي أتي في
سورة متأخرة .وأول إشارة إلى أخذ العلم به هي في "الجن" بقوله {وأنّه تعالى ج ّد ربّنا ما اتّخذ صاحبة وال ولداً}
ومحص ل اآلي ة اس تنكار أن هللا اتخ ذ ام رأة ول دت ل ه ول داً كس نّة
ّ (الجن )3 :وال ذكر غير ذلك للمسيح ورسالته،
الرجال المخلوقين وعدم إمكان اعتبار بنويّة المسيح هلل ،التي يقول بها المسيحيون ،إال حادثا ً من تزاوج بيول وجي.
وبع د اتص ال الق رآن باإلنجي ل أك ثر يتع ّدل ه ذا الحكم نوع ا ً ب القول إن المس يح ول د "من روح هللا" رأس اً.
بعد مرور ثالث وثالثين سورة على ابتداء الرسالة المحمدية ،وكلّها سور ترتيلية تس بيحية ت دعو إلى اإلق رار باهلل
وتنذر (المكذبين) ،تبتدئ الرسالة تتخذ شكالً من الدعوة الواضحة في س ورة (ق) بقول ه {ق والق رآن المجي د .ب ل
عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب .أإذا متنا وكنّا تراب ا ً ذل ك رج ع بعي د} (ق1 :و2و)3
فواضح أن الكالم موجه إلى جماعة الرسول التي ال تؤمن بالبعث .وهو مؤيّد بآيات كثيرة ت أتي بع د قول ه {لتن ذر
قوما ً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون} (يس )6 :وقوله قبل ذلك {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من م ّدكر} وتتكرر ه ذه
اآلية في سورة (القمر) .وفي سورة (الحجر) أن القرآن هو الذكر بقوله {وقالوا يا أيّها الذي نزل علي ه ال ّذكر إنّ ك
لمجنون} (الحجر .)6 :ويزداد غرض الدعوة وضوحا ً بقوله في (يونس){ :أكان للنّاس عجبا ً أن أوحينا إلى رج ل
منهم أن أنذر النّاس وب ّشر الّذين آمنوا ّ
أن لهم قدم صدق عند ربّهم قال الكافرون ّ
إن هذا لساحر مبين} (ي ونس)2 :
وقوله {الذين آمنوا} ال يقتصر على الذين اتبعوا محمداً ،بل يتناول الذين آمنوا بالكتب السابقة ،وهذا التأكي د مؤي د
بآيات من السورة عينها كقوله{ :وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون هللا ولكن تصديق الّذين بين يديه وتفص يل
الكتاب ال ريب فيه من ربّ العالمين} ( )37وقوله {ولك ّل أم ة رس ول} (ي ونس )48 :وق د أثبتن اه س ابقاً .وقول ه:
ونن من ك م ّما أنزلنا إليك فاسأل الّذين يقرأون الكتاب من قبل ك لق د ج اءك الح ّ
ق من ربّ ك فال تك ّ {فإن كنت في ش ّ
61
الممترين} (يونس )94 :وهذه اآلي ة تق ول ب الرجوع إلى الكتب المنزل ة من قب ل( :الت وراة واإلنجي ل) لالستش هاد
وتأييد صحة كالم القرآن ودعوته إلى هللا الحي وترك عبادة األصنام واإليمان بالبعث .ويتلو التأييد كم ا في س ورة
(األنعام) بقوله {وهذا كتاب أنزلن اه مب ارك مص ّدق ال ذي بين يدي ه ولتن ذر أ ّم الق رى (مك ة) ومن حوله ا والّ ذين
يؤمنون باآلخرة يؤمنون به وهم على صالتهم يحافظون} (األنعام )92 :وه ذا يع ني أن ال ذين آمن وا ب اآلخرة من
قبل في التوراة واإلنجيل يؤمنون ب القرآن أيض ا ً ألن ه مص ّدق لم ا معهم ،وال يت وجب عليهم تغي ير "ص التهم" أو
طرق دينهم ألن القرآن ال ينقضها .وهو يخ اطب األنبي اء ق ائالًّ :
{إن ه ذه أ ّمتكم أ ّم ة واح دة وأن ا ربّكم فاعب دون}
(األنبياء )92 :وجميع هذه اآليات وطائفة كبيرة غيرها ،منها ما ذكرناه في ما سبق ومنها ما لم نذكره ،يؤي د قولن ا
أن أغراض الدين األصلية وهي التي عددناها في البحث السابق ليست مما لم يوجد إالّ بالقرآن ،وإن القرآن بالذات
يعترف بأن غرض الدين وجد من قبل بما نزل من الكتب السابقة التي تقدمت القرآن والتي يجب أن يك ون الق رآن
مطابقا ً لها ليص ّح أن يشهد (الذين يقرأون الكتاب) بأنه "الحق من ربك" ،أي مطابقا ً له ا في أس اس ال دعوة إلى هللا
وفع ل الخ ير وت رك الش ر واإليم ان ب اآلخرة ،وليس في م ا اختل ف في ه الن اس في ص فات الرس ل ومن ازلهم.
بناء عليه يص ّح كل الصحة القول إن أغراض الدين األساس ية أو الجوهري ة ال تي دع ا إليه ا اإلس الم تتم بواس طة
المحمدية والمسيحية معاً ،وإلى حد ما اليهودية أيضاً .والقرآن ال يقول نقيض ذلك .ولكن الرس الة المحمدي ة انتقلت
من حالة الدعوة إلى اإليمان بها إلى حالة الجهاد ضد المشركين ال ذين قاوموه ا ،وهم عب دة األوث ان ال ذين وجّهت
إليهم الدعوة في األصل ،إلخضاعهم للدين بالقوة ،ألن التبشير واإلن ذار لم ي ؤثرا فيهم فلم ينته وا عم ا ك انوا في ه.
ولما لم تجد الرسالة المحمدية تأيي داً كلّي ا ً من اليه ود والمس يحيين في العرب ة ،ب ل وج دت مقاوم ة ،خصوص ا ً من
اليهود ،صار ال ب ّد من اعتبارهم خصوما ً يجب حملهم على االعتراف بصحة الرس الة واإليم ان به ا من حيث هي
مص ّدقة لما معهم .وهذا الخالف هو من الشؤون المذهبية في الدين ،وليس في أغراض ال دين األساس ية ال تي دع ا
إليها اإلس الم؛ فال يص ّح مطلق ا ً الق ول أن ه بس بب ه ذا الخالف ق د انتفى أن (يك ون ال دين كل ه هّلل ) إالّ عن طري ق
المحمدية باالحتجاج بآيات مدنية ال يجوز القول إنها نسخت اآلي المكية ،ألنه إذا جاء القول بالنسخ أصبح قسم من
الكتاب أو كله باطالً ،والقرآن يوجب اإليم ان بالك ل ،عمالً بم ا ج اء في س ورة البق رة {افتؤمن ون ببعض الكت اب
رون ببعض}. وتكف
ولكن هناك خالفا ً آخر مع اليهود حول تحريفهم التوراة ،والرسالة المحمدية صادقة فيه ،فقد ثبت أن اليه ود عبث وا
بالتوراة ،ولم نقف على ثبوت أن ذلك العبث كان بقصد حذف اسم محمد منها ،ولكن تحريف التوراة صار مس تنداً
قويا ً للرسالة المحمدية ضد اليهود .وال حاجة لإلطالة في هذا الموق ف ألن اليهودي ة ،كم ا بين ا في البحث الس ابق،
تخ رج من كونه ا رس الة خ ير ع ام ،وال يج وز ،من ه ذه الناحي ة ،وض عها على مس توى واح د م ع المس يحية
62
ة. والمحمدي
تبقى مسألة الخالف بين هذين المذهبين على ع دم تأيي د المس يحيين لرس الة محم د ،وعلى ص فة المس يح ،وبعض
األمور األخرى فنفرد لذلك البحث التالي.
رأينا ،في ما تقدم ،أن القرآن اتخذ صفة التسبيح والترنّم في عظمة وقدرة هللا ال ذي تق دمت الق رآن كتب س ابقة في
إثبات وجوده والدعوة إلى العمل بمشيئته ،واإلنذار بيوم حسابه؛ وأن القرآن ص ّدق هذه الكتب وجعلها ش اهدة على
ّ
ولكن السيرة المحمدية ،التي ال بد من التحقيق فيها واالستناد إليها لفهم آي القرآن وأغراض ها، صحة دعوة محمد.
تخبرنا أن اليهود والمسيحيين في العربة أخذوا ينتقدون اعتبار محم د نفس ه رس والً من عن د هللا ،وينتق دون بعض
اآلي ات ،ويرفض ون تأيي د رس الته؛ ف اليهود ا ّدع وا أن هللا وع دهم بإرس ال مس يحهم ال ذي يُعي د مج د إس رائيل،
ول. ب ّي أو رس يح ن د المس أتي بع ّح أن ي ه ال يص الوا إن يحيون ق والمس
مع ذلك فقد وجد المسيحيون أن دعوة محمد كانت موافق ة العتق ادهم اإللهي ،فلم يكن م وقفهم من الش دة كغ يرهم.
وأكثر المقاومة كانت من صناديد قريش ،فهؤالء اتّهم وه بع دم ص حة ادعائ ه ال وحي ،ونس بوا إلي ه االقتب اس عن
التوراة واإلنجيل والتلقّن ،تشهد بذلك آيات عديدة كهذه{ :وقال الّذين كفروا إن هذا إالّ إفك افتراه وأعانه علي ه ق وم
آخرون فقد جاءوا ظلما ً وزوراً .وقالوا أساطير األوّلين اكتتبه ا فهي تملى علي ه بك رة وأص يالً} (الفرق ان4 :و.)5
وقد ثبت أن محمداً كان يسمع قراءة الت وراة واإلنجي ل في مك ة ،وأن ه ك ان بمك ة رجالن يص نعان الس يوف ،اس م
أحدهما جبر ،واسم اآلخر يسار ،وكانا يقرآن التوراة واإلنجيل ،وكان محمد يم ّر عليهما فيقرآن ل ه ويس مع (انظ ر
شرح سورة النحل للبيضاوي) .وقد استنزل الرسول آيات كثيرة لتأيي د أن م ا يقول ه وحي ي نزل علي ه ،منه ا ه ذه:
63
{ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشر لسان الّذي يلحدون إليه أعجمي وه ذا لس ان ع رب ّي م بين} (النح ل)103 :
ق من ربّك لتنذر قوما ً م ا أت اهم من
{الم ،تنزيل الكتاب ال ريب فيه من ربّ العالمين ،أم يقولون افتراه ،بل هو الح ّ
نذير من قبلك لعلّهم يهتدون} (السجدة2 :و )3وهذه اآلية من أوضح اآليات التي ت بين أن محم داً ك ان رس والً إلى
الذين لم يأتهم رسول من قبل في الدرجة األولى ،أي العرب ،ليدعوهم إلى هللا الذي سبقت الكتب األخرى بال دعوة
إليه ،وليص ّدق تلك الكتب .وهو ما عنين اه من اختص اص الرس الة ب العرب من غ ير أن ينقض ذل ك اش تراكها م ع
الرساالت السابقة وتأييدها في دعوة الناس أجمعين إلى أغراض الدين األخيرة .واآلي ات القرآني ة ال تي ت أتي به ذا
المعنى كثيرة حتى ال يبقى أ ّ
ي شك في ه ذا التعلي ل ،وق د أوردن ا بعض ها في أبح اث س ابقة وفي م ا تق دم من ه ذا
البحث ،ونورد هنا آيات أخرى{ :وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر ّ
كذاب .أجعل اآللهة إلها ً
إن هذا لشيء عجاب} (ص4 :و )5وهذه اآلية موجهة خصيصا ً إلى الذين لم يعرفوا هللا وما يزالون يعبدون
واحداً ّ
األصنام .ومثلها قوله{ :هو الّذي بعث في األميّين رسوالً منهم يتلو عليهم آياته ويز ّكيهم ويعلّمهم الكت اب والحكم ة
وإن كانوا من قبل لفي ضالل مبين} (الجمعة )2 :فاأل ّميون الذين كانوا من قبل لفي ضالل مبين هم العرب خاصّة
بال ريب{ .وما كنت بجانب الطّور إذ نادينا ولكن رحم ة من ربّ ك لتن ذر قوم ا ً م ا أت اهم من ن ذير من قبل ك لعلّهم
يتذ ّكرون} (القصص .)46 :ومعنى هذه اآلية أن ه وإن لم يكن محم د حاض راً من اداة هللا لموس ى فق د ّ
من هللا علي ه
بالوحي رحمة بقوم ما أتاهم نذير من قبل .وهذا يعني أنه لم يكن في بدء الرسالة المحمدية أ ّ
ي اتجاه لالصطدام م ع
الموس ويين أو المس يحيين في ن زاع على ادع اء ص حة الرس الة أو نقض التع اليم ،ب ل ك ان االتج اه لالتف اق على
القضاء على عبادة األصنام في العربة .ولكن لم يكن ب ّد من اصطدام المعتق دات في األخ ير كم ا بيّن ا آنف اً ،ألن ه لم
يمكن الموس ويين التس ليم بتع دد الكتب المقدس ة ،وال المس يحيين التس ليم بتع ّدد ال دعوات .ولكن االش تراك في
األغراض الدينية البحت المشار إليها سابقا ً خفف كثيراً من االصطدام .أما المشركون أو عبدة األصنام فلم يكن من
سبيل لتخفيف االصطدام والنزاع معهم ،فوجهوا إليه انتقادات الذع ة ،ونس بوا إلي ه الس حر واله ذيان والجن ون في
ا ً إليهم. والً مخلص ان رس هك حين أن
وحدثت في أثناء الدعوة حوادث جعلت الشك في الوحي يتسرّب ح تى إلى ال ذين آمن وا بالرس الة ،فك ان من جمل ة
اآليات التي استنزلها الرسول لدحض مزاعمهم هذه اآلية{ :ومن أظلم م ّمن افترى على هللا كذبا ً أو ق ال أوحي إل ّي
ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل هللا ولو ترى إذ الظّالمون في غم رات الم وت والمالئك ة باس طو
أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على هللا غير الح ّ
ق وكنتم عن آيات ه تس تكبرون}
(األنعام )93 :وذلك ّ
أن عبد هللا بن سعد بن أبي سرح كان يكتب وحي النبي ،فلما نزلت آي ة {ولق د خلقن ا اإلنس ان
من ساللة من طين} وبلغ قوله {ثم أنشأناه خلقا ً آخر} قال عبد هللا" :فتبارك هللا أحس ن الخ القين" فق ال ل ه محم د:
"اكتبها فكذلك نزلت" فشك عبد هللا وقال" :لئن كان محمد صادقا ً لقد أوحي إل ّي كما أوحي إليه ،وإن كان كاذبا ً لق د
64
قلت كما قال" ،فنزلت اآلي ة الم ذكورة أعاله لتكذيب ه وتك ذيب غ يره كمس يلمة واألس ود العنس ي وغيرهم ا ال ذين
ة. ا ً دامي ه حروب اومتهم ل أوجبت مق
يتّضح في كل ما تقدم ،في ما يعني المسيحية والمحمدية من الدعوة المحمدية وأغراض ها ،أن ه ذه ال دعوة لم ت دع
إلى أمر واحد من األمور الدينية الصحيحة مخالف لتعاليم اإلسالم المسيحي ،بل إن الق رآن أيّ د الرس الة المس يحية
بآيات كثيرة ،ودعا القرآن المؤمنين باإلنجيل ليحكموا "بما أنزل هللا فيه" من غ ير زي ادة أو نقص ان أو م ا ي وجب
تغيير "صالتهم" وتعاليم دينهم .فالخالف نشأ ،باألكثر ،من موقف المسيحيين العرب من محمد ،بل أعظم م ا ك ان
مع اليهود الذين أخذوا يخادعون النبي في المدينة ،فكان إذا انتصر على المشركين وعاد غانم ا ً يقول ون إن ه الن بي
المنعوت في التوراة بالنصرة ،فلما انكسر يوم أحد نكثوا العهد معه على أن ال يكون وا ل ه وال علي ه ،وخ رج كعب
بن األش رف في أربعين راكب ا ً منهم إلى مك ة وح الفوا أب ا س فيان ،فأرس ل الن بي أخ ا كعب من الرض اعة فقتل ه
وصبحهم بالكتائب وحاصرهم حتى صالحوا على الجالء ،فنزلت اآلي ة{ :ه و ال ذي أخ رج ال ذين كف روا من أه ل
الكتاب من ديارهم ألوّل الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنّوا أنهم ما نعتهم حص ونهم من هللا فأت اهم هللا من حيث لم
يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرّعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ف اعتبروا ي ا أولي األبص ار} (الحش ر.
مدنية )2 :وهذه اآلية والتي تقدمتها هم ا من أش د األدلّ ة ص حة على ارتب اط اآلي ات القرآني ة ب الحوادث الجاري ة.
وإذا كان محمد وجد من موقف المسيحيين ما أوجب عدم رضاه وعدم رض ى ال وحي ف إن المس يحيين وج دوا في
بعض تعليقات القرآن على اعتقادهم في المسيح سببا ً كافي ا ً لع دم تأيي ده .وق د يك ون هنال ك س بب آخ ر س ابق له ذا
السبب هو كون القرآن ابتدأ بذكر التوراة وموسى وإبراهيم ولم يذكر اإلنجيل والمسيح منذ البدء ورؤية المسيحيين
القرآن يجاري التوراة أكثر مما يجاري اإلنجيل في البدء .وأن أول إشعار التصال القرآن بالمسيحية كان في اآلي ة
النافية كون هللا ولد ولداً واتخذ صاحبة ،وهي من سورة "الجن" ،وقد أثبتناها في البحث السابق؛ ولم نحقق في ه ل
كان نفي كون المسيح ابن هللا سبب إعراض المسيحيين عن دعوة محمد وعن تأييده ،أم هل كان موقف المس يحيين
باعثا ً على اتخاذ الرسالة المحمدية خطة المقاومة لبعض معتق داتهم ،أو ه ل ك ان نفي بنوي ة المس يح أم راً مس تقالً
أوجد سببا ً آخر للخالف .ومهم ا يكن من ش يء فالث ابت من ت دبّر الق رآن كل ه أن الرس الة المحمدي ة ع ّدلت مع نى
اآليات القائلة بعدم والدة المسيح من هللا بإعطاء وصف لكيفية حمل م ريم يمكن أن يُ َع َّد أم راً وس طا ً بين االعتق اد
ّ
بأن المسيح ابن هللا ونفي صلة المسيح بذات هللا ،وهو القول إنه ولد "من روح هللا" .وعلى هذا األم ر وح ده ي دور
كل الخالف العقائدي الديني بين المسيحية والمحمدية .أما التعاليم المسيحية فال يق ول الق رآن بمخالف ة ش يء منه ا،
بل ،بالعكس ،هو يثبتها ويقول إنها كالم هللا المنزل ،وبهذا القول يُرفع ك ل احتم ال الختالف المحمدي ة والمس يحية
على أغراض الدين ،وتبطل كل حجة للذين لم يفهموا من الرس الة المحمدي ة غ ير حب التغلّب والطم ع في الدول ة
65
والسلطان ومنافعهما ،القائلين أنه ال يتم الدين إالّ باستظهار اإلس الم المحم دي على غ يره من "األدي ان" وبالعم ل
ببعض آيات الكتاب دون البعض اآلخر .فالدين وأغراضه األخيرة تكمل حسب قول القرآن باإليمان بم ا أن زل من
ل. ان باإلنجي ديين اإليم لمين المحم و يحتم على المس د ،وه ل ومن بع قب
انحصر الخالف بين المحمدية والمسيحية في أمر واحد من جهة المحمديين وأمر واح د من جه ة المس يحيين ،وال
نقول المسيحية ،ألن اإلنجيل ،من حيث هو سابق للقرآن ،لم يعرض ل ه فاقتص ر األم ر على معتق دات المس يحيين
في ص دد محم د ورس الته ،وليس على كالم اإلنجي ل في محم د .ف األمر األول ه و مخالف ة الق رآن اعتق اد معظم
المسيحيين في صفة المسيح وص فة هللا ،واألم ر الث اني ع دم إيم ان المس يحيين برس الة محم د وبأن ه ن ب ّي حقيقي.
ة: رات التالي رين في الفق ذين األم نبحث ه وس
قلنا ،في البحث السابق ،أن أول تلميح في القرآن إلى المس يح أو المس يحية ك ان اس تنكاراً لص فة المس يح وعالقت ه
باهلل ،وذلك في اآلية{ :وأنّه تعالى ج ّد ربّنا ما اتّخ ذ (هللا) ص احبة وال ول داً} (الجن )3 :ف إذا حقّقن ا في ه ذا الق ول
وجدنا أن العقل العربي ،نظراً لحالة البداوة وانعدام الثقافة العقلية ،لم يس تطع أن يتص ور ك ون المس يح ابن هللا إالّ
بأن يكون هللا قد تزوّج امرأة أو "اتخذ صاحبة" ولدت له ابناً ,وهذا لو ص ّح أنه معتقد لكان إنزاالً هّلل عن مقام ه ،إذ
هو غير محتاج ،مع قدرته ،ألن يتخ ذ ص احبة ش أن الرج ال الع اديين فيتزوجه ا وتل د ل ه ول داً على س نّة البش ر،
وصحة ه ذا التحلي ل للعقلي ة العربي ة تتض ح من قول ه :تع الى ج د ربن ا أي أن هللا أعلى من أن يك ون هك ذا ش أنه
وصفته .وال خالف بين اإلنجيل والق رآن في ذل ك وال بين المس يحيين والمحم ديين في ه .فالمس يحيون ال ذين ق الوا
بالتثليث منهم ،والذين قالوا بالتوحيد أو بالتثنية (بالطبيعتين أو بالمشيئتين) ال يقولون أو يعنون أن هللا اتخذ صاحبة
وتزوج امرأة لتلد له ،ولكنهم قبل وا رواي ة اإلنجي ل أن م ريم حبلت من ال روح الق دس بمش يئة هللا من غ ير تع يين
لكيفية حصول الحمل ومن غير أي دخول في المسائل البيولوجية كوجوب حصول اللقاح؛ وهم لم يأخ ذوا الوجه ة
البيولوجية بعين االعتب ار تنزيه ا ً لق درة الخ الق عن الحاج ة إلى الفع ل ال بيولوجي وإعالء لج ده عن ش أن الن اس
ة. ة البيولوجي والدة إالّ على الطريق درة لهم على ال ذين ال ق وقين" ال "المخل
ولذلك كانت مس ألة والدة م ريم الع ذراء المس يح من العج ائب الدال ة على ق درة هللا ونف اذ مش يئته .وه ذه ال والدة
العجائبي ة عن دهم هي من أق وى مس تندات اعتق ادهم بألوهي ة المس يح ،أي بحل ول روح هللا في جس ده أو حل ول
الالهوت في الناسوت .وليس في هذا االعتقاد عند المس يحيين أ ّ
ي إن زال لق درة هللا أو تفك ير بأن ه "اتخ ذ ص احبة"
شأن الرجال العاديين؛ ولكن ال يبعد أن يك ون ظه ر ش يء من ه ذا التفك ير عن د بعض الع رب ال ذين قبل وا ال دين
المسيحي وفسّروه حسب عقليتهم الفطرية غير المثقّفة .وفي ه ذه الحال ة يك ون كالم الق رآن موجه ا ً إليهم من دون
المسيحيين المتمدنين ،وهذا هو األرجح من حيث اعتب ار ص حة ال وحي النب وي ،وان ه موج ه إلى الع رب خاص ة
66
وبلسانهم .أما من الوجهة العلمية البحت ،التي تطلب لكل مسبب سبباً ،فاآلية القرآنية نفسها تص ف طريق ة التفك ير
العربي غير المثقف ،فهي إما مطابقة للعقلية العربية وإما محللة له ا ،وهي ،في ك ل ح ال ،مختص ة بطريق ة الفهم
العربي الذي ضيقت الطبيعة القاسية على أفقه الروحي .واالعتقادات المس يحية الروحي ة ال ت دخل تحت حكم ه ذه
اآلية ،ألنها كلها تن ّزه هللا عن الفعل البيولوجي وال تناقش قدرة هللا على إرسال روحه بش كل حمام ة أو ب أي ش كل
ريم. اء م تقر في أحش ر ليس آخ
سأل رجل مالك بن أنس ،أحد مؤسسي المدارس األربع في المحمدية ،عن قوله في القرآن{ :الرّحمن على العرش
استوى} (طه )5 :كيف هذا االستواء؟ فأجاب مالك" :االستواء معقول والكيف مجهول وال أظنك إالّ رجل س وء".
هذا السؤال والجواب يدالننا على أن المسلمين المحمديين األولين لم يتعرضوا لدرس القرآن دراسة علمي ة ،فقبل وا
الصور الشعرية قبولهم األوصاف الحدثية والتعليالت المنطقية .فالقول" :الرحمن على العرش استوى" ي دخل في
الصفة الشعرية التي حللناها في البحث السابق ،وهو منه باب قوله" :خلق من علق وعلّم بالقلم" وال لزوم إلحالل ه
ّ
ولكن جواب مالك يفتح باب القياس في االعتبارات في محل التقرير الحدثي التاريخي أو في محل التعليل الفلسفي.
الدينية ،فإذا كان يص ّح في المحمدية أن تكون أفعال هللا معقولة وكيفياتها مجهولة ،فلماذا يجب أن ال يص ّح ذل ك في
ّ
ليتجس د المسيحية؟ فإذا كان هللا قادراً على كل شيء ،فلماذا ال يكون قادراً على التجسد أو على إرسال روح القدس
في شكل إنسان من غ ير وج وب تع يين كيفي ة ح دوث التجس د؟ وإذا ك ان هللا ال يق در على التجس د ،حس ب بعض
المعتقدات الدينية ،فقدرته لم تعد كلّي ة ،ب ل أص بحت مح دودة ،وأص بحت جمي ع الخ وارق المنس وبة إلي ه ك الخلق
والبعث باطلة ،وبالتالي أصبح هو باطالً (نذ ّكر القارئ أننا ال نتعرض هنا ألمر ثبوت المعتقدات الدينية أو زوالها،
فال نعرض إلثبات أو نفي حلول روح هللا في جوف مريم العذراء ،وال إلثب ات أو نفي أزلي ة الق رآن وتنزيل ه ،ب ل
ط). ادات فق ات أو االعتق ة بعض االفتراض نبحث منطقي
وقد استمر القرآن يرفض االعتراف باعتقاد المسيحيين أن المسيح هو ابن هللا الوحيد ،فوردت في ذلك آيات عديدة
بمعنى اآلية السابقة كقوله{ :بديع السّموات واألرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له ص احبة وخل ق ك ّل ش يء وه و
بك ّل شيء عليم} (األنعام{ )101 :ما كان هلل أن يتّخذ من ولد سبحانه إذا قض ى أم راً فإنّم ا يق ول ل ه كن فيك ون}
(مريم{ )35 :وقل الحمد هلل الذي لم يتّخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك الخ} (اإلسراء{ )111 :ما اتّخذ هللا من
ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب ك ّل إله بما خلق ولعال بعضهم على بعض سبحان هللا ع ّما يصفون} (المؤمنون:
)91وهذه اآلية األخيرة هي مظهر آخر من مظاهر العقلية العربية في فهم اعتقاد المسيحيين كون المسيح ابن هللا،
وانه ،لذلك ،إله .فالمسيحيون ال يقولون بألوهية للمسيح منفصلة عن ألوهية هللا ،وب إرادة ل ه مس تقلة عن إرادة هللا،
67
ل. ذا التأوي اد ه رب من أوّل االعتق يحيي الع د بين مس ون وج د يك ولكن ق
ومع استمرار القرآن في إنكار ألوهية المسيح فقد طرأ ،في سياق الدعوة المحمدية ،تعديل كبير في النظ رة األولى
الواردة في آية سورة "الجن" واآليات الشبيهة بها ،وهذا التعديل ي ّدل على حدوث اتصال أقرب باإلنجيل .وأول ما
يظهر هذا التعديل في سورة "مريم" وهي نزلت بعد "الجن" بثالث سور .فانظر ه ذا التع ديل ال ذي يمكن أن يُ َع ّد
نقيضا ً لما ورد في سورة "الجن" إذ فيه صورة مجازية تجعل هللا بمق ام زوج م ريم{ :واذك ر في الكت اب م ريم إذ
انتبذت من أهلها مكانا ً شرقياً .فاتّخذت من دونهم حجابا ً فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً .ق الت إنّي أع وذ
لك غالما ً زكيًا .ق الت أنّى يك ون لي غال ٌم ولم يمسس ني
بالرّحمن منك إن كنت تقيّاً .قال إنّما أنا رسول ربّك ألهب ِ
ك بغيًّا .قال كذلك قال ربّك ه و عل ّي هيّن ولنجعل ه آي ة للنّ اس ورحم ة منّ ا وك ان أم رًا مقض يًّا .فحملت ه
بش ٌر ولم أ ُ
فانتب ذت ب ه مكانً ا قص يّاً . . .ذل ك عيس ى ابن م ريم ق ول الح ق ال ذي في ه يم ترون} (م ريم 16 :ـ 22ـ .)34
هذه اآليات تد ّل على عالقة وثيقة بإنجيل متى وإنجيل لوقا ومن التدقيق فيها يتضح لنا:
أن القرآن اعترف بصحة رواية اإلنجيل لكون والدة المسيح حدثت بصورة إلهية مباشرة خارقة لجميع السنن
السارية على اإلنسان والحيوان ،يؤيد ذلك قوله" :ولنجعله آية للناس" فاآلية هي العجيبة أو المعجزة اإللهية.
أن قوله "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً" تجعل عالقة مباشرة وثيقة بين هللا ومريم ،وهو ،مع قوله
"وكان أمراً مقضيا ً فحملته الخ" ،يعد اجتهاداً في إعادة تصوير حادث الحمل بصورة موافقة لرواية اإلنجيل
ومقبولة للعقل العربي من حيث تتضمن المعنى البيلوجي.
إن هذه اآليات توافق قول متى إن مريم "وجدت حبلى من الروح القدس" وما ورد في إنجيل لوقا من المحاورة
بين المالك جبرائيل ومريم ،ولكنها تضع روح هللا في مكان جبرائيل.
بناء عليه تكون هذه اآليات قد أزالت كل خالف بين القرآن واإلنجيل على صفة المسيح ،ألن محص لها يواف ق ك ل
الموافقة الرواي ة اإلنجيلي ة ومعتق دات المس يحيين ،وال يوج د مس يحي واح د يرفض ها .وم ع ذل ك ،وم ع وض وح
االعتراف بوالدة المسيح بمشيئة هللا ومن اتصال روح ه بم ريم مباش رة ،ف إن الق رآن لم يواف ق على االس تنتاج أو
االعتراف بأن ذلك يعني أن المسيح هو ابن هللا الوحيد أي المولود منه فيلح ق باآلي ات الم ذكورة آي ة أخ رى ت أتي
رأسا ً بعد آية "ذلك عيسى ابن مريم الخ" وهي قوله "ما كان هلل أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنم ا يق ول
ون". ه كن فيك ل
وقد ورد في القرآن ،بعد التعديل المذكور ،تعديل آخر هو أش ّد نقضا ً آلية "الجن" وأقرب إلى تعلي ل والدة المس يح
اإلنجيلية بطريقة أكثر قبوالً للعقل العربي ،وذل ك قول ه {وال تي أحص نت فرجه ا (م ريم) فنفخن ا فيه ا من روحن ا
68
وجعلناها وابنها آية للعالمين} (األنبياء )91 :وهي بعد سورة "مريم" بسبع وعشرين سورة ،ففي هذه اآلية إش ارة
واضحة إلى الجهاز التناسلي .ويعود القرآن فيزيد هذا التعليل وضوحا ً بقوله{ :ومريم ابنة عم ران ال تي أحص نت
فرجها فنفخنا فيه من روحنا وص ّدقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من الق انتين} (التح ريم )12 :فع وّض عن قول ه:
"فنفخنا فيها" بقوله "فنفخنا فيه" .وهذا االتصال هلل بمريم هو أبعد كثيراً مما تذهب إليه رواية اإلنجيل وتص وّرات
المسيحيين المتمدنين .وفي سورة "آل عمران" النازلة بعد "األنبياء" وقبل "التحريم" م ا ي دل على عالق ة بإنجي ل
يوحنا وهو قولُه" :إذ قالت المالئكة يا مريم إن هللا يبشرك بكلمة منه اس مه المس يح الخ" والكلم ة في تعلي ل يوحن ا
هي صفة هلل" :في البدء كان الكلمة ،والكلمة كان عند هللا وكان الكلمة هللا .هذا كان في البدء عند هللا .والكلمة صار
ولكن القرآن يع ّدل هذه الفكرة
ّ جسداً وح ّل بيننا ورأينا مجده مجد وحيد من اآلب مملوءاً نعمة وحقاً" (إنجيل يوحنا)
في السورة عينها ويوضحها هكذاّ :
{إن مثل عيسى عند هللا كمث ل آدم خلق ه من ت راب ث ّم ق ال ل ه كن فيك ون} (آل
عمران )59 :وهذه اآلية ال تقصد إيضاح والدة المسيح ،بل تقصد تأويلها ،فكيفية مجيء المسيح آية من هللا وكلمته
مشروحة في سورة مريم وفي آيتي األنبياء والتحريم .وفي جميع هذه اآليات أن هللا لم يخلق المسيح كما خل ق آدم،
إذ لم يجبله من تراب وينفخ فيه نسمة حياة بل "أرسل روحه إلى مريم" ومحصَّل آية "آل عمران" أن المسيح وإن
يكن ُولد بصورة خارقة وباتصال هللا بمريم فقيمة مجيئه على هذه الكيفية ليست أك ثر من قيم ة مجيء آدم ال ذي لم
يولد من تزاوج ولقاح ،بل ُخلق خلقا ً ب إرادة هللا .فالمس يح إذاً مخل وق بالمنزل ة ال تي ُخل ق به ا آدم ال أك ثر فيك ون
القرآن حافظ على القول األول الوارد في سورة الجن على الرغم من اآليات التي عدلت ه تع ديالً كب يراً كم ا رأيت.
ونأسف أن ال تكون ل دينا األدل ة التاريخي ة الكافي ة لتع يين ه ل أوجبت الح وادث التاريخي ة ه ذه المحافظ ة أم ه ل
أوجبتها النظرة المبدئية أو مبدأ المحافظة على صحة ما سبق أو مبدأ المفاضلة بين األنبياء والرسل ال ذي ب رز في
طور من أطوار القرآن ونما واتخذ شكالً واضحا ً م ع تق ُّدم الرس الة ظه ر ب القول بتفض يل "اإلس الم" على جمي ع
رى. ان" األخ "األدي
وخالصة هذه المخالفة المحمدية لصفة المسيح األخ يرة هي أنه ا مخالف ة غ ير ش ديدة وال جازم ة ،إذ ق د ت بين من
النصوص القرآنية المثبتة آنفا ً أن القرآن أق ّر الرواي ة المس يحية لكيفي ة حم ل م ريم ووالدة المس يح ،ولكنّ ه خ الف
المسيحيين في تأويل قيمة الحادث ،فتكون هذه المخالفة بمثابة ش يعة من الش يع في المس يحية ،وهي أق ّل بع داً عن
الشيع المسيحية من بعض الشيع المحمدية عن كلها كالرافضة ،مثالً .ف الخالف على التأوي ل وليس على الح دوث.
ويزداد هذا الخالف على التأويل في أواخر الوحي ،ويبلغ أوجه في سورة "المائدة" بقوله{ :لقد كفر الذين قالوا ّ
إن
هللا هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من هللا شيئا ً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأ ّمه ومن في األرض جميعا ً
وهلل على ك ّل شيء قدير} (المائدة )17 :وقول ه {م ا المس يح ابن م ريم إالّ رس ول ق د خلت من قبل ه الرّس ل وأ ّم ه
69
صديقة كانا يأكالن الطّعام انظر كيف نبيّن لهم اآليات ث ّم انظر أنّى يؤفكون} (المائدة )75 :وقوله {لقد كف ر الّ ذين
ليمس ّن الّ ذين كف روا منهم ع ذاب أليم}
ّ إن هللا ثالث ثالثة وما من إله إالّ إله واحد وإن لم ينتهوا ع ّم ا يقول ون
قالوا ّ
(المائدة )73 :واآلية األولى من هذه اآليات الثالث تنكر استنتاج المسيحيين أن المسيح هو هللا المتجسد ،وهي تتفق
مع قوله "فنفخنا فيها من روحنا" ولكن االتفاق ليس تاما ً خصوصا ً مع قوله "فأرسلنا إليها روحنا فتمث ل له ا بش راً
سوياً" .واآلية الثانية ال تشتمل على سوى القول باعتب ار المس يح في منزل ة رس ول .واألخ يرة تظه ر االعتق ادات
التثليثية المسيحية كأنها تقول ّ
إن اآللهة ثالثة ،مع أن هذه االعتقادات ال تقول بتثليث اآللهة ،بل بتثليث األقانيم ال تي
هي أجزاء واح د ،ألن هللا عن د المس يحيين واح د ،والتثليث من ص فاته وليس من تع دده .فال خالف بين المحمدي ة
والمسيحية في كون هللا واحداً ،ولذلك قال القرآن {قول وا آمنّ ا بالّ ذي أن زل إلين ا وأن زل إليكم وإلهن ا وإلهكم واح د
لمون}. ه مس ونحن ل
وتكفير القرآن المسيحيين ليس من أجل دينهم وتعاليمه "صالتهم" ،بل من أجل تع ّدد اآلله ة إن ص ح أنهم يقول ون
به ،وقد ص ّح وثبت أنهم ال يقولون به ،وأثبت القرآن أن إل ه المس يحيين والمحم ديين واح د .يبقى أم ر تكف يرهم ال
بالتجس د ،وه و ال يتن اول عقي دة التوحي د وال غرض ا ً واح داً من األغ راض الديني ة
ّ العتقادهم أن المس يح ه و هللا
األساس ية ال تي دع ا إليه ا اإلس الم ،ب ل يتن اول مس ألة مق دار م ا يجب أن يس تنتج من والدة المس يح على الكيفي ة
المشروحة في اإلنجيل والقرآن .وهو خالف مذهبي في الدين الواحد ،وليس بين دين ودين ،إذ هو ليس خالف ا ً م ع
اإلنجيل أو المسيح ،بل مع طوائف المسيحيين ح ول التأوي ل ال ذي يجب أن يُعطى ل والدة المس يح .وه ذه المس ألة
تشبه مسألة هل القرآن مخلوق أو غير مخلوق في المحمدية .فإن اعتُبر القرآن لوحا ً مسطوراً منذ األزل أفال يمكن
االستنتاج من ذلك أن القرآن أقنوم من هللا أو غير ذلك من االعتقادات التي ال يوج د نص يمنعه ا بص ورة قاطع ة؟
ف كث يراً ه ذا الخالف باعتب ار أن كالم المس يح ه و كالم هللا إنم ا المس يحيون يقول ون إن هللا قال ه بالتجس د،
ويخ ّ
قة الخالف. رّب ش ة تق يح والنتيج ل على المس ول بالتنزي رآن يق والق
هذا هو وجه الخالف الوحي د ،من جه ة اإلس الم ،بين المس يحية والمحمدي ة ،أوردن اه من غ ير تط وير ومن غ ير
إغفال لوجه واحد من وجوهه ،ومنه يتبيّن ،بصورة ال تبقي مجاالً للريب ،أن المحمدية ال تنقض الرسالة المسيحية
وال تعاليمها ،بل تثبتها وتع ّد اإلنجيل منزالً ،أي كالما ً إلهياً ،يتوجب على المحمديين أن يؤمنوا به ،ونص وص ه ذا
دم. ا تق ها في م ا بعض د أثبتن ريحة ،وق بيت ص التث
بناء عليه يمكن القول ،بصورة جازم ة ،إن أغ راض ال دين األساس ية تتم ،من جه ة العقي دة المحمدي ة الص حيحة،
بالمحمدية والمسيحية معاً ،فيكون الدين كله هلل بواسطتهما وبانتشارهما كل منهما في البيئات األكثر موافقة وقب والً
لتعاليمها .أما ما ورد من النصوص التي يمكن أن تُ َؤ َّول بما يظهر أن ه ينقض ه ذا الحكم فتأويل ه الص حيح أن ه من
ة. ة كدول ائص المحمدي خص
وهنالك اجتهادات وقعت في الغلط والشذوذ عن النصوص أجازت حسبان المسيحيين في عداد الكفار وأهل الشرك
استناداً على تكفير القرآن تأويل التجسُّد والتثليث .وال شك في أن العق دة الك برى هي في ه ذه االجته ادات ال تي ال
تدبّر صحيح فيها للقرآن .ومن هذه االجتهادات ما خلط بين الدين المسيحي والمل ة المس يحية ،فك ل ذل ك باط ل في
{إن الّذين آمنوا والذين هادوا والص ابئون والنّص ارى من آمن باهلل والي وم اآلخ ر وعم ل ص الحا ً فال
حكم القرآنّ :
خ وف عليهم وال هم يحزن ون} (المائ دة )69 :وق د ذهبت الرس الة المحمدي ة إلى أبع د من ذل ك في م ا يختص
ولتجدن أق ربهم م و ّدة للّ ذين آمن وا ال ذين
ّ {لتجدن أش ّد النّاس عداوة للّذين آمنوا اليهود والّذين أشركوا،
ّ بالمسيحيين
أن منهم قسّيس ين ورهبان ا ً وأنّهم ال يس تكبرون} (المائ دة )82 :ولكن أك ثر الش ارحين
ق الوا إنّ ا نص ارى ذل ك ب ّ
والمفسرين يقتلون النص ويع ّوجون الدين باجتهاداتهم ،فقد شرح البيضاوي هذا الق ول ق ائالً" :وفي ه دلي ل على أن
التواضع واإلقبال على العلم والعمل واإلعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر" ،فكأنه أبطل حكم ه ذه
اآلي ة وحكم اآلي ة الس ابقة القائل ة إن النص ارى مؤمن ون ب اليوم اآلخ ر ،وكأن ه عمي عن آي ة س ورة (الحج) ال تي
{إن الّذين آمنوا والّذين هادوا والصّابئين والنّصارى والمجوس
أخرجت حتى المجوس من نطاق المشركين وهيّ :
والّذين أشركوا ّ
إن هللا يفصل بينهم يوم القيامة ّ
إن هللا على ك ّل ش يء ش هيد} (الحج ،)17 :وإن ه ذه اآلي ة هي من
جملة آيات كثيرة تأمر بترك الحكم والفصل بين أهل األدي ان في م ا اختلف وا في ه هلل وح ده ،وهي تُبط ل ك ل حج ة
للذاهبين مذهب أن (اإلسالم) ال يتم إالّ بمغالبة أهل (األديان) األخ رى ،وإن كم ال اإليم ان عن د المحم ديين يك ون
71
بالميل إلى التغلب على سواهم ،وإال ألبطل هذا المذهب قسما ً هاما ً من نص الدين .وإذا عملنا بمبدأ أن آي ات تنس خ
آيات فماذا يبقى من القرآن؟
رأينا ،في م ا تق دم ،أن وج ه الخالف الوحي د من جه ة الرس الة المحمدي ة انحص ر في نفي م ذهب المس يحيين أن
المسيح هو ابن هللا الوحيد الجالس عن يمين األب بإعطاء أقنوم االبن شكالً قائم ا ً بذات ه ،ولكن من غ ير نفي والدة
المسيح من مريم العذراء ومن روح هللا حسب الروايات المسيحية ،ومن غير نفي أللوهي ة كالم ه ،فتك ون مخالف ة
المحمدية المسيحية مقتصرة على تأويل صفة المسيح الحقيقية وليس على صحة تعاليمه .ورأين ا أيض ا ً أن ه بم ا أن
تأويل المسيحيين والدة المسيح ،بناء على بعض "النبوءات" اليهودية ،ال يجعل المسيح إله ا ً ثاني ا ً وال روح الق دس
إلها ً ثالثاً ،فقيمة الخالف األساسي تصغر ،وتقرب كثيراً شقته بإعالن القرآن والدة المس يح من روح هللا .والنتيج ة
األخيرة من تحقيقنا في هذه الناحية هي أنه ال يوجد خالف بين المسيحية والمحمدية على غرض التوحيد األساس ي
في هذين المذهبين على السواء .ومما يظهر من اعتقادات المسيحيين أنه مخالف أو معارض لهذا الغرض ليس في
الحقيقة سوى مذاهب في كيفية فهم هللا ومظاهره وصفاته ،وكل ذل ك من المس ائل الالهوتي ة والكالمي ة البحت وال
يمس مطلقا ً التعاليم المسيحية وصحتها وهي تعاليم يعدها القرآن إلهية ويوجب اإليمان بها على المحم ديين أيض اً،
كما رأيت في ما تقدم .وقد ورد حديث نبوي في هذه االختالفات والتشيّعات يحسن أن نثبته في هذا المحل ليتبص ر
ال: ور ق ذه األم د له ة فهم محم حيح" في كيفي دين الص المة "ال دأ س حاب مب أص
"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إالّ واحدة ،وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة
كله ا في الهاوي ة إالّ واح دة ،وتف ترق أم تي على ثالث وس بعين فرق ة كله ا في الهاوي ة إالّ واح دة".
ونحن نؤكد أنه ال يدخل في هذه الفرقة األخيرة أصحاب مبدأ "أن ال ركن األعظم ل دين المس لمين ه و في منازع ة
وثقى ص .)419 روة ال وكته" (الع وكة في ش ل ذي ش ك
وتق ّل أكثر قيمة الخالف من هذا الوجه متى علمنا أن التأويالت المسيحية في العربة ألم ر المس يح ووالدت ه ك انت
غير واضحة ,واالعتقادات في هذا الص دد اتخ ذت هن اك أش كاالً يجب درس ها على ح دة نظ راً لخص ائص البيئ ة
درس درس ا ً كلي ا ً في أس باب منش أه من قب ل المحم ديين
َ العربي ة .وفي اعتقادن ا أن ه ذا الخالف ك ان يجب أن يُ
والمسيحيين ،وأن تعين قيمته الصحيحة للملتين لتريا أنه ليس خالفا ً دينيا ً جوهريا ً يقتضي استحكام الع داوة بينهم ا.
ولو أن المجتهدين المحمديين اتخذوا هذه الزاوية مبتدأ الجتهاداتهم لكان ذلك خيراً للمل تين ,ولكن أك ثر المجته دين
72
المحمديين خلطوا بين كالم الرسالة المحمدي ة ال ديني وكالمه ا ال دول َّي وفض لوا جع ل الكالم ال دول ّي منهاج ا ً لك ل
خطاب يوجهونه إلى المحمديين ليحثوهم على إقامة الدولة الدينية قبل كل ش يء ،مت وهمين و ُم و ِهمين أن ه ذا ه و
الدين .ويوافقهم في هذا المذهب المجتهدون من المسيحيين في تبيان أن هداية هللا ال تتم إالّ باسم المسيح وأن رسالة
محمد ،في مذهبهم ،باطلة ،أو أنه ا بدع ة تخ رّب ال دين ،م ع أنه ا رس الة ديني ة ص حيحة ج اءت مص ّدقة لرس الة
يح. المس
لم نقف على بحث جديد لكاتب مسيحي يحمل فيه على دين المحمدية ويطعن في حقيقته أو في حقيقة جميع األدي ان
األخرى ويقول بمغالبة المحمديين وأهل األديان غير المسيحيين كما يقول أتباع مدرسة الدول ة الديني ة في اإلس الم
المحمدي وتالمذة مدرسة السيد األفغ اني في ال دين والسياس ة واالجتم اع ،ول ذلك يص عب علين ا أن نن اقش جمي ع
أغالط المسيحيين في هذا الباب ،التي يأتونها ضد المحمدية والمحمديين ويول ّدون بها االنقسام القومي ،كما نن اقش
كتابات أصحاب مبدأ الجنسية الدينية والدولة الدينية من المحمديين وأتباعهم؛ ولكن ذلك ال يعني أنه ال يوجد ه َوس
ديني بين المسيحيين ،وال يعني أنه ال نصيب للمسيحيين في المنازعات الدينية التي تجعل نشوء القومية الص حيحة
في حكم المستحيل .وأه ّم ما يمكن ذكره في هذا الباب هو ما يُس َمع بين مسيحيّي س ورية وأمم الش رق المتج اورين
مع المحمديين .أما المسيحيون األوروبيّ ون فق د تغلب وا ،إلى ح د بعي د ،على ه وس ال دين ولم يب ق م ا ي دفعهم إلى
دين. م ال ألَّب باس الت
كثيراً ما تسمع مسيحيّين أو أكثر من اث نين يتح دثون في ش ؤون ال وطن أو االجتم اع أو ال دين فتط رق أذن ك ه ذه
العبارة( :ال يمكن أن يصير اتحاد قومي أو إصالح اجتماعي إالّ إذا زال القرآن) .وق د يك ون أك ثر ال ذين ي رددون
هذه العبارة من الذين ذاقوا مرارة الطغيان الديني السابق وعوملوا معاملة قاسية أو مجحف ة ،ولكن ه ذه الحقيق ة ال
حة على اإلطالق. هص لل ه وال تجع ذي يقولون ول ال برر الق ت
الحقيق ة أن ه ذا الق ول ه و أبع د األق وال عن الص واب وأكثره ا دالل ة على الجه ل .ف القرآن كت اب دي ني جلي ل،
وأغراضه الدينية األخيرة ال تختلف وال تتضارب م ع األغ راض الديني ة المس يحية من حيث اإلق رار باهلل الواح د
وترك عبادة األصنام وفعل الخير وتجنّب الشر وتقرير خلود النفس والثواب والعق اب ،فكي ف وب أ ّ
ي ح ق يجب أن
ه؟ ا دينهم عين دعو إليه تي ي ية ال راض األساس ذه األغ دعو إلى ه اب ي زول كت ي
الجواب على هذا السؤال هو في اإليمان الضّيق الذي ال يقب ل الخالص إالّ على ي د مخلّص معيّن ،وفي ه ذا نقض
لتعاليم إنجيلهم عينه الذي يقول" :وإذا واح ٌد من علماء الناموس قام وقال مجربا ً له (للمسيح) :ي ا معلم ،م اذا أعم ل
73
ألرث الحياة األبدية؟ فقال له :ماذا ُكتِب في الناموس كيف تقرأ؟ فأجاب وقال :أحبب ال رب إله ك بك ل قلب ك وك ل
نفسك وكل قدرتك وكل ذهنك ،وقريبك كنفسك .فقال له :أجبت بالصواب اعم ل ذل ك فتحي ا ف أراد أن ي زكي نفس ه
فقال ليسوع :ومن قريبي؟ فعاد يسوع وقال :كان رجل منحدراً من أورشليم إلى أريح ا فوق ع بين لص وص فع رَّوه
وجرحوه ثم مضوا وقد تركوه بين ح ّي وميت ،فاتفق أن كاهنا ً كان منحدراً في ذلك الطريق فأبصره وجاز .وكذلك
ي وافى المكان فأبصره وجاز .ثم إن سامريا ً م ّر به فلما رآه تحنن فدنا إليه وض ّمد جراحاته وصبّ عليه ا زيت ا ً
الو ّ
وخمراً وحمله على دابته وأتى به إلى فندق واعتنى بأمره .وفي الغ د أخ رج دين ارين وأعطاهم ا لص احب الفن دق
ي هؤالء الثالثة تحسبه صار قريبا ً للذي وقع
وقال :اعتن بأمره ،ومهما تنفق فوق هذا فأنا أدفعه لك عند عودتي .فأ ّ
بين اللصوص؟ قال :الذي صنع إليه الرحم ة .فق ال يس وع :امض فاص نع أنت ك ذلك" (لوق ا 25 :10ـ )37ف إذا
ي المحتقر فضل الالوي والكاهن المقدس هلل ،ألنه صنع الرحمة للذي وقع بين اللصوص وكان ذل ك ج ائزاً
السامر ّ
وحقا ً عند المسيح نفسه ،أفال يكون محمد الذي أنقذ خلقا ً كثيراً من حالة الت وحّش والهمجي ة وه داهم إلى دين الح ق
ولم يجحد اإلنجيل ،بل ص ّدقه وأيده ،أفضل عند المسلمين المحم ديين ال ذين ه داهم إلى الح ق من ك ل ك اهن وك ل
بطريرك وكل بابا لم يبلغهم منه ش يء من الرحم ة؟ وإذا ك ان المس يح ق د خلّص المس يحيين ف إن الن بي محم د ق د
خلّص المحمديين .فكيف تريدون أيّها المج ّدفون أن ينكر المحمديون محمداً وأن ال يع ّدوه رسوالً من هللا إليهم وه و
الذي ه داهم إلى هللا؟ لق د ُوج د في العرب ة يه ود و ُوج د مس يحيون ،فه ل تمكن وا من هداي ة الع رب وجم ع كلمتهم
وإخضاعهم للش رع وإقام ة النظ ام فيهم وتحس ين ش ؤون حي اتهم االجتماعي ة ،فلم اذا يجب أن تك ون اليهودي ة أو
المسيحية أقرب إلى المحمديين من محمد قريبهم وحبيبهم وقريب كل منصف غ ير متعنّت وغ ير متك بر وحبيب ه؟
يوجد من متعنتي المسيحيين من يلعنون محمداً ألنه اتخذ زينب زوجة زيد ام رأة ل ه ،فلم اذا ال يلعن ون داود الن بي
ويبطلون نبوءاته ومزاميره وهو ق د س لب أوري ا الحثّي زوجت ه س لبا ً بحيل ة س افلة؟ وكي ف يس تندون إلى نبوءت ه
إلثبات ألوهية المسيح؟ .وبعد فإن النبي محمداً لم يسلب زيداً زوجه ،بل تزوجها من بعد أن طلقه ا زي د وأص بحت
ه. حالالً ل
ومنهم من يزعم أن محمداً ليس هاديا ً إلى هللا ألنه لم يفعل العجائب التي قيل أن األنبياء الذين تقدموه فعلوها ،وهذه
حجة باطلة ألنه ال لزوم للعجائب من بعد ما تبينت كلمة الهداية أنها إلى هللا الذي عرفه األنبياء السابقون ،كما جاء
رآن: في الق
{قولوا آمنّا باهلل وما أن زل إلين ا وم ا أن زل إلى إب راهيم وإس معيل وإس حاق ويعق وب واألس باط وم ا أوتي موس ى
وعيسى وما أوتي النّبيّون من ربّهم ال نف ّرق بين أح ٍد منهم ونحن له مسلمون} (البقرة )136 :وفي هذه اآلية ت أمين
على جمي ع المعتق دات المس يحية وعلى جمي ع النب وءات ال تي يس تند إليه ا المس يحيون إلقام ة ربوبي ة المس يح.
74
ومنهم من يُنحي على محمد بالالئم ة التخ اذه س بيل الغ زو والض رب بالس يف وبالس وط والس بي ،كم ا فع ل عب د
المسيح الكندي( )6في مناظرة أحد كبار المسلمين فنسب إلى محمد مجرد محبة نفع نفسه وأصحابه وإقام ة دولت ه.
وه ذا كالم بعي د عن الص واب ،فق د ك ان محم د يكس ب من تجارات ه ،وق د جلبت علي ه دعوت ه إلى هللا األتع اب
واألوص اب ،ف أهين وتع رّض للخط ر وس قط جريح ا ً في معرك ة أح د وك اد يُقض ى علي ه.
أما انه أراد إقامة الدولة فهو صواب ،ولكنه أنشأ الدولة لغرض الدين ،كم ا جع ل عم اد الدول ة في بيئ ة ال أس باب
إلقامة الدولة فيها غير سبب الدين .وإقامة الدولة ليست فرية وال إثماً .ومن قبل محمد أنشأ موسى دولته بالدين ،ثم
ك انت دول ة داود بال دين ودول ة س ليمان .ويحتج عب د المس يح بن إس حاق الكن دي في ت برير ح روب العبران يين
وغزواتهم بعجائب فلق البحر ليمر اإلسرائيليون ويهلك المصريون ،وغير ذلك من العجائب ال تي لم يُثبته ا ت اريخ
وإن يكن ص ّدقها القرآن .وحصول العجائب يجب أالّ يبرّر فظائع تخريب بيوت ش عب آمن ،كم ا أن ع دم حص ول
العجائب ال يجرح قصد رسول إلقامة دين هللا ،فإذا كان موسى نبيا ً ويشوع ابن نون نبياً ،وقد جاءا يهاجم ان ش عبا ً
آمنا ً عاكفا ً على التعمير والتمدين ،ويقتالن حتى األطفال والبهائم ،فمحمد ٌّ
نبي أعظم منهما ومن جميع أنبياء اليه ود
ألنه جاء إلى جماعة وحشية ال تع ِّمر وال تمدِّن ،بل شأنها الغزو والسلب والسبي والتقتيل ،فخاطبها بلغتها وحاربها
بسالحها وأخضعها للحق والشرع والنظام ،وه ذا ش يء أعظم من ش ّ
ق البح ر ب إذن هللا وإقام ة الكس يح ب إذن هللا.
وأما أن لغة العنف والقوة في بث الرسالة يجب أن تبقى في حدود بيئته ا وأن ال تس تعمل في غ ير مواض عها فه ذا
بحث آخر تناولناه في هذه السلسلة ،ونحن نبين كيف يجب أن يُفهم ذلك منعا ً الصطدامات عقيمة ال تنف ع األم ة وال
دين. دي ال تج
ال وجه في هذه األسباب للطعن في محمد ورسالته ولتجريده من حق النبوّة أو الرسالة ،وال للطعن على المحمديين
والقول إنه ال رجاء بهم حتى يتركوا الذي ه داهم وي دعوا الق رآن ،فه ذا ق ول كب ير في ه ظلم كث ير وهَ وس ش ديد.
إن المسيح لم يشترط على ع الِم الن اموس أن يع ترف بأن ه ه و الكلم ة المتجس دة ل يرث الحي اة األبدي ة ،ب ل اكتفى
بتوصيته أن يحبَّ هللا ويحبَّ قريبه كنفسه .والنبي محمد قد أوجب ذك ر المس يح وج اءت آيات ه تش هد للمس يح بأن ه
كلمة هللا ،فماذا يريد المتعنتون فوق ذلك؟ وج اء محم د ي ؤ ِّمن المس يحيين على دينهم ويق ول إنهم ال يحت اجون إلى
تغيير "صالتهم" وتعاليم ملّتهم ،ويأبى المتعنتون إالّ أن يقولوا إن محم داً ُمبط ل ض الّ ،ح تى أن عب د المس يح بن
يطان!. ريعة الش احب ش ّده ص دي ع حق الكن إس
75
إن محمداً والقرآن باقيان ويبقيان في قلوب المحمديين ألن محم داً ك ان رس ولهم .ف إذا ك ان ال روح الق دس ق د علّم
ذنب الع رب إذا لم يكن بين
تالميذ المسيح ورسله لغات األقوام التي توجهوا للبش ارة والك رازة بينه ا فليس ال ذنب َ
هؤالء الرسل رسول علَّمه الروح القدس لغتهم وتوجه إليهم وأقام الدين بينهم .فكيف ال يكون محمد أقرب إليهم من
يحية؟ ل المس رس
وقد بلغنا أن كثيراً من المسيحيين يفرحون بإظهارنا فساد ه َوس المتعنتين من المحمديين أصحاب مدرسة محارب ة
أهل جميع "األديان" غير المحمديين ،أي محارب ة المس يحيين ال ذين يع ترف الق رآن بص حة دينهم ،ويظن ون أنن ا
نقصد من ذلك نكاية المحمديين وإظهار فساد دينهم وبطالنه وتحقير شخص ية ن بيهم ،وبلغن ا ،أيض اً ،أن متهوس ي
المحم ديين ظن وا ه ذا الظن وتوهم وا ه ذا ال وهم ،فم ا آثم ه ذا الظن وم ا أبع ده عن الص واب!.
إن ما نقصده في هذا البحث هو الوصول إلى إفه ام أه ل المل تين وج وب ن زع التعنُّت والهَ وس ومنافس ة بعض هم
البعض ،وأنه يجب عليهم إدراك أغراض دينهم بالعقل وليس بالزيغ والمنافسة التي تعدم الصالح وتخرب ال بيوت
وتفيد الع ّدو فقط .فنحن ما أظهرن ا بطالن حجج أص حاب المدرس ة الرجعي ة من المحم ديين إالّ لنجلبهم إلى الح ق
وليعلموا أن الغل ّو في الدين من المعايب التي أصابتهم كما أصابت الرجعيين المس يحيين ،وليس لجع ل المس يحيين
ة. الة المحمدي زدرون الرس ذهبهم وي ّو في م الغون في الغل يب
والنقطة األساسية ،التي كانت نصب أعيننا منذ بداءة هذا البحث ،هي هذه :إن المسيحية والمحمدية مذهبان في دين
إلهي واحد ،يتفقان في أغراض الدين األخيرة ،ويثبت كل منهما اآلخر ،فيجب أالّ يكون بينهما اصطدام وال ن زاع،
بل محبة واتحاد .والمحبة واالتحاد ال يكونان برذل كل فري ق تع اليم اآلخ ر وإدانت ه وتفض يل تعاليم ه عليه ا ،ب ل
باتخاذ القاعدة العام ة ال تي وض عناها وهي :أن المس يحية والمحمدي ة يتمم ان أغراض هما األخ يرة ب دون ح روب
ومنازعات ،بل بالتسانُد واالنتشار كل منهم ا في البيئ ات األك ثر موافق ة لتعاليم ه وقب والً له ا ،فمن قب ل المحمدي ة
عقيدة فقد اهتدى إلى هللا ،إذا كان هللا هو غرض الدين األخير ،ومن قبل المسيحية فه و م ؤمن ُمهت ٍد إلى هللا {وم ا
اختلفتم فيه من ش يء فحكم ه إلى هللا( }...الش ورى{ )10:فإنم ا علي ك البالغ وعلين ا الحس اب} (الرع د" )40:ال
تدينوا لئال تدانوا ،فإنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون ،وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم .م ا بال ك تنظ ر الق ذى
في عين أخيك وال تفطن للخشبة التي في عين ك؟ أم كي ف تق ول ألخي ك :دع ني أخ رج الق ذى من عين ك ،وه ا أن
الخشبة في عينك .يا مرائي أخرج أوالً الخشبة من عينك ،وحينئذ تنظر كيف تُخرج القذى من عين أخي ك" (م تى:
.)9
76
ما تقدم هو خالصة وجهة الخالف المسيحية ،وقد فندناها وبسطنا رأينا فيها وأوضحنا فسادها ومبل غ التعنُّت فيه ا،
فإذا كان قد بقي شيء جوهري من هذه الوجهة لم نتناوله فذلك ألنه لم يبلغنا ،ونكون شاكرين لكل من يوص ل إلين ا
قوالً مسيحيا ً يضا ّد وجود الرسالة المحمدية ويع ّد العمل على زوالها عمالً بنصوص الدين ليكون الدين كله مسيحيا ً
هلل.
ومن جميع ما تق ّدم يتضح أن وجهة المسيحيين من الخالف تنحصر في عدم االعتراف بصحة كون محمد رس والً،
وذلك استناداً إلى تحذير المسيح من األنبياء الكذبة وقوله" :احذروا أن يُضلَّكم أحد ألن كثيرين يأتون باسمي قائلين
إني أنا هو ويُضلون كثيرين" (مرقس )13 :هذا في ما يختص بالنص من جهة المسيحية ،وأما من جهة المحمدي ة
فالنصّ ما ورد في سورة (األعراف) في وصف غضب موس ى على ب ني إس رائيل التخ اذهم العج ل إله اً{ .ول ّم ا
سكت عن موسى الغضب أخذ األلواح" :واختار موسى قومه سبعين رجالً لميقاتنا فل ّما أخذتهم ال ّرجفة قال ربّ ل و
شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا إن هي إالّ فتنتك تض ّل بها من تشاء وته دي من تش اء أنت
وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين .واكتب لنا في هذه ال ّدنيا حسنة وفي اآلخرة ،إنّا هدنا إليك قال ع ذابي
أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت ك ّل شيء فس أكتبها للّ ذين يتّق ون ويؤت ون ال ّزك اة والّ ذين هم بآياتن ا يؤمن ون.
الّذين يتّبعون الرّسول النب َّي األم َّي الّذي يجدونه مكتوبا ً عن دهم في التّ وراة واإلنجي ل ي أمرهم ب المعروف وينه اهم
عن المنكر ويح ّل لهم الطّيبات ويح ّرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم واألغالل الّتي كانت عليهم فالّذين آمنوا
به وع ّزروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل مع ه أولئ ك هم المفلح ون .ق ل ي ا أيّه ا النّ اس إني رس ول هللا إليكم
جميعا ً الّذي له ملك السّموات واألرض ال إله إال هو يحيي ويميت فآمنوا باهلل ورسوله النب ّي األم ّي الّذي ي ؤمن باهلل
راف154 :ـ.)158 دون} (األع وه لعلّكم تهت ه واتّبع وكلمات
بناء على هذا النص القرآني يعتقد أكثر المحمديين غير المحققين أن التوراة واإلنجيل اللذين في أيدي الن اس الي وم
هما غير التوراة واإلنجيل الصحيحين ،ألنه ال ذكر ألحمد أو محمد فيهما .وقد سلّمنا ،في ما تق دم من ه ذا البحث،
بأن اليهود عبثوا بالتوراة ،خصوصا ً يهود العرب .وهنالك أدلة ترجّح أنهم عبثوا بالقرآن أيضا ً قب ل إكم ال جمع ه.
ي عبث .ولكن وجد إنجيليون دوّنوا سيرة المسيح وأقواله تدوينا ً مخالفا ً لت دوين اإلنجيل يين
أما اإلنجيل فلم يجر به أ ّ
األربعة المع َّول عليهم ،واثنان منهم كانا تلميذين للمسيح وعايناه كمتى ويوحنا ،وثالث ك ان من أك بر المحققين ه و
الطبيب لوقا ،والرابع هو مرقص وكان تلميذاً للقديس بط رس .وك انت األناجي ل ق د ت وزعت بين أي دي الن اس في
أكث َر من لغة إذ كتب متى بالسريانية ،وكتب لوقا باليونانية .ولم يعد من الممكن ،بعد مرور ستمئة سنة ونيّ ف على
الميالد المسيحي ،أن تجمع جميع النسخ الموجودة في مختلف اللغات واألقطار وتُتلف إال نسخة واحدة تُحذف منها
77
اإلشارة إلى محمد .ولو كان صحيحا ً أنه ُوجد ذكر محمد في اإلنجيل لكان حذف ه دع ا إلى ش ك كث يرين وص ياحهم
كما شكوا وصاحوا ألمور أق َّل من ح ذف ش يء من اإلنجي ل ،ولك ان وجب أن يق ف المحم ديون ومحقق وهم على
نسخة فيها ذكر محمد ويحفظوها للداللة ويشيروا إلى موض ع ذك ر محم د فيه ا وفي أي ة آي ة وفي أ ّ
ي ح ادث ورد
ذكره ،ولكن شيئا ً من ذلك لم يحدث .وقد اكتشفت النسخة السينائية التي هي أقدم نس خ اإلنجي ل وحق ق فيه ا رج ال
ي يدلُّ على ذكر محمد ،ولكن يبقى هنال ك
علم بعيدون عن الهَ َوس الديني ،والنسخة موجودة إلى اليوم وليس فيها آ ٌ
"بالمعزي" في إنجيلي مرقس ويوحنا قد يكون ورد منفصالً في بعض الق راءات في ِّ وجه وهو نعت الروح القدس
المواضع الموجود بها منفصالً عن االسم فأ َّدى ذلك إلى التباس أو إلى اختالط كقول ه" :إآلَّ أني أق ول لكم الح ق أن
في انطالقي خيراً لكم ألني إن لم أنطلق لم يأتكم المع ّزي ،ولكن إذا مضيت أرس لته إليكم .وم تى ج اء يب ِّكت الع الم
على الخطيئة وعلى البر وعلى الدينونة .أما على الخطيئة فألنهم لم يؤمنوا بي ،وأم ا على ال بر فألني منطل ق إلى
اآلب وال تروني بعد ،وأم ا على الدينون ة فألن رئيس ه ذا الع الم ق د دين .وإن عن دي كث يراً أقول ه لكم ،ولكنكم ال
تطيقون حمله اآلن ،ولكن متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ،ألنه ال يتكلم من عنده ،ب ل يتكلم
بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي" (يوحنا 7 :16 ،ـ )13فك ّل من يقرأ أو يسمع هذه اآليات ولم يكن ق د س مع اآلي ة
26من الفصل الرابع عشر القائلة "وأما المع ّزي الروح القدس الذي سيُرسله اآلب باس مي فه و يعلمكم ك ل ش يء
ويذكركم كل ما قلته لكم" ،فإنه ال يشك بأنه وعد برسول آخر يجيء ،بل ح تى اآلي ة األخ يرة ال تمن ع ك ل اجته اد
اب. ذا الب ل في ه ل تأوي وك
وإننا نرى أن هذه النصوص والخالف فيها هي من ذيول الخالف على صفة المسيح وعلى ص فة محم د .وال نج د
خالفا ً أساسيا ً جوهريا ً في ما يختص بأغراض الدين األخيرة ،وال يؤثر على أهل كل مذهب في اتباع تعاليمهم ،فما
على أهل الرسالتين المسيحية والمحمدي ة إالّ أن ي تركوا الحكم هلل عمالً بق ول الرس التين :ال تَ دينوا لكي ال تُ دانوا"
ه إلى هللا". يء فحكم ه من ش ا اختلفتم في "وم
ولقد اتخذ هذا الخالف ،منذ القديم ،مظه راً حزبي اً ،فق د قرأن ا في بعض المص ادر أن المحم ديين "وأه ل الكت اب"
افتخروا فقال أهل الكتاب "نبينا" قبل نبيكم وكتابنا قب ل كت ابكم ونحن أولى باهلل منكم ,وق ال المس لمون "نحن أولى
منكم ،نبينا خاتم النبيين ،وكتابن ا يقض ي على الكتب المتقدم ة" ف نزلت في ه ذا الخالف اآلي ة{ :ليس بأم انيكم وال
أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُج َز به وال يَج ْد لَهُ من دون هللا وليّا ً وال نص يراً .ومن يعم ل من ّ
الص الحات من
ؤمن فأولئ ك ي دخلون الجنّ ة وال يظلم ون نق يراً} (النس اء 123 :ـ .)124
ٌ ذك ٍر أو أن ثى وه و م
وجميع هذه األقوال من الرسالتين يقبلها كل ذي عقل س ليم ووج دان ح ّي وال يرفض ها إالّ المن افقون في ال دين من
78
المحمديين والنصارى ،ف األولون يقول ون :ال يت ّم ال دين إالّ بمغالب ة أه ل "األدي ان" األخ رى وتنمي ة مل ة اإلس الم
المحمدي بالقوة واإلكراه ،واآلخرون يقولون :ال يتم الدين إالّ بمحو القرآن من الوجود .وهذا منتهى الض الل ،ألن
كل فريق يقيم نفسه مقام هللا نفسه ليدين الفريق اآلخر ،مع أن نصوص الدين تقول بترك الحكم هلل وحده.
إن النتيج ة النهائي ة ،ال تي وص لنا إليه ا في البحث الس ابق وهي أن الم ذهبين المس يحي
والمحم دي متفق ان ك ل االتف اق في األغ راض الديني ة األخ يرة وأن ال واجب على أتباعهم ا
يقض ي ب ترك محارب ة بعض هم البعض ومحاول ة إخض اع بعض هم بعض اً ،ال تواف ق رج ال
الس لطة الروحي ة من المل تين وال رج ال النف وذ السياس ي المب ني على الم ذهب والمل ة.
فرج ال ال دين من المل تين ال يقبل ون االع تراف ب أن الم ذهبين ص حيحان وهم ا دين واح د،
فك ّل فري ق ي َّدعي أن "دين ه" ه و الص حيح وأن خالص النف وس ال ّ
يتم إالّ ب ه .ومم ا ال ش ك
في ه أن ه ذا البحث ليس موجه اً إلى رج ال ال دين أنفس هم ،ب ل إلى الخاص ة والعام ة من
العلم انيين ،ف إذا ك ان رج ال ال دين ق د وقف وا أنفس هم علي ه ف إن ال دين لم ولن يق ف نفس ه
عليهم.
إلى جميع الناس غير رجال ال دين نوج ه ه ذه ال دعوة : :لنترك رجال الدين يتناظرون م ا
79
إن ه ذه ال دعوة تع ني ت رك العص يبة الديني ة واعتن اق العص بية القومي ة ال تي تجع ل جمي ع
دة. بة واح يحييهم عص دييهم ومس وريين محم الس
ه ذه هي ال دعوة ال تي يتحمله ا في س ورية الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي .وق د
اص طدمت ه ذه ال دعوة بمقاوم ة من المل تين المس يحية والمحمدي ة .أم ا حج ة أبن اء المل ة
المس يحية فك انت أن الوح دة القومي ة تعي د المس يحيين إلى عه د الخض وع لدول ة محمدي ة ال
حق وق مدني ة وسياس ية فيه ا للمس يحيين ،وه ذه أق وى حجج الم دنيين المس يحيين باس تثناء
بعض المهووس ين ال ذين يدس ون هن ا وهن اك عب ارات الك ره والحق د على المحم ديين،
واكتفوا َّ
بالد ّس ،ولم يقدروا على تقديم نظرية يمكن أن تك ون ش به عقي دة .وأم ا حج ة أبن اء
الملَّة المحمدي ة فك انت ذات نظري ة مؤسَّس ة على نص وص ديني ة ك التي عالجن ا بعض ها في
ما تقدم ،وقال بها رجالن خطيران كالسيد جمال الدين األفغاني والشيخ محمد عبده الل ذين
اس تند إلى أبحاثهم ا أك ثر المحم ديين ال ذين يق اومون نش وء القومي ة االجتماعي ة في س ورية
ب األكثر ،بمناقش ة أص حاب ه ذه النظري ة ال تي ص فق المحم ديون كث يراً في المهج ر لرش يد
ولكن ال ب د من زي ادة إيض اح األس باب الداعي ة لتخص يص معظم ه ذا البحث بالوجه ة
80
دين بحت مج رد من ش ؤون الدول ة والحكم ،فق د اختص ال دين في اإلس الم المس يحي
باألفراد ومعتقداتهم ومناقبهم .أما الدين في اإلسالم المحمدي فقد بيَّنا ،في ما تق دم من ه ذا
اضطر ألخذ طبيعة البيئة التي نشأ فيها بعين االعتبار .وطبيعة البيئ ة اقتض ت
َّ البحث ،أنه
إيجاد الدولة لتكون وسيلة إلقامة الدين .ولما كان غرض الدولة إقام ة ال دين ك ان ال ب د أن
يكون الدين أساسها ،فهي ُوجدت بالدين إلقامة الدين .ومن هذه الض رورة الخاص ة بالبيئ ة
العربية نشأ هذا االرتباط الوثيق بين الدول ة وال دين في اإلس الم المحم دي ح تى التبس أم ر
كليهم ا ح تى على أك بر المفك رين المحم ديين .وله ذا الس بب نج د مس ألة الفص ل بين ال دين
والدول ة في المل ة المحمدي ة أص عب حالًّ منه ا في المل ة المس يحية ،ألن الدول ة موج ودة في
النص وص القرآني ة كم ا هي موج ودة في نص وص الت وراة ،ولكنه ا ليس ت موج ودة في
نصوص اإلنجيل .وبناء على النصوص القرآنية أمكن صاحبي "العروة الوثقى" القول "أن
ال جنسية للمسلمين إالّ في دينهم" ،والقول ،مخاطبين المسلمين المحمديين" :هل نسوا وع د
اهلل لهم ب أن يرث وا األرض وهم العب اد الص الحون؟" ("الع روة ال وثقى" ص )149والق ول:
ق انون يخ الف ش ريعتها ونب ذ ك ل س لطة ال يك ون الق ائم به ا ص احب الوالي ة على تنفي ذ
أحكامه ا" (أيض اً ص )77والق ول "ومن األوام ر الش رعية أن ال ي دع المس لمون تنمي ة
ملتهم ح تى ال تك ون فتن ة ويك ون ال دين كل ه هلل"" وذل ك "إلعالء كلم ة الح ق وبس طة المل ك
وعم وم الس يادة" (أيض اً ص )164والق ول "كي ف ومعظم األحك ام الديني ة موق وف إج راؤه
على ق وة الوالي ة الش رعية" (أيض اً ص )165وك ل ه ذه األق وال بعي د عن الص واب وليس
81
فيه تدبُّر صحيح لنصوص الدين في الرسالة المحمدية وتاريخه ا ،كم ا بيَّن ا ون بيِّن ،ب ل هي
جميعه ا نتيج ة اس تبداد في االجته اد من أج ل الوص ول إلى أغ راض سياس ية مبني ة على
تق دم قولن ا أن الرس الة المحمدي ة تقس م إلى قس مين :القس م المكي والقس م الم دني ،ثم ع دنا
فقلن ا أن النص وص القرآني ة على وجهين :وج ٍه في ال دين ووج ٍه في الدول ة .والقس م المكي
ه و األك ثر اختصاص اً بالوجه ة الديني ة ،والقس م الم دني ه و األك ثر اختصاص اً بالوجه ة
الدولي ة .وه ذا االزدواج في اتج اه الرس الة المحمدي ة ال ذي لم يحص ل ل ه ،في م ا مض ى،
أي وج ه أرادوا حس بما يواف ق أغراض هم ،وه و ليس عيب الق رآن ،ب ل
السياس ية األخ ذ ب ّ
وأص حاب األغ راض السياس ية ال يري دون نش وء ه ذه الدراس ة في اإلس الم المحم دي ألنه ا
يمكن أن تقض ي على جمي ع مح اوالت اس تخدام ال دين لألغ راض السياس ية والمط امع
يخش ه ؤالء
الخصوص ية .ف إذا ظلت المحمدي ة بعي دة عن ه ذه الدراس ة التكنيكي ة لم َ
األراخن ة افتض اح أم رهم بعكس هم االتج اه األول للمحمدي ة ،ف إن محم داً اس تخدم الدول ة
ية. امع السياس ذ المط دين لتنفي تخدام ال دون اس فيري
82
وليس ه ذا جدي داً في المحمدي ة ،ب ل ش يئاً ق ديماً ظه ر في أط وار تاريخي ة كث يرة .فق د وج د
المتن ازعون على الس لطة والس يادة أس باباً كافي ة في ثنائي ة اإلس الم المحم دي للمبالغ ة في
العن اد والمك ابرة ،ح تى أن ه يمكن كتاب ة مجل دات في ه ذا الب اب في حجج العروب يين
والش عوبيين وفي ال نزاع ح تى بين الص حابة وبين األم ويين وبيت علي .ونكتفي للدالل ة
على س عة التالعب بثنائي ة النص وص القرآني ة ب إيراد ه ذا الح ادث ال ذي ج رى لمعاوي ة إذ
والس الم{ :وأن ذر عش يرتك األق ربين} فنحن عش يرته .وق ال{ :وإ ن ه ل ذكر لقوم ك} فنحن
قوم ه .وق ال{ :إليالف ق ريش إيالفهم} إلى قول ه{ :وال ذي أطعمهم من ج وع وآمنهم من
فأجابه رجل من األنصار" :على رسلك يا معاوي ة ف إن اهلل يق ول{ :وك ذب ب ه قوم ك} وأنتم
قوم ه .وق ال{ :ولم ا ض رب ابن م ريم مثالً إذا قوم ك من ه يص دون} وأنتم قوم ه .وق ال
الرسول عليه الصالة والسالم" :يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً" وأنتم قوم ه،
ه ذا مث ل رائ ع من اس تخدام ثنائي ة النص الق رآني في أغ راض المنافس ات والمط امع وفاق اً
للظ روف والح االت .وال ذين يج دون س هولة في س لك ه ذا المس لك ال يري دون أن تق وم
دراس ة توض ح أن ه ذه الثنائي ة ليس ت مطلق ة ب ل مقي دة ومرتبط ة بوح دة فلس فية يجب
83
استخراجها وإ برازها بصورة واضحة إليجاد االستقرار ال روحي في المل ة المحمدي ة لتهتم
السياس ة ال تي يهمه ا الدول ة والس لطان والحكم أك ثر مم ا يهمه ا ال دين واالرتق اء ال روحي
درس نا في الحلق ات المت أخرة من ه ذا البحث الناحي ة الديني ة من اإلس الم المحم دي،
وأوضحنا ما هي أغراض هذا الدين األخيرة وأنه ا ال تتض ارب م ع األغ راض الديني ة في
اإلسالم المسيحي ،وأثبتنا أن النصوص القرآنية نفس ها تؤك د ذل ك توكي داً ال يمكن دحض ه،
وب ذلك نك ون ق د أجبن ا جواب اً قاطع اً على الس ؤالين الل ذين ألقيناهم ا في بحث "بين اله وس
محارب ة أه ل "األدي ان" األخ رى ح تى ي دينوا به ا أو يخض عوا للمس لمين المحم ديين؟.
إن النصوص القرآنية التي أثبتناها تنفي نفياً باتاً أن ه ذا ه و غ رض الديان ة في المحمدي ة،
وأن إيج اب الق رآن على المؤم نين ب ه االعتق اد بص حة اإلنجي ل ب ل وص حة الت وراة أيض اً
واإليم ان بم ا ورد فيهم ا يق رر نهائي اً أن ال دين الص حيح ،من جه ة المحمدي ة ،يق وم
بالمسيحية كم ا يق وم به ا وباإلنجي ل كم ا ب القرآن .وق د نص الق رآن على أن ال ذين "يؤمن ون
84
ب اآلخرة" (من أه ل الكت اب :الت وراة واإلنجي ل) ال حاج ة بهم لتغي ير "ص التهم" ،ب ل هم
يح افظون عليه ا ح تى ول و آمن وا ب القرآن .وك ان األح رى بال ذين يرغب ون في التق ُّدم
اإلنس اني من المحم ديين أن يت دبَّروا ه ذه اآلي ة الجلي ة من س ور النع ام ال تي تس ند قولن ا في
م ا س بق ب أن اتج اه الرس الة المحمدي ة ك ان لالتف اق م ع الرس االت الس ابقة واالش تراك معه ا
على محارب ة عب ادة األص نام وإ قام ة ال دين اإللهي ،فاآلي ة الم ذكورة لم تطلب من "أه ل
ؤمنهم
الكت اب" غ ير اإليم ان ب أن الق رآن كت اب ي دعو إلى اهلل وأن دعوت ه ص حيحة وهي ت ِّ
"ص التهم" حس ب كتاب ه وال ت وجب عليهم تغي ير "ص التهم" ،وآي ات قرآني ة أخ رى
على َ
عدي دة تس ند حكم ه ذه اآلي ة كتخص يص الق رآن ومحم د بال ذين لم ي أتِهم رس ول من قب ل
وك انوا في ض الل م بين ،وكله ا ت رمي إلى إزال ة ك ل احتم ال للتص ادم والتض ارب م ع
المس يحية واليهودي ة وإ لى توحي د جه ود ه ذه الف رق ض د المش ركين عب دة األوث ان .ول و أن
المسيحيين واليهود في العربة عززوا محمداً وأيدوه ووافقوه على المش ركين لك انوا أزال وا
معظمها في األبحاث المتقدم ة ،يج د أنه ا فتحت وتفتح ب اب التف اهم واس عاً إذا حس ن القص د
من المحم ديين والمس يحيين على الس واء ،وهي تقط ع على ِّ
متعنتي المس يحيين حججهم
يمكن حص ول االتح اد الق ومي االجتم اعي في س ورية إالّ ب زوال الق رآن .وه ذه اآلي ات
احر بس بب بعض
واعتب ار أن مئ ات األجي ال البريئ ة يجب أن تس قط فريس ة التق اطُع والتن ُ
85
األولين .وفي ما يختص بالمس يحيين في ه ذا الب اب نج د أن الق رآن ش هد لهم
أغالط بعض ّ
بصدق الوجدان وبأنهم لم يكونوا م ع المحم ديين كالمش ركين وال ك اليهود ،فبع د اآلي ة ال تي
ِّ
الحق} (المائدة )83 :ومتى علمنا أنه ُوج د في العرب ة مس يحيون لم يفهم وا مما عرفوا من
ّ
من اإليم ان المس يحي أك ثر مم ا فهم محم ديوها من اإليم ان ب القرآن ألنهم ك انوا أعراب اً
جهل ة م ردوا على النف اق ،اتض ح لن ا كم ه و فاس د االلتج اء إلى الحجج القديم ة الس تمرار
اص ال يش مل
درس خ ٌّ
ولقد قلنا أن مسألة مذاهب المسيحيين في العرب ة يجب أن ُيف رد له ا ٌ
موض وعه المس يحيين ،المتم دنين ،يؤي د ه ذا الق ول أن عليَّا بن أبي ط الب اس تثنى نص ارى
تزوج من
ب ني تغلب من حكم آي ة "المائ دة" ال تي حللت للمحم ديين طع ام "أه ل الكت اب" وال ُّ
نسائهم ،فقال فيهم" :ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منه ا إالّ ش رب الخم ر" ،فكم يص دق
على كث ير من نص ارى الع رب ت أويلهم والدة المس يح وكالم اإلنجي ل ،وخصوص اً قض ية
بن اء على م ا تق دم يص ّح أن نس أل ال ذاهبين م ذهب الس يد األفغ اني والش يخ محم د عب ده في
تأويل القرآن :هل ماتت جميع هذه اآليات السنية في القرآن ،أو ه ل نس خت بآي ات أخ رى
86
ة؟ بحت باطل ا فأص الف له ه مخ ا على أن دل ظاهره ي
إن ثنائي ة النص الق رآني ليس معناه ا أن ه يوج د للرس الة المحمدي ة خطت ان متباينت ان
ومس تقلتان ،الواح دة عن األخ رى اس تقالالً كلي اً بحيث يج وز للم ؤمن أن يخت َار إح داهما
هنال ك وح دةً كامن ةً بين ن وعي النص المحم دي ،وأن ه ذه الوح دة يجب أن تُس تخرج من
تراب ط األس باب والمس ببات ومن معرف ة نس بة الواس طة إلى الغاي ة ومن درس العالق ة
مبدأ ُ
الوثيقة بين النص القرآني واألسباب الموجب ة أو الح وادث الجاري ة .ف إذا لم يتَّج ه االجته اد
مغالطات الهوس الديني السياسي الذي كثيراً م ا يض ِّحي حقيق ة ال دين على م ذهب األه واء
الجامح ة ،ويط ِّوح بالمحم ديين في مغ امرات ال تع ود على دينهم بفائ دة وال على دني اهم
ير. بخ
على ه ذا الطري ق الس لبي س ارت مدرس ة الس يد جم ال ال دين األفغ اني والش يخ محم د عب ده
فغ َّررت بجماع ات كث يرة من المحم ديين في مص ر وس ورية والهن د وإ ي ران وأفغانس تان،
أس ه؛ وك انت نتائجه ا خيب ة تل و خيب ة ،ف إن مب دأ "الجنس ية الديني ة" للمحم ديين ُن ِس َ
ف من ِّ
فالمحمدي ة لم تكن أحس ن حظ اً من المس يحية في توحي د األمم باس مها .ف األتراك لم يقبل وا
تض حية جنس يتهم االجتماعي ة في س بيل "جنس يتهم الديني ة" ،ولم يقب ل ب ذلك الف رس وال أي ة
87
أم ة محمدي ة أخ رى اس تيقظت لوح دتها االجتماعي ة ـ االقتص ادية ـ الجغرافي ة ـ الس اللية
ولمطامحه ا ومثلُه ا العلي ا المنبثق ة من ه ذه األص ول والعوام ل .ف ذهبت ص يحات الك اتبين
األفغاني وعبده في سبيل الوح دة أدراج الري اح ،ولكنه ا ت ركت أث راً س يئاً بين ال ذين تعلق وا
تفاهمت ا على خس ارة الس وريين ل واء االس كندرون لألت راك بع د أن تمت له ذه (مص ر)
ورية. يناء من س رة س به جزي لخ ش يز س ع اإلنكل اق م باالتف
إن نظري ة مدرس ة األفغ اني وعب ده القائل ة "بالجامع ة اإلس المية" والدول ة الديني ة و"الجنس ية
الديني ة" للمحم ديين تق ول أن المحمدي ة دول ة وإ ن النص وص الدولي ة للمحمدي ة هي ال دين.
ومحارب ة "األدي ان" األخ رى ل يرث المحم ديون أرض ها ،ت أويالً لم ا ورد في الق رآن ،وإ لى
جع ل قاع دة اإليم ان القت ال .ف المؤمن ال يك ون ص حيح اإليم ان ح تى "يك ون أول أعمال ه
تقديم ما له وروحه في سبيل اإليمان ،ال يراعي في ذلك عذراً وال تعلّة ،وك ل اعت ذار في
القع ود عن نص رة اهلل فه و آي ة النف اق وعالم ة البع د عن اهلل"( .انظ ر الع روة ال وثقى ص
.)247
والحرك ة ال تي توج ه ه ذه ال دعوة إليه ا هي "جم ع كلم ة المس لمين" ،فيطلب الس يد األفغ اني
88
من العلم اء "أن يس ارعوا إلى ه ذا الخ ير وه و الخ ير كل ه"! (أيض اً ص .)248
الص حيح ه و :اإليم ان ببعض الكت اب والكف ر ب البعض اآلخ ر ،وإ ن آي ات التح ريض على
القتال وإ ظهار "اإلسالم على الدين كله" قد نسخت اآلي ات الزكي ة الهادئ ة ال تي ترف ع القيم ة
وبن اء على م ذهب ه ذه المدرس ة الفكري ة المحمدي ة يجب على الم ؤمن نب ذ مث ل ه ذه اآلي ة
إن
رب ك بالحكم ة والموعظ ة الحس نة وج ادلهم ب الّتي هي أحس ُن ّ
وهجره ا{ :ادعُ إلى س بيل ّ
ُ
رب ك ه و أعلم بمن ض ّل عن س بيله وه و أعلم بالمهت دين} (النح ل .مكي ة )125 :ومثله ا
ّ
{وعب اد ال رحمن الّ ذين يمش ون على األرض هون اً وإ ذا خ اطبهم الج اهلون ق الوا س الماً}
(الفرق ان .مكي ة )63 :فه ذه اآلي ات وغيره ا كث ير مم ا أثبتن اه من قب ل ومم ا لم نثبت ه ليس ت
من الخير في ش يء ،في ع رف مدرس ة الدول ة الديني ة والجنس ية الديني ة ،ألنه ا ال تق ول إن
"ك ل اعت ذار في القع ود عن نص رة اهلل فه و آي ة النف اق وعالم ة البع د عن "اهلل" ،فاآلي ة
المثبت ة ف وق القائل ة إن اهلل غ ني عن الع المين هي آي ة كاذب ة ،وك ذلك اآلي ة القائل ة بال دعوة
إلى س بيل اهلل بالحكم ة والموعظ ة فهي باطل ة والم ؤمن ال ذي يعم ل به ا يك ون في ع رف
89
فالدين ،لهذه المدرسة وأضرابها ،ليس ما هو مثبت في القرآن كله وليس باإليمان بك ل م ا
ورد في ه ،ب ل ه و م ا ش اءت أه واؤهم وم ذاهبهم ،وباإليم ان ببعض الكت اب دون بعض ،أو
إننا نعلم أن هذه الحجج القاطعة ال تي أوردناه ا ال تس ّد جمي ع أب واب الج َدل في وج ه أتْب اع
مدرس ة الجنس ية الديني ة ،وكأنن ا نس مع بعض هم يقول ون :إذا ك انت آي ات القت ال ونص رة اهلل
ال تبط ل آي ات ال دعوة بالحكم ة والموعظ ة واالكتف اء باإلرش اد واإلن ذار وس لك طري ق
يتدبَّرون ه ،ف إذا أخ ذهم اله وس والزي غ عن كلم ة الح ق ه اجوا واحتج وا ببعض الكت اب
وعم وا عن بعض ه .وق الوا إن الخ ير ك ل الخ ير في األخ ذ بآي ات معين ة واإلع راض عن
ا. وب إقفاله ول :إن على قل تى يتم الق ةح ات معين آي
إن القتال فُ ِر َ
ض على المحمديين إلقامة الدين حيث يوجد من يريد إبطاله ،أي حيث يك ون
وأم ة ،ب المعنى االجتم اعي ،فال دعوة إلى الجه اد
أم ة ّ
النزاع قائم بين مجتمع ومجتم ع ،بين ّ
ال ديني ال ت د ّل إالّ على عقلي ة أولي ة كعقلي ة الع رب ال ذين لم يفهم معظمهم من المس يحية
90
غير شرب الخمر ،وال من المحمدية غير طلب الغنائم.
ا. ة منه ها الدولي ل نصوص ا ولفهم مح ها ومراميه الة وأغراض ذه الرس ةه طبيع
قلنا ،في ما تقدم ،إن القسم المكي من الدعوة المحمدية هو األكثر اختصاصاً بالوجهة الدينية ،وإ ن القس م الم دني
مختص ك ل
ٌّ ه و األك ثر اختصاص اً بالوجه ة الدولي ة .والحقيق ة كله ا أق وى من ه ذا التعري ف ،فالقس م المكي
االختص اص ب النص ال ديني فال يدخل ه ش يء من النص ال دولي ،في حين أن القس م الم دني يدخل ه نص دي ني م ع
اختصاصه بالوجهة الدولية من ال دعوة ،ذل ك أن غ رض ه ذا القس م ليس نقض غ رض القس م األول ،ب ل تحقيق ه.
وقد قلنا أيضاً إن أول الدعوة ه و بمثاب ة أساس ها ألن ه يعيِّن غاي ة ال دعوة واتجاهه ا الص حيح قب ل أن يط رأ عليه ا
الدعوة وأغراضها األخيرة .فالدعوة تعلن أوالً ثم يكون السعي لتحقيقها وتعميمها ،فتحتك بالبيئة وتتفاعل معه ا،
ومن ه ذا االحتك اك والتفاع ل ينتج تط ور ال دعوة في نهجه ا التط بيقي ال ذي يحتم ل أن ُيكس ب ال دعوة األساس ية
النظرة الفلسفية التي يصلح استعداد البيئة الروحي والمادي لحملها ،إذا لم تكن لها ه ذه النظ رة من الب دء .وليس
نهج قياس ٌّي ع ام ،ألن ه مختص بال دعوة والبيئ ة الناش ئة فيه ا .وليس ت ال دعوات ذات نظ رة واح دة،
له ذا التط ُّور ٌ
91
تعداد خ اص
وليس ت البيئ ة واح دة في الع الم ،ب ل متع ددة وعلى أن واع وخص ائص ش تى .ولبعض البيئ ات اس ٌ
الستخراج نظرة إلى الحياة والكون تشمل جميع البيئات التي من نوعها كس ورية وإ قريكي ة ،مثالً ،فهات ان بيئت ان
نظرات وعقائد شملت العالم المتم دن كلَّه .وس ورية ك انت قاع دة التفك ير اإلق ريكي نفس ه من غ ير
ٌ خرجت منهما
نفي خصائص ه الغني ة .وم ا ق امت ب ه س ورية م ا ك ان يمكن أن تق وم ب ه بيئ ة أخ رى كالهن د أو الص ين ،م ع غ نى
استعداد ليس أو لم يكن صالحاً الس تخراج نظ رة إلى الحي اة والك ون يمكن أن
ٌ ٍّ
كل منهما باالستعداد النفسي ،ألنه
كذلك البيئ ة العربي ة ـ بيئ ة الص حراء والب داوة ـ بيئ ة الض روريات الحيوي ة والحلق ة المغلق ة لألفع ال النفس ية ـ هي
اص ،بطبيعته ا ومزيجه ا ال دموي ،الس تخراج نظ رة إلى الحي اة والك ون تش مل جمي ع البيئ ات
تعداد خ ٌّ
بيئ ة له ا اس ٌ
اد
ال تي من نوعه ا كالس الجقة والمغ ول وجمي ع الش عوب الفطري ة أو القريب ة إلى الب داوة .وه ذه النظ رة هي :إيج ُ
المط الب المح دودة الجام دة ورفض جمي ع التص ورات الفلس فية المركب ة الخارج ة عن األولي ات الالزم ة إلقام ة
دودة. دة مح اة واح د لحي رع واح حراوية .ش ة الص ا البيئ ة إليه دود المحتاج الح
تأمل مؤلِّف هذا البحث الفلسفي في النظرات الفلسفية والمبادئ المناقبية واتجاهاتها جعل ه يق ِّرر ه ذه القاع دة:
إن ُّ
ك ُّل دع وة ،مهم ا ك ان ابت داؤها أو غرض ها األخ ير عام اً ش امالً لجمي ع الن وع اإلنس اني ،ف إن نظرته ا إلى الحي اة
يمكنه ا أن تش ّذ
والك ون يجب أن تك ون منطبق ة على خص ائص البيئ ة ال تي تنش أ فيه ا واس تعدادها ال روحي ،فال ُ
عن اس ِ
تعداد بيئته ا إالّ إذا خ رجت منه ا أو وجهت إلى غيره ا المخ الف له ا .فال ش ك عن دنا في وج ود تج ُانس
92
ادي
وتراب ط بين ال دعوة أو الرس الة في جمي ع تفاص يلها والبيئ ة وجماعته ا البش رية في اس تعدادها النفس ي والم ّ
ُ
وظروفهم ا .وال ش ك عن دنا في أن انتش ار ال دعوة وقبوله ا في البيئ ات األخ رى يجب أن يك ون خاض عاً لمب دأ
التجانس والترابط بين النظرة الفلسفية الخارجة من بيئة معينة واستعداد البيئات األخرى لقبولها والعمل به ا ،أو
اريخي معيَّن.
ِّ ٍل ت عاً لعام اري أو خاض
ِّ َير اختي اغ ا له ان قبوله ديلها إذا ك لتع
تعمر ط ويالً في س ورية ألنه ا ك انت دون اس تعداد البيئ ة ال روحي .والمس يحيةُ
اليهودية الشبه متمدنة لم تق در أن ِّ
العيش.
الفرد تتميز فيها عن مجرد الشكل اإلنس اني الع ام .ب ل إن االتص ال بحي اة بع د الم وت أو االنتق ال إليه ا ابت دأ يج ُد
ادات ِ
دفن س بيالً إلى نفس اإلنس ان ح ال ارتقائ ه النفس ي عن ح دود الحيوانيَّة وذل ك بواس طة ش عور ت ُّ
دل علي ه ع ُ ّ
األولي ة .وال دين ،في أساس ه وبع د ارتقائ ه ،ه و عقي دة معرف ة مص در اإلنس ان
الم وتى في الش عوب والم دنيات َّ
ومع اده ومص ير الف رد األخ ير .فه و ،من ه ذه الناحي ة ،ال يك ِّو ُن نظ رة إلى الحي اة والك ون ب المعنى االجتم اعي ـ
االقتص ادي ـ ال روحي ،ولكن ه ي ؤثُّر أو يس اعد على إب راز ه ذه النظ رة ال تي يك ون منش أها الحقيقي في االس تعداد
بك ل تأكي د إن ال دين ،حين يص بح عقي دة أساس ية تش مل المب دأ والمع اد ،يص ُير مح ور جمي ع األفك ار الرامي ة إلى
93
ة. دة الديني ق العقي ق تحقي رة طري ذه النظ ير ه ا تص اة كم ع إلى الحي المجتم
عند هذا الحد من التعليل ن رى وج وب تقري ر ه ذه الحقيق ة :إن ال دين ،من الوجه ة التاريخي ة االجتماعي ة ،مس بب
دة. وخ العقي د رس عية بع ة الوض بباً من الوجه ير س ه يص بب .ولكن ال س
جمي ع األدي ان في ال دنيا تخض ع له ذه القواع د ال تي اس تخرجناها من ال درس والتأم ل ،ف إذا كن ا نبحث ال دين
اإلس المي المس يحي عليه ا فال ُب َّد من بحث ال دين اإلس المي المحم دي أيض اً بالطريق ة ال تي تعيِّنه ا.
قلن ا في م ا س بق إن أغ راض ال دين اإلس المي األخ يرة ال تي تجم ع ك ل فك رة ال دين ثالث ة هي:
ُّ
وتجنب الش ر3 .ـ تقري ُر خل ود النفس رض عم ل الخ ير ِ 1ـ إحال ُل االعتقاد باهلل الواحد َّ
محل عبادة األص نام2 .ـ ف ُ
وقلن ا أيض اً إن ه ذه األغ راض هي أس اس دع وة محم د وص لبها ،وإ َّن م ا تبقى ه و األم ور الش كلية ال تي تتّخ ذ
وسائل لبلوغ هذه األغراض ،وهي أيضاً جوهرية ،ولكن أهميته ا نس بية من الوجه ة الديني ة البحت .وعنين ا به ذا
اإليضاح أن األغراض الديني ة البحت هي ال تي ال تش تمل في ح د ذاته ا على النظ رة إلى الحي اة والك ون ب المعنى
االجتماعي ـ االقتصادي ـ الروحي ،بل تقتصر على تعيين المبدأ والمعاد في ما وراء المادة أو بعد الم وت وقب ل
ال والدة .وبن اء على ه ذا التحلي ل تك ون حقيق ة ال دين في الغرض ين األول والث الث ،أم ا الغ رض الث اني فه و ال ذي
يح ُّل مس ألة الفائ دة أو الض رورة الرتب اط العقائ د المج اوزة ح دود الم َّ
ادة بالحي اة اإلنس انية في مختل ف أش كالها
وظروفها ،وفيه تظهر النظرة إلى الحياة والكون بالمعنى االجتماعي ـ االقتص ادي ـ ال روحي في تع يين األش كال
94
تقر دائم للنفس
واألل وان ال تي قلن ا إنه ا جوهري ة ،م ع نس بية أهميته ا لغاي ة ال دين األخ يرة ال تي هي إيج اد مس ّ
اإلنس انية في اهلل .وق د جعلن ا الغ رض الث اني في ص لب أغ راض ال دين من حيث لزوم ه لك ّل فك رة فلس فية في
ون. اة والك رة إلى الحي ة ال تعيِّن نظ ة مطلق حال
وق د بيَّن ا في م ا تق دم من ه ذا البحث َّأنه ال خالف بين المس يحية والمحمدي ة في حقيق ة ال دين أو على األغ راض
الديني ة البحت .وأثبتن ا ،بالش واهد الكث يرة ،أن الق رآن نفس ه يق ُّر أن ال دين واح ٌد في المس يحية والمحمدي ة ،فال
حي أو جم اد ،وب العودة في األخ ير إلى خالف بينهما في اإلقرار بإله واحد خالق السموات واألرض ِّ
وكل كائن ٍّ
م ع ذل ك فق د ك َّونت ك ٌّل من ه اتين المل تين نظ رة إلى الحي اة والك ون ق امت عليه ا قواع د اجتماعي ة ـ اقتص ادية ـ
روحي ة مس تقلة عن نظ رة المل ة األخ رى وقواع دها .وه ذا التب اين أو االختالف ليس ناتج اً عن تب ُاين أو اختالف
ه ذا التب اين في التفاص يل واألش كال ال تي ال أهمي ة كب يرة له ا بالنس بة إلى اهلل والفك رة الديني ة األساس ية وال تي
يصير لها كل األهمية بالنسبة إلى المجتمع واستعداده ال روحي ونظرت ه إلى الحي اة والك ون .فمن الوجه ة الديني ة
كلي غ ير ج وهري ،ألن ك َّل مجتم ع قص د إقام ة الخ ير وإ فن اء الش ر .ومن الوجه ة االجتماعي ة
االختالف ش ٌّ
جوهري أساسي ألنه يقوم على تعري ف الخ ير والش ر وتحدي دهما وط رق إبق اء الواح د وإ زال ة اآلخ ر،
ٌّ االختالف
وعلى ه ذه الط رق يتوق ف مق دار ص الح الحي اة اإلنس انية االجتماعي ة قب ل االنتق ال إلى الحي اة الس رمدية.
95
ق بين خير الواحد وخير اآلخر وبين شر الواحد وشر اآلخ ر ،ألن اهلل، وشر ٍّ
كل منهما ،من غير تفري ٍ ومسيحي َّ
ّ
حس ب فلس فة العقي دة الديني ة ،ال يهتم باألش كال ،ب ل باألس اس ،ه ذا إذا حس بنا اهلل واح داً لجمي ع األدي ان اإللهي ة.
السوري قد ال يك ون خ َير الع ربي شر هو اإلنسان وليس اهلل .فخير ُ َّ ولكن الذي ال يقب ُل َّ
ِّ يرفض كل ّ كل خير وال
وري خ ير
ربي ق د ال يك ون خ َير األلم اني واإلنقل يزي .ولكن ق د يك ون خ ير الس ِّ
أو خ َير الهن دي ،وخ ُير الع ِّ
خير العربي خ َير الس لجوقي واألفغ اني والمغ ولي وغ يرهم.
اإلقريكي واإللماني واإلنقليزي وغيرهم ،وقد يكون ُ
ُّ
وتجنب ه التنجس دي في ص الته وب ِّره ووض وئه
حس ب تط ور اإلنس انية وحاجاته ا .واهلل يقب ل خ ير المس لم المحم ِّ
بلمس النس اء قب ل الص الة وبغس ل الوج ه والي دين إلى الم رفقين ومس ح ال رأس وال رجلين والتقيُّد بالش رع الث ابت
الجام د وب التزوج مث نى وثالث ورب اع م ع الع دل بين النس اء وتحجيبهن من أج ل الخ ير .ك ُّل خ ير يقبل ه اهلل
حيث الم اء قلي ٌل ،ال ُيس مح باالس تحمام ك َّل ي وم،
خيره ا :ففي الص حراءُ ، ِّ
بص رف النظ ر عن ش كله ،ولك ل بيئ ة ُ
ويك ون الوض وء وغس ل الوج ه والي دين إلى الم رفقين ومس ح ال رجلين من الخ ير .وفي المعم ور واألرض
الخص بة حيث الص ابون والم اء غزي ر يص ُّح اس تعماله بك ثرة فاالس تحمام ك َّل ي وم أو م رتين في األس بوع م ع
إلى اهلل .ومن كان في الصحراء عازماً على الصالة ولمس امرأة بع د الوض وء فث ارت ش هوته فص الته في ه ذه
شعوره قد زاغ .ومنعاً لهذا الضرر يتوجب على كل من لمس امرأة بعد وضوئه للصالة أن
َ تفيده ألن
الحالة ال ُ
96
يعي د وض وءه من قبي ل االحتي اط لس المة ش عوره ،وه ذا من الخ ير .ولكي نفهم نفس ية لع ربي ال تي أوجبت ه ذا
االحتي اط ُن ورد م ا ذك ره قت ادة ،وه و" :ك ان الرج ل يعتك ف فيخ رج إلى امرأت ه فيباش رها ثم يرج ع" وفي ذل ك
روهن وأنتم ع اكفون في المس اجد ،تل ك ح دود اهلل فال تقربوه ا} (البق رة)187 :
ّ اس تنزل محم د الق ول {وال تباش
فهذه حالة استعداد روحي ال تطيق قول المسيح "إن ك ل من نظ ر إلى ام رأة لكي يش تهيها فق د زنى به ا في قلب ه"
(متى 5 :ـ )28فإن هذا التعليم المسيحي ال يمكنه أن يالقي قبوالً في بيئة كالعربة ،ألنه يطلب من أهلها ما هو
ي درك أو لم ي درك الخ ير كل ه .ف الخير لإلنس ان ه و م ا تع َّوده وت ربَّى علي ه وتك ّونت من ه نظرت ه إلى الحي اة.
وعدم الخت ان للب دوي المحم دي أو اليه ودي ال ذي ك ان ب دوياً ليس من
ُ المسيحي ليس من الخير،
ّ فالختان للمتمدن
ُ
الخ ير .وجمي ع ذل ك من األم ور المالزم ة لفلس فة الحي اة وليس لعقي دة ال دين ،أي لإليم ان باهلل الخ الق ال ذي إلي ه
دين في مجتم ع مخ ٍ
الف في االجتم اع والثقاف ة الروحي ة للمجتم ع ال ذي ترج ع النف وس واألم ور .وحيثم ا انتش ر ٌ
خ رج من ه ال دين ال ب َّد أن يط رأ على النظ رة إلى الحي اة ال تي ِ
يحملُه ا ه ذا ال دين تع دي ٌل أو تغي ٌير يواف ق اس تعداد ُ
المجتم ع ال روحي .والمحمدي ة ق د م رت في ه ذا االختب ار ،فحيث انتش رت في بيئ ات راقي ة في التم دن كس ورية
َّ
المركب ات. أخذت نظرتُها إلى الحي اة تتخ ذ ش كالً غ َير الش كل المع روف في الص حراء ،ف ارتقت من البس ائط إلى
الوهابي ة .والمس يحية حين دخلت الص حراء اتخ ذت أش كاالً بس يطة على ق ْدر اس تعداد البيئ ة فص ارت
العربي ةّ :
رموز والدة المسيح عبارةً عن زواج بسيط جرى بين اهلل ومريم .حتى إنه قام دلي ل على
ُ ب خمر وصارت
شر َ
ْ
أن بعض االعتق ادات المس يحية في العرب ة ق الت بتثليث اآلله ة بالفع ل فق الوا" :األب واألم واالبن" ،والم رجح أن
القرآن أبطل ه ذا التثليث ال ذي جع ل اآلله ة ثالث ة .ودليلُن ا ق و ُل اآلي ة {وإ ذ ق ال اهلل ي ا عيس ى ابن م ريم أأنت قلت
وأمي إلهين من دون اهلل الخ} (المائدة )116 :وهذا يدل على االعتقاد بألوهي ة م ريم أيض اً وه ذا
للناس اتّخذوني ّ
ّ
97
م ا ال يق ول ب ه أح د من المس يحيين المتم دنين .أم ا النظ رة إلى الحي اة ال تي تحمله ا تع اليم المس يحية فلم يمكن
ادم في اإلس الم بين المس يحية والمحمدي ة ه ذه هي النظ رة ال تي جعلتن ا نج زم ب أن ال دين كلَّه للّ ه ب دون ِّ
أي تص ُ
وبانتش ار ك ٍّل من ه ذين الم ذهبين في البيئ ات األك ثر موافق ة وقب والً لتعاليم ه .ولكن الص عوبة لقب ول ه ذا المب دأ
ديني ي َّدعي أن ه ه و ال دين كلُّه لجمي ع البش ر ،اس تناداً تنشأ من االعتقاد بكلية المذهب الدينيُّ .
فكل ٍ
دين أو م ذهب ّ
يتحول وا
حصر هذه الصعوبة في رج ال ال دين ،أم ا أبن اء المجتم ع فيجب أن َّ
ُ إلى كلية فكرة اهلل .ومع ذلك فيمكن
عن الج دل العقيم إلى فهم نفس ية مجتمعهم والعم ل على إس عاده ،ت اركين الحكم في االختالف ات الديني ة للّ ه.
أم ا وق د اتض ح لن ا جي داً م ا ه و الف رق بين اإلمك ان ال ديني في أساس ه والنظ رة الفلس فية إلى الحي اة والك ون ال تي
تك ون وس يلة تحقي ق ال دين فيمكنن ا أن نتق دم اآلن إلى درس موض وع المحمدي ة كدول ة.
قلن ا ،في م ا تق دم ،إن دع وة محم د ك انت إلى اهلل ال ذي عرفت ه الكتب الديني ة ال تي س بقت الق رآن (الت وراة
واإلنجيل) ،وذلك ألن معظم العرب كانوا عبدة أصنام وفي حالة توحش شديد ،إذ لم تتمكن المس يحية من جلبهم
اليهودي ة من
ّ إلى اهلل بواس طة نظرته ا إلى الحي اة وقاع دتها الفلس فية المخالف ة الس تعداد أه ل العرب ة ،ولم تتم ّكن
رائيل. ني إس اً على ب تي جعلت اهلل وقف ية ال ا الخصوص ل نظرته ك بعام ذل
المعرف في التوراة واإلنجيل ،بل إلى إل ه المس يحية واليهودي ة أيض اً.
َّ لم تكن دعوة محمد إلى إله جديد غير اهلل
ولكن ه خط أ ت أويالت مس يحيِّي الع رب في س وء فهمهم والدة المس يح تثليث األق انيم ال تي هي إلل ه واح د .وم ا
98
أثبتن اه من اآلي القرآني ة يكفي للبره ان على أن دع وة محم د حس بت اهلل واح داً وال دين واح داً من ذ الب دء ،وأن
من قبل القرآن .ومع كل ما ورد في القسم المدني من إقامة أسباب دولة اإلسالم المحم دي ف إن الق رآن لم يبط ل
يحي ،ففي س ورة "المائ دة" ال تي ورد فيه ا الح ديث" :المائ دة من آخ ر الق رآن
ودي وال اإلس الم المس َّ
اإلس الم اليه َّ
نزوالً فأحلوا حاللها وحرموا حرامها" لم ينقض القرآن قيمة التوراة واإلنجيل فق ال{ :وكي ف يح ّكمون ك (اليه ود)
ور
وعن دهم التّ وراة فيه ا حكم اهلل ثم يتولّ ون من بع د ذل ك وم ا أولئ ك ب المؤمنينّ .إن ا أنزلن ا التّ وراة فيه ا ه ًدى ون ٌ
الن ّبيون الّذين أس لموا للّ ذين ه ادوا الخ . . .ومن لم يحكم بم ا أن زل اهلل (الت وراة) فأولئ ك هم الظَّالمون}
يحكم بها ّ
(المائ دة 43 :و 44و )45وق ال أيض اً من الس ورة عينه ا {وليحكم أه ل اإلنجي ل بم ا أن زل اهلل في ه ومن لم يحكم
بم ا أن زل اهلل (اإلنجي ل) فأولئ ك هم الفاس قون} (المائ دة )47 :فثبَّت الق رآن ،م رة أخ رى ،ص حة ك ون الت وراة
مرجع اً لليه ود وص حة ك ون اإلنجي ل مرجع اً للمس يحيين ،وأك د قول ه الس ابق "وهم (أه ل الكت اب) على ص التهم
يح افظون" أي ّإن ه ال حاج ة بهم لتغي ير دينهم م ع اإليم ان ب القرآن ،إذ ال دين واح د وأم ة أص حاب الكتب المنزل ة
هي في القرآن "أم ة واح دة" في األص ل واألس اس ،ولكنهم ص اروا أمم اً بم ا ش رع اهلل لك ل فري ق منهم{ :وأنزلن ا
بالحق مص ّدقاً لم ا بين يدي ه من الكت اب (الت وراة واإلنجي ل) ومهيمن اً علي ه ف احكم بينهم بم ا أن زل اهلل
ّ إليك الكتاب
منكم يع ني لك ل فري ق منكم جعلن ا) ش رعة ومنهاج اً ول و ش اء اهلل لجعلكم أم ة واح دة ولكن ليبل وكم في م ا آت اكم
99
أو المس يحيين في ن زاع على ادع اء ص حة الرس الة أو نقض التع اليم .وم ا عنين اه من ب دء الرس الة ه و أساس ها
رحه. اش بق لن اس ير كم ها األخ وغرض
وإ ذا تدبَّرنا القرآن سورة سورة حسب تعاقب االستنزال وجدنا َّ
أن السور تعاقبت في التسبيح هلل وقدرت ه وتبش ير
ال ذين ال كت اب لهم بملكوت ه وثواب ه وإ ن ذار المك ذبين والمبطلين بعقاب ه .وأخ ذ يثبت دعوت ه ب الوحي ال ذي اش تمل
على قص ص م ا ورد في الت وراة واإلنجي ل .فق اوم دعوت ه عب دة األوث ان ،وه زأوا من قول ه إن األم وات يقوم ون
على صحة رس الته ب الكتب الس ابقة ،كم ا أثبتن ا في موض ع متق دم ،وأعطى الع رب ص ورة الجن ة ونعيمه ا المالئم
للنفس ية العربي ة .ولكن كرازت ه الطويل ة لم تثم ر س وى نف ر قلي ل من ذوي النف وس الش عرية .فاض طهدته ق ريش
الكرة وتابع الكرازة دون كبير توفيق ،فالكلمة لم تالق آذان اً
فهرب وصحابته الذين التجأوا إلى الحبشة .ثم أعاد َّ
ص اغية ،خصوص اً ألن ال دعوة لم تش تمل على س وى م ا يص يب النفس بع د الم وت ،فلم ُيع ط ذل ك للع رب ش يئاً
تشتغل به عقولهم ونفوسهم جملة في حياتهم ،ألنه لم يكن لهم اس تعداد لالش تغال بم ا وراء الطبيع ة وهم في أش د
الحاجة لالشتغال بما ضمن الطبيعة ،وألن طبيعة بيئتهم ونوع حياتهم كانا دون المستوى الذي يس مح باالش تغال
بالمسائل الروحية والفكرية المجردة عن الطبيعة المادي ة والض رورات العملي ة .وم ع أن تص وير الجن ة ك ان بم ا
العربي ة لم تكن مس تعدة لالنص راف إلى التفك ير بغ ير الش ؤون البس يطة القريب ة المتن اول .وق د بقي محم د يبش ر
وينذر في مكة مدة ثالث عشرة سنة ،أي عشر سنين زي ادة على م دة تعليم المس يح ،دون أن يتبع ه غ ير األف راد
كو نوا حلق صحابته .فوقعت الرسالة في مأزق كان ال بد من فتح منفذ فيه إذا كان يجب أن تت ابع عمله ا.
الذين ّ
100
في المدة المكية كانت الدعوة وأغراض ها ق د تمت ووض حت ف إذا هي دع وةٌ إلى االعتق اد باهلل الواح د وب الرجعى
اإليم ان باهلل (والكف ر ب ه) .وفي ع دم التع يين لم ا ه و الخ ير وم ا ه و الش ر في مج رى الحي اة اإلنس انية لم يكن
للدعوة نظرة إلى الحياة والكون بالمعنى االجتماعي ـ االقتصادي ـ ال روحي ،وه ذا ك ان نقط ة ض عف ال دعوة في
النظ رة م ا يمكن أن يك ون بع د الم وت .فك ان يجب أن يك ون للرس الة غ رض واض ٌح في الحي اة يج د محالًّ في
نف وس الم دعوين إليه ا .وه ذا الغ رض ه و بالنس بة إلى النظ رة الديني ة البحت ال تي ت دور على مس ائل م ا بع د
ثنوي وواس طةٌ فق ط إلى الغ رض األخ ير .وه ذا المب دأ يش مل المحمدي ة والمس يحية وك َّل دين
ٌّ غرض
ٌ الموت ،هو
إلهي قال بخلود النفس واالنتقال إلى اآلخرة ،ولذلك أجاب المسيح ع الم الن اموس ق ائالً :اعم ل ف رائض الن اموس
رائض المحمدي ة فإنه ا ليس ت س وى واس طة التق ُّرب إلى اهلل واكتس اب رض اه لين ال
ُ فتحيا الحياة األبدي ة .وهك ذا ف
َّ
ولكن النظ رة االجتماعي ة ـ االقتص ادية ـ الروحي ة هي ،من المحم دي الخل ود في الجن ة الموص وفة في الق رآن.
التي تهتم بما قبل الموت وباستمرار الحياة في هذه الدنيا ،ليس الدين سوى الغ رض الثن وي أو الواس طة لتحقي ق
الغرض األولي األساسي ،الذي ه و ،أو م ا يجب أن يك ون ،حص و ُل نظ رة إلى الحي اة االجتماعي ة ـ االقتص ادية ـ
ِّن شرعة أو قاع دة يك ون فيه ا أك ثر الخ ير والص الح للمجتم ع بمع نى الواق ع االجتم اعي ال ذي أش رنا
الروحية تعي ُ
ولم ا لم يكن محم د فيلس وفاً اجتماعي اً ،ب ل نبي اً إلهي اً ،ف إن نظرت ه هي النظ رة الدينيَّة ،وغرض ه األخ ير ه و إقام ة
الدين .وكل نظرة أخرى يجب أن تكون مجرد نظرة ثنوية أو واسطة إلقام ة ال دين والوص ول إلى خل ود الجن ة.
101
وبن اء علي ه نق ول بتأكي د َّ
إن حقيق ة ال دين وأس اس ال دعوة المحمدي ة ه و م ا اش تمل علي ه الطّ ور المكي ال ذي ه و
الط ور ال روحي الم َّنزه عن ش ؤون الع الم ال دنيوي ،المتج هُ نح و مق ِّر النفس األخ ير في م ا وراء الم ادة ،وإ ن
االتج اه ال دنيوي ال ذي س لكه الط ور الم دني ليس س وى الواس طة أو الطريق ة للقض اء على عب ادة األص نام وإ قام ة
ة. دة المكي ل في الم ذي اكتم ير ال ديني األخ رض ال ام الغ ة إلتم رة الديني الفك
قلن ا إن بع د ثالث عش رة س نة من ال دعوة إلى اهلل من غ ير نج اح في الجماع ات والجم اهير وص لت الرس الة إلى
م أزق لم يع د ممكن اً له ا التق دم في ه بواس طة مج رد التبش ير واإلن ذار ،وص ار من الالزم اتخ اذ خط ة أخ رى .وال
على خط وط النفس ية العربي ة والتفك ير الع ربي ال تي ن رى ،عن د التحقي ق ،أنه ا ت وازي خط وط النفس ية العبراني ة
والتفك ير الع براني قب ل أن أثَّرت المدني ة الس ورية على العبران يين تأثيره ا الكب ير ول ذلك نج د م وازاة تك اد تك ون
تام ة بين خط ة إقام ة ال دين المحمدي ة وخط ة إقام ة ال دين في اليهودي ة ،وعالق ة وثيق ة بين الق رآن والت وراة وق د
في العهد المكي ك ان الخ ير والص الح كلُّه في اإليم ان باهلل ،والش ُّر والطالح كل ه في الكف ر باهلل وعب ادة األص نام
ت وازي "أك رم أب اك وأم ك" في الت وراة ،وكقول ه في س ورة "المطفّفين"{ :وي ٌل للمطفّفين .ال ذين إذا اكت الوا على
الن اس يس توفون .وإ ذا ك الوهم أو وزن وهم يخس رون} (المطففين 1 :و 2و )3وفي م ا س وى ذل ك وم ا ش ابهه ال
ّ
تعيين لخير أو شر غير اإليمان باهلل أو الشرك به .وهذه الفكرة األولي ة وح دها م ا ك انت كافي ة إلنش اء مل ة ذات
102
إيم ان جدي د من عب دة أص نام .ولع ل خل َّو القس م المكي من تع يين الخ ير والش ر ونظ رة إلى الحي اة والع الم ك ان
اعتم اداً على أن ذل ك موج ود في الكتب المتقدم ة ـ في الت وراة واإلنجي ل الل ذين أوجب الق رآن على المحم ديين
اإليم ان بم ا ج اء فيهم ا .وجمي ع س ور ه ذا القس م ت دل على أن القض اء على عب ادة األص نام وجلب الع رب إلى
عبادة اهلل التي تقدمت محمداً رس ٌل بال دعوة إليه ا وتبي ان س بلها كان ا الغاي ة القص وى من ال دعوة المحمدي ة ،فليس
في القسم المكي غاية غيرها ،ال كلية وال جزئية .وسور القس م المكي 85أو 86س ورة ن زلت في ثالث عش رة
لم تُ َك ِّون فك رة فلس فية تش مل الحي اة اإلنس انية بمناقبه ا ومثالبه ا وروحيته ا وماديته ا واجتماعياته ا واقتص ادياتها
ومثُله ا العلي ا .فك ان ال ب د من إح دى الطريق تين :إم ا أن ُيعلن محم د أن ه ذه الفك رة الفلس فية موج ودة في الت وراة
أو اإلنجي ل أو في كليهم ا فتك ون دعوت ه بمثاب ة دع وة إلى ه ذين الكت ابين ،وإ م ا أن يوج د الفك رة أو النظ رة ال تي
تكون للعرب قضيتهم الروحية ـ االجتماعية ـ .فاختار محم د الطريق ة األخ يرة ،ألن ه َك ِرهَ تذب ُذب اليه ود
يمكن أن ّ
ونفاقهم ،ولم يجد استعداداً في العرب للنظرة المس يحية ال تي ك انت مض طَّربة عن د مس يحييهم .والحقيق ة أن ه ك ان
ال ب د من االس تقالل بتع يين طريق ة الحي اة الجدي دة للع رب نظ راً لخص ائص ب يئتهم .ومن ج زم محم د بالطريق ة
الثانية نشأ الطور المدني الذي أخرج الدعوة من ملل تك رار تراتي ل التس بيح والتبش ير واإلن ذار والحم د والحض
والتهويل ،إلى الشرع وإ قام ة ح دود المع امالت والعق ود ال تي ترف ع مس توى الحي اة العربي ة وتض بطها .ولم ا ك ان
الع رب كلّهم ،إالّ بعض هم ،أم يين وبعي دين عن الثقاف ة والعلم ،ك ان ال ب د من إقام ة الدول ة إلخض اعهم للش رع
تصرفاتهم.
وضبط ّ
103
ابت دأ الط ور الث اني ،األخ ُير لل دعوة المحمدي ة ،بهج رة محم د والص حابة
المثلى
ربي في الحي اة ُ
المحمدي ة اتجاهه ا الجدي د ال ذي أوج د الم ذهب الع َّ
اء ف أخرج ب ه الثّم رات رزق اً لكم فال تجعل وا هلل أن داداً وأنتم
السماء م ً
من ّ
الص الحات
وبش ر الّ ذين آمن وا وعمل وا ّ
تعلم ون (البق رة 21 :وّ . . .)22
وهم فيه ا خال دون} (البق رة .)25 :ه ذه اآلي ات مث ٌل من أول س ورة
{ي ا
دد كث ير في المدين ةَ :
يظهر حاالً بمخاطبة يهود العرب ال ذين منهم ع ٌ
104
بعهدكم وإ ّياي فارهبون .وآمنوا بما أن زلت مص ّدقاً لم ا معكم وال تكون وا
ّأول كافر به وال تشتروا بآياتي ثمناً قليالً وإ ّي اي ف اتّقون} (البق رة 40 :و
)41وتتابع السور مخاطبة بني إسرائيل ،مذكرة إي اهم بفض ل اهلل عليهم
والفرق ان" على موس ى ،وكي ف اعت نى اهلل بهم في التي ه وظللهم بالغم ام
كف روا وعب دوا العج ل ،وع اد اهلل فت اب عليهم ،وأش ياء غ ير ذل ك من
قص ص اليه ود .ثم تقط ع الس ورة ه ذه القص ص لتض ع ه ذه اآلي ة:
هم يحزن ون} (البق رة .)62 :فيس تأنف القص ص بع دها .ثم ت ذكر الس ورة
المسيحيين والمحمديين أيضاً ،كما ورد بعد في سورة التوب ة وأثبتن اه في
ٍ
بحث سابق .وتأتي آية أخرى تنذر الذين استغلوا أمية المؤمنين بالتوراة
ثم
ورووا الكت اب على ه واهم {فوي ٌل للّ ذين يكتب ون الكت اب بأي ديهم ّ
يقولون هذا من عند اهلل ليشتروا به ثمناً قليالً فوي ٌل لهم مما كتبت أي ديهم
105
بالرس ل
ت أتي ه ذه اآلي ات{ :ولق د آتين ا موس ى الكت اب وقفّين ا من بع ده ّ
رسو ٌل بما ال تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً ك ّذبتم وفريقاً تقتل ون .وق الوا
كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعن ة اهلل على الك افرين} (البق رة:
رفض اإليم ان ب القرآن .وتت ابع الس ورة مجادل ة "أه ل الكت اب" في ص حة
ال دعوة المحمدي ة ووج وب اإليم ان به ا ،وأن ه ليس ص حيحاً أن اإليم ان
واسحق ويعق وب واألس باط وم ا أوتي موس ى وعيس ى وم ا أوتي الن ّبيون
ربهم ال ُنف ِّرق بين أح ٍد منهم ونحن ل ه مس لمون .ف إن آمن وا بمث ل م ا
من ّ
السميع العليم} (البقرة 136 :و ،)137وهي نتيجةٌ كليةٌ تجعل ك ل إيم ان
ّ
باهلل حق اً فال يك ون ال دين وقف اً على م ذهب دون م ذهب ،وهي نظ رة
106
الس ابقة{ :لك ٍّل جعلن ا منكم ش رعةً ومنهاج اً . . .إلى اهلل م رجعكم
جميع اً} .فالنتيج ة الفكري ة كامل ة تام ة ال يرفض ها إالّ المتعنت ون من
محم ديين ومس يحيين وغ يرهم .ولكن ،بك ِّل أس ف نق ول ،إن كث يراً من
المجته دين والمفس رين المحم ديين ال ي ؤدون واجب األمان ة له ذه النتيج ة
ثم ت أتي في ه ذه الس ورة مس ألة تغي ير القبل ة ،إذ ك ان محم د يتج ه في
ص الته إلى أورش ليم ،فلم ا وج د إع راض اليه ود عن دعوت ه ورفض هم
اآلي ة {وق الوا كون وا ه وداً أو نص ارى تهت دوا ق ل ب ل ملّ ة إب راهيم حنيف اً
وما كان من المشركين} (البق رة ،)135 :ع دل عن قبل ة أورش ليم وجع ل
مك ة قبلت ه الجدي دة واس تنزل في ذل ك اآلي ات ،وفي ه عام ل سياس ي كب ير
من استرض اء ق ريش ،س ادني الكعب ة ،كم ا في ه اتج اه لتوس يع االس تقالل
والمس يحية .وبع د تخلص من ه ذه الفك رة الجدي دة تنتق ل الس ورة إلى
الوثني ة .وأول آي ة في ه ذا الب اب قول ه{ :وال تقول وا لمن يقت ل في س بيل
107
اء ولكن ال تش عرون} (البق رة )154 :ثم يتل و ه ذه
وات ب ل أحي ٌ
اهلل أم ٌ
لوات
أص ابتهم مص يبةٌ ق الوا ّإن ا هلل وإ ّن ا إلي ه راجع ون .أولئ ك عليهم ص ٌ
ربهم ورحم ةٌ وأولئ ك هم المهت دون} البق رة 155 :و 156و.)157
من ّ
مم ا في األرض
الن اس كل وا ّ
ثم يجيء التمهي د للش رع بقول ه{ :ي ا ّأيه ا ّ
)168وك انت "خط وات الش يطان" ش يئاً غ ير واض ح فج اءت آي ة أخ رى
{إنم ا ي أمركم بالس وء والفحش اء وأن تقول وا على اهلل م ا ال تعلم ون}
ّ
أو الفحشاء ،إال أن يكون الكفر باهلل فقط ،كما بينا س ابقاً .ولكن األم ر ال
يطول حتى يأتي التشريع .والسورة تدخل فيه هكذا{ :يا ّأيها الّذين آمنوا
طيب ات م ا رزقن ا ْكم واش كروا اهلل إن كنتم ّإي اه تعب دونّ .إنم ا
كل وا من ّ
حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أه ّل به لغير اهلل فمن اضطّر
ّ
)173فك ان ذل ك ّأول الش رع الض ابط للتص رف .وه و ليس ش ديداً ،إذ
في ه ص مام يزي ل الض غط الش ديد في مس ألة المآك ل وه و قول ه{ :فمن
باغ وال ٍ
عاد فال إثم علي ه} .ويق ف التش ريع في آي ة التّح ريم اضطر غير ٍ
ّ
108
الم ذكور .فتنتق ل الس ورة إلى إن ذار ال ذين {يكتم ون م ا أن زل اهلل من
الكت اب} (البق رة .)174 :فت أتي آي ة تش به التعليم المس يحي والوص ايا
ولكن
ّ الموس وية {ليس ال ّبر أن تولّ وا وج وهكم قب ل المش رق والمغ رب،
ال ّبر من آمن باهلل والي وم اآلخ ر والمالئك ة والكت اب والن ّبيين وآتى الم ال
وأولئ ك هم المتّق ون} (البق رة )177 :فال تنتهي ه ذه اآلي ة ح تى يع ود
التش ريع على خط ط الت وراة {ي ا ّأيه ا الّ ذين آمن وا كتب عليكم القص اص
تش ريع في حق وق التملّ ك{ :كتب عليكم إذا حض ر أح دكم الم وت ،إن
ت رك خ يراً ،الوص ّية للوال دين واألق ربين ب المعروف حق اً على المتّقين}
(البق رة ،)180 :وه ذا التش ريع ن اقص كث يراً فتترك ه الس ورة عن د نقص ه
لتتن اول أم راً آخ ر ه و فريض ة الص يام{ :ي ا ّأيه ا ال ذين آمن وا كتب عليكم
الص يام كم ا كتب على الّ ذين من قبلكم لعلّكم تتّق ون} (البق رة)183 :
ّ
وبع د آي ات ت بين كيفي ة الص يام ومواقيت ه وجع ل األهل ة مقي اس ال وقت
والحس اب تنتق ل الس ورة إلى إعالن الح رب والتح ريض على القت ال
واألم ر ب ه بص ورة واض حة{ :وق اتلوا في س بيل اهلل ال ذين يق اتلونكم وال
109
يحب المعت دين} (البق رة )190 :وتقف و ه ذه اآلي ة آي ات
إن اهلل ال ّ
تعت دوا ّ
بع د التح ريض على القت ال تع ود الس ورة إلى الش رع فت بين واجب ات
وغ ير ذل ك .ثم ت أتي ع ودة إلى القت ال وتوكي ده{ :كتب عليكم القت ال وه و
تحب وا ش يئاً
ك رهٌ لكم وعس ى أن تكره وا ش يئاً وه و خ ٌير لكم وعس ى أن ّ
وه و ش ٌر لكم واهلل يعلم وأنت ال تعلم ون} (البق رة )216 :فجع ل القت ال
فريض ة ش رعاً .ثم بع د ف رض القت ال ع ودة إلى الش رع الم دني فيح ّرم
ؤمن
مش ركة ول و أعجبتكم وال تنكح وا المش ركين حتّى يؤمن وا ولعب ٌد م ٌ
الجن ة الخ} (البق رة )221 :وتتل و ذل ك آي ات المع امالت والعق ود في
ّ
ال زواج والطالق ،وق د أثبتن ا بعض ها في م ا س بق ،ثم ع ودة إلى
في س بيل اهلل ق ال ه ل عس يتم إن كتب عليكم القت ال أالّ تق اتلوا ق الوا وم ا
110
فلم ا كتب
لن ا أالّ نقات ل في س بيل اهلل وق د أخرجن ا من ديارن ا وأبنائن ا ّ
وتعقبها حكاية تمليك شاول وقتال داود وجلي ات ليق وى إيم ان المحم ديين
البين ات ولكن
ولو شاء اهلل ما اقتت ل الّ ذين من بع دهم من بع د م ا ج اءتهم ّ
ولكن اهلل
ّ اختلف وا فمنهم من آمن ومنهم من كف ر ول و ش اء اهلل م ا اقتتل وا
يفع ل م ا يري د} (البق رة )253 :وه و مس تند لم ا س يجيء من تفض يل
الرش د
ت أتي ،بع د م ا تق دم وص ايا ،ثم اآلي ة{ :ال إك راه في ال ّدين ق د ت ّبين ّ
في أش كال قريب ة من الوج ه العملي ،ثم تش ريع في تحلي ل ال بيع وتح ريم
الرب ا .ويتع اقب الحث والتش ريع في المع امالت والعق ود وش روطها.
111
كل آمن باهلل ومالئكته وكتب ه ورس له ال نف ّرق بين أح ٍد من رس له وق الوا
ٌّ
االتج اه ه و :اس تخراج النظ رة العربي ة (الص حراوية) إلى الحي اة
إيج اد ه ذه النظ رة أوج دت العص بية الديني ة ض د الال دين يين أو الال
إلهيين.
112
الحض ارة الس ورية ال تي أوش كت أن تهض مهم تمام اً ،ح تى أن الس ريانية
ص ارت ،في أواخ ر عه دهم ،اللغ ة الغالب ة على لس انهم .وه ذه
الض رورات والخص ائص ال تُْب ِط ل الم وازاة التام ة تقريب اً في الخط وط
الكبرى للنظرة إلى الحياة .فالوضوء ،مثالً ،قد حدد االغتسال نظراً لقل ة
الماء في العربة ،بينما الت وراة أطلقت ه جري اً على قاع دة التم دن الس وري
.)16 عيا :1 وا" (أش لوا تنقّ "اغتس
قلنا في ما سبق إن العه د الم دني ك ان الخط وة الفاص لة إلخ راج الرس الة
المحمدية من المأزق ال ذي وقعت في هَّ ،
وبينا أن القص د من آيات ه المؤلفّ ة
النص ال دولي ه و إقام ة ال دين واستئص ال الوثني ة وليس محارب ة أه ل
َّ
"األدي ان" غ ير المحمدي ة ح تى يتخلَّوا عن إس المهم ويتبع وا اإلس الم
المحم دي .وكم ا أن أول س ورة مكي ة دلَّت على غ رض الرس الة ال َّ
ديني
الس ور المدني ة على
وأساس ها ،ك ذلك دلت س ورة "البق رة" ال تي هي أولى ُّ
الغ رض ال ّدولي .ف أول أم ر بالقت ال ك ان قول ه{ :وق اتلوا في س بيل اهلل
فخص القتال بالذين يق اومون
َّ الذين يقاتلونكم وال تعتدوا} (البقرة)190 :
الدين بالقوة ويق اتلون أتباع ه .فال دعوة إلى القت ال ،في أساس ها وغرض ها
األخ ير ،لم تكن في ص لب ال دعوة الديني ة إلى اهلل ،إذ خال منه ا العه د
المكي خل ّواً تام اً ،وليس ت في العه د الم دني مطلق ة من ك ل قي د وش رط
وعام ة لمحارب ة المس لمين غ ير المحم ديين أيض اً ،ب ل مقي دة بش رط أن
تكون ضد الذين يقاتلون المؤمنين ويريدون أن يطفئوا نور اهلل ب أفواههم
ة. ة الوثني دوا ظلم ليم
ذكور في القس م المكي أيض اً .فنق ول: ٌ وق د يق ول قائ ل إن الجه اد م
صحيح ،ولكنه هن اك ذو مع نى روحي فق ط ،فالقص د من ه الجه اد لإلقن اع
افرين وجاه دهم ب ه
َ والس الح الكلم ة وليس الس يف كقول ه {فال تُ ِط ِع الك
ان.)52 : ورة الفرق يراً} (س اداً كب رآن) جه (الق
113
ولما كان األمر بالقتال هو إلقامة الدين وليس لنقضه فإن من الكف ر باهلل
إن آيات القت ال الس تعالء المل ة المحمدي ة أو
والهدم للدين الصحيح القول ّ
ل دفع الش ر عنه ا ق د نس خت آي ات ال دين وحلت محله ا ،فالقت ال ف رض
إلقام ة آي ات ال دين ،ال لمج رد القت ال أو ِّ
لحب القت ل ،ول ذلك ق الت اآلي ة:
رة.)190 : دين} (البق إن اهلل ال ُي ُّ
حب المعت دوا ّ {وال تعت
أما اآليات التي قلنا إنها تقفو أول آية أمرت بالقتال فهي هذه{ :واقتلوهم
حيث ثقفتم وهم وأخرج وهم من حيث أخرج وكم والفتن ة أش ّد من القت ل
وال تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم في ه ف إن ق اتلوكم ف اقتلوهم
رحيم .وقاتلوهم حتّى ال
ٌ غفور
ٌ فإن اهلل
كذلك جزاء الكافرين .فإن انتهوا ّ
تك ون فتن ة ويك ون ال ّدين هلل ف إن انته وا فال ع دوان إالّ على الظّ المين}
(البقرة 191 :و 192و .)193وهذه اآليات توضح جي داً أن القت ال ك ان
دفاعي اً ،وليس هجومي اً ،وض رورة قض ت به ا ع داوة المش ركين .وقول ه:
"ال ذين يق اتلونكم" يع ني أع داء ال دين ال ذين يقص دون إبطال ه ومقاتل ة
اً. ال رأس روا القت و لم يباش تى ول نين ح المؤم
ذل ك ألن ع داوتهم واض طهادهم المؤم نين ثابت ان .وق د جع ل الق رآن
االض طهاد أعظم من القت ل" :الفتن ة أعظم من القت ل" .والفتن ة هن ا بمع نى
المحن ة ،ك اإلخراج من ل وطن .ول ذلك ق ال{ :وأخرج وهم من حيث
أخرجوكم} .وأيد غرض القتال الذي أوضحناه بقول ه{ :وق اتلوهم حتّى ال
114
الدين هلل} أي إلزال ة االض طهاد ومن ع الع داوة المؤذي ة
تكون فتنة ويكون ّ
وإلقام ة دين اهلل والقض اء على عب ادة األوث ان .فم تى ص ار ال دين هلل لم
تب ق حاج ة إلى القت ال ال ديني وص ار يجب الع ودة إلى الفك رة الديني ة
الن اس ،أنتم الفق راء إلى اهلل
الصافية الموضحة في القسم المكي{ :يا ّأيها ّ
الغني الحميد} (فاطر{ )15 :تل ك ال ّدار اآلخ رة نجعله ا للّ ذين ال
ّ واهلل هو
يري دون عل ّواً في األرض وال فس اداً والعاقب ة للمتّقين} (القص ص)83 :
فهن ا ال دين .أم ا القت ال فليس ال دين ،ب ل ض رورة إلقام ة ال دين أوجبته ا
ة. ة البيئ حال
وتأيي د الق رآن ه ذه النظ رة ه و تأيي ٌد ج ازم متك رر .فق ال{ :ال إك راه في
الغي فمن يكف ر بالطّ اغوت وي ؤمن باهلل الخ}
الرش د من ّ ال ّدين ق د ت ّبين ّ
إن القص د من القت ال ليس اإلك راه ب ل دف ع الفتن ة
(البق رة )256 :أي ّ
الش هر
والع دوان .ول ذلك ففي آي ة فريض ة القت ال ه ذه{ :يس ألونك عن ّ
الح رام قت ال في ه ق ل قت ال في ه كب ير وص ّد عن س بيل اهلل وكف ر ب ه
والمسجد الح رام وإ خ راج أهل ه من ه أك بر عن د اهلل والفتن ة أك بر من القت ل
ردوكم عن دينكم إن اس تطاعوا ومن يرت ّد
وال يزال ون يق اتلونكم حتّى ي ّ
منكم عن دين ه فيمت وه و ك افر فأولئ ك حبطت أعم الهم في ال ّدنيا
الن ار هم فيه ا خال دون} (البق رة .)217 :فه و
واآلخ رة وأولئ ك أص حاب ّ
يدل على مقدار استحكام العداوة حتى ضاق محمد ذرعاً بكثرة اضطهاد
المش ركين لدعوت ه وأتباع ه وإ مع انهم في الفتن ة فاس تنزل ه ذه اآلي ة ليج د
اومتهم
مخرجاً للضيق الذي وقع فيه اتباعه .ولوال ك ثرة ظلم ق ريش ومق ُ
الكلمة باالضطهاد لم ا ك ان ال وحي اس توجب االلتج اء إلى ه ذه المعامل ة،
فاآلي ة مربوط ة بحال ة معين ة يبقى حكمه ا فيه ا .وج اء في س ورة
"الممتحن ة" ال تي ت أتي بع د "البق رة" بثالث س ور وهي الرابع ة{ :ال ينه اكم
تبروهم
الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن ّ اهلل عن الّذين لم يقاتلوكم في ّ
يحب المقس طين ّإنم ا ينه اكم اهلل عن الّ ذين ق اتلوكم
إن اهلل ّ
وتقسطوا إليهم ّ
في ال ّدين وأخرج وكم من دي اركم وظ اهروا على إخ راجكم أن تولّ وهم
115
ومن يت ولّهم فأولئ ك هم الظّ المون} (الممتحن ة 8 :و )9ومع نى ه اتين
اآليتين أن اهلل ال ينهى المؤمنين عن مساواة ال ذين لم يق اتلوهم وينح ازوا
إلى مق اتليهم ،فه ؤالء يمكن ح تى ت وليتهم وتق ديمهم وإ ن ك انوا مش ركين
(وثن يين) .وق د أوض حت هات ان اآليت ان المقص ود من المقاتل ة والع داء
ير. دين" ال غ ل في ال د من "يقات اض فهم
اقتض ت الع داوة الموج دة الح رب الس ير بالمل ة على قاع دة العص بية
الديني ة وجم ع كلم ة المؤم نين في نظ ام دول ة .ف اهتمت الرس الة بش ؤون
الح رب والس لم وتوزي ع الغن ائم .وه ذا األم ر األخ ير ك ان من األهمي ة
بمح ل خط ير ،ألن طلب الغن ائم ك ان من أهم قواع د قي ام الدول ة في بيئ ة
فق يرة ج داً ،والخالف على قس متها ق د يس تفحل وي ؤدي إلى تف ّرق كلم ة
األتب اع ،كم ا اختل ف المحم ديون في واقع ة ب در على الغن ائم كي ف تقس م
ومن يقس مها .فك ان االهتم ام به ذه الناحي ة أول م ا عرض ت ل ه س ورة
"األنف ال" وهي الثاني ة من العه د الم دني وفي ه ذه الس ورة ش رع تخميس
الغن ائم .وك ان من ض رورات إقام ة الدول ة إيج اد مب دأ الطاع ة للس لطة
العلي ا ال تي ال تق وم دول ة إالّ به ا ،فج اء األم ر بالطاع ة في "األنف ال" {ي ا
ّأيه ا الّ ذين آمن وا أطيع وا اهلل ورس وله وال تولّ وا عن ه وأنتم تس معون}
(األنف ال )20 :وأيض اً {ي ا ّأيه ا الّ ذين آمن وا اس تجيبوا هلل وللرس ول إذا
دعاكم لما يح ييكم الخ} (األنف ال )24 :وج اء النهي عن الخيان ة{ :ي ا ّأيه ا
والرس ول وتخون وا أمان اتكم وأنتم تعلم ون}
الّ ذين آمن وا ال تخون وا اهلل ّ
ال.)27 : (األنف
وتع ود الرس الة في ه ذه الس ورة إلى ش أن القت ال ،فتؤك د م رة أخ رى
تخصيص ه بالكف ار ال ذين ال يؤمن ون باهلل{ :ق ل للّ ذين كف روا أن ينته وا
يغف ر لهم م ا ق د س لف وإ ن يع ودوا فق د مض ت س ّنة األولين .وق اتلوهم
إن اهلل بم ا يعمل ون
حتّى ال تك ون فتن ةٌ ويك ون ال ّدين كلّ ه هلل ف إن انته وا ف ّ
ال 28 :و.)29 ير} (األنف بص
116
أخ رج النهج الم دني ال دولي الرس الة المحمدي ة من مأزقه ا ،فأخ ذ
ؤمنهم على حصص هم من األس الب والكس ب
المؤمن ون يش عرون نظ ام ي ِّ
بع د أن ك ان ذل ك خاض عاً لألث رة والق وة ،وش رع يزي ل مع اثرهم ويح ّدد
معامالتهم .فأخذت ش وكة الدول ة تق وى بالمغ ازي والغن ائم ،وبق ّوة ش وكة
الدول ة أخ ذ ال دين يتح رر من االض طهاد .ثم أخ ذت الدول ة تع تز ب دينها
ونظرته ا إلى الحي اة ال تي فتحت أمامه ا طري ق التق دم العملي .والحقيق ة
أن فاعلي ة الدول ة ك انت أق وى من فاعلي ة ال دين نفس ه ،ب ل ص ارت آي ات
الدول ة عن د الع رب في مق ام ال دين ،ولم يق دروا أن يفهم وه إالّ به ا،
فاهت دت الرس الة إلى منهاجه ا العملي في بيئته ا فس ارت علي ه بخط وات
أكي دة .وبتق ُّدمها لم يع د يج د ال وحي حاج ة للت ودد إلى "أه ل الكت اب"
الع رب والتس اهل معهم فص ارت لهج ة س لطة الدول ة تح ُّل روي داً روي داً
مح َّل لهج ة من ال س ند ل ه غ ير عقيدت ه ،فك ثر التح ريض على القت ال،
وخ رجت الرس الة إلى طلب إعالء اإلس الم المحم دي على األدي ان
ق ليظه ره على ال ّدين
جميعها {هو الّ ذي أرس ل رس وله باله دى ودين الح ّ
كلّ ه ول و ك ره المش ركون} (الص ف )9 :وه ذه اآلي ة مك ّررة في "الفتح"
وفي "التوب ة" .ولكن ه ذا الق ول لم يبط ل ص حة اإلس الم المس يحي ،كم ا
بين ا في م ا س بق ،إذ وردت بع د س ورتي الص ف والفتح س ورة المائ دة
ال تي أثبتت وج وب اعتب ار الت وراة واإلنجي ل ص حيحين ألهلهم ا؛ ونظ راً
ل ورود ه ذه اآلي ات في كت اب واح د فاالرتب اط بينهم ا وثي ق وال يمكن
اعتماد مبدأ النسخ إلبطال اآليات المتعلقة بصحة التوراة واإلنجي ل ،ف إن
ه ذا المب دأ ينقلب ض د ه ذا االس تنتاج ويجع ل حكم آي تي الص ف والفتح
منس وخاً بحكم آي ات المائ دة ،ألنهم ا بع دهما .أم ا س ورة التوب ة فمختل ف
فيه ا وي رجح إلحاقه ا بس ورة األنف ال.وه ذه الس ورة عينه ا ،التوب ة ،تؤك د
ص حة الت وراة واإلنجي ل ب العودة إلى االس تناد إليهم ا م ع الق رآن بق ول
الجن ة
أن لهم ّ {إن اهلل اش ترى من المؤم نين أنفس هم وأم والهم ب ّ اآلي ةّ :
يق اتلون في س بيل اهلل فيقتل ون ويقتل ون وع داً علي ه حقّ اً في الت وراة
117
واإلنجي ل والق رآن ومن أوفى بعه ده من اهلل الخ} (التوب ة )111 :وه و
يثبت أن ما أعلن ه اهلل في الت وراة واإلنجي ل ث ابت عن ده .وق د أظهرن ا في
حلق ة س ابقة فس اد مب دأ النس خ ،ألن ه يع ّرض كالم اهلل كلّ ه واإليم ان كلّ ه
للش ك ،فال يعلم الم ؤمن ،على وج ه التحقي ق ،م ا ه و ث ابت من كالم اهلل
وم ا ه و غ ير ث ابت .وإ ذا ك ان اهلل يق ول ق والً غ ير أكي د وال ث ابت فلم اذا
يقوله .ولماذا قال{ :أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فم ا ج زاء
ردون إلى
زي في الحي اة ال ّدنيا وي وم القيام ة ُي ّ
من يفع ل ذل ك منكم إالّ خ ٌ
رة.)85 : ذاب الخ} (البق ِّد الع أش
118
فاإلس الم ليس مختص اً بالمحم ديين ،ب ل ُيطل ق على اليه ود والمس يحيين
كذلك ،ألنه ،حسب رواية القرآن نفسه ،ابت دأ ب إبراهيم ،وال يمكن ه ؤالء
المع ّوجين لإليم ان أن يثبت وا ادع اءهم الباط ل إالّ ب إعالن الكف ر ببعض
الق رآن نفس ه .فليقول وا ق والً ص ريحاً أي قس م من الق رآن يجب أن يكف ر
ب ه المؤمن ون وينب ذوه ظهري اً نق ل لهم حينئ ذ في أي ض الل يعمه ون.
إالّ أن غ رض الحي اة ال دنيا بغيتهم ،ي راؤون في ال دين ،وال دين بعي د عن
ا. ة وهم يطلبونه و يمنعهم من الفتن وبهم .وه قل
119
منهم م ا ك انوا يح ذرون} (القص ص 3 :ـ { )6ولق د كتبن ا في َّ
الزب ور من
الص الحون} (األنبي اء )105 :وق ال
أن األرض يرثه ا عب ادي ّ بع د ال ّذكر ّ
تخلفنهم في
الص الحات ليس ّ ك ذلك{ :وع د اهلل ال ذين آمن وا منكم وعمل وا ّ
نن لهم دينهم الّ ذي ارتض ى
األرض كم ا اس تخلف الّ ذين من قبلهم وليم ّك ّ
لهم وليب ّد ّلنهم من بع د خ وفهم أمن اً يعب دونني ال يش ركون بي ش يئاً ومن
أي وع د يجب كف ر بع د ذل ك فأولئ ك هم الفاس قون} (الن ور )55 :فب ّ
التمس ك؟ ف إذا ك ان الوع د األخ ير ه و للمس لمين المحم ديين فق ط فم ا هي
قيم ة م ا ورد في الت وراة وفي س ورة القص ص؟ ه ل وع د اهلل ب ني
إس رائيل بالباط ل؟ ف إذا ك ان األم ر هك ذا أفال يجب أن يك ون الوع د
يع ُد ويخل ف م رةً َي ِع ُد
األخ ير من ن وع الوع د األول ،ألن اهلل ال ذي ِ
ويخل ف م رةً أخ رى .وال ذي ن راه أن ه ذا الوع د يتعل ق ب أرض الجن ة،
الجنة زمراً حتّى إذا جاؤوه ا
ربهم إلى ّوالدليل قوله{ :وسيق الذين اتّقوا ّ
الم عليكم طبتم فادخلوه ا خال دين.
وفتحت أبوابه ا وق ال لهم خزنته ا س ٌ
الجن ة
وق الوا الحم د هلل الّ ذي ص دقنا وع ده وأورثن ا األرض نتب ّوأ من ّ
حيث نش اء فنعم أج ر الع املين} (الزم ر 73 :و )74ف األرض في القس م
الديني َّ
المنزه عن األغراض الدنيوية ،هي الجنة ال غيره ا .وأه ل ال دين
الصحيح هم الذين يرثون الجنة ال األرض الدنيا ألن هذه ليس ت غ رض
ال دين .وأم ا قول ه {وأورثكم أرض هم ودي ارهم وأم والهم وأرض اً لم
ٍ
شيء قديراً} (األحزاب )37 :فهو من شؤون تطأوها وكان اهلل على ك ّل
الدول ة والح رب م ع المش ركين وه و ش بيه بخط ط اليه ود "يط رد ال رب
جمي ع ه ؤالء الش عوب من أم امكم ف ترثون ش عوباً أك بر وأعظم منكم"
(تثني ة 11ـ .)43وه ا ق د م رت آالف الس نين على وع د اهلل إب راهيم
ويعق وب وموس ى ،وه ا األل ف الث اني ي زول على وع د اهلل لمحم د ولم
يتحق ق من ه ذين الوع دين س وى م ا ك ان ض رورياً إلقام ة الدول ة الديني ة
ض من نط اق بيئته ا .واليه ود م ا يزال ون يتش بثون بوع د اهلل لهم بتمليكهم
األرض كله ا ،والط امعون في التمل ك باس م ال دين من المس لمين
ؤول عن دهم ليحرض وا المؤم نين
المحم ديين ي زدادون تش بثاً بوع د اهلل الم َّ
120
على تأيي دهم في طلب المل ك وإ ق امتهم في الحكم .ول و ش اء اهلل إيف اء
وع ده على م ا يش تهي المتش بثون لك ان فع ل من ذ زم ان في أول عه د
اإليمان الصافي المملوء حمية ،في زمن فتوة الدعوة ،حين ك ان اإليم ان
قوي اً ح ّاراً .وه و أجمل ه وأفض له .والحقيق ة أن اهلل ق د ب ّر بوع ده
جدي داًّ ،
وأعطى المحم ديين م ا قس م لهم فن الوا نظام اً وش رائع ومرتزق اً ونص راً
على عبدة األص نام فورث وا أرض هم ودي ارهم ،وتم ال دين {إذا ج اء نص ر
رب ك
الن اس ي دخلون في دين اهلل أفواج اً فس ّبح بحم د ّ
اهلل والفتح ورأيت ّ
تواب اً} (النص ر 1 :و 2و .)3فق د ج اء النص ر على
واس تغفره ّإن ه ك ان ّ
فتم
أه ل الش رك ودخل وا في دين اهلل وب ادت عب ادة األص نام من العرب ة ّ
العه د الم دني ،وأص بح من الالزم الع ودة إلى إقام ة ال دين بالتس بيح
واالس تغفار اللّ ذين كان ا األص ل والغاي ة من ال دعوة .فم ا ج اء في س ورة
الص الحات
"الن ور" وه و قول ه{ :وع د اهلل الّ ذين آمن وا منكم وعمل وا ّ
نن لهم دينهم
تخلفنهم في األرض كم ا اس تخلف الّ ذين من قبلهم وليم ّك ّ
ليس ّ
أمن ا يعب دونني وال يش ركون
الّ ذي ارتض ى لهم وليب ّد ّلنهم من بع د خ وفهم ً
بي شيئاً ومن كفر بع د ذل ك فأولئ ك هم الفاس قون} ق د حص ل بتمام ه ،فق د
اس تخلف اهلل المحم ديين في أرض الوثن يين وورث وهم وج اء نص ر اهلل
والفتح ولم يبق بعد ذلك غير عبادة اهلل واتقائه حق اتقائ ه{ :الي وم أكملت
دين ا} (المائ دة:
لكم دينكم وأتممت عليكم نعم تي ورض يت لكم اإلس الم ً
.)3والذين يبغون وراء ذلك هم الذين يري دون إخض اع ال دين لش هواتهم
الدنيوية ويرفضون أن يخضعوا ألوامر الدين وتعاليمه العلوية.
الصفحة التالية
رأين ا ،في م ا تق َّدم ،أن القص د من إقام ة الدول ة اإلس المية المحمدي ة ه و إقام ة ال دين
121
اإللهي في أرض كان أهلها ما يزال ون في ض الل م بين عن اهلل وكلمت ه ،فالدول ة أنش ئت
لغرض الدين ،وليس الدين هو الذي أنش ئ لغ رض الدول ة .وه ذه القاع دة هي أس اس ك ل
ة. اع والسياس ة في االجتم رة ديني فك
وال يمكن أن يك ون العكس إالّ به دم الفك رة الديني ة األساس ية وإ بط ال ال دين .فاس تخدام
ال دين الدول ة معن اه أن ال دين واس طة ال غاي ة .والواس طة ت زول ،أم ا الغاي ة فتبقى .ف إذا
ك ان ال دين واس طة فق د أص بح زائالً بع د إقام ة الدول ة ،أو على األق ل ،أص بح آل ة ثنوي ة.
وإ ذا ك ان األم ر ك ذلك وجب أن ننظ ر إلى االجتم اع كأس اس .وبن اء علي ه ال يع ود من
الممكن االحتج اج باآلي ات الديني ة لتس يير المجتم ع ،ألن ه ذه اآلي ات تك ون ق د فق دت
ص فتها الديني ة .وأق ّل نتيج ة له ذه الطريق ة التفكيري ة هي القض اء على ال دين .ولم ا ك ان
قص د رس الة محم د ال دين وليس السياس ة أو فلس فة االجتم اع ال تي ت رتقي ب العلوم
بد من التسليم بأن الدولة هي الواسطة للدين الذي هو الغاي ة ،وأن قيمته ا االجتماعية فال ّ
ال يمكن أن تكون ،من الوجه ة الديني ة ،أك ثر من قيم ة واس طة .وبن اء علي ه تك ون الدول ة
وي القاب ل ال زوال عن دما ال تبقى حاج ة إلي ه ،ش أن ك ل آل ة أو واس طة ّأدت
الش يء الثن ّ
الغ رض من وجوده ا .وفي مت احف الع الم اآللي ة ق اطرات بخاري ة وم راكب من ك ل
أدت خ دمتها ولم تع د ص الحة لالس تخدام لوج ود آالت حديث ة أحس ن منه ا.
ص نف ق د ّ
وك ذلك في مت احف الع الم االجتماعي ة دول كث يرة معروض ة ل درس تط ّور االجتم اع
اإلنس اني ،ولم تع د تص لح لغ ير ذل ك ،ومن جملته ا الدول ة الديني ة ال تي ّأدت غرض ها من
زمان وأصبح يوجد أحسن منها اآلن لخدمة المجتمع اإلنساني ،فلم تبق حاجة إليها لغ ير
اريخ. ة الت درس ومعرف ال
الدول ة الديني ة المحمدي ة ك ان غرض ها الوص ول إلى إب ادة عب ادة األص نام في العرب ة
وإ قامة دين اهلل ،وقد حققت هذا الغرض فب ادت عب ادة األص نام ودخ ل الن اس في دين اهلل
أفواج اً .واإلس الم المحم دي ه و الي وم دين يعتنق ه ماليين الن اس ،وال خط ر علي ه من
احن ال ديني،
ص ناديد ق ريش أو غ يرهم .واإلنس انية تس ير الي وم على غ ير طري ق التط ُ
ومعظم الن اس ،وك ل المتم دنين ،يح ترمون ويتعلم ون اح ترام عقائ د بعض هم البعض
المتعلقة بالنفس والخلود واهلل .والمسلم المحمدي يقدر أن يمارس دين ه في أي قط ر ن زل
122
النبي والصحابة لم ا ك ان هنال ك س بب
فيه وإ ن يكن غير محمدي .ولوال اضطهاد قريش ّ
للهجرة إلى المدينة واستغالل ميل أهلها إلى منافسة قريش إلنشاء دولة محمدي ة تح ارب
قريش اً وتخض عهم .فلم ا ّثبتت الدول ة ال دين تم غرض ها ،وأص بح على الن اس االهتم ام
بش ؤون دينهم الجوهري ة ال تي هي عب ادة اهلل والس ُير حس ب وص اياه ،فال قت ال م ع ال ذين
ال يقاتلون المؤم نين ،وال إخ راج لمن ال يري د إخ راجهم من دي ارهم باس م ال دين أو لغاي ة
ورى.)10 : ه إلى اهلل} (الش يء فحكم ه من ش ا اختلفتم في ة{ :وم ديني
123
المحمديين بالصولة عليها ،بل يصولون على ك ل بالد أمكنهم إخض اعها ،مس يحية ك انت
أو محمدي ة أو بوذي ة أو برهماني ة أو غ ير ذل ك .إنهم ال يق اتلون في ال دين.
دبرون ال دين ينقض ون ال دين بتس خيره للدول ة ،غ ير مهتمين إال
إن ه ؤالء ال ذين ال يت ّ
تم .ثم يحتج ون بال دين إلقام ة
معين ق د ّ
بالنص وص الدولي ة ال تي ُوج دت لغ رض ّ
أي أن ينتح ر ،بينم ا همسفس طتهم ،فك أنهم يري دون من ال دين أن ي وافقهم على إبطال هّ ،
ي ّدعون أن في قت ل ال دين إحي اء ال دين .إنهم م ا يفت أون ي رددون مث ل ه ذه اآلي ة تردي د
{إن
الببغ اوات{ :ومن يبت غ غ ير اإلس الم دين اً فلن يقب ل من ه} (آل عم ران )85 :واآلي ة ّ
الدين عند اهلل اإلس الم} (آل عم ران )19 :واآلي ة {ه و الّ ذي أرس ل رس وله باله دى ودين
الدين كلّه} (الفتح .)28 :وقد رأينا ،في ما تقدم من هذه الحلق ات ،أن الحق ليظهره على ّ
ّ
اإلسالم ليس مختص اً بالمحم ديين ،ب ل ش امالً أه ل الكت اب من أي ام إب راهيم ،فالموس ويون
مس لمون ،والمس يحيون مس لمون للّ ه ،والمحم ديون مس لمون للّ ه .أم ا قول ه{ :ه و الّ ذي
واب على
ق ليظه ره على ال ّدين كلّ ه} (الفتح )28 :فج ٌ أرس ل رس وله باله دى ودين الح ّ
الذين قالوا أنه كذاب ،وتقوية لروح أتباعه وإ ن كان فيه متابعة إلنجي ل برناب ا ال ذي ك ان
في المس يحية أش به بمس يلمة في المحمدي ة ،فق ال أن يس وع ليس المس يح ،ووض عه من
المس يح ال ذي س يأتي بع د ،على رأي ه ،في مق ام يوحن ا المعم دان من المس يح ،وق ال أن
المسيح الذي يأتي بعد يسوع ُي دعى بم ا يص ّح أن ُي ترجم بمحم د ،وإ ن ه يك ون ف وق جمي ع
الرسل .وفي كل حال ال ينقض هذا الق ول أن اهلل أن زل الت وراة واإلنجي ل وقول ه{ :ق ل ي ا
ربكم}أه ل الكت اب لس تم على ش يء حتّى تقيم وا التّ وراة واإلنجي ل وم ا أن زل إليكم من ّ
والنصارى من آمن باهلل
والصابئون ّ
ّ {إن الّذين آمنوا والذين هادوا
(المائدة )68 :وقولهّ :
والي وم اآلخ ر (أس لم) وعم ل ص الحاً فال خ وف عليهم وال هم يحزن ون} (المائ دة)69 :
آمن ا
وقوله{ :وال تجادلوا أه ل الكت اب إالّ ب الّتي هي أحس ن إالّ الّ ذين ظلم وا منهم وقول وا ّ
بالّ ذي أن زل إلين ا وأن زل إليكم وإ لهن ا وإ لهكم واح ٌد ونحن ل ه مس لمون} (العنكب وت)46 :
وه ذه اآلي ة األخ يرة هي من أواخ ر العه د المكي ،أي بع د نح و ثالث عش رة س نة من
بأن اإلسالم هو إلله واح د :للمحم ديين والمس يحيين ،فك ل
نص صريح ّ االستنزال ،وفيها ٌّ
من آمن ب ه فه و مس لم س واء أك ان مس يحياً أو محم دياً .أم ا أن اهلل وع د بأن ه ي ورث
فمختص في هذه الدنيا بأرض الوثنيين ،وفي ما س وى ذل ك فالمقص ود
ٌّ المؤمنين األرض
124
ب ه الجن ة بع د الم وت{ :وق الوا الحم د هلل الّ ذي ص دقنا وع ده وأورثن ا األرض نتب وأ من
الجن ة حيث نش اء} (الزم ر )74 :ف األرض هي أرض الجن ة ،وتأوي ل الوع د خالف اً له ذا
ّ
اد للمؤم نين عن طلب رض ى اهلل الف لغ رض ال دين وإ بع ٌ
النص الص ريح إنم ا ه و مخ ٌ
بإقام ة ج وهر ال دين ال ذي ه و ش يء روحي مرتف ع عن القت ال وه وس الحزبي ات المع ّك ر
اني أه ل الكت اب ،من
انيكم وال بأم ّ
على المؤم نين س كينتهم وإ س المهم ل ربهم {ليس بأم ّ
الص الحات
ولياً وال نصيراً .ومن يعمل من ّ
يعمل سوءاً ُيجز به وال يجد له من دون اهلل ّ
الجن ة وال يظلم ون نق يراً} (النس اء 133 :و
مؤمن فأولئك يدخلون ّ ٌ من ذكر أو أنثى وهو
،)134ف دخول الجن ة ،في التعليم ال ديني ،وليس لل ذين يطلب ون قت ال من ال يق اتلون في
الدين بناء على تأويل فاسد كالذي وج دناه في "الع روة ال وثقى" ،وه و ال ذي يجع ل الديان ة
اإلس المية ديان ة فتن ة واض طهاد وح رب ب القول إن أساس ها وض ع على طلب الغلب ة
ومنازع ة ك ل ذي ش وكة في ش وكته ،وه و ق و ٌل فاس د ،باط ل .فالديان ة اإلس المية وض ع
أساس ها على عب ادة اهلل واتقائ ه واس تباق الخ يرات .أم ا الح رب فق د فرض ت لرف ع
االض طهاد ودف ع الفتن ة وليس إللق اء االض طهاد وإ ث ارة الفتن ة .ه ذا ه و التأوي ل الص حيح
لق وم يعقل ون وال يري دون إبط ال ال دين وتض حيته على م ذبح السياس ة والدول ة أو تفكي ك
وح دة ال دين ال تي ال تق وم ببعض آي ات دون بعض .ولكن إذا ك انت الدول ة غ ايتهم
القص وى فلم اذا ي راؤون في ال دين ويتظ اهرون ب الرجوع إلى ال دين وكت اب اهلل؟ إنهم
بادع اء ّأنهم يري دون إقام ة دين اهلل .إال أن دين اهلل ق ائم ،واهلل في غ نى
يموهون غاي اتهم ّ
ّ
عن مقاصدهم .فبعد فتح مكة وإ بادة عبادة األصنام أصبح دين اهلل قائم اً .وق د قلن ا إن ه ال
خالف دينياً بين اإلسالم المسيحي واإلسالم المحمدي إال في صفة يس وع وص فة محم د،
فالمسيحيون يعتقدون أن يسوع هو المخلص وأنه كلمة اهلل وروحه وأنه اهلل المتجسد في
اإلنسان ،ولذلك هو أس مى من هب ط من المح ل األرف ع ،والمحم ديون يعتق دون أن محم داً
ه و رس ول اهلل المق ّدم على جمي ع الرس ل ومن ض منهم يس وع ،وأن ب ه الخالص ،وه ذا
معنى قولهم" :خاتم النبيين" .وهذا االعتقاد التقليدي ُم ٍ
جار لما ورد في إنجيل برنابا الذي
ُيع ّد مص دراً له ذا االعتق اد .فبرناب ا يق ول إن يس وع ليس المس يح (مس يا) ،وإ ن ه ذا
الموع ود س يأتي في م ا بع د .ق ال برناب ا" :أج اب يس وع :ال تض طرب قل وبكم وال تخ افوا
ألني لست أنا الذي خلقكم ،بل اهلل الذي خلقكم يحميكم ،أما من خصوصي فإني ق د أتيت
تغش وا ألن ه
ألهيئ الطري ق لرس ول اهلل ال ذي س يأتي بخالص الع الم ،ولكن اح ذروا أن ّ
ّ
125
س يأتي أنبي اء كذب ة يأخ ذون كالمي وينجس ون إنجيلي .حينئ ذ ق ال ان دراوس :ي ا معلم،
اذك ر لن ا عالم ة لنعرف ه ،أج اب يس وع" :إن ه ال ي أتي في زمنكم ،ب ل ي أتي بع دكم بع دة
سنين حينما يبطل إنجيلي وال يكاد يوجد ثالث ون مؤمن اً في ذل ك ال وقت ،ي رحم اهلل الع الم
فيرس ل رس وله ال ذي تس تقر على رأس ه غمام ة بيض اء يعرف ه أح د مخت اري اهلل وه و
يظهره للعالم" (برنابا 8 :72ـ )14وجاء كذلك أنه عندما خاطب المسيح السامرية ق ال
لها بعد أن سألته ":لعلك أنت مس ياً أيه ا الس يد ،أج اب يس وع :إني حق اً أرس لت إلى بيت
بي خالص ،ولكن س يأتي بع دي مس يا المرس ل من اهلل لك ّل الع الم ال ذي ألجل ه
إس رائيل ن ّ
خلق اللّه العالم( ".برنابا 15 :82و 16و.)17
(مالحظ ة :عن دما ذكرن ا برناب ا وإ نجيل ه ألول م رة في ه ذا البحث لم تكن ل دينا نس خة من ه لنطالعه ا
فاكتفينا بذكر ما كنا قد الحظناه من قب ل من ق راءة بض ع ص فحات من آخ ره .أم ا اآلن فق د ص ارت
نس خة من اإلنجي ل الم ذكور بين أي دينا فطالعناه ا ووج دنا فيه ا مس تندات ومراج ع كث يرة ت دل على
ارتب اط وثي ق للتقالي د المحمدي ة به ا .وس نعود إلى تفص يل ذل ك في محل ه حين مراجع ة ه ذا البحث
لتنقيحه).
بناء على ما تقدم وعلى االستناد إلى رواية برنابا إلقامة اعتقادات محمدية كثيرة يكون
الخالف منحصراً في هل يسوع هو المسيح الذي به الخالص أو هو محمد .وهذه
قضية ال يمكن أن ُيب َّ
ت بها إنسان بالحجة والمنطق والبراهين ،فهي مسألة اعتقاد ال
مسألة تقرير أمر تاريخي ،والحكم فيها يجب أن يترك للّه كما ورد في القرآن ،فهو
وحده يقدر أن ينبئ المختلفين ما هم فيه يختلفون .ولكن يظهر أن تالمذة المدرسة
الرجعية ال يريدون أن يتركوا للّه شيئاً حتى وال قوة الحكم ،فهم يريدون إبطال الحشر
ألنهم يريدون أن يحاسبوا المؤمنين من مسيحيين ومحمديين على كيفية إسالمهم .ومتى
فعلوا ذلك فماذا يبقى للّه يوم الدينونة؟ وما الفائدة من حشر النفوس؟ وما هي القيمة
المنذرة الناس بعقاب اهلل؟
التي تبقى لآليات ُ
إن دعوة أساتذة "الجنسية الدينية" إلى إعادة دولة الدين المحمدي قد باءت بالخيبة كما
باءت بالخيبة دعوة دولة الدين المسيحي .فقد دعا صاحبا "العروة الوثقى" العلماء
(علماء الدين) لفعل الخير الذي هو في عرفهما الخير كله وهو" :جمع كلمة المسلمين".
غرنكم الوساوس وال
"التعصب"" :هذه هي روابطكم الدينية ال تُ ّ
ّ وناديا ،في مقالة
126
تدهشنكم زخارف الباطل .ارفعوا غطاء الوهم عن باصرةّ تستهوينكم الترهات وال
ّ
الفهم واعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي
بالعربي والفارسي بالهندي والمصري بالمغربي"! (العروة الوثقى ص .)112فلم يكن
أعظم من وهم هذه الرابطة الدينية في معترك حياة األمم ،ولم يكن غرور أسوأ ُ وهم
ٌ
مصيراً من هذا الغرور .فهل اجتمع التركي بالعربي والفارسي بالهندي والمصري
بالمغربي؟ كالَّ ،ذلك ألن الروابط الجغرافية والساللية واالجتماعية واالقتصادية كانت
أقوى من الرابطة الدينية في جميع األديان على السواء .وحين كانت الخالفة العثمانية
غير تسخير الشعوب اإلسالمية األخرىقائمة ولم يكن للرابطة الدينية من غرض ُ
لخدمة مصلحة تركية فقط؛ ولذلك انتقضت األقطار العربية على تركية محالفة أمماً
مسيحية ضدها .وفي حين كانت الرابطة الدينية وسيلة لبسط النفوذ التركي كانت في
تكون من
الوقت عينه عبئاً على السلطنة العثمانية التي رزحت تحته إذ لم تستطع أن ِّ
الجماعات اإلسالمية شعوراً واحداً وفكراً واحداً في المسائل السياسية واالقتصادية
يكذب قول صاحبي "العروة الوثقى" وهو" :لهذا االنترنسيونية ،فكان ذلك برهاناً قاطعاً ِّ
ترى العربي ال ينفر من سلطة التركي ،والفارسي يقبل سيادة العربي ،والهندي ُيذعن
لرئاسة ألفغاني".
الرابطة الدينية لها قيمة فعلية في الشؤون الدينية البحت فقط ،أما في شؤون الحياة
وتقدم األمم ،فالرابطة القومية ،كما هي مشروحة في كتابي
االجتماعية االقتصادية ّ
"نشوء األمم" ،هي الرابطة الوحيدة التي تكفل حرية األمم وحقوقها ،وتجهزها بجميع
وسائل الفالح .وحيث تخيب الرابطة القومية ال يمكن أن تصيب الرابطة الدينية ،ألن
الرابطة الدينية تهمل الجغرافية والتاريخ والساللة واالجتماع واالقتصاد والنفسية
االجتماعية ،أي جميع العوامل التي توجد الواقع االجتماعي وتتكفل بحفظه.
حبط مشروع الجنسية الدينية والوحدة اإلسالمية المحمدية حبوطاً تاماً ،ألنه مشروعٌ
خارج عن الشؤون الدينية البحت وداخ ٌل في مسائل ال يصلح الدين لحلها ألنها ليست
ٌ
مسائل دينية ،فلم يمكن التوفيق بين مطامح السوري ومثله العليا ومطامح التركي ومثله
العليا ،ولم يمكن توحيد عقليات الجماعات اإلسالمية المحمدية من هندية وعربية
127
وفارسية وتركية وغيرها ،وال توحيد شعورها وحاجاتها ومشاريعها ،فكان ال بد من
حبوط فكرة العصبية الدينية والدولة الدينية .وال نقول إن فكرة الدولة الدينية ال يمكن
أن تقوم في اإلسالم المحمدي فقط ،بل في اإلسالم المسيحي أيضاً وفي كل دين على
اإلطالق.
بعد حبوط دعوة مدرسة الدولة الدينية والجنسية الدينية إلى "جمع كلمة المسلمين"
وتوحيد السوريين واألتراك والمصريين والفُرس واألفغانيين والمغربيين والهنود الخ.
رأى أتباع هذه المدرسة أن يلجأوا إلى مبدأ البدل أو التعويض ،فقرروا المناداة بجامعة
محمدية َّ
أقل اتساعاً من مدى الفكرة األولى .فنادوا بالعروبة على أساس المحمدية،
المعدلة بعد الخيبة؛
ّ متخذين من العنصر اللغوي دعامة جديدة لفكرتهم األولى الدينية
وهذا التعويض بالجامعة الدينية اللغوية عن الجامعة الدينية البحت لم يقصد منه التخلي
عن الفكرة األولى بالكلية ،بل القصد منه االقتناع باألقل الستحالة األكثر .وفي بعض
مجادالت أصحاب هذه المدرسة ال يندر أن نجد هذا التعبير "وطن المسلمين
(المحمديين) القرآن" .وهم يجدون في "العروبة" بدالً ظاهرياً ال يبعد عن الفكرة
األساسية ،بل صالحاً كل الصالح لها ،إذ لم يكن للعرب شأن تاريخي إالّ بواسطة
الدين ،ولم تنتشر اللغة العربية إالّ بالدين .فالعروبة ال تعني عندهم غير الحركة الدينية
التي قام بها محمد .ولذلك ال تخلو كتاباتهم وخطاباتهم من إيراد اإلسالم (المحمدي)
مقروناً بلفظة العروبة أو العرب إالّ في ما ندر .ومع ذلك فأكثرهم يحاولون أن يكونوا
دبلماتيين ماهرين فيقولون إن العروبة ال تعني المحمدية وإ نه ال دخل للدين فيها ،أي
إنها دعوة يمكن أن تشترك فيها األقطار العربية بكل جماعاتها الدينية بدون تمييز بين
ظانين أن مثل هذا الكالم البسيط يكفي لخدع الجماعات غير المحمدية ،فهم
دين ودينّ ،
يجهلون أن مثل هذه الحيلة ,ال يجوز على المحقق في العلوم االجتماعية والسياسية وإ ن
جاء على بعض البسطاء .إن اتحاد أقطار ال رابطة بينها في الجغرافية أو االجتماع أو
االقتصاد أو النفسية ،وال صلة لها بعضها ببعض إال صلة الدين المدعومة بشيوع
اللغة ،ال يمكن أن يكون له غرض آخر غير غرض الدين .وإ ن الجماعات القليلة التي
تنتمي إلى أديان أخرى ال يمكن أن يكون لها أي شأن أو حقوق في دولة دينية ليست
من دينها ،خصوصاً وأصحاب نظرية هذه الدولة الدينية يجاهرون بأن الغرض من
128
دولتهم الدينية هو التغلُّب على أهل األديان األخرى "منازعة كل ذي شوكة في شوكته"
ضع أساسها على طلب الغلب والشوكة واالفتتاح". "وإ ن الديانة اإلسالمية و ِ
ُ
ولما لم تكن الدعوة "العروبية" غير بدل من الدعوة إلى الدولة الدينية المحمدية ،لم
تتمكن من تعيين أصول ثابتة لفكرتها الموهومة ،لذلك نرى أصحاب هذه الفكرة يلجأون
إلى التعديل والبدل عند كل صعوبة تصطدم بها دعوتهم .فهم تارة يطلقون القول على
جميع الشعوب المتكلمة العربية ،وطوراً يحصرونه في منطقة وهمية أصغر ،فيقولون
بتشكيل دولة واحدة من سورية ومصر والعربة ،أي بإخراج القيروان وطرابلس الغرب
يصغرون هذه المنطقة عند االضطرار فيجعلونها
ّ وتونس والجزائر ومراكش ،ثم
مقتصرة على سورية والعربة .هذا يجري "للعروبيين" في سورية .أما في األقطار
األخرى المستقلة فقد تحولت "العروبة" إلى لفظة يقصد بها الدعاوة للدولة القائمة
والتغرير بالسوريين وغيرهم .ففي مصر ،مثالً ،العروبة على أنواع .فمنها العروبة
المصرية االقتصادية التي تقصد إدخال سورية وغيرها تحت سلطة الرسمال المصري
بواسطة المصارف المصرية وغيرها من الشركات .ومنها العروبة المصرية السياسية،
وغرضها إيجاد خالفة محمدية في مصر تضم إليها ما أمكن من األقطار المجاورة.
ُ
ذر قرن هذه العروبة بطلب إلحاق فلسطين بمصر وتفكيك الوحدة السورية. وقد َّ
ونكتفي بهذين المثلين اللذين يمكن اتخاذهما قياساً للعروبات في األقطار األخرى .وهذه
الحقيقة توضح مقدار التصادم بين الجنسية االجتماعية أو العصبية القومية والجنسية
الدينية ،ففي مصر توجد دولة محمدية ،وفي العربة توجد دولة محمدية ،وكذلك في
سورية .وال يوجد بين هذه الدول خالف على الرسول وال على القرآن .ومع ذلك فإن
الدين لم يستطع توحيد هذه الدول ،والسبب هو في العوامل الجغرافية والساللية
والتاريخية والسياسية والنفسية وغيرها ،وهذه العوامل هي التي لها الغلب على الدين
في الشؤون الدولية ألن الدولة شيء اجتماعي ـ اقتصادي ـ سياسي قبل كل شيء.
العروبة ليست سوى حلم دولة دينية محمدية محدودة بدالً من الدولة الدينية المحمدية
المطلقة التي حلم بها أصحاب مدرسة الرجعة ،وهذه العروبة الدينية التي تزيد الشقاق
النمو وفتح اآلفاق لألمم
والتنافس بين األقطار العربية ،وتمنع التفكير القومي من ّ
العربية اللسان هي نكبة أو لعنة لجميع األقطار العربية على السواء ،كما أنها تغرير
129
ويضحوا روحية الدين في سبيل أغراض دولة ّ بالمسلمين المحمديين ليسيئوا فهم دينهم
دينية ال مح ّل لها إال في األقوام غير المتمدنة التي ال تقوم لها قائمة بغير الدين النعدام
أسباب العمران عندها.
أظهرنا ،في الحلقة الس ابقة ،بطالن حج ة أص حاب فك رة الجنس ية الديني ة
والدولة الدينية المحمدية الذين حاولوا تأويل القرآن على ه واهم وتفس ير
ال دين بم ا ينطب ق على أغراض هم ،وقلن ا إن اجته ادهم المس تند إلى بعض
آي الق رآن دون بعض ه و اجته اد باط ل ألن ه يلغي فك رة وح دة الكت اب
ووح دة ال دين ،ويج ري ض د غاي ة ال دين األص لية ،ويح اول التغري ر
بالمؤمنين حتى تختلط عليهم أغراض الدين وأغراض الدولة فال يميزوا
الل. ة الض و غاي ذه ،وه ك وه بين تل
وق د جئن ا بش واهد كث يرة من الق رآن على فس اد تأوي ل ص احبي "الع روة
الوثقى" لغرض الدين وعلى أن "تنمية الملة" كان أمراً ضرورياً وفرضاً
على المؤم نين لتث بيت دينهم في أرض الش رك (الوثني ة) وإلزال ة أخط ار
الوثن يين علي ه ،وأثبتن ا أن ف رض القت ال ك ان للتغلّب على ال ذين يق اتلون
المؤم نين في ال دين ،ونزي د هن ا على م ا أثبتن اه أن ه ال يج وز االحتج اج
يحرمون ما ح ّرم
بآية {قاتلوا الّذين ال يؤمنون باهلل وال باليوم اآلخر وال ّ
ق من ال ذين أوت وا الكت اب حتّى يعط وا
اهلل ورس وله وال ي دينون دين الح ّ
الجزية عن ٍيد وهم صاغرون} (التوبة )29 :فهذه اآلي ة وردت في ّإب ان
التح ريض على قت ال المش ركين وال ذين ظ اهروهم من أه ل الكت اب على
قت ال أتب اع محم د واض طهاد دعوت ه ،فهي من قس م نقض العه د م ع
نص ص ريح ب التحريض على
المش ركين من س ورة األنف ال ال تي فيه ا ٌّ
القت ال؛ واآلي ة ظرفي ة بحت ومتعلق ة ب الحرب بين محم د وأع داء دعوت ه
130
في العربة .وتخصيص أهل الكتاب ب دفع الجزي ة ب دالً من وج وب تغي ير
ص التهم ومعتق دهم ه و بره ان ق اطع على أن الح رب بين المحم ديين
وبينهم لم تكن على أساس فساد دينهم واعتقادهم باهلل ،إذ إن القرآن جاء
"مص ّدقاً لم ا معهم" ،ب ل على أس اس تك ذيبهم لمحم د ومعاون ة المش ركين
عليه .وهو مختص بالعرب من أهل الكت اب ال ذين جعل وا ثالث ة آله ة في
مح ل اهلل الواح د وق الوا بألوهي ة م ريم وفس روا المس يحية على م ا ال
مقي د بظ رف الزم ان وظ رف
ينطبق على تعاليمها .فحكم اآلية المذكورة ّ
المك ان .والبره ان على ذل ك ه و في وج ود آي ات كث يرة مكي ة ومدني ة ال
الن اس حتّى يكون وا مؤم نين} (ي ونس: تُج يز إطالقه ا كآي ة{ :أف أنت تك ره ّ
آمنا بالّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإ لهنا وإ لهكم واح ٌد
)99وآية {وقولوا ّ
ونحن ل ه مس لمون} (العنكب وت )29 :وآي ة {ال إك راه في ال ّدين ق د ت ّبين
اني أه ل
الغي} (البق رة )256 :وآي ة {ليس بأم انيِّكم وال بأم ِّ
الرش د من ِّ
الكت اب} (النس اء )123 :وآي ة {اهلل يحكم بينكم ي وم القيام ة فيم ا كنتم في ه
تختلف ون} (الحج )69 :وغيره ا كث ير يض يق عن ه ه ذا المج ال .وانظ ر
ق من ال ذين
الف رق بين آي ة قب ول الجزي ة من {الّ ذين ال ي دينون دين الح ّ
أوتوا الكتاب} (التوبة ،)29 :والمقص ود بعض أه ل الكت اب وليس كلهم،
وآي ة قت ال المش ركين ح تى يتوب وا ويؤمن وا ،وهي من الس ورة عينه ا،
الح ُر ُم ف اقتُلُوا المش ركين حيث وج دتموهم (وال
قال{ :فإذا انسلخ األش هُُر ُ
يدخل معهم أحد من أهل الكتاب) وخذوهم واحصروهم واقع دوا لهم ك ّل
إن اهلل
الزك اة فخلّ وا س بيلهم ّ
الص الة وآت وا ّ
مرص د ف إن ت ابوا وأق اموا ّ
رحيم} (التوب ة .)5 :فمحارب ة "ال ذين ال ي دينون دين الح ق من
ٌ ور
غف ٌ
الذين أوتوا الكتاب" ال تتناول جميع أه ل الكت اب ،ب ل تقتص ر على ال ذين
مؤي داً بش واهد.
أساءوا فهم دينهم من العرب الذين وصفنا أم رهم وص فاً ّ
وتخصيص "الذين ال ي دينون دين الح ق" يع ني أن ه يوج د من ي دينون ه ذا
اد
ال دين بم وجب كت ابهم .أم ا تأوي ل المع نى على غ ير ه ذا الوج ه فاجته ٌ
بعي د ج داً ،والعم ل باالجته اد غ ير واجب ألن المجته د يق ول بم ا يص ل
زم الن اس إذ ه و في غ ير
رأي شخصي ال ُيل ُ
إليه إدراكه وقصده ،كالمه ٌ
131
مقام النبوة والوحي .والمصيبة كانت دائماً في ال ذين يري دون أن يجعل وا
اجته ادهم في مق ام ال وحي والنب وة ويطلب ون من المؤم نين ت رك النص
ادهم. ل على اجته والتعوي
132
الغ واة من األم راء ذوي المط امع في الس لطة بينهم الجتم ع ش رقيُّهم
ُ
بغ ربيهم وش ماليُّهم بجن وبيِّهم ولبَّى جميعهم ن داء واح داً".
الدول ة الديني ة المحمدي ة نش أت ونش أ االختالف بين األم راء معه ا في
ازعهُم األم ر وح روبهم لم تكن على
أص ولها ،ف اختالف الص حابة وتن ُ
نص دي ني وال على غاي ة ديني ة ،ب ل على الس لطة والنف وذ ،فطبيع ة
حي اتهم العربي ة وتقالي د الع رب وقب ائلهم وع اداتهم ومط البهم هي س بب
ه ذه المنازع ات بين الص حابة ال تي امت دت إلى ك ل مك ان دخل ه العنص ر
133
ٍ
منازعات في الدولة المحمدي ة ،ب ل في العربي .وهذه المنازعات لم تكن
البيئة والمجامع العربي ة ،فال يص ح إطالقه ا على جمي ع المنازع ات ال تي
َّ
أدت إلى تفك ك دول ة ال دين المحم دي ،ف إن أس باب ه ذه المنازع ات
األخيرة التي تفككت من جرائها وحدة الدولة الدينية المحمدية هي عينها
أسباب المنازعات ال تي انتهت بتفك ك وح دة الدول ة الديني ة المس يحية ،أي
األس باب القومي ة .فالقومي ة انتص رت على الدول ة الديني ة .فلم ُي ِط ق
وري الخض وع لدول ة فارس ية باس م ال دين ،وال ألي ة دول ة ديني ة غ ير
الس ُّ
س ورية ،ولم يط ق الف رس الخض وع للع رب ،ولم تط ق س ورية وغيره ا
من األقط ار العربي ة الخض وع لتركي ة ،ف اختالف األجن اس والعقلي ات
والبيئ ات ال يمكن أن ي زول بوح دة ال دين أو بوح دة الش رع ،ألن ه من
طبيعة الواقع االجتماعي .وجهل هذه القاعدة االجتماعي ة ه و ال ذي جع ل
ص احبي "الع روة ال وثقى" يق والن إن الس بب األعظم لتف ّرق كلم ة
الف طالب المل ك وتن ازع األم راء" ،وإ ن "ال جنس ية
المحم ديين ه و "تخ ُ
للمس لمين (المحم ديين) إال في دينهم" ،وكالمهم ا ي دل على جه ل بنش أة
الدول ة الديني ة المحمدي ة ونهايته ا .فه ل ك ان الخالف الجنس ي العظيم بين
الش عوبيين والعروب يين ُمج َّرد تن ُازع أم راء وتخ الف طالب مل ك؟
134
ليعلموا بطالن ه ذه الفك رة ،فالش عوب المس يحية ال تي بلغت ذروة التم ُّدن
يع ُّدون
وأقصى العلم لم يمكن اتحادها في دولة واحدة مع أن المس يحيين ُ
األخوة ،ذل ك ألن
ّ أنفس هم اخ وة في ال دين ،وتع اليم رس التهم أوص تهم ب
أخوة الدين ال يمكنها أن تح ّل محل األخوة القومية والحاج ات والمط الب ّ
الش عوبية ،ول ذلك خ ابت الدول ة الديني ة العام ة المطلق ة في جمي ع األدي ان
على الس واء .وك ُّل دع وة إلع ادة ه ذه الدول ة هي تغري ٌر وش عوذة.
وااللتج اء إلى مب دأ الب دل إلقام ة دول ة ديني ة مح دودة ب دالً من الدول ة
الديني ة العام ة ه و ش عوذةٌ أخ رى ألن ه ذا الب دل ه و دلي ٌل على فس اد
الفك رة األساس ية ،فل و ك انت الفك رة ص حيحة لل زم ع دم انهي ار الدول ة
الدينية بعد تأسيس ها وع دم االقتص ار على بعض أه ل ال دين دون بعض.
وق د أوض حنا ،في الحلق ة الس ابقة ،فس اد قض ية ال دعوة إلى إنش اء دول ة
دينية محدودة بدالً من إنشاء دول ة ديني ة عام ة ،فأثبتن ا ع دم وج ود وع دم
إمك ان تع يين أص ول ثابت ة لفك رة الدول ة العربي ة ال تي يتخيَّل ال داعون
األساس يون له ا إمك ان جم ع جمي ع األمم المتكلم ة العربي ة والدائن ة
باإلس الم المحم دي تحت لوائه ا .وبيَّن ا ع دم اس تقرار ه ذه ال دعوة على
فكرة واض حة والمج ال الواس ع للتأوي ل فيه ا .فبم ا أنه ا ليس ت س وى ب دل
من عقي دة فاس دة لم تص لح لتك ون عقي دة في ذاته ا ول ذلك لم يتمكن
أصحابها من توليد حركة واحدة عام ة في جمي ع األقط ار الداخل ة ض من
دي. دين المحم ة وال ة العربي الم اللغ اق ع نط
135
والتغرير بها وإ ذاللها .هي عروبة زائفة ألنها ال ت رمي إلى نه وض أمم
الع الم الع ربي ،ب ل إلى إيق اد ن ار الفتن ة الديني ة والح رب الداخلي ة في ك ل
ديين. ثر من ملَّة المحم ة من أك ة مؤلف أم
داء نش وء
أعداء العرب الحقيقي ون ألنهم أع ُ
ُ إن أصحاب هذه العروبة هم
داء نه وض
القومي ة الص حيحة في ك ل أم ة من أمم الع الم الع ربي ،وأع ُ
كرج ٍل واح د لني ل س يادتها وحقوقه ا واالرتق اء نح و
ك ِّل من ه ذه األمم ُ
المكون ة من نس يج ش عورها وآماله ا ومطامحه ا وأش واقها
ّ مطالبه ا العلي ا
األص يلة في نفس ك ل أم ة ومزاجه ا ،وهم يتوهم ون ،لجهلهم الفن ون
والعلوم السياسية واالقتصادية واالجتماعية والنفسيةَّ ،
أن األكثري ة الملي ة
المطلق ة التام ة.
تُغ ني عن الواق ع االجتم اعي وعن الوح دة القومي ة ُ
إن ه ؤالء "العروب يين" ق د زيَّف وا القومي ة ووض عوها في الس وق للت داول
عوض اً عن القومي ة الحقيقي ة ال تي هي ش عور ك ل أم ة بشخص يتها
ونفس يتها وحقوقه ا ومطالبه ا .وكم ا يلتبس على غ ير الخ براء بالعمل ة
والطباع ة المالي ة أم ر العمل ة الزائف ة ،ك ذلك يلتبس على غ ير الخ براء
ب العلوم االجتماعي ة والسياس ية وغ ير الممارس ين للقومي ة الص حيحة أم ر
القومي ة الزائف ة ،فهم ق د جعل وا العروب ة في مق ام الرابط ة الديني ة ،ثم
طلوه ا أو رس موها برس وم القومي ة زي ادةً في التموي ه والتض ليل.
136
ام كب يرةٌ من ه تتخلّله ا أو َّ
ربي مؤلف من أقط ار متباع دة ،وأقس ٌ
الع الم الع ّ
تؤلفه ا الص حاري القاحل ة غ ير الص الحة للعم ران .وإ ذ ك انت ق د دخلت
ومع َّدل كثاف ة
هذه األقطار نسبةٌ دمويةٌ عربيةٌ قليل ة ،فوض عها الجغ رافي ُ
س كانها وإ مكانياته ا االقتص ادية لم تؤه ل ه ذه األقط ار إلنش اء مجتم ع
ٍ
مترابط بدورة دموية واجتماعية ـ اقتصادية منتظمة ،فلم تنش أ فيه ا واحد
نفس ية متمدن ة واح دة وال نظ رةٌ إلى الحي اة واح دةٌ ،فهي ليس ت بيئ ةً
واح دة ،وس كانها ال يؤلف ون أم ةً واح دة .وتس مية ش عوب الع الم الع ربي
أم ة هي من ب اب إطالق األس ماء على خالف م دلوالتها ومعانيه ا.
137
ربي. الم الع ورية للع هس تفعل
ك ل وح دة فعلي ة ،لكي تثبت على زع ازع االنقالب ات السياس ية ،يجب أن
تك ون طبيعي ة ال اص طناعية ،فاالمبراطوري ة العربي ة ـ المحمدي ة ك انت
وح دة سياس ية ديني ة اص طناعية اجتماعي اً ،ألنه ا نش أت ب الفتح وليس ت
برغبة واختيار الذين انضووا تحته ا ،فم ا ك ادت س ورة الفتح تخم د ح تى
ذر ق رن المنازع ات الش عوبية واس تفاق ك ل ش ٍ
عب إلى حاجات ه ورغبات ه
الخصوص ية فتفككت الوح دة االص طناعية وانه ارت االمبراطوري ة .وال
يمكن قيامه ا من جدي د إال بالطريق ة ال تي ق امت به ا من قب ل ،أي ب القوة
والفتح ،إذ ال ينتظ ر أن تك ون وح دة اجتماعي ة ـ اقتص ادية ـ نفس ية ـ
جغرافية نظراً لألسباب التي تقدم ذكرها .ومس ألة الفتح تبقى من ش ؤون
الف اتح فهي مس ألة سياس ية انترنس يونية ال مس ألة قومي ة ،إنه ا مس ألة
تقري ر مص ير أمم وأقط ار ال مس ألة نهض ة أم ة واح دة ب إرادة واح دة.
النظري ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة في ه ذه المس ألة هي :النه وض
الق ومي االجتم اعي بس ورية أوالً ،ثم س لك سياس ة تعاوني ة لخ ير الع الم
حر ُر القوة السورية من سلطة األجانب العربي .ونهضة األمة السورية تُ ّ
وتحوله ا إلى حرك ة فعال ة إلنه اض بقي ة األمم العربي ة ومس اعدتها على
ِّ
رقي.
ّ ال
إنها ليست عروبة دينية ،وال عروبة رسمالية نفعية ،وال عروبة سياسية
مثليةٌ لخير العالم العربي كله.
مرائية :إنها عروبةٌ ّ
138
العُروبة الدّينية والدّعاوات األجنبيّة
قلنا ،في الحلقة السابقة ،إن العروبة التي تُهمل مبادئ النظام االجتم اعي
ون واميس االجتم اع وال تس تند إال إلى ال دين وإ لى اللغ ة بمق دار ،هي
عروب ة زائف ة ال نتيج ة له ا غ ُير عرقل ة س ير المب ادئ القومي ة الص حيحة
في سورية واألقطار العربية عامة ،وإ عط اء الدول ة األجنبي ة ك ل فرص ة
للتسلُّط على أمم العالم العربي والتغرير بها وإ ذاللها .وسنوض ح ،في م ا
يلة لخدم ة أغ راضيلي ،كي ف أن العروب ة الديني ة ص ارت أفض ل وس ٍ
برى. تعمارية الك دول االس ال
139
رض وعلى خاص ع ديمو أو قليل و العلم ،في نفوس هم م ٌ ٌ الغ الب ،أش
عقولهم غش اوة ،فيص يحون" :وه ا أوروب ة بأس رها ترتع د الي وم فرق اً من
فك رة وح دة أقطارن ا وقي ام جامعتن ا الديني ة اللغوي ة" ،أو كم ا ق ال ص احبا
"الع روة ال وثقى" (ص " :)107نعم إن اإلف رنج تأك د ل ديهم أن أق وى
رابط ة بين المس لمين إنم ا هي الرابط ة الديني ة ،وأدرك وا أن ق َّوتهم ال
تك ون إالّ بالعص بية االعتقادي ة .وألولئ ك اإلف رنج مط امعُ في دي ار
المسلمين (المحمديين) وأوطانهم ،فتوجهت عن ايتهم إلى ِّ
بث ه ذه األفك ار
الساقطة (التعصب الجنسي ومحبة ال وطن) بين أرب اب الديان ة اإلس المية
(المحمدي ة) وزيَّن وا لهم هج ر ه ذه الص لة المقدس ة وفص م حباله ا،
لينقضوا بذلك بناء الملة اإلسالمية (المحمدية) ويمزقوه ا ش يعاً وأحزاب اً،
ف إنهم علم وا ،كم ا علمن ا وعلم العقالء أجمع ون ،أن المس لمين
(المحم ديين) ال يعرف ون لهم جنس ية إالّ في دينهم واعتق ادهم الخ" .ه ذا
الكالم غاي ة في السفس طة وفس اد االس تنتاج ،فل و أن رابط ة ال دين
واالعتق اد تق وم مق ام الن واميس االجتماعي ة لك ان اإلف رنج ،ال ذين ن الوا
أعظم ح ظ من العلم في الق رون األخ يرة ،لج أوا إليه ا واتخ ذوها أساس اً
لتفكيرهم هم وقيام دولتهم ،فالعصبية القومية عند "اإلفرنج" لم تكن بدعة
قصدوا تغرير األمم العربية بها ,بل كانت شعوراً صادقاً بوحدة كل أم ة
من أممهم وشخص يتها وحقوقه ا وحاجاته ا ومص الحها .وهي ه ذه
العص بية ال تي أنق ذت أمم "اإلف رنج" من انقس اماتها الداخلي ة الديني ة،
وجعلت ك ل أم ة ي داً واح دة على أع دائها .وإ نن ا لم نج د كتاب اً واح داً كتب ه
أح ٌد من "اإلف رنج" بقص د تفكي ك عص بية المحم ديين الديني ة دون عص بية
غ يرهم من المل ل إال أن يك ون رج ل دين أو متعص باً ض د المحم ديين.
أن انقس ام الدول ة الديني ة المحمدي ة بع د الفتح
يعلم ّ
ودارس الت اريخ ُ
ُ
المحم دي لم يكن ب دعاوات "اإلف رنج" للعص بية القومي ة ،ب ل بانتص ار
العامل القومي في الشعوب التي شملها الفتح على عامل الرابط ة الديني ة
من غ ير دع اوة من الخ ارج .وق د ذك ر ه ذه الحقيق ة الع الم االجتم اعي
والم ؤرخ ابن خل دون في مقدمت ه الش هيرة .ولكنن ا نج د كتب اً كث يرة
140
االت عدي دة في المجالت والجرائ د ال تي تُع نى بش ؤون أفريقي ة ومق ٍ
اد عق ول ه ذه الش عوب عن التفك ير
والش عوب الش رقية ،القص د منه ا إبع ُ
ومي العص ري .وال يمتن ع وج ود سياس ي أوروبي يخش ى على فوائ د
الق ّ
َّ
ولكن بين دولت ه االس تعمارية من هي اج دي ني في المس تعمرات فيكتب
أض رار الهي اج ال ديني على دول ة اس تعمارية والعم ل التعم يري إلنش اء
دول ة واح دة من جمي ع أبن اء مل ة واح دة فرق اً كب يراً ج داً.
إن مس ألة القومي ة ليس ت مس ألة محم ديين ومس يحيين ،ب ل مس ألة واق ع
اجتم اعي ل ه حكم واح د .وق د بين ا في الحلق ة الس ابقة تب ُاين أقط ار الع الم
وبع د المس افة بين قط ر وقط ر ،واختالف حاج ات ه ذه األقط ار الع ربي ُ
وعقلياته ا .وه ذه أم ور ليس منش أها ال دعاوة األجنبي ة ،ب ل الوض ع
الجغ رافي واإلقليمي والم زيج الس اللي المختل ف في ك ل قط ر عن غ يره
دار ثق افتهم ومع د ُل كثاف ة
ونوع حياة سكان كل قط ر ودرج ة تم دنهم ومق ُ
الس كان ومبل غ العم ران .وإ ذا نظرن ا إلى مواق ع األقط ار العربي ة على
الخريط ة ،ورأين ا تنائيه ا وت رامي ح دودها البحري ة والص حاري ال تي
تتخلله ا ،ثم إذا درس نا إمكاني ات ه ذه األقط ار االقتص ادية وحاجاته ا
اإلدارية والحربية ،تبيَّن لنا كم يبعد خيال جعل هذه الش عوب أم ة واح دة
ة. ة الفعلي دة عن الحقيق ة واح ودول
141
القياس ية ،فنظ رة واح دة على الخريط ة ومقابل ة واح دة بين هيئ ة ألماني ة
وح دودها وكثاف ة س كانها تُظه ران اختالل القي اس بين الهيئ تين ووض ع
وحجج ه ؤالء األس اطين
ُ ك ل منهم ا وإ مكانيات ه ومقومات ه اختالالً كب يراً.
في السفسطة هي في الغالب صبيانية ،فمنها أن األقط ار الشاس عة ش قّات
البع د في م ا بينه ا يمكن ربطه ا بس كك الحدي د والطي ارات والم راكب
ُ
البحري ة،ولكنهم ال يكلف ون أنفس هم درس حاج ات ه ذه الوس ائل
ومقوماتها .فسكك الحديد ،إذا لم توجد لها اإلمكانيات االقتصادية الكافي ة
من مشحونات المحاصيل الزراعية والمنتوجات الص ناعية وحرك ة تنق ل
س ريعة ،فال يمكن أن تعم ر ،على اف تراض وج دت الرس اميل الكافي ة
لم دها من جب ال البختي اري وخليج ف ارس إلى طيط وان على األطلس ي.
لح
والطيارات ليست صالحة إليجاد دورة اجتماعي ة ـ اقتص ادية .فال تص ُ
لحم ل أبن اء الق رى الض عيفة وبناته ا من قط ر إلى قط ر لي تزاوجوا
وينش ئوا األندي ة الثقافي ة واالجتماعي ة وليش تركوا في حي اة فعلي ة واح دة.
وم ا يق ال في قطُ ِر الحدي د والطي ارات ُيق ال في الم راكب البحري ة،
خصوصاً وأن محاصيل أكثر األقطار العربية متشابهةٌ ،فال يحتاج أبن اء
قط ر آخ ر ش يئاً ي ذكر من محاص يله الزراعي ة أو منتوجات ه الص ناعية،
فأه ل س ورية ال يحت اجون إلى قمح أو ع دس أو بق ول م راكش ألن
أرض هم تعطي م ا يزي د عنهم من ه ذه الغالل .وإ ذا نش أت في س ورية
نهضة صناعية بس بب وج ود النف ط واألمالح الكيماوي ة ومق دار قلي ل من
الحدي د والفحم الحج ري فس تحتاج إلى أس واق لمنتوجاته ا الص ناعية في
الخ ارج ،ولكنه ا لن تحت اج إلى المحاص يل الزراعي ة ،واألرجح أن
أسواقها الطبيعية ستكون في اتجاه إيران وأفغانستان أكثر مم ا تك ون في
اتجاه القيروان وطرابلس الغرب وتونس ومراكش .وفي ما خال س ورية
فاألقط ار العربي ة عديم ة المع ادن الص الحة للص ناعات الثقيل ة ،فال تق در
أن تبني قطرها ومراكبه ا من موارده ا الطبيعي ة ،وال أن تص نع مع داتِها
الحربي ة من بن دقيات وم دافع وذخ يرة وم ا إلى ذل ك ،فك ُّل خ ٍط حدي دي
تري د إنش اءه ستُض طر لتس ليمه إلى ش ركات أجنبي ة أو إلى ش رائه في
142
الخ ارج ،وك ذلك القط ر والطي ارات والم راكب .فبأي ة عملي ة اقتص ادية
يمكنها فعل ذلك؟ ولكن ه ذا الس ؤال وأمثال ه س خيفة ج داً في نظ ر أرب اب
ة. ة الخيالي ة الديني العروب
وأما الوجهة السياسية فمرمى نظرها من أس وأ الم رامي ،ف أكثر األقط ار
موجود تحت سلطان أو نف وذ دول كب يرة ذات ص ناعات ض خمة
ٌ العربية
وق وات حربي ة عظيم ة ،وبعض ه ذه ال دول يزي د ع دد س كان الدول ة
الواح دة منه ا على مجم وع س كان جمي ع األقط ار العربي ة ،وتعل و درج ة
ثقافتهم واستعداداتهم التكنكية من كل نوع على درج ة ثقاف ة واس تعدادات
جميع األقطار المذكورة .وأية حركة سياسية واحدة في األقط ار العربي ة
عام ة ال تص طدم بدول ة واح دة من ه ذه ال دول األوروبي ة الض خمة فق ط،
ب ل بأكثره ا .ال ب َّد لحرك ة سياس ية عام ة في جمي ع األقط ار العربي ة من
االص طدام ليس ببريطاني ا وح دها وال بفرنس ة وح دها وال بإيطالي ة
وح دها وال بإس بانية وح دها ،ب ل بجمي ع ه ذه ال دول دفع ة واح دة ،فال ذين
يقولون أن اتحاد جميع األقط ار ه و أض من طريق ة لني ل االس تقالل ،وان
اس تقالل س ورية وح دها غ ُير ممكن ،هم ،ب الكثير ،أطف ا ٌل في السياس ة.
فإن استقالل سورية الموحَّد في نهضة قومية أكثر إمكاني ة وأق رب من االً
من استقالل جميع األقطار العربية دفعة واحدة بحركة واح دة .فس ورية،
بوض عها الجغ رافي ومق درتها المادي ة والروحي ة ،أق وى ،سياس ياً ،من
جمي ع األقط ار العربي ة متح دةً ،ألنه ا ،بنهض تها القومي ة ،ق د تص طدم
ويمكنه ا ،في مقاب ل ذل ك،
ُ بدول ة أو دول تين أوروبي تين على الكث ير،
143
اب ص داقة وتع اون دول ة أو دول تين أو أك ثر من ط راز ع دوتِها أو
اكتس ُ
عدواتها .ولكن حركة واح دة في جمي ع األقط ار العربي ة ستص طدم حتم اً
َّ
دات،لحة ومع ٍبمعظم ال دول األوروبي ة ،وهي جميعه ا ص انعة أس ٍ
واألقطار العربية ال تصنع شيئاً منها .وقد كادت ثورة عبد الك ريم تنجح
في م راكش اإلس بانية فلم ا امت دت إلى م راكش الفرنس ية عظمت ق وة
الع دو عليه ا ،ولم تكن ق د أع دت أص دقاء لمعاونته ا حربي اً وسياس ياً،
فانس حقت بس رعة .ول و امت دت الث ورة الم ذكورة إلى ت ونس وط رابلس
الغ رب والق يروان لوج دت إيطالي ة واقف ة م ع فرنس ة وإ س بانية ص فاً
واح داً .ول و توس عت إلى مص ر وس ورية لوج دت االمبراطوري ة
البريطانية قد صارت مع الدول الثالث الس ابقة ي داً واح دة .ولكن نهض ة
قومي ة في س ورية ق د تج د دول تين ض دها ،ولكنه ا تتمكن من إيج اد دول
معه ا واختي ار الظ روف المناس بة لتحقي ق أغراض ها .وم تى تح ررت
س ورية أمكنه ا حينئ ذ أن تنظ ر في كيفي ة مس اعدة األقط ار العربي ة قط راً
قطراً حسب الظروف والفرص واإلمكانيات .فال ذين يقول ون إن النهض ة
الس ورية القومي ة االجتماعي ة "ع دوةٌ للع رب" هم ممخرق ون ومش عوذون.
وق د بين ا بالحق ائق العلمي ة أنهم هم أع داء الع رب وأع داء نهض ة الع الم
الع ربي .والحقيق ة أن ه ل و قُ ِّدر للنهض ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة أن
تنش أ على العه د ال تركي ،ب دالً من حرك ة "الوح دة العربي ة" الخيالي ة،
لك انت س ورية خ رجت من الح رب العالمي ة الماض ية دول ة مس تقلة ذات
س يادة تام ٍة على جمي ع ح دودها الطبيعي ة .إن أص حاب فك رة "الوح دة
العربية" الدينية زينوا له ا ح دوث نهض ة واس عة عظيم ة تس حق الجي وش
وتُهل ك األس اطيل وتفتح الفتوح ات ،فقع د ش باب س ورية الق وي البني ة ال
يفك ر إالّ بانتظ ار تل ك النهض ة الخيالي ة ال تي ص وروها ل ه وه و ال يعلم
روح
ستحدث وال متى تحدث ،فنشأت في الجيل السوري الماضي ٌ
ُ كيف
وكل فكرة جيدة َّ
وكل تفكير عملي ،ولم كل طموح صحيح َّ
اتكالية منعت َّ
ول. ير الخم طغ ِّ
تنش
144
إذا س لمنا ،ج دالً ،بإمك ان حص ول حرك ة واح دة في آن واح د في جمي ع
األقط ار العربي ة وإ مك ان نجاحه ا السياس ي ـ الح ربي ،فه ذا النج اح ال
يحق ق "الوح دة العربي ة" بجع ل ش عوب الع الم الع ربي أم ة واح دة ودول ة
واح دة ،فه ذان أم ران يتعلق ان ب النواميس االجتماعي ة ،ال ب الحوادث
السياس ية الوقتي ة وال بالرغب ات الخصوص ية أو االس تبدادية .وق د ق ام
على صحة هذا النظر الدلي ُل التاريخي إذ تفككت الدولة الدينية المحمدية
بع د خم ود س ورة الفتح من تلق اء ذاته ا ،وليس ب دعاوة "إفرنجي ة" أو
غيره ا ،ثم ع ادت فانه ارت م رة أخ رى على عه د الخالف ة التركي ة.
وتركي ة لم تتمكن من النه وض ،بع د أن رزحت تحت عبء الدول ة
الديني ة وسياس ة الخالف ة ،إال ب ترك فك رة الدول ة الديني ة واالعتم اد على
نهض ة تركي ة قومي ة تنظم الش عب ال تركي وتق وي معنويات ه .فخ رجت
تركي ة القومي ة دول ة أق وى بكث ير من الس لطنة العثماني ة ال تي جمعت بين
ا. مقوماته
أهم ِّ
دين من ِّ ة ال ة وظنت أن رابط دين والدول ال
145
"مل وك الع رب" باالتف اق م ع االنقل يز ،لتغذي ة خي ال "الوح دة العربي ة".
واس تخدمته للغ رض عين ه إس بانية ال تي دعت ه إللق اء محاض رات في
م راكش .وإ س بانية أوج دت في عاص متها جمعي ة اس مها "الجمعي ة
اإلس المية لجلب نظ ر المحم ديين إلى إس بانية" .وبعض كتابه ا يؤلف ون
اآلن عدداً من الكتب عن تاريخ العرب وعظمة االمبراطورية المحمدي ة
السالفة وإ مكان الع ودة إلى إحي اء تل ك واالتج اه نح و إس بانية ال تي تص بح
بمثاب ة طليع ة أو "مقدم ة المج د الع ربي في أوروب ة"! إلى آخ ر ه ذه
التع ابير الس كلوجية المقص ود منه ا الت أثير على نفس يات ش عوب الع الم
الع ربي للوص ول إلى أغ راض خارج ة عن نط اق األمم العربي ة
الحها. ومص
146
أكثر السياسيين السوريين الذين تقدموا عهد الحركة الس ورية القومي ة أو
انحرف وا عنه ا هم إم ا شخص يون ،وه ؤالء معظمهم ،وإ م ا رجعي ون أو
شخص يون ورجعي ون مع اً .ومن ه ؤالء السياس يين من أدرك عقم فك رة
الوح دة العربي ة كعب د ال رحمن ش هبندر وهاش م األتاس ي وغيرهم ا.
وللش هبندر مق ال نش ر في ع دد (م ارس) آذار س نة 1934من مجل ة
"المقتط ف" يق ول في ه باس تحالة الجم ع بين بعض أق وام الع الم الع ربي
وبعض ها اآلخ ر .ولكن حين ع اد ش هبندر إلى مي دان السياس ة الس ورية
بع َد إعالن العف و س نة ،1937أخ ذ يخطب في أحي اء دمش ق داعي اً إلى
العروبة الدينية ووطن القرآن والوح دة العربي ة واالمبراطوري ة العربي ة،
جامع اً حول ه ع دداً من ال ذين يوافقون ه في ه ذه السياس ة أو ي ذهبون ه ذا
الم ذهب على غ ير ُه ًدى .والحقيق ة هي أن غرض ه لم يكن توحي َد الع الم
ول
اء االمبراطوري ة العربي ة الموهوم ة ،ب ل ك ان الوص َ الع ربي وال إنش َ
إلى مث ار الش عور عن د الغوغ اء ،واس تفزازه لألخ ذ بناص ره ليس تظهر
على "الكتل يين" وجمي ع األح زاب األخ رى ويص ل إلى رئاس ة الدول ة أو
رئاسة الحكومة عن طريق ال دعوة إلى اعتق اد لم يكن ي ؤمن ب ه ال داعي،
ب ل ك ان ق د نب ذه ،ففي مقال ة الش هبندر المش ار إليه ا يق ول" :فمن الخط ل
147
السياس ي االجتم اعي العظيم إذاً أن يت وهم أح د من رج ال النهض ة في
أليف دول ة عربي ٍ
َّة مركزي ة ُ الع الم الع ربي أن ه في ح يز اإلمك ان ت
ديمقراطي ة تض م من ذ اآلن بين دف تي دس تور واح د دمش ق والك ويت
وعن يزه والعس ير والمكال ،فه ذه بل دان وإ ن جمعت بينه ا اللغ ة والعقي دة
(واألرجح أن ه يع ني بالعقي دة ال دين) وتش اركها في كث ير من أطواره ا
التاريخي ة ،إالّ أن الع ادات والتقالي د المحلي ة ،واختالف درج ة الثقاف ة
العام ة وم ا إلى ذل ك من مقوم ات العق ل االجتم اعي ال ذي ال ب د من ه
لت أليف الوح دة السياس ية ،جعلت ش قة الخالف في م ا بينه ا أبع د من أن
يلم ش تاتها إرادةٌ س لطانيةٌ واح دة" .
يض َّمها مجلس تش ريعي واح د ،أو َّ
ومع أن هذا الكالم ناقص ج داً ،إذ لم يتن اول الوجه ة الجغرافي ة وال بقي ة
َ
النظ رة األساس ية وال الناحي ة االجتماعي ة وال القواع د االقتص ادية وال
الوجه الحربي ،التي ألممنا بها إلماماً في البحث السابق ،فإن ه يؤك د ع دم
اإليم ان بالعروب ة كعقي دة تجم ع األقط ار العربي ة اللغ ِة والمحمدي ةَ ال ِ
دين
في أم ة واح دة ودول ٍة واح دة .ولكن عب د ال رحمن ش هبندر ك ان من
الص نف السياس ي الع تيق الّ ذي أق ام ح اجزاً منيع اً بين السياس ة والعقي دة
الس لبية ال تي انتهى إليه ا ووق ف عن دها .فالسياس ة لرج ال ه ذا الص نف
ك انت ذات قاع دة شخص ية بحت ،ول ذلك ك انوا يجرونه ا على معتق دات
الس واد من الن اس الم دعوين ،مهم ا ك انت بعي دة عن الص واب ،ال على
بعض م ا عنيت ه ،في البس ط واإليض اح
ُ معتقداتهم هم .وهذا ما عنيتُه ،أو
الم وجز ال ذي وض عته في س جني األول عن األس باب ال تي دفعت ني إلى
رت أن السياس يةَ
إنش اء الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي .وق د أظه ُ
عن دي هي لخدم ة العقي دة القومي ة المش تملة على قض ية واض حة جلي ة
معين ة ،وليس ت لمج رد السياس ة أو لقض ية شخص ية .العقي دة لي هي
الغاية ،والسياسة هي الواسطة .أما رج ال السياس ة الالقومي ون فالسياس ة
عندهم هي الغاية والعقائ د ليس ت لهم س وى وس ائط ،ول ذلك هم يب دلونها،
فيقولون اليوم بما أنك روه ب األمس ،ويغ يرون غ داً العقي دة ال تي ن ادوا به ا
الي وم .ول ذلك لم يمكن أن تنش أ من ه ذه الفوض ى والبلبل ة نهض ةٌ قومي ة.
148
اختار أكثر السياسيين السوريين الخصوصيين العروب ةَ أساس اً إلذاعتِهم،
وأك ثروا من الكالم على الوح دة العربي ة وإ غ راء الن اس به ا ،ليس ألنهم
يعتقدون بصحتها وإ مكان تحقيقها ،بل ألنهم وجدوا أكثر العامة السورية
الب اقين على معتق دات قديم ة ق ابلين للت أثُّر به ا ،فأكثري ة الش عب الس وري
هي من المحم ديين ال ذين حفظ وا في أذه انهم ص ورةَ الدول ة الديني ة
والخالف ة وإ م ارة المؤم نين ،ولم يحي وا ق ط ،ال هم وال غ يرهم من المل ل
األخرى ،حياة قومية صحيحة ،وهم لذلك أسهل انقياداً لدعوة إلى الدول ة
الديني ة منهم إلى دع وة قومي ة إص الحية ليس لهم به ا س ابق اختب ار أو
معرف ة .ولم ا لم يكن السياس يون الق دماء يرم ون في الدرج ة األولى إلى
إصالح عقائد الش عب وتوحي دها وإ نش اء نهض ة قومي ة ص حيحة في ه ،ب ل
إلى استغالل عقائده القديمة لخططهم السياس ية الشخص ية ،لم يكن يهمهم
ادم العه د ،من المص ائب بس بب بقائ ه على
م اذا يص يب الش عب ،م ع تق ُ
عقائد ونظريات رجعية لم يبق له ا مح ل في ص راع الحي اة والتف ُّوق بين
َ
األمم .فكان كل همهم منصرفاً إلى بل وغ مط امحهم ومط امعهم السياس ية
أوالً ،ثم النظ ر ،على ق در مع رفتهم وفهمهم ،في م ا يفي د الش عب ثاني اً.
لم ا أسس ت الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي ،وتولَّ َد ْ
ت من مبادئ ه
النهضة الس ورية القومي ة االجتماعي ة ،ازداد ف زعُ السياس يين الشخص يين
إلى العروب ة والوح دة العربي ة ليتخ ذوا منهم ا ق وةً إذاعي ة بين األكثري ة
149
المحمدي ة في س ورية ض د انتش ار مب ادئ الح زب الس وري الق ومي
درعون
االجتم اعي ،كم ا ف زع السياس يون الشخص يون االنفص اليون المت ّ
بدرع "استقالل لبنان المسيحي" إلى الدعوة له ذا االس تقالل "وع دم إمك ان
المس يحيين أن يحي وا م ع المحم ديين في دول ة واح دة" ليح اربوا امت داد
حرك ة الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي بين المس يحيين في الس احل
األوس ط الجبلي من س ورية .وكم ا أن األكثري ة المحمدي ة ك ان ش عور
عامته ا ناش ئاً عن النع رة الديني ة ،ك ذلك األقلي ة المس يحية وغيره ا ،ك ان
ش عور عامته ا ناش ئاً عن النع رة الديني ة .والسياس يون الشخص يون رأوا
في النع رات الديني ة عن د العام ة الق وة اإلذاعي ة الوحي دة ال تي يمكن
ضد مبادئ الح زب الس وري الق وميبشيء من النجاح الوقتي ّ ٍ استعمالها
االجتماعي القومية الجامعة جميع ملل الشعب السوري في عقي دة واح دة
ِّ
توحدهم اجتماعي اً وسياس ياً .فال ذين اس تعملوا النع رة المحمدي ة العروبي ة
اء لتوطي د نف وذهم الشخص ي عن د عام ة المحم ديين وبل وغ
اس تعملوها ري ً
م راميهم الخصوص ية ،وه ذا ه و س َّر ه ذا التح ريض "الع روبي" ض د
ة. ة االجتماعي ورية القومي ة الس الحرك
الحزب السوري القومي االجتماعي نشأ ليكون ُسلَّماً يرقى عليها الشعب
الس وري إلى ذروة الحي اة الجي دة .والسياس يون الشخص يون
والخصوص يون والنفعي ون أرادوا أن يك ون الش عب س لُّماً يرق ون عليه ا
إلى مط امحهم ومط امعهم الفردي ة .إن زعام ة الح زب الس وري الق ومي
االجتماعي تري د أن تق ود الش عب في طري ق جدي د إلى عه د جدي د وحي اة
حيث ه و
ات الرجعي ة والشخص ية تري د أن يبقى الش عب ُ
مثلى ،وزعام ُ
اذه. ل على إنق ا تعم َّدعي أنه في حين ت
150
ح ال ،س الح الع اجزين الفاش لين ،ال ذين يظه ر عج زهم في ن وع الس الم
ال ذي يلج أون إلي ه قب ل أن يظه ر في انخ ذالهم النه ائي الق ريب.
151
القومي االجتم اعي .ولم يقتص ر اهتم ام الس لطة على من ع المواط نين في
الم دن الك برى من س ماع ص وت ال زعيم ،ب ل تع دى ذل ك إلى األقض ية
التي ال يحدث فيها تجمهر كالذي يحدث في المدن .وجمي ع ال ذين تتبع وا
حركة الحزب السوري القومي االجتم اعي يعرف ون أم ر الق وات الجندي ة
ال تي وجهت على طرط وس وعلى عم اطور الش وف وعلى بكفي ا المتن
ال تي ج رت فيه ا مناوش ة بين القوم يين االجتم اعيين والجن د وس قط فيه ا
رحى. دد من الج ع
لم تحكم المحاكم الفرنس ية العس كرية على رج ال "عص بة العم ل الق ومي"
أي
عارها "العروب ة" وس ُعيها لالمبراطوري ة العربي ة ،ولم تُص در َّ
ال تي ش ُ
حكم كال ذي أص درته على زعيم الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي
ومعاوني ه في إدارة الحرك ة القومي ة االجتماعي ة على أح د من رج ال
السياس ة الس ورية .أم ا األحك ام ال تي ص درت بح ق ع دد من األش خاص
في دمشق فعائدةٌ إلى وجود محاولة اغتي ال ض د رئيس مجلس الم ديرين
منظمة .أما رجال "العروب ة" فق د ك انت
َّ وليس إلى مسؤولية حركة قومية
السلطة تشجعهم وتطلق لهم الحرية طالما عملهُم يتعل ق بأس اس فك رتهم،
أي جم ع كلم ة األمم والش عوب العربي ة ،وال يتح َّول إلى عم ل مختص
ْ
وري. عب الس بالش
لم اذا الحقت الس لطتان االنت دابيتان حرك ة الح زب الس وري الق ومي
االجتم اعي ه ذه المالحق ة الش ديدة من ذ اكتش فتا أم ره؟ ولم اذا تخاف ان من
خطب ال زعيم وال تخش يان خطب "العروب يين" ح تى إنه ا أطلقت الحري ة
لجمي ع السياس يين ،ال ذين ع ادوا بع د إبع ادهم ،بالخطاب ة في الجوام ع
والس احات العمومي ة ،ولم تمن ع أح داً يري د التكلم عن "الوح دة العربي ة"
ا؟. دعوة إليه وال
الجواب واضح :ألن خطب الزعيم قائمة على قضية صحيحة يمكن به ا
توحي د الش عب الس وري وإ طالق ق وة الش باب الس وري من عقاله ا ،أم ا
دث االنقس ام ال ديني في ال داخل
خطب جميع السياس يين اآلخ رين فهي تُح ُ
152
ارج. تحيل في الخ ع المس اول جم وتح
إن القض ية ال تي يحمله ا الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي هي قض يةُ
أم ة موج ودة ب القوة على أس اس الن واميس االجتماعي ة ،أخرجه ا الح زب
الس وري الق ومي االجتم اعي من ح يز الق وة إلى ح يز الفع ل بمبادئ ه
القومي ة االجتماعي ة الص حيحة ال تي أزالت ك ل س بب من أس باب التفرق ة
وري. عب الس من الش ض
153
ة. لهم في الدول
يجب علينا أن ننهض كأمة حية وأن ُنزيل من طريقنا جمي ع الص عوبات
وأهم م ا يجب أن ُنزيل ه من الص عوبات
ال تي تعرق ل أو تمن عُ نهوض ناُّ .
صعوبةُ الفتنة الدينية وصعوبةُ الفتنة االجتماعية ـ االقتصادية .وإ زالتُهما
ِّ
الموحدة ،ال تك ون باعتن اق مب ادئ الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي
بمحاربة هذه المبادئ المقدسة كما يفعل الجهال الخالون من المسؤولية.
مما تقدم من هذا البحث يتبين أن الغرض األخير له هو :قمعُ الفتنة الدينية بين أبن اء أمتن ا
قب ل اس تعار أواره ا ،ودع وة الس وريين جميعهم من محم ديين ومس يحيين ودروز إلى
154
رابط ة العقي دة االجتماعي ة الواح دة :إلى عقي دة القومي ة الس ورية ال تي تجمعهم في وطن
د. ير واح ومص
وقد نبهنا ،من قبل ،إلى أنه ال يوجد في هذا البحث غرض فرعي كال ذي ق د يك ون َّ
توهم ه
المتعنت ون المس يحيون ال ذين يظن ون أن تس فيه رأي أص حاب الدول ة الديني ة الرس ولية
المحمدي ة وفي غ رض ال دين المحم دي ك ان بقص د إظه ار أن ال دين المس يحي ه و ال دين
الص حيح الوحي د وأن ال دين المحم دي يجب أن ي زول .وأظهرن ا في ع دة أم اكن س ابقة أن
تخص يص ه ذه السلس لة من األبح اث الفلس فية االجتماعي ة والديني ة بنقض م ذهب أص حاب
"الجنس ية الديني ة" المحمدي ة وتس فيه مط اعنهم في المس يحية ورد دع وتهم إلى العص بية
وتهوس هم العظيم الض رر بالقومي ة ومص ير األم ة الس ورية لم يكن إالّ بقص د من ع
الديني ة ُّ
الفتنة الدينية التي قام ينفض الرماد عن بقية نارها نفر من ذوي المطامع الشخص ية ال ذين
يستبيحون دماء أبناء األمة من أج ل أغراض هم الذاتي ة الحق يرة ،وإلقام ة الح ّد وكبح جم اح
حمل ة رجعي ة إذاعي ة ش به منظَّم ة لتح ريض الغوغ اء المحم دي وإ ث ارة نعرت ه الديني ة
وتحريكه نح و المط امع السياس ية الشخص ية باس م ال دين .وه ذه هي الفتن ة عينه ا .فب ْق در م ا
يح رض الرجعي ون والنفعي ون الجماع ات المحمدي ة ويثيرونه ا يح دث رد فع ل في
الجماع ات المس يحية والدرزي ة .وال يق ف األم ر عن د ه ذا الح د ،ب ل يص ْل إلى الجماع ات
المحمدي ة الص غرى أيض اً ك العلويين والش يعة ،فه ذه الش يع ق د وق ع عيه ا االض طهاد من
الجماع ة المحمدي ة الك برى في س ورية ،من أه ل الس نة .وبس بب ه ذه الع داوة أمكن فص ل
منطق ة الالذقي ة ومنطق ة جب ل ح وران إداري اً وسياس يًّا ،عن بقي ة البالد ،كم ا فُص ل لبن ان
ا. عنه
إنن ا َّ
بينا أغالط المهووس ين والرجع يين المحم ديين ،واألض رار العظيم ة ال تي تجلبه ا
َّ
وتمكنا من إثب ات وج وب فص ل المواض يع الملي ة عن دع اوتهم على نهض ة أمتن ا الحديث ة،
العم ل الق ومي إثبات اً ال يقب ل النقض .وه ذا الغ رض بعي د عن محاول ة الح ط من أص ول
ال دين المحم دي األساس ية .وإ نن ا نعتق د أنن ا ق د بلغن ا ه ذه الغاي ة في م ا تق دم من حلق ات ه ذا
البحث.
بقي أن نق ول ق والً يتعل ق بالجه ة المقابل ة للحزبي ة الملي ة المحمدي ة ،أي بالجه ة اليس وعية،
ف إن أعم االً رجعي ة كث يرة ق د ج رت في الجماع ات المس يحية ليس ت كله ا عائ دة إلى "اتق اء
155
اله وس ال ديني المحم دي" ،وه ذه األعم ال الرجعي ة ليس ت أق ل س وءاً من أعم ال الرجع يين
ديين. المحم
إنن ا نعتق د أن الغل ط ال ُيص لح بغل ط من نوع ه .وإ يج اد حرك ة رجعي ة مس يحية ال ُيع ِدم
الحرك ة الرجعي ة المحمدي ة ،ب ل يزي د ه ذه الحرك ة احت داماً .ولكن الرجع يين المس يحيين لم
يكون وا ،في ش يء ،أق ّل هوس اً من الرجع يين المحم ديين ،والرجع ة المس يحية ال تق ل تس تراً
بالوطني ة "والقومي ة اللبناني ة" عن الرجع ة المحمدي ة بالوطني ة "والقومي ة العربي ة" وكال
القومي تين خرافيت ان في م ا يختص باألم ة الس ورية وال وطن الس وري ال ذي يك ّون لبن ان
ه. زءاً من ج
156
أك ان س واهم من ملته ا أو من غ ير ملته ا فهي ال تس فر وال تجلس لهم .فه ذه المعامل ة ال
مودت ه ،ولكنه ا ع ادة تس تند إلى ش رع .أم ا
يقُص د منه ا إهان ة الزائ ر المس يحي وال رفض ّ
لزوم هذا الشرع أو عدم لزومه فمسألة أخرى .ودليل آخر على فساد ادعاء أصحاب ه ذه
الحج ة ه و أن ه إذا ج اء زائ ر مس يحي إلى دار ص ديق محم دي وجلب مع ه امرأت ه ،ف امرأة
ا. ريم وإ كرامه ان الح تقبالها في مك ع عن اس دي ال تمتن المحم
وح ِرمن ا
ومن أق وال ه ؤالء المتعن تين" :إنن ا ق د لقين ا كث يراً من االض طهاد من المحم ديينُ ،
مس اواة الحق وق والتماث ل في المواق ف ،فال يمكنن ا أن ننس ى م ا ج رى لبعض ها وآلبائن ا من
اإلهان ة واالض طهاد الخ" .وم ع أن حج ة االض طهاد ص حيحة فليس ص واباً اتخاذه ا ذريع ة
أو مستنداً لجعل الماضي يحكم على الحاضر والمس تقبل .فإع دام المس تقبل بس بب جه االت
الماض ي ه و أس وأ الض الل :إن ه االنتح ار واالنع دام ،وال يس عى نح وه إال ك ل س يِّيء
المصير .إنه جريمة تتناول األبناء واألحفاد األبرياء ،وأي جهالة يمكن أن تكون ش راً من
ة؟ ذه الجهال ه
أجل ،إن حرب الثالثين سنة الدينية التي نشبت بين الذين اعتنقوا م ذهب ل وثر اإلص الحي
والس لطة الكاثوليكي ة وأتباعه ا ،هي ح رب لم ينش ب مثله ا في بالدن ا بين المس يحيين
والمحم ديين ،إنه ا ح رب ش ديدة كثُ رت وقائعه ا المش هورة وس الت فيه ا ال دماء ش آبيب،
ق في ألماني ة مدين ة أو بل دة إال ولبس ت الح داد وته َّدمت الم دن ،وخ ربت ال ديار ،ولم يب َ
وأقيمت فيها المناحات .فل و بقي أحف اد المتق اتلين األلم ان يقول ون إلى الي وم م ا يقول ه أحف اد
المتق اتلين الس وريين ،أي " :ال يمكنن ا أن ننس ى م ا ج رى آلبائن ا وض حايانا" أك انت تق وم
ة؟ ة قائم أللماني
أال إن م ا مض ى ق د مض ى ،واألم ة يجب أن تحي ا للحاض ر والمس تقبل ،وليس للماض ي.
وإ ذا نظرن ا إلى الماض ي فلننظ ر الس تخراج ِ
العَب ر والمغ ازي ،وليس الرج وع إلى حال ة
فة. ي المؤس الماض
157
ومن أق وال جهل ة المس يحيين أن م ا ُي رى من ش دة تعص ب العام ة المحمدي ة ه و دلي ل على
ع دم إمك ان االتف اق واالتح اد م ع المحم ديين ،فك أنهم يقول ون إن المحم ديين ُخلق وا جام دين
على ح التهم ،غ ير ق ابلين للتطُّور .وه ذا جه ل وخط ل في ال رأي .ف إذا رجعن ا إلى أزمن ة
التعص ب المس يحي وج دنا أنه ا ال تختل ف في ش يء عن أزمن ة التعص ب المحم دي ،إذا لم
تكن فاقته ا ش دةً وقس وةً .فلنعت بر بم ا ج رى في ألماني ة .ثم بم ا ج رى في فرنس ة من
االض طهاد ال ديني ال ذي بل غ قمت ه في مذبح ة برتلم اوس الش هيرة ال تي ظه رت فيه ا فظاع ة
الغدر والحق د ال ديني ب أقبح مظه ر .وق د رأين ا بع د ذل ك أن الن اس ترك وا ه ذه األم ور ،فه ل
يظن أحد من ذوي اإلدراك العادي أن المس يحيين وح دهم ق ابلون للتط ور ،وأن المحم ديين
ه؟ ديني وأوهام وس ال ة اله دين في حال يبقون جام س
إن الس وريين المحم ديين ق ابلون للتط ُّور كالس وريين المس يحيين .وال ننس أن أك ثر
المحم ديين الس وريين ك انوا من قب ل مس يحيين ثم اعتنق وا المحمدي ة مفض لينها م ع الحري ة
خي ر أه ل البالد بين ال دخول في ال دين
على المس يحية م ع العبودي ة ،ألن الفتح المحم دي ّ
الرس ولي وني ل جمي ع حق وق أتباع ه وبين البق اء على دينهم ودف ع الجزي ة وإ بط ال حق وقهم
ية. ة والسياس المدني
أما ما نراه من شدة هوس الجماعات المحمدية في سورية فهو أمر طبيعي جرى مثله في
جميع الملل ،وهو عائد إلى قرب عهدهم بالتعصب الديني وانعدام العلوم الفلسفية والعملية
ننس أن تس اهل المس يحيين
من أوس اطهم ،وليس إلى طبيع ة فيهم ال تتب دل وال تتغ ير .فال َ
الح الي عائ د إلى س بقهم المحم ديين إلى العل وم والمع ارف العص رية بم ا نش أ في أوس اطهم
من م دارس وخصوص اً م ا نش أ في الم دة األخ يرة من الم دارس المدني ة .وحيث نش أت في
أوس اط محمدي ة م دارس مدني ة ُعنِيت بت دريس العل وم الحديث ة نج د تب دالً كب يراً في نظ ر
التالميذ المحمديين إلى الحياة االجتماعية .وفي الحركة السورية القومية االجتماعية جرى
واح داً بين المس يحيين والمحم ديين وال دروز. التغ ير والتط ور مج رى ِ
معلوم أن المحمدية ت أخرت عن المس يحية في س ورية نح و س بعة ق رون .وف رق ه ذه الم دة
ٌ
التطور يجب أال يذهب بدون مالحظة .ثم نجد أن التعص ب ال ديني المس يحي لم يبت دئ
ُّ في
ف إال بع د نش وء الم دارس العلماني ة ،أم ا حين ك ان التعليم ديني اً بحت ك ان التعص ب
يخ ّ
الديني المسيحي مثل التعص ب ال ديني المحم دي .وش دة التعص ب ال ديني المحم دي ال تي م ا
158
ت زال ظ اهرة بين محم ديي س ورية عائ دة إلى ت أخر نش وء الم دارس العلماني ة عن دهم وقل ة
ع ددها بالنس بة إلى الم دارس الديني ة والتعليم المحش ّو هوس اً وتعص باً ديني اً.
إذا وض عنا ع دداً متس اوياً من التالمي ذ المس يحيين والمحم ديين وال دروز تحت ثقاف ة واح دة
فإننا نجد النتائج واحدة وال تختل ف إال بتع َّرض التالمي ذ لت أثيرات أخ رى في بي وتهم .وم ع
ذل ك ف االختالف يض عف روي داً م ع اس تمرار الثقاف ة ح تى يتالش ى وي زول ب المرة.
وق د ش اهدنا أط وار ه ذا الص راع الطوي ل بين الثقاف ة القومي ة الواح دة ال تي أنش أها الح زب
السوري القومي االجتماعي وعوامل البيئات الملية .وفي أوائل أطوار ه ذا الص راع ظه ر
كأن عوامل الحياة الملية س تغلب دواف ع الحي اة القومي ة وثقافته ا .ولكن لم يط ل األم ر ح تى
أخذت الثقافة القومية االجتماعية تتغلب على الثقافة الملية ،وص ارت دواف ع الحي اة القومي ة
تمح ق عوام ل الحي اة الملي ة ح تى أتت عليه ا .وق د اقتض ى ذل ك مق داراً عظيم اً من الص بر
وحس ن السياس ية والس هر في إدارة الح زب الس وري الق ومي وبع د النظ ر ُ والحنك ة ُ
االجتماعي العليا ،فكانت النتيج ة ب اهرة ال يتص ور الالقومي ون اجتم اعيون رؤيته ا وال في
ام. المن
وال َيظَُّن َّن أح د أن جمي ع مفك ري المحم ديين هم من ن وع الش يخ محم د عب ده والس يد جم ال
ال دين األفغ اني ،فه ذان المفك ران الرجعي ان غ ير الس وريين ال يمكنهم ا ادع اء احتك ار
التفكير المحمدي العص ري .وق د قلن ا إن ه من المؤس ف أن مفك راً س ورياً محم دياً ه و الس يد
ذهاب صيت إمامي الرجعة المذكورين م ع َ الفراتي عبد الرحمن الكواكبي لم يذهب صيتُه
أنه ُّ
أحق بهداية النف وس منهم ا ،إذ نظ ر إلى الحي اة االجتماعي ة والسياس ية من جه ة التفك ير
وري الم ترقي ،وإ لي ك فق رة مم ا قال ه في كتاب ه "طب ائع االس تبداد ومص ارع االس تعباد":
الس ّ
"ي ا ق وم ،وأع ني بكم الن اطقين بالض اد من غ ير المس لمين( ،وه و ق ول س وري موج ه إلى
الس وريين بالدرج ة األولى وإ ن يكن الق ول عام اً الن اطقين بالض اد) أدع وكم إلى تناس ي
اإلس اءات واألحق اد وم ا جن اه اآلب اء واألج داد ،فق د كفى م ا فع ل ذل ك على أي دي المث يرين،
ُجلُّكم من أن ال تهت دوا لوس ائل االتح اد وأنتم المتن ورون الس ابقون .فه ذه أمم أوس ترية وأ ِ
وأميرك ة ق د ه داها العلم لطرائ ق ش تى وأص ول راس خة لالتح اد الوط ني دون ال ديني،
والوف اق الجنس ي دون الم ذهبي ،واالرتب اط السياس ي دون اإلداري (؟) فم ا بالُن ا نحن ال
نفتك ر في أن نتب ع إح دى تل ك الطرائ ق أو ش بهها ،فيق ول عقالؤن ا لمث يري الش حناء من
159
األعجام واألجانب :دعونا ي ا ه ؤالء ،نحن ن دبر ش أننا ،نتف اهم بالفحص اء ون تراحم باإلخ اء
ونتواسى في الضراء ونتساوى في السراء .دعونا ندبر حياتنا ال دنيا ونجع ل األدي ان تحكم
في األخرى فقط .دعونا نجتمع على كلم ات س واء أالّ وهي :فلتحي األم ة .فليحي ال وطن.
أعزاء!" .هذا كالم رجل من المحمديين ع رف مع نى اإلس الم الص حيح وق ال فلنحي طلقاء ّ
ق
ق والً جعل ه في طالئ ع العه د الق ومي وإ ن ك ان الن اس اتبع وا من ،ه و (الكواك بي) أح ّ
بالتق دم علي ه .ولكن النهض ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة ج اءت تنفض غب ار األوه ام عن
أذهان الناس ليميزوا بين قول الحق وقول الباطل .ف رحم اهلل الس يد الف راتي بم ا ق ال ،وفي ه
وتأمل ناض ج" :دعون ا ن دبر حياتن ا ال دنيا ونجع ل األدي ان تحكم في زب دة تفك ير راس خ َّ
األخ رى فق ط" .فه ذا ق ول تتبن اه الحرك ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة بحرفيت ه ،وتخلِّد ب ه
ذكرى اإلمام الكواكبي الذي نظر في مقتضيات الدين والدنيا فقال فيها هذا القول الفصل.
الخالصة
ق د ت بين من ه ذا ال درس المختص ر ،على طول ه ،أن ال دعوة الرجعي ة إلى دول ة ال دين
المحمدي هي فاسدة ومستندة إلى جهل في الدين والدنيا ،كما أن الدعوة الرجعية إلى دولة
دنيا. دين وال ل في ال تندة إلى جه دة ومس يحي هي فاس دين المس ال
واتَّضح أن التعصبات الدينية والحزبيات الملية هي بالء ه ذه األم ة الس ورية ال ذي ال بالء
بع ده ،وأن ال داف ع له ذا البالء وغ يره عن األم ة غ ير دواء القومي ة الس ورية ال تي جعله ا
الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي دين ال دنيا للس وريين .وق د ت وفرت األدل ة وال براهين
النظري ة والعملي ة على ص حة ه ذا ال دين الق ومي ال ذي يجع ل الس وريين عص بة واح دة ال
تف ِّرق بينهم أي ة فك رة محله ا في اآلخ رة ،وال يتم يز بينهم أح د إالّ بمق دار م ا يجاه د ويب ذل
ا. ة جميعه ير األم لخ
إن النت ائج الفعلي ة ال تي حص لت بنش وء القومي ة الس ورية وس ير الحرك ة الس ورية القومي ة
تعم الشعب لينهض كل ه نهض ة واح دة بعقي دة
االجتماعية هي نتائج أكيدة ال ينقصها إالّ أن َّ
واح دة وإ يم ان واح د ،فيص ير ق ادراً على الص بر والثب ات في مع ترك األمم والتق دم في
160
عدو لس ورية ،يقتض ي
مضمار الحياة .والوصول إلى هذه الحالة السعيدة ،التي ال يشتهيها ٌّ
تلبي ة واس عة س ريعة من األوس اط والعناص ر المدرك ة ال تي رأت ص حة الرس الة القومي ة
االجتماعي ة ،إلم داد الحرك ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة لنش ر رس التها وإ ذاع ة مبادئه ا
ونظرياته ا وتلقين تعاليمه ا للجماع ات العطش انة إلى المعرف ة المش تاقة إلى ن ور اليقين،
ولتأييد هذه الحركة المباركة معنوياً ومادياً ومساعدتها على مهاجم ة ال دعاوات التض ليلية،
ومحارب ة األفك ار الس اقطة والم ذاهب االنحطاطي ة ،فيك ون من وراء ذل ك تغي ير األم ة من
والتعاض د والق وة
ُ ح ال االنش قاق والتخ اذل والتحاق د والض عف إلى ح ال االتف اق والتع اون
د. والتغلُّب والمج
إن القض اء على التض ليل والمض لِّلين ،وجلب س واد الش عب إلى ص راط الحقيق ة والح ق
ث المعرف ة في جمي ع األوس اط ،وه ذا عم ل كب ير في ح د ذات ه يقتض ي وس ائل يحت اج ِلَب ِّ
كثيرة من اإلذاعة الخطابية والكتابية .والتفكير في هذا المش روع وح ده ومقتض ياته يجعلن ا
ن درك كم ه و ض روري اإلقب ال على مناص رة الحرك ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة مادي اً
ومعنوي اً .ول و أن التلبي ة الفعلي ة امت دت بس رعة في ال وطن والمهج ر وحص لت للحرك ة
المقومات المادية الكافية إلذاع ة واس عةَّ ،
وبث الكتّ اب والخطب اء في جمي ع األنح اء ،وطب ع ِّ
الكتب والمناش ير وتوزيعه ا بعش رات األل وف ،وإ نش اء الجرائ د والمجالت إلم داد الن اس
بالمعلومات الوثيقة والتوجيهات الصحيحة ،لكان من المحتمل أو المرجح أن يكون موق ف
س ورية في ه ذه الح رب غ ير موق ف الش لل ال ذي تقف ه بس بب ك ثرة ال دعاوات واإلذاع ات
المض لِّلة ال تي تق وم به ا عناص ر السياس ة الشخص ية والرجعي ة وتغ ذيها اإلرادات األجنبي ة
ال تي ،أي اً ك ان مص درها ،ال ت رغب في أن ت رى األم ة الس ورية َّ
موحدة العقي دة واإلرادة
ا. ا فيه ا مطامعه لكيال تفوته
إن ك ل س وري وس ورية يغ اران فعالً على ش رف قوميتهم ا ومص لحة ش عبهما ورفاهي ة
وطنهما يجب أن يعلما أن أمانيهما لخير أمتهما ووطنهما ال تتحقق بالكسل والالمباالة وال
بمج رد التم ني ،ب ل ب درس القض ية القومي ة االجتماعي ة المقدس ة درس اً ص حيحاً في مبادئه ا
التي نش أت عليه ا ،وبالقي ام ب الواجب نح و ه ذه القض ية ،وبمحارب ة َّ
دجالي الوطني ة واألدب
عوذي العلم والفن. ومش
يتم ال وعي الق ومي وتخلص األم ة الس ورية من قض ية الحزبي ات الملي ة ومن
بهذه الطريق ة ّ
161
مظ الم اإلقطاعي ة ،فتق ف ص فوفاً واح دة مرتب ة بين ص فوف األمم الباقي ة وفي مقدم ة ه ذه
األمم جميعه ا بم ا له ا من مثُ ل علي ا فائق ة الجم ال وفض ل على الثقاف ة والتم ُّدن اإلنس انيين.
إن القواع د الص حيحة لنهض ة س ورية قومي ة اجتماعي ة عظيم ة ق د ُوض عت ،والنهض ة
ق إالّ أن تحص ل التلبي ة الفعلي ةالعظيم ة ق د ابت دأت بالفع ل من ذ نح و عش ر س نين ،فلم يب َ
ا. ذي ينتظره د ال ورية إلى المج ير س عة لتس الواس
في ا أيه ا الس وريون المقيم ون والمه اجرون ارحم وا أنفس كم وعي الكم وذريتكم ي رحمكم اهلل.
انب ذوا ال ذين يري دون بكم ش قاقاً ،والتفُّوا ح ول ال ذين يري دون بكم وفاق اً ،واترك وا قض ايا
وعزن ا
األخ رى لألخ رى ،وتع الوا إلى كلم ة س واء تجم ع ش ملنا وتُعي د إلين ا وطنن ا وأهلن ا ّ
وكرامتن ا وحقوقن ا ومص الحنا :إلى القومي ة االجتماعي ة ،ال تي هي رابط ة ك ل س وري
وسورية بكل سوري وسورية ،ورابطة األجيال السورية الماضية والحاضرة والمقبلة.
أيها السوريون:
162