الإسلام في رسالتيه

You might also like

You are on page 1of 162

‫اإلسالم في رسالتيه ‪ :‬المسيحية والمحمدية‬

‫انطون سعادة‬

‫الضالل البعيد‬
‫‪ ‬‬

‫قلنا في البحث السابق (عودة إلى جنون الخلود فصل من ‪ 1‬وحتى ‪ )12‬إنن ا ال نص دق أن مس لماً محم دياً واح داً‬
‫وباطن ه ه دم‬
‫ُ‬ ‫ُمدركاً لحقيقة رسالة الن بي الع ربي يقب ل كالم رش يد الخ وري ال ذي ظ اهره تأيي د اإلس الم المحم دي‪،‬‬
‫للعقائ د اإلس المية الص حيحة‪ .‬ووع دنا الق راء بتبي ان ذل ك في م ا يجيء من ه ذا البحث‪.‬‬

‫قلنا أيضاً أن رشيد سليم الخوري ليس من أهل العلم وال من أهل الفلس فة والتفك ير وال من أه ل األدب الص حيح‬
‫إذا اتخ ذنا مقياس اً لألدب غ ير األلف اظ واألوزان‪ .‬وإ ن تناول ه ال دين اإلس المي في م ذهبين جليلين كالمس يحية‬
‫وه ْج ُو‬
‫دح اإلس الم المحم دي َ‬ ‫والمحمدية ليس سوى وغول على العلم والفلسفة‪ ،‬في حين َّ‬
‫أن قصده الحقيقي ه و م ُ‬
‫يحية‪.‬‬ ‫المس‬

‫يتظاهر رشيد الخوري في بدء حارضته التي أسماها‪ ،‬جهالً منه‪ ،‬محاضرة‪ ،‬بأنه قد آمن باإلس الم المحم دي‪ .‬ثم‬
‫يأخذ في الخلط بين كالم رجل متديِّن ورج ل يبحث في طب ائع األدي ان ب دون تح ُّيز أو انح راف‪ ،‬اجته اداً من ه في‬
‫اس البحث‪.‬‬
‫َ‬ ‫وه لب‬ ‫ه وهج‬ ‫اس مدح‬ ‫إلب‬

‫فإن "محاضرته" ال ُّ‬


‫تدل على‬ ‫المنزل‪َّ ،‬‬
‫أسلَ َم حقاً‪ ،‬اعتقاداً منه بصحة الدين المحمدي وكالمه ُ‬
‫فإذا كان الخوري قد ْ‬
‫تري‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سوى رجل أسلم عن جهل بحقيقة اإلسالم ونصوصه المنزلة‪ ،‬أو رجل يتظاهر باإلسالم نفاقاً في الدين ليش َ‬
‫اً قليالً‪.‬‬ ‫ه ثمن‬ ‫بآيات‬

‫أو ُل م ا نط ق ب ه الخ وري المتظ اهر باإلس الم المحم دي في م دح ه ذا ال دين ك ان كف راً ب ه وبآيات ه‪ .‬ق ال في ب دء‬
‫حارضته‪" :‬لم ا فض لت اإلس الم على المس يحية في خط ابي الع ام الماض ي الخ" فأخ ذ نقط ة االبت داء تفض يل ال دين‬
‫اإلسالمي المحمدي على الدين اإلسالمي المسيحي‪ ،‬وجع ل ه ذه النقط ة م دار كالم ه فنط ق بكلم ة الكف ر من حين‬

‫‪1‬‬
‫جر قلمه على القرطاس فحق علي ه ق و ُل اآلي ات‪َّ :‬‬
‫{إن الّ ذين يكف رون باهلل ورس له ويري دون أن يفرق وا‬ ‫فتح فاه أو َّ‬
‫بين اهلل ورس له ويقول ون ن ؤمن ببعض ونكف ر ببعض ويري دون أن يتّخ ذوا بين ذل ك س بيالً‪ .‬أولئ ك هم الك افرون‬
‫فرق وا بين أح د منهم أولئ ك س وف ُي ْؤتيهم‬ ‫حق اً وأعت دنا للك افرين ع ذاباً مهين اً‪ .‬وال ذين آمن وا باهلل ورس له ولم ُي ّ‬
‫{لي َس البِ ُّر أن تُولُّوا‬
‫أُج ورهم وك ان اهلل غف وراً رحيم اً} من س ورة النس اء (‪ 150‬ـ ‪ .)152‬ومن س ورة البق رة َ‬
‫البر من آمن باهلل واليوم اآلخر والمالئكة والكت اب والنب يين الخ} (‪.)177‬‬ ‫ولكن َّ‬
‫ّ‬ ‫وجوهكم ِقَب َل المشرق والمغرب‬
‫َ‬
‫ومن سورة النساء {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمن ون بم ا أُن زل إلي ك وم ا أُن زل من قبل ك الخ} (‬
‫‪.)162‬‬

‫فمحاولة مدح اإلسالم المحمدي بالمفاضلة بين ه وبين المس يحية‪ ،‬وب التفريق بين محم د والمس يح هي محاول ة كف ر‬
‫بكالم اهلل الم نزل ب الوحي على محم د رس وله‪ .‬وال ذين يش ايعون رش يد الخ وري في قول ه ويؤيدون ه من المس لمين‬
‫المحم ديين ليس وا بالحقيق ة س وى زنادق ة في أث واب مؤم نين‪ ،‬يتظ اهرون أم ام المؤم نين البس طاء الودع اء القل وب‬
‫ها‪.‬‬ ‫دنيا وأعراض‬ ‫ة ال‬ ‫يرتهم إالّ على زين‬ ‫اغ‬ ‫دين‪ ،‬وم‬ ‫ارون على ال‬ ‫أنهم يغ‬

‫تجاس ر على اقتح ام ه ذا الموض وع الخط ر‬


‫َ‬ ‫لم ا َك ان‬
‫على الفلس فة وال دين والعلم َ‬ ‫لو لم يكن رش يد الخ وري واغالً‬
‫أن ه إذا التق ط أش تاتاً من األق وال ال واردة لغ يره وحش اها به ذر من عن ده ووق ف‬ ‫يظن‬ ‫والخب ط في مس الكه‪َّ .‬‬
‫ولكنه ّ‬
‫في جمه ور من عام ة الن اس وأخ ذ يتش َّدق به ذه األق وال فق د ص ار ((عالم اً جليالً)) كم ا ص ار بمث ل ه ذا الخل ط‬
‫يي ال دين واألدب كش كيب إرس الن فق د ربح‬‫وظن‪ ،‬ف وق ذل ك‪ ،‬أن ه إذا س نده سياس ٌّي من سياس ِّ‬
‫ّ‬ ‫((ش اعراً مفلق اً))‪.‬‬
‫الخل ود ((كم دافع عن ش ريعة محم د وخلفائ ه في األرض)) ال ذين يم ني ش كيب إرس الن نفس ه ب أن يك ون واح داً‬
‫منهم‪.‬‬

‫وفيم ا الخ وري يخلُ ط ويخب ط وين افق في اإليم ان إذا ب ه يح او ُل الظه ور بمظه ر الع الم ال ذي يقلِّب األدي ان على‬
‫ويدرس طبائعه ا‪ ،‬والفيلس وف ال ذي ُيعطي القيم الفكري ة مواض عها‪ ،‬وه و يفع ل ذل ك من غ ير أن يحت اج‬ ‫ُ‬ ‫وجوهها‬
‫تقراء ب ل باالس تبداد ب المنطق وبتس خير القيم والمواض يع ألغ راض هج وه ومديح ه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫إلى ٍ‬
‫بحث واس‬

‫ولما لم يكن من أهل العلم والفلسفة وال من أهل األدب الصحيح‪ ،‬كما ّبينا آنف اً‪ ،‬فق د وق ف في تفك يره ونظ ره في‬
‫ط الخ الي من ك ل ثقاف ة ودراس ة ص حيحة‪.‬‬ ‫امي المنح ّ‬
‫المس يحية والمحمدي ة عن د ح دود التفك ير الع ِّ‬

‫وليس أد ّل على خلطه وخبطه‪ ،‬في ما ال يعلم‪ ،‬من قوله‪" :‬لو كنت في هذا البحث ال ديني اس ماً واالجتم اعي فعالً‬
‫ق لك ِّل أديب أن يلح اني‪ ،‬ولك ني تن اولت في اإلس الم ناحيت ه الديني ة‬
‫أع رض لمس ائل اآلخ رة والجن ة والن ار لح َّ‬
‫البحت ة‪ ،‬وأش رت إلى عالقت ه بالحي اة ال دنيا وتحدي ده س لوك الف رد تحدي داً مرجع ه العق ل الس ليم‪ ".‬فقول ه "ناحيت ه‬
‫مجرداً هذه الناحية من مسائل اآلخرة والجنة والنار ليس سوى جه ل بم ا ه و ال دين وم ا ه و العلم‬
‫الدينية البحتة" ِّ‬

‫‪2‬‬
‫وم ا هي الفلس فة‪ ،‬إذ ل و جردن ا ال دين من مس ائل اآلخ رة والعق اب والث واب لم ا بقي ل ه ش يء من "ناحيت ه الديني ة‬
‫البحت ة"‪ ..‬ولكن من أين لرج ل واغ ل على ه ذه المواض يع الس امية أن يعلم م ا ه و من طبيع ة ال دين وم ا ه و من‬
‫فة؟‬ ‫ة الفلس‬ ‫و من طبيع‬ ‫اه‬ ‫ة العلم وم‬ ‫طبيع‬

‫ال يعرف رشيد الخوري غير المثل الدنيا‪ ،‬وال قدرة له على تناول غير الفكر العاميَّة‪ ،‬السطحية‪ .‬والعام ة تخب ط‬
‫في الش ؤون الفلس فية األساس ية خبط ا‪ ،‬ول ذلك نش أت عن د عام ة المس يحيين الس وريين الفاق دة الثقاف ة الص حيحة‬
‫والعلم اعتق ادات وت أويالت في الم ذهبين المس يحي والمحم دي‪ ،‬أق ُّل م ا يق ال فيه ا أنه ا جزئي ة وس طحية‪ .‬هك ذا‬
‫أُخذت أول تعاليم المسيح بأنها تعاليم توحي الذل إلساءتهم فهم أقوال المسيح التي منه ا الق ول‪ :‬من ض ربك على‬
‫خ دك فح ِّول ل ه اآلخ ر‪ .‬وأيس ُر أن ي دخل حب ٌل في ثقب إب ر ٍة من أن ي دخل غ ٌّ‬
‫ني ملك وت الس موات‪.‬‬

‫ؤول التع اليم المحمدي ة من غ ير‬


‫وه ذه العام ة نفس ها‪ ،‬نظ راً لجهله ا وم ا ورثت ه من عص ور االنحط اط‪ ،‬أخ ذت ت ِّ‬
‫درس له ا‪ ،‬وت دين محم داً والمحم ديين ببعض آي ات التقطته ا اتفاق اً ولم تحس ن تأويله ا وفهمه ا كاآلي ات المتعلق ة‬
‫ب أزواج الن بي والنك اح وص ور الجن ة المادي ة‪ ،‬ناس ية ق ول المس يح‪ :‬ال ت دينوا لكيال ت دانوا‪.‬‬

‫وك ذلك نش أت عن د عام ة المحم ديين الس وريين الفاق دة الثقاف ة الص حيحة والعلم اعتق ادات وت أويالت في الم ذهبين‬
‫تؤول آيات القرآن تأويالً يوافق هواها‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫المحمدي والمسيحي أقل ما يقال فيها أنها جزئية وسطحية‪ .‬هكذا أخذت ّ‬
‫ر‪.‬‬ ‫ات وأهملت البعض اآلخ‬ ‫ذت ببعض اآلي‬ ‫فأخ‬

‫ؤول تع اليم المس يحية من غ ير‬ ‫وه ذه العام ة نفس ها‪ ،‬نظ راً لجهله ا وم ا ورثت ه من عص ور االنحط اط‪ ،‬أخ ذت ت ّ‬
‫درس له ا‪ ،‬وت دين المس يح والمس يحيين ببعض آي ٍ‬
‫ات التقطته ا اتفاق اً ولم تحس ن تأويله ا كاآلي ات المتعلق ة بملك وت‬
‫السموات وكيف ي دخلها اإلنس ان‪ ،‬ناس ية ق ول الق رآن‪{ :‬آمن الرس ول بم ا أُن زل إلي ه من رب ه والمؤمن ون ك ٌّل آمن‬
‫باهلل ومالئكته وكتبه ورسله ال نفرق بين ٍ‬
‫أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربَّن ا وإ لي ك المص ير}‪ .‬من‬ ‫ّ‬
‫رة ‪.136‬‬ ‫ورة البق‬ ‫س‬

‫وقسم كبير من عامة السوريين المسيحيين والمحمديين لم يع د مؤمن اً اإليم ان ال ديني‪ ،‬ولكن ه يتش بث بعنعن ٍ‬
‫ات من‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫يرس خانه في المعرف ة ويهبان ه نظ رة‬
‫ديني‪ ،‬ولم يحص ل على ثقاف ة وعلم ّ‬ ‫التحزب ات الديني ة‪ ،‬فه و ق د فق د إيمان ه ال َّ‬
‫ّ‬
‫ش املة في الحي اة‪ ،‬ويس اعدانه على فهم ال دين وتأويل ه على الوج ه األص ّح‪ ،‬ونتج عن ذل ك كلِّه انحط اط كب ير في‬
‫وتخب ط في الم ذاهب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلدراك والتأوي ل وفس اد في االس تنتاج وتص ادم في النفس يات وفوض ى في المن ازع‬

‫المحمدية وهج وه المس يحية ص فة البحث‪ .‬وبه ذا‬


‫ّ‬ ‫العامي ما حبَّشه رشيد الخوري ليلقي على مدحه‬ ‫ّ‬ ‫من هذا الباب‬
‫العامي الضعيف اإلدراك قال إن الناحي ة الديني ة البحت ة ال تتن اول مس ائل اآلخ رة والجن ة والن ار ال تي به ا‬
‫ِّ‬ ‫التفكير‬

‫‪3‬‬
‫ال بغيرها صار الدين ديناً‪ .‬ولوال مسائل اآلخرة وخلود النفس والثواب والعقاب لما امتاز الدين بشيء ولم ا زاد‬
‫شيئاً على التعاليم الفلسفية السامية التي قال بها فالسفة عظام‪ ،‬والتي لم تأخذ في قلوب عامة البشر المكان ال ذي‬
‫أخذه الدين بسبب عدم نسبتها إلى قوة إلهية خفي ة‪ ،‬وع دم إس نادها إلى االعتق اد بحي اة أخ رى بع د الم وت تحاس ب‬
‫فيه ا األنفس على م ا تقي دت ب ه من التع اليم الم ذكورة وم ا لم تتقي د ب ه‪ .‬فالوجه ة الديني ة البحت هي العكس تمام اً‬
‫مم ا ذك ره رش يد الخ وري في حارض ته الهجائي ة‪ ،‬أي ّإن ه بال اآلخ رة والجن ة والن ار ال تبقى لل دين وجه ة ديني ة‬
‫بحت‪.‬‬

‫ومن ب دائع بي ان ه ذا الن اثر‪ ،‬اله اجي أن ه ي دخل المواض يع بعض ها في بعض فيش ِّوش ذهن الق ارئ ال ذي ال يك اد‬
‫يشعر بأنه يتتبَّع فكرة حتى ي رى الك اتب ق د أزاحه ا من أم ام عيني ه‪ ،‬كم ا ي زيح ص احب ص ندوق الفرج ة ص ورة‬
‫"ص احب الخض راء" من أم ام عي ني الطف ل قب ل أن يس توعب جم ال ش كلها‪ ،‬ليض ع في محله ا ص ورة ص احب‬
‫"األبجر"‪ .‬فبينما الخوري يحاول التنص ل من تبع ة إث ارة التعص بات الديني ة المريع ة‪ ،‬إذا ب ه يقط ع حب ل الفك ر في‬
‫ه ذه الناحي ة بغت ة وي دخل موض وع ال دين اإلس المي المحم دي في موض وع "الناحي ة" ال تي يعالجه ا على ه ذا‬
‫كل‪:‬‬ ‫الش‬

‫وأشرت إلى عالقته بالحي اة ال دنيا وتحدي ده س لوك الف رد تحدي داً‬
‫ُ‬ ‫"ولكني تناولت في اإلسالم ناحيته الدينية البحتة‪،‬‬
‫مرجعه العقل السليم فهو (اإلسالم) لم يفصل اإلنس ان عن نفس ه ح تى تتقط ع بينهم ا األس باب الخ"‪ .‬إن الق ارئ ذا‬
‫ومبرراته ويق ول‬
‫المنطق السليم يتوقع من "المحاضر" أن يعود بعد تمام جملة "العقل السليم"‪ ،‬فيعطف على نفسه ِّ‬
‫مثالً‪" :‬وإ ني أج د تبي ان ذل ك من األم ور الض رورية الخ" ويختم ه ذا الموض وع ُمع َّداً فك َر الق ارئ لالنتق ال إلى‬
‫ولكن أص حاب الخل ود ال دنكيخوطي ال يفت أون ي أتون ب المعجزات ال تي لم تخط ر على قلب بش ر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫موضوع آخر‪،‬‬
‫والمحي ر العق ول!‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فليس للق ارئ حيل ة غ ير التس ليم لس حر بي انهم الخ اطف األبص ار‬

‫المهووس بالخلود مس تعجل فأفس حوا ل ه المج ال‪ .‬ال تظن وا َّ‬
‫أن لجمي ع ح دود المنط ق ق درة على كبح جماح ه‪ .‬إن ه‬
‫أرعن‪ ،‬ملحٌّ‪ٌّ ،‬‬
‫الج‪ ،‬يقتحم س ياجات العق ل‪ ،‬ويقف ز من النواف ذ إلى المج امع‪ ،‬وي دخل بال اس تئذان‪ ،‬إن ه ه اج س فيه‪،‬‬
‫بابه؟‬ ‫تمه وس‬ ‫ام ش‬ ‫ف أم‬ ‫در أن يق‬ ‫من يق‬

‫ذهب الحديث عن نوع الموضوع وتحديده‪ ،‬وجاء الموض وع نفس ه‪ .‬وال تس ل كي ف ح دثت ه ذه العجيب ة ألم يأتِ ك‬
‫أن من البي ان لس حراً؟ هك ذا يك ون الس حر‪ .‬ف إذا ب رق البص ر وخس ف القم ر وجم ع الش مس والقم ر فق ل أيه ا‬
‫ّ‬
‫ر؟‬ ‫ان أين المف‬ ‫اإلنس‬

‫ق ال ص احب الحارض ة الهجائي ة من فيض "علم ه"‪" :‬فه و (اإلس الم) لم يفص ل اإلنس ان عن نفس ه ح تى تتقط ع‬
‫بينهما األسباب‪ ،‬ولم يباعد بين الجسد والروح في هذه الحياة‪ ،‬وهما وحدة ال تتج زأ إالّ ب الموت‪ ،‬ولم ينس العق ل‬

‫‪4‬‬
‫بي على ش ريعته نفس ها بقول ه‪ :‬الش رع عق ٌل من خ ارج‪،‬‬
‫ويكمل بن اء البش ر الس وي‪ ،‬ب ل لق د قدم ه الن ُّ‬
‫ِّ‬ ‫يجمل‬
‫ال ذي ِّ‬
‫يتم‬
‫يتم دين الم رء ح تى ّ‬
‫والعق ل ش رعٌ من داخ ل‪ ،‬وقول ه‪ ،‬دين الم رء عقل ه‪ ،‬فمن ال عق ل ل ه ال دين ل ه‪ ،‬وقول ه ال ّ‬
‫ريف‪...‬‬ ‫ات أعظم تش‬ ‫ات البيِّن‬ ‫ذه اآلي‬ ‫ري به‬ ‫دماغ البش‬ ‫َّرف ال‬ ‫ه‪ ،‬فش‬ ‫عقل‬
‫"ولقد أش اد ب ذكر العلم وفض ل العلم اء‪ ،‬وق ال في ه ذا المع نى من الحكم م ا يك اد يجم ع كتاب اً‪ ،‬ونحن ل و بحثن ا في‬
‫ّر"‪.‬‬ ‫ير أو بش‬ ‫ذكر العلم بخ‬ ‫دة ت‬ ‫ة واح‬ ‫دنا آي‬ ‫ا وج‬ ‫ل لم‬ ‫اإلنجي‬

‫ه ذا ه و الموض وع‪ ،‬وهن ا ب دء تفض يل المحمدي ة على المس يحية ال ذي قلن ا إن ه كف ٌر باإلس الم ال ذي يتظ اهر رش يد‬
‫آمن ب ه‪ .‬وبم ا أن الخ وري ق د خل ط بين ال دين والطريق ة العلماني ة في الكالم ال ذي ش اء أن يس ِّميه‬
‫الخ وري بأن ه َ‬
‫بحث اً فال ب د من اقتف اء أث ره في اعوجاج ه والتوائ ه‪ .‬إن ه جع ل ه ذا الكالم "بحث اً اجتماعي اً فعالً" فلنوافق ه من أج ل‬
‫البحث‪.‬‬

‫وي من األق وال عن العق ل واتص ِ‬


‫اله‬ ‫جعل الخوري أول تفضيل للمحمدية على المس يحية م ا ورد في الح ديث النب ِّ‬
‫بال دين‪ ،‬وإ ش ِ‬
‫ادة الن بي ب ذكر العلم وفض ل العلم اء‪ .‬ف ارتكب ع دة ج رائم ض َّد ال دين اإلس المي في المحمدي ة وفي‬
‫المس يحية مع اً‪ ،‬وض َّد العق ل ال ذي ع رف محم د ق دره فوص فه بم ا ع رف‪ .‬وأو ُل جريم ة ض َّد ال دين اإلس المي‬
‫المحمدي أنه ق دم الح ديث الش ريف على الق رآن‪ ،‬وجع ل ه ذا تابع اً ل ذاك‪ ،‬ووض ع كالم الرس ول قب ل كالم اهلل في‬
‫وي ح داً لآلي ات المنزل ة‬
‫تبي ان ج وهر اإلس الم المحم دي‪ .‬والجريم ة الثاني ة الك برى هي أن ه جع ل الح ديث النب َّ‬
‫وحكم اً عليه ا‪ .‬ف إذا ك ان محم د ق د ق دم العق ل على الش ريعة المنزل ة‪ ،‬كم ا يق ول الخ وري‪ ،‬فالش ريعة ق د أص بحت‬
‫منقوض ة‪ ،‬وأص بح العم ل به ا على جه ة التس ليم بأحك ام اهلل وح دوده ب اطالً‪ .‬وإ ذا أص بح العق ل ه و المق َّدم على‬
‫الشريعة المنزلة فأية قيمة إلهية بقيت لتلك الشريعة؟‪ .‬وأول جريم ة ض د الم ذهبين المحم دي والمس يحي مع اً ه و‬
‫إلهي في ُعرف اإلسالم في الم ذهبين المس يحي والمحم دي‪.‬‬ ‫النبوي‪ ،‬واإلنجيل كالم ّ‬
‫ِّ‬ ‫مقابلته اإلنجيل على الحديث‬
‫فمن حيث المسيح هو عند المسيحيين ابن اهلل وروحه كان كالمه كالم اهلل‪ .‬وفي القرآن إنك ار لك ون المس يح ه و‬
‫اهلل أو ابن ه من ص احبة ومش اركاً ل ه في الحكم ي وم الدينون ة‪ ،‬ولكن في ه إثب ات لك ون كالم المس يح كالم اً إلهي اً‬
‫باعتب اره م نزالً عمالً بقول ه‪{ :‬لكن الراس خون في العلم منهم والمؤمن ون يؤمن ون بم ا أن زل إلي ك وم ا أن زل من‬
‫قبل ك الخ} (س ورة النس اء‪ )162 :‬وج اء ق ول اهلل في س ورة م ريم‪{ :‬فأش ارت إلي ه ق الوا كي ف نكلِّم من ك ان في‬
‫المه د ص بياً‪ .‬ق ال إني عب د اهلل آت اني الكت اب وجعل ني نبي اً‪ .‬وجعل ني مبارك اً أين م ا كنت وأوص اني بالص الة‬
‫أبعث حي اً‪ .‬ذل ك عيس ى‬
‫ُ‬ ‫علي ي وم ول دت وي وم أم وت وي وم‬
‫والزكاة م ا دمت حي اً (‪ 29‬ح تى ‪ ... )31 -‬والس الم َّ‬
‫ابن م ريم ق ول الح ق ال ذي في ه يم ترون } (‪33‬و‪ .)34‬وفي س ورة النس اء‪{ :‬وإ ّن من أه ل الكت اب إالّ لي َّ‬
‫ؤمنن ب ه‬
‫{نزل عليك الكتاب ب الحق مص ّدقاً لم ا بين‬
‫قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً} (‪ .)159‬وفي آل عمران‪ّ :‬‬
‫يدي ه وأن زل الت وراة واإلنجي ل من قب ل ه ًدى للن اس وأن زل الفرق ان الخ} (آل عم ران‪ 3 :‬و‪.)4‬‬

‫‪5‬‬
‫كان الصحيح‪ .‬من حيث البحث‪ ،‬أن يقابل القرآن على اإلنجيل مقابلة كالم إلهي لكالم إلهي‪ ،‬فال ي زين للمؤم نين‬
‫أن يتبعوا غ روره ونفاق ه‪ .‬به ذا يقض ي منط ق العق ل‪ .‬ولكن ال ذي اخت َّل منطق ه واض طرب ش عوره أيع رف ال دين‬
‫ق؟‬ ‫أو المنط‬

‫بقي أن نعلق على قول الخوري المتقدم تعليقاً أوسع في ما يختص بما جعله أساس المفاض لة‪ .‬إن وص ف محم د‬
‫عري ال ذي ال‬
‫الش رع بأن ه عق ٌل من خ ارج‪ ،‬ووص فه العق ل بأن ه ش رعٌ من داخ ل‪ ،‬إنم ا ه و ش يء من التعلي ل الش ّ‬
‫يتم عقل ه‪ ،‬ومن ال عق ل ل ه‪،‬‬
‫يعين تعييناً جازماً مرك ز العق ل البش ري من الش رع‪ .‬وقول ه‪ :‬ال يتم دين الم رء ح تى ّ‬
‫ّ‬
‫حث على ع دم الجه ل بال دين‪ ،‬وال يش تمل على ّأي ة نظ رة فلس فية ش املة في العق ل‪ .‬ول و اش تمل‬
‫ال دين ل ه‪ ،‬فه و ّ‬
‫على ه ذه النظ رة الش املة وجعله ا محم د قاع دة دعوت ه لك ان اكتفى ب أن يك ون فيلس وفاً ي ذهب م ذهب الفالس فة‬
‫المحكمين العق ل في ك ل الظ واهر‪ ،‬الجاعلين ه ج وهر الطبيع ة وم يزة اإلنس ان‪ ،‬فيك ون‪ ،‬في ه ذا الب اب‪ ،‬تلمي ذاً من‬
‫ّ‬
‫وري العظيم زين ون‪ ،‬وه و قب ل‬ ‫تالم ذة المدرس ة الس ورية الفلس فية ال تي وض ع قواع دها الفلس فية الفيلس وف الس ّ‬
‫ذرة على م ذهب‬
‫محمد وقبل المس يح بزم ان‪ .‬ومن ه ذا الوج ه م ا ك ان يك ون لمحم د فض ل‪ .‬إذ ه و لم ي زد مق دار ّ‬
‫بي ال في أن ه فيلس وف‪ .‬وم يزة المحمدي ة هي في الق رآن‬
‫الرواق يين في الفك ر‪ .‬إن م يزة محم د هي في أن ه ن ّ‬
‫والشريعة الواردة فيه‪ ،‬ال في الحديث الذي هو من مجمالت النبي وحسن نظره وسالمة فطرته‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫الجهل المُطبق‬
‫‪ ‬‬

‫قال الخوري‪ ،‬بعد عبارته المتقدمة‪" :‬فاإلنجيل كتاب روحاني ُيع نى ب اآلخرة فحس ب وال يعلِّم في ه ذه ال دنيا غ ير‬
‫الدروش ة والزه د وقه ر الجس د وحبس العق ل في قفص من غب اوة االستس الم لم ا وراء المنظ ور وه و يقت ل‬
‫المواهب ويهيض األجنحة ويعصب على العيون ويربط الفطرة بالسالسل الثقيلة ويخنق الطم وح فال مج د عن ده‬
‫إالّ مج د الخض وع األعمى للتع اليم الس ماوية كم ا بش ر به ا ه و‪ .‬ال ب أس في ش ريعته أن تعيش عب داً رقيق اً م دى‬
‫الحي اة تُس ام الخس ف واله وان والجل د بالس ياط م ا دمت تعتق د أن بع د الم وت حي اة ثاني ة تُث اب فيه ا على خنوع ك‬
‫واستسالمك وصبرك على الظلم‪ .‬ولقد فسح اإلسالم لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجاالً ال حد ل ه بقول ه "اعم ل‬
‫ل دنياك كأن ك تعيش أب داً" في حين جعلت المس يحية الفق ر ش رطاً أساس ياً ل دخول الس ماء عمالً بقوله ا للغ ني ال ذي‬
‫طلب أن ي رث الحي اة األبدي ة" ب ع ك ل أمالك ك ووزع ثمنه ا على الفق راء واتبع ني " ولعم ري ل و عم ل ك ل غ ني‬
‫به ذه الش ريعة ألص بح الن اس جميع اً م دقعين ولم يب ق في األرض من يس تطيع أن يج ود على فق ير بفلس"‪.‬‬

‫ال ننتظ ُر أن يكون لرشيد سليم الخوري ضابط من جهله‪ ،‬ألن الض ابط يك ون من العلم‪ ،‬وال يمكن مطلق ا ً أن يك ون‬

‫‪6‬‬
‫ي هو‬ ‫من الجهل‪ .‬فهو في الفق رة المتقدم ة‪ ،‬يت ابع المقابل ة بين المس يحية والمحمدي ة على قاع دة أن الح ديث النب و َّ‬
‫اإلسالم وشريعته‪ .‬فقوله‪" :‬لق د فس ح اإلس الم لمح بي الكس ب وط البي ال ثروة مج االً ال ح د ل ه بقول ه‪( ،‬أي بق ول‬
‫َّ‬
‫(ألن القول لإلمام علي) في مق ام‬ ‫اإلسالم) "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً الخ" يجعل الحديث النبو ّ‬
‫ي وأقوال األئمة‬
‫الشريعة اإلسالمية‪ .‬وهو جهل ما بعده جهل‪ .‬فاإلسالم ال يقول هذا الق ول‪ ،‬وإنم ا ال ذي يقول ه ه و عل ّي ال اإلس الم‪.‬‬
‫وهنالك فرق أساسي جوهري بين الرسالة اإلسالمية والحديث النبوي ال يغفله غير الجه ال ال ذين يطلب ون الكس ب‬
‫دين والعلم‪.‬‬ ‫دجيل على ال‬ ‫تى بالت‬ ‫ثروة ح‬ ‫وال‬
‫لما كان الخوري قد اتخذ في هذا الكالم صفة باحث متجرد عن االعتقادات الدينية‪ ،‬وكنا قد آلين ا على أنفس نا تتبع ه‬
‫في جمي ع التواءات ه واعوجاجات ه فإنن ا س نعالج ه ذه النقط ة من وجه ة الدراس ة العلمي ة‪:‬‬
‫إن الكالم الذي ورد على لسان محمد‪ ،‬أو قيل إنه ورد على لسانه‪ ،‬يُقسم إلى قسمين‪ :‬قسم عزاه محمد إلى هللا ُمعلن ا ً‬
‫أنه نزل عليه وحيا ً إلهياً‪ ،‬وقسم لم يعزه إلى هللا فهو حديث منه ح َّدث به في أوقات متفاوت ة‪ .‬فالقس م األول فق ط ه و‬
‫ق على المس لم إالّ م ا ورد في ه‪ .‬والمش كوك‬‫اإلسالم والشريعة اإلسالمية‪ ،‬وفيه أوامر هللا ونواهيه وحدوده‪ ،‬فال يح ُّ‬
‫ٌ‬
‫آيات قليلة‪ .‬أما القس م الث اني فليس اإلس الم وال الش ريعة اإلس المية‪ ،‬وإنم ا ه و أق وال حكمي ة‬ ‫فيه من القسم األ َّول‬
‫ي منها في كيفية فهم نبيّه وفهم نظرته في بعض أحوال الدين والدنيا‪ .‬وهذا القسم الث اني مش كوك في‬ ‫يستفيد المحمد ّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫الكثير منه‪ .‬ومع أن المتقدمين عزلوا المشكوك الذي س َّموه "مجروحا" عن "الص حيح" ف إن األبح اث المستفيض ة‬
‫المتأخرة دلّت على أن الكثير من الح ديث النب وي المحس وب ص حيحا ً مج روحٌ‪ ،‬أو غ ير ص حيح‪ ،‬فلم يع د يص ّح‬
‫اعتماده حتى وال في صفته المحدودة كح ديث ف اه ب ه محم د من غ ير أن يعيّن ش ريعة أو نص ا ً يجب التمس ك ب ه‪.‬‬

‫يعين للمحم ديين طري ق الحي اة‪ ،‬غ ير جاه ل جهالً مطبق اً‬
‫النبوي هو اإلسالم الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ال يقول إن الحديث‬
‫كرش يد الخ وري ال ذي ظن أن اس تعارة بعض العب ارات العلمي ة الص بغة وإ طالقه ا في مع رض الت دجيل لكفيالن‬
‫ل والعلم!‪.‬‬ ‫ّويا بين الجه‬ ‫أن يس‬ ‫ب‬

‫إن المقابل ة بين اإلنجي ل والح ديث النب وي هي جريم ة ض د الم ذهبين المس يحي والمحم دي‬
‫قلنا في المقالة الس ابقة ّ‬
‫لل ّذين يعتبرون نصوصهما أو نصوص أحدهما‪ ،‬فضالً عن أنها دليل قاطع على جهل صاحب الحارضة أوليات‬
‫"البحث" ال ذي تص َّدى ل ه تزلّف اً إلى اتّب اع أح د الم ذهبين الم ذكورين‪ ،‬غ ير ع ابئ ب العواقب الوخيم ة ال تي يجره ا‬
‫أي زمن آخ ر إلى قت ل روح التعص ب ال ديني ال ذي‬ ‫مطلبه النفعي على أبناء أمة واحدة هي اآلن أح وج منه ا في ّ‬
‫ل‪.‬‬ ‫ير الوي‬ ‫هغ‬ ‫لم تجن من‬

‫ونق ول هن ا إن الجريم ة ق د ك برت بإقام ة المث ل ال دنيا المادي ة‪ ،‬ال تي رأين ا‪ ،‬في م ا تق ّدم من ه ذه المق االت‬
‫الدراسية(عودة إلى جنون الخلود فصل من ‪ 1‬وحتى ‪ )12‬أن رشيد الخوري ال يع رف مثالً غيره ا‪ ،‬مق ام المث ل‬
‫طل ة للمزاي ا اإلنس انية الس امية‪ .‬فالواض ح‬
‫العليا التي تتجه إليها جمي ع النف وس الطالب ة االنتص ار على المادي ة المع ّ‬
‫أن المقي اس ال ذي يس تعمله لتفض يل المحمدي ة على المس يحية ه و المقي اس‬‫من كالم ص احب الحارض ة المتق دم ّ‬
‫اب روح اني" يقيم مادي ة المحمدي ة في مقابله ا ويجع ل المادي ة أس اس‬
‫الم ادي‪ ،‬فبينم ا ه و يص ف اإلنجي ل بأن ه "كت ٌ‬
‫فض ائل المحمدي ة كلّه ا ألن ه لم يتخ ذ غ ير الج زء الم ادي البحت من ح ديث مش هور‪ ،‬وه ذا الج زء ه و‪" :‬اعم ل‬
‫داً"‪.‬‬ ‫ك تعيش أب‬ ‫دنياك كأن‬ ‫ل‬

‫‪7‬‬
‫رأى رشيد الخوري في هذا الجزء من أح د األح اديث أعظم حكم ة في اإلس الم المحم دي‪ .‬فق د انطب ق ه ذا المث ل‬
‫"لمحبي‬
‫ّ‬ ‫على عقليت ه الرازح ة بالمادي ة‪ ،‬أيم ا انطب اق فق ال عن ه‪ :‬إن ه ج وهر الرس الة المحمدي ة ال تي فس حت ب ه‬
‫الكسب وطالبي الثروة مجاالً ال ح د ل ه"‪ .‬وبن اء على ه ذه القاع دة ال تي وج د فيه ا الخ وري ك ل اإلس الم المحم دي‬
‫وج وهر م ا يفض ل ب ه على اإلس الم المس يحي لم يج د حرج اً في أن يطلب ه و الكس ب وال ثروة ح تى باس تباحة‬
‫وريين‪.‬‬ ‫ديين من الس‬ ‫يحيين والمحم‬ ‫دماء بين المس‬ ‫ة ال‬ ‫ديني وإ راق‬ ‫ب ال‬ ‫ارة التعص‬ ‫إث‬

‫إن أعظم فضيلة يراها رشيد س ليم الخ وري في المحمدي ة هي‪ :‬اتب اع الش هوات المادي ة وفس ح المج ال الالمح دود‬
‫له ا‪ ،‬ب دالً من كبحه ا وإ حالل الفض ائل النفس ية المفض لة اإلنس ان على الحي وان محله ا‪.‬‬

‫وه و‪ ،‬لعج زه عن طلب المث ل الروحي ة العلي ا ال تي يراه ا في اإلنجي ل وال ي رى خرق اً فيه ا يم ر من ه إلى ماديت ه‬
‫المخرب ة‪ ،‬يق ول إن اإلنجي ل كت اب ُ"يع نى ب اآلخرة فحس ب"‪ ،‬أي إن ه يجب ت رك تعاليم ه جانب اً‪ ،‬في ك ل م ا‬
‫ّ‬ ‫الحقيرة‬
‫الميالين إلى الشر واإلجرام يبغضون‬ ‫يتعلق بالحياة البشرية‪ .‬واالنتهاء إلى هذه النتيجة هو شيء طبيعي‪ ،‬فجميع ّ‬
‫الق وانين المس نونة لمحارب ة اإلج رام ويس بون القض اة النزه اء ال ذين حكم وا عليهم أحكام اً عادل ة قاس ية‪ .‬وجمي ع‬
‫األوالد الس يئي التربي ة في بي وتهم المعت ادين على إطالق العن ان لش هواتهم ورغب اتهم الجامح ة يكره ون المعلم‬
‫ا‪.‬‬ ‫تهزئون به‬ ‫ه ويس‬ ‫خرون من تعاليم‬ ‫ائل ويس‬ ‫ق الفض‬ ‫د في تعليمهم طري‬ ‫ذي يجته‬ ‫ال‬

‫لنأخ ذ ه ذا ال درس ب الترتيب لئال يفوتن ا ش يء من فوائ ده‪ .‬لنع د إلى م ا نقلن اه في المقال ة الس ابقة من كالم رش يد‬
‫الخوري وهو مع ما نقلناه هنا أساس النظريات التي يبني عليها الخوري تفضيله المحمدية على المسيحية‪ .‬فبعد‬
‫أهم م ا يمت از ب ه اإلس الم المحم دي على‬
‫أن ذك ر أق وال الن بي في ض رورة ص حة العق ل للم ؤمن ق ال إن من ّ‬
‫المس يحية أن محم داً "أش اد ب ذكر العلم وفض ل العلم اء"‪ ،‬وإ ن ه ليس في اإلنجي ل "آي ة واح دة ت ذكر العلم بخ ير أو‬
‫ر"‪.‬‬ ‫بش‬

‫ه ذه المفاض لة الس قيمة تُظه ر كم يجه ل رش يد الخ وري الت اريخ االجتم اعي والت اريخ السياس ي للبش رية ومق دار‬
‫جهله عوامل نشأة المسيحية في بيئتها وعوامل نشأة المحمدية في بيئتها‪ .‬ومع أن المقابل ة بين اإلنجي ل والح ديث‬
‫تصح من أساسها كما بين ا آنف اً فال ب د لن ا من تن اول ه ذه القاع دة المتهدم ة للمفاض لة ألنه ا تش تمل على‬
‫ّ‬ ‫النبوي ال‬
‫سفس طة س هلة الش يوع عن د العام ة والخاص ة الناقص ة الثقاف ة لكم ال س طحيتها وإلغفاله ا الحق ائق االجتماعي ة‬
‫والتاريخي ة‪ .‬فهي‪ ،‬من ه ذه الجه ة‪ ،‬تك ِّون خط راً على ص حة االتج اه الفك ري وعلى االرتق اء النفس ي نح و أجم ل‬
‫ا‪.‬‬ ‫ل العلي‬ ‫المث‬

‫نش أت المس يحية في س ورية بع د أن ك ان ق د مض ى عه د طوي ل على ارتق اء الس وريين عن مرتب ة البربري ة ال تي‬

‫‪8‬‬
‫بقي عليه ا الع رب بعام ل ب يئتهم الطبيعي ة غ ير القابل ة العم ران والتم دن وبع د أن ك ان مض ى زمن طوي ل على‬
‫إنش اء الس وريين أعظم مدني ة عرفه ا الع الم في الت اريخ الق ديم وهي المدني ة ال تي ق امت على قواع دها المدني ة‬
‫رية‪.‬‬ ‫العص‬

‫نشأت المسيحية في بالد كانت قد بلغت أوج العلم والتم دن وش بعت من الفتوح ات في أفريقي ة وأوروب ة ـ بالد لم‬
‫يحبب إلى ش عبها العلم‪ ،‬ألنه ا ك انت أس بق األمم إلي ه‪ ،‬ومنه ا تعلم اإلقري ك والروم ان‪.‬‬‫تكن في حاج ة إلى من ّ‬
‫فالتبش ير بمحاس ن العلم في أم ة العلم م ا ك ان يك ون ل ه وق ع غ ير وق ع قول ك للن اس‪ :‬الم اء ض روري ألن ه ُي ذهب‬
‫وع‪.‬‬ ‫د الج‬ ‫بز يس‬ ‫العطش‪ ،‬والخ‬

‫لم يكن المس يح يهودي اً‪ ،‬ولم يكن ل ه "آب اء يه ود" كم ا يق ول ص احب الحارض ة هاجي اً إي اه‪ ،‬ب ل ك ان س ورياً يتكلم‬
‫ويخ اطب الجم اهير بالس ريانية‪ .‬وه و نفس ه رفض أن ي دعى "ابن داود" كم ا أراد اليه ود‪ ،‬فق ال في ذل ك‪" :‬كي ف‬
‫يقول ون إن المس يح ابن داود‪ ،‬وداود نفس ه يق ول في كت اب المزام ير‪ :‬ق ال ال رب ل ربي اجلس عن يمي ني ح تى‬
‫أض ع أع داءك موطئ اً لق دميك‪ .‬ف إذا ك ان داود ي دعوه رب اً فكي ف يك ون ابن ه" (لوق ا‪ )41 :20 :‬به ذا الق ول قط ع‬
‫المسيح ك ل س بيل لقيام ه على أس اس التقالي د اليهودي ة القائل ة إن ه يك ون يهودي اً من نس ل داود‪ .‬فال يص ح أن يق ال‬
‫ورية‪.‬‬ ‫ة الس‬ ‫و ابن البيئ‬ ‫اً‪ .‬فه‬ ‫ان يهودي‬ ‫يح ك‬ ‫إن المس‬

‫أم ا المحمدي ة فق د نش أت في العرب ة ال تي ال عم ران فيه ا وال تم دن‪ ،‬والع رب لم يرتق وا عن مرتب ة بدائي ة ولم‬
‫يعرفوا العلم‪ .‬وفنونهم مقصورة على الغزو والسلب ونظم الشعر‪ ،‬فحدثهم محم د بم ا يحت اجون إلي ه‪ ،‬ول ذلك ك ان‬
‫حديثه في محله وفي م ا يحت اج إلي ه؛ فحثهم على طلب العلم‪ ،‬ألن ه لم يكن لهم‪ .‬وه و ال ذي ك اد يض يق ذرع اً بهم‬
‫أشد كفراً ونفاقاً وأج در أالّ يعلم وا ح دود م ا أن زل اهلل على رس وله واهلل عليم حكيم‪...‬‬
‫فنزلت اآليتان‪{ :‬األعراب ّ‬
‫النف اق ال تعلمهم نحن نعلمهم س نع ّذبهم م رتين‬
‫وممن حولكم من األعراب منافقون ومن أهل المدين ة م ردوا على ّ‬ ‫ّ‬
‫ة‪ 97 :‬و‪.)101‬‬ ‫ذاب عظيم} (التوب‬ ‫ردون إلى ع‬
‫ّ‬ ‫ثم ي‬

‫وفي النص وص المحمدي ة اع تراف ص ريح ب أن الرس ل يرس لون لهداي ة أق وامهم‪ ،‬وأن محم داً رس ول إلى الع رب‬
‫رب ه إنم ا أنت من ذر ولك ّل ق وم ه اد} (من‬
‫خاصة بدليل قول القرآن‪{ :‬ويقول الذين كفروا لوال أنزل عليه آية من ّ‬
‫أم ة إالّ خال فيه ا ن ذير} (من س ورة ف اطر‪)24 :‬‬ ‫الحق بش يراً ون ذيراً وإ ّن من ّ‬
‫{إن ا أرس لناك ب ّ‬
‫س ورة الرع د‪ّ )7 :‬‬
‫زكيهم ويعلِّمهم الكت اب والحكم ة‬
‫{لق د م َّن اهلل على المؤم نين إذ بعث فيهم رس والً من أنفس هم يتل و عليهم آيات ه وي ِّ‬
‫َ‬
‫ران‪.)164 :‬‬ ‫ورة آل عم‬ ‫بين} (من س‬ ‫الل م‬ ‫ل لفي ض‬ ‫انوا من قب‬ ‫وإ ن ك‬

‫األمي اختص ت ب العرب بعناي ة اهلل ال ذي أرس له‬


‫فواض ح من اآلي ة األخ يرة أن رس الة الرس ول الع ربي الملقب ب ّ‬
‫هادياً لقومه كما أرسل غيره قبل ه هادي اً في أق وام أخ رى‪ .‬وه ذه الهداي ة‪ ،‬لكي تك ون مجدي ة‪ ،‬وجب أن تبت دئ من‬

‫‪9‬‬
‫الدرج ة ال تي عليه ا الق وم ال من درج ة فوقه ا‪ .‬وه ذه هي الهداي ة الص حيحة‪ .‬ف إن معلم المدرس ة الف اهم الخب ير ال‬
‫يبت دئ تعليم األح داث علم الج بر والهندس ة والمنط ق قب ل أن يكون وا ق د أكمل وا دروس الحس اب والجغرافي ة‬
‫واألش ياء‪ .‬ول و أن المس يح ومحم داً تب ادال الرس الة فظه ر المس يح في العرب ة وظه ر محم د في س ورية لم ا ك انت‬
‫رس الة المس يح ابت دأت على الدرج ة العالي ة ال تي ابت دأت به ا في س ورية‪ ،‬ولم ا ك انت رس الة محم د ابت دأت على‬
‫الدرج ة األولي ة ال تي ابت دأت به ا في العرب ة‪ .‬ل و ك ان محم د في س ورية لم ا وج د حاج ة ب ه للك رازة بأهمي ة العلم‬
‫ألن الس وريين ك انوا الس باقين في ه‪ ،‬وإ ليهم يع ود فض ل تعليم الع رب العلم والفلس فة كم ا تش هد ب ذلك الت واريخ‬
‫العربية عينها‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫الفهم المغلق‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫ليس ت الرس الة المحمدي ة ه ذه الرس الة المادي ة ال تي يص ورها رش يد س ليم الخ وري ويق ول‬
‫إنه ا أطلقت الش هوات والم آرب المادي ة من ك ل قي د وأزالت من أمامه ا ك ل ح د‪ ،‬ب ل هي‬
‫رسالة روحانية قبل كل شيء‪ ،‬ومتجهة في االتجاه عينه ال ذي تتج ه في ه المس يحية‪ ،‬ولكنه ا‬
‫طرت‪ ،‬بحكم البيئ ة‪ ،‬ألخ ذ ت أخر أو جم ود الثقاف ة المادي ة في العرب ة بعين االعتب ار‪.‬‬
‫اض ّ‬
‫ولما كانت الثقافة النفسية العالية ال يمكن أن تقوم ب دون قاع دة ثابت ة من الثقاف ة المادي ة فق د‬
‫رأت الرس الة المحمدي ة أن تهتم بش ؤون الثقاف ة المادي ة كي ته يئ االنتص ار على الم ادة‬
‫والتسامي في ع الم ال روح‪ .‬ولم تكن الرس الة المس يحية في حاج ة لالهتم ام بش ؤون الثقاف ة‬
‫المادي ة‪ ،‬ألن البيئ ة الس ورية ك انت ق د بلغت به ا أبع د ش أو‪.‬‬
‫لم يكن الحديث‪" ،‬اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً" فقط‪ .‬وهو لو اقتصر على ه ذا الق ول لك ان‬
‫مذهبه الفكري هو اإلغراق في المادية الالمحدودة‪ ،‬كما يقول الخوري‪ .‬ولكن الح ديث ك ان‪:‬‬
‫"اعمل لدنياك كأن ك تعيش أب داً واعم ل آلخرت ك كأن ك تم وت غ داً"‪ ،‬فأخض ع به ذا الق ول‬
‫المادية إخضاعا ً كليا ً للروحية‪ .‬فغرض السعي والكسب لم يعد للبقاء في المادية الالمح دودة‪،‬‬
‫بل صار للوصول إلى المستوى الروح اني ال ذي ذهب المس يح إلي ه رأس ا ً لع دم حاجت ه إلى‬
‫إعداد األساس الما ّدي ألن هذا كان موجوداً بكثرة‪ .‬وكل من قرأ كتاب الزعيم "نش وء األمم"‬
‫يعلم أن المستوى العمراني السوري كان أعلى مس ت ًوى في الت اريخ االجتم اعي قب ل عص ر‬
‫اآللة الحديث‪ ،‬وبه ذا يش هد جمه ور علم اء األق وام البش رية والجغرافي ة االقتص ادية أمث ال‬
‫ويدال لبالش‪ .‬وال نترك هنا التحف ظ الس ابق من جع ل الح ديث في مق ام اإلس الم المحم دي‪.‬‬
‫إن المادي ة هي إح دى القض ايا ال تي ك ان ال ب د للمحمدي ة من مواجهته ا لتتمكن من تق ريب‬

‫‪10‬‬
‫النفس العربية التي جففتها الصحراء إلى الحال ة الروحاني ة ال تي ال يمكن أن تنش أ في حال ة‬
‫مادية ومقي دة للنفس‪ .‬الج ائع يجب أن يأك ل ليص بح ق ادراً على التفك ير في ش ؤون أخ رى‪،‬‬
‫وال ذي لم يتمكن من س د جوع ه الم ادي ـ الفيزي ائي ال يش عر ب الجوع ال روحي‪ ،‬والنفس ية‬
‫المثالية ترتقي بنسبة تأمين مقومات الحياة‪ ،‬إذا ك انت النفس مؤهل ة لالرتق اء‪ .‬أم ا المس يحية‬
‫فلم تكن في حاجة إلى النظر في الحاجات المادية‪ ،‬ألن سورية كانت بالداً يفيض الغنى فيه ا‬
‫فيضاً‪ .‬انظر ما جاء في نبوءة زكريا من التوراة‪" :‬وق د بنت ص ور حص نا ً لنفس ها وك َّومت‬
‫الفضة ك التراب وال ذهب كطين األس واق"‪ .‬ف البالد ال تي ك ان ال ذهب والفض ة فيه ا بك ثرة‬
‫ب‪.‬‬ ‫ديها إلى الكس‬ ‫ة لمن يه‬ ‫تراب لم تكن في حاج‬ ‫ال‬
‫وال ش ك في أن الرس الة المس يحية والمحمدي ة واح دة‪ .‬وق د ج اء محم د مص دقا ً للرس الة‬
‫المسيحية بكالم إلهي مثبت في القرآن‪ ،‬وليس بمجرد حديث نبوي‪ .‬ول و أن محم داً ج اء قب ل‬
‫المسيح لكان المسيح صدق الرسالة المحمدي ة وع د رس الته مكمل ة له ا من عن د الح د ال ذي‬
‫وقفت عنده‪ ،‬كما عدها مكملة للرسالة الموسوية من عن د الح د ال ذي وقفت عن ده وه و الح د‬
‫ال ذي يلتقي مع ه ح د المحمدي ة في التش ريع والقض اء والعناي ة بالعالق ات االجتماعي ة من‬
‫الدرج ة الثقافي ة ال تي عليه ا الجماع ة ال تي ظه رت فيه ا ك ل من الرس التين الم ذكورتين‪.‬‬
‫ولقد كان التبشير واإلنذار بعبادة هللا وترك عبادة األصنام ج وهر الروحاني ة المحمدي ة كم ا‬
‫كانا جوهر الروحانية الموسوية‪ ،‬فصفة محمد في القرآن هي صفة "البشير الن ذير"؛ وتلتقي‬
‫الرسالتان الموس وية والمحمدي ة في البش ارة واإلن ذار والتش ريع‪ .‬واآلي ات المتش ابهة مبنًى‬
‫ومعنًى من التوراة والقرآن كثيرة نقتصر على أمثل ة قليل ة منه ا‪" :‬فه وذا ي أتي الي وم المتق د‬
‫كالتنور وكل المستكبرين وك ل ف اعلي الش ر يكون ون قش ا ً ويح رقهم الي وم اآلتي‪ ،‬ق ال رب‬
‫ّ‬
‫ولكن‬ ‫الجنود فال يبقي لهم أصالً وال فرع اً" (مالخي‪4:‬ـ‪ّ )1‬‬
‫{إن ّ‬
‫الس اعة آلتي ة ال ريب فيه ا‬
‫إن ال ذين يس تكبرون عن عب ادتي‬ ‫أكثر الناس ال يؤمن ون‪ .‬وق ال ربّكم ادع وني أس تجب لكم ّ‬
‫سيدخلون جهنّم داخرين} (غافر‪ 59 :‬ـ ‪" )60‬اذكروا شريعة موسى عب دي ال تي أمرت ه به ا‬
‫في حوريب على كل إس رائيل الف رائض واألحك ام" (مالخي‪ 4 :‬ـ ‪{ )4‬تل ك ح دود هللا ومن‬
‫يطع هللا ورسوله يدخله جنات تجري من تحته ا األنه ار خال دين فيه ا وذل ك الف وز العظيم}‬
‫(النساء‪" )13 :‬وأقترب إليكم للحكم وأكون شاهداً سريعا ً على السحرة وعلى الفاسقين وعلى‬
‫الحالفين زوراً وعلى السالبين أجرة األجير واألرملة واليتيم ومن يص ّد الغريب وال يخش اني‬
‫{إن الذين ي أكلون أم وال اليت امى ظلم ا ً إنّم ا ي أكلون في‬
‫قال رب الجنود" (مالخي‪ 3 :‬ـ ‪ّ )5‬‬
‫بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} (النساء‪" )10:‬هكذا ق ال رب الجن ود اقض وا قض اء الح ق‬
‫واعملوا إحسانا ً ورحمة كل إنسان مع أخيه‪ .‬وال تظلموا األرمل ة وال الي تيم وال الغ ريب وال‬
‫الفق ير وال يفك ر أح د منكم ش راً على أخي ه في قلبكم" (زكري ا‪7:‬ـ‪9‬و‪{ )10‬يس ألونك م اذا‬
‫ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين واألقربين واليتامى والمساكين وابن السّبيل وما تفعلوا‬
‫ّ‬
‫والس عة أن يؤت وا‬ ‫من خير ّ‬
‫فإن هللا ب ه عليم} (البق رة‪{ )215 :‬وال يأت ل أول وا الفض ل منكم‬
‫أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل هللا وليعفوا وليصفحوا أال تحبّون أن يغف ر هللا‬
‫ور‪.)22 :‬‬ ‫ور رحيم} (الن‬ ‫لكم وهللا غف‬
‫ومن يقرأ سفر تثنية االشتراع في التوراة‪ ،‬وفيه حدود هللا في المعامالت والعقود‪ ،‬وس ورتي‬
‫البقرة والنس اء وال يج د بينه ا عالق ة وثيق ة في التش ريع والقض اء واألحك ام؟ الحقيق ة أنه ا‬
‫متشابهة إلى ح د بعي د ج داً‪ .‬وإلي ك ش يئا ً من ه ذه الم وازاة الش رعية بين الت وراة والق رآن‪:‬‬
‫"ملعون من يضطجع مع امرأة أبيه‪ ،‬ألنه يكشف ذيل أبي ه" (تثني ة‪ 27 :‬ـ ‪{ )20‬وال تنكح وا‬

‫‪11‬‬
‫ما نكح آباؤكم من النّساء إالّ ما قد سلف إنه كان فاحش ة ومقت ا ً وس اء س بيال} (النس اء‪)22 :‬‬
‫"وإذا اضطجع رج ل م ع ام رأة أبي ه فق د كش ف ع ورة أبي ه‪ .‬إنهم ا يُقتالن كالهم ا‪ .‬دمهم ا‬
‫عليهما‪ .‬وإذا اضطجع رجل مع كنته فإنهما يُقتالن كالهما‪ .‬ق د فعال فاحش ة‪ .‬دمهم ا عليهم ا‪.‬‬
‫وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة‪ .‬بالنار يحرقونه وإياها لكيال يكون رذيلة بينكم‪ .‬وإذا‬
‫أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه ورأى عورته ا ورأت هي عورت ه ف ذلك ع ار يقطع ان‬
‫أمام أعين بني شعبهما‪ .‬قد كشف ع ورة أخت ه‪ .‬يحم ل ذنب ه‪ .‬وإذا اض طجع رج ل م ع ام رأة‬
‫طامث وكشف عورتها عرى ينبوعها وكشفت هي ينبوع دمها يقطعان كالهم ا من ش عبهما‪.‬‬
‫عورة أخت أمك أو أخت أبيك ال تكشف‪ .‬إنه قد عرى قريبته‪ .‬يحمالن ذنبهما‪ .‬وإذا اض طجع‬
‫رجل مع امرأة عمه فقد كشف عورة عمه‪ .‬يحمالن ذنبهما‪ .‬يموتان عقيمين‪ .‬وإذا أخ ذ رج ل‬
‫امرأة أخيه فذلك نجاس ة‪ .‬ق د كش ف ع ورة أخي ه‪ .‬يكون ان عقيمين" (الويين‪{ )20 :‬ح رّمت‬
‫عليكم أمه اتكم وبن اتكم وأخ واتكم وع ّم اتكم وخ االتكم وبن ات األخ وبن ات األخت وأ ّمه اتكم‬
‫الالّتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة وأ ّمهات نسائكم ورب ائبكم الالّتي في حج وركم من‬
‫بهن فال جناح عليكم وحالئل أبنائكم ال ذين من‬ ‫بهن فإن لم تكونوا دخلتم ّ‬‫نسائكم الالّتي دخلتم ّ‬
‫أصالبكم وأن تجمعوا بين األختين إالّ ما قد سلف إن هللا كان غفوراً رحيم اً} (النس اء‪)23 :‬‬
‫"ال يقترب إنسان إلى قريب جسده ليكشف الع ورة‪ .‬أن ا ال رب‪ .‬ع ورة أبي ك وع ورة أم ك ال‬
‫تكشف‪ .‬إنها أمك ال تكشف عورتها‪ ،‬عورة امرأة أبي ك ال تكش ف‪ .‬إنه ا ع ورة أبي ك‪ .‬ع ورة‬
‫أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجا ً ال تكشف عورتها‪ .‬عورة‬
‫ابنة ابنك أو ابنة ابنتك ال تكشف عورتها‪ .‬إنها عورتك‪ .‬عورة بنت ام رأة أبي ك المول ودة من‬
‫أبيك ال تكشف عورتها‪ .‬إنها أختك‪ .‬عورة أخت أبيك ال تكشف‪ .‬إنها قريبة أبيك‪ .‬ع ورة أخت‬
‫أمك ال تكش ف‪ .‬إنه ا قريب ة أم ك‪ .‬ع ورة أخي أبي ك ال تكش ف‪ .‬إلى امرأت ه ال تق ترب‪ .‬إنه ا‬
‫عمتك‪ .‬عورة كنتك ال تكشف‪ .‬إنه ا ام رأة ابن ك‪ .‬ال تكش ف عورته ا‪ .‬ع ورة ام رأة أخي ك ال‬
‫تكشف‪ .‬إنها عورة أخيك‪ .‬عورة ام رأة وبنته ا ال تكش ف‪ .‬وال تأخ ذ ابن ة ابنه ا أو ابن ة بنته ا‬
‫لتكش ف عورته ا‪ .‬إنهم ا قريبتاه ا‪ .‬إن ه رذيل ة‪ .‬وال تأخ ذ ام رأة على أخته ا الض ر لتكش ف‬
‫عورتها معها في حياتها‪ .‬وال تقترب من امرأة في نجاسة طمثها لتكشف عورتها‪ .‬وال تجع ل‬
‫مع امرأة صاحبك مضجعك لزرع فتتنجس بها"‪( .‬الويين‪ )18 :‬ومن مقابلة ه ذه اآلي ات في‬
‫الت وراة والق رآن نج د موض وع التش ريع واح داً والح دود واح دة‪ .‬فل نر أمثل ة أخ رى‪:‬‬

‫"وإ ذا ب اع رج ل ابنت ه أم ة ال تخ رج كم ا يخ رج العبي د‪ .‬إن قبحت في عي ني س يدها ال ذي‬


‫ك‪ .‬وليس ل ه س لطان أن يبيعه ا لق وم أج انب لغ دره به ا" (خ روج‪:‬‬
‫خطبه ا لنفس ه ي دعها تف ّ‬
‫النساء (حرمت عليكم) إالّ ما ملكت أيمانكم كت اب اهلل عليكم وأح ّل‬
‫{والمحصنات من ّ‬
‫ّ‬ ‫‪)21‬‬
‫منهن‬
‫ّ‬ ‫لكم م ا وراء ذلكم أن تبتغ وا ب أموالكم محص نين غ ير مس افحين فم ا اس تمتعتم ب ه‬
‫إن اهلل ك ان‬
‫أجورهن فريض ة وال جن اح عليكم فيم ا تراض يتم ب ه من بع د الفريض ة ّ‬
‫ّ‬ ‫فآتوهن‬
‫ّ‬
‫عليم اً حكيم اً} (النس اء‪" )24 :‬إن اتخ ذ لنفس ه أخ رى ال ينقص طعامه ا وكس وتها‬
‫ومعاش رتها" (خ روج‪{ )21 :‬وإ ن خفتم أالّ تقس طوا في اليت امى ف انكحوا م ا ط اب لكم من‬
‫النساء مث نى وثالث ورب اع ف إن خفتم أالّ تع دلوا فواح دة أو م ا ملكت أيم انكم ذل ك أدنى أال‬
‫اء‪.)3 :‬‬ ‫وا} (النس‬ ‫تعول‬

‫‪12‬‬
‫"إذا أخ ذ رج ل ام رأة وت زوج به ا ف إن لم تج د نعم ة في عيني ه ألن ه وج د فيه ا عيب ش يء‬
‫وكتب له ا كت اب طالق ودفع ه إلى ي دها وأطلقه ا من بيت ه وم تى خ رجت من بيت ه ذهبت‬
‫وصارت لرج ل آخ ر ف إن أبغض ها الرج ل األخ ير وكتب له ا كت اب طالق ودفع ه إلى ي دها‬
‫وأطلقها من بيته أو إذا م ات الرج ل األخ ير ال ذي اتخ ذها ل ه زوج ة ال يق در زوجه ا األول‬
‫الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست‪ ،‬ألن ذلك رجس لدى ال رب"‬
‫(تثنية‪ 24 :‬ـ ‪ 1‬ـ ‪{ )4‬فإن طلّقها فال تح ّل له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره فإن طلّقه ا فال‬
‫يبينه ا لق وم يعلم ون}‬
‫ظن ا أن يقيم ا ح دود اهلل وتل ك ح دود اهلل ّ‬
‫جن اح عليهم ا أن يتراجع ا إن ّ‬
‫(البقرة‪ .)230 :‬والحكم في القرآن هو العكس تماماً لما في الت وراة‪ ،‬ولكن مقص د الش ارع‬
‫واح د وه و تقيي د الطالق‪ .‬وهك ذا فس ر مفس رو المحمدي ة حكم ه ذه اآلي ة‪.‬‬

‫وورد في الق رآن في م ا يختص ب الطمث ال وارد عن ه في الت وراة‪ ،‬وه و مثبت ف وق‪ ،‬ه ذه‬
‫وهن‬
‫اآلي ة‪{ :‬ويس ألونك عن المحيض ق ل ه و أذى ف اعتزلوا النس اء في المحيض وال تقرب ّ‬
‫ويحب‬
‫ّ‬ ‫يحب التّ ّوابين‬
‫إن اهلل ّ‬
‫أتوهن من حيث أم ركم اهلل ّ‬
‫ّ‬ ‫ح تى يطه رن ف إذا تطهّ رن ف‬
‫رة‪.)222 :‬‬ ‫رين} (البق‬ ‫المتطهّ‬
‫ووردت أيض اً مش ابهات أحك ام ال زنى والرب ا والس رقة وم ا ش اكل من ق وانين الج زاء‪.‬‬

‫وال نطي ل الش رح في أن ه ذه اآلي ات التش ريعية متس اوية في األس اس‪ ،‬متش ابهة في الش كل‬
‫في م ا يختص بالحال ة الش رعية لألزواج واإلم اء وفي م ا يختص ب المحلالت والمحرم ات‬
‫في المأكل‪ .‬ونضيف إلى هذا االتفاق في المذهبين في األحوال المدنية والشخص ية االتف اق‬
‫ة‪:‬‬ ‫ة الديني‬ ‫ؤون الدول‬ ‫في ش‬
‫"ومن وس ط أخوت ك تجع ل ملك اً علي ك‪ .‬ال يح ّل ل ك أن تجع ل علي ك رجالً أجنبي اً ليس ه و‬
‫أخ اك (أي أخ اك في ملت ك)"‪ .‬وه ذه الوص ية من س فر التثني ة األص حاح (‪ 17‬ـ ‪.)15‬‬
‫ويقابله ا في الق رآن‪{ :‬ال ذين يتّخ ذون الك افرين أولي اء من دون المؤم نين أيبتغ ون عن دهم‬
‫إن الع ّزة للّ ه جميع اً} (النس اء‪{ ...)139 :‬ي ا ّأيه ا الّ ذين آمن وا ال تتّخ ذوا الك افرين‬
‫الع ّزة ف ّ‬
‫أولي اء من دون المؤم نين أتري دون أن تجعل وا للّ ه عليكم س لطاناً مبين اً} (النس اء‪.)144 :‬‬

‫في ه ذا الق در كفاي ة إلثب ات اتف اق المل تين الموس وية والمحمدي ة في أس اس تش ريعي واح د‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وسيأتي تبيان أسباب هذه االتفاقات والمشابهات في ما يلي من هذا البحث‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ما لم يعط للجهّال‬


‫‪ ‬‬

‫وج دنا‪ ،‬من مقابل ة أحك ام الق رآن وح دوده على أحك ام الت وراة وح دودها‪ ،‬أن نص وص الش ريعتين الموس وية‬
‫والمحمدية واحدة مع فوارق شكلية قليلة ال تغير شيئاً من وحدة األس اس‪ .‬فاهلل ق د أوحى‪ ،‬إلى محم د في الق رآن‪،‬‬
‫الشريعة عينه ا ال تي أوحاه ا إلى موس ى وجمي ع النب يين ال ذين تق دموا محم داً‪ ،‬كم ا ه و مثبت في الق رآن‪ .‬واهلل ق د‬
‫ات مس يحية أيض اً‪ ،‬ولكن الش عب ال ذي أرس ل إلي ه محم د لم يكن من اإلدراك والثقاف ة بحيث‬ ‫أوحى إلى محم د آي ٍ‬
‫ماس ة إلى األس اس الق انوني ال ذي يجم ع بين قبائل ه المتش ّعثة‪،‬‬
‫يمي ل إلى األخ ذ بالتع اليم العلي ا‪ ،‬وك انت حاجت ه ّ‬
‫ويض من العالق ات ويح دد ط رق المعامل ة‪ ،‬فال تك ون معلق ة على تع اليم الفلس فة المناقبي ة ال تي علمه ا المس يح‬
‫وجعلها تاجاً للشريعة وحكماً عليها‪ .‬وك ان االنتص ار األول للثقاف ة النفس ية على ح دود الش رع الجام دة‪ .‬فانتص ار‬
‫العقل على الشرع حدث أوالّ بظهور التعاليم المسيحية؛ وأعظم أسباب نقمة اليهود على المسيح ه و كون ه خ رج‬
‫ويحس نها‪ ،‬ب دالً من التقي د بالنص وص‪ ،‬كم ا ه و الح ال‬
‫ّ‬ ‫على نص وص الش رع وق ال بتأوي ل الش رع لم ا يفي د الحي اة‬
‫في الق رآن والت وراة‪ .‬المس يح ه و ال ذي ق ال‪" :‬ال تحكم وا بحس ب الظ اهر‪ ،‬لكن احكم وا حكم اً ع ادالً"(يوحن ا ‪ 7‬ـ‬
‫‪ )24‬وهو قال هذا القول ألن اليهود نقموا عليه إلبرائ ه إنس اناً ي وم الس بت المح رم العم ل في ه عن د اليه ود حس ب‬
‫ش ريعة موس ى‪ ،‬وك ان ق د ق ال قب ل ه ذه اآلي ة‪" :‬إن موس ى أعط اكم الخت ان‪ ،‬ال ان ه من موس ى ب ل من اآلب اء‬
‫علي ألني‬
‫فتختنون اإلنسان في السبت‪ .‬فإن كان اإلنسان يختن في السبت لئال تنقض شريعة موسى أفتس خطون َّ‬
‫أبرأت اإلنسان كلّه في السبت؟" (يوحنا‪ 7 :‬ـ ‪22‬و‪ )23‬وكان اليهود يعترضون‪ ،‬ليس فقط على إبراء الرج ل في‬
‫السبت‪ ،‬بل أيضاً على حمل الرجل سريره بعد شفائه‪ ،‬ألنه لم يكن يجوز في شريعة موسى أن يعم ل ش يء ي وم‬
‫بت‪.‬‬ ‫الس‬

‫وكان الكتبة والفريسيون يجادلون المسيح دائما ً ويحاولون أن يأخذوه بجريرة مخالفة الش ريعة‪ .‬واإلنجي ل مش حون‬
‫بهذه المحاوالت‪ .‬وأه ّم محاولة كانت هذه‪" :‬ومضى يسوع إلى جبل الزيتون‪ .‬ثم رجع باركا ً إلى الهيكل‪ ،‬فأقبل إلي ه‬
‫الشعب كلهم فجلس يعلّمهم‪ .‬وقدم الكتبة والفريسيون إلى يسوع امرأة أخذت في زنى وأقاموها في الوسط‪ .‬وقالوا يا‬
‫إن هذه المرأة قد أخذت في الزنى‪ .‬وقد أوصى موسى في الناموس (الشريعة) أن ترجم مثل هذه‪ ،‬فماذا تقول‬ ‫معلم‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أنت؟ وإنما قالوا هذا تجريبيا له ليجدوا ما يشكونه به‪ .‬أما يسوع فأكبَّ يخط بإص بعه على األرض‪ .‬ولم ا اس تمروا‬
‫يسألونه انتصب وقال لهم‪" :‬من كان منكم بال خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر"‪ .‬ثم أكبّ أيض ا ً يخ طّ على األرض‪ .‬أم ا‬
‫أولئك فلما سمعوا طفقوا يخرجون واحداً فواحداً‪ ،‬وكان الشيوخ أوّل الخارجين‪ .‬وبقي يس وع وح ده والم رأة قائم ة‬
‫في الوسط‪ .‬فانتصب يسوع وقال لها‪" :‬يا امرأة أين الذين يشكونك‪ ،‬أما حكم عليك أحد؟"‪ .‬قالت‪" :‬ال ي ا رب" فق ال‬
‫‪14‬‬
‫ا‪ 8 :‬ـ ‪ 2‬ـ ‪.)11‬‬ ‫ئين"‪( ".‬يوحن‬ ‫ودي تخط‬ ‫بي وال تع‬ ‫ك‪ ،‬اذه‬ ‫ا أحكم علي‬ ‫وع‪" :‬وال أن‬ ‫يس‬
‫ك في ه‪ :‬الزاني ة ت رجم في‬ ‫في هذا المثل يظهر الصراع بين العق ل والش رع ب أجلى مظ اهره‪ .‬الش رع واض ح ال ش ّ‬
‫التوراة وفي القرآن تجلد كما جاء في اآلية‪{ :‬ال ّزانية وال ّزاني فاجلدوا ك ّل واحد منهما مائ ة جل دة وال تأخ ذكم بهم ا‬
‫رأفة في دين هللا إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر وليشهد عذابهما طائف ة من المؤم نين} (الن ور‪ )2 :‬فلم يقتص ر‬
‫المسيح على قوله المطلق‪" :‬ال تحكم وا بحس ب الظ اهر‪ ،‬لكن احكم وا حكم ا ً ع ادالً"‪ ،‬ب ل وق ف وحم ل مس ؤولية‬
‫كالمه‪ .‬ولم يضع شريعة جديدة تح ّل مح ّل الشريعة السابقة في أمر الزنى‪ ،‬بل علّم بتحكيم العقل ليكون الحكم عادالً‬
‫وإن خالف نص الشريعة‪ .‬وهو ما لم يجر مثله في القرآن أو الحديث وذلك لم ا بين اه آنف ا ً من أن محم داً أرس ل إلى‬
‫قوم كانوا مضطرّين إلى ما كان مضط ّراً إليه العبرانيون‪ :‬شريعة توجد لهم نظاما ً يوضح لهم المع امالت والح دود‬
‫ي ال تي ال تقيم نظام اً‪ ،‬ول ذلك نش أ ه ذا التواف ق الكل ّي بين‬
‫والجزاء‪ ،‬بدالً من ع ادات الث أر والغ زو واس تبداد الق و ّ‬
‫الشريعة المحمدية والشريعة الموسوية في الشرع حتى في الجزاء ونوعه‪ ،‬كما في اآلية‪{ :‬يا أيّها الذين آمن وا كتب‬
‫عليكم القصاص في القتلى الح ّر بالح ّر والعب د بالعب د واألن ثى ب األنثى الخ} (البق رة‪ )178 :‬وفيه ا ج وهر الج زاء‬
‫ى‪.‬‬ ‫ريعة موس‬ ‫ذكور في ش‬ ‫الم‬
‫وهذا يؤيّد كون محمد أرسل ليهدي بيئة لم تكن لها شريعة من قبل‪ ،‬وإالّ لما وجد الوحي حاجة لتك رار م ا ورد في‬
‫التوراة وجاء محمد مصدقا ً له‪ .‬وإذا كان قد بقي في ذهن أحد شيء من الشك في ما نقوله‪ ،‬حتى بع دما أوردن اه من‬
‫اآليات القرآنية فإننا نؤيده بآيات أخرى كهذه اآليات‪{ :‬وكذلك أوحينا إليك قرآنا ً عربيّا ً لتنذر أم الق رى ومن حوله ا‬
‫وتنذر يوم الجمع ال ريب فيه فريق في الجنّة وفريق في السّعير} (الشورى‪ )7 :‬وهذه اآلية هامة جداً‪ ،‬ألنها مكي ة‪،‬‬
‫أي من اآليات التي لم يكن قد دخل فيها العامل السياسي الذي نلحظه في اآلي ات المدني ة‪{ .‬فكي ف إذا جئن ا من ك ّل‬
‫أ ّم ة بش هيد وجئن ا ب ك على ه ؤالء ش هيداً} (النس اء‪{ )41 :‬ولق د بعثن ا في ك ّل أ ّم ة رس والً الخ} (النح ل‪.)36 :‬‬
‫وقد أثبتنا في حلقة سابقة من هذه السلسلة(‪14‬حلقة) ش يئا ً من وص ف الق رآن لبيئ ة محم د‪ .‬ولع ل ه ذه اآلي ة تعطي‬
‫وصفا ً أد ّ‬
‫ق لتلك البيئة‪{ :‬قالت األعراب آمنّا قل لم تؤمن وا ولكن قول وا أس لمنا ول ّم ا ي دخل اإليم ان في قل وبكم وإن‬
‫رات‪.)14 :‬‬ ‫ور رحيم} (الحج‬ ‫يئا ً ّ‬
‫إن هللا غف‬ ‫الكم ش‬ ‫وله ال يلتكم من أعم‬ ‫وا هللا ورس‬ ‫تطيع‬

‫مؤهل ة إلدراك اإليم ان ال روحي وفهم تع اليم الفلس فة المناقبي ة‪ .‬إنه ا بيئ ة ال‬
‫هذه البيئ ة العريق ة في الب داوة لم تكن ّ‬
‫الس ور المدني ة وجه ة أق رب إلى البيئ ة وعقليته ا من وجه ة‬ ‫تزال دون مرتبة ه ذه الفلس فة بم راتب‪ .‬ول ذلك أخ ذت ّ‬
‫الس ور المكي ة‪ .‬ول ذلك ك ان ظه ور روحاني ة الرس الة المحمدي ة خ ارج العرب ة في س ورية وف ارس واألن دلس‪ .‬أم ا‬ ‫ّ‬
‫الحقيقي لم ا ي دخل‬
‫ّ‬ ‫أه ل العرب ة فظل وا تحت حكم اآلي ة الم ذكورة أخ يراً إلى الي وم‪ ،‬أي انهم أس لموا ولكن اإليم ان‬
‫قلوبهم‪ .‬وهذه الحالة التي يشجبها القرآن هي التي يم دحها ص احب الحارض ة الهجائي ة ال ذي لم يفهم من اإلس الم‬
‫إالّ بق در م ا فهمت ه األع راب‪ ،‬ولم يع رف ش يئاً ص حيحاً عن المس يحية أو عن المحمدي ة‪ ،‬وك ان أح وج الن اس إلى‬
‫المحمدي الذي وضع‬
‫ّ‬ ‫سماع محاضرات في هذين المذهبين ونشأتهما وطبيعة ك ّل منهما‪ ،‬ولذلك قال عن اإلسالم‬
‫ش رعاً يس مونه في علم الحق وق والسياس ة "جام داً ‪ "Rigido‬إن ه وض ع القواع د الروحي ة ـ الفكري ة للتغلب على‬
‫الشرع‪ ،‬وقال عن المسيحية التي علّمت تعاليم فلسفية مناقبية لتأويل الشرع على ما يوافق األفضل للحياة الجيدة‬
‫حس ب حكم العق ل إنه ا دين "يقت ل الم واهب ويهيض األجنح ة ويعص ب على العي ون الخ"‪.‬‬

‫بعد الذي بيّناه في ما تقدم من هذه الحلقة نعود إلى نقطة هامة جداً وعدنا‪ ،‬في الحلق ة الس ابقة‪ ،‬أن نعالجه ا في ه ذه‬
‫الحلقة‪ ،‬وهي‪ :‬أسباب االتفاقات والمشابهات بين الرسالتين الموسوية والمحمدية اللتين لهما أساس واحد هو الش رع‬
‫رآن‪.‬‬ ‫وراة والق‬ ‫دة في الت‬ ‫ه واح‬ ‫ا أن أحكام‬ ‫ذي رأين‬ ‫ال‬
‫‪15‬‬
‫ألمعنا في ما تقدم من هذا البحث‪ ،‬خصوصا ً في الحلق تين األخ يرتين‪ ،‬إلى أن الرس الة المحمدي ة هي أيض ا ً رس الة‬
‫روحية تتجه في اتجاه الرسالة المسيحية عينه‪ ،‬ولكنّها اضطرّت ألخذ األس اس الم ادي بعين االعتب ار وتقديم ه في‬
‫روحي‪.‬‬ ‫اء ال‬ ‫ة على البن‬ ‫المعالج‬
‫والحقيقة أن الرسالة القرآنية تقسم إلى قسمين‪ :‬القسم األول وهو المك ّي السابق للهجرة وفيه اآليات المكي ة المتجه ة‬
‫اتجاها ً روحيا ً على قدر ما تسمح به عقلية البيئة المحدودة العلوم والمعارف واالختب ارات واألفك ار والتص ورات‪،‬‬
‫والقسم الثاني هو المدن ّي المشتمل على اآليات المدنية والمتّجه نح و ش ؤون أولي ات االجتم اع وض روريات ب داءة‬
‫إنشاء نظام اجتماعي عام يشمل جميع العرب ويحل محل العادات والع رف المقتص رة على القبائ ل وعلى ح االت‬
‫قليلة تقوم عليها الصّالت بين القبائل التي كانت قبيلة منها كأنها أمة ودولة قائمة بنفسها ال يجمع بينها غير عادة أو‬
‫فريض ة الحج إلى الكعب ة واالص طالح على ت رك الغ زو والث أر في ش هر معيّن من الس نة‪.‬‬
‫وفي هذا القسم يظهر عامالن رئيسيان هما‪ :‬التشريع والسياسة‪ .‬أما التشريع فإلقامة نظ ام ع ام يلغي خصوص يات‬
‫القبائل ويو ّحد العرب‪ .‬وأما السياسة فلجع ل نج اح الرس الة ونظامه ا ممكن اً‪ .‬وه ذا العام ل األخ ير يظه ر في أم ر‬
‫الجهاد الذي يُغري العرب بالغزو والسلب‪ ،‬وقد ظهر تأثير هذه الناحية في يوم بدر ويوم أحد‪ ،‬وفي تشويق الع رب‬
‫بصور الجنة المادية وفي التس اهل في ش ؤون حي اتهم‪ ،‬خصوص ا ً في النس اء وتع ّدد الزوج ات‪ ،‬مراع اة لش هوات‬
‫الصحراء الحادة والقتصار شؤون حياة العرب على الغزو والسبي والسلب ووقوف حياتهم الفني ة والروحي ة على‬
‫الفرس والرمح والمرأة‪ .‬والمرأة أو أنوثتها كانت أقوى عامل في نفسية العربي‪ ،‬ولذلك اعت بر الق رآن ه ذه الناحي ة‬
‫مع ناحية الصور المادية للجنة حتى في اآليات المكية كما في قوله‪{ :‬الّ ذين آمن وا بآياتن ا وك انوا مس لمين‪ .‬ادخل وا‬
‫الجنّة أنتم وأزواجكم تحبرون‪ .‬يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه األنفس وتل ّذ األعين وأنتم‬
‫فيها خالدون‪ .‬وتلك الجنّة التي أورثتموها بما كنتم تعملون‪ .‬لكم فيها فاكهة كث يرة منه ا ت أكلون} (آي ات متتالي ة من‬
‫{إن المتّقين في مق ام أمين‪ .‬في جنّ ات وعي ون‪ .‬يلبس ون من س ندس‬ ‫س ورة الزخ رف المكي ة‪ 69 :‬ـ ‪ )73‬وقول ه‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫وإستبرق متقابلين‪ .‬كذلك وز ّوجناهم بحور عين‪ .‬يدعون فيها بك ّل فاكهة آم نين‪ .‬ال ي ذوقون فيه ا الم وت إال الموت ة‬
‫ة‪ 51 :‬ـ ‪.)56‬‬ ‫دخان مكي‬ ‫ورة ال‬ ‫ذاب الجحيم} (س‬ ‫اهم ع‬ ‫األولى ووق‬
‫التشريع في السّور المدنية مع العامل النفسي ـ السياسي الذي ازداد قوة في هذه السور هما اللذان أعطي ا المحمدي ة‬
‫أعظم فاعليتها‪ .‬يضاف إلى ذلك كون النبي عربيا ً يخاطب جماعت ه رأس اً‪{ :‬لق د ج اءكم رس ول من أنفس كم عزي ز‬
‫فص لت آيات ه قرآن ا ً عربيّ ا ً‬
‫عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوب ة‪ )128 :‬وبلغتهم {كت اب ّ‬
‫لق وم يعلم ون} (فص لت‪ )3 :‬وك ون الرس الة إلهي ة أق وى في النف وس على األص نام‪.‬‬
‫ولما كان هذان العامالن‪ :‬التشريع والسياسة النفسية والعملية هما األش د ت أثيراً واألعظم ش أنا ً في النفس ية العربي ة‬
‫العامة فقد ق ّدمت اآليات المدنية‪ ،‬حين جمع القرآن‪ ،‬على اآليات المكية إال سورة الفاتحة‪ ،‬وهي آيات قليلة‪ .‬والسبب‬
‫هو أن السّور المدنية تشتمل على أصول المعامالت وقوانين العقود‪ .‬وهي الممتازة بالحث والتحريض على الجهاد‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة الجن‬ ‫ار وزين‬ ‫ة الكف‬ ‫ومحارب‬

‫وقد أثبتت التواريخ العربية لسير الحركة العربية وفتوحاتها شدة تأثير هذين العاملين في النفوس العربية وعظم‬
‫فاعليتهما‪ .‬من ذلك ما ورد في "فتوح الشام" للواقدي‪ .‬وروايته أنه لما عزم الخليفة أبو بكر على فتح سورية بدأ‬
‫يوج ه إلي ه الجي وش‪ ،‬وك ان أول من عق د ل ه يزي د بن أبي س فيان على أل ف ف ارس‪ ،‬وربيع ة بن ع امر على أل ف‬
‫مقدماً على ربيعة‪ ،‬يج د في الس ير وال ي رحم الجيش فخاطب ه ربيع ة في ذل ك فق ال‪" :‬إن‬ ‫فارس‪ .‬فأخذ يزيد‪ ،‬وكان ّ‬
‫أب ا بك ر‪ ،‬رض ي اهلل عن ه‪ ،‬س يعقد العق ود ويرس ل الجي وش ف أردت أن أس بق الن اس إلى الش ام فلعلن ا أن نفتح فتح اً‬
‫قبل تالحق الناس بنا فيجتمع ب ذلك ثالث خص ال‪ :‬رض اء اهلل ع ز وج ل ورض اء خليفتن ا وغنيم ة نأخ ذها" (انظ ر‬

‫‪16‬‬
‫الواق دي‪ .‬طبع ة مص ر‪ .‬ص فر ‪ 1354‬هـ‪ .‬ص‪ )4‬وفي خ بر ن زال خال د بن الولي د لكل وس في ح رب دمش ق أن‬
‫خالداً أجاب ُمنازله‪" :‬وأما ما ذك رت من بالدن ا وأنه ا بالد قح ٍط وج وع ف األمر ك ذلك‪ ،‬إالّ أن اهلل تع الى أب دلنا م ا‬
‫هو خير من ه فأب دلنا ب دل ال ذرة الحنط ة والفواك ه والس من والعس ل" وه و م ا وج دوه في الش ام (الواق دي ص ‪.)19‬‬
‫وفي جواب خال د بن الولي د ل وردان في واقع ة دمش ق‪" :‬إن اهلل‪ ،‬ع ز وج ل أغنان ا عن ص دقاتكم وأم والكم‪ ،‬وجع ل‬
‫أم والكم نتقاس مها بينن ا وأح ل لن ا نس اءكم وأوالدكم" (الواق دي ص‪ )37‬ولم ا بلغت أخب ار انتص ارات المحم ديين‬
‫األولى في س ورية إلى مك ة تح رك أكابره ا وأقبل وا على أبي بك ر‪ ،‬وفي طليعتهم أب و س فيان والغي داق بن وائ ل‪،‬‬
‫يس تأذنونه في الخ روج إلى س ورية‪ .‬روى الواق دي (ص‪" )39‬فك ره عم ر بن الخط اب خ روجهم إلى الش ام وق ال‬
‫ألبي بكر‪" :‬ال تأذن للق وم ف إن في قل وبهم حقائ د وض غائن‪ ،‬والحم د للّ ه ال ذي ك انت كلمت ه هي العلي ا وكلمتهم هي‬
‫الس فلى وهم على كف رهم وأرادوا أن يطفئ وا ن ور اهلل ب أفواههم‪ ،‬وي أبى اهلل إالّ أن يتم ن وره‪ ،‬ونحن م ع ذل ك‪،‬‬
‫نقول‪ :‬ليس مع اهلل غالب‪ .‬فلما سمعوا أن اهلل أعز ديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوف اً من الس يف فلم ا س معوا أن‬
‫جند اهلل قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم األعداء ليقاسموا الس ابقين األولين" فس مع أب و بك ر كالم عم ر بن‬
‫الخطّ اب وأدرك أه ل مك ة الس بب ف اجتمعوا إلى أبي بك ر وتظ اهروا أمام ه بص دق إس المهم فرض ي عليهم أب و‬
‫ائم‪.‬‬ ‫ه من الغن‬ ‫ا يجلب‬ ‫اد وم‬ ‫أثير الجه‬ ‫رت‬ ‫ة من أم‬ ‫ذه أمثل‬ ‫ر‪ .‬ه‬ ‫بك‬

‫أن راف ع بن عم يرة‪ ،‬أح د أبط ال المس لمين‬


‫أم ا أم ر الجن ة ونعيمه ا الم ادي وزينته ا فق د روى الواق دي (ص ‪ّ )53‬‬
‫ترحم علي ه فرأيت ه في‬
‫ح ّدث عن حزن ه على م وت ي ونس(‪ )3‬في الح رب ق ائالً‪" :‬فح زنت علي ه وأك ثرت من ال ّ‬
‫النوم وعليه حل ٌل تلمع‪،‬وفي رجليه نعالن من الذهب وهو يجول في روضة خضراء فقلت له‪" :‬ما فعل اهلل بك؟"‬
‫ف ض وء وجهه ا ن ور‬ ‫قال‪" :‬غفر لي وأعطاني بدالً من زوجتي سبعين حوراء لو بدت واحدة منهن في ال دنيا لك َّ‬
‫الش مس والقم ر‪ ،‬فج زاكم اللّ ه خ يراً" فقصص ت الرؤي ا على خال د (بن الولي د) فق ال "ليس لي واهلل س وى الش هادة‬
‫طوبى لمن رزقها"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ولم يتمكن منه المنافقون‬


‫‪ ‬‬

‫ال بأس من إيراد بضعة شواهد أخرى تعزيزاً لصدق التعليل الذي نعلل ه‪ ،‬وتأيي داً لص حة النت ائج ال تي نس تنتجها‪،‬‬
‫في ص دد العام ل السياس ي النفس ي لل دعوة المحمدي ة والحرك ة اإلس المية‪ ،‬أي عام ل الجه اد ومغانم ه في ه ذه‬
‫ّذاتها‪.‬‬ ‫ة ول‬ ‫واب الجن‬ ‫دنيا‪ ،‬وث‬ ‫ال‬

‫نورد هنا كت اب خال د بن الولي د ال ذي كتب ه إلى الخليف ة أبي بك ر‪ ،‬ال ذي ك ان ق د ت وفّي ولم يبل غ خال داً خ بر وفات ه‪،‬‬

‫‪17‬‬
‫يخ بره بدخول ه دمش ق فاتح اً‪ .‬وه ذا نص الكت اب كم ا ورد في ت اريخ الواق دي ص ‪:53‬‬

‫"بس م اهلل ال رحمن ال رحيم لعب د اهلل خليف ة رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم‪ ،‬من عامل ه على الش ام خال د بن الولي د‬
‫(وكان أبو عبيدة ما يزال كاتماً عنه أمر الخليفة عمر بن الخطاب بعزله وتولية أبي عبيدة مكانه) أما بع ُد س الم‬
‫عليك فإني أحمد اهلل الذي ال إله إال هو وأصلي على نبيه محمد‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ثم ّإنا لم نزل في مكايدة‬
‫العدو على حرب دمش ق ح تى أن زل اهلل علين ا نص ره وقه ر ع دوه وفتحت دمش ق عن وة (والواق ع بخيان ة القس يس‬
‫ي ونس كم ا ه و مثبت في الت اريخ الم ذكور عين ه) بالس يف من ب اب ش رقي وك ان أب و عبي دة على ب اب الجابي ة‬
‫فخدعت ه ال روم وص الحوه على الب اب اآلخ ر ومنع ني أن أس بي وأقت ل‪ .‬ولقين اه على كنيس ة يق ال له ا كنيس ة م ريم‬
‫وأمامه القسوس والرهبان ومعهم كتاب الصلح‪ .‬وإ ن صهر الملك توما وآخر يقال له هربيس خرج ا من المدين ة‬
‫بم ال عظيم وأحم ال جس يمة فس رت خلفهم ا في عس اكر الزح ف وان تزعت الغنيم ة من أي ديهما وقتلت الملع ونين‬
‫الخ"‪.‬‬

‫وكان أن الخليفة عمر غضب لعدم تبليغ المسلمين خ بر وف اة أبي بك ر وقيام ه خليف ة من بع ده وأم ره بع زل خال د‬
‫بن الوليد من إمارة المسلمين في سورية وبإقامة أبي عبيدة بن الجراح أميراً بدالً من ه‪ .‬وفي الي وم الت الي ل ورود‬
‫كتاب خالد بن الوليد المذكور آنفاً صلى صالة الفجر‪ .‬روى الواقدي‪" :‬وقام فرقي المنبر خطيب اً فحم د اهلل وأث نى‬
‫عليه وذكر الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم‪ ،‬فص لى علي ه وت رحم على أبي بك ر الص ديق‪ ،‬رض ي اهلل تع الى عن ه‪،‬‬
‫ثم ق ال‪ :‬أيه ا الن اس‪ ،‬إني حملت أمان ة عظيم ة‪ .‬إني راع‪ ،‬وك ّل راع مس ؤول عن رعيت ه‪ ،‬وق د جئت إلص الحكم‬
‫والنظ ر في معايش كم وم ا يق ربكم إلى ربكم أنتم ومن حض ر في ه ذا البل د‪ ،‬ف إني س معت رس ول اهلل‪ ,‬ص لى اهلل‬
‫علي ه وس لم‪ ،‬يق ول‪" :‬من ص بر على أذاه ا وش رها كنت ل ه ش فيعاً ي وم القيام ة" وبالدكم بالد ال زرع فيه ا وال‬
‫ض رع وال م اء أو قرب ه اإلب ل إال من مس يرة ش هر‪ .‬وق د وع دنا اهلل مغ انم كث يرة وإ ني أري دها للخاص ة والعام ة‬
‫دي ص ‪.)55‬‬ ‫الخ" (الواق‬

‫الش اهدان الم ذكوران ف وق ليس ا ق ول من ال ش أن ل ه من عام ة الن اس وجهلتهم‪ ،‬ب ل هم ا ق ول خليف ة وق ول أم ير‬
‫جي وش اش تهر بلقب "س يف اإلس الم"‪ .‬ويحس ن أن نض يف ش اهدين آخ رين لي تيقن الق ارئ من مق دار ت أثير زين ة‬
‫دين‪:‬‬ ‫وس المجاه‬ ‫بي‪ ،‬على نف‬ ‫ائم والس‬ ‫الً عن الغن‬ ‫ة‪ ،‬فض‬ ‫الجن‬
‫سار عبد اهلل بن جعفر ليلحق بالمجاهدين‪ ،‬وكان أبوه قد قتل في تب وك‪ .‬فلم ا بلغه ا طلب أن ي دلّوه على ق بر أبي ه‬
‫ف نزل علي ه وأق ام عن ده ومع ه عب د اهلل بن أنيس الجه ني وص حبه إلى الص بح‪ .‬فلم ا رحل وا في الص باح نظ ر ابن‬
‫أنيس وإ ذا عب د اهلل بن جعف ر يبكي ووجه ه مث ل الزعف ران‪ ،‬فس أله ابن أنيس عن ذل ك فق ال‪" :‬رأيت أبي البارح ة‬
‫ني قات ل‬
‫إلي وقال‪ :‬ي ا ب ّ‬
‫في النوم وعليه حلتان خضراوان وتاج‪ ،‬وله جناحان وبيده سيف مسلول أخضر‪ ،‬فسلمه ّ‬
‫به أعداءك فما وصلت إلى ما ترى إالّ بالجهاد" (الواقدي ص ‪ )60‬وفي وقعة اليرموك أخذ أبو هريرة يح ِّرض‬

‫‪18‬‬
‫رب الع المين" (الواق دي ص‬
‫قوم ه على القت ال ويق ول‪" :‬أيه ا الن اس‪ ،‬س ارعوا إلى معانق ة الح ور العين في ج وار ّ‬
‫‪.)127‬‬

‫أثبتن ا الش واهد والتفاص يل المتقدم ة‪ .‬هن ا وفي م ا س بق‪ ،‬لكيال يظن أح د أنن ا نرس ل الكالم اعتباط اً ونب ني تآويلن ا‬
‫واس تنتاجاتنا على الظن وال وهم كم ا فع ل رش يد س ليم الخ وري حين أخ ذ يه رف عن اإلس الم المحم دي بم ا ال‬
‫راء من ه في حارض ته ال تي س ماها "محاض رة"‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يع رف‪ ،‬وي رمي المس يحية بم ا هي ب‬

‫واآلن نعود إلى التشريع‪ ،‬بعد أن أظهرنا أهميته للعرب الذين لم يكن لهم م ا ك ان للس وريين من الش رع الم دني‪.‬‬
‫ونريد أن نبين في ما يلي أسباب وحدة الشرع في الدينين الموسوي والمحم دي‪ ،‬وأس باب أهمي ة الش رع وتقديم ه‬
‫الس ور التش ريعية في ص در الق رآن م ع أن حقَّه ا‪ ،‬من‬
‫عن د الع رب على غ يره من الرس الة اإلس المية بإثب ات ّ‬
‫زه‪.‬‬ ‫ون في عج‬ ‫ة‪ ،‬أن تك‬ ‫ة والروحي‬ ‫ة التاريخي‬ ‫الوجه‬

‫قلن ا قبالً "إن محم داً أرس ل إلى ق وم ك انوا مض طرين إلى م ا ك ان مض طراً إلي ه الع برانيون‪ :‬ش ريعة توج د لهم‬
‫نظام اً يوض ح لهم المع امالت والح دود والج زاء‪ ،‬ب دالً من ع ادات الث أر والغ زو واس تبداد الق وي ال تي ال تقيم‬
‫نظاماً‪ .‬ولذلك نشأ هذا التوافق الكلي بين الشريعة المحمدي ة والش ريعة الموس وية ح تى في الج زاء ونوع ه" الخ‪..‬‬
‫ام‪.‬‬ ‫وع اله‬ ‫ذا الموض‬ ‫داء في ه‬ ‫ة االبت‬ ‫ول نقط‬ ‫ذا الق‬ ‫له‬ ‫ا نجع‬ ‫وإ نن‬

‫مبني على االف تراض نع رض لش أن العبران يين أوالً‪.‬‬ ‫ولكيال يبقى مج ال لحس بان الق ول المتق دم مج رد اس تبداد ّ‬
‫ني على رواي ات كتَّابهم في الت وراة‪ ،‬أنه ا في األص ل عائل ة يعق وب انتقلت‪،‬‬
‫عن ه ذه الجماع ة‪ ،‬وكل ه أو جلّ ه مب ٌّ‬
‫بس بب قح ط أص اب األرض‪ ،‬إلى مص ر حيث ك ان يوس ف أح د أبن اء يعق وب ق د حص ل على مرك ز وزي ر عن د‬
‫فرع ون‪ ،‬وأنه ا تك اثرت في مص ر وص ارت ش عباً كث يراً اس تعبده المص ريون ح تى ج اء موس ى مرس الً من اهلل‬
‫وأنق ذه من العبودي ة تحت حماي ة يه وه ال ذي أغ رق فرع ون ومركبات ه في البح ر‪ .‬ثم أن موس ى أبقى ه ذا الش عب‬
‫في صحراء س ينا أربعين س نة ع اش فيه ا على المن والس لوى‪ ،‬وبع دها أخ ذ يت أهب القتح ام "أرض الميع اد" وفي‬
‫أثن اء وج ود ه ذه الجماع ة في الص حراء الس ينائية تق دم موس ى إليه ا ب المواد الش رعية األولى‪ :‬الوص ايا العش ر؛‬
‫وتبعته ا األحك ام التفص يلية المش تملة على الج زاء (العقوب ات) وعلى ق وانين المع امالت والعق ود‪.‬‬

‫ام ج داً وه و‪ :‬ألم يكن عن د المص ريين‪ ،‬ال ذين ك انوا ق د أسس وا دول ة‪ ،‬ش رائع‬
‫هن ا يخط ر للب احث الم دقق س ؤا ٌل ه ٌّ‬
‫اقتبسها أو اقتبس بعضها عنهم اإلسرائيليون‪ ،‬ح تى وجب أن يعلمهم اهلل أولي ات النظ ام االجتم اعي الم دني‪ ،‬ك أن‬
‫يك رم الواح د أب اه وأم ه‪ ،‬وأن ال يس رق‪ ،‬وال يك ذب‪ ،‬وال يش هد ب الزور‪ ،‬وأن ال ي زني الخ؟ ألم يكن الع برانيون‬
‫رية؟‬ ‫ة مص‬ ‫وانين مدني‬ ‫ادات وق‬ ‫متبعين ع‬

‫‪19‬‬
‫ال تشير التوراة إلى شيء واضح عن النظام الذي كان يعمل به اإلسرائيليون قبل هبوط الوحي على موسى في‬
‫ط ور س يناء‪ ،‬وهب وط ال وحي بالوص ايا العش ر ي دل على أن اليه ود لم يكون وا يعرف ون أو يعمل ون به ذه األولي ات‬
‫أن اليه ود ك انوا أو عرف وا مص ر قب ل دخ ولهم أط راف القس م‬ ‫كقاع دة عام ة في حي اتهم‪ .‬وهن ا يب دأ الش ك في ّ‬
‫الجنوبي من سورية‪ .‬ويأخذ ه ذا الش ك يتأي د في ع دم وج ود ذك ر أو دلي ل لمأس اة البح ر األحم ر ال تي تُش ير إليه ا‬
‫ّ‬
‫التوراة ويؤيدها القرآن‪ .‬فال يوجد فرعون واحد هلك في البح ر في تتبع ه ش عباً غريب اً هارب اً من مص ر‪ .‬والم رة‬
‫الوحي دة ال تي تتب ع فيه ا المص ريون قوم اً غرب اء ك انت حين انتقض المص ريون على دول ة الهكس وس الس ورية‬
‫التي اجتاحت مصر وأخضعت المصريين إلى أن ثار عليها هؤالء وتغلبوا عليها‪ ،‬فرجع الهكس وس إلى س ورية‬
‫وتبعهم المص ريون وح اربوهم في وادي مج ّدو‪ ،‬وتبع وهم إلى الش مال‪ .‬وق د ح اول بعض م ؤرخي العبران يين أن‬
‫يوج دوا ص لة بين ت اريخهم وت اريخ الهكس وس‪ ،‬ولكن األدل ة التاريخي ة ج اءت ض د ه ذه المحاول ة ال تي لم تكن‬
‫اورة‪.‬‬ ‫وام المج‬ ‫واريخ األق‬ ‫يين ت‬ ‫ال العبران‬ ‫ا النتح‬ ‫األولى من نوعه‬

‫األرجح‪ ،‬في هذا الصدد‪ ،‬هو ما ذهب إليه المستشرق المحقق الكبير غيتاني (‪ )Gaetani‬في كتاب ه (‪Studi du‬‬
‫‪ )storia orientale‬الذي يجزم بأن اليهود أو العبرانيين لم يكونوا قط في مصر‪ ،‬مستنداً إلى تحقيقات تاريخية‬
‫وجيولوجي ة وجغرافي ة‪ .‬فه و يثبت أن العبران يين لم يكون وا س وى قبائ ل بدوي ة موقعه ا ش مال ش رق س ورية في‬
‫بقع ة ك انت ت دعى ق ديماً "مص رو" (‪ ،)Misru‬وأن اليه ود تعم دوا الخل ط بين ه ذه البقع ة ومص ر المعروف ة الي وم‬
‫ليوسعوا تاريخهم وليتمكنوا من انتحال حكاي ة يوس ف ال تي نقلوه ا مم ا بين النه رين وجعل وا حوادثه ا تج ري بين‬
‫س ورية ومص ر‪ .‬ويؤي د ه ذه النظري ة م ا ورد في المراس الت المكتش فة في ت ل العمارن ة في مص ر ال تي تب ودلت‬
‫بين أم راء فينيق يين والفرع ون‪ ،‬وفيه ا أخب ار غ زو قبائ ل "الحب يرو" أي الب دو لبعض الق رى والم دن الجنوبي ة‪.‬‬

‫فاليهود لم يكونوا‪ ،‬قبل مجيئهم إلى سورية‪ ،‬يعرف ون نظام اً اجتماعي اً م دنياً‪ ،‬ألنهم ك انوا في حال ة ب داوة بربري ة‪،‬‬
‫ولم يكونوا قد تمدنوا ال في مصر وال في مكان آخر؛ فهم‪ ،‬والحالة هذه‪ ،‬كانوا يشبهون العرب من كل وجه في‬
‫م ا يختص بم رتبتهم االجتماعي ة وحاجاته ا؛ فلم يكن لهم ق وانين وأنظم ة عام ة تض بط مع امالتهم وتع اقب‬
‫مج رميهم ب دالً من ت رك أم رهم لع ادة الث أر‪ .‬فلم ا أص بحوا على ح دود المدني ة الس ورية وص َّح ع زمهم على‬
‫دخولها والتحض ر في س ورية وج دوا أن ح اجتهم األولى هي إلى نظ ام ي ؤهلهم ل ذلك‪ .‬وك ان للكنع انيين (س وريِّي‬
‫زائي ينص على المع امالت والعق ود والعقوب ات‪ ،‬كم ا أثبت ذل ك‬ ‫انون م دني وج ٌّ‬
‫اعي راق وق ٌ‬ ‫ام اجتم ٌّ‬ ‫الجنوب) نظ ٌ‬
‫األستاذ ألمستد أستاذ التاريخ القديم في جامعة كولومبي ا‪ ،‬الوالي ات المتح دة‪ ،‬وه و أح د مع اوني المحق ق الت اريخي‬
‫الش هير برس تد‪ .‬وق د أثبت األس تاذ ألمس تد ه ذه الحقيق ة في كتاب ه باإلنقليزي ة "ت اريخ فلس طين وس ورية ح تى الفتح‬
‫المك دوني" ومن مقابل ة الش رع الموس وي على الش رع الكنع اني نج د أن ذاك اس َّ‬
‫تمد نظريات ه وأحكام ه من ه ذا‪.‬‬

‫ولم ا لم يكن اليه ود أه ل تم ُّدن من قب ل‪ ،‬لم يكن من الس هل أخ ذهم بالنظ ام الم ِّ‬
‫دني والعم ل ب ه‪ .‬فك ان ال ب د من‬

‫‪20‬‬
‫إخض اعهم للش ريعة إخض اعاً‪ .‬وه ذا اإلخض اع ال يمكن أن يك ون بواس طة ش رطة وقض اء وس لطة ألنهم ك انوا‬
‫قبائ ل ال تع رف نظام اً م دنياً‪ ،‬وك ل م ا تعرف ه ع ادات بس يطة وع رف ال تض بط التص رفات واألعم ال وال تعين‬
‫اعهم؟ بواس طة س لطة خفي ة رهيب ة وغ ير منظ ورة‪ :‬اهلل‪ ،‬يه وه‬ ‫الحق وق الفردي ة‪ .‬فبأي ة واس طة‪ ،‬إذاً‪ ،‬يمكن إخض ُ‬
‫ال ذي ينتقم من المخ الفين للش رائع واألحك ام‪ ،‬المفتق د ذن وب اآلب اء في األبن اء في الجي ل الث الث والراب ع‪ .‬وهك ذا‬
‫تحولت الشريعة الكنعانية المدنية القابلة للتطور والتغير حسب تطور االجتماع والعمران‪ ،‬ألنها صنع بش ر‪ ،‬إلى‬
‫شريعة دينية جامدة (‪ )Rigida‬ال تقبل التطور والتغير‪ ،‬ألنه ا ص ارت أحك ام اهلل الكلي المعرف ة الق ادر على ك ل‬
‫ش يء‪ ،‬المعص وم عن الغل ط‪ .‬وم ع أن ه ذا التحوي ل ك ان يقض ي بجم ود الش رع فلم يكن هن اك طريق ة أخ رى‬
‫رهم‪.‬‬ ‫د أم‬ ‫وتوح‬
‫ّ‬ ‫باطهم‬ ‫ع أس‬ ‫ريعة تجم‬ ‫ود ش‬ ‫اء اليه‬ ‫إلعط‬

‫ه ذه هي الطريق ة الوحي دة لجمي ع الش عوب والقبائ ل ال تي م ا ت زال في حال ة ب داوة أو بربري ة‪ .‬وق د ع رض ابن‬
‫خل دون‪ ،‬في مقدمت ه الش هيرة‪ ،‬له ذه الحال ة فكتب الفص ل الس ابع والعش رين من الفص ل الث اني من الكت اب األول‬
‫لمقدمته وجعل عنوانه "في أن العرب ال يحصل لهم الملك إالّ بصبغة ديني ة من ّنب وة أو والي ة أو أث ر عظيم من‬
‫الدين على الجملة" وذكر ابن خلدون سبب ذلك بقوله‪" :‬الس بب في ذل ك أنهم‪ ،‬لخل ق الت وحش ال ذي فيهم‪ ،‬أص عب‬
‫األمم انقياداً بعضهم لبعض الخ" وفات ابن خلدون أن يذكر في األسباب سبب فقدان النظام االجتم اعي التم دني‪،‬‬
‫دد‪.‬‬ ‫ذا الص‬ ‫ة في ه‬ ‫مح باإلطال‬ ‫ال يس‬ ‫ا في مج‬ ‫نا هن‬ ‫ولس‬

‫يضعنا كالم ابن خلدون المذكور آنفاً في موضع النظر في العرب وشؤونهم‪ .‬وهو نفسه يقودنا في ه ذا الطري ق‬
‫توحش هم وغلظتهم وص عوبة مراس هم‪ .‬ولكنن ا نحن ال نري د التوغ ل في مس ائل الطب اع‪،‬‬ ‫فيصف الع رب من حيث ّ‬
‫النمو االجتم اعي واالختب ارات‬
‫رقي حي اتهم ب ّ‬
‫أن ح التهم البدوي ة ال تس مح بتولّ د ش ريعة بينهم ت ّ‬
‫ب ل نكتفي ب القول ّ‬
‫االجتماعي ة المقتص رة على ح االت أولي ة مع دودة ومح دودة‪ .‬وف رض ش ريعة عليهم تمنعهم من وأد بن اتهم‪ ،‬ومن‬
‫ينص على المع امالت والعق ود‬
‫أخ ذ األخ تين زوجين‪ ،‬ومن الث أر بال حس اب‪ ،‬وتخض عهم لق انون واض ح ّ‬
‫والعقوبات‪ ،‬لم يكن ممكن اً إالّ عن طري ق ال دين‪ .‬وال دين م ا ك ان يمكن أن يك ون مفهوم اً عن دهم عن غ ير طري ق‬
‫المادي الحسن‪ ،‬كأكل الفاكهة في الجنة ولبس الس ندس‪ ،‬ك ل ذل ك في جن ات‬
‫ّ‬ ‫المعامالت والعقود والوعود بالجزاء‬
‫ور عين‪.‬‬ ‫ا بح‬ ‫تزوجون فيه‬ ‫ون ي‬ ‫وعي‬

‫ولوال الشرع الذي تكرر إيحاؤه لمحمد بعد موسى لما كان حصل اجتماع أمر العرب في اإلسالم‪ .‬ولوال النظام‬
‫ال ذي دع ا إلي ه محم د لم ا ك ان ممكن اً أن تنجح الفتوح ات المحمدي ة ويثبت أم ر المحم ديين فيه ا‪ ،‬ب ل لكن ا رأين ا‬
‫العرب يتزاحمون على األسالب والغنائم ال ي ردعهم رادع وال ي زعهم وازع فيتفكك ون بأس رع من لمح البص ر‪.‬‬

‫ولم ا ك انت حال ة الع رب تقتض ي م ا اقتض ته حال ة العبران يين فق د تك رر لهم الش رع عين ه ال ذي أوحي للعبران يين‬

‫‪21‬‬
‫تنص ان على حال ة واح دة أحكام اً واح دة‪ .‬وه ذه‬
‫بواس طة موس ى‪ .‬ول ذلك ن رى الش ريعتين الموس وية والمحمدي ة ّ‬
‫ام‪.‬‬ ‫ذه األحك‬ ‫له‬ ‫اس لمث‬ ‫ا الن‬ ‫اج فيه‬ ‫ة يحت‬ ‫ة أولي‬ ‫ة هي حال‬ ‫الحال‬

‫وري المتم دن لم اذا وجب أن تنص الش ريعتان الموس وية والمحمدي ة على ع دم ج واز الجم ع بين‬
‫وق د يعجب الس ّ‬
‫إن ذل ك ك ان ض رورياً‪ .‬ومث ل الح االت ال تي نص عليه ا الق رآن ك ان م ا‬
‫األختين‪ ،‬مثالً‪ .‬ولكي يزول عجبه نقول ّ‬
‫ي زال واقع اً ح تى في أي ام الخليف ة عم ر بن الخط اب وبع دها‪ ،‬وإ ثبات اً له ذه الحقيق ة نثبت م ا أورده الواق دي في‬
‫الص فحة ‪ 149‬من تاريخ ه الم ذكور‪" :‬ق ال عم رو بن مال ك العبس ي‪ :‬كنت م ع عم ر بن الخط اب حين س ار إلى‬
‫الشام فم َّر على م اء لج ذام علي ه طائف ة منهم ن زول‪ .‬والم اء ي دعى ذات المن ازل‪ .‬ف نزل (عم ر) بالمس لمين علي ه‪،‬‬
‫فبينم ا ه و ك ذلك وأص حاب رس ول اهلل‪ ,‬ص لى اهلل علي ه وس لم‪ ،‬حول ه إذ أقب ل إلي ه ق وم من ج ذام فق الوا‪ :‬ي ا أم ير‬
‫علي ب ه‪ ،‬ف أتي ق ال‪ :‬فه ل بينهم ا‬
‫وأم‪ .‬فغضب عم ر وق ال‪َّ :‬‬ ‫المؤمنين إن عندنا رجالً له امرأتان وهما أختان ٍ‬
‫ألب ٍّ‬
‫رام‬
‫قرابة؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬هما أختان قال عمر‪ :‬فما دينك‪ ،‬ألس ت مس لماً؟ ق ال‪ :‬بلى‪ .‬ق ال عم ر‪ :‬وم ا علمت أن ه ذا ح ٌ‬
‫علي ك‪ ،‬واهلل يق ول في كتاب ه‪" :‬أن تجمع وا بين األخ تين إالّ م ا ق د س لف"؟ فق ال الرج ل م ا علمت وم ا هم ا علي‬
‫َّ‬
‫ولتخلين س بيل إح داهما وإ الّ ض ربت عنق ك‪ .‬ق ال‬ ‫رام علي ك‬
‫بح رام‪ .‬فغض ب عم ر وق ال‪ :‬ك ذبت‪ ،‬واهلل إن ه لح ٌ‬
‫دين ما أص بنا في ه خ يراً‪ ،‬ولق د كنت‬
‫الرجل‪ :‬أفتحكم علي؟ قال أي واهلل الذي ال إله إالّ هو‪ .‬فقال الرجل‪ :‬إن هذا ٌ‬
‫ادن مني‪ .‬فدنا منه‪ ،‬فخفق رأسه بالدرة خفقتين‪ .‬وق ال ل ه‪ :‬تتش اءم باإلس الم ي ا‬
‫غنياً عن أن أدخل فيه‪ .‬قال عمر‪ُ :‬‬
‫عدو اهلل وعدو نفسه وهو الدين الذي ارتضاه اهلل لمالئكت ه ورس له وخيرت ه من خلق ه؟ (ش عب اهلل الخ اص) خ ّل‪،‬‬
‫َّ‬
‫ي ا ويل ك‪ ،‬س بيل إح داهما وإ الّ جل دتك جل دة المف تري! فق ال الرج ل‪ :‬كي ف أص نع بهم ا وإ ني أحبهم ا‪ ،‬ولكن أق ترع‬
‫بينهم ا‪ ،‬فمن خ رجت القرع ة عليه ا كنت له ا وهي لي‪ ،‬وإ ن كنت لهم ا جميع اً محب اً‪ .‬ف أمر عم ر ف اقترع ف وقعت‬
‫القرع ة على إح داهما فأمس كها وأطل ق س بيل الثاني ة‪ .‬ثم أقب ل علي ه عم ر وق ال‪ :‬اس مع ي ا ذا الرج ل َوع م ا أق ول‬
‫ل ك‪ ،‬إن ه من دخ ل في دينن ا ثم رج ع عن ه قتلن اه‪ ،‬فإي اك أن تف ارق اإلس الم‪ ،‬وإ ي اك يبلغ ني أن ك ق د أص بت أخت‬
‫ك"‪.‬‬ ‫ك رجمت‬ ‫ك إن فعلت ذل‬ ‫ا‪ ،‬فإن‬ ‫تي فارقته‬ ‫ك ال‬ ‫امرأت‬

‫صديق ي ُّ‬
‫وده‪ ،‬فق ال ص ديقه‪ :‬ه ل ل ك أن‬ ‫ٌ‬ ‫أن شيخاً على الماء وله‬ ‫"وسار عمر حتى إذا كان بوادي القرى أخبروه ّ‬
‫وم‬
‫وم وليل ة‪ ،‬ول ك فيه ا ي ٌ‬
‫تجع ل لي في زوجت ك نص يباً وأكفي ك رعي ك إبل ك والقي ام عليه ا ولي فيه ا (الزوج ة) ي ٌ‬
‫وليلة؟ قال الشيخ‪ :‬قد فعلت ذلك ورضي‪ ،‬فلما أخبر عم ر ب ذلك أم ر بهم ا فأحض را فق ال‪ :‬ي ا ويلكم ا‪ ،‬م ا دينكم ا؟‬
‫ق اال‪ :‬اإلس الم‪ .‬ق ال عم ر‪ :‬فم ا ال ذي بلغ ني عنكم ا؟ ق اال‪ :‬وم ا ه و؟ فأخبرهم ا عم ر بم ا س معه من الع رب‪ .‬فق ال‬
‫رام في دين اإلس الم؟ ق اال‪ :‬ال واهلل‪ ،‬م ا‬
‫الشيخ‪ :‬قد كان ذلك يا أمير المؤم نين‪ .‬فق ال عم ر‪ :‬أم ا علمتم ا أن ذل ك ح ٌ‬
‫علمن ا ذل ك‪ .‬فق ال عم ر للش يخ‪ :‬وم ا دع اك أن ص نعت ه ذا الق بيح؟ ق ال‪ :‬أن ا ش يخ كب ير ولم يكن لي أح د أث ق ب ه‬
‫وأتك ل علي ه فقلت‪ :‬ي ا ه ذا‪ ،‬أتكفي ني ال رعي‪ ،‬والس قي وتعين ني على دوابِّي وأن ا أجع ل ل ك نص يباً في ام رأتي؟‬

‫‪22‬‬
‫رام فال أفعل ه‪ .‬فق ال عم ر‪ :‬خ ذ بي د امرأت ك فال س بيل لي عليه ا (أي إنه ا غ ير زاني ة) ثم ق ال‬
‫واآلن علمت أن ه ح ٌ‬
‫للش اب‪ :‬إي اك أن تق رب منه ا‪ ،‬فإن ه إن بلغ ني ذل ك ض ربت عنق ك ثم ارتح ل عم ر"‪.‬‬

‫شرعت لها‬
‫شرع لها اإلسالم في العربة‪ .‬وهي الحالة عينها التي َّ‬
‫وفي هذين المثلين صورة واضحة للحالة التي َّ‬
‫الموسوية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ما لم يعط للجهّال‬


‫‪ ‬‬

‫وج دنا‪ ،‬من مقابل ة أحك ام الق رآن وح دوده على أحك ام الت وراة وح دودها‪ ،‬أن نص وص الش ريعتين الموس وية‬
‫والمحمدية واحدة مع فوارق شكلية قليلة ال تغير شيئاً من وحدة األس اس‪ .‬فاهلل ق د أوحى‪ ،‬إلى محم د في الق رآن‪،‬‬
‫الشريعة عينه ا ال تي أوحاه ا إلى موس ى وجمي ع النب يين ال ذين تق دموا محم داً‪ ،‬كم ا ه و مثبت في الق رآن‪ .‬واهلل ق د‬
‫ات مس يحية أيض اً‪ ،‬ولكن الش عب ال ذي أرس ل إلي ه محم د لم يكن من اإلدراك والثقاف ة بحيث‬ ‫أوحى إلى محم د آي ٍ‬
‫ماس ة إلى األس اس الق انوني ال ذي يجم ع بين قبائل ه المتش ّعثة‪،‬‬
‫يمي ل إلى األخ ذ بالتع اليم العلي ا‪ ،‬وك انت حاجت ه ّ‬
‫ويض من العالق ات ويح دد ط رق المعامل ة‪ ،‬فال تك ون معلق ة على تع اليم الفلس فة المناقبي ة ال تي علمه ا المس يح‬
‫وجعلها تاجاً للشريعة وحكماً عليها‪ .‬وك ان االنتص ار األول للثقاف ة النفس ية على ح دود الش رع الجام دة‪ .‬فانتص ار‬
‫العقل على الشرع حدث أوالّ بظهور التعاليم المسيحية؛ وأعظم أسباب نقمة اليهود على المسيح ه و كون ه خ رج‬
‫ويحس نها‪ ،‬ب دالً من التقي د بالنص وص‪ ،‬كم ا ه و الح ال‬
‫ّ‬ ‫على نص وص الش رع وق ال بتأوي ل الش رع لم ا يفي د الحي اة‬
‫في الق رآن والت وراة‪ .‬المس يح ه و ال ذي ق ال‪" :‬ال تحكم وا بحس ب الظ اهر‪ ،‬لكن احكم وا حكم اً ع ادالً"(يوحن ا ‪ 7‬ـ‬
‫‪ )24‬وهو قال هذا القول ألن اليهود نقموا عليه إلبرائ ه إنس اناً ي وم الس بت المح رم العم ل في ه عن د اليه ود حس ب‬
‫ش ريعة موس ى‪ ،‬وك ان ق د ق ال قب ل ه ذه اآلي ة‪" :‬إن موس ى أعط اكم الخت ان‪ ،‬ال ان ه من موس ى ب ل من اآلب اء‬
‫علي ألني‬
‫فتختنون اإلنسان في السبت‪ .‬فإن كان اإلنسان يختن في السبت لئال تنقض شريعة موسى أفتس خطون َّ‬
‫أبرأت اإلنسان كلّه في السبت؟" (يوحنا‪ 7 :‬ـ ‪22‬و‪ )23‬وكان اليهود يعترضون‪ ،‬ليس فقط على إبراء الرج ل في‬
‫السبت‪ ،‬بل أيضاً على حمل الرجل سريره بعد شفائه‪ ،‬ألنه لم يكن يجوز في شريعة موسى أن يعم ل ش يء ي وم‬
‫بت‪.‬‬ ‫الس‬

‫وكان الكتبة والفريسيون يجادلون المسيح دائما ً ويحاولون أن يأخذوه بجريرة مخالفة الش ريعة‪ .‬واإلنجي ل مش حون‬
‫بهذه المحاوالت‪ .‬وأه ّم محاولة كانت هذه‪" :‬ومضى يسوع إلى جبل الزيتون‪ .‬ثم رجع باركا ً إلى الهيكل‪ ،‬فأقبل إلي ه‬
‫الشعب كلهم فجلس يعلّمهم‪ .‬وقدم الكتبة والفريسيون إلى يسوع امرأة أخذت في زنى وأقاموها في الوسط‪ .‬وقالوا يا‬
‫إن هذه المرأة قد أخذت في الزنى‪ .‬وقد أوصى موسى في الناموس (الشريعة) أن ترجم مثل هذه‪ ،‬فماذا تقول‬ ‫معلم‪ّ ،‬‬

‫‪23‬‬
‫أنت؟ وإنما قالوا هذا تجريبيا ً له ليجدوا ما يشكونه به‪ .‬أما يسوع فأكبَّ يخطّ بإص بعه على األرض‪ .‬ولم ا اس تمروا‬
‫يسألونه انتصب وقال لهم‪" :‬من كان منكم بال خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر"‪ .‬ثم أكبّ أيض ا ً يخ طّ على األرض‪ .‬أم ا‬
‫أولئك فلما سمعوا طفقوا يخرجون واحداً فواحداً‪ ،‬وكان الشيوخ أوّل الخارجين‪ .‬وبقي يس وع وح ده والم رأة قائم ة‬
‫في الوسط‪ .‬فانتصب يسوع وقال لها‪" :‬يا امرأة أين الذين يشكونك‪ ،‬أما حكم عليك أحد؟"‪ .‬قالت‪" :‬ال ي ا رب" فق ال‬
‫يس وع‪" :‬وال أن ا أحكم علي ك‪ ،‬اذه بي وال تع ودي تخط ئين"‪( ".‬يوحن ا‪ 8 :‬ـ ‪ 2‬ـ ‪.)11‬‬
‫ك في ه‪ :‬الزاني ة ت رجم في‬ ‫في هذا المثل يظهر الصراع بين العق ل والش رع ب أجلى مظ اهره‪ .‬الش رع واض ح ال ش ّ‬
‫التوراة وفي القرآن تجلد كما جاء في اآلية‪{ :‬ال ّزانية وال ّزاني فاجلدوا ك ّل واحد منهما مائ ة جل دة وال تأخ ذكم بهم ا‬
‫رأفة في دين هللا إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر وليشهد عذابهما طائف ة من المؤم نين} (الن ور‪ )2 :‬فلم يقتص ر‬
‫المسيح على قوله المطلق‪" :‬ال تحكم وا بحس ب الظ اهر‪ ،‬لكن احكم وا حكم ا ً ع ادالً"‪ ،‬ب ل وق ف وحم ل مس ؤولية‬
‫كالمه‪ .‬ولم يضع شريعة جديدة تح ّل مح ّل الشريعة السابقة في أمر الزنى‪ ،‬بل علّم بتحكيم العقل ليكون الحكم عادالً‬
‫وإن خالف نص الشريعة‪ .‬وهو ما لم يجر مثله في القرآن أو الحديث وذلك لم ا بين اه آنف ا ً من أن محم داً أرس ل إلى‬
‫قوم كانوا مضطرّين إلى ما كان مضط ّراً إليه العبرانيون‪ :‬شريعة توجد لهم نظاما ً يوضح لهم المع امالت والح دود‬
‫ي ال تي ال تقيم نظام اً‪ ،‬ول ذلك نش أ ه ذا التواف ق الكل ّي بين‬
‫والجزاء‪ ،‬بدالً من ع ادات الث أر والغ زو واس تبداد الق و ّ‬
‫الشريعة المحمدية والشريعة الموسوية في الشرع حتى في الجزاء ونوعه‪ ،‬كما في اآلية‪{ :‬يا أيّها الذين آمن وا كتب‬
‫عليكم القصاص في القتلى الح ّر بالح ّر والعب د بالعب د واألن ثى ب األنثى الخ} (البق رة‪ )178 :‬وفيه ا ج وهر الج زاء‬
‫ى‪.‬‬ ‫ريعة موس‬ ‫ذكور في ش‬ ‫الم‬
‫وهذا يؤيّد كون محمد أرسل ليهدي بيئة لم تكن لها شريعة من قبل‪ ،‬وإالّ لما وجد الوحي حاجة لتك رار م ا ورد في‬
‫التوراة وجاء محمد مصدقا ً له‪ .‬وإذا كان قد بقي في ذهن أحد شيء من الشك في ما نقوله‪ ،‬حتى بع دما أوردن اه من‬
‫اآليات القرآنية فإننا نؤيده بآيات أخرى كهذه اآليات‪{ :‬وكذلك أوحينا إليك قرآنا ً عربيّا ً لتنذر أم الق رى ومن حوله ا‬
‫وتنذر يوم الجمع ال ريب فيه فريق في الجنّة وفريق في السّعير} (الشورى‪ )7 :‬وهذه اآلية هامة جداً‪ ،‬ألنها مكي ة‪،‬‬
‫أي من اآليات التي لم يكن قد دخل فيها العامل السياسي الذي نلحظه في اآلي ات المدني ة‪{ .‬فكي ف إذا جئن ا من ك ّل‬
‫أ ّم ة بش هيد وجئن ا ب ك على ه ؤالء ش هيداً} (النس اء‪{ )41 :‬ولق د بعثن ا في ك ّل أ ّم ة رس والً الخ} (النح ل‪.)36 :‬‬
‫وقد أثبتنا في حلقة سابقة من هذه السلسلة(‪14‬حلقة) ش يئا ً من وص ف الق رآن لبيئ ة محم د‪ .‬ولع ل ه ذه اآلي ة تعطي‬
‫وصفا ً أد ّ‬
‫ق لتلك البيئة‪{ :‬قالت األعراب آمنّا قل لم تؤمن وا ولكن قول وا أس لمنا ول ّم ا ي دخل اإليم ان في قل وبكم وإن‬
‫رات‪.)14 :‬‬ ‫ور رحيم} (الحج‬ ‫يئا ً ّ‬
‫إن هللا غف‬ ‫الكم ش‬ ‫وله ال يلتكم من أعم‬ ‫وا هللا ورس‬ ‫تطيع‬

‫مؤهل ة إلدراك اإليم ان ال روحي وفهم تع اليم الفلس فة المناقبي ة‪ .‬إنه ا بيئ ة ال‬
‫هذه البيئ ة العريق ة في الب داوة لم تكن ّ‬
‫الس ور المدني ة وجه ة أق رب إلى البيئ ة وعقليته ا من وجه ة‬ ‫تزال دون مرتبة ه ذه الفلس فة بم راتب‪ .‬ول ذلك أخ ذت ّ‬
‫الس ور المكي ة‪ .‬ول ذلك ك ان ظه ور روحاني ة الرس الة المحمدي ة خ ارج العرب ة في س ورية وف ارس واألن دلس‪ .‬أم ا‬ ‫ّ‬
‫الحقيقي لم ا ي دخل‬
‫ّ‬ ‫أه ل العرب ة فظل وا تحت حكم اآلي ة الم ذكورة أخ يراً إلى الي وم‪ ،‬أي انهم أس لموا ولكن اإليم ان‬
‫قلوبهم‪ .‬وهذه الحالة التي يشجبها القرآن هي التي يم دحها ص احب الحارض ة الهجائي ة ال ذي لم يفهم من اإلس الم‬
‫إالّ بق در م ا فهمت ه األع راب‪ ،‬ولم يع رف ش يئاً ص حيحاً عن المس يحية أو عن المحمدي ة‪ ،‬وك ان أح وج الن اس إلى‬
‫المحمدي الذي وضع‬
‫ّ‬ ‫سماع محاضرات في هذين المذهبين ونشأتهما وطبيعة ك ّل منهما‪ ،‬ولذلك قال عن اإلسالم‬
‫ش رعاً يس مونه في علم الحق وق والسياس ة "جام داً ‪ "Rigido‬إن ه وض ع القواع د الروحي ة ـ الفكري ة للتغلب على‬
‫الشرع‪ ،‬وقال عن المسيحية التي علّمت تعاليم فلسفية مناقبية لتأويل الشرع على ما يوافق األفضل للحياة الجيدة‬

‫‪24‬‬
‫حس ب حكم العق ل إنه ا دين "يقت ل الم واهب ويهيض األجنح ة ويعص ب على العي ون الخ"‪.‬‬

‫بعد الذي بيّناه في ما تقدم من هذه الحلقة نعود إلى نقطة هامة جداً وعدنا‪ ،‬في الحلق ة الس ابقة‪ ،‬أن نعالجه ا في ه ذه‬
‫الحلقة‪ ،‬وهي‪ :‬أسباب االتفاقات والمشابهات بين الرسالتين الموسوية والمحمدية اللتين لهما أساس واحد هو الش رع‬
‫رآن‪.‬‬ ‫وراة والق‬ ‫دة في الت‬ ‫ه واح‬ ‫ا أن أحكام‬ ‫ذي رأين‬ ‫ال‬
‫ألمعنا في ما تقدم من هذا البحث‪ ،‬خصوصا ً في الحلق تين األخ يرتين‪ ،‬إلى أن الرس الة المحمدي ة هي أيض ا ً رس الة‬
‫روحية تتجه في اتجاه الرسالة المسيحية عينه‪ ،‬ولكنّها اضطرّت ألخذ األس اس الم ادي بعين االعتب ار وتقديم ه في‬
‫روحي‪.‬‬ ‫اء ال‬ ‫ة على البن‬ ‫المعالج‬
‫والحقيقة أن الرسالة القرآنية تقسم إلى قسمين‪ :‬القسم األول وهو المك ّي السابق للهجرة وفيه اآليات المكي ة المتجه ة‬
‫اتجاها ً روحيا ً على قدر ما تسمح به عقلية البيئة المحدودة العلوم والمعارف واالختب ارات واألفك ار والتص ورات‪،‬‬
‫والقسم الثاني هو المدن ّي المشتمل على اآليات المدنية والمتّجه نح و ش ؤون أولي ات االجتم اع وض روريات ب داءة‬
‫إنشاء نظام اجتماعي عام يشمل جميع العرب ويحل محل العادات والع رف المقتص رة على القبائ ل وعلى ح االت‬
‫قليلة تقوم عليها الصّالت بين القبائل التي كانت قبيلة منها كأنها أمة ودولة قائمة بنفسها ال يجمع بينها غير عادة أو‬
‫فريض ة الحج إلى الكعب ة واالص طالح على ت رك الغ زو والث أر في ش هر معيّن من الس نة‪.‬‬
‫وفي هذا القسم يظهر عامالن رئيسيان هما‪ :‬التشريع والسياسة‪ .‬أما التشريع فإلقامة نظ ام ع ام يلغي خصوص يات‬
‫القبائل ويو ّحد العرب‪ .‬وأما السياسة فلجع ل نج اح الرس الة ونظامه ا ممكن اً‪ .‬وه ذا العام ل األخ ير يظه ر في أم ر‬
‫الجهاد الذي يُغري العرب بالغزو والسلب‪ ،‬وقد ظهر تأثير هذه الناحية في يوم بدر ويوم أحد‪ ،‬وفي تشويق الع رب‬
‫بصور الجنة المادية وفي التس اهل في ش ؤون حي اتهم‪ ،‬خصوص ا ً في النس اء وتع ّدد الزوج ات‪ ،‬مراع اة لش هوات‬
‫الصحراء الحادة والقتصار شؤون حياة العرب على الغزو والسبي والسلب ووقوف حياتهم الفني ة والروحي ة على‬
‫الفرس والرمح والمرأة‪ .‬والمرأة أو أنوثتها كانت أقوى عامل في نفسية العربي‪ ،‬ولذلك اعت بر الق رآن ه ذه الناحي ة‬
‫مع ناحية الصور المادية للجنة حتى في اآليات المكية كما في قوله‪{ :‬الّ ذين آمن وا بآياتن ا وك انوا مس لمين‪ .‬ادخل وا‬
‫الجنّة أنتم وأزواجكم تحبرون‪ .‬يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه األنفس وتل ّذ األعين وأنتم‬
‫فيها خالدون‪ .‬وتلك الجنّة التي أورثتموها بما كنتم تعملون‪ .‬لكم فيها فاكهة كث يرة منه ا ت أكلون} (آي ات متتالي ة من‬
‫{إن المتّقين في مق ام أمين‪ .‬في جنّ ات وعي ون‪ .‬يلبس ون من س ندس‬ ‫س ورة الزخ رف المكي ة‪ 69 :‬ـ ‪ )73‬وقول ه‪ّ :‬‬
‫وإستبرق متقابلين‪ .‬كذلك وز ّوجناهم بحور عين‪ .‬يدعون فيها بك ّل فاكهة آم نين‪ .‬ال ي ذوقون فيه ا الم وت إالّ الموت ة‬
‫ة‪ 51 :‬ـ ‪.)56‬‬ ‫دخان مكي‬ ‫ورة ال‬ ‫ذاب الجحيم} (س‬ ‫اهم ع‬ ‫األولى ووق‬
‫التشريع في السّور المدنية مع العامل النفسي ـ السياسي الذي ازداد قوة في هذه السور هما اللذان أعطي ا المحمدي ة‬
‫أعظم فاعليتها‪ .‬يضاف إلى ذلك كون النبي عربيا ً يخاطب جماعت ه رأس اً‪{ :‬لق د ج اءكم رس ول من أنفس كم عزي ز‬
‫فص لت آيات ه قرآن ا ً عربيّ ا ً‬
‫عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوب ة‪ )128 :‬وبلغتهم {كت اب ّ‬
‫لق وم يعلم ون} (فص لت‪ )3 :‬وك ون الرس الة إلهي ة أق وى في النف وس على األص نام‪.‬‬
‫ولما كان هذان العامالن‪ :‬التشريع والسياسة النفسية والعملية هما األش د ت أثيراً واألعظم ش أنا ً في النفس ية العربي ة‬
‫العامة فقد ق ّدمت اآليات المدنية‪ ،‬حين جمع القرآن‪ ،‬على اآليات المكية إال سورة الفاتحة‪ ،‬وهي آيات قليلة‪ .‬والسبب‬
‫هو أن السّور المدنية تشتمل على أصول المعامالت وقوانين العقود‪ .‬وهي الممتازة بالحث والتحريض على الجهاد‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة الجن‬ ‫ار وزين‬ ‫ة الكف‬ ‫ومحارب‬

‫وقد أثبتت التواريخ العربية لسير الحركة العربية وفتوحاتها شدة تأثير هذين العاملين في النفوس العربية وعظم‬
‫فاعليتهما‪ .‬من ذلك ما ورد في "فتوح الشام" للواقدي‪ .‬وروايته أنه لما عزم الخليفة أبو بكر على فتح سورية بدأ‬

‫‪25‬‬
‫يوج ه إلي ه الجي وش‪ ،‬وك ان أول من عق د ل ه يزي د بن أبي س فيان على أل ف ف ارس‪ ،‬وربيع ة بن ع امر على أل ف‬
‫مقدماً على ربيعة‪ ،‬يج د في الس ير وال ي رحم الجيش فخاطب ه ربيع ة في ذل ك فق ال‪" :‬إن‬ ‫فارس‪ .‬فأخذ يزيد‪ ،‬وكان ّ‬
‫أب ا بك ر‪ ،‬رض ي اهلل عن ه‪ ،‬س يعقد العق ود ويرس ل الجي وش ف أردت أن أس بق الن اس إلى الش ام فلعلن ا أن نفتح فتح اً‬
‫قبل تالحق الناس بنا فيجتمع ب ذلك ثالث خص ال‪ :‬رض اء اهلل ع ز وج ل ورض اء خليفتن ا وغنيم ة نأخ ذها" (انظ ر‬
‫الواق دي‪ .‬طبع ة مص ر‪ .‬ص فر ‪ 1354‬هـ‪ .‬ص‪ )4‬وفي خ بر ن زال خال د بن الولي د لكل وس في ح رب دمش ق أن‬
‫خالداً أجاب ُمنازله‪" :‬وأما ما ذك رت من بالدن ا وأنه ا بالد قح ٍط وج وع ف األمر ك ذلك‪ ،‬إالّ أن اهلل تع الى أب دلنا م ا‬
‫هو خير من ه فأب دلنا ب دل ال ذرة الحنط ة والفواك ه والس من والعس ل" وه و م ا وج دوه في الش ام (الواق دي ص ‪.)19‬‬
‫وفي جواب خال د بن الولي د ل وردان في واقع ة دمش ق‪" :‬إن اهلل‪ ،‬ع ز وج ل أغنان ا عن ص دقاتكم وأم والكم‪ ،‬وجع ل‬
‫أم والكم نتقاس مها بينن ا وأح ل لن ا نس اءكم وأوالدكم" (الواق دي ص‪ )37‬ولم ا بلغت أخب ار انتص ارات المحم ديين‬
‫األولى في س ورية إلى مك ة تح رك أكابره ا وأقبل وا على أبي بك ر‪ ،‬وفي طليعتهم أب و س فيان والغي داق بن وائ ل‪،‬‬
‫يس تأذنونه في الخ روج إلى س ورية‪ .‬روى الواق دي (ص‪" )39‬فك ره عم ر بن الخط اب خ روجهم إلى الش ام وق ال‬
‫ألبي بكر‪" :‬ال تأذن للق وم ف إن في قل وبهم حقائ د وض غائن‪ ،‬والحم د للّ ه ال ذي ك انت كلمت ه هي العلي ا وكلمتهم هي‬
‫الس فلى وهم على كف رهم وأرادوا أن يطفئ وا ن ور اهلل ب أفواههم‪ ،‬وي أبى اهلل إالّ أن يتم ن وره‪ ،‬ونحن م ع ذل ك‪،‬‬
‫نقول‪ :‬ليس مع اهلل غالب‪ .‬فلما سمعوا أن اهلل أعز ديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوف اً من الس يف فلم ا س معوا أن‬
‫جند اهلل قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم األعداء ليقاسموا الس ابقين األولين" فس مع أب و بك ر كالم عم ر بن‬
‫الخطّ اب وأدرك أه ل مك ة الس بب ف اجتمعوا إلى أبي بك ر وتظ اهروا أمام ه بص دق إس المهم فرض ي عليهم أب و‬
‫ائم‪.‬‬ ‫ه من الغن‬ ‫ا يجلب‬ ‫اد وم‬ ‫أثير الجه‬ ‫رت‬ ‫ة من أم‬ ‫ذه أمثل‬ ‫ر‪ .‬ه‬ ‫بك‬

‫أن راف ع بن عم يرة‪ ،‬أح د أبط ال المس لمين‬


‫أم ا أم ر الجن ة ونعيمه ا الم ادي وزينته ا فق د روى الواق دي (ص ‪ّ )53‬‬
‫ترحم علي ه فرأيت ه في‬
‫ح ّدث عن حزن ه على م وت ي ونس(‪ )3‬في الح رب ق ائالً‪" :‬فح زنت علي ه وأك ثرت من ال ّ‬
‫النوم وعليه حل ٌل تلمع‪،‬وفي رجليه نعالن من الذهب وهو يجول في روضة خضراء فقلت له‪" :‬ما فعل اهلل بك؟"‬
‫ف ض وء وجهه ا ن ور‬ ‫قال‪" :‬غفر لي وأعطاني بدالً من زوجتي سبعين حوراء لو بدت واحدة منهن في ال دنيا لك َّ‬
‫الش مس والقم ر‪ ،‬فج زاكم اللّ ه خ يراً" فقصص ت الرؤي ا على خال د (بن الولي د) فق ال "ليس لي واهلل س وى الش هادة‬
‫طوبى لمن رزقها"‪.‬‬

‫تأويل الجاهلين‬
‫‪ ‬‬

‫‪26‬‬
‫الحاض على ترك األنانية‬
‫ّ‬ ‫رأينا‪ ،‬في ما سبق‪ ،‬مقدار فساد كالم رشيد الخوري في تأويله الجاهل لكالم المسيح‬
‫القاتلة لروح المحبة‪ ،‬المانعة التعاون في المجتمع؛ وسنرى هنا تأويله الجاهل لكالم المسيح في ترك المخاصمة‬
‫ووجوب التساهل والمغفرة‪ .‬وهذا التأويل الجاهل هو قوله‪" :‬ال بأس في شريعته (اإلنجيل) أن تعيش عبداً رقيقاً‬
‫مدى الحياة تسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تثاب فيها على‬
‫خنوعك واستسالمك وصبرك على الظلم"‪.‬‬

‫إذا كان رشيد الخوري قد حاول أن يدعم تأويله السابق في "الدروشة والزهد" بالتعلق بعبارة واحدة من‬
‫عبارات المسيح فهو لم يجد حاجة لتأييد تأويله هذا األخير بآية أو بجملة من اإلنجيل‪ .‬ومما ال شك فيه أنه‬
‫يستخرج هذا التأويل الفاسد من آيات إنجيلية شائعة عند العامة شيوعاً غير مضبوط‪ ،‬وهي من موعظة المسيح‬
‫على جبل الزيتون وهذه هي‪:‬‬
‫فحول له اآلخر‪ ،‬ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخل له رداءك أيضاً‪ ،‬ومن‬ ‫"من لطمك على خدك األيمن ِّ‬
‫َّ‬
‫سخرك ميالً فامش معه اثنين‪ ،‬ومن سألك فاعطه‪ ،‬ومن أراد أن يقترض منك فال تمنعه‪ .‬أحبُّوا أعداءكم‬
‫وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلُّوا ألجل من ّ‬
‫يعنتكم ويضطهدكم"‪.‬‬

‫رشيد الخوري وأمثاله من قليلي العلم وفقراء األدب يأخذون هذه اآليات ويؤولونها على قدر عقليتهم‪ ،‬ويقولون‬
‫أن تأويلهم هذا تعليم المسيح‪ .‬وتأويلهم هو‪ ،‬كما رأينا من كالم الخوري‪ ،‬أن القصد في هذا التعليم هو جعل‬
‫فلنر هل يصح هذا التأويل؟‬
‫اإلنسان مستسلماً للخنوع والعبودية والخسف والهوان والجلد بالسياط؛ َ‬

‫قلنا في ما تقدم أن المسيح لم يضع شريعة كما يتوهم رشيد الخوري الذي ال يعرف الفرق بين تعليم العقيدة‬
‫واشتراع القوانين‪ ،‬ولذلك ال يجوز قط أن تحمل اآليات المذكورة على محمل الحكم القانوني‪ ،‬فهي تعليم فيه‬
‫تشديد في معالجة حالة اجتماعية ولدها جمود الشرع ونقص التعاليم المناقبية في الدين‪ .‬وهذا التعليم ال يقصد‬
‫قسمة الناس إلى ظالمين ومظلومين كما يتوهم أمثال رشيد الخوري فتكون هنالك جماعة بحق ألفرادها أن‬
‫يحولوا خدودهم‬
‫يصفعوا كل من ليس من فئتهم على وجهه‪ ،‬وتكون هنالك جماعة يتوجب على أفرادها أن ِّ‬
‫األخرى لضاربيهم‪ ،‬بل هو يقصد نفي الخصومة والضرب والظلم من المجتمع‪ .‬واآليات المذكورة ال يمكن‬
‫أخذها وحدها ألنها لم تقل في معرض اإلطالق‪ ،‬بل في معرض موضوع متعلقة به ومرتبطة فيه بآيات أخرى‬
‫جاءت معها في وقت واحد‪.‬‬

‫بعد أن حث المسيح تالميذه على ابتغاء البر وسالمة القلب مهما تعرضوا للمالم واالضطهاد انتقل إلى تعليم‬
‫سلبية أكثر مما هي إيجابية‪.‬‬
‫فلسفته االجتماعية التي ال تقف عند حدود الشرع‪ .‬فالشرع الجزائي وظيفته ّ‬
‫فالقانون يعاقب على الجرم‪ ،‬ولكنه ال يعين الفضائل‪ ،‬وهو يضع الحد ولكنه ال يشق طريق االرتقاء‪ .‬إنه يحفظ‬

‫‪27‬‬
‫نظام المجتمع‪ ،‬ولكن ترقية نفسيته تبقى في مهام التعاليم المناقبية والنظرات الفلسفية في قواعد الحياة‬
‫االجتماعية ومثلها العليا‪ .‬فهذه التعاليم والنظرات الفلسفية ال تكتفي بحالة اإلنصاف األولى التي أوجدتها‬
‫الشرائع والقوانين سواء أكانت هذه دينية أم مدنية‪ ،‬وهي حالة تأمين حصول الطريقة العملية ‪Modus‬‬
‫‪ Vivendi‬لتسيير شؤون المجتمع وحفظ نظامه‪ ،‬بل ترمي إلى تعديل شؤون المجتمع وتغيير نظامه على ما‬
‫ينطبق على مثلها العليا وما تراه أفضل لترقية الحياة اإلنسانية االجتماعية‪ .‬وتظهر الحاجة إلى هذه التعاليم‬
‫والنظرات الفلسفية في المجتمعات التي اجتازت طور التشريع االبتدائي وحازت الطريقة العملية الصالحة‬
‫لتسيير شؤونها الحيوية‪ .‬وهذه هي المجتمعات الصالحة لنشوء التعاليم الفلسفية‪ .‬وسورية كانت بالد ُّ‬
‫تمدن باذخ‬
‫عرفت التشريع المدني‪ ،‬ثم جاءها اليهود الذي اقتبسوا من السوريين المذهب الديني الذي هو مذهب اإلله الذي‬
‫يرى وال ُيرى‪ ،‬خالق السموات واألرض وعالم الغيب وجعلوه مصدر الشرع(‪ )4‬فصار الشرع جامداً غير‬
‫قابل التغيير‪ ،‬مهما تغير الزمان وقلبت الظروف واألحوال‪ ،‬وصارت النظرة إلى الحياة مؤسسة‪ ،‬مناقبياً‬
‫المناقبي المستمد من الشرع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وفلسفياً‪ ،‬على الشرع؛ واكتفى الناس‪ ،‬الذين آمنوا بالدين الجديد‪ ،‬باألساس‬

‫بجمود الشرع‪ ،‬عن طريق الدين‪ ،‬جمدت الفلسفة المناقبية أيضاً‪ ،‬وبطل مبدأ الفيلسوف السوري الكبير زينون‬
‫القائل بأن الفكر أو العقل هو جوهر الحياة اإلنسانية‪ .‬فحدث في المجتمع السوري تصادم عنيف بين النفسية‬
‫السورية والشرع الموسوي الذي أخذ يقوى على عامل العقل بسبب قوة فكرة اهلل التي استند إليها والتي أخذت‬
‫تغلب على فكرة آلهة األساطير القديمة واألصنام‪ .‬ولم يعد في اإلمكان التأثير على المجتمع إال عن طريق‬
‫فكرة اهلل‪َّ ،‬‬
‫ألن هذه الفكرة أضعفت منزلة الحكمة البشرية وقوة العقل اإلنساني تجاه حكمة اهلل وتدبيره‪ .‬وهذا‬
‫هو السبب في اتخاذ التعاليم المناقبية المسيحية الفكرة الدينية أسساً لها‪ .‬فظهر المسيح بمظهر الموعود به من‬
‫اهلل ليكون به الخالص‪ ،‬وعلى هذا االعتقاد الديني استند المسيح ليؤدي رسالته المناقبية التي أهم ما فيها‪،‬‬
‫بصرف النظر عن أهمية تعاليمها‪ ،‬أنها أعادت النظرة السورية إلى الحياة القائلة بتسليط العقل على مجرى‬
‫التاريخ‪ ،‬وأن ميزة اإلنسان األساسي هي الفكر‪ ،‬وأنها كانت انتصار النفسية السورية الفاصل على النفسية‬
‫الموسوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اليهودية القائلة بتحديد الحياة اإلنسانية وفاقاً للشرع‬

‫قلنا إن المسيح بعد أن َّ‬


‫شدد روحية تالميذه انتقل إلى تعليم فلسفته المناقبية االجتماعية‪ .‬وقد بدأ المسيح تعاليمه‬
‫بمهاجمة الوقوف عند حدود الشرع واالكتفاء بالفرائض‪ .‬قال‪" :‬قد سمعتم أنه قيل لألولين‪ :‬ال تقتل‪َّ ،‬‬
‫فإن من قتل‬
‫يستوجب الدينونة‪ .‬أما أنا فأقول لكم‪ :‬إن كل من غضب على أخيه يستوجب الدينونة‪ ،‬ومن قال ألخيه راقا‬
‫َّ‬
‫المحدد‬ ‫يستوجب حكم المحفل‪ ،‬ومن قال يا أحمق يستوجب نار جهنم"‪ ،‬فهذا التشديد بوجوب ترك الجمود‬
‫بالشرع ليس تشريعاً جديداً ينص على معاقبة الذي يغضب على أخيه‪ ،‬كما نص الشرع الموسوي المأخوذ عن‬
‫الشرع الكنعاني على معاقبة القاتل بالقتل‪ ،‬بل هو تعليم يقول بالحكم المناقبي المستمد من النظرة الفلسفية‬

‫‪28‬‬
‫الجديدة‪ .‬ويثبت أنه تعليم ليس فقط في أنه لم يعين العقوبات‪ ،‬بل في اآليات التابعة وهي‪" :‬فإذا َّ‬
‫قدمت قربانك‬
‫إلى المذبح وذكرت هناك أن ألخيك عليك شيئاً فدع قربانك هناك أمام المذبح وامض َّأوال فصالح أخاك‪،‬‬
‫وحينئذ ِ‬
‫ائت ِّ‬
‫وقدم قربانك" ثم اآلية‪" :‬قد سمعتم أنه قيل لألولين‪ :‬ال تزن‪ ،‬أما أنا فأقول لكم‪ :‬إن كل من نظر إلى‬
‫امرأة لكي يشتهيها فقد زنى بها في قلبه"‪ ،‬ثم اآليات‪" :‬قد قيل من طلّق امرأته فليدفع إليها كتاب طالق‪ ،‬أما أنا‬
‫فأقول لكم‪ :‬من طلّق امرأته إال لعلة زنى فقد جعلها زانية‪ ،‬ومن تزوج مطلقة فقد زنى"‪ .‬وفي تعليم اآليات‬
‫التمدني نحو الحب وتفاهم‬
‫ِّ‬ ‫األخيرة قواعد مناقبية للترفَّع عن الشهوات الحيوانية‪ ،‬واالتجاه نحو المثال األعلى‬
‫الحبيبين لالشتراك في حياة نفسية راقية يكون الحب فيها حافزاً على األعمال الكبيرة واإلنتاج العمراني‬
‫والثقافي بدالً من التالشي في المغامرات الشهوانية‪ .‬واإلسالم المحمدي‪ ،‬الذي نشأ في إقليم َّ‬
‫حدد الحياة البشرية‬ ‫ِّ‬
‫فضل أن يتزوج الرجل‬ ‫تحديداً شديداً وأحرجها حتى أصبحت الشهوات الحادة المنصرف الوحيد ِلقوى الناس‪َّ ،‬‬
‫امرأة واحدة في حين أباح َّ‬
‫تعدد الزوجات نظراً لمقتضيات البيئة‪ ،‬يقول القرآن‪{ :‬فإن خفتم أالّ تعدلوا فواحدة أو‬
‫ما ملكت أيمانكم} (النساء‪ .)3 :‬وقد تابع المسيح إعطاء القواعد المناقبية فقال‪" :‬قد سمعتم أيضاً أنه قيل‬
‫للرب بأقسامك‪ ،‬أما أنا فأقول لكم‪ :‬ال تحلفوا البتة ال بالسماء فإنها عرش اهلل وال‬
‫ّ‬ ‫لألولين‪ :‬ال تحنث‪ ،‬بل أوف‬
‫سوداء‪ ،‬ولكن ليكن‬
‫َ‬ ‫باألرض فإنها موطئُ قدميه‪ ,‬وال تحلف برأسك ألنك ال تقدر أن تجعل شعرةً منه بيضاء أو‬
‫كالمكم نعم نعم وال ال‪ ،‬وما زاد على ذلك فهو من الشرير"‪ .‬وهذا التعليم سام جداً يرفع احترام الناس أنفسهم‬
‫وأقوالهم حتى يصيروا يعنون ما يقولون دائماً فيكون كالمهم موثوقاً به من غير حاجة إلى حلف خاص يدل‬
‫بحد القانون‬ ‫ِّ‬
‫الشك بصدق رواياتهم وأقوالهم األخرى‪ .‬وتابع تعليمه بعدم تجميد الفضائل النفسية باالكتفاء ِّ‬ ‫على‬
‫فقال‪" :‬قد سمعتم أنه قيل‪ :‬العين بالعين والسن بالسن؛ أما أنا فأقول لكم‪ :‬ال تقاوموا الشرير‪ ،‬بل من لطمك على‬
‫فحول له اآلخر‪ ،‬ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك ِّ‬
‫فخل له رداءك أيضاً‪ ،‬ومن سخرك ميالً‬ ‫خدك األيمن ِّ‬
‫ِ‬
‫فامش معه اثنين‪ .‬من سألك فأعطه‪ ،‬ومن أراد أن يقترض منك فال تمنعه"‪.‬‬

‫هذه القاعدة المناقبية السامية ليس تأويلها الحسن ما َّأوله رشيد الخوري من غير استناد إلى كالم المسيح؛ بل‬
‫تأويلها الوحيد الصحيح الذي ال يقبل الجدل هو َّ‬
‫أن المسيح قال بوجوب التساهل في الحقوق الفردية من أجل‬
‫خير المجتمع؛ فقوله‪" :‬ال تقاوموا الشرير" ال يعني عدم مقاومة الذين يفسدون المجتمع‪ ،‬بل يعني عدم االستسالم‬
‫لعوامل الفساد التي منها تفضيل حق الفرد وخيره على حق المجتمع وخيره‪ ،‬فالشرير هو الذي يريد أن يقودك‬
‫الشر في المجتمع‪ ،‬بل يزيده‪،‬‬
‫إلى الشر بدفعك إلى مقاومته بسالحه وهو الشر‪ ،‬واستعمال هذا السالح ال يخفف َّ‬
‫وبالغبن ازدياد األحقاد والضغائن والعداوة وتفكك‬
‫ُ‬ ‫ألن االنتقام يكون بحدة وبال قياس‪ .‬فالغبن ال َّ‬
‫بد واقع‪،‬‬
‫المجتمع وفساده‪ .‬فمقاومة الشر الحادث بين إنسان وابن مجتمعه تكون‪ ،‬حسب قاعدة المسيح المناقبية‪ ،‬بالتساهل‬
‫في الحقوق الفردية الذي ينتهي‪ ،‬في األخير‪ ،‬إلى نفي الشر‪ ،‬ألنه متى تعلَّم كل إنسان أن يتساهل من أجل‬
‫الخير العام لم يعد هناك من يريد الظلم‪ ،‬فينتفي الظلم بالمرة‪ ،‬أو يق ّل كثيراً حتى ال يشعر به‪ .‬وإ ذا انتفى الظلم‬

‫‪29‬‬
‫فكيف يكون بانتفائه حصول الخنوع والخسف والهوان؟‬

‫المسيحي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والمحمدي يظن أن المحمدية تخالف هذا التعليم‬
‫ّ‬ ‫المسيحي‬
‫ّ‬ ‫إن رشيد الخوري الجاهل تعاليم المذهبين‬
‫ولكن الحقيقة هي َّ‬
‫أن‬ ‫َّ‬ ‫يصرح باختالف المحمدية والمسيحية في هذا الصدد‪.‬‬
‫وبناء على هذا الظن اآلثم أخذ ِّ‬
‫{والَ تستوي الحسنة وال‬ ‫ِّ‬
‫الرسالة المحمدية تعل م هذا التعليم عينه في القرآن والحديث‪ ،‬فانظر ما يقول القرآن‪َ :‬‬
‫{ثم كان من الّذين‬
‫ولي حميم} (فصلت‪َّ )34 :‬‬‫السيِّئة‪ ،‬ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ّ‬
‫ّ‬
‫فإن اهلل‬
‫بالصبر وتواصوا بالمرحمة} (البلد‪{ )17 :‬إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء ّ‬
‫ّ‬ ‫آمنوا وتواصوا‬
‫األول من سورة‬
‫عفواً قديراً} (النساء‪ ،)149 :‬وأقوى هذه اآليات في هذا االتجاه هي المذكورة في َّ‬
‫كان ّ‬
‫السجدة‪ .‬وقد اكتفت الرسالة المحمدية بهذا المقدار من موافقة التعليم المسيحي مراعاة لحالة البيئة‪ ،‬ولذلك كانت‬
‫هذه اآليات مطلقة من غير تعيين لكيفية التطبيق باألمثال‪ ،‬كما في الرسالة المسيحية‪ .‬فالبيئة العربية كانت‪ ،‬كما‬
‫أشد حاجة إلى وضع ٍّ‬
‫حد للفوضى وإ قامة حدود الشرع التي تمنع االنتقام‬ ‫ّبينا في ما تقدم من هذا البحث‪َّ ،‬‬
‫النبي نفسه‪ ،‬منها إلى الحياة الثقافية العليا‪ .‬فقد روي عن محمد أنه "لما رأى حمزة‬
‫الجامح الذي كاد يقع فيه ُّ‬
‫لن بسبعين مكانك" (ذكره اإلمام البيضاوي في شرحه سورة‬ ‫وقد مثِّل به" قال‪" :‬واهلل لئن أظفرني اهلل بهم ألمثّ َّ‬
‫خير‬
‫النحل) ثم إن النبي كفر عن يمينه بنزول اآلية‪{ :‬وإ ن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‪ ،‬ولئن صبرتم لهو ٌ‬
‫مشربة روحاً مسيحية في القسم األخير منها وهو قوله "ولئن‬
‫للصابرين} (النحل‪ )126 :‬ومع أن هذه اآلية َّ‬
‫ّ‬
‫الموسوي الذي هو بداءة تنظيم المجتمع‪ .‬وقد‬
‫ّ‬ ‫صبرتم لهو خير للصابرين" فإن القسم األول مجانس للشرع‬
‫كانت موجبات البيئة لتساهل الرسالة قوية أحياناً‪ ،‬خصوصاً بعد االتجاه نحو جمع كلمة المحمديين على قتال‬
‫َّ‬
‫لحملهن على إطاعة رجالهن‪.‬‬ ‫الذين ال يؤمنون إيمانهم‪ ،‬ونصرة الدين بالقوة‪ ،‬كالتساهل بتجويز ضرب النساء‬
‫فضل اهلل بعضهم على بعض وبما أنفقوا من‬ ‫النساء بما ّ‬‫قوامون على ّ‬‫{الرجال ّ‬
‫فقد وردت في سورة النساء اآلية ّ‬
‫فعظوهن‬
‫ّ‬ ‫نشوزهن‬
‫ّ‬ ‫فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ اهلل والالّتي تخافون‬
‫ّ‬ ‫أموالهم (في زواجهن)‬
‫علياً كبيراً} (النساء‪:‬‬
‫إن اهلل كان ّ‬
‫عليهن سبيالً ّ‬
‫ّ‬ ‫واضربوهن فإن أطعنكم فال تبغوا‬
‫ّ‬ ‫واهجروهن في المضاجع‬
‫ّ‬
‫‪ .) 34‬فلهذه اآلية عالقة بحكاية حال وهي أن سعد بن الربيع‪ ،‬أحد نقباء األنصار‪ ،‬نشزت (عصت) عليه‬
‫امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها‪ .‬فانطلق بها أبوها إلى النبي فشكا‪ ،‬فقال محمد‪" :‬لتقتص منه"‪." .‬‬
‫ثم كان أن اآلية نزلت فقال النبي "أردنا أمراً وأراد اهلل أمراً والذي أراد اهلل خير"‪ .‬وفي هذا القول تدبير حكيم‬
‫لمعالجة الحالة معالجة ما كان يجب أن تولد صدعاً في صفوف المسلمين‪.‬‬

‫مع كل هذا التساهل الشرعي الذي أبدته الرسالة المحمدية تجاه مقتضيات حالة البيئة َّ‬
‫فإن النبي كان في بعض‬
‫مرمى‪ ،‬مستفيداً من أن كالمه ليس‬ ‫كالمه الذي َّ‬
‫حدث به حديثاً ال إلزام فيه‪ ،‬أعلى مطلباً للناس عامة وأبعد ً‬
‫يحث المؤمن على التمسك به من غير عنت وال إكراه؛ فهو في الحديث الذي يخرج‬ ‫شرعاً حتمياً‪ ،‬بل إرشاداً ُّ‬

‫‪30‬‬
‫به من خصوصيات البيئة وضروراتها إلى عالم اإلنسانية الواسع الذي يتناول بيئات التمدن أيضاً‪ ،‬يجاري‬
‫المسيح في تعاليمه المناقبية مجاراة ال تترك زيادة لمستزيد‪.‬‬

‫في الحديث الذي يتناول تعاليم عمومية‪ ،‬كما في اآليات التي يالحظ َّ‬
‫أن عوامل البيئة قيدتها بعض التقييد‪،‬‬
‫ٍ‬
‫أرومة‬ ‫تظهر لطافة نفس النبي العربي السورية األصل‪ ،‬فإذا جوهرها وجوهر نفس المسيح واحد ألنهما من‬
‫واحدة في األصل‪ ،‬قبل أن صارت القبائل الكنعانية مستعربة‪ ،‬وهي القبائل العدنانية الكنعانية األصل التي منها‬
‫النبي محمد‪.‬‬

‫لينظر القارئ كيف يتحد التعليم المحمدي بالتعليم اليسوعي فإذا هما تعليم واحد وليس تعليمين‪ .‬وإ ذا كانت البيئة‬
‫المناقبي للرسالة‬
‫َّ‬ ‫العربية الصحراوية وأساليب معيشتها قد اقتضت نظراً خاصاً بها َّ‬
‫فإن المرمى األخير‬
‫يقصر قيد شعرة عن مرمى الرسالة المسيحية‪ .‬قال محمد في حديث له‪" :‬أوصاني ربي بتسع‬
‫المحمدية لم ِّ‬
‫السر والعالنية‪ ،‬والعدل في الرضى والغضب‪ ،‬والقصد في الغنى والفقر‪،‬‬
‫أوصيكم بها‪ :‬أوصاني باإلخالص في ِّ‬
‫وأن أعفو عمن ظلمني‪ ،‬وأعطي من حرمني‪ ،‬وأصل من قطعني‪ ،‬وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً‬
‫ووصل من‬
‫َ‬ ‫يحرم‪،‬‬ ‫ونظري عبراً"‪ .‬فإن العفو عن الظلم هو ُم َو ٍاز لتحويل ِّ‬
‫الخد اآلخر لمن ضربك‪ ،‬وإ عطاء من ُ‬
‫يقطع موازيان لقول المسيح‪ :‬من سخرك ميالً فامش معه اثنين‪ ،‬ومن طلب مالك فال تمنعه‪.‬‬

‫إذاً ال خالف في جوهر اإلسالم في الرسالتين المحمدية والمسيحية‪ ،‬وال مغايرة إالّ في ما اقتضاه اختالف‬
‫أن قصدهما واحد‪.‬‬ ‫البيئة‪ ،‬ال ما اقتضاه قصد ٍّ‬
‫كل من الرسالتين‪ ،‬ألنه ال اختالف في َّ‬

‫فتعاليم محمد وآيات القرآن‬


‫ُ‬ ‫فإذا كانت تعاليم المسيح تعلِّ ُم الخنوع واالستسالم والهوان والصبر على الظلم‪،‬‬
‫القول الذي قاله في هذا الصدد رشيد الخوري‪ ،‬في محاولة‬ ‫َ‬ ‫كل الموافقة‪ .‬وال وجه مطلقاً يجيز‬‫توافقها على ذلك َّ‬
‫أمور إليهما ال ُم ْستند صحيح لنسبتها‬ ‫ِ‬
‫ونسبة ٍ‬ ‫آخر بتشويه تعاليم الرسالتين‬
‫عقيمة لالنتصار لمذهب ضد مذهب َ‬
‫إليهما‪ .‬ولعن اهلل من أراد إيقاظ الفتنة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ضعف اإلدراك من نقص العقل‬


‫‪ ‬‬

‫رأين ا‪ ،‬في م ا تق دم‪ ،‬أن م رمى التع اليم المناقبي ة المس يحية أبع ُد كث يراً من الح ِّد ال ذي يبلغ ه التفك ير والتعليم‬
‫االنحطاطيان العاجزان عن إدراك قنن الفضائل‪ ،‬ولذلك كان من الصعب‪ ،‬على النف وس القانع ة ب التفكير والتعليم‬
‫اليم المس يح فق ط‪ ،‬ب ل‬
‫الم ذكورين‪ ،‬أن تح اول إدراك ه؛ وه ذه الص عوبة لم يج دها ص احب الحارض ة في تتبع ه تع َ‬
‫‪31‬‬
‫اليم محم د أيض اً‪ .‬ول ذلك أغف ل إغف االً كلي اً ذك ر التع اليم المحمدي ة ال تي تش ترك م ع التع اليم‬
‫وج دها في تتبع ه تع َ‬
‫واألرجح‬
‫ُ‬ ‫فشواهده من األحاديث النبوية وغيرها كانت قليل ة وض عيفة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وتكو ُن قنة الروحية اإلسالمية‪.‬‬
‫المسيحية ِّ‬
‫أن ه ليس ل ه اطالع في ه ذا الب اب الواس ع‪ .‬أم ا الق رآن فق د أغفل ه ب المرة‪ ،‬واألرجح أن ه في ه ذا الب اب أح د ال ذين‬
‫ا}‪.‬‬ ‫وب أقفاله‬ ‫رآن أم على قل‬ ‫دبرون الق‬ ‫رآن فيهم {أفال يت‬ ‫ال الق‬ ‫ق‬

‫يء واح د‪ ،‬من‬ ‫َّ‬


‫ولعل ما يهول رشيد الخوري وأمثاله‪ ،‬الذين فسدت نشأتهم واختلطت مثالبهم بمن اقبهم ف إذا هي ش ٌ‬
‫ديد المس يح في وج وب كبح جم اح الش هوات الحيواني ة كم ا في معالجت ه حال ة الطالق‬
‫التع اليم المس يحية تش ُ‬
‫أراد أن ُيظهر للمجتمع وخامة عاقبة الظلم الذي يأتيه األفراد والفساد الذي يقترفون ه متس ترين‬
‫والزنى‪ ،‬فالمسيح َ‬
‫بحكم الش ريعة القائل ة إن ه ال جن اح على من يطل ق امرأت ه بش رط أن يعطيه ا كت اب طالق‪ .‬فص ار الرج ال‬
‫المسترس لون إلى الش هوات وغ ير الع ابئين بالمض ِّار ال تي تجلبه ا أعم الهم على المجتم ع يس تهونون ظلم النس اء‬
‫ث من وراء ذل ك تفش ِّي الفحش وت راخي الرواب ط‬ ‫ألي سبب من األسباب البسيطة‪ ،‬فتت ألم النس اء ويح ُد ُ‬
‫وتطليقهن ِّ‬
‫العائلي ة ال تي هي أس اس المجتم ع‪ .‬فعلَّ َم المس يح بوج وب ت رك تطلي ق النس اء إال لعل ة زنى‪ ،‬وش رح تعليم ه ق ائالً‪:‬‬
‫"من طلَّق امرأته إال لعل ة زنى فق د جعله ا زاني ة" أي ّإن ه يرميه ا في التجرب ة ويحمله ا على ال زنى‪ .‬وق د ال يك ون‬
‫ضعيفة في الظ اهر ورغب ٍة باطن ة في ت ُّ‬
‫زوج ام رأة أخ رى اس تزادة في التمت ع الجس دي‬ ‫ٍ‬ ‫سبب تطليقها سوى ٍ‬
‫حجة‬ ‫ُ‬
‫من غ ير نظ ر في الع واقب االجتماعي ة‪ ،‬وزي ادة في اس تهالك الق وى الحيوي ة ال تي ك ان األفض ُل أن تُص رف في‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة والثقافي‬ ‫ؤون العمراني‬ ‫الش‬

‫عب على ال ذين نش أت نفس يتهم على الفس اد‪ ،‬كم ا‬‫اء في التعليم التثقيفي المن اقبي‪ ،‬وه و ص ٌ‬
‫إن ه ذا التعليم ه و ارتق ٌ‬
‫َّ‬
‫ولكن‬ ‫وس الض عيفة ترت ُّد عن األم ور العالي ة الص عبة؛‬
‫عب القت ا ُل على ال ذين في قل وبهم م رض‪ .‬والنف ُ‬‫هو ص ٌ‬
‫النف وس الص حيحة تطلب دائم اً األس مى مهم ا َي ُك ْن من أم ر الص عوبات الحائل ة دون بلوغ ه‪ .‬وإ ذا ك انت األمم‬
‫الراقي ة ال تفت أ تك ثر بعثاته ا على قن ة جب ل أورس ت في جب ال حمالي ا وهي أعلى قم ة في الع الم م ع َّ‬
‫أن عل َّو ه ذه‬
‫كل مرة بعدد من أفراد الحملة‪ ،‬ومع أن قنة الجب ل ليس ت س وى قن ٍة مادي ة كقنن الجب ال األخ رى‪ ،‬فكم‬ ‫القنة يفتك َّ‬
‫طلب أعلى القنن الروحية والمناقبية؟ فق ول رش يد الخ وري أن ه ذا التعليم المس يحي‬
‫هو أرفعُ قدراً وأسمى فخراً ُ‬
‫ني على نظ رة انحطاطي ة في ش ؤون الحي اة‪ .‬فه ذا التعليم ال "يرب ط"‬
‫"يرب ط الفط رة بالسالس ل الثقيل ة" ه و ق ول مب ٌّ‬
‫لح للح رب من ال رمح‬ ‫قوته ا نح و األس مى‪ .‬وال رمح المثق ف ه و األص ُ‬ ‫ِّ‬
‫ويوجه َّ‬ ‫الفط رة‪َّ ،‬‬
‫ولكنه يه ذبها ويثقفه ا‬
‫ويم االعوج اج وتوجي ه ق وى الحي اة نح و األفض ل‪ .‬هك ذا يش ِّذ ُ‬
‫ب‬ ‫األع وج‪ .‬وقص د الثقاف ة أو التربي ة ه و‪ ،‬دائم اً‪ ،‬تق ُ‬
‫بعض الف روع األخ رى‪ ،‬فيك ون‪ ،‬من وراء ه ذا التش ذيب‬ ‫َ‬ ‫الكرم ة فيقط عُ بعض فروعه ا ويطم ُر‬ ‫َ‬ ‫وري‬
‫الك َّر َام الس ُّ‬
‫والتثقي ف‪ ،‬أن مق داراً غ ير يس ير من حيوي ة الكرم ة يتح َّو ُل من تغذي ة ف روع مسترس لة إلى فطرته ا العديم ة‬
‫المثم رة ف تزداد غل ة الكرم ة أض عافاً‪ .‬والرج ل ال ذي يتح ّول مق دار غ ير يس ير من‬
‫الج دوى إلى تغذي ة الف روع ُ‬

‫‪32‬‬
‫حيويته عن تغذية الشهوات الفطرية إلى األعمال المفيدة من ميكانيكية وصناعية وزراعية وعلمية وأديب ة وفني ة‬
‫ننس أن المس يح‬
‫قوت ه‪ ،‬ب ل تك ون ق د تح ولت إلى األنف ع للمجتم ع‪ .‬وال َ‬
‫واجتماعي ة واقتص ادية ال يك ون ق د خس ر َّ‬
‫ائلي الس وري ه و‬
‫اس المجتم ع‪ .‬وه ذا األس اس الع ُّ‬
‫أن كي ان العائل ة المع روف في س ورية ه و أس ُ‬ ‫تكلم بن اء على َّ‬
‫عم المجتم ع المتم دن‪ .‬ففك رة العائل ة هي في أس اس فك رة المس يح في ال زواج والطالق وال زنى‪.‬‬
‫ال ذي َّ‬

‫وإ ذا رجعنا إلى ما سبق من هذا الدرس الذي يوض ح لن ا نفس ية رش يد س ليم الخ وري وج دنا أن مث ل ه ذا التعليم‪،‬‬
‫س واء أك ان يس وعياً أو محم دياً‪ ،‬ال يواف ق نفس يته ونفس ّيات من هم على ش اكلته‪ .‬فرش يد الخ وري بل غ من‬
‫أي ف تى أو فت اة نش أ‬
‫ف من س مك"‪ ،‬مبلغ اً يس تهجنه ُّ‬ ‫الحيوانية‪ ،‬في قصيدته ال تي يق ول فيه ا "من ذاق ش هدك لم َيخ ْ‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة راقي‬ ‫رأة من بيئ‬ ‫ل أو ام‬ ‫أي رج‬
‫الً عن ِّ‬ ‫ة فض‬ ‫ة متمدن‬ ‫في بيئ‬

‫اني مح َّل اإلحس اس الحي واني ال تتمال ك أن تُق َّز من وص ف رش يد‬ ‫َّ‬
‫ك ل نفس ته ذبت وح ل فيه ا الش عور اإلنس ُ‬
‫الخ وري لكيفي ة إك راه فت اة على "تجدي د عه د ص باه" واحتق اره ش عور تل ك الفت اة واس تهزائه به ا‪ .‬وس واء أك انت‬
‫مثالب نفسية بالغة في االنحطاط‪ ،‬فإن الحيوانات‪ ،‬على‬
‫َ‬ ‫الحادثة التي يصورها واقعية أو تصورية فهي تدل على‬
‫ورها لن ا أبي ات الخ وري بقول ه‪:‬‬
‫وره ا إناثه ا‪ ،‬وال تعامله ا على الكيفي ة ال تي تص ِّ‬
‫أنواعه ا‪ ،‬ال تحتق ر ذ ُك ُ‬
‫‪ ‬‬

‫ضبةً إلي فصابني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫فــرنوت ُم ْغ َ‬ ‫الفؤاد لسهمــك‬ ‫سهم فوا شوق‬
‫ٌ‬
‫يا نحلةً دون األزاهــر ِه ْجتها‬ ‫َمن ذاق شهدك لم يخف من سمك‬
‫ال بِ ْدع إن َج َّد ْد ِت لي عهد الصبا‬ ‫برضاك عني تارة وبرغم ــك‬

‫قيد "يربط الفط رة بالسالس ل الثقيل ة‬


‫وال بدع أن ال ترى النفسية الظاهرة في هذه األبيات التعليم المسيحي إال أنه ٌ‬
‫ويخن ق الطم وح"‪ .‬فال ش ك أن العم ل بالقاع دة أو العقي دة المناقبي ة المس يحية يرب ط الفط رة الجامح ة غ َير المثقف ة‪،‬‬
‫ة‪.‬‬ ‫ا دون الحيواني‬ ‫دهور إلى م‬ ‫هواني المت‬ ‫اطي الش‬ ‫وح االنحط‬ ‫ق الطم‬ ‫ويخن‬

‫أن التع اليم المس يحية تعلِّم الخن وع واله وان وال ذل‪ .‬ونض يف إلى‬
‫وقد رأينا‪ ،‬في ما س بق‪ ،‬بطالن ادع اء الخ وري َّ‬
‫ذهب‪:‬‬ ‫ذا الم‬ ‫دد‪ ،‬ه‬ ‫ذا الص‬ ‫دم‪ ،‬في ه‬ ‫ا تق‬ ‫م‬
‫إن ال ذي يتس اهل في حقوق ه‪ ،‬طوع اً ال كره اً‪ ،‬ال يك ون ذليالً وال يتع َّود اله وان‪ ،‬ب ل يك ون عزي زاً كب ير النفس‪.‬‬
‫أن المتس امح اختي اراً وطوع اً من‬
‫وج ْبن‪ .‬وليس ه ذا ش َ‬ ‫الم ْك َر ِه عليهما عن عج ز ُ‬‫فالهوان يكون بالتسليم واإلذعان ُ‬
‫أج ل غاي ٍة نبيل ة فه ذا يش عر بأن ه عف ا عن مق درة‪ ،‬ألن ه ك ان في وس عه أن ينتقم أو أن يحاس ب الظ الم على ظلم ه‬

‫‪33‬‬
‫الجاهل‪ .‬وإ ن في التسامح في الحق وق الفردي ة‪ ،‬من أج ل مب ٍ‬
‫دأ اجتم اعي ع ام‪ ،‬من البطول ة م ا يف وق كث يراً م ا في‬ ‫ّ‬
‫ة‪.‬‬ ‫بة جاهل‬ ‫ام لغض‬ ‫اق الحس‬ ‫امتش‬

‫ولكن المفكرين السطحيين ال يرون قوة هذا المبدأ وفالح المجتمع العامل به؛ ولذلك يعزو رش يد الخ وري التق دم‬
‫الس َّنة الطبيعي ة ال تي أم ر‬
‫اليم اإلنجي ل وج ريهَم على ُّ‬
‫العمراني عند الش عوب المس يحية إلى "مخالف ة المس يحيين تع َ‬
‫أخر المس لمين (المحم ديين) الي وم بن ٍ‬
‫اجم‬ ‫الشارع اإلس المي المحم دي العظيم باتباعه ا" وه و يق ول أيض اً‪" :‬وليس ت ُ‬
‫َ‬
‫وي وتخلُّقهم بم ا ك ان ينبغي أن يتخل ق ب ه‬ ‫نهج ه الس َّ‬ ‫ٍ‬
‫عن فس اد في دينهم يع وقهم عن التق دم‪ ،‬ب ل عن ت ركهم َ‬
‫وتأخ ُر المسلمين (المحمديين) هو نتيجة تبادلُهما العقيدة وعم ُل ك ٍّل من المل تين‬ ‫المسيحيون‪ُّ .‬‬
‫فتقد ُم المسيحية اليوم ُ‬
‫بدين األخرى إلى حد بعيد‪ .‬المسيحي الغربي يجرد سيف الرسول‪ ،‬والمسلم الشرقي يرفع راية المس يح البيض اء‬
‫ط ُم على خ ده األيس ر‬‫أعداءه‪ ،‬محسناً إلى الذين يسيئون إليه‪ُ ،‬يْل َ‬
‫َ‬ ‫ويحمل صليبه إلى الجلجلة‪ ،‬مباركاً العنيه‪ ،‬محباً‬
‫وي َس َّخ ُر للمش ي ميالً واح داً فيمش ي عش رة على رج ٍل واح دة تمادي اً في‬
‫فيح ِّول األيمن‪ ،‬وجبين ه وقذال ه أيض اً‪ُ ،‬‬
‫حق النفس"‪.‬‬ ‫ة وس‬ ‫الطاع‬

‫ه ذه هي الزب دة المناقبي ة "للبحث ال ديني اس ماً واالجتم اعي فعالً" ال تي اس تخرجها رش يد الخ وري في حارض ته‬
‫ليتخ ذها مس تنداً إلث ارة الفتن ة الديني ة وتح ريض المتعص بين‪ ،‬ولمحاول ة قت ل العص بية القومي ة االجتماعي ة اآلخ ذة‬
‫في ت أليف قل وب أبن اء س ورية ليكون وا مث االً لغ يرهم من األمم ال تي أقع دها التعص ب ال ديني المش ؤوم عن طلب‬
‫ول األثيم‪:‬‬ ‫ذا الق‬ ‫اً إلى ه‬ ‫ا رأس‬ ‫ومي‪ ،‬فيتخلص منه‬ ‫د الق‬ ‫المج‬
‫وهتكت أع راض ب نيهم‬ ‫ارمهم ُ‬
‫"أما ترون جمود المسلمين وقد قتّل إخوانهم تقتيالً ون ّك ل بهم تنكيالً واس تُبيحت مح ُ‬
‫لش َّذاذ اآلف اق من اليه ود ال ذين هم أو ُل وآخ ُر َمن ع ادى‬ ‫وبن اتهم وأخرج وا من دي ارهم ووهبت َّ‬
‫مقدس اتهم ملك اً ّ‬ ‫ُ‬
‫وذريتَ ه؟ أفم ا أخل د المس لمون إلى أك ثر من س كون المس يح ون اموا على أش َّد من ض يمه وف اقوه في‬
‫ن بيَّهم وآل ه ِ‬
‫محب ة أع دائهم فوال وهم على أهلهم وإ خ وانهم فتخ اذلوا ففش لوا وذهبت ريحهم وأطمع وا بهم ص ليبيِّي ه ذا الزم ان‬
‫حتى ل و خرق وا لهم حرم ة الكعب ة وحطَّم وا الحج ر وطم روا الب ئر ونس فوا عرف ات وتص رفوا ب أوراق المص حف‬
‫وسطوا على قبر النبي (صلى اهلل عليه وسلم) فبعثروا عظام ه‪ ،‬لم ا ص عد ال دم إلى رؤوس هم وال حميت أن وفهم‪،‬‬
‫ر"؟‪.‬‬ ‫يء من األم‬
‫ٌ‬ ‫اكتين كمن لم يعنهم ش‬ ‫اس‬ ‫راء ورعاي‬ ‫اً وأم‬ ‫وا ملوك‬ ‫وقبع‬

‫الكلي للحارض ة ال تي س ماها الخ وري‬


‫ُّ‬ ‫ه ذا الكالم التعص بي الجاه ل المث ير الفتن ة العمي اء ه و الغ رض األخ ير‬
‫محاض رة‪ ،‬وللخطب التهييجي ة ال تي ب دأها الخ وري من ذ بض ع س ٍ‬
‫نوات ومهَّد له ا ببعض قص ائده‪ ...‬ك ل ذل ك‬
‫تج من مق ال‬ ‫المتَّف َ‬
‫ق علي ه م ع بعض المؤسس ات الديني ة المحمدي ة‪ ،‬على م ا ُي ْس تَْن ُ‬ ‫ليقبض رش يد الخ وري الم ال ُ‬
‫ال ظهوره ا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لم دير "س ورية الجدي دة" ال ذي رد على بعض تَُّره ات الخ وري ح‬

‫‪34‬‬
‫خاصتهم لما وجدنا حاجة‬
‫َّ‬ ‫لوال انحطاطُ المستوى العلمي والثقافي العام عند عامة السوريين والسواد األعظم من‬
‫اء للع ِالِم أن ُيض َّ‬
‫طر إلى مناقش ة‬ ‫جديًّا؛ فإن من ِّ‬
‫أشد األم ور عن ً‬ ‫بنا للنظر في هذا القول الهراء‪ ،‬والبحث فيه بحثاً ِّ‬
‫اضر والمحاضرة‪ ،‬يك اد ال‬ ‫جاهل‪ .‬فتجاه هذا الكالم البعيد كل البعد عن كل شرط من شروط العلم وشروط المح ِ‬
‫َُ‬ ‫َ‬
‫كالم غرض ه الفتن ة المقص ودة‪ ،‬ال العلم‪ .‬وق د ق الوا‪" :‬إذا أردت‬
‫يقف منطق وال تثبت حكمة وال يصمد علم‪ ،‬ألنه ٌ‬
‫الم أ ُِم َر من جاهل ه"‪ .‬ول و ك ان لرش يد الخ وري‬
‫أن تفحم عالم اً فأحض ره ج اهالً"‪ .‬وفي ذل ك ق ال محم د‪" :‬وي ل ِلع ِ‬
‫يء من قيم الع ِالِم لك ان كفان ا مؤون ة ه ذا العن اء‪.‬‬ ‫يء من العلم الص حيح بح ديث الن بي الع ربي وش ٌ‬ ‫ش ٌ‬

‫ال ُيوج ُد في ه ذا الزم ان ص ليبيُّون وهاللي ون يقتتل ون من أج ل حي ازة ق بر المس يح ومك ان والدت ه‪ ،‬أو من أج ل‬
‫"خ رق حرم ة الكعب ة وتحطيم الحج ر وطم ر الب ئر ونس ف عرف ات والتص ُّرف ب أوراق المص حف والس طو على‬
‫أمم ناهض ة َوثَّقت أواص َر وح دتها القومي ة بالتع اليم المس يحية‬
‫ق بر الن بي"‪ ،‬كم ا يق ول الخ وري ال دجَّال‪ ،‬ب ل يوج د ٌ‬
‫التي تشترك فيها المحمدية‪ ،‬وبحثت عن أسباب ترقية عمرانها‪ ،‬ال عن أسباب نصرة دينها بالس يف‪ ،‬وه ذه األمم‬
‫راني‪ .‬وإ ن من درس الح روب األخ يرة وج َد أنه ا‬ ‫تفرق في سعيها ِّ‬
‫دي ونص ّ‬ ‫بين محم ِّ‬ ‫لعزها ومجدها َ‬ ‫الناهضة ال ِّ‬
‫ك انت في م ا بين أمم مس يحية أك ثر كث يراً مم ا ك انت بين أمم مس يحية وغ ير مس يحية‪ .‬فمن ذ عه د الفتوح ات‬
‫ومي يس يطر روي داً روي ًد على مج رى حي اة‬ ‫َّ‬
‫اإلس المية المحمدي ة ال تي ولدت الفتوح ات الص ليبية أخ ذ التفك ير الق ّ‬
‫ان على الن اس ب القو ِة ال ب د أن يج د ح داً يق ف عن ده‪ .‬ولق د‬‫وأخ َذ الن اس ي دركون أن ف رض أح ِد األدي ِ‬
‫الش عوب‪َ ،‬‬
‫ولكنه ا انكس رت هن اك وان دحرت‬ ‫امت دت الفتوح ات المحمدي ة إلى إس بانية وح دود فرنس ة بق وة االس تمرار‪َّ ،‬‬
‫وت راجعت إلى أفريقي ة‪ .‬وق د ج رى ذل ك للمحم ديين وهم في إبَّان اع تزازهم "بس يف الرس ول" وعملهم "ب النهج‬
‫الس وي ل دينهم"‪ ،‬فكي ف ح دث ذل ك للمس لمين المحم ديين وهم آخ ذون بنهج الس يف ال ذي يع ُّده الخ وري "نهج‬
‫وي"؟‬
‫ّ‬ ‫الم الس‬ ‫اإلس‬

‫حدث اندحار المسلمين المحمديين للسبب عينه الذي حدث به ان دحار أمم ودول مس يحية أم ام جي وش المحم ديين‬
‫دي ال ذي يق وم ه و أيض اً به ا؛‬
‫األولى‪ ،‬وهذا السبب هو ترك التعاليم المسيحية المصادق عليها من اإلسالم المحم ّ‬
‫ففي س ورية‪ ،‬مثالً‪ ،‬ك ان الفس اد المن اقبي ال ذي ج َّره تس لّط ال روم على البالد من أهم العوام ل ال تي جعلت البالد‬
‫تس قط في ي د الجي وش العربي ة‪ .‬والدول ة الرومي ة نفس ها ك ان يض ُّج فيه ا الفس اد المن اقبي ض جيجاً ف انتفى التس اه ُل‬
‫من بين الن اس وكثُ رت األحق اد والض غائن ح تى بين ق َّواد الجيش والرهب ان والقس س‪ ،‬وانتش ر ال زنى ال ذي ولّ د‬
‫الحفائ ظ‪ ،‬فاش تدت المنافس ات وطلبت األحق اد االنتق ام بجمي ع الوس ائل‪ ،‬ح تى إن ه ن در أن ج رت معرك ة من‬
‫المع ارك الك برى في س ورية إال وك انت الخيان ات االنتقامي ة وعوام ل الحق د والمزاحم ة من األس باب الرئيس ية‬
‫الن دحار الجي وش الس ورية والرومي ة أو الجي وش المس يحية أم ام الجي وش العربي ة أو الجي وش المحمدي ة‪.‬‬

‫دونات الت اريخ‪ ،‬فق د أثبت‬


‫الرجم ب الغيب‪ ،‬ب ل من فوائ د م َّ‬
‫التخرصات أو َّ‬
‫ُّ‬ ‫إن ما نؤ ّكده‪ ،‬في ما تقدم‪ ،‬ليس من باب‬

‫‪35‬‬
‫الواق دي‪ ،‬باالس تناد إلى ال ذين حض روا الوق ائع من أبط ال المس لمين المحم ديين‪َّ ،‬‬
‫أن فتح بص رى ك ان بخيان ة‬
‫البطريق روماس ذي األمر عليها‪ ،‬فإنه خرج يطلب البراز م ع أم ير الع رب فخ رج إلي ه خال د بن الولي د فخاطب ه‬
‫روم اس وأظه ر ميل ه إلى خيان ة جماعت ه‪ ،‬فع رض علي ه خال د اإلس الم فأس لم‪ .‬وبع د ذل ك تظ اهر خال د وروم اس‬
‫أحد في أمر روماس‪ .‬وبعد معركة النهار بين الجيشين خ رج‬ ‫السوري ـ الرومي فال يشك ٌ‬
‫َّ‬ ‫بالقتال ليخدعا الجيش‬
‫روم اس متخفّي اً وج اء جيش المس لمين المحم ديين وطلب مقابل ة خال د بن الولي د فأخ ذ إلي ه فق ال ل ه‪" :‬أيه ا األم ير‬
‫بعد أن فارقتك طردني قومي وقالوا ال زم قص رك وإ ال قتلن اك‪ ،‬فل زمت قص ري وه و مالص ق للس ور‪ .‬ولم ا وق ع‬
‫فلما ُج ّن اللّي ل أم رت غلم اني بحف ر الس ور وفتح وا في ه باب اً فأتيت ك فأرس ل معي‬
‫تحص نوا‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫لهم ما وقع وانهزم وا‬
‫من تعتم د علي ه من أص حابك تس تلمون المدين ة"! فلم ا س مع خال د ه ذا الكالم أم ر عب د ال رحمن بن أبي بك ر أن‬
‫يأخذ مئ ة من المس لمين ويس ير م ع روم اس‪ .‬ق ال ض رار بن األزور‪" ،‬وكنت ممن دخ ل المدين ة‪ ،‬فلم ا ص رنا في‬
‫قص ر روم اس فتح لن ا خزان ة الس الح فلبس نا من س الحهم وقس منا أربع ة أقس ام الخ" (الواق دي ص ‪.)170‬‬

‫وكان فتح خالد بن الوليد لدمشق شبيهاً بفتحه بصرى‪ .‬وقد ذكرنا في ما س بق أن ذل ك ك ان بخيان ة قس يس ي دعى‬
‫ي ونس‪ .‬ذك ر الواق دي أن ه "لم ا ك انت تل ك الليل ة (ليل ة ص لح دمش ق م ع أبي عبي دة) نقب ي ونس من داره وحف ر‬
‫موضعاً وخرج على حين غفلة من أهله وأوالده‪ ،‬وقصد خالداً وحدثه أنه خ رج من داره وحف ر موض عاً" وق ال‪:‬‬
‫"واآلن أري د أمان اً لي وألهلي وألوالدي" فأخ ذ خال د عه ده على ذل ك وأنف ذ مع ه مئ ة رج ل من المس لمين أك ثرهم‬
‫ير" (ص ‪.)460‬‬ ‫من حم‬

‫وإ ن أسوأ ما حدث‪ ،‬بسبب الفساد المناقبي‪ ،‬ه و م ا ك ان في معرك ة ال يرموك في ي وم التع وير وإ لي ك حكايت ه نقالً‬
‫عن الواق دي (ص ‪" :)138‬ق ال الواق دي رحم ه اهلل تع الى‪ :‬ح دثني أب و عبي دة عن ص فوان ابن عم رو عن عب د‬
‫ال رحمن بن جب ير أن أب ا الجعي د ك ان رئيس اً من رؤس اء أه ل حمص‪ ،‬فلم ا اجتمعت ال روم على المس لمين في‬
‫ال يرموك دخل وا على حمص ونزل وا في بل دة تس مى الزراع ة‪ ،‬وك ان أب و الجعي د ه ذا ق د جعله ا مس كنه لطيب‬
‫هوائه ا ومائه ا؛ وانتق ل من حمص إليه ا‪ .‬ف نزل عس كر ال روم على زراع ة عن ده‪ ،‬وك ان ع رس ألبي الجعي د‬
‫وزوجته تزف إليه في تلك الليلة‪ .‬قال‪ :‬فتكلف أبو الجعيد بضيافة الروم وأكرمهم وأطعمهم وسقاهم الخمر؛ فلم ا‬
‫فرغ وا من أم ورهم ق الوا‪ :‬ه ات امرأت ك إلين ا‪ ،‬ف أبى ذل ك وس بَّهم‪ ،‬ف أبوا إال أخ ذ الع روس‪ .‬فلم ا ش َّنع عليهم ب ذلك‬
‫ة ليلتهم‬ ‫ا بقي‬ ‫وا به‬ ‫ه وعبث‬ ‫اً من‬ ‫ذوها كره‬ ‫روس وأخ‬ ‫دوا إلى الع‬ ‫عم‬
‫فبكى أبو الجعيد من حزنه ودعا عليهم‪ ،‬فقتلوا أوالده‪ ،‬وكان له ولد من زوجة غيرها (!)‪ .‬قال‪ :‬فأقبلت أم الف تى‬
‫فأخذت رأس ولدها في خمارها‪ ،‬وأقبلت إلى مقدم ذلك الجيش ورمت الرأس إليه وشكت حالها وقالت له‪ :‬انظر‬
‫م ا ص نع أص حابك بول دي فخ ذ بحقي‪ .‬فلم يعب أ بكالمه ا‪ ،‬فق الت ل ه أم الف تى "واهلل لننص رن الع رب عليكم"‪،‬‬
‫ورجعت وهي تدعو عليه‪ ،‬فما كان إالّ يسيراً حتى هلكوا في أيدي المسلمين‪ .‬قال‪ :‬فلما كان يوم اليرموك بع دما‬

‫‪36‬‬
‫جيش‬
‫قت ل النس طور أتى أب و الجعي د إلى عس اكر المس لمين وق ال لخال د‪ :‬اعلم أن ه ذا الجيش الن ازل ب إزائكم ٌ‬
‫عظيم‪ ،‬ول و س لَّموا أنفس هم إليكم للقت ل لم ا ف رغتم من قتلهم إالّ في الم دة الطويل ة‪ ،‬ف إن ك دتهم لكم في ه ذه الليل ة‬
‫بمكي دة تظف رون به ا عليهم م اذا تعط وني؟ ق الوا‪ :‬نعطي ك ك ذا وك ذا وال ت ؤدي جزي ة أنت وول دك وأه ل بيت ك‪،‬‬
‫ونكتب لك بذلك عهداً إلى آخر عقبك‪ .‬فلما استوثق منهم لنفسه مضى إلى ال روم وهم ال يعلم ون‪ ،‬وأتى إلى ٍ‬
‫واد‬
‫عظيم ممل وء م اء‪ ،‬ف أنزل ال روم إلى جانب ه وق ال لهم‪ :‬إن ه ذا الم نزل ب ه الع رب‪ ،‬وأن ا س أكيد لكم الع رب بمكي دة‬
‫يهلكون بها‪ .‬قال رج ل‪ :‬الناقوص ة في م ا بين ال روم والع رب‪ ،‬ولم يعلم أح د من ال روم م ا عمقه ا‪ .‬فلم ا ك ان ي وم‬
‫التع وير وعلم أب و الجعي د أن النص ر للع رب وأن الع رب هم المنص ورون (؟!) ج اء أب و الجعي د إلى أبي عبي دة‬
‫فوجده يطوف تلك الليلة هو وجماع ة من المس لمين المه اجرين فق ال لهم‪ :‬وم ا قع ودكم؟ ق الوا‪ :‬وم ا نص نع؟ ق ال‪:‬‬
‫إذا ك ان ليل ة غ د ف أكثروا من الن يران‪ .‬ثم رج ع إلى ال روم لينص ب عليهم حيل ة‪ .‬فلم ا ك انت الليل ة الثاني ة أوق د‬
‫المس لمون أك ثر من عش رة آالف ن ار‪ ،‬فلم ا اش تعلت الن يران أقب ل إليهم أب و الجعي د فق الوا‪ :‬أش علنا الن يران كم ا‬
‫أردت‪ ،‬فم ا بع د ذل ك؟ ق ال‪ :‬أري د منكم خمس مئة رج ل من أبط الكم ح تى أش ير عليهم بم ا يص نعون فاخت اروا من‬
‫المس لمين خمس مئة رج ل‪ ،‬من جملتهم ض رار بن األزور وعي اض وراف ع وعب د اهلل بن ياس ر وعب د اهلل بن أوس‬
‫وعب د اهلل بن عم ر وعب د ال رحمن بن أبي بك ر وغ انم بن عب د اهلل ومث ل ه ؤالء الس ادات‪ .‬فلم ا اجتمع وا س ار بهم‬
‫أب و الجعي د على غ ير المخاض ة وقص د بهم عس كر ال روم‪ ،‬فلم ا ك ادوا يخ الطونهم أخ ذ أب و الجعي د منهم رج االً‬
‫ودلَّهم على المخاض ة‪ ،‬ولم يكن يعلم به ا أح د س واه ممن س كن ال يرموك‪ ،‬وق ال لهم‪ :‬ناوش وهم الح رب‪ ،‬ثم‬
‫انهزموا ودعوني وإ ياهم‪ ،‬ففعلوا ذلك وصاحوا فيهم وحملوا ثم انهزم وا ق دامهم نح و المخاض ة‪ .‬فعن د ذل ك ص اح‬
‫أبو الجعيد برفيع صوته‪ :‬يا معاشر الروم‪ ،‬دونكم ومن انهزم! فهؤالء المسلمون قد أوقدوا ن يرانهم وعول وا على‬
‫الح رب‪ ،‬ق ال‪ :‬ف أقبلت ال روم على ح ال عجل ة ُّ‬
‫يظنون أن ذل ك ح ق‪ ،‬فبعض هم ركب ج واده عريان اً‪ ،‬وبعض هم‬
‫راجل‪ ،‬وساروا في طلب المنهزمين وأب و الجعي د يع دو بين أي ديهم إلى أن أوقفهم على الناقوص ة وق ال لهم‪ :‬ه ذه‬
‫المخاض ة دونكم وإ ي اهم ف أقبلوا يتس اقطون في الم اء كتس اقط الج راد ح تى هل ك في الم اء م ا ال يح ّد وال يحص ى‬
‫ع دداً وال يدرك ه جن ان‪ .‬فس متها الع رب الناقوص ة لنقص ال روم" (الجي وش الس ورية ـ الرومي ة)‪.‬‬

‫ه ذه الرواي ة الم أخوذة عن مص در من أهم المص ادر اإلس المية المحمدي ة تظه ر بجالء أن ه لم يكن ينقص‬
‫المس يحيين نهج الس يف‪ ،‬وأن فش لهم لم يكن بس بب تع اليم دينهم‪ ،‬ب ل على العكس‪ :‬بس بب ت ركهم تل ك التع اليم‬
‫المناقبي ة الس امية ال تي اش تركت فيه ا المحمدي ة م ع المس يحية‪ .‬فق د اس تظهرت الجي وش الس ورية ـ الرومي ة على‬
‫جي وش الع رب في ي وم ال يرموك ع دة م رات ح تى ولَّت ه ذه األدب ار ولم ترج ع إلى الح رب إالّ تحت عام ل‬
‫اس تغاثة نس اء الع رب‪ ،‬ولكن الفس اد المن اقبي ال داخلي ك ان أفع ل من جمي ع س يوف الع رب في تقري ر مص ير‬
‫يرموك‪.‬‬ ‫ة ال‬ ‫معرك‬

‫‪37‬‬
‫إن أس باب س قوط س ورية هي عينه ا أس باب س قوط إس بانية‪ .‬وأس باب انتص ار ش ارل مارت ل على الجي وش‬
‫اإلس المية المحمدي ة هي أن تع اليم المحب ة والتس اهل في الحق وق الفردي ة جعلت الجيش الفرنس ي ل ذلك العه د ي داً‬
‫واح دة على الجيش اإلس المي المحم دي‪ .‬وأس باب ان دحار المحم ديين في م ا بع د ك انت عمالً باالعتم اد على‬
‫السيف فقط وترك التع اليم المحمدي ة ال تي هي من ن وع روح التع اليم المس يحية‪ .‬فلم ا ت رك المس لمون المحم ديون‬
‫التّراحم بينهم وح ّكموا السيف في ك ل أم ر من أم ورهم انش قّوا وتخ اذلوا‪ .‬ولم يكن تخ اذلهم وح ده س بب س قوطهم‬
‫مبدئي آخر وهو أن فرض العقائد بالقوة له ح د يق ف عن ده‪ ،‬وأن أفض ل الط رق لنش ر العقائ د بين‬
‫ٌّ‬ ‫إذ هنالك سبب‬
‫ا‪.‬‬ ‫راه عليه‬ ‫حتها وليس اإلك‬ ‫اع بص‬ ‫ة هي اإلقن‬ ‫عوب المتمدن‬ ‫الش‬

‫وإ ن أس باب جم ود أمم الع الم الع ربي ح تى األمس لم تكن عائ دة إلى ت رك الس يف‪ ،‬ب ل إلى ت رك تع اليم المحب ة‬
‫والتس اهل وال دفع ب التي هي أحس ن وعم ل المس لمين المحم ديين ببعض اآلي ات من كت ابهم وت رك العم ل باآلي ات‬
‫يحرض ون الغوغ اء بمث ل ه ذه‬
‫األخرى؛ ف إن بعض ال ذين ال يت دبرون الق رآن من المس لمين المحم ديين ال يفت أون ّ‬
‫أن اهلل م ع‬
‫اآلي ات القرآني ة‪{ :‬ي ا ّأيه ا الّ ذين آمن وا ق اتلوا الّ ذين يل ونكم من الكفّ ار وليج دوا فيكم غلظ ة واعلم وا ّ‬
‫ق‬
‫يحرمون ما ح ّرم اهلل ورس وله وال ي دينون دين الح ّ‬
‫المتّقين‪ ..‬قاتلوا الّذين ال يؤمنون باهلل وال باليوم اآلخر وال ّ‬
‫إن اهلل‬
‫من الّ ذين أوت وا الكت اب حتّى يعط وا الجزي ة عن ي د وهم ص اغرون} (التوب ة‪{ )29 :‬لق د كف ر الّ ذين ق الوا ّ‬
‫ليمس ّن الّ ذين كف روا منهم ع ذاب أليم} (المائ دة‪:‬‬
‫عم ا يقول ون ّ‬
‫ث الث ثالث ة وم ا من إل ه إالّ إل ه واح د وإ ن لم ينته وا ّ‬
‫بي أن يك ون ل ه أس رى حتّى‬‫بي ح ّرض المؤم نين على القت ال‪ ..‬إلى آخ ر اآلي ة‪{ }...‬م ا ك ان لن ّ‬
‫الن ّ‬
‫‪{ )73‬ي ا ّأيه ا ّ‬
‫يثخن في األرض‪ ..‬إلى آخر اآلية} (األنفال‪ 65 :‬و‪ )67‬فنسي المسلمون المحمديون اآليات األخرى المتفق ة م ع‬
‫التع اليم المس يحية كه ذه اآلي ات‪{ :‬ولك ل أم ة رس ول ف إذا ج اء رس ولهم قض ي بينهم بالقس ط وهم ال يظلم ون‬
‫الن اس حتّى يكون وا مؤم نين}‬ ‫رب ك آلمن من في األرض كلهم جميع اً أف أنت تك ره ّ‬ ‫(ي ونس‪ ... )47 :‬ول و ش اء ّ‬
‫آمن ا بالّ ذي أن زل إلين ا‬
‫(يونس‪{ )99 :‬وال تجادلوا أهل الكت اب إالّ ب الّتي هي أحس ن إالّ الّ ذين ظلم وا منهم وقول وا ّ‬
‫وت‪.)46 :‬‬ ‫لمون} (العنكب‬ ‫ه مس‬ ‫د ونحن ل‬ ‫ا وإ لهكم واح‬ ‫زل إليكم وإ لهن‬ ‫وأن‬

‫فلو عمل المسلمون المحمديون بروح هذه اآليات المكية التي نزلت في جو جه اد روحي غ ير مض طرب بجه اد‬
‫السيف والغزو يتفّق م ع س ير العم ل الفك ري ال روحي بين األمم المتمدن ة لوج دت األمم العربي ة الي وم متح دة ك ّل‬
‫منها في داخلها اتحاداً قومياً متيناً ال مجال فيه لألحقاد والض غائن والمفاس د ال تي تجره ا وال ويالت ال تي تجلبه ا‪.‬‬

‫وإ ذا ك ان اإلس الم المحم دي ق د اتخ ذ الس يف وس يلة لنش ر الرس الة في العرب ة حيث مج ال الفك ر أض يق من س م‬
‫الخي اط فهي لم تجع ل الس يف غرض ه‪ .‬وأعظم نج اح أص اب المس لمين المحم ديين‪ ،‬حين ك انت الجامع ة الديني ة‬
‫أقوى جامعة‪ ،‬كان حين نفى المحمديون السيف من بينهم وعمل وا بالتع اليم المس يحية ال تي ج اء الن بي مص ّدقاً له ا‬
‫{محم د رس ول اهلل وال ذين مع ه أش ّداء على الكفّ ار رحم اء بينهم ت راهم ر ّكع اً س ّجداً يبتغ ون‬
‫ّ‬ ‫بآي ات كه ذه اآلي ة‪:‬‬

‫‪38‬‬
‫الس جود ذل ك مثلهم في الت وراة ومثلهم في اإلنجي ل الخ}‬
‫فض الً من اهلل ورض واناً س يماهم في وج وههم من أث ر ّ‬
‫الداخلي هو أساس كل مجتمع يريد أال يخرب‪،‬وهذا ه و التعليم المس يحي الكلي‪ .‬فالمس يح‬
‫ّ‬ ‫فالتراحم‬
‫(الفتح‪ّ .)29 :‬‬
‫علّم المحبة لمنع االنقسام‪ ،‬ألن "ك ل مملك ة تنقس م على ذاته ا تخ رب‪ ،‬وك ل بيت ينقس م على ذات ه يس قط"‪ .‬والتعليم‬
‫المحمدي لم يحد قيد شعرة عن التعليم اليسوعي‪ ،‬فسيف محمد كان لتعزيز العقيدة‪ ،‬وهذه هي الطريق ة المس يحية‬
‫عينها‪ ،‬فالمسيح قال‪" :‬إني جئت أللقي ناراً على األرض وما أريد إال اضطرامها‪ ،‬ولي ص بغة أص طبغ به ا وم ا‬
‫أشد تضايقي حتى تتم‪ .‬أتظنون أني جئت أللقي على األرض سالماً‪ ،‬أق ول لكم‪ :‬كال‪ ،‬ب ل ش قاقاً (س يفا)" فالمس يح‬ ‫ّ‬
‫قال بوجوب الجهاد في سبيل العقيدة ولكن ه خ اطب أبن اء بيئت ه بلغتهم فالس يف ال ذي ج اء ليلقي ه ه و س يف العقي دة‬
‫اق ثالث ة منهم اث نين‪،‬‬
‫ال روحي‪ .‬وه ذا واض ح من قول ه مردف اً‪" :‬فإن ه من اآلن س يكون خمس ة في بيت واح د يش ّ‬
‫واثن ان ثالث ة‪ ،‬يش اق األب االبن‪ ،‬واالبن األب‪ ،‬واألم البنت‪ ،‬والبنت األم‪ ،‬والحم اة كنتّه ا‪ ،‬والكن ة حماته ا" (لوق ا‬
‫‪ 49‬ـ ‪ )35‬وهذا الشقاق هو عراك فكري في سبيل اإلقناع وليس قتاالً بالسيف والرمح‪ ،‬ذلك أن العراك الفك ري‬
‫ه و األك ثر انطباق اً على األمم المتمدن ة كس ورية‪ .‬أم ا في بالد الع رب ف العراك الفك ري في األم ور العقائدي ة ال‬
‫سبيل إليه ولذلك لم يكن بد من االلتجاء إلى القتال بالسيف والرمح‪ .‬واآليات القرآنية توافق هذا الم ذهب‪ .‬ومنه ا‬
‫ما سبق إثباته في هذا البحث‪ ،‬ومنها في القرآن كثير كهذه اآلي ة‪{ :‬وم ا أرس لنا من رس ول إال بلس ان قوم ه لي ّبين‬
‫لهم فيض ّل اهلل من يشاء ويه دي من يش اء وه و العزي ز الحكيم} (إب راهيم‪ .)4 :‬وإ ذا رجعن ا إلى س ورة الفتح ال تي‬
‫أخ ذنا منه ا اآلي ة القائل ة‪{ :‬محم د وال ذين مع ه أش داء على الكفّ ار رحم اء بينهم} (الفتح‪ )29 :‬وج دنا أن اآلي ات‬
‫األخرى تثبت أن طبيعة البيئة هي التي أوجبت هذه الحزبية الدينية الشديدة‪ ،‬فهنالك اآلية‪{ :‬إذ جعل الذين كفروا‬
‫في قل وبهم الحمي ة حمي ة الجاهلي ة ف أنزل اهلل س كينته على رس وله وعلى المؤم نين وأل زمهم التق وى وك انوا أح ق‬
‫بها وأهلها وكان اهلل بكل شيء عليماً} فميز القرآن حالة الحمية والشراسة وجعل الس كينة للمؤم نين في م ا بينهم‬
‫مقاب ل الحمي ة عن د الج اهليين‪ ،‬ولكن ه ع اد فق ال بالش دة على الكف ار‪ ،‬أي بمق ابلتهم بمث ل ش دتهم‪ ،‬ولكن يجب ت رك‬
‫نين‪.‬‬ ‫ا بين المؤم‬ ‫ة به‬ ‫دال الرحم‬ ‫ّدة وإ ب‬ ‫الش‬

‫اء علي ه يص ُّح الق ول إن جم ود الش عوب اإلس المية المحمدي ة أو ال تي س وادها محم ديون ليس عائ داً إلى ع دم‬ ‫بن ً‬
‫األخذ بالس يف‪ ،‬ب ل إلى س بب ت رك تع اليم التس اهل وال تراحم وإ لى تش بث س واد المتعص بين فيه ا بالحزبي ة الديني ة‬
‫على طراز حزبية العربة‪ ،‬حزبية القتال والتباغض‪ ،‬وإ لى عدم فهم تعاليم الرس الة المحمدي ة الروحي ة ال تي تتف ق‬
‫ك َّل االتف اق م ع تع اليم المس يحية‪ ،‬وإ لى ع دم إدراك ع دد كب ير من متعه دي المحم ديين في الش عوب المتمدن ة َّ‬
‫أن‬
‫تقدم المحمدية في البيئات المتمدنة يكون ب القوة الفكري ة والناحي ة الروحي ة أك ثر مم ا يك ون بق وة الس يف والناحي ة‬
‫ة‪.‬‬ ‫المادي‬

‫إن الخب ير المتبص ر في أس باب نه وض أمم وس قوط أمم ي درك أن فالح األمم المس يحية األوروبي ة ه و نتيج ة‬

‫‪39‬‬
‫وأي دها اإلس الم المحم دي في الق رآن والح ديث‪ ،‬وليس ب ترك‬
‫العمل بتعاليم التساهل والمحبة التي قال بها المسيح ّ‬
‫المختص بالبيئة العربية من التعاليم المحمدية‪ ،‬الذي إذا درسناه درساً وافياً اتض ح لن ا‬
‫ّ‬ ‫هذه التعاليم والعمل بالقسم‬
‫مختص بم ا يجب على المحم ديين من الع رب تج اه بقي ة الع رب غ ير المحم ديين ال ذين ين اوئون المحم ديين‬‫ٌّ‬ ‫أن ه‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة لجماع‬ ‫اوأة جماع‬ ‫من‬

‫ويجب أن يكون واض حاً ك َّل الوض وح أن قص د التع اليم المس يحية ه و رف ع المن اقب الفردي ة والعائلي ة‪ .‬فالتس اهل‬
‫أي مجتم ع‪ ،‬عن‬ ‫الذي علَّمه المسيح قصد به األفراد لسالمة المجتمع وفالحه‪ ،‬ولم يقصد به أن يتنازل المجتم ع‪ُّ ،‬‬
‫حقوقه السياس ية واالقتص ادية والروحي ة‪َّ ،‬‬
‫ألن ه ذا التن ازل يك ون معن اه س قوط المجتم ع‪ ،‬ال قيام ه‪ ،‬والمس يح أراد‬
‫قوطه‪.‬‬ ‫ع‪ ،‬ال س‬ ‫ام المجتم‬ ‫قي‬

‫ل ذلك ال يص ُّح مطلق اً نس بة االس تكانة القومي ة إلى المس يحيين وتع اليم المس يح‪ ،‬كم ا يري د رش يد الخ وري أن ُيفهم‬
‫اس‪.‬‬ ‫الن‬
‫دس وإ ث ارة الفتن‪ ،‬فليس ت مقدس ات‬‫تخصيص ه المس لمين المحم ديين في أم ر اليه ود فمن أش ّد اللّ ؤم في ال ّ‬
‫ُ‬ ‫أم ا‬
‫المس لمين المحم ديين وح دها هي ال تي وهبت لش ذاذ اآلف اق من اليه ود‪ ،‬ب ل مقدس ات المس لمين المس يحيين أيض اً‪.‬‬
‫بي المس لمين المحم ديين أول من ع اداه اليه ود وال آخ ر من ع ادوه‪ ،‬فهم ق د ع ادوا قبل ه المس يح‬ ‫ولم يكن ن ّ‬
‫واضطهدوه وص لبوه وح اربوا أتباع ه‪ .‬والمس ألة الفلس طينية ليس ت مس ألة محم ديين ويه ود‪ ،‬ب ل مس ألة قومي ة من‬
‫الطراز األول يشترك فيها السوريون المحمديون والمسيحيون‪.‬‬

‫‪ ‬بين الجمود واالرتقاء‬


‫‪ ‬‬

‫قلنا‪ ،‬في ختام البحث الس ابق‪ ،‬إن تع اليم المس يح المناقبي ة القائل ة بالتس اهل في الحق وق الفردي ة ال تع ني مطلق اً م ا‬
‫يفهم ه المص ابون ب العجز الفك ري كرش يد الخ وري الواغ ل بسفس طته على العلم والفلس فة‪ ،‬وه و الخم ول‬
‫واالستكانة وقبول الذل والتسليم للظلم‪ ،‬بل‪ ،‬على العكس‪ ،‬إنه ا تع ني س المة المجتم ع وفالح ه‪ ،‬وه و نفي الخم ول‬
‫وال ذل والظلم بوض ع قاع دة البطول ة االجتماعي ة المتالئم ة م ع حال ة التم دن الس وري ال ذي ص ار أس اس التم دن‬
‫والمتبدي ة وال تي ال‬
‫ّ‬ ‫الع المي الح ديث في مك ان البطول ة الفردي ة أو القبيلي ة ال تي هي خص ائص الش عوب األولي ة‬
‫تصلح أساساً إلنشاء مجتم ع‪ ،‬متَّح د‪ ،‬راق‪ .‬ه ذه البطول ة االجتماعي ة هي بطول ة التض حية الفردي ة في س بيل خ ير‬
‫المجتم ع‪ ،‬وهي البطول ة ال تي يكتش فها ال دارس الخب ير في ص ميم النفس ية الس ورية من ذ ب دء الت اريخ‪ .‬وإ ن ج ذور‬
‫مب دأ التض حية الفردي ة في س بيل الخ ير الع ام موج ودة في تض حيات الكنع انيين (ومنهم الفي نيقيون) لمول وخ‬
‫وداج ون ال تي اس تفظعها بعض الدارس ين لقس اوتها المتفق ة م ع درج ة التم دن األولي ة‪ ،‬ولكنه ا‪ ،‬في الحقيق ة‪ ،‬تمثّ ل‬

‫‪40‬‬
‫مب دأ فدي ة المجم وع بتق ديم الف رد ذبيح ة تض حية من أج ل استرض اء اإلل ه واس تعطافه ُليس بغ النعم ة على ال وطن‬
‫واألم ة‪ .‬إن ه ذا المب دأ أساس ي لك ل مجتم ع ج دير بالبق اء واالرتق اء‪ ،‬ال ذي ظه ر بمظه ر وحش ي في عه د مول وخ‬
‫ه و ه و عين ه ال ذي ع اد فظه ر في تع اليم المس يح بمظه ره اإلنس اني ال راقي الخ الص من أوه ام العص ور القديم ة‬
‫اريخ‪.‬‬ ‫ر الت‬ ‫انت في فج‬ ‫تي ك‬ ‫ال‬

‫وق د الزم مب دأ التض حية الفردي ة الحض ارة الس ورية في جمي ع أدواره ا فك ان من أفع ل العوام ل في ازدهاره ا‬
‫وامت داد نفوذه ا وبس ط س لطان ال دول الس ورية الهكسوس ية ثم الفينيقي ة على ش اطئ أفريقي ة الش رقي والش مالي‬
‫وعلى ج زر البح ر المتوس ط وعلى إس بانية وش اطئ فرنس ة نح و المتوس ط‪ .‬ومن الرواي ات المدون ة عن ه ذه‬
‫أن ُرّب ان أح د الم راكب‪ ،‬ال تي تك ّون األس طول الفي نيقي التج اري‪،‬‬
‫البطول ة االجتماعي ة في ت اريخ ال دول الفينيقي ة ّ‬
‫تصور وخامة العاقبة على التجارة الفينيقية من جلب مزاحمين إغري ق‬ ‫عندما رأى المراكب اإلغريقية الحقة به ّ‬
‫ففض ل التض حية بنفس ه فخ رق مركب ه وأغرق ه فارت َّدت الم راكب‬
‫إلى بعض األس واق أو مص ادر المع ادن َّ‬
‫رة‪.‬‬ ‫ة خاس‬ ‫اإلغريقي‬

‫فمب دأ التض حية الفردي ة في س بيل خ ير المجتم ع ه و أهم مب دأ من اقبي ق ام علي ه فالح أي مجتم ع متم دن أو‬
‫مت وحش‪ .‬ول وال ه ذا المب دأ الس امي لم ا س قط جن دي واح د ش هيداً في س احة الح رب دفاع اً عن ش رف أمت ه أو‬
‫بيب خب ير لخط ر‬
‫طموح اً إلى مج د ق ومي أو إلى م وارد جدي دة للحض ارة‪ .‬ول وال ه ذا المب دأ لم ا ع َّرض نفس ه ط ٌ‬
‫اص‬
‫طي ار بحيات ه بامتح ان طي ارة‪ ،‬وال غ ّو ٌ‬
‫الموت في تجربة بعض السموم أو الج راثيم في جس ده‪ ،‬ولم ا ج ازف ّ‬
‫غواص ة‪ .‬ول وال ه ذه التض حيات الفردي ة لم ا ح دث ه ذا التق دم الب اهر في الحض ارة‪.‬‬
‫بامتح ان ّ‬

‫والتض حية ليس له ا ش كل واح د ألنه ا ليس ت حال ة ش كلية‪ ،‬ب ل مب دأ عام اً‪ .‬فال ذي ال تك ون التض حية قاع دة عام ة‬
‫عن ده ال يع رف البطول ة االجتماعي ة وال يق دم عليه ا‪ ،‬ففائدت ه للمجتم ع قليل ة أو س لبية‪ .‬ومن أش كال التض حية‬
‫ادة وتض حية األناني ة العمي اء ال تي يس ميها سفس طائي الخل ود رش يد الخ وري "تقيي داً للفط رة‬
‫تضحية الش هوات الح ّ‬
‫يروضوا أنفسهم على الفض ائل وان دفعوا وراء المث ل‬ ‫بالسالسل الثقيلة"‪ .‬وهذه التضحية صعبة جداً على الذين لم ّ‬
‫السفلى‪ .‬ولذلك يصف رشيد الخوري المسيحية بأنها "عدوة نفس ها" ألنه ا‪ ،‬في تس ميته له ا‪" ،‬ديان ة التض حية" ومن‬
‫أج ل ذل ك يراه ا عديم ة الفائ دة‪ .‬وه و يفض ل المحمدي ة عليه ا‪ ،‬ألن المحمدي ة‪ ،‬في عرف ه‪ ،‬كم ا ج اء في حارض ته‬
‫"دين الفطرة" فيقول فيه‪" :‬فهو في اعتقادي موجود قبل وجوده أي قبل ظهور الدعوة‪ ،‬وما محم د بن عب د اهلل إال‬
‫منب ه ل ه ودا ّل علي ه‪ ،‬فه و مكتش فه ال مخترع ه" وه و يري د ب ذلك أن المحمدي ة رس الة إبق اء اإلنس ان على فطرت ه‬
‫األولى بك ل م ا فيه ا من ش هوات وأناني ات ومحب ة للكس ب بال ح دود؛ وه و يع ني‪ ،‬أيض اً‪ ،‬أن المحمدي ة ليس ت‬
‫رسالة الحكمة اإللهية‪ ،‬بل "دين اكتشاف الفطرة"؛ وهو‪ ،‬بعد بلوغه هذا األوج من السفسطة السفلية‪ ،‬يعود فيق ول‬
‫إن "ش ريعة محم د وإ ن س ايرت الطبيع ة فهي كاس رة من ح دتها مقلّم ة أظفاره ا" ‪ ،‬فال ت دري تمام اً م ا يري د أن‬

‫‪41‬‬
‫يق ول ه ذا الجاه ل المخلّ ط وال تع رف لإلس الم المحم دي ص فة ثابت ة‪ ،‬فه و م رة "دين الفط رة الموج ود فيه ا قب ل‬
‫وج وده" وم رة أخ رى ه و دين "مس اير للفط رة ولكن ه كاس ر من ح دتها‪ ،‬مقلم أظفاره ا"‪ ،‬وبع د ك ل ه ذا وذاك ال‬
‫تع رف‪ ،‬مم ا يقول ه‪ ،‬نتيج ة فكري ة ثابت ة‪ ،‬س وى أن ه يه رف عن اإلس الم المحم دي بم ا ال يع رف ويق ول كالم اً ال‬
‫ُمحصَّل ل ه كمن يتكلم عن أم ور مغيَّب ة‪ .‬وإ ن ك ل و قتلت نفس ك جه داً لم ا اس تنتجت من ك ل ه ذا التخلي ط أي ة فك رة‬
‫ثابتة عن الحالة االجتماعية المثلى أو المستوى االجتماعي ـ النفس ي ال تي ي رمي اإلس الم المحم دي إلى إيجاده ا‪.‬‬

‫إن رش يد الخ وري يفض ل اإلس الم المحم دي على المس يحية ألن ه ذه تطلب مق داراً أك بر من الرياض ة النفس ية‬
‫والجس دية لتحوي ل معظم ق وة اإلنس ان نح و األرقى واألنف ع للمجتم ع كمج د البطول ة والتض حية والمن اقب العالي ة‬
‫ال تي تبل غ ذروة الش هامة والعف و وب ذل المق درة في س بيل خ ير المجتم ع‪ ،‬وألن اإلس الم المحم دي‪ ،‬في عرف ه‪،‬‬
‫المروض ة وتقليم أظفاره ا‪ .‬فم اذا يع ني ذل ك غ ير االكتف اء بح ّد من االرتق اء‬
‫َّ‬ ‫يكتفي بالكس ر من ح دة الفط رة غ ير‬
‫تجمد اإلنسانية عنده جموداً يش به جم ود الحيوان ات ال تي يمكن الم رء أن يكس ر من ح دة فطرته ا ويقلم أظفاره ا‪،‬‬
‫أي ارتق اء اجتم اعي ـ نفس اني عن د تل ك الحيوان ات‪،‬‬
‫كم ا يفع ل مروض و الوح وش‪ ،‬دون أن يك ون من وراء ذل ك ُّ‬
‫يغي ران النظ رة إلى الحي اة تغي يراً نفس ياً جوهري اً بمع نى االرتق اء‪.‬‬
‫ذل ك ألن كس َر الح دة وتقليم األظ افر ال ّ‬

‫إذا ك انت ه ذه هي النظ رة اإلنس انية المثلى في م ا يجب أن يك ون غ رض الفلس فات الديني ة‪ ،‬ف أكثر قبائ ل أفريقي ة‬
‫وأسترالية وأميركة المتوحشة قد بلغت "قمة الجودي التي يس تقر عليه ا فل ك اإلنس انية الغارق ة في طوف ان العقائ د‬
‫والنظري ات والفلس فات المتباين ة" ألن لجمي ع ه ذه القبائ ل أديان اً تكس ر من ح دة الفط رة وتقلِّم أظفاره ا!‬

‫ك ل قبيل ة من قبائ ل الش عوب األولي ة أو الفطري ة له ا ع ادات من خراف ات أو دين تكس ر من ح دة الفط رة وتقلِّم‬
‫أظفاره ا‪ .‬ففي الجاهلي ة ك ان للع رب أيض اً ع ادات من خراف ات أو س حر أو دين تكس ر من ح دة الفط رة أو تقلم‬
‫أظفاره ا‪ ،‬فك ان لهم ش هر ح رام ي ترك في ه حم ل الس الح ويرف ع الث أر واالنتق ام‪ ،‬وع ادات في ال زواج والمعيش ة‬
‫واالجتماع‪ ،‬وشورى في القبائل‪ .‬فإذا كانت ه ذه هي قم ة الج ودي فلم اذا ج اء اإلس الم المحم دي إليهم إذا لم يكن‬
‫درج ة ف وق تل ك الدرج ة األولي ة لقبائ ل العرب ة‪ ،‬واتجاه اً نح و درج ة أعلى في اإلنس انية عام ة يش ترك فيه ا م ع‬
‫يحية؟‬ ‫ة المس‬ ‫درج‬

‫ليس هذا البحث م دار الكالم في ه ذا الموض وع‪ ،‬فس نعود إلي ه في بحث ت ٍ‬
‫ال‪ .‬فلنع د اآلن إلى إش باع م ا ب دأناه في‬
‫ير‪.‬‬ ‫البحث األخ‬

‫رأينا في البحث المذكور أن المقصود من تعاليم المسيح هو شيء غير "تقييد الفط رة بالسالس ل الثقيل ة" وأن ه ذا‬
‫الشيء الذي ال تقدر العقول الناقصة أو العاجزة على إدراك ه ه و س يطرة ال وعي النفس ي على األفع ال الحيواني ة‬
‫وم ا ه و بمع نى الغري زة‪ ،‬وتحوي ل مق دار غ ير يس ير من حيوي ة اإلنس ان ال تي ك انت تنف ق في المت ع الجس دية إلى‬

‫‪42‬‬
‫األعم ال المفي دة من ميكانيكي ة وص ناعية وزراعي ة وعلمي ة وأدبي ة وفني ة واجتماعي ة واقتص ادية‪ .‬وق د ذهب‬
‫المسيح إلى هذه النظرة المناقبية رأساً ألن البيئة السورية كانت ق د ارتقت عن درج ات كس ر ح دة الفط رة وتقليم‬
‫ي‪.‬‬ ‫اء النفس‬ ‫توى أعلى من االرتق‬ ‫بحت تتطلب مس‬ ‫ا‪ ،‬وأص‬ ‫أظفاره‬

‫ببل وغ ه ذه ال ذروة المناقبي ة ابت دأ نج اح األمم المس يحية‪ ،‬وليس ب التخلي عنه ا‪ ،‬كم ا ي دعي ه ذا الواغ ل على‬
‫المواض يع االجتماعي ة‪ ،‬الملقَّب "ب القروي" أم ا أس باب ت ّ‬
‫أخر الش عوب اإلس المية المحمدي ة وجم ود المحم ديين‬
‫فبعض ه ال دخ ل لل دين في ه حيث البيئ ة الطبيعي ة قاس ية ال زرع فيه ا وال مع ادن‪ ،‬وض رعها قلي ل‪ .‬ولكن حيث‬
‫ُ‬
‫أهم أس باب الجم ود هي ت رك العم ل بالتع اليم المحمدي ة العالي ة المش تركة م ع روحي ة‬
‫أس باب العم ران مت وفرة ف ّ‬
‫التع اليم المس يحية واكتف اء بعض الش عوب المحمدي ة من ال دين "بكس ر ح دة الفط رة وتقليم أظفاره ا" وت رك ذروة‬
‫المث ل العلي ا النفس ية‪ ،‬فبع دت عق ولهم عن طلب التف ّوق العلمي والتك ني والف ني‪ ،‬فق د قي ل‪" :‬من طلب العلى س هر‬
‫اللي الي"‪ ،‬ولكن ال ذي يقض ي ليالي ه مرتمي اً م ع فت اة ف وق أغص ان ال ربى "لي ذوق ش هدها غص باً عنه ا" وي زدري‬
‫ش عورها ويحتق ر كرامته ا‪ ،‬كي ف الس بيل لخروج ه من جم ود الس فولية ومث الب المث ل ال دنيا؟‬

‫أكثر عددها من المسلمين المحمديين نجد سورية أرقاها وأشدها نشاطاً وأسبقها في العلم والفنون‬ ‫بين األمم التي ُ‬
‫لمؤهالت جنسها وعملها بموجب النظرة المناقبية السورية المتجلّية في تع اليم المس يح‬
‫ّ‬ ‫والصناعات‪ ،‬وما ذلك إالّ‬
‫وأرقى تع اليم محم د؛ ف أكثر الس وريين المحم ديين ال يميل ون إلى تع ُّدد الزوج ات واالنغم اس في الش هوات‬
‫المكسورة الحدة‪ ،‬ويفضلون توجيه قواهم إلى األفي د للمجتم ع‪ .‬وق د جم د العلم عن دهم في الق رون األخ يرة بت والي‬
‫زيج الش عوب‬
‫الفتوح ات البربري ة‪ .‬ولكن ك ال ت رى ه ذه النظ رة أو الحال ة عينه ا عن د محم ديي أفريقي ة حيث م ُ‬
‫ة‪.‬‬ ‫ال الغريزي‬ ‫و واألفع‬ ‫ثر ميالً إلى الله‬ ‫ع أك‬ ‫ل المجتم‬ ‫ة األرض تجع‬ ‫وطبيع‬

‫وق د أثّ رت ت أثيراً كب يراً في حال ة جم ود الش عوب المحمدي ة تع اليم الجه اد ال ديني الح زبي السياس ي ال تي هي من‬
‫الخص ائص العربي ة في ال دين‪ ،‬وليس ت من المب ادئ اإلنس انية العام ة‪ ،‬أي إنه ا تع اليم ال تواف ق البيئ ات المتمدن ة‪.‬‬
‫فل و ك ان المحم ديون الس وريون‪ ،‬وال نتكلم عن غ يرهم‪" ،‬يرفع ون راي ة المس يح البيض اء" وراي ة محم د البيض اء‬
‫فيتس اهلون في حق وقهم الفردي ة ويحس نون إلى ال ذين يس يئون إليهم ويعف ون عمن ظلمهم ويص لون من قطعهم‬
‫لك انوا أزال وا أعظم عقب ة من عقب ات االتح اد الق ومي بفض ل النظ رة المناقبي ة ال تي يش ترك فيه ا محم د والمس يح‪.‬‬
‫دي في الحق وق الفردي ة أو الحزبي ة‪ ،‬الديني ة‪ ،‬الداخلي ة‪،‬‬
‫يحي والمحم ّ‬
‫وم تى حص ل التس اهل من الج انبين المس ّ‬
‫وتم من وراء ذلك االتحاد القومي المس الم ك ل المس المة في ال داخل‪ ،‬أمكن‬
‫بفضل هذا الفهم العميق لغاية دينهما‪ّ ،‬‬
‫حينئ ذ أن تنهض األم ة الس ورية كرج ل واح د‪ ،‬وتس ير إلى فالحه ا‪ ،‬فال تك ون في وح دتها ه ذه محمدي ة وال‬
‫مسيحية‪ ،‬بل قومية اجتماعية‪ ،‬ينظر أفرادها إلى الحياة نظرة واحدة‪ ،‬ويفهم ك ل منهم رس الة ال دين به ذه النظ رة‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫بهذا التعليم السوري القومي االجتماعي تنهض األمة السورية وكل أمة عربية تتخبط في محاولة عقيمة للتوفيق‬
‫بين حزبي ة ال دين والواق ع االجتم اعي وليس "بس يف الرس ول"‪ ،‬كم ا ين ادي رش يد الخ وري الم أجور ليق ول ه ذا‬
‫ول‪.‬‬ ‫الق‬

‫إن س يف الرس ول ال يفي د في النهض ات القومي ة‪ ،‬ففائدت ه الوحي دة ك انت لنص رة ال دين في بيئ ة يتع ّذر فيه ا‬
‫االنتص ار ب الفكر والفهم في العرب ة‪ .‬وم ا نس بة الس يف إلى محم د في القض ايا القومي ة إالّ من ب اب ال تزلّف إلى‬
‫متهوس ي المحم ديين‪ .‬فالس يف انتض ته ال دول واألمم في حروبه ا وفتوحاته ا قب ل المحمدي ة وقب ل المس يحية‪ .‬ولق د‬
‫ِّ‬
‫ش ق س يف ه اني بع ل إيطالي ة من ش مالها إلى جنوبه ا في فتح لم يش هد الت اريخ ل ه م ثيالً قب ل محم د بنح و ثماني ة‬
‫قرون‪ .‬وكان السيف يشهر في العرب ة قب ل محم د‪ .‬ومزي ة محم د الوحي دة في اس تعمال الس يف هي أن ه أدخل ه في‬
‫ه‪.‬‬ ‫ل في‬ ‫أي فض‬
‫د ّ‬ ‫ة فلم يكن لمحم‬ ‫ائل القومي‬ ‫ا في المس‬ ‫اً‪ .‬أم‬ ‫ة أيض‬ ‫ائل الديني‬ ‫المس‬

‫وهذه الحقيقة‪ ،‬التي ال غبار عليها‪ ،‬تم ّكننا من إدراك مبلغ سخافة البيت الذي نظمه رشيد الخوري تزلفاً وتمهيداً‬
‫لوغول ه على العلم‪ ،‬وص فّق ل ه الس يد حس ن كام ل الص يرفي الك اتب في بعض المجالت المص رية وه و‪:‬‬
‫وعا‬ ‫ر يس‬ ‫د واهج‬ ‫يف محم‬ ‫رب ‪   ‬بس‬ ‫يم فاض‬ ‫ع الض‬ ‫اولت رف‬ ‫إذا ح‬
‫ً فنس بة رف ع الض يم إلى س يف محم د ال ديني ليس س وى إقح ام يخ الف جمي ع الحق ائق التاريخي ة‪ ،‬ف األمم‪ ،‬من قب ل‬
‫محمد بعشرات القرون‪ ،‬تعمد إلى السيف أو الرمح أو النبلة لرف ع الض يم‪ .‬أم ا تهكم ه بع د ه ذا ال بيت على تع اليم‬
‫المسيح بقوله‪:‬‬

‫نجت قطيعا‬
‫بها ذئباً فما ّ‬ ‫"أحبوا بعضكم بعضاً" وعظنا‬

‫فمن أغ رب م ا ُع رف في ب اب التخلي ط والخب ل‪" ،‬ف أحبوا بعض كم بعض اً" هي لوع ظ الرع اة وجم ع الخ راف‬
‫وليس ت "لوع ظ ال ذئاب"‪ .‬ول ذلك أوص ى المس يح تالمي ذه‪ ،‬حين أرس لهم ليك رزوا‪ ،‬ق ائالً‪" :‬ه ا أن ا مرس لكم مث ل‬
‫خرفان بين ذئاب‪ ،‬فكون وا حكم اء كالحي ات وودع اء كالحم ام" (م تى‪ 10 :‬ـ ‪ )16‬وه ذا يع ني أالّ يبق وا م ع ال ذئاب‬
‫كالخرفان‪ ،‬بل أن يصيروا كالحيات في دهائها وإ دراكها مع محافظتهم على الوداع ة وس المة الني ة‪ ،‬ألن مهمتهم‬
‫ة‪.‬‬ ‫ت حربي‬ ‫ة وليس‬ ‫تعليمي‬

‫أما هذر رشيد الخوري القائ ل‪" :‬ليس اإلنجي ل في نظ ر النص ارى إالّ ملحق اً أو ذيالً لت وراة اليه ود يكم ل م ا ابت دأ‬
‫من ش رها الفظي ع ويتمم نبوءاته ا القاض ية بتجدي د عه د الع داء والتع دي على أه ل فلس طين" فمن أح ط النف اق‬
‫والزندقة والتدجي‪ ،‬وكذلك قوله "فماذا استفاد المسيحيون من إنجيلهم وقد علقوه في قفا التوراة للفرجة" ف إذا ك ان‬
‫رشيد الخوري يتظاهر بالنقمة على المسيحية لمجرد أن المسيحيين جمعوا الكتابين‪ ،‬التوراة واإلنجيل‪ ،‬في مجل د‬
‫واح د أحيان اً‪ ،‬فم ا قول ه بوج ود قس م كب ير من س يرة اليه ود وف رائض دينهم في الق رآن كم ا ّبين ا آنف اً؟‬
‫‪44‬‬
‫المس يح ه و ال ذي ح َّرر اإلنس انية من الش رائع ال تي جعله ا اليه ود أحكام اً أبدي ة‪ :‬أم ا أن المس يحيين أرادوا جم ع‬
‫ليؤي دوا ألوهي ة المس يح وص حة مجيئ ه موع وداً ب ه في النب وءات فال ُيفي د ذل ك م ا يفي ده وج ود‬
‫التوراة إلى كت ابهم ّ‬
‫رآن‪.‬‬ ‫لب الق‬ ‫ص‬‫ة في ُ‬ ‫ص يهودي‬ ‫يرة وقص‬ ‫وية كث‬ ‫رائع موس‬ ‫ش‬

‫المتفوقة لم تبلغ ما بلغته من التقدم بتجري دها "س يف الرس ول" ب ل بتجري دها س يف الوطني ة أو‬
‫ّ‬ ‫إن األمم المسيحية‬
‫القومية أو الفتح المعروف من قبل زمن محمد‪ .‬هذا من الناحية الخارجية‪ ،‬أم ا من الناحي ة الداخلي ة فك ان تق ُّدمها‬
‫ألي مجتم ع ب دونها‪ ،‬ول ذلك ن زلت اآلي ة القرآني ة بجع ل‬
‫ب ترك الس يف واتّب اع تع اليم الع دل والرحم ة ال تي ال قي ام ّ‬
‫الرحمة قاعدة الترابط بين المحمديين‪ ،‬واعتماد السيف في المسائل الخارجية فقط‪ .‬ولما كان الدين اإلسالمي في‬
‫غرض ها جم عُ مص الح المنض مين‬‫ُ‬ ‫المحمدي ة ق د تح ول من مج َّرد تعليم روحي إلى دول ة قائم ة على قاع دة ال دين‬
‫تحت لوائه ا وبس ط نفوذه ا إلى ال دنيا بأس رها‪ ،‬عمالً بم ا ج اء في الق رآن‪{ :‬وع د اهلل ال ذين آمن وا منكم وعمل وا‬
‫الص الحات ليس تخلفنهم في األرض كم ا اس تخلف ال ذين من قبلهم} وقول ه {إن األرض يرثه ا عب ادي الص الحون}‬
‫ك ان ال ُب َّد ل ه من األخ ذ بأس باب قي ام ال دول من تجني د الرج ال ومباش رة الح رب‪ .‬ولكن ه ذه الغاي ة ليس ت غايته ا‬
‫القصوى‪ ،‬بل هي وس يلة إلى الغاي ة القص وى ال تي هي‪ :‬الرحم ة في المجتم ع والع دل في الحكم‪ .‬وه ذه هي زب دة‬
‫التعاليم المسيحية‪ .‬فإذا افترضنا أن اهلل جعل األرض كلها ميراث المسلمين وورثوها فعالً فم اذا بع د ذل ك؟ أليس‬
‫القص د من ه ذا الوع د تعميم الص الح من الرحم ة والع دل؟ أال يق ول الق رآن‪{ :‬محم د وال ذين مع ه رحم اء بينهم}؟‬
‫وق ال أيض اً {من ال ذين آمن وا وتواص وا بالص بر وتواص وا بالرحم ة} {ولئن ص برتم له و خ ير للص ابرين}‪.‬‬

‫منزه اً عن خط ط‬‫أم ا المس يحية فلم تنش أ نش أة دول ة‪ ،‬ولم تس ر على خط ة دول ة‪ ،‬ب ل ك انت تعليم اً فلس فياً مناقبي اً ّ‬
‫الدولة‪ ،‬غرضه خير المجتمع الداخلي؛ وما نريد بالمجتمع هن ا ه و م ا أوض حته في كت ابي "نش وء األمم" وس ميته‬
‫"الواقع االجتماعي"‪ .‬وهو يعني ك ّل مجتمع أو كيان اجتماعي‪ .‬ف التعليم المس يحي ليس غرض ه إنش اء دول ة تجم ع‬
‫أتباعه وتحارب الدول األخرى‪ ،‬وليس قصده جمع أشتات شعب وتنظيمهم في دولة كم ا ج رى لليه ود والع رب‪،‬‬
‫وجندت الجن ود وأنش أت األس اطيل‬‫ألن البيئة السورية عرفت الدولة من زمان فقامت فيها دول فتحت الفتوحات ّ‬
‫البحرية وس نت الق وانين‪ ،‬وإ نم ا ك ان غرض ه إيج اد القواع د المناقبي ة ال تي تثبت المجتم ع وتزي د فاعليت ه الروحي ة‬
‫تج اه زع ازع السياس ة والح روب‪ .‬واألمم تتع رض‪ ،‬في تاريخه ا‪ ،‬لالنكس ار‪ ،‬كم ا تتع رض لالنتص ار‪ ،‬ف إذا‬
‫انكسرت فال إقالة لعثارها إال بمبادئ مناقبية متينة‪ .‬أما إذا فقدت هذه المبادئ واعتمدت السيف فق ط ف إن الس يف‬
‫ة‪.‬‬ ‫ا قائم‬ ‫وم له‬ ‫ود يق‬ ‫ذها وال يع‬ ‫يأخ‬

‫في الحرب الحاضرة(‪ )5‬تسقط أمام أعيننا دول ضخمة حاربت حروباً كثيرة وفتحت الفتوحات العدي دة ولم تح د‬
‫السوي‪ ،‬فما ه و الس ر في س قوطها؟ الس ّر في فق دها الق وة الروحي ة والمب ادئ المناقبي ة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وال مرة عن نهج السيف‬

‫‪45‬‬
‫إن س بب س قوط فرنس ة‪ ،‬مثالً‪ ،‬ه و في ت رك الثقاف ة المناقبي ة وتقطي ع "السالس ل الثقيل ة ال تي قي دت الفط رة" (على‬
‫تعبير رشيد الخوري)‪ ،‬وإ طالق أبنائها العن ان لش هواتهم المقلّم ة األظف ار الناعم ة الملمس‪ .‬وإ ن س بب انتص ارات‬
‫ألماني ة األخ يرة ه و في كبح جم اح الش هوات وس لك س بيل "الش دة المتناهي ة" في ت رويض النف وس واألب دان‪.‬‬

‫وإ ن من أس باب جم ود المج اميع اإلس المية المحمدي ة غ ير م ا ذكرن ا‪ ،‬بعض أحك ام الش رع ال تي ال تتف ق م ع‬
‫عوام ل التق دم الم دني كمعامل ة الم رأة وتحجيبه ا‪ .‬فتص َّور أن مدين ة لن دن أو ب رلين أو نيوي ورك بماليينه ا‬
‫تحجب النس اء ح تى ال تس فر‬
‫وصناعاتها ومكاتبه ا ودوائره ا آهل ة بمجم وع إس المي محم دي محاف ظ على قاع دة ّ‬
‫الم رأة إال لزوجه ا وأخيه ا وأخته ا وابنه ا وأق رب األق ربين إليه ا‪ ،‬فه ل يمكن ه ذا المجم وع أن يق وم بمتطلب ات‬
‫حاج ات عم ران مدين ة من ه ذه الم دن على مس تواها التم دني الحاض ر‪ ،‬ال ذي لم يبل غ ه ذه الدرج ة إالّ باش تراك‬
‫دبرة بيت ومربي ة أوالد ومعلم ة مدرس ة وممرض ة وكاتب ة على اآلل ة الكاتب ة‬‫الم رأة كزوج ة وأم وأخت وم ّ‬
‫ومشتركة في المعاهد الثقافية وال دور العلمي ة وفي ك ل ش أن من ش ؤون الحرك ة االجتماعي ة وفي األدب والفن ون‬
‫ة؟‬ ‫ة والقومي‬ ‫اة االجتماعي‬ ‫كال الحي‬ ‫ع أش‬ ‫وفي جمي‬

‫تمس كها بفهم اإلس الم الق ديم ال ب ّد أن يقض ي عليه ا فق امت بحرك ة تجديدي ة من ف وق إلى تحت‬
‫ألم تجد تركي ة أن ّ‬
‫وص ارت من األمم العص رية ال تي له ا منزل ة خط يرة في مجم ع األمم الحي ة‪ ،‬فك ان الفض ل في نهض تها لل وعي‬
‫القومي الذي قاد كمال أتاتورك األمة التركية إليه‪ ،‬على ال رغم من ص ياح ش يوخ ال دين الغي ورين على نص وص‬
‫ه؟‬ ‫يوخ إلى تهييج‬ ‫د الش‬ ‫ذي عم‬ ‫اء ال‬ ‫خب الغوغ‬ ‫رع ومن ص‬ ‫الش‬

‫رئيسها‬
‫ُ‬ ‫ألم يكن الفضل في نهضة األمم المسيحية من قبل أنها نهضت في وجه تحويل المسيحية إلى دولة دينية‬
‫ا؟‬ ‫الباب‬

‫يني‪ ،‬وأن أس باب تق ّدم األمم وتأخره ا ليس م ا‬‫نقول كل ذل ك لن بين أن الموض وع الق ومي ه و غ ير الموض وع ال ّد ّ‬
‫ذك ره رش يد الخ وري في حارض ته وأثبتن اه في البحث الس ابق‪ ،‬ولنوض ح أن المب ادئ الديني ة الوحي دة ال تي تفي د‬
‫ويعي ر المس يحية به ا ويم دح‬
‫األمم في نهضاتها القومية هي المبادئ المناقبية التي يقول رش يد الخ وري برفض ها ّ‬
‫ا‪.‬‬ ‫الف له‬ ‫ه مخ‬ ‫اده أن‬ ‫دي العتق‬ ‫الم المحم‬ ‫اإلس‬

‫ألم َنر أنه في "األعاصير" الذي جمع فيه أخالطاً من النظم سماه "شعره الوطني" يقول أيضاً‪:‬‬

‫صم‬
‫ومن أجلها أفطر ومن أجلها ُ‬ ‫قدمها على كل م ــلة‬
‫بالدك ّ‬
‫وقد حطمتنا بين ناب ومنس ــم‬ ‫مزقت هذي المذاهب شملنا‬ ‫فقد ّ‬
‫وأهالً وسهالً بعده بجهن ـ ــم‬ ‫يوح ــد بيننا‬
‫سالم على كفر ّ‬

‫‪46‬‬
‫اً‪:‬‬ ‫ول أيض‬ ‫ويق‬
‫‪ ‬‬

‫بل ضحايا الشام بالمجد غنيه‬ ‫ومنى‬


‫ما أضاحي عرفات ً‬

‫ئر؟‬ ‫نى والب‬ ‫ات وم‬ ‫ة على عرف‬ ‫ة الجاهلي‬ ‫ذه الحمي‬ ‫ه اآلن ه‬ ‫فمن أين جاءت‬

‫مستعار إم ا من بعض‬
‫ٌ‬ ‫أثبتنا‪ ،‬في ما سبق‪ ،‬أنه ليس لرشيد الخوري تفكير خاص‪ ،‬وأن معظم ما في نظمه ونثره‬
‫أقوال كبار المفكرين والكتاب أو من عاميين ّنيري ال ذهن‪ .‬وأك ثر م ا اقتبس ه من غ ير ذك ر أو ش كر ه و س طحي‬
‫ويواف ق مق دار عقل ه‪ .‬وق د قلن ا في البحث الس ابق أن ه ل وال االنحط اط العلمي والثق افي الع ام عن د عام ة الس وريين‬
‫والس واد األعظم من خاص تهم لم ا وج دنا حاج ة بن ا للنظ ر في قول ه اله راء ال رامي إلى إيق اد ن ار الفتن ة الديني ة‬
‫العمي اء‪ .‬ونزي د اآلن أن من ال دوافع ال تي دفعتن ا إلى مناقش ة كالم ه ذا الجاه ل األحم ق ك ون بعض ه مقتبس اً من‬
‫كالم بعض مشاهير كتاب العصر الماضي الرجعيين ال ذين انتش رت كتاب اتهم في أوس اط محمدي ة واس عة وع دها‬
‫س وادهم الن ور ال ذي يجب أن ُيسترش د ب ه‪ ،‬أمث ال الك اتب المش هور جم ال ال دين األفغ اني والش يخ محم د عب ده‪.‬‬

‫فإن كالم رشيد الخوري‪ ،‬الذي أثبتناه في األبح اث الس ابقة األخ يرة وفن دناه وأظهرن ا بطالن ه وفس اد تأويل ه‪ ،‬يك اد‬
‫في بعض ه يك ون منق والً ب الحرف عم ا ج اء في مق التين وردت ا في "الع روة ال وثقى" ال تي أص درها الكاتب ان‬
‫الم ذكوران في ب اريس س نة ‪1884‬؛ وهات ان المقالت ان هم ا "النص رانية واإلس الم وأهلهم ا"؛ والثاني ة "انحط اط‬
‫المسلمين وسكونهم" وفي بعض مقاالت أخ رى كمقال ة "القض اء والق در"‪ .‬فمن المقال ة األولى أخ ذ رش يد الخ وري‬
‫ل‪:‬‬ ‫ف قلي‬ ‫ه‪ ،‬بتحري‬ ‫ول كل‬ ‫ذا الق‬ ‫ه‬

‫والمياس رة في ك ل ش يء‪ ،‬وج اءت برف ع القص اص وإ ط راح المل ك‬


‫المس المة ُ‬
‫"إن الديان ة المس يحية ُب نيت على ُ‬
‫والس لطة ونب ذ ال دنيا وبهرجاته ا‪ ،‬ووعظت بوج وب الخض وع لك ل س لطان يحكم المت دينين به ا‪ ،‬وت رك أم وال‬
‫الس الطين للس الطين‪ ،‬واالبتع اد عن المنازع ات الشخص ية والجنس ية‪ ،‬ب ل الديني ة‪ .‬ومن وص ايا اإلنجي ل‪" :‬من‬
‫ض ربك على خ ّدك األيمن ف أدر ل ه األيس ر" ومن أخب اره أن المل وك إنم ا واليتهم على األجس اد وهي فاني ة؛‬
‫والوالية الحقيقية الباقية على األرواح وهي للّه وحده"‪ ,‬ويتلو ذلك وصف لتقدم األمم المسيحية بما يخالف تع اليم‬
‫دينه ا‪ ،‬ووص ف لت أخر المس لمين المحم ديين خالف اً لتع اليم دينهم‪ .‬ولم ا ك ان ق د بلغن ا إلى ه ذا المص در األساس ي‬
‫لألق وال واألفك ار ال تي وردت في حارض ة الخ وري‪ ،‬فإنن ا س نتمم معالجتن ا لموض وع الم ذهبين المس يحي‬
‫والمحمدي وأغالط فهمهما وما ينتج عن ذل ك من نظ رات ش اذة عن العلم والمنط ق في االجتم اع والسياس ة بن اء‬
‫علي ه‪ ،‬ت اركين م ا تبقى من حارض ة الخ وري‪ ،‬وه و معظمه ا‪ ،‬لع دم وج ود أي ة وح دة فكري ة فيه ا‪ ،‬فهي فسيفس اء‬
‫‪47‬‬
‫موادها "من كل واد عصا"‪ .‬ونعود بعد الفراغ من النظر في ه ذا الموض وع إلى تن اول تعريض ه‬
‫خطابية ُجمعت ّ‬
‫ة"‪.‬‬ ‫ألة "العروب‬ ‫ة ومس‬ ‫ة االجتماعي‬ ‫ورية القومي‬ ‫ة الس‬ ‫بالنهض‬

‫والذي يقابل كالم "العروة الوثقى" الملقى على عواهنه على ما أثبتناه في هذا الصدد في ما سبق من ه ذا البحث‬
‫يج د أن أق ل م ا يق ال في ه إن ه اجته اد مش ّوه مش ّوش ال ت ّدّبر في ه لإلنجي ل والق رآن‪.‬‬
‫فالقول إن المسيحية جاءت برفع القص اص باط ل‪ ،‬وإ نه ا ج اءت ب إطراح المل ك والس لطة باط ل‪ ،‬وإ نه ا ق الت بنب ذ‬
‫ال دنيا وبهرجته ا باط ل‪ ،‬إالّ في وج وه مخالف ة للفض ائل االجتماعي ة ّأي دها فيه ا الق رآن‪ ،‬وق د ّبين اه‪.‬‬

‫ظ اهر‪ ،‬ولكن احكم وا حكم اً ع ادالً" ‪ ،‬وه ذا ال يرف ع القص اص؛ وال يوج د في‬
‫المس يح ق ال‪" :‬ال تحكم وا بحس ب ال ّ‬
‫اإلنجيل قول باطراح الملك والسلطة‪ .‬وأما أن المسيحية "وعظت بوجوب الخض وع لك ل س لطان يحكم المت دينين‬
‫حوره الخوري وجعله هكذا "ال بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً‬ ‫بها وترك أموال السالطين للسالطين" فقد ّ‬
‫مدى الحياة تُس ام الخس ف واله وان الخ" وق د ّبين ا فس اده في م ا س بق وأثبتن ا أن ه تأوي ل س طحي مغ رض‪ .‬على أن‬
‫في ه ذا الكالم اجته اداً في فهم ق ول المس يح لل ذين ك انوا يبحث ون عن جري رة يأخذون ه به ا ليهلك وه "أوف وا م ا‬
‫لقيصر لقيصر وما للّه للّ ه"‪ .‬ولكن م ا أبع د ه ذا االتج اه عن حقيق ة م ا عن اه المس يح‪ .‬ف إن ه ذه اآلي ة ليس ت مطلق ة‬
‫ومس تقلة‪ ،‬ب ل هي متعلق ة بح ادث وعب ارات س ابقة؛ وذل ك أن رؤس اء ال دين اليه ود‪ ،‬لم ا عج زوا عن أخ ذ المس يح‬
‫يهيج ون الش عب ب ه علي ه‪ ،‬ص اروا يطلب ون أن يج دوا في ه مخالف ة لس لطان الدول ة األجنبي ة‬
‫بج رم من تعاليم ه ّ‬
‫الحاكم ة ليس لموه إليه ا‪ .‬وعلى ه ذه القاع دة ج رى الرجعي ون في س ورية ليس لموا زعيم النهض ة الس ورية القومي ة‬
‫االجتماعي ة إلى س لطان الدول ة األجنبي ة الحاكم ة بع د أن عج زوا عن أن يج دوا نقص اً في تعاليم ه يث ير الش عب‬
‫"فهم رؤساء الكهن ة والكتب ة أن ُيلق وا علي ه األي دي في تل ك‬
‫عليه‪ .‬والواقع الذي اقتضى قول المسيح هو كما يلي‪ّ :‬‬
‫الس اعة‪ ،‬ولكنهم خ افوا من الش عب ألنهم علم وا أن ه ق ال ه ذا المث ل عليهم‪ ،‬فرص دوه وأرس لوا إلي ه جواس يس‬
‫صديقون لكي يأخذوه بكلمة فيسلموه إلى رئاسة الوالي وسلطانه؛ فسألوه قائلين‪ :‬ي ا معلم‪ ،‬ق د علمن ا‬
‫يراؤون أنهم ّ‬
‫أنك بالصواب تتكلم وتعلّم وال تأخذ بالوجوه‪ ،‬بل تعلّم طريق اهلل بالحق‪ .‬أيجوز أن نعطي الخراج لقيص ر أم ال؟‬
‫ففطن لمك رهم فق ال لهم‪ :‬لم اذا تجبرون ني؟ أروني دين اراً‪ .‬لمن الص ورة والكتاب ة؟ فأج ابوا وق الوا‪ :‬لقيص ر‪ .‬فق ال‬
‫ا‪ :20 :‬من ‪ 19‬إلى ‪.)25‬‬ ‫ه" (لوق‬ ‫ه للّ‬ ‫ا للّ‬ ‫ر وم‬ ‫ر لقيص‬ ‫ا لقيص‬ ‫وا م‬ ‫لهم‪ :‬أوف‬

‫دبر له ذه اآلي ات يج د ّأنه ا أبع د م ا يك ون عن االجته اد القائ ل ب أن المس يحية تق ول بوج وب "الخض وع لك ل‬
‫ك ّل مت ّ‬
‫سلطان يحكم المتدينين بها"‪ .‬ولو كان هذا قصد تعليم المسيح لك ان قال ه في مواعظ ه ولك ان أج اب الس ائلين على‬
‫الف ور‪" :‬يج وز أن تعط وا الخ راج"‪ ،‬ولكن ه لم يق ل ذل ك‪ ،‬ب ل ق ال إن ه يج وز رد دن انير قيص ر المطبوع ة ص ورته‬
‫وكتابته عليها إليه‪ .‬ولذلك لم يقدر اليهود أن يأخذوه بج رم ض د الدول ة‪ ،‬ولم يق دروا أن ي ّدعوا أو يقول وا إن ه يعلم‬
‫ويهيج وا الش عب علي ه؛ وهم إنم ا س ألوه ليوقع وه في إح دى الجريم تين السياس ية أو‬ ‫الخض وع لس لطان أجن بي ّ‬

‫‪48‬‬
‫المناقبي ة‪ ،‬فتغلّب على مك رهم ب رفض الموافق ة على دف ع الجزي ة‪ ،‬ولكن من غ ير الوق وع في مكي دة أع ّدت ل ه‬
‫اكرين}‪.‬‬ ‫ير الم‬ ‫ول‪{ :‬واهلل خ‬ ‫رآن يق‬ ‫ة‪ .‬والق‬ ‫ة األجنبي‬ ‫لموه إلى المحكم‬ ‫ليس‬

‫أم ا اإلش ارة إلى "المنازع ات الشخص ية والجنس ية‪ ،‬ب ل والديني ة" ففيه ا تش ويه كب ير‪ .‬وق د رأين ا أن المس يح ألقى‬
‫ن زاع العقائ د بين الن اس‪ ،‬ولكن ه علّم باالبتع اد عن المنازع ات الشخص ية حرص اً على وح دة المجتم ع وس المته‪.‬‬
‫ولم يقل بترك الدفاع عن حقوق المجتمع تجاه المجتمعات األخرى‪ ،‬وهو ما يرمي االجتهاد المذكور إلى إيهامن ا‬
‫ا رأيت‪.‬‬ ‫ل كم‬ ‫و باط‬ ‫ه وه‬ ‫ه أو علم ب‬ ‫ه قال‬ ‫بأن‬

‫ومن اس تعارات رش يد الخ وري قول ه في الرس الة المحمدي ة "ال دين اإلس المي" إنه ا "مدرحي ة" أي "م ادي روحي‬
‫يظن الق ارئ غ ير المطل ع أن ه ذا الق ول ه و فك رة جدي دة فلس فية الخ وري‪ ،‬والحقيق ة أن ه م أخوذ من‬
‫مع اً"‪ .‬فق د ّ‬
‫كتابي "نشوء األمم" ومن شرحي لمبادئ الحزب السوري القومي االجتماعي‪ .‬فهو فكرة فلسفية اجتماعية أبديتها‬
‫في مناسبات عديدة‪ .‬وآخر ما أعلنته من أم ر نظ رتي الفلس فية ك ان في خط ابي في أول آذار س نة ‪ ،1940‬ال ذي‬
‫نشر في "سورية الجديدة" في العدد الصادر في ‪ 27‬نيسان من السنة المذكورة‪ .‬قلت‪:‬‬

‫"إن الحركة السورية القومية االجتماعية لم ِ‬


‫تأت سورية فقط بالمب ادئ المحيي ة‪ ،‬ب ل أتت الع الم بالقاع دة ال تي‬
‫يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة‪ .‬إن الحركة السورية القومية االجتماعية ترفض اإلقرار باتخ اذ‬
‫قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة اإلنسانية‪ ،‬وال تقف الحركة الس ورية القومي ة‬
‫االجتماعية عند هذا الحد‪ ،‬بل هي تعلن للعالم مبدأ األساس المادي ـ الروحي للحياة اإلنسانية ووجوب تحوي ل‬
‫الص راع المميت إلى تفاع ل متج انس يح يي ويعم ر ويرف ع الثقاف ة ويس ير الحي اة نح و أرف ع مس توى"‪.‬‬

‫إن المبدأ ال ذي ج اء ب ه س عادة ه و نظري ة فلس فية ش املة تتن اول قض ايا الع الم االجتماعي ة واالقتص ادية وش رحها‪،‬‬
‫ويقتض ي كتاب اً على ح دة يبحث في المب ادئ الماركس ية المادي ة لتنظيم المجتم ع والمب ادئ الفاش ية المازيني ة‬
‫الروحي ة لتنظيم المجتم ع والص راع بين ه اتين الفئ تين من المب ادئ‪ ،‬ثم مب دأ س عادة ال ذي يخ رج من القاع دتين‬
‫المتصادمتين بقاعدة واحدة عامة يمكن أن تجمع عليها اإلنسانية‪ .‬وهو بحث واسع بل فلسفة كاملة في االجتم اع‬
‫اريخ‪.‬‬ ‫والت‬

‫أخ ذ رش يد الخ وري ه ذه الفك رة الفلس فية العظيم ة ال تي ال يطي ق عقل ه إدراك عمقه ا وأهمي ة القض ايا االجتماعي ة‬
‫ال تي تش تمل عليه ا‪ ،‬فمس خها وجعله ا مج رد كالم س طحي بس يط يقص د ب ه إيج اد مقابل ة اس تبدادية بين "األدي ان"‬
‫الثالث ة المس يحي والمحم دي واليه ودي؛ فق ال "فال دين المس يحي دين تص ّوري ال ينف ع ال دنيا النفص اله عنه ا‪ ،‬وال‬
‫مادي صرف‪ .‬أم ا ال دين اإلس المي "فم درحي" إذا‬ ‫ّ‬ ‫اآلخرة لعدم حاجتها إليه‪ .‬وهو نقيض الدين اليهودي الذي هو‬
‫اً"‪.‬‬ ‫ادي وروحي مع‬ ‫تركيب‪ ،‬أي م‬ ‫ح النحت وال‬ ‫ص‬

‫‪49‬‬
‫محص ل ه ذا الكالم االعتب اطي‪ .‬ف إذا‬
‫ّ‬ ‫وليس غ ير الجه ال أعطيت لهم حكم ة أخفيت عن الحكم اء يفهم ون م ا ه و‬
‫ك ان الم ذهب المحم دي مادي اً وروحي اً مع اً‪ ،‬فالم ذهب الموس وي أيض اً ك ذلك‪ ،‬وك ذلك الم ذهب المس يحي‪ .‬فك ّل‬
‫مذهب ديني من هذه المذاهب‪ ،‬بل ك ل دين على اإلطالق ي زعم أن ه جم ع ش ؤون ال روح والجس د‪ ،‬وه ذا ال يع ني‬
‫ش يئاً جدي داً في ال دين واالجتم اع‪ ،‬إال أن رش يد الخ وري خص اإلس الم المحم دي ب ه من دون المس يحية‬
‫والموس وية لي وهم الغوغ اء وناقص ي العلم بأن ه ع الم به ذه "األدي ان" وب أن ل ه نظ رة فيه ا له ا ط ابع فلس في‪ .‬وه ذا‬
‫التقلي د أقبح من تقلي د الس عدان للنج ار ال ذي أدخ ل إس فينا في خش بة فش قّها وت رك اإلس فين فيه ا‪ ،‬فج اء الق رد يقلّ ده‬
‫فركب على الخشبة فتدلّى ذنبه في شق الخشبة فرفع اإلسفين ليقلّد النجار فأطبقت الخشبة على ذنبه!‪.‬‬

‫بين الهوس والتديّن‬


‫‪ ‬‬

‫رأينا مما أثبتناه في ما سبق أن القول في خالف المسيحية والمحمدية وتفضيل ه ذه الرس الة على تل ك ليس مج رد‬
‫قول يقوله أحمق‪ ،‬بل اعتقادات شاعت في أوس اط واس عة بين المحمدي ة ألن في ه ذه األوس اط تنتش ر حرك ة ه ذا‬
‫التفكير الرجعي الذي يغذيه عدد من المفكرين المحمديين الذين خلطوا الوطنية والقومية بالدين‪ .‬وسنأتي‪ ،‬في سياق‬
‫البحث‪ ،‬على ما وقفنا عليه من الشائعات في األوس اط المس يحية‪ .‬وك ون ه ذه المعتق دات الخاطئ ة ذات ج ذور في‬
‫أوساط واسعة ولها شبه مدرسة فكرية كان في طليع ة أس اتذتها الس يد جم ال ال دين األفغ اني والش يخ محم د عب ده‬
‫والسيد رشيد رض ا والس يد محم د ك رد علي‪ ،‬ومن تالم ذتها المجلين الس يد ش كيب إرس الن وغ يره ال ذين ي رون‬
‫الرجوع إلى الدولة الدينية ويرون أن الوطنية هي النعرة الدينية عينها‪ ،‬يبرر ك ل الت برير األهمي ة ال تي أعطيناه ا‬
‫لحارضة رشيد سليم الخوري التي ليست في الحقيقة سوى فسيفساء أفكار التقطها‪ ،‬على عادته‪ ،‬من بعض الجرائ د‬
‫والمجالت أو الكتب ووجد لها مجرى في بعض األوس اط‪ .‬وه ذه الحقيق ة تكفي إلفه ام ال ذين أظه روا إش فاقا ً على‬
‫"الق روي" أنن ا لم نهتم ه ذا االهتم ام إالّ لم ا ه و أهم بكث ير من كبح جم اح مه ووس ب الخلود والم ال‪.‬‬

‫إذا دققنا أكثر فأكثر في كالم "العروة الوثقى" المتعلق بغاية المذهب المس يحي وغاي ة الم ذهب المحم دي‪ ،‬ووقفن ا‬
‫على بعد تأويله عن االتجاه الصحيح المؤيّد بالشواهد‪ ،‬وعن الطريقة االستقرائية التاريخي ة‪ ،‬على م ا أوض حناه في‬
‫األبحاث األخيرة المتقدمة‪ ،‬تبين أنه كالم ب ني على روح الحزبي ة الديني ة أك ثر كث يراً مم ا ب ني على ت دبّر الق رآن‬
‫ل‪.‬‬ ‫واإلنجي‬

‫إن القرآن نفسه يع ّد اإلنجيل كالما ً منزالً‪ .‬ومحصل كالم "العروة الوثقى" أنه كتاب يعلم الخن وع واالستس الم على‬

‫‪50‬‬
‫ما قال الخوري باالستناد إلى كالمها‪ ،‬فهل يتفق هذا الكالم م ع م ا فرض ه الق رآن على المحم ديين من اإليم ان ب ه‬
‫بقوله‪{ :‬وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم}‪ .‬وهل يجوز تصّور أن هللا أرسل روح ه إلى م ريم لتل د المس يح‬
‫ليعلّم الناس الذل والخنوع؟ وهل يتفق مع انطباق التعاليم المحمدية الروحي ة على التع اليم المس يحية ك ل االنطب اق‬
‫كما بيّنا؟ هذا من جه ة ت دبّر الق رآن‪ .‬أم ا من جه ة ت دبر اإلنجي ل فه ل ينطب ق الكالم الم ذكور على نص اإلنجي ل‬
‫الصريح؟ وقد رأينا أنه ال ينطب ق على نص اإلنجي ل وغ رض التعليم المس يحي‪ ،‬كم ا أوض حنا بالش واهد الكث يرة‬
‫ورأينا أيضا ً أنه ال ينطبق على الشواهد القرآنية العديدة ال تي أثبتناه ا في ه ذا البحث‪ .‬ولكن تقري ر ه ذه الحقيق ة ال‬
‫يعني أنه كالم غير مستند إلى بعض اآليات القرآنية وبعض تقاليد "ص در اإلس الم" من غ ير ت دبّر لك ل ذل ك كم ا‬
‫يجب‪ ،‬ومن غير فهم للقواعد االجتماعية ـ االقتصادية التي هي أهم من العقائد الدينية في تع يين اتج اه المجتمع ات‬
‫اإلنسانية وتقرير مصيرها‪ ،‬والتي هي سبب نشوء األمم والقوميات‪ ،‬ومن غير فهم لمجرى الت اريخ ومن غ ير فهم‬
‫اني‪.‬‬ ‫ور اإلنس‬ ‫ه من التط‬ ‫ة بمحل‬ ‫ير معرف‬ ‫دين على اإلطالق‪ ،‬وغ‬ ‫ة ال‬ ‫لحقيق‬

‫الرجعية هي مذهب الرجوع إلى حال سابقة‪ .‬وعن دما أطلقن ا على الك اتبين الكب يرين الس يد جم ال ال دين األفغ اني‬
‫والشيخ محمد عبده نعت الرجعة لم نكن ملقين الكالم اعتباطاً‪ ،‬بل عنينا أنهما رجعيان بك ل م ا في ه ذه الكلم ة من‬
‫المعنى‪ ،‬ألنهما قصدا ونادي ا ب الرجوع إلى عه د الدول ة الديني ة وتأس يس الدول ة على ال دين‪ .‬فلم يعت برا باألح داث‬
‫التاريخية العظمى التي كانت دروسا ً خطيرة تنقضُ الشيء الكثير من االعتقادات القديمة في ما ه و غ رض ال دين‬
‫وغرض الدولة وطبيعة ك ّل منهما‪ ،‬وظال يعتق دان أن ذه اب دول ة ال دين لم يكن إالّ ألس باب عارض ة أو نس بية أو‬
‫لضعف األديان غير اإلسالمية‪ ،‬فعلّال تقهقر الدولة الدينية المحمدية بض عف اإليم ان أو نس يان الوع د أو بتقص ير‬
‫المحمديين عن األخ ذ بإنم اء العل وم أو بش غل أفك ار ع امتهم بالمغالب ات الداخلي ة بين أم رائهم‪ ،‬أو غ ير ذل ك من‬
‫األسباب الواهية المقصرة عن إدراك العوامل االجتماعية واالقتصادية والجغرافية والنفسية في التط ور اإلنس اني‪.‬‬
‫وهذه العوامل هي التي لها الغلبة في األخير‪ .‬والظاهر أنهما لم يكونا على اطالع في ذلك‪ ،‬وله ذا الس بب أو لس بب‬
‫غيره كغلبة التربية الدينية المذهبية عليهما قاال‪" :‬إن ال جنسية للمسلمين إالّ في دينهم" (الع روة ال وثقى‪ ،‬مجموع ة‬
‫طبع بيروت سنة ‪ 1933‬ص ‪ ،)150‬والصحيح هو غير ذلك‪ .‬وقد ظن المسيحيون أيضاً‪ ،‬من قبل‪ ،‬أن جنسيتهم في‬
‫ولكن الواقع نقض هذا الظن‪ ،‬ليس فقط في المسيحية‪ ،‬بل في المحمدي ة أيض ا ً وفي ك ل دين آخ ر‪ .‬ومن أراد‬
‫ّ‬ ‫دينهم‪،‬‬
‫درس هذا الموضوع فعليه بكتاب "نشوء األمم" تأليف سعاده‪ ،‬وهو كتاب في علم االجتم اع جم ع أح دث الحق ائق‬
‫العلمية في تطور اإلنسانية وأقوامها‪ ،‬وق ّدم نظريات جديدة غاية في األهمي ة‪ .‬ولل زعيم أيض ا ً محاض رة في مب ادئ‬
‫التربي ة القومي ة األساس ية ع رض فيه ا ألس باب س قوط الجامع ة الديني ة في المس يحية والمحمدي ة‪.‬‬

‫والغفلة عن التضارب األساس ي‪ ،‬الج وهري بين مب ادئ "الجنس ية الديني ة" ومب ادئ "الجنس ية االجتماعي ة" ال تي‬
‫‪51‬‬
‫ظهرت بالمظهر الذي أطلق عليه اسم "القومي ة" هي م ا جع ل ك اتبي "الع روة ال وثقى" "يعجب ان ك ل العجب من‬
‫أط وار اآلخ ذين به ذا ال دين الس لمي (المس يحية)" (انظ ر مقال ة النص رانية واإلس الم وأهلهم ا في المجموع ة‬
‫المذكورة)‪ ،‬فعجبهما الذي أعلناه ال يد ّل إالّ على عدم تدبّرهما أمر اإلسالم المسيحي‪ ،‬كما بيّنا‪ ،‬وعدم ت دبّرهما أم ر‬
‫الدين على اإلطالق من وجهة التاريخ االجتماعي‪ ،‬ال من وجهة تقاليد أحد األديان‪ ،‬وعلى عدم إدراكهما الفرق بين‬
‫"الجنسية الدينية" و "الجنسية االجتماعية"‪ .‬ولو أنهما أدركا الف رق بين ه اتين الجنس يتين ل زال عجبهم ا من تق دم‬
‫األمم المسيحية ومظاهر الروحي ة الحزبي ة فيه ا ال تي ال تتض ارب مطلق ا ً م ع تع اليم ال دين في المس يحية‪ .‬ف األمم‬
‫المسيحية ما نهضت إالّ بترك مبدأ "الجنسية الدينية" ومبدأ "الدولة الدينية" (التيوكراتية)‪ ،‬وباألخذ بمبدأ "الجنس ية‬
‫االجتماعية" ومبدأ "الدولة القومية" من غير أن يع ني ذل ك الت ّخلي عن تع اليم دينه ا المناقبي ة ال تي توثّ ق أواص ر‬
‫وحدتها الداخلية وتجعل كل أمة منها يداً واحدة في طلب الفالح‪ .‬واألمم المحمدية ما تزال متأخرة‪ ،‬ألنها ل ّم ا تج تز‬
‫طور العمل بمبدأ "الجنسية الدينية"‪ ،‬وهي ما دامت متمسكة بهذا المبدأ الذي ال يتفق مع الواقع االجتماعي فال أم ل‬
‫لها بمجاراة األمم المسيحية التي تقدمت باسم الجامعة القومي ة المنفص لة عن ال دين‪ ،‬من غ ير أن يتخلى أ ّ‬
‫ي م ؤمن‬
‫ه‪.‬‬ ‫ه وتعاليم‬ ‫عن دين‬

‫إن خروج المجاميع المحمدية إلى العمل بمبدأ "الجنسية االجتماعية" بدالً عن مبدأ "الجنسية الدينية" قد يب دو أم راً‬
‫ق فقد كان صعبا ً وشاقا ً للمج اميع المس يحية أيض اً‪،‬‬ ‫صعبا ً جداً دونه ما هو أش ّ‬
‫ق من خرط القتاد‪ .‬أما أنه صعب وشا ّ‬
‫بل إنه كان أصعب وأش ّ‬
‫ق ألنه لم يكن له ذه المج اميع مث ل تقت دي ب ه‪ .‬والمج اميع المحمدي ة ت رى اآلن مث ل األمم‬
‫الناهضة‪ ،‬وتجد أمامها العلوم الراقية واالختراعات والفنون التي تسهل لها ما لم يكن سهالً للمجاميع التي تق دمتها‪.‬‬
‫ومع ذلك فللمجاميع المحمدية صعوبة من نوع آخر داخل ّي ـ من قواعد الدين‪ .‬فال يكاد مفكر محم دي يجه ر بفك رة‬
‫جديدة تنطبق على أصول التطور االجتماعي حتّى يهبّ زعماء الدين ينعتونه بالكفر والزندقة‪ .‬وقد جرى مثل ذل ك‬
‫عند المسيحيين من قبل‪ .‬فرؤساء الدين والمتمسكون بمبدأ "الجنسية الدينية" من المحمديين يقولون ّ‬
‫إن العم ل بمب دأ‬
‫"الجنسية االجتماعية" يهدد أركان الدين‪ ،‬وهم يحتجون بأن غرض المحمدي ة ه و أن ي رث المحم ديون‪ ،‬ال ذي هم‬
‫(العباد الصالحون) الذين يعنيهم القرآن‪ ،‬األرض كله ا من غ ير المحم دين‪ ،‬وان من األوام ر الش رعية أن ال ي دع‬
‫المحمديون تنمية ملّتهم بالميل إلى التغلّب على سواهم (حتى ال تكون فتنة ويكون ال دين كل ه هلل)‪ .‬ويحتج ون أيض ا ً‬
‫بأن معظم أحكام دينهم موقوف إجراؤه على قوة الوالية الش رعية ال تي ت وازي الس لطة الزمني ة عن د المس يحيين‪.‬‬
‫ة‪.‬‬ ‫يرة المحمدي‬ ‫ة وإلى الس‬ ‫ت قرآني‬
‫ا ٍ‬ ‫ندة إلى آي‬ ‫ذه الحجج مس‬ ‫عه‬ ‫وجمي‬

‫بناء على هذه الحجج يحارب الرجعيون المحمديون النهضة السورية القومية االجتماعية القائلة أن ال نهضة لألم ة‬
‫السورية إالّ باألخذ بمبدأ (الجنسية االجتماعي ة) ب دالً من (الجنس ية الديني ة)‪ .‬وبن ا ًء على مث ل ه ذه الحجج يح ارب‬
‫‪52‬‬
‫الرجعي ون المس يحيون ه ذه النهض ة القومي ة االجتماعي ة (راج ع خط اب البطري رك الم اروني س نة ‪ 1937‬ور ّد‬
‫ه)‪.‬‬ ‫زعيم علي‬ ‫ال‬

‫ي ال يت ّم إالّ بإعالئ ه‬
‫هنا ال بد من إلقاء سؤال يفتح أمامنا باب القضية في صلبها وهو‪ :‬أصحي ٌح أن اإلس الم المحم د ّ‬
‫على (األديان) األخ رى وبي ع المس لمين المحم ديين أنفس هم ح تى يتم انتص ار اإلس الم ويع ّم الع الم؟ وأن ه ذا ه و‬
‫ي؟‬ ‫ه األساس‬ ‫غرض‬

‫هذا ما يظهر أن الذين فهموا الدين فه ًما أوّليا ً في حاالت نشأته يعتقدون أنه الصحيح الذي ال جدال فيه‪ .‬وهذا أيض ا ً‬
‫ما ذهب إليه إمامان كبيران كالسيد األفغاني والشيخ محمد عبده‪ ،‬مع العلم أنهما كان ا يحس بان من طالب اإلص الح‬
‫في الدين‪ ،‬وأنه كان لهما مناوئون في مقصدهما اإلصالحي الذي لم يبلغ إلى ما بلغه كاتب آخر كبير هو الكواك بي‬
‫الذي كان من المؤسف أن صيته لم ي ذهب ذه اب ص يتهما‪ .‬وال نري د أن نتوس ع كث يراً في ه ذه الش روح اآلن وال‬
‫نعرض لتفاصيل مذاهب السنّة وال ّشيعة والمتصوّفة وغيرها في ذل ك‪ ،‬ب ل ن ذهب رأس ا ً إلى اعتم اد األس اس وه و‬
‫القرآن‪ ،‬كما اعتمدنا اإلنجيل أساسا ً في كالمنا على المسيحية‪ ،‬وإلى فهم عوامل نش أة الرس الة المحمدي ة وتطوّره ا‬
‫في بيئتها التي هي العربة‪ ،‬من غير الدخول في التفاصيل الثنوية وشروحها في المدارس األربع‪ :‬أبي حنيفة‪ ،‬مال ك‬
‫ل‪.‬‬ ‫د بن حنب‬ ‫افعي‪ ،‬أحم‬ ‫د بن إدريس الش‬ ‫بن أنس‪ ،‬محم‬

‫وقبل أن نبدأ بدرس صحة االعتقاد الم ذكور آنف ا ً وفس اده نري د أن نظه ر مبل غ خط ر النتيج ة الحاص لة من ه على‬
‫النهضة القومية االجتماعية في سورية والنهضات القومية في األقطار العربي ة فنلقي ه ذا الس ؤال‪ :‬إلى أين يقودن ا‬
‫االعتقاد ّ‬
‫بأن صحة الرسالة المحمدية هي في محاربة أهل الرساالت األخرى حتى يدينوا بها أو يخضعوا للمسلمين‬
‫المحم ديين‪ ،‬وب أن الم ذهب المس يح ّي يعلّم أتباع ه الخض وع لك ل س لطان أجن ب ّي يحكمهم؟‬

‫أإلى ش ي ٍء آخ ر غ ير االنش قاق ال داخلي وإفن اء التع اليم الديني ة الس امية في قت ال ال نهاي ة ل ه؟‬
‫إن هذا االعتقاد الذي سنبيّن فساد القسم األول منه في ما يلي‪ ،‬كما بينا فساد القسم الثاني منه في ما تقدم‪ ،‬واالعتق اد‬
‫الذي يقابله عند مسيحيّي سورية‪ ،‬هما وحدهما العقبة الكؤود في طريق نهضة األمة السورية القومية‪ .‬وال ش ّ‬
‫ك في‬
‫أن نهضة األقطار العربية جملة أو بقاءها في خمولها تتوقف على نتيجة الصراع حول هذا االعتقاد‪ .‬ولما كنا بدأنا‬
‫بتفنيد االعتقادات الرجعية في األوساط المحمدية فسنتابع ذلك قبل االنتقال إلى االعتقادات المسيحية في هذا الب اب‪.‬‬

‫وال بد لنا من العطف على ما بينّاه من فساد االجتهاد القائل ب أن الرس الة المس يحية تق ول بوج وب الخض وع لك ل‬
‫‪53‬‬
‫س لطان يحكم المت دينين به ا بإظه ار مض ارها االجتماعي ة والقومي ة فه و تعليم مغ رض وخيم الع واقب‪.‬‬

‫في الدرجة األولى تأتي النتائج االجتماعية الوبيلة التي يمكن أن تجمع في كلمتي‪ :‬البغض والع داوة بين المحم ديين‬
‫والمسيحيين في األمة الواحدة‪ .‬فالمسيحيون يبغضون المحمديين‪ ،‬اجتماعياً‪ ،‬ألنهم يشعرون بمحاولة تحقيرهم به ذا‬
‫االعتق اد الفاس د؛ والمحم ديون يبغض ون المس يحيين‪ ،‬اجتماعي اً‪ ،‬ألن ه ذا االجته اد الباط ل يجعلهم يعتق دون أن‬
‫المسيحي ال يمكنه أن يكون قوميا ً صحيحا ً ووطنيا ً ص ادقا ً ألن تع اليم دين ه‪ ،‬حس بما ش رحها لهم االجته اد الفاس د‪،‬‬
‫تمنعه من ذلك وتوجب علي ه إباح ة عرض ه؛ فتس تحكم الع داوة باس تحكام االعتق ادات الباطل ة‪ .‬والع داوة يس تغلها‬
‫األجنبي المتيقظ لقوميته ومصالحها‪ ،‬والنتيجة األكيدة هي العبودية الحتمي ة ل تي يش ترك المحم ديون والمس يحيون‬
‫بب؟‬ ‫و الس‬ ‫اه‬ ‫ا‪ .‬وم‬ ‫ا ً إليه‬ ‫هم بعض‬ ‫ع بعض‬ ‫ة دف‬ ‫في جريم‬

‫واالجتهادات المغرضة من الفريقين‪ ،‬المبنيّة بدورها على اعتقادات دينية واجتهادات فقهي ة أو الهوتي ة هي أيض ا ً‬
‫فاسدة أو ال موجب حتمي لها من الوجهة االجتماعية ـ الدينية‪ ،‬كما سنبينه‪ .‬وهذه الوجهة القومية ـ االجتماعي ة هي‬
‫أعظم الدوافع التي دفعت كاتب هذا البحث إلى تناول الموضوع ومعالجته بهذه الص راحة الكلي ة‪ .‬ولق د ق ال محم د‬
‫قوالً نطلب من جمي ع متتبعي ه ذا الموض وع الخط ير أن يجعل وه نص ب أعينهم ألن في ه حكم ة اجتماعي ة تس هّل‬
‫الشيء الكث ير من الص عوبات‪ ،‬وقول ه ه و‪" :‬ل و تكاش فتم لم ا ت راقبتم"‪ .‬وإنن ا نق ول لجمي ع الس وريين‪ ،‬محم ديين‬
‫ومسيحيين‪ :‬يجب عليكم أن تتكاشفوا فتعلم كل فئة ما تُضمر لها الفئة األخ رى بك ل م ا في ه من جمي ل وق بيح‪ .‬ف إذا‬
‫تكاشفتم فهو أول الطريق إلى إصالح حالكم وإقالة عثاركم‪ .‬وح ّل ك ل قض ية يتطلب معرف ة جمي ع أض العها وإالّ‬
‫داً ال يثبت‪.‬‬ ‫ان حالً فاس‬ ‫ك‬

‫واآلن نعود إلى حجج الجانب المحمدي الرجعية ال تي أث ارت ك ل ه ذا البحث المس هب‪ .‬ولكي يك ون البحث مفي داً‬
‫يجب أن يكون مصنّفا ً وواضحا ً في ترتيب متناسق‪ ،‬ولذلك نبدأ بالتصنيف األساسي فنق ول إن المحمدي ة‪ ،‬من حيث‬
‫هي عقيدة وملّ ة‪ ،‬تقس م إلى قس مين‪ :‬األول ه و المحمدي ة ك دين‪ ،‬والث اني ه و المحمدي ة كنظ ام اجتم اعي ودول ة‪،‬‬
‫فاإلسالم المحمدي من حيث هو دين يرمي إلى ثالثة أغراض أخيرة‪:‬‬

‫إحالل االعتقاد باهلل الواحد مح ّل عبادة األصنام‪.‬‬

‫فرض عمل الخير وتجنّب الشر‪.‬‬

‫تقرير خلود النفس والثواب والعقاب (الحشر)‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫على هذه األغراض األخيرة قام اإلسالم المحمدي كدين‪ ،‬فهي أساس دعوة محمد وص لبها‪ ،‬وم ا تبقّى فه و األم ور‬
‫ّ‬
‫ولكن أهميته ا نس بية من الوجه ة الديني ة‬ ‫الشكلية التي تتّخذ وسائل لبل وغ ه ذه األغ راض‪ ،‬وهي أيض ا ً جوهري ة‪،‬‬
‫البحث‪ .‬ولكي نقتن ع ب أن ه ذه األغ راض ال تتم إالّ بواس طة الرس الة المحمدي ة وح دها يجب علين ا أن نقتن ع ب أن‬
‫المحمدي ة هي ال تي ج اءت به ا وأنه ا هي أساس ها‪ ،‬فه ل نتحق ق ذل ك من الوجه ة التاريخي ة؟‬

‫إننا نتحقق العكس تماما ً بشهادة الكالم القرآن ّي نفسه الذي عزاه محمد إلى هللا‪ .‬فيكون هللا واحداً‪ ،‬غير منظور‪ ،‬يرى‬
‫كل شيء‪ ،‬قادراً على كل شيء‪ ،‬هي فكرة سورية قديمة جداً حمله ا اليه ود واتخ ذوها عقي دة‪ .‬وك ذلك فك رة البعث‬
‫ّ‬
‫ولكن اليه ود ال ذين ك انوا في حال ة أولي ة وظ روف‬ ‫والثواب والعقاب‪ .‬وف رض عم ل الخ ير واالبتع اد عن الش ر‪.‬‬
‫خصوصية فهموا هللا ووحدانيته بطريقة أولية فجعلوه أشبه شيء "بطوطم" ‪ Totem‬أو ص نم ح ّي‪ ،‬غ ير منظ ور‪،‬‬
‫خاص بالقبيلة اإلسرائيلية التي يظهر أنه لم يكن لها ط وطم أو إل ه خ اصّ يرم ز إلى شخص يتها‪ ،‬ف رأوا أن تك ون‬
‫فكرة هللا طوطمهم الخاص بهم الرامز إلى شخصيتهم أسوة بالقبائل أو الشعوب األخرى التي احتك وا به ا ووج دوا‬
‫أن الطوطمية قد تحولت عندها إلى تقديس أصنام بشرية إلهية أو ممتزجة‪ .‬وهو خط وة ف وق طوطمي ة الحيوان ات‬
‫والنباتات والمادة‪( .‬الطوطمية ميل نشأ عند الشعوب الفطرية العتبار حي وان م ا ـ كلب أو بق رة أو ذئب‪ ،‬مثالً‪ ،‬أو‬
‫نبات ما سنديانة أو أرزة‪ ،‬مثالً‪ ،‬أو مادة ما ـ صخر أو جبل‪ ،‬ممثالً شخصية القبيلة ورامزاً لنفس يتها فيك ون مق ّدس ا ً‬
‫وء األمم")‪.‬‬ ‫اب "نش‬ ‫ر كت‬ ‫دها)(انظ‬ ‫عن‬

‫رأى اليهود أن فكرة إله ح ّي يرى ويفكر ويخلق تقوّي معنوياتهم وترهب أعداءهم لما فيه ا من هيب ة الخف اء وق وة‬
‫الحياة تجاه جم ود األص نام‪( ،‬ال تي اتخ ذها من ح ولهم آله ة يعب دونها في زمن االنحط اط‪ ،‬بع د أن ك انت رم وزاً‬
‫لش ؤون حيوي ة في المجتم ع)‪ ،‬فض الً عن الض رورة الداخلي ة لاللتج اء إلى س لطان يؤي د التش ريع والحكم‪.‬‬

‫ولكن هللا لم يكن عندهم أرقى كثيراً من األصنام‪ ،‬فكانت عبادتهم له واتصالهم به أش به بعب ادة األص نام واالتص ال‬
‫بها‪ ،‬فكانوا يشاورونه في حروبهم كما كان الوثنيون يشاورون آلهتهم في حروبهم‪ ،‬وكان هللا خاص ا ً بهم‪ .‬كم ا ك ان‬
‫لكل شعب أو أمة أو قبيلة إله خاص به؛ فهو لهم "إله إس رائيل" أو "إل ه يعق وب ونس له" وهم ا واح د‪ .‬وكم ا ك ان‬
‫الصنم يحارب عن عب اده أو يش ير عليهم ب الحرب أو الس لم ك ذلك ك ان يه وه يح ارب عن اليه ود أو يش ير عليهم‬
‫بالحرب أو السلم‪ ،‬حسبما يرى أنه موافق مصلحة اليهود ألنه إلههم وح دهم من دون الن اس‪ .‬وعلى ه ذه الكيفي ة لم‬
‫تكن مرتبته أعلى كثيراً عن مرتبة صنم‪ ،‬ووظيفته لم تكن أرقى كثيراً من وظيفة صنم‪ ،‬هو الذي "س اق مث ل الغنم‬
‫ور ‪.)78‬‬ ‫دامهم" (مزم‬ ‫رد األمم من ق‬ ‫عبه وط‬ ‫ش‬

‫‪55‬‬
‫ولم ترتق فكرة هللا عن فكرة األصنام إالّ بتعليم المسيح‪ .‬فقد نسخ المسيح فكرة كون هللا مختصا ً بش عب دون ش عب‬
‫يحارب حروبه ضد الشعوب األخرى‪ .‬فصار هللا في المسيحية إله جميع البشر على الس واء‪ ،‬ال يف ّرق بين س وري‬
‫وهندي واقريكي‪ .‬ورفض المسيح أن يكون من نسل "الشعب المختار" من صلب داود‪ ،‬ولم يب ق في المس يحية من‬
‫دل في الحكم‪.‬‬ ‫ع والع‬ ‫ة في المجتم‬ ‫ل بالرحم‬ ‫ان إالّ بالعم‬ ‫ان على إنس‬ ‫ل إلنس‬ ‫فض‬

‫ّ‬
‫ولكن المس يحية‬ ‫وفي المسيحية واليهودية‪ ،‬على السواء‪ ،‬فرض عمل الخ ير وتجنّب الش ر وخل ود النفس والعق اب‪.‬‬
‫واليهودية اختلفتا في الخير العام‪ ،‬فجعله اليهود مقتصراً على بني إسرائيل‪ ،‬وأطلقته المسيحية ليش مل جمي ع األمم‪.‬‬
‫وبناء عليه خرجت اليهودية من االعتبار كدين إنس اني ع ام‪ ،‬وبقي اليه ود في الع الم الحلق ة الموج ودة بين اآلله ة‬
‫الشعوبية واإلله اإلنساني العام‪ .‬ولكنها لم تخرج من غرض فكرة وحدانية هللا وغ رض فع ل الخ ير وتجنبّ الش ر‪.‬‬
‫وإذا أخرجنا اليهودية من غرض الخير اإلنساني العام فال يمكننا إخراج المسيحية منه‪ ،‬فإنها أساسه‪ ،‬وفك رة خل ود‬
‫النفس والثواب والعقاب فيها هي فكرة واضحة مالزمة لجميع تعاليهما‪ .‬فتحقيق أغراض اإلسالم المحمدي النهائية‬
‫المذكورة آنفا ً ال يكون‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬سوى تحقيق أغراض اإلسالم المسيحي عينها التي تقدمته‪ .‬فاألغراض الديني ة‬
‫األخيرة‪ ،‬إذاً‪ ،‬ليست أغراض اإلسالم المحمدي وحدها‪ ،‬فلماذا ال يمكن أن تتم إال به؟ ولماذا ال يمكن اعتبارها‪ ،‬كما‬
‫هي بالفعل‪ ،‬مشتركة بين المسيحية والمحمدية‪ ،‬تامة بوجود المذهبين وبانتش ارهما ك ّل في البيئ ات األك ثر موافق ة‬
‫ا؟‬ ‫والً له‬ ‫ه وقب‬ ‫لتعاليم‬

‫هذا السؤال يفتح مسألة النص وص القرآني ة ال تي قلن ا إن أك ثر المهيم نين على الجماع ات اإلس المية المحمدي ة ال‬
‫يتدبرونها أو ال يريدون أن يت دبروها إالّ وفاق ا ً لفك رة جام دة أوج دتها تقالي د ص در اإلس الم المحم دي وفتوحات ه‪،‬‬
‫وأكثرها مستم ّدة من نصوص القسم الثاني من الرسالة المحمدية‪ ،‬أي من نصوص اإلسالم المحم دي كدول ة‪ .‬وإلى‬
‫هذه النصوص يلجأ جميع الذين يري دون إقام ة القومي ة على ال دين كمدرس ة التفك ير ال تي أسس ها الس يد األفغ اني‬
‫ده‪.‬‬ ‫د عب‬ ‫يخ محم‬ ‫والش‬
‫ه!!!!!!!!!!!!!!!!ل يع!!!!!!!!!!!!!!!!ني ذل!!!!!!!!!!!!!!!!!ك أنّ نص الرس!!!!!!!!!!!!!!!!!الة القرآني!!!!!!!!!!!!!!!!!ة على ن!!!!!!!!!!!!!!!!وعين؟‬
‫الجواب العلمي (وليس الديني) على هذا السؤال هو‪ :‬نعم‪ ،‬إن النصوص القرآنية على نوعين‪ ،‬ويجب أن تُ!!درس‬
‫من وجهتي الدين والدولة‪ .‬وبهذه الطريقة فقط يمكن فهم اإلسالم المحمدي فهما ً صحيحا ً من الوجهة التاريخي!!ة‪.‬‬
‫وتحجره!!ا كم!!ا تحج!!رت اليهودي!!ة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وبه!!ذه الطريق!!ة فق!!ط يمكن االس!!تفادة من مرون!!ة المحمدي!!ة لمن!!ع جموده!!ا‬
‫وبهذه الطريقة يوضع ح ّد لمش عوذي ال دين فال يستش هدون بآي ات القس م ال ديني في غ رض الدول ة وبآي ات القس م‬
‫ال دولي في غ رض ال دين‪ ،‬فتتض ارب أغ راض اإلس الم المحم دي من دين ودول ة كم ا ه و ح ادث إلى الي وم‪،‬‬
‫وتضطرب سكينة المؤمنين المحمديين‪ ،‬الذين يجدون أنفسهم مسوقين أحيانا ً لتض حية بعض آي ات ال دين في س بيل‬
‫‪56‬‬
‫إقامة بعض آيات الدولة‪ ،‬وهو األكثر ضرراً‪ ،‬وأحيانا ً لتضحية بعض آيات الدولة في س بيل بعض آي ات ال دين من‬
‫دين‪.‬‬ ‫ة ال‬ ‫ب حقيق‬ ‫واجب حس‬ ‫و ال‬ ‫اه‬ ‫حيحة لم‬ ‫ةص‬ ‫ير معرف‬ ‫غ‬

‫هذا التحليل ال يوافق هوى الذين يريدون أن تظ ّل عامة المحمديين جاهلة هذه الحقائق ليتمكن وا من تس ييرها وفاق ا ً‬
‫لرغائبهم الخصوصية‪ ،‬كما لم يوافق تحليل مس ائل الرس الة المس يحية ه وى ال ذين أرادوا إبق اء عام ة المس يحيين‬
‫جاهلة حقائق تفسد أغراضهم‪ ،‬فترى الرجعيين وتسمعهم يص يحون‪ :‬إن ه ذا إالّ كالم يقص د ب ه "نقض بن اء المل ة‬
‫اإلسالمية وتمزيقها شيعا ً وأحزاباً"‪ ،‬كما قال صاحبا "العروة الوثقى"‪ ،‬ولكننا نقول إن معرف ة الحق ائق هي طري ق‬
‫ارتقاء األمم الوحيدة من جميع األديان‪.‬‬

‫أغراض الدين واختالف المذاهب‬


‫‪ ‬‬

‫إن نصوص اإلسالم المحمدي كدين تقول أن الدين لم يبتدئ بمحم د‪ ،‬ب ل ب إبراهيم‪ ،‬جري ا ً على تقالي د اليه ود‪ ،‬وأن‬
‫الوحي نزل على محمد لتأييد الكتب السابقة (التوراة واإلنجيل)‪ ،‬ولتذكير الناس الذين جاءتهم الكتب‪ ،‬وإلنذار الذين‬
‫لم يأتهم قبل محمد من نذير‪ .‬فكشف الدين للمرة األولى مقصود به اآلخرون‪ ،‬أي الذين لم يأتهم نذير قبل محمد‪ .‬أما‬
‫أهل الكتاب فقد نزل القرآن مص ّدقا ً لم ا معهم فال خالف في أن ه ال دين أو أن ه والق رآن دين واح د ورس الة واح دة‪.‬‬

‫ليس ما قررناه في الفقرة المتقدمة مج رّد تأوي ل لبعض آي ات قرآني ة التقطت التقاط اً‪ ،‬كم ا ج رى ويج ري لكتّ اب‬
‫كثيرين محمديين ومسيحيين يكتفون بسماع قول أو آية واحدة أو بضع آيات من الق رآن أو اإلنجي ل ليؤوّل وا ال دين‬
‫المحمدي أو المسيحي كله على ما يستنتجون منها من غير معرفة بحقيقتها‪ ،‬ب ل ه و نتيج ة درس علمي اس تقرائي‬
‫لنشأة الرسالة المحمدية وتطوّرها وت ّدبر لما ورد من اآلي في هذا الباب في جميع سور الق رآن من أوّل س ورة إلى‬
‫ورة‪.‬‬ ‫رس‬ ‫آخ‬

‫وال ب د من اإلش ارة‪ ،‬في ه ذا الص دد‪ ،‬إلى أن درس الق رآن ليس بالش يء الهيّن‪ .‬وكث ير من المقبلين على قراءت ه‬
‫يضلّون فيه لسبب عدم وجود أ ّ‬
‫ي تنظيم موضوعي أو حادثي في ترتيب سوره وآياته‪ ،‬فقد ذكرن ا‪ ،‬في بحث س ابق‪،‬‬
‫أن الذين جمعوا القرآن رتّبوا السور المدنية أ ّوالً نظراً ألهميتها الشرعية‪ ،‬على أن ذلك ليس كامالً في الصحة‪ ،‬أي‬
‫إنه إذا كانت العناية وجّهت إلى أحكام الشرع‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬فإنه لم تجر أية محافظ ة على ه ذه القاع دة‪ ،‬فالس ور‬
‫التشريعية ال تأتي متعاقبة‪ .‬هذا والسور عينها ال محافظة في كل منه ا على موض وع واح د‪ ،‬ب ل ت أتي في الس ورة‬

‫‪57‬‬
‫الواحدة عدة مواضيع‪ ،‬فمنها الذكر‪ ،‬ومنها القصص‪ ،‬ومنه ا التش ريع المقتض ب‪ .‬وينقط ع التش ريع في الموض وع‬
‫ّ‬
‫فيظن القارئ أن الموضوع ق د كم ل‪ ،‬وأن الغاي ة ق د تمت‪ ،‬ف إذا في س ورة أخ رى‬ ‫الواحد أو يت ّم في إحدى السور‪،‬‬
‫ل‪.‬‬ ‫ا ورد قب‬ ‫ادة لم‬ ‫ديل أو زي‬ ‫ك تع‬ ‫ه‪ ،‬وإذا هنال‬ ‫وع عين‬ ‫ة الموض‬ ‫ودة إلى معالج‬ ‫ع‬

‫قد رأينا كيف أسيء فهم بعض اآليات اإلنجيلية فلنر كيف أس يء ويمكن إس اءة فهم بعض اآلي ات القرآني ة‪ ،‬فنأخ ذ‬
‫مثالً هذه اآلية‪{ :‬وإذ تقول للّذي أنعم هللا عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتّ ق هللا وتخفي في نفس ك م ا هللا‬
‫ق أن تخشاه‪ ،‬فل ّما قضى زيد منها وطراً ز ّوجناكها لكي ال يكون على المؤم نين ح رج‬
‫مبديه وتخشى النّاس وهللا أح ّ‬
‫منهن وطراً وكان أمر هللا مفعوالً} (األح زاب‪ )37:‬ف إن من يقرأه ا ألول م رة ومن‬
‫ّ‬ ‫في أزواج أدعيائهم إذا قضوا‬
‫صالً ثابتا ً بنفسه‪ ،‬والقسم األخير الشرعي منها إذا قُصد منه جواز‬
‫غير علم بما دار عليه كالمها يكاد ال يفهم لها مح َّ‬
‫االقتران بمطَّلقة مسلمة فالحكم وارد بصورة واضحة في سورة البق رة وغيره ا من الس ور‪ ،‬ولكن المس ألة تص بح‬
‫واضحة تماما ً بعد معرفة الحادث المختصَّة به اآلية‪ ،‬وهو أن محمداً ك ان ق د عت ق زي داً بن حارث ة وك ان زي د ق د‬
‫ت زوج ام رأة اس مها زينب‪" ،‬فأبص رها‪ ،‬محم د‪ ،‬بع د م ا أنكحه ا إي اه ف وقعت في نفس ه فق ال‪" :‬س بحان هللا مقلب‬
‫القلوب"‪ .‬وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد‪ ،‬ففطن لذلك ووقع في نفس ه كراه ة ص حبتها" (عن البيض اوي)‪،‬‬
‫فطلَّقها لكيال ال يكون حاجزاً بينها وبين ول ّي نعمته‪ ،‬فاتخ ذها محم د زوج ة من غ ير واس طة عق د بس بب أن اآلي ة‬
‫نزلت فيها‪ .‬فكان ذلك حادثا ً يقتضي نظرة خاصة نظراً للعالقة وصلة المنزلة بين الس يد والم ولى أو ال دعي وك ان‬
‫منهن وط راً"‪ .‬ه ذا مث ل في‬
‫ّ‬ ‫حدوثه وسيلة ل نزول اآلي ة ال تي أب احت للمؤم نين اتخ اذ نس اء أدعي ائهم "إذا قض وا‬
‫التشريع‪ ،‬واألمثل ة في اإلرش اد والوع ظ والوع د والوعي د كث يرة‪ ،‬وكله ا تؤي د أن االس تدالل على مع نى اآلي ات‪،‬‬
‫إنجيلية كانت أم قرآنية‪ ،‬بصورة استبدادية ومن غير رجوع إلى موضع اآلية وموضوعها والحالة أو الحادث الذي‬
‫نزلت فيه هو أمر كثيراً ما يفضي إلى غير أو عكس المقصود من اآليات الدينية التي منها ما هو مطلق‪ ،‬ومنها م ا‬
‫ه و مقيَّد‪ ،‬فيجب فهم ك ل ذل ك بدق ة ِإلص ابة المع نى الحقيقي والغ رض المقص ود من اآلي ات‪.‬‬

‫ول ذلك نع ود فنق ول إن فهم ك ون النص الق رآني على ن وعين‪ :‬في ال دين وفي الدول ة‪ ،‬يقتض ي ت دبّراً ال يمكن أن‬
‫يحصل من االبتداء بدرس القرآن حسب ترتيبه‪ ،‬أي باالبتداء بالفاتحة‪ ،‬ثم بالبقرة‪ ،‬فبآل عمران‪ ،‬فبالنساء‪ ،‬فبالمائ دة‬
‫الخ‪ .‬فإن هذا الترتيب بعيد عن إعطاء القارئ صورة صحيحة للرسالة المحمدية والمواضيع المحلية والعام ة ال تي‬
‫عالجتها‪ .‬والصواب أن يبتدأ بسورة العلق‪ ،‬فبالقلم‪ ،‬فبالمزمل‪ ،‬فبالمدثر‪ ،‬الخ‪ ،‬حسب تعاقب السور كما أعلنها النبي‪،‬‬
‫وليس حسب ترتيب السور االستبدادي في الق رآن‪ .‬ف َّ‬
‫إن أول س ورة ن زلت هي "العل ق" وليس ت "الفاتح ة" وث اني‬
‫والي‪.‬‬ ‫ذا على الت‬ ‫رة" وهك‬ ‫ت "البق‬ ‫زلت هي "القلم" وليس‬ ‫ورة ن‬ ‫س‬

‫‪58‬‬
‫واآلن نع ود إلى متابع ة م ا ب دأناه في ه ذا البحث في م ا يثبت ه النص الق رآني لم ا ه و ال دين‪ ،‬ف إن ب داءة الرس الة‬
‫المحمدية لم ترم‪ ،‬في األصل‪ ،‬إلى غير األغ راض الديني ة الثالث ة ال تي ع ددناها في البحث الس ابق‪ ،‬ولم يكن فيه ا‬
‫شيء يشت ُّم منه رائحة التفريق أو التمييز بين رسالة محمد ورساالت األنبياء السابقين من عهد نوح وإبراهيم‪ ،‬الذي‬
‫ق ليظه ره على ال ّدين كلّ ه ول و ك ره‬
‫ظهر في أواخر الرسالة بقوله‪{ :‬ه و الّ ذي أرس ل رس وله باله دى ودين الح ّ‬
‫المشركون} (الصف‪ )9 :‬وهو من شؤون اإلسالم المحمدي كدولة أكثر كثيراً مما هو من شؤونه كدين‪ ،‬أو هو من‬
‫الشؤون الدينية المقصود بها معالج ة الحال ة السياس ية الداخلي ة في العرب ة‪ ،‬وليس مقص وداً به ا إقام ة األغ راض‬
‫الدينية الص افية أو األغ راض الديني ة ـ االجتماعي ة الص حيحة ال تي ع ددناها في البحث الس ابق‪ ،‬ألن األغ راض‬
‫الدينية الصحيحة هي عينها في المحمدية وفي المسيحية وفي اليهودية‪ ،‬إال أن هذه األخيرة خرجت من مب دأ الخ ير‬
‫ط‪.‬‬ ‫ام فق‬ ‫الع‬

‫قلنا آنفا ً إن نصوص الرسالة المحمدية كدين تقول إن الدين (أي الدين الصحيح) لم يبتدئ بمحمد‪ ،‬بل بإبراهيم‪ ،‬وقد‬
‫ذهبت هذه النصوص إلى أكثر من ذلك فقالت إن اإلسالم نفسه لم يبتدئ بمحمد‪ ،‬بل بإبراهيم {قل إنّني ه داني ربي‬
‫إلى صراط مستقيم دينا ً قيما ً ملّة إبراهيم حنيفا ً وما كان من المشركين} (األنعام‪ )161 :‬وهذا الكالم هو نهج السّور‬
‫المكية التي فيها أساس الدين وجوهر أغراضه وإن تكن األخيرة مدنية‪ .‬ومن نهج السور المكية قول ه {إنّم ا أم رت‬
‫أن أعبد ربّ هذه البلدة (البلد الحرام) الذي حرّمها وله ك ّل ش يء وأم رت أن أك ون من المس لمين} (النّم ل‪.)91 :‬‬

‫مما ال شك فيه أنه يهم كل دارس عالم محقق معرفة أول كالم فاه به محمد في تأدية رس الته‪ ،‬ألن الكالم األول ه و‬
‫إعالن الرسالة وعنوانها ومبدأها‪ ،‬وما يأتي بعد يكون تابعا ً له ومؤيداً إياه ومكمالً لغرضه‪ ،‬فهو األساس‪ ،‬وما يأتي‬
‫بعد هو البناء الذي ال يحيد وال ينحرف لئال يسقط‪ ،‬فماذا كان أول ش يء أعلن ه محم د لل ذين اق تربوا من ه؟ م ا ه و‬
‫يء هي؟‬ ‫دعوة وإلى أي ش‬ ‫ا هي ال‬ ‫ره؟ م‬ ‫ذي أبص‬ ‫ور ال‬ ‫ه والن‬ ‫ّل علي‬ ‫ذي ح‬ ‫ام ال‬ ‫اإلله‬

‫هذه األسئلة وغيرها تدغ دغ مخيل ة ك ل مفك ر عمي ق يري د أن يع رف ب داءة الفك رة ومنتهاه ا ويحي ط بتطوراته ا‬
‫وتفاصيلها ليحصل له الفهم الكامل لها‪ .‬وبدون ه ذه المعرف ة وه ذه اإلحاط ة يك ون فهم الرس الة جزئي ا ً مبع ثراً أو‬
‫متضارباً‪ ،‬وهو ما يوقع في الهوس المنحرف الذي ما يفتأ يصطدم بما حول ه‪ .‬فم اذا ك ان أول م ا أعلن ه محم د من‬
‫وحي؟‬ ‫ال‬

‫كان سورة "العلق" وهي تسع عشرة آية قصيرة وهذا نصها‪{ :‬بسم هللا الرّحمن الرحيم‪ .‬اقرأ باسم ربّك الذي خلق‪.‬‬
‫خلق اإلنسان من علق‪ .‬اقرأ وربّك األكرم‪ .‬الذي علّم بالقلم‪ .‬علّم اإلنسان ما لم يعلم‪ .‬كالّ ّ‬
‫إن اإلنس ان ليطغى‪ .‬أن رآه‬
‫‪59‬‬
‫إن إلى ربّك ال ّرجعى‪ .‬أرأيت الّ ذي ينهى‪ .‬عب داً إذا ص لّى‪ .‬أرأيت إن ك ان على اله دى‪ .‬أو أم ر ب التّقوى‪.‬‬
‫استغنى‪ّ .‬‬
‫كذب وتولّى‪ .‬ألم يعلم ّ‬
‫بأن هللا يرى‪ .‬كالّ لئن لم ينته لنسفعا بالنّاصية‪ .‬ناص ية كاذب ة خاطئ ة‪ .‬فلي دع نادي ه‪.‬‬ ‫أرأيت إن ّ‬
‫ق‪ 1 :‬ـ ‪.)19‬‬ ‫ترب} (العل‬ ‫جد واق‬ ‫ه واس‬ ‫ة‪ .‬كالّ ال تطع‬ ‫ندع ال ّزباني‬ ‫س‬

‫ومن درسنا هذه السّورة نرى أنها اشتملت على األمور التالية‪:‬‬

‫ذكر اسم هللا ونعوت له‪.‬‬

‫القول بالمعاد أو الحشر‪.‬‬

‫إنذار المكذب الناهي عن الصالة بسوء العاقبة‪.‬‬

‫ويجد الدارس في هذه السورة طابع القرآن الذي الزمه حتى آخر سورة‪ .‬ومن مقابلته على التوراة واإلنجيل يتّضح‬
‫أنه أشبه شيء بالمزامير في التوراة منه ب أي قس م آخ ر‪ ،‬فه و ش عري ت رتيلي أك ثر مم ا ه و تعليمي أو إخب اري‪.‬‬
‫والقصص فيه‪ ،‬كما في المزامير‪ ،‬أخبار قليل ة مقتص رة على م ا يفي د ع برة أو مغ ًزى‪ ،‬وال تتن اول فلس فة الخليق ة‬
‫وتعليلها‪ ،‬ذلك أن القرآن يع ّد هذه الفلسفة موجودة في الكتب السابقة ال تي ج اء مص ّدقا ً له ا‪ .‬ول ذلك اتص ف الق رآن‬
‫بالحض والتهويل‪ .‬وإذا ذكر كيفية الخلق ذكرها بصور شعرية مقصود منه ا الت أثير على الس امع أك ثر من تع يين‬
‫كيفية الخلق أو كيفية حدوثه بصورة ثابتة من باب سرد الواقع‪ .‬وه ذا األس لوب واض ح في الس ورة األولى بقول ه‪:‬‬
‫{اقرأ باسم ربّك الّذي خلق‪ .‬خلق اإلنسان من علق‪ .‬اقرأ وربّك األك رم‪ .‬الّ ذي علّم ب القلم‪ .‬علّم اإلنس ان م ا لم يعلم}‬
‫فقوله {خلق اإلنسان من علق وعلّم بالقلم} مقصود منه تصوير عظم ة الخ الق وقدرت ه تص ويراً ش عريا ً ي ؤثر في‬
‫الشعور أكثر مما هو مقصود منه إعطاء تعليل فلسفي لكيفية الخلق أو كيفية التعليم‪ .‬فاهّلل ‪ ،‬من الوجه ة الديني ة‪ ،‬علّم‬
‫بالقلم وبغير القلم‪ ،‬وخلق من علق ومن غير علق‪ ،‬كما يعود القرآن فيذكر في السورة التالية‪ .‬ولكن قوله‪{ :‬من علق‬
‫وبالقلم} هو من لوازم السجع والتصور الشعري أك ثر مم ا ه و من ب اب التبي ان الفلس في المنطقي‪ .‬وك ذلك قول ه‪:‬‬
‫{لنسفعا بالناصية‪ .‬ناصية كاذبة خاطئة} فهو من باب التصور الشعري لحالة المذنب وذله إذ يج ّر من ناص يته إلى‬
‫العذاب‪ ،‬وليس تقريراً لكيفية سوق المذنب إلى جهنم على وجه التحقيق أيكون ذلك بالقبض على الناص ية أو برب ط‬
‫رى‪.‬‬ ‫ة أخ‬ ‫دين أو بطريق‬ ‫الي‬

‫والسورة الثانية "القلم" ال تشتمل على سوى تحذير من المكذبين ووعيد العذاب ووع د األج ر‪ .‬والثالث ة "المزم ل"‬
‫فيها أول تعظيم هّلل وقدرته بص ورة ب ارزة‪ ،‬وأول إن ذار "للمك ّذبين أولي النّعم ة" بالع ذاب‪ ،‬وأول ذك ر "للجحيم"‪.‬‬
‫وفيها تعيين صفة القرآن بقوله في اآلية الرابعة {ورتل القرآن ترتيال}‪ .‬وفي هذه السورة تع يين أن محم داً مرس ل‬

‫‪60‬‬
‫إلى "المكذبين أولي النعم ة" وهم ص ناديد ق ريش المهيمن ون على القبائ ل العربي ة‪ ،‬كم ا ك ان موس ى مرس الً إلى‬
‫فرعون‪ .‬واآلي ة تق ول {إنّ ا أرس لنا إليكم رس والً ش اهداً عليكم‪ ،‬كم ا أرس لنا إلى فرع ون رس وال}‪ .‬وذك ر موس ى‬
‫وفرعون في هذه السورة‪ ،‬قبل ذكر األخبار التاريخية المتعلقة بالحادث الذي تروي ه الت وراة‪ ،‬يف ترض أن األخب ار‬
‫معروفة مما جاء في التوراة‪ .‬وفي هذه السورة أول ذكر الحتمال وج ود "آخ رين يق اتلون في س بيل هللا" من غ ير‬
‫دعوة إلى القتال أو تحريض عليه‪ .‬فيختفي ذكر القتال من الس ور في الم دة المكي ة‪ .‬وهي ثالث عش رة س نة‪ .‬وق ال‬
‫البعض أن المدة المكية عشر سنوات فقط‪ .‬والمرجّح األول‪ .‬وتأتي بعد "المزمل" سور كثيرة كله ا ترتي ل وتس بيح‬
‫(كالفاتحة)‪ ،‬أو (المدثر) التي تأتي قبلها وفيها {يا أيّها الم ّدثر‪ .‬قم فأنذر‪ .‬وربّك فكبّ ر‪ ..‬ف إذا نق ر في النّ اقور‪ .‬ف ذلك‬
‫دثّر‪ 1 :‬و‪ 2‬و‪ 3‬و‪ 8‬و‪.)9‬‬ ‫ير الخ} (الم‬ ‫وم عس‬ ‫ذي‬ ‫يومئ‬

‫وقد رأينا في السورة الثانية ذكر موسى وفرعون‪ .‬وإننا نرى في السورة الثامنة "األعلى" ذكر "الص حف" األولى‬
‫"صحف إبراهيم وموسى"‪ .‬وهو يد ّل على االتصال بالتوارة أ ّوالً قبل االتص ال باإلنجي ل‪ .‬ف ذكر المس يح ي أتي في‬
‫سورة متأخرة‪ .‬وأول إشارة إلى أخذ العلم به هي في "الجن" بقوله {وأنّه تعالى ج ّد ربّنا ما اتّخذ صاحبة وال ولداً}‬
‫ومحص ل اآلي ة اس تنكار أن هللا اتخ ذ ام رأة ول دت ل ه ول داً كس نّة‬
‫ّ‬ ‫(الجن‪ )3 :‬وال ذكر غير ذلك للمسيح ورسالته‪،‬‬
‫الرجال المخلوقين وعدم إمكان اعتبار بنويّة المسيح هلل‪ ،‬التي يقول بها المسيحيون‪ ،‬إال حادثا ً من تزاوج بيول وجي‪.‬‬
‫وبع د اتص ال الق رآن باإلنجي ل أك ثر يتع ّدل ه ذا الحكم نوع ا ً ب القول إن المس يح ول د "من روح هللا" رأس اً‪.‬‬

‫بعد مرور ثالث وثالثين سورة على ابتداء الرسالة المحمدية‪ ،‬وكلّها سور ترتيلية تس بيحية ت دعو إلى اإلق رار باهلل‬
‫وتنذر (المكذبين)‪ ،‬تبتدئ الرسالة تتخذ شكالً من الدعوة الواضحة في س ورة (ق) بقول ه {ق والق رآن المجي د‪ .‬ب ل‬
‫عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب‪ .‬أإذا متنا وكنّا تراب ا ً ذل ك رج ع بعي د} (ق‪1 :‬و‪2‬و‪)3‬‬
‫فواضح أن الكالم موجه إلى جماعة الرسول التي ال تؤمن بالبعث‪ .‬وهو مؤيّد بآيات كثيرة ت أتي بع د قول ه {لتن ذر‬
‫قوما ً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون} (يس‪ )6 :‬وقوله قبل ذلك {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من م ّدكر} وتتكرر ه ذه‬
‫اآلية في سورة (القمر)‪ .‬وفي سورة (الحجر) أن القرآن هو الذكر بقوله {وقالوا يا أيّها الذي نزل علي ه ال ّذكر إنّ ك‬
‫لمجنون} (الحجر‪ .)6 :‬ويزداد غرض الدعوة وضوحا ً بقوله في (يونس)‪{ :‬أكان للنّاس عجبا ً أن أوحينا إلى رج ل‬
‫منهم أن أنذر النّاس وب ّشر الّذين آمنوا ّ‬
‫أن لهم قدم صدق عند ربّهم قال الكافرون ّ‬
‫إن هذا لساحر مبين} (ي ونس‪)2 :‬‬
‫وقوله {الذين آمنوا} ال يقتصر على الذين اتبعوا محمداً‪ ،‬بل يتناول الذين آمنوا بالكتب السابقة‪ ،‬وهذا التأكي د مؤي د‬
‫بآيات من السورة عينها كقوله‪{ :‬وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون هللا ولكن تصديق الّذين بين يديه وتفص يل‬
‫الكتاب ال ريب فيه من ربّ العالمين} (‪ )37‬وقوله {ولك ّل أم ة رس ول} (ي ونس‪ )48 :‬وق د أثبتن اه س ابقاً‪ .‬وقول ه‪:‬‬
‫ونن من‬ ‫ك م ّما أنزلنا إليك فاسأل الّذين يقرأون الكتاب من قبل ك لق د ج اءك الح ّ‬
‫ق من ربّ ك فال تك ّ‬ ‫{فإن كنت في ش ّ‬
‫‪61‬‬
‫الممترين} (يونس‪ )94 :‬وهذه اآلي ة تق ول ب الرجوع إلى الكتب المنزل ة من قب ل‪( :‬الت وراة واإلنجي ل) لالستش هاد‬
‫وتأييد صحة كالم القرآن ودعوته إلى هللا الحي وترك عبادة األصنام واإليمان بالبعث‪ .‬ويتلو التأييد كم ا في س ورة‬
‫(األنعام) بقوله {وهذا كتاب أنزلن اه مب ارك مص ّدق ال ذي بين يدي ه ولتن ذر أ ّم الق رى (مك ة) ومن حوله ا والّ ذين‬
‫يؤمنون باآلخرة يؤمنون به وهم على صالتهم يحافظون} (األنعام‪ )92 :‬وه ذا يع ني أن ال ذين آمن وا ب اآلخرة من‬
‫قبل في التوراة واإلنجيل يؤمنون ب القرآن أيض ا ً ألن ه مص ّدق لم ا معهم‪ ،‬وال يت وجب عليهم تغي ير "ص التهم" أو‬
‫طرق دينهم ألن القرآن ال ينقضها‪ .‬وهو يخ اطب األنبي اء ق ائالً‪ّ :‬‬
‫{إن ه ذه أ ّمتكم أ ّم ة واح دة وأن ا ربّكم فاعب دون}‬
‫(األنبياء‪ )92 :‬وجميع هذه اآليات وطائفة كبيرة غيرها‪ ،‬منها ما ذكرناه في ما سبق ومنها ما لم نذكره‪ ،‬يؤي د قولن ا‬
‫أن أغراض الدين األصلية وهي التي عددناها في البحث السابق ليست مما لم يوجد إالّ بالقرآن‪ ،‬وإن القرآن بالذات‬
‫يعترف بأن غرض الدين وجد من قبل بما نزل من الكتب السابقة التي تقدمت القرآن والتي يجب أن يك ون الق رآن‬
‫مطابقا ً لها ليص ّح أن يشهد (الذين يقرأون الكتاب) بأنه "الحق من ربك"‪ ،‬أي مطابقا ً له ا في أس اس ال دعوة إلى هللا‬
‫وفع ل الخ ير وت رك الش ر واإليم ان ب اآلخرة‪ ،‬وليس في م ا اختل ف في ه الن اس في ص فات الرس ل ومن ازلهم‪.‬‬

‫بناء عليه يص ّح كل الصحة القول إن أغراض الدين األساس ية أو الجوهري ة ال تي دع ا إليه ا اإلس الم تتم بواس طة‬
‫المحمدية والمسيحية معاً‪ ،‬وإلى حد ما اليهودية أيضاً‪ .‬والقرآن ال يقول نقيض ذلك‪ .‬ولكن الرس الة المحمدي ة انتقلت‬
‫من حالة الدعوة إلى اإليمان بها إلى حالة الجهاد ضد المشركين ال ذين قاوموه ا‪ ،‬وهم عب دة األوث ان ال ذين وجّهت‬
‫إليهم الدعوة في األصل‪ ،‬إلخضاعهم للدين بالقوة‪ ،‬ألن التبشير واإلن ذار لم ي ؤثرا فيهم فلم ينته وا عم ا ك انوا في ه‪.‬‬
‫ولما لم تجد الرسالة المحمدية تأيي داً كلّي ا ً من اليه ود والمس يحيين في العرب ة‪ ،‬ب ل وج دت مقاوم ة‪ ،‬خصوص ا ً من‬
‫اليهود‪ ،‬صار ال ب ّد من اعتبارهم خصوما ً يجب حملهم على االعتراف بصحة الرس الة واإليم ان به ا من حيث هي‬
‫مص ّدقة لما معهم‪ .‬وهذا الخالف هو من الشؤون المذهبية في الدين‪ ،‬وليس في أغراض ال دين األساس ية ال تي دع ا‬
‫إليها اإلس الم؛ فال يص ّح مطلق ا ً الق ول أن ه بس بب ه ذا الخالف ق د انتفى أن (يك ون ال دين كل ه هّلل ) إالّ عن طري ق‬
‫المحمدية باالحتجاج بآيات مدنية ال يجوز القول إنها نسخت اآلي المكية‪ ،‬ألنه إذا جاء القول بالنسخ أصبح قسم من‬
‫الكتاب أو كله باطالً‪ ،‬والقرآن يوجب اإليم ان بالك ل‪ ،‬عمالً بم ا ج اء في س ورة البق رة {افتؤمن ون ببعض الكت اب‬
‫رون ببعض}‪.‬‬ ‫وتكف‬

‫ولكن هناك خالفا ً آخر مع اليهود حول تحريفهم التوراة‪ ،‬والرسالة المحمدية صادقة فيه‪ ،‬فقد ثبت أن اليه ود عبث وا‬
‫بالتوراة‪ ،‬ولم نقف على ثبوت أن ذلك العبث كان بقصد حذف اسم محمد منها‪ ،‬ولكن تحريف التوراة صار مس تنداً‬
‫قويا ً للرسالة المحمدية ضد اليهود‪ .‬وال حاجة لإلطالة في هذا الموق ف ألن اليهودي ة‪ ،‬كم ا بين ا في البحث الس ابق‪،‬‬
‫تخ رج من كونه ا رس الة خ ير ع ام‪ ،‬وال يج وز‪ ،‬من ه ذه الناحي ة‪ ،‬وض عها على مس توى واح د م ع المس يحية‬
‫‪62‬‬
‫ة‪.‬‬ ‫والمحمدي‬

‫تبقى مسألة الخالف بين هذين المذهبين على ع دم تأيي د المس يحيين لرس الة محم د‪ ،‬وعلى ص فة المس يح‪ ،‬وبعض‬
‫األمور األخرى فنفرد لذلك البحث التالي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫مدار الخالف بين المحمدية والمسيحية‬


‫ال شك‪ ،‬مهما كان قليالً‪ ،‬في أن الرسالة المحمدية تؤيد الرسالة المسيحية تأييداً تام اً‪ ،‬مطلق ا ً من ك ل قي د أو ش رط‪،‬‬
‫وأنها تع ّد نفس ها مكمل ة له ا عن د ال ذين لم ي أتهم ن ذير من قب ل‪ ،‬أي عن د ال ذين لم تش ملهم الرس الة المس يحية‪ .‬أم ا‬
‫المؤمنون بهذه الرسالة فال يطلب منهم اإلسالم المحمدي سوى االعتراف بأن ه ال دين الحقيقي المص ّدق لرس التهم‪.‬‬
‫واآليات القرآنية التي تقيم البرهان القاطع على هذه الحقيقة كثيرة‪ ،‬وم ا تق دم لن ا إثبات ه منه ا يكفي لقط ع ك ل ق ول‬
‫بابه؟‬ ‫ا هي أس‬ ‫تين‪ ،‬وم‬ ‫أ الخالف بين الملّ‬ ‫و منش‬ ‫اه‬ ‫الف‪ .‬فم‬ ‫مخ‬

‫رأينا‪ ،‬في ما تقدم‪ ،‬أن القرآن اتخذ صفة التسبيح والترنّم في عظمة وقدرة هللا ال ذي تق دمت الق رآن كتب س ابقة في‬
‫إثبات وجوده والدعوة إلى العمل بمشيئته‪ ،‬واإلنذار بيوم حسابه؛ وأن القرآن ص ّدق هذه الكتب وجعلها ش اهدة على‬
‫ّ‬
‫ولكن السيرة المحمدية‪ ،‬التي ال بد من التحقيق فيها واالستناد إليها لفهم آي القرآن وأغراض ها‪،‬‬ ‫صحة دعوة محمد‪.‬‬
‫تخبرنا أن اليهود والمسيحيين في العربة أخذوا ينتقدون اعتبار محم د نفس ه رس والً من عن د هللا‪ ،‬وينتق دون بعض‬
‫اآلي ات‪ ،‬ويرفض ون تأيي د رس الته؛ ف اليهود ا ّدع وا أن هللا وع دهم بإرس ال مس يحهم ال ذي يُعي د مج د إس رائيل‪،‬‬
‫ول‪.‬‬ ‫ب ّي أو رس‬ ‫يح ن‬ ‫د المس‬ ‫أتي بع‬ ‫ّح أن ي‬ ‫ه ال يص‬ ‫الوا إن‬ ‫يحيون ق‬ ‫والمس‬

‫مع ذلك فقد وجد المسيحيون أن دعوة محمد كانت موافق ة العتق ادهم اإللهي‪ ،‬فلم يكن م وقفهم من الش دة كغ يرهم‪.‬‬
‫وأكثر المقاومة كانت من صناديد قريش‪ ،‬فهؤالء اتّهم وه بع دم ص حة ادعائ ه ال وحي‪ ،‬ونس بوا إلي ه االقتب اس عن‬
‫التوراة واإلنجيل والتلقّن‪ ،‬تشهد بذلك آيات عديدة كهذه‪{ :‬وقال الّذين كفروا إن هذا إالّ إفك افتراه وأعانه علي ه ق وم‬
‫آخرون فقد جاءوا ظلما ً وزوراً‪ .‬وقالوا أساطير األوّلين اكتتبه ا فهي تملى علي ه بك رة وأص يالً} (الفرق ان‪4 :‬و‪.)5‬‬
‫وقد ثبت أن محمداً كان يسمع قراءة الت وراة واإلنجي ل في مك ة‪ ،‬وأن ه ك ان بمك ة رجالن يص نعان الس يوف‪ ،‬اس م‬
‫أحدهما جبر‪ ،‬واسم اآلخر يسار‪ ،‬وكانا يقرآن التوراة واإلنجيل‪ ،‬وكان محمد يم ّر عليهما فيقرآن ل ه ويس مع (انظ ر‬
‫شرح سورة النحل للبيضاوي)‪ .‬وقد استنزل الرسول آيات كثيرة لتأيي د أن م ا يقول ه وحي ي نزل علي ه‪ ،‬منه ا ه ذه‪:‬‬

‫‪63‬‬
‫{ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشر لسان الّذي يلحدون إليه أعجمي وه ذا لس ان ع رب ّي م بين} (النح ل‪)103 :‬‬
‫ق من ربّك لتنذر قوما ً م ا أت اهم من‬
‫{الم‪ ،‬تنزيل الكتاب ال ريب فيه من ربّ العالمين‪ ،‬أم يقولون افتراه‪ ،‬بل هو الح ّ‬
‫نذير من قبلك لعلّهم يهتدون} (السجدة‪2 :‬و‪ )3‬وهذه اآلية من أوضح اآليات التي ت بين أن محم داً ك ان رس والً إلى‬
‫الذين لم يأتهم رسول من قبل في الدرجة األولى‪ ،‬أي العرب‪ ،‬ليدعوهم إلى هللا الذي سبقت الكتب األخرى بال دعوة‬
‫إليه‪ ،‬وليص ّدق تلك الكتب‪ .‬وهو ما عنين اه من اختص اص الرس الة ب العرب من غ ير أن ينقض ذل ك اش تراكها م ع‬
‫الرساالت السابقة وتأييدها في دعوة الناس أجمعين إلى أغراض الدين األخيرة‪ .‬واآلي ات القرآني ة ال تي ت أتي به ذا‬
‫المعنى كثيرة حتى ال يبقى أ ّ‬
‫ي شك في ه ذا التعلي ل‪ ،‬وق د أوردن ا بعض ها في أبح اث س ابقة وفي م ا تق دم من ه ذا‬
‫البحث‪ ،‬ونورد هنا آيات أخرى‪{ :‬وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر ّ‬
‫كذاب‪ .‬أجعل اآللهة إلها ً‬
‫إن هذا لشيء عجاب} (ص‪4 :‬و‪ )5‬وهذه اآلية موجهة خصيصا ً إلى الذين لم يعرفوا هللا وما يزالون يعبدون‬
‫واحداً ّ‬
‫األصنام‪ .‬ومثلها قوله‪{ :‬هو الّذي بعث في األميّين رسوالً منهم يتلو عليهم آياته ويز ّكيهم ويعلّمهم الكت اب والحكم ة‬
‫وإن كانوا من قبل لفي ضالل مبين} (الجمعة‪ )2 :‬فاأل ّميون الذين كانوا من قبل لفي ضالل مبين هم العرب خاصّة‬
‫بال ريب‪{ .‬وما كنت بجانب الطّور إذ نادينا ولكن رحم ة من ربّ ك لتن ذر قوم ا ً م ا أت اهم من ن ذير من قبل ك لعلّهم‬
‫يتذ ّكرون} (القصص‪ .)46 :‬ومعنى هذه اآلية أن ه وإن لم يكن محم د حاض راً من اداة هللا لموس ى فق د ّ‬
‫من هللا علي ه‬
‫بالوحي رحمة بقوم ما أتاهم نذير من قبل‪ .‬وهذا يعني أنه لم يكن في بدء الرسالة المحمدية أ ّ‬
‫ي اتجاه لالصطدام م ع‬
‫الموس ويين أو المس يحيين في ن زاع على ادع اء ص حة الرس الة أو نقض التع اليم‪ ،‬ب ل ك ان االتج اه لالتف اق على‬
‫القضاء على عبادة األصنام في العربة‪ .‬ولكن لم يكن ب ّد من اصطدام المعتق دات في األخ ير كم ا بيّن ا آنف اً‪ ،‬ألن ه لم‬
‫يمكن الموس ويين التس ليم بتع دد الكتب المقدس ة‪ ،‬وال المس يحيين التس ليم بتع ّدد ال دعوات‪ .‬ولكن االش تراك في‬
‫األغراض الدينية البحت المشار إليها سابقا ً خفف كثيراً من االصطدام‪ .‬أما المشركون أو عبدة األصنام فلم يكن من‬
‫سبيل لتخفيف االصطدام والنزاع معهم‪ ،‬فوجهوا إليه انتقادات الذع ة‪ ،‬ونس بوا إلي ه الس حر واله ذيان والجن ون في‬
‫ا ً إليهم‪.‬‬ ‫والً مخلص‬ ‫ان رس‬ ‫هك‬ ‫حين أن‬

‫وحدثت في أثناء الدعوة حوادث جعلت الشك في الوحي يتسرّب ح تى إلى ال ذين آمن وا بالرس الة‪ ،‬فك ان من جمل ة‬
‫اآليات التي استنزلها الرسول لدحض مزاعمهم هذه اآلية‪{ :‬ومن أظلم م ّمن افترى على هللا كذبا ً أو ق ال أوحي إل ّي‬
‫ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل هللا ولو ترى إذ الظّالمون في غم رات الم وت والمالئك ة باس طو‬
‫أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على هللا غير الح ّ‬
‫ق وكنتم عن آيات ه تس تكبرون}‬
‫(األنعام‪ )93 :‬وذلك ّ‬
‫أن عبد هللا بن سعد بن أبي سرح كان يكتب وحي النبي‪ ،‬فلما نزلت آي ة {ولق د خلقن ا اإلنس ان‬
‫من ساللة من طين} وبلغ قوله {ثم أنشأناه خلقا ً آخر} قال عبد هللا‪" :‬فتبارك هللا أحس ن الخ القين" فق ال ل ه محم د‪:‬‬
‫"اكتبها فكذلك نزلت" فشك عبد هللا وقال‪" :‬لئن كان محمد صادقا ً لقد أوحي إل ّي كما أوحي إليه‪ ،‬وإن كان كاذبا ً لق د‬
‫‪64‬‬
‫قلت كما قال"‪ ،‬فنزلت اآلي ة الم ذكورة أعاله لتكذيب ه وتك ذيب غ يره كمس يلمة واألس ود العنس ي وغيرهم ا ال ذين‬
‫ة‪.‬‬ ‫ا ً دامي‬ ‫ه حروب‬ ‫اومتهم ل‬ ‫أوجبت مق‬

‫يتّضح في كل ما تقدم‪ ،‬في ما يعني المسيحية والمحمدية من الدعوة المحمدية وأغراض ها‪ ،‬أن ه ذه ال دعوة لم ت دع‬
‫إلى أمر واحد من األمور الدينية الصحيحة مخالف لتعاليم اإلسالم المسيحي‪ ،‬بل إن الق رآن أيّ د الرس الة المس يحية‬
‫بآيات كثيرة‪ ،‬ودعا القرآن المؤمنين باإلنجيل ليحكموا "بما أنزل هللا فيه" من غ ير زي ادة أو نقص ان أو م ا ي وجب‬
‫تغيير "صالتهم" وتعاليم دينهم‪ .‬فالخالف نشأ‪ ،‬باألكثر‪ ،‬من موقف المسيحيين العرب من محمد‪ ،‬بل أعظم م ا ك ان‬
‫مع اليهود الذين أخذوا يخادعون النبي في المدينة‪ ،‬فكان إذا انتصر على المشركين وعاد غانم ا ً يقول ون إن ه الن بي‬
‫المنعوت في التوراة بالنصرة‪ ،‬فلما انكسر يوم أحد نكثوا العهد معه على أن ال يكون وا ل ه وال علي ه‪ ،‬وخ رج كعب‬
‫بن األش رف في أربعين راكب ا ً منهم إلى مك ة وح الفوا أب ا س فيان‪ ،‬فأرس ل الن بي أخ ا كعب من الرض اعة فقتل ه‬
‫وصبحهم بالكتائب وحاصرهم حتى صالحوا على الجالء‪ ،‬فنزلت اآلي ة‪{ :‬ه و ال ذي أخ رج ال ذين كف روا من أه ل‬
‫الكتاب من ديارهم ألوّل الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنّوا أنهم ما نعتهم حص ونهم من هللا فأت اهم هللا من حيث لم‬
‫يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرّعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ف اعتبروا ي ا أولي األبص ار} (الحش ر‪.‬‬
‫مدنية‪ )2 :‬وهذه اآلية والتي تقدمتها هم ا من أش د األدلّ ة ص حة على ارتب اط اآلي ات القرآني ة ب الحوادث الجاري ة‪.‬‬

‫وإذا كان محمد وجد من موقف المسيحيين ما أوجب عدم رضاه وعدم رض ى ال وحي ف إن المس يحيين وج دوا في‬
‫بعض تعليقات القرآن على اعتقادهم في المسيح سببا ً كافي ا ً لع دم تأيي ده‪ .‬وق د يك ون هنال ك س بب آخ ر س ابق له ذا‬
‫السبب هو كون القرآن ابتدأ بذكر التوراة وموسى وإبراهيم ولم يذكر اإلنجيل والمسيح منذ البدء ورؤية المسيحيين‬
‫القرآن يجاري التوراة أكثر مما يجاري اإلنجيل في البدء‪ .‬وأن أول إشعار التصال القرآن بالمسيحية كان في اآلي ة‬
‫النافية كون هللا ولد ولداً واتخذ صاحبة‪ ،‬وهي من سورة "الجن"‪ ،‬وقد أثبتناها في البحث السابق؛ ولم نحقق في ه ل‬
‫كان نفي كون المسيح ابن هللا سبب إعراض المسيحيين عن دعوة محمد وعن تأييده‪ ،‬أم هل كان موقف المس يحيين‬
‫باعثا ً على اتخاذ الرسالة المحمدية خطة المقاومة لبعض معتق داتهم‪ ،‬أو ه ل ك ان نفي بنوي ة المس يح أم راً مس تقالً‬
‫أوجد سببا ً آخر للخالف‪ .‬ومهم ا يكن من ش يء فالث ابت من ت دبّر الق رآن كل ه أن الرس الة المحمدي ة ع ّدلت مع نى‬
‫اآليات القائلة بعدم والدة المسيح من هللا بإعطاء وصف لكيفية حمل م ريم يمكن أن يُ َع َّد أم راً وس طا ً بين االعتق اد‬
‫ّ‬
‫بأن المسيح ابن هللا ونفي صلة المسيح بذات هللا‪ ،‬وهو القول إنه ولد "من روح هللا"‪ .‬وعلى هذا األم ر وح ده ي دور‬
‫كل الخالف العقائدي الديني بين المسيحية والمحمدية‪ .‬أما التعاليم المسيحية فال يق ول الق رآن بمخالف ة ش يء منه ا‪،‬‬
‫بل‪ ،‬بالعكس‪ ،‬هو يثبتها ويقول إنها كالم هللا المنزل‪ ،‬وبهذا القول يُرفع ك ل احتم ال الختالف المحمدي ة والمس يحية‬
‫على أغراض الدين‪ ،‬وتبطل كل حجة للذين لم يفهموا من الرس الة المحمدي ة غ ير حب التغلّب والطم ع في الدول ة‬
‫‪65‬‬
‫والسلطان ومنافعهما‪ ،‬القائلين أنه ال يتم الدين إالّ باستظهار اإلس الم المحم دي على غ يره من "األدي ان" وبالعم ل‬
‫ببعض آيات الكتاب دون البعض اآلخر‪ .‬فالدين وأغراضه األخيرة تكمل حسب قول القرآن باإليمان بم ا أن زل من‬
‫ل‪.‬‬ ‫ان باإلنجي‬ ‫ديين اإليم‬ ‫لمين المحم‬ ‫و يحتم على المس‬ ‫د‪ ،‬وه‬ ‫ل ومن بع‬ ‫قب‬

‫انحصر الخالف بين المحمدية والمسيحية في أمر واحد من جهة المحمديين وأمر واح د من جه ة المس يحيين‪ ،‬وال‬
‫نقول المسيحية‪ ،‬ألن اإلنجيل‪ ،‬من حيث هو سابق للقرآن‪ ،‬لم يعرض ل ه فاقتص ر األم ر على معتق دات المس يحيين‬
‫في ص دد محم د ورس الته‪ ،‬وليس على كالم اإلنجي ل في محم د‪ .‬ف األمر األول ه و مخالف ة الق رآن اعتق اد معظم‬
‫المسيحيين في صفة المسيح وص فة هللا‪ ،‬واألم ر الث اني ع دم إيم ان المس يحيين برس الة محم د وبأن ه ن ب ّي حقيقي‪.‬‬
‫ة‪:‬‬ ‫رات التالي‬ ‫رين في الفق‬ ‫ذين األم‬ ‫نبحث ه‬ ‫وس‬
‫قلنا‪ ،‬في البحث السابق‪ ،‬أن أول تلميح في القرآن إلى المس يح أو المس يحية ك ان اس تنكاراً لص فة المس يح وعالقت ه‬
‫باهلل‪ ،‬وذلك في اآلية‪{ :‬وأنّه تعالى ج ّد ربّنا ما اتّخ ذ (هللا) ص احبة وال ول داً} (الجن‪ )3 :‬ف إذا حقّقن ا في ه ذا الق ول‬
‫وجدنا أن العقل العربي‪ ،‬نظراً لحالة البداوة وانعدام الثقافة العقلية‪ ،‬لم يس تطع أن يتص ور ك ون المس يح ابن هللا إالّ‬
‫بأن يكون هللا قد تزوّج امرأة أو "اتخذ صاحبة" ولدت له ابناً‪ ,‬وهذا لو ص ّح أنه معتقد لكان إنزاالً هّلل عن مقام ه‪ ،‬إذ‬
‫هو غير محتاج‪ ،‬مع قدرته‪ ،‬ألن يتخ ذ ص احبة ش أن الرج ال الع اديين فيتزوجه ا وتل د ل ه ول داً على س نّة البش ر‪،‬‬
‫وصحة ه ذا التحلي ل للعقلي ة العربي ة تتض ح من قول ه‪ :‬تع الى ج د ربن ا أي أن هللا أعلى من أن يك ون هك ذا ش أنه‬
‫وصفته‪ .‬وال خالف بين اإلنجيل والق رآن في ذل ك وال بين المس يحيين والمحم ديين في ه‪ .‬فالمس يحيون ال ذين ق الوا‬
‫بالتثليث منهم‪ ،‬والذين قالوا بالتوحيد أو بالتثنية (بالطبيعتين أو بالمشيئتين) ال يقولون أو يعنون أن هللا اتخذ صاحبة‬
‫وتزوج امرأة لتلد له‪ ،‬ولكنهم قبل وا رواي ة اإلنجي ل أن م ريم حبلت من ال روح الق دس بمش يئة هللا من غ ير تع يين‬
‫لكيفية حصول الحمل ومن غير أي دخول في المسائل البيولوجية كوجوب حصول اللقاح؛ وهم لم يأخ ذوا الوجه ة‬
‫البيولوجية بعين االعتب ار تنزيه ا ً لق درة الخ الق عن الحاج ة إلى الفع ل ال بيولوجي وإعالء لج ده عن ش أن الن اس‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة البيولوجي‬ ‫والدة إالّ على الطريق‬ ‫درة لهم على ال‬ ‫ذين ال ق‬ ‫وقين" ال‬ ‫"المخل‬

‫ولذلك كانت مس ألة والدة م ريم الع ذراء المس يح من العج ائب الدال ة على ق درة هللا ونف اذ مش يئته‪ .‬وه ذه ال والدة‬
‫العجائبي ة عن دهم هي من أق وى مس تندات اعتق ادهم بألوهي ة المس يح‪ ،‬أي بحل ول روح هللا في جس ده أو حل ول‬
‫الالهوت في الناسوت‪ .‬وليس في هذا االعتقاد عند المس يحيين أ ّ‬
‫ي إن زال لق درة هللا أو تفك ير بأن ه "اتخ ذ ص احبة"‬
‫شأن الرجال العاديين؛ ولكن ال يبعد أن يك ون ظه ر ش يء من ه ذا التفك ير عن د بعض الع رب ال ذين قبل وا ال دين‬
‫المسيحي وفسّروه حسب عقليتهم الفطرية غير المثقّفة‪ .‬وفي ه ذه الحال ة يك ون كالم الق رآن موجه ا ً إليهم من دون‬
‫المسيحيين المتمدنين‪ ،‬وهذا هو األرجح من حيث اعتب ار ص حة ال وحي النب وي‪ ،‬وان ه موج ه إلى الع رب خاص ة‬
‫‪66‬‬
‫وبلسانهم‪ .‬أما من الوجهة العلمية البحت‪ ،‬التي تطلب لكل مسبب سبباً‪ ،‬فاآلية القرآنية نفسها تص ف طريق ة التفك ير‬
‫العربي غير المثقف‪ ،‬فهي إما مطابقة للعقلية العربية وإما محللة له ا‪ ،‬وهي‪ ،‬في ك ل ح ال‪ ،‬مختص ة بطريق ة الفهم‬
‫العربي الذي ضيقت الطبيعة القاسية على أفقه الروحي‪ .‬واالعتقادات المس يحية الروحي ة ال ت دخل تحت حكم ه ذه‬
‫اآلية‪ ،‬ألنها كلها تن ّزه هللا عن الفعل البيولوجي وال تناقش قدرة هللا على إرسال روحه بش كل حمام ة أو ب أي ش كل‬
‫ريم‪.‬‬ ‫اء م‬ ‫تقر في أحش‬ ‫ر ليس‬ ‫آخ‬

‫سأل رجل مالك بن أنس‪ ،‬أحد مؤسسي المدارس األربع في المحمدية‪ ،‬عن قوله في القرآن‪{ :‬الرّحمن على العرش‬
‫استوى} (طه‪ )5 :‬كيف هذا االستواء؟ فأجاب مالك‪" :‬االستواء معقول والكيف مجهول وال أظنك إالّ رجل س وء"‪.‬‬

‫هذا السؤال والجواب يدالننا على أن المسلمين المحمديين األولين لم يتعرضوا لدرس القرآن دراسة علمي ة‪ ،‬فقبل وا‬
‫الصور الشعرية قبولهم األوصاف الحدثية والتعليالت المنطقية‪ .‬فالقول‪" :‬الرحمن على العرش استوى" ي دخل في‬
‫الصفة الشعرية التي حللناها في البحث السابق‪ ،‬وهو منه باب قوله‪" :‬خلق من علق وعلّم بالقلم" وال لزوم إلحالل ه‬
‫ّ‬
‫ولكن جواب مالك يفتح باب القياس في االعتبارات‬ ‫في محل التقرير الحدثي التاريخي أو في محل التعليل الفلسفي‪.‬‬
‫الدينية‪ ،‬فإذا كان يص ّح في المحمدية أن تكون أفعال هللا معقولة وكيفياتها مجهولة‪ ،‬فلماذا يجب أن ال يص ّح ذل ك في‬
‫ّ‬
‫ليتجس د‬ ‫المسيحية؟ فإذا كان هللا قادراً على كل شيء‪ ،‬فلماذا ال يكون قادراً على التجسد أو على إرسال روح القدس‬
‫في شكل إنسان من غ ير وج وب تع يين كيفي ة ح دوث التجس د؟ وإذا ك ان هللا ال يق در على التجس د‪ ،‬حس ب بعض‬
‫المعتقدات الدينية‪ ،‬فقدرته لم تعد كلّي ة‪ ،‬ب ل أص بحت مح دودة‪ ،‬وأص بحت جمي ع الخ وارق المنس وبة إلي ه ك الخلق‬
‫والبعث باطلة‪ ،‬وبالتالي أصبح هو باطالً (نذ ّكر القارئ أننا ال نتعرض هنا ألمر ثبوت المعتقدات الدينية أو زوالها‪،‬‬
‫فال نعرض إلثبات أو نفي حلول روح هللا في جوف مريم العذراء‪ ،‬وال إلثب ات أو نفي أزلي ة الق رآن وتنزيل ه‪ ،‬ب ل‬
‫ط)‪.‬‬ ‫ادات فق‬ ‫ات أو االعتق‬ ‫ة بعض االفتراض‬ ‫نبحث منطقي‬

‫وقد استمر القرآن يرفض االعتراف باعتقاد المسيحيين أن المسيح هو ابن هللا الوحيد‪ ،‬فوردت في ذلك آيات عديدة‬
‫بمعنى اآلية السابقة كقوله‪{ :‬بديع السّموات واألرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له ص احبة وخل ق ك ّل ش يء وه و‬
‫بك ّل شيء عليم} (األنعام‪{ )101 :‬ما كان هلل أن يتّخذ من ولد سبحانه إذا قض ى أم راً فإنّم ا يق ول ل ه كن فيك ون}‬
‫(مريم‪{ )35 :‬وقل الحمد هلل الذي لم يتّخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك الخ} (اإلسراء‪{ )111 :‬ما اتّخذ هللا من‬
‫ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب ك ّل إله بما خلق ولعال بعضهم على بعض سبحان هللا ع ّما يصفون} (المؤمنون‪:‬‬
‫‪ )91‬وهذه اآلية األخيرة هي مظهر آخر من مظاهر العقلية العربية في فهم اعتقاد المسيحيين كون المسيح ابن هللا‪،‬‬
‫وانه‪ ،‬لذلك‪ ،‬إله‪ .‬فالمسيحيون ال يقولون بألوهية للمسيح منفصلة عن ألوهية هللا‪ ،‬وب إرادة ل ه مس تقلة عن إرادة هللا‪،‬‬
‫‪67‬‬
‫ل‪.‬‬ ‫ذا التأوي‬ ‫اد ه‬ ‫رب من أوّل االعتق‬ ‫يحيي الع‬ ‫د بين مس‬ ‫ون وج‬ ‫د يك‬ ‫ولكن ق‬

‫ومع استمرار القرآن في إنكار ألوهية المسيح فقد طرأ‪ ،‬في سياق الدعوة المحمدية‪ ،‬تعديل كبير في النظ رة األولى‬
‫الواردة في آية سورة "الجن" واآليات الشبيهة بها‪ ،‬وهذا التعديل ي ّدل على حدوث اتصال أقرب باإلنجيل‪ .‬وأول ما‬
‫يظهر هذا التعديل في سورة "مريم" وهي نزلت بعد "الجن" بثالث سور‪ .‬فانظر ه ذا التع ديل ال ذي يمكن أن يُ َع ّد‬
‫نقيضا ً لما ورد في سورة "الجن" إذ فيه صورة مجازية تجعل هللا بمق ام زوج م ريم‪{ :‬واذك ر في الكت اب م ريم إذ‬
‫انتبذت من أهلها مكانا ً شرقياً‪ .‬فاتّخذت من دونهم حجابا ً فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً‪ .‬ق الت إنّي أع وذ‬
‫لك غالما ً زكيًا‪ .‬ق الت أنّى يك ون لي غال ٌم ولم يمسس ني‬
‫بالرّحمن منك إن كنت تقيّاً‪ .‬قال إنّما أنا رسول ربّك ألهب ِ‬
‫ك بغيًّا‪ .‬قال كذلك قال ربّك ه و عل ّي هيّن ولنجعل ه آي ة للنّ اس ورحم ة منّ ا وك ان أم رًا مقض يًّا‪ .‬فحملت ه‬
‫بش ٌر ولم أ ُ‬
‫فانتب ذت ب ه مكانً ا قص يّاً‪ . . .‬ذل ك عيس ى ابن م ريم ق ول الح ق ال ذي في ه يم ترون} (م ريم‪ 16 :‬ـ ‪ 22‬ـ ‪.)34‬‬
‫هذه اآليات تد ّل على عالقة وثيقة بإنجيل متى وإنجيل لوقا ومن التدقيق فيها يتضح لنا‪:‬‬

‫أن القرآن اعترف بصحة رواية اإلنجيل لكون والدة المسيح حدثت بصورة إلهية مباشرة خارقة لجميع السنن‬
‫السارية على اإلنسان والحيوان‪ ،‬يؤيد ذلك قوله‪" :‬ولنجعله آية للناس" فاآلية هي العجيبة أو المعجزة اإللهية‪.‬‬

‫أن قوله "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً" تجعل عالقة مباشرة وثيقة بين هللا ومريم‪ ،‬وهو‪ ،‬مع قوله‬
‫"وكان أمراً مقضيا ً فحملته الخ"‪ ،‬يعد اجتهاداً في إعادة تصوير حادث الحمل بصورة موافقة لرواية اإلنجيل‬
‫ومقبولة للعقل العربي من حيث تتضمن المعنى البيلوجي‪.‬‬

‫إن هذه اآليات توافق قول متى إن مريم "وجدت حبلى من الروح القدس" وما ورد في إنجيل لوقا من المحاورة‬
‫بين المالك جبرائيل ومريم‪ ،‬ولكنها تضع روح هللا في مكان جبرائيل‪.‬‬

‫بناء عليه تكون هذه اآليات قد أزالت كل خالف بين القرآن واإلنجيل على صفة المسيح‪ ،‬ألن محص لها يواف ق ك ل‬
‫الموافقة الرواي ة اإلنجيلي ة ومعتق دات المس يحيين‪ ،‬وال يوج د مس يحي واح د يرفض ها‪ .‬وم ع ذل ك‪ ،‬وم ع وض وح‬
‫االعتراف بوالدة المسيح بمشيئة هللا ومن اتصال روح ه بم ريم مباش رة‪ ،‬ف إن الق رآن لم يواف ق على االس تنتاج أو‬
‫االعتراف بأن ذلك يعني أن المسيح هو ابن هللا الوحيد أي المولود منه فيلح ق باآلي ات الم ذكورة آي ة أخ رى ت أتي‬
‫رأسا ً بعد آية "ذلك عيسى ابن مريم الخ" وهي قوله "ما كان هلل أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنم ا يق ول‬
‫ون"‪.‬‬ ‫ه كن فيك‬ ‫ل‬

‫وقد ورد في القرآن‪ ،‬بعد التعديل المذكور‪ ،‬تعديل آخر هو أش ّد نقضا ً آلية "الجن" وأقرب إلى تعلي ل والدة المس يح‬
‫اإلنجيلية بطريقة أكثر قبوالً للعقل العربي‪ ،‬وذل ك قول ه {وال تي أحص نت فرجه ا (م ريم) فنفخن ا فيه ا من روحن ا‬

‫‪68‬‬
‫وجعلناها وابنها آية للعالمين} (األنبياء‪ )91 :‬وهي بعد سورة "مريم" بسبع وعشرين سورة‪ ،‬ففي هذه اآلية إش ارة‬
‫واضحة إلى الجهاز التناسلي‪ .‬ويعود القرآن فيزيد هذا التعليل وضوحا ً بقوله‪{ :‬ومريم ابنة عم ران ال تي أحص نت‬
‫فرجها فنفخنا فيه من روحنا وص ّدقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من الق انتين} (التح ريم‪ )12 :‬فع وّض عن قول ه‪:‬‬
‫"فنفخنا فيها" بقوله "فنفخنا فيه"‪ .‬وهذا االتصال هلل بمريم هو أبعد كثيراً مما تذهب إليه رواية اإلنجيل وتص وّرات‬
‫المسيحيين المتمدنين‪ .‬وفي سورة "آل عمران" النازلة بعد "األنبياء" وقبل "التحريم" م ا ي دل على عالق ة بإنجي ل‬
‫يوحنا وهو قولُه‪" :‬إذ قالت المالئكة يا مريم إن هللا يبشرك بكلمة منه اس مه المس يح الخ" والكلم ة في تعلي ل يوحن ا‬
‫هي صفة هلل‪" :‬في البدء كان الكلمة‪ ،‬والكلمة كان عند هللا وكان الكلمة هللا‪ .‬هذا كان في البدء عند هللا‪ .‬والكلمة صار‬
‫ولكن القرآن يع ّدل هذه الفكرة‬
‫ّ‬ ‫جسداً وح ّل بيننا ورأينا مجده مجد وحيد من اآلب مملوءاً نعمة وحقاً" (إنجيل يوحنا)‬
‫في السورة عينها ويوضحها هكذا‪ّ :‬‬
‫{إن مثل عيسى عند هللا كمث ل آدم خلق ه من ت راب ث ّم ق ال ل ه كن فيك ون} (آل‬
‫عمران‪ )59 :‬وهذه اآلية ال تقصد إيضاح والدة المسيح‪ ،‬بل تقصد تأويلها‪ ،‬فكيفية مجيء المسيح آية من هللا وكلمته‬
‫مشروحة في سورة مريم وفي آيتي األنبياء والتحريم‪ .‬وفي جميع هذه اآليات أن هللا لم يخلق المسيح كما خل ق آدم‪،‬‬
‫إذ لم يجبله من تراب وينفخ فيه نسمة حياة بل "أرسل روحه إلى مريم" ومحصَّل آية "آل عمران" أن المسيح وإن‬
‫يكن ُولد بصورة خارقة وباتصال هللا بمريم فقيمة مجيئه على هذه الكيفية ليست أك ثر من قيم ة مجيء آدم ال ذي لم‬
‫يولد من تزاوج ولقاح‪ ،‬بل ُخلق خلقا ً ب إرادة هللا‪ .‬فالمس يح إذاً مخل وق بالمنزل ة ال تي ُخل ق به ا آدم ال أك ثر فيك ون‬
‫القرآن حافظ على القول األول الوارد في سورة الجن على الرغم من اآليات التي عدلت ه تع ديالً كب يراً كم ا رأيت‪.‬‬
‫ونأسف أن ال تكون ل دينا األدل ة التاريخي ة الكافي ة لتع يين ه ل أوجبت الح وادث التاريخي ة ه ذه المحافظ ة أم ه ل‬
‫أوجبتها النظرة المبدئية أو مبدأ المحافظة على صحة ما سبق أو مبدأ المفاضلة بين األنبياء والرسل ال ذي ب رز في‬
‫طور من أطوار القرآن ونما واتخذ شكالً واضحا ً م ع تق ُّدم الرس الة ظه ر ب القول بتفض يل "اإلس الم" على جمي ع‬
‫رى‪.‬‬ ‫ان" األخ‬ ‫"األدي‬

‫وخالصة هذه المخالفة المحمدية لصفة المسيح األخ يرة هي أنه ا مخالف ة غ ير ش ديدة وال جازم ة‪ ،‬إذ ق د ت بين من‬
‫النصوص القرآنية المثبتة آنفا ً أن القرآن أق ّر الرواي ة المس يحية لكيفي ة حم ل م ريم ووالدة المس يح‪ ،‬ولكنّ ه خ الف‬
‫المسيحيين في تأويل قيمة الحادث‪ ،‬فتكون هذه المخالفة بمثابة ش يعة من الش يع في المس يحية‪ ،‬وهي أق ّل بع داً عن‬
‫الشيع المسيحية من بعض الشيع المحمدية عن كلها كالرافضة‪ ،‬مثالً‪ .‬ف الخالف على التأوي ل وليس على الح دوث‪.‬‬

‫ويزداد هذا الخالف على التأويل في أواخر الوحي‪ ،‬ويبلغ أوجه في سورة "المائدة" بقوله‪{ :‬لقد كفر الذين قالوا ّ‬
‫إن‬
‫هللا هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من هللا شيئا ً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأ ّمه ومن في األرض جميعا ً‬
‫وهلل على ك ّل شيء قدير} (المائدة‪ )17 :‬وقول ه {م ا المس يح ابن م ريم إالّ رس ول ق د خلت من قبل ه الرّس ل وأ ّم ه‬
‫‪69‬‬
‫صديقة كانا يأكالن الطّعام انظر كيف نبيّن لهم اآليات ث ّم انظر أنّى يؤفكون} (المائدة‪ )75 :‬وقوله {لقد كف ر الّ ذين‬
‫ليمس ّن الّ ذين كف روا منهم ع ذاب أليم}‬
‫ّ‬ ‫إن هللا ثالث ثالثة وما من إله إالّ إله واحد وإن لم ينتهوا ع ّم ا يقول ون‬
‫قالوا ّ‬
‫(المائدة‪ )73 :‬واآلية األولى من هذه اآليات الثالث تنكر استنتاج المسيحيين أن المسيح هو هللا المتجسد‪ ،‬وهي تتفق‬
‫مع قوله "فنفخنا فيها من روحنا" ولكن االتفاق ليس تاما ً خصوصا ً مع قوله "فأرسلنا إليها روحنا فتمث ل له ا بش راً‬
‫سوياً"‪ .‬واآلية الثانية ال تشتمل على سوى القول باعتب ار المس يح في منزل ة رس ول‪ .‬واألخ يرة تظه ر االعتق ادات‬
‫التثليثية المسيحية كأنها تقول ّ‬
‫إن اآللهة ثالثة‪ ،‬مع أن هذه االعتقادات ال تقول بتثليث اآللهة‪ ،‬بل بتثليث األقانيم ال تي‬
‫هي أجزاء واح د‪ ،‬ألن هللا عن د المس يحيين واح د‪ ،‬والتثليث من ص فاته وليس من تع دده‪ .‬فال خالف بين المحمدي ة‬
‫والمسيحية في كون هللا واحداً‪ ،‬ولذلك قال القرآن {قول وا آمنّ ا بالّ ذي أن زل إلين ا وأن زل إليكم وإلهن ا وإلهكم واح د‬
‫لمون}‪.‬‬ ‫ه مس‬ ‫ونحن ل‬

‫وتكفير القرآن المسيحيين ليس من أجل دينهم وتعاليمه "صالتهم"‪ ،‬بل من أجل تع ّدد اآلله ة إن ص ح أنهم يقول ون‬
‫به‪ ،‬وقد ص ّح وثبت أنهم ال يقولون به‪ ،‬وأثبت القرآن أن إل ه المس يحيين والمحم ديين واح د‪ .‬يبقى أم ر تكف يرهم ال‬
‫بالتجس د‪ ،‬وه و ال يتن اول عقي دة التوحي د وال غرض ا ً واح داً من األغ راض الديني ة‬
‫ّ‬ ‫العتقادهم أن المس يح ه و هللا‬
‫األساس ية ال تي دع ا إليه ا اإلس الم‪ ،‬ب ل يتن اول مس ألة مق دار م ا يجب أن يس تنتج من والدة المس يح على الكيفي ة‬
‫المشروحة في اإلنجيل والقرآن‪ .‬وهو خالف مذهبي في الدين الواحد‪ ،‬وليس بين دين ودين‪ ،‬إذ هو ليس خالف ا ً م ع‬
‫اإلنجيل أو المسيح‪ ،‬بل مع طوائف المسيحيين ح ول التأوي ل ال ذي يجب أن يُعطى ل والدة المس يح‪ .‬وه ذه المس ألة‬
‫تشبه مسألة هل القرآن مخلوق أو غير مخلوق في المحمدية‪ .‬فإن اعتُبر القرآن لوحا ً مسطوراً منذ األزل أفال يمكن‬
‫االستنتاج من ذلك أن القرآن أقنوم من هللا أو غير ذلك من االعتقادات التي ال يوج د نص يمنعه ا بص ورة قاطع ة؟‬
‫ف كث يراً ه ذا الخالف باعتب ار أن كالم المس يح ه و كالم هللا إنم ا المس يحيون يقول ون إن هللا قال ه بالتجس د‪،‬‬
‫ويخ ّ‬
‫قة الخالف‪.‬‬ ‫رّب ش‬ ‫ة تق‬ ‫يح والنتيج‬ ‫ل على المس‬ ‫ول بالتنزي‬ ‫رآن يق‬ ‫والق‬

‫صلِب بالفعل أم لم يُصلب‪ ،‬فالقرآن ينفي صلب‬


‫وفي تطوّر الرسالة المحمدية يظهر خالف آخر في أمر المسيح هل ُ‬
‫المسيح مجاراة إلنجيل برنابا الذي روى سيرة المسيح بطريقة ّ‬
‫شاذة ظاهرة‪ ،‬فيها محاولة تحقير شخص ية المس يح‪.‬‬
‫ففي إنجيل برنابا أن المسيح‪ ،‬لما شعر باقتراب تسليمه وأن يه وذا ق ادم م ع جم ع من اليه ود أو الجن د‪ ،‬ه رب إلى‬
‫منزل واختبأ في حجرة‪ ،‬فدخل يهوذا األسخريوطي في أثره‪ ،‬فرفع هللا المسيح وألقى على يه وذا ن وراً جعل ه يش به‬
‫المسيح كل الشبه حتى لم يشك اآلتون للقبض على المسيح في أنه هو المسيح‪ ،‬فقبضوا عليه وهو يص يح ق ائالً إن ه‬
‫ليس المسيح‪ ،‬فلم يص ّدقوه وأخذوه وكل يقينهم أنهم قبضوا على المس يح‪ .‬وإلي ك ق ول الق رآن‪{ :‬وبكف رهم (اليه ود)‬
‫وقولهم على مريم بهتانًا عظي ًما‪ .‬وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن م ريم رس ول هللا وم ا قتل وه وم ا ص لبوه ولكن‬
‫‪70‬‬
‫ك منه ما لهم به من علم إالّ اتّباع الظّ ّن وما قتلوه يقينا ً بل رفعه هللا إلي ه وك ان‬
‫وإن الذين اختلفوا فيه لفي ش ّ‬
‫شبّه لهم ّ‬
‫ليؤمنن به قبل موت ه وي وم القيام ة يك ون عليهم ش هيداً} (النس اء‪157:‬ـ‬
‫ّ‬ ‫هللا عزي ًزا حكي ًما‪ّ .‬‬
‫وإن من أهل الكتاب إال‬
‫‪.)159‬‬

‫هذا هو وجه الخالف الوحي د‪ ،‬من جه ة اإلس الم‪ ،‬بين المس يحية والمحمدي ة‪ ،‬أوردن اه من غ ير تط وير ومن غ ير‬
‫إغفال لوجه واحد من وجوهه‪ ،‬ومنه يتبيّن‪ ،‬بصورة ال تبقي مجاالً للريب‪ ،‬أن المحمدية ال تنقض الرسالة المسيحية‬
‫وال تعاليمها‪ ،‬بل تثبتها وتع ّد اإلنجيل منزالً‪ ،‬أي كالما ً إلهياً‪ ،‬يتوجب على المحمديين أن يؤمنوا به‪ ،‬ونص وص ه ذا‬
‫دم‪.‬‬ ‫ا تق‬ ‫ها في م‬ ‫ا بعض‬ ‫د أثبتن‬ ‫ريحة‪ ،‬وق‬ ‫بيت ص‬ ‫التث‬

‫بناء عليه يمكن القول‪ ،‬بصورة جازم ة‪ ،‬إن أغ راض ال دين األساس ية تتم‪ ،‬من جه ة العقي دة المحمدي ة الص حيحة‪،‬‬
‫بالمحمدية والمسيحية معاً‪ ،‬فيكون الدين كله هلل بواسطتهما وبانتشارهما كل منهما في البيئات األكثر موافقة وقب والً‬
‫لتعاليمها‪ .‬أما ما ورد من النصوص التي يمكن أن تُ َؤ َّول بما يظهر أن ه ينقض ه ذا الحكم فتأويل ه الص حيح أن ه من‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة كدول‬ ‫ائص المحمدي‬ ‫خص‬

‫وهنالك اجتهادات وقعت في الغلط والشذوذ عن النصوص أجازت حسبان المسيحيين في عداد الكفار وأهل الشرك‬
‫استناداً على تكفير القرآن تأويل التجسُّد والتثليث‪ .‬وال شك في أن العق دة الك برى هي في ه ذه االجته ادات ال تي ال‬
‫تدبّر صحيح فيها للقرآن‪ .‬ومن هذه االجتهادات ما خلط بين الدين المسيحي والمل ة المس يحية‪ ،‬فك ل ذل ك باط ل في‬
‫{إن الّذين آمنوا والذين هادوا والص ابئون والنّص ارى من آمن باهلل والي وم اآلخ ر وعم ل ص الحا ً فال‬
‫حكم القرآن‪ّ :‬‬
‫خ وف عليهم وال هم يحزن ون} (المائ دة‪ )69 :‬وق د ذهبت الرس الة المحمدي ة إلى أبع د من ذل ك في م ا يختص‬
‫ولتجدن أق ربهم م و ّدة للّ ذين آمن وا ال ذين‬
‫ّ‬ ‫{لتجدن أش ّد النّاس عداوة للّذين آمنوا اليهود والّذين أشركوا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بالمسيحيين‬
‫أن منهم قسّيس ين ورهبان ا ً وأنّهم ال يس تكبرون} (المائ دة‪ )82 :‬ولكن أك ثر الش ارحين‬
‫ق الوا إنّ ا نص ارى ذل ك ب ّ‬
‫والمفسرين يقتلون النص ويع ّوجون الدين باجتهاداتهم‪ ،‬فقد شرح البيضاوي هذا الق ول ق ائالً‪" :‬وفي ه دلي ل على أن‬
‫التواضع واإلقبال على العلم والعمل واإلعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر"‪ ،‬فكأنه أبطل حكم ه ذه‬
‫اآلي ة وحكم اآلي ة الس ابقة القائل ة إن النص ارى مؤمن ون ب اليوم اآلخ ر‪ ،‬وكأن ه عمي عن آي ة س ورة (الحج) ال تي‬
‫{إن الّذين آمنوا والّذين هادوا والصّابئين والنّصارى والمجوس‬
‫أخرجت حتى المجوس من نطاق المشركين وهي‪ّ :‬‬
‫والّذين أشركوا ّ‬
‫إن هللا يفصل بينهم يوم القيامة ّ‬
‫إن هللا على ك ّل ش يء ش هيد} (الحج‪ ،)17 :‬وإن ه ذه اآلي ة هي من‬
‫جملة آيات كثيرة تأمر بترك الحكم والفصل بين أهل األدي ان في م ا اختلف وا في ه هلل وح ده‪ ،‬وهي تُبط ل ك ل حج ة‬
‫للذاهبين مذهب أن (اإلسالم) ال يتم إالّ بمغالبة أهل (األديان) األخ رى‪ ،‬وإن كم ال اإليم ان عن د المحم ديين يك ون‬
‫‪71‬‬
‫بالميل إلى التغلب على سواهم‪ ،‬وإال ألبطل هذا المذهب قسما ً هاما ً من نص الدين‪ .‬وإذا عملنا بمبدأ أن آي ات تنس خ‬
‫آيات فماذا يبقى من القرآن؟‬

‫مدار الخالف بين المسيحية والمحمدية‬


‫‪ ‬‬

‫رأينا‪ ،‬في م ا تق دم‪ ،‬أن وج ه الخالف الوحي د من جه ة الرس الة المحمدي ة انحص ر في نفي م ذهب المس يحيين أن‬
‫المسيح هو ابن هللا الوحيد الجالس عن يمين األب بإعطاء أقنوم االبن شكالً قائم ا ً بذات ه‪ ،‬ولكن من غ ير نفي والدة‬
‫المسيح من مريم العذراء ومن روح هللا حسب الروايات المسيحية‪ ،‬ومن غير نفي أللوهي ة كالم ه‪ ،‬فتك ون مخالف ة‬
‫المحمدية المسيحية مقتصرة على تأويل صفة المسيح الحقيقية وليس على صحة تعاليمه‪ .‬ورأين ا أيض ا ً أن ه بم ا أن‬
‫تأويل المسيحيين والدة المسيح‪ ،‬بناء على بعض "النبوءات" اليهودية‪ ،‬ال يجعل المسيح إله ا ً ثاني ا ً وال روح الق دس‬
‫إلها ً ثالثاً‪ ،‬فقيمة الخالف األساسي تصغر‪ ،‬وتقرب كثيراً شقته بإعالن القرآن والدة المس يح من روح هللا‪ .‬والنتيج ة‬
‫األخيرة من تحقيقنا في هذه الناحية هي أنه ال يوجد خالف بين المسيحية والمحمدية على غرض التوحيد األساس ي‬
‫في هذين المذهبين على السواء‪ .‬ومما يظهر من اعتقادات المسيحيين أنه مخالف أو معارض لهذا الغرض ليس في‬
‫الحقيقة سوى مذاهب في كيفية فهم هللا ومظاهره وصفاته‪ ،‬وكل ذل ك من المس ائل الالهوتي ة والكالمي ة البحت وال‬
‫يمس مطلقا ً التعاليم المسيحية وصحتها وهي تعاليم يعدها القرآن إلهية ويوجب اإليمان بها على المحم ديين أيض اً‪،‬‬
‫كما رأيت في ما تقدم‪ .‬وقد ورد حديث نبوي في هذه االختالفات والتشيّعات يحسن أن نثبته في هذا المحل ليتبص ر‬
‫ال‪:‬‬ ‫ور ق‬ ‫ذه األم‬ ‫د له‬ ‫ة فهم محم‬ ‫حيح" في كيفي‬ ‫دين الص‬ ‫المة "ال‬ ‫دأ س‬ ‫حاب مب‬ ‫أص‬
‫"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إالّ واحدة‪ ،‬وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة‬
‫كله ا في الهاوي ة إالّ واح دة‪ ،‬وتف ترق أم تي على ثالث وس بعين فرق ة كله ا في الهاوي ة إالّ واح دة"‪.‬‬
‫ونحن نؤكد أنه ال يدخل في هذه الفرقة األخيرة أصحاب مبدأ "أن ال ركن األعظم ل دين المس لمين ه و في منازع ة‬
‫وثقى ص ‪.)419‬‬ ‫روة ال‬ ‫وكته" (الع‬ ‫وكة في ش‬ ‫ل ذي ش‬ ‫ك‬

‫وتق ّل أكثر قيمة الخالف من هذا الوجه متى علمنا أن التأويالت المسيحية في العربة ألم ر المس يح ووالدت ه ك انت‬
‫غير واضحة‪ ,‬واالعتقادات في هذا الص دد اتخ ذت هن اك أش كاالً يجب درس ها على ح دة نظ راً لخص ائص البيئ ة‬
‫درس درس ا ً كلي ا ً في أس باب منش أه من قب ل المحم ديين‬
‫َ‬ ‫العربي ة‪ .‬وفي اعتقادن ا أن ه ذا الخالف ك ان يجب أن يُ‬
‫والمسيحيين‪ ،‬وأن تعين قيمته الصحيحة للملتين لتريا أنه ليس خالفا ً دينيا ً جوهريا ً يقتضي استحكام الع داوة بينهم ا‪.‬‬
‫ولو أن المجتهدين المحمديين اتخذوا هذه الزاوية مبتدأ الجتهاداتهم لكان ذلك خيراً للمل تين‪ ,‬ولكن أك ثر المجته دين‬

‫‪72‬‬
‫المحمديين خلطوا بين كالم الرسالة المحمدي ة ال ديني وكالمه ا ال دول َّي وفض لوا جع ل الكالم ال دول ّي منهاج ا ً لك ل‬
‫خطاب يوجهونه إلى المحمديين ليحثوهم على إقامة الدولة الدينية قبل كل ش يء‪ ،‬مت وهمين و ُم و ِهمين أن ه ذا ه و‬
‫الدين‪ .‬ويوافقهم في هذا المذهب المجتهدون من المسيحيين في تبيان أن هداية هللا ال تتم إالّ باسم المسيح وأن رسالة‬
‫محمد‪ ،‬في مذهبهم‪ ،‬باطلة‪ ،‬أو أنه ا بدع ة تخ رّب ال دين‪ ،‬م ع أنه ا رس الة ديني ة ص حيحة ج اءت مص ّدقة لرس الة‬
‫يح‪.‬‬ ‫المس‬

‫لم نقف على بحث جديد لكاتب مسيحي يحمل فيه على دين المحمدية ويطعن في حقيقته أو في حقيقة جميع األدي ان‬
‫األخرى ويقول بمغالبة المحمديين وأهل األديان غير المسيحيين كما يقول أتباع مدرسة الدول ة الديني ة في اإلس الم‬
‫المحمدي وتالمذة مدرسة السيد األفغ اني في ال دين والسياس ة واالجتم اع‪ ،‬ول ذلك يص عب علين ا أن نن اقش جمي ع‬
‫أغالط المسيحيين في هذا الباب‪ ،‬التي يأتونها ضد المحمدية والمحمديين ويول ّدون بها االنقسام القومي‪ ،‬كما نن اقش‬
‫كتابات أصحاب مبدأ الجنسية الدينية والدولة الدينية من المحمديين وأتباعهم؛ ولكن ذلك ال يعني أنه ال يوجد ه َوس‬
‫ديني بين المسيحيين‪ ،‬وال يعني أنه ال نصيب للمسيحيين في المنازعات الدينية التي تجعل نشوء القومية الص حيحة‬
‫في حكم المستحيل‪ .‬وأه ّم ما يمكن ذكره في هذا الباب هو ما يُس َمع بين مسيحيّي س ورية وأمم الش رق المتج اورين‬
‫مع المحمديين‪ .‬أما المسيحيون األوروبيّ ون فق د تغلب وا‪ ،‬إلى ح د بعي د‪ ،‬على ه وس ال دين ولم يب ق م ا ي دفعهم إلى‬
‫دين‪.‬‬ ‫م ال‬ ‫ألَّب باس‬ ‫الت‬

‫كثيراً ما تسمع مسيحيّين أو أكثر من اث نين يتح دثون في ش ؤون ال وطن أو االجتم اع أو ال دين فتط رق أذن ك ه ذه‬
‫العبارة‪( :‬ال يمكن أن يصير اتحاد قومي أو إصالح اجتماعي إالّ إذا زال القرآن)‪ .‬وق د يك ون أك ثر ال ذين ي رددون‬
‫هذه العبارة من الذين ذاقوا مرارة الطغيان الديني السابق وعوملوا معاملة قاسية أو مجحف ة‪ ،‬ولكن ه ذه الحقيق ة ال‬
‫حة على اإلطالق‪.‬‬ ‫هص‬ ‫لل‬ ‫ه وال تجع‬ ‫ذي يقولون‬ ‫ول ال‬ ‫برر الق‬ ‫ت‬

‫الحقيق ة أن ه ذا الق ول ه و أبع د األق وال عن الص واب وأكثره ا دالل ة على الجه ل‪ .‬ف القرآن كت اب دي ني جلي ل‪،‬‬
‫وأغراضه الدينية األخيرة ال تختلف وال تتضارب م ع األغ راض الديني ة المس يحية من حيث اإلق رار باهلل الواح د‬
‫وترك عبادة األصنام وفعل الخير وتجنّب الشر وتقرير خلود النفس والثواب والعق اب‪ ،‬فكي ف وب أ ّ‬
‫ي ح ق يجب أن‬
‫ه؟‬ ‫ا دينهم عين‬ ‫دعو إليه‬ ‫تي ي‬ ‫ية ال‬ ‫راض األساس‬ ‫ذه األغ‬ ‫دعو إلى ه‬ ‫اب ي‬ ‫زول كت‬ ‫ي‬

‫الجواب على هذا السؤال هو في اإليمان الضّيق الذي ال يقب ل الخالص إالّ على ي د مخلّص معيّن‪ ،‬وفي ه ذا نقض‬
‫لتعاليم إنجيلهم عينه الذي يقول‪" :‬وإذا واح ٌد من علماء الناموس قام وقال مجربا ً له (للمسيح)‪ :‬ي ا معلم‪ ،‬م اذا أعم ل‬
‫‪73‬‬
‫ألرث الحياة األبدية؟ فقال له‪ :‬ماذا ُكتِب في الناموس كيف تقرأ؟ فأجاب وقال‪ :‬أحبب ال رب إله ك بك ل قلب ك وك ل‬
‫نفسك وكل قدرتك وكل ذهنك‪ ،‬وقريبك كنفسك‪ .‬فقال له‪ :‬أجبت بالصواب اعم ل ذل ك فتحي ا ف أراد أن ي زكي نفس ه‬
‫فقال ليسوع‪ :‬ومن قريبي؟ فعاد يسوع وقال‪ :‬كان رجل منحدراً من أورشليم إلى أريح ا فوق ع بين لص وص فع رَّوه‬
‫وجرحوه ثم مضوا وقد تركوه بين ح ّي وميت‪ ،‬فاتفق أن كاهنا ً كان منحدراً في ذلك الطريق فأبصره وجاز‪ .‬وكذلك‬
‫ي وافى المكان فأبصره وجاز‪ .‬ثم إن سامريا ً م ّر به فلما رآه تحنن فدنا إليه وض ّمد جراحاته وصبّ عليه ا زيت ا ً‬
‫الو ّ‬
‫وخمراً وحمله على دابته وأتى به إلى فندق واعتنى بأمره‪ .‬وفي الغ د أخ رج دين ارين وأعطاهم ا لص احب الفن دق‬
‫ي هؤالء الثالثة تحسبه صار قريبا ً للذي وقع‬
‫وقال‪ :‬اعتن بأمره‪ ،‬ومهما تنفق فوق هذا فأنا أدفعه لك عند عودتي‪ .‬فأ ّ‬
‫بين اللصوص؟ قال‪ :‬الذي صنع إليه الرحم ة‪ .‬فق ال يس وع‪ :‬امض فاص نع أنت ك ذلك" (لوق ا ‪ 25 :10‬ـ ‪ )37‬ف إذا‬
‫ي المحتقر فضل الالوي والكاهن المقدس هلل‪ ،‬ألنه صنع الرحمة للذي وقع بين اللصوص وكان ذل ك ج ائزاً‬
‫السامر ّ‬
‫وحقا ً عند المسيح نفسه‪ ،‬أفال يكون محمد الذي أنقذ خلقا ً كثيراً من حالة الت وحّش والهمجي ة وه داهم إلى دين الح ق‬
‫ولم يجحد اإلنجيل‪ ،‬بل ص ّدقه وأيده‪ ،‬أفضل عند المسلمين المحم ديين ال ذين ه داهم إلى الح ق من ك ل ك اهن وك ل‬
‫بطريرك وكل بابا لم يبلغهم منه ش يء من الرحم ة؟ وإذا ك ان المس يح ق د خلّص المس يحيين ف إن الن بي محم د ق د‬
‫خلّص المحمديين‪ .‬فكيف تريدون أيّها المج ّدفون أن ينكر المحمديون محمداً وأن ال يع ّدوه رسوالً من هللا إليهم وه و‬
‫الذي ه داهم إلى هللا؟ لق د ُوج د في العرب ة يه ود و ُوج د مس يحيون‪ ،‬فه ل تمكن وا من هداي ة الع رب وجم ع كلمتهم‬
‫وإخضاعهم للش رع وإقام ة النظ ام فيهم وتحس ين ش ؤون حي اتهم االجتماعي ة‪ ،‬فلم اذا يجب أن تك ون اليهودي ة أو‬
‫المسيحية أقرب إلى المحمديين من محمد قريبهم وحبيبهم وقريب كل منصف غ ير متعنّت وغ ير متك بر وحبيب ه؟‬

‫يوجد من متعنتي المسيحيين من يلعنون محمداً ألنه اتخذ زينب زوجة زيد ام رأة ل ه‪ ،‬فلم اذا ال يلعن ون داود الن بي‬
‫ويبطلون نبوءاته ومزاميره وهو ق د س لب أوري ا الحثّي زوجت ه س لبا ً بحيل ة س افلة؟ وكي ف يس تندون إلى نبوءت ه‬
‫إلثبات ألوهية المسيح؟‪ .‬وبعد فإن النبي محمداً لم يسلب زيداً زوجه‪ ،‬بل تزوجها من بعد أن طلقه ا زي د وأص بحت‬
‫ه‪.‬‬ ‫حالالً ل‬

‫ومنهم من يزعم أن محمداً ليس هاديا ً إلى هللا ألنه لم يفعل العجائب التي قيل أن األنبياء الذين تقدموه فعلوها‪ ،‬وهذه‬
‫حجة باطلة ألنه ال لزوم للعجائب من بعد ما تبينت كلمة الهداية أنها إلى هللا الذي عرفه األنبياء السابقون‪ ،‬كما جاء‬
‫رآن‪:‬‬ ‫في الق‬
‫{قولوا آمنّا باهلل وما أن زل إلين ا وم ا أن زل إلى إب راهيم وإس معيل وإس حاق ويعق وب واألس باط وم ا أوتي موس ى‬
‫وعيسى وما أوتي النّبيّون من ربّهم ال نف ّرق بين أح ٍد منهم ونحن له مسلمون} (البقرة‪ )136 :‬وفي هذه اآلية ت أمين‬
‫على جمي ع المعتق دات المس يحية وعلى جمي ع النب وءات ال تي يس تند إليه ا المس يحيون إلقام ة ربوبي ة المس يح‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫ومنهم من يُنحي على محمد بالالئم ة التخ اذه س بيل الغ زو والض رب بالس يف وبالس وط والس بي‪ ،‬كم ا فع ل عب د‬
‫المسيح الكندي(‪ )6‬في مناظرة أحد كبار المسلمين فنسب إلى محمد مجرد محبة نفع نفسه وأصحابه وإقام ة دولت ه‪.‬‬
‫وه ذا كالم بعي د عن الص واب‪ ،‬فق د ك ان محم د يكس ب من تجارات ه‪ ،‬وق د جلبت علي ه دعوت ه إلى هللا األتع اب‬
‫واألوص اب‪ ،‬ف أهين وتع رّض للخط ر وس قط جريح ا ً في معرك ة أح د وك اد يُقض ى علي ه‪.‬‬

‫أما انه أراد إقامة الدولة فهو صواب‪ ،‬ولكنه أنشأ الدولة لغرض الدين‪ ،‬كم ا جع ل عم اد الدول ة في بيئ ة ال أس باب‬
‫إلقامة الدولة فيها غير سبب الدين‪ .‬وإقامة الدولة ليست فرية وال إثماً‪ .‬ومن قبل محمد أنشأ موسى دولته بالدين‪ ،‬ثم‬
‫ك انت دول ة داود بال دين ودول ة س ليمان‪ .‬ويحتج عب د المس يح بن إس حاق الكن دي في ت برير ح روب العبران يين‬
‫وغزواتهم بعجائب فلق البحر ليمر اإلسرائيليون ويهلك المصريون‪ ،‬وغير ذلك من العجائب ال تي لم يُثبته ا ت اريخ‬
‫وإن يكن ص ّدقها القرآن‪ .‬وحصول العجائب يجب أالّ يبرّر فظائع تخريب بيوت ش عب آمن‪ ،‬كم ا أن ع دم حص ول‬
‫العجائب ال يجرح قصد رسول إلقامة دين هللا‪ ،‬فإذا كان موسى نبيا ً ويشوع ابن نون نبياً‪ ،‬وقد جاءا يهاجم ان ش عبا ً‬

‫آمنا ً عاكفا ً على التعمير والتمدين‪ ،‬ويقتالن حتى األطفال والبهائم‪ ،‬فمحمد ٌّ‬
‫نبي أعظم منهما ومن جميع أنبياء اليه ود‬
‫ألنه جاء إلى جماعة وحشية ال تع ِّمر وال تمدِّن‪ ،‬بل شأنها الغزو والسلب والسبي والتقتيل‪ ،‬فخاطبها بلغتها وحاربها‬
‫بسالحها وأخضعها للحق والشرع والنظام‪ ،‬وه ذا ش يء أعظم من ش ّ‬
‫ق البح ر ب إذن هللا وإقام ة الكس يح ب إذن هللا‪.‬‬

‫وأما أن لغة العنف والقوة في بث الرسالة يجب أن تبقى في حدود بيئته ا وأن ال تس تعمل في غ ير مواض عها فه ذا‬
‫بحث آخر تناولناه في هذه السلسلة‪ ،‬ونحن نبين كيف يجب أن يُفهم ذلك منعا ً الصطدامات عقيمة ال تنف ع األم ة وال‬
‫دين‪.‬‬ ‫دي ال‬ ‫تج‬

‫ال وجه في هذه األسباب للطعن في محمد ورسالته ولتجريده من حق النبوّة أو الرسالة‪ ،‬وال للطعن على المحمديين‬
‫والقول إنه ال رجاء بهم حتى يتركوا الذي ه داهم وي دعوا الق رآن‪ ،‬فه ذا ق ول كب ير في ه ظلم كث ير وهَ وس ش ديد‪.‬‬

‫إن المسيح لم يشترط على ع الِم الن اموس أن يع ترف بأن ه ه و الكلم ة المتجس دة ل يرث الحي اة األبدي ة‪ ،‬ب ل اكتفى‬
‫بتوصيته أن يحبَّ هللا ويحبَّ قريبه كنفسه‪ .‬والنبي محمد قد أوجب ذك ر المس يح وج اءت آيات ه تش هد للمس يح بأن ه‬
‫كلمة هللا‪ ،‬فماذا يريد المتعنتون فوق ذلك؟ وج اء محم د ي ؤ ِّمن المس يحيين على دينهم ويق ول إنهم ال يحت اجون إلى‬
‫تغيير "صالتهم" وتعاليم ملّتهم‪ ،‬ويأبى المتعنتون إالّ أن يقولوا إن محم داً ُمبط ل ض الّ‪ ،‬ح تى أن عب د المس يح بن‬
‫يطان!‪.‬‬ ‫ريعة الش‬ ‫احب ش‬ ‫ّده ص‬ ‫دي ع‬ ‫حق الكن‬ ‫إس‬
‫‪75‬‬
‫إن محمداً والقرآن باقيان ويبقيان في قلوب المحمديين ألن محم داً ك ان رس ولهم‪ .‬ف إذا ك ان ال روح الق دس ق د علّم‬
‫ذنب الع رب إذا لم يكن بين‬
‫تالميذ المسيح ورسله لغات األقوام التي توجهوا للبش ارة والك رازة بينه ا فليس ال ذنب َ‬
‫هؤالء الرسل رسول علَّمه الروح القدس لغتهم وتوجه إليهم وأقام الدين بينهم‪ .‬فكيف ال يكون محمد أقرب إليهم من‬
‫يحية؟‬ ‫ل المس‬ ‫رس‬

‫وقد بلغنا أن كثيراً من المسيحيين يفرحون بإظهارنا فساد ه َوس المتعنتين من المحمديين أصحاب مدرسة محارب ة‬
‫أهل جميع "األديان" غير المحمديين‪ ،‬أي محارب ة المس يحيين ال ذين يع ترف الق رآن بص حة دينهم‪ ،‬ويظن ون أنن ا‬
‫نقصد من ذلك نكاية المحمديين وإظهار فساد دينهم وبطالنه وتحقير شخص ية ن بيهم‪ ،‬وبلغن ا‪ ،‬أيض اً‪ ،‬أن متهوس ي‬
‫المحم ديين ظن وا ه ذا الظن وتوهم وا ه ذا ال وهم‪ ،‬فم ا آثم ه ذا الظن وم ا أبع ده عن الص واب!‪.‬‬

‫إن ما نقصده في هذا البحث هو الوصول إلى إفه ام أه ل المل تين وج وب ن زع التعنُّت والهَ وس ومنافس ة بعض هم‬
‫البعض‪ ،‬وأنه يجب عليهم إدراك أغراض دينهم بالعقل وليس بالزيغ والمنافسة التي تعدم الصالح وتخرب ال بيوت‬
‫وتفيد الع ّدو فقط‪ .‬فنحن ما أظهرن ا بطالن حجج أص حاب المدرس ة الرجعي ة من المحم ديين إالّ لنجلبهم إلى الح ق‬
‫وليعلموا أن الغل ّو في الدين من المعايب التي أصابتهم كما أصابت الرجعيين المس يحيين‪ ،‬وليس لجع ل المس يحيين‬
‫ة‪.‬‬ ‫الة المحمدي‬ ‫زدرون الرس‬ ‫ذهبهم وي‬ ‫ّو في م‬ ‫الغون في الغل‬ ‫يب‬

‫والنقطة األساسية‪ ،‬التي كانت نصب أعيننا منذ بداءة هذا البحث‪ ،‬هي هذه‪ :‬إن المسيحية والمحمدية مذهبان في دين‬
‫إلهي واحد‪ ،‬يتفقان في أغراض الدين األخيرة‪ ،‬ويثبت كل منهما اآلخر‪ ،‬فيجب أالّ يكون بينهما اصطدام وال ن زاع‪،‬‬
‫بل محبة واتحاد‪ .‬والمحبة واالتحاد ال يكونان برذل كل فري ق تع اليم اآلخ ر وإدانت ه وتفض يل تعاليم ه عليه ا‪ ،‬ب ل‬
‫باتخاذ القاعدة العام ة ال تي وض عناها وهي‪ :‬أن المس يحية والمحمدي ة يتمم ان أغراض هما األخ يرة ب دون ح روب‬
‫ومنازعات‪ ،‬بل بالتسانُد واالنتشار كل منهم ا في البيئ ات األك ثر موافق ة لتعاليم ه وقب والً له ا‪ ،‬فمن قب ل المحمدي ة‬
‫عقيدة فقد اهتدى إلى هللا‪ ،‬إذا كان هللا هو غرض الدين األخير‪ ،‬ومن قبل المسيحية فه و م ؤمن ُمهت ٍد إلى هللا {وم ا‬
‫اختلفتم فيه من ش يء فحكم ه إلى هللا‪( }...‬الش ورى‪{ )10:‬فإنم ا علي ك البالغ وعلين ا الحس اب} (الرع د‪" )40:‬ال‬
‫تدينوا لئال تدانوا‪ ،‬فإنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون‪ ،‬وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم‪ .‬م ا بال ك تنظ ر الق ذى‬
‫في عين أخيك وال تفطن للخشبة التي في عين ك؟ أم كي ف تق ول ألخي ك‪ :‬دع ني أخ رج الق ذى من عين ك‪ ،‬وه ا أن‬
‫الخشبة في عينك‪ .‬يا مرائي أخرج أوالً الخشبة من عينك‪ ،‬وحينئذ تنظر كيف تُخرج القذى من عين أخي ك" (م تى‪:‬‬
‫‪.)9‬‬
‫‪76‬‬
‫ما تقدم هو خالصة وجهة الخالف المسيحية‪ ،‬وقد فندناها وبسطنا رأينا فيها وأوضحنا فسادها ومبل غ التعنُّت فيه ا‪،‬‬
‫فإذا كان قد بقي شيء جوهري من هذه الوجهة لم نتناوله فذلك ألنه لم يبلغنا‪ ،‬ونكون شاكرين لكل من يوص ل إلين ا‬
‫قوالً مسيحيا ً يضا ّد وجود الرسالة المحمدية ويع ّد العمل على زوالها عمالً بنصوص الدين ليكون الدين كله مسيحيا ً‬
‫هلل‪.‬‬

‫ومن جميع ما تق ّدم يتضح أن وجهة المسيحيين من الخالف تنحصر في عدم االعتراف بصحة كون محمد رس والً‪،‬‬
‫وذلك استناداً إلى تحذير المسيح من األنبياء الكذبة وقوله‪" :‬احذروا أن يُضلَّكم أحد ألن كثيرين يأتون باسمي قائلين‬
‫إني أنا هو ويُضلون كثيرين" (مرقس‪ )13 :‬هذا في ما يختص بالنص من جهة المسيحية‪ ،‬وأما من جهة المحمدي ة‬
‫فالنصّ ما ورد في سورة (األعراف) في وصف غضب موس ى على ب ني إس رائيل التخ اذهم العج ل إله اً‪{ .‬ول ّم ا‬
‫سكت عن موسى الغضب أخذ األلواح‪" :‬واختار موسى قومه سبعين رجالً لميقاتنا فل ّما أخذتهم ال ّرجفة قال ربّ ل و‬
‫شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا إن هي إالّ فتنتك تض ّل بها من تشاء وته دي من تش اء أنت‬
‫وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين‪ .‬واكتب لنا في هذه ال ّدنيا حسنة وفي اآلخرة‪ ،‬إنّا هدنا إليك قال ع ذابي‬
‫أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت ك ّل شيء فس أكتبها للّ ذين يتّق ون ويؤت ون ال ّزك اة والّ ذين هم بآياتن ا يؤمن ون‪.‬‬
‫الّذين يتّبعون الرّسول النب َّي األم َّي الّذي يجدونه مكتوبا ً عن دهم في التّ وراة واإلنجي ل ي أمرهم ب المعروف وينه اهم‬
‫عن المنكر ويح ّل لهم الطّيبات ويح ّرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم واألغالل الّتي كانت عليهم فالّذين آمنوا‬
‫به وع ّزروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل مع ه أولئ ك هم المفلح ون‪ .‬ق ل ي ا أيّه ا النّ اس إني رس ول هللا إليكم‬
‫جميعا ً الّذي له ملك السّموات واألرض ال إله إال هو يحيي ويميت فآمنوا باهلل ورسوله النب ّي األم ّي الّذي ي ؤمن باهلل‬
‫راف‪154 :‬ـ‪.)158‬‬ ‫دون} (األع‬ ‫وه لعلّكم تهت‬ ‫ه واتّبع‬ ‫وكلمات‬

‫بناء على هذا النص القرآني يعتقد أكثر المحمديين غير المحققين أن التوراة واإلنجيل اللذين في أيدي الن اس الي وم‬
‫هما غير التوراة واإلنجيل الصحيحين‪ ،‬ألنه ال ذكر ألحمد أو محمد فيهما‪ .‬وقد سلّمنا‪ ،‬في ما تق دم من ه ذا البحث‪،‬‬
‫بأن اليهود عبثوا بالتوراة‪ ،‬خصوصا ً يهود العرب‪ .‬وهنالك أدلة ترجّح أنهم عبثوا بالقرآن أيضا ً قب ل إكم ال جمع ه‪.‬‬
‫ي عبث‪ .‬ولكن وجد إنجيليون دوّنوا سيرة المسيح وأقواله تدوينا ً مخالفا ً لت دوين اإلنجيل يين‬
‫أما اإلنجيل فلم يجر به أ ّ‬
‫األربعة المع َّول عليهم‪ ،‬واثنان منهم كانا تلميذين للمسيح وعايناه كمتى ويوحنا‪ ،‬وثالث ك ان من أك بر المحققين ه و‬
‫الطبيب لوقا‪ ،‬والرابع هو مرقص وكان تلميذاً للقديس بط رس‪ .‬وك انت األناجي ل ق د ت وزعت بين أي دي الن اس في‬
‫أكث َر من لغة إذ كتب متى بالسريانية‪ ،‬وكتب لوقا باليونانية‪ .‬ولم يعد من الممكن‪ ،‬بعد مرور ستمئة سنة ونيّ ف على‬
‫الميالد المسيحي‪ ،‬أن تجمع جميع النسخ الموجودة في مختلف اللغات واألقطار وتُتلف إال نسخة واحدة تُحذف منها‬
‫‪77‬‬
‫اإلشارة إلى محمد‪ .‬ولو كان صحيحا ً أنه ُوجد ذكر محمد في اإلنجيل لكان حذف ه دع ا إلى ش ك كث يرين وص ياحهم‬
‫كما شكوا وصاحوا ألمور أق َّل من ح ذف ش يء من اإلنجي ل‪ ،‬ولك ان وجب أن يق ف المحم ديون ومحقق وهم على‬
‫نسخة فيها ذكر محمد ويحفظوها للداللة ويشيروا إلى موض ع ذك ر محم د فيه ا وفي أي ة آي ة وفي أ ّ‬
‫ي ح ادث ورد‬
‫ذكره‪ ،‬ولكن شيئا ً من ذلك لم يحدث‪ .‬وقد اكتشفت النسخة السينائية التي هي أقدم نس خ اإلنجي ل وحق ق فيه ا رج ال‬
‫ي يدلُّ على ذكر محمد‪ ،‬ولكن يبقى هنال ك‬
‫علم بعيدون عن الهَ َوس الديني‪ ،‬والنسخة موجودة إلى اليوم وليس فيها آ ٌ‬
‫"بالمعزي" في إنجيلي مرقس ويوحنا قد يكون ورد منفصالً في بعض الق راءات في‬ ‫ِّ‬ ‫وجه وهو نعت الروح القدس‬
‫المواضع الموجود بها منفصالً عن االسم فأ َّدى ذلك إلى التباس أو إلى اختالط كقول ه‪" :‬إآلَّ أني أق ول لكم الح ق أن‬
‫في انطالقي خيراً لكم ألني إن لم أنطلق لم يأتكم المع ّزي‪ ،‬ولكن إذا مضيت أرس لته إليكم‪ .‬وم تى ج اء يب ِّكت الع الم‬
‫على الخطيئة وعلى البر وعلى الدينونة‪ .‬أما على الخطيئة فألنهم لم يؤمنوا بي‪ ،‬وأم ا على ال بر فألني منطل ق إلى‬
‫اآلب وال تروني بعد‪ ،‬وأم ا على الدينون ة فألن رئيس ه ذا الع الم ق د دين‪ .‬وإن عن دي كث يراً أقول ه لكم‪ ،‬ولكنكم ال‬
‫تطيقون حمله اآلن‪ ،‬ولكن متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق‪ ،‬ألنه ال يتكلم من عنده‪ ،‬ب ل يتكلم‬
‫بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي" (يوحنا‪ 7 :16 ،‬ـ ‪ )13‬فك ّل من يقرأ أو يسمع هذه اآليات ولم يكن ق د س مع اآلي ة‬
‫‪ 26‬من الفصل الرابع عشر القائلة "وأما المع ّزي الروح القدس الذي سيُرسله اآلب باس مي فه و يعلمكم ك ل ش يء‬
‫ويذكركم كل ما قلته لكم"‪ ،‬فإنه ال يشك بأنه وعد برسول آخر يجيء‪ ،‬بل ح تى اآلي ة األخ يرة ال تمن ع ك ل اجته اد‬
‫اب‪.‬‬ ‫ذا الب‬ ‫ل في ه‬ ‫ل تأوي‬ ‫وك‬

‫وإننا نرى أن هذه النصوص والخالف فيها هي من ذيول الخالف على صفة المسيح وعلى ص فة محم د‪ .‬وال نج د‬
‫خالفا ً أساسيا ً جوهريا ً في ما يختص بأغراض الدين األخيرة‪ ،‬وال يؤثر على أهل كل مذهب في اتباع تعاليمهم‪ ،‬فما‬
‫على أهل الرسالتين المسيحية والمحمدي ة إالّ أن ي تركوا الحكم هلل عمالً بق ول الرس التين‪ :‬ال تَ دينوا لكي ال تُ دانوا"‬
‫ه إلى هللا"‪.‬‬ ‫يء فحكم‬ ‫ه من ش‬ ‫ا اختلفتم في‬ ‫"وم‬

‫ولقد اتخذ هذا الخالف‪ ،‬منذ القديم‪ ،‬مظه راً حزبي اً‪ ،‬فق د قرأن ا في بعض المص ادر أن المحم ديين "وأه ل الكت اب"‬
‫افتخروا فقال أهل الكتاب "نبينا" قبل نبيكم وكتابنا قب ل كت ابكم ونحن أولى باهلل منكم‪ ,‬وق ال المس لمون "نحن أولى‬
‫منكم‪ ،‬نبينا خاتم النبيين‪ ،‬وكتابن ا يقض ي على الكتب المتقدم ة" ف نزلت في ه ذا الخالف اآلي ة‪{ :‬ليس بأم انيكم وال‬
‫أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُج َز به وال يَج ْد لَهُ من دون هللا وليّا ً وال نص يراً‪ .‬ومن يعم ل من ّ‬
‫الص الحات من‬
‫ؤمن فأولئ ك ي دخلون الجنّ ة وال يظلم ون نق يراً} (النس اء‪ 123 :‬ـ ‪.)124‬‬
‫ٌ‬ ‫ذك ٍر أو أن ثى وه و م‬

‫وجميع هذه األقوال من الرسالتين يقبلها كل ذي عقل س ليم ووج دان ح ّي وال يرفض ها إالّ المن افقون في ال دين من‬
‫‪78‬‬
‫المحمديين والنصارى‪ ،‬ف األولون يقول ون‪ :‬ال يت ّم ال دين إالّ بمغالب ة أه ل "األدي ان" األخ رى وتنمي ة مل ة اإلس الم‬
‫المحمدي بالقوة واإلكراه‪ ،‬واآلخرون يقولون‪ :‬ال يتم الدين إالّ بمحو القرآن من الوجود‪ .‬وهذا منتهى الض الل‪ ،‬ألن‬
‫كل فريق يقيم نفسه مقام هللا نفسه ليدين الفريق اآلخر‪ ،‬مع أن نصوص الدين تقول بترك الحكم هلل وحده‪.‬‬

‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫بين الدين والدّولة‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫إن النتيج ة النهائي ة‪ ،‬ال تي وص لنا إليه ا في البحث الس ابق وهي أن الم ذهبين المس يحي‬

‫والمحم دي متفق ان ك ل االتف اق في األغ راض الديني ة األخ يرة وأن ال واجب على أتباعهم ا‬

‫يقض ي ب ترك محارب ة بعض هم البعض ومحاول ة إخض اع بعض هم بعض اً‪ ،‬ال تواف ق رج ال‬

‫الس لطة الروحي ة من المل تين وال رج ال النف وذ السياس ي المب ني على الم ذهب والمل ة‪.‬‬

‫فرج ال ال دين من المل تين ال يقبل ون االع تراف ب أن الم ذهبين ص حيحان وهم ا دين واح د‪،‬‬

‫فك ّل فري ق ي َّدعي أن "دين ه" ه و الص حيح وأن خالص النف وس ال ّ‬
‫يتم إالّ ب ه‪ .‬ومم ا ال ش ك‬

‫في ه أن ه ذا البحث ليس موجه اً إلى رج ال ال دين أنفس هم‪ ،‬ب ل إلى الخاص ة والعام ة من‬

‫العلم انيين‪ ،‬ف إذا ك ان رج ال ال دين ق د وقف وا أنفس هم علي ه ف إن ال دين لم ولن يق ف نفس ه‬

‫عليهم‪.‬‬

‫إلى جميع الناس غير رجال ال دين نوج ه ه ذه ال دعوة‪ : :‬لنترك رجال الدين يتناظرون م ا‬

‫يتعدوا حدود المناظرة إلى ته ييج‬


‫أصحها‪ ،‬بشرط أن ال ّ‬
‫ّ‬ ‫أي "األديان"‬
‫شاؤوا المناظرة في ّ‬

‫والس َّذج وغ رس األحق اد بين أبن اء ال وطن الواح د باس م ال دين‪.‬‬


‫ُّ‬ ‫الغوغ اء‬

‫‪79‬‬
‫إن ه ذه ال دعوة تع ني ت رك العص يبة الديني ة واعتن اق العص بية القومي ة ال تي تجع ل جمي ع‬

‫دة‪.‬‬ ‫بة واح‬ ‫يحييهم عص‬ ‫دييهم ومس‬ ‫وريين محم‬ ‫الس‬

‫ه ذه هي ال دعوة ال تي يتحمله ا في س ورية الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي‪ .‬وق د‬

‫اص طدمت ه ذه ال دعوة بمقاوم ة من المل تين المس يحية والمحمدي ة‪ .‬أم ا حج ة أبن اء المل ة‬

‫المس يحية فك انت أن الوح دة القومي ة تعي د المس يحيين إلى عه د الخض وع لدول ة محمدي ة ال‬

‫حق وق مدني ة وسياس ية فيه ا للمس يحيين‪ ،‬وه ذه أق وى حجج الم دنيين المس يحيين باس تثناء‬

‫بعض المهووس ين ال ذين يدس ون هن ا وهن اك عب ارات الك ره والحق د على المحم ديين‪،‬‬

‫واكتفوا َّ‬
‫بالد ّس‪ ،‬ولم يقدروا على تقديم نظرية يمكن أن تك ون ش به عقي دة‪ .‬وأم ا حج ة أبن اء‬

‫الملَّة المحمدي ة فك انت ذات نظري ة مؤسَّس ة على نص وص ديني ة ك التي عالجن ا بعض ها في‬

‫ما تقدم‪ ،‬وقال بها رجالن خطيران كالسيد جمال الدين األفغاني والشيخ محمد عبده الل ذين‬

‫اس تند إلى أبحاثهم ا أك ثر المحم ديين ال ذين يق اومون نش وء القومي ة االجتماعي ة في س ورية‬

‫لتك ون رابط ة تح ّل في االجتم اع والحق وق مح ّل المل ة‪ .‬ولم ا ك ان ه ذا البحث مختص اً‪،‬‬

‫ب األكثر‪ ،‬بمناقش ة أص حاب ه ذه النظري ة ال تي ص فق المحم ديون كث يراً في المهج ر لرش يد‬

‫سليم الخوري الذي َّ‬


‫تحزب لها لغاية في نفسه فسنتابع‪ ،‬المناقشة لنص ل إلى نتيج ة حاس مة‪.‬‬

‫ولكن ال ب د من زي ادة إيض اح األس باب الداعي ة لتخص يص معظم ه ذا البحث بالوجه ة‬

‫وأهم هذه األسباب هو طبيعة كل من المذهبين واتجاهه؛ فالمسيحية نشأت نش أة‬


‫المحمدية‪ُّ ،‬‬

‫‪80‬‬
‫دين بحت مج رد من ش ؤون الدول ة والحكم‪ ،‬فق د اختص ال دين في اإلس الم المس يحي‬

‫باألفراد ومعتقداتهم ومناقبهم‪ .‬أما الدين في اإلسالم المحمدي فقد بيَّنا‪ ،‬في ما تق دم من ه ذا‬

‫اضطر ألخذ طبيعة البيئة التي نشأ فيها بعين االعتبار‪ .‬وطبيعة البيئ ة اقتض ت‬
‫َّ‬ ‫البحث‪ ،‬أنه‬

‫إيجاد الدولة لتكون وسيلة إلقامة الدين‪ .‬ولما كان غرض الدولة إقام ة ال دين ك ان ال ب د أن‬

‫يكون الدين أساسها‪ ،‬فهي ُوجدت بالدين إلقامة الدين‪ .‬ومن هذه الض رورة الخاص ة بالبيئ ة‬

‫العربية نشأ هذا االرتباط الوثيق بين الدول ة وال دين في اإلس الم المحم دي ح تى التبس أم ر‬

‫كليهم ا ح تى على أك بر المفك رين المحم ديين‪ .‬وله ذا الس بب نج د مس ألة الفص ل بين ال دين‬

‫والدول ة في المل ة المحمدي ة أص عب حالًّ منه ا في المل ة المس يحية‪ ،‬ألن الدول ة موج ودة في‬

‫النص وص القرآني ة كم ا هي موج ودة في نص وص الت وراة‪ ،‬ولكنه ا ليس ت موج ودة في‬

‫نصوص اإلنجيل‪ .‬وبناء على النصوص القرآنية أمكن صاحبي "العروة الوثقى" القول "أن‬

‫ال جنسية للمسلمين إالّ في دينهم"‪ ،‬والقول‪ ،‬مخاطبين المسلمين المحمديين‪" :‬هل نسوا وع د‬

‫اهلل لهم ب أن يرث وا األرض وهم العب اد الص الحون؟" ("الع روة ال وثقى" ص ‪ )149‬والق ول‪:‬‬

‫"الديانة اإلس المية و ِ‬


‫ض ع أساس ها على طلب الغلب والش وكة واالفتت اح والع زة ورفض ك ل‬ ‫ُ‬

‫ق انون يخ الف ش ريعتها ونب ذ ك ل س لطة ال يك ون الق ائم به ا ص احب الوالي ة على تنفي ذ‬

‫أحكامه ا" (أيض اً ص ‪ )77‬والق ول "ومن األوام ر الش رعية أن ال ي دع المس لمون تنمي ة‬

‫ملتهم ح تى ال تك ون فتن ة ويك ون ال دين كل ه هلل"" وذل ك "إلعالء كلم ة الح ق وبس طة المل ك‬

‫وعم وم الس يادة" (أيض اً ص ‪ )164‬والق ول "كي ف ومعظم األحك ام الديني ة موق وف إج راؤه‬

‫على ق وة الوالي ة الش رعية" (أيض اً ص ‪ )165‬وك ل ه ذه األق وال بعي د عن الص واب وليس‬

‫‪81‬‬
‫فيه تدبُّر صحيح لنصوص الدين في الرسالة المحمدية وتاريخه ا‪ ،‬كم ا بيَّن ا ون بيِّن‪ ،‬ب ل هي‬

‫جميعه ا نتيج ة اس تبداد في االجته اد من أج ل الوص ول إلى أغ راض سياس ية مبني ة على‬

‫ة‪.‬‬ ‫ية الديني‬ ‫ة والجنس‬ ‫ة الديني‬ ‫رة الدول‬ ‫نظ‬

‫تق دم قولن ا أن الرس الة المحمدي ة تقس م إلى قس مين‪ :‬القس م المكي والقس م الم دني‪ ،‬ثم ع دنا‬

‫فقلن ا أن النص وص القرآني ة على وجهين‪ :‬وج ٍه في ال دين ووج ٍه في الدول ة‪ .‬والقس م المكي‬

‫ه و األك ثر اختصاص اً بالوجه ة الديني ة‪ ،‬والقس م الم دني ه و األك ثر اختصاص اً بالوجه ة‬

‫الدولي ة‪ .‬وه ذا االزدواج في اتج اه الرس الة المحمدي ة ال ذي لم يحص ل ل ه‪ ،‬في م ا مض ى‪،‬‬

‫دراس ة تجم ع وجهتي ه في وح دة فكري ة روحي ة ه و ال ذي يس هل ألص حاب األغ راض‬

‫أي وج ه أرادوا حس بما يواف ق أغراض هم‪ ،‬وه و ليس عيب الق رآن‪ ،‬ب ل‬
‫السياس ية األخ ذ ب ّ‬

‫دبر الرس الة المحمدي ة كم ا يجب‪.‬‬


‫نقص الثقاف ة التاريخي ة االجتماعي ة وع دم ت ّ‬

‫وأص حاب األغ راض السياس ية ال يري دون نش وء ه ذه الدراس ة في اإلس الم المحم دي ألنه ا‬

‫يمكن أن تقض ي على جمي ع مح اوالت اس تخدام ال دين لألغ راض السياس ية والمط امع‬

‫يخش ه ؤالء‬
‫الخصوص ية‪ .‬ف إذا ظلت المحمدي ة بعي دة عن ه ذه الدراس ة التكنيكي ة لم َ‬

‫األراخن ة افتض اح أم رهم بعكس هم االتج اه األول للمحمدي ة‪ ،‬ف إن محم داً اس تخدم الدول ة‬

‫إلقامة الدين وجعل الدين أساساً لتنظيم شعب با ٍ‬


‫ق في حالة همجي ة‪ .‬أم ا ه ؤالء ال دبلماتيون‬

‫ية‪.‬‬ ‫امع السياس‬ ‫ذ المط‬ ‫دين لتنفي‬ ‫تخدام ال‬ ‫دون اس‬ ‫فيري‬

‫‪82‬‬
‫وليس ه ذا جدي داً في المحمدي ة‪ ،‬ب ل ش يئاً ق ديماً ظه ر في أط وار تاريخي ة كث يرة‪ .‬فق د وج د‬

‫المتن ازعون على الس لطة والس يادة أس باباً كافي ة في ثنائي ة اإلس الم المحم دي للمبالغ ة في‬

‫العن اد والمك ابرة‪ ،‬ح تى أن ه يمكن كتاب ة مجل دات في ه ذا الب اب في حجج العروب يين‬

‫والش عوبيين وفي ال نزاع ح تى بين الص حابة وبين األم ويين وبيت علي‪ .‬ونكتفي للدالل ة‬

‫على س عة التالعب بثنائي ة النص وص القرآني ة ب إيراد ه ذا الح ادث ال ذي ج رى لمعاوي ة إذ‬

‫خ اطب الن اس ق ائالً‪" :‬أيه ا الن اس إن اهلل َّ‬


‫فض ل قريش اً بثالث فق ال لنبي ه‪ ،‬علي ه الص الة‬

‫والس الم‪{ :‬وأن ذر عش يرتك األق ربين} فنحن عش يرته‪ .‬وق ال‪{ :‬وإ ن ه ل ذكر لقوم ك} فنحن‬

‫قوم ه‪ .‬وق ال‪{ :‬إليالف ق ريش إيالفهم} إلى قول ه‪{ :‬وال ذي أطعمهم من ج وع وآمنهم من‬

‫ريش"‪.‬‬ ‫وف ونحن ق‬ ‫خ‬

‫فأجابه رجل من األنصار‪" :‬على رسلك يا معاوي ة ف إن اهلل يق ول‪{ :‬وك ذب ب ه قوم ك} وأنتم‬

‫قوم ه‪ .‬وق ال‪{ :‬ولم ا ض رب ابن م ريم مثالً إذا قوم ك من ه يص دون} وأنتم قوم ه‪ .‬وق ال‬

‫الرسول عليه الصالة والسالم‪" :‬يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً" وأنتم قوم ه‪،‬‬

‫اك"‪.‬‬ ‫ا زدن‬ ‫و ِز ْدتَن‬ ‫ة ول‬ ‫ة بثالث‬ ‫ثالث‬

‫ه ذا مث ل رائ ع من اس تخدام ثنائي ة النص الق رآني في أغ راض المنافس ات والمط امع وفاق اً‬

‫للظ روف والح االت‪ .‬وال ذين يج دون س هولة في س لك ه ذا المس لك ال يري دون أن تق وم‬

‫دراس ة توض ح أن ه ذه الثنائي ة ليس ت مطلق ة ب ل مقي دة ومرتبط ة بوح دة فلس فية يجب‬

‫‪83‬‬
‫استخراجها وإ برازها بصورة واضحة إليجاد االستقرار ال روحي في المل ة المحمدي ة لتهتم‬

‫معرض ة لتض حية غ رض ال دين في س بيل غ رض‬


‫بش ؤون االرتق اء الثق افي فال تظ ّل َّ‬

‫السياس ة ال تي يهمه ا الدول ة والس لطان والحكم أك ثر مم ا يهمه ا ال دين واالرتق اء ال روحي‬

‫اعي‪.‬‬ ‫دم االجتم‬ ‫ا والتق‬ ‫ل العلي‬ ‫والمث‬


‫ُ‬

‫درس نا في الحلق ات المت أخرة من ه ذا البحث الناحي ة الديني ة من اإلس الم المحم دي‪،‬‬

‫وأوضحنا ما هي أغراض هذا الدين األخيرة وأنه ا ال تتض ارب م ع األغ راض الديني ة في‬

‫اإلسالم المسيحي‪ ،‬وأثبتنا أن النصوص القرآنية نفس ها تؤك د ذل ك توكي داً ال يمكن دحض ه‪،‬‬

‫وب ذلك نك ون ق د أجبن ا جواب اً قاطع اً على الس ؤالين الل ذين ألقيناهم ا في بحث "بين اله وس‬

‫يتم إالّ بإعالئ ه على‬


‫والت دين" وهم ا‪ :‬أص حيح أن ال دين اإلس المي في الرس الة المحمدي ة ال ّ‬

‫وتعم العالم‪ ،‬وأن ه ذا‬


‫المذاهب األخرى وبيع المحمديين أنفسهم حتى يتم انتصار المحمدية ّ‬

‫ه و غرض ه األساس ي؟ وإ لى أين يقودن ا االعتق اد ب أن ص حة "الديان ة" المحمدي ة هي في‬

‫محارب ة أه ل "األدي ان" األخ رى ح تى ي دينوا به ا أو يخض عوا للمس لمين المحم ديين؟‪.‬‬

‫إن النصوص القرآنية التي أثبتناها تنفي نفياً باتاً أن ه ذا ه و غ رض الديان ة في المحمدي ة‪،‬‬

‫وأن إيج اب الق رآن على المؤم نين ب ه االعتق اد بص حة اإلنجي ل ب ل وص حة الت وراة أيض اً‬

‫واإليم ان بم ا ورد فيهم ا يق رر نهائي اً أن ال دين الص حيح‪ ،‬من جه ة المحمدي ة‪ ،‬يق وم‬

‫بالمسيحية كم ا يق وم به ا وباإلنجي ل كم ا ب القرآن‪ .‬وق د نص الق رآن على أن ال ذين "يؤمن ون‬

‫‪84‬‬
‫ب اآلخرة" (من أه ل الكت اب‪ :‬الت وراة واإلنجي ل) ال حاج ة بهم لتغي ير "ص التهم"‪ ،‬ب ل هم‬

‫يح افظون عليه ا ح تى ول و آمن وا ب القرآن‪ .‬وك ان األح رى بال ذين يرغب ون في التق ُّدم‬

‫اإلنس اني من المحم ديين أن يت دبَّروا ه ذه اآلي ة الجلي ة من س ور النع ام ال تي تس ند قولن ا في‬

‫م ا س بق ب أن اتج اه الرس الة المحمدي ة ك ان لالتف اق م ع الرس االت الس ابقة واالش تراك معه ا‬

‫على محارب ة عب ادة األص نام وإ قام ة ال دين اإللهي‪ ،‬فاآلي ة الم ذكورة لم تطلب من "أه ل‬

‫ؤمنهم‬
‫الكت اب" غ ير اإليم ان ب أن الق رآن كت اب ي دعو إلى اهلل وأن دعوت ه ص حيحة وهي ت ِّ‬

‫"ص التهم" حس ب كتاب ه وال ت وجب عليهم تغي ير "ص التهم"‪ ،‬وآي ات قرآني ة أخ رى‬
‫على َ‬

‫عدي دة تس ند حكم ه ذه اآلي ة كتخص يص الق رآن ومحم د بال ذين لم ي أتِهم رس ول من قب ل‬

‫وك انوا في ض الل م بين‪ ،‬وكله ا ت رمي إلى إزال ة ك ل احتم ال للتص ادم والتض ارب م ع‬

‫المس يحية واليهودي ة وإ لى توحي د جه ود ه ذه الف رق ض د المش ركين عب دة األوث ان‪ .‬ول و أن‬

‫المسيحيين واليهود في العربة عززوا محمداً وأيدوه ووافقوه على المش ركين لك انوا أزال وا‬

‫متأمل في ه ذه اآلي ات الحكيم ة‪ ،‬وق د أثبتن ا‬


‫عقب ات كث يرة من الطري ق‪ .‬وك ل منص ف ِّ‬

‫معظمها في األبحاث المتقدم ة‪ ،‬يج د أنه ا فتحت وتفتح ب اب التف اهم واس عاً إذا حس ن القص د‬

‫من المحم ديين والمس يحيين على الس واء‪ ،‬وهي تقط ع على ِّ‬
‫متعنتي المس يحيين حججهم‬

‫المش بع جهالً القائ ل إن ه ال‬


‫وكالمهم ُ‬
‫َ‬ ‫الباطل ة القائل ة ان ه ال يمكن االتف اق م ع المحم ديين‪،‬‬

‫يمكن حص ول االتح اد الق ومي االجتم اعي في س ورية إالّ ب زوال الق رآن‪ .‬وه ذه اآلي ات‬

‫الغلو في الحزبي ة الديني ة‪،‬‬


‫عينه ا ال تس مح‪ ،‬من الوجه ة األخ رى‪ ،‬للمس لمين المحم ديين ب ّ‬

‫احر بس بب بعض‬
‫واعتب ار أن مئ ات األجي ال البريئ ة يجب أن تس قط فريس ة التق اطُع والتن ُ‬

‫‪85‬‬
‫األولين‪ .‬وفي ما يختص بالمس يحيين في ه ذا الب اب نج د أن الق رآن ش هد لهم‬
‫أغالط بعض ّ‬

‫بصدق الوجدان وبأنهم لم يكونوا م ع المحم ديين كالمش ركين وال ك اليهود‪ ،‬فبع د اآلي ة ال تي‬

‫مودة للّذين آمنوا الذين قالوا َّإنا نص ارى} ت أتي‬ ‫َّ‬


‫{ولتجدن أقربهم ّ‬ ‫أثبتناها آنفاً التي جاء فيها‬

‫الرس ول ت رى أعينهم تفيض من ال ّدمع‬


‫ه ذه اآلي ة {وإ ذا س معوا (النص ارى) م ا أن زل إلى ّ‬

‫ِّ‬
‫الحق} (المائدة‪ )83 :‬ومتى علمنا أنه ُوج د في العرب ة مس يحيون لم يفهم وا‬ ‫مما عرفوا من‬
‫ّ‬

‫من اإليم ان المس يحي أك ثر مم ا فهم محم ديوها من اإليم ان ب القرآن ألنهم ك انوا أعراب اً‬

‫جهل ة م ردوا على النف اق‪ ،‬اتض ح لن ا كم ه و فاس د االلتج اء إلى الحجج القديم ة الس تمرار‬

‫ة‪.‬‬ ‫ة الديني‬ ‫الفتن‬

‫اص ال يش مل‬
‫درس خ ٌّ‬
‫ولقد قلنا أن مسألة مذاهب المسيحيين في العرب ة يجب أن ُيف رد له ا ٌ‬

‫موض وعه المس يحيين‪ ،‬المتم دنين‪ ،‬يؤي د ه ذا الق ول أن عليَّا بن أبي ط الب اس تثنى نص ارى‬

‫تزوج من‬
‫ب ني تغلب من حكم آي ة "المائ دة" ال تي حللت للمحم ديين طع ام "أه ل الكت اب" وال ُّ‬

‫نسائهم‪ ،‬فقال فيهم‪" :‬ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منه ا إالّ ش رب الخم ر"‪ ،‬فكم يص دق‬

‫على كث ير من نص ارى الع رب ت أويلهم والدة المس يح وكالم اإلنجي ل‪ ،‬وخصوص اً قض ية‬

‫انيم؟‪.‬‬ ‫تثليث األق‬

‫بن اء على م ا تق دم يص ّح أن نس أل ال ذاهبين م ذهب الس يد األفغ اني والش يخ محم د عب ده في‬

‫تأويل القرآن‪ :‬هل ماتت جميع هذه اآليات السنية في القرآن‪ ،‬أو ه ل نس خت بآي ات أخ رى‬

‫‪86‬‬
‫ة؟‬ ‫بحت باطل‬ ‫ا فأص‬ ‫الف له‬ ‫ه مخ‬ ‫ا على أن‬ ‫دل ظاهره‬ ‫ي‬

‫إن ثنائي ة النص الق رآني ليس معناه ا أن ه يوج د للرس الة المحمدي ة خطت ان متباينت ان‬

‫ومس تقلتان‪ ،‬الواح دة عن األخ رى اس تقالالً كلي اً بحيث يج وز للم ؤمن أن يخت َار إح داهما‬

‫م رةً واألخ رى م رة أخ رى كم ا ي روق ل ه أو يواف ق مص الحه أو مطامع ه‪ ،‬ب ل معناه ا َّ‬


‫أن‬

‫هنال ك وح دةً كامن ةً بين ن وعي النص المحم دي‪ ،‬وأن ه ذه الوح دة يجب أن تُس تخرج من‬

‫تراب ط األس باب والمس ببات ومن معرف ة نس بة الواس طة إلى الغاي ة ومن درس العالق ة‬
‫مبدأ ُ‬

‫الوثيقة بين النص القرآني واألسباب الموجب ة أو الح وادث الجاري ة‪ .‬ف إذا لم يتَّج ه االجته اد‬

‫رب من الوق وع في‬


‫إلى اس تخراج ه ذه الوح دة به ذه الطريق ة االس تقرائية التحليلي ة‪ ،‬فال مه َ‬

‫مغالطات الهوس الديني السياسي الذي كثيراً م ا يض ِّحي حقيق ة ال دين على م ذهب األه واء‬

‫الجامح ة‪ ،‬ويط ِّوح بالمحم ديين في مغ امرات ال تع ود على دينهم بفائ دة وال على دني اهم‬

‫ير‪.‬‬ ‫بخ‬

‫على ه ذا الطري ق الس لبي س ارت مدرس ة الس يد جم ال ال دين األفغ اني والش يخ محم د عب ده‬

‫فغ َّررت بجماع ات كث يرة من المحم ديين في مص ر وس ورية والهن د وإ ي ران وأفغانس تان‪،‬‬

‫أس ه؛‬ ‫وك انت نتائجه ا خيب ة تل و خيب ة‪ ،‬ف إن مب دأ "الجنس ية الديني ة" للمحم ديين ُن ِس َ‬
‫ف من ِّ‬

‫فالمحمدي ة لم تكن أحس ن حظ اً من المس يحية في توحي د األمم باس مها‪ .‬ف األتراك لم يقبل وا‬

‫تض حية جنس يتهم االجتماعي ة في س بيل "جنس يتهم الديني ة"‪ ،‬ولم يقب ل ب ذلك الف رس وال أي ة‬

‫‪87‬‬
‫أم ة محمدي ة أخ رى اس تيقظت لوح دتها االجتماعي ة ـ االقتص ادية ـ الجغرافي ة ـ الس اللية‬

‫ولمطامحه ا ومثلُه ا العلي ا المنبثق ة من ه ذه األص ول والعوام ل‪ .‬ف ذهبت ص يحات الك اتبين‬

‫األفغاني وعبده في سبيل الوح دة أدراج الري اح‪ ،‬ولكنه ا ت ركت أث راً س يئاً بين ال ذين تعلق وا‬

‫وطوحت بهم وراء نظرية فاسدة ش غلتهم عن طلب‬


‫فغررت ّ‬
‫بها في سورية وأقطار أخرى ّ‬

‫إن تركي ة ومص ر‬


‫وحدتهم القومية فسبقتهم إليه ا األمم ال تي لم تستس لم له ذا اإلغ راء‪ ،‬ح تى ّ‬

‫تفاهمت ا على خس ارة الس وريين ل واء االس كندرون لألت راك بع د أن تمت له ذه (مص ر)‬

‫ورية‪.‬‬ ‫يناء من س‬ ‫رة س‬ ‫به جزي‬ ‫لخ ش‬ ‫يز س‬ ‫ع اإلنكل‬ ‫اق م‬ ‫باالتف‬

‫إن نظري ة مدرس ة األفغ اني وعب ده القائل ة "بالجامع ة اإلس المية" والدول ة الديني ة و"الجنس ية‬

‫الديني ة" للمحم ديين تق ول أن المحمدي ة دول ة وإ ن النص وص الدولي ة للمحمدي ة هي ال دين‪.‬‬

‫ف دعوة ه ذه المدرس ة هي إلى إقام ة دول ة ال دين "ومنازع ة ك ل ذي ش وكة في ش وكته"‬

‫ومحارب ة "األدي ان" األخ رى ل يرث المحم ديون أرض ها‪ ،‬ت أويالً لم ا ورد في الق رآن‪ ،‬وإ لى‬

‫جع ل قاع دة اإليم ان القت ال‪ .‬ف المؤمن ال يك ون ص حيح اإليم ان ح تى "يك ون أول أعمال ه‬

‫تقديم ما له وروحه في سبيل اإليمان‪ ،‬ال يراعي في ذلك عذراً وال تعلّة‪ ،‬وك ل اعت ذار في‬

‫القع ود عن نص رة اهلل فه و آي ة النف اق وعالم ة البع د عن اهلل"‪( .‬انظ ر الع روة ال وثقى ص‬

‫‪.)247‬‬

‫والحرك ة ال تي توج ه ه ذه ال دعوة إليه ا هي "جم ع كلم ة المس لمين"‪ ،‬فيطلب الس يد األفغ اني‬

‫‪88‬‬
‫من العلم اء "أن يس ارعوا إلى ه ذا الخ ير وه و الخ ير كل ه"! (أيض اً ص ‪.)248‬‬

‫الحقيق ة أن ه إذا ك ان ه ذا ه و الخ ير كل ه في المحمدي ة له ذه المدرس ة الفكري ة فم ذهبها‬

‫الص حيح ه و‪ :‬اإليم ان ببعض الكت اب والكف ر ب البعض اآلخ ر‪ ،‬وإ ن آي ات التح ريض على‬

‫القتال وإ ظهار "اإلسالم على الدين كله" قد نسخت اآلي ات الزكي ة الهادئ ة ال تي ترف ع القيم ة‬

‫ا‪.‬‬ ‫ة وأبطلت حكمته‬ ‫ة المادي‬ ‫ة على القيم‬ ‫الروحي‬

‫وبن اء على م ذهب ه ذه المدرس ة الفكري ة المحمدي ة يجب على الم ؤمن نب ذ مث ل ه ذه اآلي ة‬

‫إن‬
‫رب ك بالحكم ة والموعظ ة الحس نة وج ادلهم ب الّتي هي أحس ُن ّ‬
‫وهجره ا‪{ :‬ادعُ إلى س بيل ّ‬
‫ُ‬

‫رب ك ه و أعلم بمن ض ّل عن س بيله وه و أعلم بالمهت دين} (النح ل‪ .‬مكي ة‪ )125 :‬ومثله ا‬
‫ّ‬

‫ني عن الع المين} (العنكب وت‪ .‬مكي ة‪ )6 :‬ومثله ا‬


‫إن اهلل لغ ٌّ‬
‫فإنم ا يجاه د لنفس ه ّ‬
‫{ومن جاه د ّ‬

‫{وعب اد ال رحمن الّ ذين يمش ون على األرض هون اً وإ ذا خ اطبهم الج اهلون ق الوا س الماً}‬

‫(الفرق ان‪ .‬مكي ة‪ )63 :‬فه ذه اآلي ات وغيره ا كث ير مم ا أثبتن اه من قب ل ومم ا لم نثبت ه ليس ت‬

‫من الخير في ش يء‪ ،‬في ع رف مدرس ة الدول ة الديني ة والجنس ية الديني ة‪ ،‬ألنه ا ال تق ول إن‬

‫"ك ل اعت ذار في القع ود عن نص رة اهلل فه و آي ة النف اق وعالم ة البع د عن "اهلل"‪ ،‬فاآلي ة‬

‫المثبت ة ف وق القائل ة إن اهلل غ ني عن الع المين هي آي ة كاذب ة‪ ،‬وك ذلك اآلي ة القائل ة بال دعوة‬

‫إلى س بيل اهلل بالحكم ة والموعظ ة فهي باطل ة والم ؤمن ال ذي يعم ل به ا يك ون في ع رف‬

‫اً‪.‬‬ ‫ة منافق‬ ‫ذه المدرس‬ ‫ه‬

‫‪89‬‬
‫فالدين‪ ،‬لهذه المدرسة وأضرابها‪ ،‬ليس ما هو مثبت في القرآن كله وليس باإليمان بك ل م ا‬

‫ورد في ه‪ ،‬ب ل ه و م ا ش اءت أه واؤهم وم ذاهبهم‪ ،‬وباإليم ان ببعض الكت اب دون بعض‪ ،‬أو‬

‫باإليم ان ببعض الكت اب م رة‪ ،‬وببعض ه اآلخ ر م رة أخ رى في تقلُّب دائم‪.‬‬

‫إننا نعلم أن هذه الحجج القاطعة ال تي أوردناه ا ال تس ّد جمي ع أب واب الج َدل في وج ه أتْب اع‬

‫مدرس ة الجنس ية الديني ة‪ ،‬وكأنن ا نس مع بعض هم يقول ون‪ :‬إذا ك انت آي ات القت ال ونص رة اهلل‬

‫ال تبط ل آي ات ال دعوة بالحكم ة والموعظ ة واالكتف اء باإلرش اد واإلن ذار وس لك طري ق‬

‫اإلقن اع فه ل تبط ل ه ذه اآلي ات األخ يرة آي ات القت ال ونص رة اهلل؟‬

‫بعض آي ه إال لل ذين ال‬


‫َ‬ ‫وجوابن ا‪ :‬كال وأل ف كالّ‪ ،‬فبعض آي الكت اب ال يمكن أن يبط َل‬

‫يتدبَّرون ه‪ ،‬ف إذا أخ ذهم اله وس والزي غ عن كلم ة الح ق ه اجوا واحتج وا ببعض الكت اب‬

‫وعم وا عن بعض ه‪ .‬وق الوا إن الخ ير ك ل الخ ير في األخ ذ بآي ات معين ة واإلع راض عن‬

‫ا‪.‬‬ ‫وب إقفاله‬ ‫ول‪ :‬إن على قل‬ ‫تى يتم الق‬ ‫ةح‬ ‫ات معين‬ ‫آي‬

‫إن القتال فُ ِر َ‬
‫ض على المحمديين إلقامة الدين حيث يوجد من يريد إبطاله‪ ،‬أي حيث يك ون‬

‫ن زاع دي ني كال ذي ج رى في العرب ة م ع أه ل الش ّرك؛ أم ا حيث ال ُيوج د ش رك وحيث‬

‫وأم ة‪ ،‬ب المعنى االجتم اعي‪ ،‬فال دعوة إلى الجه اد‬
‫أم ة ّ‬
‫النزاع قائم بين مجتمع ومجتم ع‪ ،‬بين ّ‬

‫ال ديني ال ت د ّل إالّ على عقلي ة أولي ة كعقلي ة الع رب ال ذين لم يفهم معظمهم من المس يحية‬

‫‪90‬‬
‫غير شرب الخمر‪ ،‬وال من المحمدية غير طلب الغنائم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫الدين والفلسفة االجتماعية‬


‫‪ ‬‬
‫رأين ا أن نض ع ه ذه النظ رة الفلس فية التحليلي ة للرس الة المحمدي ة قب ل ب دء بحث نصوص ها كدول ة تس هيالً لفهم‬

‫ا‪.‬‬ ‫ة منه‬ ‫ها الدولي‬ ‫ل نصوص‬ ‫ا ولفهم مح‬ ‫ها ومراميه‬ ‫الة وأغراض‬ ‫ذه الرس‬ ‫ةه‬ ‫طبيع‬

‫قلنا‪ ،‬في ما تقدم‪ ،‬إن القسم المكي من الدعوة المحمدية هو األكثر اختصاصاً بالوجهة الدينية‪ ،‬وإ ن القس م الم دني‬

‫مختص ك ل‬
‫ٌّ‬ ‫ه و األك ثر اختصاص اً بالوجه ة الدولي ة‪ .‬والحقيق ة كله ا أق وى من ه ذا التعري ف‪ ،‬فالقس م المكي‬

‫االختص اص ب النص ال ديني فال يدخل ه ش يء من النص ال دولي‪ ،‬في حين أن القس م الم دني يدخل ه نص دي ني م ع‬

‫اختصاصه بالوجهة الدولية من ال دعوة‪ ،‬ذل ك أن غ رض ه ذا القس م ليس نقض غ رض القس م األول‪ ،‬ب ل تحقيق ه‪.‬‬

‫وقد قلنا أيضاً إن أول الدعوة ه و بمثاب ة أساس ها ألن ه يعيِّن غاي ة ال دعوة واتجاهه ا الص حيح قب ل أن يط رأ عليه ا‬

‫طرها التخ اذ أش كال مختص ة بس ير ال دعوة وواس طة تحقيقه ا‪ ،‬وليس بحقيق ة‬


‫من التفاع ل م ع البيئ ة م ا ق د يض ُّ‬

‫الدعوة وأغراضها األخيرة‪ .‬فالدعوة تعلن أوالً ثم يكون السعي لتحقيقها وتعميمها‪ ،‬فتحتك بالبيئة وتتفاعل معه ا‪،‬‬

‫ومن ه ذا االحتك اك والتفاع ل ينتج تط ور ال دعوة في نهجه ا التط بيقي ال ذي يحتم ل أن ُيكس ب ال دعوة األساس ية‬

‫النظرة الفلسفية التي يصلح استعداد البيئة الروحي والمادي لحملها‪ ،‬إذا لم تكن لها ه ذه النظ رة من الب دء‪ .‬وليس‬

‫نهج قياس ٌّي ع ام‪ ،‬ألن ه مختص بال دعوة والبيئ ة الناش ئة فيه ا‪ .‬وليس ت ال دعوات ذات نظ رة واح دة‪،‬‬
‫له ذا التط ُّور ٌ‬

‫‪91‬‬
‫تعداد خ اص‬
‫وليس ت البيئ ة واح دة في الع الم‪ ،‬ب ل متع ددة وعلى أن واع وخص ائص ش تى‪ .‬ولبعض البيئ ات اس ٌ‬

‫الستخراج نظرة إلى الحياة والكون تشمل جميع البيئات التي من نوعها كس ورية وإ قريكي ة‪ ،‬مثالً‪ ،‬فهات ان بيئت ان‬

‫نظرات وعقائد شملت العالم المتم دن كلَّه‪ .‬وس ورية ك انت قاع دة التفك ير اإلق ريكي نفس ه من غ ير‬
‫ٌ‬ ‫خرجت منهما‬

‫نفي خصائص ه الغني ة‪ .‬وم ا ق امت ب ه س ورية م ا ك ان يمكن أن تق وم ب ه بيئ ة أخ رى كالهن د أو الص ين‪ ،‬م ع غ نى‬

‫استعداد ليس أو لم يكن صالحاً الس تخراج نظ رة إلى الحي اة والك ون يمكن أن‬
‫ٌ‬ ‫ٍّ‬
‫كل منهما باالستعداد النفسي‪ ،‬ألنه‬

‫دن‪.‬‬ ‫الم المتم‬ ‫ع الع‬ ‫مل جمي‬ ‫تش‬

‫كذلك البيئ ة العربي ة ـ بيئ ة الص حراء والب داوة ـ بيئ ة الض روريات الحيوي ة والحلق ة المغلق ة لألفع ال النفس ية ـ هي‬

‫اص‪ ،‬بطبيعته ا ومزيجه ا ال دموي‪ ،‬الس تخراج نظ رة إلى الحي اة والك ون تش مل جمي ع البيئ ات‬
‫تعداد خ ٌّ‬
‫بيئ ة له ا اس ٌ‬

‫اد‬
‫ال تي من نوعه ا كالس الجقة والمغ ول وجمي ع الش عوب الفطري ة أو القريب ة إلى الب داوة‪ .‬وه ذه النظ رة هي‪ :‬إيج ُ‬

‫حتمي ال حاج ة للنفس بم ا وراءه أو م ا حول ه‪ ،‬أي‬


‫ٍّ‬ ‫راط مس تقيم ي ِ‬
‫وص ل إلى الغاي ة األخ يرة بواس طة ش رع‬ ‫ص ٍ‬
‫ُ‬

‫ؤمن الطريق ة العملي ة لحص ول ه ذه‬


‫تحدي د مط الب الحي اة بالحاج ات المعاش ية والتناس لية في وض ع ش رعي ي ِّ‬

‫المط الب المح دودة الجام دة ورفض جمي ع التص ورات الفلس فية المركب ة الخارج ة عن األولي ات الالزم ة إلقام ة‬

‫دودة‪.‬‬ ‫دة مح‬ ‫اة واح‬ ‫د لحي‬ ‫رع واح‬ ‫حراوية‪ .‬ش‬ ‫ة الص‬ ‫ا البيئ‬ ‫ة إليه‬ ‫دود المحتاج‬ ‫الح‬

‫تأمل مؤلِّف هذا البحث الفلسفي في النظرات الفلسفية والمبادئ المناقبية واتجاهاتها جعل ه يق ِّرر ه ذه القاع دة‪:‬‬
‫إن ُّ‬

‫ك ُّل دع وة‪ ،‬مهم ا ك ان ابت داؤها أو غرض ها األخ ير عام اً ش امالً لجمي ع الن وع اإلنس اني‪ ،‬ف إن نظرته ا إلى الحي اة‬

‫يمكنه ا أن تش ّذ‬
‫والك ون يجب أن تك ون منطبق ة على خص ائص البيئ ة ال تي تنش أ فيه ا واس تعدادها ال روحي‪ ،‬فال ُ‬

‫عن اس ِ‬
‫تعداد بيئته ا إالّ إذا خ رجت منه ا أو وجهت إلى غيره ا المخ الف له ا‪ .‬فال ش ك عن دنا في وج ود تج ُانس‬

‫‪92‬‬
‫ادي‬
‫وتراب ط بين ال دعوة أو الرس الة في جمي ع تفاص يلها والبيئ ة وجماعته ا البش رية في اس تعدادها النفس ي والم ّ‬
‫ُ‬

‫وظروفهم ا‪ .‬وال ش ك عن دنا في أن انتش ار ال دعوة وقبوله ا في البيئ ات األخ رى يجب أن يك ون خاض عاً لمب دأ‬

‫التجانس والترابط بين النظرة الفلسفية الخارجة من بيئة معينة واستعداد البيئات األخرى لقبولها والعمل به ا‪ ،‬أو‬

‫اريخي معيَّن‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ٍل ت‬ ‫عاً لعام‬ ‫اري أو خاض‬
‫ِّ‬ ‫َير اختي‬ ‫اغ‬ ‫ا له‬ ‫ان قبوله‬ ‫ديلها إذا ك‬ ‫لتع‬

‫تعمر ط ويالً في س ورية ألنه ا ك انت دون اس تعداد البيئ ة ال روحي‪ .‬والمس يحيةُ‬
‫اليهودية الشبه متمدنة لم تق در أن ِّ‬

‫الس وريةُ حين دخلَ ِت العرب ةَ انحطت ح تى ص ارت مج َّرد ل َّذ ٍ‬


‫ات جس دية كش رب الخم ر‪ ،‬فلم تج د نظرته ا إلى‬

‫ِّد النفس ببس ائط‬


‫الحي اة االجتماعي ة محالً له ا في النفس العربي ة الخاض عة لبيئ ة طبيعي ة تض يِّق أف ق التص ور وتقي ُ‬

‫العيش‪.‬‬

‫أمر ش غل عق ل الش عوب ال تي ارتقى تفكيره ا وأخ ذت شخص ية‬


‫إن حل مسألة مصير نفس اإلنسان بعد موته هو ٌ‬

‫الفرد تتميز فيها عن مجرد الشكل اإلنس اني الع ام‪ .‬ب ل إن االتص ال بحي اة بع د الم وت أو االنتق ال إليه ا ابت دأ يج ُد‬

‫ادات ِ‬
‫دفن‬ ‫س بيالً إلى نفس اإلنس ان ح ال ارتقائ ه النفس ي عن ح دود الحيوانيَّة وذل ك بواس طة ش عور ت ُّ‬
‫دل علي ه ع ُ‬ ‫ّ‬

‫األولي ة‪ .‬وال دين‪ ،‬في أساس ه وبع د ارتقائ ه‪ ،‬ه و عقي دة معرف ة مص در اإلنس ان‬
‫الم وتى في الش عوب والم دنيات َّ‬

‫ومع اده ومص ير الف رد األخ ير‪ .‬فه و‪ ،‬من ه ذه الناحي ة‪ ،‬ال يك ِّو ُن نظ رة إلى الحي اة والك ون ب المعنى االجتم اعي ـ‬

‫االقتص ادي ـ ال روحي‪ ،‬ولكن ه ي ؤثُّر أو يس اعد على إب راز ه ذه النظ رة ال تي يك ون منش أها الحقيقي في االس تعداد‬

‫ومعاده ا‪ ،‬فنق ول‬


‫تعدادها فهم كيفي ة مص در الحي اة َ‬ ‫النفسي للبيئة االجتماعية ـ الطبيعية التي يح ِّدد أو ِّ‬
‫يوس ع له ا اس ُ‬

‫بك ل تأكي د إن ال دين‪ ،‬حين يص بح عقي دة أساس ية تش مل المب دأ والمع اد‪ ،‬يص ُير مح ور جمي ع األفك ار الرامي ة إلى‬

‫دين واس طة إلب راز نظ رة‬


‫روحي‪ .‬فيك ون ال ُ‬
‫ّ‬ ‫تك وين نظ رة فلس فية في الحي اة والك ون ب المعنى االجتم اعي ـ ال‬

‫‪93‬‬
‫ة‪.‬‬ ‫دة الديني‬ ‫ق العقي‬ ‫ق تحقي‬ ‫رة طري‬ ‫ذه النظ‬ ‫ير ه‬ ‫ا تص‬ ‫اة كم‬ ‫ع إلى الحي‬ ‫المجتم‬

‫عند هذا الحد من التعليل ن رى وج وب تقري ر ه ذه الحقيق ة‪ :‬إن ال دين‪ ،‬من الوجه ة التاريخي ة االجتماعي ة‪ ،‬مس بب‬

‫دة‪.‬‬ ‫وخ العقي‬ ‫د رس‬ ‫عية بع‬ ‫ة الوض‬ ‫بباً من الوجه‬ ‫ير س‬ ‫ه يص‬ ‫بب‪ .‬ولكن‬ ‫ال س‬

‫جمي ع األدي ان في ال دنيا تخض ع له ذه القواع د ال تي اس تخرجناها من ال درس والتأم ل‪ ،‬ف إذا كن ا نبحث ال دين‬

‫اإلس المي المس يحي عليه ا فال ُب َّد من بحث ال دين اإلس المي المحم دي أيض اً بالطريق ة ال تي تعيِّنه ا‪.‬‬

‫قلن ا في م ا س بق إن أغ راض ال دين اإلس المي األخ يرة ال تي تجم ع ك ل فك رة ال دين ثالث ة هي‪:‬‬

‫ُّ‬
‫وتجنب الش ر‪3 .‬ـ تقري ُر خل ود النفس‬ ‫رض عم ل الخ ير‬ ‫ِ‬ ‫‪1‬ـ إحال ُل االعتقاد باهلل الواحد َّ‬
‫محل عبادة األص نام‪2 .‬ـ ف ُ‬

‫ر)‪.‬‬ ‫اب (الحش‬ ‫واب والعق‬ ‫والث‬

‫وقلن ا أيض اً إن ه ذه األغ راض هي أس اس دع وة محم د وص لبها‪ ،‬وإ َّن م ا تبقى ه و األم ور الش كلية ال تي تتّخ ذ‬

‫وسائل لبلوغ هذه األغراض‪ ،‬وهي أيضاً جوهرية‪ ،‬ولكن أهميته ا نس بية من الوجه ة الديني ة البحت‪ .‬وعنين ا به ذا‬

‫اإليضاح أن األغراض الديني ة البحت هي ال تي ال تش تمل في ح د ذاته ا على النظ رة إلى الحي اة والك ون ب المعنى‬

‫االجتماعي ـ االقتصادي ـ الروحي‪ ،‬بل تقتصر على تعيين المبدأ والمعاد في ما وراء المادة أو بعد الم وت وقب ل‬

‫ال والدة‪ .‬وبن اء على ه ذا التحلي ل تك ون حقيق ة ال دين في الغرض ين األول والث الث‪ ،‬أم ا الغ رض الث اني فه و ال ذي‬

‫يح ُّل مس ألة الفائ دة أو الض رورة الرتب اط العقائ د المج اوزة ح دود الم َّ‬
‫ادة بالحي اة اإلنس انية في مختل ف أش كالها‬

‫وظروفها‪ ،‬وفيه تظهر النظرة إلى الحياة والكون بالمعنى االجتماعي ـ االقتص ادي ـ ال روحي في تع يين األش كال‬

‫‪94‬‬
‫تقر دائم للنفس‬
‫واألل وان ال تي قلن ا إنه ا جوهري ة‪ ،‬م ع نس بية أهميته ا لغاي ة ال دين األخ يرة ال تي هي إيج اد مس ّ‬

‫اإلنس انية في اهلل‪ .‬وق د جعلن ا الغ رض الث اني في ص لب أغ راض ال دين من حيث لزوم ه لك ّل فك رة فلس فية في‬

‫ون‪.‬‬ ‫اة والك‬ ‫رة إلى الحي‬ ‫ة ال تعيِّن نظ‬ ‫ة مطلق‬ ‫حال‬

‫وق د بيَّن ا في م ا تق دم من ه ذا البحث َّأنه ال خالف بين المس يحية والمحمدي ة في حقيق ة ال دين أو على األغ راض‬

‫الديني ة البحت‪ .‬وأثبتن ا‪ ،‬بالش واهد الكث يرة‪ ،‬أن الق رآن نفس ه يق ُّر أن ال دين واح ٌد في المس يحية والمحمدي ة‪ ،‬فال‬

‫حي أو جم اد‪ ،‬وب العودة في األخ ير إلى‬ ‫خالف بينهما في اإلقرار بإله واحد خالق السموات واألرض ِّ‬
‫وكل كائن ٍّ‬

‫ا في الجحيم‪.‬‬ ‫ا في النعيم وإ م‬ ‫ود إم‬ ‫ون الخل‬ ‫اهلل حيث يك‬

‫م ع ذل ك فق د ك َّونت ك ٌّل من ه اتين المل تين نظ رة إلى الحي اة والك ون ق امت عليه ا قواع د اجتماعي ة ـ اقتص ادية ـ‬

‫روحي ة مس تقلة عن نظ رة المل ة األخ رى وقواع دها‪ .‬وه ذا التب اين أو االختالف ليس ناتج اً عن تب ُاين أو اختالف‬

‫دوي الالعم راني‪ .‬ويظه ر‬


‫ربي الب ِّ‬
‫في ال دين‪ ،‬ب ل عن تب ُاين المجتم ع الس وري الم دني‪ ،‬العم راني‪ ،‬والمجتم ع الع ِّ‬

‫ه ذا التب اين في التفاص يل واألش كال ال تي ال أهمي ة كب يرة له ا بالنس بة إلى اهلل والفك رة الديني ة األساس ية وال تي‬

‫يصير لها كل األهمية بالنسبة إلى المجتمع واستعداده ال روحي ونظرت ه إلى الحي اة والك ون‪ .‬فمن الوجه ة الديني ة‬

‫كلي غ ير ج وهري‪ ،‬ألن ك َّل مجتم ع قص د إقام ة الخ ير وإ فن اء الش ر‪ .‬ومن الوجه ة االجتماعي ة‬
‫االختالف ش ٌّ‬

‫جوهري أساسي ألنه يقوم على تعري ف الخ ير والش ر وتحدي دهما وط رق إبق اء الواح د وإ زال ة اآلخ ر‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫االختالف‬

‫وعلى ه ذه الط رق يتوق ف مق دار ص الح الحي اة اإلنس انية االجتماعي ة قب ل االنتق ال إلى الحي اة الس رمدية‪.‬‬

‫اختالف دي ني ق ط‪ ،‬فاهلل يقب ل الخ ير وي رفض الش ر ـ خ ير ك ِّل محم ِّ‬


‫دي‬ ‫ٌ‬ ‫اين أو‬
‫بن اء علي ه ال يك ون هنال ك تب ٌ‬

‫‪95‬‬
‫ق بين خير الواحد وخير اآلخر وبين شر الواحد وشر اآلخ ر‪ ،‬ألن اهلل‪،‬‬ ‫وشر ٍّ‬
‫كل منهما‪ ،‬من غير تفري ٍ‬ ‫ومسيحي َّ‬
‫ّ‬

‫حس ب فلس فة العقي دة الديني ة‪ ،‬ال يهتم باألش كال‪ ،‬ب ل باألس اس‪ ،‬ه ذا إذا حس بنا اهلل واح داً لجمي ع األدي ان اإللهي ة‪.‬‬

‫السوري قد ال يك ون خ َير الع ربي‬ ‫شر هو اإلنسان وليس اهلل‪ .‬فخير‬ ‫ُ َّ‬ ‫ولكن الذي ال يقب ُل َّ‬
‫ِّ‬ ‫يرفض كل ّ‬ ‫كل خير وال‬

‫وري خ ير‬
‫ربي ق د ال يك ون خ َير األلم اني واإلنقل يزي‪ .‬ولكن ق د يك ون خ ير الس ِّ‬
‫أو خ َير الهن دي‪ ،‬وخ ُير الع ِّ‬

‫خير العربي خ َير الس لجوقي واألفغ اني والمغ ولي وغ يرهم‪.‬‬
‫اإلقريكي واإللماني واإلنقليزي وغيرهم‪ ،‬وقد يكون ُ‬

‫اهلل يقب ل خ ير المس لم المس يحي في ص الته وب ِّره من غ ير وض و ٍء ومن غ ير حس ٍ‬


‫بان لمس النس اء تنجُّس اً‪ ،‬وفي‬ ‫ّ‬
‫االكتف اء بزوج ة واح ٍ‬
‫دة‪ ،‬وبمعموديت ه من غ ير خت ان‪ ،‬وفي ع دم تحجيب النس اء‪ ،‬وب ترك الحري ة للش رع ليتط ور‬

‫ُّ‬
‫وتجنب ه التنجس‬ ‫دي في ص الته وب ِّره ووض وئه‬
‫حس ب تط ور اإلنس انية وحاجاته ا‪ .‬واهلل يقب ل خ ير المس لم المحم ِّ‬

‫بلمس النس اء قب ل الص الة وبغس ل الوج ه والي دين إلى الم رفقين ومس ح ال رأس وال رجلين والتقيُّد بالش رع الث ابت‬

‫الجام د وب التزوج مث نى وثالث ورب اع م ع الع دل بين النس اء وتحجيبهن من أج ل الخ ير‪ .‬ك ُّل خ ير يقبل ه اهلل‬

‫حيث الم اء قلي ٌل‪ ،‬ال ُيس مح باالس تحمام ك َّل ي وم‪،‬‬
‫خيره ا‪ :‬ففي الص حراء‪ُ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫بص رف النظ ر عن ش كله‪ ،‬ولك ل بيئ ة ُ‬

‫ويك ون الوض وء وغس ل الوج ه والي دين إلى الم رفقين ومس ح ال رجلين من الخ ير‪ .‬وفي المعم ور واألرض‬

‫الخص بة حيث الص ابون والم اء غزي ر يص ُّح اس تعماله بك ثرة فاالس تحمام ك َّل ي وم أو م رتين في األس بوع م ع‬

‫غسل الوجه واألطراف ِّ‬


‫وكل جز ٍء من الجسم نضح منه عرق أو أصابه شيء من القذارة في كل يوم يغ ني عن‬

‫ق ل ه في س ورية أن يلمس ام رأة قب ل الص الة ول ه من تربيت ه م ا يص رف‬


‫الوض وء ويك ون من الخ ير‪ .‬ومن يتف ُ‬

‫يء من ال دنس حين االق تراب‬


‫نفسه عن الشهوات الجامح ة ال حاج ة ب ه للتطهُّر بالوض وء ألن ه لم ي داخل نفس ه ش ٌ‬

‫إلى اهلل‪ .‬ومن كان في الصحراء عازماً على الصالة ولمس امرأة بع د الوض وء فث ارت ش هوته فص الته في ه ذه‬

‫شعوره قد زاغ‪ .‬ومنعاً لهذا الضرر يتوجب على كل من لمس امرأة بعد وضوئه للصالة أن‬
‫َ‬ ‫تفيده ألن‬
‫الحالة ال ُ‬

‫‪96‬‬
‫يعي د وض وءه من قبي ل االحتي اط لس المة ش عوره‪ ،‬وه ذا من الخ ير‪ .‬ولكي نفهم نفس ية لع ربي ال تي أوجبت ه ذا‬

‫االحتي اط ُن ورد م ا ذك ره قت ادة‪ ،‬وه و‪" :‬ك ان الرج ل يعتك ف فيخ رج إلى امرأت ه فيباش رها ثم يرج ع" وفي ذل ك‬

‫روهن وأنتم ع اكفون في المس اجد‪ ،‬تل ك ح دود اهلل فال تقربوه ا} (البق رة‪)187 :‬‬
‫ّ‬ ‫اس تنزل محم د الق ول {وال تباش‬

‫فهذه حالة استعداد روحي ال تطيق قول المسيح "إن ك ل من نظ ر إلى ام رأة لكي يش تهيها فق د زنى به ا في قلب ه"‬

‫(متى‪ 5 :‬ـ ‪ )28‬فإن هذا التعليم المسيحي ال يمكنه أن يالقي قبوالً في بيئة كالعربة‪ ،‬ألنه يطلب من أهلها ما هو‬

‫ولكن اإلنس ان ال يقب ل الخ َير كلَّه ألن ه ال‬


‫َّ‬ ‫مخ الف الس تعدادهم ال روحي‪ .‬واهلل يقب ل ه ذا الخ ير وذاك‪ ،‬ألن ه خ ير‪.‬‬

‫ي درك أو لم ي درك الخ ير كل ه‪ .‬ف الخير لإلنس ان ه و م ا تع َّوده وت ربَّى علي ه وتك ّونت من ه نظرت ه إلى الحي اة‪.‬‬

‫وعدم الخت ان للب دوي المحم دي أو اليه ودي ال ذي ك ان ب دوياً ليس من‬
‫ُ‬ ‫المسيحي ليس من الخير‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فالختان للمتمدن‬
‫ُ‬

‫الخ ير‪ .‬وجمي ع ذل ك من األم ور المالزم ة لفلس فة الحي اة وليس لعقي دة ال دين‪ ،‬أي لإليم ان باهلل الخ الق ال ذي إلي ه‬

‫دين في مجتم ع مخ ٍ‬
‫الف في االجتم اع والثقاف ة الروحي ة للمجتم ع ال ذي‬ ‫ترج ع النف وس واألم ور‪ .‬وحيثم ا انتش ر ٌ‬
‫خ رج من ه ال دين ال ب َّد أن يط رأ على النظ رة إلى الحي اة ال تي ِ‬
‫يحملُه ا ه ذا ال دين تع دي ٌل أو تغي ٌير يواف ق اس تعداد‬ ‫ُ‬

‫المجتم ع ال روحي‪ .‬والمحمدي ة ق د م رت في ه ذا االختب ار‪ ،‬فحيث انتش رت في بيئ ات راقي ة في التم دن كس ورية‬

‫َّ‬
‫المركب ات‪.‬‬ ‫أخذت نظرتُها إلى الحي اة تتخ ذ ش كالً غ َير الش كل المع روف في الص حراء‪ ،‬ف ارتقت من البس ائط إلى‬

‫ذهب جدي د في اإلس الم ي رمي إلى جع ل ال دين عب ارة عن عب ادة بس ٍ‬


‫يطة تواف ق النفس ية‬ ‫والي وم تق و ُل العرب ةُ بم ٍ‬
‫َ‬

‫الوهابي ة‪ .‬والمس يحية حين دخلت الص حراء اتخ ذت أش كاالً بس يطة على ق ْدر اس تعداد البيئ ة فص ارت‬
‫العربي ة‪ّ :‬‬

‫رموز والدة المسيح عبارةً عن زواج بسيط جرى بين اهلل ومريم‪ .‬حتى إنه قام دلي ل على‬
‫ُ‬ ‫ب خمر وصارت‬
‫شر َ‬
‫ْ‬

‫أن بعض االعتق ادات المس يحية في العرب ة ق الت بتثليث اآلله ة بالفع ل فق الوا‪" :‬األب واألم واالبن"‪ ،‬والم رجح أن‬

‫القرآن أبطل ه ذا التثليث ال ذي جع ل اآلله ة ثالث ة‪ .‬ودليلُن ا ق و ُل اآلي ة {وإ ذ ق ال اهلل ي ا عيس ى ابن م ريم أأنت قلت‬

‫وأمي إلهين من دون اهلل الخ} (المائدة‪ )116 :‬وهذا يدل على االعتقاد بألوهي ة م ريم أيض اً وه ذا‬
‫للناس اتّخذوني ّ‬
‫ّ‬

‫‪97‬‬
‫م ا ال يق ول ب ه أح د من المس يحيين المتم دنين‪ .‬أم ا النظ رة إلى الحي اة ال تي تحمله ا تع اليم المس يحية فلم يمكن‬

‫ة‪.‬‬ ‫ة العربي‬ ‫والً في البيئ‬ ‫د قب‬ ‫ا ولم تج‬ ‫تطبيقه‬

‫ادم في اإلس الم بين المس يحية والمحمدي ة‬ ‫ه ذه هي النظ رة ال تي جعلتن ا نج زم ب أن ال دين كلَّه للّ ه ب دون ِّ‬
‫أي تص ُ‬

‫وبانتش ار ك ٍّل من ه ذين الم ذهبين في البيئ ات األك ثر موافق ة وقب والً لتعاليم ه‪ .‬ولكن الص عوبة لقب ول ه ذا المب دأ‬

‫ديني ي َّدعي أن ه ه و ال دين كلُّه لجمي ع البش ر‪ ،‬اس تناداً‬ ‫تنشأ من االعتقاد بكلية المذهب الديني‪ُّ .‬‬
‫فكل ٍ‬
‫دين أو م ذهب ّ‬

‫يتحول وا‬
‫حصر هذه الصعوبة في رج ال ال دين‪ ،‬أم ا أبن اء المجتم ع فيجب أن َّ‬
‫ُ‬ ‫إلى كلية فكرة اهلل‪ .‬ومع ذلك فيمكن‬

‫عن الج دل العقيم إلى فهم نفس ية مجتمعهم والعم ل على إس عاده‪ ،‬ت اركين الحكم في االختالف ات الديني ة للّ ه‪.‬‬

‫أم ا وق د اتض ح لن ا جي داً م ا ه و الف رق بين اإلمك ان ال ديني في أساس ه والنظ رة الفلس فية إلى الحي اة والك ون ال تي‬

‫تك ون وس يلة تحقي ق ال دين فيمكنن ا أن نتق دم اآلن إلى درس موض وع المحمدي ة كدول ة‪.‬‬

‫قلن ا‪ ،‬في م ا تق دم‪ ،‬إن دع وة محم د ك انت إلى اهلل ال ذي عرفت ه الكتب الديني ة ال تي س بقت الق رآن (الت وراة‬

‫واإلنجيل)‪ ،‬وذلك ألن معظم العرب كانوا عبدة أصنام وفي حالة توحش شديد‪ ،‬إذ لم تتمكن المس يحية من جلبهم‬

‫اليهودي ة من‬
‫ّ‬ ‫إلى اهلل بواس طة نظرته ا إلى الحي اة وقاع دتها الفلس فية المخالف ة الس تعداد أه ل العرب ة‪ ،‬ولم تتم ّكن‬

‫رائيل‪.‬‬ ‫ني إس‬ ‫اً على ب‬ ‫تي جعلت اهلل وقف‬ ‫ية ال‬ ‫ا الخصوص‬ ‫ل نظرته‬ ‫ك بعام‬ ‫ذل‬

‫المعرف في التوراة واإلنجيل‪ ،‬بل إلى إل ه المس يحية واليهودي ة أيض اً‪.‬‬
‫َّ‬ ‫لم تكن دعوة محمد إلى إله جديد غير اهلل‬

‫ولكن ه خط أ ت أويالت مس يحيِّي الع رب في س وء فهمهم والدة المس يح تثليث األق انيم ال تي هي إلل ه واح د‪ .‬وم ا‬

‫‪98‬‬
‫أثبتن اه من اآلي القرآني ة يكفي للبره ان على أن دع وة محم د حس بت اهلل واح داً وال دين واح داً من ذ الب دء‪ ،‬وأن‬

‫ذين آتين اهم الكت اب من قبل ه هم ب ه يؤمن ون‪ .‬وإ ذا يتلى‬


‫اإلس الم ه و إس الم األم ر هلل من قب ل محم د ومن بع ده {ال َ‬

‫كن ا من قبل ه مس لمين} (القص ص‪ 52 :‬ـ ‪ ،)53‬أي ّإن ا كن ا مس لمين هلل‬


‫ربن ا ّإن ا ّ‬ ‫آمن ا ب ه ّإن ه الح ُّ‬
‫ق من ّ‬ ‫عليهم ق الوا ّ‬

‫من قبل القرآن‪ .‬ومع كل ما ورد في القسم المدني من إقامة أسباب دولة اإلسالم المحم دي ف إن الق رآن لم يبط ل‬

‫يحي‪ ،‬ففي س ورة "المائ دة" ال تي ورد فيه ا الح ديث‪" :‬المائ دة من آخ ر الق رآن‬
‫ودي وال اإلس الم المس َّ‬
‫اإلس الم اليه َّ‬

‫نزوالً فأحلوا حاللها وحرموا حرامها" لم ينقض القرآن قيمة التوراة واإلنجيل فق ال‪{ :‬وكي ف يح ّكمون ك (اليه ود)‬

‫ور‬
‫وعن دهم التّ وراة فيه ا حكم اهلل ثم يتولّ ون من بع د ذل ك وم ا أولئ ك ب المؤمنين‪ّ .‬إن ا أنزلن ا التّ وراة فيه ا ه ًدى ون ٌ‬

‫الن ّبيون الّذين أس لموا للّ ذين ه ادوا الخ‪ . . .‬ومن لم يحكم بم ا أن زل اهلل (الت وراة) فأولئ ك هم الظَّالمون}‬
‫يحكم بها ّ‬

‫(المائ دة‪ 43 :‬و‪ 44‬و‪ )45‬وق ال أيض اً من الس ورة عينه ا {وليحكم أه ل اإلنجي ل بم ا أن زل اهلل في ه ومن لم يحكم‬

‫بم ا أن زل اهلل (اإلنجي ل) فأولئ ك هم الفاس قون} (المائ دة‪ )47 :‬فثبَّت الق رآن‪ ،‬م رة أخ رى‪ ،‬ص حة ك ون الت وراة‬

‫مرجع اً لليه ود وص حة ك ون اإلنجي ل مرجع اً للمس يحيين‪ ،‬وأك د قول ه الس ابق "وهم (أه ل الكت اب) على ص التهم‬

‫يح افظون" أي ّإن ه ال حاج ة بهم لتغي ير دينهم م ع اإليم ان ب القرآن‪ ،‬إذ ال دين واح د وأم ة أص حاب الكتب المنزل ة‬

‫هي في القرآن "أم ة واح دة" في األص ل واألس اس‪ ،‬ولكنهم ص اروا أمم اً بم ا ش رع اهلل لك ل فري ق منهم‪{ :‬وأنزلن ا‬

‫بالحق مص ّدقاً لم ا بين يدي ه من الكت اب (الت وراة واإلنجي ل) ومهيمن اً علي ه ف احكم بينهم بم ا أن زل اهلل‬
‫ّ‬ ‫إليك الكتاب‬

‫ق لك ّل جعلن ا منكم (أي لك ل‬


‫عم ا ج اءك من الح ّ‬
‫(أي بك ل م ا أن زل اهلل حس ب ترتيب ه الس ابق) وال تتّب ع أه واءهم ّ‬

‫منكم يع ني لك ل فري ق منكم جعلن ا) ش رعة ومنهاج اً ول و ش اء اهلل لجعلكم أم ة واح دة ولكن ليبل وكم في م ا آت اكم‬

‫فينبئكم بم ا كنتم في ه تختلف ون} (المائ دة‪.)48 :‬‬


‫فاس تبقوا الخ يرات‪ ،‬إلى اهلل م رجعكم جميع اً ّ‬

‫أي اتج اه لالص طدام م ع الموس ويين‬


‫تؤكد هذه اآليات القرآنية قولنا السابق ّإنه لم يكن في بدء الرسالة المحمدي ة ُّ‬

‫‪99‬‬
‫أو المس يحيين في ن زاع على ادع اء ص حة الرس الة أو نقض التع اليم‪ .‬وم ا عنين اه من ب دء الرس الة ه و أساس ها‬

‫رحه‪.‬‬ ‫اش‬ ‫بق لن‬ ‫اس‬ ‫ير كم‬ ‫ها األخ‬ ‫وغرض‬

‫وإ ذا تدبَّرنا القرآن سورة سورة حسب تعاقب االستنزال وجدنا َّ‬
‫أن السور تعاقبت في التسبيح هلل وقدرت ه وتبش ير‬

‫ال ذين ال كت اب لهم بملكوت ه وثواب ه وإ ن ذار المك ذبين والمبطلين بعقاب ه‪ .‬وأخ ذ يثبت دعوت ه ب الوحي ال ذي اش تمل‬

‫على قص ص م ا ورد في الت وراة واإلنجي ل‪ .‬فق اوم دعوت ه عب دة األوث ان‪ ،‬وه زأوا من قول ه إن األم وات يقوم ون‬

‫من القب ور ي وم الحس اب‪ ،‬فع الج حججهم َّ‬


‫وذكرهم ه زء الن اس األولين من األنبي اء والرس ل الس ابقين‪ ،‬واستش هد‬

‫على صحة رس الته ب الكتب الس ابقة‪ ،‬كم ا أثبتن ا في موض ع متق دم‪ ،‬وأعطى الع رب ص ورة الجن ة ونعيمه ا المالئم‬

‫للنفس ية العربي ة‪ .‬ولكن كرازت ه الطويل ة لم تثم ر س وى نف ر قلي ل من ذوي النف وس الش عرية‪ .‬فاض طهدته ق ريش‬

‫الكرة وتابع الكرازة دون كبير توفيق‪ ،‬فالكلمة لم تالق آذان اً‬
‫فهرب وصحابته الذين التجأوا إلى الحبشة‪ .‬ثم أعاد َّ‬

‫ص اغية‪ ،‬خصوص اً ألن ال دعوة لم تش تمل على س وى م ا يص يب النفس بع د الم وت‪ ،‬فلم ُيع ط ذل ك للع رب ش يئاً‬

‫تشتغل به عقولهم ونفوسهم جملة في حياتهم‪ ،‬ألنه لم يكن لهم اس تعداد لالش تغال بم ا وراء الطبيع ة وهم في أش د‬

‫الحاجة لالشتغال بما ضمن الطبيعة‪ ،‬وألن طبيعة بيئتهم ونوع حياتهم كانا دون المستوى الذي يس مح باالش تغال‬

‫بالمسائل الروحية والفكرية المجردة عن الطبيعة المادي ة والض رورات العملي ة‪ .‬وم ع أن تص وير الجن ة ك ان بم ا‬

‫ي في ظالل وعي ون وح ور عين وحل ل بديع ة وذهب وفض ة‪ ،‬ف إن النفس‬


‫اد ّ‬
‫تت وق إلي ه نفوس هم من النعيم الم ّ‬

‫العربي ة لم تكن مس تعدة لالنص راف إلى التفك ير بغ ير الش ؤون البس يطة القريب ة المتن اول‪ .‬وق د بقي محم د يبش ر‬

‫وينذر في مكة مدة ثالث عشرة سنة‪ ،‬أي عشر سنين زي ادة على م دة تعليم المس يح‪ ،‬دون أن يتبع ه غ ير األف راد‬

‫كو نوا حلق صحابته‪ .‬فوقعت الرسالة في مأزق كان ال بد من فتح منفذ فيه إذا كان يجب أن تت ابع عمله ا‪.‬‬
‫الذين ّ‬

‫‪100‬‬
‫في المدة المكية كانت الدعوة وأغراض ها ق د تمت ووض حت ف إذا هي دع وةٌ إلى االعتق اد باهلل الواح د وب الرجعى‬

‫إلى اهلل والعق اب والث واب وبوج وب فع ل الخ ير ُّ‬


‫وتنكب الش ر من غ ير تع يين لم ا ه و الخ ير وم ا ه و الش ر إلى‬

‫اإليم ان باهلل (والكف ر ب ه)‪ .‬وفي ع دم التع يين لم ا ه و الخ ير وم ا ه و الش ر في مج رى الحي اة اإلنس انية لم يكن‬

‫للدعوة نظرة إلى الحياة والكون بالمعنى االجتماعي ـ االقتصادي ـ ال روحي‪ ،‬وه ذا ك ان نقط ة ض عف ال دعوة في‬

‫ِّن االتج اه في الحي اة فقليالً م ا يش غل أفك ار المحت اجين إلى ه ذه‬


‫الطّ ور المكي‪ .‬فب دون وج ود نظ رة أو فلس فة تعي ُ‬

‫النظ رة م ا يمكن أن يك ون بع د الم وت‪ .‬فك ان يجب أن يك ون للرس الة غ رض واض ٌح في الحي اة يج د محالًّ في‬

‫نف وس الم دعوين إليه ا‪ .‬وه ذا الغ رض ه و بالنس بة إلى النظ رة الديني ة البحت ال تي ت دور على مس ائل م ا بع د‬

‫ثنوي وواس طةٌ فق ط إلى الغ رض األخ ير‪ .‬وه ذا المب دأ يش مل المحمدي ة والمس يحية وك َّل دين‬
‫ٌّ‬ ‫غرض‬
‫ٌ‬ ‫الموت‪ ،‬هو‬

‫إلهي قال بخلود النفس واالنتقال إلى اآلخرة‪ ،‬ولذلك أجاب المسيح ع الم الن اموس ق ائالً‪ :‬اعم ل ف رائض الن اموس‬

‫رائض المحمدي ة فإنه ا ليس ت س وى واس طة التق ُّرب إلى اهلل واكتس اب رض اه لين ال‬
‫ُ‬ ‫فتحيا الحياة األبدي ة‪ .‬وهك ذا ف‬

‫َّ‬
‫ولكن النظ رة االجتماعي ة ـ االقتص ادية ـ الروحي ة هي‪ ،‬من‬ ‫المحم دي الخل ود في الجن ة الموص وفة في الق رآن‪.‬‬

‫رض األساس ُّي من ال دين‪ .‬ومن ه ذه الوجه ة‬


‫الوجهة الفلس فية االجتماعي ة أو م ا يجب أن يك ون له ذه الوجه ة‪ ،‬الغ ُ‬

‫التي تهتم بما قبل الموت وباستمرار الحياة في هذه الدنيا‪ ،‬ليس الدين سوى الغ رض الثن وي أو الواس طة لتحقي ق‬

‫الغرض األولي األساسي‪ ،‬الذي ه و‪ ،‬أو م ا يجب أن يك ون‪ ،‬حص و ُل نظ رة إلى الحي اة االجتماعي ة ـ االقتص ادية ـ‬

‫ِّن شرعة أو قاع دة يك ون فيه ا أك ثر الخ ير والص الح للمجتم ع بمع نى الواق ع االجتم اعي ال ذي أش رنا‬
‫الروحية تعي ُ‬

‫اً‪.‬‬ ‫ه آنف‬ ‫إلي‬

‫ولم ا لم يكن محم د فيلس وفاً اجتماعي اً‪ ،‬ب ل نبي اً إلهي اً‪ ،‬ف إن نظرت ه هي النظ رة الدينيَّة‪ ،‬وغرض ه األخ ير ه و إقام ة‬

‫الدين‪ .‬وكل نظرة أخرى يجب أن تكون مجرد نظرة ثنوية أو واسطة إلقام ة ال دين والوص ول إلى خل ود الجن ة‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫وبن اء علي ه نق ول بتأكي د َّ‬
‫إن حقيق ة ال دين وأس اس ال دعوة المحمدي ة ه و م ا اش تمل علي ه الطّ ور المكي ال ذي ه و‬

‫الط ور ال روحي الم َّنزه عن ش ؤون الع الم ال دنيوي‪ ،‬المتج هُ نح و مق ِّر النفس األخ ير في م ا وراء الم ادة‪ ،‬وإ ن‬

‫االتج اه ال دنيوي ال ذي س لكه الط ور الم دني ليس س وى الواس طة أو الطريق ة للقض اء على عب ادة األص نام وإ قام ة‬

‫ة‪.‬‬ ‫دة المكي‬ ‫ل في الم‬ ‫ذي اكتم‬ ‫ير ال‬ ‫ديني األخ‬ ‫رض ال‬ ‫ام الغ‬ ‫ة إلتم‬ ‫رة الديني‬ ‫الفك‬

‫قلن ا إن بع د ثالث عش رة س نة من ال دعوة إلى اهلل من غ ير نج اح في الجماع ات والجم اهير وص لت الرس الة إلى‬

‫م أزق لم يع د ممكن اً له ا التق دم في ه بواس طة مج رد التبش ير واإلن ذار‪ ،‬وص ار من الالزم اتخ اذ خط ة أخ رى‪ .‬وال‬

‫ش ك أن محم داً َّ‬


‫فكر ملي اً في م ا يجب فعل ه‪ ،‬ووض ع خط ة عق د العزيم ة على تنفي ذها‪ ،‬وق د اش تملت ه ذه الخط ة‬

‫على خط وط النفس ية العربي ة والتفك ير الع ربي ال تي ن رى‪ ،‬عن د التحقي ق‪ ،‬أنه ا ت وازي خط وط النفس ية العبراني ة‬

‫والتفك ير الع براني قب ل أن أثَّرت المدني ة الس ورية على العبران يين تأثيره ا الكب ير ول ذلك نج د م وازاة تك اد تك ون‬

‫تام ة بين خط ة إقام ة ال دين المحمدي ة وخط ة إقام ة ال دين في اليهودي ة‪ ،‬وعالق ة وثيق ة بين الق رآن والت وراة وق د‬

‫بق‪.‬‬ ‫اس‬ ‫بابها في م‬ ‫ة وأس‬ ‫ذه العالق‬ ‫رنا إلى ه‬ ‫أش‬

‫في العهد المكي ك ان الخ ير والص الح كلُّه في اإليم ان باهلل‪ ،‬والش ُّر والطالح كل ه في الكف ر باهلل وعب ادة األص نام‬

‫(الشرك)‪ .‬هذا كل م ا ي ذكره الق رآن من الخ ير في الم دة المكي ة‪ ،‬إالّ آي ٍ‬


‫ات قليل ة أولي ة في أواخ ر الم دة كقول ه في‬

‫{ووص ينا اإلنس ان بوالدي ه حس ناً} (العنكب وت‪ )8 :‬ال تي‬


‫ّ‬ ‫س ورة "العنكب وت" وهي قب ل األخ يرة من العه د المكي‪:‬‬

‫ت وازي "أك رم أب اك وأم ك" في الت وراة‪ ،‬وكقول ه في س ورة "المطفّفين"‪{ :‬وي ٌل للمطفّفين‪ .‬ال ذين إذا اكت الوا على‬

‫الن اس يس توفون‪ .‬وإ ذا ك الوهم أو وزن وهم يخس رون} (المطففين‪ 1 :‬و‪ 2‬و‪ )3‬وفي م ا س وى ذل ك وم ا ش ابهه ال‬
‫ّ‬

‫تعيين لخير أو شر غير اإليمان باهلل أو الشرك به‪ .‬وهذه الفكرة األولي ة وح دها م ا ك انت كافي ة إلنش اء مل ة ذات‬

‫‪102‬‬
‫إيم ان جدي د من عب دة أص نام‪ .‬ولع ل خل َّو القس م المكي من تع يين الخ ير والش ر ونظ رة إلى الحي اة والع الم ك ان‬

‫اعتم اداً على أن ذل ك موج ود في الكتب المتقدم ة ـ في الت وراة واإلنجي ل الل ذين أوجب الق رآن على المحم ديين‬

‫اإليم ان بم ا ج اء فيهم ا‪ .‬وجمي ع س ور ه ذا القس م ت دل على أن القض اء على عب ادة األص نام وجلب الع رب إلى‬

‫عبادة اهلل التي تقدمت محمداً رس ٌل بال دعوة إليه ا وتبي ان س بلها كان ا الغاي ة القص وى من ال دعوة المحمدي ة‪ ،‬فليس‬

‫في القسم المكي غاية غيرها‪ ،‬ال كلية وال جزئية‪ .‬وسور القس م المكي ‪ 85‬أو ‪ 86‬س ورة ن زلت في ثالث عش رة‬

‫تمر‪ .‬وه ذه هي الوجه ة العام ة من المحمدي ة‪ .‬وهي‬


‫سنة وكلها تبشير وإ نذار ووعد ووعيد في ترتي ل ش عري مس ّ‬

‫لم تُ َك ِّون فك رة فلس فية تش مل الحي اة اإلنس انية بمناقبه ا ومثالبه ا وروحيته ا وماديته ا واجتماعياته ا واقتص ادياتها‬

‫ومثُله ا العلي ا‪ .‬فك ان ال ب د من إح دى الطريق تين‪ :‬إم ا أن ُيعلن محم د أن ه ذه الفك رة الفلس فية موج ودة في الت وراة‬

‫أو اإلنجي ل أو في كليهم ا فتك ون دعوت ه بمثاب ة دع وة إلى ه ذين الكت ابين‪ ،‬وإ م ا أن يوج د الفك رة أو النظ رة ال تي‬

‫تكون للعرب قضيتهم الروحية ـ االجتماعية ـ‪ .‬فاختار محم د الطريق ة األخ يرة‪ ،‬ألن ه َك ِرهَ تذب ُذب اليه ود‬
‫يمكن أن ّ‬

‫ونفاقهم‪ ،‬ولم يجد استعداداً في العرب للنظرة المس يحية ال تي ك انت مض طَّربة عن د مس يحييهم‪ .‬والحقيق ة أن ه ك ان‬

‫ال ب د من االس تقالل بتع يين طريق ة الحي اة الجدي دة للع رب نظ راً لخص ائص ب يئتهم‪ .‬ومن ج زم محم د بالطريق ة‬

‫الثانية نشأ الطور المدني الذي أخرج الدعوة من ملل تك رار تراتي ل التس بيح والتبش ير واإلن ذار والحم د والحض‬

‫والتهويل‪ ،‬إلى الشرع وإ قام ة ح دود المع امالت والعق ود ال تي ترف ع مس توى الحي اة العربي ة وتض بطها‪ .‬ولم ا ك ان‬

‫الع رب كلّهم‪ ،‬إالّ بعض هم‪ ،‬أم يين وبعي دين عن الثقاف ة والعلم‪ ،‬ك ان ال ب د من إقام ة الدول ة إلخض اعهم للش رع‬

‫تصرفاتهم‪.‬‬
‫وضبط ّ‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫نصوص المحمديّة كدولة‬ ‫‪ ‬‬

‫‪103‬‬
‫‪ ‬‬
‫ابت دأ الط ور الث اني‪ ،‬األخ ُير لل دعوة المحمدي ة‪ ،‬بهج رة محم د والص حابة‬

‫(المه اجرين) إلى المدين ة‪ .‬وأو ُل س ورة ن زلت بع د الهج رة أعطت‬

‫المثلى‬
‫ربي في الحي اة ُ‬
‫المحمدي ة اتجاهه ا الجدي د ال ذي أوج د الم ذهب الع َّ‬

‫مس تخرجاً من حي اة الع رب وحاجاته ا‪ ،‬وهي س ورة "البق رة"‪.‬‬

‫ود على ب دء ال دعوة‪ ،‬ففي ه تك رار التبش ير واإلن ذار‬


‫أول س ورة البق رة ع ٌ‬

‫ربكم الّ ذي خلقكم وال ذين من‬


‫الن اس اعب دوا ّ‬
‫والوع د والوعي د‪{ :‬ي ا ّأيه ا ّ‬

‫اء وأن زل‬


‫والس ماء بن ً‬
‫قبلكم لعلّكم تتّق ون‪ .‬الّ ذي جع ل لكم األرض فراش اً ّ‬

‫اء ف أخرج ب ه الثّم رات رزق اً لكم فال تجعل وا هلل أن داداً وأنتم‬
‫السماء م ً‬
‫من ّ‬

‫الص الحات‬
‫وبش ر الّ ذين آمن وا وعمل وا ّ‬
‫تعلم ون (البق رة‪ 21 :‬و‪ّ . . .)22‬‬

‫جنات تجري من تحتها األنهار كلّم ا رزق وا منه ا من ثم رة رزق اً‬


‫أن لهم ّ‬
‫ّ‬

‫أزواج مطهّ رةٌ‬


‫ٌ‬ ‫قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيه ا‬

‫وهم فيه ا خال دون} (البق رة‪ .)25 :‬ه ذه اآلي ات مث ٌل من أول س ورة‬

‫الجن ة م ع زوج ه ثم‬


‫البق رة‪ ،‬وي أتي بع ده إثب ات ذك ر خل ق آدم وإ س كانه ّ‬

‫س قوطهما من الجن ة‪ ،‬فيك ون ه ذا ال ذكر تمهي داً للعام ل السياس ي ال ذي‬

‫{ي ا‬
‫دد كث ير في المدين ة‪َ :‬‬
‫يظهر حاالً بمخاطبة يهود العرب ال ذين منهم ع ٌ‬

‫ب ني إس رائيل اذك روا نعم تي ال تي أنعمت عليكم وأوف وا بعه دي أوف‬

‫‪104‬‬
‫بعهدكم وإ ّياي فارهبون‪ .‬وآمنوا بما أن زلت مص ّدقاً لم ا معكم وال تكون وا‬

‫ّأول كافر به وال تشتروا بآياتي ثمناً قليالً وإ ّي اي ف اتّقون} (البق رة‪ 40 :‬و‬

‫‪ )41‬وتتابع السور مخاطبة بني إسرائيل‪ ،‬مذكرة إي اهم بفض ل اهلل عليهم‬

‫وتنجيتهم من آل فرع ون وإ خ راجهم من مص ر وتنزي ل "الكت اب‬

‫والفرق ان" على موس ى‪ ،‬وكي ف اعت نى اهلل بهم في التي ه وظللهم بالغم ام‬

‫وأن زل عليهم َّ‬


‫المن والس لوى‪ ،‬كم ا ه و م ذكور كل ه في الت وراة‪ .‬ثم كي ف‬

‫كف روا وعب دوا العج ل‪ ،‬وع اد اهلل فت اب عليهم‪ ،‬وأش ياء غ ير ذل ك من‬

‫قص ص اليه ود‪ .‬ثم تقط ع الس ورة ه ذه القص ص لتض ع ه ذه اآلي ة‪:‬‬

‫والص ابئين من آمن باهلل‬


‫ّ‬ ‫والنص ارى‬
‫{إن ال ذين آمن وا والّ ذين ه ادوا ّ‬
‫ّ‬

‫ربهم وال خ وف عليهم وال‬


‫واليوم اآلخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ّ‬

‫هم يحزن ون} (البق رة‪ .)62 :‬فيس تأنف القص ص بع دها‪ .‬ثم ت ذكر الس ورة‬

‫أمي ون ال يعلم ون الكت اب إالّ‬


‫جهل العرب اليهود األميين بالدين‪{ :‬ومنهم ّ‬

‫يظن ون} (البق رة‪ )78 :‬وه ذا يص دق على الع رب‬


‫أم اني وإ ن هم إالّ ّ‬

‫المسيحيين والمحمديين أيضاً‪ ،‬كما ورد بعد في سورة التوب ة وأثبتن اه في‬

‫ٍ‬
‫بحث سابق‪ .‬وتأتي آية أخرى تنذر الذين استغلوا أمية المؤمنين بالتوراة‬

‫ثم‬
‫ورووا الكت اب على ه واهم {فوي ٌل للّ ذين يكتب ون الكت اب بأي ديهم ّ‬

‫يقولون هذا من عند اهلل ليشتروا به ثمناً قليالً فوي ٌل لهم مما كتبت أي ديهم‬

‫مما يكسبون} (البقرة‪ )79 :‬وفي استمرار معالجة ح ال اليه ود‬


‫ووي ٌل لهم ّ‬

‫‪105‬‬
‫بالرس ل‬
‫ت أتي ه ذه اآلي ات‪{ :‬ولق د آتين ا موس ى الكت اب وقفّين ا من بع ده ّ‬

‫وأي دناه ب روح الق دس أفكلّم ا ج اءكم‬


‫البين ات ّ‬
‫وآتين ا عيس ى ابن م ريم ّ‬

‫رسو ٌل بما ال تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً ك ّذبتم وفريقاً تقتل ون‪ .‬وق الوا‬

‫ولم ا ج اءهم كت اب‬


‫ف ب ل لعنهم اهلل بكف رهم فقليالً م ا يؤمن ون‪ّ .‬‬
‫قلوبن ا غل ٌ‬

‫ق لم ا معهم وك انوا من قب ل يس تفتحون على ال ذين‬


‫من عن د اهلل ُمص ّد ٌ‬

‫كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعن ة اهلل على الك افرين} (البق رة‪:‬‬

‫‪ 87‬و‪ 88‬و‪ )89‬وه ذه اآلي ات تطلب من اليه ود أن ال يجح دوا رس الة‬

‫اجهم ب أغالطهم الس ابقة ض د المس يح وتح ّذرهم من عاقب ة‬


‫محم د وتح ُ‬

‫رفض اإليم ان ب القرآن‪ .‬وتت ابع الس ورة مجادل ة "أه ل الكت اب" في ص حة‬

‫ال دعوة المحمدي ة ووج وب اإليم ان به ا‪ ،‬وأن ه ليس ص حيحاً أن اإليم ان‬

‫يختص باليهودي ة أو بالنص رانية‪ ،‬فتتخلص من ه ذه المجادل ة إلى ه ذه‬

‫آمنا باهلل وما أنزل إلين ا وم ا أن زل إلى إب راهيم وإ س معيل‬


‫النتيجة‪{ :‬قولوا ّ‬

‫واسحق ويعق وب واألس باط وم ا أوتي موس ى وعيس ى وم ا أوتي الن ّبيون‬

‫ربهم ال ُنف ِّرق بين أح ٍد منهم ونحن ل ه مس لمون‪ .‬ف إن آمن وا بمث ل م ا‬
‫من ّ‬

‫فإنم ا هم في ش قاق فس يكفيكهم اهلل وه و‬


‫آمنتم ب ه فق د اهت دوا وإ ن تولّ وا ّ‬

‫السميع العليم} (البقرة‪ 136 :‬و‪ ،)137‬وهي نتيجةٌ كليةٌ تجعل ك ل إيم ان‬
‫ّ‬

‫باهلل حق اً فال يك ون ال دين وقف اً على م ذهب دون م ذهب‪ ،‬وهي نظ رة‬

‫ص ائبة إذا أض يف إليه ا م ا ورد في س ورة "المائ دة" أثبتن اه في الحلق ة‬

‫‪106‬‬
‫الس ابقة‪{ :‬لك ٍّل جعلن ا منكم ش رعةً ومنهاج اً‪ . . .‬إلى اهلل م رجعكم‬

‫جميع اً}‪ .‬فالنتيج ة الفكري ة كامل ة تام ة ال يرفض ها إالّ المتعنت ون من‬

‫محم ديين ومس يحيين وغ يرهم‪ .‬ولكن‪ ،‬بك ِّل أس ف نق ول‪ ،‬إن كث يراً من‬

‫المجته دين والمفس رين المحم ديين ال ي ؤدون واجب األمان ة له ذه النتيج ة‬

‫ال تي ينص عليه ا الق رآن فيلج أون إلى نص وص أخ رى مناقض ة له ا‬

‫ا‪.‬‬ ‫وا حقيقته‬ ‫ة ليبطل‬ ‫ة ظرفي‬ ‫مناقض‬

‫ثم ت أتي في ه ذه الس ورة مس ألة تغي ير القبل ة‪ ،‬إذ ك ان محم د يتج ه في‬

‫ص الته إلى أورش ليم‪ ،‬فلم ا وج د إع راض اليه ود عن دعوت ه ورفض هم‬

‫نبوته كما ت دل علي ه‬


‫ورفض المسيحيين اإلقرار باستقالل دعوته وصحة َّ‬

‫اآلي ة {وق الوا كون وا ه وداً أو نص ارى تهت دوا ق ل ب ل ملّ ة إب راهيم حنيف اً‬

‫وما كان من المشركين} (البق رة‪ ،)135 :‬ع دل عن قبل ة أورش ليم وجع ل‬

‫مك ة قبلت ه الجدي دة واس تنزل في ذل ك اآلي ات‪ ،‬وفي ه عام ل سياس ي كب ير‬

‫من استرض اء ق ريش‪ ،‬س ادني الكعب ة‪ ،‬كم ا في ه اتج اه لتوس يع االس تقالل‬

‫عن اليه ود وجع ل اإلس الم المحم دي مل ة منفص لة عن مل تي اليهودي ة‬

‫والمس يحية‪ .‬وبع د تخلص من ه ذه الفك رة الجدي دة تنتق ل الس ورة إلى‬

‫التمهيد لالتجاه الجديد‪ ،‬الذي هو اتجاه الحزبية الدينية َّ‬


‫ضد حزبية قريش‬

‫الوثني ة‪ .‬وأول آي ة في ه ذا الب اب قول ه‪{ :‬وال تقول وا لمن يقت ل في س بيل‬

‫‪107‬‬
‫اء ولكن ال تش عرون} (البق رة‪ )154 :‬ثم يتل و ه ذه‬
‫وات ب ل أحي ٌ‬
‫اهلل أم ٌ‬

‫ونكم بش يء من الخ وف والج وع‬


‫اآلي ة إع داد النف وس للح رب‪{ :‬ولنبل ّ‬

‫الص ابرين ال ذين إذا‬


‫وبش ر ّ‬
‫ونقص من األم وال واألنفس والثّم رات ّ‬

‫لوات‬
‫أص ابتهم مص يبةٌ ق الوا ّإن ا هلل وإ ّن ا إلي ه راجع ون‪ .‬أولئ ك عليهم ص ٌ‬

‫ربهم ورحم ةٌ وأولئ ك هم المهت دون} البق رة‪ 155 :‬و‪ 156‬و‪.)157‬‬
‫من ّ‬

‫مم ا في األرض‬
‫الن اس كل وا ّ‬
‫ثم يجيء التمهي د للش رع بقول ه‪{ :‬ي ا ّأيه ا ّ‬

‫بين} (البق رة‪:‬‬


‫دو م ٌ‬
‫الش يطان ّإن ه لكم ع ٌ‬
‫طيب اً وال تتّبع وا خط وات ّ‬
‫حالالً ّ‬

‫‪ )168‬وك انت "خط وات الش يطان" ش يئاً غ ير واض ح فج اءت آي ة أخ رى‬

‫{إنم ا ي أمركم بالس وء والفحش اء وأن تقول وا على اهلل م ا ال تعلم ون}‬
‫ّ‬

‫الشر غير واض ح‪ ،‬فال علم بم ا ه و الس وء‬


‫(البقرة‪ )169 :‬ومع ذلك بقي ُّ‬

‫أو الفحشاء‪ ،‬إال أن يكون الكفر باهلل فقط‪ ،‬كما بينا س ابقاً‪ .‬ولكن األم ر ال‬

‫يطول حتى يأتي التشريع‪ .‬والسورة تدخل فيه هكذا‪{ :‬يا ّأيها الّذين آمنوا‬

‫طيب ات م ا رزقن ا ْكم واش كروا اهلل إن كنتم ّإي اه تعب دون‪ّ .‬إنم ا‬
‫كل وا من ّ‬

‫حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أه ّل به لغير اهلل فمن اضطّر‬
‫ّ‬

‫رحيم} (البق رة‪ 172 :‬و‬ ‫ور‬ ‫ٍ‬


‫ٌ‬ ‫إن اهلل غف ٌ‬
‫اغ وال ع اد فال إثم علي ه ّ‬
‫غ ير ب ٍ‬

‫‪ )173‬فك ان ذل ك ّأول الش رع الض ابط للتص رف‪ .‬وه و ليس ش ديداً‪ ،‬إذ‬

‫في ه ص مام يزي ل الض غط الش ديد في مس ألة المآك ل وه و قول ه‪{ :‬فمن‬

‫باغ وال ٍ‬
‫عاد فال إثم علي ه}‪ .‬ويق ف التش ريع في آي ة التّح ريم‬ ‫اضطر غير ٍ‬
‫ّ‬

‫‪108‬‬
‫الم ذكور‪ .‬فتنتق ل الس ورة إلى إن ذار ال ذين {يكتم ون م ا أن زل اهلل من‬

‫الكت اب} (البق رة‪ .)174 :‬فت أتي آي ة تش به التعليم المس يحي والوص ايا‬

‫ولكن‬
‫ّ‬ ‫الموس وية {ليس ال ّبر أن تولّ وا وج وهكم قب ل المش رق والمغ رب‪،‬‬

‫ال ّبر من آمن باهلل والي وم اآلخ ر والمالئك ة والكت اب والن ّبيين وآتى الم ال‬

‫الس بيل والس ائلين وفي‬


‫حب ه ذوي الق ربى واليت امى والمس اكين وابن ّ‬
‫على ّ‬

‫الزك اة والموف ون بعه دهم إذا عاه دوا‬


‫الص الة وآتى ّ‬
‫الرق اب وأق ام ّ‬

‫والض ّراء وحين الب أس أولئ ك ال ذين ص دقوا‬


‫ّ‬ ‫والص ابرين في البأس اء‬
‫ّ‬

‫وأولئ ك هم المتّق ون} (البق رة‪ )177 :‬فال تنتهي ه ذه اآلي ة ح تى يع ود‬

‫التش ريع على خط ط الت وراة {ي ا ّأيه ا الّ ذين آمن وا كتب عليكم القص اص‬

‫الحر والعب د بالعب د الخ} (البق رة‪ )178 :‬ثم ت أتي آي ة‬


‫في القتلى الح ّر ب ّ‬

‫تش ريع في حق وق التملّ ك‪{ :‬كتب عليكم إذا حض ر أح دكم الم وت‪ ،‬إن‬

‫ت رك خ يراً‪ ،‬الوص ّية للوال دين واألق ربين ب المعروف حق اً على المتّقين}‬

‫(البق رة‪ ،)180 :‬وه ذا التش ريع ن اقص كث يراً فتترك ه الس ورة عن د نقص ه‬

‫لتتن اول أم راً آخ ر ه و فريض ة الص يام‪{ :‬ي ا ّأيه ا ال ذين آمن وا كتب عليكم‬

‫الص يام كم ا كتب على الّ ذين من قبلكم لعلّكم تتّق ون} (البق رة‪)183 :‬‬
‫ّ‬

‫وبع د آي ات ت بين كيفي ة الص يام ومواقيت ه وجع ل األهل ة مقي اس ال وقت‬

‫والحس اب تنتق ل الس ورة إلى إعالن الح رب والتح ريض على القت ال‬

‫واألم ر ب ه بص ورة واض حة‪{ :‬وق اتلوا في س بيل اهلل ال ذين يق اتلونكم وال‬

‫‪109‬‬
‫يحب المعت دين} (البق رة‪ )190 :‬وتقف و ه ذه اآلي ة آي ات‬
‫إن اهلل ال ّ‬
‫تعت دوا ّ‬

‫ا يلي‪:‬‬ ‫ذه في م‬ ‫عه‬ ‫ها م‬ ‫ال سندرس‬ ‫ة القت‬ ‫في كيفي‬

‫بع د التح ريض على القت ال تع ود الس ورة إلى الش رع فت بين واجب ات‬

‫الم ؤمن من حج وعم رة وش روط ذل ك‪ .‬ثم ي أتي وع د ووعي د وتهوي ل‬

‫وغ ير ذل ك‪ .‬ثم ت أتي ع ودة إلى القت ال وتوكي ده‪{ :‬كتب عليكم القت ال وه و‬

‫تحب وا ش يئاً‬
‫ك رهٌ لكم وعس ى أن تكره وا ش يئاً وه و خ ٌير لكم وعس ى أن ّ‬

‫وه و ش ٌر لكم واهلل يعلم وأنت ال تعلم ون} (البق رة‪ )216 :‬فجع ل القت ال‬

‫فريض ة ش رعاً‪ .‬ثم بع د ف رض القت ال ع ودة إلى الش رع الم دني فيح ّرم‬

‫الخم ر والميس ر تحريم اً غ ير ق اطع‪ .‬ثم ي أتي أول تش ريع في ال زواج‬

‫ؤمن وألم ة مؤمن ة خ ير من‬


‫وأحوال ه {وال تنكح وا المش ركات حتّى ي ّ‬

‫ؤمن‬
‫مش ركة ول و أعجبتكم وال تنكح وا المش ركين حتّى يؤمن وا ولعب ٌد م ٌ‬

‫الن ار واهلل ي دعو إلى‬ ‫خ ير من مش ٍ‬


‫رك ول و أعجبكم‪ ،‬أولئ ك ي دعون إلى ّ‬ ‫ٌ‬

‫الجن ة الخ} (البق رة‪ )221 :‬وتتل و ذل ك آي ات المع امالت والعق ود في‬
‫ّ‬

‫ال زواج والطالق‪ ،‬وق د أثبتن ا بعض ها في م ا س بق‪ ،‬ثم ع ودة إلى‬

‫التح ريض على القت ال وض رب أمثال ه بب ني إس رائيل‪{ :‬ألم ت ر إلى المأل‬

‫بي لهم ابعث لن ا ملك اً نقات ل‬


‫من ب ني إس رائيل من بع د موس ى إذ ق الوا لن ٍّ‬

‫في س بيل اهلل ق ال ه ل عس يتم إن كتب عليكم القت ال أالّ تق اتلوا ق الوا وم ا‬

‫‪110‬‬
‫فلم ا كتب‬
‫لن ا أالّ نقات ل في س بيل اهلل وق د أخرجن ا من ديارن ا وأبنائن ا ّ‬

‫ظ المين} (البق رة‪)246 :‬‬


‫عليم بال ّ‬
‫عليهم القت ال تولّ وا إالّ قليالً منهم واهلل ٌ‬

‫وتعقبها حكاية تمليك شاول وقتال داود وجلي ات ليق وى إيم ان المحم ديين‬

‫ب أن اهلل ال يتخلى عن أتباع ه‪ ،‬ولجع ل قاع دة عام ة ت برر القت ال إذ ق د‬

‫س بق وق ام ب ه اليه ود‪ .‬ولكيال يك ون المث ل موجب اً للتش به ب اليهود ج اء‬

‫فض لنا بعض هم على بعض منهم من كلّم اهلل ورف ع‬


‫الرس ل ّ‬
‫الق ول‪{ :‬تل ك ّ‬

‫وأي دناه ب روح الق دس‬


‫البين ات ّ‬
‫بعض هم درج ات وآتين ا عيس ى ابن م ريم ّ‬

‫البين ات ولكن‬
‫ولو شاء اهلل ما اقتت ل الّ ذين من بع دهم من بع د م ا ج اءتهم ّ‬

‫ولكن اهلل‬
‫ّ‬ ‫اختلف وا فمنهم من آمن ومنهم من كف ر ول و ش اء اهلل م ا اقتتل وا‬

‫يفع ل م ا يري د} (البق رة‪ )253 :‬وه و مس تند لم ا س يجيء من تفض يل‬

‫يره‪.‬‬ ‫د على غ‬ ‫اص بمحم‬ ‫الم الخ‬ ‫اإلس‬

‫الرش د‬
‫ت أتي‪ ،‬بع د م ا تق دم وص ايا‪ ،‬ثم اآلي ة‪{ :‬ال إك راه في ال ّدين ق د ت ّبين ّ‬

‫الغي فمن يكفر بالطّاغوت وي ؤمن باهلل فق د استمس ك ب العروة ال وثقى‬


‫من ّ‬

‫عليم} (البق رة‪ .)256 :‬ثم ي أتي توكي د البعث‬


‫ال انفص ام له ا واهلل س ميعٌ ٌ‬
‫مس نوداً إلى مث ل من إب راهيم‪ .‬وبع دها ي أتي ٌّ‬
‫حث على الخ ير‪ ،‬ووص ايا‬

‫في أش كال قريب ة من الوج ه العملي‪ ،‬ثم تش ريع في تحلي ل ال بيع وتح ريم‬

‫الرب ا‪ .‬ويتع اقب الحث والتش ريع في المع امالت والعق ود وش روطها‪.‬‬

‫رب ه والمؤمن ون‬


‫الرس ول بم ا أن زل إلي ه من ّ‬
‫وتختم الس ورة بقول ه‪{ :‬آمن ّ‬

‫‪111‬‬
‫كل آمن باهلل ومالئكته وكتب ه ورس له ال نف ّرق بين أح ٍد من رس له وق الوا‬
‫ٌّ‬

‫ربنا وإ ليك المص ير} (البق رة‪ )285 :‬وآي ة أخ رى‬


‫سمعنا وأطعنا غفرانك ّ‬

‫ة اهلل‪.‬‬ ‫في طلب رحم‬

‫ه ذا ه و ب دء العه د الم دني وفي ه أساس ه وغ رض اتجاه ه الجدي د‪ .‬وه ذا‬

‫االتج اه ه و‪ :‬اس تخراج النظ رة العربي ة (الص حراوية) إلى الحي اة‬

‫االجتماعي ة واالقتص ادية والروحي ة وهي النظ رة ال تي عرفناه ا في م ا‬

‫سبق‪ .‬ففي ه ذا العه د ابت دأ تع يين م ا ه و خ ير وم ا ه و ش ر‪ .‬وإ لى ج انب‬

‫إيج اد ه ذه النظ رة أوج دت العص بية الديني ة ض د الال دين يين أو الال‬

‫إلهيين‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫في الدولة والحرب الدينية‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫أم ا النظ رة إلى الحي اة فق د ج رت على خط وط النفس ية العربي ة المماثل ة‬


‫لخط وط النفس ية اليهودي ة لعه د موس ى وقب ل دخ ول اليه ود في الحض ارة‬
‫الس ورية واقتباس هم من نظرته ا إلى الحي اة وفلس فتها‪ .‬ونص ت آي ات‬
‫بينا آنف اً‪ .‬وق د َّ‬
‫بينا في‬ ‫صريحة على االقتداء باليهود واتخاذهم مثالً‪ ،‬كم ا َّ‬
‫بعض م ا س بق التماث ل التش ريعي بين المحمدي ة والموس وية‪ ،‬ولكن ه ذه‬
‫المش ابهة ليس ت كلي ة‪ ،‬ففي الش رع دخلت الخص ائص والض رورات‬
‫العربي ة ال تي ك ان اليه ود آخ ذين في الخ روج منه ا واالتج اه عنه ا إلى‬

‫‪112‬‬
‫الحض ارة الس ورية ال تي أوش كت أن تهض مهم تمام اً‪ ،‬ح تى أن الس ريانية‬
‫ص ارت‪ ،‬في أواخ ر عه دهم‪ ،‬اللغ ة الغالب ة على لس انهم‪ .‬وه ذه‬
‫الض رورات والخص ائص ال تُْب ِط ل الم وازاة التام ة تقريب اً في الخط وط‬
‫الكبرى للنظرة إلى الحياة‪ .‬فالوضوء‪ ،‬مثالً‪ ،‬قد حدد االغتسال نظراً لقل ة‬
‫الماء في العربة‪ ،‬بينما الت وراة أطلقت ه جري اً على قاع دة التم دن الس وري‬
‫‪.)16‬‬ ‫عيا ‪:1‬‬ ‫وا" (أش‬ ‫لوا تنقّ‬ ‫"اغتس‬

‫قلنا في ما سبق إن العه د الم دني ك ان الخط وة الفاص لة إلخ راج الرس الة‬
‫المحمدية من المأزق ال ذي وقعت في ه‪َّ ،‬‬
‫وبينا أن القص د من آيات ه المؤلفّ ة‬
‫النص ال دولي ه و إقام ة ال دين واستئص ال الوثني ة وليس محارب ة أه ل‬
‫َّ‬
‫"األدي ان" غ ير المحمدي ة ح تى يتخلَّوا عن إس المهم ويتبع وا اإلس الم‬
‫المحم دي‪ .‬وكم ا أن أول س ورة مكي ة دلَّت على غ رض الرس الة ال َّ‬
‫ديني‬
‫الس ور المدني ة على‬
‫وأساس ها‪ ،‬ك ذلك دلت س ورة "البق رة" ال تي هي أولى ُّ‬
‫الغ رض ال ّدولي‪ .‬ف أول أم ر بالقت ال ك ان قول ه‪{ :‬وق اتلوا في س بيل اهلل‬
‫فخص القتال بالذين يق اومون‬
‫َّ‬ ‫الذين يقاتلونكم وال تعتدوا} (البقرة‪)190 :‬‬
‫الدين بالقوة ويق اتلون أتباع ه‪ .‬فال دعوة إلى القت ال‪ ،‬في أساس ها وغرض ها‬
‫األخ ير‪ ،‬لم تكن في ص لب ال دعوة الديني ة إلى اهلل‪ ،‬إذ خال منه ا العه د‬
‫المكي خل ّواً تام اً‪ ،‬وليس ت في العه د الم دني مطلق ة من ك ل قي د وش رط‬
‫وعام ة لمحارب ة المس لمين غ ير المحم ديين أيض اً‪ ،‬ب ل مقي دة بش رط أن‬
‫تكون ضد الذين يقاتلون المؤمنين ويريدون أن يطفئوا نور اهلل ب أفواههم‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة الوثني‬ ‫دوا ظلم‬ ‫ليم‬

‫ذكور في القس م المكي أيض اً‪ .‬فنق ول‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫وق د يق ول قائ ل إن الجه اد م‬
‫صحيح‪ ،‬ولكنه هن اك ذو مع نى روحي فق ط‪ ،‬فالقص د من ه الجه اد لإلقن اع‬
‫افرين وجاه دهم ب ه‬
‫َ‬ ‫والس الح الكلم ة وليس الس يف كقول ه {فال تُ ِط ِع الك‬
‫ان‪.)52 :‬‬ ‫ورة الفرق‬ ‫يراً} (س‬ ‫اداً كب‬ ‫رآن) جه‬ ‫(الق‬

‫‪113‬‬
‫ولما كان األمر بالقتال هو إلقامة الدين وليس لنقضه فإن من الكف ر باهلل‬
‫إن آيات القت ال الس تعالء المل ة المحمدي ة أو‬
‫والهدم للدين الصحيح القول ّ‬
‫ل دفع الش ر عنه ا ق د نس خت آي ات ال دين وحلت محله ا‪ ،‬فالقت ال ف رض‬
‫إلقام ة آي ات ال دين‪ ،‬ال لمج رد القت ال أو ِّ‬
‫لحب القت ل‪ ،‬ول ذلك ق الت اآلي ة‪:‬‬
‫رة‪.)190 :‬‬ ‫دين} (البق‬ ‫إن اهلل ال ُي ُّ‬
‫حب المعت‬ ‫دوا ّ‬ ‫{وال تعت‬

‫وقد قلنا في سياق ما تق دم من ه ذا البحث إن اآلي ات الدولي ة في الرس الة‬


‫المحمدي ة مرتبط ة ارتباط اً وثيق اً ب الحوادث الجاري ة‪ .‬وه ذه الحقيق ة يجب‬
‫أن تظل نصب أعيننا في كل درس ص حيح لنص وص اإلس الم المحم دي‬
‫ات ألن ه ُوج د من ب ادأ المس لمين القت ال‬
‫كدول ة‪ .‬وله ذه الحقيق ة تخض ع آي ٌ‬
‫واض طَّهدهم‪ ،‬فأص بح القت ال مربوط اً بش رطية وج ود من يطلب ون مقاتل ة‬
‫ركين‪.‬‬ ‫نين من المش‬ ‫المؤم‬

‫أما اآليات التي قلنا إنها تقفو أول آية أمرت بالقتال فهي هذه‪{ :‬واقتلوهم‬
‫حيث ثقفتم وهم وأخرج وهم من حيث أخرج وكم والفتن ة أش ّد من القت ل‬
‫وال تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم في ه ف إن ق اتلوكم ف اقتلوهم‬
‫رحيم‪ .‬وقاتلوهم حتّى ال‬
‫ٌ‬ ‫غفور‬
‫ٌ‬ ‫فإن اهلل‬
‫كذلك جزاء الكافرين‪ .‬فإن انتهوا ّ‬
‫تك ون فتن ة ويك ون ال ّدين هلل ف إن انته وا فال ع دوان إالّ على الظّ المين}‬
‫(البقرة‪ 191 :‬و‪ 192‬و‪ .)193‬وهذه اآليات توضح جي داً أن القت ال ك ان‬
‫دفاعي اً‪ ،‬وليس هجومي اً‪ ،‬وض رورة قض ت به ا ع داوة المش ركين‪ .‬وقول ه‪:‬‬
‫"ال ذين يق اتلونكم" يع ني أع داء ال دين ال ذين يقص دون إبطال ه ومقاتل ة‬
‫اً‪.‬‬ ‫ال رأس‬ ‫روا القت‬ ‫و لم يباش‬ ‫تى ول‬ ‫نين ح‬ ‫المؤم‬

‫ذل ك ألن ع داوتهم واض طهادهم المؤم نين ثابت ان‪ .‬وق د جع ل الق رآن‬
‫االض طهاد أعظم من القت ل‪" :‬الفتن ة أعظم من القت ل"‪ .‬والفتن ة هن ا بمع نى‬
‫المحن ة‪ ،‬ك اإلخراج من ل وطن‪ .‬ول ذلك ق ال‪{ :‬وأخرج وهم من حيث‬
‫أخرجوكم}‪ .‬وأيد غرض القتال الذي أوضحناه بقول ه‪{ :‬وق اتلوهم حتّى ال‬

‫‪114‬‬
‫الدين هلل} أي إلزال ة االض طهاد ومن ع الع داوة المؤذي ة‬
‫تكون فتنة ويكون ّ‬
‫وإلقام ة دين اهلل والقض اء على عب ادة األوث ان‪ .‬فم تى ص ار ال دين هلل لم‬
‫تب ق حاج ة إلى القت ال ال ديني وص ار يجب الع ودة إلى الفك رة الديني ة‬
‫الن اس‪ ،‬أنتم الفق راء إلى اهلل‬
‫الصافية الموضحة في القسم المكي‪{ :‬يا ّأيها ّ‬
‫الغني الحميد} (فاطر‪{ )15 :‬تل ك ال ّدار اآلخ رة نجعله ا للّ ذين ال‬
‫ّ‬ ‫واهلل هو‬
‫يري دون عل ّواً في األرض وال فس اداً والعاقب ة للمتّقين} (القص ص‪)83 :‬‬
‫فهن ا ال دين‪ .‬أم ا القت ال فليس ال دين‪ ،‬ب ل ض رورة إلقام ة ال دين أوجبته ا‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة البيئ‬ ‫حال‬

‫وتأيي د الق رآن ه ذه النظ رة ه و تأيي ٌد ج ازم متك رر‪ .‬فق ال‪{ :‬ال إك راه في‬
‫الغي فمن يكف ر بالطّ اغوت وي ؤمن باهلل الخ}‬
‫الرش د من ّ‬ ‫ال ّدين ق د ت ّبين ّ‬
‫إن القص د من القت ال ليس اإلك راه ب ل دف ع الفتن ة‬
‫(البق رة‪ )256 :‬أي ّ‬
‫الش هر‬
‫والع دوان‪ .‬ول ذلك ففي آي ة فريض ة القت ال ه ذه‪{ :‬يس ألونك عن ّ‬
‫الح رام قت ال في ه ق ل قت ال في ه كب ير وص ّد عن س بيل اهلل وكف ر ب ه‬
‫والمسجد الح رام وإ خ راج أهل ه من ه أك بر عن د اهلل والفتن ة أك بر من القت ل‬
‫ردوكم عن دينكم إن اس تطاعوا ومن يرت ّد‬
‫وال يزال ون يق اتلونكم حتّى ي ّ‬
‫منكم عن دين ه فيمت وه و ك افر فأولئ ك حبطت أعم الهم في ال ّدنيا‬
‫الن ار هم فيه ا خال دون} (البق رة‪ .)217 :‬فه و‬
‫واآلخ رة وأولئ ك أص حاب ّ‬
‫يدل على مقدار استحكام العداوة حتى ضاق محمد ذرعاً بكثرة اضطهاد‬
‫المش ركين لدعوت ه وأتباع ه وإ مع انهم في الفتن ة فاس تنزل ه ذه اآلي ة ليج د‬
‫اومتهم‬
‫مخرجاً للضيق الذي وقع فيه اتباعه‪ .‬ولوال ك ثرة ظلم ق ريش ومق ُ‬
‫الكلمة باالضطهاد لم ا ك ان ال وحي اس توجب االلتج اء إلى ه ذه المعامل ة‪،‬‬
‫فاآلي ة مربوط ة بحال ة معين ة يبقى حكمه ا فيه ا‪ .‬وج اء في س ورة‬
‫"الممتحن ة" ال تي ت أتي بع د "البق رة" بثالث س ور وهي الرابع ة‪{ :‬ال ينه اكم‬
‫تبروهم‬
‫الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن ّ‬ ‫اهلل عن الّذين لم يقاتلوكم في ّ‬
‫يحب المقس طين ّإنم ا ينه اكم اهلل عن الّ ذين ق اتلوكم‬
‫إن اهلل ّ‬
‫وتقسطوا إليهم ّ‬
‫في ال ّدين وأخرج وكم من دي اركم وظ اهروا على إخ راجكم أن تولّ وهم‬

‫‪115‬‬
‫ومن يت ولّهم فأولئ ك هم الظّ المون} (الممتحن ة‪ 8 :‬و‪ )9‬ومع نى ه اتين‬
‫اآليتين أن اهلل ال ينهى المؤمنين عن مساواة ال ذين لم يق اتلوهم وينح ازوا‬
‫إلى مق اتليهم‪ ،‬فه ؤالء يمكن ح تى ت وليتهم وتق ديمهم وإ ن ك انوا مش ركين‬
‫(وثن يين)‪ .‬وق د أوض حت هات ان اآليت ان المقص ود من المقاتل ة والع داء‬
‫ير‪.‬‬ ‫دين" ال غ‬ ‫ل في ال‬ ‫د من "يقات‬ ‫اض‬ ‫فهم‬

‫اقتض ت الع داوة الموج دة الح رب الس ير بالمل ة على قاع دة العص بية‬
‫الديني ة وجم ع كلم ة المؤم نين في نظ ام دول ة‪ .‬ف اهتمت الرس الة بش ؤون‬
‫الح رب والس لم وتوزي ع الغن ائم‪ .‬وه ذا األم ر األخ ير ك ان من األهمي ة‬
‫بمح ل خط ير‪ ،‬ألن طلب الغن ائم ك ان من أهم قواع د قي ام الدول ة في بيئ ة‬
‫فق يرة ج داً‪ ،‬والخالف على قس متها ق د يس تفحل وي ؤدي إلى تف ّرق كلم ة‬
‫األتب اع‪ ،‬كم ا اختل ف المحم ديون في واقع ة ب در على الغن ائم كي ف تقس م‬
‫ومن يقس مها‪ .‬فك ان االهتم ام به ذه الناحي ة أول م ا عرض ت ل ه س ورة‬
‫"األنف ال" وهي الثاني ة من العه د الم دني وفي ه ذه الس ورة ش رع تخميس‬
‫الغن ائم‪ .‬وك ان من ض رورات إقام ة الدول ة إيج اد مب دأ الطاع ة للس لطة‬
‫العلي ا ال تي ال تق وم دول ة إالّ به ا‪ ،‬فج اء األم ر بالطاع ة في "األنف ال" {ي ا‬
‫ّأيه ا الّ ذين آمن وا أطيع وا اهلل ورس وله وال تولّ وا عن ه وأنتم تس معون}‬
‫(األنف ال‪ )20 :‬وأيض اً {ي ا ّأيه ا الّ ذين آمن وا اس تجيبوا هلل وللرس ول إذا‬
‫دعاكم لما يح ييكم الخ} (األنف ال‪ )24 :‬وج اء النهي عن الخيان ة‪{ :‬ي ا ّأيه ا‬
‫والرس ول وتخون وا أمان اتكم وأنتم تعلم ون}‬
‫الّ ذين آمن وا ال تخون وا اهلل ّ‬
‫ال‪.)27 :‬‬ ‫(األنف‬

‫وتع ود الرس الة في ه ذه الس ورة إلى ش أن القت ال‪ ،‬فتؤك د م رة أخ رى‬
‫تخصيص ه بالكف ار ال ذين ال يؤمن ون باهلل‪{ :‬ق ل للّ ذين كف روا أن ينته وا‬
‫يغف ر لهم م ا ق د س لف وإ ن يع ودوا فق د مض ت س ّنة األولين‪ .‬وق اتلوهم‬
‫إن اهلل بم ا يعمل ون‬
‫حتّى ال تك ون فتن ةٌ ويك ون ال ّدين كلّ ه هلل ف إن انته وا ف ّ‬
‫ال‪ 28 :‬و‪.)29‬‬ ‫ير} (األنف‬ ‫بص‬

‫‪116‬‬
‫أخ رج النهج الم دني ال دولي الرس الة المحمدي ة من مأزقه ا‪ ،‬فأخ ذ‬
‫ؤمنهم على حصص هم من األس الب والكس ب‬
‫المؤمن ون يش عرون نظ ام ي ِّ‬
‫بع د أن ك ان ذل ك خاض عاً لألث رة والق وة‪ ،‬وش رع يزي ل مع اثرهم ويح ّدد‬
‫معامالتهم‪ .‬فأخذت ش وكة الدول ة تق وى بالمغ ازي والغن ائم‪ ،‬وبق ّوة ش وكة‬
‫الدول ة أخ ذ ال دين يتح رر من االض طهاد‪ .‬ثم أخ ذت الدول ة تع تز ب دينها‬
‫ونظرته ا إلى الحي اة ال تي فتحت أمامه ا طري ق التق دم العملي‪ .‬والحقيق ة‬
‫أن فاعلي ة الدول ة ك انت أق وى من فاعلي ة ال دين نفس ه‪ ،‬ب ل ص ارت آي ات‬
‫الدول ة عن د الع رب في مق ام ال دين‪ ،‬ولم يق دروا أن يفهم وه إالّ به ا‪،‬‬
‫فاهت دت الرس الة إلى منهاجه ا العملي في بيئته ا فس ارت علي ه بخط وات‬
‫أكي دة‪ .‬وبتق ُّدمها لم يع د يج د ال وحي حاج ة للت ودد إلى "أه ل الكت اب"‬
‫الع رب والتس اهل معهم فص ارت لهج ة س لطة الدول ة تح ُّل روي داً روي داً‬
‫مح َّل لهج ة من ال س ند ل ه غ ير عقيدت ه‪ ،‬فك ثر التح ريض على القت ال‪،‬‬
‫وخ رجت الرس الة إلى طلب إعالء اإلس الم المحم دي على األدي ان‬
‫ق ليظه ره على ال ّدين‬
‫جميعها {هو الّ ذي أرس ل رس وله باله دى ودين الح ّ‬
‫كلّ ه ول و ك ره المش ركون} (الص ف‪ )9 :‬وه ذه اآلي ة مك ّررة في "الفتح"‬
‫وفي "التوب ة"‪ .‬ولكن ه ذا الق ول لم يبط ل ص حة اإلس الم المس يحي‪ ،‬كم ا‬
‫بين ا في م ا س بق‪ ،‬إذ وردت بع د س ورتي الص ف والفتح س ورة المائ دة‬
‫ال تي أثبتت وج وب اعتب ار الت وراة واإلنجي ل ص حيحين ألهلهم ا؛ ونظ راً‬
‫ل ورود ه ذه اآلي ات في كت اب واح د فاالرتب اط بينهم ا وثي ق وال يمكن‬
‫اعتماد مبدأ النسخ إلبطال اآليات المتعلقة بصحة التوراة واإلنجي ل‪ ،‬ف إن‬
‫ه ذا المب دأ ينقلب ض د ه ذا االس تنتاج ويجع ل حكم آي تي الص ف والفتح‬
‫منس وخاً بحكم آي ات المائ دة‪ ،‬ألنهم ا بع دهما‪ .‬أم ا س ورة التوب ة فمختل ف‬
‫فيه ا وي رجح إلحاقه ا بس ورة األنف ال‪.‬وه ذه الس ورة عينه ا‪ ،‬التوب ة‪ ،‬تؤك د‬
‫ص حة الت وراة واإلنجي ل ب العودة إلى االس تناد إليهم ا م ع الق رآن بق ول‬
‫الجن ة‬
‫أن لهم ّ‬ ‫{إن اهلل اش ترى من المؤم نين أنفس هم وأم والهم ب ّ‬ ‫اآلي ة‪ّ :‬‬
‫يق اتلون في س بيل اهلل فيقتل ون ويقتل ون وع داً علي ه حقّ اً في الت وراة‬

‫‪117‬‬
‫واإلنجي ل والق رآن ومن أوفى بعه ده من اهلل الخ} (التوب ة‪ )111 :‬وه و‬
‫يثبت أن ما أعلن ه اهلل في الت وراة واإلنجي ل ث ابت عن ده‪ .‬وق د أظهرن ا في‬
‫حلق ة س ابقة فس اد مب دأ النس خ‪ ،‬ألن ه يع ّرض كالم اهلل كلّ ه واإليم ان كلّ ه‬
‫للش ك‪ ،‬فال يعلم الم ؤمن‪ ،‬على وج ه التحقي ق‪ ،‬م ا ه و ث ابت من كالم اهلل‬
‫وم ا ه و غ ير ث ابت‪ .‬وإ ذا ك ان اهلل يق ول ق والً غ ير أكي د وال ث ابت فلم اذا‬
‫يقوله‪ .‬ولماذا قال‪{ :‬أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فم ا ج زاء‬
‫ردون إلى‬
‫زي في الحي اة ال ّدنيا وي وم القيام ة ُي ّ‬
‫من يفع ل ذل ك منكم إالّ خ ٌ‬
‫رة‪.)85 :‬‬ ‫ذاب الخ} (البق‬ ‫ِّد الع‬ ‫أش‬

‫الحقيق ة في ه ذه األم ور أن ض روريات قي ام الدول ة ونفس ية الع رب هي‬


‫غير الدعوة الدينية‪ .‬والدولة ق امت إلثب ات ال دين وآيات ه وليس لنفيه ا وال‬
‫ض َّ‬
‫ضد ال ذين "يق اتلون في ال دين"‪ ،‬أم ا حيث ال قت ال‬ ‫لنسخها‪ .‬والقتال فُ ِر َ‬
‫دال في ه‪ ،‬ف إذا ك انت ه ذه‬
‫نص واض ٌح ال ج َ‬ ‫في ال دين "فال تعت دوا"‪ ،‬وه ذا ٌّ‬
‫اآلي ات باطل ة‪ ،‬ألنه ا من س ورة البق رة وس ورة الممتحن ة‪ ،‬فلم اذا ال تك ون‬
‫ويح ذف القس م المكي كل ه من الق رآن‪.‬‬
‫هات ان الس ورتان ب اطلتين فتح ذفا ُ‬
‫وم ا هي حاج ة الم ؤمن إلى وج ود ٍ‬
‫كالم باط ٍل في كت اب اهلل؟‬

‫يجيز اإليمان ببعض الق رآن والكف َر ببعض ه‪،‬‬


‫وإ ذا كان اإلسالم المحمدي ُ‬
‫فكي ف يط الب الموس ويين أو المس لمين المس يحيين بوج وب إقام ة الت وراة‬
‫املين؟‬ ‫لك‬ ‫ة اإلنجي‬ ‫أو إقام‬

‫نص اً ص ريحاً على إبط ال الم ذهب‬


‫تنص َّ‬
‫وجمي ع آي القس م الم دني ال ُّ‬
‫المسيحي في شيء منه‪ ،‬بل بالعكس‪ :‬تطلب الحكم بكتاب ه‪ .‬أم ا م ا يت ذرع‬
‫به بعض المنافقين ليوهموا المسلمين المحم ديين أن ه ق د أبطلت المحمدي ة‬
‫{إن ال دين عن د اهلل اإلس الم} (آل عم ران‪ )19 :‬وقول ه‬
‫المس يحية كقول ه‪ّ :‬‬
‫{ومن يتب ع غ ير اإلس الم دين اً فلن يقب ل من ه وه و في اآلخ رة من‬
‫يؤولون ه ألغراض هم؛‬
‫الخاس رين} (آل عم ران‪ )85 :‬فه و على غ ير م ا ّ‬

‫‪118‬‬
‫فاإلس الم ليس مختص اً بالمحم ديين‪ ،‬ب ل ُيطل ق على اليه ود والمس يحيين‬
‫كذلك‪ ،‬ألنه‪ ،‬حسب رواية القرآن نفسه‪ ،‬ابت دأ ب إبراهيم‪ ،‬وال يمكن ه ؤالء‬
‫المع ّوجين لإليم ان أن يثبت وا ادع اءهم الباط ل إالّ ب إعالن الكف ر ببعض‬
‫الق رآن نفس ه‪ .‬فليقول وا ق والً ص ريحاً أي قس م من الق رآن يجب أن يكف ر‬
‫ب ه المؤمن ون وينب ذوه ظهري اً نق ل لهم حينئ ذ في أي ض الل يعمه ون‪.‬‬

‫إالّ أن غ رض الحي اة ال دنيا بغيتهم‪ ،‬ي راؤون في ال دين‪ ،‬وال دين بعي د عن‬
‫ا‪.‬‬ ‫ة وهم يطلبونه‬ ‫و يمنعهم من الفتن‬ ‫وبهم‪ .‬وه‬ ‫قل‬

‫وي عزي ٌز}‬ ‫إن اهلل ق ٌ‬ ‫َّ‬


‫ألغلبن أن ا ورس لي ّ‬ ‫ق ال في الق رآن‪{ :‬كتب اهلل‬
‫(المجادلة‪ )21 :‬وهي من أواخر العهد المدني‪ .‬ويقول المنافقون‪" :‬إنا ق د‬
‫محون ا م ا كتب اهلل" عليهم لعن ة اهلل والن اس أجمعين بم ا يقول ون عن اهلل‬
‫ق‪.‬‬ ‫ير الح‬ ‫غ‬

‫إن الق ول‪" :‬الديان ة اإلس المية و ِ‬


‫ض ع أساس ها على طلب الغلب والش وكة‬ ‫ُ‬
‫واالفتت اح والع زة ورفض ك ل ق انون يخ الف ش ريعتها ونب ذ ك ل س لطة ال‬
‫يك ون الق ائم به ا ص احب الوالي ة على تنفي ذ أحكامه ا" (الع روة ال وثقى‪،‬‬
‫ص‪ )77‬هو قول استبدادي ال يعبِّر عن حقيقة الديانة اإلسالمية‪ ،‬بل عن‬
‫فس اد تأويله ا ببعض آيه ا‪ .‬وك ذلك الق ول "ه ل نس وا وع د اهلل لهم ب أن‬
‫يرث وا األرض وهم العب اد الص الحون؟" (ص ‪ 149‬من الع روة) فه و‬
‫باط ل ف إن اهلل وع د ب ني إس رائيل بتمكينهم في األرض وذل ك في عه ده‬
‫إلب راهيم ويعق وب "قم امش في األرض طوله ا وعرض ها ألني ل ك‬
‫الحق لق وم‬
‫أعطيها" (تك ‪{ )17 :13‬نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون ب ّ‬
‫إن فرع ون عال في األرض وجع ل أهله ا ش يعاً يستض عف‬
‫يؤمن ون‪ّ .‬‬
‫ذبح أبن اءهم ويس تحيي نس اءهم ّإن ه ك ان من المفس دين‪.‬‬
‫طائف ة منهم ي ّ‬
‫نم َّن على الّذين استضعفوا في األرض ونجعلهم َّ‬
‫أيمة ونجعلهم‬ ‫ونريد أن ُ‬
‫ون ري فرع ون وهام ان وجنودهم ا‬ ‫ِّ‬
‫ونمكن لهم في األرض ُ‬ ‫ال وارثين‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫منهم م ا ك انوا يح ذرون} (القص ص‪ 3 :‬ـ ‪{ )6‬ولق د كتبن ا في َّ‬
‫الزب ور من‬
‫الص الحون} (األنبي اء‪ )105 :‬وق ال‬
‫أن األرض يرثه ا عب ادي ّ‬ ‫بع د ال ّذكر ّ‬
‫تخلفنهم في‬
‫الص الحات ليس ّ‬ ‫ك ذلك‪{ :‬وع د اهلل ال ذين آمن وا منكم وعمل وا ّ‬
‫نن لهم دينهم الّ ذي ارتض ى‬
‫األرض كم ا اس تخلف الّ ذين من قبلهم وليم ّك ّ‬
‫لهم وليب ّد ّلنهم من بع د خ وفهم أمن اً يعب دونني ال يش ركون بي ش يئاً ومن‬
‫أي وع د يجب‬ ‫كف ر بع د ذل ك فأولئ ك هم الفاس قون} (الن ور‪ )55 :‬فب ّ‬
‫التمس ك؟ ف إذا ك ان الوع د األخ ير ه و للمس لمين المحم ديين فق ط فم ا هي‬
‫قيم ة م ا ورد في الت وراة وفي س ورة القص ص؟ ه ل وع د اهلل ب ني‬
‫إس رائيل بالباط ل؟ ف إذا ك ان األم ر هك ذا أفال يجب أن يك ون الوع د‬
‫يع ُد ويخل ف م رةً َي ِع ُد‬
‫األخ ير من ن وع الوع د األول‪ ،‬ألن اهلل ال ذي ِ‬
‫ويخل ف م رةً أخ رى‪ .‬وال ذي ن راه أن ه ذا الوع د يتعل ق ب أرض الجن ة‪،‬‬
‫الجنة زمراً حتّى إذا جاؤوه ا‬
‫ربهم إلى ّ‬‫والدليل قوله‪{ :‬وسيق الذين اتّقوا ّ‬
‫الم عليكم طبتم فادخلوه ا خال دين‪.‬‬
‫وفتحت أبوابه ا وق ال لهم خزنته ا س ٌ‬
‫الجن ة‬
‫وق الوا الحم د هلل الّ ذي ص دقنا وع ده وأورثن ا األرض نتب ّوأ من ّ‬
‫حيث نش اء فنعم أج ر الع املين} (الزم ر‪ 73 :‬و‪ )74‬ف األرض في القس م‬
‫الديني َّ‬
‫المنزه عن األغراض الدنيوية‪ ،‬هي الجنة ال غيره ا‪ .‬وأه ل ال دين‬
‫الصحيح هم الذين يرثون الجنة ال األرض الدنيا ألن هذه ليس ت غ رض‬
‫ال دين‪ .‬وأم ا قول ه {وأورثكم أرض هم ودي ارهم وأم والهم وأرض اً لم‬
‫ٍ‬
‫شيء قديراً} (األحزاب‪ )37 :‬فهو من شؤون‬ ‫تطأوها وكان اهلل على ك ّل‬
‫الدول ة والح رب م ع المش ركين وه و ش بيه بخط ط اليه ود "يط رد ال رب‬
‫جمي ع ه ؤالء الش عوب من أم امكم ف ترثون ش عوباً أك بر وأعظم منكم"‬
‫(تثني ة ‪ 11‬ـ ‪ .)43‬وه ا ق د م رت آالف الس نين على وع د اهلل إب راهيم‬
‫ويعق وب وموس ى‪ ،‬وه ا األل ف الث اني ي زول على وع د اهلل لمحم د ولم‬
‫يتحق ق من ه ذين الوع دين س وى م ا ك ان ض رورياً إلقام ة الدول ة الديني ة‬
‫ض من نط اق بيئته ا‪ .‬واليه ود م ا يزال ون يتش بثون بوع د اهلل لهم بتمليكهم‬
‫األرض كله ا‪ ،‬والط امعون في التمل ك باس م ال دين من المس لمين‬
‫ؤول عن دهم ليحرض وا المؤم نين‬
‫المحم ديين ي زدادون تش بثاً بوع د اهلل الم َّ‬

‫‪120‬‬
‫على تأيي دهم في طلب المل ك وإ ق امتهم في الحكم‪ .‬ول و ش اء اهلل إيف اء‬
‫وع ده على م ا يش تهي المتش بثون لك ان فع ل من ذ زم ان في أول عه د‬
‫اإليمان الصافي المملوء حمية‪ ،‬في زمن فتوة الدعوة‪ ،‬حين ك ان اإليم ان‬
‫قوي اً ح ّاراً‪ .‬وه و أجمل ه وأفض له‪ .‬والحقيق ة أن اهلل ق د ب ّر بوع ده‬
‫جدي داً‪ّ ،‬‬
‫وأعطى المحم ديين م ا قس م لهم فن الوا نظام اً وش رائع ومرتزق اً ونص راً‬
‫على عبدة األص نام فورث وا أرض هم ودي ارهم‪ ،‬وتم ال دين {إذا ج اء نص ر‬
‫رب ك‬
‫الن اس ي دخلون في دين اهلل أفواج اً فس ّبح بحم د ّ‬
‫اهلل والفتح ورأيت ّ‬
‫تواب اً} (النص ر‪ 1 :‬و‪ 2‬و‪ .)3‬فق د ج اء النص ر على‬
‫واس تغفره ّإن ه ك ان ّ‬
‫فتم‬
‫أه ل الش رك ودخل وا في دين اهلل وب ادت عب ادة األص نام من العرب ة ّ‬
‫العه د الم دني‪ ،‬وأص بح من الالزم الع ودة إلى إقام ة ال دين بالتس بيح‬
‫واالس تغفار اللّ ذين كان ا األص ل والغاي ة من ال دعوة‪ .‬فم ا ج اء في س ورة‬
‫الص الحات‬
‫"الن ور" وه و قول ه‪{ :‬وع د اهلل الّ ذين آمن وا منكم وعمل وا ّ‬
‫نن لهم دينهم‬
‫تخلفنهم في األرض كم ا اس تخلف الّ ذين من قبلهم وليم ّك ّ‬
‫ليس ّ‬
‫أمن ا يعب دونني وال يش ركون‬
‫الّ ذي ارتض ى لهم وليب ّد ّلنهم من بع د خ وفهم ً‬
‫بي شيئاً ومن كفر بع د ذل ك فأولئ ك هم الفاس قون} ق د حص ل بتمام ه‪ ،‬فق د‬
‫اس تخلف اهلل المحم ديين في أرض الوثن يين وورث وهم وج اء نص ر اهلل‬
‫والفتح ولم يبق بعد ذلك غير عبادة اهلل واتقائه حق اتقائ ه‪{ :‬الي وم أكملت‬
‫دين ا} (المائ دة‪:‬‬
‫لكم دينكم وأتممت عليكم نعم تي ورض يت لكم اإلس الم ً‬
‫‪ .)3‬والذين يبغون وراء ذلك هم الذين يري دون إخض اع ال دين لش هواتهم‬
‫الدنيوية ويرفضون أن يخضعوا ألوامر الدين وتعاليمه العلوية‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫الصفحة التالية‬ ‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫الدين والدولة‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬
‫رأين ا‪ ،‬في م ا تق َّدم‪ ،‬أن القص د من إقام ة الدول ة اإلس المية المحمدي ة ه و إقام ة ال دين‬

‫‪121‬‬
‫اإللهي في أرض كان أهلها ما يزال ون في ض الل م بين عن اهلل وكلمت ه‪ ،‬فالدول ة أنش ئت‬
‫لغرض الدين‪ ،‬وليس الدين هو الذي أنش ئ لغ رض الدول ة‪ .‬وه ذه القاع دة هي أس اس ك ل‬
‫ة‪.‬‬ ‫اع والسياس‬ ‫ة في االجتم‬ ‫رة ديني‬ ‫فك‬

‫وال يمكن أن يك ون العكس إالّ به دم الفك رة الديني ة األساس ية وإ بط ال ال دين‪ .‬فاس تخدام‬
‫ال دين الدول ة معن اه أن ال دين واس طة ال غاي ة‪ .‬والواس طة ت زول‪ ،‬أم ا الغاي ة فتبقى‪ .‬ف إذا‬
‫ك ان ال دين واس طة فق د أص بح زائالً بع د إقام ة الدول ة‪ ،‬أو على األق ل‪ ،‬أص بح آل ة ثنوي ة‪.‬‬
‫وإ ذا ك ان األم ر ك ذلك وجب أن ننظ ر إلى االجتم اع كأس اس‪ .‬وبن اء علي ه ال يع ود من‬
‫الممكن االحتج اج باآلي ات الديني ة لتس يير المجتم ع‪ ،‬ألن ه ذه اآلي ات تك ون ق د فق دت‬
‫ص فتها الديني ة‪ .‬وأق ّل نتيج ة له ذه الطريق ة التفكيري ة هي القض اء على ال دين‪ .‬ولم ا ك ان‬
‫قص د رس الة محم د ال دين وليس السياس ة أو فلس فة االجتم اع ال تي ت رتقي ب العلوم‬
‫بد من التسليم بأن الدولة هي الواسطة للدين الذي هو الغاي ة‪ ،‬وأن قيمته ا‬ ‫االجتماعية فال ّ‬
‫ال يمكن أن تكون‪ ،‬من الوجه ة الديني ة‪ ،‬أك ثر من قيم ة واس طة‪ .‬وبن اء علي ه تك ون الدول ة‬
‫وي القاب ل ال زوال عن دما ال تبقى حاج ة إلي ه‪ ،‬ش أن ك ل آل ة أو واس طة ّأدت‬
‫الش يء الثن ّ‬
‫الغ رض من وجوده ا‪ .‬وفي مت احف الع الم اآللي ة ق اطرات بخاري ة وم راكب من ك ل‬
‫أدت خ دمتها ولم تع د ص الحة لالس تخدام لوج ود آالت حديث ة أحس ن منه ا‪.‬‬
‫ص نف ق د ّ‬
‫وك ذلك في مت احف الع الم االجتماعي ة دول كث يرة معروض ة ل درس تط ّور االجتم اع‬
‫اإلنس اني‪ ،‬ولم تع د تص لح لغ ير ذل ك‪ ،‬ومن جملته ا الدول ة الديني ة ال تي ّأدت غرض ها من‬
‫زمان وأصبح يوجد أحسن منها اآلن لخدمة المجتمع اإلنساني‪ ،‬فلم تبق حاجة إليها لغ ير‬
‫اريخ‪.‬‬ ‫ة الت‬ ‫درس ومعرف‬ ‫ال‬

‫الدول ة الديني ة المحمدي ة ك ان غرض ها الوص ول إلى إب ادة عب ادة األص نام في العرب ة‬
‫وإ قامة دين اهلل‪ ،‬وقد حققت هذا الغرض فب ادت عب ادة األص نام ودخ ل الن اس في دين اهلل‬
‫أفواج اً‪ .‬واإلس الم المحم دي ه و الي وم دين يعتنق ه ماليين الن اس‪ ،‬وال خط ر علي ه من‬
‫احن ال ديني‪،‬‬
‫ص ناديد ق ريش أو غ يرهم‪ .‬واإلنس انية تس ير الي وم على غ ير طري ق التط ُ‬
‫ومعظم الن اس‪ ،‬وك ل المتم دنين‪ ،‬يح ترمون ويتعلم ون اح ترام عقائ د بعض هم البعض‬
‫المتعلقة بالنفس والخلود واهلل‪ .‬والمسلم المحمدي يقدر أن يمارس دين ه في أي قط ر ن زل‬

‫‪122‬‬
‫النبي والصحابة لم ا ك ان هنال ك س بب‬
‫فيه وإ ن يكن غير محمدي‪ .‬ولوال اضطهاد قريش ّ‬
‫للهجرة إلى المدينة واستغالل ميل أهلها إلى منافسة قريش إلنشاء دولة محمدي ة تح ارب‬
‫قريش اً وتخض عهم‪ .‬فلم ا ّثبتت الدول ة ال دين تم غرض ها‪ ،‬وأص بح على الن اس االهتم ام‬
‫بش ؤون دينهم الجوهري ة ال تي هي عب ادة اهلل والس ُير حس ب وص اياه‪ ،‬فال قت ال م ع ال ذين‬
‫ال يقاتلون المؤم نين‪ ،‬وال إخ راج لمن ال يري د إخ راجهم من دي ارهم باس م ال دين أو لغاي ة‬
‫ورى‪.)10 :‬‬ ‫ه إلى اهلل} (الش‬ ‫يء فحكم‬ ‫ه من ش‬ ‫ا اختلفتم في‬ ‫ة‪{ :‬وم‬ ‫ديني‬

‫هذا ما يجب أن يعلمه المسلمون المحمديون والمسلمون المسيحيون والمسلمون الدروز‪.‬‬


‫وال دروز ق د أقفل وا ب اب ال دعوة ليك ون لك ّل إنس ان م ا اعتق د‪.‬‬

‫يهمهم دين وال دني ا إال م ا ش اءت أه واؤهم‪،‬‬


‫بي د أن رج ال السياس ة الشخص ية ال ذين ال ُّ‬
‫ويؤولون ال دين على‬
‫ورجال العلم القليل‪ ،‬يقولون بالعكس‪ ،‬ويحرفون الكلم عن مواضعه ّ‬
‫حسب أهوائهم‪ .‬وصاحبا مدرس ة الرج وع إلى الدول ة الديني ة المحمدي ة وتالمي ذهما أمث ال‬
‫يؤول ون اآلي ة‪{ :‬وق اتلوهم حتّى ال تك ون فتن ة ويك ون ال ّدين هلل}‬
‫الس يد ش كيب إرس الن ّ‬
‫(البقرة‪ )193 :‬على هذه الوجهة السياسية‪" .‬ومن األوامر الشرعية أن ال يدع المس لمون‬
‫تنمي ة ملتهم ح تى ال تك ون فتن ة ويك ون ال دين كل ه هلل"‪ ،‬وه ذا االجته اد باط ل‪ ،‬فاآلي ة ال‬
‫تق ول "أن ال ي دع المس لمون تنمي ة ملتهم" (بالقت ال ض مناً) ب ل أوجبت مقاتل ة "ال ذين‬
‫يقاتلونكم في الدين" وهذا الشرط هو سابق لجميع آيات القتال‪ ،‬فه و ش رط له ا كلّه ا‪ .‬وم ا‬
‫ج اء بع د يجب فهم ه به ذه الش رط وفي ظروف ه‪ .‬ول وال ذل ك ألمكن الق ول إن جمي ع‬
‫المحم ديين ال ذين عاش وا من ذ مئ ات الس نين ال يق اتلون ج يرانهم وال ُيكره ونهم على‬
‫اإلس الم المحم دي هم كفَّار‪ ،‬وب ذلك انتف اء وج ود المل ة المحمدي ة‪ ،‬وه و ق ول باط ل لك ل‬
‫متدبر للقرآن‪ ،‬غير آخذ ببعضه دون بعض‪ ،‬وقد قال صاحبا "العروة ال وثقى" ه ذا الق ول‬
‫ّ‬
‫الباطل بهذا الشكل‪" :‬كل اعت ذار في القع ود عن نص رة اهلل فه و آي ة النف اق وعالم ة البع د‬
‫عن اهلل"‪ .‬ومن هو ال ذي يه اجم اهلل الي وم؟ إن اهلل ق د اش ترى من المؤم نين أنفس هم إلقام ة‬
‫ني عن الع المين‬
‫ال دين والكت اب حيث ال دين وال كت اب‪ .‬وفي م ا س وى ذل ك ف إن اهلل {غ ٌّ‬
‫ومن جاهد فإنما يجاهد لنفس ه}‪ .‬أم ا قولهم ا‪" :‬فم ا لن ا ن رى األج انب يص ولون على البالد‬
‫يختص ون بالد‬
‫ّ‬ ‫يختص وا وال‬
‫ّ‬ ‫اإلس المية ص ولة بع د ص ولة" فه و مح ال‪ ،‬ألن األج انب لم‬

‫‪123‬‬
‫المحمديين بالصولة عليها‪ ،‬بل يصولون على ك ل بالد أمكنهم إخض اعها‪ ،‬مس يحية ك انت‬
‫أو محمدي ة أو بوذي ة أو برهماني ة أو غ ير ذل ك‪ .‬إنهم ال يق اتلون في ال دين‪.‬‬

‫دبرون ال دين ينقض ون ال دين بتس خيره للدول ة‪ ،‬غ ير مهتمين إال‬
‫إن ه ؤالء ال ذين ال يت ّ‬
‫تم‪ .‬ثم يحتج ون بال دين إلقام ة‬
‫معين ق د ّ‬
‫بالنص وص الدولي ة ال تي ُوج دت لغ رض ّ‬
‫أي أن ينتح ر‪ ،‬بينم ا هم‬‫سفس طتهم‪ ،‬فك أنهم يري دون من ال دين أن ي وافقهم على إبطال ه‪ّ ،‬‬
‫ي ّدعون أن في قت ل ال دين إحي اء ال دين‪ .‬إنهم م ا يفت أون ي رددون مث ل ه ذه اآلي ة تردي د‬
‫{إن‬
‫الببغ اوات‪{ :‬ومن يبت غ غ ير اإلس الم دين اً فلن يقب ل من ه} (آل عم ران‪ )85 :‬واآلي ة ّ‬
‫الدين عند اهلل اإلس الم} (آل عم ران‪ )19 :‬واآلي ة {ه و الّ ذي أرس ل رس وله باله دى ودين‬
‫الدين كلّه} (الفتح‪ .)28 :‬وقد رأينا‪ ،‬في ما تقدم من هذه الحلق ات‪ ،‬أن‬ ‫الحق ليظهره على ّ‬
‫ّ‬
‫اإلسالم ليس مختص اً بالمحم ديين‪ ،‬ب ل ش امالً أه ل الكت اب من أي ام إب راهيم‪ ،‬فالموس ويون‬
‫مس لمون‪ ،‬والمس يحيون مس لمون للّ ه‪ ،‬والمحم ديون مس لمون للّ ه‪ .‬أم ا قول ه‪{ :‬ه و الّ ذي‬
‫واب على‬
‫ق ليظه ره على ال ّدين كلّ ه} (الفتح‪ )28 :‬فج ٌ‬ ‫أرس ل رس وله باله دى ودين الح ّ‬
‫الذين قالوا أنه كذاب‪ ،‬وتقوية لروح أتباعه وإ ن كان فيه متابعة إلنجي ل برناب ا ال ذي ك ان‬
‫في المس يحية أش به بمس يلمة في المحمدي ة‪ ،‬فق ال أن يس وع ليس المس يح‪ ،‬ووض عه من‬
‫المس يح ال ذي س يأتي بع د‪ ،‬على رأي ه‪ ،‬في مق ام يوحن ا المعم دان من المس يح‪ ،‬وق ال أن‬
‫المسيح الذي يأتي بعد يسوع ُي دعى بم ا يص ّح أن ُي ترجم بمحم د‪ ،‬وإ ن ه يك ون ف وق جمي ع‬
‫الرسل‪ .‬وفي كل حال ال ينقض هذا الق ول أن اهلل أن زل الت وراة واإلنجي ل وقول ه‪{ :‬ق ل ي ا‬
‫ربكم}‬‫أه ل الكت اب لس تم على ش يء حتّى تقيم وا التّ وراة واإلنجي ل وم ا أن زل إليكم من ّ‬
‫والنصارى من آمن باهلل‬
‫والصابئون ّ‬
‫ّ‬ ‫{إن الّذين آمنوا والذين هادوا‬
‫(المائدة‪ )68 :‬وقوله‪ّ :‬‬
‫والي وم اآلخ ر (أس لم) وعم ل ص الحاً فال خ وف عليهم وال هم يحزن ون} (المائ دة‪)69 :‬‬
‫آمن ا‬
‫وقوله‪{ :‬وال تجادلوا أه ل الكت اب إالّ ب الّتي هي أحس ن إالّ الّ ذين ظلم وا منهم وقول وا ّ‬
‫بالّ ذي أن زل إلين ا وأن زل إليكم وإ لهن ا وإ لهكم واح ٌد ونحن ل ه مس لمون} (العنكب وت‪)46 :‬‬
‫وه ذه اآلي ة األخ يرة هي من أواخ ر العه د المكي‪ ،‬أي بع د نح و ثالث عش رة س نة من‬
‫بأن اإلسالم هو إلله واح د‪ :‬للمحم ديين والمس يحيين‪ ،‬فك ل‬
‫نص صريح ّ‬ ‫االستنزال‪ ،‬وفيها ٌّ‬
‫من آمن ب ه فه و مس لم س واء أك ان مس يحياً أو محم دياً‪ .‬أم ا أن اهلل وع د بأن ه ي ورث‬
‫فمختص في هذه الدنيا بأرض الوثنيين‪ ،‬وفي ما س وى ذل ك فالمقص ود‬
‫ٌّ‬ ‫المؤمنين األرض‬

‫‪124‬‬
‫ب ه الجن ة بع د الم وت‪{ :‬وق الوا الحم د هلل الّ ذي ص دقنا وع ده وأورثن ا األرض نتب وأ من‬
‫الجن ة حيث نش اء} (الزم ر‪ )74 :‬ف األرض هي أرض الجن ة‪ ،‬وتأوي ل الوع د خالف اً له ذا‬
‫ّ‬
‫اد للمؤم نين عن طلب رض ى اهلل‬ ‫الف لغ رض ال دين وإ بع ٌ‬
‫النص الص ريح إنم ا ه و مخ ٌ‬
‫بإقام ة ج وهر ال دين ال ذي ه و ش يء روحي مرتف ع عن القت ال وه وس الحزبي ات المع ّك ر‬
‫اني أه ل الكت اب‪ ،‬من‬
‫انيكم وال بأم ّ‬
‫على المؤم نين س كينتهم وإ س المهم ل ربهم {ليس بأم ّ‬
‫الص الحات‬
‫ولياً وال نصيراً‪ .‬ومن يعمل من ّ‬
‫يعمل سوءاً ُيجز به وال يجد له من دون اهلل ّ‬
‫الجن ة وال يظلم ون نق يراً} (النس اء‪ 133 :‬و‬
‫مؤمن فأولئك يدخلون ّ‬ ‫ٌ‬ ‫من ذكر أو أنثى وهو‬
‫‪ ،)134‬ف دخول الجن ة‪ ،‬في التعليم ال ديني‪ ،‬وليس لل ذين يطلب ون قت ال من ال يق اتلون في‬
‫الدين بناء على تأويل فاسد كالذي وج دناه في "الع روة ال وثقى"‪ ،‬وه و ال ذي يجع ل الديان ة‬
‫اإلس المية ديان ة فتن ة واض طهاد وح رب ب القول إن أساس ها وض ع على طلب الغلب ة‬
‫ومنازع ة ك ل ذي ش وكة في ش وكته‪ ،‬وه و ق و ٌل فاس د‪ ،‬باط ل‪ .‬فالديان ة اإلس المية وض ع‬
‫أساس ها على عب ادة اهلل واتقائ ه واس تباق الخ يرات‪ .‬أم ا الح رب فق د فرض ت لرف ع‬
‫االض طهاد ودف ع الفتن ة وليس إللق اء االض طهاد وإ ث ارة الفتن ة‪ .‬ه ذا ه و التأوي ل الص حيح‬
‫لق وم يعقل ون وال يري دون إبط ال ال دين وتض حيته على م ذبح السياس ة والدول ة أو تفكي ك‬
‫وح دة ال دين ال تي ال تق وم ببعض آي ات دون بعض‪ .‬ولكن إذا ك انت الدول ة غ ايتهم‬
‫القص وى فلم اذا ي راؤون في ال دين ويتظ اهرون ب الرجوع إلى ال دين وكت اب اهلل؟ إنهم‬
‫بادع اء ّأنهم يري دون إقام ة دين اهلل‪ .‬إال أن دين اهلل ق ائم‪ ،‬واهلل في غ نى‬
‫يموهون غاي اتهم ّ‬
‫ّ‬
‫عن مقاصدهم‪ .‬فبعد فتح مكة وإ بادة عبادة األصنام أصبح دين اهلل قائم اً‪ .‬وق د قلن ا إن ه ال‬
‫خالف دينياً بين اإلسالم المسيحي واإلسالم المحمدي إال في صفة يس وع وص فة محم د‪،‬‬
‫فالمسيحيون يعتقدون أن يسوع هو المخلص وأنه كلمة اهلل وروحه وأنه اهلل المتجسد في‬
‫اإلنسان‪ ،‬ولذلك هو أس مى من هب ط من المح ل األرف ع‪ ،‬والمحم ديون يعتق دون أن محم داً‬
‫ه و رس ول اهلل المق ّدم على جمي ع الرس ل ومن ض منهم يس وع‪ ،‬وأن ب ه الخالص‪ ،‬وه ذا‬
‫معنى قولهم‪" :‬خاتم النبيين"‪ .‬وهذا االعتقاد التقليدي ُم ٍ‬
‫جار لما ورد في إنجيل برنابا الذي‬
‫ُيع ّد مص دراً له ذا االعتق اد‪ .‬فبرناب ا يق ول إن يس وع ليس المس يح (مس يا)‪ ،‬وإ ن ه ذا‬
‫الموع ود س يأتي في م ا بع د‪ .‬ق ال برناب ا‪" :‬أج اب يس وع‪ :‬ال تض طرب قل وبكم وال تخ افوا‬
‫ألني لست أنا الذي خلقكم‪ ،‬بل اهلل الذي خلقكم يحميكم‪ ،‬أما من خصوصي فإني ق د أتيت‬
‫تغش وا ألن ه‬
‫ألهيئ الطري ق لرس ول اهلل ال ذي س يأتي بخالص الع الم‪ ،‬ولكن اح ذروا أن ّ‬
‫ّ‬

‫‪125‬‬
‫س يأتي أنبي اء كذب ة يأخ ذون كالمي وينجس ون إنجيلي‪ .‬حينئ ذ ق ال ان دراوس‪ :‬ي ا معلم‪،‬‬
‫اذك ر لن ا عالم ة لنعرف ه‪ ،‬أج اب يس وع‪" :‬إن ه ال ي أتي في زمنكم‪ ،‬ب ل ي أتي بع دكم بع دة‬
‫سنين حينما يبطل إنجيلي وال يكاد يوجد ثالث ون مؤمن اً في ذل ك ال وقت‪ ،‬ي رحم اهلل الع الم‬
‫فيرس ل رس وله ال ذي تس تقر على رأس ه غمام ة بيض اء يعرف ه أح د مخت اري اهلل وه و‬
‫يظهره للعالم" (برنابا ‪ 8 :72‬ـ ‪ )14‬وجاء كذلك أنه عندما خاطب المسيح السامرية ق ال‬
‫لها بعد أن سألته ‪ ":‬لعلك أنت مس ياً أيه ا الس يد‪ ،‬أج اب يس وع‪ :‬إني حق اً أرس لت إلى بيت‬
‫بي خالص‪ ،‬ولكن س يأتي بع دي مس يا المرس ل من اهلل لك ّل الع الم ال ذي ألجل ه‬
‫إس رائيل ن ّ‬
‫خلق اللّه العالم‪( ".‬برنابا ‪ 15 :82‬و‪ 16‬و‪.)17‬‬

‫(مالحظ ة‪ :‬عن دما ذكرن ا برناب ا وإ نجيل ه ألول م رة في ه ذا البحث لم تكن ل دينا نس خة من ه لنطالعه ا‬
‫فاكتفينا بذكر ما كنا قد الحظناه من قب ل من ق راءة بض ع ص فحات من آخ ره‪ .‬أم ا اآلن فق د ص ارت‬
‫نس خة من اإلنجي ل الم ذكور بين أي دينا فطالعناه ا ووج دنا فيه ا مس تندات ومراج ع كث يرة ت دل على‬
‫ارتب اط وثي ق للتقالي د المحمدي ة به ا‪ .‬وس نعود إلى تفص يل ذل ك في محل ه حين مراجع ة ه ذا البحث‬
‫لتنقيحه)‪.‬‬

‫بناء على ما تقدم وعلى االستناد إلى رواية برنابا إلقامة اعتقادات محمدية كثيرة يكون‬
‫الخالف منحصراً في هل يسوع هو المسيح الذي به الخالص أو هو محمد‪ .‬وهذه‬
‫قضية ال يمكن أن ُيب َّ‬
‫ت بها إنسان بالحجة والمنطق والبراهين‪ ،‬فهي مسألة اعتقاد ال‬
‫مسألة تقرير أمر تاريخي‪ ،‬والحكم فيها يجب أن يترك للّه كما ورد في القرآن‪ ،‬فهو‬
‫وحده يقدر أن ينبئ المختلفين ما هم فيه يختلفون‪ .‬ولكن يظهر أن تالمذة المدرسة‬
‫الرجعية ال يريدون أن يتركوا للّه شيئاً حتى وال قوة الحكم‪ ،‬فهم يريدون إبطال الحشر‬
‫ألنهم يريدون أن يحاسبوا المؤمنين من مسيحيين ومحمديين على كيفية إسالمهم‪ .‬ومتى‬
‫فعلوا ذلك فماذا يبقى للّه يوم الدينونة؟ وما الفائدة من حشر النفوس؟ وما هي القيمة‬
‫المنذرة الناس بعقاب اهلل؟‬
‫التي تبقى لآليات ُ‬

‫إن دعوة أساتذة "الجنسية الدينية" إلى إعادة دولة الدين المحمدي قد باءت بالخيبة كما‬
‫باءت بالخيبة دعوة دولة الدين المسيحي‪ .‬فقد دعا صاحبا "العروة الوثقى" العلماء‬
‫(علماء الدين) لفعل الخير الذي هو في عرفهما الخير كله وهو‪" :‬جمع كلمة المسلمين"‪.‬‬
‫غرنكم الوساوس وال‬
‫"التعصب"‪" :‬هذه هي روابطكم الدينية ال تُ ّ‬
‫ّ‬ ‫وناديا‪ ،‬في مقالة‬

‫‪126‬‬
‫تدهشنكم زخارف الباطل‪ .‬ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة‬‫ّ‬ ‫تستهوينكم الترهات وال‬
‫ّ‬
‫الفهم واعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي‬
‫بالعربي والفارسي بالهندي والمصري بالمغربي"! (العروة الوثقى ص ‪ .)112‬فلم يكن‬
‫أعظم من وهم هذه الرابطة الدينية في معترك حياة األمم‪ ،‬ولم يكن غرور أسوأ‬ ‫ُ‬ ‫وهم‬
‫ٌ‬
‫مصيراً من هذا الغرور‪ .‬فهل اجتمع التركي بالعربي والفارسي بالهندي والمصري‬
‫بالمغربي؟ كالَّ‪ ،‬ذلك ألن الروابط الجغرافية والساللية واالجتماعية واالقتصادية كانت‬
‫أقوى من الرابطة الدينية في جميع األديان على السواء‪ .‬وحين كانت الخالفة العثمانية‬
‫غير تسخير الشعوب اإلسالمية األخرى‬‫قائمة ولم يكن للرابطة الدينية من غرض ُ‬
‫لخدمة مصلحة تركية فقط؛ ولذلك انتقضت األقطار العربية على تركية محالفة أمماً‬
‫مسيحية ضدها‪ .‬وفي حين كانت الرابطة الدينية وسيلة لبسط النفوذ التركي كانت في‬
‫تكون من‬
‫الوقت عينه عبئاً على السلطنة العثمانية التي رزحت تحته إذ لم تستطع أن ِّ‬
‫الجماعات اإلسالمية شعوراً واحداً وفكراً واحداً في المسائل السياسية واالقتصادية‬
‫يكذب قول صاحبي "العروة الوثقى" وهو‪" :‬لهذا‬ ‫االنترنسيونية‪ ،‬فكان ذلك برهاناً قاطعاً ِّ‬
‫ترى العربي ال ينفر من سلطة التركي‪ ،‬والفارسي يقبل سيادة العربي‪ ،‬والهندي ُيذعن‬
‫لرئاسة ألفغاني"‪.‬‬

‫الرابطة الدينية لها قيمة فعلية في الشؤون الدينية البحت فقط‪ ،‬أما في شؤون الحياة‬
‫وتقدم األمم‪ ،‬فالرابطة القومية‪ ،‬كما هي مشروحة في كتابي‬
‫االجتماعية االقتصادية ّ‬
‫"نشوء األمم"‪ ،‬هي الرابطة الوحيدة التي تكفل حرية األمم وحقوقها‪ ،‬وتجهزها بجميع‬
‫وسائل الفالح‪ .‬وحيث تخيب الرابطة القومية ال يمكن أن تصيب الرابطة الدينية‪ ،‬ألن‬
‫الرابطة الدينية تهمل الجغرافية والتاريخ والساللة واالجتماع واالقتصاد والنفسية‬
‫االجتماعية‪ ،‬أي جميع العوامل التي توجد الواقع االجتماعي وتتكفل بحفظه‪.‬‬

‫حبط مشروع الجنسية الدينية والوحدة اإلسالمية المحمدية حبوطاً تاماً‪ ،‬ألنه مشروعٌ‬
‫خارج عن الشؤون الدينية البحت وداخ ٌل في مسائل ال يصلح الدين لحلها ألنها ليست‬
‫ٌ‬
‫مسائل دينية‪ ،‬فلم يمكن التوفيق بين مطامح السوري ومثله العليا ومطامح التركي ومثله‬
‫العليا‪ ،‬ولم يمكن توحيد عقليات الجماعات اإلسالمية المحمدية من هندية وعربية‬

‫‪127‬‬
‫وفارسية وتركية وغيرها‪ ،‬وال توحيد شعورها وحاجاتها ومشاريعها‪ ،‬فكان ال بد من‬
‫حبوط فكرة العصبية الدينية والدولة الدينية‪ .‬وال نقول إن فكرة الدولة الدينية ال يمكن‬
‫أن تقوم في اإلسالم المحمدي فقط‪ ،‬بل في اإلسالم المسيحي أيضاً وفي كل دين على‬
‫اإلطالق‪.‬‬

‫بعد حبوط دعوة مدرسة الدولة الدينية والجنسية الدينية إلى "جمع كلمة المسلمين"‬
‫وتوحيد السوريين واألتراك والمصريين والفُرس واألفغانيين والمغربيين والهنود الخ‪.‬‬
‫رأى أتباع هذه المدرسة أن يلجأوا إلى مبدأ البدل أو التعويض‪ ،‬فقرروا المناداة بجامعة‬
‫محمدية َّ‬
‫أقل اتساعاً من مدى الفكرة األولى‪ .‬فنادوا بالعروبة على أساس المحمدية‪،‬‬
‫المعدلة بعد الخيبة؛‬
‫ّ‬ ‫متخذين من العنصر اللغوي دعامة جديدة لفكرتهم األولى الدينية‬
‫وهذا التعويض بالجامعة الدينية اللغوية عن الجامعة الدينية البحت لم يقصد منه التخلي‬
‫عن الفكرة األولى بالكلية‪ ،‬بل القصد منه االقتناع باألقل الستحالة األكثر‪ .‬وفي بعض‬
‫مجادالت أصحاب هذه المدرسة ال يندر أن نجد هذا التعبير "وطن المسلمين‬
‫(المحمديين) القرآن"‪ .‬وهم يجدون في "العروبة" بدالً ظاهرياً ال يبعد عن الفكرة‬
‫األساسية‪ ،‬بل صالحاً كل الصالح لها‪ ،‬إذ لم يكن للعرب شأن تاريخي إالّ بواسطة‬
‫الدين‪ ،‬ولم تنتشر اللغة العربية إالّ بالدين‪ .‬فالعروبة ال تعني عندهم غير الحركة الدينية‬
‫التي قام بها محمد‪ .‬ولذلك ال تخلو كتاباتهم وخطاباتهم من إيراد اإلسالم (المحمدي)‬
‫مقروناً بلفظة العروبة أو العرب إالّ في ما ندر‪ .‬ومع ذلك فأكثرهم يحاولون أن يكونوا‬
‫دبلماتيين ماهرين فيقولون إن العروبة ال تعني المحمدية وإ نه ال دخل للدين فيها‪ ،‬أي‬
‫إنها دعوة يمكن أن تشترك فيها األقطار العربية بكل جماعاتها الدينية بدون تمييز بين‬
‫ظانين أن مثل هذا الكالم البسيط يكفي لخدع الجماعات غير المحمدية‪ ،‬فهم‬
‫دين ودين‪ّ ،‬‬
‫يجهلون أن مثل هذه الحيلة‪ ,‬ال يجوز على المحقق في العلوم االجتماعية والسياسية وإ ن‬
‫جاء على بعض البسطاء‪ .‬إن اتحاد أقطار ال رابطة بينها في الجغرافية أو االجتماع أو‬
‫االقتصاد أو النفسية‪ ،‬وال صلة لها بعضها ببعض إال صلة الدين المدعومة بشيوع‬
‫اللغة‪ ،‬ال يمكن أن يكون له غرض آخر غير غرض الدين‪ .‬وإ ن الجماعات القليلة التي‬
‫تنتمي إلى أديان أخرى ال يمكن أن يكون لها أي شأن أو حقوق في دولة دينية ليست‬
‫من دينها‪ ،‬خصوصاً وأصحاب نظرية هذه الدولة الدينية يجاهرون بأن الغرض من‬

‫‪128‬‬
‫دولتهم الدينية هو التغلُّب على أهل األديان األخرى "منازعة كل ذي شوكة في شوكته"‬
‫ضع أساسها على طلب الغلب والشوكة واالفتتاح"‪.‬‬ ‫"وإ ن الديانة اإلسالمية و ِ‬
‫ُ‬
‫ولما لم تكن الدعوة "العروبية" غير بدل من الدعوة إلى الدولة الدينية المحمدية‪ ،‬لم‬
‫تتمكن من تعيين أصول ثابتة لفكرتها الموهومة‪ ،‬لذلك نرى أصحاب هذه الفكرة يلجأون‬
‫إلى التعديل والبدل عند كل صعوبة تصطدم بها دعوتهم‪ .‬فهم تارة يطلقون القول على‬
‫جميع الشعوب المتكلمة العربية‪ ،‬وطوراً يحصرونه في منطقة وهمية أصغر‪ ،‬فيقولون‬
‫بتشكيل دولة واحدة من سورية ومصر والعربة‪ ،‬أي بإخراج القيروان وطرابلس الغرب‬
‫يصغرون هذه المنطقة عند االضطرار فيجعلونها‬
‫ّ‬ ‫وتونس والجزائر ومراكش‪ ،‬ثم‬
‫مقتصرة على سورية والعربة‪ .‬هذا يجري "للعروبيين" في سورية‪ .‬أما في األقطار‬
‫األخرى المستقلة فقد تحولت "العروبة" إلى لفظة يقصد بها الدعاوة للدولة القائمة‬
‫والتغرير بالسوريين وغيرهم‪ .‬ففي مصر‪ ،‬مثالً‪ ،‬العروبة على أنواع‪ .‬فمنها العروبة‬
‫المصرية االقتصادية التي تقصد إدخال سورية وغيرها تحت سلطة الرسمال المصري‬
‫بواسطة المصارف المصرية وغيرها من الشركات‪ .‬ومنها العروبة المصرية السياسية‪،‬‬
‫وغرضها إيجاد خالفة محمدية في مصر تضم إليها ما أمكن من األقطار المجاورة‪.‬‬
‫ُ‬
‫ذر قرن هذه العروبة بطلب إلحاق فلسطين بمصر وتفكيك الوحدة السورية‪.‬‬ ‫وقد َّ‬
‫ونكتفي بهذين المثلين اللذين يمكن اتخاذهما قياساً للعروبات في األقطار األخرى‪ .‬وهذه‬
‫الحقيقة توضح مقدار التصادم بين الجنسية االجتماعية أو العصبية القومية والجنسية‬
‫الدينية‪ ،‬ففي مصر توجد دولة محمدية‪ ،‬وفي العربة توجد دولة محمدية‪ ،‬وكذلك في‬
‫سورية‪ .‬وال يوجد بين هذه الدول خالف على الرسول وال على القرآن‪ .‬ومع ذلك فإن‬
‫الدين لم يستطع توحيد هذه الدول‪ ،‬والسبب هو في العوامل الجغرافية والساللية‬
‫والتاريخية والسياسية والنفسية وغيرها‪ ،‬وهذه العوامل هي التي لها الغلب على الدين‬
‫في الشؤون الدولية ألن الدولة شيء اجتماعي ـ اقتصادي ـ سياسي قبل كل شيء‪.‬‬

‫العروبة ليست سوى حلم دولة دينية محمدية محدودة بدالً من الدولة الدينية المحمدية‬
‫المطلقة التي حلم بها أصحاب مدرسة الرجعة‪ ،‬وهذه العروبة الدينية التي تزيد الشقاق‬
‫النمو وفتح اآلفاق لألمم‬
‫والتنافس بين األقطار العربية‪ ،‬وتمنع التفكير القومي من ّ‬
‫العربية اللسان هي نكبة أو لعنة لجميع األقطار العربية على السواء‪ ،‬كما أنها تغرير‬

‫‪129‬‬
‫ويضحوا روحية الدين في سبيل أغراض دولة‬ ‫ّ‬ ‫بالمسلمين المحمديين ليسيئوا فهم دينهم‬
‫دينية ال مح ّل لها إال في األقوام غير المتمدنة التي ال تقوم لها قائمة بغير الدين النعدام‬
‫أسباب العمران عندها‪.‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫العُروبة الزائفة والعروبة الصحيحة‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬
‫أظهرنا‪ ،‬في الحلقة الس ابقة‪ ،‬بطالن حج ة أص حاب فك رة الجنس ية الديني ة‬
‫والدولة الدينية المحمدية الذين حاولوا تأويل القرآن على ه واهم وتفس ير‬
‫ال دين بم ا ينطب ق على أغراض هم‪ ،‬وقلن ا إن اجته ادهم المس تند إلى بعض‬
‫آي الق رآن دون بعض ه و اجته اد باط ل ألن ه يلغي فك رة وح دة الكت اب‬
‫ووح دة ال دين‪ ،‬ويج ري ض د غاي ة ال دين األص لية‪ ،‬ويح اول التغري ر‬
‫بالمؤمنين حتى تختلط عليهم أغراض الدين وأغراض الدولة فال يميزوا‬
‫الل‪.‬‬ ‫ة الض‬ ‫و غاي‬ ‫ذه‪ ،‬وه‬ ‫ك وه‬ ‫بين تل‬

‫وق د جئن ا بش واهد كث يرة من الق رآن على فس اد تأوي ل ص احبي "الع روة‬
‫الوثقى" لغرض الدين وعلى أن "تنمية الملة" كان أمراً ضرورياً وفرضاً‬
‫على المؤم نين لتث بيت دينهم في أرض الش رك (الوثني ة) وإلزال ة أخط ار‬
‫الوثن يين علي ه‪ ،‬وأثبتن ا أن ف رض القت ال ك ان للتغلّب على ال ذين يق اتلون‬
‫المؤم نين في ال دين‪ ،‬ونزي د هن ا على م ا أثبتن اه أن ه ال يج وز االحتج اج‬
‫يحرمون ما ح ّرم‬
‫بآية {قاتلوا الّذين ال يؤمنون باهلل وال باليوم اآلخر وال ّ‬
‫ق من ال ذين أوت وا الكت اب حتّى يعط وا‬
‫اهلل ورس وله وال ي دينون دين الح ّ‬
‫الجزية عن ٍيد وهم صاغرون} (التوبة‪ )29 :‬فهذه اآلي ة وردت في ّإب ان‬
‫التح ريض على قت ال المش ركين وال ذين ظ اهروهم من أه ل الكت اب على‬
‫قت ال أتب اع محم د واض طهاد دعوت ه‪ ،‬فهي من قس م نقض العه د م ع‬
‫نص ص ريح ب التحريض على‬
‫المش ركين من س ورة األنف ال ال تي فيه ا ٌّ‬
‫القت ال؛ واآلي ة ظرفي ة بحت ومتعلق ة ب الحرب بين محم د وأع داء دعوت ه‬

‫‪130‬‬
‫في العربة‪ .‬وتخصيص أهل الكتاب ب دفع الجزي ة ب دالً من وج وب تغي ير‬
‫ص التهم ومعتق دهم ه و بره ان ق اطع على أن الح رب بين المحم ديين‬
‫وبينهم لم تكن على أساس فساد دينهم واعتقادهم باهلل‪ ،‬إذ إن القرآن جاء‬
‫"مص ّدقاً لم ا معهم"‪ ،‬ب ل على أس اس تك ذيبهم لمحم د ومعاون ة المش ركين‬
‫عليه‪ .‬وهو مختص بالعرب من أهل الكت اب ال ذين جعل وا ثالث ة آله ة في‬
‫مح ل اهلل الواح د وق الوا بألوهي ة م ريم وفس روا المس يحية على م ا ال‬
‫مقي د بظ رف الزم ان وظ رف‬
‫ينطبق على تعاليمها‪ .‬فحكم اآلية المذكورة ّ‬
‫المك ان‪ .‬والبره ان على ذل ك ه و في وج ود آي ات كث يرة مكي ة ومدني ة ال‬
‫الن اس حتّى يكون وا مؤم نين} (ي ونس‪:‬‬ ‫تُج يز إطالقه ا كآي ة‪{ :‬أف أنت تك ره ّ‬
‫آمنا بالّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإ لهنا وإ لهكم واح ٌد‬
‫‪ )99‬وآية {وقولوا ّ‬
‫ونحن ل ه مس لمون} (العنكب وت‪ )29 :‬وآي ة {ال إك راه في ال ّدين ق د ت ّبين‬
‫اني أه ل‬
‫الغي} (البق رة‪ )256 :‬وآي ة {ليس بأم انيِّكم وال بأم ِّ‬
‫الرش د من ِّ‬
‫الكت اب} (النس اء‪ )123 :‬وآي ة {اهلل يحكم بينكم ي وم القيام ة فيم ا كنتم في ه‬
‫تختلف ون} (الحج‪ )69 :‬وغيره ا كث ير يض يق عن ه ه ذا المج ال‪ .‬وانظ ر‬
‫ق من ال ذين‬
‫الف رق بين آي ة قب ول الجزي ة من {الّ ذين ال ي دينون دين الح ّ‬
‫أوتوا الكتاب} (التوبة‪ ،)29 :‬والمقص ود بعض أه ل الكت اب وليس كلهم‪،‬‬
‫وآي ة قت ال المش ركين ح تى يتوب وا ويؤمن وا‪ ،‬وهي من الس ورة عينه ا‪،‬‬
‫الح ُر ُم ف اقتُلُوا المش ركين حيث وج دتموهم (وال‬
‫قال‪{ :‬فإذا انسلخ األش هُُر ُ‬
‫يدخل معهم أحد من أهل الكتاب) وخذوهم واحصروهم واقع دوا لهم ك ّل‬
‫إن اهلل‬
‫الزك اة فخلّ وا س بيلهم ّ‬
‫الص الة وآت وا ّ‬
‫مرص د ف إن ت ابوا وأق اموا ّ‬
‫رحيم} (التوب ة‪ .)5 :‬فمحارب ة "ال ذين ال ي دينون دين الح ق من‬
‫ٌ‬ ‫ور‬
‫غف ٌ‬
‫الذين أوتوا الكتاب" ال تتناول جميع أه ل الكت اب‪ ،‬ب ل تقتص ر على ال ذين‬
‫مؤي داً بش واهد‪.‬‬
‫أساءوا فهم دينهم من العرب الذين وصفنا أم رهم وص فاً ّ‬
‫وتخصيص "الذين ال ي دينون دين الح ق" يع ني أن ه يوج د من ي دينون ه ذا‬
‫اد‬
‫ال دين بم وجب كت ابهم‪ .‬أم ا تأوي ل المع نى على غ ير ه ذا الوج ه فاجته ٌ‬
‫بعي د ج داً‪ ،‬والعم ل باالجته اد غ ير واجب ألن المجته د يق ول بم ا يص ل‬
‫زم الن اس إذ ه و في غ ير‬
‫رأي شخصي ال ُيل ُ‬
‫إليه إدراكه وقصده‪ ،‬كالمه ٌ‬

‫‪131‬‬
‫مقام النبوة والوحي‪ .‬والمصيبة كانت دائماً في ال ذين يري دون أن يجعل وا‬
‫اجته ادهم في مق ام ال وحي والنب وة ويطلب ون من المؤم نين ت رك النص‬
‫ادهم‪.‬‬ ‫ل على اجته‬ ‫والتعوي‬

‫إن أص حاب فك رة الجنس ية الديني ة والدول ة الديني ة من المجته دين في‬


‫تفسير القرآن وتأويله‪ ،‬وهم أصحاب غاي ة الس لطان والمط امع في الحكم‬
‫عن طريق الدين‪ ،‬لم يحاولوا التفكير في م ا ه و أبع د من الطف رة الوقتي ة‬
‫وال في طب ائع ال دول والمجتمع ات اإلنس انية؛ وأغ رب من ذل ك أنهم لم‬
‫يهتم وا ب درس نش أة الدول ة الديني ة المحمدي ة وتالش يها‪ ،‬وال ب درس نش أة‬
‫الدول ة الديني ة المس يحية وانقراض ها‪ ،‬ول ذلك يع زون تف ّك ك وح دة الدول ة‬
‫الديني ة المحمدي ة إلى "تخ الف طالب المل ك وتن ُازع األم راء"‪ ،‬فق د ق ال‬
‫ص احبا "الع روة ال وثقى"‪ ،‬وهم ا أس تاذا ه ذه المدرس ة الفكري ة "العص رية"‬
‫في مقال ة "الوح دة اإلس المية"‪" :‬نعم يوج د للتقص ير في إنم اء العل وم‬
‫وللض عف في الق وة أس باب أعظمه ا تخ الُف طالب المل ك فيهم‬
‫(المحمديين)‪َّ ،‬‬
‫ألنا بيَّنا أن ال جنسية للمسلمين إال في دينهم‪ ،‬فتعدد الملكة‬
‫عليهم كتع دد الرؤس اء في قبيل ة واح دة والس الطين في جنس واح د‪ ،‬م ع‬
‫تب ُاين األغ راض وتع ُارض الغاي ات‪ ،‬فش غلوا أفك ار الكاف ة بمظ اهرة ك ل‬
‫خصم على خص مه‪ ،‬وأله وا العام ة بتهيئ ة وس ائل المغالب ة وقه ر بعض هم‬
‫لبعض‪ .‬ف أدت ه ذه المغالب ات‪ ،‬وهي أش به ش يء بالمنازع ات الداخلي ة‪،‬‬
‫إلى ال ذهول عم ا ن الوا من العل وم والص نائع‪ ،‬فض الً عن التقص ير في‬
‫طلب م ا لم ين الوا منه ا واالنحس ار دون ال ترقي في عواليه ا‪ .‬ونش أ من‬
‫ه ذا م ا ن راه من الفاق ة واالحتي اج‪ ،‬وعقب ةُ الض عف في الق وة والخل ل في‬
‫النظ ام‪ ،‬وجلب تن ُازعُ األم راء على المس لمين تف رق الكلم ة وانش قاق‬
‫العص ا" (ص ‪ )150‬ثم ت أتي فق رة أخ رى من المقال ة عينه ا في مجل ة‬
‫"الع روة ال وثقى" (ص ‪ )153‬وه ذا نص ها‪" :‬إن رع اة المس لمين‪ ،‬فض الً‬
‫عمن عالهم‪ ،‬تتص اعد زف راتهم وتفيض أعينهم من ال دمع حزن اً وبك اء‬
‫على ما أص اب ملّتهم من تف ُّرق اآلراء وتض ُارب األه واء‪ ،‬ول وال وج ود‬

‫‪132‬‬
‫الغ واة من األم راء ذوي المط امع في الس لطة بينهم الجتم ع ش رقيُّهم‬
‫ُ‬
‫بغ ربيهم وش ماليُّهم بجن وبيِّهم ولبَّى جميعهم ن داء واح داً"‪.‬‬

‫العلمي ُبع ده عن حق ائق العلم الص حيح‪ ،‬من كالم‬


‫ّ‬ ‫ق‬
‫أول م ا ُيظه ر التحقي ُ‬
‫"الع روة ال وثقى" المثبت قب ل ه ذه الفق رة‪ ،‬ه و ع زو انف راط وح دة الدول ة‬
‫الدينية المحمدية إلى "تحالُف طالب الملك" في المحمديين‪ .‬فصاحب ه ذا‬
‫الكالم ال يع رف من أس باب االجتم اع اإلنس اني وروابط ه غ ير س بب‬
‫ال دين اإللهي ورابطت ه‪ ،‬م ع أن االجتم اع الزم البش رية من ذ أق دم أزمن ة‬
‫وجودها‪ .‬ومع أن التاريخ يخبرنا عن دول عظيمة أقامت النظام وفتحت‬
‫الفتوح ات البعي دة قب ل عه د الكتب المنزل ة والتبش ير باإلل ه الس ماوي‬
‫الواح د‪ ،‬كم ا ج رى لل دول الس ورية من ذ العه د الفي نيقي إلى آخ ر العه د‬
‫الس لوقي؛ واالمبراطوري ة الس ورية الش رقية ال تي ابت دأت بص ور‪ ،‬بع د‬
‫ص يداء‪ ،‬وانتهت بنهاي ة الدول ة الس لوقية‪ ،‬واالمبراطوري ة الس ورية‬
‫الغربي ة‪ ،‬وقاع دتها قرطاض ه‪ ،‬ق د عمرت ا أك ثر من أي ة دول ة أو‬
‫امبراطوري ة ديني ة‪ ،‬فتخ الُف طالّب المل ك وتن ُازع األم راء ق د يكون ان‬
‫السبب األعظم لفشل دولة من الدول االجتماعية وتخاذلها‪ ،‬ولكنهم ا ليس ا‬
‫ام في تالش ي الدول ة الديني ة ألن طبيع ة االجتم اع‬
‫الس بب األعظم وال اله َّ‬
‫اإلنس اني غ ير طبيع ة ال دين واإليم ان‪ .‬ف المؤمنون من ك ل دين اخ وة‬
‫بالمعنى الروحي فقط‪ ،‬أم ا ب المعنى االجتم اعي ـ االقتص ادي ف اإلخوة هم‬
‫فقط أبناء المجتمع الواحد الذي ألَّفت بينهم البيئة وجمعتهم أس باب العيش‬
‫ان‪.‬‬ ‫الب اإليم‬ ‫ماء ومط‬ ‫باب الس‬ ‫اة‪ ،‬ال أس‬ ‫الب الحي‬ ‫ومط‬

‫الدول ة الديني ة المحمدي ة نش أت ونش أ االختالف بين األم راء معه ا في‬
‫ازعهُم األم ر وح روبهم لم تكن على‬
‫أص ولها‪ ،‬ف اختالف الص حابة وتن ُ‬
‫نص دي ني وال على غاي ة ديني ة‪ ،‬ب ل على الس لطة والنف وذ‪ ،‬فطبيع ة‬
‫حي اتهم العربي ة وتقالي د الع رب وقب ائلهم وع اداتهم ومط البهم هي س بب‬
‫ه ذه المنازع ات بين الص حابة ال تي امت دت إلى ك ل مك ان دخل ه العنص ر‬

‫‪133‬‬
‫ٍ‬
‫منازعات في الدولة المحمدي ة‪ ،‬ب ل في‬ ‫العربي‪ .‬وهذه المنازعات لم تكن‬
‫البيئة والمجامع العربي ة‪ ،‬فال يص ح إطالقه ا على جمي ع المنازع ات ال تي‬
‫َّ‬
‫أدت إلى تفك ك دول ة ال دين المحم دي‪ ،‬ف إن أس باب ه ذه المنازع ات‬
‫األخيرة التي تفككت من جرائها وحدة الدولة الدينية المحمدية هي عينها‬
‫أسباب المنازعات ال تي انتهت بتفك ك وح دة الدول ة الديني ة المس يحية‪ ،‬أي‬
‫األس باب القومي ة‪ .‬فالقومي ة انتص رت على الدول ة الديني ة‪ .‬فلم ُي ِط ق‬
‫وري الخض وع لدول ة فارس ية باس م ال دين‪ ،‬وال ألي ة دول ة ديني ة غ ير‬
‫الس ُّ‬
‫س ورية‪ ،‬ولم يط ق الف رس الخض وع للع رب‪ ،‬ولم تط ق س ورية وغيره ا‬
‫من األقط ار العربي ة الخض وع لتركي ة‪ ،‬ف اختالف األجن اس والعقلي ات‬
‫والبيئ ات ال يمكن أن ي زول بوح دة ال دين أو بوح دة الش رع‪ ،‬ألن ه من‬
‫طبيعة الواقع االجتماعي‪ .‬وجهل هذه القاعدة االجتماعي ة ه و ال ذي جع ل‬
‫ص احبي "الع روة ال وثقى" يق والن إن الس بب األعظم لتف ّرق كلم ة‬
‫الف طالب المل ك وتن ازع األم راء"‪ ،‬وإ ن "ال جنس ية‬
‫المحم ديين ه و "تخ ُ‬
‫للمس لمين (المحم ديين) إال في دينهم"‪ ،‬وكالمهم ا ي دل على جه ل بنش أة‬
‫الدول ة الديني ة المحمدي ة ونهايته ا‪ .‬فه ل ك ان الخالف الجنس ي العظيم بين‬
‫الش عوبيين والعروب يين ُمج َّرد تن ُازع أم راء وتخ الف طالب مل ك؟‬

‫عم اإلس الم‬


‫أيظن أص حاب فك رة الجنس ية الديني ة المحمدي ة أن ه ل و َّ‬
‫المحم دي الع الم ألمكن إنش اء دول ة واح دة تض م اإلنس انية كله ا؟ إنهم‬
‫يظنون هذا الظن وينادون بوجوب الدعوة إلى هذا الوهم‪ ،‬غير معت برين‬
‫بعلم وال بت اريخ‪ .‬ف اختالف أمزج ة الش عوب وطبائعه ا وتب ُاين مراميه ا‬
‫وتع ُارض غاياته ا ليس منش أه "وج ود الغ واة من األم راء ذوي المط امع‬
‫في الس لطة"‪ ،‬ب ل اختالف األق اليم واألجن اس والبيئ ات وتب ُاين المط الب‬
‫العمومي ة وتع ُارض الغاي ات الش عورية وتن ائي األقط ار‪ ،‬ول ذلك ال يمكن‬
‫دين واح ِد منتش ٍر في األص قاع في دول ة واح دة إال‬
‫التفك ير بض ِّم أبن اء ٍ‬
‫على أس اس الجه ل والغ رور‪ ،‬وق د ُي ُّ‬
‫حتج ب أن المحم ديين نقص هم ازدي اد‬
‫المع ارف والفن ون ليتّح دوا في دول ة واح دة‪ ،‬والحقيق ة أن ه ذا ينقص هم‬

‫‪134‬‬
‫ليعلموا بطالن ه ذه الفك رة‪ ،‬فالش عوب المس يحية ال تي بلغت ذروة التم ُّدن‬
‫يع ُّدون‬
‫وأقصى العلم لم يمكن اتحادها في دولة واحدة مع أن المس يحيين ُ‬
‫األخوة‪ ،‬ذل ك ألن‬
‫ّ‬ ‫أنفس هم اخ وة في ال دين‪ ،‬وتع اليم رس التهم أوص تهم ب‬
‫أخوة الدين ال يمكنها أن تح ّل محل األخوة القومية والحاج ات والمط الب‬ ‫ّ‬
‫الش عوبية‪ ،‬ول ذلك خ ابت الدول ة الديني ة العام ة المطلق ة في جمي ع األدي ان‬
‫على الس واء‪ .‬وك ُّل دع وة إلع ادة ه ذه الدول ة هي تغري ٌر وش عوذة‪.‬‬
‫وااللتج اء إلى مب دأ الب دل إلقام ة دول ة ديني ة مح دودة ب دالً من الدول ة‬
‫الديني ة العام ة ه و ش عوذةٌ أخ رى ألن ه ذا الب دل ه و دلي ٌل على فس اد‬
‫الفك رة األساس ية‪ ،‬فل و ك انت الفك رة ص حيحة لل زم ع دم انهي ار الدول ة‬
‫الدينية بعد تأسيس ها وع دم االقتص ار على بعض أه ل ال دين دون بعض‪.‬‬

‫وق د أوض حنا‪ ،‬في الحلق ة الس ابقة‪ ،‬فس اد قض ية ال دعوة إلى إنش اء دول ة‬
‫دينية محدودة بدالً من إنشاء دول ة ديني ة عام ة‪ ،‬فأثبتن ا ع دم وج ود وع دم‬
‫إمك ان تع يين أص ول ثابت ة لفك رة الدول ة العربي ة ال تي يتخيَّل ال داعون‬
‫األساس يون له ا إمك ان جم ع جمي ع األمم المتكلم ة العربي ة والدائن ة‬
‫باإلس الم المحم دي تحت لوائه ا‪ .‬وبيَّن ا ع دم اس تقرار ه ذه ال دعوة على‬
‫فكرة واض حة والمج ال الواس ع للتأوي ل فيه ا‪ .‬فبم ا أنه ا ليس ت س وى ب دل‬
‫من عقي دة فاس دة لم تص لح لتك ون عقي دة في ذاته ا ول ذلك لم يتمكن‬
‫أصحابها من توليد حركة واحدة عام ة في جمي ع األقط ار الداخل ة ض من‬
‫دي‪.‬‬ ‫دين المحم‬ ‫ة وال‬ ‫ة العربي‬ ‫الم اللغ‬ ‫اق ع‬ ‫نط‬

‫العروب ة ال تي تهم ل المب ادئ الجغرافي ة واإلقليمي ة والس اللية والتاريخي ة‬


‫واالجتماعي ة واالقتص ادية والنفس ية االجتماعي ة‪ ،‬أي جمي ع العوام ل ال تي‬
‫اعي وتتكف ل بحفظ ه‪ ،‬وال تس تند إالّ إلى ال دين وإ لى‬
‫توج د الواق ع االجتم َّ‬
‫اللغ ة بمق دار‪ ،‬هي عروب ةٌ زائف ةٌ ال نتيج ة له ا غ ير عرقل ة س ير المب ادئ‬
‫القومي ة االجتماعي ة الص حيحة في س ورية واألقط ار العربي ة عام ة‪،‬‬
‫ربي‬ ‫ُّ‬
‫وإ عط اء ال دول األجنبي ة ك ل فرص ة للتس لط على أمم الع الم الع ّ‬

‫‪135‬‬
‫والتغرير بها وإ ذاللها‪ .‬هي عروبة زائفة ألنها ال ت رمي إلى نه وض أمم‬
‫الع الم الع ربي‪ ،‬ب ل إلى إيق اد ن ار الفتن ة الديني ة والح رب الداخلي ة في ك ل‬
‫ديين‪.‬‬ ‫ثر من ملَّة المحم‬ ‫ة من أك‬ ‫ة مؤلف‬ ‫أم‬

‫داء نش وء‬
‫أعداء العرب الحقيقي ون ألنهم أع ُ‬
‫ُ‬ ‫إن أصحاب هذه العروبة هم‬
‫داء نه وض‬
‫القومي ة الص حيحة في ك ل أم ة من أمم الع الم الع ربي‪ ،‬وأع ُ‬
‫كرج ٍل واح د لني ل س يادتها وحقوقه ا واالرتق اء نح و‬
‫ك ِّل من ه ذه األمم ُ‬
‫المكون ة من نس يج ش عورها وآماله ا ومطامحه ا وأش واقها‬
‫ّ‬ ‫مطالبه ا العلي ا‬
‫األص يلة في نفس ك ل أم ة ومزاجه ا‪ ،‬وهم يتوهم ون‪ ،‬لجهلهم الفن ون‬
‫والعلوم السياسية واالقتصادية واالجتماعية والنفسية‪َّ ،‬‬
‫أن األكثري ة الملي ة‬
‫المطلق ة التام ة‪.‬‬
‫تُغ ني عن الواق ع االجتم اعي وعن الوح دة القومي ة ُ‬

‫إن ه ؤالء "العروب يين" ق د زيَّف وا القومي ة ووض عوها في الس وق للت داول‬
‫عوض اً عن القومي ة الحقيقي ة ال تي هي ش عور ك ل أم ة بشخص يتها‬
‫ونفس يتها وحقوقه ا ومطالبه ا‪ .‬وكم ا يلتبس على غ ير الخ براء بالعمل ة‬
‫والطباع ة المالي ة أم ر العمل ة الزائف ة‪ ،‬ك ذلك يلتبس على غ ير الخ براء‬
‫ب العلوم االجتماعي ة والسياس ية وغ ير الممارس ين للقومي ة الص حيحة أم ر‬
‫القومي ة الزائف ة‪ ،‬فهم ق د جعل وا العروب ة في مق ام الرابط ة الديني ة‪ ،‬ثم‬
‫طلوه ا أو رس موها برس وم القومي ة زي ادةً في التموي ه والتض ليل‪.‬‬

‫ومثُله ا العلي ا‪،‬‬


‫قلن ا إن القومي ة هي الش عور بشخص ية األم ة وحقوقه ا ُ‬
‫وهي‪ ،‬في الحقيق ة‪ ،‬شخص ية المجتم ع ونفس يته‪ ،‬فال تُطل ق إال على‬
‫المجتم ع المك ِّون شخص ية فزيائي ة ونفس ية واح دة‪ .‬ولم ا لم يكن الع الم‬
‫الع ربي قط راً واح داً وبيئ ة واح دة وس اللة واح دة ومجتمع اً واح داً فال‬
‫يمكن أن تكون له شخص ية فزيائي ة ونفس ية واح دة‪ ،‬وبالت الي ال يمكن أن‬
‫الب واح دة ونظ رةٌ واح دة إلى الحي اة والفن‪.‬‬
‫تك ون ل ه قومي ة واح دة ومط ُ‬

‫‪136‬‬
‫ام كب يرةٌ من ه تتخلّله ا أو‬ ‫َّ‬
‫ربي مؤلف من أقط ار متباع دة‪ ،‬وأقس ٌ‬
‫الع الم الع ّ‬
‫تؤلفه ا الص حاري القاحل ة غ ير الص الحة للعم ران‪ .‬وإ ذ ك انت ق د دخلت‬
‫ومع َّدل كثاف ة‬
‫هذه األقطار نسبةٌ دمويةٌ عربيةٌ قليل ة‪ ،‬فوض عها الجغ رافي ُ‬
‫س كانها وإ مكانياته ا االقتص ادية لم تؤه ل ه ذه األقط ار إلنش اء مجتم ع‬
‫ٍ‬
‫مترابط بدورة دموية واجتماعية ـ اقتصادية منتظمة‪ ،‬فلم تنش أ فيه ا‬ ‫واحد‬
‫نفس ية متمدن ة واح دة وال نظ رةٌ إلى الحي اة واح دةٌ‪ ،‬فهي ليس ت بيئ ةً‬
‫واح دة‪ ،‬وس كانها ال يؤلف ون أم ةً واح دة‪ .‬وتس مية ش عوب الع الم الع ربي‬
‫أم ة هي من ب اب إطالق األس ماء على خالف م دلوالتها ومعانيه ا‪.‬‬

‫ات متباع دة‪ .‬وحاج ات ك ِّل مجتم ع‬


‫ات متباين ةٌ ومجتمع ٌ‬‫الع الم الع ربي بيئ ٌ‬
‫ف عن حاج ات اآلخ ر‬ ‫ومطالب ه العلي ا ونظرتُ ه إلى الحي اة والك ون تختل ُ‬
‫ُ‬
‫ومط الب ك ِّل منه ا ونظرت ه إلى الحي اة والك ون‪ .‬وبن اء علي ه يك ون الع الم‬
‫صالت لغويةٌ ودينية بعضها ببعض‬
‫ٌ‬ ‫العربي أمماً ال أمة‪ .‬وهذه األمم لها‬
‫التقارب والتفاهم ما أمكن والتعاون على نس بة‬
‫توجب عليها سلوك خطة ُ‬
‫االش تراك في بعض الش ؤون السياس ية أو الثقافي ة أو االقتص ادية ال تي‬
‫يمكن أن توج د في م ا بينه ا‪ ،‬والطريق ة الوحي دة لحص ول ه ذا التق ارب‬
‫وه ذا التف اهم وه ذا التع اون ه و في أن تنهض ك ل أم ٍة بنفس ها وتفهم‬
‫وضعها وحاجاته ا ومثله ا العلي ا‪ ،‬ويتم َّرن أفراده ا على ممارس ة الحق وق‬
‫المدني ة والسياس ية‪ ،‬فتص بح ق ادرةً على إدراك م ا يمكنه ا من أن تش ترك‬
‫فيه مع أمم العالم العربي ويتفق مع حاجاتها ورغباته ا وم ا ه و النص يب‬
‫ق مع‬ ‫ك في ه وال يتف ُ‬
‫در على القي ام ب ه‪ ،‬وم ا ال يمكنه ا االش ترا ُ‬
‫ال ذي تق ُ‬
‫حاجاته ا ورغباته ا‪ .‬وه ذه هي العروب ة الص حيحة ال تي تجم عُ بين‬
‫وحرياته ا وحقوقه ا من‬
‫ّ‬ ‫المحافظ ة على شخص يات أمم الع الم الع ربي‬
‫جه ة‪ ،‬والتع اون الط وعي أو االختي اري في جمي ع المص الح المتبادل ة في‬
‫م ا بينه ا من جه ة أخ رى‪ .‬ه ذه هي العروب ة الص حيحة ال تي وض ع‬
‫ومي االجتم اعي‪ ،‬ال ذي‪ ،‬م ع عمل ه‬
‫وري الق ّ‬
‫قواع دها المتين ة الح زب الس ّ‬
‫لنهض ة س ورية‪ ،‬لم ينس مرك ز س ورية في الع الم الع ربي وم ا تق در أن‬

‫‪137‬‬
‫ربي‪.‬‬ ‫الم الع‬ ‫ورية للع‬ ‫هس‬ ‫تفعل‬

‫ك ل وح دة فعلي ة‪ ،‬لكي تثبت على زع ازع االنقالب ات السياس ية‪ ،‬يجب أن‬
‫تك ون طبيعي ة ال اص طناعية‪ ،‬فاالمبراطوري ة العربي ة ـ المحمدي ة ك انت‬
‫وح دة سياس ية ديني ة اص طناعية اجتماعي اً‪ ،‬ألنه ا نش أت ب الفتح وليس ت‬
‫برغبة واختيار الذين انضووا تحته ا‪ ،‬فم ا ك ادت س ورة الفتح تخم د ح تى‬
‫ذر ق رن المنازع ات الش عوبية واس تفاق ك ل ش ٍ‬
‫عب إلى حاجات ه ورغبات ه‬
‫الخصوص ية فتفككت الوح دة االص طناعية وانه ارت االمبراطوري ة‪ .‬وال‬
‫يمكن قيامه ا من جدي د إال بالطريق ة ال تي ق امت به ا من قب ل‪ ،‬أي ب القوة‬
‫والفتح‪ ،‬إذ ال ينتظ ر أن تك ون وح دة اجتماعي ة ـ اقتص ادية ـ نفس ية ـ‬
‫جغرافية نظراً لألسباب التي تقدم ذكرها‪ .‬ومس ألة الفتح تبقى من ش ؤون‬
‫الف اتح فهي مس ألة سياس ية انترنس يونية ال مس ألة قومي ة‪ ،‬إنه ا مس ألة‬
‫تقري ر مص ير أمم وأقط ار ال مس ألة نهض ة أم ة واح دة ب إرادة واح دة‪.‬‬

‫النظري ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة في ه ذه المس ألة هي‪ :‬النه وض‬
‫الق ومي االجتم اعي بس ورية أوالً‪ ،‬ثم س لك سياس ة تعاوني ة لخ ير الع الم‬
‫حر ُر القوة السورية من سلطة األجانب‬ ‫العربي‪ .‬ونهضة األمة السورية تُ ّ‬
‫وتحوله ا إلى حرك ة فعال ة إلنه اض بقي ة األمم العربي ة ومس اعدتها على‬
‫ِّ‬
‫رقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال‬

‫وه ذه العروب ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة هي العروب ة الص حيحة‬


‫الص ريحة غ ير الملتوي ة‪ .‬هي العروب ة العملي ة ال تي توج د أك بر مس اعدة‬
‫ه‪.‬‬ ‫ة لنهوض‬ ‫ل طريق‬ ‫ربي وأفع‬ ‫الم الع‬ ‫للع‬

‫إنها ليست عروبة دينية‪ ،‬وال عروبة رسمالية نفعية‪ ،‬وال عروبة سياسية‬
‫مثليةٌ لخير العالم العربي كله‪.‬‬
‫مرائية‪ :‬إنها عروبةٌ ّ‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫‪138‬‬
‫العُروبة الدّينية والدّعاوات األجنبيّة‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬
‫قلنا‪ ،‬في الحلقة السابقة‪ ،‬إن العروبة التي تُهمل مبادئ النظام االجتم اعي‬
‫ون واميس االجتم اع وال تس تند إال إلى ال دين وإ لى اللغ ة بمق دار‪ ،‬هي‬
‫عروب ة زائف ة ال نتيج ة له ا غ ُير عرقل ة س ير المب ادئ القومي ة الص حيحة‬
‫في سورية واألقطار العربية عامة‪ ،‬وإ عط اء الدول ة األجنبي ة ك ل فرص ة‬
‫للتسلُّط على أمم العالم العربي والتغرير بها وإ ذاللها‪ .‬وسنوض ح‪ ،‬في م ا‬
‫يلة لخدم ة أغ راض‬‫يلي‪ ،‬كي ف أن العروب ة الديني ة ص ارت أفض ل وس ٍ‬
‫برى‪.‬‬ ‫تعمارية الك‬ ‫دول االس‬ ‫ال‬

‫ه ذه ال دعوة وع دم إمك ان تحقيقه ا ف رأت أن تتخ ذها ذريع ة لمفاس دها‬


‫فتعم ل إلبق اء األمم العربي ة الج ديرة ب النهوض تحت س لطان س حرها‪،‬‬
‫تائهة في ص حراء فكرته ا س عياً وراء س رابها‪ ،‬فت أمن ب ذلك اس تيقاظ ه ذه‬
‫األمم لشخص ياتها الحقيقي ة وقواه ا الكامن ة فيه ا‪ .‬فم ا دامت ه ذه األمم‬
‫س اعية وراء جامع ة ق د مض ت أيامه ا وزالت أس بابها‪ ،‬بقيت بعي دة عن‬
‫مج رى الحي اة القومي ة الص حيحة وعن التفك ير الوض عي ال ذي ب ه يك ون‬
‫التمي يز بين الحق ائق الفعلي ة واألوه ام‪ .‬وليس أفض ل لل دول االس تعمارية‬
‫من استسالم األمم المخضعة إلى األوه ام‪ ،‬ألن ه ذه ك انت دائم اً وس تبقى‬
‫أبداً أفعل في تقويض األمج اد وإ ذالل الن اس من جمي ع المع َّدات الحربي ة‬
‫والق َّوات البري ة والبحري ة والجوي ة‪ ،‬وهي‪ ،‬في حال ة كحال ة أمتن ا‪ ،‬تُغ ني‬
‫عن االلتج اء إلى الق وة المس لحة إلبق اء ش عبنا في ذلَّة االس تعباد‪ .‬فلم ا‬
‫ِ‬
‫أدركت ال دول االس تعمارية ه ذه الحقيق ة وع رفت داءن ا المقع د تف ّرغ‬
‫والمحرض ات ل دائنا‪ ،‬فكلم ا‬
‫ِّ‬ ‫اختصاص يوها الس تنباط المخ درات لعقولن ا‬
‫يهيج جراثيم ه‬
‫عف حقن وا أجهزتن ا الفكري ة بم ا ُ‬
‫وج دوا أن ال داء يك اد يض ُ‬
‫الفتاك ة فيص در في إح دى العواص م االس تعمارية مق ا ٌل أو كت اب عن‬
‫خطر اإلسالم المحمدي ال ذي يه ّدد أوروب ة‪ ،‬وعن خط ر العروب ة الديني ة‬
‫على السياس ات االس تعمارية‪ ،‬فتتناول ه ص حافتُنا ال تي يق وم عليه ا‪ ،‬في‬

‫‪139‬‬
‫رض وعلى‬ ‫خاص ع ديمو أو قليل و العلم‪ ،‬في نفوس هم م ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫الغ الب‪ ،‬أش‬
‫عقولهم غش اوة‪ ،‬فيص يحون‪" :‬وه ا أوروب ة بأس رها ترتع د الي وم فرق اً من‬
‫فك رة وح دة أقطارن ا وقي ام جامعتن ا الديني ة اللغوي ة"‪ ،‬أو كم ا ق ال ص احبا‬
‫"الع روة ال وثقى" (ص ‪" :)107‬نعم إن اإلف رنج تأك د ل ديهم أن أق وى‬
‫رابط ة بين المس لمين إنم ا هي الرابط ة الديني ة‪ ،‬وأدرك وا أن ق َّوتهم ال‬
‫تك ون إالّ بالعص بية االعتقادي ة‪ .‬وألولئ ك اإلف رنج مط امعُ في دي ار‬
‫المسلمين (المحمديين) وأوطانهم‪ ،‬فتوجهت عن ايتهم إلى ِّ‬
‫بث ه ذه األفك ار‬
‫الساقطة (التعصب الجنسي ومحبة ال وطن) بين أرب اب الديان ة اإلس المية‬
‫(المحمدي ة) وزيَّن وا لهم هج ر ه ذه الص لة المقدس ة وفص م حباله ا‪،‬‬
‫لينقضوا بذلك بناء الملة اإلسالمية (المحمدية) ويمزقوه ا ش يعاً وأحزاب اً‪،‬‬
‫ف إنهم علم وا‪ ،‬كم ا علمن ا وعلم العقالء أجمع ون‪ ،‬أن المس لمين‬
‫(المحم ديين) ال يعرف ون لهم جنس ية إالّ في دينهم واعتق ادهم الخ"‪ .‬ه ذا‬
‫الكالم غاي ة في السفس طة وفس اد االس تنتاج‪ ،‬فل و أن رابط ة ال دين‬
‫واالعتق اد تق وم مق ام الن واميس االجتماعي ة لك ان اإلف رنج‪ ،‬ال ذين ن الوا‬
‫أعظم ح ظ من العلم في الق رون األخ يرة‪ ،‬لج أوا إليه ا واتخ ذوها أساس اً‬
‫لتفكيرهم هم وقيام دولتهم‪ ،‬فالعصبية القومية عند "اإلفرنج" لم تكن بدعة‬
‫قصدوا تغرير األمم العربية بها‪ ,‬بل كانت شعوراً صادقاً بوحدة كل أم ة‬
‫من أممهم وشخص يتها وحقوقه ا وحاجاته ا ومص الحها‪ .‬وهي ه ذه‬
‫العص بية ال تي أنق ذت أمم "اإلف رنج" من انقس اماتها الداخلي ة الديني ة‪،‬‬
‫وجعلت ك ل أم ة ي داً واح دة على أع دائها‪ .‬وإ نن ا لم نج د كتاب اً واح داً كتب ه‬
‫أح ٌد من "اإلف رنج" بقص د تفكي ك عص بية المحم ديين الديني ة دون عص بية‬
‫غ يرهم من المل ل إال أن يك ون رج ل دين أو متعص باً ض د المحم ديين‪.‬‬
‫أن انقس ام الدول ة الديني ة المحمدي ة بع د الفتح‬
‫يعلم ّ‬
‫ودارس الت اريخ ُ‬
‫ُ‬
‫المحم دي لم يكن ب دعاوات "اإلف رنج" للعص بية القومي ة‪ ،‬ب ل بانتص ار‬
‫العامل القومي في الشعوب التي شملها الفتح على عامل الرابط ة الديني ة‬
‫من غ ير دع اوة من الخ ارج‪ .‬وق د ذك ر ه ذه الحقيق ة الع الم االجتم اعي‬
‫والم ؤرخ ابن خل دون في مقدمت ه الش هيرة‪ .‬ولكنن ا نج د كتب اً كث يرة‬

‫‪140‬‬
‫االت عدي دة في المجالت والجرائ د ال تي تُع نى بش ؤون أفريقي ة‬ ‫ومق ٍ‬
‫اد عق ول ه ذه الش عوب عن التفك ير‬
‫والش عوب الش رقية‪ ،‬القص د منه ا إبع ُ‬
‫ومي العص ري‪ .‬وال يمتن ع وج ود سياس ي أوروبي يخش ى على فوائ د‬
‫الق ّ‬
‫َّ‬
‫ولكن بين‬ ‫دولت ه االس تعمارية من هي اج دي ني في المس تعمرات فيكتب‬
‫أض رار الهي اج ال ديني على دول ة اس تعمارية والعم ل التعم يري إلنش اء‬
‫دول ة واح دة من جمي ع أبن اء مل ة واح دة فرق اً كب يراً ج داً‪.‬‬

‫إن مس ألة القومي ة ليس ت مس ألة محم ديين ومس يحيين‪ ،‬ب ل مس ألة واق ع‬
‫اجتم اعي ل ه حكم واح د‪ .‬وق د بين ا في الحلق ة الس ابقة تب ُاين أقط ار الع الم‬
‫وبع د المس افة بين قط ر وقط ر‪ ،‬واختالف حاج ات ه ذه األقط ار‬ ‫الع ربي ُ‬
‫وعقلياته ا‪ .‬وه ذه أم ور ليس منش أها ال دعاوة األجنبي ة‪ ،‬ب ل الوض ع‬
‫الجغ رافي واإلقليمي والم زيج الس اللي المختل ف في ك ل قط ر عن غ يره‬
‫دار ثق افتهم ومع د ُل كثاف ة‬
‫ونوع حياة سكان كل قط ر ودرج ة تم دنهم ومق ُ‬
‫الس كان ومبل غ العم ران‪ .‬وإ ذا نظرن ا إلى مواق ع األقط ار العربي ة على‬
‫الخريط ة‪ ،‬ورأين ا تنائيه ا وت رامي ح دودها البحري ة والص حاري ال تي‬
‫تتخلله ا‪ ،‬ثم إذا درس نا إمكاني ات ه ذه األقط ار االقتص ادية وحاجاته ا‬
‫اإلدارية والحربية‪ ،‬تبيَّن لنا كم يبعد خيال جعل هذه الش عوب أم ة واح دة‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة الفعلي‬ ‫دة عن الحقيق‬ ‫ة واح‬ ‫ودول‬

‫وحدهم يظن ون أن األمم‬


‫الواغلون على المواضيع االجتماعية والسياسية َ‬
‫تنش أ ب األهواء والرغب ات االس تبدادية‪ ،‬ال ب النواميس االجتماعي ة‪ ،‬وأن‬
‫ال دول تق وم على اله وس ال ديني بالش ؤون المختص ة بم ا وراء الم ادة‪ ،‬ال‬
‫الجغرافي‬
‫َّ‬ ‫على القواعد السياسية ـ االقتصادية‪ .‬إن تباعد األقطار العربية‬
‫وض عف العم ران في أكثره ا‪ ،‬واختالف األجن اس‪ ،‬وتب اين الحاج ات‬
‫والمطالب العليا أو تزاحمه ا وتص ادمها ال تس مح بتك وين أم ة واح دة من‬
‫ش عوب ه ذه األقط ار ذات دورة اجتماعي ة ـ اقتص ادية تام ة‪ .‬وال ذين‬
‫يقول ون "ه ذه ألماني ة ك انت دوالً واتح دت‪ ،‬على ه ذا القي اس يمكن توحي د‬
‫األقط ار العربي ة‪ ،‬ال يفهم ون ش يئاً من األم ور الوض عية والقواع د‬

‫‪141‬‬
‫القياس ية‪ ،‬فنظ رة واح دة على الخريط ة ومقابل ة واح دة بين هيئ ة ألماني ة‬
‫وح دودها وكثاف ة س كانها تُظه ران اختالل القي اس بين الهيئ تين ووض ع‬
‫وحجج ه ؤالء األس اطين‬
‫ُ‬ ‫ك ل منهم ا وإ مكانيات ه ومقومات ه اختالالً كب يراً‪.‬‬
‫في السفسطة هي في الغالب صبيانية‪ ،‬فمنها أن األقط ار الشاس عة ش قّات‬
‫البع د في م ا بينه ا يمكن ربطه ا بس كك الحدي د والطي ارات والم راكب‬
‫ُ‬
‫البحري ة‪،‬ولكنهم ال يكلف ون أنفس هم درس حاج ات ه ذه الوس ائل‬
‫ومقوماتها‪ .‬فسكك الحديد‪ ،‬إذا لم توجد لها اإلمكانيات االقتصادية الكافي ة‬
‫من مشحونات المحاصيل الزراعية والمنتوجات الص ناعية وحرك ة تنق ل‬
‫س ريعة‪ ،‬فال يمكن أن تعم ر‪ ،‬على اف تراض وج دت الرس اميل الكافي ة‬
‫لم دها من جب ال البختي اري وخليج ف ارس إلى طيط وان على األطلس ي‪.‬‬
‫لح‬
‫والطيارات ليست صالحة إليجاد دورة اجتماعي ة ـ اقتص ادية‪ .‬فال تص ُ‬
‫لحم ل أبن اء الق رى الض عيفة وبناته ا من قط ر إلى قط ر لي تزاوجوا‬
‫وينش ئوا األندي ة الثقافي ة واالجتماعي ة وليش تركوا في حي اة فعلي ة واح دة‪.‬‬
‫وم ا يق ال في قطُ ِر الحدي د والطي ارات ُيق ال في الم راكب البحري ة‪،‬‬
‫خصوصاً وأن محاصيل أكثر األقطار العربية متشابهةٌ‪ ،‬فال يحتاج أبن اء‬
‫قط ر آخ ر ش يئاً ي ذكر من محاص يله الزراعي ة أو منتوجات ه الص ناعية‪،‬‬
‫فأه ل س ورية ال يحت اجون إلى قمح أو ع دس أو بق ول م راكش ألن‬
‫أرض هم تعطي م ا يزي د عنهم من ه ذه الغالل‪ .‬وإ ذا نش أت في س ورية‬
‫نهضة صناعية بس بب وج ود النف ط واألمالح الكيماوي ة ومق دار قلي ل من‬
‫الحدي د والفحم الحج ري فس تحتاج إلى أس واق لمنتوجاته ا الص ناعية في‬
‫الخ ارج‪ ،‬ولكنه ا لن تحت اج إلى المحاص يل الزراعي ة‪ ،‬واألرجح أن‬
‫أسواقها الطبيعية ستكون في اتجاه إيران وأفغانستان أكثر مم ا تك ون في‬
‫اتجاه القيروان وطرابلس الغرب وتونس ومراكش‪ .‬وفي ما خال س ورية‬
‫فاألقط ار العربي ة عديم ة المع ادن الص الحة للص ناعات الثقيل ة‪ ،‬فال تق در‬
‫أن تبني قطرها ومراكبه ا من موارده ا الطبيعي ة‪ ،‬وال أن تص نع مع داتِها‬
‫الحربي ة من بن دقيات وم دافع وذخ يرة وم ا إلى ذل ك‪ ،‬فك ُّل خ ٍط حدي دي‬
‫تري د إنش اءه ستُض طر لتس ليمه إلى ش ركات أجنبي ة أو إلى ش رائه في‬

‫‪142‬‬
‫الخ ارج‪ ،‬وك ذلك القط ر والطي ارات والم راكب‪ .‬فبأي ة عملي ة اقتص ادية‬
‫يمكنها فعل ذلك؟ ولكن ه ذا الس ؤال وأمثال ه س خيفة ج داً في نظ ر أرب اب‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة الخيالي‬ ‫ة الديني‬ ‫العروب‬

‫أما الوجهة الحربية ومقتضياتُها الدفاعية ـ الهجومي ة في ط ول الش واطئ‬


‫والح دود‪ ،‬خصوص اً ش واطئ أفريقي ة المحاذي ة ألوروب ة‪ ،‬حيث‬
‫أمر يك اد يس تحيل النظ ر‬
‫الص ناعات الض خمة وكثاف ة الس كان العظيم ة‪ ،‬ف ٌ‬
‫في ه على قاع دة تفك ير أص حاب العروب ة الديني ة ب دون تحق ير للم دارك‬
‫ة‪.‬‬ ‫انية العادي‬ ‫اإلنس‬

‫وأما الوجهة السياسية فمرمى نظرها من أس وأ الم رامي‪ ،‬ف أكثر األقط ار‬
‫موجود تحت سلطان أو نف وذ دول كب يرة ذات ص ناعات ض خمة‬
‫ٌ‬ ‫العربية‬
‫وق وات حربي ة عظيم ة‪ ،‬وبعض ه ذه ال دول يزي د ع دد س كان الدول ة‬
‫الواح دة منه ا على مجم وع س كان جمي ع األقط ار العربي ة‪ ،‬وتعل و درج ة‬
‫ثقافتهم واستعداداتهم التكنكية من كل نوع على درج ة ثقاف ة واس تعدادات‬
‫جميع األقطار المذكورة‪ .‬وأية حركة سياسية واحدة في األقط ار العربي ة‬
‫عام ة ال تص طدم بدول ة واح دة من ه ذه ال دول األوروبي ة الض خمة فق ط‪،‬‬
‫ب ل بأكثره ا‪ .‬ال ب َّد لحرك ة سياس ية عام ة في جمي ع األقط ار العربي ة من‬
‫االص طدام ليس ببريطاني ا وح دها وال بفرنس ة وح دها وال بإيطالي ة‬
‫وح دها وال بإس بانية وح دها‪ ،‬ب ل بجمي ع ه ذه ال دول دفع ة واح دة‪ ،‬فال ذين‬
‫يقولون أن اتحاد جميع األقط ار ه و أض من طريق ة لني ل االس تقالل‪ ،‬وان‬
‫اس تقالل س ورية وح دها غ ُير ممكن‪ ،‬هم‪ ،‬ب الكثير‪ ،‬أطف ا ٌل في السياس ة‪.‬‬
‫فإن استقالل سورية الموحَّد في نهضة قومية أكثر إمكاني ة وأق رب من االً‬
‫من استقالل جميع األقطار العربية دفعة واحدة بحركة واح دة‪ .‬فس ورية‪،‬‬
‫بوض عها الجغ رافي ومق درتها المادي ة والروحي ة‪ ،‬أق وى‪ ،‬سياس ياً‪ ،‬من‬
‫جمي ع األقط ار العربي ة متح دةً‪ ،‬ألنه ا‪ ،‬بنهض تها القومي ة‪ ،‬ق د تص طدم‬
‫ويمكنه ا‪ ،‬في مقاب ل ذل ك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بدول ة أو دول تين أوروبي تين على الكث ير‪،‬‬

‫‪143‬‬
‫اب ص داقة وتع اون دول ة أو دول تين أو أك ثر من ط راز ع دوتِها أو‬
‫اكتس ُ‬
‫عدواتها‪ .‬ولكن حركة واح دة في جمي ع األقط ار العربي ة ستص طدم حتم اً‬
‫َّ‬
‫دات‪،‬‬‫لحة ومع ٍ‬‫بمعظم ال دول األوروبي ة‪ ،‬وهي جميعه ا ص انعة أس ٍ‬
‫واألقطار العربية ال تصنع شيئاً منها‪ .‬وقد كادت ثورة عبد الك ريم تنجح‬
‫في م راكش اإلس بانية فلم ا امت دت إلى م راكش الفرنس ية عظمت ق وة‬
‫الع دو عليه ا‪ ،‬ولم تكن ق د أع دت أص دقاء لمعاونته ا حربي اً وسياس ياً‪،‬‬
‫فانس حقت بس رعة‪ .‬ول و امت دت الث ورة الم ذكورة إلى ت ونس وط رابلس‬
‫الغ رب والق يروان لوج دت إيطالي ة واقف ة م ع فرنس ة وإ س بانية ص فاً‬
‫واح داً‪ .‬ول و توس عت إلى مص ر وس ورية لوج دت االمبراطوري ة‬
‫البريطانية قد صارت مع الدول الثالث الس ابقة ي داً واح دة‪ .‬ولكن نهض ة‬
‫قومي ة في س ورية ق د تج د دول تين ض دها‪ ،‬ولكنه ا تتمكن من إيج اد دول‬
‫معه ا واختي ار الظ روف المناس بة لتحقي ق أغراض ها‪ .‬وم تى تح ررت‬
‫س ورية أمكنه ا حينئ ذ أن تنظ ر في كيفي ة مس اعدة األقط ار العربي ة قط راً‬
‫قطراً حسب الظروف والفرص واإلمكانيات‪ .‬فال ذين يقول ون إن النهض ة‬
‫الس ورية القومي ة االجتماعي ة "ع دوةٌ للع رب" هم ممخرق ون ومش عوذون‪.‬‬
‫وق د بين ا بالحق ائق العلمي ة أنهم هم أع داء الع رب وأع داء نهض ة الع الم‬
‫الع ربي‪ .‬والحقيق ة أن ه ل و قُ ِّدر للنهض ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة أن‬
‫تنش أ على العه د ال تركي‪ ،‬ب دالً من حرك ة "الوح دة العربي ة" الخيالي ة‪،‬‬
‫لك انت س ورية خ رجت من الح رب العالمي ة الماض ية دول ة مس تقلة ذات‬
‫س يادة تام ٍة على جمي ع ح دودها الطبيعي ة‪ .‬إن أص حاب فك رة "الوح دة‬
‫العربية" الدينية زينوا له ا ح دوث نهض ة واس عة عظيم ة تس حق الجي وش‬
‫وتُهل ك األس اطيل وتفتح الفتوح ات‪ ،‬فقع د ش باب س ورية الق وي البني ة ال‬
‫يفك ر إالّ بانتظ ار تل ك النهض ة الخيالي ة ال تي ص وروها ل ه وه و ال يعلم‬
‫روح‬
‫ستحدث وال متى تحدث‪ ،‬فنشأت في الجيل السوري الماضي ٌ‬
‫ُ‬ ‫كيف‬
‫وكل فكرة جيدة َّ‬
‫وكل تفكير عملي‪ ،‬ولم‬ ‫كل طموح صحيح َّ‬
‫اتكالية منعت َّ‬
‫ول‪.‬‬ ‫ير الخم‬ ‫طغ‬ ‫ِّ‬
‫تنش‬

‫‪144‬‬
‫إذا س لمنا‪ ،‬ج دالً‪ ،‬بإمك ان حص ول حرك ة واح دة في آن واح د في جمي ع‬
‫األقط ار العربي ة وإ مك ان نجاحه ا السياس ي ـ الح ربي‪ ،‬فه ذا النج اح ال‬
‫يحق ق "الوح دة العربي ة" بجع ل ش عوب الع الم الع ربي أم ة واح دة ودول ة‬
‫واح دة‪ ،‬فه ذان أم ران يتعلق ان ب النواميس االجتماعي ة‪ ،‬ال ب الحوادث‬
‫السياس ية الوقتي ة وال بالرغب ات الخصوص ية أو االس تبدادية‪ .‬وق د ق ام‬
‫على صحة هذا النظر الدلي ُل التاريخي إذ تفككت الدولة الدينية المحمدية‬
‫بع د خم ود س ورة الفتح من تلق اء ذاته ا‪ ،‬وليس ب دعاوة "إفرنجي ة" أو‬
‫غيره ا‪ ،‬ثم ع ادت فانه ارت م رة أخ رى على عه د الخالف ة التركي ة‪.‬‬
‫وتركي ة لم تتمكن من النه وض‪ ،‬بع د أن رزحت تحت عبء الدول ة‬
‫الديني ة وسياس ة الخالف ة‪ ،‬إال ب ترك فك رة الدول ة الديني ة واالعتم اد على‬
‫نهض ة تركي ة قومي ة تنظم الش عب ال تركي وتق وي معنويات ه‪ .‬فخ رجت‬
‫تركي ة القومي ة دول ة أق وى بكث ير من الس لطنة العثماني ة ال تي جمعت بين‬
‫ا‪.‬‬ ‫مقوماته‬
‫أهم ِّ‬
‫دين من ِّ‬ ‫ة ال‬ ‫ة وظنت أن رابط‬ ‫دين والدول‬ ‫ال‬

‫أدرك سياسيو الدول الكبرى االستعمارية ما في دع اوة "الوح دة العربي ة"‬


‫الديني ة من خط ل ال رأي وقص ر النظ ر ونقص العلم‪ ،‬فأخ ذوا يح دثون‬
‫األحداث النفسية التي تزيد المشغوفين بهذه ال دعاوة الفاس دة ش غفاً‪ ،‬فت ارة‬
‫ُيظه رون االح ترام له ذه الفك رة‪ ،‬وط وراً يتظ اهرون بالوج ل والف رق‬
‫منه ا‪ ،‬وحين اً ي راؤون بتحبي ذها‪ ،‬وآن اً يمثِّل ون دور الغاض ب المه ِّدد‪،‬‬
‫ولكنهم يغتبطون سراً بتس لُّط ه ذا ال وهم على عق ول ش باب األمم العربي ة‬
‫أساس ه فك رةٌ‬
‫َ‬ ‫وم ا يج ره من انقس امات داخلي ة وتحزب ات أهلي ة‪ ،‬ألن‬
‫رج مط ابعُ بريطاني ة وألماني ة‬
‫سياس ية ملي ة‪ .‬ونحن نعلم الي وم كم تُخ ُ‬
‫وإ س بانية من الكتب والمق االت الموض وعة خصيص اً إلغ راء ش عوب‬
‫العلمي‬
‫ِّ‬ ‫الع الم الع ربي بخي ال الدول ة الديني ة الواس عة‪ ،‬ولإليح اء النفس ِّي‬
‫إليه ا بالمض ِّي في طلب ه ذا الس راب ال ذي يص رفها عن إدراك حقيق ة‬
‫طبائعه ا وإ مكانياته ا‪ .‬وق د اس تخدمت بريطاني ة الك اتب المع روف أمين‬
‫الريح اني‪ ،‬ال ذي ق ام برحلت ه المش هورة في العرب ة ووض ع فيه ا كتاب ه‬

‫‪145‬‬
‫"مل وك الع رب" باالتف اق م ع االنقل يز‪ ،‬لتغذي ة خي ال "الوح دة العربي ة"‪.‬‬
‫واس تخدمته للغ رض عين ه إس بانية ال تي دعت ه إللق اء محاض رات في‬
‫م راكش‪ .‬وإ س بانية أوج دت في عاص متها جمعي ة اس مها "الجمعي ة‬
‫اإلس المية لجلب نظ ر المحم ديين إلى إس بانية"‪ .‬وبعض كتابه ا يؤلف ون‬
‫اآلن عدداً من الكتب عن تاريخ العرب وعظمة االمبراطورية المحمدي ة‬
‫السالفة وإ مكان الع ودة إلى إحي اء تل ك واالتج اه نح و إس بانية ال تي تص بح‬
‫بمثاب ة طليع ة أو "مقدم ة المج د الع ربي في أوروب ة"! إلى آخ ر ه ذه‬
‫التع ابير الس كلوجية المقص ود منه ا الت أثير على نفس يات ش عوب الع الم‬
‫الع ربي للوص ول إلى أغ راض خارج ة عن نط اق األمم العربي ة‬
‫الحها‪.‬‬ ‫ومص‬

‫في س ورية لم تالح ق ال دولتان المنت دبتان أي ة فئ ة "عروبي ة" تن ادي‬


‫باالمبراطوري ة العربي ة‪ ،‬ولكنهم ا حاربت ا ك َّل عم ٍل وحرك ٍة ُيقص ُد منهم ا‬
‫إيج اد وح دة قومي ة متين ة في الش عب الس وري‪ .‬وبريطاني ة ق د اس تعملت‬
‫بنج اح كب ير خي ال "الوح دة العربي ة" لتث بيت سياس تها االس تعمارية في‬
‫س ورية‪ .‬فبع د أن اس تفحل أم ر ث ورة فلس طين س نة ‪ ،1936‬ب دخول‬
‫العناص ر الس ورية القومي ة في تل ك الث ورة وعلى رأس ها القائ د الس وري‬
‫الق ومي االجتم اعي المأس وف علي ه س عيد الع اص‪ ،‬ورأت بريطاني ا أن‬
‫الش عب الس وري س يلتهب كلُّه في منطق تي االنت داب لج أت إلى "مل وك‬
‫الع رب" وطلبت ت دخلهم باس م العروب ة لرف ع الح رب ون زع س الح جيش‬
‫الث ورة‪ .‬فت دخل أولئ ك المل وك ووع دوا ب أن يتولّ وا تحقي ق مط الب الث ورة‬
‫بالطرق السياسية فسلمت "اللجنة العربية العلي ا" ب ذلك‪ ،‬وف وق ه ذه اللجن ة‬
‫مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني‪ ،‬فخرج األمر من يد السوريين‪ .‬وم ا‬
‫وزه ق النف وس ون ْزف‬
‫جيش الث ورة ُيس َّرح‪ ،‬بع د تل ف المواس م ْ‬
‫ك اد ُ‬
‫ال دماء‪ ،‬ح تى وف دت اللجن ة البريطاني ة ال تي وض عت مش روع تقس يم‬
‫فلسطين وإ يجاد دولة يهودية في القسم الخصب منها!‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪146‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫العُروبة كقوّة إذاعيَّة للمطامع السَيّاسية الفردية‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫لم ا لم تكن العروب ة المقص ود به ا وح دةُ األقط ار العربي ة اللس ِ‬


‫ان‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫والمحمدي ة ال دين س وى لفظ ة مبدل ة من الوح دة الديني ة المحمدي ة لت َّ‬
‫دل‬ ‫ُ‬
‫على وح دة ديني ة مح دودة باللغ ة‪ ،‬ب دالً من الوح دة الديني ة المطلق ة ال تي‬
‫ك انت غ رض ال دعاوة الرجعي ة األولى إلى إع ادة إنش اء الدول ة الديني ة‪،‬‬
‫ويح َّرك‬
‫ك انت لفظ ة ذات ق وة إذاعي ة عظيم ة في الغوغ اء ُيح َّرض به ا ُ‬
‫ويثار‪ ،‬وهذا م ا تنب ه ل ه السياس يون الشخص يون ذوو المط امح والمط امع‬
‫السياس ية الفردي ة‪ ،‬ال ذين يهمهم اس تثمار ال دهماء وبن اء المج د الشخص ي‬
‫ومي‪.‬‬ ‫د الق‬ ‫ِ‬
‫اء المج‬ ‫ة وبن‬ ‫ادة األم‬ ‫ل إف‬ ‫قب‬

‫أكثر السياسيين السوريين الذين تقدموا عهد الحركة الس ورية القومي ة أو‬
‫انحرف وا عنه ا هم إم ا شخص يون‪ ،‬وه ؤالء معظمهم‪ ،‬وإ م ا رجعي ون أو‬
‫شخص يون ورجعي ون مع اً‪ .‬ومن ه ؤالء السياس يين من أدرك عقم فك رة‬
‫الوح دة العربي ة كعب د ال رحمن ش هبندر وهاش م األتاس ي وغيرهم ا‪.‬‬
‫وللش هبندر مق ال نش ر في ع دد (م ارس) آذار س نة ‪ 1934‬من مجل ة‬
‫"المقتط ف" يق ول في ه باس تحالة الجم ع بين بعض أق وام الع الم الع ربي‬
‫وبعض ها اآلخ ر‪ .‬ولكن حين ع اد ش هبندر إلى مي دان السياس ة الس ورية‬
‫بع َد إعالن العف و س نة ‪ ،1937‬أخ ذ يخطب في أحي اء دمش ق داعي اً إلى‬
‫العروبة الدينية ووطن القرآن والوح دة العربي ة واالمبراطوري ة العربي ة‪،‬‬
‫جامع اً حول ه ع دداً من ال ذين يوافقون ه في ه ذه السياس ة أو ي ذهبون ه ذا‬
‫الم ذهب على غ ير ُه ًدى‪ .‬والحقيق ة هي أن غرض ه لم يكن توحي َد الع الم‬
‫ول‬
‫اء االمبراطوري ة العربي ة الموهوم ة‪ ،‬ب ل ك ان الوص َ‬ ‫الع ربي وال إنش َ‬
‫إلى مث ار الش عور عن د الغوغ اء‪ ،‬واس تفزازه لألخ ذ بناص ره ليس تظهر‬
‫على "الكتل يين" وجمي ع األح زاب األخ رى ويص ل إلى رئاس ة الدول ة أو‬
‫رئاسة الحكومة عن طريق ال دعوة إلى اعتق اد لم يكن ي ؤمن ب ه ال داعي‪،‬‬
‫ب ل ك ان ق د نب ذه‪ ،‬ففي مقال ة الش هبندر المش ار إليه ا يق ول‪" :‬فمن الخط ل‬

‫‪147‬‬
‫السياس ي االجتم اعي العظيم إذاً أن يت وهم أح د من رج ال النهض ة في‬
‫أليف دول ة عربي ٍ‬
‫َّة مركزي ة‬ ‫ُ‬ ‫الع الم الع ربي أن ه في ح يز اإلمك ان ت‬
‫ديمقراطي ة تض م من ذ اآلن بين دف تي دس تور واح د دمش ق والك ويت‬
‫وعن يزه والعس ير والمكال‪ ،‬فه ذه بل دان وإ ن جمعت بينه ا اللغ ة والعقي دة‬
‫(واألرجح أن ه يع ني بالعقي دة ال دين) وتش اركها في كث ير من أطواره ا‬
‫التاريخي ة‪ ،‬إالّ أن الع ادات والتقالي د المحلي ة‪ ،‬واختالف درج ة الثقاف ة‬
‫العام ة وم ا إلى ذل ك من مقوم ات العق ل االجتم اعي ال ذي ال ب د من ه‬
‫لت أليف الوح دة السياس ية‪ ،‬جعلت ش قة الخالف في م ا بينه ا أبع د من أن‬
‫يلم ش تاتها إرادةٌ س لطانيةٌ واح دة" ‪.‬‬
‫يض َّمها مجلس تش ريعي واح د‪ ،‬أو َّ‬
‫ومع أن هذا الكالم ناقص ج داً‪ ،‬إذ لم يتن اول الوجه ة الجغرافي ة وال بقي ة‬
‫َ‬
‫النظ رة األساس ية وال الناحي ة االجتماعي ة وال القواع د االقتص ادية وال‬
‫الوجه الحربي‪ ،‬التي ألممنا بها إلماماً في البحث السابق‪ ،‬فإن ه يؤك د ع دم‬
‫اإليم ان بالعروب ة كعقي دة تجم ع األقط ار العربي ة اللغ ِة والمحمدي ةَ ال ِ‬
‫دين‬
‫في أم ة واح دة ودول ٍة واح دة‪ .‬ولكن عب د ال رحمن ش هبندر ك ان من‬
‫الص نف السياس ي الع تيق الّ ذي أق ام ح اجزاً منيع اً بين السياس ة والعقي دة‬
‫الس لبية ال تي انتهى إليه ا ووق ف عن دها‪ .‬فالسياس ة لرج ال ه ذا الص نف‬
‫ك انت ذات قاع دة شخص ية بحت‪ ،‬ول ذلك ك انوا يجرونه ا على معتق دات‬
‫الس واد من الن اس الم دعوين‪ ،‬مهم ا ك انت بعي دة عن الص واب‪ ،‬ال على‬
‫بعض م ا عنيت ه‪ ،‬في البس ط واإليض اح‬
‫ُ‬ ‫معتقداتهم هم‪ .‬وهذا ما عنيتُه‪ ،‬أو‬
‫الم وجز ال ذي وض عته في س جني األول عن األس باب ال تي دفعت ني إلى‬
‫رت أن السياس يةَ‬
‫إنش اء الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي‪ .‬وق د أظه ُ‬
‫عن دي هي لخدم ة العقي دة القومي ة المش تملة على قض ية واض حة جلي ة‬
‫معين ة‪ ،‬وليس ت لمج رد السياس ة أو لقض ية شخص ية‪ .‬العقي دة لي هي‬
‫الغاية‪ ،‬والسياسة هي الواسطة‪ .‬أما رج ال السياس ة الالقومي ون فالسياس ة‬
‫عندهم هي الغاية والعقائ د ليس ت لهم س وى وس ائط‪ ،‬ول ذلك هم يب دلونها‪،‬‬
‫فيقولون اليوم بما أنك روه ب األمس‪ ،‬ويغ يرون غ داً العقي دة ال تي ن ادوا به ا‬
‫الي وم‪ .‬ول ذلك لم يمكن أن تنش أ من ه ذه الفوض ى والبلبل ة نهض ةٌ قومي ة‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫اختار أكثر السياسيين السوريين الخصوصيين العروب ةَ أساس اً إلذاعتِهم‪،‬‬
‫وأك ثروا من الكالم على الوح دة العربي ة وإ غ راء الن اس به ا‪ ،‬ليس ألنهم‬
‫يعتقدون بصحتها وإ مكان تحقيقها‪ ،‬بل ألنهم وجدوا أكثر العامة السورية‬
‫الب اقين على معتق دات قديم ة ق ابلين للت أثُّر به ا‪ ،‬فأكثري ة الش عب الس وري‬
‫هي من المحم ديين ال ذين حفظ وا في أذه انهم ص ورةَ الدول ة الديني ة‬
‫والخالف ة وإ م ارة المؤم نين‪ ،‬ولم يحي وا ق ط‪ ،‬ال هم وال غ يرهم من المل ل‬
‫األخرى‪ ،‬حياة قومية صحيحة‪ ،‬وهم لذلك أسهل انقياداً لدعوة إلى الدول ة‬
‫الديني ة منهم إلى دع وة قومي ة إص الحية ليس لهم به ا س ابق اختب ار أو‬
‫معرف ة‪ .‬ولم ا لم يكن السياس يون الق دماء يرم ون في الدرج ة األولى إلى‬
‫إصالح عقائد الش عب وتوحي دها وإ نش اء نهض ة قومي ة ص حيحة في ه‪ ،‬ب ل‬
‫إلى استغالل عقائده القديمة لخططهم السياس ية الشخص ية‪ ،‬لم يكن يهمهم‬
‫ادم العه د‪ ،‬من المص ائب بس بب بقائ ه على‬
‫م اذا يص يب الش عب‪ ،‬م ع تق ُ‬
‫عقائد ونظريات رجعية لم يبق له ا مح ل في ص راع الحي اة والتف ُّوق بين‬
‫َ‬
‫األمم‪ .‬فكان كل همهم منصرفاً إلى بل وغ مط امحهم ومط امعهم السياس ية‬
‫أوالً‪ ،‬ثم النظ ر‪ ،‬على ق در مع رفتهم وفهمهم‪ ،‬في م ا يفي د الش عب ثاني اً‪.‬‬

‫ه ذا ه و س بب ان دفاع سياس يين شخص يين ونفع يين مس يحيين في دع اوة‬


‫العروب ة والوح دة العربي ة‪ ،‬م ع أنهم ال ي دينون بالمحمدي ة‪ ،‬فهم ق د‬
‫اس تخدموا العروب ة والوح دة العربي ة كق و ٍة إذاعي ة بين س واد الش عب‪،‬‬
‫ولكن ال ُه ْم وال السياس يون المحم ديون ك انوا مقتنعين بم ا يقول ون‪ .‬وم ع‬
‫ذل ك فق د غ رروا بقس م كب ير من الش عب‪ ،‬وحمل وا ع دداً من س ليمي الني ة‬
‫على االعتقاد‪ ،‬بإخالص ونزاهة‪ ،‬بصحة الدعوة العروبية المؤسَّسة على‬
‫ال دين المحم دي‪ ،‬فال يخل و األم ر من رجع يين مخلص ين في رجعيتهم‬
‫ة‪.‬‬ ‫الوبيل‬

‫لم ا أسس ت الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي‪ ،‬وتولَّ َد ْ‬
‫ت من مبادئ ه‬
‫النهضة الس ورية القومي ة االجتماعي ة‪ ،‬ازداد ف زعُ السياس يين الشخص يين‬
‫إلى العروب ة والوح دة العربي ة ليتخ ذوا منهم ا ق وةً إذاعي ة بين األكثري ة‬

‫‪149‬‬
‫المحمدي ة في س ورية ض د انتش ار مب ادئ الح زب الس وري الق ومي‬
‫درعون‬
‫االجتم اعي‪ ،‬كم ا ف زع السياس يون الشخص يون االنفص اليون المت ّ‬
‫بدرع "استقالل لبنان المسيحي" إلى الدعوة له ذا االس تقالل "وع دم إمك ان‬
‫المس يحيين أن يحي وا م ع المحم ديين في دول ة واح دة" ليح اربوا امت داد‬
‫حرك ة الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي بين المس يحيين في الس احل‬
‫األوس ط الجبلي من س ورية‪ .‬وكم ا أن األكثري ة المحمدي ة ك ان ش عور‬
‫عامته ا ناش ئاً عن النع رة الديني ة‪ ،‬ك ذلك األقلي ة المس يحية وغيره ا‪ ،‬ك ان‬
‫ش عور عامته ا ناش ئاً عن النع رة الديني ة‪ .‬والسياس يون الشخص يون رأوا‬
‫في النع رات الديني ة عن د العام ة الق وة اإلذاعي ة الوحي دة ال تي يمكن‬
‫ضد مبادئ الح زب الس وري الق ومي‬‫بشيء من النجاح الوقتي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫استعمالها‬
‫االجتماعي القومية الجامعة جميع ملل الشعب السوري في عقي دة واح دة‬
‫ِّ‬
‫توحدهم اجتماعي اً وسياس ياً‪ .‬فال ذين اس تعملوا النع رة المحمدي ة العروبي ة‬
‫اء لتوطي د نف وذهم الشخص ي عن د عام ة المحم ديين وبل وغ‬
‫اس تعملوها ري ً‬
‫م راميهم الخصوص ية‪ ،‬وه ذا ه و س َّر ه ذا التح ريض "الع روبي" ض د‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة االجتماعي‬ ‫ورية القومي‬ ‫ة الس‬ ‫الحرك‬

‫الحزب السوري القومي االجتماعي نشأ ليكون ُسلَّماً يرقى عليها الشعب‬
‫الس وري إلى ذروة الحي اة الجي دة‪ .‬والسياس يون الشخص يون‬
‫والخصوص يون والنفعي ون أرادوا أن يك ون الش عب س لُّماً يرق ون عليه ا‬
‫إلى مط امحهم ومط امعهم الفردي ة‪ .‬إن زعام ة الح زب الس وري الق ومي‬
‫االجتماعي تري د أن تق ود الش عب في طري ق جدي د إلى عه د جدي د وحي اة‬
‫حيث ه و‬
‫ات الرجعي ة والشخص ية تري د أن يبقى الش عب ُ‬
‫مثلى‪ ،‬وزعام ُ‬
‫اذه‪.‬‬ ‫ل على إنق‬ ‫ا تعم‬ ‫َّدعي أنه‬ ‫في حين ت‬

‫الع اجزون عن ح ل مش اكل الش عب الداخلي ة وعن ش ق طري ق جدي دة‬


‫لحياته وارتقائه يلجأون إلى نعرات الشعب القديم ة الهدام ة ليتخ ذوا منه ا‬
‫س الحاً يح اربون ب ه من أوج د قض ية الش عب الحقيقي ة‪ .‬إن ه س الح في‬
‫غير كبير كما ق د ُيتَ َو َّهم‪ .‬إن ه‪ ،‬في ك ل‬
‫مقدار من الفطنة العادية ُ‬
‫ٌ‬ ‫استعماله‬

‫‪150‬‬
‫ح ال‪ ،‬س الح الع اجزين الفاش لين‪ ،‬ال ذين يظه ر عج زهم في ن وع الس الم‬
‫ال ذي يلج أون إلي ه قب ل أن يظه ر في انخ ذالهم النه ائي الق ريب‪.‬‬

‫من ه ذه الناحي ة ك ان دع اة العروب ة في س ورية حلف اء لإلرادات األجنبي ة‬


‫في مقاوم ة النهض ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة‪ ،‬كم ا ك ان دع اة‬
‫االنفصال المسيحي اللبناني حلفاء هذه اإلرادات المعادية لنهض ة الش عب‬
‫الس وري ووحدت ه ال تي يق در به ا أن ين ال س يادته ويس يطر على ك ل أن‬
‫يهم ه من ش ؤون الش رق األدنى والبح ر المتوس ط‪ ،‬نظ راً لمواهب ه‬
‫تراتيجي‪.‬‬ ‫ع بالده االس‬ ‫ورة موق‬ ‫ازة وخط‬ ‫الممت‬

‫دول االس تعمارية لم تق اوم فك رة الوح دة العربي ة الوهمي ة الديني ة‬


‫إن ال َ‬
‫األساس‪ ،‬بل شجعتها؛ والدولتان "المنتدبتان" في سورية لم تقاوما الدعوة‬
‫العروبي ة ب ل ش جعتاها‪ ،‬ألنهم ا وج دتا فيه ا ع امالً هام اً في إح داث‬
‫االنقس ام ال داخلي في س ورية وإ يج اد األحق اد بين أبن اء األم ة الواح دة‬
‫والحرك ات االنفص الية المجزئ ة الش عب والبالد‪ .‬فم ذهب العروب ة أو‬
‫"القومي ة العربي ة" عن د المحم ديين ك ان جواب ه م ذهب "القومي ة اللبناني ة"‬
‫عند المسيحيين ومذهب االستقالل الدرزي عند الدروز‪ .‬وهذا أفض ل م ا‬
‫يمكن أن ينتظ ره االس تعمار ال ذي انته ز ه ذه الفرص ة ليش جع جمي ع‬
‫د‪.‬‬ ‫ادة في آن واح‬ ‫ات المتض‬ ‫الحرك‬

‫لم تهتم الدولتان االستعماريتان في سورية لحرك ة سياس ية مث ل اهتمامه ا‬


‫لحرك ة الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي‪ ،‬فبينم ا رج ال "الكتل ة‬
‫الوطنية"‪ ،‬الذين كانوا أحياناً عروب يين وأحيان اً غ ير عروب يين‪ ،‬يس رحون‬
‫ويمرح ون ويخطب ون عن "الوح دة الك برى" وتحوي ل االنت داب إلى‬
‫معاه دة‪ ،‬وبينم ا ك ان ُيعطى ال دكتور عب د ال رحمن ش هبندر الحري ة التام ة‬
‫ليخطب في أحي اء دمش ق عن العروب ة وال وطن ال ديني الممثَّل ب القرآن‬
‫والدولة العربية الكبرى‪ ،‬كانت السلطة الفرنسية والحكومات المحلي ة في‬
‫لبن ان والش ام توج ه الق وات العس كرية بالس الح والعت اد لمن ع أي تجمه ر‬
‫في ب يروت ودمش ق لس ماع خط اب واح د يلقي ه زعيم الح زب الس وري‬

‫‪151‬‬
‫القومي االجتم اعي‪ .‬ولم يقتص ر اهتم ام الس لطة على من ع المواط نين في‬
‫الم دن الك برى من س ماع ص وت ال زعيم‪ ،‬ب ل تع دى ذل ك إلى األقض ية‬
‫التي ال يحدث فيها تجمهر كالذي يحدث في المدن‪ .‬وجمي ع ال ذين تتبع وا‬
‫حركة الحزب السوري القومي االجتم اعي يعرف ون أم ر الق وات الجندي ة‬
‫ال تي وجهت على طرط وس وعلى عم اطور الش وف وعلى بكفي ا المتن‬
‫ال تي ج رت فيه ا مناوش ة بين القوم يين االجتم اعيين والجن د وس قط فيه ا‬
‫رحى‪.‬‬ ‫دد من الج‬ ‫ع‬

‫لم تحكم المحاكم الفرنس ية العس كرية على رج ال "عص بة العم ل الق ومي"‬
‫أي‬
‫عارها "العروب ة" وس ُعيها لالمبراطوري ة العربي ة‪ ،‬ولم تُص در َّ‬
‫ال تي ش ُ‬
‫حكم كال ذي أص درته على زعيم الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي‬
‫ومعاوني ه في إدارة الحرك ة القومي ة االجتماعي ة على أح د من رج ال‬
‫السياس ة الس ورية‪ .‬أم ا األحك ام ال تي ص درت بح ق ع دد من األش خاص‬
‫في دمشق فعائدةٌ إلى وجود محاولة اغتي ال ض د رئيس مجلس الم ديرين‬
‫منظمة‪ .‬أما رجال "العروب ة" فق د ك انت‬
‫َّ‬ ‫وليس إلى مسؤولية حركة قومية‬
‫السلطة تشجعهم وتطلق لهم الحرية طالما عملهُم يتعل ق بأس اس فك رتهم‪،‬‬
‫أي جم ع كلم ة األمم والش عوب العربي ة‪ ،‬وال يتح َّول إلى عم ل مختص‬
‫ْ‬
‫وري‪.‬‬ ‫عب الس‬ ‫بالش‬

‫لم اذا الحقت الس لطتان االنت دابيتان حرك ة الح زب الس وري الق ومي‬
‫االجتم اعي ه ذه المالحق ة الش ديدة من ذ اكتش فتا أم ره؟ ولم اذا تخاف ان من‬
‫خطب ال زعيم وال تخش يان خطب "العروب يين" ح تى إنه ا أطلقت الحري ة‬
‫لجمي ع السياس يين‪ ،‬ال ذين ع ادوا بع د إبع ادهم‪ ،‬بالخطاب ة في الجوام ع‬
‫والس احات العمومي ة‪ ،‬ولم تمن ع أح داً يري د التكلم عن "الوح دة العربي ة"‬
‫ا؟‪.‬‬ ‫دعوة إليه‬ ‫وال‬

‫الجواب واضح‪ :‬ألن خطب الزعيم قائمة على قضية صحيحة يمكن به ا‬
‫توحي د الش عب الس وري وإ طالق ق وة الش باب الس وري من عقاله ا‪ ،‬أم ا‬
‫دث االنقس ام ال ديني في ال داخل‬
‫خطب جميع السياس يين اآلخ رين فهي تُح ُ‬

‫‪152‬‬
‫ارج‪.‬‬ ‫تحيل في الخ‬ ‫ع المس‬ ‫اول جم‬ ‫وتح‬

‫إن القض ية ال تي يحمله ا الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي هي قض يةُ‬
‫أم ة موج ودة ب القوة على أس اس الن واميس االجتماعي ة‪ ،‬أخرجه ا الح زب‬
‫الس وري الق ومي االجتم اعي من ح يز الق وة إلى ح يز الفع ل بمبادئ ه‬
‫القومي ة االجتماعي ة الص حيحة ال تي أزالت ك ل س بب من أس باب التفرق ة‬
‫وري‪.‬‬ ‫عب الس‬ ‫من الش‬ ‫ض‬

‫الحرك ة القومي ة االجتماعي ة لم تنش أ حرك ة ملي ة محمدي ة أو مس يحية أو‬


‫درزي ة تح او ُل الظه ور بمظه ٍر ش به ق ومي‪ ،‬ب ل نش أت حرك ة قومي ة‬
‫عناصر من جمي ع مل ل البالد‪ ،‬فك ان‬
‫ُ‬ ‫جامعة‪ ،‬دخلت فيها منذ بدء تكوينها‬
‫فيه ا اليس وعي وك ان فيه ا المحم دي وك ان فيه ا ال درزي‪ .‬وكونه ا حرك ة‬
‫وجه دعوته إلى جميع أبناء أمته بال فار ٍ‬
‫ق مذهبي أزال عنه ا‬ ‫ولَّدها ٌ‬
‫فرد َّ‬
‫ك ل ص فة تكتلي ة ملي ة وأوج د الض مان لع دم نش وء تكتالت ملي ة في‬
‫ا‪.‬‬ ‫داخله‬

‫في الحرك ة القومي ة االجتماعي ة ال يق ول الس وريون القومي ون‬


‫االجتماعيون من الملة المحمدية بإنشاء دولة ديني ة على أس اس "الجنس ية‬
‫الدينية" ال تي يق ول به ا الرجعي ون‪ ،‬يعيش فيه ا أبن اء المل ل األخ رى تحت‬
‫كن ف أبن اء المل ة المحمدي ة ورحمتهم وحم ايتهم‪ ،‬وال يق ول الس وريون‬
‫القوميون االجتماعيون من الملة المسيحية أو الدرزية بإنشاء دول ة ديني ة‬
‫مس يحية أو درزي ة باالتف اق م ع دول أجنبي ة مس يحية يعيش المحم ديون‬
‫في كنفه ا تحت رحم ة المس يحيين وحم ايتهم‪ .‬كال‪ :‬ال ش يء من ذل ك‪ .‬إن‬
‫جمي ع الس وريين القوم يين االجتم اعيين يؤمن ون ب أنهم أبن اء أم ة واح دة‬
‫هي األم ة الس ورية‪ ،‬تجمعهم عقي دة واح دة ومص لحة واح دة وإ رادة‬
‫أح راراً متس اوين في الحق وق‬ ‫جميعهم يري دون الجمي َع‬
‫ُ‬ ‫واح دة‪ .‬فهم‬
‫ٍ‬
‫لبعض أو عال ة على‬ ‫األم ة عب داً‬ ‫بعض‬
‫ُ‬ ‫والواجبات‪ ،‬ويرفضون أن يكون‬
‫اه ِل بعض‪ .‬إنهم يخجل ون من أن ي روا أح داً‬ ‫بعض أو تحت رحم ة تس ُ‬
‫من أبن اء أمتهم غ ير ح ٍّر متمت ٍع بجمي ع الحق وق المدني ة والسياس ية ال تي‬

‫‪153‬‬
‫ة‪.‬‬ ‫لهم في الدول‬

‫إن الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي يق ول إن ه يجب أن يك ون لك ل‬


‫فرد من أفراد األمة الس ورية الح ُّ‬
‫ق والحري ة ليعتق د في الش ؤون المتعلق ة‬
‫بما وراء المادة‪ ،‬كاهلل والس ماء والجحيم والخل ود والفن اء‪ ،‬كم ا يري د‪ .‬وال‬
‫طلب منه إالّ أن يكون قومياً اجتماعي اً ص حيحاً مخلص اً لألمت ه ووطن ه‪.‬‬
‫ُي ُ‬

‫ولكنن ا ن رى هن ا أن نق ول بص ورة خصوص ية ال دخ ل للح زب فيه ا إن ه‬


‫من المستحس ن أن َي ُع َّد المس يحيون الم دنيون أو العلم انيون‪ ،‬إذا لم يش أ‬
‫اإلكل يروس‪ ،‬محم داً رس والً إلهي اً ودين ه ص حيحاً ليش عر المحم ديون ب َّ‬
‫أن‬
‫المس يحيين ال يكف رونهم في دينهم وال يحط ون من ق در ن بيهم‪ ،‬كم ا أن ه‬
‫يحس ن أن َي ُع ّد المحم ديون دين اليس وعيين ص حيحاً وأن ي تركوا‬
‫ِّرهم‪.‬‬ ‫تي تكف‬ ‫أويالت ال‬ ‫الت‬

‫إن الس وريين القوم يين االجتم اعيين يح ترمون معتق ِ‬


‫دات بعض هم بعض اً‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مدرك منهم أن يس فّه م ذهب غ يره ال ديني‪ ،‬ولكن‬ ‫وال يخطر في بال أحد‬
‫م ا ارتأين اه هن ا ه و ش يء ع ام ال يخ رج من ه الالقومي ون اجتم اعيون‪.‬‬

‫يجب علينا أن ننهض كأمة حية وأن ُنزيل من طريقنا جمي ع الص عوبات‬
‫وأهم م ا يجب أن ُنزيل ه من الص عوبات‬
‫ال تي تعرق ل أو تمن عُ نهوض نا‪ُّ .‬‬
‫صعوبةُ الفتنة الدينية وصعوبةُ الفتنة االجتماعية ـ االقتصادية‪ .‬وإ زالتُهما‬
‫ِّ‬
‫الموحدة‪ ،‬ال‬ ‫تك ون باعتن اق مب ادئ الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي‬
‫بمحاربة هذه المبادئ المقدسة كما يفعل الجهال الخالون من المسؤولية‪.‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫التعنتات المسيحية‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫مما تقدم من هذا البحث يتبين أن الغرض األخير له هو‪ :‬قمعُ الفتنة الدينية بين أبن اء أمتن ا‬
‫قب ل اس تعار أواره ا‪ ،‬ودع وة الس وريين جميعهم من محم ديين ومس يحيين ودروز إلى‬

‫‪154‬‬
‫رابط ة العقي دة االجتماعي ة الواح دة‪ :‬إلى عقي دة القومي ة الس ورية ال تي تجمعهم في وطن‬
‫د‪.‬‬ ‫ير واح‬ ‫ومص‬

‫وقد نبهنا‪ ،‬من قبل‪ ،‬إلى أنه ال يوجد في هذا البحث غرض فرعي كال ذي ق د يك ون َّ‬
‫توهم ه‬
‫المتعنت ون المس يحيون ال ذين يظن ون أن تس فيه رأي أص حاب الدول ة الديني ة الرس ولية‬
‫المحمدي ة وفي غ رض ال دين المحم دي ك ان بقص د إظه ار أن ال دين المس يحي ه و ال دين‬
‫الص حيح الوحي د وأن ال دين المحم دي يجب أن ي زول‪ .‬وأظهرن ا في ع دة أم اكن س ابقة أن‬
‫تخص يص ه ذه السلس لة من األبح اث الفلس فية االجتماعي ة والديني ة بنقض م ذهب أص حاب‬
‫"الجنس ية الديني ة" المحمدي ة وتس فيه مط اعنهم في المس يحية ورد دع وتهم إلى العص بية‬
‫وتهوس هم العظيم الض رر بالقومي ة ومص ير األم ة الس ورية لم يكن إالّ بقص د من ع‬
‫الديني ة ُّ‬
‫الفتنة الدينية التي قام ينفض الرماد عن بقية نارها نفر من ذوي المطامع الشخص ية ال ذين‬
‫يستبيحون دماء أبناء األمة من أج ل أغراض هم الذاتي ة الحق يرة‪ ،‬وإلقام ة الح ّد وكبح جم اح‬
‫حمل ة رجعي ة إذاعي ة ش به منظَّم ة لتح ريض الغوغ اء المحم دي وإ ث ارة نعرت ه الديني ة‬
‫وتحريكه نح و المط امع السياس ية الشخص ية باس م ال دين‪ .‬وه ذه هي الفتن ة عينه ا‪ .‬فب ْق در م ا‬
‫يح رض الرجعي ون والنفعي ون الجماع ات المحمدي ة ويثيرونه ا يح دث رد فع ل في‬
‫الجماع ات المس يحية والدرزي ة‪ .‬وال يق ف األم ر عن د ه ذا الح د‪ ،‬ب ل يص ْل إلى الجماع ات‬
‫المحمدي ة الص غرى أيض اً ك العلويين والش يعة‪ ،‬فه ذه الش يع ق د وق ع عيه ا االض طهاد من‬
‫الجماع ة المحمدي ة الك برى في س ورية‪ ،‬من أه ل الس نة‪ .‬وبس بب ه ذه الع داوة أمكن فص ل‬
‫منطق ة الالذقي ة ومنطق ة جب ل ح وران إداري اً وسياس يًّا‪ ،‬عن بقي ة البالد‪ ،‬كم ا فُص ل لبن ان‬
‫ا‪.‬‬ ‫عنه‬

‫إنن ا َّ‬
‫بينا أغالط المهووس ين والرجع يين المحم ديين‪ ،‬واألض رار العظيم ة ال تي تجلبه ا‬
‫َّ‬
‫وتمكنا من إثب ات وج وب فص ل المواض يع الملي ة عن‬ ‫دع اوتهم على نهض ة أمتن ا الحديث ة‪،‬‬
‫العم ل الق ومي إثبات اً ال يقب ل النقض‪ .‬وه ذا الغ رض بعي د عن محاول ة الح ط من أص ول‬
‫ال دين المحم دي األساس ية‪ .‬وإ نن ا نعتق د أنن ا ق د بلغن ا ه ذه الغاي ة في م ا تق دم من حلق ات ه ذا‬
‫البحث‪.‬‬

‫بقي أن نق ول ق والً يتعل ق بالجه ة المقابل ة للحزبي ة الملي ة المحمدي ة‪ ،‬أي بالجه ة اليس وعية‪،‬‬
‫ف إن أعم االً رجعي ة كث يرة ق د ج رت في الجماع ات المس يحية ليس ت كله ا عائ دة إلى "اتق اء‬

‫‪155‬‬
‫اله وس ال ديني المحم دي"‪ ،‬وه ذه األعم ال الرجعي ة ليس ت أق ل س وءاً من أعم ال الرجع يين‬
‫ديين‪.‬‬ ‫المحم‬

‫إنن ا نعتق د أن الغل ط ال ُيص لح بغل ط من نوع ه‪ .‬وإ يج اد حرك ة رجعي ة مس يحية ال ُيع ِدم‬
‫الحرك ة الرجعي ة المحمدي ة‪ ،‬ب ل يزي د ه ذه الحرك ة احت داماً‪ .‬ولكن الرجع يين المس يحيين لم‬
‫يكون وا‪ ،‬في ش يء‪ ،‬أق ّل هوس اً من الرجع يين المحم ديين‪ ،‬والرجع ة المس يحية ال تق ل تس تراً‬
‫بالوطني ة "والقومي ة اللبناني ة" عن الرجع ة المحمدي ة بالوطني ة "والقومي ة العربي ة" وكال‬
‫القومي تين خرافيت ان في م ا يختص باألم ة الس ورية وال وطن الس وري ال ذي يك ّون لبن ان‬
‫ه‪.‬‬ ‫زءاً من‬ ‫ج‬

‫وم ع أن ه ال مج ال في ه ذا البحث المخص ص بالرجع ة المحمدي ة وأص ول معتق داتها‬


‫السياس ية ـ االجتماعي ة ـ الديني ة للتطوي ل في ش ؤون الرجع ة اليس وعية‪ ،‬ال تي وإ ن لم تظه ر‬
‫منه ا دع وات ص ريحة‪ ،‬علني ة‪ ،‬ك دعوات أص حاب الرجع ة المحمدي ة المع تزين ب أكثريتهم‬
‫يحض رنا ذك ره في م ا م ر‬
‫ُ‬ ‫العددية‪ ،‬فإنها ليست أق ّل أهمية من هذه‪ ،‬فال بد من تن اول م ا لم‬
‫من بحثن ا‪ .‬ف إن دع اة االنفص ال المس يحي في لبن ان ي وردون حجج اً‪ ،‬أكثره ا أق وال ش فوية‬
‫يتناقلونه ا في أوس اطهم‪ ،‬يجب إس قاطها وتس فيهها لع دم ص حتها وع دم ص وابيتها‪ ،‬وق د‬
‫أس قطنا بعض ها وس فّهناه في حلق ة س ابقة‪ ،‬ونتن اول هن ا م ا يحض رنا من ه ذه الحجج‪:‬‬

‫س معنا أك ثر من م رة في بعض المحاض ر أشخاص اً مس يحيين ي ردون على ال دعوة إلى‬


‫متعص بون وال يمكن االتح اد معهم‪ .‬وتأيي د ه ذا‬
‫ّ‬ ‫االتح اد الق ومي به ذه األق وال‪ :‬المحم ديون‬
‫الق ول ي أتي في األق وال األخ رى كه ذا الق ول‪" :‬ال س بيل للتف اهم معهم أو لحف ظ كرامتن ا‬
‫عن دهم‪ ،‬فهم إذا ج اء أح د منهم ي زور واح داً من ا اس تقبله ه ذا م ع أهل ه وعيال ه‪ ،‬فتجلس ل ه‬
‫رد زي ارة المحم دي فإن ه‬‫زوج ة المس يحي وبنات ه وأخوات ه؛ ولكن حين ي ذهب المس يحي ل ّ‬
‫يس تقبله ب دون أهل ه وعيال ه ويحجب عن ه امرأت ه وبنات ه‪ ،‬فكي ف يمكن التف اهم واالتف اق م ع‬
‫ال ذين ه ذا ش أنهم"‪ .‬وإ نن ا نالح ظ أن ال ذين يقول ون ه ذه األق وال ُي ْدلُون به ا بلهج ة من ق د‬
‫أعطى الق ول الفص ل والحج ة ال تي ال تُ دفع‪ .‬وه ذا دلي ل على مبل غ اله وس والجه ل‪ .‬ف إن‬
‫تمحيص ه ذه الحج ة ُيثبت بطالنه ا وس خف أص حابها‪ ،‬ف إن المحم دي ال ِّ‬
‫يحجب امرأت ه‬
‫وبنات ه عن المس يحي فق ط‪ ،‬ب ل عن ابن ملت ه نفس ها‪ .‬ففي نص وص الش رع المحم دي ال‬
‫يج وز أن تُس فر الم رأة إال لزوجه ا وابنه ا وأخيه ا ومن هم بمنزل ة أق رب القراب ة‪ ،‬وس واء‬

‫‪156‬‬
‫أك ان س واهم من ملته ا أو من غ ير ملته ا فهي ال تس فر وال تجلس لهم‪ .‬فه ذه المعامل ة ال‬
‫مودت ه‪ ،‬ولكنه ا ع ادة تس تند إلى ش رع‪ .‬أم ا‬
‫يقُص د منه ا إهان ة الزائ ر المس يحي وال رفض ّ‬
‫لزوم هذا الشرع أو عدم لزومه فمسألة أخرى‪ .‬ودليل آخر على فساد ادعاء أصحاب ه ذه‬
‫الحج ة ه و أن ه إذا ج اء زائ ر مس يحي إلى دار ص ديق محم دي وجلب مع ه امرأت ه‪ ،‬ف امرأة‬
‫ا‪.‬‬ ‫ريم وإ كرامه‬ ‫ان الح‬ ‫تقبالها في مك‬ ‫ع عن اس‬ ‫دي ال تمتن‬ ‫المحم‬

‫وح ِرمن ا‬
‫ومن أق وال ه ؤالء المتعن تين‪" :‬إنن ا ق د لقين ا كث يراً من االض طهاد من المحم ديين‪ُ ،‬‬
‫مس اواة الحق وق والتماث ل في المواق ف‪ ،‬فال يمكنن ا أن ننس ى م ا ج رى لبعض ها وآلبائن ا من‬
‫اإلهان ة واالض طهاد الخ"‪ .‬وم ع أن حج ة االض طهاد ص حيحة فليس ص واباً اتخاذه ا ذريع ة‬
‫أو مستنداً لجعل الماضي يحكم على الحاضر والمس تقبل‪ .‬فإع دام المس تقبل بس بب جه االت‬
‫الماض ي ه و أس وأ الض الل‪ :‬إن ه االنتح ار واالنع دام‪ ،‬وال يس عى نح وه إال ك ل س يِّيء‬
‫المصير‪ .‬إنه جريمة تتناول األبناء واألحفاد األبرياء‪ ،‬وأي جهالة يمكن أن تكون ش راً من‬
‫ة؟‬ ‫ذه الجهال‬ ‫ه‬

‫م اذا ك ان يح دث أللماني ة ل و ظ ل بروتس تنتيوها وكاثوليكيوه ا يقول ون مث ل ه ذا الق ول‪ ،‬أي‬


‫انهم ال يس تطيعون نس يان األحق اد واالض طهادات القديم ة بين تين ك الش يعتين المس يحيتين‪،‬‬
‫نة؟‬ ‫رب الثالثين س‬ ‫اريخ بح‬ ‫رف في الت‬ ‫ا ُيع‬ ‫ام‬ ‫َّدت بينهم‬ ‫تي ول‬ ‫ال‬

‫أجل‪ ،‬إن حرب الثالثين سنة الدينية التي نشبت بين الذين اعتنقوا م ذهب ل وثر اإلص الحي‬
‫والس لطة الكاثوليكي ة وأتباعه ا‪ ،‬هي ح رب لم ينش ب مثله ا في بالدن ا بين المس يحيين‬
‫والمحم ديين‪ ،‬إنه ا ح رب ش ديدة كثُ رت وقائعه ا المش هورة وس الت فيه ا ال دماء ش آبيب‪،‬‬
‫ق في ألماني ة مدين ة أو بل دة إال ولبس ت الح داد‬ ‫وته َّدمت الم دن‪ ،‬وخ ربت ال ديار‪ ،‬ولم يب َ‬
‫وأقيمت فيها المناحات‪ .‬فل و بقي أحف اد المتق اتلين األلم ان يقول ون إلى الي وم م ا يقول ه أحف اد‬
‫المتق اتلين الس وريين‪ ،‬أي‪ " :‬ال يمكنن ا أن ننس ى م ا ج رى آلبائن ا وض حايانا" أك انت تق وم‬
‫ة؟‬ ‫ة قائم‬ ‫أللماني‬

‫أال إن م ا مض ى ق د مض ى‪ ،‬واألم ة يجب أن تحي ا للحاض ر والمس تقبل‪ ،‬وليس للماض ي‪.‬‬
‫وإ ذا نظرن ا إلى الماض ي فلننظ ر الس تخراج ِ‬
‫العَب ر والمغ ازي‪ ،‬وليس الرج وع إلى حال ة‬
‫فة‪.‬‬ ‫ي المؤس‬ ‫الماض‬

‫‪157‬‬
‫ومن أق وال جهل ة المس يحيين أن م ا ُي رى من ش دة تعص ب العام ة المحمدي ة ه و دلي ل على‬
‫ع دم إمك ان االتف اق واالتح اد م ع المحم ديين‪ ،‬فك أنهم يقول ون إن المحم ديين ُخلق وا جام دين‬
‫على ح التهم‪ ،‬غ ير ق ابلين للتطُّور‪ .‬وه ذا جه ل وخط ل في ال رأي‪ .‬ف إذا رجعن ا إلى أزمن ة‬
‫التعص ب المس يحي وج دنا أنه ا ال تختل ف في ش يء عن أزمن ة التعص ب المحم دي‪ ،‬إذا لم‬
‫تكن فاقته ا ش دةً وقس وةً‪ .‬فلنعت بر بم ا ج رى في ألماني ة‪ .‬ثم بم ا ج رى في فرنس ة من‬
‫االض طهاد ال ديني ال ذي بل غ قمت ه في مذبح ة برتلم اوس الش هيرة ال تي ظه رت فيه ا فظاع ة‬
‫الغدر والحق د ال ديني ب أقبح مظه ر‪ .‬وق د رأين ا بع د ذل ك أن الن اس ترك وا ه ذه األم ور‪ ،‬فه ل‬
‫يظن أحد من ذوي اإلدراك العادي أن المس يحيين وح دهم ق ابلون للتط ور‪ ،‬وأن المحم ديين‬
‫ه؟‬ ‫ديني وأوهام‬ ‫وس ال‬ ‫ة اله‬ ‫دين في حال‬ ‫يبقون جام‬ ‫س‬

‫إن الس وريين المحم ديين ق ابلون للتط ُّور كالس وريين المس يحيين‪ .‬وال ننس أن أك ثر‬
‫المحم ديين الس وريين ك انوا من قب ل مس يحيين ثم اعتنق وا المحمدي ة مفض لينها م ع الحري ة‬
‫خي ر أه ل البالد بين ال دخول في ال دين‬
‫على المس يحية م ع العبودي ة‪ ،‬ألن الفتح المحم دي ّ‬
‫الرس ولي وني ل جمي ع حق وق أتباع ه وبين البق اء على دينهم ودف ع الجزي ة وإ بط ال حق وقهم‬
‫ية‪.‬‬ ‫ة والسياس‬ ‫المدني‬

‫أما ما نراه من شدة هوس الجماعات المحمدية في سورية فهو أمر طبيعي جرى مثله في‬
‫جميع الملل‪ ،‬وهو عائد إلى قرب عهدهم بالتعصب الديني وانعدام العلوم الفلسفية والعملية‬
‫ننس أن تس اهل المس يحيين‬
‫من أوس اطهم‪ ،‬وليس إلى طبيع ة فيهم ال تتب دل وال تتغ ير‪ .‬فال َ‬
‫الح الي عائ د إلى س بقهم المحم ديين إلى العل وم والمع ارف العص رية بم ا نش أ في أوس اطهم‬
‫من م دارس وخصوص اً م ا نش أ في الم دة األخ يرة من الم دارس المدني ة‪ .‬وحيث نش أت في‬
‫أوس اط محمدي ة م دارس مدني ة ُعنِيت بت دريس العل وم الحديث ة نج د تب دالً كب يراً في نظ ر‬
‫التالميذ المحمديين إلى الحياة االجتماعية‪ .‬وفي الحركة السورية القومية االجتماعية جرى‬
‫واح داً بين المس يحيين والمحم ديين وال دروز‪.‬‬ ‫التغ ير والتط ور مج رى ِ‬

‫معلوم أن المحمدية ت أخرت عن المس يحية في س ورية نح و س بعة ق رون‪ .‬وف رق ه ذه الم دة‬
‫ٌ‬
‫التطور يجب أال يذهب بدون مالحظة‪ .‬ثم نجد أن التعص ب ال ديني المس يحي لم يبت دئ‬
‫ُّ‬ ‫في‬
‫ف إال بع د نش وء الم دارس العلماني ة‪ ،‬أم ا حين ك ان التعليم ديني اً بحت ك ان التعص ب‬
‫يخ ّ‬
‫الديني المسيحي مثل التعص ب ال ديني المحم دي‪ .‬وش دة التعص ب ال ديني المحم دي ال تي م ا‬

‫‪158‬‬
‫ت زال ظ اهرة بين محم ديي س ورية عائ دة إلى ت أخر نش وء الم دارس العلماني ة عن دهم وقل ة‬
‫ع ددها بالنس بة إلى الم دارس الديني ة والتعليم المحش ّو هوس اً وتعص باً ديني اً‪.‬‬

‫إذا وض عنا ع دداً متس اوياً من التالمي ذ المس يحيين والمحم ديين وال دروز تحت ثقاف ة واح دة‬
‫فإننا نجد النتائج واحدة وال تختل ف إال بتع َّرض التالمي ذ لت أثيرات أخ رى في بي وتهم‪ .‬وم ع‬
‫ذل ك ف االختالف يض عف روي داً م ع اس تمرار الثقاف ة ح تى يتالش ى وي زول ب المرة‪.‬‬

‫وق د ش اهدنا أط وار ه ذا الص راع الطوي ل بين الثقاف ة القومي ة الواح دة ال تي أنش أها الح زب‬
‫السوري القومي االجتماعي وعوامل البيئات الملية‪ .‬وفي أوائل أطوار ه ذا الص راع ظه ر‬
‫كأن عوامل الحياة الملية س تغلب دواف ع الحي اة القومي ة وثقافته ا‪ .‬ولكن لم يط ل األم ر ح تى‬
‫أخذت الثقافة القومية االجتماعية تتغلب على الثقافة الملية‪ ،‬وص ارت دواف ع الحي اة القومي ة‬
‫تمح ق عوام ل الحي اة الملي ة ح تى أتت عليه ا‪ .‬وق د اقتض ى ذل ك مق داراً عظيم اً من الص بر‬
‫وحس ن السياس ية والس هر في إدارة الح زب الس وري الق ومي‬ ‫وبع د النظ ر ُ‬ ‫والحنك ة ُ‬
‫االجتماعي العليا‪ ،‬فكانت النتيج ة ب اهرة ال يتص ور الالقومي ون اجتم اعيون رؤيته ا وال في‬
‫ام‪.‬‬ ‫المن‬

‫وال َيظَُّن َّن أح د أن جمي ع مفك ري المحم ديين هم من ن وع الش يخ محم د عب ده والس يد جم ال‬
‫ال دين األفغ اني‪ ،‬فه ذان المفك ران الرجعي ان غ ير الس وريين ال يمكنهم ا ادع اء احتك ار‬
‫التفكير المحمدي العص ري‪ .‬وق د قلن ا إن ه من المؤس ف أن مفك راً س ورياً محم دياً ه و الس يد‬
‫ذهاب صيت إمامي الرجعة المذكورين م ع‬ ‫َ‬ ‫الفراتي عبد الرحمن الكواكبي لم يذهب صيتُه‬
‫أنه ُّ‬
‫أحق بهداية النف وس منهم ا‪ ،‬إذ نظ ر إلى الحي اة االجتماعي ة والسياس ية من جه ة التفك ير‬
‫وري الم ترقي‪ ،‬وإ لي ك فق رة مم ا قال ه في كتاب ه "طب ائع االس تبداد ومص ارع االس تعباد"‪:‬‬
‫الس ّ‬
‫"ي ا ق وم‪ ،‬وأع ني بكم الن اطقين بالض اد من غ ير المس لمين‪( ،‬وه و ق ول س وري موج ه إلى‬
‫الس وريين بالدرج ة األولى وإ ن يكن الق ول عام اً الن اطقين بالض اد) أدع وكم إلى تناس ي‬
‫اإلس اءات واألحق اد وم ا جن اه اآلب اء واألج داد‪ ،‬فق د كفى م ا فع ل ذل ك على أي دي المث يرين‪،‬‬
‫ُجلُّكم من أن ال تهت دوا لوس ائل االتح اد وأنتم المتن ورون الس ابقون‪ .‬فه ذه أمم أوس ترية‬ ‫وأ ِ‬
‫وأميرك ة ق د ه داها العلم لطرائ ق ش تى وأص ول راس خة لالتح اد الوط ني دون ال ديني‪،‬‬
‫والوف اق الجنس ي دون الم ذهبي‪ ،‬واالرتب اط السياس ي دون اإلداري (؟) فم ا بالُن ا نحن ال‬
‫نفتك ر في أن نتب ع إح دى تل ك الطرائ ق أو ش بهها‪ ،‬فيق ول عقالؤن ا لمث يري الش حناء من‬

‫‪159‬‬
‫األعجام واألجانب‪ :‬دعونا ي ا ه ؤالء‪ ،‬نحن ن دبر ش أننا‪ ،‬نتف اهم بالفحص اء ون تراحم باإلخ اء‬
‫ونتواسى في الضراء ونتساوى في السراء‪ .‬دعونا ندبر حياتنا ال دنيا ونجع ل األدي ان تحكم‬
‫في األخرى فقط‪ .‬دعونا نجتمع على كلم ات س واء أالّ وهي‪ :‬فلتحي األم ة‪ .‬فليحي ال وطن‪.‬‬
‫أعزاء!"‪ .‬هذا كالم رجل من المحمديين ع رف مع نى اإلس الم الص حيح وق ال‬ ‫فلنحي طلقاء ّ‬
‫ق‬
‫ق والً جعل ه في طالئ ع العه د الق ومي وإ ن ك ان الن اس اتبع وا من‪ ،‬ه و (الكواك بي) أح ّ‬
‫بالتق دم علي ه‪ .‬ولكن النهض ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة ج اءت تنفض غب ار األوه ام عن‬
‫أذهان الناس ليميزوا بين قول الحق وقول الباطل‪ .‬ف رحم اهلل الس يد الف راتي بم ا ق ال‪ ،‬وفي ه‬
‫وتأمل ناض ج‪" :‬دعون ا ن دبر حياتن ا ال دنيا ونجع ل األدي ان تحكم في‬ ‫زب دة تفك ير راس خ َّ‬
‫األخ رى فق ط"‪ .‬فه ذا ق ول تتبن اه الحرك ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة بحرفيت ه‪ ،‬وتخلِّد ب ه‬
‫ذكرى اإلمام الكواكبي الذي نظر في مقتضيات الدين والدنيا فقال فيها هذا القول الفصل‪.‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫الخالصة‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬
‫ق د ت بين من ه ذا ال درس المختص ر‪ ،‬على طول ه‪ ،‬أن ال دعوة الرجعي ة إلى دول ة ال دين‬
‫المحمدي هي فاسدة ومستندة إلى جهل في الدين والدنيا‪ ،‬كما أن الدعوة الرجعية إلى دولة‬
‫دنيا‪.‬‬ ‫دين وال‬ ‫ل في ال‬ ‫تندة إلى جه‬ ‫دة ومس‬ ‫يحي هي فاس‬ ‫دين المس‬ ‫ال‬

‫واتَّضح أن التعصبات الدينية والحزبيات الملية هي بالء ه ذه األم ة الس ورية ال ذي ال بالء‬
‫بع ده‪ ،‬وأن ال داف ع له ذا البالء وغ يره عن األم ة غ ير دواء القومي ة الس ورية ال تي جعله ا‬
‫الح زب الس وري الق ومي االجتم اعي دين ال دنيا للس وريين‪ .‬وق د ت وفرت األدل ة وال براهين‬
‫النظري ة والعملي ة على ص حة ه ذا ال دين الق ومي ال ذي يجع ل الس وريين عص بة واح دة ال‬
‫تف ِّرق بينهم أي ة فك رة محله ا في اآلخ رة‪ ،‬وال يتم يز بينهم أح د إالّ بمق دار م ا يجاه د ويب ذل‬
‫ا‪.‬‬ ‫ة جميعه‬ ‫ير األم‬ ‫لخ‬

‫إن النت ائج الفعلي ة ال تي حص لت بنش وء القومي ة الس ورية وس ير الحرك ة الس ورية القومي ة‬
‫تعم الشعب لينهض كل ه نهض ة واح دة بعقي دة‬
‫االجتماعية هي نتائج أكيدة ال ينقصها إالّ أن َّ‬
‫واح دة وإ يم ان واح د‪ ،‬فيص ير ق ادراً على الص بر والثب ات في مع ترك األمم والتق دم في‬

‫‪160‬‬
‫عدو لس ورية‪ ،‬يقتض ي‬
‫مضمار الحياة‪ .‬والوصول إلى هذه الحالة السعيدة‪ ،‬التي ال يشتهيها ٌّ‬
‫تلبي ة واس عة س ريعة من األوس اط والعناص ر المدرك ة ال تي رأت ص حة الرس الة القومي ة‬
‫االجتماعي ة‪ ،‬إلم داد الحرك ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة لنش ر رس التها وإ ذاع ة مبادئه ا‬
‫ونظرياته ا وتلقين تعاليمه ا للجماع ات العطش انة إلى المعرف ة المش تاقة إلى ن ور اليقين‪،‬‬
‫ولتأييد هذه الحركة المباركة معنوياً ومادياً ومساعدتها على مهاجم ة ال دعاوات التض ليلية‪،‬‬
‫ومحارب ة األفك ار الس اقطة والم ذاهب االنحطاطي ة‪ ،‬فيك ون من وراء ذل ك تغي ير األم ة من‬
‫والتعاض د والق وة‬
‫ُ‬ ‫ح ال االنش قاق والتخ اذل والتحاق د والض عف إلى ح ال االتف اق والتع اون‬
‫د‪.‬‬ ‫والتغلُّب والمج‬

‫إن القض اء على التض ليل والمض لِّلين‪ ،‬وجلب س واد الش عب إلى ص راط الحقيق ة والح ق‬
‫ث المعرف ة في جمي ع األوس اط‪ ،‬وه ذا عم ل كب ير في ح د ذات ه يقتض ي وس ائل‬ ‫يحت اج ِلَب ِّ‬
‫كثيرة من اإلذاعة الخطابية والكتابية‪ .‬والتفكير في هذا المش روع وح ده ومقتض ياته يجعلن ا‬
‫ن درك كم ه و ض روري اإلقب ال على مناص رة الحرك ة الس ورية القومي ة االجتماعي ة مادي اً‬
‫ومعنوي اً‪ .‬ول و أن التلبي ة الفعلي ة امت دت بس رعة في ال وطن والمهج ر وحص لت للحرك ة‬
‫المقومات المادية الكافية إلذاع ة واس عة‪َّ ،‬‬
‫وبث الكتّ اب والخطب اء في جمي ع األنح اء‪ ،‬وطب ع‬ ‫ِّ‬
‫الكتب والمناش ير وتوزيعه ا بعش رات األل وف‪ ،‬وإ نش اء الجرائ د والمجالت إلم داد الن اس‬
‫بالمعلومات الوثيقة والتوجيهات الصحيحة‪ ،‬لكان من المحتمل أو المرجح أن يكون موق ف‬
‫س ورية في ه ذه الح رب غ ير موق ف الش لل ال ذي تقف ه بس بب ك ثرة ال دعاوات واإلذاع ات‬
‫المض لِّلة ال تي تق وم به ا عناص ر السياس ة الشخص ية والرجعي ة وتغ ذيها اإلرادات األجنبي ة‬
‫ال تي‪ ،‬أي اً ك ان مص درها‪ ،‬ال ت رغب في أن ت رى األم ة الس ورية َّ‬
‫موحدة العقي دة واإلرادة‬
‫ا‪.‬‬ ‫ا فيه‬ ‫ا مطامعه‬ ‫لكيال تفوته‬

‫إن ك ل س وري وس ورية يغ اران فعالً على ش رف قوميتهم ا ومص لحة ش عبهما ورفاهي ة‬
‫وطنهما يجب أن يعلما أن أمانيهما لخير أمتهما ووطنهما ال تتحقق بالكسل والالمباالة وال‬
‫بمج رد التم ني‪ ،‬ب ل ب درس القض ية القومي ة االجتماعي ة المقدس ة درس اً ص حيحاً في مبادئه ا‬
‫التي نش أت عليه ا‪ ،‬وبالقي ام ب الواجب نح و ه ذه القض ية‪ ،‬وبمحارب ة َّ‬
‫دجالي الوطني ة واألدب‬
‫عوذي العلم والفن‪.‬‬ ‫ومش‬

‫يتم ال وعي الق ومي وتخلص األم ة الس ورية من قض ية الحزبي ات الملي ة ومن‬
‫بهذه الطريق ة ّ‬

‫‪161‬‬
‫مظ الم اإلقطاعي ة‪ ،‬فتق ف ص فوفاً واح دة مرتب ة بين ص فوف األمم الباقي ة وفي مقدم ة ه ذه‬
‫األمم جميعه ا بم ا له ا من مثُ ل علي ا فائق ة الجم ال وفض ل على الثقاف ة والتم ُّدن اإلنس انيين‪.‬‬

‫إن القواع د الص حيحة لنهض ة س ورية قومي ة اجتماعي ة عظيم ة ق د ُوض عت‪ ،‬والنهض ة‬
‫ق إالّ أن تحص ل التلبي ة الفعلي ة‬‫العظيم ة ق د ابت دأت بالفع ل من ذ نح و عش ر س نين‪ ،‬فلم يب َ‬
‫ا‪.‬‬ ‫ذي ينتظره‬ ‫د ال‬ ‫ورية إلى المج‬ ‫ير س‬ ‫عة لتس‬ ‫الواس‬

‫في ا أيه ا الس وريون المقيم ون والمه اجرون ارحم وا أنفس كم وعي الكم وذريتكم ي رحمكم اهلل‪.‬‬
‫انب ذوا ال ذين يري دون بكم ش قاقاً‪ ،‬والتفُّوا ح ول ال ذين يري دون بكم وفاق اً‪ ،‬واترك وا قض ايا‬
‫وعزن ا‬
‫األخ رى لألخ رى‪ ،‬وتع الوا إلى كلم ة س واء تجم ع ش ملنا وتُعي د إلين ا وطنن ا وأهلن ا ّ‬
‫وكرامتن ا وحقوقن ا ومص الحنا‪ :‬إلى القومي ة االجتماعي ة‪ ،‬ال تي هي رابط ة ك ل س وري‬
‫وسورية بكل سوري وسورية‪ ،‬ورابطة األجيال السورية الماضية والحاضرة والمقبلة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫أيها السوريون‪:‬‬

‫وتعصبوا لها فهي مبدأكم ومعادكم في الدنيا‪ ،‬وبها تنتصرون وتنالون‬


‫َّ‬ ‫انصروا قوميَّتكم‬
‫المجد‪.‬‬

‫‪162‬‬

You might also like