You are on page 1of 2

‫جغرافية الثقافة‬

‫النزوعية وإقصاء اآلخر‪..‬ثمرتان لشجرة الالوعي‬

‫محمد رضا اللواتي ‪mohammed@alroya.net‬‬

‫عندما كان الفريق األرجنتيني يتلقى هزيمته الموجعة على يد األلمان في نهائيات كأس الع الم الف ائت‪ ،‬كنت في‬
‫تجمع يزيد ‪ 22‬شخصا‪ ،‬أغلبهم‪ ،‬باستثناء ثالثة‪ ،‬كانوا يكيلون الشتائم لأللمان ويبررون الخسارة لفريقهم المفض ل‬
‫الذي كان قد سيطر تماما على عقولهم فما عادوا يستطيعون أن يدركوا جمال وقوة لعب األلمان واستحقاقهم للفوز‪،‬‬
‫وهزال وضعف وكثرة أخطاء فريقهم المفضل الذي لم يكن فعال يستحق الفوز‪ .‬واحد من أؤلئ ك بع د المب اراة‬
‫اعترف بأن الفريق المنتصر كان األفضل وتمنى أن يرمم فريقه المفضل صفوفه ويلملم أخطاءه ويعود كما ك ان‬
‫مهابا ومحبوبا‪ .‬وآخر انقلب محبا للفريق األلماني بعد أن كان يعشق الفريق األرجنتيني‪ ،‬فقد علق يقول بأنه بع د‬
‫ذلك األداء الساحر لأللمان ليس من المنطقي أن أظل عالقا في "عباءة" الفريق الخاسر والهزيل‪.‬‬

‫المتخصصون في علم النفس والفالسفة أيضا‪ ،‬إن سألناهم عن تحليلهم لحالة هؤالء المشجعين‪ ،‬لكانت إجاباتهم كلها‬
‫تصب في اعتبار أؤئلك الذين أصروا على النيل من األلمان وزادت كراهيتهم لهم ق د ابتلعتهم "النزوعي ة" ال تي‬
‫تعرف عندهم باندفاع غير واع وال رشيد باتجاه ما هو محبوب‪ .‬أما ذلك الذي ظل على حبه لمعشوقه الخاسر مع‬
‫اعترافه بأنه كان مخطئا وأن الطرف المنتصر كان صاحب حق في االنتصار لروعة أدائه‪ ،‬فأه ل االختص اص‬
‫يعبرون عن حالته بأنها النزعة في رمقها األخير‪ ،‬المتاخمة للتعقل والوعي‪ ،‬أما ذاك الذي غير موقعه من ط ابور‬
‫مشجعي الخاسر إلى طابور محبي ومشجعي المنتصر فالنزعة ليست بالوصف الصحيح له‪ ،‬وإنما التعقل وال وعي‬
‫وإدراك قيمة اآلخر من سمات شخصيته‪.‬‬

‫واآلن للنتقل إلى واقعنا المعاصر‪ ،‬وليمثل‪-‬فرضا فحسب‪ -‬الفريق الخاسر كل أشكال االهمال وقل ة المس ؤولية‬
‫والجهل‪ ،‬وليمثل الفريق المنتصر كل أشكال الجمال واألداء الباهر والعزيمة وتحمل الس مؤولية‪ ،‬وليمث ل أؤلئ ك‬
‫العاشقون للخاسر األغلبية‪ ،‬ترى ماذا سيحل بنا؟ تلك هي "النزوعية" المقيتة‪ ،‬التي يبذل الباحثون مجهودا خرافي ا‬
‫الخضاعها للتربية ولمنهج التعقل والوعي‪.‬‬

‫إذ من المعلوم أن النزعة ‪ Tendency‬والتي جذرها األعمق في اللغة العربية ينتهي إلى االنجذاب والميل‪ ،‬تع د‬
‫من أشد القطاعات غموضا في علم النفس‪ ،‬إذ أن االنجذاب إلى األكل والشرب مفهوم تماما‪ ،‬ودافعه جلي‪ ،‬كما وأن‬
‫الميل إلى الجمال والفن واالبداع جلي هو اآلخر ألن دوافعه فطرية إذ أن الشخصية البشرية تتضمن أربعة أبع اد‬
‫أشار إليها علماء النفس‪ ،‬منها الميول إلى الجمال والفن واالبداعات‪ .‬والميل إلى الشخص يات المبه رة بأعماله ا‬
‫وانتاجاتها أيضا مفهوم ودوافعه ترتمي إلى طبيعة النسق البشري‪ ،‬أما االندفاع إلى أي من هذه الحق ول‪ ،‬س واء‬
‫أكانت أفكارا أم شخصيات أم غيرها‪ ،‬إلى الحد الذي ال نعترف باآلخر‪ ،‬ونسلب منه كل الحق في الحديث‪ ،‬ونجعل‬
‫عمله وأداءه فاقدا لكل قيمة‪ ،‬ال لشيء إال أنه خالف توجهنا‪ ،‬ووجد غير ما وجدنا في معشوقنا‪ ،‬عندئذ إنن ا أم ام‬
‫ظاهرة "النزوعية" التي ال نفهم األسباب الحقيقية الكامنة وراء نشوئها‪ .‬إنها بذرة نمت في مزرعة ال يشرف عليها‬
‫الوعي‪ ،‬حتى غدت شجرة فارعة الطول‪ ،‬شديدة القبح‪ ،‬تخرج ثمارا تنضح بإقصاء اآلخر وحقوقه في التعب ير عن‬
‫حبه ورفضه‪ ،‬ليس ذاك إال ألن حبه ال يتعلق بمحبوبنا‪ ،‬ورفضه ينال من معشوقنا‪.‬‬
‫ال عجب‪ ،‬أن يصف الشيخ الرئيس ابن سينا‪ ،‬النزعة بأنها تتغذى على الشهوة والغضب! يا له من دقة تصدر عن‬
‫رجل خاض غمار النفس من أوسع أبوابها‪ .‬فالشهوة تؤجج نارا التعلق بالمعشوق وعدم رؤية غ يره‪ ،‬والغض ب‬
‫يؤجج كراهية كل من يخالفه في قول أو فعل أو يجرؤ على نقده والكشف عن ضعفه ونقصه‪.‬‬

‫يحاول الباحثون في هذا القطاع من علم النفس‪ ،‬عبثا‪ ،‬بلوغ الغاية التي تستهدفها النزعة‪ ،‬كحركة تنمو بعي دا عن‬
‫الوعي وترفض جميع أشكال التعقل‪ ،‬غرضها النهائي لذة ما‪ ،‬إال أن طبيعتها عصية على الفهم فعال‪ .‬ففي ال وقت‬
‫الذي كان ينبغي أن يكون االبداع واالبتكار والفن والجمال‪ ،‬في أي مجال كان‪ ،‬محط إعج اب النفس ومعش وقها‪،‬‬
‫والخطأ والقبح محط بغضها‪ ،‬نرى أنهما يرتقيان إلى أسمى الدرجات‪ ،‬بينما يتراجع االبداع واالبتك ار والجم ال‬
‫ليصبح مشينا عندها‪ ،‬ذلك ألن النزوعية قد تفشت بأشد صورها‪ ،‬فجعلت االتجاه المحبوب‪ ،‬أو الفرد المطل وب‪ ،‬أو‬
‫الفن المعشوق‪ ،‬هو األوحد‪ ،‬وكل ما سواه فباطل! اليوم‪ ،‬تمارس إسرائيل جرائم الفتك والقتل والتشريد بحق العزل‬
‫والنساء والصبيان‪ ،‬ولكن ما يسمى "بالمجتمع الدولي" ال يحرك ساكنا‪ ،‬بل الشجب أيضا – وما أهونه من عم ل‪-‬‬
‫ال يصدر‪ .‬إنها الرؤية التي تحصر الحق كله فيها‪ ،‬والباطل كله فيمن وما يعارضها‪.‬‬

‫إن في أرواحنا نماذجا للدعم الذي تتلقاه إسرائيل‪ ،‬من ناس ومن أفكار‪ ،‬إال إننا لم نلتفت لها جيدا‪ .‬لعلنا بحاجة إلى‬
‫فحص دوري ودقيق لتوجهاتنا وميولنا‪ ،‬ألجل اكتشاف سريان النزوعية وإقصاء اآلخر فينا‪ ،‬إذ من النمتوقع جدا أن‬
‫يجد كل واحد منا ظاللها في كل أمر منحناه القيمة الالنهائية‪ ،‬التي ال ينبغي أن تمنح إال للمقدس ات ال تي أطبقت‬
‫كلمة الشعوب بأنواعها على ضرورة احترامها‪ ،‬ولألعراف األخالقية السائدة في أغلب الشعوب‪ ،‬وال تي لواله ا‬
‫ألضحى الصدق سيئا والكذب حسنا‪ ،‬والفضيلة ممقوتة بينما الرذيلة محبوبة‪ .‬وأما غير ذلك‪ ،‬فالناس‪ ،‬أكانوا علماء‬
‫أم فنانون‪ ،‬والنظريات أكانت علمية أم تربوية‪ ،‬فهي تقبل النقد‪ ،‬والتمحيص‪ ،‬والترميم‪ ،‬بل والتبديل أيضا‪.‬‬

‫الخطوة األولى لمنع تفرع أغصان شجرة النزوعية في أرواحنا‪ ،‬وقبل أوان جني ثمرتاها المرتان‪ ،‬وهما النزوعية‬
‫وإقصاء اآلخر‪ ،‬علينا أن نرى أن الكون كله‪ ،‬بما فيه ومن فيه‪ ،‬مجال خصب لبروز آيات الخير والحكمة فيه‪ ،‬فهذا‬
‫ليس حكرا على فرد دون فرد‪ ،‬وجهة دون أخرى‪.‬‬

‫وما أروع الكلمة المأثورة التي تشير إلى هذه الحقيقة " أطلبوا العلم ولو في الصين" و" خذوا الحكمة ولو من أفواه‬
‫المجانين"‪.‬‬

You might also like