Professional Documents
Culture Documents
صنائع المعروف
صنائع المعروف
الحمد لله وسع كل شي برحمته ،وعم كل حي بنعمتضضه ،ل إلضضه إل هضضو خضضضعت
الخلئق لعظمته ،سبحانه يسبح الرعضضد بحمضضده والملئكضضة مضضن خيفتضضه ،أحمضضده
سبحانه وأشكره على توابع آلئه وجلئل منته ،وأشهد أن ل إله إل اللضضه وحضضده
ل شريك له في ربوبيته وألضضوهيته ،وأشضضهد أن سضضيدنا ونبينضضا محمضضدا ً عبضضد اللضضه
ورسوله ،خيرته من بريته ،ومصطفاه لرسالته ،صلى الله وسضضلم وبضضارك عليضضه
وعلى آله وأصحابه وعفرته والتابعين ومن تبعهضضم بإحسضضان وسضضار علضضى نهجضضه
طريقته ،أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس -ونفسي بتقوى الله عز وجل ،فاتقوا الله رحمكضضم اللضضه،
واعتبروا بمضضن مضضضى مضضن قبلكضضم ،عضضاجلهم ريضضب المنضضون ،وجضضاءهم مضضا كضضانوا
يوعدون ،هم السابقون وأنتم اللحقون ،سبقوكم بمضضضي الجضضال ،وأنتضضم علضضى
َ
ب م قُل ُضضو ٌن ل َهُض ْ ض فَت َك ُضضو َ ْ
سضضيُروا فِضضى ٱلْر ِ م يَ ِآثارهم تشتد بكضضم الرحضضال ،أفَل َض ْ
م ض ٰى كن ت َعْ َ ص ٰض ضُر وَل َ ٰض ض ِ
مضضى ٱل ْب ْ َ ن ب ِهَضضا فَإ ِن ّهَضضا ل َ ت َعْ َ
مُعو َ
سض َن يَ ْ ن ب ِهَضضا أ َوْ ءا َ
ذا ٌ قل ُضضو َ
ي َعْ ِ
دوِر ]الحج.[46: ص ُ
ب ٱلِتى ِفى ٱل ّّ قلو ُ ُ ْ
ٱل ُ
َ
أيها المسلمون ،الناس في حاجة إلضضى كن َضضف رحيضضم ،ورعايضضة حانيضضة ،وبشاشضضة
سضضمحة ،هضضم بحاجضضة إلضضى وُد ّ يسضعهم ،وحلضضم ل يضضضيق بجهلهضضم ،ول ينفضضر مضضن
ضعفهم ،في حاجة إلى قلب كبير ،يمنحهم ويعطيهضضم ،ول يتطلضضع إلضضى مضضا فضضي
أيديهم ،يحمل همومهم ،ول يثقلهم بهمومه.
ن بغيضضر قلضب إن تبّلد الحس يهوي بالنسان إلى منزلة بهيمية أو أحضط ،النسضا ُ
ّ
رحيم أشبه باللة الصماء ،وهو بغير روح ودود أشبه بالحجر الصلب.
إن النسان ل يتمّيز في إنسانيته إل بقلبه وروحه ،ل في أكوام لحمه وعظامه.
بالروح والقلب يعش ويشعر ،وينفعل ويتأثر ،ويرحم ويتألم.
ق
الرحمة -أيها الخوة في الله -كمال في الطبيعة البشضضرية ،تجعضضل المضضرء يضضر ّ
للم الخلق ،فيسعى لزالتها ،كما يسعى في مواساتهم ،كما يضضأس لخطضضائهم،
مس أعذارهم. فيتمّنى هدايتهم ،ويتل ّ
الرحمة صورة من كمال الفطرة وجمضضال الخل ُضضق ،تحمضضل صضضاحبها علضضى الضضبر،
طب معه الحياة ،وتأنس له الفئدة. ب عليه في الزمات نسيما ً عليل ً تتر ّ وته ّ
في الحديث الصحيح)) :جعل الله الرحمة مائة جضضزء ،أنضضزل فضضي الرض جضضزءا ً
واحدًا ،فمن ذلك الجزء تتراحم الخلئق حتى ترفضع الدابضضة حافرهضا عضن ولضضدها
خشية أن تصيبه((.
ة ل تشضضبه صضضفات المخلضضوقين ،فهضضو أرحضضم ف بالرحمة صضضف ً وربنا سبحانه متص ٌ
م بهضا كضل حضي، الراحمين ،وخيضر الراحميضن ،وسضعت رحمتضه كضل شضيء ،وعض ّ
وملئكة الرحمة -وهي تدعو للمؤمنين -أثنضضت علضضى ربهضضا ،وتقربضضت إليضضه بهضضذه
ن ت َضضاُبوا ْ ذي َ فْر ل ِل ّض ِ عْلم ضا ً فَ ض ٱغْ ِ ة وَ ِ مض ً ح َىء ّر ْ ل َ كض ّ ت ُ
ش ْ سع ْ َ الصفة العظيمةَ ،رب َّنا وَ ِ
حي ضم ِ ]غضضافر ،[7:وفضضي الحضضديث القدسضضي: ج ِ ْ
ب ٱل َ ذا َ م ع َض َ ك وَقِهِ ْ سِبيل َ َ وَٱت ّب َُعوا ْ َ
))إن رحمتي تغلب غضضبي(( مخضّرج فضي الصضضحيحين مضن حضضديث أبضي هريضضرة
خي ْضُر ت َ م َوأن ض َ حض ْ فضْر وَٱْر َ ب ٱغْ ِ رضي الله عنه ،وفي التنزيل العزيضضز :وَقُضضل ّر ّ
َ ف ً
نميض َ ح ِ م ٱلر ِ حض ُ ظا وَهُضوَ أْر َ حضضٰ ِ خي ْضٌر َ ه َ ن ]المؤمنون،[118:ض فَٱلل ّ ُ مي َح ِ ٱلر ِ
]يوسف.[64:
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :قدم رسضضول اللضضه بسضضبي ،فضضإذا
امرأةٌ من السبي تسعى قد تحّلب ثديها ،إذا وجضضدت صضضبيا فضضي السضضبي أخضضذته
فألزقته بيطنها فأرضعته ،فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آلضضه وصضضحبه
ة ولدها في النار؟(( قلنا :ل والله وهي تقدر وسلم)) :أُترون هذه المرأة طارح ً
على أن ل تطرحه ،قال)) :فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولضضدها(( أخرجضضه
البخاري.
ب واصضل بيضن اللضه وبيضن عبضاده ،بهضا أرسضل أيها المسلمون ،ورحمة الله سضب ٌ
رسله إليهم ،وأنزل كتبه عليهضضم ،وبهضضا هضضداهم ،وبهضضا يسضضكنهم دار ثضضوابه ،وبهضضا
يرزقهم ويعافيهم وينعضم عليهضم ،فضبينهم وبينضه سضبب العبوديضة ،وبينضه وبينهضم
َ
مضضا فِضضى فاء ل ِ َ شض َ م وَ ِ من ّرب ّك ُض ْ ة ّ عظ َ ٌ موْ ِ م ّ جاءت ْك ُ ْ س قَد ْ َ سبب الرحمةٰ ،يأي َّها ٱلّنا ُ
ك مِتضضهِ فَِبضضذ َل ِ َ ح َ ل ٱلّلضضهِ وَب َِر ْ ضضض ِ ف ْ ل بِ َ ُقضض ْ ن
مِني َ مضضؤْ ِ ة ل ّل ْ ُ مضض ٌ ح َ
دى وََر ْ هضض ً دورِ وَ ُ صضض ُ ٱل ّ
ن ]يونس.[58 ،57: مُعو َ ج َ ما ي َ ْ م ّ خي ٌْر ّ حوا ْ هُوَ َ فَر ُ فَل ْي َ ْ
هداهم ،فكلما كان نصيب العبد من الرحمة تحصل للمؤمنين المهتدين بحسب ُ
م كان حظه من الرحمة أوفضضر ،فضضبرحمته سضضبحانه شضضرع لهضضم شضضرائع الهدى أت ّ
الوامر والنواهي ،بل برحمته جعضضل فضضي الضضدنيا مضضا جعضضل مضضن الكضضدار حضضتى ل
يركنوا إليها فيرغبوا عن نعيم الخرة ،وأرسل نبيه محمدا ً بالرحمة ،فهو نبي
َ
ن ]النبيضضاء،[107: مي َ ة ل ّل ْعَ ٰضل َ ِ م ً ح َ ك إ ِل ّ َر ْ سل ْن َٰض َ ما أْر َ الرحمة للعالمين أجمعين ،وَ َ
خلقضضه مضضن الينضضاس والضضبر، ُ بعثه ربه فسكب في قلبه من العلم والحلضضم وفضضي ُ
وفي طبعه من السهولة والرفق ،وفضضي يضضده مضضن السضضخاوة والنضضدى مضضا جعلضضه
م ضةٍ ح َ مضضا َر ْ أزكى عباد الرحمن رحمة ،وأوسعهم عاطفة ،وأرحبهضضم صضضدرًا ،فَب ِ َ
ك ]آل حوْل ِض َ ن َ مض ْ ضضضوا ْ ِ ف ّ ب ل َن ْ َ قل ْض ِ ظ ٱل ْ َ ت فَظ ّضا ً غَِلي ض َ م وَل َضوْ ك ُن ْض َ ت ل َهُ ْ ن ٱلل ّهِ ِلن َ م َ ّ
ص ض ري ح م تضض ِ نَ ع ما ه يَ ل َ ع ز زي َ ع م ُ ك س ُ ف َ
أن ن م ٌ
ل سو ر م ُ ك جاء د َ ق َ ل [،ضض 159 عمران:
ٌ ِ َ ْ ّ َ ِ ْ ٌ ِ ْ ِ ّ ْ ْ َ ُ َ ْ
م ]التوبة.[128: حي ٌ ف ّر ِ ن َرءو ٌ مِني َ مؤْ ِم ب ِٱل ْ ُ عَل َي ْك ُ ْ
والسلم رسالة خير وسلم ورحمة للبشرية كلهضضا ،دعضضا إلضضى الضضتراحم ،وجعضضل
ف الرحمة من دلئل كمضضال اليمضضان ،فالمسضضلم يلقضضى النضضاس وفضضي قلبضضه عطض ٌ
مدخور ،وبّر مكنون ،يوسع لهم ،ويخفف عنهم ،ويواسيهم ،فعضضن ابضضن مسضضعود
رضي الله عنه ،عن النبي أنه قال)) :لن تؤمنوا حضضتى تراحمضضوا(( ،قضضالوا :يضضا
رسول الله ،كلنا رحيم ،قال)) :إنه ليس برحمة أحدكم صضضاحبه ،ولكنهضضا رحمضضة
العامة(( رواه الطبراني ورجاله ثقات.
ليس المطلوب قصر الرحمة على مضضن تعضضرف مضضن قريضضب أو صضضديق ،ولكنهضضا
ُتبرز هضضذه العمضضوم فضضي رحمة عامة تسع العامة كلهم ،وأحاديث رسول الله
إسداء الرحمة ،والحث على إفشائها وانتشارها .عضضن أبضضي هريضضرة رضضضي اللضضه
عنه قال :قال رسول الله )) :ل يرحم الله من ل يرحم الناس(( متفق عليه،
وفي الحديث الخر)) :من ل يرحم ل ُيرحضضم(( ،يقضضول ابضضن بطضضال رحمضضه اللضضه:
ض علضضى اسضضتعمال الرحمضضة للخلضضق ،فيضضدخل المضضؤمن "في هضضذا الحضضديث الحض ّ
والكافر ،والبهائم المملوك فيها وغير المملضضوك ،ويضضدخل فضضي الرحمضضة التعاهضضد
بالطعام والمساعدة في الحمل وترك التعدي بالضر".
عباد الله ،ورحم الله ُتستجلب بطاعته وطاعة رسضضوله محمضضد ،والسضضتقامة
َ
ن ]آل عمضضران: مضضو َ ح ُم ت ُْر َ ل ل َعَل ّك ُض ْ سو َ ه وَٱلّر ُ طيُعوا ْ ٱلل ّ َ على أمر السلم ،وَأ ِ
ن ]الحجضضرات: مو َ ح ُ م ت ُْر َ ه ل َعَل ّك ُ ْ قوا ْ ٱلل ّ َ ،[132كما ُتستجلب بتقوى الله ،وَٱت ّ ُ
َ ْ َ
مضضن ن ِ فلي ْض ِ م كِ ْ ُ
سضضول ِهِ ي ُضؤْت ِك ْ من ُضضوا ب َِر ُ ه َوءا ِ قوا ْ ٱلل ّض َ مُنوا ْ ٱت ّ ُ ن ءا َ ذي َ ،[10ض ٰيأي َّها ٱل ّ ِ
م ]الحديضضد: حيض ٌ فضضوٌر ّر ِ ه غَ ُ م وَٱلل ّض ُ فْر ل َك ُ ْ ن ب ِهِ وَي َغْ ِ شو َ م ُ م ُنورا ً ت َ ْ جَعل ل ّك ُ ْ مت ِهِ وَي َ ْ ح َ ّر ْ
.[28
ومن جالبات رحمة الله إقام الصلة وإيتضضاء الزكضضاة والمضضر بضضالمعروف والنهضضي
ن ْ عضضن المنكضضر ،وٱل ْمؤْمنضضون وٱل ْمؤْمن ٰضضضت بعضضضه َ
مُرو َ ض َيضضأ ُ م أوْل َِيضضاء ب َْعضض ٍ ِ َْ ُ ُ ْ ُ ِ َ َ َ ُ ِ ُ َ
ن طيُعضضو َ ن ٱلّزك ٰوةَ وَي ُ َِ صل ٰوةَ وَي ُؤُْتو َ َ ّ ل ٱ ن
َ مو
ُ قيِ ُ ي و
ُ ِ َر َ ك ْ ن م ْ ل ٱ ن َ ع ن
َ ف وَي َن ْهَوْ معُْرو ِ ب ِٱل ْ َ
ِ
م ]التوبضضة،[71: كي ض ٌح ِ زي ضٌز َ ه عَ ِ ن ٱلل ّض َ ه إِ ّ م ٱلل ّض ُ مه ُ ُ ح ُس ضي َْر َ ك َ ه أ ُوَْلضئ ِ َ سول َ ُ ه وََر ُ ٱلل ّ َ
م ه ل َعَل ّك ُض ْ ن ٱلل ّض َ فُرو َ س ضت َغْ ِ والعبد بذنوبه وتقصيره فقير إلى رحمة الله ،ل َضوْل َ ت َ ْ
ن ]النمل.[46: مو َ ح ُ ت ُْر َ
ومن أعظضضم مضضا ُتسضضتجلب بضضه رحمضضة اللضضه -عبضضاد اللضضه -الرحمضضة بعبضضاده ،ففضضي
الحضضديث الصضضحيح)) :الراحمضضون يرحمهضضم الرحمضضن ،ارحمضضوا مضضن فضضي الرض
يرحمكم من في السماء(( رواه أبو داود والترمذي.
ي ومن أجل هضذا -رحمكضم اللضه -فضإن المضؤمن قضويّ اليمضان يتمّيضز بقلضب حض ّ
ن علضضى المسضضكين ،ويمضد ّ مرهف لين رحيم ،يرقّ للضعيف ،ويألم للحزين ،ويح ّ
يده إلى الملهوف ،وينفر من اليضضذاء ،ويكضضره الجريمضضة ،فهضضو مصضضدر خيضضر وبضضر
وسلم لما حوله ومن حوله.
أيها المسلمون ،وإذا كان المر كذلك فإن من أولى النضضاس وأحقهضضم بالرحمضضة
وأمّنهم بها وأولهم بها الوالدين ،فببرهما ُتستجلب الرحمة ،وبالحسان إليهمضضا
مضضا مه ُ َ
ح ْ ب ٱْر َ مةِ وَُقل ّر ّ ح َ ن ٱلّر ْ م َ ل ِ ح ٱلذ ّ ّ جَنا َ
ما َ ض ل َهُ َ ف ْ خ ِ تكون السعادة ،وَٱ ْ
صِغيًرا ]السراء.[24: ما َرب َّياِنى َ كَ َ
ثم من بعد ذلك الولد فلذات الكباد ،عن أسامة بن زيد رضي الله عنضضه قضضال:
كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه ،ويقعضضد الحسضضن علضضى فخضضذه
الخرى ،ثم يضضضمهما ثضضم يقضضول)) :اللهضضم ارحمهمضضا ،فضضإني ارحمهمضضا(( أخرجضضه
البخاري.
و ،فضضي مسضضالكهم والشاهد أن في الناس أجلفا ً تخلو قلوبهم من الرقضضة والحنض ّ
فظاظة ،وفي ألفاظهم غلظة ،قّبل رسضضول اللضضه الحسضضن والحسضضين رضضضي
الله عنهما ،وعنده القرع بن حابس ،فقال القرع :إن لي عشرةً من الولد ،ما
قّبلت منهم أحدًا ،فنظر إليه رسول الله وقضضال)) :مضضن ل َيرحضضم ل ُيرحضضم((،
وفضضي روايضضة)) :أ َوَ أملضضك أن نضضزع اللضضه الرحمضضة مضضن قلبضضك؟!(( مخضضرج فضضي
الصحيحين من حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.
ويرتبط بالوالدين والولد حق ذوي الرحام ،فالرحم مشتقة مضضن الرحمضضة فضضي
ري أن تستقيم معها في معناها ،وفي الحديث)) :الرحم شجنة مضضن مبناها ،فح ِ
الرحمة ،من وصلها وصله الله ،ومن قطعها قطعضضه اللضضه(( ،ليضضس للمسضضلم أن
يوصضضد قلبضضه وبيتضضه دون أقضضاربه ،أو يقطضضع علئقهضضم ل يسضضدي لهضضم عون ضًا ،فل
يواسيهم في ألم ،ول يبادرهم في معروف.
إن الغلظة والجفاء والقطيعة والصدود في حق ذي الرحضضم تحضضرم العبضضد بركضضة
الله وفضله ،وتعّرضه لسخط الله ومقته ،عن أبي هريرة رضي الله عنه قضضال:
سمعت رسول الله يقول)) :الرحم شجنة من الرحمضضة تقضضول :يضضا رب ،إنضضي
ي ،فيجيبهضضا :أل ترضضضين أن ُ ُقطعت ،يا رب ،إني ُ
ظلمت ،يا رب ،إني أسضضيَء إل ض ّ
أصل من وصلك ،وأقطع من قطعك؟!(( أخرجه أحمد.
ّ
ومن مواطن الرحمة إحسان معاملة الخدم ،والترفق بهم فيما يكلفون به من
خرهم أعمال ،والتجاوز عن هفواتهم ،وليحذر المرء من سطوة التصرف ،فيس ض ّ
ويسخر منهم ،فإن الله إذا ملك أحدا ً شيئا ً فاستبد بضضه وأسضضاء سضضلبه مضضا ملضضك،
وُيخشى عليه من سوء المنقلب .وهذا أنس بن مالك رضضضي اللضضه عنضضه يقضضول:
ف قط ،وما قال لي لشيء ت رسول الله عشر سنين ،فما قال لي :أ ٍ )خدم ُ
صنعُته :لضضم صضضنعته؟ ول لشضضيء تركتضضه :لضضم تركتضضه؟( رواه مسضضلم ،وعضضن أبضضي
مسعود البدري رضي الله عنه قال :كنت أضرب غلما ً لي بالسوط ،فسضضمعت
صوتا ً خلفي)) :اعلم أبا مسعود(( ،فلم أفهضضم الصضوت مضن الغضضضب ،فلمضضا دنضضا
فإذا هو رسول الله وإذا هو يقول)) :اعلم ض أبا مسعود ض أن الله أقدر عليك
منك من هذا الغلم(( ،فقلت :يا رسول الله ،هو حّر لوجه الله ،فقال)) :أما لو
لم تفعل لفحتك النار(( ،وجاءه عليه الصلة والسضضلم رجضضل يسضضأله :كضضم أعفضضو
عن الخادم؟ فقال )) :كل يوم سبعين مرة(( أخرجه أبو داود.
وفي الناس أقوام شضداد قسضاة ينتهضزون بعضض الخضدم ،فيوقعضضون بهضضم أنضضواع
الذى ،وقد شدد السلم في ذلك وغّلظ ،يقول رسضضول اللضضه )) :مضضن ضضضرب
ص منه يوم القيامة((. سوطا ً ظلما ً اقت ُ ّ
مضضن تتطلضضب حضضالتهم الرحمضضة المرضضضى وذوو العاهضضات والعاقضضات ،فهضضم وم ّ
يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة ،تعوق مسيرهم ،وتحول دون تحقيق كضضل
مقاصضضدهم ،وتضضضيق بهضضا صضضدورهم ،وتحضضرج نفوسضضهم .فلقضضد قي ّضضدتهم علُلهضضم،
واجتمع عليهم حضّر الضضداء ،مضضع مضّر الضضدواء ،فيجضضب الضضترفق بهضضم ،والحضضذر مضضن
السضضاءة إليهضضم ،أو السضضتهانة بمتطلبضضات راحتهضضم ،فضضإن القسضضوة معهضضم جضضرم
ض
ريضض ِ ج وَل َ عََلضضى ٱل ْ َ
م ِ ج وَل َ عََلى ٱل ْعَْرِج َ
حَر ٌ حَر ٌ س عََلى ٱل ْعْ َ ٰ
مى َ عظيم ،ل ّي ْ َ
ج ]النور.[61: حَر ٌ
َ
أما الصغار والطفال فإنهم محتاجون إلى عناية خاصة ،ورحمة راحمة ،فليضضس
منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ،والنفوس ذات الفطضضر السضضليمة تتعل ّضضق
بالصضضغير حضضتى يكضضبر ،والمريضضض حضضتى ُيشضضفى ،والغضضائب حضضتى يحضضضر ،وفضضي
الحديث)) :ليس منا من لضضم يرحضضم صضضغيرنا ،ويعضضرف شضضرف كبيرنضضا(( أخرجضضه
أحمد والترمذي ،وقال الترمذي" :حديث حسن صحيح".
أيها الخوة المسلمون ،وتعاليم السلم وآداب الضضدين فضضي هضضذا البضضاب تتجضضاوز
ي النسان الناطق إلى الحيوان العجم ،فجنات عضضدن تفتضضح أبوابهضضا لمضضرأة بغض ّ
سقت كلبا ً فغفر الله لها ،ونار جهنم فتحت أبوابها لمضضرأة حبسضضت هضضرة حضضتى
ماتت ،ل هي أطعمتها وسقتها ،ول هي تركتها تأكل مضضن خشضضاش الرض ،فضضإذا
كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا ،فإن الرحمضضة بالبشضضر تصضضنع العجضضائب،
وفي المقابل ،فإذا كان حبس هرة أوجضضب النضضاس ،فكيضضف بحبضضس الضضبرآء مضضن
البشر؟!
وتترّقى تعاليم ديننا في الرحمة بالبهائم حتى في حال ذبحها ،والمشضضروع مضضن
قتلها ،يقول عليه الصلة والسلم)) :إن الله كتب الحسضضان علضضى كضضل شضضيء،
فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ،وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ،ولُيحد ّ أحدكم شفرته،
وليرح ذبيحته((.
وبعد أيها الناس ،فبالرحمة تجتمع القلوب ،وبضالرفق تتضآلف النفضوس ،والقلضب
س بضألم يتبّلد مع اللهو الطويل والمرح الدائم ،ل يشعر بحاجضة محتضاج ،ول يحض ّ
متألم ،ول يشاطر في يؤس بائس ول حزن محزون ،جاء رجضضل إلضضى النضضبي
ب أن يليضضن قلبضضك؟! أرحضضم اليضضتيم ،وامسضضح يشكو قسوة قلبه فقال له)) :أتح ض ّ
ن قلبك(( ،والرحمة ل ُتنزع إل من شضضقي عيضضاذا رأسه ،وأطعمه من طعامك يل ْ
بالله.
ة َرب ّض َ َ
مَناسض ْ ن قَ َ حض ُك نَ ْ مض َ
ح َ
ن َر ْ
مو َسض ُق ِ م يَ ْأعوذ بالله من الشيطان الرجيضضم :أهُض ْ
ّ م ِفى ٱل ْ َ
خضذ َ ت لي َت ّ ِ ج ٰض ض ٍ م فَضوْقَ ب َعْض ٍ
ض د ََر َ ضه ُ ْحي َ ٰوةِ ٱلد ّن َْيا وََرفَعَْنا ب َعْ َ مِعي َ
شت َهُ ْ م ّب َي ْن َهُ ْ
ن ]الزخرف.[22: مُعو َج َما ي َ ْ
م ّخي ٌْر ّك َ ة َرب ّ َ
م ُ
ح َ ً
خرِي ّا وََر ْ
س ْ ً
ضُهم ب َْعضا ُ ب َعْ ُ
نفعني اللضضه وإيضضاكم بضضالقرآن العظيضضم ،وبهضضدي محمضضد ،وأقضضول قضضولي هضضذا،
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنضضب وخطيئة ،فاسضضتغفروه
إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمضضد للضضه ،يعلضضم مكنونضضات الصضضدور ،ومخفيضضات الضضضمائر ،أحمضضده سضضبحانه
وأشكره على ما أولى من وافر النعم ،والفضل المتكاثر ،وأشضضهد أن ل إلضضه إل
الله وحده ل شريك له ،هو الول والخر ،والباطن والظاهر ،وأشضضهد أن سضضيدنا
ونبينا محمدا ً عبده الله ورسوله المطّهر الطاهر ،كريضضم الصضضل ،زكضضي المضضآثر،
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلضضى آلضضه وأصضضحابه أولضضي الفضضضائل والمفضضاخر،
والتابعين ومن تبعهم بإحسان ،وعلى درب الحق سائر.
أما بعد:
فيا عباد الله ،الرحمة ليست حنانا ل عقل معه ،وليسضضت شضضفقة تتنكضضر للعضضدل
خُلق يرعى الحقوق كّلها ،قد تأخذ الرحمة صورةَ الحضضزم والنظام ،كل ،بل إنها ُ
حين يؤخذ الصغير إلى المدرسة من أجل التربية وطلضضب العلضضم ،فُيلضضزم بضضذلك
ركوا وما أرادوا لم يحسنوا صنعًا ،ولم يبنوا ف عن اللعب كفًا ،ولو ت ُ ِ إلزامًا ،وُيك ّ
مجدًا.
والطبيب يمّزق اللحم ويهشم العظم ويبتر العضو ،وما فعل ذلك ض أحسن الله
إليه ض إل رحمة بالمريض وعلجه ،ناهيكم بإقامضضة الحضضدود ،والخضضذ علضضى أيضضدي
السفهاء ،وأطرهم على الحق أطرًا ،فهضضي الرحمضضة فضضي مآلتهضضا ،والحيضضاة فضضي
ُ
ن ]البقضضرة: قضضو َ م ت َت ّ ُ ب ل َعَل ّك ُض ْ حي َ ٰوةٌ يأوِلي ٱلل ْب َٰض ِ ص َ صا ِ ق َ م ِفي ٱل ْ ِ كمالتها ،وَل َك ُ ْ
.[179
جع والشفقة على المجرمين تخفي أشد ّ أنواع القسوة على الجماعة ،إنهضا تشض ّ
الشواذ على الجرام ،والشفقة على المجرمين سماها القضضرآن الكريضضم رأفضضة،
مضضا َرأ ْفَ ض ٌ
ة م ب ِهِ َ خ ضذ ْك ُ ْ ولم يسمها رحمة ،فقال في عقاب الزناة والزواني :وَل َ ت َأ ْ ُ
ه ]النور.[2: ن ٱلل ّ ِ ِفى ِدي ِ
إن القسوة التي استنكرها السلم جفاف في النفس ،ل ترتبط بتحقيق عضضدل،
ول بمسلك إنصاف ،ولكنها شدة ٌ وانحراف في دائرة مجردة وهوى مضل.
أيها المسلمون ،وقد يستوقف المتأمل معنى الشدة على الكافرين في مقابل
همعَضضض ُ ن َ ذي َل ٱلل ّهِ وَٱل ّ ِ سو ُ مد ٌ ّر ُ ح ّ م َ ّ الرحمة بالمؤمنين في قول الله عز وجل:
م ]الفتضضح ،[29:والحضضق أن السضضلم قضضد جضضاء داء عََلى ٱل ْك ُ ّ َ
ماء ب َي ْن َهُ ض ْح َفارِ ُر َ ش ّأ ِ
بالرحمة العامة ،ل ُيستثنى منهضضا إنسضضان ول دابضضة ول طيضضر ،بيضضد أن هنضضاك مضضن
الناس والدواب من يكون مصدر خطر ومثار ُرهب فيكون من رعايضضة مصضضلحة
ة بضضه الجماعة كلها أن ُيحبس شضضره وُيكضضف ضضضرره ،بضضل إن الشضضدة معضضه رحمض ً
وبغيره.
السلم رسالة خير وسلم ورحمة للبشرية كلها ،بل للضضدنيا كلهضضا ،ولكضضن ذئاب
البشر أبوا إل اعتراض الرحمة المرسلة ،ووضع العوائق فضضي طريقهضضا حضضتى ل
تصل إلى الناس ،فيهلكوا في أودية الحيرات والجهالة ،فلم يضضك بضد ّ مضضن إزالضضة
هذه العوائق ،والغلظ لصضضحابها ،وينقطضضع تعّرضضضهم وتحضضديهم تشضضملهم هضضذه
الرحمة العامة ،فليس في الرحمة قصور ،ولكضضن القصضضور فيمضضن حضضرم نفسضضه
سضأ َك ْت ُب َُهاىء فَ َ شض ْ ل َ ت ك ُض ّ س ضع َ ْ مِتى وَ ِ ح َ متنّزلتها ،اقرؤوا قول الله عز وجل :وََر ْ
ن ن ي َت ّب ِعُضضو َ ذي َ ن ٱل ّض ِ من ُضضو َ هم ِبضَئاي َٰضت َِنا ي ُؤْ ِ ن ُذي َ كض ٰوةَ وَٱل ّ ِ ن ٱلّز َ ن وَي ُؤُْتو َ قو َ ن ي َت ّ ُذي َ ل ِل ّ ِ
ى ]العراف.[157 ،156: م ّ ى ٱل ّ ل ٱلن ّب ِ ّ سو َ ٱلّر ُ
أل فضضاتقوا اللضضه رحمكضضم اللضضه ،وتواصضضوا بضضالحق ،وتواصضضوا بالصضضبر و تواصضضوا
بالمرحمة.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة ،الرحمة المهداة ،والنعمضضة المسضضداة
محمد رسول الله ،فقد أمركم بذلك ربكضضم جضضل فضضي عله ،فقضضال فضضي محكضضم
ن عَل َضضى ص ضّلو َ ه يُ َ كض ضت َ ُ مل َ ٰضئ ِ َه وَ َ ن ٱلل ّض َ تنزيله ،وهو الصادق في قيله قول ً كريمًا :إ ِ ّ
سِليما ً ]الحزاب.[56: َ
موا ْ ت َ ْ سل ّ ُ
صّلوا ْ عَل َي ْهِ وَ َ مُنوا ْ َ ن ءا َذي َ ى يٰأي َّها ٱل ّ ِ ٱلن ّب ِ ّ
اللهم صضضل وسضضلم وبضضارك علضضى عبضضدك ورسضضولك محمضضد وعلضضى آلضضه الطيضضبين
الطاهرين...