Professional Documents
Culture Documents
ابن تيمية > معارج الوصول
ابن تيمية > معارج الوصول
الوصول
شيخ السلم ابن تيمية
مكتبة مشكاة السلمية
1
بسم ال الرحن الرحيم
قال الشيخ المام العال تقي الدين أوحد الجتهدين أحد ابن تيمية -قدس ال
روحه ونور ضريه.
المد ل نمده ونستعينه ؛ ونستهديه ونستغفره ونعوذ بال من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا من يهد ال فل مضل له ومن يضلل فل هادي له ونشهد أن
ل إله إل ال وحده ل شريك له ؛ ونشهد أن ممدا عبده ورسوله صلى ال عليه
وسلم تسليما .
فصل ف أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بي جيع الدين أصوله وفروعه ؛
باطنه وظاهره علمه وعمله فإن هذا الصل هو أصل أصول العلم واليان وكل
من كان أعظم اعتصاما بذا الصل كان أول بالق علما وعمل ومن كان أبعد
عن الق علما وعمل :كالقرامطة والتفلسفة الذين يظنون :أن الرسل ما كانوا
يعلمون حقائق العلوم اللية والكلية وإنا يعرف ذلك بزعمهم من يعرفه من
التفلسفة ويقولون :خاصة النبوة هي التخييل ويعلون النبوة أفضل من غيها
عند المهور ل عند أهل العرفة كما يقول هذا ونوه الفاراب وأمثاله مثل مبشر
ابن فاتك وأمثاله من الساعيلية .وآخرون يعترفون بأن الرسول علم القائق
لكن يقولون :ل يبينها بل خاطب المهور بالتخييل فيجعلون التخييل ف خطابه
ل ف علمه كما يقول ذلك ابن سينا وأمثاله .وآخرون يعترفون بأن الرسل
علموا الق وبينوه لكن يقولون :ل يكن معرفته من كلمهم بل يعرف بطريق
آخر :إما العقول عند طائفة ؛ وإما الكاشفة عند طائفة ؛ إما قياس فلسفي ؛
وإما خيال صوف .ث بعد ذلك ينظر ف كلم الرسول فما وافق ذلك قبل وما
خالفه ؛ إما أن يفوض ؛ وإما أن يؤول .وهذه طريقة كثي من أهل الكلم
الهمية والعتزلة ؛ وهي طريقة خيار الباطنية والفلسفة الذين يعظمون الرسول
وينهونه عن الهل والكذب لكن يدخلون ف التأويل .وأبو حامد الغزال لا
2
ذكر ف كتابه طرق الناس ف التأويل ؛ وأن الفلسفة زادوا فيه حت انلوا ؛ وإن
الق بي جود النابلة وبي انلل الفلسفة ؛ وأن ذلك ل يعرف من جهة
السمع بل تعرف الق بنور يقذف ف قلبك ؛ ث ينظر ف السمع :فما وافق ذلك
قبلته وإل فل .وكان مقصوده بالفلسفة التأولي خيار الفلسفة وهم الذين
يعظمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة ولكن هؤلء وقعوا ف نظي ما فروا
منه نسبوه إل التلبيس والتعمية وإضلل اللق بل إل أن يظهر الباطل ويكتم
الق .وابن سينا وأمثاله لا عرفوا أن كلم الرسول ل يتمل هذه التأويلت
الفلسفية ؛ بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الطاب :سلك مسلك التخييل وقال :
إنه خاطب المهور با ييل إليهم ؛ مع علمه أن الق ف نفس المر ليس كذلك
.فهؤلء يقولون :إن الرسل كذبوا للمصلحة .وهذا طريق ابن رشد الفيد
وأمثاله من الباطنية فالذين عظموا الرسل من هؤلء عن الكذب نسبوهم إل
التلبيس والضلل والذين أقروا بأنم بينوا الق قالوا :إنم كذبوا للمصلحة .
وأما أهل العلم واليان فمتفقون على أن الرسل ل يقولوا إل الق وأنم بينوه مع
علمهم بأنم أعلم اللق بالق فهم الصادقون الصدوقون علموا الق وبينوه فمن
قال :إنم كذبوا للمصلحة فهو من إخوان الكذبي للرسل لكن هذا لا رأى ما
عملوا من الي والعدل ف العال ل يكنه أن يقول :كذبوا لطلب العلو والفساد
بل قال :كذبوا لصلحة اللق .كما يكى عن ابن التومرت وأمثاله .ولذا
كان هؤلء ل يفرقون بي النب والساحر إل من جهة حسن القصد فإن النب
يقصد الي والساحر يقصد الشر وإل فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى
نفسانية وكلها عندهم يكذب ؛ لكن الساحر يكذب للعلو والفساد والنب
عندهم يكذب للمصلحة ؛ إذ ل يكنه إقامة العدل فيهم إل بنوع من الكذب .
والذين علموا أن النبوة تناقض الكذب على ال وأن النب ل يكون إل صادقا من
هؤلء قالوا :إنم ل يبينوا الق ولو أنم قالوا :سكتوا عن بيانه لكان أقل إلادا
3
لكن قالوا :إنم أخبوا با يظهر منه للناس الباطل ول يبينوا لم الق فعندهم
أنم جعوا بي شيئي :بي كتمان حق ل يبينوه ؛ وبي إظهار ما يدل على
الباطل وإن كانوا ل يقصدوا الباطل فجعلوا كلمهم من جنس العاريض الت
يعن با التكلم معن صحيحا لكن ل يفهم الستمع منها إل الباطل .وإذا قالوا :
قصدوا التعريض كان أقل إلادا من قال :إنم قصدوا الكذب .والتعريض نوع
من الكذب ؛ إذ كان كذبا ف الفهام ؛ ولذا قال النب صلى ال عليه وسلم {
إن إبراهيم ل يكذب إل ثلث كذبات كلهن ف ذات ال } وهي معاريض
كقوله عن سارة :إنا أخت ؛ إذ كان ليس هناك مؤمن إل هو وهي .وهؤلء
يقولون :إن كلم إبراهيم وعامة النبياء ما أخبوا به عن الغيب كذب من
العاريض .وأما جهور التكلمي فل يقولون بذا بل يقولون :قصدوا البيان
دون التعريض .لكن مع هذا يقول الهمية ونوهم :إن بيان الق ليس ف
خطابم بل إنا ف خطابم ما يدل على الباطل .والتكلمون من الهمية والعتزلة
والشعرية ونوهم من سلك ف إثبات الصانع طريق العراض يقولون :إن
الصحابة ل يبينوا أصول الدين بل ول الرسول :إما لشغلهم بالهاد ؛ أو لغي
ذلك .وقد بسطنا الكلم على هؤلء ف غي هذا الوضع وبينا أن أصول الدين
الق الذي أنزل ال به كتابه وأرسل به رسوله وهي الدلة والباهي واليات
الدالة على ذلك :قد بينها الرسول أحسن بيان وأنه دل الناس وهداهم إل الدلة
العقلية والباهي اليقينية الت با يعلمون الطالب اللية وبا يعلمون إثبات ربوبية
ال ووحدانيته وصفاته وصدق رسوله والعاد وغي ذلك ما يتاج إل معرفته
بالدلة العقلية بل وما يكن بيانه بالدلة العقلية وإن كان ل يتاج إليها ؛ فإن
كثيا من المور تعرف بالب الصادق ومع هذا فالرسول بي الدلة العقلية الدالة
عليها ؛ فجمع بي الطريقي :السمعي ؛ والعقلي .وبينا أن دللة الكتاب والسنة
على أصول الدين ليست بجرد الب ؛ كما تظنه طائفة من الغالطي من أهل
4
الكلم والديث والفقهاء والصوفية وغيهم بل الكتاب والسنة دل اللق
وهدياهم إل اليات والباهي والدلة البينة لصول الدين وهؤلء الغالطون
الذين أعرضوا عما ف القرآن من الدلئل العقلية والباهي اليقينية صاروا إذا
صنفوا ف أصول الدين أحزابا :حزب :يقدمون ف كتبهم الكلم ف النظر
والدليل والعلم وأن النظر يوجب العلم وأنه واجب ويتكلمون ف جنس النظر
وجنس الدليل وجنس العلم بكلم قد اختلط فيه الق بالباطل ث إذا صاروا إل
ما هو الصل والدليل للذين استدلوا بدوث العراض على حدوث الجسام
وهو دليل مبتدع ف الشرع وباطل ف العقل .والزب الثان :عرفوا أن هذا
الكلم مبتدع وهو مستلزم مالفة الكتاب والسنة وعنه ينشأ القول بأن القرآن
ملوق وأن ال ل يرى ف الخرة وليس فوق العرش ونو ذلك من بدع الهمية
فصنفوا كتبا قدموا فيها ما يدل على وجوب العتصام بالكتاب والسنة من
القرآن والديث وكلم السلف وذكروا أشياء صحيحة لكنهم قد يلطون الثار
صحيحها بضعيفها وقد يستدلون با ل يدل على الطلوب .وأيضا فهم إنا
يستدلون بالقرآن من جهة إخباره ل من جهة دللته فل يذكرون ما فيه من
الدلة على إثبات الربوبية والوحدانية والنبوة والعاد ؛ وأنه قد بي الدلة العقلية
الدالة على ذلك ؛ ولذا سوا كتبهم أصول السنة والشريعة ونو ذلك وجعلوا
اليان بالرسول قد استقر فل يتاج أن يبي الدلة الدالة عليه فذمهم أولئك
ونسبوهم إل الهل ؛ إذ ل يذكروا الصول الدالة على صدق الرسول ؛ وهؤلء
ينسبون أولئك إل البدعة بل إل الكفر لكونم أصلوا أصول تالف ما قاله
الرسول .والطائفتان يلحقهما اللم ؛ لكونما أعرضتا عن الصول الت بينها ال
بكتابه فإنا أصول الدين وأدلته وآياته فلما أعرض عنها الطائفتان وقع بينهما
العداوة ؛ كما قال ال تعال { :فنسوا حظا ما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة
والبغضاء إل يوم القيامة } .وحزب ثالث :قد عرف تفريط هؤلء وتعدي
5
أولئك وبدعتهم فذمهم وذم طالب العلم الذكي الذي اشتاقت نفسه إل معرفة
الدلة والروج عن التقليد إذا سلك طريقهم وقال :إن طريقهم ضارة وأن
السلف ل يسلكوها ونو ذلك ما يقتضي ذمها وهو كلم صحيح لكنه إنا يدل
على أمر ممل ل تتبي دللته على الطلوب بل قد يعتقد طريق التكلمي مع قوله
:إنه بدعة ول يفتح أبواب الدلة الت ذكرها ال ف القرآن الت تبي أن ما جاء
به الرسول حق ويرج الذكي بعرفتها عن التقليد وعن الضلل والبدعة والهل
.فهؤلء أضل بفرقهم ؛ لنم ل يتدبروا القرآن وأعرضوا عن آيات ال الت بينها
بكتابه كما يعرض من يعرض عن آيات ال الخلوقة قال ال تعال { :وكأين
من آية ف السماوات والرض يرون عليها وهم عنها معرضون } وقال تعال :
{ وما تغن اليات والنذر عن قوم ل يؤمنون } وقال تعال { :إن الذين ل
يرجون لقاءنا ورضوا بالياة الدنيا واطمأنوا با والذين هم عن آياتنا غافلون }
{ أولئك مأواهم النار با كانوا يكسبون } وقال تعال { :كتاب أنزلناه إليك
مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو اللباب } وقال تعال { :ولقد ضربنا للناس
ف هذا القرآن من كل مثل } وقال تعال { :وما أرسلنا من قبلك إل رجال
نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون } { بالبينات والزبر } الية
وقال تعال { :وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } وقال تعال { :وإن
يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب
الني } ومثل هذا كثي لبسطه مواضع أخر .والقصود أن هؤلء الغالطي الذين
أعرضوا ما ف القرآن من الدلئل العقلية والباهي اليقينية ل يذكرون النظر
والدليل والعلم الذي جاء به الرسول والقرآن ملوء من ذلك والتكلمون يعترفون
بأن ف القرآن من الدلة العقلية الدالة على أصول الدين ما فيه لكنهم يسلكون
طرقا أخر كطريق العراض .ومنهم من يظن أن هذه طريق إبراهيم الليل وهو
غالط .
6
والتفلسفة يقولون :القرآن جاء بالطريق الطابية والقدمات القناعية الت تقنع
المهور ويقولون :إن التكلمي جاءوا بالطرق الدلية ويدعون أنم هم أهل
البهان اليقين .وهم أبعد عن البهان ف الليات من التكلمي والتكلمون أعلم
منهم بالعلميات البهانية ف الليات والكليات ولكن للمتفلسفة ف الطبيعيات
خوض وتفصيل تيزوا به بلف الليات فإنم من أجهل الناس با وأبعدهم عن
معرفة الق فيها وكلم أرسطو معلمهم فيها قليل كثي الطأ فهو لم جل غث
على رأس جبل وعر ل سهل فيتقى ؛ ول سي فينتقى .وهذا مبسوط ف غي
هذا الوضع .والقرآن جاء بالبينات والدى ؛ باليات البينات وهي الدلئل
اليقينيات وقد قال ال تعال لرسوله { :ادع إل سبيل ربك بالكمة والوعظة
السنة وجادلم بالت هي أحسن } والتفلسفة يفسرون ذلك بطرقهم النطقية ف
البهان والطابة والدل وهو ضلل من وجوه قد بسطت ف غي هذا الوضع
بل الكمة هي معرفة الق والعمل به فالقلوب الت لا فهم وقصد تدعى بالكمة
فيبي لا الق علما وعمل فتقبله وتعمل به .وآخرون يعترفون بالق لكن لم
أهواء تصدهم عن اتباعه فهؤلء يدعون بالوعظة السنة الشتملة على الترغيب
ف الق والترهيب من الباطل .والوعظ أمر وني بترغيب وترهيب كما قال
تعال { :ولو أنم فعلوا ما يوعظون به } وقال تعال { :يعظكم ال أن تعودوا
لثله أبدا } فالدعوة بذين الطريقي لن قبل الق ومن ل يقبله فإنه يادل بالت
هي أحسن .والقرآن مشتمل على هذا وهذا ولذا إذا جادل يسأل ويستفهم عن
القدمات البينة البهانية الت ل يكن أحد أن يحدها ؛ لتقرير الخاطب بالق
ولعترافه بإنكار الباطل كما ف مثل قوله { :أم خلقوا من غي شيء أم هم
الالقون } وقوله { :أفعيينا باللق الول بل هم ف لبس من خلق جديد }
وقوله { :أوليس الذي خلق السماوات والرض بقادر على أن يلق مثلهم }
7
وقوله { :أيسب النسان أن يترك سدى } { أل يك نطفة من من ين } {
ث كان علقة فخلق فسوى } { فجعل منه الزوجي الذكر والنثى } { أليس
ذلك بقادر على أن ييي الوتى } وقوله { :أفرأيتم ما تنون } { أأنتم تلقونه
أم نن الالقون } وقوله { :وقالوا لول يأتينا بآية من ربه أول تأتم بينة ما ف
الصحف الول } وقوله { :أول يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم }
وقوله { :أول يكن لم آية أن يعلمه علماء بن إسرائيل } وقوله { :أل نعل
له عيني } { ولسانا وشفتي } { وهديناه النجدين } إل أمثال ذلك ما
ياطبهم باستفهام التقرير التضمن إقرارهم واعترافهم بالقدمات البهانية الت
تدل على الطلوب فهو من أحسن جدل بالبهان ؛ فإن الدل إنا يشترط فيه أن
يسلم الصم القدمات وإن ل تكن بينة معروفة فإذا كانت بينة معروفة كانت
برهانية .والقرآن ل يتج ف مادلته بقدمة لجرد تسليم الصم با كما هي
الطريقة الدلية عند أهل النطق وغيهم بل بالقضايا والقدمات الت تسلمها
الناس وهي برهانية وإن كان بعضهم يسلمها وبعضهم ينازع فيها ذكر الدليل
على صحتها كقوله { :وما قدروا ال حق قدره إذ قالوا ما أنزل ال على بشر
من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تعلونه
قراطيس تبدونا وتفون كثيا وعلمتم ما ل تعلموا أنتم ول آباؤكم } فإن
الطاب لا كان مع من يقر بنبوة موسى من أهل الكتاب ومع من ينكرها من
الشركي ذكر ذلك بقوله { :قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } وقد
بي الباهي الدالة على صدق موسى ف غي موضع .وعلى قراءة من قرأ يبدونا
كابن كثي وأب عمرو جعلوا الطاب مع الشركي وجعلوا قوله { :وعلمتم ما
ل تعلموا } احتجاجا على الشركي با جاء به ممد ؛ فالجة على أولئك نبوة
موسى وعلى هؤلء نبوة ممد ولكل منهما من الباهي ما قد بي بعضه ف غي
موضع .وعلى قراءة الكثرين بالتاء هو خطاب لهل الكتاب وقوله { :
8
وعلمتم ما ل تعلموا } بيان لا جاءت به النبياء ما أنكروه فعلمهم النبياء ما ل
يقبلوه ول يعلموه فاستدل با عرفوه من أخبار النبياء وما ل يعرفوه .وقد قص
سبحانه قصة موسى وأظهر براهي موسى وآياته الت هي من أظهر الباهي
والدلة حت اعترف با السحرة الذين جعهم فرعون وناهيك بذلك فلما أظهر
ال حق موسى ؛ وأتى باليات الت علم بالضطرار أنا من ال ؛ وابتلعت عصاه
البال والعصي الت أتى با السحرة بعد أن جاءوا بسحر عظيم وسحروا أعي
الناس واسترهبوا الناس ث لا ظهر الق وانقلبوا صاغرين قالوا { :آمنا برب
العالي } { رب موسى وهارون } فقال لم فرعون { :آمنتم له قبل أن آذن
لكم إنه لكبيكم الذي علمكم السحر فلقطعن أيديكم وأرجلكم من خلف
ولصلبنكم ف جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى } { قالوا لن نؤثرك
على ما جاءنا من البينات } من الدلئل البينات اليقينية القطعية وعلى الذي
فطرنا ؛ وهو خالقنا وربنا الذي ل بد لنا منه لن نؤثرك على هذه الدلئل اليقينية
وعلى خالق البية { فاقض ما أنت قاض إنا تقضي هذه الياة الدنيا } { إنا
آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر وال خي وأبقى } .
وقد ذكر ال هذه القصة ف عدة مواضع من القرآن يبي ف كل موضع منها من
العتبار والستدلل نوعا غي النوع الخر كما يسمى ال ورسوله وكتابه بأساء
متعددة كل اسم يدل على معن ل يدل عليه السم الخر وليس ف هذا تكرار
بل فيه تنويع اليات مثل :أساء النب صلى ال عليه وسلم إذا قيل :ممد وأحد
؛ والاشر والعاقب ؛ والقفى ؛ ونب الرحة ونب التوبة ونب اللحمة ف كل اسم
دللة على معن ليس ف السم الخر وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة
.وكذلك القرآن إذا قيل فيه ؛ قرآن ؛ وفرقان وبيان ؛ وهدى وبصائر وشفاء
ونور ورحة وروح فكل اسم يدل على معن ليس هو العن الخر .وكذلك
أساء الرب تعال إذا قيل :اللك ؛ القدوس السلم الؤمن الهيمن العزيز ؛ البار
9
التكب الالق البارئ ؛ الصور فكل اسم يدل على معن ليس هو العن الذي ف
السم الخر فالذات واحدة والصفات متعددة فهذا ف الساء الفردة .وكذلك
ف المل التامة يعب عن القصة بمل تدل على معان فيها ث يعب عنها بمل
أخرى تدل على معان أخر وإن كانت القصة الذكورة ذاتا واحدة فصفاتا
متعددة ففي كل جلة من المل معن ليس ف المل الخر .وليس ف القرآن
تكرار أصل وأما ما ذكره بعض الناس من أنه كرر القصص مع [ إمكان ]
الكتفاء بالواحدة وكان الكمة فيه :أن وفود العرب كانت ترد على رسول
ال صلى ال عليه وسلم فيقرئهم السلمون شيئا من القرآن فيكون ذلك كافيا
وكان يبعث إل القبائل التفرقة بالسور الختلفة فلو ل يكن اليات والقصص
مثناة متكررة لوقعت قصة موسى إل قوم وقصة عيسى إل قوم وقصة نوح إل
قوم فأراد ال أن يشهر هذه القصص ف أطراف الرض وأن يلقيها إل كل سع .
فهذا كلم من ل يقدر القرآن قدره .وأبو الفرج اقتصر على هذا الواب ف
قوله ( :مثان لا قيل :ل ثنيت ؟ وبسط هذا له موضع آخر فإن التثنية هي
التنويع والتجنيس وهي استيفاء القسام ولذا يقول من يقول من السلف :
القسام والمثال .والقصود هنا التنبيه على أن القرآن اشتمل على أصول الدين
الت تستحق هذا السم وعلى الباهي واليات والدلة اليقينية ؛ بلف ما أحدثه
البتدعون واللحدون كما قال الرازي مع خبته بطرق هؤلء :لقد تأملت
الطرق الكلمية والناهج الفلسفية فما وجدتا تشفي عليل ول تروي غليل
ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن :اقرأ ف الثبات { إليه يصعد الكلم الطيب
} { الرحن على العرش استوى } .واقرأ ف النفي { ليس كمثله شيء } {
ول ييطون به علما } قال :ومن جرب مثل تربت عرف مثل معرفت .والي
والسعادة والكمال والصلح منحصر ف نوعي :ف العلم النافع ؛ والعمل الصال
.وقد بعث ال ممدا بأفضل ذلك وهو الدى ودين الق كما قال { :هو
10
الذي أرسل رسوله بالدى ودين الق ليظهره على الدين كله وكفى بال شهيدا
} ؟ وقد قال تعال { :واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أول اليدي
والبصار } فذكر النوعي قال الوالب عن ابن عباس يقول :أولوا القوة ف
العبادة قال ابن أب حات :وروي عن سعيد بن جبي وعطاء الراسان والسن
والضحاك والسدي وقتادة وأب سنان ومبشر بن عبيد نو ذلك .و ( البصار
قال :البصار الفقه ف الدين .وقال ماهد ( :البصار الصواب ف الكم وعن
سعيد بن جبي قال :البصية بدين ال وكتابه .وعن عطاء الراسان { :أول
اليدي والبصار } قال :أولوا القوة ف العبادة والبصر والعلم بأمر ال وعن
ماهد وروي عن قتادة قال :أعطوا قوة ف العبادة وبصرا ف الدين .وجيع
حكماء المم يفضلون هذين النوعي مثل حكماء اليونان والند والعرب قال ابن
قتيبة :الكمة عند العرب العلم والعمل فالعمل الصال هو عبادة ال وحده ل
شريك له وهو الدين دين السلم والعلم والدى هو تصديق الرسول فيما أخب
به عن ال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر وغي ذلك فالعلم النافع هو
اليان والعمل الصال هو السلم العلم النافع من علم ال والعمل الصال هو
العمل بأمر ال هذا تصديق الرسول فيما أخب وهذا طاعته فيما أمر .وضد
الول أن يقول على ال ما ل يعلم وضد الثان أن يشرك بال ما ل ينل به
سلطانا والول أشرف فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا { قالت
العراب آمنا قل ل تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } وجيع الطوائف تفضل هذين
النوعي لكن الذي جاء به الرسول هو أفضل ما فيهما كما قال { :إن هذا
القرآن يهدي للت هي أقوم } وكان النب صلى ال عليه وسلم يقرأ ف ركعت
الفجر تارة ( سورة الخلص و ( قل يا أيها الكافرون ففي ( قل يا أيها
الكافرون عبادة ال وحده وهو دين السلم وف ( قل هو ال أحد صفة الرحن
وأن يقال فيه ويب عنه با يستحقه وهو اليان هذا هو التوحيد القول وذلك هو
11
التوحيد العملي .وكان تارة يقرأ فيهما ف الول بقوله ف البقرة { :قولوا آمنا
بال وما أنزل إلينا وما أنزل إل إبراهيم وإساعيل وإسحاق ويعقوب والسباط
وما أوت موسى وعيسى وما أوت النبيون من ربم ل نفرق بي أحد منهم ونن
له مسلمون } وف الثانية { :قل يا أهل الكتاب تعالوا إل كلمة سواء بيننا
وبينكم } إل قوله { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .قال أبو العالية
ف قوله { فوربك لنسألنهم أجعي } { عما كانوا يعملون } قال :خلتان
يسأل عنهما كل أحد :ماذا كنت تعبد ؟ وماذا أجبت الرسلي ؟ فالول تقيق
شهادة أن ل إله إل ال والثانية تقيق الشهادة بأن ممدا رسول ال .والصوفية
بنو أمرهم على الرادة ول بد منها لكن بشرط أن تكون إرادة عبادة ال وحده
با أمر .والتكلمون بنوا أمرهم على النظر القتضي للعلم ول بد منه لكن بشرط
أن يكون علما با أخب به الرسول صلى ال عليه وسلم والنظر ف الدلة الت دل
با الرسول وهي آيات ال ول بد من هذا وهذا .ومن طلب علما بل إرادة أو
إرادة بل علم فهو ضال ومن طلب هذا وهذا بدون اتباع الرسول فيهما فهو
ضال بل كما قال من قال من السلف :الدين واليان قول وعمل واتباع السنة
.وأهل الفقه ف العمال الظاهرة يتكلمون ف العبادات الظاهرة وأهل التصوف
والزهد يتكلمون ف قصد النسان وإرادته وأهل النظر والكلم وأهل العقائد من
أهل الديث وغيهم يتكلمون ف العلم والعرفة والتصديق الذي هو أصل الرادة
ويقولون :العبادة ل بد فيها من القصد والقصد ل يصح إل بعد العلم بالقصود
العبود وهذا صحيح فل بد من معرفة العبود وما يعبد به فالضالون من الشركي
والنصارى وأشباههم لم عبادات وزهادات لكن لغي ال أو بغي أمر ال وإنا
القصد والرادة النافعة هو إرادة عبادة ال وحده وهو إنا يعبد با شرع ل بالبدع
.وعلى هذين الصلي يدور دين السلم :على أن يعبد ال وحده وأن يعبد با
شرع ول يعبد بالبدع وأما العلم والعرفة والتصوف فمدارها على أن يعرف ما
12
أخب به الرسول ويعرف أن ما أخب به حق إما لعلمنا بأنه ل يقول إل حقا وهذا
تصديق عام وإما لعلمنا بأن ذلك الب حق با أظهر ال من آيات صدقه فإنه
أنزل الكتاب واليزان وأرى الناس آياته ف الفاق وف أنفسهم حت يتبي لم أن
القرآن حق .
فصل وأما " العمليات " وما يسميه ناس :الفروع والشرع والفقه فهذا قد بينه
الرسول أحسن بيان فما شيء ما أمر ال به أو نى عنه أو حلله أو حرمه إل بي
ذلك وقد قال تعال { :اليوم أكملت لكم دينكم } وقال تعال { :ما كان
حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بي يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحة
لقوم يؤمنون } وقال تعال { :ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى
ورحة وبشرى للمسلمي } وقال تعال { :كان الناس أمة واحدة فبعث ال
النبيي مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالق ليحكم بي الناس فيما
اختلفوا فيه } وقال تعال { :تال لقد أرسلنا إل أمم من قبلك فزين لم
الشيطان أعمالم فهو وليهم اليوم ولم عذاب أليم } { وما أنزلنا عليك الكتاب
إل لتبي لم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحة لقوم يؤمنون } فقد بي سبحانه أنه
ما أنزل عليه الكتاب إل ليبي لم الذي اختلفوا فيه كما بي أنه أنزل جنس
الكتاب مع النبيي ليحكم بي الناس فيما اختلفوا فيه .وقال تعال { :وما
اختلفتم فيه من شيء فحكمه إل ال ذلكم ال رب عليه توكلت وإليه أنيب }
وقال تعال { :وما كان ال ليضل قوما بعد إذ هداهم حت يبي لم ما يتقون }
فقد بي للمسلمي جيع ما يتقونه كما قال { :وقد فصل لكم ما حرم عليكم
إل ما اضطررت إليه } وقال تعال { :فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال
والرسول } وهو الرد إل كتاب ال أو إل سنة الرسول بعد موته وقوله { :فإن
تنازعتم } شرط والفعل نكرة ف سياق الشرط فأي شيء تنازعوا فيه ردوه إل
13
ال والرسول ولو ل يكن بيان ال والرسول فاصل للناع ل يؤمروا بالرد إليه .
والرسول أنزل ال عليه الكتاب والكمة كما ذكر ذلك ف غي موضع وقد علم
أمته الكتاب والكمة كما قال { :ويعلمهم الكتاب والكمة } وكان يذكر
ف بيته الكتاب والكمة وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك فقال { :واذكرن ما يتلى
ف بيوتكن من آيات ال والكمة } فآيات ال هي القرآن إذ كان نفس القرآن
يدل على أنه منل من ال فهو علمة ودللة على منله و ( الكمة قال غي
واحد من السلف :هي السنة .وقال أيضا طائفة كمالك وغيه :هي معرفة
الدين والعمل به .وقيل غي ذلك وكل ذلك حق فهي تتضمن التمييز بي الأمور
والحظور ؛ والق والباطل ؛ وتعليم الق دون الباطل وهذه السنة الت فرق با
بي الق والباطل وبي العمال السنة من القبيحة ؛ والي من الشر وقد جاء
عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال { :تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ل يزيغ
عنها بعدي إل هالك } .وعن عمر بن الطاب رضي ال عنه كلم نو هذا
وهذا كثي ف الديث والثار يذكرونه ف الكتب الت تذكر فيها هذه الثار كما
يذكر مثل ذلك غي واحد فيما يصفونه ف السنة مثل ابن بطة والللكائي
والطلمنكي وقبلهم الصنفون ف السنة كأصحاب أحد مثل عبد ال والثرم
وحرب الكرمان وغيهم ومثل اللل وغيه .والقصود هنا تقيق ذلك وأن
الكتاب والسنة وافيان بميع أمور الدين .
14
القرآن من كل مثل وبي القياس الصحيح وهي المثال الضروبة ما بينه من الق
لكن القياس الصحيح يطابق النص فإن اليزان يطابق الكتاب وال أمر نبيه أن
يكم با أنزل وأمره أن يكم بالعدل فهو أنزل الكتاب وإنا أنزل الكتاب بالعدل
قال تعال { :وأن احكم بينهم با أنزل ال } { وإن حكمت فاحكم بينهم
بالقسط } وأما إجاع المة فهو حق ل تتمع المة -ول المد -على ضللة
كما وصفها ال بذلك ف الكتاب والسنة فقال تعال { :كنتم خي أمة أخرجت
للناس تأمرون بالعروف وتنهون عن النكر وتؤمنون بال } وهذا وصف لم
بأنم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر كما وصف نبيهم بذلك ف
قوله { :الذي يدونه مكتوبا عندهم ف التوراة والنيل يأمرهم بالعروف
وينهاهم عن النكر } وبذلك وصف الؤمني ف قوله { :والؤمنون والؤمنات
بعضهم أولياء بعض يأمرون بالعروف وينهون عن النكر } فلو قالت المة ف
الدين با هو ضلل لكانت ل تأمر بالعروف ف ذلك ول تنه عن النكر فيه وقال
تعال { :وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون
الرسول عليكم شهيدا } والوسط العدل اليار وقد جعلهم ال شهداء على
الناس وأقام شهادتم مقام شهادة الرسول .وقد ثبت ف الصحيح { أن النب
صلى ال عليه وسلم مر عليه بنازة فأثنوا عليها خيا فقال :وجبت وجبت ث
مر عليه بنازة فأثنوا عليها شرا فقال :وجبت وجبت قالوا :يا رسول ال ما
قولك وجبت وجبت ؟ قال :هذه النازة أثنيتم عليها خيا فقلت :وجبت لا
النة وهذه النازة أثنيتم عليها شرا فقلت :وجبت لا النار أنتم شهداء ال ف
الرض } .فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء ل يشهدوا بباطل فإذا شهدوا أن
ال أمر بشيء فقد أمر به وإذا شهدوا أن ال نى عن شيء فقد نى عنه ولو
كانوا يشهدون بباطل أو خطأ ل يكونوا شهداء ال ف الرض بل زكاهم ال ف
شهادتم كما زكى النبياء فيما يبلغون عنه أنم ل يقولون عليه إل الق وكذلك
15
المة ل تشهد على ال إل بق وقال تعال { :واتبع سبيل من أناب إل }
والمة منيبة إل ال فيجب اتباع سبيلها وقال تعال { :والسابقون الولون من
الهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي ال عنهم ورضوا عنه }
فرضي عمن اتبع السابقي إل يوم القيامة فدل على أن متابعهم عامل با يرضى
ال وال ل يرضى إل بالق ل بالباطل وقال تعال { :ومن يشاقق الرسول من
بعد ما تبي له الدى ويتبع غي سبيل الؤمني نوله ما تول ونصله جهنم وساءت
مصيا } .وكان عمر بن عبد العزيز يقول كلمات كان مالك يأثرها عنه كثيا
قال :سن رسول ال صلى ال عليه وسلم وولة المر من بعده سننا الخذ با
تصديق لكتاب ال واستعمال لطاعة ال ومعونة على دين ال ليس لحد تغييها
ول النظر ف رأي من خالفها فمن خالفها واتبع غي سبيل الؤمني وله ال تعال
ما تول وأصله جهنم وساءت مصيا .والشافعي رضي ال عنه لا جرد الكلم
ف أصول الفقه احتج بذه الية على الجاع كما كان هو وغيه ومالك ذكر
عن عمر ابن عبد العزيز والية دلت على أن متبع غي سبيل الؤمني مستحق
للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبي له الدى مستحق للوعيد ومعلوم
أن هذا الوصف يوجب الوعيد بجرده فلو ل يكن الوصف الخر يدخل ف ذلك
لكان ل فائدة ف ذكره .وهنا للناس ثلثة أقوال :قيل :اتباع غي سبيل الؤمني
هو بجرد مالفة الرسول الذكورة ف الية .وقيل :بل مالفة الرسول مستقلة
بالذم فكذلك اتباع غي سبيلهم مستقل بالذم وقيل :بل اتباع غي سبيل الؤمني
يوجب الذم كما دلت عليه الية لكن هذا ل يقتضي مفارقة الول بل قد يكون
مستلزما له فكل متابع غي سبيل الؤمني هو ف نفس المر مشاق للرسول
وكذلك مشاق الرسول متبع غي سبيل الؤمني وهذا كما ف طاعة ال والرسول
فإن طاعة ال واجبة وطاعة الرسول واجبة وكل واحد من معصية ال ومعصية
الرسول موجب للذم وها متلزمان فإنه من يطع الرسول فقد أطاع ال .وف
16
الديث الصحيح عن النب صلى ال عليه وسلم قال { :من أطاعن فقد أطاع
ال ؛ ومن أطاع أميي فقد أطاعن ؛ ومن عصان فقد عصى ال ؛ ومن عصى
أميي فقد عصان } وقال { :إنا الطاعة ف العروف } يعن :إذا أمر أميي
بالعروف فطاعته من طاعت وكل من عصى ال فقد عصى الرسول ؛ فإن
الرسول يأمر با أمر ال به بل من أطاع رسول واحدا فقد أطاع جيع الرسل
ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالميع ومن عصى واحدا منهم فقد عصى
الميع ومن كذب واحدا منهم فقد كذب الميع ؛ لن كل رسول يصدق
الخر ويقول :إنه رسول صادق ويأمر بطاعته فمن كذب رسول فقد كذب
الذي صدقه ومن عصاه فقد عصى من أمر بطاعته .ولذا كان دين النبياء
واحدا كما ف الصحيحي عن أب هريرة رضي ال عنه عن النب صلى ال عليه
وسلم أنه قال { :إنا معاشر النبياء ديننا واحد } .وقال تعال { :شرع لكم
من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
وعيسى أن أقيموا الدين ول تتفرقوا فيه } وقال تعال { :يا أيها الرسل كلوا
من الطيبات واعملوا صالا إن با تعملون عليم } { وإن هذه أمتكم أمة واحدة
وأنا ربكم فاتقون } { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب با لديهم فرحون
} وقال تعال { :فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة ال الت فطر الناس عليها ل
تبديل للق ال ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس ل يعلمون } { منيبي إليه
واتقوه وأقيموا الصلة ول تكونوا من الشركي } { من الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعا كل حزب با لديهم فرحون } .ودين النبياء كلهم السلم كما
أخب ال بذلك ف غي موضع .وهو :الستسلم ل وحده .وذلك إنا يكون
بطاعته فيما أمر به ف ذلك الوقت فطاعة كل نب هي من دين السلم إذ ذاك
واستقبال بيت القدس كان من دين السلم قبل النسخ ث لا أمر باستقبال الكعبة
صار استقبالا من دين السلم ول يبق استقبال الصخرة من دين السلم ؛ ولذا
17
خرج اليهود والنصارى عن دين السلم ؛ فإنم تركوا طاعة ال وتصديق رسوله
واعتاضوا عن ذلك ببدل أو منسوخ .وهكذا كل مبتدع دينا خالف به سنة
الرسول ل يتبع إل دينا مبدل أو منسوخا فكل من خالف ما جاء به الرسول :
إما أن يكون ذلك قد كان مشروعا لنب ث نسخ على لسان ممد صلى ال عليه
وسلم وإما أن ل يكون شرع قط ؛ فهذا كالديان الت شرعها الشياطي على
ألسنة أوليائهم قال تعال { :أم لم شركاء شرعوا لم من الدين ما ل يأذن به
ال } وقال { . :وإن الشياطي ليوحون إل أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم
إنكم لشركون } وقال { :وكذلك جعلنا لكل نب عدوا شياطي النس والن
يوحي بعضهم إل بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما
يفترون } .ولذا كان الصحابة إذا قال أحدهم برأيه شيئا يقول :إن كان
صوابا فمن ال ؛ وإن كان خطأ فمن ومن الشيطان وال ورسوله بريئان منه كما
قال ذلك ابن مسعود وروي عن أب بكر وعمر .فالقسام ثلثة ؛ فإنه :إما أن
يكون هذا القول موافقا لقول الرسول أو ل يكون ؛ وإما أن يكون موافقا لشرع
غيه ؛ وإما أن ل يكون فهذا الثالث البدل كأديان الشركي والجوس وما كان
شرعا لغيه وهو ل يوافق شرعه فقد نسخ كالسبت وتري كل ذي ظفر وشحم
الثرب والكليتي ؛ فإن اتاذ السبت عيدا وتري هذه الطيبات قد كان شرعا
لوسى ث نسخ ؛ بل قد قال السيح { :ولحل لكم بعض الذي حرم عليكم }
فقد نسخ ال على لسان السيح بعض ما كان حراما ف شرع موسى .وأما
ممد فقال ال فيه { :الذي يدونه مكتوبا عندهم ف التوراة والنيل يأمرهم
بالعروف وينهاهم عن النكر ويل لم الطيبات ويرم عليهم البائث ويضع
عنهم إصرهم والغلل الت كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه
واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم الفلحون } والشرك كله من البدل ل
يشرع ال الشرك قط كما قال { :واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا
18
من دون الرحن آلة يعبدون } وقال تعال { :وما أرسلنا من قبلك من رسول
إل نوحي إليه أنه ل إله إل أنا فاعبدون } .وكذلك ما كان يرمه أهل الاهلية
ما ذكره ال ف القرآن كالسائبة والوصيلة والام وغي ذلك هو من الدين
البدل ؛ ولذا لا ذكر ال ذلك عنهم ف سورة النعام بي أن من حرم ذلك فقد
كذب على ال وذكر تعال ما حرمه على لسان ممد وعلى لسان موسى ف
النعام فقال { :قل ل أجد ف ما أوحي إل مرما على طاعم يطعمه إل أن
يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لم خنير فإنه رجس أو فسقا أهل لغي ال به
فمن اضطر غي باغ ول عاد فإن ربك غفور رحيم } { وعلى الذين هادوا
حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إل ما حلت
ظهورها أو الوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون }
وكذلك قال بعد هذا { :وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل }
.فبي أن ما حرمه الشركون ل يرمه على لسان موسى ول لسان ممد وهذان
ها اللذان جاءا بكتاب فيه اللل والرام كما قال تعال { :قل فأتوا بكتاب
من عند ال هو أهدى منهما أتبعه } وقال تعال { :ومن قبله كتاب موسى
إماما ورحة } وقال تعال { :قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } إل
قوله { :وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بي يديه } وقالت الن لا
سعت القرآن { :إنا سعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لا بي يديه يهدي
إل الق وإل طريق مستقيم } وقال ورقة بن نوفل :إن هذا والذي جاء به
موسى ليخرجان من مشكاة واحدة .وكذلك قال النجاشي .فالقرآن والتوراة
ها كتابان جاءا من عند ال ل يأت من عنده كتاب أهدى منهما كل منهما
أصل مستقل والذي فيهما دين واحد وكل منهما يتضمن إثبات صفات ال تعال
والمر بعبادته وحده ل شريك له ففيه التوحيد قول وعمل كما ف سورت
الخلص { :قل يا أيها الكافرون } و { قل هو ال أحد } .وأما الزبور فإن
19
داود ل يأت بغي شريعة التوراة وإنا ف الزبور ثناء على ال ودعاء وأمر وني
بدينه وطاعته وعبادته مطلقا .وأما السيح فإنه قال { :ولحل لكم بعض الذي
حرم عليكم } فأحل لم بعض الحرمات وهو ف الكثر متبع لشريعة التوراة .
ولذا ل يكن بد لن اتبع السيح من أن يقرأ التوراة ويتبع ما فيها ؛ إذ كان
النيل تبعا لا .وأما القرآن فإنه مستقل بنفسه ل يوج أصحابه إل كتاب آخر
بل اشتمل على جيع ما ف الكتب من الحاسن ؛ وعلى زيادات كثية ل توجد
ف الكتب ؛ فلهذا كان مصدقا لا بي يديه من الكتاب ومهيمنا عليه يقرر ما فيها
من الق ويبطل ما حرف منها وينسخ ما نسخه ال فيقرر الدين الق وهو
جهور ما فيها ويبطل الدين البدل الذي ل يكن فيها والقليل الذي نسخ فيها ؛
فإن النسوخ قليل جدا بالنسبة إل الحكم القرر .والنبياء كلهم دينهم واحد
وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم
وكذلك التكذيب والعصية :ل يوز أن يكذب نب نبيا بل إن عرفه صدقه وإل
فهو يصدق بكل ما أنزل ال مطلقا وهو يأمر بطاعة من أمر ال بطاعته .ولذا
كان من صدق ممدا فقد صدق كل نب ؛ ومن أطاعه فقد أطاع كل نب ومن
كذبه فقد كذب كل نب ؛ ومن عصاه فقد عصى كل نب قال تعال { :إن
الذين يكفرون بال ورسله ويريدون أن يفرقوا بي ال ورسله ويقولون نؤمن
ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بي ذلك سبيل } { أولئك هم
الكافرون حقا } وقال تعال { :أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما
جزاء من يفعل ذلك منكم إل خزي ف الياة الدنيا ويوم القيامة يردون إل أشد
العذاب وما ال بغافل عما تعملون } .ومن كذب هؤلء تكذيبا بنس الرسالة
فقد صرح بأنه يكذب الميع ؛ ولذا يقول تعال { :كذبت قوم نوح الرسلي
} ول يرسل إليهم قبل نوح أحدا وقال تعال { :وقوم نوح لا كذبوا الرسل
أغرقناهم } .وكذلك من كان من اللحدة والتفلسفة طاعنا ف جنس الرسل
20
كما قدمنا بأن يزعم أنم ل يعلموا الق أو ل يبينوه فهو مكذب لميع الرسل
كالذين قال فيهم { :الذين كذبوا بالكتاب وبا أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون
} { إذ الغلل ف أعناقهم والسلسل يسحبون } { ف الميم ث ف النار
يسجرون } وقال تعال { :فلما جاءتم رسلهم بالبينات فرحوا با عندهم من
العلم وحاق بم ما كانوا به يستهزئون } { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بال وحده
وكفرنا با كنا به مشركي } { فلم يك ينفعهم إيانم لا رأوا بأسنا سنة ال الت
قد خلت ف عباده وخسر هنالك الكافرون } وقال تعال عن الوليد { :إنه فكر
وقدر } { فقتل كيف قدر } { ث قتل كيف قدر } { ث نظر } { ث عبس
وبسر } { ث أدبر واستكب } { فقال إن هذا إل سحر يؤثر } { إن هذا إل
قول البشر } .وأهل الكتاب منهم من يؤمن بنس الرسالة لكن يكذب بعض
الرسل كالسيح وممد فهؤلء لا آمنوا ببعض وكفروا ببعض كانوا كافرين حقا
وكثي من الفلسفة والباطنية وكثي من أهل الكلم والتصوف ل يكذب الرسل
تكذيبا صريا ول يؤمن بقيقة النبوة والرسالة بل يقر بفضلهم ف الملة مع
كونه يقول :إن غيهم أعلم منهم ؛ أو أنم ل يبينوا الق أو لبسوه ؛ أو إن
النبوة هي فيض يفيض على النفوس من العقل الفعال من جنس ما يراه النائم ول
يقر بلئكة مفضلي ول بالن ونو ذلك فهؤلء يقرون ببعض صفات النبياء
دون بعض ؛ وبا أوتوه دون بعض ول يقرون بميع ما أوتيه النبياء وهؤلء قد
يكون أحدهم شرا من اليهود والنصارى الذين أقروا بميع صفات النبوة لكن
كذبوا ببعض النبياء ؛ فإن الذي أقر به هؤلء ما جاءت به النبياء أعظم
وأكثر ؛ إذ كان هؤلء يقرون بأن ال خلق السموات والرض ف ستة أيام
ويقرون بقيام القيامة ويقرون بأنه تب عبادته وحده ل شريك له ويقرون
بالشرائع التفق عليها .وأولئك يكذبون بذا وإنا يقرون ببعض شرع ممد صلى
ال عليه وسلم .ولذا كان اليهود والنصارى أقل كفرا من اللحدة الباطنية
21
والتفلسفة ونوهم لكن من كان من اليهود والنصارى قد دخل مع هؤلء فقد
جع نوعي الكفر ؛ إذ ل يؤمن بميع صفاتم ول بميع أعيانم وهؤلء
موجودون ف دول الكفار كثيا كما يوجد أيضا ف النتسبي إل السلم من
هؤلء وهؤلء إذ كانوا ف دولة السلمي .وأهل الكتاب كانوا منافقي فيهم من
النفاق بسب ما فيهم من الكفر والنفاق يتبعض والكفر يتبعض ويزيد وينقص
كما أن اليان يتبعض ويزيد وينقص قال ال تعال { :إنا النسيء زيادة ف
الكفر } وقال { :وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيانا
فأما الذين آمنوا فزادتم إيانا وهم يستبشرون } { وأما الذين ف قلوبم مرض
فزادتم رجسا إل رجسهم وماتوا وهم كافرون } وقال { :وننل من القرآن
ما هو شفاء ورحة للمؤمني ول يزيد الظالي إل خسارا } وقال { :وليزيدن
كثيا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } وقال { :ويزيد ال الذين
اهتدوا هدى } وقال { :ف قلوبم مرض فزادهم ال مرضا } وقال { :إن
الذين آمنوا ث كفروا ث آمنوا ث كفروا ث ازدادوا كفرا } .وكثي من الصنفي
ف الكلم ل يردون على أهل الكتاب إل ما يقولون :إنه يعلم بالعقل مثل تثليث
النصارى ومثل تكذيب ممد ول يناظرونم ف غي هذا من أصول الدين وهذا
تقصي منهم ومالفة لطريقة القرآن ؛ فإن ال يبي ف القرآن ما خالفوا به النبياء
ويذمهم على ذلك والقرآن ملوء من ذلك ؛ إذ كان الكفر واليان يتعلق
بالرسالة والنبوة فإذا تبي ما خالفوا فيه النبياء ظهر كفرهم .وأولئك التكلمون
لا أصلوا لم دينا با أحدثوه من الكلم كالستدلل بالعراض على حدوث
الجسام ظنوا أن هذا هو أصول الدين ولو كان ما قالوه حقا لكان ذلك جزءا
من الدين فكيف إذا كان باطل ؟ وقد ذكرت ف الرد على النصارى من مالفتهم
للنبياء كلهم مع مالفتهم لصريح العقل ما يظهر به من كفرهم ما يظهر ؛ ولذا
قيل فيه " الواب الصحيح لن بدل دين السيح " وخطابم ف مقامي :أحدها
22
:تبديلهم لدين السيح .والثان :تكذيبهم لحمد صلى ال عليه وسلم واليهود
خطابم ف تكذيب من بعد موسى إل السيح ث ف تكذيب ممد صلى ال عليه
وسلم كما ذكر ال ذلك ف سورة البقرة ف قوله { :ولقد آتينا موسى الكتاب
وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مري البينات وأيدناه بروح القدس
أفكلما جاءكم رسول با ل توى أنفسكم استكبت ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
} { وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم ال بكفرهم فقليل ما يؤمنون } ث قال { :
ولا جاءهم كتاب من عند ال مصدق لا معهم وكانوا من قبل يستفتحون على
الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة ال على الكافرين } إل أن
ذكر أنم أعرضوا عن كتاب ال مطلقا واتبعوا السحر .فقال { :ولا جاءهم
رسول من عند ال مصدق لا معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب ال
وراء ظهورهم كأنم ل يعلمون } { واتبعوا ما تتلو الشياطي على ملك سليمان
} إل قوله { :ولقد علموا لن اشتراه ما له ف الخرة من خلق ولبئس ما
شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } { ولو أنم آمنوا واتقوا لثوبة من عند ال
خي لو كانوا يعلمون } .والنصارى نذمهم على الغلو والشرك الذي ابتدعوه
وعلى تكذيب الرسول والرهبانية الت ابتدعوها ول نمدهم عليها إذ كانوا قد
ابتدعوها وكل بدعة ضللة لكن إذا كان صاحبها قاصدا للحق فقد يعفى عنه
فيبقى عمله ضائعا ل فائدة فيه وهذا هو الضلل الذي يعذر صاحبه فل يعاقب
ول يثاب ؛ ولذا قال { :غي الغضوب عليهم ول الضالي } فإن الغضوب
عليه يعاقب بنفس الغضب والضال فاته القصود وهو الرحة والثواب ولكن قد
ل يعاقب كما عوقب ذلك بل يكون ملعونا مطرودا ولذا جاء ف حديث زيد
بن عمرو بن نفيل :أن اليهود قالوا له :لن تدخل ف ديننا حت تأخذ نصيبك
من غضب ال .وقال له النصارى :حت تأخذ نصيبك من لعنة ال .وقال
الضحاك وطائفة :إن جهنم طبقات فالعليا لعصاة هذه المة والت تليها للنصارى
23
والت تليها لليهود .فجعلوا اليهود تت النصارى والقرآن قد شهد بأن الشركي
واليهود يوجدون أشد عداوة للذين آمنوا من الذين قالوا :إنا نصارى وشدة
العداوة زيادة ف الكفر فاليهود أقوى كفرا من النصارى وإن كان النصارى
أجهل وأضل لكن أولئك يعاقبون على عملهم إذ كانوا عرفوا الق وتركوه عنادا
فكانوا مغضوبا عليهم وهؤلء بالضلل حرموا أجر الهتدين ولعنوا وطردوا عما
يستحقه الهتدون ث إذا قامت عليهم الجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب إذ كان
اسم الضلل عاما .وقد كان النب صلى ال عليه وسلم يقول ف الديث
الصحيح { ف خطبة يوم المعة :خي الكلم كلم ال وخي الدي هدي ممد
صلى ال عليه وسلم وشر المور مدثاتا وكل بدعة ضللة } ول يقل :وكل
ضللة ف النار بل يضل عن الق من قصد الق وقد اجتهد ف طلبه فعجز عنه
فل يعاقب وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده وخطؤه الذي
ضل فيه عن حقيقة المر مغفور له .وكثي من متهدي السلف واللف قد قالوا
وفعلوا ما هو بدعة ول يعلموا أنه بدعة إما لحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما
ليات فهموا منها ما ل يرد منها وإما لرأي رأوه وف السألة نصوص ل تبلغهم .
وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل ف قوله { :ربنا ل تؤاخذنا إن نسينا أو
أخطأنا } وف الصحيح أن ال قال " :قد فعلت " وبسط هذا له موضع آخر .
والقصود هنا:
أن الرسول بي جيع الدين بالكتاب والسنة وأن الجاع -إجاع المة -حق
؛ فإنا ل تتمع على ضللة وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة
.والية الشهورة الت يتج با على الجاع قوله { :ومن يشاقق الرسول من
بعد ما تبي له الدى ويتبع غي سبيل الؤمني نوله ما تول } ومن الناس من
يقول :إنا ل تدل على مورد الناع ؛ فإن الذم فيها لن جع المرين وهذا ل
24
نزاع فيه ؛ أو لن اتبع غي سبيل الؤمني الت با كانوا مؤمني وهي متابعة
الرسول وهذا ل نزاع فيه ؛ أو أن سبيل الؤمني هو الستدلل بالكتاب والسنة
وهذا ل نزاع فيه ؛ فهذا ونوه قول من يقول :ل تدل على مل الناع .
وآخرون يقولون :بل تدل على وجوب اتباع الؤمني مطلقا وتكلفوا لذلك ما
تكلفوه كما قد عرف من كلمهم ول ييبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية .
والقول الثالث الوسط :أنا تدل على وجوب اتباع سبيل الؤمني وتري اتباع
غي سبيلهم ولكن مع تري مشاقة الرسول من بعد ما تبي له الدى وهو يدل
على ذم كل من هذا وهذا كما تقدم لكن ل ينفي تلزمهما كما ذكر ف طاعة
ال والرسول .وحينئذ نقول :الذم إما أن يكون لحقا لشاقة الرسول فقط ؛ أو
باتباع غي سبيلهم فقط ؛ أو أن يكون الذم ل يلحق بواحد منهما بل بما إذا
اجتمعا ؛ أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الخر ؛ أو بكل منهما لكونه
مستلزما للخر .والولن باطلن ؛ لنه لو كان الؤثر أحدها فقط كان ذكر
الخر ضائعا ل فائدة فيه وكون الذم ل يلحق بواحد منهما باطل قطعا ؛ فإن
مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه ؛ ولوق الذم بكل منهما
وإن انفرد عن الخر ل تدل عليه الية ؛ فإن الوعيد فيها إنا هو على الجموع .
بقي القسم الخر وهو أن كل من الوصفي يقتضي الوعيد لنه مستلزم للخر
كما يقال مثل ذلك ف معصية ال والرسول ومالفة القرآن والسلم فيقال :من
خالف القرآن والسلم أو من خرج عن القرآن والسلم فهو من أهل النار
ومثله قوله { :ومن يكفر بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر فقد ضل
ضلل بعيدا } فإن الكفر بكل من هذه الصول يستلزم الكفر بغيه فمن كفر
بال كفر بالميع ومن كفر باللئكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرا بال إذ
كذب رسله وكتبه وكذلك إذا كفر باليوم الخر كذب الكتب والرسل فكان
كافرا .وكذلك قوله { :يا أهل الكتاب ل تلبسون الق بالباطل وتكتمون
25
الق وأنتم تعلمون } ذمهم على الوصفي وكل منهما مقتض للذم وها
متلزمان ؛ ولذا نى عنهما جيعا ف قوله { :ول تلبسوا الق بالباطل وتكتموا
الق وأنتم تعلمون } فإنه من لبس الق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم
الق الذي تبي أنه باطل ؛ إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الق .فهكذا
مشاقة الرسول واتباع غي سبيل الؤمني ومن شاقه فقد اتبع غي سبيلهم وهذا
ظاهر ومن اتبع غي سبيلهم فقد شاقه أيضا ؛ فإنه قد جعل له مدخل ف الوعيد
فدل على أنه وصف مؤثر ف الذم فمن خرج عن إجاعهم فقد اتبع غي سبيلهم
قطعا والية توجب ذم ذلك .وإذا قيل :هي إنا ذمته مع مشاقة الرسول .قلنا :
لنما متلزمان وذلك لن كل ما أجع عليه السلمون فإنه يكون منصوصا عن
الرسول فالخالف لم مالف للرسول كما أن الخالف للرسول مالف ل ولكن
هذا يقتضي أن كل ما أجع عليه قد بينه الرسول ؛ وهذا هو الصواب .فل
يوجد قط مسألة ممع عليها إل وفيها بيان من الرسول ولكن قد يفى ذلك على
بعض الناس ويعلم الجاع .فيستدل به كما أنه يستدل بالنص من ل يعرف
دللة النص وهو دليل ثان مع النص كالمثال الضروبة ف القرآن وكذلك
الجاع دليل آخر كما يقال :قد دل على ذلك الكتاب والسنة والجاع وكل
من هذه الصول يدل على الق مع تلزمها ؛ فإن ما دل عليه الجاع فقد دل
عليه الكتاب والسنة وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ فالكتاب والسنة
كلها مأخوذ عنه ول يوجد مسألة يتفق الجاع عليها إل وفيها نص .وقد
كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجاع بل نص كالضاربة وليس كذلك بل
الضاربة كانت مشهورة بينهم ف الاهلية ل سيما قريش ؛ فإن الغلب كان
عليهم التجارة وكان أصحاب الموال يدفعونا إل العمال ورسول ال صلى ال
عليه وسلم قد سافر بال غيه قبل النبوة كما سافر بال خدية والعي الت كان
فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أب سفيان وغيه فلما جاء السلم أقرها
26
رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان أصحابه يسافرون بال غيهم مضاربة ول
ينه عن ذلك والسنة :قوله وفعله وإقراره .فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة .
والثر الشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك ف الوطأ ويعتمد عليه الفقهاء لا
أرسل أبو موسى بال أقرضه لبنيه واترا فيه وربا وطلب عمر أن يأخذ الربح
كله للمسلمي لكونه خصهما بذلك دون سائر اليش فقال له أحدها :لو
خسر الال كان علينا فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمان ؟ فقال له بعض
الصحابة :اجعله مضاربا فجعله مضاربة وإنا قال ذلك لن الضاربة كانت
معروفة بينهم والعهد بالرسول قريب ل يدث بعده فعلم أنا كانت معروفة
بينهم على عهد الرسول كما كانت الفلحة وغيها من الصناعات كالياطة
والزارة .وعلى هذا فالسائل الجمع عليها قد تكون طائفة من الجتهدين ل
يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الوافق للنص لكن كان النص عند
غيهم .وابن جرير وطائفة يقولون :ل ينعقد الجاع إل عن نص نقلوه عن
الرسول مع قولم بصحة القياس .ونن ل نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص
فنقلوه بالعن كما تنقل الخبار لكن استقرأنا موارد الجاع فوجدناها كلها
منصوصة وكثي من العلماء ل يعلم النص وقد وافق الماعة كما أنه قد يتج
بقياس وفيها إجاع ل يعلمه فيوافق الجاع وكما يكون ف السألة نص خاص
وقد استدل فيها بعضهم بعموم كاستدلل ابن مسعود وغيه بقوله { :وأولت
الحال أجلهن أن يضعن حلهن } وقال ابن مسعود :سورة النساء القصرى
نزلت بعد الطول أي :بعد البقرة ؛ وقوله { :أجلهن أن يضعن حلهن }
يقتضي انصار الجل ف ذلك فلو أوجب عليها أن تعد بأبعد الجلي ل يكن
أجلها أن تضع حلها وعلي وابن عباس وغيها أدخلوها ف عموم اليتي وجاء
النص الاص ف قصة سبيعة السلمية با يوافق قول ابن مسعود .وكذلك لا
تنازعوا ف الفوضة إذا مات زوجها :هل لا مهر الثل ؟ أفت ابن مسعود فيها
27
برأيه أن لا مهر الثل ث رووا حديث بروع بنت واشق با يوافق ذلك وقد خالفه
علي وزيد وغيها فقالوا :ل مهر لا .فثبت أن بعض الجتهدين قد يفت بعموم
أو قياس ويكون ف الادثة نص خاص ل يعلمه فيوافقه ول يعلم مسألة واحدة
اتفقوا على إنه ل نص فيها ؛ بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يتج فيه
بالنصوص أولئك احتجوا بنص كالتوف عنها الامل وهؤلء احتجوا بشمول
اليتي لا والخرين قالوا :إنا يدخل ف آية المل فقط وأن آية الشهور ف غي
الامل كما أن آية القروء ف غي الامل .وكذلك لا تنازعوا ف الرام احتج من
جعله يينا بقوله { :ل ترم ما أحل ال لك تبتغي مرضاة أزواجك وال غفور
رحيم } { قد فرض ال لكم تلة أيانكم } .وكذلك لا تنازعوا ف البتوتة :
هل لا نفقة أو سكن ؟ احتج هؤلء بديث فاطمة وبأن السكن الت ف القرآن
للرجعية وأولئك قالوا :بل هي لما .ودللت النصوص قد تكون خفية فخص
ال بفهمهن بعض الناس كما قال علي :إل فهما يؤتيه ال عبدا ف كتابه .وقد
يكون النص بينا ويذهل الجتهد عنه كتيمم النب فإنه بي ف القرآن ف آيتي
ولا احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال :الاضر :ما درى عبد ال ما
يقول إل أنه قال :لو أرخصنا لم ف هذا لوشك أحدهم إذا وجد الرء البد أن
يتيمم وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر :إن الطلقة ف القرآن هي
الرجعية بدليل قوله { :ل تدري لعل ال يدث بعد ذلك أمرا } وأي أمر يدثه
بعد الثلثة ؟ وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله { :وأتوا الج والعمرة
ل } واحتج بذه الية من منع الفسخ وآخرون يقولون :إنا أمر بالتام فقط
وكذلك أمر الشارع أن يتم وكذلك ف الفسخ قالوا :من فسخ العمرة إل غي
حج فلم يتمها أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتى با ت ما شرع فيه ؛
فإنه شرع ف حج مرد فأتى بعمرة ف الج ولو ل يكن هذا إتاما لا أمر به النب
صلى ال عليه وسلم أصحابه عام حجة الوداع .وتنازعوا ف الذي بيده عقدة
28
النكاح وف قوله { :أو لمستم النساء } ونو ذلك ما ليس هذا موضع
استقصائه .وأما مسألة مردة اتفقوا على أنه ل يستدل فيها بنص جلي ول خفي
فهذا ما ل أعرفه .والد لا قال أكثرهم :إنه أب استدلوا على ذلك بالقرآن
بقوله { :كما أخرج أبويكم من النة } وقال ابن عباس :لو كانت الن تظن
أن النس تسمي أبا الب جدا لا قالت { :وأنه تعال جد ربنا } يقول :إنا
هو أب لكن أب أبعد من أب .وقد روي عن علي وزيد أنما احتجا بقياس
فمن ادعى إجاعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقا فقد غلط ومن ادعى
أن من السائل ما ل يتكلم فيها أحد منهم إل بالرأي والقياس فقد غلط بل كان
كل منهم يتكلم بسب ما عنده من العلم فمن رأى دللة الكتاب ذكرها ومن
رأى دللة اليزان ذكرها والدلئل الصحيحة ل تتناقض لكن قد يفى وجه
اتفاقها أو ضعف أحدها على بعض العلماء .وللصحابة فهم ف القرآن يفى
على أكثر التأخرين كما أن لم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول ل يعرفها
أكثر التأخرين فإنم شهدوا الرسول والتنيل وعاينوا الرسول وعرفوا من أقواله
وأفعاله وأحواله ما يستدلون به على مرادهم ما ل يعرفه أكثر التأخرين الذين ل
يعرفوا ذلك فطلبوا الكم ما اعتقدوا من إجاع أو قياس .ومن قال من
التأخرين :إن الجاع مستند معظم الشريعة فقد أخب عن حاله ؛ فإنه لنقص
معرفته بالكتاب والسنة احتاج إل ذلك وهذا كقولم :إن أكثر الوادث يتاج
فيها إل القياس لعدم دللة النصوص عليها ؛ فإنا هذا قول من ل معرفة له
بالكتاب والسنة ودللتهما على الحكام وقد قال المام أحد -رضي ال عنه -
إنه ما من مسألة إل وقد تكلم فيها الصحابة أو ف نظيها فإنه لا فتحت البلد
وانتشر السلم حدثت جيع أجناس العمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة وإنا
تكلم بعضهم بالرأي ف مسائل قليلة والجاع ل يكن يتج به عامتهم ول
يتاجون إليه ؛ إذ هم أهل الجاع فل إجاع قبلهم لكن لا جاء التابعون كتب
29
عمر إل شريح ؛ اقض با ف كتاب ال فإن ل تد فبما ف سنة رسول ال فإن ل
تد فبما به قضى الصالون قبلك .وف رواية :فبما أجع عليه الناس .وعمر
قدم الكتاب ث السنة وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال وعمر قدم الكتاب ث
السنة ث الجاع .وكذلك ابن عباس كان يفت با ف الكتاب ث با ف السنة ث
بسنة أب بكر وعمر ؛ لقوله { :اقتدوا باللذين من بعدي أب بكر وعمر }
وهذه الثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس وهم من أشهر الصحابة
بالفتيا والقضاء وهذا هو الصواب .ولكن طائفة من التأخرين قالوا :يبدأ
الجتهد بأن ينظر أول ف الجاع فإن وجده ل يلتفت إل غيه وإن وجد نصا
خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص ل يبلغه وقال بعضهم ؛ الجاع نسخه والصواب
طريقة السلف .وذلك لن الجاع إذا خالفه نص فل بد أن يكون مع الجاع
نص معروف به أن ذلك منسوخ فإما أن يكون النص الحكم قد ضيعته المة
وحفظت النص النسوخ فهذا ل يوجد قط وهو نسبة المة إل حفظ ما نيت
عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك ومعرفة الجاع قد
تتعذر كثيا أو غالبا فمن ذا الذي ييط بأقوال الجتهدين ؟ بلف النصوص فإن
معرفتها مكنة متيسرة .وهم إنا كانوا يقضون بالكتاب أول لن السنة ل تنسخ
الكتاب فل يكون ف القرآن شيء منسوخ بالسنة بل إن كان فيه منسوخ كان ف
القرآن ناسخه فل يقدم غي القرآن عليه ث إذا ل يد ذلك طلبه ف السنة ول
يكون ف السنة شيء منسوخ إل والسنة نسخته ل ينسخ السنة إجاع ول غيه ؛
ول تعارض السنة بإجاع وأكثر ألفاظ الثار فإن ل يد فالطالب قد ل يد
مطلوبه ف السنة مع أنه فيها وكذلك ف القرآن فيجوز له إذا ل يده ف القرآن
أن يطلبه ف السنة وإذا كان ف السنة ل يكن ما ف السنة معارضا لا ف القرآن
وكذلك الجاع الصحيح ل يعارض كتابا ول سنة .ت بمد ال وعونه
وصلواته على خي بريته ممد وآله وسلم .
30
مكتبة مشكاة السلمية
نقل عن موقع السلم
31