You are on page 1of 8

‫الوصية الجامعه‬

‫لخيرى الدنيا والخرة‬

‫تأليف‬

‫شيخ السلم إبن تيمية‬

‫الطبعة الثالثة‬
‫‪1990‬م ـ ‪1410‬هـ‬

‫دار البشائر السلمية‬


‫بيروت لبنان‬

‫‪------------------------------------------‬‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الحمد ل رب العالمين‪ ،‬والصلة والسلم على رسوله الصادق المين‪ .‬أما بعد‪ ،‬فهذه رسالة شيخ‬
‫اإسلم ابن تيمية رحمه ال تعالى والتي أجاب فيها سؤال من سأله الوصية‪ .‬فجمع له فيها ما يقيم‬
‫شانه في الدنيا والخرة على اختصار وإيجاز‪ ،‬فجاءت الرسالة جامعة ممتعة نافعة‪.‬‬

‫ولّما كانت هذه الوصية حاوية على فوائد كثيرة‪ ،‬كان من المفيد نشرها بعد مراجعة أصولها‬
‫وتخريج آياتها وأحاديثها‪ .‬وستكون واحدة في سلسلة من رسائل ووصايا علماء السلم الجلء‪.‬‬

‫وال نسأل أن ينفع بها وأن يوفق المسلمين للخذ بمضمونها‪.‬‬

‫الناشر‬

‫هذا هو سؤال أبي القاسم المغربي‪:‬‬

‫يتفضل الشيخ المام‪ ،‬بقية السلف‪ ،‬وقدوة الخلف‪ ،‬أعلم من لقيت ببلد‬
‫المشرق والمغرب‪ ،‬تقي الدين أو العباس أحمد ابن تيمية بأن يوصيني بما‬
‫يكون فيه صلح ديني ودنياي‪ ،‬ويرشدني الى كتاب يكون عليه اعتمادي في‬
‫علم الحديث‪ ،‬وكذلك في غيره من العلوم الشرعية‪ ،‬وينبهني على أفضل‬
‫العمال الصالحة بعد الواجبات‪ ،‬ويبين لي أرجح المكاسب‪ .‬كل ذلك على‬
‫قصد اليماء والختصار‪ ،‬والله تعالى يحفظه‪ ،‬والسلم الكريم عليه ورحمة‬
‫الله وبركاته‪.‬‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الحمد ل رب العالمين‪ .‬أما الوصية‪ ،‬فما أعلم وصية أنفع من وصية ال ورسوله لمن عقلها‬
‫ن ات ُّقوا ْ الل َّه{‬ ‫قد وصينا ال ّذين ُأوتوا ْ ال ْكتاب من قَبل ِك ُم وإياك ُ َ‬
‫مأ ِ‬‫ْ ْ َ ِّ ْ‬ ‫َِ َ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ‬ ‫واتبعها‪ .‬قال تعلى‪ }:‬وَل َ َ ْ َ ّ ْ َ‬
‫النساء ‪.131‬‬

‫ووصى النبي صلى ال عليه وسلم معاذا لما بعثه الى اليمن فقال‪ ":‬يا معاذ‪ :‬اتق ال حيثما كنت‪،‬‬
‫واتبع الحسنة السيئة تمحها‪ ،‬وخالق الناس بخلق حسن" *رواه المام أحمد في مسنده ]‪.[266\5‬‬
‫وكان معاذ رضي ال من النبي صلى ال عليه وسلم بمنزلة علّية‪ ،‬فإنه قال له‪ " :‬يا معاذ‪ :‬وال‬
‫إني لحبك" * رواه أبو داود]‪ ،[1522‬والنسائي ] ‪ ،*[53\3‬وكان يردفه وراءه‪ .‬وروي فيه أنه‬
‫أعلم المة بالحلل والحرام * جزء من حديث طويل رواه الترمذي ] ‪ [3791‬وابن ماجه ]‬
‫‪ ،*[154‬وأنه يحشر امام العلماء برتوة * كما في طبقات ابن سعد ]‪ ،[347 :2‬وابن حجر في‬
‫الصابة ]‪ * .[427\3‬أي بخطوة‪ .‬ومن فضله انه بعثه النبي صلى ال عليه وسلم مبلغا عنه‪* ،‬‬
‫كما في حديث البخاري ]‪ 1395‬فتح الباري[ *‪ ،‬داعيا ومفقها وحاكما الى أهل اليمن‪.‬‬

‫وكان يشبهه بإبراهيم الخليل عليه السلم‪ ،‬وإبراهيم إمام الناس‪ .‬وكان ابن مسعود رضي ال عنه‬
‫يقول‪ :‬إن معاذا كان أمة قانتا ل حنيفا ولم يك من المشركين‪ ،‬تشبيها له بإبراهيم‪ * .‬الصابة ] ‪\3‬‬
‫‪.[427‬‬

‫ثم إنه صلى ال عليه وسلم وصاه هذه الوصية‪ ،‬فُعلم أنها جامعة‪ ،‬وهي كذلك لمن عقلها‪ ،‬مع أنها‬
‫تفسير الوصية القرآنية‪.‬‬

‫أما بيان جمعها‪ ،‬فلن العبد عليه حقان‪ :‬حق ال عز وجل‪ ،‬وحق لعباده‪ .‬ثم الحق الذي عليه ل بد‬
‫ي عنه‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪":‬‬ ‫أن يخل ببعضه أحيانا‪ ،‬إما بترك مأمور به‪ ،‬أو فعل منه ّ‬
‫اتق ال حيثما كنت"‪ ،‬وهذه كلمة جامعة‪ ،‬وفي قوله‪ ":‬حيثما كنت"‪ ،‬تحقيق لحاجته الى التقوى في‬
‫السر والعلنية‪ .‬ثم قال‪ ":‬واتبع السيئة الحسنة تمحها"‪ ،‬فإن الطبيب متى تناول المريض شيئا‬
‫مضرا أمره بما يصلحه‪ .‬والذنب للعبد كأنه أمر حتم‪ .‬فالكّيس هو الذي ل يزال يأتي من الحسنات‬
‫بما يمحو السيئات‪ .‬وإنما قدم في لفظ الحديث "السيئة" وإن كانت مفعولة‪ ،‬لن المقصود هنا‬
‫محوها ل فعل الحسنة فصار كقوله في بول العرابي‪" :‬صبوا عليه ذنوبا من ماء" * أبو داود ]‬
‫‪ [380‬وأصله في الصحيحين‪.‬‬

‫وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات‪ ،‬فإنه أبلغ في المحو‪ .‬والذنوب يزول موجبها‬
‫بأشياء‪ :‬أحدها التوبة‪ ،‬والثاني الستغفار من غير توبة‪ .‬فإن ال تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن‬
‫لم يتب‪ ،‬فإذا اجتمعت التوبة والستغفار فهو الكمال‪ ،‬الثالث‪ :‬العمال الصالحة المكفرة‪ .‬إما‬
‫الكفارات المقدرة كما يكّفر المجامع في رمضان والمظاهر ولمرتكب لبعض محظورات الحج أو‬
‫تارك بعض واجباته أو قاتل الصيد‪ ،‬بالكفارات المقدرة وهي أربعة أجناس‪ :‬هدي وعتق وصدقة‬
‫وصيام‪ .‬وإما الكفارات المطلقة كما قال حذيفة لعمر‪ :‬فتنة الرجل في أهله وماله وولده يكفرها‬
‫ل على ذلك القرآن‬‫الصلة والصيام والصدقة والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬وقد د ّ‬
‫والحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس والجمعة والصيام والحج وسائر العمال التي‬
‫غفر له‪ ،‬أو غفر له ما تقدم من ذنبه‪ ،‬وهي كثيرة لمن تلقاها من‬
‫يقال فيها‪ :‬من قال كذا وعمل كذا ُ‬
‫السنن وخصوصا ما صنف في فضائل العمال‪.‬‬
‫واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالنسان الحاجة إليه‪ ،‬فإن النسان من حين يبلغ‪ ،‬خصوصا في‬
‫هذه الزمنة ونحوها ـ من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه ـ فإن النسان الذي‬
‫ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بعدة أشياء‪ ،‬فكيف بغير هذا؟‬

‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم من حديث أبي سعيد رضي ال عنه‪ ":‬لتتبعن‬
‫ب لدخلتموه"‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول ال‪،‬‬ ‫سنن من كان قبلكم حذو القّذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ض ّ‬
‫آليهود والنصارى؟ قال‪ ":‬فمن؟"‪ .‬البخاري ] ‪ [7320‬ومسلم [ ‪ .[2669‬هذا خبر تصديقه في قوله‬
‫ذي‬‫كال ّ ِ‬
‫م َ‬
‫ضت ُ ْ‬
‫خ ْ‬ ‫خل َقِهِ ْ‬
‫م وَ ُ‬ ‫من قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫مت َعَ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫م كَ َ‬
‫ما ا ْ‬ ‫خل َقِك ُ ْ‬
‫مت َعُْتم ب ِ َ‬ ‫تعالى‪َ }:‬فا ْ‬
‫ست َ ْ‬
‫ضوا ْ { التوبة ‪ ،.69‬ولهذا شواهد في الصحاح والحسان‪.‬‬ ‫خا ُ‬
‫َ‬

‫وهذا أمر قد سري في المنتسبين الى الدين من الخاصة‪ ،‬كما قال غير واحد من السلف منهم ابن‬
‫عيينة‪ .‬فإن كثيرا من احوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين الى العلم‪ ،‬وكثيرا من أحوال‬
‫النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين الى الدين‪ ،‬كما يبصر ذلك من فهم دين السلم الذي بعث‬
‫ال به محمدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم نزله على أحوال الناس‪.‬‬

‫وإذا كان المر كذلك فمن شرح ال صدره للسلم فهو على نور من ربه‪ ،‬وكان ميتا فأحياه ال‬
‫وجعل له نورا يمشي به بين الناس‪ ،‬ل بد أن يلحظ أحوال الجاهلية وطريق المتين المغضوب‬
‫عليهم والضالين من اليهود والنصارى‪ ،‬فيرى إن قد ابتلي ببعض ذلك‪.‬‬

‫فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخص النفوس من هذه الورطات وهو إتباع السيئات‬
‫الحسنات‪ .‬والحسنات ما ندب ال إليه على لسان خاتم النبيين من العمال والخلق والصفات‪.‬‬

‫ومما يزيل موجب الذنوب المصائب المكّفرة‪ ،‬وهي كل ما يؤلك من هم أو حزن أو أذى في مال‬
‫أو عرض أو جسد أو غير ذلك‪ ،‬لكن ليس هذا من فعل العبد‪.‬‬

‫فلما قضى بهاتين الكلمتين‪ :‬حق ال من عمل الصالح وإصلح الفاسد‪ ،‬قال‪ ":‬وخالق الناس بخلق‬
‫حسن" وهو حق الناس‪ .‬وجماع الخلق الحسن مع الناس أن تصل من قطعك بالسلم والكرام‬
‫والدعاء له والستغفار والثناء عليه والزيارة له‪ ،‬وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال‪،‬‬
‫وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عض‪ .‬وبعض هذا واجب وبعضه مستحب‪.‬‬

‫وأما الخلق العظيم الذي وصف ال به محمدا صلى ال عليه وسلم فهو الدين الجامع لجميع ما‬
‫أمر ال به مطلقا‪ ،‬هكذا قال مجاهد وغيره وهو تأويل القرآن‪ ،‬كما قالت عائشة رضي ال عنها‪:‬‬
‫كان خلقه القرآن‪ * ،‬رواه مسلم ]‪ [746‬بنحوه في جملة حديث طويل*‪ ،‬وحقيقته المبادرة الى‬
‫امتثال ما يحبه ال تعالى بطيب نفس وانشراح صدر‪.‬‬

‫واما بيان أن هذا كله في وصية ال‪ ،‬فهو أن اسم تقوى ال يجمع فعل كل ما أمر ال به إيجابا‬
‫واستحبابا‪ ،‬وما نهى عنه تحريما وتنزيها؛ وهذا يجمع حقوق ال وحقوق العباد‪ .‬لكن لما كان تارى‬
‫سرا في حديث معاذ‪ ،‬وكذلك‬ ‫يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية للنكاف عن المحارم‪ ،‬جاء مف ّ‬
‫في حديث أبي هريرة رضي ال عنهما الذي رواه الترمذي وصححه * انظر تحفة الحوذي ]‬
‫‪ ،[2072‬قيل‪ :‬يا رسول ال ما اكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال‪ ":‬تقوى ال وحسن الخلق"‪ .‬قيل‪:‬‬
‫وما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال‪ ":‬الجوفان ‪ :‬الفم والفرج"‪.‬‬
‫وفي الصحيح عن عبد ال بن عمر رضي ال عنهما قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪":‬‬
‫أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" * لم أجد بعد كثرة التتبع هذا الحديث من رواية عبدال بن‬
‫عمر رضي ال عنهما وإنما رواه أبو داود ]‪ [4682‬بهذا اللفظ من رواية أبي هريرة رضي ال‬
‫عنه وصححه الحاكم ورواه الترمذي بزيادة ]‪ 1172‬تحفة الحوذي[ عنه أيضا وصححه‪.*.‬‬
‫فجعل كمال اليمان في كمال حسن الخلق‪ .‬ومعلوم أن اليمان كله تقوى ال‪ ،‬وتفصيل أصول‬
‫التقوى وفروعها ل يحتمله هذا الموضع‪ ،‬فإنها الدين كله‪ ،‬لكن ينبوع الخير وأصله‪ :‬إخلص العبد‬
‫ن )‪ {(5‬الفاتحة‪ ،‬وفي قوله‪:‬‬ ‫ست َِعي ُ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫ك ن َعْب ُد ُ وإ ِّيا َ‬‫لربه عبادة واستعانة كما في قوله‪ }:‬إ ِّيا َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ب )‪ {(10‬الشورى‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ه{ هود ‪ ،123‬وفي قوله‪ }:‬ع َلي ْهِ ت َوَكل ُ‬
‫ت وَإ ِلي ْهِ أِني ُ‬ ‫ل ع َل َي ْ ِ‬
‫} َفاع ْب ُد ْه ُ وَت َوَك ّ ْ‬
‫شك ُُروا ل َُه{ العنكبوت ‪ ،17‬بحيث يقطع العبد‬ ‫دوه ُ َوا ْ‬ ‫عند َ الل ّهِ الّرْزقَ َواع ْب ُ ُ‬ ‫وفي قوله‪َ }:‬فاب ْت َُغوا ِ‬
‫تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعا بهم أو عمل لجلهم‪ ،‬ويجعل همته ربه تعالى‪ .‬وذلك بملزمة‬
‫الدعاء له في كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة غير ذلك‪ ،‬والعمل له بكل محبوب‪ .‬ومن أحكم‬
‫هذا فل يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك‪.‬‬

‫وأما ما سألت عنه من أفضل العمال بعد الفرائض فإنه يختلف بإختلف الناس فيما يقدرون‬
‫عليه وما يناسب أوقاتهم‪ ،‬فل يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد‪ ،‬لكن مما هو الجماع بين‬
‫العلماء باله وأمره‪ :‬إن ملزمة ذكر ال دائما هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة‪ ،‬وعلى‬
‫ل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم ‪ ":‬سبق المفّردون" * ]‪ ،*[2676‬قالوا‪ :‬يا رسول ال‪،‬‬ ‫ذلك د ّ‬
‫ومن المفّردون؟ قال‪ ":‬الذاكرون ال كثيرا والذاكرات"‪ .‬وفيما رواه أبو داود عن أبي الدرداء‬
‫رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ ":‬أل أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند‬
‫مليككم‪ ،‬وأرفعها في درجاتكم‪ ،‬وخير لكم من إعطاء الذهب والورق‪ ،‬ومن أن تلقوا عدوكم‬
‫فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟"‪ ،‬قالوا‪ :‬بلى يا رسول ال‪ ،‬قال‪ ":‬ذكر ال" * هذا الحديث لم‬
‫خرجه أبو داود في سننه ولكن الترمذي ]‪ 3437‬تحفة الحوذي[ وابن ماجه ] ‪ .[3790‬والدلئل‬ ‫يّ‬
‫القرآنية واليمانية بصرا وخبرا ونظرا على ذلك كثيرة‪ .‬وأقل ذلك أن يلزم العبد الذكار‬
‫المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين صلى ال عليه وسلم كالذكار المؤقتة‪ :‬في أول النهار‬
‫وآخره‪ ،‬وعند أخذ المضجع‪ ،‬وعند الستيقاظ من المنام‪ ،‬وأدبار الصلوات‪ ،‬والذكار المقّيدة‪ :‬مثل‬
‫ما يقال عند الكل والشرب واللباس والجماع‪ ،‬ودخول المنزل والمسجد والخلء والخروج من‬
‫ذلك‪ ،‬وعند المطر والرعد‪ ،‬الى غير ذلك‪ ،‬وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل يوم وليلة‪ * .‬ومن‬
‫احسنها وأكثرها استيعابا كتاب الذكار لللمام الرباني محيى الدين يحيى النووي رحمه ال وقد‬
‫اختصره المؤلف وانتقى منه منتخبات في كتابه الكلم الطيب‪ *.‬ثم ملزمة الذكر مطلقا‪ ،‬وأفضله ل‬
‫اله ال ال‪ .‬وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل سبحان ال والحمد ل وال أكبر ول حول ول‬
‫قوة إل بال أفضل منه‪.‬‬

‫ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقّرب الى ال تعالى من تعلم علم وتعليمه‪،‬‬
‫وأمر بمعروف ونهي عن منكر فهو من ذكر ال‪ .‬ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء‬
‫الفرائض‪ ،‬أو جلس مجلسا يتفقه أو يفقه فيه الفقه الذي سماه ال ورسوله فقها‪ ،‬فهذا أيضا من‬
‫أفضل ذكر ال‪ .‬وعلى ذلك إذا تدبرت ولم تجد بين الولين في كلماتهم في أفضل العمال كبير‬
‫اختلف‪.‬‬

‫وما اشتبه أمره على العبد فعليه بالستخارة المشروعة‪ ،‬فما ندم من استخار ال تعالى‪ .‬وليكثر‬
‫من ذلك ومن الدعاء‪ ،‬فإنه مفتاح كل خير‪ ،‬ول يعجل فيقول قد دعوت فلم يستجب لي‪ .‬وليتحّر‬
‫الوقات الفاضلة كآخر الليل وأدبار الصلوات وعند الذان‪ ،‬ووقت نزول المطر ونحو ذلك‪.‬‬
‫واما أرجح المكاسب‪ :‬فالتوكل على ال‪ ،‬والثقة بكفايته‪ ،‬وحسن الظن به‪ .‬وذلك أنه ينبغي للمهتم‬
‫بأمر الرزق أن يلجأ فيه الى ال ويدعوه‪ ،‬كما قال سبحانه فيما يأثر عن نبّيه‪ ":‬كلم جائع إل من‬
‫أطعمته فاستطعموني أطعمكم‪ .‬يا عبادي كلكم عار إل من كسوته فاستكسوني أكسكم"* رواه‬
‫مسلم ]‪ .*[2577‬وفيما رواه الترمذي عن أنس رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ":‬ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع‪ ،‬فإنه إن لم ييسره له لم يتيسر" *‬
‫]‪ 3682‬تحفة الحوذي[ ‪ *.‬وقد قال ال تعالى في كتابه‪ }:‬وا َ‬
‫ضل ِِه { النساء ‪،32‬‬ ‫من فَ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫سأُلوا ْ الل ّ َ‬‫َ ْ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ل اللهِ َواذ ْكُروا‬ ‫من فَ ْ‬ ‫َْ‬ ‫صَلة ُ َفانت َ ِ‬ ‫ذا قُ ِ‬ ‫وقال سبحانه‪ }:‬فَإ ِ َ‬
‫ض ِ‬ ‫ض َواب ْت َُغوا ِ‬ ‫شُروا ِفي الْر ِ‬ ‫ت ال ّ‬
‫ضي َ ِ‬
‫ن )‪ {(10‬الجمعة‪ ،‬وهذا وإن كان في الجمعة فمعناه قائم في جميع‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫م تُ ْ‬ ‫ه ك َِثيرا ً ل ّعَل ّك ُ ْ‬‫الل ّ َ‬
‫الصلوات‪ .‬ولهذا ـ وال أعلم ـ أمر النبي صلى ال عليه وسلم للذي يدخل المسجد أن يقول‪ ":‬اللهم‬
‫اقتح لي أبواب رحمتك" *رواه مسلم ] ‪ ،[713‬وإذا خرج أن يقول‪ ":‬اللهم أني أسألك من فضلك"‬
‫دوهُ‬‫عند َ الل ّهِ الّرْزقَ َواع ْب ُ ُ‬ ‫*رواه مسلم ]‪ .[713‬وقد قال الخليل صلى ال عليه وسلم‪َ }:‬فاب ْت َُغوا ِ‬
‫شك ُُروا ل َُه { العنكبوت ‪ ،17‬وهذا أمر‪ ،‬والمر يقتضي اليجاب‪ .‬فالستعانة بال واللجوء اليه‬ ‫َوا ْ‬
‫في أمر الرزق وغيره أصل عظيم‪.‬‬

‫ثم ينبغي له أن ياخذ المال بسخاوة ليبارك له فيه‪ ،‬ول يأخذه بإشراف وهلع‪ ،‬بل يكون المال عنده‬
‫بمنزلة الخلء الذي يحتاج اليه من غير أن يكون له في القلب مكانة‪ ،‬والسعي فيه إذا سعى‬
‫كإصلح الخلء‪ .‬وفي الحديث المرفوع رواه الترمذي وغيره‪ ":‬من أصبح والدنيا همه شتت ال‬
‫عليه شمله‪ ،‬وفرق عليه ضيعته‪ ،‬ولم ياته من الدنيا إل ما كتب له‪ .‬ومن أصبح والخرة أكبر هّمه‬
‫جمع ال عليه ما شمله‪ ،‬وجعل غناه في قلبه‪ ،‬وأتته الدنيا وهي راغمة" * ]تحفة الحوذي ‪[2583‬‬
‫وفي إسناده يزيد الرقاشي وهو ضعيف كما قال الحافظ‪ .‬وأخرجه ابن ماجه من طرق أخرى‬
‫صحيحة ]‪ [4105‬كما نقله المحقق الستاذ محمد فؤاد عبدالباقي عن الزوائد‪*.‬‬
‫وقال بعض السلف‪ :‬أنت محتاج الى الدنيا وأنت الى نصيبك من الخرة أحوج‪ ،‬فإن بدأت بنصيبك‬
‫ن‬ ‫ت ال ْ ِ‬
‫ج ّ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ق ُ‬ ‫ما َ‬‫من الخرة مر على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاما‪ .‬قال ال تعالى‪ }:‬وَ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫و‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه هُ َ‬ ‫ن )‪ (57‬إ ِ ّ‬ ‫ما أِريد ُ أن ي ُط ْعِ ُ‬
‫مو ِ‬ ‫ق وَ َ‬
‫من ّرْز ٍ‬
‫من ُْهم ّ‬
‫ما أِريد ُ ِ‬
‫ن )‪َ (56‬‬ ‫دو ِ‬ ‫س إ ِّل ل ِي َعْب ُ ُ‬
‫لن َ‬‫َوا ْ ِ‬
‫ن )‪ {(58‬الذاريات‪.‬‬ ‫قوّةِ ال ْ َ‬
‫مِتي ُ‬ ‫ذو ال ْ ُ‬ ‫الّرّزاقُ ُ‬

‫فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك فهذا مختلف‬
‫ن للنسان جهة فليستخر ال تعالى فيها‬ ‫باختلف الناس‪ ،‬ول أعلم في ذلك شيئا عاما‪ ،‬لكن إذا ع ّ‬
‫الستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن فيها من البركة ما ل يحاط به‪ .‬ثم ما‬
‫تيسر له فل يتكلف غيره إل أن يكون منه كراهة شرعية‪ * .‬روى البخاري ]‪ 1162‬فتح الباري[‬
‫عن جابر بن عبد ال رضي ال عنهما قال‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يعلمنا الستخارة‬
‫في المور كلها‪ ،‬كما يعلمنا السور من القرآن‪ ،‬يقول‪ ":‬إذا هّم أحدكم بالمر فليركع ركعتين من‬
‫غير الفريضة ثم ليقل‪ :‬اللهم إني أستخيرك بعلمك‪ ،‬وأستقدرك بقدرك‪ ،‬وأسألك من فضلك العظيم‪.‬‬
‫فإنك تقدر ول أقدر‪ ،‬وتعلم ول أعلم‪ ،‬وأنت علم الغيوب‪ .‬اللهم إن كنت تعلم أن هذا المر خير لي‬
‫في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال‪ :‬بعاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي‪ ،‬ويسره لي‪ ،‬ثم بارك‬
‫لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا المر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال‪ :‬عاجل‬
‫أمري وآجله ـ فاصرفه عني‪ ،‬واصرفني عنه‪ .‬واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به"‪ .‬قال‪":‬‬
‫ويسمي حاجته"‪.‬‬

‫وأما ما تعتمد عليه من الكتب والعلوم فهذا باب واسع‪ ،‬وهو أيضا يختلف باختلف نشء النسان‬
‫في البلد‪ ،‬فقد يتيسر له في بعض البلد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه ما ل يتيسر له في بلد‬
‫آخر‪ ،‬لكن جماع الخير أن يستعين بال سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فإنه هو الذي يستحق أن ُيسّمى علما‪ ،‬وما سواه إما أن يكون علما فل يكون نافعا‪ ،‬وإما أن‬
‫سّمي به‪ .‬ولئن كان علما نافعا فل بد أن يكون في ميراث محمد صلى ال عليه‬ ‫ل يكون علما وإن ُ‬
‫وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه‪ .‬ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر‬
‫كلمه‪ .‬فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فل يعدل عنه فيما بينه وبين ال تعالى ول مع‬
‫الناس إذا أمكنه ذلك‪.‬‬

‫وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس فليدع ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي ال‬
‫عنها‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقول إذا قام يصلي من الليل‪ ":‬اللهم رب جبريل‬
‫وميكائيل وإسرافيل‪ ،‬فاطر السموات والرض‪ ،‬عالم الغيب والشهادة‪ ،‬أنت تحكم بين عبادك فيما‬
‫كانوا فيه يختلفون‪ ،‬اهدني لما اختلق فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم"‪.‬‬
‫]مسلم ‪ .[770‬فإن ال تعالى قد قال فيما رواه عنه رسوله‪ :‬يا عبادي كلكم ضال إل من هديته‬
‫فاستهدوني أهدكم"‪.‬‬

‫سره ال سبحانه‪ .‬وما في‬ ‫وأما وصف الكتب والمصنفين‪ ،‬فقد سمع منا في أثناء المذاكرة ما ي ّ‬
‫الكتب المصنفة المبوبة كتاب أنفع من صحيح محمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬لكن هو وحده ل يقوم‬
‫بأصول العلم ول يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم‪ ،‬إذ ل بد من معرفة أحاديث أخر‬
‫وكلم أهل العلم في المور التي يختص بعلمها بعض العلماء‪ .‬وقد أوعبت المة في كل فن من‬
‫فنون العلم إيعابا‪ ،‬فمن نور ال قلبه هداه بما يبلغه من ذلك‪ ،‬ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إل‬
‫حيرة وضلل‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم لبن لبيد النصاري‪ ":‬أوليست التوراة‬
‫والنجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا تغني عنهم؟"‪* .‬رواه الترمذي ]تحفة الحوذي ‪.[2791‬‬

‫فنسأل ال العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد‪ ،‬ويلهمنا رشدنا‪ ،‬ويقينا شّر أنفسنا‪ ،‬وان ل يزيغ قلوبنا‬
‫بعد إذ هدانا‪ ،‬ويهب لنا من لدنه رحمه إنه هو الوهاب‪.‬‬

‫والحمد ل رب العالمين وصلواته على أشرف المرسلين‪.‬‬

‫المراجع المعزو إليها في التعليق‪:‬‬

‫الذكار للمام النووي‪.‬‬


‫الصابة في تمييز الصحابة لبن حجر العسقلني‪.‬‬
‫تحفة الحوذي شرح سنن الترمذي للمباركفوري‪.‬‬
‫الترغيب والترهيب للحافظ المنذري‪.‬‬
‫التيسير بشرح الجامع الصغير للعلمة المناوي‪.‬‬
‫الجامع الصغير للسيوطي‪.‬‬
‫سنن ابن ماجه‪ ،‬تحقيق الستاذ محمد فؤاد عبدالباقي‪.‬‬
‫سنن أبي داود‪ ،‬تحقيق الشيخ محمد محيى الدين عبدالحميد‪.‬‬
‫سنن النسائي‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي‪.‬‬
‫طبقات ابن سعد‪.‬‬
‫فتح الباري بشرح صحيح البخاري لبن حجر العسقلني‪.‬‬
‫فيض القدير بشرح الجامع الصغير للمناوي‪.‬‬
‫الكلم الطيب للمام ابن تيمية‪.‬‬
‫مجموعة الرسائل المنيرية‪.‬‬
‫مسند المام أحمد‪.‬‬

You might also like