Professional Documents
Culture Documents
النص الديني بين التعالي والتدني
النص الديني بين التعالي والتدني
يعترف العديد ممن يكتب في علم األديان واالنتربولوجيا وصلته بالميتافيزيقيا بشكل عام بأن إشكالية العالق ة بين
"الوحي" وبين "البشر" ال تزال عصية على االدراك .إذ كيف يتمحور العالي في الداني دون أن يفقد شيئا من علوه
وكيف يستطيع الداني أن يحتفظ بما تلقاه من العالي دون أن يصبغ عليه مفردات دنوه من جهل وغيره؟ ومن أشهر
من أثاروا هذه االشكالية دون أن يعالجوها ،وإنما اكتفوا بإثارتها ومضوا في عملية تأسيس لإلش كالية في الفك ر
الديني وسربوها في أذهان الناس هما كل من الدكتور "نصر حامد أبو زيد" و "الدكتور محمد أركون" الذي ع ده
مترجمه الشهير "هاشم الصالح" أعظم مصلح في االسالم! فهذا الث اني ،ف رق بين العق ل وبين ال وحي تفرق ة
ابستمولوجية خطيرة ،إذ جعلهما ال يلتقيان أبدا ،ثم أحنى على التفكير االسالمي والعربي بصفته "مش لول" وت ابع
"أعمى" للوحي .لقد جعل العرب "العقل" خادما للوحي فهو تابع له ويعمل على حسابه ل ذا فليس من المتوق ع أن
يشهد هذا القطر من العالم ابتكارا إبداعيا عقليا حقيقيا لمضيه خلف آثار الوحي .أما األول ،أعني "نصرحامد" فبعد
أن أعترف بصعوبة فهم الصلة بين "الوحي المتعالي" وبين "البشرية المتدنية" قرر أن الوحي يحتفظ بعلوه وصدقه
وصفاءه طالما ال يزال في علوه ،إال أنه وما أن ينحدر صوب قاع البشرية ،ويتصل بها ،يصيبه التحول فيخ رج
عن علوه وصدقه وواقعيته وصفاءه ويمتزج بالبشرية المتدنية ليخرج للناس ممزوجا بين حقيقته النقي ة وبين م ا
تسربت فيه إرهاصات البشرية وجهاالتها وتخياالتها وأحالمها وأمنياتها .وهكذا غدا النص الديني ،والحال ه ذه،
"تأويال" وليس "تنزيال" .فقد امتزج بالفكر البشري الداني وفقد بريقه ونورانيته وتح ول من مرحل ة التنزي ل إلى
مرحلة التأويل.
ثم خطا "أبو زيد" إلى األمام نحو زج النص الديني في قالب يستوعب كل فهم ويمكن استنتاج حتى النقيض من ه،
عندما قرر أن "التأويل" فهم "الرسول" الشخصي للظاهرة الدينية ويمكن للجميع أن يمارس فهمه الشخصي أيض ا
للنص وتكون كل الفهومات صحيحة وال توجد قيمة عليا يمكن عرض الفهوم عليها لقياس صحتها من س قمها في
ظل غياب الوحي وضياع التنزيل واختالطه بالتأويل.
المؤسف له أن العالمان الكبيران أثيرت أمامهما عواصفا من االحتجاجات ،أجبرت "حامد" أن يدفع ثمن ا باهظ ا
لجرأته ،غادر أثرها بالده لألبد ،أما الثاني ،أعني "أركون" فقد حمته لغته المعقدة وإخف اؤه لمقاص ده بعناي ة في
األلفاظ "المنمقة" لكي ال يكشتف الشارع العام مغزى كالمه إال النخب .أقول من المؤسف أننا وعوض ا عن البحث
عن حلول فكرية رصينة لإلثارات العلمية التي تجابه منظومتنا ،نلجأ كث يرا م ا إلى االعتراض ات "الحركي ة"
والميدانية التي تتسم غالبا بالعنف والتطرف .ومتى أمكن "للعضالت" أن تعالج "األفكار"؟!
إن أول التفاتة ينبغي تسجيلها في هذا المنحى الفكري العويص حول إثارات "حامد" هي أن "حامد" ال ينبغي بتاتا أن
يتقيد بشيء من "الوحي" على االطالق ،ذلك ألنه وبعد امتزاج الوحي ببشرية المتلقي وضياعه في جهله كيف أمكن
االعتقاد أساسا بوجود ثمة وحي ونزوله فضى عن امتزاجه؟ طالما أن وسائل مشاهدة الوحي يجوب األعالي م ا
قبل التنزيل مستحيلة قطعا ،فكيف أمكن إذن القول بوجوده ،ونزوله ،ثم امتزاجه والحال أن النص الديني "مختل ط
كليا بغث البعد البشري وسمين تخيالته"؟ أال يعد االعتقاد بوجود ثمة "وحي" وفق هذه النظرة لدعوى تخلو تمام ا
عن الدليل؟
وإن أول إلتفاتة ينبغي تسجيلها أيضا في المنحى ذاته حول إثارات "أركون" هي أنه وبأي أداة إدراكية تم له االيمان
واالعتقاد بوجود "الوحي" و "النص الديني" طالما أن العقل خادم للوحي يمضي خلفه مغمض العي نين؟ الح ل في
نقطتين:
األولى :أن هذا االيمان واالعتقاد قد تم بناءه "عنده" على العقل الذي استقل في ظرف غامض ولحظة ف وق الفهم
عن الوحي وأدرك وجوده كظاهرة متعالية عن أفق البشرية .ولكن هذه الدعوى غدت قتيلة سكين تراجع العقل عن
الوحي وعجزه عن االستقالل عنه كما أقر "أركون".
الثانية :أن العقل يستطيع االستقالل عن الوحي والعمل لوحده ،ولعل هذا هو الذي يرمي إليه "أركون" في دعاويه،
وينادي بضرورة إستقالل العقل عن الوحي حتى يمكنه القيام بعملية "نقد" حرة للنص الديني ،فيأخذ منها ما يتوافق
مع مرتكزاته ،وإال فيرفض ما يراه على نقيض من العقل .وفعال ،فقد صرح أركون مرارا بأن "الفكر األسطوري"
قد تسرب بشكل جيد في النص الديني "كالسحر والجن" وينبغي تصفيتها منه وفق ما يقرره ويراه العق ل عن دما
يستقل بعمله عن الوحي.
أال يالحظ القارئ بأن "أركون" عاد إلى الطاولة التي يجلس حولها "حامد" حيث "المصادرة على المطلوب في أبشع
أشكالها"؟ إنها الطاولة التي يناقش عليها "النص الديني" بصفته "دينيا ووحيا من جهة" و بصفته "خليطا مما ال يقره
العقل" من جهة أخرى ،على اختالف العبارات؟
ومرجع اإلثارتان على اختالف عباراتها ترجعان تحديدا إلى عدم فهم نمط "االتصال" الذي يجري "بين المتع الي
والمتمثل في الوحي" و "المتدني المتمثل في البشر" .من هنا تبدأ خارطة طريق هذا المنحى الفكري الزلق ،ف أولى
خطوات السير في هذا الطريق هو معالجة إشكالية الصلة التي تقع بين الوحي والعقل البشري.
لسنا نزعم بأن هذه المقالة تستطيع معالجة هذه المسألة ،وإنم ا نح اول أن نلقي على أطرافه ا بعض األض واء
نستلهمها من تراث الفكرالفلسفي لدى حكماء االسالم من أمثال الفارابي وابن سينا وشيخ االش راق الس هروردي
وصدر الدين وابن عربي شيخ العرفاء والمتصوفة والطباطبائي والفيلسوف المعاصر عبداهلل الط بري .فه ؤالء
جميعا مارسوا تحليال عقليا وعرفانيا لهذه المسألة وحققوا نتائج مذهلة ومنحوا لهذه األبحاث مكاس ب قيم ة .ففي
الوقت الذي يظن األغلب أن ثمة رجل يعيش بين الناس بصدق وإخالص كبيرين ،وفجأة ومن دون س ابق إن ذار
يجد نفسه أمام "مجنح" يأمره بالقراءة ويجبره عليها ،فيخفق قلبه من الخوف وال يدري ماذا يفعل فيع ود "المجنح"
إليه مجددا ويخبره بأنه أضحى نبيا رسوال يحمل للناس "نصا دينيا" ينبغي إبالغه لهم ،أقول في الوقت الذي يرسم
األغلب هذه الصورة لحقيقة اتصال الوحي بالبشر ،هذا البشر الذي يجد نفسه فجأة وقد تح ول إلى رس ول ،كمن
يمشي على الشارع فيظهر أمامه "كائن غريب هبط من العلياء" وأعطاه شهادة "الدكتوراه"! هذا التصور ترفض ه
األبحاث الفلسفية ألؤلئك الفالسفة ،وتؤكد أن الوحي ليس إال إتصال ذات الرسول بأفق متعالي من حقائق الوجود.
إن البشر يحمل في جنباته "إمكانات" و "طاقات" هائلة ال تعيقه ا "الزراع ة" وال االش تغال "بالتج ارة" أو "رعي
األغنام" بل إنها تستمد عنفوانها من "عملها" هذا ،هذه الطاقات تستطيع أن تحلق فوق الظاهرة المادية وتبلغ بعق ل
صاحبه إلى ساحة "الميتافيزيقيا" التامة "فيظفر" بالوحي .الوحي ليس نزول من أفق أعلى ،وإنما تأجج طاقة وسمو
وعروج "عقل" بشري إلى رحاب فسيح من الوجود ،والنص الديني يتأسس على شهود حقائق علوية أدركته ا ذات
الرسول ،بما فيها الوجود المتعالي لمبدأ كل شيء ومنتهاه .المشاهدات تلك تتحول الحقا في ص قع ذهن الرس ول
إلى "مفاهيم" وتنزل درجة أدنى إلى مرحلة "النص" .وليس التنزيل إال هذا ،غير أن المجال ليس مفسوحا لبيان هذه
المسألة القيمة ،وفي هذه العجالة .لقد حشد الطباطبائي في تفسيره للقرآن عشرات اآليات التي استنتج منه ا ب أن
"التأويل" ليس إال القاع الوجودي األعمق الذي ظفر الرسول بشهوده له واألساس الذي تستند عليه تمام ا ظ اهرة
النص الديني وتتغذى منه.
فإذا كان العقل هو الذي سمى وعال وبلغ أوج التحرر من أشكال المادة وفنى في الحقيقة العليا ،أال يتف ق الق ارئ
معي بأن الحديث عن عن امتزاجه بالجهل ،أو تابعيته للوحي ،ما عاد مجديا بالمرة؟