You are on page 1of 3

‫"النص الديني" وإشكالية إرتباطه بالوحي المتعالي والتدني البشري‬

‫"محمد أركون و نصر حامد" نموذجا‬

‫كتب‪ :‬محمد رضا اللواتي ‪mohammed@alroya.net‬‬

‫يعترف العديد ممن يكتب في علم األديان واالنتربولوجيا وصلته بالميتافيزيقيا بشكل عام بأن إشكالية العالق ة بين‬
‫"الوحي" وبين "البشر" ال تزال عصية على االدراك‪ .‬إذ كيف يتمحور العالي في الداني دون أن يفقد شيئا من علوه‬
‫وكيف يستطيع الداني أن يحتفظ بما تلقاه من العالي دون أن يصبغ عليه مفردات دنوه من جهل وغيره؟ ومن أشهر‬
‫من أثاروا هذه االشكالية دون أن يعالجوها‪ ،‬وإنما اكتفوا بإثارتها ومضوا في عملية تأسيس لإلش كالية في الفك ر‬
‫الديني وسربوها في أذهان الناس هما كل من الدكتور "نصر حامد أبو زيد" و "الدكتور محمد أركون" الذي ع ده‬
‫مترجمه الشهير "هاشم الصالح" أعظم مصلح في االسالم! فهذا الث اني‪ ،‬ف رق بين العق ل وبين ال وحي تفرق ة‬
‫ابستمولوجية خطيرة‪ ،‬إذ جعلهما ال يلتقيان أبدا‪ ،‬ثم أحنى على التفكير االسالمي والعربي بصفته "مش لول" وت ابع‬
‫"أعمى" للوحي‪ .‬لقد جعل العرب "العقل" خادما للوحي فهو تابع له ويعمل على حسابه ل ذا فليس من المتوق ع أن‬
‫يشهد هذا القطر من العالم ابتكارا إبداعيا عقليا حقيقيا لمضيه خلف آثار الوحي‪ .‬أما األول‪ ،‬أعني "نصرحامد" فبعد‬
‫أن أعترف بصعوبة فهم الصلة بين "الوحي المتعالي" وبين "البشرية المتدنية" قرر أن الوحي يحتفظ بعلوه وصدقه‬
‫وصفاءه طالما ال يزال في علوه‪ ،‬إال أنه وما أن ينحدر صوب قاع البشرية‪ ،‬ويتصل بها‪ ،‬يصيبه التحول فيخ رج‬
‫عن علوه وصدقه وواقعيته وصفاءه ويمتزج بالبشرية المتدنية ليخرج للناس ممزوجا بين حقيقته النقي ة وبين م ا‬
‫تسربت فيه إرهاصات البشرية وجهاالتها وتخياالتها وأحالمها وأمنياتها‪ .‬وهكذا غدا النص الديني‪ ،‬والحال ه ذه‪،‬‬
‫"تأويال" وليس "تنزيال"‪ .‬فقد امتزج بالفكر البشري الداني وفقد بريقه ونورانيته وتح ول من مرحل ة التنزي ل إلى‬
‫مرحلة التأويل‪.‬‬

‫ثم خطا "أبو زيد" إلى األمام نحو زج النص الديني في قالب يستوعب كل فهم ويمكن استنتاج حتى النقيض من ه‪،‬‬
‫عندما قرر أن "التأويل" فهم "الرسول" الشخصي للظاهرة الدينية ويمكن للجميع أن يمارس فهمه الشخصي أيض ا‬
‫للنص وتكون كل الفهومات صحيحة وال توجد قيمة عليا يمكن عرض الفهوم عليها لقياس صحتها من س قمها في‬
‫ظل غياب الوحي وضياع التنزيل واختالطه بالتأويل‪.‬‬

‫المؤسف له أن العالمان الكبيران أثيرت أمامهما عواصفا من االحتجاجات‪ ،‬أجبرت "حامد" أن يدفع ثمن ا باهظ ا‬
‫لجرأته‪ ،‬غادر أثرها بالده لألبد‪ ،‬أما الثاني‪ ،‬أعني "أركون" فقد حمته لغته المعقدة وإخف اؤه لمقاص ده بعناي ة في‬
‫األلفاظ "المنمقة" لكي ال يكشتف الشارع العام مغزى كالمه إال النخب‪ .‬أقول من المؤسف أننا وعوض ا عن البحث‬
‫عن حلول فكرية رصينة لإلثارات العلمية التي تجابه منظومتنا‪ ،‬نلجأ كث يرا م ا إلى االعتراض ات "الحركي ة"‬
‫والميدانية التي تتسم غالبا بالعنف والتطرف‪ .‬ومتى أمكن "للعضالت" أن تعالج "األفكار"؟!‬

‫إن أول التفاتة ينبغي تسجيلها في هذا المنحى الفكري العويص حول إثارات "حامد" هي أن "حامد" ال ينبغي بتاتا أن‬
‫يتقيد بشيء من "الوحي" على االطالق‪ ،‬ذلك ألنه وبعد امتزاج الوحي ببشرية المتلقي وضياعه في جهله كيف أمكن‬
‫االعتقاد أساسا بوجود ثمة وحي ونزوله فضى عن امتزاجه؟ طالما أن وسائل مشاهدة الوحي يجوب األعالي م ا‬
‫قبل التنزيل مستحيلة قطعا‪ ،‬فكيف أمكن إذن القول بوجوده‪ ،‬ونزوله‪ ،‬ثم امتزاجه والحال أن النص الديني "مختل ط‬
‫كليا بغث البعد البشري وسمين تخيالته"؟ أال يعد االعتقاد بوجود ثمة "وحي" وفق هذه النظرة لدعوى تخلو تمام ا‬
‫عن الدليل؟‬
‫وإن أول إلتفاتة ينبغي تسجيلها أيضا في المنحى ذاته حول إثارات "أركون" هي أنه وبأي أداة إدراكية تم له االيمان‬
‫واالعتقاد بوجود "الوحي" و "النص الديني" طالما أن العقل خادم للوحي يمضي خلفه مغمض العي نين؟ الح ل في‬
‫نقطتين‪:‬‬

‫األولى‪ :‬أن هذا االيمان واالعتقاد قد تم بناءه "عنده" على العقل الذي استقل في ظرف غامض ولحظة ف وق الفهم‬
‫عن الوحي وأدرك وجوده كظاهرة متعالية عن أفق البشرية‪ .‬ولكن هذه الدعوى غدت قتيلة سكين تراجع العقل عن‬
‫الوحي وعجزه عن االستقالل عنه كما أقر "أركون"‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬أن العقل يستطيع االستقالل عن الوحي والعمل لوحده‪ ،‬ولعل هذا هو الذي يرمي إليه "أركون" في دعاويه‪،‬‬
‫وينادي بضرورة إستقالل العقل عن الوحي حتى يمكنه القيام بعملية "نقد" حرة للنص الديني‪ ،‬فيأخذ منها ما يتوافق‬
‫مع مرتكزاته‪ ،‬وإال فيرفض ما يراه على نقيض من العقل‪ .‬وفعال‪ ،‬فقد صرح أركون مرارا بأن "الفكر األسطوري"‬
‫قد تسرب بشكل جيد في النص الديني "كالسحر والجن" وينبغي تصفيتها منه وفق ما يقرره ويراه العق ل عن دما‬
‫يستقل بعمله عن الوحي‪.‬‬

‫أال يالحظ القارئ بأن "أركون" عاد إلى الطاولة التي يجلس حولها "حامد" حيث "المصادرة على المطلوب في أبشع‬
‫أشكالها"؟ إنها الطاولة التي يناقش عليها "النص الديني" بصفته "دينيا ووحيا من جهة" و بصفته "خليطا مما ال يقره‬
‫العقل" من جهة أخرى‪ ،‬على اختالف العبارات؟‬

‫ومرجع اإلثارتان على اختالف عباراتها ترجعان تحديدا إلى عدم فهم نمط "االتصال" الذي يجري "بين المتع الي‬
‫والمتمثل في الوحي" و "المتدني المتمثل في البشر"‪ .‬من هنا تبدأ خارطة طريق هذا المنحى الفكري الزلق‪ ،‬ف أولى‬
‫خطوات السير في هذا الطريق هو معالجة إشكالية الصلة التي تقع بين الوحي والعقل البشري‪.‬‬

‫لسنا نزعم بأن هذه المقالة تستطيع معالجة هذه المسألة‪ ،‬وإنم ا نح اول أن نلقي على أطرافه ا بعض األض واء‬
‫نستلهمها من تراث الفكرالفلسفي لدى حكماء االسالم من أمثال الفارابي وابن سينا وشيخ االش راق الس هروردي‬
‫وصدر الدين وابن عربي شيخ العرفاء والمتصوفة والطباطبائي والفيلسوف المعاصر عبداهلل الط بري‪ .‬فه ؤالء‬
‫جميعا مارسوا تحليال عقليا وعرفانيا لهذه المسألة وحققوا نتائج مذهلة ومنحوا لهذه األبحاث مكاس ب قيم ة‪ .‬ففي‬
‫الوقت الذي يظن األغلب أن ثمة رجل يعيش بين الناس بصدق وإخالص كبيرين‪ ،‬وفجأة ومن دون س ابق إن ذار‬
‫يجد نفسه أمام "مجنح" يأمره بالقراءة ويجبره عليها‪ ،‬فيخفق قلبه من الخوف وال يدري ماذا يفعل فيع ود "المجنح"‬
‫إليه مجددا ويخبره بأنه أضحى نبيا رسوال يحمل للناس "نصا دينيا" ينبغي إبالغه لهم‪ ،‬أقول في الوقت الذي يرسم‬
‫األغلب هذه الصورة لحقيقة اتصال الوحي بالبشر‪ ،‬هذا البشر الذي يجد نفسه فجأة وقد تح ول إلى رس ول‪ ،‬كمن‬
‫يمشي على الشارع فيظهر أمامه "كائن غريب هبط من العلياء" وأعطاه شهادة "الدكتوراه"! هذا التصور ترفض ه‬
‫األبحاث الفلسفية ألؤلئك الفالسفة‪ ،‬وتؤكد أن الوحي ليس إال إتصال ذات الرسول بأفق متعالي من حقائق الوجود‪.‬‬
‫إن البشر يحمل في جنباته "إمكانات" و "طاقات" هائلة ال تعيقه ا "الزراع ة" وال االش تغال "بالتج ارة" أو "رعي‬
‫األغنام" بل إنها تستمد عنفوانها من "عملها" هذا‪ ،‬هذه الطاقات تستطيع أن تحلق فوق الظاهرة المادية وتبلغ بعق ل‬
‫صاحبه إلى ساحة "الميتافيزيقيا" التامة "فيظفر" بالوحي‪ .‬الوحي ليس نزول من أفق أعلى‪ ،‬وإنما تأجج طاقة وسمو‬
‫وعروج "عقل" بشري إلى رحاب فسيح من الوجود‪ ،‬والنص الديني يتأسس على شهود حقائق علوية أدركته ا ذات‬
‫الرسول‪ ،‬بما فيها الوجود المتعالي لمبدأ كل شيء ومنتهاه‪ .‬المشاهدات تلك تتحول الحقا في ص قع ذهن الرس ول‬
‫إلى "مفاهيم" وتنزل درجة أدنى إلى مرحلة "النص"‪ .‬وليس التنزيل إال هذا‪ ،‬غير أن المجال ليس مفسوحا لبيان هذه‬
‫المسألة القيمة‪ ،‬وفي هذه العجالة‪ .‬لقد حشد الطباطبائي في تفسيره للقرآن عشرات اآليات التي استنتج منه ا ب أن‬
‫"التأويل" ليس إال القاع الوجودي األعمق الذي ظفر الرسول بشهوده له واألساس الذي تستند عليه تمام ا ظ اهرة‬
‫النص الديني وتتغذى منه‪.‬‬

‫فإذا كان العقل هو الذي سمى وعال وبلغ أوج التحرر من أشكال المادة وفنى في الحقيقة العليا‪ ،‬أال يتف ق الق ارئ‬
‫معي بأن الحديث عن عن امتزاجه بالجهل‪ ،‬أو تابعيته للوحي‪ ،‬ما عاد مجديا بالمرة؟‬

You might also like