You are on page 1of 3

‫االجتهاد في عشر ذي الحجة‬

‫خالد بن سعود البليهد‬

‫الحمد هلل والصالة والسالم على رسول هللا‪ .‬وبعد فإن هللا عز وجل شرع لعباده مواسما للخيرات وأوقاتا فاضالت لكي‬
‫يتعرض العبد لنفحات ربه ويرفع درجاته ويحط سيئاته ويكثر من حسناته ويجدد العهد بربه وذلك أن االنسان تصيبه الغفلة‬
‫‪.‬في كثير من أوقات السنة فلما كان هذا حال اإلنسان شرع له هذه المواسم لتطرد عنه هذه الغفلة وتقوي صلته بربه‬

‫وإن من هذه األوقات الفاضلة التي شرعها هللا وميزها على سائر األوقات< العشر األوائل من ذي الحجة التي دل الشرع‬
‫(و ْال َفجْ ِر َولَ َي ٍ‬
‫ال َع ْش ٍر )‪ .‬قال ابن كثير في تفسيره‪( :‬والليالي العشر المراد بها‬ ‫على أنها أفضل أيام السنة‪ .‬قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف)‪ .‬و قد أقسم هللا بها مما يدل على‬
‫كمال فضلها‪ .‬وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ما من أيام العمل‬
‫الصالح فيها أحب إلى هللا من هذه األيام يعني أيام العشر قالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬وال الجهاد في سبيل هللا؟ قال‪ :‬وال الجهاد في‬
‫‪.‬سبيل هللا‪ ،‬إال رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)‬

‫فيستحب< للمسلم في هذه العشر اإلكثار من األعمال الصالحة بجميع أجناسها وأنواعها ألن العمل الصالح يتفاضل ويكثر‬
‫ثوابه ويقوى أثره في صالح العامل في الزمن الذي خصه هللا بمزيد من الفضل‪ .‬قال مجاهد‪( :‬العمل في العشر يضاعف)‪.‬‬
‫وقال ابن رجب‪( :‬وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى هللا من العمل في غيره من أيا السنة كلها صار العمل‬
‫‪:‬فيه وإن كان مفضوال أفضل من العمل في غيره وإن كان فاضال)‪ .‬وهذا بيان لتلكم األعمال‬

‫فمن ذلك أن يعتني عناية فائقة بأداء الصلوات المفروضات على أكمل وجه من التبكير لها وإتمام ركوعها وسجودها )‪(1‬‬
‫وتحقيق خشوعها وإحسان الوقوف بين يدي هللا عز وجل فإن الصالة من أعظم األعمال البدنية التي عظم الشارع شأنها‬
‫‪ .‬ففي الصحيحين‪( :‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم سئل أي العمل أحب إلى هللا تعالى قال الصالة على وقتها)‬

‫ومن ذلك الحرص الشديد على فعل النوافل والتطوعات فينبغي للمسلم أن يكثر من الركعات والسجدات وأن يتقرب )‪(2‬‬
‫إلى هللا بصالة الضحى والسنن الرواتب وصالة الوتر وقيام الليل والتطوع المطلق‪ .‬وقد كان سعيد بن المسيب يجتهد في‬
‫‪ .‬هذه العشر اجتهادا حتى ما يكاد يقدر عليه ويقول‪( :‬ال تطفئوا سرجكم ليالي العشر)‬

‫ومن ذلك أن يصوم المسلم ما تيسر له من النفل في هذه العشر فإن كان يستطيع صوم أكثر هذه األيام فحسن وإن كان )‪(3‬‬
‫يشق عليه ذلك أو يفوت عليه مصلحة أو يخل بواجب فإنه يصوم يوما أو أكثر وآكدها صوم يوم عرفة لغير الحاج فقد‬
‫روي فيه ثواب عظيم‪ .‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬صيام يوم عرفة أحتسب على هللا أن يكفر السنة التي قبله‬
‫والتي بعده)‪ .‬رواه مسلم‪ .‬وقد روى أن النبي صلى هللا عليه وسلم كان يصوم هذه العشر كما في حديث حفصة عند أهل‬
‫السنن ولكن هذا الخبر ال يصح في هذا وقد نفت عائشة رضي هللا عنها صومه للعشر ومع أنه لم يرد دليل خاص يدل‬
‫على فضل الصوم بخصوصه في العشر إال أن الصوم من أفضل جنس األعمال ألن هللا اصطفاه لنفسه فهو داخل في‬
‫عموم حديث ابن عباس دخوال ظاهر قال ابن رجب‪( :‬وقد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع األعمال الصالحة في‬
‫العشر من غير استثناء شيء منها)‪ .‬فال شك في فضله والترغيب فيه لكنه ليس في منزلة الصوم الواجب وال الصوم‬
‫المتأكد كصوم ست من شوال وغيرها مما نص الشارع على استحبابه فال ينبغي التشديد فيه‪ .‬وقد روي عن طائفة من‬
‫السلف صومها كابن عمر وغيره واستحب صيام العشر أكثر الفقهاء‪ .‬وأما نفي عائشة صوم النبي للعشر فال يدل على عدم‬
‫مشروعيتها ألنه يحمل على اشتغاله عنها بما هو أهم كتركه لصالة الضحى أو على أن هذا هو غالب هديه أو مقصودها‬
‫‪.‬أنه لم يكن يصوم جميع العشر‬

‫ومن ذلك يشرع للمسلم اإلكثار من ذكر هللا تعالى من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير لقوله صلى هللا عليه وسلم‪(4) :‬‬
‫(ما من أيام أعظم عند هللا وال أحب إليه العمل فيهن من هذه األيام العشر‪ ،‬فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)‬
‫‪.‬رواه أحمد‬

‫(و َي ْذ ُكرُوا اسْ َم هَّللا ِ فِي أَي ٍَّام َمعْ لُو َماتٍ)‪(5) .‬‬
‫ومن ذلك يستحب أيضا أن يكثر من التكبير المطلق في هذه العشر لقوله تعالى‪َ :‬‬
‫وصيغة التكبير الواردة عن التابعين‪( :‬هللا أكبر هللا أكبر ال إله إال هللا هللا أكبر هللا أكبر وهلل الحمد)‪ .‬فيكبر سائر األوقات< في‬
‫بيته وسوقه وعمله وطريقه وكل موضع إال ما يكره ذكر هللا فيه‪ .‬قال البخاري‪( :‬كان ابن عمر وأبو هريرة رضي هللا‬
‫عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما)‪ .‬والسنة الجهر بذلك وينبغي للمسلم إظهار هذه‬
‫‪.‬الشعيرة واالعتزاز بدينه وال يخجل من الناس أو يخشى انتقادهم في إظهار هذه العبادة‬

‫ومن ذلك يستحب له أن يكثر من تالوة كتاب هللا ما استطاع إلى ذلك سبيال فإن تيسر له ختمه فهذا فعل حسن‪ .‬وقد )‪(6‬‬
‫‪.‬ورد فضل عظيم في تالوة القرآن وتدبره والوقوف على معانيه‬

‫ومن ذلك تستحب الصدقة والبذل واإلحسان ألنه من المقرر في دالئل الشرع وكالم العلماء أن الصدقة تكون فاضلة )‪(7‬‬
‫في الزمان الفاضل والمكان الفاضل‪ .‬فينبغي له أن يتعاهد الفقراء والمساكين بالصدقة وبذل المعروف للناس ويسعى في‬
‫قضاء حوائجهم في هذه العشر الفاضلة وقد كان النبي صلى هللا عليه وسلم كثير البر واإلحسان في األزمان الفاضلة وكان‬
‫السلف الصالح يتحرون البذل في هذه العشر (كان حكيم بن حزام يقف بعرفة ومعه مئة بدنة مقلدة ومئة رقبة فيعتق رقيقه‬
‫‪ .‬فيضج الناس بالبكاء والدعاء يقولون‪ :‬ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده ونحن عبيدك فأعتقنا)‬

‫ومن أعظم األعمال في هذه العشر حج بيت هللا الحرام وقصد بيته ألداء المناسك لمن تيسر له‪ .‬قال رسول هللا صلى )‪(8‬‬
‫هللا عليه وسلم‪( :‬الحج المبرور ليس له جزاء إال الجنة)‪ .‬متفق عليه‪ .‬وقال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬من حج فلم يرفث ولم‬
‫يفسق رجع كيوم ولدته أمه)‪ .‬متفق عليه‪ .‬فإن لم يتيسر له حج التطوع لشغل أو بر أم أو تمريض قريب أو قيام بمصالح‬
‫العيال وكان واجدا للمال فيستحب له أن يتكفل بنفقة الحج لمن لم يسبق له أداء الفرض فيتبرع له فإنه يرجى له ثواب الحج‬
‫كامال مثل ثواب العامل‪ .‬وقد قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬من جهز غازيا في سبيل هللا فقد غزا ومن خلفه في أهله‬
‫‪.‬بخير فقد غزا)‪ .‬متفق عليه‬

‫ومن أجل األعمال في هذه العشر التي يظهر فيها التذلل وتعظيم الرب ذبح األضحية تقربا هلل وهو سنة مؤكدة على )‪(9‬‬
‫الصحيح من مذاهب الفقهاء‪ .‬وقد ثبت في الصحيحين‪( :‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما‬
‫بيده وسمى وكبّر ووضع رجله على صفاحهما)‪ .‬فينبغي على المسلم القادر في ماله أن ال يفرط في هذه الشعيرة العظيمة‬
‫متى ما كان األمر متيسرا له ألنها سنة أبينا إبراهيم عليه الصالة والسالم وواظب عليها نبينا محمد اتباعا له وحض عليها‬
‫‪.‬وشدد في تركها‬
‫ومن أوكد األعمال في هذه العشر وغيرها التوبة واإلنابة إلى هللا واإلكثار من االستغفار والتخلص من الذنوب )‪(10‬‬
‫ِين آَ َم ُنوا ُتوبُوا إِلَى هَّللا ِ َت ْو َب ًة َنصُوحً ا َع َسى َر ُّب ُك ْم أَنْ ُي َك ِّف َر َع ْن ُك ْم َس ِّي َئا ِت ُك ْم‬
‫الدائمة والعادات القبيحة‪ .‬قال تعالى‪َ ( :‬يا أَ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ت َتجْ ِري مِنْ َتحْ ِت َها اأْل َ ْن َه ارُ)‪ .‬وليحذر من اإلصرار على الكبائر قال ابن رجب‪( :‬احذروا المعاصي فإنها< تحرم‬ ‫َوي ُْد ِخلَ ُك ْم َج َّنا ٍ‬
‫‪.‬المغفرة في مواسم الرحمة)‬

‫إن هذه العشر الفاضلة فرصة عظيمة لتغيير حياة المسلم إلى األفضل ونقله من حالة الغفلة والتقصير والجفاء إلى حالة‬
‫الذكر والمسابقة والعطاء‪ .‬فينبغي للمسلم أن يستصلح قلبه ويزكي نفسه بهذه األعمال وأن يستحضر صدق النية واالحتساب‬
‫والتذلل واالفتقار هلل ويحذر العجب والمنة وال يكون همه سرعة انقضاء العمل وإنما التدبر واالهتمام بصالح العمل‬
‫‪.‬واالنتفاع به‬

‫وختاما ينبغي للمسلم أن يجتهد اجتهادا كبيرا في هذه العشر وينقطع للعبادة ويفرغ وقته ألداء الذكر والنسك والتقرب هلل‬
‫بأنواع القرب على حسب استطاعته وأن يعتزل الناس والعالقات< االجتماعية والزيارات والرحالت التي ال طائل ورائها‬
‫وال نفع يرجى منها ما استطاع إلى ذلك سبيال‪ .‬أما مجالس العلم واإليمان في بيان كالم الرحمن وشرح السنة ودروس الفقه‬
‫فهذه من أجل األعمال فلينشط فيها وليحرص على شهودها ودعوة الناس إلى الخير وتبليغ الدين فإن هذه المناسبات فرصة‬
‫عظيمة للداعية في تبصير الناس بدينهم وتتويبهم ألن القلوب مقبلة والنفوس مخبتة متشوفة لسماع الحق وواعظ النفوس‬
‫‪.‬فيها حاضر‬

You might also like