Professional Documents
Culture Documents
النزوعية وإقصاء الآخر
النزوعية وإقصاء الآخر
عندما كان الفريق األرجنتيني يتلقى هزيمته الموجعة على يد األلمان في نهائيات كأس الع الم الف ائت ،كنت في
تجمع يزيد 22شخصا ،أغلبهم ،باستثناء ثالثة ،كانوا يكيلون الشتائم لأللمان ويبررون الخسارة لفريقهم المفض ل
الذي كان قد سيطر تماما على عقولهم فما عادوا يستطيعون أن يدركوا جمال وقوة لعب األلمان واستحقاقهم للفوز،
وهزال وضعف وكثرة أخطاء فريقهم المفضل الذي لم يكن فعال يستحق الفوز .واحد من أؤلئ ك بع د المب اراة
اعترف بأن الفريق المنتصر كان األفضل وتمنى أن يرمم فريقه المفضل صفوفه ويلملم أخطاءه ويعود كما ك ان
مهابا ومحبوبا .وآخر انقلب محبا للفريق األلماني بعد أن كان يعشق الفريق األرجنتيني ،فقد علق يقول بأنه بع د
ذلك األداء الساحر لأللمان ليس من المنطقي أن أظل عالقا في "عباءة" الفريق الخاسر والهزيل.
المتخصصون في علم النفس والفالسفة أيضا ،إن سألناهم عن تحليلهم لحالة هؤالء المشجعين ،لكانت إجاباتهم كلها
تصب في اعتبار أؤئلك الذين أصروا على النيل من األلمان وزادت كراهيتهم لهم ق د ابتلعتهم "النزوعي ة" ال تي
تعرف عندهم باندفاع غير واع وال رشيد باتجاه ما هو محبوب .أما ذلك الذي ظل على حبه لمعشوقه الخاسر مع
اعترافه بأنه كان مخطئا وأن الطرف المنتصر كان صاحب حق في االنتصار لروعة أدائه ،فأه ل االختص اص
يعبرون عن حالته بأنها النزعة في رمقها األخير ،المتاخمة للتعقل والوعي ،أما ذاك الذي غير موقعه من ط ابور
مشجعي الخاسر إلى طابور محبي ومشجعي المنتصر فالنزعة ليست بالوصف الصحيح له ،وإنما التعقل وال وعي
وإدراك قيمة اآلخر من سمات شخصيته.
واآلن للنتقل إلى واقعنا المعاصر ،وليمثل-فرضا فحسب -الفريق الخاسر كل أشكال االهمال وقل ة المس ؤولية
والجهل ،وليمثل الفريق المنتصر كل أشكال الجمال واألداء الباهر والعزيمة وتحمل الس مؤولية ،وليمث ل أؤلئ ك
العاشقون للخاسر األغلبية ،ترى ماذا سيحل بنا؟ تلك هي "النزوعية" المقيتة ،التي يبذل الباحثون مجهودا خرافي ا
الخضاعها للتربية ولمنهج التعقل والوعي.
إذ من المعلوم أن النزعة Tendencyوالتي جذرها األعمق في اللغة العربية ينتهي إلى االنجذاب والميل ،تع د
من أشد القطاعات غموضا في علم النفس ،إذ أن االنجذاب إلى األكل والشرب مفهوم تماما ،ودافعه جلي ،كما وأن
الميل إلى الجمال والفن واالبداع جلي هو اآلخر ألن دوافعه فطرية إذ أن الشخصية البشرية تتضمن أربعة أبع اد
أشار إليها علماء النفس ،منها الميول إلى الجمال والفن واالبداعات .والميل إلى الشخص يات المبه رة بأعماله ا
وانتاجاتها أيضا مفهوم ودوافعه ترتمي إلى طبيعة النسق البشري ،أما االندفاع إلى أي من هذه الحق ول ،س واء
أكانت أفكارا أم شخصيات أم غيرها ،إلى الحد الذي ال نعترف باآلخر ،ونسلب منه كل الحق في الحديث ،ونجعل
عمله وأداءه فاقدا لكل قيمة ،ال لشيء إال أنه خالف توجهنا ،ووجد غير ما وجدنا في معشوقنا ،عندئذ إنن ا أم ام
ظاهرة "النزوعية" التي ال نفهم األسباب الحقيقية الكامنة وراء نشوئها .إنها بذرة نمت في مزرعة ال يشرف عليها
الوعي ،حتى غدت شجرة فارعة الطول ،شديدة القبح ،تخرج ثمارا تنضح بإقصاء اآلخر وحقوقه في التعب ير عن
حبه ورفضه ،ليس ذاك إال ألن حبه ال يتعلق بمحبوبنا ،ورفضه ينال من معشوقنا.
ال عجب ،أن يصف الشيخ الرئيس ابن سينا ،النزعة بأنها تتغذى على الشهوة والغضب! يا له من دقة تصدر عن
رجل خاض غمار النفس من أوسع أبوابها .فالشهوة تؤجج نارا التعلق بالمعشوق وعدم رؤية غ يره ،والغض ب
يؤجج كراهية كل من يخالفه في قول أو فعل أو يجرؤ على نقده والكشف عن ضعفه ونقصه.
يحاول الباحثون في هذا القطاع من علم النفس ،عبثا ،بلوغ الغاية التي تستهدفها النزعة ،كحركة تنمو بعي دا عن
الوعي وترفض جميع أشكال التعقل ،غرضها النهائي لذة ما ،إال أن طبيعتها عصية على الفهم فعال .ففي ال وقت
الذي كان ينبغي أن يكون االبداع واالبتكار والفن والجمال ،في أي مجال كان ،محط إعج اب النفس ومعش وقها،
والخطأ والقبح محط بغضها ،نرى أنهما يرتقيان إلى أسمى الدرجات ،بينما يتراجع االبداع واالبتك ار والجم ال
ليصبح مشينا عندها ،ذلك ألن النزوعية قد تفشت بأشد صورها ،فجعلت االتجاه المحبوب ،أو الفرد المطل وب ،أو
الفن المعشوق ،هو األوحد ،وكل ما سواه فباطل! اليوم ،تمارس إسرائيل جرائم الفتك والقتل والتشريد بحق العزل
والنساء والصبيان ،ولكن ما يسمى "بالمجتمع الدولي" ال يحرك ساكنا ،بل الشجب أيضا – وما أهونه من عم ل-
ال يصدر .إنها الرؤية التي تحصر الحق كله فيها ،والباطل كله فيمن وما يعارضها.
إن في أرواحنا نماذجا للدعم الذي تتلقاه إسرائيل ،من ناس ومن أفكار ،إال إننا لم نلتفت لها جيدا .لعلنا بحاجة إلى
فحص دوري ودقيق لتوجهاتنا وميولنا ،ألجل اكتشاف سريان النزوعية وإقصاء اآلخر فينا ،إذ من النمتوقع جدا أن
يجد كل واحد منا ظاللها في كل أمر منحناه القيمة الالنهائية ،التي ال ينبغي أن تمنح إال للمقدس ات ال تي أطبقت
كلمة الشعوب بأنواعها على ضرورة احترامها ،ولألعراف األخالقية السائدة في أغلب الشعوب ،وال تي لواله ا
ألضحى الصدق سيئا والكذب حسنا ،والفضيلة ممقوتة بينما الرذيلة محبوبة .وأما غير ذلك ،فالناس ،أكانوا علماء
أم فنانون ،والنظريات أكانت علمية أم تربوية ،فهي تقبل النقد ،والتمحيص ،والترميم ،بل والتبديل أيضا.
الخطوة األولى لمنع تفرع أغصان شجرة النزوعية في أرواحنا ،وقبل أوان جني ثمرتاها المرتان ،وهما النزوعية
وإقصاء اآلخر ،علينا أن نرى أن الكون كله ،بما فيه ومن فيه ،مجال خصب لبروز آيات الخير والحكمة فيه ،فهذا
ليس حكرا على فرد دون فرد ،وجهة دون أخرى.
وما أروع الكلمة المأثورة التي تشير إلى هذه الحقيقة " أطلبوا العلم ولو في الصين" و" خذوا الحكمة ولو من أفواه
المجانين".