Professional Documents
Culture Documents
الاجتهاد في عشر ذي الحجة
الاجتهاد في عشر ذي الحجة
الحمد هلل والصالة والسالم على رسول هللا .وبعد فإن هللا عز وجل شرع لعباده مواسما للخيرات وأوقاتا فاضالت لكي
يتعرض العبد لنفحات ربه ويرفع درجاته ويحط سيئاته ويكثر من حسناته ويجدد العهد بربه وذلك أن االنسان تصيبه الغفلة
.في كثير من أوقات السنة فلما كان هذا حال اإلنسان شرع له هذه المواسم لتطرد عنه هذه الغفلة وتقوي صلته بربه
وإن من هذه األوقات الفاضلة التي شرعها هللا وميزها على سائر األوقات< العشر األوائل من ذي الحجة التي دل الشرع
(و ْال َفجْ ِر َولَ َي ٍ
ال َع ْش ٍر ) .قال ابن كثير في تفسيره( :والليالي العشر المراد بها على أنها أفضل أيام السنة .قال هللا تعالىَ :
عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف) .و قد أقسم هللا بها مما يدل على
كمال فضلها .وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :ما من أيام العمل
الصالح فيها أحب إلى هللا من هذه األيام يعني أيام العشر قالوا :يا رسول هللا ،وال الجهاد في سبيل هللا؟ قال :وال الجهاد في
.سبيل هللا ،إال رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)
فيستحب< للمسلم في هذه العشر اإلكثار من األعمال الصالحة بجميع أجناسها وأنواعها ألن العمل الصالح يتفاضل ويكثر
ثوابه ويقوى أثره في صالح العامل في الزمن الذي خصه هللا بمزيد من الفضل .قال مجاهد( :العمل في العشر يضاعف).
وقال ابن رجب( :وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى هللا من العمل في غيره من أيا السنة كلها صار العمل
:فيه وإن كان مفضوال أفضل من العمل في غيره وإن كان فاضال) .وهذا بيان لتلكم األعمال
فمن ذلك أن يعتني عناية فائقة بأداء الصلوات المفروضات على أكمل وجه من التبكير لها وإتمام ركوعها وسجودها )(1
وتحقيق خشوعها وإحسان الوقوف بين يدي هللا عز وجل فإن الصالة من أعظم األعمال البدنية التي عظم الشارع شأنها
.ففي الصحيحين( :أن النبي صلى هللا عليه وسلم سئل أي العمل أحب إلى هللا تعالى قال الصالة على وقتها)
ومن ذلك الحرص الشديد على فعل النوافل والتطوعات فينبغي للمسلم أن يكثر من الركعات والسجدات وأن يتقرب )(2
إلى هللا بصالة الضحى والسنن الرواتب وصالة الوتر وقيام الليل والتطوع المطلق .وقد كان سعيد بن المسيب يجتهد في
.هذه العشر اجتهادا حتى ما يكاد يقدر عليه ويقول( :ال تطفئوا سرجكم ليالي العشر)
ومن ذلك أن يصوم المسلم ما تيسر له من النفل في هذه العشر فإن كان يستطيع صوم أكثر هذه األيام فحسن وإن كان )(3
يشق عليه ذلك أو يفوت عليه مصلحة أو يخل بواجب فإنه يصوم يوما أو أكثر وآكدها صوم يوم عرفة لغير الحاج فقد
روي فيه ثواب عظيم .قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :صيام يوم عرفة أحتسب على هللا أن يكفر السنة التي قبله
والتي بعده) .رواه مسلم .وقد روى أن النبي صلى هللا عليه وسلم كان يصوم هذه العشر كما في حديث حفصة عند أهل
السنن ولكن هذا الخبر ال يصح في هذا وقد نفت عائشة رضي هللا عنها صومه للعشر ومع أنه لم يرد دليل خاص يدل
على فضل الصوم بخصوصه في العشر إال أن الصوم من أفضل جنس األعمال ألن هللا اصطفاه لنفسه فهو داخل في
عموم حديث ابن عباس دخوال ظاهر قال ابن رجب( :وقد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع األعمال الصالحة في
العشر من غير استثناء شيء منها) .فال شك في فضله والترغيب فيه لكنه ليس في منزلة الصوم الواجب وال الصوم
المتأكد كصوم ست من شوال وغيرها مما نص الشارع على استحبابه فال ينبغي التشديد فيه .وقد روي عن طائفة من
السلف صومها كابن عمر وغيره واستحب صيام العشر أكثر الفقهاء .وأما نفي عائشة صوم النبي للعشر فال يدل على عدم
مشروعيتها ألنه يحمل على اشتغاله عنها بما هو أهم كتركه لصالة الضحى أو على أن هذا هو غالب هديه أو مقصودها
.أنه لم يكن يصوم جميع العشر
ومن ذلك يشرع للمسلم اإلكثار من ذكر هللا تعالى من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير لقوله صلى هللا عليه وسلم(4) :
(ما من أيام أعظم عند هللا وال أحب إليه العمل فيهن من هذه األيام العشر ،فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)
.رواه أحمد
(و َي ْذ ُكرُوا اسْ َم هَّللا ِ فِي أَي ٍَّام َمعْ لُو َماتٍ)(5) .
ومن ذلك يستحب أيضا أن يكثر من التكبير المطلق في هذه العشر لقوله تعالىَ :
وصيغة التكبير الواردة عن التابعين( :هللا أكبر هللا أكبر ال إله إال هللا هللا أكبر هللا أكبر وهلل الحمد) .فيكبر سائر األوقات< في
بيته وسوقه وعمله وطريقه وكل موضع إال ما يكره ذكر هللا فيه .قال البخاري( :كان ابن عمر وأبو هريرة رضي هللا
عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما) .والسنة الجهر بذلك وينبغي للمسلم إظهار هذه
.الشعيرة واالعتزاز بدينه وال يخجل من الناس أو يخشى انتقادهم في إظهار هذه العبادة
ومن ذلك يستحب له أن يكثر من تالوة كتاب هللا ما استطاع إلى ذلك سبيال فإن تيسر له ختمه فهذا فعل حسن .وقد )(6
.ورد فضل عظيم في تالوة القرآن وتدبره والوقوف على معانيه
ومن ذلك تستحب الصدقة والبذل واإلحسان ألنه من المقرر في دالئل الشرع وكالم العلماء أن الصدقة تكون فاضلة )(7
في الزمان الفاضل والمكان الفاضل .فينبغي له أن يتعاهد الفقراء والمساكين بالصدقة وبذل المعروف للناس ويسعى في
قضاء حوائجهم في هذه العشر الفاضلة وقد كان النبي صلى هللا عليه وسلم كثير البر واإلحسان في األزمان الفاضلة وكان
السلف الصالح يتحرون البذل في هذه العشر (كان حكيم بن حزام يقف بعرفة ومعه مئة بدنة مقلدة ومئة رقبة فيعتق رقيقه
.فيضج الناس بالبكاء والدعاء يقولون :ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده ونحن عبيدك فأعتقنا)
ومن أعظم األعمال في هذه العشر حج بيت هللا الحرام وقصد بيته ألداء المناسك لمن تيسر له .قال رسول هللا صلى )(8
هللا عليه وسلم( :الحج المبرور ليس له جزاء إال الجنة) .متفق عليه .وقال صلى هللا عليه وسلم( :من حج فلم يرفث ولم
يفسق رجع كيوم ولدته أمه) .متفق عليه .فإن لم يتيسر له حج التطوع لشغل أو بر أم أو تمريض قريب أو قيام بمصالح
العيال وكان واجدا للمال فيستحب له أن يتكفل بنفقة الحج لمن لم يسبق له أداء الفرض فيتبرع له فإنه يرجى له ثواب الحج
كامال مثل ثواب العامل .وقد قال النبي صلى هللا عليه وسلم( :من جهز غازيا في سبيل هللا فقد غزا ومن خلفه في أهله
.بخير فقد غزا) .متفق عليه
ومن أجل األعمال في هذه العشر التي يظهر فيها التذلل وتعظيم الرب ذبح األضحية تقربا هلل وهو سنة مؤكدة على )(9
الصحيح من مذاهب الفقهاء .وقد ثبت في الصحيحين( :أن النبي صلى هللا عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما
بيده وسمى وكبّر ووضع رجله على صفاحهما) .فينبغي على المسلم القادر في ماله أن ال يفرط في هذه الشعيرة العظيمة
متى ما كان األمر متيسرا له ألنها سنة أبينا إبراهيم عليه الصالة والسالم وواظب عليها نبينا محمد اتباعا له وحض عليها
.وشدد في تركها
ومن أوكد األعمال في هذه العشر وغيرها التوبة واإلنابة إلى هللا واإلكثار من االستغفار والتخلص من الذنوب )(10
ِين آَ َم ُنوا ُتوبُوا إِلَى هَّللا ِ َت ْو َب ًة َنصُوحً ا َع َسى َر ُّب ُك ْم أَنْ ُي َك ِّف َر َع ْن ُك ْم َس ِّي َئا ِت ُك ْم
الدائمة والعادات القبيحة .قال تعالىَ ( :يا أَ ُّي َها الَّذ َ
ت َتجْ ِري مِنْ َتحْ ِت َها اأْل َ ْن َه ارُ) .وليحذر من اإلصرار على الكبائر قال ابن رجب( :احذروا المعاصي فإنها< تحرم َوي ُْد ِخلَ ُك ْم َج َّنا ٍ
.المغفرة في مواسم الرحمة)
إن هذه العشر الفاضلة فرصة عظيمة لتغيير حياة المسلم إلى األفضل ونقله من حالة الغفلة والتقصير والجفاء إلى حالة
الذكر والمسابقة والعطاء .فينبغي للمسلم أن يستصلح قلبه ويزكي نفسه بهذه األعمال وأن يستحضر صدق النية واالحتساب
والتذلل واالفتقار هلل ويحذر العجب والمنة وال يكون همه سرعة انقضاء العمل وإنما التدبر واالهتمام بصالح العمل
.واالنتفاع به
وختاما ينبغي للمسلم أن يجتهد اجتهادا كبيرا في هذه العشر وينقطع للعبادة ويفرغ وقته ألداء الذكر والنسك والتقرب هلل
بأنواع القرب على حسب استطاعته وأن يعتزل الناس والعالقات< االجتماعية والزيارات والرحالت التي ال طائل ورائها
وال نفع يرجى منها ما استطاع إلى ذلك سبيال .أما مجالس العلم واإليمان في بيان كالم الرحمن وشرح السنة ودروس الفقه
فهذه من أجل األعمال فلينشط فيها وليحرص على شهودها ودعوة الناس إلى الخير وتبليغ الدين فإن هذه المناسبات فرصة
عظيمة للداعية في تبصير الناس بدينهم وتتويبهم ألن القلوب مقبلة والنفوس مخبتة متشوفة لسماع الحق وواعظ النفوس
.فيها حاضر