You are on page 1of 3

‫جغرافية الثقافة‬

‫المواساة الفلسفية‬
‫محمد رضا اللواتي ‪mohammed@alroya.net‬‬

‫عندما نشر "هلموت رترور" ألول مرة رسالة الفيلسوف العربي األول "أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي" بعن وان "الحيل ة ل دفع‬
‫األحزان" وبلغ نبأها المحافل العلمية والفلسفية‪ ،‬أوجد ضجة كبيرة إذ لم يكن يتوقع العديد أن الفكر الفلسفي يستطيع مد جس وره نح و‬
‫اإلنسان بمختلف أبعاد حياته منها أتراحه وأفراحه‪ .‬لقد كانت السمة الغالبة على الفالسفة ال سيما في العالم الغربي بأنهم أناس ينظ رون‬
‫إلى األعلى غالبا‪ ،‬وإذا صادف وأن نظروا إلى األسفل ففي الغالب ال يرون شيئا يستحق االلتفات إلي ه! لكن األم ر ال يب دو ك ذلك‬
‫خصوصا لدى رواد الفكر الفلسفي العرب‪ ،‬فهؤالء‪ ،‬ما كان تفلسفهم ليبعدهم عن الحراك الحياتي الع ام بأبع اده المتنوع ة‪ ،‬كال على‬
‫االطالق‪ .‬بل كانوا يخوضون غماره على أساس أن التفلسف ينبغي أن يصب ما يرفده من نضج فكري وعقلي في تطوير حياة اإلنسان‬
‫ومد يد العون له ألداء رسالته على أت وجه‪ .‬وإال‪ ،‬فما بال "فيلسوف العرب" يكتب في الطب ‪ 22‬عنوانا‪ ،‬والفل ك وعلم النج وم ‪،19‬‬
‫والموسيقى ‪ ،7‬والتنجيم ‪ ،3‬والجدل ‪ ،17‬والهندسة‪ ،23‬وفي السياسة ‪12‬؟‬

‫أما قصة الرسالة التي بين أيدينا‪ ،‬فقد كاتبه صديق‪ ،‬يطلب منه أن يعينه على دفع ما به من أحزان جراء فقد عزيز‪ ،‬ال ي دري كي ف‬
‫يمكنه أن يسلي تفسه‪ ،‬فقد سلبه الحزن القرار‪ ،‬وفقد البهجة تماما‪ ،‬وما عاد يلتفت إلى جمال ما حوله من األشياء‪ .‬كلما ح اول راودت ه‬
‫ذكريات فقيده الغالي‪ ،‬فأورثته األلم والحزن والجزع‪ .‬وها هو اآلن يستغيث بالفيلسوف يطلب منه المعونة‪ ،‬عل ما لديه من فلسفة ترفع‬
‫عن عاتقه همه الذي يبدو له أن سيقى سرمدا عليه‪.‬‬

‫فما كان من الفيلسوف إال ومده فعال بخطاب أطلق عليه "حيلة لدفع األحزان" عرف بعد ذلك بالمواساة الفلسفية ‪The philosophical‬‬
‫‪ condolences‬بدأه بضرورة معرفة سبب الحزن ألن "ما ال يعرف سببه ال يرجى شفاؤه"‪ .‬وهذه المقدمه ال تدل فحس ب على دق ة‬
‫الرجل في تناوله للموضوع وإنما تشير إلى ما استحضره الكندي من ضرورة إخراج حاالت الالوعي عن المصاب وجره إلى االنتب اه‬
‫والوعي بما قد أصابه‪ .‬عد بعض الباحثين هذه المقدمة بحد ذاتها منهجا لعالج سائر الحاالت التي نعاني منها‪ ،‬سواء أك انت نفس ية أم‬
‫جسمية‪ .‬بعد هذه المقدمة‪ ،‬يقوم الفيلسوف بحصر سائر أسباب الحزن مهما تعددت وتنوعت إلى سببين ال يمكن عقال تصور ثالث لهما‪.‬‬
‫هذين السببين هما‪:‬‬

‫األول‪ :‬فقد محبوب سواء كان إنسانا أو غيره‬

‫الثاني‪ :‬عدم تحقق ما سعى اإلنسان أو تمنى تحقيقه من أمنية أو هدف‪.‬‬

‫ثم‪ ،‬وفي الخطوة الثالثة‪ ،‬يدعو "الكندي" إلى تأمل وافي في السببين المارين‪ ،‬وهل بإمكان اإلنسان أن يتخلص منهم ا في ه ذه النش أة‬
‫الدنيوية المغلولة بقيود الزمان والمسجونة في سجن المكان؟ إن كانت اإلجابة باإليجاب فثمة سبيل إذن إلزالة الحزن نهائيا بإزالة سببيه‬
‫العتيدين‪ ،‬وإال‪ ،‬فنحن ماضون في طريق مسدود‪ ،‬طالما ال تزال أرواحنا معلقة باألجساد حبيسة الزمان والمكان‪.‬‬

‫ولكن هل ذلك معناه أن يصبح الحزن سرمديا على البشر الستحالة رفع أسبابه؟ هل كتبت أنامل القدر الحزن على جبين اإلنسان عندما‬
‫كانت تسطر تمام حياته؟ وهل ألجل هذا يولد اإلنسان باكيا ويرحل حسيرا؟ كال! ففيلسوفنا ال ينتمي إلى الفالسفة التش اؤمين ال ذين ال‬
‫يرون في الحياة ما يستحق أن يبتهج اإلنسان لرؤيته‪ .‬بل ينتمي "الكندي" إلى االتجاه المعاكس تماما‪ ،‬فهو ي رى أن اإلنس ان مول ود‬
‫للسعادة‪ ،‬ويحن إلى الراحة‪ ،‬ومن غير الممكن أن يضع نظام الوجود في أعماق فطرة رغبات السعادة والراحة واللذة ثم يكتب له الشقاء‬
‫والحزن واألسى‪ .‬كال‪ ،‬ألن نظام الوجود "واع" يدرك عمله جيدا إذ ال يتطرق إليه الخطأ بالمرة وال يغفل وإن لوهلة "ال تدركه سنة وال‬
‫نوم"‪.‬‬
‫يمعن الفيلسوف في رسالته تلك في إفهام مخاطبه بأنه يعيش في عالم "الكون والفساد"‪ ،‬أي عالم الصيرورة واالنحالل المس تمرين‪ .‬فال‬
‫شيء يبقى وال يزول أبدا إال وجهه تعالى‪ .‬ومع أن هذه هي الحقيقة إال ليست بمرة‪ .‬فثمة عالم آخر يسميه بعالم الثبات والبق اء وع دم‬
‫الزوال‪ .‬عالم ال تطاله عواصم الكون والفساد‪ .‬عالم متعالي عن أغالل الزمان وسجون المكان‪ .‬إنه عالم العقول المشرقة بأنوار الوجود‬
‫السرمدي واألزلي للذات المقدسة‪ .‬ال يخفى على المحققين أن الفيلسوف هنا يوظف النص الديني في عمق فلسفته ألج ل بل وغ مرف أ‬
‫الثبات والبقاء وعدم الزوال‪ .‬فهو كثيرا ما يعبر عن عالم الفناء بعالم الملك‪ ،‬وعالم البقاء بعالم الملكوت‪ ،‬وتارة يطلق على عالم الثب ات‬
‫والديمومة بعالم اإلله وعالم الخزائن اإللهية التي تتواجد في فنائها سائر الكائنات على االطالق‪ .‬وال عجب في ذلك فلقد كان الفيلس وف‬
‫تلميذا للمعلم اإللهي علي بن موسى الرضا ردحا من الزمن‪.‬‬

‫وبعد إثباته لوجود ذلك العالم الباقي بمقابل عالمنا الفاني‪ ،‬يبدأ الفيلسوف بتقديم حلوله لصديقه لرفع هيمنة الحزن عليه‪ ،‬فاول ما ينصحه‬
‫به‪:‬‬

‫أن يتطلع إلى عالم البقاء‪ ،‬الذي يكفل لنا تحقيق أمنياتنا إن بلغناه بحسن أعمالنا‪ .‬وهناك‪ ،‬ما من عزيز وحبيب إال وسوف نعثر‬ ‫‪.1‬‬
‫عليه فيه على أحلى ما تمنيناه‪ .‬ينبغي أن ال نعطي لعالم الفناء كل هذه األهمية حتى يجع ل نظامه ا الق ائم على الح دوث‬
‫والزوال أن يورثنا الهموم‪ .‬إن ما عندنا فان‪ ،‬ولكن ما عنده باق‪ ،‬وكل من تجرفه سيول الزوال إلى بقعة أخرى فقد بلغ ضفة‬
‫البقاء والديمومة‪ .‬إن المالحظة التي قدمها الفيلسوف عن عالم الفقد والكسب لجديرة أن ننتبه لها‪ .‬فنظام العالم يجرف كائناته‬
‫إلى شاطئ الثبات‪ .‬إن العالم في "نهر عظيم" يقذف بما فيه من الكائنات إلى جهة أخرى وهناك تتحقق األماني‪.‬‬
‫النصيحة األخرى التي قدمها الفيلسوف لصديقه الحزين هي حول التأسي باآلخرين وصبرهم على نائبات ال دهر‪ .‬ألم ين ال‬ ‫‪.2‬‬
‫الفقد والزوال أناس أعظم منا؟ ألم يبتلع التراب أقدس البشر وأعظم شأنا؟ لكن عجلة الحياة ال يمكنها أن تتوقف ألن النظ ام‬
‫نظام فقد وكسب‪ .‬إن على صديق الفيلسوف الحزين أن يستمد الصبر من غيره من البشر ممن فقد أعظم مما فقده هو‪.‬‬
‫النصيحة الثالثة التي وجهها الفيلسوف للصديق الحزين هي أن يعلم جيدا بأن ما فقده وسبب في حزنه ليس ملكا له‪ ،‬لقد ك ان‬ ‫‪.3‬‬
‫إعارة ليس إال‪ .‬ما من كائن في الدنيا يملك شيئا‪ ،‬ألن المالك للشيء على وجه الحقيقة ال يفقد ملكه أبدا‪ ،‬وبما أن م ا نظن ه‬
‫ملكنا أو لنا يزول عنا فهو إعارة وقد استوفيت بالتمام فال معنى ألن نحزن لألبد على إرجاع حق اآلخر له‪.‬‬
‫عليك أن تغير نظرتك "للفقد" ألنه شيء جميل! هذه هي النصيحة الرابعة التي يوجهها الفيلسوف‪ .‬وليس هناك بعاقل يواف ق‬ ‫‪.4‬‬
‫الفيلسوف على وصف الفقد بالجمال وليس الفيلسوف نفسه ليس بغافل عن أن ما نصح صديقه غ ير مقب ول إال في حال ة‬
‫واحدة‪ .‬تلك الحالة هي عندما يكون الفقد طريقا إلى الكسب والبقاء والدوام‪ .‬الموت الذي يكرهه األغلب ألنه يزيل من حياتهم‬
‫أحباءهم أو يزيلهم عن محبوبهم‪ ،‬ما هو إال قنطرة االنتقال إلى عالم من البهاء والثبات والسعادة المحضة فأين الفقد المحض؟‬
‫ال أثرله‪ .‬إذن ما مبرر الحزن الدائم؟ ال يوجد‪.‬‬

‫وهناك غيرها‪ .‬إال إننا نكتفي باستعراض تلك المجموعة فقط‪.‬‬


‫لهذه الرسالة أهمية تتمثل أوال في كونها مؤشر على األبعاد التي يعمل فيها الفكر الفلسفي وأن ه فعال يراف ق اإلنس ان في‬
‫مسيرته الحياتية اليومية ويعينه على استجالء أسرارها بالفكر النير‪ .‬وثانيا أن الفلسفة لدى الرواد المسلمون لم تكن منقطع ة‬
‫االتصال والوصال بالشريعة فهناك دمج ال نظير له وكثيرا ما تسلتهم الفلسفة إنارات فكرية من النصوص الشرعية‪ .‬وثالثا أن‬
‫الفلسفة اإلسالمية تمتاز بالبشاشة وتنظر إلى العالم نظرة جمالية خاصة وتبتعد بذلك بعدا تاما عن جميع أنواع التفكير السلبي‬
‫والنظرة التشاؤمية للحياة والوجود‪.‬‬

‫ومن نافلة القول أن هذه الرسالة ليست األولى من نوعها تخرج عن الفكر الفلسفي البشري‪ .‬كال‪ ،‬فقد سبقتها رسالة أفالطون‬
‫إلى فرفوريوس في نفي الغم‪ ،‬ولحقتها رسالة إيليا الجوهري حول "تسلية األحزان" ورسالة مس كوية ح ول عالج الح زن‪،‬‬
‫ورسالة بوتيوس الروماني بعنوان التعزي بالفسفة كتبها في سجته‪.‬‬

You might also like